-----
والفرق: أن في تلك المسألة اختلفا في سبب الملك لما ذكرنا من المغايرة بين الهبة والصدقة، فلابد من أن يصدق المدعي أحدهما لأنه لابد من دعوى سبب لإثبات الملك بسبب، وفي تصديق أحدهما تكذيب الآخر فبطلت شهادتهما، أما ههنا لم يختلفا في سبب الملك لأن السبب هو الوصاية، وقد اتفقا على الوصاية، لكن تفرد أحدهما بزيادة لفظة الصدقة، وتفرد أحدهما بزيادة لفظ لا يمنع قبول الشهادة فيما اتفقا عليه.
وفي «نوادر إبراهيم»: عن محمد رحمهما الله: رجل شهد على رجل أنه أعتق أمته هذه وتزوجها، وشهد آخر أنه أقر أنه اعتق أمته وتزوجها قال: تعتق الأمة ولا يثبت النكاح، وهذا بناء على أن الإعتاق قول لا تختلف فيه صيغة الإنشاء والإقرار، وفي مثل هذا اختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء لا يضر، والنكاح وإن كان قولاً إلا أنه ألحق بالأفعال من حيث إنه يتضمن فعلاً فاختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء والأفعال صائر، فلهذا قال: يثبت العتق ولا يثبت النكاح.
وفي «المنتقى»: إذا شهد رجل لرجل أن زيداً أقر أنه اشترى هذه الدار له بأمره، وشهد آخر أن زيداً أقر أن هذه الدار له، فهذه الشهادة جائزة عندنا وقد ذكرنا قبل هذا رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله فيما إذا شهد أحد الشاهدين أن الدار المدعى (بها) لهذا المدعي، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه أن الدار المدعى بها لهذا المدعي، إن الشهادة لا تقبل.(9/515)
-----
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل ادعى على رجل ألف درهم فشهد شاهدان أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضاً وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن متاع اشتراه وقبضه، وقال الطالب: إنما مالي عليه قرض ولم يشهد لي إلا بالقرض، فقد أكذب الشاهد الذي شهد له أنها من ثمن متاع، ولو قال: قد أشهد على هاتين الشهادتين المختلفتين، لكن أصل مالي كان قرضاً، قضى له عليه ألف درهم، ولو قال: مالي من ثمن متاع بعته وقبضه مني، وقد أشهد هذين على ما شهدا به، لا يقضى له بشيء حتى يأتي بشاهد آخر يشهد له على مثل شهادة الذي يشهد له من ثمن المتاع إذا أقر الطالب أن ماله من ثمن متاع، فلابد من شاهدين على قبضه.
ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضا وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ضمان ضمن له عن فلان بأمره، فان قال الطالب: اشهد لي بهاتين الشهادتين على ما وصفنا وأن مالي عليه قرض، فإنه يقضي له بالمال، وإن قال: مالي من ضمان كما شهد به الآخر، لا يقضى عليه بشيء والضمان في هذا والبيع سواء، وأما في قياس قول أبي حنيفة: المال اللازم في الوجهين جميعاً.
ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن جارية اشتريتها منه وقبضتها، وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن بر اشتريته وقبضته، وقال الطالب: هذا شهد على هاتين الشهادتين لكن مالي عليه قرض فالقاضي يقضي بالمال، ولو ادعى أحد هذين الوجهين فالقاضي لا يقضي بشيء، وكذلك لو شهدا بالمال من ضمان مختلف فهو مثل البيع المختلف.(9/516)
-----
ولو ادعى المطلوب الدفع والبراءة وشهد له شاهد أن الطالب أقر أنه قبضها منه، وشهد آخر أن الطالب أقر أن وكيلاً له قبضها منه، وقال المطلوب: لم يشهد لي على قبض الوكيل، فقد أكذب شاهد الوكالة، ولو قال: قد أشهد لي بهاتين الشهادتين إلا أني دفعتها إليه في يده، فإنه يقضي له بالبراءة منها، ولو لم يقل دفعتها إليه في يده ولكن قال: دفعتها إلى وكيله لم يقض له بالبراءة منها حتى يأتي بشاهد آخر على دفعها إلى الوكيل من قبل أنه أقر أنه دفعها إلى غيره، ولم يشهد على وكالته إلا واحداً.
وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أنه، له وشهد آخر أن فلاناً وهبه منه وهو يملكه فهو جائز، وكذلك الصدقة، وإن جاء فلان وأنكر ذلك قال: يجيء بشاهد آخر على الهبة والصدقة، ولو شهد واحد أنه له وشهد آخر أنه اشتراه من فلان وهو يملكه لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، هذه الجملة من «المنتقى» .
ولو شهد أحد الشاهدين على الشراء مع العيب، وشهد الآخر على الإقرار على الشراء مع العيب لا تقبل، وكذا لو شهد أحدهما على قيمة الثوب المغصوب الهالك أنها كذا وشهد الآخر على الإقرار بذلك لا تقبل.
وإذا ادعى على رجل ألف درهم وقال: خمسمئة منها ثمن عبد اشتراه مني وقبضه، وخمسمئة منها من ثمن متاع اشتراه مني وقبضه، وشهد الشهود له بالخمسمئة مطلقاً قبلت الشهادة على الخمسمئة؛ لأنهما اتفقا على هذا المقدار، وذكر السبب ليس بشرط، فهذه المسألة تنصيص على أن المدعي إذا ادعى الدين بسبب وشهد الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل ويقضى بالدين، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، والمسألة مرت من قبل والله أعلم.
(9/517)
الفصل الثاني والعشرون: في التناقض في الدعوى والشهادة
-----
قال محمد في «الجامع»: رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها داره اشتراها من فلان، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً ذلك وهبها وقبضها منه وهو يملكها، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، لأنها خالفت الدعوى صورة ومعنى، أما صورة: فظاهر، وأما معنى: فلان الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، ويثبت في الشراء خيار الرؤية وخيار العيب ولا يثبت في الهبة، وإذا استحق المشترى من يد المشتري يرجع على البائع بالثمن، والموهوب له عند الاستحقاق لا يرجع على الواهب بشيء، فان وفق المدعي فقال: كنت اشتريته منه إلا أنه جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة، فتشفعت له حتى يهبها مني فوهبها مني بعد ذلك وقبضتها، وأعاد البينة قبلت بينته، وليس معنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب»: وأعاد البينة على ذلك أعاد البينة على أنه كان اشتراها من فلان وجحد فلان البيع، ثم وهبها منه كما ذهب إليه الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله؛ لأنه لو وجد بينة على الشراء لاستغنى عن إقامة البينة على الهبة، وإنما معناه إقامة البينة على الهبة والقبض، وإنما قبلت هذه البينة بعد التوفيق على هذا الوجه؛ لأن التوفيق يزيل المخالفة، ويكون ذلك ابتداء الدعوى الهبة من حيث الحقيقة.
فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل البينة على الهبة؛ لأنه يدعي هبة فاسدة، فانه ادعى أنه وهبه ملكه، فإنه يملكه بالشراء، والشراء لا ينفسخ بجحود أحد المتبايعين، قلنا: البائع قد جحد البيع وجحود أحد المتبايعين فسخ للعقد، فكأن البائع قال: فسخت البيع، فيقف على قبول المشتري، فلما استوهبه منه المشتري فقد أجابه إلى الفسخ؛ لأنه لا صحة للهبة منه إلا على تقدير فسخ الشراء بمقتضي طلب الهبة من المشتري، فانفسخ الشراء فيما بينهما، وصار المدعى عليه واهباً ملك نفسه، فكانت الهبة صحيحة.(9/518)
-----
وقال في «الجامع الصغير»: رجل ادعى داراً في يدي رجل أنه وهبها له وسلمها إليه في وقت كذا، فسأله القاضي البينة قال: إنه جحدني الهبة، فاشتريتها منه في وقت كذا، ذكر وقتاً قبل الوقت الذي ادعى فيه الهبة وأقام على ذلك بينة قُبلت بينته؛ لأنه في (151ب4) الوجه الاول التوفيق بين الكلامين لا يمكن إذ لا يمكنه أن يقول وهبها لي في الوقت الذي ادعيت الهبة، ثم جحد لي الهبة فاشتريتها منه قبل ذلك الوقت، وإذا لم يكن التوفيق ظهر التناقض، والناقض مانع صحة الدعوى، فأما في الوجه الثاني فالتوفيق ممكن، فلا يظهر التناقض فتصح الدعوى.
فإن قيل: ينبغي أن لا تصح دعواه في الوجه الثاني، لأنه ادعى شراء باطلاً؛ لأنه ادعى شراء ما ملكه بالهبة، قلنا: الواهب لما جحد الهبة فقد فسخها؛ لأن جحود ما عدا النكاح من العقود فسخ له، فانفسخت الهبة في حقه وتوقف في حق الموهوب له على إجازته، فإذا طلب الشراء منه فقد أجاز ذلك الفسخ فانفسخت الهبة في حقهما وصار المشتري مشترياً ما ليس بملك له فصح.
فإن لم يذكر للشراء تاريخاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع الصغير»، وفي كتاب «الأقضية» ذكر عين هذه المسألة في الصدقة وأجابه في هذا الفصل أنه تقبل بينته؛ لأن التوفيق ممكن؛ لأن الشراء حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد تاريخ الصدقة، فكأنه ادعى الشراء بعد تاريخ الصدقة وعند إمكان التوفيق لا يظهر التناقض، هذا أصل كبير لأصحابنا رحمهم الله.(9/519)
-----
وفي «الأصل»: وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أنها داره ورثها من أبيه منذ سنة، وأقام البينة أنه اشتراها من الذي في يديه منذ سنتين والمدعي يدعي ذلك، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا يقضى بالدار للمدعي، لأنه ادعى الملك في جميع هذه الدار منذ سنة بالشراء، وادعى الملك في جميعها منذ سنة بالميراث أيضاً، والإنسان لا يتصور أن يكون مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالشراء والإرث، وإنما يكون مالكاً له بأحد السببين، ولا يُدْرى ذلك فبطلا جميعاً، فتبقى الشهادة بدون الدعوى.
فإن وَفَّق المدعي فقال: كنت اشتريتها منذ سنتين من ذي اليد، كما شهد الشهود ثم بعتها من أبي، ثم ورثتها من أبي منذ سنة، متى وفق على هذا الوجه وشهد الشهود بذلك، يعني بالبيع من الأب ثم بالإرث منه قبلت شهادته وقضي بالدار له، لأن بالتوفيق على هذا الوجه تزول المناقضة؛ لأن المناقضة في هذه الصورة من حيث إنه ادعى الملك في جميع الدار بالشراء وبالإرث في وقت واحد وهو منذ سنة.
فإذا قال: بعتها من أبي بعد الشراء منه ثم ورثتها من أبي منذ سنة، فإنما ادعى الملك بالشراء والإرث في وقتين، والملك بالشراء والميراث في وقتين متصور فزالت المناقضة، وإنما احتيج إلى إقامة البينة بعد التوفيق، لأن التوفيق إنما يثبت بالبيع من أبيه، وإنها دعوى على الأب وليس بإقرارٍ على نفسه، والدعوى على الغير لا تثبت إلا ببينة، وكذلك إذا ادعى هبة أو صدقة مكان الشراء كان الجواب فيه، كالجواب فيما إذا ادعى الشراء لأنه كما لا يتصور أن يكون الإنسان مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالهبة والميراث أو بالصدقة والميراث.
(9/520)
-----
ولو ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها منه بعبده هذا منذ شهر، وجحد المدعى عليه البيع، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها منذ قام من عند القاضي بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك لم تقبل بينته، إلا أن يوفق، فيقول: اشتريتها بعبدي هذا فجحدني الشراء فاشتريتها منه ألف درهم، لأنه بالتوفيق تزول المناقضة وبدون التوفيق المناقضة ثابتة.
فإن قيل: المناقضة منهما منتفية بدون التوفيق؛ لأن الثابت أحد الشراءين وهو الشراء الأول؛ لأن الشراء الأول لا يخلو، إما إن كان ثابتاً أو لم يكن ثابتاً، إن لم يكن ثابتاً ثبت الثاني، وإن كان ثابتاً ينفسخ مقتضى ثبوت الثاني سابقاً عليه، بخلاف دعوى الميراث من أبيه، ودعوى الشراء من ذي اليد فإن أحد الأمرين هو الثابت لا يدري، فأما هنا فأحد الشراءين ثابت بيقين، والجواب أن الشراء الثاني غير ثابت بيقين، لجواز أن يكون الشراء الثاني بعد الأول بتراضيهما، فينفسخ الأول ويثبت الثاني، فيجوز أن يكون بغير رضا المشتري بأن جحده الشراء الأول، فاشترى ثانياً بألف، وعلى هذا التقدير لا ينفسخ الأول لكونه مضطراً في الثاني، فعلى هذا الاعتبار يكون الثابت الأول أو الثاني، لا الثاني بيقين، فكان الجواب فيه كالجواب في دعوى الشراء والميراث.
وإن كان الشهود شهدوا أنه اشترى منه منذ سنة بألف درهم لا تقبل منه، إلا أن يأتي بالتوفيق بأن يقول: اشتريتها منذ سنة بألف درهم كما شهد به الشهود، ثم بعتها منه ثم اشتريتها منه منذ شهر بهذا العبد.
وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أن صاحب اليد تصدق عليه (به) منذ سنة وأقام شهوداً شهدوا أنه اشترى من صاحب اليد منذ سنتين، والمدعي يدعي ذلك، لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق فيقول: اشتريته منه منذ سنتين، ثم بعته منه ثم تصدق به علي منذ سنة.
وكذلك إذا ادعى أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد منذ سنة، وشهد الشهود أنه تصدق به عليه منذ سنين لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق على نحو ما قلنا.(9/521)
-----
ولو ادعى أن صاحب اليد تصدق به عليه منذ سنة وشهد الشهود أنه اشتراه منه منذ شهر لا تقبل هذه الشهادة، إلا أن يوفق فيقول: تصدق به علي منذ سنة كما ادعيت، ثم جحدني الشراء فاشتريته منه منذ شهر، هكذا ذكرها في «الأصل» أيضاً.
وكذلك إذا ادعى الشراء منه منذ سنة وشهد الشهود أنه تصدق به علي منذ شهر لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق وإنه يخالف مسألة «الجامع» أيضاً.
ولو ادعى أنه ورثه من أبيه وأقام البينة، وادعى أن معه وارثاً آخر لا تقبل بينته ولا يصير متناقضاً، وان ادعى الكل لنفسه أولاً ثم ادعى بعد ذلك أنه لغيره وأنه وكيله بالخصومة تصح دعواه ولا يصير متناقضاً وهي المسألة التي تلي هذه المسألة، فههنا أولى وقد ادعى النقض لغيره وادعى أنه وكيله وادعى النقض لنفسه.
ولو ادعى عيناً في يد إنسان أنه له وأقام بينة أنه لفلان وكله بالخصومة فيه، قبلت بينته ولا يصير متناقضاً، ولو ادعى أولاً أنه لفلان وكله بالخصومة فيه وأقام البينة بعد ذلك إنه لا تقبل بينته، ويكون متناقضاً إلا أن يوفق.(9/522)
-----
والفرق أن قوله لي في المسألة الأولى وإن كان حقيقة لملك الرقبة، إلا أنه يحتمل الإضافة إلى نفسه لحق الخصومة، فالوكيل بالخصومة يضيف العين إلى نفسه بحق الخصومة، فأمكن أن يجعل قوله في الكرة الثانية أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه بياناً لكلامة الأول، فلا يتحقق التناقض، أما في المسألة الثانية: لا يمكن أن يجعل الكلام الثاني وهو قوله لي بياناً للكلام الأول، وهو قوله: أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه؛ لأن الكلام الأول مفسر بنفسه، ولا يمكن أن يجعل الكلام الأول بياناً وتفسيراً للكلام الثاني، لأن التفسير لا يكون قبل المفسر، فكان كل كلام كلاماً على حده، وحقيقة الإضافة لملك الرقبة والكلام لحقيقته، حتى يقوم الدليل على مجازه، فكأنه نص في الكلام الثاني على أنه لي بملك الرقبة، ولو نص على هذا يصير متناقضاً كذا ههنا، إلا أن يوفق فيقول: كان لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم اشتريته منه بعد ذلك وأقام على ذلك بينة يعني على الشراء من فلان فحينئذ تقبل بينته. ولو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه لا تقبل بينته إلا أن يوفق.
قال: والدين في هذا نظير العين حتى لو ادعى على رجل دين ألف درهم في صك جاء به باسمه ثم جاء ببينة، روى أبو سليمان وابن سماعة أن من ساوم رجلاً بولد أمة أو بثمرة نخلة أو نخل في الأرض ثم أقام البينة أن النخلة والأمة والأرض له، قبلت بينته وقضي له بالأمة والنخلة والأرض دون الولد والثمر والنخل، لأن أقًى ما فيه (152أ4) أن المساومة إقرار بالملك لصاحبه أو إقرار أنه لا ملك للمساوم فيه على حسب ما اختلفت الروايات فيه إلا أن هذا الإقرار لا يكون فرقاً صريح الإقرار.(9/523)
-----
ولو أقر هو صريحاً بالولد لصاحب الولد أو أقر صريحاً أن الولد ليس له، ثم ادعى الأمة لنفسه، تسمع دعواه كذا ههنا. وهذا لأن الإقرار بالملك المطلق يحمل على الملك الحادث حتى أنه لو أقر بأمة لرجل ولها ولد كانت الأمة للمقر له دون ولدها، بخلاف البينة القائمة على الملك المطلق، حيث يحمل على الملك من الأصل.
وإذا ثبت أن الإقرار بالملك المطلق يحمل على حدوث الملك صار المساوم مقراً لمن ساوم إليه بحدوث الملك في الولد والثمر، وليس من ضرورته ثبوت الملك للمقر له في الأم، فلم توجد المخالفة بين الدعوى والإقرار.
وكذلك إذا ادعى الولد والثمرة مع الأم والنخلة؛ لأن دعواه في الثمرة والولد لم يصلح لمكان إقراره السابق، فتبقى دعوى الأمة والنخلة وحدها.
وكذلك لو كانت الأمة حاملاً فولدت في يده، فساوم بالولد بعد إقامة البينة قبل القضاء بالأمة؛ لأنه يحتمل أن يكون ملكاً للمقر له بتملك من جهته بعد الولادة، فلم تكن من ضرورة صحة هذا الإقرار بطلان دعواه في الأمة، فبقيت تلك الدعوى صحيحة.
وكذلك إذا قال الشاهدان: الولد للمدعى عليه، أو قالا: لا ندري لمن الولد؛ لأنهما بينا أنهما خصا بشهادتهما الأمة دون ولدها والولد منفصل عنها فيصح دخول الأم في الشهادة دونه، فيقضى له بالأم خاصة، وكذلك إذا لم يقم بينة للمدعي ولكن المدعى عليه أقر بأن الأم للمدعي يقضى له بالأم دون ولدها، لأن الثابت بالإقرار ملك حادث، لأنه حجة قاصرة لا الملك من الأصل، فلا يستند حكمه إلى حالة الولادة، فاقتصر حكم الإقرار على الأم خاصة.f(9/524)
-----
ولو أن رجلاً في يديه دار مبنية جاء رجل وأقام البينة أنها داره وذكرا البناء في شهادتهما أو لم يذكرا ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي، أما إذا ذكروا البناء فلاشك فيه، وأما إذا لم يذكروا البناء، فلأن البناء مركب في الأرض تركيب قرار، فيدخل تحت ذكر الأرض خصوصاً في ذكر الدار، لأن في الغالب يستعمل اسم الدار في المبنى، ثم إذا قضى القاضي للمدعي بالدار ببنائها أقر للمدعي بعد ذلك وقال: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه ولم يزل ملكاً له أو قال: كان البناء له يوم شهد الشهود أو قال ذلك بعد الشهادة قبل القضاء، فإن هذا إكذاب للشاهد وبطلت الشهادة والقضاء في البناء والدار جميعاً، وإن قال: البناء للمدعى عليه فهذا ليس بإكذاب لشهوده، هكذا ذكر المسألة في «الأقضية».
وذكر في آخر الشهادات في «الأصل»: أن الشهود إذا ذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، كان ذلك إكذاباً لشهوده، فبطلت الشهادة والقضاء. وإذا لم يذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر بالبناء للمدعى عليه لا يكون ذلك إكذاباً لشهوده.
وجه الفرق على رواية شهادات «الأصل»: أن البناء إذا لم يكن ملفوظاً في الشهادة، فالقضاء بالبناء ما كان لكونه مشهوداً، بل تبعاً للأرض؛ لأن حكم الأصل يثبت في البيع إلا إذا وجد دليل يوجب قطع التبعية، فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية وحجة أصالته في الملك إلا أن يكون إكذاباً بتلك الشهادة، فأما إذا كان البناء ملفوظاً به في الشهادة، فالقضاء بالبناء لكونه مشهوداً به، فالإقرار بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يكون إكذاباً للشهود ضرورة، فيوجب بطلان الشهادة.(9/525)
-----
ووجه التسوية على رواية كتاب «الأقضية»: أنه يطلق اسم الدار في الغالب من كلام الناس وفي عاداتهم يستعمل بإزاء الأرض والبناء، والشرع شهد لذلك، حتى إن من حلف لا يدخل داراً، فدخل صحراء كانت داراً، وقد انهدم بناؤها لا يحنث والثابت باعتبار العادة وعليه الاستعمال كالثابت بمقتضى اللفظ حقيقة، فاستوى ذكر البناء وعدمه.
ثم على رواية كتاب «الأقضية» فرق بينما إذا قال المقضي له: ليس البناء لي، وإنما هو للمدعى عليه، وبينما إذا قال: كان البناء للمدعى عليه يوم الشهادة، أو قال: لم يزل ملكاً للمقضي عليه، فلم يجعل الأول تكذيباً للشهود، وجعل الثاني والثالث تكذيباً، وعلى رواية كتاب الشهادات لم يفصل وجعل مطلق الإقرار بالبناء للمدعى عليه تكذيباً للشاهد إذا كان البناء مذكوراً في الشهادة.
ووجه ما ذكر في الشهادات: أن مطلق الإقرار بالبناء للمقضي عليه يناقض شهادة الشهود بالبناء للمدعي، والإكذاب من حكم المناقضة.
وجه ما ذكر في «الأقضية»: أن قوله: البناء ليس لي، وإنما هو للمدعى عليه كلام محتمل يحتمل أنه للمقضي عليه، لأنه كان له يوم شهد الشهود، فيكون إكذاباً للشهود، فلا يكون إكذباً بالاحتمال، ولا كذلك قوله: كان البناء له يوم شهد الشهود لم يزل ملكاً له، هذا إذا أقر المقضي له بعد القضاء له أن البناء ليس له وأنه للمقضي عليه.
ولو أن المقضي له بعد القضاء له لم يقر بذلك لكن المقضي عليه ادعى البناء لنفسه، فعلى رواية كتاب «الأقضية»: لا تسمع دعواه ولا تسمع بينته، ذكر الشهود البناء في شهادتهم أو لم يذكروا، وعلى رواية شهادات «الأصل»: إن لم يذكروا البناء في شهادتهم تسمع دعوى المقضي عليه، وإن ذكروا لم تسمع دعواه.(9/526)
-----
وفي «المنتقى» وفي «الإملاء»: عن محمد رجل ادعى داراً في يدي رجل وأنكر الذي في يديه الدار حق المدعي، فشهد للمدعي شاهدان أن الدار داره، ولم يزيدوا على ذلك، فلما زكوا قال المدعى عليه: البناء بنائي أنا بنيته، وأراد أن يقيم البينة على ذلك، قال: إن كان شهود المدعي حضور فالقاضي يسألهم عن البناء، فإن قالوا: البناء للمدعي مع الدار فالقاضي لا يلتفت إلى قول المدعى عليه، وإن قالوا: لا ندري لمن البناء إلا أنا نشهد أن الأرض للمدعي، فليس ذلك بإكذاب منهم لشهادتهم ويقضي للمدعى عليه بالبناء إن أقام بينته على البناء، ويؤمر بالهدم وتسليم الأرض إلى المدعي، فإن لم يحضر المدعى عليه بينة على البناء، قضى عليه القاضي بالأرض بشهادة شهود المدعي وأتبع الأرض للبناء، فإن جاء المدعى عليه بعد ذلك بالبينة أن البناء بناؤه أخذه؛ لأن القاضي لم يقض على المدعى عليه بالبناء بشهادة الشهود، وهذه الرواية توافق رواية شهادات «الأصل».
ولو أن شهود المدعي شهدوا أن الدار للمدعي ثم ماتوا أو غابوا فلم يقدر عليهم، فلما أراد القاضي أن يقضي بالدار ببناءها للمدعي، قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أن البناء بنائي لم يقبل ذلك منه ويقضي بالدار للمدعي ببنائها؛ لأن الشهود حين شهدوا بالدار فقد شهدوا بالبناء إلا أن يبينوا أنهم لا يدرون لمن البناء، فيكون على ما وصفت لك في أول المسألة، قال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بالدار في هذا الوجه ببنائها للمدعي ثم حضر شهوده، وقالوا: إن البناء لم يكن للمدعي إنما كان للمدعى عليه، فإن قالوا للقاضي حين رجعوا عن البناء: ليس البناء للمدعي ولا ندري لمن البناء، لم يضمنوا من قيمة البناء شيئاً فكان البناء للمدعي، وقيل للمدعى عليه: أقم البينة أن البناء بناؤك على الشهود الذين شهدوا للمدعي، فإن أقام عليهم البينة ضمنهم قيمة البناء، ألا ترى أن البناء دخل فيما شهدوا به.(9/527)
-----
ولو شهد شهود المدعي أن الدار له ولم يزيدوا على هذا، ثم ماتوا أو غابوا ثم جاء رجل آخر وادعى بناء هذه الدار لنفسه، وشهد له شاهدان آخران بذلك، فإن القاضي يقضي بالأرض للمدعي الذي شهدت شهوده بالدار، ويقضي بالبناء بين المدعيين نصفين، فإن أقام المدعى عليه بينة أن البناء بناؤه لم أقبل ذلك منه.
ولو أن شهود المدعي للدار شهدوا أن الأرض للمدعي وقالوا: لا ندري لمن البناء، قضى بالأرض له وقضى بالبناء لمدعي البناء خاصة، قال: وكذلك في جميع ما وصفت لك.
الأرض يكون فيها النخيل والأشجار، فشهد شهود المدعي أن هذه (152ب4) الأرض له فهذا بمنزلة شهادتهم بالدار إذا لم يفسروا، فالقاضي يقضي لمدعي الأرض ويتبعها النخل والشجر.
وكذلك إذا شهدوا أن هذا الخاتم لفلان ولم يذكروا الفص أو شهدوا أن هذا السيف لفلان ولم يذكروا الحلقة، فالقاضي يقضي بالسيف والحلقة وبالخاتم والفص لفلان من غير أن يكون الفص والحلقة مشهوداً به، حتى لو أقام المشهود عليه بينة أن البناء والفص والحلقة له قبلت شهادته كان القاضي قضى بذلك للمدعي أو لم يقض.
وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود على رجل بجارية في يديه أنها لهذا المدعي وقضى القاضي له بها ثم غاب الشاهدان أو ماتا، وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود، أخذه المدعي.
وكذلك لو كان الولد ظاهراً، وشهد الشهود بالجارية للمدعي، ولم يتعرضوا للولد فالقاضي يقضي للمدعي بالجارية وبالولد، وإن قال الذي في يديه الجارية: أنا أقيم بينة على أن الولد لي لم يلتفت إلى بينته ويقضي بالجارية وولدها للمدعي، فإذا قضى القاضي بذلك ثم حضر الشهود وقالوا: لم يكن الولد للمدعى (عليه)، فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وإن أقام البينة على الولد، ولو كان الشهود حضوراً وسألهم القاضي عن الولد قبل القضاء فقالوا: هو للمدعى عليه أو قالوا لا ندري لمن هو، فالقاضي لا يقضي في الولد بشيء ويقضي بالجارية للمدعي.(9/528)
-----
قال: ولا يشبه الولد في هذا الوجه البناء، وعلل فقال: لأن البناء موصول بالدار فقد أشار إلى أن شهود المدعي في مسألة الدار إذا قالوا وقت الشهادة بالدار: لا ندري لمن البناء أنه يقضي بالبناء لمدعي الدار.
قوم ورثوا داراً من أبيهم واقتسموها برضاهم فادعى بعضهم أن أباه كان تصدق بطائفة منها معلومة عليه، أو ادعى ذلك لابن له صغير وقال: مات ابني فورثتها منه، وأقام على ذلك بينة، فدعواه باطلة وبينته مردودة.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن إقدام العاقل على عقد إقرار منه بصحة ذلك العقد؛ لأنه إنما أقدم عليه للالتزام بموجبه، وإنما يلزمه موجب العقد إذا صح العقد، فإذا ادعى فساده وبطلانه بعد ذلك، يصير متناقضاً، والمتناقض لا قول له.
إذا ثبت هذا فنقول: دعوى طائفة منها معلومة من بعض الورثة دعوى بطلان القسمة؛ لأنه ليس لهم قسمة مال الغير وقد أقر بصحتها حال ما أقدم عليها فتتحقق المناقضة، ولو كان ادعى ديناً على أبيه صح دعواه وقبلت بينته على ذلك؛ لأنه ليس بمتناقض؛ لأن القسمة مع الدين صحيحة حتى لو قضى الوارث دين الغريم من مال آخر أو أبرأ الغريم الميت عن الدين لا يحتاج إلى إعادتها ولكن يكون للغريم حق نقض القسمة إذا لم يصل إليه حقه من مال آخر.
قال في كتاب الإقرار: رجل أقر أن لفلان عليّ ألف درهم ثم قال بعد ذلك: قضيتها قبل أن أقر بها وأقام البينة على ذلك لم أقبل بينته، ولو ادعى أنه قضاه قبل الإقرار موصولاً بإقراره.
القياس: أن لا تقبل بينته؛ لأنه متناقض في الدعوى، لأن إقراره يوجب كون الألف عليه وقت الإقرار، ولولا ذلك لما صح الإقرار، فإذا ادعى القضاء قبل ذلك فإنه يوجب سقوط الدين عنه بالقضاء قبل إقراره كان متناقضاً في الدعوى، فلا يسمع ذلك منه كما لو ادعاه مفصولاً.(9/529)
-----
وفي الاستحسان: تقبل بينته لأن هذا اللفظ قد يذكر ويراد به كان له عليه ألف درهم، فإن الشيء يسمى باسم ما قد كان كما يسمى القاضي المعزول قاضياً ونظائره كثيرة، فمتى وصل هذا الكلام بإقراره، دلنا أنه أراد به هذا النوع من المجاز وإن كان هذا تغييراً لصدر الكلام ولكنه يصح إذا كان موصولاً، فأما إذا كان مفصولاً عن إقراره لا يصح هذا البيان المغير منه، فبقي التناقض باعتبار ظاهر كلامه، ولم يصح التناقض.
ولو قال: كانت له علي ألف درهم، ثم قال: قضيتها إياه قبل الإقرار موصولاً أو مفصولاً وأقام البينة عليه قبلت بينته، لأنه إخبار عن وجوب الألف عليه في زمان سابق فلا يبقى القضاء قبل الإقرار بخلاف المسألة الأولى فإنه إخبار عن وجوب الألف عليه للحال فإذا ادعى قبله كان متناقضاً فلم تسمع دعواه وبينته.
قال: رجل في يديه عبد قال لآخر: هو عبدك يا فلان، فقال فلان الآخر: بل هو عبدك، ثم قال المقر الأول: هو لي وأقام البينة لم تقبل بينته، لأن بين إقراره بملك العبد لآخر ودعواه ملكية العبد لنفسه تناقض، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإنما أورد هذه المسألة لإشكال وهو: أن المقر له الأول لما قال لغيره: بل هو عبدك، فقد أكذب المقر الأول في إقراره له، فبطل إقراره لمكان التكذيب، فيجب أن لا يعتبر لإثبات التناقض، لكنا نقول: إن قول المقر له الآخر بل عبدك ليس بتكذيب للمقر الأول في إقراره، بدليل أنه يأخذ المقر له الثاني، ولو بطل الإقرار الأول لمكان أنه كذبه فيه لم يكن له أن يأخذ من يده، ولكن قيل: إن قوله لغيره: بل هو عبدك محتمل يحتمل أنه عبدك لم يزل لك ولم يكن لي، فيكون مكذباً له في إقراره، ويحتمل أنه عبدك لأني ملكته منك للحال، فلا يكون تكذيباً للمقر الأول فلا يثبت التكذيب بالاحتمال.(9/530)
-----
رجل ادعى أن هذه الدار له إلا بيت منها، وأقام البينة على الجميع أو كان ادعى على رجل ألف درهم وأقام عليه البينة بألفين، فقال المدعي للدار: كان البيت لي فبعته، وكان لي عليه ألفان فأبرأته عن الألف قبلت بينته، لأنه زال الخلاف والتناقض بما ذكر، فلعل الأمر كما ذكر ولم يعلم به الشهود، فشهدوا على جميع الدار والألفين، وإذا زال التناقض وجب قبول الشهادة.
وإن قال: لم يكن البيت لي قط ولا كان لي عليه قط إلا ألف أبطلت بينته، لأنه صرح بإكذاب الشهود في البيت والألف فبطلت الشهادة، وإن أبى أن يبين شيئاً من ذلك فالقياس: أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل.
وجه القياس في ذلك: أن امتناع قبول الشهادة لمكان المخالفة بين الدعوى والشهادة، فإذا كان التوفيق محتملاً لا يمكن القول بثبوت المخالفة، لأنها لو ثبتت تثبت مع الشك، ولأن التوفيق إذا (كان) محتملاً يجب الحمل عليه حملاً لأمر المدعي على الصلاح كما في مسألة الأكرار.
وجه الاستحسان: أن المخالفة بين الدعوى والشهادة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن مراداً لا يزول، فلا يزول الخلاف مع الاحتمال.
قوله: يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصلاح، قلنا: الحمل على الصلاح نوع ظاهر، والظاهر يصلح لإبقاء ما كان على ما كان ولا يصلح لإثبات أمر لم يكن، وحاجتنا منها إلى إثبات أمر لم يكن وهو البيع والقضاء بخلاف مسألة الأكرار؛ لأن مطلق المقابلة يحتمل بيع الجنس بخلاف الجنس، فإذا عيناه حملاً لأمرهما على الصلاح يتبين أنه هو الثابت بمطلق المقابلة، فكان هذا إبقاء ما هو ثابت بمطلق المقابلة لا إثبات أمر لم يكن أما ههنا فبخلافه، ثم استشهد في «الكتاب» وقال: ألا ترى أن المدعي لو قال بعد القضاء بالدار: لم يكن البيت لي قط يبطل القضاء، فإذا كان يبطل القضاء بهذا النوع من المخالفة لأن لا يجوز القضاء معها كان أولى.
(9/531)
-----
دار في يدي رجل يزعم أنه اشتراها من رجل، فجاء رجل وادعى عند غير القاضي أنها داره تصدق بها على الذي باعها من ذي اليد، ثم رفع المدعي الذي في يديه الدار إلى القاضي بعد شهر أو سنة وادعى أنها داره اشتراها من الذي زعم ذو اليد أنه اشتراها منه، فهذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يذكر للصدقة والشراء تاريخاً، وإنه على وجهين: إن ذكر تاريخ الشراء قبل تاريخ الصدقة لا تقبل شهادة شهوده، لأن ادعاءه الصدقة إقرار منه بكون الدار ملك المتصدق وقت الصدقة، وإنه ينافي كون الدار ملكاً له بالشراء عندها فيصير مكذباً شهوده فلا تقبل شهادتهم، وإن ذكر تاريخ الشراء بعد تاريخ الصدقة قبلت شهادتهم، هكذا ذكر في «الأقضية»، وهذا إشارة إلى أن احتمال (153أ4) التوفيق يكفي. ووجه احتمال التوفيق أن يقول: جحدني بعدما تصدق بها علي فاشتريتها منه، وسيأتي الكلام بعد هذا في أن احتمال التوفيق هل يكفي؟.
الوجه الثاني: إذا لم يذكر التاريخ، وفي هذا الوجه تقبل شهادة شهوده، لأن الشراء حادث والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات، وذلك بعد تاريخ الشراء لا محالة لأنه ادعى الشراء بعد شهر أو سنة. فإن قيل: كيف تصح دعوى الشراء من فلان حال كون الدار في يد غيره وانه يدعي الملك لنفسه؟ قلنا: ذو اليد لما زعم أنه اشتراها من فلان فقد أقر بالملك لفلان، لأن كل مشتر يقر بالملك لبائعه، وبيع المغصوب منه المغصوب من غير الغصب والغاصب مقر بالملك للمغصوب منه صحيح، فقد ادعى شراء صحيحاً من هذا الوجه.
قال محمد رحمه الله: ولا أبالي، قال في الصدقة: قبضت أو لم أقبض؛ لأن ادعاءه الصدقة إنما أبطل دعوى الشراء قبل تاريخ الصدقة باعتبار إقراره بملك البائع بعد تاريخ الشراء حتى تثبت المناقضة، والإقرار بملك البائع بعد تاريخ الشراء يثبت بمجرد ادعائه الصدقة.(9/532)
-----
قال محمد رحمه الله: ولو كان ادعى الصدقة بعد تاريخ الشراء لا يرجع بالثمن على البائع، وعلل فقال: إنه هو الذي أبطل شهادة شهوده بادعائه الصدقة وأراد به أن امتناع قبول البينة على الشراء دعواه الصدقة، وإنه ليس بحجة في حق البائع فلا يمكنه الرجوع على البائع بهذه الحجة؛ لأن الرجوع على البائع باعتبار أنه لم يسلم له المشترى من جهته، وإنما لم يسلم له المشترى بما ليس بحجة في حق البائع، فلا يرجع بالثمن عليه.
قال في «الكتاب»: ألا ترى أن رجلاً لو ادعى عبداً في يدي رجل أنه له اشتراه من فلان منذ سنة، ونقده الثمن وصدقه البائع بذلك، وذو اليد زعم أنه اشتراه من فلان بعينه منذ شهر، فلما أراد الحاكم أن يقضي به للمدعي قال المدعي: إني لم اشتره في ذلك اليوم، أو قال: ذو اليد أقدم شراءً مني، ثم أراد أن يرجع بالثمن على البائع، فقال البائع: كذبت أنت أقدم شراءً منه، وإنما لم يسلم لك العبد بإكذابك بينتك، فإنه لا سبيل له على الرجوع بالثمن، لأن المبيع إنما لم يسلم للمشتري بمعنى من جهته، وهو إكذابه بينته فلا يظهر ذلك في حق البائع.
قال في «أدب القاضي»: وإذا أقام الرجل بينة على رجل أنه باع هذه الدار منه، والبائع يقول: لم أبع وأقام البائع بينة أنه قد رد عليه الدار بالعيب قبلت بينته، وينقض البيع وإن صار (كلام) البائع متناقضاً؛ لأن التناقض بين الكلامين إنما يثبت إذا لم يمكن التوفيق بين الكلامين وهنا يمكن التوفيق بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً بنفسي، إنما باع وكيلي ثم فسخت البيع إنهاء المشتري بعد ذلك معي فإذا أمكن التوفيق بينهما حمل عليه، وهذه المسألة إشارة إلى أنه يكتفى مجرد إمكان التوفيق، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية».(9/533)
-----
وذكر في «الجامع الكبير» وفي بعض نسخ دعوى الأصل أنه لا يكتفى مجرد إمكان التوفيق ولابد أن يوفق المدعي، قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» وفي «الأقضية» قياس، وما ذكر في «الجامع الكبير» وفي ا «لأصل» استحسان وأصله ما ذكرنا في دعوى الألف، وشهادة الشهود على الألفين القياس: أن يقبل لاحتمال التوفيق، وهذا لأن حمل أمر المسلمين على الصحة واجب ما أمكن، فإذا كان التوفيق ممكناً أمكن حمل دعوى المدعي على الصحة فيجب على القاضي ذلك، وإن لم يوجد من المدعي تنصيصاً عليه كما في مسألة الأكرار وفي الاستحسان لا تقبل، لأن المخالفة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن التوفيق مراداً لا يزول الخلاف فلا يزول الخلاف بالاحتمال، فأما إذا وفق فقد بين أن التوفيق مراد وصح منه هذا البيان، لأن احتمال التوفيق ثابت، وقوله يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصحة، فالجواب ما مر قبل هذا أن الحمل على الصحة بنوع ظاهر، وإنه لا يصلح لإثبات أمر لم يكن.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: وإذا ادعى رجل أنها داره ورثها من أبيه، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها من أبيه في حال حياته لا تقبل هذه الشهادة، وبمثله لو ادعى أولاً أنه اشتراها من أبيه في حياته، وجاء بشهود شهدوا أنه ورثها من أبيه قبلت هذه الشهادة، والفرق: أن في المسألة الثانية التوفيق ممكن بأن يقول: اشتريت من أبي كما ادعيت أول مرة ثم جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة وبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً وصارت بموته ميراثاً لي ظاهراً مع ما تقدم من صورة الشراء، فلا تبطل بينة الإرث بالاحتمال أما في المسألة الأولى التوفيق غير ممكن، فإنه لا يمكنه أن يقول: ورثتها عن أبي، فجحدني الأب فاشتريت منه في حياته.(9/534)
-----
وإذا ادعى عيناً في يد إنسان أنها له وأقام على ذلك بينة ثم إن المدعي قال: هذه العين لم تكن لي قط، بطلت بينته ولم تقبل ويبطل القضاء إن كان قد قضى له به، لأنه أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء وذلك حقه، وكذلك إذا لم يقل قط؛ لأن الإكذاب حصل بقوله: لم يكن لي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير»: رجل أقر عند القاضي أن هذا العبد كان لفلان، ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، ولم يوقت الشهود وقتاً وفلان يجحد البيع فالشهادة جائزة، لأنه أقر بملك البائع في زمان ثم ادعى تلقي الملك من جهته، وملك البائع في الزمان الماضي مؤكد لملك المشتري، فالإقرار به لا يمنع قبول الشهادة على الشراء أقصى ما في الباب، احتمل أن الشراء كان قبل ذلك الوقت ولكن بالاحتمال لا تثبت المناقضة كيف وأن الشراء حادث والحوادث يحال حدوثها على أقرب الأوقات بقضية الأصل وذلك ما بعد الإقرار، فلا يثبت به التناقض فلا يمنع قبول الشهادة.
فأما إذا قال: هذا العبد لفلان، ثم أقام البينة بعد ذلك أنه اشتراه منه قبل الإقرار لم تقبل بينته، لأن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء قبله فلم تقبل بينته لمكان التناقض، هذا إذا قال ذلك مفصولالاً فأما إذا قال موصولاً عند القاضي: هذا العبد لفلان اشتريته منه أمس، فالقياس أن لا تقبل بينته، وفي «الاستحسان» تقبل.k
وجه القياس: أن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء منه أمس فلا تقبل بينته للتناقض.(9/535)
-----
وجه الاستحسان: أن العين قد تضاف إلى الإنسان باعتبار أنه كان مالكاً له، يقال دار فلان وعبد فلان وإن كان باعه، ألا ترى أنه يجوز إطلاق الاسم على الذات باعتبار ما كان، حتى يسمى القاضي بعد العزل قاضياً وعلى هذا الوجه لا يثبت التناقض أقصى ما في الباب أن هذه الإضافة بطريق المجاز، والحمل على المجاز يعتبر بمطلق الكلام، ولكن البيان المعبر يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء وقد مر جنس هذه المسألة قبل هذا.
فإن قال: هذا العبد لفلان ثم مكث شهراً، ثم ادعى أنه اشتراه من فلان أو أقام البينة وقالت الشهود: لا ندري أكان الشراء قبل الإقرار أو بعده، وقال المشتري: كان بعد الإقرار فإنه تقبل هذه الشهادة، ويقضى بالشراء لأنها لو لم تقبل إنما لم تقبل لمكان المناقضة وفيها احتمال لأنه يحتمل أن الشراء كان قبل الإقرار، فكان متناقضاً واحتمل أنه بعد الإقرار فلا يكون متناقضاً فلا تثبت المناقضة بالاحتمال، ولأن الشراء حادث والحوادث يحال بحدوثها إلى أقرب الأوقات وذلك ما بعد الإقرار.
وكذلك إذا قال عند القاضي: هذا العبد كان لفلان عام أول، ثم ادعى بعد ذلك أنه اشتراه منه وأقام البينة ولم يوقت الشهود وقتاً تقبل بينته؛ لأن إقراره بالملك في زمان سابق مؤكد لشراء المشتري بعده؛ لأن ملكه ينبني على ملك البائع، ودعواه الشراء للحال يؤكد الإقرار بالملك قبل الشراء؛ لأنه يستدعي قيام الملك للبائع عند الملك ليصح البيع فلم يكن متناقضاً.
وكذلك إذا قال: استوهبته (153ب4) منه عام أول فأبى أن يهبه لي، أو قال: ساومته عام أول، ثم ادعى الشراء منه لأن الاستيام والاستيهاب إقرار بالملك فكان هذا والأول سواء.(9/536)
-----
قال: ولا تبطل الشهادة إلا أن يوقتوا، وذكر في بعض الروايات إلا أن لا يوقتوا فإن كانت الرواية إلا أن يوقتوا، أراد به إلا أن يوقتوا وقتاً للشراء قبل الإقرار فإنه لا تسمع هذه الدعوى لأنه يكون متناقضاً بيقين، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإن كانت الرواية إلا أن لا يوقتوا فكلمة إلا ساقطة، ومعناه: فلا تبطل الشهادة إن لا يوقتوا، فيكون بياناً أن ترك التوقيت لا يمنع سماع البينة، لأنه ليس فيه إلا السكوت، والسكوت وإن كان يحتمل التناقض، ولكن قد ذكرنا أن احتمال التناقض لا يمنع قبول البينة لاحتمال الشك فيه.
ولو أقر عند القاضي أن هذا العبد لفلان لا حق له فيه أو قال: كان العبد لفلان عام أول وأنه لم يكن له فيه حق يومئذ ولا دعوى، أو قال: كنت أقررت عام أول أن هذا العبد لفلان لا حق لي فيه، أو قال: لا حق لي فيه، ولم يقل: إنه لفلان ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، فإن القاضي يسأل الشهود متى كان الشراء؟ فإن وقتوا للشراء وقتاً بعد الإقرار قبلت شهادتهم، وإن وقتوا وقتاً قبل الإقرار أو قالوا: لا ندري متى كان الشراء لا تقبل شهادتهم، فرق بين هذا وبينما إذا قال: هذا العبد لفلان ولم يقل: لا حق لي فيه ثم أقام البينة بعد شهر على الشراء أنه تقبل البينة وإن لم يوقت الشهود للشراء وقتاً.
والفرق: أن قوله هذا العبد لفلان، إخبار عن ملك المقر له في الحال، وقوله: لا حق لي فيه، نفي الملك لنفسه أصلاً فكان محكماً في إسقاط حقه في الدعوى، فلا تسمع دعواه وبينته، إلا إذا وقت وقتاً بعد الإقرار حتى لا يؤدي إلى ارتفاع المضادة والتنافي بالاحتمال، وفي تلك المسألة ما نص على إسقاط حقه، والتناقض عارض، فلا يثبت بالاحتمال.(9/537)
-----
ولو أن رجلاً كتب لرجل: إني كنت ادعيت عليك ديوناً وبيوعاً وأشياء أخر ادعيتها عليك، وأقررت أنه لا حق لي قبلك ولا دعوى من شراء ولا غير ذلك، ثم أقام البينة على عبد المكتوب إليه أنه عبده اشتراه منه، أو أن له عليه ألف درهم قرض، أو أنه غصبه عبداً فإنه لا تقبل هذه البينة إلا إذا وقتوا وقتاً بعد البراءة لأنه لما نص على البراءة عام أول، فقد أسقط جميع حقه قبله في العين والدين جميعاً فيكون متناقضاً في دعواه قبله فلا تسمع دعواه ولا تقبل البينة منه حتى يزول التناقض بيقين، وذلك بأن يوقت بعد البراءة، فأما مع الاحتمال فلا يزول التناقض فلا يبطل حكم البراءة بالشك.
وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: من كتب لرجل براءة ثم أقام بينة على دين لم تقبل بينته، حتى يعلم أنه بعد البراءة لأن البراءة ثبتت بيقين، فلا يبطل حكمها إلا بيقين، وهو أن يكون سبب الوجوب بعد البراءة.
قال في كتاب «الأقضية»: رجل قال: جميع ما في يدي من قليل أو كثير من عبد أو غيره لفلان، ثم مكث أياماً ثم اختلفا في عبد في يده فقال المقر: لم يكن في يدي يوم أقررت، وقال المقر له: لا بل كان في يدك، فالقول قول المقر، وفرق بينه وبين البراءة فإن فصل البراءة إذا تنازعا في عبد بعينه يجعل داخلاً في البراءة حتى يثبت بالبينة أنه استفاده بعد البراءة، وهنا لم يجعله داخلاً تحت الإقرار.(9/538)
والفرق: ما أشار إليه في «الكتاب»: أنه من كان في يده شيء فهو له حتى يعلم أنه لغيره، وبيان هذا: أن في مسألة الإقرار المتنازع فيه في يد المقر حاجتنا إلى قطع يده فإن كان في يده يوم الإقرار يجوز قطع يده وإن لم يكن لا يجوز قطع يده واحتمل أنه لم يكن في يده يوم الإقرار فلا يجوز قطع يده بالشك، وفي مسألة البراءة: المال في يد المدعى عليه واحتمل حدوث الدين فيجوز قطع يده، واحتمل البقاء فلا يجوز قطع يده بالشك، فإذاً في الفصلين لم تبطل يد صاحب المال بالشك.(9/539)
-----
وذكر في بعض روايات «المبسوط»: لو أن رجلاً قال: ما في حانوتي لفلان، ثم مكث أياماً فادعى شيئاً مما في الحانوت أنه وضعه بعد الإقرار إنه يصدق، وهذه الرواية موافقة لرواية «الأقضية». وفي بعض روايات كتاب «الإقرار» قال: لا يصدق وهذه الرواية مخالفة لرواية «الأقضية»، وتأويل هذه الرواية: أنه ادعى بعد الإقرار في مدة لا يمكنه إدخال ذلك الشيء في الحانوت في تلك المدة بيقين، وفي هذا التأويل يثبت كون ذلك في الحانوت وقت الإقرار بيقين، وفي مسألة «الأقضية»: لو تيقنا بكون المدعى في يد المقر وقت القرار، كان الجواب فيه كما ذكر في بعض روايات «الإقرار» أنه لا يصدق المقر والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: دار في يدي رجل أقام رجل بينة أنها داره وقضى القاضي له بالدار، ثم أن المقضي له أقر أنها دار فلان لا حق لي فيها وصدقه فلان في ذلك فقال المقضي عليه للمقضي له: قد أكذبت شاهديك حين أقررت أنها لفلان لا حق لك فيها، وأقررت بخطأ القاضي في قضاءه فرد الدار عليّ أو قيمتها، فالقضاء ماض ولا سبيل للمقضي عليه، لا على الدار ولا على المقر ولا على المقر له، لأن قضاء القاضي قد نفذ من حيث الظاهر، وقوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها محتمل يحتمل لا حق لي فيها من الأصل وكنت مبطلاً في الدعوى، وعلى هذا التقدير يصير مقراً بخطأ القاضي ويجب نقض القضاء، ويحتمل لا حق لي فيها لأني ملكتها من المقر له بعد القضاء، وعلى هذا التقدير لا يصير مقراً بخطأ القاضي، ولا يجب نقض القضاء، فلا يجب النقض بالشك.
فإن قيل: هذا الاحتمال إن كان لا يتأتى فيما إذا أقر المقضي له بذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي، لا يتأتى فيما إذا أقر قبل الغيبة عن مجلس القاضي، والجواب فيهما واحد.(9/540)
-----
قلنا: لا بل يتأتى قبل الغيبة أيضاً، إذ يجوز أن المقضي له قد كان باع الدار من المقر له قبل القضاء له على أنه بالخيار ثلاثة أيام حتى لم تزل الدار عن ملكه لما أن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها منه، فأقام صاحب الدار بينة قبل مضي الخيار أن الدار له، ثم لما قضى القاضي له بالدار يقضي مدة الخيار عقيبه، وعلى هذا التقدير كان المقضي له محقاً في دعواه أن الدار له، وكان الشهود صادقين في شهادتهم أنها للمشهود له، فكان المقر صادقاً في إقراره أنها صارت لفلان المقر له من جهته بعد القضاء؛ لأنها صارت للمقر له من جهة المقر بعد سقوط الخيار، وذلك بعد القضاء وإذا كان هذا الوجه محتملاً وبهذا الاحتمال لا ينقض القضاء، وقع الشك في نقض القضاء فلا ينقض بالشك.
ولو أن المقضي له قال: هذه الدار لفلان ما كانت لي قط، بدأ بالإقرار وهي بالنفي، أو قال: ما كانت لي قط إنما هي لفلان بدأ بالنفي، وهي بالإقرار وإنه على وجهين: إن صدقه المقر له في جميع ذلك، يرد الدار على المقضي عليه، ولا شيء للمقر له على المقر أما لا شيء للمقر له على المقر؛ لأن المقر ادعى ما يبطل إقراره لأنه يدعي أنها ما كانت له قط، وإقرار الإنسان لغيره بملك الغير لا يصح، والمقر له صدقه في ذلك فبطل إقراره، وأما يرد الدار على المقضي عليه لأن المقضي له أكذب شهوده من كل وجه، حيث أقر أن الدار لم تكن له قط، لأن قوله: ما كانت لي قط لا يحتمل ما كانت لي لأني ملكتها منه بعد القضاء، لأن ما لم يكن له لا يتصور تمليكه من غيره، فقد أكذب شهوده وأقر بخطأ القاضي من كل وجه والحق له فعمل إقراره وبطل القضاء.(9/541)
-----
ولو كان المقر له صدقه في الإقرار وكذبه في النفي عن نفسه بأن قال: الدار كانت للمقر له وهبها لي بعد القضاء، يقضى بالدار للمقر له، وعلى المقضي له للمقضي عليه قيمة الدار، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا بدأ بالإقرار ثم بالنفي، لأن إقراره صح ظاهراً؛ لأن القاضي قضى له بالدار، وصح القضاء ظاهراً فصح إقراره وصارت الدار مملوكة له ظاهراً فإنما هو أقر بما هو مملوك له ظاهراً وصارت الدار للمقر له، فإذا قال بعد ذلك: ما كانت لي قط، فقد أراد إبطال إقراره والرجوع عنه وقد كذبه المقر له في ذلك، فلم يبطل إقراره في حق المقر له، أما يشكل فيما إذا بدأ بالنفي، ثم بالإقرار وكان ينبغي أن (154أ4) لا يقضى بالدار للمقر له أول مرة ما كانت لي قط أكذب شهوده فيما شهدوا، لأنهم شهدوا له بالملك من الأصل وقد أقر أنها لم تكن له من الأصل، فقد أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء، وتكون الدار ملكاً للمقضي عليه، فإذا قال: ولكنها لفلان بعد ذلك، فقد أقر لفلان بملك الغير والإقرار بملك الغير إقرار باطل.
والجواب: قوله ما كانت لي قط، هذا نفي، وقوله: إنما هي لفلان، إثبات معطوف على النفي متصل به، والإثبات متى ذكر معطوفاً على النفي متصلاً به لا يقطع عنه، ألا ترى أن من أقر وقال: لفلان عليّ ألف درهم من ثمن جارية باعها مني، وقال المقر له: ليس لي عليك شيء من ثمن البيع، وإنما لي عليك ألف درهم من قرض، مقطوعاً عن صدر الكلام لما لزم المقر شيء كما لو سكت بين الكلامين سكتة، وإذا ثبت أن الإثبات غير منقطع عن النفي، كان الكل كلاماً واحداً، فلا يظهر تقدم البعض على البعض، فكما يصح النفي يصح الإقرار، أو نقول: قوله: ما كانت لي قط متصلاً بالإثبات لغيره، يستعمل لتأكيد الإثبات عرفاً وعادة، وما يذكر تأكيداً للشيء كان حكمه حكم ذلك الشيء، فلا يكون له حكم نفسه وصار من حيث المعنى كأنه قال: هذه الدار لفلان واقتصر عليه.(9/542)
-----
قالوا: ما ذكر محمد في «الكتاب» أن المقر له إذا صدق المقر في إقراره وكذبه في النفي، وقال: هذه الدار كانت للمقر إلا أنه وهبها لي وقبضتها منه بعد القضاء بالدار، يقضى بالدار للمقر له، محمول على ما إذا قال ذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي حتى يمكن للقاضي تصديق المقر له في ذلك، فأما إذا قال ذلك في مجلس القضاء فقد علم القاضي بكذبه أنه علم أنه لم يجر بينهما هبة وقبض، والكذب لا حكم له، فينبغي أن لا يصح إقراره في هذه الصورة.
ثم إن محمداً رحمه الله يوجب على المقر قيمة الدار للمقضي عليه، إنما أوجب؛ لأن في زعم المقر أن الدار ملك المقضي عليه وأن القاضي أخطأ في قضائه بالدار لي، وصرت غاصباً لها وقد عجزت عن الرد بإقراري بالدار للمقر له، فصرت ضامناً قيمتها، من مشايخنا من قال: هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن غصب العقار عنده ينعقد موجباً للضمان، غير مستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله، لأن عنده غصب العقار لا ينعقد موجباً للضمان ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل؛ لأن المقر بإقراره للمقر له أتلف الملك على المقضي عليه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: العقار يضمن بإتلاف الملك، ألا ترى لو شهد شاهدان بدار لرجل وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار للمشهود عليه، وإنما يضمنان بإتلاف الملك كذا ههنا.
قال: ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي وإنما هي لفلان وصدقه المقر له في ذلك، فالدار للمقر له، ولا ضمان على المقر للمقضي عليه، لأن قوله: ليست (لي) نفي للملك للحال ويحتمل أنه إنما نفاها للحال عن نفسه؛ لأنه ملكها من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنما نفاها للحال، عن نفسه، لأن لم تكن له من الأصل، فلا يثبت إكذاب الشهود فلا ينقض القضاء بالشك، وصار الجواب في قوله: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، نظير الجواب في قوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها.(9/543)
(9/544)
-----
ولو أن القاضي لم يقض بالدار للمدعي حتى قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها، أو قال: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فالقاضي لا يقضي له بالدار؛ لأن كلامه محتمل يحتمل: لاحق لي فيها ليست لي؛ لأني ملكتها من فلان، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء ويحتمل: لا حق لي فيها ليست لي؛ لأنها لم تكن لي من الأصل، وعلى هذا التقدير لا يجوز له القضاء، فلا يجوز له القضاء بالشك قال: إلا أن يقول المقر في هذه الصورة: هي دار فلان، بعتها منه بعد شهادة الشهود أو يقول: وهبتها منه وقبضها مني بعدما غاب عن مجلس الشهادة، قال ذلك موصولاً بكلامه، فحينئذ القاضي يقضي له بالدار؛ لأن بهذا البيان انتفى احتمال أنه ليس له من الأصل وتعين الاحتمال الآخر، وهو صيرورتها لفلان بتمليك من جهته بعد شهادة الشهود، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء فلهذا يقضي له بالدار، ولكن يشترط أن يكون هذا البيان موصولاً بإقرار، لأن هذا بيان معبر، لأنه لو لم يتكلم بهذا البيان لكان لا يقضى له بالدار وبهذا البيان يقضى، فكان هذا بيان تعبير، وبيان التعبير يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء.(9/545)
-----
قال في كتاب «الأقضية»: شاهدان شهدا لرجل بألف درهم من ثمن جارية، فقال المشهود له: إنه قد أشهدهما هذه الشهادة والذي لي عليه من ثمن متاع أجزت شهادتهما، قالوا: وتأويل المسألة: إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف من ثمن الجارية، فالمسألة محفوظة مذكورة في غير موضع من الكتب أنه إذا ادعى على آخر ألف درهم من ثمن مبيع، وشهد له الشهود بالألف من ضمان جارية غصبها إياه وقد هلكت، أنه لا يقبل شهادتهم وبمثله في الإقرار تقبل شهادتهم، واعتبر تكذيب المدعي الشاهد في السبب، ولم يعتبر تكذيب المقر له في السبب، والوجه في ذلك: أن المدعي بتكذيب الشاهد في السبب كذبه في بعض ما شهد به، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض الشهادة مانع قبول الشهادة لأنه تفسيق له وشهادة الفاسق لا تقبل، والمقر له بتكذيب المقر في السبب إن كذبه في بعض ما أقر به: ولكن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع صحة إقراره، فإقرار الفاسق صحيح مقبول بخلاف شهادة الفاسق، إذا ثبت هذا ظهر أن المراد به الشهادة على إقراره، والإقرار الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وقد ذكرنا في الإقرار المعاين أنه صحيح، يلزم مع اختلافهما في السبب كذا هذا.
والدليل على تأويل المسألة ما قلنا: إن محمداً رحمه الله قال في وضع المسألة: إن المشهود له قد أشهدهما هذه الشهادة، وهذا تنصيص على إقراره عندهما، فثبت أن تأويل المسألة ما قلنا من شهادتهما على الإقرار.
(9/546)
-----
قال: وكذلك الكفالة لو شهدا أنه أقر أنه كفل بألف درهم عن فلان آخر، كان له أن يأخذه بالمال؛ لأنهما اتفقا فيما هو المقصود، فلا يضرهما الاختلاف في السبب. ولو قال الطالب: إنه لم يقر بها، وإنما أقر أنها كانت عن فلان الآخر فالشهادة باطلة، لأنه أكذب شاهده فيما شهد به من إقرار المطلوب، فبطلت شهادته بخلاف الأول لأنه لم يكذب شاهده، فثبت بشهادة إقرار المطلوب فصار كالمعاين، ثم هو كذب المطلوب في إقراره بسبب المال، وقد مر أن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع قبول إقراره فيما بقي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: في الرجل يدعي على رجل ألف درهم فيقول المدعى عليه: ما كان لك عليَّ شيء قط، أو قال: ليس لك عليَّ شيء، ثم أقام البينة على القضاء قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، أما في قوله: ليس لك عليَّ شيء فظاهر، فإنه يقول: ليس لك عليَّ شيء لأني قضيته، وأما في قوله: ما كان لك عليَّ شيء قط، لأنه يمكنه أن يقول: لم يكن لك عليَّ شيء قط، لكن أذيتني بخصومتك الباطلة، فدفعت أذى خصومتك الباطلة بما طلبت مني.
ودلت هذه المسألة على أن التوفيق بين الكلامين إذا كان ممكناً، فالقاضي يوفق ويقبل بينة المدعي من غير التوفيق، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» وقال: قبل ذلك منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.(9/547)
-----
وإن قال: ما كان لك عليّ شيء قط، ولم أعرفك، ولم أكلمك، ولم أخالطك ثم أقام البينة على القضاء لا تقبل بينته، هكذا ذكر المسألة ههنا، لأن التوفيق غير ممكن ههنا إذ لا يتصور أن يكون بين شخصين خصومة وقضاء، ولا يعرف أحدهما صاحبه. وذكر «القدوري» عن أصحابنا أنه تقبل البينة، لأن الرجل عسى يدعي على امرأة أو رجل وهو محتجب في داره، ويؤذيه بالسب على باب داره، فيأمر بعض وكلائه أن يدفع إليه ما ادعى فيدفعه إليه الوكيل فيكون قد قضاه وهو لا يعرفه ثم يعرف بعد ذلك، هذا (إذا) أقام البينة على الدفع والقضاء، فأما إذا أقام البينة على الإبراء، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل هنا، قال بعض مشايخنا في شرح هذا الكتاب: ولا شك أن تقبل بينته (154ب4) في الفصل الأول والثاني، لأن وجه التوفيق فيهما ظاهر، وكذلك في الفصل الثالث، قال: ويجب أن يكون قبول البينة في الفصل الثالث على اتفاق الروايات، لأن التوفيق ههنا ممكن، لأن الإبراء يتحقق من غير أن يعرف المدعى عليه صاحب الدين بأن كان لرجل على آخر دين، مات صاحب الدين وورث الدين ابنه ولم يعلم به المديون، ثم إن الابن أبرأه عن دينه أو أبرأ أهل بلد كذا عن دعاويه وديونه، والمدعى عليه من أهل ذلك البلد، فيكون داخلاً تحت الإبراء، وإن لم يعرفه ثم بعدما ادعى عليه وأنكر المدعى عليه المال، أخبر المدعى عليه شاهدان بما جرى من الأمر فعرف المدعي صاحب دينه، وأبرأه به إباه عن الدين، فأقام الشاهدان اللذان أخبراه بذلك فأما قضاء الدين ودفع المال إلى إنسان وهو لا يعرفه أصلاً لا يكون فيصير متناقضاً في دعوى الدفع.
وعن أبي يوسف أنه إن قال: لم يجر بيني وبينه معاملة ولكن أخبرني شهودي هؤلاء أنه ادعى علي حقاً، ثم أشهدهم أنه قد أبرأني منه ولم يجر بينه وبيني معاملة، قُبَل ذلك منه.(9/548)
-----
وذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل»: إذا قال المدعى عليه: لم يكن لك عليَّ شيء قط، أو قال: لم يكن لك علي دين قط، ثم أقام البينة على القضاء أو الإبراء سمعت بينته. قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الكفالة: إن وفق فقال: دفعت المال إليه افتداء عن اليمين قطعاً لدعواه لا قضاء عن الدين، قبلت بينته، لأنه زالت المناقضة ويكون هذا في الحاصل دعوى الصلح على الإنكار، وإن قال: دفعته قضاء عن الدين لا تقبل بينته لتحقق المناقضة، وإن لم يبين شيئاً بل ادعى القضاء مطلقاً فالقياس أن تقبل بينته، وفي الاستحسان :لا تقبل كما في الشهادة على الألف والخمسمئة، قال: وكذلك في فصل الإبراء إن وفق وقال: لم يكن له علي دين، كما قلت إلا أنه أبرأني عن دعوى الدين، لا عن الدين تزول المناقضة، وتقبل بينته على الإبراء، وإن قال: أبرأني عن دعوى الدين لا تقبل بينته لمكان المناقضة، فإنه أقر أنه لم يكن عليه، ثم أقر أنه كان عليه دين لما ادعى الإبراء عن الدين، والمناقضة تمنع صحة الدعوى ولا تقبل البينة بدون الدعوى، وإن ذكر الإبراء مطلقاً ولم يبين أنه أبراه عن الدين أو عن دعوى الدين، فالقياس أن تقبل بينته.h
وفي الاستحسان :لا تقبل.(9/549)
-----
قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل ادعى عليه عشرة آلاف درهم، فأنكرها فسأل الحاكم المدعي هل قبض من المال شيئاً، فأقر أنه قبض منه عشرة آلاف، فأبرأ الحاكم المدعى عليه من العشرة آلاف، فلما خرجا من عند الحاكم قال المطلوب: لا والله ما قبضتها مني، فجاء الطالب ببينته يشهدون على كلامه هذا، قال محمد رحمه الله: أقبل هذا من الطالب وأقضي بها عليه، وبمثله لو أقام الطالب البينة على المال لا تقبل ذلك منه؛ لأنه إنما لا تقبل البينة على المال للتناقض لمكان إقراره بالقبض، فإذا صدقه في ذلك وأقر أن القبض لم يكن انتفى التناقض، لأن التناقض يرتفع بتصديق الخصم، وبما أقام من البينة ثبت تصديقه فقبلت منه.
واستشهد لهذا الرجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف درهم، فقال الطالب: ليس لي عليك شيء، فقد برئ المطلوب، لأن الإقرار يبطل بتكذيب المقر له، فإن قال المطلوب بعد ذلك: بلى لك علي عشرة آلاف درهم، فإنه يقضي به للطالب إذا ادعاها؛ لأنه استأنف الإقرار بالمال له، فإن صدقه في هذا الإقرار كان له أن يأخذه، كذلك في المسألة الأولى أثبت بشهادته إقراره مستأنفاً منه لم يتصل به التكذيب، فملك إثباته بالبينة قال محمد رحمه الله: وإن قال المطلوب: إنما قلت: ما قبضتها مني، وأنا أقيم البينة أنك قبضتها من وكيلي، لم تقبل بينته، لأن القبض من وكيله قبض منه أيضاً، فإقراره الأول ينتظمهما جميعاً، فإذا ادعى القبض من وكيله، كان متناقضاً في دعواه، فلم يسمع منه.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال: والله ما قبض مني فلان من الألف التي له علي قليلاً ولا كثيراً، كان هذا القول على نفسه، وعلى وكيله ورسوله؛ لأن الإنسان يعد قابضاً بيد وكيله عادة وقاضياً على يد نفسه ووكيله، فكذلك ههنا.(9/550)
-----
قال ابن سماعة: قال محمد رحمه الله: ولو جاء المطلوب ببينة يشهدان أن رجلاً أجنبياً قضى هذا المال تطوعاً بها من ماله بغير أمر المطلوب، ولا وكلائه، فإني أقبل ذلك، وهذا يستقيم أن يقول: ما قبضتها مني، ولكن تطوع بأدائها عني، وهذا لأن فعل كل واحد يقتصر عليه بقضية الأصل، وإنما ينتقل إلى غيره بحكم الأمر، فإذا كان متطوعاً لم يوجد الأمر فبقي فعله مقصوراً عليه فلا يصير قابضاً من المطلوب، فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة.
ولو قال المطلوب: ما قبضها فلان، كان هذا على قبض نفس المطلوب ووكيله، وعلى كل أحد أجنبي وغيره، ولا أقبل البينة أنه قبضها من رجل أجنبي، لأنه أضاف القبض إلى الألف، وأنه يصير قابضاً لها بقضاء المطلوب، ويتبرع الأجنبي بالقضاء حتى سقط الدين، فانتظر قبضه منه ومن غيره، فإذا ادعى القبض من أجنبي، كان متناقضاً في دعواه فلا تقبل بينته بخلاف الأول، فإن ثمة أضاف قبض الألف إليه بكلمة من، وأنها إنما تستعمل إذا كان القبض بتسليم من فلان ليحصل معنى العرف الذي وضعت كلمة من له، وبالقبض من الأجنبي لا يتحقق هذا المعنى، فلم تدخل تحت صدر الكلام فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة، أما ههنا فبخلافه على ما ذكرنا.
الفصل الثالث والعشرون: في الشهادة على النسب
رجل مات وترك عبدين وأمتين صغيرتين ولدتا في ملكه، وابن عم له لا وارث له غيره، فأعتق ابن العم الغلامين، فشهدا بعد عتقهما أن إحدى الجاريتين بعينها بنت الميت أقر بها في حياته وصحته، لم تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنا لو قبلناها ابتداء أبطلناها انتهاء.(9/551)
-----
بيانه: أنه إذا ثبت نسبها من الميت ظهر أن الميراث كان بينها وبين ابن العم نصفين، فظهر أن العبدين كانا بينهما نصفين، فإن ابن العم لما أعتقهما لم يعتق منهما إلا نصيب ابن العم لما عرف من أصله أن الإعتاق يتجزأ، وكان معتق البعض عبده ومعتق البعض عبده بمنزلة المكاتب، وشهادة المكاتب باطلة وعندهما تقبل الشهادة، لأنا متى قبلنا شهادتهما في الابتداء لم نحتج إلى إبطالها في الانتهاء؛ لأنه ظهر أنهما شهدا وهما حرّان لا دين عليهما إن كان المعتق موسراً، أو حرّان وعليهما دين إن كان المعتق معسراً، وشهادة الحر مقبولة مديوناً كان أو غير مديون، فإن شهدا للجارية الأخرى بمثل ذلك بطلت الشهادة أيضاً عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه يصير لابن العم في هذا الوجه الثلث، فكان معتق البعض أيضاً، والتقريب ما مر.(9/552)
-----
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن شهدا للجارية الأخرى بذلك قبل قضاء القاضي للجارية الأولى قبلت شهادتهما، ويجعلهما ابنتين للميت، سواء كان ابن العم موسراً أو معسراً، لأنهما حرّان عندهما لم يجران إلى أنفسهما مغنماً ولا دفعا عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما، بل أوجبا على أنفسهما ثلثي السعاية للابنتين إن كان ابن العم معسراً، ولم يحولا ضماناً وجب عليهما، أما إذا كان ابن العم موسراً؛ فلأن يسار المعتق عندهما يمنع استبقاء العبد، وأما إذا كان معسراً؛ فلأن القاضي لم يقض بالسعاية على العبد بعد، حيث لم يقض بكون الأولى بنتاً للميت، وتحويل الضمان قبل وجوب الضمان محال، فبعد ذلك إن كان المعتق معسراً سعى كل واحد من العبدين في ثلثي قيمته للابنتين، وإن كان موسراً ضمن ثلثي قيمة العبدين للابنتين نصفان، ولو كان ذلك بعد قضاء القاضي للبنت الأولى، فإن كان ابن العم موسراً تقبل شهادتهما؛ لأن المعتق إذا كان موسراً لم يجب للبنت الأولى عليهما السعاية، فهما بشهادتهما لم يحولا ضماناً وجب عليهما للأولى إلى الثانية، وإن كان معسراً فهذا على وجهين: أما إن أقرت الأولى للأخرى أو لم تقر، فإن لم تقر لم تقبل شهادتهما، لأنه وجب عليهما السعاية في نصف قيمتهما للأولى، فهما بشهادتهما يحولان سدس القيمة إلى الثانية، ولهما في هذا التحويل فائدة فلا تقبل شهادتهما وإن أقرت الأولى للأخرى تقبل شهادتهما، وإن حصل تحويل سدس القيمة من الأولى إلى الثانية، إلا أن هذا التحويل في الحاصل ما حصل بشهادتهما، إنما حصل (155أ4) بإقرار الأولى بدليل أنهما لو لم يشهدا بذلك كان سدس القيمة مما وجب عليهما محولاً إلى الأخرى، فلا يكون ذلك مانعاً قبول شهادتهما.
(9/553)
-----
فكذلك لو كانا دفعا نصف القيمة إلى الأولى بقضاء أو بغير قضاء ثم شهدا للأخرى لا تقبل شهادتهما، لأنهما بهذه الشهادة يريدان إبطال بعض ما ملكا من الأولى وهو السدس، وإذا لم تقبل شهادتهما بقيت الأخرى أمة للأولى وابن العم، ولا يضمن الشاهدان للأخرى شيئاً، وإن أقرا لهما بسدس القيمة إلا أنها لما بقيت أمة كان الإقرار لها إقراراً لمولاها ومولاها ابن العم والجارية الأولى وهما يكذبان الشاهدين في إقرارهما للأخرى بشيء، ومن أقر لمملوك إنسان بشيء وكذبه مولاه يبطل إقراره، فإن عتقت الأخرى يوماً من الدهر يضمن الشاهدان لها سدس قيمتها؛ لأنهما أقرا للأخرى بسدس قيمتها وهي تصدقهما في ذلك، فيضمنان لها ذلك، وهذا لا يشكل فيما إذا دفعا النصف إلى الأولى بقضاء قاض فلا يكون عليهما ضمانه، فكان عليهما ما بقي إلى ثلث قيمتهما، وذلك سدس قيمتهما لا غير إنما يشكل فيما إذا دفعا نصف قيمتها إلى الأولى بغير قضاء، وفي هذا الوجه يجب أن يضمنا للأخرى ثلث قيمتهما؛ لأنهما أقرا للأخرى بثلث قيمتهما ودفع السدس إلى الأولى كان بغير قضاء، فلا يبرآن منه، فكان عليهما ضمانه، وقد بقي عليهما سدس قيمتهما فيضمنان للأخرى ثلث قيمتهما لهذا.(9/554)
-----
وأجاب الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله عن هذا الإشكال، وقال: بأن القاضي لما قضى عليهما بالسعاية الأولى في نصف القيمة فقد قضى بدفع نصف القيمة إلى الأولى، فبعد ذلك إن وجد القضاء بدفع النصف إليها مرة أخرى فهو تأكيد لذلك القضاء، وإن لم يوجد كان القضاء الأول كافياً، والدفع متى حصل بقضاء يوجب براءة الدافع عن قدر المدفوع، ولو شهدا للأمة الأخرى أنها أخت الميت بعدما شهدا للأولى أنها ابنة الميت لا تقبل شهادتهما، قضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض، لأن في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنه يظهر أن الميت ترك ابنة وأختاً وابن عم، وفي هذه الحالة لا يكون لابن العم شيىء لكون الأخت عصبة في هذه الحالة، فظهر أن إعتاق ابن العم العبدين كان باطلاً، وأنهما بقيا عبدين وشهادة العبد لا تقبل، ولا يضمن العبدان للأخت شيئاً. وإن أقرا لهما بنصف قيمتهما لما قلنا: فإن عتقت يوماً من الدهر ضمنا نصف قيمتهما لما مر.(9/555)
-----
رجل مات فشهد قوم عند القاضي لرجل أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه، لا وارث له غيره فقضى القاضي بذلك وقد كان للميت على رجل ألف درهم، فوهبه الأخ له أو وهب لإنسان عيناً من التركة، ثم شهد هذا الموهوب له ورجل آخر لإنسان أنه ابن الميت، جازت شهادتهما، لأن هذه شهادة على الموهوب له، فإنه يبطل بهذه الشهادة ما حصل له بالهبة من العين والدين فكانت هي من أصدق الشهادات، وكان ينبغي أن لا تقبل شهادته فيما إذا كان الموهوب عيناً، لأن الموهوب إذا كان عيناً فالهبة لا تتم إلا بقبول الموهوب له، فكان هو بهذه الشهادة ساعياً في نقض ما تم به، وهذا مانع قبول الشهادة، والجواب عن هذا: أن يقال بأن السعي في نقض ما تم به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان هو لا يملك النقض بدون الشهادة، والموهوب له يملك الرد على الواهب من غير شهادة؛ لأن الهبة في جانب الموهوب له غير لازمة، وكان كالمرتهن إذا شهد لغيره بالرهن حتى لو كانت الهبة بشرط العوض وتقابضا، ثم إن الموهوب له شهد مع رجل آخر أن هذا الرجل ابن الميت، كانت شهادتهما باطلة، لأنه ساع في نقض ما تم به، وهو لا يملك ذلك بدون الشهادة، لأن الهبة بشرط العوض لازمة من الجانبين.
وصار هذا نظير ما لو اشترى رجل من هذا الأخ شيئاً من الميراث، ثم شهد هذا المشتري مع رجل آخر بما قلنا، لم تقبل شهادته لما قلنا، وإذا لم تقبل هذه الشهادة كان للمشهود له بديونه؛ لأن يأخذ من الموهوب له ومن المشتري ذلك العين إن كانت قائمة وقيمتها إن كانت هالكة، لأن الموهوب له زعم أن الهبة لم تصح، وكذلك المشتري زعم أن الشراء لم يصح، وأن هذا العين ملك الابن فيؤمران بالدفع إليه إن كان قائماً وبرد القيمة إن كان هالكاً، والذي ذكرنا في الهبة كذلك الجواب في الصدقة، والله أعلم.
(9/556)
الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات
-----
دابة في يدي رجل، يقال له محمد، فجاء رجل يقال له عمرو وقال: هذه الدابة التي في يد محمد كانت لزيد، أخذتها منه وديعة، ثم رددتها عليه، وقد مات زيد، فجاء وارثه لزيد وقال: هذه الدابة تصدق بها إلى زيد في حياته، وأنكر محمد ذلك، فجاء عمرو مع رجل آخر وشهدا بالدابة للمدعي، فإن كان الإيداع والرد معروفاً ظاهراً قبلت شهادتهما للمدعي، لأن عمراً بهذه الشهادة لم يدفع عن نفسه مغرماً، لأن عمراً إما إن كان مودع المالك بأن كان إيداع زيد إياه قبل التصدق بها على المدعي، أو كان مودعاً للغاصب بأن كان الإيداع من زيد بعد التصدق على المدعي والتسليم وأيهما كان فلا ضمان عليه إذا كان الرد ظاهراً، لأن المودع يبرأ بالرد على المودع، سواء كان المودع غاصباً أو مالكاً، فإذا برئ بالرد لم يدفع بهذه الشهادة عن نفسه مغرماً وإن كان الإيداع ظاهراً ولم يكن الرد ظاهراً، لا تقبل شهادة عمرو، علل محمد رحمه الله وقال: لأنه دافع عن نفسه مغرماً.
وطعن عيسى بن أبان فقال: ينبغي أن تقبل شهادته؛ لأنه ليس بدافع عن نفسه مغرماً، لأنه إنما يكون كذلك إذا كان يضمن للمدعي، لو لم تقبل شهادته بإقراره السابق بالأخذ وبإقراره اللاحق أن الملك للمدعي للحال الحاصل في ضمن الشهادة فلا يضمن، لأنه بهذه الشهادة أقر بالملك للمدعي للحال وملك زيد كان ثابتاً بتصادقهما، والإيداع منه كان ظاهراً، إلا أنه وقع الشك أن الإيداع منه كان قبل التصدق أو بعده، فإن كان قبل التصدق: كان مودع المالك حينئذ ويكون القول قوله في الرد، ولا يجب الضمان، وإن كان الإيداع بعد التصدق كان مودع الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان متى لم يكن الرد ظاهراً، فلا يجب الضمان بالشك، ومتى لم يجب الضمان لم يكن هو بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً.
والجواب عن هذا الطعن: أنه إذا وقع الشك في كونه دافعاً عن نفسه مغرماً وقع الشك في قبول شهادته، فلا تقبل شهادته بالشك والاحتمال.(9/557)
-----
وجواب آخر وهو الصحيح: لا بل عمرو بشهادته دافع عن نفسه مغرماً متى لم يكن رده ظاهراً، لأنه ربما يجيء مستحق آخر لهذه الدابة ويقيم البينة أن الدابة ملكه مطلقاً، وتكون للمستحق، يضمن عمرو إذا لم يكن الرد على زيد ظاهراً، لأنه أقر أنها كانت في يده وديعة، وبالاستحقاق تبين أنه كان مودع الغاصب، ومودع الغاصب يضمن إذا هلكت الوديعة، ولم يكن الرد ظاهراً، فهو بهذه الشهادة للمدعي رفع هذا الضمان عن نفسه؛ لأنا متى قبلنا هذه الشهادة وقضينا بالدابة للمدعي، لا يكون للمستحق تضمين المودع، لأن الدابة وصلت إلى وارث الغاصب، ووصولها إلى وارث الغاصب بمنزلة وصولها إلى الغاصب، ولو وصلت إلى الغاصب يبرأ المودع عن الضمان فكذا ههنا، فكان دافعاً مغرماً من هذا الوجه.
وفي «فتاوى الفضلي»: رجل ادعى داراً أنه ورثها من أبيه، وادعى آخر أنه اشتراها من أبيه ذلك، وشهد شهود المدعي للشراء بمجرد البيع فقالوا: باعها منه الميت، ولم يقولوا: وهو يملكها، والدار في يد مدعي الميراث أو مدعي الشراء، فالشهادة مقبولة، ويقضى بالدار لمدعي الشراء، وإن لم يشهدوا بالملك للميت ولا بالتسليم، إنما يحتاج شهادتهم في البيع إلى ذكر الملك والتسليم مع البيع إذا كان المشهود عليه لا يدعي ملك المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه حياً كان أو ميتاً، بل يدعي المدعي لنفسه لا من جهة ذلك، أما إذا كان المشهود عليه يدعي ملك المدعي من جهة من ادعى المشهود له الشراء منه لا يحتاج إلى ذكر الملك أو التسليم مع ذكر البيع، لأن المشهود عليه لما ادعى المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه، فقد ثبت كون المدعى ملكاً لذلك باعترافه فاستغنى الشهود عن ذكر ملكه حينئذٍ قال في الكتاب: لأن شهادتهم على بيع الميت منه ليست بأقل من شهادتهم (155ب4) على إقرار الميت أن الدار لمدعي الشراء.(9/558)
-----
ولو شهدوا بهذا ومدعي الميراث يدعي أنها ميراث له عن الميت، لم يلتفت إلى دعواه، وقضى بالدار للمقر له، فكذا إذا شهدوا له بالشراء من غير ذكر ملك ولا تسليم، بخلاف ما إذا ادعى المشهود عليه ملك الدار لنفسه، لا من جهة أحد بعينه، حيث لا تقبل شهادتهم بمجرد البيع، لأن هنا لو شهد الشهود أن الذي ادعى المشهود له الشراء منه أقر أن الدار لمدعي الشراء، لم تقبل هذه الشهادة على المشهود عليه؛ لأنه يزعم الملك للمقر فالحاصل أنه اعتبر شهادتهم بمجرد البيع على الشهادة بالإقرار ففي كل موضع تقبل الشهادة على إقرار من يدعي المشهود له الشراء منه، لا تقبل الشهادة بمجرد البيع، والمسألة في شهادات «الأصل» وذكر ملك البائع وقت البيع ينظر في شهادات «الفتاوى الصغرى».
وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل له تسعة أولاد أقر في صحته وجواز إقراره أن لخمسة من أولاده فلان وفلان وفلان سماهم في الصك عليه ألف درهم، ثم مات، وأنكر سائر الورثة ذلك، فشهد الشهود بذلك عند الحاكم، وقالوا: لا نعرف الأولاد المقر لهم، لأنهم لم يكونوا حضوراً وقت الإقرار، فإن أقر سائر الورثة بأسامي هؤلاء ثبت المال بشهادة الشهود، ولو جحدوا كلّف المدعون إقامة البينة على أنهم مسمّون بالأسامي التي ذكرها الشهود، فإن أقاموها يقضي لهم بذلك إذا لم يكن في سائر الأولاد مثلهم في الأسامي.
(9/559)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير»: رجل في يديه دار، أقام رجل بينة أنها دار فلان ابن فلان الفلاني أودعنيها فالقاضي يدفع الدار إلى المدعي، لأن المودع ينتصب خصماً في الوديعة في إثبات الملك للمودع، لأنه مأمور بالحفظ ولا يتمكن من الحفظ إلا باسترداده من الغاصب، ولا يتمكن من ذلك إلا بإثبات الملك لمودعه، فكان خصماً في إثبات الملك للمودع فقبلت بينته، كما لو أقامهما المودع بنفسه فإن لم يشهد شهود المدعي على هذا الوجه، ولكن شهدت شهوده أن فلاناً أودعها من المدعي، ولم يشهدوا أنها كانت لفلان، لا تقبل هذه الشهادة، لأن المدعي بهذه البينة لم يثبت الملك في الدار لصاحب الوديعة، وإنما أثبت أنه أودعها منه، والإيداع كما يكون من المالك يكون من غير المالك، فلم تكن هذه شهادة بالملك، وإنما هذه شهادة أنها كانت في يد المودع، وقد عرف القاضي زوال ذلك اليد، فلا يجوز إثباتهما بالبينة، وكذلك لو شهدوا أنها كانت في يد المستودع أمس لم يقض القاضي بشيء؛ لأن المودع لو كان يدعي الملك لنفسه لم يستحق بهذه الشهادة شيئاً، فكذلك إذا كان يدعيه لغيره، ولو ادعى المدعي رقبتها فشهدت شهوده أن فلاناً وهبها له، وقبضها منه أو اشتراها منه وقبضها ولم يشهدوا بالملك للبائع ولا للواهب، قبلت الشهادة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تقبل، وإلى هذا أشار في «الكتاب»، فإنه نسب الجواب فيه إلى أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأبو يوسف قاس هذا على الإيداع.(9/560)
-----
والفرق لهما: وهو أن الشهود هنا شهدوا باليد عند مباشرة سبب الملك، وهو البيع والهبة والشهادة على اليد عند مباشرة سبب الملك، كالشهادة على الملك حكماً، لأن الأملاك لا تعرف إلا بها، ولهذا إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيها تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له، فكانت هذه شهادة للمدعي، فقبلت بخلاف فصل الإيداع، لأن هناك الشهود ما شهدوا باليد عند مباشرة السبب؛ لأن الإيداع ليس من أسباب الملك بل هو نقل من يد إلى يد فلم تكن الشهادة على اليد عند الإيداع شهادة على الملك بخلاف البيع والهبة على ما مر.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فأنفذ القاضي شهادتهما، ثم ادعى أحد الشاهدين أنها امرأته تزوجها قبل الذي طلقها، وأتى على ذلك ببينة والمرأة تجحد فإنه لا يقبل ذلك منه، وكذلك لو لم يكونا شهدا أنها امرأته، وإنما شهدوا أنه طلق هذه ثلاثاً، وكذلك هذا في العتق والبيع وغير ذلك إذا جحد البائع دعوى الشاهد، وقال: المتاع لي، وكذلك إذا قال الشاهدان: نحن أمرناه بالبيع، لأن ما نفذ من الحكم بشهادتهما بمنزلة الإقرار منهما أنه لاحق لهما فيه، ولا في ثمنه وسواء كان البائع جاحداً للبيع أو كان المشتري جاحداً للشراء، ولو شهدا ورد الحاكم شهادتهما، ثم ادعياه لأنفسهما، فليس لهما في ذلك دعوى، وإن لم يشهدا عليه عند الحاكم ولكن شهدا المبايعة وحتما على الشراء من غير إقرار بكلام، فإن هذين لا تقبل لهما دعوى.
(9/561)
-----
وذكر عن محمد رحمه الله: رجل شهد على رجل أنه طلق هذه المرأة ولم يشهد أنها امرأته، وأجاز القاضي شهادته عليها، ثم ادعى الشاهد أنها امرأته، وقال: لم أعرفها ولم أكن دخلت بها قبلت بينته، وكذلك لو شهد على إقرار المرأة أنها امرأته ولم يشهد أنها امرأته، فأجاز القاضي عليها إقرارها وجعلها امرأته، ثم أقام الشاهد بينة أنه تزوجها منذ سنة، وإني لم أعرفها قبلت بينته، ويبطل قضاء القاضي، ويردها على الشاهد، فصارت مسألة الطلاق مختلفة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
في «أدب القاضي»: إذا شهد شاهدان لمدعى على رجلين أن أحدهما باع الدار من هذا المدعي وسلم الآخر، ولا يعرف الشهود البائع فشهادتهما باطلة، لأن المشهود عليه مجهول.
بيانه: أن الشهادة بالبيع شهادة على البائع وبزوال ملكه عن المبيع ببدل، وهما لم يعرفا البائع فكان المشهود عليه مجهولاً من هذا الوجه.
وكذلك إذا شهدا على رجل أنه باع هذه الدار من أحد هذين الرجلين، ولا يعرفان المشتري بعينه، لأن المشهود عليه مجهول وهو المشتري، قال: ألا ترى أن في الأول لو قلنا: هذه الشهادة فإذا استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟، وقال: ألا ترى أن في الفصل الثاني لو قبلنا هذه الشهادة فعلى من يلزم الثمن وينكره كل واحد منهما ويدفعه عن نفسه.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا على رجلين، فقالا: نشهد أن هذين ضربا فلاناً فقتلاه، ضربه أحدهما بالسيف، والأخر بالعصا، لا ندري أيهما صاحب السيف وأيهما صاحب العصا فالشهادة باطلة، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، فإذا جهلا أيه فعل كل واحد منهما، صار فعل كل واحد منهما مجهولاً وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة.(9/562)
-----
وكذلك إذا قالا: نشهد أنهما قطعا يديه فمات من ذلك، قطع أحدهما يمينه، والآخر يساره، عمداً، أحدهما بحديدة، والآخر بعصا، ولا ندري من صاحب العصا منهما، أو لا ندري من قطع منهما اليمين ومن قطع منهما اليسار، أو قالا: جرحاه هاتين الجراحتين، لا ندري من جرح هذه ومن جرح هذه، فالشهادة في هذا كله باطلة؛ لأن الفعل يختلف باختلاف المحل وباختلاف الآلة، فإذا أقرا أنهما جهلا ذلك، فقد ضيعا شهادتهما حيث لم يمكنهما الشهادة على فعل معين معلوم، فلا تقبل شهادتهما.
ولو قالا: نشهد أنهما قطعا يده، قطع هذا يمينه والآخر يساره أو جرح هذا هذه، وهذا هذه ولا ندري بأي شيء جرحاه، فالقياس أن لا تجوز شهادتهما لما ذكرنا أنهما ضيعا شهادتهما بإقرارهما أنهما جهلا آلة القطع وآلة الجرح فبطلت شهادتهما، ولكنّا استحسنّا وجوزنا هذه الشهادة، لأنهما اتفقا على أصل الفعل وإن اختلفا في وصفه فقبلت شهادتهما فيما اتفقا عليه، ولأنهما إنما لم يذكرا آلة القتل والجرح على القاتل احتيالاً لدرء القصاص وابتداء بما ندما إليه في الشرع مع علمهما، فلا يقدح ذلك في الشهادة بخلاف المسألة المتقدمة، لأن ثمة قد ذكرا آلة الجرح والقتل، ولكنهما جهلا صاحب الآلة فلا يمكن حمله على السر، وإنما هذه شهادة على مجهول، لأنهما لم يشهدا بالقتل بالسيف ولا بالقضاء على أحدهما بعينه، فلا تقبل شهادتهما، ثم في هذه المسألة الأخيرة إذا قبلت الشهادة وجب المال، لأنه تعذر إيجاب القصاص، لأنه يعتمد القتل عمداً بحديدة ولم يثبت، فوجبت الدية، وإنما تجب في ماله ولا تجب على العاقلة، (156أ4) لمكان الشك فإنه كان خطأً تجب على العاقلة، وإن كان عمداً لا تجب على العاقلة، ويحتمل كلا الأمرين، فلا تجب على العاقلة بالشك، وإن قالا: قتله خطأً، الآن تجب الدية على العاقلة لاتفاقهما على وجوب الدية على العاقلة.
(9/563)
-----
والقتل إذا كان خطأً بأي آلة كان، فإن موجبه على العاقلة، قال: وكل شيء من هذه الشهادة كنت أقضي بها لو برأ الرجل من الجراحة، وأجعل في ذلك دية، أو قصاصاً، فإني أقضي به إذا مات وأجعل (على) عاقلته الدية، وكل شيء كنت أبطله لو عاش الرجل وبرئ من الجراحة فإني أبطله إذا مات من ذلك، لأنه إنما يقضي بالدية والقصاص في حالة الحياة عند تمام الحجة على الجرح واستجماع شرائط قبول الشهادة، فإذا مات منهما أحد بموجب السراية وإذا لم يقض في حياته بشيء فإنما لم يقض لانعدام الحجة على فعله، أو لفقدان شرائط جواز الشهادة، فإذا مات منهما لا يمكن القضاء بموجب السراية أيضاً، ثم فسر ذلك فقال: ألا ترى أنهما لو قالا: نشهد أن كل واحد قطع إحدى يديه أحدهما بسيف والآخر بعصا لا ندري أيهما صاحب السيف، وقد برأ الرجل من الجراحتين إن هذا باطل لأنهما إذا أقرا أنهما حملا ذلك لم يشهدا على واحد بعينه بفعل بعينه، فلا يمكن القضاء بموجب أحد الفعلين على أحد الرجلين.
ألا ترى أن موجب أحد الفعلين قصاص وموجب الآخر الدية، ولا ندري على من يوجب القصاص، وعلى من تجعل الدية لأن المقضي عليه مجهول فيهما، فكذلك إذا مات منهما لا يمكن إيجاب القصاص والدية أيضاً، لأن الفعل الذي يدعيه على كل واحد منهما مجهول، وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة، حتى لو أثبتا كان على كل واحد منهما نصف الدية لثبوت القتل عليهما.(9/564)
-----
لو قالا: نشهد أنهما قتلاه بعصا أو بسيف، ثم مات الشاهدان أو غابا إني لا أبطل هذا، وأجعلهما ضاربين بالسيف وضاربين بالعصا، لأنهما شهدا بقتلهما، والقتل لابد وأن يكون بآلة القتل ثم لما ذكر آلة القتل، عقيب فعلهما انصرف إليهما جميعاً فكان على كل واحد منهما نصف الدية، ربعاً في ماله وربعاً على العاقلة، لأنه لو قتله بالسيف عمداً وتعذر إيجاب القصاص كانت عليه الدية في ماله، ولو قتله بالعصا كانت الدية على العاقلة لأنه شبه العمد، فإذا جمع بينهما يوزع عليهما حكمه، ولو كانا قتلاه كان كل واحد منهما قاتلاً نصفه، نصف هذا النصف بسلاح، فيكون موجبه الدية في ماله، ونصف هذا النصف بعصا فيكون موجبه على العاقلة، كما لو تفرد به.
قال: ألا ترى أنهما لو قالا: قتلاه بسيف أن هذا على سيف واحد لأن القتل لما كان واحداً لابد من أن تكون الآلة متحدة فكذلك قولهما: بسيف وعصى، ولو كان القاتل واحداً فقالا: نشهد أن هذا قتله بسيف وعصا فإني أستحسن في هذا أن أجيزه وأجعل عليه نصف الدية في ماله، ونصفاً على عاقلته لأنه صار قاتلاً للنصف بالسيف، وحكمه وجوب الدية في ماله عند تعذر إيجاب القصاص، وقد تعذر إيجاب القصاص ههنا، وصار قاتلاً للنصف بالعصا وحكمه وجوب الدية على عاقلته، فلهذا أوجبنا على عاقلته نصف دية النفس.
ولو قالا: نشهد أن هذا قطع يديه جميعاً، إحداهما: بالسيف، والأخرى: بالعصا، لا ندري أيتهما قطعت بالسيف وأيتهما قطعت بالعصا فمات من ذلك كله، فعليه الدية نصفاً في ماله ونصفاً على عاقلته، لأنهما بينا في شهادتهما قاطع اليمين وقاطع اليسار، ولكنهما لم يبينا آلة القطع، وقد ذكرنا أن المشهود عليه إذا كان معلوماً وآلة الفعل غير معلومة أن الشهادة مقبولة استحساناً، وقد ذكرنا وجهه.(9/565)
-----
ولو قالا: نشهد أن هذا جرحه هذا الجرح إما بحديدة وإما بعصا، والمجروح قد برأ من ذلك، فإن هذا جائز وهو على الجاني في ماله إذا كان بعد ضربه، وهو مما لا يقدر فيه على القصاص لأنهما بينا الجارح فكان المشهود معلوماً، وأصل فعل الجرح معلوم ولكن الآلة غير معلومة، وقد ذكرنا: أن بيان آلة الجرح والقتل ليس بشرط لوجوب المال استحساناً، لأن حكم المال لا يختلف، بل أصل الجرح كاف لوجوب المال، وقد ثبت بشهادتهما، ولا يجب على العاقلة بالشك فيجب في ماله.
قال في كتاب الديات: إذا شهد شاهدان على أنه قتله، وقالا: لا ندري بأي شيء قتل، فالقياس في هذا أن يكون باطلاً، ولكني أستحسن أن أجيز هذا وأجعل الدية عليه في ماله، وجه القياس: أنهما ضيعا شهادتهما ونسبا أنفسهما إلى الغفلة، فلا تقبل شهادتهما، ولأن اتفاقهما على فعل واحد شرط قبول شهادتهما، وإنما يتحقق اتفاقهما على الفعل إذا اتفقا على آلة واحدة؛ لأنه إنما يتحقق الفعل بالآلة، ولا يثبت ذلك بدون التنصيص.
فأما إذا قالا: لا ندري لا يثبت الاتفاق منهما على آلة واحدة لجواز أنهما لو بينا، بيّن كل واحد منهما آلة أخرى، وذلك بأن يكون بياناً بكلامه لا أن يكون مخالفاً، فإذا احتمل كلامهما هذا النوع من البيان، لا يثبت الاتفاق بينهما بالدليل المحتمل.(9/566)
-----
وجه الاستحسان: أن الشرط اتفاقهما فيما صرحا به من الشهادة، وقد اتفقا عليه وذلك أصل الفعل وإنهما اتفقا عليه ولا احتمال فيه، وأصل القتل موجب الدية، فاتفاقهما عليه يكون على هذا الموجب، فأما القصاص إنما يجب باعتبار صفة العمدية، ولم يتعرض الشهود لذلك، وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص، فإنما يعتبر بوهم الاختلاف لمنع القصاص لا لمنع وجوب الدية، فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولأنهما انتدبا إلى ما ندبهما الشرع إليه، وهو الاحتيال لدرء القصاص، واكتفيا بالشهادة على أصل القتل فلا يكون ذلك مبطلاً لشهادتهما، ولكن يقضى بالدية في ماله كما هو موجب قتل العمد إذا وجب المال، ولأن الشك يقع على الوجوب على العاقلة، إن كان القتل عمداً لا يجب، وإن لم يكن يجب، ويحتمل كلا الأمرين فلا يجب على العاقلة بالشك والاحتمال.
وإذا غصب الرجل من آخر شيئاً فلا ينبغي للشهود أن يشهدوا أنه غصبه ولا أنها عليه، وينبغي لهم أن يقولوا: عايناه أخذ منه ألفاً، لأن الشاهد لا علم له بحقيقة الغصب، لجواز أنه أخذ منه ماله حق الأخذ بأن كانت هذه الألف ملكاً له ولا يعلم الشاهد، أو كان له قبل هذا المأخوذ منه ألف درهم دين بسبب من الأسباب، وقد ظفر بجنس حقه فأخذه، ومن ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه ولا يكون غاصباً بل يكون مستوفياً حقه. وهذه المعاني غيب عن الشاهد، فثبت أنه لا علم للشاهد بحقيقة الغصب، إنما علمه بأخذ الألف من يده لمعاينته ذلك، فينبغي أن يشهد بهذا القدر لا غير، وكذلك لا يشهد أنها عليه لأن بما شهد من الأخذ، لا يثبت له العلم بوجود الدين عليه، فلا يسعه أن يشهد بذلك.(9/567)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا ادعى رجل على رجل خمسمئة درهم فأنكر المدعى عليه، فجاء المدعي بشاهدين، فشهد أحد الشاهدين أن هذا المدعى عليه أقر للمدعي بخمسمئة درهم، وشهد الآخر أن المدعى عليه أقر لي وللمدعي بألف، فشهادة هذا الشاهد باطلة؛ لأنه شهد بمال مشترك بينه وبين غيره، ولا يمكن تصحيح الشهادة كذلك، لأنه شاهد لنفسه ولا وجه إلى أن يصرف الشهادة إلى نصيب الشريك لما فيه من قسمة الدين قبل القبض وإنها باطلة، فإن قال هذا الذي شهد لنفسه وللمدعي: لم يكن لي عليه شيء، لكنه أقر بذلك عندي كاذباً، وقال المدعي: لم يكن لشاهدي هذا شركة في المال لكنه أقر بهذا بين يديه كاذباً، فالشهادة أيضاً باطلة في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: فالشهادة جائزة، أما عند أبي حنيفة: إنما لا تقبل لأن أحد الشاهدين شهد بخمسمئة والآخر بألف، وفي مثل هذا لا تقبل الشهادة عنده، ولأن الشهادة خرجت على وجه الفساد، فلا تنقلب جائزة بإنكار الشركة.
كالمريض مرض الموت إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين مشترك وأنكر الوارث شركة نفسه، لا يصح الإقراء للأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله، لخروجه على وجه الفساد فلا تنقلب جائزة بإنكار الوارث الشركة. وعند أبي يوسف: لا تقبل الشهادة قياساً على هذه المسألة دون المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى قول أبي يوسف كقول محمد، وأما عند محمد: فتقبل الشهادة ههنا قياساً على المسألتين عنده، لكن عند محمد يقع الفرق بين مسألة «الكتاب» (156ب4) وبين مسألة إقرار المريض من وجه أن في مسألة الكتاب يشترط إنكار الشاهد الشركة مع إنكار المدعي الشركة، وهناك إنكار الأجنبي الشركة كاف عنده، والفرق: أن ههنا الشاهد لو ادعى الشركة فقد أقر للشاهد ببطلان شهادته، والشاهد متى أقر ببطلان شهادته تبطل الشهادة.
(9/568)
-----
وإذا أنكر الشاهد الشركة وادعى المدعي الشركة فقد أقر المدعي ببطلان الشهادة وأقر المدعي ببطلان الشهادة فشرط إنكارهما الشركة لقبول الشهادة لهذا، أما في مسألة الإقرار: إذا كان الوارث مقراً بالشركة، وأنكر الأجنبي الشركة فالوارث وإن جعل مقراً ببطلان إقرار المريض لكن بهذا لا يبطل إقرار المريض للأجنبي، إذ ليس للوارث هذه الولاية فاكتفى بإنكار الأجنبي الشركة ثمة لهذا.
رجل ادعى على رجل مئة درهم أو مئة منّ من الحنطة أو ما أشبه ذلك، فقال المدعى عليه: قد قضيته، أو قال: قد أوصلته إليه، أو قال بالفارسية: كزارده أم رسانيده أم انجه دعوى ميكندباو، وجاء بشهود شهدوا أنه دفع إليه مئة درهم أعطاه مئة منّ من الحنطة ولكن لم يقل الشهود: أعطاه هذه المئة التي ادعاها المدعي قبل شهادتهم، لأنه أدى مثل ما وجب عليه وهذا هو الواجب في قضاء الدين، والبراءة متعلقة به على ما عرف، ولأنه بهذه الشهادة ثبت دفع المئة من الدافع إلى المدفوع إليه، والقول قول الدافع في بيان جهة الدفع، وفي «فتاوى النسفي»: أن هذه الشهادة لا تقبل ما لم يشهد الشهود أنه أعطاه المئة التي ادعاها هذا المدعي.
وفي «فتاوى الفضلي»: سئل عمن مات فشهد شاهدان أن هذه المرأة كانت امرأته يوم مات، وشهد آخران أنه كان طلقها قبل الموت، قال: بينة النكاح أولى، ويجعل كأنه طلق ثم تزوج، وقال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: بينة الطلاق أولى، لأنهم أثبتوا زيادة أمر مع الإقرار بالنكاح، وهو الطلاق.(9/569)
-----
شهد لرجل أنه وارث فلان لا وارث له غيره، أو لا أعلم له وارثاً غيره، ثم شهد لرجل آخر بعد ذلك أنه لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره قبلت الشهادة، لأن قول الشاهد: لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره، ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد على ما عرف، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولأن التوفيق ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لا أعلم له وارثاً أخر حال ما شهدت ثم علمت، ولأن أكثر ما فيه أن في ضمن كلامه أن لا شهادة لي بوراثة شخص آخر.
ومن قال: لا شهادة لي في حادثة ثم شهد فيها تقبل شهادته؛ كذا ههنا.
وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بشراء محدود لا تقبل شهادتهما إذا لم يكن في شهادتهما. إقرار على نفسه لأن الإقرار كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، وما على نفسه يكون حجة، فلابد من بيانه.
وسئل الفقيه أبو بكر الأعمش عمن لا يحسن الدعوى إذا أمر الحاكم رجلاً حتى علمه كيف يدعي، ثم شهد هذا المعلم على ذلك الدعوى، قال: لا بأس على الحاكم فيما فعل، ولا يصير المعلم بهذا التعليم مطعوناً وشهادته جائزة إذا كان عدلاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل أشهدني أن لفلان عليه ألف درهم ثم قضاه خمسمئة، ثم جاء المشهود له يسألني الشهادة وله شاهد آخر يشهد على الألف، قال: لا يشهد له إلا بخمسمئة، وهذا لأنه لو شهد له بالألف مع الشاهد الآخر تثبت الألف بشهادتهما، وبقوله وحده لا يثبت قضاء الخمسمئة، فيكون هو بالشهادة بالألف مسلطاً القاضي على القضاء بالألف، مع علمه أنه ليس له عليه إلا خمسمئة وأنه لا يجوز، فإن كره المشهود له ذلك فليقر عند القاضي بما قبض، ثم يشهد عليه بألف، قضاه منه خمسمئة ليكون مؤدياً ما عليه من الشهادة، ولا يكون بشهادة مسلطاً القاضي على القضاء عليه بما ليس عليه؛ لأنه قد برئ عن الخمسمئة بإقرار الطالب فلا حاجة إلى إثباته بالبينة.(9/570)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان * وقد عرفنا الابن يومئذ بعينه ونسبه * هذا العبد منه، والابن يومئذ في عياله وذلك منذ زمن طويل، ونحن لا نعرفه في هذه الساعة لم تجز شهادتهما، وكذلك لو شهدا أن لهذا الرجل على فلان بن فلان ألف درهم، ونحن عرفنا فلاناً يوم أشهدنا عليه بعينه ونسبه، ولكن لو رأيناه الساعة لا نعرفه لم تجز شهادتهما.
إذا شهد أحد الشاهدين على الكفالة بهذا اللفظ كوالي سيدهم كر فلان حنين كفت كم أكر فلان سرماه وأحال فلان يد مد من ضمان كروم من أين مال، أو شهد آخر: كم فلان حنين كنت كم من أين مال ضمان كردم أن فلان من فلان رأتا سرماه، لا تقبل هذه الشهادة لأن أحدهما شهد بضمان منجز، والآخر شهد بضمان معلق بينهما مغايرة فيمنع قبول الشهادة.
وإذا شهد رجل وامرأتان أنه قتل ابنه عمداً جازت شهادتهما.
ولو شهد رجل وامرأتان أن فلانة قتلت زوجها عمداً ولها منه ابن وله ورثة غير الابن لا يقبل الشهادة.
والفرق: أن قتل الأب ابنه لا يوجب القصاص بحال وإنما يوجب المال، وشهادة النساء مع الرجال حجة في باب المال، أما قتل المرأة زوجها يوجب القصاص، ثم يسقط بعد ذلك إذا صار ميراثاً لابنها، ألا ترى أنه يتصور استيفاء القصاص منها بحال بأن يموت الابن بعد الجراحة أولاً، ثم يموت الأب من الجراحة، فإن في تلك الصورة بقتل المرأة لزوجها، وإذا تصور استيفاء القصاص بهذا القتل بحال، كان هذا القتل موجباً القصاص من الابتداء، وشهادة النساء ليس بحجة في القصاص.
ولو شهدوا على رجلين أنهما اشتركا في قتل ابن أحدهما قبلت شهادتهم، لأن هذا القتل لا يوجب القصاص بحال، فكان موجباً الدية من الابتداء، فكانت شهادتهما على المال.
(9/571)
-----
رجل في يديه شيء جاء رجل وادعى أنه اشتراه منه، وجحد ذو اليد فأقام المدعي شاهدين، فشهدا أنه باعه منه ولا يدري أهو للبائع تقبل الشهادة ويقضي بذلك الشيء للمدعي. في «الزيادات» في باب المساومة.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» في هذا الباب أيضاً: رجل في يديه طيلسان ساومه به رجل فلم يتفق بينهما بيع، أو باعه بشرط الخيار لأحدهما، ثم ادعى أن الطيلسان كان لوالده يوم المساومة أو الشراء، وأن أباه مات أمس وتركها ميراثا له لم تسمع دعواه، ولو أقام على ذلك بينة لا تقبل بينته لأنه بالإقدام على الشراء أو المساومة، صار مقراً بالملك للبائع على رواية «الجامع»، وبولاية البيع له على رواية «الزيادات»، وبصحة الشراء على الروايات كلها، فيصير بدعوى ملك الأب والإرث من جهته متناقضاً، وهذا الجواب مشكل في فصل المساومة على رواية «الزيادات»، ولو كان الأب حياً وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة صحت دعواه وقبلت بينته لأنه لم يوجد من الأب ما يجعله متناقضاً في دعواه الطيلسان لنفسه، فإن مات الأب بعد ذلك وورث الابن الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل.
أما على رواية «الزيادات» فلأن المساوم أو المشتري لم يصر مقراً بالملك للبايع إنما أقر بولاء البيع وبصحة الشراء؛ إلا أن القاضي لما قضى للأب بالطيلسان تبين أنه لم يكن له ولاية البيع وأن الشراء لم يكن صحيحاً، فصار مكذباً له في إقراره فالتحق بالعدم.
وأما على رواية «الجامع» فلأنه وإن صار مقراً بالملك له ولكن في ضمن الشراء، وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب، فيبطل ما ثبت في ضمنه.
وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات كان الطيلسان ميراثاً للابن؛ لأن الملك قد تقرر للأب بقضاء القاضي فلا يبطل بموته.(9/572)
-----
ولو لم يقض القاضي للأب حتى مات الأب، بطلت البينة لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء بالبينة، وقد انقطعت خصومة الأب بالموت والابن لا يصلح خصماً لكونه متناقضاً فبطلت البينة (157أ4) ضرورة.
وذكر هشام عن محمد رحمه الله في زيادات «النوادر»: أن من ساوم رجلاً بشيء ثم يشتري ذلك الشيء من آخر وقبضه، فللأول أن يأخذه من يده؛ لأنه لما ساوم فقد أقر له به، وإنه يخالف رواية «الزيادات» لأن المساومة على رواية «الزيادات» ليست بإقرار بالملك، بل هي إقرار بولاية البيع لا غير، وكذلك يخالف رواية «الجامع»، لأن المساومة على رواية «الجامع» وإن كان إقراراً بالملك ولكن ظاهراً لا قطعاً، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق، ولو أن المساوم بين عند المساومة أن هذا الطيلسان لوالده، وقد وكل هذا بالبيع وطلب منه البيع فلم يتفق بينهما بيع، ثم أقام المساوم بينة أنه كان لأبيه وأنه مات أمس وتركه ميراثاً له قبلت بينته لأنه لا مناقضة في هذا الفصل؛ لأنه صرح عند المساومة أنه ملك أبيه، ألا ترى أنه لو اشتراه ونقد ثمنه ثم أقام بينة أنه كان لأبيه يوم اشتراه، وأنه قد كان وكله ببيعه وأن لي ثمنه صحت دعواه، لأنه ساع في تقرير ما سبق منه وتم به لا في نقضه، وإنما ادعى ملك الثمن بسبب جديد لا يناقض الأول، وكذلك إذا ساومه، ثم ادعى بعد ذلك.
(9/573)
-----
رجل في يديه طيلسان جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع الطيلسان منه بمئة دينار ونقده الثمن، وأقام على ذلك شاهدين، فشهدا أن صاحب اليد باع هذا الطيلسان من هذا المدعي، وقضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض حتى أقام الشاهدان بينة أن هذا الطيلسان لأبيهما يوم شهدا وأنه مات وتركه ميراثاً لهما، فالقاضي لا يسمع ذلك منهما ولا يقبل شهادتهم؛ لأنهما حين شهدا بالبيع على صاحب اليد فقد أقرا بالملك له على رواية «الجامع» وبولاية البيع على رواية «الزيادات»، فصارا بهذه الدعوى متناقضين ساعيين في نقض ما أوجبا وإتمام البيع، وكذلك لو ادعياه لغيرهما بالوكالة عنه لم تصح دعواهما، لأن المتناقض كما يصحح الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره، عرف ذلك في كتاب الدعوى ولو استحق الطيلسان يستحق غيرهما وقضى القاضي له به، ثم وصل إلى يديهما لم يؤمرا بالتسليم إلى ذلك البائع، أما على رواية «الزيادات» فلأن الشهادة على البيع ليست بإقرار بالملك للبائع، وعلى رواية «الجامع» وإن كان إقراراً ولكن في ضمن الشهادة، وقد بطلت شهادتهما حين قضى القاضي بالطيلسان للمستحق، فيبطل ما ثبت في ضمن الشهادة من الإقرار، ولا يؤمران بالتسليم إلى المشتري أيضاً، وإن كانت الشهادة بالبيع شهادة بالملك للمشتري ولكن في ضمن البيع وقد بطل البيع بقضاء القاضي بالطيلسان للمستحق، فبطل ما ثبت في ضمنه من الشهادة بالملك للمشتري.p
ولو أن الشاهدين بينا للقاضي يوم الشهادة على البيع، فقالا: هذا الطيلسان لنا، أو قالا: لأبينا أو قالا: لفلان وقد باع هذا من هذا، ثم إنهما أقاما البينة أن الطيلسان لنا ورثناه من أبينا أو من فلان الذي أقرا له، وقالا: فلان وكلنا بالخصومة، صح ذلك منهما لأن معنى التناقض ههنا قد انعدم؛ لأنهما لما بينا ذلك عند الشهادة لم يشهدا بالملك للبائع ولا اعترفا بصحة البيع فصحت دعواهما وقبلت شهادتهما.(9/574)
-----
ولو أن الشاهدين لم يبينا للقاضي شيئاً ولم يشهدا عند القاضي بالبيع، ولكن قالا للقاضي قولاً من غير شهادة: إن هذا باع الطيلسان من هذا، ثم أقاما البينة على أن ذلك لهما وعلى شيء مما وصفا، سمع بينتهما بخلاف ما إذا شهدا عند القاضي.
والفرق: وهو أن الشهادة بالبيع مطلقاً تنصرف إلى بيع صحيح موجب الملك للمشتري، لأن الشهادة حجة موجبة للقضاء، والقاضي إنما يقضي ببيع صحيح موجب الملك للمشتري، والشهادة بصحة البيع وبالملك للمشتري يمنع الدعوى لنفسه لمكان التناقض عل ما مر، أما مجرد القول من غير أن يكون شهادة لا ينصرف إلى بيع صحيح لا محالة يحتمل أن يكون إخباراً عن البيع الصحيح، ويحتمل أن يكون لشكنا أن هذا الشخص باع مالنا أو مال أبينا وماله، وذلك وعلى هذا التقدير لا يثبت التناقض، فلا يمنع الدعوى بالشك والاحتمال.
والهبة والصدقة مع القبض بمنزلة البيع حتى لو شهدا على الهبة أو الصدقة مع القبض، ثم ادعيا بعد ذلك لأنفسهما لا تسمع دعواهما، لأن المعنى يجمع الكل وهو التناقض وكذلك النكاح بمنزلة البيع حتى لو شهدا على النكاح على الطيلسان بأن شهدا أنه جعل الطيلسان مهراً، ثم ادعيا الدار لأنفسهما أو لأبيهما يوم شهدا لم يسمع ذلك منهما لمكان التناقض وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع»؛ لأن مطلق شهادتهما بالإجارة إقرار بالملك للآجر، وإنه يناقض دعوى الملك لأنفسهما، أما لا يوافق رواية «الزيادات» لأن شهادتهما بالإجارة ليست بإقرار بالملك للآجر بل هو إقرار بولاية الإجارة، وإنه لا يناقض دعوى الملك لنفسه، فينبغي أن تسمع دعواه فيما يرجع إلى رقبة الدار إن كانت لا تسمع فيما يرجع إلى استخراجها من يد المستأجر؛ وكذلك في هذه المسائل، لو ادعيا لغيرهما بوكالة ذلك الغير لم تصح دعواهما لما ذكرنا: أن التناقض كما يمنع الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره.(9/575)
-----
فإن كان الشاهدان قالا: كانت لنا يوم شهدنا بالإجارة وهذا الآجر كان وكيلنا في الإجارة، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالإجارة، وهذا الآجر كان وكيل أبينا، وأقاما البينة على ذلك قبلت شهادتهما على رقبة الدار لعدم التناقض؛ لأنهما أقرا أنه آجر له حق الإجارة، والآن يقولان هكذا فتسمع دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الزيادات»، أما لا يوافق رواية «الجامع» لأن شهادتهما بمطلق الإجارة إقرار بالملك للآجر.
ولو أقاما البينة على أن الدار كانت لهما، أو كانت لأبيهما يوم شهدا بالإجارة إلا أن شهودها لم يشهدوا أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما في الإجارة لا تصح دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» لأن التوكيل لم يثبت لعدم البينة على التوكيل بقي الآجر آجراً مطلقاً، وإجارة الآجر مطلقاً تكون لنفسه على رواية «الجامع» وإنه يناقض دعوى الملك لنفسه.
ثم إذا قبلت الشهادة على رقبة الدار إذا شهد شهودهما أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما على نحو ما ذكرنا، ينظر بعد ذلك إن كان المستأجر معترفاً كانت الشهادة الأولى وهي الشهادة على الإجارة ماضية وكان الأجر لهما، لأنه تبين أنهما شهدا على أنفسهما أو على أبيهما، وشهادة الإنسان على نفسه وعلى أبيه مقبولة، غير أن في مسألة الأب يحكم ببطلان الإجارة من يوم موت الأب، لأن موت الموكل في باب الإجارة يبطل الإجارة بخلاف موت الوكيل في باب الإجارة، والفرق عرف في كتاب الإجارة.
(9/576)
-----
ولو كان المستأجر جاحداً للإجارة كانت الشهادة الأولى باطلة، لأنه تبين أنهما بالشهادة الأولى شهدا لأنفسهما أو لأبيهما، وشهادة الإنسان لنفسه ولأبيه باطلة، حتى لو كانت الشهادة الأولى لأخيهما والباقي بحاله كانت الشهادة الأولى ماضية، لأنه تبين أنهما بالشهادة شهدا لأخيهما، وشهادة الإنسان لأخيه مقبولة، والذي ذكرنا في مسألة الإجارة كذلك فكذلك في مسالة الشراء حتى إن الشاهدين لو قالا: الدار كانت لنا، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالبيع، وإن البائع كان وكيلاً عنا أو عن أبينا في البيع، وأقاما البينة على ذلك كله، قبلت بينتهما، وهذا الجواب لا يوافق رواية «الجامع» أما يوافق رواية «الزيادات»، فبعد ذلك إن كان المشتري معترفاً بالشراء كانت الشهادة الأولى، وهي الشهادة على الشراء ماضية وكان الثمن لهما، وإن كان جاحداً للشراء كانت الشهادة الأولى باطلة على نحو ما بينا، ولو كانت الشهادة الأولى للأخ والباقي بحاله، فالشهادة الأولى ماضية على كل حال على نحو ما بينا.
الأخوان إذا زوجا أختهما وهي صغيرة ثم أدركت فشهدا أنها اختارت نفسها لا تقبل شهادتهم، ولو كانت أمة بين رجلين ولها زوج أعتقاها ثم شهدا أنها اختارت نفسها قبلت شهادتهما.
في كتاب «العيون» شهد اثنان أن زوج فلانة قد مات أو قتل، وشهد اثنان أنه حي فالشهادة على الموت والقتل أولى (157ب4) في «وصايا عصام» المشهود عليه إذا أقام أولئك الشهود لحق نفسه، فإن كان قال: إنهم كاذبون فيما شهدوا عليّ فقد فسقهم، لا تقبل شهادتهم له، وإن لم يرد على الإمكان قبلت شهادتهم له.(9/577)
-----
إذا غاب الشاهدان أو ماتا بعد القضاء قبل الإمضاء ففيما إذا قامت الشهادة على المال أو (على) ما هو نظير المال مما يثبت مع الشبهات كالنكاح والطلاق لا يمنع القضاء؛ وفيما إذا قامت الشهادة على الحد، إن كان الحد رجماً لا يستوفى عندنا، وإن كان قطعاً أو جلداً لا يقطع ولا يجلد عند أبي حنيفة أولاً، ثم رجع وقال: يقطع ويجلد وهو قولهما، وفيما إذا قامت الشهادة على القصاص، القياس على قول لأبي حنيفة الأول في الحدود: أن لا يستوفى، وفي الاستحسان: يستوفى.
وإن غابا أو ماتا قبل القضاء، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا غابا أو ماتا بعد القضاء قبل الاستيفاء، حتى إن في المال ونظائره القاضي يقضي وفي الحد إن كان رجماً لا يقضي وإن كان جلداً أو قطعاً، فكذلك عند أبي حنيفة أولاً، وفي قوله الآخر وهو قولهما: يقضي، وفي القصاص القياس على قوله الأول في الحدود أن لا يقضي، وفي الاستحسان: يقضي.
وإن فسقا أو عميا أو ارتدا أو ذهب عقولهما وكان ذلك بعد القضاء قبل الإمضاء، ففي المال ونظائره يقضي، وفي الحدود لا يقضي، وفي القصاص يقضي قياساً، وإن كان ذلك قبل القضاء، فالقاضي لا يقضي في الفصول كلها فيما عدا العمى بلا خلاف، وفي العمى عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقد مرّت مسألة الأعمى قبل هذا.
قد ذكرنا في كتاب «أدب القاضي» أن الجرح المفرد يثبت باختيار المزكين ولا يثبت بالشهادة حتى إن المشهود عليه إذا (جاء) بشهود يشهدون بالجرح المفرد عند القاضي، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو جاء المشهود عليه بالمزكين حتى شهدوا بالجرح المفرد عند القاضي، لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «العلل» أن القاضي لا يقبل شهادتهم؛ وعلل فقال: لأن لهم بد من إظهار هذه الفاحشة بأن يخبروا القاضي سراً، فإذا أظهروها صاروا فسقة، فلا تقبل شهادتهم لهذا تجوز الشهادة على الشهادة.(9/578)
-----
في شهادات «الجامع» في آخر باب الشهادة على القتل: ترك السنة لا يوجب سقوط العدالة، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «أدب القاضي» للخصاف في باب شهادة الأقلف، قال: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعت أن مولاها أقر به وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين، فشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر على إقرار المولى وإنه قول.
فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة بعلمه بطريقين: بالمعاينة بأن اتفق له ذلك في باب الزنا، أو بالشهرة والتسامع وكونها على فراشه يعلم بإقرار المولى إن كانت الوالدة أمة، وشرعاً إن كانت الوالدة منكوحة أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد.
فإن قيل: إذا كان طريق معرفة الشاهد ولادة ولد الأمة على فراش المولى إقرار المولى أنها ولدت، فينبغي أن تقبل الشهادة في مسألتنا، لأن شهادة كل واحد من الشاهدين قامت على القول.
قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش، فالفراش في الأمة إن كان لا يعلمه الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها الشاهد بالمعاينة من غير إقرار المولى، فشهادتهما في حق الفراش إن قامت على القول معنى فشهادتهما على الولادة ما قامت على القول، فلا تثبت الولادة وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي.
وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى بالولادة، أو اتفقا على نفس الولادة على فراشه قبلت لاتفاقهما على القول في الفصل الأول، وعلى الفعل في الفصل الثاني.
(9/579)
-----
شهد شاهدان على رجل بدار، فسأل القاضي عن الشهود أين خانه كه كو أهي من دمنديكر شنبه است بادو شنبه؟ فقال الشهو: يك شنبه، فنظروا فإذا بعضها يك شنبه وبعضها دو شنبه فقد قيل: هذه الشهادة (غير جائزة) لجواز أنها كانت يك شنبه وقت تحمل الشهادة، ثم صار بعضها وبعد ذلك دو شنبه، وعلى قياس ما إذا شهدوا بدابة وقالوا: سه ساله است، فنظروا فإذا هي جهار مسألة أنه لا تقبل الشهادة، ولم يقل أحد بقبول الشهادة لجواز أنها كانت سه ساله وقت تحمل الشهادة، والآن صارت جهار ساله ينبغي أن لا تقبل شهادتهم في مسألة الدار.
وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي»: امرأة ادعت أن مهرها ألف عطريفية، وشهد الشهود لها بألف عدلية مهرها، إن القاضي يقضي بشهادة الشهود يعني بالعدليات.
ولو ادعى على آخر أنه قبض منه مئة البعض عطريفي، والبعض عدلي، والشهود شهدوا بقبض مئة عطريفية، قال شمس الإسلام: إن شهدوا بالقبض لا تقبل شهادتهم، وإن شهدوا على إقراره بالقبض تقبل، وينبغي أن يقال: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن الدعوى وقعت في المجهول؛ لأن المدعي لم يبين قدر كل واحد منهما.
وفي هذا الموضع أيضاً لو كتب في المحضر: شهدوا على وفق الدعوى، لا يفتى بصحة المحضر، لأن الشهادة على وفق الدعوى أن يقول الشاهد: هذا العين ملكي، كما قال المدعي: هذا العين ملكي.
ادعى على آخر ألف درهم، وقال: خمسمئة منها من ثمن عبد بعته منه وقبضه وخمسمئة من ثمن متاع بعته منه وقبضه وجاء بشاهدين، شهد أحدهما بخمسمئة من ثمن عبد، وشهد آخر بخمسمئة من ثمن متاع، فإنه يجوز من ذلك خمسمئة؛ لأنهما اتفقا على الخمسمئة، وذكر السبب ليس بشرط، فهذا يدل على أنه إذا ادعى ديناً بسبب، وشهد له الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل الشهادة.(9/580)
-----
ولو ادعى على رجل ألف درهم، وجاء بشاهدين أحدهما: أنه أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن نبات قبضها، وشهد آخر أنه أقر أن عليه ألف درهم من ثمن طعام قد قبضه، وقال المدعي: قد كان أقر بذلك كله لي، فإن القاضي يقضي له بالألف.
في «واقعات الناطفي» وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل تحته أمة أعتقت، فشهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً بعدما عتقت، وشهد الآخر أنه طلقها ثلاثاً قبل العتق فهي ثنتان، وله أن يراجعها؛ لأن الثلاث الذي شهد بها في حالة الرق واحدة منها ليست بشيء، فلم يجتمعا إلا على الثنتين، ولم يتفقا أيضاً على أن الطلاق كان قبل العتق، فلا تنقطع الرجعة بالشك.
إذا قال الشاهد: كل شهادة شهدتها لفلان في حادثة كذا فهي زور، ثم شهد في تلك الحادثة لفلان تقبل شهادته.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وكذلك إذا قال: ليست لفلان عندي شهادة في أمر، ثم شهد له في حادثة تقبل شهادته في هذا الموضع.
ادعى شراء دار من رجل وجاء بشهود شهدوا على الشراء من وكيله لا تقبل الشهادة، وكذلك إذا شهدوا أن فلاناً باع، وهذا المدعى عليه أجاز بيعه، وإذا كانت الدار في يدي رجل ادعى أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام على ذلك بينة وأقام فلان بينة أن صاحب اليد وهبها له في شوال على أن عوضه منهما خمسمئة وقبضا جميعاً، فالقاضي يقضي بالبينة بشرط العوض، لأن الهبة بشرط العوض بعد اتصال القبض بالبدلين والبيع سواء، ولو أثبت المشتري بيعه منه بخمسمئة في شوال انفسخ الأول وبقي الشراء بخمسمئة، فكذا إذا أثبت الهبة بشرط العوض.
ولو أن المدعى عليه الشراء لم يقم البينة على الهبة بشرط العوض، وإنما أقام البينة أنه ارتهنها من صاحب اليد في شوال بخمسمئة، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: البيع أولى ويجب على المشتري أن يقضي البائع خمسمئة أخرى سوى ما أعطاه في شوال وقال محمد: الرهن أولى ويكون رهناً عند المشتري بخمسمئة.(9/581)
-----
من مشايخنا من قال: الخلاف في هذه المسالة راجع إلى أن الرهن إذا تأخر عن البيع هل يفسخ البيع؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يفسخ، فبقي البيع بألف درهم صحيحاً وصار البائع راهناً ملك المشتري من المشتري بخمسمئة فلم يصح إلا أن المشتري ببينته أنه ارتهنها في شوال بخمسائة أثبت لنفسه على البائع خمسمئة درهم ديناً، وللبائع على المشتري ألف درهم فقدر خمسمئة يلتقيان قصاصاً، ويجب على المشتري رد خمسمئة أخرى على البائع وعند محمد يفسخ البيع بالرهن، كما لو كان مكانه (158أ4) بيعاً، ومن مشايخنا من قال: البيع لا ينفسخ بالرهن عند محمد، كما هو قولهما إلا أن محمداً لا يقضي بالبيع مع ذلك؛ لأن المشتري ببينته أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري في شوال، فلا تصح دعواه أنه باعه منه في رمضان.
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: هذا الكلام في حد التعارض؛ لأن المشتري ببينته كما أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري أنه اشترى منه في رمضان، فلا تصح دعواه أنه ارتهن منه في شوال، وعلم أن هذا الكلام في حد التعارض بقي ما قالا إن الرهن دون البيع، فلا ينفسخ به البيع.
وإذا كانت الدار في يدي رجل شراءً فاسداً ادعاها آخر، فإن المشتري ينتصب خصماً للمدعي.
لأن الشراء الفاسد يفيد الملك للمشتري بعد القبض، والمالك ينتصب خصماً للمدعي، وإذا كانت الدار بين شريكين شركة ميراث، أو غير ذلك غاب أحدهما جاء رجل وادعى على الحاضر أنه اشترى من الغائب نصيبه فإنه لا تقبل بينته؛ لأنه يقيم بينة على الغائب وليس عنه خصم حاضر أما إذا كانت الشركة لا بجهة الإرث فظاهر، وأما إذا كانت الشركة بجهة الإرث؛ لأن أحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يدعى على باقي الورثة؛ وإنما ينتصب خصماً عن الميت فيما يدعى على الميت، وهنا دعوى الشراء يوجه على الغائب لا على الميت، فلم ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فهذه بينة قامت لا على خصم فلا تقبل.(9/582)
-----
بخلاف ما لو كانت ميراثاً بينهم وادعى المدعي أنه اشترى نصفها، أو كلها من الميت الذي ورثوها عنه حيث يقضى بذلك على الحاضر والغائب، لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما يدعى على الميت، والدعوى ههنا وقعت على الميت، فإن المدعي ادعى الشراء على الميت، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب، كما لو ادعى رجل ديناً على الميت، وبعض الورثة حضور والبعض غيّب، فإنه ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب كذا ههنا.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: ثوب في يدي رجل ادعاه رجل، فشهد شاهدان للمدعي على صاحب اليد أنه أقر أن هذا الثوب لهذا المدعي، وشهد آخران على المدعي أنه أقر أن هذا الثوب لصاحب اليد تهاترت البينتان، ويترك الثوب في يد صاحب اليد، لأنه لما جهل التاريخ بين الإقرارين جعل كأنهما وقعا معاً، فيبطل الإقراران ويترك الثوب في يد صاحب اليد، كما كان.
دار في يدي رجلين، أقام كل واحد منهما بينة على أن صاحبه أقر له بها ووقتا، وتاريخ أحدهما أسبق فإنه يقضى بالدار لصاحب الوقت الآخر.
فرق بين هذا وبينما إذا لم يوقتا فإن هناك تتهاتر البينتان؛ لأنهما إذا لم يوقتا يجعل كأنهما وقعا معاً، ولو وقع الإقراران معاً بطلا، فكذا إذا جعلا كذلك، أما إذا وقتا وأثبتا ذلك بالبينة صار الوقت الثابت بالبينة كالوقت الثابت عياناً، ولو عاينا أن أحدهما أقر لصاحبه مثلاً منذ سنة ثم أقر صاحبه له بعد ذلك منذ شهر يقضى للمقر له آخراً؛ لأن الإقرار الآخر يفسخ الإقرار الأول؛ لأن الإقرار مما يرتد بالرد، فإذا أقر المقر له الأول بعد ذلك فهذا الإقرار منه إقرار لصاحبه، ورد الإقرار الأول، فبطل الإقرار الأول بالثاني لكون الثاني رداً له ولم يتصل الرد بالإقرار الثاني فبقي صحيحاً.(9/583)
-----
قال في «الكتاب»: ولا يشبه هذا البيع، فقد فرق بين البيع والإقرار، فمن المشايخ من طعن على محمد، وقال: لا فرق بينهما، فإن في البيع متى ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه ووقتا ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما أن صاحبه باع هذا العين منه منذ شهر يقضي لآخرهما وقتاً؛ لأن التاريخ بين الشراءين ثبت بالبينة، فيعتبر بما لو ثبت معاينة. ولو عاينا أن أحدهما اشترى هذا العين من صاحبه منذ سنة، ثم اشتراه صاحبه منه منذ شهر، يقضي لآخرهما وقتاً، فعلم أنه لا تفرقة بين الإقرار وبين البيع.
بعض مشايخنا أجابوا عن هذا الطعن، وقالوا: لم يرد محمد بهذه التفرقة في الحكم والجواب، فإن في الموضعين جميعاً يقضي لآخرهما تاريخاً، وإنما أراد به التفرقة في الكنه، فإن الكنه في مسألة الإقرار أنه يقضي لآخرهما تاريخاً؛ لأن إقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، وليس مسألة البيع أنه يقضي لآخرهما تاريخاً أن البيع الثاني ينسخ البيع الأول، بل يبقى البيع الأول على حاله ويصح البيع الثاني بعده فافترقا في الكنه، فلما أراد بهذه التفرقة التفرقة في الكنه، أما الجواب في الفصلين واحد.
من المشايخ من قال: أراد محمد رحمه الله بهذه التفرقة، التفرقة في الحكم والجواب، إلا أنه لم يرد بمسألة البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه البيع وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، كما هو موضوع مسألة الإقرار، وإنما أراد بمسألة البيع: ما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من ثالث وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق كان السابق أولى، وأراد بمسألة الإقرار ما إذا ادعى كل واحد منهما إقرار صاحبه وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضي لآخرهما تاريخاً؛ فالتفرقة بين المسألتين على هذا الوضع ثابت كما ذكر محمد رحمه الله.(9/584)
-----
ذكر بعد هذا إذا ادعى كل واحد منهما الشراء على صاحبه، فقال: إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنتين، وادعى صاحبه عليه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنة، فهي منذ سنتين ولا يشبه هذا الإقرار، فقد فسر مسألة الشراء بعده ما ذكره مجملاً، ويبين بهذا التفسير أن موضوع المسألة المتقدمة في البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه، كما أن موضوع مسألة الإقرار أن كل واحد منهما ادعى الإقرار على صاحبه، إلا أنه لم يرد بقوله في مسألة البيع: فهي منذ سنتين أنه يقضي لمن ادعى الشراء منذ سنتين، فإنه متى ادعى كل واحد منهما الشراء على هذا الوجه يقضي لآخرهما وقتاً، وإنما أراد به أن الشراء منذ سنتين ثابت كالشراء منذ سنة؛ لأن الشراء الثاني لا يفسخ الأول فيكون الأول ثابتاً، ثم يثبت الثاني بعد ذلك فيقضي للآخر ويكون الأول ثابتاً، حتى تقع المقاصة بين الثمنين إن كانا من جنس واحد، ولم ينفذا ولا يشبه البيع الإقرار، فإن الإقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، فعلى هذا التفرقة بين الإقرار والبيع ثابت من حيث الجواب والنكتة.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» مسألة لم يذكرها شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وصورتها: دار في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أن فلاناً أقر له بها، وأقاما البينة ووقتا، ادعيا الإقرار على رجل واحد بأن ادعى الإقرار على زيد مثلاً ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما الإقرار منذ سنة، وادعى الآخر الإقرار منذ شهر، فهي لصاحب الوقت الآخر، ولا يشبه هذا البيع، يريد به إذا ادعى كل واحد منهما أن زيد باعها منه ووقتا، ووقت أحدهما أسبق وأقاما البينة فإنه يقضى لأسبقهما تاريخاً.(9/585)
-----
والفرق: أن في مسألة الإقرار صاحب الوقت الأخير أثبت إقرار زيد بالدار له منذ شهر، وهذا يمنع دعوى زيد الملك لنفسه منذ سنة، فيمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه منذ سنة بإقرار زيد له بها، وصاحب الوقت الأول أثبت إقرار زيد بالدار لنفسه منذ سنة، وذلك لا يمنع دعوى زيد الملك فيها لنفسه منذ شهر فلا يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر، وفي البيع ثبوت الشراء من زيد منذ شهر لا يمنع زيداً من دعوى الملك لنفسه منذ سنة، فإذا وجب قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الآخر فيه، فإنما أثبت الآخر شراءه بعد ذلك من غير المالك.
وإذا ادعى ثوباً في يدي رجل، وقال: ذهب مني منذ عشرة أيام، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه ذهب منه منذ عشرة أيام، وشهد الآخر أنه ذهب منه منذ خمسة عشر يوماً لا تقبل هذه الشهادة، ووقع هذه المسألة في بعض النسخ بالذال: ذهب مني، وفي بعض النسخ بالواو: وهب مني وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» وإنما لم تقبل الشهادة؛ لأن المدعي أكذب شاهده الذي (شهد) بالهبة منذ خمسة عشر. قال في «المختصر»: ولو لم يوقت المدعي جازت الشهادة؛ لأنه غير كذب واحد منهما، والمشهود به قول أو ما هو كالقول حكماً، فاختلاف (158ب4) الشاهدين في الوقت لا يمنع قبول الشهادة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل مات وترك ثلاث بنين وداراً، فغاب اثنان منهم وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له، فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وتركها ميراثاً لي ولأخوي فلان وفلان، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما، وصدقه المدعي فيما قال، وأقام المدعي البينة أن الدار داره، قبلت بينته وقضي بالدار للمدعي.(9/586)
-----
وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر؛ ويد المودع ليست يد خصومة، ولكن الوجه في ذلك: أن كون المودع غير خصم من وجه في حق المدعي لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً، ثم إن المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك، ثم أقام البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته، وههنا وجد ما يجعل الابن الحاضر خصماً في كل الدار، لأن الدعوى في الحقيقة وقع على الميت والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت، بخلاف المسألة المخمسة؛ لأن هناك لم يوجد ما أوجب كونه خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لا يصبح خصماً.
فإذا قضى القاضي بالدار للمدعي ثم حضر الغائبان، فهذا على وجهين، فالأول: إذا صدقا الابن الحاضر فيما قال، وجحدا حق المدعي، وفي هذا الوجه القضاء عليهما نافذ؛ لأن الابن الحاضر انتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة، فكان القضاء عيه قضاء على الكل.(9/587)
-----
الوجه الثاني: إذا كذبا الابن الحاضر، وادعيا ثلثي الدار لأنفسهما من غير ميراث الأب لم يكن القضاء نافذاً عيهما ورد عليهما الثلثان، ويقال للمدعي: أعد بينتك وإلا فلا حق لك في الثلثين وإنما كان كذلك؛ لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة في تركة الميت لا في مال آخر؛ ولم يثبت كون نصيب الغائبين من الدار تركة الميت، وثبت كون الحاضر مودعاً في ذلك والمودع لا يصير خصماً للمدعي إلا إذا وجد ما يوجب كونه خصماً من جهة المودع، ولم يوجد ذلك ههنا، فكانت البينة في حق الثلثين اللذين هما نصيب الغائبين قائمة على غير الخصم، فلا تكون معتبرة، هذا (إذا) كانت جميع الدار في يد الابن الحاضر، فأما إذا كان نصيب الغائبين في يدي رجل آخر وديعة، فأقر المودع بمثل ما أقر به الابن الحاضر، وصدقه المدعي في ذلك، لم يقض للمدعي بنصيب الغائبين، ويقضي له بنصيب الحاضر لأنه ثبت كون ذي اليد لنصيب الغائبين مودعاً، ولم يثبت كونه خصماً من وجه آخر فبطلت الخصومة معه، ومع الابن الحاضر لا تقبل الخصومة إلا في القدر الذي في يديه، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما (في) يديه؛ لأن الوارث قائم مقام الميت لو كان حياً ولو كان الميت حياً لا يكون خصماً فيما ليس في يديه، وكذا الذي قام مقامه هذا الذي ذكرنا إذا كان الثلثان في يد غير الابن الحاضر.
فأما إذا كانت جميع الدار في يد غير الابن الحاضر، فأقر الذي في يديه الدار: أن الدار وديعة للغائبين وأنها وديعة للغائبين، وأنها ميراث من الميت، وصدقه الابن الحاضر المدعي في ذلك، فالمودع ليس بخصم للمدعي، وكذلك الابن الحاضر لا يكون خصماً للمدعي، أما المودع فظاهر، وأما الابن الحاضر؛ فلأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت فيما كان في يده لا فيما كان في يد غيره.(9/588)
-----
وفي كتاب الرجوع: شاهدان شهدا على شهادة شاهدين على رجل أنه أعتق عبده، ولم يقض القاضي بشهادتهما حتى حضر الأصلان وأنكرا أن يكونا أشهداهما على شيء بطلت شهادتهما؛ لأن حضره الأصول قبل اتصال القضاء بشهادة الفروع يمنع القضاء بشهادة الفروع لكون الفروع بدلاً عن الأصول، فإذا اشترى الفرعان ذلك العبد، أو اشتراه أحدهما لم يعتق العبد وجاز الشراء، لأن الفرع ما أقر بحرية هذا العبد بل حكى إخبار الأصل أن المالك أعتقه، والخبر يحتمل الصدق والكذب، فلا يصيران مقرين بالحرية. وكذلك الأصلان لو اشتريا العبد لم يعتق عليهما؛ لأنهما أنكرا الإشهاد، فلم يصيرا مقرين بحرية العبد.
ولو اشترى هذا العبد واحد من الفرعين، وواحد من الأصلين عتق؛ لأن في زعم هذا الفرع المشتري أن شريكي في الشراء وهو أحد الأصلين أقر بعتقه، وقد دخل نصفه في ملكه، فنفذ إقراره عليه، فصار هذا الفرع مقراً بعتق نصيب شريكه، فيصير ههنا بمنزلة عبد بين رجلين شهد أحدهما على صاحبه أنه أقر بعتق نصيبه، فأنكر صاحبه ذلك، وهناك العبد يعتق ويسعى لكل واحد منهما في نصف قيمته، موسرين كانا أو معسرين، أو كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما العبد يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته على كل حال. وهل يسعى للشاهد؟ إن كان المشهود عليه معسراً يسعى، وإن كان موسراً لا يسعى فههنا كذلك.(9/589)
-----
ولو اشتراه الأصلان أو أحدهما، ثم اشتراه الفرعان أو أحدهما حكم بعتقه، لأن في زعم المشتري من الفرعين أنه حين دخل في ملك الأصلين أو أحدهما عتق عليه، فصار المشتري من الفرعين مقراً على بائعه بحرية العبد، وكل من اشترى عبداً أقر بحريته على بائعه عتق على المشتري بحكم إقراره، وقد عرف ذلك في موضعه، ولا سعاية على العبد لواحدٍ منهما؛ لأن في زعم البائع أن العبد لم يعتق علي، وأنا بعته عبداً، وفي زعم المشتري أنه عتق على البائع وأني اشتريته حراً، فكان كل واحد منهما مقراً ببراءة العبد عن السعاية، فلا تجب السعاية على واحد منهما، ويكون ولاؤه موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما يعني البائع والمشتري ينفيه عن نفسه.
ولو اشترى الفرعان أولالاً ثم اشتراه الأصلان لا يعتق؛ لأن الفرعين ما أقرا بحريته إنما حكيا إخبار الأصلين أن مالكه قد أعتقه، والأصلان أنكرا تلك الحكاية، فلم يثبت الإقرار بحريته ممن هو مالك في ملكه.
وإذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، وأقام على ذلك شاهدين، ثم أقام المشهود عليه بالألف شاهدين أنه قد أبرأه منها، وقد عدلوا جميعاً وقد اجتمعت البينتان جميعاً عند القاضي، فالقاضي يقضي بشهادة الذين شهدوا بالبراءة، ولا يقضي بشهادة الذين شهدوا بإيجاب الدين؛ لأن بينة المدعي قد بطلت بإقرار المدعى (لم يقر بالبراءة)، فإذا بطلت بينة المدعي على إيجاب الدين صار كأن المدعى عليه تفرد بإقامة البينة. ولو تفرد بإقامة البينة قبلت بينته على البراءة فكذلك ههنا.
وصار هذا بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالبيع، وشهد آخران بالإقالة، فإنه يقضي بشهادة الذين شهدوا بالإقالة؛ لأن بينة مدعي البيع قد بطلت بإقرار المدعى عليه؛ ولأن القضاء بإيجاب الدين مع البراءة لا يفيد، لأن المقصود من الإيجاب الاستيفاء، ولا يمكن الاستيفاء مع وجود البراءة.(9/590)
-----
وقول من قال: بأن القضاء بهما متعذر لأنهما يثبتان معاً في وقت واحد، لأن القاضي يقضي بهما في وقت واحد. والقضاء بإيجاب الدين والبراءة في وقت واحد باطل، يشكل بمسألة ذكرها في باب الرجوع عن النكاح والطلاق: وصورتها: إذا شهد شاهدان على رجل بالنكاح والطلاق جميعاً بمهر ألف ومهر مثلها خمسمئة، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول بها، فالقاضي يقضي بالنكاح والطلاق جميعاً، وإنما يقضي بهما في وقت واحد ومع هذا جاز.
وطريقه: أن بقضاء القاضي لا يقع النكاح والطلاق معاً إذ لا يتصور وقوعهما معاً، وإنما يقعان مرتباً على الوجه الذي يتصور، فكذلك البراءة لا تتصور إلا بعد وجوب الدين فلا تقعان معاً لو قضى القاضي بهما وإنما يقعان مرتباً، علمنا أن بطلان بينة المدعي بسبب إقرار المدعى عليه.(9/591)
-----
فإن قيل: إذا ثبت إقرار المدعى عليه بدعواه البراءة كان يجب أن يقال: بأن شهود البراءة إذا رجعوا يضمنون للمدعي؛ لأن الدين وجب بإقرار المدعى عليه، ثم سقط بشهادتهما بالبراءة مع هذا لا يضمنون، والجواب أن يقال بأن الدين وجب على المدعى عليه بإقراره في حق صحة البراءة؛ لأن البراءة لا تكون إلا بعد وجوب الدين، ولكن لا يقضي بالإيجاب في حق الاستيفاء، لأن الاستيفاء يكون بعد الوجوب، لأن إثبات حق الاستيفاء مع البراءة لا يتصور، وإذا لم يثبت الدين في حق الاستيفاء (159أ4) لم يصر شاهدا البراءة متلغين على صاحب المال شيئاً، فلا يضمنون، إلا أن يقيم المدعي البينة ثانياً أن له على المدعى عليه ألف درهم بحضرة شهود الإبراء، فإذا شهدوا بذلك ضمن شاهدا البراءة الدين للمدعي، وذلك لأن القاضي يقضي بإيجاب الدين على المدعى عليه في حق شاهدي البراءة؛ لأن الشهادة بالبراءة قد بطلت في حق شاهدي البراءة بالرجوع؛ فيمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الشهود حتى يضمنان بالبراءة، ولكن لا يقضى بإيجاب الدين في حق المدعى عليه؛ لأن الشهادة بالبراءة قائم في حقه، لأن الرجوع عن البراءة في حقه لم يصح، وإذا أمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الضمان على شهود الإبراء وجب القضاء، وإذا وجب القضاء صار الدين واجباً في حق شهود الإبراء، ثم سقط بشهادتهما بغير عوض فيضمنان للمدعي إذا رجعا، ويشترط حضرة الشهود وهي شهود الإبراء في إقامة البينة على الدين، لا حضرة المدعى عليه؛ لأن الاستحقاق بهذه البينة على شهود الإبراء لا على المدعى عليه، فيشترط حضرة شهود الإبراء لا حضرة المدعى عليه من هذا الوجه.
(9/592)
قال في كتاب الرجوع: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وقد كان أوصى بعتقه، فشهد شاهدان من ورثة الميت لرجل آخر بدين خمسمئة على الميت؛ لم تقبل الشهادة ويعتق العبد ويسعى في الثلثين ويأخذ الغريم دينه من نصيب الوارثين.(9/593)
-----
ولو شهدا بدين ألف درهم حتى كان مستغرقاً للتركة، جازت الشهادة وبيع العبد في الدين.
والفرق بينهما: أن العدل متى جر إلى نفسه مغنماً كان لا يستحق ذلك إلا بشهادته، لا تقبل الشهادة، فمتى كان أقل من قيمة العبد فالشاهدان يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما يثبتان بشهادتهما لأنفسهما حق بيع العبد، وهذا لم يكن ثابتاً بدون شهادتهما على ذلك.
فإن قبل: بثبوت الدين لا يتمكنان من بيعه لثبوت حق العتق للعبد في مقدار الثلث، ومتى ثبت الدين يتمكنان من بيعه بالدين، فهما بهذه الشهادة يثبتان هذا الحق لأنفسهما ولهما فيه منفعة، لأنه إذا بيع بالدين بطلت الوصية إذ لا يمكن تنفيذها مع بيع العبد، وإذا قضى دين الغريم خمسمئة تبقى لهما خمسمئة وقبل ثبوت هذا الدين كان يعتق ثلث العبد مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته للورثة، وإذا سعى يدخل الغريم في نصيبهم ويأخذ من ذلك خمسمئة ويبقى لهم أقل من خمسمئة فكانا جارين إلى أنفسهما مغنماً، فأما إذا كان الدين مثل قيمة العبد لم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما وإن أثبتا حق بيع العبد لأنفسهما؛ لأنه لا منفعة لهما في ذلك، لأنه متى بيع العبد قضي الدين من جميع الثمن، ولا يسلم لهما من بدل العبد شيء، فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً فقبلت شهادتهما.
و (لو) لم يكن الميت أوصى بعتقه ولكن أوصى به لرجل، وباقي المسألة بحاله: قبلت شهادتهما سواء شهدا بدين قليل أو كثير؛ لأنه لا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ إذ لا يعود إليهما شيء لم يكن لهما قبل ذلك، لأنه إذا ثبت دين خمسمئة يباع نصف العبد بالدين، فيكون للموصى له ثلث النصف الباقي، وللورثة الثلثان، وكان هذا ثابتاً قبل الشهادة فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما فتقبل شهادتهما، والله أعلم بالصواب.
(9/594)
كتاب الرجوع عن الشهادات
هذا الكتاب يشتمل على ستة عشر فصلاً:
1 * في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة، وفي بيان حكمه.
-----
2 * في رجوع بعض الشهود عن الشهادة.
3 * في الرجوع عن الشهادة في النكاح.
4 * في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع.
5 * في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول جميعاً.
6 * في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء.
7 * في الرجوع عن الشهادة في البيع والهبة.
8 * في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة.
9 * في الرجوع عن الشهادة على الشهادة.
10 * في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات.
11 * في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهن والعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة.
12 * في الرجوع عن الشهادة على المال على الدين وعلى الإبراء عن الدين، وما يتصل بذلك.
13 * في رجوع الشاهدين عن الشهادة في باب المواريث.
14 * في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية.
15 * في رجوع أهل الذمة عن الشهادات.
16 * في المتفرقات.
الفصل الأول: في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة وفي بيان حكمه
أما بيان شرط صحته: فنقول: شرط صحته على الخصوص مجلس القاضي حتى لا يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، وشرطه يظهر فيما إذا ادعى المشهود عليه عند القاضي رجوع الشاهد في غير مجلس القاضي، وأنكر الشاهد ذلك، فأراد المشهود عليه إثباته بالبينة، وأراد استحلاف الشاهد ليس له ذلك لما نبين بعد هذا إن شاء الله.
وإذا أقر الشاهد عند القاضي أنه رجع عند غيره صح إقراره، وطريق صحته: أن يجعل هذا رجوعاً مبتدأ من الشاهد، لا أن يعتبر ذلك الرجوع الذي كان في غير مجلس القاضي.
وإنما شرطنا مجلس القاضي، لصحة الرجوع؛ لأن الرجوع فسخ للشهادة، لأن بالرجوع ثبت ضد ما أثبته بالشهادة، وفسخ الشيء إثبات ضده كفسخ البيع وأشباهه، فيعتبر بابتداء الشهادة، ثم شرط لابتداء الشهادة مجلس القاضي، فكذا يشترط لفسخها مجلس القاضي.(9/595)
-----
وأما بيان حكمه فنقول: رجوع الشاهد إن كان قبل القضاء يصح في حق نفسه وفي حق غيره حتى يجب على الشاهد التعزير، ولا يقضي القاضي بشهادته على المشهود عليه. وإن كان بعد القضاء، كان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: ينظر إلى حال الراجع إن كان حاله عند الرجوع أفضل من حاله وقت الشهادة في العدالة صح رجوعه في حق نفسه وفي حق غيره، حتى وجب عليه التعزير، وينقض القضاء ويرد المال على المشهود عليه، ولو كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند الشهادة في العدالة، أو دونه يجب عليه التعزير، ولكن لا ينقض القضاء ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، ولا يجب الضمان على الشاهد، وهو قول أستاذه حماد رحمهما الله.
ووجه ذلك: أن الرجوع كلام محتمل للصدق والكذب، فلا يجب العمل به ما لم يترجح فيه جهة الصدق على الكذب، وإنما يترجح جهة الصدق في الرجوع إذا كان حال الراجع عند الرجوع في العدالة أفضل. أما إذا كان في حالة العدالة عند الرجوع مثل حاله في العدالة عند الشهادة فلا، وهذا لأنه لو ترجح صدقه في الرجوع بمثل العدالة التي ترجح صدقه بها في الشهادة، فقد ثبت حكمان متنافيان بشيء واحد، لأنه ثبت صدقه في النفي والإثبات بعدالة واحدة، والنفي ضد الإثبات، فلا يجوز إثباتها بشيء واحد. فأما إذا كان حاله في العدالة عند الرجوع أفضل، فقد أثبتنا الصدق في النفي بدليل آخر غير الذي أثبتنا الصدق به في الإثبات وإنه جائز. وإذا كان حاله عند الرجوع في العدالة أفضل حتى يترجح جهة الصدق في الرجوع يترجح جهة الكذب في الشهادة، ويتبين أن القضاء حصل بغير حجة فيجب نقضه.
ثم رجع عن هذا القول. وقال: لا يصح رجوعه في حق غيره على كل حال حتى لا ينقض القضاء ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ووجه ذلك: أن الراجع برجوعه يقر على نفسه وعلى غيره:(9/596)
-----
يقر على نفسه: فإنه يقر أنه شهد بغير حق واستهلك على المشهود عليه ماله بغير حق وصار مستوجباً التعزير والضمان، ويقر على غيره: فإنه يقر أن القاضي قضى بغير حق وأن المشهود له أخذ ماله بغير حق، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح وإن كان المقر فاسقاً، وإقراره على غيره لا يصح وإن كان عدلاً، فصارفي حق هذا القاضي وجود هذا الرجوع وعدمه بمنزلة، وبهذا تبين لنا (أنه) يثبت الصدق في الرجوع بدليل زائد على ما أثبتنا الصدق به في الشهادة، وهو كونه إقراراً على نفسه، فصدقه في الرجوع ثابت بالعدالة وبكونه (159ب4) إقراراً على نفسه.
وإذا صح رجوع الشاهد ينظر بعد هذا إن لم يكن المشهود به مالاً، بأن كان قصاصاً أو نكاحاً، فلا ضمان على الشاهد عند علمائنا رحمهم الله، وإن صار الشاهد متلفاً لذلك بشهادته. وإن كان مالاً، فإن كان الإتلاف بعوض يعادله، فلا ضمان على الشاهد أيضاً، لأن الإتلاف بعوض كلاإتلاف وإن كان بعوض لا يعدله، فبقدر العوض لا ضمان ويجب الضمان فيما وراءه، فإن كان الإتلاف بغير عوض أصلاً يجب ضمان الكل، وهذا لأن في الإتلاف الحقيقي إنما يجب الضمان على المتلف جبراً لحق المتلف عليه، وهذا المعنى موجود في الإتلاف الحكمي الحاصل بالشهادة.
ثم إن كان المشهود به عيناً فللمشهود عليه أن يضمن الشاهد بعد الرجوع قبض المشهود له العين من المشهود عليه أو لم يقبض بعد، وإن كان المشهود به ديناً، فليس للمشهود عليه أن يضمن الشاهد للحال، وإنما يضمنها إذا استوفى المشهود له ذلك من المشهود عليه. هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه».
الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» سوى بين العين والدين، وقال: «ليس للمشهود عليه أن يضمن الشاهد في فصل العين قبل أن تؤخذ العين من يده»، كما في فصل الدين.(9/597)
-----
والفرق على ما ذكره شيخ الإسلام: أن ما يجب على الشاهد من الضمان عند الرجوع ضمان إتلاف، وضمان الإتلاف مقيد بالمثل فمتى كان المشهود به عيناً فالشهود أزالوه عن ملكه بشهادتهما عند اتصال القضاء بها، ألا ترى أن تصرف المشهود عليه فيه بعد ذلك لا ينفذ؟ فلو أزلنا العين عن ملكيهما بأخذ الضمان منهما لا تنتفي المماثلة، أما إذا كان المشهود به ديناً، فالشهود ما أزالا عيناً عن ملكه، بل أوجبا عليه ديناً بغير حق، فلو استوفيا الضمان من الشهود قبل أن يستوفي المشهود له ذلك من المشهود عليه تنتفي به المماثلة؛ لأن المستوفى يكون عيناً، والعين خير من الدين، وينظر إلى قيمة المشهود (به) يوم القضاء، لأن وجوب الضمان عليهما بالإتلاف، والإتلاف حصل بالقضاء، فتعتبر القيمة يوم القضاء.
وإذا كان الرجوع عن الشهادة في مرض الشاهدين، وقضى القاضي بالضمان عليهما، فذلك بمنزلة إقرارهما بالدين في المرض، حتى لو ماتا من مرضهما وعليهما ديون الصحة بُدىء بديون الصحة؛ لأن ما وجب عليهما في المرض وجب بإقرارهما أنهما شهدا بزور، وكان دين المرض من هذا الوجه.
وإذا ادعى المشهود عليه الرجوع على الشاهد، وأراد استحلافه أو إثباته بالبينة، فهذا على وجهين:
الأول: أن يدعي الرجوع عند غير القاضي وفي هذا الوجه لا يستحلف الشاهد ولا يسمع بينة المشهود عليه على ذلك؛ لأنه يدعي رجوعاً باطلاً لا يتعلق به حكم؛ لأن الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فلم تصح دعواه، فلا يترتب عليه التحليف وسماع البينة.
الوجه الثاني: أن يدعي رجوعاً في مجلس قاض آخر، وإنه على وجهين أيضاً:
g(9/598)
-----
الأول: أن يدعي رجوعهما عند قاض، ولا يدعي قضاء القاضي عليهما بالرجوع، وفي هذا الوجه لا يستحلف أيضاً، و (لا) تسمع بينة المشهود عليه؛ لأن دعواه لم تصح، لأنه ادعى رجوعاً غير موجب الضمان؛ لأن الرجوع عن الشهادة لا يصير موجباً الضمان قبل قضاء القاضي، لأن الرجوع فسخ الشهادة فيعتبر بالشهادة، والشهادة لا توجب الحكم قبل اتصال القضاء بها حتى لو أراد المدعي إثبات ما شهد به الشهود عند قاض في مجلس قاض آخر بالبينة ليقضي له بذلك القاضي الآخر لا يسمع بينته، فكذا الرجوع لا يصير موجباً الضمان قبل اتصال القضاء به، فهو معنى قولنا: إن دعواه لم تصح.
الوجه الثاني: أن يدعي رجوعاً، وقضاء القاضي عليه بالرجوع، وفي هذا الوجه يستحلف الشاهد وتسمع بينة المشهود عليه على ذلك، لأن الدعوى قد صحت، لأنه ادعى رجوعاً موجباً للضمان، فيترتب عليه التحليف وسماع البينة، وإذا رجع الشاهد عن شهادته عند غير القاضي الذي شهد عنده أول مرة، فقامت عليه البينة بالرجوع وبقضاء القاضي عليه بالضمان، فهذا القاضي ينفذ ذلك عليه، فيأمره بأداء الضمان، وكذلك لو شهد عليه شاهدان عند القاضي أنه أقر أنه رجع عند قاض من القضاة، وقضى عليه بالضمان، فهذا القاضي يقضي بهذه الشهادة ويلزمه الضمان والله أعلم.
(9/599)
الفصل الثاني: في رجوع بعض الشهود عن الشهادة
-----
يجب أن يعلم أن العبرة في باب الرجوع عن الشهادة في حق بقاء الحق ووجوب الضمان لبقاء من بقي لا لرجوع من رجع، حتى إنه إذا شهد ثلاثة نفر على رجل بدين ألف درهم مثلاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال، ولو رجع واحد منهم فلا ضمان على الراجع، وهذا لأن وجوب الحق في الحقيقة بشهادة الشاهدين، لأن ما زاد على الشاهدين في هذه الحقوق فضل في حق القضاء إلا أن الشهود إذا كانوا أكثر من الاثنين يضاف القضاء ووجوب الحق إلى الكل لضرورة المزاحمة لاستواء حالهم، فإذا رجع واحد منهم زالت المزاحمة لزوال الاستواء، فظهر أن القضاء كان مضافاً إلى شهادة المثنى.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا شهد بالحق ثلاثة ورجع واحد منهم، فقد بقي من يقوم بشهادته جميع الحق، فلا يضمن الراجع شيئاً، وإذا رجع الاثنان منهم، فقد بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، فكان التالف بشهادة الراجعين نصف الحق، فيجب ضمان ذلك النصف عليهما لاستوائهما في ذلك.
وإن شهد رجل وامرأتان ثم رجعت المرأتان، فعليهما نصف المال؛ لأن المرأتين قامتا مقام رجل، وكأنه شهد بالحق رجلان فرجع واحد منهما، وهناك يجب على الراجع نصف الحق؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، وإن رجعت واحدة من المرأتين فعليها ربع المال؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته ثلاثة أرباع المال.
ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا، فلا ضمان على المرأة؛ لأن المرأة الواحدة لا شهادة لها فيما يطلع عليه الرجال، فلا يضاف ثبوت الحق إلى شهادتها.
وإن شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا، فعلى المرأتين ثلث الضمان، لأن شهادة المرأتين حالة الاختلاط بمنزلة شهادة رجل واحد؛ فكأنه شهد بالحق ثلاثة رجال.(9/600)
-----
وإن شهد رجل واحد وعشر نسوة، ثم رجعوا فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: النصف على الرجل والنصف على النسوة، لأن النسوة وإن كثرن أقمن مقام رجل واحد، كما في حالة الانفراد حتى إن النسوة وإن كثرن لا يقطع الحكم بشهادتهن فكذا في حالة الاجتماع، وصار تقدير مسألتنا: كأن رجلين شهدا ثم رجع واحد منهم، وعند أبي حنيفة الضمان عليهم أسداساً: سدسه على الرجل وخمسة أسداسه على النسوة؛ لأن حالة الاختلاط كل اثنتين من النسوة أقمن مقام رجل، ألا ترى أنه يقطع الحكم بشهادة رجل وامرأتين كما يقطع بشهادة رجلين، وصار تقدير مسألتنا: كأنه شهد ست رجال، ورجع خمسة.
وإن رجع ثمان نسوة فلا ضمان عليهن، وإن رجعت امرأة بعد الثمان فعليها وعلى الثمان ربع المال، وإن رجعت العاشرة بعد ذلك فعليها وعلى التسع ضمان نصف المال.
وإن شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع الرجل مع امرأة، فإنه يجب ضمان نصف المال، ويكون ذلك على الرجل خاصة عندهما؛ لأن النسوة وإن كثرن فعندهما أقمن مقام رجل واحد حالة الاختلاط والانفراد جميعاً، فكان نصف المال ثابتاً بشهادة النسوة، والنصف ثابتاً بشهادة النسوة والنصف ثابتاً بشهادة الرجل، فإذا بقي امرأتان على الشهادة فقد بقي منهن من يقوم بشهادتهما نصف المال، فعرفنا أن الحجة قد بطلت في حق النصف الثابتة بشهادة الرجل خاصة، فكان ضمان ذلك عليه.
وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون ضمان ذلك النصف على الرجل والمرأة الراجعة أثلاثاً؛ لأن عنده كل ثنتين من النساء حالة الاختلاط أقمن مقام رجل واحد، فكأن كل امرأة قائمة مقام نصف رجل، فإذا كانت المرأة ثلاثاً والرجل واحد، فكأنه شهد رجلان ونصف رجل، ثم رجع رجل ونصف رجل، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا رجعوا جملة فهذه الصورة كان الضمان على الرجل و(المرأتين) أخماساً والله (160أ4) أعلم.
(9/601)
-----
الفصل الثالث: في الرجوع عن الشهادة في النكاح
إذا ادعت المرأة نكاحها على رجل، وأقامت على ذلك بينة، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنه ينظر إلى مهر مثلها وإلى المسمى، فإن كان مهر مثلها مثل المسمى الذي شهد به الشهود أو أكثر من المسمى، فإنهما لا يضمنان للزوج شيئاً؛ لأنهما أوجبا المهر بعوض يعدله إن كان مهر مثلها مثل المسمى، وبعوض يزيد عليه إن كان مهر مثلها أكثر من المسمى، والإيجاب بعوض يعدله لا يوجب على الشاهد شيئاً.
فإن قيل: منافع البضع كيف تصلح عوضاً عن المهر، وإن المهر عين مال، ومنافع البضع ليست بعين مال؟ (بدليل أنه يثبت الحيوان ديناً في الذمة بدلاً عنها) قلنا: منافع البضع حالة الدخول في الملك أعطي لها حكم المال شرعاً، بدليل أن الشرع جوز للأب أن يزوج ابنه الصغير امرأة بمهر مثلها من مال الصغير، والوالد لا يملك إزالة ملك الصغير إلا بعوض يعدله، ألا ترى أنه لو خالع ابنته الصغيرة بمالها لم يجز، وإن كان المسمى مثل مهر مثلها، فلما جوز الشرع للأب النكاح لابنه الصغير علمنا أن منافع البضع اعتبرت مالاً عند الدخول في الملك، فصلحت عوضاً هذا إذا كان مهر مثلها مثل المسمى أو أكثر.
أما إذا كان مهر مثلها أقل من المسمى، بأن كان مهر مثلها ألفاً والمسمى ألفين، فإنهما يضمنان ألف درهم للزوج؛ لأنهما أتلفا على الزوج قدر ألف درهم من غير عوض.(9/602)
-----
قال: وإن ادعى رجل على امرأة النكاح، وأقام على ذلك بينة، والمرأة جاحدة، فقضى القاضي عليها بالنكاح بالبينة، ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما لا يضمنان للمرأة سواء كان المسمى مثل مهر مثلها أو أكثر أو أقل، وكان ينبغي أن يضمنا لها ألف درهم؛ لأنهما أتلفا الزيادة على المسمى من منافع بضعها بغير عوض من حيث الحكم، وإتلاف منافع البضع حقيقة بغير عوض يوجب الضمان. كما قالوا في المجنون: إذا أكره المرأة فزنى بها فإنه يجب العقر، فكذلك الإتلاف من حيث الحكم، يجب أن يوجب الضمان، والجواب القياس أن لا يضمن منافع البضع بالإتلاف الحقيقي؛ لأن ما ليس بمال لا يضمن بالمال بقضية القياس وإنما وجب المال ثمة شرعاً تعظيماً لأمر البضع، والنص الوارد في الإتلاف الحقيقي بخلاف القياس لا يكون وارداً في الإتلاف الحكمي؛ لأن الإتلاف الحكمي دون الإتلاف الحقيقي، فرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، وقضية القياس أن لا يضمن ما ليس بمال بالمال.
وإذا ادعى رجل على امرأة بأنه تزوجها بمئة درهم، وقالت المرأة: لا بل تزوجتني بألف درهم ومهر مثلها ألف درهم، فشهد شاهدان أنه تزوجها على مئة درهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما، فهذا على وجهين:
(9/603)
-----
أما إن رجعا قبل الطلاق، أو بعد الطلاق، فإن رجعا عن شهادتهما حال قيام النكاح، ذكر أنهما يضمنان للمرأة تسعمئة في قول أبي حنيفة ومحمد، ولا يضمنان شيئاً عن أبي يوسف، وهذه المسألة فرع لمسألة ذكرها في النكاح، وهو أن الزوجين متى اختلفا في مقدار المسمى، فالقول قول من شهد له مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف: القول قول الزوج في الأحوال كلها، إلا أن يدعي شيئاً مستنكراً جداً، وهو أن يدعي دون العشرة، وههنا مهرها ألف درهم، وإذا كان القول قول المرأة أن مهرها ألف درهم عندهما كان المستحق لها على الزوج ألف درهم، فهما بشهادتهما أبطلا عليها تسعمئة بغير عوض، فيضمنان ذلك للمرأة إذا رجعا، وعلى قول أبي يوسف المستحق للمرأة مئة درهم كما يقول الزوج، لأنه لم يدع شيئاً مستنكراً، وإذا لم يكن ما زاد على المئة مستحقاً لها قبل شهادتهما، فهما بشهادتهما لم يبطلا على المرأة شيئاً مستحقاً لها، فلا يضمنان لها شيئاً في قول أبي يوسف، هذا إذا رجعا قبل الطلاق.
فإن رجعا بعد الطلاق فهذا على وجهين: أما إن رجعا قبل الدخول بها أو بعد الدخول بها، فإن كان بعد الدخول بها فالجواب فيه كالجواب حال قيام النكاح؛ لأن المستحق لها قدر مهر مثلها، وهو ألف درهم عندهما، فأما إذا كان الطلاق قبل الدخول بها، فإنهما لا يضمنان للمرأة شيئاً عندهم جميعاً، لأن الواجب لها بالنكاح متى ورد الطلاق قبل الدخول بها في مثل هذه الصورة المتعة، لأن التسمية لم تثبت لاختلافهما، فيجب تحكيم المتعة عندهما، والظاهر أن متعتها لا تزيد على خمسين درهماً وقد قضينا لها بخمسين، حتى لو زاد ضمنا لها الزيادة على خمسين عندهما، وعند أبي يوسف القول قول الزوج في الأحوال كلها، فيكون لها خمسون درهماً، متى طلقها قبل الدخول بها لا غير.(9/604)
-----
شاهدان شهدا على امرأة أن فلاناً تزوجها على ألف درهم، وقبضت ذلك وهي تنكر، ومهر مثلها خمسمئة فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا مهر المثل دون المسمى، ولو وقعت الشهادة بالعقد بألف أولاً، فقضى القاضي به ثم شهدا بقبض الألف، وقضى القاضي به، ثم رجعا عن الشهادتين ضمنا للمرأة المسمى؛ لأن منافع البضع حال دخولها في ملك الزوج اعتبرت أموالاً متقومة ضرورة مقابلتها بما هو متقوم وهو المهر كالبيع في باب البيع، فيضمنان قيمة البضع في أحد الفصلين والمسمى في الآخر.
والفرق بين الفصلين: أن الضمان إنما يجب على الشهود بسبب الإتلاف؛ والشاهد إنما يصير متلفاً ما دخل تحت قضاء القاضي، والداخل تحت القضاء في الفصل الأول نفس النكاح لا المهر؛ لأن الشهود إنما شهدوا بالنكاح بمهر مقبوض، وفي مسألة القاضي لا يقضي بالمهر؛ لأنه مقترن بالقضاء بالمهر ما يمنع القضاء بالمهر وهو كون المهر مقبوضاً، فصار الشاهد بشهادته متلفاً على المرأة منافع بضعها لا المهر، فيضمنان قيمة منافع بضعها وهي مهر المثل، أما في الفصل الثاني القاضي قضى بالمهر حين قضى بالنكاح، لانعدام ما يمنع القضاء به وهو كون المهر مقبوضاً، فلم تكن الشهادة بالنكاح ولا القضاء به إتلافاً لمنافع بضعها، لأنه قابل منافع بضعها عوضاً فوقها فبقيت الشهادة بالقبض بعد ذلك إتلافاً للمهر عند القضاء، فإذا رجع الشاهدان عن شهادتهما صارا متلفين للمهر فيغرمان ذلك.
الفصل الرابع: في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته واحدة، وشهد آخر أنه طلقها ثلاثاً، ولم يكن الزوج دخل بها، وقضى القاضي بالفرقة وبنصف المهر، ثم رجعوا عن شهادتهم، فلا ضمان على شهود الواحدة، وعلى شهود الثلاث نصف المهر، لأن القضاء ههنا ما وقع بشهادة شهود الواحدة، وإنما وقع بشهادة شهود الثلاث.(9/605)
-----
بيانه: أنه تعذر القضاء بالشهادتين؛ لأنه لو قضى بهما، فإنما يقضي بأن يجعل الواحدة سابقة على الثلاث؛ لأنه لا يتصور بعد إيقاع الثلاث، والقضاء بالواحدة ثم بالثلاث لا يفيد؛ لأن حكم الواحدة حرمته حقيقة ولا تثبت هذه الفائدة مع القضاء بالثلاث، والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد، فلا يقضي بالواحد لعدم الفائدة.
وإذا شهد شاهدان على رجل قد دخل بامرأته أنه طلقها ثلاثاً، وفرق القاضي بينهما، وألزم الزوج بالمسمى، ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما للزوج.
ولو شهدا بالطلاق وكان ذلك قبل الدخول بها، وفرق القاضي بينهما وألزم الزوج بنصف المسمى، إن كان في النكاح تسمية، أو المتعة إن لم يكن في النكاح تسمية ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك للزوج.
والفرق: أن في الطلاق قبل الدخول إنما وجب الضمان على الشاهد عند الرجوع بدلاً عما (نفياً) عليه من نصف المهر بعد وجود سبب السقوط وهو الفرقة الجائية، (لأن) الزوج قبل الدخول بها إذ الإبقاء بعد وجود سبب السقوط في معنى إيجاب مبتدأ، فإنما ضمنا نصف المهر بدلاً عما أوجبا عليه، لا بدلاً عما أتلفا عليه من منافع البضع، وفي الطلاق بعد الدخول بها لا يمكننا إيجاب الضمان بدلاً عما أوجبا عليه؛ لأنهما لم يؤكدا عليه مالاً بعد وجود سبب السقوط لو وجب الضمان وجب بدلاً عما أتلفا عليه من منافع البضع، ولا وجه إليه؛ لأن القياس يأبى إيجاب الضمان بمقابلة (160ب4) المنافع ؛لأن المنافع ليست بمال ولا مماثلة بين المال وغير المال، وإيجاب الضمان يعتمد المماثلة.(9/606)
-----
وإذا شهد شاهدان على امرأة لم يدخل بها زوجها أنها اختلعت من زوجها على أن أبرأته عن المهر، والمرأة تجحد، والزوج يدّعي، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان للمرأة نصف المهر؛ لأنه لولا شهادتهما لكان يقضي لها بنصف المهر لوقوع الفرقة قبل الدخول بإقرار الزوج، فهما بشهادتهما أتلفا ذلك النصف عليهما وقد أتلفاه بغير عوض؛ لأن ما أدخلا في ملكها من منافع البضع لا يصلح عوضاً عما أتلفا عليه من المال.
ولو كان الزوج قد دخل بها، وباقي المسألة بحاله ضمنا للمرأة جميع المهر، لأنه لولا شهادتهما لكان يقضي لها بجميع المهر لوقوع الفرقة بإقرار الزوج بعد الدخول بها، فهما بشهادتهما أبطلا على المرأة ذلك، وقد أبطلاه بغير عوض لما ذكرنا فيضمنان ذلك.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته عام أول في رمضان قبل أن يدخل بها، فأجاز القاضي ذلك وألزمه نصف المهر، ثم رجعا عن شهادتهما، فضمنهما القاضي نصف المهر، أو لم يضمنهما حتى شهد شاهدان على الزوج أنه طلقها عام أول في شوال قبل الدخول بها؛ لم تقبل شهادة الفريق الثاني؛ لأنهم شهدوا بطلاق باطل، لأنه متى طلقها قبل الدخول بها في رمضان لا يتصور أن يطلقها بعد ذلك في شوال، فلا تقبل شهادة الفريق الثاني، وإذا لم تقبل فكأنه شهد بها الفريق الأول لا غير ثم رجعا، ولو كان كذلك كان الضمان عليهم فكذلك هذا.
ولو أقر الزوج بذلك عند القاضي لم يكن على الشاهدين ضمان، ويرد عليهما ما كانا ضمنا له، ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف الآخر ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة: فإنه لا يرد عليهما ما أخذ منهما من الضمان.(9/607)
-----
وهذا لأن مذهب أبي حنيفة أن قضاء القاضي بالطلاق بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً، وإذا نفذ قضاء القاضي بالطلاق في رمضان ظاهراً وباطناً لم يصح إقراره أنه طلقها في شوال من هذا العام، وإذا لم يصح إقراره بقي التلف مضافاً إلى شهادتهما لا إلى إقراره.
وعندهما: القضاء بشهادة الزور نفذ ظاهراً ولم ينفذ باطناً، وإذا لم ينفذ باطناً، بقيت منكوحة لزوجها إلى شوال؛ وإذا بقي النكاح إلى شوال عندهما في الباطن كان إقرار الزوج بالطلاق في شوال إقراراً صحيحاً، فكان التلف مضافاً إلى إقرار الزوج لا إلى الشهادة.
وقد أشار إلى الخلاف في بعض نسخ هذا الكتاب، ثم قال: في هذا يخالف الإقرار، وهذا لأن كذب الفريق الأول مما لم يعلم به الفريق الثاني، ومن لا علم له بكذب الشهود في الحقيقة فالقضاء في حقه يعتبر نافذاً ظاهراً وباطناً، كما قالوا في شاهدين شهدا بطلاق امرأة وقضى القاضي بذلك، إذا تزوجها أجنبي وسعه وطؤها ظاهراً وباطناً؛ لأنه لا يعلم كذب الشهود، فكذا في الفريق الثاني من الشهود نفس القضاء نافذ ظاهراً وباطناً، فيعتبر القضاء في حقه نافذاً ظاهراً وباطناً، وإذا نفذ ظاهراً وباطناً لم تصح شهادة الفريق الثاني، فأما الإقرار فقد وجد من الزوج، وإنه يعلم كذب الشهود على الحقيقة، فيجيء التفصيل في حقه أن القضاء في حقه نفذ ظاهراً أم باطناً؟
(9/608)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى شهد شاهدان على الزوج أنه طلقها وفرق القاضي بينهما، وقضى القاضي بنصف المهر، ثم مات الزوج، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يغرمان لورثة الزوج (، و) نصف المهر؛ لأن ورثة الزوج قاموا مقام الزوج، والزوج لو كان حياً ورجع الشهود عن الشهادة غرموا للزوج نصف المهر، فكذا لمن قام مقامه، ولا يغرمان لورثة الزوج قيمة منافع بضعها، لأن الزوج لو كان حياً لكان لا يغرمان له ذلك لما عرف أنه لا قيمة لمنافع البضع عند الخروج عن ملك الزوج، فكذا لا يغرمان ذلك لورثته. قال: ولا يغرمان للمرأة ما زاد على نصف المهر. هكذا ذكر في «الكتاب».
قال مشايخنا: وهذا إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الشاهدين عند الرجوع وإن زعما الطلاق لم يكن، فقد وقع طلاق مبتدأ بقضاء القاضي فيعتبر بما لو وقع بإيقاع الزوج ولو وقع بإيقاع الزوج لم يكن لها إلا نصف المهر كذا إذا وقع بإيقاع القاضي.
فأما على قول أبي يوسف آخراً وهو قول محمد: لم يقع الطلاق مبتدأ بقضاء القاضي، فكان في زعم الشاهدين أن حقها باق في جميع المهر، وإنما فات عليها إمكان الأخذ فيما زاد على النصف بشهادتهما، فكانا مقرين للمرأة بالضمان فيما زاد على النصف فيغرمان ذلك.
قال: ولا ميراث للمرأة، أما إذا كانت تدعي الفرقة فظاهر، وأما إذا كانت تجحد فلوقوع الفرقة بينهما بقضاء القاضي في حال حياة الزوج؛ وهذا إنما يستقيم على قول أبي حنيفة.
