-----
فأما إذا كان معه وارث آخر وقد كذبه في هذا الإقرار كان للمكذب أن يستسعي العبد في حصته، لأن إقرار أحدهما يعتق ابنه كإقراره يعتق صاحبه، ولو أقر أن صاحبه أعتق العبد وصاحبه ينكر فالعبد يسعى للمنكر والعبد يسعى للمشهود عليه بلا خلاف، فإنما الخلاف في حق الشاهد، وهنا المكذب مشهود عليه ويسعى في حصته ثم عند أبي حنيفة رحمه الله. ولأهل النصف الذي هو حصة المستسعى للمستسعي لأنه يدعيه عنه ويزعم أنه عتق على ملكه بأداء السعاية وولاء النصف الذي هو حصة المقر للميت، كما لو كان الكل له وأقر أن الأب أقر، وعندهما ولاء النصف الذي هو حصة المقر للميت وولاء النصف الذي هو حصة المستسعى موقوف؛ لأن عندهما العتق لا يتجزأ فقد زعم المستسعي أن كل العبد عتق على المقر بإقراره والولاء للمقر والمقر..... عنه فيكون موقوفاً على قولهما لهذا.
فإن قيل: على قولهما لما أقر المستسعي بولاء نصيبه لصاحبه وصاحبه مقر بأن الولاء للميت ينبغي أن يثبت كل الولاء من الميت ولا يكون نصيب المستسعي موقوفاً. قلنا: لو أثبتنا كل الولاء من الميت فقد حكمنا أن كله عتق من جهة الميت وذلك يسقط حق المستسعي في السعاية فلإبقاء حقه في السعاية جعلنا هذا النصف موقوفاً، وفي موضع قلنا: يتوقف الولاء إذا مات المعتق فميراثه يوضع في بيت المال؛ لأن هذا مال له مستحق إلا أنه غير معلوم، وكل مال هذا حاله يوضع في بيت المال إلى أن يظهر له مستحقه كاللقطة وعقله على نفسه لا يعقل منه بيت المال، لأن بيت المال ليس عاقلة؛ لأنه لا يرث منه، وهذا لأن بيت المال إنما يرث إذا لم يكن الميت مولى أحد، وقد تيقنا أن هذا الميت مولى أحد، وإذا لم يرثه بيت المال لا يعقل عنه أيضاً.
نوع آخر(4/622)
-----
في (رجل) أعتق عبداً ذميااً أو مسلماً فولاء العبد له، فإن مات المعتق إن مات على الكفر فميراثه للذمي المعتق لأن الذمي يرث من الذمي بالنسب، فكذا بالولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب، وسواء كان المعتق يهودياً والمعتق كذلك أو كان أحدهما يهودياً والآخر نصرانياً أو مجوسياً وإن كان المعتق مسلماً أو كان كافراً إلا أنه أسلم ثم مات فميراثه لبيت المال، وهذا إذا لم يكن للذمي المعتق عصبة من المسلمين.
قال: وعقله على نفسه لأنه تعذر إيجابه على بيت المال لأن بيت المال ليس عاقلة مولاه فلا يكون عاقلته، وتعذر إيجابه على المعتق وعاقلته؛ لأن العقل إنما يكون بالتناصر والتناصر في غير العرق إنما يكون باتفاق المسألة، فيتعين أن يكون عليه، وإن كان للذمي المعتق عصبة من المسلمين كان ميراث المعتق له.
نصراني من بني تغلب أعتق عبداً مسلماً له ثم مات العبد ميراث العبد لأقرب العصبات إلى المعتق من المسلمين وعقله على مسألة المعتق وإن كان المعتق كافراً.
فرق بين هذا وبينما إذا كان المعتق رجلاً من الموالي وهو كافر والعبد مسلم كان عقل العبد على نفسه. والفرق: أن العقل إنما يجب بالتناصر إلا أن التناصر فيما بين العرب بالقبيلة لا باتفاق المسألة، والمعتق بالإعتاق صار من قبيلة المعتق؛ لأن الولاء بمنزلة النسب فصار المعتق ناصراً له باعتبار القبيلة فيصير عاقلة له، ويصير عاقلة المعتق عاقلة له أيضاً فأمكن إيجاب العقل على عاقلته. وفيما أمكن إيجاب العقل على العاقلة لا يجب على الجاني فأما التناصر فيما بين غير العرب باتفاق المسألة لا بالقبيلة.u(4/623)
-----
هكذا جرت العادة فيما بينهم، فإذا لم يكن بين المعتق والمعتق اتفاق المسألة لا يصير المعتق ناصراً له فلا يصير عاقلة له فلا يصير عاقلة المعتق عاقلة أيضاً؛ لأن عاقلة المعتق إنما تصير عاقلة للمعتق بواسطة المعتق، فتعذر العقل على العاقلة فيجب في مال الجاني وكل معتق يجزىء عليه الرق بعد العتق، فإن الولاء للأول فبطل وكان حكم الولاء للعتق الذي نجد من بعده وهذا لأن بالاسترقاق يتقدم نسب الولاء وهو العتق والمالكية ولا بقاء للحكم بعد بطلان السبب.
ولو أن رجلاً من أهل الحرب خرج إلى دار الإسلام بأمان فاشترى عبداً في دار الإسلام وأعتقه صح إعتاقه وثبت له الولاء، فإن رجع المولى إلى دار الحرب، وأُسر وجرى عليه السبي فإنه يكون عبداً. وولاء المعتق على حاله لأن ولاءه ثبت بسبب عتقه، وإنه باق بعد شيء.
فإن قيل أليس إن المعتق من اشترط أن يكون أهلاً للولاء فكان أن يبطل الولاء لا يخرج (358أ1) من أن يكون أهلاً للولاء لأن الولاء بمنزلة النسب، والعبد من ثبات النسب والولاء بعد الثبوت يلحق بالنسب والعبد أهل لذلك، فإن مات المعتق فإن ميراثه لبيت المال وعقد على نفسه وقد مر نظير هذا فيما تقدم.
حربي اشترى عبداً في دار الإسلام وأعتقه ثم رجع إلى دار الحرب وسبي ثم اشتراه ذلك العبد المعتق واعتقه فولاء، كل واحد منهما لصاحبه لأنه وجد من كل واحد منهما اكتساب نسبة الولاء وهو الاعتاق، ولا منافاة بين الولاءين، ألا ترى أنه يجوز مثل هذا في النسب حتى إن الأخوين ينسب كل واحد منهما إلى صاحبه بالأخوة، فكذا في الولاء لما بينا أن الولاء بمنزلة النسب والله أعلم.
(4/624)
الفصل الثاني في ولاء الموالاة
-----
تفسير ولاء الموالاة أن يسلم الرجل على يدي رجل فيقول للذي أسلم على يديه أو لغيره واليتك على أني إن مت فميراثي لك وإن جنيت فعقلي عليك وعلى عاقلتك وقبل الآخر منه فهذا هو نفس ولاء الموالاة، وإذا جنى الأسفل جناية فعقله على عقلة المولى الأعلى.
وإن مات الأسفل يرثه الأعلى، وإن مات الأعلى لا يرث الأسفل منه ولا تثبت هذه الأحكام بمجرد الإسلام بدون عقد الموالاة إلا على قول الروافض. ومولى الموالاة مؤخر عن العصبات وعن ذوي الأرحام بخلاف مولى العتاقة، فإنه مقدم على ذوي الأرحام، والقياس أن يكون مولى العتاقة مؤخر عن ذوي الأرحام، كما هو مذهب علي رضي الله عنه لأن المعتق بمنزلة الغريب وبمنزلة الأجنبي من وجه من حيث إنه أحياه حكماً لا حقيقة، وذو الأرحام قريب له من كل وجه فينبغي أن يكون القريب من كل وجه مقدم، لكن تركنا القياس في مولى العتاق بالنص؛ والنص الوارد في مولى العتاقة لا يكون وارداً في مولى الموالاة؛ لأن مولى الموالاة دون مولى العتاقة لأنه وجد من مولى العتاقة واجباً من حيث الحكم إن لم يوجد من حيث الحقيقة ولم يوجد من الذي قبل عقد الولاء الإحياء أصلاً، ولأن ولاء العتاقة لا يحتمل الفسخ، وولاء الموالاة يحتمل الفسخ.
وإذا مات الأسفل والأعلى ميت فميراث الأسفل لأقرب الناس عصبة إلى الأعلى، كما في ولاء العتاقة ولكل واحد منهما أن ينقض عقد الموالاة بمحضر صاحبه وليس له ذلك بغير محضر من صاحبه وإنما كان كذلك لأن فسخ أحدهما هذا العقد بغير محضر من صاحبه يؤدي إلى الضرر لصاحبه، أما إذا كان الفسخ من الأسفل فلأنه ربما يموت الأسفل فيجب الأعلى أن ماله صار ميراثاً له فيتصرف فيه فيصير مضموناً عليه، وأما إذا كان الفسخ من الأعلى فلأنه ربما يعتق عبيداً على حياته عقل عبيده على مولاه.(4/625)
-----
ولو صح الفسخ يجب العقل عليه فينصرف لأجل هذا العبد المعنى. شرط أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في المشروط له الخيار حضرة صاحبه لصحة الفسخ. وأبو يوسف فرق بين مسألتنا وبين المشروط له الخيار فإن في المشروط له الخيار لم يشترط حضرة صاحبه لصحة الفسخ. وهاهنا شرط حضرة صاحبه لصحة الفسخ، والفرق له أن المشروط له الخيار بحكم الخيار صار متسلطاً من جهة صاحبه على الفسخ فما يلحقه من الضرر يصير راضياً.
وهاهنا لم يوجد من كل واحد منهما تسليط لصاحبه على الفسخ إذ الموجود ليس إلا عقد الموالاة، والعقد يمنع الفسخ فكيف يوجب التسليط على الفسخ، وإذا لم يصر على كل واحد منهما مسلطاً على الفسخ من جهة صاحبه فما يلحقه من الضرر لسبب فسخ صاحبه لا يكون راضياً به، فلهذا افترقا.
وللمولى الأعلى أن ينقض عقد الموالاة وليس له أن يتحول بالولاء إلى غيره فإنه لو قال: جعلت ولائي لفلان يصير له بجعله وللأسفل أن يتحول بالولاء إلى غيره كما له أن ينقض الولاء قصداً، فإن له أن يوالي مع آخر وينقض العقد مع الأول إذا والى مع آخر غير أن النقض من الأسفل إن وجد مقصوداً يشترط لصحته حضرة الأعلى، وإن والى مع غيره ينتقض الأول، وإن كانت الموالاة مع غيره يعينه الأعلى، وإنما يكون للأسفل أن يتحول بالولاء إلى غير المولى الأعلى إذا لم يعقل عنه المولى الأعلى، أما إذا عقل عنه المولى الأعلى فلا.
وهذا لأن الموالاة عقد تبرع فكان بمنزلة الهبة وللواهب الرجوع قبل حصول العوض لا بعد حصول العوض، وقبل العقل لم يحصل العوض وبعد العقل حصل العوض فلا يجوز بيع ولاء الموالاة الأسفل والأعلى في ذلك على السواء غير أن البيع إذا كان من الأعلى لا يكون بيعه بيعاً للولاء إذا كان بغير محضير من صاحبه، وإذا كان البيع من الأسفل يجعل بيعه نقضاً للولاء، وإن كان بغير محضر من صاحبه.(4/626)
-----
والفرق أن المولى الأعلى لا يملك تحويل ماله من الولاء إلى غيره، وإنما إليه فسخه ونقضه، فإذا باع يجعل البيع منه عبارة عما يملك وهو الفسخ مقصوداً إلا أنه لو فسخ نصاً إن كان بمحضر من الأسفل يجوز. وإن لم يكن بمحضر منه لا يجوز، فكذا هاهنا. فأما المولى الأسفل كما يملك نقض الولاء قصداً يملك النقض حكماً لتحويله إلى غيره فيجعل البيع عبارة عن التحويل إلى غيره كيلاً يلغو، فلهذا افترقا.
نوع آخر من هذا الفصل
إذا أسلم الرجل على يدي رجل وعاقده عقد الولاء ثم ولد له ابن من أمة أسلمت على يدي آخر ووالت فولاء الولد لمولى الأب؛ لأن الولد في جانب الأب وهو يساوي الولاء الذي في جانب الأم، والأب هو الأصل في الولاء فيترجح جانبه كما في ولاء العتق، وكذلك إن كانت أسلمت ووالت وهي حبلى ثم ولدت بعد ذلك فإن ولاء الولد لمولى الأب، وهذا بخلاف ولاء العتاقة فإنها إذا عتقت وهي حبلى فإن ولاء الولد يكون لمولى الأم، والفرق أن في العتق يصير الجنين مقصوداً بالإعتاق وبالولاء. فإنه محل لإضافة العتق إليه وبعد ما صار مقصوداً بالولاء لا يمكن أن يجعل تابعاً في الولاء لغيره إلا بعد فسخ ما ثبت له، وفسخ ذلك متعذر. أما هاهنا لا يثبت للجنين ولاء بنفسه، وإن كان موجوداً في البطن؛ لأنه ليس بمحل العقل بالموالاة عليه، فإن تمام عقد الموالاة بالإيجاب والعتق والقبول وليس لأحد ولاية الإيجاب والقبول على الجنين فكان تابعاً في الولاء فالأب أولى.(4/627)
-----
ولو كان لهما أولاد صغار ولدوا قبل الإسلام فأسلم الأب على يدي رجل ووالاه ثم أسلمت المرأة على يدي رجل آخر ووالته فإن ولاء الأولاد لمولى الأب بالإجماع؛ لأن الأب حين عقد الولاء على نفسه فقد عقده على ولده الصغير تبعاً له وله ولاية مباشرة العقد على ولده الصغير فينفذ عقده على الصغير. (358ب1) وصار الصغير مولى لموالي الأب بطريق التبعية، فإذا أسلمت الأم بعد ذلك ووالت رجلاً آخر يبقى ولاء الأولاد كذلك. أما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فلأنه ليس للأم ولاية عقد الولاء على الولد الصغير لما يأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى فصار وجود هذا العقد من الأم في حق الولد والعدم بمنزلة، وأما على قول أبي حنيفة فلأن الأم إن كانت تملك عقد الولاء على الولد الصغير إلا أن الولد إذا كان ثابتاً للصغير بعقد الأم أولاً بأن أسلمت الأم أولاً ووالت رجلاً يتخذ ولاؤه إلى الأب إذا أسلم بعد ذلك ووالى رجلاً آخر فإذا كان ولاء الولد ثابتاً من الأب أولاً؛ لأن لا يثبت ولاؤه لموالي الأم أولى.(4/628)
-----
قال: وإذا أسلمت امرأة من أهل الذمة على يدي رجل ولها ولد صغير ووالته، فإن ولاءها وولاء ولدها لمولاها عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ولاؤها لمولاها، أما ولاء ولدها ليس لمولاها، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: هذه فرع مسألة ولاية الإنكاح، فإن عند أبي حنيفة: للأم أن تنكح ولدها الصغير، فكذا أن يكون لها أن يقول عليه عقد الولاء، وعندهما ليس للأم أن تنكح ولدها الصغير، فكذا لا يكون لها أن تعقد عليه عقد الولاء وهذا القائل يقول يجب أن يكون (عند) أبي يوسف رحمه الله في هذه المسألة قول أول، وقول آخر ويكون قوله الآخر مع أبي حنيفة رحمه الله كما في مسألة النكاح، وإلى هذا القول مال شيخ الإسلام رحمه الله ومنهم من قال هذه المسألة مبتدأة وإلى هذا القول مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، فأبو حنيفة رحمه الله قاس ولاء الموالاة على ولاء العتاقة وولاء العتاقة يثبت للولد من جهة الأم إذا لم يكن له ولاء من جهة الأب، وهما يقولان: عقد الموالاة عقد تردد بين الضرر والنفع وليس للأم ولاية مباشرة مثل هذا العقد على الولد الصغير وإذا أسلم وليس للأم ولاية مباشرة مثل هذا العقد على الولد الصغير.
وإذا أسلم الرجل على يدي رجل ووالاه، وله ابن كبير أسلم الابن على يدي رجل آخر ووالاه أيضاً فولاء كل لا يحل واحد منهما للذي والاه، لأن كل واحد منهما مقصود بالكتاب بسبب الولاء فهو كاذب، وإن أعتق الأب رجل وأعتق الابن رجل آخر، فإن أسلم الابن ولم يوال أحداً فولاؤه موقوف ولا يكون مولى لمولى الأب، ولا يكون عقد الأب على نفسه عقداً على الابن، بخلاف ما إذاكان الابن صغيراً، والفرق أن الابن الصغير تابع الأب فأمكن أن يجعل عقد الأب عقداً عليه بطريق التبعية ولا كذلك الابن الكبير.(4/629)
-----
ولو أن رجلاً أسلم على يدي صبي ووالاه لم يجز، وكذلك الصبية، وكذلك إذا والى عبداً لم يجز. فإن كان الأب قد أذن للصبي بذلك، أو كان المولى أذن للعبد بذلك جاز، إلا أن في فصل الصبي يصير مولى للصبي. وفي فصل العبد يصير مولى لمولاه لا للعبد؛ لأن العبد ليس من أهل أن يثبت له الولاء لأن حكم الولاء الإرث والعقل، والعبد ليس من أهل ذلك، وإذا لم يكن العبد من أهل الولاء لأقرب الناس إليه وهو مولاه، بخلاف الصبي لأن الصبي من أهل أن يثبت له الولاء لأنه من أهل حكمه. ألا ترى كيف ثبت له (ولاء) العتاقة فكذا ولاء الموالاة والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل
حربي دخل دار الإسلام بأمان وأسلم على يدي رجل ووالاه ثم دخل أبوه بأمان وأسلم على يدي رجل ووالاه فإن ولاء كل واحد منهما للذي والاه ولا يجر الأب ولاء الولد إلى نفسه.
فرق بين هذا وبينما إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان وأسلم ووالى رجلاً ثم أسر ابن هذا الحربي الذي أسلم وأعتق فإنه يجر ولاء الولد إلى نفسه حتى كان ولاء الولد لمعتق الأب وفي الموضعين جميعاً يثبت للولد ولاء نفسه، والوجه في ذلك أنه متى ثبت للولد ولاء نفسه لا يمكن أن يجعل تابعاً لغيره في الولاء إلا بعد فسخ ما ثبت للولد من الولاء وفسخ ما ثبت للولد من ولاء الموالاة ليصير تابعاً للأب في ولاء العتاقة مقيد لأن ولاء العتاقة فوق ولاء الموالاة.
ألا ترى أن ولاء الموالاة يحتمل الفسخ وولاء العتاقة لا يحتمل الفسخ فقلنا كذلك تحصيلا لزيادة الفائدة، أما فسخ ما ثبت من ولاء الموالاة للولد ليصير تبعاً للأب في ولاء الموالاة لا يفيد، لأنه لا يثبت للولد إلا ما كان ثابتاً له وما لا يفيد لا يشتغل به.(4/630)
-----
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين المرأة الذمية إذا أسلمت ووالت رجلاً، ولها ولد صغير ثم إن الأب أسلم بعد ذلك ووالى رجلاً، فإنهُ يصير ولاءُ الولد لمولى الأب، لأن هناك لا حاجة إلى فسخ ما ثبت للولد من الولاء؛ لأن الولد دخل الولاء تبعاً للأم، إنما حاجة إلى نقل ما ثبت لهُ تبعاً للأم إلى الأب، وولاء الموالاة قابلٌ للتحويل. أما ههنا الولد دخل في الولاء مقصوداً فالحاجة إلى فسخ ما ثبت لهُ موالاة ولا فائدة فيه فلا يشتغل به.
وإذا أسلم حربي في دار الحرب على يدي رجلٍ مسلم ووالاهُ هناك أو ولاهُ في دار الإسلام فهو موالاة. فإن سبي ابنهُ وأعتق لم يجز ولاء الأب إلى نفسهِ، وإن سبي أبوه وأعتق جر ولاء الابن إلى نفسهِ، ولو أن رجلاً من أهل الذمة أعتق عبداً ثم إن الذمي نقض العهد ولحق بدار الحرب فأخذ اسيراً فصار عبد الرجل وأراد معتقه أنه يوالي رجلاً لم يكن له ذلك لأنه مولى عتاقة وليس لمولى العتاقة أن يوالي أحداً فإن أعتق مولاه يوماً من الدهر، فإنه يريد إن مات لأنه مولاه إلا أنه كان لا يرث بسبب الرق والكفر، وإذا زالا ورث.
وإن جنى جناية بعد ذلك عقل عن نفسه ولا يعقل عنه مولاه هكذا ذكر في عامة الروايات، وفي بعض الروايات قال: يرثه ويعقل عنه وهو الصحيح؛ لأنه زال المانع عن العقل والميراث جميعاً والله أعلم.
(4/631)
الفصل الثالث في الإقرار بالولاء
إذا أقر الرجل أن مولى عتاقه لفلان بن فلان من فوقك وتحت وصدقه فلان في ذلك فإنه يصير مولى له يعقل عنه ويرثه.
-----
ألا ترى أنه لو أقر أنه ابن فلان أو أب فلان وصدقه فلان في ذلك ثبت النسب منه. هكذا إذا أقر بالولاء لأن الولاء بمعنى النسب، وكذا إذا أقر أنه مولى موالاة لفلان وصدقة فلان في ذلك وكان للمقر أولاد كبار كذبوا الأب فيما أقر، وقالوا: أبونا مولى فلان آخر فالأب مصدق على نفسه والأولاد مصدقون على أنفسهم؛ لأن الأولاد إذا كانوا كباراً فالأب لا يملك مباشرة عقد الولاء عليهم فلا يملك الإقرار به عليهم وبه فارق ما إذا كان الأولاد صغاراً. (359أ1) لأن الأب يملك مباشرة عقد الولاء عليهم إذا كانوا صغاراً فيملك الإقرار به عليهم، وإن كان له امرأة أب الأولاد فقالت: أنا مولاة عتاقة لفلان وقال الأب: أنا مولى عتاقة لفلان آخر، فإن كل واحد منهما يكون مصدقاً فيما أقربه ويكون ولاء الولد لموالي الأب. لأن الثابت بتصادقهما كالثابت عياناً ولو عاينا أن كل واحد منهما مولى عتاقة للذي أقر له أو حدث بينهما أولاد كان الأولاد موالي لموالي الأب. كذا هاهنا.
ولو أن امرأة مولاة عتاقة معروفة لها زوج مولى عتاقة ولدت المرأة ولداً فقالت المرأة: ولدته بعد عتقي بخمسة أشهر وولاؤه لموالي وقال الزوج: ولدته بعد عتقك بستة أشهر وولاؤه لموالي فالقول قول الزوج لأن ولاء الولد ثبت من جانب الزوج ظاهراً لحدوث الولد حال حريتهما فالمرأة بدعواها تريد إبطال هذا الظاهر لأنها تقول: إنه كان موجوداً في البطن وصار مقصوداً بالعتق والولاء.(4/632)
-----
وإذا كان الرجل من العرب له زوجة لا تعرف ولدت منه أولاد ثم ادعت أنها مولاة فلان اعتقها وصدقها فلان في ذلك فإنها مصدقة على نفسها ولا تصدق على ولدها، لأن الولد بماله من النسب مستغنى عن الولاء، واعتبار قولهما عليه باعتبار منفعة الولد، فإذا انعدمت المنفعة هاهنا لا يعتبر قولهما عليه، وإن كذبها فلان في العتق وقال: هي أمتي ما أعتقتها فهي أمته لأنها أقرت له بالرق ثم ادعت الحرية عليه وتصدق فيما أقرت ولا تصدق فيما ادعت ولا تصدق على الولد الموجود في البطن وقت الإقرار تعرف به إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار، وأما الولد الذي يحدث بعد ذلك فإنها تصدق عليه عند أبي يوسف رحمه الله حتى يحدث رقيقاً ولا تصدق عند محمد حتى يحدث حراً.
امرأة في يديها ولد لا يعرف أبوه أقرت أنها معتقة فلان وصدقها فلان في ذلك لم تصدق على الابن عند محمد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولاً. وعند أبي يوسف آخراً وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تصدق على الابن لأن عند أبي حنيفة رحمه الله رحمه الله الأم تملك مباشرة عقد الولاء على الابن فيصح إقرارها به عليه، وعند محمد رحمه الله لا تملك مباشرة عقد الولاء على الابن فلا تملك الإقرار به عليه إنما فارق هذه المسألة المسألة المتقدمة على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن موضوع هذه المسألة في أنه ليس للولد سبب معروف فلم يصير مستغنياً عن الولاء فاعتبر قولها عليه وموضوع المسألة المتقدمة في أن للولد أب معروف من العرب فصار مستغنياً بماله من النسب على الولاء فلم يعتبر قولها عند أبي حنيفة رحمه الله.
(4/633)
-----
وإذا أقر الرجل فقال: أنا مولى فلان وفلان قد أعتقاني فأقر به أحدهما وأنكر الآخر فهو بمنزلة عبد بين شريكين يعتقه أحدهما، وإذا قال: أنا مولى فلان أعتقني ثم قال: لا بل أنا مولى فلان الآخر أعتقني هو وادعياه جميعاً فهو مولى الأول، وإن قال اعتقني فلان أو فلان وادعى كل واحد منهما أنه هو المعتق لا يلزم العبد شيء لأنه لو لزمه إنما يلزمه بحكم إقراره لا بدعواهما وهذا الإقرار وقع باطلاً لأنه أقر للمجهول فإن أقر لأحدهما بعينه بعد ذلك ولغيرهما فهو جائز. ويصير مولى للمقر له لأن هذا الإقرار لما وقع باطلاً صار وجوده كعدمه فكان له أن يقر بعد ذلك لمن شاء.
من مشايخنا من قال: ما ذكر في «الكتاب» أنه إذا أقر لغيرهما يجوز إقراره يجب أن يكون قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز إقراره لأن الإقرار بالولاء إقرار بالنسب ومن أقر بالنسب لإنسان ثم أقر بعد ذلك بالنسب لآخر لا يصح إقراره للثاني عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن لم يثبت النسب من الأول بأن كذبه الأول، فكذا إذا أقر بالولاء. ومنهم من قال: هذا قول الكل لأن الإقرار هاهنا وقع لمعلوم فلا يقع باطلاً لكونه واقعاً للمجهول، أما في تلك المسألة الإقرار وقع لمعلوم فلا يقع باطلاً.(4/634)
-----
وإذا أقر الرجل أنه مولى امرأة أعتقته وقالت المرأة: لم أعتقك ولكن أسلمت على يدي وواليتني فهو مولاها؛ لأنهما اتفقا على ثبوت الولاء إلا أنهما اختلفا في سببه. والاختلاف في سبب ثبوت الحق لا يمنع ثبوت الحق على ما عرف في كتاب الإقرار، فإن أراد التحويل عنها إلى غيرها ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: ليس له ذلك. وعلى قياس قولهما له ذلك، وهذا بناء فادعى عندهما الثابت ولاء الموالاة وولاء الموالاه يقبل النقل والتحويل. وعند أبي حنيفة رحمه الله الثابت ولاء العتاقة وولاء العتاقة لا يقبل النقل والتحويل، فوجه قولهما أن الولاء هاهنا يثبت بتصديق المرأة فإنما يثبت بقدر ما وجد منهما من التصديق. ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقر يعامل في إقراره كأن ما أقر به هو حق وفي زعمه أن عليه ولاء العتاقه.
وإن أقر أنه أسلم على يديها ووالاها وقالت هي: بل أعتقتك فهو مولاها وله أن يتحول بالولاء إلى غيرها، لأن الثابت هاهنا ولاء الموالاه بلا خلاف، لأن الثابت عند تصديق المقر له مقدار ما أقر به المقر والمُقَر ولاء الموالاة وذلك لا يمنع التحول ما لم يتأكد بالعقل. وإذا أقر له الرجل أن فلاناً أعتقه وأنكر فلان ذلك وقال: ما أعتقتك ولا أعرفك ثم إن المقر أقر أن فلاناً الآخر أعتقه فإنه لا يصح إقراره عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يصير مولى للثاني، وعندهما يصح إقراره للثاني إذا صدقه الثاني في ذلك.
أصل المسألة: إذا أقر بالنسب للإنسان وكذبه المقر له في إقراره وأقر به لإنسان آخر أو ادعى رجل على ولد رجل بعد موته أني أعتقت أباك. وصدقه الولد في ذلك ثبت الولاء له. ولو كان للميت أولاد كبار وصدقه بعض الأولاد فالذين صدقوه يكونون موالي له، وإن كان المدعي اثنين فصدق بعض الأولاد أحدهما وصدق الباقون الآخر فكل فريق منهم يكون مولى للذي صدقه.
(4/635)
-----
الفصل الرابع في دعوى الولاء والخصومة واليمين فيه
وإذا ادعى رجل على رجل أني كنت عبداً له وأنه أعتقني وقال المدعى عليه: أنت عبدي كما كنت وما أعتقتك فالقول قول المولى، فإن أراد العبد أن يحلفه فله ذلك؛ لأن الدعوى هاهنا وقع في العتق والاستحلاف يجري في العتق بلا خلاف.
وإن قال المدعى عليه: أنت حر الأصل وما كنت عبداً لي قط، وما أعتقتك وأراد استحلافه لا يستحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الاختلاف هاهنا في الولاء لا في العتق لأنهما تصادقا على العتق، والاستحلاف لا يجري في الولاء عند أبي حنيفة رحمه الله.
وكذلك إذا ادعى على ورثة ميت حر مات وترك ابنة ومالاً أني كنت أعتقت الميت ولي نصف الميراث معك أيتها البنت فالبنت لا تستحلف على الولاء وتستحلف (359ب1) على المال بالله ما تعلمين لهذا في ميراث أبيك حقاً.
وهو نظير ما لو ادعى رجل على الابنة أنه ابن الميت، وادعى الميراث (تستحلف) بالله ما تعلمين لهذا حقاً في ميراث أبيك وولاء الموالاة في هذا كولاء العتاقة لا تستحلف عليه عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، فإن عاد المدعى عليه إلى تصديق المدعي بعد ما أنكر دعواه فهو مولاه ولا يكون إنكاره نقضاً للولاء لأن النقض تصرف في العقد بالرفع بعد الثبوت وإنكار أصل الشيء لا يكون تصرفاً فيه.f
وإذا ادعى رجل من الموالي على عربي أنه مولاه أعتقه والعربي غائب ثم بدا للمدعي فادعى ذلك على آخر وأراد استحلافه لا يستحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لوجهين:
أحدهما: أن الدعوى على الآخر لم تصح لأنه أقر به للأول.
والثاني: أن الدعوى وقعت في الولاء وهو لا يرى الاستحلاف في الولاء.
ولو أقر المدعى عليه الثاني للمدعي فيما ادعاه لم يكن الولاء للمدعى عليه الثاني عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما الأمر موقوف إن قدم الغائب وصدق المدعي فيما ادعاه لا يثبت الولاء من الثاني. وإن كذبه يثبت الولاء من الثاني.(4/636)
-----
ولو أن رجلاً من الموالي قتل رجلاً خطأ، فجاء ورثة المقتول وادعوا على رجل من قبيلته أنه أعتق وأراد استحلافه، فإنه لا يمين عليه لا في حق المال ولا في حق الولاء، أما في حق الولاء فلا إشكال فيه عند أبي حنيفة رحمه الله، وأما في حق المال فلأن ورثة المقتول لا يدعون عليه شيئاً، لأن الدية تجب على عاقلة المعتق ولا يجب شيء منها على المعتق. ألا ترى أن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب» أن المعتق إذا أقر بعد الجناية بالولاء كانت الدية على القاتل، ولو كان يجب شيء منها على المعتق فكان يجب بعضها عليه بإقراره قال: فإن أقر المعتق بذلك لم يصدق على العاقلة إذا جحدوا وكانت الدية على القاتل في ماله.
فرق بين هذا وبينما إذا ادعوا الولاء قبل الجناية وأقر المدعى عليه بذلك، ثم جنى المولى جناية فإن الدية تجب على عاقلة المعتق، والعتق في الموضعين جميعاً يثبت بإقراره، والفرق أن العتق إنما يجب على عاقلة المعتق بالولاء والجناية، فيضاف الوجوب إلى آخر الأمرين وجوداً الولاء والولاء ثبت بإقراره، وإقراره ليس بحجة على غيره.
وإذا كانت الدعوى قبل الجناية فآخر الأمرين وجوداً الجناية، والجناية تثبت معاينة لا بإقراره فتكون ثابتةً في حق العاقلة.(4/637)
-----
وإن كان المقتول من الموالي فادعى رجل من العرب أنه أعتق المقتول قبل القتل وأنه وارثه لا وارث له غيره، وأراد استحلاف القاتل على ذلك، والقاتل مقر بالقتل منكر الولاء، فإنه يستحلف على المال بالله ما يعلم لهذا المدعي حقاً في دية فلان التي عليك؛ لأنه ادعى على القاتل شيئين: المال، والولاء لأن القاتل يجب عليه المال لأنه واحد من العاقلة عندنا والمال مما يجري فيه الاستحلاف فيستحلف على المال لهذا، بخلاف ما لو ادعى وارث المقتول على رجل أنه أعتق القاتل فإنه لا يستحلف في المال كما لا يستحلف في الولاء؛ لأن ورثة المقتول لا يدعون على المعتق شيئاً من المال على ما مر أما هاهنا بخلافه والله أعلم.
الفصل الخامس في المتفرقات
معتقة قوم تزوجت رجلاً وحدث بينهما أولاد، فهذا على وجوه:
أما إن زوجت نفسها من عبد أو مكاتب رجل، وفي هذا الوجه ولاء الأولاد لموالى الأب فإن أعتق الأب جر ولاء الولد إلى مواليه، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وإن كانت عاقلة الأم قد عقلوا عن الولد ثم عتق الأب لا يرجعون على عاقلة الأب بذلك لأن الولاء وإن جر إلى الأب فإنما يجر في الحال، ولا يتبين أن حال ما عقل عنه عاقلة الأم لم تكن عاقلة الأم عاقلة له.
وأما إن زوجت نفسها من معتق قوم وفي هذا الوجه ولاء الولد لموالي الأب لأنه استوى الجنايتان في الولاء لأن في كل جانب ولاء عتاقة، والأب هو الأصل في الولاء فكان إثباته من جنب الأب ولاء، وقد مر هذا.
وأما إن زوجت نفسها من عربي وفي هذا الوجه ولاء الولد لموالي الأب لأن الجنايتين لم تستويا لأن في جانب الأم شرف ولاء العتاقة وفي جانب الأب شرف نسب العرب فوق شرف نسب ولاء العتاقة حتى لا يكون مولى العتاقة كفواً للعربي، ولو استوى الجنايتان في الشرف كان إثبات الولاء أحق في جانب الأب وأولى فكيف لا يترجح جانب الأب.(4/638)
-----
وأما إن زوجت نفسها من رجل أسلم من أهل الحرب ووالى رجلاً أو لم يوال، وفي هذا الوجه قال أبو حنيفة ومحمد رحمه الله: ولاء الولد يكون لموالي الأم. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان للأب موالى فولاء الولد لموالي الأب، وإن لم يكن للأب موالي فولاء الولد للأب.
وأما إن زوجت نفسها ممن له آباء في الإسلام، وفي هذا الوجه ولاء الولد لقوم الأب عند أبي حنيفة رحمه الله. لأن في المسألة المتقدمة: رجح جانب الأب عنده شرف حرية الأصل فلأن يترجح جانب الأب هاهنا وقد انضم إلى شرف حرية الأصل شرف إسلام الآباء أولى.
وأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فقد اختلف مشايخنا رحمهم الله. حكي عن الفقيه أبي بكر الأعمش وأبي القاسم الصفار رحمهما الله: أن ولاء الولد لمولى الأب على قولهما أيضاً، وغيرهما قالوا: الموالي لأم.
رجل له أمة زوجها من عبد أخيه لأب وأم أو لأب ثم إن مولى الأمة أعتق الأمة فجاءت بعد ذلك بولد لستة أشهر من حين أعتقها كان ولاء هذا الولد لمعتق الأمة لأنه تعذر إثبات ولاء الولد من جهة الأب لأن الأب عبد، والعبد ليس من أهل الولاء، وإذا تعذر إثبات الولاء من جانب الأب أثبتناه من جانب الأم، كما في النسب متى تعذر إثباته من جانب الأب يثبت من جانب الأم كما في ولد الملاعنة فكذا في الولاء.
(4/639)
-----
فلو أن مولى مولى العبد بعد ذلك أعتق العبد وهو أخ معتق الأمة لأب وأم أو لأب ثم مات معتق العبد ولم يترك وارثاً عصبة سوى أخيه الذي أعتق الأم ثم مات الولد ولم يترك وارثاً فإن ميراث الولد يكون لمعتق الأب لأنه عصبة معتق العبد، وولاء الولد كان لمعتق العبد بسبب الحرية لأنه إنما كان الولاء لمعتق الأم لأن الأب كان عبداً، فحين أعتقه مولاه فقد جر ولاء ولده إلى نفسه فيكون الولاء لمعتق العبد فيكون لعصبة معتق العبد إذا كان معتق العبد بنتاً وعصبة أخوة لأب أو أم أو لأب وهو معتق الأم فيكون ميراث الولد لمعتق الأم بولاء لأب لا بولاء الأم هذا إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً، فأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر فميراث الولد لمعتق لأم أيضاً لا بالولاء لأب ولكن لأنه معتق الولد لأنه جرى منه في الولد عتق مقصود تبين لما ولدت لأقل من ستة أشهر لأن هذه مدة لا يحدث في مثلها الحبل.
تم بعون الله وحسن توفيقه، ويتلوه كتاب الأيمان والنذور. (360أ1).
(4/640)
كتاب الأيمان والنذور
هذا الكتاب مشتمل على (سبعة وعشرين) فصلاً:
1 * في بيان ركن اليمين وحكمها وشرط انعقادها ومحلها.
2 * في ألفاظ اليمين.
3 * في بيان أنواع اليمين وأحكامها.
4 * في اليمين إذا جعل لها غاية.
5 * في الأيمان التي يقع فيها التخيير والتي لا يقع فيها التخيير.
6 * في الرجل يحلف فينوي التخصيص.
7 * في الأيمان ما يقع على البعض وما يقع على الجماعة.
8 * في الشروط التي تحمل على معناها.
9 * في العطف على اليمين بعد سكوت الحالف.
10 * في الحلف على الأقوال.
11 * في الحلف على العقود.
12 * في الحلف على الأفعال.
13 * فيمن حلف على شيء فقال آخر عليّ مثل ذلك.
14 * في اليمين على الأفعال في المكان.
15 * في تعليق الأجزئة المختلفة بالشرط.
16 * في الحلف ما يقع على الملك القائم.
17 * فيما يفعله الرجل لغيره.
-----
18 * في الرجل يحلف لا يفعل الشيء فيأمر به غيره.
19 * في الأيمان التي يكون فيها استثناء.
20 * في الأوقات.
21 * في الحلف يتغير عن حاله.
22 * في اليمين التي تكون على الحياة دون الموت.
23 * في الحنث ما يقع على الأبد وما يقع على الساعة.
24 * في الحلف على الباطن.
25 * في النذور.
26 * في المتفرقات.
(الفصل الأول) في بيان ركن اليمين، وحكمها، وشرط انعقادها، ومحلها
وركن اليمن بالله ذكر اسم الله تعالى مقروناً بالجزاء؛ لأن ركن الشيء ما يعقد به ذلك الشيء، واليمين يعقد بالقسم به والمقسم به اسم الله تعالى في ظاهر مذهب أصحابنا رضي الله عنهم بلا خلاف (و) في صفاته على الاختلاف (على) ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. وحكم اليمين وضعاً وجوب البر والخير لما فيه من تعظيم اسم الله تعالى وحرمة الحنث لما فيه من هتك حرمة اسم الله تعالى، ثم الكفارة تجب عند الحنث خلفاً عن البر الواجب باليمين استدراكاً له.
وشرط انقعادها تصور البر عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، والإضافة إلى المستقبل بدون تصور البر لا يكفي لانعقادها، وعند أبي يوسف رحمه الله الإضافة إلى فعل في المستقبل بدون التصور كاف لانعقادها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ومحل اليمين خبر يحتمل الصدق لأن محل التصرف ما يقبل حكم التصرف. وحكم اليمين وجوب البر والوجوب يستدعي خبراً يتصور فيه البر حتى يحتمل الصدق.
(4/641)
(الفصل الثاني) في ألفاظ اليمين وإنه أنواع
الأول في الحلف بأسماء الله تعالى
-----
يجب أن تعلم بأن الحلف باسم من أسماء الله تعالى يمين، جميع أسامي الله في ذلك على السواء تعارف الناس الحلف به أو لم يتعارفوا، هو الظاهر من مذهب أصحابنا رحمهم الله، ومن أصحابنا من يقول كل اسم لا يسمى به غير الله كقوله: الله، الرحمن فهو يمين وما يسمى به غير الله كالحكيم والعالم فإن أراد به اليمين كان يميناً وإن لم يرد به اليمين لا يكون يميناً وكان.... يقول: إذا قال والرحمن إن أراد به اسم الله فهو يمين، وإن أراد به سورة الرحمن لا يكون يميناً، وهكذا ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» لأنه إذا أراد به سورة الرحمن فقد حلف بالقرآن، ولو قال: والقرآن لا يكون يميناً.
والصحيح ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله؛ لأن اليمين باسم الله تعالى ثابت نصاً، قال الله تعالى: {يحلفون با لكم ليرضوكم} (التوبة: 62) وقال عليه السلام: «فمن كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر». وإذا كان اليمين باسم الله ثابتاً بالنص، كان اليمين بأسماء أخر ثابتاً بدلالة النص وما (ثبت) بالنص وبدلالة النص لا يراعى في العرف.
ولو قال: بالله لأفعل كذا كسر الهاء في الله أو رفعه أو نصبه فهو يمين في «فتاوى النسفي» رحمه الله. ولو قال: الله يكون يميناً اتفق على هذا أهل اللغة والنحو وتأيد ذلك بالشرع، فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حلف ابن ركانة البنه الله ما أردت به إلا واحداً. إلا أن أهل اللغة اختلفوا في إعرابه فعند أهل البصرة إعرابه حذف حرف القسم النصب، وعند أهل الكوفة إعرابه الخفض.(4/642)
-----
ولو قال: الله يكون يميناً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخل آدم الجنة فالله ما غربت الشمس حتى خرج. ولو قال: بالله العظيم كي يدر كرين نام حداب كه افعل كذا، أو قال: لا أفعل كذا إنه يكون يميناً ويتعلق بالفعل فلا يصير قوله: يدركه يداني نام است فاصلاً، وكذلك إذا قال: يدركن أزن سوكن ثبتت، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عمن قال: بالله أكراني كاركنم، قال: اختيار أستاذي أنه لا يكون يميناً، ثم رجع وقال: يكون يميناً وفي « الأجناس» إذا قال: والله إن دخلت الدار، كان يميناً، ولو قال: والحق لا أفعل كذا فهو يمين لأن الحق من أسماء الله تعالى، قال الله تعالى: {ويعلمون أن ا هو الحق المبين}. (النور: 25) .
ولو قال: وحق الله لا أفعل كذا، لم يكن يميناً في قول أبي حنيفة ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله. هكذا ذكر القدوري في «شرحه» وهو الصحيح؛ لأن الحق إذا ذكر غير مقرون بالألف واللام مضافاً إلى الله تعالى يراد به ما ثبت بحق الله على عباده في العبادات.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما حق الله تعالى على عباده. قال: «أن لا تشركوا به شيئاً وتعبدوه وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة» فقد فسر حق الله تعالى بما يستحقه الله على عباده من العبادات فصار كأنه قال: والعبادات لا أفعل كذا لا يكون يميناً.
ولو قال: وحقاً لا أفعل كذا لا يكون يميناً. وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: يكون يميناً وبعضهم قالوا: لا يكون يميناً لأنه ذكره منكراً، وأسماء الله تعالى كلها معرفة، ومن له لا بدلالة التنكير إنه لم يرد به اسم الله تعالى وإنما أراد به تحقيق الوعد معناه أفعل هذا لا محالة.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وإذا قال وحرمة الله لا أفعل كذا فهذا نظير قوله: وحق الله لا أفعل كذا.(4/643)
-----
وفي «فتاوى النسفي» إذا قال: ..... شهد الله ولا إله إلا الله أن لا أفعل كذا في تعليل قوله والحق أنه يكون يميناً، ولو قال: بسم الله ذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» اختلاف المشايخ فيه، قال رحمه الله: والمختار أنه لا يكون يميناً، وفي «القدوري» إذا قال: بسم الله فهو ليس بيمين إلا أن ينويه، وفي «المنتقى» رواية ابن رستم عن محمد رحمهما الله إنه يمين مطلقاً فيتأمل عند الفتوى.
ولو قال الطالب الغالب (360ب1) بالاسم، وإن لم يتصل به تعارف الناس بقيت الجهتان على السواء وأحدها يوجب أن يكون يميناً، والأخرى توجب أن لا يكون يميناً فلا يكون يميناً بالاحتمال.
إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى تخريج المسألة إذا قال: ورحمة الله لا أفعل كذا لا يكون يميناً، وكذلك إذا قال: وغضب الله، أو قال: وعذاب الله لا يكون، أو قال: وسخط الله، أو قال: ورضا الله، أو قال: وثواب الله لا يكون يميناً، ولو قال: وقدرة الله يكون يميناً، ولو قال: وسلطان، ذكر في «القدوري» أنه إن أراد به القدرة كان يميناً، وإن أراد به المقدور لا يكون يميناً.
نوع آخر
إذا قال: ودين الله لا أفعل كذا فهذا ليس بيمين، وكذلك إذا قال: وطاعة الله، أو قال: وشرائعه، أو قال: وحدوده، أو قال: وعبادته أو قال: بأنبيائه، أو قال: وملائكته، أو عرش الله، أو قال: وبيت الله، أو قال: والكعبة، أو قال: بالصفا والمروة، أو قال: بالصلاة، أو قال: بالصيام، أو قال: بالقرآن، أو قال: بالمصحف أو سورة من القرآن، فليس ذلك بمين لأن الأصل هو الحلف بأسماء الله تعالى، والحلف بصفاته أطلق بالحلف بأسمائه بالشرط الذي ذكرنا، والحلف بهذه الأشياء الذي يحلف بالله ولا بصفاته فلهذا لا يكون يميناً فعلى هذا تخريج جنس هذه المسائل.
نوع آخر(4/644)
-----
إذا قال: هو يهودي أو نصراني أو مجوسي إن فعل كذا أو قال: هو بري من الله تعالى، أو قال: هو بريء من الإسلام إن فعل كذا فهذا يمين عندنا، حتى لو فعل ذلك الفعل تلزمه الكفارة، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمعنى فيه أن هذا التعليق لو صح حقيقة حرم الدخول من حيث إنه صار تسبيباً للكفر بالتعليق، والكفر حرام فما يكون سبباً له يحرم، فإذا لم يبح التعليق من حيث الحقيقة يجعل كناية عن حكمه لو صح التعليق وهو حرم الدخول فصار قوله: هو يهودي إن دخل الدار نظير قوله دخول الدار علي حرام، ومن قال: دخول الدار علي حرام كان يميناً؛ لأنه حرم الحلال على نفسه، وتحريم الحلال يمين عندنا. قال الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل ا لك}. (التحريم: 1) قال بعض المفسرين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّمحرم العسل على نفسه، وقال بعضهم: حرم مارية القبطية على نفسه، وكان ذلك يميناً بدليل قوله تعالى: {قد فرض ا لكم تحلة إيمانكم} (التحريم: 2) ولأن حرمة الحلال تسبب اليمين فالنص عليه يجعل كالتنصيص على السبب مجازاً، فكأنه قال: والله لا أفعل كذا.
وفي «العيون» إنه إذا قال: هذا الرغيف حرام عليّ كان يميناً، وكذلك إذا قال: كلام فلان عليّ حرام كان يميناً، فعلى هذا إذا قال بالفارسية: حرام آنست ياتوسبي كغين كان يميناً. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إذا قال: كلام فلان وفلان عليَّ حرام فكلم أحدهما يحنث.
ولو قال: هذا الخمر حرام عليَّ ثم شربها اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيما بينهما، قال أحدهما: فهو ليس بيمين ولا تلزمه الكفارة، وقال الآخر: هو يمين وتلزمه الكفارة قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: المختار للفتوى أنه إن أراد به التحريم تجب الكفارة وإن أراد به الإخبار أو لم يكن له نية لا تلزمه الكفارة.(4/645)
-----
وإذا كان في يده دراهم فقال: هذه الدراهم حرام عليَّ ينظر، إن اشترى بها شيئاً يحنث في يمينه وإن وهبها أو تصدق بها لا يحنث في يمينه لأن تحريم الحلال وإن كان يميناً إلا أنه لا بد أن يشهد التحريم تحريم الهبة والصدقة، وإنما يراد به تحريم الشراء، كمن قال: كل حل عليَّ حرام لأنه أراد به تحريم كل حلال ولم ينصرف يميناً إلى كل حلال وإنما ينصرف إلى الطعام والشراب خاصة، حتى لو أكل طعاماً أو شرب شراباً حنث في يمينه. كذا ولو وطىء امرأته أو جاريته أو لبس ثوباً أو ركب دابة لا يحنث في يمينه، كذا هاهنا، وعن أبي يوسف رحمه الله في هذه المسألة أنه إذا أنفقها بوجه من الوجوه بأن اشترى بها شيئاً أو وهبها أو تصدق بها أو أعطاها في أجرة بيت، أو ما أشبه ذلك فعليه كفارة يمين، رواه بشر بن الوليد قال: والمخرج منه إن يجيء ذلك رجل من أهله فينفقها.
وفي «البقالي» لو حرم طعاماً أو نحوه فهو يمين على تناول المعتاد أكلاً في المأكول ولبساً في الملبوس إلا أن يعني غيره. قال: وكذلك سائر التصرفات في الأشياء. قال: ولا يعتبر استيفاء من الطعام بالأكل. ولو قال: لا يحل لي أن أفعل كذا فإن نوى تحريمه عليه فهو يمين.(4/646)
-----
وفيه أيضاً إذا قال: الخنزير حرام فهو ليس بيمين إلا أن يقول حرام علي إن أكلته. وعلى فتاوى مسألة الخمر يجب أن يكون فيه خلافاً بين أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى ما اختاره الصدر الشهيد رحمهم الله في مسألة الخمر يجب أن تكون مسألة الخنزير كذلك. وفي «البقالي» أيضاً إذا قال: إن أكلت هذا الطعام فهو عليَّ حرام فهذا ليس بيمين حتى لو أكله لا تلزمه الكفارة، ولو قال: والله لا آكل هذا الطعام فإن أكلته فهو علي حرام، فأكل منه لزمه الكفارة. وفي «المنتقى» إذا قال لغيره: كل طعام أكلته في منزلك فهو علي حرام، وفي القياس: لا يحنث إذا أكله، وهكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله لانه حرمه بعدما أكله. وفي الاستحسان يحنث ويكون هذا على معاني كلام الناس والناس يريدون بهذا إن أكله حرام. وفي «الحيل» إن أكلت عندك طعاماً أبداً فهو علي حرام فأكل لم يحنث، ولو قال: هذا الثوب عليَّ حرام إن لبسته فلبسه ولم ينزعه حنث في يمينه.
امرأة قالت لزوجها: أنت عليَّ حرام أو قالت: حرمتك على نفسي. فهذا يمين، حتى لو طاوعته في الجماع كان عليها الكفارة، وكذلك لو أكرهها على الجماع يلزمها الكفارة بخلاف ما إذا حلف لا يدخل دار فلان فأدخل، جئت إلى أصل المسألة وهو قوله يهودي أو نصراني إن فعل كذا إذاكان يميناً وفعل ذلك الفعل (361أ1) لا أفعل كذا فهو يمين وهو متعارف أهل بغداد، ولو قال: ووجه الله فهو يمين لأن الوجه يذكر ويراد به الذات قال الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}. (القصص: 88) معناه: إلا هو.(4/647)
-----
فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنها ليست بيمين، وتأويله إذا قصد بذلك الجارحة، ولو قال: لعمر الله فهو يمين لأنه حلف ببقاء الله سبحانه وتعالى، ولو قال: أقسم أو أقسم بالله أو أشهد أو اشهد بالله أو أعزم أو أعزم بالله فهو يمين، ولو قال: عليَّ يمين أو يمين الله فهو يمين، أما إذا قال: عليَّ يمين الله، فلأن معناه عليَّ موجب يمين الله، وأما إذا قال: عليَّ يمين لأن اليمين بغير الله حرام، فكأنه قال: عليَّ يمين الله.
وفي «المنتقى» إذا قال: علي يمين لا كفارة لها يريد به الإيجاب فعليه يمين لها كفارة. رواه عن أبي حنيفة رحمه الله. وفيه أيضاً عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ يمين وهو يريد أن يوجبها على نفسه ولم يقل: إن فعلت فليس عليه شيء، وكذلك إذا قال: لله على يمين غداً وهو مثل قوله: والله ولم يقل شيئاً، ولو قال: لله علي يمين إن جاء غد فهذا مثل قوله: إن فعلت، ولو قال: إن فعلت كذا فعلي يمين إن شاء فلان ففعل كل ذلك الفعل وشاء فلان لزمته كما قال، ولو قال: إن كلمت فلاناً فعلي من الأيمان ما شاء فلان، أو شاء الرجل من يلزمه من الأيمان ثلاثة أو أقل أو أكثر لم يلزمه ذلك ولا يشبه هذا تسمية الحالف الأيمان، وأشار إلى العرف فقال: إذا سمى الحالف الأيمان فقد جعلها على نفسه وجعل حنثه في مشيئة فلان، وإذا قال: فعلي من الأيمان ما شاء فلان فليس هذا حنثاً بمشيئة فلان، فهذا يمين له رجل، وقال الآخر: عليَّ من الأيمان ما شئت، فقال الآخر شئت يمينان وهناك لا تلزمه
(4/648)
-----
ولو قال: عليَّ يمين إن شئت، فقال: قد شئت لزمه. هذا مثل قوله: عليَّ يمين إن كلمت فلاناً، وكذلك إذا قال: عليَّ عهد الله أو ميثاقه أو ذمته فهو يمين، وإذا قال: لله فتم يأخذاي كي إن جرية كه يو بيارى ني خورم فقد قيل إنه يكون يميناً إذا نوى اليمين، والأصح أنه يمين بدون النيّة، فإن قوله بدرفتم وعهد كردم سواء وذاك يمين فهذا كذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» أورد في غير رواية الأصول إذا قال: عليَّ يمين محلوفه وبغيره «سوكند خورده كه ابن كاد في كنم» فهو يمين. قال رحمه الله: وإذا قال: «سوكند خوردم» لا يكون يميناً، ولو قال: مي خودم، ولو قال: حرفي يكون؛ لأن الأول عِدَة، والثاني: إيجاب، ألا ترى أن قول الشاهد بين يدي القاضي كواني دهم لا تكون شهادة، وإذا قال: ني دهم يكون شهادة، وقيل «سوكند خورم» يمين أيضاً لأنه بغير قوله: أحلف وذلك يمين فكذا هذا، مذكور في «فتاوى النسفي» رحمه الله وكذلك إذا قال: «سوكند خوردم» يكون يميناً، ولو قال: «سوكند خورده أم» إن كان صادقاً كان يميناً، وإن كان كاذباً فلا شيء.
وفي «الواقعات» في باب: السير إذا قال: «سوكند خوردام يحذاي» إن فعلت كذا فهو يمين لأن الناس تعارفوه يميناً، ولو قال: «ومن سوكند است كي ابن كاريكنم» فهو يمين وهو معنى قوله: عليَّ يمين، ولو قال: «مرا سوكند بطلاق است كي شراب تخورم» فشرب طلقت امرأته، وإن لم يكن حلف ولكن قال: قلت هذا لدفع تعرضهم لا بصدق قضاء وإذا قال: «مراسوكند خانه است كشراب نخورم» وشرب طلقت امرأته؛ لأن أوهام الناس تنصرف. ذكره في «فتاوى النسفي» ولم يشترط فيه نية المرأة، والشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرغيناني رحمه الله كان يشترط النية لوقوع الطلاق، والأصح أنه لا يشترط.(4/649)
-----
وفي «فتاوى الأصل» إذا قال لامرأته: لا تخرجي من الدار بغير إذني فإني قد حلفت بالطلاق فخرجت بغير إذنه لا تطلق لأنه ما أضاف الطلاق إليها، وروي عن محمد رحمه الله إذا قال: آليت لا أفعل كذا فهو يمين لأن الألية هي اليمين فكأنه قال: أحلف، ولو قال: لا إله إلا الله أفعل كذا أو سبحان الله أفعل كذا فليس بيمين إلا أن ينويه والله أعلم.
نوع آخر في الحلف به ذات الله تعالى
قال مشايخ العراق رحمهم الله: إذا حلف بصفة من صفات الله تعالى فهو يمين، وإن حلف بصفة من صفات الفعل فليس بيمين، وجعلوا للتفاضل بين صفات الذات، وبين صفات الفعل علامة فقالوا: كل صفة يوصف الله تعالى بها وبضدها فهي من صفات الفعل كأوصاف الغضب والرحمة والسخط فهذه الصفات مما يوصف الله تعالى بها وبضدها كما يقال: الله تعالى يرحم المؤمنين ولا يرحم الكفار، ويرضى عن المتقين ويغضب عن المنافقين، وكل صفة يوصف الله تعالى حمداً ولا يوصف بضدها فهي من صفات الذات كالعظمة والعزة، قالوا: والقياس أن يكون قوله: وعلم الله يميناً لأن العلم من صفات الذات يوصف الله تعالى به ولا توصف (بضده)، إلا أنا تركنا القياس فيه لأنه كثير الاستعمال بهذا اللفظ فيما بين الناس للمعلوم يقول الرجل في دعائه: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك، ويقال: علم أبي حنيفة رحمه الله فانصرف مطلق اللفظ إليه وصار كأنه قال: ومعلوم الله، ولو قال هكذا لا يكون يميناً، كذا هاهنا.(4/650)
-----
ومشايخ ما وراء النهر رحمهم الله قالوا: إن حلف بصفة تعارف الناس الحلف بها فهو يمين، وإن حلف بصفة لم يتعارف الناس الحلف لا يكون يميناً، بهذا لأن الحلف بالله تعالى إنما عرف يميناً بالشرع والشرع جعل الحلف بالله تعالى يميناً إذا جعل الحلف باسم من أسماء الله تعالى؛ لأن الشرع ورد بالحلف بالله وإنه اسم من أسماء الله تعالى فأما الصفة بين الاسم وغيره على ما قيل صفات الله تعالى لا هو ولا غيره يكون يميناً فكان بين الاسم وغيره فإذا اتصل به تعارف الناس في الحلف به يترجح جانب الاسم فيصير ملحقاً بالاسم فيصير حالفاً (361ب1) حتى حنث ولزمه الكفارة هل يصير كافراً اختلف المشايخ فيه قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والمختار للفتوى أنه إن كان عنده أنه يكذب حتى أتى بهذا الشرط ومع هذا أتى به يصير كافراً لرضاه بالكفر، وكفارته أن يقول: لا إله إلا الله، وإن كان عنده أنه أتى بالشرط لا يصير كافراً لأنه يكفر، لأن هذه الألفاظ صارت كناية عن اليمين بالله فكأنه قال: والله إن فعلت كذا، ولو قال: والله إن فعلت كذا وفعل لا يصير كافراً كذا هاهنا، وهذا إذا حلف بهذه الألفاظ على أمر في المستقبل.
أما إذا حلف بهذه الألفاظ على أمر في الماضي بأن قال: يهودي أو نصراني أو مجوسي، إن كان فعل كذا أمس وهو يعلم أنه قد كان فعل لا شك أنه لا يلزمه الكفارة عندنا لأنه يمين غموس، وهل: يصير كافراً؟ اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، بعضهم قالوا: يصير كافراً لأنه علق الكفر بما هو موجود والتعليق بما هو موجود للخبر فكأنه قال: هو يهودي.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والمختار للفتوى أنه إن كان عنده أن هذا يمين ولا يكفر متى حلف به لا يكفر، وإن كان عنده أنه يكفر متى حلف بذلك يكفر لرضاه بالكفر.(4/651)
-----
وأما إذا قال: لعلم الله أنه فعل كذا وهو يعلم أنه لم يفعل، أو قال: بعلم الله أنه لم يفعل كذا وقد علم أنه فعل. اختلف المشايخ رحمهم الله فيه (عامتهم) أنه يصير كافراً لأنه وصف الله تعالى بما لا يجوز أن يوصف به لأنه وصف بكونه عالماً بوجود الفعل منه في الماضي ولم يوجد منه ذلك الفعل والعلم موجود ..... من لم يوجد لا يكون فقد وصف الله تعالى بما لا يوصف به فيكون كفراً كما لو وصف بالجهل أو بالعجز.
ولو قال: هو يأكل الميتة إن فعل كذا لا يكون يميناً. وكذلك إذا قال: هو مستحل الميتة أو يستحل الخمر أو الخنزير لا يكون يميناً، وكان يجب أن يكون يميناً لأن استحلال الحرام كفر فقد علق الكفر بالشرط وتعليق الكفر بالشرط يمين، كما لو قال: هو يهودي إن دخل الدار قلت: استحلال هذه الأشياء ليس بكفر لا محالة، فإن في حالة الضرورة تصير هذه الأشياء حلالاً ولا يكون كفراً، أو إذا احتمل أن يكون استحلال هذه الأشياء كفراً كما في غير حال الضرورة فيكون يميناً، واحتمل أن لا يكون كفراً كما في حالة الضرورة فلا يكون يميناً لا يصير يميناً بالشرك بخلاف قوله: هو يهودي إن فعل كذا لأن اليهودي من أنكر رسالة محمد عليه السلام وإنكار رسالة محمد عليه السلام كفر على كل حال.
والحاصل أن كل شيء هو حرام حرمة مؤبدة بحيث لا تسقط حرمته بحال من الأحوال كالكفر، وأشباهه فاستحلاله معلقاً بالشرط يكون يميناً، وكل شيء هو حرام بحيث تسقط حرمته بحال كالميته والدم والخمر وأشباه ذلك فاستحلاله معلقاً بالشرط لا يكون يميناً.
ولو قال: إن فعلت كذا فاشهدوا عليَّ بالنصرانية فهو يمين. ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» لأن هذه بمنزلة قوله هو نصراني إن فعل كذا.(4/652)
-----
وفي «مجموع النوازل» إذا قال: أنا شر من المجوسي إن فعلت كذا أزهر ارفع وتو تبرم إن فعلت كذا كان يميناً، وكذلك إذا قال: أنا شريك النصارى، أو قال: أنا شريك الكفار إن فعلت كذا كان يميناً، ولو قال «اكد من اين ذن نحوا ميم موامغ خوانيد وجمعود خوانيد، وسنك ساركنيد» ثم تزوجها لا يلزمه شيء لأنه أمرهم بالقتل والشتم وما وصف نفسه به.
في «فتاوى النسفي»: ولو قال: «هرج مغان مغى كرده اندو جهودان جهودي كرده اند دركردن من كه من كاربكه دام» وقد كان فعل، وكذلك لا يلزمه شيء، ولو قال: «هرحه سلماني كردام وكافران دادام» إن فعلت كذا لا يكون يميناً، ولو قال: «سلماني نكرادم اكر فلان كاركتم» فهذا ليس بيمين لأنه لغو، إلا إذا عنى إذا ما صام وصلى لم يكن حقاً إن فعلت كذا أو إن ما عملت لم يكن حقاً، إن فعلت كذا فحينئذ يكون يميناً لأن هذا كفر وصار كما لو قال: هو كافر إن فعل كذا فعلى هذا القياس إذا قال بالفارسية: ما قال الله تعالى كذب إن دخلت الدار كان يميناً.
في آخر الباب الأول من أيمان «الواقعات»: إذا قال بالفارسية: «هذا ميدى كه إذ خداى تعالى دادم يومئذم» إن فعلت كذا فهذا يمين لأن اليأس من الله تعالى كفر فهو بمنزلة قوله: هو كافر إن فعل، كذا في أيمان « النوازل» والله أعلم.
نوع آخر
إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله تعالى فهو يمين لأن البراءه من الله تعالى كفر وتعليق الكفر بالشرط يمين، ولو قال: إن فعلت فأنا بريء من الله ورسوله فهو يمين واحدة، وإذا قال ذلك الفعل يكفيه كفارة واحدة، ولو قال: فأن بريء من الله وبريء من رسوله إن فعلت فقد لزمه كفارتان لأنهما يمينان. هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.(4/653)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله ورسوله والله ورسوله بريئان منه ففعل فعليه أربع كفارات؛ لأنهما أربعة أيمان قيل ما ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ليس بصحيح، وإنما الصحيح ما ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله لأنه لا بد وأن يقول: وبريء من رسوله حتى يتعدد اليمين.
ولو قال: أنا بريء من الله إن كنت فعلت كذا أمس، وقد كان فعل وهو يعلم. اختلف المشايخ رحمهم الله فيه والمختار للفتوى ما ذكرنا في قوله: هو يهودي إن كنت فعلت كذا إنه إن كان في زعمه أن مثل هذا الحلف كفر يكفر، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من القرآن فهو يمين.
ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من المصحف فهذا ليس يمين بخلاف ما إذا قال: فأنا بريء مما في المصحف حتى يكون يميناً لأن الذي في المصحف القرآن. وصار كأنه قال: فأنا بريء من القرآن. ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من كل آية في المصحف فهو يمين واحد. في «العيون» وكذلك إذا قال: «إن ستعد شبست أنه قرآن يزارام» فهو يمين واحدة، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الكتب الأربعة فهو يمين واحدة، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من القرآن والزبور والتوراة والإنجيل فحنث لزمه الكفارة واحدة لأنهما يمين (362أ1) واحدة.
ولو قال: فأنا بريء من القرآن وبريء من الزبور وبريء من التوراة وبريء من الإنجيل فهو أربعة أيمان إذا حنث يلزمه أربع كفارات، ولو قال: إن كنت فعلت كذا أمس فأنا بريء من القرآن، وقد كان فعل وعلم به، فالجواب المختار فيه كالجواب فيما إذا قال: فهو بريء من الله تعالى.(4/654)
-----
ولو دفع كتاب الفقه أو دفتر الحساب فيه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: أنا بريء مما فيه إن فعلت كذا فهذا يمين. إذا قال: «إن خداى تعالى بيزادم وأن لا إله إلا الله تزارم وان شهد الله تزارم» إن فعلت كذا ففعل فعليه ثلاث كفارات، إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من صوم رمضان أو من الصلاة فهو يمين لأن البراءة عن هذه الأشياء كفر.
ولو قال: أنا بريء الثلاثين يوماً يعني شهر رمضان إن فعلت كذا إن نوى البراءة عن فرضيتها يكون يميناً كما لو قال: أنا بريء منه الإيمان إن فعلت كذا وإن نوى البراءة عن آخرهما لا يكون يميناً لأنه غيب، وإن لم يكن له نية لا يكون يميناً في الحكم لمكان الشك، وفي الاحتياط يكون ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من حجي التي حججت أو من صلاتي التي صليت فهذا لا يكون يميناً بخلاف ما إذا قال: إن فعلت كذا بريء من القرآن الذي تعلمت حيث يكون يميناً.
والفرق: أن في المسألة الأولى تبرأ عن فعله الذي فعل لا عن الحجة المشروعة والصلاة المشروعة والتبرؤ عن فعله لا يكون كفراً، أما في المسألة الثانية: تبرأ عن القرآن الذي تعلمه والقرآن قرآن قبل أن يعلمه فيكون التبرؤ منه كفراً حتى إن في المسألة الأولى لو قال: أنا بريء من الحجة، أو قال: من الصلاة كان يميناً، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من القبلة ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أنه يمين. وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه ليس بيمين والصحيح أنه يمين لأن البراءة عن القبلة كفر. ولو قال أنا بريء المغلظة إن فعلت كذا ليس بيمين. ولو قال: عما في المغلظة فقد قيل: إنه ليس بيمين لأن في المغلظة أيمان وهي تعرف بها فكأنه قال: أنا بريء من الإيمان، وقيل: فإنه يمين لأن في المغلظة اسم الله تعالى فيكون هذا براءة من اسم الله تعالى، والبراءة عن أسماء الله تعالى يمين وصار كدفتر الحساب أو الفقه المكتوب فيه اسم الله تعالى.(4/655)
-----
ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الشفاعة، ذكر في «مجمع النوازل» أنه يمين وقد قيل: هو ليس بيمين وهو الأصح لأن الشفاعة إن كانت حقاً فمنكره مبتدع، وليس بكافر. وفي «فتاوى ما وراء النهر» إذا قال: إن فعلت كذا لا إله لي في السماء، قال أبو الأسد وعبد الله الكرمنسي أنه يمين عندان ولا يكفر والله أعلم.
نوع خرفي تحليف الغير
ذكر في «فتاوى أهل سمرقند»: سلطان أخذ رجلاً وحلفه: ما يزد، فقال الرجل مثل ذلك، ثم قال: «كه دوزادنه يناى» فقال الرجل مثل ذلك فلم يأت هذا الرجل يوم الجمعة لا يلزمه شيء لأنه لما قال: ما يزد وسكت ولم يقل قل يا برو إن لم أفعل كذا لم ينعقد اليمين :ويتشعب عن هذه المسألة كثير من المسائل. وفي هذا الموضع: رجل فأراد المرور عليه أن يقوم للمار فقال له المار بالفارسية: «بالله اكرجه في فقام» لا يلزم المار كفارة لأن هذا لغو من كلام.
ذكر عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: اليمين على نية الحالف إن كان مظلوماً، وإن كان ظالماً فعلى نية المستحلف وبه أخذ أصحابنا رحمهم الله.
مثال الأول: إذا أكره الرجل على بيع عين في يديه فحلف المكره بالله أنه رفع إلي هذا الشيء فلان يعني به بائعه حتى وقع عنده أن ما في يده ملك غيره فلا يكرهه على بيعه ويكون كما نوى ولا يكون ما حلف يمين غموس لا حقيقة ولا معنى، أما حقيقة فلأنه نوى ما يحتمله لفظه فيجعل ما نوى كالمصرح به، ولو صرح بما نوى كان صادقاً. فكذا إذا أضمر ذلك فعليه دل ما معنى، ولأن يمين الغموس ما ينقطع بها حق أمرىء مسلم ولم يوجد ذلك هاهنا لأن الحالف لم يقطع حق غيره إنما دفع الظلم عن نفسه.(4/656)
-----
ومثال الثاني: إذا ادعى عيناً في يدي رجل أني اشتريت منك هذا العين بكذا وأنكر الذي في يده الشراء فأراد المدعي أن يُحلّف المدعى عليه بالله ما وجب عليك تسليم هذا العين إلى هذا المدعي فيحلف المدعى عليه على هذا الوجه ويعني التسليم إلى هذا المدعي بالهبة والصدقة لا بالبيع، وهذا إن كان صادقاً فيما حلف فلم يكن بما حلف يمين غموس حقيقة؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه فهو يمين غموس معنى؛ لأنه قطع بهذا اليمين حق امرىء مسلم فلا تعتبر نيته، لهذا كان المعنى في ذلك أن المدعى عليه إذا كان ظالماً فاليمين مشروعة لحق المدعي لمنع المدعى عليه عن اليمين فيصير المدعي إلى حقه، وإن حلف كاذباً يهلك بسبب اليمين الكاذبة كما أهلك حقه فيكون إهلاكاً، فإذا أهلك كالقصاص وإن يحصل هذا المعنى إذا اعتبر بنية الحالف المستحلف، أما إذا لم يكن المدعى عليه ظالماً فاليمين مشروعة لحق المدعى عليه حتى ينقطع منازعة المدعى معه من غير حجة فيعتبر نية الحالف في ذلك ولهذا يعتبر في اليمين على الحالف على ما قال عليه السلام «من حلف على يمين لا يستثني فالبر والإثم فهما على علمه» يعني إذا حلف وعنده أن الأمر كما حلف عليه ثم تبين خلافه لم يكن، آثما في يمينه ويعتبر فيه ما عند صاحب الحق.
(4/657)
قال الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وهذا الذي ذكرنا في اليمين بالله، فأما إذا استحلف بالطلاق والعتاق فهو ظالم أو مظلوم فنوى خلاف الظاهر بأن نوى الطلاق عن الوثاق أو نوى العتاق عن عمل كذب أو نوى الإخبار فيه كاذباً فإنه يصدق فيما بينه وبين ربه حتى لا يقع الطلاق ولا العتاق فيما بينه وبين ربه لأنه نوى ما يحتمله لفظه فالله مطلع عليه إلا أنه إن كان مظلوماً لا يأثم الغموس لأنه ما قطع بهذا اليمين حق امرىء مسلم،واذا كان يأثم الغموس، وإن كان ما نوى صدقاً حقيقة لأن هذه اليمين غموس معنى لأنه قطع بها حق امرىء مسلم.(4/658)
-----
قال القدوري في «كتابه» ما نقل عن إبراهيم أن اليمين على نية المستحلف إن كان الحالف ظالماً فهو صحيح في الاستحلاف على الماض؛ لأن الواجب باليمين كاذباً الإثم فمتى كان ظالماً فهو آثم في يمينه وإن ما يحتمله لفظه لأنه توصل بهذه اليمين إلى ظلم غيره هذا المعنى (362ب1) لا يتأتى في اليمين على أمر في المستقبل فيعتبر فيه نية الحالف على كل حال، رجل قال لآخر: والله لا آتي إلى ضيافتك، فقال رجل آخر للحالف ولا تجىء إلى ضيافتي أيضاً، قال: نعم يصير حالفاً في حق الثاني بقوله: نعم حتى لو ذهب إلى آخر ضيافة الأول وإلى ضيافة الثاني حنث في يمينه.
في «مجموع النوازل» إذا قال لآخر: الله لتفعلن كذا،أو قال: والله لتفعلن كذا، فقال الآخر: نعم، وأراد كل واحد منهما أن يكون حالفاً فكل واحد منهما حالف لأن قوله: نعم جواب. والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فكأنه قال: والله لأفعلن كذا فكان يميناً، وإن أراد المبتدىء أن يكون مستحلفاً، وأراد المجيب أن لا يكون عليه يمين وأن يكون قوله نعم على ميعاد من غير يمين فهو كما نوى ولا يمين على واحد منهما لأن المبتدىء والمجيب كل واحد نوى من كلامه ما يحتمله لفظه، وإن لم يكن لواحد منهما نية ففي قوله: الله، الحالف هو المجيب، وفي قوله: والله الحالف هو المبتدىء.
وفي «المنتقى» إذا قال: الله لتفعلن كذا ولا نية له أن يكون هذا حلفاً ولا استحلافاً فهو على الاستحلاف ولا شيء على واحد منهما إن لم ينو المجيب الحلف، وإن نوى القائل بذلك الحلف فهو حلف منه، وإن قال: والله لتفعلن كذا ولا نية له فهذا حلف من القابل وإن نوى استحلافاً فهو استحلاف، ولو قال: والله لتفعلن كذا وكذا غداً فقال الآخر: نعم ولا نية لواحد منهما فالحالف هو المجيب.
نوع آخر في تكرار الاسم ما يكون يميناً واحدة أو يمينين(4/659)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» إن قال الرجل: والله والرحمن لا أفعل كذا كان يمينين حتى إذا حنث بأن فعل ذلك الفعل كان عليه كفارتان في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنها يمين واحدة، والأصل في جنس هذه المسائل أن الحالف بالله تعالى إذا ذكر اسمين وبنى عليهما الحالف فإن كان الاسم الثاني صلح نعتاً للاسم الأول ولم يذكر بينهما حرف العطف كانا يميناً واحدة باتفاق الروايات كلها كما في قوله: والله الرحمن لا أفعل كذا؛ لأن الثاني لما صلح نعتاً للأول لا بد وأن يجعل نعتاً كما في قوله مررت بالزيد الصالح كان الصالح نعتاً للزيد. قلنا والنعت مع المنعوت شيء واحد، وإن كان الاسم الثاني يصلح نعتاً للاسم الأول، وذكر بينهما حرف العطف كانا يمينين في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنها يمين واحدة بيانه في قوله: والرحمن والرحيم لا أفعل كذا.
وجه هذه الرواية أن هذه الواو يجوز أن يكون واو العطف فيكون الخبر المذكور للاسم الثاني خبر الأول فيكون يمينين على هذا الاعتبار، ويَجوز (أن يكون) واو القسم لا واو العطف لأن واو القسم غير واو العطف فإن واو القسم مما يبتدأ به وحرف العطف مما لا يبتدأ به، وعلى هذا التقدير يصير تاركاً القسم بالاسم الأول مبتدئاً القسم بالاسم الثاني كأنه قال: والله وسكت، ثم قال: والرحيم لا أفعل كذا فيكون يميناً واحدة وقع الشك في ثبوت ما زاد على اليمين الواحدة فلا تثبت الزيادة بالشك.
وجه ظاهر الرواية أن هذا الواو إذا احتمل أن يكون واو العطف (و) أن يكون واو القسم حمل على واو العطف عند الإطلاق لأن الواو يحتاج إليه للعطف إذ العطف بدونه لا يصح غير محتاج إليه للقسم لأن القسم بدون الواو صحيح فكان جملة ما يحتاج إليه أولى، وإذا حملنا على واو العطف صار الخبر المذكور للاسم الثاني مذكوراً للاسم الأول، فكانا يمينين. هذا إذا كان الاسم الثاني يصلح نعتاً للأول.(4/660)
-----
فأما إذا كان الاسم الثاني لا يصلح نعتاً للأول إن ذكر بينهما حرف العطف كما في قوله: والله والله لأفعل كذا، كانا يمينين في ظاهر الرواية، وروى ابن سماعة عن محمد أنها يمين واحدة، وهكذا روي عن أبي يوسف في «المنتقى»، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية لما قلنا في قوله: والله والرحمن وإن لم يذكر بينهما حرف العطف كانت يميناً واحدة باتفاق الروايات.
هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه الجامع» بيانه في قوله: والله والله ويكون ذكر الاسم الثاني على سبيل التكرار والإعادة للأول.
وفي «المنتقى» إذا قال: والله والله والله لا أفعل كذا. قال محمد رحمه الله فذلك ثلاثة أيمان في القياس بمنزلة قوله: والله والرحمن والرحيم لا أفعل كذا، وفي الاستحسان يكون يميناً واحدة، ولو قال: والله ووالله لا أفعل كذا. القياس أن يكون يمينين، وفي الاستحسان يكون يميناً واحدة، قال: على هذا معاني كلام الناس ومعنى هذا الكلام أن الناس في عرفهم وعاداتهم يريدون بذلك يميناً واحدة إلا أنهم يكررون ذلك للتأكيد.
وفيه أيضاً إذا قال: والله (لا) أفعل كذا، الله لا أفعل كذا، فهما يمينان، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا الله لا أفعل كذا فهما يمينان. وكذلك إذا قال: هو يهودي إن فعل كذا، وهو نصراني إن فعل كذا فهو يمين واحدة.
وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله في «القدوري» في من حلف في مقعد واحد بأيمان قال: عليه بكل يمين كفارة والمجلس والمجالس في ذلك سواء. وإن عنى باليمين الثانية الأولى لم يستقم ذلك في اليمين بالله تعالى، لأن وجوب الكفارة في اليمين بالله بذكر الاسم والثاني غير الأول في الذكر، وهو ليس بإخبار عن الأول.(4/661)
-----
قال: وإن كان حلفاً بحج أو عمرة فهذا يستقيم لأن الصفة صفة إخبار فيستقيم إرادته الإخبار عن الأول وفي أيمان «الأصل» في باب من الأيمان إذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبداً ثم حلف في ذلك المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبداً إن نوى بالثانية يميناً مبتدأ أو نوى التغليظ والتشديد على نفسه أو لم ينو شيئاً كانتا يمينين حتى إذا حنث كان عليه كفارة يمينين وإن نوى بالثانية الأولى كان عليه كفارة يمين واحدة. وفي «البقالي» عن ابن سلام: إذا قال: أنا أعقد الزنار على نفسي كما يعقده النصارى، وأنا بريء مما أتى به جبريل صلوات الله وسلامه عليه إنهما يمينان والله أعلم.
(الفصل الثالث) في بيان أنواع اليمين وأحكامها
يجب أن يعلم أن اليمين بالله تعالى (363أ1) على نوعين:
1 * نوع في الإثبات.
2 * نوع في النفي.
وكل نوع من ذلك على وجهين:
إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً. فأما المطلق في الإثبات بأن قال مثلاً: والله لآكلن هذا الطعام والله لأشرب هذا الماء أو هذا الشراب ولم يقل اليوم وما أشبهه فالبر فيه إنما يكون بتحصيل الأكل أو الشرب في العمر، و(يفوت) البر بهلاك الحالف أو المحلوف عليه، حتى إن في هذه المسألة إذا هلك الطعام بأن احترق أو أكله غيره أو ما أشبه ذلك أو مات الحالف يقع الحنث وتلزمه الكفارة؛ لأن شرط الحنث قد وجد واليمين باقية لأن شرط الحنث في هذه المسألة فوات أكل أو شرب غير مقدر بالوقت لأنه لم يذكر ليمينه وقتاً. ألا ترى أنه لو هلك الطعام في ساعته يحنث في يمينه. وهاهنا بهلاك الطعام أو الماء فات الأكل والشرب واليمين قائمة لأنها لم تنحل قبل ذلك، وكذلك يهلك الحالف بفوت الأكل واليمين قائمة لأن الأكل يفوت إذا وقع اليأس عن فعله في آخر جزء في آخر حياته، واليمين قائمة فيمكن القول بالحنث وإيجاب الكفارة.(4/662)
-----
وأما إذا وقت لذلك وقتاً بأن قال مثلاً: والله لآكلن هذا الطعام اليوم، والله لأشربن هذا الشراب اليوم، فالبر فيه إنما يكون بتحصيل الأكل والشرب في اليوم، (ويفوت) البر بمضي اليوم مع بقاء الطعام والشراب، وبقاء الحالف ولا يفوت البر بموت الحالف قبل مضي اليوم حتى لا يحنث في يمينه بالاتفاق، وهل يفوت البر بهلاك الطعام والشراب قبل مضي اليوم؟ أجمعوا على أنه لا يفوت قبل مضي اليوم، حتى لا يلزمه الكفارة قبل مضي اليوم، واختلفوا فيما إذا مضى اليوم. قال أبو يوسف يفوت وتجب الكفارة، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يفوت ولا تحب الكفارة.