أما على قول أبي يوسف آخراً وهو قول: محمد يجب أن يكون لها حصتها من الميراث؛ لأن في زعمها أن الزوج لم يطلقها وقد صدقها الزوج في ذلك حيث غرم الشهود، ولم يقع الطلاق مبتدأ بقضاء القاضي لعدم نفاذ القضاء باطناً عندهما فبقيت الزوجة عند الموت فيكون لها الميراث.(9/609)
-----
وأما على قول أبي حنيفة وقع طلاق مبتدأ بقضاء القاضي لنفاذ القضاء باطناً عنده، فيعتبر بما لو وقع بإيقاع الزوج، ولو وقع بإيقاع الزوج لا ميراث لها لكون الطلاق قبل الدخول، فكذا إذا وقع بإيقاع القاضي.
ويستوي في حق هذا الحكم أن يكون الزوج صحيحاً أو مريضاً عند أبي حنيفة رحمه الله: لأن الزوج لم يصر فاراً، فإنه لم يطلقها، وإنما وقع الطلاق بقضاء القاضي بالطلاق قبل الدخول بها، ولو طلقها الزوج بنفسه قبل الدخول بها فلا يصير فاراً، فإذا طلقها القاضي أولى، وإذا لم يوجد من الزوج الفرار لا يكون لها الميراث ما لم يكن النكاح قائماً عند موت الزوج، والنكاح قد ارتفع قبل موت الزوج بالطلاق الواقع.
ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يكن لها الميراث لم يغرم الشاهدان نصيبها من الميراث وإن أبطلا عليها النكاح الذي هو سبب الميراث، لأنهما إنما أبطلا النكاح حال حياة الزوج، والنكاح حال حياة الزوج ليس بسبب الإرث، فما أبطلا عليها ما هو سبب الإرث فلا يضمنان لذلك، هذا إذا شهدا بذلك حال حياة الزوج.
فأما إذا شهدا بذلك بعد موت الزوج والباقي بحاله ضمنا لها نصف الصداق، لأن صداقها تأكد كله بموت الزوج ظاهراً، فهما بشهادتهما أبرأا الزوج عن نصف المهر، فصارا متلفين ذلك عليها فغرما لها ذلك، ويغرمان لها حصتها من الميراث، لأن الميراث صار حقاً لها بموت الزوج من حيث الظاهر، فهما بشهادتهما أتلفا عليها الميراث بغير حق، فيضمنان ذلك عند الرجوع، بخلاف المسألة الأول، فإن في المسألة الأولى لم يتلفا عليها الميراث؛ لأنها لم تستحق بعد، لم يتلفا عليها أيضاً ما هو سبب الإرث على ما مر، فلهذا لا يضمنان لها شيئاً ولا يضمنان للورثة شيئاً في هذه المسألة؛ لأنهما ما أتلفا على الزوج شيئاً بل أبرأاه عن نصف المهر.
(9/610)
الفصل الخامس: في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول
-----
وإذا شهد رجل وامرأتان على طلاق امرأة، وشهد رجل وامرأتان على دخوله بها، وقضى القاضي بالطلاق والصداق، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن على شاهدي الدخول ثلاثة أرباع المهر، وعلى شاهدي الطلاق ربع المهر، لأن شاهدي الطلاق شهدا بنصف المهر وقد شهد بهذا النصف شهود الدخول أيضاً؛ لأنهما شهدا بجميع المهر فكانا شاهدين بهذا النصف، وعند الرجوع ضمان هذا النصف عليهما على كل فريق نصفه وهو ربع الكل، وقد تفرد شاهد الدخول بالشهادة بنصف المهر، فكان ضمان ذلك النصف عليهما خاصة، فكان على شاهدي (161أ4) الدخول ثلاثة أرباع المهر من هذا الوجه.t
فإن قيل: كيف يجب الضمان على الفريقين وإنهم بشهادتهم ما أوجبوا المهر ابتداءً بل أبقوا ما كان عليه بعقد النكاح؟.
قلنا: لأن هذا الإبقاء كان بعد وجود سبب السقوط، بيانه: أن من زعم الشهود عند الرجوع أن الفرقة ما كانت من قبل الزوج بل من قبل القاضي، والفرقة الجائية لا من جهة الزوج توجب سقوط كل الصداق، كما لو ارتدت قبل الدخول بها، فلولا شهادتهم بالدخول أو بالطلاق لكان يسقط جميع الصداق عن الزوج، وإنما بقي جميع المهر في زعم شاهدي الدخول بشهادتهما، ونصف المهر في زعم شاهدي الطلاق بزعمهما، والإبقاء بعد وجود سبب السقوط في معنى إيجاب مبتدأ، فإنما وجب الضمان عليهم من هذا الوجه.
ولو رجع الرجل الشاهد على الدخول وحده فعليه ربع المهر؛ لأن نصف المهر ثبت بشهادة شاهدي الدخول وشاهدي الطلاق، وقد بقي شاهدا الطلاق على شهادتهما بذلك النصف، فلا يضمن الراجع من ذلك النصف شيئاً، والنصف الآخر تفرد به شاهدا الدخول، وقد بقي من يقوم بشهادته نصف ذلك النصف وهو المرأتان، فكان التالف بشهادة هذا الراجع نصف ذلك النصف وهو الربع، فكان عليه ضمان الربع من هذا الوجه، ولو رجع شهود الدخول كلهم فعليهم ضمان النصف الذي تفردوا بالشهادة به.(9/611)
-----
ولو لم يرجع شهود الدخول إنما رجع شهود الطلاق فلا شيء عليهم؛ لأنه بقي على الشهادة من يقوم بشهادته جميع ما شهد به شهود الطلاق، ولو لم يرجعوا على هذا الوجه، وإنما رجعت امرأة من شهود الدخول، وامرأة من شهود الطلاق، فلا ضمان على الراجعة من شهود الطلاق، وعلى الراجعة من شهود الدخول ثُمُن المهر وهو ربع النصف الذي تفرد به شهود الدخول.
وإذا اتفق الزوجان على أصل النكاح واختلفا في التسمية فقال الزوج: تزوجتها بغير شيء، وقالت المرأة: تزوجتني بألف درهم وجاءت بشاهدين شهدا أنه تزوجها بألف درهم وقضى القاضي بشهادتهما، ثم طلق الزوج المرأة عند القاضي، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما ضمنا للزوج فضل ما بين المئة، إلى تمام الخمسمئة التي غرمها الزوج، لأنه لولا شهادتهما بالتسمية لكان يتخلص الزوج بالمتعة، فإنما لزمه الزيادة على المتعة بشهادتهما بالتسمية، وهذه زيادة حصلت بغير عوض، لأن ثبوت النكاح غير مضاف إلى شهادتهما ليجعل ما حصل للزوج من ملك منافع البضع عوضاً عما أوجبا عليه، لأن النكاح كان ثابتاً قبل شهادتهما بتصادق الزوجين، بخلاف ما إذا كان الزوج جاحداً، لأن هناك ثبوت الملك في منافع بضعها للزوج مضاف إلى شهادتهما؛ لأن ملك النكاح لم يكن ثابتاً قبل شهادتهما، فكان ذلك إيجاباً بعوض.
(9/612)
-----
ولو شهد آخران على الدخول قبل الطلاق، ثم طلقها الزوج وألزم القاضي الزوج ألف درهم، ثم رجعوا، فعلى شاهدي الدخول خمسمئة خاصة لا يشاركهما فيها شاهدا التسمية، لأنه لولا شهادة شاهدي الدخول لكان برىء الزوج عن خمسمئة مما أوجبا عليه شاهدا التسمية بالطلاق قبل الدخول، فإنما بقي ملك الخمسمئة بشهادة شاهدي الدخول، وكان ضمان ذلك عليهما خاصة، وعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى تمام الخمسمئة الأخرى نصفان؛ لأن لزوم ذلك القدر للزوج بشهادة الفريقين لولا شهادتهم لكان يتخلص الزوج بقدر المتعة، هذا الذي ذكرنا.
إذا طلق الزوج المرأة بين يدي القاضي.
فإن لم يطلقها بين يدي القاضي، فشهد آخران على الطلاق قبل الدخول، والزوج يجحد الطلاق، ثم رجعوا عن شهادتهم فعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى تمام الخمسمئة ينصِّفان لما ذكرنا، وقدر المتعة على شاهدي التسمية وشاهدي الدخول، وعلى شاهدي الطلاق قبل الدخول أثلاثاً، لأن ذلك القدر تلف بشهادتهم جملة.(9/613)
-----
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه تزوج هذه المرأة على ألف درهم، ومهر مثلها خمسمئة درهم، والزوج يجحد ذلك، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول، وأجاز القاضي شهادتهم، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن على شاهدي النكاح مئتين وخمسين، وعلى شاهدي الطلاق مئتين وخمسين، أما على شاهدي النكاح مئتين وخمسين؛ لأنهما أوجبا على الزوج ألف درهم خمسمئة بعوض فلا يجب ضمان ذلك عليهما وخمسمئة بغير عوض، لا يشاركهما في ضمان هذه الخمسمئة لا شاهد الطلاق ولا شاهد الدخول، أما شاهدا الطلاق؛ لأن شاهدي الطلاق ما أوجبا على الزوج إلا نصف الألف، وقد ضمنا قدر ما أوجباه على ما تبين بعد هذا، ولا يضمنان من هذه الخمسمئة شيئاً، وأما شاهدا الدخول فلا يشاركهما في هذه الخمسمئة وإن أكدا هذه الخمسمئة لأنه لولا شهادتهما على الدخول لكان يسقط خمسمئة بالطلاق قبل الدخول؛ لأنهما وإن أكدا هذه الخمسمئة إلا أنهما لم يوجباها، وشاهدا النكاح أوجباها فصار شاهدا الدخول من حيث إنهما لم يوجبا هذه الخمسمئة بمنزلة صاحب الشرط، وشاهد النكاح بمنزلة صاحب العلة على ما عرف، وأما الخمسمئة الأخرى فثلاثة أرباعها على شاهدي الدخول وربعها على شاهدي الدخول تفردا بإيجاب هذه الخمسمئة فيكون ضمان ذلك عليهما والنصف الآخر ثبت بشهادة الفريقين فيكون ضمان ذلك عليهما نصفين، وصار الجواب في هذا نظير الجواب فيما إذا كان مهرها هذه الخمسمئة لا غير، وشهد شاهدان بالدخول وشاهدان بالطلاق ثم رجعوا، وهناك صار الخمسمئة عليهم أرباعاً فههنا كذلك.
(9/614)
-----
قال محمد في «الجامع»: وإذا شهد شاهدان لامرأة على رجل أنه تزوجها بألفي درهم، ومهر مثلها ألف درهم، فقضى القاضي بذلك وقبضت المرأة الألفين، ثم شهد آخران أن الزوج دخل بها وطلقها ثلاثاً، والزوج يجحد، ففرق القاضي بينهما، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم فالزوج بالخيار؛ إن شاء ضمن شهود النكاح بألف درهم؛ لأنهم ألزموه ألفي درهم منها بعوض وهو منافع البضع الذي له قيمة عند الدخول في ملك الزوج وهو مهر المثل، وألف ألزموه بغير عوض فيما أوجبا بعوض لا يضمنانه، وما أوجبا بغير عوض يلزمهم ضمانه، وإن شاء ضمن شهود الدخول والطلاق ألفي درهم؛ لأنهم بشهادتهم قرروا عليه الألفين جميعاً، لأن المهر قبل الدخول كله (على) شرف السقوط بردة جائية من قبل المرأة، أو غير ذلك فشهود الطلاق والدخول بشهادتهم قرروا عليه ذلك، وللتقرير حكم الإثبات من وجه، فلهذا كان له أن يضمن شاهدي الطلاق والدخول ألفي درهم.
فإن ضمن شهود الدخول والطلاق ألفي درهم ليس له تضمين شهود النكاح، لأنه وصل إليه جميع ما غرم للمرأة، وليس لشهود الطلاق والدخول أيضاً أن يرجعوا على شهود النكاح، لأنهم ضمنوا لجنايتهم، وهو تقرير المهر على الزوج، ولم يعترض جناية على حقهم، فلا يكون لهم حق الرجوع على أحد بما ضمنوا كما في غاصب الغاصب.
وإن ضمن شهود النكاح ألف درهم رجع على شهود الدخول والطلاق بألف أخرى، لأنه بقي إلى إتمام حقه ألف درهم، فيرجع بذلك على شهود الطلاق والدخول، وكان لشهود النكاح أن يرجعوا بالألف التي ضمنوا للزوج على شهود الطلاق والدخول، لأنهم بأداء الضمان قاموا مقام الزوج في المضمون، وقد كان للزوج حق الرجوع عليهم بذلك الألف، فكذا لمن قام مقامه.
ثم اختلفت الروايات في حق قبض تلك الألف، ذكر في الرجوع عن الشهادات في «المبسوط» أن شهود النكاح هم الذين يقبضون ذلك. وذكر في «الجامع :»أن الزوج هو الذي يقبض ذلك ثم يدفعه إلى شهود النكاح.(9/615)
-----
فوجه رواية كتاب الرجوع: هو أن الزوج لما ضمن شهود النكاح ألفاً فقد أقامهم مقام نفسه في الرجوع بها على شهود الطلاق، فتحول ولاية القبض إليهم، كما قلنا في المالك إذا ضمن الغاصب الأول، كان للغاصب الأول أن يضمن الغاصب (161ب4) الثاني، ويقبض الضمان بنفسه لنفسه، لقيامه مقام المالك كذا هذا.
وجه رواية «الجامع» هو: أن السبب الذي ضمن به شهود الطلاق هو الشهادة على ما يؤكد المهر وهو الدخول؛ وهذا السبب إنما جرى بين الزوج وبين شهود الطلاق والدخول، لا بين شهود النكاح وشهود الدخول، فيكون حق القبض للزوج، وإن كان المقبوض ملكاً للغير وهو شاهدا النكاح؛ كالوكيل في باب البيع حق القبض له، وإن كان المقبوض ملكاً للموكل كذا هنا، بخلاف الغاصب الأول مع الغاصب الثاني؛ لأن هناك جرى بين الغاصب الأول وبين الغاصب الثاني سبب لوجوب الضمان عليه وهو الغصب المفوت لليد المحترمة، وبأداء الغاصب الأول الضمان صار المغصوب ملكاً له من وقت الغصب بالأول، فصار الغصب الثاني موجباً الضمان للغاصب الأول، أما هنا بخلافه.
ولو جاء شهود النكاح وشهود الدخول والطلاق، وشهدوا عند القاضي معاً، كانت العبرة بحالة القضاء، فإن قضى بشهادة شهود النكاح أولاً بأن ظهرت عدالتهم، فهذا والفصل الأول سواء، وإن اتصل القضاء بشهادة شهود الدخول أولاً بأن ظهرت عدالتهم أولاً.(9/616)
-----
وصورته: أن يشهد شاهدان أن هذا الرجل دخل بهذه المرأة أمس بحكم النكاح، وشهد آخران أن هذا الرجل تزوج هذه المرأة أول من أمس على ألف درهم، فعدل شهود الدخول والطلاق أولاً، فقضي على الزوج بضمان البضع، وذلك مهر مثلها وهو ألف درهم، ثم عدلت شهود النكاح، فقضى القاضي عليه بألف أخرى، ثم رجعوا جميعاً لم يضمن شهود الدخول والطلاق إلا ألف درهم، لأنهم لم يوجبوا إلا موجب البضع، وذلك مهر المثل؛ لأنهم أثبتوا الدخول بنكاح لا تسمية فيه، وموجبه مهر المثل لا غير، أما الزيادة عليه إنما تكون بتسمية صحيحة في العقد، ولم يظهر ذلك بعد.
ويضمن شهود النكاح أيضاً ألفاً أخرى؛ لأنهم أوجبوا ألفاً أخرى، وهو الزيادة على مهر المثل بغير عوض، وذلك مضاف إلى شهادتهم دون شهادة شهود الدخول، فيكون ضمان ذلك عليهم.
ولا يرجع كل فريق على الفريق الآخر بشيء، أما شهود الدخول فظاهر، وأما شهود النكاح فلأن الزوج لم يكن له حق تضمين شهود الدخول والطلاق هذه الزيادة باعتبار أن الزيادة على مهر المثل ما ثبت بشهادتهم، فلا يكون ذلك أيضاً لمن قام مقام الزوج، وهم شهود النكاح.
وإن ظهرت عدالة الفريقين معاً، فقضى القاضي بشهادتهم معاً، ثم رجعوا جميعاً فهذا وما لو قضى القاضي بشهادة شهود النكاح أولاً سواء، لأن القاضي إنما يقضي بالشهادة على حسب ما شهد به الشهود، وشهود الدخول إنما شهدوا بالدخول بحكم النكاح، فأوجب ذلك ترتب الدخول على النكاح إلا أن يقدم الحكم بالدخول فإذا لم يتقدم الحكم بالدخول صير إلى الأصل، وذلك يوجب سبق النكاح، فهذا وما لو قضى القاضي بالنكاح أولاً سواء.(9/617)
-----
وكذلك لو كان شهود الدخول شهدوا على إقرار الزوج، أنه تزوج هذه المرأة ودخل بها وطلقها ثلاثاً، فقضى القاضي على الزوج بمهر مثلها اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً، فلو جاءت المرأة بعد ذلك بشاهدين يشهدان على إقرار الزوج أنه تزوجها على ألفي درهم، وقضى القاضي عليه بالفصل، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا على معاينة الدخول والطلاق وعلى معاينة النكاح، لما مر من اعتبار الثابت بالبينة بالثابت معاينة فلو أن شهود النكاح وشهود الدخول والطلاق زكّوا معاً وقضى القاضي بشهادتهم معاً، ثم رجع شهود النكاح ضمنهم ألف درهم وهو الألف الزائد على مهر المثل، لإيجاب ذلك بغير عوض، فإن رجع شهود الدخول بعد ذلك ضمنهم ألفي درهم، ألف من ذلك للزوج، وألف أخرى يعطيه الزوج إلى شهود النكاح لما مر قبل هذا، وإن رجع شهود الدخول أولاً ضمنهم الزوج ألفي درهم، فلو لم يقبضها الزوج حتى رجع شهود النكاح، فلا ضمان للزوج على شهود النكاح.
علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأنه حين اختار تضمين شهود الدخول فقد أبرأ شهود النكاح.
فإن قيل: كيف يصح هذا الإبراء؟ فإن صحة الإبراء تعتمد بعدم الوجوب، والضمان لم يكن واجباً على شهود النكاح وقت تضمين شهود الدخول؛ لأنهم لم يرجعوا بعد. قلنا: إنما صح باعتبار أن يرجع شهود النكاح يظهر تقديمهم عند الرجوع بنفس الشهادة، فظهر أن الضمان كان واجباً عليهم يوم تضمين شهود الدخول، فإذا ظهر الوجوب ظهرت صحة الإبراء.(9/618)
-----
امرأة مرتدة ادعت على رجل أنه تزوجها في حال إسلامها على ألفي درهم، ودخل بها وطلقها، ثم كانت الردة، وأنكر الزوج ذلك كله، ومهر مثلها ألف، فشهد لها شاهدان بالنكاح بألفي درهم، وقضى القاضي بشهادتهم، وشهد آخران على الدخول والطلاق أمس، وأنها ارتدت اليوم، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فشهود النكاح لا يضمنون للزوج شيئاً؛ لأن الشهود إنما يضمنون عند الرجوع ما قضى القاضي بشهادتهم، والقاضي ما قضى بشيء من المهر على الزوج بشهادة شهود النكاح؛ لأنه قارن القضاء بالمهر ما يمنع القضاء به: وهو ردة المرأة قبل الدخول إذ الدخول لم يكن ثابتاً وقت القضاء بشهادة شهود النكاح؛ لأنه قارن القضاء بالمهر ما يمنع القضاء به.
ولهذا (لو) قلنا: لو عاين القاضي النكاح مع التسمية ثم عاين ارتدادها قبل الدخول لم يقض على الزوج بشيء من المهر، فعلم أن القاضي لم يقض بالمهر بشهادة شهود النكاح، فلا يضمنون ذلك.
بخلاف ما إذا لم ترتد المرأة والمسألة بحالها حيث يضمن شهود النكاح للزوج، لأن هناك وقع القضاء بشهادتهم بالمسمى إذ المانع وهو الردة لم يقارن القضاء ثمة، فضمنوا ما زاد على مهر المثل وهو ألف درهم، أما ههنا بخلافه.
قال: وشهود الدخول والطلاق يضمنون للزوج ألفي درهم؛ لأن القاضي إنما يقضي بألفي درهم بشهادتهم؛ لأنه لم يقارن القضاء بالمهر بشهادتهم ما يمنع القضاء به؛ لأن ردة المرأة بعد الدخول لا تنافي المهر؛ فصاروا مثبتين على الزوج ألف درهم، أو مذكرين ذلك عليه بغير عوض، فيضمنون ذلك له عند الزوج.
ولو وقع القضاء بالشهادتين جميعاً فهذا وما لو وقع القضاء بشهادة شهود النكاح أولاً سواء، لأن شهود النكاح يجعل متقدماً، وشهود الدخول يجعل متأخراً كما هو الأصل إلا إذا وجد دليل مغير ولم يوجد.(9/619)
-----
ولو قضى القاضي بشهادة شهود الدخول أولاً، ثم قضى بشهادة شهود النكاح، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم ضمن شهود الدخول بمهر مثلها، لأن حال ما قضى القاضي بشهادتهما التسمية لم تكن ثابتة، والدخول في نكاح لا تسمية فيه يوجب مهر المثل، فحصل للقاضي بشهادتهم مقدار مهر المثل لا غير، فعند الرجوع لا يضمنون إلا ذلك القدر، ويضمن شهود النكاح ألفاً أخرى وهو الألف الزائد على مهر المثل، لأن القاضي إنما يقضي بالألفين بشهادتهم، لأنه حين قضى بشهادتهم كان الدخول مقضياً به، فردة المرأة بعد الدخول لا تنافي الصداق، فحصل القضاء بشهادتهم بالألفين، ألف من ذلك حصل بعوض وهو منافع البضع فلا يجب ضمانه وألف من ذلك بغير عوض، فيجب ضمانه، بخلاف ما لو قضى القاضي بشهادة شهود النكاح لكن لم يقع القضاء بالمهر بشهادتهم وإنما وقع القضاء به بشهادة شهود الدخول والطلاق، أما ههنا بخلافه ولا يرجع أحد الفريقين على الآخر لما قلنا من قبل.
الفصل السادس: في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء
قال محمد رحمه الله: شهود العتق يضمنون عند الرجوع قيمة العبد المشهود به موسرين كانا أو معسرين، لأن هذا ضمان إتلاف الملك، وإنه لا يختلف باليسار والعسار (162أ4) ولا يمتنع وجوب الضمان عليهما بسبب ما أوجبا من الولاء (لأنه) ليس بمال متقوّم، فلا يصلح عوضاً عمّا أتلفا من ملك الرقبة على المولى.
قال: وشهود التدبير يضمنون عند الرجوع ما نقصه التدبير؛ لأنهم فوتوا بعض المنافع من حيث التجارة دون البعض، فإنه بقي من حيث الإجارة فلم يكن الفائت جنس منفعة على المالك، فكان نقصاناً فيضمنان ذلك.(9/620)
-----
فإن مات المولى والعبد يخرج من الثلث عتق العبد كله مجاناً، لأن رجوع الشاهد لا يعمل في حق العبد ويجعل في حق العبد كأنه لم يرجع، ولو لم يرجع حتى مات المولى، وباقي المسألة بحاله، كان الجواب كما قلنا كذا ههنا، وضمن الشهود قيمته مدبراً؛ لأن تلف ما بقي حصل عند موت المولى، وقد ضمنوا النقصان مرة، فلهذا قال: ضمنوا له قيمته مدبراً؛ وإن كان العبد لا يخرج من الثلث عتق ثلثه مجاناً، وسعى في ثلثي قيمته للورثة، كما لو لم يرجع الشهود ويضمن الشاهدان للورثة ثلث قيمة العبد مدبراً، لأنهما أزالا هذا القدر عن ملكهم بغير عوض، ولا رجوع لهما على العبد بذلك، وهل يضمنان قيمة الثلثين؟ ينظر إن عجل العبد السعاية يضمنان، وإن لم يعجل لا يضمنان، لأن في الوجه الأول أزالا ملكهم بعوض معجل، وفي الوجه الثاني أزالا ملكهم بعوض معجل، ويرجعان على العبد بذلك؛ لأنهما قاما مقام الورثة في ذلك لما ضمنا ذلك، وقد كان للورثة حق تضمين ذلك القدر، فكذا لمن قام مقامه بخلاف ضمان الثلث.
قال: وشهود الكتابة عند الرجوع يضمنون قيمة العبد بخلاف شهود التدبير، فإنهم يضمنون النقصان عند الرجوع دون القيمة.
والفرق: أن سبب وجوب ضمان القيمة إما إزالة اليد أو إزالة ملك الرقبة ولم يوجد شيء من ذلك في فصل التدبير إنما وجد سبب ضمان النقصان دون القيمة.
وأما في فصل الكتابة سبب وجوب ضمان القيمة قد وجد وهو إزالة يد المولى عنه من غير عوض يحصل له في الحال، فيضمن كما في الغصب، فإذا ضمن الشاهدان قيمة العبد للمولى رجعا على المكاتب ببدل الكتابة على نجومه؛ لأنهما بأداء الضمان قاما مقام المولى في حق ملك البدل إن لم يقوما مقامه في حق ملك المكاتب، واعتبر الشاهد في هذا بالوارث، والوارث يرجع على المكاتب ببدل الكتابة فكذلك الشاهد، ولا يعتق المكاتب ما لم يؤد بدل الكتابة إلى الشاهدين.
(9/621)
-----
والولاء يكون للمولى؛ لأن الشاهدين قاما مقام المولى في ملك البدل لا في ملك المكاتب، واعتبر الشاهد بالوارث، والمكاتب لا يعتق ما لم يؤد بدل الكتابة إلى الوارث، وعند الأداء الولاء يكون للمولى دون الوارث فكذا هذا.
وإن عجز المكاتب ورد في الرق كان لمولاه؛ لأن الرقبة بقيت على ملك المولى، فإذا انفسخت الكتابة بالعجز بقي على الملك المولى، ويرد المولى على الشاهدين ما أخذ منهما؛ لأن الموجب الضمان، وهو إزالة يد المولى قد انعدم فيزول الضمان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا شهد شاهدان على رجل في شوال أنه أعتق عبده في رمضان، وقيمة العبد يوم الشهادة ألفا درهم، وكانت قيمته في رمضان ألف درهم، فلم يعدلا حتى صارت قيمته ثلاثة آلاف درهم، ثم عدلا، وقضي بشهادتهما، ثم رجعا ضمنا قيمة العبد يوم أعتقه القاضي، وذلك ثلاثة آلاف درهم؛ لأن الشهادة إنما تصير موجبة بواسطة اتصال القضاء بها فتعتبر قيمته يوم القضاء، وهذه المسألة (تثبت) بذلك أن العتق يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور وإن لم يكن له ولاية إعتاق عبد الغير.
ووجه ذلك: أن القاضي إن كان لا يملك إعتاق عبد الغير بولاية القضاء، فالخصمان يملكان ذلك وكما ثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور لا يملك القاضي إنشاءه بولاية القضاء، يثبت ما يملك الخصمان إثباته، وقد مرّ جنس هذا.
في كتاب «أدب القاضي»: وإذا ادعى رجل على رجل أنه عبده، والمدعى عليه يجحد دعواه، وقضى القاضي بكونه عبداً له ببينة قامت عليه، ثم أعتقه على مال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما لا يضمنان للمشهود عليه شيئاً لا بدل العتق؛ ولا بدل ما أتلفاه عليه من الحرية، أما بدل العتق لأن بدل العتق وجب على المشهود عليه بعقده لا بشهادتهما.(9/622)
-----
فإن قيل: المال وإن وجب على المشهود عليه بعقده إلا أنه مضطر في قبول هذا العقد لإحياء حقه في نفسه، كما كان، فهو بمنزلة صاحب العلو إذا بنى السفل، وهذا الاضطرار جاء من قبل شهادتهما عليه بالرق، فكان وجوب المال مضافاً إليهما.
قلنا: المال ما أوجبه بقوله وحده حتى يقال: مضطر في القبول، فيكون الوجوب مضافاً إلى الشهود، إنما وجب بقبوله وإيجاب الولي والمولى غير مضطر في هذا الإيجاب من جهة الشاهد، فاعتبار جانب المولى وجوب المال لا يكون مضافاً إلى الشاهد، وباعتبار جانب العبد وجوب المال يكون مضافاً إلى الشاهد، فلا تثبت الإضافة إلى الشاهد بالشك.
وأما ضمان بدل ما أتلفا، وإن كان الحر يضمن بالإتلاف الحقيقي؛ لأن إيجاب ضمان الحر بالإتلاف الحقيقي عرف بخلاف القياس بالنص، والنص الوارد في الإتلاف الحقيقي، وفي إتلاف صفة الحرية، وإجزاء الحر لا يكون وارداً في الإتلاف الحكمي، وفيه إتلاف صفة الحرية دون إجزاء الحر، فرد هذا إلى أصل القياس، والقياس يأبى إيجاب المال بمقابلة ما ليس بمال.m
وإذا شهد شاهدان أنه أعتقه البتة وشهد آخران أنه أعتقه عن دبر منه، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعاً فالضمان على شاهدي الإعتاق لا على شاهدي التدبير، لأن القاضي قضى بشهادة شاهدي الإعتاق لا بشهادة شاهدي التدبير، لأن القضاء بالتدبير مع الإعتاق لا يفيد وإن كان يتصور وقوعهما على الصحة، بأن كان التدبير أولاً ثم العتق، وإذا كان القضاء بالتدبير لا يفيد مع العتق لا يقضى به، وكان بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالواحدة، وشهد آخران بالثلاث ورجعوا إنه لا ضمان على شهود الواحدة؛ لأن القضاء لم يقع بشهادة الواحدة، لأن القضاء بالواحدة مع الثلاث لا يفيد.(9/623)
-----
ولو شهد شاهدا التدبير أول مرة وقضى القاضي بشهادتهما، ثم شهد شاهدا الإعتاق بالإعتاق، وقضى القاضي بذلك، ثم رجعوا فإن شاهدي التدبير يضمنان ما نقصه التدبير، ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبراً، أما شاهدا التدبير يضمنان النقصان، لأن القاضي قضى بشهادتهما، لأن القضاء بالتدبير يقرن حكمه مع العتق البات، وإذا قضى بشهادة التدبير، والتدبير مكن نقصاناً به، فإذا رجعا ضمنا ذلك ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبراً؛ لأنهما أزالا المدبر عن ملكه بغير عوض، ألا ترى أن من غصب مدبر إنسان وعجز عن رده ضمن قيمته؟ وطريقه ما قلنا.
وإن كان شاهدا العتق البات شهدا أنه أعتقه قبل التدبير البتة، فأعتقه القاضي، ثم رجعوا عن شهادتهم ضمن شاهدا العتق قيمته، ولم يضمن شاهدا التدبير، إذ تبين أن القضاء بالتدبير كان باطلاً، وإذا ظهر بطلان القضاء صار كأن القاضي لم يقض بها.
قالوا: ويجب أن يكون هذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد، أما على قول أبي حنيفة فينبغي أن لا يقضي القاضي بشهادة العتق؛ لأن الدعوى من العبد شرط لسماع البينة على التدبير والعتق، ودعوى العبد الإعتاق قبل دعواه التدبير لا يصح لمكان التناقض، بقيت الشهادة على العتق بلا دعوى.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده (عام أول يوم من رمضان)، فأجاز القاضي شهادتهما وأعتقه، ثم رجعا عن شهادتهما فيضمنان القيمة، أو لم يضمنها حتى شهد شاهدان أنه أعتقه عام أول في شوال لا تقبل شهادتهما، وبقي الضمان على الأولين لا ينتفعان بشهادة الفريق الأول، لأن الفريق الثاني شهدوا بعتق باطل لأن بعدما أعتقه في رمضان لا يتصور عتقه بعد ذلك في شوال (162ب4) فكأنه لم يشهد به الفريق الثاني إنما شهد به الفريق الأول، ثم رجعوا، وهناك يضمنان قيمة العبد للمولى فههنا كذلك.
(9/624)
-----
ثم يكون حكمه حكم الأحرار في جراحته وحدوده وقصاصه من رمضان لأن القاضي أثبت حرمته في رمضان بالبينة والثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاينا أنه أعتقه في رمضان كان حكمه حكم الأحرار من رمضان فكذا ههنا، ولكن يضمن الأولين قيمة العبد يوم قضاء القاضي بعتقه لا في أول يوم من رمضان، ففي حق إيجاب القيمة على الشاهدين جعله حراً من حيث قضى له القاضي بعتقه حتى ضمن قيمته يوم قضى القاضي بعتقه.
ولا يضمن قيمته في رمضان، وإنما فعل ذلك لأن الشاهد إنما يضمن بالمنع والحيلولة، والمنع والحيلولة بين المولى وعبده حصل من يوم القضاء، فيضمنان قيمته من يوم القضاء، وإن كان حراً قبل ذلك، هذا كما قلنا في المغرور يضمن قيمة الولد المستحق يوم الخصومة والمنع وإن علق حر الأصل؛ لأن المنع إنما يتحقق يوم الخصومة كذا ههنا.
فلو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده عام أول في أول يوم من رمضان فأجاز القاضي ذلك وقضى به وأنفذه، ثم رجعا عن شهادتهما فضمنهما القاضي القيمة أو لم يضمنهما حتى شهد آخران، أنه أعتق أول (من) يوم في رمضان أول من عام الأول، فإن شهادة الآخرين مقبولة ولا ضمان على الأولين، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: شهادة الفريق الثاني غير مقبولة ويجب الضمان على الأولين.
وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى: أن البينة على عتق العبد من غير دعوى العبد غير مقبولة، وشهادة الفريق الثاني خلت عن الدعوى؛ لأن دعوى العبد أنه أعتقه أول من عام الأول بعد دعواه، أنه أعتقه في هذا العام، وجوده والعدم بمنزلة لمكان التناقض، فلا تقبل شهادة الفريق الثاني لهذا، وإذا لم تقبل شهادة الفريق الثاني صار كأنهم لم يشهدوا، ولو لم يشهد الفريق الثاني وباقي المسألة بحاله كان على الفريق الأول الضمان كذا ههنا، وعندهما دعوى العبد ليس بشرط فتقبل شهادة الفريق الثاني، وظهر بطلان شهادة الفريق الأول.(9/625)
-----
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده بألف درهم إلى سنة وقيمة العبد خمسمئة وقضى القاضي بالكتابة، ثم رجعوا عن شهادتهم، فإن القاضي يخير المولى فيقول له: إن شئت اخترت تضمين الشاهدين خمسمئة قيمة العبد للحال، وإن شئت اخترت اتباع المكاتب ببدل المكاتبة إلى أجله؛ لأنه وجد من الشاهدين سبب ضمان قيمة العبد وهو إزالة العبد عن يد المولى بالكتابة، فيخير المولى والتخيير مفيد؛ لأن قيمة العبد خمسمئة، وإنها وجبت حالة على الشاهدين، وبدل الكتابة ألف درهم وإنه مؤجل، والإنسان ربما يختار القليل العاجل على الكثير الآجل، وربما يختار الكثير الآجل على القليل الآجل، فكان التخيير مفيداً من هذا الوجه فيخير.
وإن اختار المولى تضمين الشاهدين لا يكون له اختيار اتباع المكاتب ببدل الكتابة أبداً، وإن اختار اتباع المكاتب لا يكون له تضمين الشاهدين أبداً، إلا في خصلة واحدة وهو أن تكون المكاتبة أقل من القيمة، وإنما يضمن باختياره تضمين أحدهما إبراء الآخر؛ لأن الشاهدين بمنزلة الغاصبين، لأنهما أزالا العبد عن يد المولى من غير عوض يصل إليه للحال، والمكاتب بمنزلة غاصب الغاصب؛ لأنه يثبت للمكاتب يد على نفسه بغير رضا المولى بعد شهادتهما، والمغصوب منه متى اختار تضمين الغاصب، أو تضمين غاصب الغاصب برئ الآخر من الضمان؛ لأنه ملك الرقبة منه كما في القن أو بدل الرقبة كما في المدبر، وإذا ملك الرقبة من أحدهما لا يمكنه التمليك من الآخر، فكان اتباع أحدهما إبراء للآخر عن الضمان فكذلك ههنا.(9/626)
-----
فإن اختار تضمين الشاهدين كان للشاهدين أن يرجعا على العبد ببدل الكتابة على نجومه لما ذكرنا أنهما بأداء الضمان يقومان مقام المولى في بدل الرقبة، وهو بدل الكتابة، فإذا أدى المكاتب ألف درهم وقبض الشاهدان ذلك؛ فإنه يطيب لهما من ذلك خمسمئة؛ لأنه رأس مالهما ويتصدقان بالزيادة؛ لأنه ربح استفاده من كسب خبيث، وهي شهادتهما الباطلة فإنها بمنزلة الغصب، هكذا ذكر في «الكتاب» ولم يذكر فيه خلافاً، ويجب أن يكون هذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأما على قول أبي يوسف رحمه اللّه: يطيب له الربح؛ لأنه ربح ما قد ضمن، وإن كان استفاده من كسب خبيث.
وكان الجواب في هذه المسألة كالجواب فيمن غصب عبداً قيمته خمسمئة ثم ازداد في يده حتى صار يساوي ألفاً ثم غصبه رجل آخر، وقيمته يوم غصبه ألف درهم، إذا ضمن المالك الغاصب الأول قيمة خمسمئة يرجع على الثاني بألف درهم، ويطيب له من ذلك خمسمئة لأنه رأس ماله، ويتصدق بالزيادة؛ لأنه ربح استفاده من كسب خبيث عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يتصدق فهذا على ذلك. قد ذكرنا أن المولى إذا اتبع المكاتب ببدل الكتابة برئ الشاهدين عن الضمان.(9/627)
-----
قال: ويستوي في ذلك أن علمه المولى برجوع الشاهد أم لم يعلمه، أما إذا علم برجوعه فلا إشكال؛ لأنه غير مضطر في اتباع المكاتب لما علم برجوع الشاهدين ووجوب الضمان عليهما، واتباعه المكاتب يتضمن براءة الشاهد عن الضمان، كما في المغصوب منه إذا اختار تضمين أحد الغاصبين، إما الأول، وإما الثاني، مع علمه بغصبهما فإنه يبرأ الآخر، إنه غير مضطر في تضمين الذي ضمنه، فإن له أن يضمن الآخر وإذا لم يكن مضطراً فقد انعقدت معاوضة بالتضمن عن طواعية، فلا يكون له فسخ ذلك، وأما إذا لم يعلم برجوعه فكذلك أيضاً، وكان يجب أن لا يكون اختياره اتباع المكاتب إبراءً للشاهدين عن الضمان؛ لأنه مضطر في تضمين المكاتب؛ إذ ليس يمكنه تضمين الشاهدين لما لم يعلم برجوعهما، ولما كان مضطراً في اتباع المكاتب يجب أن لا يبرأ الشهود عن الضمان، كالمغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب الأول ولم يعلم بغصب الثاني منه ثم علم، كان له أن يتبع الثاني ويفسخ تضمينه الغاصب الأول؛ لأنه مضطر في تضمين الغاصب الأول لما لم يعلم بغصب الثاني فيجب أن يكون هنا كذلك، إلا أن الجواب عنه أن تضمين المكاتب إنما حصل من المولى وهو عالم بوجود سبب الضمان من الشاهد، فإنه علم أنه شهد بزور وأنه ضامن وإن لم يرجع، وإذا علم بوجود سبب الضمان من الشاهد كان بمنزلة ما لو ضمن الغاصب الأول وهو يعلم بغضب الثاني ولو كان كذلك برئ الثاني، فكذلك هذا.
فأما في مسألة الغصب ضمن الأول ولم يعلم بوجود سبب الضمان من الثاني فكان مضطراً في تضمين الأول فكان بمنزلة ما لم يعلم بغصب الثاني إلا أنه ... إنسان أن يضمن الأول، ولو كان كذلك لكان له أن يفسخ تضمينه ويتبع الثاني فكذلك هذا.(9/628)
-----
ولو أن الشاهدين حين رجعا عند القاضي لم يجبر القاضي المولى ولكن المولى جعل يتقاضى المكاتب حتى قبض منه مئة درهم، أو لم يقبضها برئ الشاهدان عن الضمان؛ لأن الشاهدين في حق المولى بمنزلة الغاصب، والمكاتب بمنزلة غاصب الغاصب على ما بينا، والمغصوب منه متى اختار تضمين أحدهما برئ الآخر عن الضمان، علم بوجوب الضمان على الآخر أو لم يعلم، فإنه إذا ضمن الأول وكان غصب منه آخر ولم يعلم بغصب الثاني برئ الثاني عن الضمان، فكذلك هنا إذا اختار تضمين المكاتب برأ الشاهدان عن الضمان علم بوجوب الضمان على الشاهدين بأن علم برجوعهما أو لم يعلم.
قال ما خلا خصلة واحدة وهو أن يكون المكاتبة أقل من القيمة، بأن كانت المكاتبة ألفاً والقيمة ألفين، متى اتبع المكاتب بالمكاتبة كان له أن يرجع على الشاهدين بالفضل على المكاتبة إلى تمام قيمته؛ لأنهما أزالا هذا القدر عن ملك المولى بغير رضاه وبغير عوض فيضمنان (163أ4) ذلك للمولي متى رجعا، وكان بمنزلة ما لو شهد شاهدان أنه باع عبده من فلان، وقيمته ألف وخمسمئة أو أقل، والبائع يجحد، واختار البائع اتباع المشتري بخمسمئة أخرى؛ لأنهما أزالا هذا القدر عن ملكه بغير عوض. فإن قيل: هلا جعل اتباعه المكاتب أو المشتري إجازة منه لكتابه والبيع من حيث أن الكتابة والبيع حصلت بغير رضى المالك، وإذا اختار اتباع المكاتب أو المشتري يجعل كأنه أجازها والإجازة بمنزلة إنشاء الكتابة، ولو أنشأ الكتابة والبيع بخمسمئة وقيمته ألف لم يكن له على أحد ضمان فكذلك هذا.(9/629)
-----
والدليل عليه أن محمداً قال: فيما إذا كانت قيمة المكاتب أقل من بدل الكتابة واختار اتباع المكاتب أن هذا اختيار منه لمكاتبه والجواب عنه أن يقال: بأن اختيار اتباع المكاتب أو المشتري لو اعتبرت إجازة للعقد فإنما يعتبر إجازة من حيث الدلالة، فإنه لم يصرح بالإجازة فلا تزيد درجتها على درجة الصريح، وصريح الإجازة مما لا يبرئ الشاهد عن ضمان الزيادة؛ لأن الإجازة من المالك لغو لأن العقد نافذ بقضاء القاضي، وإجازة النافذ لغو ...، فصار وجود هذه الزيادة وعدمه بمنزلة، ولو عد الإجازة لم يبرأ الشاهد عن ضمان ما أتلف عليه من الزيادة بغير عوض فكذلك هذا، أو ما قال قبل هذا أن اتباعه المكاتب اختيار للمكاتبة لم يرد به إجازة للكتابة لأنها نافذة، وإنما أراد به اختيار البدل الكتابة بأن له على المكاتب بدل الكتابة بالعقد، وعلى الشاهدين ضمان قيمته بإزالة اليد، فإذا اختار اتباع المكاتب فقد اختار بدل الكتابة، فإنما أراد بقوله: اختياراً للمكاتبة، أي اختيار لبدل الكتابة.
وإذا ادعى عبد أن مولاه كاتبه على ألف درهم، وهي قيمته، وادعى المولى أنه كاتبه على ألفين، وأقام على ذلك بينة وقضى القاضي بالألفين على المكاتب فأداها، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما يضمنان ألف درهم للمكاتب؛ لأنهما أوجبا على المكاتب زيادة ألف بغير عوض حصل له، فإذا رجعا ضمنا ذلك للمكاتب، وكان الجواب فيه كالجواب فيما لو وقع مثل هذا الاختلاف بين البائع والمشتري.(9/630)
-----
قال البائع: بعتك هذا العبد بألفين، وقال المشتري: لا بل بألف، وقيمة العبد ألف، فأقام البائع بينة على ما ادعى، وقضى القاضي على المشتري بألفي درهم، ثم رجعا ضمنا للمشتري ألف درهم؛ لأنهما أوجبا على المشتري زيادة ألف بغير عوض حصل للمشتري فضمنا له ذلك، هذا ولو كان المكاتب لم يدع المكاتبة، وقال المولى: كاتبتك على ألفي درهم وجحد المكاتب ذلك، فأقام المولى على ذلك بينة، فإن القاضي لا يقضي بالكتابة ببينة المولى، وهذا الجواب الذي قاله لا يشكل على رواية كتاب الرهن فإنه على رواية كتاب الرهن جعل الجحود ممن يملك الفسخ فسخاً، حتى قال: إذا كان المرتهن جاحداً لا يقضي بالرهن لأنه يملك الفسخ، والمكاتب ممن يملك الفسخ بأن يعجز نفسه فيكون جحوده فسخاً.
ولو قال: فسخت الكتابة فإنه لا يقضي عليه ببينة المولى بالكتابة، فكذلك هذا، فأما على رواية كتاب الرجوع: يجب أن يقضي ببينة المولى وإن كان المكاتب جاحداً وهو مالك للفسخ.
كما قال في الرهن: إذا ادعى الراهن ثوباً في يد المرتهن إنه له رهنه من المرتهن وأنكر المرتهن ذلك، فإنه يقضي ببينة الراهن، وإن كان المرتهن مالكاً للفسخ كالمكاتب هنا، فيحتاج إلى الفرق على رواية كتاب الرجوع.(9/631)
-----
ووجه الفرق بينهما: أن القضاء بالرهن ببينة الراهن إن كان لا يفيد دوام العقد؛ لأن للمرتهن أن يفسخه بعد ذلك، ذلك يفيد فائدة أخرى وهي أن تصير العين التي في يده مضموناً عليه حتى إذا هلك في يده قبل الرد يهلك مضموناً عليه، فأما القضاء بالكتابة مع جحود المكاتب لا يفيد شيئاً لا دوام العقد ولا وجوب الضمان عليه فإنه متى فسخ الكتابة لم يبق العقد ولم يجب عليه شيء وإذا لم ينفذ القضاء بالكتابة فائدة مع إنكاره لم يقض بها؛ لأن القاضي لا يشتغل بما لا يفيد، وكان وزان مسألة الكتاب من مسألة الرهن أن لو كان الثوب في يد الراهن، وجحد المرتهن الرهن وهناك القاضي لا يقضي بالرهن مع إنكار المرتهن، لأن القضاء بالرهن لا يفيدهما لا دوام العقد ولا ضمان.
وإذا لم يقض بها فقال للمكاتب بعد هذا: إن شئت فامض في الكتابة وإن شئت فدعها وكن رفيقاً، وهذا التخير إنما يستقيم على رواية كتاب الرجوع لأن على رواية كتاب الرجوع لم يجعل الجحود ممن يملك الفسخ فسخاً، بل اعتبره إنكاراً للعقدين من الأصل فيخير المكاتب، فيقال له: إن شئت فامض فيها وإن شئت فدعها، فأما على رواية كتاب الرهن: لا يستقيم هذا التخير؛ لأنه اعتبر الجحود فسخاً وهو مالك لذلك فانفسخ، وإذا انفسخت الكتابة لا يستقيم هذا التخيير.
قال: فإن كان المكاتب ادعى أنه حر فجاء المولى بشاهدين فشهدا أنه كاتبه على ألفين، وقضى القاضي عليه بذلك فأدى المال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، وقالا: شهدنا بباطل، فإن هما يضمنان للمكاتب ألفين وإن كانت قيمته أقل من ذلك؛ لأنهما أوجبا على المكاتب ألفين من غير عوض حصل له، فإنهما زعما أنه كان حراً، وأنه لم يحصل له شيء من جهة المولى بإزاء ما أوجبا عليه من ألف درهم، فيضمنان ذلك للمكاتب قضى بشهادتهما هنا، وإن كان المكاتب جاحداً للكتابة.(9/632)
-----
وقال في المسألة الأولى: لا يقضى بالكتابة متى كان المكاتب جاحداً للكتابة، وذلك لأن القضاء بالكتابة بشهادتهما لا يفيد شيئاً في المسألة الأولى لا دوام العقد، فإن للمكاتب فسخه ولا ثبوت الرق، فإن الرق كان ثابتاً من قبل بتصادقهما، وإذا لم ينقد شيئاً لم يجز الاشتغال به، فأما في مسألتنا هذه فالقضاء بالكتابة إن كان لا يفيد دوام العقد فإن للمكاتب أن يفسخه، يفيد ثبوت الرق؛ فإنه متى قضى بكتابته إذا فسخت الكتابة يصير رقيقاً للمولى، وقبل ذلك لم يكن الرق ثابتاً للمولى فيه، وإذا أفاد القضاء بالكتابة فائدة ما، وهو ثبوت الرق عليه جاز الاشتغال به، ثم قال: ولا يثبت هذا الرق، يريد بذلك أنه متى كان مقراً بالرق فإنه لا يقضى بشهادتهما، ومتى كان منكراً للرق وادعى أنه حر يقضي لما ذكرنا.
الفصل السابع: في الرجوع عن الشهادات في البيع والهبة
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه باع داره من هذا الرجل، والبائع يجحد، والمشتري يدعي، وقضى القاضي بالبيع ونقد المشتري الثمن وأخذ الدار، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن كانت قيمة الدار مثل الثمن المسمى أو أقل، فلا ضمان عليهما لأن الإزالة حصلت لعوض يعدل الدار أو يزيد عليه، وإن كانت قيمة الدار أكثر من الثمن ضمنا الفضل لأن في حق الفضل الإزالة حصلت بلا عوض؛ هذا إذا شهدا بالبيع ولم يشهدا نقد الثمن، فأما إذا شهدا بالبيع ونقد الثمن ثم رجعا عن شهادتهما فهذا على وجهين.
الأول: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادة واحدة بأن شهدا أنه باع هذه الدار منه بألف درهم وأوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما بقيمة المبيع للبائع ولا يقضي بالثمن.(9/633)
-----
الوجه الثاني: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين بأن شهدا على البيع أولاً، ثم شهدا أن المشتري أوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما بالثمن للبائع، والفرق بينهما أنهما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن شهادة واحدة، فالمقضي به البيع دون الثمن لأنه لا يمكن للقاضي القضاء بإيجاب الثمن لأنه يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه وهو القضاء بالإيفاء.
لهذا قلنا: لو شهد الشاهدان على رجل أنه باع عبده من هذا الرجل وقابله شهدا عل البيع والإقالة (163ب4) شهادة واحدة فالقاضي لا يقضي بالبيع لأنه قارن القضاء بالبيع ما يوجب انفساخه، وهو القضاء بالإقالة كذا ههنا، وإذا كان المقضي به في هذه الصورة المبيع دون الثمن، والشاهد عند الرجوع يضمن المقضي يضمن به قيمة المبيع لأن إزالة المبيع حصلت بغير عوض لما رجعا عن شهادتهما، فأما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين، والثمن مقضي به فلأن القضاء بالثمن ممكن لأنه لم يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه لأن حال ما شهدا بالبيع لم يشهدا بالإيفاء؛ وإنما شهدا بالإيفاء بعد ذلك، وإذا صار مقضياً به فإذا رجعا عن شهادتهما ضمنا الثمن، ولم يضمنا قيمة المبيع، وإن صار المبيع مقضياً به في هذه الحالة مع الثمن لأن إزالة المبيع حصلت بعوض، فلا يضمنان قيمة المبيع، ويضمنان الثمن لأن الثمن مقضي به.
رجل في يديه عبد شهد شاهدان أنه وهبه لهذا الرجل وسلمه إليه، وشهد آخران أنه وهبه لهذا والقاضي لا يعرف التاريخ قضى بالعبد بينهما نصفان لاستوائهما في الدعوى والحجة، فإن رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم ضمن كل فريق للواهب نصف قيمة العبد.
(9/634)
-----
قال محمد رحمه الله: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به أنه إذا شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل، وشهد آخران أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل الآخر، وزكيت البينتان وقضى القاضي بالعبد بينهما نصفين لاستوائهما في الدعوى والحجة، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهم لا يضمنون للورثة شيئاً، وههنا قال: كل فريق يضمن للواهب نصف قيمة العبد، والفرق أن في مسألة الوصية، القاضي قضى بجميع الوصيتين، فإن الوصية بعد الوصية صحيحة.
فإن من أوصى بعبده لرجل ثم أوصى به لرجل آخر صحت الوصيتان، حتى لو رد أحدهما كان العبد كله للآخر، ولما كان هكذا كان ما شهد به كل فريق مستحقاً على الوارث بشهادة الفريق الآخر، ورجوع كل لم يظهر في حق غيره، فصار في حق كل فريق كأن الفريق الآخر ثابت على الشهادة، أما في مسألة الهبة قضاء القاضي بشهادة الفريقين بهبة واحدة النصف لهذا والنصف لذلك، أما ما قضى بالهبتين؛ لأن الهبة بعد غير صحيحة، ولما كان هكذا صار الثابت بكل بينة النصف، ولهذا قلنا: لو كانت هذه الدعاوي في شيء يحتمل القسمة لا يقضي بين الموهوب لهما بشيء لأنه يؤدي إلى تجويز هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، ولما كان هكذا صار كل فريق متلفاً على الواهب النصف من غير أن يكون ذلك مستحقاً بشهادة الفريق الآخر، فلهذا ضمن كل فريق النصف للواهب.
ثم قال في مسألة الهبة: أحد الفريقين لا يضمن للمدعين شيئاً، وفي مسألة الوصية قال: يضمن كل فريق للذي لم يشهد له بالوصية نصف قيمة العبد.g(9/635)
-----
والفرق أن الشاهد إنما يضمن عند الرجوع قدر ما قضى القاضي بشهادته، وفي مسألة الهبة، القاضي إنما قضى بشهادة كل فريق للذي شهد له بهبة نصف العبد وقد سلم لكل واحد من المدعين نصف العبد، فلم يصر واحد من الفريقين متلفاً شيئاً على الذي لم يشهد له، أما في مسألة الوصيتين، القاضي قضى لكل واحد منهما بالوصية في جميع العبد، وإنما منع من الاستيفاء بحكم المزاحم الثابت بشهادة الفريق الآخر فكان كل فريق متلفاً على الموصى له الذي لم يشهد له نصف العبد، فيضمن له نصف القيمة فلهذا افترقا.
رجل في يديه عبد قيمته خمسمئة جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع العبد منه إلى سنة بألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعا عن شهادتهما، فالبائع بالخيار إن شاء ضمن الشهود وقيمة العبد خمسمئة حالة، وإن شاء اتبع المشتري بألف درهم إلى سنة، فإن ضمن الشهود قيمة العبد خمسمئة حالة كان للشهود أن ... المشتري بألف درهم، إلى سنة، لأن البائع لما ضمن الشهود فقد أقامهم مقام نفسه، فيحول إليهم من المطالبة ما كانت للبائع، وإذا رجعوا على المشتري بعد حلول الأجل يطيب لهم من ذلك قدر رأس مالهم، وذلك خمسمئة ويتصدقان بخمسمئة لاستفادتهما هذا القدر بسبب خبيث وهو الشهادة، ولو شهدا بالبيع بألف درهم حالة، وقضى القاضي بشهادتهما ثم شهدا أن البائع أجل المشتري الثمن إلى سنة، وقضى القاضي بالأجل، ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً ضمنا الثمن للبائع وذلك ألف درهم، ولو كانت الشهادة بالتأجيل مع الشهادة بالعقد بدفعة واحدة، وقضى القاضي بشهادتهما كان البائع بالخيار، إن شاء ضمن الشاهدين قيمة العبد خمسمئة حالة، وإن شاء اتبع المشتري بألف درهم إلى سنة.
(9/636)
-----
والفرق: أن في الفصل الأول الثمن الحال صار مقضياً به إذا لم يقارن القضاء بالثمن الحال ما يمنع القضاء به فصار الثمن الحال مقضياً به فحين شهدا عليه بالأصل فقد فوتا عليه إمكان الأخذ فيضمنان عند الرجوع، أما في الفصل الثاني فالثمن الحال ما صار مقضياً به لأنه قارن القضاء ما يمنع القضاء بالثمن الحال، وهو الأجل فلم يكونا مفوتين عليه إمكان الأخذ فلا يضمنان.
الفصل الثامن: في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة
قال في «الأصل»: وإذا ادعى رجل على رجل: إني ابنك، والرجل يجحد دعواه، فأقام الابن البينة أنه ابنه، وقضى القاضي بذلك وأثبت نسبه، ثم رجعوا فإنهم لا يضمون شيئاً للأب سواء رجعوا حال حياة الأب أو بعد وفاته، لأنهم ما ألزموه مالاً إنما ألزموه النسب، والنسب ليس بمال، وكذلك لا يضمنون لسائر الورثة ما ورثه الابن المشهود له لأن استحقاق الميراث مضاف إلى موت الأب لا إلى النسب الذي ثبت بشهادتهما، وهذا لأن استحقاق الميراث وإن كان لابد له من الموت والنسب إلا أن الموت آخرهما وجوداً فيضاف الاستحقاق إليه.(9/637)
-----
وكذلك إذا ادعى رجل ولا رجل وقال: إني أعتقتك، والمعتق يجحد فأقام المدعي البينة على دعواه ثم رجعوا لا يضمنون شيئاً سواء رجعوا حال حياة المعتق أو بعد وفاته؛ لأن استحقاق الميراث مضاف الى الموت الذي هو آخرهما وجوداً لا إلى الولاء الذي ثبت بشهادتهما، ولو شهد الرجل أنه ابن هذا القتيل ووارثه لا وارث له غيره، والقاتل مقر أنه قتله عمداً، وقضى القاضي للمشهود له بالقصاص فقتله المشهود له، ثم رجعوا عن شهادتهم، فإنهم لا يضمنون للقصاص شيئاً؛ لأن القصاص ليس بمال ولكن يضمنون كل ما ورثه هذا الابن المشهود له من القتيل لورثته المعروفين؛ لأن استحقاق الميراث ههنا مضاف إلى النسب الذي ثبت بشهادتهما، لا إلى الموت؛ لأن النسب آخرهما، وقد أقروا بالرجوع أنهم أتلفوا على ورثة المعروفين، فلهذا ضمنوا بخلاف المسألة الأولى، وعلى هذا إذا شهدوا بالولاء بعد موت المعتق، ثم رجعوا عن شهادتهما فإنهم يضمنون جميع ما ورثه المعتق لورثته المعروفين؛ لأن استحقاق الميراث في هذه الصورة مضاف إلى الولاء.
وعلى هذا إذا شهدوا بنكاح امرأة ومات الزوج بعد قضاء القاضي بالنكاح، ثم رجعوا عن شهادتهم وكان الرجوع (164أ4) منهم حال حياة الزوج فلا ضمان عليهم، ولو شهدوا بالنكاح بعد موت الزوج، ثم رجعوا ضمنوا حصتها من الميراث لسائر الورثة، والمعنى ما ذكرنا.
ولو شهدوا لرجل مسلم كان أبوه كافراً أن أباه قد أسلم بعد موته؛ وللميت ابن كافر، وقضى القاضي بالميراث كله للابن المسلم، ثم رجعوا عن شهادتهم فإنهم يضمنون للابن الكافر جميع ما ورثه الابن المسلم، لأن استحقاق الابن المسلم الميراث على الابن الكافر مضاف إلى ما ثبت بشهادة الشهود، وهو إسلام الأب، لأنهم شهدوا بعد موت الأب.(9/638)
-----
وإذا أسلم كافر ثم مات وله ابنان مسلمان كل واحد منهما يدعي أنه أسلم قبل موته؛ وأقام على ذلك شهوداً، وقضى القاضي بينهما بالميراث، ثم رجع شهود أحد الابنين فإنهم يضمنون جميع ما ورث هذا الابن للابن الآخر، لأن استحقاق الميراث في حق هذا الابن مضاف إلى ما ثبت بشهادة شهوده وهو إسلامه قبل موت الأب ثبت بشهادة شهوده.
قال: صبي في يدي رجل لا يعرف أنه حر أو عبد، شهد شاهدان على إقرار صاحب اليد أنه ابنه وقضى القاضي بنسبه، ثم مات الأب وقضى القاضي بالميراث لهذا الصبي، ثم رجعا عن شهادتهما؛ فإنهما لا يضمنان شيئاً لا الميراث ولا قيمته، وأما الميراث، فلأن استحقاق الميراث ههنا مضاف إلى موت الأب، وأما قيمته فلأنهم لم يتلفوا عليه ملكه الثابت فيه إذا لم يعرف أنه عبد، لأن الحرية أصل في بني آدم إلا أن يعرف خلافه ولم يعرف.
ولو كان في يدي رجل عبد صغير وأمة صغيرة لا يعيران عن أنفسهما، وصاحب اليد يدعي أنهما مملوكان له حتى ثبت كونهما مملوكين لذي اليد بقوله، ثم شهد شهود حال حياة صاحب اليد أنه أقر أن هذا الصبي ابنه، وشهد شهود آخرون أنه أعتق هذه الأمة، ثم تزوجها على ألف درهم، والرجل يجحد ذلك، فقضى القاضي بشهادتهم وألزم الرجل النكاح والنسب والعتق، ثم مات الرجل، ثم رجع الشهود عن شهادتهم فإن شهود الابن يضمنون قيمة الابن للورثة المعروفين إلا ما يخصه من الميراث، فإنهم لا يضمنون ذلك القدر وشهود عتق الأمة يضمنون قيمة الأمة للورثة المعروفين إلا ما يخصها من الميراث، وكان ينبغي أن يضمن كل فريق جميع القيمة لأن من زعم كل فريق ان المشهود ليس بوارث وأن جميع قيمته موروث للورثة المعروفين لا نصيب له من ذلك والورثة المعروفون يصدقونهم في جميع ذلك فيضمنون جميع القيمة كما أقروا، ألا ترى أنهم شهدوا بهذا بعد موت المولى والباقي بحاله فإن كل فريق يضمن جميع القيمة، وطريقة ما قلنا كذا ههنا.(9/639)
-----
قيل في الجواب عن هذا: أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله.
ووجهه أن يقال: بأن في زعم الشهود عند الرجوع متى حصلت الشهادة منهم حال حياة المولى أن ما وجب عليهم من قيمة الابن، والأمة مورثة بين الورثة المعروفين وبينهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه في زعمهما أن النكاح والنسب وإن لم يكن ثابتاً فقد (ثبت) بقضاء القاضي، أما النكاح فلأن القاضي يملك إنشاء النكاح بولاية القضاء من غير بينة بملك أنشأه بشهادة الزور عند أبي حنيفة إذا لم يكن أنشأه، وحال حياة الزوجين الإنشاء ممكن فيثبت النكاح بقضاء القاضي وإذا كان في زعم الشهود أن النكاح ثبت بقضاء القاضي كان في زعمهم أن بعض قيمتها ميراث لها، والبعض لباقي الورثة المعروفين، فكانوا مقرين لها ببعض القيمة غير أنها كذبتهم في الإقرار ببعض القيمة لها بتكذيبها، ورفع عنهم حصتها من قيمتها من هذا الوجه، وأما النسب فلأن القاضي إن كان لا يملك إنشاء النسب بولاية القضاء من غير شهادة بحال؛ فالخصمان يملكان إثباته، وكما يملك القاضي الإنشاء بشهادة الزور فيما يملك إنشاؤه بولاية القضاء من غير بينة، يملك الإنشاء بشهادة الزور فما يملك الخصمين إنشاءه على إحدى الروايتين.
عن أبي حنيفة فإنه يقول على إحدى الروايتين: القاضي يملك إنشاء الهبة بشهادة الزور، حتى قال: قضاءً القاضي بالهبة بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً على هذه الرواية والقاضي لا يملك إنشاء الهبة بولاية القضاء من غير بينة، ولكن طريقه أن الخصمين يملكان إنشاءها فيملك القاضي إنشائها بشهادة الزور، وإذا كان كذلك كان في زعم شهود الابن أن النسب ثبت بقضاء القاضي، وما وجب عليهم من قيمة الابن للميت بعضها ميراث الابن وبعضها ميراث الورثة المعروفين إلا أن الابن كذبهم في إقرارهم ببعض القيمة له على ما ذكرنا في الأمة؛ فرفع عنهم حصته من ذلك لهذا.(9/640)
-----
بخلاف ما إذا شهدوا بذلك بعد موت المولى؛ لأن هناك في زعمهم بعد الرجوع أن جميع قيمتها ميراث للورثة المعروفين لا حصة لهما من ذلك؛ لأن في زعمهما أن النكاح والنسب لم يكن ثابتاً، ولم يثبت بقضاء القاضي، لأنه إنما يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور ما يملك القاضي إثباته بولاية القضاء من غير شهادة، أو ما يملك الخصمان إثباته بأنفسهما، والقاضي لا يملك إنشاء النكاح بين اثنين وأحدهما يثبت لولاية القضاء بحال من الأحوال، وكذلك الخصمان لا يملكان ذلك، وإذا كان كذلك كان في زعم الشهود أنهما لم يصيرا وارثين بقضاء القاضي، فكان في زعمهم أن جميع القيمة للورثة المعروفين والورثة المعروفون صدقوهم في ذلك، فضمنوا كما أقروا.(9/641)
-----
وأما على قول محمد وهو قول أبي يوسف الآخر: ينبغي أن يضمن الشهود جميع قيمة الابن والأمة لا ترفع عن ذلك حصتهما؛ لأن في زعم الشهود عندهما أنهما لم يصيرا وارثين بقضاء القاضي، وإن ما وجب عليهما من قيمتهما ميراث بين الورثة المعروفين لا حصة لهما من ذلك، فيؤاخذون بإقرارهم، قال: ولا ضمان على الشهود فيما ورثه الابن والأمة؛ لأن الشهادة بالنكاح والنسب وجدت في حالة الحياة، فكان الاستحقاق مضافاً إلى الموت الذي هو أحدهما، حتى لو كانت الشهادة بعد موت المولى يضمنون ذلك؛ لأن الاستحقاق في هذه الصورة مضاف إلى ما ثبت بشهادتهم، وهو النكاح والنسب، قال: ولا يضمنون شهود النكاح المهر إلا إذا كان المسمى أكثر من مهر مثلها فحينئذ يضمنان الفضل إلا ما يخصها من الفضل، بخلاف ما إذا شهدا بذلك بعد موت المولى فإنهما يضمنان المهر للورثة المعروفين، وإن كان المسمى مثل مهر المثل؛ لأن الشهادة بالنكاح متى كانت في حالة الحياة، ومهر مثلها مثل المسمى أو أكثر من المسمى فإيجاب المهر على الزوج حصل بعوض يعدله أو يزيد عليه، لأن النكاح قد ثبت بقضاء القاضي وصار منافع بضعها عوضاً عن المهر فلا يضمنان شيئاً، بخلاف ما إذا كان المسمى أكثر لأن بقدر الفضل حصل الإيجاب بغير عوض، فيضمنان الفضل ويكون ذلك موروثاً بين هذه وبين باقي الورثة المعروفين؛ لأن النكاح قد ثبت في زعمهم بقضاء القاضي، بخلاف ما إذا كانت الشهادة بعد الموت؛ لأن النكاح لم يثبت بقضاء القاضي، فلم يصر منافع بضعها عوضاً عما أوجبا عليه من المهر فبقي إيجاباً بلا عوض.
(9/642)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل له جاريتان لكل واحدة منهما ولد ولدته في ملك الرجل، فشهد شاهدان لأحد الولدين بعينه وأمه أن الرجل ادعاه، والرجل يجحد ذلك، وشهد شاهدان آخران للولد الآخر وأمه أن الرجل ادعاه، والرجل يجحد ذلك أيضاً، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الابنين ابني الرجل، والأمتين أم ولد له، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم فالولدان ابنا المولى والجاريتان أمي ولد له لما مر أن رجوع الشهود لا يعتبر في حق المشهود عليه، وإنما يعتبر في حق (164ب4) الشاهدين بإيجاب الضمان عليهما، والمسألة في حق حكم الضمان على وجوه، فإن كانت الشهادة والرجوع عنها حال حياة المولى، فإن كان الولدان كثيرين ضمن كل فريق من الشهود قيمة الولد الذي شهد بنسبه ونقصان الاستيلاد في الأمة التي شهد لها للمولى، لأن في زعم كل فريق عند الرجوع أنه أتلف على المولى الولد الذي شهد بنسبه، وأتلف من الجارية التي شهد لها قدر ما انتقص بسبب أمومية الولد للحال بغير حق، وزعم كل إنسان حجة في حقه.
فإن قيل: ينبغي على قياس قول أبي حنيفة أن يضمن كل فريق من الشهود جميع قيمة الجارية عنده حتى لا يضمن بالغصب.(9/643)
-----
قلنا: ما بقي بعد الاستيلاد وهو الاستفراش ينتفع في حق المولى، وإن لم يكن مالاً متقوماً ومع بقاء بعض المنفعة على ملك المولى لا يمكن إيجاب جميع القيمة للمولى، فأوجبنا النقصان لهذه الضرورة، ثم إذا أخذ المولى ذلك القدر من الشهود استهلكه، ومات ولا وارث له غير الابنين، وكل واحد من الابنين يجحد أن يكون صاحبه ابن المولى، كانت أمواله ميراثاً بين الابنين، وعتقت الجاريتان، وضمن كل فريق من الابنين قيمة ما بقي من الجارية التي شهدوا لها، لأنهم صاروا متلفين لما بقي عند موت المولى بالشهادة السابقة بغير حق، ويكون ذلك للمولى ميراثاً عند الابنين إلا أن كل ابن يصير مسرياً لشهوده عن حصته من ذلك، لأنه يقول: شاهدي صادق في الشهادة كاذب في الرجوع، ولا ضمان عليه، وقول كل إنسان حجة في حقه، وليس بحجة في حق صاحبه، فبقي نصيب كل ابن على الشهود الذين لم يشهدوا له، وذكر في «الأصل» أن كل فريق من الشهود يضمن نصف قيمة ما بقي من الجارية التي شهدوا لها للابن الآخر، ولا تفاوت بينهما، فما ذكر في «الجامع» إشارة إلى أصل الوجوب وما ذكر في «الأصل» إشارة إلى الحاصل، ولا يضمن كل فريق من الشهود قيمة الولد الذي شهدوا له؛ لأنهم قد ضمنوا ذلك مرة فلا يضمنون ذلك مرة أخرى، قال: ويرجع كل فريق من الشهود على الولد الذي شهدوا له بيما ورث عن أبيه بما ضمنهم أبوه من قيمة الولد الذي شهدوا له، ومن نقصان الاستيلاد في أمه؛ لأن في زعم كل ابن أن ما أخذه أبوه من شهوده أخذه بغير حق؛ لأنهم صادقون في الشهادة كاذبون في الرجوع، وصار ذلك ديناً في تركته، والدين مقدم على الميراث، وزعم كل إنسان معتبر في حقه، وكان ينبغي أن لا يرجع كل فريق من الشهود في نصيب الابن الذي شهدوا له بشيء؛ لأن الابن وإن أقر لهم بذلك إلا أنهم ردوا إقراره حين رجعوا، فإنهم بالرجوع اعترفوا أن ما أخذه الميت منهم استوفى زماناً واجباً عليهم، والإقرار يزيد بالرد، قلنا: إن(9/644)
مشايخ بلخ(9/645)
-----
قالوا ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» مؤول.
وتأويله: أن الشهود رجعوا عن الرجوع فقالوا صدقنا في الشهادة وكذبنا في الرجوع، فأما إذا كانوا ثابتين على الرجوع فلا شيء لهم، وإذا كان تأويل المسألة هذا، فتقريبه أن كل فريق وإن ردوا إقرار الابن الذي شهدوا له، إلا أن الابن مصر على إقراره، فهب أن ذلك الإقرار بطل بالتكذيب، فالإقرار القائم بعد رجوع الشهود عن الرجوع لم يبطل لانعدام التكذيب فيلتحق التصديق به.
ومشايخ عراق قالوا: لا بل يرجع كل فريق من الشهود في نصيب الابن الذي شهدوا له بما قلنا سواء رجعوا عن الرجوع أو داموا على الرجوع، وإطلاق محمد في «الكتاب» يدل عليه.
ووجه ذلك: أن كل فريق من الشهود لم يكذب الابن المشهد له فيما أقر؛ لأن رجوعهم محتمل يحتمل أن يكون باعتبار أن الأب لم يدع بسبب هذا الولد أصلاً، وعلى هذا التقدير يكون تكذيباً له فيما أقر، ويحتمل أن يكون باعتبار أنهم لم يعلموا دعوة الأب بسبب الولد المشهود له، والابن المشهود له علم بذلك، وعلى هذا التقدير لا يكون تكذيباً له، ولا يبطل الإقرار بالشك ولا يرجع كل فريق من الشهود على الابن المشهود له بما غرم لأخيه من نصف قيمة أمه بعد النقصان، لأن في زعمه أن أخاه ذلك أخذ بغير حق، وأن ذلك دين على أخيه، أما إذا كان تصديق كل واحد منهما صاحبه فالشهود لا يضمنون شيئاً للابنين، ويأخذ كل فريق من الشهود ما ضمن للميت من قيمة الولد المشهود له، ومن نقصان أمه مما ورثا عن أبيهما؛ لأنهما أقرا أن جميع ذلك دين لهما على أبيهما، والدين مقدم على الميراث، وفيما إذا جحد كل واحد منهما صاحبه؛ فكل فريق من الشهود يأخذ ما ضمن للميت من نصيب الابن المشهود له خاصة، لأن هناك كل واحد من الابنين منكر أن يكون ما أخذه أبوه من شهود صاحبه ديناً في تركته، فلا يستوفي ذلك من نصيبه، أما ههنا بخلافه.(9/646)
-----
قال: ولا يضمن كل فريق من الشهود ما ورثه الابن الذي شهدوا له بنسب الابن الآخر؛ لأن الشهادة حصلت في حال حياة المولى، واستحقاق الإرث إذا كانت الشهادة في حالة الحياة يضاف إلى الموت لا إلى النسب، والموت لم يثبت فشهادتهما فلم يكن التلف حاصلاً بشهادتهما، فلا يضمنان شيئاً، هذا الذي ذكرنا إذا كانت الشهادة والرجوع حال حياة المولى، وإن كانت الشهادة حال حياة المولى من الفريقين والرجوع بعد وفاته ضمن كل فريق للابن الذي لم يشهدوا له نصف قيمة الابن الذي شهدوا له، ونصف قيمة أمه فيه، أما نصف قيمة الابن؛ لأن في زعم كل فريق من الشهود عند الرجوع أنهم بشهادتهم أتلفوا مال الولد المشهود له، وصار ذلك ديناً عليهم للميت ميراثاً بين ورثته إلا أن الابن المشهود له أبرأهم عن نصيبه وهو النصف، بقي نصيب الابن الآخر وهو النصف؛ بخلاف الفصل الأول، فإن هناك يجب على كل فريق جميع قيمة الولد المشهود له، لأن هناك القيمة تجب للمولى، والمولى لم يصر ميراثاً لهم عن شيء من ذلك، وأما نصف قيمة الأم فلهذه العلة أيضاً.
وأما نصف قيمة الأم فيه، بخلاف الوجه الأول، فإن هناك كل فريق يضمن نصف قيمة الجارية المشهود لها، الابن الآخر أم ولد، لأن هناك المولى أخذ ضمان النقصان من كل فريق من الشهود بما ضمن الابن الذي لم يشهد له على الابن المشهود له بما أخذ المولى منهم، لأن هناك في زعم كل فريق أن ما أخذه الأب من شهوده صار ديناً في تركة الأب والدين مقدم على الميراث.(9/647)
أما ههنا الأب لم يأخذ شيئاً من الشهود، إنما أخذ الأخ من الشهود وصار ذلك ديناً على الأخ بزعم كل ابن، ودين الأخ لا يستوفى من تركة الأب، ولا يضمن كل فريق للابن الآخر ما أحرز المشهود له من الميراث، لما ذكرنا في الوجه الأول وهذا الذي ذكرنا إذا كان كل ابن يجحد صاحبه، فأما إذا صدق كل ابن صاحبه فالشهود لا يضمنون للابنين شيئاً، لما ذكرنا في الوجه الأول.(9/648)
-----
وإن كانت الشهادة من الفريقين والرجوع عنها بعد وفاة المولى، وترك الميت أخاً معروفاً وأموالاً كثيرة، وقد كان قضى القاضي بعتق الابنين وبعتق أمهما وقضى بالميراث، وكل واحد من الابنين يجحد صاحبه، فإن كل فريق من الشهود يضمن الابن الذي لم يشهد له، وجميع قيمة الابن الذي شهد له وجميع قيمة أمه.
بخلاف ما إذا كانت الشهادة في حياة المولى، فإن هناك يضمن كل فريق نصف قيمة الابن المشهود له ونصف قيمة أمه الابن الآخر، والفرق أن الشهادة إذا كانت في حالة الحياة، واتصل بها القضاء، ففي زعم كل فريق من الشهود عند الرجوع أن قيمة الابن المشهود له قد لزمه، وصار ذلك ميراثاً بين الابنين؛ لأن في زعم (165أ4) كل فريق أن الابن المشهود له إن لم يكن وارثاً، فقد صار وارثاً بقضاء القاضي، وإن شهدا بالزور لما كانت الشهادة، والقضاء بهما في حالة الحياة، فلم يصر كل فريق مقراً للابن الآخر إلا بنصف قيمة الابن المشهود له، ونصف قيمة أمه فأما إذا كانت الشهادة والقضاء بها بعد الوفاة، ففي زعم كل فريق أن قيمة الابن المشهود له بكمالها للابن الآخر لا حظ للابن المشهود له منها، لأن في زعمه أن الابن المشهود له لم يكن وارثاً، ولم يصر وارثاً بقضاء القاضي، بشهادتنا بالزور لما كانت الشهادة والقضاء بها بعد موت المولى، فصار كل فريق مقراً بجميع قيمة الابن المشهود له، وبجميع قيمة أمة للابن الآخر والابن الآخر صدقه في ذلك حيث جحد وراثة صاحبه، ويضمن كل فريق ما ورثه الابن المشهود له للابن الآخر بخلاف ما إذا كانت الشهادة في حال حياة المولى، وهذا لأن الشهادة إذا كانت بعد الوفاة فاستحقاق الإرث مضاف إلى النسب الذي ثبت بشهادة الشهود، فكان التلف مضافاً إلى شهادة الشهود، فأما إذا كانت الشهادة في حالة الحياة فالتلف غير مضاف إلى شهادتهم على ما مر، فلهذا افترقا، ولا يرجع كل فريق من الشهود بما ضمن الأب الآخر في ميراث المشهود له لما قلنا في الوجه(9/649)
-----
الثاني، ولا يغرم الشهود للأخ شيئاً، لأن من حجة كل فريق أن يقول للأخ: لولا شهادتنا لكان الحرمان ثابتاً في حقك بشهادة الفريق الآخر، هذا إذا كانت الشهادتان من فريقين متفرقين، فأما إذا كانت من فريق واحد بأن شهد شاهدان أن المولى قال في كلمة واحدة: هذان ابناي من هاتين الجاريتين، والابنان كبيران يدعيان ذلك مع الجاريتين، فقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا.
فإن كانت الشهادة والرجوع في حال حياة المولى ضمن الشهود للمولى قيمة الولدين ونقصان الاستيلاد لما ذكرنا، فيما إذا كانت الشهادتان من فريقين، فإذا أخذ المولى ذلك واستهلكه ثم مات المولى لم يغرم الشهود شيئاً من قيمة الابنين؛ لأنهم لو غرموا للابنين، والابنان قد أبرأا الشهود عن ذلك حيث ادعيا ما شهد به الشهود، ويرجع الشهود بما ضمنوا فيما ورث الولدان عن أبيهما؛ لأنهما يصدقان الشهود في الشهادة لما ادعيا ما شهد به الشهود، فصارا مقرين بأن ما أخذ الأب من الشهود صار ديناً في تركة الأب، والدين مقدم على الميراث، ولا يضمن الشهود للأخ شيئاً مما ورثه الابنان إن كان للميت أخ، لأنهم شهدوا بالنسب حال حياة المولى.
وإن كانت الشهادة في حال حياة المولى والرجوع بعد وفاة المولى لم يغرم الشهود شيئاً للابنين ولا للأخ إن كان للميت أخ لما قلنا، وإن كانت الشهادة والرجوع بعد وفاة المولى فالشهود لا يغرمون للابن شيئاً ويغرمون للأخ إن كان للمولى أخ قيمة الجاريتين وقيمة الابنين وما ورثه الابنان، بخلاف ما إذا كانت الشهادتان من فريقين، فإن هناك لا يضمن الشهود للأخ، وإن كانت الشهادة والرجوع بعد وفاة المولى.(9/650)
-----
والفرق بين الفريقين والفريق الواحد يأتي بعد هذا كله إذا كان الولدان كثيرين والشهود فريق واحد، فأما إذا كان الشهود فريقاً واحداً والولدان صغيران وقت الشهادة ينتظر بلوغهما، فإذا بلغا فإن صدق كل واحد منهما الشهود في جميع ما شهد به الشهود فهذا وما لو كانا كبيرين وقت الشهادة وادعيا جميع ما شهد به الشهود سواء، وإن كان صدق كل واحد منهما الشهود فيما شهدوا له به وكذبهم فيما شهدا لصاحبه به فهذا، وما لو شهد لكل ابن فريق وجحد كل واحد منهما صاحبه سواء؛ لأن الشهادة ههنا لا تنتقض، وإن كذب كل واحد منهما شهوده إما لأن هذا تكذيب بعد القضاء وإنه لا يوجب بطلان القضاء والشهادة لما تبين، أو لأن هذا تكذيب فيما شهدا له، وتكذيب المشهود لا يبطل الشهادة، وإذا لم تنتقض الشهادة ههنا بهذا التكذيب صار هذا الفصل وما إذا شهد لكل فريق على حده وجحد كل واحد منهما صاحبه سواء، ولم يذكر محمد رحمه الله في الكبيرين هذا الفصل، أنه إذا كان الشهود فريقاً واحداً وصدق كل من الابنين الشهود فيما شهدوا له وكذبهم فيما شهدوا لصاحبه هل تقبل شهادتهم؟.
وحكي عن القاضي الإمام أبي الحسين بن الخضر النسفي أنه قال: لا تقبل شهادتهم، وفرق بين الكبيرين والصغيرين فإن الصغيرين إذا بلغا وصدق كل واحد منهم الشهود فيما شهدوا له دون صاحبه لا تبطل الشهادة، والفرق أن كل واحد من الابنين فسق الشهود حيث كذبهم فيما شهدوا لصاحبه، إلا أن في حق الصغيرين التفسيق كان بعد القضاء لهما بهذه الشهادة في حالة الصغر، وتفسيق المشهود له الشاهد بعد القضاء لا يوجب بطلان القضاء؛ لأن الفاسق ربما يكون صادقاً، ولهذا كان أهلاً للشهادة عندنا، فعلى اعتبار أن يكون صادقاً لا يجوز إبطال القضاء وعلى اعتبار أن يكون كاذباً يجوز إبطال القضاء، فلا يجوز إبطال القضاء بالشك، أما في حق الكبيرين الفسق وجد قبل القضاء وكما لا يجوز إبطال القضاء بالشك لا يجوز القضاء بالشك.(9/651)
-----
وعامة المشايخ قالوا: لا بل الجواب في حق الكبيرين والصغيرين واحد، حتى يجوز القضاء بهذه الشهادة؛ لأن كل واحد من الكبيرين وإن كذب الشهود ولكن كذبهم فيما شهدوا عليه لا فيما شهدوا له، وهذا لا يوجب خللا في الشهادة إذ المشهود عليه أبداً يكذّب الشهود فيما يشهدون.
ولهذا قلنا: إذا شهد الشهود لرجل بدين مؤجل وأنكر المشهود له الأجل تقبل الشهادة، وإن كذب شهوده في الأجل؛ لأنه كذّبهم فيما شهدوا عليه؛ لأن الأجل عليه.
وكذلك إذا شهد رجلان لزيد على عمرو بألف درهم وعمرو ينكر ذلك ثم شهدوا لعمرو على زيد بمئة دينار وزيد ينكر، فالقاضي يقضي بالشهادتين جميعاً، وقد كذب كل واحد منهما شهوده؛ لأنه كذبهم فيما شهدوا عليه صح أن الجواب في حق الكبيرين نظير الجواب في حق الصغيرين.
فإن قيل: إذا كان الولدان صغيرين ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هذه شهادة على النسب والحرية، والشهادةُ على حرية العبد لا تقبل من غير دعوى العبد عنده، والدعوى من الصغيرين لا تتصور.
قلنا: إنما قبلت هذه الشهادة لوجود الدعوى من الصغيرين اعتباراً.
بيانه: أن كل واحد من الابنين تدعي نسب .... وحريته، وصح ذلك منها؛ لأن ما تدعي كل واحدة منهما لنفسها من أمته الولد لا يثبت إلا بعد ثبات نسب ولدها، فتقوم دعوى كل واحد منهما مقام دعوى ولدها، فهو معنى قولنا: وجد الدعوى من الصغيرين اعتباراً.(9/652)
-----
وفي «نوادر عيسى بن أبان»: رجل مات وترك أخاً لأبيه، فجاء رجل وادعى أنه أخوه لأبيه وأمه، وجاء بشاهدين شهدا أنه أخوه لأبيه وشاهدين آخرين شهدا أنه أخوه لأمه، فالقاضي يقضي بأنه أخوه لأبيه وأمه، ويعطيه كل الميراث، فإن قضى بذلك ثم رجع الشهود عن شهادتهم جملة، ضَمِن اللذان شهدا أنه أخ لأب ثلثي الميراث واللذان شهدا أنه أخ لأمه ثلث الميراث من قبل أنه قد استحق بشهادة اللذَين (شهدا) أنه أخ لأب نصف الميراث، إذ للميت أخ آخر لأب، فضمان ذلك عليهما خاصة واستحق بشهادة اللذين (شهدا) أنه أخ للأم سدس الميراث، وضمان ذلك عليهما أيضاً، والثلث الباقي لم يستحق بشهادة واحد من الفريقين دون صاحبه، فهو على الفريقين نصفين، على كل فريق نصفه وهو السدس، ولو رجع أحد الشاهدين اللذين شهدا أنه أخ لأب، وأحد الشاهدين اللذين شهدا أنه أخ لأم ضمنا النصف بينهما أثلاثاً، ولو لم يكن الأمر على ذلك ولكن شهد شاهدان أنه أخ لأب وقضى القاضي له بنصف المال ثم جاء بشاهدين آخرين شهدا أنه أخ لأم وقضى القاضي له بالنصف الآخر ثم رجع الشهود جميعاً، فعلى كل فريق (165ب4) نصف المال لما ذكرنا أن الواجب على الشهود عند الرجوع ما قضي به بشهادته، وإنما قضي بشهادة كل فريق في هذه الصورة بالنصف.
(9/653)
-----
ولو شهد شاهدان أنه أخ لأم وقضى القاضي له بسدس الميراث ثم شهد آخران أنه أخ لأب وقضى القاضي له بباقي الميراث ثم رجعوا، فعلى اللذين شهدا أنه أخ لأم سدس المال وعلى اللذين شهدا أنه أخ الأب خمسة أسداس المال، وهو بناء على ما قلنا، وكذلك إذا شهدوا معاً وعدل أحد الفريقين وقضى القاضي بشهادتهم، فإنه ينظر في هذا إلى القضاء، فمن قضي بشهادته أولاً فعليه ضمان ما قضي بشهادته والباقي على الفريق الآخر، ولو أن الذي ادعى أنه أخ لأب وأم شهد له شاهد أنه أخ لأب وأم، وشهد له شاهد آخر أنه أخ لأب وقضى القاضي بالميراث له ثم رجع الذي شهد أنه أخ لأب وأم، فعليه ضمان نصف الميراث، وإن لم يرجع هو، لكن رجع الذي شهد أنه أخ لأب، فعليه ضمان ثلث المال، وإن رجع الذي شهد أنه أخ لأم فعليه ضمان ثلث المال، وإن رجعوا جملة فالضمان عليهم كذلك.
قال الحاكم أبو الفضل: يحتمل أن تكون وجه هذه المسألة: أن الشاهد بالأخوة لأب وأم شارك الشاهد بالأخوة لأب في إيجاب النصف، فهو عليهما نصفان، وشارك الشاهد بالأخوة لأم في إيجاب السدس في ذلك عليهما، وشهد بانفراده بالثلث الباقي وكان مجموع شهادة الآخرين بشهادته أيضاً، فصار نصف ذلك الثلث على الشاهد بالأخوة لأب وأم، ونصفه على الآخرين نصفان، ومعنى قوله: مجموع شهادة الآخرين، شهادته أنه شهد بالأخ لأب وأم ومجموع شهادة الآخرين، هذا أيضاً؛ لأن أحدهما شهد بالأخوة لأب والآخر بالأخوة لأم.
في «نوادر عيسى» أيضاً: رجل مات وترك بنتاً وأخاً لأب فأعطى القاضي البنت النصف والأخ النصف، ثم جاء رجل وادعى أنه أخ الميت لأب وأم، فشهد له شاهد أنه أخوه لأب وأم وشهد الآخر أنه أخوه لأب وشهد آخر أنه أخوه لأم، وقضى القاضي بنصف الميراث له ثم رجع الذي شهد أنه أخ لأب، فعليه ضمان ثلاثة أثمان ما صار له من الميراث.(9/654)
-----
قال الحاكم أبو الفضل: إنه استحق نصف مال أُخذ بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، وشهادة الذي شهد أنه أخوه لأب هو عليها جميعاً، والنصف الآخر استحقه بشهادتهم جميعاً، فنصفه على الذي شهد أنه أخ لأب وأم ونصفه على الآخرين؛ لأن شهادتهما بإزاء شهادته، هذا هو المنقول عن الحاكم الشهيد رحمه الله، ومعنى هذا الكلام: أن المدعي أخذ بحكم الميراث النصف وصار نصف هذا النصف نصفين، فاحتجنا إلى حساب ينتصف نصف نصفه، وأقل ذلك ثمانية جعلنا (ه) ميراث الميت.
ثم عدنا إلى أصل المسألة وقلنا: في يد البنت أربعة وفي يد الأخ لأب أربعة، وقضى القاضي للمدعي بالأربعة التي في يد الأخ نصفها وذلك سهمان بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، وبشهادة الذي شهد أنه أخ لأب، فعند الرجوع يكون ضمان ذلك عليهما، على كل واحد منهم، والنصف الآخر وذلك سهمان قضي به بشهادة الكل نصفه، وذلك سهم بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، ونصفه وذلك سهم بشهادة الآخرين، وهذا لأن شهادة الآخرين بإزاء شهادة من شهد أنه أخ لأب وأم، لأن أحد الآخرين شهد أنه أخ لأب، والآخر شهد أنه أخ لأم، فمجموع شهادتهما أنه أخ لأب وأم، فصار النصف الآخر مقضياً به بشهادت الكل، فيكون نصفه وذلك سهم على الذي شهد أنه أخ لأب وأم، ونصفه وذلك سهم على الآخرين فانكسر هذا السهم فنضعف السهام حتى يزول الكسر.
(9/655)
-----
فجعلنا ميراثه على ستة عشر: في يدي الأخ لأب ثمانية قضي بمجموعهما للمدعي نصفها، وذلك أربعة بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، فضمان ذلك عليهما نصفان على كل واحد سهمين، ونصفها وذلك أربعة بشهادتهم جملة، نصفها وذلك سهمان بشهادة الآخرين بشهادة كل واحد منهما سهم، فضمان ذلك يكون عليهما، فأصاب الذي شهد بالأب والأم مرة سهمان من ثمانية ومرة سهمان أيضاً، فذلك أربعة وهو نصف ما صار للمدعي بالميراث وأصاب الذي شهد بالأب مرة سهمان من ثمانية ومرة سهم، فذلك ثلاثة، وهو ثلاثة أثمان ما صار للمدعي من الميراث، وأصاب الذي شهد بالأم سهم من ثمانية وهو ثمن ما صار للمدعي من الميراث.
رجل مات وترك ابناً وأخذ ميراثه، فجاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت وأراد أن يشارك الابن المعروف، فأنكر الابن المعروف نسبه وأنكر أن يكون وصل إليه شيء من الميراث، فأتى بشاهدين فشهدا أنه ابن الميت وقضى القاضي له بنسبه ثم أتى بشاهدين آخرين فشهدا أنه وصل إليه من مال الميت كذا وكذا، فقضى القاضي عليه بنصف ذلك للابن المدعي، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالنسب ضمنا ما وصل إلى المدعي من المال، فإن ضمنا ذلك ثم رجع الآخران رجع شاهدا النسب عليهما بما ضمنا؛ لأن شاهدا النسب بما ضمنا فأما مقام الابن المعروف وكان للابن المعروف يضمن شاهدي المال عند الرجوع، فكذا لمن قام مقامه ولو كانوا رجعوا جميعاً، فالابن المعروف بالخيار: إن شاء ضمن شاهدي النسب ورجعا على شاهدي المال، وإن شاء ضمن شاهدي المال، وإنما ضمن شاهدي النسب؛ لأن الشهادة بالنسب بعد الموت شهادة بالميراث، والقضاء بالنسب بعد الموت قضاء بالميراث، فكل ما كان للميت من مال في يدي وارث أو غيره فقد قضى القاضي للابن المدعي بحصته من حيث قضي له بالنسب.(9/656)
-----
رجل مات وترك ابنة وأخاً وأماً وأخذ (ت) البنت نصف الميراث، وأخذ الأخ نصف الميراث، فجاء رجل وادعى أنه أخ الميت لأب وأم وجاء بشاهدين شهدا بذلك وقضى القاضي بنسبه وأشركه مع الأخ المعروف في الميراث، ثم رجعا عن شهادتهما أنه أخ لأب، وثبتا على شهادتهما أنه أخ لأم أو على العكس: ضمنا نصف ما صار في يده من الميراث ولا يضمنان جميع ذلك؛ لأنه استحق الميراث بنسبين وقد رجعا عن شهادتهما.
وكذلك لو رجع أحدهما عن شهادته أنه أخ لأب وثبت على شهادته أنه أخ لأم ورجع الآخر عن شهادته أنه أخ لأم وثبت على شهادته أنه أخ لأب ضمن كل واحد منهما الربع مما صار في يده؛ لأنهما رجعا عن نصف الشهادة وثبتا على نصف الشهادة، والشاهدان في هذا على النسبين، فالفريقان إذا شهدا كل فريق على أحد النسبين سواء، ولو شهد كل فريق على نسب فإن شهد أحد الفريقين أنه أخوه لأبيه وشهد الفريق الآخر أنه أخوه لأمه، ثم رجع أحد الفريقين عن شهادتهم ضمن نصف المال كذا ههنا.
فإن قيل: إذا رجعا عن أحد النسبين ينبغي أن يضمنا جميع الميراث؛ لأنهما عند الرجوع صارا مقرين أنه ليس بوارث وأنهما أتلفا جميع المال بشهادتهما أنه وارث.
قلنا: إنهما لم يشهدا أنه وارث فقط، ولو شهدا أنه وارث لا تقبل شهادتهما، وإنما شهدا له بنسبين واستحق الميراث بهما، ثم رجعا عن أحدهما وثبتا على الآخر.
قال: ألا ترى أن رجلين لو شهدا على شهادة شاهدين بحق لرجل وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما على شهادة أحد الشاهدين وثبتا على شهادة الشاهد الآخر، إنهما لا يضمنان إلا نصف المال وقد زعما أن الشهادة التي ثبتا عليهما لا يستحق بها شيء.(9/657)
-----
رجل مات وترك أخوين لأم وأخاً لأب، فأعطى القاضي الأخوين لأم الثلث وأعطى الأخ لأب الثلثين، ثم ادعى رجل أنه أخوه لأبيه وأمه وشهد له شاهدان أنه أخوه لأمه وقال: شاهداي على النسب من الأب غائبان، فإن القاضي يقضي بأنه أخ لأم وله أن يدخل مع أخوته لأم؛ لأنه شريك في الميراث كله وهو يقول: قد ظلمني الأخ لأب حيث جحد حقي فلي أن أدخل مع الأخوة لأم، فإن قضى القاضي بذلك وأشركه مع الأخوين لأم ثم قدم الشاهدان الآخران فشهدا أنه أخ لأب، فإن القاضي يقضي بأنه أخ لأب وأم ويرجع الأخوة (166أ4) من الأم على الأخ لأب بما أخذ منهم، فيستكمل الأخ لأب وأم الثلثين، فإن رجع الشهود بعد ذلك عن الشهادة فلا ضمان على الذي شهدا أنه أخ لأم؛ لأنه قد رجع إلى الإخوة من الأب مثل ما أخذ منهم ويضمن اللذان شهدا أنه أخ لأب جميع الثلثين للأخ لأب، لأنه إنما قضى به بشهادتهما، ولو كان أقام أولاً شاهدين أنه أخ لأب وقضى القاضي له بذلك وأخذ نصف ما في يد الأخ لأب ثم جاء بشاهدين أنه أخ لأم، وقضى القاضي بذلك وأخذ ما بقي في يد الأخ لأب ثم رجعوا جميعاً، فعلى كل فريق نصف الضمان.
الفصل التاسع: في الرجوع عن الشهادة على الشهادة
قال محمد في «الأصل»: وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين بحق لرجل ثم رجع الأصول والفروع جميعاً، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا ضمان على الأصول وإنما الضمان على الفروع.
وقال محمد: المشهود عليه بالخيار، إن شاء ضمن الأصول وإن شاء ضمن الفروع، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عندهما خلافاً لمحمد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه إذا رجع الأصول فهم ضامنون وإن (ضمن) الفروع وحدهم فعليهم الضمان بلا خلاف.
فوجه قول محمد رحمه الله: أنه وجد من كل فريق يعني الأصول والفروع في حق المشهود عليه سبب ضمان على حده على سبيل المباشرة فكان له أن يضمن أيهما شاء كما في الغاصب مع غاصب الغاصب.(9/658)
-----
بيانه: أن سبب التلف نقل شهادة الأصول إلى مجلس القاضي، ونقل شهادة الأصول ثبت بهما، فإنه لولا إشهاد الأصول ما تمكن الفرع من النقل، ولولا نقل الفرع لم يثبت النقل، وقولنا: على سبيل المباشرة؛ لأن الفرع في نقل شهادة الأصول مباشر حقيقة، وهذا ظاهر، والأصل مباشر من حيث الحكم؛ لأن أداء الفروع منقول إلى الأصول؛ لأن الفروع مضطرون من جهة الأصول إلى الأداء بعد الإشهاد، فإنهم لو امتنعوا من الأداء أتموا، ألا ترى أن قضاء القاضي اعتبر منقولاً إلى الشاهد؛ لأنه مضطر إلى القضاء من جهة، فإنه لو امتنع عن القضاء يأثم، كذا ههنا، فإن ضمن الفروع، فالفروع لا يرجعون على الأصول كما في باب الغصب لو ضمن المالك الغاصب الثاني لا يرجع به على الغاصب الأول، وإن ضمن الأصول فالأصول لا يرجعون على الفروع، بخلاف ما لو ضمن المالك الغاصب حيث يرجع به على الغاصب، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: الأصول مسببون للتلف من وجه، والفروع مباشرون للتلف من كل وجه.
بيانه: أن سبب التلف نقل شهادة الأصول، والأصول مسببون لهذا النقل؛ لأن بعدما وجد الإشهاد من الأصول لا يحصل نقل شهادتهم إلا بعد وجود فعل فاعل مختار وهو أداء الفروع بشهادتهم، وهذا هو حد السبب، فأما الفروع مباشرون لهذا النقل من كل وجه، فإن نفس أداء الفروع شهادة الأصول تصير شهادة الأصول منقولة إلى مجلس القاضي من غير أن يحتاج فيه إلى فعل فاعل مختار، وهذا هو حد المباشرة وقد عرف من أصلنا أن المباشر مع السبب إذا اجتمعا وهما متعديان أن الضمان على المباشر، وقوله بأن أداء الفروع منقول إلى الأصل إلى أخر ما ذكر.(9/659)
-----
قلنا: الاضطرار في حق الفروع ثابت من وجه دون وجه؛ لأن سبب هذا الاضطرار اعتباري وهو الإثم وبالعقباوي ثبت الاضطرار من وجه؛ لأن العقباوي ليس بقائم للحال، ألا ترى أن قضاء القاضي بسبب وعيد الأخوة اعتبر منقولاً إلى الشاهد من وجه دون وجه، حتى كان لولي القتيل تضمين الشاهد ولا تجب الكفارة على الشاهد ولا يصير الشاهد محروماً عن الميراث كذا هاهنا، وإذا ثبت أن الفروع صار منقولاً إلى الأصول كان الأصل مسبباً، والفروع مباشر من كل وجه، وإيجاب الضمان على المباشر من كل وجه أولى من إيجابه على المباشر من وجه، وإذا رجع الفروع وحدهم وجب عليهم الضمان وهذا ظاهر، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وفيه نوع إشكال؛ لأنه تعذر إيجاب الضمان على المباشر، فيجب على المسبب كما في الحافر مع الماشي.
والجواب: أن الأصول لو كانوا مباشرين مع الفروع من كل وجه بأن شهدوا جملة بشهادة أنفسهم ثم رجع اثنان لا يجب على الراجعين الضمان؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته جميع الحق؛ فلأن لا يجب الضمان هنا، وقد بقي من يقوم بشهادته جميع الحق والراجع سبب من وجه أولى، وهكذا الذي ذكرنا: إذا قال الأصول: كنا أشهدناكما بباطل، فأما إذا قالوا لم نشهدهم أصلاً، فلا ضمان على الأصول بلا خلاف؛ لأنه لم يوجد منهم الرجوع لما أنكروا الإشهاد أصلاً.(9/660)
-----
ولو شهد شاهدان على شهادة أربعة وشهد شاهدان على شهادة شاهدين بحق على رجل وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا، فعلى قول أبي حنيفة: الضمان على الفريق أثلاثاً، ثلثاه على الذين شهدوا على شهادة الأربع، وثلثه على الذين شهدوا على شهادة المسبب وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: الضمان على الفريقين نصفان، وأجمعوا على أنه إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين وشهد أربعة على شهادة شاهدين والباقي بحاله أن الضمان على الفريقين نصفان، والفرق لهما أن الحكم مقطوع بشهادة الفروع ولهذا لا ضمان على الأصول عند الرجوع عندهما، ولما كان الحكم مقطوعاً بشهادة الفروع يجب اعتبار عدد الفروع دون عدد الأصول.(9/661)
-----
إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بألف درهم وشهد آخران على شهادة شاهد واحد بتلك الألف بعينها وقضى القاضي بالألف بالشهادتين جميعاً ثم رجع واحد من الفريق الأول، وواحد من الفريق الثاني كان عليهما ثلاثة أثمان المال، الثمنان على أحد الأولين والثمن على أحد الآخرين؛ لأن الفريق الأول أثبت جميع المال؛ لأنهما قاما مقام شاهدين والفريق الثاني أثبت نصف المال؛ لأنه قام مقام شاهد واحد إلا أن ذلك النصف شائع في النصفين، فإذا بقي واحد من الفريق الأول بقي به نصف الحق، وإذا بقي واحد من الفريق الثاني بقي نصف النصف وهو الربع، إلا أن هذا الربع شائع في النصفين في نصف الباقي ببقاء أحد الأولين، وفي نصف الساقط برجوع أحد الأولين، فصار نصف الربع وهو الثمن داخلاً في النصف الذي بقي ببقاء أحد الأولين فلا يظهر ذلك، ونصفه وهو الثمن في النصف الساقط فبقي ذلك القدر ببقاء أحد الآخرين فكان الباقي من الحق بالشاهدين الباقيين خمسة أثمان، فكان التالف برجوع الراجعين ثلاثة أثمان، فيجب ضمان ذلك على الراجعين ولكن أثلاثاً؛ لأن الفريق الأول أوجب كل المال، والفريق الثاني أوجب نصف المال فكان الفريق الأول سبباً، مثل ما أثبته أحد الآخرين، فيكون العزم عليهما أثلاثاً، ولو لم يرجع إلا أحد الأولين كان عليه ربع الحق؛ لأنه بقي ببقاء صاحبه على الشهادة نصف الحق، والآخران أيضاً بقيا بنصف الحق، إلا أن الثابت بشهادتهما نصف الحق شائع نصفه وهو الربع مما بقي ببقاء أحد الأولين ونصفه وهو الربع مما سقط برجوع أحد الأولين فبقي من النصف الساقط بحكم بقاء الآخرين على الشهادة نصفه وهو الربع، فيكون الباقي في الحاصل ثلاثة الأرباع وضمن الراجع الربع لهذا، ولو رجع الآخران مع أحد الأولين ضمنوا نصف المال؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، فيكون التالف نصف المال ثم ضمان هذا النصف يكون نصفه على الراجع من الأولين ونصفه على الآخرين؛ لأن أحد(9/662)
الأولين(9/663)
-----
(166ب4) أوجب نصف الحق والآخران أوجبا نصف الحق أيضاً، فصار حال الواحد من الأولين كحال الآخرين، فلهذا كان الضمان عليهما نصفين.u
ولو شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بألف وشهد شاهدان آخران على شهادة شاهدين آخرين بتلك الألف بعينها وقضى القاضي به ثم رجع واحد من هذين وواحد من هذين، فعليهما ثمنان ونصف، هكذا ذكر في «الجامع» وذكر في «الأصل» أن عليهما نصف المال، وعن أبي يوسف أن عليهما ربع المال، وهو اختيار الكرخي وهو القياس، وهي مسألة الأسفكة.
الفصل العاشر: في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات
قال محمد رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بسرقة ألف درهم بعينها من رجل وقضى القاضي بها وقطع يد المشهود عليه ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما ضمنا دية اليد للمشهود عليه؛ لأنهما أتلفا على المشهود عليه يده، ويكون ذلك في مالهما؛ لأنه وجب بإقراره؛ ولأنهما تعمدا الإتلاف حيث شهدا بالزور، والعاقلة لا تعقل عمداً ولا اعترافاً، ويضمنان الألف أيضاً؛ لأنهما كما أتلفا على المشهود عليه يده أتلفا عليه الألف.
أربعة شهدوا على رجل بالزنا وشهد شاهدان عليه بالإحصان فأجاز القاضي شادتهم وأمر برجمه ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن شهود الزنا يضمون الدية ويحدون حد القذف عند علمائنا الثلاثة، ولا ضمان على شهود الإحصان، وهذه المسألة بتمامها مرت في كتاب الحدود من هذا الكتاب.(9/664)
-----
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وشهد عليه أربعة بالزنا والإحصان وقضى القاضي بشهادتهم وأعتقه ورجمه ثم رجعوا عن شهادتهم، فإن على شهود العتق قيمته لمولاه؛ لأنهم أتلفوا عليه مالية العبد بغير حق وعلى شهود الزنا الدية؛ لأنهم أتلفوا بشهادتهم حراً؛ لأن الحرية قد ثبتت بقضاء القاضي وتكون الدية للمولى إذا لم يكن المرجوم وارثاً آخر من العصبات، فإن قيل من وجهين، أحدهما: كيف تجب الدية للمولى وكان المولى جاحداً العتق؟ والثاني: كيف يجب بدلان للمولى عن نفس واحدة.
قلنا: أما الأول القاضي قد حكم بعتقه وزعم المولى بعدما قضى القاضي عليه بخلافه غير معتبر، وأما الثاني قلنا القيمة تجب بدلاً عن المالية والدية تجب بدلاً عن النفس غير أن الدية تجب حقاً للمقتول حتى يقضي منه ديونه وينفذ قضاياه، ألا ترى أنه لو كان له ابن حر كانت الدية له دون مولاه، فالدية تجب للمقتول أولاً ثم تصير للمولى؛ لأنه أقرب الناس إلى المقتول، فلا تؤدي إلى أن يجب بدلان عن نفس واحدة للمولى.
إذا شهد أربعة على رجل بالزنا والعتق والإحصان وأمضى القاضي كله، ثم رجعوا عن العتق ضمنوا القيمة، ولا شيء عليهم من (الدية)، لأنهم يصيرون على الشهادة عليه بالزنا، وفي حق العتق هم بمنزلة شهود الإحصان ولا ضمان على شهود الإحصان عند الرجوع على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ولو رجع اثنان عن الزنا واثنان عن العتق فلا ضمان على شهود العتق؛ لأنه قد بقي على العتق حجة كاملة، وعلى اللذين رجعا عن الزنا نصف الدية؛ لأن الباقي على الشهادة في حق حكمه نصف الحجة فيجب على الراجعين نصف الدية وحد القذف.
(9/665)
-----
وإذا شهد شاهدان على الصلح عن دم العمد على ألف درهم ثم رجعا لم يضمنا شيئاً أيهما كان المنكر، أما إذا كان الذي له القصاص ينكر والقاتل يدعي؛ فلأنهما لو ضمنا للذي له القصاص أو للقاتل ولا وجه إليهما أما للذي له القصاص؛ فلأنهما لو شهدا عليه بالعفو عن القصاص بغير عوض لا يضمنان له شيئاً فههنا أولى، وقد شهدا عليه بالعفو بالألف، وأما للقاتل فلأنه هو المدعي للصلح، فإنما لزمه المال بإقراره لا بشهادتهما فلا يضمنان له شيئاً، وأما إذا كان القاتل يجحد والذي له القصاص يدعي، أما الذي له القصاص فلأنه سقط حقه عن القصاص بإقراره إذا كان هو مدعياً لا بشهادتهما، ولو سقط حقه عن القصاص بشهادتهما لا يضمنان له شيئاً فههنا أولى، وأما للقاتل فكذلك؛ وكان ينبغي أن يضمنا للقاتل؛ لأن ما سلم للمطلوب من القصاص ليس بمال وما ليس بمال لا يعتبر عوضاً من المال، فلا يصير عوضاً عما أوجبا عليه من الألف، فكأنهما أوجبا عليه ألف درهم بغير عوض.
والجواب: ما سلم للقاتل من القصاص وإن لم يكن مالاً يصلح عوضاً عن المال الذي أوجبا عليه؛ لأنه ملك نفسه من جهة المولى من كل وجه من حيث الاعتبار؛ لأن المولى استحق على القاتل نصيبه بالقصاص من كل وجه، وإنما يملك القاتل نفسه بعد ذلك من جهة الطالب من كل وجه بالصلح.
وما ليس بمال يصلح عوضاً عن المال إذا استفاده ملتزم المال من جهة من ضمن له المال من كل وجه أصله منافع البضع في باب النكاح، فإن الشرع جعل منافع البضع في حق الزوج عوضاً عن المال، وإن لم يكن منافع البضع مالاً.(9/666)
-----
قلنا: والزوج ملك منافع بضع المرأة من جهة المرأة من كل وجه، فصار فصل النكاح أصلاً لنا أن ما ليس بمال يصلح عوضاً عن المال إذا استفاده ملتزم المال من جهة من ضمن له المال من كل وجه، والقصاص نظير النكاح فيلحق بالنكاح، وكذلك لو كان هذا الصلح فيما دون النفس يريد به إذا شهدا على الصلح على مقدار الأرش أو دونه، فلا ضمان عليهما عند الرجوع جعل الجواب فيما دون النفس نظير الجواب في النفس؛ لأن المستحق فيما دون النفس عين على الحقيقة، فإذا صار مستحقاً لولي القصاص يزول عن ملكية من عليه القصاص، ومازال عن بعض العين عن صاحب الرقبة ثم عاد إليه بسبب، فإنما يعود إليه بحكم ذلك السبب لا حكماً لملكه الباقي؛ لأن كل جزء من أجزاء الرقبة أصل بنفسه لا يملك حكماً لملك الباقي، بخلاف تلك المنافع، فصار ما دون النفس والنفس سواء من هذا الوجه.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه عفى عن دم خطأ أو جراحة خطأ أو عمد فيهما أرش وقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الدية وأرش تلك الجراحة؛ لأنهما أتلفا على المشهود عليه الدية وأرش تلك الجراحة، فموجب الخطأ المال فيضمنان ذلك عند الرجوع ولكن بالصفة التي كانت واجبة؛ لأن الضمان إنما يجب على الشاهدين بطريق الجبر لمأمور، وإنما يتحقق الجبر إذا كان الضمان بصفة الفائت، وبهذا يضمن الجيد بمثله والرديء بمثله.
إذا ثبت هذا فيقول: الدية مؤجلة في ثلاث سنين، فيجب على الشاهد ضمانها مؤجلاً في ثلاث سنين، وما بلغ من أرش الجراحة خمسمئة فصاعداً إلى ثلث الدية من ذلك في سنة، وما زاد على ذلك إلى الثلثين فذلك في سنة أخرى، فيجب على الشاهدين عند الرجوع كذلك، وإن كان أرش الجراحة أقل من خمسمئة يجب حالاً، فيضمنه الشاهد عند الرجوع.
كذلك قال محمد رحمه الله في «الجامع».(9/667)
-----
شاهدان شهدا على عبد أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ والمولى يجحد، وقيمة العبد ألف درهم فقضى القاضي بذلك ولم يخير المولى بين الدفع والفداء حتى شهد شاهدان آخران أن المولى أعتق العبد بعد الجناية والمولى يجحد، فإن القاضي يقضي بعتقه وبدية المقتول على المولى؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي جناية العبد ثم عاين إعتاق المولى بعد ذلك، فالقاضي يقضي بالجناية والعتق والدية على المولى لصيرورته مختاراً للفداء بالإعتاق بعد الجناية، فكذا إذا أثبت ذلك بالبينة.
حكي عن الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: تأويل المسألة أن الشهود شهدوا أن المولى أعتقه وهو عالم بالجناية؛ لأن الإعتاق مع العلم بالجناية، والصحيح أن الشهادة على العلم بالجناية ليست بشرط، لأن المولى قد علم بالجناية أول مرة.
ثم إذا قضى القاضي بدية المقتول وقبض الأولياء الدية من المولى رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، فإن شاهدا الجناية يضمنان للمولى قيمة العبد ألف درهم، وشاهدا الإعتاق يضمنان عشرة آلاف درهم للمولى، (167أ4) ألف درهم منها قيمة العبد، وتسعة آلاف تمام الدية مع الألف التي ضمنها شاهدي الجناية.
(9/668)
-----
والأصل في هذا أن الشاهد إنما لا يضمن عند الرجوع ما صار مستحقاً بشهادته، وجناية العبد إذا أوجبت المال فرقبته تصير مستحقة بنفس الجناية، وإن كانت لا تملكه إلا بالتسليم كأصل الدية تصير مستحقة بنفس قتل الخطأ، وإن كان لا يملك إلا بالقبض حتى لا تصح الكفالة بالدية إلا أن الشرع أثبت للمولى ولاية استصغاء الرقبة بإختيار الفداء، فيصير وجوب الفداء متعلقاً بعلة ذات وصفين: الجناية والاختيار، فإن كل واحد منهما مؤيد في الوجوب، أما الجناية فظاهر، وأما الاختيار؛ فلأن الاختيار التزام المال، والتزام عرف مؤثراً في اللزوم، فصار وجوب الفداء متعلقاً بالجناية والاختيار من هذا الوجه والاختيار أحدهما فيضاف وجوب الفداء إلى الاختيار، ورقبة العبد مستحقة بالجناية وحدها، فيضاف استحقاقها إلى الجناية لا غير، إذا ثبت هذا فنقول: شهود الجناية أثبتوا استحقاق رقبة العبد لولي الجناية بشهادتهم إذ العتق لم يكن في تلك الحالة، فصاروا متلفين رقبة العبد على المولى بشهادتهم، وذلك التلف لا يرتفع بالشهادة الثانية الناقلة إلى الدية وإن لم تبق رقبة العبد مستحقة بعد الشهادة الثانية؛ لأنه لم يسلم للمولى ما صار مستحقاً بالشهادة الأولى إلا بضمان مثله وزيادة، فيبقى التلف معنى، فيبقى عليهم ضمان ذلك الإتلاف، وأما شهود الإعتاق فقد أتلفوا على المولى الرقبة والدية؛ لأنهم شهدوا بالإعتاق، والإعتاق مزيل ملك الرقبة ويدل على اختيار الفداء، فصاروا متلفين على المولى الرقبة والدية، الآن قدر الألف من بدل النفس غرم شاهد الجناية، فلا يغرم شاهد الإعتاق من بدل النفس إلا تسعة آلاف درهم، ويغرمان أيضاً قيمة العبد ألف درهم، فيغرمان عشرة آلاف درهم من هذا الوجه.
(9/669)
-----
ولو شهد شاهدان أن المولى أعتق عبده أمس، وقضى القاضي بشهادتهما وأعتق العبد، ثم شهد آخران أن العبد قتل ولي هذا أول من أمس، والمولى يعلم بذلك قضى بالدية على المولى؛ لأن الجناية إذا ثبتت والمولى عالم بها أول من أمس كان من ضرورته أن يكون الإعتاق أمس اختياراً للفداء، فإن رجع الشهود عن شهادتهم ضمن شاهدا الإعتاق قيمة العبد ألف درهم؛ لأن شاهدا الإعتاق ههنا أثبتا اختيار الفداء؛ لأن الجناية لم تكن ظاهرة وقت شهادتهما بالإعتاق؛ ليكون القضاء بالإعتاق قضاء بالدية، فصار شهود العتق متلفين على المولى قيمة العبد دون الدية، فيضمنان القيمة لا غير لهذا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى الجناية كانت ظاهرة عند القاضي وقت القضاء بالعتق، فكان القضاء بالإعتاق قضاء بالفداء، ويضمن شهود الجناية عشرة آلاف درهم؛ لأنهم شهدوا بجناية معلومة قد اختار المولى فيها، فإن إعتاق العبد مع العلم بالجناية اختيار للفداء وهم شهدوا بجناية معلومة للمولى عند الإعتاق، فكانوا ملتزمين بشهادتهم إياه الدية، فلهذا ضمنوا الدية، ولو حضر الشهود جميعاً عند القاضي، فشهد شهود الجناية وشهود العتق بما قلنا في المسألة الثانية، فإن العبرة بحالة القضاء لا بحال أداء الشهادة لما مر أن الشهادة إنما تصير حجة بإيصال القضاء بها، فإن زكّى شهود العتق أولاً، فقضى القاضي به ثم زكّى شهود الجناية فهو نظير الفصل الثاني، وإن زكّى شهود الجناية أولاً فقضى القاضي ثم زكّى شهود العتق فهو نظير الفصل الأول، وإن زكّوا جميعاً ووقع القضاء بالعتق والجناية معاً، فهذا وما لو وقع القضاء بالجناية أولاً ثم بالعتق سواء، وإنما كان كذلك، لأن القاضي إنما يقضي على حسب ما شهد به الشهود والشهود شهدوا بالجناية سابقاً؛ لأن شهود الجناية شهدوا أنه حتى أول من أمس والمولى علم به، وشهود العتق شهدوا أنه أعتقه أمس، فإذا وقع القضاء بشهادتهم معاً كان القضاء واقعاً(9/670)
بالجناية(9/671)
-----
أولاً، ومتى كان هكذا صارت هذه المسألة وتلك المسألة سواء.
ولو شهد شاهدان على رجل أن عبده قتل فلاناً خطأ أول من أمس والمولى يعلم بذلك وقيمة العبد ألف، وشهد آخران أن المولى قال له أمس: إن دخلت الدار فأنت حر ثم شهد آخران أنه دخل الدار اليوم، وقضى القاضي بالجناية وبعتقه وبالفداء على المولى ورجع الشهود جميعاً عن شهادتهم، فشهود الجناية يضمنون ألفاً وشهود اليمين يضمنون عشرة آلاف درهم، ولا ضمان على شهود الشرط وهم شهود دخول الدار، ولو كان مكان الشهادة على تعليق العتق بدخول الدار شهادة على تعريض العتق إلى فلان بأن شهد شاهدان أنه جعل أمس أمر عبده في العتق إلى فلان يعتقه متى شاء، وإنما قيده بقوله يعتقه متى شاء، حتى لا يقتصر على المجلس، وشهد آخران أن فلاناً أعتقه اليوم وباقي المسألة بحاله كان الضمان على شهود الإعتاق لا على شهود التفويض.
والفرق: أن ضمان العتق إنما يجب على من أوجب العتق، ففي المسألة الأولى شهود اليمين هم الذين أوجبوا العتق إنما يثبت بكلمة الإعتاق إلا أن تعلق الجزاء بالشرط كان مانعاً كلمة الإعتاق، فعند زوال المانع كان العتق مضافاً إلى كلمة الإعتاق وذلك ثابت بشهود اليمين دون شهود الشرط.
وفي المسألة الثانية: شهود الإعتاق هم الذين أثبتوا كلمة الإعتاق وشهود التفويض إنما أثبتوا صيرورة المفوض إليه مالكاً أمر عبده وقيامه مقام المالك، ثم العتق من المولى لا يثبت بدون كلمة الإعتاق، فكذا ممن قام مقامه، وكلمة الإعتاق إنما تثبت بشهود الإعتاق دون شهود التفويض فلهذا افترقا.(9/672)
-----
وعن محمد رحمه الله في «الإملاء»: شاهدان شهدا على رجل أنه قتل ابن هذا الرجل عمداً وشهد هذان الشاهدان على رجل أنه قتل ابن هذا الرجل عمداً، وشهد هذان الشاهدان على هذا الرجل أيضاً: أنه قتل ابن هذا الرجل الآخر عمداً، والأبوان يدعيان ولا وارث لهذين المقتولين غير هذين الأبوين، فقضى القاضي بالقصاص وقتله الأبوان ثم رجعا عن أحد الابنين وقالا: لم يقتل ابن هذا، ضمنا نصف الدية إن شاء الشاهدان وإن شاء الأب القاتل الذي جاء ابنه حياً ولو كان المقتول ابني رجل واحد فقضى القاضي له بالقصاص وقتله الأب بابنيه، ثم رجع الشاهدان عن قتل أحد الابنين فلا ضمان عليهما؛ لأن الأب إذا كان واحداً فقتله المقتول بقصاص واحد وبقصاصين سواء، ألا ترى أن الشاهدين لو لم يرجعا عن شهادتهما ورجع أحد الابنين حياً لم يغرم الشاهدان شيئاً.
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه سرق من عبد الله ليلة الجمعة مئة وشهدا عليه بعينه أنه سرق من عمرو ليلة السبت عشرة دنانير، وقضى القاضي عليه بالقطع وقطع يده ثم رجعا عن إحدى السرقتين، فلا ضمان عليهما؛ لأن اليد إنما قطعت بالحد فصار ذلك كأنه شيء واحد.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجلان شهدا على أبيهما بالقتل وقتل ثم رجع أحدهما، فعلى الراجع نصف الدية ولا ميراث للراجع في شيء من مال الأب، وإنه خلاف ظاهر الرواية؛ لأنه مسبب والمسبب لا يحرم عن الميراث، ولو شهدا على أبيهما بدين ألف درهم لرجل وقد مات أبوهما، فقضى عليه بها ومعهما أخ آخر، ثم رجع أحدهما فإن الراجع يضمن الذي لم يشهد على أبيه نصف حصته من الألف، ولا يضمن الآخر شيئاً من قبل أنه يقول له لما شهدت فقد أقررت بالدين قال: ولا نسبه، هذه الشهادة على الكل.(9/673)
-----
وفي «الجامع» شاهدان شهدا على رجل أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ، فقضى القاضي (167ب4) بالدية على العاقلة في ثلاث سنين وقبضها الولي ثم جاء المشهود بقتله حياً، كان للعاقلة الخيار إن شاؤوا ضمنوا الولي؛ لأنه تبين أنه قبض ما ليس له ولاية قبضه، وإن شاؤوا ضمنوا الشاهدين؛ لأنهم أتلفوا الدية على العاقلة حكماً بغير حق، وهذا لأن التلف وإن حصل بقضاء القاضي إلا أن الشاهدين بشهادتهما ألجأا القاضي إلى القضاء، فإنهما جعلا بحال لو امتنع عن القضاء يأثم فصار التلف الحاصل بقضاء القاضي بهذه الواسطة مضافاً إلى شهادة الشاهدين، فإن ضمنوا الولي فإن الولي لا يرجع على أحد؛ لأنه ضمن بفعله، وملك المضمون حصل له ولم يوجد من أحد جناية عليه بعد ملكه، وإن ضمنوا الشاهدين رجعا بما ضمنا على المولى لأنهما بأداء الضمان ملكا المضمون من وقت الإتلاف، فصار الولي جانياً عليهما بأحد ملكهما، فلهذا كان لهم حق الرجوع على الولي.
فإن شهدا بقتل العمد وقضى القاضي بالقصاص، فقتله الولي ثم جاء المشهود بقتله حياً لا قصاص على واحد منهم، أما الولي؛ فلأن قضاء القاضي جاء شبهة في حقه، وأما الشاهدان فلأنه لم يوجد منهما المباشرة والقصاص جزاء المباشرة، ولكن ورثة القتيل بالخيار إن شاؤوا ضمنوا الولي وإن شاؤوا ضمنوا الشاهدين؛ لأن الولي قتله حقيقة بغير حق، والشهود قتلوه حكماً بغير حق، فإن ضمنوا الولي لا يرجع على أحد لما مر، وإن ضمنوا الشهود فالشهود لا يرجعون بذلك على الولي في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يرجعون.(9/674)
-----
فوجه قولهما: أن الواجب ههنا القصاص لكون القتل عمداً، إلا أنه انقلب مالاً لتعذر استيفائه، والقصاص المنقلب مالاً في الانتهاء بمنزلة المال الواجب في الابتداء حتى يقضي ديونه وينفذ وصاياه منه، ولو كان المال واجباً من الابتداء، فإن كان القتل خطأ، قد بينّا أن الشهود يرجعون على الولي بما يضمنون كذا ههنا، وأبو حنيفة رحمه الله فرق بين الفصلين، فقال: إذا كان المال واجباً من الابتداء، فالشهود إنما يرجعون على الولي باعتبار أنهم ملكوا المضمون على ما مر، هذا المعنى لا يمكن تحقيقة في القصاص المنقلب مالاً؛ لأن المضمون هو الدم، والدم ليس يقابل للملك فلهذا افترقا.
فإن قيل: ينبغي أن يظهر ملك المضمون ههنا في حق الملك البدل كمن غصب من أجر المدبر أو جاء آخر وغصبها منه وأجاز المولى تضمين الأول يصير المدبر ملكاً للأول في حق ملك البدل على الثاني حتى كان للأول، ولأنه تضمين الغاصب الثاني.
قلنا: المدبر مال متقوم ولهذا صح تسميته مهراً في باب النكاح، إلا أنه تعذر نقله من ملك بحقه ولما كان مالاً متقوماً أمكن إظهار الملك فيه في حق تملك البدل إن لم يكن إظهار الملك فيه في حق أحكام أخر. فأما الدم فليس بمال أصلاً، ولهذا لا يصح تسميته مهراً في باب النكاح، فلم يمكن إظهار الملك فيه أصلاً.
ولو كانت الشهادة في الخطأ أو في العمد على إقرار القاتل والمسألة بحالها، فلا ضمان على الشهود؛ لأنه لم يثبت كذب الشهود لأن المشهود الإقرار بالقتل، وليس من ضرورة حياته عدم إقرار المشهود عليه بالقتل وإنما الضمان على الولي في الفصلين.(9/675)
-----
وكذلك لو شهدوا على شهادة شاهدين على قتل الخطأ وقضى القاضي بالدية على العاقلة والباقي بحاله، لا ضمان على الفروع إذا لم يثبت كذبهما إذ ليس من ضرورة حياته عدم استشهاد الأصول الفروع على شهادتهم، ولكن يرد الولي الدية على العاقلة، ولو جاء الشاهدان الأصلان وأنكرا الإشهاد أصلاً لم يصح إنكارهما في حق الفرعين، حتى لا يجب عليهما الضمان فلا يجب الضمان على الأصلين أيضاً، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الأصلين لو رجعا عن شهادتهما بأن أقرا أنهما أشهداهما بباطل لا ضمان عليهما عندهما فههنا أولى، وإنما يشكل على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده لو رجع الأصلان عن شهادتهما ضمنا؛ لأن شهادة الأصل صارت منقولة إلى مجلس القاضي، فإنهما شهدا بأنفسهما ثم رجعا، والعذر لمحمد رحمه الله بين إنكار الأصول الإشهاد وبين رجوعهم عن الشهادة: أن شهادة الأصلين عند محمد إنما تصير منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة؛ لأنها موجودة في غير مجلس القضاء حقيقة، والشهادة في غير مجلس القاضي لا يكون سبباً للضمان، وإن ظهر كذب الشهود في الشهادة فاعتبرنا الحكم حال رجوع الأصلين، واعتبرنا الحقيقة حال إنكارهما عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.
وإن قال المشهود: نحن أشهدناهما بباطل ونحن نعلم يومئذ إنا كاذبين لم يضمنا شيئاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، خلافاً لمحمد، وقد مرت المسألة مع حججها من قبل ونزيد حجتها وضوحاً فنقول: العمل بالشهادة على الشهادة بخلاف القياس؛ لأن المنقول إلى مجلس القاضي شهادة الأصل في غير مجلس القاضي، والشهادة في غير مجلس القضاء ليس بحجة، والقضاء بما ليس بحجة لا يجوز، لكنا تركنا القياس وجعلنا شهادة الأصل كالموجودة في حق القضاء حكماَ ضرورة إحياء الحقوق، ولا ضرورة إلى جعلها موجودة في حق الضمان بعد الرجوع فبقي على أصل القياس.
(9/676)
-----
الفصل الحادي عشر: في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهنوالعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة
ث
عبد لرجل شهد شاهدان عليه أنه وهب هذا العبد من رجل وقبضه، والموهوب له يدعي، والواهب يجحد، وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعا عن الشهادة ضمنا قيمة العبد للواهب والعبد للموهوب له.
فإن قيل: ينبغي أن لا يضمنان للواهب إذا كان العبد قائماً في يد الموهوب له؛ لأن الواهب قادر على أخذ العبد مادام قائماً؛ لأن للواهب حق الرجوع في الهبة مادام الموهوب قائماً، ومع التمكن من الوصول إلى العين لا يصار إلى الضمان.
قلنا: وجوب الضمان للواهب على الشاهدين باعتبار أنهما أزالا العين عن ملكه، وقد عجزا عن رد العين إلى المالك؛ لأن العبد ليس في أيديهما، إنما هو في يد الموهوب له، وهما لا يملكان الأخذ منه، وإذا عجز الشاهدان عن رد العبد بعينه على الواهب كان للواهب تضمينها وإن تمكن الواهب من الأخذ من يد غيره، هذا كما قلنا في غاصب الغاصب مع الغاصب: إذا أقر غاصب الغاصب بالمغصوب للمالك، وأنكر الأول كان للمالك تضمين الغاصب الأول؛ لأن الغاصب الأول ضمن بالغصب وقد عجز عن رده الى المالك فضمن المالك مع أن المالك يتمكن من الأخذ من غاصب الغاصب كذا ههنا، ويكون العبد للموهوب له. وهل يحل الانتفاع له بالعبد متى علم أن الشهود شهود زور؟ وعن أبي حنيفة في هذا روايتان بناء على أن قضاء القاضي في التبرعات هل ينفذ باطناً؟ ففي إحدى الروايتين عنه ينفذ باطناً فيحل الانتفاع به، وفي الرواية الأخرى وهو قول أبي يوسف وهو قول محمد لا ينفذ باطناً ولا يحل له الانتفاع به، وليس للمولى أن يرجع في الهبة بعدما ضمن الشاهدان وهذا باتفاق الروايات.(9/677)
-----
أما على الرواية التي قال أبو حنيفة رحمه الله قضاء القاضي في الهبة ينفذ ظاهراً وباطناً، فلأنه وصل إليه عوض الهبة حين أخذ الضمان من الشاهدين، أكثر ما في الباب أن العوض وصل إليه من جهة غير الموهوب له، ولكن وصول العوض من غير الموهوب له، في حق قطع الرجوع بمنزلة وصوله من الموهوب له.
وأما على الرواية التي قال قضاء القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً، فلأن الموهوب وإن بقي على ملك الواهب إلا أنه لما أخذ الضمان من الشاهدين وهو بدل العبد فقد أزال ملكه عن العبد إلى الشاهدين، فكيف ما كان ليس له أن يرجع في العبد بعد تضمين الشاهدين، قال: وله أن يرجع في العبد قبل تضمين الشاهدين وهذا باتفاق الروايات أيضاً، أما على الرواية التي قال (168أ4) بنفاذ القضاء في الهبة باطناً فالرجوع بحكم الهبة عند عدم وصول العوض إليه، وأما على الرواية التي قال بعدم نفاذ القضاء في الهبة باطناً له أن يرجع فيها من غير قضاء ولا قضاء لأن الهبة بقيت على ملكه في الباطن، ولو لم يضمن المولى الشاهدين حتى يرجع في الهبة، فليس له أن يضمنها بعد ذلك؛ لأن العين وصل إلى المالك، ووصول العين إلى المالك يوجب براءة الضامن عن الضمان وصل العين إلى المالك من جهة الضامن أو من جهة غيره كما في الغصب.
وإن هلك العين في يد الموهوب له فليس للواهب أن يرجع في قيمة العبد، وهذا على الرواية التي قال بنفاذ القضاء في الهبة ظاهراً وباطناً، أما على الرواية التي قال بعدم النفاذ باطناً، فله أخذ القيمة في الباطن متى ظفر بحبس حقه من ماله؛ لأن الهبة نفذت على ملكه في الباطن، وصار الموهوب له ضامناً لما قبضها بغير إذن الواهب.(9/678)
-----
وإن كان العبد قائماً في يد الموهوب له وضمن الشاهدان القيمة للواهب وأراد الشاهدان أن يأخذا العبد، فليس لهما ذلك، وهذا على الرواية التي قال بنفاذ القضاء بالهبة ظاهراً وباطناً، وهما لأنهما لو أخذا العبد أخذاه بعد أنهما ملكاه من جهة الواهب بالضمان، ولا وجه إليه؛ لأن العبد على هذه الرواية صار ملكاً من جهة الواهب بالضمان ولا وجه إليه؛ لأن العبد على هذه الرواية صار ملكاً للموهوب له ظاهراً وباطناً، ولم يبق محلاً للتملك على الواهب، وعلى الرواية التي قال بعدم نفاذ القضاء باطناً يصير العبد ملكاً للشاهدين بأداء الضمان من جهة الواهب في الباطن، فيحل له أن يأخذه وينتفع به، وكل جواب عرفته في الهبة فهو الجواب في الصدقة إلا في فصل وهو الرجوع، فإنه لا رجوع في الصدقة بخلاف الهبة على نحو ما ذكرنا.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم دين وهو مقر، فادعى رب الدين على المديون أنه رهنه عبداً له وقبضه منه والمديون يجحد ذلك وقضى القاضي بالرهن بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فهذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يرجعا بعد موت العبد، وفي هذا الوجه إن لم يكن في قيمة العبد فضل على الدَّين، فلا ضمان عليهما، وإن كان في قيمة العبد فضل على الدين ضمنا الفضل للراهن؛ لأن في الوجه الأول أزالا يده عن العبد بعد .....، وفي الوجه الثاني أزالا يده عن الفضل على الدين من غير رضاه ومن غير عوض.
الوجه الثاني: أن يرجعا في حال حياة العبد، وفي هذا الوجه لا ضمان عليهما وإن كان في قيمة العبد فضل على الدين، وكان ينبغي أن يضمنا الفضل؛ لأنهما أزالا يده عن الفضل بغير عوض، كما لو رجعا بعد موت العبد.
والجواب وهو الفرق بين الفصلين: أن زوال يد المرتهن عن الفضل حال حياة العبد، حصل تبعاً لزوال يده عن المضمون؛ لأن الفضل لا يمتاز عن المضمون في الحبس، ولهذا صار الكل محبوساً عن الراهن، وإن لم يثبت حكم الرهن في الفضل حتى يهلك الفضل أمانة.(9/679)
-----
قلنا: ولم يجب الضمان عليهما في المضمون لأن إزالة اليد عن المضمون حصلت بعوض يعدله، فلا يجب الضمان في الفضل أيضاً؛ لأن حكم التبع لا يخالف حكم الأصل، أما بعد هلاك العبد لم يبق الفضل تبعاً للمضمون، ولأن قدر المضمون بعد الهلاك يصير ملكاً للمرتهن، وقدر الفضل لا يصير ملكاً له وإذا زالت التبعية بعد الهلاك زال المانع من وجه الضمان بعد إزالة اليد. هذا إذا كان الطالب يدعي الرهن والمطلوب يجحد، فأما إذا كان المطلوب يدعي الرهن والطالب يجحد، فإن كان الرهن قائما في يد المرتهن، فالقاضي لا يقضي بالرهن ببينة المطلوب في رواية كتاب الرهن وفي رواية هذا الكتاب يقضي، وجه ما ذكر كتاب الرهن أن الجحود في العقد صار كناية عن الفسخ فيوجب الفسخ متى فضل ممن يملك الفسخ والمرتهن يملك الفسخ، بانفراده مادام الرهن قائماً؛ لأن عقد الرهن غير لازم من جانبه، وصار جحوده بمنزلة قوله: فسخت الرهن، وبعدما قال المرتهن فسخت الرهن، القاضي لا يقضي بالرهن فكذا ههنا.
وجه ما ذكر في هذا الكتاب أن الجحود والعقد كما يصلح كناية عن الفسخ يصلح عبارة عن إنكار العقد من الأصل، بل هو رفع العقد بعد وجوده، والقضاء بالعقد بعد وجود ما يرفعه متعذر، وإن كان الرهن هالكاً في يد المرتهن، فالقاضي يقضي بالرهن ببينة المطلوب باتفاق الروايات؛ لأن جحود المرتهن الرهن بعد هلاك الرهن يجعل كناية عن الفسخ؛ لأن بعد هلاك الرهن هو لا يملك الفسخ، فيجعل إنكاراً للعقد من الأصل، فيتمكن الراهن من إثباته بالبينة.
وإذا قضى القاضي بالرهن ببينة المطلوب في هذه الصورة ثم رجعوا عن شهادتهم لا شك أنهما لا يضمنان الفضل للراهن؛ لأنهما أزالا يده عن الفضل برضاه إذا كان هو المدعي للرهن وهل يضمنان للمرتهن قدر الدين بعده؟ فإن رجعا فالمسألة على التفصيل:(9/680)
-----
إن رجعا عن الرهن والقبض بأن قالا: ما رهن ولا سلم إليه شيئاً، وإنّا كذبنا في كلا الأمرين، فإنهما يضمنان الدين للمرتهن؛ لأنهما أقرا أنهما أبطلا حقه في الدين بغير عوض لما رجعا عن الرهن والقبض؛ لأنهما زعما أنه ليس إليه شيء فكان بمنزلة ما لو شهدا بقبض الثمن ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة المبيع للبائع، وطريقه ما قلنا.
فأما إذا رجعا عن الرهن ولم يرجعا عن التسليم بأن قالا: سلم هو إليه هذا العبد إلا أنه ما رهنه منه، وفي هذا الوجه لا ضمان عليهما، وكان ينبغي أن يجب عليهما الضمان؛ لأن التسليم إذا كان بإذن المالك من غير عقد الرهن كان التسليم بجهه الإيداع، وبهلاك الوديعة في يد المرتهن لا يصير المرتهن مستوفياً للدين، فيكون هلاك الدين بغير عوض وقد أتلفا الدين على المرتهن بغير عوض فيضمنانز
قلنا: التسليم وإن كان بحق الإيداع إلا أن المرتهن لما جحد صار ضامناً له، فإذا هلك يكون مضموناً عليه وله عليه مثله، فيلتقيان قصاصاً.
وإذا شهد شاهدان بوديعة في يدي رجل والمودع يجحد ذلك فقضى عليه القاضي بالقيمة ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك؛ لأن الشهادة بالوديعة المجحودة والشهادة بالدين سواء.
ولو شهدا بدين ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك كذا ههنا، وكذلك البضاعة و... على هذا.(9/681)
-----
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة وعمل المضارب بها وربح، ثم اختلف رب المال والمضارب، فقال المضارب: أعطيتني بالنصف، وقال رب المال: لا بل بالثلث، فشهد شاهدان للمضارب بالنصف وقضى القاضي بشهادتهما، فقبض المضارب نصف الربح ورد رأس المال مع نصف الربح على رب المال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يضمنان لرب المال سدس الربح؛ لأن القول قول رب المال إنه شرط له الثلث لولا شهادتهما؛ لأن الربح يستفاد من جهته؛ فإنما استحق المضارب السدس الزائد بشهادتهما وقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق. وإن كان الربح كله ديناً لم يقبض فلا ضمان عليهما حتى يقبض المضارب ذلك، وإذا قبض المضارب ذلك اقتسماه نصفين وضمن الشاهدان لرب المال سدسه؛ لأن وجوب الضمان لرب المال على الشاهدين بتفويت اليد على رب المال ولا يتحقق ذلك ما لم يخرج الدين ويصل إلى المضارب حصته، فعند ذلك يتم التفويت عليه بشهادتهما.
ولو شهدا أنه أعطاه بالثلث والباقي بحاله، فلا ضمان عليهما في هذه الصورة للمضارب؛ لأنهما لم يتلفا على المضارب شيئاً، فإنه لولا شهادتهما لكان للمضارب الثلث بقول رب المال، فما أتلفا على المضارب شيئاً بشهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا بالنصف حيث ضمنا لرب المال السدس، لأن هناك أتلف على رب المال السدس بشهادتهما على ما مر، أما ههنا بخلافه.
وإذا شهد شاهدان بإجارة دابة وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فهذه المسألة على وجهين: (168ب4)
الأول: أن يكون المدعي للإجارة المستأجر، وفي هذا الوجه لا ضمان على الشاهدين لصاحب الدابة وإن كان أجر مثل الدابة أكثر من المسمى؛ لأنهما أتلفا على صاحب الدابة فيما زاد على المسمى مجرد منفعة من غير عقد؛ لأنه لا عقد فيما وراء المسمى، ومجرد المنفعة من غير عقد لا يضمن عندنا بالإتلاف الحقيقي، فكذا بالإتلاف الحكمي بالشهادة.(9/682)
-----
وإن كان المدعي للإجارة صاحب الدابة والمستأجر ينكر، ينظر إلى الأجر المسمى وإلى أجر مثل المستأجر، إن كان أجر مثل المسمى أو أكثر، لا ضمان عليهما للمستأجر أصلاً وإن أتلفا على المستأجر الأجر؛ لأنهما أتلفا(ه) بعوض يعدله.
فإن قيل: كيف يكون الإتلاف بعوض يعدله ولم يستوف المستأجر بإزاء ما وجب عليه من الأجر سوى مجرد المنفعة، ومجرد المنفعة لا قيمة لها من غير عقد ولا شبهة عقد، وإذا لم يجب على المستأجر ضمان ما استوفى من المنفعة حتى يلتقيا قصاصاً بما وقع، كيف الإتلاف بعوض؟.
قلنا: مجرد المنفعة لا تتقوم من غير عقد ولا شبهة عقد كما قلتم، وإنما تتقوم بالعقد بقدر ما قوم، وقد حصل التقويم بالأجر المسمى بقضاء القاضي؛ لأن عقد الإجارة ثبت بقضاء القاضي في الظاهر والباطن عند أبي حنيفة وإن كان الشهود زوراً، وإذا ثبت التقوم عند أبي حنيفة بقدر الأجر وجب على المستأجر باستيفاء ما استوفى من الأجر وقد سلم ذلك له بما أدى، فكان إتلافاً بعوض، وعلى قول من يقول بأن عقد الإجارة يثبت بقضاء القاضي في الظاهر دون الباطن، فكذا الجواب في الظاهر وفي الباطن لا تثبت الإجارة ولا يثبت الإيجاب، فكان له أخذ قدر الأجر من مال الشاهدين في الباطن متى ظفر به.
(9/683)
الفصل الثاني عشر: في الرجوع عن الشهادات على المال وعلى الدينوعلى الإبراء عن الدين وما يتصل بذلك
-----
ادعى على رجل مئة درهم وشهد له شاهد على إقرار المدعى عليه بدرهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بدرهمين، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه بثلاثة دراهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بأربعة دراهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بخمسة دراهم، فإن على قول أبي حنيفة: القاضي لا يقضي للمدعي بشيء، وعلى قولهما يقضي بأربعة إن زعمت الشهود أن الأقارير في مجلس واحد؛ لأن على الأربعة شاهدان وهو الشاهد الرابع والخامس، لأن الأربعة في الخمسة. ولا يقضي بالدرهم الخامس إذ ليس عليه إلا شاهد واحد وهو الخامس، وإن زعمت الشهود أن الأقارير كانت في مجالس مختلفة فعند أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه اللّه، (.........) فيقضي بالأربعة أيضاً، وعند أبي يوسف الأول هذه أموال مختلفة فقضى له بسبعة، لأنه شهد على الأربعة شاهدان الرابع والخامس فيقضي بأربعة بشهادتهما، وشهد بالدرهمين اثنان الثاني والثالث فيقضى بالدرهمين شهادتهما، وشهد بالدرهم ثلاثة الأول والثالث والخامس فيقضي بالدرهم بشهادتهم، فقد ضم إلى الشاهد الأول الشاهد الثالث والخامس ولم يضم إليه الشاهد الثاني والرابع، وإنما فعل هكذا لأن جميع ما شهد به الثاني وهو اثنان قد قضى به مرة، وجميع ما شهد به الرابع وهو أربعة قد قضى بها مرة، والشاهد متى قضي بجميع ما شهد به مرة لا يقضى بشهادته ثانياً، فأما الخامس فما قضي بجميع ما شهد به مرة؛ لأنه شهد بالخمسة وقد قضي بشهادته بالأربعة، وكذلك الثالث ما قضي بجميع ما شهد به مرة؛ لأنه شهد بالثلاثة وقد قضي بشهادته بالدرهمين، فلهذا ضم الخامس والثالث إلى الأول، ثم إذا قضي بسبعة دراهم عند أبي يوسف الأول، ورجع الشهود عن شهادتهم ضمن كل شاهد ما قضى القاضي بشهادته، فالأربعة حصل القضاء (بها) بشهادة الرابع والخامس، فيضمنان ذلك بالسوية، والدرهمان حصل القضاء بهما بشهادة الثاني والثالث فكان ضمان ذلك عليهما والدرهم الواحد حصل القضاء(9/684)
بها(9/685)
-----
بشهادة الأول والثالث والخامس، فكان ضمان ذلك عليهم، وعند أبي يوسف الآخر وهو قول محمد لما قضى بأربعة دراهم كان ضمان الدرهم الأول عليهم أخماساً، لأن القضاء به وقع بشهادة الخمسة وضمان الدرهم الثاني يكون على الثاني والثالث والرابع والخامس أرباعاً؛ لأن القضاء به وقع بشهادة هؤلاء، وضمان الدرهم الثالث يكون على الثالث والرابع والخامس أثلاثاً؛ لأن القضاء به وقع بشهادة هؤلاء، وضمان الدرهم الرابع يكون على الرابع والخامس نصفان؛ لأن القضاء به وقع بشهادتهما.
وفي «المنتقى» رجل مات وترك مئة درهم، فادعى رجلان كل واحد منهما على الميت مئة درهم، وأقام شاهدين بمحضر من الوارث وقضى القاضي لكل واحد منهما بمئة درهم، وقسمت المئة المتروكة بينهما نصفان، ثم رجع شاهد أحد الرجلين عن خمسين درهماً، وقال: لم يكن له إلا خمسون درهماً غرما للغريم الآخر ثلث الخمسين، وذلك ستة عشر وثلثان؛ لأن في زعم الراجعين أن حق الآخر ضعف حق الذي شهدا له وأن الواجب المئة بينهما أثلاثاً، ثلثها وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث للذي شهدا له، وثلثاها ستة وستون وثلثان للآخر، وإنما قسمت المئة بينهما نصفان بشهادتهما بالمئة، فصارا متلفين على الآخر ما زاد على ثلاثة وثلاثين إلى تمام خمسين، وذلك ستة عشر وثلثان وهو ثلث الخمسين، فيضمنان ذلك القدر.
وفيه أيضاً: رجل مات وترك ألف درهم، فادعى رجل على الميت ألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وادعى رجل آخر عليه ألف درهم أيضاً وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بالألف بين المدعيين ثم رجعوا، ضمن كل شاهد خمسمئة، وإن رجع شاهد أحد المدعيين لم يضمنا للوارث شيئاً؛ لأن ههنا من قد استحق الألف كلها.(9/686)
-----
ولم يذكر في «الكتاب» هل يضمنان للمدعي الآخر، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يضمنا، وإن رجع بعد ذلك شاهدا المدعي الآخر، فهذا وما لو رجعوا جملة سواء مع المباشر إذا اجتمعا كان الضمان على المباشر إذا لم يصر الإتلاف منقولاً إلى المسبب؛ والإتلاف ههنا لم يصر منقولاً إلى المسبب؛ لأن الوكيل مختار في القبض وليس بمجبر عنه بخلاف القاضي؛ لأن القاضي مجبر على القضاء، فيصير فعله منقولاً إلى الشاهد.
وإذا شهد رجلان على رجل بألف درهم، وشهد رجل وامرأتان عليه بتلك الألف وبمئة دينار وقضى القاضي بالكل ثم رجع الفريق الثاني عن الدراهم دون الدنانير، فلا ضمان عليهم؛ لأنه قد بقي على الدراهم من يتم الحجة بشهادته وهو الفريق الأول، ورجوع الفريق الثاني عن الدراهم لا يكون رجوعاً عن الدنانير، فلهذا قال: لا ضمان عليهم، فإن رجعوا جملة فضمان الدنانير على الفريق الثاني خاصة، وضمان الدراهم على الفريق الأول والثاني نصفان؛ لأن الدراهم تثبت بشهادة الفريقين جميعاً.
(9/687)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: أربعة شهدوا على رجل بأربعمئة درهم وقضى القاضي بها، ثم رجع واحد منهم عن مئة، وواحد منهم عن مئتين وواحد منهم عن ثلاثمئة وبقي شاهد واحد لم يرجع، فإن على الراجعين خمسون درهماً أثلاثاً، وهذا لأن العبرة في هذا الباب لبقاء من بقي من الشهود لا لرجوع من رجع، والشهادة قد بقيت بمقدار ثلاثمئة وخمسين؛ لأن الراجع عن مئة منها بقي شاهداً بثلاثمئة، والذي لم يرجع بقي شاهداً بأربعمئة، فيبقى على ثلاثمئة شهادة شاهدين، فلا يجب ضمانهما على أحد، وأما المئة الزائدة فعليها شاهد واحد، وهو الذي لم يرجع أصلاً، فيبقى ببقائه نصفها، وذلك خمسون فعرفت أن التالف بمقدار خمسين، فيجب على الراجعين هذا القدر، ويجب عليهم ذلك أثلاثاً؛ لاستوائهم في إيجابه، ولو رجع الرابع أيضاً عن الأربعمئة، فإن عليهم ضمان مئة وخمسين؛ لأن الشهادة قد بقيت بمقدار مئة وخمسين؛ لأن الراجع عن مئة بقي شاهداً بثلاثمئة، والراجع عن مئتين بقي شاهداً بمئتين، فبقي على المئتين ههنا شاهد واحد وهو الراجع عن المئة، فبقي ببقائه نصفه وذلك خمسون، فعرفت أن التالف بمقدار مئة وخمسين، فيجب على الراجعين ضمان ذلك، غير أن ضمان المئة يجب عليهم أرباعاً لاستوائهم في إيجابها (169أ4) والرجوع عنها وأما ضمان الخمسين، فلا يجب شيء منه على الراجع عن المئة؛ لأنه لم يرجع عن المئة التي هي الخمسون نصفها، بل بقي هو على الشهادة فيها، ولأجله بقي نصفها، ولكن يجب على الراجعين الباقين أثلاثاً؛ لاستوائهم في إيجابها والرجوع عنها.(9/688)
-----
قال في «الأصل»: وإذا شهد أربعة على رجل بحق، شهد اثنان عليه بخمسمئة، وشهد اثنان بألف وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع أحد شاهدي الألف، فإن عليه ربع الألف؛ لأن نصف الألف، وذلك خمسمئة تفرد بها شاهدا الألف، وقد بقي على ذلك صاحبه، وبه يقوم نصف الحق، فكان التالف بشهادة هذا الراجع عن الخمسمئة التي تفرد بإيجابها نصفها وهو الربع الألف، وإن رجع معه شاهد الخمسمئة فعليه ربع الألف خاصة لما بينا، وعليه وعلى شاهدي الخمسمئة ربع الألف أثلاثاً؛ لأن الشهود على الخمسمئة أربعة وقد بقي من يقوم به نصفها، وهو أحد شاهدي الألف، فكان التالف برجوع هؤلاء من الخمسمئة نصفها، فيجب ضمان ذلك عليهم أثلاثاً، وإن رجع أحد شاهدي الخمسمئة وحده أو رجعا، فلا ضمان عليهما؛ لأنه قد بقي على هذه الخمسمئة شاهدا الألف، وإن رجعوا جملة فعلى شاهدي الألف ضمان الخمسمئة التي تفرد بإيجابها، والخمسمئة الأخرى ضمانها على الفريقين أرباعاً؛ لأنها تثبت بشهادة الفريقين، وإن رجع أحد شاهدي الخمسمئة وشاهدا الألف فإن على شاهدي الألف نصف الألف خمسمئة، وعليهما وعلى شاهدي الخمسمئة ربع الألف أثلاثاً؛ لأن الخمسمئة الأخرى ثبتت بشهادة الأربع وقد بقي عليها من يقوم به نصفها، فكان التالف من الخمسئة الأخرى نصفها وهو ربع الألف فيكون ذلك على الراجعين أثلاثاً، وإن رجع أحد شاهدي الألف وأحد شاهدي الخمسمئة كان على أحد شاهدي الألف ربع الألف ولا شيء على أحد شاهدي الخمسمئة والله أعلم.
(9/689)
الفصل الثالث عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في المواريث
-----
قال محمد رحمه الله: رجل مات وترك عبدين وأمة وأموالاً، فشهد شاهدان لرجل أنه أخ هذا الميت لأبيه وأمه، ووارثه لا وارث له غيره، فقضى القاضي له بالعبدين والأمة والأموال ثم شهد شاهدان بعد ذلك لأحد العبدين بعينه أنه ابن الميت، وأجاز القاضي شهادتهما وأعطاه الميراث وحرم الأخ عن الميراث، ثم شهد آخران أن العبد الباقي ابن الميت وأجاز القاضي ذلك كله وجعله وارثاً مع الأول وقسم المال بينهما نصفين ثم شهد شاهدان أن الميت أعتق هذه الأمة في حياته وصحته وتزوجها، وقضى القاضي بنكاحها، وقضى لها الثمن بالمهر وجعل لها الثمن وكل واحد يجحد صاحبه أن يكون وارثاً، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالابن الأول عن شهادتهما، فإنهما يضمنان جميع قيمة الابن الأول للابن الثاني والأمة بينهما أثماناً، سبعة أثمانها للابن الثاني، وثمنها للمرأة، ويضمنان جميعاً ما ورثه الابن الأول للابن الثاني؛ ولا يضمنان للمرأة من ميراث الأول شيئاً، أما يضمنان جميع قيمة الابن الأول للابن الثاني والمرأة؛ لأن في زعمها عند الرجوع أنهما أتلفا الابن الأول على الميت، وأنهما ضمنا قيمته وصار ذلك ميراثاً للابن الآخر والأمة على ثمانية أسهم، لأن في زعمهما أن الابن الأول لم يكن وارثاً ولم يصر وارثاً بقضاء القاضي؛ لأن الأب ميت والنسب لا يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور بعد موت الأب، فصارا مقرين للابن الثاني والأمة بجميع القيمة على ثمانية أسهم وقد صدقهما الابن الثاني، والأمة في ذلك حيث جحدا (.d
(9/690)
-----
..) الابن الأول ، وأما يضمنان جميع ما ورثه الابن الأول للابن الثاني لأنهما بشهادتهما أتلفا على الابن الثاني ذلك؛ لأن الشهادة حصلت بعد موت الأب، فكان استحقاق الابن الأول الميراث مضافاً إلى شهادتهما ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً، لأنهما لم يتلفا على المرأة شيئا من حقها في الميراث؛ لأن حقها ثمن جميع المال سواء كان للميت ابن واحد أو أكثر من ذلك وقد استوفت ثمنها من جميع أموال الميت، إنما لم تستوف من قيمة الابن الأول؛ لأنها ظهرت بعد موت الزوج، فيستوفي الابن ذلك ليتم حقها، وإذا استوفت المرأة تمام حقها لا يضمنان لها شيئاً، وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً؛ لأن ما استحق بشهادتهما على الأخ استحق عليه بشهادة غيرهما وهو شاهد الابن الثاني ففي حق الأخ بقي على الشهادة حجة تامة في حق استحقاق الإرث عليه هذا الذي ذكرنا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً يزعم أنه هو الوارث دون غيره، فأما إذا صدق بعضهم بعضاً في كونه وارثاً والباقي بحاله، فإن شهدا للابن الأول لا يضمنان للابن الثاني ولا للمرأة شيئاً، وإن صارا مقرين عند الرجوع أنهما أتلفا للابن الأول وما ورثه الابن الأول على الابن الثاني والأمة، لأن الابن الثاني والأمة لما صدقا الابن الأول في دعواه أنه ابن الميت، فقد كذبا الشاهدين فيما أقرا لهما من الضمان، والإقرار يبطل بتكذيب المقر له، وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً وإن رجع شاهدا الابن الثاني أيضاً، فإنهما يضمنان قيمة الابن الثاني للابن الأول ولا يضمنان للأمة شيئاً من الميراث لما ذكرنا في المسألة الأولى، وهذا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً فأما إذا كان يصدق بعضهم بعصاً، فلا ضمان عليهما للابن الأول ولا للمرأة لما ذكرنا وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً، فإن رجع شاهدا المرأة أيضاً ضمنا قيمة المرأة بين الابن الأول والثاني نصفين ويضمنان المهر وما ورثته الأمة أيضاً بينهما، وهذا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً، فأما إذا كان يصدق(9/691)
بعضهم(9/692)
-----
بعضاً، فلا ضمان عليهما في شيء من ذلك لما ذكرنا وهذا الذي ذكرنا إذا كان ثبت وراثة كل واحد منهم بشهادة شاهدين على حدة، فأما إذا ثبت وراثة الكل بشهادة شاهدين بأن شهد شاهدان بنسب الابن الأول والثاني وبعتق الأمة ونكاحها وقضى القاضي بذلك، وكان ذلك بعد موت المولى ثم رجعا عن شهادتهما جملة. فالجواب فيها أن حق الضمان للابنين والمرأة كالجواب في المسألة الأولى حتى إذا جحد بعضهم بعضاً يضمنان قيمة الابن الأول بين الابن الثاني والمرأة على ثمانية أسهم، ويضمنان ميراث الابن الأول للابن الثاني ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً ويضمنان قيمة الابن الثاني بين الابن الأول والمرأة أثماناً، ويضمنان ميراث الابن الثاني للابن الأول، ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً، سواء شهدا بذلك في أوقات مختلفة، بأن شهدا للابن الاول وقضى القاضي بذلك ثم شهدا بعد ذلك للابن الثاني والمرأة، أو شهدا بذلك في وقت واحد بعد أن شهدا بنسب كل ابن بدعوة على حدة بأن شهدا أنه ادعى هذا، ثم ادعى الآخر؛ لأن الفريق وإن كان واحداً من حيث الحقيقة فمن حيث الحكم فرق؛ لأن الثابت بشهادة الفرق ضرورة كل ابن مشهوداً له ومشهوداً عليه، فإن الأكبر كما صار مشهوداً له على الأصغر صار مشهوداً عليه الأصغر وقد ثبت بالفريق الواحد وإذا صار الفريق الواحد فرقاً معنى، كان الجواب في حق الضمان بين المرأة وبين الابنين كالجواب فيما إذا كانوا فرقاً، إذا جحد البعض ضمن الشاهدان على نحو ما بينا، وإن صدق بعضهم البعض، فلا ضمان على الشاهدين على نحو ما بيّنا في الفرق، ففي حق هذا الحكم لا فرق، وإنما الفرق بين الفرق والفريق الواحد في ضمان الأخ، ففيما إذا كان المشهود فرقاً لا يضمن الراجعان للأخ شيئاً وإن أقر الراجعان بوراثة الأخ، وفيما إذا كان الفريق واحداً ضمنا للأخ إذا أقرا بوراثته.
(9/693)
-----
ووجه الفرق أن الشهود إذا كانوا فرقاً إنما لا يضمن الراجع للأخ شيئاً؛ لأن من حجته أن يقول للأخ لولا شهادتنا (169ب4).
لكان الحرمان ثابتاً لك بشهادة الفريق الآخر، فما أتلفت عليك، ولا يمكن للفريق الواحد أن يحتج على الأخ بهذه الحجة، لأنه لولا شهادتهم لم (يكن) الحرمان ثابتاً بشهادة غيرهم، إذ ليس ههنا فريق آخر فالحرمان في حق الأخ ثابت بشهادتهما، وتبين أنهما شهدا بباطل فيضمنان ذلك للأخ.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل مات وترك في يدي رجل ألف درهم وديعة والرجل مقر بها، جاء رجل وادعى أنه عم الميت أخ أبيه وأمه لا وارث له غيره وأقام على ذلك بينة، والعم مقر بأن صاحب اليد مودع الميت، فإن القاضي يجعل المودع خصماً للعم، فرق بين هذا وبينما إذا كان في يد إنسان وديعة لرجل، جاء رجل وادعى انه اشترى هذه الوديعة من المالك، وأنكر المودع الشراء، فأقام المدعي بينة على الشراء من صاحب الوديعة، فإن المودع لا يجعل خصماً له.(9/694)
-----
والفرق ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب»: أن الوارث قائم مقام المورث خلف عنه في أملاكه وحقوق عقده الذي باشره، حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب، وكونه مودعاً لا يدفع خصومة من أودعه، فكذا لا يدفع خصومة من قام مقامه، ألا ترى أنه لا يدفع خصومة وكيل صاحب الوديعة؛ لكونه قائماً مقامه، فأما المشتري فليس بقائم مقام البائع، وليس بخلف عنه؛ لأنه بالشراء يثبت له ملك مبتدأ لا بطريق الخلافة من البائع، ولهذا لا يملك الرد على بائعه بالعيب، والمودع إنما ينتصب خصماً للمودع ولمن قام مقام المودع. ثم إذا قضى القاضي بهذه الشهادة ودفع المال إلى العم جاء رجل وأقام بينة أنه أخ الميت لأبيه وأمه لا يعلم له وارثاً غيره تقبل هذه الشهادة؛ لأنه لا منافاة بين هذه البينة وبين البينة الأولى، فإنه يجوز أن يكون للميت عم وأخ، وهذه البينة قامت على الخصم وهو العم؛ لأن المال في يده وهو يزعم أنه له، وينكر كونه للميت، فينتصب العم خصماً عنه إذا قضى القاضي بالشهادة الثانية يأخذ المال من العم ويدفعه إلى الأخ لأب وأم؛ لأن الأخ مقدّم على العم في الميراث.
فإذا دفع المال إليه جاء رجل آخر وأقام البينة أنه ابن الميت لا يعلم له وارثاً غيره، قبل القاضي هذه البينة؛ لأنه لا منافاة بين هذه البينة وبينما تقدم من البيِّنتين وهذه البينة قامت على الخصم أيضاً لما قلنا في العم، وإذا قبل القاضي هذه البينة أخذ المال من العم ودفعه إلى الابن، وإذا دفع إلى الابن ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، فالقضاء ماضٍ ولا ضمان على شاهدي العم؛ لأن ما أتلف شهود العم مستحق بشهادة شهود الأخ والابن فلم يكن تلف ذلك مضافاً إلى شهود العم.
فإن قيل: هذا إنما يستقيم أن لو بقي شهود الأخ والابن، على الشهادة، وقد رجعوا مع شهود العم.(9/695)
-----
قلنا: رجوع شهود الأخ والابن إنما يعمل في حقهما ولا يعمل في حق شهود العم كما لا يعمل في حق المشهود عليه، وإذا لم يعمل في حقهم صار كأنهم لم يرجعوا عن شهادتهم ولا ضمان على شهود الأخ أيضاً لما قلنا في شهود العم، وضمن شهود الابن للأخ ما أخذ الابن؛ لأنهم أتلفوا ذلك على الأخ، وذلك غير مستحق بشهادة غيرهم، فلهذا كان عليهم الضمان.
وكذلك لو جاء الشهود جميعاً، إلى القاضي يشهدون على ما وصفنا قبل القاضي شهادتهم، وقضى بها؛ لأنه أمكن القضاء بالدعاوى كلها لعدم المنافاة وقد قامت الحجة على الكل، فيجب القضاء بالكل، ثم إذا قضى القاضي بشهادة الكل ورجعوا جميعاً عن شهادتهم، كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا على (....)، فلا يضمن شهود العم ولا شهود الأخ، ويضمن شهود ابن الأخ ما أخذ الابن.
حكى الجصَّاص عن الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه المسألة أن شهود الابن يضمنون للأخ ما ورثه الابن على الإطلاق غير سديد؛ لأن الشهود متى عدلوا جملة لا يتمكن القاضي من القضاء بالعمومة والأخوة؛ لأنه قارن القضاء بها ما يمنع القضاء بها، وهو قيام البينة العادلة على البنوة؛ لأنها تمنع القضاء بالميراث لهما؛ لأنهما لا يرثان مع الابن، فإذا امتنع القضاء بالميراث امتنع القضاء بالأخوة والعمومة؛ لأن القضاء بالأخوة والعمومة من غير استحقاق ميراث أو نفقة لا يجوز، كما لو تجردت دعوى الأخوة والعمومة عن دعوى المال.
وإذا لم يقض القاضي بالأخوة والعمومة فشهود الابن ما أتلفوا على الأخ شيئاً، فلا يضمنون بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك القضاء للأخ والعم قد صح؛ لأنه لم يقرن بالقضاء بهما ما يمنع القضاء بهما، أما ههنا فبخلافه.(9/696)
-----
قال: إلا أن تكون تأويل المسألة أن يكون الأخ أعاد البينة بعد رجوع شاهدي الابن حتى تثبت أخوّته بما أقام من البينة ثانياً؛ لأنه أمكن للقاضي القضاء بالأخوة في هذه الصورة؛ لأن شهود الابن راجعون عن شهادتهم وقت أقامة الأخ البينة في المرة الثانية.
أو يكون تأويل المسألة: أن الشهود شهدوا جميعاً إلا أن القاضي قضى للعم أولاً لظهور عدالة شهوده، ثم للأخ ثم للابن، فإن في هذه الصورة ينفذ قضاؤه، وإن كان سبيله أن لا يقضي حتى تظهر عدالة شهود الابن أو جرحهم، فأما إذا عدلوا معاً، فلا يصح ما ذكر من الجواب، والى هذا الطعن مال عامة مشايخنا وبعض مشايخنا صححوا المذكور في الكتاب وقالوا: شرط صحة دعوى الأخوة والعمومة والقضاء بهما دعوى حق لسببه لا استحقاق دعوى لسببه لا محالة، وكل واحد منهما ادعى حقاً بما ادعى من الأخوة والعمومة؛ لأن وقت دعواهما البنوة التي يثبت بها حرمان الأخ والعم غير ثابتة، فكان كل واحد منهما مدعى لنفسه حقاً بما ادعى من الأخوة والعمومة، فيقضي القاضي بأخوته وعمومته لوجود شرطه وإن لم يقض له بالمال لتقدم غيره عليه، ألا ترى أنه يقضى بأخوته وعمومته، فإن كان في التركة ديناً محيطاً وهو نظير من يدعي الشفعة بالجوار ويثبت جواره بالبينة، فالقاضي يقضي بذلك وإن كان هناك شريكاً مقدماً عليه.
(9/697)
-----
وفي «نوادر عيسى بن أبان»: رجل مات وترك أخاً معروفاً وترك عبدين وأمة، فشهد شاهدان لأحد العبدين أنه ابن الميت وشهد آخران للآخر أنه ابن الميت وشهد آخران للأمة أنها ابنة الميت، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الميراث بينهم ثم رجعوا عن شهادتهم لم يضمنوا للأخ شيئاً، ويضمن كل فريق من الشهود قيمة الذي شهدوا به وميراثه للأخوين، ولو كان الميت ترك أخاً معروفاً وعبداً وأمة، فشهد شاهدان للعبد أنه ابنه، وشهد آخران للأمة أنها ابنته، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الميراث كله بين الابن والابنة، ثم رجع الشهود جملة عن شهادتهم، فإن شاهدي الابن يضمنان للأخ نصف الميراث ونصف قيمة العبد، وللابنة سدس الميراث ونصف قيمة العبد من قبل أنه لولا شهادتهما لكان الميراث كله بين الأخ والابنة نصفان، ويضمن شاهدا الأمة قيمتها وميراثها للابن خاصة؛ لأنه لولا شهادتهم لكان جميع ذلك للابن.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل مات وترك ابن عم وترك ألف درهم في يد ابن العم، فأقام رجل البينة أنه أخوه وقضى القاضي له بالألف، ثم أقام رجل آخر بينة أنه ابنه وقضى القاضي له بالألف، ثم رجع شاهدا الأخ عن شهادتهما، فليس للابن والعم أن يضمنهما، وإن رجع شاهدا الابن بعد ذلك، فللأخ أن يضمن شاهدي الابن، فإذا أخذ الألف من شاهدي الابن، فلابن العم أن يضمن شاهدي الأخ الألف؛ لأن من حجته أن يقول لهما: إنما وصلت هذه الألف إلى الأخ بشهادتكما، وما لم يرجع شاهد الأخ وشاهد الابن فليس لابن العم ههنا شيء، وإن رجع شاهد الابن أولاً فللأخ أن يضمنهما، فإن رجع (170أ4) شاهدا الأخ بعد ذلك فلابن العم أن يضمنهما.(9/698)
-----
رجل شهد عليه شاهدان أنه أقر أن هذا ابنه من أمته هذه، والرجل يجحد وقضى القاضي به ثم مات المشهود عليه، فشهد شاهدان بعد موته لصبي كان في يده من أمة له أن الميت أقر عندنا في حال حياته أن هذا الصبي ابنه من أمته هذه، فإن القاضي يقبل هذه الشهادة بمحضر من الابن الأول، ويثبت نسبه ويعتق أمه من جميع المال، ويعطيه نصف ما في يد الابن الأول، فإن رجع الشهود بعد هذا عن شهادتهم ضمن شاهدا الابن الثاني للابن الأول جميع قيمة الابن الثاني وقيمة أمه وما أخذ منه من الميراث؛ لأنهم شهدوا بنسب الابن الثاني بعد موت الأب، ويضمن شاهدا الابن الأول للثاني نصف قيمة الأول ونصف قيمة أمه؛ لأنهم شهدوا بنسبه حال حياة المولى واستمسكا هذا على الأب في حياته، ولا يضمنان له من ميراثه شيئاً، وقد مر جنس هذا فيما تقدم.
الفصل الرابع عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية
قال محمد رحمه الله في «الأصل» إذا مات الرجل فجاء رجل وادعى أن الميت أوصى له بالثلث من كل شيء، فأقام على ذلك شاهدين وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعوا عن شهادتهما ضمنا جميع الثلث للورثة.
وكذلك لو ادعى الوصية في حال حياة الميت وأقام عليها شاهدين فلم يختصموا في ذلك حتى مات الموصي، وقضى القاضي بشهادتهما بعد موت الموصي ثم رجعوا، فإنهم يضمنون الثلث للورثة، فقد أضاف الاستحقاق إلى الوصية التي ثبتت بشهادة الشهود ولم يضف إلى الموت، وإن كان لابد للاستحقاق بالوصية من الأمرين الموت والوصية، والموت آخرهما وجوداً وفي باب النسب أضاف الاستحقاق إلى الموت إذا كان الموت آخرهما وجوداً بأن كانت الشهادة بالنسب حال حياة الأب، وقد اختلف المشايخ في تخريج المسألتين: بعضهم قالوا: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله.(9/699)
-----
موضوع مسألة الوصية أن الشهادة بالوصية كانت حالة الحياة، والخصومة والقضاء بها كان بعد موت الموصي، والشهادة لا تصير موجبة إلا بالقضاء، فإذا وجد القضاء بعد الموت فكأنهما شهدا بالوصية بعد الموت، ولو كان كذلك كان الاستحقاق مضافاً إلى الوصية التي تثبت آخراً بشهادتهم لا إلى الموت، كذلك ههنا.
وموضوع مسألة النكاح والنسب أن الشهادة والقضاء كانا في حالة الحياة، فلا يمكننا أن نجعلهما شاهدين بعد الموت لا حقيقة ولا اعتباراً، فكان الاستحقاق مضافاً إلى الموت الذي هو أحدهما وجوداً لا إلى النسب والنكاح الذي يثبت بشهادتهما.
وأشار شمس الأئمة السرخسي إلى الفرق فقال: استحقاق الوصية عند الموت بالعقد لا بالموت، فإن ملك الموصى له متجدد ثابت بالعقد فلا يمكن إضافته إلى الموت بخلاف الميراث، فإنه خلافه على معنى أنه يبقى للوارث ما كان من الملك ثابتاً للمورِّث، وهذه الخلافة لا تتحقق إلا بالموت، فأمكن إضافته إلى الموت.(9/700)
-----
وإذا شهدوا أنه أوصى بهذا الخادم لهذا الرجل وقضى القاضي بشهادتهم ووطئها الموصى له، فعلقت منه ثم رجعوا عن شهادتهم، فإنهم يضمنون قيمة الأمة يوم قضاء القاضي بها؛ لأنهم أزالوا الأمة عن ملكه بغير عوض، فيضمنون قيمتها للورثة ولا يضمنون قيمة الولد ولا العقر؛ لأن العقر إنما يجب بدلاً عما استوفى الموصى له من منافع البضع بسبب شهادة الشهود وقد ضمن الشهود ذلك حين ضمنوا القيمة يوم القضاء؛ لأن منافع البضع ألحقت بسائر أجزائها من حيث الحكم، فكما دخل ضمان سائر الأجزاء في ضمان القيمة، فكذا ضمان منافع البضع تدخل في ضمان القيمة، فإن وقع الاختلاف بين الشهود وبين الورثة في قيمة الجارية يوم القضاء، فقال الشهود: كانت قيمتها يوم القضاء ألف درهم، وقالت الورثة: لا بل كانت ألفي درهم فإن كانت الجارية ميتة فالقول قول الشهود؛ لأن الورثة يدعون عليهم زيادة قيمة وهم ينكرون، وإن كانت الجارية قائمة بحكم الحال فإن كانت قيمتها في الحال ألفي درهم فالقول قول الورثة، وإن كانت قيمتها في الحال ألفاً فالقول قول الشهود؛ لأنهما اختلفا في قيمتها فيما مضى وأمكن تحكيم الحال؛ لأن القيمة قائمة للحال فيجب تحكيم الحال كما في مسألة الطاحونة.
وإن كانت قيمتها في الحال ألفي درهم وأقام الشهود بينة أن قيمتها يوم القضاء كانت ألف درهم أخر ببينتهم، وكذلك إذا كانت قيمتها في الحال ألف درهم وأقام الورثة بينة أن قيمتها يوم القضاء كانت ألفي درهم أخر بينتهم؛ لأنه لا عبرة لتحكيم الحال متى جاءت البينة بخلافة، كما في مسألة الطاحونة، وإن أقاموا جميعاً البينة فالبينة بينة الورثة؛ لأن في بينتهم زيادة إثبات في قيمتها فيما مضى.
وإذا شهد الشهود أن الميت أوصى إلى هذا الرجل، وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا، فلا ضمان عليهم؛ لأنهما ما أتلفا على الميت ولا على الورثة شيئاً بشهادتهما، إنما نصبا من يحفظ المال عليهم.(9/701)
-----
قال: رجل مات وترك ابناً وثلاثة آلاف درهم، فادعى رجل وهو الأكبر أن الميت أوصى له بثلث ماله، وأقام على ذلك بينة، وادعى رجل آخر وهو الأوسط بمثل دعواه، وأقام على ذلك بينة وادعى رجل آخر وهو الأصغر بمثل دعواهما، وأقام على ذلك بينة والوارث يجحد ذلك كله والموصى لهم يجحد كل واحد منهم وصية صاحبه، وزكت البينات وقضى القاضي بالثلث بينهم أثلاثاً؛ لاستوائهم في الدعوى والحجة وازدحام الحقوق في الثلث الذي اقتصرت الوصايا عليهم عند عدم إجازة الورثة، فإذا قضى القاضي به ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، لم يضمنوا للابن شيئاً؛ لأن كل فريق يحتج على الابن ويقول: لولا شهادتنا لكان الثلث مستحقاً عليك بشهادة الفريقين الآخرين، ورجوع كل فريق يقتصر عليه ولا يظهر في حق غيره، فيجعل في حق كل فريق كأن الفريقين الآخرين لم يرجعا عن الشهادة، ويضمن كل فريق للموصى لهما اللذين لم يشهد لهما هذا الفريق ثلث الثلث؛ لأن في زعم كل فريق أنه لولا شهادتنا لكان الثلث بين الموصى لهما اللذين لم يشهد لهما نصفين، فإنما تلف على كل واحد منهما نصف الثلث وهو سدس الكل بشهادتنا، فيضمنان ذلك، ولو عدلت شهود الأكبر أولاً وقضى القاضي به بكل الثلث؛ ثم عدلت شهود الأوسط وقضى القاضي له بنصف ما أخذ الأكبر، ثم عدلت شهود الأصغر وقضى القاضي له بثلث ما أخذ، ثم رجعوا فالجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى.
فإن قيل: ينبغي أن يضمن شهود الأوسط للأكبر في هذه الصورة نصف الثلث؛ لأنهم أتلفوا بشهادتهم نصف الثلث.
(9/702)
-----
قلنا: نعم إلا أن ثلث هذا النصف، وهو سدس الكل مستحق بشهادة شهود الأصغر، فلهذا لا يضمنون له نصف الثلث. ولو كان الأكبر ادعى الوصية لنفسه، وأقام على ذلك بينة وقضى القاضي ببينة الأكبر ودفع الثلث إلى الأكبر، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن قضية الأكبر وأوصى بالثلث لهذا الرجل وهو الأوسط، وأخذ القاضي الثلث من الأكبر ودفعه إلى الأوسط بشهادة شاهده، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن وصيته لهذا الأوسط وأوصى بالثلث لهذا الرجل وهو الأصغر، فأخذ القاضي الثلث من الأكبر ودفعه إلى الأصغر، ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة فالثلث سالم للأصغر، ولا ضمان للوارث على أحد من الشهود؛ لأن من حجة كل فريق أن يقول للوارث: لولا شهادتنا لكان الثلث مستحقاً عليك بشهادة الفريقين الآخرين، ويضمن شاهدا الأصغر للأوسط جميع الثلث؛ لأنه لولا شهادتهما لكان جميع الثلث مستحقاً للأوسط؛ لأنه ثبته بشهادة شهوده وصيته، والرجوع عن الوصية للأكبر ويضمن شاهدا الأوسط للأكبر نصف الثلث؛ لأنه لولا شهادتنا لكان الثلث بين الأكبر والأصغر نصفين، لأن شهود الأصغر ما أثبتوا رجوع الميت (170ب4) عن الوصية للأكبر، إنما أثبت ذلك شهود الأوسط فحصل التلف على الأكبر بشهادة شهود الأوسط، إلا أن شهود الأوسط يضمنون نصف الثلث لا جميع الثلث؛ لأن نصف الثلث مستحق بشهادة شهود الأصغر بالوصية للأصغر فلا يضمنان ذلك، فأما النصف الآخر صار مستحقاً على الأكبر بشهادة شهود الأوسط لا غير، فيضمنون ذلك النصف، ولا يضمن شاهدا الأكبر شيئاً؛ لأنهما ما شهدا على الأوسط، والأصغر إنما شهدا على الوارث، وقد ذكرنا أنهما لا يضمنان للوارث ولو لم يرجعا، ولكن وجد أحد شاهدي الأوسط عبداً فالثلث بين الأكبر والأوسط نصفان.(9/703)
-----
لأن شهود الأكبر أثبتوا الوصية للأكبر، وشهود الأصغر أثبتوا الوصية للأصغر ولم يثبتوا الرجوع عن الوصية للأكبرو والأوسط خرج من البين، فيكون الثلث بين الأكبر والأصغر نصفان، قال: ولو ترك الميت ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء، لا مال له غيرهم، شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد الأكبر وقضى القاضي به؛ وشهد آخران أن الميت رجع عن الوصية الأولى وأوصى بهذا العبد الأوسط لفلان الأوسط، فقضى القاضي بشهادتهم وردت الوصية الأولى؛ وشهد آخران أن الميت رجع عن الوصية الثانية ثم رجعوا جميعاً عن الشهادة، لا ضمان على أحد منهم للوارث.
(9/704)
-----
أما على الفريق الأول: فلأن ما أتلفوا على الوارث بشهادتهم عاد إلى ملك الوارث بشهادة الفريق الثالث، فارتفع ذلك الإتلاف أيضاً، ولأن الفريق الثاني وإن أتلفوا على الوارث بشهادتهم العبد الأوسط، إلا أنهم عوضوا عنه للوارث العبد الأكبر، والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على الشاهد عند الرجوع، وأما الفريق الثالث: فلأنهم وإن أتلفوا على الوارث العبد الأصغر بشهادتهم إلا أنهم أتلفوا بعوض، وهو العبد الأوسط ولا ضمان على شهود الأكبر لواحد من الموصى لهم، ويضمن شاهدا الأوسط للأكبر نصف قيمة العبد الأكبر، وشاهدا الأصغر يضمنان للأوسط جميع قيمة الأوسط، ولو شهدا للأكبر أن الميت أوصى له بثلث ماله، فلم تظهر عدالتهما حتى شهد آخران أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الأوسط ورجع عن وصيته للأكبر، فلم يظهر عدالتهما أيضاً حتى شهد آخران أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الأصغر ورجع عن وصيته للأوسط، فعدل الشهود جميعاً، أو كانت الوصايا بالعبيد الثلاثة على ما بينا، قضى القاضي للأصغر بالثلث إن كانت الوصية بالثلث، وبالعبد الذي شهد له شهوده إن كانت الوصية بالعبد، ولا يقضي بالوصية للأكبر ولا للأوسط؛ لأنه قارن القضاء بها وهو قيام البينة العادلة على الرجوع عن الوصية لهما، ولم يقارن القضاء بالوصية للأصغر مثل هذا المانع، فقضى بالوصية للأصغر ولم يقض بالوصية للأكبر والأوسط لهذا، فإذا قضى القاضي بذلك ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة ضمن شهود الأصغر للوارث الثلث إن كانت الوصية له بالثلث، وقيمة العبد إن كانت الوصية له بالعبد.