وعلى هذا لاختلاف إذا قال: والله لأقضين حق فلان غداً فقضاه اليوم أو أبرأه الطالب اليوم، ثم جاء الغد فمضى فالمسألة على هذا الاختلاف. وعلى هذا الخلاف إذا حلف ليقضين حق فلان يوم الجمعة، أو قال: إن لم أدفع إليك حقك يوم الجمعة فكذا فمات فلان قبل يوم الجمعة بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.(4/663)
-----
وحاصل الخلاف راجع إلى حرف أن بهلاك المحلوف عليه قبل مضي اليوم أو بهلاك الحالف قبل مضي اليوم هل تنحل اليمين؟ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تنحل لأن بهلاكها يفوت محل اليمين وهو محتمل للصدق والكذب فيحل اليمين عندهما خبر محتمل للصدق والكذب. ألا ترى أن عندهما لا ينعقد اليمين ابتداءً إذا لم يكن الخبر محتملاً للصدق حتى إن من حلف وقال: والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه لا ينعقد اليمين عندهما، وإنما قلنا بأن هلاك الحالف أو المحلوف عليه يفوت الجزاء الذي هو محتمل للصدق لأن تحقيق الصدق فيما أخبر بعد هلاكها لا يتصور، وإذا انحلت اليمين هلاك أحدهما بشرط الحنث وهو عدم الأكل وجد واليمين منحلة فلا يقع الحنث، وعند أبي يوسف بهلاكها لا تنحل اليمين لأن بهلاكها قبل مضي اليوم لا يقوم محل اليمين عنده لأن محل اليمين عنده خبر في المستقبل وكونه محتملاً للصدق. فصل في الباب. ألا ترى أن كون الخبر في المستقبل محتملاً للصدق ليس بشرط لانعقاد اليمين ابتداءً حتى إن في مسألة الكوز ينعقد اليمين عنده، فكذا كون الخبر محتملاً للصدق لا يكون شرطاً لبقاء اليمين فيوجد شرط الحنث واليمين باقية فيقع الحنث.... الكلام إلى الابتداء.
وجه قول أبي يوسف: أن القدرة على تحقيق الصدق ليست بشرط لانعقاد اليمين استدلالاً بمسألة مس السماء وتحويل الحجر ذهباً فإن من حلف فقال: والله لأمسن السماء لأحولن الحجر ذهباً فإنه ينعقد يمينه، وكذلك إذا حلف ليقتلن فلاناً وفلان ميت وهو يعلم بموته فإنه ينعقد يمينه إن كان عاجزاً عن تحقيق الصدق، وإذا لم تكن القدرة على تحقيق الصدق فيما أخبر شرطاً الانعقاد اليمين لا يكون كون الخبر محتملاً للصدق شرطاً أيضاً لأن المقصود من كون الخبر محتملاً للصدق هو تحقيق الصدق فيما أخبر، لأن البر به يقع وهو المقصود من اليمين.(4/664)
-----
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: اليمين في الأصل شرعت لإيجاب الصدق في الخبر فيكون محله بحيث يحتمل الصدق لأن محل العقد ما يتصور فيه حكم العقد كمحل البيع فإن محل البيع ما يتصور فيه حكم البيع هو عين هو قال: لأن البيع شرع لإيجاب المال. فكذا اليمين شرع لتحقيق الصدق فيما أخبر وتحقيق الصدق فيما أخبر إنما يكون في خبر يحتمل الصدق، والصدق إنما يتحقق فيما أخبر بالأكل والشرب، والأكل والشرب لا يتحقق، والمأكول والمشروب معدومان فالفعل بدون محله لا بتصور والصدق إنما يتصور بتصور الفعل.
وأما إذا حلف ليقتلن فلاناً وفلان ميت قلنا ذكر محمد رحمه الله مسألة القتل. في «الأصل» على التفصيل فقال: إذا كان الحالف يعلم بموته وقت الحلف يحنث بالإجماع.
وإذا كان لا يعلم بموته فعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا ينعقد يمينه، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ينعقد، وفي مسألة الكوز لم يفصل بينما إذا علم الحالف وقت الحلف ليس في الكوز ماء وبينما إذا لم يعلم، فمن مشايخنا من قال مسألة الكوز على التفصيل أيضاً لأن المعنى لا يوجب الفصل بينهم من فرق بينهما، وإطلاق محمد رحمه الله في مسألة الكوز يدل على التفريق، والفرق وهو أن في شأن إزالة الروح والتضييع والجرح فمتى لم يعلم الحالف بموت فلان فقد عقد يمينه على الأمرين على الجرح وانزهاق الروح القائم وقت الحلف وانزهاق الروح القائم وهو ميت مستحيل الكون فلم ينعقد يمينه، وإذا علم موته فقد عقد بيمينه على ما يتأتى فيه وهو الجرح، فإن جرحه فقد بر في يمينه وما لا فلا.
وفي مسألة الكوز ينعقد يمينه على إيجاد الشرب في الماء المشار إليه وإيجاد الشرب في ماء مشار إليه بدون الماء مستحيل الكون، وقد عقد يمينه على ما هو مستحيل الكون فلا ينعقد فلهذا افترقا.(4/665)
-----
وذكر في طلاق «المنتقى» مسألة القتل على خلاف ما ذكر في «الأصل». قال: إذا قال الرجل: عبده حر إن لم أقتل فلاناً وفلان ميت، فإن كان يعلم بموته حين حلف فهو بمنزلة يمينه على شرب الماء الذي في هذا الكوز لا ماء فيه فلا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله (363ب1) لأنه لم يحلف على شيء، فإن كان لا يعلم بموته حين حلف فهو حانث، وقال أبو يوسف: يحنث في الوجهين.
ولو قال: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبده حر، أو قال: فامرأته طالق فأريق الماء أو مات الحالف إن لم يؤقت لذلك وقتاً لزمه الحنث وطلقت المرأة وعتق العبد، وإن وقت لذلك وقتاً بأن قال: اليوم إن أُريق الماء قبل مضي اليوم لا يلزمه الحنث قبل مضي اليوم بالإجماع وهل يلزمه الحنث بعد مضي اليوم؟ على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يلزمه الحنث. وعلى قول أبي يوسف: يلزمه. وإن مات الحالف قبل مضي اليوم لا يلزمه الحنث بالإجماع، وإن لم يكن في الكوز ماء فهو على الخلاف الذي مر.
وإذا قال: لأفعلن كذا وذكر لذلك وقتاً فإن قال: شهر، أو يوم أو ما أشبه ذلك أو لم يذكر له وقتاً فله أن يفعل ذلك الفعل متى شاء ولا يلزمه الفعل من وقت اليمين وإذا قال: لا أفعل فهو من وقت اليمين.
(الفصل الرابع) في اليمين إذا جعل لها غاية
إذا جعل الحالف ليمينه غاية وفاتت الغاية بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى إذا قال لغيره: والله لا أكلمك حتى يأذن لي فلان، أو قال لغريمه: والله لا أفارقك حتى تقضي حقي فمات فلان قبل الإذن برىء من غير المال فاليمين ساقطة في قول أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف رحمهم الله، وعلى هذا إذا حلف ليوفين فلاناً ماله اليوم فأبرأه الطالب. وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.(4/666)
-----
إذا قال: إن فعلت كذا ما دمت ببخارى فكذا فخرج من بخارى ثم رجع وفعل ذلك يجب أن يعلم بأن كلمة ما زال وما دام وما كان غاية ينتهي اليمين بها، فإذا حلف لا يفعل كذا ما دام ببخارى فخرج تنتهي يمينه بالخروج، فإذا عاد عاد واليمين منتهية فإذا فعل ذلك الفعل لا يحنث.
في «القدوري» وكذلك إذا حلف لا يشرب النبيذ ما دام ببخارى فخرج وعاد وشرب لا يحنث في يمينه.
في «فتاوى الفضلى». وعلى هذا إذا حلف لا يصطاد ما دام فلان في هذه البلدة وفلان أمير هذه البلدة فخرج الأمير إلى بلدة أخرى لأمر فاصطاد الحالف قبل رجوعه أو بعد رجوعه لا يحنث في يمينه لأن اليمين انتهى بخروج الأمير.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وعلى هذا إذا حلف لا يدخل دار فلان ما دام فلان فيها فخرج فلان بأهله ثم عاد ودخل الحالف لا يحنث في يمينه لأن اليمين انتهت بخروجه.
في «العيون»: وعلى هذا إذا حلف لا يكلم فلاناً ما دام في هذه الدار فخرج بمتاعه وأثاثه ثم عاد وكلمه لا يحنث في «القدوري» والمعنى ما ذكرنا.
ثم في بعض هذه المسائل ذكر خروجه بأهله ومتاعه، وفي بعضها ذكر خروجه ولم يذكر إخراج أهله وعياله، ونص في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في مسألة أخرى أن إخراج أهله ومتاعه شرط فإنه قال: إذا قال الآخر: والله لا أكلمك ما دمت في هذه الدار فهو على ما كان ساكناً فيها ولا يسقط يمينه إلا بانتقال يبطل السكنى لأن قوله ما دمت في هذه الدار عبارة عن قوله ما سكنت فإنما ينتهي اليمين ببطلان السكنى وذلك بانتقال أهله ومتاعه وأثاثه على ما يأتي بيانه في فصل السكنى إن شاء الله تعالى.
ونص الفضلي في «فتاويه» أن نقل أهله ومتاعه ليس بشرط وخروج المحلوف عليه بنفسه يكفي لانتهاء اليمين فإنه قال في مسألة الشرب: لو خرج من بخارى بنفسه لا غير، ثم شرب لا يحنث إلا إذا عنى بقوله: ما دمت ببخارى أن تكون بخارى وطناً له.(4/667)
-----
وفي «القدوري» إذا قال: والله لا أكلم فلاناً ما دام عليه هذا الثوب أو ما كان عليه أو ما زال عليه فنزعه ثم لبسه فكلمه لا يحنث. ولو قال: لا أكلمه وعليه هذا الثوب فنزعه ثم لبسه وكلمه حنث لأن في هذه الصورة ما جعل اليمين مؤقتاً بوقت بل قيده بصفة فيبقى اليمين ما بقيت تلك الصفة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال لأبويه: إن تزوجت ما دمتما حيين فكذا، فتزوج امرأة في حياتهما وحنث، لو تزوج امرأة أخرى في حياتهما لا يلزمه الحنث، ولو قال: لكل امرأة أتزوجها ما دمتما حيين، وقال بالفارسية: «هررنى» يلزمه الحنث بكل امرأة يتزوجها ما داما حيين فإن مات أحدهما. روي عن محمد رحمه الله أنه سقط اليمين حتى لو تزوج امرأة بعد ذلك لا يلزمه حكم الحنث لأن شرط الحنث التزوج ما داما حيين ولا يتصور ذلك بعد موت أحدهما فيسقط اليمين ضرورة.
وفي «المنتقى» رواية مجهولة إذا قال لأبويه: كل امرأة أتزوجها فهي طالق حتى تموتا فمات أحدهما لا يسقط اليمين، ولو قال: كل امرأة أتزوجها ما دمتما حيين فمات أحدهما لا يسقط اليمين حتى لو تزوج امرأة بعد ذلك لا يلزمه الحنث.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال لامرأته: والله لا أكلمك ما دام أبواك حيين فكلمها بعد (ما) مات أحدهما لا يحنث لأن اليمين قد سقط بموت أحدهما وفي هذا الموضع إذا حلف لا يأكل هذا الطعام ما دام في ملك فلان، فباع فلان بعضه ثم أكل الحالف الباقي لا يحنث لأن اليمين قد انتهى ببيع البعض.(4/668)
-----
وإذا قال لغيره: إن لم أخبر فلاناً بما صنعت حتى يضربك فعبدي حر أو قال: امرأتي طالق، فأخبر فلاناً بما صنع فلم يضربه حتى مات لا يحنث في يمينه الأصل أن كلمة حتى تجيء في كلام العرب بمعنى الغاية، قال الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (البقرة: 187) وتجيء بمعنى لام السبب قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام ا} (التوبة: 6) معناه ليسمع كلام الله. وتجيء بمعنى العطف يقال: جاءني القوم حتى زيد، أي: وزيد معهم غير أنها في الأصل للغاية فيحمل على الغاية ما أمكن، وشرط إمكان حملها على الغاية أن يكون ما دخل عليه كلمة حتى قابلاً للامتداد، وأن يكون ما دخل عليه كلمة حتى مقصوداً .... في أنها المحلوف عليه، وفي تركه، فإن تعذر حملها على الغاية تحمل على لام السبب، وشرط إمكان حملها على لام السبب أن يكون العقد معقوداً على فعلين أحدهما من جهته والآخر من جهة غيره ليصلح أحدهما خبراً للآخر فإن تعذر حملها على لام السبب تحمل على العطف، ومن حكمة الغاية أن يشترط وجودها للبر، فإن أقلع عن الفعل قبل الغاية يحنث في يمينه، ومن حكم لام السبب أن يشترط وجود ما يصلح سبباً لا وجود المسبب، ومن حكم العطف أن يشترط وجودها للبر.
وإن ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: شرط البر في هذه المسألة إخبار مطلقاً إخبار ينتهي بالضرب، لأن الإخبار مما لا يمتد، ولهذا يضرب له مدة فلا يقال: أخبر به يوماً أو شهراً أو ما أشبه ذلك فلا يمكن (364أ1) حمل حتى على الغاية فيحمل على لام السبب ما أمكن ذلك لأن الإخبار يصلح سبباً للضرب لأنه بالإخبار بما صنع أعداه على الضرب فحمل عليه كأنه قال: إن لم أخبر فلاناً بما صنعت ليضربك. وهذا وقوله: إن لم أسبب لضربك ليضربك سواء، فإذا أخبر قد سبب لضربه فيبر في يمينه.(4/669)
-----
وهو نظير ما لو حلف ليهبن فلاناً ثوباً حتى يلبسه، أو دابة حتى يركبها فوهبه برّ في يمينه لبسه فلان أو لم يلبس، ركبها فلان أو لم يركب، وكذلك لو حلف ليشهدن عليه بكذا بين يدي القاضي حتى يقضي به عليه فشهد عليه، ولم يقض القاضي به بر من يمينه، ولو قال: إن لم أضربك حتى يضربني فكذا، فضربه الحالف بر من يمينه ضرب المحلوف عليه الحالف لا يصلح غاية لما ذكرنا أن غاية الشيء مما يؤثر في إنهائه، وضرب المحلوف عليه الحالف يدعوه إلى زيادة الضرب لا إلى تركه وإنهائه فلا يصلح غاية، أما يصلح خبراً فيحمل عليه.
ولو قال: إن لم أضربك حتى يدخل الليل أو حتى يشفع لك فلان أو حتى يصلح، أو حتى يشتكي فأقلع عن الضرب قبل هذه الأشياء يحنث في يمينه؛ لأن هذه الأشياء تصلح غاية للضرب؛ لأن الإنسان يمتنع عن الضرب بهذه الأمور فصار شرط النية الضرب الممتد إلى هذه الأشياء، فإذا أقلع قبل هذه الأشياء لم يوجد شرط البر يقع الحنث ضرورة.
وكذلك إذا قال لغريمه: إن لم آتك حتى تعطيني حقي فتركه قبل أن يقضيه حنث؛ لأن الملازمة مما يمتد وإنما ينتهي عند وجود القضاء عادة فحمل كلمة (حتى) على الغايه وصار شرط البر ملازمة ممتدة إلى وقت الاستيفاء.
ولو قال: عبده حر إن لم آتك اليوم حتى أتغذى عندك، أو قال: إن لم تأتني اليوم حتى تتفدى عندي، أو قال: إن لم آتك اليوم حتى أعذبك، أو قال: إن لم تأتني اليوم حتى تعذبني، أو قال: إن لم آتك اليوم حتى أجربك كان وجودها شرطاً للبر لأنه لا يمكن حمل حتى على الغاية لأن الإثبات مما لا يمتد، وإنه ظاهر، ولا على لام السبب لأنه عقد اليمين على فعلين من جهة واحدة، وفعل الإنسان لا يصلح حداً لفعله فحمل على العطف وصار تقدير يمينه إن لم آتك فأتغدى عندك، ولو نص على هذا كان وجودهما شرطاً للبر، كذا هاهنا.(4/670)
-----
وإن أطلق الكلام إطلاقاً فقال: إن لم آتك حتى أتغدى عندك فكذا فأتاه ولم يتغد عنده ثم تغدى عنده في يوم آخر من غير أن يأتيه بر في يمينه لأنه لما أطلق الكلام إطلاقاً كان شرطاً لبر وجودهما في الجملة سواء اتصل أحدهما بالآخر أو انفصل عنه لتحقق البر أولاً، فرق بين وجود شرطي البر معاً وبين وجودهما على التعاقب هذه الجملة من «الزيادات».
في «المنتقى» عن ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول في رجل قال لغريمه: والله لا أفارقك حتى تعطيني حقي اليوم، ونيته أن لا يترك لزومه حتى يعطيه حقه فمضى اليوم ولم يفارقه ولم يعطه حقه لا يحنث، فإن فارقه بعد مضي اليوم يحنث.
كذلك إذا قال: لا أفارقك حتى أقدمك إلى السلطان اليوم، أو حتى يخلصك السلطان مني فمضى اليوم ولم يفارقه ولم يقدمه إلى السلطان ولم يخلصه السلطان فهو سواء لا يحنث إلا بتركه. ولو قدم اليوم فقال: لا أفارقك اليوم حتى تعطيني حقي بمضي اليوم ولم يفارقه ولم يعطه حقه لم يحنث، وإن فارقه بعد مضي اليوم لا يحنث لأنه وقت للفراق ذلك اليوم.
في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله إذا قال: والله لا أحج حتى أعتمر. فأحرم بعمرة في حجة وقضى بينهما حتى أنهما لا يحنث في يمينه، قال لأنه اعتمر قبل الحج وإنما يكون حاجاً حين تقف.
وفيه أيضاً: إذا حلف لا يعطي فلاناً ماله حتى يقضي عليه قاض، فقضى القاضي بذلك على وكيله، فهذا قضاء عليه لو أعطاه بعد ذلك لا يحنث.(4/671)
-----
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف رحمه الله في رجل دعا جاريته إلى فراشه فأبت عليه فقال: إن لم تجيئيء الليل حتى أجامعك مرتين فأنت حرة فجاءته من ساعتها فجامعها مرة لم يزد عليها قال: تعتق. وروى عيسى بن أبان عن محمد رحمه الله إذا قال لامرأته: إن لم تجيئي الليل حتى أغشاك فأتت في تلك الليلة فلم يغشاها قال لا حنث عليه، قال: وإنما كانت اليمين على مجيئها إليه، ولم يكن على عشيانه لها، فإذا أتته فقد بر في يمينه، فإن شاء غشاها وإن شاء تركها. قال الفقيه أبو العباس رحمه الله قال أبو يوسف في مسألة الجارية إنما تعتق فيحتمل أن يكون في المسألة خلاف بينهما ويحتمل أن هناك مع ذكر الجماع ذكر عدد وليس هناك ذكر عدد.
في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل: إن خرجت من هذه الدار حتى أكلم الذي فيه فكذا، وليس فيها أحد فخرج حنث في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف لا يحنث وهذا الجواب مشكل على القرائن جميعاً.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا حلف الرجل لا يكلم فلاناً إلى قدوم الحاج فقدم واحد منهم انتهت اليمين، وكذلك لو حلف لا يكلم فلاناً إلى الحصاد فحصد واحد من أهل بلده انتهت اليمين، وعلى هذا القياس .... هذه المسائل.(4/672)
-----
إذا حلف لا يكلم فلاناً.... يتقيد هذا على وجهين، أما إن نوى حقيقة وقوع الثلج أو نوى وقت وقوع الثلج ففي الوجه الأول لا يقع الحنث ما لم يقع الثلج حقيقة على الأرض وشرطه الوقوع على الأرض وشرط الوقوع على الأرض في البلد الذي الحالف فيه لا في بلد آخر، حتى لو كان الحالف في بلدة لا يقع الثلج هناك كانت اليمين باقية، وإذا نوى وقوع الثلج حقيقة فحقيقته أن يحتاج إلى كبه ولا تعتبروا ظاهر في الهواء فقالا: يستبين على الأرض إلا على لبن حائط أو حشيش وإن نوى وقت وقوع الثلج لا يقع الحنث ما لم يدخل وقت وقوع الثلج وهو أول الشهر الذي يقال له، وإنما ذكره في مسألة أخرى، وقال: يمينه على وقت الوقوع لأنه هو المراد من اليمين عادة، وإذ حلف لا يكلم فلاناً إلى الموسم قال محمد يكلمه إذا أصبح يوم النحر، وقال أبو يوسف: يكلمه إذا زالت الشمس يوم عرفة.m
وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال الغريم للطالب: والله لأقضين دينك إلى يوم الخميس فلم يقضه حتى طلع الفجر من يوم الخميس حنث.
ولو قال: إلى خمسة أيام وباقي المسألة بحالها لا يحنث حتى تغرب الشمس من يوم الخامس لأن الغاية في الصورة الأولى يوم الخميس وقد وجد ما طلع الفجر من يوم الخميس، وفي الصورة الثانية الغاية خمسة أيام ولا توجد الأيام الخمسة إلا بغروب الشمس من يوم الخامس.
ولو حلف (لا) يكلم فلاناً عشرة أيام فدخل اليوم العاشر في اليمين. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال الرجل: إن تزوجت امرأة إلى خمس سنين فتزوج في السنة الخامسة (364ب1) تطلق لأن السنة الخامسة داخلة في اليمين على ما ذكرنا. ألا ترى أنه لو استأجر داراً إلى خمس سنين دخلت تحت الإجارة السنة الخامسة كذا هاهنا.(4/673)
-----
وفي «فتاوى الفضلي» إذا قال: إن أكلت من خبز والدي ما لم أتزوج فاطمة، وكل امرأة أتزوجها فهي طالق، فأكل ثم تزوج فاطمة طلقت لأن عند الأكل قبل التزوج يصير قائلاً: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، ولو قال هكذا وتزوج فاطمة طلقت. كذا هاهنا والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل: إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال لها الزوج: إن خرجت فأنت طالق فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق، وكذلك لو أراد رجل أن يضرب عبده فحلف رجل أن (لا) ضربه فهذا على تلك الضربة، حتى لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث وسمى هذا يمين الفور، وهذا لأن الخرجة التي قصدت والضربة التي قصدت هي المقصود بالمنع عنها عرفاً وعادة فيتعين ذلك بالعرف والعادة.
وإذا دخل على رجل فقال له: تعال تغدّ معي فقال: والله لا أتغدى فذهب إلى بيته وتغدى مع أهله لا يحنث، وكذلك إذا قال الرجل لغيره: كل مع فلان فقال لا آكل. ووجه ذلك أن يمينه عقدت على غداء معين وهو الغداء الذي دعى لأن قوله: والله لا أتغدى خرج جواباً لسؤال المخاطب وأمكن جعله جواباً لأنه لم يزد على حرف الجواب فيجعل جواباً، والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال والسؤال وقع عن غداء بعينه بدلالة قوله: تغد معي أي هذا الغداء فيجعل ذلك كالمصرح به في السؤال كأنه قال: تغد معي هذا الغداء، وإذا ثبت هذا في السؤال بدلالة الحال ثبت في جواب لأن الجواب يتضمن إعادة ما في السؤال، وليس كما لو ابتدأ اليمين لأن كلامه لم يخرج جواباً حتى يتقيد بل خرج ابتداءً وهو مطلق عن القيد فينصرف إلى كل غداء، بخلاف مالو قال: والله لا أتغدى معك لأنه زاد على حرف الجواب ومع الزيادة على حرف الجواب لا يمكن أن يجعل جواباً فجعل ابتداءً ولا قيد فيه، وإذا قال لغيره: كلم لي زيداً اليوم في كذا فقال: والله لا أكلمه فهذا التخصيص باليوم لأنه خرج جواباً عن الكلام السابق فتضمن إعادة ذلك.
(4/674)
-----
وعلى هذا إذا قال: ائتني اليوم فقال امرأته طالق إن أتاك، قال القدوري في «شرحه» إلا إذا تخلل بين السؤال والجواب ما يقطع الجواب عنه والله أعلم.
(الفصل الخامس) في الأيمان التي يقع فيها التخيير والتي لا يقع فيها التخيير
قال محمد رحمه الله في «الجامع» إذا قال الرجل: والله لا أدخل هذه الدار (أو هذه) فأي الدارين دخلها يحنث.
الأصل في جنس هذه المسائل أن كلمة (أو) إذا دخلت بين اسمين في النفي كانت بمعنى ولا، قال الله تعالى: {فلا تطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان: 24) معناه: ولا كفوراً، وكذلك إذا دخلت بين اسم وفعل في النفي كانت لمعنى ولا، قال بعض أهل التفسير: معنى الآية ولا تطع منهم آثماً ولا تطع منهم كفوراً بحكم العطف وكلمة أو من حيث الصورة والظاهر دخلت بين الاسمين وهو الآثم والكفور، ومن حيث المعنى دخلت بين الاسم وهو الآثم والفعل وهو الطاعة ومتى دخل كلمة أو بين إثباتين يكون للتخيير قال الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} (المائدة: 89) الآية ومتى دخلت بين إثبات ونفي، إن كان المذكور الثاني تصلح غاية للمذكور أولاً كانت للغاية، وإنما تعرف صلاحيته لكونه غاية للأول إذا لو صرح بكلمة حتى مكان أو يستقيم الكلام ولا يخيل بقول الرجل لغريمه لا أبرح من بابك أو تعطيني حقي، معناه: حتى تعطيني حقي، وإن كان المذكور الثاني لا يصلح للمذكور الأول غاية كانت للتخيير فكان بهذا القائل خير نفسه بين اختيار المذكور الأول وبين اختيار المذكور الثاني.
إذا عرفنا هذا جئنا إلى تخريج المسألة وهي ما إذا قال: والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه، فنقول كلمة أو دخلت بين اسم وهو الدار وبين فعل وهو الدخول في النفي فكانت لمعنى ولا، كأنه قال: لا أدخل هذه الدار ولا هذه الدار، ولو صرح بذلك إذا دخل في أحدهما يحنث في يمينه. كذا هاهنا.(4/675)
-----
ولو قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار الأخرى فأيهما دخل بر في يمينه؛ لأن كلمة أو دخلت بين إثباتين فكان للخبر فصار غايتها دخول إحدى الدارين مخيراً نفسه بين دخول هذه أو هذه فإذا دخل إحديهما فقد أتى بما التزم فقد بر في يمينه. وتسقط اليمين ضرورة ولو لم يدخل واحدة منهما حتى مضى اليوم حنث في يمينه.
ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار أبداً أو لأدخلن هذه الدار الأخرى اليوم، فإن دخل الأولى حنث في يمينه وإن لم يدخل الأولى ولم يدخل الأخرى حتى مضى اليوم حنث في يمينه، ولكن إنما يحنث في هذا الوجه في يمين الإثبات، وإنما كان هكذا لا بكلمة، أو دخلت بين نفي وإثبات، والمذكور، ثانياً لا يصلح غاية للمذكور أولاً لأن ذكر الأبد في النفي ذكر اليوم في الإثبات، واليوم لا يصلح غاية للأبد؛ لأن غاية الشيء ما ينتهي بها ذلك الشيء، والأبد لا ينتهي بشيء فجعل هاهنا للتخير فقد خير نفسه بين أن يلزم يمين النفي وبين أن يلزم يمين الإثبات، فإن شاء دخل الدار الأخرى حين يسقط يمين الإثبات وإن شاء لم يدخل الدار الأخرى اليوم حتى يسقط يمين النفي.
(4/676)
-----
ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى فدخل الأولى حنث في يمينه، وإن لم يدخل الأولى ودخل الأخرى بر في يمينه لأن كلمة أو دخلت بين نفي بين إثبات. والمذكور ثانياً يصلح غاية للمذكور أولاً؛ لأنه لم يذكر في النفي والإثبات ثانياً في الغاية، فجعلنا المذكور غاية المذكور أولاً، وجعلنا المنعقد يميناً واحدة وهي يمين النفي وغايتها دخول الدار الأخرى ألا ترى أنه لو صرح بالغاية بأن قال: والله لا أدخل هذه الدار حتى أدخل هذه الدار الأخرى كان الكلام صحيحاً مستقيماً، فإن دخل الدار الأخرى فقد وجدت الغاية فيسقط يمين النفي، وإن دخل الدار الأولى ولم يدخل الدار الأخرى فقد وجد شرط الحنث في اليمين الأولى قبل وجود الغاية وقبل انتهائها فيجب في اليمين الأولى، ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى فالمنعقد هاهنا يمين النفي وحدها وغايتها دخول إحدى الدارين (365أ1) الأخريين فإن دخل الدار الأولى حنث في يمين النفي، وإن لم يدخل الأولى ودخل إحدى الأخريين بر في يمينه وروي عن محمد رحمه الله فمن قال: عبده حر إن لم يدخل هذه الدار اليوم فإن لم يدخل اليوم دخل هذه قال هذا ليس باستثناء واليمين على حالها لأنه لم يوجد لفظ الخبر ههنا ولم تتغير الأولى فإذا لم يدخل الأولى اليوم حنث في يمينه.
وفي «القدوري» عن أبي يوسف: إذا قال لامرأته أنت طالق أو والله لأضربن هذا الخادم اليوم، فضربه في يومه فقد بر في يمينه ولم يقع الطلاق؛ لأن الثابت أحدهما فإذا وجد الضرب ينفي الطلاق وإن مضى اليوم قبل الضرب حنث فالخبر يبرأ ومع الطلاق فيلزم بعد اليمين لأن الثابت بأحدهما والإجمال كان منه وكان التعيين إليه.(4/677)
-----
ولو قال في ذلك اليوم اخترت أن أوقع الطلاق لزمه وبطلت اليمين ضرورة، ولو قال في ذلك: اخترت التزام اليمين وإبطال الطلاق، فإن الطلاق لا يبطل لأن اليمين لا يلزم الإنسان بالتزامه فلا يتعين بالاختيار، يوضحه: أن الاختيار مما يلزمه من الحكم وبعد الحنث الكفارة تلزمه وقبله لا فلا يصح تعيين اليمين قبله.
عاد إلى أول المسألة، فقال: لو مات الخادم قبل الضرب فهو يخير بين الكفارة والطلاق؛ لأن الحنث ثبت في إحدى اليمينين، ولو كان الرجل هو الميت فقد وقع الحنث أو الطلاق وقد مات قبل أن يبين فلا يقع الطلاق ولها الميراث قال: وهذا التخيير من حيث التدين، يعني: فيما إذا مات الخادم ولا يجبره القاضي على ذلك لأنه لما كان مخيراً بين الكفارة والطلاق وأحدهما لا يدخل في الحكم لم يلزمه القاضي بذلك، حتى لو كان مكان الكفارة طلاق امرأة أخرى يخيره القاضي حتى يتبين لأن الواقع طلاق لا محالة وأنه يدخل في الحكم، ولو قال: أنت طالق أو عليَّ حجة لم يخيره القاضي لأن الحج لا يدخل في الحكم ولو قال: أنت طالق ثلاثاً أو فلانة عليّ حرام يعني اليمين لم يجبره القاضي حتى تمضي أربعة أشهر فإذا مضت قبل أن يقربها أجبره القاضي على أن يوقع الطلاق أو الذي تكلم به؛ لأن قبل مضي أربعة أشهر أمكنه أن يسقط ذلك عن نفسه بأن كفر بواسطة القربان فلا كذلك بعد مضي أربعة أشهر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا قال والله لا أكلمك اليوم أو غداً حنث في الحال؛ لأنه كلمه بعد اليمين بقوله أو غداً، ولو قال: والله لأتركن كلامه اليوم فترك كلامه اليوم وكلمه غداً لا يحنث.(4/678)
-----
وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله إذا قال: إن كلمت فلاناً فهذا حر وهذه مكاتبة قال هو مخير في إيقاعه على أيهما شاء لأن هذا معرفة. ولو قال: إن كلمت فلاناً فكل عبد أملكه أو أمة حر، فكلمه قال: هو عليهما يعتق كل عبد يملكه وكل أمة يملكها لأن هذا نكرة. وكذلك قوله: إن كلمت فلاناً فكل مملوك أملكه يوم الجمعة أو يوم الخميس حر، فهو على ما يملكه في اليومين جميعاً. ولو قال: إن كلمت فلاناً فعلي حجة أو عمرة فهو مخير لأنه معرفة والله أعلم.
الفصل السادس في الرجل يحلف فينوي التخصيص
قال محمد في «الجامع الصغير»: إذا قال إن لبست فامرأتي طالق ونوى ثوباً دون ثوب لا تصح نيته في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى وهو قول الشافعي رحمه الله وبه أخذ الخصاف من أصحابنا رحمهم الله وقال: هذا إذا قال: إن شربت فنوى شراباً دون شراب، أو قال: إن أكلت ونوى طعاماً دون طعام لم تصح نيته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى في ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله إلا روايه عن أبي يوسف رحمه الله وأخذ بها الخصاف ولو قال: إن لبست ثوباً، أو قال: إن شربت شراباً، إن أكلت طعاماً، فنوى ثوباً بعينه أو شراباً بعينه أو طعاماً بعينه دُّين فيما بينه وبين الله تعالى بلا خلاف.(4/679)
-----
ووجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أنه نوى تخصيص ما ثبت فيقتضي لفظه لأنه نوى تخصيص الملبوس أو المشروب أو المأكول وهذه الأشياء مذكورة تقتضي لفظه؛ لأن ذكر الأكل والشرب واللبس ولا وجود بهذه الأفعال إلا بالمشروب والملبوس والمأكول ذكر لهذه الأشياء، فهو معنى قولنا: نوى تخصيص ما هو مذكور مقتضى لفظه والثابت اقتضاء كالثابت نصاً، ولو ثبت ذكر هذه الأشياء نصاً بأن قال: إن لبست ثوباً وكذلك في نظائره رجح نسبة التخصيص فكذا إذا ثبت ذكرها اقتضاء بهذا الطريق قلنا: إذا قال إن خرجت فعبدي حر فنوى خروجاً دون خروج تصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولظاهر رواية علمائنا رحمهم الله عبارتان.
فإن الأولى: أن النية إنما تعمل في المذكور والملفوظ لأن النية كتعيين ما يحتمله اللفظ مراد باللفظ وبعدما تبين فالحكم يثبت باللفظ فمتى لم يكن اللفظ محتملاً لما نوى لا يتعين ما نوى بلفظ لو تغير تعين نيته، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم.
إذا ثبت هذا فنقول: الملبوس والمشروب والمأكول غير مذكور لا نصاً وهذا ظاهر ولا مقتضى لفظه لأن مقتضى اللفظة ما لا صحة للملفوظ بدونه والملفوظ ههنا صحيح بدون ذكر هذه الأشياء؛ لأن اليمين إنما عقدت لمنع فعل الأكل والشرب واللبس، ولا حاجة عند منع نفسه عن هذه الأفعال إلى وجود هذه الأشياء، إنما يحتاج إلى وجود هذه الأشياء عند مباشرة هذه الأفعال، وإذا لم تصر هذه الأشياء مذكورة أصلاً لو صحت منه التخصيص صحت في غير الملفوظ ولا وجه إليه، ولئن سلمنا أن هذه الأشياء صارت مذكورة اقتضاء، ولكن إنما صارت مذكورة بطريق الضرورة من حيث إن هذه الأفعال لا بد لها من هذه المحال إلا أن الثابت بالضرورة لا يعد واقع منع الضرورة ولا ضرورة في حق التعميم لأن بهذه الأفعال مر التعميم فلم يثبت ذكر هذه الأشياء في حق التعميم فلا يصح نيه التخصيص فيما لا عموم له بأكله.
(4/680)
-----
العبارة الثانية (365ب1): أن نيته لو صحت إما أن تصح في الملفوظ وهو قوله: إن لبست أو شربت أو أكلت، أو فيما ثبت مقتضى الملفوظ وهو الملبوس والمشروب والمأكول لا وجه إلى الأول لأنه لو صحت نيته في قوله: إن لبست إما أن تصح من حيث أنه نوى بخصوص عن العموم ولا وجه إليه؛ لأن قوله إن لبست فعل والفعل لا عموم له إنما العموم للأسماء هكذا حكي عن سيبويه وهذا لأن الاسم مشتمل على أعيان كثيرة فيكون له عموم فأما الفعل إنما يقع على معنى واحد ولا يكون له عموم ولأن الفعل وجوده بالمباشرة فتتغلب بقدر المباشرة وإما أن يصح من حيث أنه أحد نوعي الفعل ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن اللبس غير متنوع لغة وإنما التنوع في محل اللبس ولا وجه أن تصح نيته فيما ثبت مقتضى الملفوظ وهو الملبوس بوجهين على ما بينا في العبارة الأولى وفيما إذا قال: إن لبست ثوباً إن شربت شراباً إن أكلت طعاماً إنما صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى لأن الثوب والطعام والشراب مذكور نصاً على سبيل النكرة في موضع الشرط الذي هو موضع النفي، والنكرة في موضع النفي تعم فإذا نوى شيئاً دون شيء فقد نوى الخصوص من اللفظ العام، وإرادة الخصوص من اللفظ العام جائر، ولكنه خلاف الظاهر فلأجل الجواز يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولمكان أنه خلاف الظاهر لا يصدقه القاضي.(4/681)
-----
ومن هذا الجنس ذكر في «الجامع الكبير» وصورتها: قال إن اغتسلت الليلة فعبدي حر، ثم قال: عنيت به الاغتسال عن جنابة لا يصدق ديانة، وعن أبي يوسف يصدق ديانة وإنما لا يصح قضاء وديانة على ظاهر الرواية؛ لأنه لو صحت نيته إما أن تصح في الملفوظ وهو قوله: إن اغتسلت ولا وجه إليه من حيث أنه نوى الخصوص عن العموم؛ لأن قوله: إن اغتسلت فعل والفعل لا عموم له ولا موجب أنه نوى أحد نوعي الفعل لأن الاغتسال غير متنوع لغة لأنه عبارة عن إهدار وإنما التنوع للأسباب التي يقع بها الاغتسال، وإما أن تصح نيته فيما ثبت مقتضى الملفوظ وهو الاغتسال ولا وجه إليه لأن الاغتسال ههنا إنما يثبت ضرورة صحة الفعل؛ لأن الفعل لا بد له من المصدر وهو الفعل ولا ضرورة في حق التعميم، لأن الفعل له بد في التعميم فكان ذكره المصدر عدماً في حق التعميم فلا يصح نية التخصيص فيه.
وفي قوله: إن اغتسلت اغتسالاً، نيته صحت في الاغتسال الذي هو مصدر والاغتسال مذكور نصاً، والمصدر قائم مقام الاسم، والاسم له عموم فتصح نية التخصيص فيه.
وإذا قال: إن خرجت، فقد ذكر هذه المسألة في «الجامع»: وجعلها على وجهين أحدهما: أن يقول: إن خرجت خروجاً، والثاني. أن يقول: إن خرجت (.....) من ذلك على وجوه: إما إن لم ينو شيئاً وفي هذا الوجه يمينه على السفر وما دونه في الوجهين جميعاً لأن الخروج ذكر مطلقاً غير مقيد بالسفر وما دونه وإن نوى السفر إلى مكان كأن نوى السفر إلى بغداد والذي لا تصح نيته لا قضاء ولا ديانة وإن نوى السفر أو ما دون السفر صدق ديانة ولا يصدق قضاء ذكر الجواب هكذا في الوجهين.
(4/682)
-----
وهذا الجواب ظاهر فيما إذا قال: إن خرجت خروجاً لأنه نوى الخصوص عن العموم فيما هو ملفوظه وهو الخروج، فإن قال: خروجاً والخروج مصدر والمصدر يقام مقام الاسم والاسم له عموم ونية الخصوص عن العموم مما هو ملفوظ به صحيحاً ديانة لا قضاء مشكل فيما إذا قال إن خرجت ولم يقل خروجاً؛ لأن الخروج إذا لم يكن مذكوراً قبله خروج دون خروج يكون نية تخصيص ما ليس ملفوظ وذلك لا يصح كما لو قال: إن اغتسلت ونوى اغتسالاً دون اغتسال حكي عن القاضي أبي القاسم رحمه الله عن القضاة الثلاثة أنهم كانوا يقولون لا تصح نيته في هذه الصورة وكانوا يقولون ما ذكر محمد من الجواب، جواب قوله إن خرجت خروجاً لا جواب قوله إن خرجت.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب جواب قوله إن خرجت أيضاً وهذا القائل يفرق بين قوله إن خرجت وبين قوله: إن اغتسلت.
والفرق: أن الخروج في نفسه متنوع لغة، خروج مديد يسمى سفراً، وخروج قصير (لا) يسمى سفراً (بل) خروجاً فتصح نيته في قوله إن خرجت من حيث أنه نوى أحد نوعي الفعل فأما الاغتسال في نفسه ليس بمتنوع على ما مر.
وفي هذا الجنس إذا قال إن اغتسلت الليلة في هذه الدار فعبدي حر وقال عنيت فلاناً لا تصح نيته لأنه نوى تخصيص الفاعل والفاعل ليس بمذكور.(4/683)
-----
ولو قال: إن اغتسل هذه الليلة في هذه الدار أحد وقال عنيت فلاناً صحت نيته فيما بينه وبين الله لأن الفاعل مذكور وأنه عام فقد نوى تخصيص العام المذكور فتصح نيته وفي «الأصل» إذا حلف لا يسكن داراً لفلان وهو يعني بأجْر ولم يكن قبل ذلك كلام فسكنها بغير أجر فإنه يحنث ولا تصح نيته لأنه نوى تخصيص السكنى والسكنى الذي هو اسم غير مذكور وإنما المذكور هو الفعل وهو قوله: لا يسكن، فلا تصح نية التخصيص في الاسم، كما لو حلف لا يأكل ثم قال: عنيت طعاماً دون طعام، فإنه لا تصح نيته؛ لأن الطعام غير مذكور إنما المذكور هو فعل الأكل، فرق بين هذا وبين ما إذا حلف لا يسكن داراً يشتريها فلان ثم قال: عنيت داراً يشتريها لنفسه فإنه يكون مصدقاً وقد نوى تخصيص الشراء والشراء ليس في لفظه؛ لأنه ذكر فعل الشراء ولم يذكر الاسم وهذا قال: لا تصح نية التخصيص في السكنى؛ لأن السكنى غير ملفوظ، إنما الملفوظ هو الفعل.(4/684)
-----
ووجه الفرق بينهما أن نية الشراء ما صحت من حيث إنه نوى التخصيص وإنما صحت من حيث إنه نوى أحد نوعي الشراء فإن الشراء نوعان: ما يوجب الملك له، وما يوجب الملك لغيره، وهما يختلفان حكماً، ولا بد أن يكونا نوعين وبيان النوع جائز، وإن لم يذكر اسم ذلك النوع وإنما ذكر الفعل لا غير كما لو حلف لا يخرج ولم يقل خروجاً ثم قال: عنيت الخروج إلى السفر أو إلى ما دون السفر فإنه يصح وإن لم يذكر اسم هذا الفعل وإنما ذكر الفعل غير لأنه بيان نوع لابيان تخصيص بخلاف السكنى؛ لأن السكنى كله جنس واحد لأن حكم الكل واحدة وهو كينونته في الدار إنما تختلف الصفة لا غير يكون بأجر وبغير أجر، وباختلاف الصفة لا يصير البيت نوعاً آخر وجنساً آخر كالتركي مع الهندي فيكون الجنس واحداً فيكون هذا نية التخصيص ونية التخصيص لا تصح إن لم يكن الاسم ملفوظاً فإن قيل (366أ1) لو صحت نية الشراء لنفسه من حيث إنه بيان نوع لا بيان تخصيص كان يجب أن يصدق في القضاء كما في الخروج.
وفي قوله أنت بائن قلنا: نية الشراء لنفسه بيان نوع من وجه وتخصيص عام من وجه في حق الحقوق تخصيص عام؛ لأن الشراء لنفسه ولغيره في حق الحقوق على السواء فيكون من هذا الوجه شيئاً واحداً له عموم، فإذا نوى أحدهما كان تخصيصاً ولكن في حق الملك بيان نوع لأنهما مختلفان في حق الملك توفيراً على الشبهين حظهما فقلنا من حيث إنه بيان نوع يصح هذا البيان فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يكن الاسم ملفوظاً، ومن حيث إنه تخصيص لم يصح في القضاء توفيراً على الشبهين حظهما بخلاف الخروج؛ لأنه بيان نوع من كل وجه وإن كان قبل هذا كلام يدل عليه بأن استأجرها منه أو استعارها فأبى فحلف وهو ينوي السكنى بالإجارة فسكن بالعارية أو كان على العكس لا يحنث.(4/685)
-----
وعن أبي يوسف فيمن قال لرجل قائم: والله لا أكلم هذا الرجل، ينوي ما دام قائماً ولم يتكلم بالقيام، كانت نيته باطلة؛ لأنه ليس في لفظه ولو حلف لا يكلم هذا القائم يعني ما دام قائماً دين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه خص ما في لفظه.
وكذلك لو قال: والله لأضربن فلاناً (.....)وهو ينوي سوطاً بعينه لم تصح نيته ولو قال إن تزوجت فعبدي حر وقال: عنيت به فلانة أو امرأة من أهل الكوفة لا تصح نيته؛ لأن المرأة غير مذكورة. ولو قال: إن تزوجت امرأة وقال: عنيت فلانة صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن المرأة مذكورة، وقد ذكرت في موضع الشرط الذي هو موضوع النفي فكانت عامة فقد نوى تخصيص المذكور العام فتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى.
وروي عن محمد رحمه الله فيمن حلف لا يتزوج امرأة ونوى فيه أمراة مصرية لم تصح نيته وإن نوى عربية أو حبشية صحت نيته فجوز تخصيص الجنس ولم يجوز تخصيص الوصف وأجرى العربية والحبشية مجرى الجنس.
ولو قال: والله لا أتزوج امرأة على وجه الأرض ينوي امرأة بعينها جرى فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال لا اشتري جارية وعنى مولدة أو عنى ومغنية أو حلف لا يشتري عبداً وعنى آبقاً فنيته باطلة لأنها تخصيص وصف لا تخصيص جنس والله أعلم.(4/686)
-----
وفي أيمان «فتاوى أهل سمرقند»: إذا قال لامرأته إن أعطيت من حنطتي أحداً فأنت طالق وعنى بها أمها صحت نيته ديانة لا قضاء. ولو قال بالفارسية: كركسي وادهي وعنى أمها خاصة لا تصح نيته أصلاً لأن إرادة الخاص من العام بالعربية لا بالفارسية. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته: اكركس دا أراد من بدمي فنوى أمها خاصة صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال: اكرهيح كر أدمتي لا تصح نيته لأن في الوجه الأول ذكر الركس وأنه لفظة خاصة يتناول كل واحد بإطلاقه فإذا نوى الأم فقد نوى الخاص من لفظة الخاص فتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى، وفي الوجه الثاني ذكر هنج وأنه لفظة عام فإذا نوى الأم فقد نوى الخاص من العام ونية الخاص من العام بالفارسية غير صحيحة.
(4/687)
الفصل الثامن في الأيمان ما يقع على البعض وما يقع على الجماعة
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا حلف الرجل فقال: طالق أو قال: عبده حر إن تزوج النساء واشترى العبد فتزوج امرأة واحدة واشترى عبداً واحداً حنث في يمينه. وكذلك إذا قال: إن كلم الرجال وكلم رجلاً واحداً حنث في يمينه. الأصل في جنس هذه المسائل أن الحكم إذا علق بجمع يتعرف بالألف واللام كما قلنا: العبد والرجال والنساء يتعلق وقوعه بأدنى ما ينطلق عليه ذلك الاسم عند عامة المشايخ إذا لم يكن ثمة معهود؛ لأنه مع الألف واللام يصير للجنس ولا يبقى للجموع، والحكم المتعلق باسم الجنس يتعين وقوعه بأدنى ما ينطلق عليه ذلك الاسم عند عامة المشايخ رحمهم الله إذا لم يكن ثمة معهود وهذا لأن الألف واللام إنما يدخلان في الكلام للتعريف (.......) للجمع حقيقة ولم يصر للجنس يبطل معنى التعريف من كل وجه إذ ليس للجمع معهود تعرفة ولو صار للجنس ولم يبق للجمع لا يبطل معنى الجمعية من كل وجه، فإن كان من حكم الجنس أن ينصرف إلى الأدنى وهو الواحد عند عامة المشايخ رحمهم الله.(4/688)
-----
ومن حكم الجمع أن ينصرف إلى الثلاثة على ما يأتي بيانه لأن الواحد من الثلاثة بعضه فكان حمله على (.....) وليس فيه إبطال معنى الجمعية من كل وجه أولى من حمله على الجمع وفيه إبطال معنى التعريف من كل وجه.
وإذا ثبت أن الجمع المعرف بالألف واللام للجنس فنقول: اسم الجنس اسم ينصرف إلى المعهود إذا كان ثمة معهود؛ لأن الصرف إلى المعهود أبلغ في تحصيل ما وضع له الألف واللام، وهو التعريف فإن لم يكن به معهود ينصرف إلى كل الجنس فينصرف إليه إلا إذا تغلب فحينئذ ينصرف إلى الأدنى وعند عامة المشايخ رحمهم الله صرف إلى أدنى ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن اسم الجنس كما هو حقيقة الكل فهو حقيقة للأدنى.
ألا ترى لو عدم ما وراء الأدنى من ذلك الجنس كان الأدنى كل الجنس. ألا ترى أن آدم صلوات الله عليه حين لم يكن إلا هو كل الجنس وإنما صار بعضاً بمزاحمة أمثاله لامن حيث الحقيقة، فعلم أن الاسم حقيقة لها فلأن اسم الجنس اسم فرد فإنه اسم معنى يقوم بالذات به من بين سائر الأجناس، كاسم الرجل، فإن اسم الرجل معنى قام بالذات باعتبار يقع التبيين بينه وبين سائر الأجناس وذلك المعنى واحد وأنه موجود في الواحد وفي الكل فكان اسم الجنس حقيقة للواحد وللكل باعتبار المعنى غير أنه عند الإطلاق ينصرف إلى الأدنى وهو الواحد: أما على العبارة الأولى: فلأنه مثنى، وأما على العبارة الثانية: فلأن الواحد فرد من حيث الذات والمعنى، ولكل فرد من حيث المعنى لا من حيث الذات وهذا الاسم اسم فرد فكان للفرد ذاتاً ومعنى أحق به هذا هو الكلام جمع المعرف بالألف واللام وإنما للنكرة نحو قولنا: عبيد ورجال ونساء فالحكم المعلق به يتعلق وقوعه بأدنى الجمع الصحيح هو الثلاث دون المثنى، لأن الثلاث هو الجمع الصحيح؛ لأن الجمع الصحيح ما يوجد فيه الوحدان والتثنية وأقل ذلك الثلاث.
(4/689)
-----
إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى تخريج قوله عبده حر إن تزوج النساء فتزوج امرأة واحدة حنث في يمينه بلا خلاف، لأن النساء جمع معرف بالألف واللام فيصير جنساً ولا معهود ههنا حتى يصرف إليه، فينصرف إلى أدنى ما ينطلق عليه هذا الاسم وهي الواحدة عند عامة المشايخ رحمهم الله، وإنه ظاهر وكذلك على قول الباقين؛ لأنهم يقولون بصرفه إلى الأدنى عند تعذر صرفه إلى الكل، وههنا تعذر؛ لأن الإنسان إنما يمنع نفسه منعاً مؤكداً باليمين عما في وسعه مباشرته لا عما ليس في وسعه مباشرته وليس في وسعه تزوج نساء العالم بأجمعهن، ولا مكالمة رجال العالم فانصرف إلى واحد لكونه في وسعه وصار تقدير يمينه كأنه قال: لا أتزوج بواحدة من النساء، لا أكلم واحداً من الرجال.
وكذلك إذا حلف لا يكلم بني آدم فكلم واحداً منهم يحنث في يمينه لأن الإضافة للتعريف (366ب1) كحرف اللام وكل جواب عرفته في حرف اللام فهو الجواب ههنا وفتوى في هذا إن ذكر الأبد أو لم يذكر الأبد لأن الأبد يذكر لتأكيد ما دخل تحت اليمين ههنا الواحدة فكأنه قال: إن تزوجت امرأة وهنا ذكر الأبد ولا ذكر سواء.
ولو قال: عبده حر إن تزوج نساء إن اشترى عبيداً إن كلم رجالاً لا يحنث في يمينه ما لم يفعل بأشياء ثلاثة من بينها لأن هذا جمع منكر فينصرف إلى نيته لما مر.(4/690)
-----
وإن قال: عنيت جميع نساء العالم وجميع الرجال وجميع العبيد في المسألة الأولى فتزوج امرأة واحدة وكلم رجلاً واحداً أو اشترى عبداً واحداً لا يحنث في يمينه فقد صحت هذه النية وصدقه فيها أو لم يذكر أنه مصدق في القضاء أو فيما بينه وبين ربه أو فيما وذكر محمد رحمه الله هذا النوع من المسائل في «الجامع» وفي «الأصل» وذكر في بعضها أنه يصدق من غير تفصيل، فإنه ذكر فيمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان لا يلبس غزل فلان، وعنى به حقيقة وضع القدم ولبس من الغزل وذكر أنه يصدق ولم يقيد، وذكر محمد رحمه الله في بعضها أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء، فإنه ذكر فيمن حلف لا يأكل طعاماً أو شراباً دون شراب، وذكر أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء، وذكر في بعضها أنه يدين فيما بينه وبين الله وفي القضاء، فإنه ذكر فيمن قال: عبدي حر يوم أدخل دار فلان، عبدي حر يوم يقدم فلان، وقال: عنيت بياض النهار يدين فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء وقال في تعليل هذه المسألة: لأنه نوى مفيد كلامه ففي هذا التعليل أنه يصدق في القضاء في مسألتنا أيضاً؛ لأنه نوى حقيقة كلامه.
وإطلاق محمد رحمه الله الجواب في الكتاب يدل عليه وكان الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله يقول في هذه المسألة: إن القاضي لا يصدقه وإن نوى حقيقة كلامه إلا أن هذه حقيقة لا تثبت إلا بالنية، والقاضي لا يقف على نيته، فإذا كان فيما نوى تحقيقاً عليه فالقاضي لا يصدقه.
ألا ترى أن من قال لامرأته: أنت طالق، وقال: عنيت به الطلاق من الوثاق لا يصدقه القاضي وإن نوى حقيقة كلامه؛ لأن هذه حقيقة لا تثبت إلا بالنية وفيه تحقيق.(4/691)
-----
وجه ما ذكر محمد رحمه الله: أن المنوي إذا كان حقيقة كلامه لو صدقه القاضي في نيته كان عاملاً بظاهر لفظه لأن ما نوى يدل عليه لفظه حقيقة والقاضي يقف على ظاهر لفظه بخلاف مسألة الطلاق لأن ثمة نوى المجاز من كلامه؛ لأن الحقيقة في إزالة قيد الوثاق أطلقه إطلاقاً أنا في إزالة قيد النكاح طلق يطلق تطليقاً وطلاقاً، فإذا قال: عنيت الطلاق عن قيد الوثاق، فكأنه عنى يطلق أطلق وأنه مجاز، وفي نية المجاز القاضي لا يصدقه إذا كان فيه تحقيقاً لأن المجاز إنما يثبت بالنية والإرادة، والقاضي لا يقف على إرادته إلا بخبره فإذا كان فيه تحقيقاً كان متهماً في خبره فلا يصدقه القاضي هذا المعنى في بيان فيما إذا نوى حقيقة كلامه فإن قال عنيت ما زاد على الثلاث في المسألة الثانية هل يصدق قضاء؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه الفصل وعلى قياس ما ذكر في المسألة الأولى وينبغي أن يصدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن اسم الجمع لما زاد على الثلاث حقيقة. وعلى قول أبي القاسم الصفار ينبغي أن لا يصدق لأن هذه حقيقة لا تثبت إلا بالنية، وإن قال: عنيت الواحدة في المسألة الثانية ينبغي أن يصدقه القاضي في نيته لأن هذا اسم جمع وليس باسم عدد، فإذا نوى الواحدة فقد نوى الخصوص من اسم العام وأنه جائز لغة وشرعاً أكثر ما فيه أنه مجاز إلا أن دعوى المجاز صحيحة قضاء إذا كان فيه تغليطاً وههنا فيما نوى تغليط فجاز أن يصدقه القاضي.
وإذا قال الرجل: لعبيده أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر فحملوها جميعاً ينظر إن كانت الخشبة حقيقة يقدر الواحد على حملها لا يعتقون حتى يحملها واحد بعد واحد وإن كانت الخشبة ثقيلة لا يقدر الواحد على حملها وأما يقدر عليها اثنان أو ثلاثة عتقوا هكذا ذكر المسألة في «الجامع».(4/692)
-----
والوجه في ذلك: أن الخشبة اسم بجميعها وقد أضاف حملها إلى كل واحد؛ لأن كلمة أي وإن كانت تتناول واحداً منكراً من جملة ما أضيف إليها هذه الكلمة، إلا أنه وصف ذلك المنكر بصفة عامة وهي الحمل أضيف إلى جميع العبيد الذي أضيف إليهم كلمة أي فأوجبت عموم العبيد سواء كانت الخشبة حقيقة صار المنكر موصوفاً بحمل جميع الخشبة أو بحمل بعضها، فنقول: إذا كانت الخشبة حقيقة لأن العمل حقيقة اسم الخشبة ممكن بأن يجعل شرط العتق في حق كل واحد حمل جميع الخشبة أو يتأتى ذلك من كل واحد وإذا اختار حمل جميع الخشبة شرطاً في حق كل واحد فإذا حملوها حملة لم يوجد الشرط بكماله في حق كل واحد فلا يعتقون.
وهو نظير ما إذا قال لعبيده: أيكم أكل هذا الرغيف فهو حر فأكله اثنان أو أكثر من ذلك لا يعتق واحد منهم سواء كان يقدر الواحد على أكله بدفعة واحدة أو بدفعتين أو بدفعات؛ لأن أكل الرغيف من كل واحد متصور إما بدفعة واحدة أو بدفعات وصار الداخل تحت كلمة أي موصوفاً بأكل جميع الرغيف فإذا أكله اثنان أو ثلاثة لم يوجد من كل واحد أكل جميع الرغيف لا يحنث ذكر مسألة الرغيف في «الجامع» على هذا الوجه.(4/693)
-----
وذكر في «الأصل» إذا قال لنسائه: أيتكن أكلت من هذا الطعام شيئاً فهي طالق، فأكلن جميعاً طلقن ولو قال: أيتكن أكلت هذا الطعام ولم يقل من الطعام هذا فأكلن ينظر إن كان الطعام كثيراً بحيث لا يقدر الواحد على أكله طلقن، وإن كان الطعام قليلاً بحيث يقدر على أكله الواحد لا يقع الطلاق عليهن إذا أكلن فأما إذا كانت الخشبة ثقيلة لا يقدر الواحد على حملها، فالنكرة صارت موصوفة بحمل بعض الخشبة؛ لأن العمل بحقيقة اسم الخشبة متعذر؛ لأن حمل جميع الخشبة في هذه الصورة لا يتأتى من الواحد فيعمل بمجازه ويجعل شرط الحنث في حق كل واحد منهم حمل بعض الخشبة؛ لأنه ذكر الكل، وإرادة البعض بطريق المجاز جائز وصار البعض كالمصرح به كأنه قال: أيكم حمل بعض هذه الخشبة فهو حر فإذا حملوها وقد وجد من كل واحد حمل (367أ1) البعض فعتقوا.
وهو نظير ما لو قال لعبيده: أيكم يشرب ماء هذا البحر فهو حر فشرب كل واحد منهم قطرة عتقوا؛ لأن شرب جميع ماء البحر من كل واحد غير متصور العمل بحقيقة هذا الكلام فيعمل بمجازه.(4/694)
-----
ثم إن محمداً رحمه الله يقول في «الكتاب»: إذا كانت الخشبة ثقيلة يقدر على حملها اثنان فحملوها جملة عتقوا؛ لأن الشرط في هذه الصورة حمل بعض الخشبة والبعض من حيث إنه بعض لا يفصل فيه بين قدر وقدر ونقول أيضاً: إذا كانت الخشبة خفيفة يقدر الواحد على حملها إذا حملها واحد عتق وإذا حملها واحد بعد واحد عتقوا، وفيه نوع إشكال؛ لأن هذا اللفظ إن (كان خاصاً) ينبغي أنه إذا حمل الواحد وحكم بعتقه لو حملها آخر بعد ذلك أنه لا يعتق، وإن كان عاماً ينبغي أن لا يعتق واحد منهم ما لم يحملوها جميعاً واحد بعد واحد كما لو قال: إن حملهم هذه الخشبة فأنتم أحرار والجواب: هذا اللفظ خاص بصورته عام معنى فإذا حمل الواحد عتق عملاً بخصوص اللفظ صورة وإذا حمل واحد بعد واحد عتقوا عملاً بالعموم بخلاف قوله إن حملتم هذه الخشبة لأنه عام لفظاً ومعنى فما لم يحملوها لم يعتقوا أما ههنا بخلافه.
ولو قال: إن تغديت برغيفين فعبدي حر فتغدى اليوم برغيف والغد برغيف القياس: أن يحنث عملاً بإطلاق اللفظة كما في المعنيين بأن قال: إن تغديت بهذين الرغيفين وهناك: إن تغدى اليوم بإحدى الرغيفين والغد بالرغيف الآخر يحنث في يمينه وفي الاستحسان لا يحنث في يمينه بمكان العرف فإن الإنسان يستحي من بعد أن يقول ما تغديت برغيفين في عمري وإن تغدى بأرغفة كثيرة في أيام متفرقة ولا يعد كاذباً ومثل هذا الفرق لم يوجد في المعنيين فيعمل فيه بإطلاق اللفظ، فإن نوى التفرق في هذا كان كما نوى؛ لأنه نوى حقيقة كلامه وفيه تغليظ عليه.
ولو قال: إن أكلت رغيفين أو قال: إن أكلت هذين الرغيفين فعبدي حر فأكلهما معاً أو متفرقاً حنث في يمينه قياساً أو استحساناً، فعلى جواب الاستحسان يحتاج إلى الفرق بين التغدي والأكل في غير المعنيين.(4/695)
-----
والفرق: أن التقيد بالاجتماع في غير المعنيين في فصل بالعرف ولم يوجد مثل ذلك العرف في المعنيين في فعل الأكل بل العرف في فعل والأكل بخلافه فإن الإنسان لا يستحي من نفسه أن يقول ما أكلت رغيفين منذ خلقت إذا أكلهما متفرقاً يعمل بإطلاق اللفظ.
وفي «الزيادات» إذا حلف الرجل لا يشتري ذهباً ولا فضة فاشترى دراهم بدنانير ودنانير بدراهم لا يحنث في يمينه وعن أبي يوسف أنه يحنث؛ لأنه ذهب وفضة حقيقة ولهذا المعنى يجري فيه الفضل وربا النساء وجه ظاهر الرواية: أنه منع نفسه عن شراء الذهب والفضة وهو لا يوجد إلا ببيع الذهب والفضة، وبائع الدراهم والدنانير لا يسمى بائع الذهب والفضة في العرف، وإنما يسمى صرفياً ولهذا يباع في سوق الصيارفة فمشتريها يكون كذلك فقد جعل عدم الحنث في «الزيادات» جواب ظاهر الرواية.
وفي «القدوري» ذكر أن عدم الحنث قول محمد رحمه الله والحنث قول أبي يوسف رحمه الله، قال: وهو نظير ما لو حلف أن لا يشتري طعاماً فإنه ينصرف إلى الحنطة ودقيقها؛ لأن بائعها يسمى بائع الطعام فمشتريها يكون كذلك، وصار الأصل عند محمد رحمه الله أن الشراء يعتبر بالبيع لأنه يتم به ويبنى عليه، لأنه قبول البيع ولا يتصور قبول البائع إلا بالبيع فيعتبر بالبيع لهذا فكل من يسمى بائعه بائعاً لذلك الشيء فمشتريه يسمى مشترياً لذلك الشيء.
وكذلك لو اشترى داراً وفي سقوفها ذهب وفضة فإنه لا يحنث في يمينه، لأن بائعه لا يسمى بائع الذهب والفضة وإنما يسمى بائع الدار فمشتريه أيضاً كذلك.
يوضحه: أن الذهب أو الفضة التي في سقف الدار تبع للدار والبيع لا يضاف إلى التبع فلا يكون هذا بيع الذهب والفضة وإنما يكون بيع الدار فكذا الشراء ولو اشترى نقرة فضة أو سبيكة ذهب أو (.....) مصنوعاً أو طوقاً مصنوعاً أو تبراً فإنه يحنث في يمينه؛ لأن بائع هذه الأشياء يسمى بائع الذهب والفضة فمشتريها أيضاً يكون كذلك.
(4/696)
-----
ولو حلف أن لا يشتري حديداً ولا نية له فاشترى درعاً أو سيفاً أو سكيناً أو رمحاً فإنه لا يحنث في يمينه؛ لأن بائع هذه الأشياء لا يسمى حداداً وإنما يسمى بائع السلاح ولهذا يباع في سوق السلاح فمشتريه يكون كذلك وهذا قول محمد رحمه الله.
وعند أبي يوسف رحمه الله يحنث لأنه يعتبر الحقيقة والأشياء حديد حقيقة وذكر في «الأمالي» أنه لو اشترى درعاً أو نصل سيف أو سكين يحنث؛ وهذا محمول على قول أبي يوسف أو على اختلاف العرف باختلاف البلدان عند محمد رحمه الله.
ولو اشترى حديداً غير مضروب أو إناء من الحديد أو كانوناً أو أقفالاً فإنه يحنث في يمينه؛ لأن بائع هذه الأشياء يسمى حداداً فمشتريه أيضاً كذلك قال مشايخنا رحمهم الله: يجب أن لا يحنث في الأقفال في بلادنا؛ لأن بائع الأقفال لا يسمى بائع الحديد، وبهذا لا يباع في سوق للحدادين فلا يحنث في يمينه إلا إذا نوى ذلك كله؛ لأنه نوى حقيقة ما تكلم به وفيه تغليظة عليه فيحنث في يمينه والشيخ الإمام الأجل السرخسي حجج ما ذكر في «الكتاب» والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله حجج قول أولئك المشايخ.
ولو حلف لا يشتري صفراً أو (....) أو نحاساً واشترى آنية من أواني الصفر أو النحاس أو أشبه فإنه يحنث في يمينه وهذا بلا خلاف أما عند أبي يوسف فلأنه يعتبر الحقيقة وأما عند محمد رحمه الله؛ لأن بائع هذه الأشياء يسمى صفاراً فمشتريها أيضاً يسمى صفاراً.
وإن اشترى فلوساً لا يحنث في يمينه وإن كانت هي صفراً حقيقة أو نحاساً أو (....) لأن بائعها لا يسمى صفاراً فكذا مشتريها أيضاً إلا إذا نوى ذلك فحينئذ يحنث في يمينه لأنه نوى حقيقة ما تكلم به وفيه تغليظ عليه وهذا قول محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف يحنث بشراء الفلوس فكذلك إذا كسرت الفلوس ثم أشتراها يحنث في يمينه؛ لأن بائعها الآن يسمى بائع الصفر فمشتريها يكون كذلك.(4/697)
-----
ولو حلف لا يشتري خزاً ولا نية له فاشترى جلوداً من جلود الخز عليه خز يحنث في يمينه واعلم بأن الخز اسم لدابة في البحر على ظهرها خز فإذا اشترى جلد خز عليها خز أو اشترى ثوباً من خز فإنه يحنث في يمينه وإن لم يكن ذلك خزاً خالصاً لأن بائع هذه الأشياء يسمى خزازاً فمشتريها يكون كذلك أيضاً ولو حلف (367ب1) لا يشتري قطناً وكتاناً فاشترى ثوباً من قطن أو من كتان لا يحنث في يمينه لأن بائعهما لا يسمى بائع الكتان والقطن في عرفهم وإنما يسمى كتانياً فمشتريها يكون كذلك أيضاً ولو اشترى غير المعمول من الكتان يحنث في يمينه لأن بائعه يسمى بائع الكتان فمشتريه يكون كذلك أيضاً.
ولو حلف لا يشتري طيناً فاشترى لبناً، أو داراً مبنية بطين فإنه لا يحنث في يمينه، لأن بائعه لا يسمى بائع الطين وإنما يسمى بائع اللبن والدار، فمشتريه كذلك أيضاً ولو حلف لا يشتري لبناً فاشترى شاة في ضرعها لبن، أو حلف لا يشتري صوفاً فاشترى شاة على ظهرها صوف لا يحنث في يمينه؛ لأن بائعها لا يسمى حلاباً ولا يسمى بائع اللبن والصوف وكيف سمي بهذا الاسم وأنه لو باع الصوف على ظهر الشاة أو باع اللبن في ضرع الشاة فإنه لا يجوز العقد فمشتريه كذلك أيضاً.
وكذلك لو اشترى شاة على ظهرها صوف بصوف منفصل أكثر مما على ظهر الشاة لا يحنث في يمينه، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يحنث في يمينه؛ لأن الصوف ههنا صار مقصوداً بالبيع ولهذا شرط الاعتبار ههنا وهو: أن يكون الصوف المنفصل أكثر من الصوف الذي على ظهر الشاة لجواز هذا البيع.
وجه ظاهر الرواية: أن الصوف ههنا غيره مقصود بالبيع وبهذا وباع الصوف على ظهر الشاة فإنه لا يجوز إلا أنه إنما يشترط الاعتبار باعتبار صورة المعاملة فإن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب الربا، وهذا المعنى معدوم في باب الحنث فلا يحنث في يمينه.(4/698)
-----
ولو حلف لا يشتري رطباً فاشترى كناسة يبس فيها شيء من الرطب فإنه لا يحنث في يمينه لأن بائعها لا يسمى بائع الرطب وإنما يسمى بائع يبس فمشتريها أيضاً كذلك لا يسمى مشتري الرطب.
ونظير هذا ما إذا حلف لا يشتري شعيراً فاشترى حنطة فيها حبات شعير لا يحنث في يمينه لما ذكرنا ولو كان عقد اليمين على الأكل يحنث في يمينه لأن الأكل يتناول كل واحد منهم مقصوداً فيصير متناولاً للرطب كما يصير متناولاً لليبس مقصوداً، أما البيع فإنه يتناول الجملة وباعتبار النظر إلى الجملة لا يسمى بائعها بائع الرطب فمشتريها يكون كذلك أيضاً.
ولو حلف لا يشتري قصباً فاشترى بواري من قصب لا يحنث في يمينه لأن بائعه لا يسمى بائع القصب وإنما يسمى حصيرياً فمشتريه كذلك أيضاً، ولو حلف لا يشتري شعراً فاشترى نسجاً أو جوالق من شعر لا يحنث في يمينه لأن بائعه يسمى جوالقياً ولا يسمى بائع الشعر فكذا مشتريه أيضاً، ولو كان عقد يمينه على المس حنث في ذلك لأن المس يتم به وحده وقد وجد مس ما يتناوله الاسم حقيقة لأن فيما يتم به وبغيره وهو البيع والشراء تركت هذه الحقيقة لوجود العرف بخلافه أما فيما يتم به وحده وهو المس لم يوجد العرف فيحب العمل بالحقيقة فيحنث في الفصول كلها إلا في القطن والكتان فإنه لو مس المعمول فإنه لا يحنث في يمينه لأنه بالصيغة التي خلت مما صار به شيئاً آخر وبهذا لا يتصور عودهما إلى الحالة الأولى بالنقض، أما ما عداهما من هذه الأشياء يتصور عودهما كل واحد منهم إلى الحالة الأولى بالنقض فيحنث في يمينه ولأن المسمى يتناول جزءاً واحداً وذلك الجزء يسمى اسم الذي عقد يمينه عليه، أما البيع والشراء يتناول الجملة والجملة غير مسمى باسم الذي عقد يمينه عليه ولهذا لا يحنث في يمينه والله أعلم
d
في الشروط التي تحمل على معناها دون اللفظ التي يعتبر فيها اللفظ(4/699)
-----
امرأة إذا حملت إلى بيت زوجها وقراً من حطب أو حساء اللحم فقال الزوج، الزمن إراقة ده نواد أنه تخوزم فأنت طالق ثلاثاً فأكل شيئاً من ذلك اللحم تطلق المرأة وإن لم يأكل دانه أزاورده ولم يتقيد اليمين باللفظ واعتبر الغرض.
والأصل في جنس هذه المسائل: اعتبار اللفظ ما أمكن وعند اعتبار اللفظ يعتبر الغرض والمقصود الدليل عليه.
ذكر في «فتاوى الفضلي» رحمه الله إذا قال لامرأته: أكركس أدنى خانة سدي أدين ديدان يرسي برون تردير إطلاق فاخرج من ذلك شيئا غير ما سمى لا تطلق المرأة، وكذلك إذا قال لامرأته: أكرترايبكي تي خيري خرم بر إطلاق فاشترى لها شيئاً بالدراهم لا يحنث، واعتبر اللفظ ممكن بينهما فإن الشراء بعلة واحد ممكن وكذلك واخراج ريدان أرين ممكن وكذلك ذكر في باب الخروج من أيمان «الأصل» إذا حلف لا تخرج امرأته من باب هذا الدار فخرجت من غير الباب لا يحنث وكذلك إذا حلف على باب بعينه فخرجت من باب آخر لا يحنث، وغرض الحالف المنع عن الخروج وعن الدار وذلك لا يتفاوت واعتبر اللفظ لأن اعتبار اللفظ ممكن وفيما إذا قال أكرد أنه أرااورده بو تخوزم إنما اعتبر الغرض ولم يعتبر اللفظ؛ لأن اعتبار اللفظ غير ممكن لأن اللحم لا يكون له دانة فاعتبر الغرض والمقصود وغرضه المبالغة في امتناعه عن تناول ما أوردته وحملته قليلاً كان أو كثيراً.(4/700)
-----
وإذا قال: كفلت أحداً بدرهم عدلي أو قال بنصف درهم عدلي فكذا يكفل رجلاً بعشرة دراهم عن طريقته لا يحنث ولم يعتبر الغرض لأن اعتبار اللفظ ممكن وفيما صار اللفظ مجازاً عن غيره لا يعتبر اللفظ. بحقيقته وينصرف إلى المجاز كما وضع القدم في الدار و كما وضع اليد على الدوك إلا إذا وجد دليل يدل على عدم إرادته المجاز فحينئذ تعتبر الحقيقة. ألا ترى إلى ما ذكر في طلاق «الفتاوى» إذا قال الرجل لامرأته: إن ارتقيت هذا السلم أو وضعت رجلك عليه فأنت كذا فوضعت رجلها عليه ولم ترتق فإنه لا يقع الحنث، وإن صار وضع الرجل على السلم مجازاً عن الارتقاء عرفاً ولم ينصرف إلى المجاز لأنه دليل على عدم إرادته المجاز وهو عطف الوضع على الارتقاء؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه فعملنا بدلالة العطف أن الزوج لم يرد به المجاز وإنما أراد به الحقيقة ولو قال: أكر حسم من برزن افتريا فلان كاريكند فكذا وكلم معها ونام في الليل بحيث لم يقع بصره عليها لا تطلق؛ لأن اعتبار اللفظ ممكن ههنا وهذا اللفظ لم يصر مجازاً عن التكلم والنوم معها.
وإذا قال لامرأته: إن لم أبعث نفقتك من كوهته إلى عشرة أيام فكذا فبعث النفقة قبل مضي عشرة أيام (368أ1) ولكن من موضع آخر حنث في يمينه لم يعتبر الغرض وهو وصول النفقة إليها لأن اعتبار اللفظ ممكن.
قال في «القدوري»: إذا حلف الرجل ليضربن امرأته حتى يقتلها أو ترفع ميتة فهذا على أشد الضرب.
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأته إن لم أضربك حتى أتركك لا حياً وميتاً فهذا على الضرب الوجيع.(4/701)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا قال لامرأته: إن لم أضرب اليوم ولدك على الأرض حتى ينشق نصفين فأنت طالق ثلاثاً، فضربه على الأرض ولم ينشق طلقت امرأته لانعدام شرطه البر وأنه يخالف رواية القدوري في قوله حتى يقتلها أو ترفع ميتة. وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله إذا قال: لأقتلنك يريد أن يوجعه ضرباً صح وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي «المنتقى» إذا قال لها: والله لأضربنك بالسياط حتى أقتلك فهذا على الضرب الوجيع ولو قال: لأضربنك بالسيف ضربة حتى تموت فهذا على الموت عرف مراده لقران السيف بالضرب.
ولو حلف ليضربنها حتى يغش عليها أو تبول أو حتى تبكي أو تستغيث فهو على ما قال وعن محمد رحمه الله وفي قوله حتى تبول ونحوه أنه وقف ولو حلف ليقتلن فلاناً ألف مرة وقال عنيت به أن آتي على نفسه بالقتل وفي القضاء:
ولو حلف أنه سمع فلاناً طلق امرأته ألف مرة وقد سمعه طلقها ثلاثاً دين فيما بينه وبين الله لأن حكم الثلاث وحكم الألف واحد، وكذلك لو حلف أنه لقي فلاناً ألف مرة وقد لقيه مرات وأراد كثرة اللقاء دون العدد وبه حلف على امرأته أنها قبلته البارحة ألف مرة ذكر في «مجموع النوازل» أن هذا على المبالغة عرفاً فإن كانت قد قست وأصابه أذى كثير بحيث لم يمكنه الصبر حتى نام على الأرض لا يحنث في يمينه، وعن أبي يوسف فيمن قال لأدقن يد غلامي على رجله إنه على الضرب إلا أن ينوي الكسر وإذا قال دخل لأهل سكة أكر مرد امن أين لويّ تيمارى تركيستان فامرأته طالق ثلاثاً فسلط على أهل السكة عدلاً تراكاً كثيرة فقد يرمي بيمينه على هذا معد في كلام الناس وإذا قال لامرأته أكر لف بأي توبوسة يدهم أين ساعت فأنت طالق ثلاثاً فقبلت باطن كفها وقعد فيها في المكفر تطلق اعتباراً للفظه عند الإمكان.(4/702)
-----
رجل يستأجر مع أخيه وأخته وقال: أكر شمار احرار موري كينم فامرأته طالق ثلاثاً اختلف المشايخ رحمهم الله فيه قال بعضهم: تطلق امرأته ما عاشا لأنه متصور فلا يتحقق شرط الحنث إلا بالموت فمنهم من قال تطلق امرأته؛ لأن العجز متحقق عادة إلا إذا نوى القهر والغلبة والتضعيف عليها فتصح نيته فلا يقع الطلاق ما لم يمت الحالف والمحلوف عليها قبل أن يفعل بهما ما نوى وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله.
إذا قال لامرأته أكر ترا بحوت أتدري كنم فكذا ضر بها على أنفها حتى خرح الدم ويطلع (.....) فإن كان مراده هذا القدر ولم يكن له نية فلا يحنث؛ لأن الظاهر أنه لا يراد بهذا الكمال والله (أعلم).
الفصل التاسع في العطف على اليمين بعد السكوت
الحالف إذا ألحق باليمين المعقودة بعد سكوته شرطاً إن كان الشرط له لا يلتحق بالإجماع وإن كان الشرط عليه هل يلتحق قال محمد بن سلمة لا يلتحق، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» وقال نصر بن يحيى: يلحق وهو المروي عن أبي يوسف.
الرجل إذا عطف على يمينه بعد سكوته ما يوسع على نفسه لم يصح كالاستثناء وإن كان فيه تشديد صح وبيان الأول: إذا قال لامرأته إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فسكت سكتة ثم قال: وهذه الدار الأخرى لم تدخل الدار الثانية في اليمين فإن بدون قوله وهذه الدار الأخرى إذا دخلت الدار الأولى تطلق ومتى دخلت الدار الثانية في اليمين لا تطلق بدخول الدار الأولى وحدها وهو لا يملك تغيير اليمين.
ومثال الثاني إذا قال لها: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فسكت سكتة ثم قال وهذه لا امرأتي أخرى دخلت الثانية في اليمين وكذلك إذا قال: وإن دخلت هذه الدار الأخرى دخلت الدار الأخرى في اليمين حتى إن في المسألة الأولى لو دخلت المرأة الأولى الدار طلقتا.(4/703)
-----
وفي المسألة الثانية: لو دخلت المرأة الدار الأولى أو الدار الأخرى أيتهما دخلت طلقت على رواية أبي يوسف وهو اختيار نصر بن يحيى إذ ليس فيه تغيير اليمين فإن بدون قوله وهذه لامرأة أخرى في المسألة الأولى ولو دخلت المرأة الأولى تطلق وبعد وقوعه وهذه طلقت أيضاً، وفي المسألة الثانية بدون قوله وإن دخلت الدار الأخرى لو دخلت الدار الأولى طلقت، وبعد قوله: إن دخلت هذه الدار الأخرى لو دخلت الدار الأولى طلقت أيضاً ولو نجز فقال: هذه طالق ثم قال: وهذه بعدما سكت طلقت الثانية وكذلك العتق والله أعلم بالصواب.
الفصل العاشر في الحلف على الأقوال
هذا الفصل مشتمل على أنواع:
نوع منه في الكلام: إذا حلف لا يكلم فلاناً أبداً أو لم يقل أبداً فهذا على الأبد أي وقت كلمه حنث وإن نوى شيئاً دون شيء بأن نوى يوماً أو يومين أو ثلاثاً أو نوى بلداً أو منزلاً أو ما أشبه ذلك، لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه نوى تخصيص ما ليس بملفوظ ونية التخصيص فيما ليس بملفوظ لا تصح لا في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يحنث حتى يكلم بكلام مستأنف بعد اليمين منقطع عنها، وإن كان موصولاً لم يحنث نحو أن يقول إن كلمتك فأنت طالق فاذهبي أو فقومي هكذا ذكر القدوري؛ لأن هذا من تمام الكلام الأول فلا يكون مقصوداً باليمين.
وكذلك إذا قال: وإن هي إلا أن يريد فهذا كلام مستأنف وفي «مجموع النوازل» إذا قال لامرأته إن كلمتك إلى سنة فأنت طالق إذهبي يا عدو الله طلقت لأنه كلمها بعد اليمين فقد ذكر المسألة على هذا التفصيل في كتاب الطلاق من هذا الكتاب. وإن كان في الحال ما يدل على التخصيص كان خاصاً نحو أن يقول: كلم محمداً هذا اليوم في كذا فقال والله لا أكلمه فهذا تخصيص اليوم (36801).(4/704)
-----
ولو حلف لا يكلم فلاناً شهراً تعتبر المدة من وقت الحلف؛ لأن الحاصل على اليمين غبطة لحق الحالف من جهة المحلوف عليه في الحال، فيمنع نفسه عن الكلام معه في الحال ولو حلف لا يتكلم ولا نية له فصلى وقرأ فيها أو سبح أو هلل، لم يحنث استحساناً لأن ما في الصلاة من القراءة والتسبيح والتهليل وإن كان كلاماً حقيقة؛ لأن كلامنا اسم لحروف منظومة بصوت مسموع وقد وجد هذا الحد في التسبيح والتهليل والقراءة إلا أنه ليس بكلام حكماً حتى لا تفسد به الصلاة فكان ما وصى في معنى الكلام فلا يدخل تحت مطلق الاسم أو نقول: إن كان هذا كلاماً حقيقة فليس بكلام عرفاً ألا ترى أن الرجل يقول ما كلمت فلاناً اليوم فإن كان قد صلى وقرأ وسبح وهلل فيها وأما إذا قرأ خارج الصلاة وسبح وهلل يحنث في يمينه عند علمائنا رحمهم الله وأنه يخرج على العبارة الأولى دون العبارة الثانية.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا إذا كان عقد يمينه بالعربية فأما إذا عقد يمينه بالفارسية لا يحنث بالقراءة والتسبيح والتهليل خارج الصلاة كما لا يحنث بها في الصلاة لأن العرف أهل الفارسية لا يسمون القارىء والمسبح والمهلل متكلماً.
ولو حلف لا يكلم فلاناً فسلم الحالف على قوم والمحلوف عليه فيهم حنث في يمينه لأنه لما سلم عليهم فقد كلم المحلوف عليه وكلم غيره والزيادة على شرط الحنث لا تمنع وقوع الحنث قال: إلا أن لا يفصل بالسلام فيصدق ديانة ولا يصدق قضاء حتى لا يحنث ديانة ويحنث قضاء عنى التخصيص من كلامه؛ لأنه خاطب الكل وإذا أراد به البعض ونية تخصيص بعض الكلام تصح ديانة لا قضاء.
(4/705)
-----
وفي «مجموع النوازل» إذا سلم على قوم والمحلوف عليه فيهم فقال السلام عليكم إلا على واحد لا يحنث في يمينه، هذا إذا سلم خارج الصلاة فأما إذا سلم وهما في الصلاة يعني الحالف والمحلوف عليه في الصلاة فهذا على وجهين: إن كان الحالف إماماً والمحلوف عليه على يمينه لا يحنث في يمينه؛ لأن التسليمة الأولى كلام حصل في الصلاة لأنه بها يخرج عن الصلاة والكلام في الصلاة مما لا يقع به الحنث وإن كان الحالف على يساره فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه.
منهم من قال: يحنث لأنه تكلم معه خارج الصلاة والكلام خارج الصلاة مما يقع به الحنث ومنهم من قال: لا يحنث لأن التسليمة الثانية كلام حصل في الصلاة من وجه. ألا ترى أنه يأتي بسجود السهو بعد التسليمة الثانية، ولو كانت التسليمة الثانية بمنزلة الكلام خارج الصلاة من كل وجه ما أمكنه الإتيان بها بعد التسليمة الثانية فإذا كانت التسليمة الثانية في الصلاة من وجه لا يقع الحنث بها.
وفي «شرح القدوري»: فيما إذا كان الحالف إماماً وسلم لا يحنث من غير تفصيل وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» فيما إذا كان الحالف إماماً أنه يحنث بالسلام إذا نواه وإن كان على يمينه وفي «الشافي» في هذه الصورة أنه يحنث إلا أن ينوي وقت مره من غير فصل بين جانب اليمين واليسار وأما إذا كان الحالف مؤتماً فالجواب عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله كالجواب في الإمام لأن سلام الإمام لا يخرج المؤتم عن الصلاة وعندهما قد ذكرنا في الإمام إذا كان هو الحالف والمؤتم على يمينه لا يحنث بلا خلاف وإن كان على يساره فعلى الخلاف فكذا في حق المؤتم، وعلى قول محمد يحنث في يمينه على كل حال لأنه صار خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام عنده فقد تكلم مع المحلوف عليه خارج (الصلاة) فيحنث في يمينه.(4/706)
-----
ولو كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً لا يحنث في يمينه لأن الكلام على المشافهة.... ألا ترى أن موسى عليه السلام كليم الله ولم يسم غيره من الأنبياء بهذا الاسم؛ لأن الكلام مع موسى صلوات الله عليه كان لا بواسطة ومع غيره من الأنبياء كان بواسطة وكذلك إذا أشار إليه بإشارة أو أومأ إليه لم يحنث لأن الكلام عبارة عن حروف منظومة بصوت مسموع ولم يوجد شيء منه في تلك الإشارة والإيماء. ولو حلف لا يكلم فلاناً فناداه من بعيد فإن سمع صوته لو أصغى إليه أذنه يحنث وإن لم يسمع بعارض أو كان مشغولاً بشيء أو كان أصماً وإن كان بحيث لا يسمع لو أصغى إليه أذنه لشدة البعد لا يحنث في يمينه؛ لأن تكليم فلان عبارة عن إسماع نفسه إلا أن إسماع غيره أمر باطن لا يوقف عليه فسقط اعتباره واعتبر السبب الظاهر المؤدي إليه مقامه وهو أن يكون بحيث لو أصغى إليه أذنه ولم يكن مانع سمع كلامه وقد وجد ذلك في الوجه الأول دون الثاني فأما إذا ناداه وهو نائم فأيقظه لا شك أنه يحنث في يمينه لأنه لما أيقظه فقد أسمعه وإن لم ينتبه فعنه روايتان.
وقد ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير»: إذا نادى المسلم أهل الحرب بالأمان في موضع يسمعون صوته إلا أن غالب الرأي أنهم لم يسمعوا بأن كانوا نياماً أو كانوا مشغولين بالحرب فذلك أمان، فقد شرط لثبوت الأمان أن يكون النداء بالأمان من موضع يسمع منه الصوت لا حقيقة السماع وما ذكر في «السير» هو أن الصحيح في مسألة الأيمان الحنث وإن لم يوقظه.
ومن المشايخ رحمهم الله من قال: على قياس قول أبي حنيفة يحنث وعلى قياس قولهما لا يحنث؛ لأن أبا حنيفة يجعل النائم كالمنتبه وهما (لا) يجعلانه كالمتنبه على ما عرف في مسألة الصدر والخلوة.
ولو حلف لا يكلم فلاناً فدق فلان عليه الباب فقال من هذا أو قال من أنت حنث؛ لأنه مكلم له بالاستفهام هكذا القدوري في «شرحه».(4/707)
-----
وفي «النوازل»: إذا دق المحلوف عليه باب الحالف فقال الحالف بالفارسية: كيست لا يحنث في يمينه ولو قال كنى بوا يحنث وبه أخذا الفقيه أبو الليث رحمه الله إذا حلف لا يكلم فلانا ثم إن المحلوف عليه ناداه فقال لبيك أو قال لبي يحنث في يمينه لأنه أجابه باللفظين جميعاً فصار متكلماً معه.
وفي «القدوري»: إذا حلف لا يكلم امرأته فدخل الدار وليس فيه غيرها فقال: (.........) حنث لأنه تكلم لها بالاستفهام إذا لم يكن هناك غيرها فإن كان في الدار غيرها لم يحنث لأنه يحتمل أن يكون (396أ1) استفهم لمن سواها ولو قال: ليت شعري من فعل كذا لا يحنث لأنه وإن لم يكن في الدار غيرها لأن هذا للمخاطب نفسه ولا يكلم امرأته وفي «مجموع النوازل» إذا حلف لا يتكلم فجاءته امرأته وهو يأكل الطعام فقال: ها حنث في يمينه فقال لامرأته اكراس سحن يا فلان بكوى فأنت طالق ثم إن المرأة اين سجن بأن فلان لفت ولكن تصارني كني أن فلان بدا نست طلقت امرأته كمن حلف لا يكلم فلاناً فكلمه بعبارة لم يعرفه فلان وهناك يلزمه الحنث كذا ههنا.(4/708)
-----
حلف لا يكلم فلاناً ثم إن المحلوف عليه أراد أن يشتم إنساناً فأراد الحالف أن يقول: لا تفعل فقال له الحالف بالفارسية بلن ودكه يمينه فلم يقل بعد ذلك شيئاً آخر. فقد قيل لا يحنث في يمينه لأن هذا القدر ليس بكلام مفهوم إلا أن الصلاة تفسد بها لأنه كلام حقيقة وإن لم يكن مفهوماً وفساد الصلاة معلق بمطلق الكلام فأما الداخل تحت اليمين كلام مفهوم. وقيل يحنث في يمينه لأنه كلام حقيقة وإن لم يكن مفهوماً والداخل تحت اليمين مطلق الكلام والدليل عليه مسألة «مجموع النوازل» التي تقدم ذكرها وحكي عن القاضي الإمام أبي سعيد البردعي ما يدل على القول الأول فإنه يقول في الباب الأول من الأيمان: الجامع في تعليل المسألة الأولى الكلام المطلق ينصرف إلى ما يفيد لا إلى ما لا يفيد قلنا وغير المفهوم لا يفيد إذا حلف لا يكلم فلاناً فمر المحلوف عليه بالحالف فقال الحالف اصنع كذا يا حافظ كان كذا لأمر قد وقع وقصد إسماع المحلوف عليه لا يحنث في يمينه.
وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه حلف لا يكلم عثمان فكان إذا مربه فقال يا حافظ كان كذا ويا حافظ اسمع كذا حلف لا يكلم المساكين أو الفقراء فكلم واحداً منهم يحنث في يمينه بخلاف ما إذا حلف لا يكلم مساكيناً أو فقراء فإنه لا يحنث ما لم يكلم ثلاثة منهم والكلام فيه نظير الكلام فيما إذا حلف أن لا يتزوج النساء وإذا حلف أن لا يتزوج نساء وقد مرت المسألة من قبل.
إذا حلف لا يكلم فلاناً فاقتدى الحالف بالمحلوف عليه فسبح له الحالف أو فتح عليه بالقراءة لم يحنث وعلى ما اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله فيما إذا حلف أن لا يتكلم بالفارسية فقرأ القرآن خارج الصلاة أن لا يحنث ينبغي أنه إذا عقد اليمين بالفارسية ههنا أن لا يحنث.(4/709)
-----
إذا حلف الرجل لا يكلم فلاناً وفلاناً وكلم أحدهما لا يحنث في يمينه فهذا هو المذكور في «الأصل» وفي «القدوري»: وذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذه المسألة في باب الأول من أيمان «الواقعات» وجعلها على ثلاثة أوجه إما أن ينوي أن يحنث بكلام كل واحد منهما وفي هذا الوجه يحنث بكلام كل واحد منهما وإما أن ينوي أن لا يحنث حتى يكلمهما وفي هذا الوجه لا يحنث ما لم يكلمهما وإما إن لم تكن له نية وفي هذا الوجه اختلف المشايخ رحمهم الله، قال رحمه الله والمعتد أنه لا يحنث حتى يكلمهما أما من قال: يحنث قال: المتعارف أن لا يراد بهذا الجمع وأما من قال: لا قال: الجمع متعارف أيضاً إلا أنه دون الأول فلا تترك حقيقة اللفظ وحقيقة الجمع.
وعلى هذا إذا حلف لا يكلم هذا وهذا ولو حلف لا يكلمهما أو حلف بالفارسية ابن دوس سمن نكويم ونوى الحنث بكلام واحد منهما لا تصح نيته وإذا كلم واحداً منهما لا يحنث؛ لأن في قوله فلاناً وفلاناً هذا وهذا أمكن تصحيح نيته بإدخال حرف النفي بينهما فيصير تقدير المسألة كأنه قال: لا أكلم فلاناً ولا فلاناً وعند ذلك يحنث بكلام كل واحد منهما لأن كل واحد منهما صار منفياً يبقى على حدة وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه فيما إذا قال: لا أكلمهما فلهذا لا تصح نيته.
ولو قال: إن كلمت فلاناً وإن كلمت فلاناً فعبدي حر فكلم أحدهما لا يعتق عبده ما لم يكلمهما. ولو قال: عبدي حر إن كلمت فلاناً وإن كلمت فلاناً فكلم أحدهما عتق عبده وهذا قول محمد رحمه الله، وقال أبو يوسف تقديم الجزاء وتأخيره سواء، وإذا كلم أحدهما يعتق عبده في الوجهين جميعاً. وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق إلا أن هناك وضع المسألة في دخول الدارين وههنا وضعها في كلام الرجلين.
ولو قال إن كلمت فلاناً أو فلاناً وكلم أحدهما يحنث في يمينه لأن كلمة أو إذا دخلت بين الاسمين في الأيمان تناول أحدهما وقد مر هذا فيما تقدم.(4/710)
-----
قال في «الجامع»: ولو قال: والله لا أكلم فلاناً أو فلاناً وفلاناً فكلم الأول يحنث في يمينه، ولو كلم الثاني أو الثالث لا يحنث في يمينه ما لم يكلمهما لأنه جمع بين الثاني والثالث بحرف الجمع فتعين بما لو جمع بينهما بلفظ الجمع بأن قال: والله لا أكلم فلاناً ولا هذين وهناك كان الجواب كما قلنا.
ولو قال: والله لا أكلم فلاناً أو فلاناً أو فلاناً وكلم الثالث يحنث في يمينه، ولو كلم الأول والثاني لا يحنث ما لم يكلمهما وتقدير هذه المسألة: كأن قال: لا أكلم هذين ولا هذا وهناك الجواب كما قلنا، وذكر في كتاب الطلاق فيمن كان له ثلاث نسوة فقال: هذه طالق وهذه وهذه طلقت الثالثة ويخير الزوج بين الأولى والثانية وعلى قياس ما ذكر في الجامع ينبغي أن يخير الزوج الأولى والثانية.
والثالثة وذكر في كتاب الإقرار فيمن قال لفلان عليّ ألف درهم أو لفلان وفلان، فللثالث نصف الأول ويخير المقر في النصف الآخر بين أن يجعله للأول وبين أن يجعله للثاني، وعلى قياس ما ذكر في «الجامع» ينبغي أن يخير بين أن يجعل الألف للأول وبين أن يجعلها للثاني والثالث وذكر في كتاب العتاق: فيمن له ثلاثة أعبد قال: هذا حر وهذا وهذا عتق الثالث للحال، ويخير المولى بين الأول والثاني وعلى قياس ما ذكر في «الجامع»: ينبغي أن يخير المولى بين الأول وبين الثاني وبين الثالث.
قال مشايخنا رحمهم الله روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في «النوادر» المدار في هذه المسائل الثلاث على قياس ما ذكر ههنا فقال لا تطلق الثالثة ولا يعتق الثالث للحال ويخير الزوج والمولى بين الإيقاع على الأول وبين الإيقاع على الثاني والثالث وقال في فصل الإقرار: يخير المقر بين أن يجعل الألف للأول وبين أن يجعلها للثاني ولثالث فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق وعلى ظاهر الرواية يحتاج.(4/711)
-----
ووجه الفرق: أن في هذه المسائل الثلاث كلمة أو دخلت بين الأول والثاني في الإثبات فيتناول أحدهما والآخر يكون خارجاً عن اليمين والثالث معطوف على الثابت لا على الخارج وصار كأنه قال للأول والثاني: أحدكما حر وهذه (369ب1) الثالث أحداكما طالق وهذه للثالثة ولو نص على هذا ثبت الحكم في حق الثالث للحال فههنا كذلك أما في مسألة الجامع كلمة أو دخلت بين الأول والثاني في النفي فصارت معنى ولا وصار تقدير كلامه لا أكلم فلاناً ولا فلاناً فيتناول الأول والثاني وثبت فيهما حكم النفي والثالث معطوف على أحدهما، وكل واحد منهما ثابت ويستقيم العطف على كل واحد منهما، غير أن العطف على الثاني أولى لأنه متصل بالثاني وصار تقدير المسألة كأنه قال: لا أكلم فلاناً ولا هذين.
إذا قال لآخر والله لا أكلمك اليوم ولا غداً ولا بعد غد فله أن يكلمه في الليلتين المتخللتين لأن هذه ثلاثة أيمان كل يمين معقودة على يوم واحد كأنه قال والله لا أكلمك اليوم والله لا أكلمك اليوم وغداً وبعد غد لأن ذاك يمين واحد عقدت على ثلاثة أيام كأنه قال: والله لا أكلمك ثلاثة أيام والأيام باسم الجمع مستتبع ما بإزائها من الليالي فدخلت الليلتان المتخللتان في اليمين كما دخلت الأيام فيها. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تدخل الليلتان في اليمين في هذه الصورة أيضاً؛ لأن اليمين عقدت على بياض النهار ولا ضرورة إلى إدخال الليل فيها.
ولو قال: والله لا أكلمك يوماً ويوماً فهذا وما لو قال لا أكلمك يومين سواء فتدخل فيه الليلة المتخللة ولو قال: لا أكلمك يوماً ويومين تقديره لا أكلمك ثلاثة أيام فتنقضي اليمين بمضي اليوم الثالث.(4/712)
-----
ولو قال لا أكلمك يوماً ولا يومين فهذه على يومين إن كلمه في اليوم الثالث لم يحنث في رواية «الجامع الكبير»، والرواية في باب الدور، وذكر القدوري عن أبي يوسف رحمه الله أن هذا بمنزلة قوله لا أكلمك ثلاثة أيام حتى لو كلمه في اليوم الثالث يحنث في يمينه على قول أبي يوسف رحمه الله فأبو يوسف سوى بين قوله: لا أكلمك يوماً ويومين، وبين قوله: لا أكلمك يوماً ولا يومين من حيث إنه في الصورة جميعاً عطف اليومين على اليوم والمعطوف غير المعطوف (عليه)، وعلى هذا رواية «الجامع».(4/713)
-----
فرق بين الصورتين، والفرق أن في الصورة الثانية نفا المسألة الثانية بنفي على حده فحنث. قال: ولا يومين ولا يحتاج في صحة الكلام الثاني إلى عطفه على الأول بل يجعل قائماً بنفسه في حكم النفي، كأنه أفرد اليمين على كل واحد من اليومين، فقال والله لا أكلم فلاناً يوماً والله لا أكلم فلاناً يومين ألا ترى أن من قال والله لا أكلم زيداً ولا عمراً تقديره: والله لا أكلم زيداً، والله لا أكلم عمراً حتى لو كلم زيداً أو عمراً يحنث في يمينه، والمدة تعتبر من وقت اليمين على ما عرف، فصار اليوم الأول مشتركاً محسوباً من المدتين، واليوم الثاني لليمين الثانية خاصة فينتهي اليمينان بمضي اليوم الثاني، أما في الصورة الثانية ما نفا المدة الثانية بنفي على حدة فمست الضرورة إلى جعلها معطوفة على المدة الأولى ليصير نفي الكلام في المسألة الأولى نفياً له في المدة الثانية تصحيحاً للمدة الثانية، والمعطوف غير المعطوف عليه فقوله: ويومين لا يتناول اليوم الأول، وإنما يتناول يومين بعده، وكأنه قال والله لا أكلمك ثلاثة أيام فالصورة الأولى بالفارسية سحن يكويم يا فلان بك دوزود روز، والصورة الثانية بالفارسية: فسحن يكوير يا فلان في بك دوزوني جوروز. ولو قال والله لا أكلم فلاناً يوماً، والله لا أكلمه يومين والله لا أكلمه ثلاثة أيام في اليمين الأولى من حين فرغ وانعقدت على اليوم الأول ثلاثة أيمان، وانعقدت على اليوم الثاني يمينان واليوم الثالث عليه يمين واحدة.
وعن محمد رحمه الله فيمن قال: لا أكلم فلاناً يوماً بين يومين ولا نية له فهذا بمنزلة قوله والله لا أكلمه يوماً لأن كل يوم بين يومين فيكون على يوم من ساعة حلف.(4/714)
-----
وإذا قال الرجل لغيره في بعض النهار: والله لا أكلمك يوماً لم يكلمه ساعة ما حلف حتى تجيء تلك الساعة من الغد، وإن كلمه في شيء من ذلك ليلاً أو نهاراً حنث في يمينه، لأن اليوم اسم لاثنى عشر ساعة من بياض النهار أو أقل أو أكثر على حسب اختلاف الفصول، فيصير كأنه نص على اثني عشر ساعة من بياض النهار، وهذا العدد إنما يتم إذا جاءت تلك الساعة من الغد وتدخل الليلة هكذا ذكر في «الجامع»: وفي «النوازل» إنما لا يدخل؛ لأن الليل لو ههنا إنما يدخل بذكر اليوم ولا وجه؛ إليه لأنه ذكر اليوم مفرداً واليوم المفرد لا يستتبع ما وراءه من الليل.
وجه ما ذكر في «الجامع» أنه لو اقتصر على قوله والله لا أكلم فلاناً وقع يمينه على الأبد فيكون ذكر الوقت لإخراج ما وراءه عن اليمين، فينبغي (أن يكون) الليل داخلاً بمطلق اليمين لأبد اليوم، ولو قال ذلك ليلاً لم يكلمه حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة لا يذكر اليوم. ولو قال ذلك ليلاً لم يكلمه حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة لأن اليوم الكامل موجود هنا، فلا حاجة إلى إدخال شيء من اليوم الآخر. واختلف مشايخنا رحمهم الله أنه لو كلمه بعد اليمين قبل طلوع الفجر والصبح إنه يحنث، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» حيث قال: لم يكلمه حتى تغيب الشمس من الغد معناه لم يكلمه بعد اليمين حتى تغيب الشمس من الغد.
وفي «المنتقى» نص عليه، فقال: إذا قال في نصف الليل والله لا أكلمك يوماً ترك كلامه من ساعته بقية الليل والغد حتى تغرب الشمس ولو قال: لا أكلمك يومين، فعليه أن لا يكلمه يومين بليلتيهما؛ لأن بذكر اليومين يدخل ما بإزائهما من الليل.(4/715)
-----
وفي «المنتقى» إذا قال في نصف النهار: والله لا أكلمك ليلتين ترك كلامه إلى تلك الساعة من بعد الغد. ولو قال: يوم أكلم فلاناً وامرأته طالق فيمينه على النهار والليل جميعاً، يريد أنه لو كلم فلاناً فامرأته طالق فيمينه على النهار والليل جميعاً يريد به أنه لو كلم فلاناً ليلاً أو نهاراً تطلق امرأته، وهذا لما عرف أن اليوم إذا ذكر مقروناً بفعل لا تختص صحته بالنهار، فجعل عبارة عن الوقت عرفاً وشرعاً إلا أن يريد به التقدير، فحينئذ جعل عبارة عن بياض النهار، وإن كان ما قرن به الفعل لا تختص صحته بالنهار كما لو حلف لا يكلم فلاناً يوماً، فإن اليوم في هذه الصورة يحمل على بياض (370أ1).
وإن ذكر مقروناً بالكلام، والكلام تختص صحته ببياض النهار، لأنه ذكر اليوم لتقدير الحرمة الثابتة باليمين؛ فإنه متى لم يذكر اليوم ثبتت الحرمة، على سبيل التأبيد، والتقدير لا يحصل متى صار عبارة عن الوقت، لأن الوقت بنفسه غير مقدّر. وبياض النهار مقدّر، فصار عبارة عن بياض النهار بدلالة التقدير. فأما متى لم يذكر اليوم للتقدير، فإنه يصير عبارة عن الوقت. متى ذكر مقروناً بفعل لا يختص بالنهار؛ وههنا اليوم لم يمكن للتقدير. وقد ذكر مقروناً بفعل لا تختص صحته بالنهار، فصار عبارة عن الوقت. وصار تقدير هذه اليمين وقت أفعل كذا امرأته طالق، ولو خرج بذلك تطلق امرأته، فعل ذلك الفعل ليلاً أو نهاراً، كذا ههنا.
وإن قال: عنيت بياض النهار، ففعل ذلك ليلاً لا يحنث في يمينه، ويصدق قضاء هكذا ذكر في كتاب الأيمان. وذكر في كتاب الطلاق أنه لا يصدق قضاء، فعلى رواية كتاب الطلاق جعله بادئاً للتخصيص، وعلى رواية كتاب الأيمان جعله بادئاً حقيقة كلامه، ولو قال: ليلة أفعل كذا، فهذا على سواد الليل خاصة، حتى لو فعل ذلك نهاراً لم يلزمه الحنث، لأن الليل في حقيقة اللغة عبارة عن سواد الليل، ولم يصر عبارة عن مطلق الوقت.(4/716)
-----
وفي «المنتقى» في باب الحلف على الكلام: إذا حلف لا يكلم فلاناً ثلاثين يوماً، وكان الحلف ليلاً ترك كلامه من تلك الساعة إلى أن تغيب الشمس من اليوم الثلاثين ولو حلف ليلاً لا يكلم هذا اليوم، فإنه يحنث بالكلام من تلك الليلة إلى أن تغيب الشمس في اليوم، وروي عن محمد رحمه الله خلافه، ولو حلف نهاراً لا يكلّم هذه الليلة لم يدخل ما بقي من اليوم في يمينه، إنما حلفه على الليل خاصة.
وذكر هذه المسألة في «المنتقى» في موضع آخر، وذكر فيها تفصيلاً. فقال: إذا قال في أول الليل: لا أكلمك اليوم ولا نيّة له فهذا باطل ولو قال ذلك في آخر الليل، فهو على اليوم المستقبل، وكذلك إذا قال آخر النهار فهو على الليل المستقبل.
وفي «الجامع» إذا قال: والله لا أكلمك في اليوم الذي يقدم فيه فلان، فكلمه في أول يوم قدم فلان في آخر ذلك اليوم حنث في يمينه. ولو قدم فلان في أول يوم وكلمه في آخر ذلك اليوم، وقع في بعض نسخ الزعفراني أنه يحنث، وعامة المشايخ على أنه لا يحنث ولا ذكر لهذه المسألة في «الكتاب» عن محمد رحمه الله، والوجه في ذلك أن القدوم وإن كان في معنى الشرط من حيث إنه ملفوظ على خطر الوجود إلا أنه ليس بشرط حقيقة وصورة، لأن الحالف ما جعله شرطاً لأنه ما قرنه بحرف الشرط وما عطفه على الشرط بل جعله معرفاً بشرط الحنث وهو الكلام، وإنما يكون معرفاً للشرط إذ وجد الشرط قبله؛ لأن من شرط المعرف للشيء أن يكون ذلك الشيء سابقاً عليه، حتى يحصل التعريف بوجود نفس المعرف، ولم يوجد ذلك ههنا، فعملنا بالمعرفة، فقلنا: إذا وجد القدوم قبل الكلام لا يحنث في يمينه، وعملنا بالشرطية فقلنا: إذا وجد القدوم بعد الكلام وقع الحنث مقصوداً عليه عملاً بالمعنيين جميعاً بقدر الإمكان.
(4/717)
-----
ولو قال: لا أكلم فلاناً في الشهر الذي قبل قدومه، فكلامه في أول الشهر وقدم فلان لتمام الشهر حنث في يمينه، لأن شرط الحنث كلام المحلوف عليه في شهر قبل قدوم فلان، وقد وجد فيحنث في يمينه، وإنما يحنث وتجب الكفارة بعد القدوم، لأن قدوم فلان في معنى الشرط على ما ذكرنا، وإذا كان القدوم في معنى الشرط كان كوقوع الحنث ووجوب الكفارة بعد القدوم لا محالة.
ولو قال: والله لا أكلمك شهراً قبل قدوم فلان وشهراً قبل قدوم فلان، فكلّم فلاناً بعد اليمين ثم قدم فلان بعد خمسة أيام لا يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث وجود الكلام بعد اليمين في شهر قبل قدوم فلان لم يوجد بعد اليمين، فلم يوجد شرط الحنث، قال في «الكتاب»: ألا ترى أنه لو قال لعبده: أنت حر قبل قدوم فلان بشهر فقدم فلان بعد خمسة أيام وقت لا يعتق العبد، لأن العتق يضاف إلى شهر قبل قدوم فلان ولم يوجد بعد اليمين شهراً قبل القدوم، كذا في مسألتنا.
وإذا حلف لا يكلم فلاناً أبداً، فكلمه بعدما مات لا يحنث في يمينه؛ لأن معنى الكلام لم يوجد وإن وجد صورته؛ لأن معنى الكلام الإفهام يعني به إفهام الغرض وذلك بالإسماع، وإنه لا يتحقق بعد الموت، وهذه المسألة تدل على من حلف لا يكلم فلاناً فكلمه بعبارة لا يعرفها لا يحنث؛ لأن معنى الكلام هو إفهام الغرض ولم يوجد.
إذا حلف الرجل فقال: والله لأكلمن فلاناً أحد يومي أو قال: لأخرجن أحد يومي أو أحد اليومين أو أحد أيامي، فهذا على أقل من عشرة أيام فدخل ذلك الليلُ والنهار، حتى لو كلمه أو خرج قبل مضي العشرة ليلاً أو نهاراً أبرّ في يمينه وإن لم يكلمه أو لم يخرج حتى مضت العشرة يحنث في يمينه، ولو قال: أحد يومي هذين فهذا على يومه ذلك وعلى الغد.
سئل شمس الإسلام الأوزجندي عمن حلف لا يكلم أحداً فجاء كافر يريد الإسلام، قال: .... صفة الإسلام مسلماً ولا يكلمه ولا يحنث في يمينه.(4/718)
-----
رجل قال لامرأته: اكر غانه فلان روم وباوى سخن كويم فأنت طالق فلم يذهب إلى بيته ولكن كلمه في موضع آخر لا يحنث في يمينه، ولو قال اكريه فانه فلان بني روم وباري سخن بني مويم فأنت طالق وباقي المسألة بحالها حنث في يمينه وطلقت امرأته، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني وفتوى ركن الإسلام علي السغدي رحمهما الله، لأن في الوجه الأول شرط الحنث شيئان الدعاء إلى بيته والكلام معه، وقد وجد أحدهما دون الآخر فلا يقع الحنث، وفي الوجه الثاني شرط البر شيئان، أن يذهب إلى بيته وأن يكلمه وقد وجد أحدهما فانعدم شرط البر فغاب البر ومن ...... بغير الحنث، وقد ذكرنا قبل هذا أن اليمين إذا عقدت على عدم الفعل في مجلس ينظر فيه إلى شرط البر، فهذا بناء على ذلك.
رجل قال لامرأته وقد كانت ذكرت إنساناً بين يديه: إن عدت على ذكر فلان فأنت طالق، فقالت: لا أعيد عليك ذكر فلان لا يحنثُ؛ لأنها ما ذكرت فلاناً إنما وضعت أنها منهية عما أمرها أن تنتهي عنه، وكذلك إذا قالت: نهيتني عن ذكر فلان فقد ذكرته فيحنث في «المنتقى». وفيه أيضاً: إذا (قال): لا يكلم رجلاً، فكلم رجلاً فقال عنيت غيره لا يحنث بخلاف ما إذا حلف لا يكلم الرجل.
رجل قال لامرأته: إن لم تكلميني الليلة فأنت طالق فأبت (370ب1) المرأة الكلام وخاف الزوج وقوع الطلاق فالحيلة له أن يذكر أباها وأمها؟ وأقاربها بين يديه بسوء فيهم فيصير ذلك حاملاً لها على جوابه، وعند ذلك لا يقع الحنث ولا يقع الطلاق. إذا حلف لا يكلم امرأة فكلّم صبية، فقد حكي عن المشايخ رحمهم الله أنه يحنث، وهذا الجواب بخلاف الرواية، والرواية في «المنتقى».
وفي «المنتقى» لو قال: والله لا أكلمك شهراً بعد شهر فهو بمنزلة قوله شهرين، وكذلك إذا قال: والله لا أكلمك سنة بعد سنة فهو بمنزلة قوله سنتين. ولو قال: والله لا أكلمك شهراً بعد هذا الشهر فله أن يكلمه في هذا الشهر.(4/719)
-----
وفيه: إذا قال لقومه : كلامكم علي حرام، فأيهم كلم حنث في يمينه، ولو حلف لا يكلمهم لم يحنث حتى يكلمهم جميعاً.
في «الجامع»: إذا قال الرجل لغيره: إن ابتدأتك بالكلام فعبدي حر، فالتقيا وسلم كل واحد منهما على صاحبه لم يحنث الحالف فيه، لأن شرط الحنث كلام موصوف بصفة البداية، والبداية بالسبق، والحالف إن كلمه بالسلام إلا أنه لم يسبقه، قال: ويسقط اليمين عن الحالف بهذا الكلام حتى لا يحنث أبداً بحكم هذا اليمين لوقوع الناس عن كلامه بصفة البداية؛ لأن كل كلام يوجد من الحالف بعد هذا فإنما يوجد بعد كلام المحلوف عليه، وعن هذه المسألة قلنا: إن الرجل إذا قال لامرأته: إن ابتدأتك بكلام فأنت طالق، وقالت المرأة: إن ابتدأتك بكلام فجاريتي حرة، ثم إن الزوج كلمها بعد ذلك لا يحنث في يمينه، لأن المرأة كلمته بعد يمينه فحنث. قالت: إن ابتدأتك بكلام فلا يكون الزوج متبدئاً لها بالكلام ثم تكلمه المرأة، ولا تحنث في يمينها قضاء، لأنها ما ابتدأت بالكلام، وإن كانت اليمين منهما معاً ينبغي أن يكلم كل واحد منهما صاحبه معاً، ولا يحنث واحد منهما.
وكذلك إذا قال لغيره: إن كلمتك قبل أن تكلمني فعبده حرُ فالتقيا فسلّم كل واحد منهما على صاحبه، وخرج الكلامان معاً لا يحنث في يمينه لأن شرط الحنث كلام موصوف بصفة السبق وكلام الحالف ليس بسابق.
(4/720)
-----
ولو قال: إن كلمتك إلا تكلميني أو حتى تكلمني فتكلما معاً حنث في يمينه، ذكر في «الجامع» هكذا، وذكر القدوري في «شرحه» أن على قول أبي يوسف لا يحنث، وعلى قول محمد رحمه، الله: يحنث بما ذكر القدوري أن ما ذكر في «الجامع» قول محمد رحمه الله، قال في «القدوري»: وعلى هذا سائر الأعمال نحو: أن يحلف لا يدخل هذه الدار حتى يدخلها فلان فدخلا معاً، وكلام محمد رحمه الله في المسألة ظاهر؛ لأن شرط الحنث كلام مطلق ههنا إلا أن الحالف عقد يمينه إلى غاية، وهو كلام المحلوف عليه، فقيل: كلام المحلوف عليه معه اليمين باقية وإذا كلم الحالف فقد وجد شرط الحنث حال بقاء اليمين فيحنث في يمينه.
إذا حلف الرجل فقال: إن كلمت فلاناً حتى يقدم فلان، أو قال: إلا أن يقدم فلان، أو قال: حتى يأذن لي فلان، أو قال: إلا أن يأذن لي فلان فعبدي حر، أو قال: فامرأتي طالق، وكلمه قبل القدوم أو قبل الإذن يحنث في يمينه؛ ولو كلمهُ بعد ذلك لا يحنث في يمينه لأنه جعل الإذن والقدوم غاية ليمينه؛ لأن كلمة حتى للغاية وكذلك كلمة الآن، فقد جعلَ غاية يمينهِ القدوم والإذن، وقيل: الإذن والقدوم يكون باليمين قائمة فإذا كلمهُ قبل القدوم والإذن فقد وجد شرط الحنث حال قيام اليمين فيحنث في يمينه، وإذا كلمهُ بعد القدوم والإذن فقد وجد شرط الحنث واليمين منتهية فلا يحنث، والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في القراءة(4/721)
-----
إذا حلف لا يقرأ القرآن فقرأ القرآن في الصلاة أو خارج الصلاة يحنث في يمينهِ، وإذا (حلف) على هذا الوجه فالحيلة لهُ أن يصلي الفرائض بالجماعة ولا يحنث في يمينهِ، وإذا فاتهُ فلا حيلة في ذلك، وإذا قضاها قضاها بقراءة وحنث في يمينهِ. وفي الوتر ينبغي أن يقتدي بمن يوتر أيضاً، والمرأة إذا حلفت على ذلك تقتدي بزوجها أو بغيره من محارمها، ولو حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه من أوله إلى أخره لا يحنث في يمينهِ بالاتفاق، ولو حلف لا يقرأ كتاباً فنظر فيه حتى أتى إلى آخرهِ لم يحنث عند أبي يوسف، وقال محمد رحمهُ الله: يحنث، فأبو يوسف رحمه الله اعتبر الحقيقة فقال: القراءة عمل اللسان وذلك في التفكر والنظر لا يوجد، ومحمد رحمه الله اعتبر المقصود فقال: المقصود من قراءة الكتاب فهم ما فيه، وهذا المقصود يحصل بالتفكر والنظر بخلاف ما إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه، لأن المقصود من قراءة القرآن الثواب، والثواب لا يحصل بمجرد التفكر. وعن محمد رحمه الله أنه توقف فيه بعد ذلك.
ولو حلف لا يقرأ لفلان كتاباً فقرأه حتى أتى على المعاني التي يحتاج إليها وكأنه قرأه فيحنثُ في يمينه، هكذا روي عن محمد رحمه الله إذا ..... يحنث. ولو حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث بالتسمية إلا أن ينوي التي في السورة النمل، وعن محمد رحمه الله أنه يحنث إلا أن تذّكر بعد شيء أصابه ولو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فترك حرفاً منها حنث، ولو ترك آية طويلة لم يحنث، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا النوع(4/722)
-----
إذا حلف (لا) يتمثل شعراً فتمثل نصف البيت لا يحنث، وإن كان نصف البيت بيتاً من شعر آخر، وعن محمد في رجل فارسي حلف أن لا يقرأ سورة الحمد بالعربية فقرأها لا يحنث، ولو كان رجلاً فصيحاً حنث لأن العجمي يريد به موضوع اللغة، وذلك في المعرب، والعربي يريد به اللغة العربية والملحون بعدم العربية، وفي «المنتقى» إذا حلف لا يقرأ كتاباً فهذا على كتاب يتبين في بياض أو غير ذلك، وإن نوى كتاب الناس في القرطاس دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء، والله أعلم بالصواب.
نوع آخرمن هذا الفصلفي البشارة والخبر والحديث وما يتصل بها
قال في «الجامع»: إذا قال الرجل لغيره إن أخبرتني أن فلاناً قدم فامرأتي طالق أو قال: فعبدي حر، فأخبره بذلك كاذباً حنث في يمينيه وعتق العبد، لأن شرط الحنث مطلق الخبر، ومطلقه يتحقق بالصدق والكذب، ألا ترى أن الناس في عرفهم وفي عاداتهم يقولون: أخبرنا فلان كاذباً، كما يقولون: أخبرنا فلان، وهذا بخلاف ما لو قال: إن أخبرتني بقدوم فلان، وأخبره بذلك كاذباً (لم) يحنث ولا يعتق عبده، لأن شرط الحنث في تلك المسألة إخبار ملصق (371أ1) بقدومه، لأن حرف الباء لغة للإلصاق، والخبر إذا كان كاذباً لا يكون ملصقاً بالقدوم، فلا يتحقق شرط الحنث. واستشهد في «الكتاب»، فقال: ألا ترى أنه قال لغيره: إن أخبرتني أن امرأتي في الدار فكذا، فأخبره بذلك كاذباً يحنث في يمينه. ولو قال: إن أخبرتني بمكان امرأتي في الدار لا يحنث في يمينه والفرق ما أشرنا إليه.(4/723)
-----
ولو قال: إن بشرتني أن فلاناً قد قدم، إذا قال: إن بشرتني بقدوم فلان فكذا، فبشره بذلك كذباً لا يحنث في يمينه، لأن البشارة لغة اسم لخبر سار صرف ، وليس عند المبشر له علمه، لأنها مأخوذة من البشرى، وهو ما يظهر في بشرة الوجه من فرح أو حزن، لكن كثر استعماله فيما يظهر في بشرة الوجه في فرح، فصار الاسم لما يظهر في بشرة الوجه من الفرح، حكم عليه الاستعمال كالحقيقة والكلام بحقيقته يقتضيه الأصل، وإنما يظهر الفرح في بشرة الوجه إذا كان الخبر صادقاً، ولا يكون المبشر له علم به.Y
ولو قال: إن علمتني أن فلاناً قد قدم، أو قال: إن أعلمتني بقدوم فلان فكذا، فأخبره بذلك كاذباً لا يحنث لأن شرط الحنث الإعلام، والإعلام إيقاع العلم المنافي للجهل للعبد، وبالخبر الكذب لا يحصل العلم، فلا يتحقق شرط الحنث.
وإن أخبره بذلك صادقاً ولكن بعدما علم الحالف إنه لا يحنث أيضاً، لأن العلم لم يحصل للحالف بهذا الخبر فلا يكون هذا الخبر إعلاماً، بخلاف ما لو قال: إن أخبرتني، فأخبره بعدما علم الحالف به، فإنه يحنث في يمينه، لأن مطلق الإخبار يتحقق وإن كان للمخبر له علم بالمخبر به. وإن عنى بقوله: أعلمني أخبرني حنث الحالف وإن كان الإخبار بعد ما حصل العلم للحالف بما أخبر له، لأنه نوى ما يحتمله كلامه، الإعلام إخبار وزيادة فيجوز إطلاق اسم الإعلام على الإخبار بطريق المجاز. فهو معنى قولنا: نوى ما يحتمله لفظه، وينبغي أن تصح نيته ديانة وقضاءً، لأن فيما نوى تغليظ عليه.
(4/724)
-----
ولو قال له: إن كتبت إلي أن فلان قد قدم فكذا، فكتب إليه كاذباً يحنث، لأن شرط الحنث ههنا كتابة ملصقة بالقدوم، وذلك لا يكون إلا بعد القدوم، ولو كتب إليه في هذه الصورة أن فلاناً قد قدم وقد كان فلان قدم قبل الكتابة، إلا أن الكتابة لم تعلم بذلك حنث الحالف في يمينه، لأن شرط الحنث في هذه الصورة كتابة ملصقة بالقدوم، لا علم «الكتاب» بالقدوم، وقد وجد ههنا كتابة ملصقة بالقدوم، فتحقق شرط الحنث.
قال في «الزيادات»: إذا حلف الرجل لا يظهر سِرّ فلان لفلان أبداً، فأخبر به بكتاب كتبه إليه أو بكلام أو سأله فلان أكان سرّ فلان كذا، فأشار برأسه أي نعم حنث في يمينه. لأن الإظهار عبارة عن فعل يحصل به الظهور، وقد حصل الظهور بهذه الأشياء، وكذلك لو حلف لا يفشي سر فلان إلى فلان وحلف لا يعلم فلاناً بسرّ فلان أو بمكان فلان ففعل شيئاً مما ذكرنا حنث في يمينه، لوجود شرط الحنث وهو الإفشاء، فإن الإفشاء والإعلام يحصل بهذه الأشياء.
وكذلك لو حلف ليكتمن سره أو أخفينه أو أستر به ففعل شيئاً من ذلك حنث في يمينه، لأن شرط البر الإخفاء والكتمان والستر. فكان شرط الحنث ضد ذلك، وهو الإظهار، وقد تحقق الإظهار بما فعل بتحقق شرط الحنث.
وكذلك إذا حلف لا يدُلّ على فلان ففعل شيئاً من ذلك حنث في يمينه؛ لأن الدلالة بمعنى الإظهار والإعلام. وإن عنى في هذه الوجوه كلها الإخبار بالكلام والكتابة والرسالة دون الإشارة، ذكر في «الكتاب» أنه يدين، ولم يزد على هذا ولا شك أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى. لأن الإظهار والإفشاء والإعلام وإن كان يحصل بالإشارة فهي بالكلام والكتابة. فإذا نوى ذلك فقد نوى ما هو أحد الوجوه من محتملات لفظه، والله تعالى مطلع على ما في ضميره.
وهل يصدق في القضاء؟ ذكر عن الحاكم أبي نصر محمد بن مهرونة أنه يصدق، وعامة المشايخ رحمهم الله على أنه لا يصدق.(4/725)
-----
ثم إذا حلف بهذه الأشياء وطلب الحيلة والمخرج عن ذلك، فالحيلة أن يقال: إنا نذكر أماكن وأشياء من التهمة مما ليس بمكان فلا تستره فقل: لا، فإذا تكلمنا بسره أو مكانه فاسكت، فإذا فعل ذلك واستدلوا على سره ومكانه لا يحنث في يمينه، لأن هذا ليس بإظهار ولا إفشاء ولا إعلام ولا دلالة لأن هذه لا بد لها من قول، ولم يوجد منه إلا السكوت وإنه ليس بقول ولا فعل بل هو ترك الفعل، إلا أنهم استدلوا بسكوته على مرادهم واستدلالهم بفعل منهم ولا يصلح سبباً للحنث.
وإذا حلف لا (يستحلف) فلانة فأومأ لها بخدمة فقد استخدم، والاستخدام بالإشارة متعارف خصوصاً في الملوك والأكابر، ويستوي إن خدمته فلانة أو لم تخدمه، لأن اليمين عقدت على الاستخدام، والاستخدام طلب الخدمة وقد تحقق طلب الخدمة، وإن لم تخدمه فلانة.
وإذا حلف الحر فلان السر فلاناً أو بمكاني ففعل ذلك بكتاب أو رسالة حنث في يمينه، لوجود الشرط فإن الإخبار كما يكون بالكلام يكون بالكتابة والرسالة. وكذلك لو حلف لا يبشر فلاناً بكذا، ففعل ذلك بكتاب أو رسالة يحنث في يمينه، ولو قيل له: أكان الأمر كذا؟ فلان في موضع كذا؟ فأومأ برأسه أي نعم فهذا ليس بإخبار ولا بشارة ولا يحنث في يمينه. ألا ترى أن بعد هذه الإشارة يتحرر ذلك الرجل أن يقول: ما أخبرنا فلان ولا تسرر به وإنما أشار برأسه. وإن عَبَّر بالإخبار والبشارة الإشارة بالرأس، وغير ذلك صدق ديانة وقضاء. لأنه معنى الإخبار والبشارة وفيه تغليظ وتشديد عليه فيصدق.
وإذا حلف لا يقّر لفلان بمال فقيل له: لفلان عليك كذا وكذا، فأشار برأسه أي نعم لا يحنث في يمينه، لأن الإقرار لا يتحقق (371ب1) بالإشارة؛ ولأنه إخبار عن كائن سيأتي.(4/726)
-----
وقد ذكر أن الإخبار لا يفصل بالإشارة، ألا ترى أنه لو قرىء عليه حكي إقرار وقيل أهو هكذا؟ فأشار برأسه أي نعم لا يكون إقراراً حتى لا يحل للشهود أن يشهدوا عليه بذلك المال كذا ههنا. فإن قيل أليس أن الأخرس إذا أقر بالإشارة فإنه يصح ويقضي القاضي به، ولو كان الإقرار مما لا يحصل بالإشارة ينبغي أن لا يصح. قلنا من وجهين: أحدهما: أن شرط جواز القضاء ليس هو الإقرار ولا الإشارة، وإنما الشرط علم القاضي بوجوب الحق، فالعلم حاصل بالإشارة وإن لم يكن إقراراً، أما شرط الحنث غير الإقرار، والإقرار لا يحصل بالإشارة.
والثاني: أن (في) حق الأخرس قامت الإشارة بحكم العجز مقام الإقرار، وجاء القضاء لوجود ما قام مقام الإقرار لا وجود الإقرار، فأما شرط الحنث الإقرار لا ما قام مقام الإقرار، وإن قال: عنيت أن لا أقر بالإشارة فهو كما عنى، لأنه نوى معنى الإقرار، وفيه تغليظ وتشديد عليه، وإذا حلف أن لا يتكلم بسرّ فلان لا يحنث بالكتابة والرسالة والإشارة، لأن الكلام ما يكون مشافهة ببيان يسمى متكلماً، ألا ترى أن موسى صلوات الله وسلامه عليه، كان مخصوصاً من الرسل بكلام الله تعالى مع استوائهم في الكتابة والرسالة.
ولو قيل له: أكان سر فلان كذا، أو قيل له: أفلان بمكان كذا. فقال: نعم يحنث في يمينه، لأن نعم جواب لما سبق من السؤال، والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال، فكأنه قال: نعم سر فلان كذا، فلان في مكان كذا، ولو صرح بهذا ليس إنه يحنث فكذا ههنا، والجواب في قوله: سر فلان نظير الجواب في قوله لا يتكلم سر فلان.
(4/727)
-----
ولو حلف على هذه الأيمان كلها ثم خرس الحالف وصار بحيث لا يقدر على التكلم كانت يمينه على الإشارة والكتابة؛ إلا في خصلة واحدة؛ إنه إذا حلف لا يتكلم بسر فلان أو حلف لا يحدث بسرّ فلان لم يحنث بالإشارة والكتابة، وإن كانت الإشارة والكتابة بعد الخرس، وهذا لأن الخرس ينافي الكلام والحديث، ولا ينافي ما سوى ذلك من الإقرار والإخبار والبشارة على حسب ما يليق بحاله، وكل ما ذكرنا أنه يحنث بالإشارة. إذا قال: اشربوا ماء لا لزيد الذي حلفت عليه. فإن كات جواباً لشيء سئل عنه لم يصدق في القضاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى، لأن ما يقوله محتمل بأن أراد بالإشارة الابتداء، إلا أنه خلاف الظاهر؛ لأن الجواب يتقيد بالسؤال فلما كان الاحتمال يدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولما أنه خلاف الظاهر لا يصدق في القضاء، وإذا قال: لا أقول لفلان كذا، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع»، ولا في «الزيادات».
وروي عنه في «النوادر»: أنه مثل الخبر والبشارة، حتى الحنث بالكتاب والرسالة قال: ألا ترى أنك تقول: قال الله لنا كذا. ولا تقول: كلمنا، ولو حلف لا يدعو فلاناً فدعاهُ بكتابة أو رسالة روى هشام عن أبي يوسف أنه لا يحنث، وفي ظاهر الرواية يحنث، لأن في العرف الدعاء بالرسالة والكتابة كالدعاء بالمشافهة، يقال: دعا السلطان أمير بلدة كذا إلى بابه، وإن كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً. والرسول صلى الله عليه وسلّمبعث داعياً للكل إلى الله تعالى، وقد دعا البعض بالمشافهة والبعض بالكتابة والرسالة، وكان داعياً في حق الكل.(4/728)
-----
وروي عن محمد رحمه الله في «النوادر»: أن التبليغ بمنزلة الإخبار يحصل بالكتابة والرسول، وكذلك الذكر يحصل بالكتابة والرسول. ولو قال: أي عبد بشرني بكذا فهو حر فبشروهُ معاً عتقوا، ولو بشره واحد بعد واحد عتق الأول خاصة، ولو أرسل إليه أحدٌ منهم رسولاً فإن أضاف الرسول الخبر إلى المرسل عتق المرسل، ولو أخبره الرسول ولم يضف إلى العبد لم يعتق.
نوع آخر من هذا الفصل فيالشتم والسب وأشباهما
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال الرجل لغيره: إن شتمتك في المسجد فعبدي حر، فشتمهُ والشاتم في المسجد والمشتوم خارج المسجد يحنث، ولو كان على العكس لا يحنث، لأن غرض الحالف من هذه اليمين صيانة نفسه عن مباشرة ما لا يحل مباشرتهُ في المسجد، وهو الفحش واللغو، وهذا المقصود إنما يحصل بما قلنا.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جرى بينه وبين والدته تشاجر، وقال الرجل لوالدتهِ: اكر مرأ تركي فامرأتي طالق وخرج من المنزل، وقالت والدتهُ مه بوتاش ومردون بو فسمع الرجل هذه المقالة طلقت امرأتهُ. قال لأن هذا ....كبدل.
وفيه أيضاً: إذا حلف لا يشتم أحداً. فقذف أو شتم مثنى يحنث في يمينهِ، لأنه قذف وشتم. قال لامرأتهِ: إن شتمت أمي أو ذكرت سرها فأنت طالق، فقالت له: كانت أمك ..... طلقت.
وفي عتاق «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، إذا قال لعبده: إن شتمتك فأنت حر، قال له: لا بارك الله فيه لا يعتق؛ لأن هذا ليس بشتم بل هذا دعاء عليه، وهكذا ذكر في أيمان «الجامع الصغير».
فيه أيضاً: إذا قال لغيره: لا أنت ولا أهلك ولا مالك إن هذا شتم، وعلل فقال: لأن هذا لعن، واللعن شتم فيما بين الناس (372أ1).
وإذا حلف لا يقذف فلاناً. ثم قال له: ..... في المشايخ رحمهم فيه. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه يحنث لأن هذا قذف له في حكم العرف والعادة.(4/729)
-----
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لامرأته: إن لم.... أو قال: إن لم أسرك فأنت طالق ثلاثاً، فغاب عنها أشهراً لم ينفق عليها وتزوج عليها، قال لها أهلها: قد أساءك زوجك ..... فقالت ما ساءني وما .... .
فالقول قول المرأة ولا يحنث، وعليه لو قال إن ضاررتك ولو قال: إن أسأتك فأنت طالق ففعل ذلك فأضر لإضررارها... لإضرارها حنث.
امرأة كانت تمن على زوجها بشيء صنعت في حقه فقال الزوج: اكرموايتس يسرزني فامتنعت عن ذلك في وجه الزواج، ولكن كانت تركد عند غيبته مع غيره فلا حنث إذا كان مراده وكرها ذلك بين يديه هكذا حكى فتوى نجم الدين النسفي.
رجل لامرأته: بابراده دشنام ندهي مرامن يكي دشنام نذهم ترا، وحلف عليه ثم إنها شتمت زوجها عشر مرات، وهو لم يشتمها أو شتمها، ثم إن الزوج شتمها في وقت آخر، لم تشتمه في ذلك الوقت لم يحنث في يمينه، لأنه جعل ليمينه على شتمها غاية، وهو شتمها إياه عشر مرات حنث.
قال: يا توده وشنام ندهي مرا،فإذا شتمته عشر مرات فقد انتهت يمينه، فلا يحنث متى شتمها بعد ذلك، ولو قال: ميركاه كي تومرا دثنام وهي من ترايك وشنام ندهم فكذا مع أي وقت شتمها ولم تكن هي شتمته سابقاً على شتمه عشر مرات طلقت، لأن هذه الصورة ما فعل ليمينه غاية بل جعل شرط الحنث في يمينه شتمه في عموم الأوقات قبل شتمها إياه.(4/730)
ولو قال: هركاه تراب صحاح سود باتو امراده شنام ندهي من ترابك وشنام ندهم فههنا لا ينتهي يمين الزوج بوجود الشتم منها مرة، وإن ذكر حرف الغاية وهو قوله بالآية، إنما ذكر الغاية بكل وقت ومع فيه إلحاح فينتهي اليمين في كل وقت وقع فيه اللجاج بوجود الشرط فيها، ويبقى اليمين على وقت آخر يقع اللجاج فيه لعموم اللفظ. هكذا حكى فتوى نجم الدين النسفي رحمه الله، وهذا إشارة إلى أن قوله: هركاه يقع على كل مرة وقد ذكرنا اختيار الصدر الشهيد رحمه الله، فيه أنه يقع على مرة واحدة، والله أعلم.(4/731)
-----
الفصل الحادي عشر في الحلف على العقود
هذا الفصل مشتمل على أنواع.
نوع منه في النكاح
بعض مسائل هذا النوع قد تقدم ذكره في آخر كتابه، وبعضها تقدم ذكره في كتاب الطلاق، جملة ما لم يتقدم ذكره ثمة ما قال في «الجامع»: إذا حلف الرجل أن لا يتزوج اليوم امرأة، فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً لم يحنث في يمينه، لأن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل والتام. وتمام السبب في الوكالة وكماله بإفادته الحكم المختص به المقصود منه، والحكم المقصود المختص بالنكاح الحل، والنكاح الفاسد لا يفيد الحل ما لم يكن تاماً، فلا يوجد شرط الحنث، ولأن السبب إنما ينعقد بصفة التمام إذا لم يكن في المحل ما ينافيه، وفي المحل ما ينافي النكاح من وجه، لأن النكاح نقيض المملوكية، والحرية تنافي المملوكية فلا يكون محلاً، وكان محلاً من وجه دون وجه، وإنما سقط باعتبار المنافي باعتبار الحاجة تندفع بالجائز، فلا حاجة إلى الفاسد كيف وإنّ الحاجة لا تُدْفع بالفاسد ..... لأنه لا يفيد الحل، ثم هذا التعليل إشارة إلى أن النكاح الفاسد منعقد ولكن لا بصفة التمام.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ رحمهم الله، قالوا بعضهم: ينعقد ولكن لا بصفة التمام، وبعضهم قال: لا ينعقد أصلاً؛ لأن في المحل ما ينافيه. وإنما سقط اعتبار المنافي لحاجة ولا حاجة إلى النكاح الفاسد، أو لا تندفع الحاجة بالنكاح الفاسد فلا يسقط اعتبار المنافي في حق النكاح الفاسد، والنكاح الفاسد لم يصادف محله فلم ينعقد أصلاً.(4/732)
-----
ومنهم من قال: ينعقد مقتضى الإقدام على الوطء ضرورة أن لا يمتنع ما للزوج ولا ضرورة في حق الحنث فلا يظهر الانعقاد في حق الحنث، هذا إذا عقد يمينه على المستقبل، ولو عقد يمينه على الماضي بأن قال: إن كنت تزوجت أمس فكذا، وكان تزوج امرأة نكاحاً فاسداً حنث، واسم النكاح مطلقاً في المستقبل ينصرف إلى الجائز دون الفاسد، وفي الماضي ينصرف إلى الجائز والفاسد جميعاً، والقياس في الماضي أن ينصرف إلى الجائز أيضاً لما ذكرنا أن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل والتام، لكن تركنا القياس في الماضي بحكم العرف، فإن في العرف يراد بالإخبار عن أمر ماضى الحكاية عن الموجود ولا يراد به الحكم ولا المقصود الذي شرع له.
قلنا: والصحيح والفاسد في حق صحة الحكاية عنه سواء، ومثل هذا العرف لم يوجد في المستقبل فيعمل فيه بقضية القياس، ولأن مطلق الاسم لما انصرف إلى الجائز بالدليل الذي قلنا صار الجواز كالمنصوص عليه في الماضي والمستقبل، إلا أنه لو صرّح بالجواز الماضي يحنث بالفاسد، لأن النكاح في الماضي صار عيناً بالأداء، والصفة في العتق لغو، ولو صرح في الجواز في المستقبل لا يحنث بالفاسد، لأن النكاح في المستقبل لم يصر عيناً، والصفة في غير المعين معتبرة، وإن نوى الجائز في الماضي، أو نوى الفاسد في المستقبل دين فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء.
(4/733)
-----
وروى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: إن كنت تزوجت اليوم امرأة فعبدي حر، وقد كان تزوجها نكاحاً فاسداً لا يحنث في يمينه، ولو حلف لا يتزوج امرأة فتزوج امرأة بغير أمرها بأن زوجها منه فضولي لا يحنث في يمينه. فرق بين نكاح (372با) الفضولي وبين بيع الفضولي ولا فرق بينهما من حيث الصورة، لأن نكاح الفضولي يفيد الحكم في الجملة، فإنه يفيد الحل عند إجازة المرأة، كما أن بيع الفضولي يفيد الحكم وهو الملك عند إجازة المالك، وكان كاملاً كالبيع فيتناول مطلق اسم الزواج، ومع هذا فرق بينهما فقال: في النكاح لا يحنث. وقال: في البيع يحنث.
والفرق أن نكاح الفضولي ليس بمنعقد على سبيل التمام، لأن في المحل ما ينافيه على ما مرّ فلا يكون تاماً، فلا يتناول مطلق الاسم إلا أن الشرع أسقط اعتبار المنافي في حالة مخصوصة، وهي حالة رضاها، في باب النكاح، وفيما عدا هذه الحالة لا يسقط اعتباره فلا يتم الانعقاد والتقريب ما مرّ، بخلاف بيع الفضولي؛ لأن بيع الفضولي تام؛ إذ ليس في المحل ما ينافيه.
فإن قيل: الحكم في حق الأمة نظير الحكم في حق الحرة، وليس في الأمة ما ينافي الانعقاد، قلنا: لا بل في الأمة ما ينافي الانعقاد، لأن بالرق ذهب نصف وبقي النصف، كما كان قبل الرق بقي الباقي الجواز باعتبار الحرية، وبهذا استحق القسم كما قبل الرق، فلو أن المرأة أجازت النكاح حنث في يمينه، لأن بالإجازة ينعقد العقد بصفة التمام فتم السبب، ولذلك إن أجازت في العقد يحنث في يمينه، وكان ينبغي أن لا يحنث، لأن النكاح إنما تم في العقد وشرط الحنث نكاح تام اليوم، والجواب: النكاح وإن تم في الغد إلا أن التمام صفة النكاح، والصفة تقوم بالموصوف وتستند إلى وقت النكاح ولهذا شرطت الشهادة وقت النكاح لا وقت الإجازة، وإذا استند التمام إلى وقت النكاح كان النكاح تاماً في اليوم، فلهذا حنث في يمينه.(4/734)
-----
قال في «الكتاب»: ألا ترى أن من حلف أن لا يتزوج امرأة بالكوفة، فتزوج امرأة بغير رضاها فبلغها الخبر وهي بالبصرة، فأجازت نكاحها حنث في يمينه، وإن كان تمام النكاح بالإجازة، والإجازة وجدت بالبصرة، ولكن قيل: بأن التمام مستند إلى وقت العقد، والعقد وجد بالكوفة وبهاتين المسألتين يستدل بعض مشايخنا رحمهم الله فيمن حلف بطلاق امرأة أتزوجها، فزوجه رجل تلك المرأة بغير أمره، وأجاز قولاً أو فعلاً إنها لا تطلق؛ لأنه عقد يمينه على التزوج، والإجازة ليست بتزوج ولا بتزويج ألا ترى أن محمداً رحمه الله، لم يجعل الإجازة تزويجاً في هاتين المسألتين؛ إذ لو جعلها تزويجاً كان لا يحنث، إذا أجازت في الغد وإذا أجازت بالبصرة كما لو تزوجها، وكما لو تزوجها في الغد وكما لو تزوجها بالبصرة، فعرفنا أن الإجازة ليست بتزويج ولا تزوج، فهذا فصل اختلف المشايخ فيه، وقد ذكرنا اختلاف المشايخ رحمهم الله في تلك المسألة أنها تطلق أجاز الزوج نكاحها قولاً أو فعلاً يصدر عن هاتين المسألتين. ويقول: بأن طريق الحنث في تلك المسألة أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء من حيث إن العاقد بالإجازة يصير نائباً عنه من ذلك الوقت ويعد النائب كفعل المنوب عنه فيصير متزوجاً من ذلك الوقت.
إذا ثبت هذا فنقول: المرأة بالإجازة في هاتين المسألتين صارت من وجه ..... من ذلك الوقت الذي عقد الفضولي العقد عليها بفعل الفضولي، كما لو أذنت بذلك في الابتداء، فلهذا حنث في المسألتين.(4/735)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال الرجل: لأتزوجن بالكوفة فزوجه رجل وليته الكبيرة ببغداد وبلغها الخبر فأجازت وهي بالكوفة، فقد بر في يمينه قال: لأنه إنما صار متزوجاً يوم أجازت النكاح، وعلى هذا إذا قال: لأتزوجن يوم الجمعة، فزوجه رجل ابنته يوم الخميس وأجازت يوم الجمعة وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يبر ههنا لأن عمل الإجازة في إتمام النكاح، والتمام مستند إلى وقت المباشرة فيصير متزوجاً ببغداد ويوم الخميس فلا يبر.
وفي «العيون»: إذا حلف الرجل لأتزوجن سراً فأشهد بشاهدين فهو يبرُّ في يمينه؛ لأن النكاح لا تصور له بدون الشاهدين.
ولو أشهد ثلاثاً يحنث، لأن هذا علانية لأن النكاح يتصور بدون الثلاث فيصير علانية.
إذا حلف بالفارسية اكرزن كنم أو قال: اكرزن خواتيم أو قال: اكرزن لدام، فقوله: اكرزن كنم، وقوله اكرزن لدام، فقوله: اكرزن كنم، قوله إن تزوجت فيقع يمينه على العقد.
وقوله اكرزن لدام، فقوله: اكرزن كنم، اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، بعضهم قالوا: هو على العقد وقال بعضهم هو على الفعل... وهو الأظهر وأشبه، وإذا حلف لا أتزوج امرأة فوكل رجلاً حتى يزوجها منه، فزوجها منه حنث في يمينه.
وكذلك إذا وكل رجلاً أن يزوج له امرأة ثم حلف أن لا يتزوج فزوجه الوكيل تلك المرأة يحنث في يمينه، لأن الوكيل في باب النكاح، سفير ومفسر فتصير عبارته إلى الموكل وكأن الموكل تزوجها بعد اليمين، ولأجل هذا المعنى كانت العهدة على الموكل دون الوكيل ذكره في «الزيادات».
وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يتزوج امرأة فتزوج خنثى حنث. وفيه أيضاً إذا حلف الرجل وهو ببغداد أن لا يتزوج من نساء بغداد فبعث إلى واسطية بواسط ليتزوجها، فحضرت الواسطية بغداد وتزوجها.d(4/736)
-----
قال: إن كانت الواسطية حين دخلت بغداد وطئت بغداد ثم تزوجها الحالف يحنث، لأنها صارت من نساء بغداد وإن كانت حين دخلت بغداد. قالت: إن تزوجني فلان أقمت ببغداد وإلا انصرفت إلى واسط فهذه ليست من نساء بغداد فلا يحنث بتزوجها. قال: ألا ترى أنها تصلي صلاة المسافرين في هذه الصورة، وفي الصورة الأولى تصلي صلاة المقيمين، إذا حلف الرجل أن (373أ1) لا يتزوج بجن فزوجه لبؤه لا يحنث، هكذا ذكر في «الفتاوى».
وفي «القدوري»: إذا حلف لا يتزوج امرأة فصار معتوهاً فزوجه أبوه امرأة يحنث في يمينه، قال: لأن الحقوق تعود إليه فكان هو المتزوج. عبد حلف أن لا يتزوج امرأة فزوجه المولى امرأة على كره منه لا يحنث في يمينه، لأنه لم يتزوج ولو أكرهه المولى حتى تزوج بنفسه يحنث، لأنه قد تزوج.
وفي «العيون»: إذا حلف الرجل لا يتزوج من نساء أهل البصرة، فتزوج جارية قد ولدت بالبصرة ونشأت بالكوفة وأوطنت بها يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يعتبر الولادة، فبهذه المسألة تبين أن ما تقدم من مسألة الواسطية، إذا وطنت ببغداد قولهما، لا قول أبي حنيفة رحمه الله وإذا حلف لا يزوج قروية فقد قيل: من كان خارج المصر فهو قروي، وهذا الجواب لا يستقيم فيمن سكن في المصر. ألا ترى أن من سكن ببخارى في بكستان قوط أو في رباط وليان لا يسمى قروياً. ولو ذهبت امرأة مِصرية إلى قرية فولدت ثمة ولداً فالولد قروي على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. وإن ذهبت إلى كرم وولدت ثمة ولداً فالولد لا يكون قروياً.(4/737)
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا حلف لا يتزوج من بنات فلان فتزوج ابنه ابنته حنث. ولو قال: من أهل بيته فتزوج ابنة ابنته يحنث، لأن البنت من ..... ما ليست من أهل بيته. لأن المراد من هذا البيت بيت ابنته والبنت ...... إذا قال لامرأة: إن جلست في نكاحك فامرأته طالق فتزوجها لا تطلق، لأن المفهوم من هذا الكلام، جلوسه في نكاهما مع غيره لا مع نفسه.(4/738)
-----
إذا قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق إن تزوجتك فتزوجها لا تطلق لأن المعلق بتزوجها طلاق معلّق بتزوجها فعند تزوجها يصير قائلاً لها أنت طالق إن تزوجتك، فإن طلقها ثم تزوجها ثانياً فقد تحقق الشرط، فيقع الطلاق فحينئذ يحكم اليمين. وما لا فلا، وعن أبي يوسف رحمه الله؛ فيمن حلف لا يزوج ابنته الصغيرة فأمر رجلاً فتزوجها فهو حانث، وكذلك لو زوجها فضولي فأجاز فهو حانث لأن حقوق العقد لا تتعلق بالعاقد فانصرفت اليمين إلى الإجازة، ويتقيد الحكم، وقد وجد عن أبي يوسف أيضاً في الرجل حلف لا يزوج عبده امرأة فتزوجها فضولي غيره، وأجاز هو أنه حنث. وعن محمد رحمه الله في فصل الفضولي أنه لا يحنث على الأب، لأن الإجازة ليست بتزويج، وإذا حلف لا يزوج ابناً له كبيراً فأمر رجلاً فزوجه وأجاز الابن لا يحنث، لأنه لم يوجد منه العقد ولا الإجازة.
وعن محمد رحمه الله في امرأة حلفت لا تزوج نفسها فزوجها رجل بأمرها أو بغير أمرها فأجازت حنثت. وهذه الرواية في الإجازة مخالفة للرواية المتقدمة، وكذلك البكر إذا حلفت لا تزوج نفسها فزوجها رجل بغير أمرها فبلغها الخبر فسكتت فهي حانثه. ولو حلفت البكر لا تأذن أحداً حتى يزوجها فزوجها رجل وبلغها الخبر فسكتت فلا رواية في هذا الفصل عن محمد رحمه الله، وأما الرواية في الرجل حلف لا يأذن لعبده في التجارة فرآه يبيع ويشتري فسكت فهو حانث. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يحنث في المسألتين، لأن الإذن تصرف قولي لا يوجد إلا باللسان. وذكر في «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يحنث.
(4/739)
-----
إذا حلف لا يتزوج فلانة، فأمر رجلاً فزوجه يحنث. رجل تزوج امرأة وقد دخل بها ثم قال: قد كنت حلفت بطلاق كل امرأة ثيب أتزوجها، فتزوجت بهذه ولم أعلم كونها ثيباً حتى دخلت بها فوجدتها ثيباً وقع الطلاق عليه للحال، لأنه أقر بطلاقها ومالك إنشاء الطلاق فيملك إقراره به، بعد ذلك المسألة على وجهين إن صدقته المرأة فيما قال، فلها مهر ونصف المهر، نصف المهر بالطلاق قبل الدخول، ومهر آخر بالدخول بها بعدما وقع الطلاق عليها، وعليها العدة وليس لها نفقة العدة ولا السكنى ولا يجب عليها الحداد؟ وإن كذبته المرأة فيما قال فلها مهر واحد، وعليها العدة ولها نفقة العدة والسكنى، وعليها الحداد قيل: إنما يقع الطلاق في الصورة إذا صارت ثيباً بالإصابة ، فأما إذا صارت ثيبتاً بالوثبة أو بالطفرة..... السلام لا يقع.
رجل قال: إن تزوجت امرأة كان لها زوج فهي طالق، وطلق امرأته بطلقة بائنة ثم تزوجها لا تطلق، لأن اليمين وقعت على غيرها ولاية، وكذلك إذا قال: إن تزوجت امرأة ثيباً، أو قال: بالفارسية اكرزن روى شحاده تطلق امرأته التي دخل بها تطليقة بائنة، ثم تزوجها لا تطلق، لأن اليمين وقعت على غيرها، لأن غرضه الامتناع عن نكاح ممسوسة الغير، وقد قيل: وقوع الطلاق في هذه الفصول كلها، فالقول الأول راجع إلى اعتبار اللفظ. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، وأصل المسألة في «الجامع»:
امرأة قالت لزوجها: إن تزوجت عليّ امرأة فهي طالق ثلاثاً. فقال الزوج: بره طلاق فتزوج تطلق، لأن كلامه خرج جواباً، والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فكأنه قال: إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق عشر تطليقات.(4/740)
-----
إذا حلف لا يتزوج بالزيادة على دينار فتزوج على فضة هي أكثر من دينار قيمته فلا حنث عليه، لأن الزيادة إنما تكون من جنس المزيد عليه ولم يوجد، ولو حلف ليتزوجن هذه المرأة اليوم ولها زوج فهذا على النكاح الفاسد، إذ لا يتصور العقد الصحيح فيها، اليوم فينصرف يمينه إلى النكاح الفاسد (373ب1) حتى لو أطلق الكلام ولم يقيده باليوم فحلف ليتزوجن هذه المرأة كانت يمينه على النكاح الصحيح، لأنه إذا لم يقيد يمينه باليوم كان يمينه على الزواج في العمر، والتزوج الصحيح فيها في العمر متصور فلا ينصرف يمينه إلى النكاح الفاسد.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال الرجل لأجنبية: إن نكحتك فأنت طالق، ينصرف يمينه إلى العقد، ولو قال ذلك لامرأته أو لجاريته ينصرف إلى الوطء، حتى لو طلق امرأته وأعتق جاريته ثم تزوجها لا يحنث في يمينه، والفرق أن النكاح للوطء حقيقة وللعقد مجازاً لهما إذ أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى المجاز وفي الأجنبية العمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى المجاز، وهو نظيره لو قال: إن راجعتك فكذا كانت يمينه على العقد، ولو قال لمنكوحته: إن راجعتك فكذا. كان يمينه على المراجعة الحقيقية، حتى لو طلقها ثم راجعها يحنث في يمينه، ولو تزوجها لا يحنث لأن في الأجنبيّة العمل بحقيقة المراجعة غير ممكن فانصرف يمينه إلى المجاز، وفي المنكوحة العمل بحقيقة المراجعة ممكن فلا ضرورة إلى صرف يمينه إلى المجاز.
(4/741)
-----
قال في أيمان «الجامع»: إذا قال لامرأة لا تحل له وهو يعرف ذلك: إن نكحتك فعبدي حر، وهذا على صورة النكاح، وهو النكاح اللغوي لأنه هو المتصور، ولو قال: إن تزوجت الجدار أو تزوجت الحمار فعبدي حر. لا ينعقد اليمين، لا أصلاً لأن هناك لا تصور للزوج أصلاً لا لغة ولا شرعاً، ولا يسمى ذلك تزوجاً لغةً، ولهذا لا تصح إضافة التزوج إلى الجدار والحمار لغة، والتعليق بما لا يكون نصاً للحكم، أما في المرأة التي لا يحلّ التزوج متصور لغة وبهذا صح إضافة التزوج إليه فانعقد اليمين عليه والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في البيع والشراء
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: وإذا حلف الرجل أن لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً يحنث في يمينه، هكذا ذكر في «ظاهر الرواية»، وفي «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يحنث، والصحيح ما ذكر في «ظاهر الرواية»، ووجه ذلك أن البيع الفاسد بيع تام؛ إذ ليس في المحل ما ينافي انعقاده، إلا أنه ينافي حكمهُ وهو الملك، وأنه لا يدل على نقصان فيه، كالبيع بشرط الخيار، يبقى هذا القدر لا يفيده الحل لا في الحال ولا في الثاني، قلنا: نعم إلا أن الحل ليس بحكم مقصود من البيع وإنما المقصود منه والمختص به الملك، والبيع الفاسد يفيد الملك في الجملة، وكمال السبب بإفادة الحكم المختص به، والمقصود منهُ لا بإفادته الحكم الزائد، فلو حلف لا يشتري اليوم فاشترى خمراً أو خنزير يحنث في يمينهِ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث، هكذا ذكر المسألة في «الجامع».(4/742)
-----
وذكر مسألة الشراء في موضع آخر، وذكر فيها القياس والاستحسان، وذكر القياس والاستحسان في مسألة الشراء، ذكر في مسألة البيع: ولو اشترى بميتةٍ أو دم لا يحنث، لأن الشراء مبادلة المال بالمال والميتة والدم ليسا بمال، وكذلك إذا حلف لا يبيع وباع بالميتة أو الدم لا يحنث لما ذكرنا، ولو حلف لا يشتري فاشترى مكاتباً أو مدبراً أو أم ولد لا يحنث في يمينهِ، وكان ينبغي أن يحنث، لأن يشتري هو لا يفيد الملك في الجملة بأن يجبر المكاتب ببيع نفسه، والقاضي يقضي بجواز بيع المدبر وأم الولد في رواية فيكون نظير البيع الفاسد، والبيع بشرط الخيار للمشتري، والبيع من الفضولي.(4/743)
-----
والجواب: السبب إنما ينعقد بصفة التمام إذا لم يكن في المحل ما ينافي الانعقاد كما في المسائل التي هو ذكرها، فإن في تلك المسائل ليس في المحل ما ينافي انعقاد البيع، لأن المحل مال متقوم من كل وجه فانعقد البيع بصفة التمام، وإن تراخى حكمهُ إلى القبض والإجازة هناك في ثبوت الحكم لا في إزالة المنافي عن السبب، وفي المكاتب والمدبر وأم الولد ما ينافي انعقاد السبب وهو الحرية من والوجه الذي يعبرُ عنها حق الحرية، فلم يكن الإنعقاد ثابتاً بصفة التمام إن سلَّمنا إن بيعهُ يجوز برضاه في إزالة المنافي عن السبب لا في إثبات الحكم وإذا وجدت الإجازة والقضاء زال المنافي عن السبب فينعقد بصفة التمام، ويقع الحنث حينئذ، أما قبل ذلك فلا يحنث، فإن قيل: أليس محمد رحمه الله ذكر في كتاب البيوع إذا جمع الرجل بين مدبر وقن في البيع، والبيع ينعقد في حق القن صحيحاً، ولو لم ينعقد العقد في حق المدبر لما انعقد العقد في حق القن، لأن بيع القن حينئذ يكون بيعاً بالحصة. قلنا: نحن لا ننكر انعقاد العقد في حق هؤلاء أصلاً، وإنما ننكر انعقاده في حقهم بصفة التمام، وهذا لأن امتناع العقد في حق المدبر سببٌ منافي وهو الحرية، والحريه في حقه ثابتةٌ من وجه دون وجه فكان المنافي قائماً من وجه دون وجه فيمتنع الانعقاد من وجه دون وجه، والانعقاد من وجه في حق المدبر يكفي للانعقاد في حق القن بصفة الصحة، لأن الانعقاد في حق القن حينئذ لا يكون بالحصة، هذا إن اشترى هذه الأشياء. ولو اشترى (3741) شيئاً بهذه الأشياء، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل.
(4/744)
-----
وحكي عن بعض مشايخنا رحمهم الله أنه يحنث، كما لو اشترى بالخمر والخنزير، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب المأذون: أن من حلف لا يبيع فباع المدبر لا يحنث في يمينه، علّل فقال: لأن بيعه غير منعقد. ولو اشترى عبداً من رجل قد علم المشتري أن العبد لغير البائع وأنه فضولي في البيع لم يأمره صاحب العبد به حنث في يمينهِ لوجود شرط الحنث وهو الشراء بصفة التمام. فإن الشراء من الفضولي منعقد بصفة التمام، إذ ليس في المحل ما ينافي انعقاده، وأنه يفيد الحكم في الجملة، فصار بمنزلة الشراء الفاسد. فإن كان عقد يمينه على المنافي بأن قالت: إن كنت اشتريت اليوم، أو قال: إن كنت بعت اليوم، وقد كان اشترى شراءً فاسداً، وباع بيعاً فاسداً يحنث في يمينه أيضاً. لأنه لما وقع الحنث بالفاسد والمستقبل، فلأن يقع الحنث في الماضي أولى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: إذا قال: إن لم أبع هذا العبد فكذا. فاعتقه أو دبره حنث في يمنيه، لأن الحنث معلق بترك البيع. وقد ثبت الترك بالإعتاق والتدبير فصار كموت الحالف أو موت العبد قبل البيع، ولو كانت هذهِ المقاله للجارية، وباقي المسألة بحالها فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: لا يحنث لأن احتمال البيع قائم بأن يرتد ويلتجىء بدار الحرب فيبرّ فلا يحنث في يمينه، والصحيح أنه يحنث لأنه عقد يمينه على البيع باعتبار الملك، وقد امتنع ذلك بالإعتاق والتدبير، وفي «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لأمته: إن لم أبعك فأنت حرّة، عتقت في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولاً: لا يعتق لأني(لا) أدري لعلّه يعتقها ثم يرتد وينسى فيسريها ويبيعها، ثم رجع وقال بقول أبي حنيفة رحمه الله.(4/745)
-----
وفي «القدوري»: إذا حلف الرجل ليبيعن أم ولد أو هذه المرأة الحرة المسلمة فباعهم برّ في يمينه عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: في الحر المسلم كذلك، فأما في أم الولد والحرة فاليمين على الحقيقة أن يريد أو يسبا فيبيع، وقول محمد رحمه الله يجب أن يكون كقول أبي يوسف.
وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى ذكرها محمد رحمه الله في «الجامع» إذا قال لحرة: إذا ملكتك فأنت حرة، أو قال لها: إذا اشتريتك فأنت حرّة، فارتدت ولحقت بدار الحرب وسُبيت فملكها الحالف عتقت عندهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تعتق، وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله جعلا الردة واللحاق والسبي مذكوراً صحيحاً لا يجاب الحرية. وأبو حنيفة يقول تصرف العاقل إنما يصح بطريق العلم إن وجد الصحة بذلك الطريق، ونحن نعلم ببديهة العقل أن العاقل لا يقصد الصحة بالطريق الذي قلتم ؟ وبدونه لا يمكن تصحيح تصرفه؛ لأن تعليق العقد إنما يصح إذا حصل في الملك، أو مضافاً إلى ملك يوجب تيقن الجزاء عند وجوده، ولم يوجد كلاهما. أما التعليق بالملك فظاهر، وأما مضافاً إلى ملك يوجب تيقن الجزاء عند وجوده؛ لأنه أضافها إلى ملكها مطلقاً، وهو تملكها بالإجازة والنكاح. وهذا النوع من الملك لا يفيد العتق، ويملكها بعد وجود الوسائط التي ذكرتم، وإنه يفيد العتق وهو ما غير هذا النوع فلا يمكن تصحيح هذا اليمين إذا بينّه هذا.
جئناً إلى مسألتنا فنقول في مسألتنا: إذا عقد يمينه على أم ولده أو على الحرة أمكن حمله على البيع حقيقة بواسطة من الوسائط التي ذكرنا، فلا يحمل على البيع صورة وفيه لا يمكن جعله على الحقيقة، لأن الرجل لا يسبى فيحمل على البيع صورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يلتفت إلى هذه الوسائط، وبدونها لا يمكن جعله على البيع حقيقة فيحمل على البيع صورة.(4/746)
-----
وإذا حلف لا يشتري حمّاً فاشترى رأساً لا يحنث في يمينه، وهذا بناءً على ما قلنا قبل هذا إذ الشراء معتبر بالبيع، وبائع الرأس لا يسمى بائع اللحم، فمشتريه أيضاً لا يكون مشتري اللحم، وهذا الخلاف ما لو حلف أن يأكل لحماً فأكل رأساً حنث في يمينه، لأن الأكل يصادف ما على الرأس، وما على الرأس لحم حقيقة، فأما البيع والشراء يتناول الجملة، وباعتبار الجملة بائع الرأس لا يسمى بائع اللحم فمشتريه أيضاً لا يسمى مشتري اللحم.
ولو حلف لا يشتري رأساً فهو على رأس البقر والغنم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما على رؤوس الغنم، وهذا اختلاف عصر وزمان فكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً هذا على رؤس البقر والغنم والإبل، لما أنه رأى عادة أهل الكوفة أنهم كانوا يبيعون الرؤوس في الأسواق، ثم لما تركوا ذلك في رؤوس الإبل رجع عن ذلك فقال: يمينه على رؤوس البقر والغنم خاصة، ثم إنهما لما شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم يبيعون في الأسواق رأس الغنم خاصة، وهذا إذا لم يكن له نيّة فإن نوى الرؤوس جميعاً فهو على ما نوى، لأنه ما نوى حقيقة كلامه وفيه تشديد عليه.
وإذا حلف لا يشتري شحماً واشترى شحم البطن يحنث، ولو اشترى شحم الظهر فهو الشحم الذي يخالطه اللحم لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في الأصل، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه لا يحنث، ومن المشايخ رحمهم الله من ذكر في «شرح الجامع الصغير» رحمه الله، أنه على الخلاف الذي في قصد الأكل ..... حقيقة وصاحبته، على قول أبي حنيفة رحمه الله يحنث بأكل شحم البطن، وعلى قولهما لا يحنث، ويحنث بأكل شحم بلا خلاف. وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يشتري امرأة، فاشترى عجوزاً أو مرضعة يحنث، وفيه أيضاً إذا حلف لا يشتري غلاماً من نرويه أو من الهند فهو على ذلك الجنس حيث ما اشتراه، ولو قال غلاماً من خراسان.(4/747)
-----
فاشترى غلاماً خراسانياً بغير خراسان لا يحنث. متى اشتراه من خراسان، روى المعلالى عن أبي يوسف رحمه الله إذا حلف الرجل لا يبيع صاعه إلا ببائع كثير فباعه ببائع فسأل التجار الذين يعالجون ذلك المتاع عنه فإن قالوا: هذا البائع في هذا المتاع كثير لا يحنثُ، وإن قالوا: كثير قليل يحنث.
وفي «المنتقى» أيضاً قال في «الجامع (374ب1) الصغير»: وإذا قال الرجل: هذا العبد حر إن بعته فباعه على أنه بالخيار عتق العبد؛ لأن البيع قد وجد بصفة التمام، لوجود حدّه وهو الإيجاب والقبول مضافاً إلى الجمل قابلاً للملك، إلا أن الملك غير بائن ولكن الملك حكم بالبيع وشرط الحنث نفس البيع لا حكمه، فإذا وجد البيع وجد شرط الحنث، والعبد في ملكه والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل. فصار كأنه قال بعد البيع: هذا العبد حر، ومن باع عبداً بشرط الخيار لنفسه ثم أعتق يعتق العبد وينفسخ البيع كذا ههنا.
وكذلك لو قال المشتري: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه على أنه بالخيار ثلاثة أيام فإنه يعتق، ولو كان المشتري قال: إن اشتريته فهو حر ثم اشتراه على أن البائع بالخيار لا يعتق العبد؛ لأن شرط العتق وإن وجد إلا أن العبد ليس في ملكه، وليس له ولاية اسقاط الخيار ليسقطه الخيار ويثبت الملك له مقتضى بزوال العتق، بخلاف ما إذا اشترى بشرط الخيار لنفسه.
وذكر القدوري في «شرحه» أن من حلف أن لا يبيع فباع بيعاً فيه خيار البائع أو المشتري حنث في قول محمد رحمه الله ولم يحنث في قول أبي يوسف رحمه الله، لأن شرط الحنث البيع المطلق والبيع بشرط الخيار بيع مقيد، وتبين مما ذكر القدوري أن ثمّ ذكر في «الجامع الصغير» قول محمد رحمه الله وإذا حلف لا يشتري صوفاً فاشترى شاة على ظهرها صوف لم يحنث.(4/748)
-----
الأصل في جنس هذه المسائل أن المحلوف عليه إذا دخل في الشراء تبعاً بغير المحلوف عليه لا يقع له الحنث، وإن دخل مقصوداً يقع الحنث، وإن دخل مقصوداً خرج على هذا مسألة الشاة لأن الصوف الذي على ظهرها يدخل في البيع تبعاً لأجل. ولو اشترى شاة حيّة على ظهرها صوف بصوف يحنث، لأن الصوف الذي على ظهر الشاة؛ في هذه الصورة مقصوداً بالبيع ويأخذ قسطاً من اليمين، ولهذا شرط الاعتبار في هذا العقد هكذا ذكر من روى « ورق أرمن جاه ذكر است ما اتجاه كه ديكر ورق است غلط اقتاده است أرجهت فسعت» أصلٌ لأجل الخبر وزوج هو إليه الخبر وقال: لا يحنث.
وذكر (في) شهادات «القدوري» ما يؤكد ما ذكر في «مجموع النوازل»، فقال: لا يبيع لمن عاين ذلك إن شهد على البيع بل يشهد على التعاطي.
باع من رجل عبداً وسلمه إليه، ثم حلف البائع أن لا يشتري منه، ثم أقاله المشتري قيل لا يحنث في يمينه، ولو أقاله بمائة دينار وقد اشتراه بألف يحنث في يمينه وهو الجواب إنما يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله ومحمد، لا على قول أبي حنيفة رحمه الله، يعرف بالتأمّل.
(4/749)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: في باب المساومة، رجل ساوم رجلاً بثوب وأبى البائع أن ينقصه من اثني عشر، فقال المشتري: عبده حر إن اشتراه باثني عشر، ثم اشتراه بعد ذلك بثلاثة عشر يحنث في يمينه، وإنه مشكل من وجهين «أحدهما»: لأن شرط الحنث الشراء باثني عشر والثاني باثني عشر لما اشترى الكل بثلاثة عشر، قلنا: أما الأول قوله إن اشتريت باثني عشر جعل مجازاً عن قوله إن التزمت اثنا عشر لسبب هذا الشراء حتى ينقضه البائع لا نفس الشراء، ولكن أن يجعل الشراء مجاز عن الالتزام لأن في الشراء شيئان: عقد والتزام الثمن، فإذا جعلنا الشراء مجازاً عن التزام الثمن فقد خصصنا منه العقد وبعثنا الالتزام داخلاً تحت اليمين، ويكون هذا إثبات التخصيص فيما يلفظ بدلالة العرف، وذلك جائز وصار تقدير يمينه إن التزمت اثني عشر درهماً بسبب هذا الشراء فعبدي حر، وهناك إذا اشتراه بثلاثة عشر يحنث في يمينه، كذا ههنا.
وأما «الاشكال الثاني» قلنا: المشتري اليوم اثنا عشر درهماً بأداء كل الثوب لا بأداء بعض الثوب لأنه قابل ثلاثة عشر بالثوب، واسم الثوب اسم للكل فيصير كل جزء من أجزاء الثمن بمقابلة جميع الثوب، وإنها تظهر الإيقام عند استحقاق بعض الأجزاء بطريق الضرورة حتى لا يلزم المشتري جميع الثمن بأداء بعض الثوب وهو لم يرض به، أما في غير حالة الاستحقاق لا ضرورة تحصل كل جزء من أجزاء الثمن مقابلاً بجميع البيع.(4/750)
-----
وكذلك لو اشتراه باثني عشر درهماً وديناراً، أو اشتراه بإثني عشر درهماً وثوباً يحنث في يمينه لما قلنا، ولو اشتراه بأحد عشر درهماً وديناراً لا يحنث في يمينه، وإنه أيضاً؛ لأن قوله: إن اشتريته بإثني عشر درهماً جعل مجازاً عن قوله: إن التزمت بسبب هدا الشراء اثني عشر درهماً أو ما يبلغ قيمته اثنا عشر درهماً عرفاً وعادة لا نفس الشراء على حسب ما قلتم في المسألة المتقدمة، وقد التزم بسبب هذا الشراء اثنا عشر درهماً وزيادة، قلنا ما ذكر من الجواب جواب القياس أما على جواب الاستحسان ينبغي أن يحنث لأن الدراهم والدنانير جعلا جنساً واحداً فيما عدا حكم الربا استحساناً.
ذكر في «المنتقى» في موضع، وذكر في موضع آخر: إذا حلف لا يشتري صوفاً فاشترى إهاباً عليه صوف لم يحنث، وكذلك اشترى شاة بصوف، وصار في مسألة بيع الشاة التي على ظهرها صوف بالصوف المنفصل روايتان.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا حلف لا يشتري لبناً فاشترى شاة في ضرعها لبن لا يحنث، ولو اشتراه بلبن آخر قال أبو يوسف رحمه الله: كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: اللبن والصوف سواء. (375أ1) وقال أبو يوسف: لو باع القياس في اللبن ولا أجعل له حصة من الثمن لأنه مغيب ولا يحنث في يمينه. ولو حلف لا يشتري آجرّاً أو حلف لا يشتري جصاً فاشترى دار مبنية بذلك لا يحنث في يمينه، لأن هذه الأشياء دخلت في البيع تبعاً.
ولو حلف لا يشتري تمرة، فاشترى نخلة فيها تمر وشرط التمر يحنث، ولذلك لو حلف لا يشتري بقلاً فاشترى أرضاً فيها بقل وشرط البقل يحنث في يمينه؛ لأن التمر والبقل دخلا في البيع في هذه الصورة مقصوداً بالذكر لا تبعاً، ألا ترى أن بدون الذكر لا يدخلان في البيع.(4/751)
-----
وإذا حلف لا يشتري لحماً فاشترى شاة حيّه لا يحنث، وكذلك إذا حلف لا يشتري زيتاً فاشترى زيتوناً، أو حلف لا يشتري قصباً فاشترى بواري أو حلف لا يشتري جدياً فاشترى شاة حاملاً، أو حلف لا يشتري شعيراً فاشترى حنطة فيها حبّات الشعير لم يحنث، وعلى هذا جميع ما يدخل في البيع تبعاً، هذه الجملة من القدوري.
وفي «المنتقى» إذا حلف لا يشتري فضة فاشترى خاتماً فيه فضة يحنث في يمينه. ولو اشترى سيفاً مفضضاً لا يحنث في يمينه، ولو حلف لا يشتري فصّاً فاشترى خاتماً فيه فصّ يحنث في القياس في المنتقى.
وذكر في «المنتقى» المسألة تماثل إذا حلف لا يشتري فصاً فاشترى خاتماً فيه فص يحنث بإمكان ما ذكر بعد هذه المسألة..... الاستحسان، قال ثمة يحنث وإن كان ثمن الفصّ أقل من ثمن الحلقة. وفيه أيضاً إذا قال: إن بعت غلامي هذا أحداً من الناس فكذا، فباعه من رجلين يحنث، وكذلك إذا قال: إن أكل هذا الرغيف أحد فأكله اثنان حنث في يمينه، وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: فيمن حلف لا يشتري قميصاً فاشترى قميصاً مقطّعاً غير مخيط لا يحنث، لأنه اشترى خرقاً.
وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يشتري حديداً فاشترى باباً فيه ساتر حديد لا يحنث، ولو اشترى بابه بحديد منفصل إن كان الحديد المنفصل أقل لم يحنث، وإن كان أكثر جاز الشراء ويقع به الحنث.
إذا حلف وقال: والله ما اشتريت اليوم شيئاً وقد كان اشترى أشياء في ذلك اليوم بالتعاطي فقد قيل: يحنث في يمينه.
وفي مجموع «النوازل» وضّح المسألة في طرق البيع فقال: إذا حلف الرجل أن لا يبيع الخبز فجاء رجل وأعطاه دراهم لأجل الخبز وهذه مكتوبة قبل هذه الورق بثلاثة أوجه أوراق.فصار كأنه باع باثني عشر درهماً وزيادة، ذكر القياس والاستحسان في مثل هذه المسألة في آخر الباب.(4/752)
-----
وصورتها: إذا قال: صاحب عبده حر إن باعه بعشرة دراهم إلا بأكثر أو قال: إلا بأزيد فباعه بتسع ودينار لا يحنث في يمينه استحساناً، لأن الدراهم والدينار جعلا جنساً واحداً فيما عدا حكم الربا استحساناً، فتكثر الدراهم بالدينار فكان هذا بيعاً بأكثر من عشرة.
قال مشايخنا رحمهم الله: ذكر القياس والاستحسان في آخر الباب، ذكر ههنا، قال: ولو كان صاحب الثوب حلف فقال: عبده حرّ إن باع هذا الثوب بعشرة دراهم فباعه بأحد عشر درهماً أو بعشرة دراهم ودينار أو ثوب لا يحنث في يمينه، وكان ينبغي أن يحنث ويجعل البيع بأحد عشر عدّ بيعاً بعشرة وهو شرط الحنث، ألا ترى في جانب المشتري جعلنا الشراء بثلاثة عشر شراء باثني عشر، وجعلنا الشراء باثني عشر وثوباً باثني عشر. قلنا: في الفرق بين جانب البائع وبين جانب المشتري: أن حقيقة البيع والشراء للعقد، وفي جانب البائع العبرة للحقيقة وهو العقد لا للمجاز وهو التزام؛ إذ ليس في..... العقد التزام من حصة البائع، وباعتبار الحقيقة البيع بأحد عشر غير البيع بعشرة فلم يكن بشرط الحنث. أما في جانب المشتري العين للالتزام على ما مرّ في الملتزم لأحد عشر ملتزم للعشرة في ...... ، فلهذا افترقا. ولو كان صاحب الثوب باعه بتسعة دراهم لا يحنث في يمينه، كان ينبغي أن يحنث لأن البائع إنما منع نفسه عن البيع بعشرة لما فيه من النقصان، والنقصان في التسعة أكثر فصار البيع بتسعة شرط الحنث كالبيع بعشرة، قلنا: لو حنث في يمينه بالبيع بتسعة إنما يحنث إذا أراد ما في يمينه أو بتسعة، ولو لمجرد العرف إلا بلفظه، لأن لفظه لا يحتمل تسعة لأن لفظه عشرة واسم العشرة لا يتناول ما دونهما، والزيادة على لفظ الحالف بالعرف لا تجوز لأن العرف ليس لإيراد الجملة، واليمين لا يثبت لمجرد إرادة الحالف لا تزاد على اليمين، لأن العرف ولو حلف لا يبيعه منه بعشرة حتى يزيده فباعه بأحد عشر أو بعشرة ودينار(4/753)
لا
-----
يحنث في يمينه، لأن البائع بيمينه أثبت بيعاً مؤقتاً إلى غاية. وهو أن يزيد المشتري على العشرة، فإذا أزاد فقد وجدت الغاية فلا يبقى اليمين فكيف يحنث بعد ذلك؟ ولو باعه بتسعة لا يحنث أيضاً، لأن البيع بتسعة ليس بشرط الحنث على ما ورد.
ولو قال: عبده حر إن اشتراه بعشرة إلا بأقل فباعه بتسعة ودينار حنث استحساناً، لأن الدراهم والدنانير فيما عدا ذلك حكم الربا جنس واحد استحساناً فتكثر الدراهم بالدنانير ويصير ميسّر بالعشرة أو أكثر.
وإذا ساوم الرجل رجلاً بعبد فأراد البائع (375ب1) ألفاً وسأله المشتري بخمسمائة. فقال البائع: هو حر إن حططت عنك من الألف شيئاً، ثم قال بعد ذلك: بعتك العبد بخمسمائة فقبل المشتري البيع ولم يقبل حنث البائع، وعتق العبد، وإنه مشكل لأن شرط الحنث الحط، والحط الاسقاط وإنه يعتمد سامعه الوجوب.
والجواب عنه: أن البائع وإن ذكر الحط إلا أنه ما أراد به الاسقاط، وإنما أراد به التبعيض الذي يشتمل عليه الحط، لأنه ذكر الحط معرفاً بالألف واللام لتعريف المعهود، والألف المذكور عند المساومة والحط عن الألف المذكور عند المساومة لا يكون إلا بطريق التبعيض فانصرف يمينه إليه، فإذا باعه بخمسمائة فقد نقص عن الألف المسمى عند المساومة، وإن حططت عن يمينه شيئاً فهو حر، وباقي المسألة بحالها لا يعتق العبد. لأن الثمن اسم للواجب بالعقد، ولم يحط عن الواجب بالعقد شيء، ولو حط عن يمينه شيئاً بعد ذلك انحلت اليمين لوجود شرطه، ولكن لا يعتق العبد لأنه زائل عن ملكه حتى لو كان المعلق طلاق امرأته أو عتق عبدا آخر، تطلق المرأة ويعتق العبد. وكذلك لو وهب له بعض الثمن في هذه الصورة قبل قبض الثمن أو بعده حنث في يمينه، لأن هنا نقص الثمن والحط سواء وهذا الجواب مشكل في هذه، الثمن بعد القبض، لأن بعد القبض الثمن لا يبقى في ذمة المشري فلا يتصور اسقاط.(4/754)
-----
والجواب أن الثمن باق في ذمة المشتري بعد القبض، لأن ما قبصه البائع من المشتري ليس غير حقه، إلا أنه لا يظهر في حق المطالبة، لأنه لا يفيد لأن البائع إن طالبه به فللمشتري أن يطالب البائع بما قبض منه، فأما إظهاره في حق الهبة مقيّد «ما طهرياه ولو حط عنه جميع الثمن ووهب منه جميع الثمن لا يحنث، لأن هذه اليمين ليس بحط، ولو أبرأه عن بعض الثمن إن كان قبل قبض الثمن حنث في يمينه، وإن كان بعد قبض الثمن لا يحنث في يمينه. والإبراء قبل القبض لا يفارق الحط والهبة، والإبراء بعد القبض يفارق الحط والهبة.
حلف الرجل لا يبيع داره فإن أعطاها في صداق امرأته حنث في يمينه، هكذا ذكر في «النوازل» قال الصدر الشهيد رحمه الله: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل إن تزوجها على الدار لا يحنث في يمينه لأن هذا ليس ببيع وإن تزوجها على دراهم أو دنانير وأعطاها الدار عوضاً عن الدراهم والدنانير حنث، لأن هذا بيع.
رجل حلف بعتق جاريته على بيعها بهذا اللفظ: إن لم أبع هذه الجارية اليوم فهي حرّة فباعها على أنه بالخيار، ثم فسخ البيع لم يحنث في يمينه، ولم تعتق الجارية لأن شرطها الحنث، وهو عدم البيع في اليوم لم يتحقق لأن البيع شرط الخيار لأن شرطها الحنث بيعٌ في «النوازل» أيضاً، وفيه أيضاً: إذا وكل الرجل رجلاً أن يبيع عبده فباعه، ثم إن الآمر خاصم المشتري وقدم إلى القاضي وطالبه بالثمن وسع المشتري أن يحلف بالله ما له عليه كذا ويريد به ليس عليه تسليم كذا، ويكون صادقاً فيه لأنه لا يجب على المشتري تسليم الثمن إلى الوكيل.
حلف الرجل أن لا يشتري لفلان ثوباً فأمره فلان أن يشتري لابنه الصغير ثوباً فاشتراه لا يحنث، وكذا لعبده فاشتراه لا يحنث.(4/755)
-----
إذا قال: إن اشتريت هذا العبد بإذني فهو حر، ثم أذن له في التجارة، فاشترى هذا العبد يحنث؛ لأن الإذن بالتجارة مطلقاً إذن شراء هذا العبد وغيره، ولو كان إذن له بشراء الطعام فاشترى هذا العبد لا يلزمه الحنث، لأنه ما أمره بشراء هذا العبد لا نصاً ولا حكماً لإطلاق اللفظ أكثر ما في الباب أن الأذن في نوع أذن في الأنواع كلها إلا أن ذلك أمر حكمي بخلاف فريضة اللفظ فلا يظهر في حقه وقوع الحنث.
نوع آخر في الهبة والصدقة والإجارة والاستئجار والعاريةوالشركة والقبض والاستقراض والكفالة والوصية
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: حلف لا يهب لفلان شيئاً فوهبه شيئاً حنث في يمينهِ استحساناً، وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعلى هذا الصدقة والهبة والتخلي. ووجه ذلك وهو أن الهبه عبارة عن التملك بغير شيء لأنه لا تمليك فيه إلا من الواهب، وذلك في قولهِ وهبت لا يعلق به بالقبول، وإنما القبول لثبوت الملك والملك حكم الهبة، وشرط الحنث بغير الهبة لا حكمها، ولأن غرض الواهب من هذه اليمين منع النفس عن إظهار الجود وبنفس الإيجاب يحصل إظهار الجود فكان الحنث متعلقاً بالإيجاب من هذا الوجه. إذا ثبت هذا في الهبة ثبت في التخلي والصدقة، لأن كل ذلك في معنى الهبة لأنه تمليك بغير شيء كالهبة ويبنى على هذا.
أما إذا قال: وهب لي فلان ألف درهم فسكت، ثم قال: لم أقبل الهبة صدق لأن الهبة إذا كانت هبة بدون القبول لا يكون الإقرار بالهبة إقراراً بالقبول فيصح منه دعوى عدم القبول، والعارية بدون القبول عارية، فإذا حلف لا يعير فلاناً شيئاً فأعاره ولم يقبل منه حنث عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.(4/756)
-----
وأما القرض فليس بقرض بدون القبول، في قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله لأنه تمليك بعوض يجب في الثاني، فصار نظير البيع. وفي رواية أخرى عن أبي يوسف رحمه الله أن القبول فيه ليس بشرط، فإذا حلف لا يقرض فأقرض ولم يقبل المقرض لا يحنث عند محمد رحمه الله، واحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه أنه يحنث.
والاستقراض بدون الإقراض استقراض، فإذا حلف لا يستقرض من فلان شيئاً فاستقرض ولم يقرضه فلان يحنث في يمينه. والإجارة بدون القبول ليس بإجارة في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إجارة.
والحاصل: أن كل عقد فيه بدل مالي، فالحلف عليه لا يوجب الحنث بدون القبول وما لا بدل فيه ...... فالحلف عليه يوجب الحنث بدون القبول، وما ليس فيه بدل ما لي فالحلف عليه يوجب الحنث بدون القبول في قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية أخرى (376أ1) عنه لا يوجب.
والرهن بدون القبول ليس برهن وإذا قال: اقرضني فلان ولم أقبل لا يصدق، وهذا إنما يتأتى على قول من يقول بأن القرض بدون القبول ليس بقرض. وإذا حلف لا يهب عنده من فلان فوهب رجلاً عند الحالف من ذلك الرجل بغير أمره، وأجاز الحالف ذلك حنث في يمينه، هكذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله.
ولو حلف لا يهب عبده لفلان، ثم وهب له على عوض حنث في يمينه، وفي نوادر بشر عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل: إن وهب لي فلان هذا العبد فهو حر، فقال فلان: وهبته لك قال بثلاثة وقبضت لم يعتق.
رجل أكره أمرأته على مهرها فوهبهُ منها ثم ادعى الزوج عليها الهبة هل يسعها أن تحلف بالله ما وهبت.(4/757)
-----
قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار ما قال الفقيه أبو الليث رحمهُ الله، أنه ينبغي لها أن تقول للقاضي: سله يدعي هبته بالطوع أو بالكره. فإن قال: ادعى هبته بالطوع كان لها أن تحلف بالله ما وهبته لأنها صادقة فيه.
رجل قال لآخر: والله لأهبنك هذا اليوم مائة درهم فوهبه، كان له على رجل وأمره بقبضها في يمينها، ولو مات الواهب ولم يقبض الموهوب له المائة لا يتمكن من أحدها لأنها صارت ملك الورثة.
في «مجموع النوازل»، وفي «نوادر» بشر عن أبي يوسف، إذا حلف يأخذ ما في الدار من فلان، وقد كان آخرها قبل الثمن في يده وجعل بيعاً آخر كل شهر قد سكنها لا يحنث. لأنها على الإجارة التي كانت قبل اليمين لأن بحكم الإجازة الأولى لا يملك مطالبته بآخر شهر لم يسكنه فتكون هذه إجازة مسداة.
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له مستقلاً إن حلف بطلاق امرأته «كي من مستقلها دايعد نده ما حرترا» امرأته المستقلان وقبضت الأجرة وأنفقتها أو أعطت زوجها لا يحنث، لأن شرط الحنث عقد الإجارة، وهو لم يعقد الإجارة قبل. أليس إنه موضع المسألة في المستقلان والمستقل ما يكون معداً للاستقلال فتركه في أيديهم لما رأى لا يقع الحنث، قال: لأن اليمين عقدت على العقد ولم يوجد منه العقد، بأن كان الزوج قال للمستأجرين: يقعدوا في هذه المنازل فهذا الفصل لم يُنقل عن شيخ الإسلام.(4/758)
-----
وقيل: ينبغي أن تكون هذه إجارة ويحنث في يمينه، ولذلك إذا تقاضيا منهم أجرة شهر قد سكنوا فيها فهذا ليس بإجارة فلا يحنث في يمينه. رجل حلف لا يستعير من فلان شيئاً فأردفه على دابته لا يحنث، وإذا حلف لا يعير ثوبه من فلان فبعث المحلوف عليه وكيلاً المستعار فأعاره، اختلف زفر رحمهما الله على قول أحدهما يحنث. قال الصدر الشهيد رحمه الله: وعليه الفتوى، لأن الوكيل في باب الاستعارة رسول وهذا إذا خرج الوكيل لكلامه تخرج الرسالة بأن قال: إن فلاناً يستعير منك كذا فأما إذا لم يقل ذلك لا يحنث. وإذا حلف لا يستدين ديناً وتزوج امرأة وإن أخّر دراهم في سلم يحنث.
وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن وهب من آخر شيئاً في حالة السكر، وحلف أن لا يرجع في هذه الهبة ولا يأخذ منه، ثم إن كان الموهوب له وهب ذلك الشيء من آخر فأخذه الواهب الحالف منه، قال: لا يحنث في يمينه، وإنما كان كذلك لأن شرط الحنث الرجوع والأخذ بطريق الرجوع وبعدما وهب الموهوب له الموهوب لا يبقى للواهب حق الرجوع، فلا يكون هذا الأخذ بطريق الرجوع بل يكون بطريق التعصيب فلا يحنث في يمينه.
(4/759)
-----
إذا حلف لا يستعير من فلان شيئاً ينصرف إلى كل موجود تصح إعارته، وذلك عين ينتفع به مع بقاء عينه فإن دخل دار المحلوف عليه ليبقى في سره فاستعار منه الرشاء والدلو. واختلف المشايخ رحمهم الله فيه: منهم من قال: يحنث، ومنهم من قال: لا يحنثُ، لأنه لم تثبت يده عليها، لأنهما في يد صاحب الدار فلا يكون مستعيراً، وهذا إشارة إلى أنّ الإعارة لا تتم إلا بالتسليم، وهذا هو الطريق فيما إذا أردفه على دابته فعلى قياس هذا التعليل إذا استعار منه الرشاء والدلو من بئر ليس في ملك المحلوف عليه يحنث. ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح الكافي» في باب اليمين في الأكل: إذا حلف لا يشاركه فلان ثم إن الحالف شاركه بمال لابنه الصغير، قال:..... هو الابن دون الأب لأنه لا ربح للأب في المال.
إذا حلف الرجل: والله لا يشاركه فلان فهذا على ما عليه كلام الناس من الشركة في التجارة، فإن اشتريا عبداً لم يحنث، ولو قال: والله لا يكون بيني وبينه شركة في شيء فاشتريا عبداً لم يحنث، ولو قال: والله لا يكون بيني وبينه شركة في شيء فاشتريا عبداً أو ما أشبهه حنث، وكذلك إذا قال: والله لا يشاركه فلان في شيء ثم اشتريا داراً أو عبداً بينهما حنث، وإن .... وقد حلف لا يشاركه في شيء لم يحنث، لأنه لم يشاركه إنما ألزمه هذا أحب أو كره هذه الجملة في أيمان «المنتقى».
إذا حلف لا يشاركه فلان في هذه البلدة فخرجا عن حدِّ البلدة وتشاركا ثم دخلا البلدة وعملا فإن أراد باليمين عقد الشركة لا يحنث، وإن أراد به العمل بشركته يحنث، وإذا وقع أحدهما صاحبه مالاً مضاربة فكذلك لأن المضاربة نوع من أنوع الشركة في الباب الأول من أيمان الواقعات.(4/760)
-----
وإذا حلف لا يعمل مع فلان شيئاً في القصارة أو غيرها فعمل مع شريكه يحنث، ولو عمل مع عبده المأذون لا يحنث، ولو حلف لا يشاركه أخاه ثم بدا له فالحيلة في ذلك إذا كان للحالف أب كبير أن يدفع الحالف ماله إلى أبيه مضاربة بنصيب (376ب1) قليل ويأذن له بعمل فيه بداية. ثم أن لا يشارك..... عملاً كان الربح للابن على ما اشترطا لأن الحالف لم يشاركه أخاه فلا يحنث، ويحصل مقصود الحالف وهو الربح.
رجل حلف لا يوصي بوصية فوهب في..... المؤمن شيئاً لا يحنث؛ لأن ذلك ليس بوصية، لكن أعطى الشرع لها حكم الوصية فلا يظهر في حق حكم الميّت.
رجل قال: «أكرمن ابن جيرر ان كس دمم يعني تعاريت» فكذا أعطى بعض الناس ومنع البعض لا تطلق امرأته، لأنه ما أعطى هركسي.
رجل حلف أن يكفل أو نذر، وقال: إن كفلت بمال أو نفس فللَّه علي أن أتصدق بفلس وكفل لزمه الوفاء به؛ لأن هذا النذر معلق بالشرط فيصير مرسلاً عند الشرط وهذا هو الحيلة. من أراد أن لا يكفل إن تعلق النذر بشيء يسير بالكفالة. ويقول: إني..... لا أكفل رمز بالنذر ولا يلحقه كبير. صدر في «النوازل» المكفول له بالمال إذا حلف الكفيل به.
ابن لقطة «كي رن نواربون كي روى» فحلف ثم إن الكفيل أو الأصيل أدى الدين، بطل اليمين في «فتاوى النسفي» رحمه الله.
وذكر في أيمان الأصل إذا حلف زيد أن لا يكفل عن عمرو وأحمد وعلى زيد دين فاحتال عمرو وبذاك خالداً على زيد وقبل زيد الحوالة، إن كان لخالد على عمرو، وهو المحلوف عليه دين حنث زيد لأنه لمّا قبل الحوالة عن عمرو وعلى عمرو دين صار كفيلاً عن عمرو وزيادة لأن في الحوالة ما في الكفالة وزيادة، لأن التزام مال عن: المحيل وهو عمرو.....، وإن لم يكن لخالد على عمرو دين لم يحنث زيد لأنه ما كفل عن عمرو، والله أعلم.
نوع آخر في اليمين على اليمين(4/761)
-----
قال محمد رحمه الله: وإذا حلف الرجل أن لا يحلف بيمين أبداً ثم قال لامرأته: إن قمت أو قعدت فكذا، إن أكلت أو شربت فكذا، وأضاف ذلك إلى نفسه. فقال: إن قمت أو قعدت فكذا حنث في يمينه، وعتق عبده.
وعلم أن مطلق اسم اليمين بغير الله تعالى يقع على جزاء مطلق، ويعني به أن يكون..... للمنع وعلى شرط مطلق ويعني به ما يصلح شرطاً في حق جميع الأشخاص في جميع الأفعال، وهذا لأن مطلق الاسم ينصرف إلى الثابت من كل وجه وما يصلح شرطاً في بعض الأشخاص، وفي بعض الأوقات فهو شرط من وجه دون وجه، فلا يتناول مطلق اسم اليمين، ويشترط مع ذلك أن لا يكون الشرط سبباً لزوال الجزاء من غير تعليق الجزاء به لأن التعليق بالشرط يمنع بزوال الجزاء قبل الشرط فما يكون سبباً لزوال الجزاء بدون التعليق، كيف يصلح مانعاً بزواله قبل وجوده؟ ويشترط مع ذلك كلّه أن لا يكون الشرط مع الحدّ لمجموعها بغير الجملة لو أرسلها لا يكون يميناً، لأن ذكر التفسير كذلك المفسّر.p
فإذا كان المفسر لا يكون يميناً، فكذا إذا ذكر التفسير جئنا إلى تخريج المسألة.
فنقول: قوله لامرأته أنت طالق إن قمت أو قعدت وأشباه ذلك يمين، لأنه شرط في جزاء مطلق، أما الجزاء فلأنه يصلح مانعاً، وأما الشرط فلأن شرط من يشرط في حق جميع الأشخاص، فإنه إن أضاف القعود إلى المرأة أو إلى الأخير أو إلى نفسه كان شرطاً، أو يصلح شرطاً في الأوقات كلها في المجلس وبعد قيامه عن المجلس إذا كانت اليمين مطلقة عن الوقت، ولا يصلح سبباً للوقوع بغير تعليق، وكان شرطاً مطلقاً فالجزاء مع الشرط بمجموعها ليس بتفسير الجملة لو أرسلها لا يكون يميناً فقد وجد الحلف فيحنث في يمينه.
ولو قال لها: أنت طالق إن شئت أو هويت أو أحببت أو رضيت أو أردت؛ أضاف هذه الأشياء إلى المرأة أو إلى نفسه فهو سواء ولا يكون يميناً ولا يحنث في يمينه الأولى، لأن هذه الأشياء ليست بشرط مطلق لأنه ليست بشرط في حق جميع الأشخاص.(4/762)
-----
أما المشيئة فلأن المشيئة في حق المرأة تفويض وتخيير، ولهذا تقتصر على المجلس وكذلك لا يصلح شرطاً في الأوقات كلها، فإن المشيئة إذا أضيفت إلى المرأة وشاءت بعد القيام عن المجلس لا يكون ذلك شرطاً حتى لا يقع الطلاق، ويصلح سبباً لوقوع الطلاق أيضاً، فإن الزوج لو قال لها: شئت طلاقك يقع الطلاق نصّ عليه في «الأصل» وصح أن المشيئة ليست بشرط مطلق فهو تفسير جملة، أو أرسلها لا يكون يميناً، فإن قوله: إن شئت تفسير لقوله اختاري؛ وقوله اختاري ليس بيمين، فقد باشره رسول الله صلى الله عليه وسلّممباشرة المكروه، ولو كان يمنياً ما باشره، فالحلف بالطلاق مكروه ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلّممباشرة المكروه، وإذا عرفت الكلام في شئت، فكذلك في قوله: إن هويت وأشباهه لأنها بمعنى المشيئة فإنها صفة من صفات القلب كالمشيئة.
ولو قال لها: أنت طالق غداً فهذا ليس بيمين لأنه لم يذكر الشرط والجزاء. ولو قال: إذا جاء غد فأنت طالق فهذا يمين، لأنه ذكر الشرط والجزاء فإن قيل مجيء الغد كيف يكون شرطاً وإنه متيقن، والشرط ما في وجوده خطر، قلنا: مجيء الغد وإن كان منتظما فكونه شرطاً ليس بمتيقن، فإنهما إذا ماتا قبل مجيء الغد لا يكون مجيء الغد شرطاً، لأن الشرط شرط لكونه علماً على نزول الجزاء أو إنه لا يتصور بدون نزول الجزاء.(4/763)
-----
ولو قال لها: أنت طالق للسنة فهذا ليس بيمين. وكذلك إذا قال لها: إن حضت حيضة، أو قال لها: إذا حضت وطهرت فهذا ليس بيمين بل هو تفسير الطلاق السني ولو قال: إذا حضت فأنت طالق فهذا يمين حتى يحنث في يمينه الأولى لأنه ذكر الشرط والجزاء إلا عدلنا عن لفظة الصيغة في الفعلين الأولين؛ لأن معناها (377أ1) إيقاع الطلاق على السنّة، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه ههنا، فإن الطلاق في حال الحيض يقع لا على وجه السنة. ولو قال لها: أنت طالق إذا حضت حيضتين فهذا ليس بيمين؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا تفسير الطلاق السنّي، لأن ما بعد الحيضتين وقت وقوع الطلاق السنّي.
ولو قال لها: إذا حضت ثلاث حيضات فأنت طالق لم يذكر هذا الفصل في .... من الكتب.
قال مشايخنا رحمهم الله: ينبغي أن لا يكون يميناً، لأن بعد الحيضة الثالثة وقت وقوع الطلاق السني، فأمكن أن يجعل هذا تفسيراً لقوله: أنت طالق للسنة.
ولو قال لها: إذا حضت أربع حيض لم يذكر هذا الفصل في الكتب أيضاً، وحكى الجصاص عن الكرخي رحمه الله أنه يمين ويحنث في يمينه الأولى (لأن) ما بعد الحيضة الرابعة ليس وقت وقوع الطلاق السنّي، فلا يمكن أن يجعل تفسيراً للطلاق السنّي، فتعتبر الصيغة والصيغة صيغة يمين، وغيره من المشايخ رحمهم الله قالوا: هذا ليس بيمين ولا يحنث في يمينه الأولى لأن ما بعد أربع حيض وقت وقوع الطلاق السنّي في الجملة، فإن من قال لامرأته: أنت طالق للسنة هي طاهرة من غير جماع يقع عليها واحدة للحال، ولو راجعها ثم حاضت بعد ذلك أربع حيض أو عشر حيض ثم قال لها: أنت طالق للسنّة يقع تطليقة أخرى للسنة فما بعد الحيضة الرابعة والعاشرة يحل وقوع الطلاق السنّي، فأمكن أن يجعل تفسيراً للطلاق السنّي، فلا يكون يميناً.(4/764)
-----
ولو قال لها وطلاق سنتها بالشهور بأن كانت آيسة أو صغيرة: أنت طالق إذا أهلّ الهلال، أو قال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، فهذا ليس بيمين، وهو تفسير الطلاق السني في حقها. ولو كانت من ذوات الحيض، فقال لها: أنت طالق رأس الشهر فهذا ليس بيمين، ولو قال لها: أنت طالق إذا جاء رأس الشهر فهو يمين.
والكلام فيه نظير الكلام في قوله: أنت طالق غداً أنت طالق إذا جاء الغد. وروي عن أبي يوسف. إذا قال لها: أنت طالق في نفير الحاج أو..... الناس كان يميناً. ولو قال: في الأضحى لا يكون يميناً لأن في الصورة الأولى دخل حرف الظرف على الفعل فصار بمعنى الشرط إذ الفعل يصلح شرطاً، في الصورة الثانية دخل حرف على الوقت، والوقت لا يصلح شرطاً فكان إضافة لا تعليقاً.
و «في المنتقى»: عن محمد رحمه الله برواية ابن سماعة: إذا قال: يوم طريق فأنت طالق فهذا يمين، وتعليق القيد. وفيه أيضاً: إذا حلف أن لا يطلق امرأته، ثم أراد أن يفارقها فالحيلة أن يتزوج رضيعة فترضعها المحلوف بطلاقها فتبين منه، ولا يحنث في يمين الزوج، لأنه لم يطلقها.
وفيه أيضاً: إذا قال: إن حلفت بالعتق فكذا، ثم قال لأمته: إن مت فأنت حرة، فهذا تدبير وليس بحلف فلا يحنث في يمينه، ولو قال: كل مملوك أملكه فهو حر فقد حلف بالعتق. قال أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن يكون تأويله على ملك في مستقبل، هذا الماضي قبل هذا، لأن قوله: أملكه للحال، وإيجاب العتق في الملك القائم لا يكون تعليقاً ويميناً بما ذكره من التأويل فهو صحيح.
وفي «الجامع: إذا قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق وكرر ثلاثاً وقعت تطليقتان، إن كانت مدخولاً بها. وإن أعاد القول مرة أخرى وقعت الثالثة وقد ذكرنا جنس هذه المسائل في كتاب الطلاق، والله أعلم.
نوع آخر في الطلاق والعتاق(4/765)
-----
من حق هذا النوع أن يقدم على فصل العقود؛ لأنه من جملة الأقوال لا من جملة العقود.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إن تزوج الرجل امرأة لا تحل له، ثم قال إن طلقتك فعبدي حر، فهذا على التكلم بالطلاق، ولو قال لامرأت لا تحل له: إن طلقتك فعبدي حر، فقال لها في الحال: أنت طالق لا يعتق عبده عند أبي حنيفة رحمه الله. وإنما يعتق إذا تزوجها ثم طلقها، لأن عند أبي حنيفة رحمه الله النكاح ينعقد على المحارم على سبيل الشبهة، فيتصور في هذا المحل طلاق يقطع النكاح على سبيل الشبهة، ولا ضرورة إلى صرفه إلى التكلم بالطلاق.
ولو قال لامرأة تحل له: إذا طلقتك فعبدي حر لا يحنث في يمينه ما لم يتزوجها نكاحاً صحيحاً ثم يطلقها؛ لأن عنده حقيقة الطلاق ههنا متصور لغة وشرعاً بأن تزوجها نكاحاً صحيحاً ثم طلقها فانصرف يمينه إليه عملاً بالحقيقة، وصار تقدير يمينه: إن تزوجتك وطلقتك فعبدي حر.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: إذا حلف الرجل أن لا يطلق امرأته ولا يعتق عبده، فوكل رجلاً بالطلاق أو العتاق فطلق الوكيل أو أعتق يحنث في يمينه، وكذلك لو وكل رجلاً أن يعتق عبده أو يطلق امرأته، ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق ثم طلق الوكيل أو أعتق حنث في يمينه، لأن عبارة الوكيل في هذه العقود منقولة إلى الموكل. لكونه سفيراً فكأن الموكل أعتق بنفسه أو طلق بنفسه فتحقق شرط الحنث، فلهذا حنث في يمينه.(4/766)
-----
ولو قال: عبده حر إن دخلت هذه الدار، أو قال: امرأتهُ طالق إن دخل هذه الدار، ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق، ثم دخل عبده أو امرأتهُ الدار حتى وقع الطلاق والعتاق حنث في يمينه قياساً، وفي الاستحسان لا يحنث لأن شرط الحنث تطليق وإعتاق بعد اليمين لما عرف أن الأيمان تقتضي شروطاً في المستقبل، والتطليق والإعتاق ههنا وجدا قبل اليمين لوجود كلمة الإيجاب قبل اليمين، وهذا لأن الإعتاق ليس إلا التلفظ بلفظ يقع به العتق، والتطليق ليس إلا التلفظ بلفظ يقع به الطلاق وهو قوله: أنت حر، وقوله: أنت طالق، وقد وجد هذا اللفظ من الحالف قبل اليمين، فلا يصح شرطاً للحنث. ولو وجد الإعتاق والتطليق بعد اليمين، ولكن بكلام أنشأه قبل اليمين وشرط الحنث تطليق وإعتاق نفذ اليمين بكلام أنشأه بعد اليمين لتمكنه الامتناع عنه، فلهذا لم يحنث في يمينه.
ولو حلف ألا يطلق امرأته ولا يعتق عبده. ثم قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر أو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم دخل العبد أو المرأة الدار حتى وقع العتق أو الطلاق يحنث في يمينه (377ب1)، لوجود الإعتاق والتطليق بعد اليمين لوجود كلمة الإيجاب بعد اليمين على العبارة الأولى، ولوجود التطليق والإعتاق بعد اليمين بكلام أنشأه بعد اليمين على العبارة الثانية.
ولو قال لامرأتهِ: طلقي نفسك، أو قال لعبده: أعتق نفسك، ثم حلف ألا يطلق ولا يعتق ثم إنها طلقت نفسها في المجلس أو أعتق العبد في المجلس نفسه حنث الحالف في يمينه. وروي عن محمد رحمه الله أنه لا يحنث، والصحيح ظاهر الرواية؛ لأن شرط الحنث التطليق والإعتاق بعد اليمين وقد وجد لوجود كلمة الإيجاب من الزوج والمولى بعد اليمين.(4/767)
-----
بيانه: أن وقوع الطلاق والعتاق ههنا ليس بقوله: طلقي نفسك، أعتق نفسك، لأن ذلك تفويض وبمجرد التفويض لا يثبت الوقوع، وإنما الوقوع بطريق أن المفوض يصير متكلماً بكلام المفوض إليه إذا تكلم المفوض إليه وجد بعد اليمين، فصار الحالف متكلماً بذلك الكلام بعد اليمين، فصار معتقاً ومطلقاً بعد اليمين فحنث. بخلاف المسألة المتقدمة لأن وقوع الطلاق والعتاق هناك بغير الكلام السابق الذي أنشأه قبل اليمين، وهذا لا يصلح داخلاً تحت اليمين.
وفي «المنتقى» أن محمداَ رحمه الله كان يقول أولاً في هذه المسألة: إنه لا يحنث، ثم رجع فقال: يحنث. وكذلك لو قال لامرأتهِ: أمرك بيدك في الطلاق، أو قال لعبده: أمرك بيدك في العتاق ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق، فطلقت المرأة نفسها أو أعتق العبد نفسه حنث في يمينه، لوجود التطليق والإعتاق بعد اليمين، لوجود كلمة الإيجاب بعد اليمين.
ولو قال لامرأتهِ: أنت طالق إن شئت، أو قال لعبده: أنت حر إن شئت، ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق، ثم شاءا فعل إليها حتى الطلاق والعتاق وحنث؛ لأن كلمة الإيقاع وجدت قبل اليمين إلا أن الوقوع تعلق بالمشيئة، فعند المشيئة يثبت الوقوع بالإيقاع السابق، ولهذا يثبت الوقوع بالإيقاع السابق، ولهذا يثبت عند المشيئة من غير أن يلتفظا بلفظة الإيقاع.
إذا حلف الرجل لا يعتق في هذه السنة، فأدى مكاتب إليه مكاتبة وعتق، فإن كانت المكاتبة قبل اليمين لا يحنث، وإن كانت الكتابة بعد اليمين حنث.(4/768)
-----
رجل قال لامرأتهِ: إن طلقتك فكذا فآلى منها فمضت مدة الإيلاء من غير..... حتى وقع عليها تطليقة بحكم الإيلاء حنث الزوج في يمينهِ، ولو حلف وهو عنين وفرق القاضي بينهما بحكم العنة لا يحنث في يمينه، والعرف أن في فصل الايلاء الزوج صار مطلقاً بعد اليمين؛ لأن تقدير الإيلاء : ان لم أقربك أربعة أشهر فأنت طالق، وفي العنين لم يصر مطلقاً وقوع الطلاق ما كان بفعل الزوج بل القاضي ألزمه حكم الطلاق وجعله مطلقاً حكماً، هكذا ذكر في «النوازل».
وفي «المنتقى»: إذا آلى منها وبانت بالإيلاء لو كان عنيناً فخاصمته إلى القاضي، وفرق بينهما وكل شيء من ذلك يكون طلاقاً، فإنه يحنث به الزوج الحالف، فهذا إلى .... فصل العنة يقع الحنث أيضاً. فإن الفرقة في فصل العنين طلاق وقد عرفت المسألة في كتاب الطلاق في فصل المتفرقات.
رجل قال لامرأتهِ: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله لا يحنث في يمينه، لأن الاستثناء أبطل الجزاء فأبطل اليمين، ألا ترى أنه لو قال: إن أقررت لفلان بعشرة دراهم فامرأته طالق، ثم قال: لفلان عليَّ عشرة دراهم إلا درهم لا يحنث، وطريقه ما قلنا.
حلف أن لا يطلق امرأته فطلقها عنه رجل لغير أمره وعلمه فبلغهُ الخبر فأجاز فقد قيل: يحنث على كل حال، وقد قيل: لا يحنث على كل حال، وقيل: إن أجاز القول يحنث وإن أجاز الفعل بأن أخذ بدل الخلع لا يحنث، وهذا ومسألة النكاح سواء.
وفي عتاق «النوازل» إذا قال لامرأته: إن تكلمت بطلاقك فعبدي حر، ثم قال لها: إن شئت فأنت طالق، فقالت لا أشاء ثمة لا تعتق، لأنه لم تتكلم بالإيقاع. إذا قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق إن شاء الله، فعلى قول أبي يوسف تطلق، لأنه لا توقف على مشيئة الله تعالى.
(4/769)
الفصل الثاني عشر في الحلف على الأفعال
-----
هذا الفصل يشتمل على أنواع منه أيضاً في الصلاة والصوم والحج:
إذا حلف لا يصلي فصلى صلاة فاسدة بأن صلى بغير طهارة مثلاً لا يحنث في يمينه استحساناً، لأن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، والكامل من التصرفات والأفعال ما يفيد حكمها. وحكم الصلاة سقوط الفرض وحصول الثواب، وكل ذلك لا يحصل بالصلاة الفاسدة، ولو نوى الفاسد صدق ديانة وقضاء؛ لأن الصلاة الفاسدة صلاة صورة لا معنى. وإطلاق الشيء على صورته جائز مجازاً، فقد نوى ما يحتملهُ لفظهُ وفيه تغليظ عليه؛ لأن مع هذه النية يحنث بالجائز والفاسد جميعاً. في هذه الصورة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإنما طريقه أنه وجد في الصحيح ما في الفاسد وزيادة، والزيادة على شرط الحنث لا يمنع الحنث.
ولو كان عقد يمينه على الماضي بأن قال: إن كنت صليت فهذا على الجائز والفاسد جميعاً، وإن نوى الجائز في الماضي خاصة صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء.
ولو قال: عبده حر إن صلى اليوم صلاة، فصلى ركعة قطعها (378ب1) لا يحنث في يمينه، لأن المنفي باليمين فعل الصلاة وأن يكون المفعول صلاة فمطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، والركعة الواحدة ليست بصلاة كاملة، لأنها لا تفيد حكم الصلاة لأنها بترة فإن «النبي صلى الله عليه وسلّمنهى عن البتيراء والبتيراء ركعة واحدة».
ولو قال: عبده حر إن صلى اليوم، ولم يقل: صلاة فصلى ركعة واحدة حنث في يمينه؛ لأن المنفي باليمين ههنا فعل الصلاة وكون المفعول صلاة، وإذا صلى ركعة واحدة فقد فَعَلَ فِعْلَ الصلاة فوجد شرط الحنث فيحنث، إلا أنه إذا قطعها بعد ذلك فقد انتقض فعل الصلاة ولكن بعد صحته، والانتقاض إنما يظهر في حق حكم يفيد الانتقاض، والحنث بعد تحققه لا يفيد الانتقاض.(5/1)
-----
فإن قيل: شرط الحنث فعل الصلاة وبالركعة الواحدة لا يصير فاعلاً فعل الصلاة؛ لأن الصلاة اسم لأفعال مجموعة من جملة ذلك القعدة، ولا قعدة في الركعة الأولى. قلنا: لا بدّ فيه (من) قعدة فإن بعد ما رفع رأسه من السجدة الأخيرة يقعد لا محالة إلا أن هذه القعدة لا تجزىء عن فعل الصلاة، لكن المنفي باليمين الإتيان بفعل الصلاة لا الإتيان بفعل يجزىء عن فعل الصلاة.
فإن قيل: هذا المعنى ليس بصحيح فإن بنفس السجود يقع الحنث وإن لم يرفع رأسه، قلنا: لا رواية في هذا الفصل عن أصحابنا رحمهم الله، وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: لا بدّ للحنث من رفع الرأس من السجود ليصير إتياناً بالقعود، فيصير إتياناً بجميع أفعال الصلاة. وقال بعضهم: لا يشترط رفع الرأس؛ لأن الساجد ساجد وقاعد والسجود سجدة وقعدة، ولكن بصفة أخرى. فقد اتفق المشايخ على اشتراط القعدة، وإن اختلفوا في كيفيته.
ولو كان حلف أن لا يصلي ولم يقل صلاة فإنما يحنث إذا قيّد الركعة، حتى إنه إذا افتتح الصلاة وركع ولم يسجد لا يحنثُ في يمينه؛ لأن ما دون ... ... ولهذا لا يقال: صلى قياماً صلى ركوعاً صلى سجوداً هذه الجملة من «الجامع».
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل لعبده: إن صليت ركعة فأنت حر فصلى ركعة بسجود ثم تكلم قال: لا يعتق، لأنها ليست بصلاة، وإن صلى ركعتين وقعد مقدار التشهد عتق بتمام الركعة، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه». فأبو يوسف لم يجعل الركعة بانفرادها صلاة، وتبين برواية ابن سماعة أن المذكور في «الجامع» قول محمد رحمه الله.(5/2)
-----
وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يصلي خلف فلان فأم فلان وقام الحالف عن يمينيه فهو حانث إن لم يكن له نية، وإن نوى أن يكون خلفه لم يدين في القضاء. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل قال: والله لا أصلي معك فصليا خلف إمام لم يحنث إلا أن يكون نوى أن يصلي معه ليس معهما غيره، وإذا حلف لا يصلي صلاة فصلى ركعتين ولم يقعد قدر التشهد فقد قيل: يحنث في يمينهِ، وقد قيل: لا يحنث، لأن المنفي فعل الصلاة وكون المفعول صلاة ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، والركعتان بدون القعدة ليست بصلاة كاملة على ما ذكرنا في الركعة الواحدة. وقيل: إن عقد يمينه على فعل لا يحنث في يمينهِ، وإن عقد يمينه على الفرض وهي من ذوات المثنى فكذلك، وإن عقد يمينه على الفرض وهي من ذوات الأربع يحنث في يمينه، وهو الأظهر والأشهر.
ولو حلف لا يصلي فقام وركع وسجد ولم يقرأ فقد قيل: لا يحنث، وقد قيل يحنث. وهكذا ذكر في «المنتقى».
ولو حلف لا يصلي الظهر لم يحنث حتى يتشهد بعد الأربع، وكذلك إذا حلف لا يصلي الفجر لم يحنث حتى يتشهد بعد الركعتين، وكذلك إذا حلف لا يصلي المغرب لم يحنث (إلا) بتشهد بعد الثلث. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجل قال: والله ما صليت اليوم صلاة يعني بجماعة، وإن الصلاة بغير جماعة ليست بصلاة كانت بنية على هذا، قال: يسعه فيما بينهم وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال: ما صليت اليوم ظهراً يعني ظهر أمس، أو أول من أمس فإنه يسعهُ فيما بينه وبين الله تعالى، ولو قال: والله ما صليت الظهر يعني في جماعة لم تسعهُ النية عندي في هذا، ولو على الظهر في السفر، ثم قال: والله ما صليت ظهراً يعني ظهر مقيم، فان النية تسعه في هذا فيما بينهُ وبين الله تعالى.(5/3)
-----
وروى المعلى عن محمد رحمه الله إذا قال: ما صليت الظهر يعني وحده، وقد صلاها في جماعة لم يدين. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف إذا قال الرجل لغيره: إن لم أصل الظهر معك اليوم فامرأتي طالق، فأدرك منهما ثلاث ركعات وسبقه بركعة لزمه الطلاق، ولو كان قال: إن صليت الظهر اليوم إلا معك لم يحنث، وإنما يحنث إذا صلى كلها وحده.
ولو حلف لا يصلي الظهر خلف فلان أو معه، فأدرك معه أول الصلاة فأحدث وذهب وتوضأ ورجع وقد فرغ الإمام فصلاها بعده لا يحنث. ولو كان حلف أن لا يصلي الظهر صلاة فلان حنث، ولو حلف لا يصلي معه أو خلفه وكبر معه ثم نعس في الركعة الأولى حتى فرغ الإمام منها ثم أتبعهُ فيها وصلى ما بقي معه حنث في يمينه.
ولو حلف لا يصلي معه الجمعة ثم إن الإمام أحدث وقدم الحالف وصلى بهم الجمعة لا يحنث، ولو كان حلف لا يصلي بصلاته وباقي المسألة بحالها حنث في يمينه، لأنه صلى بصلاته أما لم يصلي معه. وعن أبي يوسف رواية مجهولة إذا حلف الرجل لا يؤم أحداً فافتتح الصلاة بنفسه لا يريد أن يؤم واحداً (378ب1)، فجاء قوم واقتدوا به ولم ينو أن يؤمهم حنث قضاءً ولا يحنث ديانة، لأنه أمهم ظاهراً إلا أنه لم يقصد، (و) ذلك أمر بينهُ وبين ربه، فيلزمه الحنث قضاء لا ديانة. فإن كان هذا الذي حلف أشهد قبل الدخول أنه لا يؤم أحداً، فجاؤوا وائتموا لا يحنث قضاءً وديانة. لأن على صدق نيته علامة يقف القاضي عليها وهي الإشهاد.(5/4)
-----
ولو كان هذا الحالف شرع في صلاة غيره فأحدث الإمام بعد ما صلى الرابعة وتشهد وقدّم الحالفَ وانصرف فسلم بهم الحالف فهو إمام لهم فيما بقي عليهم. ولو كان صلى هذا الحالف بالناس الجمعة فنوى أن يصلي لنفسه الجمعة ولا يؤم، لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى، ويحنث في القضاء. قال: وكان ينبغي أن تكون الجمعة فاسدة، ولكني أستحسن مؤداها تامة له ولهم، ولو أمهم في صلاة جنازة أو سجدة تلاوة لا يحنث في يمينه إنما يمينه على الصلاة المعهودة المكتوبة والنافلة، إذا حلف الرجل لا يصلي بهم لم يحنث حتى يركع ويسجد. قال أبو يوسف: هكذا قال أبو حنيفة.
قال أبو يوسف رحمهُ الله: وأما الذي حلف أن لا يصلي فلا أحفظ عنه فيه. وإذا قال: عبده حر إن صليت الجمعة مع الإمام وقد كان أدرك الإمام في الركعة الثانية وصلاها مع الإمام، فلما فرغ الإمام قام وقضى الركعة الأولى (لم) يحنث في يمينه؛ لأنه ما صلى الجمعة مع الإمام لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، ولو كان أدرك الإمام في الركعة الأولى وصلى معه حنث في يمينه.g(5/5)
-----
ولو افتتح الصلاة مع الإمام ثم قام حتى سلم الإمام، ثم قام فصلى حنث في يمينه؛ لأنه صلى معهُ لأنه خلف الإمام حكماً وكلمة معه وإن كان للمقارنة ولم تقع أفعال صلاته مقارنة لأفعال صلاة الإمام إلا أن العمل بحقيقة القرآن وأفعال الصلاة بحيث لا يتقدم ولا يتأخر متعذر فسقط اعتبار حقيقة القران وحمل على الاقتداء والمتابعة عرفاً. وقد وجدها هنا فإن من سبقه الحدث مقتد بالإمام متابعة له على ما عرف قال إلا أن يعني شيئاً فهو على ما عنى يريد به إذا نوى المتابعة والاقتداء به على سبيل المقارنة لا غير، أو نوى المتابعة والاقتداء على سبيل المقارنة لا غير فإنه بدون النية ينصرف إلى الاقتداء والمتابعة المطلقة سواء كان على سبيل المقارنة، أو لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى أحدهما على الخصوص يدين فيها بينهُ وبين الله تعالى. وهل يدين قضاء؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب»، ولا شك أنه لا يصدق فيما إذا نوى المتابعة لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى المتابعة على سبيل المقارنة فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: يصدق وإن كان فيه تخفيفاً لأنه نوى حقيقة كلامه، وبعضهم قالوا: لا يصدق لأن هذه الحقيقة مهجورة في مسألتنا، ألا ترى أن هذه الحقيقة لم تتعين لصرف اليمين إليها من غير نية، فكانت بمنزلة المجاز وفيه تخفيف فلا يصدق.
ولو حلف لا يصلي الظهر خلف فلان أو معه، فأدرك معه أول الصلاة فأحدث وذهب وتوضأ ورجع وقد فرغ الإمام فصلاها بعده لا يحنث. ولو كان حلف أن لا يصلي الظهر صلاة فلان حنث، ولو حلف لا يصلي معه أو خلفه وكبر معه ثم نعس في الركعة الأولى حتى فرغ الإمام منها ثم أتبعهُ فيها وصلى ما بقي معه حنث في يمينه.(5/6)
-----
ولو حلف لا يصلي معه الجمعة ثم إن الإمام أحدث وقدم الحالف وصلى بهم الجمعة لا يحنث، ولو كان حلف لا يصلي بصلاته وباقي المسألة بحالها حنث في يمينه، لأنه صلى بصلاته أما لم يصلي معه. وعن أبي يوسف رواية مجهولة إذا حلف الرجل لا يؤم أحداً فافتتح الصلاة بنفسه لا يريد أن يؤم واحداً (378ب1)، فجاء قوم واقتدوا به ولم ينو أن يؤمهم حنث قضاءً ولا يحنث ديانة، لأنه أمهم ظاهراً إلا أنه لم يقصد، (و) ذلك أمر بينهُ وبين ربه، فيلزمه الحنث قضاء لا ديانة. فإن كان هذا الذي حلف أشهد قبل الدخول أنه لا يؤم أحداً، فجاؤوا وائتموا لا يحنث قضاءً وديانة. لأن على صدق نيته علامة يقف القاضي عليها وهي الإشهاد.
ولو كان هذا الحالف شرع في صلاة غيره فأحدث الإمام بعد ما صلى الرابعة وتشهد وقدّم الحالفَ وانصرف فسلم بهم الحالف فهو إمام لهم فيما بقي عليهم. ولو كان صلى هذا الحالف بالناس الجمعة فنوى أن يصلي لنفسه الجمعة ولا يؤم، لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى، ويحنث في القضاء. قال: وكان ينبغي أن تكون الجمعة فاسدة، ولكني أستحسن مؤداها تامة له ولهم، ولو أمهم في صلاة جنازة أو سجدة تلاوة لا يحنث في يمينه إنما يمينه على الصلاة المعهودة المكتوبة والنافلة، إذا حلف الرجل لا يصلي بهم لم يحنث حتى يركع ويسجد. قال أبو يوسف: هكذا قال أبو حنيفة.
قال أبو يوسف رحمهُ الله: وأما الذي حلف أن لا يصلي فلا أحفظ عنه فيه. وإذا قال: عبده حر إن صليت الجمعة مع الإمام وقد كان أدرك الإمام في الركعة الثانية وصلاها مع الإمام، فلما فرغ الإمام قام وقضى الركعة الأولى (لم) يحنث في يمينه؛ لأنه ما صلى الجمعة مع الإمام لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، ولو كان أدرك الإمام في الركعة الأولى وصلى معه حنث في يمينه.g(5/7)
-----
ولو افتتح الصلاة مع الإمام ثم قام حتى سلم الإمام، ثم قام فصلى حنث في يمينه؛ لأنه صلى معهُ لأنه خلف الإمام حكماً وكلمة معه وإن كان للمقارنة ولم تقع أفعال صلاته مقارنة لأفعال صلاة الإمام إلا أن العمل بحقيقة القرآن وأفعال الصلاة بحيث لا يتقدم ولا يتأخر متعذر فسقط اعتبار حقيقة القران وحمل على الاقتداء والمتابعة عرفاً. وقد وجدها هنا فإن من سبقه الحدث مقتد بالإمام متابعة له على ما عرف قال إلا أن يعني شيئاً فهو على ما عنى يريد به إذا نوى المتابعة والاقتداء به على سبيل المقارنة لا غير، أو نوى المتابعة والاقتداء على سبيل المقارنة لا غير فإنه بدون النية ينصرف إلى الاقتداء والمتابعة المطلقة سواء كان على سبيل المقارنة، أو لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى أحدهما على الخصوص يدين فيها بينهُ وبين الله تعالى. وهل يدين قضاء؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب»، ولا شك أنه لا يصدق فيما إذا نوى المتابعة لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى المتابعة على سبيل المقارنة فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: يصدق وإن كان فيه تخفيفاً لأنه نوى حقيقة كلامه، وبعضهم قالوا: لا يصدق لأن هذه الحقيقة مهجورة في مسألتنا، ألا ترى أن هذه الحقيقة لم تتعين لصرف اليمين إليها من غير نية، فكانت بمنزلة المجاز وفيه تخفيف فلا يصدق.
ولو قال: عبده حر إن أدرك الظهر مع الإمام اليوم فأدركهُ في التشهد ودخل معهُ حنث، لأن إدراك الشيء بإدراك آخره وبلحوق الجزء الآخر منهُ فقال: فلان أدرك من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويراد به لحوقه آخر وقد لحق بآخره.
رجل حلف ليصلين هذا اليوم خمس صلوات بالجماعة، ويجامع امرأته فلا يغتسل ينبغي أن يصلي الفجر والظهر والعصر بالجماعة ثم يجامع امرأتهُ ثم يغتسل لما غربت الشمس ويصلي المغرب والعشاء بالجماعة ولا يحنث.(5/8)
-----
وإذا حلف الرجل فقال: والله ما أخرج صلاة عن وقتها، وقد كان نام عن صلاة حتى خرج وقتها وصلاها فقد قيل يحنث، وقيل: لا يحنث لأن ذلك وقتها «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّممن نام عن صلاة أو نسيها فليصها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها». وإن حلف لا يصلي بأهل هذا المبنى ما دام فلان يصلي فيه فمرض فلان ثلاثة أيام ولم يصلِّ فيه إن كان فلان صحيحاً فلم يصل فيه فصلى الحالف بعد ذلك فيه لا يحنث.
حلف لا يصلي في هذا المسجد فزيد فيه فصلى في موضع الزيادة لا يحنث، ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان فزيد فيه فصلى في موضع الزيادة حنث هكذا قيل. وقيس هذه المسألة على ما إذا حلف لا يدخل هذا المسجد فريد فيه فدخل في موضع الزيادة لا يحنث. ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان فريد فيه فدخل في موضع الزيادة حنث ومسألة الدخول في «القدوري».
رجل قال لامرأته: إن لم تصل الساعة ركعتين فأنت وطالق، فقامت وكبرت فحاضت أو قال لها: أن لم تصومي غداً، فأنت طالق، فصامت من الغد فحاضت حنث في يمينهِ، قيل: هذا الجواب مستقيم وعلى قول أبي يوسف رحمه الله غير مستقيم، على قولهما كما في مسألة الكوز، وقيل: لا.... هذا الجواب مستقيم على قول الكل لأن شرع الصوم مع الحيض متصور، فصار كمسألة مس السماء.
رجل قال لامرأتهِ: إن لم تصبحي غداً ولم تصلي فأنت طالق، فأصبحت وشرعت في الصلاة فطلعت الشمس أفتى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بعدم الوقوع، وأفتى ركن الإسلام السغدي رحمه الله بالوقوع، وقول ركن الإسلام أظهر، لأن هذا طلاق معلق بعدم الفصل في مجلس، فينظر فيه إلى شرط البر وشرط البر أن تصلب وتصلي وقد أصبحت ولم تصل ففات شرط البر فيتعين الحنث، وقد ذكرنا هذا الفصل بتمامه في كتاب الطلاق.(5/9)
-----
وإذا حلف لا يصوم اليوم، يعني: اليوم ..... فأصبح صائماً ثم أفطر لا يحنث في يمينه، لأن الصوم فعل ممتد وقد أضيف إلى وقت الفعل الممتد إذا أضيف إلى وقت كان الوقت معياراً له، وإنما اليوم معيار للصوم إذا وجد الصوم في جميع اليوم أما إذا وجد الصوم في بعض اليوم كان المعيار بعض اليوم، فصار شرط الحنث الصوم الموجود في جميع اليوم ولم يوجد الصوم في جميع اليوم. وكذلك إذا حلف أن لا يصوم يوماً فأصبح صائماً ثم أفطر لا يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث صومه ولم يوجد صومه، ولو حلف لا يصوم يوماً فأصبح صائماً ثم أفطر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في كتبهِ، وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابهِ»: أنه لا يحنث (379أ1) في يمينه لأنه ذكر الصوم مطلقاً فينصرف إلى الكامل وهو الصوم المفيد لحكمه وهو الصوم في أول اليوم إلى آخره.
وحُكي عن القاضي أبي الهاشم رحمه الله: أنه إذا نوى المصدر يحنث في يمينه، وإن لم ينو المصدر (يحنث أيضاً) لأن صوم ساعة مما يتقرب به إلى الله تعالى في الجملة، ألا ترى أن العلماء قالوا: لا يستحب للرجل أن يصوم يوم العيد حتى يصلي صلاة العيد، فكان صوماً كاملاً فينطلق عليه مطلق اسم الصوم.(5/10)
-----
ولو حلف لا يصوم فأصبح صائماً ثم أفطر يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث ههنا فعل الصوم، فبهذا القدر يصير فاعلاً فعل الصوم؛ لأن الصوم في اللغة عبارة عن الإمساك المجرّد، وفي الشرع عبارة عن الإمساك مع النية. وكما شرع في الصوم بنيّة الصوم فقد وجد ذلك، وما زاد عليه تكرار للمحلوف عليه، وتكرار المحلوف عليه ليس بشرط لوقوع الحنث، وإذا حلف لا يحج فحمد على الصحيح دون الفاسد، وإذا حلف لا يحج ولا يحج حجه فأحرم بالحج لم يحنث حتى يقف عرفة، رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث حتى يطوف أكثر طواف الزيارة. ولو حلف لا يعتمر أو لا يعتمر عمرة لم يحنث حتى يُحْرِم بالعمرة ويطوف أربعة أشواط رواه بشر عن أبي يوسف رحمه الله، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
نوعمنه في الوضوء والغسل
إذا حلف لا يتوضأ من الرعاف فرعف ثم بال ثم توضأ أو بال ثم رعف وتوضأ. فالوضوء منهما جميعاً ويحنث في يمينه، هكذا ذكر في «المنتقى».
وفيه أيضاً: إذا حلف الرجل لا يغتسل من امرأته هذه من جنابة فأصابها ثم أصاب امرأة أخرى له أوأصاب امرأة أخرى له ثم أصاب المحلوف عليها واغتسل، فهذا اغتسال منها يحنث في يمينه، وكذلك المرأة إذا حلفت أن لا تغتسل من جنابة أو من حيض فأصابها زوجها وحاضت، واغتسلت فهو اغتسال منهما فتحنث في يمينها. هذه الجملة من «المنتقى»، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله فيمن قال: إن اغتسلت من زينب فهي طالق أو اغتسلت من عمرة فهي طالق، فجامع زينب ثم جامع عمرة واغتسل فهذا الاغتسال منهما ويقع الطلاق عليهما.(5/11)
-----
وذكر الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم الكرميني في «شرح كتاب الصلاة» في باب الغسل والجنابة: أن الحائض إذا أجنبت لا يجب عليها الغسل حتى تطهر من الحيض، وإذا طهرت واغتسلت فظاهر الجواب أنّ الاغتسال منهما. وقال أبو عبد الله الجرجاني: يكون من الأول دون الثاني، وكذلك الرجل إذا رعف ثم بال فالوضوء يكون من الأول عند أبي عبد الله الجرجاني.
فالحاصل: أنّ على قول أبي عبد الله الجرجاني إذا اجتمع الحدثان فالوضوء بعدهما يكون (من) الأول اتحد الجنس أو اختلف. وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إن اتحد الجنس بأن بال ثم بال أو رعف ثم رعف وأشباه ذلك فالوضوء من الأوّل وإن اختلف الجنس بأن بال ثم رعف فالوضوء يكون منهما.
وقال الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم: ... أن الوضوء من الحدثين إذا استويا في الغلظة والخفة، وإذا كان أحدهما أغلظ فالوضوء من أغلظهما كما إذا رعف أو بال ثم أجنب وقد وجدنا الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله أن الوضوء يكون منهما، ورجعنا إلى قوله.
وفائدة هذه الاختلاف إنما تظهر في مسألة الحلف التي ذكرناها، فإذا حلف أن لا يتوضأ من الرعاف ورعف ثم بال وتوضأ حنث في يمينه بلا خلاف، أمّا على قول أبي عبد الله الجرجاني فلأنه يعتبر الوضوء من أول الحدثين، والأول الرعاف، وعلى قول أبي جعفر الوضوء منهما عند اختلاف الجنس، وقد اختلف الجنس، وعلى ظاهر الجواب الوضوء من الحدثين جميعاً في الأحوال كلها ينصرف، فيصير متوضئأ من الرعاف وهو شرط الحنث، وإن بال أولاً ثم رعف وتوضأ، فعلى قول أبي عبد الله لا يحنث في يمينه، لأن الوضوء عنده وقع عن البول لا عن الرعاف؛ لأن البول أولهما، وعلى ظاهر الجواب يحنث في يمينه، لأن الوضوء عنهما، وكذلك على قول الفقيه يحنث لأن الوضوء عنهما لما اختلف الجنس.
(5/12)
-----
وإذا حلف لا يغتسل من امرأته هذه فأصابها ثم أصاب امرأة أخرى ثم اغتسل حنث بلا خلاف، أما على قول الفقيه أبي عبد الله الجرجاني رحمه الله لأن الاغتسال عن المرأة المحلوف عليها عنده أيضاً لأن الجنس متحد وأما على ظاهر الرواية الجواب فلأن الاغتسال وقع عنهما فوجد شرط الحنث وزيادة وعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
نوع آخر منه فى الأكل
إذا حلف الرجل لا يأكل والأكل أن يوصل إلى جوفه... في فيه المضغ.. سواء مضغه ثم.... غير ممنوع حتى.... حلف أن لا يأكل هذه البيضة أو هذه الجوزة فابتلعها كذلك حنث في يمينه. لأن المضغ ليس بشرط وإنما الشرط أن يكون بحيث ينافي فيه المضغ. ولو حلف على أكل شيء لا ينافي فيه المضغ بنفسه فأكل مع غيره فإن كان مما يؤكل كذلك حنث في يمينه.(5/13)
-----
وإن حلف أن لا يأكل هذا اللبن فأكله سمن أو... حلف لا يأكل هذا العسل فأكله كذلك يحنث في يمينه لأن هذا يسمى آكلاً في العادة وإن.... على ذلك ماء فشرب لا يحنث في يمينه لأن هذا شرب، وليس كذلك لو حلف (379ب1) لا يأكل هذا السويق فشربه شرباً لا يحنث، لأن هذا ليس بأكل، وإذا عقد يمينه على أكل ما هو مأكول بعينه ينصرف يمينه إلى أكل عينه، وإذا عقد يمينه على أكل ما هو ليس بمأكول بعينه، أو عقد يمينه إلى ما يتخذ منه مجازاً والأصل في جنس هذه المسائل العمل بالحقيقة عند الإمكان، وعند تعذر العمل بالحقيقة أو عند وجود العرف بخلاف الحقيقة ترك الحقيقة، ألا ترى إن باع شيئاً بدراهم ينصرف إلى نقد البلد بدلالة العرف، وفي الصرف إلى نقد البلد ترك حقيقية اسم الدراهم من وجه يعلم أنه كما ترك الحقيقة للتعذر تركه لأجل العرف إذا ثبت هذا فنقول فيما إذا عقد يمينه على أكل ما هو مأكول بعينه العمل بالحقيقة ممكن فينصرف يمينه إلى أكل عينه وإذا عقد يمينه على ما ليس بمأكول بعينه إلا أنه لا يؤكل لذلك عادة فالعمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه مجازاً.
بيان هذا الأصل الأصل من المسائل. إذا حلف لا يأكل من هذه الشاة شيئاً فأكل من لبنها وسمنها لا يحنث، لأنه أكل غير الشاة فتنعقد اليمين بالعين لا بما يتولد من العين، وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا العنب فأكل من ذبيبه أو عصيره لا يحنث، لأن العنب مأكول ما يعقد يمينه على أكل منه باسمه. ولذلك لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فأكل من شيرازه لا يحنث، لأنّ عينه مأكول فلا ينعقد اليمين على ما يتخذ منه، ولذلك إذا جعل اللبن جبناً أو أقِطَاً وأكل منه لا يحنث لما قلنا.
وكذلك إذا حلف لا يذوق من هذا الخمر فذاقه بعد ما صار خلاً لا يحنث، وكذلك لو حلف لا يأكل من هذه الحنطة فزرعها فأكل مما خرج منها لا يحنث، والمعنى في الكل ما ذكرنا.(5/14)
-----
وقال في «الجامع»: إذا حلف لا يأكل من هذه النخل شيئاً، فأكل التمر أو طلعها أو بسرها أو دبسها حنث؛ لأن عين النخلة غير مأكول فينصرف يمينه إلى ما يخرج منه مجازاً وأراد بالدبس ما يُسْتَلّ من الرطب وإن اتخذ من الدبس ناطفاً أو نبيذاً لا يحنث في يمينه، لأن يمينه انصرف إلى ما يخرج من النخلة، والنبيذ والناطف لم يخرجا من النخلة كذلك فلا يحنث بأكله. وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا الكرم شيئاً فأكل من عنبه أو زبيبه أو عصيره حنث في يمينه، لأن عين الكرم ليس بمأكول لأنه شجرة العنب فينصرف يمينه إلى ما يخرج منه، كما في النخلة. وهذه الأشياء خارج من النخلة. أمّا العنب والزبيب فظاهر، وأما العصير فلأنه ماء العنب إلا أنه كان متمكناً بالعصر، ولو أكل من خله لا يحنث لأنه ليس بخارج منه بهذه الصفة.
وإذا حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه يحنث، لأن الدقيق وإن كان مأكولاً بعينه إلا أنه لا يؤكل كذلك عادة، فينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه مجازاً.
وفي «النوادر»: لو اتخذ منه أن يحنث، يكون كذلك وإن أكل عين الدقيق هذا، يحنث ولم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب. وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يحنث لأن المجاز وهو ما يتخذ منه صار مراداً فلا تبقى الحقيقة مرادة ولو كان حين حلف غيرته عين الدقيق لا يحنث، بأكل لأنه نوى غير ما يقتضيه حقيقة كلامه وظاهره، فيتقيد اليمين.(5/15)
-----
وإذا حلف أن لا يأكل من هذه الحنطة وهو ينوي أن لا يأكلها حبة حبة صحت نيّتُه حتى لو أكل من خبزها لا يحنث في يمينه، لأنه نوى حقيقة كلامه والعمل بالحقيقة ممكن لأن الحنطة مأكول عينها فتتقيد اليمين بالحقيقة، وإن نوى أن لا يأكل مما يتخذ منها صحت نيتُه أيضاً حتى لا يحنث بأكل عينها، وإن لم تكن له نيّة فأكل من خبزها لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يحنث، ولو أكل عينها يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله، وأمّا عندهما هل يحنث؟ أشار في أيمان «الأصل»: إلى أنه لا يحنث، فإنه قال: في «أيمان الأصل»: إذا أكل من خبزها حنث، إلا أن ينوي الخبز بعينه فإنما صرف يمينه إلى العين بالنية، فدلّ على أنه من غير النية ينصرف إلى الخبز.
وأشار في «الجامع الصغير»: إلى أنه يحنث فإن قال ثمة إذا حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها لا يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله. وإن قضمها حبة حبة حنث في يمينه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يحنث إذا أكل من خبزها أيضاً، فهذه إشارة إلى أنه متى أكل الخبز يحنث، وأما آكل العين يحنث والصحيح ما ذكر في أيمان «الأصل».