(9/705)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا كانت الشهادات على التفاريق والتعديل والقضاء بها على التفاريق، ثم رجعوا حيث لا يضمن شهود الأصغر للوارث شيئاً على ما مر قبل هذا، والفرق: أن ثمة شهود الأصغر ما أتلفوا على الوارث شيئاً، فإن بشهادتهم لم يستحق الأصغر شيئاً على الوارث، إنما استحق على الأوسط؛ لأن القاضي قضى للأوسط بالثلث قبل القضاء للأصغر، وشهادتهم بالرجوع عن الوصية للأوسط لا يوجب عود الثلث إلى الوارث إذا اقترن بذلك شهادتهم بالوصية للأصغر، ولهذا قلنا إن الوارثين إذا شهدا أن الميت رجع عن وصيته لفلان، وأوصى لهذا الثاني تقبل شهادتهما، ولو كانت الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى عند اقتران الشهادة بالوصية الثانية بها يوجب عود الموصى به إلى الورثة، لكانت هذه الشهادة لأنفسهما، فينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة، فعلم أن شهادة شهود الأصغر بالرجوع عن الوصية للأصغر لا توجب عود الثلث إلى الوارث إذا اقترنت به شهادتهم بالوصية للأصغر، بل ينتقل الثلث بشهادتهم من الأوسط إلى الأصغر، ولما كان هذا لم يكن التلف حاصلاً على الوارث بشهادة شهود الأصغر، فلهذا لا يضمنون للوارث، أما ههنا القاضي لما لم يقض الثلث للأكبر وللأوسط، بقي الثلث على ملك الوارث من حيث الظاهر، فصار شهود الأصغر بشهادتهم متلفين على الوارث ذلك فيضمنان ذلك للوارث، فإن أراد الأوسط تضمين شهود الأصغر لعلمه أنهم شهدوا برجوع الميت عن وصيته، ورجعوا عن شهادتهم، فإن القاضي يقول للأوسط: أقم بينة على وصيتك وخصمك على شهود الأصغر، لأن القاضي لم يقدر على القضاء بالوصية للأوسط وقت ظهور عدالة شهوده؛ لأنه قارن القضاء بالوصية له ما يمنع القضاء بها على ما مر، ولم يقدر على القضاء بتلك البينة الآن؛ لأن بينته رجعوا أيضاً، فلابد من أقامة بينة أخرى، فإذا أقام بينة أخرى حينئذٍ أمكن للقاضي القضاء بالوصية له؛ لارتفاع المانع من القضاء لما رجع شهود الأصغر عن شهادتهم، فيقضي(9/706)
القاضي(9/707)
-----
بالوصية للأوسط ويظهر حينئذٍ أن شهود الأصغر أتلفوا على الأوسط بشهادتهم لا على الوارث، فيضمن شهود الأصغر للأوسط جميع الثلث إن كانت الوصية بالثلث، وقيمة العبد الموصى له إن كان الوصية بالثلث، ثم يرجع شهود الأصغر على الوارث بما أخذ الوارث منهم؛ لأنه تبين أن ما أخذ الوارث منهم أخذ بغير حق.
وهو نظير رجل في يده عبد قيمته ألف درهم، فهلك في يده فأقرا أنه كان غصبه من فلان وضمنه القاضي قيمته للمقر له، قامت البينة أن العبد كان للآخر، وقضى القاضي بالقيمة لصاحب البينة، فالمقر يرجع على المقر له بما ضمن له كذا ههنا، قال: وكذلك الموصى له الأكبر لو أراد تضمين شاهدي الأوسط لم يكن له ذلك إلا أن يقيم البينة عليهما بحقه، فإذا أقامها قضى القاضي له بنصف الثلث على شهود الأوسط؛ لأنه تبين أنهما أتلفا على الأكبر نصف الثلث على ما مر في المسألة المتقدمة، ولا يضمن واحد منهم شيئاً للوارث لما مر قبل هذا.
رجل أوصى بثلث ماله لرجل ثم مات الموصي ودفع القاضي الثلث إلى الموصى له، ثم شهد شاهدان أن الميت قد كان رجع عن هذه الوصية، وقضى القاضي بالرجوع وأخذ الوارث الثلث من الموصى له، ثم شهد هذان الشاهدان أن الميت أوصى بالثلث لهذا الرجل الآخر وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً، ضمنا الثلث مرتين، مرة للوارث ومرة للموصى له الأول؛ لأنهما أتلفا الثلث على الموصى له الأول بالشهادة على الرجوع عن وصية، وأتلفاه على الوارث بشهادتهما للموصى له الثاني.(9/708)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى وبالوصية الثانية جملة، وقضى القاضي بالرجوع وبالوصية الثانية، ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً، فإنهما يضمنان ثلثاً واحداً للموصى له الأول، ولا يضمنان للوارث شيئاً، والفرق وهو أنهما إذا شهدا بالرجوع والوصية الثانية جملة، فالثلث لا يعود إلى ملك الوارث بل ينتقل من الموصى له الأول إلى الثاني، فيكون التلف حاصلاً على الموصى له الأول لا على الوارث، أما ههنا الثلث قد عاد إلى ملك الوارث لما شهدا بالرجوع مفرداً، وقضى القاضي بشهادتهم، فإذا شهدا بالوصية الثانية بعد ذلك بزور، فقد أتلفا الثلث على الوارث، وقد أتلفاه على الموصى له الأول بالشهادة على الرجوع، فصارا متلفين الثلث مرتين فضمناه مرتين لهذا.
فإن قيل: لم لا يصير ما أدخلاه الشاهدان في ملك الوارث بالشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى عوضاً عما أخرجاه عن ملكه بالشهادة الثانية.
قلنا: لأن الإخراج مع الإدخال حصلا بشهادتين مختلفتين، فالإدخال حصل بالشهادة بالوصية الثانية، والتعويض إنما يكون عند اتحاد سبب الإدخال والإخراج.
كما لو شهدا على (171أ4) رجل ببيع عبد قيمته ألف بألف، أما عند تفرق السبب فلا، ألا ترى أنهما إذا شهدا لزيد على عمرو بألف درهم ثم شهدا بعد ذلك لعمرو على زيد بألف درهم، ثم رجعا عن الشهادتين ضمنا لهما.
وإن أدخلا في ملك واحد منهما مثل ما أخرجا عن ملكه ما كان الطريق إلا ما قلنا أن السبب قد تفرق، وعند تفرق السبب التعويض يمتنع.
ولو شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى فلم يقض القاضي بشهادتهما حتى شهدا بالوصية الثانية، فقضى القاضي بذلك جملة ثم رجعا عن الشهادتين لم يضمنا للوارث شيئاً، كما لو حصلت الشهادتان بالأمرين جملة؛ لأن القضاء بالأمرين إذا وقع جملة، فالثلث لا يعود إلى ملك الوارث لقيام ما يمنع العود إلى ملك الوارث وهو القضاء بالوصية للثاني.
(9/709)
-----
قال: ولو شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى وبالوصية الثانية معاً، وقضى القاضي بالأمرين ثم رجعا عن الشهادة بالوصية الثانية خاصة، سألهما القاضي أترجعان عن الشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى؟ وهذا سؤال حسبة وليس بواجب، وهذا لأنهما لما رجعا عن بعض الشهادة ثبت احتمال الرجوع عن الباقي، فصار الموضع موضع الاحتياط، وفي هذا السؤال فائدة؛ لأنهما لو لم يرجعا عن الشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى يجب القضاء بالثلث للوارث عند رجوعهما عن الشهادة بالوصية الثانية، وإذا قضى القاضي بذلك تبقى الشهادة على الرجوع مفردة، فإن رجعوا بعد ذلك عنها ضمنوا الثلث مرة أخرى للموصى له الأول لما تبين، فتكرر الضمان على الشهود.
ولو رجعا عن الشهادة على الرجوع قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث ضمنوا الثلث للموصى له، ولا يضمنان للوارث لما تبقى، فقد أفاد السؤال بيان المستحق وتخفيف الأمر على الشهود، وتحقيق النظر، فلهذا سألهما القاضي.
فإن قالا: نحن ثابتان على شهادتنا بالرجوع يضمنان الثلث للوارث؛ لإقرارهما أن الشهادة بالوصية الثانية كانت باطلة، وأن الثلث كان للوارث، وأنهما أتلفاه على الوارث بشهادتهما بغير عوض.(9/710)
-----
وإن قالا: نحن راجعان عن تلك الشهادة أيضاً، فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي عليهما بالثلث للوارث ضمنا للموصى له ثلثاً آخر؛ لأنهما لما رجعا عن شهادتهما على الرجوع بعدما قضى القاضي عليهما بالثلث للوارث، فقد أقرا بشيئين يضمنان الثلث على أنفسهما للموصى له الأول؛ لإتلافهما ذلك عليه، وبثبوت ولاية استرداد ما دفعا إلى الوارث لأنفسهما؛ لأنهما يقولان: إتلاف الثلث حصل على الموصى له الأول لا على الوارث، فيصدقان فيما يقران على أنفسهما ولا يصدقان فيما يقران على الوارث، ولو كان ذلك قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث ضمنا ثلثاً واحداً للموصى له الأول، ولا يضمنان للوارث شيئاً، وكان ينبغي أن يضمنا للوارث ثلثاً أيضاً، لأن الرجوع عن الشهادة بالوصية الثانية قبل الرجوع عن الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى إقرار بإتلاف الثلث على الوارث، ويضمنان الثلث للوارث والرجوع عن الشهادة على الرجوع بعد ذلك إقرار للموصى له الأول بالثلث رجوع عما أقر للوارث، والإقرار صحيح ، أما الرجوع عن الإقرار غير صحيح.
(9/711)
-----
والجواب أن يقول: الإقرار بالثلث للوارث غير مفصح به، وإنما يثبت ذلك في ضمن الرجوع عن الشهادة على الوصية الثانية، والرجوع عن الشهادة غير معتبر قبل اتصال القضاء به، فما ثبت في ضمنه من الإقرار أيضاً لا يكون معتبراً قبل اتصال، فإذا رجعا عن ذلك قبل اتصال القضاء به يعمل رجوعهما، فلو أن القاضي حين سألهما لم يثبتا بل سكتا، فالقاضي لا يجبرهما، لأن السؤال إنما كان نظراً للشهود وتخفيفاً عليهم، وهذا لا يقتضي الجبر، فإذا سكتوا ولم يثبتوا قضى القاضي بالضمان للوارث؛ لأنهم شهدوا بالرجوع عن الوصية الأولى، ولم يوجد الرجوع عن تلك الشهادة، والظاهر هو الثبات عليهما، فيكون الجواب فيه الجواب كالجواب فيما إذا صرحوا أنهم ثابتون على الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى، ولو أنهما رجعا على الشهادة على الرجوع ولم يرجعا عن الشهادة بالوصية الثانية، فإن القاضي يضمنهما نصف الثلث للموصى له الأول؛ لأنهما صارا مقرين أن شهادتهما على الرجوع كانت باطلة وأن الميت أوصى للأول كما أوصى للثاني، وأن الثلث بينهما نصفان لولا شهادتنا بالرجوع عن الوصية الأولى، فصارا مقرين له بإتلاف نصف الثلث على الموصى له الأول بغير عوض، فإن رجعا بعد ذلك عن الشهادة على الوصية ضمنا نصف الثلث أيضاً للموصى له الأول؛ لأنهما صارا مقرين أن الشهادة على الوصية الثانية كانت باطلة، وأن الثلث كله كان للموصى له الأول لولا شهادتنا بالرجوع عن الوصية الأولى، فصارا مقرين له بإتلاف كل الثلث عليه إلا أنهما قد ضمنا نصف الثلث مرة، فيضمنان النصف الباقي، ولم يذكر ههنا أنهما متى رجعا عن الشهادة على الرجوع أن القاضي يسألهما أترجعان عن الوصية الثانية، بخلاف الفصل الأول.(9/712)
-----
والفرق بينهما: أن في الفصل الأول القاضي إنما يسألهما لمعان، من جملة ذلك تعيين المستحق؛ لأنهما إن رجعا عن الشهادة على الرجوع بعد الرجوع عن الشهادة على الوصية الثانية قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث، كان الثلث للموصى له الأول، وإن ثبتا على الشهادة على الرجوع كان الثلث للوارث، يسألهما القاضي لتعيين المستحق، أما ههنا بعدما رجعا عن شهادتهما على الرجوع المستحق معلوم، وهو الموصى له الأول على كل حال، وإنما الاشتباه في مقدار ما يجب له من ثلث أو نصف ثلث، فيقضي القاضي بالقدر المتيقن، ولا يسألهما عن الرجوع عن الشهادة الثانية لهذا.
رجل مات وترك عبدين قيمة كل واحد منهما ألف درهم، وثلث ماله ألف درهم بأن ترك ألفاً أخرى، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل الأكبر، ثم شهد آخران أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الأصغر، قضى القاضي لكل واحد من الموصى لهما بنصف عبده؛ لأن الوصيتين قد اجتمعتا والثلث قاصر عنهما، وليست إحدى الوصيتين بأولى من الأخرى، فيجب قسمة الثلث بينهما نصفين، وذلك بأن يعطي كل واحد من الموصى لهما نصف وصيته، فإن رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم لا يضمنون للوارث شيئاً؛ لأن من حجة كل فريق أن يقول للوارث: نصف العبد الذي شهدنا به بقي على ملكك والنصف الآخر أخرجناه عن ملكك، فقد أخرجنا بعوض؛ لأنه لولا شهادتنا لكان العبد الآخر للموصى له الآخر وكل فريق لا يقدر على إخراج النصف الذي أخرجه عن ملك الوارث إلا بإدخال نصف العبد الآخر في ملك الوارث حتى لا تزيد الوصية على الثلث، فصار النصف المردود على الوارث بشهادة كل فريق عوضاً عن النصف الفائت بشهادتهم.
(9/713)
-----
وقد ذكرنا أن الإتلاف بعوض لا يوجب الضمان ويضمن كل فريق من الشهود للموصى له الآخر نصف عبده؛ لأنه أتلف النصف على الآخر بشهادتهم، فإنه لولا شهادتهم لسلم العبد كله للموصى له الآخر، ولو كان ثلث ماله ألفان بأن كان له سوى العبد أربعة آلاف درهم حتى خرج العبدان من الثلث سلم لكل واحد من الموصى لهما عبده، فإن رجع الشهود جميعاً ضمن كل فريق للوارث قيمة العبد الذي شهد به؛ لأن كل فريق أزال العبد الذي شهد به عن ملك الورثة ولم يدخل في ملك الورثة بشهادته شيء، فكان هذا إتلافاً بغير عوض، ولا يضمن الشهود للموصى لهما شيئاً إذا سلم لهما العبدان، ولو كان ثلث ماله ألف وخمسمئة بأن كان له مال سوى العبدين ألفان وخمسمئة كان لكل واحد منهما ثلاثة أرباع عبده، فإن رجعوا جميعاً عن الشهادة ضمن كل فريق سبعمئة وخمسين درهماً، مائتان وخمسون من ذلك للموصى له الآخر، وخمسمئة منها للورثة؛ لأن كل فريق بشهادته أتلف على الوارث من العبد الذي شهدوا بوصية ثلاثة أرباعه، وذلك سبعمئة وخمسون، إلا أن مائتين وخمسين من ذلك عاد إلى الورثة عوضه؛ لأنه لولا (171ب4) شهادة هؤلاء كان العبد الآخر كله مستحقاً للموصى له الآخر، فإنما عاد ربعه إلى الورثة بشهادتهم، فصار عوضاً، فبقي مقدار خمسمئة متلفاً بغير عوض، فيضمنه كل فريق، وأما مائتان وخمسون للموصى له الآخر، لأنه لولا شهادة كل فريق لقضي للآخر بكمال كل العبد الذي أوصى له به، فإنما يقضي منه مقدار ربعه، وذلك قدر المائتين وخمسين درهماً بشهادة هؤلاء، فيضمون له ذلك القدر ولو كان قيمة أحد العبدين ألفان وقيمة العبد الآخر ألف، وثلث ماله ألفان بأن كان له سوى العبدين ثلاثة آلاف درهم قضى لكل واحد من الموصى لهما بثلثي عبده؛ لأن الوصيتين حصلتا بأكثر من الثلث، فيرد إلى الثلث عند عدم إجازة الورثة، وذلك ألفان، فيقسم الألفان بينهما على قدر حقوقهما، وحق أحدهما في ألفي درهم، وحق الآخر في ألف درهم(9/714)
فيقسم(9/715)
-----
الألفان بينهما، ثلثاه لصاحب الألفين وذلك ألف وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث، وثلثه لصاحب الألف، وذلك ستمئة وستة وستون وثلثان، فلو رجع الشهود عن شهادتهم ضمن الذي شهد بالعبد الأرفع ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثين، وثلث ألف من ذلك للورثة، وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث للموصى له الآخر، أما الألف للورثة؛ لأنهم وإن أخرجوا عن ملكهم ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون، وثلث فقد أدخلوا في ملكهم ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأنه لولا شهادة هذا الفريق لكان يقضي بكل العبد الآخر للموصى له الآخر، فإنما عاد إلى الورثة ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث من العبد الآخر بشهادة هؤلاء، فلا يضمنون ذلك القدر، فكان المضمون عليهم قدر ألف درهم، وأما ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث للموصى له الآخر، فإنه لولا شهادة هذا الفريق لكان العبد الآخر مستحقاً للموصى له الآخر، فإنما يقضي عليه ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث بشهادة هؤلاء، فيضمون ذلك القدر، قال وضمن الذي شهد بالعبد الأدون للموصى له الآخر ستمئة وستة وستون وثلثان، ولا يضمن للوارث شيئاً، أما لا يضمن للوارث؛ لأنه إنما استحق على الوارث بشهادة هذا الفريق ثلثا العبد الأدون، وقيمته ستمئة وستة وستون وثلثان وقد أدخلوا عوض ذلك في ملك الوارث عن العبد الأرفع وهو ثلث الأرفع، وأما يضمن للموصى له الآخر ستمئة وستة وستون وثلثان؛ لأنه لولا شهادة هذا الفريق لكان كل كل العبد الآخر، مستحقاً للموصى له الآخر فإنما يقضي عنه ستمئة وستة وستون وثلثان بشهادة هؤلاء، فيضمنون له ذلك القدر.
(9/716)
-----
رجل مات وترك عبدين، قيمة كل واحد منهما ألف درهم وثلث ماله ألف درهم، شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل وقضى القاضي به، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن تلك الوصية وأوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر وقضى القاضي به ثم رجع الفريقان جميعاً عن شهادتهما، فلا ضمان على الفريق الأول لا للورثة ولا للموصى له الآخر، أما للوارث فلأنهما، وإن أخرجا العبد الأول عن ملك الوارث، إلا أن القاضي لما قضى بالرجوع عن الوصية الأولى وأعاد العبد إلى الوارث فقد ارتفع ذلك الإخراج، وأما للموصى له الآخر؛ فلأن الفريق الأول ما شهدوا على الموصى له الآخر بشيء، والفريق الثاني يضمنون للموصى له الأول قيمة عبده؛ لإتلافهم العبد الأول عليهم بشهادتهم، ولا يضمنون للوارث شيئاً؛ لأنهم إن أخرجوا العبد الثاني عن ملك الوارث فقد أدخلوا العبد الأول في ملكه، بشهادتهم ولو كان العبدان يخرجان من الثلث، فلا ضمان على الفريق الأول لا للوارث ولا للموصى له الأول كما ذكرنا في الفصل الأول، وأما الفريق الثاني فيضمنون للموصى له الأول قيمة عبده لما ذكرنا في الفصل الأول ويضمنون أيضاً للورثة قيمة العبد الثاني، ولا يصير العبد الأول عوضاً عن العبد الثاني بخلاف ما سبق.(9/717)
والفرق: أن العبدين إذا كانا يخرجان من الثلث، فالفريق الثاني وإن أدخلوا العبد الأول في ملك الوارث بمقابلة إخراج العبد الثاني عن ملكه، إلا أنهم كانوا يقدرون على إخراج العبد الثاني عن ملك الوارث من غير إدخال العبد الأول في ملكه إذا كان العبدان يخرجان عن الثلث، ألا ترى أنهما لو شهدا بالوصية الثانية ولم يشهدا بالرجوع عن الوصية الأولى، فإنه ينفذ الوصية الثانية في جميع العبد الثاني، وإن لم يدخل شيء من العبد الأول في ملك الوارث، وإذا قدرا على إخراج العبد الثاني من ملك الوارث من غير إدخال الأول في ملكه لم يكن إدخال الأول منوطاً بإخراج الثاني، فلا يصلح عوضاً عن الثاني.(9/718)
-----
أما إذا كان العبدان لا يخرجان من الثلث والفريق الثاني لا يقدرون على إخراج العبد الثاني عن ملك الوارث إلا بإدخال العبد الأول في ملكه إذ الوصيتان لا تخرجان من الثلث، فصار الإدخال الأول منوطاً بإخراج الثاني، فصلح عوضاً عن الثاني.
ولو كان ثلث المال ألفاً وخمسمئة والمسألة بحالها فالفريق الثاني يضمنون للموصى له الأول قيمة العبد الأول لما مر، ويضمنون أيضاً للوارث نصف قيمة العبد الثاني، لأنهما أخرجا العبد الثاني عن ملك الوارث، أكثر ما فيه أنهما أدخلا العبد الأول في ملكه إلا أن النصف من العبد الأول لا يصلح عوضاً عن نصف العبد الثاني؛ لأنهم يقدرون على إخراج نصف العبد الثاني؛ عن ملك الوارث من غير إدخال شيء من العبد الأول في ملكه بخروج هذا القدر من الثلث، وإذا كان هكذا لم يكن إخراج أحد النصفين من العبد الثاني متعلقاً بإدخال نصف العبد الأول في ملكه، فلم يصر نصف العبد الأول عوضاً عن نصف العبد الثاني، فبقي إتلاف هذا النصف بغير عوض، فأما النصف الآخر من العبد الثاني فالفريق الثاني لا يتمكنون من إخراجه عن ملك الوارث إلا بإدخال النصف من العبد الأول في ملكه؛ لكونه زيادة على الثلث فكان إخراج هذا النصف متعلقاً بإدخال النصف من العبد الأول في ملكه، فصلح عوضاً، فكان تلف هذا النصف بعوض، ولهذا قال ضمن الفريق الثاني للوارث قيمة نصف العبد الثاني.
(9/719)
-----
ولو كان ثلث المال ألفي درهم وقيمة العبد الأول ألف درهم، وقيمة العبد الثاني ألفي درهم والمسألة بحالها، فإن الفريق الثاني يعرضون للموصى له الأول قيمة العبد الأول ألفا لما مرّ، ويضمنون أيضا للورثة نصف قيمة العبد الثاني؛ لأن العبد الأول صار عوضاً عن النصف من العبد الثاني من قبل أن الفريق الثاني يتمكنون من إخراج النصف من العبد الثاني عن ملك الوارث من غير إدخال الأول في ملكه، ولا يتمكنون من إخراج النصف الآخر عن ملك الوارث إلا بإدخال الأول في ملكه، فصار الأول عوضاً عن أحد نصفي العبد الثاني لا غير.k
وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل مات، فشهد شاهدان أنه أوصى بعبده هذا لفلان وقضى القاضي له، ثم يشهد آخران أنه رجع عن وصيته لفلان الذي أوصى له بالعبد الأسود وعن كل وصية أوصى بها، وأنه أوصى، بهذا العبد الأبيض لفلان، وقضى القاضي له وأبطل الوصية من الأسود، ورده إلى الوارث، والوارث جاحد لذلك، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالعبد الأسود، فلا ضمان عليهما، وهذا ظاهر لأنهما بشهادتهما وإن أتلفا الأسود على الوارث إلا أن القاضي لما أبطل الوصية في الأسود بعد ذلك ورده إلى الوارث فقد ارتفع ذلك الإتلاف.
قال: وإن رجع شاهدا الأبيض ضمنا للوارث قيمة الأبيض وضمنا بالمشهود له بالأسود قيمة الأسود، أما ضمان قيمة العبد الأسود للمشهود له بالأسود فهو ظاهر، وأما ضمان قيمة العبد الأبيض للوارث فهو مشكل وهو خلاف ما ذكرنا قبل هذا، لأن شهود الأبيض وإن أخرجوا الأبيض عن ملك الوارث فقد أدخلوا الأسود في ملكه. (172أ4).
(9/720)
الفصل الخامس عشر: في رجوع أهل الذمة عن الشهادات
-----
ذميان شهدا لذمي على ذمي بخمر أو خنزير بعينه أو مال، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا، فعليهما قيمة الخنزير وخمر مثله؛ لأن الخمر والخنزير فيما بينهم بمنزلة الشاة والخل بين المسلمين، والجواب في الخل والشاة بين المسلمين أن الشاهد عند الرجوع يضمن مثل الخل وقيمة الشاة فكذا ههنا، وإن أسلم الشاهدان ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة الخنزير عندهم جميعاً، ولا يضمنان الخمر عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله يضمنان قيمته؛ لأن الشهادة إتلاف حكمي فيعتبر بالإتلاف الحقيقي، والذمي إذا أتلف على ذمي خمراً أو خنزيراً ثم أسلم المتلف وهو المطلوب، ضمن قيمة الخنزير عندهم، وفي الخمر خلافه عرف ذلك في كتاب الغصب، ولو لم يسلم الشهود ولكن أسلم المشهود عليه، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الخنزير، ولا ضمان عليهما في الخمر عندهم؛ لأن المشهود عليه طالب؛ لأن الحق له قبل الشهود عند الرجوع، والمتلف عليه وهو الطالب إذا أسلم ولم يسلم المطلوب، ففي الخنزير القيمة، وفي الخمر لا ضمان أصلاً، عرف ذلك في كتاب الغصب فههنا كذلك.
(9/721)
الفصل السادس عشر: في المتفرقات
-----
إذا ادعت المرأة على زوجها أنه صالحها من نفقتها على عشرة دراهم كل شهر، وقال الزوج صالحتها على خمسة دراهم كل شهر، فشهد شاهدان أنه صالحها على عشرة دراهم كل شهر، وقضى القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما، قال: ننظر إلى نفقة مثلها فإن كان عشرة أو أكثر، فلا ضمان عليهما للزوج؛ لأنهما متى اتفقا على الصلح واختلفا في بدله كان القول لمن يشهد له نفقة المثل، كما في النكاح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وههنا نفقة مثلها يشهد لها، فيكون القول قولها، وصار عشرة دراهم مستحقة للمرأة على الزوج بقولهما، فهما بشهادتهما ما أوجبا على الزوج مالاً، فلهذا لا ضمان عليهما، وإن كان نفقة مثلها خمسة دراهم مثلاً، فإنهما يضمنان للزوج خمسة لما مضى؛ لأن المستحق على الزوج في هذه الصورة خمسة دراهم لولا شهادتهما، فهما بشهادتهما أوجبا على الزوج الزيادة على الخمسة، بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه؛ لأنه لا يمكنه رد الصلح فيما مضى، ولكن لا يضمنان في المستقبل؛ لأن رد هذا الصلح في المستقبل يمكن للزوج بأن يردها إلى نفقة مثلها، فإذا فرض القاضي على الزوج كل شهر لامرأته نفقة مثلها، فمضى لذلك سنة، ثم شهد شاهدان أنه قد أوفاها النفقة، وأجاز ذلك القاضي ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان ذلك للمرأة لأن نفقة المنكوحة يصير ديناً في الماضي بقضاء أو رضى وقد وجد القضاء ههنا، فصار نفقة ما مضى ديناً في ذمة الزوج، والتحقت بسائر ديونها، ولو شهدا باستيفاء دين آخر لها سوى النفقة، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا ضمنا كذا ههنا.(9/722)
-----
وقال: وكذلك الوالد وكل ذي رحم محرم ممن فرض القاضي له نفقة، هكذا ذكر في رجوع «الأصل»، وهذا الجواب مستقيم على رواية «الجامع»، نفقة المحارم تصير ديناً بقضاء القاضي، فأما لا يستقيم على رواية «الجامع»، فإن على رواية النكاح نفقة المحارم لا تصير ديناً بقضاء القاضي فإذا لم تصر ديناً فيما مضى لم يصيرا شاهدين عليهما باستيفاء دين مستحق لهما على الزوج، فلا يضمنان عند الرجوع.
وإذا طلق امرأته قبل الدخول بها ولم يفرض لها مهراً، فشهد شاهدان أن صالحها من المتعة على عبد ودفعه إليها وقبضته وهو ينكر ذلك، فقضى القاضي عليها بذلك، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما لا يضمنان للمرأة المتعة ولا يضمنان لها قيمة العبد، بخلاف ما لو شهدا أنه صالحها من المتعة عن عبد ولم يشهدا على قبض العبد، وقضى القاضي لها بالعبد، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان لها قيمة العبد.
والفرق: أن في المسألة الأولى القاضي لم يقض لها بالعبد؛ لأن القضاء لها بالعبد مع قبض العبد لا يفيد، وإذا لم يقض لها بالعبد ظهر أنهما بشهادتهما أتلفا على المرأة المتعة لا العبد، فلا يضمنان عند الرجوع.
أما في الفصل الثاني القاضي قضى لها بالعبد؛ لأن القضاء بالعبد لها ممكن؛ لأن حال ما يقضي لها بالعبد على الزوج لم تقم الشهادة على قبض العبد، فقضى لها بالعبد وصار حقها في العبد، فإذا رجعا فقد أتلفا عليها العبد، فضمنا لها قيمة العبد.
وفي «المنتقى»: شاهدان شهدا على رجل أنه أقر لهذا المدعي أمس بألف درهم وقضى القاضي عليه وقبضها منه، ثم رجعا عن شهادتهما، فلما أراد القاضي أن يضمنهما الألف، قالا: نجيئك ببينة أن هذا الذي قضيت عليه قد أقر لفلان المقضي له بهذه الألف منذ سنة، قال: لا أقبل ذلك منهما وأضمنهما الألف؛ لأن الذي يدعي الحق غيرهما.(9/723)
-----
ولو شهد شاهد على رجل أنه قد أعتق عبده منذ سنة وقد قضى، بعتق العبد ثم رجعا عن شهادتهما، فأراد القاضي أن يضمنهما قيمة العبد، فقال: نحن نجيء بشاهدين آخرين يشهدان أنه أقر بعتق عبده منذ عشر سنين، قال: قبل ذلك منهما استحساناً.
وفي «نوادر عيسى بن أبان»: رجل ادعى جارية في يد رجل وابنة لها ادعى أنهما جاريتاه، وأنكر الذي في يده أن تكون الجارية للمدعي، وأن تكون الصبية ابنة للجارية، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أن الجارية للمدعي وجاء بشاهدين آخرين شهدا أن الصبية بنت الجارية، فإن القاضي يقضي بالجارية وابنتها للمدعي، فإن قضى بذلك ثم رجع اللذان شهدا أن الجارية للمدعي، فإن القاضي يضمنهم قيمة الأمة وقيمة ولدها؛ لأن القاضي إنما قضى بالولد بشهادتهم أن الجارية جاريته؛ لأنه استحقاق من الأصل، فكل ما كان معها من مال أو ولد فهو تبع لها، فكأنهم شهدوا بالولد كما شهدوا بالجارية.
قال: أرأيت رجلاً في يديه عبد تاجر كثير المال مات العبد وترك مالاً كثيراً، فجاء رجل وادعى أن العبد عبده، ليأخذ ما تركه العبد، وأنكر الذي في يده العبد أن يكون العبد للمدعي، وأن يكون المال للعبد، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أن العبد للمدعي أودعه الذي كان العبد في يديه، وجاء بشهود كثير شهدوا أن المال للعبد، وقضى القاضي للمدعي بالعبد والمال، ثم رجع الذين شهدوا أن العبد للمدعي، فإنهم يضمنون المال للذين كان العبد والمال في يده، وطريقة ما قلنا.
قال: ولو رجع الذين شهدوا بالجارية على ما وصفت لك وضمنهم القاضي قيمة الجارية وقيمة الولد ثم رجع الذين شهدوا أن الصبية ابنة الأمة، فالذين شهدوا بالأمة يرجعون على الذين شهدوا بالولد بقيمة الولد.
(9/724)
-----
قال: وهو بمنزلة رجل ادعى على رجل أنه قطع يده أنه خطأ، ومات منها وجاء ببينة شهدوا على المدعى عليه أنه قطع يد ولي المدعي خطأ، ولم يشهدوا أنه مات منها، وجاء بشاهدين آخرين شهدا أنه مات من اليد، ولم يشهدا على القاطع بالقطع، فإن القاضي يقضي بدية المقتول على عاقلة القاتل، وإذا قضى بذلك ثم رجع الشهود على قاطع اليد خاصة، فإنهما يضمنان جميع الدية؛ لأنهما شهدا على الجناية نفسها، فإن قضى القاضي عليها بذلك ثم رجع اللذان شهدا أنه مات منها، فإن شهود قطع اليد يرجعون عليهم؛ لأنهم يقولون شهدنا على اليد وما شهدنا على النفس، وإنما صارت اليد نفساً علينا بشهادتكم، قلنا: أن يرجع بالدية عليكم.
وكذلك لو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قطع أصبعاً منه من المفصل خطأً، وأن كفّه شلت منها وأنكر المدعى عليه ذلك، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أنه قطع إصبعه من المفصل خطأ، ولم يشهدا على الشلل وجاء بشاهدين آخرين شهدا أن كفه شلت منها، فإن القاضي يقضي على عاقلة القاطع بدية الكف، فإن قضى بذلك ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا على قطع الأصبع، فإنهما يضمنان جميع أرش الكف، فإن ضمنا ذلك ثم رجع اللذان شهدا على شلل الكف، فإن شاهدي القطع يرجعان على شاهدي شلل الكف، بجميع أرش الكف، إلا أرش الأصبع (172ب4) فيكون الأصبع على اللذين شهداً بالضربة خاصة وهذا بمنزلة الأمة وولدها.(9/725)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان على عبد في يدي رجل لرجل وقضى القاضي بشهادتهما، ثم إن المشهود عليه اشترى العبد من المشهود له بمئة دينار، ثم رجع الشهود عن الشهادة، فالمشهود عليه يرجع على الشهود بالمئة إذا لم يصدقهما أن شهادتهما حق بعد أن رجعا عن الشهادة، وهذا لأن المشهود عليه لما اشتراه من المدعي فقد أقر أن الشهود شهدوا عليه بحق، فالشهود بالرجوع أكذبوا أنفسهم وزعموا أنهم ضامنون قيمة العبد، فإذا لم يصدقهما أن شهادتهما بحق، بل قال: شهدتما بباطل، فقد صدقهما فيما زعم، فرجع عليهما بمئة لهذا.
وعنه أيضاً شاهدان شهدا على رجل أنه عبد فلان وهو يزعم أنه حر، وقضى القاضي به للمدعي، ثم إن المدعي كاتب العبد على مال معلوم وأداه إليه ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، قال: أضمنهما ما كاتبه المولى عليه إلا إذا ازداد المكاتبة على الدية فحينئذٍ لا ضمان عليهما في الزيادة على الدية.
وإذا شهد شاهدان لرجل بعبد في يدي رجل والمشهود عليه يجحد ذلك، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، وضمنهما القاضي القيمة فأدياها أو لم يؤديا حتى وهب المشهود له العبد للمشهود عليه، وقبضه المشهود عليه فقد برء الشاهدان عن الضمان، وإن كانا قد أديا الضمان رجعا على المشهود عليه بذلك؛ لأنه وصل إلى المشهود عليه بزعم المشهود عليه والشاهدين عين العبد الذي أزاله الشاهدان عن يده بحكم قديم ملكه لا بالهبة؛ لأن في زعمهم أن العبد لم يصر ملكا للمشهود له بقضاء القاضي، بل بقي على ملك المشهود عليه؛ لأن القاضي إنما قضى بالملك مرسلاً، والقضاء بالملك المرسل ينفذ ظاهراً لا باطناً بالإجماع، فبقي العبد على ملك المشهود عليه بزعم الشاهدين والمشهود عليه، إلا أنهما كانا يضمنان قيمته لإزالة يد المشهود عليه من العبد؛ لأن إزالة اليد تكفي لإيجاب الضمان.
(9/726)
-----
كما في الغصب إذا ثبت هذا فنقول: إذا وصل العبد إلى المشهود عليه بالهبة وقد وصل إليه قديم ملكه بزعمه وزعم الشاهدين، فهو نظير ما لو وصل المغصوب إلى المغصوب منه من جهة الغاصب الثاني بالهبة، وهناك يبرأ الأول عن الضمان كذا ههنا، قال: فإن رجع الواهب في الهبة واسترده رجع المشهود عليه على الشاهدين بالضمان؛ لأن بالرجوع زال العبد عن يد المشهود عليه بشهادتهما، فإنه لولا شهادتهما بالملك له لما تمكن من هبته منه والرجوع فيه، فزوال يده عن العبد بعد الرجوع في الهبة مضاف إلى شهادتهما.
ولو مات المشهود له فورث المشهود عليه بزعم المشهود عليه والشاهدين عين العبد الذي أزاله الشاهدان في يده بحكم قديم ملكه لا بالميراث على ما بينا، فيوجب براءة الشاهدين عن الضمان على ما مرّ.
وكذلك لو قتل العبد في يد المشهود له وأخذ المشهود له قيمته، ثم مات المشهود له وورثه المشهود عليه ملك القيمة من المشهود له، برئ الشاهدان عن الضمان؛ لأن في زعم المشهود عليه والشاهدين أنه وصل إليه بدل عبده ووصول البدل كوصول العين، فكأنه وصل إليه عين عبده.
قال: وكذلك جميع الأشياء من الدَّين وغيره يريد به أنهما إذا شهدا عليه بدين أو عين، وقضى للمشهود له بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ثم مات المشهود له ورث المشهود عليه ذلك، فقد برئ الشاهدان عن الضمان والمعنى ما ذكرنا.
ولو قتل العبد في يد المشهود له وأخذ القيمة من القاتل، فهلكت القيمة في يده، ثم مات المشهود له، وورثه منه المشهود عليه مثل تلك القيمة برئ الشاهدان عن الضمان، لأن في زعم المشهود عليه أنه وصل ذلك إليه من حساب القيمة لا بجهة الميراث، لأن في زعمه أن قدر القيمة صار ديناً له في تركة المشهود عليه، والدين يقوم على الميراث، وكذلك إن كان مع المشهود عليه وارث آخر وحصة المشهود عليه بقي تلك القيمة، برئ الشاهدان عن الضمان أيضاً، ويحعل ذلك سالماً له بحساب القيمة لا لجهة الإرث كما زعم هو.(9/727)
-----
وإذا شهد شاهدان لرجل بدار في يدي رجل آخر، وقضى القاضي بالدار للمشهود له بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار، وهذا بلا خلاف؛ لأن ما يجب على الشهود عند الرجوع ضمان الإتلاف؛ لأنه بالشهادة أزال العين عن ملك المشهود عليه بغير حق والعقار يضمن بالإتلاف بالإجماع، فإنه لو هدم البناء ونقل التراب يضمن بالإجماع.
رجل في يديه عبد شهد شاهدان أنه ملك هذا، وقضى القاضي به ودفعه إليه، ثم شهد شاهدان آخران لرجل ثالث بمثله على المقضي له الثاني، وقضى القاضي به، ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، ضمن كل فريق قيمة العبد كلها للذي شهد عليه؛ لأن كل فريق أتلف على المشهود عليه العبد، فيضمن له قيمة العبد.
فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان بالوصية لرجل بالثلث، وشهد آخران بالرجوع عن الوصية الأولى والوصية بالثلث لغيره، وشهد آخران بمثله ثم رجعوا، لم يضمن الفريق الأول لأحد، والآخران لا يضمنان للوارث شيئاً، وهنا كان كل فريق يضمن للمشهود عليه قيمة العبد، والفرق بينهما وهو: أن الاستحقاق بالوصايا استحقاق على الميت، لأن كل فريق لما شهد بالرجوع فقد شهد أن الموصى له عاد إلى ملك الميت، فما ثبت من الاستحقاق بشهادة الفريق الأول فهو قائم بالثاني والثالث، ولم يمكن تضمين الفريق الأول للوارث، وكذلك الفريقان الآخران لا يضمنان للوارث؛ لأن ما أوجبا كان مستحقا على الميت قبل شهادتهما، فإذا صار الحق مستحقاً على الميت بكل شهادة لم يضمن فريق للوارث؛ لأن رجوع كل فريق لا يقصر في حق الفريقين الآخرين، فيصير في حق كل فريق كأن الآخرين ثابتان على الشهادة، فلهذا لا يضمن فريق للوارث شيئاً.(9/728)
-----
أما في مسألتنا فالاستحقاق بكل بينة إنما يثبت على الذي شهد عليه ذلك الفريق لا غير لما عرف أن القضاء بالملك المطلق لا يتعدى إلا إلى من يدعي تلقي الملك من المقضي عليه، وأحد ههنا لا يدعي تلقي الملك من غيره، فصار الاستحقاق بكل بينة استحقاقاً على من قامت عليه تلك البينة، وهذا ليس بثابت بينة أخرى فلم يكن ما أوجبه كل فريق ثابتاً بشهادة الفريقين الآخرين، فيضمن كل فريق للذي عليه شهد تمام القيمة، ألا ترى أن في مسألتنا هذه، وهي مسألة دعوى الملك المطلق، لو وجد الفريق الأول من الشهود عبيداً حتى بطل ذلك الحكم كله، وفي مسألة الوصية لو وجد أحد الفرق الثلث عبيداً يبقى الاستحقاق على الوارث، وهذا يدل على أن المستحق بجميع البينات في باب الوصية شيء واحد.
وفي «المنتقى»: رجل ادعى أمة في يدي رجل أنها أمته، وقضى القاضي له بالأمة، وقد كانت الأمة ابنة في يد المدعى عليه ولم يعلم القاضي بها، فأقام المدعي بعد ذلك بينة أنها ابنتها، فإن القاضي يقضي له بالابنة أيضاً تبعاً للأم، فإن قضى القاضي بذلك ثم رجع الشهود الذين شهدوا على الأم أنها للمدعي عن شهادتهم، فإنهم يضمنون قيمة الأم وولدها، وقد مرت المسألة من قبل، قال: ويستوي في هذه المسألة أن يكون القاضي قضى بذلك معاً، أو قضى بالأم ثم بالولد بعد ذلك؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل.
قال: ولو ادعى أمة في يدي رجل وأقام بينة أنها أمته، وقضى القاضي بها ثم أقام المدعي بينة على ألف في يد المدعى عليه أنها للأمة، وقضى القاضي بها للمدعي، ثم رجع اللذان شهدا بالأمة فإن القاضي يضمنهم قيمة الأمة، ولا يضمنهم من المال شيئاً، ولا يشبه المال هنا الولد؛ لأن المال مال الأمة والولد ليس مال الأمة، ألا ترى أن الأمة خصم في مالهما حتى تقبضه، وليس بخصم في ولدها، وألا ترى أن المال لو كان في يد غير المدعى عليه فأقام المدعي شاهدين بأنه مال الأمة يقضى به، وليس الولد كذلك.
-----
فإن الولد لو كان في يد غير المدعى عليه وشهد عليه الشهود أنه ابن تلك الأمة لم يستحقه المدعي بشهادتهم وإنما استحقه إذا كان (173أ4) في يد المدعى عليه. وقد قال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: لو أن رجلاً أقر بألف في يديه أنها كانت لهذه الأمة، ثم قال إنها كانت لها قبل أن يملكها حولاها هذا لم يصدق على ذلك، وكانت الألف لمولى الأمة هذا، ولو أقر بصبي في يديه أنه ابن هذه الأمة ثم قال إنما ولدته قبل أن يملكها مولاها هذا كان القول قوله، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
(9/729)
كتاب الدعوى
هذا الكتاب يشتمل على سبعة وعشرين فصلاً:
1 * الفصل الأول في معرفة المدعي والمدعى عليه.
2 * في بيان صحة الدعاوى، وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع.
3 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان.
4 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان بسبب نحو الشراء والميراث والهبة وما أشبه ذلك.
5 * في دعوى الشراء والبيع.
6 * في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاق.
7 * في الدعوى والبينات عليها.
8 * في مقاسمة المدعي بطريق المنازعة أو العول.
9 * في دعوى الميراث.
10 * في دعوى الرجل النكاح على المرأة، وفي دعوى المرأة النكاح على الرجل الآخر.
11 * في الرجلين يدعيان بالأيدي.
12 * في دعوى النتاج.
13 * فيما هو في معنى النتاج.
14 * في دعوى الحائط.
15 * في دعوى الطرق ومسيل الماء والمجاري والناوقات.
16 * في القضاء لأحد الخارجين عند ظهور العدالة لشهوده ثم ظهور العدالة لشهود الخارج الآخر، وإقامة الخارج الآخر شهوداً بعد ذلك.
17 * في دعوى الدين.
18 * في إقرار المدعي بنقض ما قضاه المدعى عليه أو بغير ذلك عن نفسه، وفي دعوى المدعى عليه لنفسه بعض ما قضى به عليه.
19 * في بيان ما يقع به التناقض في الدعوى وما لا يقع.
20 * فيما يبطل دعوى المدعي من قوله أو فعله.
-----
21 * فيما يكون جواباً من المدعى عليه وما يكون إقراراً منه وما لا يكون.
22 * في بيان من يصلح خصماً ومن لا يصلح.
23 * في بيان ما تندفع به دعواه وما لا تندفع، وفيه أنواع وأقسام.
24 * في دعوى الوصية وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك وإقراره بالوصية.
25 * في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر، ودعوى كل واحد الإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما.
26 * في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة.
27 * في دعوى العتق.
28 * في دعوى النسب.
29 * في الغرور.
30 * في المتفرقات.(9/730)
الفصل الأول: في معرفة المدعي والمدعى عليه فنقول
اختلف العلماء في الحد الفاصل بينهما، والمروي عن محمد رحمه الله أنك تنظر إلى المنكر منهما، فهو المدعى عليه، وهذا صحيح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل المدعى عليه هو المنكر حيث قال: «واليمين على من أنكر»، فإن قيل: بهذا لا يحصل تمام الحد، فالإنسان قد يكون مدعياً وتكون اليمين من جانبه، كالمودع إذا ادعى الرد، قلنا: المودع بدعوى الرد ينكر الضمان، والخصومة إنما جرت لأجل الضمان، فجعل اليمين في جانبه لهذا.
وقال بعضهم: المدعي من يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه، ولا يكفيه مجرد النفي بأن يقول لغيره: هذا العين ليس لك، فبهذا القدر لا يصير مدعياً، ويحتاج إلى أن يقول: هذا العين لي والمدعى عليه لا يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه بل يكفيه مجرد النفي، فإن بمجرد قوله للمدعي هذا العين ليس لك يصير خصماً، ويكفيه ذلك من أن يقول: هو لي.
وبعضهم قالوا المدعي: من يكون مخيراً بين الخصومة والكف، وإذا ترك الخصومة يترك ولا يتبع، والمدعى عليه: من لا يكون مخيراً بين الخصومة والكف عنها، وإذا ترك الخصومة لا يترك بل يتبع.
وبعضهم قالوا: المدعي: من يستعدي على غيره بقول غيره.(9/731)
-----
وبعضهم قالوا: المدعي: من يدّعي ويتمسك بما ليس بثابت، والمدعى عليه من يتمسك بما هو ثابت.
بيانه: فيما إذا ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه وأنكر ذو اليد دعواه وقال: هو ملكي، فالخارج يسمى مدعياً، لأنه يدعي ما ليس بثابت له وهو الملك في هذا العين، وصاحب اليد يسمى مدعَياً عليه؛ لأنه يتمسك بما هو ثابت له، وهو الملك بظاهر اليد.
فإن قيل: هذا يشكل بالمودَع إذا ادعى الرد، والمودِع ينكر، فالمودع يكون مدعى عليه حتى يحلف، وقد ادعى ما ليس بثابت وهو الرد، ورب الوديعة يكون مدعياً وقد ادعى ما هو ثابت وهو عدم الرد.
قلنا: رب الوديعة من حيث المعنى مدعي ما ليس بثابت، وهو شغل ذمة المودَع بالضمان، والمودَع من حيث المعنى يتمسك بما هو ثابت وهو براءة ذمته والعبرة ....، والخصومة وقعت لأجل الضمان.
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان في يدي رجل دار أو عبد أو شيء من الأشياء، فادعى رجل ذلك أو طائفة منه بشراء من مالكه أو بهبة أو صدقة أو وصية أو ميراث أو بوجه من وجوه الملك، أو ادعى عليه ديناً دراهمَ أو دنانير، أو شيئاً من الكيل أو الوزن أو ما أشبه ذلك، أو ادعى عليه كفالة بمال أو نفس أو ادعى عليه بيعاً أو إجازة، فالمنكر هو المدعى عليه، والطالب هو المدعي، وإنه يخرج على العبارات كلها.
ولو كان المدعى عليه أقر بدعوى المدعي إلا أنه ادعى القضاء والإبراء في دعوى الدين، أو ادعى الإبراء في دعوى الكفالة بالنفس أو الكفالة بالمال، أو ادعى الفسخ في الإجارة أو الإقالة في البيع، فالطالب في الدعوى الأول هو المدعى عليه في هذه الدعوى، والمدعى عليه في الدعوى الأول هو المدعي في هذا الدعوى، وإنه يخرج على العبارات كلها.(9/732)
-----
قال في كتاب الغصب: رجل غصب ثوباً أو دابة واستهلكه أقام المغصوب منه بينة على قيمته وأقام الغاصب بينة على قيمته أقل من ذلك، فالبينة بينة المغصوب منه، إما لأن المغصوب منه هو المدعي لما ذكرنا من العبارات، وإما لأن المغصوب منه ببينته يثبت زيادة في قيمة المغصوب وينفيها بينة الغاصب، والبينات شرعت في طرف الاثبات لا في طرف النفي، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول في الزيادة قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه في الزيادة على العبارات التي ذكرنا، والقول قول المدعى عليه مع اليمين. وإن أقام الغاصب بينة على قيمته، ولا بينة للمغصوب منه فللمغصوب منه أن يستحلف الغاصب، ولا يلتفت إلى بينته، لأن الغاصب هو المدعى عليه، والذي في جانب المدعى عليه اليمين دون البينة.
وإن قال الغاصب: أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف ورضي به رب الثوب، لا يلتفت إلى قولهما؛ لأن اليمن شرعت في جانب المدعى عليه وليس إلى العباد تغيير المشروعات.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحلاف رد اليمين إلى المدعي في مسألة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه غصبه ثوباً وأقر الغاصب بذلك، واختلفا في قيمة الثوب، فقال المغصوب منه: كانت قيمة ثوبي مئة، وقال الغاصب: لا أدري ما كانت قيمته، ولكن علمت أن قيمته لم تكن مئة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن المغصوب منه يدعي زيادة قيمته عليه وهو ينكر، ويجبر الغاصب على البيان؛ لأنه أقر بقيمة مجهول، فيؤمر بالبيان وإن (لم) يخبر بشيء يحلف على ما يدعي المغصوب منه من الزيادة، فإن حلف ولم يثبت ما ادعاه المغصوب منه ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة، ويأخذ من الغاصب مئة درهم.(9/733)
-----
طعن الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي على محمد رحمه الله فيما ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة ويأخذ من الغاصب مئة درهم، وقال: المغصوب منه يدعي زيادة القيمة، واليمين لم تشرع حجة للمدعي عندنا، وقال: الجواب الصحيح عندي أن بعدما أبى الغاصب بيان القيمة، فالقاضي يوقفه بين يديه، ويقول: أكانت قيمة الثوب مئة؟ أكانت خمسون؟ أكانت ثلاثون؟ إلى أن ينتهي إلى أقل ما يجوز أن تنقص قيمة الثوب منه في العرف والعادة، فإذا انتهى إلى ذلك ألزمه ذلك وجعل القول قوله (173ب4) في الزيادة مع يمينه، وجعل الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا أقر بحق مجهول في عين في يديه، وأبى أن يبين مقداره، فالقاضي يوقفه بين يديه ويسمي السهام حتى ينتهي إلى أقل السهام الذي يقصد بالملك عادة، فيلزمه ذلك ويجعل القول في الزيادة قوله مع يمينه.
ومنهم من اشتغل بتصحيح ما ذكر في «الكتاب»، وجه ذلك: أن الإقرار بالمجهول صحيح، وقطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه واجب، ويقدر إيصال المقر له إلى حقه بالطريق الذي قلتم؛ لأن موضوع المسألة أنه أقر بغصب ثوب، والثياب أجناس، فالقاضي لا يدري أن هذا أقل ما يصلح أن يكون قيمة الثوب، لأن ما من ثوب من جنس هو أقل ذلك الجنس إلا وثوب آخر من جنس آخر يكون أقل منه، بخلاف المسألة التي استشهد بها، لأن أقل المقدار الذي يقصد بالتملك معلوم من حيث العادة، فأمكن للقاضي إلزام المقر ذلك، أما ههنا بخلافه ولا وجه إلى أن يقضي بمئة درهم كما يدعيه المغصوب منه، لأن الغاصب حلف على ذلك، فلم يبق للقاضي طريق قطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه إلا ما قلنا وما نقول بأن يمين المغصوب منه يمين المدعي.(9/734)
-----
قلنا: يمينه يمين المدعي من وجه من حيث إنه يدعي أن قيمة الثوب مئة ولم يثبت ذلك، لما أنكر الغاصب ذلك ويمين المدعى عليه من وجه من حيث إن أصل الاستحقاق ثابت بإقرار الغاصب، فإن الإقرار بقيمة مجهولة صحيح، وإنما الحاجة إلى فصل الخصومة، واليمين شرعت لفصل الخصومة، فكانت بمنزلة يمين المدعى عليه من هذا الوجه، ويمين المدعى عليه من كل وجه مما يجوز أن يفصل بها الخصومة، فكذا يمين المدعى عليه من وجه، وهذه المسألة من الغرائب لا توجد إلا في كتاب الاستحقاق فيجب حفظها.
الفصل الثاني: في بيان صحة الدعاوى وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع
يجب أن يعلم بأن الدعوى لا تخلو، إما أن تقع في العين أو في الدين، فإن وقعت في الدين فإن كان المدعى مكيلاً، فإنما تصح الدعوى إذا ذكر المدعي جنسه أنه حنطة أو شعير، وبعدما ذكر الجنس بأن ذكر أنه حنطة يذكر مع ذلك نوعها أنها سقية أو برية، أو خريفية أو ربيعية، ويذكر مع ذلك صفتها أنها جيدة أو وسطية أو رديئة، كدم سفيدة أو كندم سرخة، ويذكر وزنها بالكيل، فيقول: كذا قفيزاً، لأن المقدر في الحنطة الكيل، ويذكر بقفيز كذا؛ لأن القفزان تتفاوت في ذاتها، ويذكر سبب الوجوب؛ لأن أحكام الديون تختلف باختلاف أسبابها، فإنه إذا كان بسبب السلم يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء ليقع التحرز عن الاختلاف، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض، وإن كان من ثمن بيع يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولا يشترط فيه مكان الإيفاء، وإن كان من قرض لا يجوز التأجيل فيه، بمعنى أنه لا يلزم، ويذكر في السلم سائر شرائط صحته من إعلام جنس رأس المال ونوعه وصفته وقدره بالقدر إن كان رأس المال وزنيا وإنفاذه في المجلس حتى يصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأشباه ذلك على ما عرف في كتاب البيوع.(9/735)
-----
ولو قال: بسبب السلم الصحيح ولم يبين شرائط صحة السلم، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي بصحة الدعوى، وغيره من المشايخ كانوا لا يفتون بصحته؛ لأن للسلم شرائط كثيرة، لا يقف عليها إلا الخواص من الناس، وربما نطق المدعي صحته ولا يكون صحيحاً في نفسه.
وفي دعوى البيع إذا قال: بسبب بيع صحيح جرى بينهما في جارية قد سلمها إليه صح الدعوى بلا خلاف، إذ ليس للبيع شرائط كثيرة تخفى على العامة، وعلى هذا في كل سبب له شرائط كثيرة يشترط بيان الشرائط لصحة الدعوى عند عامة المشايخ، ولا يكتفي بقوله بسبب كذا صحيح، وإن لم يكن له شرائط كثيرة يكتفى بقوله بسبب كذا صحيح.
ويذكر في القرض القبض وصرف المستقرض ذلك إلى حاجة نفسه يصير ذلك ديناً عليه بالإجماع؛ لأن عند أبي يوسف المستقرض لا يصير ديناً في ذمة المستقرض إلا بصرفه إلى حاجة نفسه.
وكذلك يذكر في دعوى القرض أنه أقرضه كذا من مال نفسه؛ لجواز أن يكون وكيلاً في الإقراض، والوكيل في الإقراض معار ومعير، فلا يصير ذلك ديناً له في ذمة المستقرض، ولا يثبت له حق المطالبة بالأداء، وإن كان المدعى به وزنيا فإنما تصح الدعوى إذا بين الجنس بأن قال: ذهب أو فضة، فإن بين الجنس بأن قال ذهب، فإن كان مضروباً يقول: كذا ديناراً، ويذكر نوعه أنه بخاري الضرب أو نيسابوري الضرب أو ما أشبه ذلك.
قالوا وينبغي أن يذكر صفته أنه جيد أو وسط أو رديء، فاعلم بأن هذه الدعوى إن كان بسبب البيع، فلا حاجة إلى ذكر الصفة إذا كان في البلد نقد واحد ظاهر معروف؛ لأن مطلق البيع ينصرف إلى نقد البلد ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا يشترط البيان إلا إذا كان قد مضى من وقت البيع إلى وقت الخصومة زمان طويل، بحيث لا يعلم نقد البلد في ذلك الوقت فحينئذ لابد من بيان أن نقد البلد في ذلك الوقت كيف كان، وبيان صفته بحيث تقع المعرفة من كل وجه.(9/736)
-----
وإن كان في البلد نقود مختلفة والكل في الرواج على السواء ولا صرف للبعض على البعض، يجوز البيع ويعطي المشتري للبائع أيَّ النقدين شاء، إلا أن في الدعوى لابد من تعيين أحدهما، وإن كان الكل في الرواج على السواء، وللبعض صرف على البعض كما كانت الغطريفية والعدلية في ديارنا، قيل: هذا لا يجوز البيع إلا بعد بيانه، وكذا لا تصح الدعوى من غير بيانه.
وإن كان أحد النقدين أروج والآخر أفضل، فالعقد جائز وينصرف إلى الإرواج، ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا حاجة إلى البيان إلا إذا كان قد مضى زمان طويل من وقت العقد إلى وقت الخصومة، بحيث لا يعلم الأروج وقت العقد على نحو ما بينا قبل هذا.
وإن كان هذا الدعوى بسبب القرض والاستهلاك، فلابد من بيان الصفة على كل حال؛ وعند ذكر النيسابوري أو البخاري لا حاجة إلى ذكر الأحمر؛ لأن النيسابوري لا يكون إلا أحمر وكذلك البخاري لا يكون إلا حمراء، ولابد من ذكر الجيد عليه عامة المشايخ؛ لأن ذكر النيسابوري لا يثبت ذكر الجيد؛ لأن النيسابوري ما يكون مضروباً في نيسابور أو ما يكون عليه سكة نيسابوري، وما يكون مضروباً في نيسابور أو يكون عليه سكة نيسابور قد يكون جيداً وقد لا يكون، وفي «فتاوى النسفي»: إذا ذكر أحمر خالص ولم يذكر الجيد كفاه.
ولا بد من ذكره أنه ضرب أي وال عند بعض المشايخ؛ لأن في مضروب الولاة تفاوت، وبعض مشايخنا لم يشترطوا ذلك وإنه أوسع، والأول وإن ذكر كذا ديناراً نيسابورياً مسقدة وفارسية سره كرده، ولم يذكر الجيد، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لابد من ذكر الجيد مع ذلك، لأن المسقدة قد تكون جيدة وقد تكون رديئة، وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذكر الجيد مع ذلك وهو الصحيح. ولو ذكر الجيد ولم يذكر المسقدة، فالدعوى صحيحة، لأن الجيد لابد وأن يكون مسقداً، فأما المنتقد قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً.(9/737)
-----
وإن لم يكن الذهب مضروباً لا يذكر في الدعوى كذا ديناراً، وإنما يذكر كذا مثقالاً، فإن كان خالصاً من الغش يذكر ذلك، وإن كان فيه غش يذكر ذلك نحو الده نوهي أو الده هشتي أو ما أشبه ذلك، وإن كان المدعى به نقده وكان مضروباً ذكر نوعها وهو ما يضاف إليها وصفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها أنه كذا درهماً وزن سبعة؛ لأن وزن الدراهم يختلف باختلاف البلدان والذي في ديارنا وزن سبعة وهو الذي كل عشرة منها بوزن سبعة مثاقيل.
قيل: وإن (174أ4) كانت الفضة غير مضروبة إن كانت خالية عن الغش يذكر كذا فضة خالصة عن الغش، ويذكر نوعها نقرة كليحة أو نقرة طمغاجيّ، ويذكر صفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها كذا درهماً، وقيل: إذا ذكر كذا طمغاجي كفاه ولا حاجة إلى ذكر الجيد، وإن كان المدعى به دراهم مضروبة والغش فيها غالب إن كان يعامل به وزناً يذكر نوعها وصفتها ومقدار وزنها، وإن كان يعامل بها عدداً يذكر عددها.
وإذا ادعى الحنطة أو الشعير بالمنّ وبيّن أوصافه، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدار في الحنطة والشعير إنما عرف بالحديث المعروف، وقيل: لا بل الدعوى صحيحة، لأن الكيل في الحنطة والشعير إنما عرف مقداراً عند المقابلة بالجنس، ولهذا جاز بيع الحنطة موازنة بالدراهم، ففي الدعوى يحمل على بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة، والمختار في الفتوى أن يسأل المدعي عن دعواه، فإن ادعاه بسبب القرض أو بسبب الاستهلاك لا يفتى بالصحة؛ لأن ذلك مضمون بالمثل، وإن ادعاه بسبب بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة أو بسبب السلم يفتى بالصحة، وإن ادعاه مكايلة حتى صح الدعوى بلا خلاف، وأقام البينة على إقرار المدعى عليه بالحنطة أو الشعير، ولم يذكر الصفة في إقراره قبلت البينة في حق الجبر على البيان، لا في حق الجبر على الأداء.(9/738)
-----
وإذا ادعى الدقيق بالقفيز لا يصح؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدر في الدقيق الوزن دون القفيز؛ لأن الدقيق مكبس بالكبس بخلاف الحنطة، وإذا ذكر الوزن حتى صح الدعوى لا بد وأن يذكر خشك آردا وشسته، ويذكر مع ذلك يونحته او ناويخته، ويذكر مع ذلك أنه جيد أو وسط أو رديء، وأما إذا وقع الدعوى في العين، فإن كان المدعى به منقولاً وهو مالك، ففي الحقيقة الدعوى في الدين، فيشترط بيان القدر والجنس والنوع والصفة كما في سائر الديون، هذا هو المذكور في الكتب المشهورة.
قال رضي الله عنه: وكتبت في الشهادات من هذا المجموع عن «فتاوى أبي الليث»: أن من ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام على ذلك بينة ينبغي للمدعي أن يبين الذكر والأنثى، وينبغي للشهود أيضاً أن يبينوا ذلك، وإن لم يبينوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر رضي الله عنه: أخاف أن تبطل الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء من دعواه، وإن تبينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم، ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأن باختلاف اللون؛ لا تختلف المنافع، ولا يصير المشهود به مختلفاً ولا كذلك الذكورة والأنوثة.
قيل: اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم خصوصاً على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناء على القضاء بملك المستهلك؛ لأن حق المالك باق في العين المستهلك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض القيمة أو بقضاء القاضي بالقيمة، حتى قال: يجوز الصلح عن العين المغصوب المستهلك على أكثر من قيمته، وإذا كان القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المستهلك لابد من بيان المستهلك في الدعوى والشهادة ليعلم القاضي أنه بماذا يقضي.
وهذا القائل يقول مع ذكر الأنوثة والذكورة لابد من ذكر النوع بأن يقول: فرس أو حمار أو ما أشبه ذلك، ولا يكتفي بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللون كما في الوكالة.(9/739)
-----
ومن المشايخ من أبى ذكر الأنوثة والذكورة وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلك القيمة، فالمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة مقبولة، وكذلك دعوى القيمة مسموع، فلا حاجة إلى بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من ادعى على آخر مالاً مقدراً وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضي عن السبب فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم وطريقة ما قلنا.
وكذلك الرجلان إن ادعيا نكاح امرأة ميتة وأقاما البينة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذرة، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث؛ فيقضى لهما بالميراث لهذا، والأول أصح.
ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة دعوى النكاح أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق من الشهود أيضاً صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة فلم يقض بالنكاح في حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى والشهادة، أما بعد الموت المقصود هو الميراث، والقضاء بالميراث لهما ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة؛ لأن المدعي ادعى ملك المتلف والشهود شهدوا بملك المتلف أيضاً، والقاضي يقضي بملك المتلف أولاً ثم يقضي بالقيمة بناء على ذلك، والقضاء بالمجهول لا يصح فلا يقضي.
وفيما إذا ادعى مالاً مقداراً وشهد الشهود بذلك وبينوا السبب استهلاك الدابة يقول بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم إذا لم يبينوا النوع ولم يبينوا الصفة الذكورة أو الأنوثة مع ذلك، هذا إذا كان المدعى به منقولاً وهو هالك.
(9/740)
-----
فأما إذا كان المنقول قائماً، فإن أمكن إحضاره مجلس الحكم، فالقاضي لا يسمع دعوى المدعي ولا شهادة شهوده إلا بعد إحضار ما وقع فيه الدعوى مجلس الحكم حتى يشير إليه المدعي والشهود لتنقطع الشركة بين المدعى به وغيره من كل وجه، وهذا لأن إعلام المدعى به والمشهود به على وجه تنقطع الشركة بينه وبين غيره من كل وجه شرط سماع الدعوى والبينة إذا أمكن الإعلام على هذا الوجه والإعلام على هذا الوجه في المنقول الذي يمكن إحضاره مجلس الحكم ممكن بإحضاره مجلس الحكم، فيشترط إحضاره.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ومن المنقولات ما لا يمكن إحضاره عند القاضي كالصبرة من الطعام والقطيع من الغنم، والقاضي فيه بالخيار إن شاء حضر ذلك الموضع لو تيسر له ذلك وإن كان لا يتهيأ له الحضور وكان مأذوناً بالاستخلاف يبعث خليفته إلى ذلك الموضع.
قال محمد رحمه الله: وهو نظير ما إذا كان القاضي يجلس في داره، ووقع الدعوى في حمل، ولا يسع باب داره، فإنه يخرج إلى باب داره، أو يأمر نائبه حتى يخرج ليسير إليه الشهود بحضرته.
وفي «القدوري»: إذا كان المنقول المدعى به شيئاً يتعذر نقلها كالرحى، فالحاكم بالخيار إن شاء حضرها، وإن شاء بعث أميناً، فإن وقع الدعوى في عين غائب لا يعرف مكانه بأن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً أو جارية لا يدري أنه قائم أو هالك، فإن بيّن الجنس والصفة والقيمة فدعواه مسموعة وبينته مقبولة، وإن لم يبين القيمة، أشار في عامة الكتب الى أنها مسموعة، فإنه ذكر في كتاب الرهن:
إذا ادعى رجل على رجل أنه رهن عنده ثوباً وهو ينكر، قال: يسمع دعواه. وقال في كتاب الغصب: رجل ادعى على غيره أنه غصب منه جارية، وأقام بينة على ما ادعى تسمع دعواه وتسمع بينته، بعض مشايخنا قالوا: إنما تسمع دعواه إذا ذكر القيمة، وهذا القائل يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» هذا.(9/741)
-----
وكان الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» أن الشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه بالغصب، فثبت غصبه الجارية بإقراره في حق الجنس والقضاء جميعاً، قال شمس الأئمة الحلواني وعامة المشايخ على أن هذه الدعوى صحيحة والبينة مقبولة، ولكن في حق الجنس وإطلاق محمد في الكتاب يدل عليه.
قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزودي: إذا كانت المسألة مختلفة ينبغي للقاضي أن يكلف المدعي بيان القيمة، فإذا كلفه ولم يبين يسمع دعواه، وهذا لأن الإنسان قد لا يعرف قيمة ماله، فلو كلفه بيان القيمة فيه فقد أضرّ به إذ يتعذر (174ب4) عليه الوصول إلى حقه، وإذا سقط بيان القيمة من المدعي سقط من الشهود من الطريق الأولى، وتمام المسألة مرت في كتاب الغصب، وإن وقع الدعوى في العقار، فلابد من ذكر البلدة التي فيها الدر المدعى به، ثم من ذكر المحلة، ثم من ذكر السكة، يبدأ بالأعم، وهو البلد ثم بالأخص.
وهذا فصل اختلف فيه أهل الشروط، قال بعضهم يبدأ بالأعم، وقال بعضهم بالأخص، وعند أهل العلم له الخيار إن شاء يبدأ بالأعم، وإن شاء بالأخص؛ لأن المقصود هو التعريف، والتعريف حاصل بالكل، ولابد من ذكر حدود الدار بعد هذا، قال جماعة من أهل الشروط: ينبغي أن يذكر في الحدود لزيق دار فلان؛ ولا يذكر دار فلان لأنه حينئذ يصير دار فلان يدعي به؛ لأن الحد يدخل في المحدود، وعندنا كلا اللفظين على السواء، أيهما ذكر فهو حسن؛ لأن المقصود تعريف الدار المدعى به باتصالها بدار فلان، وإنه حاصل باللفظين جميعاً، وما يقول بأن الحد يدخل في المحدود ليس كذلك؛ لأن الحد غاية والغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية، وإن ذكر حدين لا يكفي في «ظاهر الرواية» عند أصحابنا رحمهم الله، وإن ذكر ثلاثة حدود كفاه، وكذلك في الشهادة إذا ذكر الشهود ثلاثة حدود قبلت شهادتهم، وكيف يحكم بالحد الرابع في هذه الصورة؟(9/742)
-----
قال الخصاف رحمه الله في «وقفه»: جعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى مبتدأ الحد الأول أي بإزاء الحد الأول، وإذا ادعى على آخر مئة عدلية غصباً، وهي منقطعة عن أيدي الناس يوم الدعوى ينبغي أن يدعي قيمته، فالمغصوب إذا كان مثلثاً وقد انقطع عن أيدي الناس يجب على الغاصب قيمته، غير أن عند أبي حنيفة يعتبر القيمة يوم الدعوى والخصومة، وعند أبي يوسف يوم الغصب، وعند محمد يوم الانقطاع، ولابد من بيان سبب وجوب الدراهم في هذه الصورة؛ لأنها لو كانت ثمن بيع فبالانقطاع قبل القبض يفسد العقد عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قبض المبيع والبيع قائم على حاله في يده، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً وجب على المشتري رد قيمة المبيع إن لم يكن مثلياً، ورد مثله إن كان مثلياً، وإن كان بسبب القرض أو النكاح فلابد من بيان سبب وجوبها لينظر هل له ولاية دعوى القيمة؟.
وإذا ادعى على غيره مقداراً معلوماً من العنب فهذا على وجهين: إما أن يكون العنب المدعى به عيناً، فإنه يسمع الدعوى بحضرته عند الإشارة إليه، فلا يشترط بيان الصفة والوزن والنوع، وإن كان ديناً فإن كانت الدعوى في أوانه، فلابد من بيان المقدار والنوع والصفة، فيقول إدندي أنكور علائي ادندي أنكور طائفي لعله باطائفي سبيدا، وما أشبه ذلك.(9/743)
-----
بيانه: يانيكوما سفق، وإن كان بعد انقطاعه فالقاضي يقول له يريد عين العنب في الحال أو قيمته، فإن قال عين العنب فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأنه إن كان ثمن مبيع يفسد البيع بانقطاعه قبل التسليم، ولا يبقى للبائع حق المطالبة بالعنب بل يجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً ورد قيمته إن كان مستهلكاً، وإن كان دعوى العنب بسبب السلم أو القرض أو الاستهلاك، فبسبب الانقطاع إن كان لا يسقط ذلك عن ذمة من عليه، ولكن لا يطالبه صاحب الحق بعين العنب في الحال؛ لعجزه عن ذلك، بل يتخير إن شاء صبر حتى يدخل أوانه ويطالبه بعين العنب، وإن شاء أخذ منه القيمة في الحال، فإذاً في الأحوال كلها لا مطالبة للمدعي بعين العنب، فلا يستقيم منه دعوى عين العنب، وإن قال أريد القيمة فالقاضي يأمره ببيان سبب وجوب العنب؛ لأن العنب إن كان ثمن مبيع ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم ويسقط العنب عن ذمة المشتري،فكيف يطالبه بقيمة العنب؟ وإن كان بسبب السلم أو الاستهلاك أو القرض، فبالانقطاع لا يسقط ذلك عن ذمة المدعى عليه، فتستقيم المطالبة بقيمته في الحال إذا كان لا ينتظر دخول أوانه.
قال مولانا رضي الله عنه: هذه الجملة مسموعة عن الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، حكاها عن أستاذه، قال رضي الله عنه: وما ذكر العنب ولو كان ثمن المبيع، فبالانقطاع قبل التسليم ينتقض العقد، ولا ينبغي للبائع حق المطالبة بتسليم عين العنب، ليس بصحيح، فقد ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصرف في حجج مسألة. صورتها:
رجل اشترى من آخر مئة فلس بدرهم، ونقد الدرهم ولم يقبض شيئاً من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس أن لا ينتقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدرهم، وفي الاستحسان: ينتقض العقد.(9/744)
-----
ومن اشترى من آخر شيئاً بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوان الرطب إن العقد لا ينتقض. وذكر أيضاً أن من اشترى شيئاً بقفيز رطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، وهذا بخلاف ما لو اشترى شيئاً بدراهم أو فلوس ثم انقطعت الدراهم أو الفلوس قبل القبض حيث ينتقض البيع عند أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمهما الله على رواية كتاب الصرف، لأن في الرطب العود ثابت من غير صنع من العباد، ولا كذلك في الدراهم، وفي دعوى مال الإجارة المنسوخ بموت الآجر: إذا كانت الأجرة دراهم أو عدالي ينبغي أن يذكر كذا دراهم كذا عدالي رائجة من وقت العقد إلى وقت الفسخ؛ لأنها إذا أكسدت فيما بين ذلك تفسد الإجارة كبيع العين.
وإذا ادعى نوعين من العنب بأن ادعى ألف مَنّ من العنب العلاني والورخمني الحلو الوسط، لابد وأن يقول من العلاني كذا، ومن الورخمني كذا، لأن بدون ذلك القاضي لا يدري أنه بأي قدر يقضي من كل نوع.
(رجل) ادعى على آخر مقداراً من اللحم بأن ادعى مثلاً خمسة عشر منّاً، خمسة أمناء لحم اليد وخمسة أمناء لحم الرجل وخمسة أمناء لحم الجنب، فلابد وأن يبين السبب؛ لأنه يجوز أن يدعي ذلك بسبب السلم، وفي صحة السلم في اللحم خلاف معروف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، ويجوز أن يدعيه بسبب الاستهلاك، وفي استهلاك اللحم اختلاف بين المشايخ، قال بعضهم: يوجب القيمة، وإليه أشار محمد رحمه الله في بعض الكتب، وقال بعضهم: يوجب المثل، وإليه أشار في بعض الكتب، فلهذا احتيج إلى بيان السبب فيه، فإن بيّن الثمنية بأن قال: بعت منه عرضاً بكذا وكذا من اللحم، وبيّن أوصافه وموضعه صح دعواه بناءً على أن المكيل والموزون إذا قوبل بعرض واستعمل استعمال الثمن، فهو ثمن.
وإذا ادعى على آخر أنه غصب منه كذا قفيز حنطة، وبيّن الشرائط لابد وأن يذكر مكان الغصب وستأتي بتمامها في المحاضر.
(9/745)
-----
(وإذا) ادعى على آخر أنه باع من فلان مئة منّ من الشحم الأبيض بكذا، وسلم الشحم إليه وقبض الثمن بتمامه، وإن الشحم المبيع كان مشتركاً بيني وبين البائع هذا، وإني قد أجزت البيع حين وصل إليّ خبر البيع فواجب عليه تسليم نصف الثمن إليّ، فهذه الدعوى لا تصح؛ لأنه لم يذكر في الدعوى أن الشحم كان قائماً في يد المشتري وقت الإجارة، ولابد من ذلك؛ لأن بدون ذلك لا تعمل إجارة الشريك، ولأنه يذكر رواج الثمن وقت الإجارة، ولابد من ذلك، فإنه لو صار كاسداً قبل الإجارة لا تعمل الإجارة، كما لا يجوز ابتداء البيع به، وكذلك لو ذكر قيام الشحم ورواج الثمن وقت الإجارة للبيع إلا أنه لم يذكر في دعواه قبض البائع الثمن من المشتري، لا تصح دعوى تسليم بعض الثمن؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء بالبيع ما لم يقبض البائع الثمن من المشتري لا يطالب البائع بتسليم الثمن إلى الشريك، فالوكيل بالبيع لا يطالب بتسليم الثمن قبل أخذ الثمن من المالك، كذا هذا.
ادعى على آخر .... فاعلم (175أ4) بأن دعوى الخبز لا تصح إلا بعد بيان السبب؛ لأن التسلم في الخبز لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا وزناً ولا عدداً وعند أبي يوسف يجوز وزناً، وفي الاستقراض خلاف أيضاً، على قول أبي حنيفة، لا يجوز لا عدداً ولا وزناً، وقال محمد رحمه الله: يجوز عدداً، وقال أبو يوسف: يجوز وزناً لا عدداً، وبالاستهلاك يجب قيمة الخبز لا عين الخبز، فلابد من بيان السبب، فإن بيّن أنه ثمن المبيع تصح الدعوى، ولكن ينبغي أن يذكر في الدعوى الكعك المتخذ من الدقيق المغسول أو غير المغسول، وكذا ينبغي أن يذكر أنه أبيض أو وجهه ملطخ بالزعفران وكذا ينبغي أن يذكر أن على وجهه سمسماً أبيض أو أسود.(9/746)
-----
وإذا ادعى ديباجاً على إنسان ولم يذكر وزنه، فإن كان الديباج عيناً يشترط إحضاره والإشارة إليه، وعند ذلك لا حاجة إلى بيان الوزن وسائر أوصافه، وإن كان ديناً بأن كان مسلماً فيه اختلف المشايخ في أنه هل يشترط ذكر الوزن لصحة الدعوى؟ عامتهم على أنه يشترط، وهو الصحيح.
وفي دعوى القطن لابد وأن يبين القطن البخاري أو الشالشي؛ لأن القطن يتفاوت في نفسه بتفاوت المواضع، ويبيّن أن يجعل من كذا من منّه كذا مَنٌ من المحلوج، هكذا قيل، وقيل: ليس بشرط وهو الصحيح، ولو ذكر في السلم أنه يحصل من كل أربعة أمنان أو ثلاثة أمنان من المحلوج يفسد السلم وقع الدعوى في خبا في الذمة مهراً فارسية خركاه، فأفتوا بالصحة، وإنه ظاهر؛ إذ ليس فيه أكثر من الجهالة، والجهالة في باب المهر لا تمنع الوجوب في الذمة.
وقد نص محمد رحمه الله في النكاح: إذا تزوج امرأة على بيت، فلها جهاز بيت وسط مما تجهز به النساء، قالوا وهذا هو المتعارف فيما بين أهل الأمصار في تلك الديار، فإنهم يعنون بذلك الغرف، وفي البادية يتعارفون بيت الشعر، وفي دعوى الغصب وأشباهه إن كانت الدعوى بسبب الاستهلاك أو القرض أو بسبب الثمنية لا يحتاج إلى الإحضار.
ادعى قدراً من التوتياء ينبغي أن يذكر في دعواه كوفته أو ناكوفته، وبدونه لا تصح الدعوى لمكان الجهالة.(9/747)
-----
وإذا ادعى على آخر كذا عدداً من الإبرة، فإن وقع الدعوى في العين، فلابد من الإحضار للإشارة إليها وعند ذلك لا يحتاج إلى بيان الأوصاف، وإن وقع الدعوى في الدين، فلابد من بيان السبب لصحة الدعوى؛ لأنها لا تجب في الذمة بالاستهلاك؛ لأنها مضمونة بالقيمة لا بالمثل، وكذلك لا يجب في الذمة بالقرض؛ لأن استقراضه لا يجوز؛ لأنه ليس من ذوي المثل، ويجب في الذمة بطريق السلم وثمن المبيع، فلهذا احتيج إلى بيان السبب، فإن بيّن سببية السلم أو ثمن المبيع يحتاج فيه إلى بيان النوع والصفة على وجه يخرج عن حد الجهالة لتصح الدعوى.
وإذا ادعى وقر رمان أو وقر سفرجل لا بد وأن يذكر الوزن؛ لأن الوقر يتفاوت، ويذكر مع ذلك الصغر والكبر، ويذكر الحلاوة والحموضة، ثم يؤمر بالإحضار، فإذا أحضر وأقر المدعي أن المحضر جميع المدعى به الآن يدعي الملك، هكذا قيل، وينبغي أن لا يشترط هذه الأوصاف في دعوى الإحضار، وقد مر جنس هذا.
ادعى طاحونة في يدي رجل، وبيّن حدود الطاحونة، وذكر الأدوات القائمة في الطاحونة، إلا أنه لم يسم الأدوات ولم يذكر كيفيتها، فقد قيل: لا تصح الدعوى، وقد قيل: تصح إذا ذكر جميع ما فيها من الأدوات القائمة وهو الأصح.
باع دار غيره وسلمها إلى المشتري، فجاء المالك وادعى الدار على البائع، هل تصح الدعوى؟ ينظر إن أراد أخذ الدار لا تصح؛ لأن الدار ليست في يده، وإن أراد التضمين بالغصب، فعلى الخلاف المعروف أن الغصب في العقار هل يتحقق موجباً للضمان؟ وفي وجوب الضمان بالبيع والتسليم روايتان عن أبي حنيفة، وإن أراد إجارة المبيع وأخذ الثمن تصح دعواه.
ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وقال: كان لي في حائط هذا الذي أحضرته في موضع كذا خشبة، فوقعت أو قال: قلعتها لأعمل غيرها وقد منعني صاحب الحائط هذا، وهو حق لي في هذا الحائط، لابد وأن يذكر حق وضع الخشبة أو الخشبتين أو ما أشبه ذلك وبين موضع الخشبة وغلظها.(9/748)
(9/749)
-----
وكذا إذا ادعى مسيل ماء في دار، لابد وأن يبين مسيل ماء المطر أو ماء الوضوء، لأن هذا مما يتفاوت، لأن المطر لا يكون أدوم ويكون أكثر، وماء الوضوء والغسالات يكون أدوم ويكون أقل، وينبغي أن يبين موضع مسيل الماء أنه في مقدم البيت أو في مؤخره.
وكذا إن ادعى طريقاً في دار رجل ينبغي أن يبين مقدار عرضه وطوله ويبين موضعه في الدار هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي».
وذكر في دعوى «الأصل»: اذا ادعى مسيل ماء في دار رجل، أو ادعى طريقاً في دار رجل، وشهد الشهود أن له مسيل ماء في هذه الدار أوله طريق في هذه الدار، وقع في بعض النسخ أنه تقبل البينة وإن لم يثبتوا، ووقع في بعضها أنه لا تقبل البينة ما لم يثبتوا، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما وقع في بعض النسخ أنه تقبل البينة محمول على ما إذا شهدوا على إقرار صاحب الدار؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وما وقع في بعض النسخ أنه لا تقبل البينة محمول على ما إذا شهدوا على نفس المسيل والطريق، لا على إقرار المدعى عليه، وستأتي هذا المسائل في فصل على حدة إن شاء الله تعالى.
وإذا ادعى على آخر أنه شق في أرضه نهراً وساق الماء فيه إلى أرضه، لابد من أن يسمي الأرض التي شق فيه النهر، ويبين موضع النهر، أنّ هذا النهر من الجانب الأيمن من هذا النهر، أو من الجانب الأيسر، ويبين قدر طول النهر وعرضه.
وإذا ادعى على آخر ثلاثة أسهم من عشرة أسهم من دار، وقال: هذه الأسهم الثلاث من العشرة الأسهم من الدار المحدودة ملكي وحقي، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، ولم يذكر أن جميع هذه الدار في يده، وكذلك لم يشهد الشهود أن جميع هذه الدار في يد هذا المدعى عليه، فهذه الدعوى صحيحة، وهذه الشهادة مقبولة.(9/750)
-----
ادعى مالاً معلوماً على غيره، وقال في دعواه من إذا فلان أد يدي مال في ما تذكرت فت بسبب حسابي كه بيان من واو يود، فهذه الدعوى بهذا السبب لا تصح، لأن هذا السبب لا يصلح سبباً لوجوب المال.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي: عمن ادعى على آخر عيناً في يده، وقال: كان هذا ملك أبي، مات وتركه ميراثاً لي ولفلان، وسمى عدد الورثة، إلا أنه لا يبين حصة نفسه، فهذه الدعوى صحيحة منه، وإذا أقام البينة على دعواه سمعت بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لابد وأن يبين حصته؛ لأنه لا يملك المطالبة بالتسليم إلا بقدر حصته، فيبين حصته عند ذلك، ولو كان بيّن حصته ولم يبين عدد الورثة.
بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي، وحصتي منه كذا، وطالبه بتسليم ذلك لا تصح منه الدعوى، ولا بد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بيّن كان نصيبه أنقص مما سمّى.
عبد باع عيناً من الأعيان بحضرة المولى، ثم إن المولى ادعى ذلك العين لنفسه، فإن كان العبد مأذوناً لا تصح دعوى المولى، وإن كان محجوراً تصح دعواه، فإن قيل: أليس أن المولى صار آذناً له لما رآه أنه باع ولم ينهه؟ قلنا نعم ولكن أمر الإذن إنما يظهر في المستقبل لا في التصرف المباشر، عرف ذلك في كتاب «المأذون الكبير».(9/751)
-----
رجل ادعى على رجل أنه باع عبداً مشتركاً بينه وبيني من فلان بكذا، وسلم العبد وطالبه بأداء نصف الثمن، فالقاضي يسأل المدعي أن العبد كان مشتركاً بينكما شركة ملك أو شركة عقد مفاوضة أو عياناً، إن قال شركة ملك لابد لصحة الدعوى من أن يقول في الدعوى: إن العبد قائم في يد (175ب4) المشتري وقت طلب الثمن الذي هو دليل الإجازة؛ لأن العقد في نصيبه إنما ينفذ وقت الإجازة، وإنما ينفذ إذا كان محله قائماً في هذه الحالة، ولابد من ذكر قبض البائع الثمن، لتصح مطالبته إياه بأداء نصف الثمن، وإن قال: شركة عقد لا حاجة إلى ذكر قيام العبد وقت طلب العين؛ لأن العقد قد نفذ في النصيبين حال وجوده، ولكن يشترط ذكر قبض الثمن لتصح مطالبته بأداء نصف الثمن.
رجل ادعى على غيره أن وصيّي باع من أقمشتي منك كذا وكذا في حال صغري بكذا وكذا، وأنه قد مات قبل استيفاء شيء من الثمن، فادفع إليّ ثمن أقمشتي، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن بعد موت الوصي حق قبض ثمن ما باع الوصي يكون لوارثه أو لوصيّه فإن لم يكن له وصيّ أو وارث، فالقاضي ينصب له وصياً.
قال رضي الله عنه: وعلى قول من يقول من المشايخ في الوكيل بالبيع إذا مات قبل قبض الثمن، فحق القبض ينتقل إلى الموكل،ينبغي أن يقال ههنا حق القبض ينتقل إلى الصبي بعد بلوغ الصبي، وتصح الدعوى.
وفي «الأقضية» لأهل الكوفة: رجل ادعى على رجل أنه أمر فلاناً، فأخذ منه كذا وكذا من المال، فإن كان المدعى عليه الآخر سلطاناً، فالدعوى عليه مسموعة، وإن لم يكن سلطاناً فالدعوى عليه غير مسموعة.(9/752)
-----
ووجه ذلك إن أمر السلطان إكراه؛ لأن المأمور يعلم أنه لو لم يمثل أمره يعاقبه السلطان، هذا هو عادة السلاطين، والثابت من طريق العادة كالثابت نصاً، ولو هدده السلطان بالعقوبة على أن يأخذ مال الغير أو ينقله ففعل، كان الضمان على السلطان دون المأمور، كذا ههنا، وإذا كان الضمان في هذه الصورة على السلطان كانت الدعوى عليه صحيحاً، فأما أمر غير السلطان فليس بإكراه لأنه لا يعاقب المأمور لو لم يمثله وكان مجرد أمر، وإنه لم يصح، لأنه لم يملك أخذ مال الغير وإتلافه، والأمر بما لا يملكه، الأمر لغو فخرج الأمن من البين وبقي الفعل مقصوراً على المأمور، فكان الضمان عليه دون الأمر، فلا يصح دعوى الضمان على المأمور بأن ادعى على رجل أن فلاناً أمرك وأخذت من مالي كذا وكذا، فإن كان الآمر سلطاناً فدعوى الضمان على المأمور لا تصح، وإن لم يكن سلطاناً فدعوى الضمان عليه صحيحة، وهو بناء على ما قلنا.
رجل ادعى داراً في يد رجل من تركة والده أنه اشتراها من والده في مرضه، وأنكرنا في الورثة ذلك، فقد قيل: لا تصح هذا الدعوى؛ لأن المرض قد يكون مرض موت، وقد يكون غير مرض موت، وبيع المريض مرض الموت من وارثه وصية له بالعين عند أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال: بيعه من الوارث لا يجوز وإن كان بمثل القيمة، إلا بإجازة باقي الورثة، فكان هذا دعوى الوصية على أحد التقديرين، فلا تصح بالشك، وقيل: ينبغي أن تصح الدعوى؛ لأن تصرف المريض مع وارثه ينعقد بوصف الصحة، حتى لو أجاز بقية الورثة ذلك ينفذ وإن لم يجيزوا يبطل، فالبطلان يعارض عدم الإجازة بشرط أن يكون المرض مرض الموت، فإن لم يعلم أن هذا المرض مرض الموت كان للتصرف فيه حكم الصحة، فتكون الدعوى صحيحة.H(9/753)
-----
رجل باع عقاراً، وابنه أو امرأته، أو بعض أقاربه حاضر يعلم به، ووقع القبض بينهما وتصرف المشتري زماناً، ثم إن الحاضر عند البيع ادعى على المشتري أنه ملكه، ولم يكن ملك البائع وقت البيع، اتفق المتأخرون من مشايخ سمرقند على أنه لا تصح هذه الدعوى ويجعل سكوته كالإفصاح بالإقرار أنه ملك البائع، ومشايخ بخارى أفتوا بصحة هذه الدعوى.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته»: إن نظر المفتي في المدعي وأفتى بما هو الأحوط كان أحسن، وإن لم يمكنه ذلك يفتي بقول مشايخ بخارى، فإن كان الحاضر عند البيع جاء إلى المشتري وتقاضاه الثمن بعثه البائع إليه، لا تسمع دعواه بعد ذلك الملك لنفسه، ويصير مجراً البيع بقاضي الثمن، فلا تصح دعواه بعد ذلك الملك لنفسه.
وفي «فتاوى الفضلي»: سئل عمن ادعى على آخر أربعين فصيلاً في بطون أمهاتها غير مولود، قال: لا تسمع دعواه إلا أن يدعي إقرار المدعى عليه بذلك، ويقيم البينة على إقراره، وهذا إشارة إلى أن دعواه بسبب الإقرار صحيح، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه، ومسائل الكتب فيها متعارضة، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ادعى على آخر ثمن عبد اشتراه منه وقبضه صحت الدعوى، وإن لم يعين العبد ولم يبين صفته؛ لأن هذا في الحقيقة دعوى الدين لما كان العبد مقبوضاً.
دار في يدي رجل ادعى بقاء رجل، فأقام صاحب اليد بينة على المدعي أني اشتريت هذه الدار من وصيّك في حال صغرك بكذا إلا أنه لم يسم الوصيّ، وأقام على ذلك بينة، هل تسمع دعواه وبينته؟ اختلف المشايخ فيه، وكذلك إن ادعى أن فلاناً باع هذه الدار بإطلاق القاضي في حال صغرك، ولم يسم القاضي، وأقام على ذلك بينة هل تصح دعواه، وهل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وعلى هذا إذا شهد الشهود على الوقف وتسلم الواقف إياه إلى المتولي، إلا أنهم لم يسموا الواقف أو سموا الواقف، دون المتولي ففيه اختلاف المشايخ.
(9/754)
-----
والحاصل: أن في دعوى الفعل والشهادة على الفعل هل يشترط تسمية الفاعل؟ ففيه اختلاف المشايخ، وأدلة الكتب فيه متعارضة.
ذكر الخصاف في كتاب «أدب القاضي» في باب الشهادة على الحقوق: أنه إذا شهد شاهدان على رجل لرجل أن قاضياً من القضاة قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم، أو شهد شاهدان أن قاضي الكوفة قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة حتى يسموا القاضي الذي قضى به وينسبوه، قال ثمة: وليس هذا في هذا الموضع وحده، بل الحكم في جميع الأفاعيل، هذا إذا شهد الشهود على فعل لابد وأن يسموا الفاعل وينسبوه، ولو لم يسموا لا تقبل شهادتهم.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الحدود: إذا أقام المدعى عليه بينة أن شهود المدعي محددون في قذف، لابد وأن يسموا من حدهم، فهذه المسائل على أن تسمية الفاعل شرط.
وذكر محمد في «الزيادات»: إذا ادعى على رجل أنه وارث فلان الميت، وأن قاضي بلد كذا قضى لوراثته، وجاء بشاهدين شهدا أن قاضي بلد كذا أشهدنا على قضائه أن هذا الرجل وارث فلان الميت لا وارث له غيره، فالقاضي يجعله وارثاً، ولم يشترط تسمية ذلك القاضي.
وذكر في دعوى «الأصل» في آخر باب دعوى النكاح: إذا ادعى رجل أمة في يدي رجل وجاء بشهود شهدوا عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بهذه الأمة لي صحت دعواه، ولم يشترط تسمية القاضي.
وذكر في إقرار «المنتقى»: رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها لي، اشتريتها من وكيلك بألف درهم، ولم يسم الوكيل، وشهد له الشهود على الشراء ولم يسموا الوكيل تسمع دعواه وشهادة شهوده.(9/755)
-----
وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب الوقف بعلامة السين: إذا كتب صك الوصاية أو صك التولية، ولم يذكر فيه جهة الوصاية والتولية لا يصح الصك؛ لأن الوصي قد يكون من جهة القاضي وقد يكون من جهة الأب، وأحكامها مختلفة، وكذلك المتولي قد يكون من جهة القاضي وقد يكون من جهة الواقف، وأحكامهما مختلفة، وإن كتب أنه قضى من جهة الحاكم أو أنه متولي من جهة الحاكم، ولم يسم الحاكم الذي نصبه، ولا الذي ولاه جاز.
قال رحمه الله: ثمة وعلى هذا القياس إذا احتيج إلى كتابة القضاء في المجتهدات، كالوقف وإجارة المشاع ونحوه، كتب وقضى قاضٍ من قضاة المسلمين بصحته وجوازه (176أ4) ويجوز ذلك وإن لم يسم ذلك القاضي، فهذه المسائل كلها تدل على أن تسمية الفاعل ليس بشرط لصحة الدعوى والشهادة، فيتأمل عند الفتوى.
وفي دعوى السعاية لا يشترط ذكر قابض المال ونسبه، لأن وجوب الضمان على الساعي بصنعه ولا تعلق له بالقابض والآخذ، وفي دعوى المال في الإجارة المفسوخة لا يشترط ذكر حدود المستأجر.
ادعى على آخر عشرة دراهم ثمن مبيع مقبوض، ولم يبين المبيع أنه ما هو، فقد قيل لا تصح الدعوى؛ لأنه يحتمل أن يكون المبيع خمراً أو ميتة، وبيعهما لا يوجب الثمن على المشتري فيما بين المسلمين على ما عليه ظاهر حالهم، والبناء على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه، وفي دعوى قيمة الأعيان لابد من بيان الأعيان؛ لأن الإنسان قد يظن عيناً أنه من ذوات القيم، ويكون في الحقيقة مثلياً، إذا قال مراده ديناً رزومي بايد نميدا نم كه انز زيد في بايديا أن جعفر بازير يكي ازايشان دعوى ميكندبر تعين در مجلس ديك، تصح دعواه؛ لأنه قد يشتبه على الإنسان ذلك ثم يزول الاشتباه بالتفكر.(9/756)
-----
ذكر محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان الحائط بين رجلين، فادعى رجل على أحدهما أنه أقر أن الحائط له، وأقام على ذلك بينة قضى بنصيبه لا غير؛ لأنه ثبت إقراره بالبينة، وإقرار أحد الشريكين في نصبيه صحيح.
وهذه المسألة تصير رواية في فصل اختلف المشايخ فيه أن من ادعى عيناً في يد إنسان أنه له لما أن صاحب اليد أقر به لي، أو ادعى عليه دراهم، وقال في دعواه: لي عليه كذا من الدراهم لما أنه أقر بها لي أو قال ابتداءً: إن هذه العين لي، أو قال: أقر أن لي عليه كذا من الدراهم، هل تصح هذه الدعوى؟ بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: تصح، وفي بعض الكتب أشار إلى هذا، من جملة ذلك هذه المسألة، ألا ترى أن محمداً رحمه الله سمع الدعوى وسمع البينة في هذه المسألة، وقد ادعى المدعي إقرار المدعى عليه، وعامتهم أن هذه المسألة الدعوى لا تصح ولا تسمع هذه البينة؛ لأن نفس الإقرار لا يصلح سبباً لاستحقاق المدعى به، فإن بالإقرار كاذباً لا يثبت الاستحقاق للمقر له، فقد أضاف الدعوى إلى ما لا يصلح سبباً للاستحقاق فلا يصح.
وأجمعوا على أنه لو قال: هذه العين ملكي، وهكذا أقرّ به صاحب اليد، أو قال لي عليه كذا، وهكذا أقر به المدعى عليه أنه ليصح الدعوى، ويسمع البينة على إقراره، ولو قال في الدعوى: إن صاحب اليد قال: هذه العين لك جعلت هذا العين لك سمع ذلك منه؛ لأن هذه دعوى الهبة، والهبة سبب الملك ودعوى الملك مضافاً إلى ما لا يصلح سبباً له لا يصح، وكذلك اختلف المشايخ في دعوى الإقرار في طرف الدفع أنه هل تصح؟ بعضهم قالوا: لا تصح كما في طرف الاستحقاق، وعامتهم على أنه تصح دعوى الإقرار في طرف الرفع.
وقد ذكر محمد رحمه الله في الكتب مسائل تدل على ذلك فمن جملته ما ذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد.
(9/757)
-----
وصورتها: رجل ادعى في يدي رجل داراً أو متاعاً، وأقام البينة عند القاضي، وقضى القاضي له بذلك، فلم يقبضه حتى أقام ذو اليد بينة على المدعي أنه أقر أنه لا حق له فيه، قال إن شهدت شهوده على إقرار المدعي بذلك قبل قضاء القاضي بطلت شهادة شهود المدعي.
وذكر في كتاب الوكالة في الوكيل بالخصومة في الدار إذا أقام بينة على أن الدار ملك موكله، وأقام المدعى عليه بينة على إقرار الوكيل أن الدار ليست لموكله، بطلت بينة الوكيل.
وذكر في آخر «الجامع»: رجل ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه بينة أن أب المدعي أقر في حال حياته أن الدار ليست له، وأقام بينة على إقرار المدعي أنها ليست له، بطلت بينة المدعي، وذكر بعض مشايخنا في تعليل هذه المسألة لو كان الميت حياً، وأقام بينة على الذي الدار في يديه أن الدار داره، وأقام ذو اليد بينة على إقرار المدعي أنها ليست له، بطلت بينة المدعي.
وفي دعوى «المنتقى»: إن من ادعى على آخر عيناً في يديه أن هذه العين ملكه، وأن صاحب اليد غصبه وأقام البينة على ذلك، وأقام الغاصب بينة أن المالك أقر أن هذا العين لي قبلت بينته، وأقررت الغصب في يديه وهذا بطريق الدعوى، ودعوى الإقرار بطريق الدفع مسموع، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: إن المدعي أقر باستيفاء هذا المال منه وأقام البينة عليه، فقد قيل: إنه لا تسمع بينته؛ لأن هذه دعوى الإقرار في طرف الاستحقاق؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فيصير المقبوض مضموناً على القابض ديناً للدافع على ما عرف، ففي الحاصل هذا دعوى الدين لنفسه، وكان هذا دعوى الإقرار في طرف الاستحقاق من حيث المعنى والله أعلم.
(9/758)
الفصل الثالث: في دعوى الملك المطلق في الأعيان
هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول في دعوى الخارج مع ذي اليد، قال محمد رحمه الله في «الأصل»:
-----
إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أو عقاراً آخراً ومنقولاً، وأقاما البينة قضي ببينة الخارج عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، والجملة في ذلك أن البينات في الأصل وضعت للإثبات، فبطل الترجيح أولاً من حيث الإثبات، فما كان أكثر إثباتاً كانت أولى بالقبول، وبعد الاستواء في الإثبات يقع الترجيح بحكم اليد، إذا ثبت هذا فنقول: بينة الخارج في دعوى الملك المطلق أكثر إثباتاً من بينة ذي اليد؛ لأن الخارج يثبت زيادة استحقاق على ذي اليد لا يثبت ذو اليد مثل ذلك ببينته على الخارج؛ لأنه ثبت استحقاق الملك الثابت لذي اليد، بظاهر اليد وذو اليد لا يستحق ببينته مثل ذلك على الخارج، إذ ليس للخارج ملك ثابت بظاهر اليد حتى يستحق ذو اليد ذلك عليه ببينته.(9/759)
-----
وتحقيق هذا الكلام أن دعوى الملك المطلق وإن كان دعوى أولية الملك من حيث الحكم، حتى يستحق المدعي الأصل بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ويرجع الباعة بعضهم على البعض كافة، نص على أولية الملك، إلا أنه يحتمل التملك من جهة صاحب اليد من حيث الحقيقة والنص، فإنه لم ينص على أولية الملك من حيث الحقيقة، فكل واحد من البينتين أثبت أولية الملك لصاحبها، فاستويا من هذا الوجه، إلا أن الخارج ببينته يستحق على ذي اليد الملك الثابت له بظاهر اليد، لأن الملك في العين ثابت لذي اليد بظاهر اليد، والخارج ببينته يستحق عليه ذلك؛ لأن دعواه تحتمل التملك من جهته، وذو اليد ببينته لا يستحق على الخارج مثل ذلك؛ فهو معنى قولنا بينة الخارج أكثر إثباتاً، بخلاف ما إذا وقع الدعوى في النتاج؛ لأن هناك استوت البينات في الإثبات؛ لأن كل بينة أثبتت أولية الملك لصاحبها، ولم تثبت استحقاقها على الآخر باعتبار التمليك من جهته؛ لأن كل بينة نصت على أولية الملك، حيث قالت نتجت عنده، ولدت عنده، وكذلك كل واحد من الخصمين نص على أولية الملك حيث قال نتجت عندي ولدت عندي، وهذا لا يحتمل التمليك من جهة صاحبه، فاستويا في الإثبات، فرجحنا بينة ذي اليد بحكم اليد؛ لأن يده دليل على زيادة صدقه في دعواه.
وبخلاف ما لو وقع الدعوى في تلقي الملك من جهة ثالثٍ؛ لأن هناك استوت البينات في الإثبات والاستحقاق؛ لأن كل بينة أثبتت الملك لبائعه والانتقال من بائعه إلى نفسه، وترجح صاحب اليد بحكم اليد، وبخلاف ما لو تنازعا في عبد ادعى كل واحد أنه عبده دبّره أو أعتقه، وأقاما البينة حيث يقضي ببينة صاحب اليد، لأن هناك الدعوى في الحاصل في الولاء، لأن العتق حاصل للعبد بتصادقهما، وقد استوت البينتان في إثبات الولاء، وترجح بينة صاحب اليد بحكم يده.
(9/760)
-----
هذا إذا لم يذكرا تاريخاً، فأما إذا (176ب4) ذكرا تاريخاً إن كان تاريخهما على السواء، فكذا الجواب أنه يقضي للخارج منهما؛ لأن عند استوائهما في التاريخ يسقط اعتبار التاريخ، وتبقى الدعوى في الملك المطلق، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق إذا اجتمعا على التاريخ فيقضى لأسبقهما تاريخاً إن كان اسبقهما تاريخاً الخارج، فلا إشكال، لأنهما لو كانا في التاريخ على السواء كان يقضى للخارج، فإذا كان هو سابقاً في التاريخ كان أولى، وإن كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد، فلأنه أثبت الملك في وقت سابق على وقت الخارج، في بينته زيادة إثبات واستحقاق من حيث الوقت إن كان في بينة الخارج زيادة استحقاق من حيث أنه يستحق على صاحب اليد الملك الثابت له بظاهر اليد، فاستويا في إثبات الاستحقاق من هذا الوجه، وترجح بينة صاحب اليد بحكم اليد كما في دعوى النتاج وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد أولاً: للتاريخ عبرة في هذه الصورة كما هو قول أبي حنيفة رحمهم الله، فيقضى لأسبقهما تاريخاً، وعلى قول أبي يوسف أولاً وهو قول محمد آخراً: إلا عبرة للتاريخ في هذه الصورة، فيقضى للخارج، وما ذكر محمد رحمه الله في الدعوى، وأحدهما وقت قبل وقت صاحبه من قوله، فمن هذه الصورة أنه يقضى أسبقهما تاريخاً، فذلك قوله الأول، أما على قوله الآخر يقضي للخارج، روى ذلك أصحاب «الأمالي» عن محمد رحمه الله.(9/761)
-----
وذكر في «المنتقى»: رجل ادعى عبد في يدي رجل أنه له منذ شهر، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه له منذ سنة، وذكر أن صاحب اليد أولى عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: المدعي أولى، وما ذكر من قول أبي يوسف قوله الآخر؛ لأن للتاريخ عبرة على قوله الآخر في دعوى الملك المطلق، فيقضي لأسبقهما تاريخاً، وهو ذو اليد، وما ذكر من قول محمد رحمه الله قوله الآخر أيضاً؛ لأنه لا عبرة للتاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الاجتماع، إنه إذا اجتمع في دعوى الملك المطلق ما يوجب اعتبار التاريخ وما يوجب إلغاءه، أما ما يوجب إلغاءه؛ لأن دعوى مطلق الملك بمنزلة دعوى مطلق الملك بمنزلة دعوى النتاج من حيث إنه دعوى أولية الملك والتاريخ في دعوى النتاج لغو حالة الإجماع وحالة الانفراد على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
(9/762)
-----
وأما ما يوجب اعتباره؛ لأن دعوى مطلق الملك يحتمل دعوى التملك من جهة المدعى عليه، بخلاف دعوى النتاج، وهذا يوجب اعتبار التاريخ كما لو ادعى التملك من جهة المدعى عليه بالشراء صريحاً، فقد اجتمع في دعوى الملك المطلق ما يوجب اعتبار التاريخ وما يوجب إلغاءه، والعمل بهما متعذر، إذ لا يتصور أن يكون التاريخ معتبراً وغير معتبر فلابد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر، فنقول: اعتبار دعوى النتاج فيه أولى من اعتبار دعوى التملك؛ لأن دعوى النتاج في دعوى الملك المطلق ثابت من حيث الحكم حتى تستحق العين بالزوائد المتصلة والمفصلة جميعاً، ويرجع الباعة بعضهم على بعض، ودعوى التملك من جهة المدعى عليه في دعوى الملك غير معتبر من حيث الحكم، بل هو معتبر لترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد، فكان دعوى النتاج أثبت من دعوى التملك، فكان اعتبار دعوى النتاج أولى، وإذا اعتبرنا دعوى الملك المطلق بدعوى النتاج يلفوا فيه ذكر التاريخ، كما في دعوى النتاج، ولأبي حنيفة وأبي يوسف آخراً، وهو قول محمد أولاً، لبيان أن للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق حالة الإجماع أنه اجتمع في دعوى مطلق الملك ما يوجب اعتبار التاريخ، وما يوجب إلغاءه على الوجه الذي قاله أبو يوسف آخراً ومحمد أولاً، إلا أن اعتباره بدعوى التملك من جهة المدعى عليه أولى، لأنا إذا اعتبرناه بدعوى التملك في حق هذا الحكم أعني به اعتبار التاريخ تبقى دعوى أولية الملك معتبراً في حق بعض الأحكام، وهو استحقاق الزوائد، ورجوع الباعة بعضهم على البعض.
ولو اعتبرناه بدعوى النتاج في حق هذا الحكم لا يبقى دعوى التملك معتبراً في حق حكم ما، فكان اعتباره بدعوى التملك في حق اعتبار التاريخ، وإنه عمل به وبدعوى أولية الملك من وجه أولى من اعتباره بدعوى أولية الملك، وفيه إلغاء دعوى التملك من كل وجه، هذا إذا أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق.(9/763)
-----
فأما إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، وعلى قول أبي حنيفة يقضي للخارج؛ لأنه لا عبرة للتاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الانفراد، فيسقط اعتبار التاريخ وتبقى دعوى الملك المطلق، فيقضي للخارج.
وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقضى للمؤرخ في هذه الصورة، وهكذا روى الحسن في «المجرد»، فهذه الرواية إشارة إلى أن التاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الانفراد تعتبر عنده، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول بهذا، يعني كان يعتبر التأقيت حالة الإنفراد، والصحيح من مذهبه والمشهور عنه أن التاريخ حالة الإنفراد في دعوى الملك المطلق غير معتبر.
والوجه لأبي حنيفة في ذلك أن الذي لم يؤرخ سابق على الذي أرخ من وجه سابق من حيث إن دعوى الملك المطلق دعوى أولية الملك حكماً، فبهذا الاعتبار يكون غير المؤرخ سابقاً على المؤرخ، ولا حق من حيث إن دعوى مطلق الملك يحتمل دعوى التملك من جهة المدعى عليه بعد تاريخ المؤرخ، فبهذا الاعتبار يكون لاحقاً، وإذا كان غير المؤرخ سابقاً من وجه ولاحقاً من وجه كان المؤرخ أيضاً سابقاً من وجه ولاحقاً من وجه، فقد استويا في السبق واللحوق، فيجعل كأنهما ملكا معاً، وعند ذلك لا يمكن اعتبار معنى التاريخ، فهذا معنى قولنا إن دعوى النتاج حالة الانفراد ساقطة الاعتبار بخلاف ما إذا أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق حيث يقضي لأسبقهما تاريخاً عنده؛ لأن أسبقهما تاريخاً سابق من كل وجه والآخر لاحق من كل وجه، وعلى قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله أولاً للتاريخ عبرة، وغير المؤرخ أسبقهما تاريخاً معنى؛ لأنه يدعي أولية الملك، فيقضى لغير المؤرخ، وعلى قول محمد آخراً وهو قول أبي يوسف أولاً لا عبرة للتاريخ فيسقط اعتبار التاريخ، ويقضى للخارج.
ومما يتصل بهذا النوع إذا ادعى الخارج مع ذي اليد مع دعوى الملك المطلق فعلاً.(9/764)
-----
صورته: ما ذكر في آخر دعوى «الأصل»: إذا ادعى الخارج أنه عبده، كاتبه على ألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد بينة، أنه عبده كاتبه على ألف درهم، قال: جعلته مكاتباً بينهما يؤدى إليهما جميعاً؛ لأن كل واحد منهما لما ادعى الكتابة، فقد تصادقا على أنه لا بد لواحد منهما عليه، وأنه في يد نفسه، فصارت مسألتنا عبد في يد ثالث تنازع فيه اثنان، وادعى كل واحد أنه عبده كاتبه، ولو كان هكذا يقضي بالملك بينهما، ويكون مكاتباً لهما كذا ههنا، ولو ادعى أحدهما أنه دبره وهو يملكه، وأقام على ذلك بينة وادعى الآخر أنه كاتب وهو يملكه، كانت بينة التدبير أولى؛ لأن التدبير أولى؛ لأن التدبير يوجب الحرية للحال، وإنه لا يحتمل الفسخ، والكتابة لا توجب الحرية للحال، وإنما تحتمل الفسخ، فكان التدبير أولى، فكان بينته أكثر إثباتاً.
ومما يتصل بهذا النوع أيضاَ: إذا ادعى الخارج الملك المطلق مؤرخاً، وادعى صاحب اليد الملك بسبب الشراء مؤرخاً.
صورته: دار في يدي رجل، ادعى رجل أنها داره ملكها منذ سنة، وأقام صاحب اليد بينة أنه اشتراها من فلان منذ سنتين وهو يملكها وقبضها منه، قضي بها للمدعي الخارج؛ لأن صاحب اليد خصم عن بائعه في إثبات الملك ليمكنه إثبات الانتقال إلى نفسه، فكأن بائعه حضر، وأقام البينة على الملك المطلق لنفسه والدار في يده، لأن يد المشتري يد البائع من حيث التقدير، ولو كان كذلك كان يقضي ببينة الخارج، كذا ههنا.
نوع آخر في دعوى الخارجين في الملك المطلق (177أ4).(9/765)
-----
قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى رجلان داراً أو عقاراً أو منقولاً في يدي رجل، فأقاما البينة على ما ادعيا، وأرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا يقضي بينهما لاستوائهما في الدعوى والحجة، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف آخراً وقول محمد أولاً يقضى لأسبقهما تاريخاً ويكون للتاريخ عبرة، وعلى قول أبي يوسف أولاً، وهو قول محمد أخراً يقضى بينهما ولا يكون للتاريخ عبرة، هكذا ذكر في «الأصل».e
وذكر في «المنتقى» أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً بلا خلاف، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل».
وفي «النوادر» عن أبي حنيفة يقضى بينهما؛ لأنه لا عبرة للتاريخ عند حالة الإنفراد في دعوى الملك المطلق في أصح الروايات، فيسقط اعتبار التاريخ، وتبقى الدعوى في الملك المطلق، وعلى قول أبي يوسف: يقضى للذي أرّخ، وعلى قول محمد رحمه الله: يقضى للذي لم يؤرخ، قالوا: وما ذكر من قول أبي يوسف رحمه الله: أنه يقضى للذي أرخ مستقيم على قوله الآخر: لأن على قوله الآخر: للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق في حالة الانفراد كما في حالة الاجتماع، فيكون المؤرخ أولى، وإنه مشكل على قوله الآخر وينبغي أن يكون غير المؤرخ أولى؛ لأنه أسبقهما تاريخاً، لأنه يدعي أولية الملك ويؤيده أن في فصل الخارج مع ذي اليد إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر كان غير المؤرخ أولى على قوله الآخر على ما مر، وما ذكر من قول محمد: إنه يقضي لغير المؤرخ إنما يستقيم على قوله الأول: للتاريخ عبرة واعتبار التاريخ يوجب أن يكون غير المؤرخ ههنا أولى؛ لأن غير المؤرخ سابق، لأنه يدعي أولية الملك، وأما على قوله الآخر يجب أن يقضى بينهما؛ لأن على قوله الآخر: لا عبرة للتاريخ، حتى إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى بينهما.
نوع آخر في دعوى صاحبي اليد(9/766)
-----
دارٌ أو منقول في يدي رجلين، فأقام كل واحد منهما البينة أنه لم يجب أن يعلم بأن العقار أو المنقول، إذا كان في يدي رجلين يجعل في كل واحد منهما نصفه، ويجعل كل واحد منهما مدعياً فيما في يد صاحبه، مدعى عليه فيما في يده، فإذا أقاما البينة على ما ادعيا: إن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء يقضى بينهما نصفان، وفي «الأصل» يقول محمد رحمه الله: يقضى لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، وهذا إشارة إلى أن هذه البينة وقعت معتبرة، فإنه قال قضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، والمشايخ اختلفوا في هذه البينة على قولين: بعضهم قالوا هذه البينة وقعت لغواً؛ لأنها لا تفيد؛ لأنها لا توجب الملك بينهما إلا نصفان، والملك بينهما نصفان ثابت بحكم يدهما، وبعضهم قالوا: لا بل هذه البينة وقعت معتبرة؛ لأن قبل هذه البينة تترك الدار في أيديهما قضاء ترك، وبعد هذه البينة تترك الدار في أيديهما قضاء استحقاق بالبينة، فإن كل واحد منهما يصير مقضياً عليه فيما كان في يده ببينة صاحبه، حتى بعدما قضى القاضي بالدار بينهما نصفان، لو ادعى أحدهما على صاحبه النصف الذي صار لصاحبه لا تسمع دعواه؛ لأنه صار مقضياً عليه في ذلك النصف، وإن أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف أولاً: لا عبرة للتاريخ يقضى به بينهما، وإن أرّخ أحدهما ولم يؤرّخ الآخر، فعلى قول أبي حنيفة: لا عبرة للتاريخ فيقضى به بينهما، وكذلك عندهما على القول الذي لا يعتبران التاريخ، وعلى القول الذي يعتبران التاريخ يقضى للمؤرخ عند أبي يوسف، ولغير المؤرخ عند محمد؛ لأن غير المؤرخ أسبقهما تاريخاً معنى.
نوع آخر في دعوى الخارجين(9/767)
-----
كل واحد منهما يدعي فعلاً على صاحبه من غصب أو إجارة أو إعارة مع دعوى الملك المطلق، وفي دعوى أحدهما ذلك الفعل على صاحبه والحكم فيه أنه إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه فعلاً مع دعوى الملك المطلق بأن ادعى على صاحبه غصبه منه، أو ادعى أنه أعاره منه أو أودعه منه، فإنه يقضي بالعين بينهما؛ لاستوائهما في الدعوى والحجة، وإن ادعى أحدهما فعلاً على صاحبه مما ذكرنا وصاحبه ادعى الملك لا غير يقضى ببينته ..... ببينة مدعي الفعل؛ لأن بينته أكثر إثباتاً، والدار إذا كانت في يدي رجلين يجعل في يد كل واحد منهما نصف الدار؛ لاستوائهما في اليد على الدار، ثم يجعل كل نصف من الدار بمنزلة دار على حدة؛ لأن حكم كل نصف يخالف حكم النصف الآخر؛ لأن كل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه يد فيما في يده، وحكم الخارج يخالف حكم ذي اليد في الدعوى وإقامة البينة.
جئنا إلى المسائل، قال محمد رحمه الله في «الجامع»:(9/768)
-----
وإذا كانت الدار في يدي رجلين أقام كل واحد منهما بينة أن الدار له، وأقام أجنبي بينة أن الدار له، فإن للرجل الأجنبي نصفها ولكل واحد من صاحبي اليد ربعها؛ لأن في يد كل واحد من صاحبي اليد نصف الدار، وكل نصف بمنزلة دار على حدة، فيسمى أحد صاحبي اليد أكبر، ويسمى الآخر أصغر تسهيلاً للتخريج، فنقول: في يد الأصغر نصف الدار، تنازع فيه الأصغر والأكبر والأجنبي، وأقاموا البينة، وبينة الأصغر فيه مقبولة لكونه صاحب يد فيه، فخرج هو من البين، بقي بينة الأجنبي والأكبر، وهما مقبولتان لكونهما خارجين من هذا النصف وقد استويا في الدعوى؛ لأن كل واحد يدعي جميعه، واستويا في الحجة، فيقضي بذلك بينهما، وفي يد الأكبر نصف الدار أيضاً تنازع فيه الأكبر والأصغر والأجنبي وبينة الأكبر غير مقبولة فيه وبينة الأصغر والأجنبي مقبولتان، فيقضى بذلك النصف بين الأجنبي والأصغر، فحصل للأجنبي نصف كل واحد من النصفين، فكان له النصف كملاً، وحصل لكل واحد من صاحبي اليد نصف النصف الذي في يد صاحبه، فكان لكل واحد ربع الدار.(9/769)
-----
ولو أن الأجنبي ادعى على أحد صاحبي اليد بعينه أنه غصب هذه الدار منه، وباقي المسألة بحاله، كان ثلاثة أرباع الدار للأجنبي، وربعها للذي لم يدع عليه الغصب، وخرج المدعى عليه الغصب من البين، حتى لو كان دعوى الغصب على الأكبر لا يكون للأكبر شيء من الدار، ويكون للأجنبي ثلاثة أرباع الدار، وإنما كان كذلك لأن النصف الذي في يد الأكبر، بينة الأكبر فيه غير مقبولة، وبينة الأصغر والأجنبي فيه مقبولتان وقد استويا في الدعوى، وكذلك استويا في الحجة، لأن كل واحد منهما يدعيه ملكاً مطلقاً من غير دعوى الفعل على صاحبه، فيقضي بذلك بينهما، وأما النصف الذي في يد الأصغر فبينة الأصغر فيه غير مقبولة، وكذلك بينة الأكبر فيه غير مقبولة؛ لأن الأكبر مع الأجنبي خارجان في ذلك النصف، وقد ادعى الأجنبي على الأكبر فيه فعلاً وهو الغصب، وفي مثل هذا تقبل بينة مدعي الفعل، ولا تقبل بينة مدعى عليه الفعل، فيقضي بهذا النصف للأجنبي بكماله وقد أصابه نصف النصف الآخر، فصار له ثلاثة أرباع الدار من هذا الوجه.
وفي «الجامع» أيضاً: رجل في يديه دار أقام رجل عليه بينة أنها داره، وأقام رجل آخر البينة أنها داره غصبها منه هذا المدعي الآخر، فإنه يقضي بالدار للمشهود له بالغصب، لأنهما خارجان تنازعا في الملك المطلق وادعى أحدهما الفعل وهو الغصب على صاحبه، وكذلك لو (177ب4) كان مكان دعوى الغصب دعوى الإيداع.(9/770)
-----
ولو أن رجلين في أيديهما دار أقام رجل أجنبي بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داره غصبها منه هذا الأجنبي، وأقام الأصغر بينة أنها داره، ولم يثبت غصباً على أحد، فإنه يقضي بنصف الدار للأجنبي نصف ذلك مما في يد الأصغر، ونصف ذلك مما في يد الأكبر، والنصف الآخر من الدار بين الأصغر وبين الأكبر نصفان لأن الأكبر مع الأجنبي استويا في دعوى ما في يد الأصغر وفي «الحجة»: لأن كل واحد منهما ادعى الغصب على صاحبه فيه، وهما خارجان فيه، فيقضى بما في يد الأصغر بينهما، والأصغر مع الأجنبي استويا في دعوى ما في يد الأكبر، وفي «الحجة» أيضاً: لأن كل واحد منهما لم يدع الغصب على صاحبه، فيقضي بذلك بينهما نصفان أيضاً، فحصل للأجنبي نصف ما في يد كل واحد منهما فيكون لكل واحد منهما، ربع الدار، فصارت هذه المسألة والمسألة الأولى سواء.(9/771)
-----
ولو أقام الأجنبي بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر وأقام الأكبر، بينة أنها داره غصبها منه هذا الأصغر، وأقام الأصغر بينة أنها داره، ولم يدع هو الغصب على أحد ذكر أنه يقضى للأجنبي بثلاثة أرباع الدار، وللأصغر بربع الدار نصف ما في يد الأكبر، ولا يقضى للأكبر بشيء؛ لأن ما في يد الأكبر استوى فيه دعوى الأصغر ودعوى الأجنبي؛ لأنهما خارجان فيه ادعيا الملك من غير دعوى الغصب على صاحبه، فاستويا فيه دعوى وحجة، فيقضى بذلك بينهما، وما في يد الأصغر بطل فيه دعوى الأكبر ببينة الأجنبي على الأكبر، لأن الأجنبي ادعى الغصب فيه على الأكبر، والأكبر لم يدع على الأجنبي مثل ذلك؛ لأن الأكبر يدعي الغصب على الأصغر دون الأجنبي، فيقضي بذلك للأجنبي، قال وليس للأكبر أن يأخذ ما أخذ الأصغر منه بأن يقول للأصغر أثبت أنا عليك غصب جميع الدار؛ لأن من حجة الأصغر أن يقول للأكبر: إنما أثبت الغصب على ما في يدي، لا فيما في يدك لأني لا أكون غاصباً لما في يدك، وما كنت غاصباً فيه قد أخذته بقضاء، وما في يدي الآن فإنما أخذته منك أيها الأكبر وأنت ما أثبت الغصب عليّ في ذلك.
ولو أقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر وأقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، قال يقضي للأجنبي بالنصف الذي في يد الأصغر، ويقضي للأصغر بالنصف الذي في يد الأكبر، وخرج الأكبر من البين؛ لأن ما في يد الأكبر بطل دعوى الأجنبي فيه بدعوى الأصغر الغصب على الأجنبي، وإقامة البينة عليه فصار كأن الأجنبي لم يدعه، فيقضى به للأصغر، وما في يد الأصغر بطل دعوى الأكبر فيه بدعوى الأجنبي الغصب على الأكبر وإقامة البينة عليه، فكأن الأكبر لم يدعه، فيقضى به للأجنبي.(9/772)
-----
ولو أقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، وأقام الأصغر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، فإنه يقضي للأصغر بالنصف الذي في يد الأكبر؛ لأن دعوى الأجنبي قد بطل فيه بدعوى الأصغر الغصب فيه على الأجنبي، وإقامة البينة على ذلك، ويقضى بالنصف الذي كان في يد الأصغر بين الأكبر والأجنبي نصفان؛ لأنه استوى فيه دعوى الأكبر والأجنبي؛ لأن كل واحد منهما ادعى الملك فيه لنفسه، وادعى الغصب فيه على صاحبه، فيقضى بينهما.
ولو أقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأصغر وأقام الأصغر، بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر، وأقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر والأصغر، فللأجنبي نصف الدار، والنصف الآخر بين الأكبر والأصغر نصفان.
حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري أنه قال ما ذكر من الجواب غلط وقع من الكاتب، وينبغي أن يقضي بجميع الدار للأجنبي؛ لأن الأجنبي أبطل دعوى كل واحد منهما، وبينته بإثباته الغصب عليهما، وواحد منهما لم يبطل دعوى الأجنبي وبينته؛ لأنه لم يثبت الغصب عليه، فتبطل دعواهما وبينتهما، وبقي دعوى الأجنبي وبينته، فيقضي بجميع الدار للأجنبي من هذا الوجه، وعامة المشايخ على أن ما ذكر في «الكتاب» صحيح.(9/773)
-----
ووجه ذلك: أن الأجنبي لما ادعى الغصب عليهما كان مدعياً على كل واحد منهما؛ لأنه يدعي الغصب فيه على صاحبه، أما الأكبر فظاهر، وأما الأجنبي؛ فلأنه لا يدعي الغصب على الأكبر فيما في يد الأصغر، إنما يدعي الغصب فيه على الأصغر، فيقضى بذلك النصف بين الأكبر والأجنبي نصفان، وأما النصف الذي في يد الأكبر تنازع فيه الأصغر والأجنبي، وقد استويا فيه دعوى وحجة؛ لأن كل واحد منهما لا يدعي الغصب فيه على صاحبه على نحو ما بينا في طرف الأصغر، فيقضى بذلك النصف بين الأجنبي والأصغر نصفان، فحصل للأجنبي نصف الدار، ولصاحبي اليد نصف الدار من هذا الوجه، فكان ما ذكر في «الكتاب» صحيحاً والله أعلم.
الفصل الرابع: في دعوى الملك في الأعيان بسببنحو الشراء أو الميراث الهبة وما أشبه ذلك
فنقول: هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً:
الأول: في دعوى الخارجين وإنه على وجهين: إما أن يدعيا تلقي الملك من جهة اثنين، أو من جهة واحد، صورة ما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين.(9/774)
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: دار في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد يدعي أنها داره، ورثها من أبيه فلان، وأقاما على ذلك بينة، فإن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء، بأن قال كل واحد منهما مثلاً: مات أبي منذ سنة وترك هذه الدار ميراثاً لي، فإنه يقضي بالدار بينهما؛ لأن كل واحد منهما يثبت الملك لمورثه في الدار أولاً ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، فكأن مورثهما حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً لأنفسهما، والعين في يد الثالث، وهناك يقضى بالعين بينهما نصفان، فههنا كذلك، وإن أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق بأن أقام أحدهما بينة أن أباه مات منذ سنة، وتركها ميراثاً له، وأقام الآخر بينة أن أباه مات منذ سنتين وتركهما ميراثاً له، وفي هذا الوجه على قول أبي حنيفة آخراً على ما ذكر في «المنتقى»، وهو قول أبي يوسف آخراً على ما ذكره في «الأصل»، وهو قول محمد أولاً على ما رواه ابن سماعة عنه، يقضى لأسبقهما تاريخاً؛ لأن للتاريخ عبرة على هذه الأقاويل وأسبقهما تاريخاً أثبت الملك لنفسه في وقت لا مزاحم له فيه، فيكون هو أولى، كما إذا ادعيا الشراء من اثنين، وأقاما البينة وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، وهناك يقضى لأسبقهما تاريخاً بلا خلاف، وطريقه ما قلنا، وعلى قول محمد آخراً، وهو قول أبي يوسف أولالاً لأن كل واحد من الوارثين يثبت الملك لمورثه أولاً، ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، ولا تاريخ في ملك المورثين، فكأن المورثين حضرا وادعيا الملك لأنفسهما من غير ذكر تاريخ، وهناك يقضى بينهما، حتى لو أرخا ملك المورثين، وتاريخ ملك أحدهما أسبق كان هو أولى من الآخر، هكذا رواه هشام عن محمد، وأما إذا ادعيا الشراء من رجلين، وأرخا الشراء وتاريخ أحدهما أسبق، فقد روي عن محمد أنهما إذا لم يؤرخا ملك البائعين (178أ4) يقضي بينهما نصفان كما في فصل الميراث، فعلى هذه الرواية لا يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين الشراء وبين الميراث(9/775)
-----
وفي ظاهر رواية محمد في فصل الشراء، يقضي لأسبقهما تاريخاً، فعلى ظاهر الرواية، محمد يحتاج إلى الفرق بين فصل الميراث وبين فصل الشراء.
والفرق: وهو أن ملك المشتري حادث ثبت بسبب حادث وهو الشراء، فكل واحد من المشتريين أثبت لنفسه ملكاً حادثاً لا تعلق له بملك البائع، فمن أثبت لنفسه الملك في وقت لا ينازعه فيه أحد كان هو أولى، فأما ملك الوارث فهو ليس بملك جديد، بل هو عين ما كان ثابتاً للمورث؛ لأن الوراثة عقد خلافة، ولا تاريخ في ملك المورثين، فلهذا افترقا، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل»، وذكر صاحب «الأقضية» عن بشر أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يقضي للمؤرخ.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله أن على قول محمد رحمه الله يقضي لغير المؤرخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يقضي بالدار بينهما نصفان بالاتفاق، هكذا ذكر الطحاوي، فما ذكر في «الأقضية» من قول أبي حنيفة إشارة إلى أن للتاريخ عبرة عند حالة الانفراد في دعوى تلقي الملك من جهة اثنين وهذا قوله الأول ثم رجع، وقال: لا عبرة في دعوى تلقي الملك من جهة اثنين حالة الانفراد، وما ذكر شيخ الإسلام من قول أبي حنيفة قوله الآخر؛ لأن على قوله الآخر التاريخ حالة الانفراد ساقط الاعتبار في هذه الصورة، فصار ذكره والعدم بمنزلة، أو يقول كل واحد منهما يثبت الملك لمورثه، ثم يثبت الانتقال من مورثه، ولا تاريخ في ملك المورثين، فكأنهما حضرا وادعيا الملك لأنفسهما مطلقاً، وهناك يقضى بينهما كذا ههنا، وما ذكر شيخ الإسلام من قول أبي يوسف مستقيم على قوله الآخر؛ لأن على قوله الآخر للتاريخ عبرة، فيكون المؤرخ أولى، أما لا يستقيم على قوله الأول؛ لأن على قوله الأول لا عبرة للتاريخ يقضي بينهما كما رواه بشر رحمه الله.(9/777)
-----
وما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله من قول محمد رحمه الله: أنه يقضي لغير المؤرخ مستقيم على قوله الأول: للتاريخ عبرة وغير المؤرخ أسبقهما تاريخاً يعني؛ لأنه يدعي الملك المطلق بطريق إطلاقه عن الميت، ودعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل، وما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه يقضى بينهما بالاتفاق أراد به الاتفاق بين أبي حنيفة آخراً: لا عبرة للتاريخ حالة الانفراد في هذه الصورة، فصار ذكره كلا ذكر، وعلى قول محمد: التاريخ في ملك الوارثين لا في ملك المورثين، وكل واحد من الوارثين يثبت الملك لمورثه أولاً ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، فكأن المورثين حضرا وادعيا لأنفسهما ملكاً مطلقاً، وهناك يقضي بالدار بينهما فههنا كذلك وإذا ادعيا الشراء من اثنين والدار في يد الثالث، فإن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء، قضي بالدار بينهما، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الميراث، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فهو على ما ذكرنا من الميراث أيضاً.(9/778)
صورة ما إذا ادعى الخارجان تلقي الملك من جهة واحد:
-----
دار في يدي رجل ادعاها رجلان، كل واحد منهما يدعي أنه اشتراها من صاحب اليد بكذا، فإن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا، فالدار بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة ويخير كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء جميع الدار لنفسه، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف، فيخير كل واحد منهما، إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن الذي سماه شهوده، وإن شاء ترك، فإن رضي أحدهما وأبى الآخر، وذلك بعدما خيرهما القاضي وقضى لكل واحد منهما بالنصف، فقد فسخ بيع كل واحد منهما في النصف، فلا يعود بيع أحدهما بعد ذلك بترك صاحبه المزاحمة معه، قال: إلا أن يكون ترك المنازعة قبل أن يقضي القاضي بشيء فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فالسابق أولى؛ لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه فيه أحد، فثبت شراءه من ذلك الوقت، وتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فالمؤرخ أولى، قيل: إنما جعلنا المؤرخ أولى تعليلاً لنقض ما هو ثابت.
بيانه: أنا متى جعلنا المؤرخ أولى فقد نقضنا شراء الآخر لا غير؛ لأنه لم تثبت بينته إلا الشراء، ومتى قضينا للذي لا تاريخ له، لقضينا على صاحب التاريخ شراءه، وتاريخه بعدما ثبت الأمران بالبينة، وتعليل نقض ما هو ثابت أولى من تكثيره. وقيل: إنما جعلنا المؤرخ أولى؛ لأنه أثبت الشراء في وقت لا منازع له فيه.
صورة ما إذا ادعى الخارجان تلقي الملك من واحد من وجه آخر:
رجل في يديه دار، جاء رجل وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان بكذا سمى رجلاً آخر، وجاء رجل آخر وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان ذلك بعينه، فإن لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضى بالدار بينهما، وإن أرخاه وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فالمؤرخ أولى لما قلنا.(9/779)
ومن هذا الجنس مسائل ذكرها في «الزيادات» وصورتها:
-----
رجل في يديه دار وعبد، جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه اشترى هذه الدار بهذا العبد من صاحب اليد وأقاما البينة، فالقاضي يخيرهما إن شاءا أخذا الدار بينهما وأخذا العبد بينهما أيضاً، وإن شاءا تركا الدار وأخذا العبد بينهما، وغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما، أما القضاء بالدار بينهما؛ لأنهما استويا في سبب الاستحقاق وهو الدعوى والشهادة، والمشهود به قابل للشركة فوجب القضاء بينهما، وأما الخيار فلأنا إذا قضينا بالدار بينهما، فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء كل الدار، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف، وهذا تفريق حصل قبل التمام؛ لأنه حصل قبل القبض فيوجب الخيار، فإن اختارا أخذ الدار بينهما لما مر، وأخذا العبد بينهما أيضاً؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء كل الدار بكل العبد، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا نصف الدار، فكان لكل واحد أن يأخذ نصف العبد، وإن اختارا ترك الدار أخذا العبد لكون العبد بدلاً عن الدار، ويكون العبد بينهما لاستوائهما في الحجة في العبد، وغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما؛ لأن كل واحد منهما سلم جميع العبد ثمناً إلى صاحب اليد، ثبت ذلك ببينة كل واحد منهما، فعند الفسخ يستحق كل واحد منهما جميع العبد، وقد عجز صاحب اليد عن تسليم جميع العبد إلى كل واحد منهما، فيغرم قيمة العبد بينهما، ليسلم لكل واحد منهما جميع العبد معنى.d
فإن قيل: كيف يغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما، وإنه صار مشترياً من كل واحد منهما كل العبد بالدار، وقد استحق عليه نصف ما اشترى من كل واحد منهما حين قضى به لصاحبه، واستحقاق المشترى من يد المشتري يمنع وجوب القيمة عليه عند الفسخ؟.(9/780)
-----
قلنا: نعم، ولكن هذا الاستحقاق ثبت إقراره؛ لأن كل واحد من المدعيين ببينته أثبت إقرار صاحب اليد بملك العبد له حين اشتراه منه بالدار، واستحقاق المشترى من يد المشتري بإقراره يقتصر عليه ولا يتعدى إلى غيره، وإذا لم يثبت الاستحقاق في حق كل واحد منهما، رجع كل واحد منهما عند الفسخ بقيمة ما عجز عن تسليمه، وإن كانت الدار في أيدي المدعيين والباقي بحاله، فكذلك الجواب، يثبت الخيار لكل واحد منهما، وإن تفرقت الصفقة على كل واحد منهما بعد التمام بالقبض، إلا أن هذا التفريق أوجب عيباً في الباقي؛ لأن الشركة في الأعيان عيب، والعيب يوجب الخيار، وإن كانت الدار في يد (178ب4) أحد المدعيين والباقي بحالة قضى بالدار لصاحب اليد؛ لأن شراءه أسبق؛ لأن القبض يدل على سبق الشراء؛ لأن الإنسان إنما يتمكن من القبض في وقت لا منازع له فيه، ولأن سببه أقوى؛ لأن سببه شراء اتصل به القبض، وبالقبض يتأكد الشراء، والقضاء بالمؤكد أولى، ولأن صاحب اليد يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على المدعى عليه لا غير، وفي بينته ما يوجب ذلك، فأما الخارج فإنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على المدعى عليه وعلى ذي اليد، لينقض قبضه، وليس في بينته ما يوجب الاستحقاق على ذي اليد؛ لأن ذلك إنما يكون بسبق شرائه، ولم يثبت ذلك ببينته، ولا يكون له الخيار؛ لأنه سلم له جميع ما اشترى، ويكون كل العبد للآخر؛ لأنه أثبت تسليم كل العبد إليه ثمن الدار، ولم يسلم له شيء من الدار، فيرجع عليه بجميع العبد.
ولو قال المدعى عليه لصاحب اليد: إن عوض الدار ولم يسلم لي، بل استحق ببينة الخصم الآخر، فإنما أرجع عليك بالدار، لا يلتفت إليه؛ لأن العبد استحق بما ليس بحجة في حق صاحب اليد ليرجح بينة صاحب اليد على بينة الآخر، فلم يظهر الاستحقاق في حق صاحب اليد من يد بائع الدار ببينة لا يرجع على المسلّم، وإنما لا يرجع لما قلنا.(9/781)
-----
هذا إذا ادعيا الشراء مطلقاً فأما إذا ادعيا الشراء مؤرخاً وأقاما البينة على ذلك، وتاريخ أحدهما أسبق قضي لأسبقهما تاريخاً، سواء كانت الدار في يد المدعى عليه أو في أيديهما أو في يد أحدهما لأيهما كان؛ لأنه أثبت شراءه في وقت لا منازع له فيه، فيثبت شراؤه من ذلك الوقت، ومن ضرورة ثبوت شرائه من ذلك الوقت بطلان شراء الآخر، وبطلان قبضه بعده، ويقضى بالعبد للآخر لما قلنا قبل هذا.
وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر إن كانت الدار في يد المدعى عليه، يقضى بالدار للذي أرخ؛ لأن الشراء أمر حادث، فيحال مطلقه على أقرب الأوقات، فالذي لم يؤرخ أثبت شراءه للحال، ولهذا لا يستحق شيئاً من الزيادة المتولدة من المبيع قبل هذا، والمؤرخ سابق عليه، ألا ترى أنه يستحق الزيادة المتولدة من وقت التاريخ فكان أولى لهذا، بخلاف دعوى الملك المطلق من اثنين على ثالث، والعبد في يد الثالث إذا أرخ أحدهما فيه دون الآخر، حيث كانا على السواء على قول أبي حنيفة رضي الله عنه على أصح الروايات عنه؛ لأن هناك ملك المؤرخ يثبت من وقت التاريخ بلا شبهة، وملك الآخر ثبت من الأصل مع الاحتمال، فيحتمل التقدم على المؤخر والتأخر عنه فيجعل مساوياً.
أما في دعوى الشراء من الواحد أقرا بالملك للبائع، والملك إذا ثبت يبقى إلى أن يوجد الناقل، فالمؤرخ أثبت النقل في زمان لا يزاحمه غيره فيه بيقين، وفي نقل الآخر احتمال، والمحتمل لا يعارض المتيقن، أما في الملك المطلق بخلافه على ما مر. وإذا قضينا بالدار للمؤرخ قضينا بالعبد للآخر على ما مر، ولا خيار لواحد منهما؛ لأن موجب (البيع) سلم لأحدهما وموجب الفسخ سلم للآخر، فانعدم الموجب للخيار.(9/782)
-----
وإن كانت الدار في يد الذي لم يؤرخ شهوده والباقي بحاله، يقضى بالدار للذي لم يؤقت؛ لأن تاريخ المؤرخ إن دل على سبق شرائه على نحو ما بيّنا، فقبض الذي لم يؤرخ يدل على سبق شرائه من حيث أن الإنسان إنما يتمكن من القبض في وقت لا منازع له فيه فتعارضا، إلا أن دليل السبق في حق الذي لم يؤرخ القبض وإنه معاين، وفي حق المؤرخ التاريخ، وإنه مخبر فيه، وليس الخبر كالمعاينة، ولو استوى الدليلان لا يجوز نقض قبض صاحب اليد بالشك، فكيف إذا ترجح دليل صاحب اليد، ولأن القبض يؤثر في الشراء تأكيداً له، والتاريخ لا يؤثر، والترجيح بالمؤثر أولى من الترجيح بغير المؤثر، وكذلك إذا كان للذي لم يؤرخ قبضاً مشهوداً به كان هو أولى؛ لأن قبضه ثبت بالبينة، والثابت بالبينة كالثابت عياناً ولو عاينا قبضه كان هو أولى فههنا كذلك.
وإن شهد شهود الذي لم يؤرخ على إقرار البائع بالشراء والقبض، قضي لصاحب التاريخ؛ لأن الثابت بالبينة ههنا إقرار البائع بالقبض لا نفس القبض، فصار كأنما عاينا إقرار البائع بذلك، ولو عاينا إقرار البائع بذلك لا يصدق في حق صاحب التاريخ فههنا كذلك.
والفقه في ذلك: أن الاحتمال في بينة صاحب الوقت من وجهين، من حيث أيهم صدقه أو كذبه، ومن حيث أن عقده يحتمل أن يكون سابقاً أو لاحقاً، والاحتمال في بينة صاحب الإقرار من وجوه ثلاثة: من حيث أيهم صدقه أو كذبه، من حيث أن بائعه صادق في إقراره أو كاذب في إقراره، ومن حيث أن عقده يحتمل أن يكون سابقاً، ويحتمل أن يكون لاحقاً، فكان القضاء ببينة صاحب الوقت أولى.
(9/783)
-----
ولو كان لأحدهما قبض مشهود به، وللآخر قبض معاين، فالذي له قبض معاين به أولى لرجحان العيان على الخبر. وإن شهد شهود كل واحد منهما على الشراء والقبض معاينة، أو على إقرار البائع بالقبض، وأرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، إن كانت الدار في يد البائع، فصاحب التاريخ أولى، وإن كانت الدار في يدي الذي لم يؤرخ شهوده، فهو أولى بحكم القبض المعاين، وإن كانت الدار في يد المشتري، وأقاما البينة على الشراء والقبض معاينة، أو على إقرار البائع بالقبض، وأرخ شهود أحدهما دون الآخر قضي بالدار بينهما نصفين، والعبد لهما أيضاً، أما القضاء بالدار بينهما، فلأن في يد كل واحد منهما نصف الدار، فالنصف الذي في يد صاحب التاريخ له فيه تاريخ وقبض معاين، وليس للآخر في ذلك شيء، فصار هو أولى به، والنصف الذي في يد غير صاحب التاريخ له فيه قبض معاين، وليس للآخر فيه إلا التاريخ، فصار صاحب القبض أولى، وأما العبد لهما لأن كل واحد منهما أثبت على المدعى عليه شراء جميع الدار بالعبد، ولم يسلم له إلا نصف الدار، وكان له الرجوع في نصف العبد، فلذلك صار العبد لهما أيضاً، ويخيران أيضاً لعيب الشركة.
قال محمد رحمه الله عقيب هذه المسائل: وتاريخ القبض في هذا بمنزلة تاريخ الشراء، حتى لو كانت الدار في يد البائع وشهد شهود كل واحد من المدعيين على الشراء والقبض، وأرخوا القبض دون الشراء وتاريخ أحدهما أسبق، بأن شهد شهود أحدهما أنه اشترى هذه الدار بهذا العبد وقبضها منذ عشرة أيام، كان صاحب القبض السابق أولى؛ لأن سبق التاريخ في القبض دليل سبق التاريخ في العقد، ولأن العقد متى ثبت بالبينة وهناك قبض يجعل القبض عن العقد، وكان سبق التاريخ في القبض دليلاً على سبق التاريخ في العقد، وسبق التاريخ في الشراء يوجب الترجيح، فكذا سبق التاريخ في القبض.
وكذلك إذا كانت الدار في يد صاحب الوقت اللاحق قضى بها لصاحب الوقت السابق لما قلنا في الشراء.(9/784)
-----
وإن أرخ أحدهما في القبض دون الآخر والدار في يد البائع، قضي لصاحب التاريخ، وإن كانت الدار في يدي الذي لم يؤرخ، فهو أولى لما قلنا في الشراء. هذا كله إذا كان العبد في يدي المدعى عليه، فأما إذا كان العبد في يد المدعيين، والدار في يد المدعى عليه والباقي بحاله، فالدار بينهما، والعبد بينهما ويخيران لما مر، فإن أمضيا العقد فالدار بينهما لما مر.
فإن قيل: ينبغي أن يؤمرا بتسليم العبد إلى المدعى عليه؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا كان العبد في يد المدعيين، فلم يسلما إلى المدعى عليه، وقد سلم لكل واحد منهما من المدعيين نصف الدار من جهة المدعى عليه ينبغي أن يسلم له من جهة كل واحد من المدعيين نصف العبد.
قلنا: إنما لم يؤمر بتسليم العبد إلى المدعى عليه؛ لأنهما لو أمرا به يثبت لهما حق الاسترداد من ساعته، فلا يفيد الأمر بالتسليم.
بيانه: أن لكل واحد منهما أثبت ببينته أن المدعى عليه صار مشترياً جميع العبد بكل الدار، فلو أمرا بتسليم العبد إليه (179أ4) صار بائع الدار قابضاً من كل واحد منهما جميع العبد بجهة الشراء، ولم يسلم لكل واحد منهما من جهته إلا نصف الدار، فكان لكل واحد منهما حق الرجوع عليه من العبد، فلم يفد الأمر بالتسليم من هذا الوجه، فلهذا لا يؤمر بذلك، وإن اختارا فسخ العقد كان العبد بينهما نصفين، ولا يغرم المدعى عليه قيمة العبد بينهما بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أن هناك كل واحد من المدعيين ببينته أثبته بتسليم كل العبد إلى المدعى عليه بجهة الثمنية فعند الفسخ يستحق الرجوع بجميع العبد، فلم يسلم لكل واحد جميع العبد معنى، أما ههنا: لم يسلم كل واحد منهما شيئاً من العبد إلى المدعى عليه، ليستحق الرجوع به عند الفسخ، ليرجع بالقيمة عند سلامة العين، فلهذا افترقا.
نوع آخر من هذا الفصل في دعوى الخارج وذي اليد بسبب من جهة غيرها(9/785)
-----
وإنه على وجهين: أما إن ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة، والحكم فيه: أنهما إذا أرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا، فذو اليد أولى، لأنهما استويا في إثبات الشراء ولأحدهما يد، والشراء يتأكد باليد، فكان صاحب اليد أولى وإنه يثبت آكد الشرائين أولى، وإن أرخ أحدهما، فكذلك ذو اليد أولى، بخلاف ما إذا كانت الدار في يد البائع، ولأحد المدعيين تاريخ، حيث كان المؤرخ أولى؛ لأن هناك إنما صار المؤرخ أولى تعليلاً لنقض ما هو ثابت، وتعليل النقض ههنا في جعل صاحب اليد أولى.
بيانه: أننا إذا قضينا لصاحب التاريخ ههنا، احتجنا إلى نقض شراء ذي اليد مع يده، ويده ثابتة معاينة، ومتى قضينا لصاحب اليد احتجنا إلى نقض شراء الآخر، وتاريخه ثابت بالبينة، والثابت معاينة فوق الثابت بالبينة، فكان نقض الثابت معاينة أكبر من نقض الثابت بالبينة، فإذاً في الموضعين يقضى بتعليل نقض ما هو ثابت، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق كان أسبقهما تاريخاً أولى، أما إذا كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد، فلأنه أولى من غير التاريخ فأولى أن يكون أولى مع التاريخ، وأما إذا كان أسبقهما الخارج اعتباراً للسبق الثابت بالبينة بالسبق الثابت معاينة، ولأنه أكثر إثباتاً.
وإن ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فإنه يقضي للخارج، بخلاف ما إذا ادعيا التلقي من يد واحد ولم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء، أو أرخ أحدهما دون الآخر حيث يقضي لذي اليد.
والفرق أنهما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه، فكأن البائعين حضرا وادعياه ملكاً مطلقاً والدار في يد أحدهما وأقاما البينة، وهناك الخارج أولى، فههنا كذلك.(9/786)
-----
فأما إذا ادعيا التلقي من جهة واحد، فكل واحد منهما لا يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه؛ لأن الملك لبائعها ثابت بتصادقهما، وإنما يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات الانتقال إلى نفسه بسبب الشراء، وذو اليد ببينته أثبت الشراءين والقضاء بالآكد أولى إذا تعذر الجمع.
نوع آخر من هذا الفصل في دعوى صاحبي تلقي الملك من جهة غيرهما
وإنه على وجهين: إن ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة ولم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء، يقضى بالعين بينهما، وكذلك إذا أرخ أحدهما دون الآخر يقضى بالدار بينهما، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً، وإن ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فكذلك الجواب على التفصيل الذي قلنا فيما إذا ادعيا التلقي من جهة واحدة.
نوع آخر منه في ذكر تاريخ الشراء مع الجهالة
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجلان اختصما في دار في يد أحدهما، فأقام المدعي بينة أنه اشتراها من فلان منذ سنة وأكثر، ولا يحفظون الفضل، فالبينة بينة المدعي. وهذا مشكل على قول من يعتبر التاريخ؛ لأن شهود ذي اليد أرّخوا أكثر مما أرخ شهود الخارج، وإن لم يثبتوا قدره، فينبغي أن يترجح شهادة شهوده بهذا.
والجواب المنقول عن المشايخ المتقدمين: أنهم إذا لم يقدروا الفضل ولم يحفظوه، كانت شهادتهم على المجهول فيما يرجع إلى الفضل، فلم تقبل شهادتهم على الفضل، تثبت شهادتهم على سنة وقد استوت البينتان فيه فيقضي به للمدعي، وكذلك إذا شهد شهود المدعى عليه أنه اشتراها من فلان منذ سنة أو سنتين شكّوا في الزيادة، قضي للخارج؛ لأن الزيادة على السنة لم تثبت بالشك، تثبت الشهادة على السنة، وقد استوت البينتان فيها، فيقضى للخارج.(9/787)
-----
قال رضي الله عنه: وإنه مشكل؛ لأنه عند استواء البينتين في التاريخ يقضي ببينة ذي اليد، وهو النوع المذكور قبل هذا بنوع، ولكن الوجه الصحيح في هذا أن يقال: بأن شهود صاحب اليد شهدوا على أنفسهم بالسهو والغفلة، وشهادة المغفل لا تقبل، فلغت شهادة شهود ذي اليد من كل وجه، وصار كأنه لم تقم البينة أصلاً.
ولو وقت شهود أحدهما بسنتين وشهود الآخر بسنة وأكثر، ولا يحفظون الفضل أو وقت شهود الآخر سنة أو سنتين، شكوا في الزيادة، فالبينة بينة من يثبت سنتين، إن كان المثبت لسنتين المدعي فبالاتفاق، وإن كان المثبت لسنتين صاحب اليد، فعلى قول من يعتبر سبق التاريخ فكذلك؛ لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه فيه أحد، وعلى قول من لا يعتبر التاريخ يقضي للخارج.
نوع آخر منه في دعوى الخارجين تلقي الملك من جهة صاحب اليد وإقرار صاحب اليد لأحدهما
في «نوادر هشام» قال: سألت محمداً رحمه الله عن غلام في يدي رجل ادعى رجل، أنه اشتراه من صاحب اليد بألف درهم منذ سنة، وأقام رجل آخر بينة أنه اشتراه من صاحب اليد بمئة دينار منذ خمسة أشهر وصاحب اليد يقول: بعته من صاحب المئة، وقضى القاضي بالغلام لصاحب الألف لما أن وقته أول، وسلم الغلام إليه، ثم وجد به عيباً ورده على المقضي عليه بقضاء القاضي، فجاء صاحبه وقال: أنا آخذ الغلام، لأنك أقررت أنك بعته مني، فصاحب اليد يأبى ويقول: القاضي فسخ العقد بيني وبينك، لا يلتفت إلى قول صاحب الغلام، ولا يكون قضاء القاضي بالغلام لصاحب الألف فسخاً للبيع بمئة، ويكون لصاحب المئة أن يأخذ الغلام بإقرار البائع أنه باعه منه ولم يبعه من ذلك، وإن قال البائع لصاحب المئة: خذ الغلام وأبى هو فللبائع أن يلزمه، وإن قال صاحب المئة حين قضى القاضي بالغلام لصاحب الألف وقام من مجلس القاضي قد فسخت البيع ههنا، لم يكن فسخاً إلا أن يقول البائع: أجيبك إلى ذلك، أو يفسخ القاضي العقد بينهما.(9/788)
-----
نوع آخر منه في دعوى الرجلين كل واحد منهما البيع على صاحبه أو الشراء على صاحبه
ما يجب اعتباره في هذا النوع لتخريج المسائل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه متى تنازع اثنان في عين، ادعى كل واحد منهما أنه اشتراه من صاحبه بثمن معلوم، أو ادعى أنه باعه من صاحبه بثمن معلوم، وأنكر صاحبه وأقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى ولم يؤرخا، فإنه تتهاتر البينتان، سواء كان المبيع في يد أحدهما أو في يد ثالث، والثالث يجحد، وسواء شهد الشهود بالشراء والقبض، أو شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، وسواء كان الثمنان على السواء أو كان أحدهما أنقص من الآخر، إلا أن المبيع إذا كان في يد المدعيين، فإنه يترك في يده قضاء ترك على الروايات كلها، وإذا كان في يد ثالث ذكر في بيوع «الجامع» في باب القصير أنه يقضي بالعين المدعى بين المدعيين نصفان إن كان لا يقضي بالعقدين، وذكر في باب الطويل أنه يترك في يد الثالث قضاء ترك.(9/789)
-----
وما يجب اعتباره (179ب4) لتخريج هذا النوع من المسائل على قول محمد: أن المبيع إذا كان في يد المتداعين إذا كان في يد المتداعيين إن شهد الشهود بالعقد دون القبض، فإن القبض المعاين يجعل أولاً، كأن ذا اليد اشترى أولاً وقبضه ثم باع ولم يسلم، فيؤمر بالتسليم ويجب لكل واحد منهما على صاحبه ما ادعى من الثمن ويتقاصان إذا كانا على السواء، وإن شهدوا بالعقد والقبض، فإنه يجعل القبض المعاين آخراً، كأن الخارج اشترى أولاً وقبضه ثم باعه من صاحبه وسلم، فيقضى بالمبيع لذي اليد، يعتبر هكذا إذا كان في اعتبار القبض المعاين آخر القبوض بحكم هذه العقود المشتبهة، تصحيح البيوع كلها رواية واحدة، وأما إذا كان في جعله آخر القبوض فساد بعض البيوع، وفي جعله آخر القبوض تصحيح البيوع كلها، ذكر في أول باب الطويل: أنه يجعل آخر القبوض على قوله، وذكر في آخر باب الطويل أنه يجعل أول القبوض، قالوا: وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن ما ذكر في أول الباب جواب القياس، وما ذكر في آخره جواب الاستحسان.
وأما إذا كان البيع في يد الثالث والمسألة بحالها، إن ادعى كل واحد منهما من الثمن مثل ما ادعاه صاحبه، فعلى قوله: يقضى بالمبيع بين المدعيين نصفان، سواء شهد الشهود بالعقد والقبض أو شهدوا بالعقد ولم يشهدوا بالقبض، إلا أنهم متى شهدوا بالعقد دون القبض يقضى لكل واحد منهما بنصف الثمن على صاحبه، ومتى شهدوا بهما فإنه يقضى لكل واحد منهما بجميع الثمن على صاحبه ثم يتقاصّان، وإن كان أحد الثمنين أنقص من الأخر، إن شهدوا بالعقد دون القبض، فإنه يجوز عقد كل واحد منهما في النصف، ويبطل في النصف، وإن شهدوا، بها فإنه يقضي لكل واحد منهما بما ادعى من العقد على صاحبه في الجميع، وتقدم أولاً بيع الذي ادعى أنه باع بخمسمئة، وترتب عليه بيع الذي ادعى أنه باعه بألف، فحاصل ما يجب اعتباره في تخريج مسائل هذا الباب على قوله هذا.
(9/790)
-----
إذا عرفنا الرواية. جئنا إلى بيان المعنى، فنقول: على قول محمد رحمه الله: إذا كان المبيع في يد أحدهما وشهد الشهود بالعقد دون القبض إنما يجعل القبض المعاين أولاً، لأن الشهود شهدوا بأصل التاريخ بين هذين العقدين، إن لم يشهدوا بكيفيته؛ لأن كل فريق شهدوا بالعقد في وقت غير الوقت الذي شهد به الآخر؛ لأن الوقت لو كان واحداً لكانا لا يشهدان؛ لأن العقدين يكونان باطلين، إلا أنهم لم يثبتوا السابق منهما، فجعلنا شراء الذي له قبض معاين سابقاً حكماً؛ لأن السبق في باب الشراء مما يثبت بالقبض، كما لو ادعيا الشراء من ثالث، ولأحدهما يد يجعل شراؤه سابقاً على ما مر قبل هذا، ولأن في تقديم شراءه تصحيح الشراءين وليس في تقديم شراء الخارج تصحيح الشراءين، بل فيه إفساد شراء ذي اليد منه، لأن الشهود لم يشهدوا بالقبض، فيصير الخارج بائعاً المشتري المنقول قبل القبض، وإنه لا يجوز، وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، فإنما يجعل المعاين آخر القبوض؛ لأن الأصل أن القبض إذا ثبت عقيب عقد يحال به على ما ظهر من السبب لا على غيره، ولأن أي الشراءين قدمناه يصح العقدان، فيقدم شراء الخارج حتى لا يحتاج إلى نقض القبض المعاين بالشك ولأن في هذه الصورة السبق في باب الشراء مما يثبت بالقبض، وقبض الخارج سابق؛ لأنه ينقض؛ فإن الانقضاء دليل السبق، والقيام دليل التأخير، هذا إذا كان في جعل القبض المعاين آخراً في هذه الصورة تصحيح العقود، فأما إذا كان في جعله آخراً إفساد بعض العقود وفي جعله أولاً تصحيح العقود كلها، القياس: أن يجعل آخراً على قوله، وفي الاستحسان يجعل أولاً.(9/791)
-----
وجه القياس: أن هذا قبض وجد عقيب الشراء، فيجب أن يكون قبض شراء وإن كان فيه إفساد بعض العقود، كما لو شهدوا بالعقد دون القبض، ولأن السبق مما يثبت بالقبض في باب الشراء، فيثبت سبق الشراء بسبق القبض، وقبض الخارج سابق؛ لأنه ينقض، وقبض ذي اليد متأخر؛ لأنه قائم، وإذا كان قبضه متأخراً كان شراؤه متأخراً.
وجه الاستحسان: أن القبض الموجود عقيب الشراء، إنما يجعل قبض الشراء من حيث الظاهر لا بدليل يوجب ذلك، وكذلك انقضاء القبض يدل على السبق من حيث الظاهر لا بدليل يوجب ذلك، وقد قابل هذا الظاهر ظاهراً آخر، فإن الظاهر من حال المسلم العاقل أنه يقدم على العقد الصحيح دون الفاسد، والعمل بهما متعذر لما بينهما من التنافي، فكان العمل بالظاهر الذي فيه تصحيح العقود كلها أولى من العمل بالظاهر الذي فيه إفساد بعض العقود، بخلاف ما إذا شهدوا بالعقد دون القبض، لأن الشهود لم يشهدوا للخارج بالقبض، ولا يمكن إثبات القبض من غير شهادة ولا معاينة، فشراء الخارج إن اعتبر أولاً يفسد بعض العقود أيضاً، وهو شراء ذي اليد؛ لأن الخارج يصير تابعاً ما اشترى قبل القبض.Y
وأما إذا كان المبيع في يد الثالث إن كان الثمنان على السواء يقضى بينهما نصفان، سواء شهدوا بالعقد والقبض أو بالعقد دون القبض، لأنه تعذر القضاء بالعقدين؛ لأنه إنما يمكن القضاء بالعقدين إذا أمكن تقديم أحدهما على الآخر، وههنا التقديم إنما يثبت إما بالقبض المعاين، أو بأن يكون في تقديم بعض البيوع تصحيح جميع العقود، وفي تقديم البعض إفساد، فيقدم ما فيه تصحيح الكل؛ إذ الأصل في تصرف العاقل أن يحمل على وجه الصحيح.(9/792)
-----
قلنا: وكل ذلك معدوم ههنا؛ لأنه ليس لأحدهما قبض معاين، وأي العقدين قدمنا إذا كان الثمنان من جنس واحد، يجوز إذا شهد الشهود بالعقد والقبض؛ لأن كل واحد منهما يصير بائعاً ما اشترى من صاحبه بعد القبض قبل نقد الثمن بمثل الثمن وإنه جائز، وإذا تعذر التقديم وجب القضاء بالمبيع بينهما نصفان، إلا أنهم متى شهدوا بالعقد دون القبض، فإنه يقضى لكل واحد منهما على صاحبه بنصف الثمن، لأن كل واحد منهما إنما سلم نصف المبيع، فلا يستحق إلا نصف الثمن، ومتى شهدوا بهما، فإنه يقضي لكل واحد منهما على صاحبه بجميع الثمن؛ لأنه يثبت بالبينة العادلة أن كل واحد منهما سلم جميع المبيع إلى صاحبه، فيستحق جميع الثمن، وإن كان أحد الثمنين أنقص من الآخر إن لم يشهدوا بالقبض فإنما يجوز بيع كل واحد منهما في النصف؛ لأن كل واحد منهما إنما قدر على تسليم نصف المبيع لا غير.(9/793)
-----
وإن شهدوا بالعقد والقبض فإنه يقضى بالعقدين؛ لأنه إن تعذر تقديم أحدهما على الآخر من حيث القبض المعاين، أمكن من حيث أنّا إذا قدمنا شراء الذي اشترى بخمسمئة يصح شراء الآخر منه بعد ذلك؛ لأنه يصير مشترياً بالشراء من صاحبه بعد القبض بأكثر من الثمن الأول قبل نقد الثمن، وإنه جائز، فيجوز العقدان، والمعنى لأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لم يثبت أحد الشرائين بعينه على الآخر؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك، ولا يجوز أن يثبت السبق بالقبض، إنما يثبت ذلك إذا ادعيا الشراء من واحد، قلنا إذا ادعياه من اثنين لا يثبت السبق بالقبض، بل يقضى بالعين بينهما نصفين، وههنا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل غير الذي ادعاه صاحبه، فلا يثبت الشراء بالقبض ولا يجوز إثبات سبق شراء ذي اليد تخيرنا لجواز الشراءين؛ لأن التقديم بهذا الاعتبار إنما يثبت من حيث الظاهر، والظاهر يصلح حجة للدفع، ولا يثبت حجة للاستحقاق، وإذا تعذر إثبات الشراءين تتهاتر البينتان، وكذلك إذا شهدوا بالشراء والقبض تتهاير البينتان أيضاً؛ لأن تقديم شراء الخارج ههنا لو ثبت إنما ثبت بنوع من الظاهر على ما قال، والظاهر يصلح حجة للدفع، ولا يصلح حجة للاستحقاق، وإذا تعذر التقديم يتعذر القضاء بهما، فتتهاتر البينتان (180أ4) ضرورة.
وهذا إذا لم يؤرخا، فإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فكذلك الجواب.
وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق إن كان أسبقهما تاريخاً الخارج وقد شهدوا بالقبض مع الشراء، قضي بالعقدين، ويقضى بالدار لآخرهما تاريخاً، وهو صاحب اليد. وإن شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، ذكر شيخ الإسلام: أنه يقضي بالدار لذي اليد، وهل يقضي بالعقدين؟ على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقضى، وعلى قول محمد: لا يقضى.
إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى المسائل، فنقول:(9/794)
-----
وضع محمد رحمه الله في «الجامع» المسألة في الشراء أولاً، فقال: دار في يدي رجل ادعاها رجل، أنه اشترى من المدعي بألف درهم، وأقام البينة على ذلك، فالمسألة على الاختلاف والتفصيل الذي ذكرنا.
ثم وضع المسألة في البيع، فقال: دار في يد رجل أقام البينة أنها داره باعها من ذي اليد بألف، وأقام ذو اليد بينة أنها داره، باعها من هذا المدعي بألف درهم، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف تتهاتر البينتان لما قلنا. وقد أشار محمد رحمه الله في الكتاب الى نكتة أخرى، لهما: أن كل واحد منهما أثبت إقرار صاحبه أن الدار له؛ لأن كل مشترٍ يقر أن الملك فيما اشترى لبائعه، بمنزلة ما لو ادعى كل واحد منهما الإقرار من جهة صاحبه، فإن قيل على قياس قولهما: يجب أن تقبل البينتان إذا شهد كل فريق لمدعيه بالبيع والقبض؛ لأنه لا حاجة إلى القضاء بالبيع والتسليم، وإنما الحاجة إلى القضاء بالثمن.
هذا كما ذكرنا في عبد في يد رجل أقام رجل بينة أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، فإنه يقضي لكل واحد منهما على ذي اليد بجميع الثمن، فطريقة ما قلنا. هذا هكذا إذا صح دعوى كل واحد منهما، وهنا لم يصح للتضاد؛ لأن كل واحد منهما ادعى على صاحبه مثل ما ادعى صاحبه عليه، فصار وجوده والعدم بمنزلة.
دار في يدي رجل يسمى محمداً، وادعى رجل يسمى بكراً أن الدار داره اشتراها من هذه المرأة بألف درهم، وادعت المرأة أنها داره واشتراها من بكر، وأقاموا جميعاً البينة إلا أن الشهود لم يؤرخوا، ولم يشهدوا بالقبض، إنما شهدوا بالشراء، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: بينة المرأة وبينة البكر باطلتان، لأن كل واحد منهما ادعى الشراء من صاحبه، وتقبل بينة محمد، لأنه تفرد بإقامة البينة، ولا دافع ببينته، فقبل بينته، ويقضي بالدار له شراء من بكر، ويقضي عليه بالثمن لبكر.(9/795)
فإن قيل: كيف يقضي بشراء محمد من بكر ولم يثبت الملك لبكر؟(9/796)
-----
قلنا: ملك بكر ثبت بإقرار محمد تلقي الملك من جهة بكر، وهذا الإقرار منه صحيح، لكونه صاحب يد. ثم بينة محمد تثبت شراء محمد من بكر، وعلى قياس قول محمد تقبل بينة بكر على المرأة، ويقضي بالدار له شراء من جهة المرأة، وتقبل بينة محمد على بكر، وتبطل بينة المرأة على بكر؛ لأن الدار كانت في يد محمد من حيث الحقيقة إلا أنها من حيث الحكم والتقدير كأنها في يد بكر؛ لأن محمداً يقر بأن اليد والملك في هذه الدار كان لبكر، وأنه استفاده من جهة بكر، ولم يدع بكر مثل ذلك، حتى يبطل إقرار محمد للتعارض والتدافع من جهة محمد، فصح إقرار محمد لبكر، ولو كانت الدار في يد بكر حقيقة، كان الجواب على نحو ما بينا: أن بينة المرأة وبينة بكر باطلتان، وبينة محمد مقبولة، وإن كانت الدار في يد المرأة والباقي بحاله، فعلى قولهما: البينات كلها باطلة، أما بينة المرأة على بكر، وبينة بكر على المرأة فلا إشكال فيه، وأما بينة محمد على بكر ففيه نوع إشكال، ويجب أن تقبل بينة محمد على بكر؛ لأنه ادعى حادثاً وأثبته بالبينة، ولا دافع لبينته.
قلنا: محمد أثبت الشراء ببينته من بكر، إلا أن قبض بكر ما اشترى من المرأة لم يثبت، فصار بكر بائعاً ما اشترى قبل القبض، فإن قيل: ثبت قبض بكر بإقرار المرأة، فإنها أقرت تلقت الملك من جهة بكر، فتكون مقرة أنها استفادت الملك واليد من جهة بكر، فيجعل كون الدار في يد بكر كما في الفصل الأول.
قلنا: إن إقرارها لم يصح لما ادعى بكر أنه تلقى الملك من جهته، فلا يثبت قبض بكر بإقرار المرأة، فإن قيل: كيف تستقيم أن يقال: ... وبيع العقار قبل القبض جائز عندهما، ومحمد وضع المسألة في العقار.(9/797)
-----
قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في هذا المقام، فعبارة بعضهم: أنه يحتمل أن محمداً حين فرّع هذه المسألة وطال تفريعها على حسب ما يرى، حسب أنه وضع المسألة في المنقول. ومنهم من قال: إنما فرع هذا على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، فبيع العقار قبل القبض في شيء من الكتب إنما أثبته في «الجامع» هذه المسألة. ومنهم من قال: أراد محمد رحمه الله التفريع على قياس قولهما: إن كانا لا يريان جواز بيع العقار قبل القبض.
فإن قيل: إن استقام ما ذكر محمد من الحكم على قولهما على ما ذكرتم من التأويلات إلا أن التعليل الذي ذكر محمد في «الكتاب» لهما إن شاء محمد من بكر لم يصح؛ لأنه اشترى من بكر قبل القبض لا يصح؛ لأن امتناع جواز شراء محمد من بكر عندهما ما كان لعدم القبض، وإنما كان لعدم الملك؛ لأن بينة بكر على المرأة لما بطلت لم يثبت الملك لبكر، لا بالبينة ولا بإقرار المرأة على ما بينا.
قلنا: بطلان بيع محمد من بكر له علتان، إحدهما: ما ذكر محمد، والثانية: ما ذكرنا أنه لم يثبت الملك لبكر، والحكم إذا كان له علتان، جاز للمعلل أن يذكر إحداهما ويترك الأخرى؛ لأن إحداهما تكفي لإثبات الحكم، هذا كله قولهما، وأما على قول محمد: يجوز شراء المرأة من بكر وشراء بكر من المرأة.
وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، وكان الدار في يد محمد وباقي المسألة بحالها، فالجواب فيه عندهما كالجواب فيما إذا لم يشهدوا بالقبض إنما شهدوا بالعقل لا غير. وعند محمد يقضى بالبيوع كلها، وهكذا الجواب فيما إذا كان الدار في يد بكر، وأما إذا كانت الدار في يد المرأة، فإن على قول محمد: يحكم بجواز الشرع كلها، وعلى قولهما تقبل بينة بكر ومحمد، ولا تقبل بينة المرأة.
قالوا: وما ذكر أن على قولهما بينة البكر مقبولة مشكل، وينبغي أن لا تقبل بينته كما في الفصلين الأولين، وهو ما إذا كانت الدار في يد محمد، أو في يد بكر.(9/798)
-----
والجواب: وهو الفرق بين هذا الفصل وبين الفصلين الأولين بينة بكر، قالا: يثبته جواز شراء محمد منه؛ لأن شراء محمد منه يجوز من غير بينة متى كان الدار في يد بكر بظاهر يده؛ لأن اليد تدل على الملك، وكذلك إذا كانت الدار في يد محمد، بينة بكر لا تثبت جواز شراء محمد؛ لأن محمداً مقر أن اليد في هذه الدار كانت لبكر لما ادعى محمد تلقي الملك من جهة بكر، وصح هذا الإقرار من محمد لما قلنا، فصار كون الدار في يد محمد، وكونها في يد بكر سواء، فهو معنى قولنا: إن بكراً ببينته لا يثبت جواز شراء محمد منه في الفصلين. والمرأة كذلك بينتها لا تثبت جواز شراء محمد، فكانت بينة بكر مساوية ومعارضة لبينتها فبطلتا، فأما إذا كانت الدار في يد المرأة فبينة بكر تثبت جواز شراء محمد منه؛ لأنه متى لم يقم لبكر بينة على الشراء من المرأة، لا يجوز شراء محمد من بكر؛ لأن الدار ليست في يد بكر، لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار، بإقرار المرأة أن اليد كانت لبكر حيث ادعت تلقي الملك من جهة بكر؛ لأن إقرارها قد بطل لما أقر بكر لها بمثل ذلك. وإذا لم تثبت لبكر يد في هذه الحالة بوجه ما متى لم تقبل بينته على المرأة لا يجوز شراء محمد من بكر، فكان في قبول بينة بكر جواز شراء محمد، وترجحت بينته على بينة المرأة ولم يقع (180ب4) التعارض بينهما، فقبلت بينته لهذا.
(9/799)
-----
عبد في يدي حر، أقام مكاتبٌ البينة أنه عبده، باع من هذه المرأة بألف درهم، وأقامت المرأة بينة أنه عبدها باعته من هذا المكاتب بعشرة أكرار حنطة وسط، وأقام الحر بينة أنه عبده اشتراه من هذا المكاتب بهذا الوصف، إلا أنهم لم يشهدوا بالقبض، فإن في قياس قول أبي حنيفة بينة المكاتب وبينة المرأة باطلتان لما مر، وبينة الحر مقبولة، ويقضي بالعبد للحر شراء من المكاتب، وعلى قول محمد تقبل بينة المرأة على المكاتب، وتقبل بينة الحر على المكاتب، ولا تقبل بينة المكاتب على المرأة؛ لأن العبد في يد المكاتب حكماً واعتباراً ولو كان في يده حقيقة يجعل قبضه أول القبضين، وإنما يكون أول القبضين إذا كان بيع المرأة سابقاً على بيع المكاتب، كأنها باعت منه وقبض المكاتب ثم أثبت الحر ببينته أنه اشتراه من المكاتب، والمكاتب ببينته أثبت أنه باعه من الحر، فيكون بينة الحر أولى؛ لأن الحر أثبته المدعيين؛ لأنه يثبت الملك واليد لنفسه، والمكاتب يثبت الملك لغيره، ولأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة. ولو عاينا أن الحر اشترى من المكاتب، ثم ادعى المكاتب أنه باعه من المرأة لا يسمع بينته؛ لأنه ينبغي في نقض ما تم به، ولأن الحر ببينته أثبت إقرار المكاتب أنه باع العبد منه، والمكاتب ببينته أثبت إقرار نفسه أنه باعه من المرأة، ولأن الحر ببينته أثبت أنه اشترى من المكاتب، والمكاتب ببينته يثبت الشراء.
ولو ادعت المرأة الشراء من المكاتب والحر كذلك، كانت بينة الحر أولى؛ لأن له قبض كذا ههنا، وإن كان العبد في يد المكاتب، فالجواب في المسألة الأولى، إلا أن ههنا يحتاج المكاتب إلى تسليم العبد إلى الحر.
ولا يجيئ ههنا بعض علل المسألة الأولى، وهي العلة الأخيرة إنما يجيئ العلل البواقي. وإن كان العبد في يدي المرأة فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف البيوع كلها باطلة لوقوع التعارض بين البينات.(9/800)
-----
فإن قيل: كان يجب أن تقبل بينة المرأة لأن لبينة المرأة؛ زيادة رجحان؛ لأنها تثبت جواز بيع المكاتب من الحر، قلنا ليس كذلك لأن الشهود لم يشهدوا بالقبض، فيصير الحر مشترياً من المكاتب قبل القبض.
فإن قيل: كان ينبغي أن تقبل بينة الحر؛ لأنه لا دافع لبينته، قلنا: نعم لا دافع لبينته، إلا أنها قامت على إثبات شراء فاسد؛ لأنه لما بطلت بينة المرأة والمكاتب، فهو على قولهما للتعارض لم يثبت للمكاتب ملك، ولئن ثبت الملك للمكاتب بإقرار المرأة أنها باعت منه، إلا أنه لم يثبت القبض من المكاتب لما بينا، بخلاف الفصلين الأولين على ما مر.
أما على قياس قول محمد: تقبل بينة المكاتب على المرأة، ثم تقبل بينة المرأة على إثبات البيع من المكاتب، ولا تقبل بينة الحر على إثبات الشراء من المكاتب، وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، والعبد في يد الحر، فإن على قولهما: بينة المرأة والمكاتب باطلتان للتعارض، وبينة الحر على المكاتب مقبولة، وأما على قول محمد: البينات كلها مقبولة، ويقضى بالبيوع كلها.
وإن كان العبد في يد المكاتب وباقي المسألة بحالها فالجواب فيه عندهما كالجواب في الفصل الأول، وعند محمد: الجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى.
وإن كان العبد في يد المرأة وباقي المسألة بحالها، فعلى قولهما: بينة المكاتب على المرأة باطلة، وبينة المرأة على المكاتب جائزة، وما ذكر أن بينة المرأة على المكاتب جائزة مشكل اعتباراً بالفصلين الأولين، إلا أن الفرق بينهما: أن في الفصلين الأولين بينة المرأة أنها بطلت؛ لأنها ساوت بينة المكاتب؛ لأنها ثبت بيعها من المكاتب، ولا يثبت جواز شراء الحر من المكاتب جائز وإن لم يثبت بيع المرأة؛ لأن العبد في يد المكاتب، إما حقيقة أو تقديراً واعتباراً أو تعذر العمل بهما فبطلتا.(9/801)
-----
فأما ههنا في بينة المرأة على المكاتب زيادة إثبات، فإنها تثبت حقاً للحر، وهو جواز شرائه من المكاتب، فإنه متى كان العبد في يد المرأة لا يجوز شراء الحر من المكاتب ما لم يثبت بيع المرأة من المكاتب؛ لأنه باع ما ليس في يده ولا ملكه، فترجحت بينة المرأة فصارت أولى، وأما على قول محمد جازت البيوع كلها لما عرف من أصله عن طريق الاستحسان، فإن كان الحر لم يقم البينة على الشراء، لكن أقام البينة أنه باع العبد من المكاتب بمئة دينار، والباقي بحاله، قبلت بينته، ولا تقبل بينة المكاتب على المرأة، ولا بينة المرأة على المكاتب عندهم جميعاً. أما عندهما فلما مر، وأما عنده: فكذلك، وينبغي أن يقضى ببيع المرأة من المكاتب عند محمد، ولا يقضي ببيع الحر من المكاتب، قياساً على مسألة أخرى ذكرها محمد في البيوع من «الجامع» أيضاً في باب الشهادات في البيوع في الاثنين والواحدة.
وصورتها: رجل في يديه عبد ادعى أن هذا العبد عبده، باعه من هذه المشتراة بألف درهم، والمرأة تجحد ذلك وتدعيه لنفسها، وأقام المدعيان البينة على ما ادعيا، فإنه يقضي ببيع المدعي الذي ليس العبد في يده من المرأة؛ لأنهما ادعيا بيع العبد من المرأة، وادعيا فيه ملكاً مطلقاً والعبد في يد أحدهما، فكذلك ههنا يجب أن يقضي ببيع المرأة من المكاتب؛ لأن الحر مع المرأة ادعيا البيع من المكاتب وادعيا في العبد ملكاً مطلقااً والمرأة خارج، فإن العبد ليس في يدها، والحر ذو اليد، فمن المشايخ من يجعل في المسألة روايتين، ومنهم من يفرق بين المسألتين.
(9/802)
-----
والفرق: أن ثمة الذي ليس العبد في ملكه يحتاج إلى إثبات ملكه في العبد بالبينة، ليجوز بيعه؛ لأن الملك له في العبد غير ثابت، وذو اليد أثبت كذلك أيضاً، إلا أن المذهب عندنا: أن بينة الخارج أولى، فأما ههنا فالمرأة الخارجة مستغنية عن إثبات الملك لنفسها في العبد، ليجوز بيعها؛ لأن الملك لها ثابت في العبد بإقرار الحر، فكان بينة كل واحد منهما مشروعة على إثبات البيع، لا على إثبات الملك، فكان بينة ذي اليد أولى؛ لأن بيعه آكد لأنه أثبت بيع شيء في يده، ويقدر على تسليمه، والمرأة تثبت بيع شيء لا يقدر على تسليمه، وإن كان العبد في يد المكاتب والباقي بحاله، فإن على قولهما: بينة المكاتب والمرأة باطلتان، وبينة الحر مقبولة، وعلى قول محمد: يقضى بالعبد كله للمكاتب، نصفه شراء من جهة المرأة، ونصفه من جهة الحر؛ لأن العبد في يده، وقد تنازع فيه خارجان يدعي كل واحد منهما أنه باعه من المكاتب، وأقاما البينة ولا مزية لإحدى البينتين على الأخرى.
فإن قيل: لماذا قدم محمد بيع الحر وبيع المرأة من المكاتب، ولم يقدم بيع المرأة من المكاتب؟
قلنا: لأن الأصل عنده أن الشهود متى لم يشهدوا بالقبض يجعل القبض المعاين أول القبوض بحكم البيع، وإنما يصير أول القبوض إذا قدمنا على هذا الوجه، ويقضي لكل واحد منهما على المكاتب بنصف الثمن بائعاً جميع العبد من المرأة، فيؤمر المكاتب بتسليم العبد إلى المرأة، ولا خيار للمكاتب، وإن اشترى من كل واحد منهما جميع العبد وقد سلم له النصف لأن خياره يسقط بالبيع من المرأة؛ وكان يجب أن يقضي على المكاتب لكل واحد منهما بجميع الثمن، لأن العبد سلم الى المكاتب.(9/803)
-----
وقد ذكر هذه المسألة في باب الشهادات في البيوع من «الجامع»، ووضعها في الدار، فقال: دار في يدي رجل، أقام رجل البينة أنها داره باعها من ذي اليد بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنها له داره باعها من ذي اليد بمئة دينار، فالشراء لازم للمشتري، وعليه (181أ4) الثمنان، قال مشايخنا ولا يتهيأ الفرق، فيجعل ما ذكر في باب الشهادات جواب الاستحسان، وما ذكر ههنا جواب القياس.
وجه الاستحسان: أن كل واحد منهما محتاج إلى إثبات الملك فيما باع عند المنازعة، وقد نازعهما ذو اليد في ذلك، فتقبل بينتهما، وإذا قبلت بينتهما فقد استحق على كل واحد منهما نصف ما باع بينة صاحبه، فصار كأن كل واحد منهما باعه جميع العبد، إلا أنه استحق منه النصف، فيسقط عنه نصف الثمن في حق كل واحد منهما.