فوجه قولهما أن الحنطة متى ذكرت مقرونة بالأكل يراد به في عرف الاستعمال خبزها، يقال: فلان يأكل الحنطة وأهل بلد كذا يأكلون الحنطة، ويريدون خبزها ومطلق الاسم من غير نيّة ينصرف إلى المتعارف وصار تقدير يمينه لا أكل من خبز هذه الحنطة.(5/16)
-----
ولو قال هكذا إذا أكل خبزها يحنث، وإذا أكل من غيرها لا يحنثُ كذا ههنا. وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الحنطة عينها مأكول... فيؤكل ويتخذ منها الهريسة فقد عقد يمينه على ما هو مأكول، فلا ينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه وما يقول بأن الحنطة إذا ذكرت مقرونة بالأكل يراد بها ما يتخذ منها في العرف، قلنا: هذا العرف موجود في الحنطة بغير عينها لا في حنطة بعينها، والخلاف في «أيمان الأصل» وفي «الجامع الصغير»، .....في حنطة بعينها، وإذا كان غير الحنطة مأكولاً أمكن العمل بالحقيقة فلا يُعدل عنها إلا بالنية أو بالعرف ولم يوجد فعلى قوّة هذا (380أ1) التعليل.
إذا حلف على أكل حنطة لا بعينها يجب أن يكون الجواب فيه عند أبي حنيفة كالجواب عندهما هكذا ذكر شيخ الإسلام في «أيمان الأصل». وإذا أكل من سويقها ذكر في بعض الروايات أنه لا يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وذكر في بعض الروايات أنه لا يحنث ولم يذكر فيه خلافاً.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أنه يحنث بأكل السويق.(5/17)
-----
وإذا حلف لا يأكل خبزاً ولا نية له فهذا على خبز الحنطة والشعير، وعلى ما يتعارف في ذلك البلد.... الخبز منه وإنما يقع اليمين على خبز الحنطة والشعير لأن الذي يُعتاد أكله من الخبز في جميع البلدان خبز الحنطة والشعير في مطلق اليمين، ينصرف إلى المعتاد حتى لو تصور موضعاً لا يأكل أهله خبز الشعير لا يحنث بأكله غير الشعير أيضاً، ولو أكل خبز الأرز فإن كان من أهل بلد خبزهم ذلك ينصرف يمينه إليه وما لا فلا، وإذا حلف لا يأكل خبزاً ولا نية له فأكل كليجة أو حورية.... أو توالية....، قال محمد بن سلمة رحمه الله: لا يحنث في الوجوه كلها، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: المختار أنه يحنث إذا أكل الكليجة أو التوالة المقطوعة، أما الكليجة فلأنها خبز حقيقة وعرفاً واختصاصها باسمها خاص للزيادة لأنها النقصان فلا يمنع دخولها تحت مطلق الاسم، وأما التوالة المقطوعة فلأنها خبز انضم إليه أشياء أخر، وأما الحور.... فلا يحنث بأكله لأنه لا يسمى خبزاً مطلقاً بل يسمى خبزاً مقيداً وكذا لو أكل القطايف لا يحنث لا يسمى خبزاً يسمى بل قطايفاً ويقال لا يسمى خبزاً مطلقاً بل يسمى خبزاً مقيداً، يقال خبز الحورينج كما يقال بالفارسية باى رد الودانا.
حلف لا يأكل هذا الخبز فخفقه ودقه ثم شربه بالماء لم يحنث، لأن هذا شرب وليس بأكل ولو أكله مبلولاً حنث لأنه وُجد الأكل حقيقة.
ولو حلف لا يأكل لحماً ولا نية له فأكل لحم سمك لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير»، والأصل في خبز هذه المسائل أن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل من المسمى الاسم صورة ومعنى ولا ينصرف إلى الناقص منه معنى إلا بالدليل وإنما كان كذلك لأن الكامل من المسمى معنى مع الناقص من المسمى معنى بدل من له المجاز مع الحقيقة؛ لأن حد المجاز أن يوجد فيه بعض معاني الحقيقة.(5/18)
-----
قلنا: ومطلق الاسم ينصرف إلى الحقيقة ولا ينصرف إلى المجاز إلا بدليل، إذا ثبت هذا فنقول بأن لحم السمك ناقص في معنى اللحمية، ألا ترى أنه لا يستعمل استعمال اللحم وألا ترى أنه لا يجنى منه المرق كما يُجنى من سائر اللحوم، وهذا لأن اللحم يتولد من الدم والسمك يتولد من الماء والدم في إتيان القوة فوق الماء. فكذا المتولد منه فكان ناقصاً في معنى اللحمية وهو التقوي والتعذي، ولو أكل لحم خنزير أو لحم.... يحنث في يمينه، لأنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم لا أنه حرم أكله ولكن الحل والحرمة من أحكام الشرع والاسم حقيقة لا يتغير بأحكام الشرع وكذلك لو أكل لحم البقر أو لحم الغنم أو لحم الإبل يحنث في يمينه. لأن جميع ذلك لحم حقيقة.
والحاصل: أن اسم اللحم اسم جنس فيتناول اللحوم كلها وإذا كانت اللحوم أجناساً مختلفة.
وفي «القدوري»: إذا حلف لا يأكل لحماً فهذا على الحيوان الذي يعيش في البر محرمة كانت أو غير محرمة، وهو إشارة إلى ما قلنا أنّ الحل والحرمة أحكام الشرع فلا يتغير به الاسم حقيقة. ألا ترى أن من حلف لا يشرب شراباً ولا نية له فشرب الخمر إنه يحنث في يمينه، لأنه شراب حقيقة وإن كان حراماً كذا ههنا.
قال في «القدوري»: وأما لحم ما يعيش في الماء كالسمك وغيره فإنه لا يحنث بأكله ثم ينوي إن أكل هذه اللحوم مطبوخاً أو مشوياً أو قديداً ولو أكل.... لم يذكر هذا الفصل في شيء من الكتب نصاً. قال شيخ الإسلام: في «شرح الأيمان» الأصل ينبغي أن لا يحنث في يمينه. قال وأشار إليه محمد رحمه الله في «الأصل» فقد ذكر في «الأصل»، إذا حلف لا يأكل لحماً ولا نية له فأي لحم أكل بقر أو لحم غنم أو لحم طير مشوّياً كان أو طبيخاً أو قديداً يحنث في يمينه، فهذا من محمد رحمه الله إشارة إلى أنه لا يحنث بأكل النيء.(5/19)
-----
وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله عن أبي بكر الإسكاف: أنه لا يحنث في يمينه. وقال الفقيه أبو الليث: عندي إنه يحنث والأشهر والأظهر أنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على ما لا يؤكل كذلك عادة فينصرف يمينه إلى الأكل المعتاد، والأكل المعتاد لحم الأكل بعد الطبخ ولو أكل ما يكون في الجوف من الكرش والكبد والطحال يحنث في يمينه. وهذا بناء على عرف أهل الكوفة فإن هذه الأشياء في عرفهم كانت تباع مع اللحم وتستعمل استعمال اللحم فأما في عرفنا لا يحنث في يمينه، لأن هذه الأشياء لا تسمى لحماً ولا تباع مع اللحم ولا تستعمل استعمال اللحم ولو أكل شحم البطن لا يحنث، لأنه لا يسمى لحماً فلا يستعمل استعمال اللحم وكذلك إذا أكل الألية لا يحنث، فهذه العلة.
ولو أكل شحم الظهر يحنث في يمينه، لأنه يسمى لحماً يقال لحم سمين ويستعمل استعمال اللحم ويباع مع اللحم ولا كذلك شحم البطن والآلية. ولو أكل رؤوس الحيوان يحنث في يمينه، لأن ما على رؤوس الحيوان لحم حقيقة ولو حلف لا يأكل لحم شاة فأكل لحم عنز يحنث في يمينه. هكذا ذكر في «الجامع»، وعن بعض مشايخ بلخ إذا كان الحالف مصرياً لا يحنث لأنهم يفرقون بينهما وإن كان قروياً يحنث لأنهم لا يفرقون بينهما.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه»: أنه لا يحنث سواء كان الحالف قروياً أو مصرياً، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وعليه الفتوى لأنهم يفرقون بينهما عادة.a
(5/20)
-----
ولو حلف لا يأكل شحمة فأكل شحم البطن حنث في يمينه بلا خلاف، ولو أكل شحم الظهر وهو الذي يخالطه لحم على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يحنث في يمينه، وعلى قولهما يحنث والصحيح مذهب أبي حنيفة رحمه الله لأن شحم الظهر ليس بشحم بل هو لحم، ألا ترى أن من حلف لا يأكل لحماً فأكل شحم الظهر يحنث في يمينه، وإذا كان لحماً لا يكون شحماً لأنهما اسمان مختلفان لا يتناولان مسمى واحداً ولو عزل شحم الظهر وأكله لا رواية في (380ب1) هذا عن أبي حنيفة رحمه الله. ولقائل أن يقول لا يحنث عنده.
ولو حلف لا يأكل طعاماً مَلِحَاً أو خلاً أو...... أو زيتاً يحنث في يمينه. هكذا رواه ابن رستم عن محمد رحمهما الله وقال: كل شيء يؤكل فهو طعام فقد جعل محمد رحمه الله الخل طعاماً، وقال أبو يوسف رحمه الله: الخل ليس بطعام وكذلك النبيذ ليس بطعام.
قال القدوري في «كتابه»: وحقيقة الطعام ما يستطعم ولكن يختص في العرف ببعض الأشياء فإن السقمونيا وما أشبه ذلك لا تسمى طعاماً.
وفي «فتاوى أبي الليث» إذا حلف لا يأكل طعاماً وأكل دواء من الدواء الذي يكون..... ولا يكون.... ولا يصير غذاءً لا يحنث وإن كان له حلاوة ويصير غذاءً يحنث.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا حلف الرجل لا يأكل لحم دجاج فأكل لحم الديك يحنث في يمينه.(5/21)
-----
الأصل في جنس هذه المسائل أن اليمين إذا أضيف إلى اسم جنس يدخل تحت اليمين الذكر والأنثى من ذلك الجنس، ومتى أضيف إلى ذكر على الخصوص لا يدخل تحت اليمين الأنثى، ولذلك إذا أضيف إلى اسم أنثى على الخصوص لا يدخل تحت اليمين الذكر، وكون الاسم خاصاً للأنثى لا تعرف بعلامة الهاء لا محالة لأن ذلك مشترك، قد تكون الهاء للتأنيث وقد تكون الهاء للإفراد وإنما يعتبر فيه الوضع وإنه ينتفي من قبل النقل ومحمد رحمه الله إمام مقلّد مقبول القول في اللغات إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: الدجاج اسم جنس فيدخل تحت اليمين الذكر والأنثى ولو حلف لا يأكل لحم دجاجة فأكل لحم ديك لا يحنث، لأن الدجاجة مع الهاء للأنثى خاصة وكذلك إذا حلف لا يأكل لحم ديك فأكل لحم دجاجة لا يحنث، لأن اسم الديك اسم الذكر خاصة.
قال: وإذا حلف لا يأكل لحم جَمَلٍ أو حلف لا يأكل لحم بعير أو حلف لا يأكل لحم إبل أو حلف لا يأكل لحم جزور دخل تحت اليمين الذكر والأنثى لأن هذه الأشياء من أسماء الأجناس، وكذلك يدخل تحت اليمين البختي وهو ما تكون أمه عربياً وأبوه غير العربي، ويدخل تحت اليمين أيضاً العربي لما ذكرنا أن هذه الأشياء في أسماء الأجناس فيدخل تحتها الأنواع كلها. ولو حلف لا يأكل لحم بختي فأكل لحم عربي أو حلف لا يأكل لحم عربي فأكل لحم بختي لا يحنث في يمينه، ولأن كل واحد من هذين الاسمين اسم خاص لصنف خاص فلا يدخل تحته الصنف الأخرى.
ولو حلف لا يأكل لحم ناقة فأكل لحم الذكر من العراب أو البخت لا يحنث، لأن الناقة اسم خاص للأنثى والهاء فيها للتأنيث فلا يتناول الذكر.(5/22)
-----
ولو حلف لا يأكل لحم بقر فأكل لحم الأثنى منه أو أكل لحم الذكر يحنث في يمينه، لأن البقر اسم جنس وكذلك إذا حلف لا يأكل لحم بقرة فأكل لحم بقر يحنث في يمينه، لأن البقرة اسم جنس والهاء فيها للأفراد الدليل عليه أن البقرة المذكورة في قصة موسى صلوات وسلامه عليه كان ذكراً ألا ترى أن الله تعالى قال في شأنها {لا ذلول تثير الأرض} (البقرة: 71) والثور هو الذي يوصف به.
ولو حلف لا يأكل لحم ثور فأكل لحم جاموس لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع»، وفي «الحاوي»: أنه يحنث بخلاف ما لو حلف لا يأكل لحم جاموس فأكل لحم البقر لا يحنث، لأن البقر اسم جنس والجاموس اسم نوع والصحيح ما ذكر في «الجامع»؛ لأن الجاموس، وإن كان نوع ثور إلا أنه لا يكون يؤكل عادة، وهو إنما ذكر البقر مقروناً بالأكل فيتناول نوعاً يؤكل عادة. ألا ترى أن من حلف لا يشتري رأساً فاشترى رأس طير لا يحنث، وإن كان رأساً حقيقة لأن لا يُشترى عادة، وهو إنما ذكر الرأس مقروناً بالشراء فيتناول رأساً يشترى عادة. كذا في مسألتنا والشاة اسم جنس فيدخل تحتها الذكر والأنثى، والكبش اسم خاص للذكر فلا يدخل تحته الأنثى، والنعجة اسم خاص للأنثى فلا يدخل تحته الذكر والله أعلم.
ولو حلف لا يأكل من هذا الحم شيئاً فأكل من هو فيه لا يحنث، إذا لم يكن له نيّة المرقة لأنه لم يأكل شيئاً من اللحم.
وإذا حلف الرجل لا يأكل فاكهة، ولا نيّة له أجمعوا على أنه إذا أكل تيناً ومشمشاً أو خوخاً أو سفرجلاً أو إجاصاً أو كمثرى أو تفاحاً يحنث في يمينه، وأجمعوا على أنه ما أكل خياراً أو قثاء أو جزراً إنه لا يحنث في يمينه.... وأما إذا أكل عنباً أو.... أو رطباً فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يخنث في يمينه وعلى قولهما يحنث.(5/23)
-----
وفي «القدوري»: ثمرة الشجر كلها فاكهة إلا الرمّان والعنب والرطب في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، كل ذلك فاكهة فمن المشايخ رحمهما الله من قال رحمه الله، هذا اختلاف عصر وزمان كان الناس في زمن أبي حنيفة رحمه الله لا يتفكهون بهذه الأشياء ويعدون بهذه الأشياء من الفواكه فأفتى كل واحد منهم على حسب ما شاهد في زمانهم، ومنهم من قال: هذا اختلاف حجة فوجد قولهما أن الفاكهة اسم لما يتفكه به أي يؤكل على سبيل التلهي وذهاب الملالة وهذه الأشياء بهذه المثابة فكانت فاكهة والدليل عليه إذا نوى هذه الأشياء صحت نيته بلا خلاف، وتدخل هذه الأشياء تحت اليمين، ولولا أنها فاكهة وإلا لما دخلت تحت اليمين. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفاكهة اسم لما يؤكل على سبيل التهلي والذهاب للملالة وهذه الأشياء كما في كل على سبيل التلهي تؤكل لغرض آخر فالعنب والرطب يؤكلان للشبع وقد يكتي فيها في بعض الأماكن، وفي بعض الأزمنة والرمان تؤكل للتداوي فكان هذه الأشياء ناقصاً في معنى التفكه بها فلا تدخل تحت مطلق اسم الفاكهة، والدليل عليه أنه إذا أكل الناس من هذه الأشياء لا يحنث، لأنه ناقص في معنى التفكة فلا تدخل تحت مطلق الاسم كذا ههنا.
وإذا أكل خياراً أو جزراً أو قثاءً إنما لا يحنث (381أ1) في يمينه، لأن هذه الأشياء ليست بفاكهة إنها هي من البقول والتوابل بعضها يوضع على المائدة مع البقول وبعضها يجعل في القدر مع التوابل.(5/24)
-----
قال محمد رحمه الله، في «الأصل»: والتوت فاكهة، وهكذا ذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» لأنه يسمى فاكهة في العرف ويؤكل على سبيل التلهي وذهاب الملالة لا لغرض آخر، وعن أبي يوسف رحمه الله أن اللوز والعناب فاكهة وكل ذلك مستفاداً من قول القدوري رحمه الله ثمر الشجرة كلها فاكهة إلا الرمان والعنب والرطب، فإنما استثنى الأشياء الثلاثة لا غير على قول أبي حنيفة رحمه الله وعن محمد رحمه الله أن الجوز اليابس ليس بفاكهة، وهو لطر العنب والرمان والرطب، وإن رطب هذه الأشياء فاكهة واليابس منهما ليس بفاكهة، والبطيخ من الفواكه. هكذا ذكر القدوري ورواه الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله. وذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرحه أن البطيخ ليس من الفواكه، فإنه ذكر أن ما لا يكون من فاكهة.... ورطبه لا يكون فاكهة كالبطيخ، وهذا القياس غير مستقيم فإن الرطب من العنب والرمان فاكهة عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، واليابس منهما ليس بفاكهة. والرطب من الجوز فاكهة بلا خلاف، واليابس منه ليس بفاكهة..... فاكهة أيضاً. قيل: كل ما يكون نضيجة فاكهة منه إنما يكون فاكهة.(5/25)
-----
وفي «المنتقى»: وقال أبي حنيفة رحمه الله: ليس الباقلى ولا السمسم من الثمار، والحاصل أن العبرة، في جميع ذلك العرف والعادة، فما يؤكل على سبيل التفكه عادة ويعد فاكهة في العرف يدخل تحت اليمين، وما لا فلا. وعن محمد رحمه الله إذا حلف لا يأكل من فاكهة العام أو ثمار العام فإن كان في أيام الفاكهة الرطبة فهذا على الرطب وإن أكل اليابس لم يحنث، وإن كان في غير وقتها، فهذا على اليابس وهذا استحسان المتعارف وهذا لما ذكرنا أن اليمين ينصرف إلى المتعارف والمعتاد والمعتاد التفكه. فالرطب في أيام الرطب والتفكه باليابس في أيام اليابس فمطلق اليمين ينصرف إليه. ولو حلف لا يأكل بقلاً.... من أكل فما سمي بقلاً يحنث، وإن أكل بصلاً لم يحنث. هكذا ذكر القدوري وذكر فصل البصل في «المنتقى». وقال: لا يحنث إلا أن يكون بقلاً عندهم أشار إلى أن العبرة في ذلك للعرف.
ولو حلف بالفارسية لرهاع خورد محه خورد أو على العكس فقد قيل يحنث وقد قيل لا يحنث، وقد قيل: إن قال كرم لى خورد محه خورد يحنث وإن قال: كرمحه في خورد ولو خورد لا يحنث، لأن كرمحه كرم مقيد والمقيد يدخل تحت اسم المطلق وأما المطلق، لا يدخل تحت اسم المقيد وإذا حلف لانا ندم ولا نية له لإدام يأتي في فصل الاستثناء إن شاء الله تعالى.
واختلف المشايخ في البقل فقيل: إنه ليس بإدام بلا خلاف، وقيل: إنه إدام عند محمد رحمه الله واحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، والأول أصح فقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله أن البقل ليس بإدام. قال محمد رحمه الله: الخبر إنما أبرم الذي يتردد في المرق وغيره حتى يصير مائعاً له، وأن يرد في الماء فليس بادوم.(5/26)
-----
وإذا حلف لا يأكل ثمراً فأي نوع من الثمر أكله حنث لأنه الثمر اسم جنس يتناول الأنواع كلها ولو أكل حيساً يحنث لأن الحيس اسم لثمر يلقي في اللبن حتى ينفسخ فيؤكل، وإنما حنث بأكلهُ لأنه هو الثمر بعينه، ولم يقلد عليه غيره ولذلك إذا أكل عصيرة الحرب من التمر يحنث، وكان ينبغي أن لا يحنث بأكل العصيرة لأن اسم الثمر مدرا.... منه فبطل اليمين، ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمراً لا يحنث في يمينه، وإنما لا يحنث لما قلنا والجواب الاسم الأول لم يراه إنما حدث اسم أخر مع بقاء اسم الأول ألا ترى يقال عصيره وما بخلاف بها إذا حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمراً، لأن هناك الاسم الأول دال من كل وجه، ألا ترى أنه لا يقال: رطب تمر والاسم إذا زال يزول اليمين.
وفي «المنتقى» رواية هشام عن محمد رحمه الله فيما إذا حلف لا يأكل هذا الثمر فأكله بعدما جعله عصيرة أنه لا يحنث في يمينه، وإذا حلف لا يأكل شواءً فإن كان ينوي كل شواء فهو ما نوى ويحنث بأكل شواء كل مشوي لأنه نوى حقيقة كلامه، وإن لم يكن له نية ينصرف يمينه إلى اللحم المشوي ولا يدخل فيه السمك المشوي لأن الشواء في العرف إذا أطلق يراد به اللحم المشوي ولا يراد به كل مشوي فينصرف بمطلق اليمين إليه. وإذا حلف..... فقد ذكرنا تفسير الطائحة في كتاب الطلاق، ولم يذكر تفسير الجابرة والجابرة هي التي ينصرف الخبز في النقور دون التي يعجنه ويهيهُ.(5/27)
-----
وإذا حلف لا يأكل طبيخاً وهو ينوي كل مطبوخ فهو كما نوى، وإن لم يكن له نية فهو على اللحم خاصة. هكذا ذكر في «الأصل»، وذكر في «القدوري»: أنه هذا الاسم ينطلق على اللحم الذي يجعل في الماء ويطبخ ليسهل أكله ولا ينطلق على غيره إلا إذا نوى ولو أكل طينة يابسة ولو.... الألوان لا مرق فيه فليس بطبخ، ولو طبخ اللحم في الماء وأكل من المرقه يحنث في يمينه، لأن أجزاء اللحم قائمة في مرقه. ولو طبخ أرزاً أو عدساً بودك فهو طبيخ وإن كان بسمن أو زيت فليس بطبخ. وقال ابن سماعة رحمه الله: الطبخ على الشحم أيضاً.
ولو حلف لا يأكل من طبخ فلان فيستحب له قدر طبخها غيرها لم يحنث، وإذا حلف بالفارسية الراودبك محبه نخورم فكذا ماسكان جوشيده خودر هكذا لا يحنث لأنه في العرف لا يسمى هذا ديث بحه ولو قال اكراردتك مرده نونخورم فكذا فيستحب قداراً اطبخها غيرها لا يحنث لأن قوله كرده يفرادبه عرفاً تحته.
وإذا حلف لا يأكل شيئاً من الحلوى فأي شيء من الحلوى أكله من عسل أو سكر أو خبيص أو ناطف يحنث في يمينه، واعلم بأن الحلوى عندهم كل حلو ليس في جنسه حامض كالخبيص والعسل والسكر والفانيد والناطف. وأما (381ب1) العنب والرمان والإجاص فليس بحلوى وهذا لأن الحلو مشتق من الحلاوة، وكل ما يوجد في جنسه غير حلو لا يخلص معنى الحلو فيه.
قال محمد رحمه الله: لو اشترى بدرهم غصبه طعاماً وأكله لم يحنث. و «في واقعات الناطفي» ولو أكل خبزاً أو لحماً غصبه يحنث ولو باع الخبز المغصوب بشيء وأكل ذلك الشيء لا يحنث، لأن الأول حرام مطلقاً، والثاني لا لأنه ملكه ولو غصب برّاً أو طحينه إن أعطى مثله قبل أن يأكله لم يحنث بأكله، وإن أكله قبل أن يعطي مثله يحنث لأنه وإنّ ملكه بكسب خبيث والخبيث باقي من كل وجه قبل أداء البدل وإذا أدى البدل يزول الخبث أو بعد. وهذه المسائل بتمامها تأتي في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.(5/28)
-----
قال القدوري رحمه الله، في «كتابه»: والحرام ما كان محرماً لعينه لا لحق الآدمي وفي أيمان «الجامع الأصغر» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: كل شيء في أكله اختلاف لا يحنث بأكله.
قال صاحب «الجامع الأصغر»: ما أحسن ما قاله أبو الليث رحمه الله لأن ما في أكله اختلاف فليس بحرام مطلق فلا يحنث له لا بالنية لأن الحالف ذكر في يمينه الحرام مطلقاً ولو حلف بأكل هذا العنب أو هذه الرمانة وجعل يمصه ويرمي بتفله ويبتلع ماءه ويبتلع لم يحنث، لأن هذا لا يسمى أكلاً وإنما سمّى مصّاً. ولو عصر ماء العنب أو ماء الرمان ولم يشربه وأكل..... وحصرمه حنث في يمينه، لأن العنب نفسه مأكول والرمان كذلك لو مضغه وابتلعه كذلك يصير أكلاً، وإنما يصير أكلاً ثانياً العنبة والحصرم لا باتباع الماء. ذكر القدوري رحمه الله المسألة على هذا الوجه في شرحه، وإنه مشكل لأن العنب اسم للكل فإذا أكل العنبة والحصرم دون الماء إنما أكل بعض ما عقد عليه اليمين فينبغي أن لا يحنث، ألا ترى أنه لو حلف أن لا يأكل هذا العنب فأكل بعدما صار زبيباً، أو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكل بعدما صار تمراً لا يحنث في يمينه، وإنما لا يحنثُ لما قلنا.
(5/29)
-----
وفي «العيون» ذكر هذه المسألة بصورة أخرى، فقال: إذا حلف لا يأكل هذا العنب فلاكَهُ ورمى قشره وحبّه وابتلع ماؤه لم يحنث، ولو رمى بقشره وابتلع ماءه وحبه حنث، وعلل الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» فقال: لأن العنب اسم لهذه الأشياء الثلاثة ففي الوجه الأوّل أكل الأقل فلا يكون أكلاً للعنب، وفي الوجه الثاني أكل الأكثر وللأكثر حكم الكل. وعن محمد رحمه الله فيمن حلف لا يأكل رمّانة فمصّ رمّانة لم يحنث، وكذلك إذا حلف لا يأكل سكّراً ففعل في فيه حتى ذاب وابتلع ماؤه لم يحنث، لأن هذا ليس بأكل فقد أوصل إلى جوفه ماءً لا يتأتى فيه المضغ وإذا حلف لا يأكل هذه الرمانة فأكلها إلا حبة أو حبتين حنث استحساناً، لأن ما أكل الرمانة هكذا يكون لأنه لا يمكن أكلها على وجه لا تسقط بشيء منها، ولأن العادة فيما بين الناس إن عند أكل الرمان من كون الحبة والحبتين وإن ترك أكثر من ذلك مما لم يجر العرف أن يتركه الأكل لم يحنث. وهكذا لو حلف لا يأكل هذا السويق فأكله إلا حبة أو حبتين تركهما يحنث في يمينه لما ذكرنا في الرمانة.
ولو حلف لا يأكل لحم هذا الجزور فهذا على بعضه لو أكل بعضه يحنث في يمينه بخلاف ما إذا حلف لا يبيع لحم هذا الجزور فباع بعضه حيث، لا يحنث لأن الأكل لا يتأتى على الكل بدفعة واحدة فينعقد اليمين على بعضه، فأما البيع يتأتى على الكل بدفعة واحدة فينعقد اليمين على كله.(5/30)
-----
وإذا حلف لا يأكل هذا الطعام فإن كان يقدر على أكله بدفعة واحدة لم يحنث بأكله بعضه، وكذلك إذا عقد يمينه على شرب مشروب بعينه وهو يقدر على شربه بدفعة واحدة لم يحنث بشرب بعضه، وإن كان لا يقدر على شربه بدفعة واحدة فيمينه على شرب بعضه لأن المقصود من اليمين في الصورة الأولى الامتناع عن جميعه، والمقصود منها في الصورة الثانية الامتناع عن أصله، لا عن جميعه لأن ما يمتنع فعله في العادة والغالب لا يقصد في اليمين. وفي «المنتقى»: إذا قال: ليأكلن هذا التمر اليوم فأكل بعضه، وإن كان التمر لا يستطاع أكل كله في يوم بر بأكل بعضه وما لا فلا، فلو حلف لا يأكل هذه البيضة لا يحنث بأكل بعضها، لأنه لو أكل كلها بدفعة واحدة فينعقد اليمين على الكل وكذلك، لو حلف لا يأكل هاتين البيضتين لم يحنث حتى يأكلهما جميعاً.
وفي «المنتقى»: لو حلف لا يأكل من هذه الخابية من الزيت فأكل بعضه يحنث لأنه لا يؤكل كلة بدفعة واحدة فينعقد اليمين على البعض ولو كان مكان الأكل يباع فباع بعض الخابية لا يحنث، لأنه تباع كلها فلا ينعقد اليمين على البعض. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا حلف لا يشرب لبن هذه الشاة فشرب شيئاً منه يحنث في يمينه. ولو قال: لا آكل من لبن هاتين الشاتين، أو من ثمر هاتين النخلتين، أو من هذين الرغيفين فأكل من أحدهما يحنث. وكذلك لو حلف لا يأكل من لبن هذا الغنم فأكل من لبن شاة واحدة وكذلك لو حلف لا يشرب من ماء هذه الأنهار فشرب من ماء نهر واحد يحنث، لأن من للتبعيض فكانت اليمين متناولة بعض المذكور وقد وجد.
ولو قال: لا أشرب لبن هاتين الشاتين لم يحنث حتى يشرب من لبن كل شاة، لأن عقد اليمين عليهما فلا يحنث بشرب أحدهما، ولو كان اللبن.... بالحلف لا يشربه فهذا على بعضه إذا كان لا يقدر على شربه بدفعة واحدة وقد مرّ هذا.(5/31)
-----
ولو قال: لا يشتري من هذين الرجلين لم يحنث حتى يشتري منهما ولا يشبه قوله لا أكل من هذين الرغيفين لأن في مسألة الأكل أمكن باعتبار حقيقة كلمة من في التبعيض، وفي مسألة الشراء لا يمكن لأن البائع لا يتبعّض فكان كلمة من في وصل الشراء أصله من الكلام.
وإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل الكل للأشياء قليلاً يحنث في يمينه. وإن نوى أكل الكل دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يصدق قضاء فيه روايتان.
ولو قال إن أكلت هذا الرغيف فامرأته طالق، ثم قال: إن لم آكله فعبده حر فالحيلة في ذلك حتى لا يعتق عبده ولا تطلق امرأته أن يأكل النصف ويترك النصف.
وإذا حلف لا يأكل سمناً وأكل سويقاً ملتوتاً بالسمن فإن كان يُرى فيه لون السمن ويوجد طمعه يحنث، وكذلك كل شيء (382أ1) أكله وفيه سمن وإن كان لا يوجد طمعه ولا يُرى لونه لا يحنث، وكذلك إذا كان يوجد طعمه ولا يُرى لونه لا يحنث. وصار الأصل متى أكل المحلوف عليه بعدما خلطه بخلاف جنسه ينظر إن صار المحلوف عليه هالكاً من كل وجه أو من وجه لا يحنث في يمينه، وإن لم يصير هالكاً أصلاً وكان قائماً من كل وجه يحنث، إلا أنه أثبت القيام في السمن.... دون اللون وأثبت الهلاك بزوال دون اللون. وإذا حلف على حنطهٍ لا يأكلها فأكلها مع غيرها من الحبّات، أو حلف على شعير لا يأكله فأكله مع غيره من الحبات إن أكل.... فإن كانت الغلبة للمحلوف عليه يحنث، وإن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه يحنث، وإن كان سواء القياس أن يحنث وفي الاستحسان لا يحنث، وإن أكل حبة حنث على كلِّ حال وذكر مسألة السمن.
وفي «النوادر» ويشترط للحنث شرطان... على ما ذكرنا فقال: إن كان يرى لون السمن ويوجد طعمه وكان لو عصر سال السمن يحنث في يمينه.(5/32)
-----
وفي «المنتقى» رواية هشام عن محمد رحمه الله: إذا حلف لا يأكل هذا السمن فجعله خبيصاً إلا أنه يرى فيه لون السمن ويوجد طعمه إنه يحنث في يمينه، فإذا حلف لا يأكل ملحاً وأكل طعاماً فيه ملح إن لم يكن بالحساء، ويقال بالفارسية سور لا يحنث في يمينه، وإن كان مالحاً يحنث في يمينه. وصار كما لو حلف لا يأكل فلفلاً وأكل طعاماً فيه فلفل إن كان يوجد فيه طعم الفلفل يحنث في يمينه، وإن كان لا يوجد لا يحنث هكذا ذكر المسألة في «العيون»، وكان الفقيه أبو الليث رحمه الله يقول: في الملح لا يحنث في يمينه ما لم يأكل عينه مع الخبز أو مع شيء أخر إلا إذا كان وقّت اليمين دلالة على ذلك، لأن غير الملح مأكول وغير الفلفل لا، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يختار هذا القول.
وإذا حلف على لبن لا يأكله فطبخ اللبن مع الأرز وأكله لا يحنث، وإن لم يجعل فيه الماء ويرى عين اللبن، وهو نظير ما لو حلف على خل لا يأكله فاتخذ منه.... لا يحنث في يمينه، وعلى قياس ما إذا حلف على تمر لا يأكله فاتخذ منه عصيره وأكلها يحنث في يمينه ينبغي أن يحنث في يمينه، في مسألة اللبن إذا طبخ مع الأرز لأن اسم اللبن بهذا الصنع لم يزل، إنما حدث له اسم آخر مع بقاء الاسم الأول ألا ترى أنه يقال بالفارسية سته كرمح وخرج على هذا مسألة الخل لأن هناك اسم الخل يزول.f(5/33)
-----
.... أما ههنا بخلافه. وإذا حلف بالفارسية عفران نخودر بان كاك كي يردوى أي عفران است كنجد خوده يحنث في يمينه لأن عين المحلوف عليه قائم فإنه يرى ويوجد طعمه، حلف بالفارسية كل ى خورم كل فحى خوده كندا نكردى حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لا يحنث إذا كان بحال يؤكل الكل في مجلس واحد، ولو قال هذا الرغيف حرام عليّ وأكل لقمة منه يحنث، حلف لا يأكل دهناً فأكل دهن الكراع يحنث في يمينه، ولو قال: كلّما أكلت لحماً فعبد من عبيدي حر فأكل لزمه بكل لقمة عتق عبد، وإذا قال: إن أكلت من بُرَ لهذه.... فعبدي حر فأكل من مجمعها ويقال: بالفارسية دوغ زده يحنث لأنه من.... ولو اتخذ منه مرقة ويقال بالفارسية دوغ ما لا يحنث والأول مشكل وبليغ أن لا يحنث لأنه لم يخرج من..... كذلك.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن حلف لا يأكل هذه الدراهم فاشترى بها طعاماً وأكله حنث لأن الدراهم لا تؤكل عينها فينصرف يمينه إلى ما يشتري منه، ولو أبدلها بغيرها واشترى بالبدل طعاماً وأكله لا يحنث، وعلى هذا إذا حلف لا يأكل من ثمر هذا العبد.
وروى هشام عن محمد رحمه الله في رجل له دراهم، فحلف أن لا يأكلها فاشترى بها دنانيراً وفلوساً ثم اشترى بالدنانير والفلوس فاكهة وأكل حنث، ولو اشترى بالدراهم غرضاً واشترى بذلك الغرض طعاماً وأكل لا يحنث في يمينه، كذلك لو اشترى بالدراهم شعيراً ثم اشترى بذلك الشعير طعاماً وأكله لا يحنث في يمينه.
وفي «المنتقى»: إذا حلف على ما يؤكل أن لا يأكله ثم اشترى ما يؤكل وأكله لم يحنث في يمينه، بخلاف ما لو حلف على ما لا يؤكل لا يأكله فاشترى به ما يؤكل وأكله حنث في يمينه.(5/34)
-----
إذا حلف لا يأكل من ميراث أبيه شيئاً فاشترى بما ورث طعاماً وأكله حنث، ولو اشترى بالميراث شيئاً واشترى بذلك الشيء طعاماً وأكله لم يحنث، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا لم.... الميراث. لو قال: لا آكل ميراثاً يكون لفلان...... وأكله يحنث؛ لأنه في العادة يقال لما في أيدي الإنسان إنه ميراثاً وإن غيرّه.
روى ابن سماعة هذه الرواية مفسرة فقال: إذا حلف والله لا آكل من ميراثك شيئاً فورَّثه دراهم فاشترى بالدراهم طعاماً وأكله يحنث، وكذلك لو اشترى بالدراهم متاعاً فباع المتاع بالدراهم واشترى بالدراهم متاعاً وأكله حنث، وفي رواية أخرى عنه في هذه الصورة أنه لا يحنث.
عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً فيمن حلف لا يطعم فلاناً بما ورث من أبيه فورث دراهم واشترى بها طعاماً فأطعمه يحنث، فإن ورث طعاماً فأطعمه حنث وإن اشترى به طعاماً فأطعمه لا يحنث، لأنه أمكن اعتبار الحقيقة فيه وهذا الذي اشترى ليس بمورث حقيقة.
ولو حلف لا يأكل من كسب فلان فأُعلم أن الكسب ما صار له بفعله فأخذ المباحات أو في القعود وأما الميراث فلا يكون كسباً لأن الملك في الميراث يثبت حكماً من غير منع فلا يضاف إلى كسبه.
وإذا حلف لا يأكل من كسب فلان فورث المحلوف عليه شيئاً وأكله الحالف لا يحنث، ولو اشترى شيئاً أو وهب...... وتصدق عليه بشيء وقبل وأكله الحالف حنث في يمينه، ولو حلف لا يأكل من كسب فلان فاشترى الحالف شيئاً من (382ب1) المحلوف عليه بما اكتسبه المحلوف عليه أو وهب المحلوف عليه ذلك من الحالف وأكل لا يحنث في يمينه؛ لأن شرط الحنث أكل مكسوب فلان، وهذا أكل مكسوب نفسه فلا يحنث. رواه إبراهيم عن محمد رحمه الله.(5/35)
-----
وقال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول فيمن خلف لا يأكل من كسب فلان فوهب المحلوف عليه شيئاً من كسبه من الحالف أو تصدق عليه وأكل حنث في يمينه، ولو حلف من كسب فلان فاكتسب المحلوف عليه مالاً، ومات وورثه رجل وأكله الحالف يحنث في يمينه، لأن الثابت للوارث غير ما كان ثابتاً للمورث وكذلك لو ورثه الحالف وأكل يحنث في يمينه، بخلاف ما لو ينقل إلى غيره بغير الميراث بشراء أو وصية حيث لا يحنث لأنه صار كسباً للثاني، لأن المشتري والموصى له لا يملك على حكم ملك الأول، وقد مرّ شيء من هذا الجنس في كتاب الطلاق.
وإذا حلف لا يأكل من ملك فلان، أو مما يملك فلان يخرج شيء من ملكه إلى ملك غيره وأكله الحالف لا يحنث، لأن شرط الحنث أكل ما هو مضاف إلى فلان بالملك وقت ولو يوجد.
وكذلك على هذا إذا حلف لا يأكل طعام فلان ولو حلف لا يأكل ميراث فلان فمات المحلوف عليه ثم مات وارثه وورثه غيره وأكله الحالف لم يحنث، لأن بالإرث الثاني ينفسخ حكم الإرث الأول فلا يصير أكلاً من ميراث المحلوف عليه.
وإذا حلف لا يأكل مما اشترى فلان فاشترى لنفسه أو لغيره وأكله الحالف يحنث، ولو أن المحلوف عليه باع ما اشترى لنفسه أو باع ما اشترى لغيره بأمر المشتري له ثم أكل الحالف لا يحنث، لأن الشراء الثاني نسخ الشراء الأول.
ولو حلف لا يأكل مما زرع فلان وباع فلان زرعه وأكله الحالف يحنث؛ لأن الزراعة لا ينسخها الشراء فإن بذر المشتري وزرعه الحالف، فأكل الحالف من ذلك الزرع يحنث؛ لأن الأول قد انعدم بالثاني.
وكذلك إذا حلف لا يأكل من طعام يصنعه فلان أو من خبز يخبزه فلان وصنعه وباعه وأكل الحالف منه يحنث في يمينه.
وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوباً نسجه فلان فنسجه ثم باعه لم ينسخ نسجه بالبيع إلا إذا أُنقض وغُزل ثانياً.
وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوباً مسّه فلان فلبس ثوباً قد مسّه فلان وباعه يحنث في يمينه.(5/36)
-----
ولو حلف لا يأكل من طعام فلان، وفلان باع الطعام فاشترى وأكل حنث. ولو قال: لا آكل طعامك هذا وأهداه له وأكله لم يحنث في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله يحنث، وهذه المسألة فرع مسألة أخرى تأتي بعد هذا؛ وهو ما إذا حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها فلان فدخلها الحالف.
وإذا حلف لا يأكل من غلة أرض فلان فأكل من ثمن الغلة حنث لأن هذا في العرف يسمى أكل غلة أرضه، وإن نوى أكل نفس ما يخرج منها دين في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى، لأنه نوى حقيقة كلامه، وإذا حلف الرجل لا يأكل لحماً اشتراه فلان فاشترى فلان سخلة فذبحها فأكل الحالف لم يحنث لأنه لم يأكل لحماً اشتراه فلان، وإذا حلف لا يأكل من طعام يشتريه فلان فأكل من طعام اشتراه فلان وآخر يحنث في يمينه. فرّق بين هذا وبين ما إذا حلف لا يدخل داراً اشتراه فلان وغيره فإنه لا يحنث، أو حلف لا يلبس ثوباً اشتراه فلان، فاقترض ثوباً اشتراه فلان وغيره لا يحنث في يمينه، والفرق أن اسم الطعام ينطلق على القليل والكثير فالقدر الذي اشتراه فلان يسمى طعاماً فقد أكل طعاماً اشتراه فلان، أما اسم الدار واسم الثوب لا يقع على البعض فإذا دخلها أو لبسه فما دخل داراً. أما (إذا) لبس ثوباً اشتراه فلان فلا يحنث في يمينه، وعلى هذا إذا حلف لا يأكل من طعام فلان فأكل من طعام مشترك بينه وبين غيره حنث في يمينه.
ولو حلف لا يأكل من خبز فلان فأكل من خبز بينه وبين آخر يحنث في يمينه، بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من رغيف فلان فأكل من رغيف بينه وبين آخر لا يحنث في يمينه، لأن اسم الخبز ينطلق على القليل والكثير ولا كذلك اسم الرغيف.
ولو حلف لا يأكل من طعام فلان فأكل من طعام مشترك بين الحالف وبين فلان لا يحنث في يمينه، لأن ما أكل الحالف هو من حصته، ألا ترى أن يأخذ حصته هكذا ذكر في «المنتقى».
(5/37)
-----
وإذا حلف لا يزرع أرض فلان فزرع أرضاً بينه وبين غيره حنث لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضاً، ولا كذلك الدار والثوب، فإن كل جزء من الدار لا يسمى داراً وكذلك كل جزء من الثوب لا يسمى ثوباً.
إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فأخذ غصناً من أغصانها وركبها على شجرة أخرى فأدرك ذلك الغصن وأثمر وأكل من ذلك الثمرة رأيت هذه المسألة في «شرح السير الكبير» فيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: يحنث لأن هذا غصن الشجرة المحلوف عليها لو كان على تلك الشجرة وأثمر وأكل منه يحنث هكذا إذا ركبه على غيرها، وقال بعضهم: لا يحنث لأنه لمّا ركب على الشجرة الأخرى واتصل بها صار تبعاً للشجرة الأخرى، ألا ترى أنه يحيى بحياة أصل تلك الشجرة وييبس إذا يبس أصل تلك الشجرة.
ولو حلف لا يأكل من هذه الشجرة فوصل بها غصن شجرة أخرى بأن حلف على شجرة التفاح فوصل بها غصن شجرة الكمثرى، ينظر إن سمى الشجرة باسم ثمرها الإشارة في اليمين بأن قال: لا آكل من هذه لشجرة التفاح، أو قال بالفارسية: اذين درخت سيب نخورم لا يحنث في يمينه، وإن اقتصر على الإشارة (383أ1) وتسمية الشجرة ولم يسم الشجرة باسم ثمرها بأن قال: لا آكل من هذه الشجرة وباقي المسألة بحالها يحنث، هكذا سمعت من.... وهو يقول الرواية هكذا، وعلى قياس مسألة الأولى ينبغي أن يكون فيه اختلاف لأن تلك المسألة ذكرت مطلقة من غير فصل بينهما إذا اتحد الثمر، واختلف على قياس هذه المسألة..... يكون تأويل تلك المسألة أن تكون الثمرة تتخذ.
إذا حلف لا يأكل من مال فلان.... وفارسيته سحريراخكن وحذى مريرير وحورند لا يحنث في يمينه، لأن في العرف يسمى آكلاً مال نفسه هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وفيه نظر.(5/38)
-----
وإذا حلف لا يأكل من مال أبيه وكان بين الابن وبين الحالف..... فأكل منه يحنث لأنه أكل من مال الابن وهذه المسألة تخالف مسألة الطعام التي تقدم ذكرها. وفيه أيضاً إذا قال لوالديه: إن أكلت من مالكما فأكل بعد موتهما لم يحنث من مالهما، ولو قال: إن أكلت من مالكما بعد موتكما وباقي المسألة بحالها يحنث في يمينه، لأنه لمّا نصّ على ما بعد موتهما علمنا أنه أراد به الميراث وأراد بالنسبة المجاز.
وفي «فتاوى الفضلي» إذا قال: إن أكلت شيئاً من مال والدي فكذا ثم وجد كسيرة خبز في بيت والده وأكلها.... لا يحنث لأن اليمين يعقد للمنع والإنسان لا يمنع نفسه عن مثل هذا.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا حلف بالفارسية لا يأكل من خبز فلان فتناول من..... فلان لا يحنث، لأن أوهام الناس لا تسبق إلى هذا، ألا ترى أنه لو أكل من قشر بطيخة أو أكل من كسرة خبزة وجدها على باب داره لا يحنث في يمينه، وفيه أيضاً إذا حلف لا يأكل من كسب فلان فشرب من الذي وضعه على الطريق ليشرب الناس أخاف أن يحنث، ولو أكل كسرة مطروحة في بيت المحلوف عليه فإن كانت الكسرة بحال لا يُعطى مثلها الفقير لا يحنث. وإن كان بحال يُعطى مثلها الفقير يحنث، وفيه أيضاً إذا حلف أن..... وفلان فأكل من.... حمله فلان ينبغي أن يحنث، لأن الأوهام تسبق إلى هذا إذا كانت اليمين معقودة على أورده.
في «واقعات الناطفي»: إذا اغترف الرجل من قدر في وصفه ثم حلف لا يأكل من هذا القدر فأكل من ماء القصعة لا يحنث، لأن يمينه على ما بقي في القدر.(5/39)
-----
رجلٌ قال لامرأته: إن أكلتْ والدتك من مالي فأنت طالق ثلاثاً فطبخت امرأته قدراً فجاءها وجعلت فيه شيئاً من الحوائج من مال الزوج فأكلت والدة المرأة من ذلك فقد قيل: إن فعلت المرأة ذلك برضا صاحب القدر في هذه الصورة، وقد قيل لا يحنث على كل حال، لأن الحوائج صارت ملكاً للمرأة لجعلها إياه في القدر فكانت الوالدة أكلت من مال ابنتها، لا من مال زوجها.
إذا قال: إن أكلت من مال والدي قبل أن أتزوج فاطمة كل امرأة أتزوجها فهي طالق فالحالُّ من مال والده قبل أن يتزوج فاطمة، ثم تزوج فاطمة طلقت هي لأن عند الأكل يصير قائلاً كل امرأة أتزوجها فهي طالق.
إذا حلفت المرأة أن لا تأكل من أطعمة ابنها وقد كان الابن بعث إليها من الأطعمة قبل اليمين فأكلت ذلك لا يلزمها الحنث لأنها أكلت طعام نفسها قبل هذا إذا لم يكن له نيّة، فإن نوى ذلك الطعام الذي بعثه قبل اليمين يحنث بأكله، لأنه نوى الإضافة باعتبار ما قد كان حلف لعيره، وقال: لاطعمتك غداً حتى تشبع فاطمة ولم تشبع حنث في يمينه، حلف لا يأكل من طعام امرأته فأدخلت عليه الطعام، وقالت له: داروكو فأكل لا يحنث، ولو لم يقل داروكو وباقي المسألة بحالها يحنث، لأن بقولها داروكور يصير الطعام ملكاً للزوج وقبل ذلك هو ملك للمرأة.
وإذا حلف لا يأكل من طعام صهره فبعث الصهر ابنه الذي في عياله في أمر ودفع إليه شيئاً من الأطعمة فأكل الحالف من ذلك فقد قيل: يحنث، وقيل: لا يحنث، لأن بالدفع إلى الابن يصير الطعام ملكاً للابن فلا يكون آكلاً طعام الصهر.
وإذا حلف لا يأكل مع فلان طعاماً فأكل هذا من إناء وفلان من إناء آخر في ذلك المجلس لا يحنث، هكذا ذكر في «شرح مختصر عاصم» في باب كفارة اليمين في الشراب. وفي «شرح الكافي» للصدر الشهيد رحمه الله في باب اليمين في الشراب أنهما إذا أكلا من مائدة واحدة حنث. وإذا اختلف..... وطعامهما فيتأمل عند الفتوى.(5/40)
-----
إذا حلف لا يأكل بُسراً فأكل بسراً قريباً وهو الذي عامته بُسر حنث بالإجماع، ولذلك إذا حلف لا يأكل رطباً فأكل رطباً فيه بُسر يسير حنث بالإجماع، ولو حلف لا يأكل رطباً فيه بسر يسير حنث في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يحنث، لأن ما عقد يمينه عليه مغلوب بغيره فلم يظهر بمقابلته، وهما يقولان الحر والذي يتناوله اليمين لو أكله بانفراده يحنث فكذلك إذا أكل مع غيره.
نوع آخرمن هذا الفصل في الشرب
قال القدوري في «شرحه»: الشرب بأن يوصل إلى جوفه ما لا ينافي فيه.... في حال، وقوله مثل الماء والنبيذ واللبن، فإذا حلف لا يشرب من هذا اللبن فأكله لا يحنث ولو شربه يحنث، وأكل اللبن أن يرد فيه الخبز ويؤكل، وشربه أن يشرب كما هو. ولو حلف لا يشرب هذا العسل فأكله كذلك لا يحنث، لأنه يسمى أكلاً ويسمى شرباً، ولو صب عليه ماءً وشربه حنث، لأنه يشرب حقيقة.
إذا حلف أن لا يشرب من دار فلان فأكل منها شيئاً قال محمد بن سلمة رحمه الله: يحنث في يمينه لأنه قصده المنع حداً عن جميع المأكولات. يقال بالفارسية من اب نجورم ان خاته.
قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: المختار عندي أنه لا يحنث إلا أن ينوي جميع المأكولات، لأن اللفظ في باب الأيمان مراعى، وإذا نوى (383ب1) جميع المأكولات حينئذ لأنه نوى ما يراد به في العرف فتصح نيته، وقد قيل: إن كانت اليمين بالعربية لا يحنث بأكل المأكولات، وإن كانت اليمين بالفارسية يحنث؛ لأن فارسية الأكل والشرب واحد وهو نظيرما قيل فيما إذا حلف لا يأكل هذا السويق فشربه شرباً إنه إن كانت اليمين بالعربية لا يحنث، وإن كانت اليمين بالفارسية يحنث، وطريقه ما قلنا.(5/41)
-----
ولو حلف لا يشرب مع فلان فشربا في مجلس واحد حنث في يمينه، وإن كان الإناء الذي يشربان منه مختلفاً، وكذا إن شرب الحالف من شراب والآخر من شراب، وإذا حلف لا يشرب شراباً ولا نية له فأي شراب يشرب من ماء أو غيره يحنث هكذا ذكر في أيمان «الأصل».
وفي «الأصل»: إذا حلف لا يشرب الشراب، ولا نيه له فهو على الخمر. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: فإذا في المسألة روايتان، وفي «فتاوى أهل سمرقند» أنه لا يحنث بشرب الماء لأنه لا يسمى شراباً عرفاً، وحكي عن شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ما هو قريب من هذا، فإنه قال: في عرف الفارسية من حلف شراب نمن خمرم لا يقع ذلك على الماء واللبن.
وإذا حلف لا يشرب لبناً فصب الماء في اللبن فالأصل في هذه المسألة، وأجناسها أن الحالف إذا عقد يمينه على ما يقع فاختلط بمائع آخر من خلاف جنسه إن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه لا يحنث، وإن كان سواء فالقياس أن يحنث، وفي الاستحسان لا يحنث، وفسر أبو يوسف رحمه الله الغلبة فقال: أن يستبين لون المحلوف عليه ويوجد طعمهُ.(5/42)
-----
وقال محمد رحمه الله: تعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة بالأجزاء. وإذا حلف لا يشرب اللبن فصب فيه الماء وإن كان يوجد طعم اللبن ويرى لونه فهو غالب فيحنث عند أبي يوسف رحمه الله، وبدون ذلك لا يحنث. وأما إذا اختلط بمائع آخر من جنسه كاللبن إذا اختلط بلبن آخر فعند أبي يوسف رحمه الله هذا والأول سواء يعني يعتبر الغالب غير أن الغلبة من حيث اللون والطعم لا يمكنه اعتبارها ههنا فيعتبر بالقدر، وعند محمد رحمه الله يحنث ههنا لكل حال؛ لأن الشيء لا يصير مستهلكاً بجنسه وإنما يصير مستهلكاً خلاف الجنس، فإذا لم يصر مستهلكاً ..... يلزمه الحنث، قالوا: وهذا الاختلاف فيما يمتزج ويختلط بالمزج والخلط أما ما لا يمتزج بالخلط كالدهن وكان الحلف على الدهن يحنث بالاتفاق لأن الدهن يكون منفصلاً فيصير بشرب المخلوط شارباً المحلوف عليه على كل حال فيحنث في يمينه.
وفي «القدوري»: إذا حلف على قدر من ماء زمزم لا يشرب منه شيئاً وصبه في ماء آخر حتى صار مغلوباً وشرب منه يحنث عند محمد رحمه الله لما بيننا في «أصله»، أن الشي لا يصير مستهلكاً بجنسه، ولو صبه في بئر أو حوض عظيم وشرب منه لا يحنث لأنه لا يدري لعل البئر تغور بما صب، والحوض إذا عظم ولعل ذلك القدر من الماء يختلط بالكل.(5/43)
-----
ولو حلف لا يشرب هذا الماء العذب فصبه في ماء مالح فغلب عليه وشرب لم يحنث. لأنه قيده بوصف ولم يبق ذلك الوصف بعد الخلط فعلم أنه صار مستهلكاً بالخلط. وكذلك لو حلف لا يشرب لبن ضأن فخلط بلبن معز. ولو حلف لا يشرب لبن هذه الشاة وهي ضأن فخلطها بلبن معز حنث، ولا يعتبر لأن في هذه المسألة اليمين وقعت على لبن الضأن. وإذا حلف شراب نحووم فشرب البكي للأخس أولاد فعلى قياس ما ذكر في الحيل لا يحنث في يمينه، وهو موافق للعرف وإذا حلف لا يشرب نبيذاً فاعلم أن النبيذ اسم لما ألقي فيه التمر أو الزبيب أو السكر أو الفانيد وغلى واشتد ولو شرب العصير الذي صار خمراً أو السكر لا يحنث هكذا ذكر في «الأصل».
وفي «فتاوى الفضلي»: أن يمينه على النيء من ماء العنب قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: المختار للفتوى أن يمينه على المسكر من ماء العنب ماء كان أو مطبوخاً لأن اسم النبيذ في العرف يقع على هذا ويسمى لمن شرب هذا نبيذ حرارة، ولا يسمى بهذا الاسم غيره، وكان شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يقول: اسم النبيذ بالفارسية يقع على كل مسكر، وإذا حلف سكبي مخورد فيمينه على كل مسكر لكن من ماء العنب. سبكي خورد وفي «فتاوى النسفي» أن اسم السبكي يقع على كل مسكر سواء كان من ماء العنب أو غيره كاليكني والأجسمه ونحوهما. قال: أو كبه حلالاً كان ذلك أو حراماً حتى لو شرب المثلث الذي يجوز شربه يحنث في يمينه، والصحيح أن اسم السيكي يقع على المسكر من ماء العنب لا غير نيئاً كان أو مطبوخاً، وأما اسم الخمر وفارسيته حى وبعض مشايخ سمرقند رحمهم الله جعل هذا بمنزلة اسم قول السبكي.(5/44)
-----
وبعضهم قالوا: إن نوى المسكر فيمينه على النيء والمطبوخ جميعاً، والصحيح أن هذا على النيء من ماء العنب لا غير وإذا قال: مسكره تخوزم فقد قيل إن يمينه لا تقع على المتخذ من الحبوب لأن شرب ذلك حلال عند أبي حنيفة رحمه الله والسكر منه ليس بسكر حقيقية بمنزلة السكر في البنج ولبن الرمكة وأشباه ذلك ولهذا لو سكر منه لا يحل ولو طلق في السكر منه لا يقع طلاقه هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله فصل الحد والطلاق. فعلى قياس ما ذكر في عدم وجوب الحد وعن عدم وقوع الطلاق بناء على أن السكر الحاصل من هذه الأشربة ليس بسكر على الحقيقة ينبغي أن لا يحنث في يمينه، وقوله مسكره أي خورم، وبعض المشايخ قالوا: يحنث في يمينه، والصحيح أنه يعتبر فيه العرف إن كان في العرف يسمى الشراب المتخذ في هذه الأشياء مسكرة يحنث في يمينه، ومالا فلا.
إذا حلف لا يشرب نبيذ زبيب فشرب نبيذ كشمش يحنث في يمينه لأن الكشمش نوع من الزبيب.
وإذا حلف بالفارسية يران كه كيبتي را نبيذ بني دهم فسقى رجلاً نبيذاً إن كان له نية وقت الحلف فهو على ما نوى إن نوى السقي لا يحنث (384أ1) بالإهداء، وإن نوى الإهداء لا يحنث بالسقي لأنه نوى ما يحتمل لفظة، وإن لم يكن له نية فيمينه على السقي والإهداء جميعاً لأنه يتحقق شرط الحنث في كل واحدة منهما، وهو إعطاء النبيذ.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا حلف لا يشرب شراباً يسكر منه فصب شراباً سكر منه في شراب لا يسكر منه فشرب منه ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» رحمهم الله أن هذا المحلوف عليه إن كان بحال لو شرب منه الكثير لسكر يحنث، لأنه شراباً مسكراً.
وإذا عقد يمينه على شرب ما لا يشرب ويخرج منه ما يشرب فيمينه على شرب ما يخرج.
بيانه: فيما ذكر في «المنتقى»: إذا حلف لا يشرب من هذا التمر فشرب من نبيذه يحنث في يمينه، وهذا هو الأصل في مخرج جنس هذه المسائل.(5/45)
-----
وإذا حلف لا يشرب المسكر فصب المسكر في حلقه فإن دخل حلقه بغير فعله لا يحنث، ولو شرب، ذلك يحنث؛ لأن اليمين لم تنحل بعد، ولو دخل حلقه بفعله يحنث في يمينه، لأنه قد شرب هكذا قيل، وعلى قياس ما ذكر الرستغفني في طلاقه: أن الأكل والشرب عبارة عن عمل الشفاه حتى قال: من حلف لا يأكل وفي فمه شيء ما فبلعه لا يحنث، لأنه لم تعمل الشفاه في ذلك ينبغي أن لا يحنث، وفي هذه المسألة وإن دخل المسكر حلقه بفعله لأنه لم يعمل الشفاه فيه، وكذلك إذا حلف لا يشرب وفي فمه رمانة فمضغها وابتلع ماءها لم يحنث، لأنه لم يعمل الشفاه في ذلك فعلى قياس هذه المسألة ينبغي أن لا يحنث في مسألة المسكر، وإن وصل إلى حلقه بفعله.
حلف لا يشرب من قدح فلان فصب الحالف الماء من قدح فلان على يده وشرب لم يحنث، لأنه لم يشرب من قدح فلان.
حلف لا يشرب من ماء فلان فكان الحالف في مجلس في حانوت المحلوف عليه فاشترى الحالف كوزاً ووضعه في حانوت المحلوف عليه واستسقى أجير المحلوف عليه الماء من النهر بذلك الكوز ووضعه في حانوت المحلوف عليه ليلاً، فلما أصبح الحالف دعا بالكوز وشرب الماء، فإن كان الحالف اشترى الكوز لهذا حتيالاً منه كيلا يحنث أن لا يحنث لأنه حينئذ يصير الأجير عاملاً للحالف، فيصير الحالف شارباً ماء نفسه.
ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: حلف لا يشرب في هذه القرية فشرب في كرومها لا يحنث في «فتاوى الأصل»، وفي «فتاوى شمس الإسلام»، لأن القرية اسم للعمران وقد ذكرنا في كتاب الطلاق، مسائل شتى على أن القرية اسم للعمران حتى لو كانت الكروم في العمران يحنث أيضاً.
(5/46)
-----
إذا قال: إن شربت الخمر قبل أن أرى الورد الأحمر فكذا، ورأى ورد الأحمر في الشتاء، فقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق إذا حلف بالفارسية خمر تخو ردويدست نكيرد الشرب يحنث، لوجود شرط الحنث وهو الأخذ حقيقة، وقد قيل: لا يحنث، لأن الشرط هو الأخذ والشرب فلا يحنث بأحدهما، والصحيح أن يحنث؛ لأن كل واحد منهما يبقى على حدة فصار كل واحد شرطاً على حدة، وقد مر جنس هذا في كتاب الطلاق.
وفي أيمان «المنتقى»: رجل عوتب على شرب الخمر فحلف أن لا يشرب ما يخرج في هذا الكرم فشرب من خمره يحنث، لأنه معاني كلام الناس. رجل قال: إن شربت المسكر تصير امرأتي مطلقة يصير عبدي حراً، فشرب المسكر بعد ذلك تطلق امرأتهُ وعتق عبده، ولا يصدق بأنه لم يرد به الطلاق والعتاق، وإنما أراد منع أصحابه عن نفسه. حلف أن لا يشرب المسكر ثلاثة أشهر، فقالت له امرأته: أربعة أشهر، فقال: الزوج أربعة أشهر كثير فقد قيل: تصير المدة أربعة أشهر، وقد قيل: لا تصير المدة أربعة أشهر، وهذا بناء على أن الحالف إذا عطف على يمينه بعد سكوته ما يشدد على نفسه أنه يلتحق بيمينه عند أبي يوسف رحمه الله. وإذا عطف على يمينه بعد سكوته ما يوسع على نفسه لا تلتحق بيمينه ثم اختلف المشايخ رحمهم الله في هذة الصورة، أن في ذكر المدة الثانية تشديد عليه أو توسعة عليه فقيل: تشديد من حيث إنه يقع الطلاق بالشرب في الشهر الرابع وهو الأصح.(5/47)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير»: إذا حلف الرجل أن لا يشرب من الفرات أبداً فشرب منه اغترافاً أو من إناء لا يحنث في يمينه عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يكرع في الفرات كرعاً، وعندهما يحنث والوجه في ذلك: أن الشرب من الفرات حقيقة هو الشرب منه كرعاً، فإن الشرب من الشيء حقيقة أن يضع فاه عليه فيشرب منه بغير واسطة وهذه حقيقة مستعملة في العرف مقدرة في الشرع فإنه روي أن رسول صلى الله عليه وسلّممر بفناء قوم، وقال: «هل عندكم ماء فإن في شن وإلا كرعنا في الوادي كرعاً» إلا أن في الغالب يراد به الشرب باليد أو الإناء وأنه مجاز فالحقيقة في هذا الباب مستعمل، والمجاز إنما يستعمل إلا إن المجاز أغلب استعمالاً.
والأصل أن الحقيقة إذا كانت مستعملة والمجاز غير مستعمل، أو كان المجاز مستعملاً أيضاً إلا أن الحقيقة أغلب استعمالاً، أو كانا في الاستعمال على السواء فالعبرة للحقيقة، وإن كان المجاز أغلب استعمالاً، فعند أبي حنيفة رحمه الله العبرة للحقيقة، وعندهما العبرة للمجاز فانصرف يمينه إلى الكرع عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الكرع حقيقة مستعملة، وعندهما انصرف يمينه إلى الشرب باليد أو بالإناء، وإن كان مجازاً لأنه أغلب استعمالاً (348ب1) ثم على قولهما إذا شرب كرعاً هل يحنث في يمينه؟ لم يذكر هذه المسألة في «الكتاب»، وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: لا يحنث لأن المجاز صار مراداً ههنا بالإجماع فلا تبقى الحقيقة مراداً لتعذر والجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
وبعضهم قالوا: يحنث في يمينه، وهذا القائل ظن جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز عندهما، وليس الأمر كما ظن وليس طريق الحنث عندهما في هذه الصورة لو صح من مذهبهما الحنث الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، وإنما الطريق العمل بعموم المجاز.(5/48)
-----
بيانه: وهو أن المنصوص عليه الشرب من الفرات والشرب من الفرات لا يتصور لأنه اسم المكان يجري فيه الماء فيُجعل مجازاً عن شرب الماء الذي يجري في الفرات لكون الفرات محلاً له، ولقيام المجاورة بينهما حال كونه فيه غالباً، ولشرب الماء الذي يجري في الفرات، ومجاورة الفرات طريقان أحدهما: الكرع، والثاني: الاغتراف باليد أو بالإناء فبأي طريق شرب حنث في يمينه، لعموم معنى المجاز لا للجمع بين الحقيقة والمجاز، وهذا كله إذا لم يكن له نيّة فإن نوى الكرع صحت نيته على قولهما في القضاء، وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى حقيقة كلام، وإن نوى الاغتراف صحت نيته على قول أبي حنيفة رحمه الله فيما بينه وبين ربه، ولكن لا يصدقه القاضي لأنه نوى المجاز من كلامه، هذا إذا شرب من الفرات كرعاً أو اغترافاً فأما إذا شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات كرعاً أو اغترافاً لا يحنث في يمينه عندهم جميعاً.
أما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن يمينه انصرف إلى الحقيقة وهو الشرب من الفرات كرعاً، وأما عندهما فلأنهما إنما عدلا عن الحقيقة لمكان العرف فإن الشرب من الفرات يراد به في العرف الاغتراف من الفرات، أما لا يراد به الشرب من نهر مُتخذ من الفرات فلا يكون الشرب من نهر آخر داخلاً في اليمين.
ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من الفرات كرعاً أو اغترافاً بيد أو آنية يحنث في يمينه عندهم جميعاً، وكذلك لو شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات يحنث عندهم جميعاً في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية الأصول أنه إذا شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات لا يحنث، فإن كان نوى في قوله لا يشرب من الفرات لا أشرب من ماء الفرات هل تصح نيته حتى لو شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات يحنث. لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل.(5/49)
-----
وحكي عن الفقيه أبي بكر الأعمش أنه قال: تصح نيته لأنه نوى ما يحتمله لفظه وغيره من المشايخ قالوا: لا تصح نيته لأن الماء غير مذكور نصاً، بهذا الطريق لم تصح نية الثلاث في قوله: أنت طالق وإن صار الطلاق مذكوراً لأنه غير مذكور نصاً.
وإذا حلف لا يشرب من ماء الفرات فصب ماء الفرات في واد لم يتخذ من الفرات إن كان ماء الفرات غالباً يحنث، وإن كان ماء الفرات مغلوباً لم يحنث. هكذا ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر خلاف، وذكرنا في أول هذا النوع أن المحلوف عليه إذا اختلط بجنسه فعلى قول أبي يوسف رحمه الله هو كالجنس يعتبر الغالب في ذلك، وقد قال محمد رحمه الله: يحنث وإن كان مغلوباً فيحمل ما ذكرنا في «الجامع» على أنه قول أبي يوسف رحمه الله، أو على رجوع محمد إلى قول أبي يوسف رحمهما الله.
ولو حلف لا يشرب من ماء فرات أو حلف لا يشرب ماءً فراتاً فأي ماء عذب شرب حنث في يمينه، لأنه جعل الماء صفة للفرات ههنا حيث ذكر الفرات منكراً كما ذكر الماء منكراً والفرات إذا صار صفة للماء يراد به العذب، قال الله تعالى {وأسقيناكم ماء فراتاً} (المرسلات: 27) أي: ماءً عذباً. فصار كأنه نص، قال: لا أشرب ماء عذباً بخلاف قوله لا أشرب من ماء الفرات؛ لأن هناك ما جعل الفرات صفة للماء، ألا ترى أنه ذكر الفرات مورياً بالكلام، وذكر الماء منكراً بل أضاف الماء إلى نهر مسمى بالفرات، فإن الفرات إذا ذكر مع الألف واللام يراد به نهر الفرات فقد عقد يمينه على شرب ماء نهر الفرات فلا يحنث بشرب ماء نهر آخر.(5/50)
-----
ولو حلف لا يشرب من هذا الكوز أبداً، وصب الماء الذي في الكوز في كوز آخر وشرب منه لا يحنث في يمينه بالإجماع. ولو قال: لا أشرب من هذا الكوز وصب الماء الذي في الكوز في كوز آخر فشرب منه يحنث في يمينه، لأنه عقد يمينه على الماء الذي في الكوز وإن صب في كوز آخر لا يخرج من أن يكون ذلك الماء بخلاف قوله لا أشرب في هذا الكوز؛ لأن هناك عقد يمينه على الشرب من الكوز ولم يشرب من ذلك الكوز.
وفي «القدوري»: ولو حلف لا يشرب من ماء دجلة لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يكرع منه كرعاً بمنزلة قوله: لا أشرب من الدجلة. لأنه نصّ على الشرب من النهر، لأن قوله من دجلة، قوله لا أشرب. ولو حلف لا يشرب من هذا الجُب وفي هذا البئر. ذكر في القدوري مسألة الجب وذكر أنه لا يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يكرع منه كرعاً، أو ذكر مسألة البئر وذكر أنه إذا استسقى وشرب يحنث.
وحكي عن أبي سهل.... رحمه الله أنه كان يقول: إن كان الجب والبئر ملآناً يمكن الكرع منه فيمينه على الكرع، وعند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما على الاغتراف، وفي الكرع اختلاف المشايخ رحمهم الله على قولهما على حسب ما ذكرنا في الفرات.
قال: وإن لم يكن ملآناً فيمينه على الاغتراف، أما عندهما فظاهر، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن العمل بالحقيقة غير ممكن ههنا بوجه من الوجوه فكانت الحقيقة مهجورة فينصرف يمينه إلى المجاز، فإنه لو نزل في هذه الصورة وكرع في أسفل البئر أو من أسفل الجب، اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا يحنث؛ لأن الحقيقة إنما كانت مهجورة وقت اليمين فانصرف يمينه إلى المجاز (385أ1) وقت وجودها، فلا ينصرف إلى الحقيقة بعد ذلك، لو حلف من ماء المطر.... الرحلة من ماء المطر فشرب لا يحنث، وإذا حلف لا يشرب من ماء وادي سال المطر لم يكن فيه ماء قبل ذلك، وشرب من ماء المطر.... يحنث.
(5/51)
-----
وإذا حلف لا يشرب بغير إذن فلان فأعطاه فلان بيده ناول، ولم يأذن له باللسان وشرب ينبغي أن يحنث، وهذا ليس بإذن بل هو دليل الرضا.
نوع آخر في الذوق
إذا حلف الرجل لا يذوق طعاماً فأكل شيئاً من الطعام يحنث، وكذلك إذا حلف لا يذوق شراباً، فشرب شيئاً من ذلك يحنث، ولو حلف لا يأكل طعام أو حلف يشرب شراباً فذاق شيئاً من ذلك لا يحنث، والفرق أن في الفصل الأول عقد يمينه على الذوق، وفي الأكل والشرب ذزق وزيادة، وفي الفصل الثاني: عقد يمينه على الأكل والشرب، ولا يتحقق بالذوق بيانه: أن الأكل والشرب لا يتحقق إلا بالإيصال إلى الجوف، والذوق يتحقق بدون الإيصال إلى الجوف، لأن الذوق إدخال الشيء في فمه لاستبانة طعمه، والإدخال في الجوف لازم فيه.
وإذا حلف لا يذوق طعاماً وعنى بالذوق الطعام، وحلف لا يذوق شراباً وعنى بالذوق الشرب ذكر في «الأصل» أنه لا يحنث حتى يأكل أو يشرب، وذكر «القدوري» أنه تصح نيته فيما بينه وبين ربه ولا تصح نيته في القضاء؛ لأنه نوى خلاف الحقيقة.
وروى هشام عن محمد رحمه الله: أن من حلف لا يذوق.... طعاماً ولا شراباً فذاق منه شيئاً أدخله فمه ولم يصل إلى جوفه حنث في يمينه على الذوق حقيقة لا أن.... كلام.
وتفسير ذلك: أن يقول له غيره تعال تغدى عندي اليوم فحلف لا يذوق في منزله طعاماً ولا شراباً فهذا على الأكل والشرب.
وعن محمد فيمن حلف لا يذوق الماء فمضمض للصلاة لا يحنث، وهذا لما ذكرنا أن الذوق إدخال الشيء في فيه لاستبانة طعمه، والمضمضة إدخال الماء في الماء للتطهير لا لاستبانة طعمه.
وإذا قال: لا أذوق طعاماً ولا شراباً فذاق أحدهما حنث، وكذلك إذا قال: لا آكل كذا وكذا فأكل أحدهما، وكذلك إذا قال: لا أشرب كذا وكذا فشرب أحدهما.(5/52)
-----
ولو قال: لا أذوق طعاماً ولا شراباً فذاق أحدهما لم يحنث، وكان أبو القاسم الصفار يقول: يحنث إذا ذاق أحدهما، وكان يقول: يعتبر العرف في هذا، وفي العرف يراد به نفي كل واحد منهما، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله بنية الحالف، وإن لم تكن له نية فالجواب كما في الكتاب وعد من جنس هذا فيما تقدم.
نوع آخر في الغداء والعشاء والسحور
إذا حلف لا يتغدى فاعلم بأن التغدي عبارة عن الأكل الذي يقصد به إذا الشبع، والتعشي كذلك، والمعتبر في ذلك العادة في كل بلد، حتى أن المصري في العادة إذا حلف على ترك الغداء فشرب اللبن لا يحنث، والبدوي بخلافه؛ لأنه غداء في البادية.
قال في «القدوري»: ولو أكل غير الخبز من أرز وتمر حتى سبع لم يحنث، وقال أبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله: الغداء في مثل الكوفة والبصرة على الخبز، وكذلك والهرشة والفالوذج تعتبر في ذلك عادة الحالف. والغداء من طلوع الفجر إلى الزوال، والعشاء من الزوال إلى نصف الليل، والسحور ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر.
فإذا حلف لا يتغدى فأكل بعد الزوال لا يحنث، وإذا حلف لا يتعشى فأكل بعد نصف الليل لا يحنث؛ لأنه تسحر وما تعشى، ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف الشبع، فإذا حلف أنه لم يتغدَ، قد كان أكل شيئاً يسيراً أقل من نصف الشبع لا يحنث.
وإذا حلف ليغدينه بألف درهم فاشترى رغيفاً بأف درهم وغداه به فقد برّ في يمينه، وهو نظير ما لو حلف أن يعتق عبداً بألف درهماً فأعتق عبداً قليل القيمة وقد اشتراه بألف درهم فقد برّ في يمينه. وإذا حلف لا يذوق من هذا التمر فشرب من نبيذه لا يحنث. لا التمس عقدت على ما.... فيه الذوق تعينه فلا ينصرف إلى ما يتخذ منه، وقد ذكرنا نظير هذا في الأكل والشرب.
نوع آخر في الجماع وما يتصل به في المضاجعة وغيرها(5/53)
-----
إذا حلف الرجل لا يقرب امرأته فاستلقى على قفاه، فجاءت المرأة وفضت... منه لا يحنث في يمينه هكذا ذكر في أيمان «النوازل» في حدود «النوازل» أنه يحنث في يمينه، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والفتوى على الحنث، ولو كان نائماً فلا يحنث.
وفي «نوادر بشر»: عن أبي يوسف رحمه الله: إذا حلف الرجل لا يغشى هذه المرأة وهو يغشاها، فإن أقام على حاله فلا يحنث، وإن أخرج الميل ثم أدخله يحنث.
وفي «النوازل» إذا قال الرجل: امرأته طالق إن لم يكن جامع فلانة ألف مرة فهذا على كثرة العدد لا على كمال الألف؛ لأن الألف يذكر ويراد به الكثرة ولا تقدير فيه، قالوا أو استغفر كثيراً، قال تعالى: {أن تستغفر لهم مرة} وأراد به الكثرة.
وفي كتاب «الحيل»: المقيم إن حلف على امرأته في شهر رمضان أن يجامعها في يومه ذلك، فالحيلة في ذلك أن يخرج الزوج مع امرأته من البلدة يقصدان مسيرة ثلاثة أيام، فإذا خرجا جامعها، ثم يرجعان ولا يضره الرجوع، وإذا كان حين خرج قصد مسيرة سفر.
وفي آخر «القدوري»: إذا حلف لا يرتكب حراماً فهذا على الروايات كان الحالف خصياً أو محبوباً فهو على القبلة الحرام وما أشبهها دخل... أمر امرأته بالحرام فقال الزوج: أكثر ما (385ب1) مكسال حرام كنم فأنت طالق فلها أن تُمكِّن نفسها منه ما لم تعاني نفس الجماع بتداخل الفرجين، ويعرف أنها ليست بزوجة له، ولا مملوكة له بملك اليمين أو يشهد عندهما أربعة من العدول على ذلك؛ لأن في العرف يراد بهذا الزنا، والزنا لا يثبت إلا بأحد هذين الأمرين وإن اتهمته بأن وقع عندهما ريبة حلفته عند الحاكم فإن حلف وسعها المقام معه، ولو أقرّ بالزنا مرة يلزمه الحنث ولا يسعها المقام معه.(5/54)
-----
قال لا مرأته: أكربا لسي خرام كنى بر اطلاق ثم إن هذا الرجل طلقها واحدة بائنة وجامعها في عدتها فعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع بناء على أن عند أبي يوسف رحمه الله العبرة في باب الأيمان للغرض والغرض من هذه اليمين فعلها مع غيره، والحامل عليه هذا وهما يعتبران عموم اللفظ قيل: وينبغي أن لا يقع الطلاق في هذه الصورة بالاتفاق؛ لأن الطلاق معلّق بالحرام، والحرام إذا ذكر مطلقاً ينصرف إلى الزنا، ووطء الزوج في العدة ليس بزنا.
وفي «عيون المسائل»: امرأة اتهمت زوجها بالغلمان فحلفته أن لا يأتي حراماً فقبل غلاماً له أو لمسه بشهوة لا يحنث، ولو جامعه فيما دون الفرج يحنث وإن لم ينزل لأنه يراد بالحرام ههنا الجماع عرفاً في الفرج، وقيل: ينبغي أن لا يحنث ههنا، لأن مثل هذه الأفعال مع غلامه مباح عند مالك فتتمكن الشبهة ومع الشبهة لا يتمحض حراماً.
(5/55)
-----
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا قال لامرأته: أكر حرام كرده وتراسه طلاق وقد كانت قبلّت رجلاً غير محرم أو جامعها فيما دون الفرج لا تطلق امرأته، لأنه يراد بهذا الجماع في الفرج عادة، وهذه الرواية بخلاف رواية «العيون». وإذا قال لامرأته: إن جامعتك فكذا فيمينه على الجماع في الفرج، حتى لو جامعها فيما دون الفرج لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر في أيمان «الجامع»، وهذا لأنه غلب استعمال الجماع المضاف إلى المرأة في الجماع في الفرج فصار الجماع المضاف إلى المرأة بحكم غلبة الاستعمال صريحاً في الجماع في الفرج، فمطلقه ينصرف إليه. وإن قال: عنيت الجماع فيما دون الفرج صدقه القاضي في إدخال الجماع فيما دون الفرج بحنث اليمين ولا يصدقه في إخراج (الجماع) في الفرج عن اليمين، وكان ينبغي أن يصدقه القاضي في خروج الجماع في الفرج عن اليمين، لأنه نوى حقيقة كلامه لأن الجماع مأخوذ من الجمع، وقد وجد معنى الجمع في الجماع فيما دون الفرج، ومن نوى حقيقة كلامه يصدق ديانة وقضاءً، وإن كان ما نوى خلاف الظاهر.
ألا ترى أن من قال لعبده: أنت حرّ يوم يقدم فلان وعنى ببياض النهار صدق قضاءً، وطريقه ما قلنا.(5/56)
-----
والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الكلام إذا كان له حقيقة ومجاز، وهو ينصرف إلى المجاز عند الاطلاق بحكم غلبة الاستعمال فنوى المتكلم حقيقته فالقاضي يصدقه كما في مسألة القدوم. فإن اليوم في حقيقة اللغة لبياض النهار وللوقت مجاز يعرف الاستعمال متى ذكر مقروناً بفعل لا يتقيد باليوم فإذا نوى بياض النهار فقد نوى حقيقة كلامه فيصدقه القاضي. فأما إذا كان الكلام حقيقتين وهو ينصرف إلى أحديهما بحكم غلبة الاستعمال، فنوى المتكلم الحقيقة الأخرى فالقاضي لا يصدقه؛ لأن الحقيقة التي انصرف إليها الكلام عند الإطلاق ترجحت على الأخرى بحكم غلبة الاستعمال يسقط اعتبار الأخرى وصارت الأخرى، كالمجاز من حيث الاعتبار، ولو كان مجازاً حقيقة لا يصدقه القاضي في دعواه فكذا إذا صار مجازاً من حيث الاعتبار.
وفي آخر أيمان «القدوري»: إذا حلف لا يطأ امرأة وطئاً حراماً فوطىء امرأته وهي حائض، أو كان ظاهر منها لم يحنث إلا أن ينوي ذلك؛ لأن الوطىء في نفسه ليس بحرام، وإنما ثبتت الحرمة بعارض وفي أيمان «المنتقى» رواية مجهولة إذا حلف لا يرتكب من فلانة محرماً فجامعها أو قبلها بشهوة أو غير شهوة إنه يحنث في يمينه، وإن لمسها إن كان بشهوة يحنث، وإن كان بغير شهوة لا يحنث.
إذا قال لها: إن حللت الليلة بالحرام ..... امرأتي فأنت طالق وقد كان أخذها رجل قبل ذلك ووطئها على كره منها. قال: إن كان الإكراه بحال لا تقدر على الامتناع منه تطلق لأنه وجد منها الفعل، هكذا روي في «النوازل».
وفيه أيضاً: إذا حلف المرأة بهذه العبارة بالله كه حرام ني كرد ستم وعيب إنها لم تحرم الزنا إنما الله هو الذي حرم الزنا، وقد كانت فعلت ذلك لا يحنث لأنه نوى ما يحتمله. وإن كان الحالف رجلاً وحلفت بالله فكذلك الجواب، وإن حلف بالطلاق والعتاق صدق ديانة لا قضاء.(5/57)
-----
وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا قال لها: إن فعلت حراماً فأنت طالق، ثم إنها أجرت كلمة الكفر بلسانها ولم يعلما بوقوع الفرقة حتى أقاما على ذلك لم يحنث الزوج لأن يمينه انصرف إلى الزنا وهما أقاما على تأويل النكاح فلم يكن زنا.r
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال: إن اغتسلتُ من الحرام فامرأته طالق فعانق أجنبية وأنزل لا يحنث، لأن هذا يقع على الجماع.
وفي «العيون»: إذا قال لامرأته: إن اغتسلت منك من جنابة فأنت طالق، فجامعها وقع الطلاق، وإن لم يغتسل لأن هذا اللفظ صار كناية عن الجماع حكاية.
قال: إن جامعتك فأنت طالق، وفي موضع آخر إذا قال لها: إن اغتسلت منك إلى شهر فكذا جامعها في المفازة فحينئذ يمينه يقع على الجماع.
وفي «النوازل»: سكران دعا (امرأته) إلى فراشه فقال: السكران إن امتثلت أمري وساعدتني وإلا فكانت طالق ثلاثاً فإن ساعدته بعد أن دعاها في المستقبل لم يحنث، وإن لم تساعده بعد أن دعاها في المستقبل حنث، لأن قوله إن امتثلت (386أ1) أمري يمين واليمين يقتضي شرطاً في المستقبل، فكان شرط وقوع الطلاق ترك الامتثال لأمر يوجد منه في المستقبل. قال لامرأته بالفارسية: أكر من بامكسال ديب حرار كنم ينو فكذا لم يجامعها فيما دون الفرج لا يحنث لأنه يراد بهذا الجماع عادة، وقد مرّت هذه المسألة في كتاب الطلاق في فصل الإيلاء.
وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا حلف لا يفتح السراويل على امرأته، فإن أراد الجماع فيمينه على الجماع، وإن لم يرد الجماع، إن فتح السراويل لأجل البول فجامعها لا يحنث، لأنه لم يفتح السراويل عليها لأن فتح السراويل عليها أن يفتح ليجامعها.
إذا قال لامرأته وهي في بيت أمها: إن لم تجيئي بيتي الليلة حتى أجامعك فكذا، فجاءت بيته ولم يجامعها، قال أبو يوسف رحمه الله: يحنث، وقال محمد رحمه الله، لا يحنث: وقد مرّ جنس هذه المسائل في كتاب الطلاق.
(5/58)
-----
حلف أن لا يحل التكة في....... فجامع من غير حل التكة ينظر إن نوى غير حل التكة لا يحنث، ويصدق ديانة وقضاءً لأنه نوى حقيقة كلامه. وإن نوى الجماع يحنث......
وفي «فتاوى أهل سمرقند» رحمهم الله: دخل إليهم بصبي فقال بالفارسية، أكر من با أربا حفاضي فامرأته كذا وقد كان قبله طلقت امرأته.
حلف أن لا يفعل حراماً فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها لا يحنث. لأنه ليس بحرام مطلق.
وفي «العيون»: إذا حلف بطلاق امرأته أن لا ينظر إلى حرام فنظر إلى وجه امرأة أجنبية لا يحنث، لأن النظر إلى وجه الأجنبية ليس بحرام. ولو قال: إن أتيت حراماً فكذا، فأتى بهيمة فلا حنث عليه، إلا أن يكون ثمة دليل يدل على إرادته ذلك. إذا حلف لا يقبل فلاناً فقبل يدهُ أو رجلهُ، فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه منهم من قال: لا يحنث، وهو على الوجه خاصة، ومنهم من فصّل بين الملتحي وغير الملتحي فقال: إن عقد يمينه على ملتحي يحنث، وإن عقد يمينه على غير الملتحي لا يحنث، ومنهم من قال: إن عقد يمينه بالفارسية لا يحنث، إلا بالتقبيل على الوجه؛ لأنه لا يتفاهم منه الناس بالفارسية إلا التقبيل على الوجه، وإن عقد يمينه على العربية فهو على التفصيل بين الملتحي وغير الملتحي، والأول أظهر وأصح؛ لأن من قبّل يد إنسان لا يقال قبلَّه.
قال لامرأته: إن قبلت أحداً فأنت طالق فقبلته تطلق.
رجل حلف رجلاً أن يطعه في كل ما يأمره وينهاه نهى ذلك عن جماع امرأته فجامع لم يحنث، إذا لم يكن هناك سبب يدل عليه؛ لأن الجماع لا يراد هذا اليمين عادةً.
رجل قال لامرأته: أكر من انحبرار نفر أرتواكس بكارا مدة باشد فأنت طالق ثلاثاً فهذا على الوطء حلالاً كان أو حراماً حتى لو كان زنى بامرأة أو وطئها بنكاح طلقت امرأته.(5/59)
-----
رجل قال لآخر أكر بخايد ان توايد دخنانت كنم فكذا ثم إن ذلك الرجل طلقت امرأته، ثم إن الحالف. فارقها حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: إن فعل ذلك قبل انقضاء العدّة يحنث، وإن فعل ذلك بعد انقضاء العدة لا يحنث، سئل شمس الإسلام هذا رحمه الله عن رجل دعا امرأته إلى الفراش فأبت فقال الزوج إن نمت معك إلى الخريف فأنت طالق فنام معها قبل الخريف، قال: إن نام معها وجامعها طلقت، وإن لم يجامعها لا تطلق، وهذا بناء على أن يمينه وقعت على الجماع عرفاً فإن عاد فقد ذكرنا في مسائل الإيلاء: أنّ من قال لامرأته: أكرنا بوا حسم فأنت طالق ثلاثاً ولم ينو نفس اليوم أنه مولى حلف أنه لم يلط وقد كان لاط في صغيرة يحنث في يمينه قيل إنك تفعل بامرأة فلان كذا وكذا وكانت امرأة فلان على السطح وامرأة أخرى على سطح آخر والسطوح متصلة بعضها ببعض، فقال الرجل: إن فعلت بتلك المرأة كذا وكذا فامرأته طالق وأشار بأصبعه إلى المرأة الأخرى، وكان ذلك في ليلة مظلمة فلم ير أصحابه ذلك وقد كان الحالف فعل بامرأة فلان ذلك الفعل طلقت امرأته قضاءً؛ لأن كلامه انصرف إلى تلك المرأة ظاهراً لخروجه عقيب ذكر تلك المرأة. وبعض مسائل هذا النوع مذكورة في كتاب الطلاق، وسيأتي شيء منه في المتفرقات.
نوع آخر في اللبس
وفيه مسائل الغزل والنسج والكسوة والخياطة والقطع:(5/60)
-----
إذا حلف الرجل لا يلبس ثوباً أو حلف لا يشتري ثوباً فيمينه على كل ملبوس يستر العورة وتجوز الصلاة فيه، وهذا لأن الثوب لغة اسم لما يلبس، إلا أنه إذا أطلق هذا الاسم يراد به ملبوس يستر العورة وتجوز الصلاة معه، وكل ملبوس هو بهذه الصفة كان داخلاً تحت اليمين حتى لو اشترى منسجاً أو بساطاً أو طنفسة ولبسها لا يحنث في يمينه لأن البساط والمنسج يُفرش ولا يُلبس فلا يدخل تحت اسم الثوب. ولو اشترى..... أو طيلسان ولبسهما يحنث في يمينه لأنه مما يلبس فيدخل تحت اسم الثوب هكذا ذكر المسألة في «الأصل».
وذكر في «المنتقى»: إذا حلف لا يشتري ثوباً أو حلف لا يلبس ثوباً فاشترى منسجاً أو طنفسة أو وسادة ولبسها يحنث في المشترى ولا يحنث في اللبس ورواية «المنتقى» في فصل الشراء تخالف رواية «الأصل». ولو اشترى فرواً أو لبس فرواً يحنث في يمينه فاسم الثوب ينطلق على الفرو ذكره في «الأصل».
وفي «السّير الكبير» في باب الاستثناء في النقل ولو اشترى قلنسوة أو لبس قلنسوة لا يحنث في يمينه لأن اسم الثوب لا ينطلق عليه، ولو اشترى ثوباً..... يحنث في يمينه هكذا ذكر في «الأصل». قالوا: إن أراد بهذا أن يكون يستر العورة أو لا تستر وتجوز الصلاة، وكذا إذا اشترى خرقة ولا تكون نصف ثوب لا يحنث، لأنه لا يستر العورة وإن اشترى أكثر من نصف الثوب يحنث لأن اسم الثوب ينطلق على أكثر من نصف الثوب ولأنه يستر به العورة. وفي «القدوري»: إذا حلف الرجل لا يلبس ثوباً من غزل فلانة فقطع بعضه وإن بلغ ما قطع إزاراً أو رداءً أو سراويلاً حنث في يمينه بلبسه، وإن كان بخلافه فلا حنث والمعنى (386ب1) ما ذكرنا.
قال ثمة: وكذلك المرأة إذا حلفت أن لا تلبس ثوباً فلبست خماراً أو مقنعة لم تحنث إذا لم يبلغ مقدار الإزار وإن بلغ حنثت وإن لم يستر به العورة.(5/61)
وعلى هذا: إذا حلف لا يشتري لامرأته ثوباً أو حلف بالفارسية دن حاقة تجر فاشترى لها خماراً أو مقنعة لا يحنث في يمينه.(5/62)
-----
وإذا حلف لا يلبس ثوباً فلبس لفافة لا يحنث في يمينه لأن اللفافة لا تسمى ثوباً، وعلى قياس الخمار ينبغي أن يحنث إذا كانت اللفافة تباع مقدار الإزار. وإن لبس عمامة روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه لا يحنث، ولا يجري في الكفارة، وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث إلا أن تكون عمامة إن فلتها كانت إزاراً أو رداءً أو يقطع من مثلها سراويلاً فهذا يحنث ويجري في الكفارة، وهكذا ذكر القدوري في «كتابه».
وروى هشام عن أبي يوسف رحمه الله الحنث في العمامة من غير فصل، ويجوز أن تكون رواية هشام محمولة على عمامة تبلغ إزاراً ورداءً أو رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله محمولة على عمامة لا تبلغ إزاراً ورداءً.
وفي «السير الكبير» في باب الاستثناء في النقل أن اسم الثوب لا ينطلق على العمامة والقلنسوة والخف، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن هذا الجواب في العمائم في عمائم العرب لأنها متغيرة لا يجيء منها ثوب كامل، فأما في عمامتنا فبخلافه.
إذا حلف لا يلبس قميصاً فاتزر بقميص أو ارتدى بقميص لا يحنث في يمينه.
الأصل في جنس هذه المسائل أن من حلف على لبس ثوب لا بعينه لا يحنث ما لم يوجد منه اللبس المعتاد فيه، وإن حلف على لبس ثوب بعينه فعلى أي حال لبسهُ يحنث في يمينه، وهذا بناءً على أصل معروف يأتي في مسائل بعد هذا أن الوصف في غير المعين معتبر وفي المعين غير معتبر ولبس القميص بصفة مخصوصة متعارف والمتعارف كالمنصوص عليه، فإذا لم يعين قميصاً انصرف يمينه إلى اللبس المعتاد اعتباراً للصفة في غير المعين، فما لم يوجد اللبس المعتاد لا يحنث في يمينه، وإذا عين القميص انصرف يمينه إلى اللبس المطلق إلغاء للوصف في المعين فعلى أي حال لبسه يحنث في يمينه.
وعلى هذا إذا حلف لا يلبس هذه العمامة فألقاها على عاتقه يحنث، ولو كانت العمامة بغير عينها لا يحنث ذكر مسألة العمامة والقميص في «الجامع».(5/63)
-----
وفي «الأصل»: إذا حلف لا يلبس ثوباً فوضعه على عاتقه يريد حمله لا يحنث لأنه حامل وليس بلابس، وهذه المسألة تخالف رواية «الجامع» في مسألة القميص.
وإذا حلف لا يلبس خباء أو هذا الخباء فوضعه على كتفه ولم يدخل يديه فيه:
ففي الوجه الأول اختلف المشايخ بعضهم قالوا: لا يحنث على قياس ما ذكر في المناسك أن المحرم إذا فعل هكذا لا كفارة عليه.
ووجه الاستدلال به: أن محمد رحمه الله لم يجعلهُ لابساً إذ لو جعله لابساً لأوجب عليه الكفارة وبعضهم قالوا: يحنث في يمينه، لأن الخباء هكذا يلبس أيضاً.
وفي الوجة الثاني: يحنث بلا خلاف لأن اللبس المعتاد في المشار إليه غير معتبر على ما مرَّ.
وإذا حلف لا يلبس خباء أو حلف لا يلبس هذا الخباء فوضعه على اللحاف حالة النوم لا يحنث هكذا حكى ظهير الدين رحمه الله فتوى عمه شمس الإسلام رحمه الله وروايته في المعين يخالف الرواية. وإذا حلف لا يلبس ثوباً جديداً فالمروي عن محمد رحمه الله أن الجديد مالم ينكسر حتى يصير يشبه الخلق.
وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: أن الثوب مثل العسل يحب أن يكون جديداً وبعده لا اعتبار للعرف. وإذا حلف لا يلبس قميصاً يلبس قميصاً ليس له كمان ولم تكن له نية حين حلف فإنه يحنث في يمينه، وكان يجب أن لا يحنث لأن الكم صفة من أوصاف القميص والصفة في الفائت معتبرة حتى أن من حلف لا يدخل داراً فدخل داراً مهدومة لا يحنث في يمينه؛ لأن البناء صفة من أوصاف الدار.(5/64)
-----
ووجه الفرق بينهما: أن اسم القميص يثبت للثوب وإن لم يكن له كمان الأصل بأن يقال: قميص ذو كمين، وقميص لا كم له، ويقال: اشترى للقميص كماً يسميه قميصاً وإن لم يكن له كم من الأصل فإذا لم يكن وجود الكم في القميص شرطاً لثبوت هذا الاسم في الابتداء فزواله لا يوجب زوال الاسم بوجه ما كان الاسم بدون الكم قائماً من كل وجه فيحنث في يمينه بخلاف الدار، وذلك لأن اسم الدار للأرض لا يثبت بدون البناء فإن الأرض الذي لم يكن عليه بناء الدار في الأصل لا يسمى داراً وإنما يسمى أرضاً، فإذا كان وجود البناء شرطاً لثبوت اسم الدار فزواله يوجب نقصاناً في الاسم فلا يدخل فلا يجب بحسب مطلق الاسم.
فإذا حلف لا يلبس من غزل فلانة ولا نية له فلبس ثوباً نسج من غزل فلانة يحنث في يمينه؛ لأنه عقد يمينه باللبس على عين غير ملبوس فينصرف يمينه إلى ما يصنع منه مجازاً، فإن كان نوى عين الغزل لا يحنث بلبس الثوب لأنه نوى حقيقة كلامه فصحت نيته وصارت الحقيقة مراداً فلا يبقى المجاز مراداً ولبس غير الغزل لا يحنث إلا أن يعينه لأن اليمين انصرف إلى غزل منسوج إذا لم يكن له نية.
وعلى هذا إذا حلف لا يلبس قطناً ولا نيّة له فلبس ثوب قطن يحنث في يمينه، ولو لبس قباء ليس بقطن وحشوه قطن لم يحنث إلا أن ينويه لأن اليمين انصرف إلى قطن منسوج (387ب1) وما في الكتاب ليس بمنسوج، فلا يحنث به؛ إلا أن ينوي عين القطن، فحينئذ يحنث كما في مسألة الغزل.
ولو حلف لا يلبس (ثوباً من) غزل فلانة، فلبس ثوباً من غزل فلانة وغزل غيرها حيث لا يحنث في يمينه.
والفرق: أن في قوله: لا ألبس غزل فلانة شرط الحنث أن يلبس من غزلها، وقد لبس من غزلها؛ لأن اسم الغزل ينطلق على القليل، كما ينطلق على الكثير، وفي قوله: لا ألبس ثوباً من غزل فلانة، شرط الحنث لبس ثوب من غزل فلانة، ولم يلبس ثوباً من غزل فلانة إنما يلبس ثوباً بعضه من غزل فلانة، فلهذا لم يحنث.(5/65)
-----
وفي «المنتقى»: بالغ في بيان هاتين المسألتين، فروي عن محمد رحمه الله: أنه إذا حلف لا يلبس من غزل فلانة، فخلط غزلها بغزل غيرها في ثوب ولبسه قال: يحنث وإن لم يكن فيه من غزلها جزء من مائة جزء. ولو قال: لا ألبس ثوباً من غزل فلانة لم يحنث، وإن كان فيه من غزل غيرها.
وعن أبي يوسف رحمه الله: إذا حلف لا يلبس ثوباً من غزل فلانة، فلبس ثوباً من غزل فلانة فيه رقعة من غزل غيرها حنث، وكذلك لو لبس قميصاً من غزل فلانة فيه لبة من غزل غيرها أو أزراره من غزل غيرها، وكذلك لو لبس ثوباً من غزلها، وعليه علم من غزل غيرها، ولم يُنسج ثوب من غزلها وغزل غيرها إلا أن غزل غيرها في آخر الثوب وفي .... فقطع غزلها من ذلك، ولبس القطعة التي من غزل المحلوف عليها فإن كانت تباع إزاراً أورداء حنث، وإن كانت لا تباع ذلك لا يحنث وإن قطعه سراويلاً ولبسه يحنث، وإن لبس ذلك الثوب قبل أن يقطع منه ما نسج من غزل غيرها، فإنه لا يحنث، قال: ولا يشبه هذا العلم، وإذا حلف لا يلبس من غزل فلانة، فلبس ثوباً خيطه من غزل فلانة، لا يحنث في يمينه، وكذلك لو لبس ثوباً فيه مسلكة من غزل فلانة، لا يحنث في يمينه.
ولو لبس تكّة من غزلها، لم يحنث عند محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله يحنث، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبقول محمد رحمه الله يفتى لأنه لا يُعد لابساً بلبس التكة، ورأيت في «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد رحمه الله: أنه يحنث في يمينه في التكة، وفي الزود والعروة ويقال بالفارسية ازكه وسا مكحه ، لا يحنث، وكذلك في الزيق واللبة ويقال بالفارسية حشك وره كدينار ، لا يحنث، هكذا في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.(5/66)
-----
وذكر القدوري رحمه الله فصل اللبة، كما ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله، ورواه عن محمد رحمه الله، وذكر في «المنتقى» رواية مجهولة أن في اللبة يحنث، وفي الزيق لا يحنث، وروي عن محمد رحمه الله ..... ويقال بالفارسية نشنان أنه ، إذا كان من غزلها يحنث في يمينه، والصدر الشهيد رحمه في «واقعاته» اختار الحنث في الزيق واللبة لأنه لابس لهما، قاسه على مسألة الرقعة. وذكر شيخ الإسلام رحمهم الله في شرح أيمان «الأصل» أن في ، الدخريص واللبة يحنث في يمينه لأن في الدخريص يصير ملبوساً بلبس القميص، واللبة كذلك فأما الزر والعروة لا يصير ملبوساً بلبس القميص، فلهذا افترقا، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا رقع في ثوبه من غزل فلانة شبراً في شبر حنث.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا أخذ الحالف من غزل فلانة خرقة، قدر شبرين، ووضع على عورته لا يحنث؛ لأنه بهذا الاسم لا يسمى لابساً، ولو لبس قلنسوة يحنث، لأنه يُسَّمى لابساً لهما.
إذا حلف لا يلبس من غزل فلانة، فلبس ثوباً من غزلها فباع الذيل إلى السرة ، ولم يدخل يديه في كُميه، ورجلاً تحت اللحاف حنث في يمينه.
(5/67)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا حلف الرجل لا يلبس خزاً، أو حلف لا يلبس ثوباً من خز، فلبس ثوباًمن هذا الذي يسميه الناس خزاً يريد به ثوباً لحمتة خز سداه ليس بخز، أو على العكس، يحنث في يمينه، وهذا الجواب ظاهر في قوله لا ألبس خزاً مُشكل في قوله لا ألبس ثوباً من خز، لأن شرط الحنث في هذه الصورة، لبس ثوب من خز، وإذا لم يكن خزاً خالصاً، فإنما لبس ثوباً بعضه من خز، ألا ترى لو حلف لا يلبس ثوباً من كتّان، فلبس ثوباً من قطن وكتان، لا يحنث في يمينه، وإنما لا يحنث لما قلنا، والوجه في ذلك: أن الحنث في مسألة الخز لمكان العرف، فإن هذا الثوب يسمى خزّاً في العرف، وإن كان بعضه غير خز، ولا عُرف في مسألة الكتّان بأن الثوب الذي بعضه من قطن في العرف لا يسمى كتاناً، فالفارق بين الفصلين.
وإذا حلف لا يلبس حريراً، فلبس قميصاً فالعبرة للحمة دون السدى. وإذا حلف لا يلبس كتاناً، فلبس ثوباً من قطن وكتان يحنث، لأن شرط الحنث لبس الكتان، وقد وجد ويستوي أن يكون الكتان سدى أو لحمة، فرق بين هذا وبينما إذا حلف لا يلبس إبريسماً، فلبس ثوباً لحمته خز، وسداه إبريسم، فإنه لا يحنث في يمينه.
والفرق: أن الكتان لا يصير مستهلكاً بالقطن، ولا القطن بالكتان، فإن كان أحدهما سدى والآخر لحمة، لأنه لا يصير السدى عديم الرؤية، إذا كان السدى كتاناً واللحمة قطناً، لأنهما في الدقة سواء، فأما الإبريسم يصير مستمسكاً بالخز، إذا كان الإبريسم سدى، والخز لحمته لأن الإبريسم دقيق والخز ثخين، فيصير الإبريسم عديم الرؤية.(5/68)
-----
ولو حلف لا يلبس ثوب كتان فلبس ثوباً من قطن وكتان، لا يحنث في يمينه سواء كان الكتان سدى أو لحمه، فرّق بين هذا وبينما إذا حلف لا يلبس ثوب إبريسم، فلبس ثوباً من إبريسم وقطن، فإنه يحنث في يمينه إذا كان لحمته إبريسم، والفرق أنّ في الإبريسم مع القطن الثوب ينسب إلى الإبريسم لا القطن فغلب (387ب1) الإبريسم على القطن في نسبة الثوب إليه، فصار وجود القطن في ذلك المسألة وعدمه بمنزلة، فأما في القطن مع الكتان، ينسب الثوب إليهما يقال: ثوب قطن وكتان، وإذا نسب إليهما، صار لابساً ثوباً بعضه من قطن وبعضه من كتان، والبعض من الثوب لا يسمى ثوباً.
وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يلبس ثوباً من غزل فلانة فلبس كساءً من غزلها حنث، ولو حلف لا يلبس ثوباً من غزل فلانة، فلبس كساءً من غزلها، سداه قطن من غزل غيرها، فإن كان هذا الثوب ينسب إلى غزلها يحنث، كالخز.
وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا حلف لا يلبس من ثياب فلان، وفلان يبيع الثياب فاشترى منه ثوباً ولبس يحنث في يمينه.(5/69)
-----
وإذا حلف الرجل لا يلبس ثوب كذا وهو لابسه، ولا نية له، فتركهُ بعد الحلف ساعة أو يوماً حنث في يمينه، لأن اللبس مستدام، وما يستدام فدوامه يسمى باسم الابتداء، وإذا حلف لا يلبس هذا الثوب، فألقي عليه وهو نائم قال محمد رحمه الله: أخشى أن يحنث. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» والمختار أنه لا يحنث لا بلبس، واللبس ملابس، وهو نظير ما لو حلف لا يدخل دار فلان فدخل وهو نائم انتبه فوجد جداره الثوب إن ألقاه كما انتبه لا يحنث في يمينه وإن تركه فاستقر عليه بعد الانتباه حنث علم أنه الثوب المحلوف عليه أو لم يعلم، وكذا ألقي عليه وهو منتبه إن القاه عن نفسه، كما ألقي عليه، لا يحنث، وإن تركه يحنث، علم أنه الثوب المحلوف، أو لم يعلم، وإذا حلف لا يلبس السروايل، أو حلف لا يلبس الخفين، فأدخل إحدى رجليه في الخف أو في السراويل لا يحنث، لأنه لا يسمى لابس الخفين، ولا لابس السراويل بإدخال إحدى الرجلين فيه.
في «الجامع الصغير»: إذا قال لامرأته: كل ثوب ألبسه من غزلك فهو هدي، فاشترى قطناً فغزلته ثم نسجته فلبسه فعليه أن يهديه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: ليس عليه أن يهديه إلا أن يكون من قطن كان يملكهُ يوم حلف، ولا خلاف أن القطن والغزل إذا كان في ملكهِ يوم اليمين أنه يحنث، وإذا لم يكن في ملكه وقت اليمين، وإنما اشتراه بعد ذلك ففيه خلاف.
ووجه قولهما: أن ..... إنما يصح إما في الملك أو مضافاً إلى سبب الملك، ولم يوجد ههنا ملك، ولا إضافة إلى سبب الملك، لأن الغزل واللبن ليسا من أسباب الملك، ولأبي حنيفة رحمه الله: إن النذر أضيف إلى سبب الملك، لأن الغزل سبب لوقوع الملك للزوج، لأن العادة أن المرأة تغزل من قطن زوجها، وما تغزل المرأة من قطن الزوج يصير ملكاً للزوج، ومطلق اليمين ينصرف إلى المعتاد، فهو معنى قولنا إن النذر أضيف إلى سبب ملك الزوج.(5/70)
-----
سئل نجم الدين النسفي عمن قال: عمن قال: الردشية زن خوشن بوشم زن آر من بطلاق بيدة زن زابو سربست قال: إن فعل ذلك على وجه العمامة حنث؛ لأنه ليس غزلها فقد قيل: لا يحنث لأن لبس الغزل على هذا الوجه ليس بمعتاد واليمين عقدت على غزل غير مشار إليه فينصرف إلى اللبس المعتاد.l
إذا قال لامرأته بالفارسية: الحوشية نوبية من أيد رايد وقال سر من جرائد فكذا فوضع يده على غزلها أو خاط به ثوباً لا يحنث في يمينه.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لامرأته بالفارسية الردر ابو شايم أركار كرد خويش فأنت طالق، ثم أن المرأة رقعت كرباساً إلى زوجها لينسجها بآخر فنسج ولبست المرأة لا يحنث؛ لأن اليمين وقعت على مكسوب الزوج وهذا مكسوب المرأة، وكذلك لو كان القطن من جهة الزوج وقد لبست بغير أمر لا يحنث؛ لأنه شرط الإلباس وهو لم يلبسها ولم يأمرها باللبس إنما لبست بنفسها في غير أمره.
وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يلبس من نسج فلان فلبس ثوباً نسجهُ فلان مع غيره يحنث، ولو قال: ثوباً من نسج فلان ولبس ثوباً نسجه فلان مع غيره لا يحنث، إذا كان الثوب مما نسجه واحد فإن كان لا ينسجه إلا اثنان يحنث.(5/71)
-----
وفيه أيضاً: ولو حلف لا يلبس ثوباً من نسج فلان فلبس ثوباً نسجه غلمانه وفلان هذا هو..... عليهم، فإن كان فلان يعمل بيده لا يحنث إلا أن يلبس من عمله، وإن كان فلان لا يعمل بيده يحنث وكذلك هذه الأعمال كلها، ووقعت في زماننا أن رجلاً حلف أن لا يلبس من غزل فلان، فلبس من غزل وامرأة أخرى أمرها فلان بالغزل فأفتى بعض مشايخنا بالحنث مطلقاً، وأفتى البعض بالحنث على التفصيل الذي في مسألة النسج وهو الصحيح، وما ذكر في «المنتقى» عقيب مسألة النسج، وكذلك على الأعمال كلها يدل عليه إذا حلف بالفارسية أكرر رسمان يومه كار يوم بايكارأ بدمر فكذا فاستبدل غزلها بغزل آخر لا يحنث، ولو لبس ثوباً من غزلها إن كان قال: الرز سمان نورا كاريوم كينث وإن قال: أكرر بسمان يوما زايد فرا يحنث. في طلاق «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
ولو قال: أكرحامه تويكارايد مر ذكر الإمام النسفي رحمه الله، أنه على اللبس وعلى الانتفاع بقيمته، ومن المشايخ من قال: ينوي الزوج إن قال يوم اللبس فيمينه على اللبس، وإن قال: نويت الانتفاع بثمنيه فيمينه على ذلك.
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا قال لها بالفارسية، أكرربسمان يؤمر إيكاد إيديانه سود وريان من أندزايد فكذا فباعت غزلها واشترت بثمنها المتاع من غير علم الزوج، ..... الزوج لا يحنث لأنه لم يدخل عين الغزل في سودت مائة ولا يدله عين الغزل بكارنيا مدرواً الرمكا أمر بدل بكار أمر فلا يحنث فكذا في جميع هذا (388أ1) النوع من المسائل.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال إنها بالفارسية أكورشته ماكا ركرد يويسور وريان من أندرايه فكذا فغزلت المرأة، ولبست نفسها في مسائها لا يحنث، لأن الدخول في سودريان، الدخول في الملك، ولم يوجد وإن قضت ديناً، على الزوج لا تطلق أيضاً لأنه لم يدخل في ملك الزوج أيضاً.
(5/72)
-----
وإذا حلف لا يدخل لمن غزلها في سود ريان، فباع ثوباً لها، فاشترى بثمنه كسوة لابنته الصغيرة، إن اشترى ثوباً يقضي بذلك حقاً عليه حنث، سواء اشترى الثوب بإذنها، أو بغير إذنها لأن شراءه كان واجباً عليه وصار كأنه اشترى لنفسه والمشترى عوض عن الثوب الأول معنى لأنه عوض عن عوضه وإن اشترى فضل من كسوة مثله فإن اشترى بإذنها لا يحنث؛ لأن الشراء يقع للمرأة حقيقة وتقديراً، وإن اشترى بغير إذنها حنث، لأن الشراء يقع لنفسه حقيقة ومعنى ذلك المسألة هكذا في «فتاوى الفضلي» رحمه الله.
قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: وفي المسألة إشكال إذا حلف لا يأكل من غزل فلانة، فباعت غزلها ووهبت الثمن لابنها، ثم إن الابن وهبه للحالف، فاشترى به الحالف شيئاً، وأكل لا يحنث، وإن اشترى شيء قبل أن تمت فأكل الحالف ثمة يحنث.
في «فتاوى أهل سمرقند» رحمهم الله امرأة تريد أن تقطع خباء لزوجها، فقال الزوج: بالفارسية الراين فباي كه برى يوسم فكذا فقطعت هذا ألبسه ولبس الحالف لزمه الحنث، لأن هذا لبس ما دامت في بيتي كونها في بيته، فإذا خرجت عن البيت سقطت اليمين وإن أراد بقوله ما دامت في بيتي كونها في نكاحه فما لم تقع الفرقة بينهما لا يرتفع اليمين.
حلفت المرأة أن لا تلبس المكعب، فلبست اللالك، فقد قيل: إن كان يسمى اللالك في العرف والعادة مكعباً يلزمها الحنث، وما لا.
حلف لا تلبس من ثوبها، ثم إن الزوج اشترى قطناً وغزلت المرأة القطن، ودفع الزوج الغزل إلى النساج حتى ينسجه بأجر، أعطاه الزوج ثم لبسه الزوج، فقد قيل: ينوى الزوج إن كان أراد بقوله من ثوبها من ثوب رشيه وي وساحيه وي يلزمه الحنث، وما لا فلا. وفي «فتاوى ما وراء النهر» إذا حلف الرجل لا يلبس من غزل امرأته فلبس قماطها رقه من غزلها وبطانية من غزل غيرها يحنث في يمينه وهذا ظاهر.(5/73)
-----
وفي «مجموع النوازل»: إذا حلف مراكندرن بريفكند فرا كنررا بنفسا نديد واشرفرا كندبرا فنكبلى إبره وبي حشو سوكند بكردن نيا بدو في «الجامع» إذا قال: إن لبستُ قميصين فكذا ولا نية له فلبس قميصاً فنزعه ثم لبس قميصاً آخر لا يحنث في يمينه، وهذا استحسان والقياس: أن يحنث، عملاً بإطلاق اللفظ، ألا ترى أنهما لو كان معينين يقع الحنث بما فعل، فكذا ههنا وجه الاستحسان: أن اللفظ وإن كان مطلقاً، إلا أنه تقيد بالعرف فإن العرف فيما بين الناس أن اللبس إذا أضيف إلى قميصين بغير أعيانهما أن يراد به المظاهرة بينها ولبسهما معاً لا مفترقاً، ألا ترى أن الرجل من نفسه أن يقول: ما لبست قميصين منذ حلفت، وإن كان قد لبس قميص كثير، فإذا لم يظاهر بينهما لصورة أو لمعنى من المعاني، ومثل هذا العرف لم يوجد في المعين، لأن لا يستجيز من نفسه أن يقول ما لبست هذين القميصين منذ خلقت، إذا كان لبسهما على التعاقب، فنعمل في المعينين بإطلاق اللفظ.
وفي «المنتقى»: إذا حلف لا يلبس هذا الثوب، فاتخذها قلنسوة ولبسها لا يحنث في يمينه، لأن اسم الثوب لا يبقى، ولو قطع منه قميصاً ففضل منه فضلة غير القميص قدر لبسه ، ولبس القميص يحنث لأن اسم الثوب باق، وما بقي لا يقيد به، فكان لابساً جميع الثوب، وصار كما لو حلف لا يأكل رُمّانة فأكلها إلا حبة أو حبتين حنث استحساناً، وطريقه ما قلنا.(5/74)
-----
وفي «القدوري» ذكر هذه المسألة فزاد عليها فقال: ولو اتخذه جوارب ولبسها لا يحنث، لأن اسم الثوب ليس بباق، وإذا قال لامرأته رسته ثوبه بوشم وله ثيابٌ اتخذ من غزلها قبل الحلف، وثياب اتخذ من غزلها بعد الحلف فيمينه عليهما الإطلاق اللفظ. وفي «الزيادات» إذا قال عبده حر إن لا يجعل من هذا الثوب خباء وسراويلاً، وجعله خباء ثم نقضه وجعله سراويلاً بر؛ لأن شرط البر أن يجعل من هذا الثوب خباء وسراويلاً مطلقاً غير مقيد بالدفعة والجمع والتفريق وقد وجد؛ لأن اسم الثوب لا يزول بجعله خباءً، ألا ترى أنه لو حلف لا يلبس هذا الثوب فخاطه خباء ولبسه يحنث، وإذا لم يزل اسم الثوب بجعله خباء فإنما جعل السراويل من ذلك الثوب وجعل الخباء منه أيضاً، فوجد شرط البر إلا أن يعني أن يجعل من بعضه الخباء ومن بعضه السراويل فحينئذ إذا فعل كما قلنا يحنث في يمينه، لأنه نوى أن يجعل ذلك بدفعة واحدة، فكان ناوياً المقيد من المطلق وإنه جائز، وفيه تغليظ عليه فيصدق في ذلك.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه قال: ينظر إلى سابقة كلامه، إن دلت سابقة كلامه على أنه أراد بهذا أن يجعلهما معاً بأن ذكر حذاقة الخياطة، أو سعة الثوب، فهو أن يجعلهما دفعة واحدة، وإن لم يدل فهو على الجملة والتعاقب.
وكان أبو القاسم الصفار يقول: إذا لم يجعل من بعضه خباء، ومن بعضه سراويلاً يحنث على كل حال، لأنه ذكر بكلمة من وكلمة من للتبعيض، إلا أنا نقول من تذكر للتمييز يقال: هذا الخاتم من الحديد، والمراد تمييز هذا الثوب من سائر الثياب.(5/75)
-----
ولو قال: إن لم يجعل من هذه الملحفة، أو من هذا الإزار أو من هذا الرداء سراويلاً وخباء فكذا فجعلها خباء ثم نقضها فجعلها سراويلاً حنث في يمينه، لأن اسم الملحفة زال بجعلها خباء، فإنما جعل السراويل من الخباء لا من الملحفة، وشرط بره أن يجعله من الملحفة ولم يوجد، وإن كانت الملحفة (388ب1). لا تسع لهما حنث للحال؛ لأن البر مأيوس الوجود.
وإذا حلف ليقطعنّ من هذا الثوب قميصين، فقطعه قميصاً وخاطه ثم فتقه وقطعه قميصاً آخر على غير ذلك التقطيع، وعن محمد رحمه الله فيه روايتان، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث.
ولو حلف ليخيطنّ من هذا الثوب قميصين فقطعه وخاطه قميصاً ثم فتقه وخاطه قميصاً آخر لا يحنث بلا خلاف.
وعن محمد رحمه الله فيمن حلف لا يلبس هذا الثوب فقطعه سراويلاً فلبس سراويلاً بعد سراويل لا يحنث في يمينه.
وإذا حلف لا يلبس حُليّاً فلبس خاتم فضة لا يحنث في يمينه.
علل في الكتاب فقال: لأنه ليس بحلي معناه ليس بحلي كامل أو ما هو حُلي ناقص؛ لأن الحلي ما يستعمل للتزين لا محالة والخاتم إذا كان من فضة كما يستعمل للتزين يستعمل لغيره، وهو إقامة السَّنة وإذا كان يستعمل للتزين وغيره كان ناقصاً في معنى الحلي، فلا يدخل تحت مطلق اسم الحلي ولو لبس خاتم ذهب يحنث، لأنه لا يستعمل إلا للتزين، فكان كاملاً في معنى الحلي.
وكذلك لو حلفت المرأة أن لا تلبس حُلياً فلبست خاتماً من ذهب تحنث، ولو لبست خاتم فضة لم تحنث هذا هو ظاهر الرواية قالوا: وهذا إذا كان مصنوعاً على هيئة خاتم الرجال، أما إذا كان مصنوعاً على هيئة خاتم النساء مما له فصّ يحنث، وقال بعضهم: لا يحنث على كل حال. قال: والأول أصح. وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله أن خاتم الفضة حلي مطلقاً.(5/76)
-----
وفي «المنتقى»: رواية إبراهيم عن محمد رحمه الله أن المنطقة المفضضة والسيف المحلى ليس بحلي. قال: والحلي ما تلبسه النساء. والخلخال والد ملوج والسوالت حلي، لأنه لا يستعمل إلا للتزين، وإذا حلفت امرأة أن لا تلبس حليّاً، فلبست عقد لؤلؤة لا تحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون معه ذهب، وقال أبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله تحنث ولا خلاف بينهم أنه إذا كان مُرصعاً بشيء من الذهب والفضة إنه تحنث لأن ذلك حلي. وإنما الخلاف فيما إذا لم يكن مرصعاً. وعلى هذا الخلاف إذا لبست عقد زبرجد أو زمرد غير مرصع هما يقولان اسم الحلي يتناول اللؤلؤ الخالص، قال الله تعالى: {تستخرجون حلية تلبسونها} (النحل: 14، فاطر: 12) ولا يستخرج من البحر المرصع إنما يستخرج اللؤلؤ الخالص. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العادة لم تجر بالحلي إلا مرصعاً بذهب أو فضة فأمّا وحده فلا.
قال بعض مشايخنا: على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس بأن يلبس الغلمان اللؤلؤ، وكذلك الرجال وكذلك قياس قوله في اللؤلؤ أن الذهب والفضة لا يكون حلياً إلا أن يصاغ، كما أن اللؤلؤ لا يكون حلياً إلا (أن) يصاغ ولا يصاغ اللؤلؤ إلا بالترصيع، حتى إن المرأة إذا علقت في عنقها شيئاً من الذهب والفضة غير مصنوع يجب أن لا تحنث على قياس قوله، وقد قيل الاختلاف في هذه المسألة اختلاف عصر وزمان، ففي زمان أبي حنيفة رحمه الله لم يتعارف النساء لبس اللؤلؤ على الانفراد، ولم يعده الناس حلياً، فأفتى بما عاين في زمانه، وفي زمن أبي يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله تعارف النساء لبسه على الانفراد، وكان الناس يعدون ذلك حلياً فأفتيا بما عاينا في زمانهما، وقولهما أقرب إلى عرف ديارنا.
(5/77)
-----
وإذا حلف الرجل لا يلبس شيئاً من السواد فلبس قلنسوة سوداء وخفين أسودين أو نعلين أسودين أو فرواً أسود حنث في يمينه. ولو قال: لا ألبس السواد فهذا على الثياب، ولا يحنث في الخفين والنعلين والفرو. روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله في هذه المجلدة ......... رحمه الله.
وإذا حلف لا يلبس سلاحاً فتقلّد سيفاً أو.... قوساً أو فرساً لم يحنث، قال: إذا كانت اليمين بالفارسية بأن قال سلاح في توشم يحنث بهذه الأشياء، ولو لبس درعاً من حديد يحنث، ولو حلف لا يلبس شيئاً فلبس درعاً من حديد أو خفين أو قلنسوة يحنث في يمينه. وأن لا يكسو فلاناً شيئاً ولا نية له فأعطاه دراهم يشتري بها ثوباً لا يحنث، ولو أرسل إليه بثوب كسوة حنث، ولو كساه قلنسوة أو خفين أو جوربين حنث. وعن محمد رحمه الله أن الكسوة عبارة عما يجري في كفارة اليمين. ولو حلف لا يكسو فلاناً فكساه قلنسوة أو خفين لا يحنث بلا خلاف.
نوع آخر في الدخول
بسم الله الرحمن الرحيم: رجل قال: إن دخلت هذه الدار فكذا وهو داخل فيها فدام على ذلك لم يحنث استحساناً، والقياس أن يحنث، لأن اسم الدخول يقع على دوامه، ألا ترى أنه لو نوى بالدخول الدوام صحت نيتّه، عليه محمد رحمه الله في «الأصل».(5/78)
-----
وجه الاستحسان: أن الدخول فعل لا يمتد فلا يُعطى لدوامه حكم الابتداء، وهذا هو الأصل في جنس الأفعال: أن ما لا يمتد من الأفعال لا يُعطى لدوامه حكم الابتداء، وما يمتد من الأفعال يعطى لدوامه حكم الابتداء. والفارق بين الممتد وغير الممتد من الأفعال صحة قرار المدة وعدم صحته. فكل فعل يصح قرار المدة به فهو مما يمتد وذلك كالسكنى والركوب واللبس والنظر والقيام والعقود، فإنه يصح أن يقال: سكن في الدار يوماً ونظر إلى فلان يوماً، وقعد في مكان كذا يوماً، وقام يوماً فكل فعل لا يصح قرار المدة به فهو مما لا يمتد. وذلك كالدخول والخروج فإنه لا يستقيم أن يقال: خرج يوماً من الدار ودخل يوماً في الدار، والدليل عليه أنه لا يستقيم أن يقال للداخل في الدار: ادخل، ولا يستقيم أن يقال للخارج منها اخرج منها.
وإذا حلف لا يدخل هذه الدار فأدخل إحدى رجليه في الدار ولم يُدخل الأخرى لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل». بعض مشايخنا قالوا هذا إذا كان الجانبان مستويين فأما إذا كان (389أ1) الداخل أسفل يحنث في يمينه، وبعضهم قالوا: العبرة للاعتماد إن كان الاعتماد على الرجل الداخلة، وإن كان الاعتماد على الرجل الخارجة لا يحنث. إلا أن في ظاهر رواية أصحابنا لا يصير داخلاً بإدخال أحد الرجلين، وبه (أفتى) الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، هذا إذا كان يدخل قائماً. وأما إذا كان مستلقياً على ظهره أو بطنه أو جنبه فقد خرج حتى صار بعض بدنه داخل الدار، إن صار الأكثر داخل، الدار يصير داخلاً وإن كان ساقاه خارج الدار هكذا روي عن محمد رحمه الله. ولو أدخل رأسه دون قدميه لم يحنث. وكذلك لو تناول شيئاً بيده.(5/79)
-----
وإذا حلف لا يدخل دار فلان فاحتمله إنسان وأدخله وهو كاره لم يحنث. قالوا: وهذا على وجهين: إما أن يكون بحال لا يمكنه الامتناع عنه، أو يمكنه الامتناع، فإن كان لا يمكنه الامتناع عنه لا يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث وهو دخوله لم يوجد لا حقيقة ولا اعتباراً، وإن كان يمكنه الامتناع فقد اختلف المشايخ فيه، وينبغي على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحنث لما نبين بعد هذا إن شاء الله. هذا إذا احتمله إنسان فأدخله مكرهاً.
فأما إذا هدده بالدخول فدخل بقدميه فقد اختلف المشايخ فيه أيضاً، بعضهم قالوا: لا يحنث، وبعضهم قالوا: يحنث، وبعضهم قالوا: إن أمكنه الامتناع عن الدخول مع هذا دخل يحنث، وإن لم يمكنه الامتناع عنه لا يحنث، ولو احتمله إنسان وأدخله وهو راض عليه إلا أنه لم يأمره بذلك فقد اختلف المشايخ فيه، ووجدت في «المنتقى» عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحنث، فعلى قياس هذه المسألة فحينئذ يجب أن يكون قولهما فيما إذا دخل مكرهاً أن لا يحنث. وإن كان أمره بذلك يحنث، لأنه وجد الدخول فيه اعتباراً وإن كان يمر بين يدي الدار فزلق رجله فحصل في الدار لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب. وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يحنث لأن حصوله في الدار مضاف إلى فعله، وقال بعضهم: لا يحنث لأنه حصل في الدار مكرهاً لا باختياره، وصار كما لو احتمله إنسان وأدخله في الدار مكرهاً. وإن دخلها على دابة حنث، إلا أن تكون الدابة قد انقلبت وهو راكبها ولا يستطيع إمساكها فدخلت الدار فإنه لا يحنث في يمينه، لأنه صار مسلوب الاختيار لما انقلبت ولم يمكنه إمساكها.(5/80)
-----
وإذا حلف لا يدخل بيتاً فدخل المسجد أو الكعبة لا يحنث، وإن سمى الله تعالى الكعبة بيتاً في قوله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} (آل عمران: 96) وتُسمى سائر المساجد بيوتاً في قوله: {في بيوت أذن ا أن ترفع} (النور: 36) لأن اسم البيت للمساجد مجاز، لأن البيت اسم لما اتخذ للبيتوتة، والمسجد ناقص في معنى للبيتوتة فإنه لا يبات (فيه)، ومطلق الاسم ينصرف إلى الحقيقة. ولذلك لو دخل بيعة أو كنيسة لم يحنث، لأن الكفار إنما بنوا البيعة والكنيسة للصلاة، لا للبيتوتة فلا يكون بيتاً مطلقاً، وإن دخل دهليزاً لم يحنث لأن الدهليز ما بني للبيتوتة فيه.
قال مشايخنا: هذا إذا كان الدهليز بحال لو أغلق الباب يبقى خارج البيت، فأمّا إذا بقي داخل البيت وهو مسقف يجب أن يحنث في يمينه، لأنه يصلح للبيتوتة، وإن دخل صفة يحنث وهذا على عرف أهل الكوفة، لأن صفتهم على هيأة البيوت؛ لأنها ذات حوائط أربعة عندهم، فيكون بيتاً. وفي عرفنا الصفة لا تكون على هيأة البيوت، لأنها ذات حوائط ثلاثة فلا تكون بيتاً، ولو دخل ظلة على باب الدار ولا يكون فوقه بناء إلا أن مفتحه إلى الطريق الأعظم أو إلى السكة لا يحنث إذا كان عقد يمينه على بيت شخص بعينه، لأنه ليس من جملة بيته.
وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا قال الرجل: إن دخلت دار فلان فكذا فمات فلان فدخل داره، فهذا على وجهين إن لم يكن على صاحب الدار دين أصلاً أو كان عليه دين مستغرق فإنه لا يحنث بلا خلاف، لأن الدار تصير ملكاً للوارث بلا خلاف، وإن كان عليه دين مستغرق، قال محمد بن سلمة: يحنث، وقال الفقيه أبو الليث: لا يحنث. قال الصدر الشهيد: والفتوى على قول أبي الليث؛ لأن التركة المستغرقة بالدين إن لم تملكها الورثة لا تبقى على ملك الميت حقيقة، لأن الميت ليس من أهل الملك، لو بقي على ملكه يبقى حكماً فلم يدخل دار فلان مطلقاً فلم يتحقق شرط الحنث.
(5/81)
-----
إذا قال: إن وضعت قدمي في دار فلان فكذا، فوضع إحدى رجليه في داره لا يحنث على ما هو جواب ظاهر الرواية، لأن وضع القدم في هذه الصورة صار مجازاً عن الدخول، فكأنه قال: إن دخلت دار فلان فكذا، وهناك إذا أدخل إحدى رجليه في دار فلان لا يحنث في يمينه كذا ها هنا.
وإذا حلف لا يدخل دار فلانة، فدخل دارها وزوجها ساكن فيها لا يحنث لأن الدار تنسب إلى الساكن، والساكن هو..... في «فتاوى أهل سمرقند».
وفي «المنتقى»: إذا قال: والله لا أدخل دار فلان، فدخل دار فلان،(وفلان) ساكن فيها مع امرأته والدار لها حنث. وكذلك لو قال: والله لا أدخل دار فلانة فدخل عليها وهي في دار زوجها ساكنة معه يحنث. فهذه الرواية تخالف ما ذكر في «فتاوى أهل سمرقند».
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل دار فلان (وفلان) فيها ساكن والدار لامرأته، وذكر فيها تفصيلاً فقال: إن لم تكن لفلان دار تُنسب إليه سوى هذه الدار يحنث؛ لأن الحالف (389ب1) أراد هذه الدار. وإن كان له دار أخرى تنسب إليه لا يحنث، وهذا الجواب بخلاف ما ذكر في «المنتقى»، فإنه ذكر المسألة في «المنتقى» من غير تفصيل، ورأيت في موضع آخر إذا حلف لا يدخل داراً لفلانة فدخل داراً لزوج فلانة وهي ساكنة معه إنه إن لم تكن لفلانة دار أخرى تنسب إليها يحنث، وإلا فلا يحنث، ولم يذكر هذا التفصيل في «المنتقى».
وإذا حلف لا يدخل دار فلان وفلان يسكن مع أبيه في الدار بالعلية. والأب هو الذي استأجر الدار، فقد قيل: إنه لا يحنث، وعلى قياس ما ذكر في «المنتقى» ينبغي أن يحنث بلا تفصيل، وعلى قياس ما ذكر في «فتاوى الفضلي» يجب أن تكون المسألة على التفصيل، إن كان للابن دار أخرى تنسب إليه سوى هذه لا يحنث، وإلا فيحنث.(5/82)
-----
ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار فدخل من غير الباب لم يحنث؛ لأن اليمين انعقدت على دخول موصوف بصفة، ولا يحنث ما لم توجد تلك الصفة، وإن ثقب باباً آخر فدخله حنث، لأن اليمين انعقدت على الباب المنسوب إلى الدار، فيستوي فيه القديم والحديث، ولو عيّن ذلك الباب في اليمين لم يحنث في غيره وهذا ظاهر.m
ولو لم يعينه ولكن نوى ذلك لا يُدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر.
وإذا حلف لا يدخل بيتاً لفلان، ولم يسمّ بيتاً بعينه، ولم ينوه فدخل بيتاً يسكنه فلان بإجارة أو عارية فيحنث في يمينه عند علمائنا رحمهم الله، خلافاً للشافعي.
وإذا حلف لا يركب دابة فلان أو حلف لا يستخدم عبد فلان فركب دابة أو استخدم عبداً هو في يد فلان بإجارة أو عارية لا يحنث في يمينه بلا خلاف. والوجه لعلمائنا أنه عقد يمينه على بيت مضاف إلى فلان إضافة مطلقة فينصرف يمينه إلى الدار المضافة إلى فلان بملك الرقبة وبملك المنفعة جميعاً إذ إضافة العقار بملك المنفعة حقيقة، كما أن إضافته بملك الرقبة حقيقة لأن إضافة العقار بملك المنفعة ثابتة شرعاً وعرفاً.
فأما شرعاً فلما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّممر..... فأعجبه فقال «لمن هذا»؟ فقال رافع * يريد (ابن) خديج * لي استأجرته، فرافع أضاف إلى نفسه ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وأما عرفاً فإن في العُرف يقال: هذا منزل فلان، وإن كان فلان يسكن فيها بإجارة أو عارية، وإذا كان إضافة العقار بملك ثابتة شرعاً وعرفاً كانت حقيقة كالاسم، متى ثبت الشيء عرفاً وشرعاً كان حقيقة كاسم الصلاة فثبت أن هذه الإضافة في العقار فينصرف اليمين إليها ولا كذلك العبد والدابة؛ لأن إضافة العبد والدابة بملك المنفعة ليست بحقيقة بل هي مجاز لأنها غير ثابتة شرعاً وعرفاً.(5/83)
-----
ولو حلف لا يدخل بيتاً لفلان فدخل بيتاً قد آجره من غيره، ذكر بعض مشايخنا في «شرحه» أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر بعضهم أن عن أصحابنا فيه روايتين، في رواية يحنث من غير نيّة، وفي رواية لا يحنث (إلا) بالنيّة. فقيل: ما روي أنه لا يحنث إلا بالنّية قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله، وما روي أنه يحنث من غير نيّة قول محمد، وذكر في «القدوري» روايتان عن محمد رحمه الله، ولم يذكر قول غيره.
ولو كان للمحلوف عليه (دار) يسكنها ودار غلة، فدخل دار الغلة لا يحنث، إذا لم يدل الدليل على دار الغلة؛ لأن داره مطلقاً دار يسكنها.
في «فتاوى أبي الليث»: وإذا حلف الرجل لا يسكن حانوتاً لفلان فسكن حانوتاً قد أجره من غيره، فإن كان المحلوف عليه ممن يسكن حانوتاً لم يحنث بسكنى هذا الحانوت على إحدى الروايتين كما في البيت، وإن كان ممن لا يسكن حانوتاً لما عرف من مقصود الحالف، فإنّ من حلف لا يسكن حانوت الأمير يعلم كل واحد مراده حانوت هو ملك الأمير.
وفي «القدوري»: إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل داراً مشتركاً بينه وبين غيره، فإن كان المحلوف عليه ممن يسكن الدار يحنث، وإن كان لا يسكنها لا يحنث؛ لأنه إذا كان لا يسكنها فالإضافة باعتبار الملك، والملك في الكل غير .....إليه ، وإن كان الدار مشتركاً بين المحلوف عليه وبين غيره، وكل واحد منهما يسكن بيتاً منها على حدة فدخل الحالف صحن الدار أو دهليزاً لا يحنث في يمينه، هكذا قيل.
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا قال لغيره: والله لا أدخل دارك، وللمحلوف عليه دار ملك يسكنها، والحالف لم ينوِ هذه الدار بعينها، ثم إن المحلوف عليه تحول من هذه الدار إلى دار أخرى وسكنها بإجارة أو عارية فدخل الحالف عليه يحنث. وإن كان نية الحالف على دار هي ملك المحلوف عليه وباقي المسألة بحالها لا يحنث.
(5/84)
-----
وفيه عن أبي يوسف إذا قال لغيره: لا أدخل منزلك فهذا على المنزل الذي هو فيه، فإن تحوّل إلى منزل آخر فدخل عليه لم يحنث. وإذا دخل داراً للمحلوف عليه غير الدار التي المحلوف ساكن فيها يوم حلف لم يحنث.
وفيه أيضاً: إذا حلف الرجل لا يدخل منزل فلان، ثم إن الحالف مع المحلوف عليه اكتريا منزلاً فيها أبيات، والحالف في أبيات منها على حدة، والمحلوف عليه في أبيات منها على حدة، والساحة واحدة، فالحالف حانث وكل واحد منهما داخل في منزل صاحبه؛ لأن الساحة بينهما، وهذا بخلاف مسألة الدار المشتركة التي تقدّم ذكرها، وهي ما إذا دخل الحالف صحن الدار المشتركة التي يسكن الحالف في بيت منها، وشريكه في بيت منها؛ لأن هناك عقد اليمين باسم الدار واسم الدار لا ينطلق على بعضه، ها هنا عقد اليمين باسم المنزل والمنزل مشتق من النزول والنزول يأتي في البعض كما يأتي في الكل.
سُئِل الفقيه أبو القاسم عمن حلف (390أ1) وقال: إن أدخلت فلاناً بيتي فهذا على أن يدخل فلان بيته بأمره، وبغير أمره، بعلمه وبغير علمه، ولو قال: إن تركت فلاناً يدخل بيتي فهذا (على) أن يدخل بعلمه، ولا يمنعه.
وسئل أبو نصر عمن قال لامرأته: إن دخل فلان دارك ودخلت دار فلان فأنت طالق، فدخلت دار فلان ولم يدخل فلان دارها، ولم تدخل هي دار فلان، قال: طلقت امرأته لأنه لا يراد بهذا الجمع وإنما يراد به أن لا يفعل ذلك واحد منهما، لأن الغرض هو المنع عن المخالطة بالكلية.
حلف لا يدخل دار امرأته فباعت المرأة الدار من رجل واستأجرها الحالف من المشتري ثم دخلها؛ فإن كان كراهة الدخول لأجل الدار يحنث، لأن اليمين انعقدت على عين الدار، وذكر المرأة للتعريف، وإن (كان) كراهة الدخول لأجل المرأة لا يحنث، لأن اليمين انعقدت لأجل النسبة، وقد انقطعت النسبة، وستأتي هذه المسألة بعد هذا في فصل الحلف ما يقع على الملك القائم وما يقع على الملك الحادث.(5/85)
-----
إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فنسائي طوالق، فدخلت الدار طلقت هي وغيرها، لأن عند الدخول يصير قائلاً نسائي طوالق، وإذا قال: إن وضعت قدمي دار فلان فكذا فدخلها راكباً أو ماشياً بحذاء أو بغير حذاء يحنث في يمينه لأن وضع القدم في عرف الاستعمال صار عبارة عن الدخول مجازاً، وإذا صار عبارة عن الدخول مجازاً، كأَنه قال: والله لا أدخل فهناك بأي طريق دخل يحنث في يمينه، كذا ههنا. وإن نوى حين حلف أن لا يضع قدمه فيها ماشياً صحت نيّته، وإذا دخلها راكباً لا يحنث في يمينه لأنه نوى حقيقة كلامه، ومن نوى حقيقة كلامه يصدق ديانة وقضاءً.
وإذا حلف (لا يدخل) دار فلان، فقام على حائط من حيطانها حنث في يمينه، لأن الحائط من الدار ألا ترى أنه يصير مبيعاً ببيع الدار.
قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: وهذا إذا كان الحائط كله لصاحب (الدار)، فأما إذاكان مشتركاً بينه وبين الجار لا يحنث في يمينه، كما لو دخل داراً مشتركاً قال الفقيه أبو الليث: ما ذكر من الجواب فيما إذا كان الحالف من بلاد العرب، فأما إذا كان من بلاد العجم لا يحنث في يمينه بالقيام على حيطان الدار وعليه الفتوى.
وكذلك لو حلف لا يدخل هذه الدار فقام على سطحها فجواب «الكتاب» أنه يحنث، واختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله فيما إذا كان الحالف من بلاد العجم أنه لا يحنث وعليه الفتوى. ولو قام على إسكفة الباب فإن كان الباب إذا أغلق كانت الإسكفة خارجة منه لم يحنث، وإن كان داخل الباب حنث. وإذا حلف لا يدخل بيت فلان ولا نيّة له فدخل في صحن داره لا يحنث حتى يدخل البيت، لأن شرط الحنث الدخول في البيت، وهو لم يدخل البيت هكذا ذكر في «الأصل». قالوا: وهذا على عرف ديارهم فأما في عرف ديارنا الدار والبيت واحدة، فإذا دخل صحن الدار يحنث وعليه الفتوى.(5/86)
-----
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا حلف الرجل وهو جالس في بيت من المنزل إن دخلت هذا البيت فكذا، فاليمين على دخول البيت حتى لو دخل في صحن الدار وفي صحن المنزل لا يحنث، قال: وهذا إذا كان اليمين بالعربية، فأما إذا كان في يمينه بالفارسية بأن قال: اكرمن به ابن خانة ايدراتم فكذا فاليمين على دخول المنزل، فإن قال: عنيت دخول ذلك البيت صدق ديانة لا قضاءً، لأن اسم خانة بالفارسية لجميع المنزل وكذلك البيت اسم خاص، أما كان بيانه وانا رمستاني وهذا كله إذا لم يشر إلى بيت بعينه، فإن أشار فالحكم كذلك.
وفي «فتاوى أبي الليث»: شجرة أغصانها في دار رجل فحلف رجل أن لا يدخل دار ذلك الرجل فارتقى تلك الشجرة، فإن ارتقى غصناً لو سقط، سقط في الدار يحنث إذا كان الحالف من بلاد العرب، وإن كان من بلاد العجم لا يحنث، بمنزلة ما لو قام على سطح الدار أو على حائط من حيطانها وعليها الفتوى.
إذا حلف لا يدخل في هذه السكة، فدخل داراً في تلك السكة من طريق السطح ولم يخرج إلى السكة، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: هذا إلى عدم الحنث أقرب. وإذا حلف لا يدخل سكة فلان فدخل مسجداً في السكة ولم يدخل السكة ذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث»، وقال: لا يحنث، ولم يذكر فيها الخلاف كما ذكر في المسألة الأولى، وهكذا ذكر المسألة من غير ذكر الخلاف في «فتاوى الفضلي»، وذكرنا في متفرقات كتاب الطلاق أنه إذا كان للدار التي دخل فيها باب في السكة المحلوف عليها إنه يحنث في يمينه.
وذكر في «واقعات الناطقين» مسألة تؤيد ما ذكرنا في متفرقات الطلاق ، وصورة ما ذكر ثمة إذا حلف لا يدخل محلة أردان فدخل داراً لها بابان أحد بابيها مفتوح إلى محلة أردان والباب الآخر مفتوح إلى محلة رود يحنث في يمينه لأن الدار تنسب إلى المجلس جميعاً، ولمسألة السكة تفريعات تنظر في متفرقات الطلاق.(5/87)
-----
إذا حلف لا يدع فلاناً يدخل هذه الدار، فإن كان يملك هذه الدار، فمنعه بالقول والفعل، وإن كان لا يملك فمنعه بالقول لا غير، في الباب الأول من أيمان «الواقعات»، وقد ذكرنا من هذا الجنس في آخر فصل المتفرقات من كتاب الطلاق.
وفي «نوادر (ابن) سماعة» عن محمد إذا حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه طائفة من دار الحصبة فدخل الموضع الذي زيد فيه لا يحنث. ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان وباقي المسألة بحالها فدخل الموضع الذي زيد فيه يحنث، قال: وكذلك في الدار إذا قال: هذه الدار، أو قال: دار فلان، إذا قال: لا يدخل دار فلان إلا خبري سكفني إن نزلت بهم بلية أو قتل أو موت فدخل لا يحنث، لأنه يراد بقوله سكفني هذه الأشياء.
في «النوازل» وفيه أيضاً: إذا حلف لا يدخل رياً أو مدينة ري أو حلف لا يدخل بلخ أو قال مدينة بلخاً أو حلف لا يدخل قرية كذا فهذا على العمران، وكذلك إذا حلف لا يشرب الخمر في هذه القرية، فهو على العمران حتى لو شرب في ضياعها أو في كرومها لا يحنث في يمينه. قال ثمة: وهذا بخلاف ما لو حلف لا يدخل كورة كذا، أو رستاق كذا فدخل في أراضيها حيث يحنث. وقد قيل: بأن الكورة (390ب1) اسم للعمران أيضاً، وهو الأظهر فالبلدة اسم للعمران أيضاً، واختلف المشايخ في بخارى والفتوى في زماننا على أنه اسم العمران. وأما شام اسم للولاية وكذلك اسم خراسان وكذلك الأرمينية حتى لو حلف على واحد من هذه المواضع لا يدخلها فدخل قرية من قراها يحنث، وكذلك فرغانة وسعد وتركستان فهو اسم للولاية.
وفي «القدوري»: لو حلف لا يدخل دار فلان وهي من الدور المشهورة بأربابها مثل دار عمرو بن حريب فدخلها؛ لأن الإضافة إلى الأرباب على طريق النسبة دون الملك، والنسبة قائمة. وفيه أيضاً: لو حلف لا يدخل هذه الحجرة فدخلها بعد ما كسرت لا يحنث، وليست الحجرة كالدار لأن الحجرة اسم لما حجر بالبناء فصار نظير البيت.(5/88)
-----
وفيه أيضاً لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازاً فدخلها وهو لا يريد الجلوس لا يحنث، لأنه دخل على الوصف المستثنى، ولو دخل يعود مريضاً ومن رأيه الجلوس عنده حنث؛ لأنه دخل على غير الوصف المستثنى، وإن دخل لا يريد الجلوس ثم بدا له بعد ما دخل فجلس لم يحنث أيضاً؛ لأن الدخول وجد على الوصف المستثنى وبعد ذلك هو مُكث والمكث ليس من الدخول.
قال: وكذلك لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا عابر سبيل إلا أن ينوي لا يدخلها يريد النزول فيها، لأنه يقال: رجل عابر سبيل إذا لم يستقر. وفي «المنتقى»: من هذا الجنس: إذا حلف لا يدخل السوق إلا مجتازاً، فدخل ومن رأيه أن يشتري شيئاً من غير أن يجلس لم يحنث، وإن بدا له فجلس لا يحنث أيضاً، وإن دخل ومن رأيه الجلوس حنث.
ولو حلف لا يدخل دار فلان فأشرع المحلوف عليه بيتاً من داره واتخذه حانوتاً، وليس له باب في الدار، فدخله الحالف يحنث، لأنه من جملة ما أحاطت به الدار. وعن أبي يوسف فيمن حلف لا يدخل دار فلان فدخل بيتاً من هذه الدار قد أشرع إلى الطريق وليس له باب إلى الدار لا يحنث. ولو حفر تحت تلك الدار شرباً أو قناة فدخلها الحالف لم يحنث، إلا أن يكون من هذه القناة مكان مكشوف إلى الدار يستقي منه أهل الدار، فإذا بلغ ذلك المكان المكشوف حنث، وإن لم يبلغ ذلك المكان المكشوف لا يحنث. ولو كان المكشوف شيئاً قليلاً لا ينتفع به أهل الدار وإنما هو للضوء، فبلغ الحالف ذلك الموضع لا يحنث. لأن القناة تحت الدار إذا لم يكن لها منفذ لا تعد من الدار، وإن كان لها منفذ تعد من مرافق الدار بمنزلة بئر الماء، ومتى كان للضوء فليس ذلك من مرافق الدار فلا يعد داخله داخلاً في الدار.(5/89)
-----
وفي «القدوري»: إذا قال: عبده حر إن دخل هذه الدار إلا أن ينسى فدخلها ناسياً ثم دخلها ذاكراً لا يحنث في يمينه، لأن كلمة إلا كلمة عامة ككلمة حتى فينتهي اليمين بالدخول ناسياً فإذا دخلها بعد ذلك دخلها واليمين منتهية.
ولو قال: عبده حر إن دخل هذه الدار إلا ناسياً، فدخلها ناسياً ثم دخلها ذاكراً يحنث، لأن اليمين مطلق لا غاية لها والمستثنى منها دخول بصفة النسيان، فالدخول متعمداً يكون مستثنىً منه.
إذا حلف لا يدخل دار فلان فعمد فلان إلى بيت فسدّ بابه من قبل داره وجعله إلى دار الحالف فدخله الحالف لا يحنث في يمينه، لأنه صار منسوباً إلى الأخرى.
ومن هذا الجنس: إذا حلف لا يدخل هذه الدار فاشترى صاحب الدار بيتاً إلى جنبها وفتح باب البيت إلى هذه الدار، وجعل طريقه فيها وسدّ باب البيت الذي كان في الدار الأخرى، فدخل الحالف هذا البيت من غير أن يدخل الدار التي حلف عليها حنث في يمينه، لأنه لما أضاف البيت إلى الدار صار من جملة الدار. ذكر المسألة في «المنتقى» وقد ذكر رواية ابن سماعة قبل هذا عن محمد في مسألة الزيادة في الدار إنه لا يحنث.
وفي «القدوري»: الشرب إذا كان بابه في دار ومحتفره في دار أخرى، فهو من الدار التي مدخله إليها لأنها بيت من بيوتها.
(5/90)
-----
إذا حلف لا يدخل بغداد، فمن أي جانب دخلها يحنث، ولو حلف لا يدخل مدينة السلام ذكر في «المنتقى» أن مدينة السلام هي مدينة أبي جعفر خاصة، وهي التي من ناحية الكوفة، والواقعة عن الرفع، فما لم يدخل من ناحية الكوفة لا يحنث، بخلاف ما إذا حلف لا يدخل بغداد؛ لأن اسم بغداد يتناول الجانبين. ولو حلف لا يدخل بغداد فانحدر من موضع في السفينة ومر بالدجلة لم يحنث في قول أبي يوسف وقال محمد يحنث. قال الصدر الشهيد: الفتوى على قول أبي يوسف لأن دجلة وإن كانت من بغداد حتى إن البغدادي إذا جاء من موصل حتى دخل بغداد في السفينة يتم الصلاة إلا أن في باب اليمين يراد ببغداد الحد عرفاً.
وإذا حلف لا يدخل الفرات فدخل سفينة في الفرات أو جسراً لا يحنث، حتى يدخل الماء لأن بدون الدخول في الماء؛ لا يسمى داخلاً في الفرات.
إذا حلف لا يدخل دار فلان فاستعار المحلوف عليه داراً لاتخاذ الوليمة فيها فدخلها الحالف لا يحنث، إلا أن ينتقل المُعير من تلك الدار ويسلمها إلى المستعير والمستعير ينقل متاعه إليها فإذا دخلها الحالف حينئذ يحنث في يمينه هكذا ذكر في «فتاوى النسفي».
وإذا قال: والله لا أدخل دار فلان فدخل بستان فلان، ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه إذا كان البستان من الدار يحنث، وإن لم يكن من الدار لا يحنث، وأمارة كون البستان من الدار أن يكون بحال إذا ذكرت الدار عرفت ببستانها، ومعناه أن يفهم البستان بذكر الدار، وإذا خرجت المرأة إلى البستان فالزوج لا يكره ذلك فإن وُجد هاتان العلامتان كان البستان من الدار.(5/91)
-----
وفي «نوادر هشام»: قال: سألت أبا يوسف عن رجل حلف بطلاق أو غيره أن لا يدخل دار فلان، فدخل بستاناً في تلك الدار قال لا يحنث، قلت: فإن باع الدار ولم يسمّ البستان قال: البستان منها وإن لم يسم، قلت: فإن كان للبستان بابان أحدهما داخل الدار والآخر خارج، قال: هو منها، قال هشام: وقد سمعت أبا يوسف يقول: البستان ليس من الدار إلا أن يسميه (391أ1) أو يكون وسط الدار.
قال هشام: وسألت محمداً عن رجل حلف لا يدخل هذه الدار فدخل بستانها، وباب البستان إلى بيوت في هذه الدار وليس للبستان طريق غيره وعلى الدار والبستان حائط واحد محيط بهما فدخل البستان، قال: يحنث، وكذلك إن كان البستان أصغر من الدار أو أكبر منها، ولو كان البستان وسط الدار ومعناه أن تكون الدار محدقة بالبستان يحنث.
وفي «القدوري»: إذا دخل بستاناً في تلك الدار فإن كان متصلاً بها لا يحنث وإن كان في وسطها حنث، وسيأتي من هذا الجنس في نوع الخروج.
وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا حلف لا يدخل الحمام إز نهر شيش فدخل الحمام لا لهذا بل ليسلم على الحمامي ثم غسل رأسه لم يحنث، لأنه لم يدخل لهذا. إذا قال لأخ امرأته: إن لم تدخل بيتي كما كنت تدخل فامرأتي طالق، فإن كان بينهما كلام يدل على الفور، فهو على الفور وإلا فهو على الأبد ويقع اليمين على الدخول المعتاد قبل اليمين حتى لو امتنع الأخ مرّة مما كان معتاداً يحنث، لأن اليمين مطلقة فينصرف إلى الأبد.
وإذا حلف لا يدخل هذا الخباء، فالعبرة للعيدان أو اللبد فقد قيل: العبرة للعيدان وقيل العبرة للبد، فعلى القول الأول إذا استبدل اللبد والعيدان على حاله فدخله يحنث، ولو كان على العكس لا يحنث، وعلى القول الثاني إذا استبدل اللبد والعيدان على حاله لا يحنث، ولو كان على العكس يحنث والأول أصح.(5/92)
-----
وفي «فتاوى الصغرى»: إذا قال لامرأته: ادخلي الدار فأنت طالق، فهذا وقوله: إذا دخلت الدار فأنت طالق سواء. رجل قال لامرأته: اكربوكرد بترامن أستانه فلان كردي فأنت طالق، وقال: عنيت به الدخول وهي تحوم حومهما، ولا تدخل طلقت المرأة؛ لأن اللفظ حقيقة لهذا لا للدخول.
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف إذا حلف لا يدخل هذه الدار اليوم وغداً، أو قال: لا أدخلها اليوم ولا غداً فهو كما قال، ولا يدخل الليلة التي بين اليومين. وفيه أيضاً: إذا حلف لا يدخل دار فلان وهما في سفر فهذا على الفسطاط والقبة والخيمة وكل منزل ينزلانه، فإن عنى به واحداً من هذه الثلاثة يُدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء.
وفيه أيضاً: العلو إذا لم يكن طريقه في سفله. وإنما كان في دار أخرى بجنب بسفله فهو من الدار التي طريقه فيها.
وإذا حلف لا يدخل على فلان فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرحه»: أن الدخول على فلان متى أُطلق يراد به في العرف الدخول على فلان لأجل الزيارة والتعظيم له في مكان يزار فيه يعني مكان يجلس فيه لدخول الزائرين عليه، وإلى هذا أشار القدوري في «كتابه» فإنه قال: لو دخل عليه في مسجد أو ظلة أو دهليز لم يحنث، وكذلك لو دخل عليه في فسطاط أو خيمة إلا أن يكون من أهل البادية، والمعتبر في ذلك العادة، فأما في عرفنا إذا دخل عليه في مسجد يحنث في يمينه؛ لأنه جرّت العادة في ديارنا بالجلوس في المساجد لدخول الزائرين. ولو دخل ولم يعضده بالدخول أو لم يعلم أنه فيه لم يحنث، لأن شرط حنثه الدخول على وجه الزيارة والتعظيم، والدخول على هذا الوجه لا يتحقق على ما لم يقصد بالدخول مما هو شرط الحنث لا يتحقق فلا يحنث في يمينه.
وفي «القدوري»: إذا دخل على قوم وهو فيهم ولم يقصده لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى، إلا أنه لا يصدق في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر لأن الظاهر دخوله على الجملة.
-----
وفيه أيضاً: الدخول عليه أن يقصده بالدخول سواء كان بيته أو بيت غيره.
ولو حلف لا يدخل على فلان في هذه الدار فدخل الدار وفلان في بيت منها لا يحنث، وإن كان في صحن الدار حنث، لأنه لا يكون داخلاً عليه إلا إذا شاهده، وكذلك إذا حلف لا يدخل على فلان في هذه القرية لم يحنث، إلا إذا دخل بيته، وهذا لأن تخصيص القرية لنفي اليمين عن غير القرية، وكثير من مسائل الدخول قد مرّ في كتاب الطلاق.(5/93)
كتاب الاستحسان والكراهية
هذا الكتاب يشتمل على اثنين وثلاثين فصلاً:
1 * في العمل بخبر الواحد
2 * في العمل بغالب الرأي
3 * في الرجل رأى رجلاً يقتل أباه، وما يتصل به
4 * في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء
5 * في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن، نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى
6 * في سجدة الشكر
7 * في المسابقة
8 * في السلام، وتشميت العاطس
9 * فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل
10 * في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره
11 * في استعمال الذهب والفضة
12 * في الكراهية في الأكل
13 * في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه
14 * في الكسب
15 * في نقل الميت
16 * في معاملة أهل الذمة
17 * في الهدايا والضيافات
18 * في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف
19 * في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد
20 * في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها.
21 * في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة
22 * في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه.
23 * فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات، وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك.
24 * في تسمية الأولاد وكناهم
25 * في الغيبة والحسد
-----
26 * في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج
27 * في البيع، والاستيام على سوم الغير
28 * في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهما من الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة
29 * في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره
30 * في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يد غيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك.
31 * في الانتفاع بالأشياء المشتركة
32 * في المتفرقات(5/94)
الفصل الأول في العمل بخبر الواحد
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في الإخبار عن أمر ديني؛ نحو الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته، والإخبار عن حرمة المحل وإباحته وما يتصل بذلك، قال محمد رحمه الله: وإذا حضر المسافر الصلاة، فلم يجد ماءً إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر، وهو عنده مسلم مرضي؛ لم يتوضأ به؛ لأنه أخبر بأمرٍ من أمور الدين، وهو حرمة استعمال الماء، ووجوب التيمم عليه.
وخبر الواحد حجة في أمور الدين إذا كان المخبر مسلماً عدلاً بالآثار والمعقول، أما الآثار فمن جملة ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وعبد الله بن أنيس إلى كسرى، ومع كل واحد منهما كتاب، (لو) لم يكن خبر الواحد حجة لما اكتفى ببعث الواحد، وعن عمر رضي الله عنه أنه حين ورد ماء الحياض قال عمرو بن عاص: ارحل مراد .... أخبرنا عن السباع أترد ماءكم، فقال عمر رضي الله عنه: لا تخبرنا عن شيء منهما ....؛ لولا أن هذا ... عده خبره خبراً وإلا ما نهاه عن ذلك.
وأما المعقول: وهو أنا لو لم نعمل بالخبر الواحد .... أمور الدين الأخرى الكذب احتجنا إلى أن نعمل باستصحاب الحال متى أخبر بنجاسته، أو بهلال رمضان، أو بالقياس متى روي خبر في أحكام تخالف القياس.(5/95)
-----
والعمل بالخبر الواحد إذا كان مسلماً عدلاً؛ أولى من العمل باستصحاب الحال والقياس، أما استصحاب الحال؛ فلأنه عمل بعدم الدليل، وخبر المسلم العدل حجة من حيث إن الصدق فيه رآه إن لم يكن حجة، من حيث إن احتمال الكذب باق، وأما القياس فلأن ما يدل على الخطأ منه في القياس راجح على ما يدل على الصواب؛ لأنه من الجائز أن يكون الحكم في الأصل معلولاً بعلة أخرى غير ما علله المعلل، ومن الجائز أن يكون مصيباً فيما علل، إلا أنه ورد النص بخلافه لكن لم يبلغه، فكان ذلك الخطأ راجحاً على دليل الصواب، وما يدل على الصدق في الخبر الواحد المسلم العدل راجح على ما يدل على الكذب؛ لأن دليل الكذب ثابت من وجه واحد، وهو أنه غير معصوم عن الكذب، ودليل الصدق ثابت من وجهين؛ أحدهما: عقله ودينه، والثاني: عدالته، فكان العمل بخبر الواحد أولى، وكذلك إذا كان المخبر عبداً أو أمة، أو امرأة حرة؛ لأن العمل بخبر الواحد إذا كان مسلماً عدلاً؛ إنما وجب لترجيح دليل الصدق على دليل الكذب؛ باعتبار عقله ودينه وعدالته، وهذا المعنى موجود في حق العبد والأمة والمرأة الحرة إذا كانوا عدولاً مسلمين، والدليل عليه أن كثيراً من العبيد رووا أخباراً عن النبي عليه السلام؛ كبلال وغيره رضي الله عنه، وكذلك أزواج النبي عليه السلام روين أخباراً عن النبي عليه السلام؛ حتى عدّت عائشة رضي الله عنها من كبار الصحابة رأياً ورواية، وإذا ثبت هذا في رواية الأخبار من النبي عليه السلام ثبت فيما يخبر من أمور الدين؛ هذا إذا كان المخبر عدلاً.