وجه الاستحسان: أنه لم يستحق كل واحد منهما شيء مما باع من المشتري؛ لأن حاجة كل واحد من البائعين في هذه الصورة إلى إثبات الملك فيما باع؛ لأن الملك فيما باع، إنما يحتاج إليه ليقدر البائع على تسليمه، فيستوجب الثمن على المشتري، فإذا كان المبيع في يده استغنى كل واحد من البائعين عن تسليم ما باع، واستغنى عن إثبات الملك لنفسه، وبينة المدعي إنما تسمع فيما يحتاج إلى إثباته، لا فيما يحتاج إلى إثباته، وإذا لم تسمع بينة كل واحد من البائعين على إثبات الملك فيما باع، لم يصر كل واحد من البائعين مستحقاً عليه في شيء مما باع، فيقرر جميع الثمن لكل واحد منهما على المشتري، وإن كان المبيع شيئاً واحداً؛ لأن اجتماع الثمنين في ذمة المشتري بسبب مبيع واحد جائز على سبيل الترادف، بأن يشتري من أحدهما ثم يبيعه من الآخر، ثم يشتري منه.(9/804)
-----
وإن كان العبد في يد المرأة وباقي المسألة بحالها، فعلى قولهما: بينة المرأة والمكاتب باطلتان، وبينة الحر على المكاتب مقبولة، وعلى قول محمد كذلك الجواب؛ لأن الحر والمرأة ادعى كل واحد منهما أن العبد عبده وقد باعه من المكاتب، والعبد عبد يسلم إلى المشتري وهو المكاتب، فكان الحر محتاجاً إلى إثبات الملك في العبد، ليمكنه التسليم إلى المشتري، والحر خارج والمرأة ذو اليد، وبينة الخارج أولى.
وأما إذا شهد الشهود بالعقد والقبض، فالمسألة على ثلاثة أوجه: وهو أن يكون العبد في يد الحر أو في يد المرأة، وتخريجهما على نحو ما ذكرنا، وما ذكر محمد رحمه الله من هذا الجنس، فتخريجه على نحو ما ذكرنا.
قد ذكرنا في أول هذا النوع أن العين الواحد إذا تنازع فيه اثنان ادعى كل واحد منهما أنه باعه من صاحبه بثمن معلوم وأنكر صاحبه، وأقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى ولم يؤرخا، والعين في يد الثالث، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف على رواية باب الطويل من بيوع الجامع تترك العين في الثالث قضاء ترك، وعلى رواية الباب القصير منه يقضي بالعين المدعى من المدعيين نصفان، واختلف المشايخ فيما بينهم قال بعضهم: في المسألة روايتان على رواية الباب القصير يقضي بالملك بينهما، وعلى رواية الباب الطويل لا يقضي بالملك بينهما، وبعضهم قالوا ما ذكر في الباب القصير قياس، وما ذكر في الباب الطويل استحسان، وبعضهم قالوا اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.(9/805)
-----
وضع المسألة في الباب الطويل أن كل واحد منهما ادعى البيع على صاحبه فقط، وعند التعارض في دعوى البيع تتهاتر البينتان، ووضع المسألة في الباب القصير إذا ادعى كل واحد منهما البيع والملك وجه ما ذكر في الباب القصير، وهو القياس على قول بعض المشايخ أو إحدى الروايتين على قول البعض أن كل واحد منهما أقام البينة على ما يجوز القضاء به وعلى ما لا يجوز القضاء به على قولهما؛ لأن كل واحد منهما أقام البينة أن الدار ملكه، والدار في يدي الثالث، وهذا مما لا يجوز القضاء به، بدليل أنه لو لم يدع كل واحد منهما البيع من صاحبه، فإنه يقضي بينهما نصفان، وعلى كل واحد منهما البيع من صاحبه، فإنه يقضي بينهما نصفان وعلى ما لا يجوز القضاء، فإن كل واحد منهما أثبت بيع جميع الدار من صاحبه، وقد جهل التاريخ بينهما، فيجعل كأنهما وقعا معاً بأن قال كل واحد منهما لصاحبه: بعت منك هذه الدار وخرج الكلامان معاً، ولو كان هكذا كان البيعان باطلين؛ لأن الشخص الواحد في وقت واحد لا يتصور أن يكون بائعاً ومشترياً لعين واحدة لما فيه من التضاد، فيقضي بما يجوز القضاء به، ولا يقضي بما لا يجوز القضاء به.
(9/806)
-----
ويجوز أن تقبل شهادة الشاهد في بعض ما شهد به، كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمئة والمدعي يدعي أكثر المالين قبلت شهادة الشاهد بالألف والخمسمئة على الألف، كذا ههنا، بخلاف ما لو ادعى رجل داراً في يدي إنسان أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم، وادعى ذو اليد أنه اشتراها من الخارج بمئة دينار، وأقاما البينة ولم يؤرخا، فإن هناك تتهاتر البينتان، وتترك الدار في يدي ذي اليد؛ لأن كل بينة أثبتت إقرار صاحبها أن الدار إن كانت لصاحبه؛ لأن كل مشتر مقر أن المشترى كان ملك بائعه، وأنه سبيل من بيعه، وجهل التاريخ بين الإقرارين فبطلتا، وترك الدار في يد ذي اليد قضاء ترك، فأما ههنا ذو اليد ما أثبت إقرار أحد المدعيين أن الدار له، فوجب القضاء بالدار بينهما نصفان.
وجه ما ذكر في الباب الطويل وهو الاستحسان على قول بعض المشايخ أو إحدى الروايتين على قول بعض المشايخ أن الأمر على ما قلنا، إلا أنه تعذر القضاء بشهادتهم في الكل؛ لأن كل فريق فيما شهد بسبب نفسه إلى الشهود والغفلة؛ لأنه شهد لمدعيه في غير الوقت الذي شهد به الآخر، إذ لو عاينا البيعين معاً في وقت واحد لكان لا يحل لهم أن يشهدوا بالبيع؛ لأنه يكون باطلاً، فقد اتفق الفريقان أن البيعين كانا في وقتين مختلفين، إلا أنهما جهلا ذلك ونسياه، وشهادة المغفل لا تقبل، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
فأما على قول محمد يقضى بالدار بينهما نصفان، ويقضى لكل واحد منهما على صاحبه بنصف ما أقر له من الثمن؛ لأن كل واحد منهما يستحق نصف الدار، ولم يذكر في الباب الطويل أنه يخير إن شاء أخذ نصف الثمن، وإن شاء ترك، واختلف المشايخ فيه السكوت يحمل على المنطوق، ومنهم من قال ما ذكر في الباب الطويل جواب القياس، وما ذكر في الباب القصير جواب الاستحسان، وظاهر السكوت يدل على أنه لا خيار لهما.(9/807)
-----
وجه القياس في ذلك: أن كل واحد منهما أثبت على صاحبه أنه باع منه جميع الدار، ولم يسلم له إلا النصف، فيخير كما لو ادعى رجلان شراء عين من واحد ولم يؤرخا، وليس لأحدهما قبض، فإنه يقضي بينهما نصفان، ويكون لكل واحد منهما الخيار لما بينا كذا ههنا.
وجه الاستحسان: أن كل واحد أثبت على صاحبه البيع في جميع الدار إلا أنه أن المنصف من ذلك إنما استحق على كل واحد منهما ببيعه من صاحبه، فإن الأكبر صار بائعاً نصف الدار من الأصغر، والأصغر كذلك، وفي مثل هذا لا يثبت الخيار والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل
فمن جملة صورته: إذا ادعى أحدهما الهبة مع القبض، وادعى الآخر الشراء، وإنه على وجهين: إن ادعيا ذلك من جهة اثنين، والعين في يد ثالث أو في أيديهما أو في يد أحدهما، والجواب فيما إذا ادعيا ملكاً مطلقاً سواء لأن كل واحد منهما يثبت ملكاً مطلقاً، ثم يثبت الانتقال الى نفسه فكان بمنزلة ما لو حضر الى الملكان وادعيا لأنفسهما ملكاً مطلقاً وأقاما البينة، ففي كل موضع ذكرنا في دعوى الملك المطلق إنه يقضي بينهما نصفان، فههنا يقضي بينهما نصفان أيضاً، قال شيخ الإسلام إنما يقضى بينهما نصفان إذا كان المدعى به شيئاً لا يحتمل القسمة كالعبد ، أما إذا كان المدعى به شيئاً لا يحتمل القسمة كالدار والدابة وأشباههما، يقضي بالكل لمدعي الشراء؛ لأن مدعي الهبة أثبت بينة فاسدة، لأنه أثبت الهبة (181ب4) في الكل واستحق الآخر النصف عليه بالهبة واستحقاق نصف الهبة في مشاع يحتمل القسمة، يوجب فساد الهبة، فلا تقبل بينة مدعي الهبة، وصار كأن مدعي الشراء تفرد بإقامة البينة، والصحيح أن المشاع الذي يحتمل القسمة في ذلك على السواء؛ لأن مدعي الهبة أثبت الهبة في الكل، إلا أنه لأجل المزاحمة سلم له البعض، وهذه المزاحمة بعد القبض، فكان شيوعاً طارئاً، وإنه لا يبطل الهبة.(9/808)
-----
وإن ادعيا ذلك من جهة واحدة، والعين في يد ثالث، ولم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء، فالشراء أولى؛ لأن الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، فإذا احتجنا إلى نقض وأحدهما كان نقض ما يوجب الملك بغير عوض، وفيه تعليل النقض أولى من نقض ما يوجب الملك بعوض، وفيه تكثير النقض، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فالمؤرخ أولى أيهما كان، أما إذا كان المؤرخ يدعي الشراء فظاهر؛ لأنه من غير تاريخ الشراء هو أولى أيهما كان، أما إذا كان المؤرخ يدعي الشراء فظاهر؛ لأنه من غير تاريخ الشراء هو أولى فمع تاريخ الشراء أولى أن يكون أولى، وأما إذا كان المؤرخ يدعي الهبة، فلأن الشراء متأخر معنى؛ لأن الشراء حادث، والأصل أن يحال بحدوثه على أقرب الأوقات بعين ما هو ثابت بيقين من حيث العيان، والحكم بإحالة الشراء على أقرب الأوقات، وههنا لا يتضمن ذلك، فجعلنا الشراء المطلق حادثاً للحال، وهو معنى قولنا الشراء متأخر معنى، فيعتبر بما لو كان متأخراً حقيقة، وهناك يقضى لمدعي الهبة كذا ههنا، ولو أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو أولى، وإن كان العين في يد أحدهما فهو أولى، إلا أن يؤرخا وتاريخ الخارج أسبق فحينئذٍ يقضي للخارج. وإن كان العين في أيديهما، فهو بينهما إلا أن يؤرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فحينئذٍ يقضي لأسبقهما تاريخاً، والجواب في الصدقة لا تفيد الملك قبل القبض، ويفيد الملك بغير عوض كالهبة.
(9/809)
-----
وإذا اجتمعت الهبتان مع القبض فالجواب فيه كالجواب فيما إذا اجتمع الشاءان وإذا اجتمعت بينة مع القبض والصدقة مع القبض، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا اجتمع الشراءان، وستأتي هذه المسألة في أخر الباب إن شاء الله تعالى، وكان ينبغي أن تكون الصدقة أولى؛ لأن الصدقة توجب ملكاً لازماً، والهبة ملكاً غير لازم، ونقض ما ليس بلازم وفيه تعليل النقض أولى والجواب: أن الهبة إن كانت من ذوي رحم محرم، فهي لازمة كالصدقة، وإن كانت من أجنبي إن لم تكن لازمة ففيها عوض مشروط عرفاً، ولهذا يثبت للواهب حق الرجوع ما لم يعوض عنها، ففي نقض الصدقة إن كان نقض اللزوم، ففي نقض الهبة نقض العوض من وجه فاستويا.
وإذا اجتمع الشراء والرهن فالشراء أولى؛ لأن الشراء أقوى؛ لأنه يفيد الملك بنفسه والرهن لا يفيد الملك في الحال، وإذا اجتمع الرهن والهبة أو الصدقة فالرهن أولى استحساناً؛ لأن الرهن يتعلق به الضمان فكان قبضه مضموناً، وقبض الهبة والصدقة ليس بمضمون، وإذا اجتمع النكاح والهبة أو الرهن أو الصدقة فالنكاح أولى؛ لأن النكاح عقد معاوضة يفيد الملك بنفسه كالشراء، ولو اجتمع الشراء مع كل واحد من هذه الأشياء كان الشراء أولى فهاهنا كذلك.
وإذا اجتمع الشراء والنكاح فعلى قول محمد: الشراء أولى إذا لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على سواء؛ لأن الشراء مبادلة مال بمال يوجب الضمان في العوضين، والنكاح مبادلة مال بما ليس بمال لا يوجب الضمان في المنكوحة فكان الشراء أقوى من هذا الوجه.(9/810)
-----(9/811)
المحيط البرهانى
وعلى قول أبي يوسف: إذا لم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضى بينهما نصفان، وصار الجواب فيه كالجواب فيما اذا اجتمع الشراءان، وهذا لأن الشراء مع النكاح يستويان من حيث أن كل واحد منهما يفيد الملك بنفسه، وللنكاح قوة من وجه من حيث الملك في الصداق ثبت بنفس العقد متأكداً حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم، ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض، بخلاف الشراء فإن لم يترجح جانب النكاح لا أقل من أن يثبت المساواة.
وإن ادعى رجل بينة مقبوضة في دار أو عبد، وادعى آخر صدقة مقبوضة، وأقاما البينة، فإن وقتت بينة أحدهما فصاحب الوقت أولى، وإن لم يوقت بينة أحدهما أو وقت بينة كل واحد منهما، ووقتهما على السواء ففيما لا يحتمل القسمة يقضى بينهما نصفان بالاتفاق، وفيما يحتمل القسمة نحو الدار وأشباهها تبطل البينتان جميعاً، لأنا لو عملنا بهما قضينا لكل واحد بالنصف، والهبة والصدقة في مشاع يحتمل القسمة لا يجوز قبل هذا قول أبي حنيفة، فأما على قول أبي يوسف ومحمد ينبغي أن يقضى لكل واحد بالنصف على قياس بينة الدار من رجلين.
قيل: ينبغي أن يقضى لكل واحد منهما بالنصف أثبت الهبة في الكل، ثم الشيوع بعد ذلك طارئ وذلك لا يمنع صحة الهبة والصدقة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الأصح عندي أن ما ذكر في «الكتاب» قول الكل لأنا لو قضينا لكل واحد بالنصف فإنما يقضى بالعقد الذي شهد به شهوده عند اختلاف العقدين هبة الدار من رجلين.
في «المنتقى»: دار في يد رجل أقام بينة إني كنت ادعيت هذه الدار، وإن صاحب اليد صالحني منها على مئة درهم، وأقام الذي في يديه الدار أنه أبرأه من حقه من دعواه في هذه الدار، فبينة الصلح أقوى لا ..... .
نوع آخر من هذا الفصل في الخارجين يدعيان(10/1)
إذا ادعى رجل على صاحب العبد والرقيق الشراء، وادعى الرقيق الإعتاق أو التدبير أو الكتابة أو الاستيلاد.(10/2)
-----
رجل ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها من صاحب اليد بألف درهم، وأنه أعتقها وأقام على ذلك بينة، وأقام آخر بينة أنه اشتراها من صاحب اليد بألف درهم ولم يذكر الإعتاق، فصاحب العتق أولى، هكذا ذكر المسألة في أول الكتاب الدعوى، وهذا لأن الإعتاق قبض حكماً لما تبين، فقد ادعيا تلقي الملك من جهة واحد، ولأحدهما قبض مشهود به وهو مدعي العتق فكان أولى، ونبين شرح هذا الكلام في المسألة التي تلي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، ولم يذكر ثمة ما إذا كان مدعي الشراء قبض العبد فلو كان قبض العبد كان هو أولى بدليل المسألة التي تليها.
وصورتها: رجل له عبد، أقام العبد بينة أن المولى أعتقه، وأقام رجل آخر بينة أن المولى باع العبد منه بألف درهم، فإن لم يكن المشتري قبض العبد فبينة العبد أولى؛ لأنهما يدعيان تلقي الملك من جهة ثالث ولأحدهما قبض مشهود به وهو العبد ولا قبض للآخر.
بيانه: أن العبد ادعى تلقي الملك في نفسه من جهة مولاه بالإعتاق والآخر ادعى تلقي الملك في العبد من جهة مولاه أيضاً بالشراء غير أن العبد بالإعتاق يصير قابضاً نفسه؛ لأنه يقع في يد نفسه، فالشهادة على العتق تكون شهادة على الملك والقبض جميعاً، والمشتري بنفس الشراء لا يصير قابضاً فالشهادة على الشراء لا تكون شهادة على القبض، فهو معنى قولنا: ادعيا تلقي الملك من جهة الثالث ولأحدهما قبض مشهود كما في دعوى الشراء (182أ4) من ثالث إذا كان لأحد المدعيين قبضاً مشهوداً به، بأن شهد شهود أحد المدعيين بالشراء والقبض، وشهد شهود الآخر بالشراء دون القبض.(10/3)
-----
قال: فإن كان المشتري قبض العبد فبينة المشتري أولى؛ لأن المشتري له قبض معاين، والعبد له قبض مشهود به، وليس له قبض معاين، وهذا لأن العبد إنما يصير قابضاً نفسه بالإعتاق، والإعتاق مشهود به، فكان قبض العبد مشهوداً به، وللقبض المعاين رجحان على القبض المشهود به، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث إذا كان لأحد المتداعيين قبضاً معايناً وللآخر قبضاً مشهوداً به يترجح من له القبض المعاين كذا ههنا.
والمعنى في ذلك: أن الذي له قبض معاين قبضه ثابت حقيقة، وما يدعيه الآخر إن كان مقدماً يجب نقض هذه الحقيقة، وإن كان متأخراً لا يجب نقضها فلا يجب نقضها بالشك والاحتمال، والجواب فيما إذا كان العبد ادعى التدبير نظير الجواب فيما إذا ادعى العتق إن لم يكن المشتري قبض العبد، فبينة العبد أولى، وإن كان قبض العبد فبينته أولى.
ولو ادعت أمة أنها ولدت من مولاها وأقامت على ذلك بينة، وأقام رجل آخر بينة أنه اشتراها من مولاها، فبينة الأمة أولى سواء كانت في قبض المشتري أو لم يكن في قبضه، أما إذا لم يكن في قبض المشتري؛ فلأن دعوة الاستيلاد ودعوة التدبير سواء، وبينة التدبير أولى إذا لم يكن للمشتري قبض معاين، فكذا بينة الاستيلاد، وإما إذا كان في قبض المشتري فكذلك، وكان ينبغي أن تكون بينة المشتري أولى؛ لأن له قبض معاين وقع الشك في نقضه إن كان علوق هذا الولد قبل الشراء فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء يجب نقض قبضه، وإن كان علوق هذا الولد بعد الشراء إن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر من وقت الشراء لا يجب نقضه، فلا يجب نقضه بالشك، فصار كما في دعوى التدبير.(10/4)
-----
والجواب عن هذا أن يقال: بأن دعوى العتق والتدبير إنما لا ينقض قبض المشتري لأن قبضه ثابت حقيقة، وقع الشك في نقضه إذا لم يعرف التاريخ؛ لأنه إذا لم يعرف التاريخ يحتمل أن العتق والتدبير لاحقان، وعلى هذا التقدير لا ينقض قبض المشتري، فلا ينقض قبضه بالشك وفي دعوى الاستيلاد لو نقضنا قبض المشتري نقضناه بيقين لا بالشك.
بيانه: أن دعوة البائع قد ثبتت بالبينة إلا أنه يحتمل أن تكون دعوته قبل البيع وعلى هذا التقدير يجب نقض قبض المشتري؛ لأنه صار بائعاً أم ولده وإن كان دعوته بعد البيع، فكذلك يجب نقض قبض المشتري أيضاً؛ لأن موضوع المسألة أن المدعي ادعى شراء الجارية، ولم يدع الولد، فيبقى الولد على ملك البائع.
وصارت مسألتنا رجل له جارية ولدت ولداً، فباع المولى الجارية، ثم ادعى بنسب الولد لستة أشهر وهناك تصح دعوته، وإذا صحت دعوة البائع على كل حال، وجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء أو لستة أشهر، وجب نقض قبض المشتري على كل حال، فقد تيقنا بنقض قبضه والقبض المعاين يجوز أن ينقض، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق والآخر قبض معاين يقضى للخارج وينقض قبض الآخر كذا ههنا، ولو وقتت بينة المشتري وقتاً قبل الحبل بثلاث سنين كانت بينة المشتري أولى اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة، وكذلك الجواب في العتق والتدبير إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة.(10/5)
-----
وإذا أقام عبد البينة أن مولاه أعتقه وهو ينكر أو يقر، وأقام آخر بينة أنه عبده قضي للذي أقام البينة أنه عبده، لأن شهود العتق شهدوا بعتق باطل؛ لأنهم لم يقولوا في شهادتهم: وفلان يملكه، والملك لفلان لا يثبت من غير شهادة، فالعتق بلا ملك عتق باطل، فصار وجود هذه البينة والعدم بمنزلة، ولو عدم هذه البينة لكان يقضى للذي أقام البينة أنه عبده كذا ههنا، وكذلك لو شهدوا أن فلاناً أعتقه وهو في يده يقضى للذي أقام البنية أنه عبده، كذا ههنا؛ لأن نفوذ العتق يعتمد الملك دون اليد والشهود لم يشهدوا له بالملك، وإن شهد شهود العبد أن فلاناً أعتقه، وهو يملكه، وشهد شهود الآخر أنه عبده قضي ببينة العتق لأن إثبات العبد الملك لمعتقه كإثبات المعتق الملك لنفسه بنفسه، ولو أن المولى أقام بينة أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن إثبات العبد الملك لمعتقه كإثبات المعتق الملك لنفسه بنفسه، ولو أن المولى أقام بينة أنه عبده أعتقه؛ وأقام رجل آخر بينة أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن البينتين استويا في إثبات الملك وفي أحدهما إثبات العتق كذا ههنا.
(10/6)
-----
وكذلك لو أقام العبد أن فلاناً دبره وهو يملكه، وأقام رجل أخر بينة أنه عبده قضي ببينة التدبير، كما لو أقام المولى بنفسه بينة أنه عبده دبره، وأقام الآخر بينة أنه عبده يقضى ببينة المولى، ولو أقام العبد بينة أن فلاناً كاتبه وهو يملكه، وأقام بينة أنه عبده يقضى للذي أقام البينة أنه عبده، ألا ترى أنه لو أقام الذي في يديه بينة أنه ملكه كاتبه، وأقام الآخر بينة أنه عبده قضي للذي أقام البنية أنه عبده كذا ههنا، فقد فرق بينما إذا ادعى صاحب اليد لنفسه الملك مع الكتابة، وادعى الخارج لنفسه ملكاً مطلقاً، وبينما إذا ادعى صاحب اليد لنفسه الملك مع الإعتاق أو التدبير، وادعى الخارج ملكاً مطلقاً، والفرق أن دعوى التدبير من ذي اليد بمنزلة دعوى النتاج من حيث المعنى لأنه يوجب الولاء، والولاء كالنسب، والنسب في معنى النتاج، ولو ادعى صاحب اليد النتاج حقيقة، وادعى الخارج ملكاً مطلقاً، وأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى، أما دعوى الكتابة من ذي اليد فليس بمنزلة دعوى النتاج لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى؛ لأن الكتابة ليست سبباً للولاء في الحال، ولهذا يقبل الفسخ فيكون بمنزلة دعوى البيع والإجارة، وبدعوى صاحب اليد الإجارة أو البيع لا يترجح ببينته على بينة الخارج في دعوى الملك كذا ههنا،
ومما يتصل بمسائل العتق: عبد في يدي رجل أقام رجل البينة أنه له أعتقه، وأقام آخر البينة أنه حرّ الأصل وأنه والاه وعاقده، فصاحب الموالاة أولى ذكره في دعوى «المنتقى».(10/7)
-----
وفيه أيضاً: عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه له أعتقه وهو يملكه، وأقام آخر بينة أنه أعتقه وهو يملكه، فإن ادعى العبد عتق أحدهما فبينته أولى، وإن كذبهما جعلت ولاءه بينهما نصفين، ولو أقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه على ألف درهم وهو يملكه، لم ألتفت إلى تصديق العبد وتكذيبه، وقضيت بولائه بينهما ولكل واحد منهما على ألف درهم، وإن ذكر إحدى البينتين مالاً ولم يذكر الأجنبي مالاً فالبينة بينة المال وولاؤه له، ولا أبالي أصدقه العبد أو كذب.
وفيه أيضاً: شاهدان شهدا على رجل أنه غصب هذا عبداً، وأن مولاه أعتقه، وقال المشهود عليه بالغصب: ما غصبته عبداً ولا أعتقته، والعبد حي، فإني أقضي بعتق العبد، وأبرئ الغاصب عن الضمان وإن لم يدع الغاصب ذلك، علل فقال: لأن العتق حق العبد يدعيه ويقوم به، فأعتقه بالشهادة (182ب4) وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل في يديه عبد ادعى ابن له وأقام البينة أن أباه تصدق به عليه وهو صغير في عياله، وأقام العبد بينة أن الأب قد أعتقه، قال: أقبل بينة العتق.
ولو شهدوا أنه تصدق به أو وهبه لابنه الكبير هذا وقبضه، وعاينوا قبضه إياه، وشهد شهود العبد أنه أعتقه ولم يوقتوا أجزت الصدقة وأبطلت العتق.
وفي «المنتقى»: رجل شهد على رجل أنه أعتق غلامه وهو مريض، وقال الوارث: كان يهذي حين دخل عليه الشهود، ولم يقر الوارث بالإعتاق، قال: القول قول الوارث حتى يشهد الشهود أنه كان صحيح العقل ولو أقر الوارث بالعتق إلا أنه ادعى أنه كان يهذي فالقول قول الغلام، وهو حر حتى يقيم الوارث البينة أنه كان يهذي.(10/8)
-----
ومما يتصف بمسائل العتق: إذا وقع الاختلاف بين المعتق والمعتق، بشر عن أبي يوسف: رجل أعتق أمة ثم ادعى المولى ولدها وقال: أعتقتها بعدما ولدت هذا الولد والولد عبدي، وقالت الأمة: بل أعتقني قبل أن ألده، فالقول قول من كان الولد في يده، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقد مرت المسألة في كتاب العتاق.
وإن كان في أيديهما جميعاً فهو حر، وكذلك إذا اختلفا في متاع في يدها فالقول قولها، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الأمة في المسألتين جميعاً، وفي كتاب «الأقضية»: رجل قدم بلدة ومعه رجال ونساء وصبيان يخدمونه، وهم في يده، فادعى أنهم رقيقه وادعوا أنهم أحرار، فالقول قولهم ما لم يقروا له بالملك بكلام أو بيع، أو تقوم بينة عليهم، قال: وإن كانوا من السند أو الترك أو الهند أو الروم، لأنهم في دار الإسلام وقت الخصومة، ودار الإسلام دار الأحرار فمن ادعى الحرية فيه فقد تمسك بالأصل فكان القول قوله، وإن كان من جنسه أرقاء، فلهذا كان القول قولهم إلا إذا باعهم فقد انقادوا البيع والتسليم لأن ذلك بينهم بمنزلة الإقرار بالرق، أو تقوم البينة عليهم بالرق فلا يقبل قولهم في الحرية بعد ذلك، هكذا ذكر تأويله إذا جاء بهم غير مقهورين، أما إذا كانوا مقهورين من جهته فلا يقبل قولهم أنهم أحرار.H
ادعى رجل حرية الأصل ولم يذكر اسم أمه واسم أب أمه يجوز لأنه يجوز أن يخلق الإنسان حر الأصل وأمه تكون رقيقة ألا ترى أن من استولد جارية نفسه فالولد يعلق حر الأصل، والأم رقيقة، وولد المغرور حر الأصل والأم رقيقة.(10/9)
-----
مات الرجل وعليه ديون ولم يترك إلا جارية وفي حجرها ولد، فادعت أنها أم ولد الميت، وأن هذا من الميت لا يقبل قولها من غير بينة تقوم على إقرار المولى في حياته أنها أم ولده، وفيه نوع إشكال ينبغي أن تقبل بينتها إذا كان معها ولد بناء على أن الأمة تنتصب خصماً عن أبيه في إثبات النسب من الأب على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإذا انتصبت خصماً عنه صار إقامتها البينة على نسب الغلام كإقامة الغلام لو كان بالغاً، ولو كان الابن بالغاً وأقام البينة أنه ابن هذا الرجل الميت أليس أنه يثبت نسبه منه؟ فكذا ههنا.
وإذا ثبت نسب الغلام يثبت حقها بطريق التبعية بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد لأن هناك لو قبلنا بينتها قبلنا على إثبات حقها مقصوداً، وحقها في هذا الباب ليس بمقصود.
ولو شهدت الورثة أنها أم ولد الميت قبلت شهادتهم، ولا سبيل للغرماء عليها.
إذا كانت الدار في يدي رجل وادعى رجل أنه اشترى هذه الدار من زيد، وأقام على ذلك بينة، وذو اليد أقام البينة أنه اشتراها من زيد، والمدعي هو الأول أي: تاريخ الخارج أولى، فإنه يقضي بها للخارج، وقد مرت المسألة من قبل فقد قبل البينة من الخارج، وإن قامت على البائع، والبائع غائب إنما قبلها لأنها قامت على خصم حاضر لأن الذي في يديه الدار يدعي الملك لنفسه ومن ادعى شراء على غائب والعين في يد الحاضر والحاضر يدعي الملك لنفسه، ينتصب الحاضر عن الغائب عرف ذلك في مواضع كثيرة.
وإذا قضينا بالشراء للخارج هل للخارج أن يقبض الدار من صاحب اليد؟ فالمسألة على ثلاثة أوجه.
إما أن يثبت نقدهما الثمن عند القاضي.(10/10)
-----
أو ثبت نقد أحدهما دون الآخر، فإن ثبت نقدهما الثمن ثبت عند القاضي فإنه يسلم الدار إلى الخارج لأن الشراء ثبت بينة الخارج لما ذكرنا، ونقده الثمن ثبت عند القاضي لأن ما نقد ذو اليد للبائع صار ديناً له عند البائع عن الاستحقاق، وما في يده من الدار ملك غير الديون، ولو كان ملك الديون لم يكن له أن لحقه فههنا أولى.
وإن لم يثبت نقد واحد منهما الثمن بإقرار البائع أو بالمعاينة، فإن القاضي لا يسلم الدار إلى الخارج حتى يستوفى الثمن منه، وذلك لأن القاضي نصب ناظراً للمسلمين، فكما نظر للخارج وجمع بينته على الشراء يجب أن ينظر للغائب ويستوفي منه الثمن، ثم يأمره بقبض الدار.
وإن ثبت نقد أحدهما عند القاضي، إما بإقرار البائع أو بالمعاينة، إن ثبت نقد الخارج فإنه يسلم الدار إليه لأنه ثبت الشراء بالبينة ونقده الثمن بإقرار البائع أو بالمعاينة فيسلم الدار إليه، ولا يكون لذي اليد شيء لأنه لم يثبت نقده الثمن للبائع عند القاضي، والمشتري لا يجب له على البائع شيء عند الاستحقاق إذا لم يكن نقد الثمن، فأما إذا ثبت نقد ذي اليد بإقرار البائع، أو بمعاينة القاضي، ولم يثبت نقد الخارج، فإن القاضي لا يسلم الدار إليه حتى يستوفى منه الثمن لأنه وإن ثبت الشراء عند القاضي لم يثبت نقد الثمن، والمبيع لا يسلم للمشتري إلا بعد نقد الثمن، فيستوفى الثمن منه، ثم هل يعطى ذا اليد مما قبض من الثمن من الخارج ما وجب لذي اليد على البائع من الدين عند الاستحقاق؟.
إن كان الثمنان من جنسين مختلفين فإنه لا يعطي شيئاً، وذلك لأن البائع إن كان حاضراً لم يكن له أن يأخذ ذلك بغير رضا البائع، فكذا إذا كان غائباً لا يكون للقاضي أن يعطيه.(10/11)
-----
فأما إذا كانا من جنس واحد فإنه يعطيه مما قبض تمام حقه، ثم إن فضل شيء أمسكه على البائع، وإن بقي من يد ذي اليد شيء اتبع البائع إذا حضر، وذلك لأن القاضي علم بوجوب دين ذي اليد على البائع، وما قبض جنس حقه فكان له أن يعطيه ذلك بغير رضا البائع. ألا ترى أنه لو كان البائع حاضراً كان له أن يأخذ بغير رضاه؟ فكذلك ههنا، هذا إذا أثبت نقد ذي اليد بإقرار البائع عند القاضي أو بالمعاينة، فأما إذا أراد ذو اليد أن يقيم البينة على نقده الثمن للبائع فإنه لا يسمع بينته لأنه يقيم البينة على غائب بإثبات دين عليه، وليس عن الغائب خصم حاضر، فلا يسمع بينته لأن القضاء على الغائب بالبينة باطل، وكان بمنزلة رجل قال: أنا أقيم البينة على غائب أن لي عليه دين حتى آخذه من وديعة له عند فلان، أو قالت المرأة: أنا أقيم البينة على أنها امرأة فلان لآخذ النفقة من مال له وديعة عند فلان، فإنه لا يسمع بينتها لأنها بينة قامت على الغائب، وليس عنه خصم حاضر فلم يسمع، فكذلك هذا، ولو كانت الدار في يدي ذي اليد بهبة صدقة أو بيع لم ينقد الثمن، فأقام هذا بينة أنه اشتراها من زيد قد دفعتها إليه، وأخذت منه الثمن للبائع لأنه ثبت شراء الخارج أولاً، ولم يثبت نقد الثمن، فكان للقاضي أن يستوفي الثمن للبائع لأنه ثبت شراء الخارج أولاً ولم (183أ4) يثبت نقد الثمن فكان للقاضي أن يستوفي الثمن للبائع؛ لأنه ثبت شراء الخارج أولالاً ولم يثبت نقد الثمن فكان للقاضي أن يستوفي الثمن منه نظراً للغائب، ولا يعطي ذا اليد من ذلك شيئاً؛ لأن ذا اليد موهوب له أو متصدق عليه أو مشتري لم ينقد الثمن، ولا يثبت لواحد من هؤلاء حق الرجوع على المالك عند الاستحقاق.(10/12)
-----
قال: وإذ باع الرجل جارية من رجل، ثم غاب المشتري، ولا يدري أين هو، فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي منه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة؛ لأنه يدعي حقاً على الغائب، وليس عنه خصم حاضر، ولأنه يجوز أن يكون غاصباً لهذه الجارية احتال بهذه الحيلة ليبرئ نفسه عن ضمانها وتسقط النفقة عن نفسه فلا يتعرض القاضي لما قاله البائع من غير بينة، ولأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي في هذا الحال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وأنه مما يخشى عليه التلف وعلى القاضي حفظ مال الغائب إذا كان يخشى عليه التلف فكان على القاضي أن لا يلتزم الحفظ إلا ببينة.
وهو نظير رجل جاء به إلى القاضي، وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي (أن) لا يصدقه إلا ببينة، كذا ههنا، قال: فإن أقام البينة على ذلك ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري بنقد الثمن على البائع، واستوثق من البائع بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان والقياس أن لا يسمع هذه البينة، ولا يبيع الجارية على المشتري، نص على هذا القياس والاستحسان في «الجامع الكبير» في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة.
وجه القياس في ذلك ظاهر إن هذا بينة قامت على إثبات حق على الغائب وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي فوجب أن لا تقبل قياساً على ما إذا كان يعرف مكان المشتري، وقياساً على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب لا يعرف مكانه لينزع شيئاً مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة وإنما تقبل هذه البينة لما قلنا.(10/13)
-----
وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره، واحتاج إلى أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما باقي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب ناظراً لإحياء حقوق الناس، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليدفع الضرر والبلية التي ابتلي بها البائع، لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه، بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع، بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري وإقامة البينة عليه، وبخلاف ما إذا ادعى حقاً على غائب لا يعرف مكانه وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينتزع شيئاً من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه، وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا تسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر، إلا أنا تركنا القياس فيها بإجماع العلماء على ذلك، فإنا والشافعي أجمعنا أن في هذه المسألة تسمع بينة البائع إذا كان لا يعرف مكان المشتري، وما ثبت بالإجماع بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والإجماع المنعقد في هذه المسألة لتندفع البلية التي ابتلي بها البائع، وليس في قبولها إزالة يد الغائب عما في يده؛ لأن حق الغائب إنما يستوفى من الجارية التي في يده لو ادعى أنها له كان القول قوله لا يكون إجماعاً إذا قامت البينة على انتزاع مال في يد الغائب، وفي ذلك إزالة ملك البائع ويده حتى لو ادعى المدعي ذلك لنفسه لا يصدق في ذلك؛ لأنه ليس في يده؛ فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، فإنما استحسنوا إذا كان المدعي لا يدعي انتزاع شيء مما في يد الغائب وإنما يدعي إيفاء حقه من المال الذي في يده.
(10/14)
-----
ثم إذا باع القاضي الجارية ذكر أنه يوفي البائع، وليس طريق الإيفاء أنه ثبت بما أقام البائع من البينة الدين على المشتري، ولكن طريقه أن في الإيفاء حفظ الثمن على الغائب؛ لأنه يصير مضموناً على القابض بالمثل، فيكون بمعنى القرض، وللقاضي أن يقرض مال الغائب لما فيه من زيادة حفظ ليس في الإيداع فكذا هذا، والدليل على أن البيع وإيفاء الثمن كان على سبيل الحفظ من القاضي لا على سبيل القضاء أنه لو فعل ذلك من غير بينة أقامها الحاضر بأن يعرف ذلك من الناس كان له ذلك؛ وكذا لو فعل القاضي ذلك بعد إقامة البينة، وجحد الشراء، وقال: الجارية جاريتي من الأصل يحتاج البائع إلى إقامة البينة ثانياً، ولو فعل القاضي ذلك على وجه القضاء صار الغائب مقضياً عليه بالشراء، ولو صار مقضياً عليه بالشراء لكان لا يلتفت إلى إنكاره بعد ذلك مع هذا صح إنكاره، عرف أن ما فعله القاضي فعله على سبيل الحفظ لا على سبيل القضاء، وللقاضي ولاية الحفظ في مال الغائب، ثم إذا باع القاضي الجارية وأوفى البائع حقه، فإنه يأخذ منه كفيلاً ثقة لجواز أنه آخذ الثمن من المشتري مرة، فمتى حضر المشتري احتاج إلى أن يرجع على البائع بالثمن وربما لا يجد البائع فيأخذ كفيلاً نظراً للمشتري، حتى إن تعذر عليه اتباع البائع اتبع الكفيل فيستوفي من الكفيل، ثم إن كان فيه وضيعة فعلى المشتري، وإن كان فيه فضل فللمشتري؛ لأن بيع القاضي وله ولاية البيع على المشتري من الوجه الذي ذكرنا كبيع المشتري، ولو أن المشتري باع الجارية بنفسه إن كان فيه وضيعة يكون على المشتري؛ لأن الدين على المشتري فكذا إذا باعه القاضي، وإن كان فيه فضل فله لأنه بدل ماله فيكون له، ثم وضع المسألة في الجارية ولم يضع في الدار، ويجب أن يقال بأنه في الدار لا يتعرض القاضي لذلك ولا يبيع الدار؛ لأن القياس أن لا يبيع الجارية على المشتري، وإنما يبيعها استحساناً إما لدفع البلية عن البائع وهو إسقاط النفقة(10/15)
عنه،(10/16)
-----
وإنما يحتاج إلى النفقة إذا كان حيواناً، أو للحفظ على الغائب وإنما يحتاج إلى الحفظ إذا كان المبيع شيئاً يخاف فيه التلف كالجارية ونحوها دون العقار، وإنها محصنة بنفسها، وإن كان يعرف مكان المشتري فإنه ليس للقاضي أن يبيع الجارية، وإن أقام البائع البينة على ذلك، فرق بين هذا وبينما إذا كانت الجارية آبقة فادعى الذي في يده الجارية أنها آبقة وأقام البينة على ذلك وطلب من القاضي بيعها، أو كانت وديعة أو ضالة كالبعير والبقر، وطلب من القاضي أن يبيع ذلك، أو يأمره بالنفقة على حسب ما يرى الأصلح للغائب، وأن القاضي يعرف مكانه، وإن كان القاضي لا يرجو قدومه عن قريب وخاف أنه متى أمر الذي في يديه الجارية بالنفقة أنها تربى على قيمة الجارية يبيع الجارية، وذلك لأن نفقة الآبقة والوديعة على ربها، فمتى لم يبع أتى النفقة على جميع ماله فيهلك ماله وعلى القاضي أن يدفع الهلاك عن أموال الناس ما أمكنه، فكان النظر للغائب أن يبيع، وههنا النظر للغائب في أن لا يبيع حتى لا تزول العين من ملكه، لأن نفقة المبيع على البائع إلى أن يحضر المشتري فيقبض، وإذا هلكت كانت عليه فالنظر للغائب أن لا يبيع إذا كان يعرف، ولكن يأمره بطلب المشتري وهذا إذا جاء المشتري وأقر بذلك، فأما إذا أنكر الشراء احتاج البائع إلى إقامة البينة على المشتري ثانياً لأن البيع لم يثبت بما أقام من البينة؛ لأنه لم يكن عنه خصم (183ب4) حاضر.
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كانت الدار في أيدي ورثة وأحدهم غائب، فادعى أحدهم أنه اشترى نصيب الغائب هل تقبل هذه البينة على بقية الورثة الذين في أيديهم الدار؟ فهذا على وجهين:(10/17)
-----
إما أن تكون بقية الورثة الذين في أيديهم الدار مقرين بنصيب الغائب، أو كانوا منكرين نصيب الغائب فإن كانوا مقرين بنصيب الغائب؛ فإنه لا يقبل بينته لأنها قامت على إثبات الشراء على الغائب وليس عنه خصم حاضر وإنما قلنا: ليس عن الغائب خصم حاضر، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً فيما يستحق للميت ويستحق عليه، فأما فيما يستحق على أحدهم لا ينتصب البعض عن البعض على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى: وإن كانوا منكرين يسمع هذه البينة، ويثبت الشراء على الغائب حتى لو حضر لا يكلف المدعي إعادة البينة؛ لأنه أقام البينة على الغائب في إثبات الشراء وعنه خصم حاضر جاحد، فسمع هذه البينة كما لو كان الغائب وكله بالخصومة، وإنما قلنا ذلك، وذلك لأنه ادعى حقاً على الحاضر بسبب على الغائب، وقد جحد الحاضر ما ادعى المدعي وصح جحوده؛ لأن اليد له فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.
كعبد قطع يد رجل، وادعى المقطوع يده أن مولاه أعتقه، وأنكر العبد ذلك انتصب خصماً عن المولى في إثبات العتق عليه؛ لأن المقطوعة يده ادعى حقاً على الحاضر وهو العبد بسبب على الغائب وهو الولي فانتصب الحاضر، خصماً عن الغائب فكذلك هذا.(10/18)
-----
قال محمد في «الزيادات»: رجل في يديه دار اشتراها رجل من غير ذي اليد بعبد وسلم العبد إليه، ثم خاصم المشتري صاحب اليد الدار فأخذها منه بهبة أو صدقة أو شراء أو وديعة أو غصب أو ما أشبه ذلك، فليس له على العبد سبيل؛ لأن في زعمه أن القبض مستحق له بجهة الشراء والمستحق بجهة نفع عن جهة المستحق، وإن أوقعه الموقع بجهة أخرى، فوقع هذا القبض بجهة الشراء وسلم الدار للمشتري بجهة الشراء، ولا يكون له على العبد سبيل، أورد هذه المسألة ليبين أن المشتري إذا وصل إلى المشترى يعتبر وصوله بجهة الشراء وصل إليه من جهة البائع أو من جهة غيره، فإن جاء صاحب اليد واسترد الدار من يد المشتري بأن كان في يد المشتري بسبب الغصب أو بسبب الوديعة فالمشتري يرجع على البائع بالعبد، فإن قيل: المستحق بالشراء أصل القبض لا إدامته وبالاسترداد تتقدم إدامة القبض لا أصله.
قلنا: بلى إلا أن قبض المشتري نقض بسبب سابق على عقده فارتفع قبضه من الأصل، وصار كأن لم يكن، ولو انعدم القبض من الأصل رجع المشتري على البائع بالعبد فهنا كذلك.
(10/19)
-----
قال: ولو كان مكان الدار جارية اشتراها بالعبد فوصلت إلى يد المشتري بالأسباب التي ذكرناها، ثم هلكت في يده لا يكون له على العبد سبيل؛ لأنه قبضها بجهة المستحق، وتقرر القبض بالهلاك ولا يكون له بعد ذلك على العبد سبيل إلا في صورة وهو أن الجارية لو كانت غصباً في يد المشتري جاء ذو اليد وضمنه قيمتها بحكم الغصب كان له أن يرجع على البائع بالعبد؛ لأن أخذ القيمة كأخذ العين لكون القيمة بدلاً عن العين، ولو كانت الجارية قائمة في يد المشتري وأخذ صاحب اليد عينها أليس أن المشتري يرجع على البائع؟ فههنا كذلك، وكذلك لو كانت الجارية غصباً في يد المشتري فأبقت فجاء صاحب العبد، وضمن المشتري قيمتها رجع المشتري بالعبد على البائع لما قلنا، فإن عادت من الإباق عادت على ملك الغاصب وهو المشتري عرف ذلك من مذهبنا والعبد سالم للمشتري لا سبيل لبائع الجارية عليه؛ لأن القاضي نقض البيع بينهما حيث قضى له بالرجوع بالعبد، فلا يكون لبائع الجارية على العبد سبيل ينفي هذا القدر أن الجارية قد سلمت للمشتري إلا أنها سلمت له بحكم أداء الضمان لا بحكم البيع فلا يمنع ذلك سلامة العبد له.(10/20)
-----
رجل اشترى من آخر داراً بعبد، والدار في يدي غير البائع، وصاحب اليد يدعي أنها له فخاصم المشتري صاحب اليد، فلم يقض له بشيء، فطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد بينهما لعجز البائع عن التسليم إجابة إلى ذلك لما مر قبل هذا، فإن فسخ العقد بينهما وأمر البائع برد العبد على المشتري، ثم وصل الدار إلى يد المشتري يوماً من الدهر بسب من الأسباب فالفسخ ماض حتى لا يؤمر المشتري برد العبد على البائع، وإنما كان كذلك؛ لأن القاضي إنما فسخ العقد بينهما باعتبار عجز البائع عن التسليم، وبوصول الدار إلى يد المشتري بعد ذلك بسبب من الأسباب لا يتبين أن العجز لم يكن نافذاً وهل يؤمر المشتري بتسليم الدار إلى البائع لإقراره للبائع بالدار حين اشترى الدار منه؟ ينظر إن كان المشتري صرح بالإقرار له، ذكر ههنا أنه لا يؤمر فعلى رواية هذا الكتاب لم يجعل الإقدام على الشراء إقراراً يكون المشترى ملكاً للبائع، وذكر في «الجامع» أن الإقدام على الشراء إقرار بصحة الشراء، ولا صحة للشراء إلا بصحة البيع، ولا صحة للبيع إلا بملك البائع، فصار الإقدام على الشراء إقراراً بملك البائع من هذا الوجه.
وجه ما ذكر ههنا أن صحة الشراء لا تعلق لها بالملك لا محالة فإن الشراء كما صح من المالك يصح من غير المالك، إما بإنابة المالك كالوكيل والرسول، أو إنابة الشرع كالوصي، فلم يكن الإقدام على الشراء إقراراً بالملك لهذا.
(10/21)
-----
والصحيح ما ذكر في «الجامع» أن الإقدام على الشراء إقرار بالملك للبائع على اعتبار «الأصل» لأن الأصل يصرف الإنسان لنفسه، لكن مع أن الصحيح ما ذكر في «الجامع» لا يؤمر بتسليم الدار ههنا باتفاق الروايتين؛ لأن هذا ليس بإقرار مصرح، بل هو إقرار في ضمن الشراء، وقد انتقض الشراء ههنا، فينتقض ما ثبت في ضمنه، وليس كالإقرار المصرح؛ لأن الإقرار هناك حصل ابتداء لا في ضمن الشراء فانتقاض الشراء لا يوجب انتقاض الإقرار، فبقي كما كان.
فعلى قول هذا التعليل إذا استام عيناً من آخر واستباعه فلم يتفق بينهما بيع، ثم وصل إليه ذلك العين يوماً من الدهر يؤمر بالتسليم إلى الذي استامه واستباعه؛ لأن الإقرار هناك وإن حصل في ضمن الاستيام والاستباعة إلا أنه لم يرد عليهما نقض حتى ينتقض الإقرار الثابت في ضمنها فبقي الإقرار كما كان.
رجل اشترى من آخر داراً بعبد، وتقابضا، ثم استحق نصف الدار كان مشتري الدار بالخيار؛ لأنه تفرقت الصفقة عليه، وهذا التفرق أوجب عيناً في الباقي إذ الشركة في الأعيان عيب، فيكون له الخيار إن شاء أخذ بنصف العبد وإن شاء ترك، ولا يكون لمشتري العبد الخيار، وإن تفرقت الصفقة عليه ويعيب الباقي بعيب الشركة لأن هذا العيب إنما كان بسبب تدليس من جهته وهو بيع كل الدار مع علمه أنه لا يملك إلا النصف، فلا يبقى مستحقاً للنظر، وعلى هذا إذا استحق نصف العبد كان لمشتريه الخيار، فإن اختار أخذ نصف العبد بنصف الدار لا خيار لمشتري الدار لما قلنا.
وإن استحق نصف العبد ونصف الدار ذكر في «الكتاب»: أن كل واحد من المشتريين بالخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك لوجود علة الخيار في البدلين وهو الشركة، ولم يبين قدر المأخوذ وقدر المتروك، من أصحابنا من قال مشتري الدار (184أ4) بالخيار إن شاء أخذ ربع العبد بربع الدار، وإن شاء ترك.(10/22)
-----
ووجه ذلك: أنه استحق من كل واحد من البدلين نصفه إلا أن النصف المستحق من الدار لا يكون بإزاء النصف المستحق من العبد، وغير المستحق من الدار بإزاء غير المستحق من العبد، بل النصف الذي هو المستحق من الدار يقابله نصف العبد شائعاً من المستحق ومن غير المستحق، فيجعل الدار والعبد كل واحد منهما أرباعاً، فإذا استحق ربعا الدار يقابله من العبد ربع مستحق وربع غير مستحق، فإذا انفسخ العقد في الربع المستحق من العبد ينفسخ فيما يقابله من الدار وهو ربع الدار، فانفسخ العقد في ثلاثة أرباع العبد وفي ثلاثة أرباع الدار، وبقي العقد في ربع العبد وربع الدار، فلهذا قال: لأن كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ الربع بالربع وإن شاء ترك.d
وبعض أصحابنا قالوا: كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ النصف بالنصف وإن شاء ترك؛ لأن كل واحد منهما باع ما يملك وما لا يملك فينصرف بيع كل واحد منهما إلى ما يملك طلباً للجواز، كعبد بين اثنين باع أحدهما نصفه ينصرف ذلك إلى النصف الذي هو ملكه، وطريقه ما قلنا، وإن لم يجز واحد منهما شيئاً حتى جاء المستحق بنصف العبد وسلم ذلك النصف إلى مشتري العبد بهبة أو صدقة تبطل خيار مشتري العبد؛ لأنه استحق جميع العبد بالعقد، وقد سلم له جميع العبد بالعقد نصفه من بائع العبد ونصفه من المستحق، وقد بينا أن المستحق بجهة إذا وقع يقع عن جهة المستحق سواء وقع من جهة المستحق عليه أو من جهة غيره، ويكون الخيار لمشتري الدار إذا لم يسلم له جميع ما استحق من الدار.
(10/23)
الفصل السادس: في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاقوما يجب اعتباره في هذا الفصل وما لا يجب
-----
استحقاق المبيع على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق، ولا يوجب نقضه في «ظاهر الرواية» وقد ذكرنا في كتاب البيوع أن استحقاق المشترى على المشتري يوجب الرجوع بالثمن على البائع إذا كان الاستحقاق بسبب سابق على الشراء لأن البيع معاوضة، وتنبني المعاوضة على التساوي والمساواة فيما قلنا، وإذا كان الاستحقاق بسبب متأخر عن البيع لا يوجب الرجوع بالثمن على البائع؛ لأن الواجب على البائع، إثبات يد المشترى على المشتري لإدامة يده لعجز البائع عن ذلك، وهذا الفصل يشتمل على أنواع:(10/24)
-----
الأول: إذا ادعى المشتري استحقاق المشترى، وأراد الرجوع على البائع بالثمن لابد وأن يفسر الاستحقاق ويبين سببه لما ذكرنا أن الاستحقاق إنما يوجب الرجوع بالثمن على البائع إذا كان الاستحقاق بسبب متأخر عن البيع؛ ولأن دعوى الاستحقاق مطلقاً كما يحتمل دعوى الاستحقاق بسبب سابق على البيع بأن كان الاستحقاق بالنتاج أو بالملك المطلق يحتمل الاستحقاق بسبب الشراء من المشتري، ثم إذا بين سبب الاستحقاق وصح ذلك، وأنكر البائع البيع منه وأقام المشتري البينة على البيع قبلت بينته، وكان له الرجوع بالثمن، ولا يشترط حضرة المشتري لسماع هذه البينة عند بعض المشايخ، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، بل إذا ذكر سن العبد وصفاته وذكر مقدار الثمن كفاه؛ لأن العبد غير مقصود في هذه الدعوى وفي هذه الشهادة، فلا يشترط حضرته، وعلى هذا العبد إذا تداولته الأيدي وادعى حريته على المشتري الآخر، ورجع البعض على البعض لا يشترط حضرة العبد عند الرجوع بالثمن ويكفي أن يقول الشهود: إن العبد الذي أقام البينة على حريته باعه هذا من هذا وعند بعضهم يشترط حضرته، ثم إذا قبل بينة المشتري ورجع المشتري على البائع بالثمن بقضاء القاضي، أراد البائع أن يرجع على بائعه بالثمن كان له ذلك، وإن زعم أنه ليس له حق الرجوع لما أنكر البيع إلا أن القاضي لما قضى عليه بالبيع بالبينة فقد رد زعمه والتحق بالعدم، ولو أبرأ البائع المشتري عن الثمن أو وهبه منه، ثم استحق المبيع من يد المشتري لا يرجع على بائعه بشيء؛ لأنه لا شيء له على بائعه، وكذلك بقية الباعة لا يرجع بعضهم على البعض، وإذا استحق المبيع من يد المشتري وهو لم يؤد الثمن أو أدى بعضه يجبر على أداء الثمن في الفصل الأول، وعلى أداء الباقي في الفصل الثاني، بخلاف ما إذا طعن المشتري بعيب حيث لا يجبر على أداء الثمن؛ لأن في فصل العبد لو دفع يسترد ثانياً لا محالة، وفي فصل الاستحقاق لا يسترد(10/25)
ثانياً لا(10/26)
-----
محالة لجواز أن القاضي عسى لا يقضي ببينة المستحق أو يجيز المستحق البيع، وإذا استحق من يد المشتري وأراد المشتري الرجوع بالثمن على بائعه، وأراه السجل فأقر بالاستحقاق، وقبل السجل أن يدفعه الثمن ثم إلى ذلك، فالقاضي يجبره على دفع الثمن ولو لم يقر بالاستحقاق ولكن وعد له دفع الثمن لا يجبر عليه فمجرد الوعد لا يلزم شيئاً، وإذا رجع المشتري على بائعه وصالحه البائع على شيء قليل كان للبائع أن يرجع على بائعه بجميع الثمن.
نوع آخر(10/27)
اشترى رجل من آخر عبداً وباعه من غيره، ثم إن المشتري الأول اشتراه ثانياً ثم استحق الدار من يده رجع هو على البائع الأول، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله، وهذا الجواب إنما يستقيم على الرواية التي يقول فيها: إن القضاء بالملك للمستحق يوجب انفساخ البياعات، فخرج بيع المشتري الأول وشراؤه ثانياً من اثنين، فصار كأنه لم يبع من غيره، أما على «ظاهر الرواية» القضاء بالملك للمستحق لا يوجب انفساخ البياعات فيبقى بيع المشتري الأول وشراؤه ثانياً على حاله، فلا يكون له الرجوع على البائع الأول فيسمي المشتري الأول: زيداً ويسمي المشترى منه: جعفراً، فيرجع المشتري الأولى وهو زيد على بائعه وهو جعفر لأن جعفر بائعه في الكرة الثانية، ثم يرجع جعفر على زيد لأن زيداً بائعه في الكرة الأولى، ثم يرجع زيد على البائع الأول، وقيل: يجب أن يكون الجواب في الرد بالعيب نظير الجواب في الاستحقاق، حتى أن في مسألتنا أو وجد المشتري الأول وهو زيد بالدار عيباً قديماً بعدما باعه من جعفر، ثم اشتراه ثانياً من جعفر كان لزيد أن يرده على جعفر ثم يرده جعفر على زيد، ثم يرده زيد على البائع الأول، وهذا لأن حق الرد بالعيب وإن كان ينقطع العقد الذي جرى بين المشتري الآخر والبائع الآخر، فصار كأن لم يكن حتى لو كان الرد من المشتري الآخر بغير قضاء لا يكون لبائعه أن يرده على بائعه.(10/28)
-----
وفي شرح وكالة «الجامع» من تعليقي في باب قبل باب ما يكون وكالة في الطلاق على سبيل الاستشهاد: وقبضه رجل اشترى من رجل عبد وقبضه وباعه من غيره، وقبضه ذلك الغير، ثم اشتراه من ذلك الغير ثانياً، ثم اطلع على عيب به قد كان عند البائع الأول لم يرده على الذي اشتراه منه لأنه لا يفيد؛ لأنه لو رده عليه كان للمردود عليه أن يرده عليه في الحال، فلا يفيد الرجوع، ولا يرده على البائع الأول؛ لأن هذا الملك غير مستفاد من جهة البائع، فعلى قياس هذه المسألة يجب أن يقال في فصل الاستحقاق: إن زيداً لا يرجع على جعفر لأنه لا يفيد.
اشترى من آخر داراً وقبضها واستحقت من يده فقال المستحق للمشتري: خذ الثمن الذي دفعتها إلى (184ب4) البائع مني فأخذ ثم أراد المستحق أن يسترد ما دفع من المشتري هل له ذلك؟ فقد قيل: يجب أن لا يكون له ذلك على رواية، يقول فيها: إن بقضاء القاضي بالملك للمستحق تنفسخ البياعات المتقدمة؛ لأنه أدى دين البائع متبرعاً، لأن البيع السابق لما انفسخ بالاستحقاق وجب على البائع رد الثمن على المشتري، ومن أدى دين غيره متبرعاً لا يكون للمؤدي أن يرجع فيما أدى، وعلى ظاهر الرواية له أن يسترد ذلك، لأن على ظاهر الرواية لا ينفسخ البيع السابق بمجرد القضاء للمستحق، فلا يجب الثمن على البائع، فلا يصير مؤدياً دين البائع فلو أن المشتري رجع على البائع، وطالبه بالثمن، فقال المستحق للمشتري: خذ الثمن مني فأخذ ثم أراد المستحق أن يسترد منه ليس له ذلك باتفاق الروايات، ووجب الثمن على البائع فيصير المستحق قاضياً دين البائع على وجه التبرع فلا يكون له أن يسترده منه.
(10/29)
-----
قال محمد في «الزيادات»: رجل اشترى من رجل عبداً، وقبضه، وضمن رجل للمشتري ما أدركه من رجل آخر وسلمه إليه، ثم باعه المشتري الثاني من رجل آخر وسلمه إليه، ثم استحق مستحق من يد المشتري الآخر بالبينة، وقضى القاضي بذلك يكون ذلك قضاء على المشتري الآخر وعلى الباعة جميعاً حتى لو أقام المشتري الآخر أو واحد من أن يرجع على بائعه بالثمن من غير أن يحتاج إلى إعادة البينة، وإنما كان كذلك؛ لأنه ثبت تلقي البعض عن البعض، والقضاء بالملك المطلق على ذي اليد بالبينة قضاء عليه وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته؛ لأن القضاء بالملك قضاء بالملك من الأصل، ولهذا يقضى للمستحق بالزوائد المتصلة والمنفصلة جميعاً.(10/30)
-----
والقضاء بالملك من الأصل على ذي اليد بالبينة قضاء عليه وعلى من تلقى ذو اليد الملك منه ضرورة أنه لو لم يجعل كذلك كان الملك باقياً في حق البائع عدماً في حق المشتري، ويستحيل أن يكون الملك من الأصل عدماً في حق المشتري ويكون باقياً في حق البائع، فصار كل واحد من الباعة مقضياً عليه ومستحقاً عليه، فلا تقبل بينة واحد منهم على المستحق بالملك المطلق، وكان لكل واحد منهم حق الرجوع على بائعه بالثمن لهذا، ولكن إنما يرجع كل مشتري على بائعه إذا رجع عليه مشتريه حتى لا يكون للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الآخر، ولا يكون للمشتري الأول أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الآخر، ولا يكون للمشتري الأول أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري، وإنما كان كذلك؛ لأن بدل المستحق مملوك عندنا، فإن العقد على المستحق عندنا ينعقد لكنه موقوف على الإجازة، فلو رجع على بائعه بالثمن قبل أن يرجع عليه مشتريه يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وإنه لا يجوز، وكذلك لا يكون للمشتري الأول أن يضمن الكفيل بالدرك ما لم يرجع عليه؛ إذ ليس له ولاية تضمين الأصيل قبل أن يرجع عليه مشتريه، وما لم يجب على الأصيل لا يجب على الكفيل.(10/31)
-----
وهل يحتاج كل مشترٍ إلى إقامة البينة على الرجوع عليه إذا أراد الرجوع على بائعه؟ ينظر إن لم يعلم القاضي بالرجوع عليه بأن كان الرجوع عند قاض آخر يحتاج، وإن علم القاضي بذلك بأن كان الرجوع عند هذا القاضي لا يحتاج، وإن كان العبد لم يستحق ولكن أقام العبد بينة على المشتري الآخر على حرية الأصل، وقضى القاضي بها رجع كل واحد منهم على بائعه بالثمن قبل أن يرجع عليه مشتريه؛ لأن القضاء بالحرية يوجب انفساخ البياعات، وبدل الحر غير مملوك، ولو رجع على بائعه قبل أن يرجع عليه مشتريه لا يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وكذلك المشتري الأول يرجع على الكفيل قبل أن يرجع عليه؛ لأنه التزم ما على الأصيل، وقد تقرر الوجوب على الأصيل وثبت للمشتري الأول حق الرجوع عليه قبل أن يرجع عليه فكذا على الكفيل.
ولو لم يقم العبد البينة على حرية الأصل ولكن أقام بينة أنه كان عبداً لفلان منذ سنة أعتقه، أو أقام رجل بينة أن العبد كان له منذ سنة أعتقه، وقضى القاضي بذلك، وكان تاريخ العتق قبل تاريخ البياعات كلها يرجع كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه؛ لأن القضاء بالعتق سابق على البياعات يوجب بطلان البياعات، وبدل العتق ليس بمملوك، فلو رجع كل بائع على بائعه قبل أن يرجع عليه لا يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وكذلك إذا لم يعرف التاريخ؛ لأنه إذا لم يعرف التاريخ يجعل العتق مقارناً للشراء لأنهما حادثان، والحادثان إذا لم يعرف بينهما تاريخ جعلا متقاربين على ما عرف.(10/32)
-----
واقتران العتق بالشراء يوجب بطلان الشراء وكذلك لو أقام العبد البينة أنه كان عبداً لفلان منذ سنة دبره، وأقام رجل بينة على ذلك، أو كانت جارية أقامت بينة أنها كانت لفلان منذ سنة استولدها، وأقام رجل بينة على ذلك، وكان تاريخ هذه الأسباب قبل تاريخ البياعات كلها أو لم يعرف التاريخ أصلاً، وقضى القاضي بذلك، فهذا وما لو أقامت البينة على حرية الأصل أو على العتق سواء، يرجع كل واحد على مشتريه قبل أن يرجع عليه؛ لأنه ثبت لهما حق الحرية، وحق الحرية بمنزلة حقيقة الحرية.
طعن أبو حازم رحمه الله في فصل التدبير والاستيلاد وقال:(10/33)
-----
يجب أن يكون الجواب فيهما كالجواب في استحقاق الملك المطلق لا يرجع كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه؛ لأن العقد على المدبر وأم الولد منعقد، ولهذا نفذ البيع في المدبر بقضاء القاضي رواية واحدة، وفي أم الولد على إحدى الروايتين، وبدلهما مملوك، ألا ترى أن المدبر يضمن بالغصب عند الكل وكذا أم الولد عندهما، والجواب أن العقد لا ينعقد عليهما مع التدبير والاستيلاد، ولا ينفذ البيع بقضاء القاضي مع التدبير والاستيلاد ولكن بقضاء القاضي لجواز بيع المدبر يتضمن فسخ التدبير أولاً، ثم البيع يلاقيه وهو قن وكذلك في أم الولد قضاء القاضي في القن، فأما مع التدبير والاستيلاد العقد لا ينعقد ولا ينفذ بالقضاء والبدل الذي شرط في العقد في مقابلتهما لا يملك، فصار فصل التدبير والاستيلاد نظير الحرية والعتق من هذا الوجه، وإن قامت البينة على العتق والتدبير والاستيلاد بتاريخ بعد البياعات كلها بأن أقام العبد والجارية بينة على المشتري الآخر أنه عبد فلان أو جارية فلان أعتقه استولدها بعد شراء المشتري الآخر، وأقام رجل بينة على ذلك وقضى القاضي بذلك، كان هذا والقضاء بالملك المطلق سواء؛ لأن كل عقد جرى كان منعقداً، والبدل الذي ذكر فيه كان مملوكاً بالقبض؛ لأن العتق المتأخر لا ينافي الملك المتقدم، ولو كان تاريخ العتق من العبد بين البياعات حتى وقع بعضها قبل العتق وبعضها بعد العتق، فما كان قبل العتق لا يرجع فيه كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه، وما كان بعد العتق يرجع فيه كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه اعتباراً للبعض بالكل.
نوع آخر
قال محمد في «الزيادات»: رجل اشترى من أخر جارية وقبضها، ثم جاء مستحق واستحقها من يد المشتري وقضى القاضي بذلك فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:(10/34)
-----
الأول: أن يستحقها ببينة وفي هذا الوجه يرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع استحق على المشتري بما هو حجة في حق الناس كافة فيظهر (185أ4) الاستحقاق في حق البائع كما يظهر في حق المشتري.
الوجه الثاني: أن يستحقها بإقرار المشتري، وفي هذا الوجه لا يرجع المشتري بالثمن على البائع لما عرف أن الإقرار حجة في حق البائع، فلا يثبت له حق الرجوع على البائع.
الوجه الثالث: أن يستحقها بنكول المشتري وفي هذا الوجه لا يرجع المشتري بالثمن على البائع، واعتبر نكوله بإقراره، وفرق بين هذا وبين الوكيل بالمبيع إذا رد عليه المبيع بالعيب بنكوله، فإنه يلزم الموكل واعتبر الرد عليه بنكوله بمنزلة الرد عليه بالبينة.
والفرق: وهو أن المشتري مختار في النكول إذا سبق منه ما يطلق له اليمن بكونها مملوكة، وهو الشراء فإن الشراء من أسباب الملك ولا ضرورة مع قيام الدليل فلم يكن مضطراً في النكول بل كان مختار فيه، فاعتبر نكوله بإقراره لهذا، أما في فصل الوكالة الوكيل مضطر في النكول إذا لم يسق بينة ما يطلق له اليمن بانتفاء العيب؛ لأن الذي سبق منه قبول الوكالة بالبيع، والإنسان كما تقبل الوكالة في السليم تقبل في المعيب، وكما يبيع السليم يبيع المعيب، وقد يبيع الإنسان مال نفسه فلا يعلم قيام العيب به فكيف يعلم الوكيل فكان مضطراً في النكول منه بمنزلة البينة حتى لو أقر بالعيب فرد عليه بإقراره لا يلزم الموكل؛ لأنه مختار في الإقرار؛ لأنه يمكنه أن يسكت حتى يعرض عليه اليمين فينكل فينقضي عليه بنكوله، فإن قال المشتري بعدما أقر أو نكل: أنا أقيم البينة على أن الجارية ملك المستحق يريد به الرجوع بالثمن على البائع لا تسمع بينته وإنما لا لوجوه ثلاثة:(10/35)
-----
أحدها: أن البينة إنما تسمع إذا ترتبت على دعوى صحيحة والدعوى هنا لم تصح لمكان التناقض؛ لأنه حصل مقراً أن الملك للبائع مقتضى إقدامه على الشراء ولم يصر مكذباً فيما أقر فيصير بدعواه أنها ملك المستحق متناقضاً.
والثاني: أن هذه البينة قامت على إثبات ما هو ثابت، وهو ملك المستحق، فإن ملك المستحق ثابت بإقراره أو بنكوله وإثبات الثابت لغو.
والثالث: أنها قامت من غير خصم؛ لأن المشتري ليس بخصم عن المستحق في إثبات الملك له؛ لأن المستحق لا يصلح خصماً في ذلك بنفسه، وذكر في البيوع من «الإملاء» عن أبي يوسف: أن بينة المشتري للمستحق إنما لا تقبل حال غيبته؛ لأنه ليس بوكيل عنه حتى لو حضر المستحق وصدقه المشتري قبل بينة المشتري ويرجع بالثمن على البائع؛ لأن البينة قامت على إثبات الملك في حق البائع لم يكن ثابتاً؛ والبينة إذا قامت على إثبات ما ليس بثابت وجب قبولها، ولو أقام المشتري البينة على إقرار البائع أنها ملك المستحق قبلت بينته.
أما على المعنى الأول: لأنه لم يسبق بينة ما يجعله متناقضاً في دعوى إقرار البائع أنها ملك المستحق، وأما على المعنى الثاني: فلأنه بهذه البينة يثبت إقرار البائع أنها ملك المستحق وإقرار البائع لم يكن ثابتاً، فهذه بينة قامت على إثبات ما ليس بثابت فقبلت، وأما على المعنى الثالث: فلأنه بهذه البينة يثبت إقراره ليرجع عليه بالثمن، وهو خصم في ذلك هكذا ذكر المسألة ههنا.
قالوا وذكر في «الجامع الصغير»: أن بينة المشتري على إقرار البائع أنها ملك المستحق لا تقبل، وليس في المسألة اختلاف الروايتين وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع.
موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير»: أنه أقام البينة على إقرار البائع بذلك قبلت البيع، ولو كان هكذا لا تقبل بينته؛ لأن إقدامه على الشراء ينفي إقرار البائع قبل البيع أنها للمستحق فيصير متناقضاً، والتناقض لا يصح دعواه ولا تسمع بينته.(10/36)
-----
وموضوع ما ذكر في «الزيادات» أنه أقام البينة على إقرار البائع بعد البيع، وإذا كان هكذا تقبل بينته؛ لأن إقدامه على الشراء ليس ينفي إقرار البائع بعد البيع أنها للمستحق، فلا يصير متناقضاً فيقبل بينته، وإذ لم يكن للمشتري بينة يعني على إقرار البائع أن الجارية ملك المستحق، فقال القاضي: سأل البائع عن الجارية أهي ملك المستحق أم لا؟ سأل القاضي وهذا لأن المشتري يزعم أنه مظلوم من جهة البائع، وأن له حق الرجوع بالثمن عليه بإقراره، فسأله القاضي إزالة الظلم عنه، فإن أقر لزمه الثمن لإقراره بحق الرجوع عليه، وإن أنكر فطلب من القاضي أن يحلفه أجابه إلى ذلك لأن الاستحلاف ههنا يفيد، فإنه لو استحلف ربما ينكل فيصير مقراً.
ولو لم يستحق الجارية أحد، ولكن ادعت أنها حرة الأصل، فأقر المشتري بذلك، أو أبى اليمين، وقضى القاضي بحريتها لا يرجع بالثمن على البائع، أما إذا أقر فلأنه حجة قاصرة، وأما إذا نكل فإن نكوله بمنزلة الإقرار من مشايخنا قال: قوله: أو أبى اليمين، غلط من الكاتب؛ لأن أبا حنيفة لا يرى الاستحلاف في الرق، والدعوى ههنا دعوى الرق؛ لأنها تزعم أنها حرة الأصل وهما وإن كانا يريان الاستحلاف في دعوى الرق لكن في هذه الدعوى اليمين عليها لأنها تنكر للرق، فلا معنى لقوله في «الكتاب»: وأبى المشتري اليمينز(10/37)
-----
ومنهم من قال: لا بل ما ذكر صحيح؛ لأنه تقدم منها ما هو نظير الإقرار بالرق، فإن موضوع المسألة فيما إذا بيعت وسلمت وانقادت لذلك فلا يقبل قولها في دعوى الحرية بعد ذلك، فإن قبول قولها باعتبار شهادة الظاهر، وفي هذه الصورة الظاهر لا يشهد لها، وكان دعواها الحرية ههنا بمنزلة دعوى العتاق العارضي ولو ادعت عتقاً عارضياً على المشتري أليس أنه يحلف عندهما؟ فههنا كذلك، فإن حضر البائع وأنكر ما قاله المشتري، فقال المشتري: أنا أقيم البينة على البائع أنها حرة الأصل قبلت بينته، فرق بين هذا وبينما إذا أقام المشتري البينة على ملك المستحق حيث لا تقبل بينته.
والفرق أما على المعنى الأول، فلأن المشتري وإن صار متناقضاً في هذه الدعوى، ولكن التناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية وعلى العتق على ما عرف.
وأما على المعنى الثاني: فلأنه بهذه البينة يثبت ما ليس بثابت وهو غصب البائع الثمن لأن الحرة لا تدخل تحت العقد أصلاً، ولا يجب في مقابلتها الثمن فهو بهذه البينة يثبت أنه قبض ماله بغير حق، وقبض مال الغير بغير حق غصب، أما في الاستحقاق فالمشتري ببينته يثبت أنه غصب البائع الثمن؛ لأنه يثبت أن ما أخذه البائع أخذ بغير حق، لأن بدل المستحق مملوك، ولكن يثبت الملك للمستحق ليثبت لنفسه حق فسخ هذا العقد، وفيما يرجع إلى الملك البينة قامت على إثبات ما هو ثابت.(10/38)
-----
وأما على المعنى الثالث: فلأنه يثبت ما هو سبب حقه وهو خصم فيه، ولو ادعى المستحق على المشتري أنها جاريته وأنه أعتقها أو دبرها أو استولدها، وأقر المشتري بذلك أو نكل لا يرجع المشتري بالثمن على البائع، لما ذكرنا، فإن أقام المشتري بينة على البائع، بذلك يرجع بالثمن على البائع، ينظر إن شهدت بينته بعتق مطلق أو بعتق مؤرخ بتاريخ قبل الشراء قبلت، ويرجع بالثمن لما قلنا: إن التناقض في هذا الباب لا يمنع سماع البينة؛ ولأنها قامت على إثبات ما ليس بثابت وهو غصب البائع الثمن على نحو ما بينا فقبلت، وأما إذا شهدوا بعتق مؤرخ بتاريخ بعد الشراء لو قبلت بينته لقبلت على الملك، والملك ثابت للمستحق بإقرار المشتري أو بنكوله، فقامت البينة على إثبات ما هو ثابت فلا تقبل.h
نوع آخر
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: أيضاً، أمة في يد رجل يقال له (185ب4) عبد الله، فقال رجل يقال له: إبراهيم لرجل يقال له: محمد: يا محمد الأمة التي في يد عبد الله كانت أمتي بعتها منك بألف درهم، وسلمتها إليك ولم ينقد الثمن، إلا أن عبد الله غلب عليك وغصبها، منك، وصدقه محمد في ذلك كله، وعبد الله ينكر ذلك كله، ويقول: الجارية جاريتي، فالقول في الجارية قول عبد الله لكونه صاحب يد، ويقضي بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأنهما تصادقا على البيع والتسليم، وعلى أن عبد الله غصبها بعد البيع والتسليم، والثابت بتصادقهما في حقها كالثابت عياناً ولو عاين القاضي ذلك، أليس يقضى بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأن الواجب على البائع إثبات يد المشتري على المبيع، لا ابتدائية يده فكذلك ههنا.(10/39)
-----
فلو استحق رجل الأمة من يد عبد الله بعدما أخذ إبراهيم الثمن من محمد فأراد محمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وقال: الجارية التي بعتها مني ورد عليه الاستحقاق لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن القضاء بالاستحقاق على عبد الله اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد إنما يتعدى إلى غائب يدعي تلقي الملك من جهته، وذو اليد وهو عبد الله لا يدعي تلقي الملك من جهة محمد، فلم يصر محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، ولهذا لو أقام محمد البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم وهو يملكها قبلت بينته وقضي بالجارية له، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته وما لم يصر مقضياً عليه لا يرجع بالثمن على إبراهيم.
وكذلك لو كان الذي استحقها، استحقها بالنتاج بأن أقام البينة على أنها جاريته ولدت في ملكه، وقضى القاضي بها للمستحق لم يرجع محمد بالثمن على إبراهيم وإن ظهرت بينة المستحق أن إبراهيم باع جارية الغير؛ لأن القضاء بالاستحقاق اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد فلم يصر محمد مقضياً عليه.
بيانه: هو أن دعوى النتاج ههنا غير محتاج إليه؛ لأن المستحق خارج، ألا ترى أنه لو أقام المستحق البينة على الملك المطلق قبلت بينته، فسقط اعتبار دعوى النتاج وبقي دعوى الملك المطلق، وفي دعوى الملك المطلق، لا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله فكذا ههنا.
قال في «الكتاب»: ألا ترى أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، وهو يملكها، كذا إنه يقضي بها لمحمد، ولو صار محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما قضى له.
فرع(10/40)
-----
على هذه المسألة للاستشهاد به فقال: لو أعاد المستحق البينة على محمد أنها أمته ولدت في ملكه قضي بها للمستحق، وترجحت بينته على بينة محمد؛ لأن بينة النتاج لا يعارضها بينة الملك المطلق، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم في هذه الصورة؛ لأن محمداً صار مقضياً عليه بهذا القضاء، ولو لم يستحق الجارية أحد ولكن أقامت الجارية البينة على عبد الله أنها حرة الأصل، وقضى القاضي بحريتها رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن القضاء بالحرية، وبما ألحق بها قضاء على الناس كافة فصار محمد مقضياً عليه بذلك، وثبت الاستحقاق عليه، ولهذا لو أقام محمد البينة على الملك والشراء من إبراهيم لا تقبل بينته ولا يقضى له، ولو لم يثبت الاستحقاق عليه لثبت بنيَّة استحقاق المبيع على المشتري؛ بسبب سابق على الشراء يوجب الرجوع على البائع بالثمن.
وكذلك لو أقامت البينة على عبد الله أنها كانت أمته أعتقها وقضى القاضي بذلك رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن دعوى الملك ههنا ليس بمقصود، وإنما المقصود دعوى العتق ودعوى الملك لكونه وسيلة إلى العتق، ولما كان المقصود دعوى العتق، وليس بعض الأوقات للقضاء فيه بالعتق بأولى من البعض، لما أنها لم تعين وقتاً في الدعوى كان هذا والقضاء بحرية الأصل سواء.
وكذلك لو أقامت البينة على عبد الله أنها كانت أمته دبرها أو استولدها، كان الجواب كما قلنا، لأن الثابت بالتدبير والاستيلاد حق العتق، فيكون ملحقاً بحقيقة العتق، ولهذا لا يحتمل النقض والفسخ، فصار دعوى الاستيلاد والتدبير كدعوى حقيقة العتق، وهذا إذا أقامت البينة على الإعتاق والتدبير والاستيلاد من غير تاريخ.(10/41)
-----
فأما إذا أرخت إن أقامت البينة على أن عبد الله ملكها منذ سنة، وأعتقها أو دبرها أو استولدها وقضى القاضي بذلك، فإنه ينظر إلى تاريخ العقد الذي كان بين إبراهيم ومحمد، فإن كان منذ سنة أو أقل من ذلك يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، لأن ملك عبد الله صار مؤكداً بالعتق أو بما ألحق بالعتق، والملك المؤكد بالعتق أو بما ألحق بالعتق مع الملك الخالي عن العتق أو عما ألحق بالعتق إذا اقترنا، كان الملك المؤكد أولى بالإثبات لقوة فيه؛ فإذا استويا في التاريخ وصار المؤكد بالعتق أولى كان من ضرورته بطلان شراء محمد من إبراهيم، هو كذلك إذا كان تاريخ العقد الذي جرى بين محمد وبين إبراهيم أقل من سنة عن طريق الأولى.
أو يقول: بأن العتق الموقع يبقى ملكاً مقارناً وملكاً متأخراً عنه، لأن العتق إبطال الملك، ولا يتصور اقتران الملك بما يبطله ولا يتصور بعده أيضاً، وإن كان تاريخ العتق الذي جرى بين محمد وإبراهيم منذ سنتين لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم إذ ليس من ضرورة ملك عبد الله، وإن صار مؤكداً بالعتق بطلان شراء محمد من إبراهيم، فلا نثبت له حق الرجوع على إبراهيم.
ولو أن الجارية أقامت البينة على عبد الله أنه كاتبها، وقضى القاضي بذلك لا يرجع بالثمن على إبراهيم؛ لأن عقد الكتابة حق العبد، وإنه معاوضة كسائر المعاوضات، ولهذا يحتمل النقض والفسخ من جهة المتعاقدين فأشبه البيع.(10/42)
-----
ولو أقامت البينة على البيع من عبد الله، وقضى بها للمستحق لم يكن لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم كذا ههنا، قال في «الكتاب»: إلا إذا أدت بدل الكتابة وعتقت فحينئذ يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن القضاء بالكتابة عند الأداء قضاء بالعتق، فنفذ على الناس كافة، فصار محمد مقضياً عليه، فيرجع بالثمن على إبراهيم، ولهذا لو أقام محمد بينة أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، إن كان قبل أداء بدل الكتابة تقبل، وإن كان بعد أداء بدل الكتابة لا تقبل.
وإن أقر عبد الله أنه اشتراها من محمد بمئة دينار وقبضها ونقده الثمن، وصدقه محمد في ذلك، فهذا على وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يتصادقا عليه ثم استحقت الجارية من يد عبد الله.
الوجه الثاني: أن يتصادقا عليه بعدما استحقت الجارية من يد عبد الله.
الوجه الثالث: أن يقرّ عبد الله بالشراء من محمد، ومحمد كان غائباً أو حاضرا، فلم يصدقه ولم يكذبه حتى استحقت الجارية من يد عبد الله، ثم صدقه محمد فيما قال.
ففي الوجه الأول يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن عبد الله مع محمد تصادقا على الشراء في زمان يملكان استئناف الشراء فانتفت التهمة فيصح التصادق، وصار البيع بإثباته حسب ثبوته بالمعاينة، ولو ثبت البيع بينهما عياناً ثم استحقت رجع عبد الله على محمد ورجع محمد على إبراهيم، وصار القضاء على عبد الله قضاء على محمد؛ لأن عبد الله يدعي تلقي الملك من جهة محمد، وإذا صار محمد مقضياً عليه يرجع بالثمن على إبراهيم ضرورة، بخلاف مسألة هذا النوع؛ لأن هناك عبد الله لم يتلقَّ الملك من جهة محمد، فلا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما مر، أما ههنا بخلافه.(10/43)
-----
وفي الوجه الثاني: يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ولا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن التصادق وجد في حال لا يملكان (186أ4) استئناف الشراء؛ لأن المانع من الاستئناف قد تحقق، فكان هذا تصادقاً في موضع التهمة فصح عليهما حتى كان لعبد الله أن يرجع بالثمن على محمد، ولم يصح على غيرهما حتى لم يكن لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم.
وكذلك الجواب في الوجه الثالث: يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ولا يرجع بالثمن على إبراهيم، فلم يعتبر التصديق ههنا مستنداً إلى وقت الإقرار، إذ لو اعتبر لظهر أن التصادق كان قبل الاستحقاق، وكان ينبغي أن يكون نظير الوجه الأول.
واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: التصديق إنما يستند إلى وقت الإقرار، إذا بقي الإقرار أما إذا بطلت فلا، وههنا قد بطل ذلك الإقرار. بيانه هو: أن الاستحقاق بالبينة على عبد الله يفتقر إلى قضاء القاضي، وقضاء القاضي بالملك للمستحق يوجب تكذيب عبد الله في إقراره، فكيف يستند التصديق إليه وقد بطل نفسه؟ إلا أن بعد الاستحقاق ثابت على إقراره، فيستند التصديق إلى هذا الإقرار القائم للحال، فصار كأنهما تصادقا بعد الاستحقاق، فكان نظير الوجه الثاني لهذا.(10/44)
-----
وبعضهم قالوا: بأن محمداً متّهم في التصديق بعد الاستحقاق؛ لأنه قصد به إثبات حق الرجوع لنفسه على إبراهيم، فلا يصح تصديقه فيما يرجع إلى الإسناد وصار في حق الإسناد كان التصديق منه لم يوجد، ولو لم يوجد منه التصديق أصلاً لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأنه لا يصير مقضياً عليه، ألا ترى أنه لو لم يصدق وأقام البينة على أنها أمته اشتراها من إبراهيم قضي بها على المستحق، فدل أنه لا يصير مقضياً عليه قبل التصديق فكذا إذا تقدم التصديق ما لم يصر مقضياً عليه لا يرجع بالثمن على إبراهيم، فقال محمد: أنا أقيم البينة على إبراهيم، قبلت بينته؛ لأن هذه بينة قامت من خصم على خصم، لأن بيع محمد من عبد الله سبب لثبوت حق الرجوع لمحمد على إبراهيم فصار محمد خصماً في إثبات هذا البيع وصار إبراهيم خصماً في إنكاره ودفعه، فقبلت بينته، وإذا قبلت البينة صار الثابت بها كالثابت عياناً، ولو عاينا يقع محمد من عبد الله، والباقي بحاله كان لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم كذا ههنا.
وكذلك لو أقام محمد بينة أنه صدق عبد الله في دعواه الشراء منه قبل استحقاق الجارية من عبد الله قبلت بينته، ورجع محمد بالثمن على إبراهيم اعتباراً للتصادق الثابت بالبينة بالثابت عياناً.(10/45)
-----
ولو تصادق محمد وعبد الله على أن محمداً وهب الجارية من عبد الله، وسلمها إليه فهو على وجوه ثلاثة: على نحو ما ذكرنا في الشراء، ففي الوجه الثاني والثالث: لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، وفي الوجه الأول: يرجع، وكان ينبغي أن لا يرجع لأن في فصل الشراء لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم ما لم يرجع عبد الله بالثمن على محمد؛ وههنا لا يرجع عبد الله على محمد أصلاً، فكيف يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؟ ولكن الوجه في ذلك أن يقال: بأن في فصل الشراء رجوع عبد الله بالثمن على محمد ما شرط ليصير محمد مقضياً عليه؛ لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء عليه، وعلى من تلقى الملك من جهته وقد ثبت تلقي عبد الله الملك من جهة محمد، فصار محمد مقضياً عليه ولكن إنما شرط باعتبار أن بدل المستحق مملوك العاقد، فلو رجع محمد بالثمن على إبراهيم قبل أن يرجع عبد الله على محمد بالثمن يجتمع الثمنان في ملك محمد بدلاً عن ثمن واحد، وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه، هذا المعنى معدوم في الهبة والصدقة، فكان لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وإن لم يكن لعبد لله أن يرجع بالثمن على محمد.
رجل اشترى من آخر، كرماً اشترى الأرض والنخيل جميعاً وقبضهما، ثم استحقت العَرَصَةُ وحدها كان للمشتري أن يرد الأشجار على البائع، ويرجع عليه بجميع الثمن. ومثله لو اشترى حماراً مع بردعته اشترى الحمار والبردعة جميعاً وقبضهما، ثم استحق الحمار دون البردعة ليس للمشتري أن يرد البردعة، ويرجع على البائع بجميع الثمن، بل يمسك البردعة بحصتها من الثمن.(10/46)
-----
والفرق: أن في فصل الكرم اشترى الأشجار النامية والمثمرة، وبعد استحقاق العَرَصَةُ يؤمر المشتري بقلع الأشجار، وبالقلع يخرج عن حد الثمر ويصير حطباً، وهذا عيب فاحش فيثبت للمشتري حق الرد، هذا المعنى لا يتأتى في فصل البردعة؛ لأن باستحقاق الحمار لا تصير البردعة شيئاً آخر، ولا يخرج الانتفاع الذي اشتراها لأجله فلهذا افترقا.
أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن، وأدَّى المشتري الثمن إلى المحتال له، ثم استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟ ذكر في «مجموع النوازل» عن الشيخ الإمام شيخ الإسلام السغدي: أن المشتري يرجع على البائع، قيل له: فإن لم يظفر المشتري بالبائع هل يرجع عل المحتال له؟ قال: لا.
وإذا اشترى شيئاً من الوكيل فاستحق المشترى من يد المشتري، فعند الاستحقاق يرجع المشتري بالثمن على الوكيل إن كان المشتري إن كان دفع الثمن إلى الوكيل، وإن كان دفع الثمن إلى الموكل يقال للوكيل: طالب الموكل بالثمن وحده وادفعه إلى المشتري، وتفاوت بين الصورتين، إنه في الصورة الأولى يطالب الوكيل بنقد الثمن من مال نفسه، ولا ينتظر أخذه من الموكل، وفي الصورة الثانية ينتظر أخذه من الموكل، وفي «الجامع» أن المشتري بالخيار إن شاء رجع على القابض، وإن شاء رجع على الآمر.
اشترى شيئاً وقبضه واستحق من يده، ثم فصل إلى المشتري يوماً مالاً، يؤمر بالتسليم إلى البائع؛ لأنه وإن حصل مقراً بالملك للبائع لكن مقتضى الشراء (القبض)، وقد انفسخ الشراء بالاستحقاق فينفسخ الإقرار لا جرم لو أقر نصاً أنه ملك البائع ثم وصل إليه يوماً يؤمر بالتسليم على بائعه؛ لأن إقراره بالملك له لم يبطل.(10/47)
-----
في «شرح قسمة شيخ الإسلام» رحمه الله، في باب الميت عليه دين، وفي الباب الرابع عشر بعد المئة من «الزيادات»، وفي الباب الرابع في دعوى «الجامع» لشيخ الإسلام رحمة الله عليه: اشترى عبداً أقر أنه ملك البائع وتقابضا، ثم استحق من يده بالبينة يرجع على البائع بالثمن، وليس للبائع أن يقول للمشتري: إنك أقررت أنه ملكي، ومن زعمك أن المستحق غاصب، فلا يرجع علي كما لو غصب منك حقيقة، لأن المشتري يقول: إنما أقررت لك بالثمن بشرط أن أملك المبيع ظاهراً وباطناً، وقد نفذ على القضاء ظاهراً، وإذا صار العبد ملكاً للمستحق ظاهراً لا يبقى الثمن لك ملكاً ظاهراً، وإن بقي لك ملكاً باطناً حتى يستوفي قضية للعقد الموجب للتساوي بخلاف الغصب، لأن الغصب لا يزيل ملك المغصوب ظاهراً، كما لا يزيله من حيث الباطن.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا استحق المشترى من يد المشتري وأراد أن يرجع بالثمن، فقال البائع للمشتري: قد علمت أن الشهود شهدوا بزور فإن المبيع لي، فقال المشتري: أنا أشهد لك أن المبيع لك وإن الشهود شهدوا بزور، فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن مع هذا الإقرار قال: لأن المبيع لم يسلم له، فلا يحل للبائع أخذ الثمن، وقد استحق المبيع من يد المشتري.
وفي «النوادر» لابن سماعة عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية وقبضها، ثم جاء رجل وادعاها، وأقر المشتري أنها لهذا المدعي، فأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن، فقال البائع للمشتري: إنما كانت هي للمدعي؛ لأنك وهبتها له فالقول قوله، ولا يرجع المشتري عليه بالثمن.(10/48)
-----
استحق حماراً من يدي رجل ببخارى وقبض المستحق عليه، ووجد بائعه بسمرقند فقدمه إلى القاضي بمصر سمرقند فأراد الرجوع (186ب4) عليه بالثمن، وأظهر سجل قاضي بخارى، فأقر البائع بالبيع، ولكن أنكر الاستحقاق، وكون السجل، سجل قاضي بخارى، فأقام المستحق عليه بينة أن هذا سجل قاضي بخارى لا يجوز لقاضي سمرقند أن يعمل به، ويقضى للمستحق عليه بالرجوع بالثمن ما لم يشهد الشهود أن قاضي بخارى قضى على المستحق عليه بالحمار الذي اشتراه من هذا البائع وأخرجه من يد المستحق عليه، وهذا لأن الخط يشبه الخط، فلا يجوز الاعتماد على نفس السجل بل يشترط أن يشهدوا على قضاء القاضي، وعلى قصر يد المستحق عليه.
في شهادات «المنتقى»: استحق حماراً بشهادة شاهدين عدلين عدلهما الشهود عليه، قال: أسأل عن الشاهدين إن زكيا رجع المشهود عليه على البائع بالثمن بمنزلة الإقرار.
نوع آخر في استحقاق المبيع وقد كفل بالثمن كفيل بأمر(10/49)
-----
مسائل هذا الفصل مبنية على معرفة الكفالة بحق عن الغير، وعلى معرفة قضاء الدين عن الغير، فنقول: الكفيل بعقد الكفالة بضم ذمته إلى ذمة الأصيل ليحمل ما على الأصيل؛ لأن الكفالة مشتقة من الضم، ثم قضاء الكفيل بعد ذلك لإسقاط ما يحمل الكفيل والقاضي الدين عن الغير يقيم ماله مقام الأصيل في إسقاط ما على الأصيل من الدين، فمتى كانت الكفالة والقضاء بأمر الأصيل صار كل واحد منهما * أعني الكفيل والقاضي * مقرضاً ما يلاقيه يصرفه بمن عليه، فالقاضي للدين يصير مقرضاً ماله الذي أدى به دين من عليه؛ لأن المديون لما أمر بقضاء الدين عنه فقد جعله نائباً عن نفسه في القضاء بما يؤدي إلى صاحب الحق، وإنما يصير نائباً إذا صار المؤدى ملكاً للآمر بالإقراض، وهو معنى قولنا: إن المأمور بقضاء الدين يصير مقرضاً ما وقع به القضاء من الأمر، والكفيل يصير مقرضاً ذمته من الأمر في الالتزام ما عليه، لأن الأمر بالكفالة أمر بالتزام ما في الذمة وحق الكفيل مقام المال في حق المأمور بقضاء الدين، وهذا لأن ذمة الكفيل تصير مشغولة بما على الأصيل، وإنما تصير مشغولة بذلك إذا صارت ذمة الكفيل كذمة الأصيل بالإقراض، فكان في معنى الإقراض من هذا الوجه، ومتى كانت الكفالة وقضاء الدين بغير أمر من عليه صار الكفيل والقاضي متبرعاً، فيعتبر في حق الأصيل كأن صاحب الدين أبرأه بغير قبض، ويعتبر في حق الكفيل والقاضي هذا أداء المال والتزامه بمقابلة إسقاط المال من الغير، والتزام المال وأداؤه بمقابلة إسقاط المال عن غيره كالفضولي يصالح صاحب المال على مال نفسه، يعتبر ذلك في حق صاحب المال كأنه أبرأه من غير قبض ويعتبر في حق المصالح التزام المال وأداؤه بمقابلة إسقاط المال عن الغير.(10/50)
-----
جئنا إلى المسائل، قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» :رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم، وكفل عن المشتري بالثمن كفيل بأمر المشتري، ونقد الكفيل للبائع الثمن، ثم غاب الكفيل واستحق العبد من يد المشتري، أو وجد حراً أو مكاتباً أو مدبراً، أو كاتب جارية فوجدها أم الولد، فأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن. قال: ينظر إن كان الكفيل قد رجع على المشتري بما نقده للبائع كان للمشتري أن يرجع على البائع؛ لأن المشتري في هذا الوجه قام مقام الكفيل؛ وقد كان للمكفول أن يرجع على البائع بما نقد له من الثمن، فكذا لمن قام مقامه أو نقول: الكفيل لما رجع على المشتري وأخذ منه ما نقد صار المنقود ملكاً للمشتري، فكان للمشتري أن يرجع على البائع بذلك عند عدم سلامة المبيع له، وإن كان الكفيل لم يرجع على المشتري بما نقد للبائع لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن؛ لأن في هذه الصورة، المشتري ما قام مقام الكفيل، ولم يملك المنقود لو رجع رجع بحكم أن نقد الكفيل جعل كنقد المشتري.
وبظهور هذه الأسباب يتبين أن نقد الكفيل لم يجعل كنقد المشتري؛ إذ تبين أن الثمن لم يكن واجباً على المشتري، وأن الكفالة وقعت باطلة، ولأن في هذا الرجوع قطع خيار الكفيل إذا حضر، فإن الكفيل إذا حضر يتخير بين أن يرجع على المشتري بما نقد وبين أن يرجع على البائع، لما يتبين بعد هذا، وبعد ما رجع المشتري على البائع بالثمن لا يبقى للكفيل هذا الخيار، وليس للمشتري أن يقطع على الكفيل خياره.(10/51)
-----
ثم إذا حضر الكفيل فإن شاء رجع على البائع بما نقد، وإن شاء رجع على المشتري؛ لأنه وجد في كل واحد منهما ما هو سبب الضمان في حق الكفيل، أما البائع فلأنه قبض مال الكفيل بحكم الكفالة الباطلة؛ لأنه بظهور هذه الأسباب تبين أن الثمن لم يكن واجباً على الأصيل، والكفيل يتحمل عنه أو نقول الكفيل قضى ديناً على ظن أنه عليه، وتبين أنه ليس عليه، فكان له أن يرجع بما قضي على القابض، وأما المشتري فلأن المشتري لما أمره بالكفالة عنه بالثمن فقد أمره بأن يقضي دينه بشرط الضمان بالقضاء إن لم يصح؛ لأنه ظهر أن الثمن لم يكن واجباً، نفى الأمر بالدفع بشرط الضمان، كأنه قال: لم أدفع إلى فلان ألف درهم على أني ضامن لك، أو نقول: لما أمره بالكفالة فقد ضمن له تسليم ما يؤدي من ملك نفسه لمنفعة له في ذلك، وهو براءة ذمته، فيثبت له حق الرجوع لما ضمن له كالمغرور يرجع على البائع بقيمة الأولاد؛ لأن البائع ضمن للمشتري سلامة الأولاد بما شرط عليه لنفسه من الثمن، فإن أخذ من البائع لم يرجع البائع على المشتري، وهذا ظاهر لأنه ظهر أن المشتري لم يملك المبيع، فلا يملك البائع الثمن عليه، وإن أخذ من المشتري رجع المشتري على البائع بما نقد الكفيل؛ لأن الكفيل لما رجع على المشتري صار المنقود ملكاً للمشتري، أو قام المشتري مقام البائع على ما ذكرنا.s
وإن أراد المشتري بعدما حضر الكفيل اتباع البائع، وذلك قبل أن يختار الكفيل اتباع المشتري ليس له ذلك، وكان ينبغي أن يكون له ذلك؛ لأن الكفالة أن يطلب من استحقاق لما بينا، بقي الأمر بدفع مطلق إلى البائع صحيحاً صار دفع الكفيل كدفع المشتري بنفسه، وهناك الجواب كما قلنا، فهنا كذلك.(10/52)
-----
والجواب اختلفت عبارة المشايخ فيه. قال بعضهم: إنما لم يكن للمشتري؛ لأنه ثبت للكفيل الخيار على ما بينا، ولو ثبت للمشتري حق الرجوع على البائع يبطل خيار الكفيل؛ لأنه لا يمكن الكفيل بعد ذلك أن يبيع البائع ويأخذ منه ما دفع إليه لأنه يتضرر به البائع، لأنه بسبب قبض ألف درهم وأخذ ألفين وإنه مأمور إلا أن هذا العذر يشكل بالغاصب الاول، فإن له ولاية اتباع الثاني، ويأخذ منه عين ما أخذ الثاني منه إن كان قائماً، وقيمته إن كان هالكاً، ولم أجد بأن في تضمين الغاصب الأول للثاني إبطال ما ثبت للمالك من الخيار بين تضمين الأول وبين تضمين الثاني.
وبعضهم قالوا: إنما لا يرجع المشتري على البائع؛ لأنه لو رجع؛ إما أن يرجع بحكم أن البائع أزال يد المشتري عن المال الذي قبضه عن الكفيل بغير حق، أو لأن المنقود صار ملكاً للمشتري، لا وجه إلى الأول؛ لأن البائع ما أزال يد المشتري عما قبضه عن الكفيل؛ لأن ذلك لم يكن في يد المشتري، ولا وجه إلى الثاني لأنه بالاستحقاق بطلت الكفالة وبقي الأمر بمجرد الدفع إلى البائع بشرط الضمان إلا أن في الأمر بالدفع بشرط الضمان ما لم يرجع المأمور على الأمر بالضمان لا يصير المدفوع ملكاً للآمر، (187أ4) ولو لم يكن كفالة كان أمراً بقضاء الثمن، وباقي المسألة بحالها كان هذا بمنزلة الكفالة في جميع ما وصفنا؛ لأن بظهور هذه الأسباب تبين أن الثمن لم يكن واجباً، فيتبين أن الأمر بقضاء الثمن لم يصح، فكان هذا وفصل الكتابة سواء.
قال: ولو لم يكن مما ذكرنا من الأسباب في فصل الكفالة، لكن مات العبد قبل القبض، وكان الكفيل قد نقد الثمن وغاب، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن سواء رجع الكفيل على المشتري بما نقد أو لم يرجع.(10/53)
-----
فرق بين الهلاك وبين الاستحقاق فيما إذا لم يرجع الكفيل على المشتري بما نقد، فإن في فصل الاستحقاق المشتري لا يرجع على البائع، وفي فصل الموت يرجع، والفرق أن بهلاك العبد لا يتبين أن الثمن لم يكن واجباً، وأن الكفالة لم تكن صحيحة؛ لأن بهلاك العبد قبل القبض لا يفسد البيع من الأصل فحين أدى الكفيل الثمن إلى البائع أداه بحكم كفالة صحيحة، فكان ما قبض البائع مقبوضاً بحكم كفالة فاسدة، فكان للكفيل أن يرجع على البائع، وكان له أن يرجع على المشتري لما ذكرنا، ولأن في فصل الاستحقاق إنما لا يكون للمشتري الرجوع على البائع حال غيبة الكفيل؛ لأنه يوجب قطع خيار الكفيل، وهذا المعنى لا ينافي فصل الهلاك؛ لأنه لا خيار للكفيل ههنا على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن حضر الكفيل في فصل موت العبد، أو كان الكفيل حاضراً لم يكن للكفيل أن يرجع على البائع بالثمن.
فرق بين هذا وبين فصل الاستحقاق، والفرق ما ذكرنا: أن بالاستحقاق يظهر بطلان الكفالة فيظهر أن البائع قبض ما قبض من الكفيل بغير حق، فيكون للكفيل حق استرداد ما قبضه البائع، أما بهلاك العبد قبل القبض لا يظهر بطلان الكفالة، ولا يظهر أن البائع قبض من الكفيل ما قبض بغير حق، فلا يكون للكفيل حق استرداد ما دفع إليه، ولكن المشتري يرجع على البائع لما ذكرنا، ولو لم يمت العبد، ولكن انفسخ البيع فيما بينهما بسبب من الأسباب، فإن كان الانفساخ بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بالعيب بعد القبض بقضاء، أو قبل القبض بقضاء أو بغير قضاء أو الرد بخيار الرؤية أو بخيار الشرط كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا مات العبد قبل القبض لأن بهذه الأسباب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجباً، ولا يتبين أن الكفالة لم تكن صحيحة كما في هلاك العبد قبل القبض.
(10/54)
-----
وكذلك لو كان المشتري أمر غيره أن ينقد الثمن عنه فنقد، ثم مات العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري، فإن المشتري هو الذي يرجع على البائع بالثمن في الأحوال كلها لما ذكرنا، وإن كانت الكفالة بغير أمر المشتري ثم انفسخ البيع فيما بينهما من كل وجه كان للكفيل أن يرجع على البائع بالثمن، وليس للكفيل على المشتري سبيل؛ لأن هذا في حق المشتري إبراء بغير عوض وفي حق الكفيل والبائع هذا إبراء بعوض، فإنما يسلم للبائع ما قبض من الكفيل إذا حصلت البراءة للمشتري بمقابلة العوض، وإذا انفسخ البيع بينهما لم تكن البراءة حاصلة للمشتري بمقابلة العوض، وهو الثمن الذي قبضه البائع بل كان الانفساخ السبب بينهما، وكان للكفيل أن يرجع على البائع بما أدى إليه، وإن انفسخ البيع بينهما بسبب هو فسخ فيما بين المتعاقدين، عقد جديد في حق الثالث نحو الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء ونحو الإقالة لا يكون للكفيل أن يرجع على البائع بشيء؛ لأن الكفيل ثالث المتعاقدين فيجعل في حق الكفيل كأن المشتري باعه بيعاً جديداً من البائع، ولما كان هذا بيعاً جديداً في حق الكفيل لا يتبين أن براءة المشتري عن الثمن لم تكن بمقابلة العوض، فلهذا لا يرجع الكفيل على البائع بالثمن، ولكن المشتري هو الذي يرجع على البائع بذلك؛ لأن المأتي به فسخ فيما بينهما فكانت براءة المشتري في حقهما حاصلة بانفساخ السبب لا حكماً للعوض، فيجب على البائع رد ما قبض، وسبب وجوب رد ما قبض انفسخ، والمشتري هو الذي باشر الفسخ، فيكون حق القبض للمشتري لمباشرته السبب، ويكون المقبوض للكفيل دون المشتري؛ لأن الكفيل إنما أدى بذلك لتحصل البراءة للمشتري بمقابلة هذا المؤدي، فإن كان المأتي به فسخاً في حق البائع والمشتري كان في زعمهما أن البراءة إنما حصلت للمشتري لا بمقابلة المؤدي حقاً للكفيل بزعمهما، فيعتبر في حقهما، فلهذا كان المؤدى للكفيل ولكن حق القبض للمشتري على ما مرّ.(10/55)
-----
ولو لم تكن كفالة، ولكن نقد رجل الثمن عن المشتري بغير أمر كان الجواب فيه في جميع ما وصفنا نظير الجواب في الكفالة إذا كانت بغير أمر المشتري، قال: ولو كانت الكفالة بأمر المشتري، فصالح الكفيل البائع عن الثمن على خمسين ديناراً، كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالدراهم دون الدنانير لأن المقابلة بين الكفيل وبين المشتري في إقراض الذمة لالتزام الألف قد تمت؛ لكن شرط رجوع الكفيل على المشتري انقطاع حق البائع عن المشتري، وقد حصل ذلك بهذا القدر، ألا ترى أن الكفيل لو أدى للبائع زيوفاً بمقابلة العوض والثمن جياد وتجوز البائع بالزيوف كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالدراهم الجياد؟ فكذا ههنا يجب أن يرجع الكفيل على المشتري بالدراهم أيضاً.
فإن استحق العبد والكفيل غائب، ثم حضر كان له اتباع البائع بالدنانير، ولا سبيل للكفيل على المشتري، وفيما تقدم قال: للكفيل الخيار إن شاء طالب البائع، وإن شاء طالب المشتري. والفرق أن في ضمن الأمر بالالتزام بالكفالة أمر بالأداء وبالاستحقاق أن يطلب الكفالة في الوجهين إلا أن في الوجه الأول لم يبطل الأمر بالأداء، أما ههنا الأداء لم يكن بأمر المشتري؛ لأنه أدى غير ما أمر به يتعذر الرجوع بحكم الأمر، كما تعذر الرجوع بحكم الكفالة، فلهذا قال: لا يرجع الكفيل على المشتري، ولكن يرجع الكفيل على البائع؛ لأنه أعطاه الدنانير بحكم الصلح، وبالاستحقاق ظهر بطلان الصلح، ويستوي في هذا أن يكون الاستحقاق في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس، لأن المعنى لا يتفاوت.(10/56)
-----
وكذلك لو أن البائع باع الكفيل الدراهم التي كفل بها عن المشتري بالدنانير، ثم استحق العبد بطل البيع، وأراد محمد بهذه التسوية بين البيع والصلح التسوية بينهما بعد الافتراق عن المجلس، لأن ما جرى بينهما من البيع كان صرفاً، وبالافتراق عن المجلس قبل قبض بدل الصرف، فأما إذا استحق العبد، وهما في المجلس بعد يبطل البيع، أما لا يبطل الصلح.
والفرق بين الصلح والبيع أن ينبني الصلح على التجوز بدون الحق، وذلك إنما يكون باستيفاء بعض الحق وترك البعض، والدراهم والدنانير يتعينان في الاستيفاء فيتعينان في الصلح أيضاً؛ ولهذا لو صالح من الدراهم على ثوب بعينه، ثم تصادقا على أنه لا دراهم عليه يبطل الصلح، فأما البيع لا يتعلق بعين الدراهم المشار إليها وإنما يتعلق بمطلق الدراهم، وما دام المجلس قائماً يمكن دفع ألف درهم إلى صاحبها، فلا يبطل البيع، ولهذا لو باع من آخر دراهم في الذمة ثبوت بعينه، ثم تصادقا على أنه لا دراهم في الذمة لا يبطل البيع.
قال: ولو لم يستحق العبد ولكنه مات في يد البائع؛ فإن للمشتري أن يرجع على البائع بألف، ولا سبيل للكفيل على البائع؛ لأن بالموت لا يظهر أن الثمن لم يكن واجباً، فصار الكفيل بهذا البيع موفياً للبائع ألف (187ب4) درهم بطريق المقاصة؛ لأنه وجب للكفيل على البائع ألف درهم مثل ما كفل به؛ لأن عقد الصرف لا يتعلق بعين ذلك الدين، فصار للكفيل على البائع ألف درهم بعقد الصرف، وللبائع عليه مثله بحكم الكفالة، فوقعت المقاصة، والإيفاء بالمقاصة كالإيفاء بالاستيفاء حقيقة، وهنا لا يكون للكفيل على البائع سبيل في هذا الوجه، وإنما السبيل للكفيل على المشتري وللمشتري على البائع كذلك ههنا.
(10/57)
-----
وكذلك لو كان الكفيل صالح البائع على خمسين ديناراً؛ لأن الكفيل صار موفياً ألف درهم بالصلح، فصار الجواب فيه والجواب في البيع سواء إلا أن الفرق بين الصلح والبيع، أن في الصلح للبائع الخيار إن شاء رد خمسين ديناراً وإن شاء رد ألف درهم، وفي البيع يرد ألف درهم من غير خيار. والفرق ما ذكرنا أن يبنى الصلح على التجوز بدون الحق، والبائع إنما رضي بدون حقه ليصل إلى حقه من الدين لا لتلزمه الدراهم، فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه الدراهم كان له الخيار إن شاء أمضى الصلح وأعطى الثمن وذلك ألف درهم، وإن شاء أبطل الصلح، ورد ما قبض من الدنانير بخلاف البيع؛ لأن مبناه على المماكسة والاستيفاء، فصار البائع مستوفياً حقه، فلهذا لا يتخير في البيع بل يرد على المشتري الثمن وهو الدراهم، أما في الصلح بخلافه على ما مرّ.
ثم في الصلح إن اختار البائع رد الدراهم فالمشتري هو الذي يستوفيه؛ لأنه لما اختار رد الدراهم فقد أمضى الصلح وتعذر استيفاء الثمن، فعند انفساخ العقد بموت العبد قبل القبض يكون حق القبض للمشتري، كما لو استوفى البائع الثمن من الكفيل حقيقة، وإن اختار رد الدنانير، فالكفيل هو الذي يقبض ذلك لأن رد الدنانير إنما يكون بطريق فسخ الصلح، والكفيل هو الذي باشر الصلح معه فعند انفساخ الصلح حقه في الدنانير، فلهذا لم يكن له رجوع على المشتري.(10/58)
-----
ولو كان المشتري أمر رجلاً أن يقضي البائع عنه الثمن من غير كفالة، فباع المأمور من البائع خمسين ديناراً بالثمن يجوز، وكذلك لو صالح المأمور البائع من الثمن على خمسين ديناراً، وهذا لا يشكل في الصلح لأن الدين وإن لم يكن واجباً عليه، حتى لو امتنع عن القضاء بترك ذلك إلا أن المأمور بقضاء الدين وإنما يشكل في البيع، فإن الفضولي لو باع ماله بدين على غيره لا يجوز، فكذا المأمور بقضاء الدين لو باع ماله بالثمن الذي ليس عليه لا يجوز وهذا أفقه، أن الثمن إذا لم يكن واجباً على المأمور بقضاء الدين صار هو مملكاً الدنانير بالدراهم التي على غيره، وصار مشتري الدنانير مملكاً الدراهم التي هي ثمن له على مشتري العبد من غيره، وهو بائع الدنانير، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز.
والجواب وهو الفرق بين الفضولي وبين المأمور بقضاء الدين: أن عقد الدين لا يتعلق بذلك الدين في الأحوال كلها إلا أن البائع إذا كان فضولياً كان في هذا شرط تسليم الثمن على غير العاقد في هذا العقد وهو المشتري في العقد الأول، فإنه لو صح هذا العقد يجب على المشتري في العبد الأول تسليم الثمن الذي عليه إلى الفضولي.
قلنا: وشرط تسليم الثمن الذي عليه إلى الفضولي شرط تسليم الثمن على غير العاقد فيفسد العقد، فأما المأمور بقضاء الدين فلا يبيع ماله من البائع لاستيفاء الثمن عن المشتري، وإنما يبيع حتى يجب على البائع الأول مثل ما كان له على المشتري الأول، ثم يجعل له قصاصاً بما عليه، فيتقدم الشرط الفاسد فيجوز، وإذا صح البيع وصلح الصلح من المأمور صار المأمور بمنزلة الكفيل في جميع ما وصفنا.(10/59)
-----
أو نقول: المأمور بقضاء الدين بمنزلة الفضولي من وجه من حيث إنه لم يجب للطالب عليه دين وبمنزلة المطلوب من حيث إنه أداء يجبر الطالب على القبول، فمن حيث إنه فضولي، إن كان لا يجوز هذا البيع فمن حيث إنه مطلوب يجوز فرجحنا ما يوجب الجواز احتيالاً للجواز بقدر الممكن، ولو كان الكفيل كفل عن المشتري بالثمن بغير أمره، ثم إن الكفيل صالح مع البائع على خمسين ديناراً من الثمن، أو باع منه خمسين ديناراً بالثمن، ثم مات العبد قبل القبض، أو استحق فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن المشتري لم ينقد الثمن بنفسه ولا نقد نائبه؛ لأن الكفالة كانت بغير أمر المشتري، ولكن الكفيل يرجع على البائع، ويتخير البائع في الصلح بين إعطاء الدراهم وبين إعطاء الدنانير؛ وفي البيع لا يتخير، والفرق قد مرّ قبل هذا.(10/60)
-----
ولو لم يكن كفالة ولا أمر بقضاء الدين ولكن جاء متبرع وباع دنانيره من بائع العبد بالثمن الذي له على المشتري أو صالح معه من الثمن على دنانيره من بائع العبد بالثمن الذي له على المشتري، أو صالح معه من الثمن على دنانيره، فالبيع باطل على كل حال لما فيه من شرط تسليم الثمن على غير العاقد، وإنه مفسد للبيع، وأما الصلح فإن كان شرط أن يكون الثمن الذي على المشتري للمتبرع يكون باطلاً؛ لأنه يصير بمعنى البيع، والصلح يحتمل معنى البيع فيصير هذا الصلح بحكم هذا الشرط والبيع سواء، وإن كان الصلح بشرط براءة المشتري من الثمن كان الصلح جائزاً، ويكون هذا تمليك العين بمقابلة الفراغ الذي يحصل لا لمن وجد منه التمليك، وإنه جائز كما في الخلع، وإن أطلق الصلح إطلاقاً ولم يصرح بالإبراء ولا بالتمليك يجوز؛ لأن الصلح يحتمل معنى الإبراء والإسقاط ويحتمل معنى التمليك، فعند الإطلاق يحمل على الإبراء والإسقاط تحرياً للجواز وطلباً للصحة، فإن استحق العبد كان على البائع رد الدنانير على المصالح، وإن مات العبد كان للبائع الخيار إن شاء رد الدنانير على الكفيل، وإن شاء رد عليه الدراهم لما مرّ.
رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم جياد، وكفل رجل عن المشتري بالثمن بأمر المشتري، ثم إن الكفيل أدى البائع الزيوف، وتجوز به البائع، فالكفيل يرجع على البائع بالجياد؛ لأن رجوع الكفيل على المشتري بحكم الالتزام بعقد الكفالة، فيرجع الملتزم وهو الجياد فإن لم يرجع الكفيل على المشتري حتى استحق العبد لا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن الكفيل لو أدى مثل الملتزم، وقد ذكرنا أن المشتري لا يرجع على البائع، وإن شاء رجع على المشتري وعلى أيهما رجع لا يرجع إلا بالزيوف.(10/61)
-----
أما إذا رجع على البائع فلأن رجوع الكفيل على البائع يعلمه أن بالاستحقاق يظهر أن البائع قبض ما قبض بغير حق، فيرجع بالمقبوض، وأما إذا رجع على المشتري فلأن رجوع الكفيل على المشتري يعلمه أن المشتري أمره بالأداء، ضمن له سلامة المؤدى فيرجع بمثل المؤدى، هذا إذا أدى الكفيل أنقص مما التزم، وأما إذا أدى خيراً مما التزم لا يرجع الكفيل على المشتري إلا بالملتزم لأنه متبرع على المشتري بزيادة الجودة فيعتبر بما لو تبرع بزيادة العدد، وهناك لا يرجع على المشتري إلا بالملتزم، فهذا كذلك.
فإن استحق العبد من يد المشتري في هذا الوجه فالكفيل بالخيار إن شاء رجع على البائع وإن شاء رجع على المشتري، فإن رجع على البائع رجع بالمؤدى؛ لأنه ظهر أن البائع قبض ذلك بغير حق، وإن رجع على المشتري رجع بالملتزم لما مرّ أن رجوع الكفيل على المشتري باعتبار ما لحق الكفيل من الضمان بأمر المشتري، وضمان المشتري السلامة له، وذلك بقدر الملتزم، وإذا رجع على المشتري بالملتزم لما مرّ إن رجع المشتري على البائع بما أداه الكفيل من الجياد؛ لأن الكفيل لما أدى الجياد، فإنما تبرع بالجودة على المكفول عنه دون الطالب لأن الطالب في حق الأصيل يقبض حقه، فلا تكون الكفالة تبرعاً في حق الطالب، وإنما تكون تبرعاً في حق المكفول فكذا بالزيادة تكون تبرعاً على المطلوب، ولأن الكفيل لما رجع على (188أ4) المشتري، فقد قام المشتري مقام الكفيل في تلك المؤدى فيقوم مقامه في حق الرجوع على البائع بالجياد.
ولو لم يستحق العبد ولكن مات في يد البائع قبل القبض، وقد كان الكفيل أنقص مما التزم فلا سبيل للكفيل على البائع؛ لأن بموت العبد لا يتبين أن البائع قبض ما قبض من الكفيل بغير حق، ولكن يرجع على المشتري بألف درهم نبهرجة.(10/62)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا سلم العبد للمشتري وقد أدى الكفيل أنقص مما التزم، فإن هناك الكفيل يرجع على المشتري بالملتزم، وهو أن البائع لما تجوز بالزيوف صارت صفة الجودة كأنها وهبت الكفيل، فتفسير ذلك بما لو وهب للكفيل كل الدين، وهناك عند سلامة العبد للمشتري يرجع الكفيل على المشتري بذلك، وعند انتقاض البيع لا يرجع، فكذا إذا وهب له صفة السلامة.
والفرق الفقهي بين الفصلين: أن البيع لما انتقض فقد برئ الأصيل عن الثمن وبراءة الأصيل عن الثمن يوجب براءة الكفيل، وبعدما وقعت البراءة للكفيل لا يتصور ملك ما في ذمته فيعتبر المؤدى بخلاف ما إذا تم البيع، ولو كان الكفيل أدى أجود ما التزم ثم مات العبد في يد البائع لم يكن للكفيل على البائع سبيل، ولكن يرجع الكفيل على المشتري بما كفل عنه، ويرجع المشتري على البائع بمثل الدراهم التي أعطى الكفيل البائع وهو الخيار.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: ألا ترى أن رجلاً لو أمر رجلاً أن يعطي رجلاً عشرة دراهم عليه على أن يكون قرضاً على القابض للآمر ويكون قرضاً للمعطي على الآمر إن ذلك جائز؛ فإن أعطاه المأمور دراهم أجود من الدراهم التي أمره بها الآمر لم يكن للمعطي على الآمر إلا دراهم مثل الدراهم التي أمره بإعطائها، ويرجع الآمر على القابض بمثل ما أعطاه المأمور، فكذا فيما تقدم.(10/63)
-----
ولو كان المشتري أمر رجلاً أن ينقد عنه الثمن من غير كفالة، فنقد المأمور أفضل ما أمره لم يرجع على الآمر بمثل ما أمره به، وإن نقده أردأ مما أمره يرجع بمثل المؤدى؛ لأن ههنا الرجوع بحكم الآمر بالأداء، فلابد من اعتبار الأمر والأداء، ففي الوجه الأول: الأمر في حق الزيادة لم يوجد، وفي الثاني: الأمر إن وجد، فالأداء لم يوجد بخلاف الكفيل، فإنه إذا أدى أدى من الملتزم وتجوز به البائع يرجع على المشتري بالملتزم، لأن ثمة الرجوع بحكم إقراض الذمة والالتزام، وإقراض الذمة لالتزام الجيد قد تم أما ههنا بخلافه.
فإن استحق العبد يخير المأمور بين اتباع البائع وبين اتباع المشتري على ما مر في الكفيل، فإن رجع على البائع رجع بمثل المقبوض؛ لأنه بالاستحقاق تبين أنه قبض بغير حق، وإن رجع على المشتري يرجع بالمؤدى إن كان المؤدى أردأ مما أمر به، وإن كان أجود رجع بما أمر به، ثم المشتري يرجع على البائع بمثل ما أخذ من المأمور؛ لأن المأمور إنما تبرع بالجودة على المشتري لا على البائع، وقام المشتري مقام المأمور في ذلك، وقد ذكرنا نظير هذا فيما تقدم، ولو لم يستحق العبد ولكنه مات قبل القبض، فلا سبيل للمأمور على البائع، ولكن يرجع المشتري على البائع بما أدى إن كان المؤدى أردأ مما أمره به، وإن كان أجود يرجع بما أمره به. وشبه محمد رحمه الله هذا بفصل الإجارة.(10/64)
-----
ولو استأجر رجل من آخر داراً بمئة دينار، فلم يسكنها حتى أمره رب الدار أن يعطي رجلاً عشرة دراهم من أجرة الدار على أن يكون قرضاً لرب الدار على القابض، ثم انتقضت الإجارة بينهما بموت أحدهما فلا سبيل للمستأجر على المستقرض؛ لأن رب الدار يصير كالمستعمل لهذا القدر من الأجر، فعند انتقاض الإجارة يكون رجوعه على رب الدار لا على المستقرض، فبعد ذلك إن كان المستأجر نقد المستقرض أردأ من أجرة الدار رجع الآخر بما أعطى، وإن نقد أفضل لم يرجع على الآخر إلا بمثل ما أمره به، ويرجع الآخر على المستقرض بمثل ما قبض من المستأجر، فكذا فيما تقدم والله أعلم.
زوجان في دار، أقامت المرأة البينة أن الدار دارها غصبها منها زوجها، وأقام الزوج بينة أن الدار داره واشتراها منها قضي بالدار للمرأة، والدار في يد الزوج، فكانت المرأة خارجة فيقضى ببينتهما كذا أجاب أبو نصر الدبوسي، وقال أبو بكر العياضي: يقضى بالدار للزوج، فجعل كأن الزوج غصبها أولاً ثم اشتراها منها بعد ذلك.
وفي «المنتقى» رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة أنه تصدق به علي منذ شهر، وقبضته منه ثم أودعته إياه، وأقام رجل آخر بينة أنه تصدق به علي منذ شهرين وقبضته، ثم أودعته منه، والذي في يديه العبد ينكر دعواهما، فإني أقضي بالعبد للذي أقام البينة على شهرين، وأبطلت دعوى الآخر، فإن رجع شاهدا الذي قضيت له بالعبد ضمنتهما قيمة العبد للذي ادعى الصدقة منذ شهر ولا أكلفه إعادة البينة من قبل لأن شهوده شهدوا بمحضر من صاحب الشهرين، وأثبتها عبدين، ولو كنت أبطلتها يومئذ ما قبلتها إذا هو أعادها؛ لأني إذا أبطلتها مرة لم أقبلها ثانياً، ألا ترى أن صاحب الشهرين لو غاب بعدما شهد شهوده ولم يحضر لا يقضي على الذي في يديه الغلام لصاحب الشهرين حتى يحضر صاحب الشهر لأني جعلته خصماً.(10/65)
-----
روى عمرو بن أبي عمرو عن محمد عن أبي يوسف رحمهما الله: في رجل أقام بينة على رجل أنه قتل أباه عمداً في شهر ربيع الأول ولا وارث له غيره، وأقام المدعى عليه بينة أنهم رأوا أباه حياً بعد ذلك الوقت في شهر ربيع الآخر، فالبينة بينة المدعي ويقضى بالقود.
ولو أقامت امرأة بينة أن زوجها طلقها ثلاثاً في يوم النحر برقة، وأقام عبده بينة أن مولاه هذا بعينه أعتقه في ذلك اليوم بمنى فالشهادة باطلة، فإن صدق إحدى البينتين قضى بإقراره فيما أقر به، وقضيت في الأخرى بالبينة.
ولو شهدت إحدى البينتين أنه طلق امرأته ثلاثاً يوم النحر بمنى، وشهدت الأخرى أنه أعتق عبده بعد ذلك بيوم بالرقة، فإن القاضي يطلق امرأته؛ لأن وقته أول ويبطل الآخر.
وإذا شهد الشهود على رجل أنه قتل أبا هذا الرجل عمداً ولا وارث له غيره، وأن القتل كان في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومئة، وأقام المدعى عليه بينة أن أباه كان حياً أقرضه في محرم سنة ست وثمانين ومئة درهم وأنها له دين عليه، فالبينة بينة الابن قال: لأنهما أمران لا يستقيم أن يكون فيؤخذ بالوقت الأول، قال: إلا أن أبا حنيفة رحمه الله أستحسن في هذا الباب شيئاً واحداً، فقال: إذا أقام الابن البينة أن هذا قتل أباه عمداً بالسيف منذ عشرين سنة، وأنه لا وارث له غيره، وجاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها منذ خمسة عشر سنة، وأن هذا ولده منها، وأنها وارثة مع ابنه هذا، قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أجيزه ببينة المرأة، وأثبت النسب وأبطل بينة الابن على القتل، ولو أقامت البينة على النكاح ولم تأت بولد، فالبينة بينة الابن والميراث للابن دون المرأة، ويقتل القاتل، إنما أستحسن في النسب خاصة، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
(10/66)
-----
ذكر ابن سماعة في «الرقيات» أنه كتب إلى محمد بن الحسن: أرأيت رجلاً مات وباع رجل من تركته متاعاً، فخاصمه وارثه بعد ذلك إلى قاض، وأقام الرجل البينة أن فلاناً القاضي أجاز جميع ما باع فلان من تركة فلان، وأقامت الورثة البينة أن ذلك القاضي أبطل جميع ما باع فلان من تركة فلان ونقضه، والقاضي واحد ولم يوقت للبينتان وقتاً أو وقتا وقتاً واحداً، قال محمد رحمه الله: إذا لم يعلم أيها أول، فالنقض أولى لأن كل واحد منهما ينقض صاحبه، فصار كأنه باع ولم يجز ذلك القاضي ولم يرده، وهو غير وصي ولا جائز الأمر، وإن وقتا وقتين أخذ بالوقت الأخير.
وإن أقاما البينة على النقض والإجارة من قاضيين مختلفين، فالنقض أولى إذا لم يدر أي الوقتين أول، وإن شهد أحد (188ب4) الفريقين أن ذلك القاضي أبطل إجارة ذلك القاضي وأنه أبطل بعضه، فالقضاء الآخر الذي شهد الشهود أبطل الأول أولى
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة أنه باع هذا العبد من هذا الذي في يديه وهو يملكه بألف درهم ورطل من خمر، وأقام آخر بينة أنه باع هذا الذي في يديه وهو يملكه بألف درهم وخنزير، ادعى كل واحد منهما بيعاً فاسداً، فالعبد يرد عليهما نصفان، وضمن الذي في يديه لكل واحد منهما نصف قيمة العبد، وإن مات العبد في يد المشتري فعليه قيمتان.
وإن كانت البينتان شهدتا على البيع ومعاينة القبض، فإن كان العبد قائماً بعينه أخذاه نصفين، ولا شيء لهما غير ذلك، وإن كان مستهلكاً أخذا قيمته نصفين ولا شيء لهما غير ذلك.
رجل له ابنتان صغرى وكبرى، وأقام بينة على هذا الرجل أنه زوج ابنته الكبرى منه، وأقام الأب بينة أنه زوج ابنته الصغرى من هذا الرجل، فالبينة بينة الزوج.(10/67)
-----
عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد بألف درهم، وأقام صاحب اليد بينة أنه باع هذا العبد من فلان الآخر بألفي درهم، فالبينة بينة مدعي الشراء بألف درهم. ولو أقام صاحب اليد بينة على مدعي الشراء بألف درهم أنه كفل بألفين عن المدعى عليه الذي اشتراه بألفين، كانت بينة صاحب اليد أولى.
دار في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعي أنها داره أجرها من الذي في يديه شهراً بعشرة دراهم، وأقام على ذلك بينة، والذي في يديه الدار قد سكنها شهراً وهو جاحد دعواهما، فإنهما يأخذان الدار بينهما نصفين، ويأخذان عشرة دراهم، وتكون بينهما نصفين أيضاً، والقياس أن يأخذ كل واحد منهما عشرة دراهم، وأظن أن هذه المسألة مرت في كتاب الإجارات.
ونظير هذه المسألة في دعوى البيع، إذا كانت الجارية في يدي رجل، أقام رجلان كل أحد منهما بينة أنه باعها من صاحب اليد لكل واحد منهما ألف درهم؛ لأن لا تضايق في الثمن، فإن أمضى أحدهما دون الآخر، فللذي أمضى نصف الثمن؛ لأن منازعة الآخر باقية، ومع المنازعة حقه كان في نصف الجارية، فيأخذ بدل ذلك وهو نصف الثمن، وللذي لم يمض أن يأخذ الجارية كلها؛ لأنه انقطع منازعة الآخر وحقه في كلها لولا منازعة الشريك؛ لأن البينة قامت له على كلها، فإذا ارتفع منازعة الشريك استحق كلها، وإن لم يمض واحد منهما البيع أخذ الجارية بينهما نصفين ولا شيء على المشتري؛ لأنه لم يسلم له شيء من المبيع، فلا يلزمه شيء من الثمن.
رجل في يديه عبد أقام رجل بينة أنه عبده، وأقام آخر بينة أنه عبده باعه من الذي في يديه، وذو اليد يجحد دعواهما جميعاً، قال: يقضى به للذي أقام البينة أنه عبده، ويبطل الثمن عن الذي هو في يديه.(10/68)
-----
استحق الفرس من يد المشتري في غير بلد البائع، وجاء المشتري بالسجل إلى بلد البائع، فكان المكتوب في السجل صفة الفرس المستحق، ديزه رتك مع الكي، فقال بائع الفرس: الذي بعته كيت بلا كي وأقاما البينة فالبينة بينة المشتري.
وفي «فتاوى سمرقند»: قلنسوة في يدي ثلاثة نفر يدعي أحدهم قطنها، ويدعي الآخر بطانتها، ويدعي الآخر جميعها، وأقام كل واحد بينة على ما ادعى، فإنه يقضي بالقلنسوة لمدعي جميعها ويضمن لمدعي القطن نصف قطنها، ولمدعي البطانة قيمة نصف بطانتها.
أما القضاء بالقلنسوة كلها لمدعي جميعها؛ لأن بينته في الظهارة خلت عن المعارض، فيجب العمل بها في حق الظهارة، ولا يمكن العمل بها في حق الظهارة إلا بالعمل بها في حق الكل، وأما القطن فهو في أيديهم، ولا يدعيه مدعي البطانة، فيكون بين مدعي الكل وبين مدعي القطن نصفين، وقد صار مدعي الكل مستهلكاً لحصة مدعي القطن من القطن، والقطن من ذوات الأمثال، فيضمن نصف مثل نصف القطن لمدعي هذا.
وأما البطانة فلا يدعيها مدعي القطن، وإنما يدعيها صاحباه فيكون بينهما، وقد صار مدعي الكل مستهلكاً نصيب مدعي البطانة من البطانة، والبطانة من ذوات القيم، فيضمن مدعي الكل نصف قيمة البطانة لمدعيها لهذا.
وهو نظير من غصب من رجل بطانة وغصب من آخر قطناً وظهراً فجعل منهما قلنسوة، فإنه يضمن لصاحب القطن مثل قطنه، ويضمن لصاحب البطانة قيمة بطانته، وطريقه ما قلنا كذا ههنا.
وكذلك لو لم يدع مدعي الجميع القلنسوة كلها إنما ادعى ظهارتها، وباقي المسألة بحالها، فهي كلها له لكن يضمن لمدعي القطن مثل قطنه ولمدعي البطانة قيمة بطانته؛ لأنه لا يدعي شيئاً من القطن والبطانة فسلم القطن والبطانة لصاحبه والله أعلم.
(10/69)
-----
قال محمد رحمه الله: دار في يدي ثلاثة رهط ادعى أحدهم جميع الدار وادعى الآخر نصفها، فهذا على وجهين: إن أقاموا بينة على دعواهم، أو لم يقيموا وقد ذكرنا المسألة بتمامها في كتاب الشهادة، ولم يذكر ثمة ما إذا كانت الدار في يد غيرهم إنما ذكر هنا، وقال: إن لم تقم بينة لهم يحلف الذي كان في يديه الدار على دعواهم، فإن حلف انقطعت دعواهم وبقيت الدار في يد صاحب اليد كما كان قبل الدعوى، وإن قامت لهم بينة فبينة كل واحد منهم مقبولة على جميع ما ادعى؛ لأن ما يدعي كل واحد منهم في يد غيره، ويكون كل واحد منهم خارجاً في جميع ما يدعي لنفسه.
وإذا قلنا ببينة كل واحد منهم على جميع ما ادعاه يقسم الدار بينهم على طريق المنازعة عند أبي حنيفة، فيعطي لمدعي الجميع سبعة أسهم من اثني عشر سهماً من جميع الدار ويعطي لصاحب النصف سهمان، وعندهما يقسم الدار على طريق العول والمضاربة على ثلاثة عشر سهماً، يعطى لصاحب الجميع ستة أسهم من ذلك، ويعطى لصاحب الثلثين أربعة أسهم، ولصاحب النصف ثلاثة أسهم.
وإذا كانت الدار في يدي رجلين ادعى أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها ولا بينة لهما، فإن مدعي النصف يحلف لمدعي الجميع، ومدعي الجميع لا يحلف لمدعي النصف؛ لأن مدعي النصف لا يدعي لنفسه شيئاً مما في يدي مدعي الجميع، أما مدعي الجميع يدعي لنفسه جميع ما في يد مدعي النصف، فإن حلف مدعي النصف برئ عن خصومة مدعي الجميع، وصار الحال بعد الحلف كالحال قبله، وقبل الحلف كانت الدار في أيديهما نصفين فكذا بعد الحلف، وإن نكل قضي لمدعي الجميع بجميع الدار.(10/70)
-----
وإن أقاما البينة قضي لمدعي الجميع بجميع الدار؛ لأن مدعي النصف ادعى لنفسه نصف الدار وفي يده النصف، فانصرف دعواه إلى ما في يده، فلا يقبل بينته عليه، ومدعي الجميع ادعى جميع الدار، ونصفها في يد مدعي النصف فيسمع بينته فيه، ونصفها في يده ولم يسمع بينته إلا أن مدعي النصف لم يدع شيئاً من ذلك النصف لنفسه فيترك في يده، فصار جميع الدار لمدعي الجميع من هذا الوجه.
وإن كانت الدار في يد ثالث، والباقي بحاله، فإن لم يكن لهما بينة حلف على دعوى كل واحد منهما، فإن حلف برئ عن خصومتهما، وترك الدار في يده كما كان، وإن أقاما البينة قال أبو حنيفة تقسم الدار بينهما أرباعاً بطريق المنازعة، وقال أبو يوسف ومحمد: تقسم أثلاثاً بطريق العول والمضاربة.
دار في يدي رجل منها منزل في يدي رجل آخر منها منزل آخر ادعى أحدهما أن جميع الدار له، وادعى الآخر أن الدار بينهما نصفان، ولا بينة لهما حلف كل منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالمنزل الذي في يد مدعي الجميع يترك في يديه؛ لأنه برئ عن دعوى مدعي النصف بالحلف، فعاد الأمر إلى ما كان قبل الدعوى، ويقضى (189أ4) بنصف المنزل في يد مدعي النصف، ويترك نصف المنزل الذي في يد مدعي النصف في يده على حاله ويقضى بالساحة بينهما. أما القضاء له بنصف المنزل الذي في يد مدعي النصف إقرار بذلك له قال: الدار بيننا نصفان، وأما ترك النصف في يد مدعي النصف؛ لأنه برئ عن دعوى صاحبه في ذلك النصف، وعاد الأمر في ذلك النصف إلى ما كان قبل الدعوى، أما القضاء بالساحة بينهما لأن الساحة في أيديهما على الشيوع، فإنهما يستعملانها ويتصرفان فيهما على السواء.
(10/71)
-----
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا كانت الدار في أيديهما وليس في يد واحد منهما شيء بعينه، فقال أحدهما: الدار بينا نصفان، وقال الآخر: الدار كلها لي، فإنه يقضى لكل واحد منهما بما في يده، ولا يقضى لمدعي الجميع بشيء مما في يد المدعي النصف، وههنا قال: يقضى لمدعي الجميع بنصف المنزل الذي في يد مدعي النصف؛ لأن في تلك المسألة أمكن تصحيح إقراره من غير إثبات استحقاق شيء عليه؛ لأنه أقر لصاحبه بنصف شائع من الدار وفي يد صاحبه نصف شائع من الدار، وفي هذه المسألة لا يمكن تصحيح إقراره باستحقاق نصف المنزل الذي في يده من جملة الدار، وقد أقر له بنصف الدار شائعاً، فيكون مقراً له بنصف هذا المنزل شائعاً فلهذا افترقا.
عاد إلى أول المسألة فقال: ادعى أحدهما جميع الدار وادعى الآخر نصفها، ولم يزد على هذا، يعني قال الآخر: نصف هذه الدار ولم يقل هذه الدار بيننا نصفان لا يقضى لمدعي الجميع بشيء مما في يد مدعي النصف، ولكن ما في يدي مدعي النصف يترك نصفه له، والنصف الآخر يكون موقوفاً إلى أن يقيم مدعي الجميع البينة، وإنما جاء الفرق؛ لأنه لما قال: الدار بيننا نصفان فقد أقر لصاحبه بنصف المنزل في يده، وإقرار الإنسان بما في يده صحيح.
وإذا قال: نصف الدار لي ما أقر لصاحبه بشيء من الدار إنما ادعى لنفسه النصف لا غير، وليس من ضرورة أن لا يكون له مازاد على النصف أن يكون ذلك لمدعي الجميع لجواز أن لا يكون ذلك له، ولا لمدعي الجميع بل يكون لغيرهما، وإن أقاما البينة في هذه الصورة قبلت بينة كل واحد منهما على ما في يد صاحبه ويقضى لمدعي الجميع بجميع المنزل الذي في يد مدعي الجميع.(10/72)
-----
دار سفلها في يدي رجل وعلوها في يدي رجل آخر، وطريق العلو في ساحة السفل ادعى كل واحد منهما أن جميع الدار له ولا بينة لهما، فإنه يقضى لصاحب العلو بالعلو بحق الممر في الساحة، ويقضى لصاحب السفل بجميع السفل وبرقبة طريق العلو ويجعل طريق العلو في حق الممر كأنه في يد صاحب العلو، وفي حق الرقبة كأنه في يد صاحب السفل.
هكذا ذكر المسألة في كتاب الدعوى وذكر هذه المسألة في كتاب الصلح وقال: يقضى بالساحة بينهما، وإنما الاختلاف لاختلاف الوضع، وضع المسألة في كتاب الدعوى أن جميع السفل كان في يد صاحب السفل فإنه قال: دار سفلها في يدي رجل والهاء كناية عن الدار، فقد جعل جميع السفل في يد صاحب السفل إلا أن صاحب العلو كان يمر في الساحة، فيقضى لصاحب السفل بجميع السفل إلا في حق المرور. وموضوع ما ذكر في كتاب الصلح أن في يد مدعي السفل منازل السفل، والساحة في أيديهما أمانة.
قال: في دار يسكن فيها رجلان أحدهما في منازل من السفل والآخر في علوها، فقد أشار إلى أن في يد صاحب السفل منازل السفل، فكأن يد صاحب السفل على الانفراد ثابتة على منازل السفل والساحة في أيديهما؛ لأنهما يستعملان الساحة استعمالاً على السواء، فيقضى بالساحة بينهما لهذا.(10/73)
-----
دار في يدي ثلاثة ادعى، أحدهم النصف، وادعى الآخر الثلث، وادعى الآخر السدس، وجحد بعضهم دعوى البعض ولا بينة لواحد منهم، فنقول: يجعل الدار في أيديهم أثلاثاً لاستوائهم في اليد، ويقضي لمدعي النصف، والثلث لكل واحد منهم بما في يد كل واحد منهما وهو الثلث، أما مدعي النصف فلأنه يدعي لنفسه ثلث الدار، وفي يده هذا المقدار، وقوله فيما في يده مقبول، وأما مدعي النصف فلأنه ادعى لنفسه نصف الدار وفي يده الثلث، فكان مدعياً جميع ما في يده وزيادة سدس إلى تمام النصف مما في يد صاحبه، فيقبل قوله فيما في يده ولا تقبل فيما في يد صاحبه إلا ببينة، ويقضى لصاحب السدس بنصف ما في يده وهو سدس الدار ويوقف السدس لأنه ادعى لنفسه سدس الدار وفي يديه ثلث الدار، فكان مدعياً لنفسه نصف ما في يده وقوله فيما في يده مقبول، وأما النصف الآخر الذي في يده لم يقر به لصاحب النصف، إنما أقر أنه ليس له وليس من ضرورة أن لا يكون له أن يكون لصاحب النصف لجواز أن لا يكون له أيضاً ويكون لغيره، فيوقف ذلك النصف عنده فإن أقام صاحب النصف .... سدس الدار؛ لأنه ادعى لنفسه نصفاً شائعاً، وقد تم له الثلث فبقي دعواه في سدس الدار، وذلك في يد صاحبه إذ ليس أحدهما يصرف دعواه إلى ما في يده أولى من الآخر.
دار في يدي رجلين ادعى أحدهما كل الدار، وادعى الآخر نصفها، وأقاما جميعاً البينة فشهد شهود صاحب النصف أن الدار كانت لأبيه، وأن الذي ادعى الجميع فصارت ميراثاً بينهما نصفان، وشهد شهود صاحب الجميع له بالجميع فإن الدار بينهما تكون أرباعاً؛ لأنهم لما شهدوا على الميراث، فقد شهدوا أن له النصف مما في يده ويد صاحبه؛ لأن الميراث في جميعها، فقد شهدوا له بنصف ما في يد صاحبه.
ولو شهد شهود صاحب النصف أن الدار بينه وبين صاحب الجميع نصفان اشتراها من فلان بينهما نصفان، وشهد شهود الآخر على الجميع، فإن الدار بينهما نصفان.(10/74)
-----
قال أبو حنيفة رحمه الله: في دار في يدي رجل نصفها، وادعى آخر نصفها وأقاما البينة، فالدار بينهما نصفان، ولم يجمع أبو حنيفة في هذه المسألة نصف كل واحد منهما في نصف الدار؛ فيجعل بينهما نصفان.
وإن أقام آخر بينة على جميعها فإنه يجمع نصيب صاحبي النصف في نصف الدار ويجعل لصاحب الجميع النصف خالصاً، ويجعل النصف الآخر بينهم، فقد ترك قوله في هذا، وكان ينبغي أن يضرب كل واحد من صاحبي النصف بالنصف في جميع الدار ويضرب الثالث بالجميع، فيكون نصفها لصاحب الجميع، ونصفها للآخرين نصفين.
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمداً يقول في دار في يدي آخرين ادعى أحدهما كل الدار وادعى الآخر أنها ميراث بينهما من أبيهما، قال: للذي ادعى كلها ثلاثة أرباع الدار النصف الذي في يديه ونصف ما في يد أخيه، وللآخر ربعها، فإن أقاما البينة على ما ادعيا صار النصف الذي في يد مدعي الكل ميراثاً، فيكون ذلك النصف بينهما نصفان، ويصير النصف الذي في يد مدعي الميراث للآخر فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباع الدار، ولمدعي الميراث ربعها، فإن جاء إنسان آخر وأقام البينة أنها داره فاستحقها ثم وهبها لمدعي الجميع، فلا شيء لأخيه فيها وإن وهبها لمدعي الميراث أخذ أخوه نصفها.
في «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل أقام بينة على رجل أن له عليه ألف درهم، وأقام آخر بينة عليه أن تلك الألف بينهما نصفان، قال: في قول أبي حنيفة رحمه الله، للذي أقام البينة على الألف ثلاثة أرباع الألف، وللآخر ربعها، وقال أبو يوسف ومحمد: هي بينهما أثلاثاً.(10/75)
-----
وفي (189ب4) «المنتقى»: دار في يدي رجل ادعى رجل أنها بينه وبين الذي في يديه نصفان، وجحد الذي في يديه، وادعى أن كلها له فسأل القاضي المدعي البينة على ما ادعى، فأقام البينة على أن هذه الدار كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً له خاصة لا وارث له غيره، قال: إن لم يدع المدعي أن النصف خرج الى الذي الدار في يده بسبب من قبله فشهادة شهوده باطلة، وإن قال: قد كنت بعت نصفها بألف درهم، لم يصدقه القاضي على البيع ولم يجعله مكذباً لشهوده، وقضي له بنصف الدار ميراثاً عن أبيه.
فإن أحضر بينة على أنه باع النصف من المدعى عليه بألف درهم، أو أنه صالحه من الدار على أن يسلم له النصف منها، قبلت بينته على ما ادعى من ذلك، وقضي بالدار كلها ميراثاً عن الولد، وقضي بنصفها للمدعي الآخر بيعاً من المدعي، إن كان ادعى البيع وكان للمدعي على المدعى عليه الثمن، وإن أقام البينة على ما ادعى من الصلح، أبطلت الصلح ورددت الدار كلها إلى المدعي لأنه لم يأخذ للنصف عوضاً، فإن قال المدعى عليه في الصلح حين أقام المدعي البينة عليه بالصلح: إن الصلح الذي ادعى لم يكن جائزاً في قوله، ولم أملك به من الدار وقد أقرّ أن لي نصف الدار، فأنا أحق بنصف الدار منه بحكم إقراره، لم يلتفت إلى قوله؛ لأن المدعي أقام البينة أن نصف الدار صار للمدعى عليه من وجه الصلح، فيجعل إقراره من قبل الصلح.
ألا ترى أن من باع داراً من رجل بعبد وتقابضا، ثم قيل لبائع الدار لمن الدار، فقال: لفلان يعني المشتري منه، ثم إن بينته قامت على أن العبد حرّ أعتقه القاضي بحضرة بائع الدار، وقال بائع الدار: إنما أقررت لفلان بالدار، لأني كنت بعت منه الدار بالعبد، فالقاضي يجعل إقراره من قبل البيع ويرد الدار عليه، كذا في مسألتنا والله أعلم.l
(10/76)
(الفصل التاسع: في دعوى الميراث)
-----
......... إذا قال في دعواه: هذا العين ملكي ورثته عن أبي، أو قال: صار ميراثاً لي عن أبي، أو كان الشهود شهدوا أن هذا العين ملكه ورثته عن أبيه، أو قالوا: صار هذا العين ميراثاً له عن أبيه فالقاضي يسمع دعواه وتقبل شهادتهم، ولو شهدوا كان ملك أبيه إلى يوم موته، مات وترك ميراثاً لهذا المدعي، ولم يقولوا: وترك هذا العين أو تركه ميراثاً، فقد قيل: لا تقبل الشهادة ولابد من ذكر قوله: وترك هذا العين ميراثاً له، أو من ذكر قوله: وتركه، ولكن هذا ليس بصواب، فإنهم لو شهدوا أن هذا العين كان ملك أبيه إلى يوم موته، ولم يتعرضوا لشيء آخر فالقاضي يقبل شهادتهم، ويقضي بالدار ميراثاً نص عليه محمد في شهادات «الأصل»، والمسألة بتمامها مع فروعها مرت في كتاب الشهادات.
دار في يدي رجل أقام رجل البينة أن أبي اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف درهم، وقد مات، وصاحب اليد يجحد ذلك، قال: لا أكلفه البينة أن أبي مات وتركها ميراثاً لي، ولكن اسأله البينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره، فإن أقامها أمرت صاحب اليد بدفع الدار إليه، وإنما لم يكلف إقامة البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له، لأنه لما ادعى على ذي اليد بيعه من أبيه فكل بائع مقر بالملك للمشترى منه صار دعواه بيع ذي اليد من أبيه بمنزلة دعواه إقرار ذي اليد بالملك لأبيه.
ولو ادعى إقرار ذي اليد بالملك لأبيه وأقام على ذلك بينة كفى ذلك حجة للقضاء، ولا يشترط فيه جر الميراث، بخلاف ما لو أقام البينة على نفس الملك للمورث لا إقراره بالملك للمورث، وهذا لأن دعوى الإقرار على ذي اليد في المسألة الأولى في ضمن دعوى البيع عليه والمدعي في هذه المسألة لا يدعي البيع على ذي اليد، فكان هذا في حق ذي اليد دعوى نفس الملك للمورث، فلابد من جر الميراث.(10/77)
-----
رجل في يديه دار يزعم أنه ورثها من أبيه جاء رجل وادعى أنه اشتراها من أبي ذي اليد في حال حياته، ولم يقل: وهو يملكها وكذلك الشهود في شهادتهم، لم يقولوا: وهو يملكها، فالقاضي يقضي بالدار للمدعي لأن صاحب اليد مقر بملك الأب حيث ادعى الإرث، وكذلك لو كان الأب حياً وادعى المدعي الشراء من أبي ذي اليد، وذو اليد يدعي أن أباه وهبها له، فالقاضي يقضي للمدعي ببينته، وإن لم يقولوا في شهادتهم: وهو يملكها، وإنما يحتاج إلى قول الشهود في شهادتهم: وهو يملكها إذا لم يكن ذو اليد مقراً بالملك للمدعى عليه الشراء بأن لم يدع التملك من جهته.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل في يديه دار ادعاها رجلان أحدهما ابن أخ الذي الدار في يديه ووارثه لا وارث له غيره، وأقام كل واحد من الرجلين شاهدين أن الدار دار أبيه مات، وتركها ميراثاً له لا يعلم له وارثاً غيره، فسمع القاضي بينتهما فقبل أن يزكيا مات العم الذي الدار في يديه، فإن القاضي يسلم الدار إلى ابن الأخ؛ لأنه وارث الميت فيقوم مقامه فيما كان في يده، كما يقوم مقامه في أملاكه، فإن سلم القاضي الدار الى ابن الأخ ثم زكيت البينتان، فالقاضي يقضي بالدار بين ابن أخ ذي اليد، وبين الأجنبي نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بالدار كلها للأجنبي؛ لأن الأجنبي خارج وقت القضاء، وابن الأخ ذو اليد.
ألا ترى أن ابن الأخ لو أقام البينة على ما ادعى حال حياة العم، ولم يقم الأجنبي البينة ولم يقض القاضي ببينة ابن الأخ حتى مات العم، وسلم القاضي الدار إلى ابن الأخ، ثم أقام الأجنبي البينة عل ما ادعى فإنه يقضي ببينة الأجنبي؟ وكذلك إذا لم يقيما البينة حال حياة العم حتى مات العم، ثم أقاما البينة فإنه يقضى بالدار للأجنبي، لهذا إن الأجنبي خارج وقت القضاء حقيقة فهو خارج حكماً.(10/78)
-----
وقد اختلفت عبارة المشايخ في بيان ذلك. فعبارة بعضهم، أن ابن الأخ لم يرث الدار من العم في هذه الصور والقاضي سلم الدار إلى ابن الأخ على وجه الحفظ بطريق النيابة عن العم لا على وجه الميراث، بيان هذا الكلام: أن الدار صارت مشغولة بحق الأجنبي حال حياة العم فإنه ثبت للأجنبي بإقامة بينة عادلة حق الملك في هذه الدار وبالتزكية ظهر أنها كانت عادلة، ولهذا لم يجز بيع المدعى عليه، وكون التركة مشغولة بحق الأجنبي يمنع الإرث كما لو كان فيها دين مستغرق للأجنبي، أو كان في الدار وصية، وإذا امتنع الإرث لحق الأجنبي، بقيت الدار على حكم العم كأن العم حي، ولو كان العم حياً ودفع الدار إلى ابن الأخ على وجه الحفظ بطريق النيابة عن العم أليس أنه يقضي بالدار بينهما نصفان؟ واعتبر ابن الأخ خارجاً حكماً في هذه الصورة، مع كونه صاحب اليد حقيقة ولكن تقرير هذه العبارة من وجه آخر، وسنذكر ذلك الوجه في تفريعات هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وليس كما لو أقام ابن الأخ البينة حال حياة العم وأقام الأجنبي البينة بعد وفاة العم، فإن هناك يقضى بكل الدار للأجنبي، وتبطل بينة الأخ لأن هناك ابن الأخ وقت القضاء صاحب اليد حقيقة وحكماً.(10/79)
-----
بيانه: أن هناك الدار حال موت العم مشغولة بحق ابن الأخ الذي هو وارث لا لحق الأجنبي، وشغل التركة بحق الوارث لا يمنع الإرث، ألا ترى أن الدين المستغرق للتركة لو كان للوارث لا يمنع ذلك جريان الإرث، فصارت الدار لابن الأخ وزال عن ملك العم ويده حقيقة وحكماً، فصار الملك واليد لابن الأخ حقيقة وحكماً، وبقي الأجنبي خارجاً حقيقة وحكماً، وليس كما لو لم يقيما البينة حال حياة العم حتى مات العم ثم أقاما البينة لأن هناك الدار وقت موت العم لم تكن مشغولة بحق الأجنبي لأنه لم يوجد من الأجنبي إلا مجرد الدعوى وبه لا يثبت الحق، ولهذا أجري إقرار المدعى عليه بالمدعى به لغيره في هذه الصورة مجرى الإرث فصارت الدار مملوكة لابن الأخ، وصار هو صاحب اليد حقيقة وحكماً.
وعبارة بعضهم: أن ابن الأخ وإن ورث الدار من العم وصار ذو اليد حقيقة، فقد بقي خارجاً حكماً ومعنىً، بيانه: أنه لم يملك الدار على الوجه الذي ادعى وأراد، فإنه ادعى أن هذه الدار موروثة له من جهة الأب لا من جهة العم وله في هذه الدعوى فائدة بعد موت (190أ4) العم حتى لا يتعلق بهذه الدار حقوق العم متى ظهر دين أو وصية، ولم يحصل هذا المقصود لابن العم بموت العم وصورة الدار ميراثاً له فبقي محتاجاً إلى إثبات ما ادعى بالبينة لكونه ثابتاً بظاهر يده.(10/80)
-----
وليس كما لو لم يقيما البينة حال حياة العم حتى لو مات العم ثم أقاما البينة، فإن هناك يقضي ببينة الأجنبي، ولم يجعل ابن الأخ خارجاً، وإن كان محتاجاً إلى إثبات ما ادعاه بالطريق الذي قلنا لأنا إنما يعتبر للحاجة إلى إثبات المدعي في جانب الأخ إذا كان لابن الأخ منازع في هذه الدار وقت موت العم ثبت لمنازعه نوع خصوصية بهذه الدار من بين سائر الناس، بأن أقام شاهداً واحداً لأن بإقامة شاهدين يثبت له حق الملك، وبإقامة شاهد واحد صار بحال إذا أقام شاهداً آخر، يستحق الدار وقت موت العم، لم يثبت له نوع خصوصية من بين سائر الناس بأن وجد مجرد الدعوى لا يعتبر مقصود ابن الأخ في هذه الحالة فلا تقبل بينته، وهذا لأن ما هو مقصود ابن الأخ مما ادعى قد يحتاج إليه ابن الأخ بأن ظهر على العم دين أو وصية، وقد لا يحتاج إليه ابن الأخ بأن لا يظهر عليه دين أو وصية، وقد يظهر وقد لا يظهر فوجب مراعاة مقصوده في حال دون حال، مراعياً من الوجه الذي بينا، وليس كما لو أقام ابن الأخ البينة على ما ادعى حال حياة العم، ولم يقم الأجنبي بينة، فإنه يقضي بالدار كله للأجنبي لأنه لم يثبت لمنازعه، وهو الأجنبي وقت موت العم نوع خصوصية بهذه الدار من بين سائر الناس لأنه لم يوجد منه إلا مجرد الدعوى، وفي هذه الحالة لا يعتبر مقصوده، وإذا لم يعتبر اعتبر هو ذو اليد حقيقة وحكماً، فيقضي ببينة الأجنبي بعد ذلك بينة على ابن الأخ أن الدار داره، ورثها من أبيه وأراد أخذ ما صار لابن الأخ، لم يكن له ذلك لأن كل واحد منهما أقام البينة على كل الدار، ولولا بينة صاحبه لما حرم من النصف، فعلم أن كل واحد منهما صار مقضياً عليه فيما صار لصاحبه بالقضاء، وبينة المقضي عليه فيما صار مقضياً عليه، لا تقبل إلاً إذا ادعى تلقي من جهة المقضي له، ولم يوجد ههنا.(10/81)
-----
فلو أن القاضي زكى شهود الرجل الأجنبي بعد موت العم ولم يزك شهود ابن الأخ، قضي بالدار كلها للأجنبي؛ لأن حق الأجنبي قد ظهر من كل وجه وحق ابن الأخ عسى يظهر وعسى لا يظهر، وليس لظهوره وقت معلوم، فيقضى بالدار كلها للرجل الأجنبي لهذا، وتبطل بينة ابن الأخ حتى إذا ظهرت عدالتهم لا يقضى له بشيء ما لم يقم البينة ثانياً، لأن القاضي لما قضى بالدار كلها للأجنبي بالدليل الذي ذكرنا، مع قيام ما يوجب القضاء بالنصف لابن الأخ وهو شهادة شهود ابن الأخ يضمن القضاء بالدار كلها للأجنبي إبطال بينة ابن الأخ، وللقاضي ولاية إبطال البينة إذا لاح له دليل الإبطال.
والقاضي إذا أبطل البينة في حادثة لا يجوز القضاء بها في تلك الحادثة أبداً، فإن جاء ابن الأخ بعد ذلك بشهود شهدوا أن هذه الدار داره ورثها من أبيه، قبل القاضي شهادته وقضى بكل الدار للأجنبي سواء جاء بشهود آخرين أو جاء بتلك الشهود، لأنه لو لم تقبل شهادة شهوده إنما لا تقبل لصيرورته مقضياً عليه ببينة الأجنبي، ولا وجه إليه؛ لأن بينة الأجنبي قامت على العم لا على ابن الأخ، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا جاء بشهود آخرين مشكل فيما إذا جاء بتلك الشهود.
وينبغي أن لا تقبل شهادتهم في هذه الصورة لأن القاضي أبطل شهادتهم في عين هذه الحادثة، والقاضي متى أبطل شهادة الشهود في حادثة، لا تقبل شهادتهم في عين تلك الحادثة، وإن صاروا عدولاً، والجواب عن هذا الإشكال من وجهين:
أحدهما: أن القاضي ما رد شهادتهم لتهمة الكذب بل ضرورة القضاء تلك الدار للأجنبي، ورد الشهادة إذا لم يكن لتهمة الكذب لا يمنع قبولها بعد ذلك.(10/82)
-----
والثاني: إن كان رد الشهادة لتهمة الكذب ولكن هذه حادثة أخرى غير تلك الحادثة؛ لأن المشهود عليه في الكرة الأولى العم والمشهود عليه في الكرة الثانية ابن الأخ، والشهادة متى ردت لتهمة الكذب لا يمنع قبولها بعد ذلك، أنا لا أقبل تلك الشهادة في عين تلك الحادثة لا في حادثة أخرى، ألا ترى أن الفاسق إذا شهد وردت شهادته في باب، وشهد في المشهود له في حادثة أخرى قبلت شهادته؟ كذا ههنا.
فإن قال الأجنبي بعد ذلك: أنا أعيد البينة على ابن الأخ أن الدار داري ورثتها، فالقاضي لا يقبل بينته لأنه صار مقضياً عليه من جهة ابن الأخ.
قال: ولو أن القاضي زكّى شهود ابن الأخ بعد موت العم، وما زكى شهود الأجنبي قضي بكل الدار لابن الأخ، وبطلت بينة الأجنبي حتى لو زكيت شهوده بعد ذلك، لا يقضى له بشيء لما قلنا في جانب ابن الأخ، فإن أعاد الأجنبي البينة على ابن الأخ بعدما قضى القاضي لابن الأخ قضي للأجنبي، فإن قال ابن الأخ: أنا أعيد البينة على الأجنبي لم يلتفت القاضي إليه لما قلنا.
قال: فإن أقام الأجنبي البينة حال حياة العم أن الدار داره ورثها من أبيه ولم يقم ابن الأخ البينة على دعواه حتى مات العم صارت الدار في يد ابن الأخ بحكم الميراث، ثم أقام ابن الأخ البينة على دعواه، وزكيت بينتهما قضي بالدار بينهما، وإن صار اليد لابن الأخ لما ذكرنا من العبارتين.(10/83)
-----
وقد ذكرنا قبل هذا في عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه عبده اشتراه من ذي اليد بكذا، ونقده، وأقام ذو اليد بينة أنه عبد فلان الغائب أودعه إياه، لا تندفع الخصومة عن ذي اليد لأنه انتصب خصماً بدعوى الفعل، فلو أن القاضي لم يقض ببينة مدعي الشراء حتى حضر المقر له وصدق ذو اليد في إقراره، فإنه يدفع العبد إليه فإن زكيت بينة مدعي الشراء يقضى لمدعي الشراء بالعبد على المقر له، فلو أن المقر له أقام البينة أن العبد عبده، كان أودعه الذي كان العبد في يده يقضى بالعبد كله للمقر له وتبطل بينة مدعي الشراء.
وذكرنا ثمة عن الفقيه محمد بن حامد رحمه الله أن ابن سماعة كتب إلى محمد في مسألة العبد، ولم يذكر ثمة كيفية المكتوب، وكان كيفية المكتوب: ما بال الغائب المقر له إذا أقام البينة أن العبد عبده أودعه المقر قضيتم بالعبد له، ولم تقضوا بها بينه وبين المدعي الشراء نصفان، وأنتم جعلتم اليد للمقر في الحكم، وإن كان العبد في يد الغائب للمقر له، وإذا جعلتم اليد للمقر صار الغائب مع مدعي الشراء خارجين مدعيان على ذي اليد عبداً أو داراً.(10/84)
-----
وذكرنا أن ابن سماعة استشهد بمسألة تأتي بعد هذا، وهي هذه المسألة، ابن سماعة فكتب إلى محمد رحمه الله أن الأمر كما تقول: أن العبد يقضى بين المقر له وبين المدعي للشراء نصفين، كما في هذه المسألة التي وقع الاستشهاد بها، وذكرنا ثمة أن القاضي أبا الهيثم كان يصحح جواب محمد في مسألة العبد أنه يقضي بالعبد كله للمقر له، وذكرنا وجه ذلك: أن مدعي الشراء يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد الأول، والغائب المقر له يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد الأول، لهذا يثبت الترجيح لبينة الغائب المقر له، وبهذا الحرف يقع الفرق بين مسألة العبد وبين مسألتنا هذه، لأن الأجنبي مع ابن الأخ كل واحد منهما يدعي الاستحقاق على العم، ولا يدعي أحدهما استحقاقاً على صاحبه وصاحبه من جهته، حتى يترجح وبين ابن الأخ نصفان من هذا الوجه.
ومن مشايخنا من اتبع القاضي أبا الهيثم في تصحيح جواب محمد أنه يقضى بالعبد كله للمقر له، وذكر بين مسألة العبد (190ب4) وبين مسألتنا فرقاً آخر.
فقال: المقر له في مسألة العبد غير محتاج إلى إثبات ملكه في العبد بعدما أقر له ذو اليد؛ لأن العبد صار ملكاً له على الوجه الذي ادعى بإقرار ذي اليد، فاستغنى عن إثبات الملك لنفسه، إنما حاجته إلى أن يبين أن بينة مدعي الشراء قامت على غير خصم، حتى يبطل بينته، فإن لذي اليد أن يطعن في بينة الخارج حتى يبطل بينته، وقد بين المقر له بما أقام من البينة، أن بينة مدعي الشراء قامت على غير خصم لأنها قامت على مودعه، والمودع لا يكون خصماً فيما يستحق على صاحب الوديعة، فبطلت بينة المشتري إلا أن يعيدها ثانية على المقر.(10/85)
-----
فأما في مسألتنا هذه، الدار وإن صارت لابن الأخ بعد موت العم إلا أنها لم تصر له على الوجه الذي أراد وادعى على ما مر بيانه، فبقي محتاجاً إلى إثبات ما ادعى فاعتبر خارجاً معنىً، والأجنبي خارج حقيقةً، فقضي بالدار بينهما، ولو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً حال حياة العم، ثم مات العم وصارت الدار ميراثاً لابن الأخ ثم أقام كل واحد منهما شاهداً آخر، وزكيت البينتان قضي بالدار بينهما نصفان، وهذا الجواب لا يشكل على الوجه الثاني؛ لأن ابن الأخ على الوجه الثاني اعتبر خارجاً وإن ملك الدار بالإرث على ما مرّ.
أما يشكل على الوجه الأول؛ لأن بإقامة الأجنبي شاهداً واحداً لا يثبت له حق الملك في الدار حتى يمتنع الإرث في الدار بحق الأجنبي، فيصير الدار ميراثاً لابن الأخ فيعتبر هو ذو اليد، والوجه في ذلك أن نقول: بإقامة الشاهد الواحد إن كان لا يمتنع الإرث في الدار لابن الأخ من حيث إنه لم يثبت للأجنبي حق الملك في الدار يمنع الإرث له من وجه آخر حتى لا يبطل ما أقام الأجنبي من الشاهد الواحد بمجرد قول ابن الأخ الذي يحتمل الصدق والكذب.
بيانه: أن شهادة الشاهد الواحد من الأجنبي انعقدت معتبرة في الجملة، فلو ورث ابن الأخ الدار من العم، وصار ذو اليد لابد وأن يقبل قوله إنه ورثها من أمه لا من عمه، لأن قول الإنسان في ملكه مقبول في بيان جهة الملك واليد.(10/86)
-----
....... هذا العبد الذي في يديك عبدي وهبه لي عبد الله، وصدقه عبد الله، وكذبه ذو اليد ثم إن هذا الرجل اشترى هذا العبد من ذي اليد حتى ملكه، يجعل العبد في يده بحكم الهبة له من عبد الله، حتى كان لعبد الله أن يرجع فيه، فيثبت أن قول الإنسان في ملكه مقبول من جهة الملك، فيقبل قوله: إنه ورثها من أبيه ومتى قبل قوله: إنه ورثها من أبيه لا من عمه، يبطل ما أقام الأجنبي من الشاهد الواحد، ويلزمه الإعادة ثانياً؛ لأنه لم يقم مقام العبد في هذه الدار حتى يجعل إقامة الشاهد الواحد على العم كإقامته عليه، إنما قام مقام أبيه في هذه الدار، ولم يقم للأجنبي الشاهد على أبيه إنما أقامه على عمه، فيبطل ما أقام الأجنبي من الشاهد هذا الواحد بمجرد إقرار ابن الأخ الذي هو محتمل للصدق والكذب، فلهذه الضرورة امتنع الإرث والتقريب ما ذكرنا.
قال: ولو كان كل واحد منهما أقام شاهداً واحداً على العم، فلما مات العم أقام الأجنبي شاهداً آخر، فزكي شاهداه، وقضى القاضي له بالدار، ثم إن ابن الأخ أقام شاهداً آخر على حقه مع الشاهد الأول، فالقاضي لا يلتفت إلى ذلك لأن ما أقام ابن الأخ من الشاهد الواحد على العم قد بطل بقضاء القاضي للأجنبي ببينته، ألا ترى أنه لو كان أقام شاهدين على العم تبطل شهادتهما بقضاء القاضي للأجنبي بالدار؟ فأولى أن يبطل الشاهد الواحد، فإن أعاد ابن الأخ الشاهدين على الأجنبي، قضي له بالدار؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينة الأجنبي لأن بينة الأجنبي قامت على العم، وابن الأخ لا يدعي تلقي الملك من جهة العم إنما يدعي ذلك من أبيه.(10/87)
-----
قال محمد رحمه اللّه في «الجامع» أيضاً: دار في يدي رجل يدعي أنها داره، فأقام رجل بينة أنها داره ورثها من أبيه فلان مات وتركها ميراثاً له ولأخيه هذا الذي الدار في يديه لا وارث له غيرهما، وذو اليد يجحد، ويدعي أنها داره، وزكيت البينتان، ذكر أنه يقضى بالدار بين الخارج الأجنبي وبين أخي ذي اليد أرباعاً، ثلاثة أرباعها للخارج الأجنبي وربعها لأخي ذي اليد، ولا شيء لذي اليد، هكذا ذكر في الكتاب من غير ذكر خلاف.
ومن مشايخنا من قال: ما ذكر في الكتاب قول أبي حنيفة رحمه الله، أما على قولهما: يجب أن يقضى بالدار بينهما أثلاثاً، ثلثاها للخارج الأجنبي، وثلثها لأخي ذي اليد، وهذا القائل جعل هذه المسألة فرعاً لمسألة أخرى ذكرها في كتاب الدعوى.
وصورتها: رجل في يديه دار تنازع فيها رجلان أحدهما ادعى كلها وادعى الآخر نصفها، وأقاما جميعاً البينة، ذكر أن الدار تقضى بينهما أرباعاً عند أبي حنيفة على طريق المنازعة، وعندهما يقضى بينهما أثلاثاً على طريق المضاربة، فههنا يجب أن يكون كذلك لأن الخارج الأجنبي ادعى لنفسه كل الدار وأخو ذي اليد برواية ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: أن القاضي يقضي بالدار بين الخارج الأجنبي، وبين أخي صاحب اليد أرباعاً.(10/88)
-----
وبيان ذلك: أن الأجنبي مع أخي ذي اليد كل واحد منهما يدعي جميع الدار لأبيه لأنه يدعي الملك لنفسه بطريق الميراث، وصح دعوى أخي ذي اليد جميع الدار لأبيه، كما صح دعوى الأجنبي لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت فيما يستحق له، وإذا صح دعوى كل واحد منهما جميع الدار صار كأن أبا كل واحد منهما حيّ وادعى لنفسه كل الدار، وشهد الشهود له بذلك، وهناك يقضى بالدار بين الأبوين نصفان فكذا ههنا يكون نصف الدار لأبي الأجنبي، والنصف لأبي أخي ذي اليد، إلا أن أخا ذي اليد لا يدعي لنفسه من النصف الذي صار لأبيه إلا نصفه، وهو ربع الكل، فإن في زعمه أن هذا النصف له ولأخيه لكل واحد نصفه وهو ربع الكل، وأخوه لا يدعي ذلك الربع لنفسه فيستحقه الأجنبي؛ لأن الأجنبي أثبت كل الدار لنفسه لكن لم يقض له بجميع الدار بمنازعة أخي ذي اليد إياه، ولا منازعة لأخي ذي اليد معه إلا في مقدار الربع، فيسلم ما وراء الربع للأجنبي بخلاف مسألة الدعوى، لأن هناك مدعي الجميع يدعي لنفسه كل الدار ومدعي النصف يدعي النصف لا غير، فكانت المسألة على الخلاف، أما ههنا بخلافه.
فإن أراد ذو اليد أن يدخل مع أخيه في الربع الذي صار له، وقال له: قد أقررت أن النصف الذي أصاب أبونا من هذه الدار بيني وبينك نصفان، فما ورد عليه الاستحقاق يكون مستحقاً على الكل وما بقي يبقى على الكل، فليس له ذلك لأن من حجة أخيه أن يقول: الاستحقاق ورد عليك لأن الاستحقاق ورد عليك بجحودك، وجحودك حجة في حقك خاصة دون غيرك. فهو بمنزلة نصراني مات عن ابنين ثم أسلم أحدهما، ثم شهد نصرانيان على الميت بدين، فإنه يستوفى كله من نصيب الابن النصراني ولا يرجع هو على أخيه بشيء؛ لأن الاستحقاق وقع عليه بما هو حجة في حقه دون غيره، أو نقول بعبارة أخرى، الأخ يقول لذي اليد: الاستحقاق ورد عليك لأنك كنت ذا اليد، أما أنا فكنت خارجاً، وما كان للقاضي .
(10/89)
-----
...... يقضي بنصيبي لاستوائنا في كوننا خارجين، أو نقول بعبارة أخرى يقول لذي اليد: قضاء القاضي بالربع للأجنبي انصرف إلى نصيبك خاصة لأن تصحيح قضاء القاضي واجب ما أمكن، وإنما يصح قضاء القاضي لكل الربع إذا كان كل الربع لذي اليد، أما إذا كان مشتركاً بينه وبين أخيه لا يصح في نصيب أخيه لأن الأجنبي صار مقضياً عليه فيما صار لأخي ذي اليد بالقضاء وبينة المقضي عليه لا تسمع على المقضي له إلا إذا ادعى تلقي الملك من جهة (191أ4) المقضي له، فعلم أن القضاء انصرف إلى نصيب ذي اليد خاصة.
قال: ولو كان الذي في يديه الدار أقر أنه ورثها من أبيه بعدما أنكر الوراثة وبعدما أقاما البينة، فالجواب فيه والجواب فيما إذا لم يقر بالوراثة سواء، يقضى بثلاثة أرباع الدار للأجنبي، وبربعها لأخي ذي اليد لأن إقراره لم يصح في حق أخيه؛ لأن أخاه استحق ربع الدار بالبينة، وبإقرار صاحب اليد يبطل ذلك الاستحقاق؛ لأنه يصير صاحب اليد مع صاحب اليد لأن التركة في يد أحد الورثة كأنها في يد الكل خصماً على ما عرف، وبينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق والميراث مع بينة الخارج لا تقبل عندنا، فلم يصح إقرار ذي اليد في حق أخيه وصار وجوده والعدم بمنزلة، ولو انعدم إقراره أليس أنه يقضى بالدار بينهما أرباعاً؟ فكذا ههنا.
وإن كان إقرار ذي اليد بالوراثة قبل إقامتهما البينة، ثم أقاما البينة يقضى بكل الدار للأجنبي؛ لأن إقرار ذي اليد في هذه الصورة صحيح في حق أخيه؛ لأنه لا يبطل عليه حقه لأن بمجرد الدعوى لا يستحق شيئاً، فإذا صح إقراره في حق أخيه صارا جميعاً ذا اليد على ما ذكرنا، فكان بينة الخارج أولى، فلهذا قضى بجميع الدار للأجنبي.(10/90)
-----
قال: ولو كان ذو اليد من الابتداء ادعى أن هذه الدار كانت لأبيه مات وتركها ميراثاً بينه وبين أخيه فلان، وأخوه غائب، فأقام الأجنبي البينة على أنها داره ورثها من أبيه، وقضى القاضي بالدار للأجنبي ببينته، ثم حضر أخو ذي اليد وأقام البينة أن الدار كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً بينه وبين أخيه ذي اليد، فإن القاضي لا يقبل بينته؛ لأن إقرار صاحب اليد قبل إقامة الأجنبي البينة صحيح في حق أخيه على ما مرّ، وثبت بإقراره كون الدار ميراثاً بينه وبين أخيه الغائب، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت، فصار الغائب مقضياً عليه على ذي اليد، فلا تقبل بينته بعد ذلك، وإن كان إقرار ذي اليد أن الدار ميراث بينه وبين أخيه الغائب فلان بعدما أقام الأجنبي عليه البينة أنها داره ورثها من أبيه وقضى القاضي عليه للأجنبي لكل الدار؛ ثم حضر أخو ذي اليد وأقام البينة على أن الدار كانت لأبيه مات وتركها ميراثاً بينه وبين أخيه، قبل القضاء ببينته؛ لأن إقرار ذي اليد على أخيه في هذه الصورة لا يصح لأن الأجنبي ببينته استحق القضاء على صاحب اليد بجميع الدار على أن يكون المقضي عليه صاحب اليد لا غير، فذو اليد بإقراره بعد ذلك يريد أن يجعل أخاه مقضياً عليه أيضاً على ما ذكرنا وفي ذلك ضرر على أخيه لأنه لا يسمع بينته حتى حضر، فلم يصح إقرار ذي اليد على أخيه ولم يصر الأخ مقضياً عليه، فتقبل بينته كما تقبل بينة أجنبي آخر، ثم يقضى له بنصف الدار لأنه لا يدعي لنفسه إلا نصف الدار.
(10/91)
-----
قال: إذا كانت الدار في يدي رجل يدعي أنها له لا حق لأحد فيها، جاء رجل فادعى أنها داره ورثها من أبيه، وأقام على ذلك بينة، قضى القاضي بالدار للمدعي ودفعها إليه، ثم حضر أخو الذي كانت الدار في يديه، وأقام بينة أن الدار كانت لأبيه مات وتركها ميراثاً له ولأخيه فلان الذي كانت الدار في يديه، فالقاضي يقضي بنصف الدار لأخي ذي اليد، ويدع نصف الدار على حاله في يد المقضي عليه، وإنما قبل ببينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه بالقضاء على أخيه ذي اليد لما جحد ذو اليد كون الدار ميراثاً، وإنما قضي له بنصف الدار؛ لأنه لا يدعي لنفسه إلا نصف الدار، فإن أراد ذو اليد أن يدخل على أخيه في النصف الذي قضي له ليس له ذلك لما ذكرنا.
إذا كانت الدار بين ثلاثة نفر غير مقسومة مات أحدهم، فأقام رجل البينة أنه أخو الميت ووارثه لا يعلمون له وارثاً غيره، وقضى القاضي له بنصيب الميت، ثم جاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت، وكذبه الأخ، وصدقه الشريكان في الدار، فأراد أن يدخل في نصيبهما لما أنهما أقرا بشركته في الدار ليس له ذلك، وكذلك لا يدخل في نصيب الأخ المقضي له بنصيب الميت، أما لا يدخل في نصيب الأخ؛ لأن ذلك صار ملكاً له ظاهراً بحكم القضاء، والملك الثابت للإنسان لا يستحق إلا بإقراره أو ببينة تقوم ولم يوجد شيء من ذلك ههنا.
فلو قيل: وجدت البينة ههنا لأن الشريكان شهدا بذلك له، قلنا: المذكور في «الكتاب»: أنهما أقرا بذلك لا أنهما شهدا به، وإقرار الإنسان ليس بحجة على غيره، وأما لا يدخل في نصيب الشريكين وإن أقر أن له شركة في الدار؛ لأنهما أقرا له بنصيب الميت، ونصيب الميت كله صار للأخ بقضاء القاضي؛ لأن قضاء القاضي انصرف إلى نصيب الميت تصحيحاً للقضاء، فإنما أقرا له بما في يد الأخ لا بما في أيديهما، فلا يكون له أن يدخل في نصيبهما.(10/92)
-----
قال في «الكتاب»: ألا ترى أن رجلاً لو أقام بينة أنه اشترى من الميت في حياته نصيبه بألف درهم، ونقد الثمن، وقضى القاضي له بذلك وجحد وارث الميت أن البيع لم يكن وأن المدعي مبطل في دعواه، وأن شهوده شهدوا بزور، أكان للوارث أن يدخل في نصيب الشريكين؟ لا شك أنه ليس له ذلك؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت عياناً ولو عاينا أن الميت باع نصيبه من الدار لا يكون لوارث الميت أن يدخل فيما في يد الشريكين لأن البيع انصرف إلى نصيبه خاصة فلم يكن له أن يدخل بعد هذا فيما في يد الشريكين، فكذا إذا انصرف القضاء إلى نصيب الميت لا يكون للابن أن يدخل في نصيب الشريكين، قال: ولو كان الأخ أخذ نصيب الميت بغير قضاء بأن غلب عليه وأخذه، ثم جاء رجل وادعى أنه ابن الميت وصدقه الشريكان في ذلك، وكذبه الأخ، دخل الابن في نصيب الشريكين لما ذكرنا أن قضاء القاضي انصرف إلى نصيب الميت خاصة، ولما يميز نصيب الميت عن نصيب الشريكين كان إقرار الشريكين للأب بنصيب الميت لا بما في أيديهما، فلا يكون له حق المشاركة فيما في يد الشريكين، وهو قضاء القاضي، فبقيت الدار مشاعاً بينهم فما نوى منها بالاستيلاء للأخ عليها ينوى على الشركة، وما بقي يبقى على الشركة، هذا هو الحكم في المال المشترك إذا ذهب منه شيء، وإذا كان الباقي على الشركة بين الشريكين وبين الميت فنقول: الشريكان أقرا بما هو للميت في أيديهما لمدعي البنوة فيصير ذلك له بإقرارهما فيدخل على ما في يد الشريكين لهذا.
(10/93)
-----
قال: ولو أن الدار كانت في يد الثلاثة فمات واحد وأقام رجل البينة أنه أخ الميت ووارثه لا وارث له غيره، وقضى القاضي بالثلث لهذا الأخ ثم إن هذا الأخ، مع الشريكين اقتسموا الدار بقضاء أو بغير قضاء، وأخذ كل واحد منهم منزلاً منها؛ ثم جاء رجل وادعى أنه ابن الميت وصدقه الشريكان في ذلك، وكذبه الأخ فإن الابن يدخل مع الشريكين فيما في أيديهما فرق بين هذا وبينما قبل القسمة، وقد أخذ الأخ نصيب الميت بقضاء القاضي فإنه لا يدخل الابن في نصيب الشريكين لأنهما أقرا له بنصيب الميت؛ ونصيب الميت في يد الأخ ليس في يد الشريكين من ذلك شيء، فأما بعد القسمة وصل إلى كل واحد من الشريكين ثلث ما كان من نصيب الميت لأن كل منزل أخذه كل واحد من الشريكين بالقسمة على ثلاثة أسهم، سهم من ذلك ملكه في الأصل، وسهم منه من نصيب شريكه بإزاء ثلث منزل تركه على شريكه من نصيبه، وسهم منه من نصيب الأخ ملكه بإزاء ما تركه على الأخ من نصيبه، فإذا أقر بالابن فقد أقر أن الثلث مما في أيديهما له فيؤمران بالتسليم إليه.