(5/96)
-----
وإن كان المخبر غير ثقة، أو كان لا يدرى أنه ثقة أو غير ثقة، يريد أن المخبر إذا كان فاسقاً أو مستوراً نظر فيه؛ لأنه استوى دليل الصدق والكذب في حقه؛ لأن عقله ودينه إن كانا يدلان على الصدق ففسقه وكونه غير معصوم عن الكذب يدلان على الكذب، فلابد من الترجيح، وليس ههنا دليل على الترجيح سوى التحري، وأكثر الرأي، فإن كان أكثر رأيه أنه صادق تيمم، ولم يتوضأ بترجيح جانب الصدق على جانب الكذب بالتحري، وإن أراقه ثم تيمم بعد ذلك كان أحوط، ولم يذكر مثل هذا في الخبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأن هناك رجحان الصدق بالعدالة ثابت بدليل لا بمجرد الظن؛ لأن العدالة عبارة عن انزجاره عن المعاصي، وإنه دليل ظاهر في نفسه، فسقط اعتبار جري الكذب أصلاً، وأما ههنا رجحان الصدق بالتحري ثابت بمجرد الظن، فبقي شبهة اعتبار جري الكذب، فكان إراقة الماء حتى يصير عارٍ عن الماء الطاهر من كل وجه أحوط، وإن كان أكثر رأيه أنه كاذب توضأ به، ولم يلتفت إلى قوله، وأجزأه ذلك، ولا يتيمم عليه؛ (لأنه) أرجح جهة الكذب بالتحري، فلم تثبت نجاسته، فبقي الماء على الطهارة؛ هذا هو جواب الحكم.
فأما في .... والاحتياط: فالأفضل له أن يتيمم بعد الوضوء؛ لأن جانب الكذب إنما ترجح بمجرد الظن، فلم يسقط اعتبار جري الصدق فلا يجب الجمع بينهما بالأخرى؛ لكن يندب إلى ذلك؛ كإراقة الماء في الفصل الأول؛ لا يجب جبراً بل يندب إليه.
ثم إن محمداً رحمه الله ألحق المستور بالفاسق، وهذا جواب ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما: أن المستور في هذا الحكم كالعدل، وهذا ظاهر على مذهبه، فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم، وسيأتي هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وهذا إذا كان المخبر مسلماً.(5/97)
-----
فإن كان المخبر بنجاسة الماء ذمياً لا تثبت نجاسة الماء بقوله؛ لأن المخبر لو كان مسلماً فاسقاً لا يثبت نجاسة الماء؛ لأنه فاسق فعلاً، فلأن لا تثبت النجاسة بقول الذمي، وإنه فاسق فعلاً واعتقاداً كان أولى.
فرق بين الذمي وبين الفاسق من وجهين:
أحدهما: أن الفاسق أوجب التحري، وفي الذمي لا يوجب التحري، والفرق أن الفاسق استوى دليل الصدق، ودليل الكذب، فوجب الترجيح بالتحري، وفي حق الذمي ترجح جانب الكذب من غير تحر؛ لأن عقله ودينه الذي هو دليل الصدق في حق المسلم يحمله على الكذب في حق المسلم؛ لأنه يعتقده على دين باطل فيقصد الإضرار به بكل ما أمكنه، وإليه وقعت الإشارة، في قوله تعالى: {لا يألونكم خبالاً} (آل عمران:18) أي: إنما يقصدون في إفساد أموركم، فإذا ترجح جانب الكذب في حقه بدون التحري؛ لا يجب التحري؛ لأن التحري إنما يجب لترجيح أحد الدليلين على الآخر، ولكن يستحب التحري؛ لأن احتمال الصدق باق؛ لأن ترجح جانب الكذب في حق الذمي ما كان بدليل يوجب علم اليقين، فيبقى (77أ2) احتمال الصدق، فلبقاء احتمال الصدق يستحب له التحري، ولترجيح جهة الكذب بنوع دليل لم يجب التحري، فإن تحرى ووقع في قلبه أنه صادق فيما يخبر لا يجب عليه التيمم؛ لأن هذا التحري يستحب وليس بواجب، فالعمل به يكون مستحباً لا واجباً، فإن تيمم لا يجزئه ما لم يرق الماء أولاً، بخلاف ما لو أخبره فاسق وتحرى، ووقع تحريه أنه صادق فيما أخبر من نجاسة الماء، فتيمم قبل إراقة الماء، فإنه يجزئه، وهو الفرق الثاني.
(5/98)
-----
والوجه في ذلك: أن هذا التحري إذا كان مستحباً لا واجباً ثبتت النجاسة بهذا التحري في الاستحباب دون الحكم، فإذا لم تثبت النجاسة في حق الحكم كان الثابت في حق الحكم الطهارة، فإذا تيمم قبل الإراقة، فقد تيمم مع وجود الماء الطاهر في حق الحكم فلا يجوز، أما في حق الفاسق التحري واجب، فثبتت النجاسة بالتحري من حيث الحكم، فيصير الماء نجساً من حيث الحكم، ولكن احتمال الطهارة من وجه؛ لأن الصدق ترجح بمجرد الظن لا بدليل، فتستحب الإراقة ولا تجب.
والذي ذكرنا من الجواب في الذمي: إذا أخبر بنجاسة الماء؛ فهو الجواب في الصبي العاقل والمعتوه؛ لأن دليل الكذب فيها راجح على دليل الصدق؛ لأن الصبي ناقص العقل، والمعتوه كذلك، فيكون عقله دليلاً على الصدق من وجه دون وجه، ودينه كذلك؛ لأن الدين إنما يصير مانعاً بالعقل، وإذا كان عقلهما ودينهما دليلاً على الصدق من وجه دون وجه؛ كان دليلا الصدق والكذب في حقهما على السواء، وترجح جانب الكذب لكونه غير معصوم عن الكذب، فصار الجواب في حقهما كالجواب في حق الذمي من هذا الوجه.
رجل اشترى لحماً فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة المجوسي، لم ينبغ له أن يأكله؛ لأن المشهود به حرمة التناول، وإنه حق الله تعالى، وإثباتها لا يتضمن زوال الملك، فإن حرمة الانتفاع مع قيام الملك يجتمعان في الجملة، والمشهود به إذا كان بهذه الصفة يثبت بقول الواحد، فرق بين هذه المسألة وبين مسألتين:
إحداهما: رجل تزوج امرأة، فجاء مسلم ثقة أو امرأة، وأخبر أنهما ارتضعا من امرأة واحدة، فأحبُّ إليَّ أن يتنزه عنها فيطلقها، ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وإن لم يفعل فذلك له واسع.
المسألة الثانية: رجل اشترى جارية، فأخبره مسلم ثقة أنها حرة الأصل، أو أنها أخت المشتري من الرضاعة، فإنه يتنزه عن وطئها، فذلك له أفضل، وإن لم يفعل، فذلك له واسع.(5/99)
-----
والفرق: أن في أبضاع الحرائر؛ لا يمكن إثبات الحرمة في المحل على سبيل التأبيد إلا بزوال الملك، والملك من حقوق العبد، فلا يثبت زواله إلا بما هو حجة في حق العباد، وهي شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فأما فيما عدا أبضاع الحرائر يمكن إثبات حرمة الانتفاع مع قيام الملك في الجملة، فلم يكن ثبوت الحرمة متضمناً زوال الملك، فكان هذا إخباراً عن محض الحرمة، وإنها حق الله تعالى، فجاز أن يثبت بخبر الواحد.
قال في مسألة اللحم: ولا يرده على البائع؛ لأن في الرد على البائع إزالة ملك البائع عن الثمن؛ لأنه استوجب الثمن بالعقد قبل هذا الخبر، وقول الواحد ليس بحجة في إبطال ملك الغير.
فإن لم يبعه هذا الرجل، ولكن أذن له في التناول، وأخبره ثقة مسلم أنه ذبيحة مجوسي لم يحل أكله لما قلنا، فإن اشترى بعد ذلك كان على الحالة التي كان عليها قبل الشراء؛ لأن حرمة العين في حقه ثبتت بالخبر الواحد، والبيع لا أثر له في إزالة الحرمة الثابتة في العين، والميراث والوصية والهبة بمنزلة الشراء في الأكل والشرب والوطء وغير ذلك.
قال: ولو أن رجلاً اشترى طعاماً أو جارية أو ملك ذلك بميراث فجاء مسلم ثقة، وشهد أن هذا لفلان الفلاني؛ غصبه البائع أو الواهب أو الميت، فأحب إلينا أن يتنزه عن أكله ووطئها، وإن لم يتنزه كان في سعة.(5/100)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا اشترى لحماً، فأخبره مسلم أنه ذبيحة المجوسي، فإنه يحرم أكلها، وكذلك لو أخبره مسلم ثقة أن هذا الماء نجس، فإنه يحرم استعماله، والفرق: أن في ذبيحة المجوسي، ونجاسة الماء المشهود به حرمة العين، وإنه من حق الله تعالى؛ لأن حق العبد حق لا يزول بإباحة العين، وقد أمكن إثباتها بدون إزالة الملك لما ذكرنا أنه قد يحرم الانتفاع بالعين مع بقاء الملك، فإن العصير إذا تخمر، والدهن إذا وقعت فيه النجاسة يحرم الانتفاع، ولا يزول العصير والدهن عن ملكه، ولما كان هكذا كان المشهود به حرمته هي خالص حق الله تعالى فجاز أن يثبت بالخبر الواحد، أما ههنا المشهود به حرمة ثبتت حقاً للمالك؛ لأن المشهود به كون ما في يد البائع مغصوباً، وشراء المغصوب حرام حقاً للمالك، وكان المشهود به حقاً من حقوق العباد، وشهادة الواحد في حقوق العباد اعتبر حجة في حق التنزه؛ لا في حق الحكم كما في مسألة الرضاع التي ذكرناها.
وكذلك طعام أو شراب في يدي رجل أذن لغيره في أكله أو شربه أو التوضؤ به، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، فأحب إلي أن يتنزه، فإن لم يتنزه وأكله أو شربه أو توضأ به، فهو في سعة من ذلك، وإن لم يجد وضوءاً غيره، وهو في سفر توضأ به، ولم يتيمم.
نوع آخر في تعارض الخبرين في نجاسة الماء وطهارته، أو في حرمة العين وإباحته
رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاماً، ويشربون شراباً، فدعوه إليه، فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه: هذا اللحم ذبيحة المجوسي، أو قال: خالط لحم خنزير، وهذا الشراب خالط الخمر، وقال الذين يدعون إلى ذلك: ليس الأمر كما قال؛ بل هو حلال، وبينوا الوجه فيه قال: ينظر في حالهم، فإن كانوا عدولاً ثقات لم يلتفت إلى قول ذلك الرجل الواحد بمقابلة قولهم.(5/101)
-----
فرق بين الخبر وبين الشهادة، فإن المدعيين لعين واحد إذا أقام أحدهما شاهدين، وأقام الآخر جماعة، فإنه لا يترجح الجماعة على المثنى إذا استووا في العدالة، والفرق وهو أن الشهادة إن كانت إخباراً حقيقة فهي من الشاهد لو رجع يضمن، وبدليل أنه شرط لفظة الشهادة والعدد، وإنما شرط ذلك؛ لأنه لما جعل هذا إيجاباً حكماً كان هذا أمراً ثابتاً بخلاف الحقيقة، فوجب مراعاة جميع ما ورد الشرع من الشرائط، قلنا: وما يكون إيجاباً وإثباتاً حقيقة يستوي فيه المثنى والجماعة (77ب2) فأما الإخبار بنجاسة الماء وطهارته، والإخبار عن الحل والحرمة؛ إخبار عن حقيقة ذلك، ولهذا لم يشترط لفظ الشهادة والعدد، والخبر إنما يترجح بزيادة عدد في المخبر؛ لأنهما كرجل في حد العيان، أو يقرب منه.
وإن كانوا متهمين، أخذ بقوله ولم يسعه أن يقرب شيئاً من ذلك الطعام والشراب، ولا تقوم زيادة العدد مقام العدالة.
فإن قيل: أليس أن الفاسقين إذا شهدا أن فلاناً طلق امرأته واحدة بائنة، أو أعتق أمته، فإن القاضي يحول بين المشهود عليه، وبين المرأة والعبد؛ كما لو شهد بذلك واحد عدل، وأقيم زيادة العدد مقام العدالة، قلنا: في هذه المسألة روايتان فعلى إحدى الروايتين لا يحال، ولا يقام زيادة العدد مقام العدالة، فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق، والفرق أن في تلك المسألة ليس لمعارضة قول الفاسقين قول عدل بخلافه فجاز أن يقام العدد مقام العدالة.(5/102)
-----
قال: ويستوي أن يكون المخبر مسلماً أو مسلمة، حراً أو عبداً، ذكراً أو أنثى بعد أن يكون عدلاً ثقة؛ لأن هذا من أمور الدين، فإن كان في القوم رجلان ثقتان أخذ بقولهما؛ لأن الخبر يترجح بزيادة العدد على ما مر، وإن كان فيهم واحد ثقة عمل فيه على أكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا في الحجة، فلابد من الترجيح، وذلك بالتحري، فإن لم يكن له فيه رأي، واستوى الحالان عنده، فلا بأس بأكل ذلك وشربه، وكذلك الوضوء منه في جميع ذلك، يريد به إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وجماعة بطهارته، وفيهم واحد ثقة، فإنه يتحرى، وإن لم يقع تحريه على شيء فلا بأس بالتوضؤ به.
فرق بين هذا وبينما إذا عدّل الشاهد واحد وجرحه واحد، فإنه يؤخذ بقول الجارح، ولايبقى ما كان على ما كان.
والفرق: أن الجارح فيما جرح اعتمد العيان بارتكاب المحظور، وارتكاب المحظور مما يعاين، فأما المعدل اعتبر استصحاب الحال؛ لأنه نفى أسباب الحرج ما لم يعلم حقيقة، فكان خبر من اعتمد الدليل أولى، وأما ههنا كل واحد منهما فيما أخبر اعتمد دليلاً؛ لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة بالدليل في الجملة، وكذلك حل الطعام وحرمته، فإذا وقع التعارض والاستواء، وأحدهما كاذب بيقين، والآخر صادق؛ تساقط الخبران، ووجب التمسك بالأصل.(5/103)
-----
فإن قيل: وجب أن يترجح قول من يخبر بالنجاسة والحرمة كما في رواية الإخبار؛ قلنا: في رواية الإخبار إنما يؤخذ برواية الحرمة؛ لأنه لما جعل التاريخ جعل كأن الخبرين كانا، وصار أحدهما ناسخاً للآخر، وإنه ممكن أو يجوز أن يكون الشيء حلالاً، ثم يصير حراماً، وكذا يجوز أن يكون حراماً، ثم يصير حلالاً، إلا إن جعل الخبر المحرم ناسخاً أولى لما فيه من تعليل النسخ؛ لأنه ينسخ به الإباحة الثانية بالخبر المبيح لا غير، ولو جعل الخبر المبيح ناسخاً بنسخ الحرمة الثانية بالخبر المحرم بعد انتساخ الإباحة الأصلية بالخبر المحرم، وكان جعل الخبر المحرم ناسخاً، وفيه تعليل الفسخ أولى؛ أما ههنا لا يمكننا أن نجعل كلا الأمرين كأنهما كانا، فإنه متى ذبح هذه الشاة مجوسي، أو وقع في الماء نجاسة لا يتصور أن يكون الماء طاهراً، وتكون ذبيحة مسلم، فكان الثابت أحدهما، ولا يدرى ذلك لمكان التعارض فتساقطا.
فإن كان الذي أخبره بالحل مملوكين ثقتين، والذي أخبره بالحرمة حر واحد، فلا بأس بأكله؛ لأن في الخبر الديني الحر والمملوك سواء، ولا يقع التعارض بين الواحد وبين الاثنين في الصدق على ما بينا.
وإن كان الذي أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة، والذي أخبره بالأمر الآخر ثقة؛ عمل بأكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا، فلابد من التحري لإمكان العمل، فإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان، وبأمر أخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين؛ لأن الخبرين استويا في دليل الصدق، فلابد من الترجيح لإمكان العمل، وطريقه إما التحري أو حرية المخبرين، فحرية المخبرين صالحة للترجيح، والترجيح بها أولى؛ لأن خبر الحرين حجة في الأحكام، وخبر المملوكين ليس بحجة في حق الأحكام، والترجيح بما هو حجة في حق الأحكام ترجيح بما هو دليل، والترجيح بالتحري ترجيح بمجرد الظن، ولا شك أن الترجيح بما هو دليل أولى من الترجيح بمجرد الظن.
(5/104)
-----
وهذا بخلاف ما إذا كان من أحد الجانبين حران، ومن الجانب الآخر ثلاثة أعبد، فإنه يؤخذ بقول العبيد، والفرق وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الترجيح أولاً يطلب من حيث العدد؛ لأنه بالعدد يدخل في حد العيان، أو يقرب منه، وبكونه حجة في حق الأحكام لا يدخل في حد العيان ولا يقرب منه، فكان الترجيح حجة في الأحكام بزيادة العدد أولى، وبعد الاستواء في العدد يطلب الترجيح بكونه حجة في الأحكام لا بالتحري؛ لأنه صار حجة في حق الأحكام بالشرع؛ لا بمجرد الظن، وبعد الاستواء في الحجة في الأحكام يطلب الترجيح بالتحري، فعلى هذا إذا كان المخبر من أحد الجانبين حرين عدلين، ومن الجانب الآخر أربعة، يترجح خبر الأربعة، وكذلك إذا أخبر بأحد الأمرين رجلان، وبالآخر رجل وامرأتان يؤخذ بخبر رجل وامرأتين لما فيه من زيادة العدد، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
وإذا كان في يدي رجل طعام أو شراب أذن لغيره في أكله أو شربه، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، والذي في يديه يكذبه، ويقول: إنه ملكي، وصاحب اليد متهم غير ثقة، فأحب إلي أن يتنزه، وإن أكله أو شربه أو توضأ به فلا بأس؛ لأن قول الفاسق بمقابلة قول العدل غير معتبر، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولو عدم قوله كان قول الواحد حجة في حق التنزه دون الحكم، وكذا ههنا.(5/105)
-----
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ما إذا كان صاحب اليد ثقة عدلاً، وقد أخبر أنه ملكه لم يغصبه من أحد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا يتنزه؛ لأن الخبرين تساقطا بحكم التعارض، فبقيت الإباحة الأصلية بخلاف ما إذا كان فاسقاً، وغيره من المشايخ قال: يتنزه وهو الصحيح؛ لأن صاحب اليد بخبره يشهد لنفسه؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بقول الواحد، فيمتنع الناس عن شرائه تارة فهو كقوله: أي مالك يرغب الناس في الشراء، فكان في معنى الشاهد لنفسه، فلا يعارض خبر ذي اليد خبر المخبر عن الغصب، فبقي الغصب في حق التنزه (78أ2) ثابتاً كما كان.m
ويقع الفرق على قول هؤلاء المشايخ بين هذه المسألة، وبين مسألة ذكرناها قبل هذا أن جماعة يأكلون الطعام ويشربون الشراب، فدخل عليهم مسلم، فدعوه إلى الأكل، فقال له عدل: إنه ذبيحة مجوسي، وقال واحد عدل من الآكلين: إنه حلال، فإنه يتحرى، فإن لم يقع تحريه على شيء لا بأس بأكله، ولم يذكر التنزه.
والفرق: أن هناك صاحب اليد بقوله: هذا مباح فكله؛ ليس يجر إلى نفسه منفعة، ولا يدفع عن نفسه مضرة، فكان خبر الخارج وخبر ذي اليد في حق السامع على السواء؛ أما ههنا صاحب اليد بخبره يدفع عن نفسه مضرة؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بخبر العدل الخارج، وذلك يضر بصاحب اليد؛ لأن السامع يتنزه عن شرائه على ما ذكرها.
فعلى هذا إذا أراد أن يشتري لحماً، فقال له خارج عدل: لا تشتره، فإنه ذبيحة مجوسي، وقال القصاب: اشتره فإنه ذبيحة مسلم، والقصاب عدل، فإنه تزول الكراهة بقول القصاب على قول الفقيه أبي جعفر، وعلى قول غيره من المشايخ لا تزول.
نوع آخر في العمل بخبر الواحد في المعاملات(5/106)
-----
يجب أن يعلم بأن قول الواحد العدل حجة في المعاملات استحساناً، والقياس: أن لا يكون حجة؛ لأن المعاملة من حقوق العباد؛ لأنها شرعت لمصالحهم، وما يكون من حقوق العباد لا يثبت بقول الواحد كإثبات الملك وإزالته وغير ذلك، لكن استحسنا ذلك بالآثار وبنوع من الضرورة.
أما الآثار: فمنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكّلَ عروة في شراء الأضحية فجاء عروة، وأخبر بالشراء، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، ولم يكلفه إقامة البينة على ما أخبر، وروي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رطباً، فقال عليه السلام: «أصدقة أم هدية»؟ فقال سلمان: لا بل هدية، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، فقد صدق رسول الله عليه السلام سلمان فيما قال: هدية، حتى لم يحلفه عليه، وروي أن بريدة كان يتصدق عليها، وكانت تهدي ذلك إلى رسول الله عليه السلام؛ كان يصدقها فيما تقول وكان يقول: «هي لها صدقة ولنا هدية»، وكان لا يكلفها إقامة البينة.(5/107)
-----
وأما الضرورة: وهو أن المعاملة لابد للناس منها، ويكثر وقوعها فيما بين الناس، ويتكرر في كل يوم مرة بعد أخرى، فلو أمر المخبر في كل معاملة يباشرها بإقامة البينة لضاق الأمر على الناس، واحتاج كل بائع أن يستصحب مع نفسه شاهدين عدلين أناء الليل والنهار حتى يشهدا أن المبيع ملك البائع، أو أن صاحب العين وكله ببيع هذا العين، وهذا مما لا يمكن أو فيه حرج، وما لا يدخل في إمكاننا، أو فيه حرج فهو موضوع، فلهذه الضرورة صار خبر الواحد حجة في المعاملات، إلا أنه يشترط أن يكون المخبر عدلاً؛ لأنه متى كان فاسقاً يتعارض في خبره دليل الصدق ودليل الكذب، فيقع الشك في زوال ما كان ثابتاً، والثابت لا يزول بالشك، ويجب أن لا ينازع فيما قال؛ لأنه متى نوزع يندفع خبره بخبر المنازع، فيبقى ما كان على ما كان، وإذا ثبت أن خبر الواحد العدل حجة في المعاملات إذا لم ينازع في خبره كالثابت معاينة، ولو ثبت ما أخبره معاينة إن أفاد إباحة المعاملة تثبت الإباحة بخبره، وإن لم تفد إباحة المعاملة؛ لا تثبت الإباحة بإخباره؛ لأن الخبر لا تربو درجته على المعاينة.
إذا عرفنا هذا فنقول: إذا كانت الجارية لرجل، فأخذها رجل آخر، وأراد أن يبيعها، فإنه يكره لمن عرفها للأول أن يشتريها من هذا ما لم يعلم أنه ملكها من جهة المالك بسبب من الأسباب، أو أذن له ببيعها؛ لأنه اجتمع ما يوجب الإباحة، وما يوجب الحظر عليه بأنها كانت مملوكة الغير، يوجب الحظر قبل إذن المالك، وقبل أن يملكه صاحب اليد من جهة ذلك الغير، وكونها في يد ذي اليد، واليد تدل على الملك من حيث الظاهر يدل على الإباحة، فهو معنى قولنا: إنه اجتمع ما يوجب الحظر وما يوجب الإباحة، فثبتت الكراهة؛ لأن حد المكروه ما يجتمع فيه دليل الحظر والإباحة كما في ......
(5/108)
-----
وإن اشترى جاز ويكون مكروهاً؛ وهذا لأنا متى حرمنا الشراء عطلنا ما يدل على الإباحة وهو ظاهر اليد، ومتى حكمنا بالجواز مطلقاً من غير كراهة عطلنا سبب الحظر، وهو علمه بأنها ملك الغير، وملك الغير حرام الشراء قبل الإذن فأثبتنا الكراهة عملاً بالأمرين، وإن علم أن المالك أذن له بالبيع، أو ملكه بوجه من الوجوه، فلا بأس بأن يشتريها منه، ويكون الشراء جائزاً من غير كراهة؛ لأنه زال سبب الحظر، فإن ملك الغير سبب الحظر إلى غاية الإذن، أو التملك من جهة ذلك الغير.
وإن قال الذي في يديه: إني اشتريتها أو وهبها لي أو تصدق علي بها، أو وكلني ببيعها؛ جاز له أن يشتري منه إذا كان عدلاً مسلماً لما ذكرنا أن قول الواحد العدل حجة في الديانات إذا لم ينازع في قوله، والمخبر هنا لم ينازع في خبره، فصار خبره حجة، وصار الثابت بخبره كالثابت معاينة، ولو عاين ما قال أفاد إباحة المعاملة معه؛ فكذا إذا ثبت بخبره، وهو عدل.
ثم إن محمداً رحمه الله شرط في هذه المسألة: أن يكون صاحب اليد مسلماً عدلاً والعدالة شرط، أما الإسلام ليس بشرط، فإن قول الذمي إذا كان عدلاً حجة في المعاملات على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، والحاكم الشهيد ذكر في «مختصر العدالة»، ولم يذكر الإسلام، وتبين بما ذكر الحاكم أن ذكر الإسلام من محمد رحمه الله اتفاقي لا أن يكون شرطاً. وإن كان الذي في يديه الجارية فاسقاً لا تثبت إباحة المعاملة معه بنفس الخبر؛ بل يتحرى في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه صادق حلَّ له الشراء منه، وإن وقع تحريه على أنه كاذب لا يحل له أن يشتريها منه، وإن لم يكن له رأي يبقى ما كان في الديانات.(5/109)
-----
وكذلك لو أن هذا الرجل لم يعرف كون هذه الجارية لغير صاحب اليد حتى أخبره الذي في يديه الجارية أن هذه الجارية ملك فلان، وأن فلاناً وكله ببيعها لا يسعه أن يشتري منه ما لم يعلم أن فلاناً ملكه من صاحب اليد، أو أذن له ببيعها؛ لأن إقرار صاحب اليد لغيره بما في يده حجة شرعاً، والثابت بالحجة الشرعية كالثابت عياناً، ولو عاين المريد للشراء (78ب2) كون الجارية لغير صاحب اليد بالعيان، لا يسعه أن يشتريها منه ما لم يعلم أن ذلك الغير ملكه من صاحب اليد، أو أذن صاحب اليد بالبيع؛ كذا ههنا، وإن لم يعلم هو أن الجارية ملك الغير، ولم يخبر صاحب اليد بذلك؛ لا بأس بأن يشتري من ذي اليد وإن كان ذو اليد فاسقاً.
فرق بين هذا وبينما إذا علم أن ما في يده كان لغيره؛ لا يسعه أن يشتري منه ما لم يعلم أن ذلك الغير ملكها من صاحب اليد، وأذن له ببيعها.
والفرق: أن المريد للشراء إذا علم أن الجارية كانت لغير ذي اليد، فإنما يباح له المعاملة مع ذي اليد إذا ثبت الانتقال إلى ذي اليد وتثبت الوكالة، أو لم يثبت ذلك بقول صاحب اليد إذا كان فاسقاً؛ لأن خبر الفاسق محتمل للصدق والكذب، ولم يثبت ذلك أيضاً بظاهر يده؛ لأن يده محتملة بين أن تكون يد ملك أو يد وكالة، وبين أن تكون يد غصب، فلا تثبت يد ملكه، ولا يد وكالته بالاحتمال، وإذا لم يثبت الانتقال ولا الوكالة لم تثبت إباحة المعاملة.
فأما إذا لم يعلم المريد للشراء كون الجارية ملك الغير لا بالمعاينة، ولا بإقرار ذي اليد يمكن تجويز هذه المعاملة مع ذي اليد بناءاً على أولية الملك لذي اليد في هذا العين بإثبات يده عليه؛ لأن الانتقال إلى ذي اليد، أو الوكالة من جهة الغير إن تعذر إثباته إذا لم يعلم كون الجارية ملكاً للغير؛ أمكن إثبات أولية الملك له؛ لأن الملك يثبت للفاسق من الابتداء في العين بإثبات اليد علىه كما ثبت للعدل، واستوى فيه العدل والفاسق.(5/110)
-----
قال: إلا أن يكون مثله لا يملك ذلك الشيء في الغالب، وذلك كدرة نفيسة في يد فقير لا يملك قوت يومه؛ يعلم بدلالة الحال أن مثله لا يملك ذلك، وككتاب في يد جاهل لم يكن في آبائه من هو أهل لذلك، فحينئذٍ يستحب له أن يتنزه، ولا يتعرض له بشراء، ولا قبول هدية ولا صدقة؛ لأنه ثبت كون ما في يده لغيره بدلالة الحال، ولو ثبت كون ما في يده لغيره بالعيان، أو بإخبار صاحب اليد يكره الشراء ما لم يثبت الانتقال أو الوكالة، فإذا ثبت ذلك بدلالة الحال إن لم تثبت الكراهية؛ لأن دلالة الحال دون ذلك وجب التنزه.
وإن كان الذي أتاه بذلك امرأة حرة؛ كان الجواب فيها كالجواب في الرجل؛ لأن قول الرجل إنما صار حجة في المعاملات للضرورة، والضرورة متحققة في حق المرأة؛ لأن المرأة تحتاج إلى المعاملة كالرجل، فصار قولها حجة كقول الرجل.
وإن كان الذي أتى به عبداً أو أمة، فليس ينبغي أن يشتري منه شيئاً، وكذلك لا ينبغي أن يقبل منه هبة، ولا صدقة حتى يسأله عن ذلك؛ لأنه علم يقيناً أن ما في يده ملك غيره، فكان بمنزلة ما لو كان المال في يد حر علم أنه كان لغيره، وهناك كان الجواب على نحو ما ذكرنا.
فإن سأله عن ذلك، فأخبر العبد أن مولاه أذن له في بيعه وهبته وصدقته فإن كان العبد ثقة؛ لا بأس بأن يشتري ذلك منه؛ لأن قول العبد في المعاملات إذا كان العبد ثقة كقول المرأة قوله حجة؛ لأن للناس ضرورة في المعاملات مع العبيد، فإن الإذن في التجارة مشروعة، وكذلك الكتابة مشروعة، فمتى لم يقبل قول العبد على ذلك يحتاج إلى أن يقيم شاهدين على الإذن في التجارة أو على الكتابة وفيه حرج، فصار قول العبد حجة في المعاملات لهذا.
(5/111)
-----
وأما إذا كان فاسقاً، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأن العبد في المعاملات كالحر، والحر لو كان فاسقاً، وقد أخبر أن صاحب العين ملك العين منه، أو وكله ببيع العين، فإن المريد للشراء يتحرى، فكذلك ههنا، فإن لم يقع تحريه على شيء بقي ما كان على ما كان (عليه) كما في الحر.
ولو كان الذي أتى به غلاماً صغيراً، أو جارية صغيرة حراً أو مملوكاً، لم يسعه أن يشتري منه قبل السؤال؛ لأن الحجر ثابت بيقين لوجود سببه وهو الصغر، فما لم يعلم بزوال الحجر لا تجوز المعاملة معه، فإن قال: إنه مأذون له في التجارة فإنه يتحرى، وإن كان الصبي عدلاً، وهذا لأن الصبي وإن كان عدلاً فهو ناقص العقل، ونقصان العقل سبب الإقدام على الكذب لقلة المبالاة، فكان الصغير كالفاسق، فإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان (عليه) قبل التحري.
وكذلك لو أن هذا الصغير أراد أن يهب ما أتى به من رجل، أو يتصدق به عليه، فينبغي لذلك الرجل أن لا يقبل هديته، ولا صدقته حتى يسأل عنه، فإن قال: إنه مأذون له في الهبة والصدقة، فالقابض يتحرى، ويبني الحكم على ما يقع تحريه عليه، وإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان (عليه) قبل التحري. قال محمد رحمه الله: وإنما يصدق الصغير فيما يخبر بعدما تحرى، ووقع تحريه أنه صادق إذا قال: هذا المال مال أبي أو مال فلان الأجنبي أو مال مولاي، وقد بعث به إليك هبة أو صدقة، فأما إذا قال: هو مالنا، وقد أذن لنا أبونا أن نتصدق به عليك أو نهبه لك؛ لا ينبغي له أن يقبل؛ لأن الثابت بخبره لا يكون أعلى حالاً من الثابت معاينة، ولو عاين السامع أن الأب أذن له أن يهب مال نفسه، أو يتصدق بمال نفسه؛ لا يحل له أن يقبل ذلك منه؛ كذا ههنا.(5/112)
-----
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: الصبي إذا أتى بقالاً بفلوس يشتري منه شيئاً، وأخبره أن أمه أمرته بذلك، فإن طلب الصابون ونحوه فلا بأس بأن يبيعه منه، وإن طلب الزبيب، وما يأكله الصبيان عادة، فينبغي أن لا يبيعه منه؛ لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول، وقد عثر على فلوس أمه، فأراد أن يشتري بها حاجة نفسه؛ قال: وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه يتحرى لما قلنا.
قال: ولو أن رجلاً قد علم أن جارية لرجل يدعيها، فرآها في يدي رجل يبيعها، وقال للذي في يديه الجارية: قد علمت أنها كانت لفلان يدعيها، فقال الذي في يديه: قد كانت كما ذكرت في يده يدعيها أنها له، إلا أنها كانت لي، وقد كنت أمرته بذلك تلجئة لأمر خفته، وصدقته الجارية في ذلك، فإن كان الرجل مسلماً ثقة، فلا بأس بأن يشتري أمته؛ لأن قول العدل حجة في المعاملات إذا لم ينازعه أحد فيما أخبر، ولا منازع له ههنا من حيث الحقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك لم يعرف له منازع بإقراره؛ لأنه أقر بكونه وديعة عنده لفلان، والمودع لا ينازع المالك فيما كان وديعة عنده.
وإن كان الذي في يديه الجارية فاسقاً يتحرى، (فإن تحرى) ووقع تحريه على أنه كاذب (79أ2) لا ينبغي له أن يشتريها منه، وإن وقع تحريه على أنه صادق، فلا بأس بأن يشتريها منه، وإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان.
ولو أن صاحب اليد لم يقل هذا القول الذي وصفت لك ولكن قال: إن فلاناً قد كان ظلمني وغصبني الجارية، فأخذتها منه، فلا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه قد ثبت له المنازعة بإقراره؛ لأنه قد أقر أن صاحب اليد غصبها منه، والغاصب منازع للمالك ما لم يرجع عن غصبه بخلاف الفصل الأول؛ لأن ثمة لم يقر بالمنازع؛ لأنه أقر بالوديعة، والمودع لا ينازع المالك في الوديعة؛ لأنه أخذها للحفظ للمالك لا لنفسه.(5/113)
-----
وإن كان قال: إنه قد ظلمني وغصبني، ثم إنه رجع عن غصبه، وأقر بها لي ودفعها لي، فإن كان ثقة، فلا بأس بأن يشتري منه؛ لأن في هذه الصورة ما أقر بالمنازع، فإنه قال: رجع عن غصبه، وأقر بها لي ودفعها إليَّ، والغاصب بعدما رجع عن الغصب، ودفع المغصوب إلى المغصوب منه لا يبقى منازعاً للمغصوب منه، فلم تثبت المنازع ههنا لا من حيث الحقيقة ولا بإقراره، وقول العدل في المعاملات حجة إذا لم ينازعه فيه أحد، وإن كان الرجل فاسقاً تحرى في ذلك لما قلنا في الفصل الأول.
وإن كان قال: لم يقر بها لي، ولكن خاصمته إلى القاضي، فقامت عليه بينة، فقضى القاضي عليه بذلك، أو استحلفته فنكل، فقضي عليه بهذا، فهذا والأول سواء، وإن كان عدلاً يشتري منه، وإن كان فاسقاً يتحرى؛ لأنه ما أقر بالمنازع ههنا لما قال قضى القاضي بالجارية لي؛ لأن الغاصب لا يبقى منازعاً بعد القضاء ما لم يجحد القضاء، ولم يذكر أنه جحد القضاء.
وكذلك إذا قال: قضى القاضي لي بالجارية، وأمرني فأخذتها من منزله، أو قال: قضى القاضي بالجارية لي، وأخذها منه ودفعها إليَّ، فلا بأس بأن يشتريها منه إذا كان عدلاً؛ لأنه لم يقر بالمنازع، وإن قال: قضى بها القاضي لي فجحد لي قضاءه، فأخذتها منه، فلا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع لما أقر أنه جحد القضاء، فالجاحد يكون منازعاً لا محالة.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: وهذا بمنزلة ما لو قال الذي في يديه الجارية: اشتريتها من فلان الذي كان يدعيها، ونقدته الثمن، وأخذتها، فإنه حل له الشراء منه إذا كان عدلاً؛ لأنه لا يقر بالمنازع، وإن قال: جحد لي الشراء؛ لا ينبغي أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع ههنا.
(5/114)
-----
قال محمد رحمه الله في «الكتاب» أيضاً: وهذا بمنزلة ما لو قال: اشتريتها من فلان، وقبضتها بأمره، ونقدته الثمن، وهو عدل ثقة، فقال له رجل آخر: إن فلاناً جحد هذا الشراء، وزعم أنه لم يبع شيئاً منه، وهذا الثاني عدل ثقة عنده، لا ينبغي له أن يشتريها منه؛ لأنه قد ثبت المنازع بقول الثاني لما كان عدلاً لا فرق بين مسألة الاستشهاد، وبينما إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وأخبره واحد بطهارة الماء، وهما عدلان، فإن هناك يتحرى وتثبت المعارضة بين الخبرين حتى أمر بالتحري.
وكذلك إذا أخبر أحدهما أن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأخبر الآخر أنه ذبيحة المسلم، وهما عدلان، فإنه يتحرى وتثبت المعارضة بين الخبرين، وفي مسألة الاستشهاد، وما أثبت المعارضة بين الخبرين؛ بل قال: يأخذ بقول الثاني.(5/115)
-----
والفرق: وهو أن التحري إنما يجب حال مساواة الخبرين، وفي مسألة الاستشهاد لا مساواة؛ لأن الخارج فيما أخبر اعتمد دليلاً حادثاً يعرف من حيث الحقيقة والعيان، وهو جحود البائع، وذو اليد فيما أخبر من الشراء، وإقرار البائع بذلك لم يعتمد دليلاً جارياً على عدم الجحود، وإنما اعتمد استصحاب الحال، وهو إقراره بالشراء، وإقراره بالشراء لا يوجب عدم الجحود؛ بل عدم الجحود يكون ثابتاً باستصحاب الحال؛ لأن الأصل هو العدم، وقد ذكرنا أنه لا مساواة بين خبرين أحدهما ثابت بالدليل الحادث، والآخر ثابت بناءً على استصحاب الحال كما في الجرح مع التعديل، فأما في طهارة الماء ونجاسته تتحقق المساواة بين الخبرين؛ لأنه يمكن بناء كل واحد منهما على دليل يوجب العلم بما أخبر خبر النجاسة على معاينة وقوع النجاسة، وخبر الطهارة على معاينة اغتراف الماء من نهر عظيم يكون طاهراً واستصحاب الماء مع نفسه إلى وقت الخبر، وكذلك المخبر عن ذبيحة المسلم، وعن ذبيحة المجوسي؛ لأن كل واحد من الذبيحتين مما يشاهد ويعاين، فيكون كل واحد من الخبرين بناءً على دليل يوجب ما قال لا بناءً على عدم الدليل فاستويا، وعند استواء الخبرين يجب التحري، وإن كان المخبر عن الجحود فاسقاً قال: يتحرى في خبره.
فرق بين هذا وبينما إذا أخبره رجل بطهارة الماء، وأخبر آخر بنجاسة الماء وأحدهما فاسق، فإنه يأخذ بقول العدل، وههنا لم يقل: إنه يأخذ بقول العدل؛ بل قال يتحرى.
وجه الفرق: أن في مسألتنا الخبرين قد استويا، فإن كان المخبر عن الجحود فاسقاً، وصاحب اليد عدلاً؛ لأن خبر كل واحد منهما حجة من وجه دون وجه، أما خبر صاحب اليد فلأنه اعتمد استصحاب الحال، واستصحاب الحال حجة من وجه دون وجه، فإنه حجة في الدفع لا في إثبات الاستحقاق.
(5/116)
-----
وخبر الفاسق حجة من وجه دون وجه أيضاً، لاحتمال الصدق والكذب في خبره احتمالاً على السواء، ولما استويا وجب التحري، فأما في نجاسة الماء وطهارته، فخبر الفاسق لا يساوي خبر العدل؛ لأن خبرهما وإن استويا من حيث إن كل واحد منهما حصل من دليل حادث؛ إلا أن لخبر العدل رجحاناً من وجه آخر من حيث إنه حجة من كل وجه لرجحان الصدق في خبره، وخبر الفاسق حجة من وجه دون وجه لاحتمال الصدق والكذب في خبره احتمالاً على السواء، وإن كانا جميعاً فاسقين، فإن صدق القائل الثاني بقوله وعلى ذلك أكثر رأيه لم يقبل من ذلك شيئاً، فقد أمر بالتحري متى كانا فاسقين، ويجب أن لا يتحرى؛ لأن (خبر) صاحب اليد لا يساوي خبر الخارج إذا كانا فاسقين؛ لأنهما في الفسق على السواء، والخارج يخبر عن دليل حادث، وذو اليد يخبر عن عدم الدليل، فيترجح خبر الخارج؛ كما لو كانا عدلين، والجواب قد ترجح خبر الخارج على خبر ذي اليد بالطريق الذي (79ب2) قلتم، فلا جرم يسقط اعتبار خبر ذي اليد بمقابلة خبر الخارج، ويلتحق بالعدم، إلا أن الخارج فاسق، وقد أخبر بما يوجب كراهة الشراء فيجب التحري، كما لو أخبر فاسق بنجاسة الماء.
وإذا كانت الجارية في يدي رجل يدعي أنه اشتراها من فلان وهو ثقة مسلم، وسع للذي يسمع مقالته أن يشتريها؛ وهذا لأن الإقرار بالشراء إقرار بالملك للبائع دلالة، ولو أقر بالملك للبائع صريحاً، ثم ادعى الانتقال إلى نفسه جاز الشراء منه إذا كان ثقة، وإن كان فاسقاً يتحرى، فههنا كذلك.
وكذلك إذا لم تكن الجارية في يده؛ ولكنها كانت في منزل مولاها، فقال: إن فلاناً أمرني ببيعها، ودفعها إلى من اشتراها وهو ثقة، فلا بأس بشرائها منه، والقبض من منزل مولاها من الذي باعها (بأمر مولاها) أو بغير أمره؛ لأن هذا عدل أخبر بما هو من جملة المعاملات، ولم ينازعه في ذلك أحد، فيقبل قوله.(5/117)
-----
وإن كان هذا الذي (في يديه الجارية) فاسقاً يجب التحري، فإن تحرى ووقع في قلبه أنه صادق، فاشتراها وقبضها، ثم وقع تحريه على أنه كاذب فيما قال، فإنه يعتزل عن وطئها حتى يسأل مولاها، أو يخبره بذلك عدل؛ وهذا لأنه إنما اشتراها بغالب الرأي، والعامل بغالب الرأي إذا تحول رأيه إلى شيء آخر يلزمه العمل برأيه الثاني في المستقبل لا في الماضي، فلهذا قال: يعتزل عن وطئها.
ثم قال محمد رحمه الله: وهكذا أمر الناس ما لم يجىء التجاحد والتشاجر من الذي كان يملك، فأما إذا جاءت المشاجرة والإنكار من المالك لا يبقى خبر المخبر حجة؛ سواء كان المالك فاسقاً أو عدلاً؛ وهذا لأن قول الواحد إنما جعل حجة في إباحة المعاملات مع الناس للضرورة بخلاف القياس، ففيما وراء إباحة المعاملة من إبطال ملك الغير بغير رضاه؛ لا ضرورة فيه لإباحة المعاملات؛ لأن كل موكل لا ينكر الوكالة، وإذا لم يبق قوله حجة حال منازعة الملك لم يثبت الانتقال إليه ولا الوكالة، فكان بائعاً مال الغير بغير إذنه، فكان للمالك أن يأخذها من المشتري، ويضمن المشتري لمولى الجارية عقر الجارية إن كان قد وطىء الجارية؛ لأنه وطىء ملك الغير، وقد سقط الحد لمكان الشبهة، فيجب العقر.
ولو شهد شاهدان عدلان عند البيع أن مولاها قد أمر البائع ببيعها، فاشتراها بقولهما، ونقد الثمن وقبضهما، وحضر مولاها، فأنكر الوكالة؛ كان المشتري في سعة من إمساكها؛ لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي؛ أطلق القاضي للمشتري إمساكها، فكذا إذا شهدا به عند المشتري يحل للمشتري إمساكها بخلاف ما لو كان المخبر واحداً؛ لأن الواحد لو شهد بذلك عند القاضي والمالك منكر، فالقاضي لا يطلق للمشتري الإمساك، فكذا إذا شهد الواحد بذلك عند المشتري لايسع المشتري إمساكه إذا أنكر المالك الوكالة.(5/118)
-----
قال: إلا أن يكون خاصمه عند القاضي، وقضى القاضي بالملك للمالك، فإن استحلف المالك على الوكالة فحلف، فإنه لا يسعه إمساكها ما لم يجدد الشاهدان الشهادة على الوكالة بين يدي القاضي حتى يقضي القاضي بالوكالة، وإنما لا يسع للمشتري إمساكها قبل تجديد الشاهدين الشهادة لما أشار محمد رحمه الله في «الكتاب»: أن القضاء أنفذ من الشهادة.
ومعنى هذا الكلام: أنه يجمع ما يبيح الإمساك وهو الشهادة، وما يحرم الإمساك وهو قضاء القاضي بالملك للمالك، والرجحان لدليل الحظر وهو القضاء؛ لأن القضاء صدر عن حجة، وهو إقرار المشتري بالملك للموكل، والوكالة بالبيع لم تثبت عند المشتري بما هو حجة؛ لأن الشهادة لا تكون حجة ما لم يتصل بها القضاء، فكان العمل بالقضاء أولى من العمل بالشهادة، فإذا جدد الشاهدان الشهادة على الوكالة عند القاضي؛ وقضى القاضي بالوكالة فحينئذٍ يحل للمشتري إمساكها؛ لأن الوكالة ثبتت بما هو حجة، فصار كالثابت معاينة.
نوع آخر في العمل بخبر الواحد بارتداد أحد الزوجين وبالرضاع والطلاق والموت وفساد النكاح
قال محمد رحمه الله: ولو أن رجلاً تزوج امرأة، فلم يدخل بها حتى غاب عنها، فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام * والعياذ بالله ، فإن كان المخبر بذلك عدلاً وسعه أن يصدقه، وأن يتزوج بأختها، أو أربع سواها، وإن كان فاسقاً تحرى في ذلك؛ هكذا ذكر المسألة في كتاب الاستحسان.(5/119)
وذكر في «السير الكبير»: أنه لا يسعه أن يتزوج بأختها أو أربع سواها ما لم يشهد عنده رجلان، أو رجل وامرأتان. وجه ما ذكر في «السير»: أن قول الواحد العدل في إباحة المعاملات إنما يكون حجة إذا لم ينازع في خبره، وقد أقر بالمنازع حين أخبر عن ردتها؛ لأن الظاهر أن المرأة لا ترتد؛ لأنها قد أقرت ببطلانها حين أقرت بالإسلام، فكان الظاهر منها إنكار الردة، والأحكام مبنية على الظاهر، فكان بمنزلة ما لو كانت حاضرة، وأنكرت الردة حقيقة.(5/120)
-----
وجه ما ذكر في الاستحسان: أنه لا منازع لهذا المخبر فيما أخبر من حيث الحقيقة وهذا ظاهر، ولم يثبت المنازع بإقراره؛ لأن إنكارها الردة وإن كان ثابتاً من حيث الظاهر إلا أن المخبر رجع عن هذا الإنكار، وأقر بردتها، فهو بمنزلة ما لو قال ذو اليد: هذا الشيء ملكي لكن قد كان غصبه فلان، ثم رجع عن ظلمه ودفعها إليَّ، وهناك يصدق ذو اليد في إخباره كذا ههنا.
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب «الاستحسان» اختلاف الروايتين في ردة المرأة، ولم يذكر ردة الرجل، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الاستحسان اختلاف الروايتين في ردة الرجل، وذكر أن ردة الرجل لا تثبت عند المرأة إلا بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين على رواية «السير»، وردة المرأة تثبت عند الزوج بخبر الواحد باتفاق الروايات.
قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح في المسألتين روايتان؛ على رواية «السير»: لا تثبت ردة المرأة عند الزوج، ولاردة الزوج عند المرأة إلا بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، ثم فرق على رواية كتاب الاستحسان بين هذا وبينما إذا قال للزوج: تزوجتها يوم تزوجتها وهي مرتدة، فإنه لا يسعه أن يأخذ بقوله وإن كان عدلاً، ومتى أخبر عن ردتها بعد النكاح وسعه أن يصدقه فيما قال، ويتزوج بأختها ،أو أربع سواها إذا كان عدلاً (80أ2).
والفرق: وهو أنه متى أقر بردة مقارنة للنكاح، فقد أقر بالمنازع فيما أخبر؛ لأن إقدامها على النكاح إنكار منها لا يمنع صحة النكاح دلالة، والردة تمنع صحة النكاح، وإذا ثبت إنكارها صار مقراً بالمنازع، فلا يبقى خبره حجة بخلاف ما لو أخبر عن ردةٍ جاريةٍ بعد صحة النكاح؛ لأنه لم يقر بالمنازع؛ لأن إقدام المرأة على النكاح لا يكون إنكاراً لما يقطع النكاح في المستقبل، فلم يجعل مقراً بالمنازع، ولا كذلك الإقرار بردة مقارنة.
(5/121)
-----
وكذلك لو أن رجلاً تزوج جارية رضيعة ثم غاب عنها، فأتاه رجل فأخبره أن أمه أو ابنته أو أخته أرضعت امرأته الصغيرة، فإن كان المخبر عدلاً وسعه أن يصدقه، ويتزوج بأختها أو أربع سواها، وإن كان فاسقاً يتحرى في ذلك لما ذكرنا. قال شيخ الإسلام: فعلى رواية «السير» يحتاج إلى الفرق بين الرضاع وبين الردة.
وإن لم يقل هكذا ولكنه قال: كنت تزوجتها وهي أختك من الرضاعة، فإنه لا يسعه أن يتزوج أختها ولا أربعاً سواها، وإن كان المخبر عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع؛ لأن إقدامها على النكاح إنكار منها للرضاع، فقد ثبت المنازع بإقراره، فيعتبر بما لو كان ثابتاً حقيقة بأن كانت المرأة حاضرة، وأنكرت الرضاع؛ بخلاف ما إذا أخبر برضاع طارىء؛ لأن هناك لم يثبت المنازع بإقراره على نحو ما بينا في فصل الردة، أو نقول: أخبر بفساد العقد الذي باشره غيره، وقول الواحد في باب المعاملات إذا كان فيه فساد عقد باشره الغير لا يعقل؛ لأن ذلك الغير ينازعه في فساد العقد؛ لأن الجواز أصل في العقود.
وإذا غاب الرجل عن امرأة، فأتاها مسلم عدل، وأخبرها أن زوجها طلقها ثلاثاً أو مات عنها، فلها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر؛ لأنه أخبر عن إباحة معاملة، ولم يقر بالمنازع، فثبتت الإباحة. وإن كان المخبر فاسقاً تتحرى.(5/122)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا شهد شاهدان عند المرأة بالطلاق، فإن كان الزوج غائباً وسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر، وإن كان حاضراً ليس لها ذلك، ولكن ليس لها أن تمكن زوجها (من نفسها)؛ وهذا لأن المشهود قبل القضاء ثابت من وجه دون وجه، فمن حيث إنه ثابت لا تقيم مع الزوج، ومن حيث إنه ليس بثابت لا يسعها التزوج بزوج آخر، أكثر ما فيه أنها تبقى معلقة مظلومة، ولكن يمكنها دفع الظلم عن نفسها إذا كان الزوج حاضراً بأن تأمر الشاهدين حتى يشهدا عند القاضي، فيقضي القاضي بالفرقة بينهما؛ بخلاف ما إذا كان الزوج غائباً؛ لأن هناك لا يمكنها دفع الظلم عن نفسها بالمرافعة إلى القاضي، فتعين القول بحل تزوج آخر.
وكذلك إن سمعته أنه طلقها، وجحد الزوج ذلك وحلف، فردها القاضي لم يسعها المقام معه، وينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه، وإن لم تقدر على ذلك قتلته، وقد ذكرنا هذا الفصل، وما فيه من اختلاف المشايخ في آخر كتاب النكاح.
قال في كتاب «الاستحسان»: وإذا هربت منه لم يسعها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر؛ قال شمس الأئمة السرخسي: ما ذكر أنها إذا هربت ليس لها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر جواب القضاء، أما فيما بينها وبين ربها فلها أن تتزوج بعدما اعتدت، ثم إذا أخبرها عدل مسلم أنه مات زوجها إنما تعتمد على خبره إذا قال: عاينه ميتاً، وقال: شهدت جنازته، أما إذا قال: أخبرني مخبر؛ لا يعتمد على خبره.
وإن أخبر واحد بموته، ورجلان آخران أخبرا بحياته، فإن كان الذي أخبرها بموته قال: عاينته ميتاً، أو شهدت جنازته حل لها أن تتزوج، وإن كان اللذان أخبراها بحياته ........ لاحقاً فقولهما أولى.
في «فتاوى الفضلي»: ولو شهد اثنان بموته أو قتله، وشهد آخران أنه حي، فشهادة الموت أولى، وجنس هذا في آخر باب الشهادة من «وصايا عصام».(5/123)
-----
ولو أن امرأة قالت لرجل: إن زوجي طلقني ثلاثاً، وانقضت عدتي، فإن كانت عدلة وسعه أن يتزوجها، وإن كانت فاسقة تحرى، وعمل ما وقع تحريه عليه. ولو أخبرت أن أصل نكاحها كان فاسداً، أو أن زوجها أخوها من الرضاعة، فإنه لا يسعه أن يتزوجها، وإن كانت عدلة.
قال محمد رحمه الله: وإنما هذه بمنزلة رجل في يديه جارية يدعي رقبتها، وهي تقر له بالملك، فوجدها في يدي رجلٍ، رجلٌ قد علم بحالها، فأراد شراءها، فسأله عنها، فقال: الجارية جاريتي، وقد كان الذي كانت في يديه كاذباً فيما ادعى من ملكها؛ لا ينبغي لهذا الرجل أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأن هذا الرجل عرف للمخبر منازعاً فيما أخبر؛ لأنه سمع من الذي كانت في يديه أنه كان يدعيها لنفسه، فيكون منكراً الملك للثاني، فقد ثبت له المنازع فيما أخبر عند المريد للشراء، فلا ينبغي له أن يشتريها، ولو قال: كنت اشتريتها منه، وسعه أن يشتريها منه؛ لأن دعواه ملك الجارية لا يكون إنكاراً لما يقطع ملكه في المستقبل، فلم يثبت له المنازع فيما أخبر.
وكذلك جارية في يدي رجل تدعي أنها جاريته، وهي صغيرة لا تعبر عن نفسها بجحود ولا إقرار فكبرت، فلقيها رجل.. في بلد آخر، فأراد أن يتزوجها، فقالت له: أنا حرة الأصل، ولم أكن أمة للذي كنت في يديه؛ لا يسعه أن يتزوجها؛ لأنه ثبت المنازع عند المريد للتزوج، فإنه سمع الذي كانت في يديه يدعي ملك رقبتها لنفسه، ولو قالت: كنت أمة للذي كنت في يديه فأعتقني، وسعه أن يتزوجها إن كانت عدلة.
ولو أن حرة تزوجت رجلاً، ثم أتت غيره وقالت: إن نكاحها الأول كان فاسداً لما أن الزوج كان على غير الإسلام لا ينبغي لهذا الرجل أن يصدقها وأن يتزوجها. ولو قالت: إنه طلقني بعد ذلك، أو قالت: ارتد عن الإسلام، فبنت منه؛ وسعه أن يصدقها وأن يتزوجها إذا كانت عدلة. قال: وكذلك لو أقرت بعد النكاح أنه كان مرتداً؛ وسع السامع أن يتزوجها إذا كانت عدلة.(5/124)
-----
اعلم بأنه اختلفت الروايات في هذا الفصل؛ ذكر في بعض الروايات لو أقر بعد النكاح أنه كان مرتداً وقت النكاح يعني أقر الزوج بعد النكاح أنه كان مرتداً وقت النكاح، وهكذا (80ب2) أثبت الحاكم الشهيد في «المختصر»، وإن كان هذا من الزوج إقراراً بردة مقارنة للنكاح، والزوج غير مصدق في ذلك؛ إلا أن الزوج يملك قطع النكاح في المستقبل، والردة قاطعة للنكاح، فجعل هذا إقراراً منه بما يقطع النكاح؛ إلا أن يجعل إقراراً بما يقطع النكاح بعد الصحة؛ كأنه طلقها، ولهذا يجب للمرأة نصف المهر، فإذا جعل هذا إقراراً بالطلاق صار كأن الزوج قال: طلقتها بعدما تزوجها، وهناك يسع السامع أن يتزوجها كذا ههنا.
وقد وقع في بعض الروايات لو أقرت بعد النكاح، يعني أقرت المرأة بعد النكاح أن الزوج كان مرتداً، وتأويل هذه الرواية أن المرأة أقرت أن الزوج أقر أنه كان مرتداً يوم تزوجها؛ لأن الثابت من إقرار الزوج بإقرارها؛ كالثابت عياناً، ولو عاينّا إقرار الزوج أنه كان مرتداً وقت النكاح؛ يسع السامع أن يتزوجها.
والدليل على أن المراد هذا، فإن محمداً رحمه الله ذكر قبل هذه المسألة إقرار المرأة بكون الزوج مرتداً وقت النكاح، وذكر ثمة أنه لا يسع السامع أن يتزوجها، فهذا يبين لك أن المراد من هذه المسألة ما قلنا.
ثم فرق بينما إذا أقر الزوج أنه كان مرتداً وقت النكاح، وبينما إذا أخبر أجنبي أن الزوج كان مرتداً وقت النكاح، فقال في فصل الأجنبي: لا يسع السامع أن يتزوجها، وفي الزوج قال: يسع السامع أن يتزوجها.
والفرق: أن الزوج إن كان لا يملك الإقرار بفسخ النكاح من الأصل يملك الإقرار بحرمة طارئة بعد النكاح، فيجعل إقراراً منه بحرمة طارئة، وغير الزوج لا يملك الإقرار بحرمة طارئة، فلا يمكننا أن نجعل هذا من غير الزوج إقراراً بحرمة طارئة، فيجعل إقراراً بفسخ النكاح من الأصل، وإنه غير مصدق في ذلك؛ لأنه إقرار بالمنازع.(5/125)
-----
وفي «الجامع الصغير»: جارية لرجل قالت لرجل آخر: بعثني إليك مولاي هدية وسعه أن يأخذها بناءً على ما قلنا: إن إقرار الواحد العدل في باب المعاملات حجة؛ حراً كان أو عبداً.
الفصل الثاني في العمل بغالب الرأي
يجب أن تعلم بأن العمل بغالب الرأي جائز في باب الديانات وفي باب المعاملات، وقد ذكرنا ذلك في الفصل المتقدم، وكذلك العمل بغالب الرأي في الدماء جائز، حتى إن من دخل على رجل منزله شاهراً سيفه، ولا يدري صاحب المنزل ما حاله أهارب هو من اللصوص والتجأ إلى داره، أو لص دخل عليه ليأخذ ماله، ويقتله إن منعه، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأنه استوى دليل الحظر، ودليل الإباحة؛ لأن الدخول قد يكون للالتجاء، وإنه يحرم التعرض له، وقد يكون لأخذ المال وقتل صاحب البيت إن منعه، وإنه يفيد إباحة التعرض له، فلابد من ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وذلك بالتحري، فتحرى في ذلك، وعمل بتحريه، فإن وقع تحريه؛ أنه دخل منزله للالتجاء لا يقتل، وإن وقع تحريه أنه لص دخل منزله ليأخذ ماله ويقتله وخاف أنه إن زجره، أو صاح به أن يبادر فيقتله، فلا بأس بقتله.
وقالوا فيمن استقبل المسلمين جماعة في دار الحرب، فأشكل على المسلمين حالهم أنهم عدو أو مسلمون، فإنهم يتحرون؛ لأنه استوى دليل الحظر والإباحة؛ لأنه قد يكون في دار الحرب أهل الإسلام دخلوا فيها للتجارة، وقد يكون فيها أهل الحرب، فيتحرى.(5/126)
-----
وقد روى الفقيه أبو جعفر الهندواني، والحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيمن رأى رجلاً في داره شاهراً سيفه، فوقع في غالب رأيه أنه يريد ماله، فإنه يحل له قتله من غير أن يصيح، وإن كان يعلم أنه لا يريد نفسه، فهذه الرواية إشارة إلى أنه متى وقع تحريه على أنه قصد الشر إنه يباح قتله، ولا يلزمه التحري مرة أخرى ليعلم أنه هل يزجر بدون القتل أو لا يزجر، وأشار محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان إلى أن بعدما وقع في غالب رأيه أنه دخل للشر؛ أنه يتحرى ثانياً ليعلم أنه يزجر بدون القتل، أو لا يزجر؛ لأنه قال: وخاف إن زجره أو صاح به أن يبادر فيقتله حل له أن يقتله، فإنما أباح له القتل بشرط أن يعلم أنه يبادر بقتله متى صاح به وزجره.
وجه ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن قصد الشر قد تحقق منه، فمتى أمرناه بالتحري مرة أخرى ربما لا يمكنه دفع ما قصد من الشر، فيباح قتله.
وجه ما ذكره محمد رحمه الله: أن الشر واجب الدفع، فإذا أمكنه الدفع بما دون القتل لا يميل إلى القتل، ولكن بعدما ثبت الشر؛ الحالة محتملة بين أن يدفع الشر بقتل أو بما دونه فيتحرى.
وسئل الفقيه أبو جعفر: عن رجل وجد رجلاً مع امرأته أيحل له قتله؟ قال: إن كان يعلم أنه يزجر عن الزنا بالصياح أو بالصرف بما دون السلاح، فإنه لا يقتله، ولا يقاتل معه بالسلاح، وإن علم أنه لا يزجر إلا بالقتل والمقاتلة معه بالسلاح؛ حل له القتل، فكأنه إنما أخذ هذا من قول محمد رحمه الله، فإن محمداً رحمه الله أمره بالتحري مرة أخرى بعدما تحقق الشر بالتحري ليعلم أنه هل يزجر بما دون القتل، أو لا ينزجر، وقد مر بعض هذه المسائل في كتاب السرقة.
(5/127)
الفصل الثالث في الرجل رأى رجلاً يقتل أباه، وما يتصل به
-----
قال محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان: وإذا رأى الرجل رجلاً يقتل أباه متعمداً، ثم أنكر القاتل أن يكون قتله، أو قال للابن في السر: إني قتلت أباك؛ لأنه قتل فلاناً عمداً، أو قال له: إن أباك ارتد عن الإسلام، فاستحللت قتله لذلك، ولم يعلم الابن شيئاً مما قال، كان الابن في سعة من قتله؛ لأن الوارث عاين السبب المبيح لقتله، وهو قتل الأب عمداً؛ إلا أن القاتل ينكر أو يدعي ما يسقطه، فلا يثبت ما ادعى من السقوط إلا بالبينة، وكان بمنزلة ما لو قال لغيره: أخذت مالك بإذنك، أكلت طعامك بإذنك، فإن دعوى الإذن لا تثبت بالبينة، وكذلك من عاين هذا القتل كان له أن يعين الابن على استيفاء القصاص؛ لأنه علم بوجوب هذا الحق للابن متى عاين قتل وليه، وكان عليه أن يعينه على استيفاء حقه كما في سائر الحقوق، (81أ2) وكذلك إذا لم يعاين الابن القتل، ولكن أقر القاتل بين يديه بالقتل، ثم ادعى ما يسقط القتل؛ لأن الثابت بالإقرار كالثابت معاينة؛ لأن البيّنة منعه عن الإقرار؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً بالقتل، فصار الثابت بالإقرار كالثابت معاينة من هذا الوجه، ولو عاين الابن القتل وسعه قتل القاتل؛ كذا ههنا.
فرق بين الإقرار وبين الشهادة، فإنه لو شهد عنده عدلان أن فلاناً قتل أباك عمداً، والابن عرفهما بالعدالة، لا يسع الابن قتله ما لم يشهدا بذلك عند القاضي، ويقضي القاضي بشهادتهما، وفي الإقرار بالقتل قال: وسعه أن يقتله.(5/128)
-----
والفرق بينهما: أن الشهادة إنما عرفت حجة بخلاف القياس؛ لأنها إقرار على الغير، والإنسان فيما يقر على غيره قد يكذب، فيجب أن لا يكون حجة كالإقرار؛ إلا أنا جعلناها حجة شرعاً؛ بخلاف القياس عند اتصال القضاء بها، فقبل اتصال القضاء لا تكون حجة أصلاً، فلا يثبت المشهود به قبل القضاء من كل وجه، وإنما يثبت من وجه دون وجه، وبدونه لا يحل الاستيفاء، فأما الإقرار فإنما صار حجة موافقاً للقياس؛ لانتفاء تهمة الكذب عنه؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً خصوصاً بالقتل، فإذا انتفت التهمة عن الإقرار التحق الإقرار بالمعاينة.
وفرق بين القتل وبين الطلاق في فصل الشهادة، فإنه إذا شهد شاهدان عند المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاً؛ حل لها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر، فقد ألحق الشهادة قبل اتصال القضاء بها بالمعاينة، والإقرار في باب الطلاق، وما ألحقها بالمعاينة، والإقرار في باب القتل والمال، وإنما فعل كذلك؛ لأن في باب القتل دفع الشك في وجوب القصاص من وجهين:
أحدهما: من حيث تهمة الكذب وإن كان الشاهد عدلاً؛ لأنه غير معصوم عن الكذب، وباعتبار الكذب لا يكون المشهود به ثابتاً أصلاً.
والثاني: من حيث إن القتل قد يكون بحق فلا يوجب القصاص، وقد يكون بغير حق، فيوجب القصاص، فلابد من قضاء القاضي حتى تنتفي تهمة الكذب وشبهة الحقية عن القتل به شرعاً.(5/129)
-----
وكذلك بباب المال يمكن الشك في وجوب الضمان على المشهود عليه من وجهين من حيث تهمة الكذب، ومن حيث إن أخذ مال الغير وإتلافه قد لا يوجب الضمان بأن يكون ذلك بحق، وفي الإقرار الشبهة تمكنت من وجه واحد من حيث إن القتل قد يكون حقاً، وقد يكون غير حق، وإتلاف المال كذلك، أما ما تمكنت فيه الشبهة من حيث الكذب؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً، وإذا كان تمكن الشبهة في الإقرار في هذين الفصلين من وجه واحد، وفي الشهادة من وجهين لا يمكن إلحاق الشهادة بالإقرار، وأما في فصل الطلاق تمكنت التهمة في ثبوت الحرمة من وجه، و هو تهمة الكذب، أما ما تمكنت الشبهة من حيث إن الطلاق بعد وقوعه قد يوجب الحرمة وقد لا يوجب، فإن الطلقات الثلاث توجب الحرمة على كل حال، فيمكن إلحاق الشهادة بالإقرار في فصل الطلاق وألحقاها به.
وإن عاين الابن رجلاً قتل أباه عمداً، أو كان الرجل مقراً بذلك سراً عند الابن، ثم شهد عند الابن شاهدان أن أباه قد كان قتل أب هذا الرجل القاتل عمداً، فقتله به، فإنه لا ينبغي للابن أن يقتله.
الأصل في هذا أن كل شهادة لو قامت عند القاضي بعدما ثبت القصاص عند القاضي؛ يقضي القاضي بسقوط القصاص، فإذا قامت عند القاضي، وقضى القاضي بها ثبتت حقيقة السقوط، فإذا لم يتصل بها القضاء، وقد تمت الحجة ثبتت شبهة السقوط إن لم تثبت حقيقة السقوط وإنها مانعة من الاستيفاء، وكل شهادة لو قامت عند القاضي بعدما ثبت القصاص عنده وسع القاضي أن يطلق ولي القصاص في الاستيفاء، وإن تأنى ولبث كان أفضل، فكذا إذا قامت عند الوارث كان الوارث في سعة من الاستيفاء، وإن تأنى ولبث فهو أفضل؛ لأن القتل مما لا يمكن تداركه وتلافيه متى وقع فيه الخطأ، فقد أثبت المشهود به شهادة شاهدين من وجه حتى قال: لا ينبغي للوارث أن يقتله.(5/130)
-----
وقد قال في كتاب الحدود: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، وهو محصن، والشهود عدول، فقتله رجل قبل القضاء عليه بالرجم كان على القاتل القصاص، ولم يثبت المشهود به قبل القضاء بوجه ما، وإنما كان كذلك؛ لأن المشهود به في باب الزنا الحد، والحد مما يدرأ بالشبهات، فلا يمكن إيجابها بوجه دون وجه مع الشبهات، والمشهود به ههنا سقوط القصاص، وإنه مما يثبت مع الشبهات، فإنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين، فأمكننا الإثبات من وجه دون وجه.I
وكل جواب عرفته في القتل، فهو الجواب في المال في كل موضع يسع الابن استيفاء القصاص إذا عاين الابن القتل، أو أقر القاتل بين يديه، فكذا إذا عاين أخذ المال، أو أقر بين يديه بأخذ المال كان له استيفاء المال.
وفي كل موضع لا يكون للابن استيفاء القصاص بأن شهد عنده عدلان بالقتل، فكذا إذا شهد عنده عدلان بأخذ المال لا يكون له ولاية استيفاء المال، وكل من عاين مع الابن ذلك وسعه إعانة الابن إذا امتنع منه، وإن أبى ذلك على نفسه إذا كان في موضع لا يقدر فيه على السلطان يأخذ بحقه؛ لأنه يمنع ماله بغير حق، فيعتبر بما لو أراد أخذ ماله في الابتداء بغير حق، وهناك كان لصاحب الحق، فإن عاين ذلك المقاتلة معه كذا ههنا.
الفصل الرابع في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر،والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء
الزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروهه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروهه؛ لأن السنة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار (81ب2) إلى الأربع، وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة لعدم ورود السنة.(5/131)
-----
السنة في ركعتي الفجر: أن يأتي بها الرجل في بيته، فإن لم يفعل فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، وإن لم يمكنه ففي المسجد الداخل إذا كان الإمام في المسجد الخارج، وفي مسجد الخارج إذا كان الإمام في المسجد الداخل، وإن كان المسجد واحداً فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطاً للقوم.
وأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد، والمكان الذي يصلي الفريضة، والأفضل أن يمشي خطوة أو خطوتين، والإمام يتأخر عن المكان الذي صلى الفريضة فيه لا محالة.
وفي «الجامع الأصغر»: إذا صلى الرجل المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء (فالأفضل أن يصلي في المسجد)، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة» وفي «شرح الآثار» للطحاوي: إن الركعتين بعد الظهر، والركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، وأما سواهما فلا ينبغي أن يؤتى بها في المسجد، وهذا قول البعض، وبعضهم قالوا: التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب «الصلاة»: أن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد، وإن شاء رجع، فتطوع في منزله.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وليس قبل العيدين صلاة، وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة، قال القاضي الإمام أبو جعفر .....: كان شيخنا أبو بكر الرازي يقول: معنى قول أصحابنا: وليس قبل العيدين صلاة؛ ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبلها مكروهة، وقد نص الكرخي على الكراهة في كتابه، فقال: ويكره إن حضر المصلي يوم العيد التنفل قبل الصلاة.(5/132)
-----
الصلاة على الجنازة في المسجد الذي تقام فيه الجماعة مكروهة، والأصل فيه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له»، وفي رواية: «لا أجر»، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى أن يصلى عليه في بيت عائشة رضي الله عنها مع قرب المسجد، ولو لم تكن الصلاة على الجنازة في المسجد مكروهة ما أوصى بالصلاة في بيت عائشة رضي الله عنها؛ ولأن مساجد الجماعة أعدت لأداء المكتوبات، فلا يقام غيرها فيها، وجرى التوارث في الأمصار بإيجاد مكان على حدة لأداء صلاة الجنازة، و إنه دليل على كراهية أداء صلاة الجنازة في مسجد الجماعات، ولأن تنزيه المساجد عن التلوث واجب، وفي إدخال الميت في المسجد احتمال تلويث المسجد بأن يسيل من الميت شيء.
ثم هذه المسألة على أربعة أوجه؛ إن كانت الجنازة والإمام والقوم في المسجد فالصلاة مكروهة بالاتفاق.
وإن كان الإمام مع بعض القوم، والجنازة خارج المسجد وباقي القوم في المسجد؛ ذكر نجم الدين النسفي في «فتاويه»: أن الصلاة غير مكروهة بالاتفاق، وكثير من مشايخنا ذكروا في هذه الصورة اختلاف المشايخ؛ بعضهم قالوا: يكره، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الزاهد ركن الإسلام الصفار رحمهما الله، وحكي أن هذه الواقعة وقعت في زمن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، فجلس ولم يصل، وتابعه من كان معه في مسجد الأنباء، ثم زجر الناس على المنبر أشد الزجر، وقال: هذه بدعة، وكان هذا القائل يعتمد المعنى الأول في الوجه الأول. وبعض مشايخنا قالوا: لا تكره الصلاة في هذه الصورة، وكان هذا القائل اعتمد المعنى الثالث في الوجه الأول.
وإن كانت الجنازة وحدها خارج المسجد، والقوم مع الإمام في المسجد فمن اعتبر المعنى الأول يقول بالكراهية ههنا، ومن اعتبر المعنى الثالث لا يقول بالكراهية ههنا.(5/133)
-----
وإن كانت الجنازة وحدها في المسجد والإمام والقوم خارج المسجد، فمن اعتمد المعنى الأول لا يقول بالكراهية ههنا، ومن اعتمد المعنى الثالث يقول بالكراهة ههنا.
ويكره للإنسان أن يدخل في الصلاة وبه غائط أو بول؛ لأنه عسى يشغله ذلك عن أفعال الصلاة، فإن دخل في الصلاة مع ذلك وشغله عن الصلاة قطعها؛ لأنه قطع بعذر، وإن مضى في صلاته جاز، وقد أساء؛ وسواء كان ذلك به قبل افتتاح الصلاة، أو حدث بعد افتتاح الصلاة، ففي الحالين جميعاً يقطع الصلاة إذا شغله ذلك عن بعض أفعال صلاته، وإن مضى على صلاته جاز، وقد أساء.
الصلاة في الحمام مكروهة: إذا كان هناك تماثيل، وإن لم يكن والموضع الذي يصلى فيه طاهر؛ اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يكره، وأكثرهم على أنه لا يكره، وكثير من أئمة بخارى كانوا يفعلون ذلك، حكي عن الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله: أنه كان يصلي الفريضة في الحمام بالجماعة مع الخادم وغيره.
وأما الصلاة في موضع جلوس الحمامي فلا شك أن على قول من يقول بعدم الكراهة داخل الحمام لا يكره في موضع جلوس الحمامي، ومن قال بالكراهية داخل الحمام اختلفوا فيما بينهم في الكراهية في موضع جلوس الحمامي؛ وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة الكراهية داخل الحمام.
(إذا) صلى وهو مشدود الوسط لا يكره، ذكره في «مجموع النوازل». ويكره أن يصلي مواجهاً لإنسان؛ لأنه يصير كالمعظم له، ولا بأس بأن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يحدث، ومعه قوم يتحدثون؛ لأن الكراهة في الفصل الأول لمعنى التعظيم، ولا تعظيم ههنا، ولأن الناس يصلون الفرائض بالجماعات صفاً صفاً، فتقع صلاة بعض القوم إلى ظهر من قبله، قالوا: وهذا إذا كان حديثهم لا يشوش عليه أمره، فأما إذا كان يشوش فهو مكروه، وعليه يحمل النهي الوارد في هذا الباب.
(5/134)
-----
ولا بأس أن يصلي وبين يديه في القبلة مصحف معلق، أو سيف معلق إذ ليس فيه شبهة العبادة، فإن أحداً لا يعبد المصحف والسلاح، وقد صح أن (82أ2) رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزته، ولو كان فيه شبهة العبادة ما صلى إليها.
وتكره الصلاة إلى كانون أو تنور فيه (نار) تتوقد؛ لأنه تشبه بالمجوسي، ولا تكره الصلاة إلى قنديل أو سراج أو شمع إذ ليس فيه تشبه بالمجوس؛ لأنهم لا يعبدون إلا ناراً متوقداً. ثم من المشايخ من سوى بين أن يكون التنور مفتوح الرأس أو مخبوء، ومنهم من فرق بينهما.
وتكره الصلاة فوق الكعبة؛ قيل: في معنى الكراهة: إن الظهور على سطح الكعبة استخفاف بالكعبة؛ ألا ترى أنه يكره الظهور على سطح سائر المساجد، وسقوفها فما ظنك بالكعبة.
وفي «الجامع الصغير»: لو صلى على بساط وفيه تصاوير، ولم يقع سجوده على الصورة لا يكره، ولو وقع سجوده على الصورة يكره؛ لأنه إذا وقع سجوده على الصورة صار المصلي كالمتعبد للصورة، ولا كذلك ما إذا لم يقع سجوده على الصورة، وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر الكراهية مطلقاً من غير فصل؛ لأن البساط الذي يصلي عليه معظم من بين سائر البسط، فيؤدي إلى تعظيم الصورة، وإذا كانت التصاوير على السقف أو فوق رأس المصلي، أو بين يديه، أو بحذائه على الحائط، أو على الستر أو على الوسادة، والوسادة قائمة أو معلقة يكره، وإن كان التمثال مقطوع الرأس، فليس بتمثال.
يجب أن يعلم بأن الصورة نوعان؛ صورة جماد كالشجر ونحوه، وصورة حيوان، فصورة الجماد لا يكره اتخاذها والصلاة إليها صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن الصلاة إلى مثل هذه الصورة لا تشبه التعبد؛ لأن مثل هذه لا تعبد.(5/135)
-----
وصورة الحيوان إن كانت صغيرة بحيث لا تبدو للناظر من بعيد لا يكره اتخاذها والصلاة إليها؛ لأن هذا مما لا يعبد، وقد صح أنه كان على خاتم أبي هريرة رضي الله عنه ذبابتان، وكان على خاتم أبي موسى الأشعري كركيان، وكان على خاتم دانيال صلوات الله عليه صورة الأسد، وإن كانت الصورة كبيرة بحيث تبدو للناظر من بعد؛ يكره إمساكها والصلاة إليها؛ لأن إمساك الصورة تشبه بمن يعبد الصنم، والصلاة إليها يشبه تعظيمها وعبادتها فتكره، إلا إذا كانت مقطوعة الرأس، فحينئذٍ لا تكره؛ لأن بدون الرأس لا تعبد، و تفيسر قطع الرأس في هذا الباب أن يمحي رأس الصورة بخيط يخاط عليها، بحيث لا يبقي للأصل أثراً أصلاً، أو يطلي على رأسه شيئاً بحيث لا يبقي للرأس أثراً أصلاً.
وأما إذا خيط ما بين الرأس والجسد، فلا عبرة له، ولا تخرج الصورة به من أن تكون صورة؛ لأنه يصير شبه الطوق، ومن الطيور ما هو مطوق، فلا يخرج به من أن يكون صورة، واختلف المشايخ في رأس الصورة بلا جثة أنه هل يكره اتخاذه والصلاة عنده؟.
ثم الكراهة في الصورة في حق المصلي على التفاوت بعضها فوق بعض، فأشدها كراهة ما يكون على القبلة أمام المصلي، ودونه في الكراهة ما يكون فوق رأس المصلي، ودونه ما يكون خلفه على الحائط، أو على الستر أو على الوسادة، واتخاذ الصورة في البيوت.
والنبات في غير حالة الصلاة على نوعين؛ نوع يرجع إلى تعظيمها فيكره، ونوع يرجع إلى تحقيرها فلا يكره، وعن هذا قلنا: إذا كانت الصورة على البساط مفروشاً لا يكره، وإذا كان البساط منصوباً يكره، وقلنا في حق المصلي على البساط الذي فيه صورة؛ إن كانت الصورة في موضع القدم لا تكره، وإن كانت في موضع السجود تكره.(5/136)
-----
مع هذا إذا صلى في هذه الوجوه لا يحكم بفساد صلاته لاستجماع شرائطها وأركانها، ولكن ينبغي أن يقال: تجب بالإعادة على غير وجه الكراهة، وكذلك الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة؛ هكذا ذكره القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نحو ما ذكره صدر الإسلام في مسألة أخرى.
وصورتها: إذا صلى خلف إمام يلحن في القراءة؛ ينبغي أن يعيد الصلاة، وكان يروى ذلك عن عمر رضي الله عنه، وكثير من هذا النوع مذكور في كتاب الصلاة، وكان يروى: أنه لو صلى مكشوف الرأس، وهو يجد ما يستر به الرأس؛ إن كان تهاوناً بالصلاة يكره؛ وللتضرع يستحب.
مسائل التسبيح
رجل ذكر الله تعالى في مجلس الفسق، فإن كان من نيته أن الفساق يشتغلون بالفسق، وأنا أشتغل بالتسبيح، فهو أحسن وأفضل؛ كمن سبح الله تعالى في السوق، فكان من نيته أن الناس يشتغلون بأمر الدنيا، وأنا أسبح الله تعالى في مثل هذا الموضع؛ كان أفضل من أن يسبح الله تعالى وحده في السوق، وإن سبح على وجه الاعتبار كان حسناً، ويؤجر على ذلك أيضاً؛ أما إذا سبح على أنه يعمل عمل الفسق يأثم؛كمن جاء إلى آخر يشتري منه ثوباً، فلما فتح التاجر الثوب سبح الله تعالى، أو صلى على النبي عليه السلام؛ أراد به إعلام المشتري جودة توبه وذلك مكروه، فهذا كذلك.