وإنما قلنا: بأنه وصل إلى كل واحد من الشريكين ثلث ما كان من نصيب الأخ لأن القسمة في الأشياء المتفاوتة إقرار لعين الحق من وجه ومبادلة من وجه، إقرار من حيث أن القسمة في الأصل وضعت لإقرار الأنصباء كما في قسمة المكيلات والموزونات، ولهذا يجبر (191ب4) كل واحد من الشركاء على القسمة ومبادلة من حيث أن ما يأخذ كل واحد من الشركاء بعضه ملكه في القديم وبعضه ملك صاحبه ملكه بإزاء البعض الذي تركه على صاحبه من ملكه، وهذا هو معنى المبادلة والعمل بمعنى المبادلة والإقرار متعذر في حق كل شخص لمكان التنافي، فاعتبرنا معنى الإقرار في حق الشركاء؛ فأجبرنا كل واحد منهم على القسمة، واعتبرنا معنى المبادلة في حق الثالث.(10/94)
-----
إذا ثبت هذا فنقول: الابن المقر له ثالث، فيعتبر القسمة مبادلة في حقه كأن كل واحد منهما اشترى ثلث المنزل الذي أصابه بالقسمة من الأخ بثلث المنزل الذي تركه عليه، فوجب على كل واحد منهما تسليم ثلث المنزل الذي أصابه بالقسمة إلى الابن.
فإن قيل: هذه القسمة كما اعتبرت إقراراً في حق الشركاء اعتبرت إقراراً في حق الثالث، ولم تعتبر مبادلة، ألا ترى أنه لا يتجدد للشفيع حق الشفعة، فإن من باع نصف الدار شائعاً وله شفيع فسلم الشفيع الشفعة، ثم إن المشتري قاسم البائع، لا يتجدد للشفيع حق الشفعة في الربع الذي ملكه المشتري من نصيب البائع بإزاء الربع الذي تركه على البائع، ولو اعتبر مبادلة يتجدد للشفيع حق الشفعة والدليل عليه: أن ليس للشفيع نقض قسمة المشتري، ولو اعتبر مبادلة في حق الثالث، كان للشفيع حق نقضها كما كان له حق نقض بيعه.
قلنا: إنما لم يتجدد للشفيع حق الشفعة لأن حالة القسمة كان المشتري المقاسم شريكاً في الدار، والشفيع جار، والشريك متقدم على الجار، وإنما لا يكون للشفيع أن ينقض القسمة لأن نقضها لا يفيد لأنه لو نقضها احتجنا إلى إعادتها ثانياً، والثاني: أن القسمة مما يؤيد قبض المشتري لأنها من تمام القبض؛ لأن قبل القسمة يكون المقبوض بعضه حقه وبعضه حق غيره، وبالقسمة يصير المقبوض كله حقه، وليس للشفيع أن ينقض قبض المشتري حتى يأخذ الذكر من البائع ليكون العهدة له على البائع من حيث إن البائع .... من المشتري، فكذا لا يكون له نقض ما يؤكده.(10/95)
-----
فإن قيل: ما ذكرتم أن القسمة في الأشياء المتفاوتة يعتبر مبادلة في حق الثالث مستقيم على قول محمد، غير مستقيم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فقد ذكرنا في كتاب الإقرار: إذا كانت الدار بين رجلين نصفين، وأوصى أحدهما بمنزل بعينه من الدار للمشتري ثم مات الموصي فاقتسم شريك الموصي مع ورثة الموصي؛ إن وقع المنزل الموصى به في قسم ورثة الموصي فإنه تصح الوصية في جميع المنزل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: إذا كان جميع الدار يخرج من ثلث ماله، وإن وقع في نصيب شريك الموصي، كان للموصى له بالميراث أن يأخذ جميع ذرعان المنزل الموصى به من ثلث ماله على قولهما.
ولو كانت هذه القسمة مبادلة في حق الثالث والموصى له ثالث؛ كان يجب أن يقال: بأنه إذا وقع المنزل الموصى به في نصيب ورثة الموصي أن تصح الوصية في نصف المنزل الموصى به، كما قال محمد، لأن نصف المنزل الموصى به ملك الموصي وقت الوصية، ونصفه ملك شريكه، ملكه بإزاء نصف المنزل الذي تركه على شريكه بالقسمة.
ومن أوصى بعين لا يملكه ثم ملكه فإنه لا يصح الوصية به، وإن ملكه بعد ذلك إلا أن تكون الوصية مضافة إلى حالة الملك، بأن قال: إن ملكت هذا العين فهو وصية لك، ثم ملك العين، والوصية ههنا غير مضافة إلى الملك، وقد قالا: بأنه يصح في جميع المنزل إذا وقع في نصيب شريكه كان يجب أن يقال: يستحق الموصى له الأخذ بنصف ذرعان المنزل لا بجميعه، لأن نصف ما أصاب ورثة الموصي بدل المنزل الموصى به؛ لأن نصف المنزل الموصى به كان ملكاً للموصي، ونصفه ملك شريكه وهو إنما يستحق البدل بإزاء ما كان ملكاً له، لا بإزاء ما كان ملك شريكه.(10/96)
-----
والأصل أن من أوصى بعين ملكه، ثم زال ملكه عن العين من غير اختياره، وأخلف بدلاً تتعلق الوصية ببدله، كما لو أوصى بعبد بعينه لإنسان، فقتل قبل موته خطأ حتى وجبت القيمة بجواب الوصية إلى بدله، فكذا ههنا تتحول الوصية إلى بدل النصف الذي كان ملكاً له، فأما النصف الآخر من المنزل الموصى به كان ملك شريكه فالوصية بذلك النصف حصل في ملك الغير والوصية في ذلك الغير لا تصح لا في عينه ولا في شيء آخر، فكيف يستحق الموصى له الأخذ بذرعان ذلك النصف؟ قلنا: من المشايخ من قال: مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف أن هذه القسمة إقرار محض والبدل بمنزلة الوصية، وهذا القائل يقول: ما ذكره في «الجامع» قول محمد لا قولهما، وبعد أن سلم أن المذكور في «الجامع» قول الكل، فالجواب لأبي حنيفة وأبي يوسف: أن المنزل الموصى به جميعه مملوك لكل واحد منهما بكماله من حيث أن تصرف شريكه لا ينفذ فيه لا في جميعه ولا في نصفه شائعاً كان الكل ملك الآخر.
(10/97)
-----
وإذا كان الأمر هكذا نقول: إن وقع المنزل في نصيب ورثة الموصي، يعتبر المنزل بكماله مملوكاً لشريكه حكماً، وقد اشتراه الموصي بما تركه على شريكه من نصيبه مثل ذلك، إلا أنه مع هذا تصح الوصية منه في جميعه، وإن قضى بعين لا يملكه وقت الوصية لأنه سبب ملك في العين الموصى به وقت الوصية وهي الشركة في الدار، فإن الشركة في الدار سبب لثبوت الملك له في المنزل بالقسمة، فيقام سبب الملك مقام الملك، فصحت الوصية بجميع المنزل، وإن اعتبر المنزل بكماله ملكاً لشريكه من حيث الحكم، وإذا وقع المنزل الموصى به في نصيب شريكه يعتبر المنزل مملوكاً للموصي بكماله من حيث الحكم، ثم صار لشريك الموصي لما أخذ الموصي من شريكه مثل ذلك، فكان جميع ذرعان المنزل بدل المنزل بهذا الاعتبار، فتتحول الوصية إليها لما ذكرنا أن الوصية بالعين متى صحت، ثم زال العين عن ملك الموصي من غير اختياره، وأخلف بدلاً أن الوصية تتحول إلى البدل، فإنما وجب تنفيذ الوصية في جميع المنزل، واستحق الموصى له الأخذ بجميع ذرعان المنزل عند أبي حنيفة رحمه الله لهذا، لأن هذه القسمة لم تعتبر مبادلة في حق الثالث، وهو الموصى له.
وإن كان مكان الدار عروضاً أو ثياباً أو ما أشبه ذلك مما لا يكال ولا يوزن، فالجواب فيها كالجواب في الدار، لأن المعنى لا يختلف، وإن كان مكانه دراهم أو دنانير أو ما أشبه ذلك مما يكال أو يوزن من جنس واحد، أو كان من العدديات المتقاربة التي يضمن مستهلكها المثل من جنسها، فاقتسموا ذلك وأخذ كل واحد الثلث بقضاء أو بغير قضاء، فإن الابن المقر به لا يدخل في نصيب المقرين؛ لأن القسمة في هذه الأشياء إقرار لعين الحق في حق الناس كافة، ليس فيها معنى المبادلة لعدم التفاوت بين الأجزاء إن لكل واحد أن يأخذ نصيبه من غير قضاء ولا رضى.(10/98)
-----
وألا ترى أن ثلاثة لو اشتروا كراً من طعام بمئة واقتسموه بينهم وأخذ كل واحد منهم ثلثه كان له أن يبيع نصيبه، وهو الثلث من اللحمة على ثلث المئة، ولما كان هكذا لم يصل إلى كل واحد من المقرين، ولا كذلك مسألة الدار على نحو ما بينا.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل أقام بينة على ميت أنه أخوه لأبيه وأمه لا يعلمون له وارثاً غيره، وأقامت امرأة بينة أنها بنت الميت إنما جعلت الميراث بينهما نصفين، ولا أسألها بينة أنهم لا يعلمون بها وارثاً غيره، فكل أحد أقام بينة على نسبه أشركته في الميراث، ولا أسأله بينة على عدد جميع الورثة.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: رجلان في أيديهما دار، أقام أحدهما بينة أن هذه الدار كانت لأبي مات، وتركها ميراثاً بيني وبينك، قال: آخذ ببينة الذي ادعى ثلاثة أرباع لنفسه ولا أقبل بينة الآخر؛ لأن الآخر يدعي النصف لنفسه، وهي في يده، فيكون ثلاثة أرباعها لذلك من قبل أمه ونصف الربع الآخر له من أبيه، ونصف الربع الآخر بحكم إقراره.
رجل ادعى على امرأة أنه تزوجها وأنكرت، ثم مات الرجل فجاءت تدعي ميراثه، فلها الميراث، وكذلك لو كانت المرأة ادعت النكاح فأنكر الزوج، ثم ماتت المرأة، فجاء الرجل يطلب ميراثها وزعم أنه تزوجها (192أ4) فله الميراث، ذكر المسألتين في «المنتقى» من غير خلاف، وفي المسألة الثانية خلاف عند أبي حنيفة لا ميراث لها، وعلى قول أبي يوسف ومحمد لها الميراث، ذكر الخلاف على هذا الوجه في إقرار «الأصل».
ولو أن امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثاً وأنكر الزوج، فطلبت ميراثها منه، قال: لم أورثها منه، وكذلك إن كانت أكذبت نفسها، وزعمت أنه لم يطلقها قبل موته، وكثير من هذا الجنس من المسائل التي ذكرناها في كتاب «أدب القاضي» و «الشهادات».
(10/99)
(الفصل العاشر: في دعوى الرجل النكاح على المرأة)
-----
......... قال محمد رحمه الله: رجل ادعى على امرأة أنه تزوجها وأقام على ذلك بينة وأقامت المرأة بينة على رجل آخر منكر أنه تزوجها، فالبينة بينة الرجل، قال: لأن المرأة أكذبت بينتها التي شهدت لها على الزوج حيث شهد شهود الرجل عليها بالتزويج، إذا شهدوا عليها بالتزويج، فقد شهدوا على كليهما، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو أقام رجل بينة على امرأة أنه تزوجها، وأقامت أختها بينة على هذا الرجل أنه تزوجها فالبينة بينة الرجل يريد به إذا لم يوقت للبينتان وقتاً، وأشار إلى المعنى فقال: لأنها تقيم البينة على نكاح لا يثبت ويفسد، ولو وقت بينة المرأة ولم يوقت بينة الرجل، فدعوى الرجل جائز، وثبت نكاح المرأة التي ادعاها، ويبطل نكاح المدعية، ولها على المدعي نصف المهر.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل وامرأة في دار ادعى الرجل أن الدار داره، وأن المرأة امرأته، وأقام على ذلك بينة، وادعت المرأة أن الدار دارها وأن الرجل عبدها، وأقامت على ذلك بينة، قال: أقبل بينة المرأة على أن الدار دارها؛ لأني أجعل الدار في يدي الرجل، وأجعل البينة بينة الزوج في التزويج، وأجعلها امرأته وتزويجها نفسها منه إقرار منها أنه ليس بمملوك لها.(10/100)
-----
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل وامرأة في أيديهما دار، أقامت المرأة البينة أن الدار لها وأن الرجل عبدها، وأقام الرجل بينة أن الدار له وأن المرأة زوجته تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها؛ ولم يقم بينة أنه حر فإنه يقضي بالدار للمرأة، ويقضي بالرجل عبداً لها. ولو أقام الرجل بينة أنه حر الأصل والمسألة بحالها كانت المرأة امرأته ويقضى بأنه حر ويقضى بالدار للمرأة من قبل أن الدار والمرأة في يدي الزوج حيث جعلها امرأته، فالمرأة هي المدعية للدار فيقضى بالدار لها، كزوجين في أيديهما دار أقام كل واحد منهما بينة أن الدار داره، وهناك يقضى بالدار للمرأة كذا ههنا، قال: وهكذا قياس قول أبي حنيفة، ولو لم يكن بينهما بينة كانت الدار للزوج، وقال محمد في «نوادر ابن سماعة»: إذا لم يقم الرجل بينة أنه حر فالدار للمرأة وهي امرأته في هذه المسألة.
وفي «نوادر ابن شجاع»: لو أقام الرجل البينة أن الدار داره، والمرأة أمته، وأقامت المرأة البينة أن الدار دارها والرجل عبدها، فالدار بينهما نصفان، إذا لم تكن الدار في أيديهما، وإن كانت في يد أحدهما تركت في يده، وتعارضت البينتان منهما، ويحكم لكل واحد منهما بالحرية ولا تقبل بينة أحدهما على صاحبه بالرق.
(10/101)
-----
وروى بشر عن أبي يوسف في رجل وامرأة اختلفا في متاع من متاع النساء، فأقامت المرأة بينة أن المتاع متاعها، وأن الرجل عبدها، وأقام الرجل بينة أن المتاع له وأن المرأة امرأته تزوجها على ألف ونقدها، فإن الرجل يقضى به عبداً للمرأة، ويقضى بالمتاع لها، فإن شهد شهود الرجل أنه حر الأصل، قضي بأنها امرأته ويقضى بالمتاع له، هكذا ذكر، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يقضى بالمتاع لها، ولو اختلفا في ذلك، وذلك المتاع في يد المرأة، ومثل ذلك في يد الرجل، فهذا الأمر غير الوجه الذي كنا فيه، يقضى بالنكاح، ويعتق الرجل، ويقضى بما في يد كل واحد منهما للآخر، متاع النساء كان أو متاع الرجل، أو متاعهما جميعاً إذا كان المتاع في يد أحدهما خاصة دون الآخر، فالبينة بينة المدعي.
وفي «المنتقى»: لو أن امرأة أقام عليها رجلان كل واحد منهما بينة أنها أقرت أنها امرأته اختلعت منه بألف درهم، ولم يوقتا فعليها أن تؤدي إلى كل واحد منهما ماله وإن وقتا لزمها مال الوقت الأول، فيبطل عنها مال الوقت الآخر، إلا أن يكون بينهما وقت ينقضي في مثلها العدة وتتزوج، فيلزمها المالان جميعاً، وإن لم يدخل بها أحدهما لزمها المالان جميعاً إن وقتا أو لم يوقتا.B
وفي «المنتقى» أيضاً رجل قال لامرأة: زوجنيك أبوك وأنت صغيرة، وقالت المرأة: زوجنيك وأنا كبيرة، فالقول قول المرأة والبينة بينة الزوج.
امرأة ادعت على رجل أنه تزوجها وهو ينكر، ثم ادعى تزويجها بعد ذلك، وأقام البينة قبلت بينته وثبت النكاح، قال: والنكاح في هذا لا يشبه البيع، ألا ترى أن رجلاً لو ادعى أنه تزوج هذه المرأة على ألف درهم وجحدت المرأة ذلك، ثم أقامت بينة على أنه تزوجها على ألفين قبلت البينة، وجعلت المهر ألفين، وكذلك لو أقام بينة أنه تزوجها على هذا العبد، ولو كان هذا في البيع لا تقبل بينته، لأنه قد أكذبهم ....؟.(10/102)
-----
إذا باع مستأجر الحانوت سكنى الحانوت من رجل وقبضه المشتري فجاء صاحب الحانوت واستحق السكنى مزيد شهر به، فالمسألة على وجهين: إن كان السكنى متصلاً ببناء الحانوت وهو ليس من آلات صناعة المستأجر، فالقول: قول صاحب الحانوت مع يمينه، وإذا حلف رجع المشتري على المستأجر بثمن السكنى، وإن كان من آلات صناعة المستأجر، فالقول قول المستأجر ولا سبيل لصاحب الحانوت على السكنى.
في «فتاوى أبي الليث»: إذا أنكر المدعى عليه أن يكون المحدود المدعى به في يده، فالقاضي يحلفه على اليد أولاً، فإن حلف اندفع عنه الخصومة، وإن نكل يحلف على الملك وهذا مما لا يكاد يصح، لأن فائدة النكول الإقرار، واليد على العقار لا تثبت بصريح الإقرار، فكيف يثبت بالنكول الذي هو قائم مقام الإقرار.
رجل ادعى محدوداً في يدي رجل أنه ملكه، وأن صاحب اليد أخذه منه بغير حق، فأعدته إلى يدي، هل يؤمر المدعى عليه بالتسليم إلى المدعي فقد قيل: لا يؤمر بالتسليم إلى المدعي.
وإذا تنازع رجلان في دار يدعي كل واحد منهما أنها في يده، فإن عرف القاضي كون الدار في يد أحدهما جعله لصاحب اليد، وإن لم يعرف كونها في يد أحدهما، وعرف أنها ليست في يد ثالث، فكل واحد منهما مدعي ومدعى عليه، فإن أقاما البينة على اليد قضي باليد لهما، ويجعل الدار في أيديهما، هذا لأن دعوى اليد مقصود، كما أن دعوى الملك مقصود؛ لأن باليد يتوصل إلى الانتفاع بالملك والتصرف، فكما يصح دعوى الملك يصح دعوى اليد، وبعد إقامتهما البينة على اليد يقضى باليد لهما لاستوائهما في الدعوى والإثبات.
فإن قيل: أي فائدة في إقامة هذه البينة وفي هذا القضاء، قلنا: فائدته أن القاضي إذا سمع البينة على اليد لهما وقضى باليد لهما أو وجدها في يد ثالث ينزعها من يده عند طلبها، وقبل ذلك لا ينزعها من يد الثالث، وإن قامت لأحدهما بينة قضي باليد له وإن لم يكن لهما بينة ولا (192ب4)(10/103)
-----
لأحدهما يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، كما لو ادعيا الملك في هذه الدار، فيحلف كل واحد منهما البينة بالله ما هي في يد صاحبه فإن حلف برئ كل واحد منهما عن دعوى صاحبه، ويوقف القاضي الدار إلى أن يظهر حقيقة الحال، ولا يجعلها في يد واحد منهما؛ لأن القاضي لم يعرف اليد لأحدهما حتى يجعلها في يده بعلمه، وقد برئ كل واحد منهما عن دعوى صاحبه بالحلف فيوقعها، هكذا قاله بعض المشايخ في شرحه.
وذكر بعضهم في شرحه: أنهما إذا اختلفا فالقاضي لا يجعلهما في يد واحد منهما، ولا ينزعه من أيديهما، وإن نكل أحدهما عن اليمين وحلف الآخر لم يجعلهما القاضي في يد الحالف، لأن القاضي لم يعرف كون الدار في يد الناكل، والنكول: بدل أو إقرار، والبدل والإقرار من الإنسان إنما يصح فيما في يده، لأن بدله وإقراره حجة عليه وليس بحجة على غيره، ولكن يمنع الناكل من أن يتعرض للدار، لأن نكوله حجة في حقه، وإن وجد القاضي الدار في يد الثالث، لا ينزعها عن يد الثالث بما أنقده بين هذين، لأن النكول بدل أو إقرار دلالة ولو وجد الإقرار صريحاً أو وجد البدل صريحاً بين هذين، فالقاضي لا ينزع الدار من يد الثالث، لأن يدهما وإقرارهما يعمل فيما بينهما، ولا يعمل في حق غيرهما كذا ههنا.
ثم إذا تعلق رجلان بعين، ولم تقم البينة لأحدهما حتى جعلتا في أيديهما لو أقام أحدهما بينة أن العين ملكه قضي له بالنصف الذي في يد صاحبه، وترك النصف الذي في يده على حاله، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع إذا أقاما البينة على اليد ثم أقام أحدهما أن العين له قضي بكله له، فهذا تنصيص أن يقضى بالملك له في كل العين، وإنه مشكل لأن العين في أيديهما، فبينته على ما في يده بينة صاحب اليد، وبينة اليد على الملك المطلق لا تقبل، الجواب: أنه لما أقام البينة على الملك بعد ما أقام البينة على اليد فقد أعرض عن تلك البينة فبطلت بينته على اليد.(10/104)
(10/105)
-----
وصورة مسألتنا: رجلان تنازعا في عين، وأقام أحدهما البينة على اليد والآخر على الملك، يقضى لصاحب الملك كذا ههنا.
وفي كتاب «الأقضية» إذا تنازع اثنان في دار، وكل واحد يدعي أنها في يده، وأقاما البينة على (ذلك) ثم إن أحدهما قال: أنا أقيم البينة على ما هو أجود من هذا، أنا أقيم البينة على أن أبي مات وترك هذا العين ميراثاً لي لا وارث له غيري، وأقام البينة على ذلك، تقبل فيكون قضاء على الذي خاصمه الشهود على يد المدعى عليه، وقوله في «الكتاب»: أنا أقيم البينة على أجود من هذا، إعراض عن بينته التي أقامها الذي أقام قبل ذلك، حتى يصير خارجاً، فتقبل بينته على الملك.
وفي «المنتقى»: رجل ادعى قبل رجل داراً وأقام البينة، فقال المدعى عليه: ليست في يدي، فأقام المدعي بينة فشهدوا أن الدار في يد المدعى عليه، وفي ملكه يسأل المدعي، فإن قال كما شهدوا: إنها في يده وفي ملكه فقد أقر بالدار للمدعى عليه، فيقضى بالدار له، وإن قال: أصدقهم أنها في يده لا أصدقهم أنها في ملكه فله ذلك، ويجعل المدعى عليه خصماً له.
وإذا اختصم رجلان في دار يدعي أحدهما أنها ملكه وفي يده والآخر يدعي أنها في يده وأنه أحق بها من غيره لما أنها كانت في يده إجارة من جهة فلان، وقد دفعت مال الإجارة إليه وقد مات فلان الآخر ولي حق حبس الدار إلى أن يستوفي مال الإجارة فالدار تجعل في يد من؟
كان الشيخ الإمام ظهير الدين المرعيناني رحمه الله يقضي بأن الدار تجعل في أيديهما، وبعض مشايخ زمانه كان يفتي بأن الدار تجعل في يد مدعي الإجارة.(10/106)
-----
وإذا وقع الدعوى على رجل في عقار في يديه، وأقام المدعي بينة على دعواه لابد وأن يذكر الشهود في شهادتهم أنها في يد المدعى عليه، والإقرار لا يكفي حجة لإثبات يده، حتى إن المدعي والمدعى عليه إذا تصادقا أن الدار المدعى في يدي المدعى عليه، فالقاضي لا يقضي بملكية الدار للمدعي بشهادة شهوده على كون الدار ملكاً له، وإنما يقضي إذا شهدوا على يد المدعى عليه، بأن شهدوا أنها في يده اليوم، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» والمنقول في هذا يخالف العقار، فإن المدعى عليه إذا أقر أن المنقول المدعى به في يده فذلك يكفي، ولا يحتاج إلى أن يذكر الشهود أن المدعى به في يد المدعي اليوم؛ لأن في العقار تهمة المواضعة فإن المدعي ربما تواضع رجلاً ويحضره مجلس القضاء ويدعي عليه العقار ويقر المدعى عليه أن العقار في يده، ولا يكون في يده فيقضي القاضي بملكية العقار للمدعي بشهادة شهوده، ويكون قضاء على الغائب في الحقيقة؛ لأن العقار على الحقيقة كانت في يد الغائب، فلهذه التهمة لم يكتف بإقرار المدعى عليه أن العقار في يده، وشرطنا شهادة الشهود على كون الدار في يده.
فأما في المنقول لا تتأتى هذه التهمة فيه؛ لأن المنقول إن كان مستهلكاً فأقر المدعى عليه بالاستهلاك أو بالهلاك كان الدعوى واقعاً في الدين، وقد أقر المدعى عليه بذلك، وإقرار الإنسان على نفسه بالضمان صحيح، فلا حاجة إلى الشهادة أنها في يده، وإن كان قائماً لابد من الإحضار لتصحيح الدعوى والشهادة، وعند الإحضار يعرف القاضي معاينة أنه في يد المدعى عليه فلا حاجة إلى الشهادة على ذلك، فهذا هو الفرق.(10/107)
-----
وقد ذكر في كتاب «الأقضية» عقيب المسألة التي مرّ ذكرها من قبل هذا بمسألتين، ويجوز القضاء بالملك، وإن لم يشهد الشهود على يد المدعى عليه مع أنه وضع المسألة في الدار فقال: ما ذكر الخصاف قوله، وبه أخذ بعض المشايخ، وما ذكر في «الأقضية» قول محمد وبه أخذ بعض المشايخ، وقيل: في المسألة روايتان، والفتوى على أنه لابد أن يشهد الشهود على يد المدعى عليه في العقار، ثم على ما ذكره الخصاف، وإذا شهدوا أنها في يده أو عن معاينة، حكي عن القاضي الإمام الخليل بن أحمد أن القاضي يسألهم عن ذلك وهو الصحيح، لأنهم ربما سمعوا إقراره أنها في يده، فظنوا أن ذلك يطلق لهم أداء الشهادة على يده عليها، وإنه موضع اشتباه فقد اشتبه على كثير من الفقهاء اشتراط إقامة البينة لإثبات يده، فما لم يعاينوا يد المدعى عليه لا يحل لهم أداء الشهادة على أنها في يده، فلهذا وجب السؤال.
قال القاضي رحمه الله هذا هكذا إذا شهدوا على البيع والتسليم، فالقاضي يسألهم أيشهدون على التسليم بإقرار البائع أو عن معاينة البيع، والتسليم كانت شهادة بملك البائع يوم البيع فوجب السؤال إزالة لهذه الشبهة، ولو أن الشهود لم يشهدوا أن هذه الدار في يد المدعى عليه فقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار في يد المدعى عليه، فإن القاضي يقبل ذلك منه؛ لأن الحاجة إلى معرفة ملك المدعي في الدار ليمكن القضاء به للمدعي وإلى معرفة يد المدعى عليه لينتصب خصماً للمدعي لإثبات دعواه، فلا فرق بين أن يثبت الأمرين بشهادة فريقين أو بشهادة فريق واحد، هذا كما في شاهدين شهدا بملك المحدود وشهد آخر له بحدود المحدود فالقاضي يقبل شهادة الفريقين جميعاً ولم يقع الفرق بينما إذا ثبت ملك المحدود، والحدود بشهادة فريق واحد أو بشهادة فريقين كذا ههنا.(10/108)
-----
قال محمد رحمه الله في دعوى الأصل: وإذا اختصم الرجلان في عبد وكل واحد منهما يقول: هو عبدي وهو في أيديهما فإن كان العبد صغيراً لا يعبر عن نفسه فالقاضي لا يقضي لواحد منهما بالملك ما لم يقم البينة ولكن (193أ4) يجعله في أيديهما، وهذا لأن الصغير الذي لا يعبر عن نفسه والبهيمة سواء، ولو كان في أيديهما بهيمة وكل واحد منهما يدعي أنها له، فالقاضي لا يقضي لواحد منهما بالملك فيها، وما لم يعرف القاضي لا يقضي به إلا ببينة، ولكن يجعله في أيديهما؛ لأنه عرف يدهما عليه كذا ههنا، وإن كان الغلام كبيراً يتكلم أو صغيراً يعبر عن نفسه فقال: أنا حر فالقول قوله ولا يقضي القاضي لهما بشيء إلا بالملك، ولا باليد ما لم يقيما البينة على ذلك، ولو قال: أنا عبد أحدهما لم يصدق وهو عبدهما؛ لأنه أقر بالرق فقد ثبت ردهما عليه حقيقة وحكماً، لأن يد الحر ثبت على الرقيق، فهو بقوله: أنا عبد أحدهما يريد إبطال اليد الثانية عليه لأحدهما حقيقة وحكماً، فلا يقدر عليه بخلاف ما إذا قال أنا حر الأصل؛ لأنه أنكر ثبوت اليد على نفسه فاليد لا تثبت للحر على الحر فكان القول قوله، أما ههنا فبخلافه.
وكذلك إذا كان العبد في يدي رجل فأقر أنه لآخر لم يصدق، والقول قول صاحب اليد ثم شرط في «الكتاب» أن يكون الغلام كبيراً يتكلم، وربما يقول في بعض النسخ إذا كان يعبر عن نفس، وإنما الشرط أن يتكلم ويعقل ما يقول، فإذا كان بهذه الصفة يرجع إلى قوله، وإذا كان العبد في يد رجل وهو لا يعبر عن نفسه قال لصاحب اليد: إنه عبدي فالقول قوله ويقضي له بالملك، فإن كبر الغلام وقال: أنا حر الأصل لا يصدق إلا بحجة؛ لأنه يريد إبطال ملكٍ جرى القضاء به.
وكذلك إذا قال: أنا لقيط فهذا كقوله: أنا حر فإن أقام ذو اليد بينة أنه عبده، وأقام العبد بينة أنه حر الأصل، فبينة العبد أولى.(10/109)
-----
ذكر في «السير»: رجل من أهل الحرب دخل دار الإسلام بأمان وخرج معه مسلم، وفي أيديهما بغل عليه مال كثير، كل واحد منهما يقول: هو ملكي وفي يدي، وقامت بينة من المسلمين أن البغل وما عليه للمسلم أو للمستأمن، فإنه يقضي به للذي شهد الشهود له، كما لو وقعت مثل هذه المنازعة بين المسلمين أو بين الذميين، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وبهذه المسألة ظهر خطأ بعض مشايخنا فيما إذا قال: كل واحد من المتداعين مالي وملكي، إن القاضي لا يلتفت إلى هذه الخصومة ويقول: إذا كان ملكك وفي يدك ماذا تطلب مني، فقد نص ههنا على سماع الدعوى حتى قال بقبول البينة.
والوجه في ذلك: أنه يحتاج إلى دفع منازعة الآخر والبينة لهذا المقصود مقبولة، وإذا قال له القاضي: ماذا تطلب مني، يقول للقاضي: أطلب منك أن تمنع هذا من منازعتي، وتقرر هذا الشيء في يدي.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد في أجمة أو غيضة تنازع فيها فريقان، كل فريق يدعي أنها له وفي يديه، فشهد الشهود لأحد الفريقين أنها في يديه، أو شهدوا لهما أنهما في أيديهما، فإن لم يسألهم القاضي عن تفسير ذلك ولم يزيدوه فهو مستقيم، وإن سألهم عن تفسير ذلك فهو أوثق وأحسن، وهذا لأن اليد على الأجمة والغيضة إنما ثبت بالدليل، وعسى يرى الشاهد شيئاً يظنه دليلاً على اليد، ولا يكون كما ظن فإن سأله ليزول الاشتباه فهو أحسن، وإن لم يسأله واكتفى بما قالوا فله ذلك، لأن السؤال عسى يقضي إلى بطلان الشهادة مع كون الشهادة حقاً، وهو نظير ما لو شهد الشهود بالملك المطلق، أو شهدوا بالدين المطلق، وقضى القاضي بشهادتهم من غير أن يسألهم عن بيان السبب جاز كذا ههنا.(10/110)
-----
ثم بين ما يعرف به الدليل على الغيضة والأجمة، فقال في الغيضة: إذا كان يقطع الأشجار منها ويبيعها أو ينتفع بها منفعة تقرب من هذا أو أشباهه يستدل به على أنها في يده، وقال في الأجمة: إذا كان يقطع القصب ويأخذها للصرف إلى حاجة نفسه أو للبيع أو ما أشبهه يستدل به على اليد الذي هو دليل الملك، وهذا لأن اليد الذي هو دليل الملك هو القدرة على التصرفات التي تختص بالملك، ومعناه الانتفاع المطلوب من العين وهذا لأن الملك لا يراد لعينه، وإنما يراد الانتفاع بالعين، فإذا شاهدنا قدرته على الانتفاع المطلوب من اليد من غير منازع، علمنا أن اليد التي هي دليل الملك ثابت في حقه قلنا: والانتفاع المطلوب من الأجمة والغيضة الحطب والحشيش والقصب لا الزراعة والسكنى، فإذا شاهدناه يقطع الشجر والقصب وينتفع بها بيعاً وغير ذلك من غير منازع، فقد علمنا باليد التي هي دليل الملك فيقضى له بالملك.
وفي كتاب «الأقضية»: وإذا تنازع الرجلان في دار وكل واحدٍ منهما يدعي أنه في يديه فأقام أحدهم بينة أنهم رأوا دوابه وغلمانه يدخلونها ويخرجون منها، فالقاضي لا يقضي باليد للذي شهد الشهود بما وصفنا له، حتى يقولوا كانوا سكاناً فيها، فإذا قالوا ذلك قضيت بأنها في يد صاحب الغلمان والدواب، وهذا لما ذكرنا أن العبرة للقدرة على المطلوب بين العين والدار، لا يتخذ لدخول الغلمان وخروجهم ولربط الدواب فيها، وإنما يتخذ للسكنى فيها، فما لم يشهدوا على ذلك لم يشهدوا باليد عليها يداً هي دليل الملك.
قال في «القدوري»: وإذا تنازع رجلان في دابة وأحدهما راكب في السرج قضي بينهما، ولو كان أحدهما يقود الدابة والآخر يسوقها قضي بالدابة للقائد يداً، فإنه ممسك بلجام الدابة، والسائق لا يد له إذا لم يكن راكباً.
فإن قيل: إن لم يكن للسائق يداً للدابة فهو مستعمل لها بالسوق، وكما أن اليد دليل الملك فالاستعمال دليل الملك أيضاً.(10/111)
-----
قلنا: الاستعمال إنما يكون دليلاً على الملك إذا كان استعمالاً يختص به المالك في الغالب ومعناه أن لا يوجد ذلك غالباً إلا من المالك، أما إذا كان يوجد من المالك وغيره فهذا لا يدل على الملك، وسوق الدابة كما يكون من المالك يكون من غير المالك، فلا يكون دليلاً على الملك، ذكر هذه المسألة في «السير» في أبواب الإيمان، ولم يذكر ثمة ما إذا كان أحدهما ممسكاً بلجام الدابة والمتعلق بذنبها.
قال مشايخنا: وينبغي أن يقضي للذي هو ممسك بلجامها؛ لأنه لا يتعلق باللجام غالباً إلا المالك، وكما يتعلق بالذنب المالك يتعلق به غير المالك، فكان الإمساك باللجام أدل على الملك.
قال في «الجامع»: بساط عليه رجل جالس ورجل آخر متعلق به وكل واحد منهما يدعي أن البساط له، فإنه يقضي بالبساط بينهما نصفان، فرق بين هذا وبين دار فيها رجلان قاعدان، وكل واحد منهما يدعيها لنفسه فإنه لا يقضي بينهما، وذكر مسألة البساط في «القدوري» وقال: يترك البساط في أيديهما بينهما نصفان يريد به لا على طريق القضاء؛ لأن القعود على البساط ليس بيد على البساط كالتعلق به، فاستويا فيه ثم الفرق بين البساط والدار على ما ذكرنا في «الجامع» أن في الدار ما قضينا بينهما نصفان؛ لأن الجلوس والتعلق دليل اليد؛ لأنه كما علم أن البساط في أيديهما، علم أنه ليس في يد الثالث؛ لأن اليد على البساط لا يثبت إلا بأحد الطريقين:
إما بإثبات اليد عليه حساباً بالنقل والتحويل، أو فعل يقصد به النقل والتحويل، وإما بكونه في يده حكماً بأن كان في بيته ولم يوجد شيء من ذلك في البساط، فإن يراه موضوعاً على قارعة الطريق، وإذا علم أنه ليس في يد غيرهما ولا في أيديهما وهما مدعيان، يقضي بينهما لاستوائهما في الدعوى.
(10/112)
-----
وفي الدار: إن علم أنه ليس في أيديهما لما أن الجلوس فيها لا يدل على اليد لم يعلم أنه ليس في يد غيرهما؛ لأن اليد على الدار إنما تكون بالسكنى وبالإحطاط؛ لأن الدار بعد في مكانه الذي ثبت فيها يد المحيط عليها، لم يتحول عن ذلك المكان إلى مكان (193ب4) آخر فتكون يد المحيط ثابتة على الدار حكماً؛ لأنه جهل صاحب اليد والقاضي إنما يقضي بما وقع فيه الدعوى بين المدعيين بحكم الدعوى، إذا علم أنّ المدعى عليه ليس في يد غيرهما ولم ينتصب هذا العلم في العقار، ويثبت في المنقول وفي شرح «الجامع» جعل دليل اليد في النقليات فعلاً لا يتصور ثبوته بدون النقل، كاللبس والحمل المثقل يحصل عادة للنقل كالركوب في الدواب، وفي غير النقليات جعل دليل اليد فعلاً يوجد من الملاك في الغالب، كالسكنى في الدار وغير ذلك وما ليس بدليل اليد في النقليات فعل يتأتّى بدون النّقل ولا يحصل في الغالب النقل كالجلوس على البساط وما ليس بدليل اليد في غير النقليات، فعل يوجد من غير الملاك كالجلوس والنوم في الدار وأشباه ذلك، فقد ذكرنا هذه الجملة مع مسائلها في كتاب الشهادات.
سئل الشيخ القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن ضياع في يدي رجل أثبت رجل آخر يده عليها بطريق التغلب، فأقام الذي كانت الضّياع في يده بيّنةً على التغلب أن الضياع ملكه، وإنه أخذه من يده بطريق التغلّب، قال: قبلت بينته وقضي بالضّياع له وانتزع من يد المتغلب وسلم إليه ولو لم يكن بينة وأراد تحليف المتغلب بالله ما كان هذا الضّياع في يد هذا المدّعي، وما أخذت منه بطريق التغلب قال: له ذلك.(10/113)
-----
وكذلك لو ادعى على المتغلب إقراره أنه كان في يده، وأراد أن يحلفه على ذلك قال: له ذلك، فظن بعض مشايخنا أن التحليف في هذه الصورة نوع نظر؛ لأن التحليف لرجاء النكول الذي هو الإقرار واليد على العقار لا يثبت بمجرد الإقرار، فلا يكون في التّحليف فائدة، وليس الأمر كما ظنّوا؛ لأن تحليف المتغلب ههنا ليس لأجل إثبات كون الضياع في يده؛ لأن ذلك ثابت باتفاق المدعي والمتغلب، وإنما التّحليف لأجل إثبات التغلب والأخذ من جهته، وأخذ العقار والتّغلب عليه مما يثبت بالإقرار، ألا ترى أنه يصح الإقرار بغصب العقار والغصب ليس إلا الأخذ بطريق التّغلب.
وسئل هو أيضاً عن رجل ادّعى على آخر أنّ هذا المحدود الذي في يد هذا كان في يديّ منذ عشر سنين، وأنّ هذا الرجل أحدث يده عليها وأقام على ذلك بينة، قال: يأمر القاضي المدعى عليه مقضياً عليه حتى لو أتى بالحجة قبلت بينته، ولو أن المدعى عليه أقام بينة أن هذا المحدود كان في يده منذ عشرين سنة، وأنّ هذا المدعي أحدث يده عليها هل تقبل بينته؟ فقد قيل: ينبغي أن لا تقبل وقد قيل: ينبغي أن تقبل وتترك العين في يد المدّعى عليه، ويكون هذا من باب العمل بالبينتين.l
ذكر في «المأذون» أجير الخياط مع الخياط إذا ادعيا متاعاً في يدي الأجير، فإن كان المتاع والأجير في دار الخياط أو حانوته، فالقول قول الخياط وإن كانا في دار الأجير، أو في السكة فالقول قول الأجير.(10/114)
-----
وفي «القدوري»: لو أن خياطاً يخيط في دار رجل تنازعا في الثوب، فالقول قول صاحب الدار، وفيه أيضاً لو خرج من دار رجل وعلى عاتقه متاع، فإن كان هذا الرجل الذي على عاتقه هذا المتاع يعرف ببيعه وحمله فهو له، وإن لم يعرف بذلك فهو لرب الدار، وهكذا روى ابراهيم عن محمد. وفي «القدوري» أيضاً: في حمال عليه كارة في دار بزاز اختلفا في الكارة، فإن كان من حمال البز والكارة مما يحمل فالقول قول البزاز، وإلا فالقول قول الحمال. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل دخل في دار فوجد معه مال، فقال رب الدار: هذا مالي أخذته من منزلي، قال أبو حنيفة رحمه الله: القول قول رب الدار، ولا يصدق الداخل في شيء، ما خلا ثيابه التي عليه إن كانت الثياب مما يلبس، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان الداخل يعرف بصناعة شيء من الأشياء بأن كان حمالاً يحمل ... الزيت فدخل وعلى رقبته ..... زق وزيت، لو كان ممن يبيع الجبن ويطوف بالمتاع في الأسواق فالقول قوله، ولا أصدق رب الأرض عليه.
رجل أجر عبده من قصّار أو خيّاط ثم لقي مولى العبد عبده في الطريق ومعه متاع، فزعم أنه له وقال المستأجر: هو لي، فالقول قول المستأجر، وإن لم يكن من صناعة المستأجر، فالقول قول رب العبد، فإن كانا في منزل المستأجر فالقول قول المستأجر في الوجهين جميعاً.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل اصطاد طائراً في دار رجل، فإن اتفقا على أنه على أصل الإباحة فهو للصائد، وإن قال رب الدار كنت اصطدته قبلك، أو ورثته وأنكر الصائد، فإن كان أخذه من شجر الدار وغير ذلك فالقول قول رب الدار، قال أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف جواب الأصل، وعنه أيضاً: في رجل يقود قطاراً من الإبل، وعلى بعير منها رجل راكب، فادعى القائد والراكب ...... البعير فللراكب البعير الذي عليه والباقي للقائد.(10/115)
-----
وفي «المنتقى»: قطار بعير على أول بعير منها راكب، وعلى بعير في وسطها راكب، وعلى بعير في آخرها راكب، والراكب الثاني سابق هكذا ذكر في بعض النسخ أن الراكب الثاني سابق، وادعى كل واحد من الراكبين أن الإبل كله له وأقاموا البينة على ما ادعوا، ذكر أن البعير الذي عليه الأول بين الأوسط والآخر نصفان، والبعير الذي عليه الأوسط بين الأول والآخر نصفان، والبعير الذي عليه الآخر بين الأول والأوسط نصفان، والإبل الذي ما بين الآخر إلى الأوسط للآخر نصفها، والنصف الآخر بين الأول والأوسط نصفان، ذكر هذه المسألة في موضع آخر بعينها ولم يقع في شيء من النسخ ثمة أن الراكب الثاني سابق كما وقع في بعض النسخ ههنا، وأجاب ثمة أن كل بعير عليه راكب فهو لراكبه خاصة، وما بين البعير الأول إلى البعير الأوسط الذي عليه الراكب فهو كله للأول؛ لأن الأول قائدها والأوسط سابق، فلا شيء له منها، وما بين البعير الأوسط إلى الآخر فهو بين الأول والأوسط نصفان؛ لأن الأوسط قائدها كالأول، وما ذكر في موضع آخر من الجواب جواب ما إذا لم يقم لواحد منهم بينة.
(10/116)
-----
فإن أقام كل واحد بينة أن البعير كلها له، فالبعير الذي عليه الأول بين الأوسط والآخر نصفان؛ لأنهما فيه خارجان وراكبه ذو اليد فرجحت بينتهما على بينته، والبعير الذي عليه الأوسط بين الأول والآخر نصفان، والبعير الذي عليه الأخير بين الأول والأوسط لما ذكرنا في البعير الأول، والبعير الذي بين الأول والأوسط فهو بين الأوسط والآخر نصفان؛ لأن الأول فيها ذو اليد وهما خارجان، والذي بين الأوسط والآخر فللآخر نصفها والنصف الآخر بين الأول والأوسط نصفان؛ لأن الآخر فيها خارج والأول في نصفها، ذو اليد وفي نصفها خارج والأوسط كذلك؛ لأنها في أيديهما فكان في يد كل واحد منهما نصفها، فكانا مع الآخر كخارجين فيكون النصف لهما، والنصف للآخر ثم النصف الذي كان للأوسط والأول فكل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه، فكانت بينته في ذلك.
وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل يقود غنماً أو بقراً، ورجل آخر يسوقها، فادعى القائد والسائق ذلك كله، قال إن كان القائد والسائق أمرهما مشكلاً لا يعرفان فذلك كله للسائق، وليس للقائد منها شيء إلا أن يكون يقودها شياه، فيكون له الشاة وحدها.
وقال في سفينة ادعاها رجل هو راكبها، ورجل ممسك سكافها، ورجل يجدف فيها ورجل يمدها، فالسفينة بين راكبها ومن تمسك بسكافها الذي يجدف فيها ولا شيء للذي يمدها.
وعن محمد في عبد لرجل موسر في بيت رجل معسر ليس في بيته إلا .... ملقى وفي عنق العبد بدرة فيها عشرة آلاف درهم فادعى كل واحد منهما البدرة، والبدرة للذي عرف باليسار.
وفي المزارعة الصغيرة: إذا دفع إلى خياط ثوباً ليخيط ثم اختلفا بعدما صار الثوب مخيطاً فقال رب الثوب: أنا خطته، وقال الخياط: أنا خطته، فإن كان الثوب في يد الخياط فالقول قول الخياط، وله الأجر وإن كان الثوب في يد رب الثوب، فالقول قول صاحب الثوب، وإن كان الثوب في أيديهما، فالقول قول الخياط وعلى صاحب الثوب الأجر.(10/117)
-----
وفي (194أ4) «فتاوى أبي الليث»: رجل دفع إلى قصار أربع ثياب ليقصرها فقصرها وقال لرب الثوب: ابعث إلي من يقبض الثياب، فدفع القصار الثياب إلى من بعث فجاء بها إلى رب الثوب، فإذا هي ثلاثة، فقال القصار: دفعت إليه أربعة، وقال: الرسول دفع إلي ولم يعده فقال لرب الثوب: صدق، إنها سبب فإن هما صدقه برئ عن الخصومة، وإن هما كذبه حلفه، فإن حلف برء عن الخصومة، وإن نكل لزمه ما ادعاه فإن صدق القصار لزمه، وإن كذب القصار وحلف فللقصار على صاحب الثوب اليمين على الآخر، فإن حلف برئ عن أجر الثوب الرابع. كذا قاله أبو بكر رحمه الله.
ادعى داراً في يد إنسان أنها ملكه وأن أباه باعها منه في حال بلوغه بغير رضاه، وقال صاحب اليد: إن أباك باعها مني في حال صغرك، فالقول قول الابن؛ لأنه ينكر زوال ملكه، وإن أقام صاحب اليد بينة إن أباك باعها في حالة الصغر بثمن المثل، قبلت بينته واندفع عنه خصومة الابن، وإن أقام صاحب اليد بينة أنه باعها في حال صغرك بثمن المثل وأقام الابن بينة أنه باعها بعد بلوغي بغير رضائي يجب أن تكون البينة بينة صاحب اليد لأنها هي المثبتة.
بشر عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: امرأة أقرت بعد وفاة زوجها أنه كان طلقها ثلاثاً في مرض موته، وأنه لم تنقض عدتها حتى مات، وقالت الورثة: طلقك في حالة الصحة فالقول قول المرأة، والمسألة في كتاب الطلاق، وإنما أوردنا ههنا لزيادة تفريع لم يذكرها ثمة، فقال: لو أقاموا بينة ووقتوا وقتاً واحداً وشهدت بينة الورثة أنه كان صحيحاً يومئذ، أخذت ببينة الورثة.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل في يديه ثوب قال له رجل: بعتك هذا الثوب بخمسين درهماً وقال صاحب اليد: وهبته لي فالقول قوله، ولا يلزمه الخمسون.(10/118)
-----
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه ونقده الثمن ثم أقر بعد ذلك بالعبد للبائع فقال: هذا العبد لفلان فأراد البائع أن يقبضه، وقال: العبد عبدي، فقال المقر: أنا بعتك العبد بألف درهم فالقول قوله، قال: من قبل أن العبد وصل إلى المقر من قبل المقر له فيكون القول فيه قول المقر، قال: ولا يشبه هذا إقرار الرجل بعبد في يديه لرجل لم يصل ذلك العبد إلى المقر من قبل المقر له.
قال: وكذلك رجل أقر بعبد لرجل أمس، وأقر المقر له بالعبد اليوم للمقر الأول، فقال المقر له الثاني: العبد عبدي، وقال المقر الثاني: إنما أقررت بذلك، لأني بعته منك وإنما وصل إلي من قبلك، فالقول قوله ولا يأخذه إلا بالثمن، وإذا ادعى على آخر عرصة كذا بالميراث، وقضى القاضي للمدعي بالعرصة ببينة أقامها، ثم اختلف المقضي له بالعرصة والمقضي عليه بالعرصة في الأشجار والسكنى، ولا بينة لواحد منهما، فقيل: القول قول المقضي عليه بالعرصة؛ لأنه صاحب يد في الأشجار والسكنى حقيقة، وقيل: القول قول المقضي له بالعرصة؛ لأنهما اختلفا فيما هو متصل بملك المقضي له، وهو الأرض فيكون صاحب اليد فيما اختلفا هو المقضي له بالعرصة.
أقر الرجل لوارثه بشيء ومات المقر، ثم اختلف المقر له وباقي الورثة، فقال المقر له: أقر في حالة الصحة وقال باقي الورثة: أقر في حالة المرض فالقول قول باقي الورثة؛ لأن الاستحقاق يقع عليهم، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المقر له، فإن لم يكن للمقر له بينة وأراد استحلاف باقي الورثة فله ذلك.
أشار إلى هذه الفصول في أول وصايا «الجامع الصغير» في باب اعتبار حال الوصية. فقال: مريض أوصى لرجل بوصية ومات، واتفق الوارث والموصى له أنه قد كان أعتق هذا العبد فقال الوارث أعتقه في المرض وقال الموصى له: أعتقه في الصحة فالقول قول الورثة إلى تمام المسألة.(10/119)
-----
رجل مات وترك ابنة وأخاً ومتاعاً فقالت البنت: المتاع كله لي، وقد كان اشتراه الأب لي من مالي بأمري، والأخ يقول: الأمتعة كلها للميت فالقول قول الأخ؛ لأن البنت تدعي وكالة الأب في الشراء والأخ ينكر، ألا ترى أنه لو كان الأب حياً وقع الاختلاف بينه وبين البنت في الأمتعة؟ فقالت البنت: كنت وكيلي في شراء هذه الأمتعة، والأب ينكر ذلك كان القول قوله، والمعنى في ذلك: أن الأصل يصرف الإنسان لنفسه، فالأب بإنكار الوكالة متمسك بما هو الأصل، فكان القول قوله فكذا ههنا.
رجل ادعى على آخر أنه كان لفلان عليك كذا وكذا، وقد مات فلان، وصار ماله عليك ميراثاً لي، وقال المدعى عليه: أنا أوفيته هذا المال المدعى، وذهب ليأتي بالبينة فلم يأت ثم إن المدعي أعاد دعواه ثانياً في مجلس آخر فقال المدعى عليه: لا علم لي ... أبيك سمع ذلك منه.
وفي «واقعات الناطفي»: إذا أقام البينة على عبد في يدي رجل أنه كان عبده، وأنه كان في يده منذ سنة حتى اغتصبه هذا الذي هو في يديه، وأقام ذو اليد البينة أنه عبده منذ عشرين سنة، فهو لمن في يديه؛ لأن بينته أسبق تاريخاً.
وفي «العيون»: تنازعا في شيء فأقام أحدهما البينة أنه كان في يده منذ شهر، وأقام الآخر بينة أنه في يده الساعة، أقره القاضي في يد مدعي الساعة؛ لأن يد الآخر منقضية واليد المنقضية لا عبرة لها عند أبي حنيفة ومحمد، ولو أقام أحدهما بينة أنه في يده منذ شهر، وأقام الآخر بينة أنه في يده منذ جمعة قضى به لمدعي الجمعة.(10/120)
-----
وفي «العيون»: رجل في يديه أرض لغيره أجرها، وقال رب الأرض للآجر: أجرتها بأمري، وقال الآجر: غصبتها منك، ثم أجرتها فالقول قول رب الأرض، لأن الأصل أن يكون بدل منافع الأعيان لمالك الأعيان، فالآجر بدعوى الغصب أولاً يدعي ذلك لنفسه، ولو بنى فيها ذو اليد ثم أجرها، فقال رب الأرض: أمرتك أن تبني فيها لي وتؤجرها، وقال ذو اليد: غصبتها منك وبنيتها، ثم أجرتها يقسم الآجر على الأرض ببينته وعلى الأرض ثلاثياً، فما أصاب الأرض فهو لصاحب الأرض وما أصاب البناء فهو لذي اليد، لأن القول في البناء لذي اليد إذ الأصل أن يعمل الإنسان لنفسه، فرب الأرض يدعي خلاف ما هو الأصل، ولو قال صاحب الأرض: غصبتها مني ببينة، فالقول قوله وإن أقاما البينة فبينة الغاصب أولى.
ولو قال لغيره: غصبت منك ألفاً وربحت فيها عشرة آلاف، وقال المقر له: لا بل أمرتك به فالقول للمقر له، ولو قال المقر له: بل غصبت الألف والعشرة آلاف فالقول للمقر، ولو قال: غصبت منك ثوباً وقطعته وخطته بغير أمرك، وقال المقر له: بل غصبتني القميص أو قال: بل أمرتك بخياطته فالقول للمقر.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: في نهر لرجل إلى جنبه مسناة وأرض لرجل خلف المسناة، متصل بها ادعى صاحب النهر أن المسناة له وادعى صاحب الأرض أن المسناة له، فهذه المسألة على وجهين:(10/121)
-----
إما إن كانت المسناة في يد أحدهما بأن كان غرس أحدهما أو زرع أحدهما عليها، وفي هذا الوجه يقضى بالمسناة لصاحب النهر عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة يقضى بها لصاحب الأرض، هكذا ذكر المسألة في «الكتاب» بعض مشايخنا قالوا: هذا الخلاف فيما إذا كان النهر أعلى يقضى بالمسناة لصاحب النهر؛ لأنه هو المحتاج إلى المسناة وإن كانت الأرض أعلى، يقضى بالمسناة لصاحب الأرض؛ لأنه هو المحتاج إليها إلا أن في «الكتاب» أطلق الجواب إطلاقاً، من مشايخنا من قال: هذه المسألة بناء على مسألة أخرى، أن صاحب النهر هل يستحق حريماً لنهره إذا حفر نهراً في أرض الموات على قولهما يستحق، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يستحق وإذا كان من مذهبهما أن صاحب النهر يستحق الحريم لنهره كانت المسناة في يد صاحب النهر تبعاً للنهر، فيقضى له بحكم اليد، وإذا كان من مذهب أبي حنيفة أن صاحب النهر لا يستحق الحريم، لم تكن المسناة (194ب4) في يد صاحب النهر، وأنها ليست في يد صاحب الأرض أيضاً؛ لأنه لا حريم للأرض بلا خلاف حتى تكون المسناة في يد صاحب الأرض، إلا أن المسناة أشبه بالأرض، لأنها تصلح للزراعة والغراسة كالأرض والنهر يصلح كذلك.(10/122)
والأصل في كل شيء تنازع فيه اثنان وليس هو في يد أحدهما إلا أن في يد أحدهما ما هو أشبه بالشيء المنازع فيه، فإنه يقضى به لمن كان في يده ما هو أشبه به، كما لو تنازعا في إحدى مصراعي باب وهو موضوع على الأرض، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما فإنه يقضى بالموضوع لمن كان المصراع الآخر معلقاً على بابه، إذا كان الموضوع يشبه المعلق كذا ههنا، إن جعلنا المسناة بناءً على مسألة الحريم، وإن جعلناها ابتداءً كما ذهب إليه بعض المشايخ فوجه قولهما في المسألة أن الظاهر: شاهد لصاحب النهر، فإن له عليها يد استعمال فإنها تلقي طينه، ألا ترى أن صاحب الأرض لو أراد أن يمنعه عن إلقاء الطين عليها ليس له ذلك؟ والقول قول من يشهد له الظاهر.(10/123)
-----
وجه قول أبي حنيفة: أن الظاهر في جانب صاحب الأرض أقوى فيكون هو أولى، بيانه: أن الحريم أشبه بالأرض من النهر صورة ومعنى، أما صورة: فإنها مستوياً توازي كل واحد منهما يصلح للزرع والغرس، والنهر لا يصلح لذلك فكان القضاء لصاحب الأرض أولى، كما قلنا في المستأجر ببيع رب الدار إذا اختلفا في لوح وهو يماثل الألواح المركبة، فإنه يقضى به لرب الدار كذا ههنا؛ ولأن يد صاحب الأرض إلى هذا الموضع أسبق، لأن هذا الموضع كان أرضاً في الأصل ثم صار نهراً بعارض، فكان القضاء له أولى.
كما لو تنازع اثنان في حائط ولأحدهما اتصال تربيع، والآخر عليه جذوع كان القضاء بالحائط لصاحب الاتصال أولى، لأن يده سابق، وأما إلقاء الطين على المسناة فقد قال بعض مشايخنا: إن لصاحب الأرض أن يمنع صاحب النهر من إلقاء الطين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله، والصحيح أنه ليس له ذلك؛ لأن هذا قضاء بالظاهر، فيجب القضاء على حسب ما ظهر وقد ظهر أن المسناة لصاحب الأرض، ولصاحب النهر حق إلقاء الطين عليه وهو نظير ما قلنا في مسألة الحائط إذا قضي به لصاحب التربيع لا يؤمر صاحب الجذع برفع الجذع، والفقه ما ذكرنا أن الظاهر لا يصلح لإبطال حق الغير على الغريم.
ثم ذكر في الكتاب: أن على قولهما يقضى بالمسناة لصاحب النهر، ولم يتعين أنه بأي مقدار يقضى له، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا: يجعل له بقدر ما يمر عليه رجل واحد، وعن أبي يوسف في «النوادر»: أنه يمسح بطن النهر فيجعل له من كل جانب مثله.(10/124)
-----
وثمرة الخلاف المذكور في هذه المسألة لا تظهر في هدم المسناة فإن المسناة وإن كانت لصاحب الأرض عند أبي حنيف فليس له هدمها دفعاً للضرر عن صاحب الماء، فإنه لا يتمكن من إجراء الماء فيه بدون المسناة، وإنما تظهر ثمرة الخلاف في شيئين في ولاية الغرس على المسناة، عند أبي حنيفة رحمه الله ولاية الغرس لصاحب الأرض وعندهما لصاحب النهر، والثاني: أنه إذا كان على المسناة أشجار ولا يدري من غرسها، فعلى قول أبي حنيفة: الأشجار لصاحب الأرض، وعندهما لصاحب النهر.
ثم إن أبا حنيفة فرق بين المسناة وبينما إذا حفر الرجل في داره بئراً، وهو مما يضر بدار جاره، فإنه لا يمنع عن ذلك، وقال في مسألة المسناة: إذا تصرف صاحب الأرض في المسناة تصرفاً يتضرر به صاحب النهر بعد الهدم يمنع عنه، وفي الموضعين جميعاً حصل متصرفاً في خالص ملكه.
والفرق: أن هدم المسناة ليس بانتفاع المثل بالمسناة، لأن الانتفاع بالمسناة الزراعة وغرس الأشجار لا الهدم، ومن انتفع بملكه انتفاعاً لا ينتفع بمثله عن ذلك وإذا تعدى إلى ملك الغير صار ضامناً كما لو سقى أرض نفسه سقياً غير معتاد، فأما إذا حفر البئر في داره انتفع بالدار انتفاع مثله، ومن انتفع بملكه انتفاع مثله لا يمنع عنه، وما يتولد منه لا يكون مضموناً عليه كما إذا سقى أرض نفسه سقياً معتاداً.
بقي ههنا فصل آخر، أن صاحب الأرض إذا أراد أن يمنع صاحب النهر عن المرور على المسناة، هل له ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله؟ بعض مشايخنا قال: ليس له ذلك، وبعضهم قالوا: له ذلك إذا لم يكن فيه ظاهر ضرر وهو الأشبه والله أعلم.
هذا الفصل يشمل على أنواع أيضا
الأول: في دعوى الخارج مع ذي اليد:(10/125)
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل: »إذا ادعى الرجل دابة في يد إنسان أنها ملكه تحت عبده، وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، القياس: أن يقضى بها للخارج، وفي الاستحسان: يقضى بها لصاحب اليد، سواء أقام صاحب اليد البينة على دعواه قبل القضاء بها للخارج أو بعده، وجه القياس في ذلك: أن بينة الخارج أكثر استحقاقاً من بينة ذي اليد؛ لأن الخارج ببينته، كما يثبت استحقاق أولية الملك بالنتاج يثبت استحقاق الملك الثابت لذي اليد بظاهر يده، وذو اليد ببينته لا يثبت استحقاق الملك الثابت الخارج بوجه ما، فهو معنى قولنا: إن بينة الخارج أكثر استحقاقاً فكانت أولى بالقبول كما في دعوى الملك المطلق.
وجه الاستحسان: حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقضى في عين هذه الصورة لصاحب اليد، والمعنى في المسألة: أن صاحب اليد سبباً أيضاً بيانه: أن الخارج يدعي أولية الملك لنفسه بسبب النتاج لا يحتمل التملك على ذي اليد بوجه ما؛ لأن بعدما ثبت الملك لذي اليد بسبب النتاج لا يتصور أن يصير للخارج بسبب النتاج لأن النتاج، مما لا يتكرر، فلا يمكننا أن نجعل ما يستحقه الخارج من الملك الثابت لذي اليد بظاهر اليد استحقاقاً على ذي اليد، بل يكون بياناً أنه كان للخارج من الأصل لا أنه لذي اليد ثم صار للخارج بخلاف دعوى الملك المطلق؛ لأن دعوى الملك المطلق أن يقول هذا لي، وقوله: كما يحتمل أن يكون له من الأصل، يحتمل أن يكون له من جهة صاحب اليد، ولهذا يستقيم التصريح به يستقم أن يقال هذا لي لأني تملكته من جهة المدعي، فأمكننا أن نجعل ما يستحقه الخارج من الملك الثابت لذي اليد بظاهر اليد استحقاقاً على ذي اليد فجعلناه كذلك في حق ترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد إن لم يجعله، كذلك في حق الحكم، فإن دعوى مطلق الملك جعل دعوى أولية الملك حكماً حتى يظهر ذلك في حق استحقاق الولد.(10/126)
-----
وعن هذا قلنا: إن في فصل النتاج لو تفرد الخارج بإقامة البينة، وقضى له ثم أقام صاحب اليد البينة على النتاج، تقبل بينته ويقضى له بالبداية، لأن الخارج ببينته لم يستحق على ذي اليد شيئاً، فلم يصر ذو اليد مقضياً عليه فتسمع بينته كما تسمع بينة أجنبي آخر، وفي دعوى الملك المطلق، لو تفرد الخارج بإقامة البينة وقضى له ثم أقام صاحب اليد بينة أنه لا تسمع بينته؛ لأن الخارج ببينته يستحق على ذي اليد الملك الثابت له بظاهر يده فصار ذو اليد مقضياً عليه، فلا تسمع بينته بعد ذلك.
هذا هو الحرف المعتمد الموروث من استنادي في الفرق بين فصل النتاج وبين فصل الملك المطلق، فإن قيل: ما ذكرتم من العلة في فصل النتاج يشكل بما إذا ادعى الخارج ملكاً مطلقاً وادعى ذو اليد للنتاج وأقاما البينة، فإن في هذه الصورة بينة ذو اليد أولى، وفي بينة الخارج ههنا زيادة استحقاق على ذي اليد، قلنا: نعم في بينة الخارج زيادة استحقاق على ذي اليد في هذه (195أ4) الصورة، إلا أن في بينة ذي اليد سبق التاريخ، لأنها تثبت أولية الملك على وجه لا يحتمل التملك من جهة الغير، فكان ذو اليد أسبقهما تاريخاً، فإنما قضي لذي اليد أسبقهما تاريخاً، فإنما قضي لذي اليد في هذه الصورة.f(10/127)
-----
لهذا ألا ترى أنهما لو ادعيا ملكاً مطلقاً وأرخا، وذو اليد أسبقهما تاريخاً يقضى لذي اليد؟ وإن كان في بينة الخارج زيادة استحقاق على ذي اليد، لهذا إن أسبقهما تاريخاً ذو اليد ثم اختلف المشايخ بعد ذلك أن القضاء لذي اليد في هذه الصورة قضاء ترك أو قضاء استحقاق، قال عيسى بن أبان رحمه الله: إنه قضاء ترك حتى يحلف ذو اليد للخارج؛ لأن البينتان تهاترا، لأن القاضي تيقن بكذب أحدهما على وجه لا يجد لذلك محملاً؛ لأن المطلق لأداء الشهادة على النتاج معاينة الولادة لا ظاهر اليد ولا يعرف الملاك ولا التسامح، وولادة دابة واحدة من دابتين أو دابة واحدة من أن لا يصور لها وفي مثل هذا تتهاتر البينتان كما في مسألة الكوفة ومكة وأدائها ترتب البينتان، صار كأنهما لم يقيما البينة ولو لم يقيما البينة، يقضى لذي اليد قضاء ترك، بعدما يستحلف للخارج ويحلف كذا ههنا وعلى قياس ما ذكره عيسى يجب أن لا تقبل بينة الخارجين على النتاج، وكذلك يجب أن لا تقبل بينة ذي اليد على النتاج إذا أقامها بعد القضاء للخارج، كما في مسألة الكوفة ومكة، متى قضي بشهادة أحد الفريقين لا تسمع شهادة الفريق الآخر بعد ذلك، وقال عامة المشايخ: قضاء استحقاق حتى لا يحلف ذو اليد للخارج.(10/128)
-----
ووجه ذلك: أن القاضي وإن تيقن بكذب إحدى البينتين إلا أنه يجد لكل بينة محملاً، يطلق لها أداء الشهادة بالنتاج بأن عاين إحدى البينتين نفس الولادة في يد الغاصب ودار الغاصب، فيه يتصرف الملاك، إلا أنها لم يعلمه غاصباً فيحل لهم أداء الشهادة للغاصب بناء على ذلك، والبينة الأخرى علمت حقيقة الحال وكون اليد في يديه الدابة غاصباً، فيحل لهم أداء الشهادة للمغصوب منه بالنتاج بناء على ذلك، أو عاين إحدى البينتين الولادة من دابة زيد، والبينة الأخرى عاينت اتباع هذا الولد دابة عمرو والارتضاع منها، وإذا وجد القاضي لشهادة كل فريق محلاً يطلق له الشهادة، كانت الشهادة على النتاج من الخارجين والشهادة على مطلق الملك من الخارجين سواء وهناك لا تتهاتر البينتان.
وإن تيقن القاضي بكذب إحدى البينتين؛ لأن العين الواحد لا يتصور أن يكون مملوكاً لشخصين في زمان لكل واحد منهما وكماله لهذا إن للقاضي وجد لكل فريق محلاً يطلق له أداء الشهادة، بأن عاين أحد الفريقين أحد الخصمين باشر سبب الملك، وعاين الفريق الآخر الخصم تصرف فيه تصرف الملاك، كذا ههنا بخلاف المسألة الكوفة ومكة؛ لأن هناك القاضي تيقن بكذب إحدى البينتين، على وجه لا يجد لها محلاً يطلق له أداء الشهادة؛ لأن المطلق للشهادة بالطلاق والعتاق معاينة الشهود إيقاع الطلاق والعتاق، لا طريق لأداء الشهادة هناك غير هذه، ولا يتصور سماع الفريقين إيقاع الطلاق والعتاق في يوم واحد من شخص واحد بكوفة ومكة؛ لأن الشخص الواحد على ما عليه العادة لا يتصور أن يكون في يوم واحد بالكوفة ومكة، فتهاترت البينتان.(10/129)
-----
أما ههنا بخلافه: هذا إذا لم يؤرخا، أو أرخا قضي لصاحب اليد إلا إذا كان سن الدابة مخالفاً لوقت صاحب اليد موافقاً لوقت الخارج، فحينئذ يقضي للخارج وإن كان سن الدابة مخالفاً للوقتين، لم يذكر هذا الفصل في الأصل في الدابة، وعامة المشايخ على أنه تتهاتر البينتان وتترك الدابة في يد صاحب اليد قضاء ترك.
وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» وذكر محمد رحمه الله في «الأصل »في آخر دعوى النتاج: عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبده ولد في ملكه، ووقت لذلك وقتاً، وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، والعبد من الوقتين أكبر وأصغر تتهاتر البينتان، فتصير مسألة العبد رواية مسألة الدابة، إذا كان سنُّه على خلاف الوقتين إنه تتهاتر البينتان.
ومما يتصل بهذا النوع إذا ادعى الخارج فعلاً مع النتاج، أو ادعى كل واحد منهما فعلاً مع النتاج صورته: فيما إذا كان دعوى الفعل مع النتاج من جهة الخارج، ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» في باب دعوى العتق: عبد في يدي رجل، أقام رجل البينة أنه ولد في ملكه وأنه أعتقه أو دبره، وأقام الذي في يديه بينة أنه عبده ولد في ملكه، قضي للخارج، وإن ادعيا النتاج؛ لأن في دعوى النتاج بدون دعوى الفعل من الخارج إنما بينة ذي اليد كان أولى، لأن البينتان استويا في الإثبات فيما وقع فيه الدعوى، فإن كل بينة تثبت أولية الملك لصاحبها، على وجه يمتنع استحقاقها إلا من جهته، فرجحنا بينة صاحب اليد بحكم اليد، وههنا بينة الخارج أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى، لأنها تثبت أولية الملك للخارج على وجه يمتنع استحقاقه أصلاً، لأن الملك بعد العتق يصير بحال لا يستحق أصلاً، وذو اليد ببينته يثبت أولية الملك على وجه يتصور استحقاق ذلك عليه، فكان بينة الخارج أكثر لأنها تثبت أولية الملك للخارج، على وجه يتصور الاستحقاق عليه من جهته، فإن الملك بعد البيع والإجارة، لا يصير بحال لا يتصور استحقاقه عليه، فرجحنا بينة ذي اليد بحكم يده.(10/130)
-----
وبخلاف ما إذا ادعى الخارج العتق مع مطلق الملك، وذو اليد ادعى النتاج، فإن بينة ذي اليد أولى؛ لأن دعوى العتق إنما يعتبر ترجيحاً عند استواء البينتين في إثبات الملك، وما استوت البينتان ههنا في إثبات الملك؛ لأن الخارج يثبت أولية الملك مع الاحتمال، وذو اليد يثبت أولية الملك بلا احتمال.
ولو ادعى الخارج التدبير مع النتاج، وادعى صاحب اليد النتاج لا غير، وفي هذا الوجه اختلفت الروايات، ذكر في رواية أبي سليمان أنه يقضي للخارج، وجعله بمنزله العتاق وذكر في رواية أبي حفص أنه يقضي لذي اليد، وجعله بمنزلة الكتابة.
وجه رواية أبي حفص: أن التدبير يفيد حق العتق ولهذا لا يجوز إعتاق المدبر عن كفارة يمينه والحق يلحق بالحقيقة فصار دعوى التدبير ودعوى الإعتاق سواء بخلاف الكتابة؛ لأنها لا تفيد حق العتق ولو ادعى الخارج التدبير والاستيلاد مع النتاج، وادعى ذو اليد عتقاً تاماً كان ذو اليد أولى؛ لأن البينتان استويا فيما وقع فيه الدعوى، فرجحنا بينة صاحب اليد بحكم اليد، فكذا إذا ادعى الخارج التدبير أو الاستيلاد، ولو ادعى ذو اليد التدبير أو الاستيلاد مع النتاج وادعى الخارج عتقاً تاماً مع النتاج كان بينة الخارج أولى؛ لأن بينة الخارج أكثر إثباتاً، لأنها تثبت أولية الملك للخارج على وجه لا يستحق عليه من جهته لا رقبة ولا يداً، وذو اليد أثبت أولية الملك على وجه يتصور استحقاقه عليه رقبة ويداً بقضاء القاضي في التدبير والاستيلاد، ويداً لا رقبة بالإجارة والإعارة والنكاح.
وفي كتاب الولاء في باب الشهادة في الولاء: إذا ادعى ذو اليد النتاج وادعى الخارج أنه ملكه غصبه منه ذو اليد كانت بينة الخارج أولى، وكذا إذا ادعى ذو اليد النتاج وادعى الخارج أنه ملكه أو أودعه منه أو أعاره منه، كانت بينة الخارج أولى.(10/131)
-----
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الحاصل أن بينة ذي اليد على النتاج إنما تترجح على بينة الخارج على النتاج أو على مطلق الملك بأن ادعى ذو اليد النتاج وادعى الخارج النتاج، أو ادعى الخارج الملك إذا لم يدع الخارج فعلاً على ذي اليد نحو الغصب أو الوديعة أو الإجارة أو الرهن أو العارية أو ما أشبه ذلك، أما إذا ادعى الخارج الملك المطلق (195ب4) ومع ذلك فعلاً فبينة الخارج أولى.
وأشار محمد رحمه الله ثمة إلى المعنى وقال: لأن بينة الخارج في هذه الصورة أكثر إثباتاً، لأنه يثبت الفعل على ذي اليد وهو الغصب أو الاستئجار وما أشبه ذلك، وإنه ليس بثابت أصلاً وذو اليد ادعى أولية الملك واليد إن كانت لا تدل على أولية الملك على أصل الملك فكان ما ادعاه ذو اليد ثابتاً من وجه بظاهر يده، وما ادعاه الخارج من الغصب والإعارة وغير ذلك ثابت أصلاً في مثل هذه المسألة طريقاً آخر.
وصورة ملك عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبده غصبه ذو اليد منه أو قال: استأجره ذو اليد منه أو استعاره منه أو ارتهنه منه وأقام ذو اليد بينة أنه ملكه أعتقه أو دبره، أو كانت أمة أقام ذو اليد بينة أنه استولدها كان بينة الخارج أولى، وقضي بالعبد له وكان ينبغي أن تكون بينة ذي اليد أولى؛ لأن ذا اليد يدع النتاج معنى؛ لأن النكاح والإعتاق والتدبير في معنى النتاج، وذو اليد إذا ادعى النتاج كان هو أولى من الخارج.(10/132)
-----
ذكر محمد رحمه الله هذا السؤال، وذكر جوابه فقال: ذو اليد إذا ادعى النتاج إنما يكون أولى من الخارج إذا صح منه دعوى النتاج ولم يصح دعوى النتاج من ذي اليد ههنا إنما أثبته الخارج على ذي اليد أن الملك له للخارج؛ لأن الاستئجار والاستعارة والارتهان إقرار بملك الآجر والمعير والراهن، ومع إقرار ذي اليد بالملك للخارج لا يصح دعوى صاحب اليد النتاج، والبينة لا تسمع بدون الدعوى، وإذا لم يسمع بينة ذي اليد صار كأنه لم يقم البينة، وكذلك إذا أثبت الخارج عليه الغصب؛ لأن من الجائز أن شهود الخارج شهدوا بالغصب على ذي اليد، لأنهم عاينوا أخذ ذي اليد من الخارج، ويجوز أنهم شهدوا بالغصب على ذي اليد؛ لأنهم سمعوا إقراره بالغصب فباعتبار الآخر إن كان دعوى النتاج من ذي اليد صحيحاً، فباعتبار الإقرار لا يصح كما لو عينا إقراره أنه غصبه منه فلا تصح دعواه مع الشك، فقد تمكن في جانب اليد ما يبطل دعواه النتاج إما من كل وجه كما في الإيداع والإعارة والإجارة، أو من وجه كما في الغصب ولم يتمكن من جانب الخارج ما يمنع دعواه الغصب على ذي اليد؛ لأن دعواه الغصب على ذي اليد لو لم تصح إنما لم تصح أن لو عرف الشهود حقيقة الملك لذي اليد، حتى ينبغي غصب ذي اليد، ولا يتصور ذلك، لأن الشهود لا يعرفون حقيقة الملك، وإنما يعرفون الملك من حيث الظاهر وما لم تثبت الشهادة بحقيقة الملك لذي اليد لا ينتفي غصب ذي اليد.
وهذا بخلاف ما لو لم يشهدوا شهود الخارج على ذي اليد بالغصب إنما شهدوا للمدعي بالملك المطلق، وادعى ذو اليد المطلق والعتق أو التدبير، فإن هناك يقضى ببينة ذي اليد؛ لأن هناك لم يثبت بينة الخارج ما يمنع صحة دعوى ذي اليد النتاج، وهو إقراره بالملك للخارج لا من كل وجه ولا من وجه.(10/133)
-----
فإن قيل: لا بل في تلك الصورة وجد في بينة الخارج ما يمنع صحة دعوى ذي اليد النتاج، وهو الشهادة بالغصب على دعوى ذي اليد من الخارج؛ لأن الشهادة بالملك للخارج شهادة بالغصب على ذي اليد، وإذا كان العين في يد ذي اليد اقتضاء والثابت نصاً، سواء قلنا: نعم الشهادة بالملك للخارج شهادة على غصب ذي اليد، إذا كان العين في يد ذي اليد اقتضاء إلا أن المقتضى ثابت بطريق الضرورة فيتقدر بقدر الضرورة، يرتفع متى أثبتنا غصب ذي اليد بالأخذ، فلا يثبت الإقرار بالغصب مقتضى شهادة الخارج؛ لأن الإقرار بالغصب فوق الإقرار الثابت بالأخذ، لأن الغصب الثابت بالأخذ يوجب الضمان ، أما لا يمنع دعواه الملك لنفسه بعد ذلك.
وإذا لم يثبت إقرار ذي اليد بالغصب بشهادة الخارج لم يتمكن في جانب ذي اليد ما يمنع صحة دعواه النتاج، وقد صار بدعوى الإعتاق والتدبير مدعياً النتاج معنى، فتقبل بينته بخلاف ما إذا شهدوا عليه بالغصب، لأن هناك الغصب ثبت بنص الشهادة، وكما يحتمل الغصب بالأخذ يحتمل الغصب بالإقرار، فيعتبر الإقرار ثابتاً لما كان الغصب ثابتاً بنص الشهادة، فباعتبار الإقرار لا يصح دعوى ذي اليد وباعتبار الأخذ يصح، فلا يصح بالشك.
ومما يتصل بهذا النوع ذكر محمد في «الأصل»: شاة في يدي رجل أقام رجل البينة أنها شاته ولدت في ملكه، وأقام صاحب اليد بينة أنها شاته يملكها من جهة فلان وأنها ولدت في ملك فلان ذلك الذي يملكها منه، قضي بها لصاحب اليد؛ لأن صاحب اليد خصم عمن تلقى الملك من جهته ويده يد المتلقي عنه فكأنه حضر وأقام البينة على النتاج، والشاة في يده وهناك يقضى بالشاه له كذا ههنا.(10/134)
-----
وفي «الأصل» أيضاً: شاة في يد رجل جاء رجل وأقام بينة أنها شاته ولدت في ملكه، قضي بالشاة له إلا أن يعيد صاحب اليد، وهو المقضي له منه على النتاج فحينئذٍ تندفع بينة الثاني ببينته وسلمت له الشاة، أما بدون ذلك لا تندفع بينة الثاني، وهذا لأنا لو دفعنا بينة الثاني بما أقام الأول من البينة فقد دفعنا بينة أحد مدعي النتاج ببينة الآخر وهما خارجان، لأن الأول حين أقام البينة كان خارجاً ولا يجوز دفع بينة أحد مدعي النتاج بالآخر وهما خارجان، فإذا أعاد صاحب اليد وهو المقضي له البينة على النتاج لو دفعنا بينة الثاني بهذه البينة، فقد دفعنا بينة الخارج في دعوى النتاج ببينة ذي اليد وذلك جائز.
وإن لم يعد المقضي له البينة حتى قضى القاضي بالشاة للثاني ثم أعاد المقضي له البينة على النتاج ذكر في كتاب «الأقضية»: هذا الفصل في العبد، وقال: لا ينقض القضاء عليه، وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه إنما صار صاحب يد بحكم الأول، وقد انتقض ذلك اليد بالقضاء الثاني، وصار المقضي له الثاني ذا اليد، فكانت بينته أولى بالقبول وذكر في «الأصل»: أن القاضي ينقض القضاء على الثاني، ويقضي به للأول وهو الصحيح.(10/135)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا وقع دعوى الملك المطلق، وأقام الخارج البينة على ذلك دون ذي اليد، وقضى القاضي للخارج على ذي اليد، ثم أراد ذو اليد أن يقيم البينة أن الملك له، فإن هناك القاضي لا يقبل بينة ذي اليد، والفرق أن في دعوى النتاج ذو اليد لا يصير مقضياً عليه بالقضاء للخارج؛ لأن التملك بالنتاج لا يكون تملكاً على أحد، لأنه بعدما ثبت الملك بالنتاج لشخص لا يتصور أن يصير لعبده بالنتاج؛ لأن النتاج مما لا يتكرر فلا يمكننا أن نجعل ما يستحقه الخارج من الملك استحقاقاً على ذي اليد، بل يكون بياناً أنه كان من الأصل لا أنه صار لذي اليد ثم صار للخارج، أما في دعوى الملك المطلق، ذو اليد يصير مقضياً عليه بالقضاء للخارج من وجه، لأن دعوى الملك المطلق يحتمل دعوى التملك على ذي اليد فلهذا افترقا.
ومن هذا الجنس ذكر في «المنتقى»: عبد في يدي بخاري مثلاً أقام عليه سمرقندي البينة أنه عبده، ولد في ملكه، وأقام البخاري بينة بمثل ذلك، وقضى القاضي بالعبد للبخاري وأبطل بينة السمرقندي، ثم حضر خجندي فأقام البينة على البخاري أنه عبده ولد في ملكه، فإنه يستحقه ببينته، إلا أن يعيد البخاري البينة على الخجندي أنه عبده ولد في ملكه، ولم يكتف بالبينة الأولى، فإن لم يقدر البخاري على إعادة البينة وقضى القاضي بالعبد للخجندي، ثم أحضر البخاري بينة أن العبد عبده ولد في ملكه قضى به للبخاري، وإن لم يعد البخاري بينته، ولكنه حضر أوسي وأقام بينة أنه عبده ولد في ملكه، فإن القاضي يقول للخجندي: أعد بينتك على أنه عبدك ولد في ملكك، (196أ4) بمحضر من الأوسي فإن حضر السمرقندي وهو المدعي الأول وأقام البينة أنه عبده ولد في ملكه، لم تقبل بينته؛ لأنه قد قضي عليه به مرة فلا تقبل بينته على أحد بعد ذلك، قال ثمة: وهذا قول أبي يوسف ومحمد وهو قياس قول أبي حنيفة.(10/136)
-----
ومن هذا الجنس ذكر في «المنتقى» أيضاً: عن محمد رجل في يديه عبد أقام رجل بينة بمثل أنه عبده ولد في ملكه، وأقام رجل آخر بينة بمثل ذلك وقضى القاضي بالعبد بينهما نصفين لما يبين بعد هذا إن شاء الله، ثم جاء ثالث وأقام بينة بمثل ذلك يقضى بالعبد له إن لم يقم المقضي لهما بينة أنه عبدهما ولد في ملكهما، فإن أعاد ذلك أحدهما دون الآخر قضي بالنصف الذي في يدي الذي أعاد بينة له ولم تقبل فيه بينة الثالث، ويقضى للثالث على المقضي له الآخر الذي لم يعد البينة بالنصف الذي في يديه ولا شركة فيه مع الثالث للذي أعاد بينته، لأن القاضي حين قضى أول مرة بالعبد بين المقضي لهما فقد قضى لكل واحد منهما على صاحبه بنصفه، فلا يقبل من كل واحد منهما بينة بعد ذلك على ما قضي به لصاحبه، فإن وجد المقضي عليه الأول وهو الذي كان العبد في يده بينة أن العبد ملكه ولد في ملكه وأقامها عند القاضي قضى القاضي بالعبد له، لأنه لو أقام يومئذ بينة على ذلك كان هو أولى فكذلك إذا أقام بينة بعد ذلك.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضا
ما ذكر في «الأصل»: أمة في يدي رجل أقام رجل بينة أن قاضي بلد كذا قضى له بها على هذا الرجل الذي هو في يديه، وأقام ذو اليد بينة أنها أمته ولدت في ملكه، فهذه المسألة على وجوه.
الأول: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلدة كذا قضى لهذا المدعي بشهادة شهود شهدوا عنده أنه اشتراها من ذي اليد، أو وهبها ذو اليد له أو تصدق بها ذو اليد عليه، وفي هذا الوجه القاضي يمضي قضاء ذلك القاضي ويدفعها إلى المدعي.(10/137)
-----
الوجه الثاني: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضى بها لهذا المدعي ولم يثبتوا سبب القضاء، وفي هذا الوجه القاضي يمضي ذلك القضاء أيضاً ويدفعها إلى المدعي، لأن ذلك القضاء قد صح ظاهراً، ومن الجائز أن يكون القاضي إنما قضى بشهادة شهود شهدوا عنده أن المدعي اشتراها من ذي اليد، أو وهبها ذو اليد له، أو تصدق بها عليه، وعلى هذا التقدير بينة ذي اليد على الولادة في ملكه لا يبطل ذلك القضاء بل يقرره.
الوجه الثالث: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضى بها لهذا المدعي بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له أو بشهادة شهود أنها نتجت عنده، وفي هذا الوجه القاضي يمضي ذلك القضاء، أيضاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد أن صاحب اليد لو أقام البينة على النتاج على القاضي الأول بعدما قضى القاضي الأول للمدعي بالنتاج أو بالملك المطلق، نقض القاضي الأول قضاءه للمدعي وقضى بها لصاحب اليد، لما ذكرنا أن بينة ذي اليد على النتاج أولى من بينة المدعي على النتاج، وعلى مطلق الملك فتبين أن قضاء القاضي ببينة الخارج وقع خطأ والخطأ مردود.
فإذا أقام ذو اليد بينة عند القاضي الثاني يجب أن يرد الثاني قضاء الأول؛ لأن المعنى الموجب للرد وهو خطأ القاضي الأول في قضائه لا يتفاوت، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن قضاء القاضي الأول نفذ من حيث الظاهر، فليس للثاني أن يبطله، مع الاحتمال كما لو بينوا سبب القضاء.(10/138)
-----
بيان الاحتمال من وجهين: أحدهما: أما إذا شهدوا أنه قضى له بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له؛ لأنه يحتمل بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له اشتراها من ذي اليد، وأما إذا شهدوا أنها له قضى له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنها نتجت عنده؛ لأنه تحمل أن هؤلاء الشهود عاينوا شهادة الشهود عند القاضي بالنتاج، ثم عاينوا قضاء القاضي بعد ذلك للمدعي بزمان، فشهدوا كما عاينوا وقد تخلل بينهما شراء أو إقرار من جهة ذي اليد بالشراء علم القاضي بذلك ولم يعلم الشهود، وقضى القاضي بالذي عاين من الشراء، ولم يعلم الشهود بذلك، فهذا الاحتمال ثابت.
الوجه الثاني لبيان الاحتمال: يحتمل أن ذا اليد أقام هذه البينة عند ذلك القاضي، ولا اجتهد ذلك القاضي على ترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد كما هو مذهب ابن أبي ليلى، فإن من مذهبه أن الخارج إذا أقام البينة على النتاج أو على مطلق الملك، وأقام ذو اليد البينة على النتاج فبينة ذي اليد أولى، وعلى هذا التقدير يكون قضاء الأول نافذاً لازماً، بحيث لا يجوز لغيره نقضه لحصوله في محل مجتهد فيه.
الوجه الرابع: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا أقر عندنا أنه قضى للمدعي بهذه الجارية، بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له أو بشهادة شهود شهدوا أنها نتجت عنده، وفي هذا الوجه ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن القاضي الثاني ينقض ذلك القضاء بالإجماع، وعلى ما عليه إشارات شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، فالمسألة على الاختلاف الذي ذكرنا.(10/139)
-----
ومن جنس هذه المسألة وإن لم يكن من جنس هذا النوع، وإذا كانت الجارية في يدي رجل أقام بينة أن قاضي بلد كذا قضى له بها على ذي اليد هذا، ولم يثبتوا سبب القضاء، وأقام رجل آخر بينة على النتاج فصاحب القضاء أولى، وإن أقام الأول بينة أن قاضي بلد كذا قضى له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له، وأقام الأخر بينة على النتاج، فصاحب القضاء أولى عندهما، وعند محمد صاحب النتاج أولى لما قلنا.
نوع آخر من هذا الفصل في دعوى الخارجين النتاج
إذا ادعى الرجلان دابة في يدي رجل كل واحد منهما يدعي أنها ملكه نتجت عنده، وأقاما البينة فإن لم يؤرخا قضي بينهما، وإن أرخا وتاريخهما على السواء ينظر إلى سن الدابة، إن كان مشكلاً أو كان موافقاً للوقت الذي ذكرا يقضى بينهما، وإن كان مخالفاً للوقت الذي ذكرا، لم يذكر محمد هذا الفصل في «الأصل».
قال عامة المشايخ: الصحيح أنه تتهاتر البينتان، وتترك الدابة في يد صاحب اليد، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق قضي لصاحب الوقت الذي قضي؟ سن الدابة عليه، وإن كان سن الدابة مشكلاً قضي بينهما، فقد ألغى التاريخ في دعوى النتاج، واعتبره في دعوى الملك المطلق لأن التاريخ إنما يعتبر ترجيحاً؛ لأن السابق ببينته يثبت زيادة استحقاق على صاحبه، وهو متصور في دعوى الملك المطلق بتصور أصل الاستحقاق لأحدهما على صاحبه بدون التاريخ، فيتصور زيادة الاستحقاق بزيادة التاريخ.
وإن كان سن الدابة على غير الوقتين، ذكر في «الأصل»: أنه يقضى بينهما وإليه ذهب بعض المشايخ، منهم الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وعامة المشايخ على أن ما ذكره في «الكتاب» غلط، والصحيح أنه تتهاتر البينتان ومسألة العبد التي ذكرها محمد في آخر باب دعوى النتاج، وقد تقدم ذكرها في أول النوع الأول، يشهد لعامة المشايخ في هذا الفصل.(10/140)
-----
وروى بشر عن أبي يوسف مسألة الدابة، وذكر في هذه الصورة: أنه تتهاتر البينتان، وذكر في هذه الرواية فقال: إذا علم أن سن الدابة مخالف لأحد الوقتين وهو مشكل في الوقت الآخر، قضي بالدابة لصاحب الوقت الذي أشكل سن الدابة عليه، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر وكان سن الدابة مشكلاً قضي بينهما.
نوع آخر من هذا الفصل
دابة في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أنها دابته نتجت عنده، ويقيم البينة على ما يدعي، فإن لم يؤرخا يقضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يده؛ لأنه اجتمع في كل نصف بينة ذي اليد، وبينة الخارج في دعوى النتاج، وإن أرخا وتاريخهما على السواء ينظر إلى الدابة، فإن كان مشكلاً أو كان موافقاً للوقت الذي ذكرا تهاترت (196ب4) البينتان عند عامة المشايخ، وتترك الدار في أيديهما كما كان قبل هذا. وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر وكان سن الدابة مشكلاً تترك في أيديهما.
نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات
ادعى رجل جارية في يد إنسان أنها ملكه ولدت في ملكه من الأمة التي في يديه، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة أنها ملكه ولدت في ملكه من الأمة التي في يديه، قضي بالجارية لصاحب اليد، لأن الولادة في بني آدم كالنتاج في البهائم، ولو ادعى المدعي بينة على أمها التي هي عند المدعى عليه أنها أمته، وأنها ولدت هذا الولد في ملكه وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي بها وأمها للمدعي؛ لأن أصل الدعوى في الأم ودعواها في الأم دعوى مطلق الملك إذ لم يكن الملك في الأم سبباً وفي دعوى مطلق الملك الخارج أولى، وإذا صار الخارج أولى فالأم كانت أولى في الولد إذ ظهر أن ولادة هذا الولد كان في ملك الخارج.(10/141)
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل» عقيب هذه المسألة: وكذلك الاختلاف في الصوف والشاة على هذا، يريد به إذا وقع الدعوى في صوف، ولو أقام المدعي بينة على الشاة التي هي في يد المدعى عليه أنها شاته، وأنه جز هذا الصوف في ملكه منها، وأقام ذو اليد بينة على مثل ذلك قضي بالشاة والصوف للمدعي لما ذكرنا في الجارية والولد.
عبد في يدي رجل جاء رجل وادعى أنه عبده ولد من أمته هذه ومن عبده هذا، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك قضي بالعبد لصاحب اليد، ويكون ابن أمته وعبده ولا يكون ابن أمة الآخر ولا ابن عبده فقد قضي بالعبد لصاحب اليد في الملك والنسب، أما في الملك فظاهر وأما في النسب فلأنهما تنازعا في سبب هو بمعنى النتاج، لأن سبب النسب الولادة وأحدهما صاحب اليد وهناك يقضى لصاحب اليد كذا ههنا.
عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه عبده ولد في ملكه، ولم يسموا أمته، وأقام رجل بينة أنه عبده ولد في ملكه من أمته هذه، فإنه يقضي بالعبد للذي إنه في يده، لأنهما ادعيا النتاج في الولد ولا يد لأحدهما على الولد ولأحدهما يد على الأم فيترجح الذي له على الأم، كما يترجح لو كان له يد على الولد، وهذا لأن الولد لابد له من الأم والولد لا يتصور بدونها وإذا جاز أن يترجح أحدهما على الولد بسبب اليد على الولد، فكذا جاز أن يترجح أحدهما على الولد فكذا جاز أن يترجح أحدهما في الولد بسبب اليد على الأم، فإن أقام صاحب اليد بينة على أنه عبده ولد في ملكه من أمته هذه غير أمة أخرى قضي به لذي اليد؛ لأن لذي اليد يداً على الولد والأم جميعاً، فيكون أولى ممن لا يد له عليهما وممن له يد على الأم دون الولد.
(10/142)
-----
رجل في يديه شاة سوداء، ورجل آخر في يديه شاة بيضاء، فأقام الذي البيضاء في يده أن السوداء التي في يدي صاحبي ملكي ولدت في ملكي من هذه السوداء، فإنه يقضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الملك فيما في يده وادعى النتاج فيما في يد صاحبه، ففيما في يد كل واحد منهما اجتمع دعوى النتاج ودعوى الملك المطلق، فيكون الحكم لدعوى النتاج، هكذا ذكر محمد رحمه الله وهذا إذا كان سن الشاتين مشكلة، فكل واحدة منهما تصلح أماً للأخرى بمرأى العين، وأما إذا كانت معلومة، وأحدهما تصلح أماً للأخرى والأخرى لا تصلح أماً لهذه، كانت علامة الصدق ظاهرة في شهود أحدهما فيقضى بشهادة شهوده.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيما إذا كان سن الشاتين مشكلاً أني أقبل بينتهما، ويقضي لكل واحد منهما بالشاة التي في يده، وهذا قضاء ترك لا قضاء استحقاق، ثم إذا كانت سن الشاتين مشكلة وكل واحد تصلح أماً للأخرى، إنما قبلت الشهادتان، وإن تقين القاضي بكذب إحدى البينتين؛ لأنه وجد لكل فريق محملاً يطلق له أداء الشهادة .... أحد الفريقين ولادة إحداهما الأخرى، فكبرت الابنة وولدت وترك بها لبن وأمها لم تترك عادتها في الارتضاع فاتبعت ولدها وارتضعت منها فعاين الفريق الآخر ذلك.
ولو أقام الذي البيضاء في يده أن البيضاء شاتي، ولدت في ملكي والسوداء التي في يد صاحبي شاتي ولدت من هذه البيضاء وأقام الذي السوداء في يده أن السوداء ولدت في ملكي والبيضاء التي في يد صاحبي ملكي ولدت من هذه السوداء، فإنه يقضي لكل واحد منهما بما في يده، لأن في هذه المسألة كل واحد منهما ادعى النتاج في الشاتين، فاجتمع في كل شاة بينة ذي اليد مع بينة الخارج في النتاج، فيقضى لصاحب اليد ببينته.(10/143)
-----
عبد في يدي رجل ادعاه رجل أنه عبده اشتراه من فلان، وأنه قد ولد في ملك فلان الذي باعه، فأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه عبده اشتراه من فلان يريد به رجلاً آخر وأنه قد ولد في ملك فلان الذي باعه قضى به لذي اليد؛ لأن كل واحد منهما ببينته يثبت أولية الملك لمملكه بالولادة لم يثبت الانتقال إلى نفسه فكأن المملكين حضرا وادعيا ذلك، وأحدهما صاحب يد وهناك يقضي لصاحب اليد كذا ههنا.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا ادعت امرأة غزل قطن في يد امرأة أخرى أنه ملكها غزلته وأقامت على ذلك بينة، وأقامت صاحبة اليد بينة على مثل ذلك قضي بالغزل لصاحبة اليد، لأنه بمعنى النتاج لأن الغزل سبب ذلك، فإن من غصب من آخر قطناً وغزل القطن ملكه وغزل القطن لا يعاد ولا يكرر، فكان بمنزلة دعوى النتاج من هذا الوجه فيقضي ببينة صاحبة اليد كما في دعوى النتاج.
وكذلك لو ادعى صوفاً في يدي رجل أنه صوفه جزه من غنمه، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، قضي به لصاحب اليد، لأنه بمنزلة دعوى النتاج، لأن الجز في مجزوز واحد مما لا يتكرر، وكذلك إذا ادعى سمناً أو زيتاً أو دهن سمسم في يدي رجل أنه له عصره وملأه، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة مثل ذلك قضي لصاحب اليد؛ لأن هذا مما لا يثنى ولا يكرر فيكون بمعنى دعوى النتاج، وكذلك الدقيق والسويق على هذا، والولادة في بني آدم بمنزلة النتاج في البهائم، حتى إذا تنازع اثنان في غلام كل واحد منهما يدعي أن الغلام ملكه ولد في ملكه، والغلام في يد أحدهما وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه، فيقضي ببينة صاحب اليد، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.(10/144)
-----
وإذا (اختلف) اثنان في غزل صوف والغزل في يد أحدهما، فأقام كل واحد منهما بينة أنه ملكه غزله، قضي بالغزل للخارج؛ لأنه بمعنى دعوى ملك المطلق، لأنه يثنى ويكرر وإذا وقع الدعوى في حلي مصوغ فهو بمنزلة دعوى ملك المطلق، لأن الصياغة مما يتكرر.
وإذا كانت الدار في يدي رجل أقام رجل آخر بينة أنها دار جده، اختطها وساق الميراث حتى انتهى إليه، وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، فإنه يقضى بالدار للمدعي؛ لأن كل واحد منهما ادعى أولية الملك بالاختطاط، والاختطاط مما لا يتكرر؛ لأن الاختطاط قسمة الإمام عند الفسخ، فيخط لكل واحد من الغانمين خطاً في موضع معلوم ويملكه ذلك بالقسمة، فيكون خطه له وهذا قد يكون غير مرة بأن يرتد أهلها، وتصير .... فإنها دار الشرك بوجود شرائطها ثم غلبها المسلمون ثانياً، فيقسمها الإمام بالخط لكل واحد منهما كما بينا.
أرض في يدي رجل وفيها نخيل، ادعى رجل أن هذه الأرض وهذه النخيل له غرسها، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، قضي بالأرض (197أ4) والنخيل للمدعي، لأن الأصل المنازعة في ملك الأرض، فإن النخيل بمنزلة البيع للأرض حتى يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ودعواهما في الأرض دعوى مطلق الملك وإنهما لم يذكرا لملك الأرض سبباً فكذا النخيل يكون دعواهما دعوى ملك المطلق بطريق التبعية، لأن غراسة النخيل مما يتكرر، فإن النخيل يغرس ثم يقلع ويغرس ثانياً فيكون دعوى الأشجار بمنزلة دعوى مطلق الملك، وكذلك لو كان في الأرض زرع وأقام كل واحد بينة أن الأرض له والزرع له، زرعه قضي بالأرض والزرع للخارج لما ذكرنا.(10/145)
-----
وإذا ادعى حنطة في يدي رجل أنها له زرعها في أرضه، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، قضي للخارج؛ لأنها بمنزلة دعوى مطلق الملك، بيانه: أن حاصل اختلافهما إلى أن زارع أصل هذه الحنطة التي وقع فيها النزاع الخارج، أو صاحب اليد وزراعة أصل هذه الحنطة مما يكون بأن يزرع ذو اليد أصل هذه الحنطة، ثم يغربل الخارج الأرض ويجمع الحنطة، ويزرعها مرة أخرى.
وإذا ادعى داراً في يدي رجل أنها داره وأنه بنى هذه البناء من ماله، وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، قضي بالدار والبناء للخارج، لأن البناء قد يكون مرة بعد مرة، وإذا ادعى قباء محشواً في يدي رجل أنه له قطعه في ملكه وحشاه وخاطه وادعى صاحب اليد مثل ذلك وأقاما البينة، قضي ببينة الخارج وهذا بمنزلة دعوى الملك المطلق؛ لأن القطع والحشو والخياطة مما يثنى ويكرر، وكذلك الحبة المحشوة وكل ما يقطع من الثياب على هذا.
وكذلك إذا كانت الشاة المسلوخة في يدي رجل، ادعاها رجل آخر أنها له ذبحها وسلخها وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي بها للخارج؛ لأن الذبح والسلخ ليسا بسبب ملك، ألا ترى أن الغاصب لا يملك به وإذا لم (يكن) هذا سبب ملك صار ذكره وعدمه بمنزلة، فكأنهما ادعيا ملكاً مطلقاً وادعيا إحداث تصرف في ملكهما.
وكذلك إذا ادعيا لحماً مشوياً أو سمكاً مشوياً في يدي رجل أنه لهما سواه في ملكهما وادعى صاحب اليد بمثل ذلك وأقاما البينة قضي بها للخارج، لأن الشي وإن كان بسبب ملك فهو لا يثنى ولا يكرر، والسلخ إن كان لا يثنى فهو ليس بسبب ملك وكذلك إذا وقع الدعوى في المصحف، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، كتبه في ملكه قضي للخارج.(10/146)
-----
ولو ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ملكه نسجه هو، وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، أو ادعى نصل سيف في يدي رجل أنه سيفه ضربه، وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، فهذه المسألة على وجوه:
إن كان يعلم قطعاً ويقيناً أن هذا الثوب وهذا النصل، لا ينسج ولا يضرب إلا مرة واحدة، قضي ببينة صاحب اليد كما في دعوى النتاج، وإن كان يعلم قطعاً ويقيناً أن هذا الثوب وهذا النصل ينسج، ويضرب مرة بعد مرة، فإنه يقضي ببينة الخارج، وهو بمنزلة دعوى الملك المطلق، لأنه في الفصل الأول ادعى أولية الملك بسبب لا يحتمل التملك على ذي اليد بذلك السبب، لأن الثوب الذي لا ينسج إلا مرة إذا صار لذي اليد لا يتصور أن يصير للخارج بنسجه، فيكون في معنى دعوى النتاج.
وفي الفصل الثاني ادعى أولية الملك بسبب يحتمل التملك على ذي اليد به، لأن الثوب الذي ينسج مرة بعد مرة يجوز أن يصير لذي اليد بالنسج، ثم يقصه الخارج منه وينقضه وينسجه مرة أخرى فيصير ملكاً له بهذا السبب، بعدما كان لذي اليد فكان بمعنى دعوى الملك المطلق من هذا الوجه، وإن أشكل على القاضي ذلك سأل أهل العلم عن ذلك، يريد به العدول منهم ويبنى الحكم على قولهم الواحد منهم يكفي، والاثنان أحوط وإن اختلف أهل العلم بذلك فيما بينهم حتى بقي مشكلاً، ففيه روايتان في رواية يقضي للخارج كما في دعوى الملك المطلق.
وإذا وقع الدعوى في كوز أو طست من صفر أو إناء من حديد أو صفر أو شبهه، وادعى كل واحد أنه له، ضعه في ملكه فهذا ومسألة السيف التي ذكرناها على السواء.
وإذا كان في يدي رجل حمام أو دجاج أو طير مما يفرخ أقام رجل بينة أنه له فرخ في ملكه وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي لصاحب اليد؛ لأن التفريخ في الطيور بمنزلة النتاج في الدواب.(10/147)
-----
وإذا ادعى لبناً في يدي رجل أنه له ضربه في ملكه وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، قضي للخارج؛ لأنه مما يعاد ويكرر، فكان بمنزلة دعوى الملك المطلق حتى لو كان اللبن آجراً أو حصاً أو نورة يقضى لصاحب اليد؛ لأنه لا يعاد ولا يكرر فكان بمنزلة دعوى النتاج.
وإذا اختلفا في جبن وأقام كل واحد منهما أنه صنعه في ملكه، قضي لصاحب اليد؛ لأنه بمنزلة دعوى النتاج لأنه مما لا يعاد ولا يكرر، ولو أقام كل واحد منهما بينة أن اللبن الذي صنع منه هذا الجبن كان له، يقضى للخارج؛ لأن أصل المنازعة في اللبن وبينة كل واحد في اللبن قامت على الملك المطلق، ولو أقام كل واحد منهما البينة أن اللبن حلب من شاته وفي ملكه وصنع منه الجبن، فإنه يقضى بالجبن لذي اليد، لأن الحلب في اللبن لا يتكرر فكان بمعنى دعوى النتاج، ولو أقام كل واحد منهما البينة أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ملكه، قضي به للمدعي؛ لأن المنازعة ههنا في الشاة وبينة كل واحد منهما قامت على الملك المطلق.
ولو أقام كل واحد منهما بينة أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ولدت من شاته، قضي بالجبن لذي اليد؛ لأن كل واحد من البينتين قامت على النتاج في الشاة التي وقعت المنازعة فيها.(10/148)
-----
وإذا كانت شاة مسلوخة في يدي رجل وسقطها وجلدها ورأسها في يدي آخر، فأقام الذي الشاة في يديه أن الشاة والجلد والرأس والسقط له، وأقام الذي في يديه الرأس والسقط والجلد بمثل ذلك قضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، لأن كل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه، وبينة الخارج في دعوى الملك المطلق أولى، ولو اقام كل واحد منهما بينة أن الشاة التي هذا رأسها وهذا سقطها نتجت عنده في ملكه، وأنه ذبحها وسلخها وله جلدها ورأسها وسقطها يقضى بالكل للذي الشاة في يديه، لأنهما أثبتا النتاج في ملك الشاة وأحدهما ذو اليد فيكون ذو اليد أولى بها، وإذا صار ذو اليد أولى بالشاة صار أولى بالجلد والرأس والسقط لكون هذه الأشياء تابعة للشاة، فقد جعل السقط أصلاً في دعوى الملك المطلق على ما مر، وجعله تبعاً في دعوى النتاج وكان ذلك من باب العمل بالشبهين؛ لأن السقط أصل من وجه فعمل بالشبهين فجعل أصلاً في دعوى الملك المطلق، وجعله تبعاً في دعوى النتاج.
قال في «المنتقى»: والصوف وورق الشجر وثمرة الشجرة بمنزلة النتاج وغصن الشجر والحنطة ليس بمنزلة النتاج، حتى لو أقام المدعي بينة أن هذا الصوف صوف شاته وهذه الثمرة وهذا الورق من شجره، وهذا الغصن من نخله وهذه الحنطة من حنطة بذرها في أرضه، وأقام صاحب اليد البينة على مثل ذلك، ففي الغصن والحنطة يقضى للمدعي، وفي الصوف والتمر والورق يقضى لصاحب اليد.
ومما يتصل بهذا الفصل(10/149)
-----
إذا أقام الرجل بينة على ثوب في يدي رجل أنه نسجه (197ب4) ولم يشهدوا أنه له، أو ادعى دابة في يدي رجل أنها نتجت عنده ولم يشهدوا أنها له، أو ادعى أمة في يدي رجل أنها ولدت عنده ولم يشهدوا أنها أمته، فإنه لا يقضى للمدعي في هذه المسائل؛ لأن شهوده لم يشهدوا بالملك له نصاً وأنه ظاهر، ولا يقضى بشهادتهم بالولادة والنسج، لأن الإنسان قد ينسج غزل غيره بأمره بأجر أو إعانة، وقد تلد أمة الإنسان عند غيره.
وكذلك في فصل الأمة، إذا شهدوا أنها أمة المدعي لا يقضى بها للمدعي؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك للمدعي فيها نصاً وإنه ظاهر، ولا يقضى بشهادتهم أنها ابنة أمة، إذ ليس من ضرورة كونها ابنة أمته أن تكون ملكاً له، فإن المولى إذا استولد أمة نفسه وولدت بنتاً فهذه ابنة أمته، وليست بمملوكة له، وكذلك الأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن مولاها على أنها حرة، فولدت ابنة فهذه ابنة أمة هذا الرجل، وليست بمملوكة له، وكذلك الرجل إذا باع ابنة أمته من إنسان فهذه ابنة أمة البائع بعد البيع، وليست بمملوكة له.
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهد الشهود أن هذا العبد ولدته أمة هذا المدعي، فإن هناك يقضى بالعبد للمدعي، والفرق: أن في مسألة العبد الشهود شهدوا بملكية الولد حيث قالوا: هذا العبد، وشهدوا بملكية أمة المدعي وقت الولادة، والأمة المملوكة للإنسان لا تلد ولداً مملوكاً لغير المالك، فكأنهم شهدوا بملكية الولد للمدعي، أما في مسألة البنت ما شهدوا على ملكية البنت؛ لأنهم شهدوا أنها بنت أمته وليس من ضرورة كونها ابنة الأمة أن تكون مملوكة أصلاً، لجواز أنها علقت حرة الأصل.
والحاصل: أن الشهادة بولادة العبد والأمة من أمة إنسان، شهادة بملك العبد والأمة لمولى الأمة والشهادة بولادة الابن والأمة من أمة إنسان ليست بشهادة بملك الابن والبنت لمولى الأمة.(10/150)
-----
ولو شهدوا على ثوب في يدي رجل أنه غزل من قطن فلان ونسج منه، فإنه لا يقضي بالثوب لفلان؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك لفلان، فقد يغزل القطن وينسج ولا يكون المنسوج ملكاً لصاحب القطن بأن غزل ونسج بغير أمره، هكذا ذكر في «الأصل» وذكر بعد هذه المسألة مسائل منها.
إذا شهدوا أن فلاناً غزل هذا الثوب من قطن فلان، وهو يملك القطن ونسج الثوب هل للمدعي أن يأخذ الثوب، وجعله على وجهين:
إما أن يدعي المدعي الأمر بالغزل والنسج أو ينكر، فإن كان ينكر فلا يكون له أخذ الثوب، ولكن يضمنه قطناً مثل قطنه، لأنه ثبت ملك القطن للمدعي بهذه الشهادة، وثبت غزل ذي اليد ذلك القطن ونسجه، ولم يثبت أمر المدعي بذلك فكان الغزل والنسج بغير أمر المدعي، وهذا مما يقطع ملكه عن العين فلا يكون للمدعي حق الأخذ ولكن له أن يضمنه قطناً مثل قطنه، وإن ادعى الإذن فالقول قوله مع اليمين، وله أن يأخذ الثوب، ولو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع حصل من أرض فلان لا يقضي لصاحب الأرض بملك الحنطة باتفاق الروايات؛ لأنهم لم يشهدوا له بملك الحنطة فقد يحصد من أرض إنسان ما لا يكون مملوكاً له، بأن كان الزارع غاصباً للأرض فهل يقضى له بأخذ الحنطة؟ فقد ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقضى.
وجه ما ذكر في رواية أبي سليمان: أنه كما لم يثبت الملك لصاحب الأرض في هذه الحنطة بهذه الشهادة، لم يثبت الأخذ من يده بهذه الشهادة، لأن الشهود لم يعينوا الأخذ، فكان المشهود عليه بالأخذ مجهولاً وجهالة المشهود عليه يوجب بطلان الشهادة.
وجه ما ذكر في رواية أبي حفص أنهم شهدوا بالأخذ من يده؛ لأن الحصاد أخذه وقد شهدوا بالحصاد من أرضه، وأرضه في يده فكأنهم شهدوا بالأخذ من يده، قوله بأن المشهود عليه بالأخذ مجهول، قلنا لا بل هو معين ولكن اقتضاء لا نصاً، لأن المأخوذ في يده فيكون هو الآخذ.(10/151)
-----
قالوا: وما ذكر في رواية أبي سليمان أصح، لأنه ليس من ضرورة كون المأخوذ من يده أن يكون هو الآخذ غير ذي اليد، وقد أودعه صاحب اليد، وصاحب اليد يحوله عن موضعه حتى لم يصر غاصباً.Y
قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا شهدوا أن هذا الشيء أخذ من يد هذا المدعي، ولم يعينوا الأخذ يجب أن تكون المسألة على الروايتين أيضاً، على رواية أبي سليمان لا يقضى بالأخذ وعلى رواية أبي حفص يقضى.
قال: وهذا بخلاف ما لو شهدوا أن هذا الثوب غزل من قطن فلان، ونسج حيث لا يكون لفلان أن يأخذ الثوب، لأن هناك لم يثبت أخذ المنسوج من يده، إنما يثبت أخذ القطن وهو يريد أخذ المنسوج، ولم يثبت أخذ المنسوج من يده.
وإذا شهدوا أن هذا التمر أخذ من نخيل هذا المدعي قضي بالثمن للمدعي، لأن الشهادة بأخذ التمر من نخيله شهادة بملك التمر له، لأن ما يكون على نخيل إنسان من التمر يكون ملكاً له، إلا أن يملكه من غيره بخلاف الحنطة التي في أرض إنسان، لأن الحنطة التي في أرض إنسان قد تكون ملكاً لغير صاحب الأرض، وإذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع كان في أرض فلان، هذا الزبيب من كرم كان في أرض فلان لا يقضي بالحنطة والزبيب لفلان.
فرق بين هذه المسائل، وبينما إذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع فلان، هذا التمر من نخيل فلان، هذا الزبيب من كرم فلان، فإنه يقضى بذلك لفلان، والفرق: أن في الفصول الأخيرة لم يشهدوا لفلان بملك هذه الأشياء اقتضاء، لأنهم أضافوا أصل هذه الأشياء إليه، فإنهم قالوا: من كرمه، من نخيله، من زرعه، والشهادة بملك الأصل شهادة بملك ما يحدث فيه، أما في الفصول الأول فما شهدوا بملك هذه الأشياء لفلان، لا نصاً، ولا اقتضاء، لأنهم ما أضافوا أصل هذه الأشياء إليه بل شهدوا أنه كان في أرضه وقد يكون في أرض فلان زرع غيره ونخيل غيره فلهذا افترقا.
ولو شهدوا على إقرار ذي اليد أن هذه الحنطة من زرع كان في أرض فلان قضي بالحنطة لفلان.(10/152)
(10/153)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع كان في ملكه، والفرق: أن في إقراره بيان أنه كان في يده قبل هذا، فكأنه قال: كان في يده أمس وهناك يؤمر بالرد عليه وفي الشهادة أيضاً بيان، لأنه كان في يده قبل هذا إلا أن الشهود لو شهدوا أنه كان في يد هذا أمس لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة ومحمد، ولو شهدوا على جلد أو صوف أو لحم في يدي رجل أنه صوف شاة هذا المدعي، لحم شاة هذا المدعي، جلد شاة هذا المدعي، لا يقضى به للمدعي.
فرق بين هذه المسائل وبينما إذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع فلان، هذا التمر من نخيل فلان، هذا الزبيب من كرم فلان، فإن في هذه الفصول يقضى بهذه الأشياء للمدعي.
قال عيسى بن أبان رحمه الله: وكان ينبغي أن يقضى للمدعي في جميع هذه الفصول أو لا يقضى له في جميع هذه الفصول، فأما الفرق فلا وجه إليه وبالغ في ذلك بعض المشايخ.
وبعض مشايخنا قالوا: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع في بعض المواضع، وضع المسألة بحرف من وإنه للتبعيض فقد جعلوا المدعى به بعض ملك المدعي، وبعض ملك الإنسان ملكه، فقد شهدوا للمدعي بملكية المدعى به، فقضي له به، وفي بعض المواضع لم يذكروا حرف من فلم يجعلوا المشهود به بعض ذلك المدعى، إنما نسبوه إلى ملكه حيث قالوا: جلد شاته، صوف شاته، وليس من ضرورة كون الشيء منسوباً إلى ملك الغير أن يكون مملوكاً لذلك (198أ4) الغير فلم يشهدوا للمدعي بملكية المدعى به، فلا يقضى له به وهذا القائل يقول: لو ذكروا حرف من في المسائل كلها لكان يقضى للمدعي في المسائل كلها، ولو لم يذكروا حرف من في المسائل كلها، لكان لا يقضى للمدع في المسائل كلها، وإلى هذا ذهب شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.(10/154)
-----
ومن المشايخ من قال: لا بل بين هذه المسائل فرق، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والفرق: أن في مسألة الحنطة وأخواتها شهدوا بملك هذه الأشياء من توابع النخيل والكرم لا محالة، لأنها متولدة من النخيل والكرم والشهادة بملك مطلق في الأصل شهادة بملك توابعه، فأما الجلد والرأس تبع للشاة من وجه وأصل من وجه، تبع من حيث إنها من أوصاف الشاة، وأصل من حيث إنها تقوم بعد المزايلة بنفسها، وكذلك لم يحدث هذه الأشياء من الشاة بل كان حدوثها مع الشاة معاً، فبهذا الاعتبار يكون أصلاً والشهادة بملك أحد الأصلين لا تكون شهادة بملك الأصل، شهادة بملك التبع، فلا تثبت الشهادة بملكية هذه الأشياء مع الاحتمال.
ولو شهدوا على دقيق في يدي رجل أنه طحن هذا الدقيق من حنطة هذا المدعي لا يقضى بالدقيق للمدعي، والجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا أنه غزل هذا الثوب من قطن فلان، ونسج فيه سواه.
ولو شهدوا أن هذه الدجاجة ملك المدعي، فالقاضي لا يقضي بالدجاجة للمدعي، إذ ليس من ضرورة كون البيضة مملوكة لإنسان أن تكون الدجاجة الخارجية منها ملكاً له، فإنه إذا غصبها غاصب وخرج منها دجاجه، فالدجاجة تكون للغاصب ولا تكون لصاحب البيضة، كحنطة غصبها غاصب وزرعها، فإن الحب الذي يحصل يكون للغاصب كذا ههنا، ولكن يقضى على صاحب اليد ببيضة مثلها لا أمر صاحب اليد أنه فرخها.(10/155)
-----
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهدوا على جارية أو شاة، وقالوا: الأمة التي خرج منها هذه الجارية، والشاة التي خرجت منها هذه الشاة ملك المدعي، فإنه يقضى بالجارية والشاة للمدعي، والفرق: أن كون الأمة وكون الشاة مملوكة لإنسان ملكاً مطلقاً يوجب حدوث الولد على ملكه لا محالة، سواء كانت الولادة في يده أو يد الغاصب، إذا لم يوجد من المالك تمليك الولد ولم يظهر ههنا تمليك الوالد من الولد من صاحب اليد، فكانت الشهادة بملكية الأمة والشاة مطلقاً شهادة بملك الولد.
أما كون البيضة مملوكة لإنسان ملكاً مطلقاً، لا يوجب حدوث الدجاجة الخارجة على ملك صاحب البيضة فلم تكن الشهادة بكون البيضة مملوكة للمدعي شهادة تكون الدجاجة الخارجة منها ملكاً للمدعي.
قال: ثوب مصبوغ بالعصفر في يدي رجل شهد الشهود أن هذا العصفر الذي في هذا الثوب لهذا المدعي، صبغ هذا الثوب به ورب الصبغ يدعي على رب الثوب أنه هو الذي صبغه، ورب الثوب يجحد ذلك فالقول قول رب الثوب، لأن رب العصفر يدعي عليه ثمن عصفره، ورب الثوب ينكر، وليس في شهادة هؤلاء ما يوجب ذلك، فإن ثوب الإنسان إذا هبت به الريح وألقته في صبغ إنسان، فرب الثوب لا يضمن الصبغ، ولكن يقوم الثوب أبيض ويقوم مصبوغاً، فإن شاء رب الثوب ضمن لرب العصفر ما زاد العصفر فيه وإلا يباع الثوب، فيضرب صاحب الثوب في الثمن بقيمة ثوبه أبيض، ويضرب صاحب الصبغ بما زاد العصفر فيه.
قال هشام: قال محمد: سمعت أبا يوسف يقول: إذا كان في يدي رجل أمة، وأثبت هذه أمته وأخذها منه لم يكن له على الابنة سبيل. وإذا أقام البينة على نخل في يدي رجل بأنه نخله وثمرة هذا النخل في يدي الرجل الآخر، أخذ الثمرة والنخل ولا يشبه الثمر الولد. ألا ترى أن لو أوصى بغلة نخلة عشر سنين جاز، ولو أوصى بما يصبغ ثيابه عشر سنين لا يجوز.
(10/156)
-----
قال هشام: أيضاً سألت محمداً عن أرض مزروعة حنطة، أقام آخر بينة أن الأرض له، أو قالت البينة لا ندري لمن الزرع، قال: إذا لم يعلم الزرع فالزرع يتبع الأرض، قلت فإن أقام الذي في يده الأرض بينة أنه هو الذي زرع، يجعل له الزرع، قال: نعم، قلت: فإن كان الزرع محصوداً أو كدساً والشهود لم يشهدوا بالزرع لأحد، قال: الزرع لمن في يديه الأرض.
يجب أن يعلم أن الحائط المتنازع فيه لايخلو، إما أن لا يكون متصلاً ببنائهما ولكن يكون بين داريهما، أو يكون متصلاً ببناء أحدهما، والاتصال نوعان: اتصال تربيع، واتصال مجاورة وملازقة، ولايخلو إما أن يكون لهما عليه شيء من الجذوع والهراوي، أو كان لهما عليه جذوع أو كان لهما عليه هراوي أو كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر هراوي.
فإن لم يكن الحائط متصلاً ببنائهما، ولم يكن لهما عليه شيء من الجذوع وغيره، فإنه يقضى بالحائط بينهما، هكذا ذكر في «الأصل» وإنما كان كذلك لأنهما استويا في الدعوى وليس ثمة من ينازعهما فيه، وليس أحدهما بأولى من الآخر فيقضى بينهما، ومعنى قوله يقضي بينهما: أنه إذا عرف كونه في أيديهما يقضى بينهما قضاء ترك على ما كان، وإن لم يعرف كونه في أيديهما وادعى كل واحد منهما أنه ملكه وفي يديه يجعل في أيديهما، لأنه لا منازع لهما فيه، لا أنه يقضي بينهما.
هذا كدار ادعاها رجلان يدعي كل واحد منهما أنه ملكه وفي يديه، فإن لم يعرف أنها في يديه يجعل في أيديهما، لأنه لا منازع لهما فيها لا أنه يقضي بينهما، وإن عرف أنها في أيديهما يجعل في أيديهما على ما كان كذا ههنا.(10/157)
-----
وكذلك إن كان لأحدهما عليه هراوي أو بواري، ولا شيء للآخر عليه يقضي بينهما، لأن موضع الهراوي لا يثبت على الحائط يد استعمال، لأن الحائط إنما يبتني للسقف، وذلك للوضع بالجذوع عليه لا بوضع البواري والهراوي، لأن السقف على الهراوي والبواري لا يمكن، وإنما توضع الهراوي والبواري للاستظلال، والحائط لا يبنى للاستظلال، وهو نظير ما لو كان لأحدهما على الحائط ثوب مغصوب مبسوط ولا شيء للآخر، وهناك يقضى بالحائط بينهما، لأن صاحب الثوب غير مستعمل للحائط بالطريق الذي قلنا كذا ههنا.
وإن كان لأحدهما عليه جذوع ولا شيء للآخر، فإنه يقضى به لصاحب الجذوع، لأن لصاحب الجذوع يداً مستعملة وللآخر مجرد يد بلا استعمال، فيكون صاحب اليد المستعملة أولى، كدابة تنازع فيها اثنان أحدهما راكب والآخر أخذ بلجامها فالراكب أولى، وكذلك إذا كان لأحدهما عليها حمل وللآخر مخلاة، فصاحب الحمولة أولى، لأن له يد مستعملة وليس للآخر إلا مجرد يد بلا استعمال، وكثوب تنازع فيه اثنان وأحدهما لابسه والآخر متعلق بطرف منه، كان اللابس أولى، وكذلك هذا.
وإنما اعتبر الاستعمال ترجيحاً إذا استويا في اليد، لأن للاستعمال زيادة دليل على الصدق ليس من جنس اليد فيصلح للترجيح كيد ذي اليد في دعوى النكاح والشراء من ثالث، فإن بينة ذي اليد تترجح باليد، لأن اليد دليل زائد على الصدق، وإنه من خلاف جنس البينة فصلح لترجيح إحدى البينتين، فكذا الاستعمال دليل زائد على الصدق، لأن الظاهر أن الاستعمال إنما يكون من المالك، كما أن الظاهر أن اليد تكون للمالك لا لغيره، وأنه ليس من جنس اليد لأن الاستعمال انتفاع بعد ثبوت اليد، فكان جنساً آخر سوى اليد فيصلح للترجيح، وكذلك إذا كان للآخر عليه هراوي؛ لأن الهراوي ليس باستعمال للحائط على ما بيّنا، فيكون وجوده وعدمه بمنزلة.(10/158)
-----
وإن كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر عليه (198ب4) حائط سترة، فالحائط الأسفل لصاحب الجذوع لكونه مستعملاً له موضع حمل مقصود عليه ولصاحب السترة، السترة على حالها بمنزلة سفل لأحدهما، وعليه علو لآخر.
وإن كان لأحدهما جذع واحد، ولا شيء للآخر أو للآخر عليه هراوي هل يقضى لصاحب الجذوع الواحد؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في ظاهر الرواية، وقال بعض مشايخنا: إنه لا يقضى لصاحب الجذع الواحد، لأن الحائط لا يبنى لوضع جذع واحد فكان كما إذا كان له عليه هراوي.
وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال: يقضى لصاحب الجذع الواحد، وذلك لأن لصاحب الجذع الواحد، وذلك لأن لصاحب الجذع مع اليد نوع استعمال، لأن وضع الجذوع استعمال للحائط قضينا لصاحب الجذوع، فيكون وضع جذع واحد استعمالاً للحائط بقدره، وليس للآخر ذلك فيكون صاحب الجذع الواحد أولى، بسبب الاستعمال كما يكون أولى لو كان له جذوع ولا شيء للآخر عليه هراوي وبواري، هذا إذا لم يكن الحائط المتنازع فيه متصلاً ببنائهما.
وأما إذا كان الحائط المتنازع فيه متصلاً ببنائهما إن كان اتصالهما جميعاً اتصال تربيع أو اتصال ملازقة، فإنه يقضى بينهما نصفان، لأنهما استويا في الدعوى والاتصال بالأرض والبناء جميعاً، ليقضى بهما نصفان، وأما إذا كانت اتصال أحدهما اتصال تربيع واتصال الآخر اتصال ملازقة، فصاحب التربيع أولى لأن صاحب التربيع مستعمل للحائط المتنازع فيه، لأن قوام الحائط بقدر التربيع بالحائط المتنازع فيه، لأن تفسير التربيع إذا كان الحائط من مدر أو آجر كان أنصاف لبن الحائط المتنازع فيه داخلاً في أنصاف لبن غير المتنازع فيه وأنصاف لبن غير المتنازع داخلاً في المتنازع فيه.(10/159)
-----
وإن كان الجدار من خشب، فالتركيب أن يكون ساحة أحدهما مركبة في الأخرى، فأما إذا ثقب ودخل لا يكون تربيعاً، وإذا كان تفسير التربيع هذا كان لصاحب التربيع مع الاتصال نوع استعمال، وللآخر مجرد اتصال من غير استعمال، فيكون الاتصال أولى بمنزلة الراكب على الدابة والمتعلق باللجام، فإن الراكب أولى لأن له مع الاتصال استعمال فكذلك هذا، فأما إذا كان متصلاً ببناء أحدهما اتصال ملازقة واتصال تربيع، وليس للآخر اتصال ولا له عليه جذوع، فإنه يقضي لصاحب الاتصال، إن كان اتصال تربيع فلا إشكال وإن كان اتصال ملازقة فكذلك؛ لأنهما استويا في حق الاتصال بالأرض المملوك، ولأحدهما زيادة اتصال من خلاف جنس الأول، وهو الاتصال بالبناء فيترجح على الآخر.
وكذلك إذا كان متصلاً ببناء أحدهما وللآخر عليه هراوي، يقضى لصاحب الاتصال، لأن الهراوي وجوده كعدمه، وإن كان لأحدهما اتصال تربيع وللآخر عليه جذوع، فإن كان الاتصال في طرفي الحائط المتنازع فيه فصاحب الاتصال أولى، عليه عامة المشايخ، وهكذا روي عن أبي يوسف في «الأمالي» وفسر الكرخي ذلك، فقال: أن يكون للحائط المتنازع فيه تداخل بجانبيه بحائطين لأحدهما، والحائطان متصلان بحائط آخر لصاحب الحائطين بمقابلة الحائط المتنازع، حتى يصير مربعاً شبه القبة فحينئذٍ يكون الكل في حكم بناء واحد، فصاحب هذا الاتصال أولى على ما ذكره الكرخي.(10/160)
-----
وعن أبي يوسف رحمه الله: أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع فيه بحائطين لأحدهما، أما اتصال الحائطين بحائط آخر له غير معتبر، وإن كان لوجدنا كذبه، قال شمس الأئمة السرخسي: عليه عامة المشايخ فقد ترجح صاحب الاتصال على صاحب الجذوع، وإن كان لكل واحد منهما على الحائط يد استعمال؛ لأن الاستعمال بالتربيع سابق على الاستعمال بالجذوع، لأن التربيع يكون حالة البناء وحالة البناء يكون سابقاً على وضع الجذوع، فالاستعمال بالتربيع يكون سابقاً على الاستعمال بوضع الجذوع، فكان صاحب الاتصال أولى لهذا إلا أنه لا يرفع جذوع الآخر، بخلاف ما لو أقام صاحب التربيع بينة على أن الحائط له، فإنه يرفع جذوع الآخر.
والفرق وهو: أن البينة حجة مطلقة، يظهر في حق الرفع والإبطال والاستحقاق على الغير، ألا ترى أن الملك الثابت بالبينة كما صلح للرفع صلح لاستحقاق الشفعة على الغير؟ فأما اتصال التربيع فهو نوع ظاهر، فالملك الثابت به ثابت بنوع ظاهر، والظاهر يصلح للرفع ولا يصلح لإبطال حق صاحب الجذوع، وإن كان الاتصال في طرف واحد، ذكر شيخ الإسلام أن صاحب الاتصال أولى، وبه أخذ الطحاوي والشيخ الفقيه عبد الله المرشد، وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن صاحب الجذوع أولى، وإن كان في إعطاء الحائط المتنازع فيه عود مركب على عود هو على حائط أحدهما خاصة والآخر عليه جذوع، فصاحب الجذوع أولى، لأن صاحب الجذوع مستعمل للحائط بجذوعه، وللآخر مجرد اتصال.
وإذا كان لأحدهما على الحائط عشر خشبات، وللآخر ثلاث خشبات فصاعداً إلى العشرة فالحائط بينهما، لأنهما استويا في الاستعمال الذي بني الحائط لأجله؛ لأن الحائط بني للسقف، والسقيف كما يصلح بالعشرة يحصل بما دون ذلك إلى الثلاث، فاستويا في اليد أكثر ما في الباب أن لصاحب العشرة زيادة استعمال، إلا أن الجنس واحد والترجيح لا يثبت بالزيادة في الجنس الواحد، فلهذا يقضي بينهما، هذا هو جواب ظاهر الرواية.(10/161)
-----
وعن أبي يوسف في «الأمالي» إن أبا حنيفة كان يقول أولاً كما هو ظاهر الرواية ثم رجع وقال: يقضى لكل واحد منهما بما تحت خشبته، لأن ما تحت خشبته في يده وصاحبه خارج فيه، والقول قول صاحب اليد، والباقي بينهما لاستوائهما فيه.
وعن أبي يوسف أنه كان يقول أولاً فيما إذا كان لأحدهما عليه عشر خشبات، وللآخر ثلاثة كما هو ظاهر الرواية ثم رجع وقال: يقضى بالحائط لصاحب العشرة، لأن يد الاستعمال أقوى إلا أنه لا يؤمر الآخر برفع الجذوع، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية.
ولو كان لأحدهما عليه عشر خشبات إلى الثلاث وللآخر عليه ما دون الثلاث خشبة أو خشبات، فالحائط لصاحب الثلاث فصاعداً إلى العشرة ولصاحب ما دون الثلاث موضع جذعه مع أصل الحائط، ومعناه أنه يقضى بملك الحائط بينهما على قدر جذوعهما، لا أنه يقضى بملك الحائط لصاحب العشرة وللآخر مجرد حق الوضع، إذ لو كان المراد ذلك لكان يقال: الحائط لصاحب العشرة وللآخر حق وضع الجذع كما قال، وللآخر موضع جذعه مع أهل الحائط، علمنا أنه أراد به أن الحائط بينهما على عدد أجذاعهما، حتى أنه إذا كان لأحدهما عشر جذوع وللآخر جذع واحد يقضى بينهما، وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف، وكان ينبغي في القياس يقضى بينهما، هكذا ذكر الكرخي في «مختصره»، قال في «النوازل»: وكان أبو حنيفة وأبو يوسف يقولان بالقياس أولاً ثم رجعا عنه.
وذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» في كتاب الدعوى: أنه إذا كان لأحدهما عليه عشر خشبات، وللآخر عليه خشبة واحدة، ذكر في كتاب الصلح: أن لكل واحد منهما ما تحت خشبته، ولا يقضى بينهما نصفان يستحسن ذلك في الخشبة الواحدة ونحوها في كتاب الإقرار هو لصاحب العشرة، إلا موضع الخشبة.
قال القدوري: أراد بقوله في كتاب الإقرار هو لصاحب العشرة إلا موضع الخشبة استثناء حق الوضع يعني لصاحب القليل حق وضع خشبة.(10/162)
-----
وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا كان لأحدهما على الحائط أجذع، وللآخر عليه أكثر من ذلك جعله بينهما نصفان، ثم قال بعد ذلك: إذا كان لأحدهما عليه ثلاثة وللآخر عليه عشرون (199أ4) فالحائط لصاحب العشرين ولصاحب الثلاثة موضع جذوعه وإنما أجعله بينهما نصفين إذا تقاربت أو كان لصاحب الأقل أكثر من نصف جذوع الآخر.
وجه القياس في التسوية بين الجذع الواحد والثلاثة فصاعداً، يقضى بينهما نصفان: أن الاستعمال بوضع الخشبة يثبت يد صاحبها على الحائط، فلا تعتبر الكثرة بعد ذلك للترجيح، كما لو تنازعا في ثوب وعامته في يد أحدهما، وطرفه في يد الآخر، وجه رواية التسوية بين الثلاث وما زاد عليها، وترجيح الثلاث فصاعداً على ما دون الثلاث أن صاحب الثلاث ساوى صاحب ما زاد على الثلاث في الاستعمال الذي يبنى الحائط لأجله وهو التسقيف، فإن التسقيف يتأتى بالثلاث كما يتأتى بما زاد على الثلاث، وأما صاحب الواحد لا يساوي صاحب الثلاث في ذلك، لأن التسقيف لا يتأتى بالواحد، أو إن كان يتأتى ولكن بطريق الندرة وظهر الفرق من هذا الوجه وفي بعض المواضع: جعل الخشبتان بمنزلة الثلاث وبه أخذ بعض المشايخ، لأنه يمكن التسقيف بهما كما يمكن بالثلاث.
ثم على رواية كتاب الصلح، إذا قضي لكل واحد منهما بما تحت خشبته إذا كان لأحدهما عليه عشرة، وللآخر عليه واحد كيف يقضى بما بين الخشبات؟ لم يذكر هذا في «الكتاب» وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يقضى على أحد عشر سهماً، وبعضهم قالوا: يقضى بينهما نصفان لاستوائهما في ذلك. ألا ترى أن في الدار التي فيها منازل وفي يدي رجل منزل منها وفي يد آخر باقي المنازل، إذا اختلفا بالساحة يقضى بالساحة بينهما لاستوائهما في الساحة، كذا ههنا، وقال بعضهم بمنزلة الواحدة إذ لا يمكن التسقيف بهما إلا على سبيل الندرة.
ومما يتصل بهذا الفصل(10/163)
-----
قال أبو حنيفة رحمه الله: في خُصّ بين رجلين والقمط إلى أحدهما، وادعى كل واحد منهما الخُصّ، فإنه يقضى بالخُصّ بينهما ولا ينظر إلى القمط، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضى بالخُصّ لمن إليه القمط لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الذي يشد الخُصّ يقوم وقت الشد على سطحه فيكون القمط إليه.
وعلى هذا إذا اختلفا في حائط بينهما، ووجه البناء و..... اللبن والطاقات إلى أحدهما يقضى بالحائط بينهما عند أبي حنيفة، ولا يقضى لمن إليه وجه البناء و.... اللبن والطاقات، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضى لمن إليه وجه البناء و.... اللبن والطاقات؛ لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر أن المالك هو الذي يجعل وجه البناء والطاقات إلى نفسه، ولأبي حنيفة أن القمط بعض، و.... اللبن والطاقات بعض، والشيء لا يكون دليلاً على نفسه، وما قالا يدل على الملك، أما لا يدل على الملك على الخصوص، فالإنسان كما يزين وجه جدار خاص يزين وجه جدار مشترك لأجل النظر والاستراحة، وكذلك في الجص قد يجعل القمط إلى جانب جاره ليسوي جانبه حتى .h
.... فيسقط الاحتجاج به، بقي ما ذكرنا من الدليل خالياً عن المعارض.
قال محمد رحمه الله: رجل له باب من داره في دار رجل، فأراد أن يمر من ذلك الباب، ومنعه صاحب الدار عن المرور في داره، وقال: ليس لك حق المرور في داري، وادعى صاحب الباب أن له حق المرور، فالقول قول صاحب الدار، لأنه صاحب يد في الطريق، لأن الدار بجميع أجزائها في يده وصاحب الباب خارج، والقول قول صاحب اليد، وعلى الخارج البينة، فإن جاء بشهود فشهدوا أنه كان يمر فيها من هذا الباب لم يستحق بذلك شيئاً وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، لأن هذه شهادة قامت على يده على الطريق في الزمان الماضي، فكانت شهادة بيد منقضيه، والشهادة بيد منقضيه باطلة عندهما.(10/164)
-----
فإن شهدوا أن له طريقاً ثانياً فيها وسموا حدوده وبينوا طوله وعرضه بالذرعان، قبلت شهادتهم وقضي له بذلك، وكذلك إذا لم يبينوا حدوده ولا طوله ولا عرضه، تقبل شهادتهم ويقضى به بقدر عرض الباب الأعظم عرضاً، وإلى المسمى طولاً هكذا ذكر في «الكتاب».
من المشايخ من قال: المسألة مؤولة وتأويلها: أنهم شهدوا على إقرار المدعى عليه أن للمدعى عليه طريق ثابت في هذه الدار، أما لو شهدوا على الثبات لا تقبل شهادتهم، لأن مقدار الطريق متفاوت فهذه شهادة بالمجهول، والشهادة بالمجهول باطلة، والأصح: أن هذه الشهادة مقبولة على كل حال، لأن الجهالة إنما تمنع قبول الشهادة لتعذر القضاء بالمشهود به، والقضاء بالمشهود به ههنا ممكن، لأن مقدار عرض الطريق حالة الاستثناء مقدر بعرض باب الدار، ألا ترى أن الشركاء لو اختلفوا في مقدار الطريق عرضاً يقدر بذلك.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله: هذا إذا لم يثبتوا العرض والطول، لأن شهادتهم بدون الطول والعرض جائزة، وربما يصير بيان ذلك لرد الشهادة، وذكر أبو سليمان رحمه الله: إذا بين الطول والعرض فذلك أجوز، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في الفصل الثاني من «الكتاب».
وكذلك لو شهدوا أن أباه مات وترك طريقاً في هذه الدار ميراثاً له، قبلت الشهادة، وكذلك على هذا إذا كان له باب مفتوح من داره على حائطه في زقاق، وأنكر أهل الزقاق أن يكون له حق المرور في زقاقهم فلهم منعه، إلا أن تقوم له بينة على أن له طريقاً ثابتاً فيها، على نحو ما ذكرنا في الدار.(10/165)
-----
وإذا كان لرجل ميراث في دار رجل فأراد رب الدار أن يمنعه من أن يسيل فيه الماء، فله منعه حتى يقيم البينة أن له حق تسييل الماء فيه وليس لصاحب الدار أيضاً أن يقطع الميراث، وهذا لأن وضع الميراث في الأصل محتمل يحتمل أن يكون بحق بأن شرط في القسمة لهذا الرجل حق تسييل الماء في دار هذا الرجل، ويحتمل أن يكون بغير حق، فبالشك لا يثبت لصاحب الميراث حق تسييل الماء ولا يثبت لصاحب الدار حق قطع الميراث، وذلك في كتاب الشرب، في نهر في أرض رجل يسيل فيه الماء، واختلفا في ذلك، فالقول قول صاحب الماء إلا أن في مسألة كتاب الشرب: وضع المسألة فيما إذا كان جارياً وقت الخصومة، وإذا كان جارياً وقت الخصومة لا شك أنه يكون القول قول صاحب الماء، لأن صاحب الماء في هذه الحالة صاحب يد في النهر، فيكون القول قوله فيه، وكان له حق تسييل الماء فيه إلا أن يقيم صاحب الأرض بينة أن النهر ملكه.
وكذلك إذا لم يكن جارياً وقت الخصومة، إلا أنه علم أنه كان يجري إلى أرض هذا الرجل قبل ذلك، كان القول قول صاحب الماء، ويقضى له بالنهر إلا أن يقيم صاحب النهر بينة أن النهر ملكه، حتى أن في مسألة النهر إذا لم يكن الماء جارياً إلى أرض هذا الرجل وقت الخصومة، ولم يعلم بجريانه إلى أرضه قبل ذلك، فإنه يقضى لصاحب الأرض بالنهر إلا أن يقيم صاحب الماء بينة أن النهر ملكه.
وفي مسألة الميراث وضع المسألة فيما إذا لم يكن الماء جارياً وقت الخصومة، ولا علم جريانه قبل ذلك، وإذا كان هكذا فصاحب الماء لا يكون صاحب يد في هذه الحالة، فلا يقبل قوله وهذا بلا خلاف بين المشايخ، فأما إذا كان الماء جارياً في الميراث وقت الخصومة: فقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: القول قول صاحب الميراث كما في مسألة النهر، ومنهم من قال: القول قول صاحب الميراث، وفرّق هذا القائل بين مسألة النهر وبين مسألة الميراث.
(10/166)
-----
وذكر الفقيه أبو الليث عن المتأخرين من أصحابنا أنهم استحسنوا (199ب4) في الميراث إذا كان تصويب سطح صاحب الميراث إلى موضع الميراث وعلم أن التصويب قديم أن يجعل له تسييل الماء؛ لأن الظاهر شاهد له والقديم حجة شرعية، فإن جاء صاحب الميراث ببينة فشهدوا أنهم رأوه يسيل فيه الماء فليست هذه الشهادة بشيء، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنهم شهدوا له بيد منقضية، وإن شهدوا أن له مسيل ماء في هذا الميراث فإن عنوا أنه لماء المطر، أو لماء الوضوء؛ أو لماء الاغتسال فلا شك أن هذه الشهادة مقبولة، ويكون له ما شهدوا له به إن شهدوا أنه لماء الوضوء والاغتسال، فهو لماء الوضوء والاغتسال، وليس له أن يسيل فيه ماء المطر.
وإن لم يثبتوا شيئاً من ذلك؛ ذكر في «الكتاب» أن الشهادة مقبولة واختلف المشايخ فيه؛ فمنهم من قال: المسألة مؤوَّلة وتأويلها: أنهم شهدوا على إقرار صاحب الدار أن له مسيل ماء في داره في هذا الميراث، وإذا كان هكذا لا شك أن الشهادة تقبل؛ لأنه ثبت إقراره بالبينة؛ وإقراره حجة عليه، ويرجع في البيان إليه أنه لماء المطر أو لماء الوضوء والاغتسال، فأما إذا شهدوا على ...؟ ولم يثبتوا شيئاً من ذلك؛ لا تقبل الشهادة لأن العمل بإطلاق اللفظ هنا غير ممكن، لأن ضرر ماء المطر مع ضرر ماء الوضوء يقل ويدوم، وإذا كان الضرر مختلفاً كان الجنس مختلفاً، واللفظ الواحد لا ينتظم أمرين مختلفين كاسم القرء وأشباهه، وإنما يتناول أحدهما، وذلك الواحد مجهول فلا تقبل الشهادة.(10/167)
-----
ومن المشايخ من قال: لو تقبل الشهادة ماذا يثبت بعضهم؟ قالوا: يثبت حق مسيل ماء المطر، ومنهم من قال: يثبت كلا الأمرين حق مسيل ماء المطر، وحق مسيل ماء الوضوء والاغتسال. ومنهم من قال: يؤمر صاحب الدار بالبيان؛ فإن قال: لماء الوضوء، فهو لماء الوضوء لا غير، وإن قال: لماء المطر فهو لماء المطر لا غير، ويحلف على الآخر؛ لأن هذا أمر يجري فيه البدل والإقرار فيجري فيه اليمين.
وإن شهدوا أنه مسيل ماء دائم للوضوء والاغتسال وماء المطر فهو جائز، ويثبت جميع ذلك ولو لم يكن للمدعي بينة أصلاً استحلف صاحب الدار ويقضي فيه بالنكول.
وفي «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن نهر عظيم الشرب لأهل قرى لا يحصون، حبسه قوم من أعلى النهر عن الأسفلين، وقالوا: هو لنا وفي أيدينا، وقال الذين في أسفل النهر: هو لنا كله ولا حق لكم فيه. قال: إذا كان النهر يجري إلى الأسفلين يوم يختصمون ترك على حاله يجري كما يجري وشربهم جميعاً منه كما كان وليس للأعلين أن يسكروه عنهم، وإن كان الماء منقطعاً عن الأسفلين يوم يختصمون ولكن علم أنه كان يجري إلى الأسفلين فيما مضى وأن أهل الأعلى يحبسوه عنهم، أو أقام أهل الأسفل بينة أن النهر كان يجري إليهم، وأن أهل الأعلى حبسوه عنهم أمر أهل الأعلى بإزالة الحبس عنهم، وهذه المسألة دليل على أن الشهادة على يد منقضية صحيحة عند محمد.
(10/168)
-----
قال هشام: قلت لمحمد: أرأيت هؤلاء الذين لا يحصون إذا ادعى بعضهم هذا النهر، وأقام البينة أنه لقرى معلومة لا يحصى أهلها انقضى بها لتلك القرية بدعوى هذا وإقامته البينة والمدعى عليهم لا يحصون، وقد حضر بعضهم وفيهم الصغير والكبير؛ قال محمد رحمه الله: إذا كان هذا على ما يصف قائماً هذا النهر بمنزلة طريق من طرق المسلمين نافذ، فإن أقام قوم البينة أنه لهم دون غيرهم استحقوه وخرج من أن يكون بهذا لجماعة المسلمين، وصار لأهل تلك القرى خاصة، واكتفى القاضي بواحد من المدعين، وبواحد من المدعى عليهم، وإن كان النهر خاصاً لقوم معروفين يحصون؛ لم يقضِ عليهم بحضور واحد منهم وقضى على من حضر منهم.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وإذا كان الدار التي يدعي فيها المسيل، أو الطريق بين ورثة، فأقر بعضهم بالمسيل والطريق وجحد ذلك الباقون لم يكن للمقر له أن يمر فيه والآن يسيل فيه الماء؛ لأن الإقرار بالطريق والمسيل من بعض الشركاء إقرار باطل؛ لأن الطريق والمسيل إنما يكون في مكان بعينه، وإقرار أحد الشريكين بمكان بعينه من الموضع المشترك إقرار باطل؛ لأن الساكت يتضرر بهذا الإقرار زيادة ضرر؛ لأنه يحتاج إلى قسمتين: قسمة مع المقر له حتى يتميز نصيبه، وقسمة أخرى مع المقر في هذا المكان المقر به وعند ذلك عسى يتفرق أنصباؤه، وفي ذلك ضرر له ويصرف بعض الشركاء في الموضع المشترك على وجه يوجب زيادة ضرر بالباقين باطل، وإذا بطل هذا الإقرار صار وجوده وعدمه بمنزلة ولو عدم كان الجواب كما قلنا، فهاهنا كذلك.(10/169)
-----
وهذا بخلاف ما لو أقر بعض الشركاء بجزء شائع من الدار المشترك بينه وبين غيره حيث يصح الإقرار لأنه ليس في هذا الإقرار زيادة ضرر على ما في يد الشركاء؛ لأن الساكت لا يحتاج إلى قسمتين؛ إنما يحتاج إلى قسمة واحدة بينه وبين المقر ثم يدخل المقر له في نصيب المقر، وبخلاف ما لو أقر بعض الشركاء بنصيبه من الشراب أو ببعض نصيبه حيث يصح هذا الإقرار، وإن أقر بإجراء الماء في مكان بعينه وهو النهر كما في الطريق؛ لأنه ليس في هذا الإقرار زيادة ضرر بالساكت؛ لأنه لا يحتاج إلى قسمتين لأن قسمة الشرب إنما تكون من حيث المهايأة كما قبل الإقرار، ويصير لومة المقر له إن أقر له بجميع نصيبه، وإذا أقر له ببعض نصيبه يدخل المقر له في لومة المقر، فلا يلحق الساكت زيادة ضرر بهذا الإقرار أما هاهنا بخلافه.
فإن قسم الورثة هذه الدار بعد هذا الإقرار من بعض الشركاء فوقع الطريق والمسيل في نصيب المقر يؤمر بتسليمه إلى المقر له، وينقلب ذلك الإقرار صحيحاً لزوال المانع من صحته، وهو ضرر الساكت، وإن وقع الطريق والمسيل في نصيب المقر، فالمقر يضرب بنصيبه إلا قدر الطريق والمسيل؛ هكذا ذكر في «الكتاب» ولم يحك فيه خلافاً.
قالوا: ويجب أن يكون المذكور في الكتاب قول أبي حنيفة وأبي يوسف.(10/170)
-----
وعلى قول محمد: يضرب المقر له بنصف قيمة الطريق والمسيل، والمقر يضرب بحصته إلا قدر قيم نصف الطريق والمسيل قياساً على مسألة كتاب الإقرار، فإنه ذكر في كتاب الإقرار: دار بين رجلين فيها عشر بيوت؛ أقر أحد الشريكين ببيت بعينه لآخر لا يصح إقراره للحال فإذا قسم المقر والساكت الدار فيما بينهم بعد ذلك إن وقع البيت المقر به في نصيب المقر، فإنه يؤمر بتسليمه إلى المقر له، وإن وقع في نصيب صاحبه ذكر أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ يضرب المقر له بجميع ذرعان البيت في نصيب المقر، والمقر يضرب بنصف ذرعان الدار إلا قدر ذرعان البيت حتى أنه إذا كان ذرعان البيت المقر به عشرة، وذرعان الباقي تسعون، فالمقر له يضرب بنصف ذرعان البيت، وذلك خمسة أذرع، والمقر يضرب بخمسة وأربعين، فهاهنا يجب أن يكون كذلك على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ يضرب له بجميع قيمة الطريق والمسيل، وعلى قول محمد يضرب بنصف قيمة الطريق والمسيل إلا أن في مسألة المسيل والطريق اعتبر القيمة، وفي مسألة البيت اعتبر القيمة وفي مسألة البيت اعتبر الذرعان؛ لأن المقر به في مسألة المسيل والطريق حق المرور، وحق مسيل الماء لا الرقبة، فلا يمكن اعتباره بالذراعان، والمقر به في مسألة البيت الرقبة فأمكن اعتباره بالذراعان.
وطريق معرفة قيمة حق المرور ومسيل الماء أن ينظر إلى قيمة الدار، وفيها حق المرور للغير وإلى قيمتها، وليس فيها حق المرور لأحد، فإن كانت قيمتها وليس فيها حق المرور مئة، فنضرب المقر له بمئة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والمقر بأربعمئة، وعند محمد يضرب المقر له بخمسين، والمقر بأربعمئة وخمسين.(10/171)
-----
وإذا كان مسيل (200أ4) ماء في دار رجل في قناة، فأراد صاحب القناة أن يجعله ميراثاً، فليس له ذلك إلا من صاحب الدار؛ أما إذا أراد أن يجعله ميراثاً على الهواء فلأنه يريد أن يشغل شيئاً من هواء داره، وأما إذا أراد أن يجعله ميراثاً على وجه الأرض، فلأنه يريد أن يزيل منفعة وجه الأرض عن صاحب الدار؛ لأن الماء في القناة يجري تحت القناة والآن يجري على وجه الأرض.
ولو كان ميراثاً فأراد أن يجعله قناة فإن كان في ذلك ضرر على صاحب الدار بأن احتاج إلى حفر حافتي النهر لجعله قناة، فليس له ذلك إلا برضا صاحب الدار، وإن لم يكن في ذلك ضرر على صاحب الدار بأن لم يحتج إلى ذلك بأن كان الميراث عرضاً، فله ذلك وذكر الكرخي أنه إذا تساوى الأمران في الضرر فله أن يجعل القناة ميراثاً والميراث قناة.
ومن المتأخرين من قال: ما ذكر محمد في «الكتاب» مجهول على ما إذا كان له حق المسيل لا غير، فأما إذا كانت البقعة التي يسيل فيها الماء ملكه، فله أن يتصرف فيها بما شاء، قال في «الكتاب»: وإن كان الميراث على الهواء، فليس له أن يجعله قناة ولم يفصل، بينما إذا كان لصاحب الأرض فيه ضرر أو لم يكن؛ لأن هاهنا يحتاج إلى حفر الأرض وإنه لا يخلو عن الضرر.
ولو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطاً ليسدوا مسيله به لم يكن له ذلك، ولو بنى أهل الدار بناء ليسيل مسيله على ظهره فلهم ذلك.
ولو كان لرجل طريق في دار رجل، فأراد صاحب الدار أن يقطع طريقه لم يكن له ذلك، وينبغي أن يتركوا في ساحة الدار عرض باب الدار.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل ادعى على رجل أن مجرى مائه في بستانه، ولم يكن الماء جارياً يوم اختصما فشهد شاهدان أنه كان جارياً إلى بستان هذا أمس؛ قال: كان أبو يوسف يجيز هذه الشهادة، وكان أبو حنيفة لا يجيزها ما لم يشهدوا له بالملك أو الحق، وهو قول محمد رحمه الله.(10/172)
-----
ولو شهدوا على إقرار المدعى عليه بذلك جائز في قولهم وهو نظير ما لو ادعى رجل داراً في يدي رجل وشهد الشهود أن هذه الدار كانت في يد المدعي قبلت الشهادة عند أبي يوسف، وقضى بالدار للمدعي، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا يقضي بالدار للمدعي، ولو شهدوا على إقرار المدعى عليه أنها كانت في يد المدعي قضى بالدار للمدعي.
قال أيضاً: وسألته عمن ادعى قبل آخر ناوقة موضوعة على نهر هذا أمس جاء السيل حتى قلعها أمس وبقي بها.
قال محمد رحمه الله: إذا شهدوا بذلك أمر به أن يعيد الناوقة كما كانت موضوعة قلت: فإن أراد أن يجري فيها الماء فمنعه صاحب النهر، وجحد أن يكون له فيها مجرى قال: له أن يمنعه حتى يقيم البينة على أن يجري ماء فيها، قلت: فما منفعته في ذلك إذا لم يسل؟ قال: يقول صاحب الميراث: إذا كان مركباً فربما أخذ بينة في الحال على أن يسيل مائي فيها فيمكنني تسييل الماء فيها من غير توقف.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» في الميراث الذي كان يجري فيها الماء في دار رجل إلى دار رجل؛ لا تقبل الشهادة في هذا في قول أبي حنيفة حتى يشهدوا أنه حق له، وقال أبو يوسف: إذا شهدا أن هذا مجرى مائه؛ كان له أن يجري فيه الماء، ولا يشترط أن يشهدوا له بالملك أو الحق وهذه المسألة ومسألة مجرى الماء في البستان سواء. وإن لم يكن لصاحب المجرى بينة في هذه المسائل يحلف صاحب الدار وصاحب البستان بأنه ليس له فيه حق، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يحلف أنه ليس هذا مجرى مائه والله أعلم.
(10/173)
-----
رجلان ادعيا عيناً في يدي رجل يدعي كل واحد أنه ملكه ورثه عن أبيه أو ادعيا الملك مطلقاً، وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه، فظهرت عدالة شهود أحدهما، فالقاضي يقضي بالعين كله لمن ظهرت عدالة شهوده؛ لأن حقه قد ظهر من كل وجه وحق الآخر عسى يظهر، وعسى لا يظهر بأن لا يعدل شهوده وليس لمعرفة عدالة شهوده غاية معلومة ووقت معلوم، ولا يجوز تأخير حق ظاهر لحق موهوم به عسى لا يظهر وعسى يظهر، وليس لظهوره وقت معلوم وتبطل بينة الآخر حتى إذا ظهرت عدالتهم فالقاضي لا يقضي بشيء؛ لأن القاضي لما قضى بالعين كله للذي ظهرت عدالة شهوده مع قيامها يوجب القضاء بالنصف الآخر، وهو شهادة شهوده يضمن القضاء بالدار كله له إبطال بينة الآخر، والقاضي له ولاية إبطال البينة إذا لاح له دليل الإبطال، والقاضي إذا أبطل البينة في حادثة لا يجوز القضاء بها في تلك الحادثة أصلاً، وإن أقام الآخر بينة بعد ذلك على صاحبه المقضي له أن العين له قبل القاضي بينته وقضى بكل العين سواء جاء بشهود آخرين أو بتلك الشهود، لأنه لو لم يقبل شهوده إنما لم يقبل لصيرورته مقضياً عليه ببينة المقضي له، ولا وجه إليه؛ لأن بينة المقضي له قامت على صاحب يد الأول لا على المدعي الآخر.
فإن قال المقضي له الأول بعد ذلك: أنا أعيد البينة على المقضي له الثاني أن العين لي، فالقاضي لا يلتفت إلى بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه من جهة المقضي له الثاني.(10/174)
-----
ولو ظهرت عدالة شهودهما وقضى القاضي بالعين بينهما لاستوائهما في الحجة، ثم أحد المدعيين أقام بينة أن العبد عبده لا ينتفع بهذه البينة ولا يقضى له على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد من المدعيين صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه؛ لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه يقضى بكل العبد، فإنما حرم كل واحد منهما عن النصف ببينة صاحبه، فصار هو مقضياً عليه من جهة صاحبه، والإنسان متى صار مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً له في عين ذلك الشيء.
فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه، ولم يكن له في النصف ملك قبل القضاء لصاحبه؟ قلنا: إن لم يكن له فيه ملك فله حق الملك؛ لأنه أقام البينة أن الكل له، وإنها حقيقة الملك عند اتصال القضاء بها، فقبل اتصال القضاء بها، فوجب حق الملك وحق الملك معتبر بحقيقة الملك ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه كذا هاهنا.
ولو عدلت بينة أحدهما ولم تعدل بينة الآخر أو لم يقم الآخر شاهداً أصلاً أو أقام شاهداً واحداً، فقضي به لمن عدلت ببينة عادلة قضي له بالعين، وقبلت بينته؛ لأنه لو لم تقبل بينته إنما لم تقبل لصيرورته مقضياً عليه من جهة صاحبه؛ لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك ولا حق الملك في انعدام الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له كيف يتصور إزالته، فعلم أنه لم يصر مقضياً له، فسمع دعواه وبينته بعد ذلك.
فلو كان كل واحد من المدعيين ادعى أن العين له أودعه من صاحب اليد، وأقام أحدهما البينة، فقبل أن يزكي بينته أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه ذو اليد؛ قبلت بينته، وقضي له بالعبد؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر قامت على ذي اليد لا على المقر له، وجعل المقر له كالوكيل عنه.(10/175)
-----
فإن قيل: الملك قد ثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وبتصديق المقر له إياه ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي، فيجعل المقر له مقضياً عليه، قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي البينة على ذي اليد (200ب4) وعند ظهور عدالة الشهود يثبت الاستحقاق من وقت الشهادة فظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً، لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقرار ذي اليد بطل تصديق المقر له لأنه بناء عليه، وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجودهما والعدم بمنزلة، ولو عدم بمنزلة ولو عدما وباقي المسألة بحالها كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده دون المقر كذا هاهنا.
وكذلك لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحب البينة يقضي للمقر له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن صاحبه أقام البينة على مودع المقر له وهو ليس بخصم، والبينة القائمة على غير الخصم باطلة.(10/176)
-----
فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على المودع إنما تبطل إذا كان المودع غائباً وقت إقامة البينة؛ أما إذا كان حاضراً كانت البينة مقبولة، وتكون إقامة البينة على المودع والمودع حاضر بمنزلة إقامة البينة على المودع، وهاهنا المقر له حاضر وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فصار بمنزلة ما لو أقام المدعي البينة على الذي كان العبد في يده حقيقة فهو غائب حكماً؛ لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة؛ لأنه لم يكن له في العبد ملك ولا حق ملك وقت إقامة المدعي البينة، وكذا لم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد ظهر من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهد يقضي له، فصار غائباً حكماً حتى لو كان المقر له أقام شاهداً واحداً قبل إقرار ذي اليد له بالعين ويثبت له زيادة خصوصية بهذا العين من بين سائر الناس وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يستحق القضاء حتى كانت خصومته معتبرة وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فكان حاضراً حقيقة وحكماً كانت البينة القائمة على مودع المقر له بمنزلة القائمة على المقر له، فتقبل بينته ويصير المقر مقضياً عليه، فلا تسمع بينته بعد ذلك.p
فإن قال غير المقر له: أنا أعيد شهودي على المقر له هل يقبل شهود بينته؟ فهذا على وجهين: إن قال ذلك بعد ما قضى القاضي ببينة المقر له لا تسمع بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ثم يقضي له بجميع العبد؛ لأنه لما أعاد البينة، فقد أبرأ ذا اليد عن الخصومة، ورضي بنفاذ إقراره واستأنف الخصومة مع المقر له وله ولاية إبراء المقر عن الخصومة واستئناف الخصومة مع المقر له؛ لأن ما يدعيه غير المقر له في يد المقر له، فتقررت يد المقر له، واجتمع بين بينة الخارج وبينة ذي اليد وهو المقر له والدعوة في الملك المطلق، فكانت بينة الخارج أولى والله أعلم.(10/177)
-----
إذا أرادت المرأة إثبات بقية مهرها على زوجها فلها ذلك، وإن لم يكن لهاحق المطالبة ببقية المهر في الحال، وكذلك ممن له الدين المؤجل إذا أراد إثباته فله ذلك، وإن لم يكن له حق المطالبة في الحال، وهذا لأن إثبات الحق لا يعتمد المطالبة للحال لامحالة؛ ألا ترى أن إثبات الدين على الميت على وارث لم يصل إليه شيء من تركة الميت صحيح، وإن لم يكن لرب الدين حق المطالبة في هذا الوارث إذا لم يصل له شيء من تركة الميت؟ ولكن يعتمد الفائدة.
وللمرأة في إثبات بقية مهرها في الحال فائدة، وكذلك في إثبات الدين المؤجل في الحال لجواز أن شهوده يغيبون، فلا يقدر على إثبات الدين عند محل الأجل.
ادعى على غيره عشرة دراهم دين وشهد الشهود أنه دفع إليه عشرة دراهم لا تقبل الشهادة؛ لأن دفع العشرة قد يكون لجهة أخرى غير الدين.
قال هشام في «نوادره»: قلت لمحمد: رجل لي عليه ألف درهم، وللرجل على امرأته ألف درهم، فخاصما فيه، فأقامت المرأة شاهدين وأنا غائب أني أقررت أن الدراهم التي على هذا الرجل الذي يطالبها ملك لهذه المرأة لا شيء له فيها وإنما هي باسمي من ثمن عبد بعته لها والرجل الذي يطالب المرأة مقر بأن لي عليه ألف درهم أو منكر، فأقامت المرأة البينة أن لي عليه ألف درهم وأنا أقررت أن ملكها لها وأن اسمي في ذلك عارية؛ قال محمد رحمه الله : هذا أمر جائز، وشهادة قاطعة ادعى ديناً على ميت، فخص الوصي أو الوارث فلو حضر القاضي أو أحد الورثة بذلك يلزمه الدين في حصته حتى يستغرق جميع حصته؛ هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب إثبات الدين والحقوق فهذه إشارة الى أن بمجرد إقرار بعض الورثة يلزمه كل الدين في نصيبه من غير أن يحتاج فيه الى قضاء القاضي ألا ترى أنه قال: لو أقر أحد الورثة بذلك يلزمه الدين في حصته حتى يستغرق جميع حصته ولم يشترط فيه قضاء القاضي، وليس الأمر كذلك بل يحتاج الى قضاء للزوم المقر كل الدين في نصيبه؟(10/178)
-----
وإليه أشار محمد رحمه الله في «الزيادات» حيث قال: لو أقر الوارثان لرجل بالدين على الميت ومعهما ورثة أخرى فلم يقض القاضي بشيء بحكم إقرارهما حتى شهدا لذلك الرجل على الميت بذلك الدين قبلت شهادتهما، ولو قضى القاضي بالدين على المقرين في نصيبهما، ثم شهدا بذلك الدين لذلك الرجل على الميت لا تقبل شهادتهما؛ لأن في الوجه الأول لم يحولا إلى غيرهما بعض ما لزمها، ثم إنما لا يلزم المقر الدين في نصيبه خاصة بمجرد الإقرار قبل قضاء القاضي لوجهين:
أحدهما: أن هذا إقرار في معنى الشهادة؛ لأنه إقرار على الغير، وهو الميت ثم الشهادة لا تصير موجبة إلا بقضاء القاضي، فكذا الإقرار الذي مر في معنى الشهادة.
والثاني: أنه يحتمل أن رب الدين يجد بينة في ذلك أو يصدق باقي الورثة، فلو ألزمناه جميع الدين بإقراره في نصيبه في الحال فقد ألزمناه ذلك مع الاحتمال، وإنه لا يجوز، وإنما ينقطع هذا الإحتمال ويلزمه كل المال بقضاء القاضي.
فإن قيل: إذا كان لا يلزم المقر كل الدين في نصيبه بمجرد إقراره فبأي طريق يقضي القاضي عليه بكل الدين.
قلنا: طريقه أن الدين يقضي ممن أيسر المالين قضاء ألا ترى أنه إذا كان في التركة عين ودين، فالدين يقضى والدين دون العين، وألا ترى أن بعض التركة إذا كان حاضراً والبعض غائباً، فالدين يقضى من الحاضر إذا ثبت هذا فنقول إذا لم يجد رب الدين بينة، ولم يصدقه باقي الورثة فأيسر المالين قضاء يصيب المقر، فيقضي عليه بذلك حتى يوفى من نصيبه، وإن كان الدين متعلقاً بكل التركة.
وفي كتاب «الأقضية»: رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم، وأن فلاناً أمر هذا أن يدفعها إليه من هذا الألف التي عنده له، وجحد المودع الأمر بذلك، فأقام المدعي بينة على الألف الوديعة، والأمر بالدفع، وقضى القاضي عليه، فإنه يكون ذلك قضاءً على الغائب، وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.(10/179)
-----
رب الوديعة إذا أقام البينة عل أن الورثة باعوا عيناً من التركة، والتركة مستغرقة بالدين، وقالت الورثة: إن أبانا باع هذا العبد في حياته، وأخذ الثمن، وأقاموا جميعاً البينة، فبينة رب الدار أولى؛ لأن رب الدين ببينته يثبت الضمان عليهم، وهم ينفون.
في «فتاوى الفضلي» رحمه الله تعالى: إذا ادعى بعض الورثة على مورثه ديناً، وصدقه بعض الورثة، وكذبه البعض قالوا: يستوفى الدين من نصيب من صدقة بعد أن يطرح نصيب المدعي وقد ذكرنا ....، من مسائل هذا الفصل في كتاب «أدب القاضي» ادعى على ميت ألف درهم ديناً، وقضى القاضي له بذلك ببينة أقامها وأخذها، ثم جاء رجل آخر وادعى على الميت ألف درهم دين وأنكرت الورثة، وأقر الغريم الأول فإن ما أخذه الأول يكون بين الأول، وبين الثاني دعوى الدين على المودع لا تصح بخلاف دعوى الوارث عليه التركة إذا كانت مستغرقة بالدين فجاء غريم آخر وأراد إثبات دينه بالبينة، فإنما يثته على الوارث لا على غريم آخر، ولكن لا يحلف الوارث؛ لأن فائدة الحلف النكول الذي هو إقرار، والوارث لو أقر بالدين والتركة مستغرقة بالدين لا يصح إقراره، ولا يظهر الدين في حق غريم آخر، هذا هو المذكور في سائر الكتب، ولم يذكر في شيء من الكتب أنه هل يصح إقرار هذا الوارث في حق نفسه؛ حتى لو ظهر للميت مال آخر يستوفي دين (201أ4) هذا الغريم من نصيب الوارث المقر، وينبغي أن يصح، ولكن لا يحلفه لهذه الفائدة الموهومة، والله أعلم.
(10/180)
-----
قال محمد رحمه الله «الأصل»: رجل في يديه دار مبنية جاء رجل وأقام بينة أنها داره وذكرا البناء في شهادتهما أو لم يذكرا، ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي أما إذا ذكروا البناء فلا شك فيه، وأما إذا لم يذكروا البناء؛ فلأن البناء مركب في الأرض تركيب إفراز فيدخل تحت ذكر الأرض خصوصاً في ذكر الدار؛ لأن في الغالب تستعمل الدار في المبني، ثم إذا قضى القاضي للمدعي بالدار ببنائها أقر المدعي بعد ذلك وقال: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه ولم يزل له أو قال ذلك بعد الشهادة قبل القضاء، فإن هذا إكذاب للشاهد وبطلب الشهادة والقضاء في البناء والدار جميعاً وإن قال: البناء للمدعى عليه فهذا ليس بإكذاب لشهوده؛ هكذا المسألة في «الأقضية».
وذكر في آخر شهادات «الأصل» أن الشهود إذا ذكروا البناء في شهادتهم، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم أقر المدعي بعد ذلك بالبناء للمدعى عليه كان ذلك إكذاباً لشهوده، وبطلت الشهادة والقضاء وإن لم يذكروا الثاني في شهادتهم وقضى عليهه بالدار والبناء، ثم أقر بالبناء للمدعى عليه لا يكون ذلك إكذاباً لشهوده.
وجه الفرق على رواية شهادات «الأصل»: أن البناء إذا لم يكن ملفوظاً في الشهادة فالقضاء بالبناء ما كان لكونه مشهوداً بل تبعاً للأرض؛ لأن حكم الأصل يثبت في التبع إلا إذا وجد دليل يوجب قطع التبعية، فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه فهذا إقرار حجة قطعية عن التبعية وحجة أصلية في الملك لا أن يكون إكذاباً لتلك الشهادة، فأما إذا كان البناء ملفوظاً به في الشهادة فالقضاء بالبناء لكونه مشهوداً به فالإقرار بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يكون إكذاباً للشهود، فيوجب بطلان الشهادة.(10/181)
-----
ووجه التسوية على رواية كتاب «الأقضية»: أن مطلق اسم الدار في الغالب من كلام الناس وفي عاداتهم يستعمل بإزاء الأرض والبناء، والشرع يشهد لذلك حتى أن من حلف لا يدخل داراً، فدخل صحراء كانت داراً، وقد انهدم بناؤها لا يحنث، والثابت باعتبار العادة وعليه الاستعمال كالثابت بمطلق اللفظ حقيقة فاستوى ذكر البناء وعدمه.
ثم على رواية كتاب «الأقضية» فرق بينما إذا قال المقضى له: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه، وبينما إذا قال: البناء للمدعى عليه يوم شهادة الشهود أو قال: لم يزل ملكاً للمقضي عليه فلم يجعل الإقرار تكذيباً للشهود وجعل الثاني والثالث تكذيباً.
وعلى رواية كتاب «الشهادة» لم يفصل وجعل مطلق الإقرار بالبناء للمدعى عليه تكذيباً للشاهد إذا كان البناء مذكوراً في الشهادة.
وجه ما ذكر في «الشهادات»: أن مطلق الإقرار بالبناء للمقضي عليه يناقض شهادة الشهود للمدعي بالبناء والإكذاب في حكم المناقضة.
وجه ما ذكر في «الأقضية»: أن قوله: البناء ليس لي وإنما هو للمدعى عليه كلام محتمل يحتمل أنه للمقضي عليه؛ لأنه كان له يوم شهد الشهود فيكون إكذاباً للشهود ويحتمل أنه له؛ لأنه يملكه من جهة بعدما شهد الشهود فلا يكون إكذاباً بالاحتمال، ولا كذلك قوله: كان البناء لي يوم شهد الشهود، لم يزل ملكاً له.
هذا إذا أقر المقضي له بعد القضاء له أن البناء ليس له، وأنه للمقضي عليه، ولو أن المقضي له لم يقر بذلك لكن المقضي عليه ادعى البناء لنفسه، فعلى رواية كتاب «الأقضية» لا تسمع دعواه ولا تسمع بينته إن ذكر الشهود البناء في شهادتهم وسمع دعوى المقضي عليه وإن ذكروا لم تسمع دعواه.(10/182)
-----
وفي «المنتقى» وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل وأنكر الرجل الذي في يديه الدار حق المدعي فشهد للمدعي شاهدان أن الدار داره ولم يزيدوا على ذلك فلما زكوا، قال المدعى عليه: البناء بنائي أنا بنيته، وأراد أن يقيم البينة على ذلك قال: إن كان شهود المدعي حضوراً فالقاضي يسألهم عن البناء، فإن قالوا: البناء للمدعي مع الدار فالقاضي لا يلتفت إلى قول المدعى عليه وإن قالوا: لا ندري لمن البناء إلا أنا نشهد أن الأرض للمدعي فليس ذلك بإكذاب منهم بشهادتهم ويقضي للمدعى عليه بالبناء إن أقام البينة على البناء يؤمر بالهدم وتسليم الأرض إلى المدعي، وإن لم يحضر المدعى عليه ببينة على البناء قضى عليه القاضي بالأرض بشهادة شهود المدعي وأتبع الأرض للبناء، وإن جاء المدعى عليه بعد ذلك بالبيينة أن البناء بناؤه أخذه؛ لأن القاضي لم يقض على المدعى عليه بالبناء بشهادة الشهود وهذه الرواية توافق رواية شهادات «الأصل».
ولو أن شهود المدعي شهدوا أن الدار للمدعي ثم ماتوا أو غابوا، فلم يقدر عليهم فلما أراد القاضي أن يقضي بالدار ببنائها للمدعي قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أن البناء بنائي لم يقبل ذلك منه ويقضي بالدار للمدعي ببنائها؛ لأن الشهود حين شهدوا بالدار فقد شهدوا بالبناء إلا أن يثبتوا أنهم لا يدرون لمن البناء فيكون على ما وصفت لك في أول المسألة.(10/183)
قال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بالدار في هذا الوجه ببنائها للمدعي، ثم حضر شهوده وقالوا: إن البناء لم يكن للمدعي، إنما كان للمدعى عليه ضمنوا قيمة البناء للمدعى عليه، فإن قالوا للقاضي حين رجعوا عن البناء: ليس البناء للمدعي، ولا ندري لمن البناء لم يضمنوا من قيمة البناء شيئاً، وكان البناء للمدعي؛ وقيل للمدعى عليه: أقم البينة أن البناء بناؤك على الشهود الذين شهدوا للمدعي، فإن أقام عليهم البينة ضمنهم قيمة البناء؛ ألا ترى أن البناء دخل فيما شهدوا به.(10/184)
-----
ولو شهد شهود المدعي أن الدار له، ولم يزيدوا على هذا، ثم ماتوا أو غابوا ثم جاء رجل آخر وادعى بناء هذه الدار لنفسه، وشهد له شاهدان آخران بذلك، فإن القاضي يقضي بالأرض للمدعي الذي شهد شهوده بالدار، ويقضي بالبناء بين المدعيين نصفين، فإن أقام المدعى عليه بينة أن البناء بناؤه قبل ذلك منه.
ولو أن شهود المدعي بالدار شهدوا أن الأرض للمدعي وقالوا :لا ندري لمن البناء قضى بالأرض له، وقضى بالبناء لمدعي البناء خاصة.
قال: وكذلك في جميع ما وصفت لك الأرض يكون فيها النخيل والأشجار فشهد شهود المدعي أن هذه الأرض له، فهذا بمنزلة شهادتهم بالدار إذا لم يفسروا، فالقاضي يقضي بالأرض، ويتبعها النخيل والشجر من غير أن يكون ذلك شهادة بالنخيل والشجر.
وكذلك إذا شهدوا أن هذا الخاتم لفلان ولم يذكروا الفص، أو شهدوا أن هذا السيف لفلان ولم يذكروا الحلية، فالقاضي يقضي بالسيف وبالحلية، وبالخاتم والفص لفلان من غير أن يكون الفص والحلية مشهوداً به؛ حتى لو أقام المشهود عليه بينة أن البناء والفص والحلية له قبلت شهادتهم كان القاضي قضى بذلك للمدعي أو لم يقض.
وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود على رجل بجارية في يديه أنها لهذا المدعي وقضى القاضي له بها ثم غاب الشاهدان أو ماتا، وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود أخذه المدعي، وكذلك لو كانت الدار ظاهرة أو شهد الشهود بالجارية للمدعي ولم يتعرضوا للولد فالقاضي يقضي للمدعي بالجارية وبالولد.(10/185)
-----
فإن قال الذي في يده الجارية: أنا أقيم (201ب4) بينة على أن الولد لي؛ لم يلتفت إلى بينته ويقضي بالجارية وولدها للمدعي، وإذا قضى القاضي بذلك ثم حضر الشهود وقالوا: لم يكن الولد للمدعي وإنما للمدعى عليه، فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وإن أقام البينة على الولد، ولو كان الشهود حضوراً وسألهم القاضي عن الولد قبل القضاء فقالوا: هو للمدعى عليه، أو قالوا: لا ندري لمن هو فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وقالوا: لا ندري لمن هو فالقاضي لا يقضي في الولد بشيء، ويقضي بالجارية للمدعي، قال: ولا يشبه الولد في هذا الوجه البناء، وعلل فقال: لأن البناء موصول بالدار فقد أشار إلى أن شهود المدعي في مسألة الدار إذا قالوا وقت الشهادة بالدار: لا ندري لمن البناء إنه يقضي بالبناء لمدعي الدار.
وإذا شهد الرجل بجارية في يدي رجل أنها له وقضي له بها، ثم غاب الشاهدان وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود، وأخذ المدعي الولد ثم رجع الشهود عن شهادتهم ضمنوا قيمة الأم والولد.
قال: لأن الولد بمنزلة الأم، وكذلك لو كان الولد ظاهراً، وشهدوا بالأم، ولم يتعرضوا للولد، ثم رجعوا عن شهادتهم ضمنوا قيمة الأم والولد، وإن قالوا: الأم لهذا، والولد عبد للذي في يديه فهو كما قالوا.
قال ابن سماعة في «نوادره»: قلت لمحمد رحمه الله: أو لا يسألهم عن أي وجه صار الولد عبداً له؟ قال: نعم، فإن أبوا أن يخبروا قبلت شهادتهم.
هشام في «نوادره»: عن محمد أنه قال: سمعت أبا يوسف يقول: إذا كان في يدي رجل أمة وابنة هذه الأمة في يدي رجل آخر، أقام رجل بينته أن هذه أمته وأخذها لم يكن له على البنت سبيل.(10/186)
ولو أقام البينة على نخل في يدي رجل أنه نخله وثمرة هذا النخل في يدي رجل آخر أخذ الثمرة والنخيل، قال: ولا يشبه التمر الولد ألا ترى أنه لو أوصى بغلة نخلة عشر سنين جاز، ولو أوصى بما تضع شاته عشر سنين لم يجز.(10/187)
-----
قال هشام: سألت محمداً عن أرض مزروعة حنطة أقام آخر بينة أن الأرض له وقال الشهود: لا ندري لمن الزرع، قال: إذا لم يعلم الزارع فالزرع يتبع الأرض، قلت: فإن أقام الذي في يديه الأرض بينة أنه هو الذي زرع، قال: أجعل الزرع له، قلت: فإن كان الزرع محصداً أو كدساً والشهود لم يشهدوا بالزرع لأحد قال: الزرع لمن في يده الأرض.
ادعى عيناً في يدي إنسان أنه له ثم ادعى بعد ذلك أنه لفلان وكله بالخصومة فيه، وأقام البينة على ذلك قبلت بينته ولا يصير متناقضاً، ولو ادعى أنه لفلان وكله بالخصومة فيه أولاً، ثم ادعى أنه له وأقام البينة على ذلك يصير متناقضاً، ولا تقبل بينته إلا أن يوفق فيقول: كان لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم اشتريته منه بعد ذلك وأقام على ذلك بينة فحينئذٍ تقبل بينته. هكذا ذكر المسألة في «الأصل»، وقد ذكرنا وجه الفرق في كتاب الشهادات من هذا الأصل.
قال في «الأصل» أيضاً: ولو ادعى أنه لفلان وكله بالخصومة فيه لا تقبل بينته ويصير متناقضاً إلا أن يوفق. قال فيه أيضاً: والدين في هذا نظير العين حتى لو ادعى على رجل دين ألف درهم في صك جاء به باسمه، ثم ادعى أن ذلك المال وذلك الصك بعينه لفلان وكله بالخصومة فيه؛ قبلت بينته فلا يصير متناقضاً.
أحد الورثة إذا أقر أن هذا المحدود ميراث عن أبينا، ثم ادعى أنه وصية عن أبي لابني فلان، وأقام البينة قبلت بينته، ولا يصير متناقضاً؛ لأن الكل ميراث، والميراث متروك الميت والكل متروك الميت.(10/188)
-----
استأجر واد محدوداً إجارة طويلة مرسومة وأخذه من غير مقاطعة، وأقر المستأجر الثاني بالقبض أن المستأجر الأول مع المستأجر الثاني فسخا الإجارة الثانية بينهما، وطالب المستأجر الأول المستأجر الثاني بمال المقاطعة، فقال المستأجر الثاني: إن هذا المحدود كان للآجر الأول من يوم الإجارة الثانية الى هذا اليوم، ولم يجب علي مال المقاطعة، وأقام البينة فقد قيل: تصح دعواه وتقبل بينته على ذلك، كأنه قال: غصب مني الآجر الأول، ولكن هذا بعيد والصحيح أنه لا تصح دعواه ولا تقبل بينته لمكان التناقض، ولو أقام المستأجر الأول بينة على أن الثاني قد قبض المستأجر وأقام الثاني بينة على أنها كانت في يد الأول تمام المدة فبينة الأول أولى؛ لأنه يثبت الأجرة في ذمة الثاني ببينته، والثاني ببينته ينفي ذلك.
إذا استحق العبد من يد المشتري وقضى القاضي بالعبد المستحق، فأراد المشتري أن يرجع على بائعه فادعى البائع أنه نتج عنده، ولم يمكنه إثباته، ورجع المشتري عليه بالثمن بقضاء القاضي، فأراد البائع أن يرجع على بائعه بالثمن، وصدقه بائعه في الشراء منه؛ له أن يرجع على بائعه، وإن زعم أن العبد نتج عنده، فيكون دعوى الشراء من غيره تناقضاً منه إلا أن التناقض يرتفع لتصديق الخصم؛ ولأن القاضي لما قضى عليه بالثمن للمستحق فقد كذبه فيما زعم من نتاج العبد عنده والتحق دعوى النتاج بالعدم، وكذلك لو أنكر بائعه الشراء منه، فأقام بينة هو على الشراء منه رجع عليه بالثمن، وإن صار متناقضاً لما زعم أن العبد نتج عنده؛ لأنه صار مكذباً فيما زعم على ما ذكرنا.(10/189)
-----
قال الشيخ الإمام الأجل نجم الدين النسفي: عن رجل ادعى لرجل ديناً من الدراهم أو الدنانير، فقال المدعى عليه: قد قبضتها في سوق سمرقند وطلب منه البينة، فلم يجد بينة على ذلك، ثم ادعى القضاء بعد ذلك في قرية كذا، وأقام على ذلك بينة هل يكون تناقضاً؟ وهل تبطل دعواه؟ قال: لا تبطل دعواه إن وفق.
ولم يبين وجه التوفيق ووجه ذلك: أن يقول: قبضتها في سوق سمرقند كما ادعيت أولاً فجحدني القضاء وعجزت عن إثباته بالبينة فقبضتها ثانياً في قرية كذا، وقيل: على الرواية التي لا يشترط التوفيق ويكتفى بإمكان التوفيق ينبغي أن لا يبطل دعواه، ويقبل ذلك منه من غير توفيق.
إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها داره ورثها من أخيه ثم ادعى أنه اشتراها من أخيه في حياته وصحته، وأقام على ذلك بينة لا تقبل بينته، وبمثله لو ادعى الشراء أولاً من أخيه في حياته وصحته ثم ادعى الإرث وأقام على ذلك بينة تقبل بينته؛ لأن في الفصل الأول التوفيق بين الكلامين غير ممكن فيثبت التناقض، وفي الفصل الثاني التوفيق بين الكلامين ممكن، فلا يثبت التناقض.
إذا قال المدعى عليه الدين: أين مبلغ مال كدعوى مسيكنى بتور سانيده، أم ثم قال: بفلان حوالة كرده بودم واورسانيده است، فقد قيل: لا تسمع هذه المقالة الثانية لمكان التناقض، وقيل: تسمع ولا تناقض؛ لأن إيفاء المحتال عليه إيفاء المحيل معنى.
ألا ترى من حلف ليعطين فلاناً حقه فأحاله على غيره وقبض من المحتال عليه بر الحالف في يمينه، وكذلك لو حلف لا يعطي فلاناً حقه فأحاله على غيره وقبضه المحتال له؛ حنث في يمينه، وجعل إعطاء المحتال عليه بأمر المحيل، إعطاء المحيل معنى.t
(10/190)
-----
في «مجموع النوازل» سئل نجم الدين النسفي: عن رجل ادعى ديناً في تركة ميت؛ وصدقه الوارث في ذلك وضمن له إيفاء الدين، ثم ادعى هذا الوارث بعد ذلك أن الميت قد كان قضى المال في حياته، وأراد إثبات ذلك بالبينة؛ قال: لا تصح دعواه ولا تسمع بينته، وهذا ظاهر لأنه متناقض؛ لأنه أقر بوجوب المال أولاً، وبدعوى القضاء يدعى أنه غير واجب، وهذا تناقض ظاهر.
سئل هو أيضاً: عن رجل خلع امرأته؛ وقال في ذلك المجلس: مرا دراين خانه سيح جيز نهبت، ثم ادعى عليه أشياء من الأقمشة التي هي في ذلك البيت؛ هل تصح دعواه؟ قال: إن كان قال: هذه الأقمشة كانت (202أ4) في البيت وقت الخلع لا تصح دعواه لمكان التناقض وهذا ظاهر، وإن قال: لم تكن هذه الأشياء في ذلك البيت وقت الخلع تصح دعوته، وعندي أن فيما إذا أنكر الزوج كون هذه الأشياء في البيت وقت الخلع يجب أن يكون الجواب على التفصيل إن كانت دعوى الأقمشة بعد إقرار الزوج من ادراين خانه ينتج جيز نهبت، في مدة لا يمكن إدخال تلك الأشياء في البيت في تلك المدة؛ لا تصح دعواه، لأنا تيقنا بكون هذه الأشياء في البيت وقت الخلع إذا كانت الحالة هذه، وإن كان دعوى الأقمشة بعد إقراره ذلك في مدة يمكنه إدخال تلك الأشياء في البيت في تلك المدة تصح دعواه؛ لأنا لم نتيقن بكون هذه الأشياء في البيت وقت الخلع؛ إذا كانت الحالة.(10/191)
-----
هذه وجنس هذه المسألة في شهادات «الجامع» من شرحي. ادعى على رجل مقداراً معلوماً من مال الشركة في يده، وأنكر المدعى عليه الشركة، والمال، ثم إن المدعي ادعى ذلك المال المقدر بجهة الدين، تسمع دعواه ثانياً ولا يصير متناقضاً؛ لأن مال الشركة يصير مضموناً على الشريك، ديناً في ذمته عند جحوده، فيمكن الجمع بين الدعوتين إذ يمكنه أن يقول: كان لي في يده هذا المقدار بجهة الشركة، وصار ديناً عليه حين أنكر الشركة والدين، ولو كان ادعى ذلك المقدار بجهة الدين أولاً، ثم ادعاه بجهة الشركة؛ لا تسمع دعواه ثانياً، ويثبت التناقض لأن الدين لا يصير مال الشركة بحال.
ولو ادعى على آخر أن له في يده كذا، كذا من مال الشركة، فأنكر المدعى عليه الشركة، ثم إن المدعى عليه ادعى دفع ذلك المال إلى المدعي، فإن كان أنكر الشركة أصلاً بأن قال: لم يكن بيننا شركة أصلاً، وما دفعت إليَّ شيئاً من المال، لا تسمع منه دعوى دفع المال لمكان التناقض، وإن أنكر الشركة والمال في الحال، بأن قال: لا شركة بيننا، وليس لك في يدي مال الشركة، تسمع منه دفع المال ولا تناقض هاهنا.
يوضحه: أن مال الشركة وديعة في يد الشريك، والجواب في المودع إذا أنكر الوديعة، ثم ادعى الرد على التفصيل الذي ذكرنا كذا هاهنا.
وإن ادعى الأول في فصل الوديعة والشركة فيما إذا أنكر الإيداع أو الشركة أصلاً وقال: إنك أبرأتني عن دعواك قبلي صحت الدعوى؛ لأن بالجحود يصير الوديعة، ومال الشركة ديناً فيستقيم دعوى الإبراء إذ لا تناقض ثمة، ولا كذلك في دعوى الدفع.
صبي له عقار موروثة ادعى بعد بلوغه أن وصيه باع عقاره مكرهاً، وسلمه مكرهاً فلم يملكه المشتري وعليه رده علي، ثم ادعى أن الوصي قد كان باعه بغبن فاحش صحت منه الدعوى الثانية وقبلت بينته لعدم التنافي بجوابه، باع مكرهاً بغبن فاحش فالجمع بين الدعوتين ممكن من هذا الوجه.(10/192)
-----
وإذا قال: أدعي عيناً في يد رجل ملكاً مطلقاً، ثم ادعاه في وقت آخر على ذلك الرجل عند ذلك القاضي بسبب حادث صح دعواه، ولو ادعى أولاً الملك بسبب، ثم ادعاه بعد ذلك الرجل ملكاً مطلقاً عند ذلك القاضي؛ لا يصح دعواه هكذا، ذكر في دعوى «أجناس الناطفي».
والفرق: أن الملك القديم يجوز أن يصير ملكاً حادثاً؛ لأن المملوك أول من أمس يجوز أن يصير مملوكاً أمس ملكاً حادثاً، بسبب حادث بأن يبيعه ثم يشتريه، فالتوفيق بين الدعوتين ممكن فتصح الدعوى الثانية، فأما الملك الحادث لا يجوز أن يصير ملكاً قديماً؛ لأن المملوك أمس لا يتصور أن يكون مملوكاً أول من أمس، فالتوفيق بين الدعوتين غير ممكن، فلا تصح دعواه الثانية.
ولو ادعى النتاج أولاً في ذاته، ثم ادعاها بعد ذلك بسبب عند ذلك القاضي ينبغي أن لا يصح دعواه الثاني، بخلاف ما إذا ادعى الملك المطلق أولاً، ثم ادعاه بعد ذلك بسبب عند ذلك القاضي.
والفرق: أن دعوى النتاج على ذي اليد لا تحتمل دعوى ملك حادث من جهته؛ إذ لا يتصور التملك بالنتاج من جهة غيره، ألا ترى أنه لو كان ادعى أن هذه الدابة ملكه بالنتاج من جهة ذي اليد، لم تكن دعواه صحيحة، فلا يمكن أن يجعل كلامه الثاني بياناً لكلامه الأول، بل يكون كلاماً آخر مخالفاً لكلامه فيصير متناقضاً؟ أما دعوى الملك المطلق على ذي اليد يحتمل دعوى ملك حادث من جهة ذي اليد فأمكن أن يجعل كلامه الثاني بياناً لكلامه الأول، وبالبيان يتقدر الكلام ولا يتناقض.(10/193)
-----
وإذا قال عند غير هذا القاضي: هذا العين ملكي بسبب الشراء من فلان، أو قال: بسبب الإرث من فلان، ثم ادعى ذلك العين عند قاضٍ من القضاة ملكاً مطلقاً، فالقاضي لا يسمع دعواه إذا ثبت عنده أنه قد قال قبل هذا: إن هذا العين ملكي بسبب كذا، وهذا إذا كان ادعى الشراء من رجل معلوم بأن ذكر اسم ذلك الرجل، واسم أبيه، واسم جده، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي يقع بها التعريف، فأما إذا كان ادعى الشراء من رجل مجهول بأن قال: اشتريته من محمد، ولم يزد عليه، ثم ادعاه بعد ذلك عند القاضي ملكاً مطلقاً، فالقاضي يسمع دعواه، وإن ثبت عند القاضي أنه قد قال قبل هذا: إن العين ملكي بسبب كذا.
والفرق: أنه إذا ادعى الشراء من غيره فقد أقر بالملك لذلك الغير؛ لأن كل مشترٍ مقر لبائعه فيما اشترى منه، وقد صح هذا الإقرار منه إذا كان البائع معلوماً؛ لأنه إقرار بالمعلوم للمعلوم، فيثبت به الملك لفلان بإقراره، وبعدما ثبت الملك لفلان؛ لا يمكنه إثباته لنفسه إلا بسبب يوجب الانتقال، ودعوى الملك المطلق بعد ذلك لا يتعرض بسبب الانتقال، فلا يثبت به الانتقال، وهو المحتاج إليه، وفيما إذا كان البائع مجهولاً لم يصح منه الإقرار؛ لأن الإقرار للمجهول لا يصح، فصار كأنه لم يدَّع الشراء أصلاً، وهناك يصح منه دعوى الملك المطلق فهاهنا كذلك.
وإذا ادعى داراً في يدي رجل ملكاً بسبب الشراء، أو أظهر أن الدار المدعى به يوم الدعوى لم تكن في يد المدعى عليه، بل كانت في يد غيره، ثم هذا المدعي ادعى هذه الدار في مجلس آخر على صاحب اليد ملكاً مطلقاً، فقد قيل: تسمع دعواه؛ لأن الدعوى الأول وقع باطلاً فصار وجوده والعدم بمنزلة.(10/194)
وقيل: لا يسمع دعواه وهو الأصح؛ لأن بدعواه الأول ادعى استحقاق الدار لنفسه ملكاً مطلقاً وهذا أمر عليه، فلأن لم تعتبر دعواه الأول في حق إثبات استحقاق الدار لنفسه، يعتبر في حق بطلان دعواه الملك المطلق لنفسه بعد ذلك.(10/195)
-----
يوضحه: أن دعواه الدار على غير صاحب اليد بسبب كذا، لا يكون أدنى حالاً من إقراره أن الدار له بسبب كذا عند غير صاحب اليد، وذلك يبطل دعواه الدارملكاً مطلقاً بعد ذلك فكذلك دعواه.
سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن ادعى نصف دار معين في يدي رجل، ثم ادعاه بعد ذلك جميعها، قال: لا يسمع دعواه ولو كان على العكس يسمع، والصواب: أنه يسمع في الوجهين جميعاً، إلا إذا كان. قال: وقت دعوى النصف لا حق لي فيها سوى النصف فحينئذ لا يسمع دعواه جميعها ما كان التناقض وبدونه لا تناقض فيصح الدعوى.
وذكر في آخر بيوع «الزيادات»: رجل اشترى من رجل عبداً، ثم إن البائع ادعى أنه كان فضولياً في هذا البيع، وأراد استرداد العبد من يد المشتري، وأنكر المشتري ذلك، أو ادعى المشتري أن البائع كان فضولياً في هذا البيع، وأراد رد العبد، واسترداد الثمن؛ لا يصح دعواه، لأن إقدامه على هذا العقد إقرار منه بصحة هذا العقد ونفاذه، وذلك بالملك له أو بالأمر من المالك، فالذي يدعي كونه فضولياً في البيع منكر نفاذه بعد ما أقر به، وأنه مناقض ظاهر وإن أراد أن يقيم بينة على ما ادعى من كونه فضولياً في البيع لا تسمع بينته، وكذلك لو لم (202ب4) يكن له بينة وأراد أن يحلف صاحبه على ما ادعى من كونه فضولياً في البيع ليس له ذلك؛ لأن سماع البينة والتحليف يترتبان على صحة الدعوى، وهذه الدعوى لم تصح هاهنا لمكان التناقض.
(10/196)
-----
ذكر في «المأذون الكبير»: العبد المأذون، إذا اشترى عبداً وقبضه ثم أقر أن هذا العبد الذي اشتراه من فلان قد كان فلان أعتقه قبل أن يبيعه منه، فاشتراه وهو حر وأنكر البائع ذلك فإن العبد مملوك له على حاله، ولا يصدق المأذون على ما أقر به البائع الأول، لأن المشتري من البائع لو كان حراً وأقرَّ بمثل ما أقر به المأذون لايصدق على البائع، فكذا إذا كان المشتري مأذوناً إلا أن المشتري إذا كان حراً فالعبد يعتق عليه بحكم إقراره، وإذا كان عبداً مأذوناً فالعتق لا يعتق عليه؛ لأن هذا إقرار بحرية طارئة بعد الرق وإنه صحيح من الحر غير صحيح من العبد المأذون.
ولو كان العبد المأذون لم يقر بذلك وإنما أقر أن البائع كان باع هذا العبد من فلان قبل أن يبيعه مني، وصدقه فلان في ذلك وكذبه البائع، فإن المأذون لا يصدق فيما ادعى على البائع حتى لا يسترد الثمن من البائع ويصدق في حق نفسه، حتى يؤمر بدفع العبد إلى فلان؛ لأن المأذون أقر بعين في يده أنه لأجنبي، وإقرار المأذون بذلك صحيح في حق نفسه، وإن أقر البائع بما ادعاه المأذون رجع المأذون على البائع بالثمن.
وكذلك لو أقام المأذون البينة على ما ادعى على البائع، أو حلف المأذون البائع على ما ادعى ولكل رجع المأذون على البائع بالثمن فقد جمع رحمه الله بين ثلاثة فصول؛ أقر البائع بما ادعاه المأذون، وإقامة المأذون البينة على البائع وتحليف المأذون البائع على ما ادعاه.(10/197)
-----
وأجاب في الكل أن المأذون رجع على البائع بالثمن، وهذا الجواب ظاهر في فصل الإقرار؛ لأن أكثر ما في الباب أن دعوى المأذون لا تصح لمكان التناقض، وصار من حيث التقدير كأنه لم يدعِ، فأقر البائع يصح، لأن الدعوى ليس بشرط لصحة الإقرار، وإذا صح إقرار البائع لزمه رد الثمن لأن المبيع لم يسلم للمأذون من جهة البائع بزعمه، والمأذون صدقه في ذلك فكان له أن يرجع بالثمن، إما .... في فصل إقامة البينة وفي تحليف البائع، وكان ينبغي أن لا يسمع البينة من المأذون على ما ادعى، ولا يكون له حق التحليف البائع على ما ادعى؛ لأن سماع البينة يترتب على دعوى صحيحة، وكذا حق التحليف يترتب على دعوى صحيحة، وهذا الدعوى من المأذون لم يصح لمكان التناقض؛ لأنه يدعي أن البائع باع منه المغصوب وإقدامه على الشراء إقرار منه أن المشتري ليس بمغصوب فهو معنى أن المأذون متناقض في هذه الدعوى، والتقريب ما ذكرنا.
وقد وضح محمد رحمه الله هذه المسألة في «الزيادات»، أو في «الجامع»: في الحر، وذكر أن المشتري لو أقام البينة على ما ادعى في بيع البائع المبيع من غيره، قبل أن يبيعه منه أنه لا يسمع دعواه، ولو أراد أن يحلف البائع على ذلك ليس له ذلك؛ لأن دعواه لم تصح لمكان التناقض على ما ذكرنا، فلا يترتب عليه سماع البينة والتحليف، فمن مشايخنا من لم يصحح ما ذكرنا في المأذون، ومنهم من صححه، واختلفوا فيما بينهم. قال بعضهم: في المسألة روايتان على رواية «الزيادات» و «الجامع» لا تسمع البينة ولا يحلف البائع وعلى رواية «المأذون» تسمع البينة ويحلف البائع.
(10/198)
-----
وجه ما ذكر في «المأذون»: أن المناقضة ثابتة من حيث الظاهر، لا من حيث النص، فإن المشتري لم يقرَ نصاً أن البائع ليس بغاصب، وإنما أثبتنا هذا الإقرار من حيث الظاهر، فإن الظاهر أن العاقل المسلم لا يشتري من الغاصب، والظاهر يصح حجة للدفع لا للإبطال، فلم يجز إبطال بينة المشتري بالمناقضة الثابتة من حيث الظاهر، فكانت البينة مقبولة واليمين مستحق حتى لو أقر المشتري نصاً أن البائع ليس بغاصب، وإنه بسبيل من بيعه، ثم ادعى أنه كان غاصباً، ولم يكن بسبيل من بيعه لم تصح دعواه، ولم تسمع بينته على الروايات كلها، وقال بعضهم: ما ذكر في «الزيادات» و «الجامع» قياس وما ذكر في «المأذون» استحسان.
وفي «الأجناس»: مشتري الأرض إذا أقر أن الأرض المشتراة مقبرة أو مسجد، وأنفذ القاضي إقراره بحضرة من يخاصمه، ثم أقام المشتري البينة على البائع ليرجع بالثمن عليه، قبلت بينته.
وفي «فتاوى أبي الليث»: دار في يدي رجل ادعى أخوه شركة فيها من جهة أنهما ورثاها من أبيهما فلان؛ فقال الذي في يديه الدار: ما كان لأبي في هذه الدار حق، أو قال: ما كانت هذه الدار لأبي، ثم إنه أقام البينة أنه كان اشترى هذه الدار من أبيه في حياته وصحته قبلت بينته، لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، فإنه يمكنه أن يقول: لم يكن لأبي وقت الموت ولم يصر ميراثاً بيننا لما أنه قد كان باعها مني قبل ذلك.
ولو قال: لم يكن لأبي قط، أو قال: لم يكن لأبي فيها حق قط، ثم ادعى الشراء بعد ذلك من أبيه، لم يسمع دعواه، ولم يقبل بينته لأن التوفيق هاهنا غير ممكن، وإن ادعى إقرار الأب في هذه الصورة بعد ذلك يسمع دعواه؛ لأن التوفيق بين دعوى إقرار الأب بالدار له، وبين ما تقدم من مقالته أنها لم تكن لأبيه ممكن، لأنه يمكنه أن يقول: ما كانت لأبي لأنها كانت لي، وقد أقر لي بها، وأقرار الإنسان بالعين لغيره إذا لم يكن مملوكاً له صحيح.(10/199)
-----
وفيه أيضاً: رجل اشترى كرماً من امرأة وادعى ابنها وهو غير بالغ أن هذا الكرم له ورثه من أبيه وصدقته الأم وزعمت أنها ما كانت وصية بجهة صحيحة يوم البيع، وقد كانت أقرت يوم البيع أنها كانت وصية من جهة أبيه.
قال: دعوى الابن باطل إلا أن يكون مأذوناً في التجارة، أو مأذوناً في الخصومة من جهة من له عليه ولاية، وتصدق المرأة على نفسها فيضمن فيه قيمة ما باعت، ولا تصدق على المشتري، ووجوب الضمان عليهما قولهما، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله بناءً على ما مر قبل هذا أن في وجوب ضمان العقار والبيع والتسليم روايتان.
عن أبي حنيفة: رجل مات وترك بنتاً وابنين؛ فادعى أحد الابنين أن أبانا باع هذه الدار منا في حال صغرنا، وأبرأنا من الثمن، واليوم هذه الدار ملكنا أثلاثاً؛ ثلثاه للابن، وثلثه للبنت، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى لأن قولهما في الابتداء: باع هذه الدار هنا يوجب التسوية بينهما وقد صرح بالمثالثة في الانتهاء، ولكن هذا بعيد لأن قولهما في الابتداء: باع هذه الدار يحتمل المثالثة.
ألا ترى أن من قال لرجلين: بعت منكما هذه العين على أن ثلثيه لهذا، وثلثه لهذا صح، فتصريحهما بالمثالثة في الانتهاء تعيين ما احتمله في ابتداء الكلام، وإنه لا يوجب تناقضاً، ولكن ينبغي أن يثبتا أن البيع كان في حالة الصحة، وبدونه لا يسمع دعواهما؛ لأن البيع من الوارث في مرض موت المورث لا يصح عند أبي حنيفة أصلاً.
ادعت المرأة مهر المثل ثم ادعت بعد ذلك المسمى يسمع دعواها الثاني، لأن في الوجه الأول الجمع بين الدعوتين ممكن، ولا كذلك في الوجه الثاني.(10/200)
-----
في «مجموع النوازل»: رجل ادعى على رجل عند القاضي أنه غصب منه غلاماً تركياً، وبين صفاته، وطلب إحضاره ليدعيه ويقيم عليه حجة، فأحضر المدعى عليه غلاماً بعض صفاته تخالف بعض ما وصفه المدعي، فادعى المدعي هذا العبد وقال: هذا العبد ملكي، وأقام عليه البينة سمع دعواه، وقبل منه البينة، هكذا ذكر، وهذا الجواب مستقيم فيما إذا قال: هذا ملكي، ولم يزد عليه، وكذلك هذا الجواب مستقيم أيضاً فيما إذا قال: هذا العبد ملكي أيضاً، ويصير مدعياً عبدين، وأما إذا قال: هذا العبد هو العبد الذي ادعيته أولاً، لا تسمع دعواه لمكان التناقض.
وإذا ادعى رجل على غيره أنه أخوه، وادعى عليه النفقة، فقال المدعى عليه: هو ليس بأخي ثم مات المدعي فجاء المدعى عليه يطلب ميراثه وقال: هو أخي لا يعتبر ذلك منه، ولا يقضى له بالميراث. ولو كان مكان الأخوّة دعوى البنوّة، أو دعوى الأبوّة والباقي بحاله يقبل ذلك منه،ويقضي له بالميراث.
والفرق: أن في دعوى الأخوة وأشباهها، والإقرار بها العبرة لدعوى المال، ألا ترى أن من أقر أن فلاناً أخوه، ولا يدعي عليه مالاً بسبب هذه الدعوى لا تصح دعوته، فعلم أن العبرة في الإقرار بالأخوة وأشباهها لدعوى المال، والتناقض في دعوى المال مانع صحة (203أ4) الدعوى أما في دعوى البنوة والأبوة والإقرار بهما لا عبرة لدعوى المال، بل هي مجرد دعوى النسب غير مانع صحة الدعوى.
إذا ادعى المديون القضاء وأنكر رب الدين ذلك وحلف، ثم إن المديون صالح رب الدين عن ذلك على شيء، ثم أقام البينة أنه كان قد قضاه الدين، هل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على القبول.
وصورتها: رجل استعار من آخر دابة، وهلكت الدابة تحت المستعير، وأنكر رب الدابة الإعارة، وصالحه المستعير على مال جاز، فأقام المستعير بعد ذلك بينة على العارية وقال: إنها بيعت، قبلت بينته، ولو أراد استحلاف المعير فله ذلك.(10/201)
-----
وعندي أن الجواب في مسألة الدين على التفصيل: إن صالحه عن الدين لا تقبل منه دعوى القضاء لمكان التناقض؛ لأن الصلح عن الدين إقرار بقيام الدين وقت الصلح، وإنه يناقض دعوى القضاء قبل ذلك، وإن صالحه عن دعوى الدين يقبل به دعوى القضاء؛ لأنه لا تناقض هاهنا.
وفي «المنتقى»: رجل له على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما كان لك عليَّ ألف درهم قط، وقد ادعيت هذه الألف أمس فدفعتها إليك، فقال المدعي: ما قبضت منك شيئاً، وإن لي عليك ألف درهم، فصالحه من دعواه على خمسمائة درهم، ثم إن المدعى عليه جاء ببينة فشهدت أنهم رأوا المدعى عليه دفع إلى المدعي أمس ألف درهم؛ لم ألتفت إلى هذه الشهادة؛ لأن هذا إنما افتدى يمينه بها.
ولو أن المدعى عليه قال للمدعي: صدقت، قد كان لك عليَّ ألف درهم، لكني قد قضيتكها أمس، وقال المدعي: ما قضيتني شيئاً، فدفع الألف عليه أو صالحه على خمسمائة، ثم شهد الشهود للمدعى عليه أنه دفع إليه الألف بالأمس كان له أن يرجع عليه ما أعطاه والصلح باطل.
وفي دعوى «المنتقى»: رجل ادعى داراً في يدي رجل وهو يجحد، فقال المدعي للقاضي: هذه داري وشهودي عليها غيَّب، فاسأله أن يبيعها مني، فسأله القاضي فأبى أن يبيعه فالمدعي على دعواه، هكذا حكاه عن محمد رحمه الله، فلم يجعل طلب المدعي من القاضي سؤال البيع من المدعى عليه متناقضاً في دعوى رقبة الدار بعد ذلك.
وأشار إلى المعنى فقال: لأنه فسر ذلك وقاسها على مسألة ذكرت في شفعة «المنتقى».(10/202)
-----
صورتها: رجل باع داراً في جوار رجل هو شفيعه، والشفيع يزعم أن الدار المبيعة له، فقال الشفيع للقاضي: هذه داري وأنا أدعي رقبتها، لا تبطل شفعته بدعواه الرقبة إلا أن في مسألة الشفعة في «المنتقى» ذكرت في موضعين في باب واحد، في أول الباب ذكرت على نحو ما ذكرنا، وفي آخر الباب ذكرت أن بدعوى الرقبة تبطل شفعته، فعلى قياس ما ذكر في آخر الباب ينبغي أن يبطل دعواه في الرقبة في المسألة سؤال البيع.
وفي دعوى «المنتقى»: عن أبي يوسف في الشفيع: إذا ادعى الدار المشتراة له وأن بينته غيب، أو قال: لا بينة لي، ويمكن أخذه بالشفعة، قال: طلب الشفعة إقرار بأنها ملك البائع، ولا أقبل بينته على الملك إن جاء بها فعلى قياس هذا ينبغي أن يبطل دعواه في الرقبة عند أبي يوسف بسؤال البائع في المسألة المتقدمة؛ لأن سؤال البيع إقرار أن الدار ملك البائع.
وفي «المنتقى»: في كتاب الدعوى ابن سماعة عن محمد: رجل ادعى على رجل أنه أخذ منه مالاً وهو كذا كذا ألف درهم، ووصف بصفة معروفة، فأقام المدعى عليه بينة أن هذا المدعي إن أقر أن هذا المال المسمى المفسر أخذ منه فلان، وأنكر المدعي ذلك فليس هذا بإبطال لدعوى المدعي، ولا بإكذاب لبينته؛ لأن الإكذاب إنما يثبت لمكان التنافي، ولا منافاة بين الأخذين إذا حلت الشهادتان عن الوقت، فيجوز أن يكون فلان أخذه ثم رده عليه، فأخذه هذا المدعى عليه.(10/203)
-----
وفي أقضية «المنتقى»: ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل ادعى على رجل ألف درهم ومئة دينار، فكانت الألف بصك قد كتب عليه، وكتب أن لا شيء عليه غيرها، والوقت واحد أو لا وقت فيها، فالمال كله لازم قال: ألا ترى أنه لو قال: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليه غير ذلك، ثم ادعى عليه ألف درهم وجاء ببينة على ذلك؛ إني أقبل البينة وألزمه المالين، ويكون معنى قوله: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليه غير ذلك من جنس الدراهم، ولي عليك مئة دينار، ولا مال لي عليه غير ذلك من جنس الدنانير، كذلك هاهنا.
وذكر المعلى قال: سألت محمداً: عن رجل ادعى على رجل مئة دينار في صك، وألف درهم في صك، وفي كل واحد من الصكين قال: عليهما حد المالين يعطيه أيهما شاء، وروى هشام عنه أنه لا يلزمه شيء معين في يدي رجل، وهو يقول: هذا العين ليس لي لا يصح بعينه حتى لو ادعى هذه العين بعد ذلك رجل وادعاه ذو اليد أيضاً، وقال: هو لي صح دعوى ذي اليد، وهذا باتفاق الروايات إذا لم يكن وقت باتفاقها، قال ذو اليد: هذا العين ليس لي هناك منازع يدعي العين لنفسه، وإن صار ذو اليد متناقضاً إلا أن هذا التناقض... لأن قوله هذا العين ليس لي إذا لم يكن ثمة منازع لا تثبت لغيره حقاً، وإن كان هذا الإقرار على نفسه ينفي الملك، وكل إقرار لا يثبت على المقر حقاً لغيره وجوده والعدم بمنزلة، وإن كان حال ما قال ذو اليد: هذا العين ليس لي هناك منازع يدعي هذا العين لنفسه صح نفيه، حتى لو قال ذو اليد بعد ذلك: هو لي، لا يلتفت إلى قوله: هو لي، ويقضي لحصته بالعين على رواية «الجامع»، وعلى رواية كتاب الدعوى: لا يصح نفيه، وتصح دعواه بعد ذلك العين لنفسه.(10/204)
-----
قالحاصل: أن قول صاحب اليد: هذا العين ليس ملكي عند وجود المنازع على رواية «الجامع» إقرار للملك فيه للمنازع، وذكر هذه المسألة في كتاب «الأقضية» في موضعين، وجعل قوله: هذا العين ليس بملكي عند وجود المنازع إقراراً بالملك له في إحدى الموضعين، ولم يجعله إقراراً بالملك في الموضع الآخر، ثم على رواية كتاب الدعوى إذا لم يكن إقراراً وقد كان قال صاحب اليد: هو ليس بملكي ولست بمعترض، لهذا فالقاضي لا يكتفي بهذا الجواب من المدعى عليه، بل يسأله: أهو ملك المدعي؟ وإن قال: نعم هو ملكه أمره بالتسليم إليه، وإن قال ليس بملكه وليس في يده والمدعي يثبت يده بالبينة.
إذا قال الوارث: هذه الدار لم تكن لأبي، وإنها كانت وديعة في يده لفلان سمى رجلاً معروفاً ثم أقام البينة أن الدار كانت في يد ابنه أخذها الذي في يديه بعد موته، أو أقام بينة أنه أخذها منه في حياته ردت الدار إلى الابن إن كان موضعاً لها حتى يقدم المستودع، وإن لم يكن موضعاً لها جعلت في يدي عدل.
هذا إذا أقر رجل معروف، وإن لم يكن أقر معروف، ولكن قال: لم تكن هذه الدار لأبي ثم قال بعد ذلك: كذبت في قولي إنها لم تكن لأبي؛ بل كانت لأبي مات وتركها ميراثاً لي دفعت إليه الدار بعدما هو ميت فلم يحضر أحد يطلبها، كمن في يده دار أو ثوب قال: ليس هذا لي، فالقاضي لا يأخذ ذلك منه حتى يحضر أحد فيدعيها، وإذا قال: لا حق لي قبل فلان ثم ادعى عيناً في يديه لا يسمع دعواه، ولو أقر له فلان بعين في يده صح إقراره في الباب الثاني من صلح شيخ الإسلام.
وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل، قال: لا حق لي في هذه الدار ولا خصومة ولا طلبة، ثم جاء يزعم أو وكيل فلان في دعوى هذه الدار قبل ذلك منه، إذا قال المدعى عليه وقت القضاء: العين المدعى ليس ملكي ولا هو في يدي، وقد كان قال وقت الدعوى: هو ملكي وحقي، لا يسمع منه الكلام لمكان التناقض.(10/205)
-----
رجل ادعى على رجل مالاً معلوماً وأقام عليه البينة أنه استوفى من هذا المال كذا وكذا درهماً، هل تبطل بذلك دعوى المدعي وبينته؟ قالوا: المسألة على وجهين؛ إن كان الإقرار بلفظ يدل على استيفائه هذا القدر قبل هذه الدعوى والبينة بأن قال: باقيه بودم ازيين مال أو بدي أزاين مال أو يدي لا يبطل دعواه ولا بينته؛ لأنه يمكنه أن يقول: استوفيت هذا القدر من المال بعدما ادعيته وأثبته بالبينة.
رجل ادعى على رجل أربعمائة درهم (203ب4) وأنكر المدعى عليه ذلك، فإن أقام المدعي بينة على دعواه وقضى القاضي له بالأربعمائة، ثم إن المدعي أقر أن للمدعى عليه مائة درهم، قال أبو القاسم الصفار رحمه الله: تبطل عن المدعى عليه الثلاثمائة الباقية وبه أفتى عبد الكريم؛ لأن بقدر المائة تقع المقاصة بين ما للمدعي على المدعى عليه، وبين ما للمدعى عليه على المدعي، ويسقط ذلك القدر عن المدعى عليه، فيصير المدعي مكذباً لشهوده، فإنهم شهدوا له بأربعمائة وله عليه ثلاثمائة.
وأفتى أبو أحمد عيسى بن النصر وغيره من أصحابنا؛ أنه لا يبطل عن الثلاثمائة الباقية، لأن بوقوع المقاصة لا يسقط الدين كما لا يسقط بالقضاء، إنما يسقط المطالبة لا غير؛ ألا ترى أن بعد القضاء والمقاصة لو أبرأ رب الدين المديون عن الدين يصح، فلم يسقط المائة منها عن المدعى عليه فلا يتحقق التكذيب، فلا يبطل الشهادة، فلهذا قالوا: لا تسقط الثلاثمائة الباقية والله أعلم.
القاضي إذا فرض النفقة للمرأة على الزوج فمضت مدة واجتمعت عليه النفقة، وادعى أن المرأة كانت حراماً عليه عند الفرض وأقام البينة، فبهذا القدر لا تبطل النفقة؛ لأنه يجوز أنها كانت حراماً عليه إلا أنها كانت في العدة، فيستقيم فرض النفقة.
ولو ادعى الزوج الخلع معها على المهر ونفقة العدة قبل فرض القاضي صح الدعوى، وإذا أقام البينة على ذلك قبلت بينته وبطل الفرض.(10/206)
-----
في «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل استعار من آخر ثوباً ثم أقام بينة أن الثوب لابنه الصغير قبلت بينته، فلم تكن الاستعارة على هذه الرواية إقراراً لملك المستعار منه، وذكر بعده المسألة بمسائل؛ إذا قال الرجل لغيره: أسكني هذه الدار، أعرني هذه الدابة ثم ادعاه بعد ذلك لنفسه لم تقبل حجته، وجعل الاستعارة إقراراً بالملك للمستعار منه. ولو قال: ادفع إلي هذه الدار أسكنها فأبى أن يعطيه ثم إن هذا السائل ادعاها بعد ذلك لنفسه فهو على حجته، وكذلك إذا قال: أعطني هذا الثوب ألبسه، أعطني هذه الدابة أركبها.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: إذا شهد شاهدان أن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم، وعلى هذا الرجل الآخر مئة دينار فقال المشهود له: أما الألف فنعم، وأما مائة الدينار فباطلة، قال: تبطل الشهادة في الرجلين جميعاً، وكذلك لو شهد أنه غصبه هذين الثوبين فقال المشهود له: أما أحدهما فلم يقبضه بطلت الشهادة.
ولو شهدا أن لفلان على فلان ألف درهم وقضاه منها خمسمائة وكذبهما المدعي في القضاء فالشهادة جائزة.
وروى بشر عن أبي يوسف: في رجلين شهدا أن لهذا على هذا ألف درهم قد قضى منها مئة وقال المدعي: لم أقبض شيئاً، قال أبو حنيفة رحمه الله: أقضي له بالألف وأجعله مقضياً المائة، قال بشر: وهو قول أبي يوسف.
رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره واشترى منه منذ شهر وأقام شاهدين، فشهدا على وقت الشراء أو أقل، فشهادتهما جائزة، ولو شهدا على أكثر من ذلك لم تجز شهادتهما.(10/207)
-----
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: شاهدان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فأنفذ القاضي شهادتهما، ثم ادعى أحد الشاهدين أنها امرأته تزوجها قبل الذي طلقها، وأتى على ذلك ببينة، والمرأة تجحد، لا يقبل ذلك منه؛ وكذلك هذا في العتق والبيع وغير ذلك إذا جحد البائع دعوى الشاهد وقال: المتاع لي، وكذلك إذا قال الشاهد: نحن أمرناه بالبيع؛ لأن ما بعد أن الحكم شهادتهما بمنزلة الإقرار منها؛ لأنه لا حق لهما فيه ولا في ثمنه، وسواء إن كان البائع جاحد البيع أو كان المشتري جاحد الشراء.
ولو شهدا فرد الحاكم شهادتهما ادعياه لأنفسهما فليس لهما في ذلك دعوى، فإن لم يشهدوا عليه عند الحاكم، ولكن شهدا المبايعة وضما على .... من غير إقرار بكلام، فإن هذين لا تقبل لهما دعوى.
وروي عن محمد: في رجل شهد على رجل أنه طلق هذه المرأة، ولم يشهد أنها امرأته وقال: لم أعرفها ولم أكن دخلت بها قبلت بينته، وكذلك لو شهدا على إقرار المرأة أنها امرأته ولم يشهد أنها امرأته، فأجاز القاضي عليها إقرارها وجعلها امرأته، ثم أقام الشاهد بينة أنه تزوجها منذ سنة، وإني لم أعرفها؛ قبلت بينته ويبطل قضاء القاضي ويردها على الشاهد، فصار مسألة الطلاق مختلفة بين أبي يوسف ومحمد.
رجل في يديه مملوك ادعاه رجل أنه مملوكه، والذي في يده يجحده، وادعاه لنفسه فحلفه القاضي ما هو لهذا المدعي فأبى أن يحلف، وقضى القاضي عليه بنكوله، فقال الذي كانت في يديه: قد كنت اشتريته منه قبل الخصومة، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، وقضي له به، ولا يكون إباؤه اليمين إكذاباً للشراء.
ولو أقام بينة على أنه لي ولد في ملكي، أو أقام بينة على أني اشتريته من فلان يريد به رجلاً آخر سوى المدعي، وقد ولد في ملكه لا تقبل منه البينة.(10/208)
-----
وإذا شهد شاهدان أن الدار التي في يد هذا لفلان، فقال المشهود له: هذا البيت من هذه الدار لفلان ليس مولى فقد أكذب شهوده، فإن كان هذا قبل القضاء لم أقض لا له ولا لفلان بشيء وإن كان بعيد القضاء، قال: هذا البيت لفلان، ولم يكن لي أخبرت إقراره لفلان وجعلت البيت له ورددت ما بقي من الدار على المدعى عليه، وضمنته قيمة ذلك البيت يعني للمشهود عليه، ولأبي يوسف فيها قولٌ آخر أنه يضمن قيمة البيت للمشهود عليه، ويكون ما بقي من الدار له يعني المشهود له.
وفي «الإملاء» عن محمد: ثوب في يدي رجل أقر أنه لفلان، ثم قال بعد ما سكت: بعته منه بمئة درهم وقال لفلان: هو لي من غير البيع قبلت بينته، ولم يكن إقراره إكذاباً لبينته، ولو كان المقر وصل كلامه فقال: هذا لفلان بعته منه بمئة دينار قبل قوله، ولم يخرج من يده إلا بما قال.
عبد في يدي رجل قال لصاحب اليد: هذا عبدك، ثم ادعى المقر بعد ذلك أنه عبده باعه من المقر له بألف درهم، لم يصدق على ذلك، فإن قال المقر له: هذا العبد كان للمقر قبل أن يقر لي به، فقد وجب حق المقر الأول في العبد؛ فيقال للمقر له: أقم البينة على انتقاله منه إليك.
وفي «نوادر عيسى بن أبان» ثلاثة نفر أقاموا بينة على رجل بمالٍ لهم قبله من ميراثهم عن أبيهم، فقضى القاضي به لهم، ثم إن أحدهم قال بعد ذلك: ما لي في هذا المال الذي قضي لنا به على فلان من حق، وإنما هذا لإخوتي، قال: لا تبطل بهذا القول عن المقضي عليه شيء، إلا أن يقول: ما كان أصلاً في هذا المال شيء، وما هو إلا لإخوتي؛ فحينئذٍ يبطل حقه عن المقضي عليه. ولو قال قبل أن يقضي القاضي له بالمال: ما لي في هذا المال حق، وما هو إلا لإخوتي، يسأل عن ذلك بأي وجه صار لهما، وذلك وإن ما ادعيتم من ميراث أبيكم، فإن جاء بوجه يكون له فيه من قوله مخرج قبل منه.
(10/209)
-----
وإن قال هذا القول ثم قضى القاضي للآخرين بالثلث وترك نصيب المقر، ولو كان الذين أقاموا البينة هم الذين ولوا معاملتهم ولم يدعوا المال إلا لهذين ما لي فيه حق؛ كان المال كله لهذين، ولم يبطل عن المدعى عليه شيء منه؛ لأنه قد يكون المال لرجل باسم رجل، وقال رجل يعمل به رجل آخر، رجل أقر وقال: هذا العبد تركه فلان ميراثاً، ثم ادعى أن فلاناً الميت أوصى بثلثه، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، ألا ترى أنه يقال تركه ميراثاً وأوصى به لي، وكذلك لو قال: تركه ميراثاً، ثم ادعى صفة في صحته لم أسمع دعواه ولم أقبل منه.
وفي «نوادر هشام»: قال: سألت محمداً عمن تزوج المرأة ثم ادعى أنه اشتراها ممن يملكها، قال: لا أقبل بينته على ذلك حتى يشهد أنه اشتراها من فلان وهو يملكها بعد التزويج، وكذلك لو ساوم بدار في يدي رجل ثم ادعى أنها له اشتراها من فلان وهو يملكها لم أقبل ذلك منه حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد ذلك، وأقر الذي في يده الدار أنه وكيل البائع.
جارية منتقبة في يدي رجل، اشتراها منه رجل وهو بحضرتهما، فلما حلت نقابها قال المشتري: هذه جاريتي ولم أعرفها للنقاب؛ لا تقبل دعواه، ولا بينته وإن ساومه بمتاع في جراب مدرج، وقال البائع: هذا هروي فلما أخرجه من جرابه ونشره ورآه، قال: هذا متاعي، قبلت بينته.(10/210)
-----
وكذلك لو اشترى (204أ4) منه ثوباً في منديل، فقال له البائع: أبيعك هذا الثوب الذي في هذا المنديل؛ فلما اشتراه فأخرج له الثوب من المنديل، قال المشتري: هذا ثوبي ولم أره، قال: أقبل دعواه وبينته، قال محمد رحمه الله: إنما أنظر في ذلك الشيء، فإن كان يمكن أن يكون ساومه وهو يعرف مثل الجارية المنتقبة القائمة بين يديه، فهذا يمكن أن يعرف به ويمكن أن لا يعرف، فلا يقبل قوله: إني لم أعرفه إلا أن يصدقه الذي في يديه أنه لم يعرف فتقبل بينته، وإذا كان شيئاً لا يمكن أن يساومه وهو يعرف مثل ثوب في منديل لا يراه أو جارية قاعدة على رأسها كساء وغطاء لا يرى منها شيء أقبل بينته عليه.
وفي «نوادر ابن سماعة»: في رجلين شهدا لرجل وقالا: نشهد أن فلاناً غصب عبد هذا ولكنه قد رده عليه بعد ذلك فمات عند مولاه، وقال المغصوب منه: ما رده عليَّ، وإنما مات عند الغاصب، وقال المشهود عليه: ما غصبته ولا رددته عليه وما كان من هذا شيء، قال: إذا لم يدع شهادتهما يعني على الرد ضمنتهما القيمة.
وكذلك لو شهدا أنه غصب عبداً له وأن مولاه قتله في يد الغاصب وقال المغصوب منه: ما قتلته؛ ولكن مات عند الغاصب، وقال المشهود عليه: ما غصبته ولا قتل المشهود له عبداً له في يدي.
وكذلك لو شهدوا أن لهذا على هذا ألف درهم ولكنه قد أبرأه منها، وقال المشهود له: ما أبرأته من شيء، وقال المشهود عليه: ما كان له عليَّ شيء، ولا أبرأني من شيء، قال: إذا لم يدع شهادتهما على البراءة قضيت عليه بالألف.
رجل شهدت له بينة على رجلين؛ أن له عليهما ألف درهم، فقال الطالب: إنما ما لي على فلان هذا وحده خمسمائة، أو قال: إنما ما لي على هذا وحده؛ قال أبو يوسف: ليس هذا إكذاباً للبينة.(10/211)
-----
بشر عن أبي يوسف: في رجل ادعى شراء جارية من رجل وأراد ردها بعيب العور، فجحد البائع وقال: لم أبعك، فأتى المشتري بشهود أنه ابتاعها منه، وهي عوراء، وأقام البائع بينة أنه برئ إليه من العور، لم تقبل بينته على البراءة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: قبلتها، ليس هذا إكذاباً لشهوده، فإنه يمكنه أن يقول: أبرأني، ولم أبعه حيث طلبه فطلبت إليه فأبرأني.
رجل ادعى داراً ببينة في يدي رجل أنها داره وأقام البينة على ذلك، وذكر الشهود البناء في شهادتهم، أو لم يذكروا ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فالقاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي، فإن أقر المدعي بعد ذلك أن البناء للمدعى عليه فهذا إكذاب لشهوده، وبطلت الشهادة، والقضاء في البناء والدار جميعاً هكذا ذكر في «الأقضية».
وفي آخر شهادات «الأصل» قال: إذا ذكر الشهود البناء في شهادتهم ثم أقر أن البناء للمدعي، فهذا إكذاب لشهوده، وقد ذكرنا قبل هذا في فصل على حدة، وإنما أوردناها هاهنا لنفرق بين مسألة الدار وبين مسألة الحانوت.
فإن من ادعى حانوته في يدي رجل وشهد الشهود بالحانوت للمدعي، ثم غاب الشهود أو ماتوا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالحانوت ببنائه للمدعي، فإن أقر المدعي بعد ذلك فقال: آستانة أيف، وكان يدعي عليه كرده است، فهذا منه إكذاب لشهوده.
وإن لم يذكر الشهود البناء في شهادته، أما على رواية كتاب «الأقضية»: فلا يحتاج إلى الفرق، وأما على رواية «الأصل» يحتاج إلى الفرق.
والفرق: أن الحانوت اسم للعرض والبناء جميعاً، فالقضاء بالبناء في الحانوت لكون البناء مشهوداً، فإذا أقر بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يصير مكذباً شهوده، ولا كذلك اسم الدار، فإنه اسم للعرصة، والبناء يدخل فيه بطريق التبعية، لا لكون البناء مشهوداً به، فلا يصير المدعي بالإقرار بالبناء للمدعى عليه مكذباً شهوده.(10/212)
-----
وكذلك في هذه الصورة لو أن المدعى عليه ادعى كل البناء أو بعضه لنفسه بعدما قضى القاضي عليه بجميع الحانوت لا يسمع دعواه، وإن لم يذكر شهود المدعي البناء في شهادتهم بخلاف مسألة الدار على رواية «الأصل».
والبيت في هذا نظير الحانوت لا نظير الدار، حتى لو ادعى رجل بيتاً في يدي رجل وقضى القاضي له بالبيت وبنائه، ثم ادعى المدعى عليه البناء لنفسه وأقام على ذلك بينة لا تقبل بينته، ذكر الشهود البناء في شهادتهم أو لم يذكروا.
وكذلك لو أقر المقضي له في هذه الصورة أن البناء للمدعي، فهذا إكذاب منه للشهود كما في مسألة الحانوت؛ لأن البيت اسم للعرصة والبناء كالحانوت.
في «مجموع النوازل»: فيمن أوصى لرجل بألف درهم، فادعى الموصى له أنه ابن الميت ولم تقم له بينة فله الأقل من الميراث ومن الألف، وقال محمد رحمه الله: الوصية باطلة ولا شيء له.
رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنه ملكه فقال المدعى عليه: مابل كتم ونكاه كنم فهذا ليس بجواب ويجبره القاضي على الجواب، وهذا لأن المدعي وقع في الملك، فجوابه أن يقر المدعى فيقول: نعم هذا ملكك، أو ينكر فيقول: ليس هذا ملكك، وإذا قال المدعى عليه: اين محدود مره توسبر دني نيست، أو قال: بنو تسليم كرد نيست، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: مرة تو جيزي داد ني نيست، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: مرة تو جيزي دادني نييست، فهذا ليس بجواب عند بعضهم، وعند بعضهم هو جواب وهو الأشبه.
ادعى ضيعة في يدي رجلين فقالا: دوتير أذس تيرازين ضياع ملك ماست ودر ديست ماسنت ديك تر ملك فلان غائب إست ودر رست ما أمانه إست، فهذا جواب تام، ولكن لا تندفع الخصومة عنهما عن المتهم الآخر ما لم يقيما بينة على الوديعة على ما عرف.(10/213)
-----
وإن قال في دعوى الدين بسبب البيع أو ما أشبه ذلك: من أين يبلغ به سبب دادني نست، فهذا ليس بجواب قيل، وقد قيل: هذا إنكار لأصل الدين، فيكون خصماً في أصل الدين. وإذا قال في دعوى الدين: مرو أعلم نيست، وأخبر نيست، فهذا ليس بجواب وفي دعوى العقار إذا قال: هذا المحدود ملكي ولم يقل هو في يد المدعى عليه، لا يلزم المدعى عليه الجواب، وإذا قال: هو ملكي، وفي يد هذا المدعى عليه، فقال المدعى عليه للمدعي: أين محدود ملك نيست فهذا على وجهين، إما إن قال: دردست منست، وملك تونست، فهذا جواب، وإن لم يقل: دردست منست فهذا ليس بجواب، وقد قيل: إنه جواب وهو الأشبه، لأن قول المدعى عليه في العقار: دردست منست غير معتبر، ولا يثبت به المدعى عليه على المدعي، فلابد من إقامة المدعي البينة على كونه في يد المدعى عليه. وإذا أقام البينة على ذلك يصير خصماً سواء قال: هو في يدي، أو لم يقل.
وإذا ادعى منزلاً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: عرصة ملك نست، فهذا ليس بجواب ما لم يقل: عرصة أين منزل كه دعوى بكني، وكذلك إذا قال الشاهد: عرصة ملك يدعى است، فهذه الشهادة ليست بتامة.
وإذا ادعى نكاح امرأة فقالت: من زن أين يدعى نيم، فهذا جواب، ولو قالت: من زن يدعي نيم، أو قالت: من زن دي كه بل، عيست نيم، فإن أشارت إليه فجواب، وإن لم تشر إليه فقد قيل: أنه ليس بجواب لجواز أن في المجلس مدعي آخر وهي أرادت بقولها ذلك المدعي، لا هذا المدعي الذي ادعها نكاحها.(10/214)
-----
ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: أين خانه حق نست فهذا ليس بجواب، لأن الدعوى وقع في الملك والمدعى عليه لم يتعرض للملك لا بالنفي عن المدعي، ولا بالدعوى لنفسه إنما ادعى أنها حقه، ويجوز أن يكون حقاً له، ولا يكون ملكاً له بأن كانت في يده بإجارة أو رهن أو ما أشبه ولهذا لا يصير خصماً، وكذلك إذا قال المدعى عليه: للمدعي: تراد راين خانه حق نيست، فهذا ليس بجواب؛ لأن المدعي ادعى الملك ويحتمل أن المدعى عليه أراد بقوله ترادر دي حق نيست بجهة الإجارة أو بجهة الرهن أو ما أشبه ذلك.t
ادعى داراً في يدي رجل أنها داره غصبها ذو اليد منه فقال ذو اليد: حملك إين خانه دردست مانست بسبب شرعي ومن زباني مدعي سبردين نيست، فهذا جواب تام في حق إنكار الغصب غير تام في حق الملك؛ لأنه لم يتعرض للملك لا بالنفي ولا بالإثبات.
رجل (204ب4) ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: إنها داري، ثم قال: إنها وقف فهذا جواب تام تقبل بينة المدعى عليه، وكذلك لو قال في الابتداء: هذه الدار وقف، وفي يدي بحكم التولية، فهذا جواب تام، لو أقام المدعى عليه البينة بالملك لنفسه تقبل بينته، وبعدما قضى القاضي للمدعي لو أقام المدعى عليه على الوقفية لا تقبل بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه.
وإذا قال المدعى عليه: العقار هذا العقار المدعى به ليس في يدي يحتاج المدعي إلى إثبات هذه البينة، فإذا اشترى الابن يقيم البينة على الملك، وهذا حكم يختص بالعقار، فإن الدعوى إذا وقع في المنقول لا يسمع الدعوى إلا بحضرة المنقول يعرف يد المدعى عليه فلا حاجة إلى إثباته بالبينة.(10/215)
-----
في «فتاوى الأصل»: إذا أنكر المدعى عليه أن يكون المحدود المدعى به في يده فالقاضي يحلفه على اليد أولاً، فإن حلف تندفع عنه الخصومة، وإن نكل يحلف على الملك، وهذا مما لا يكاد يصح؛ لأن اليد على العقار لا تثبت تصريح الإقرار فكيف يثبت بالنكول الذي هو قائم مقام الإقرار؟ ولو قال: لا أرى أهو ملك هذا المدعي فهذا ليس بجواب، ويجبره القاضي على الجواب، فإن لم يجب يجعله منكراً، و يسمع البينة عليه، وبيان ما يكون إقراراً وما لا يكون سيأتي في كتاب الإقرار.
هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه قال محمد رحمه الله في كتاب الإجارات: إذا تكارى الرجل ثلاث دواب بأعيانها من بغداد إلى مدينة، جازت الإجارة، ثم إن المكاري باع هذه الدواب من رجل آخر أو وهب له، أو تصدق أو أجر أو أعار، أو أودع، فجاء المستكري ووجد الدواب فأراد أن يقيم البينة على استكرائه فهذا على وجهين.
إما إن كان المكاري حاضر وفي هذا الوجه تقبل بينته على المكاري؛ لأن المستأجر مع الذي في يديه الدابة تصادقا أن الملك في الدابة كان للمكاري والمكاري صدقهما في ذلك، فيثبت الملك للمكاري في الدابة بتصادقهم، فكان المكاري خصماً للمستأجر فيقبل بينته عليه ويستوي في حق سماع بينة المستكري أن يكون المكاري جاحداً أنه أكرى الدواب منه أو يكون مقراً بذلك؛ لأن إقراره لا يصح لحق ذي اليد، فيكون وجود هذا الإقرار كالعدم بمنزلة.
ونظيره: رجل باع من رجل شيئاً، فجاء رجل آخر وادعى أن هذا البائع باع هذا الشيء مني قبل أن يبيعه من هذا المشتري، وصدق البائع المدعي في ذلك لا يلتفت الي تصديق البائع، ولو أقام المدعي بينة على دعواه، قبلت بينته.(10/216)
-----
وطريق القبول أن للبائع وإن كان مقراً بدعوى المدعي إلا أن الإقرار منه لا يصح بحق المشتري الظاهر فيصير وجود هذا الإقرار والعدم بمنزلة كذا هاهنا، وإذا قبلت بينة المستكري ينظر إن كان المكاري باع الدواب؛ وكان البيع بعذر بأن كان عليه دين فادح لا وفاء له إلا من ثمن الدواب، لم يكن للمستأجر على الدابة سبيل؛ لأن الإجارة تنتقض، حتى حصل البيع بعذر.
وهذا على الرواية التي لا يشترط لفسخ الإجارة حالة التعذر القضاء والرضى، وإن كان باعها بغير عذر كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة الإجارة، وإن كان المكاري أجره من غيره، أو أعار، أوتصدق كان المستكري أحق بها الى أن يستوفي إجارته؛ سواء باشر هذه التصرفات بعذر أو بغير عذر؛ لأن العذر لا ينتقض في هذه الأسباب ولا تنتقض الإجارة بمباشرتها، وإن كان المكاري غائباً فبينة المستكري على الذي الدواب في يده مقبولة، إن كانت الدواب في يده مشترياً أو موهوباً أو متصدقاً عليه؛ لأنه يدعي الملك لنفسه فيما في يده فينتصب خصماً له لكل من ادعى حقاً فيما في يده والمستأجر ادعى حقاً فيما في يده، فينتصب خصماً له بعد هذا إن كان المكاري باع الدواب بعذر فلا سبيل للمستكري عليها.(10/217)
-----
وإن باع بغير عذر، أو وهبه، أو تصدق كان المستأجر أحق به إلى أن يستوفي إجارته. وإن كان الذي في يديه الدواب مستعيراً لا ينتصب خصماً للمستكري؛ وإن كان مستأجراً هل ينتصب خصماً للمستكري؟ ففيه اختلاف المشايخ قال بعضهم: ينتصب خصماً وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي والشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمهما الله، وقال بعضهم: لا ينتصب خصماً، وإليه مال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده وبعض مشايخ زماننا قالوا: إن كان المستكري يدعي فعلاً على المستأجر بأن قال: استأجرتها وقبضتها، ثم قال: غصبتها مني ينتصب خصماً له ويسمع بينته عليه، وإن لم يدع عليه فعلاً ولكن قال: استكريتها قبل أن تستأجرها أنت، لا ينتصب خصماً له ولا يسمع بينته عليه.
وإذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها في إجارتها أجرنيها فلان وادعى ذو اليد أنها في إجارتي أجرنيها فلان آخر، يسمع دعوى المدعي وينتصب صاحب اليد خصماً بخلاف ما إذا ادعى الملك المطلق وصاحب اليد ادعى الإجارة وهذا الجواب يوافق قول الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، والشيخ الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي، وكذا إذا ادعى الأجر المستأجر بغير حضرة المستأجر؛ سمع دعواه؛ لأن مالك الرقبة هو.
نوع آخر:
قال محمد رحمه الله في أخر «شرح الجامع»: رجل اشترى من آخر جارية بألف درهم، ولم ينقد ثمنها وقبضها بغير إذن البائع، وباعها رجل آخر بمائة دينار وتقابضا وغاب المشتري الأول وحضر بائعه وأراد استردادها من يد المشتري الثاني فإن أقر المشتري الثاني أن الأمر كما وصف البائع الأول كان للبائع الأول أن يستردها من المشتري الثاني وإن كذب المشتري الثاني البائع الأول.(10/218)
-----
وقال: لا أدري أحق ما قاله البائع الأول أو باطل فلا خصومة بينهما حتى يحضر المشتري الأول، لأن الجارية صارت مملوكة للمشتري الثاني والبائع الأول مقر بذلك، ثم يدعي هو على الغائب حقاً فلا يصدق إلا بحجة، والحجة لا تسمع على الغائب إلا وأن يكون عنه خصم حاضر والمشتري الثاني ليس بخصم عن المشتري الأول.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: دار في يدي رجل ادعى أنها له وأقام على ذلك بينة فقال ذو اليد: أنها كانت لي بعتها من فلان منذ شهر وسلمتها إليه،ثم أودعنيها وغاب، فالقاضي يسأل عن المدعي في دعواه فقد أقر أنه ليس بخصم له والخصومة لاتتوجه إلا على الخصم فقد أقر ببطلان خصومته وإقرار الإنسان ببطلان حقه إقرار يعبر، وإن كذب المدعي ذو اليد فيما ادعى إلا أن القاضي علم أن الأمر كما قال ذو اليد، فقد علم أن يد ذي اليد ليست بيد خصومة علم القاضي ... تصديق المدعي ثم لما اندفعت الخصومة عند تصديق المدعي فهاهنا أولى، وإن كان القاضي لا يعلم بذلك لا تندفع الخصومة؛ لأنه لما أقر بالملك لنفسه أولاً فقد أقر أنه خصم، وإن خصومة المدعي متوجهة عليه.
فإذا ادعى البيع والإيداع بعد ذلك، فقد ادعى ما يخرجه من أن يكون خصماً فلا يصدق في دعواه. وإن قال ذو اليد: أنا أقيم البينة على ما ادعيت، فالقاضي لا يقبل بينته؛ لأنه لو قبل بينته، وقضى بها كان ذلك قضاء على الغائب بالبيع وإنه ليس بخصم في إثبات البيع على الغائب، لأنه لا حاجة له الى ذلك؛ لأن حاجته إلى دفع الخصومة عن نفسه وهذه الحاجة تندفع بإثبات وصول الدار الى يده من جهة غيره فلا حاجة إلى إثبات الملك، والبيع على الغائب، فلم يصر خصماً في إثبات البيع على الغائب والبينة لا تسمع إلا من خصم إذا لم تقبل بينة ذي اليد، قضى القاضي بالدار للمدعي.(10/219)
-----
وأقام البينة أن الدار داره يسأله القاضي: من أي وجه صارت الدار له، فإن لم يبين شيئاً تقبل بينته ويقضي القاضي بالدار له بمنزلة أجنبي آخر يقيم البينة على الملك المطلق؛ وهذا لأنه لو لم يقبل لصيرورته مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد، والقضاء بالملك المطلق على ذي اليد (205أ4) لا يكون قضاءً على من يدعي الملك مطلقاً، وإنما يكون قضاءً على من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد.
يوضحه: أن القضاء بناء على البينة والبينة حجة ضرورية فالقضاء الذي هو بناء على البينة لا يعدو موضع الضرورة وموضع الضرورة صاحب اليد ومن تلقى الملك من جهتهز
وإن قال: صارت الدار لي بجهة الشراء من ذي اليد فالقاضي لا يقبل بينته على ذلك؛ لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء على من تلقى الملك من جهة ذي اليد، فصار الغائب مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد، فلو قبلت بينته بعد ذلك صار مقضياً له، وإنه لا يجوز؛ ولأن القاضي لما قضى بالملك المطلق للمدعي، فقد جعل يد ذي اليد يد غصب، والشراء من الغاصب لا يكون سبباً للملك.
ولم يذكر في «الكتاب» ما إذا حضر الغائب قبل الحكم للمدعي والجواب فيه أنه إن أقام البينة على الملك المطلق صار الغاصب مع المدعي بمنزلة خارجين يدعيان ملكاً مطلقاً، وأقاما البينة.
ولو ادعى الشراء من ذي اليد منذ شهر وأقام البينة قبلت بينته في دفع بينة المدعي، لأنه يبين أنها قامت على غير خصم ويقال: للمدعي أعد بينتك على الذي حضر أن تثبت لأن بينتك الأولى قد بطلت.
رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها له اشتراها من ذي اليد منذ سنة بكذا ونقد الثمن، وإن لم يقبضها وقال صاحب اليد: لا بل بعتها من فلان منذ شهر وسلمتها إليه، ثم أودعنيها وغاب، فالقاضي يسأل المدعي من دعوى صاحب اليد إن صدقه في ذلك فلا خصومة بينهما لما مر.(10/220)
-----
وإن لم يعلم القاضي ذلك أيضاً فأراد ذو اليد إقامة البينة على البيع من الغائب فالقاضي لا يقبل بينته ولا تندفع خصومة المدعي لما مر في المسألة الأولى؛ ولأن الغائب لو كان حاضراً، فأقام البينة على الشراء منذ شهر كانت بينة المدعي أولى وقضى بالدار للمدعي؛ لأنه أسبقهما تاريخاً فهاهنا كذلك.
وإذا لم تندفع خصومة المدعي في هذه الصورة وقضى القاضي ببينته بالبيع منه منذ سنة ثم حضر الغائب وأقام بينته على البيع منه منذ شهر، فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقضي له بالدار؛ لأن من ضرورة القضاء للمدعي بالشراء منذ سنة بطلان كل شراء بعده، فهذه بينة قامت على شراء باطل، فلا يسمع، ولو أن القاضي سمع بينة المدعي في هذه الصورة، ولكن لم يقض بها حتى حضر الغائب وأقام بينة على ما قال صاحب اليد، قبلت بينته في دفع بينة المدعي وجرحها لقيامها على غير الخصم، وليس للمدعي فيه ضرر؛ لأنه تتحول الخصومة إلى الذي أحضر، ويقال للمدعي: أعد بينتك على الذي حضر، فإن أعاد كان أولى لسبق تاريخه، وإن لم يعد لا يقضى له بشيء، ولو أن الغاصب حين حضر قبل القضاء ببينة المدعي لم يقم بينة على ما قال صاحب اليد فيما قال: لا تندفع الخصومة لأن المدعي لما أقام البينة على ما ادعى فقد استحق القضاء بها، فلا يبطل هذا الحق بمجرد تصديق الذي حضر، ولو أن الغائب حضر بعدما قضى القاضي بالدار للمدعي ببينته قضى بالدار له؛ لأنه أسبق في التاريخ، وإنه ليس بمقضي عليه، لأن قضاء القاضي على صاحب اليد بالشراء منه منذ سنة؛ يكون قضاءً على من يدعي تلقي الملك من جهته بعد سنة لا قبلها.
رجل اشترى من آخر داراً وقبضها فجاء رجل وادعى أنه شفيعها وأقام على ذلك بينة فقال صاحب اليد: قد بعتها من فلان وقبضها مني ثم أودعنيها وغاب، فالقاضي يسأل الشفيع عن دعوى صاحب اليد، فلا خصومة بينهما لما قلنا.(10/221)
-----
وإن لم يعلم القاضي ذلك أيضاً، فأراد صاحب اليد أن يقيم بينة على ما ادعى، فالقاضي لا يسمع بينته، ولا تندفع خصومة الشفيع في هذه الصورة، وقضى القاضي له بالدار ببينته؛ لأن قضاء القاضي بالدار للشفيع يوجب بطلان كل تصرف باشره المشتري؛ لأن حق الشفيع مقدم على حق المشتري، فهذه بينته قامت على تصرف جرى الحكم ببطلانه فلا يلتفت إليه، ولو سمع القاضي بينة الشفيع ولكن لم يقضِ بها حضر الغائب، فأقام بينة على ما ادعاه صاحب اليد قبلت بينته في حق دفع بينة الشفيع، وجرحها لأن بهذه البينة تبين أن الشفيع أقام البينة على غير الخصم.
قال في «الكتاب»: ألا ترى أن الشفيع لو أقر مما ادعاه المشتري بعدما أقام البينة قبل القضاء له لا يكون بينهما خصومة، ولا يقضي القاضي للشفيع حتى يحضر الغائب ويعيد البينة عليه.
فكذا إذا أثبت الغائب ذلك بالبينة، فإن أعاد الشفيع البينة على الذي حضر قضى القاضي له بالشفعة، فكان له أن يأخذ الدار بأي البيعين شاء، كذا هاهنا.
ولو قضى القاضي للشفيع بالشفعة قبل أن يحضر الغائب ثم أقر الشفيع بعد القضاء بما ادعاه المشتري الأول لا يلتفت إليه لما ذكرنا أن قضاء القاضي بالشفعة للشفيع يوجب انتقاض كل تصرف باشره المشتري، فالشفيع بهذا الإقرار يريد إظهار بيع أبطله القاضي، وليس له هذه الولاية، فلهذا لا يلتفت القاضي إلى إقراره، ثم ما ذكر من الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالشفعة وأنه في معنى عقد ينفذ ظاهراً وباطناً فلا يمكن ردهز
أما على قول محمد: لم ينفذ باطناً فينبغي أن يرد وإنما لم يرد؛ لأن فيه قضاء بالبعض على الغائب، والقضاء على الغائب لا يجوز.(10/222)
-----
رجل في يديه دار ادعاها رجل إلا أنه لم يقم البينة على دعواه، ثم قاما من عند القاضي ومكثا زماناً ثم تقربا إليه وجاء المدعي بشاهدين شهدا أن الدار له فقال المدعى عليه: إنها كانت لي إلا أني بعتها من فلان بعد ما قمنا عن مجلس القاضي، أو قال: وهبتها من فلان وسلمتها إليه، ثم أودعنيها وغاب فإن أقر المدعي بما قاله ذو اليد أو لم يقر هو بذلك، ولكن علم القاضي بذلك أو لم يعلم بذلك أيضاً إلا أن صاحب اليد أقام بينة على إقرار المدعي بذلك، فلا خصومة بينهما، وإن لم يكن شيء في ذلك، وأقام صاحب اليد بينة على ما ادعى فالقاضي لا يسمع بينته، ولا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وقد مر هذا في المسألة المتقدمة، وكذلك لو كان المدعي حين ادعى الدار أقام شاهداً واحداً ثم قاما من عند القاضي ومكثا زماناً، ثم بعدما أتى القاضي وجاء المدعي بشاهد وأقام صاحب اليد بينة على أنه باع الدار من فلان بعدما قاما من عند القاضي.
أو قال: وهبها منه وسلمها إليه، فإن أقر المدعي بذلك أو علم القاضي به أو أقام ذو اليد بينة على إقرار المدعي بذلك فلا خصومة بينهما، وإن لم يكن شيء من ذلك وأقام ذو اليد بينة على ما صنع فالقاضي لا يسمع بينته ولا تندفع الخصومة عنه.
ولو كان المدعي حين ادعى الدار أقام شاهدين فعدلا فقبل أن يقضي القاضي بالدار للمدعي قاما من عند القاضي، ثم إنهما بعدما مكثا زماناً عند القاضي، وادعى صاحب اليد أنه باع الدار من فلان بعدما قاما من عند القاضي أو وهبها له، وسلمها إليه، ثم أن فلاناً أودعها منه وغاب، وأقر المدعي بذلك أو علم به فإنه لا تندفع الخصومة من ذي اليد.
بخلاف ما إذا كان المدعي أقام شاهداً واحداً وقت الدعوى، وباقي المسألة بحالها، فإن هناك إذا أقر صاحب اليد بما ادعاه المدعي من البيع أو الهبة بعدما قاما من مجلس القاضي، أو علم القاضي بذلك فإن هناك لا خصومة بين المدعي، وبين صاحب اليد.(10/223)
-----
والفرق: أن بإقامة الشاهدين إن لم يثبت للمدعي حقيقة الملك في المدعى به فقد ثبت له حق الملك لوجود سبب الملك بكماله، إلا أنه ما حد ثبوت الملك إلى وقت القصاص، وحق الملك للمدعي في المدعى يمنع صحة بيع المدعى عليه وهبته كي لا يبطل حق المدعي، فالمدعي إنما أقر بهبة غير صحيحة، والقاضي علم هبته غير صحيحة، فلا يصلح ذلك دافعاً خصومة المدعي إما بإقامة الشاهد الواحد كما لم يثبت للمدعي حقيقة الملك في المدعى به لم يثبت له حق الملك في المدعى به، لم يثبت له حق الملك؛ لأنه لم يقم سبب الملك، وهو شهادة شاهدين عدلين، وإذا لم يثبت للمدعي في المدعى به (205ب4) حقيقة الملك ولا حق الملك كان تصرف المدعى عليه حاصلاً في خالص ملكه فيصح، فإن ما أقر المدعي بهبة صحيحة، وعلى القاضي هبة صحيحة فتندفع الخصومة عن ذي اليد كما قيل: إقامة الشاهد الواحد.
فرق بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل بشاهد واحد أو بشاهدين، إلا أنهما لم يعدلا بعد، متى أقر المدعى عليه بالدار لغيره كان إقراره باطلاً في حق المدعي حتى يبطل ما أقام المدعي من الشاهد الواحد فقد سوى بين الشاهد الواحد، وبين الشاهدين، ثمة وفرق بينهما هاهنا.(10/224)
والفرق وهو: أن الإقرار إخبار، والأصل في الإخبارات أنه إذا تضمن إلحاق الضرر بالغير أنه يعتبر كذباً في حق ذلك الغير، والإقرار بالعين للمدعى به بعد الشاهد الواحد يتضمن إلحاق الضرر بالمدعي، فإنه متى صح إقراره يبطل ما أقام المدعي من الشاهد الواحد، فيعتبر كذباً في حقه، فلم يصح، فأما بيع ذو اليد وهبته إنشاء تصدق وتهمة الكذب يتحقق في الإجارات دون الإنشاءات فلا يمكننا رد هذا التصرف من حيث إنه كذب، وإذا لم يمكن الرد بهذا الطريق، طلبنا للرد وجهاً آخر فقلنا: إذا تضمن بيعه وهبته إبطال ملك أو حق ملك، أو يد مستحقة على الغير يرد وما لا، فلا، وبعد إقامة الشاهدين تصرفه تضمن إبطال حق الملك على المدعي فلم يكن صحيحاً.(10/225)
-----
دار في يدي رجل ادعاها رجل وذهب ليأتي بالشهود فباعها المدعى عليه من رجل أو وهبها له، وسلمها إليه، ثم إن المشتري أو الموهوب له أودعها منه ثم تقدما إلى القاضي، فإن كان القاضي يعلم بما صنع صاحب الدار أو أقر المدعي بذلك، أو أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي بذلك تندفع الخصومة عن ذي اليد، وقد مر هاهنا غير مرة، وإن يكن شيء من ذلك ولكن أقام صاحب اليد بينة على ما صنع لا تندفع خصومة المدعي من صاحب اليد، فلو أن القاضي لم يقضِ للمدعي بالدار بشهادة شهوده حتى حضر الغائب وصدق صاحب اليد فيما قال: تدفع الدار إلى الغائب لإقرار صاحب اليد له.
ويجعل القاضي الغائب خصماً للمدعي، ولا يكلف المدعي إعادة البينة؛ لأن إقامتها على صاحب اليد صح ظاهراً، فلا يبطل بإقرار ذي اليد، ويجعل المقر له وهو المشتري كالوكيل عن ذي اليد، وقد مر جنس هذا فيما تقدم وينتقض البيع، ويرجع المشتري بالثمن على البائع لاستحقاق المبيع من يد المشتري.
وكذلك لو شهد على البائع رجل واحد ثم حضر المشتري ودفع العبد إليه، فأقام المدعي شاهداً آخر على المشتري، وقضى بالعبد له، ولا يكلفه إعادة الشاهد الأول؛ لأن الشاهد الثاني مضاف إلى الشاهد الأول فصار كأن الشاهدين شهدا على ذي اليد.
وكذلك لو كان ذو اليد باع الدار من غيره ولم يسلمه حتى حضر المدعي وأقام الذي في يده البينة أنه باع العبد من فلان ولم يسلمه إليه لا يلتفت إلى بينة ذي اليد، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا أقام البينة على البيع والقبض ثم الإيداع.(10/226)
-----
عبد ادعى على رجل أنه كان ملكه وأنه أعتقه فقال المولى: حين أعتقته لم يكن ملكي لما أني بعته من فلان ثم اشتريته منه وأقام البينة على بيعه قبل الإعتاق، لا تقبل بينته، ولو كان المولى قال له: أعتقتك قبل أن اشتريتك، وقال العبد: لا بل أعتقتني بعدما اشتريتني، فالقول قول العبد لأن العبد يدعي عتقاً جائزاً، والمولى يدعي عتقاً فاسداً.
نوع آخر من هذا الفصل
قال محمد رحمه الله: رجل ادعى على رجل أنه فقأ عين عبد لي قيمته ألف درهم، وجحد المدعى عليه دعواه، والمدعي مقر أن العبد حي فأقام المدعي بينة على دعواه، فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقضي بالأرش على المدعى عليه إلا بمحضر من العبد، فإذا حضر العبد فالمدعي يقيم البينة أنه عبده، وأن هذا فقأ عينه فيقضي القاضي له بالعبد، ويقضي على الفاقيء بأرش العبد للمدعي.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: وقد قال بعض فقهائنا: أن القاضي يقبل بينته، ويقضي بأرش العبد على الفاقيء، وإن لم يحضر العبد، فإذا حضر العبد إن أنكر العبودية وقال: أنا حر الأصل أبطل القاضي ذلك القضاء ويرد الأرش إلى المدعى عليه، وإن أقر بالعبودية للمدعي أمضى تلك القضاء.
وجه قول هذا القائل: أن المدعي ادعى الأرش ديناً في ذمة الحاضر بسبب جائز في محل مملوك له، وفي مثل هذا لا يشترط حضرة المحل للقضاء بالأرش كما لو ادعى أنه فقأ عين برذون له قيمته ألف درهم، وأنكر المدعى عليه دعواه، فأقام المدعي بينة على دعواه فالقاضي يقضي له على المدعى عليه بربع قيمة البرذون، وإن لم يكن البرذون حاضراً كذا هاهنا.(10/227)
-----
وجه ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب»: أن القضاء بالأرش هاهنا متعذر؛ لأن لو قضينا بالأرش هاهنا إما أن يقضي بالأرش وبملك العبد للمدعي، أو يقضي بالأرش لا غير، ولا وجه إلى الأول؛ لأن البينة في حق العبد قامت على العبد؛ لأنه في يد نفسه من حيث الظاهر؛ حتى كان القول قوله أنه حر الأصل وأنه غائب، والقضاء على الغائب، وليس عنه خصم حاضر لا يجوز، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن ملك الطرف، وملك بدل الطرف لا يفيد الفصل عن ملك الأصل على ما مر.
وإذا تعذر القضاء بالأمرين، وبالأرش وحده يوقف القضاء إلى أن يحضر العبد بخلاف مسألة البرذون، لأن هناك القضاء بالأرش ممكن من غير أن يقع القضاء بالبرذون على غائب؛ لأن القول قول المدعي: أن البرذون برذونه، لأنه يدعي مالاً لنفسه وليس له فيه منازع فإنه لم يعرف كون البرذون في يد ثالث، وليس للبرذون يد نفسه فكان القول قوله أن البرذون له فأمكن القضاء بالأرش من غير أن يقع القضاء بالبرذون على الغائب.
بخلاف العبد؛ لأن العبد في يد نفسه ويقر عن نفسه فلا يمكن القضاء بذلك للمدعي إلا بالقضاء على الغائب حتى لو كان العبد ميتاً يقضى بالأرش للمدعي؛ لأنه لا بد للميت على نفسه فيمكن القضاء بالأرش للمدعي من غير أن يقع القضاء على الغائب.
وكذلك إذا كان العبد صغيراً لا يعبر عن نفسه، فالقاضي يقضي بالأرش للمدعي على الفاقيء، ولا يشترط حضرة العبد؛ هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري؛ لأن الصغير الذي لا يعبر عن نفسه ليس له يد نفسه بل هو بمنزلة الثوب والدابة حتى كان القول فيه قول صاحب اليد أنه ملكه، فأمكن القضاء بالأرش من غير أن يقع القضاء بملك العبد على الغائب.
فإن قيل: هلا انتصب الفاقيء خصماً عن العبد للمدعي؛ لأنه ادعى حقاً على الفاقيء وهو الأرش، ولا يمكن إثباته إلا بعد إثبات الملك لنفسه في رقبة العبد، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب.(10/228)
-----
قلنا: لا يمكن أن يجعل الفاقيء خصماً عن العبد حكماً، لأنه ليس من الفاقيء وبين العبد فيما يريد المدعي إثباته من ملكه في رقبة العبد سبب، ولا بد من سبب يكون بين الحاضر والغائب حتى يجعل الحاضر خصماً عن الغائب واحد لم يقل به، قال: ولو أن المدعى عليه أقر أنه فقئ عين العبد، وإنه عبد هذا المدعي والعبد غائب، فإنه يقضي بأرش العبد له بخلاف فصل البينة.
والفرق: أن الإقرار في حق الأرش دون نفس العبد فيمكن القضاء بالأرش للمدعي من غير أن يكون قضاءً على الغائب وهو العبد، فأما البينة، فحجة متقدمة، فلا يمكن إثبات ملك العبد بها في حق الأرش، ورقبة العبد لأنه لا يكون على الغائب.
فهذا هو الفرق وذكر بعد هذا مسألة البرذون التي ذكرناها على سبيل الاستشهاد، وأجاب على نحو ما بينا أن القاضي يقضي بربع القيمة للمدعي على المدعى عليه، وإن لم يكن البرذون حاضراً وفيه نوع إشكال ينبغي أن لا يقضي القاضي للمدعي بأرش البرذون حتى يري المدعي البرذون للقاضي فينظر إليه القاضي هل فقئ عينه أم لا؟.
ألا ترى أن من ادعى على آخر أنه شج رأسه فالقاضي لا يقضي للمدعي على المدعى عليه بشيء (206أ4) حتى يرى المدعي رأسه للقاضي والجواب وهو الفرق بين الفصلين أن في فصل الشجة المدعي حاضر، فيمكنه إراءة رأسه من غير كلفة ومشقة، فأما البرذون فغائب فلا يمكنه إراءة البرذون إلا بكلفة ومشقة.(10/229)
-----
وكان بمنزلة ما لو ادعى على غيره أنه شج أباه، وأبوه ميت فالقاضي لا يأمره بإحضار أبيه، وزان مسألة البرذون من مسألة الشجة أن لو كان البرذون حاضراً، ولو كان البرذون حاضراً، فالقاضي لا يقضي للمدعي بأرشه حتى يري البرذون القاضي، لأنه يمكنه إراءة من غير مشقة، قال: ولو جاء رجل بعد ذلك والبرذون المفقوءة عينه في يده وهو يزعم أن البرذون له، وطلب من القاضي أن يأمر المقضي له بالأرش حتى يدفع الأرش إليه، فالقاضي لا يلتفت إلى قوله ولا يأمر المقضي له بالأرش حتى يدفع الأرش إليه ما لم يقم البينة أن البرذون له وأن المدعى عليه فقئ عينه وهو يومئذٍ له، مع أن القول قوله أن البرذون له.
وأن ما كان كذلك لأن العين ليس في يده ليجعل القول فيه قوله بخلاف البرذون؛ لأن البرذون في يده فأمكن أن يجعل القول فيه قوله، ولعل الذي في يديه البرذون من جهة المقضي له بالأرش بعدما فقئت عينه، ولأنا إنما حكمنا له بالبرذون بظاهر يده، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق، والأرش والظاهر لا يصلح بذلك، فإن أقام الذي في يديه البرذون بينة أن البرذون له، وأن هذا المدعى عليه فقئ عينه، وهو يومئذٍ له قضي بالأرش له؛ لأنه ظهر ببينته أنه كان صاحب ملك ويد البرذون يوم الفقئ، وظهر أن بينة المقضي له بالأرش قامت على غائب ليس عنه خصم حاضر إذ البينة حجة في حق الناس كافة فبطلت بينة المقضي له بالأرش.
فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل بينة الذي جاء بالبرذون أن البرذون له لأنه صاحب اليد في حق البرذون.(10/230)
-----
قلنا: نعم إلا أن بينة ذو اليد لا تقبل إذا أقامها لاستحقاق ما في يده، والذي جاء بالبرذون إنما أقام البينة لاستحقاق الأرش، وهو في حق الأرش خارج، ألا ترى أن المشتري للدار إذا أنكر كون الدار في يد الجار ملك الجار فأقام الجار البينة أن الدار التي في يده داره قبلت بينته، وإن كان هو صاحب يد؛ لأن غرضه من إقامة هذه البينة استحقاق ما ليس في يده وهي الدار المشتراة، كذلك في مسألتنا فإن عارضه المقضي له بالأرش فأقام بينة أن البرذون له وأن هذا المدعى عليه فقئ عينه وهو يومئذٍ له فبينة المقضي له بالأرش أولى لأنه خارج.
ألا ترى أن المشتري لدارٍ إذا أنكر كون الدار في يد الجار ملك الجار، فأقام الجار البينة أن الدار التي في يديه داره قبلت بينته وإن كان هو صاحب يد، لأن غرضه من إقامة هذه البينة استحقاق ما ليس في يده وهي الدار المشتراة، كذلك في مسألتنا، فإن عارضه المقضي له بالأرش، فأقام بينة أن البرذون له، وأن هذا المدعى عليه فقئ عينه، وهو يومئذٍ له فبينة المقضي له بالأرش أولى؛ لأنه خارج في حق البرذون، والآخر صاحب اليد في حق البرذون، وبينة الخارج في خلاف الملك عندنا أولى.
فإن قيل: الآخر إن كان صاحب يد في حق البرذون فهو خارج في حق الأرش، والمقضي له بالأرش إن كان صاحب اليد في حق الأرش فهو خارج في حق البرذون، فلماذا ترجحت بينة المقضي له بالأرش لما كان خارجاً في حق الأصل وهو البرذون، فعند تعذر الجمع بينهما كان الترجيح لبينة من هو خارج في حق الأصل.
فإن قيل: إذا أقام البينة تترجح بينة المقضي له وتصير دافعة بينة الذي جاء بالبرذون، فلما لا تصير بينة الذي أقامها المقضي له قبل هذا دافعة بينة الذي جاء بالبرذون حتى لا تقبل بينة الذي جاء بالبرذون، وإن لم يعد المقضي له بينة.
(10/231)
-----
قلنا: لأن ذلك البينة قامت على الفاقيء لا على الذي أحضر البرذون، وبينة الذي أحضر البرذون قامت على الفاقيء وهو المقضي له بالأرش فكانت بينة المقضي له على الأرش على إثبات ملكه في البرذون في حق الذي أحضر البرذون، ولم يقم عليه وجودها والعدم بمنزلة.
نوع آخر
ذكر الخصاف في «كتاب الحيل»: رجل في يديه رهن، والراهن غائب فأراد المرتهن أن يثبت الرهن حتى القاضي يستحل له بذلك ويحكم بكونه رهناً في يديه.
فالحيلة في ذلك: أن يأمر المرتهن رجلاً غريباً حتى يدعي رقبة هذا الرهن ويقدم المرتهن إلى القاضي، فيقيم المرتهن بينة عند القاضي أنه رهن عنده، فيسمع القاضي بينته على الرهن ويقضي بكونه رهناً عنده ويدفع عنه خصومة الغريب، وهذا تنصيص من الخصاف أن البينة على الرهن مقبولة وإن الراهن غائب، وهكذا ذكر محمد في «الجامع» في المسألة المخمسة قالوا: وذكر محمد هذه المسألة في كتاب الرهن وشوش فيه الجواب في بعض المواضع شرط حضرة الراهن لسماع البينة على الرهن، وفي بعضها لم يشترط.
والمشايخ قد اختلفوا فيها؛ بعضهم قالوا: الصواب أنه لا يشترط حضرة الراهن وما ذكر في بعض المواضع في كتاب «الرهن» أنه يشترط حضرة الراهن وقع غلطاً من الكاتب، وجعل هذا القائل مسألة الرهن نظير مسألة الوديعة والإجارة والمضاربة، فإن صاحب اليد إذا أقام بينة على أن هذا العين وديعة عنده من جهة فلان أو مضاربة، أو غصباً، أو إجارة، فالقاضي يسمع بينته فهاهنا كذلك.(10/232)
-----
وبعض مشايخنا قالوا: في المسألة روايتان؛ في إحدى الروايتان تقبل هذه البينة؛ لأن الراهن لما رهنه فقد استحفظه، فإذا تعذر عليه الحفظ إلا بإقامة البينة، وإثبات الملك للراهن صار خصماً في ذلك، كما في الوديعة وأشباهها، وفي رواية أخرى: القاضي لا يقبل هذه البينة لإثبات الرهن على الغائب، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله؛ وهذا لأن في قبول هذه البينة لإثبات الرهن قضاء على الغائب، ولا حاجة لصاحب اليد على إثبات الرهن ليدفع الخصومة عن نفسه، فإن بمجرد اليد تندفع عنه الخصومة، كما لو أقام بينة أنها وديعة في يده، وقد أجابه بهذا في نظائره في «السير الكبير»، فقد ذكر في نظائره «السير الكبير» العبد المرهون إذا ...؟، ثم وقع في الغنيمة فوجده المرتهن قبل القسمة فأقام البينة أنه رهن عنده لفلان، وأخذه لا يكون هذا قضاءً على الغائب بالرهن؛ لأنه لا يحتاج إلى إثبات الرهن؛ لأن الإيداع كافٍ له، فتبين بهذا أن قبول البينة لإثبات الرهن على الغائب ولا وجه إليه.
نوع آخر
قال محمد رحمه الله في وصايا «الجامع»: رجل هلك وترك ثلاثة ألاف درهم، وترك وارثاً واحداً فأقام رجل البينة أن الميت أوصى له بثلث ماله وجحد الوارث ذلك، فالقاضي يسمع بينته على الوارث ويقضي بوصيته، فإن دفع الوارث الثلث إلى الموصى له، ثم جاء رجل آخر وأقام بينة أن الميت أوصى له بثلث ماله، وقد غاب الوارث ذلك، فأحضر الموصى له إلى القاضي فالقاضي يجعل الموصى له خصماً، ويسمع بينته عليه ويأمره أن يدفع نصف ما في يده إلى المدعي الثاني؛ لأن الثاني يدعي لنفسه نصف ما في يد الأول، والأول يجحد ذلك فينتصب خصماً له.(10/233)
-----
وإذا قبلت بينة الثاني والثابت بالبينة كالثابت عياناً صار كأن القاضي عاين وصيتهما، وهناك يجعل الثلث بينهما نصفان، كذا هاهنا فإن لم يكن عند الأول شيء بأن ملك ما في يده أو استهلكه، وهو معدم فأحضر القاضي الوارث وأراد أن يأخذ منه بعض ما في يده فجحد الوارث وصيته لم يكلف الثاني إعادة البينة على الوارث؛ لأن الميت صار مقضياً عليه أيضاً فكان للموصى له الثاني أن يأخذ من الوارث خمس مافي يده، ثم الثاني مع الوارث يتبعان الأول (206ب4) فيأخذان نصف ما أخذ بغير حق، فإذا أخذ بذلك اقتسماه على خمسة أسهم؛ سهم للموصى له الثاني وأربعة أسهم للوارث، والخصومة إلى القاضي الذي قضى للأول، وإلى قاضٍ آخر سواء؛ لأن الأول إنما صار خصماً للثاني بحكم يده.
وفي حق هذا المعنى هذا القاضي وقاضي آخر سواء، ولو كان الموصى له الأول هو الغائب، فأحضر الثاني الوارث فالقاضي يقضي على الوارث؛ لأن الوارث خليفة الميت، فينتصب خصماً عنه فيما يستحق عليه، ويكون ذلك القضاء على الوارث قضاءً على الموصى له الأول؛ لأن الوارث لما انتصب خصماً عنه صار الميت مقضياً عليه، وإذا صار الميت مقضياً عليه صار الموصى له مقضياً عليه؛ لأن الموصى له بمنزلة أحد الورثة.(10/234)
-----
وإن كان القاضي قضى بوصية الأول، ولم يدفع إليه شيئاً حتى خاصمه الثاني والوارث غائب، فإن خاصمه إلى ذلك القاضي بعينه جعله خصماً؛ لأن القاضي عرف أن ثلث الثلث ملك الموصى له الأول، إلا أنه أمانة في يد الوارث، ويد الأمين كيد المالك، فصار من حيث التقدير كأنه في يد الموصى له الأول، وإن خاصمه إلى قاضٍ آخر لم يجعله خصماً؛ لأن الثاني يدعي نصف الثلث لنفسه ولم يعرف هذا القاضي كون الثلث في يده لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم لو ثبت ذلك إنما يثبت بإقرار الموصى له الأول، فإنه يقول: الثلث ملكي، وهو أمانة في يد الوارث، إلا أنه بهذا الإقرار لا يصير خصماً؛ لأن في الحقيقة هذه دعوى على الوارث فلا يصدق في ذلك، وإذا لم يصدقه القاضي في ذلك لم يثبت ما يوجب كونه خصماً.
ولو كان الموصى له الأول هو الغائب، والوارث حاضر، ولم يدفع القاضي إلى الموصى له الأول شيئاً، فالواررث خصم للموصى له الثاني، وإن خاصمه الثاني إلى قاضي آخر؛ لأن القاضي إنما يجعل الوارث خصماً عن الميت لكونه خلفاً عنه، والقاضي الثاني عالم بذلك، فأما الموصى له إنما يصير خصماً لكون المال في يده إما حقيقة أو حكماً، والقاضي الثاني لم يعلم بذلك وهذا كله إذا أقر الموصى له الأول أن المال الذي في يده بحكم الوصية من الميت، أو كان ذلك معلوماً للقاضي، أما إذا لم يكن شيء من ذلك والأول يقول: هذا مالي ورثته عن أبي والميت ما أوصى لي بشيء، وما أخذت من ماله شيئاً، فإنه يكون خصماً للموصى له الثاني.(10/235)
-----
بمنزلة ما لو ادعى رجل عبداً في يدي رجل أنه اشتراه من فلان، وقال ذو اليد: هوعبدي ورثته من أبي، فإنه يكون خصماً للمدعي ويقضي عليه ببينة المدعي كذا هاهنا. فإن قال: هذا المال وديعة عندي من جهة فلان الميت الذي يدعي الثاني الوصية من جهته، أو قال: غصبته مني، فلا خصومة بينهما؛ لأنهما تصادقا أن هذا المال وصل إلى الموصى له من جهة الميت فكانت يده يد وديعة أو يد غصب.
وأياً ما كان لا يكون يد خصومة في حق من يدعي تلقي الملك فيه من جهة المالك، كما في مسألة الشراء؛ إذا ادعى الذي في يديه العبد أن العبد في يده وديعة، أو غصب لفلان الغائب الذي ادعى المدعي الشراء من جهته، فإنه تندفع عنه الخصومة، وإن قال: هو وديعة عندي من جهة فلان ؛ يعني به رجلاً آخر غير الموصي، أو قال: غصبته منه فهو خصم إلا أن يقيم بينة على ما قال؛ لأنه انتصب خصماً بظاهر اليد، فبمجرد دعواه أن يده يد وديعة أو يد غصب لا تندفع عنه الخصومة.
وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: لا تندفع الخصومة في هذه الصورة، وإن أقام البينة وقاسه على ما إذا ادعى عيناً في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب، وهو يملكه، وذو اليد ادعى أن فلاناً آخر غير ذلك الغائب أودعه إياه فإن هناك لا تندفع عنه الخصومة، فهاهنا يجب أن يكون كذلك.
رجل هلك وترك مالاً ووارثاً واحداً فأقام رجل بينة أن له على الميت ألف درهم دين، فقضى القاضى له على الوارث ودفع إليه ألف درهم وغاب الوارث، فحضر غريم آخر للميت، وادعى عليه ألف درهم، فإن الغريم الأول لا يكون خصماً للغريم الثاني فرق بين الغريمين وبين الموصى لهما، فإن هناك إذا قضى القاضي للموصى له الأول بالثلث، ودفع إليه الثلث فحضر الثاني، فالأول ينتصب خصماً للثاني.
(10/236)
-----
والفرق: أن المستحق للموصى له بالثلث عين التركة، ولهذا تبطل الوصية بهلاك التركة، ولهذا لو أراد الوارث أن يعطي له الثلث من ماله لا يكون له ذلك إلا برضى الموصى له ولما كان المستحق عين التركة كان الثاني مدعياً بعض ما في يد الأول لنفسه من جهة الميت، فانتصب الأول خصماً للثاني بحكم يده فأما الغريم، فلا يستحق عين التركة.
ولهذا لو أراد الوارث أو الوصي بعد ثبوت دينه قضاء دينه من مال آخر كان لهما ذلك من غير رضى الغريم، وكذلك لا يبطل حقه بهلاك المال وإنما حقه في ذمة من عليه الدين، وهو الميت غير أن بعد موته تتعين تركته للقضاء منه لا يكون حقه في عين التركة.
ولما كان هكذا لا بد من إثبات الدين في ذمة الميت ليتعين القضاء، وفي دعوى الدين على الميت الخصم وارثه أو وصيه دون الغريم، ولو كان الغريم الأول هو الغائب، فأحضر الثاني وارث الميت كان خصماً له؛ لأنه نائب عن الميت فيما يدعي على الميت، فأمكن جعله خصماً بطريق النيابة عن الميت، حتى يجعل خصماً بطريق النيابة عن الميت، ولا يمكن جعله خصماً بطريق الأصالة؛ لأنه لا يدعي شيئاً لافي ذمته، ولا في يده على ما مر،
ثم إذا قضى القاضي على الوارث، وقد توى ما أخذه الوارث رجع الغريم الثاني على الغريم الأول، فأخذ منه بعض ما قبض، ثم يتبعان الوارث بما بقي لهما؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت بعلم القاضي، ولو علم القاضي بأن لهما على الميت دين، وقد قبض الأول تمام حقه وتوى الباقي، فالقاضي يأخذ منه نصف ما أخذه، ويدفعه إلى الآخر حتى يستويان، ثم يتبعان الوارث بما بقي لهما كذا هاهنا.(10/237)
-----
ولو لم يكن الأول غريماً، وكان موصى له بالثلث، وقبضه وغاب الوارث، فأقام رجل البينة أن له على الميت ديناً، فالموصى له ليس بخصم له؛ لأنه لا يدعي بعض ما في يده، أو لا حق للغريم في عين التركة على ما مرَّ، أما يدعي ديناً على الميت والموصى له بالثلث إنما ينتصب خصماً عن الميت فيما يدعي في المال الذي وصل إليه؛ بخلاف الوارث حيث ينتصب خصماً، فيما يدعي في مال الميت وفي ذمته؛ لأنه خلف عن الميت قائم مقام الميت مطلقاً لحاجته إلى ذلك، أما الموصى له بالثلث بخلافه على ما مرَّ قبل هذا.
وكذلك لو كان الأول غريماً والثاني موصى له بالثلث بخلافه على ما مر من قبل هذا، وكذلك لو كان الأول غريماً، والثاني موصى له بالثلث لم يكن الغريم خصماً له؛ لأن الموصى له إن كان مقراً بالدين كان في زعمه أن الأول غاصب، ويد الغاصب لا تكون يد خصومة والوارث خصم في ذلك كله لما قلنا.
رجل أقام بينة على وارث ميت أنه أوصى له بهذه الجارية بعينها، وهي ثلث ماله، وقضى القاضي بذلك ودفعها إليه وغاب الوارث ثم أقام آخر البينة على الموصى له أن الميت أوصى له بهذا وذكروا رجوعاً؛ أو لم يذكروا رجوعاً قضى القاضي للثاني بحقه؛ لأن الثاني ادعى جميع ما في يد الأول لنفسه، إن ادعى الرجوع، ونصفها إن لم يدعِ الرجوع، وذو اليد يدعي كونها لنفسه، وفي مثل هذا ينتصب خصماً.(10/238)
-----
كرجل ادعى أنه كان اشترى هذه الجارية أو نصفها من الميت قبل موته انتصب الموصى له خصماً كذا هاهنا، ثم إذا انتصب خصماً فإن ذكروا رجوعاً قضى القاضي بكل الجارية للثاني، وإن لم يذكروا رجوعاً قضى بنصفها للثاني للمزاحمة والمساواة، ويكون هذا قضاءً على الوارث غاب أو حضر، حتى أن الموصى له الأول إذا بطل حقه كان كل الجارية للثاني، لأن الوارث إنما تلقى الملك في الميراث من جهة الميت، وقد صار الميت مقضياً عليه بهذه البينة، فكل من تلقى الملك من جهته يصير مقضياً عليه أيضاً، فإن دفع القاضي الجارية إلى الأول، ثم غاب الموصى له وحضر الوارث لم ينتصب الوارث خصماً للموصى له الآخر خاصمه إلى القاضي الأول، أو إلى غيره لأن المدعي الجارية، والجارية ليست في يد الوارث لا حقيقة (207أ4) ولا حكماً، والوارث إنما يصلح خصماً فيما يصلح المورث حال حياته، والمورث لا يصلح خصماً في حال حياته فيما زال عن ملكه ويده، فكذا الوارث.
بخلاف ما إذا كان الثاني يدعي وصية بالثلث، وأحضر الوارث حيث يصير خصماً، لأن هناك المدعي يدعي لنفسه شركة فيما في يد الوارث على ما مرَّ، فينتصب الوارث خصماً في إثبات سببه عليه، أما هاهنا فبخلافه.
وإن كان القاضي قضى للأول بالجارية، فلم يدفعها إليه حتى خاصم الثاني الوارث، فإن خاصمه فيها إلى القاضي الأول لم يجعله خصماً؛ لأن القاضي عرف كونها لغيره، وعرف الوارث أميناً فيها، ويد الأمين لا تكون يد خصومة، وإن خاصمه إلى قاضٍ آخر جعله خصماً؛ لأن القاضي الثاني لم يعرف كونها لغيره وكون الوارث أميناً، بل عرف كونها في يده من التركة فلا يصدقه في أنها لفلان، وأنه أمين فيها إلا ببينة يقيمها على ذلك، وإذا لم يصدقه قضي عليه وصار الموصى له الأول مقضياً عليه؛ لأن الموصى له الأول مدعي تلقي الملك من جهة الميت، والميت صار مقضياً عليه بهذه البينة، فصار من يدعي تلقي الملك من جهة الميت مقضياً عليه أيضاً.(10/239)
-----
بخلاف ما إذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل ملكاً مطلقاً، وصاحب اليد ادعى أنه مودع فلان، ولم يقم البينة على ذلك، وقضى القاضي على صاحب اليد للمدعي، لا يكون ذلك قضاء على الذي ادعى صاحب اليد أنه أمينه؛ لأن هناك صاحب اليد لا يدعي التلقي من جهة المقضي عليه، وهو صاحب اليد فاقتصر القاضي على صاحب اليد أما هاهنا فبخلافه.
ثم القاضي إذا سمع بينة الثاني على الوارث بهذا الفصل، وهو إذا خاصمه الثاني عند قاضٍ آخر قضى للثاني بنصف الجارية سواء شهد شهوده على الرجوع عن الأول، أو لم يشهدوا على الرجوع، وهذا لا يشكل فيما إذا شهدوا على الرجوع.
والوجه في ذلك: أن الموصى له الثاني أثبت الوصية لنفسه في العين وهو استحقاق على الميت والوارث خصم في ذلك، أما إثبات الرجوع عن الوصية الأولى، فليس باستحقاق على الميت، ولا على الوارث، والوارث ليس بخصم عن الموصى له الأول، فيصح القضاء على الوارث بالوصية، ولم يصح القضاء عليه بالرجوع.
فلهذا كانت الجارية بينهما نصفين، فإذا حضر الأول فإن أعاد الثاني البينة على الرجوع أخذ الكل وإلا أخذ نصفها لما قلنا: وإن أقام الأول بينة أن الميت أوصى له بثلث ماله، ودفعه القاض إليه ثم أقام الثاني البينة على الأول أن الميت رجع عن الوصية الأولى، وأوصى بثلث ماله للثاني، فالقاضي يأخذ الثلث من الأول، والأول يجحد ذلك فينتصب خصماً بحكم اليد، وإذا انتصب خصماً كان الثاني مثبتاً استحقاق نفسه، وبطلان حق الأول على من هو خصم فيها، فلهذا كان كما قلنا.(10/240)
-----
ولو كان الوارث هو الحاضر قضى القاضي بالوصية الثانية دون الرجوع عن الوصية الأولى لما مر، ولو كان الأول موصى له بعبد بعينه، والعبد مدفوع إليه بقضاء القاضي، ثم أقام آخر البينة على الموصى له أن الميت أوصى له بمئة من ماله، فالموصى له بالعبد لا يكون خصماً له؛ لأن الثاني لا يدعي استحقاق شيء مما في يد الأول بعينه، لأن في يد الأول عبد، وهو لا يدعي استحقاق شيء من العبد.
ولهذا لو هلك العبد في يد الأول لا تبطل وصية صاحب المئة، فلم يكن الثاني مدعياً استحقاق شيء مما في يده بعينه، ولو حضر الوارث وغاب الموصى له الأول كان الوارث خصماً للثاني لأن الوارث خصم لمن يدعي ديناً على الميت على ما مرَّ فلذا يكون خصماً لمن يدعي ديناً على الميت على ما مرَّ، فلذا يكون خصماً لمن يدعي وصية مرسلة، ويكون القضاء عليه قضاءً على الموصى له الأول.
رجل له على رجل ألف درهم قرض، أو كان غصب منه ألف درهم، وكانت هي في يد الغاصب قائمة بعينها أو استودعه ألف درهم، وهي قائمة بعينها في يد المودع، فأقام رجل البينة أن صاحب المال توفي وأوصى له بهذه الألف التي له قبل هذا الرجل، والرجل مقر بالمال لكنه يقول: لا أدري أمات فلان أو لم يمت لم يجعل القاضي بينهما خصومة حتى يحضر وارثاً، أو وصياً؛ أما في الوديعة والغصب، فلأنهما اتفقا على أن يده إما يد أمانة أو يد غصب، وأياً ما كان لا يكون يد خصومة على ما مرَّ.
ونظيره: إذا ادعى عيناً في يدي رجل أنه اشتراه من فلان الغائب وصاحب اليد يقول: أنا مودع الغائب أو غصبته منه لا ينتصب خصماً للمدعي كذا هاهنا، أما في الدين فلأنه يدعي على الميت ذلك الدين الذي في ذمة هذا، وليس للمدعى عليه يداً على ما يدعيه الموصى له، فإن المديون لا بد له على ما في ذمته من الدين ولا ملك له فلم ينتصب خصماً.(10/241)
-----
فرق بين هذا وبينما لو جاء رجل، وادعى أنه وارث فلان ابنه وأخوه والغاصب والمودع مقر بالمال ولكنه قال: لا أدري أمات فلان أو لم يمت؟ أو قال: لا أدري أنت وارث أم لا؟ فأقام البينة على موته وعلى أنه وارث تقبل البينة، وينتصب هو خصماً للوارث.
والفرق وهو: أن الواث خليفة الميت قائم مقام الميت فكونه مودعاً أو غاصباً لا تندفع خصومة صاحب الوديعة والغصب عن نفسه حتى لو قال المودع أو الغاصب: لا أدري أنت الذي أودعتني، أو غصبت منك أم لا؟ لا تندفع عنه هذه الخصومة بهذا القول، فكذلك كونه مودعاً أو غاصباً لا تندفع خصومة خليفته، أما الموصى له ليس بخليفة عن الميت، فإنما ينتصب المدعى عليه خصماً له باعتبار يده، وتعذر جعل المدعى عليه خصماً له بحكم اليد على ما مرَّ، فلهذا افترقا هذا الذي ذكرنا.
إذا كان الذي قبله المال مقراً بالمال فإن قال الذي في يديه المال: هذا ملكي، وليس عندي من مال الميت شيء، صار خصماً للمدعي؛ لأنه نازعه بدعوى الملك فصار خصماً له في إثبات الملك وفي إثبات سببه.
وصار كرجل ادعى عيناً في يد رجل أنه اشتراه من فلان الغاصب، وصاحب اليد يقول: هو لي فإنه ينتصب خصماً للمدعي كذا هاهنا، وإذا جعله القاضي خصماً في هذا الوجه قضي له بثلث ما في يده المدعى عليه؛ لأن محل الوصية الثلث، والقاضي لم يعرف للميت مالاً آخر، فيقضي له بثلث هذا المال إلا أن يقيم المدعي بينة أن الميت ترك ألفي درهم غير هذه الألف، وأن الوارث قبض ذلك فحينئذٍ يقضي القاضي للموصى له بكل هذه الألف؛ لأنه أثبت استحقاق كل الألف لنفسه بالبينة العادلة.
فلو حضر الوارث بعد ذلك وقال: لم أقبض من مال الميت شيئاً لم يلتفت إلى قوله؛ لأنه صار مقضياً له عليه بوصول ألفي درهم إليه في ضمن ثبوت الألف ثلثا التركة.(10/242)
-----
ولو كان مكان الموصى له غريماً يدعي ديناً على الميت والمسألة بحالها لم يكن الذي قبله المال خصماً سواء كان صاحب اليد مقراً أو جاحداً، أما إذا كان مقراً؛ فلأنه لا ينتصب خصماً للموصى له في هذا الوجه مع أنه لا يدعي شركة في العين كان أولى، وأما إذا كان جاحداً؛ لأنه لا يدعي عيناً في يد صاحب اليد، وإنما يدعي ديناً على الميت، واستحقاق العين تابع له، فإذا لم يصلح خصماً في الأصل لا يصلح خصماً في البيع أيضاً.
فإن أقام هذا المدعي بينة أن فلاناً مات ولم يدع وارثاً ولا وصياً يقبل القاضي بينته، وكان ينبغي أن لا تقبل هذه البينة لأنها قامت على غير خصم، والجواب لا بل قامت على خصم وهو القاضي، لأن الشهود لما شهدوا أنه لم يترك وارثاً فقد شهدوا أن تركة الميت لجماعة المسلمين فالمدعي يدعي حقاً في مال جماعة المسلمين، ولا يمكنه الخصومة مع جماعة المسلمين، فينتصب القاضي خصماً عن جماعة المسلميين لكونه نائباً عن المسلمين؛ ولأنه يدعي بهذا وجوب نصب الوصي على القاضي حُسبةً والقاضي قيماً على نفسه (207ب4) يصلح قاضياً، وإذا قضى القاضي بهذه البينة ينتصب عن الميت وصياً، ويأمر المدعي أن يقيم البينة عليه بذلك الدين، فإذا فعل قبل بينته على الدين، وأمر الذي قبله المال بقضاء الدين إلى الغريم؛ إن كان الذي قبله المال مقراً بذلك.
ثم عاد محمد رحمه الله إلى صدر المسألة فقال: لو أن الموصى له أقام البينة أن فلاناً مات، ولم يدع وارثاً وأوصى له بالألف التي قبل فلان، وقال الشهود: لا نعلم له وارثاً، والذي قبله المال مقر بالمال الذي قبله، فالقاضي يقضي بالمال للموصى.(10/243)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا كان للميت وارث والفرق وهو: أنه إذا كان للميت وارث لا يمكن أن يجعل الموصى له بمنزلة الوارث لما فيه من إبطال من جعله الشرع وارثاً في قدر الموصى به، وليس للعبد ولاية إبطال ما أثبته الشرع فجعل الإيصاء ثمة تمليكاً، وجعل الموصى له متملكاً على الميت بمنزلة الموهوب له والمشتري، فلم يكن الموصى له نائباً عن الميت، فلا ينتصب المودع، والغاصب خصماً له، فأما إذا لم يكن للميت وارثاً فالموصى له يجعل وارثاً؛ لأن الموصي أقامه مقام نفسه فيما يتركه، وهذا هو تفسير الوارث، وأمكن جعله وارثاً؛ لأن جعله وارثاً لا يؤدي إلى إبطال ما أثبته الشرع فجعل كالوارث، وقد بينا أن يد المدعي لا يدفع خصومة الوارث.
استشهد فقال: ألا ترى أن الشهود لو شهدوا أن الميت أقر عند موته أنه أخوه لأبيه وأمه لا يعلمون له وارثاً غيره جعلت الميراث له وصار المودع خصماً، وإن ثبت نسبه من أبيه ما لم يكن للمقر وارث كذا هاهنا.
وذكر في «الأقضية» عن محمد: إذا مات الرجل، وقد كان أوصى إلى رجل أي جعله وصياً، وقبل الوصي الوصاية في حياته أو بعد موته، وجاء إلى القاضي يريد إثبات وصايته، فالقاضي ينظر فيه إن كان أهلاً للوصاية يسمع دعواه إذا حضر مع نفسه من يصلح خصماً له قال: والخصم في ذلك وارث أو موصى له أو رجل للميت عليه دين، أو رجل له على الميت دين أما الوارث فلأن الوصي يدعي أن يده فوق يد الوارث في مال الميت رأياً وتدبيراً وتصرفاً، والوارث ينكر ذلك فيكون خصماً له.
(10/244)
-----
وأما الموصى له فلأنه بمنزلة الوارث، وأما الغريم الذي للميت عليه دين؛ فلأنه يدعي حق استيفائه ما عليه من الدين، وهو ينكر، وأما الغريم الذي له على الميت دين فقد قال: بعض مشايخنا: إنه لا يكون خصماً له؛ لأنه لا يدعي عليه شيئاً فكيف يكون خصماً له، وقال الخصاف: يكون خصماً؛ لأنه يريد أن يدفع خصومته في الدين، وإنما يكون له ذلك بعد إثبات الوصاية، هذه الجملة من كتاب «الأقضية».
وفي «المنتقى»: رواية إبراهيم رحمه الله: رجل مات وعليه دين وأوصى بثلث ماله أو بدراهم مسماة لرجل فيأخذها الموصى له، ثم الغريم والورثة شهود أو غيب، قدم الموصى إلى القاضي فالموصى له لا يكون خصماً، وأشار إلى أن الوصية متى حصلت بقدر الثلث، فالموصى له لا يعتبر بالوارث.
وإذا حصلت الوصية بما زاد على الثلث وصحت بأن لم يكن ثمة وارث، فالموصى له خصم للغريم في هذه الحالة، ويعتبر الموصى له في هذه الحالة بالوارث؛ لأن استحقاق ما زاد على الثلث من خصائص الوارث، والوارث ينتصب خصماً للغريم ففي حق الوصي يجب أن يكون الجواب كذلك وصاحب «الأقضية» ذكر الموصى له مطلقاً من غير فصل، بينما إذا كان الموصى له بالزيادة على الثلث أو بالثلث فيحتمل أن يكون المراد منه إذا كان الموصى له بالزيادة على الثلث.
نوع آخر من هذا الفصل
رجل مات وله ابنان أحدهما غائب، فادعى الحاضر أن له على أبيه ألف درهم دين، ولا مال للميت غير ألف درهم فإني أقبل بينة الابن الحاضر في إثبات الدين على الأجنبي، ولا أسمع بينته على أبيه بدينه، لأنه ليس معه خصم، ولا أقضي له من الألف التي قضيت على الأجنبي بشيء؛ لأنه يزعم أنه لا ميراث له، فأوقف الألف حتى يجيء الأخ.(10/245)
-----
وفيه أيضاً: رجل في يديه دار اشتراها، وطلب الشفيع الشفعة، فقال المشتري: اشتريتها لفلان، وأقام بينة أنه قال هذا القول قبل أن يشتريها، وأقام البينة أن فلاناً وكله بشرائها منذ سنة؛ قال: أقبل بينته؛ لأني لو قبلتها ألزمت الغائب البيع.
وفيه أيضاً: رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها له، وأقام الذي في يديه الدار بينة أن هذه الدار لفلان اشتراها من فلان هذا المدعي، ووكلني بها، فإني أقبل بينته وأجعله وكيلاً، وأدفع الخصومة عنه، ولا ألزم الغائب من هذا المدعي؛ لأن هذا إقامة البينة على شراء الغائب، وعلى أن يده ليست بيد خصومة، والمدعي خصم له في أحدهما دون الآخر، فقبل بينته عليه فيما هو خصم فيه، ولا يقبل بينته فيما ليس بخصم فيه.
وقال أبو يوسف رحمه الله: رجل في يديه دار ادعى رجل هذه الدار وقال: الدار لي اشتراها فلان الغائب منك لأجلي، وجحد الذي في يديه الدار البيع، قال: أقبل بينة المدعى عليه.
وكذلك لو كان المشتري حاضراً ينكر الشراء، وهذا بمنزلة رجل ادعى داراً في يدي رجل وقال: اشتريتها من فلان، وكان فلان اشتراها منك، قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا ادعى أنه اشتراها من فلان، وقال: اشتراها من الذي هي في يده قبلت بينته.
وقال أبو يوسف رحمه الله: لو قال الذي هي في يديه: قد كنت بعتها من فلان الذي يزعم أنك وكلته بالشراء لك، وفلان غائب، فلا خصومة بين المدعي وبينه، وكذلك لو قال: قد كنت بعتها من فلان الذي تزعم أنك اشتريتها منه، وهي في يدي حتى تدفع الثمن، أو قال: أودعنيها.(10/246)
-----
ولو أن رجلاً جاء بصك باسم غيره على رجل وقال: هذا المال الذي في هذا الصك باسم فلان عليك قد أقر به لي فلان، ولي البينة بذلك، فإن أنكر المدعى عليه أن يكون لفلان الغائب عليه شيء فهو خصم، أقبل بينة هذا المدعي وأقضي له بالمال، وإن أقر المدعى عليه بالمال للرجل الذي الصك باسمه، فإني لا أقبل بينة هذا على الغائب الذي الصك باسمه، فإنه أقر بأن المال له حتى يحضر، هذا هو قول أبي يوسف؛ وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا أقبل بينته، وإن أنكر المدعى عليه أن يكون لفلان الغائب عليه شيء.
ذكر ابن سماعة في «الرقيات»: أنه كتب إلى محمد بن الحسن رحمهما الله: في رجل ادعى داراً في يدي رجل، وقال: هذه الدار كانت لفلان بن فلان الفلاني، وإنه باعها من فلان بن فلان الفلاني بألف، وأنا شفيعها، وأريد أخذها بالشفعة، وقال الذي هي في يديه: هي داري، لم يملكها فلان وفلان قط، وأقام المدعى عليه بينة على ما ادعى من ذلك.
قال: أما في قولي، وهو قياس قول أبي حنيفة، فلا خصومة بينهما حتى يحضر المشتري إن كان قبض الدار من البائع، وحتى يحضرا جميعاً إن لم يكن المشتري قبض الدار، وأما في قول أبي يوسف، فالذي في يديه خصمٌ، ويقضي القاضي للشفيع بالدار ويدفعها إليه ويأخذ الثمن من الشفيع فيضعه على يدي عدل، ويكون ذلك قضاءً على المشتري والبائع، وإن كان المشتري أيضاً حاضراً منكراً للشراء؛ قال محمد رحمه الله: أقضي بالدار للشفيع وأجعل العهدة على المشتري وأدفع الثمن إليه.
ابن سماعة عن محمد: في رجل أمر رجلاً أن يشتري له عشرة دنانير بمئة درهم ففعل ذلك، وقبض الدنانير، ودفع الدراهم، فجاء رجل يدعي الدنانير فالمشتري خصم له، ولا أقبل بينة المشتري أن فلاناً أمره واشترى هذه الدنانير له، وإن أقر مدعي الدنانير بذلك لم أجعل بينهما خصومة.(10/247)
-----
وعنه أيضاً: رجل ادعى على رجل أنه باع هذا العبد بألف درهم بأمر مولاه فلان، وهو بضاعة في يديه، فقال المدعى عليه: بعته بغير أمر صاحبه، فإني أجعله خصماً وأقضي عليه بدفع العبد إلى المشتري لأني إنما أقضي عليه بالبيع.
رجل ادعى مملوكاً وزعم أنه له وقال: ليس هو اليوم في يدي، وقال المملوك: أنا مملوك فلان (208أ4) الغائب، فإن جاء المملوك ببينة على ما ذكر، فلا خصومة بينه وبين المدعي، وإن لم يقم على ذلك بينة قبلت بينة المدعى عليه، وقضيت به له، فإن جاء المقر له بعد ذلك لم يكن له على العبد سبيل، فإن أقام بينة قبلت بينته ويقضى له بالعبد على المقضي له الأول، قال في «الكتاب»: لأني إنما قضيت للأول على العبد بعينه.
ولو أن رجلاً ادعى عبداً في يدي عبد أو ادعى ديناً عليه، أو ادعى شراء شيء منه، فهو خصمه إلا أن يقر المدعي أنه يحجر عليه، فلا أجعل بينهما خصومة.
رجل في يديه دار، جاء رجل وادعى أنها دار فلان وأن له عليه ألف درهم، وأنه كان له بينة بالألف التي له عليه هذه الدار منذ شهر ودفعها إليه، ثم أنه بعد ذلك استعارها منه، فأعارها إياه وفلان رب الدار غائب، وأقام الذي في يديه الدار بينة أن الدار داره اشتراها من فلان الذي زعم المدعي أنه رهنها إياه أمس وقال: اشتريتها منه منذ عشرة أيام، وشهد له الشهود بذلك، فإن الذي ادعى الرهن يستحقها، وتقبل بينته عليها.
فإن قال المشتري: أنا انقض البيع؛ فالقاضي لا ينقض بيعه على الغائب حتى يحضر الذي باعه.
وكذلك إن ادعى الاستئجار مكان الرهن، ولو كان مكان الراهن أو المشتري رجل يدعي ملك الدار، ويزعم أنه اشتراها من صاحب اليد منذ شهر قبل شراء الذي الدار في يديه، فإنه خصم يقضى له بالدار وينتقض البيع الثاني، وإن كان شهود المدعي لم يشهدوا على قبض البائع الثمن، فإن الحاكم يأخذ منه الثمن فيكون عنده للبائع ويسلم الدار.(10/248)
-----
قال هشام: سألت محمداً عن رجل اشتريت منه جارية ونقدته الثمن، وقبضت الجارية فاستحقها مني إنسان ببينة، وقضى القاضي بها للمستحق، فأحضرت الذي باعنيها، فقال: يخير المشتري إن شاء (قبله) ولي الخصومة، وإن شاء رده بالثمن على البائع، وإن قال المشتري: أقف أمري ويلي البائع الخصومة ليس له ذلك.
رجل أقر بدار في يديه أنها لفلان سمى رجلاً غائباً غيبة منقطعة، وأنه أمر فلاناً أن يحفظها على المقر له، ثم أن ذلك الرجل جعلها على يدي، وقد مات، فالمجهول بيده يكون خصماً لكل من ادعاها، إلا أن يقيم البينة على أن الغائب فلان بن فلان، وقد أثبتوا معرفته دفعتها إلى الميت الذي دفعها إلى هذا الذي هي في يديه وغاب، فإذا أقام على ذلك بينة، فلا خصومة بينه وبين المدعي، قال: ولا أجعله وصياً إلا فيها خاصة في قول محمد فأما في قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يكون وصياً في كل شيء.
رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم، وأنه مات قبل أن يؤديها إليه، وأن له في يديك من ماله ألف درهم، وطالبه بقضاء الدين من ذلك المال، فالقاضي لا يسمع دعواه، ولا يقبل بينته، ولو طلب من القاضي أن يحلف المدعى عليه، فالقاضي لا يحلفه، وهذا لأن الدعوى إنما تسمع على الخصم والمدعى عليه ليس بخصم له في هذه الصورة؛ لأنه لا يدعي عليه ولا في يده شيئاً، وإنما يدعي ديناً على الغير؛ لأنه ليس بخلف عن ذلك الغير ليسمع الدعوى عليه بطريق الخلافة، فلا يسمع دعواه، وإذا لم يسمع دعواه لا يسمع بينته، ولا يحلف المدعى عليه.
رجل ادعى عمامة في يدي رفّاء وقال: هذه عمامتي بعثت بها على يد تلميذي إليك لتصلحه، وأنكر الرفَّاء أن تكون العمامة للمدعي، لا تصلح هذه الدعوى من هذا المدعي؛ لأنه مقر أن العمامة وصلت إلى يد الرفاء من جهة الغير، فلم تكن يد الرفاء يد خصومة بحكم إقراره هذا إذا استحق مال المضاربة.(10/249)
-----
فإن كان فيه ربح فالمضارب خصم بقدر حصته من الربح، ولا يشترط حضرة رب المال، وإن لم يكن فيه ربح فالخصم رب المال دون المضارب، وإن كان مال المضاربة ألفاً فاشترى المضارب بها عبدين أو جاريتين قيمة كل واحد منهما ألف، فإن هاهنا لا يظهر الربح، ويكون الخصم فيها رب المال، ويشترط حضرته عند استحقاق أحدهما.
هشام قال: سمعت محمداً يقول في رجل على طريق من طرق المسلمين نافذ فبنى فيه أو زرع، ثم خرج، ودفعه إلى إنسان، فجاء أهل الطريق وخاصموه، فأقام الذي في يديه بينة أنها في يدي فلان وكله به ودفعه إليه، قال: إن كان طريقاً مما يشكل ولا يعلم أنه طريق إلا ببينة فلا خصومة بينهما حتى يحضر الدافع، وإن كان شيئاً لا يشكل فهو خصم.
ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر عبداً، وقبضه ونقد الثمن، فجاء رجل وادعى هذا العبد على المشتري، فأقر المشتري بالعبد للمدعي أو أقر أنه حر الأصل.
فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: إقراره جائز، وليس له أن يخاصم البائع ببينة يشهدون أنه حر الأصل؛ يريد بهذا أن المشتري لو أقام بينة على البائع أنه حر الأصل ليرجع بالثمن على البائع؛ لا تقبل بينته.
علل فقال: لأن هذه البينة إنما تشهد للعبد فلا أقبلها، وكذلك لا تقبل من المشتري البينة على أن العبد ملك المقر له، يريد به؛ أن المشتري لو أقام البينة على أن العبد ملك هذا المدعي ليرجع بالثمن عليه لا تقبل بينته.(10/250)
-----
وقال أبو يوسف رحمه الله: إن اشترى المشتري العبد من المقر له بالملك، وقبضه جعلته خصماً للبائع من قبل أن يطلب الثمن والعبد في يديه، يريد به أنه بعدما أقر المشتري بالعبد للمدعي لو اشتراه من هذا المدعي وقبضه، ثم خاصم البائع في ذلك سمعت خصومته، وكذلك أقبل منه البينة أن العبد حر الأصل، وإن لم يحضر العبد يدعي الحرية بين يدي الحاكم، وإن لم يشتر العبد من المقر له بالملك بل هو في ملكه، ثم أقبل منه البينة على أن العبد للمدعي، وأقول في هذا مثل قول أبي حنيفة قال: وإن جاء المدعي، والبائع والمشتري، واختصما، فأقر المشتري فالعبد للمدعي، وقال: هذه البينة بينة المدعي أن العبد عبده، فإني أقبل منه البينة على البائع بهذا إذا كانوا جميعاً، وكذلك إن خاصم المشتري البائع في ذلك بعدما دفع العبد إلى المدعي، فجاء المدعي يزعم أن العبد له، قال: لأني لا أدري لعله ينكر أن يكون العبد له، وقال أبو يوسف: القياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله في جميع ذلك، إلا أني استحسنت احتياطاً للناس في أموالهم.
إبراهيم في «نوادره» عن محمد: الميت الذي أعتق، وليس للميت وصي، هل يكون هذا المعتق خصماً؟ فإن كان أعتقه في حالة المرض يكون خصماً، وإن كان أعتقه في حالة الصحة لا يكون خصماً.Y
بشر عن أبي يوسف: في رجل له على رجل مال فأوصى به لرجل، ثم إن الذي عليه المال جحد المال قال: الورثة يخاصمونه، فإذا أراد القاضي أن يقضي لهم قضي بها لصاحب الوصية، وأحاله بها من الثلث.
وعنه أيضاً: تقبل بينة الوصي على وصية الميت إليه بحضور وارث مقر بالوصية إليه، أو طالب دين أو مطلوب بدين أو صاحب وصية مقر بالوصية، وكذلك تسمع بينة مدعي الدين على الميت بحضور وارث مقر به، ويكون ذلك حكماً على سائر الورثة.(10/251)
-----
رجل في يديه دار وهو مقر بأنها لفلان مات، وتركها ميراثاً وسمى الورثة بعضهم غائب، وادعى الشراء من الغُيب حقوقهم، وسأل أن يترك ذلك في يده إلى أن يحضروا لم أتركه في يده، فإن أحضر بينة على الشراء سمعت شهادتهم ولكن لا أنفذ البيع ولا أقضي على الغائب ولكن أترك ذلك في يده وأستوثق منه حتى يقدم الغائب فيستأنف الخصومة معه.
رجل وكل رجلين بخصومة رجل، فأقام المدعي على أحدهما شاهداً، واحداً وعلى الآخر شاهداً آخر، قال: هو جائز، وكذلك لو أقام على الوكيل شاهداً واحداً وعلى الموكل شاهداً واحداً وكذلك لو أقام على الحي شاهداً وعلى الورثة بعد موته شاهداً.
هشام عن محمد: في رجل في يديه دار قال صاحب اليد لرجل: هذه الدار لك ورثتها من أخيك فلان وقال (208ب4) المقر له: لا بل هذه لرجل آخر ورثتها من أخيه قضي به للمقر الآخر إذا كان كلام المقر له موصولاً، وجنس هذا في كتاب الإقرار، فإن غاب المقر له الأول، وجاء المقر له الآخر إلى الذي الدار في يديه، وأقام البينة عليه بإقراره للغائب، وبإقرار الغائب له؛ لا تقبل بينته.
إبراهيم عن محمد: رجل باع داراً من رجل ولم يدفعها إلى المشتري بعد نقد الثمن، أو كان الثمن إلى أجل فالخصم هو المشتري، وإن كان المشتري لم ينقد الثمن فالخصم هو البائع.
هشام عن محمد: رجل آجر داراً من رجل، وقد علم القاضي بذلك، ثم إن المستأجر غاب؛ ووكل رجلاً بالدار بشهادة شهود، فقدم رب الدار الوكيل وادعى أنها داره، فادعى الوكيل الوكالة وأقام بينته على ذلك قال: لا أقبل بينة الوكيل، قال هشام: وإنما ذلك لعلم القاضي به.
رجل اشترى شيئاً بميتة، أو دم، أو خمر، أو خنزير، وقبض المشتري؛ ثم جاء مستحق واستحق المشترى بالبينة؛ ففي الشراء بالميت والدم لا يكون المشتري خصماً، ولا يسمع البينة عليه.(10/252)
-----
قال محمد في «الجامع»: رجل اشترى من آخر إبريق فضة بدينارين، وقبض الإبريق ونقد ديناراً واحداً ثم تفرقا قبل أن ينقد الدينار الآخر، حتى فسد العقد في نصف الإبريق لا يتعدى الفساد إلى النصف الآخر، وهذا الجواب لا يشكل على قولهما، وإنما يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن من مذهبه أن العقد إذا كان صفقة واحدة، ففسد بعضه فسد الباقي؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان فساد العقد في البعض بمفسد مقارن للعقد، أما إذا كان الفساد بمفسد طارىء لا يتعدى الفساد إلى الباقي.
كما إذا اشترى عبدين وهلك أحدهما قبل القبض فإنه لا يفسد العقد في الحي منهما، وإنما لا يفسد لما قلنا، فإن حضر رجل بعدما غاب بائع الإبريق، وادعى أن نصف الإبريق له كان المشتري خصماً له؛ لأن المشتري مالك جميع الإبريق لأنه، وإن فسد السبب في النصف لكان الافتراق لا يبطل ملكه فيه ما لم يرده، لأن فساد السبب في الابتداء لا يمنع ثبوت الملك عند اتصال القبض به، فأولى أن لا يمنع بقاء الملك في المقبوض، فكان كل الإبريق ملكاً للمشتري، فيكون خصماً للمدعي.
فلو حضر الغائب بعد ما أقام المستحق البينة على النصف، وقضى القاضي بالنصف له، رد المشتري على البائع ربع الإبريق؛ لأن النصف المستحق شائع في النصفين نصفه، وهو الربع في النصف الذي صح سببه، والنصف الآخر وهو الربع في النصف الذي فسد سببه، وإنما بقي في يد المشتري مما هو مقبوض بالسبب الفاسد نصف النصف وهو الربع، فلهذا رد المشتري عليه ربع الإبريق، ورد البائع عليه نصف الدينار حصة ما استحق مما هو مملوك بالسبب الصحيح، ولا يثبت للمشتري الخيار، وإن صار البائع شريكاً له في الإبريق؛ لأنه رضي بهذه الشركة لما لم ينقد الدينار الآخر مع علمه؛ لأن للبائع أن يأخذ نصف الإبريق، فصار راضياً بالشركة.(10/253)
-----
ولو أن رجلاً اشترى من رجل عبداً بصفقة واحدة نصفه بمئة دينار حالة، ونصفه بمئة دينار إلى العطاء، فقبض المشتري العبد، وغاب البائع، فحضر رجل وأقام البينة أن له نصف العبد كان الجواب في هذه المسألة، والجواب في المسألة الأولى سواء في الفصول كلها؛ لأن هاهنا فسد نصف السبب وصح نصفه، فملك كل العبد نصفه بسبب فاسد ونصفه بسبب صحيح كما في مسألة الإبريق، لمكان الافتراق قبل قبض بعض بدل الصرف، أمافيما عدا ذلك هذا، والأول سواء ولا يتعدى الفساد إلى النصف الثاني عند أبي حنيفة، وإن كان الفساد في أحد النصفين بسبب مقارن للعقد إلا أن النصف المقارن هاهنا غير متقرر، ولهذا لو أسقطا الأجل بقي العقد صحيحاً، وإنما تقرر عند حلول الأجل، فكان المفسد طارئاً معنىً، وإن كان مقارناً صورة.
ولو اشترى نصف عبد من رجل وأودعه البائع النصف الآخر، وغاب البائع، ثم جاء رجل وادعى نصف العبد، وأقام البينة وأقام ذو اليد بينة على أنه اشترى من فلان نصفه، وأودعه فلان بعينه نصفه، لم تصح الدعوى ولم يصر المشتري خصماً؛ لأنا لو صححنا هذه الدعوة ابتداءً أبطلناه انتهاءً، ولو جعلنا المشتري خصماً في الإبتداء أخرجناه من أن يكون خصماً في الإنتهاء.
بيانه: أنا لو قضينا عليه بالنصف تبين أن العبد كان مشتركاً بين البائع وبين المستحق، وإن بيع البائع انصرف إلى نفسه والإيداع في النصف المقضي به، ويد الوديعة ليسست بيد خصومة، ولو كان اشترى نصف العبد من رجل، وأودعه رجل آخر نصف العبد والمسألة بحالها كان ذو اليد خصماً في الربع في الابتداء ألا يخرجه من أن يكون خصماً في الانتهاء.(10/254)
-----
بيانه: هو أنا إن صححنا هذه الدعوة، ظهر أن العبد كان بين المستحق وبين البائع والمودع أرباعاً، النصف للمستحق، والربع لكل واحد منهما، فانصرف بيع الذي باع في الربع إلى ما يملكه، فإذا أقام ذو اليد بينة أن فلاناً باعه نصفه، وفلان آخر أودعه نصفه، ودعوى المستحق واقعة فيهما على سبيل الشيوع، كان الاستحقاق وارداً على نصف ما ورد عليه البيع وعلى نصف ما ورد عليه الإيداع، فينتصب المشتري خصماً فيما ورد عليه الاستحقاق من البيع، وذلك قدر الربع لا في ما ورد الاستحقاق عليه من الوديعة، فلهذا كان المشتري خصماً في نصف ما اشترى وهو الربع، فإذا حضر البائع كان خصماً للمستحق في الربع الآخر، ورجع المشتري على بائعه بنصف الثمن؛ لأنه لم يسلم له من المبيع إلا نصفه.
ولو أن رجلاً اشترى من رجل نصف عبد ثم اشترى منه نصفه الآخر أحدهما صحيح، والآخر فاسد، أو كانا صحيحين أو كانا فاسدين، ثم جاء رجل وادعى عليه نصف العبد وأقام البينة، فالمشتري خصم له و يقضي القاضي عليه بالنصف الباقي، يعني النصف الذي ورد عليه البيع الثاني، لأن المدعي لما أقام البينة انصرف إلى ملك البائع صحيحاً كان أو فاسداً، وانصرف البيع الثاني إلى نصيب المستحق وصاحب اليد يدعي الملك في هذا النصف الثاني، فكان خصماً لمن نازعه، ولو كان البيع الأول صحيحاً والبيع الثاني بميتة أو دم أو خمر لم يكن بينهما خصومة حتي يحضر البائع، لأن المشترى بدم أو ميتة غير مملوك بالاتفاق، وإنما اختلفوا أنه مضمون أو أمانة.
قال محمد رحمه الله: هو مضمون، ولما كان هكذا فالمشتري لا يدعي الملك لنفسه في النصف المشترى بالميتة والدم والخمر، فلا يكون خصماً لمن نازعه، بخلاف الوجه الأول على ما مر.
وإذا ادعى على امرأة إنها أمته وهي تحت زوج، والزوج غائب فدعواه صحيحة ولا يشترط حضرة الزوج.
ذكر في آخر «الجامع»: مسائل في بعضها جعل المولى خصماً عن عبده، وفي بعضها لم يجعله خصماً عن عبده.(10/255)
-----
فقال: رجل ادعى على رجل أنه قطع يد عبده فلان خطأ وله عليه نصف قيمته وذلك خمسمئة مثلاً أو ادعى أنه زوج أمته فلانة منه، وله عليه المهر والعبد، والأمة حيان غائبان، فقال المدعى عليه: نعم لكن أعطيك الأرش والمهر مخافة أن يحضر العبد والأمة فينكران الملك لك فيضمناني.
فالقاضي يلزمه المهر والأرش بإقراره؛ لأنه أقر له بالملك واستحقاق اليد، أما الملك فلأن ملك الرقبة يوجب ملك الأرش والمهر لا محاله إذ يستحيل أن يكون العبد والجارية مملكان لإنسان، وأرش اليد والمهر لغيره، وأما استحقاق اليد فلأن اليد على آخر العبد والإماء للموالي لا للعبيد والإماء.
ألا ترى أن من ادعى حقاً في عبد إنسان، فالعبد لا ينتصب خصماً له وإنما ذلك للمولى، ألا (209أ4) ترى أن في عين مسألتنا حق الخصومة في الأرش والمهر للمولى، وإن كان العبد والأمة دين بدليل أنه لو كان الأمر معايناً، فالمولى هو الذي يقبض ذلك، وسلم إلى الغرماء فثبت أنه أقر بالملك واستحقاق اليد للمولى في الأرش والمهر، فيؤمر بالتسليم إليه كما في سائر الأعيانز
وكذلك الجواب فيما إذا قال: المهر عرضاً من العروض؛ لأن المعنى لا يتفاوت، وإن كان للعبد وديعة ألف درهم عند هذا الرجل، أو غصب هذا الرجل ألف درهم من هذا العبد، أو كان للعبد ألف درهم على هذا الرجل من قرض أو بيع، فأقر الذي عنده المال أن الذي دفع إليه المال عبد هذا الرجل، وصدقه المقر له، لا سبيل للمقر له على ذلك المال؛ لأن المقر له لم يقر له لا بالملك، ولا باليد، أما بالملك؛ لأنه ليس من ضرورة كون العبد الدافع ملكاً له أن يكون ما في يده ملكاً له لجواز أن يكون وديعة أو غصب عند العبدز(10/256)
-----
ويجوز أن يكون وكيلاً فيما باعه أو أقرضه؛ بخلاف الوجه الأول لأن من ضرورة كون الدار ملكاً لإنسان، الأرش والمهر ملكاً له، وكذا لم يقر له باليد؛ لأن ما في يد العبد من المال لا يعتبر فيه يد المولى، وإنما يعتبر فيه يد العبد. ولهذا كان العبد هو الخصم دون المولى بخلاف الوجه الأول على ما مر.
وكذلك لو قال الذي في يديه: إن هذا المال مال هذا الرجل غصبه منه عبده، ودفعه إليه، وصدقه بذلك المقر له، فلا سبيل للمقر له على المال حتى يحضر العبد؛ لأنهما تصادقا على وصول هذا المال إليه من قبل العبد، وكانت يد العبد ثابتة بتصادقهما فلا يصدقان على إبطال يد العبد وإثبات الحق فيه للمقر له.
وكذلك إن أقر رجل أن فلان أمر عبده ببيع أمة له، فباعها بألف ولم يقبض الثمن وصدقه رب العبد بذلك، لم يجبر على دفع الثمن إلى المولى؛ لأن المقر مع المقر له لما تصادقا على أن العبد هو الذي باع، فقد أقر أن الخصم في الثمن هو العبد دون المولى لما عرف أن حقوق العقد ترجع إلى العاقد إذا كان العاقد من أهل التزام الحقوق، والمأذون أهل لذلك، فصح أنهما أقرا أن الخصم في الثمن هو العبد دون المولى، فلا يكون للمولى ولاية الأخذ هذا كله إذا كان المال قائماً في يد المقر.
وإن كان مستهلكاً بأن قال المقر له: إن عبدك فلان غصبك ألف درهم فاستودعنيها؛ فاستهلكتها، أو غصبتها منه واستهلكتها، أو قال: أقرضته مني وصدقه المقر له، فللمقر له أن يأخذه بذلك؛ فرق بين هذا، وبينما إذا كان المال قائماً بعينه، وباقي المسألة بحالة حيث لم يكن للمولى أن يأخذه بذلك.(10/257)
-----
والفرق هو: أن المال إذا كان قائماً بعينه وقد أقر بالغصب والوديعة من عبد فلان، فقد أقر أن للغائب حق استرداد هذا العين، ولهذا لو حضر كان حق الاسترداد له، فلو دفعنا إلى المقر له هذا العين، فقد أبطلنا حق الغائب في الاسترداد، وكان هذا الإقرار متضمناً إبطال حق العبد فلا يصح، أما المال إذا كان مستهلكاً فقد انتقل حق الغائب عن العين، وانتقل إلى مثله ديناً في الذمة فلم يصر مقراً للمولى بعين فيه حق للغائب، وإنما صار مقراً بمثل المقبوض ديناً في الذمة، وذلك خاص ملكه، فكان مقراً للمولى بما لا حق للغائب فيه فيصح.
فإن قدم الغائب وأنكر أن يكون عبداً لفلان وأن يكون غصب فلان شيئاً كان القول قوله؛ لأنه أنكر الرق، والأصل في الآدميين الحرية فكان الظاهر شاهداً له فقبل قوله، وإذا جعل القول قوله كان له أن يضمن المقر مثل المال الذي أقر بقبضه، لأن المقر مقر بأن وصول المال إليه كان من جهة الذي حضر، وأنه ضامن له بالاستهلاك غير أنه يدعي عليه أن أصل الملك لغيره، ولم يصدق في هذه الدعوى لما حكم بحرية الغائب فلهذا كان عليه الضمان، ثم هل يرجع المقر على المقر له؟ ففيما إذا أخذ المقر له من المقر الأرش والمهر، ثم قدم الغائب وأنكر أن يكون مملوكاً للمقر له يرجع، وفيما عداه لا يرجع.
والفرق وهو: أن حرية الغائب وإن ثبت بقوله، فهذا لا يزيد على الثابت بالبينة، وحرية الغائب لو ثبتت بالبينة فيما عدا الأرش والمهر يكون ملكاً للمقر له لجواز أن يكون الغائب حراً، والمال الذي دفع إلى المقر للمقر له، فلم يظهر بهذا فساد الإقرار، فصار الحال بعد الحكم بالحرية كالحال قبل الحكم بها، أما لو ثبت حرية الغاصب بالبينة فالأرش والمهر لا يكون سالماً للمقر له إذ لا يجوز أن يكون الغائب حراً، وأرشه ومهره لغيره، فظهر به فساد إقرار المقر؛ فكذا إذا أثبته بقوله.(10/258)
-----
ولو قال: إن عبد فلان أقرضني ألفاً قد غصب من مولاه وصدقه المقر له في ذلك؛ والمال قائم بعينه كان للمولى أن يأخذه بذلك فرق بين هذا وبينما لو قال: غصبت من عبد فلان، أو قال: أسترد عينها، وصدقه المولى بذلك، والمال قائم بعينه حيث لم يكن للمولى عليه سبيل.
والفرق وهو: أن في الغصب والوديعة حصل مقراً للمولى تعين فيه الغائب، وهو حق الاسترداد على ما مرَّ فلا يصح الإقرار، أما في العرض لم يقر للمولى بمال فيه حق الغائب إذا لم يقر الغائب بحق في هذا المال بعينه؛ لأنه زعم أنه ملكه المال ببدل، وانقطع حقه عن العين؛ لأن الغرض وضع لذلك، فلم يحصل مقراً للغائب بحق في هذا المال، فصار مقراً للمولى بشيء ليس للغائب فيه حق، فيصح هذا كله إذا أقر المقر أن الغائب عبد المقر له.
فأما إذا قال المقر للمقر له: لا أدري أن الغائب عبدك أم لا؟ فأقام المدعي بينة أن الغائب ملكي لم تقبل بينته حتى لا يقضى له على المقر بشيء ما لم يحضر العبد؛ لأن هذه بينة قامت لإثبات الملك في الغائب وهو العبد، والعبد منقول.
وإثبات الملك بالبيينة فيما يحتمل النقل إلى مجلس القضاء حال غيبته لا يصح؛ ولأن هذه بينة قامت للقضاء بها على الغائب، والمقر ليس بخصم عنه، لأن العبد الغائب ليس في يد المقر لا حقيقة ولا حكماً، ومن ادعى حقاً في عبد، فإنما يكون خصماً للمدعي، وكان العبد في يده حقيقة أو حكماً.
وإذا لم تقبل هذه البينة لا يقضى على المقر بشيء؛ لأنه لو قضى إنما يقضي بإقراره، وهو لم يحصل مقراً للمدعي بشيء حين قال: لا أدري الغائب عبدك أم لا؟ فإن أراد المدعي استحلاف المدعى عليه في هذا الفصل، وهو ما إذا قال المدعى عليه للمدعي: لا أدري أن الغائب أعبدك أم لا؟ قال: لا، استحلفه القاضي على ملك الغائب؛ لأنه ليس بخصم في ذلك عن الغائب.(10/259)
-----
ولكن يستحلفه على المهر والأرش والوديعة المستهلكة والغصب المستهلك، والقرض المستهلك، والقائم بالله ما للمدعي قبلك هذا المال الذي يدعي؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به يصح إقراره على ما مر، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، أما في المال الذي كان قائماً في يد المقر، وكان المقر أقر أن الغائب أودعها أو غصب هو من الغائب لا يستحلف فكذا لا يستحلف في دعوى ثمن الجارية؛ لأنه لو أقر صريحاً في هذه الأشياء؛ لا يصح إقراره لما أن إقراره صادف محلاً تعلق به حق الغير على ما مر، فلا يفيد الاستحلاف الذي شرع لرجاء النكول.
ولو قال الذي في يديه المال: (المال) الذي في يدي مالك لأني غصبتها من عبدك، أو أودعنيها عبدك؛ وقال المقر له: المال مالي ما أخذته من عبدي، وأبى أن يدفع المال إلى المولى؛ كان للمولى أن يأخذها إلا أن يقيم المقر بينة على ما زعم؛ لأن إقراره بالملك للمدعي يوجب التسليم إليه، غير بدعوى الغصب والوديعة من العبد؛ يريد إبطال استحقاق التسليم إلى المقر له إلى أن يحضر العبد، ولا يصدق من غير بينة.
قالوا: وينبغيي أن يستحلفه بالله ما يعلم أن الغائب أودعه أو غصب هو هذا المال من الغائب، لأن المقر له لو أقر بذلك لزمه الكف عن مطالبته، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول ولكن (209ب4) يستحلف على العلم لأن هذا استحلاف على فعل الغير، فإن لم يكن له بينة، وقبض المولى المال ثم حضر الغائب وجحد أن يكون عبداً للمدعي ففي الغصب؛ القاضي يقضي للذي حضر على المقر بمثل ما أقر أنه غصبه سواء سلم المقر المغصوب إلى المقر له بقضاء أو بغير قضاء، وفي الوديعة كذلك الجواب.(10/260)
-----
وعند محمد وعند أبي يوسف رحمه الله؛ لا يضمنه شيء إلا أن يكون سلمه بغير قضاء، وهذا الاختلاف نظير الاختلاف فيمن قال: هذا العبد في يدي لفلان، ثم قال بعد ذلك: لا بل لفلان غصبته منه أو أودعني ودفع إلى الأول بقضاء، أو بغير قضاء، فهو على التفصيل الذي قلنا.
والمسألة بحججها في «الجامع الكبير»: في كتاب الإقرار، فإن أراد الغائب في هذا الوجه أن يسترد المال من المقر له ليس له ذلك بالإجماع؛ لأن الإقرار للمقر له قد سبق، فلا يبطل ذلك بمجرد إنكار الغائب؛ كما لو قال: هذا عبد فلان أودعنيه عبدك، أو غصبه من عبدك، وهو مالك لأن العبد عبدك فماله لك، فقال المقر له: هذا عبدي كما قلت، وهذا المال مالي لم تأخذه من عبدي فلان.
فإنه يقال للمقر: أقم البينة على ما ادعيت، فهو للمقر له؛ لأن حق المقر له قد ثبت، وحق الغائب إنما يثبت على اعتبار تصديق الغائب وذلك موهوم، فوجب التسليم إلى المقر له، فإن لم يكن له بينة وطلب المقر يمين المقر له على ما زعم من الغصب والوديعة استحلفه القاضي على ذلك على علمه على ما قلنا في الفصول الأول.
فإذا حلف المقر له في هذا الفصل وأخذ المال ثم حضر الغائب، وأنكر أن يكون عبداً للمقر له، وطلب ماله كان له أن يسترد الألف من المقر له، وهو الولي من غير بينة بخلاف المسألة الأولى، فإن ثمة الغائب لا يأخذ المال من المولى ما لم يقم البينة على الغصب والإيداع منه.
والفرق: أن في المسألة الأولى المقر بدأ بالإقرار بالملك الحاضر، ثم ثنى بالإقرار للغائب وتصديق الغائب وإن أسند إلى وقت الإقرار لا يصير سابقاً على الإقرار للمدعي فيبقى الحكم للإقرار الأول، فلهذا لم يكن للغائب ولاية الأخذ بدون الحجة.(10/261)
-----
أما في مسألتنا بدأ بالإقرار للغائب، وإنما وجب التسليم إلى الحاضر؛ لاحتمال التكذيب من الغائب، فإذا صدقه الغائب استند التصديق إلى وقت الإقرار له وذلك سابق، فلهذا صار للغائب أولى، ومتى استرد الغائب في مسألتنا المال الذي من المقر له لا يضمن المقر للمقر له شيئاً، لأن المقر يقول للمقر له: قد أقررت لك بعيني ودفعت إليك، وإنما استحق من يدك، فليس لك عليَّ شيء.
فإن قيل: إنما استحق العين من يد المقر له بإقرار المقر للغائب، فصار المقر مستهلكاً العين على المقر له فينبغي أن يضمن.
قلنا: نعم، إلا أن المقر أقر للغائب أولاً أنه له، وأنه غصبه منه، وأقر المولى ثانياً ولم يقر أنه غصبه منه.
ومن أقر بعين في يده أنه لهذا ثم أقر أنه لفلان ودفع إلى الأول بقضاء لا يضمن للثاني عندنا خلافاً لزفر، والمسألة في كتاب الإقرار على سبيل الاستقصاء، ولو قال المقر: هذا المال مال عبدك فلان غصبته منه أو أودعنيه، وقال المقر له: مالي لم يقبضه عبدي، فلا سبيل له على المال حتى يحضر الغائب، أو يقيم البينة أن المال له بخلاف الفصلين الأولين؛ لأن في الفصلين الأولين أقر ذو اليد بالملك للمولى؛ لكن في الفصل الثاني في آخر كلامه.
وفي الفصل الأول في أول كلامه، فأمر بالتسليم إليه، فأما هاهنا لم يقر بالملك للمولى في هذا المال إنما أقر أنه أخذ من فلان الغائب، وزعم أن فلاناً ملكه وليس من ضرورة الإقرار بالمال لعبد إنسان، الإقرار بذلك المال لمولاه لجواز أن يكون ما في يد العبد لأجنبي، ولم يوجد الإقرار بذلك بالملك للمولى في المال، يبقى مجرد دعوى المدعي فلم يكن له ولاية الأخذ بدون الحجة، وهذا كله إذا كان الغائب والأمة الغائبة حيان.(10/262)
-----
فأما إذا ميتين بأن ادعى رجل قبل رجل مهر أمة له أو أرش جناية على عبد له أو وديعة لعبده في يديه أو غصبها، أو دين من ثمن بيع، أو قرض فادعى أن العبد مات، وصدقه المدعى عليه بذلك كله، وأنه يقضى للمدعي بذلك كله، ويؤمر الذي قبله المال بدفع المال إليه في الوجوه كلها.
أما في الوجه الذي يلزمه التسليم حالة الحياة فلا يشكل، وأما في الوجه الذي لا يلزمه التسليم في حالة الحياة، فلأنهما لما تصادقا على موت العبد فقد تصادقا على وجوب التسليم إلى المقر له؛ لأن العبد إذا مات كان مولاه أحق بما كان في يده في الوجوه كلها حتى يوصل كل حق إلى صاحبه، أو، لا يبقى ليد العبد عنده بعد موته، فصار المولى كالخلف عن مملوكه بعد موته خلافة الوارث المورث.
فكما أنه لو ادعى الميراث عن ميت، وصدقه الذي قبله المال يؤمر بالتسليم إليه، فهاهنا كذلك بخلاف حالة الحياة على ما مر، فإن قال المقر: على العبد دين يحيط بماله لا يلتفت إلى ذلك لأن سبب ثبوت الحق للمولى قد ظهر بتصادقهما، والمانع وهو الدين لم يظهر بإقرار المقر لما أن هذا إقرار على عبد الغير.
وذلك يستدعي تصديق العبد، والتصديق من الميت لا يتصور، وإن أنكر الذي قبله المال جميع ما ادعاه المدعي، فأقام المدعي بينة على غصبه المال من عبده، وعلى أن عبده مات تقبل بينته، وكذلك في سائر الصور فرق بين هذا وبينما إذا كان العبد الغائب حياً، وأنكر الذي قبله المال أن يكون الغائب عبده، وأراد المدعي إقامة البينة على أن الغائب عبده فإنه لا يقبل، ولا يقضى للمدعي بشيء.
والفرق ما ذكرنا: أن هذه بينة قامت على إثبات الملك في الغائب وهو العبد وإنه منقول، وإثبات الملك بالبينة في النقليات حال غيبته عن مجلس القضاء؛ لا يصح، أما بعد الموت فنقل العبد إلى مجلس القضاء غير ممكن فلم يعتبر ذلك شرطاً لصحة القضاء بالبينة، فهذا هو الفرق بينهما.(10/263)
-----
وفرق آخر أيضاً ما مر أن الغائب متى كان حياً فبينة المدعي على أنه عبده قامت على الغائب للقضاء بها، وليس عنه خصم حاضر؛ لأن المقر ليس بخصم عنه على ما مر، وليس للقاضي أن ينصب عنه خصماً فيما يدعي عليه إذا لم يكن له وصي ولا وارث؛ لأنه لا يرجى حضوره، فلو لم يفعل ذلك أدى إلى تضييع حقوق الناس، وإذا كان للقاضي ذلك كان جعل الذي قبله المال خصماً، والمال في يده أولى، فكانت هذه بينة قامت على خصم فقبلت.
رجل في يديه مال، قال رجل لصاحب اليد: غصبني عبدك هذا المال فأودعها إياك، وقال صاحب اليد: صدقت لكن لا أردها عليك؛ لأني أخاف أن يجحد العبد أن يكون عبدي، لم يلتفت إلى قوله ويجبر على دفع الألف إليه؛ بخلاف ما تقدم من المسائل.
والفرق: أن فيما تقدم تصادقا على أن الوصول إلى يد صاحب اليد كان من جهة العبد، ويد العبد لا تبطل بالتسليم إلى غير المولى، وهناك صاحب اليد غير مولى العبد، فبطل حق المقر له صيانة لما تصادق عليه من يد العبد، فأما هاهنا فقد تصادقا على بطلان يد العبد لأن يد العبد تبطل بالتسلم إلى المولى ما لم يكن على العبد دين أو يثبت أن ذلك المال مال الغير، ولم يثبت ذلك.
ولهذا قالوا: إن العبد المأذون إذا أودع مولاه من كسبه أو غصب مولاه شيئاً ولا دين عليه، ثم تصرف العبد في المال الذي أودع مولاه، أو غصب منه مولاه لا ينفذ، ولو كان حكم يد العبد قائماً لنفذ، ولما تصادقا على بطلان يد العبد عن المال صار هذا المال ملحقاً بسائر أموال المولى، فكان هذا الإقرار مصادقاً مال نفسه فصح، وأمر بالتسليم إلى المقر له فلهذا افترقا.(10/264)
-----
فإذا دفعه إليه ثم حضر الغائب فأنكر أن يكون عبداً للمقر كان القول قوله، وقضى القاضي له بالمال الذي أخذه المقر له، فلهذا افترقا، فإذا دفعه ثم حضر الغائب فأنكر أن يكون عبداً للمقر كان القول قوله، وقضى القاضي له بالمال الذي أخذه المقر له إن وجده (210أ4) قائماً؛ لأنهما كانا متصادقين على أن وصول هذا المال إلى ذي اليد من جهة الذي حضر.
فإذا جعلنا القول قوله في إنكار الرق، لم يثبت لذي اليد في رقبته ملكاً فتبين أنه كان له في هذا المال يد معتبرة لكون يد المودع قائمة مقام يد المودع، فظهر أن تصادقهما صادف محلاً تعلق به حق الغير، وإنه لم يصح فيؤمر المقر له برد المال على الذي حضر إلا أن يقيم المقر له للحال بينة أن المال ماله، وإن كان المقر له استهلك ذلك المال الذي أخذه، فأراد الغائب أن يضمن المقر الذي كان في يديه المال، كان له ذلك؛ لأنه صار متلفاً له بإقراره للمدعي.
قال بعض مشايخنا: هذا قول محمد، أما على قول أبي يوسف: ليس له ذلك لأنه أقر للمدعي بملك مطلق، ثم أقر بعد ذلك أن فلاناً أودعه، ومن أقر بملك مطلق لإنسان، ثم أقر بالوديعة لغيره، ودفع المال إلى الأول بقضاء يضمن للثاني عند محمد؛ خلافاً لأبي يوسف، وبعض مشايخنا قالوا: لا بل يضمن هاهنا عندهم جميعاً، لأن المقر أقر للمدعي بملك مطلق، ثم أقر بعد ذلك أنه غصبه من غيره؛ لأن المولى فيما يودعه العبد لا يكون مودعاً حقيقة؛ بل يكون قابضاً لنفسه فكان بمعنى الغاصب، فكأنه أقر للمدعي بمطلق الملك، ثم أقر بعد ذلك بالغصب من الغائب.(10/265)
-----
وفي هذا الفصل إذا دفع إلى الأول يضمن للثاني عند الكل، إنما الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما إذا أقر الإنسان بملك مطلق، ثم أقر بالوديعة من غيره ودفع إلى الأول، ولو قال المقر: هذا المال أودعنيه عبدي فلان، ولا أدري أهو لك أم لا؟ فأقام المدعي بينة أن المال ماله؛ فالقاضي يقبل منه هذه البينة؛ لأن المولى فيما أخذه من العبد على سبيل الوديعة، لا يكون مودعاً بل يكون قابضاً لنفسه.
ومن ادعى مالاً في يد غيره، وذو اليد يزعم أنه مالك له ينتصب خصماً له، فإن حضر الغائب وأنكر أن يكون عبداً للمقر أخذ ماله، ويقال للمدعي: أعد بينتك عليه وإلا فلا حق لك؛ لأنهما تصادقا على أن وصوله إلى يده كان من جهة الذي عليه، فإذا لم يثبت الملك للذي كان في يده في رقبة الذي حضر، تبين أن يد صاحب اليد في هذا كانت يد حفظ لا يد خصومة، فظهر أن تلك البينة قامت على غير خصم، فلم يكن معتبراً فأمر المقر له بإعادة البينة لهذا، وإن قال المقر وهو الذي في يديه المال: هذا المال لك أودعنيه فلان، وفلان ليس بعبدي، فأقام المدعي بينة أن فلاناً عبده لم يكن بينهما خصومة، ولم تقبل بينته، أما لا خصومة بينهما؛ فلأنهما تصادقا على أن الوصول إلى يدي ذي اليد من غيره بطريق الوديعة، فالمدعي بعد ذلك يدعون كون المودع ملكاً للمودع، يدعي أن يده يد نفسه؛ حتى يجعله خصماً، فلا يصدق على ذلك، وأما لا تقبل بينته على كون الغائب ملكاً للمقر، لأن هذه البينة قامت على إثبات الملك في عين غائب عن مجلس القضاء، وإنه يحتمل النقل فلا تقبل حتى لو أقام المدعي بينة على أن المودع غير ذي اليد وأنه قد مات قبل القاضي، قبل القاضي البينة وقضى له بالمال بخلاف حالة الحياة، والفرق قد مر.
رجل وهب لعبد رجل جارية وقبضها العبد، ثم أراد الواهب الرجوع في الهبة، والمولى غائب، فإن كان العبد مأذوناً كان له ذلك، وإن كان محجوراً عليه لم يكن له ذلك حتى يحضر المولى.(10/266)
-----
أما الأول؛ فلان الواهب يدعي حقاً فيما هو كسب المأذون بعقد جرى بين المدعي وبين المأذون فينتصب المأذون خصماً له؛ كما لو ادعى شيئاً في يد المأذون أنه ملكه مطلقاً انتصب خصماً سواء كان على المأذون دين أو لم يكن.
وأما الثاني: فلأن المحجور فيما في يده بمنزلة المودع في جهة المولى، ألا ترى أن من ادعى عيناً في يده أنه اشتراه من المحجور أو ادعى ملكاً مطلقاً، لا ينتصب خصماً له وإن كان من كسب المحجور كان الفقه فيه.
وهو أن للمأذون يداً معتبرة على ما في يده كالمكاتب، ولهذا لو باع المأذون ما في يده يد معتبرة، ولهذا لو باع ما في يده لا يجوز، وإن كان من كسبه، فهذا يبين لك أن يد المأذون يد نفسه، ويد المحجور يد المولى حكماً، ولما كان هكذا كان رجوع الواهب في الوجه الأول إبطال يد العبد، فكان هو الخصم في ذلك، فلا يشترط حضرة المولى، وفي الوجه الثاني رجوع الواهب إبطال يد المولى حكماً، فكان المولى هو الخصم في ذلك فيشترط حضرته.
وإن قال العبد: أنا محجور، وقال الواهب: أنت مأذون، ولي أن أرجع فيها قبل حضور مولاك، فالقول قول الواهب مع يمينه، قالوا: وهذا استحسان.
والقياس: أن يكون القول قول العبد لأنه متمسك بالأصل وهو الحجر، فكان الظاهر شاهداً له، إلا أنا استحسنا. وقلنا: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأن الهبة حين وقعت، وقعت موجبة للرجوع، فالعبد بقوله: أنا محجور، يدعي تأخير حق الواهب في الرجوع إلى حضرة المولى، والتأخير نوع إبطال، فيكون القول قول الواهب مع يمينه.(10/267)
وما يقول بأن الظاهر شاهد للعبد قلنا: نعم، ولكن إنما يجعل القول قول من يشهد له الظاهر؛ إذا كان بالظاهر يدفع شيئاً عن نفسه، وهاهنا هو بهذا الظاهر يبطل حقاً مستحقاً للواهب، وهو حق الرجوع في الهبة فلا يلتفت إليه، ثم إنما حلفنا الواهب على العلم؛ لأن هذا تحليف على فعل الغير وهو حجر المولى، والتحليف على فعل الغير يكون على العلم.(10/268)
-----
ولو أقام العبد بينة أنه محجور لا تقبل بينته؛ لأن الواهب يدعي حقاً على العبد بعقد جرى بينه وبين العبد، والعبد بهذه البينة يثبت كونه مودعاً من جهة المولى، لما مر أن المحجور فيما في يده بمنزلة المودع من جهة المولى.
قلنا: ومن انتصب خصماً لإنسان بدعوى الفصل عليه إذا أقام بينة على أنه مودع فلان ليدفع الخصومة عن نفسه، لا تقبل بينته ولا تندفع عنه الخصومة، أما إذا أقام البينة على إقرار المدعي أنه مودع فلان فقد أقام البينة على أن المدعي أبرأه عن هذه الخصومة معنىً؛ لأنه يريد إسقاط خصومة المدعي لمعنى وجد من جهة المدعي وهو إقراره، ومن انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه لا تقبل بينته على إحالة الخصومة إلى غيره، وتقبل على إبراء المدعي إياه من الخصومة.
فلهذا افترقا بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها في كتاب المأذون، أن العبد إذا باع واشترى، ثم أقام البينة على أنه محجور، أو على إقرار العاقد الآخر بذلك حيث لا تقبل، وإنما كان كذلك؛ لأن هناك إنما لم تقبل لأنه يسعى في نقض ما تم به وأراد إثباته بالبينة، ومن سعى بنقض ما تم به وإثباته بالبينة لا يسمع ذلك منه لصيرورته متناقضاً.
وفي حق هذا لا فرق بينما إذا أقام البينة على كونه محجوراً، وبينما إذا أقام البينة على إقرار العاقد بكونه مجحوراً، إلا أن البائع لو كان حراً وأقام البينة على أن ما باع كان حراً، وعلى إقرار المشتري أن ما اشترى كان حراً، لا يسمع ذلك منه لما قلنا.
أما في مسألة «الجامع»: إنما لا تقبل بينة على الحجر إلى نقض ما تم به لا ساعٍ إلى اتفاق جرى بينهما من الهبة، لكن إنما لا تقبل لأنها قامت على إحالة الخصومة على الغير، وهذا المعنى معدوم فيما إذا أقام البينة على إقرار الواهب بالحجر، فلهذا افترقا.(10/269)
-----
هكذا كله إذا كان المولى غائباً والعبد حاضر، فإن حضر المولى وغاب العبد فأراد الواهب أن يرجع في هبته؛ فإن كان الموهوب في يد العبد لم يكن المولى خصماً، لأن الواهب لا يدعي على مولى العبد عيناً في يده، ولا حقاً في عين في يده، ولا ديناً في ذمته.
والإنسان (210ب4) إنما ينتصب خصماً لغيره بأحد هذه الوجوه، وإن كانت الهبة في يد المولى كان خصماً لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه لأن ما يأخذ المولى من عبده يكون ملكاً له إذا لم يكن على العبد دين، ولم يعرف ثبوت الدين على العبد.
ومن ادعى حقاً في عين يد إنسان والذي في يديه العبد يزعم أنه مالك له، انتصب خصماً للمدعي كذا هاهنا، فإن قال المولى: أودعني هذه الجارية عبدي فلان ولا أدري أوهبتها له أم لا؟ فأقام المدعي بينة على الهبة فالمولى خصم؛ لأن المولى يودعه عبده، فيكون مالكاً ولا يكون مودعاً على ما مرَّ، فالمولى بدعواه أنه أودعها إياه عبده يزعم أنه مالك لها، فينتصب خصماً للمدعي في إثبات حق جرى بين المدعي وبين الغاصب؛ لأنه يدعي حقاً في ما يده بسبب جرى بينه وبين الغاصب، فينتصب خصماً عن الغائب.
كرجل في يديه عبد جاء رجل وادعى أنه قد اشتراه من فلان بكذا وهو يملك، وأقام على ذلك بينة قضي له بذلك، وصار الحاضر خصماً عن الغائب كذا هاهنا.(10/270)
-----
فإذا قضى القاضي بالجارية للواهب فقبضها الواهب فزادت في يديها في يد الواهب، ثم حضر الموهوب له وأنكر أن يكون عبداً، فالقول قوله لكون الحرية أصلاً، فكان له أن يأخذ الجارية؛ لأنا لما جعلنا القول قول الذي حضر في أنه حر ظهر أن الذي كانت الجارية في يده كان مودعاً لا مالكاً، فظهر أنه ما كان خصماً، وإن عينه الواهب قامت على غير خصم، فالتحقت بالعدم، فيرد القاضي الموهوب على الموهوب له بإقرار الواهب أنه كان في يد الموهوب له فيما مضى، ولا يمتنع الرد على الموهوب بسبب زيادة متصلة؛ لأنه تبين أن الزيادة حصلت على ملك الموهوب له؛ لأنه ظهر أن رجوعه في الهبة لم يصح، واسترداد المملوك لا يمتنع بسبب الزيادة المتصلة، ثم ليس للواهب أن يرجع في الهبة إلا أن الرجوع الأول لما بطل كانت الزيادة المتصلة حاصلة على ملك الموهوب له، وهذا يمنع الرجوع في الهبة.
فإن كانت الجارية قد ماتت في يد الواهب كان للموهوب له الخيار؛ إن شاء ضمن المودع، وإن شاء ضمن الواهب قيمتها؛ لأنه لما ظهر بطلان الرجوع في الهبة ظهر أن القابض قبض مال الغير بغير إذنه، وأن المودع دفع الوديعة إلى غير المالك بغير إذن المالك، فصار كل واحد في حق المالك بمنزلة الغاصب، فلهذا كان له الخيار في التضمين، فإن ضمن الواهب لا يرجع على المودع ضمن على الغاصب، وإن ضمن المودع لا يرجع على الواهب بما ضمن أيضاً باعتبار أن في زعم المودع أن الرجوع صحيح هاهنا.
لما أن الغاصب عبدي، وقد أخذ بعض مالي حيث ضمنني، وما يأخذ من مولاه لايزول عن ملك مولاه، فلم يلحق المودع غرم بما دفع إلى مولاه، فلا يكون له أن يرجع بذلك على صاحبه بما أوجب الضمان في «الكتاب» على المودع، ولم يحك فيه خلافاً.(10/271)
-----
وذكر الكرخي: أن هذا قول محمد؛ لأن المودع بما أقر برق الغائب صار مسلطاً القاضي على الوديعة، فصار مضيعاً لها، وأما على قول أبي يوسف: لا يضمن لأن الدفع حصل بقضاء القاضي، وفي مثل هذا لا يجب الضمان على المودع على ما مر قبل هذا.
وإن قال المولى: قد علمت أنك وهبتها للذي أودعني إلا أنه ليس بعبد لي، فأقام المدعي بينة على أن فلاناً الغائب عبده لا تقبل هذه البينة إن كان العبد حياً؛ لأن هذه بينة قامت على إثبات الملك في نقلي غائب عن مجلس القضاء فلا تقبل.
وإن قال الواهب: ليست لي بينة وطلب يمين المودع بالله إن الغائب ليس بعبد له؛ استحلفه القاضي؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن حلف برىء عن الخصومة، وإن نكل لزمته الخصومة؛ لأن النكول بمنزلة الإقرار.
ولو أقام المدعي بينة على إقرار المولى أن فلاناً عبده تقبل بينته، وقضى بالرجوع؛ لأن هذه بينة قامت على إثبات كلام الحاضر وهو الإقرار، والإنسان خصم فيما يدعى عليه من الإقرار، والقضاء بذلك لأنه لا يتعدى إليه، فيقضي القاضي عليه بذلك، كما لو أقر بذلك بين يدي القاضي، وإن أقام المدعي بينة على أن الغائب عبد هذا الرجل وأنه قد مات قبلت بينته، وصار ذو اليد خصماً وقد مر هذا فيما تقدم.(10/272)
-----
وإن أقام المدعي بينة على أن الغائب كان عبده وأنه قد باعه من فلان بألف درهم، وقبضه فلان منه لم تقبل بينته؛ لأن فيه إثبات الملك في المنقول، وهو غائب عن مجلس القضاء، وفيه إثبات الملك للمشتري بالبيع، وهو غائب فلا تقبل، وإن أقام المدعي بينة على إقرار الذي في يده الجارية أنه قد باع فلان الغائب من فلان ولم يقم البينة على إقراره أن الغائب عبده، فالقاضي لا يقبل هذه البينة، ولا يجعل الذي في يديه خصماً؛ لأن هذا الإقرار لو ثبت معاينة لا يصير صاحب اليد خصماً لأن الإقرار ببيع الغائب لا يكون إقراراً بأنه عبده لا محالة؛ لأن الإنسان كما يبيع عبد نفسه يبيع عبد غيره أيضاً، فإذا لم يكن هذا الإقرار ملزماً إياه شيئاً لم يكن في إثباته بالبينة معنى وفائدة، فلهذا لا يقبل القاضي هذه البينة والله تعالى أعلم بالصواب.
الفصل الثالث والعشرون: في بيان ما يندفع به دعوى المدعي وما لا يندفع
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منها: في دعوى الملك المطلق، ودعوى المدعى عليه كون المدعى في يده وديعة من جهة غيره أو عارية أو إجارة أو رهناً، أو ما أشبه ذلك هذا النوع ينقسم أقساماً.
القسم الأول إذا حقت الدعوى في العين حال قيامه
قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل ملكاً مطلقاً، أو داراً أو ثوباً أو ما أشبه ذلك، وأقام بينة على دعواه، فقال ذو اليد: إن هذه العين لفلان الغائب أودعنيها، أو قال: أجرنيها، أو قال: ارتهنتها منه، أو قال: اغتصبتها منه، فإن أقام بينة على دعواه فلا خصومة بينهما، وإن لم يقم، فهو خصم للمدعي في ظاهر رواية أصحابنا.(10/273)
-----
ووجهه: أن الخصومة قد توجهت على صاحب اليد بظاهر يده لأنه حال بين المدعي وبين المدعى به، ولهذا كان على القاضي إحضاره وتكليفه بالجواب، فهو بدعواه هذه يريد إبطال الخصومة المتوجهة عليه فلا يقدر على ذلك من غير حجة، وبعد إقامة الحجة طريق اندفاع الخصومة أن صاحب اليد ببينته يثبت شيئين: الملك للغائب وهو ليس بخصم فيه، وإسقاط الجواب عن نفسه، ولا تقبل بينته فيما ليس بخصم فيه وهو إثبات الملك للغائب.
وعن أبي يوسف أنه رجع عن هذا حين ابتلي بالقضاء ووقف على أحوال الناس وقال: إذا كان المدعى عليه معرفاً بالافتعال والتزوير، ووقع في قلب القاضي أنه قصد الافتعال بهذا ليبطل حق المدعي لا تندفع الخصومة عنه بهذه البينة، لأن مثل هذا الافتعال يوجد فيما بين الناس، فالإنسان يأخذ مال غيره غصباً، ثم يدفعه سراً إلى من يريد أن يغيب عن البلدة حتى يودعه علانية بشهادة الشهود.
حتى إذا جاء المالك وأراد أن يثبت ملكه، فالمدعى عليه يقيم بينة على الإيداع من الغائب، ويدفع خصومة الملك بذلك، والقاضي يصير ناظراً للمسلمين، فينبغي أن ينظر في حق المدعي، وذلك بأن لا يلتفت إلى بينة المدعى عليه إن عرف بالافتعال والتزوير، ووقع في رأيه أنه قصد بهذا الإضرار بالمدعي، وهذا الذي ذكرنا في جواب ظاهر الرواية: إذا عرف شهود صاحب اليد المودع باسمه ونسبه ووجهه فأما إذا قالوا: أودعه رجل لا نعرفه أصلاً، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، فلا تندفع خصومة المدعي من صاحب اليد بالإجماع.
أما على (211أ4) قول محمد فلأنهم لو قالوا: نعرف المودع بوجهه، ولا نعرفه باسمه ونسبه، لا تقبل الشهادة، ولا تندفع الخصومة عنه عند محمد، فهاهنا أولى.(10/274)
-----
وأما على قولهما فلأن بهذه الشهادة لم يثبت وصول العين إلى صاحب اليد من جهة غير المدعي بيقين، لجواز أن يكون الدافع هو المدعي، وعلى هذا التقدير لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، فلا تندفع الخصومة من ذي اليد بالشك والاحتمال، وإن قالوا: نعرف المودع بوجهه ولانعرفه باسمه ونسبه:
فعلى قول محمد: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الخصومة على ذي اليد توجهت بظاهر يده فلا تندفع عنه الخصومة إلا بالحوالة على رجل يمكن اتباعه ليكون تحويلاً للخصومة لا إبطالاً، ولم توجد الحوالة على رجل يمكن اتباعه لأن الغائب لا يعرف إلا بالتسمية والنسب، فإذا كان المدعي بوجهه والشهود لم يذكروا اسمه ونسبه لا تتحقق الحوالة، وعندهما تقبل الشهادة لأن حاجة صاحب اليد إلى دفع الخصومة عن نفسه، وإنما تندفع الخصومة عنه إذا أثبت أن يده ليست بيد ملك وخصومة، وقد حصل ذلك هاهنا؛ لأنا علمنا أن العين وصلت إلى يد صاحب اليد من غير هذا المعين بيقين، وبه فارق ما إذا قال: لا نعرفه أصلاً.
ولو قال الذي في يديه: أودعنيه رجل لا أعرفه، وقال الشهود: أودعنيه فلان بن فلان.
ذكر الخصاف في «أدب القاضي»: أن القاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا تندفع الخصومة عن ذي اليد؛ لأن دعوى المدعى عليه الإيداع هاهنا غير صحيحة لجهالة المودع، والشهادة لا تقبل من غير دعوى صحيحة، ولو أقر المدعي أن رجلاً دفعها إليه والمدعي لا يعرفه، فلا خصومة بينهما لأنه ثبت بإقرار المدعي أنه وصل العين إلى المدعى عليه من جهة غير المدعي بتفسيره.(10/275)
-----
وكذلك لو شهد شهود صاحب اليد على إقرار المدعي أن رجلاً دفعها إليه؛ اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً، ولو قال شهود المدعى عليه: نعرف المودع باسمه ونسبه، ولا نعرفه بوجهه، فهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لجواز أن يكون الدافع هو المدعي، وقال بعضهم: تندفع، وهكذا ذكر في كتاب «الأقضية»؛ لأن القاضي سأل المدعي هل هو بهذا الاسم والنسب؟ فإن قال: لا، ظهر أنه غير المودع، وظهر بهذه البينة وصوله إلى يده من جهة غير المدعي.
ولو قال الذي في يديه: أودعنيها فلان لرجل معروف، وشهد شهود أن رجلاً أودعها إياه، قالوا: لا تقبل هذه الشهادة لعدم الموافقة بين الدعوى والشهادة، والاحتمال أن الدافع هو المدعي.
ولو قال شهود صاحب اليد: نعرف المودع بوجهه واسمه، ونسبه، ولكن لا نشهد به لا تندفع الخصومة أيضاً، لأنهم أخبروا أن عندهم شهادة ولم يشهدوا، وبإخبار الشاهد أن عنده شهادة لا يثبت شيء شهد به، ولو شهد شهود صاحب اليد أن فلاناً دفعها إليه، ولم يقولوا: إنها ملك فلان، أو قالوا: لا ندري لمن هي اندفعت الخصومة عن ذي اليد؛ لأنه ثبت بهذه الشهادة أنه وصل إليه من جهة فلان، وأن يده يد نيابة، ويد النيابة ليست بيد خصومة.
وكذلك لو شهدوا على إقرار المدعي أن فلاناً دفعها إليه؛ اندفعت الخصومة عن ذي اليد؛ لأن بإقرار المدعي يثبت أن يد صاحب اليد ليست بيد خصومة.
وكذلك لو شهدوا على إقرار المدعي أنها لفلان، ولم يزيدوا على هذا وذو اليد يقول: فلان أودعنيها، اندفعت الخصومة عن ذي اليد لأن إقراره أنها لفلان ينقض دعواه الملك لنفسه، ولو شهد شهود ذي اليد على إقرار المدعي أنها لفلان إلا أن صاحب اليد لم يقبل بعد ذلك أن فلاناً أودعنيها، لم يذكر محمد هذا الفصل أيضاً.(10/276)
-----
قالوا: ويجب أن تندفع الخصومة عن صاحب اليد؛ لأنه لا يثبت وصول العين إلى صاحب اليد من جهة فلان وظهر بإقرار المدعي أن خصومة المدعي كانت مع فلان، فبعد ذلك أن يحول ملك الرقبة إلى صاحب اليد تتحول الخصومة إليه، وما لا فلا تتحول الخصومة إليه بالشك والاحتمال، وإن أقر المدعي أنها كانت في يد فلان ولكن قال: لا أدري أدفعها إلى هذا أو لا؟.
أو شهد الشهود على إقرار المدعي أنها كانت في يد فلان، ولا أدري دفعها إلى فلان أم (لا) فلا خصومة بينهما لأنهما اتفقا على أنها كانت في يد فلان والآن يراها في يد صاحب اليد ولم يعرف يد ثالث، فالظاهر أنها وصلت إلى يده من جهة فلان، فثبت تصادقهما على وصولهما إلى هذا من جهته أنها لفلان.
ولم يشهدوا أن فلاناً أودعها إياه فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة؛ لأنها قامت على إثبات الملك للغائب، وصاحب اليد ليس بخصم عنه في إثبات الملك له؛ لأنه لا حاجة له إلى إثبات الملك للغائب، إنما حاجته إلى وصول الثمن إلى يده من جهة فلان والشهود لم يشهدوا بذلك، فلا تندفع عنه الخصومة.
ولو أقام المدعي بينة في هذه المسائل على سبيل دفع بينة صاحب اليد أن صاحب اليد ادعاها لنفسه، لم تقبل من صاحب اليد بينة على الإيداع أصلاً؛ لأنه ثبت ببينة المدعي إقرار ذي (اليد) بكونه خصماً فصاحب اليد ببينته على الإيداع بعد ذلك يريد إخراج نفسه عن الخصومة بعدما علم كونه خصماً فلا يقدر عليه.
وذكر في «المنتقى»: مسألة تدل على أن المودع ينتصب خصماً.(10/277)
-----
وصورتها: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله: عن رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره وقدمه إلى القاضي، وصيره القاضي خصماً له إلا أنه لم يقم بينة، ثم أن المدعى عليه ذهب وباع الدار وسلمها إلى المشتري، ثم المشتري وكل فيها وكيلاً وغاب، ثم عزل هذا القاضي أو مات وولى قاضٍ آخر فتقدموا إليه، وأقام المدعي بينة أنه قد كان خاصمه إلى القاضي الأول، ثم باعها، فهذا القاضي يجعل الوكيل خصماً فيه.
قال الحاكم أبو الفضل: لم يرد بقوله؛ وكل فيها وكيلاً الوكيل بالخصومة وإنما أراد به الوكيل بالحفظ، والوكيل المودع مع هذا جعله خصماً للمدعي.
قالوا: وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة في «الجامع»: تدل على أن المودع ينتصب خصماً للمدعي.
وصورتها: رجل مات وترك ثلاثة بنين، وداراً فغاب اثنان منهم، وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وترك ميراثاً لي ولأخوي، فلان وفلان، فاقتسمنا الدار بيننا أثلاثاً، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما.
فقال المدعي: هذه الدار كانت في يد أبيكم إلى أن مات قسمتم الدار بينكم، ثم إن أخواك أودعاك نصيبهما ولكن الدار لي، وأقام المدعي البينة أن الدار داره قبلت بينته، وقضى بالدار للمدعي، وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر، ويد المودع ليست يد خصومة، وليس الأمر كما قالوا، والوجه لمسألة «الجامع»: أن كون المودع غير خصم في حق المدعي، من حيث إنه مودع لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً ثم إن المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك الشيء، ثم قامت البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته.(10/278)
-----
وفي مسألة «الجامع »ما يحصل الابن الحاضر خصماً في كل الدار؛ لأن الدعوى في الحقيقة على الميت، والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت بخلاف المسائل التي تقدم ذكرها في أول هذا النوع؛ لأن هناك لم يوجد ما يوجب كون المدعي خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لم يصلح خصماً.
ومما يتصل بهذا النوع
دار في يدي رجل ادعاها أنها داره وأقام البينة على ذلك، وقال ذو اليد: إنها دار فلان وأنه (211ب4) أسكنيها، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أن الدار التي في يد هذا داره، وأنه أسكنها هذا الذي في يديه، فلا خصومة بينهما لأنه ثبت وصول الدار إلى يد المدعى عليه من جهة من غاب على وجه لا يفيد الملك في الرقبة؛ لأن الإسكان والإعارة سواء، والإعارة لا تفيد الملك في الرقبة، ولم يشهدا أن فلاناً أشهدنا أن الدار التي في يد هذا داره، وأنه أسكنها هي في يديه، إلا أنا لم نره دفع الدار إليه أم لا؛ لكن علمنا أن الدار كانت في يد هذا الذي في يديه اليوم يومئذٍ، فلا خصومة بينهما أيضاً حتى يحضر الغائب، لأن الشهادة بالإسكان، والدار في يد الساكن يوم الإسكان شهادة بالتسليم.
كما أن الشهادة بالهبة، والدار في يد الموهوب له يوم الهبة شهادة بالهبة والتسليم، حتى أن الشهود إذا شهدوا أن هذا الرجل وهب هذا لهذا المدعي وكان العبد في يد المدعي يوم الهبة يجب القضاء بالهبة؛ كما لو شهدوا بالهبة والتسليم، فصار هذا الوجه نظير الوجه الأول.(10/279)
وإن شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه الدار اليوم، ولم نعلم يوم الإسكان أن الدار في يد من، ونعلم الآن أنها في يد هذا المدعي عليه، فلا خصومة بينهما أيضاً حتى يحضر الغائب، لأنهم شهدوا بالإسكان، والقبض ثابت للمشهود له معاينة،ولم يعرف لثبوت يده جهة أخرى سوى ما شهد به الشهود، وهو الإسكان، فيحال به على ذلك بالإسكان.(10/280)
-----
وهو معنى قول المشايخ: إن القبض إذا ظهر عقيب عقد يحال به على ذلك العقد مالم يعرف له سبب آخر، وإذا أحلنا بالقبض على الإسكان صار كأنهم شهدوا بالإسكان والتسليم.
وهو نظير ما ذكر في كتاب الهبة، لو أن رجلاً في يديه عبد ادعى أن فلاناً وهب هذا العبد منه، ولم يزيدوا على هذا، فالقاضي يقبل شهادتهم ويجعل كأنهم شهدوا بالهبة مع القبض كذا هاهنا، ولو شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه اليوم، ونحن علمنا يوم الإشهاد أنها لم تكن في يد المسكن ولا في يد هذا الساكن بل كانت في يد فلان، يعني به إنسان آخر، وفي هذا الوجه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن الشهود إنما شهدوا بإسكان باطل، لأن الإسكان إنما يصلح بالقبض من جهة المسكن، ولم يثبت القبض من جهة المسكن لا بالشهادة ولا بالمعاينة أما بالشهادة فظاهر.
وأما بالمعاينة، فلأن القبض المعاين للذي الدار في يديه ثابت من حيث الظاهر من جهة من شهد الشهود أنها كانت في يده لا من جهة المسكن، فتكون هذه الشهادة بإسكان باطل، فيكون وجوده والعدم بمنزلة، فإن قال المدعي في الوجه المتقدم وهو ما إذا شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه الدار، ولم يعلم يوم الإسكان أن الدار في يدي أنا أقيم البينة أن هذه الدار يوم الإشهاد على الإسكان كان في يدي رجل آخر غير الذي أشهدهم على الإسكان، يريد بذلك إبطال الإسكان حتى لا يخرج الذي في يديه الدار من أن يكون خصماً للمدعي، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة.
(10/281)
-----
واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، فعبارة بعضهم أن المشهود له باليد في هذه الشهادة لو حضر وأقام البينة أن هذه الدار كانت في يده، لا تقبل منه هذه البينة ولا ينقض يد ذي اليد؛ لأن يد ذي اليد ثابتة معاينة، فإن كان يد فلان يد ملك يجب نقض ذي اليد، فلا يجب نقض يده بالشك، وإذا كانت هذه الشهادة لا تقبل من المشهود له في هذه الشهادة؛ فلأن لا تقبل من المدعي أولى، وعبارة بعضهم أنه ليس غرض المدعي من هذه الشهادة إثبات اليد لغير المسكن؛ لأنه ليس بخصم عنه في إثبات اليد له، وإنما غرضه نفي اليد عن المسكن يوم الإشهاد على الإسكان والشهادة على النفي لا تقبل.
وحكي أن مشايخ بخارى سئلوا: عن رجل ادعى أن أرضه هذه حرة، وأقام على ذلك بينة، فأجاب أكثرهم بقبول هذه الشهادة، وأجاب بعضهم بعدم قبولها، وقاسه على هذه المسألة، وهذا لأن مقصود الشهود في مسألة الأرض في شهادتهم على حرية الأرض، نفي الخراج عن الأرض، كما أن قصد المدعي في مسألتنا نفي اليد عن المسكن يوم الإشهاد، فكانت هذه الشهادة قائمة على النفي، فنظر إلى المقصود فرجعوا إلى قول هذا القائل، واتفقوا على عدم قبول هذه الشهادة.
وأنا أقول: هذه العبارة الثانية، وجواب مسألة الخراج يشكل بالشهادة القائمة على الإفلاس، فإنها مقبولة بلا خلاف، مع أنها قامت على النفي نظراً إلى ما هو المقصود.
وفي «نوادر عيسى بن أبان»: رجل ادعى داراً في يدي رجل فقال الذي في يديه: إن فلاناً أودعنيها، فقال المدعي: قد كان فلان أودعكها، ولكنه وهبها لك بعد ذلك أو باعكها، فإن القاضي يستحلف الذي في يديه بالله ما وهبها فلان لك ولا باعها منك بعدما أودعها منك، فإن نكل عن اليمين جعله خصماً فيها.
قال: ألا ترى أن المدعي لو أقام بينة أن فلاناً باعها من الذي في يديه بعدما كان أودعها إياه قبلت بينته وجعل الذي في يديه خصماً له فكذا إذا نكل عن اليمين قال: ولا يشبه هذا الوكالة.(10/282)
-----
وصورتها: رجل آتى رجلاً وقال: إن لفلان عندك ألف درهم، وأنا وكيله في قبضها منك، وقال المدعى عليه: صدقت لفلان عندي ألف درهم وديعة إلا أنك لست بوكيل في قبضها؛ لم يكن للمدعي أن يحلفه على الوكالة لأنه يدعي لغيره، وإنما استحلفه في الأول؛ لأنه ادعاه لنفسه فادعى أن هذا خصمه فيه.
رجل في يديه وديعة لرجل وادعى أنه وكيل المودع بقبضها، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه الوديعة بينة أن المودع قد أخرج هذه من الوكالة، قبلت بينته، وكذا إذا أقام بينة أن شهود الوكيل عينه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل في يديه داراً ادعاها رجل فأقام الذي في يديه الدار بينة أن فلاناً الغائب ادعى هذه الدار واستحقها من يده، ودفعها إليه القاضي، ثم إن المستحق أخرجها من الذي في يده؛ فإنه لا تقبل منه هذه على ما ادعى.
علل فقال: لأنها في يديه وهي لا تدفع عن نفسه الخصومة بها، والوجه في ذلك أن صاحب اليد لما قال: إن فلاناً الغائب ادعى هذه الدار واستحقها من يده، فقد أقر أن يده يد خصومة في هذه الدار، ثم بقوله أخذها فلان مني يريد إخراج نفسه عن الخصومة، فلا يصدق على ذلك، ولا تسمع بينته عليه والله أعلم.
القسم الثاني إذا وقعت الدعوى في العبد بعد هلاكه
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: وإذا كان العبد في يدي رجل مات جاء رجل وأقام بينة أنه عبده، وأقام الذي مات العبد في يديه أن العبد كان وديعة في يديه من جهة فلان، أو كان بإجارة في يديه من جهة فلان أو عارية، فإنه لا تندفع الخصومة ويقضي القاضي بقيمة العبد للمدعي، فرق بين هذا وبين ما إذا وقع الدعوى في العين حال قيام العين، وباقي المسألة بحالها فإنه تندفع الخصومة عن ذي اليد.(10/283)
-----
والفرق: أن العين إذا كان قائماً، والدعوى تقع في العين، والمدعى عليه إنما ينتصب خصماً له في العين بظاهر يده، فإن ظاهر اليد تدل على الملك، إلا أنه يحتمل أنه ليس بذلك، وبإقامة البينة على أن العين وديعة عنده ظهر أن يده ليست يد ملك فيندفع عنه الخصومة، أما إذا كان العين هالكاً فالدعوى تقع في الدين، ومحل الدين الذمة فالمدعى عليه ينتصب خصماً للمدعي بذمته، وإنما أقام المدعى عليه من البينة أن العين كانت في يده وديعة لا يتبين أن في ذمته لغيره، فلا تتحول الخصومة عنه.
ألا ترى أن القاضي يقضي بالقيمة على مودع الغاصب وإن كان يده في العين يد غيره.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يقضي القاضي بقيمة العبد هاهنا؛ لأنه لا يمكن القضاء بقيمة العبد للمدعي إلا بعد القضاء له بملك العبد له لا يجوز أن يكون قيمة العبد لإنسان (212أ4) ويكون الملك في العبد لغيره وقد تعذر القضاء هاهنا للمدعي بملك العبد؛ لأن ذا اليد أثبت أن يده في العبد ليست يد ملك، وأن الملك في العبد للغائب.
كما قال محمد في عبد في يدي رجل ذهب عبده يده لو فقيت عينه أو قطعت يده أقام الرجل بينة أن هذا العبد عبده، وأراد أن يأخذ العبد وأن يضمن الذي العبد في يده نصف قيمة العبد، فأقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً قد كان أودع هذا العبد إياه قبل ذهاب العين واليد؛ فإنه يندفع عنه الخصومة في أرش اليد والعين وإن ادعى الأرش ديناً في ذمته؛ لأنه لا يمكنه القضاء بالأرش إلا بعد القضاء بملك العبد للمدعي؛ لأنه لا يجوز أن يكون الأرش لإنسان، والعبد لغيره، فإذا تعذر القضاء بملك العبد؛ لأن صاحب اليد أثبت أن يده في يد غيره تعذر القضاء بالأرش كذا هاهنا.(10/284)
-----
قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في الجواب عن هذا الإشكال، فعبارة بعضهم أن هذا الإشكال إنما يتأتى إذا تعذر القضاء بملك العبد للمدعي كما في المسألة التي وقع الإشهاد بها؛ لأن هناك تعذر القضاء بملك العبد للمدعي؛ لأن العبد حي قائم، وقد ثبت ببينة ذي اليد أن الملك في العبد للغائب فلو قضينا بالعبد للمدعي كان في هذا استحقاقاً على الغائب، والاستحقاق على الغائب لا يجوز.
وإذا تعذر القضاء بالعبد للمدعي تعذر القضاء بالعين الفائتة للمدعي إذ يستحيل أن يكون العبد لإنسان ويكون عينه لآخر، وإذا تعذر القضاء بالعين الغائبة للمدعي تعذر القضاء بالأرش له، أما في مسألتنا أمكن القضاء بالعبد للمدعي، وإن ثبتت ببينة ذي اليد أن العبد للغائب، فيكون القضاء بالعبد للمدعي قضاءً على الغائب إلا أن القضاء على الغائب إنما لا يجوز إذا كان فيه استحقاق شيء له، وإيجاب شيء على الغائب، فأما إذا لم يكن فيه استحقاق شيء على الغائب يجوز القضاء على الغائب لأن العبد ميت، والميت لا يمكن أن يستحق على الغائب فظهر الفرق بين الفصلين من هذا الوجه.
وعبارة بعضهم: ليس من ضرورة القضاء بقيمة العبد للمدعي، القضاء بملك العبد للمدعي إذ يجوز أن يكون العبد لإنسان وبدله لغيره.
ألا ترى إلى ما قال أصحابنا في رجل قال لغيره: بعت منك هذا العبد الذي في يديك بألف درهم، ولي عليك ألف درهم، فقال ذلك الرجل: ما بعته مني، وما اشتريته أنا؛ وأنا بريء مما تقول لا علم لي به قط، فأقام المدعي بينة على ذلك وجب على المنكر ثمن العبد ولم يكن العبد ملكاً له.
وكذلك قالوا في رجلين ادعى كل واحد منهما على رجل واحد؛ أني بعت منك هذا العبد بألف درهم، وكانت الدعوى منهما في عبد واحد بعينه، وأنكر المدعى عليه ألفا درهم، لكل واحد منهما ألف درهم.(10/285)
-----
ولو كان وجوب البدل باعتبار العين لوجب ألف درهم بينهما، فعلم أن وجوب البدل ليس باعتبار العين، فلم يكن من ضرورة القضاء بالقيمة القضاء بملك العبد، فأما من ضرورة القضاء بالأرش للمدعي بالعين الفائتة له، ومن ضرورة القضاء بالعين الفائتة له القضاء بكل العبد له، إذ يستحيل أن يكون كل العبد لإنسان وعينه تكون لآخر، وتعذر القضاء بكل العبد للمدعي؛ لأن فيه قضاء على الغائب.
ثم إذا قضى القاضي بالقيمة للمدعي، وأخذ المدعي القيمة من المدعى عليه؛ حضر الغائب وصدق المدعى عليه فيما كان ادعى أن العبد كان عبده وديعة، أو إجارة أو رهناً من جهته، كان له أن يرجع بما ضمن من القيمة على الغائب الذي حضر، وهذا الجواب لا يشكل في الرهن والوديعة، لأن المودع في قبض الوديعة عامل للمودع من كل وجه، فإن منفعة الحفظ عائدة إليه من كل وجه.
والأصل: أن من عمل لغيره عملاً ولحقه بذلك غرم يرجع بالغرم على المعمول له، إنما يشكل في الإجارة لأن المستأجر في قبض المستأجَر عامل لنفسه من كل وجه؛ لأنه قبضه ليستوفي منفعته، فكان يجب أن لا يرجع بما ضمن على الآجر كالمستعير والغاصب إلا أن الجواب عنه أن المستأجر كما هو عامل لنفسه فهو عامل للآجر إنما يجب ويتأكد استيفاء المنفعة، إلا أن ما للآجر من المنفعة أكثر؛ لأنه يحصل له الأجر وإنه عين مال.
والحاصل للمستأجر المنفعة، والعين خير من المنفعة، فكان الرجحان لجانب الآجر، فاعتبر قبض المستأجر واقعاً للآجر من هذا الوجه، بخلاف ما إذا كان العبد في يد صاحب اليد بعارية أو غصب حيث لا يرجع بما ضمن على الغاصب؛ لأن الغاصب في القبض عامل لنفسه من كل وجه.
وكذلك المستعير في القبض عامل لنفسه من كل وجه، لأن منفعة كل واحد منهما حاصلة له من كل وجه.(10/286)
-----
ومن عمل لنفسه عملاً ولحقه بذلك عهدة كان قرار العهدة عليه هذا إذا صدق الغائب صاحب اليد في إقراره أن العبد وصل إليه من جهته، فأما إذا كذبه في إقراره أن العبد وصل إليه من جهة بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فلا رجوع له على الغائب ما لم يقم البينة على ما ادعى من الإجارة أو الوديعة أو الرهن؛ لأنه يدعي لنفسه ديناً على الغائب بسبب عمل عمل له، والغائب منكر ذلك.
ادعى عبداً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: هذا العبد وديعة في يدي من جهة فلان، فقال المدعي: سلم العبد إليَّ وأحضر فلاناً حتى أقيم البينة عليه، فدفع العبد عليه، وذهب ليجيء بفلان، فمات العبد في يد المدعي ثم جاء فلان وأقام بينة أنه عبده كان أودعه صاحب اليد، وأقام المدعي بينة أنه عبده، فالبينة بينة فلان؛ لأن فلاناً يثبت الضمان ببينته محتجاً بالأخذ بغير حق، والمدعي ينفي ذلك، ولو كان العبد حياً يؤمر المدعي بدفع العبد إلى مكان المقر له ويقال للمدعي: أقم البينة عليه.
القسم الثالث إذا وقعت الدعوى في العبد بعد إباقه
عبد في يدي رجل أبق من يده جاء رجل وادعى أنه عبده، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة على أنها وديعة في يديه من جهة فلان إلى آخر المسألة، فالجواب فيه؛ كالجواب في فصل الموت، لأن الإباق يوجب ضمان القيمة كالهلاك؛ دليله: المغصوب إذا أبق، فكل جواب ذكرناه في الموت فهو الجواب في الإباق.
ثم في فصل الإباق إذا قضى القاضي بقيمة العبد للمدعي على الذي كان العبد في يديه ثم عاد العبد من الإباق.
ففي فصل الوديعة والإجارة والرهن يعود على ملك الغائب، وفي الغصب والعارية يعود على ملك الذي كان في يده، لأن الملك في المضمون إنما يثبت لمن كان قرار الضمان عليه، وفي الوديعة والإجارة والرهن قرار الضمان على الغائب، وفي العارية والغصب قرار الضمان على الذي كان العبد في يديه.(10/287)
-----
فإن قيل: كان ينبغي أن يؤمر الذي كان العبد في يديه برد العبد على الغائب في فصل الغصب والعارية؛ لأنه لما أقر أنه غصب من الغائب أو استعار منه، فقد أقر أن رده واجب عليه إلا أنه كان عاجزاً عن الرد مادام آبقاً، فإذا عاد إلى يده وقدر على الرد لزمه الرد عليه.g
فهذا كما قالوا فيمن اشترى عبداً قد أقر أنه ملك البائع، واستحق العبد من يد المشتري بالبينة، ثم إنه عاد إليه بسبب من أسباب الملك إن كان بعدما قضى القاضي بفسخ البيع لزم المشتري رد العبد على البائع، وإن كان قبل أن يقضي القاضي بفسخ البيع، فإن المشتري يرد الثمن على البائع إن كان قد رجع على البائع بالثمن.
قلنا: الأمر كما قلت إلا أن القاضي لما قضى على صاحب اليد بالعبد للمدعي حين قضى عليه بقيمة العبد، فقد كذبه في إقراره أن عليه رد العبد على الغائب بسبب الغصب، وقضاء القاضي بالعبد للمدعي في هذه (212ب4) الصورة نفذ ظاهراً وباطناً؛ لأن صاحب اليد أقر بالغصب من الغائب، للإقرار بالملك للغائب؛ لأن الإنسان كما يغصب من المالك؛ يغصب من غير المالك.
كالمودع والأب والوصي والغاصب. وإذا تصور الغصب من غير المالك لم يكن في زعم صاحب اليد أن العبد ملك الغائب، وأن شهود المدعي شهود زور امتنع نفاذ القضاء بها بالملك المرسل للمدعي باطناً، فنفذ القضاء ظاهراً وباطناً بالعبد للمدعي، وثبت تكذيب القاضي في إقراره أن رد المعيب واجب عليه والإقرار يبطل بتكذيب القاضي بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك المشتري أقر بملك العبد للبائع نصاً، فكان في زعمه أن شهود المدعي شهود زور، وقد قامت على ملك مرسل.
(10/288)
-----
والقضاء بشهادة الزور في الأملاك المرسلة لا ينفذ باطناً، وإذا لم ينفذ قضاء القاضي باطناً ثمة في زعم المشتري لم يصر المشتري مكذباً من جهة القاضي، فيما أقر من الملك للبائع بزعمه، فبقي إقراره صحيحاً كما كان، فوجب الرد على البائع إذا وصل إلى المشتري بحكم إقراره.
وزان مسألة المشتري من مسألتنا؛ أن لو اشترى ولم يقر بالملك للبائع نصاً، وهناك إذا عاد العبد إلى يد المشتري يوماً من الدهر لا يؤمر بتسليمه إلى البائع؛ والله أعلم.
القسم الرابع وإذا وقعت الدعوى في العين بعدما وهب طرف من أطرافه؛ إذا وقعت الدعوى في الجارية بعدما ولدت وماتت الجارية
صورة الأول: عبد في يدي رجل ذهبت عينه عنده فأقام رجل البينة أنه عبده، وأراد أخذ العبد، وأن يضمن الذي في يديه العبد نصف قيمة العبد بذهاب العين في يده، فأقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً أودعه إياه قبل ذهاب عينه، فلا خصومة بينهما، ولا في الأرش حتى يحضر الغائب، وقد مر الوجه فيه.
صورة الثانية: جارية على يدي رجل ولدت ولداً وماتت الجارية، وأقام رجل البينة أن الجارية جاريته، وأنها ولدت هذا الولد في ملكه، وأقام الذي كانت الجارية في يده أن فلاناً أودعها إياه قبل أن تلد فولدت عنده، فإن القاضي يقضي بقيمة الجارية للمدعي على ذي اليد لما مر، ولا يقضي بالولد له، حتى يحضر الغائب؛ لأن الولد عين في يده، فهو إنما ينتصب خصماً في الولد بحكم اليد، وقد أثبتت بينته أن يده في الولد يد أمانة.
قال محمد رحمه الله: عقيب ذكر هذه المسألة: ولا يشبه الولد في هذا أرش العين؛ لأن الولد يجوز أن يكون لإنسان والجارية لآخر، ولا يجوز أن تكون الجارية لإنسان، وأرش عينها لآخر؛ يريد بهذا أن القضاء بملك الجارية للمدعي يمكن بدون الولد لا يجوز أن تكون الجارية لإنسان والولد لآخر.(10/289)
-----
ألا ترى أن من أوصى بما في بطن الجارية لإنسان صحت الوصية، وكانت الجارية للموصي، والولد للموصى له، فلم يكن من ضرورة تعذر القضاء بالولد، تعذر القضاء بالجارية، ولا من ضرورة القضاء بالجارية، القضاء بالولد.
وكان بمنزلة ما لو ادعى عبدين أحدهما غير متولد من الآخر، وقد هلك أحدهما في يده دون الآخر، فأقام المدعي بينة على دعواه، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً أودعها إياه، فإنه يقضي عليه بقيمة ما هلك في يده للمدعي، ولا يقضي له بالقائم بالطريق الذي قلنا؛ كذا هاهنا.
أما القضاء بملك العبد للمدعي بدون الأرش غير ممكن؛ إذ لا يتصور أن يكون العبد لإنسان وأرش عينه لآخر، فكان من ضرورة تعذر القضاء بالعبد، تعذر القضاء بالأرش على ما بينا.
فإن قيل: من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية بالبينة للمدعي القضاء بولدها للمدعي. ألا ترى أن من ادعى جارية في يد إنسان ملكاً مطلقاً، وأثبت ذلك بالبينة ولها ولد، فإنه يستحق الجارية مع الولد؟ فدل أن من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية للمدعي بالبينة القضاء بالولد للمدعي، وإذا تعذر القضاء بالولد للمدعي؛ لأنه أثبت كونه مودعاً في الولد؛ يجب أن يتعذر القضاء بملك الجارية للمدعي أيضاً.
قلنا: من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية للمدعي بالبينة، القضاء بولدها للمدعي إذا كان الولد في ملك المقضى عليه بالجارية من حيث الظاهر وقت القضاء بالجارية.
قلنا: إذا لم يكن في ملكه بأن كان باع الولد أوهبه من غيره، فإنه يقضى بالجارية، ولا يقضى بالولد، وهذا لأن القضاء بمطلق ملك الجارية إنما يكون قضاء بالولد؛ لأن القضاء بمطلق ملك الجارية قضاء بأولية الملك، وإذا قضى بأولية الملك في الجارية كان الولد متولداً من ملكه إلا أن القضاء المطلق بالملك في الجارية إنما يكون قضاء بأولية الملك في الجارية في حق من كان مقضياً عليه بالجارية؛ لا في حق من لم يكن مقضياً عليه بالجارية.(10/290)
-----
ألا ترى أن غير المقضي عليه إذا ادعى الجارية بعد ذلك ملكاً مطلقاً يسمع دعواه؟ قلنا: والمقضى عليه بالجارية من قامت عليه البينة بالجارية أن من لم تقم عليه البينة بالجارية، والذي صار الولد له بالبيع أو الهبة قبل القضاء بالجارية للمدعي لم تقم البينة بالجارية، فلم يصر مقضياً عليه بالجارية، فلا يظهر القضاء بأولية الملك في الجارية للمدعي في حقه، فلا يظهر لولد الولد من ملك المدعي في حقه؛ فشرطنا كون الولد في ملك المقضى عليه بالجارية وقت القضاء بالجارية لصيرورة الولد مقضياً به من هذا الوجه.
إذا ثبت هذا فنقول في مسألتنا: الولد ليس في ملك المقضي عليه بالجارية وقت القضاء بالجارية للمدعي؛ لأنه أثبت الإيداع من الغائب في الولد فلم يبق الولد في ملكه من حيث الظاهر، فأمكن القضاء بملك الأم دون الولد، والله أعلم .
القسم الخامس من هذا النوع
جارية في يدي رجل قتلها عند رجل، فأقر الذي الجارية في يده أنها لفلان الغائب أودعها إياه؛ كان له أن يخاصم مولى العبد الجاني بالدفع أو الفداء، وهذا لأن المودع ينتصب خصماً من المودع فيما يستحقه المودع لأنه أمر بالحفظ والخصومة فيما يستحق للمودع من حفظ الوديعة فينتصب خصماً فيه.(10/291)
ألا ترى لو غصب الوديعة منه غاصب كان له أن يخاصم الغائب، ويسترد الوديعة من يده، وطريقه: أن استرداد الوديعة من الغاصب من باب الحفظ، والمودع مأمور بالحفظ، فإن دفع مولى العبد؛ العبد بالجناية ثم أقام رجل البينة أن الجارية كانت جاريته، وأقام الذي كانت الجارية في يديه أنها كانت وديعة عنده من جهة فلان، فالقاضي يقول للمدعي: ماذا تريد؛ أخذ العبد أو تريد أخذ قيمة الجناية؟ وإنما خيره لأن المدعي لما أقام البينة أن الجارية ملكه ظهر أن ذا اليد كان غاصباً لها، والجارية المغصوبة إذا قتلها عبد في يد الغاصب، وأخذ الغاصب العبد كان لمولى الجارية الخيار؛ لأنه لم يجد عين ماله كذا هاهنا.(10/292)
-----
وإن قال: أريد أخذ عين العبد فلا خصومة بينهما؛ لأن العبد المدفوع بالجناية يقوم مقام الجارية لحماً ودماً كأنه هي، ولو كانت الجارية قائمة في يد ذي اليد، وأقام ذو اليد بينة على الإيداع من الغاصب لم يكن ذو اليد خصماً له؛ فكذا إذا أقام العبد مقامها.
وإن قال: أريد أخذ القيمة كان خصماً له ويقضى له بقيمة الجارية؛ لأنه ادعى ديناً في الذمة بسبب عين كان في يده، وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وإن أقام البينة على الإيداع، وقد مر هذا من قبل.
وإذا قضى القاضي بقيمة الجارية على ذي يد، وأخذها المدعي من ذي اليد ثم حضر الغائب، وأقر بالوديعة أخذ العبد من يد ذي اليد؛ لأنه قام مقام ملكه، ويرجع ذو اليد على الغائب بما ضمن للمدعي من قيمة الجارية.
ولو أن الجارية لم يقتلها العبد، ولكن قطع يدها ودفع العبد باليد والمسألة بحالها لم يكن بينهما خصومة حتى يحضر الغائب لا في الجارية، ولا في العبد، أما في الجارية فظاهر، وأما في العبد لأن العبد بدل اليد فكان كالأرش (213أ4) وذكرنا أنه متى تعذر القضاء بملك الأصل يتعذر القضاء بملك الأرش.
النوع الثاني من هذا الفصل
أن يدعي المدعي مع دعوى الملك المطلق فعلاً، وهذا النوع ينقسم أقساماً أيضاً:
القسم الأول
أن يدعي الفعل على ذي اليد بأن قال ذو اليد: هذا العين ملكي غصبته مني، أو قال: أودعنيه منك، أجرته منك، أو ما أشبه ذلك، وقال ذو اليد: إنه لفلان وصل إلى يده بجهة كذا على نحو ما بينا، وفي هذا الوجه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد فرق بينما إذا ادعى فعلاً على ذي اليد، وبينما إذا ادعى ملكاً مطلقاً، ولم يدع الفعل على ذي اليد، فإن هناك إذا أقام ذو اليد بينة على أنه لفلان الغائب وصل إليه بوديعة أو إجارة أوما أشبه ذلك، فإنه تندفع الخصومة عن ذي اليد.(10/293)
-----
والفرق: أن في دعوى الملك المطلق صاحب اليد انتصب خصماً بيده؛ لأن دعوى الملك المرسل لا يصح الا على ذي اليد.
فإنه لو ادعى داراً في يدي رجل وليس في يده دار، لا تصح دعواه فعلم أن في دعوى الملك المطلق صاحب اليد إنما انتصب خصماً بحكم يده ويده تردده بين أن يكون له فيكون خصماً وبين أن يكون لغيره، فلا يكون خصماً وبما أقام من البينة أثبت أن يده يد غيره إنها وليست بيد خصومة، إنما هي يد حفظ.
أما في دعوى الفعل، صاحب اليد إنما ينتصب خصماً بدعوى الفعل عليه وهو الغصب لا بحكم اليد، ألا ترى أن دعوى الغصب كما يصح على ذي اليد يصح على غير ذي اليد حتى أن من ادعى على آخر أنه غصب عبده وليس في يده عبد، صحت دعوته ويلزمه القيمة، قال: وفعله لا يتردد بين أن يكون لغيره حتى يقال: بهذه البينة تبين أن فعل صاحب اليد فعل غيره؛ بل فعله مقصور عليه، وبهذه البينة لا يتبين أن الفعل لم يكن موجوداً، فلهذا قال: لا تندفع الخصومة.
عبارةٌ أخرى: في الفرق أن بينة صاحب اليد إنما تقبل إذا كانت بينته تحيل خصومة المدعي إلى غيره، أما إذا كان ببينته تبطل خصومته فلا تقبل بينته، لأن اليد للإحالة لا للإبطال إذا ثبت هذا فنقول: إذا وقعت الدعوى في الملك المطلق فالمدعي ببينته يثبت استحقاق ملك الرقبة، فإذا أقام ذو اليد البينة أن الرقبة لغيره، فإن يده في الرقبة يد غيره تتوجه الخصومة على ذلك الغير.
فمتى قبلنا هذه البينة كان في هذا إحالة الخصومة إلى غيره وذلك صحيح، أما إذا وقعت الدعوى في الغصب على صاحب اليد، فالمدعي ببينته لا يثبت استحقاق الرقبة، وإنما يثبت وجوب الرد على صاحب اليد، فإن موجب الغصب وجوب الرد على الغاصب، والرد الواجب على الغاصب مما لا يمكن إحالته على غيره، فمتى قبلنا هذه البينة كان في هذا إبطال خصومة المدعي أصلاً، وإنه لا يجوز.(10/294)
-----
يوضحه: أن الدعوى إذا وقعت في الغصب، فالمدعي على صاحب اليد فعله، وهذه الدعوى لا تصح على غيره، فلا يصح إحالته على غيره، أما الدعوى إذا وقع في الملك المطلق فالمدعي رقبة العين وهذه الدعوى صحيحة على غيره فيصح إحالته عليه.
عبارة أخرى: الفرق أن الدعوى إذا وقعت في الفعل على صاحب اليد، فالمدعي ببينته يثبت على صاحب اليد أخذاً منه أو قبول عقد منه، وذلك كله يناقض دعواه أن فلاناً أودعه، أما إذا وقع الدعوى في الملك المطلق، فالمدعي ببينته يثبت ملك الرقبة لنفسه، وذلك لا يناقض دعوى صاحب اليد غيره، ثم إذا لم تندفع الخصومة عن صاحب اليد في هذا الفصل وقضى القاضي بالدار ثم حضر الغائب وأقام بينة أنها داره كان دفعها إلى صاحب اليد وديعة، فالقاضي يقضي للذي حضر بالدار، لأن الذي حضر لم يصر مقضياً عليه بالقضاء على صاحب اليد، لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد إنما يتعدى من ذي اليد إلى من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد أو إلى من كان ذو اليد خصماً عنه في الخصومة في الملك، والذي حضر لا يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليدز
وكذلك ذو اليد لم يكن خصماً عن الذي حضر، فلا يتعدى القضاء إلى الذي حضر، وكذلك أن صاحب اليد لو لم يقم بينة على ما ادعى؛ لأن ما يقبل وجوده مثل عدمه.
ثم إن محمداً رحمه الله: صحح دعوى القضاء في هذا الفصل قيل: إنه قول محمد، وقيل: إنه قول الكل، وكذلك فيما إذا وقعت الدعوى في الملك المطلق لو لم يقم صاحب اليد بينة على ما ادعى من الإيداع، وقضى القاضي بالدار للمدعي، لو حضر الغائب، وأقام بينة على أن الدار داره كان دفعها إلى صاحب وديعة، فالقاضي يقضي بالدار للذي حضر وطريقه ما قلنا.(10/295)
-----
قال: عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبد فلان أودعه إياه، فالقاضي يقضي بعتق العبد ولا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بما أقام من البينة إما لأن صاحب اليد انتصب خصماً للعبد بدعوى الفعل عليه وهو الإعتاق، وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد، بأقامة البينة على الإيداع من الغير.
أو لأن بينة المدعي أثبت إعتاق صاحب اليد، وإعتاقه ينقض دعواه أنه عبد فلان أودعه إياه، ثم يقضي القاضي بالملك لصاحب اليد حتى يقضي عليه بالعتق، وإن كان هو يجحد الملك لنفسه؛ لأن العبد يدعي العتق من جهة ذي اليد ولا يتمكن من إثبات العتق من جهة ذي اليد؛ إلا بإثبات الملك لذي اليد، فكان للعبد إثبات الملك في رقبته لذي اليد، وإن كان ذو اليد منكراً، ثم إذا قضى القاضي بعتق العبد لو حضر الغائب وأقام البينة على أنها داره، قبلنا بينته وقضينا بالدار له، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن البينة حجة شرعية فيجب العمل بها ما لم يضمن ذلك إبطال بينة اتصل بها قضاء القاضي، لأن البينة التي اتصل بها قضاء القاضي صارت حجة كاملة ليرجح جهة الصدق فيها على جهة الكذب، فلا يجوز إبطالها.
إذا ثبت هذا، فنقول في مسألة العتق: لو قضينا للغائب ببينته تبطل البينة التي أقامها العبد على العتق ضرورة؛ لأن العتق لم يبق محلاً لحدوث الملك فيه، فلو قضينا بالملك للغائب لظهر أن العتق لم يكن، فيظهر بطلان تلك البينة ضرورة، وقد اتصل بها القضاء فلا يجوز إبطالها، هذا المعنى في الملك المطلق، فإنا لو قضينا ببينة الغائب لا يظهر بطلان تلك البينة إذ لا يظهر أن الملك لم يكن ثابتاً للمدعي، ولعل كان الملك للمدعي، ثم صار للغائب وقت إقامة البينة، فلهذا افترقا.
والثاني من الفرق: أن القضاء بالعتق على ذي اليد قضاء على الناس كافة، وبيان ذلك من وجوه:(10/296)
-----
أحدها: أن العبد بالعتق يستحق رق نفسه؛ والرق واحد في حق الناس أجمع؛ لأنه محل الملك، وإنما يختلف حكماً باختلاف سببه، وسبب الرق لا يختلف بل هو شيء واحد وهو الشيء الأول والولادة من رقيقه.
ألا ترى أن الحكم المتعلق بالملك يبطل بتحديد سبب الملك كالرد بالعيب، فإنه إذا باع المشتري ثم اشتراه لا يرد على البائع الأول بعيب كان في يده، والحكم المتعلق بالرق يعود.
ألا ترى لو حلف بعتق عبده ثم باعه ثم اشتراه، ثم حنث؛ عتق العبد، وإذا كان واحداً وقضي به للمدعي يتناول قضاء الناس أجمع لأنه واحد، فلا يتصور مقضياً به للمدعي في حقه غير مقضي به في حق غيره مع كون الحجة حجة في حق الناس أجمع، والملك إذا اختلف جاز أن يقضي للمدعي بما كان لزيد، ويبقى فيه ما كان لعمرو غير مقضي به.
والثاني: القضاء بالعتق قضاء بسقوط مالية المحل؛ وهذا لا يتصور أن يكون ثابتاً في حق زيد دون عمرو، وكان قضاءً على الكل، وأما القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء بعدم الملك لذي اليد، وليس من ضرورة عدم الملك لذي اليد أن لا يكون ثابتاً لغيره.
والثالث: العتق، تعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة من أهلية الشهادة، وثبوت الولايات وغير ذلك فانتصب ذو اليد (213ب4) خصماً عن الناس كافة، فصار الغائب مقضياً عليه والإنسان متى صار مقضياً عليه في حادثة؛ لا يتصور أن يصير مقضياً له في تلك الحادثة، أما الملك المطلق لم تتعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة فلم يكن القضاء به على ذي اليد قضاء على الناس كافة فبقي الغائب على دعواه.
والرابع: في دعوى العتق حق الله تعالى؛ لأن حق الله تعالى يزداد بسبب العتق من إقامة الجمعة والأعياد والحدود، والزكاة والحج، ولهذا لا يجوز استرقاق الحر برضاه؛ لأن فيه حق الله تعالى وجمع الناس، كالنائبين عن الله تعالى في إثبات حقوقه من حيث إنهم عبيده.
(10/297)
-----
كالورثة نائبين عن الميت في إثبات الحقوق له عليه من حيث إنهم خلفاؤه، ثم بعض الورثة ينتصب خصماً عن الباقين فيما يدعي على الميت وله، فكذا هاهنا وجب أن يكون كذلك، فبهذا الاعتبار ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، ويصير الغائب مقضياً عليه بالقضاء على الحاضر، إلا أن في دعوى العتق دعوى إزالة الملك عن العبد، والملك في العبد من حق العبد، وبعض الناس لا ينتصبون عن الباقين في إثبات حقوقهم إلا بالتوكيل، أو بأن يدعي على الغائب ما يكون سبباً لثبوت ما يدعي على الحاضر، ولا يؤخذ هاهنا واحد منهما، فلا ينتصب ذو اليد خصماً عن الغائب، فلا يصير الغائب مقضياً عليه بهذا الاعتبار، فإذاً الغائب بأحد الاعتبارين صار مقضياً عليه، وباعتبار الآخر لم يصر مقضياً عليه، ولا يمكن أن يجعل مقضياً عليه، وغير مقضي عليه لما بينهما من التنافي فلا بد من ترجيح أحدهما، فنقول: ترجيح حق الله تعالى أولى لوجهين:
أحدهما: أن في مراعاة حق الله تعالى حق العبد، وهو صيرورته أهلاً للملك والشهادة، وفي مراعاة جانب الملك مراعاة حق واحد وهو حق مولى العبد.
والثاني: أنه اجتمع هاهنا ما يوجب الحرية، وما يوجب الرق، فترجح ما يوجب الحرية، كما لو اجتمعت هاتان البينتان في الابتداء، أما دعوى الملك المطلق فليس دعوى فيه حق الله بل هو دعوى حق العبد، وفي حقوق العباد لا ينتصب البعض خصماً عن البعض إلا بالطريق الذي قلنا، ولم يوجد ذلك هاهنا، فاقتصر القضاء على ذي اليد، ولم يصر الغائب مقضياً عليه.
واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب»: لإيضاح ما قلنا فقال: ألا ترى لو أن رجلاً ادعى عبداً في يدي رجل أنه عبده، وأقام البينة على ذلك وقضى القاضي بعتقه ثم جاء آخر وأقام بينة أنه عبده لم يقض ببينته؛ لأن في الفصل الأول (و) الثاني لم يصر مقضياً عليه ببينة الأول، وفي الفصل الثاني: صار مقضياً عليه ببينة الأول على ما ذكرنا.(10/298)
-----
قال: عبد في يدي رجل جاء رجل، وأقام بينة أنه عبده اشتراه من ذي اليد بألف درهم ونقد الثمن، وأقام صاحب اليد بينة أنه وديعة عنده من جهة فلان؛ لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن ذا اليد انتصب خصماً للمدعي بدعوى فعل عليه وهو البيع، فصار كما لو انتصب خصماً له بدعوى الغصب عليه.
فقد وضع محمد رحمه الله: هذه المسألة فما إذا ذكر المدعي في دعواه نقد الثمن، ولم يذكر قبض المبيع لا في دعوى المدعي ولا في شهادة شهود المدعي، ولا شك أن في هذه الصورة لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن المدعي ادعى عليه قولاً وهو الشراء، وهو باقٍ حكماً لبقاء حكمه، وهو وجوب تسليم المبيع إلى المشتري، فيبقى دعوى الفعل معتبراً، وذو اليد متى انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه لا يدفع الخصومة عنه بإقامة البينة على الإيداع من الغائب.
يوضحه: أن المدعي يدعي عليه وجوب التسليم وهو فعل في ذمته، والأفعال الواجبة في الذمة لا يتصور تحويلها إلى غيره، فلا يقدر على تحويل هذه الخصومة إلى غيره، فأما إذا ادعى الشراء والقبض منه، وقد شهد الشهود بالشراء والقبض من ذي اليد، والباقي بحاله هل تندقع الخصومة عن ذي اليد؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في مسألة العبد.
وقد اختلف المشايخ فيه، حكى القاضي الإمام أبو الهيثم عن القضاة الثلاثة: أبي حازم، وأبي سعيد اليزدي، وأبي طاهر الدباس رحمهم الله؛ أن الخصومة تندفع عن ذي اليد. وغيرهم من مشايخنا قالوا: لا تندفع.
وقد وضع محمد رحمه الله هذه المسألة في الدار في باب ما يكون الرجل فيه خصماً، وما يندفع عن نفسه، ونص في هذا الفصل على أنه تندفع الخصومة عن ذي اليد كما هو مذهب القضاة الثلاثة.g(10/299)
-----
ووجه قول القضاة: أن دعوى الشراء مع القبض دعوى الملك المطلق، إلا أن يرى أن إعلامه ليس بشرط لصحة البينة، حتى إن من قال لغيره: بعت منك عبداً بألف درهم وسلمته إليك، وأقام البينة على ذلك قبلت بينته، وإن كان العبد مجهولاً لأنه أقام البينة على البيع والتسليم؛ فكان دعوى الثمن لا غير، وهذا لأن الشراء ينتهي بالقبض، وبعد انتهائه لا يبقى
حتى يكون دعوى العقد فثبت أنه دعوى مطلق الملك وهذه الدعوى تندفع عن صاحب اليد بإحالة اليد إلى غيره، وجه قول غيرهم من المشايخ من وجهين:
أحدهما: وهو الفعل المذكور، وهو الشراء بقي معتبراً، ولم يصر كدعوى ملك مطلق، ولهذا لا يقضي القاضي للمدعي بالزوائد المنفصلة، ولا يرجع الباعة بعضهم على البعض، ولو جعل بمنزلة دعوى الملك المطلق لكان الأمر بخلافه.
الوجه الثاني: أن المدعي ببينته أثبت الشراء من صاحب اليد، وبيع صاحب اليد العبد من المدعي إقرار أن العبد مملوك له، فإن البيع قد صح، وإن العبد صار ملكاً للمشتري فيصير متناقضاً في دعوى الإيداع من الغائب، فإذا صار متناقضاً لا يسمع دعواه الإيداع، ولا يعتبر بالبينة بدون الدعوى فصار وجودها والعدم بمنزلة.(10/300)
-----
ولو انعدمت البينة على الإيداع أليس أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد؟ كذا هاهنا، ثم إذا لم تندفع الخصومة عن صاحب اليد في هذه المسألة على ما هو موضوع محمد، وهو ما إذا ذكر المدعي نقد الثمن ولم يذكر قبض البيع، ولم يشهد الشهود بقبض البيع أيضاً، ووجب القضاء بالعبد لمدعي الشراء، فقبل أن يقضي القاضي لمدعي الشراء بالعبد حضر المقر له، وصدق ذا اليد فيما أقر له به، فإن القاضي يأمر ذا اليد بدفع العبد إلى المقر له، ثم يقضي بالعبد لمدعي الشراء على المقر له، ولا يكلف مدعي الشراء إعادة البينة على المقر له، إنما يؤمر صاحب اليد بدفع العبد إلى المقر له؛ لأن الإقرار من صاحب اليد يكون العبد ملكاً للمقر له وحده في حال العبد ملكه ظاهراً بحكم يده، فاعتبر إقراره في حق نفسه فأمر بتسليم العبد إلى المقر له.
وأما لا يكلف مدعي الشراء إعادة البينة على المقر له؛ لأن بينته قد صحت ظاهراً، يكون صاحب اليد خصماً له من حيث الظاهر، واستحق هو القضاء بهذه البينة، فصاحب اليد بإقراره يريد إبطال البينة القائمة عليه، ويريد إبطال استحقاقه القضاء بهذه البينة، فلا يقدر عليه، واعتبر إقرار صاحب اليد في حق نفسه دون المدعي، وصار الغائب عند حضرته بمنزلة الوكيل بالخصومة عن ذي اليد، وهذا لأن صاحب اليد لما أقرَّ بالملك للغائب، والخصومة أبداً تكون إلى المالك، فقد فرض الخصومة إليه.
وصار حاصل مسألتنا في حق المدعي كان المدعي أقام البينة على ذي اليد فقبل أن يزكي شهوده، وقضي له بالعبد، وكَّل ذو اليد رجلاً بخصومة المدعي، ودفع العبد إليه، وهناك إذا زكيت الشهود يقضى بالعبد للمدعي، ولا يكلف المدعي إعادة البينة، كذا هاهنا.(10/301)
-----
ويكون المقضي عليه في هذه الصورة صاحب اليد دون المقر له، لأن المقر له بمنزلة الوكيل عنه، ولأجل هذا المعنى ظن بعض مشايخنا أن ما ذكر من الجواب في «الكتاب» قولهما؛ لا قول أبي حنيفة، لأنهما يريان جواز التوكيل، ولزومه من غير خصم، وأبو حنيفة لا يرى ذلك قصداً، والتوكيل هاهنا لا يثبت قصداً، وإنما يثبت حكماً للإقرار بالملك، وكم من شيء ثبت حكماً، ولا يثبت قصداً، فلهذا قضى القاضي للمدعي على صاحب اليد من غير إعادة البينة (214أ4) فإن قال المدعي: أنا أعيد البينة على المقر له كان له ذلك، وكان المقضي عليه في هذه الحالة المقر له لا ذا اليد.
بخلاف ما إذا قال المدعي: لا أعيد البينة، فإن المقضي عليه في هذه الصورة ذو اليد المقر لهز
والفرق: أن المدعي إذا لم يرضَ بإعادة البينة لم ينفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي كي لا يلزم إعادة البينة فكان وجود إقراره كعدمه، ولو عدم منه البينة كان المقضي عليه ذو اليد؛ لأن البينة قامت عليه، وهو لم يكن وكيلاً عن المقر له، فأما إذا قال: أنا أعيد البينة، فقد رضي ببطلان ما أقام على ذي اليد من البينة، فنفذ إقرار ذي اليد على المدعي، وثبت الملك للمقر له في حق المدعي، وصار المقضي عليه في هذه الحالة المقر له لا صاحب اليد.
فلو أن القاضي لم يقضِ بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام الذي حضر بينة على المدعي أن العبد عبده كان أودعه من صاحب اليد أو أقام البينة أن العبد عبده، ولم يقم البينة على الإيداع قبلنا بينته وقضينا بالعبد له وأبطلنا بينة مدعي الشراء؛ لأن الذي حضر أثبت بينته أن مدعي الشراء أقام البينة على غير الخصم.
فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل بينة الذي حضر على مدعي الشراء؛ لأن العبد في يد الذي حضر، وذو اليد إذا أقام بينة على أن ما في يده ملكه لا تقبل بينته لاستغنائه عن إقامة البينة يكون الملك ثابتاً له بظاهر اليد.(10/302)
-----
قلنا: بينة الذي حضر عندنا لا تقبل لإثبات الملك لنفسه وإنما تقبل بإبطال بينة مدعي الشراء؛ لأن الذي حضر بينته يثبت أن المدعي أقام البينة على غير الخصم، وبينة ذي اليد على مقبولة كما لو أقام المدعي بينة بعد ذلك على إقرار المقر له؛ قبلت بينته، ويقضى بالعبد لأنه خارج، والمقر له ذو اليد والخارج مع ذي اليد؛ إذا أقاما البينة والخارج يدعي الشراء من خارج آخر تقبل بينة الخارج، ويقضى له على ذي اليد كذا هاهنا هذا إذا أقام المقر له بينة قبل القضاء للمدعي.
فأما إذا أقام بينته بعد القضاء للمدعي لكن بالبينة التي قامت على صاحب اليد بأن لم يعد المدعي بينته على صاحب اليد قبلت بينته أيضاً، ويقضى له بالعبد على المدعي؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه، إنما المقضي عليه ذو اليد على ما مرَّ، فقبلت بينته.
فإن قال مدعي الشراء: أنا أقيم البينة على المقر له أن العبد كان لصاحب اليد، وإني اشتريته منه، فهذا على وجهين: إما إن أعاد البينة بعد ما قضى القاضي للذي حضر ببينته أو قبل ذلك، فإذا أعاد بعد القضاء لا تقبل بينته؛ لأن المدعي صار مقضياً عليه من جهة الذي حضر ببينة أقامها عليه وبينة المقضي عليه فيما صار مقضياً عليه لا تقبل، وإن أعاد قبل القضاء قبلت ببينته، وقضي بالعبد له لأنه لم يصر مقضياً عليه فينبغي أن تقبل بينته.
فإن قيل: كيف تقبل بينة المدعي في هذه الصورة؟ وإن الملك قد ثبت له بقضاء القاضي فكان مقيماً البينة على إثبات ما هو ثابت.(10/303)
-----
قلنا: إنما قبلت بينته ليصير المقر له مقضياً عليه بهذه البينة، فلا تقبل بينة المقر له بعد ذلك على هذا المدعي لا لإثبات الملك له مقصوداً بالبينة، ألا ترى أنه إذا أعاد البينة على المقر له قبلت، وإن لم يكن المدعي محتاجاً إلى البينة لإثبات الملك إنما قلت: ليصير المقر له مقضياً عليه، فلا يقبل بينته بعد ذلك على المدعي كذا هاهنا، ثم إن محمداً رحمه الله قال في الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام الذي حضر بينة أن العبد عبده كان أودعه من صاحب اليد قبلنا بينته؛ وقضينا بالعبد له، وأبطلنا بينة مدعي الشراء.
حكي عن الفقيه محمد بن حامد أنه كان يقول: ينبغي أن يقضى بالعبد بين الذي حضر وبين مدعي الشراء نصفان.
ووجه ذلك: أن اليد التي للذي حضر في العبد غير معتبرة، ألا ترى أن بينته قبلت على مدعي الشراء؟.
ولو كانت يده معتبرة لما قبلت بينته لأن بينة ذي اليد على دعوى الملك المرسل لا تقبل خصوصاً إذا كان ثمة بينة يعارضها أو نقول بعبارة أخرى: العبد وإن كان في يد الذي حضر حقيقة، فهو في يد صاحب اليد الأول حكماً.
ألا ترى أن المدعي لا يكلف إعادة البينة على الذي حضر، ولولا أنه جعل في الحكم كان في يد المقر، وألا يكلف إعادة البينة، فثبت بأن العبد إذا كان في يد الذي حضر حقيقة، فهو في يد صاحب اليد الأول حكماً، وإذا كان هكذا كان الذي حضر خارجاً في العبد كمدعي الشراء، وقد أقام كل واحد منهما البينة على أن العبد له، فينبغي أن يقضي بينهما نصفان.
وقال الفقيه محمد بن حامد: هذا بلغني أن ابن سماعة كتب بهذا إلى محمد بن الحسن، واحتج عليه بمسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله، وكتب في الجواب: إن الصحيح أن يقضي بالعبد بينهما نصفان.(10/304)
-----
حكي عن الشيخ الإمام أبي نصر الصفار أنه كان يقول: إن شيخنا أبا الهيثم ما كان يحكي لنا الطعن لكلام ابن سماعة في هذه المسألة، وإنما يحكي مما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وكان يقول ما ينبغي أن يكون في هذه المسألة طعن؛ لأن أكثر ما في الباب إنما يجعل الذي حضر خارجاً حكماً، والمدعي خارج حقيقة مع هذا القضاء ببينة الذي حضر أولى، ويجوز أن يترجح أحد الخارجين على الآخر على ما عرف.
وبيان وجه الترجيح هاهنا: أن مدعي الشراء يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد الأول، والذي حضر يدعي الاستحقاق على صاحب اليد الأول، ولهذا يثبت الترجيح لبينة الذي حضر؛ لأن الذي يدعي الاستحقاق على صاحب اليد يثبت بطلان تصرف صاحب اليد، وبيعه من المدعي، فبينته تثبت زيادة على بينة المدعي.
ونظيره ما قالوا: في عبد في يدي رجل، جاء رجل وأقام بينة أنه عبده ورثه من أبيه كانت بينة مدعي الشراء أولى؛ لأنه يدعي الاستحقاق على العبد، وهذا يدعي الاستحقاق من جهة الأب كذا هنا.
قال: فإن كان مدعي الشراء أقام شاهداً واحداً على الشراء من ذي اليد فأقر صاحب اليد أن العبد الغائب أودعنيه، وقبل أن يقيم شاهداً آخر حضر فلان وصدق صاحب اليد فيما أقر، وأمر بتسليم العبد إلى الذي حضر على ما مر، ثم إن المدعي أقام شاهداً آخر على الشراء قضى بالعبد له، ولا يكلف إعادة الشاهد الأول على الذي حضر، لأن إقامة الشاهد الأول على ذي اليد صح من حيث الظاهر، واستحق المدعي القضاء بشهادته عند انضمام شاهد آخر إليه، فلا يبطل هذا الاستحقاق بإقرار ذي اليد للمقر له ويكون المقضي عليه صاحب اليد لا الذي حضر؛ لأن الشاهد الثاني منضم إلى الشاهد الأول، أما الشاهد الأول غير منضم إلى الشاهد الثاني.
(10/305)
-----
بيانه: أن الشاهد الأول قام على من هو خصم من حيث الظاهر؛ وهو صاحب اليد، والشاهد الثاني قام على الذي حضر وأمكن أن يجعل الذي حضر مانعاً لصاحب اليد؛ لأن صاحب اليد وصي بتفويض الخصومة إليه فيمكن القضاء حينئذٍ، فضممنا الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول.
وجعلنا الشاهد القائم على الذي حضر كالقائم على صاحب اليد، وجعلنا الذي حضر كالوكيل عن صاحب اليد، أما لو ضممنا الشاهد إلى الشاهد الثاني لا يمكن القضاء؛ لأن الذي حضر لم يرض بخصومة صاحب اليد، فلم يكن أن يجعل صاحب اليد بيعاً للذي حضر، فلهذا ضممنا الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول، وإذا جعلنا كذلك صار كأن المدعي أقام الشاهدين على صاحب اليد، وهناك المقضي عليه صاحب اليد الذي حضر كذا هاهنا.
وما يقول محمد في «الكتاب»: إنه يقضى بشهادة الشاهدين على رب العبد أراد به القضاء في حق الأخذ، والانتزاع من يديه لا في حق الملك بدليل أنه ذكر بعد هذا أن الذي حضر (214ب4) وهو المقر له لو أقام البينة أن العبد عبده؛ قبلت بينته، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته، ولو أن مدعي الشراء لم يقم على صاحب اليد على الشراء لا شاهدين ولا شاهداً واحداً حتى أقر صاحب اليد أن هذا عبد فلان أودعنيه، ثم حضر المقر له وصدق صاحب اليد فيما قال، ودفع العبد إليه، ثم أقام المدعي شهوداً على المقر له أن هذا العبد كان لصاحب اليد، وإني اشتريته منه، وقضى القاضي بذلك لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب».
قيل: وينبغي أن يكون المقضي عليه في هذه الصورة المقر له؛ لأن إقرار صاحب اليد قبل إقامة المدعي البينة أصلاً صحيح في حق المدعي؛ إذ ليس فيه إضرار بالمدعي، فصح فصار الثابت بالإقرار كالثابت بالبينة، ولو ثبت بالبينة أن العبد للمقر له، وقضى القاضي له بالعبد.(10/306)
ثم أقام مدعي الشراء بينة أن العبد كان لصاحب اليد، وأنه اشتراه منه، وقضى القاضي لمدعي الشراء كان المقضي عليه المقر له دون ذي اليد؛ كذا هاهنا.(10/307)
-----
بخلاف الفصل الأول والثاني؛ لأن ثمة إقرار ذي اليد لم يصح في حق المدعي أصلاً، لأنه لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة، فيتضرر به المدعي بإعادة البينة، أما هاهنا فبخلافه.
قال محمد رحمه الله: في دار في يدي رجل فأقام رجل البينة أنها داره اشتراها من ذي اليد، ونقده الثمن، وقبض الدار، وأقام الذي في يديه بينة أنها دار فلان أودعنيها، فلا خصومة بينهما وهي المسألة التي تشهد للقضاة الثلاثة في مسألة العبد، ولو لم يشهد شهود المدعي على قبض المبيع، وباقي المسألة بحالها، لم تندفع الخصومة عن ذي اليد، ويقضي القاضي بالبيع عليه، ويأمره بتسليمها إلى المدعي.
قال: ولو ادعى الشراء على صاحب اليد، الشراء، والقبض وصدقه صاحب اليد في ذلك، ثم ادعى صاحب اليد أنها وديعة لفلان وأقام البينة، فلا خصومة بينهما؛ لأن الثابت بتصادقهما كالثابت بالبينة، ولو ثبت الشراء والقبض بالبينة، وباقي المسألة بحالها قد ذكرنا أنه لا خصومة بينهما، فكذا إذا ثبت بالتصادق.
ولو ادعى المشتري على صاحب اليد الشراء بدون القبض، وصدقه صاحب اليد في ذلك، ثم أقام صاحب اليد بينته على أنها وديعة عنده من جهة فلان، لا تندفع عنه الخصومة لأنه لو ثبت الشراء بدون القبض بالبينة، وباقي المسألة بحالها؛ لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد؛ فكذا إذا ثبت بالتصادق.
يوضح الفرق بينهما: أن تصديق صاحب اليد المدعي في الشراء والقبض لا يناقض دعواه الإيداع من الغائب لجواز أنه اشتراها من صاحب اليد، ثم أجرها من الغائب أو رهنها منه، أو باعها منه، ثم إن الغائب أودعها من صاحب اليد، وإذا لم يوجب ذلك تناقضاً في دعواه الإيداع من الغائب لا يمنع ذلك سماع دعوى الإيداع من الغائب.(10/308)
-----
أما تصديق صاحب اليد المدعي في الشراء بدون القبض يناقض دعواه الإيداع من الغائب؛ لأن المشتري لا يملك التصرف في الميراث قبل البيع، فبعد البيع منه قبل التسليم لا يتصور الإيداع من الغائب، فيكون هو متناقضاً في هذه الدعوى، فلا تسمع دعواه؛ حكي هذا الفرق عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري.
لكن هذا الفرق إنما يستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن وضع المسألة في الدار، والتصرف في العقار قبل القبض إنما لا يجوز على قول محمد، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ التصرف في العقار قبل القبض جائز، فلا يستقيم هذا الفرق على قولهما.
وإذا ادعى داراً في يدي رجل أن صاحب اليد وهبها منه أو أجرها منه، أو رهنها منه، أو تصدق بها عليه، وأنه قبضها منه؛ وأقام ذو اليد البينة أنها دار فلان أودعها إياه، فإنه لا تندفع عنه الخصومة؛ هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع».
روى الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ في «شرح الجامع»: عن القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة أن ما ذكر في «الكتاب»: أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد قول محمد في الرهن والإجارة، فأما في الهبة والصدقة ينبغي أن تندفع الخصومة عن ذي اليد؛ لأن في الرهن والإجارة ادعى عليه فعلاً، ولم يقع الفراغ عن أحكامها، فإن من حكمها إدامة القبض، وأنه لو عاد إلى يد الراهن أو الآجر يسقط حكم الرهن والإجارة، فبقي دعوى الفعل معتبراً.
فأما في الهبة والصدقة: وقع الفراغ من حكمها لأن شرط صحتها أصل القبض لا إدامة القبض، فإنها لو عادت إلى يد الواهب المتصدق لا يبطل حكم الهبة والصدقة فسقط اعتبار دعوى الفعل، ومن المشايخ من قال: ما ذكر جواب الكل، وهو الظاهر، فإن محمداً رحمه الله جمع بين الكل وذكر عقيبها جواباً، والظاهر أنه أراد به جواب الكل.(10/309)
-----
ووجه ذلك: أن ذا اليد انتصب خصماً للمدعي بدعوى الفعل عليه، ولم يسقط اعتبار دعوى الفعل إليه، وإن استوفى أحكامه ولم يصر بمنزلة دعوى ملك مطلق بدليل أنه لا يقضي للمدعي بالزوائد المنفصلة، ولا يرجع الباعة بعضهم على بعض، فبقي دعوى الفعل معتبراً، ولا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثبات الإيداع من الغائب.
القسم الثاني من هذا النوع أن يدعي المدعي الفعل على صاحب اليد
صورته: ادعى عيناً في يدي رجل أنه له غصبه منه فلان، والجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يدع الفعل أصلاً، هكذا ذكر في شرح «الجامع».
وذكر محمد في كتاب «العلل»: إذا ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ثوبه سرقه من فلان الغائب؛ لا تندفع الخصومة عن ذي اليد ويقضى بالثوب للمدعي، وهذا استحسان.
والقياس: أن يندفع كما لو قال: هذا ثوبي، غصبه مني فلان، وأقام صاحب اليد بينة على أنه وديعة عنده من جهة فلان الغائب.
وجه الاستحسان: أنا لو دفعنا الخصومة عن صاحب اليد بهذا يصير ذلك سبباً لوجوب الحد على الغائب، لأن المدعي ببينته، وثبت السرقه عليه، ويقضى عليه بالقطع لأنه ظهر سرقه قبل أن وصل العين إلى المالك، فأما إذا لم تندفع الخصومة عن ذي اليد وقضينا بالثوب للمدعي، لا يجب القطع على الغائب بعد ذلك؛ وإن ظهر سرقته، لأنه إنما يظهر سرقته بعدما وصل العين إلى المالك، ويحتال لدرء الحد ما أمكن، فلم تدفع الخصومة عن ذي اليد بهذه الصورة احتيالاً لدرء الحد، خرج عن هذا مسألة الغصب، لأن هناك لو دفعت الخصومة عن ذي اليد إذا أثبت المدعي بعد ذلك على الغائب؛ لا يلزم الغائب حد.
وفي «الكتاب» علل أيضاً: رجل ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ثوبه غصبه منه فلان الغائب وأقام على ذلك بينة، وقال صاحب اليد: فلان ذلك أودعنيه فلا خصومة بينهما، وإن لم يقم صاحب اليد بينة على الإيداع.(10/310)
-----
وفي «الجامع» من هذا الجنس في: رجل ادعى دابة في يدي رجل، وقال في دعواه: هذه الدابة كانت دابة فلان، وقد اشتريتها منه، وقال ذو اليد: فلان ذلك أودعنيها، فلا خصومة بينهما، ولو لم يقم ذو اليد بينة على دعواه لأنهما تصادقا على أن يده يد غيره المدعى عليه يدعي ذلك صريحاً، والمدعي يدعي ذلك في ضمن دعوى الشراء منه، لأن الشراء لا يصح إلا من صاحب اليد، فدعواه الشراء من الغائب إقرار منه باليد للغائب، والآن يراها في يد صاحب اليد، فالظاهر وصولها إلى ذي اليد من جهة فلان، فعلم أن كون هذا اليد يد غيره ثبت بتصادقهما؛ فاستغنى عن إثباته بالبينة.
عبد في يدي رجل أقام بينة على ذي اليد أنه عبد فلان، وأن فلاناً أعتقه، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً ذلك أودعه إياه، فالقاضي لا يقضي بعتق العبد، لأن العبد مع صاحب اليد تصادقا على أنه ملك فلان، وأن بينة العبد على العتق غير مقبولة عليه، لأنه بينة على العتق قامت على غير خصم، لأن صاحب اليد ليس بخصم عن الغائب في دعوى العتق عليه، فصار وجود هذه البينة، والعدم بمنزلة، ولكن القاضي يقف العبد ويحول بينه (215أ4) وبين صاحب اليد، وهذا استحسان.
والقياس: أن لا يحول؛ وجه القياس في ذلك: بأن العبد قد أقر على نفسه بالرق، فإنه أقر أنه كان لفلان، فلو وجبت الحيلولة؛ إنما وجبت إذا ثبت العتق بهذه البينة، ولم يثت على ما ذكرنا وجه الاستحسان؛ أن في هذه البينة سببين:
أحدهما: العتق وذو اليد ليس بخصم فيه، والآخر: قصر يد صاحب اليد فهو خصم في ذلك، وأحدها منفصل عن الآخر لجواز أن يكون عبداً ولا يكون لصاحب اليد حق إمساكه، فيقبل البينة فيما هو خصم فيه؛ وهو قصر يده، وإن كان لا يقبل فيما ليس بخصم فيه وهو العتق.(10/311)
-----
ونظير هذا ما لو وكل رجلاً بنقل امرأته إلى موضع، فأقامت المرأة البينة أنه طلقها، والموكل غائب، فإنه تقبل هذه البينة في حق قصر يد الوكيل على نقلها للمعنى الذي ذكرنا؛ كذا هاهنا، فلم يجعل دعوى العين في هذه المسألة دعوى على ذي اليد، وفي المسألة المتقدمة جعل القضاء بالعتق على ذي اليد قضاءً على الغائب، وجعل ذا اليد خصماً عن الغائب في الإنكار.
والفرق: أن في دعوى العتق على الغائب أمكن مراعاة الحقين من غير إبطال الحرية للعبد بأن يقصر يد ذي اليد عن العبد باعتبار حق الله تعالى، حتى لا يستعمل ذو اليد حراً على كره منه، فلا يقضي بالعتق باعتبار ما للمولى في العبد من الحق، وهو الملك حتى يحضر الغائب، وليس في مراعاة الخصمين إبطال حق العبد في الحرية، بل فيه تأخير إلى أن يحضر الغائب، فيقيم البينة عليه، فيقضي له بالعتق.k
فأما في دعوى العتق على ذي اليد متى راعينا جانب الملك، ولم يجعل الغائب مقضياً عليه، أولى إلى إبطال حق الله تعالى، وحق العبد في الحرية، فإنه يرد رقيقاً بعدما حكمنا بعتقه على ذي اليد بحيث لا يمكنه إثبات العتق بعد ذلك، فتعذر مراعاة الحقين ووجب مراعاة أحدهما، فكان مراعاة حق الله تعالى أولى، ثم في هذه المسألة إذا حال القاضي بين العبد وبين صاحب اليد؛ يستوثق من العبد بكفيل؛ لأن من الجائز أن العبد كان محتالاً في هذه الدعوى، وأنه قصد بهذا أن يزيل يد صاحب اليد عن نفسه؛ حتى يستوثق منه بكفيل صيانة لحق الغائب، وإذا حضر الغائب كلف القاضي العبد إعادة البينة؛ لأن البينة الأولى لم تكن معتبرة على ما مرَّ، فإن أعاد قضى بعتقه وإلا دفع إلى مولاه.(10/312)
-----
وكذلك لو أقام بينة أنه عبد فلان لإنسان آخر دفعه إليه وديعة أو إجارة أو رهناً، لا يقضي القاضي بعتقه، وفي الحيلولة قياس واستحسان على ما مر، ولو زعم ذو اليد أنه عبد فلان الغائب أودعه إياه، وقال العبد: كنت عبداً له إلا أنه أعتقني، أو قال العبد: كنت عبداً لفلان الآخر أعتقني، لا يقبل قول العبد فرق بين هذا وبينما إذا قال: أنا حر الأصل حيث يقبل قوله في ذلك.
والفرق: أن في دعوى الإعتاق أقر على نفسه بالملك والرق، وادعى زواله بالإعتاق، فلا يصدق إلا بحجة، وقوله: أنا حر الأصل إنكار ثبوت الملك والرق، واليد على نفسه، والقول قول المنكر في الشرع.
ألا ترى أن فلاناً لو كان حاضراً، وادعى أن العبد ملكه، وقال العبد: أنا حر الأصل، فالقول قوله؛ لأن الأصل في الآدمي الحرية، فكان منكراً ثبوت الملك، واليد على نفسه، ولو قال: كنت عبداً له إلا أنه أعتقني لا يقبل قوله؛ لأنه ادعى زوال الملك بعدما أقر به؛ كذا هاهنا في قوله: أنا حر الأصل؛ ينبغي أن يكون القول قول ذي اليد؛ لأن العبد في يدي ذي اليد من حيث الحقيقة، وقول الإنسان فيما في يده مقبول.
ألا ترى أنه لو كان في يده ثوب أو دابة يقبل قوله في أنه لفلان، وطريقه ما قلنا.
قلنا: نعم، في يد ذي اليد حقيقة إلا أنا نعلم بيقين أن يده على العبد حادثة؛ لأن يد الملك على الآدمي تكون حادثة لا محالة، لأن الأصل في الآدمي الحرية، وإنها تنفي يد الغير، فيكون القول قول من كان اليد له في الأصل، لا قول من كان في يده في الحال.
كثوب عرفناه في يدي رجل، ثم رأيناه في يدي رجل آخر، وتنازعا فيه كان القول قول من كان اليد في الأصل له، لا قول من له اليد في الحال، لأنا تيقنا بحدوث يده كذا هاهنا.
ولو قال العبد: أنا حر الأصل وأقام الذي في يديه بينة أنه عبد فلان قضيت له، عبداً لفلان، ودفعته إلى الذي هو في يديه.(10/313)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا ادعى رجل هذا العبد ملكاً مطلقاً، وأقام ذو اليد البينة أنه عبد فلان، أودعه إياه، واندفعت الخصومة عن ذي اليد، فإنه لا يصير العبد مقضياً به للغائب حتى لو حضر، وأنكر أن يكون العبد له لا يلزمه العبد، وهاهنا لو حضر الغائب، وأنكر أن يكون العبد له لزمه العبد.
والفرق وهو: أن هناك العبد في يد ذي اليد حقيقة؛ لأنه مملوك مرقوق، محل لثبوت يد غيره عليه، ولو ثبت يد صاحب اليد عليه حقيقة فيمكنه حفظه، فلا حاجة إلى إثبات الملك للغائب في حق ذي اليد، ليمكنه الحفظ، وإنما حاجة ذي اليد إلى دفع الخصومة عن نفسه، ويمكنه ذلك بإثبات وصول العين إليه من جهة الغائب، فلا ضرورة إلى إثبات الملك للغائب.
أما في مسألتنا: العبد بدعوى حرية الأصل صار في يد نفسه، وزال عنه يد ذي اليد، لما مر أن القول قوله، في أنه حر الأصل، وذو اليد محتاج إلى إعادة يده عليه، ليمكنه إقامة ما هو مأمور به وهو الحفظ، ولا يمكنه إعادة يده عليه إلا بعد إثبات الملك للغائب، فصار مأموراً من جهة الغائب بإثبات الملك له، لأن الآمر بالشيء أمر به، وبما لا بد له منه، فصار وكيلاً عن الغائب في إثبات الملك له بالبينة القائمة من ذي اليد، كالبينة القائمة من الغائب، أما في تلك المسألة فلا حاجة إلى إثبات الملك للغائب، فلم تكن البينة القائمة من ذي اليد كالبينة القائمة من الغائب، فيقضى بالملك للغائب هاهنا، ولم يقض به هناك لهذا.
وفرق أيضاً: بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى رجل هذا العبد بأنه له، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه عبد فلان أودعه، فالقاضي لا يقضي ببينة المدعي، ولم يجعل إقامة البينة على ذي اليد بالملك بمنزلة إقامة البينة على المالك، وفي هذه المسألة جعل إقامة البينة من ذي اليد على رق العبد بمنزلة إقامة البينة من المالك.(10/314)
-----
والفرق وهو: أن المودع خصم فيما يستحق عليه، وإقامة البينة على رق العبد استحقاق لهف صح من المودع، وإقامة البينة من العبد استحقاق على المودع، فلا يصح على المودع.
بيان هذا الكلام: أن المودع مأمور بالحفظ، فيملك ما يرجع إلى الحفظ، ولا يملك ما لا يرجع إلى الحفظ، والاستحقاق عليه ليس من الحفظ في شيء فلا يكون نائباً عنه في ذلك، فأما الاستحقاق له من الحفظ، فيكون نائباً عنه في ذلك.
قال: ولو أقام ذو اليد بينة أن فلاناً أودعه إياه، ولم يشهدوا أنه لا يلتفت إلى هذه الشهادة حتى لا يعاد العبد إلى يده؛ لأن الثابت بهذه البينة مجرد الإيداع، والإنسان كما يودع ولده عند صديقه، وقد يطلب منه أن يحفظه فلم يثبت الرق في هذه الشهادة، فبقيت الحرية الثابتة بالظاهر.
ولو أقام ذو اليد بينة أنه عبد فلان أودعه إياه، أو أجره، أو رهنه، وأقام العبد بينة أنه حر الأصل لم يملك قط؛ لا يقضى بعتق العبد، كما لو أقام العبد البينة على العتق العارض على الغائب على ما مرَّ، وفي الحيلولة قياس واستحسان كما بينا، فإذا حضر المقر له، فإن أعاد العبد البينة عليه أنه حر الأصل يقضى بكونه حر الأصل، وإن لم يعد بقي رقيقاً، ولا يكلف المقر له إعادة (215ب4) البينة أنه عبده لما مرَّ أن المودع خصم عنه في إثبات الملك لحاجته إليه ليتهيأ له الحفظ، فكأنه أقام البينة لنفسه، فرق بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى العبد على صاحب اليد أنه اعتقه، وقضى القاضي بعتق العبد، فإن هناك لا يقضي بكونه عبداً.
والفرق: أن هناك قد قضينا بحرية العبد على صاحب العبد؛ لأن العبد ادعى العتق عليه، ولما قضينا بالعتق عليه كان هذا قضاء على الناس كافة، أما هاهنا لم يقض له بالعتق؛ لأنه لا يدعي، ولكنه يدعي كونه حر الأصل، وذو اليد ليس بخصم في هذا؛ فلا يقضي ببينته، وإذا لم يقض بحريته هاهنا قبل دعوى الذي من الغائب.(10/315)
-----
قال محمد: رجل في يديه دار؛ أقام رجل بينة أنها داره، اشتراها من عبد الله بألف درهم ونقد الثمن، وقال ذو اليد: أودعنيها عبد الله الذي يدعي الشراء منه، فإنه لا خصومة بينهما حتى يحضر عبد الله، ولا يكلف الذي في يديه بينة على ما ادعى لأن المدعي أقر بالملك لعبد الله، وادعى الاستحقاق عليه بألف، والدعوى لا تسمع إلا بخصم، وذو اليد ليس بخصم له في ذلك.
يوضحه: أن المدعي يدعي تلقي الملك من جهة عبد الله، وذو اليد ليس بخصم لعبد الله في هذا العين بعدما أقر به لعبد الله، ألا ترى أنه لو حضر عبد الله يؤمر بالتسليم إليه من غير بينة ولا يمين، وإذا لم يكن خصماً لعبد الله كيف يكون خصماً لمن يدعي تلقي الملك من جهته؟ ولأنه ثبت وصول الدار إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله بتصادقهما على ذلك من حيث الظاهر، لأن المدعي لما ادعى الشراء من عبد الله، فقد أقر أنها كانت في يده، لأن الشراء لا يصح إلا من صاحب اليد.
وذو اليد لما أقر بالإيداع من عبد الله فقد أقر له باليد أيضاً؛ لأن الإيداع من عبد الله لا يتصور إلا بعد أن يكون في يده، وإذا ثبتت اليد لعبد الله بتصادقهما ثبت تصادقهما على الوصول إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله من حيث الظاهر، لأنا لا نعرف يداً ثالثة فيها تحيل وصولها إلى يد ذي اليد من يد ثالث، فتعين وصولها إلى يده من جهة عبد الله.(10/316)
-----
فهو معنى قولنا: إنهما تصادقا على وصول هذا العين إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله من حيث الظاهر، وهذا بخلاف ما لو قال ذو اليد: أودعنيها عمر وكيل عبد الله، حيث لا تندفع الخصومة ما لم يقم البينة عليه، لأنه لم يثبت وصول هذه الدار إلى يده من جهة عبد الله بوجه ما، لأن المدعي إن حصل مقراً من حيث الظاهر بوصول الدار إلى يده من جهة عبد الله لما ادعى الشراء منه، إلا أن صاحب اليد كذبه في ذلك وقال: ما وصل إليَّ من جهة عبد الله، ولم يثبت الوصول إلى يده من جهة عمرو بإقرار ذي اليد لإنكار المدعي ذلك؛ بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
وإن قال المدعي للقاضي: حلف الذي في يديه الدار أن عبد الله أودعها إياه، كما قال فالقاضي يستحلفه بالله؛ لقد أودعك هذه الدار عبد الله، وفيه نوع إشكال أنه قبل قول الذي في يديه الدار من غير يمين.
والجواب: يجوز أن يحلف الإنسان ..... أن القول فيه قوله، كالمودع إذا ادعى رد الوديعة كان المعنى فيه أنا إنما دفعنا الخصومة عن ذي اليد لوصول الدار إلى يده، من جهة عبد الله، أو من جهة وكيل عبد الله، فيصح منه دعوى وصول الدار إليه من جهة غاصب عبد الله، أو من جهة وكيله، وذو اليد لو أقر أنه وصل إلى يده من جهة غاصب غصبها من عبد الله كان خصماً للمدعي؛ إلا أن يقيم البينة على ذلك، فقد ادعى على ذي اليد معنىً، لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف فإن حلف فلا خصومة بينهما، وإن نكل جعله القاضي خصماً للمدعي.
فإن قيل: ينبغي أن لا يحلفه القاضي؛ لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة، ودعوى المدعي أنها وصلت إلى صاحب اليد من جهة غير عبد الله بعد دعواه الشراء من عبد الله وقع فاسداً، لأنه بدعوى الشراء من عبد الله صار مقراً بوصولها إلى صاحب اليد من جهة عبد الله، فيصير بدعوى الوصول من جهة غيره متناقضاً، والمتناقض يمنع صحة الدعوى.
(10/317)
-----
وأما إقرار المدعي بوصول الدار من جهة عبد الله ثابت من حيث الظاهر مع احتمال الوصول من جهة غيره، فلا يصير بدعوى الوصول من جهة الغير بعد ذلك متناقضاً؛ لأنه ادعى ما هو المحيل، فيصح دعواه ويترتب عليه الاستحلاف، فلو أن القاضي حين استحلفه قال: ما أودعنيها عبد الله، ولكن قال: غصبتها من عبد الله، وحلف على ذلك جعله القاضي خصماً له؛ لأنه مناقض في الدعوى من حيث إنه ادعى الإيداع أولاً، ثم الغصب، لأن الإيداع غير الغصب والمتناقض لا يسمع كلامه، فيجعل كأنه لم يوجد منه دعوى الوديعة، ولا دعوى الغصب، ولو لم يوجد واحد منهما لكان القاضي يجعله خصماً، فكذا هاهنا.
فإن قيل: كيف يجعله القاضي خصماً هاهنا، وقد وصل الدار إلى يده من جهة عبد الله بتصادقهما ظاهراً، لأن المدعي يدعي الشراء من عبد الله أقر بوصول الدار إليه من جهة عبد الله، إلا أنهما اختلفا في جهة الوصول، ولا يعتبر باختلاف الجهة بعد الاتفاق على الأصل.
كما في باب الإقرار إذا قال الرجل: لفلان عليَّ ألف درهم من قرض، وقال المقر له: لا بل هو من غصب، فالقاضي يقضي على المقر بالألف؛ لأنهما اتفقا على أصل الدعوى واختلفا في الجهة، فكذلك هاهنا.
قلنا في مسألة الإقرار: الكلامان حصلا من اثنين، فلا ينقض أحدهما الآخر؛ لأن الإنسان لا يملك نقض كلام غيره، إلا أن المقر أقر بوصول الألف إليه من جهة المقر له، فيكون القول قول المقر له أنه بأي جهة وصل، فلهذا لا يصير رداً لإقراره، وهاهنا الكلامان حصلا من واحد، والإنسان يملك نقض كلامه، وبين الكلامين مناقضة من حيث الظاهر، فنقض كل واحد منهما صاحبه، ويجعل كأنه لم يوجد منه دعوى الوديعة ولا دعوي الغصب.(10/318)
-----
ونظير هذه المسألة مسألة الوديعة، إذا قال المودع: هلكت الوديعة، ثم قال: لا بل رددتها كان ضامناً، وإن كان كل واحد من الأمرين، لو كان لا يكون ضامناً؛ لأنه لم يثبت واحد منهما لكونه متناقضاً، فكذا هاهنا لم يثبت كل واحد من الأمرين لمكان المناقضة وجعل كأنه سكت، ولم يدع واحد منهما.
ثم إذا جعله القاضي خصماً للمدعي ببينته، ثم قدم عبد الله، وادعى أن الدار له كان أودع هذا الذي كانت في يده، وأراد أن يأخذها من المدعي حتى يعيد المدعى عليه البينة؛ لم يكن له ذلك لأن الشراء من عبد الله صار مقضياً به لما جعل القاضي صاحب اليد خصماً للمدعي، وقضى عليه ببطلان يده.
ولو قال الذي في يديه الدار: أودعنيها عمرو وكيل عبد الله لا تندفع الخصومة عنه ما لم يقم البينة عليه، وقد ذكرنا وجه ذلك، فإن أقام ذو اليد بينة، فشهدوا أن عبد الله دفعها إلى عمرو، وقالوا: لا ندري دفعها عمرو إلى هذا الذي في يديه أم لا؛ فهو خصم للمدعي؛ لأن الدافع لخصومة المدعي عنه، دفع عمرو الدار إليه، لا دفع عبد الله إلى عمرو، ولم يثبت دفع عمرو بهذه البينة، فإن قال الذي في يديه الدار للقاضي: استحلف المدعي ما دفعها إلى عمرو، فالقاضي يحلف المدعي على ذلك؛ لأن الذي في يديه الدار ادعى عليه، يعني: لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول.
(10/319)
-----
ألا ترى أن في المسألة الأولى جعلنا الذي في يديه الدار بدعوى المدعي، وإنما جعلنا لأن المدعي ادعى عليه، يعني: لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر استحلف رجاء النكول كذا هاهنا، إلا أن في المسألة الأولى استحلف الذي في يديه الدار على الثبات، وهذا يستحلف المدعي على العلم؛ لأن هاهنا المدعي يستحلف على فعل الغير من كل وجه؛ لأنه يستحلف على دفع عمرو الدار إلى ذي اليد، ولا فعل للمدعي في ذلك، وهناك يستحلف ذي اليد على الإيداع عبد الله الدار منه له اتصال به، وهذا القدر كافٍ لاستحلاف على الثبات كما لو ادعى أنه اشتراه منه.
ولو أن الذي في يديه الدار أقام البينة أن عمرو أودعها إياه، وقالوا: لا ندري من دفعها إلى عمرو، وقال (216أ4) الذي في يديه الدار: دفعها إلى عبد الله فلا خصومة بينهما؛ لأنه ثبت وصول الدار إلى ذي اليد من جهة غيره، وإنه كافٍ لدفع خصومة المدعي، ولا يمين على الذي في يديه الدار؛ لأنه أثبت وصول الدار إلى يد ذي اليد، من جهة غيره، وإنه كافٍ لدفع خصومة المدعي، ولا يمين على الذي في يديه الدار لأنه أثبت ما ادعاه بالبينة، فهو نظير المودع إذا ادعي الرد وأثبته بالبينة، وهناك لا يمين على المودع؛ كذا هاهنا.
القسم الثالث من هذا النوع
المدعي إذا ادعى الفعل إلا أنه لم يسم فاعله بأن قال: هذا العين لي سرق مني، وأخذ مني، أو قال: غصب مني، وأقام صاحب اليد بينة على أن هذا العين وديعة في يدي من جهة فلان، ففيما إذا قال: غصب مني، أخذ مني، تندفع الخصومة عن ذي اليد بلا خلاف؛ لأن دعوى الفعل على المجهول باطل، والتحق بالعدم، فينفي هذا دعوى الملك المطلق، وفيما إذا قال: سرق مني.(10/320)
-----
القياس: أن تندفع الخصومة عن صاحب اليد إذا أقام البينة على ما ادعى، وهو قول محمد؛ في الاستحسان لا تندفع وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وجه القياس ما ذكرنا أن دعوى الفعل على المجهول باطل فالتحق بالعدم، وصار كما قال: غصب مني، أخذ مني، وللاستحسان وجهان.
أحدهما: أن الغاصب له يد صحيحة، والسارق ليست له يد صحيحة، ألا ترى أن السارق من الغاصب يقطع؛ لأنه أزال يداً صحيحة، والسارق من السارق لا يقطع؛ لأنه ما أزال يداً صحيحة؟.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا ادعى المدعي الغصب فقد أقر بيد صحيحة لغيره فيه، وذو اليد ببينته أثبت أن ذلك للغائب، وأن يده ليست بيد خصومة بل هي يد حفظ على الغائب.
وإذا ادعى المدعي السرقة فما أقر بيد صحيحة للغير في هذا العين ليقال بأن صاحب اليد ببينته أثبت أن ملك اليد للغائب، فإن يده ليست بيد خصومة، وقد توجهت الخصومة على ذي اليد بدعوى الفعل، فلذلك افترقا، هذا هو طريق العامة وإنها مشكلة عندي.
والوجه الثاني: أن المدعي لما لم يسمِّ السارق فهذا بمنزلة تعيين صاحب اليد للسرقة، ولو عينه لذلك أليس أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وإن أقام ذو اليد بينة على ما ادعى؟ فهاهنا كذلك.
بيان هذا الكلام: أن المدعي إذا لم يسم السارق احتمل أن السارق ذو اليد إلا أن المدعي أراد الستر عليه ابتداءً إلى ما ندب الشرع إليه، ويحتمل أن السارق غيره إلا أنه يرجح احتمال كون ذو اليد سارقاً لوجهين.
أحدهما: أن في جعله سارقاً احتيال لدفع الحد؛ لأنا إذا جعلناه سارقاً؛ لا تندفع الخصومة عنه، وقضى القاضي بالعين للمدعي ويسلم العين إليه، فإذا ظهر السارق بعد ذلك يتعين لا تقطع يده؛ لأنه إنما ظهر سرقته بعد وصول المسروق إلى المالك.(10/321)
-----
ولو لم يجعله سارقاً تندفع الخصومة عنه، ولا يقضى بالعين للمدعي، فمتى ظهر السارق بعد ذلك يتعين تقطع يده؛ لأنه ظهر سرقته قبل أن وصل العين إلى المالك، فكان في جعله سارقاً احتيالاً للدرء ونحن أقررنا به، فكان تعيينه سارقاً أولى من غيره.
بخلاف ما إذا قال: أخذ مني غصب؛ لأن هناك ليس في تعيين ذي اليد أخذاً احتيالاً، درء الحد إذ لم تتعلق به عقوبة سوى الضمان، أما في السرقة فبخلافه على نحو ما بينا.
الوجه الثاني: إن في تعيين ذي اليد سارقاً إيصال الحق إلى مستحقه.
بيانه: أن من عادة السارق أنه إذا سرق يتوارى ولا يخرج للخصومة خوفاً من القطع، فلو لم يتعين صاحب اليد سارقاً تندفع الخصومة عنه، والمدعي لا يحد السارق على ما عليه عادة السراق، فلا يصل المدعي إلى حقه، أما إذا كان سارقاً لا تندفع الخصومة عنه فيصل الحق إلى المدعي، ونحن أمرنا بإيصال الحق إلى أربابها، فكان تعيين ذي اليد سارقاً أولى؛ بخلاف دعوى الغصب والأخذ، لأن هناك لو لم يتعين صاحب اليد غاصباً وآخذاً؛ لا يبطل حق المدعي، إذ ليس من عادة الغاصب في الأخذ الاختفاء والتواري، بل من عاداتهم الخروج للخصومة، فيجد المدعي ويتخاصم معه، فلا يؤدي إلى إبطال حق المدعي لو لم يجعل صاحب اليد غاصباً وآخذاً فلهذا افترقا.
نوع من هذا الفصل(10/322)
-----
فرع على النوع من هذا الفصل: إذا ادعى المدعي أن هذا عبده، وأقام عليه البينة، وقال صاحب اليد: هو عبد فلان أودعنيه ولا بينة؛ حتى لم تندفع الخصومة عنه بمجرد قوله على ما مرَّ، ولو أن القاضي لم يقض للمدعي ببيته حتى حضر المقر له، وصدق صاحب اليد فيما قال، ودفع العبد إلى المقر له، وقضى القاضي للمدعي بالعبد، بتلك البينة على ما مرَّ كان هذا قضاء على صاحب اليد لما ذكرنا، فإن أقام المقر له بينة على المدعي أنه عبده كان أودعه من صاحب اليد قبلت بينته، ويقضى بالعبد له وتبطل بينة المدعي هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع».
حكى أبو الهيثم عن القضاة الثلاثة أن ما ذكر من الجواب ليس بصحيح أنه يقضي بالعبد بين الذي حضر وبين المدعي نصفان، قال القاضي أبو الهيثم رحمه الله: بلغنا أن ابن سماعة كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله في هذه المسألة، فكتب إليه محمد أن الصحيح أنه يقضي بالعبد بينهما.
قال القاضي الإمام أبو الهيثم رحمه الله: والطعن في هذه المسألة أقوى من الطعن في تلك المسألة، لأن الوجه الذي ذكرناه في فساد الطعن في تلك المسألة لا يتصور هاهنا؛ لأن في هذه المسألة؛ كل واحد منهما يدعي ملكاً منهما، فلا يمكننا أن نقول: هذا مدعي الملك من جهة صاحب اليد، وذلك يدعي مدعي الملك من جهة صاحب اليد، وذلك يدعي الملك لا من جهة صاحب اليد، فهو أولى، ثم إذا أقام المقر له بينة على دعواه، ويطلب بينة المدعي، فالقاضي يقول للمدعي: أعد بينتك على الذي حضر، وإلا فلا حق لك.
فرق بين هذه المسألة وبين ما تقدم: وهو ما إذا ادعى المدعي الشراء من صاحب اليد، فإن هناك وإن أقام الذي حضر بينة على ما ادعى، لا يكلف المدعي إعادة البينة.(10/323)
-----
والفرق: أن هاهنا المدعي لم يستحق القضاء علي بهذه البينة على الثبات، بدليل أن ذا اليد لو أقام هذه البينة يبطل به استحقاق المدعي، وإذا بطل استحقاقه يكلف إعادة البينة؛ بخلاف ما تقدم، لأن هناك المدعي فلا يستحق القضاء بهذه البينة قطعاً على كل حال.
ألا ترى أن ذا اليد لو أقام البينة على أنه ملك المقر له لا تندفع الخصومة عنه ولا يبطل به استحقاقه، فكذا المقر له إذا أقام هذه البينة يبطل استحقاق المدعي أيضاً، فلهذا لا يكلف المدعي إعادة البينة ثانياً، ولو أن القاضي سمع من المدعى عليه البينة على الذي العبد في يديه فلم يقض بشهادتهم حتى أقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً دفعه إليه؛ فإن القاضي لا يلتفت إلى ذلك، وقضاؤه ماضٍ، فرق بين ما قبل القضاء، وبين ما بعد القضاء.
والفرق في وجوه: أحدها: أن صاحب اليد صار مقضياً عليه بالملك، واليد في هذا العين بقضاء القاضي به للمدعي، ودعوى الخصم لا تقبل؛ وهذا المعنى لا يتأتى قبل القضاء.
الثاني: أن قبل القضاء إنما قبلت بينة صاحب اليد على ما ادعى؛ لأنه بهذه البينة يدفع الخصومة عن نفسه، وهذا المعنى لا يتأتى بعد القضاء؛ لأن الخصومة قد انتهت بقضاء القاضي بالعبد للمدعي، فلا يحتاج هو إلى دفع الخصومة عن نفسه.
الثالث: أن كونه مودعاً من جهة الغائب لا ينتفي شراء المدعي إذ يجوز أن يملك هو الوديعة من جهة صاحبها بوجه من الوجوه أن المدعي يشتري ذلك منه بعدما يملكه، فيكون خصماً، فبعد القضاء لا ينقض (216ب4) القضاء بالشك، وقبل القضاء لا يجوز القضاء بالشك.
ولو حضر المقر له وأقام بينة على أن العبد له كان أودعه من صاحب اليد، وذلك بعدما قضى القاضي للمدعي قبلت بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه؛ لأن القضاء للمدعي بالبينة الأولى وقع على صاحب اليد لا على الذي حضر؛ فيقبل بينة الذي حضر، لهذا.
(10/324)
نوع آخر في مسائل الدفع على دعوى أخر(10/325)
-----
في «أدب القاضي»: إذا ادعى رجل على رجل إنما اشتريت منك هذا العبد بكذا؛ والبائع يجحد البيع، فأقام المدعي بينة على الشراء فقال البائع في دفع دعواه: إنك قد رددت عليّ هذا العبد بالعيب، وأقام على ذلك بينة صح منه دعوى هذا الدفع، وسمعت بينته عليه؛ إنما صحت منه هذه الدعوى؛ لأنه لو لم يصح إنما لم يصح لمكان التناقض؛ لأنه جحد البيع، وإنه تناقض دعوى الرد بالعيب ولا تناقض؛ لأن جحود البائع فسخ للعقد في حقه، فكأنه ادعى الفسخ، ثم أقام البينة عليه؛ فمن أين يتأتى التناقض.
اشترى داراً لابنه الصغير من نفسه وأشهد على ذلك شهوداً، فكبر الابن ولم يعلم بما صنع الأب، ثم إن الأب باع كل الدار من رجل وسلمها إليه، ثم إن الابن استأجر الدار من المشتري؛ ثم علم بما صنع الأب، فادعى الدار على المشتري، وقال: كان أبي اشترى هذه الدار من نفسه لي في صغري؛ وإنها ملكي، وأقام على ذلك بينة.
فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إنك متناقض في هذه الدعوى؛ لأن استئجارك الدار مني إقرار أن الدار ليست لك، فدعواك بعد ذلك الدار لنفسك يكون متناقضاً، فهذه المسألة صارت واقعة الفتوى.
وقد اختلفت أجوبة المفتين في هذا؛ والصحيح أن هذا لا يصلح دفعاً لدعوى المدعي، ودعوى المدعي صحيحة وإن ثبت التناقض منه؛ إلا أن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، فإن الأب يستبد بالشراء للصغير، وعسى لا يعلمه بعد البلوغ، فلا يعرف الابن كون الدار ملكاً له، فيظن صحة بيع الأب بعد ذلك، فيقدم على استئجار الدار من المشتري ظناً منه أن الدار ملك المشتري؛ وفي الحقيقة الدار ملكه، ثم بعد ذلك يعلم ما صنع الأب وكون الدار مملوكة له فيدعيها.
فهو معنى قولنا: إن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، والتناقض في مسألة لا تمنع صحة الدعوى.(10/326)
-----
ألا ترى أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مال، ودفعت المال إليه، ثم أنها ادعت أن زوجها كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع، وأقامت على ذلك بينة؛ قبلت بينتها ولها أن تسترد بدل الخلع، وقد صارت متناقضة، فإن إقدامها على الخلع إقرار منها بقيام النكاح، فيصير بدعوى وقوع الثلاث قبل ذلك متناقضة، ولكن قيل لأنها تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن الزوج يستبد بإيقاع الثلاث؛ فلعل أوقع الثلاث ولم يعلم المرأة بذلك، فأقدمت على الخلع ظناً منها أن النكاح قائم، ثم علمها بعد الخلع بوقوع الثلاث سابقاً على الخلع، فادعت ذلك.
وكذلك إذا أعتق الرجل عبده على مال ودفع العبد المال إلى المولى، ثم إن العبد ادعى بعد ذلك أن المولى كان أعتقه قبل ذلك، وأقام البينة علىه قبلت بينته، وله أن يسترد بدل العتق، وقد صار متناقضاً؛ مع هذا قبلت بينته؛ لأن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن المولى يستبد بإيقاع العتق على نحو ما بينا في مسألة الخلع كذا في مسألتنا.
وفي «فتاوى النسفي»: سئل عمن ادعى داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان، وصاحب اليد يدعي الشراء من فلان ذلك أيضاً، ولكن تاريخ الخارج سابق، وأقاما البينة فقال صاحب اليد في دفع دعوى الخارج :إن دعواه باطل من قبل أن شراءه بذلك التاريخ وقع باطلاً؛ لأن الدار كانت رهناً في ذلك الوقت من جهة فلان الذي ادعيا تلقي الملك من جهته في يدي فلان وفلان المرتهن حتى يلقاه شراء هذا الخارج هذه الدار لم يرض به، وأبطله فلم يصح شراؤه وصح شرائي؛ لأن شرائي كان بعدما فك فلان الرهن ؛ هل يكون هذا دفعاً؟.
قال: لا؛ لأنه لا حق لذي اليد في ذلك الرهن، والمرتهن لم يدع ذلك فكيف تصح دعوى الرهن؟ وهذا الجواب صحيح، وله علل أحدها ما ذكرنا.
والثانية: أن بيع المرهون ينعقد بوصف الصحة فيما بين الراهن والمشتري، وليس للمرتهن حق الفسخ.(10/327)
-----
والثالثة: أنه لما أقر بفكاك الرهن فقد أقر بنفاذ البيع السابق؛ لأن البيع كان منعقداً بوصف الصحة فيما بين الراهن والمشتري، لكن امتنع البقاء في حق المرتهن لحقه، فإذا بطل الرهن بعد ذلك في حق الناس كافة.
وفي «مجموع النوازل»: رجل ادعى على آخر أنه اشترى مني جارية صفتها كذا كذا، بكذا درهماً، وقبضها واستهلكها، ووجب عليه أداء هذا الثمن إليّ، وهو قد أقر بذلك، وشهد الشهود على المدعى عليه بذلك بعد إنكاره، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه يبطل في دعوى الاستهلاك؛ لأن الجارية قائمة في يده، وهي في بلدة كذا في يدي فلان، وأقام شهوداً شهدوا أنا رأيناها حية قائمة في بلدة كذا، هل يصير ذلك دفعاً لدعوى المدعي؟ قال: لا؛ وطول الكلام في بيان العلة، ولم يتضح لنا وجهها.
والوجه في ذلك: أن الاستهلاك أمر زائد في إبطالية البائع المشتري بالثمن، ومجرد القبض يكفي؛ أكثر ما فيه أن دعوى الاستهلاك قد بطل دعوى القبض، وأنه كان في المطالبة بالثمن.
ادعى داراً في يدي رجل شراءً من رجل آخر بشرائط، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إني كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعي فقال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا (أقلنا) البيع الذي جرى بيني وبين هذا المدعى عليه، فهذا دفع صحيح.
وكذلك لو كان المدعي من الابتداء ادعى الدار على صاحب اليد ملكاً مطلقاً؛ وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إني كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعي فقال المدعى في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا أقلنا البيع الذي جرى بينه، وبين هذا المدعى عليه، كان هذا دفعاً صحيحاً.
وكذلك إذا قال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: إنك قد أقررت أنك اشتريتها مني كان هذا دفعاً صحيحاً.
نوع آخر في دعوى الميراث(10/328)
-----
رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً له، وإن أبي مات، وهذه الدار في يديه، وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد بينة في دفع دعوى المدعي، أن أب هذا المدعي أقر في حال حياته أن هذه الدار ليست له، فهذا يبطل شهادة شهود المدعي، هكذا ذكر محمد رحمه الله في آخر «الجامع الكبير»، وهذا لأن حاجة الوارث إلى إثبات الملك لمورثه في الدار عند موته حتى يخلفه فيها إرثاً، وقد ثبت بينة المدعى عليه إقرار الوارث أن الدار ليست له.
وإقرار المورث بهذه الصفة تمنع المورث عن دعوى الملك لنفسه بنفسه، بعد ذلك فيمنع الوارث عن دعوى الملك المطلق لمورثه عند موته، وكذلك لو شهد شهود المدعي عليه أن الوارث أقر قبل موت المورث، أو بعد موته أنها لم تكن لأبيه، كان ذلك دفعاً لبينة الوارث لما ذكرنا أن حاجة الوارث إلى إثبات الملك للمورث عند موته، فكان مدعياً أنها كانت لأبيه يوم الموت، وقد ثبت بينة المدعي عليه إقرار الوارث أنها لم تكن لأبيه، فجاء التناقض.
وكذلك لو شهد شهود المدعى عليه على إقرار الوارث أن أباه مات والدار ليست له، كان ذلك دفعاً لبينة الوارث، وأما إذا قال شهود المدعى عليه: إن الوارث قال: مات أبي والدار ليست له، لأنه وهبها لي في حياته وصحته، وباعها في حياته وصحته، لم يكن ذلك دفعاً لبينة المدعي؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً.
ولو (217أ4) عاينا إقرار الوارث أن أباه مات وهذه الدار ليست له، لأنه وهبها لي، وباعها مني في حال حياته وصحته، ثم ادعى الميراث من الأب بعد ذلك؛ تسمع دعوى الميراث منه، لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، لأنه يمكنه أن يقول: لي تلك الهبة أو البيع، وعجزت عن إثباته بالبينة فبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً، أو صار ميراثاً لي عنه ظاهراً، وقد مرَّ جنس هذا في كتاب الشهادات، يوضح ما ذكرنا: أن الكلام تم بآخره.(10/329)
-----
وإذا وصل بقوله: مات أبي والدار ليست له؛ لأنه باعها مني، علمنا أنه لم يرد بأول الكلام نفي ملك الأب من الأصل، فيمكنه دعوى الميراث بعد ذلك، بخلاف ما إذا قال: ليست لأبي وسكت، لأن ظاهر هذا الكلام، يوجب نفي الملك للأب فيه من الأصل فلا يمكنه دعوى الميراث بعد ذلك.
دار بيدي رجل؛ جاء رجل وادعى أن أباه مات وترك هذه الدار ميراثاِ له، وأقام بينة شهدوا أن أباه مات، وهذه الدار في يديه، وأخذ هذا الرجل هذه الدار من تركته بعد وفاته، أو شهدوا أن هذا الرجل أخذ هذه الدار من أبي هذا المدعي حال حياته، وأقام ذو اليد البينة أن الوارث، أو أبوه أقر أن الدار ليست له، فالقاضي يقضي بدفع الدار إلى الوارث؛ لأن ما أثبته ذو اليد بالبينة من إقرار الوارث، أو المورث أن الدار ليست له.
لو كان معايناً للقاضي، فذلك لا يمنعه من إثبات الأخذ بطريق الغصب من يده على ذي اليد بالبينة؛ فكذا إذا ثبت ذلك ببينة ذي اليد، والمعنى في ذلك أن الجمع بين الكلامين يمكن بأن يقول الوارث: قد أقررت أن الدار ليست لأبي وإنما هي لغيره؛ إلا أن ذا اليد غصبها من أبي، فلزمه الرد بعد وفاة أبي عليَّ كما كان يلزمه الرد على أبي حال حياته، لأني قائم مقام أبي في حياته، فصار استحقاق هذه الدار ميراثاً لي، فإذا أمكنه الجمع بينهما لم تكن بينة ذي اليد مبطلة بينة المدعي.
ادعت المرأة على ورثة زوجها المهر والميراث؛ فقال الورثة في دفع دعواها: إن أبانا قد حرمها على نفسه قبل موته بسنتين، قالت هي في دفع دعواهم: إن الزوج أقر في مرض الموت بأني حلال عليه؛ فهذا دفع صحيح.
ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، وأقام المدعى عليه بينة أنه اشترى هذه الدار من هذا المدعي، فقال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا أقلنا البيع الذي كان بيننا فهذا دفع لدعوى المدعى عليه.(10/330)
-----
مات الرجل وترك أولاداً صغاراً وكباراً، فكبر الصغار وادعوا داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيهم فادعى المدعى عليه في دفع دعواهم: إني اشتريت حصة الكبار منهم، وحصة الصغار من وصيهم من جهة أبيهم، أو من جهة القاضي بثمن مثله، أو بغبن يسير عند حاجة الصغار، فهذا دفع صحيح، لو أقام عليه البينة تندفع دعواهم.
ولو كان مكان الدار عرضاً لا يشترط ذكر الحاجة، والوصي يملك بيع عروض الصغير من غير حاجة، ولا يملك بيع عقاره إلا لحاجة.
رجل مات عن أولاد، فادعت امرأة ميراثها، وقالت: كنت منكوحة له، وأنكرت الورثة دعواها، وأقامت البينة على النكاح، فقالت الورثة في دفع دعواها: إن أبانا قد كان طلقها ثلاثاً، وانقضت عدتها قبل موته، هل يكون هذا دفعاً لدعواها؟.
ينظر؛ إن أنكروا نكاحها أصلاً بأن قالوا: لم يكن أبانا متزوجها، أو قالوا: ما كانت هي زوجة لأبينا قط، لا يكون هذا دفعاً لدعواها، وإن لم ينكروا نكاحها أصلاً إنما أنكروا ميراثها فقالوا: ليس لها ميراث الزوجات، أو قالوا: ليس لها ميراث بالزوجية، أو قالوا: لم تكن هي زوجة له عند الموت، فهذا دفع لدعواها.
ادعى على غيره أنه كان لأبي عليك كذا وكذا من المال، وأنه قد مات قبل استيفائي من ذلك، وصار جميع ذلك ميراثاً لي، لما أني وارثه، لا وارث له غيري، فقال المدعى عليه: الدين الذي تدعيه قد كان لأبيك عليَّ بحكم الكفالة عن فلان، وفلان ذلك قد أدى جميع ذلك إلى أبيك في حال حياته، فصدقه مدعي الدين أن الدين كان بحكم الكفالة عن فلان إلا أنه أنكر أداء فلان ذلك إليه، فأقام المدعى عليه بينة على دعواه.
فهذا دفع صحيح لدعوى المدعي، وكذلك لو قال المدعى عليه في هذه الصورة: أخرجني أبوك عن الكفالة في حياته، أو قال: أخرجتني عن الكفالة بعد موت أبيك، وأقام بينة على ما ادعى، تندفع دعوى المدعي.(10/331)
-----
ادعى على غيره أنه كان لأبي عليك كذا وكذا، مات أبي قبل أن يقبض شيئاً من ذلك، وصار جميع ذلك ميراثاً لي من جهة أبي لما أنه لا وارث لأبي غيري، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن أباك قد أحال فلاناً بما كان له عليَّ، وقد قبلت الحوالة ودفعت جميع ذلك إلى المحتال له، وصدقه المحتال له في ذلك كله، لا تندفع دعوى المدعي عنه وخصومته، لأن بإقامة البينة على الحوالة ثبت كون المحتال له وكيلاً من جهة الميت بالقبض، وقد أقر بالقبض معاينة، والوكيل بالقبض إذا أقر بالقبض فصح إقراره عن الموكل ويبرأ الغريم عن الدين.
امرأة ماتت وتركت إخوة وأموالاً في أيديهم؛ جاء رجل، وادعى أن المرأة كانت امرأته، وفى نكاحه إلى يوم موتها، وطلب ميراثها، فقالت الإخوة في دفع دعواه: إنك قلت قبل هذا بالفارسية: اكراين مرده زني من بودي من ميراث بردمي أزوي، وأثبتوا ذلك بالبينة، هل يكون هذا دفعاً؟.
فقد قيل: يكون دفعاً، وقوله: اكرزن من بودي، إقرار منه أنها زن وي بنوده نست.
وقيل: إنه ليس بدفع، وقوله: أكر زن من بودي ميراث بردمي أزوي، ليس إقرار أنها: زن وي بنوده است، كقول الرجل: إن كان فلان في الدار لذهبت إليه، لا يكون إقراراً أن فلاناً ليس في الدار لا محالة، على أن ما ذكرتم مفهوم كلامه، وظاهر المذهب عندنا أن المفهوم ليس بحجة، وإن ذكر محمد رحمه الله في «السير» أنه حجة، ولكن ما ذكر في «السير» خلاف ظاهر المذهب.
ولو قالوا في دفع دعواه: إنك قلت: إنها كانت امرأتي؛ إلا أني طلقتها، فهذا ليس بدفع، لأن الزوج ببينته أثبت نكاحها يوم الموت، وتطليقه إياها؛ لا ينافي نكاحها يوم موتها لجواز أنه طلقها يوم تزوجها ثم ماتت.(10/332)
-----
ادعى رجل داراً في يد امرأة أبيه أنها تركة أبيه؛ وقالت المرأة: هذه الدار تركة أبيك إلا أن القاضي باعها مني بمهري، وأنت صغير، كان ذلك دفعاً لدعوى المدعي، وهو الابن، لو أثبت ذلك بالبينة؛ لأن للقاضي ولاية بيع التركة بالدين، إذا كان الوارث صغيراً، ولم يكن للميت وصي.
رجل مات وترك ابنين صغيرين، ولكل ابن قيّم على حدة، وفي يد أحد القيمين دار يزعم أنها دار الصغير الذي في ولايته؛ ادعى عليه قيم الصغير الآخر، أن الدار التي في يديك نصفها ملك الصغير الذي أنا قيمه، بسبب أن هذه الدار كلها كانت ملكاً لوالد الصغيرين مات وتركها ميراثاً للصغيرين، فإذا دفع إليّ نصفها لأقبضه لأجل الصغير الذي أنا قيمه.
فأقام القيّم المدعى عليه بينة أن والد الصغيرين قد أقر في حال (حياته) أن كل هذه الدار ملك الصغير الذي في ولايتي، تندفع عنه دعوى القيّم المدعي، فإن أقام القيّم المدعي بينة لدفع دعوى القيم المدعى عليه وقال: إنك ادعيت قبل هذا نصف هذه الدار لأجل الصغير الذي في ولايتك إرثاً عن أبيه، والآن تدعي كلها للصغير الذي في ولايتك بجهة أخرى، اندفعت دعوى القيم المدعى عليه لمكان التناقض.
سئل نجم الدين النسفي: عمن ادعى ميراث بيت بعصوبة بنوة العم، فأقام البينة على النسب يذكر الأسامي إلى الجد، فأقام منكر هذا النسب والميراث بينة أن جد الميت فلان وصى غير ما أثبت المدعي؛ هل تندفع بهذا دعوى المدعي وبينته؟.
قال: إن وقع القضاء ببينة المدعي فالقضاء ماضٍ (217ب4) ولا تبطل بينة المدعي بهذا، ولا تندفع بينة المدعي بهذا ولا تندفع دعواه، فإن لم يقع القضاء ببينة المدعي، فالقاضي لا يقضي بإحدى البينتين لمكان التعارض، قال محمد رحمه الله: وهو نظير مسألة طلاق المرأة يوم النحر بكوفة من هذه السنة، وإعتاق العبد يوم النحر بمكة من هذه السنة.(10/333)
-----
وفي «مجموع النوازل»: رجل قدم سمرقند من تركستان، فادعى كرماً في يدي رجل ميراثاً عن جده وأمه وقال: أنا محمد وأمي حُرّة، وإن أبي محمد بن الحارث بن سارح، وهذا الكرم في يد هذا المدعى عليه من تركة أبي الحارث هذا وأنا وارثه لا وارث له غيري؛ فعليه تسليم هذا الكرم إليَّ، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: هذا المدعي يبطل في دعواه هذه من قبل أنه حين قدم من تركستان زعم أنه ابن عائشة، وعائشة بنت علي بن الحسين بن فلان، وهذا الكرم من تركة علي بن الحسين.
ثم غير اسم الأم، واسم الجد، فجعل اسم الأم حرة، وجعل اسم الجد محمد بن الحارث، وأقام المدعى عليه بينة على دعواه، فأجاب شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السعدي: إن هذا دفع دعوى المدعي.
قال رحمه الله: وهو نظير ما لو ادعى عيناً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، ثم ادعى ذلك العين بعد ذلك ميراثاً عن أمه، وكان القاضي الإمام الأجل شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي في جنس هذه المسائل أنه لا تندفع دعوى المدعي، ولا تقبل بينة المدعي على ما ادعاه وتابعه في ذلك بعض مشايخ زمانه، وبه كان يفتي الإمام ظهير الدين المرغيناني، وهو الصواب عندنا.
وعلى هذا إذا ادعى رجل على رجل أنه كان لأبي علي بن أبي القاسم بن محمد عليك كذا وكذا من المال، وإن أبي مات قبل استيفاء شيء من ذلك، وصار ما كان له عليك ميراثاً لي، وقال المدعى عليه: إنه يبطل في هذه الدعوى؛ لأنه زعم أن والد القاسم محمد، ووالد القاسم أحمد، لا يكون هذا دفعاً لدعوى المدعي على ما هو اختيار شمس الإسلام، وبعض مشايخ زمانه، فلا تقبل بينة المدعى عليه في ذلك، والمسألة كانت واقعة الفتوى.
(10/334)
-----
وهذا لأن بينة المدعى عليه لو قبلت في هذه الصورة؛ إما أن تقبل على إثبات اسم هذا المدعي ولا وجه إليه؛ لأنه ليس بخصم في ذلك، وإما أن تقبل لنفي ما ادعاه المدعي من الميراث، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن البينة على النفي غير مقبولة.
وهو نظير ما لو ادعى رجل على رجل أنه أقرضه ألف درهم في يوم كذا في مكان كذا، وأقام المدعى عليه بينة أنه في ذلك اليوم كان في مكان كذا سمى مكاناً آخر؛ لا تقبل بينة المدعى عليه؛ لأنها في الحقيقة قامت على النفي كذا هنا.
إذا ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه؛ فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: اشتريت هذه الدار في حال صغرك بإطلاق القاضي؛ فهذا دفع صحيح إذا ثبت أن البيع لحاجة الصغير، أو لقضاء دين الميت.
وقد مر جنس هذا في «فتاوى الفضل»: ادعى على أخيه تركة فيما في يده بحق الميراث عن أبيه، فأنكر المدعى عليه دعواه وقال: لم يكن لأبي في هذه الدار حق، ثم ادعى المدعى عليه أنه كان اشترى هذه الدار من أبيه، أو ادعى أن أباه قد أقر له بها فدعواه صحيحة وبينته مسموعة، لأن الجمع بين الكلامين ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لم تكن لأبي بعدما اشتريتها منه، ولو قال: لم تكن لأبي قط، أو قال: لم يكن لأبي فيها حق، لم يسمع دعواه الشراء من أبيه؛ لأنه فيه متناقض، ويسمع دعوى إقرار أبيه له لأنه لا تناقض فيه.
إذا قال المدعي في دعوى الميراث: لا وارث له غيري، فقال المدعى عليه في دعواه: إن لك أخاً أو أختاً، وقد قلت: لا وارث له غيري، حكى فتوى القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أن المدعي لو أقر بذلك تبطل الدعوى والشهادة جميعاً، أما لو أراد المدعى عليه إثباته بالبينة لا يسمع بينته.(10/335)
-----
ادعى رجل ضيعة في يدي رجل أنها كانت لفلان مات وتركها ميراثاً لي، لا وارث لها غيري، وقضى القاضي له بالضيعة، فقال المقضى عليه بالضيعة بطريق الدفع لدعوى المدعي: إن فلانة التي تدعي أنت الإرث عنها لنفسك ماتت قبل فلان الذي يدعي الإرث عنه لفلانة، فقد قيل: هذا دفع صحيح، وقد قيل: إنه غير صحيح؛ لأن زمان الموت لا يدخل تحت القضاء، فلا يثبت بينة المدعى عليه موت فلانة قبل موت فلان.u
سئل رجل ادعى محدوداً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه له ولأخيه الغائب فلان، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إن مورثك فلان قد أقر في حياته أن هذا المحدود ملكي، فقد قيل: هذا دفع، وقد قيل: إن قال: إن مورثك فلان أقر أن هذا ملكي، وأنا صدقته فيه فهذا دفع، فإن لم يقل: وأنا صدقته فهذا ليس بدفع، وإن حضر الأخ الغائب وادعى في دفع دعوى المدعى عليه الدفع على أخيه.
وقال: إن المدعى عليه أقر بعد موت أبينا أن هذا المحدود تركة أبينا، فهذا دفع لدعوى المدعى عليه، ولو كان المدعى عليه من الابتداء لم يدع إقرار المورث، يكون المحدود ملكاً له إنما ادعى إقرار الوارث المدعي؛ يكون المحدود ملكاً للمدعى عليه.
فالجواب فيه على الخلاف أيضاً، على قول بعض المشايخ: هذا دفع، وعلى قول بعضهم يجب أن تكون المسألة على التفصيل؛ إن قال: إنك أقررت بكون المحدود ملكي، وأنا صدقتك يصح الدفع، وإن حضر الأخ الغائب وادعى في دفع دعوى المدعى عليه وقال: إن المدعى عليه قد أقر بعد موت أبينا أن هذا المحدود تركة أبينا، لا يسمع منه هذا الدفع؛ لأن ما تعلق بالموت يتعلق بجميع الورثة، أما ما يتعلق ببعض الورثة يقتصر.
نوع آخر في مسائل الإكراه(10/336)
-----
إذا ادعى الإكراه على البيع والتسليم، فقال المشتري في دفع دعواه: إنك أخذت الثمن مني طائعاً، فهذا دفع صحيح؛ لأن قبض الثمن طائعاً إجازة لذلك البيع، وهذا لأن البائع إنما يأخذ الثمن من المشتري ليسلم الثمن له، ولا يسلم الثمن للبائع إلا بإجازة البيع، فكان أخذ الثمن من البائع إجازة للبيع من هذا الوجه.
وكذلك إذا ادعى الإكراه على الهبة فقال الموهوب له في دفع دعواه: إنك أخذت عوض هبتك مني طائعاً فهذا دفع صحيح؛ لأن أخذ العوض طائعاً إجازة منه للهبة.
وفي «مجموع النوازل»: سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السغدي رحمه الله عن رجل أثبت على رجل بالبينة أنه أقر بكذا طائعاً، وأقام المدعى عليه في دفع ذلك بينة أن إقراره ذلك كان بإكراه هل يكون دفعاً لبينة المدعي؟ قال: نعم، وبينة الإكراه أولى بالقبول، لأن بينة الإكراه ثبتت خلاف الظاهر قيل له: إن البينة على الإثبات أولى من البينة على النفي، وبينة الطوع تثبت الدين، وبينة الإكراه نافية الدين، قال: فإن كان كذلك إلا أن التي تثبت الزيادة من حيث الظاهر هي أولى، وإن كان في المعنى بخلافه، وعلى هذا مسائل أصحابنا في المزارعة.
فقد ذكر محمد في المزارعة مسائل اعتبر فيها إثبات الزيادة صورة، وإن كان فيها إفساد العقد معنىً، فمن جملتها.
إذا ادعى أحد المتعاقدين أنه شرط له النصف وزيادة، وادعى الآخر أنه شرط له النصف، وأقاما على ذلك بينة، فالبينة بينة مدعي الزيادة، ويثبت به فساد المزارعة، واعتبر إثبات الزيادة من حيث الصورة، كذا هاهنا.(10/337)
-----
رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنك اشتريتها مني، وكنت مكرهاً على البيع والتسليم، وأقام على ذلك بينة، وأراد استرداد الضيعة، فقال المدعى عليه: كان الأمر كما قلت، إلا أن بعدما زال الإكراه بعت هذا البيع مني، يكون على طوع ورضى وأقام على ذلك بينة، فالقاضي يقضي ببينة المدعى عليه، وتندفع دعوى المدعي حتى لا يكون للبائع حق الاسترداد، لأن ببينة المدعي ثبت أن المشتري اشترى شراءً فاسداً، فالمشتري شراءً فاسداً (218أ4) إذا اشتراه المشتري شراءً صحيحاً ينفسخ الشراء الفاسد، ويبطل حق البائع في الاسترداد، كذا هاهنا.
رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنها ملكه اشتراها من الذي في يديه بكذا، وقال المدعي في آخر دعواه: وهكذا أقر الذي في يديه بشرائي إياها منه، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إني كنت مكرهاً في الإقرار بالبيع.
فقد قيل: بأن هذا لا يكون دفعاً وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وكان يقول يحتمل أنه كان طائعاً في البيع مكرهاً في الإقرار بالبيع إكراهاً لا يوجب خللاً في البيع حتى لو أقام البينة على كونه مكرهاً في الإقرا والبيع جميعاً كان الدفع صحيحاً.
نوع آخر في دعوة الدين
إذا قال المدعى عليه في دعوة الدين: أنا أجيء بالدفع، فقال له القاضي: الدفع يكون بالإبراء أو بالإيفاء فأيهما يدعي، قال كلاهما: هل يكون هذا تناقضاً، حكي عن الشخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه قال: لا يكون تناقضاً إذا وفق وبين وجه التوفيق.
ووجه التوفيق أن يقول: أوفيت بعضه وأبرأني عن بعض، أو يقول: أوفيت الكل، فجحدني فتشفعت إليه فأبرأني، أو يقول: أبرأني ثم جحد الإبراء، فأوفيت، وقيل: لا يكون متناقضاً، ولا يبطل دعواه وإن لم يوفق؛ لأن مع إمكان التوفيق لا يتحقق التناقض، فيحمل عليه صيانة للدعوة عن البطلان، وهذا القول يشير إلى أن إمكان التوفيق يكفي.(10/338)
-----
رجل ادعى على غيره ديناً فأنكر المدعي عليه ذلك، فأقام المدعي بينة على أنك استمهلتك هذا المال منك عشرة أيام، وذلك إقرار منك بهذا المال عليك.
وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك أبرأتني عن هذا المال منذ عشرين يوماً، وأقام على ذلك بينة، فهذا لا يكون دفعاً، لأن ببينة المدعي ثبت إقرار المدعى عليه بالمال منذ عشرة أيام، وهذا يمنع دعواه الإبراء قبل ذلك الاستمهال من المدعي عليه قبل قضاء القاضي عليه بالمال، والاستمهال بعد قضاء القاضي بالمال، فكذلك عند بعض المشايخ.
رجل ادعى على آخر عشرة دراهم دين، أو عشرة دنانير دين، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: تو إقرار كردهءكه مر أجز دو دينار خاوستني نيست جزدودرم خواستم نست، فهذا ليس بدفع لأن المطالبة ليست من لوازم الدين؛ حتى يكون من ضرورة أن لا مطالبة له بما سوى الدرهمين، أو الدينارين؛ إقراره أن لا دين عليه سوى الدين، أو الدينارين.
ألا ترى أن الدين المؤجل دين على الحقيقة، ولا مطالبة به في الحال.
فإن قيل: هذا المعنى لا يكاد يصح في هذه الصورة لأن الدعوة وقع في الدين والتأجيل في الديون لا يصح.
قلنا: التأجيل في الديون الواجبة بالقرض والإستقراض لا يصح، أما التأجيل في الديون بسبب البيع وما هو في معنى البيع صحيح، وموضوع مسألتنا أن المدعي ادعى الدين أما لم يدع البيع ولا القرض واليمين الواجب بسبب القرض، إن كان لا يتصور انتفاء المطالبة بسبب التأجيل يتصور بسبب آخر، بأن كان مثلاً لعبد الله على محمد دين، ولمحمد على إبراهيم مثل ذلك، فأحال محمد عبد الله على إبراهيم ليقضي إبراهيم دين عبد الله بما لمحمد عليه، فدين محمد عن إبراهيم لا يسقط بهذه الحوالة.
(10/339)
-----
ألا ترى أن عبد الله لو أبرأ محمداً عن دينه كان لمحمد أن يرجع على إبراهيم بدينه، فعلم أن دين محمد لا يسقط عن إبراهيم بمجرد حوالة محمد عبد الله على إبراهيم، مع هذا ليس لمحمد حق مطالبة إبراهيم في الحال بدينه لصيرورة دينه مشغولاً بحق عبد الله بحكم الحوالة، فيجوز انتفاء المطالبة عن دين القرض مع وجوبه ولزومه بهذا الطريق إن كان لا يتصور انتفاء المطالبة عنه بسبب التأجيل.
رجل ادعى على غيره مالاً فأقر المدعى عليه بذلك، إلا أنه بين سبباً لا يصلح سبب الوجوب بأن قال: له علي ألف درهم بسبب القمار، أو قال: لأني اشتريت منه الميت، وكذبه المدعي في ذلك السبب، فإن أقام المدعى عليه على ذلك بينة تندفع عنه دعوى المدعي، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك.
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنه يحلف المدعى عليه، ويكون القول قوله مع اليمين، لأن قوله: له عليَّ ألف درهم لأني اشتريت منه الميت أو لأني قامرت عليه جحود للمال أصلاً، فيكون القول فيه قوله مع يمينه، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: ما ذكر الخصاف أن القول قول المدعى عليه مع اليمين قولهما، أما على قول أبي حنيفة: المال لازم عليه بإقراره، ولا يصدق في قوله: ثمن ميت، أو قال: قامرني، فإن محمداً رحمه الله أورد هذه المسألة في كتاب الإقرار على سبيل الاستشهاد، وذكر فيها الخلاف على نحو ما بينا؛ فكأنه يرد على الخصاف، أو يكون عن أبي حنيفة رحمه الله في المسألة روايتان: وإن قال المدعى عليه: له عليَّ ألف درهم من ثمن خمر، وأقام على ذلك بينة، لا تندفع عنه دعوى المدعي عند أبي حنيفة، لأن المسلم قد يجب عليه ثمن خمر عنده، بل يوكل ذمياً بشرائها، وعندهما تندفع عنه دعوى المدعي؛ لأن عندهما لا يجب ثمن الخمر على المسلم بحال، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك فعلى قول أبي حنيفة المال لازم على المدعى عليه، وعندهما القول قوله مع يمينه، ولا يلزمه المال.(10/340)
-----
رجل ادعى على غيره كذا، كذا ديناً من الدراهم، فادعى المدعى عليه الإيفاء، وجاء بشهود شهدوا أن المدعى عليه دفع هذا المال كذا كذا من الدراهم، ولكن لا يدري بأي جهة دفع، هل يقبل القاضي هذه الشهادة؟ وهل تندفع بها دعوى المدعي؟.
حكي عن شيخ الإسلام السغدي أنه قال: لا تقبل هذه الشهادة، ولا تندفع بها دعوى المدعي، وعن بعض مشايخنا: أنه تقبل؛ وتندفع به دعوى المدعي، وهو الأشبه والأقرب إلى القول.
رجل ادعى على رجل ستة دنانير، فقال المدعى عليه في دعوى دفع المدعي: إنه أبرأني من هذه الدعوى، فأقام على ذلك بينة، فادعى المدعي ثانياً أن المدعى عليه قد كان أقر لي بستة دنانير بعد إبرائي إياه؛ هل يصح دفع الدفع؟.
فقد قيل: إن قال المدعى عليه: أبرأتني عن هذه الدعوى وقبلت الإبراء، أو قال: صدقتك في ذلك؛ لا يصح منه دفع الدعوى؛ يعني دعوى الإقرار ثانياً، وإن لم يقل قبلت الإبراء، ولا قال: صدقتك في ذلك، يصح منه دفع الدفع، يعني دعوى الإقرار ثانياً؛ لأن الإبراء يرتد بالرد، وإذا لم يذكر القبول ولا التصديق يحتمل الرد، فيصح دعوى الإقرار ثانياً.
وقيل: لا يصح دعوى الإقرار ثانياً؛ لأن بينة المدعى عليه تثبت إبراء المدعي إياه عن هذه الدعوى، وارتفع أن الذي وجب به الدين على المدعى عليه، فدعوى المدعي إقرار المدعى عليه ثانياً، يكون في الحاصل دعوى المال بشرط الإقرار، ودعوى المال بسب الإقرار غير صحيح، عليه عامة المشايخ.
وقيل: دعوى الإقرار ثانياً صحيح من غير فصل، لأن المدعي يدعي الإقرار ثانياً، يثبت بطلان دعوى المدعى عليه على الإبراء على المدعي فإنه يقول: دعواك الإبراء علي لم تصح، وكنت مبطلاً في ذلك لما أقررت لي بالدنانير بعد ذلك، ودعوى بطلان الدعوى من أي طرف كان ذلك صحيح.(10/341)
-----
رجل ادعى على آخر خمسين ديناراً؛ فقال المدعى عليه في الدفع: إن المدعي أقر أنه دفع إليه العدالة لكل دينار خمسين، ولكن أخذت الخط بالدنانير صح الدفع، وكذلك لو قال: إنك أبرأتني عن الدعاوى كلها في سنة كذا يصح الدفع.
رجل ادعى على رجل إني دفعت إليك عشرة دراهم قرضاً، فقال المدعى عليه: بل دفعت إلي عشرة دراهم إلا أنك أمرتني أن أدفعها إلى فلان، وقد دفعتها إليه، فإن أقام على ذلك بينة تندفع الخصومة (218ب4) عن صاحب اليد وما لا فلا.
ادعت إمرأة أنها بنت هذا الميت، وأن لها من تركته قد أقرضت بعد وفاة هذا الميت، وقلت: إن مردببودم وي از ادكر ده است مر لا يصح هذا الدفع.
رجل ادعى على آخر دراهم مقدرة بسبب الكفالة عن فلان بأمره أو بغير أمره، فحضر الأصيل ودفع دعوى المدعي، وقال: هذا المال غير واجب على الكفيل المدعى عليه، كما أنه غير واجب علي، وكنت مكرهاً في الإقرار به.
فقد قيل:لا يسمع هذا الدفع لأن المدعي ما ادعى على الأصيل شيئاً، وقد قيل: لايسمع إذا كانت الكفالة بأمر، لأن ضرر هذه الدعوى في المال على الأصيل.
ألا ترى أن من اشترى من آخر جارية وقبضها، واستحقها رجل من يدي المشتري بالبينة، وقضى القاضي بالجارية، ثم إن البائع أقام البيينة على المستحق أنه باعها منه قبل أن يبيعها هو من مشتريه فلان، فالقاضي يقبل بينة البائع ويقضي بالجارية على المستحق، والدعوى من المستحق ما كان على البائع ما كان الطريق سوى أن ضرر هذه الدعوى في المال على البائع، كذا هاهنا.
ادعت امرأه على ورثة زوجها المهر، وأنكرت الورثة النكاح، فأقامت المرأة بينة على النكاح وادعت الورثة في دفع دعواها أنها كانت أبرأت أبانا في حال حياته من المهر، فقد قيل: هذا دفع صحيح.(10/342)
-----
وقد قيل: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل، إن قالوا: أبرأت أبانا عن دعوى المهر، يصح منهم هذا الدفع ولا تناقض فيه، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده مثل هذا التفصيل في مسألة دعوى الدين وإنكار المدعى عليه، ثم دعوى المدعى عليه الإبراء في شرح كتاب الحوالة والكفالة.
نوع آخر في دعوى الوصاية والوصية
رجل ادعى على غيره أن أباك أوصى لي بثلث ماله، وأنكر المدعى عليه الوصية، فأقام المدعي بينة على دعواه، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن أبي قد كان رجع عن هذه الوصية في حياته، أو قال: إن أبي قال في حياته: رجعت عن كل وصية أوصيت بها، فقد قيل: لا يسمع منه هذا الدفع لمكان التناقض.
وقد قيل: يسمع، وهو الصحيح لأن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، فإن الموصي يستبد بالإيصاء فلعل قد كان أوصى ولم يعلم به الوارث، ورجع ولم يعلم به، فجحد الوصية بحكم أنه لم يعلم بالوصية، ثم أخبر بهذا الجحود بالوصية والرجوع، فادعى الرجوع، والتناقض، في مثل هذا الموضع لا يضره، وكذلك لو أقام البينة على أن الأب جحد الوصية في حياته، كان هذا دفعاً على ما ذكره في «المبسوط»، فقد ذكر في «المبسوط»: أن جحود الوصية رجوع، وذكر في «الجامع»: أن جحود الوصية لا يكون رجوعاً، قيل في المسألة روايتان؛ وقيل: ما ذكر في «الجامع»: أن جحود الوصية لا يكون رجوعاً قياس، وما ذكر في «المبسوط» استحسان.
رجل ادعى في تركة رجل وصية، ولابنه الصغير بثلث ماله، وأقام البينة على ورثة الميت، وقضي بالوصية لابنه، ثم إن الورثة أقاموا بينة على المدعي بطريق الدفع أنه كان قد أقر قبل الحكم أن على الميت دين مستغرق لتركته؛ كان هذا دفعاً صحيحاً، ويبطل حكم القاضي، وسجله إذ تبين أن المدعي لم يكن خصماً في دعوى الوصية إذ لا وصية مع الدين المستغرق من غير خصم والقضاء بها باطل.(10/343)
-----
وهو نظير ما لو ادعى رجل عبداً في يدي رجل أنه له، وأقام على ذلك بينة وذو اليد يقول: هذا العبد وديعة عندي من جهة فلان، وأقام بينة أنه عبده قد كان أودعه صاحب اليد، فالقاضي يأخذ العبد من المدعي المقضي له، ويدفعه إلى هذا الذي ادعى الإيداع من صاحب اليد، إذ تبين أن المدعى عليه لم يكن خصماً للمدعي، وأن بينة المدعي قامت على غير الخصم، والبينة على غير الخصم لا تقبل.
رجل أوصى لابني ابنه بثلث، وأحدهما صغير والآخر كبير وأبوهما حيٌّ، ثم مات الموصي، فادعى أبو الصغير على أن إرث الموصي لأجل ابنه الصغير الوصية من جهة الميت، وادعى الكبير الوصية من جهة الميت، وأنكر الوارث وصيتهما، وقال في دفع دعواهما: إن هذا الكبير قد أقر بعد موت الميت أن الميت ما أوصى لي بشيء، وكذلك أب الصغير أقر أن الميت ما أوصى لابني الصغير بشيء، هل يكون هذا دفعاً؟ فقد قيل في حق الكبير: هذا دفع، وفي حق أب الصغير: هذا دفع لدعوى الأب، لا لدعوى الابن، حتى لو كبر الابن وادعى الوصية لنفسه؛ سمع دعواه.
وقد قيل: هذا ليس بدفع أصلاً، وهو الأظهر والأشبه بالفقه، لأنه لو صار دفعاً إنما صار دفعاً لأنه سبق دعوى الوصية إنكار الوصية، فيصير متناقضاً، والتناقض يمنع صحة الدعوى، إلا أن هذا التناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن الموصي يستبد بالوصية، ولا يحتاج فيها إلى القبول، ولعل أوصى ولم يعلم به الموصى له، فنفاه فلما علم به ادعاه.
نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات(10/344)
-----
يجب أن يعلم بأن دفع الدعوى كما هو صحيح، فدفع الدفع صحيح، وكذلك دفع دفع الدفع، وما زاد على ذلك صحيح هو المختار، وكما يصح دفع الدعوى بعد إقامة المدعي البينة، يصح دفعه قبل إقامة المدعى البينة، وإذا ادعى المدعى عليه الدفع وطلب من القاضي الإمهال، فالقاضي يمهله إلى المجلس الثاني في «الفتاوى»، وفي «فوائد» شمس الإسلام محمود الأوزجندي: أن دعوى الدفع من المدعى عليه لا يكون تعديلاً للشهود، وإنه ظاهر لجواز أن دفع الطعن في الشهود.
وإذا ادعى المدعى عليه أن هذا العين وديعة عنده من جهة فلان، وأقام على ذلك بينة، وأقام المدعي بينة في دفع دعواه: إنك أقررت قبل هذا أن العين ملكي، فهذا دفع لدعوى المدعى عليه.
وإذا كان أرضاً في يد إنسان، وأقام المدعى عليه بينة أن هذه الأرض في يدي بحكم المزارعة، فهذا دفع دعوى المدعي، كما لو أقام بينة أنها في يدي بإجارة، أو إعارة، أو وديعة، وإذا قال: لا دفع لي، ثم جاء بدفع.
فقد قيل: يجب أن تكون هذه المسألة على روايتين، أو على الخلاف بين أبي حنيفة، ومحمد على قياس ما إذا قال المدعي: لا بينة لي، واستحلف المدعى عليه، ثم جاء ببينة.
وقيل: في هذه المسألة يجب أن لا يصح دفعه بعد ذلك باتفاق الروايات، لأن معنى قوله: لا دفع لي، ليس لي دعوى الدفع، ومن قال: لا دعوى لي قبل فلان، ثم جاء يدعي عليه لا تسمع دعواه، كذا هاهنا، والأول أقرب إلى الصواب، لأن معنى قوله: لا دفع لي، ليست لي بينة دافعة؛ لأن دعوى المدعي لا تندفع بمجرد دعوى المدعى عليه الدفع، وإنما تندفع ببينة يقيمها على الدفع، وإذا كان معنى قوله: لا دفع لي هذا.(10/345)
-----
صارت هذه المسألة نظير ما إذا قال المدعي: لا بينة لي قبل المدعى عليه الضيعة أو الدار، إذا أقام بينة أن نصف هذه الضيعة أو نصف هذه الدار في يدي وديعة من جهة فلان الغائب، هل يبطل دعوى في الكل؟ فقد قيل: يبطل، لأن الدعوى واحدة، فإذا بطل بعضه بطل كله، وقيل: لا تبطل في الكل، وإنما يبطل في النصف، قالوا: وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع «الجامع».
دعوى اتفقت الأئمة على فسادها، ومع ذلك جاء المدعى عليه بدفع لو كانت الدعوى صحيحة كان ذلك الدفع دفعاً له، فالقاضي هل يسمع دفع المدعى عليه؟ أو يأمر المدعي بتصحيح دعواه؟ فقد اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يأمر المدعي بتصحيح دعواه، وقال بعضهم: يسمع دفع المدعى عليه ويقضي به.
ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك أقررت قبل هذا أنك بعت هذه الدار مني، وأراد أن يحلف المدعي فله ذلك، ولو أقام البينة على إقرار المدعي بذلك قبلت بينته، واندفع دعوى المدعي.
وإذا ادعى (219أ4) النتاج في دابة فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إنك تبطل في هذه الدعوى لما أقررت أنك اشتريت هذه الدار من فلان فلا دفع لدعوى المدعي.
رجل ادعى كرماً في يدي رجل، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه أجر نفسه مني ليعمل في هذا الكرم لي، عمل كذا، فهذا دفع صحيح لو أثبته بالبينة تندفع عنه دعوى المدعي؛ لأن إجارة نفسه من غيره للعمل في الكرم الذي في يد ذلك الغير إقرار من الأجير أن الكرم ليس له، فيصير بدعواه أن الكرم له متناقضاً.(10/346)
-----
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى على رجل أنه أخذ منه مالاً وهو كذا وكذا ووصفه بأمر يعرف، فأقام المدعى عليه بينة أن المدعي قد أقر أن هذا المال المسمى المفسر أخذه منه فلان الآخر، والمدعي ينكر، فليس هذا بإبطال لدعوى المدعي، ولا إكذاب لبينته، لأن الإكذاب، والإبطال إنما يثبت لمكان التنافي، ولا منافاة بين الأمرين إذا لم يكن في الشهادتين ذكر الوقت لجواز أن فلاناً الأجنبي أخذه أولاً، ثم رده عليه، ثم أخذه المدعى عليه، وإذا لم يكن بين الأمرين منافاة أمكن تصحيح البينتين، والبينات حجج الله تعالى، فمهما أمكن تصحيحها لا يلغى أحدهما.
ولو أن المدعى عليه أخذ منه هذا المال، فهذا إبطال لدعوى المدعي، وإكذاب لبينته.
والفرق: أن في هذه المسألة ثبتت بينة المدعى عليه إقرار المدعي بأخذ وكيل المدعى عليه المال منه، لا تصح دعوى المدعي بعد ذلك الأخذ من المدعى عليه، لأن فعل الوكيل فعل الموكل، فيصير المدعي بدعوى الأخذ بعد ذلك على المدعى عليه مدعياً ذلك الأخذ لا أخذاً آخر، ووقت آخر من غير ضرورة.n
قلنا: وأمكن أن يجعل المدعي مدعياً ذلك الأخذ على المدعى عليه؛ لأن فعل الإنسان ينتقل إلى غيره إذا كان بحكم الوكالة عن ذلك الغير، وإذا صار المدعي مدعياً ذلك الأخذ يصير مدعياً المال على المدعى عليه بأخذ وجد من وكيله.
قلنا: ودعوى المدعى عليه بفعل وجد من الغير باطل؛ لأن الإنسان لا يصير متعدياً بفعل غيره، أما في المسألة الأولى: لا يمكن أن يجعل المدعي مدعياً على المدعى عليه ذلك الأخذ الذي كان من فلان الآخر؛ لأن فعل الإنسان إنما ينتقل إلى غيره بحكم الوكالة عن ذلك الغير وكالة في المسألة الأولى، فكان مدعياً عليه أخذاً آخر بطريق الأصالة، ودعوى المال على غيره بسبب الأخذ منه بطريق الأصالة، دعوى صحيحة، فهذا هو الفرق المنقول عن المشايخ، وإنه مشكل عندي.
(10/347)
-----
وقالوا: المراد من مسألة الوكيل أن لا يكون الموكل، وهو المدعى عليه ذو سلطان، أما إذا كان ذا سلطان كان الضمان فيه على الموكل، وهو المدعى عليه على ما مر قبل هذا، فيستقيم دعوى الضمان عليه بأخذ وكيله على ما مر قبل هذا.
والمراد من الوكالة بالمذكور فيه الأمر لا حقيقة الوكالة، وإذا ادعى على رجل عيناً في يده ملكاً مطلقاً، وأقام البينة وقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: هذه العين ملكي، وقد كنت أيها المدعي اشتريت هذه العين مني ثم أقلنا البيع، واليوم هذه العين ملكي، فأقاما على ذلك بينة، فهذا ليس بدفع لأن المدعي ادعى الملك المطلق لنفسه، وفي مثل هذا البينة بينة الخارج.
وقد قيل: ينبغي أن تقبل بينة صاحب اليد على قول من يقول بأن البينة مع الإقرار إذا اجتمعا، فالقاضي يقضي بالإقرار لا بالبينة.
ووجهه: أن صاحب اليد لما قال للمدعي: قد كنت اشتريت هذه العين مني، فقد أقر بالملك للمدعي، وتطلب بينة المدعي، فعند ذلك صاحب اليد بدعوى الإقالة يدعي الإقالة إلى نفسه ويقيم عليه البينة، ولم يبق للمدعي بينة، فقبل بينة صاحب اليد ضرورة، ولأن صاحب اليد لما ادعى البيع من المدعي والإقالة، وأثبت ذلك بالبينة، فقد ثبت إقرار المدعي أن الملك لصاحب اليد في رواية، وإقراره أنه لا ملك له قبل البيع باتفاق الروايات، ومع إقرار المدعي أن لا ملك له قبل البيع كيف يقضى له بالملك المطلق.(10/348)
-----
رجل ادعى على رجل آخر مئة منَ من دهن السمسم بسبب صحيح، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه يبطل في هذه الدعوى لأني قد كنت أعطيته عوض هذا الدهن ديناراً من الذهب الأحمر؛ لجواز أن الدهن قد وجب بسبب السلم، فإذا أخذ عوضه ديناراً، فقد استبدل بالمسلم فيه والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، ويبقى الدهن في ذمته على حاله، فلا يصح الدفع، وإن كان الدهن مبيعاً بأن اشترى مقداراً معيناً من الدهن، فإذا أعطاه عوض ذلك من الذهب، وهو قائم بعينه كان بائعاً المبيع قبل القبض، فإنه لا يجوز فلا يصح الدفع أيضاً، فلهذا شرطنا بيان السبب.
وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها على أنه متى لم تصل إليها نفقتها في وقت كذا؛ فهي تطلق نفسها متى شاءت، ثم إن المرأة أرادت أن تطلق نفسها بعد مضي ذلك الوقت، ووقع الاختلاف بينها وبين زوجها في وصول النفقة، وعدم وصولها في ذلك الوقت، فقالت المرأة في دفع دعواه: إنه أقر أنه لم يدفع إليها نفقتها، فهذا لا يكون دفعاً لجواز أنه دفع إليها وكيله حتى لو قالت المرأة: إنه أقر أنه لم تصل إليها نفقتها، وأقامت على ذلك بينة كان ذلك دفعاً صحيحاً.
رجل ادعى على آخر أنه لكز أبي ومات من لكزه، وأقام على ذلك بينة، وأقام الضارب بينة أن أباه قد صح من لكزه، وبرىء من ضربه.
فقد قيل: هذا دفع لدعوى المدعي، وقيل أيضاً: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل: إن كان المدعي ادعى أنه لكزه، ومات من تلك اللكزة، وشهود شهدوا كذلك فهذا دفع لدعوى المدعي، فإن كان ادعى أنه لكزه ومات من لكزه، فهذا لا يكون دفعاً لدعوى المدعي، ويقضى عليه بالضمان، وهذا من باب العمل بالبينتين؛ يجعل كأنه لكزه، وبرىء من لكزه ثم لكزه ثانياً، ومات منه.(10/349)
-----
وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في كتاب الغصب: إذا أقام الغاصب بينة أنه رد الدابة المغصوبة على المالك، وأقام المالك بينة أنها ماتت من ركوب الغاصب، فالقاضي يقضي على الغاصب بالضمان، وكان ذلك من باب العمل بالبينتين، بأن يجعل، كأن الغاصب ردها على المالك ثم ركبها ثانياً؛ كذا في مسألتنا.
في «فتاوى النسفي» رحمه الله: سئل عمن ادعى على آخر: إني رهنت منك كذا عيناً سماه ووصفه بكذا، وطلب منه إحضار الرهن ليقضي ما له عليه من الدين، ويرد الرهن عليه، والمدعى عليه ينكر الرهن والارتهان، فجاء المدعي بشاهدين على الرهن، وجاء المدعى عليه بشاهدين شهدا أن المدعى عليه اشترى هذه العين من هذا المدعي بكذا ونقده الثمن، وقبض المشتري بتسليمه، فهذا دفع لدعوى المدعي، ويقضي ببينة صاحب اليد لأن بينته أكثر إثباتاً، لأن الشراء آكد من الرهن.
رجل أخذ دابة من يدي رجل وهلكت في يده، فجاء الذي كانت الدابة في يده إلى القاضي، وادعى على الذي أخذ الدابة من يده أنه أخذ دابته بغير حق، وهلكت في يده، وأقام الآخذ بينة أني أخذتها بحق لما أن الدابة ملكي، وكانت في يد صاحب اليد بغير حق؛ فهذا دفع صحيح، وهذا لأن الدعوى من صاحب اليد في الحاصل دعوى ضمان الدابة، وبينة الأخذ على الوجه الذي بينا صلحت دافعة له.
ولو كانت الدابة قائمة في يد الآخذ، فادعى الذي كانت في يده على نحو ما بينا، وأقام الآخذ بينة أنه أخذها لأنه ملكها، قبلت بينته، لأن الآخذ، وإن كان ذو اليد في الحال ولكن يثبت بتصادقهما أنها كانت في يد الآخذ، وثبت بذلك أن صاحب اليد في الحقيقة الآخر دون الآخذ، فلهذا تقبل بينة الآخذ على الملك له في الدابة.(10/350)
-----
امرأة ادعت على زوجها أنها محرمة عليه بالطلاق الثلاث (219ب4) وأقامت على ذلك بينة، فقال الزوج في دفع دعواها: إنها أقرت أنها اعتدت بعد طلقاتها الثلاث وتزوجت بزوج آخر، ودخل بها زوجها الثاني ثم طلقها وانقضت عدتها، ثم تزوجها وهي حلال له اليوم هل يصلح هذا دفعاً؟ كان شيخ الإسلام السغدي يقول: لا يصح هذا الدفع؛ لأن أكثر ما فيه أنه ثبت ببينة الزوج إقرارها بالحل، فتناقضها في دعوى الحرمة، إلا أن الدعوة ليست بشرط لسماع البينة على طلاق المرأة وحرمتها، والصحيح أن دعوى الدفع على هذا الوجه صحيح.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد: رجل ادعى داراً أو متاعاً في يدي رجل، وأقام بينة عند القاضي بذلك، وقضى القاضي له بما ادعى فلم يقبضه المدعي حتى أقام المدعى عليه بينة أن هذا المدعي أقر أنه لا حق لي في هذا المدعي، قال: إن شهدت شهوده على إقرار المدعي أن شهوده فسقة، أو على إقراره أنه استأجرهم على هذه الشهادة، أو على إقراره أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وادعى المدعى عليه، قبلت شهادتهم، وبطلت شهادة شهود المدعي إذا أقر في غير مجلس القاضي أن هذا العين ملكه بسبب الشراء من فلان، ثم ادعاه عند القاضي ملكاً مطلقاً، فقال المدعى عليه للقاضي في دفع دعواه: إنه أقر مرة أن هذا العين ملكه بسبب الشراء من فلان، فهذا دفع لدعوى المدعي.
رجل ادعى عيناً في يدي إنسان عند قاضي ملكاً بسبب، ولم يمكنه إثباته، فباع المدعى عليه ذلك العين من رجل، وسلمه إلى المشتري، ومضى على ذلك زمان، ثم إن المدعي ادعى ذلك العين على المشتري عند ذلك القاضي، أو عند قاضٍ آخر ملكاً مطلقاً، فقال المشتري في دفع دعواه: إنه مبطل في هذه الدعوة كما أنه ادعى هذا العين على بائعي بسبب الشراء، والآن يدعيه ملكاً مطلقاً، فهذا دفع صحيح.(10/351)
-----
ادعى عيناً في يدي إنسان ملكاً مطلقاً، وادعى المدعى عليه في دفع دعواه أنه كان ادعى هذا العين قبل هذا بسبب، فقال المدعي: إنما ادعيته الآن بذلك السبب أيضاً، وترك دعوة الملك المطلق، سمع دعواه ثانياً بالسبب أيضاً، وبطل دفع المدعى عليه.
رجل ادعى عبداً في يدي رجل، وأثبت دعواه بالبينة، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك قد بعت هذا العبد من فلان الغائب، وأقام على ذلك بينة.
فعلى ما عليه إشارات «الجامع» و «الزيادات»: لا تقبل هذه البينة من المدعى عليه ولا تندفع دعوى المدعي.
وقد ذكر الناطفي في «أجناسه»: أن القاضي يقبل هذه البينة ويدفع دعوى المدعي، والوجه لما ذكره الناطفي: أن دعوى المدعى عليه بيع المدعي من فلان، وكل بائع مقر بالملك للمشتري منه بمنزلة دعواه إقرار المدعي بأن هذا العين ملك لفلان، ولو ادعى إقرار المدعي أن هذا العين ملك فلان، وأقام على ذلك بينة، يسمع ذلك منه، وتندفع خصومة المدعى عليه؛ كذا هنا.
وعلى هذا القياس: إذا ادعى ديناً على ميت بحضرة وارثه، وأنكر الوارث التركة، فعين المدعى عليه عيناً من الأعيان، وقال: هذا من تركته، فقال الوارث: إن الميت قد كان باع هذا العين في حياته من فلان دفعاً صحيحاً؛ حتى لو أقام البينة على ذلك تندفع دعوى المدعي.
(10/352)
-----
حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي أنه قال: عرض علي محضر فيه دعوى رجل على رجل أرض إنها ملكه وحقه، وإن مورث المدعى عليه أحدث يده عليها بغير حق إلى أن مات، وفي يد وارثه هذا بغير حق أيضاً، فواجب قصر يده عنها وتسليمها إلى هذا المدعي، وأقام على ذلك بينة بعد إنكار المدعى عليه دعواه، وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن مورثنا فلان كان اشترى هذا المحدود من مورث هذا المدعي بيعاً باتاً وتقابضا، وكان في يده بحق إلى أن توفي، ثم صار ميراثاً لي عنه بحق، فقال المدعي في دفع هذا الدفع: إن مورث المدعى عليه كان أقر أن البيع الذي جرى بيننا كان بيع وفاء وارد على الثمن على رد الأرض، وأقام بينة على ذلك؛ هل يصح دفع الدفع على هذا الوجه؟
وقد كان أجاب قاضي القضاة عماد الدين علي بن عبد الوهاب، والشيخ الإمام الزاهد علاء الدين عمر بن عثمان: أنه صحيح، وإني أجيب أنه غير صحيح؛ لأنه ادعى أولاً أنه كان في يده بغير حق؛ وأنا أقول: يجب أن تصح دعوى الدفع على قول من يقول: بأن لبيع الوفاء حكم الرهن؛ لأنه إقرار ببعض ما أنكره له أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، وهذا لأنه لما كان لهذا حكم الرهن كان المبيع على ملك المدعي، إلا أن المدعى عليه حضر، وقد ادعى المدعي أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، فإذا أقر بعد ذلك ببيع الوفاء، فقد ادعى أن الملك له، وادعى أن يد المدعى عليه بحق.
فهو معنى قولنا: إنه أقر له ببعض ما أنكره له أولاً، إلا أن بعدما أقر ببيع الوفاء لا يمكنه مطالبة المدعى عليه بتسليم الأرض، ولا تقبل بينته على تسليم الأرض، وإنما تقبل بينته على ملكية الأرض، وعلى قول عامة المشايخ: إن لم يكن الوفاء مشروطاً في البيع، فالبيع صحيح، ولا يكون هذا دفعاً، وإن كان الوفاء مشروطاً في البيع كان البيع فاسداً، فإن ادعى فسخ العقد يصح الدفع، وما لا فلا.(10/353)
-----
ذكر شيخ الإسلام في «شرح الجامع» في باب من القضاء: ادعى على آخر داراً في يديه، فأقام المدعى عليه بينة على إقرار المدعي أن الدار ليست ملكاً لي، أوما كانت لي، اندفعت بينة المدعي.
ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكي، وقد أقر صاحب اليد بذلك لي، فأقام المدعى عليه البينة أنه استوهب هذا العين مني يكون ذلك دفعاً لدعوى المدعي لأن الاستيهاب إقرار أنه ليس ملك الموهوب باتفاق الروايات، وهل يكون إقراراً بملك الواهب؟ على رواية «الجامع»: يكون إقراراً، وعلى رواية «الزيادات»: لا يكون إقراراً.
وصار تقدير هذه المسألة، كأن المدعي أقام بينة على إقرار المدعى (عليه) أن لا ملك له في هذا العين على الرواية كلها، أو على إقراره أن هذا العين ملك الواهب على رواية «الجامع».
وكذلك على هذا إذا أقام المدعى عليه بينة على أن المدعي استامه منه، أو قال بالفارسية: خريده خواستي أين عين را ازمن، فهذا دفع دعوى المدعي، فالإقدام على الاستيام، وعلى الشراء إقرار أنه لا ملك للغير فيه باتفاق الروايات، وهل يكون إقراراً بالملك للبائع؟ فعلى الروايتين أيضاً، وكذلك الإقدام على الإجارة وعلى المزارعة على هذا.
وفي كتاب القسمة في «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً عن رجل تزوج امرأة ثم ادعى أنه اشتراها ممن يملكها، قال: لا أقبل بينته على ذلك حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد التزوج، وكذلك إن ساوم بدار في يدي رجل ثم ادعى أنه اشتراها من فلان، وفلان يملكها لم أقبل ذلك منه، حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد (فقال) في دفع دعواه: إن هذا المدعي مبطل في دعواه كون هذا العين ملكاً له لما أنه استشرى هذا العين من فلان، وهذا منه إقرار أنه لا ملك في المدعي فهذا دفع.(10/354)
-----
وإذا ادعى نخلاً في يدي رجل فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه استشرى في كونه إقراراً أنه لا ملك للمدعي في المدعى نظير الاستشراء من المدعى عليه، معنى أن من ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه، فقال المدعى عليه: ثمن هذا النخل مني، فهذا ليس بدفع إذ ليس من ضرورة أن لا يكون ثمر النخيل لإنسان أن لا يكون النخل له، وقد مر هذا فيما تقدم.
ادعى محدوداً في يدي رجل وبين حدودها، فقال المدعى عليه: أين محدود كه مدعي دعوى كردانة أين حدود ملك متست، فادعى المدعي دعواه ثانياً في مجلس آخر يعين تلك الحدود، فقال المدعى عليه: در حدود خطا كرده واين حدود كه دردست منست مراست به حدود نيست كه تو دعوي كرده، وأعاد المدعي دعواه ثالثاً في مجلس آخر، فقال المدعى عليه: أين محدود كه تو دعوي كرده تو بفلان فروختا، (220أ4) بودي ينفى أزانك دعوانك دعوى كردي ومن آز فلان خريده أم هل يكون هذا دفعاً لدعوى المدعي فقيل: لا، وينتقض كلامه الثالث بالكلام الثاني، واعتبر كلامه الثاني لنقض كلامه الثالث.
وإن لم يعتبر في حق دفع دعوى المدعي، أما إذا ادعت المهر المسمى على ورثة زوجها، وأقامت على ذلك بينة، فقالت الورثة في دفع دعواها: إنك قد كنت قد أقررت أن النكاح كان بغير تسمية، وإن الواجب مهر المثل، والآن تدعي المسمى وبينهما تناقض، فقد قيل: هذا دفع، وقد قيل: إنه ليس بدفع وهو الأصح إذ يجوز أن لا يكون في النكاح تسمية، ثم يسمي لها مهراً ويكون ذلك تقدير مهر مثلها.
ادعى المديون القضاء وأنكر رب الدين ذلك وحلف، ثم إن المديون صالح رب الدين من ذلك على شيء، ثم أقام البينة أنه كان قضاه الدين، هل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على القبول.(10/355)
-----
وصورتها: استعار من آخر دابة وهلكت الدابة تحت المستعير بعد ذلك بينة على العارية، وقال: إنها نفقت؛ قبلت بينته، وبطل الصلح، وإن أراد استحلاف المعير على ذلك فله ذلك.
وفي «المنتقى»: رجل ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما كانت لك عليّ ألف درهم قط، وقد ادعيت هذه الألف أمس فدفعتها إليك، فقال المدعي: ما قبضت منك شيئاً، فإن لي عليك ألف درهم، فصالحه من دعواه على خمسمئة درهم، ثم إن المدعى عليه جاء ببينته فشهدت أنهم رأوا المدعى عليه دفع إلى المدعي أمس ألف درهم، لم ألتفت إلى هذه الشهادة؛ لأن هذا إنما افتدى بينته بها.
ولو أن المدعى عليه قال للمدعي: صدقت؛ قد كان لك علي ألف درهم، وكذا قد قضيتها أمس، فقال المدعي: ما قضيتني شيئاً، فدفع الألف إليه أو صالحه على خمسمئة، ثم شهدت الشهود للمدعى عليه أنه دفع إليه الألف بالأمس، كان له أن يرجع عليه بما أعطاه والصلح باطل.
وفي «المنتقى»: قال هشام: سمعت محمداً يقول في رجل ادعى على رجل مالاً، وصالحه وجحد المدعى عليه وأعطاه إياه، أو صالحه من دعواه، ثم أقام المدعى عليه بينة أن المدعي قال قبل القضاء أو قبل الصلح: ليس لي قبل فلان شيء، فالقضاء والصلح ماضيان، وإن أقام بينة أنه أقر بذلك بعد الصلح والقضاء، أبطلت الصلح والقضاء، ولو كان القاضي قد قضى عليه بالمال ببينته، ثم أقام المدعى عليه بينة أن المدعي أقر قبل أن يقض القاضي أنه ليس عليه شيء أبطلت المال عنه.
رجل ادعى داراً في يدي رجل، فصالحه المدعى عليه على ألف على أن يسلمها للمدعى عليه، ثم إن المدعى عليه أراد أن يقيم بينة أنها له ليرجع في الألف، فليس له ذلك.
وكذلك إن أقام بينة أنها كانت لأبيه فلان مات أبوه وتركها ميراثاً له، هكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف.(10/356)
-----
وعلل فقال: لأنه كان القول فيها قوله، فإنما افتدى يمينه بما يدل، فلا يستطيع أن يرجع فيه، ولو أقام بينة أنه كان اشتراها من المدعي قبل الصلح قبلت ببنته، وبطل الصلح، ولو لم يقم بينة على الشراء، وإنما أقام بينة على صلح صالحه قبل هذا الباب، أمضيت هذا الصلح الأول وأبطلت الثاني.
وفي «المنتقى»: ادعى داراً في يدي رجل إرثاً عن أبيه، ثم اصطلحا على شيء، ثم إن المدعى عليه أقام بينة أنه كان اشترى الدار من أب هذا المدعي حال حياته، أو أقام بينة أنه كان اشتراها من فلان، وفلان كان اشتراها من أب هذا المدعي، لا تقبل بينته، لأنه ساعي في نقض ما تم به، لأنه لو ظهر ذلك يبطل الصلح.
وإذا ادعى على آخر مالاً معلوماً، فادعى المدعى عليه الصلح إن كان الصلح على جنس الحق، لا حاجة إلى ذكر القبض بدل الصلح، وإن كان الصلح على خلاف جنس الحق لا بد من ذكر قبض بدل الصلح، ومن ذكر قبضه في مجلس الصلح، وهل يشترط بيان بدل الصلح؟ بعض المتأخرين قالوا: يشترط، وبعضهم قالوا: لا يشترط.
وذكر يعني عن بيانه؛ ادعى داراً في يدي رجل، فادعى المدعى عليه الصلح، ولم يقم له على ذلك بينة، وقضى القاضي بالدار للمدعي، وباعها المدعي من رجل، ثم إن المدعى عليه الدار أراد أن يحلف المدعي بالله؛ ما صالحتني عن دعواك في الدار قبل قضاء القاضي بالدار فله ذلك، فإذا حلفه ونكل عن اليمين كان للمدعى عليه الخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن وإن شاء ضمنه.
ادعى على رجل داراً في يده، وصالحه المدعى عليه على دراهم مسماة، يدفعها المدعى عليه إلى المدعي ودفع، ثم إن المدعى عليه أقام بينة على أن المدعي قال بعد الصلح: حكونه أوردم كه جندين مال بباطل أذرى بستدم، دفع بينته وبطل الصلح، وكان له أن يسترد من المدعي ما دفعه إليه، وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا ينبغي أن لا يسمع بينته لأنه افتدى يمينه بما يدل، فلا يكون له أن يرجع فيه.(10/357)
-----
وفي «المنتقى»: ادعى ثوباً في يدي رجل، فصالح المدعى عليه المدعي على عشرة دراهم يدفعها إلى المدعي، ودفع ثم إن المدعى عليه أقام بينة على إقرار المدعي أنه لا حق له في هذا الثوب، إن شهدوا على إقراره قبل الصلح، فالشهادة باطلة والصلح جائز، لأن المدعى عليه قد صالح وهو منكر، فإنما افتدى يمينه بما يدل.
وكذلك لو كان المدعى عليه حلف المدعي عليه فنكل، وقضى القاضي عليه بنكوله بالثوب للمدعي، ثم جاء المدعى عليه ببينة يشهدون على إقرار المدعي قبل القضاء أنه لا حق له في الثوب، لا يلتفت إلى شهادته، وإن أقام المدعى عليه بينة على إقراره بعد الصلح أنه لم يكن له في الثوب حق أبطلت الصلح.
رجل ادعى على ميت ديناً في تركته بحضرة أحد ورثته، أو ثبت الدين بالبينة، فجاء وارث آخر غير الذي قامت عليه البينة، وصالح مع المدعي على بعض ما ادعاه، ثم إن هذا المصالح أقام بينة على المدعي أن المورث قد أوفاك هذا المال، وكنت مبطلاً في هذه الدعوى لا تسمع بينته، ولو أقام غير المصالح من ورثة الميت بينة على أن المورث قد كان أوفاك هذا الدين يسمع.
رجل ادعى نكاح امرأة وأقام بينته على دعواه، فأقامت هي بينة على وجه الدفع أنه قد خالعها، فهذا دفع إذا لم يوقتا، أو وقت أحدهما دون الآخر وإن وقتا، وتاريخ الخلع سابق، فهذا ليس بدفع، وبينة المرأة مردودة.
أمة في يدي رجل ادعاها رجل، وقال: إنها أمتي وقد غصبها ذو اليد مني، وأقام ذو اليد بينة أنها كانت أمة فلان، وقد أعتقها فلان منذ عشرين سنة، وإنما تزوجتها، فهذا دفع.m
وإذا ادعى نكاح امرأة وهي تدعي إقرار المدعي بحريتها فهذا دفع، وكذلك إذا ادعت هي النكاح، وادعى هو الخلع فهذا دفع.(10/358)
-----
وإذا ادعى نكاح امرأة، وادعت أنها منكوحة فلان الغائب فهذا ليس بدفع، فرض القاضي على الزوج النفقة، فطلبها وادعى على وجه دفع الفرض أنها محرمة علي هذه الحالة، فهذا ليس بدفع، ولا يبطل فرض القاضي؛ لأنه ليس من ضرورة كونها محرمة أن لا يكون لها عليه النفقة، وأنها لو كانت في عدتها، فهي محرمة ولها عليه النفقة، ونفقة النكاح ونفقة العدة، فهذا لا يصلح دفعاً، ولو كان ادعى الخلع على المهر ونفقة العدة فهذا دفع.
رجل ادعى على زيد مثلاً بحضرته إني استأجرت من صالح محدود كذا إجارة طويلة مرسومة بكذا، وقبضت المحدود، ثم أجرته مقاطعة من زيد هذا الذي أحضرته بكذا مدة كذا، وبين جميع الشرائط في العقدين جميعاً ثم قال: ومضت مدة المقاطعة، وصار مال المقاطعة ديناً لي على زيد هذا وذلك كذا، فقال زيد في دفع دعواه: إني اشتريت هذا المحدود من صالح صاحب المحدود بكذا في يوم كذا، ونفذ البيع في أيام الفسخ، وذلك كذا، وسقط مال المقاطعة عني من وقت كذا، وذلك كذا، وهذا المدعي مبطل في دعواه جميع مال المقاطعة عليّ، فأقام بينة على ما ادعاه، وكان ذلك بعينه صالح صاحب المحدود؛ هل تسمع هذه البينة؟ وهل تندفع دعوى (220ب4) المدعي، فقد اختلف مشايخ زماننا فيه، والأظهر أنه يسمع البينة، وتندفع دعوى المدعي.
رجل ادعى على آخر أنه كسر سنه العليا، فقال المدعى عليه بطريق الدفع: إنه لم يكن له هذا السن أصلاً، وأقام على ذلك بينة فهذا ليس بدفع، وهذه البينة مردودة لأنها قامت على النفي.(10/359)
-----
وقعت في زمانننا أن رجلاً ادعى على رجل أن لفلان بن فلان عندك كذا وكذا، وإنه صبي، وجعل القاضي فلان أبا فلان وصياً لهذا الصبي، وهذا الصبي في ولاية هذا القاضي، ثم إن أبي فلاناً وكلني بقبض مال الصغير هذا منك وذلك كذا وكذا، وقضى القاضي بوكالة المدعى بشرائطه، وقبض المدعي المال، ثم إن هذا المدعى عليه بعد ذلك ..... ادعى على هذا الوكيل أن هذا الصبي فلان بن فلان قد أدرك ووكلني بقبض ماله أيها الوكيل عن الوصي، فقال الوكيل عن الوصي: بعثت المال إلى الصبي؛ هل يصدق؟ وقد قيل: لا يصدق أصله الوكيل بالبيع إذا قال بعدما عزل الموكل: بعته أمس؛ الوكيل يقبض إذا أثبت وكالته بالبينة، وقضى القاضي بوكالته، ثم إن المطلوب ادعى أن الطالب قد مات قبل دعواه وليس له حق القبض، فهذا دفع؛ لو أقام البينة عليه تندفع دعوى المدعي.
حانوت استحق من يد رجل بالبينة، ورجع المستحق عليه على بائعه بالبينة، فأقام بائعه بحضرته وبحضرة المستحق أن المستحق أقر أن هذا الحانوت كان ملك أبي؛ مات وتركه ميراثاً لي لا وارث له غيري، وإن ولي قال في حياته وصحته: جميع هذا الحانوت ملكي بسبب صحيح، وفي يدي بحكم الإجارة لا ملك لي فيه، وقد كنت صدقته في هذا الإقرار، ثم بعته بعد ذلك من المستحق عليه، وإن قضى القاضي للمستحق وقع باطلاً، فهذا دفع صحيح.(10/360)
-----
ولو أن البائع لم يقل هذا، وإنما قال: إن المستحق قد كان قبل دعوى الحانوت التي في يد فلان ملك فلان بن فلان، والأب يدعي الحانوت لنفسه، وهذا تناقض، فهذا دفع لدعوى المدعي إذا ادعى أرضاً في يدي رجل، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن المدعى مبطل في هذه الدعوى لما أنه طلب مني أن أدفع هذه الأرض إليه مزارعة، أو قال: طلب مني أن أؤجره هذه الأرض منه، فهذا دفع لدعوى المدعي؛ دلال دلالى كردم مردي راتا خانه خريده زمردي بازاين دلال هميم خانه دعوى سنكيد يد هميم مشتري بملكي مشتري دفع سيكويد كه أين خانه رادلالي، كرده امرأته آز فلان خريدم، هل يكون هذا دفعاً قال: ينظر؛ إن كان الدلال قال للمشتري: اشتره فإنه ملك هذا البائع، فهذا دفع، وإن لم يقل: فإنه ملك هذا البائع، فهذا لا يكون دفعاً.
رجل ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: اشتريتها من فلان، وأنت أجزت هذا البيع، فهذا لا يكون إقراراً بالملك للمدعى عليه، ولا يكون دفعاً لدعوى المدعي.(10/361)
-----
قال في «الأقضية»: رجل ادعى داراً في يدي رجل، وأقر ذو اليد أنها كانت للمدعي، ثم قال بعد ذلك: إنها لفلان أودعنيها، إن أقام البينة على الإيداع اندفعت عنه الخصومة سواء بدأ بالإقرار للمدعي، ثم بني بالإيداع، أو على الغائب لأن أكثر ما في الباب أنه أقر بابتداء كلامه بكون الدار ملكاً للمدعي، إلا أن كونها ملكاً للمدعي لا ينافي كون يد صاحب اليد يد أمانة، لجواز أن المقر له أجرها من الغائب أو أعارها، ثم إن الغائب أودعها عنده، وإذا ثبت أن كونه ملك المدعي لا ينافي كون يده يد أمانة يقبل بيانه، وإن لم يكن له بينة أن بدأ بالإقرار للمدعي وبنى بالإيداع؛ يؤمر بالتسليم إلى المدعي بعد ذلك إن حضر الغائب وصدقه، لا ينزع الدار من يد المدعي؛ لأن حقه كان أسبق، لكن يقال للمقر له: أقم البينة على أن الدار لك، وإن بدأ بالإيداع، وبنى بالإقرار يؤمر بتسليم الدار إلى المدعي، لأنه ثبت حق المدعي، وحق الغاصب موهوم؛ لأنه قد صدق المدعي وعسى يكذبه الغائب، وعلى تقدير التكذيب؛ لا يثبت حق الغائب، ولو لم يقم البينة على الإيداع، ولكن علم القاضي أن الغائب أودعها إياه لم يجعل بينهما خصومة، وكذا لو أقر المدعي بذلك، ولو علم القاضي أنها للمدعي، وأقام الذي في يديه البينة أن فلاناً الغائب أودعها؛ لا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب، ولو علم القاضي أن الغائب غصبها من المدعي وأودع ذا اليد، فإنه يأخذها من ذي اليد، ويسلم إلى المدعي، وذكر في باب اليمين أن ذا اليد لو قال: أودعنيها الغائب، ولم يكن له بينة يحلف، إن حلف برىء، وإن نكل لزمه ولو جاء المقر له الأول كان له أن يأخذ من المدعي؛ لأن الإقرار له سابق، ثم يقال للمقر له الثاني، أو الناكل له: أثبت على خصومتك مع المقر له الأول إن أقام البينة أخذه، وإن لم يكن له بينة يحلف، إن حلف برئ وإن نكل لزمه.
(10/362)
-----
بائع العبد إذا طلب الثمن من المشتري، وقال المشتري: إنك مبطل في هذه الدعوى لأنك بعت الحر، فإنك حلفت وقلت: إن اشتريت عبداً فهو حر، ثم اشتريت هذا العبد بعد يمينك، وعتق عليك وبعته مني، فهذا دفع لو أثبته بالبينة، وكذلك لو قال: حلفت وقلت: كل عبد اشتريته فهو حر، ثم اشتريت هذا العبد بعد اليمين مني عليك، ثم بعته مني.
كذلك لو قال: أعتقت هذا العبد قبل أن تبيعه مني، فهذا كله دفعاً صحيحاً، ذكر الفصل الأخر في «الزيادات» من غير ذكر خلاف، وذكر الفصل الآخر عن أبي يوسف، وأبي حنيفة أن بينة المشتري لا تقبل على البائع بذلك حتى لا يسترد المشتري الثمن من البائع، ولكن يعتق العبد على المشتري لإقراره بذلك؛ والله أعلم.
الفصل الرابع والعشرون: في دعوى الوصية، وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك، وإقراره بالوصية لرجل آخر
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيره، وترك أباً لا وارث له سواه، فأقام رجل بينة أن الميت أوصى له بعبده هذا الذي يقال له: سالم، وأنكر الوارث ذلك وقال: لم يوص الميت لك بشيء، إنما أوصى لهذا الرجل الآخر بعبده هذا الذي يقال بزيع، وصدقه المقر له بذلك، فالقاضي يقضي لصاحب البينة بسالم، ولا يقضي للمقر له من بزيع شيئاً؛ لأنه تعذر تنفيذ الوصيتين لأنهما يزيدان على الثلث، ومحل تنفيذ الوصايا عند عدم إجازة الورثة الثلث، وقد عدم إجازة الورثة هاهنا فيما زاد على الثلث، لما زعم الوارث أن الميت أوصى بزيع لا غير.(10/363)
-----
وتعذر تنفيذ كل وصية بمقدار النصف حتى يكون تنفيذ الوصايا بقدر الثلث، لأن وصية بزيع لم تثبت في حق صاحب البينة؛ لأن وصية بزيع تثبت بالإقرار، والإقرار حجة قاصرة، فإذا تعذر القضاء بالوصيتين بكمالهما، وتعذر القضاء بالشركة لا بد من القضاء بأحدهما، فكان القضاء بما ثبت بالبينة، والبينة حجة في حق الناس كافة أولى من القضاء بما ثبت بالإقرار، وإنه حجة قاصرة.
فإن قيل: ينبغي أن يقضى للمقر له بجميع بزيع، لأن بزيعاً في يد الوارث، وقد أقر الوارث أن جميعه للمقر له.
قلنا: الوارث ما أقر بزيع إقراراً مطلقاً، إنما أقر به بجهة الوصية، والوصية تنفذ في الثلث، والقاضي لما قضى بسالم بحكم الوصية لأن القضاء يكون على وفق الدعوى، وصاحب البينة ادعاه بحكم الوصية، وإذا تعين سالم محلاً للوصية؛ خرج بزيع من أن يكون محلاً لها، فالإقرار من الوارث بزيع حصل في غير محله، فلم يصح.
يوضحه: أن الإقرار ببزيع لما حصل بجهة الوصية، ومحل الوصايا الثلث كان الإقرار بزيع من الوارث بشرط أن يسلم للوارث ضعف بزيع، وبعدما قضى القاضي بسالم، لو قضينا ببزيع بإقراره لا يسلم الوارث ضعفه، فلا يكون تنفيذ إقراره كما أقر به.
فإن قيل: لمَ لا يقضى للمقر له من بزيع بقدر ثلث ما بقي من التركة سوى سالم بحكم إقرار الوارث؟
وبيان ذلك أن في زعم الوارث أن صاحب البينة مبطل في دعواه، وأنه أخذ سالم بغير حق، فصار سالم بمنزلة الهالك حكماً، ولو هلك حقيقة، وقال الوارث: إن (221أ4) الميت أوصى ببزيع، تنفذ الوصية في بزيع بقدر ثلث ما بقي من التركة وهو ثلث العبدين؛ فكذا هاهنا.
(10/364)
-----
والجواب عن هذا أن يقال بأن القاضي لما قضى بوصية سالم، فقد قضى بجميع ما يملك الموصى الإيصاء به، لأن القاضي إنما يقضي بالوصية بقدر الثلث، فإذا قضى بوصية سالم، وسالم ثلث ماله، فقد امتاز ما يملك الميت الإيصاء به، ولم يبق في يد الوارث شيء مما يملك الميت الإيصاء به فجعل الابن مقراً له بالوصية بما لا يملك الميت الإيصاء به، فرفع إقراره لغواً، ثم إذا قضى القاضي بسالم لصاحب البينة لو اشترى الوارث سالماً بزيع، جاز الشراء وكان ينبغي أن لا يجوز؛ لأن من زعم الوارث أن صاحب البينة أخذ سالم بغير حق، وأنه لم يصر ملكاً له بل بقي على حكم ملك الميت، وصار ملكاً للمقر له، وصار الوارث مشترياً ما هو يملكه بملك غيره أولى.
قلنا في زعم الوارث: أن سالماً صار ملكاً لصاحب البينة ظاهراً عند محمد، وإحدى الروايين عن أبي حنيفة فإن في القضاء بالوصية بشهادة الزور روايتان؛ عن أبي حنيفة في رواية ينفذ ظاهراً لا باطناً كما في الأملاك المرسلة، وفي رواية ينفذ ظاهراً وباطناً، وإذا صار سالم ملكاً لصاحب البينة ظاهراً وباطناً بقي بزيع على ملك الوارث ظاهراً وباطناً حتى لا تزداد الوصية على الثلث.
ولهذا لو باع الوارث بزيعاً من غيره يجوز وطريقه ما قلنا؛ ولما كان هكذا كان في زعم الوارث أنه يشتري ما هو ملك غيره ظاهراً، وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً، ولو كان في زعم الوارث أن شراء سالم فاسد، ففي زعم بائعه أن شراءه صحيح.
والحكم في مثل هذا يبنى على زعم البائع؛ كما لو اشترى عبداً أقر بحريته، وكذلك لو كان الوارث اشترى سالماً بألف درهم كان الشراء جائزاً، لما ذكرنا أنه اشترى ما هو مملوك لغيره ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً، إلا أن التفاوت ما بين الفصلين؛ أن في الفصل الأول يضمن الوارث قيمة بزيع للمقر له بزيع.(10/365)
-----
وفي الفصل الثاني: يؤمر الوارث بتسليم بزيع إلى المقر له، وهذا الجواب مستقيم على قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله بأن في زعم الوارث أن سالماً بقي على ملك الميت باطناً عند محمد، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأنه وصل إليه بحكم الميراث لا بحكم الشراء، وأن الشراء منه كان تخليصاً للمغصوب فإذا وصل سالم إلى الوارث فقد وصل إليه بحكم الميراث ثلثا ملك الميت بزعمه، فيجب تنفيذ وصية بزيع فيه، لأن المانع من تنفيذ وصيته عدم سلامة ضعفه للوارث، وقد زال هذا المانع لما سلم سالم للوارث بحكم الميراث، غير أن في الفصل الأول عجز الوارث عن تنفيذ وصيته في عينه، فينفذها في قيمته، وفي الفصل الثاني؛ قدر على تنفيذ وصيته في عينه فيسلم عينه إلى المقر له.
رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم؛ لا مال له غيره، فأقر الوارث أن الميت أوصى بهذا العبد لفلان، وإني أجزت وصيته بعد موته، وأقام رجل بينة أن له على الميت ألف درهم، وجحد الوارث دينه، فإن القاضي يبيع العبد بالدين ويقضي الدين من ثمنه؛ لأن الدين والوصية لو كانا ثابتين بالبينة كان الدين مقدماً على الوصية، فإذا كان الدين ثابتاً بالبينة، والوصية ثابتة بالإقرار؛ لأن تقدم الدين كان أولى، وإنما شرط محمد رحمه الله إجازة الوارث وصية الميت لكون الوصية حاصلة بجميع مال الميت، فإذا باعه القاضي بدين ألف درهم، وقضى دين الغريم من ثمنه، ثم إن الوارث اشترى العبد أو رجع العبد إليه بهبة أو وصية أو ميراث، فأراد المقر له أن يأخذه من الوارث بإقراره له بالوصية لا سبيل له عليه.
فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة؛ فإن في المسألة المتقدمة؛ إذا قضى القاضي بسالم لصاحب البينة، ثم وصل إلى الوارث سالم بشراء أو هبة أو وصية، فإنه يؤمر الوارث بدفع بزيع إلى المقر له بالوصية بزيع.(10/366)
-----
والفرق: أن في مسألتنا القاضي يبيع العبد حول حق الموصى له من العبد إلى ثمنه، وله هذه الولاية.
بيانه: أن للقاضي ولاية بيع الموصى به إذا كان منقولاً على الموصى له للحفظ عليه حال عجز الموصى له عن الحفظ بنفسه بالغيبة، وما أشبه ذلك لما عرف أن حفظ الدراهم أيسر من حفظ العين، وهاهنا الموصى له عجز عن الحفظ بنفسه؛ لأن القاضي حال بينه وبين العبد بسبب دين الغريم، فقد حصل بيع القاضي عن ولاية شرعية فنفذ ظاهراً وباطناً، فظهر العبد عن الوصية، وتحولت الوصية إلى بدل العبد.
ولهذا لو ظهر أن الشهود على الدين كانوا عبيداً يبطل قضاء القاضي، ويدفع بزيع إلى المقر له؛ لأنه لم يسلم له بالميراث منفعة، فإذا وصل إليه سالم فقد سلم له منفعة، فيلزمه رده إلى المقر له.
ولو أن الغريم مات بعدما قبض الثمن وورثه وارث الميت الأول، فإن ورث تلك الألف بعينها، فللمقر له أن يأخذها، وإن ورث مالاً آخر غير تلك الألف يباع منه بقدر ألف درهم، ويدفع ذلك إلى المقر له؛ لأن في زعم الوارث والمقر له أن الوصية تحولت إلى ثمن العبد، وأن الغريم حين أخذ الثمن صار غاصباً له، وصار ذلك ديناً عليه والدين مقدم على الميراث وزعمهما حجة في حقهما، ولو لم يرثه وارث الميت، ولكن أوصى الميت للمقر له بتلك الألف بعينها، على الوارث أن يردها على المقر، وإن كان قد أوصى له بمال آخر يعطي من ذلك للمقر له قدر ألف درهم. وصار الجواب في الوصية نظير الجواب في الميراث؛ لأن الدين كما يقدم على الميراث يقدم على الوصية أيضاً.
(10/367)
-----
وإن لم يكن شيء من ذلك ولكن وهب الغريم للمقر له تلك الألف بعينها، أو ألفاً أخرى إن كانت الهبة في حالة المرض، فالجواب فيها كالجواب في الوصية، لأن الهبة في مرض الموت وصية، وإن كانت الهبة في حالة الصحة؛ إن كان الموهوب تلك الألف بعينها أمر بالتسليم إلى الغريم؛ لأنه وصل إليه عين ما أقر به. وإن كان الموهوب ألفاً أخرى لا يؤمر بالتسليم إلى الغريم؛ لأنه لم يصل إليه ما أقر له به. ولا ما تعلق به حقه لأن دين الحر الصحيح لا يتعلق بماله على ما عرف.
ولو أن القاضي لم يبع العبد من الأجنبي بالدين، لكن أعطاه الغريم بدينه، فقال: هذا العبد بيع لك بدينك، أو قال: جعلته لك بدينك فأخذه الغريم على هذا، ثم إن الوارث اشتراه منه، أو وهبه الغريم أو تصدق به عليه، فلا سبيل للمقر له على العبد، وهذا لو باعه من الأجنبي سواء؛ لأن بيع القاضي إنما يصح على المقر له بطريق الحفظ، وفي هذا المعنى البيع من الأجنبي ومن الغريم سواء؛ فصح بيع القاضي من الغريم، وانتقل حق الموصى له المقر به إلى الثمن.
وهذه المسألة دليل على أن البيع ينعقد بلفظ الجعل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه ينعقد لوجود معنى البيع وهو تسليم العين بدل، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ، ألا ترى أن من قال لغيره: جعلت لك ابنتي بألف درهم ؛كان نكاحاً لوجود معنى النكاح؛ كذا هاهنا.
قال: ولو أن القاضي لم يبع العبد من الغريم ولكن جعله صالحاً للغريم من ماله؛ بأن قال: هذا العبد صلح لك من مالك وسلمه إليه، ثم وصل العبد إلى الوارث يوماً من الدهر يؤمر الوارث بتسليمه إلى الموصى له المقر به بخلاف ما لو باعه من الغريم ثم وصل إلى الوارث، فإن هناك لا يؤمر الوارث بتسليمه إلى الموصى له المقر له.(10/368)
-----
والفرق: وهو أن الصلح يتعلق بالدين المضاف، ولهذا لو صالح مع غيره على دين له عليه ثم ظهر أنه لا دين كان الصلح باطلاً، وفي زعم الوارث أنه لا دين للغريم على الميت، وأن الصلح وقع باطلاً، وأن حق المقر له في عين العبد باقٍ على حاله، فإذا وصل العبد إليه، يؤمر بتسليمه إلى المقر له عملاً بزعمه، أما البيع لا يتعلق بالدين المضاف إليه (221ب4) ولهذا إذا باع شيئاً من غيره بالدين الذي له عليه، ثم ظهر أنه لا دين؛ لا يبطل البيع، فيتحول حق الموصى له المقر به من العين إلى الثمن بزعم الكل، فلهذا لا يؤمر الوارث بتسليم العين إلى المقر له متى وصل العين إليه.
رجل مات وترك ثلاثة أعبد قِيَمُهم على سواء لا مال له غيرهم، شهد شهود أن الميت أوصى بهذا العبد الأكبر لهذا الرجل؛ وجحد الوارث في ذلك، وأقر أن الميت كان أوصى بهذا العبد الأصغر لهذا الرجل الآخر؛ فلم يقض القاضي بشهادة الشهود حتى أعتق المقر له العبد المقر به نفذ عتقه؛ لأنه أعتق ملك نفسه؛ لأن الوارث أقر بالأصغر، وصح إقراره لأنه ملكه ظاهراً، ألا ترى أن الوارث لو أعتقه بنفسه صح إعتاقه، فصح إقراره به للمقر له، فملكه المقر له فنفذ عتقه.
فإن قضى القاضي بعد ذلك للمشهود له بالعبد المشهود به، يؤمر المقر له بتسليم قيمة العبد المقر به إلى الوارث؛ لأن الوارث ما أقر بالعبد الأصغر له مطلقاً إنما أقر له به وصية، وحين قضى القاضي للمشهود له بالمشهود به، فقد بطلت وصية المقر له، لأن محل الوصية الثلث، والثلث صار موضوعاً في يد المشهود له بولاية القضاء فيلزمه رد العبد الأصغر، وتعذر رده صورةً بالإعتاق، فيجب رده معنىً برد القيمة.(10/369)
-----
فإن قيل: إذا بطلت الوصية للمقر له ينبغي أن يبطل إعتاقه؛ كما لو كان الوارث أقر بوصية الأكبر لهذا الرجل، وأعتق المقر له الأكبر، ثم قضى القاضي لمدعي الأكبر بالبينة، فإنه يظهر أن العتق باطل في الأكبر، ويسلم الأكبر للمقضي له.
قلنا: في تلك المسألة قضى بعين العبد المقر به لغير المقر له، فيظهر أنه أعتق ملك الغير، وهاهنا ما قضى بعين المقر به لغير المقر له؛ لأن المقضي به العبد الأكبر دون الأصغر، إلا أنه في معنى البدل عن الأصغر؛ لأنه ما لم يسلم الأكبر للمقر لا يسلم الأصغر للمقر له، فكان في معنى البدل عنه من هذا الوجه.
واستحقاق بدل العتق لا يوجب بطلان العتق؛ لأنه لا يظهر أنه أعتق ما لا يملك؛ لأن بدل المستحق بعد القبض مملوك للقابض ملكاً فاسداً على ما عرف، فإذا لم يبطل العتق وبطلت وصيته، وعجز عن رد عين العبد وجب رد القيمة.
فإن قيل: القيمة لو وجبت وجبت للوارث، وفي زعم الوارث أنه أعتق نفسه، وأنه لا قيمة عليه.
قلنا: القاضي لما قضى للمشهود له بالمشهود به وصية، فقد كذب الوارث فيما زعم، فالتحق زعمه بالعدم؛ ألا ترى أن المشتري عند الاستحقاق يرجع بالثمن على البائع، وإن كان في زعم المشتري أن المشترى ملك البائع؛ إلا أن القاضي لما قضى بالملك للمستحق، فقد كذب المشتري في زعمه، فالتحق زعمه بالعدم كذا هاهنا.
ولو أن المقر له لم يعتق العبد المقر به حتى قضى القاضي بالعبد المشهود به للمشهود له؛ بطلت وصية المقر له، فإنما أعتق ما ليس بمملوك، فلا يصح إعتاقه، ولا كذلك ما قبل قضاء القاضي للمشهود له؛ لأن قبل قضاء القاضي وصية المقر له على الصحة، فإنما أعتق المقر له ملك نفسه، فإن وصل العبد المشهود إلى يد الوارث يوماً من الدهر بوجه من الوجوه، يؤمر بتسليم المقر به إلى المقر له، لأن في زعم الوارث أن هذا العبد لم يكن موصىً به، وأنه في يد المشهود له بحكم الغصب.l(10/370)
-----
فإذا وصل إليه بطريق من الطرق؛ كان واصلاً إليه بحكم الميراث، فيؤمر بتسليم المقر به إلى المقر له؛ لأن قبل هذا إنما كان لا يؤمر به مع إقراره أنه موصى به لانعدام شرطه وهو سلامة ضعفه له، فإذا وصل إليه المشهود به بحجة الميراث، فقد سلم له ضعف المقر به فأمر بالتسليم إلى المقر له.
فإن قيل: أليس إنكم قلتم: إن القاضي لما قضى للمشهود له بالمشهود به، فقد أبطل وصية المقر له في المقر به، وبعدما بطل حقه في المقر به كيف يؤمر بتسليم المقر به إليه؟.
قلنا: معنى قولنا: أبطل وصية المقر له أنه امتنع من تنفيذ وصيته في المقر به لانعدام شرطه، وهو سلامة ضعفه للوارث، وقد جعل هذا الشرط بوصول سالم إليه، فيجب تنفيذ وصية المقر له، ويجوز أن يمتنع نفوذ الوصية لمعنى من المعاني، ثم يجب تنفيذه عند زوال ذلك المعنى.
ألا ترى أن من أوصى بعبد لإنسان ثم مات وعليه دين مستغرق، فإنه لا يجب تنفيذ الوصية في العبد لمكان الدين، فإن سقط الدين بمعنى من المعاني نحو الإبراء أو ما أشبهه، فإنه يجب تنفيذ الوصية فيه لزوال المانع كذا هاهنا.
أو نقول: بأن القاضي وإن أبطل وصية المقر له إلا أن الوارث مصر على إقراره بالوصية له، فأمر بالتسليم بحكم هذا الإقرار.
ثم قال: ولا يعتق العبد المقر به على المقر له بذلك الإعتاق السابق، فلم يصحح هذا العتق من المقر له على سبيل التوقف، وإنه وجد بعد سبب الملك له، وهو إقرار الوارث، والعتق مما يتوقف على المعتق إذا وجد بعد وجود سبب الملك.
أما عند محمد، فإنما لم يتوقف هذا العتق على المقر له؛ لأنه لا توقف على مالك ظاهر وهو الوارث، فإن المقر به ملك الوارث ظاهراً، ولهذا لو أجاز الوارث هذا العتق ينفذ عليه.(10/371)
-----
والأصل عند محمد: أن العتق متى توقف على إجازة مالك ظاهر لا يتوقف على غيره كما في المشتري من الغاصب إذا أعتق، فإنه لا يتوقف عليه، لأنه توقف على إجازة مالك ظاهر، فلا يتوقف على غيره وهو المشتري.
وبهذا الحرف يقع الفرق في مسألتنا ومسألة المشتري من الغاصب على مذهبه، وبينما إذا أوصى الرجل بعبده لإنسان، ثم مات الموصي، وعليه دين يحيط بماله، ثم إن الغرماء أبرؤوا الميت عن الدين، فإن العتق ينفذ على الموصى له، لأن هناك ما توقف العتق على إجازة أحد سوى الموصى له، فإن الغرماء أو الورثة لو أجازوا ذلك العتق لا ينفذ، فجاز أن يتوقف على إجازة الموصى له.
وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف: فإنما لا يتوقف هذا العتق على المقر له؛ لأنه وجد قبل سبب الملك أو بعد وجود سبب قاصر، والعتق عندهما قبل وجود سبب الملك، أو بعد وجود سبب قاصر لا يتوقف.
بيان ذلك: العتق من المقر له، إنما حصل بعدما أبطل القاضي وصيته، وكذب الوارث في إقراره بالقضاء بالشهود به للمشهود له، وهو السبب المتيقن لملك المقر له؛ إلا أن الوارث مصر على إقراره، فأمر بتسليم المقر به إلى المقر له بالإقرار الموجود بعد الإعتاق، فكان الإعتاق حاصلاً قبل سبب الملك، وإن لم يبطل السبب بقضاء القاضي لا أقل من أن ينتقض السبب.
والأصل عندهما: أن العتق إنما يتوقف بعد وجود تمام سبب الملك، وبهذا الحرف خرج مسألة المشتري من الغاصب؛ لأن هناك العتق وجد بعد تمام سبب الملك على ما عرف في تلك المسألة، أما ههنا بخلافه، والله أعلم.
(10/372)
الفصل الخامس والعشرون: في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر ودعوى كل واحد منهما الإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما، وفي دعوى الرجل عيناً في يدي رجل وإقرار صاحب اليدبالعين له، ثم دعوى صاحب اليد الإيداع من جهة غيره
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: عبد في يدي رجل ادعاه رجلان كل واحد منهما يدعيه أنه عبده أودعه (عند) الذي هو في يديه وذو اليد يجحد ولا يقر بل يسكت، فالقاضي يسمع بينتهما عليه؛ لأن الساكت أنزل منكراً حتى يصل المدعي إلى إثبات حقه، وهذا لأن المدعي استحق الجواب عليه إما بنعم أو لا، والسكوت محتمل الأمرين، فأثبتا الإنكار؛ لأنه احتيج في الاستحقاق به إلى قرينة أخرى وهي البينة.
فلو أن القاضي سمع شهادة شهودهما إلا أنه لم يقض بشهادة الشهود لعدم ظهور عدالتهم يقضي بالعبد بينهما نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بجميع العبد للذي لم يقر له ذو اليد؛ لأن ذا اليد لما أقر به لأحد المدعيين، فقد صار العبد مملوكاً له رقبة ويداً، ونزل المقر له مع غير المقر له منزلة ذي اليد مع الخارج إذا أقاما البينة على الملك المطلق، وهناك قضي بكل العبد للخارج واعتبره بما إذا أقر لأحدهما قبل إقامتهما البينة، ثم أقاما البينة وهناك يقضى بالعبد لغير المقر له بالطريق الذي قلنا.(10/373)
-----
والجواب وهو الفرق بينما قبل إقامة البينة، وبينما بعدها أن التزكية لا تجعل الشهادة حجة، بل تظهر كونها حجة موجبة للاستحقاق من وقت (222أ4) وجودها، فإذا كانت الشهادة قبل وجود الإقرار حجة، فعند ظهور العدالة يظهر الاستحقاق قبل الإقرار ويتبين أنَّ الإقرار كان باطلاً في شخص وهو ليس بمالك، ومتى ظهر الإقرار بطل التصديق، لأنه ينبني عليه صار وجودهما، والعدم بمنزلة، ولو لم يوجد أيقضي بينهما، فكذا إذا صار وجودهما والعدم بمنزلة، فأما إذا كانت الشهادة بعد الإقرار، فعند ظهور العدالة لا يظهر الاستحقاق قبل الإقرار فلا يتبين أن الإقرار كان باطلاً، وإذا لم يبطل الإقرار صار المقر له صاحب يد وغير المقر له خارج، فيقضي ببينة الخارج، عبارة أخرى للفرق بينهما، أنهما إذا أقاما البينة بعد الإقرار فقد استحق كل واحد منهما القضاء بجميع العبد عند تركته ببينته على الإنفراد، ونصف العبد عبد تركته ببينته وبينة صاحبه، فهو بإقراره لأحدهما، يريد إبطال الاستحقاق الثابت لكل واحد منهما عليه، أما استحقاق المقر له؛ فلأنه يقول له من حيث المعنى: أنا مقر لك بالملك في العبد، والبينة إنما تسمع على الجاحد لا على المقر فبطل استحقاقه عليه بالبينة. وأما استحقاق الآخر فلأنه يقول له من حيث المعنى: العبد ملك المقر له، وفي يدي أمانة، ويد الأمانة ليست بيد خصومة، وليس له ولاية إبطال الاستحقاق الثابت لكل واحد منهما بإقراره، فصاروجود هذا الإقرار منه والعدم بمنزلة، والتقريب ما ذكرنا، فأما إذا أقر قبل إقامة البينة، فليس في هذا الإقرار إبطال الاستحقاق لهما عليه، لأن كل واحد منهما لم يستحق عليه شيئاً قبل إقامة البينة، لأن مجرد الدعوى لا يصلح سبباً للاستحقاق، فصح إقراره، وصار المقر له صاحب يد والتقريب ما ذكرنا، وكذلك لو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً على دعواه، ثم إن صاحب اليد أقر بالعبد لأحدهما، فالقاضي يدفع العبد الى المقر له لما(10/374)
-----
ذكرنا، ولا يبطل ما أقام كل واحد منهما من الشاهد الواحد، حتى لو أقام كل واحد منهما بعد ذلك شاهداً آخر يقضى بالعبد بينهما، لأن كل واحد منهما استحق القضاء بهذا العبد منذ تمام الحجة، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال استحقاق كل واحد منهما فلا يقدر عليه.
يوضحه: أن كل واحد منهما قصد إثبات ملك مؤكد بالحكم والإقرار لا يدركه ذلك، فصار وجود إقراره فيما هو مقصود والعدم بمنزلة، فإن أقام غير المقر له شاهداً آخر، قضى بالعبد؛ لأن شهادة الشاهد الأول لما لم تبطل تنضم شهادة الثاني الى شهادة الأول، فتمت الحجة في حق غير المقر له، ولم تتم الحجة في حق المقر له، فقضى بجميع العبد لغير المقر له، لهذا، فإن لم يقض القاضي لغير المقر له في هذه الصورة، حتى أقام المقر له شاهداً آخر قضى بالعبد بينهما، لأن الحجة قد تمت في حق المقر له أيضاً وهما خارجان من حيث المعنى، ولارجحان لأحد هما على صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الاستحقاق على صاحب اليد، ولم يدع أحدهما الاستحقاق من جهة صاحب اليد كما في ما تقدم، فلم يترجح أحدهما على الآخر، فيقضى بالعبد بينهما، فإن لم يقض القاضي بالعبد بينهما نصفان في هذه الصورة، حتى قال غير المقر له: أنا أعيد شاهدي الأول على المقر له، على أن العبد لي وأعاد، فالقاضي يقضي بكل العبد لغير المقر له؛ لأنه لما أقام شاهده الأول على المقر له فقد ترك الاستحقاق الثابت له بحكم شهادة الشاهد الذي شهد على صاحب اليد وأبطل شهادة ذلك الشاهد، وعند ذلك ينفذ إقرار المقر؛ لأن عدم نفاذ إقراره قبل هذا كيلا يبطل ما أقام غير المقر له من الشهادة، فإذا رضي ببطلانه، فقد زال المانع فنفذ إقرار المقر، فصار المقر له صاحب يد ووقع الدعوى بين الخارج، وبين صاحب اليد، فيقضى بالعبد للخارج، فإن قال المقر له: أنا أعيد شاهدي الأول أن العبد عبدي، لم يلتفت إليه لأنه صار مقضياً عليه، ولأنه لا يتصور في(10/375)
حقه أن(10/376)
-----
يترك الاستحقاق الثابت له بما أقام من الشاهد على ذي اليد، ويستأنف الخصومة استئنافاً من غير المقر؛ لأنه صاحب يد فلا تسمع منه البينة على الملك المطلق، فإن قال غير المقر له: قد مات شاهدي الأول أو غاب، يقال له: هاتِ بشاهد آخر فأقمه على المقر له حتى يقضى لك بكل العبد، وهذا لأن شهادة الشاهد الأول لا تبطل بموته، ولا بغيبته، فكان موته وغيبته وبقاؤه حياً سواء، فإذا أقام شاهداً آخر، انضم الشاهد الثاني الى الشاهد الأول فيقضى له بالعبد كله، إلا أن يقيم المقر شاهداً آخر مع شهادة الأول، قبل القضاء لغير المقر له فحينئذٍ يقضى بالعبد بينهما؛ لأن هذه الخصومة بناء على الخصومة الأولى وهما خارجان في تلك الخصومة، من حيث أن المعنى.
قال: أو يقيم المقر له شاهدين مستقبلين، فيقضي بينهما كما لو أقام كل واحد منهما شاهداً آخر، وهذه المسألة من المسائل التي كتب محمد بن سماعة الى محمد بن الحسن رحمه الله يستفرقه بينهما وبين المسألة التي فيها طعن القضاة الثلاثة، فكتب إليه محمد رحمه الله أن الصحيح أن يقضى بالعبد بينهما، ثم بينما لو أقام غير المقر له شاهدين مستقبلين على المقر له، وبينما أقام المقر له شاهدين مستقبلين على غير المقر له فقال: إذا أقام غير المقر له شاهدين مستقبلين يقضى بكل العبد له، وقال: إذا أقام المقر له شاهدين مستقبلين يقضى بالعبد بينهما.
(10/377)
-----
والفرق بينهما هو أن : لغير المقر له أن يستأنف الخصومة مع المقر له أن ما يدعيه غير المقر له في يد المقر له، فصار المقر له خصماً وهو ذو اليد، وغير المقر له خارج، فيقضى بالعبد للخارج، فأما المقر له فلا يمكنه أن يجعل الذي ليس بمقر له خصماً فيستأنف الخصومة معه، لأنه لا بد لغير المقر له فاعتبر إقامة الشاهدين بناء على الخصومة الأولى كأنه أقامها على ذي اليد فبقيا خارجين، فيقضى بالعبد بينهما، لهذا، فإن قيل: أنه لم يمكن أن يجعل إقامته شاهدين مستقبلين من المقر له على سبيل استئناف الخصومة مع المدعي لاستحقاق العبد عليه، يمكن أن يجعل هذا منه إبطالاً لما أقام غير المقر له من الشاهد الأول الذي أقامها على المقر، كما جعل فيما تقدم وهو ما ادعى ذو اليد أنه لفلان أودعه، فقبل أن يقضي القاضي ببينة مدعي الشراء.
حضر فلان وأقام البينة أنه له أودعه من ذي اليد كما أقر، حيث تبطل به بينة مدعي الشراء، فههنا يجب أن يكون كذلك، والجواب ثمة أمكن قبول بينته على إبطال بينة المدعي للشراء، لأن المقر له ببينته يثبت أن مدعي الشراء أقام البينة على مودعه وهو غائب، وبينة المدعي على المودع حال غيبة المودع باطلة، فأمكن قبول بينته لإبطال بينة المدعي، أما في مسألتنا: لا يمكن قبول بينة المقر على إبطال ما أقام غير المقر له من الشاهد، لأن أكثر مافي الباب أنه يثبت أن غير المقر له أقام البينة على المودع، لكن المقر له حاضر، وبينة المدعي على المودع حال حضرت المودع مقبولة، فلهذا افترقا.(10/378)
-----
قال محمد رحمه الله: عبد في يدي رجل ادعاه رجلان، كل واحد منهما أقام بينة أنه عبده أودعه الذي في يديه وصاحب البينة جاحد، أو ساكت، وقضى القاضي بالعبد بين المدعيين لاستوائهما في الحجة، ثم إن أحد المدعيين أقام بينة أن العبد عبده، لم ينتفع بتلك البينة، ولا يقضى على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد من المدعيين صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه؛ لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه، يقضى له بكل العبد، وإنما حرم كل واحد عن النصف ببينة صاحبه، وصار هو مقضياً عليه في شيء، لا يصير مقضياً له في عين ذلك الشيء.
فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي صار لصاحبه، ولم يكن له (222ب4) في ذلك النصف ملك قبل القضاء.(10/379)
-----
قلنا: إن لم يكن له فيه ملك كان له حق الملك، لأنه أقام البينة أن الكل له وأنها توجب حقيقة الملك عند إيصال القضاء بها، فوجب حق الملك وحق الملك معتبر بحقيقة الملك، ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه كذا ههنا، ولو عدلت بينة أحدهما ولم يعدل بينة الآخر، أو لم يقم الآخر شاهداً واحداً، فقضى به لمن عدلت بينته، ثم جاء الآخر ببينة عادلة، قضي له به؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه به من جهة صاحبه، لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك، ولا حق الملك لانعدام الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت له، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له، كيف يتصور إزالته فعلم أنه لم يصر مقضياً عليه فسمع دعواه، وبينته بعد ذلك، ولو أقام أحدهما البينة، فلم يزل ببينته حتى أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه، ودفع القاضي العبد إلى المقر له، ثم زكيت بينة الذي أقامها، وأخذ صاحب البينة العبد من المقر له، ثم إن المقر له أتى ببينة أنه عبده أودعه إياه ذو اليد، قبلت بينته، وقضي له بالعبد، لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر له قامت على ذي اليد، وجعل المقر له كالوكيل عنه على ما مر قبل هذا.
فإن قيل: الملك ثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وجعل المقر له كالوكيل عنه وتصديق المقر له إياه ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي فيجعل المقر له مقضياً عليه.
قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي بينته على ذي اليد وعند ظهور عدالة الشهود ثبت الاستحقاق في وقت الشهادة، فظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً؛ لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقراره بطل تصديق المقر له لكونه بناء عليه وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجودهما والعدم بمنزلة ولو عدما، وباقي المسألة بحاله كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده دون المقر له كذا ههنا.(10/380)
-----
وكذلك لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحبه ببينته يقضى للمقر له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن بينة صاحبه قامت على مودع المقر له، وهو ليس بخصم، والبينة متى قامت على غير خصم كان باطلاً.
فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على المودع، المقر له إنما يبطل إذا كان المقر له غائباً وقت إقامة البينة على مودعه، أما إذا كان حاضراً كانت مقبولة كما فيما تقدم، ويكون إقامة البينة على مودع المقر له، وههنا المقر له كان حاضراً وقت إقامة المدعي البينة.
قلنا: المقر له وإن كان حاضراً وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يديه حقيقة ههنا، لكنه غائب حكماً؛ لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يديه حقيقة ههنا لكنه غائب حكماً لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة، لأنه لم يكن للمقر له في العبد لا ملك ولاحق، ولم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يقضى له، فصار غائباً حكماً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إن لم يكن للمقر له حقيقة الملك، ولا حق الملك بإقامة الشاهد الواحد، ولكن له زيادة خصوصية في هذا العبد من بين سائر الأجانب، لأنه صار بحال يستحق هذا العبد بإقامة شاهد واحد، فكانت خصوصية معتبرة، واعتباره بخلاف ما نحن فيه على مامر، فإن قال غير المقر له: أنا أعيد شهودي على المقر له، هل تقبل بينته، فهذا على وجهين: إن كان ذلك بعد ما قضي ببينة المقر له، لا تسمع بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه ببينة المقر له، وإن كان ذلك قبل القضاء ببينة المقر له، قبلت بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه، ثم يقضى له بجميع العبد، لأنه أعاد البينة فقد أبرأ ذا اليد عن الخصومة ورضي بنفاذ إقراره، واستأنف الخصومة مع المقر له على ما مر، فتقررت يد المقر له، واجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد، فكانت بينة الخارج أولى.
(10/381)
-----
قال محمد رحمه الله في «لجامع»: دار في يدي رجل ادعاها رجل أخر، قال الذي في يديه الدار: أنها كانت للمدعي وفلان أودعنيها، وأقام البينة على ذلك، فلا خصومة بينهما فإقرار صاحب اليد أنها كانت للمدعي، لا يناقض دعواه الإيداع من فلان الآخر، لأن الجمع بينهما ممكن، فلعل أنها كانت للمدعي ثم صارت لفلان الآخر بوجه من الوجوه، ثم إن فلاناً أودعها صاحب اليد، وإذا لم يكن بين الكلامين تناقض يجب قبول بينته على ما ادعى من الإيداع، وإن لم يقم البينة على ما ادعي، لا تندفع عنه الخصومة لأنه أقر بالملك للمدعي، وتوجهت عليه الخصومة باعتبار يده، ولم يثبت ما يخرجه من الخصومة، وهو كونه مودعاً من جهة غيره فلا تندفع الخصومة عنه ويؤمر بتسليمها إلى المدعي بحكم إقراره، فإن حضر فلان وصدق صاحب اليد فيما قال، لا ينزع الدار من يد المدعي حتى يقيم الحاضر بينة أنها له، لأن صاحب اليد أقر بالدار للمدعي أولاً، وصح إقراره من حيث الظاهر، وصارت مستحقة للمدعي وإنما أقر للغائب بعد ذلك، فكان الإقرار للغائب لاغياً ملك المدعي، فلا يصح ويقال للغائب: إن شئت أن تأخذ الدار من المدعي أقم البينة عليه.(10/382)
-----
وكذلك لو أن صاحب اليد بدأ بالإقرار بالوديعة بأن قال: هذه الدار أودعنيها فلان وهي لهذا المدعي، إن أقام البينة على الإيداع تندفع عنه الخصومة، وإن لم يقم لا تندفع عنه الخصومة ويؤمر بتسليمها الى المدعي، وإن أقر أولاً للغائب ثم للمدعي فالأصل عندنا أن من أقر بعين لغائب ثم لحاضر، وصدقه الحاضر في إقراره، يؤمر المقر بتسليم العين الى الحاضر، لأن تصديق الحاضر اتصل بإقراره، ولم يتصل تصديق الغائب بإقراره وعسى لا يصدقه، فلا يتعطل هذا الإقرار والتصديق لأمر موهوم، فإن حضر المقر له بالوديعة البينة أنها داره، لأن تصديقه استند الى وقت إقراره، وكان إقراره بالوديعة أولاً، فظهر أن استحقاقه كان سابقاً، وأن الإقرار للمدعي لا في حق صاحب الوديعة فوقع باطلاً فيؤمر المدعي بتسليم الدار إليه، ويقال له: إن شئت أخذ الدار فأقم البينة، ولوأن المدعي صدق صاحب الوديعة وأنها وديعة فلان فلا خصومة بينهما اعتباراً للثابت بالتصادق بالبينة معاينة.
(10/383)
-----
ولو علم القاضي أن الدار لرجل فصارت للمدعي يدي آخر، فخاصمه الذي كانت الدار له الى القاضي، فقال الذي الدار في يديه: إن فلاناً أودعنيها، وأقام على ذلك بينة فلا خصومة بينهما، ولا تخرج الدار من يد الذي كانت الدار في يده، حتى يحضر فلان؛ لأن الثابت بالبينة العادلة إذا قبلت كالثابت عياناً، ولو عاين القاضي هذا دفع الخصومة تكون الدار للمدعي في زمان لا يجعل الذي في يديه الدار متناقضاً في دعوى الإيداع من الغائب، بجواز أنها كانت للمدعي، ثم باعها أو آجرها أو رهنها من فلان من الذي في يديه، ولو علم القاضي أن فلاناً غصبها من الذي كانت له وأودعها الذي في يديه، أخذها من الذي في يديه، ودفعها الى الذي علم أنها كانت له، لأنه علم أن يد ذي اليد مبطلة، بخلاف ما لو علم أن فلاناً أودعها هذا الذي في يديه، ولم يعلم أنه غصبها من المدعي، لأن هناك لم يعلم بكون ذي اليد مبطلة بل شك في ذلك يجوز أن يكون المدعي باع من فلان، ثم إن فلاناً أودعها من ذي اليد، فتكون يده مبطلة فيجب نقضها، فلا يجب نقضها بالشك، ثم إن محمداً رحمه الله اعتبر علم القاضي في هذه المسألة حتى قال: إذا علم القاضي أن فلاناً غصبها من المدعي، يأخذها من صاحب اليد ويدفعها (223أ4) الى المدعي، وهذا جواب رواية «الأصول». وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أن القاضي بعلمه يقضي، قال ابن سماعة: رجع إلى هذا القول في آخر عمره القاضي لا يقضي بعلمه، وإن استفاد العلم في حالة القضاء حتى يشهد معه شاهد واحد، قال: لعل القاضي غالط فيما يقول، فشرط مع علمه شهادة شاهد آخر حتى يصير علمه مع شهادة شاهد آخر في معنى شاهدين، والله أعلم بالصواب.
(10/384)
الفصل السادس والعشرون: في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة
-----
رجل من وكلاء باب القاضي ادعى قبل القاضي على رجل أنه وكيل من جهة فلان بن فلان الغائب بإثبات حقوقه وديونه على الناس، وللغائب على هذا عشرة دراهم قرض مدة حتى يسلم إلي، فلم يجب المدعى عليه لكن وكيل آخر من وكلاء القاضي بحضرة المدعى عليه أجاب وقال: إن موكلي يقول ليس علي هذه العشرة، وليس لي علم بهذه الوكالة، فأقام الوكيل شاهدين على التوكيل، وطلب الحكم من القاضي، فقضى القاضي بثبوت وكالته، والمدعى عليه ساكت لم يجب أصلاً، وتوكيل الوكيل من المدعى عليه ليس ثابت هل يصح هذا الحكم؟ وهل يثبت التوكيل؟ قيل: لا، وبه كان يفتي الإمام ظهير الدين رحمه الله، وهي واقعة العامة فتحفظ.
رجل استأجر كرماً إجارة طويلة وغاب بعد ذلك جاء رجل وقال: أنا وكيله بقبض المال وفسخ الإجازة وأنكر هو التوكيل وأقر بالباقي فيقضي.
رجل ادعى القاضي ثبوت الوكالة بحضرة المدعى عليه كان ذلك قضاء على الغائب أنه وكيل فلان باستيفاء الدين من رجل، فادعى المديون الإبراء والإيفاء قال المدعي: عزلني الموكل إن كان التوكيل بالتماس الخصم لا يملك عزله فلا يسمع هذه الدعوى، وإن كان بغير التماس منه تثبت الدعوى إذا أقام البينة على الغرماء على العزل أما بدون البينة فلا.
ولو قال: لست بوكيل وصدقه الخصم لا يسمع، وأثر هذا في أنه إذا صالح مع الخصم ثم قال: لست بوكيل وأراد استرداده دفع وصدقه الخصم لا يسمع.(10/385)
-----
رجل ادعى على آخر الكفالة بمال الإجارة معلقة بالفسخ، وقال: إني قد فسخت الإجارة ونرد منك المال، وأقام على ذلك بينة والآخر غائب قبلت بينته ويكون ذلك قضاء على الآخر، وانتصب الوكيل خصماً عنه؛ لأن المدعي ادعى المال على الكفيل ولا يمكنه إثبات ذلك على الكفيل إلا بإثبات على الأصيل فينتصب الكفيل عنه، وإذا أدى الكفيل رجع على الآخر إن كانت الكفالة بأمره، وإن كانت بغير أمره لا يرجع عليه، فإن حضر الآخر قبل أن يأخذ المدعي من الكفيل شيئاً، وأنكر الفسخ لم يلتفت إلى إنكاره، وكان الفسخ ماضياً.
رجل ادعى على آخر أنه كفل له أنه إن مات فلان مجملاً لوديعتي وهي كذا، فضمانها علي وقد مات فلان مجملاً لوديعتي، وأقام البينة عليه هل تسمع هذه الدعوى؟ فقد قيل: تسمع، وفي دعوى الكفالة لابد وأن يقول: وأنا أجزت كفالته مجلس الكفالة، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين، وقد قيل: لا يشترط ذلك، ودعوى الكفالة تتضمن ذكر الإجارة كدعوى البيع تتضمن ذكر الشراء، حتى إن من ادعى على آخر أنك بعت مني كذا كذا لا يحتاج إلى أن يقول: وأنا اشتريت.
رجل ادعى الكفالة بالمال معلقة بعدم تسليم النفس في يوم كذا، والمال الذي وقعت الكفالة وجب على الأصيل بسبب الصلح، وإنه كاسد اليوم؛ لا بد وأن يبين في دعواه أن الصلح عن أي شيء كان لينظر أنه هل صح؟ ولو صح هل فسد بكساد البدل قبل القبض كما يفسد البيع بكساد الثمن قبل القبض.
رجل اشترى عبداً بألف درهم، وقبض العبد بإذن البائع، وطلب البائع الثمن، فقال المشتري: قد كنت أحلته على فلان وفلان غائب، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته ويتعدى ذلك إلى الغائب، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب وكثير من هذا الجنس ذكرناها في كتاب أدب القاضي، وسيأتي بعد ذلك في كتاب الكفالة والحوالة إن شاء الله.
(10/386)
الفصل السابع والعشرون: في دعوى العتق
-----
بعض مسائل هذا الفصل قد مر قبل هذا:
عبد في يدي رجل قال: إني كنت عبداً لهذا الرجل، وأنا اليوم حر لما أنه قال لي: اكرد وسال كار من كنز توازر ومن دو سال كارله وكردم، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، وحكم بعتقه.
عبد ادعى أنه حر الأصل في موضع لم يسبق منه الإقرار بالرق، فقضى القاضي بحريته لما أن القول في ذلك قوله، لا يرجع المشتري بالثمن على بائعه، والبينة للمشتري في ذلك حتى يرجع بالثمن على البائع أن يدعي المشتري على العبد الرق، ويقول: أقر لي بالرق، ويقيم البينة عليه ثم يقيم العبد البينة عليه أنه حر الأصل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع.
عبد في يدي رجل يزعم أنه ملكه، وادعى العبد عليه أنه أعتقه وشهد الشهود أنه حر الأصل لا تقبل. وكذلك لو ادعى العبد أنه حر الأصل، وشهد الشهود أن صاحب اليد أعتقه تقبل، وعلى العكس لا تقبل، وقيل: تقبل في الوجهين جميعاً.
ادعى غلاماً في يدي رجل أنه ملكه أعتقه منذ سنة، والقاضي يسأل المدعي البينة على الكل لا على العتق، لأنه إذا أقام البينة على العتق، ولم يكن له بينة يحلف المدعى عليه على الملك.
ادعى على امرأة بأنها أمته، فأقامت الأمة بينة أنها كانت لفلان وأنه أعتقها، وأقام المدعي بينة أن فلاناً ذلك قد أقر أن هذه الأمة أمتي ومملوكتي، فإن أرخا وتاريخ الإقرار أسبق قضي بالملك للمدعي، وإن لم يؤرخا يجعل كأنهما وقعا معاً الإقرار والإعتاق بالملك للمدعي فيقضي بالعتق ببينة الأمة.
ادعت حرية الأصل ثم ادعت حرية عارضية تسمع، وكذلك على العكس يجب أن تسمع.(10/387)
-----
الجارية إذا تداولتها الأيدي، فادعت أنها حرة الأصل، أو ادعت عتقاً عارضياً بتاريخ قبل تاريخ البياعات، ورجع المشتري الآخر على بائعه، وكذلك بائعه رجع على بائعه، وللبائع الأول الرجوع عليه، ففيما إذا ادعت حرية الأصل إن لم يسبق منها إقرار بالرق لا نصاً ولا دلالة من انعقاد البيع، وما أشبه ذلك على ما عرف في كتاب الإقرار ليس له أن يأتي؛ لأن حرية الأصل ثبتت بمجرد قولها في حق الناس كافةً، إذا لم يسبق منها إقرار بالرق، ولو سبق منها إقرار بالرق كان للبائع الأول أن يأتي بالرجوع عليه؛ لأن حرية الأصل لا تثبت بمجرد قولها في موضع سبق منها الإقرار بالرق.
وفيما إذا ادعت عتقاً عارضياً كان للبائع الأول أن يأتي بالرجوع عليه على كل حال، لأن العتق العارضي لا يثبت بمجرد قولها، وفي كل موضع قضى القاضي بحرية الأصل لا يشترط حضرة العبد والأمة لرجوع المشتري على البائع بالثمن والله أعلم.
الفصل الثامن والعشرون: في دعوى النسب
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
النوع الأول: في بيان مراتب النسب
قال أصحابنا رحمهم الله: لثبوت النسب مراتب ثلاثة:
أحدها: بالنكاح الصحيح، وما هو في معناه من النكاح الفاسد، والحكم فيه: أن يثبت النسب من غير دعوى، وله أن ينفيه مالم يقر بنسبه صريحاً أو يظهر منه ما يكون اعترافاً به في قبول تهنئة، أو شراء متاع الولادة، أو تطاول المدة، مع العلم بالولادة أو يقع الاستغناء، أو يقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال، متى وجد واحد من هذه الأسباب لا بملك النفي بعد ذلك.
أما إذا أقر بنسب الولد صريحاً؛ لأن الإقرار بنسب الولد إقرار له بحقوق مالية نحو النفقة والميراث، وأشباه ذلك اقتضاء، ولو أقر له بهذه الحقوق صريحاً، لا يعمل رجوعه بعد ذلك، فكذا إذا أقر له بذلك اقتضاء.
وأما إذا قبل التهنئة: فدل قبول التهنئة على أن الولد منه.(10/388)
-----
وأما إذا اشترى متاعاً للولادة: فلأنه أقر بالولد دلالة عادة، فإن العادة أن الإنسان لا يشتري متاعاً للولادة إذا (223ب4) لم يكن الولد منه.
فأما إذا وقع الاستغناء عن نفيه: فلأن بعدما وقع الاستغناء عن نفيه؛ لا يكون في النفي فائدة، والشرع لا يرد بما لا يفيد.
وأما إذا تطاولت المدة: فلأن ترك النفي مدة طويلة مع العلم بالولادة دلالة الإقرار بالولد ظاهراً، لأن الظاهر أن الإنسان لا يترك النفي مدة طويلة، مع العلم بالولادة، إذا لم يكن الولد منه.
والمرجع في معرفة تطاول تلك المدة العرف والعادة، إذا مضى من المدة ما ينفى فيها الولد عادة ولم يبق، فليس له أن ينفيه بعد ذلك هذه رواية أبي حنيفة، وروي عنه رواية أخرى: أنه يفوض ذلك إلى رأي القاضي، وعن أبي يوسف ومحمد: أنهما قدرا المدة الطويلة بالأربعين، فبعد الأربعين لا يصح النفي.
وأما إذا وقع فيه حكم لا يقبل النقض، بيانه فيما لو جنى هذا الولد جناية، وقضى القاضي على عاقلة الأب بالأرش لا يستطيع نفي هذا الولد؛ لأنه وقع فيه حكم لا يقبل النقض والبطلان؛ لأنا حكمنا بنسب هذا الولد من الأب لما قضينا بالأرش على عاقلته، والقضاء بالأرش على العاقلة بعدما صح لا يقبل النقض والإبطال، ومتى صار نسب الولد مقضياً به بحكم لا يقبل البطلان لا يصح نفيه بعد ذلك، ولا يمكن قطعه إلا بعد قطع ذلك الحكم، ولا يمكن قطع ذلك الحكم، فامتنع النفي والقطع.
وبيانه في مسألة أخرى وروي عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جاءته امرأته بولد فنفاه ولم يلاعنها حتى قذفها أجنبي بالولد فحد، ثبت النسب ولا يلاعن بينهما، والمعنى ما ذكرنا، وبعدما وجد النفي لا ينتفي نسب الولد إلا باللعان، وشرائط جريان اللعان عرفت في كتاب الطلاق.
(10/389)
-----
المرتبة الثانية: أم الولد، والحكم فيها: أن نسب ولدها ثبت بدون الدعوى إذا كانت بحال يحل للمولى وطؤها، أما إذا كان بحال لا يحل للمولى وطؤها لا يثبت النسب من المولى بدون الدعوى، ولا للمولى أن ينفيه إذا لم تتطاول المدة مع العلم بالولادة، ولم يقر به صريحاً ولم يقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال.
وعن هذا قلنا: إذا جنى هذا الولد جناية وقضى القاضي على عاقلة المولى بالأرش، أو جنى عليه وقضى القاضي بالأرش جناية الأحرار والقصاص لا يستطيع أن ينفيه المولى بعد ذلك؛ لأنه وقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال؛ لأن حكمنا بحريته بسبب أن ولده لما قضي على عاقلته الأرش إن كان جانياً، وقضى له بأرش الأحرار إن كان مجنياً عليه، والحرية مما لا يقبل النقض والإبطال، ومتى حكمنا بنسب الولد منه بحكم لا يقبل النقض والإبطال ولا يمكن نفيه؛ وقطع نسبه بعد ذلك لا يمكن قطعه إلا بعد نقض ذلك الحكم وذلك الحكم لا يبدل النقض.
ولم يذكر في ولد أم الولد ما إذا قتل لا شك أنه يكون إقراراً، فقد ذكر في عتاق «الفتاوى»: أنه لو جنى المولى بولد الأمة، فسكت يكون إقراراً لقبول التهنئة، أو لأن يكون إقرار التهنئة فيه.
ولو مات هذا الولد لا يملك المولى نفيه أما إذا ترك مالاً فلوجهين:
أحدهما: أنه صار مخلوفاً بكونه مخلوقاً من مائه بحكم لا يقبل البطلان وهو الميراث، فإنه ورث منه بالولادة، والوارثة منه بالولادة حكم بكونه مخلوقاً من مائه، والإرث لا يقبل القطع والإبطال.
والثاني: أنه وقع الاستغناء عن نفيه؛ لأن مقصود المولى من نفيه أن لا يستحق هذا الولد عليه أحكام النسب، وهو غير مخلوق من مائه، وقد حصل هذا المقصود للمولى بموت الولد.
وأما إذا لم يترك مالاً فللوجه الثاني.(10/390)
-----
وإذا زوج الرجل أم ولده من رجل ومات عنها وطلقها وانقضت عدتها، ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ انقضت، فهو ابن المولى وله أن ينفيه ما لا توجد منه إحدى الأسباب التي ذكرنا، وهذا لأنه لما انقضت عدتها حلت للمولى، وعادت فراشاً له؛ لأن بانقضاء العدة يرتفع النكاح بحقوقه من كل وجه، وهو المانع من ظهور فراشه، وإذا ظهر فراش المولى صار الحال بعد انقضاء العدة كالحال قبل النكاح، وقبل النكاح له أم الولد إذا جاءت بالولد كان ثابت النسب، وكان للمولى أن ينفيه ما لم يوجد واحد من الأسباب التي ذكرناها كذا ههنا.
وإذا حرم المولى أم ولده على نفسه أو حلف أن لا يقربها، فجاءته بولد لزمه ما لم ينفه؛ لأن فراشها لا يبطل بتحريم المولى ولا بالإيلاء، ألا ترى أنه لا يبطل فراش النكاح بالتحريم والإيلاء، فكذا فراش ملك اليمين إلا أن الإيلاء في النكاح يبطل ملك النكاح بعد أربعة أشهر، والإيلاء في الأمة لا يبطل ملك اليمين؛ لأن الإيلاء يصير طلاقاً بعد مضي أربعة أشهر في المنكوحة، ولا يصير طلاقاً في الأمة فيبقى يميناً.
ولو وطئها أب المولى أو ابن المولى فحرمت على المولى، ثم جاءت بولد بعد ذلك أكثر من ستة أشهر لايلزمه. ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر يلزمه؛ لأن حرمة المصاهرة تزيل الفراش في ملك النكاح، ففي ملك اليمين أولى؛ لأن فراش ملك النكاح أقوى من فراش ملك اليمين، إلا أنه يزول لا إلى عدة، فكان بمنزلة ما لو زال فراش النكاح قبل الدخول بها لا إلى عدة ثم جاءت بالولد، وهناك لو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر يثبت النسب من الزوج، وإن جاءت به لستة أشهر لا يثبت النسب منه كذا ههنا.(10/391)
-----
وإذا نفى المولى نسب أم الولد ينتفي نسبه بمجرد النفي، وهذا لأن بيان النسب ينبني على الفراش وفراش المنكوحة أقوى، وآكد من فراش أم الولد؛ لأن فراش المنكوحة يزول بسبب واحد وهو الطلاق، ولا يزول بالتمليك من الغير، فإنه لو زوج منكوحته من غيره لا يزول فراش الزوج، وفراش أم الولد يزول بسببين وهو الإعتاق والتمليك من الغير، و (ما) يزول (بسببين) يكون أضعف مما يزول بسبب واحد، وإذا كان فراش المنكوحة أقوى وأكد، فالنسب الثابت بناء على هذا الفراش يكون أقوى، فلم يجز أن ينتفي بما ينتفي به نسب أم الولد؛ لأنه حينئذٍ يكون تسوية بين الأقوى والأضعف وإنه لا يجوز، وههنا وقفة يجب حفظها أنه إنما ينتفي نسب أم الولد بمجرد النفي إذا لم يحدث العتق في الأم وسيأتي بعد ذلك هذا ونوع يتعلق بمسائل أم الولد، وولد أم الولد إن شاء الله.
المرتبة الثالثة: الأمة، والحكم فيها: أن نسب ولدها بعد الولادة لا يثبت بدون دعوى المولى، ويستوي في ذلك أن يدعي المولى نسب ولدها بعد الولاد، أو يدعي نسبه وهو في بطنها بأن قال:هذا الحمل الذي في بطن أمتي هذه مني، أو قال: هذا الولد الذي في بطن هذه مني.
ولو قال: إن كان في بطن جاريتي هذه غلام فهو مني، وإن كان جارية فهو من فلان، أو قال: فليس مني، فولدت ابنة ثبت نسبها منه، هكذا ذكر في «عتاق عصام».
وفي «الأصل»: رجل له أمة حامل، فقال: إن كان حملها غلاماً فهو مني، وإن كان جارية فهو من فلان، أو قال: فليس مني، فولدت غلاماً وجارية لأقل من ستة أشهر، ثبت نسبها منه، وكان ينبغي أن لا يثبت؛ لأنه علق الدعوى بشرط للدعوة منه بد، فلا يصح كما (لو) علقها بدخول الدار.
بيانه: أنه علق الدعوة بكون الحمل غلاماً، وبكون الحمل غلاماً مما أمر الدعوى منه بد، فإنه لو قال: هذا الحمل مني، كانت دعوته صحيحة، وإن كان الحمل جارية، فكان كون الحمل غلاماً كدخول الدار من هذا الوجه.
(10/392)
-----
بخلاف ما لو قال: إن كان لها حمل فهو مني، لأن هذا تعليق الدعوة بما لابد للدعوة منه، لأنه لا بد لدعوة الحمل من وجود الحمل، والجواب: الدعوة ههنا معلقة بأصل الحمل لا بصفة في الحمل، والتعليق بأصل الحمل صحيح.
بيانه: أنه وإن ذكر صفة الحمل إلا أنا لو اعتبرنا حقيقة الصفة يبطل التعليق، ولو جعلنا ذكر الصفة عبارة عن الحمل مجازاً يصح التعليق، ويمكن جعل الصفة مجازاً عن الموصوف لاتصال منهما، كما يقال: أعطيه جزيلاً، أي: عطاءً جزيلاً، ويصير تقدير كلامه إن كان حملها حملاً على الحقيقة فهو مني، ولما قال بعد ذلك: وإن كان جارية فليس مني، فتقديرها أيضاً، وإن كان حملها حملاً على الحقيقة، فليس (224أ4) مني، فيصح الإقرار ولا يصح الرجوع بعد ذلك بخلاف دخول الدار؛ لأن دخول الدار أن يجعل عبارة عن أصل الحمل؛ لأنه لا اتصال بينهما، فتبقى الدعوة معلقة بالدخول حقيقة.
وبخلاف ما إذا قال: إن كان حملك غلاماً فهوحر، فولدت لأقل من ستة أشهر جارية حيث لا تعتق الجارية، لأن تعليق العتق بالصفة صحيح، فلا ضرورة الى أن يجعل صفة مجازاً عن أصل الحمل وإنما يثبت نسبها مع أنه ادعى نسب أحدهما؛ لأنا تيقنا بوجودهما في البطن وقت الدعوة، فدعوة نسب أحدهما ودعواه نسبهما على السواء، وقد ذكرنا جنس هذه المسائل في كتاب العتاق في فصل أم الولد.
وفي «نوادر بشر بن الوليد» عن أبي يوسف رحمه الله في أمة حامل أقر سيدها أنها حامل منه، فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر أو لستة أشهر، فنفاه قال: لا يكون ابنه وتكون أم ولده بإقراره، وكذلك إن لم تلد ولكن أسقطت سقطاً لم يستبن خلقه.
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: وإذا عالج الرجل جاريته فيما دون الفرج وأنزل، فأخذت الجارية ماءه في شيء واستدخلته فرجها في جريان ذلك، فعلقت الجارية وولدت ولداً، فإن الولد ولد الرجل والجارية تصير أم ولده.(10/393)
-----
ولو هنىء المولى بولد فسكتت الأمة، روي عن محمد رحمه الله: أنه لا يكون اعترافاً بخلاف ولد الحرة وولد أم الولد، ولو قبل المولى التهنئة كان اعترافاً.
ومما يتصل بهذا النوع: ما روى إبراهيم عن محمد في رجل وطء جارية له ولم ....... ولم يحصنها قال أبو حنيفة رحمه الله: له أن ينفي ولدها ويبيعها، وأما في قول .... فأحب أن يعتق ولدها ويتمنع منها، فإذا مات أعتقها. وذكر المعلى عن أبي يوسف: في رجل له أمة يطأها ويحصنها ولا يعزل عنها، فجاءت بولد؛ لا يسعه أن ينفيه في قول أبي حنيفة وقولي، وأحب إلي أن يدعيه إذا كان يطؤها ولم يحصنها.
ومما يتصل بهذا أيضاً: إذا ولدت أمة الرجل ولداً، فادعت أن مولاها أقر به، وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين وشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به؛ لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به قد اختلف لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر شهد على إقرار المولى بها وإنه قول، والقول مع الفعل مختلفات.
فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة يعلمها الشاهد بطريقين؛ بالمعاينة إن اتفق له ذلك كما في الزنا، أو بالشهرة والتسامع، وكونها على فراشه يعلمه شرعاً إن كانت الوالدة منكوحة، أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد شرعاً، وإن كانت الوالدة أمته يعلم بإقرار المولى أنها ولدت منه على فراشه، لأن الأمة لا تصير فراشاً للمولى ما لم تقر بولادتها منه.(10/394)
-----
فإن قيل: إذا كان طريق وقوف الشاهد (على) ولادة ولد الأمة على فراش المولى، إقرار المولى أنها ولدت منه، وينبغي أن تقبل الشهادة في هذه المسألة؛ لأن شهادة كل واحد منهما قاصرة على القول. قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش في الأمة إن كان لا يعلم الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها من غير إقرار المولى بالمعاينة فشهادتهما على الولادة قد اختلف، فلا يثبت بالولادة بهذه الشهادة، وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي.
وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى أنها ولدت منه قبلت شهادتهما لاتفاقهما على الإقرار الثابت بالبينة كالإقرار الثابت عياناً. وكذلك إذا شهدا على نفس الولادة على فراشه قبلت شهادتهما لاتفاقهما على نفس الفعل وهو الولادة.
وإذا كان المولى من أهل الذمة والأمة مسلمة، فشهد شاهدان ذميان أنه أقر أنه ابنه منها، وأنها ولدته على فراشه فهذا على وجهين:
الأول: أن تدعي هي ويجحد المولى، وفي هذا الوجه الشهادة مقبولة ونسب الولد ثابت منهما، أما في المولى: فلأن المولى ذمي وشهادة الذمي على الذمي مقبولة، وأما منها وإن كانت مسلمة؛ لأنها ادعت أنها صارت أم ولد له، فكانت هذه شهادة ذمي قامت للمسلم على الذمي.
الوجه الثاني: أن يدعي المولى وتجحد الأمة، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة؛ لأن هذه شهادة ذمي قامت على المسلم، قال شمس الأئمة رحمه الله: تأويل المسألة في الوجه الثاني إنها تجحد المملوكية للمولى، أما لو أقرت بالمملوكية: فالمولى ينفرد بدعوة النسب وثبت نسب الولد منه، وتصير الجارية أم ولد له بإقراره ولا عبرة لتكذيبها.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً في معرفة أم الولد فنقول:(10/395)
-----
أم الولد الجارية التي يستولدها الرجل بملك اليمين، أو استولدها بملك النكاح ثم اشتراها بعد ذلك، أو ملكها بسبب آخر، أو استولدها بشبهة ثم اشتراها بعد ذلك، أو ملكها بسبب آخر وهذا مذهبنا؛ وقال الشافعي: إذا استولدها بحكم النكاح ثم اشتراها لا تصير أم ولد له، وإذا استولدها بالزنا ثم ملكها؛ القياس أن تصير أم ولد له، وهو قول زفر في الاستحسان، ولا تصير أم ولد له، وهو قول علمائنا الثلاثة، والمسألة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا قال الرجل: تزوجت هذه الجارية وولدت مني، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، وأنكر ذلك المولى الذي هي له، فإذا ملكها الذي أقر بهذا بعد ذلك تصير أم ولد له عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.f
وإذا أسقطت أمة الرجل سقطاً استبان خلقه أو بعض خلقه تصير أم ولد له، وإن لم يستبن شيء من خلقه لا تصير أم ولد له عندنا.
وفي «المنتقى»: قال أبو يوسف: إذا أقر الرجل أن جاريته هذه قد أسقطت منه، فهذا إقرار أنها أم ولده، قال: إنما يقع اسم السقط على ما تبين خلقه؛ أما إذا لم يبن خلقه لا يسمى سقطاً، وقد ذكرنا هذه المسائل في كتاب العتاق.
نوع آخر في المسائل التي تتعلق بنفي الولد
قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الرجل امرأة، وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها حران مسلمان، فادعى أحدهما أنه ابنه وكذبه الآخر فهو ابنه منها؛ لأن هذا الولد ولد النكاح القائم بينهما لما جاءت لستة أشهر منذ تزوجها، وولد النكاح ثابت النسب من صاحب النكاح لا ينتفي نسبه إلا باللعان.
وكذلك لو قال الزوج: هذا الولد كان لك من زوج قبلي، وقالت المرأة: بل هو منك، فهو ولد الزوج؛ لأنه ولد النكاح القائم بينهما، ولا حد على الزوج؛ لأنه لم يقذفها بالزنا، إنما نسبه إلى وطء حلال، فلا يوجب حداً ولا لعاناً.(10/396)
-----
ولو قال الزوج: ولدته من الزنا وكذبته، يلاعن بينهما، ويقطع نسب الولد من الزوج ويلحق بالأم، وإن صدقته فهو ابنهما؛ لأن اللعان لا يجري بين المتصادقين.
وإذا ولدت المرأة ولدين في بطن واحد وأقر الزوج بالأول منهما ونفى الآخر؛ فهما ابناه، ويلاعن بينهما لقطع النكاح؛ لأنهما لا يتجريان في حق ثبات النسب، فإذا أقر بأحدهما فكأنه أقر بهما، فإذا نفى الآخر بعد ذلك فكأنه نفاهما جميعاً، ولو أقر بهما ثم نفاهما فإنهما يتلاعنان لقطع النكاح إن كانا لا يتلاعنان لقطع النسب فكذا ههنا.
فإن كان نفى الأول منهما وأقر بالثاني جلد الحد وكانا أثبته؛ لأنه لما نفى الأول فكأنما نفاهما، فإذا أقر بالآخر فكأنه أقر بهما، ولو نفاهما ثم أقر بهما لا يلاعن؛ لأنه أكذب نفسه، والملاعن إذا أكذب نفسه يجلد ولا يلاعن لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإذا امتنع اللعان بقيا ثابتي النسب من الزوج.
وإذا تزوج الرجل امرأة وجاءت بولدين فنفاهما الزوج، وقضى القاضي باللعان، فمات أحدهما يعني أحد الولدين قبل اللعان فهما ابنا الزوج، ويلاعن لقطع النكاح، وإنما كانا ابني الزوج (224ب4) لأنه تعذر قطع نسب الميت منهما باللعان، فيتعذر قطع نسب الحي تبعاً له فبقي نسبهما ثابتاً من الزوج.
فإن قيل: أمكن قطع نسب الحي باللعان فيمكن قطع نسب الميت تبعاً له.
قلنا: اعتبار جانب الحي يوجب قطع نسبهما واعتبار جانب الميت يوجب ثبوت نسبهما وقع الشك في القطع، والنسب كان ثابتاً فلا يقطع بالشك، وكذلك لو لم يمت واحد من الولدين، ولكن مات الزوج قبل اللعان فالولدان ثابتا النسب منهما؛ لأنه تعذر إقامة اللعان بعد موت أحد الزوجين.(10/397)
-----
وكذلك لو التعنا عند القاضي إلا أن القاضي لم يفرق بينهما، ولم يلزم الولد أمه حتى مات الزوج أو المرأة، فالولدان ثابتا النسب منهما؛ لأن بمجرد اللعان لا ينقطع نسب الولد من الزوج ما لم يقطعه القاضي، وتعذر قطع النسب بعد موت أحد الزوجين متعذر، فكذا قطع النسب من جملة اللعان، وإقامة اللعان بعد موت أحد الزوجين متعذر، فكذا قطع النسب الذي هو من جملة اللعان.
وإذا ولدت امرأة الرجل ولداً فنفاه الزوج، ولاعن القاضي بينهما وفرق بينهما، وألزم الولد أمه، ثم ولدت ولداً آخر في ذلك البطن، فإن الولدين يلزمان الأب؛ لأن نسب الثاني ثبت من الزوج لأنه لم يوجد فيه نفي ولا لعان، وثبات النسب الثاني يوجب ثبات نسب الأول.
فإن قيل: هلا اعتبرتم جانب القطع قلتم: قطع نسب الأول يوجب قطع نسب الثاني.
قلنا: اعتبار الثاني في حق النسب أولى من اعتبار الأول في حق القطع، لأنا إذا اعتبرنا الثاني في حق ثبات النسب، وثبت نسب الأول باعتبار الثاني كان في ذلك إبطال النفي في حق المنفي، وأنه جائز كما لو أكذب الملاعن نفسه.
ولو اعتبرنا الأول في حق القطع وانقطع نسب الثاني باعتبار الأول، فقد انقطع نسب الحبل باللعان، وقطع نسب الحبل باللعان غير مشروع، لكان اعتبار الثاني في حق إثبات النسب، وفيه إثبات أمر مشروع أولى من اعتبار الإقرار في حق القطع وفيه إثبات أمر غير مشروع، ولكن كانت ولدتهما جميعاً، وعلم بأحدهما ونفاه، ولاعن وألزمه القاضي أمه، وفرق بينهما، ثم علم بالآخر؛ فهما ابناه، لأن النسب الذي علم بعد ذلك ثابت من الزوج لأنه لم يوجد في حقه نفي ولا لعان، ومن ضرورة ثبوت نسبه ثبوت نسب الآخر؛ لأنهما لا يختلفان في النسب لكونهما توأمان، فإن قيل: لم لا يجعل نسب أحدهما باللعان قطعاً في حق الآخر.(10/398)
-----
قلنا: اللعان يعتمد النفي في حق الآخر، ولم يوجد من حيث الصريح، أو جعل النفي موجوداً في حق الآخر إنما يجعل موجوداً من حيث المعنى، إلا أن النفي لا يثبت من حيث المعنى بل يعتمد الصريح، وإذا لم يوجد في حق الآخر نفي صريح لا يثبت اللعان في حق الآخر فكان الآخر ثابت النسب ما لم يقطع باللعان ثابتاً.
وأما اللعان ثانياً فتعذر لأن الزوجية انقطعت بها لفرقة بينهما، ولأن الذي انقطع نسبه باللعان يحتمل الثبوت منه بالإكذاب فالذي نفى ثابت النسب منه بعدما قضى القاضي بينهما بالفرقة فنسبه لا يحتمل النفي لأن انتفاء نسب ولد النكاح باللعان، واللعان بعد وقوع الفرقة ممتنع فكان الترجيح لجانب الإثبات.
ولو علم الثاني قبل أن يفرق القاضي بينهما فنفاه، فالقاضي يعيد اللعان بينهما لأجل الثاني، ويقطع نسبهما من الزوج لأن النفي في حق الثاني وجد صريحاً، وإقامة اللعان ممكن فيعاد اللعان ويقطع نسب الثاني من الزوج كما قطع نسب الأول.
وإذا أكذب الملاعن نفسه، وادعى نسب الولد بعدما فرق القاضي بينهما وألزم الولد أمه، إن كان الولد حياً ثبت نسب الولد منه لأنه بالإكذاب بطل اللعان، لأن اللعان شهادات، والشهادة تنفسخ برجوع الشاهد، وإذا بطل اللعان صار وجوده كعدمه، ولو عدم اللعان كان الولد ثابت النسب من الزوج؛ فكذا ههنا، ويقام عليه الحد لأنه ملاعن أكذب نفسه، والحكم في مثله الحد ثم يقام عليه الحد سواء كانت المرأة حية أو ميتة.
إن كانت حية فلا إشكال لأنه صار قاذفاً حية محصنة.
وإن كانت ميتة فلا بد أن يصير قاذفاً لها بالقذف السابق عند الإكذاب، فيصير قاذفاً لها وهي ميتة.(10/399)
-----
ومن قذف ميتة كان على القاذف الحد؛ وهذا إذا كان الولد حياً لأن الحي محتاج إلى أن يتشرف بالنسب ويتجمل به، فلا يصح دعوته، فإن ترك هذا الولد المنفي ابناً أو ابنة، أو ابن ابن فادعاه الملاعن صحت دعوته، لأن الميت إن استغنى عن النسب فولده محتاج إليه حتى يثبت نسبه من الحد فيتشرف به، وحاجة ولده وهو بعضه كحاجة نفسه.
ولو كان المنفي محتاجاً إلى النسب أليس أنه يصح دعوته، فكذا إذا كان بعضه محتاجاً إليه، ولو كان الولد المنفي ابنة، وتركت ابنة وابناً ثم أكذب الملاعن نفسه لم يصدق، ولم يرث في قول أبي حنيفة وفي قولهما يصدق ويرث.
فوجه قولهما: أن ولد الابن كما هو محتاج إلى نسب أبيه، فولد الابنة يحتاج إلى نسب أمه؛ لأن الإنسان كما ينسب إلى أبيه، وكما يتشرف بشرف الأب يتشرف بشرف الأم، ويصير كريم الطرفين فكان في الفصل الأول جعل بقاء ولد الولد المنفي كبقاء الولد المنفي، فكذا في هذا الفصل يجعل كذلك، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا الولد غير منسوب إلى الملاعن لأن نسب الولد إلى قوم أبيه لا إلى قوم أمه، فلا يلاعن نفسه في حقه بخلاف الفصل الأول.
وإذا لاعن الرجل بجارية، وألزمها الأم ثم أراد ابن الملاعن أن يتزوجها لم يكن له ذلك، ويفرق بينهما، وكذلك الملاعن نفسه لو ادعى أنه لم يدخل بالأم، وتزوج بالبنت فرق بينهما؛ وهذا لأن النسب باقٍ في حق حرمة المناكحة كما في حق حرمة قطع الزكاة عنده، وقبول الشهادةبيانه أن النسب، وإن انقطع باللعان حقيقة إذا كان ممكن الإعادة يعتبر قائماً حكماً، هذا أصل متمهد في قواعد الشرع.
فإذا كان النسب بعد اللعان منقطعاً حقيقة قائماً حكماً، كان قائماً من وجه، منقطعاً من وجه، فاعتبرناه منقطعاً في حق الميراث والنفقة، فاعتبرناه قائماً في حق حرمة وضع الزكاة، وقبول الشهادة أخذا بالاحتياط في كل فصل.
ولأجل ما ذكرنا قلنا بأنه لا يصح دعوى غيره نسب ولد الملاعنة لأن النسب من الأول باق من وجه.(10/400)
-----
نوع آخر في بيان ولد المطلقة
طلق الرجل امرأته ثم جاءت بولدين؛ فهذه المسألة على وجهين:
إما أن كان الطلاق رجعياً.
أو بائناً، وكل وجه من ذلك على ثلاثة أوجه:
إما إن جاءت بهما لأقل من سنتين.
أو جاءت بهما لأكثر من سنتين بيوم.
وبالآخر من سنتن بيوم، وبدأ محمد في الكتاب بالطلاق الرجعي.
فقال: إذا جاءت بولدين لأقل من سنتين من وقت الطلاق، ولم تقر المرأة بانقضاء العدة فنفى الزوج الولد الأول، ثم ولدت الثاني؛ فهما ابناه لأنهما ولدا لنكاح، ونسب ولد النكاح لا ينقطع إلا باللعان، واللعان ههنا يتعذر.
بيانه: أن المرأة وإن كانت منكوحة له وقت نفي الولد الأول بقيام العدة إلا أنها لما ولدت الثاني بعد ذلك فقد انقضت عدتها، وانقضاء العدة في الطلاق الرجعي بقطع النكاح، وانقطاع النكاح بعد النفي يمنع جريان اللعان لقيام الزوجية وقت النفي والعقد متى انعقد موجباً للعان لا يوجب الحد بعد ذلك إلا بإكذاب الملاعن نفسه، ولم يوجد الإكذاب ههنا.
وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين، وقد نفى الأول فلأنة لا يلاعن بينهما لقطع النكاح، وقطع النسب يكون موقوفاً إن نفى الثاني قطع نسبهما منه وإلا فلا يلاعن بينهما لقطع النكاح لأنا نتيقن أن العلوق بالولدين من وطء بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين عندنا، فصار الزوج مراجعاً لها، فولادة الولد الثاني حصلت بعد رجعته الزوج، فيكون النكاح قائماً، وقت ولادة الولد الثاني، وهما من أهل اللعان بينهما، وإنما كان قطع النسب موقوفاً على نفي الثاني، لأن نفي الأول لا يكون نفياً للثاني في حق اللعان (225أ4) فبقي الثاني ثابت النسب، وثبوت نسب أحدهما يوجب ثبوت نسب الآخر،فلهذا توقف قطع النسب على نفي الثاني.(10/401)
-----
فإن قيل: كان ينبغي ألا يقطع نسبهما، وإن نفى الثاني لأنا حكمنا بكون الولدين مخلوقين من مائه لما حكمنا بالرجعة، وكون الولد مخلوقاً من مائه يمنع قطع النسب باللعان كما لو كان مقراً به.
قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في الجواب:
فعبارة بعضهم: أن الحكم بكون الولد مخلوقاً من مائه لو ثبت إنما يثبت إذا ثبت الحكم بالرجعة بوطء الزوج ولم يحكم بالرجعة بوطء الزوج؛ لأن الرجعة كما تثبت بالوطء تثبت بدواعي الوطء وبمقدماته، وهي اللمس عن شهوته.
وعبارة بعضهم وهو الأصح: أنّا وإن حكمنا بكون الولدين مخلوقاً من مائه، فإنما حكمنا به بالرجعة، والرجعة مما تقبل الإبطال بعد ثبوتها فإنه لو طلقها ثلاثاً بعد الرجعة تبطل الرجعة، والحكم بكون الولد مخلوقاً من ماء الإنسان إذا كانت بسبب حكم يقبل الطلاق لا يمنع القطع باللعان، ألا ترى أن قبل النفي حكمنا بكون الولد مخلوقاً من مائه لما حكمنا بثبات النسب، ثم لم يمنع ذلك جريان اللعان، وقطعه به لما كان النسب يقبل القطع والإبطال بعد الثبوت.
وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم، وجاءت بالآخر لأكثر من سنتين بيوم، ونفى الزوج الأول منهما، فالجواب فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف كالجواب فيما إذا جاءت بهما لأقل من سنتين؛ لأنهما يجعلان الثاني تبعاً للأول لأنه لا بد من جعل أحدهما تبعاً للآخر لأنهما خلقا من ماء واحد فكان جعل اللاحق تبعاً للسابق أولى لأن للسبق إبراء في كثير من الأحكام.
وعند محمد الجواب فيه كالجواب فيما إذا جاءت بهما لأكثر من سنتين لأنه يجعل الأول تبعاً للثاني لأن العلوق بالثاني متيقن أنه بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في الولد أكثر من سنتين والعلوق بالأول مشكوك يجوز أن يكون بعد الطلاق، ويجوز أن يكون قبله، ولا شك بأن جعل المتيقن أصلاً أولى هذا الذي ذكرنا إذا كان الطلاق رجعياً.(10/402)
-----
فإن كان الطلاق بائناً، فإن جاءت بهما لأقل من سنتين من وقت الطلاق فهما ابناه لأنهما ولدا لنكاح وتعذر قطع نسبهما باللعان لانقطاع الزوجية، وعلى الزوج حد القذف لأنه قذفها وهي أجنبية محصنة.
وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين؛ لا يثبت نسبهما من الزوج، ولا حد على الزوج، وإن قذفها وهي أجنبية لما أنها في صورة الزانيات، ولأن في حجرها ولد لم يثبت نسبه من أحد.
وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم، وجاءت بالآخر لأكثر من سنتين؛ فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف، هذا وما لو جاءت بهما لأكثر من سنتين سواء.
وإذا طلق الرجل امرأته واحدة بائنة، وقد دخل بها ثم تزوجها ثانياً، ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح الثاني فنفاه فإنه يلاعن بينهما لقيام النكاح بينهما في الحال ويفرق بينهما، والولد ثابت النسب من الأب.
لأنا تيقنا أن العلوق به كان في النكاح الأول، والنكاح الأول قد انقطع، والنكاح الذي منه الولد إذا انقطع لا يمكن قطع نسب الولد بعد ذلك باللعان لأن الولد فرع النكاح ولا يمكن قطع ذلك النكاح باللعان، فكذا قطع نسب ولد يكون منه.
وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً فإنه يلاعن ويقطع نسب الولد لأن علوق هذا الولد من النكاح الثاني لأن الوطء حلال للزوج فيحال به على أقرب الأوقات، فالنكاح الذي منه هذا الولد قائم فيجوز نسبه باللعان.
نوع آخر في نفي ولد المنكوحة إذا كانت أمته
وإذا كانت منكوحة الرجل أمة جاءت بولد فهذا على وجهين:
الأول: إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح، وفي هذا الوجه إن ادعاه الزوج لا يثبت نسبه إلا بتصديق المولى، لأن علوق هذا الولد كان في ملك المولى فيحتاج إلى تصديق المولى لثبات نفسه كما قبل النكاح، وإن نفاه لا يلزمه لأنه لا يلزم بدون النفي، ففي النفي أولى.(10/403)
-----
الوجه الثاني: أن تجيء به لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد منه ادعاه أو لم يدع لأنه ولد النكاح، وإن نفاه لا يلاعن بينهما لأن اللعان لا يجري بين الحر والأمة، ولا ينتفي نسب الولد لأن نسب ولد المنكوحة لا ينتفي إلا باللعان، ولا لعان بينهما؛ ولا حد عليه لأنها ليست بمحصنة، فإن كان المولى أعتق الأمة، ثم جاءت بولد فهو على وجهين:
الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق، وأنه على وجهين أيضاً:
الأول: أن يدعي الزوج الولد وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد من الزوج اختارت زوجها أو نفسها قبل الدعوى أو بعد الدعوى، إن اختارت زوجها فلأن النكاح قائم وقت العلوق، ووقت الدعوى، وذلك كاف لثبات النسب بدون الدعوى، فمع الدعوى أولى، وإن اختارت نفسها حتى ماتت، فكذلك إن اختارت نفسها بعد النكاح فظاهر، وإن اختارت نفسها قبل الدعوى؛ فلأن النكاح إن كان منقطعاً وقت الدعوى فقد كان قائماً وقت العلوق، وإن كان لثبات النسب من غير دعوى فمع الدعوى أولى.
الوجه الثاني: أن ينفي الزوج الولد؛ وفي هذا الوجه، وإن اختارت زوجها فنسب الولد ثابت منه، ويتلاعنان بقطع النكاح، أما نسب الولد فلأنه ولد النكاح؛ وتعذر قطعه باللعان لأنهما لم يكونا من أهل اللعان وقت العلوق.
وأما التلاعن بقطع النكاح فلأن النكاح قائم وقت النفي، وهما من أهل اللعان وقت النفي فيتلاعنان بقطع النكاح إن كانا لا يتلاعنان بقطع النسب، وهو نظر ما لو نفى ولد امرأته بعدما أقر به، فإنهما يتلاعنان بقطع النكاح؛ لا بقطع النسب؛ كذا ههنا، وإن اختارت نفسها؛، فإن كان ذلك قبل نفي الولد ثم نفى الزوج الولد فنسب الولد ثابت من الزوج ولا يلاعن لأنه لا نكاح بينهما وقت النفي؛ لأنه ثابت باختيارها نفسها قبل النفي، ولا يقام اللعان بعد البينونة، ويجب الحد على الزوج لأنها محصنة وقت القذف.(10/404)
-----
وإن كان اختيارها نفسها بعد النفي قبل إقامة اللعان فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان لأنها بانت من زوجها، ولا حد أيضاً لأن القذف انعقد موجباً للعان لأنها كانت محصنة وقت القذف منكوحة للقاذف، والقذف متى انعقد موجباً للعان لا يوجب الحد إلا إذا أكذب الملاعن نفسه؛ ولم يوجد ذلك ههنا، هذا إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق.
فأما إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت العلوق، فإن ادعى الزوج الولد، فالولد ثابت النسب منه ولا حد ولا لعان في الوجوه كلها، وإن نفاه فهو على وجهين:
إن اختارت زوجها، فهما يتلاعنان بقطع نسب الولد، فيه قياس واستحسان، القياس: أن لا يقطع، وفي الاستحسان: يقطع على ما مر.
وإن اختارت نفسها قبل نفي الولد، فإن الولد ثابت النسب من الزوج ولا لعان لأنه قذفها وهي أجنبية، ولكن يجب الحد لأنها محصنة وقت القذف.
وإن اختارت نفسها بعد النفي قبل إقامة اللعان؛ فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان ولا حد لما مر.
رجل تحته أمة اشتراها من مولاها؛ ثم جاءت بالولد، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء فالولد ثابت النسب من الزوج سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ولد النكاح بيقين، وولد النكاح ثابت النسب، فإن نفاه الزوج في هذه الصورة فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان بينهما، إما لأن المقذوف أمة، أو لأن النكاح قد انقطع وقت القذف، ولا حد أيضاً لأن القذف صادف أمة، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت الشراء (225ب4)، فإن ادعاه الزوج ثبت النسب منه، وإن نفاه لا يثبت النسب منه سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ولد الأمة.(10/405)
-----
بيانه: أن العلوق حادث والأصل في الحادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات إلا لضرورة، وذلك بأن يتضمن إحالتها على أقرب الأوقات نسبة الزوج إلى ارتكاب الحرام كما في الطلاق البائن، فإن الوطء بعد الطلاق البائن حرام على الزوج، فيحال بالعلوق على أبعد الأوقات وهو ما قبل النكاح صيانة له عن النسبة إلى الحرام، أو يتضمن خلاف السنة بأن يصير الزوج مراجعاً بالوطء فيحال بالعلوق على أبعد الأوقات صيانة للزوج عن النسبة إلى مخالفة السنة، وهذه الضرورة معدومة في مسألتنا؛ لأن الوطء حلال للزوج بعد الشراء بملك اليمين، ولا يصير مراجعاً بالوطء بعد الشراء فيحال بالعلوق على ما بعد الشراء، فهو معنى قولنا: إن ولد الأمة، وولد الأمة لا يثبت نسبه بدون الدعوى، فمع النفي أولى.
رجل تحته أمة اشتراها من مولاها فأعتقها ثم جاءت بالولد؛ هذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق، فإن ادعاه ثبت نسبه منه سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، لأنها إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء فهذا ولد النكاح.
وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الشراء فهذا ولد أمته وقد ادعاه، ومن ادعى ولد أمته يثبت النسب منه، وإذا ثبت النسب منه صارت الجارية أم ولد له، لأنه ملك جارية له منها ولد؛ وهو ثابت النسب منه.
وأما إذا نفاه الزوج إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء لا ينتفي نسبه، ولا لعان بينهما لانقطاع النكاح، ويجب حد القذف؛ لأن المقذوف محصنة أجنبية من القاذف وقت القذف،وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الشراء، فإن نسب الولد لا يثبت منه، لأنه ولد أمة لما بينا أن العلوق حادث يحال به على أقرب الأوقات ما أمكن، ولا لعان لانقطاع النكاح، ولا حد على الزوج لأن في حجرها ولد غير ثابت النسب من أحد فكانت في صورة الزانيات.(10/406)
-----
الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت العتق، فإن ادعى الزوج نسب الولد ثبت نسبه منه سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وإن نفاه إن كانت المرأة غير مدخول بها؛ لا يثبت نسبه منه عندهم جميعاً، وإن كانت المرأة مدخولاً بها ونفاه، أو لم ينفِ، ولم يدعُ بل سكت؛ اختلفوا فيه؛ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يثبت نسبه من الزوج، ولا يضرب الحد إذا نفى، وقال محمد رحمه الله: يثبت النسب من الزوج ويضرب الحد إذا نفى، وجه قول محمد أنَّ هذه معتدة قد ثبت نسب ولدها من صاحب العدة إلى سنتين، وإنما قلنا: هذه معتدة قد ثبت نسب ولدها من صاحب العدة إلى سنتين لأن العدة قد وجبت بالفرقة الشرعية بالشراء، وظهر بالعتق حتى لزمها الإيفاء عن محظورات العدة، وحرم على الزوج، ولا يحل له أن يتزوج بأختها وأربع سواها، بخلاف ما لو لم يعتقها، وجاءت بالولد لستة أشهر من وقت الشراء، فإنه لا يثبت نسبه من غير دعوى لأنا قلنا: معتدة جاءت بولد، وقيل: العتق بعد الشراء لا تظهر العدة في حق المولى، فإن شيئاً من أحكامها لا يظهر في حق المولى، فكان بمنزلة المطلقة قبل الدخول بها من هذا الوجه.
وأما أبو يوسف يقول بأن هذه ولد الأمة فلا يثبت نسبه بدون الدعوى قياساً على ما لو لم يعتقها.(10/407)
-----
بيانه: أن العلوق حادث، فيحال بالحدوث على أقرب الأوقات ما أمكن، وأمكن إحالته إلى ما بعد الشراء؛ لأن الوطء حلال للمولى بعد الشراء بملك اليمين، ولا يصير المولى بالوطء مراجعاً حتى يصير مخالفاً للسنة، بخلاف المطلقة بعد الدخول بها إذا جاءت بولد؛ لأن الوطء حرام على الزوج بعد الفرقة إن كان الطلاق بائناً، وإن كان رجعياً يصير الزوج مراجعياً بها لوطء، وإنه خلاف السنة، فأحيل به على حال النكاح، فكان ولد منكوحة، وإذا لم يثبت النسب من الزوج عند أبي يوسف لم يجب الحد وإن نفى، فإن في حجرها ولداً غير ثابت النسب من أحد، وعند محمد لما ثبت النسب لا يجب الحد، وإن نفى إذ ليس في حجرها ولد غير ثابت النسب من أحد.
الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت العتق؛، فإن ادعاه الزوج ثبت نسبه منه، وإن نفاه لا يثبت نسبه منه عندهم كما في المطلقة، وإذا لم يثبت نسب الولد من النكاح لا يجب الحد لما ذكرنا.
رجل تحته أمة اشتراها ثم باعها من غيره، ثم جاءت بولد بعد البيع، فهذه المسألة على وجوه أيضاً:
الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت شراء الزوج إياها، وفي هذا الوجه ثبت نسبه منه، ادعاه أو سكت؛ لأنه ولد النكاح، وولد النكاح ثابت النسب من الزوج ادعاه أوسكت، وإذا ثبت النسب ظهر بطلان بيع الزوج؛ لأنه ظهر أنه باع أم ولده وولده الحر فوجب على الزوج رد الثمن، وإن نفاه لا ينتفي نسبه أيضاً، لأن نسب ولد النكاح لا ينقطع إلا باللعان، وتعذر إقامة اللعان ههنا لانقطاع النكاح، وتكون المقذوفة أمته.(10/408)
-----
الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فقط منذ اشتراها الزوج فادعاه الزوج فالجواب فيه كالجواب فيما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج، لأنها ولدت لستة أشهر منذ اشتراها الزوج، لأنها ولدت لأقل من ستة أشهر منذ باعها الزوج، لأنها ولدت لستة أشهر منذ اشتراها فيكون لأقل من ستة أشهر منذ باعها، ومن باع جارية وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ باعها، وادعاه البائع صحت دعوته.
الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ بيع الزوج وادعاه الزوج ثبت نسب الولد منه من غير تصديق المشتري وبطل كما لو باع أمة لم تكن زوجة له وجاءت بولد عند المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، وإن نفاه الزوج في هذه الصورة لا يثبت نسبه، لأنه ولد الأمة ولم يدع نسبه، وإذا لم يثبت النسب، ففي البيع على حاله، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت بيع الزوج، وادعاه، فإن كانت المرأة غير مدخول بها لا يثبت نسبه إلا بتصديق المشتري، كما لو باع أمة لم تكن زوجة له وجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت البيع، وادعاه البائع، وإذا صدقه المشتري حتى ثبت النسب بطل البيع، وإن كانت المرأة مدخولاً بها، وباقي المسألة بحاله، كان أبو يوسف يقول أولاً تصح دعوته من غير تصديق المشتري؛ وهو قول محمد.
ووجه ذلك: أن هذه ولد المعتدة، لأن المعتدة وجبت بالفرقة الواقعة بالشراء، وظهر بالبيع حتى لا يحل للمشتري أن يقربها ما لم تنقض عدتها، والمعتدة إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت نسبه من صاحب العدة من غير تصديق ودعوى، كما في المطلقة، وكما لو أعتقها الزوج في هذه الصورة على قول محمد، وإنما شرط محمد رحمه الله الدعوى ههنا لثبات النسب، وإن كان ولد المعتدة لأجل الضرورة لأنها متى لم يشترط الدعوى وأثبتها النسب بدون الدعوى ابتداءً لزمنا اشتراط الدعوى انتهاءً.
(10/409)
-----
بيانه: أنه متى ثبت النسب بدون الدعوى ينتقض البيع، وصار كأنه لم يبع، ولو لم يبع، وجاءت بالولد لستة أشهر منذ اشتراها الزوج لا يثبت النسب إلا بالدعوى فيثبت، أما لو لم يشترط الدعوى ابتداءً، لشرطناها انتهاءً، فشرطناها من الابتداء لهذه الضرورة بخلاف ما لو أعتقها على أصل محمد رحمه الله، لأن هناك لو لم تشترط الدعوى في الابتداء إثبات النسب لا يلزمها اشتراطها في الانتهاء؛ لأنها إذا جاءت بالولد بعد العتق لا ينتقض العتق، وبخلاف ما لو لم تكن المرأة مدخولاً بها لأن هناك بالشراء وقعت الفرقة قبل الدخول من غير عدة، وكان ولد أمة لا ولد معتدة، وجه قول أبي يوسف الآخر أن هذا ولد الأمة لأن العلوق بحال (226أ4) على ملك اليمين على ما مر في فصل العتق فقد جاءت بالولد بعد البيع لستة أشهر فإذا ادعاه البائع يجب ألا تصح دعوته من غير تصديق المشتري، كما لو لم تكن الأمة زوجة له، هذا إذا ادعاه، وإن نفاه لا يثبت نسبه عندهم جميعاً.
إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت بيع الزوج، إن ادعاه الزوج لا يثبت نسبه إلا بتصديق المشتري عندهم جميعاً، أما عند أبي يوسف الآخر فلأنها إذا جاءت به إلى سنتين لا يثبت النسب إلا بتصديق المشتري فههنا أولى، وأما عند محمد فلأنه يعتبرها بالمعتدة، والمعتدة إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت الفرقة لا يثبت النسب من غير دعوى، فههنا كذلك، وإن نفاه لا يثبت النسب عندهم جميعاً.(10/410)
-----
رجل تحته أمة رجل، اشتراها ثم باعها من آخر فولدت في يد المشتري ولداً، وأعتق المشتري الولد، ثم ادعاه البائع وقد كان دخل بها في النكاح، فهذا على وجهين أيضاً: الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج، وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد من الزوج، ادعاه الزوج أو لم يدعِ، لأنه ولد النكاح وبطل البيع، وبطل عتق المشتري لأنه ثبت أنه باع أم ولده، وأن الولد كان حراً، وإن جاءت به لستة أشهر منذ اشتراها الزوج لا يثبت نسبه منه، لأنه ولد الأمة فلا تصح فيه دعوى البائع بعدما أعتقه المشتري، كما لو لم تكن الأمة زوجة له.
وإن لم يكن المشتري أعتق الولد ولكن أعتق الأم، فهذا على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج؛ وفي هذا الوجه صحت دعوته في حق الأم والولد جميعاً، لأنه ولد النكاح فكان ثابت النسب من الزوج، وإن لم يدعه وظهر أنه باع أم الولد فظهر بطلان البيع وظهر بطلان إعتاق المشتري، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً منذ اشتراها الزوج، فإن كان لأقل من ستة أشهر منذ باعها لا يثبت النسب إلا بالدعوى لأنه ولد الأمة، وإذا ادعى صحت دعوته في حق الولد، ولم تصح دعوته في حق الأم، كما لو باع أمة ليست بزوجة له وجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فأعتق المشتري الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته في حق الولد من غير تصديق المشتري حتى يرد الولد على البائع، ولا يسلم للبائع ما قبض من حصته من الثمن، ولم تصح دعوته في حق الأم حتى لا ترد الأم على البائع ويسلم للبائع ما قبض من حصتها من الثمن؛ كذا ههنا، وإن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ باعها الزوج فإنه لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري عند أبي يوسف الآخر، وعند محمد تصح دعوته إلى سنتين من غير تصديق المشتري إذا كانت مدخولاً بها لمكان العدة، وهو قول أبي يوسف الأول، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.
(10/411)
-----
وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ اشتراها فسواء جاءت لأقل من سنتين أو لأكثر من سنتين منذ باعها الزوج لا تصح دعوى الزوج إلا بتصديق المشتري، إلا إذا جاءت بالولد لسنتين من وقت البيع وصدقه المشتري ينتقض البيع، وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لا ينتقض البيع.
وإذا طلق الرجل امرأته الأمة تطليقة بائنة ثم أعتقت ثم جاءت بالولد إلى سنتين منذ طلقها فإنه يلزمه إياه، فإنه ولد النكاح؛ لأن العلوق ههنا محال به على أبعد الأوقات وهو وقت النكاح؛ لأن الوطء حرام بعد النكاح، ويضرب الزوج الحد لأنه قذفها وهي محصنة أجنبية من القاذف.(10/412)
-----
وولاء الولد لمولى الأم لأنه معتق .... إلا أنا حكمنا بوجوده وقت إعتاق الأم حيث أحلنا العلوق على حال النكاح، والمعتق ...... لا يتبع أحداً في الولاء، ويكون ولاؤه للمعتق، قال عليه السلام: «الولاء للمعتق»، ولو مات الأب وقد أعتقت بعده بيوم، وجاءت بالولد إلى سنتين فالجواب فيه، والجواب فيما إذا طلقها سواء، لأن العدة كما تجب بالطلاق تجب بالموت، وإذا كانت امرأة الرجل أمة، فولدت منه ولداً فاشتراها الزوج وأعتقها تزوجها، ثم ولدت ولداً آخر لستة أشهر فصاعداً منذ تزوجها فنفاه لاعن القاضي بينهما، ولزم الولد أمه، أما اللعان فلأنهما من أهل اللعان وقت النفي، ويقطع نسب الولد؛ لأن العلوق يحال به على أقرب الأوقات وهو ما بعد النكاح، وهما من أهل اللعان في ذلك الوقت، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها آخر أو لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها يلاعن ويلزم الولد أباه، لأنها بالشراء صارت أم ولد له، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح الأخير علمنا أن العلوق كان سابقاً على هذا النكاح فكان ولد أم الولد ونسب ولد أم الولد لا ينتفي بمجرد النفي بعدما ثبت فيها العتق، واللعان متعذر؛ لأن حالة العلوق لم يكونا من أهل اللعان، ولو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها لاعن القاضي بينهما، ولزم الولد أمه، لأن العلوق كان في حال النكاح حال ما لا يجري بينهما اللعان، ويضرب الحد إذا كانت أم الولد مسلمة لأنها محصنة، ولو صدقته المرأة أن الولد ليس منه لم يصدقا على الولد لأن النسب من حق الولد وقد استحق النسب لأنه ولد النكاح، فلا يصدقان على إبطال حقه والله أعلم.
نوع آخر من المسائل التي تتعلق بأم الولد(10/413)
-----
الجارية إذا كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم جاءت بولد آخر بعد ذلك لم يثبت نسبه من غير دعوى منهما، وإن كانت الجارية أم ولد لهما ونسب ولد أم ولد يثبت بدون الدعوى، والوجه فيه ما ذكرنا: أن نسب ولد أم الولد إنما يثبت بدون الدعوى إذا كانت أم الولد بحال يحل للمولى وطؤها، أما إذا كانت بحال لا يحل للمولى وطؤها لا يثبت نسب ولدها بدون الدعوى، وإن ادعاه أحدهما ثبت النسب منه، وضمن لشريكه نصف عقرها، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً عند أبي حنيفة، لأن ولد أم الولد بمنزلة أم الولد، ومالية أم الولد غير متقومة عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن ولد أم الولد غير متقوم عند أبي حنيفة؛ حتى لو أعتقها أحد الشريكين لا يضمن لشريكه شيئاً، فكذا مالية ولدها، وعندهما مالية أم الولد متقومة لو أعتقها أحد الشريكين يضمن لشريكه نصف قيمتها إن كان موسراً، وسعت في نصف قيمتها إن كان المعتق معسراً، فكذا مالية ولد أم الولد.(10/414)
-----
وإذا أعتق الرجل أم ولده ثم تزوجها، فجاءت بولد فنفاه المولى، فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فإنهما يتلاعنان؛ لأنهما من أهل اللعان وقت القذف، والنكاح بينهما قائم، ولزم الولد أباه هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل»، قال شمس الأئمة السرخسي: تأويل المسألة: إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ أعتقها حتى لا ثبت النسب من المولى؛ باعتبار زوال الفراش إلى عدة، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده أجرى المسألة على إطلاقها من غير تأويل، قال: العلوق كان في حال كونها أم ولد له، وقد حدث العتق فيها من قبل المولى، ونسب ولد أم الولد لا ينتفي بمجرد النفي بعدما حدث العتق في الأم، وإنما ينتفي بمجرد النفي، قبل حصول العتق، فلا ينتفي بمجرد النفي ههنا، واللعان متعذر؛ لأنهما لم يكونا من أهل اللعان حال ما حصل العلوق أنها كانت أم ولد في تلك الحالة، وإن جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ تزوجها، فإنهما يتلاعنان، ويقطع نسب الولد استحساناً، فإذا مات الرجل وترك امرأة (فجاءت ب) ولد فأقر الوارث أنها ولدت هذا الغلام من الميت، فإن لم يكن هناك للمقر منازع ثبت نسب الغلام من الميت ويرث ولا يشترط العدد في المقرين، ولا لفظة الشهادة، فإن كان (226ب4) للمقر منازع يشترط العدد باتفاق الروايات، ولا يشترط العدالة باتفاق الروايات، وهل يشترط لفظة الشهادة؟ فيه روايتان:
(10/415)
-----
رجل باع أم ولده من رجل؛ والمشتري يعلم به، فجاءت بولد وادعاه المشتري، لا يثبت نسبه منه وهو ابن البائع، لأنه ولد على فراشه؛ لأن أم الولد فراش المولى، ولا يبطل هذا الفراش بالبيع لأن بيع أم الولد باطل، فإذا نفاه المولى فقد انتفى نسبه من المولى، والمشتري يدعيه فيثبت نسبه من المشتري كيلا يبقى بلا أب، وكذلك إذا لم يعلم المشتري بكونها أم ولد للبائع كان الجواب كما قلنا إلا أن في هذه الصورة إذا نفى البائع الولد يكون الولد حراً على المشتري بالقيمة لأن المشتري صار مغروراً ههنا، بخلاف الوجه الأول، فإن هناك الولد لا يكون حراً على المشتري إذا نفاه البائع، وإن ثبت النسب من المشتري لأن المشتري هناك لم يصر مغروراً.
اشترى جارية وظهر بها الحبل بعد أيام فخاصم المشتري البائع، فقال البائع: امسكها، فإن كان في بطنها ولد فهو مني، فاسقطت هذه الجارية سقطاً مستبين الخلقة لأقل من أربعة أشهر منذ قال هذه المقالة، فالولد ثابت النسب من البائع والجارية أم ولد له لأنه تبين أن الولد كان موجوداً في البطن وقت إقراره لأن الولد منه، وكان عليه أن يرد على المشتري بما أخذ من الثمن لأنه تبين أن الولد وقع باطلاً.
نوع آخر يتصل بهذا النوع
جارية بين اثنين؛ قال أحدهما: هذه أم ولدي وأم ولدك، أو قال: أم ولدك وأم ولدي، أو قال: أم ولدنا، فإن صدقه صاحبه في ذلك صارت الجارية أم ولد لهما فرق بين هذا وبينما إذا ولدت ولداً، فقال أحدهما لصاحبه: هو ابنك وابني، أو قال: ابننا حتى ثبت النسب من المقر صارت الجارية أم ولد للمقر.(10/416)
-----
والفرق: أن المقر هناك أقر بنسب الولد مقصوداً وبأمية الولد تبعاً لما ذكرنا أن أمية الولد تبع لثبات النسب وحكم البيع يوجد من الأصل فإذا ثبت نسب الولد من المقر خاصة لأنه لا يقبل الشركة والتجزؤ صارت الجارية أم ولد للمقر بطريق التبعية أيضاً، أما ههنا أقر بأمومية الولد مقصود لا تبعاً فيعتبر حكمها بنفسها، ومن حكم الاستيلاد أنه يقبل الشركة والتجزؤ إذا وقع حمله.
ولهذا قلنا: إذا جاءت الأمة المشتركة بين رجلين بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما صارت الجارية أم ولد بينهما، ولولا أن الاستيلاد يقبل الشركة والتجزؤ وإلا لصارت الجارية أم ولد لكل واحد منهما كملاً ألا ترى أن النسب لما كان لا يتجزأ إذا ثبت النسب منهما ثبت من كل واحد منهما كملاً، حتى لو ماتا ورث من كل منهما ميراث ابن كامل إذا ثبت أن الاستيلاد يتجزأ في هذه الصورة فيقول المقر: أقر أن الاستيلاد وجد منهما وقد صدقه صاحبه فيه، فكأنهما ادعيا ذلك جميعاً معاً، فلهذا صارت الجارية أم ولد لهما، ولا ضمان لواحد منهما على الآخر كما لو ادعيا معاً، وإن كذبه صاحبه في ذلك ضمن المقر لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً إلا أنه يصير متملكاً نصيب شريكه بزعم شريكه إن كان لا يصير متملكاً بزعمه لأن في زعمه أن ذلك النصف أم ولد الشريك وأم ولد الشريك لا يحتمل التملك ولكن الضمان حق الشريك فيعتبر التملك في حق الشريك، وقد وجد وضمن أيضاً نصف العقر لشريكه؛ لأن إقراره بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره ثم يكون نصف الجارية أم ولد للمقر ونصفها موقوف بمنزلة أم الولد، وإنما يوقف لما قلنا: إنه لما ضمن المقر نصيب الشريك فقد انعقد سبب الملك له في نصيب الشريك، فصار كأنه اشترى، وأقر بالاستيلاد على البائع، وهو ينكر وهناك يجب القول بالتوقف كذا ههنا.
(10/417)
-----
يوضحه: أن للشريك حق الرجوع إلى التصديق فربما يصدقه ساعة فساعة فتصير أم ولد بينهما فلأجل هذا التوهم أثبتنا التوقف، فإن عاد الشريك إلى التصديق صارت أم ولد بينهما أو يرد ما أحدث الضمان لإقراره أنه أخذ ما أخذ بغير حق، وإن لم يعد إلى التصديق فنصفها أم ولد للمقر ونصفها موقوف بمنزلة أم الولد تخدم المقر يوماً وتوقف يوماً وفي بعض النسخ يكتسب لنفسه يوماً، فإن مات أحدهما، ففي فصل التصديق عتقت أيهما مات لمعنى واحد أن نصيب الميت قد عتق بموته، فيتعدى إلى الباقي ولا سعاية عليها للحي في قول أبي حنيفة لما عرف من مذهبه أن أم الولد ليست بمال وعندهما عليها السعاية؛ لأن أم الولد مال عندهما، فقد أحبس عندهما نصيب الحي، وهو مال فيجب عليهما السعاية رداً لمال حبس عندهما، فقد احتبس عندهما، وفي فصل التكذيب كذلك تعتق أيهما مات، ولكن لمعنيين مختلفين إن مات المقر عتقت؛ لأن في زعم المنكر أن كلها أم ولد للمقر، وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه ولا سعاية عليها للمنكر؛ لأن في زعم المنكر أنها خرجت عن ملكه وصارت كلها أم ولد للمقر وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه ولا سعاية عليها للمنكر؛ لأن في زعم المنكر أنها خرجت عن ملكه وصارت كلها أم ولد للمقر، وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه وقد أخذ الضمان من المقر فكيف يأخذ السعاية، وإن مات المنكر عتقت؛ لأن في زعم المقر أن نصفها أم ولد للمنكر وقد عتق ذلك النصف بموته فيتعدى إلى الباقي ولا سعاية عليها للمقر عند أبي حنيفة خلافاً لهما لما مر.(10/418)
-----
رجلان بينهما جارية جاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت النسب منه وحكم بحرية الولد وصارت الجارية أم ولد وضمن لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً، وهو نصف العقر وأصل المسألة معروف، فإن قال المدعي لصاحبه: إن هذه الجارية قد ولدت منك ولداً، وادعيته قبل أن تلد مني وصارت أم ولد لك وصدقه صاحبه في ذلك وكذبته الجارية، فإنهما لا يصدقان على الجارية وعلى ولدها حتى لا يبطل ما ثبت لهما من الحقوق من جهة المدعي ولا يبطل الضمان عن المدعي لأنا لما جعلناها أم ولد للمدعي فقد كذبنا المدعي في إقراره فبطل إقراره، فلهذا لم يبطل عنه الضمان ولكن يضمن المقر نصف قيمتها أم ولد باعتبار أن صاحبه لما أقر بثبوت الاستيلاد منه قبل هذا فقد أقر بفوات ذلك الجزء، ومن جهته فصار ميراثاً للمدعي عن فضل قيمتها فيه على قيمتها مدبرة، من مشايخنا من قال هذا قولهما.
أما على قول أبي حنيفة: لا يضمن المقر للمقر له شيئاً، لأن أم ولد الولد غير متقوم عنده، وقيل لا بل هو قولهم جميعاً؛ لأن أمية الولد من جهة المقر له لم يثبت في الحكم، لأنها أم ولد للمقر في الحكم فصار متملكاً نصيبه، والتملك لا يكون مجاناً، لكن يضمن قيمتها أم ولد لما قلنا، والأول أشبه وأقرب الى الصواب، لأن إقرار المقر له بالاستيلاد قبل ذلك إبراء المقر عن الضمان أصلاً، لأن الاستيلاد يمنع التملك بعد ذلك، ولو وجب الضمان ههنا لوجب بالتملك، فإن اكتسبت الجارية إكساباً، أو قتلت هي أو ولدها، فذلك كله للمقر؛ لأنها أم ولد المقر والولد ابن المقر في الحكم، فلهذا قال: كل ذلك للمقر. ولو قال هذا المدعي للشريك: كنت أعتقتها أنت قبل هذا، وصدقه الشريك في ذلك، فالأمة تعتق لأن المقرر أقر بعتقها، وهو مالك الإقرار بعتقها، ولا ضمان على المقر في نصف قيمتها، ولا في نصف عقرها بخلاف فصل الاستيلاد عندهما.
(10/419)
-----
والفرق: أن الإقرار بالعتق قبل ذلك إقرار ببراءة المقر عن الضمان؛ لأن العتق ينافي ضمانها أصلاً، وهو يملك إنشاء الإبراء، فيصح الإقرار به، أما الإقرار بالاستيلاد ليس بإقرار ببراءته عن الضمان أصلاً؛ لأن الاستيلاد لا ينافي الضمان عندهما، على ما عرف في تلك المسألة، فلهذا افترقا.
رجل في يديه أمة فوطئها، وولدت منه ولداً فادعى ولدها ثم قال: كانت هي أم ولد فلان فزوجنيها فولدت لي هذا الولد، وصدقه فلان في ذلك، فإن صدقتهما الأمة في ذلك أو كذبتها ولكن رجعت الى تصديقها قبل قضاء القاضي بكونها أم ولد للمقر فهي أم ولد للمقر، ويكون حكم ولدها كحكمها، فيعتقان إذا مات المقر له؛ لأن تصديقها في حق نفسها صحيح، وكذلك في حق الولد لأنها في يدها، وإنه لا يعبر عن نفسه، فصار كثوب أو دابة في يدها، فإن كبر الولد بعد ذلك وكذبها فيما أقرت، لم يلتفت الى تكذيبه، لأن إقرار الجارية قد نفذ عليه حين كان في يدها (227أ4) صغيراً لايعبر عن نفسه، فلا يتغير ذلك لصيرورته كبيراً معبراً عن نفسه كما قلنا في الملتقط إذا ادعى نسب اللقيط، ثم كبر اللقيط وكذبه لا يلتفت إلى تكذيبه، وطريقه ما قلنا، ولو لم تصدقه الجارية المقر ولم تكذبه حتى ماتت صدق المقر والمقر له؛ حتى كان الولد عبداً للمقر له؛ لأنا إنما كنا لا نصدقهما حال حياة الجارية لحق الجارية، وقد زال حقها، ولا يعتبر بحق الصغير؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، وهو في يد المقر، فصار كثوب أو دابة في يده فيصح إقراره بالملك فيه للمقر، فإن كبر الولد وأنكر أن يكون عبداً للمقر له لم يلتفت إلى إنكاره لما قلنا.(10/420)
-----
وإن كذبتهما الأمة، وثبتت على ذلك، فالقاضي يجعلها أم ولد للمقر؛ لأن أمية الولد للجارية، ونسب الولد وحرمته ثابتة من جهة المقر بناءً على الظاهر، فالمقر بقوله: إن الولد من نكاح يريد إبطال ذلك فلا يصدق عليه وعلى المقر قيمتها أم ولد للمقر له؛ لأن المقر أقر بكونها أم ولد للمقر له، وقد احتبست عنده بقضاء القاضي قيل: هذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة لا ضمان على المقر؛ لأنه لا تقوم لمالية أم الولد عند أبي حنيفة، فلا يضمن بالاحتباس عنده، ولا عقر للمقر له على المقر لأنه ما أقر بالوطء إلا بحكم النكاح وإنه لا يوجب العقر، وأشار في «الكتاب» إلى فرق آخر، فقال: بأن القاضي لما قضى بكونها أم ولد للمقر فقد قضى بأن المقر وطء ملك نفسه، وهذا إشارة إلى أنه لا يلزمه المهر أيضاً بخلاف المسألة التي تقدم ذكرها؛ لأن هناك القاضي قضى بكونها أم ولد للمقر بعد إذ كانت مشتركة بينهما ظاهراً، فكان ذلك قضاء باستيلاد الجارية المشتركة، وإنه يوجب العقر إنما ههنا بخلافه على ما بينا.
وإن كذبتهما فلم يقض القاضي بشيء حتى ماتت توقف أم الولد حتى يكبر بخلاف ما إذا لم يكذبهما، ولم يصدقهما حتى ماتت، فإنه يقضي بولدها للمقر له، والفرق أنها إذا لم يصدقها ولم يكذب لم يوجد ما يوجب سقوط اعتبار يد المقر، فإذا ماتت والولد في يد المقر يعتبر قوله فيه، فأما إذا كذبت المقر، فقد سقط اعتبار يده؛ لأن تكذيبها كتكذيبه، وهو يعبر عن نفسه فلا يحكم برقه باعتبار يده، إلا أنه يحتمل أن يعقل الغلام فيصدق المقر، والتصديق بعد التكذيب يعتبر، فلهذا يوقف أمره.(10/421)
-----
فإن كبر وصدق المقر فيما أقر كان عبداً للمقر له، وأمه أم الولد للمقر له، وإن مضى على التكذيب جعله القاضي حراً من جهة المقر، وأمه أم ولد للمقر، وإن كانت الأم حية والغلام يعبر عن نفسه فصدقت الأم المقر وكذبه الغلام، فالغلام حر والجارية أم ولد للمقر؛ لأن تكذيب الولد قد صح بكونه من أهله، ومع صحة تكذيب الولد لا يعتبر بتصديق الأم لأن الولد أصل في هذا الباب، والأم تبع على ما عرف.
قال: وكذلك إن كذبت الأم وصدقه الغلام في جميع ما وصفت لك ولم يفسر لذلك تفسير، فمن مشايخنا من قال: تفسيره أن تصديق الولد أولى حتى كانا رقيقين للمقر له؛ لأن تصديق الولد قد صح لكونه من أهله، ولا يعتبر تكذيب الأم مع تصديقه لما قلنا، ومنهم من قال: تفسيره أن تكذيب الأم أولى حتى كان الولد حراً والجارية أم ولد للمقر، كما لو كذب الغلام، ألا ترى إلى قوله في «الكتاب»، وكذلك لو كذبت الأم المقر، وصدقه الغلام وإنما يستقيم ذلك كذلك إذا كان الجواب في الفصلين متحداً، وهذا لأن قول كل واحد منهما صحيح معتبر بانفراده، فعند التعارض يرجح قول من يوجب الحرية على من يوجب إبطالها.
نوع آخر في بيان أنواع دعوى الرجل نسب الولد
فنقول: الدعوى في النسب لا تخلو من ثلاثة أوجه: دعوى استيلاد، ودعوى تحرير، ودعوى الأب ولد جارية أبيه، ومن يقوم مقام الأب كأب الأب حال عدم الأب حقيقة واعتباراً.(10/422)
-----
أما دعوى الأب ولد جارية أبيه فظاهر، وشرط صحتها: أن يكون للأب تأويل ملك في جارية أبيه من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وولاية التملك أيضاً من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وأن تكون الجارية محلاً ينقل من ملك إلى ملك، وإنما شرطنا أن تكون الجارية محل النقل من ملك إلى ملك؛ لأن الأب يمتلك جارية الابن سابقاً على أصل الوطء لما نبين بعد هذا، ولا بد للتملك من كون المحل قابلاً للنقل من ملك إلى ملك وإنما شرطنا أن يكون له ولاية التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى؛ لأن دعوة الأب متى صحت استندت إلى وقت العلوق، وإنما يمكن القول بالإسناد إلى وقت العلوق إذا كان له ولاية التملك، من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، أما بدون ذلك فلا إمكان، فلا تصح دعوته.(10/423)
-----
إذا عرفنا هذه الجملة فنقول: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعى أبو الرجل الولد صحت دعوته صدقه الابن في ذلك أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن علوق الولد اتصل بتأويل ملكه لأن للأب تأويل الملك في مال ولده، قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك»، ولهذا لو وطء جارية ابنه وقال: علمت أنها حرام عليَّ لا حد عليه، ولو اتصل العلوق بحقيقة ملكه كان مصدقاً في الدعوى وكان اتصال العلوق بملكه بمنزلة البينة العادلة في إبطال الملك على الملك بغير رضاه فكذا إذا اتصل العلوق تأويل الملك، وإذا صحت الدعوى صارت الجارية أم ولد له، وضمن الأب قيمة الجارية، لأنه يملك الجارية على الأب لأن الشرع أثبت له ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، ولهذا كان له أن يأكل طعام الابن وأن يلبس ثيابه عند حاجته إلى ذلك، وقد مست الحاجة ههنا إلى التملك، لأنه احتاج إلى ثبات نسب الولد منه، بعدما أعلقها بولده إلا أن هذه الحاجة دون الحاجة إلى المأكول والملبوس؛ لأن الحياة المتعلقة بالمأكول والملبوس حياة حقيقية، والحياة المتعلقة بالولد حياة معنوية فلوجود أصل الحاجة أثبتنا ولاية التملك ولانعدام كمالها أثبتنا ولاية التملك بالقيمة لتظهر رتبة هذه الحياة عن رتبة تلك الحاجة ولا عقر على الأب عندنا، لأن تملكها سابق على الوطء.
بيانه: أن التملك باعتبار الحاجة إلى ثبات النسب منه، وثبات النسب وإن كان وقت العلوق إلا أن الوطء قائم مقام العلوق، فيجب تقديم الملك على الوطء ليثبت نسب الولد منه، فيتبين أنه وطء ملك نفسه، وليس كما يعلقها لأن هناك لم يمتلك الجارية؛ لأن ولاية التملك عند الإعلاق باعتبار الحاجة إلى ثبات نسب الولد منه، وقد انعدمت هذه الحاجة إذا لم يعلقها.
(10/424)
-----
وليس كالأمة المشتركة بين رجلين إذا استولدها أحدهما هناك؛ لأن الوطء في نصف الشريك حصل قبل الملك؛ بيانه أن تملك نصيب الشريك هناك وقع بعد الوطء لا قبله، لأن التملك قبل الوطء في مسألتنا باعتبار الحاجة إلى ثبات نسب الولد، وثمة نسب الولد ثابت باعتبار ما له من الملك في نصيبه، ألا ترى أن الجارية المشتركة إذا كانت مدبرة واستولدها أحدهما صح استيلاده، وأن يمتلك نصيب صاحبه، أما ههنا مست الحاجة إلى تقديم الملك؛ لأن ما للأب من تأويل الملك في مال الابن لا يكفي لثبات النسب منه، ألا ترى أنه لو ادعى نسب ولده من يد أبيه لا يصح إلا بتصديق الابن.
وروى بشر أن آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الجارية لا تصير أم ولد للأب، ولكن الولد حر بالقيمة بمنزلة الولد المعروف، فيغرم الأب عقرها وقيمة ولدها، وقاسه على ما إذا ادعى ولد جارية مكاتبة، فإنه لا تصير الجارية أم ولد له، فأما ليس للأب في مال الابن حق الملك، ألا ترى أنه يجوز للابن وطؤها، فلا يمكن إثبات النسب من الأب، إلا بتقديم الملك له في الجارية، وإذا قدمنا الملك في الجارية صار الأب مستولداً في ملكه، فتصير الجارية أم ولد له لهذا.
وإذا اشترى الرجل أمة حاملاً وولدت عنده بعد الشراء بيوم، فادعى أب المشتري الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق الابن؛ لأن العلوق لم يكن متصلاً لا بملكه، ولا بتأويل ملكه ولا (227ب4) بد من أحدهما لصحة الدعوة من غير تصديق المالك، وكذلك المدبرة تكون عند الرجل فتلد ولداً، فإنه لا تصح دعوة الأب إلا بتصديق الابن؛ لأن تدبير الجارية يمنع صحة الدعوى، والعلوق متصل بتأويل الملك، وإذا لم تصح الدعوة في حق الجارية لا تصح في حق الولد.(10/425)
-----
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن دعوة الأب في ولد مدبرة الابن صحيحة يثبت نسب الولد منه ويضمن عقرها وقيمة الولد مدبراً، وهذا على الأصل الذي ذكرنا لأبي يوسف رحمه الله أنه لا يتملك الجارية ولكنه بمنزلة المغرور في دعوة النسب، وفي هذا القنة والمدبرة سواء إلا أنه يضمن قيمته مدبراً؛ لأنه كما انفصل من أمه انفصل مدبراً، فإنما يضمن قيمته على الوجه الذي أتلفه بدعوته.
وفرق على هذه الرواية بين ولد المدبرة وبين ولد أم الولد، والفرق: أن ولد أم الولد ثابت النسب من مولاها، فيمنع ذلك صحة دعوى الأب فيه، وكذلك إذا ادعى ولد مكاتبة ابنه لا تصح دعوته إلا بتصديق الابن، لأن دعوة الابن إنما تصح إذا كانت الجارية محل التملك، لأنه إذا صحت دعوته تملك الجارية سابقاً على الاستيلاد والمكاتبة ليست بمحل التملك.
ثم يستوي في هذه الصورة إن ولدته وهي مكاتبة أو كانت الكتابة بعد الولادة، وكذلك هذا على وجوه: أما إن كاتب الأم والولد جميعاً، أو كاتب الولد خاصة في هذين الوجهين لا تصح دعوة الأب؛ لأن الولد هو المقصود، وقد ثبت في الولد من جهة الابن ما يمنع نقله إلى الأب، فلهذا لا تصح دعوة الأب، وإن كانت الأم بعدما ولدت خاصة، ثم ادعى الأب نسب الولد، قال في موضع من كتاب الدعوى: لا تصح دعوته، وقال في موضع آخر: تصح وثبت نسب الولد ولا يصدق في جوابه.
قيل: ما ذكر أنه تصح دعوته قول أبي يوسف رحمه الله، وما ذكر أنه لا تصح دعوته قول محمد رحمه الله، نص على الخلاف على هذا الوجه فيما إذا باع الابن الأم بعد الولادة، ثم ادعى أبوه نسب الولد على قول أبي يوسف رحمه الله: تصح دعوته ويثبت نسب الولد، وستأتي مسألة البيع بعد هذا إن شاء الله.(10/426)
-----
ويستوي في دعوا الرجل ولد جارية الابن أن تكون الجارية موطوءة الابن أو لم تكن؛ لأن العلوق قد اتصل بتأويل ملكه في الحالين، والجارية محل التملك، وإن كان لا يحل للأب فيتملكها بالقيمة كما لو كانت تحل له.
وإذا قال الأب: وقعت على جارية ابني وأنا اعلم أنها علي حرام تصح دعوته وثبت نسب الولد كما لو لم يعلم، وإنما أعلم أنها حرام علي؛ لأن الوطء في الحالين جميعاً اتصل بتأويل ملكه.
وإذا ادعى ولد جارية أبيه، وضمن قيمتها للابن ثم استحقها رجل، فإن للمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة الولد من الأب، أما أخذ الجارية والعقر فظاهر، وأما أخذ قيمة الولد؛ لأن الأب في معنى المغرور؛ لأنه لا يملك الجارية على الولد بعوض وهو القيمة، فصار في معنى المشتري، والمشتري مغرور في ولد الجارية عند الاستحقاق، ثم يرجع الأب على الابن بما أخذ منه من قيمة الجارية؛ لأنه تبين أنه لم يمتلكها على الابن، وأن الابن أخذ بغير حق.
وإذا ولدت أمة الرجل ولداً، وادعى المولى وأبوه الولد معاً صح دعوة الابن، ولا تصح دعوا الأب؛ لأن دعوا الابن سابقة معنى تعتبر بما لو كانت سابقة حقيقة. بيانه: أن دعوى الابن توجب ثبات النسب منه بلا واسطة، ودعوى الأب لا توجب ثبات النسب منه إلا بواسطة التملك، فحال ما يتملكها الأب يثبت نسب الابن، فيكون ثبات النسب من الابن سابقاً على دعوى الابن الوجه، ولو كانت دعوى الابن سابقة على دعوى الأب حقيقة لا تصح دعوة الأب، فههنا كذلك.
وإذا حبلت جارية الرجل في ملكه وولدت ولداً وادعاه الجد، والولد حي حقيقة واعتباراً بأن كان الولد حراً مسلماً، فدعوى الجد باطلة لانعدام شرط صحة الدعوى، فإن شرط صحة دعوى الجد، ولد جارية حافده أن يكون له تأويل ملك في جارية حافده من وقت العلوق إلى وقت الدعوى لأن الجد يقوم مقام الأب، وشرط صحة دعوى الجد ولد جارية حاضرة.
(10/427)
-----
إذا ثبت هذا فنقول حال قيام الأب حقيقة واعتباراً: إن كان للجد تأويل الملك في مال حافدة حتى قلنا: إن الجد إذا وطئ جارية حافدة حال قيام الأب حقيقة واعتباراً لا يجب الحد على الجد كما لا يجب على الأب فليس له ولاية تملك مال حافدة لحاجة الاستيلاد إنما يثبت إن كان له ولاية التصرف في المال إذا كان صاحب المال صغيراً كما في الأب؛ لأن الولاء باب إنما يثبت في حالة الصغر، غير أن الثابت للأب في حالة الصغر ولاية التصرف لحاجة الصغير، وولاية التملك بالاستيلاد لحاجة نفسه، وهي الحاجة إلى صيانة ماله عن الضياع، وصيانة نفسه عن الزنا فما يثبت من الولاية لحاجة الصغير لن تزول ببلوغه عن عقل، وما ثبت من الولاية لحاجة نفسه يبقى بعد البلوغ بطريق ثبوت الولاية للأب في ملك جارية الابن لحاجة الاستيلاد ما ذكرنا.
إذا ثبت هذا فنقول: ما دام الأب حياً حقيقةً واعتباراً فليس للجد ولاية التصرف في مال حافده وإن كان صغيراً، فلا يثبت له تملك جارية حافده لحاجة الاستيلاد، فلو صحت دعواه لصحت دعوته باعتبار مجرد تأويل الملك، ولا وجه إليه لما ذكرنا أن دعوى الأب صحت باعتبار تأويل الملك، وباعتبار ولاية التملك لحاجة الاستيلاد، ففي الجد يجب أن يكون كذلك.(10/428)
-----
فإن كان الولد نصرانياً والجد والحافد مسلمين، أو كان الأب عبداً أو مكاتباً والجد والحافد حرين صحت دعوى الجد؛ لأن للجد ولاية تملك مال حافده لحاجة الاستيلاد في هذه الصورة؛ لأن الأب في حكم الميت في هذه الصورة، ألا ترى أنه تزول ولايته عن المال بالكفر والرق كما تزول بالموت، ولو مات الأب حقيقة ثبت للجد ولاية تملك مال حافده لحاجة الاستيلاد، ويصح دعوى ولد جارية حافده كذا ههنا. والدليل عليه: أن زوال ولاية الأب بالكفر والرق تعتبر بزوال ولايته بالموت في حق الجد في حق ثبوت ولاية التصرف في مال الصغير، وفي حق تملك مال الصغير بالنفقة وبالبيع، حتى لو باع مال حافده من نفسه يجوز، فكذا في حق التملك لحاجة الاستيلاد.
ولو كان الأب مرتداً والجد والحافد مسلمين، فدعوى الجد موقوفة عند أبي حنيفة ومحمد: إن أسلم الأب بطلت دعوته، وإن مات أو قتل على الردة صحت دعوته، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: دعوى الجد باطلة، وهذا لأن لدعوى الجد صحة وبطلاناً ينبني على ولاية الأب، ونفاذ ولاية الأب موقوفة عند أبي حنيفة فكذا دعوى الجد موقوفة، وعندهما ولاية الأب باقية بلا توقف، فدعوى الجد تكون باطلة بلا توقف أيضاً.
فإن قيل: على قولها يجب أن تتوقف دعوى الجد أيضاً؛ لأن التمليك بالاستيلاد تصرف في مال الابن، وولاية المرتد في مال ولده موقوفة عند الكل، نص عليه محمد في كتاب الوكالة، إنما الخلاف فيما يتصرف المرتد في مال نفسه، فتكون دعوى الجد موقوفة ضرورة. والجواب عن هذا أن يقال: بأن ولاية التملك بالاستيلاد نظير ولايتة على نفسه؛ لأنها إنما تثبت حقاً له، ولهذا لا تزول بالبلوغ عن عقل، وكان نظير الولاية في ماله لا في مال الابن وفي توقف ولايته في ماله اختلاف، وكان بطلان دعوى الجد عندهما صحيح.(10/429)
-----
ولو كانوا جميعاً أحراراً مسلمين، ثم مات الأب، فادعاه الجد لم تصح دعوته لما ذكرنا أن من شرط صحة دعوى الجد قيام ولاية التملك له من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وقد انعدمت ولاية التملك للجد وقت البلوغ حقيقة واعتباراً لكون الأب حياً وقت العلوق حقيقة.
استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى جارية حاملاً، فوضعت عنده لستة أشهر، فادعاه والد المشتري لم تصح دعوته لانعدام ولاية التملك له وقت العلوق لكونها زائلاً عن ملك الابن، أورد هذا البيان أن شرط صحة دعوى الجد قيام ولاية التملك له من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وكذلك (288أ4) لو كان الأب نصرانياً، والجد والحافد مسلمين، ثم أسلم الأب والجارية حامل وضعت حملها لأقل من ستة أشهر كانت دعوى الجد باطلة لانعدام ولاية التملك حالة الدعوى بإسلام الأب، وكذلك لو كان الوالد مكاتباً وأدى بدل الكتابة، فعتق قبل دعوى الجد أو كان عبداً، فأعتق قبل دعوى الجد كانت دعوى الجد باطلة لانعدام ولاية التملك له وقت الدعوى.
قال محمد رحمه الله: إذا كان للرجل جارية حبلت في ملكه، وللرجل والد معتوه، وله جد حر مسلم، فولدت الجارية ولداً فادعاه الجد فدعوته جائزة؛ لأن الأب جعل كالمعدوم بسبب العته لعجزه عن التصرف، وظهر ولاية الجد وصحت دعوته، وإن لم يدع الجد الولد حتى أفاق الأب لا تصح دعوى الجد بعد ذلك لانعدام ولاية الجد وقت الدعوى، وإن لم يدع الولد الجد بعدما أفاق الأب وإنما ادعاه الأب بعدما أفاق؛ القياس: أن لا تصح دعوته، وفي الاستحسان: تصح دعوته،(10/430)
-----
وجه القياس في ذلك ما مر: أن شرط صحة دعوى الأب قيام حق التملك وقت الدعوى، وههنا لم يكن للأب ولاية التملك وقت الدعوى لكونه معتوهاً، فانعدم شرط صحة الدعوى. وجه الاستحسان في ذلك: الولاية كانت قائمة وقت العلوق، فإن العته لا ينافي الولاية، ولهذا يستوجب نفقته على ولده، والإرث طريقه طريق الولاية، ولهذا ما ينفي الولاية كالرق، واختلاف الدين يمنع الإرث، فكان من هذا الوجه بمنزلة العتق، إلا أنه بمنزلة العبد من وجه؛ لأنه عاجز عن التملك كما أن العبد عاجز، إلا أن عجز المعتوه لفساد عبارته، وعجز العبد لكونه غير أهل لملك المال، أما فيما يرجع إلى العجز فهما سواء، ولو كان بمنزلة العتق من كل وجه بأن كان له ولاية التملك، ويكون قادراً على التملك صحت دعوته ولا تصح دعوى الجد.
ولو كان بمنزلة العبد من كل وجه بأن لم يكن من أهل التملك أصلاً لا تصح دعوته وتصح دعوى الجد، فإذا كان بينهما فمن حيث إنه معتوه تصح دعوته بعد إفاقته وإن كان علوق الولد قبل إفاقته، ومن حيث إنه بمنزلة العبد صحت دعوى الجد قبل إفاقته توفراً على الشبهين حطهما.
وجه آخر للاستحسان: إن العته والجنون إنما ينافي الأهلية والولاية في كل باب إذا كان مستغرقاً مدة ذلك الحكم، فأما إذا لم يستغرقه، فهو ملحق بالنوم والإغماء، ألا ترى أنه لا يعمل في الزكاة حتى يستغرق الحول، ولا يمنع الصوم حتى يستغرق الشهر، ولا يمنع الصلاة حتى يزيد على خمس صلوات، وههنا مدة هذا الحكم من حين العلوق إلى حين الدعوى، ولم يوجد امتداد العته في هذه المدة، فصار ذلك بمنزلة النوم.(10/431)
-----
جئنا إلى بيان دعوى الاستيلاد فنقول: دعوى الاستيلاد أن يكون ابتداء العلوق في ملك المدعي، وشرط صحتها في المحل قيام الملك في المحل وقت الدعوى ليس بشرط لصحة الدعوى عند علمائنا الثلاثة، حتى إن من باع جارية وولدت في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فادعى البائع الولد صحت دعوته استحساناً لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
جئنا إلى بيان دعوى التحرير، فنقول: دعوى التحرير أن لا يكون العلوق في ملك المدعي، وشرط صحتها قيام الملك للمدعي في المحل وقت الدعوى.
جئنا إلى المسائل؛ قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وإذا باع الرجل جارية من غيره، وولدت عند المشتري ولداً، فادعاه البائع (أن المشتري)، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع وقد علم ذلك، والحكم: أنه إذا ادعاه البائع صحت دعوته، صدقه المشتري أو كذبه؛ حتى يثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له، وانتقض البيع ورد الثمن على المشتري إن كان نقد الثمن، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة رحمهم الله.
والقياس: أن لا تصح دعوى البائع إذا كذبه المشتري، وبه أخذ زفر.
وجه القياس في ذلك: أن البائع في الدعوى متناقض ساع في نقض ما تم به وهو البيع، فلا يقبل قوله، كما لو قال: كنت أعتقتها أو دبرتها قبل البيع.
بيانه: أن إقدامه على البيع إقرار منه أنها ليست بأم ولد له، فيصير بدعوى أمية الولد بعد ذلك متناقضاً.(10/432)
-----
وجه الاستحسان في ذلك: أنا تيقنا بحصول العلوق في ملك البائع، لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر، فإذا جاءت بالولد لأقل من ذلك وقد تيقنا بحصول العلوق قبل البيع، واتصال العلوق بملك الإنسان ينزل منزلة البينة في إبطال حق الغير عليها، ألا ترى أن جارية المريض إذا جاءت بولد في ملكه وادعى نسبه ينزل ذلك منزلة البينة في حق إبطال حق الغرماء والورثة عنها وعن ولدها وهذا لأن بحصول العلوق في ملكه ثبت له حق استحقاق النسب بالدعوى، وذلك لا يحتمل الإبطال فلا يبطل بالبيع، وما يقول بأنه متناقض قلنا: نعم، ولكن طريقه طريقة الخفاء فإن الإنسان قد لا يعلم بالعلوق أصلاً، ولا يعلم أن العلوق منه، لم يعلم بعد ذلك، والتناقض في مثل هذا عفو، ومثل هذا الخفاء لا يمكن تصويره في دعوى الإعتاق والتدبير، فإن ادعى المشتري الولد بعد ذلك، فعلى طريق الاستحسان لما صحت دعوى البائع، لا تصح دعوى المشتري، وعلى طريق القياس لما لم تصح دعوة البائع لا تصح دعوة المشتري.
هذا الذي ذكرنا إذا ادعاه البائع وحده، وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته أيضاً، وثبت النسب منه، وصارت الجارية أم ولد له فكانت دعوى المشتري دعوى تحرير، لأن العلوق لم يتصل بملكه حتى كان للمشتري ولاء على الولد كما لو أعتقه المشتري، والمشتري يصح منه تحرير الولد؛ لأنه ملكه فيصح منه التحرير أيضاً، وإذا صحت دعوى المشتري، وثبت النسب منه يحمل أمره على جهة يثبت به النسب من نكاح جائز أو فاسد لا على وجه الزنا، وإذا صحت دعوى المشتري لا تصح دعوى البائع بعد ذلك؛ لأنه ثبت فيه حقيقة النسب، وإنه أقوى من حق استلحاق النسب، فيبطل به ما كان للبائع من حق استلحاق النسب ضرورة.l(10/433)
-----
وإن ادعيا جميعاً يعني البائع والمشتري، فإن سبق أحدهما صاحبه في الدعوى فدعواه أولى، وإن خرج الكلامان معاً، فدعوى البائع أولى عندنا؛ لأنه سابق معنى؛ لأن دعوته دعوى استيلاد، وإنه يستند إلى وقت العلوق، ودعوى المشتري دعوى تحرير، وإنها تقتصر على الحال، فهو معنى قولنا: إن دعوى البائع سابق معنى.
الوجه الثاني: (إذا جاءت) بالولد لستة أشهر فصاعداً، ما بينهما وبين سنتين من وقت البيع وقد علم ذلك، فإن ادعى البائع بسبب الولد وحده لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري، لأن البائع في هذه الصورة بعلوق الولد في ملكه وأجنبي آخر سواء، ولو أن أجنبياً آخر ادعى نسب هذا الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري؛ فههنا كذلك إلا أن الفرق بين البائع والأجنبي أن الأجنبي إذا ادعى وصدقه المشتري حتى ثبت النسب من الأجنبي يبقى الولد عند المشتري ولا تصير الجارية أم ولد الأجنبي.
وإذا ادعاه البائع وصدقه المشتري حتى ثبت النسب منه لأنه ولد البائع، لأن في فصل المشتري بتصادقهما أن الولد ثابت النسب من البائع ثبت علوق الولد في ملكه؛ لأن احتمال حصول العلوق في ملكه ثابت، وقد تصادقا عليه والحق لهما لا يعدوهما، فثبت علوق الولد في ملكه.
وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته، ويجب أن تكون دعوته دعوى استيلاد، حتى كان الولد حر الأصل، ولا يكون للمشتري عليه ولاء، لأنه يزعم أن العلوق حصل في ملكه وأمكن تصديقه؛ لأن هذه مدة تصلح لحدوث الولد فيها.
وإن ادعياه وخرج الكلامان معاً أو (228ب4) أحدهما أسبق، فدعوى المشتري أولى على كل حال، كما لو كان المدعي مع المشتري أجنبياً.(10/434)
-----
الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت البيع، وقد علم القاضي ذلك، فإن ادعاه البائع لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري حتى لو صحت دعوته ثبت النسب من البائع، ويكون الولد عبداً للمشتري ولا تصير الجارية أم ولد؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب من البائع، أما ما تصادقا على كون العلوق في ملكه؛ لأن هذه مدة تحتمل بقاء الولد في البطن، فيكون حادثاً بعد زوال ملك البائع لا محالة بخلاف الوجه الثاني، وإن ادعياه وخرج الكلامان معاً، أو سبق أحدهما صاحبه صحت دعوى المشتري، ولا تصح دعوى البائع.
هذا الذي ذكرنا إذا علم المدة من وقت البيع إلى وقت الولادة، فأما إذا لم يعلم أنها جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من البيع، أو لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين، أو لأكثر من سنتين من وقت البيع، فإن ادعاه البائع لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري، لأنا لم نتيقن بكون العلوق في ملكه، وإن ادعاه المشتري تصح دعوته؛ لأن أكثر ما في الباب أنا لم نتيقن بعلوق الولد في ملكه، لكن ذاك لا يمنع صحة دعوى المشتري، كما لو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع.
وإن ادعياه جميعاً وخرج الكلامان منهما معاً لم تصح دعوى واحد منهما، إن كان لأقل من ستة أشهر لا يثبت النسب من المشتري ولا من البائع، فوقع الشك في ثبوت النسب من كل واحد منهما، فلا يثبت مع الشك.
وإن سبق أحدهما صاحبه، فإن سبق المشتري صحت دعوته، وإن سبق البائع لم تصح دعوى واحد منهما لوقوع الشك في ثبات النسب من واحد منهما، وإن نفياه في الوجوه كلها فهو عند المشتري لانعدام الدعوى.
هذا كله إذا لم يخرجه عن ملكه، فإذا أخرجها عن ملكه ثم جاءت بولد، فالجواب في هذه المسألة نظير الجواب في المسألة الأولى على الوجوه والتفاصيل التي ذكرناها.(10/435)
-----
قال: وإذا حبلت الجارية في ملك رجل ثم باعها، فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر، ثم إن المشتري أعتق الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته في حق الولد حتى ثبت نسب الولد منه، وحكم بحريته، ولا يصح في حق الأم حتى لا تصير الجارية أم ولد له.
فرق بين هذا وبينما إذا أعتق المشتري الولد ثم ادعاه البائع، فإنه لا تصح دعوته لا في حق الولد، ولا في حق الأم، والوجه في ذلك: أن الولد هو المقصود بالدعوى، وحكم الاستيلاد في الجارية يثبت تبعاً للولد، ولهذا قال عليه السلام: «أعتقها ولدها»، ولما كان هكذا قلنا: إذا جرى في الولد من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع فيه لا تصح دعوى البائع أصلاً؛ لا في الولد لقيام المانع به، ولا في الأم لكون الأم تبعاً للولد في حق حكم الاستيلاد، ومتى جرى في الأم من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع فيها، لا تصح دعوى البائع منه، وتصح في الولد ويثبت نسب الولد من البائع، ولا تصير الجارية أم ولد للبائع حتى لا يبطل عتق المشتري في الجارية، ولا يجب على البائع، وحصة الأم من الثمن، وكان ينبغي أن تصير الجارية أم ولد للبائع؛ لأنه من أحكام ثبات نسب الولد منه، ألا ترى أن قبل إعتاق المشتري الأم في هذه الصورة إذا ادعى البائع نسب الولد حتى ثبت نسب الولد منه صارت الجارية أم ولد له حكماً لثبات نسب الولد منه، والجواب صيرورة الجارية أم ولد للمدعي من أحكام ثبوت النسب، وليس من ضروراته بحيث لا ينفك النسب عنه، بل يجوز الانفكاك عنه بحال، ألا ترى أن ولد المغرور حر ثابت النسب من المستولد، وإنه لا تكون أم ولد له.
(10/436)
-----
إذا ثبت هذا فنقول: صيرورة الجارية أم ولد للمدعي لو لم تكن من ضرورات ثبوت نسب الولد منه، ولا من أحكامه لا تصير الجارية أم ولد للبائع، ادعى البائع الولد قبل إعتاق المشتري أو بعده، ولو كان من أحكامه ولم يكن من ضروراته عملنا بهما، فجعلناها أم ولد البائع إذا ادعاها قبل إعتاق المشتري، لأنه ليس من ضروراته عملاً بالشبهين بقدر الإمكان.
وإذا صحت دعوى البائع في حق الولد دون الأم ذكر أن الثمن يقسم على الجارية وعلى الولد على قدر قيمتيهما، فما أصاب الولد يجب على البائع رده، لأنه لم يسلم الولد للمشتري، فلا يسلم للبائع بدله، وما أصاب قيمة الأم يمسكه البائع؛ لأن الأم سلمت للمشتري، فلا يسلم للبائع بدلها، فقد جعل للولد حصته من الثمن.
وكان ينبغي أن لا يكون له حصة من الثمن؛ لأنه حدث بعد قبض المشتري، والجواب: الولد من حيث الصورة حدث بعد قبض المشتري، أما من حيث الحكم: فهو حادث قبل قبض المشتري، لأنه حدث في حال البائع فسخ العقد، فإن للبائع فسخ هذا البيع بالدعوى، وإن قبضه المشتري كما لو فسخ هذا البيع قبل القبض بالاستهلاك، وإذا كان الولد حادثاً قبل القبض معنى صار له حصته من الثمن متى استهلكه المشتري بالدعوى، فلهذا صار له حصته من الثمن.
وكذلك الجواب فيما إذا كان دبره لأن بالتدبير يثبت حق العتق، فيعتبر بحقيقة العتق، ألا ترى أن في الولد استوى العتق والتدبير حتى لم تصح دعوى البائع الولد بعد تدبيره، كما لم تصح دعوته قبل إعتاقه، ولم يكن شيء من ذلك ولكنها ماتت عند المشتري، ثم ادعى البائع الولد، فعلى قول أبي حنيفة: تصح دعوته في حق الولد والأم جميعاً حتى يجب على البائع رد جميع الثمن على المشتري، كما لو كانت الأم حية، وعلى قولهما: لا تصح الدعوى في حق الأم كما لو أعتقها المشتري، ولا يلزمه رد الثمن بحصة الأم، لأنه تعذر فسخ البيع فيها بعد الموت كما في فصل العتق والتدبير.(10/437)
-----
قالوا: هذه المسألة في الحاصل بناءً على مسألة معروفة أن رق أم الولد هل هو متقوم؟ فعند أبي حنيفة رحمه الله ليس بمتقوم حتى لا يضمن بالغصب، فكذا لا يكون له حصته من الثمن، وقد زعم البائع أنها أم ولده، وزعمه حجة في حقه، وعلى قولهما: رقها متقوم حتى يضمن بالغصب، فتمسك حصتها من الثمن.
ثم فرق أبو حنيفة بين فصل الموت وبين فصل العتق والتدبير، مع أن البائع زعم أنها أم ولد له في الفصول كلها، وجه الفرق له: أن في الفصول المتقدمة القاضي كذب البائع فيما زعم حين جعلها معتقة من المشتري، أو مدبرة أو أم ولد، فلم يبق لزعمه عبرة، فأما ههنا بعد موتها لم يجز الحكم بخلاف ما زعم البائع، فبقي زعمه معتبراً في حقه؛ فلهذا رد جميع الثمن، ولم يكن شيء من ذلك، ولكن المشتري باعها من غيره، أو كاتبها أو زوجها، أو وهبها وقبضها الموهوب له، ثم إن البائع ادعى الولد صحت دعوته في حق الأم والولد جميعاً، وينقض هذه التصرفات ويرد الجارية على البائع، فهما يحتاجان إلى الفرق بين هذه التصرفات وبين الموت، والفرق: أن بعد موت الأم إنما لم تصح دعوى البائع في حق الأم، لأنه تعذر فسخ البيع فيها بعد الموت، أما بعد هذه التصرفات فسخ البيع فيها يتمكن بواسطة فسخ هذه التصرفات، وهذه التصرفات قابلة للفسخ.
قال: ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن مات الولد عند المشتري أو قتل، وأخذ المشتري قيمته ثم ادعاه البائع لم تصح دعوته لا في حق الولد؛ لأنه لم يبق محلاً لثبات النسب؛ ولا في حق الأم؛ لأن الأب تبع في هذا الباب.(10/438)
-----
ولو لم يمت الولد، ولم يقتل ولكن قطعت يده ثم ادعاه البائع صحت دعوته؛ لأن بعد القطع بقي محلاً لثبات النسب، وإذا صحت دعوته ثبت نسب الولد منه وحكم بحريته، ولكن على الجاني أرش العبد، وإن استندت الحرية إلى حالة (229أ4) العلوق، ولم يكن إثبات النسب في حق اليد لأنها فائتة، ولم يخلف بدلاً في حق إثبات النسب؛ لأن الأرش لا يصلح بدلاً عن الولد في حق ثبات النسب، وإذا لم يصح الأرش في حق التدبير لم يثبت الاستناد في حقه، فبقي اليد بياناً على حكم الرق فيجب أرش الرقيق.
وإذا ولدت الجارية المبيعة في يد المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فادعاه وكذبه المشتري، ثم قتل في يد المشتري أو قطعت يده عمداً أو خطأ، فإن على الجاني في ذلك ما عليه جناية الآخر، أو لأن النسب قد ثبت من البائع ههنا بمجرد دعوته إذ لا عبرة لتكذيب المشتري إذا كان في وقت الشراء إلى وقت الولادة لأقل من ستة أشهر، وحكم بحرية الولد من الأصل، فكانت الجناية واردة على الحر، وكذلك إذا كانت الجارية على الأم كان على الجاني في ذلك ما يجب بالجناية على أم الولد؛ لأن حَكَمْنا بأمية الولد من وقت العلوق بالولد، والجناية كانت بعد ذلك.
ولو كانت الجناية من الولد أو من الأم في هذه الصورة، فجناية الولد كجناية الأم، وجناية الأم كجناية أم الولد، لأنا حكمنا بحرية الولد من الأصل، وحكمنا بأمية الولد من وقت العلوق بالولد، والجناية مهما كانت بعد ذلك، وإن كانت الجناية من الولد أو من الأم قبل دعوى البائع، ثم ادعى البائع نسب الولد، فهو على البائع دون المشتري، لأن دعوى البائع قد صحت، وحكم بحرية الولد من الأصل ونسبت دعوته، صار الجاني مستحقاً على المشتري، فيعتبر بما لو صار مستحقاً بالبينة، وهناك لا شيء على المشتري من جنايته، بل يكون على المستحق كذا هنا.(10/439)
-----
وإذا ولدت الجارية المبيعة في يد المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر فكبر ابنها، وولد له ابن عند المشتري، ثم مات الابن الأول، ثم إن البائع ادعى الولد الثاني لا تصح دعوته، فرق بين هذا وبين ولد الملاعنة إذا كبر، وولد له ولد، ثم مات الولد المنفي وبقي ابنه، فادعاه الملاعن صحت دعوته، وعلوق الولد الثاني لم يكن في ملك الملاعن كما في ولد ولد المبيعة.
ثم قال: تصح الدعوى في مسألة اللعان، ولم تصح في ولد ولد المبيعة، والفرق: أن في ولد ولد الملاعنة إن لم يثبت اتصال العلوق بملكه حكم من الأحكام اتصال العلوق بملكه وهو أن لا تصح دعوى الغير إياه، وفي ولد ولد المبيعة لم يثبت اتصال العلوق بملكه ولا حكماً، فإنه لو ادعاه غير البائع صحت دعوته، ولا بد لصحة الدعوى من اتصال العلوق بملك المدعي إما حقيقة أو حكماً.
إذا ولدت المبيعة في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فشهد شاهدان أن البائع ادعى هذا الولد، والبائع ينكر، فإن كان المشتري يدعي ذلك، فالشهادة مقبولة؛ لأنها قامت عن دعوى صحيحة؛ لأن المشتري بهذه الدعوى يدعي استحقاق الثمن على البائع، وإن كان المشتري لا يدعي ذلك؛ فإن كان الولد أنثى، فكذلك الجواب تقبل الشهادة، لأن هذه شهادة قامت على عتق الأمة في حق الولد والأم جميعاً.
وإن كان الولد ذكراً فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل هذه الشهادة، لأن عندهما الشهادة قائمة على عتق العبد، فتقبل بدون الدعوى. وأما على قول أبي حنيفة؛ وإن كان ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة لا في حق الولد؛ لأن الشهادة على عتق العبد عنده بدون الدعوى غير مقبولة، ولا في حق الجارية لأن حق الجارية في هذا الباب تبع، وإلى هذا مال بعض المشايخ.(10/440)
-----
وبعضهم قالوا: لا، بل هذه الشهادة مقبولة عند أبي حنيفة أيضاً، لأن هذه الشهادة وإن قامت على عتق العبد إلا أنها تضمنت حرمة الفرج، لأن عتق الأم مضاف إلى عتق الولد الثابت بالشهادة، وكانت بمنزلة الشهادة القائمة على عتق الأمة، حتى لو كانت الأم ميتة لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة؛ لأنها لا تتضمن حرمة الفرج، فلم تكن بمنزلة الشهادة القائمة على عتق الأمة، وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده.
وقال بعضهم: لا بل هذه الشهادة مقبولة عند أبي حنيفة وإن كانت الأم ميتة؛ إذ ليس المقصود ههنا عتق الولد، وإنما المقصود ثبوت النسب والعتق بناء عليه، ويجوز أن يثبت النسب بالشهادة من غير دعوى، كالولد إذا ولد وتصادق الزوجان أن النكاح بينهما منذ شهر فشهد الشهود أن النكاح منذ ستة أشهر أو أكثر، فإنه يثبت النسب بهذه الشهادة، وإن انعدم الدعوى، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
إذا باع الرجل من آخر جارية ثم ادعى أنها حامل وأن الحمل منه، فإنه لا تصح دعوته في الحال بل تكون موقوفة، وإن أريته النساء فقلن: بها حبل أو صدقه المشتري في دعوى الحمل، وهذا لأن من شرط صحة دعوى البائع اتصال العلوق بملكه بيقين، ولا يقين في الحال لجواز أنها لا تلد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فيتوقف فيه، وإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر ظهر أن العلوق كان في ملكه وأن دعواه كانت صحيحة، أو إن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً تبين أن العلوق لم يكن في ملكه، وأن دعواه لم تصح.
(10/441)
-----
فإن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فقال المشتري: أصل الحبل لم يكن في ملكك إنما اشتريتها وهي حامل، وقال البائع: لا بل أصل الحبل كان في ملكي، فالقول قول البائع؛ لأنا تيقنا أنها كانت حاملاً في يد البائع، فبعد ذلك المشتري يدعي تاريخاً سابقاً في العلوق والبائع ينكر ذلك، وكان ينبغي أن يكون القول قول المشتري؛ لأن المشتري لا يدعي جواز العقد، والبائع يدعي فساد العقد؛ لأنه يقول: العلوق كان مني وقد بعت أم الولد فلم يصح البيع، والقول قول من يدعي الصحة، ألا ترى أنهما إذا اختلفا في تاريخ الشراء بعدما ولدت الجارية في يد المشتري وادعاه البائع، فقال المشتري: اشتريتها منذ ستة أشهر أو أكثر، وقال البائع: لا بل اشتريتها مني منذ شهر، فالقول قول المشتري؛ لأنه يدعي جواز العقد كذا ههنا.
والجواب: وهو الفرق بين المسألتين أن في مسألتنا سبب الفساد ثبت بدليله، فكان القول قول من يدعي الفساد كما لو ثبت سبب الفساد بالبينة.
بيانه: وهو أن سبب الفساد علوق هذا الولد من جهة البائع، وقد ثبت ذلك بقول البائع؛ لأن الظاهر يشهد للبائع؛ لأنه هو الممكن بالوطء دون غيره بخلاف ما لو اختلفا في التاريخ؛ لأن هناك سبب الفساد لم يكن ثابتاً بدليله؛ لأن سبب الفساد هناك ما يدعيه البائع من التاريخ، ولم يثبت ذلك بقوله؛ لأن الظاهر لا يشهد للبائع أنه باع منذ شهر، وما لم يثبت سبب الفساد بدليل، فالقول قول من يدعي الجواز.
وإن أقاما البينة فالبينة بينة البائع؛ لأن البائع يثبت تاريخاً سابقاً في ملكه على العلوق وملكه حقه، فتقبل بينته في سبق التاريخ في ذلك، ولا شك في هذا على قول أبي يوسف، واختلف المشايخ على قول محمد، منهم من قال: قوله هكذا، ومنهم من قال على قوله: البينة بينة المشتري؛ لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة.(10/442)
-----
وأصل هذا فيما إذا اختلفا في التاريخ وقد ولدت الجارية في يد المشتري بعد البيع بيوم وادعاه البائع، فقال المشتري: لم تحبل عندك، وإنما اشتريتها قبل أن تبيعها مني قبل شهر، وقال البائع: لا، بل اشتريتها منذ سنة، فالقول قول البائع، فإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة البائع عند أبي يوسف؛ لأن البائع ببينته يثبت حصول العلوق في ملكه، وثبوت حق استلحاق النسب، وعند محمد البينة بينة المشتري؛ لأنه هو المحتاج إلى إثبات التاريخ في شرائه بالبينة ليثبت أن (229ب4) شراءه كان منذ سنة، فيمتنع له صحة دعوى البائع.
وإذا ولدت الجارية المبيعة ابنة من ستة أشهر من وقت البيع، ثم ولدت الابنة ابناً، فأعتق المشتري ابن الابنة، ثم ادعى البائع نسب البنت، فإنه تصح دعوته؛ لأن علوق البنت كان متصلاً بملكه، وإذا صحت دعوته في حق البنت صحت في حق ابنها على (أن) يبطل عتق المشتري؛ لأن من ضرورة حرية الأم من الأصل حرية الولد، لأنه لا يتصور أن تكون الأم حرة الأصل، وولدها يكون رقيقاً؛ بخلاف ما إذا ادعى البائع الابن بعدما أعتق المشتري الأم حيث لا يبطل إعتاق المشتري في الأم إذ ليس من ضرورة كون الولد حر الأصل أن تكون الأم أم الولد كما في ولد المغرور.
وإذا حبلت الأمة وولدت في يد مولاها، فباعها المولى دون ولدها، وقبض ثمنها، ثم زوجها المشتري عبداً له فولدت ولداً، ثم مات العبد عنها، فوطئها المشتري بعد انقضاء العدة، فجاءت بولد وادعاه المشتري، ثم إن البائع ادعى الولد الذي عنده صحت دعوته في الولد الذي عنده؛ لأن علوق هذا الولد كان في ملكه.(10/443)
-----
قال: ولا تصح دعوته في الولد الذي ادعاه المشتري، ولا في الجارية؛ لأنه جرى فيها من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع، لأنه يثبت الولد حقيقة العتق، وللجارية حق العتق؛ قال: ويرد المشتري ولد العبد على البائع بحصته من الثمن، فيكون عند البائع ولد أم الولد يعتق بموته، وهذا لأن البائع حين ادعى الولد الذي عنده، فقد أقر أن الجارية أم ولده، وأن ابن العبد ابن أم ولده، إلا أنه لم يعمل إقراره في حق الجارية لمانع قام بها، ولا مانع في حق الولد، فعمل إقراره في حقه.
فإن ادعى البائع بعد ذلك ابن الغلام أنه ابنه عتق عليه لأنه ملكه منه، ولا يثبت نسبه منه؛ لأنه معروف النسب من غيره، فدعواه إياه كإعتاقه.
إذا باع الرجل جاريته وهي حبلى، فولدت في يد المشتري بعد البيع بيوم، ثم مكث سنة، ثم ولدت ولداً آخر من غير الزوج، فادعى البائع الولدين جميعاً، فهما ابناه وترد الأمة إليه، وتكون أم ولد له ويرد البائع الثمن إن كان المشتري نقده، وهذا لأن دعوى البائع الولد الأول قد صح، وصارت الجارية أم ولد من وقت العلوق به، فتبين أنه باع أم الولد، وبيع أم الولد باطل، وتبين أن الولد الثاني ولد أم الولد، وولد أم الولد ثابت النسب من المولى بدون الدعوى فمع الدعوى أولى، فلو ادعى البائع والمشتري الولدين جميعاً معاً صحت دعوى البائع ولا تصح دعوى المشتري، لأن دعوى البائع سابقة معنىً، فكانت أولى بالاعتبار، كما لو كانت سابقة حقيقة.
ولو كان المشتري ادعى الولد الآخر ابتداءً، أخرت دعوته وجعلت الجارية أم ولد له، فإن ادعى البائع بعد ذلك الولد الأول صحت دعوته في حق الولد، ولم تصح دعوته في حق الجارية، والولد حر لأنه جرى فيهما من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع.(10/444)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل له جارية فحبلت؛ فباعها من رجل فولدت في يد المشتري ولداً؛ فادعى الولد أب البائع وكذبه المشتري وصدقه البائع أو كذبه، فدعوته باطلة، ولا يثبت نسب الولد منه، ولا ننظر في هذا إلى تصديق البائع وتكذيبه، وإنما ننظر إلى تكذيب المشتري وتصديقه؛ لأن الجارية خرجت عن ملك البائع ظاهراً، وصار البائع كالأجنبي عنها، فصار تكذيبه وتصديقه في بيان ثبات النسب كتصديق الأجنبي وتكذيبه.
فرق بين هذا وبينما إذا ادعى البائع نسب هذا الولد بنفسه حيث تصح دعوته، وإن كذبه المشتري، والفرق من وجوه:
أحدها: ما ذكرنا أن الأب تملك جارية الابن سابقاً على الاستيلاد حتى يصير مستولداً ملك نفسه، لأن استيلاد الأب إنما يصح في ملك نفسه للابن.
إذا ثبت هذا فنقول: الثابت للأب متى حصل العلوق في ملك الابن بملك الجارية على الابن، ثم الاستيلاد صحته بناءً عليه، وقد ثبت للمشتري حقيقة الملك بالبيع من حيث الظاهر، وكل واحد منهما أعني حقيقة الملك وحق التملك قابل للنقض، وتعذر مراعاتهما فكان مراعاة حقيقة الملك أولى، فأما الثابت للبائع بحصول العلوق في ملكه قبل البائع حق استلحاق نسب الولد، لا حق تملك الجارية، فإنها كانت مملوكة على الحقيقة وقت العلوق، وهذا الحق مما لا يحتمل النقض؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة حقيقة النسب، لا يحتمل النقض بعد ثبوتها، فكذا الحق وملك المشتري يحتمل النقض، ولا شك أن مراعاة ما لا يحتمل النقض أولى.g
قياس مسألة الأب من البائع: لو ادعى المشتري أنه أعتقه حتى ثبت حقيقة النسب أو الولاء الذي هو كلحمة النسب من المشتري، ولو كان هكذا كان مراعاة حقيقة النسب أولى من مراعاة حق النسب.
الفرق الثاني: أن طريق تصحيح دعوى الأب ولد جارية أبيه لما كان تقديم الملك للأب في الجارية على الوطء ليصير الأب مستولداً ملك نفسه.(10/445)
-----
فنقول: تقديم الملك للأب في الجارية على الوطء غير ممكن ههنا، لأن الأب يدعي ملكاً خفياً لينقض به ملكاً ظاهراً، لأن ملك المشتري في الجارية ظاهر وقت الدعوى، وملك الأب خفي وقت الوطء، ومن ادعى ملكاً خفياً لينقض به ملكاً ظاهراً لا تسمع دعواه، ألا ترى أن أبا البائع بعدما باع الجارية والولد؛ لو ادعى أن البائع قد كان باع الولد منه قبل أن يبيعه من هذا لا تصح دعواه، وإنما لا تصح لما قلنا بخلاف ما إذا ادعى البائع نسب الولد بنفسه؛ لأن ملك البائع في الجارية ظاهر وقت العلوق، وتيقنا أن العلوق حصل في ملكه؛ لأن موضوع المسألة في دعوى البائع فيما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر إلا أنه لا يثبت نسب الولد بدون دعوته؛ لأن له في ولد جارية الابن حق الملك لكونه متولداً في ملكه، ويحتمل أن يكون هذا الولد من غيره، فلا يبطل حق ملكه عن الولد بالشك، وإذا ادعى فقد ارتفع هذا الشك، وتبين أن هذا الولد ولده، وأنه باع أم ولده، فهو معنى قولنا: إن ملك البائع ظاهر وقت العلوق، فجاز أن يقبل قوله وينقض ملك المشتري.
والدليل على الفرق بينهما: أن الجارية لو لم تكن في ملك الابن وقت العلوق بهذا الولد ثم اشتراه الابن، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر حتى علم أن العلوق لم يكن في ملك المشتري، فادعى الولد أب المشتري لا تصح دعوته، ولو ادعاه المشتري صحت دعوته، فإذا وقع الفرق بين دعوى الأب ولد جارية الابن، وبين دعوى الابن ولد جاريته فيما إذا لم تكن الجارية في ملك الابن وقت العلوق، جاز أن يقع الفرق بين دعوتيهما إذا لم تكن الجارية في ملك الابن وقت الدعوى أيضاً.(10/446)
-----
الفرق الثالث: أن الأب بهذه الدعوى يدعي على الابن تملك الجارية عليه بالقيمة قبل البيع، وتملك الشيء بالقيمة في معنى الشراء، وليس له على ذلك دليل وقت الدعوى، فصار بمنزلة ما لو ادعى على الابن أنه قد كان اشترى هذه الجارية منه قبل البيع، فأما البائع بهذا البيع ليس يدعي تملك الجارية على المشتري، بل ينكر زوالها عن ملكه، لأنه يقول: صارت أم ولد لي، ولم يصح نفي فيها، وله على ذلك دليل ظاهر، وهو علوق الولد في ملكه.
فإن قيل: أليس أن الأب لو ادعى قبل البيع صحة دعوته، وقد ادعى تملك الجارية على الابن بالقيمة، ولم يجعل ذلك بمنزلة دعوى الشراء، قلنا: جعل ذلك بمنزلة دعوى الشراء أيضاً، إلا أن له على هذه الدعوى دليل ظاهر، وهو ما له من تأويل الملك وقت العلوق ووقت الدعوى، فلهذا افترقا.
الفرق الرابع: أن دعوى الأب دعوى تملك، والتملك لا يعمل في ملك الغير، أما دعوى الابن دعوى استيلاد، والاستيلاد قد يعمل في ذلك الغير، كما في الجارية المشتركة بين اثنين.
هذا الذي ذكرنا إذا كذبه المشتري وصدقه البائع أو كذبه، فأما إذا صدقه المشتري، وكذبه البائع صحت دعوته؛ لأن الجارية مع الولد ملك المشتري، فإذا صدق المشتري أبا البائع في دعوته، فقد أقر أن الجارية أم ولده، وأن الولد ولده وأنه يملك الجارية على البائع قبل تملكه إياها، وكل ذلك إقرار على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، ألا ترى أن أجنبياً آخر لو ادعى نسب هذا الولد، وصدقه المشتري صحت دعوته مع أنه ليس للأجنبي في الجارية تأويل الملك؛ فههنا أولى، ولكن لا يبرأ المشتري عن الثمن بتصديقه أب البائع في دعوته؛ لأن تصديقه يعتبر (230أ4) فيما عليه لا فيما له، وصيرورة الجارية أم ولد لأب البائع، وثبوت نسبه والولد منه أمر على المشتري، فيعتبر تصديق المشتري في ذلك، أما براءة المشتري عن الثمن أمر له، فلا يعتبر تصديقه في ذلك، ولا يضمن أب البائع شيئاً من قيمة الجارية للبائع.(10/447)
-----
وإن زعم أنه يملك الجارية على البائع بالاستيلاد، وتملك الأب جارية ابنه بالاستيلاد يوجب القيمة على الأب، إلا أن البائع كذب الأب في ذلك، فالتحق زعمه بالعدم، وليس للمشتري على أب البائع شيء من قيمة الجارية ولا من قيمة الولد، أما في قيمة الجارية، فلأنه وإن زعم أن الأب يملك الجارية إلا أنه زعم تملكها على الابن، وهو البائع لا على نفسه، فكان مدعياً القيمة للبائع لا لنفسه، وأما من قيمة الولد فلأن في زعمه أن الأب تملك الجارية سابقاً على الاستيلاد، وأن الولد حر الأصل، فلا يكون مدعياً قيمة الولد أصلاً.
ولو صدقاه جميعاً يعني المشتري والبائع صارت الجارية أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ورجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن بتصادقهم ظهر أن البائع باع أم ولد الغير، وأن بيعه باطل، وأن البائع أخذ الثمن ولا ثمن له فيؤمر بالرد، وضمن الأب قيمة الجارية للبائع؛ لأنهما تصادقا على تملك الأب جارية البائع سابقاً على الاستيلاد، وإنه يوجب القيمة على ما عرف.
قال محمد رحمه الله: وإذا كانت الجارية ولدت في ملكه ولدين في بطن واحد، فباع أحد الولدين، ثم إن أب البائع ادعى الولدين جميعاً، وكذبه البائع والمشتري في ذلك صحت دعوته، وصارت الجارية أم ولد له، وثبت نسب الولدين منه، ويغرم قيمة الجارية للابن، ويعتق الولد الذي لم يبع بغير قيمته، والولد الذي بيع يكون عبداً للمشتري على حاله.
أما صحة الدعوى وصيرورة الجارية أم ولد للمدعي، وثبوت نسب الولد الذي لم يبع منه، فلوجود شرطه وهو حق التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وأما ثبوت نسب الولد الذي بيع منه؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، فلا يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر في حق النسب، وإذا ثبت نسب أحدهما ثبت نسب الآخر ضرورة.
وأما عتق الولد الذي لم يبع بغير قيمته لأنه خلق حر الأصل.(10/448)
-----
وأما كون الولد الآخر عبداً للمشتري، فقد اختلفت عبارة المشايخ في تخريجه، بعضهم قالوا: لأن تملك المشتري ثبت فيه من حيث الظاهر، فلا يبطل عليه ملكه بدعوى غيره إلا لضرورة، ولا ضرورة ههنا؛ لأن أكثر ما فيه أنا حكمنا بحرية الولد الذي لم يبع، إلا أن كل واحد منهما شخص على حدة؛ منفصل عن صاحبه وعن الأم، وليس من ضرورة عتق أحد الشخصين المنفصلين عتق الآخر، ويجعل في حق الابن المبيع كأن الابن الآخر عتق للحال بعتق مبتدأ صيانة لملك المشتري، وعتق أحدهما بإعتاق مبتدأ لا يوجب عتق الآخر.
يوضحه: أن العتق شرع بطريقين: بطريق الأصل عند العلوق، وبطريق الابتداء، ففي حق الولد المبيع عتق الذي لم يبع، حمل على الابتداء صيانة لملكه بخلاف النسب؛ لأن النسب يستند إلى وقت العلوق، ولا يتصور ثبوته إلا بطريق واحد وهو التعيين من الأصل، فإذا ثبت نسب البعض ثبت نسب الكل، لأنهما خلقا من ماء واحد، فلا يتصور التبعيض فيه فلهذا افترقا.
فإن قيل: حكمنا بحرية الولد الذي لم يبع من الأصل، ومن ضرورة حريته من الأصل حرية الولد من الأصل؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، قلنا: حرية الولد الذي لم يبع من الأصل يظهر في حقه أما لا يظهر في حق الولد المبيع، ويجعل في حق الولد المبيع كأن عتق الذي لم يبع ثبت بإعتاق مبتدأ على ما مر، ولا يوجب الشراء به.
فإن قيل: إن لم تتحقق الضرورة من الوجه الذي قلتم؛ تحققت من وجه آخر، فإن نسب الولد المبيع قد ثبت من المدعي، ومن ضرورة ثبوت نسبه منه أن يكون العلوق حاصلاً في ملكه، ومن ضرورة حصول علوقه في ملكه أن يكون حر الأصل. قلنا: ثبوت نسب الولد المبيع منه كان بطريق الضرورة لا بدليل يوجبه، بل الدليل بخلافه.(10/449)
-----
بيانه: أن من شرط صحة الدعوى وثبوت النسب في ولد جارية الابن قيام حق التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وقد انعدم الشرط في حق الولد المبيع، فتنعدم صحة الدعوى في حقه، فينبغي أن لا يثبت نسبه منه، وإنما أثبتناه ضرورة أنه يثبت نسب الولد الذي لم يبع، وهما توأمان، والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة في حق ثبات النسب. أما لا ضرورة في حق الحرية، فصار في حق الحرية الولد المبيع كأنه لم توجد منه الدعوى أصلاً، ولو لم توجد منه الدعوى أصلاً أليس أنه لا يعتق هذا الولد؟ كذا ههنا، أكثر ما فيه أنه ثبت نسب هذا الولد منه، ولكن ليس من ضرورة ثبوت نسب الولد منه عتقه، ألا ترى أنه لما استولد جارية الغير بالنكاح؛ ثبت نسب الولد منه، وإن كان لا يعتق كذا ههنا.
وبعضهم قالوا: لأنه حين ادعى كان الولدان منفصلين، ومن شرط صحة دعوى الأب قيام ملك ولده فيهم، وإنه معدوم في حق الولد المبيع، فصحت الدعوى بقدر وجود شرطه، فصحت في حق الولد الثاني والأم دون المبيع، فالحجة إنما تثبت بقدر شرطها كتصديق المشتري الأب في المسألة الأولى ثبت في حق الأم دون الابن، وتعتبر الدعوى في حق الولد المبيع إعتاقاً فاسداً، فصارت الدعوى في حق الابن المبيع كأنها لم تكن، بخلاف ما لو أعتق المشتري الولد ثم إن البائع ادعى الباقي، فإن الدعوى تصح، وينتقض إعتاق المشتري ضرورة صحة الدعوى في الثاني، وإن كانت دعوى البائع لا تصح في الولد المبيع بعد العتق كما أن دعوى الأب لا تصح في الولد بعد البيع.
والفرق: أن شرط صحة دعوى البائع الملك عند العلوق، وملك البائع كان قائماً وقت العلوق بالولدين؛ فصحت الدعوى لقيام شرطها مطلقاً، وظهر ثبوتها في حق الولدين جميعاً، ولما ظهرت لم يجز أن يكون أحد الولدين علق حراً دون الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد، وظهر بطلان إعتاق المشتري بعتق هو فوقه.
(10/450)
-----
فأما دعوى الأب فإنما تصح بقيام ولاية التملك للحال، لا عند العتق، وفي الحال الأولاد والأم منفصل بعضها عن بعض، والشرط منقطع في حق الولد المبيع، فينعدم ثبوت الدعوى في حقه، فلا يجعل الولد الثاني حر الأصل في حقه، بل يجعل في حقه كأنه عتق بإعتاق مبتدأ، فلا يوجب الشراء به إليه، وصار كما لو اشترى عبداً أقر أنه حر الأصل يثبت في حقه كذلك ولا يكون له ولاؤه وهو في حق البائع بمنزلة إعتاق مبتدأ؛ لأنه لم يصدق عليه؛ كذا ههنا.
فإن قيل: إذا لم تصح دعوى الأب في حق الولد المبيع ينبغي أن لا يثبت نسب الولد المبيع منه، قلنا: نحن إنما لم نصدق الأب على المشتري، وقطعنا شرط صحته صيانة لملك المشتري عليه، ألا ترى لو صدق المشتري الأب صحت دعوته في حق الولدين، فيتعذر انقطاع شرط الصحة بقدر ما يصون به ملكه، وذلك في أن لا يعتق، لا في أن لا يثبت النسب فيثبت نسب الولد المبيع من الأب، وإن كان لا يعتق عليه وإنما يغرم الأب في هذه الصورة قيمة جارية الابن؛ لأنه يملكها بالاستيلاد، وإنه يوجب القيمة، ولا يجب العقر على الأب عندنا؛ خلافاً للشافعي والمسألة معروفة.
هذا الذي ذكرنا إذا باع أحد الولدين لا غير، فإذا كان باع الجارية مع أحد الولدين ثم أب البائع ادعى نسب الولدين جميعاً، وكذبه المشتري والبائع، فعلى قول محمد رحمه الله: دعوى الأب في هذه الصورة باطلة، وعلى قول أبي يوسف: دعوى الأب لا تصح في حق الجارية، ولا تصير الجارية أم ولد له، وتصح دعوته في حق الولدين نسباً، فثبت نسب الولدين منه، ولا تصح دعوته في حق الولدين حرية، فلا يحكم بحرية الولد المبيع بل يكون عبداً للمشتري، والولد الباقي يكون حراً بالقيمة.(10/451)
-----
وجه قول محمد (230ب4) في المسألة: أن من شرط صحة دعوى الأب قيام حق تملك الجارية للأب من وقت العلوق إلى وقت الدعوى ليصير الأب متملكاً الجارية سابقاً على الوطء، فيصير مستولداً ملك نفسه، وقد فات هذا بالبيع فلم تصح دعوته في حق الجارية، ولم يثبت ملك الجارية لا يثبت نسب الولدين؛ لأن ثبات نسب ولد جارية الابن من الأب من حيث وقوع الاستيلاد في ملك الأب ولم يوجد، فصار كما لو ادعى نسب مدبرة الابن، أو نسب ولد مكاتبة الابن أو نسب ولد أم ولد الابن.
وجه قول أبي يوسف: أن البائع لم يبع الجارية والولد حتى ادعاه الأب صحت دعوته في الكل، ولو باع الجارية والمدبرين لم تصح دعوته في الكل، فإذا باع البعض دون البعض كان لكل بعض حكم نفسه.
والمعنى في ذلك أن حق الدعوى كان ثابتاً للأب قبل البيع لقيام ملك الابن، لو بطل إنما يبطل حكماً لزوال ملك الابن، فإنما يبطل بعد زوال ملك الابن عنه بخلاف ولد المدبرة والمكاتبة؛ لأن حق الدعوى لم يكن ثابتاً للأب هناك لفوات شرطه؛ أما ههنا بخلافه، ولكن المقصود بالدعوى الولد دون الأم بدليل أن الأم تضاف إلى الولد ولا يضاف الولد إلى الأم، يقال: أم الولد ولا يقال ولد الأم، ويدل عليه قوله عليه السلام: «أعتقها ولدها» وما هو المقصود بالدعوى على حاله لم يحدد به ما يمنع نقل الملك إليه، فتصح دعوته فيه.
وإن لم تصح دعوته في الأم فقيل: هذا جائز ألا ترى أنه لو باع جاريته من إنسان وجاءت ليد المشتري بولد وأعتق المشتري الجارية، ثم إن البائع ادعى نسب الولد صحت دعوته في حق الولد وإن لم تصح دعوته في حق الأم.
وكذلك إذا ماتت الجارية مع أحد الولدين في مسألتنا، ثم إن البائع ادعى نسب الولدين صحت دعوته في حق الولد الحي، وإن كان لا تصح في حق الأم وخروجها عن ملك الابن بالموت كخروجها عن ملكه بالبيع، ثم هناك لما لم يمنع صحة دعواه في الولد الباقي كذا ههنا.(10/452)
-----
والدليل: أن ولد المغرور ثابت النسب من المغرور، ويكون حراً بالقيمة وأمه تكون رقيقة على حالها، وليس كما لو ادعى نسب ولد مكاتبة الابن أو مدبرة أمه؛ لأن ولد المدبرة مدبر، وولد المكاتبة مكاتب، فقد حدث في الولد هناك ما يمنع النقل إلى ملكه كما حدث ذلك في الأم، فلم تصح الدعوى هناك أصلاً أما ههنا، فبخلافه ويكون الولد الذي لم يبع حراً بالقيمة؛ لأنه لا يتملك الجارية ههنا سابقاً على الاستيلاد ليكون العلوق حاصلاً في ملكه، فيكون حر الأصل، فيكون حراً بغير قيمة، فلابد وأن يظهر قيمة الولد، فجعلناه حراً بالقيمة، بخلاف ما إذا كانت الجارية في ملكه؛ لأن هناك يتملك الجارية سابقاً على الاستيلاد، فيكون العلوق حاصلاً في ملكه، فيكون الولد حر الأصل، فيكون حراً بغير قيمة، ولأن الأب مصدق في حق نفسه.
وإذا ادعى نسب الولدين حمل أمره على أنه أصابها بناء على أن له حق التملك على ولده، وأن الظاهر في ملك ولده الدوام، ووجود شرط التملك يوم الدعوى، وإذا بيعت فقد عدم شرط التملك فيها، ولكن بعد صحته بناء للأمر على الظاهر، فصار مغروراً بمنزلة الذي يصيب الجارية ويستولدها على أنها ملكه بناء على سبب أفاد الملك له ظاهراً، فإذا استحقت صار مغروراً كذا ههنا، ولما ثبت الغرور وقع الاستغناء عن تملك الجارية؛ لأن الغرور بمنزلة عقد النكاح في إثبات النسب، وعند وجود عقد النكاح يستغنى عن تملك الجارية كذا ههنا، ولأجل ما ذكر غرم الأب قيمة الولد الباقي فثبت نسب الولد المبيع، ولكن لا يعلق لما ذكرنا.
هذا الذي ذكرنا إذا أكذبه المشتري والبائع، فأما إذا صدقه المشتري وكذبه البائع، فالجارية تصير أم ولد له بلا خلاف، وعليه قيمتها للابن ويثبت نسب الولدين منه بلا خلاف، ويصير الولد المبيع حراً بغير قيمة بلا خلاف.(10/453)
-----
وأما الولد الثاني فهو حر بالقيمة على الأب عند أبي يوسف، وعند محمد هو حر بغير قيمة، وإنما صارت الجارية أم ولد له، وكان الولد المبيع حراً بغير قيمة باعتبار أن المشتري لما صدقه في دعواه، فقد أقر أن الجارية صارت أم ولد له، وأن الولد المبيع علق حر الأصل وأن البيع لم يصح فيهما ولي حق الرجوع على البائع ويصدق فيما عدا ذلك؛ لأن فيما عدا ذلك كله إقرار على المشتري وهو مالك لذلك من حيث الظاهر، وإنما يثبت نسب الولدين بدون تصديق المشتري، فمع تصديق المشتري أولى، وأما على قول محمد: فلأنه ثبت نسب الولد المشترى بتصديق المشتري، وهما توأمان خلقا من ماء واحد، فإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر ضرورة.
وأما الباقي في يد البائع فعلى قول أبي يوسف: هو حر بالقيمة؛ لأنه كان عتق بالقيمة حقاً للبائع قبل تصديق المشتري، فلا يبطل ذلك بتصديق المشتري، وعلى قول محمد رحمه الله: يعتق بغير قيمة؛ لأن على قوله: لم يثبت نسب الولدين من المدعي أصلاً قبل تصديق المشتري، وبتصديق المشتري يثبت نسب الولد المشترى منه، ومن ضرورته ثبوت نسب الباقي في يد البائع منه؛ لأنهما توأمان، وإذا ثبت نسب الولد منه صار أخاً للبائع، وهو ملكه ظاهراً، والأخ يعتق على أخيه بالقرابة بغير شيء، وهو أن البائع صدق والده فيما ادعى وكذبه المشتري، ثبت نسب الولدين من أب البائع.
مشايخنا ظنوا أنما ذكر أنه يثبت نسب الولدين من البائع قول أبي يوسف، وأما قول محمد: فينبغي أن لا يثبت نسب الولدين منه؛ لأن محمداً رحمه الله يعتبر الأم أصلاً في هذا الباب والولد تبعاً، وتعذر تصحيح دعوته في حق الأم على ما مر قبل هذا، فكيف يصح دعوته في حق الولد؟.(10/454)
-----
والصحيح أن ما ذكر قول الكل، أما عند أبي يوسف فلأن عنده يثبت نسب الولدين من الأب عند تكذيبهما، فعند تصديق البائع أولى، وأما عند محمد فلأن بتصديق البائع ثبت نسب الولد الذي لم يبع منه؛ لأن الأب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، ولو كان أجنبياً ادعى نسبه وصدقه الابن يثبت نسبه منه، فههنا أولى من ضرورة ثبوت نسب هذا ثبات نسب الآخر، ويكون الولد الذي عند البائع حراً بغير قيمة لاعتراف مالكه أنه حر الأصل، والجارية والولد المبيع مملوكان للمشتري؛ لأن البائع والمدعي لا يصدقان على المشتري، وليس من ضرورة الحكم بحرية أحد الولدين الحكم بحرية الأم والولد الآخر لما مر.
ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب»: حكم الولد في هذا الفصل، ولم يذكر حكم الأم وكان القاضي الإمام أبو حازم والقاضي الإمام أبو الهيثم رحمهما الله يقولان: على قياس قول أبي يوسف ومحمد: يضمن البائع قيمة الجارية أم ولد للمدعي وهو الأب؛ لأنه لما صدق أباه فقد أقر أنه باع أم ولد ابنه وسلمها وبه يصير غاصباً، وأم الولد عندهما مضمونة بالغصب، ويضمن المدعي وهو الأب للبائع وهو ابنه قيمتها فيه؛ لأنهما تصادقا أن الأب استولد جارية الابن وأنه يملكها بالقيمة.(10/455)
-----
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يضمن البائع لوالده شيئاً؛ لأن أم الولد لا تضمن بالغصب عنده، وقال أكثر مشايخنا: لا يضمن أحدهما لصاحبه شيئاً بالاتفاق. أما عند أبي حنيفة: فالبائع لا يضمن شيئاً للأب لما مر، والأب لايضمن لابنه شيئاً من قيمة الجارية فيه؛ لأن ثمنها سالم للبائع لما بقي البيع صحيحاً في حق المشتري، والثمن عوض عن الجارية، فلو أخذ البائع من الأب قيمة الجارية يجتمع في ملكه عوضان بإزاء معوض واحد وإنه لا يجوز، وأما عندهما فالأب لا يضمن لهذه العلة أيضاً، ولا يضمن للابن أيضاً، وإن أقر بغصب أم الولد بالبيع والتسليم؛ لأن القاضي لما قضى بصحة البيع وكونها مملوكة للمشتري، فقد كذبه فيما أقر فيلحق إقراره بالعدم.
جارية لرجل حبلت في ملكه، فباعها وهي حامل وقبضها المشتري، ثم اشتراها البائع فوضعت حملها في يده لأقل من ستة أشهر، فادعاه أب البائع الأول، وكذبه ابنه في ذلك كانت دعوى الأب باطلة لما ذكرنا أن من شرط صحة الدعوى قيام حق التملك فيما بين الدعوى والعلوق، وهذا لما ذكرنا أن دعوى الأب متى صحت يستند إلى وقت العلوق، ولهذا يعلق الولد حراً، وانقطاع ولاية التملك فيما بين العلوق والدعوى يمنع الاستناد إلى وقت العلوق، فلا تصح دعوته لهذا، ولو صدقه الابن كانت الجارية أم ولد له بالقيمة (231أ4) ويثبت نسب الولد، ويكون حراً بغير قيمة؛ لأن الملك للابن وقد أقر بكونها أم ولد لابنه من وقت العلوق، وأن بيعه كان باطلاً، فيقبل قوله في حقه، ولا يقبل في حق المشتري حتى لا ينتقض البيع الذي كان جرى بينهما.(10/456)
-----
ولو أن المشتري لم يبعها من البائع، ولكنه ردها بعيب بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي أو بخيار الشرط أو بخيار الرؤية، أو كان البيع فاسداً وقد قبضها المشتري، فردها على البائع بحكم فساد البيع، ثم أب البائع ادعى الولد، فهذا والأول سواء في جميع ما وصفت ذلك؛ لأنه انقطعت ولاية التملك فيما بين طرف العلوق والدعوى لزوال الجارية عن ملك الابن بالبيع، وبأن عادت الجارية إلى قديم ملك الابن في حقها، وفي حق الثالث لم يبين أنه لم يكن زائلاً عن ملكه، فلا يتبين أن حق التملك للأب لم يكن ساقطاً وهو المانع من صحة دعوى الأب؛ ألا ترى أن من اشترى شيئاً لم يره ثم رد عليه بقضاء قاض أو بخيار الرؤية، فإنه لا يعود خيار الرؤية للمشتري الأول، وإن عاد إلى قديم تملكه ولم يجعل كأنه لم يبع ولم يزل عن ملكه.Y
وألا ترى أن من اشترى داراً ووجب للمشتري فيها شفعة، ثم إن المشتري ردها بالعيب بقضاء قاض أو بخيار الرؤية كان للشفيع فيها حق الشفعة، وإن عاد إلى قديم ملك البائع، ولم يجعل كأن الدار لم تخرج عن ملك البائع، ولم تدخل في ملك المشتري قط.
وكذلك من اشترى منكوحة حتى فسد النكاح ثم ردها بالعيب بقضاء قاض أو بخيار الرؤية، فإنه لا يعود النكاح، وإن عاد إلى قديم ملك البائع، ولم تجعل كأنها لم تخرج عن ملك البائع، ولم يملكها المشتري، فكذا ههنا وجب أن يكون كذلك، وإذا بقي الزوال على حاله كان ولاية التملك منقطعاً فيما بينهما، فلم تصح دعوته.
فإن قيل: قد يشكل بخيار العيب، فإنه يسقط ببيع المشتري من غيره ثم يعود إذا عاد قديم ملكه، وجعل كأنه لم يبع ولم يزل عن ملكه قط حتى كان له الرد على بائعه، قلنا: نحن لا نقول بأن حقه في الرد بالعيب سقط بالبيع وكيف يسقط ولم يكن عالماً، لكن تأخر لعجزه عن الرد إلا أنه لا يكون له الرجوع بنقصان العيب لوجهين:(10/457)
-----
أحدهما: أن التملك من المشتري ينتسب بالمبيع من جهة المشتري، فتجعل نسبته كنسبة المشتري، ولو كان المشتري مثبتاً بالمبيع بنفسه، فإنه لا يكون له الرجوع بنقصان العيب من غير رضا البائع، وإن كان في العيب حقه باقياً لإمكان الرد، فإذا نسب الغير به من جهته والرد موهوم بأن يعود إلى قديم ملكه.
والثاني: أن المشتري لما باع من غيره، فقد وصل إليه عوض العيب، فلا يكون له الرجوع بنقصان العيب؛ لأنه يحصل بإزاء العيب عوضان، وهذا لا يجوز، وقد زال كلا الأمرين متى عاد الشيء إلى قديم ملكه، فكان له الرد بالعيب؛ بخلاف خيار الرؤية؛ لأنه سقط لما أثبت لغيره لازماً مع علمه بثبوت الخيار له لعلمه بعلته، وهو جهله بأوصاف المبيع فلا يعود بعد ذلك، وبخلاف مسألتنا؛ لأن دعوى الأب كانت باطلة ببيع الابن لفوات شرط صحة الدعوى، وهو ولاية التملك بالجارية، وإن عادت إلى قديم ملكه لم يتبين أنه لم يكن زائلاً عن ملكه على ما بينا، وإذا بقي الزوال على حاله حقيقة وحكماً كان شرط صحة الدعوى فائتاً، فلم تصح دعوته.
وإذا ولدت الجارية المبيعة في يدي المشتري ولدين في بطن واحد كلاهما أو أحدهما لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، ثم جنى على أحد الولدين بأن قطع يده مثلاً، وأخذ المشتري الأرش، ثم ادعى البائع نسب الولدين صحت دعوته، لأنا تيقنا أن العلوق بالولدين اتصل بملك البائع، أما الذي جاء لأقل من ستة أشهر فظاهر، وأما الآخر فلأنهما خلقا من ماء واحد؛ وعلى الجاني أرش العبد، ويكون ذلك سالماً للمشتري، وإن حكمنا بحرية الولد الآخر من الأصل حتى لم يكن للبائع على الولد ولاءٌ؛ لما قلنا في الولد الواحد إن الحرية لا تظهر في حق اليد.
(10/458)