حارس يقول: لا إله إلا الله، أو قال فقاعي عند فتح الفقاع: لا إله إلا الله، أو قال: صلى الله على محمد يأثم؛ لأنه يأخذ لذلك ثمناً بخلاف العالم إذا قال في مجلس العلم: صلوا على النبي، أو قال الغازي للقوم: كبروا، حيث يثاب.
رجل يسمع اسم الله تعالى يجب عليه أن يعظمه، ويقول: سبحان الله، أو تبارك الله؛ لأن تعظيم اسم الله واجب في كل زمان.
مسائل قراءة القرآن(5/137)
-----
قال محمد رحمه الله في كتاب «العلل»: لا بأس بقراءة القرآن في الحمام، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وكره النخعي قال مشايخنا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن النخعي إنما كره ذلك إذا كان يرفع صوته بالقراءة؛ لأنه يقرأ القرآن عند قوم مشاغيل، فلا يسمعون له، فيكون استخفافاً بالقرآن، وعندنا يكره إذا كانت الحالة هذه، وعن هذا كره بعض مشايخنا التصدق على ... الذي يقرأ القرآن في السوق زجراً له عن ذلك؛ لأنه يقرأ عند قوم مشاغيل، فكره التصدق عليه زجراً وتأديباً له، والتسبيح والتحميد نظير القراءة، ورأيت في «فوائد الفقيه أبي جعفر»: أن قراءة القرآن في الحمام، أو في المغتسل، أو في موضع ينصب فيه الماء الذي غسل به النجاسة مكروه؛ سواء كان خفية أو جهراً؛ لأن هذا يؤدي إلى الاستخفاف بالقرآن؛ أما إذا قرأ القرآن خارج الحمام في موضع ليس فيه غسالة الناس؛ نحو مجلس صاحب الحمام أو الثيابي فقد اختلف علماؤنا فيه قال أبو حنيفة: لا يكره ذلك، وقال محمد: يكره، وليس عن أبي يوسف رواية (82ب2) منصوصة.
وفي «الواقعات»: لا يقرأ القرآن في المخرج والمغتسل والحمام إلا حرفاً حرفاً، وفي «النوازل»: أنه يكره حرفاً حرفاً، والأول أصح.(5/138)
-----
وفي «الفتاوى»: قراءة القرآن في القبور عند أبي حنيفة رضي الله عنه تكره، وعند محمد لا تكره، قال الصدر الشهيد رحمه الله: ومشايخنا أخذوا بقول محمد، وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن القراءة على المقابر إذا أخفى، ولم يجهر لا تكره، ولا بأس به، وإنما كره قراءة القرآن في المقبرة جهراً، وأما المخافتة، فلا بأس به وإن ختم، وقيل إن نوى أن يؤنسه بصوته يقرأ، وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن يقرأ على المقابر سورة الملك؛ سواء أخفى أو جهر، وأما غيرها، فإنه لا يقرأ في المقابر، ولم يفرق بين الجهر والخفية؛ لأن الأثر فيه ورد، وحكي عن أبي بكر بن أبي سعيد أنه قال: يستحب عند زيارة القبر قراءة سورة الإخلاص: {قل هو الله أحد} (الإخلاص:1) سبع مرات، فإنه بلغني أنه من قرأها سبع مرات إن كان ذلك غير مغفور له يغفر له، وإن كان مغفوراً له غفر لهذا القارىء، ووهب ذنوبه من الميت.
ولا بأس بقراءة القرآن إذا وضع جنبه على الأرض لقوله تعالى: {وعلى جنوبهم} (آل عمران:191) ، ولكن ينبغي أن يضم رجله عند القراءة، ويكره أن يتخذ شيئاً من القرآن حتماً لشيء من الصلاة؛ لا يتجاوز عنه إلى غيره؛ لكن هذا إذا اعتقد أن غيره لا يجوز، أما إذا عرف أنه يجوز لكن هذا أيسر علىه، وقرأ متبركاً بقراءة رسول الله عليه السلام، فلا بأس.
في كراهية «شرح الطحاوي»: قراءة القرآن من الأسباع جائزة، والقراءة من المصحف أحب؛ لأن الأسباع محدثة، والصحابة كانوا يقرؤون من المصاحف. رجل يقرأ القرآن كله في يوم واحد، ورجل آخر يقرأ سورة الإخلاص في يوم واحد خمسة آلاف مرة، فإن كان الرجل قارئاً فقراءة القرآن أفضل؛ لأنه جاء في الختم ما لم يجىء في غيره.(5/139)
-----
إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وأراد به قراءة القرآن يتعوذ قبله، وإن أراد به افتتاح القرآن كما يقرأ التلميذ على الأستاذ لا يتعوذ، فعلى هذا لا ينبغي للجنب أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إذا أراد قراءة القرآن، وإن أراد به التسمية أو افتتاح القراءة لا بأس به.
عن محمد بن مقاتل فيمن أراد قراءة سورة أو قراءة آية، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتبع ذلك بسم الله الرحمن الرحيم، فإن استعاذ لسورة الأنفال وسمى، ومر في قراءته إلى سورة التوبة وقرأها كفاه ما تقدم من الاستعاذة والتسمية، ولا ينبغي له أن يخالف الذين ألفوا وكتبوا المصاحف التي في أيدي الناس، فإن اقتصر على ختم سورة الأنفال، فقطع القراءة، ثم أراد أن يبتدىء سورة التوبة كان كإرادته ابتداء قراءة آية من الأنفال، فيستعيذ ويسمي.
وكذلك سائر السور المعلمة في حالة الحيض تعلم الصبيان حرفاً حرفاً، أي: كلمة كلمة، ولا تعلمهم آية تامة؛ لأن الضرورة تندفع بالأول، والمسقط هي الضرورة. قراءة الفاتحة بعد المكتوبة لأجل المهمات مخافته أو جهراً مع الجمع مكروهة، وكذلك قراءة الكافرون مع الجمع مكروهة؛ لأنها بدعة لم ينقل عن الصحابة، وعن التابعين رضوان الله عليهم أجمعين. القارىء إذا سمع النداء، فالأفضل له أن يمسك ويستمع النداء.
القارىء إذا سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لا تجب عليه الصلاة؛ لأن قراءة القرآن على نظمه وتأليفه أفضل من الصلاة على النبي عليه السلام، فإذا فرغ من قراءته، إن صلى على النبي عليه السلام فحسن، وإن لم يصلِّ فلا شيء عليه.
في «فتاوى أهل سمرقند»: ورأيت في «فوائد الفقيه أبي جعفر»: أن الرجل إذا كان يقرأ القرآن ويؤذن المؤذن؛ روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه يرد جواب المؤذن بقلبه، وعن محمد: أنه يمضي على القراءة، ولا يلتفت إليه ولا يشغل قلبه، كما لا يشغل لسانه.
مسائل الدعاء(5/140)
-----
روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك يروى هذا اللفظ بروايتين: بمقعد العز من عرشك عن العقد، وبمقعد العز من عرشك من القعود، فبالرواية الثانية لا شك في الكراهة؛ لأنه وصف الله تعالى بما لا يليق به، وهو القعود والتمكن على العرش، وهو قول المجسمة. وأما في اللفظ الأول؛ فلأنه يوهم تعلق عزه بالعرش، وأن عزه حادث إذا تعلق بالحادث، والله تعالى متعالٍ عن صفة الحدث، وعن أبي يوسف أنه لا يكره؛ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ، فقد جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه كان يقول: «اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وجدك الأعلى، وكلماتك التامة».
ويكره أيضاً: أن يقول الرجل في دعائه: اللهم إني أسألك بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق لأحد من المخلوقين على الله تعالى. وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. ويكره أن يقول: أدعوك بمقعد العز من عرشك قال ثمة: والدعاء المأذون فيه، والمأثور به ما استفيد من قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف: 10) ، وإنما كره بمقعد العز من عرشك؛ لأنه لا يدعوه به.
قال ثمة أيضاً: وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصلي أحد على أحد إلا على النبي، وهو قول محمد رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس به، وإن ذكر غير النبي على أثر النبي في الصلاة، فلا بأس به بلا خلاف، ويكره الدعاء عند ختم القرآن في شهر رمضان، وعند ختم القرآن بجماعة؛ لأن هذا لم ينقل عن النبي عليه السلام وأصحابه؛ قال الفقيه أبو القاسم الصفار: لولا أن أهل هذه البلدة قالوا: إنه يمنعنا من الدعاء، وإلا لمنعتهم عنه.(5/141)
-----
المصلي لا يدعو بما يحضره من الدعاء، بل ينبغي أن يدعو في صلاته بدعاء محفوظ؛ لأنه يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس، فتفسد به صلاته؛ أما في غير حالة الصلاة ينبغي أن يدعو بما يحضره، ولا يستظهر الدعاء؛ لأن حفظ الدعاء يذهب برقة القلب.
رجل يدعو وهو ساه، فإن كان دعاؤه على الرقة، فهو أفضل، وإن لم يمكنه أن يدعو إلا وهو ساه، فالدعاء له أفضل من تركه؛ (83أ2) لأن وسعه ذلك.
إذا دعى المذكر على المنبر دعاءً مأثوراً، والقوم يدعون معه كذلك، فإن كان ليعلم القوم فلا بأس، ولو لم يكن ليعلم القوم فهو مكروه؛ لأنه بدعة.
الكافر إذا دعا هل يجوز أن يقال يستجاب دعاؤه؟ ذكر في «فتاوى أهل سمرقند»: فيه اختلاف المشايخ؛ بعضهم قالوا منهم أبو الحسن ..... إنه لا يجوز؛ لأنه لا يدعو الله تعالى؛ لأنه لا يعرفه؛ وهذا لأنه وإن أقر به، إلا أنه لما وصفه بما لا يليق به فقد رفض إقراره، والذي روي في الحديث «أن دعوة المظلوم وإن كان كافراً تستجاب»؛ معناه إن صح: كافر النعمة؛ لا كافر الديانة، هذا كقوله عليه السلام: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» معناه: كفر كفران النعمة؛ لا كفران الديانة، وبعضهم قالوا: منهم أبو القاسم الحكيم، وأبو نصر الدبوسي: يجوز، واستدلوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس: {قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين} (الأعراف:14 15) وهذه إجابة، قال الصدر الشهيد: وهو الصحيح.9(5/142)
-----
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن الحسن رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يكره رفع الصوت عند قراءة القرآن وعند الجنائز»، وعن قيس بن عباد، ويروي عبادة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنائز والذكر، ففي حديث الحسن ذكر قراءة القرآن مقام الذكر، ولا تنافي بينهما، فاسم الذكر اسم عام يتناول الدعاء والتسبيح والتهليل، ويتناول الوعظ وقراءة القرآن فإن قراءة القرآن ذكر، بل هو أشرف الأذكار، قال الله تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت:45) قال ابن عباس أي: ولتلاوة القرآن أكبر.
فأما رفع الصوت عند الجنائز فيحمل: أن المراد منه النوح وتمزيق الثياب، وخشن الوجوه، وذلك مكروه، ويحتمل أن المراد منه: أن يقوم رجلُ، بعدما اجتمع القوم للصلاة، ويدعو للميت، ويرفع صوته، وذلك مكروه؛ لأن السنة في الأدعية الخفية، ويحتمل: أن المراد منه ما كان عليه أهل الجاهلية من الإفراط في مدح الميت عند جنازته حتى كانوا يذكرون ما هو سببه المحال، وأما رفع الصوت عند الذكر، فإن كان المراد من الذكر الدعاء، فإنما كره ذلك؛ لأن الأصل في الأدعية الخفية، ولأن فيه رياء، ولأجل هذا كره رفع الصوت بالتسبيح والتهليل.
وإن كان المراد منه الوعظ، فليس المراد رفع الواعظ صوته عند الوعظ، وإنما المراد رفع بعض القوم صوته بالتهليل والصلاة على النبي عند ذكره. وقد صح (أنه) قيل لابن مسعود رضي الله عنه: إن قوماً اجتمعوا في مسجد يهللون ويصلون على النبي عليه السلام، ويرفعون أصواتهم، فذهب إليهم ابن مسعود، وقال: ما عهدنا هذا على عهد رسول الله، وما أراكم إلا مبتدعين، فما زال يذكر ذلك حتى أخرجهم من المسجد.
(5/143)
-----
وإن كان المراد قراءة القرآن، فإنما كره رفع الصوت بها؛ لأنه ينافي الخشوع، ولأن فيه رياءً، ولأن فيه منع غيره عن شغله، فإنه يلزمه الاستماع، وقيل: المراد منه المستمع؛ يعني أن المستمع إذا سمع آية فيها ذكر النار، فتعوذ بالله من النار، ورفع صوته، وذلك مكروه، أو القارىء ينقل ذلك، ويرفع بها صوته، وذلك مكروه لما ذكرنا أن السنة في الأدعية الخفية، ومن قال من المشايخ: إن ختم القرآن بالجماعة جهراً يسمى بالفارسية؛ «سي ياره خواندن» مكروه، تمسك بالحديث الذي رواه الحسن، ولما روى قيس عن أصحاب رسول الله عليه السلام؛ إن كان المراد من الذكر قراءة القرآن، والمعنى ما ذكرنا.
المسائل المتفرقات من هذا الفصل: إذا أراد أن يصلي أو يقرأ القرآن، ويخاف أن يدخل عليه الرياء؛ لا يترك القراءة والصلاة لأجل ذلك، وكذا في جميع الفرائض، ولو افتتح الصلاة يريد بها وجه الله، ثم دخل الرياء بعد ذلك في قلبه، فالصلاة على ما أسس؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن.
ولا بأس للجنب أن يكتب القرآن إذا كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها. وقال محمد رحمه الله: أحب إلي أن لا يكتب إن كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها، والآية وما دونها في تحريم الكتابة سواء على رواية محمد؛ لأن الكتابة بمنزلة القراءة، والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء على رواية محمد، فكذا الكتابة.
رجل تعلم بعض القرآن، ثم وجد فراغاً فتعلم باقي القرآن، أفضل من صلاة التطوع، وتعلم الفقه أفضل من تعلم باقي القرآن. الرجل إذا أمكنه أن يصلي بالليل، وينظر في النهار في العلم فعل ذلك، وإن لم يمكنه، فإن كان له ذهن يعقل الزيادة وتعلم، فالنظر في العلم أفضل، فقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام؛ قال: «مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة».
المرأة إذا أرادت تعلم القرآن من الأعمى جاز، ولكن التعلم من المرأة أولى؛ لأن صوتها عورة.(5/144)
-----
قالوا: من أراد أن يقرأ القرآن ينبغي أن يكون على أحسن أحواله، يلبس أحسن ثيابه ويتعمم، ويستقبل القبلة، تعظيماً للقرآن، وكذا العالم يجب أن يعظم العلم.
وسئل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله؛ أن الاشتغال بالدعاء بعد الفريضة أولى، أو الاشتغال بالسنة؟ قال: الاشتغال بالسنة.
رجل يصلي على الأرض، ويسجد على خرقة وضعها بين يديه يتقي به الحر لا بأس به، وقد روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه فعل ذلك، فمر به رجل فقال: يا شيخ لا تفعل مثل هذا فإنه مكروه، فقال أبو حنيفة: أفي مساجدكم حشيش قال: نعم، قال: أتجوز السجدة على الحشيش، ولا تجوز على الخرقة.
رجل أم قوماً وهم له كارهون؛ إن كانت الكراهية لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له أن يؤمهم، هكذا روى الحسن البصري عن أصحاب رسول الله عليه السلام، وإن كان هو أحق بالإمامة منهم ولا فساد فيه، مع هذا يكرهون إمامته لا يكره له أن يؤمهم.
الترجيع بقراءة القرآن هل يكره؟ تكلم المشايخ فيه قال بعضهم: لا بأس به لقوله عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم»، وقال عليه السلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وقال أكثرهم: هو مكروه، ولا يحل الاستماع إليه؛ لأن فيه تشبهاً بفعل الفسقة في حال فسقهم، ولهذا كره هذا النوع في الأذان.
رجل قرأ القرآن ويلحن في قراءته، فسمع إنسان إن علم أنه لو لقنه الصواب لا تدخل عليه الوحشة يلقنه.
قالوا: يجب على المولى أن يعلم مملوكه من القرآن قدر ما يحتاج إليه. إذا سال الدم من أنف إنسان، فكتب فاتحة الكتاب (83ب2).
بالدم على أنفه، وجبهته جاز للاستشفاء والمعالجة، و(لو) أراد أن يكتب ذلك بالبول؛ لم ينقل ذلك عن المتقدمين، وقد قيل: لا بأس به إذا علم أن فيه شفاء؛ وهذا لأن الحرمة تسقط عند الاستشفاء على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.(5/145)
-----
وإذا أراد المصلي التعوذ، فالذي هو موافق للقرآن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو قال: أعوذ بالله العظيم، أعوذ بالله السميع العليم؛ لأنه يصير فاصلاً بين التعوذ، وبين القراءة، وينبغي أن تكون القراءة متصلة بالتعوذ.
الفصل الخامس في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن،نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب؛ قوله لا بأس يدل على (أن) المستحب غيره، وهو الصرف إلى الفقراء؛ إلا أنه إن فعل لا يأثم ولا يزجر عليه، ومن العلماء من قال: إن نقش المسجد قربة حسنة، ومن العلماء من قال: هو مكروه.
حجة من قال: إنه مكروه قوله عليه السلام: «من أشراط الساعة نقوش المساجد»، وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزخرف، فقال: لمن هذه البيعة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه لما رأى مالاً ينقل إلى مسجد المدينة قال: المساكين أحوج إلى هذا من الأساطين.
وجه من قال إنه قربة، ما روي أن داود عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس، ثم سليمان صلوات الله عليه أتمه بعده وزينه حتى نصب الكبريت الأحمر على رأس القبة، وكان ذلك من أعز ما يوجد في ذلك الوقت، ولأن فيه ترغيب الناس في الاعتكاف والجماعة، وفيه تعظيم بيت الله تعالى.(5/146)
-----
والأصح على قول علمائنا رحمهم الله أنه ليس بقربة؛ إلا أنه لا يكره؛ أما ليس بقربة فإن مسجد رسول الله بالمدينة كان مسقفاً من جريدة النخل حيطانه من الحجر، فقيل لرسول الله: ألا نزيد لك، فقال: «لا بل عريش كعريش موسى صلوات الله عليه»، وكان يكف إذا حل به المطر، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: رأيته يسجد في ماء وطين، فدل أنه ليس بقربه، إلا أنه لا بأس به لما روينا من الأحاديث، ولما روي أن عثمان رضي الله عنه رفع بناء مسجد رسول الله عليه السلام، وزاد فيه وزينه، وفرش الحصا فيه على هداية القوم فدل أنه لا بأس به، وكره بعض مشايخنا القوس على المحراب وحائط القبلة؛ لأن ذلك يشغل قلب المصلي إذا نظر فيه، وروي أنه أهدي إلى رسول الله عليه السلام ثوب معلم فصلى فيه، ثم نزعه فقال: «كان يشغلني علمه عن بعض صلاتي»، وذكر الفقيه أبو جعفر في «شرح السير الكبير»: أن تنقيش الحيطان مكروه، قل ذلك أو كثر، وأما تنقيش السقف، فالقليل منه يرخص والكثير مكروه.
قال محمد رحمه الله: وأكره أن تكون قبلة المسجد إلى المخرج أو الحمام أو القبر. يجب أن تعلم بأن جهة القبلة جهة يجب تعظيمها، والتحرز عن الاستخفاف بها، جاء عن النبي عليه السلام «نهى أن يبزق الرجل في جهة القبلة»، وإذا كان يقرب القبلة أنجاس وأرجاس فذلك استخفاف بالقبلة، وعن هذا قلنا إن من صلى وقدامه عذرة أو بول يكره.
ثم تكلم المشايخ في معنى قول محمد: أكره أن تكون قبلة المسجد إلى الحمام؛ قال بعضهم: لم يرد به حائط الحمام، وإنما أراد به المستحم هو الموضع الذي نصب فيه الحميم، وهو الماء الحار؛ لأن ذلك موضع الأنجاس، واستقبال الأنجاس في الصلاة مكروه على ما تقدم ذكره، فأما إذا استقبل حائط الحمام فلم يستقبل الأنجاس، وإنما استقبل الحجر والمدر، فلا يكره.(5/147)
-----
وكذلك تكلموا في معنى قوله: أكره أن تكون قبلة المسجد إلى المخرج، قال بعضهم: أراد به نفس المخرج، وقال بعضهم: أراد به حائط المخرج، وتكلموا أيضاً في معنى الكراهة إلى القبر، قال بعضهم: لأن فيه تشبهاً باليهود، وقال بعضهم: لأن في المقبرة عظام الموتى، وعظام الموتى أنجاس وأرجاس هذا كله إذا لم يكن بين المصلي وبين هذه المواضع حائط أو سترة، أما إذا كان لا يكره، ويصير الحائط فاصلاً، وإذا لم يكن بين المصلي وبين هذه المواضع سترة، فإنما يكره استقبال هذه المواضع في مسجد الجماعات أما في مساجد البيوت لا يكره إذ ليس لمساجد البيوت حكم المساجد على الإطلاق؛ ألا ترى أنه يدخله الجنب من غير كراهة، ويأتي فيه أهله ويبيع ويشتري من غير كراهة.
قال محمد رحمه الله: وتكره المجامعة والبول فوق المسجد؛ لأن لسطح المسجد حكم المسجد، وهذا لما عرف أن حكم المسجد ثابت في الهواء والعرصة جميعاً، ولهذا قلنا: من قام على سطح المسجد مقتدياً بإمام في المسجد، وهو خلف الإمام يجوز، والمعتكف إذا صعد سطح المسجد لا ينتقض اعتكافه، ولا يحل للجنب والحائض والنفساء صعود سطح المسجد، فعلم أن لسطح المسجد حكم المسجد، ثم لا تجوز المجامعة والبول في المسجد، فكذا فوقه.
قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد، يريد المكان المعد للصلاة؛ وهذا لأن كل مسلم مندوب إلى أن يتخذ في بيته مسجداً، ليصلي فيه النوافل والسنن، وقد فعل رسول الله عليه السلام ذلك في بيت جماعة، وقال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {واجعلوا بيوتكم قبلة} (يونس:87) وقال عليه السلام: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً»، وأراد به أن لا يكون فيه مكان الصلاة، فثبت أن كل مسلم مندوب إلى أن يعد في بيته مكاناً يصلي فيه؛ إلا أن هذا المكان لا يأخذ حكم المسجد على الإطلاق؛ لأنه باق على ملكه له أن يبيعه، فهو كما لو بال على سطح بيت فيه مصحف، وذلك لا يكره، فكذا ههنا.(5/148)
-----
والمجامعة والبول في الموضع المعد لصلاة الجنازة لا ذكر له في الكتب، وقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يكره؛ لأنه موضع أعد لإقامة الصلاة فيه بجماعة، فيكره البول والمجامعة فيه، كما في الجامع والمساجد التي على قوارع الطرق عند الحياض، وبعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، ألا ترى أنه لابأس بإدخال الميت، وقد أمرنا بتجنيب المساجد الموتى بخلاف الجامع؛ لأنه أعظم المساجد، والمساجد على القوارع لها حرمة المسجد على الإطلاق.
وفي «فتاوى أبي الليث» مصلى الجنازة له حكم المسجد في حق جواز الاقتداء عند انفصال الصفوف، وحرمة دخول الجنب فيه (84أ2) وبعض مشايخنا قالوا: الجواب في حق جواز الاقتداء صحيح، أما في حق دخول الجنب والمرتد فيه لا يعطى له حكم المسجد رفقاً بالناس.
قال: ويكره لأهل المسجد أن يغلقوا باب المسجد؛ لأن المسجد أعد لذكر الله تعالى فيه قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه} (النور:36) ، فإذا أغلقوا باب المسجد فقد منعوا عن الصلاة والذكر فيه، فدخلوا تحت قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} (البقرة:114) قال مشايخنا: وهذا في زمانهم، أما في زماننا، فلا بأس بإغلاق أبواب المساجد في غير أوان الصلاة؛ لأنه لا يؤمن على متاع المسجد وبنائه وحصره من قبل السارق؛ لأن الغلبة في زماننا لأهل الفسق والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس، ألا ترى أن النساء كن يحضرن الجماعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم منعن ذلك لفساد أحوال الناس، وهو الصواب كذا في مسألتنا.
وفي «الأجناس»: رجل بنى مسجداً في أرض غصب؛ لا بأس بالصلاة فيه، وفي «أمالي أبي يوسف»: لا ينبغي لأحد أن يصلي فيه، ولو جعله طريقاً لا يمر فيه، ولو بنى حانوتاً أو حماماً لا يستأجر الحمام والحانوت وله أن يدخل فيه لشراء المتاع.(5/149)
-----
الطريق إذا كان واسعاً، فبنى فيه أهل المسجد مسجداً للعامة، ولا يضر ذلك بالطريق، فلا بأس به، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا في دورهم شيئاً من الطريق ولا يضر ذلك بالعامة ليس لهم ذلك، نص عليه في «العيون». وفي «فتاوى أبي الليث:» مسجد بني على سور المدينة، فلا ينبغي أن يصلى فيه. علل الصدر الشهيد رحمه الله فقال:؛ لأن السور للعامة، فصار كما لو بنى مسجداً في أرض الغصب، وإنه يخالف ما حكيناه عن «الأجناس».
وفي «الأجناس:» لا بأس بالنوم في المسجد، وفي «الأصل»: لا بأس للمعتكف أن يبيت في المسجد. وفي صلاة «الأثر» قال: سأل محمداً عن دكان اتخذ للمسجد من المسجد وبينه طريق وهو بادٍ من المسجد اتخذ ليصلى عليه في الحر، أيضاعف الأجر بالصلاة عليه كما يضاعف بالصلاة في المسجد؟ قال: نعم.
في «فتاوى أهل سمرقند»: لا بأس بمسح الرجل في التراب الذي في المسجد إذا كان مجتمعاً، وكذا بالحصير المحرق والحشيش المجتمع، وأما إذا كان التراب منبسطاً قال الصدر الشهيد: المختار ما قاله أبو القاسم الصفار؛ لأنه لا .... ذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلاة في باب الوضوء والغسل بقريب من آخره ما يفعل في زماننا من وضع البواري في المسجد ومسح الأقدام عليها فهو مكروه عند الأئمة أجمع.
البزاق في المسجد لا يلقى فوق البواري ولا تحت البواري للحديث: «إن المسجد ... من النخامة» الحديث، وينبغي أن يأخذ النخامة بكمه أو بشيء من ثيابه، وإن اضطر إلى ذلك كان الإلقاء فوق البواري أولى من الإلقاء تحت البواري؛ لأن البواري ليست من المسجد حقيقة، وإن كان لها حكمه، وما تحت البواري من المسجد حقيقة.
وفي كراهية «العيون»: إذا كان في المسجد عش الخطاف ويقذر المسجد لا بأس بأن يرمى بما فيه؛ لأن فيه تنقية المسجد.(5/150)
-----
وفي «النوازل»: لا يتخذ في المسجد بئر الماء، وما كان قديماً كبئر زمزم يترك، كذلك إذا ضاق المسجد على أهله، وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه منه بالقيمة كرهاً، هكذا روي عن الصحابة أنهم فعلوا بالمسجد الحرام.
الخياط إذا كان يخيط الثوب في المسجد يكره ذلك لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى خياطاً يخيط في المسجد، فأمر به فأخرج من المسجد، وكذا الوراق إذا كان يكتب في المسجد بأجر يكره، فعلى هذا الفقهاء إذا كانوا يكتبون الفقه بالأجر في المسجد يكره، وإن كان بغير أجر لا؛ لأنه إذا كان بأجر، فهو عمل العبد، والمسجد ما بني لذلك؛ لأنه بيت الله تعالى، هذه الجملة من «فتاوى أبي الليث».
وفي كراهية «العيون»: معلم جلس في المسجد، أو وراق كتب في المسجد، فإن كان المعلم يعلم بأجر، والوراق يكتب لغيره بأجر يكره إلا أن تقع لهما الضرورة، ويكره أن يجعل .... في كاغد فيه اسم الله تعالى؛ بخلاف الكيس يكتب فيه اسم الله؛ لأن الكيس يعظم أما الكاغد، والقرطاس فيستهان.
معلم معه خريطة فيها كتب من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، أو كتب أبي حنيفة رضي الله عنه أو غيره، فتوسد بالخريطة، إن قصد الحفظ لا يكره، إذ ليس فيه ترك التعظيم، وإن لم يقصد الحفظ يكره؛ لأن فيه ترك التعظيم.
روي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: المصحف لا يورث، إنما هو للقارىء من الورثة، وعندنا يورث كسائر الأموال، إلا أنه لا قطع فيه؛ لأن المقصود ما فيه وهو القرآن.(5/151)
-----
سئل الفقيه أبو جعفر عمن كان في كمه كتاب، فجلس يبول؛ أيكره ذلك؟ قال: إن أدخله مع نفسه المخرج يكره، وإن اختار لنفسه مبالاً طاهراً في مكان طاهر؛ لا يكره، وعلى هذا إذا كان في بيته دراهم مكتوب فيها اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، أو كان في هميانه دنانير كتب فيها اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فأدخلها مع نفسه المخرج يكره، وإن أعد لنفسه مبالاً طاهراً في مكان طاهر لا يكره، وعلى هذا إذا كان عليه خاتم، وعليه شيء من القرآن مكتوب، أو كتب عليه اسم الله تعالى، فدخل المخرج معه أو أعد لنفسه مبالاً في مكان طاهر.
وعنه أيضاً: فيمن غرس الأشجار في المسجد؛ إن كان يفعل ذلك للظل؛ لا بأس، وإن كان يفعل ذلك لبيع الأوراق أو لمنفعة أخرى يكره إذا كانت تضيق على الناس مسجدهم لصلاتهم، أو يقع فيه تفريق الصفوف، قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه قطع شجرة كانت في قرب الكعبة، وكانت تضيق على القوم في طوافهم، ورأيت مسألة الأغراس في المسجد في موضع آخر، وكان جواب المسألة ثمة أنه إن كان للمسجد فيها نفع لا بأس به، وما لا فلا، ونفع المسجد أن يكون المسجد إذا ترك وأساطينه لا يستقر، فيغرس الأشجار ليجذب ذلك عروقها، وإن كان كذلك تجوز، وما لا فلا؛ وهذا لأن غرس الأشجار في المسجد تشبيه له بالبيعة، فلا يجوز ذلك إلا لحاجة، قالوا: ومشايخ بخارى إنما جوزوا ذلك في جامع بخارى لهذه الحاجة.
ولا يمس الجنب المصحف، ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن، والحائض كالجنب، والمحدث يساويهما في حكم المسح، ويفارقهما في القراءة.(5/152)
-----
والوجه في ذلك: أن الجنابة تشمل الفم واليد والحيض كذلك، ولهذا يجب إيصال الماء إلى الفم في الغسل عن الحيض والجنابة، فلا يجوز (84ب2) المس له (كما لا) يجوز لهما القراءة، وأما الحدث يحل باليد أما لا يحل بالفم، ولهذا لا يجب إيصال الماء إلى الفم في الوضوء عن الحدث، فيقرأ ولا يمس، فإن غسل الجنب الفم أو اليد، وأراد أن يقرأ القرآن، أو يمس المصحف لا يحل له ذلك، وكذلك المحدث إذا غسل اليد، وأراد أن يأخذ المصحف ليس له ذلك؛ لأن الجنابة لا تتجزأ ثبوتاً وزوالاً، والحدث كذلك. وكما لا يحل لهؤلاء مس الكتابة، لا يحل لهم مس البياض.
وإن مس المصحف بغلافه لا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه؛ المتصل به عند بعض المشايخ، وعند بعضهم المنفصل عنه كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف من المصحف؛ ألا ترى أنه يدخل تحت بيع المصحف من غير ذكر، وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه، ألا ترى أنه لو قام على النجاسة في الصلاة وفي رجليه نعلان أو جوربان لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه، وقام عليهما جاز، وعن هذا قالوا: إذا بسط الرجل كمه على النجاسة، وسجد عليه لا يجوز، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للرجل الأجنبي أن يأخذ بيدها من غير حائل ثوب، وكذا لا تثبت حرمة المصاهرة بالمس بحائل.
ويكره للجنب ومن بمنعاه مس كتب التفاسير، وكذا يكره مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنها لا تخلو عن آيات القرآن، أو إن لم يكن فيها آيات القرآن فيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه للمحدث بالحكم للضرورة والبلوى، وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به باساً؛ لأنهم غير مخاطبين بالوضوء، وفي التأخير تضييع حفظ القرآن.(5/153)
-----
وإذا صار المصحف خلقاً بحيث لا يقرأ منه لا يحرق؛ إليه أشار محمد رحمه الله في «السير» في باب ما يوجد من الغنيمة، فيكره قسمته، وبه نأخذ، ولا يكره دفنه، ومن أراد دفنه ينبغي أن يلفه بخرقة طاهرة، ويحفر لها حفرة ويلحد ولا يشق؛ لأنه متى شق ودفن يحتاج إلى إهالة التراب عليه، وفي ذلك نوع تحقير واستخفاف بكتاب الله تعالى، وإن شاء غسله بالماء حتى يذهب ما به، وإن شاء وضعه في موضع طاهر لا تصل إليه يد المحدثين، ولا تصل إليه النجاسة تعظيماً لكلام الله تعالى، تصغير المصحف حجماً وأن يكتب بقلم دقيق مكروه.
في كراهية «واقعات الناطفي»: ويكره مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره عمداً، وكذلك يكره مد الرجلين إلى المصحف، وإلى كتب الفقه لما فيه من ترك تعظيم جهة القبلة، وكلام الله تعالى، ومعاني كلام الله تعالى، وإذا كان للرجل جوالق، وفيها مراسم مكتوب فيها شيء من القرآن، أو كان في الجوالق كتب الفقه، أو كتب التفسير أو المصحف، فجلس عليها أو نام، فإن كان من قصده الحفظ فلا بأس، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وإذا كتب اسم الله تعالى على كاغدة، ووضع تحت .... يجلسون عليها، فقد قيل: يكره، وقد قيل: لا يكره؛ قال: ألا ترى أنه لو وضع في البيت لا بأس بالنوم على سطحه؛ كذا ههنا، وإذا حمل المصحف أو شيء من كتب الشريعة على دابة في جوالق، وركب صاحب الجوالق على الجوالق؛ لا يكره.
ومما يتصل بهذا الفصل(5/154)
-----
المجاورة بمكة وقد كرهها أبو حنيفة رضي الله عنه؛ روى هشام عنه: أنه كره الجوار بمكة، قال:؛ لأنها ليست بأرض هجرة، وروى الحسن عنه: أنه كره الجوار بمكة والمقام بها، وكان يقول: هاجر رسول الله عليه السلام منها. ذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهم؛ قال: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، وأرخص فيها في غير أيام الموسم، وهكذا روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنهم قال: وكان يقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان لهم فضل، وإذا لم يكن فلا، قال هشام: وإنما قال: لهم أن ينزلوا في دورهم لقوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} (الحج:25) ، وإنما فرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين أيام الموسم، وغيرها في كراهية الإجارة؛ لأن في أيام الموسم يزدحم الخلق، وتقع الضرورة في النزول في مساكنهم، فأنزل منازلهم كالمملوك للنازلين من وجه نظراً ومرحمة لهم، وبعد أيام الموسم ترتفع الضرورة، فيعاد إلى الأصل.
ثم هذه المسألة دليل على صحة أمر إجارة البناء بدون الأرض؛ لأن الإجارة ههنا لا ترد على الأرض عند أبي حنيفة رضي الله عنه كالبيع، وإنما ترد على البناء، وقد رخص فيها في غير أيام الموسم.
(5/155)
الفصل السادس في سجدة الشكر
-----
روي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه: أنه كان يكره سجدة الشكر، وعن محمد أن أبا حنيفة كان لا يراها شيئاً، ويستحبها قال محمد: وقد جاء فيها غير حديث، وتكلم المتقدمون في معنى قول محمد، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يراها شيئاً؛ بعضهم قالوا: معناه لا يراها قربة، وهكذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء، وفي «القدوري» معناه كان لا يراها مسنوناً، وهو قريب من الأول، وبعضهم قالوا: معناه لا يراها شكراً تاماً، فتمام الشكر أن يصلي ركعتين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ولم يذكر محمد رحمه الله قول أبي يوسف في شيء من الكتب وذكر القاضي الإمام الزاهد ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله في «شرح كتاب السير» قول أبي يوسف رحمه الله مع محمد رحمه الله، احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل به زمانة فسجد، وأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فسجدا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما أتاه فتح اليمامة سجد، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: السجود ركن من أركان الصلاة مفرداً، فلا يتقرب بها إلى الله تعالى على الانفراد تطوعاً قياساً على القيام المفرد، والركوع المفرد، وأما ما روي من الأحاديث قلنا: يحتمل أن المراد من السجدة المذكورة فيها الصلاة، فأهل الحجاز يسمون الصلاة سجدة، قال الله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي} (آل عمران:43) أي صلي، وإذا جاز تسمية الصلاة سجدة احتمل أن يكون المراد من الحديث الصلاة، فلا يكون حجة مع الاحتمال.
وبعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وأما أبو حنيفة: فكان لا يراها شيئاً، نفي شرعيتها قربة، وإنما أراد به نفي وجوبه كذا ههنا، فعلى قوله ههنا يرتفع الخلاف. ولو أتى بها إنسان لا يكون مكروهاً.(5/156)
-----
وجه الكراهة على قول النخعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على ما ذكره «القدوري»: أنه لو فعلها من كان منظوراً إليه، وظن ظان أنه واجب (85أ2) أو سنة متبعة عند حدوث نعمة فقد أدخل في الدين ما ليس منه، وقد قال عليه السلام: «من أدخل في الدين ما ليس منه فهو مكروه».
الفصل السابع في المسابقة
قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالمسابقة بالأفراس ما لم يبلغ غاية لا يحتملها الفرس؛ جاء في الحديث: تسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله، وصلى أبو بكر وثلث عمر، معنى قوله صلى أبو بكر: أنه كان راش دابة أبي بكر عند صلاة دابة رسول الله وهو الذنب، وكذلك لا بأس بالمسابقة بالإبل والرمي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر»، والمراد بالحافر الفرس، والمراد بالنصل الرمي، والمراد من الخف الإبل.
فإن شرطوا لذلك جعلاً، فإن شرطوا الجعل من الجانبين فهو حرام.
وصورة ذلك: أن يقول الرجل لغيره: تعال حتى نتسابق، فإن سبق فرسك، أو قال: إبلك أو قال: سهمك أعطيك كذا، وإن سبق فرسي، أو قال: إبلي، أو قال: سهمي أعطني كذا، وهذا هو القمار بعينه؛ وهذا لأن القمار مشتق من القمر الذي يزداد وينقص، سمي القمار قماراً؛ لأن كل واحد من المقامرين ممن يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه، ويستفيد مال صاحبه، فيزداد مال كل واحد منهما مرة وينتقص أخرى، فإذا كان المال مشروطاً من الجانبين كان قماراً، والقمار حرام، ولأن فيه تعليق تمليك المال بالخطر، وإنه لا يجوز.
وإن شرطوا الجعل من أحد الجانبين، وصورته: أن يقول أحدهما لصاحبه إن سبقتني أعطيك كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي عليك، فهذا جائز استحساناً، والقياس أن لا يجوز.(5/157)
-----
وجه القياس: أن المال إذا كان مشروطاً من أحد الجانبين؛ إن كان لا يتمكن فيه معنى القمار؛ لأن المشروط له المال لا يذهب ماله بحال من الأحوال، والقمار أن يكون واحد من المقامرين بحال يجوز أن يذهب ماله، ويجوز أن يستفيد مال صاحبه لما ذكرنا من اشتقاق القمر، إلا أن فيه تعليق تمليك المال بالخطر، وإنه لا يجوز، ألا ترى أن الاستباق فيما عدا هذه الأشياء الثلاثة نحو البغال والحمير لا يجوز، وإن كان المال مشروطاً من أحد الجانبين إنما لم يجز؛ لأن فيه تعليق تمليك المال بالخطر.(5/158)
-----
وجه الاستحسان: ما روينا من حديث أبي هريرة؛ ووجه الاستدلال به: أن النبي عليه السلام نفى السباق عاماً بقوله: «لا سبق»، واستثنى الأشياء (الثلاثة) بقوله: «إلا في خف أو نصل أو حافر»، والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وليس المراد من الحديث ما إذا لم يكن المال مشروطاً أصلاً، فإن الاستباق بدون شرط المال جائز في الأشياء كلها، وليس المراد ما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين؛ لأن ذلك قمار، والقمار حرام بالإجماع وبنص التنزيل، فكان المراد ما إذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين، والنص الوارد في الأشياء الثلاثة إذا كان مشروطاً من أحد الجانبين لا يكون وارداً فيما عدا الأشياء الثلاثة؛ لأن فيما عدا الأشياء الثلاثة نص آخر بخلافه، وهو قوله: «لا سبق» نفى السبق عاماً، واستثنى الأشياء الثلاثة ففيما عدا الأشياء الثلاثة ينتفي السبق بالنفي العام، ولأن الأشياء الثلاثة من آلات الحراب، وللناس إلى المخاطرة والرهان (في) حاجة حتى يتعلموا الفروسية والرمي، فأما ما عدا الأشياء الثلاثة فليس من آلات الحراب، ولا حاجة إلى الرهان في ذلك، وكذلك النص الوارد في الأشياء الثلاثة إذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين لا يعتبر وارداً فيما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين، فالمانع فيه شيئان: القمار، وتمليك المال بالخطر، وإذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين، فالمانع فيه شيء واحد، وهو تمليك المال بالخطر، والجواز عند قلة المانع لا يدل على الجواز عند كثرة المانع.
ثم إذا كان المال مشروطاً من الجانبين، فأدخلا بينهما ثالثاً، وقالا للثالث: إن سبقتنا فالمالان، وإن سبقناك فلا شيء لنا، يجوز استحساناً لانتفاء معنى القمار في حق الثالث، وهو مروي عن سعيد بن المسيب.(5/159)
-----
ثم إذا أدخلا ثالثاً، فإن سبقهما الثالث استحق المالين، وإن سبقا الثالث إن سبقاه معاً فلا شيء لواحد منهما على صاحبه؛ لانعدام شرط وجوب المال فيما بينهما، وهو سبق أحدهما على صاحبه، وإن سبقاه على التعاقب، فالذي سبق صاحبه يستحق المال على صاحبه لوجود الشرط في حقه، وصاحبه لا يستحق المال عليه، لانعدام الشرط في حق صاحبه.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: إدخال الثالث إنما يكون حيلة للجواز إذا كان الثالث يتوهم أن يكون سابقاً ومسبوقاً، فأما إذا كان يتيقن بأنه يسبقهما لا محالة، أو يتيقن أنه يصير مسبوقاً لا يجوز؛ لأن القياس أن لا يجوز، وإن انتفى معنى القمار في حقه لما فيه من تعليق تمليك المال بالخطر؛ إلا أنا جوزناه بخلاف القياس بالنص، وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من أدخل فرساً بين فرسين، فإن كان يأمن أن يسبق، فلا خير فيه، وإن كان لا يأمن أن يسبق، فلا بأس به»، فالحديث أفاد الجواز بشرط أن يتوهم أن يكون الثالث سابقاً ومسبوقاً، وما ثبت نصاً بخلاف القياس يراعى فيه جميع الشرائط التي ورد بها النص.
ولم يذكر محمد في «الكتاب» المخاطرة في الاستباق على الأقدام، ولا شك أن المال إذا كان مشروطاً من الجانبين فإنه لا يجوز، وإن كان مشروطاً من أحد الجانبين يجب أن يجوز لحديث الترمذي فإن كانت المسابقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل والركاب والأرجل، ولأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة الجسم كما يحتاجون إلى رياضة الدواب.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أنه إذا وقع الاختلاف بين المتفقهين في مسألة، فأراد الرجوع إلى الأستاذ، ويشترط أحدهما لصاحبه إن كان الجواب كما قلت؛ أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئاً؛ ينبغي أن يجوز على قياس الاستباق على الأفراس.(5/160)
-----
وكذلك إذا قال واحد من المتفقهة لمثله: تعال حتى نطارح المسائل، فإذا أصبتَ وأخطأتُ أعطيك كذا، وإن أصبتُ وأخطأتَ، فلا آخذ منك شيئاً يجب أن يجوز؛ لأن في الأفراس إنما جوز ذلك حثاً على تعلم الفروسية، فيجوز ههنا أيضاً حثاً على تعلم الفقه؛ لأن كل ذلك (85ب2) يرجع إلى تقوية الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
الفصل الثامن في السلام، وتشميت العاطس
ذكر في «النوازل»: إذا أتى إنسان باب دار غيره، يجب أن يستأذنه، ثم إذا دخل يسلم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور:27) والمراد بالاستئناس الاستئذان (لأمر) الله تعالى به، أما الاستئذان قبل السلام، وهذا في البيوت، أما في الفضاء يسلم أولاً ثم يتكلم لقوله عليه السلام: «من كلم قبل السلام فلا تجيبوه».
وإذا قال السائل على الباب: السلام عليكم لا يجب رد السلام؛ لأن هذا ليس بسلام تحية بل هو شعار لسؤالهم، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا مررت على قوم، فسلم عليهم، وإذا سلمت عليهم وجب عليهم رد السلام، والأصل في وجوب رد السلام قول الله تعالى: {فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء:86) .
واختلفوا في أن أيهما أفضل أجراً؟ قال بعضهم: الراد أفضل أجراً؛ لأن رد السلام واجب، والسلام ابتداءً ليس بواجب، ولا شك أن الآتي بالواجب أفضل أجراً، وقال بعضهم: المسلم أفضل أجراً؛ لأنه سابق، فالسابق له فضل السبق، والأفضل للمسلم أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والمجيب كذلك يرد، ولا ينبغي أن يزاد على البركات شيء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام البركات».(5/161)
-----
ويسلم الماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، وإذا التقى الرجلان ابتدرا بالسلام؛ نقل ذلك عن عطاء رضي الله عنه. قال الحسن: قوم يستقبلون قوماً، يبدأ الأقل بالأكثر، وقد قيل: ابتدروا، وفي حديث يزيد بن وهب عن النبي عليه السلام قال: «يسلم الراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير».
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا دخل جماعة على قوم، فإن تركوا السلام، فكلهم آثمون في ذلك، وإن سلم واحد منهم جاز عنهم جميعاً، وإن سلم كلهم، فهو أفضل، وإن تركوا الجواب فكلهم آثمون وإن رد واحد منهم أجزأهم، به ورود الأثر، وهو اختيار الفقيه أبو الليث، وإن أجاب كلهم، فهو أفضل، وقال بعض المشايخ: يجب الرد على الكل، ولا نأخذ به، وينبغي للمجيب إذا رد جواب السلام أن يُسمع المسلم؛ حتى لو لم يسمعه لا يكون جواباً، ولا يخرج عن العهدة، ألا ترى أن المسلِّم إذا سلم ولم يسمع لا يكون جواباً، فإن كان المسلم أصم ينبغي أن يريه تحريك شفتيه، وكذلك في جواب العطسة.
وينبغي للمسلم إذا سلم على غيره أن يسلم بلفظ الجماعة؛ لأن المخاطب (لا) تكون معه الملائكة، وكذلك المجيب إذا رد الجواب ينبغي أن يذكر بلفظ الجماعة؛ لما قلنا.
وفي «النوازل»: رجل جالس مع قوم؛ سلم عليه رجل، وقال: السلام عليك، فرده بعض القوم ينوب ذلك عن الذي سلم عليه المسلم، ويسقط عنه الجواب، يريد به ما إذا أشار ولم يسم؛ علل فقال:؛ لأن قصده التسليم على الكل، ويجوز أن يشار إلى الجماعة بخطاب الواحد؛ هذا إذا لم يسم ذلك الرجل، فأما إذا سماه، فقال: السلام عليك يا زيد، فأجابه غير زيد، لا يسقط الفرض عن زيد، وإن لم يسم، فأشار إلى زيد يسقط؛ لأن قصده التسليم على الكل ولكن يريده زيادة.(5/162)
-----
في «فتاوى أهل سمرقند»: حكي عن الفقيه أبي جعفر أن بعضاً من العلماء من أصحاب أبي يوسف رحمه الله كان إذا مر في السوق لم يقل: السلام عليكم، ولكن قال: سلام الله عليكم، فقيل له في ذلك، فقال: التسليم تحية، وإجابة التحية فرض، قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء:86) فإذا لم يجيبوني لزمني الأمر بالمعروف، فأما سلام الله تعالى عليهم دعاء ليس بتسليم فلا يلزمهم شيء، ولا يلزمني الأمر بالمعروف، فأختار سلام الله تعالى، لهذا اختلف المشايخ في التسليم على الصبيان، قال بعضهم: لا يسلم عليهم، وهو قول الحسن؛ وهذا لأن رد السلام فرض، والصبي لا تلزمه الفرائض، فلا يلزمه رد السلام، فلا يسلم عليه لهذا، وقال بعضهم: التسليم عليهم أفضل، وهو قول شريح، قال الفقيه: وبه نأخذ، وقد روي عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنت مع الصبيان إذ جاء رسول الله، وسلم علينا.(5/163)
-----
وأما التسليم على أهل الذمة، فقد اختلفوا فيه أيضاً؛ قال بعضهم: لا بأس به لما روي عن أبي إمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: «أمرنا رسول الله عليه السلام بإفشاء السلام على كل مسلم ومعاهد»، وقال بعضهم: لا يسلم عليهم لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالتسليم»، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يسلم على اليهود والنصارى والمجوس، وهذا إذا لم يكن للمسلم حاجة إلى الذمي، وإن كان له حاجة، فلا بأس بالسلام عليه؛ لأن النهي عن السلام عليه لتوقيره، ولا توقير للذمي إذا كان السلام لحاجة. ويكره مصافحة الذمي؛ لأن فيه توقير الذمي، ولا بأس برد السلام على أهل الذمة، ولكن لا يزاد على قوله: وعليكم، روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن اليهود إذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم»، قال الفقيه أبو الليث: إذا مررت بقوم وفيهم كفار؛ فأنت بالخيار؛ إن شئت قلت: السلام عليكم، وتريد به المسلمين، وإن شئت قلت: السلام على من اتبع الهدى، قال مجاهد: إذا كتبت إلى اليهودي، وإلى النصراني في حاجة، فاكتب: السلام على من اتبع الهدى.
وإذا دخل الرجل بيته يسلم على أهل بيته، وإن لم يكن في البيت أحد يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، رواه سعيد عن قتادة.
وإذا مر الرجل بالقارىء، فلا ينبغي أن يسلم عليه؛ لأنه يشغله عن قراءة القرآن، فإن سلم مع ذلك تكلموا فيه، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب عليه الرد، وهكذا حكى اختيار الفقيه أبي الليث؛ بخلاف السلام وقت الخطبة، هكذا ذكر رحمه الله في «واقعاته»، ورأيت في «فوائد» الفقيه أبي جعفر: إذا سلم رجل على الذي يصلي، أو يقرأ القرآن؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام بقلبه، وعن محمد أنه يمضي على القراءة، ولا يشغل قلبه كما لا يشتغل لسانه.(5/164)
-----
وفي «الأصل»: لا ينبغي للقوم أن يشمتوا العاطس ولا أن يردوا السلام (86أ2) يعني وقت الخطبة، وفي صلاة «الأثر» روى محمد عن أبي يوسف: أنهم يردون السلام، ويشمتون العاطس، وتبين بما ذكر في صلاة «الأثر»، أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد.
قالوا: الخلاف بين أبي يوسف ومحمد في هذا بناءً على أنه إذا لم يرد السلام في الحال؛ هل يرد بعد الفراغ من الخطبة؟ على قول محمد: يرد، وعلى قول أبي يوسف: لا يرد، ولما كان من مذهب محمد الرد بعد الفراغ لو اشتغل برد السلام يفوته الاستماع، ولو اشتغل بالسماع يتأخر رد السلام ولا يفوت، والتأخير أهون من التفويت، وعند أبي يوسف لما كان يمكنه الرد بعد الفراغ لو لم يرد السلام في الحال يفوته الرد أصلاً، ولو رد يفوته الاستماع في البعض، ولا شك أن تفويت البعض أهون من تفويت الكل.
وإذا دخل القاضي المسجد، فلا ينبغي له أن يسلم على أحد الخصمين، ولو سلم على الخصوم تسليماً عاماً، فقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: له ذلك، وبه أخذ الخصاف؛ لأن السلام سنة متبعة، ولا يجوز ترك السنة بسبب تقلد العمل، وهذا القائل يقول بأن الأمير أو الوالي إذا دخل المسجد ينبغي أن يسلم، لا يسعه تركه للمعنى الذي ذكرنا، ومنهم من قال: الأولى أن لا يسلم، وهذا القائل يقول في الوالي والأمير أيضاً: إن الأولى لهما إذا دخلا المسجد أن لا يسلما؛ وهذا لأنهم إذا سلموا ترتفع الهيبة وتقل الخشية، ومبنى أمر هؤلاء على الهيبة والخشية، فلا يسلموا حتى تبقى الهيبة والخشية، هذا هو الكلام في وقت دخول المسجد، فأما إذا دخل القاضي المسجد، وجلس ناحية منه لفصل الخصومات؛ لا ينبغي له أن يسلم على الخصوم، ولا ينبغي للخصوم أن يسلموا عليه، أما القاضي؛ لأنه جلس لفصل الخصومة، فلا يشتغل بغيره، فأما الخصوم لا يسلمون؛ لأن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما أتوه لأجل الزيارة، إنما أتوه لأجل الخصومة، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي».(5/165)
-----
بعض مشايخنا قاسوا الولاة والأمراء على القاضي، فقالوا: إذا جلس الوالي والأمير في المسجد أو في بيته، فلا يسلم على الرعية، والرعية لا يسلمون عليه؛ قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: الصحيح هو الفرق بين القضاة، وبين الأمراء والولاة، فالرعية يسلمون على الأمراء والولاة، والخصوم لا يسلمون على القضاة.
والفرق: أن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما تقدموا إلى القاضي زائرين، فأما الرعية تقدموا إلى الأمير والوالي زائرين.
فعلى قول هذا الفرق لو جلس القاضي للزيارة، فالخصوم يسلمون عليه، ولو جلس الأمير لفصل الخصومة، فالخصوم لا يسلمون عليه، ولو سلم الخصوم على القاضي بعدما جلس ناحية من المسجد للقضاء، فلا بأس بأن يرد عليهم السلام، وهذا إشارة إلى أنه لا يجب عليه رد السلام؛ وهذا لأن الرد جواب السلام، والسلام إنما يستحق الجواب إذا كان في أوانه، أما إذا كان في غير أوانه فلا؛ ألا ترى أن من سلم على المصلي لا يستحق الجواب؟ وإنما لا يستحق الجواب لما قلنا.
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: من جلس لتعليم تلامذته، فدخل عليه داخل وسلم، وسعه أن لا يرد؛ لأنه جلس للتعليم لا لرد السلام، فلا يكون السلام في أوانه، وكذلك كان يقول فيمن جلس للذكر، أي ذكر كان فدخل عليه داخل وسلم عليه، وسعه أن لا يرد؛ لأنه جلس للذكر لا لرد السلام، فلا يكون السلام في أوانه.Y(5/166)
-----
قال في كتاب «العلل»: ولا بأس بالسلام على أهل الحمام؛ وإن كانوا عراة؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «وأفشوا السلام» مطلق لا فصل فيه بين شخص وشخص، وإن ترك ذلك بطريق التأديب، والزجر لهم حتى لا يفعلوا مثل ذلك، فلا بأس به. وكذلك على هذا السلام على الذي يلعب بالشطرنج، وهذا إذا كان اللعب بالشطرنج للتلهي؛ أما إذا كان لشحذ الخاطر لا بأس بالتسليم عليه؛ لأن من التابعين من لعب به، وهو الشعبي هكذا قالوا، وكتب في ..... لم يرَ أبو حنيفة رضي الله عنه بالتسليم على من يلعب بالشطرنج بأساً ليشغله ذلك عما هو فيه، وكره أبو يوسف ذلك تحقيراً لهم.
ذكر محمد رحمه الله في باب الجعائل من «السير» حديثاً يدل على أن من بلغ إنساناً سلاماً عن غائب كان عليه أن يرد الجواب على المبلغ أولاً، ثم على ذلك الغائب؛ وهذا لأن المبلغ هو المسبب لوصول السلام إليه، والمسبب إلى الخير كالمباشر له، ولو أنه باشر السلام عليه استحق الرد، فكذا إذا سبب، أو نقول: الغائب محسن إليه بالسلام، والمبلغ بالتبليغ، فكان عليه أن يجازيهما. وفي «البقالي» عمن قال لآخر: أقرىء فلاناً السلام؛ يجب عليه أن يفعل.
تشميت العاطس
إذا عطس الرجل خارج (السلام)، فينبغي أن يحمد الله تعالى، فيقول: الحمد لله رب العالمين، أو يقول: الحمد لله على كل حال، ولا يقول غير ذلك، وينبغي لمن حضره أن يقول: يرحمك الله، ويقول له العاطس: يغفر الله لنا ولكم، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولا يقول غير ذلك، وقد عرف في كتاب الصلاة أن المصلي إذا قال عند عطسة غير المصلي: الحمد لله، لا تفسد صلاته وإن أراد به الجواب، ولو قال: يرحمك الله؛ تفسد صلاته.(5/167)
-----
ولو عطس ثلاث مرات ينبغي أن يحمد الله في كل مرة، ولمن حضره أن يشمته ما بينه وبين ثلاث مرات، فإن زاد على الثلاث فالعاطس يحمد الله؛ أما من حضره، فبالخيار؛ إن شاء شمته، وإن شاء لم يشمته كل ذلك حسن، وعن محمد أن من عطس مراراً يشمت في كل مرة، فإن أخر يكفيه مرة واحدة، فإذا عطست المرأة فلا بأس بتشميتها؛ إلا أن تكون شابة، وإذا عطس الرجل فشمتته المرأة، فإن كانت عجوزاً يرد الرجل عليها، وإن كانت شابة يرد في نفسه، والجواب في هذا كالجواب في السلام.
الفصل التاسع فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل
يجب أن تعلم بأن مسائل النظر تنقسم إلى أربعة أقسام: نظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى المرأة (86ب2).
أما بيان القسم الأول فنقول: يجوز أن ينظر الرجل إلى الرجل، إلا إلى عورته، وعورته ما بين سرته حتى يجاوز ركبته، والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عورة الرجل ما دون سرته حتى تجاوز ركبته»، والتعامل في الحمام في إزار واحد من غير نكير منكر، ومثل هذا التعامل حجة في الشرع.(5/168)
-----
وكان أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي يقول: إن السرة عورة؛ لأنها إحدى حدي العورة فتكون عورة كالركبة، بل أولى؛ لأنها في معنى الاشتهاء فوق الركبة، وحجتنا في ذلك حديث عمرو بن شعيب على ما روينا عن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا اتزر أبدى عن سرته، والتعامل الظاهر فيما بين الناس: أنهم إذا دخلوا الحمام، أبدوا عن سرتهم عند الاتزار من غير نكير منكر، ومثل هذا التعامل حجة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: ما دون السرة إلى موضع نبات الشعر ليس بعورة، لتعامل بعض الناس في الإبداء عن ذلك الموضع عند الإتزار، ولكن هذا بعيد، فإن التعامل إنما يعتبر فيما لا نص فيه، دون السرة نص على ما روينا، وما جاز النظر إليه جاز مسه؛ لأن ما ليس بعورة فمسه والنظر إليه على السواء، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما بيان القسم الثاني: فنقول: نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى الرجل؛ لأن المرأة لا تشتهي المرأة؛ كما لا يشتهي الرجل الرجل، فكما جاز للرجل النظر إلى الرجل؛ فكذا يجوز للمرأة النظر إلى المرأة.
وأما بيان القسم الثالث: فنقول: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي تنظر إلى جميع جسده إلا ما بين سرته حتى تجاوز ركبته؛ لأن السرة فما فوقها وما تحت الركبة من الرجل ليس بعورة، وما ليس بعورة فالنظر إليه مبلغ الرجال والنساء جميعاً.(5/169)
-----
وأشار في «الكتاب» إلى أنها لا تنظر إلى ظهره وبطنه؛ لأن لهم النظر عند اختلاف الجنس، ألا ترى أنه لا يحل للمرأة غسل الرجل الأجنبي بعد موته، ويحل للرجل ذلك، وما ذكرنا من الجواب فيما إذا كانت المرأة تعلم يقيناً أنها لو نظرت إلى بعض ما ذكرنا من الرجل لا يقع في قلبها شهوة، فأما إذا علمت أنه يقع في قلبها شهوة أو شكت، ومعنى الشك استواء الظن، فأحب إليَّ أن تغض بصرها منه؛ هكذا ذكر محمد في «الأصل»؛ وهذا لأن النظر عن شهوة نوع زنا، قال عليه السلام: «العينان تزنيان وزناهما النظر»، والزنا حرام بجميع أنواعه، فقد ذكر الاستحسان فيما إذا كان الناظر إلى الرجل الأجنبي هي المرأة.
وفيما إذا كان الناظر إلى المرأة الأجنبية هو الرجل، قال: يجتنب بجهده على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وهو دليل الحرمة، وهو الصحيح في الفعلين جميعاً، ولا تمس شيئاً إذا كان أحدهما شاباً في حد الشهوة، وإن أمنا على أنفسهما الشهوة فقد حرم المس، وإن أمنا على أنفسهما الشهوة إذا كان أحدهما في حد الشهوة، فلم يحرم النظر إذا أمنت على نفسها الشهوة؛ لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر حتى إن من مس سائر الأعضاء يوجب حرمة المصاهرة إن كان المس عن شهوة، والنظر إلى سائر الأعضاء سوى عين الفرج لا يوجب حرمة المصاهرة، وإن كان عن شهوة، والصوم يفسد بالمس عن شهوة، إذا اتصل به الإنزال، ولا يفسد بالنظر عن شهوة وإن اتصل به الإنزال والبلوى الذي تتحقق في النظر لا تتحقق في المس، فالرخصة في النظر عند الأمن عن الشهوة لا توجب الرخصة في المس.
فأما الأمة فيحل لها النظر إلى جميع أعضاء الرجل الأجنبي سوى ما بين سرته حتى تجاوز ركبته، وتمس جميع ذلك إذا أمنا على أنفسهما الشهوة؛ ألا ترى أنه جرت العادة فيما بين الناس أن الأمة تغمز رجل زوج مولاتها من غير نكير منكر، وإنه يدل على جواز المس.(5/170)
-----
وأما بيان القسم الرابع: فنقول: نظر الرجل إلى المرأة ينقسم أقساماً أربعة؛ نظر الزوج إلى زوجته ومملوكته، ونظر الرجل إلى ذوات محارمه، ونظر الرجل إلى الحرة الأجنبية، ونظر الرجل إلى إماء الغير.
أما نظر الرجل إلى زوجته ومملوكته: فهو حلال من فرقها إلى قدمها، عن شهوة وبغير شهوة، وهذا ظاهر؛ إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا رأى مني مع طول صحبتي إياه، وقال عليه السلام: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع، ولا يتجردان تجرد البعير»، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الأولى أن ينظر الرجل إلى فرج امرأته وقت الوقاع ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة، وعن أبي يوسف في «الأمالي» قال: سألت أبا حنيفة رضي الله عنه عن الرجل يمس فرج امرأته، أو تمس هي فرجه ليتحرك عليها؛ هل ترى بذلك بأساً؟ قال: أرجو أن يعظم الأجر.
وأما النظر إلى ذوات محارمه فنقول: يباح النظر إلى موضع زينة الظاهرة والباطنة، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} (النور:31) الآية، فالاستدلال بالآية أنه ليس المراد من الزينة المذكورة في الآية عين الزينة تباع في الأسواق ويراها الأجانب، وإنما المراد مواضع الزينة، والثاني: أن الله تعالى أباح لهن إبداء الزينة للمحارم، وهي على مواضع الزينة؛ لأن إبداء الزينة، وهي على غير مواضع الزينة تباح للأجانب، وأثر الزينة وهي على موضع الزينة لا يتصور إلا بإبداء موضع الزينة، فيدل ذلك على إباحة إبداء مواضع الزينة.
(5/171)
-----
ومواضع الزينة: الرأس والأذن العنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه، فالرأس موضع التاج والإكليل، والشعر موضع العقاص، والعنق موضع القلادة، والصدر كذلك، فالقلادة قد تنتهي إلى الصدر وكذلك الوشاح، والأذن موضع القرط، والعضد موضع الدملج، والساعد موضع السوار، والكف موضع الخاتم والخضاب، والساق موضع الخلخال والخضاب، والقدم موضع الخضاب، ولأن المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة، والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها، ولا تكون مستترة، فلو أمرناها بالستر من محارمها أدى إلى الحرج.
وما يحل النظر إليه حل مسه، وغمزه من غير حائل، (78أ2) والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل رأس فاطمة، وأبو بكر رضي الله عنه قبل رأس عائشة رضي الله عنها، وقال عليه السلام: «من قبل رجل أمه، فكأنما قبل عتبة الجنة»، ولكن إنما يباح النظر إذا كان يأمن على نفسه الشهوة، فأما إذا كان يخاف على نفسه الشهوة، فلا يحل له النظر لما بينا قبل هذا، وكذلك المس إنما يباح له إذا أمن على نفسه وعليها الشهوة؛ أما إذا خاف على نفسه أو عليها الشهوة، فلا يحل المس له، ولا يحل أن ينظر إلى بطنها، ولا إلى ظهرها، ولا إلى جنبها، ولا يمس شيئاً من ذلك، والوجه في ذلك: أن الله تعالى سمى الظهار في كتابه منكراً من القول وزوراً، وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي لولا أن ظهرها محرم عليه نظراً ومساً، وكل شيء وإلا لما سمى الظهار منكراً من القول وزوراً، وإذا ثبت هذا في الظهر ثبت في البطن والجنبين.(5/172)
-----
وذوات المحارم من (يحرم) عليه نكاحهن بالنسب نحو الأمهات والبنات والجدات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، أو ما يحرم بالرضاع، وقد صح أن عائشة رضي الله عنها سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت: إن أفلح يدخل علي وأنا في ثياب فضل، قال عليه السلام: «ليلج عليك أفلح، فإنه عمك من الرضاعة»، وكذلك الحرمة بالمصاهرة، إذا كانت بالنكاح بلا خلاف.
واختلفوا فيما إذا كانت بالزنا فبعض المشايخ؛ قالوا: لا يثبت بها حل النظر والمس؛ لأن ثبوت الحرمة على الزاني بطريق العقوبة لا بطريق النعمة؛ ولأنه قد جرب مرة وظهرت جناية فلا يؤتمن ثانياً، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح أنه لا بأس بذلك، وقاسه على ما إذا كانت هذه الحرمة بسبب النكاح.
(5/173)
-----
قال محمد رحمه الله: ويجوز له أن يسافر بها، وأن يخلو بها يعني لمحارمه إذا أمن على نفسه، وهذا لقوله عليه السلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذي رحم محرم»، فقد أباح للمرأة المسافرة مع ذي الرحم المحرم، وإنه يوجب إباحة المسافرة للمحرم معها، ولأن حرمة المسافرة والخلوة بالأجنبيات لخوف الفتنة بواسطة الشهوة، والإنسان لا يشتهي محارمه غالباً، فصار من هذا الوجه كالخلوة والمسافرة مع الجنس، فإن علم أنه يشتهيها، أو تشتهيه لو سافر بها أو خلا بها، أو كان أكثر رأيه ذلك أو شك، فلا يباح له ذلك لما ذكرنا، وإن احتاج إلى حملها، وإنزالها في السفر، فلا بأس بأن يأخذ ببطنها وظهرها من وراء الثياب؛ لأن المس من فوق الثياب لا يفضي إلى الشهوة غالباً، فصار كالنظر، وقد صح أن ابن عمر رضي الله عنهما: رأى رجلاً حمل أمه على عاتقه يطوف بها، ولم ينكر عليه، فإن خاف الشهوة على نفسه أو عليها، فليجتنب بجهده، وذلك بأن يجتنب أصلاً متى أمكنها الركوب والنزول بنفسها، وإن لم يمكنها ذلك تكلف المحرم في ذلك زيادة تكلف بالثياب حتى لا تصل إليه حرارة بدنها، وإن لم يمكنه ذلك؛ تكلف لدفع الشهوة عن قلبه يعني: لا يقصد بما فعل قضاء الشهوة.(5/174)
-----
وأما النظر إلى إماء الغير، والمدبرات وأمهات الأولاد، فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه، والأصل في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرؤوس مظهرات اليدين، ولأن الأمة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها، وإنما تخرج في ثياب مهنتها، فحالها مع جميع الرجال في معنى البلوى؛ كحال المرأة مع ذوي محارمها، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: يجوز النظر إلى بطنها وظهرها وجنبها، ويروى في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من أراد أن يشتري جارية، فلينظر إليها، إلا إلى موضع المئزر، وهذا القول ليس بصحيح. تأويل الحديث: أن المرأة قد تتزر على الصدر، فهو مراد ابن عباس رضي الله عنه، قال: وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها، والأصل في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه مر بجارية تباع، فضرب يده على صدرها، ومس ذراعيها وقال: اشتروا فإنها رخصة، والمعنى أن المسح للنظر الحاجة، وكما مست الحاجة إلى النظر مست الحاجة إلى اللمس ليعرف أن يشتريها.
ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب الخلوة، والمسافرة بإماء الغير، وقد اختلف المشايخ فيه؛ منهم من قال: يحل، وإليه مال الحاكم الشهيد، ومنهم من قال: (لا) يحل، وبه كان يفتي الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والذين قالوا بالحل اختلفوا فيما بينهم؛ بعضهم قالوا: ليس له أن يعالجها في الإنزال والإركاب؛ لأنه يشتهيها، وبعضهم قالوا: له ذلك إذا أمن على نفسه الشهوة وعليها؛ وهذا لأن المولى قد يبعثها إلى بلدة أخرى في حاجته، وعسى تحتاج إلى من يركبها وينزلها، ولأجل الحاجة جوز النظر والمس في سائر المواضع.
(5/175)
-----
وأما النظر إلى الأجنبيات: فنقول: يجوز النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منهن، وذلك الوجه والكف في ظاهر الرواية، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا يبديين زينتهن إلا ما ظهر منها} (النور:31) قال علي وابن عباس رضي الله عنهم: ما ظهر منها الكف والخاتم، وروي: أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى وجهها، فلم يرَ فيها رغبة، ورأى رسول الله عليه السلام كف امرأة غير مخضوبة فقال: «أكف رجل هذا»؟ ولما ناول فاطمة أحد ولديها بلالاً أو أنساً، قال: «رأيت كفها كأنها فِلْقَة قمر»؛ ولأنها تحتاج إلى إبداء وجهها في المعاملات لتحل الشهادة عليها، وتحتاج إلى إبداء كفها عند الأخذ والإعطاء.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما: أنه يجوز النظر إلى قدمها أيضاً؛ لأنها تحتاج إلى إبداء قدمها إذا مشت حافية أو متنعلة، فإنها لا تجد الخف في كل وقت، وفي رواية أخرى عنه قال: لا يجوز النظر إلى قدمها.
وفي «جامع البرامكة» عن أبي يوسف: أنه يجوز النظر إلى ذراعيها أيضاً؛ لأنها تصير مبتلياً بإبداء ذراعيها عند الغسل والطبخ، قيل: فكذلك يباح النظر إلى ثناياها؛ لأن ذلك يبدوا منها عند التحدث مع الرجال في المعاملات، وذلك كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه لو نظر (87ب2) اشتهى، أو كان أكثر رأيه ذلك، فليجتنب بجهده ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفها، وإن كان يأمن الشهوة بخلاف النظر؛ وهذا لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر، والضرورة في المس قاصرة فلا يلحق المس بالنظر؛ هذا إذا كانت شابة تشتهى.(5/176)
-----
فإن كانت عجوزاً لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها، ومس يدها، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة، ولا يصافح الشواب، ولأن الحرمة في الشواب لخوف الفتنة، ولا خوف في العجائز، وكذلك إذا كان شيخاً يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها، وإن كان لا يأمن على نفسه أو عليها، فليجتنب لما مر من قبل هذا.
ثم إن محمداً رحمه الله أباح المس للرجال إذا كانت المرأة عجوزاً، ولم يشترط كون الرجل بحال لا يجامع مثله فيما إذا كان الماس هي المرأة، قال: إذا كانا كبيرين لا يجامع مثله، ولا يجامع مثلها، فلا بأس بالمصافحة، فليأمل عند الفتوى.
وإن كان عليها ثياب، فلا بأس بأن يتأمل جسدها؛ لأن نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها، فهو كما لو كانت في بيت فنظر إلى جدارها، وهذا إذا لم تكن ثيابها ملتزقة بها، بحيث تصف ما تحتها، ...... .... ولم يكن رقيقاً بحيث يصف ما تحته، وإن كانت بخلاف ذلك فينبغي له أن يغض بصره؛ لأن هذا الثوب من حيث إنه لا يسترها بمنزلة شبكة عليها، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تلبسوا نساءكم الكتان والقباطي، فإنها إن تشف تصف، وهذا إذا كانت في حد الشهوة، وإن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها، فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها؛ لأنه ليس لبدنها حكم العورة، ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يقبل زب الحسن والحسين في صغرهما»، وروي: أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما، فيجره والصبي يضحك.
(5/177)
-----
ثم النظر إلى الحرة الأجنبية قد يصير مرخصاً عند الضرورة لما عرف: أن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، ومن مواضع الضرورة إذا دعي الرجل إلى شهادة يعني أداء الشهادة عليها، وأراد الحاكم أن ينظر إليها ليجيز إقراره عليها، وكان إذا نظر اشتهى، أو كان أكثر رأيه ذلك، فلا بأس بالنظر إليها؛ لأن الشاهد لا يجد بداً من النظر إلى المشهود عليه في أداء الشهادة، ليكون الأداء عن علم، وكذلك القاضي لا يجد بداً من النظر وقت الحكم حتى لا يقع الحكم على غير المستحق عليه.
وكذلك لو أراد أن يتزوجها؛ لا بأس بالنظر إليها وإن كان فيه شهوة، قال عليه السلام للمغيرة بن شعبة حين أراد أن يتزوج امرأة: «انظرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما»، ولكن عند النظر ينبغي أن لا يقصد قضاء الشهوة، وإنما يقصد أداء الشهادة والحكم عليها.
واختلف المشايخ فيما إذا دعي إلى تحمل الشهادة عليها، وهو يعلم أنه لو نظر إليها اشتهى، فمنهم من جوز ذلك، بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والأصح أنه لا يباح ذلك؛ إذ لا ضرورة في تحمل الشهادة، فقد يوجد من لا يشتهيها بالنظر إليها؛ بخلاف حالة الأداء؛ لأن الشاهد التزم تلك الأمانة، وهو متعين لأدائها.
وكذلك إذا اشترى جارية، فلا بأس بأن ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وإن اشتهى؛ لأن المالية مطلوبة بالشراء، ولا يصير مقدارها معلوماً إلا بالنظر إلى هذه المواضع، فلأجل الحاجة جاز النظر، ولا يحل له أن يمس شيئاً منها إن اشتهى، أو كان عليه أكثر رأيه، فقد ذكرنا أن حكم المس أغلظ من حكم النظر.(5/178)
-----
قال: ولا يحل النظر إلى العورة، إلا عند الضرورة؛ قال سلمان الفارسي رضي الله عنه:؛ لأن أخرّ من السماء، فأنقطع نصفين؛ أحب إلي من أن أنظر إلى عورة أحد، أو ينظر أحد إلى عورتي، مع هذا إذا جاء العذر، فلا بأس بالنظر إليها، فمن جملة الأعذار الختان، والختان ينظر عند ذلك الفعل، وكذلك الخافضة تنظر؛ وهذا لأن الختان سنة، وهو من جملة الفطرة في حق الرجل لا يمكن تركه، ومن ذلك عند الولادة، والمرأة تنظر إلى موضع الفرج من المرأة وغيره؛ لأنه لابد من قابلة تقبل الولد وتعالجه، وبدونها تخاف الهلاك على الولد، وعند قبول الولد ومعالجته يحتاج إلى النظر فأبيح لأجل الحاجة، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز شهادة القابلة على الولادة، فذلك دليل على أنه يباح لها النظر.
وكذلك ينظر الرجل من الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة إليه؛ بأن كان مريضاً؛ لأن الضرورة قد تحققت، والاحتقان من المداواة، قال عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يخلق داءً إلا وخلق له الدواء، إلا السام والهرم»، وقد روي عن أبي يوسف: أنه إذا كان به هزال، فاحتقن؛ قيل له: إن الحقنة تزيل ما بك من الهزال، فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن، وهذا صحيح، فإن الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره .... والسل، وحكي عن الشافعي قال: إذا قيل له: إن الحقنة تقويك على المجامعة، فلا بأس بذلك، وهذا ضعيف؛ لأن الضرورة لا تتحقق بهذا. وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز.
(5/179)
-----
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم أن الحقنة إنما تجوز عند الضرورة، وإذا لم يكن ثمة ضرورة، ولكن فيها منفعة ظاهرة بأن كان يتقوى بسببها على الجماع لا يحل عندنا، وإن كان به هزال، فإن كان هزالاً يخشى منه التلف يحل، وما لا فلا، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» في باب الطهارات؛ قال محمد بن مقاتل الرازي: لا بأس بأن يتولى صاحب الحمام عورة إنسان بيده عند التنوير إذا كان يغض بصره كما أنه لا بأس به إذا كان يداوي جرحاً أو قرحاً، قال الفقيه: وهذا في حالة الضرورة لا في غيرها؛ لأن كل موضع لا يجوز النظر إليه لا يجوز مسه، إلا من فوق الثياب، وينبغي لكل أحد أن يتولى عانته بيده إذا تنور، فإنه روي عن النبي عليه السلام كان يتولى ذلك بنفسه.f
وإذا أصابت المرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه، علم امرأة دواءها لتداويها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف وكذا في امرأة العنين تنظر إليها النساء، فإن قلن: هي بكر (88أ2) فرق القاضي بينهما، وكذا لو اشترى جارية على أنها بكر، فقبضها فقال: وجدتها ثيباً؛ تنظر إليها النساء للحاجة إلى فصل الخصومة، وإن لم يجدوا امرأة تداوي تلك القرحة، ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك، وخافوا أنها تهلك، أو يصيبها بلاء أو وجع، فلا بأس بأن يستر منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة، ثم يداويها رجل، ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك الموضع؛ لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ، فيعتبر فيه تحقق الضرورة، وذلك عند خوف الهلاك، وذوات المحارم والأجنبيات في هذا على السواء؛ لأن النظر إلى العورة لا يحل بسبب المحرمية.(5/180)
-----
والعبد فيما ينظر إلى مولاته كالحر الأجنبي حتى لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفها، وهذا مذهبنا، وقال مالك: نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} (المؤمنين:6) ، ولا يجوز أن يحل ذلك على الإماء؛ لأن الإماء دخلن في قوله تعالى: {أو نسائهن} (النور:31) ؛ ولأن هذا مما لا يشكل أن الأمة تنظر إلى مولاتها، وإنما يحمل البيان على موضع الإشكال، ولأن إباحة النظر إلى ذوات المحارم لأجل الحاجة، وهو دخول البعض من غير استئذان ولا حشمة، وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولاته.
حجتنا في ذلك حديث سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير فإنهما قالا: لا تغرنكم سورة النور، فإنها في الإناث دون الذكور، ومرادهما قوله تعالى: {وما ملكت أيمانهن} (المؤمنون: 6) والموضع موضع الإشكال؛ لأن حالة الأمة تقرب من حال الرجال؛ حتى تسافر بغير محرم، فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدي أمتها؟ ولم يزل هذا الإشكال، بقوله تعالى: {أو نسائهن} (النور: 31) ؛ لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء، والمعنى فيه: أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية. وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة؛ يبنى على هذا السبب؛ وهذا لأن حرمة النظر إلى مواضع الزينة الباطنة لمعنى خوف الفتنة، وخوف الفتنة ينعدم بالمحرمية؛ لأن الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة، فأما الملك لا يقلل الشهوة، بل يحملها على رفع الحشمة، ومعنى البلوى لا يتحقق أيضاً؛ لأن العبد إنما يتخذ لخدمة خارج البيت؛ لا يخدم داخل البيت على ما قيل من الحد عند الخدمة داخل البيت، فهو كسجّان
(5/181)
-----
ويستوي في ذلك الخصي والفحل؛ قالت عائشة رضي الله عنها: الخصي مثله، فلا يبيح ما كان حراماً قبله، ولأن معنى الفتنة لا تنعدم بالخصي، فالخصي قد يجامع، وقيل: هو أشد الناس جماعاً، وكذلك المجبوب الذي لم يجف ماؤه؛ لأنه ينزل بالسحق فلا ينعدم معنى الفتنة، وإن كان مجبوباً قد جف ماؤه، فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء؛ لوقوع الأمن من الفتنة، والأصح أنه لا يحل ذلك، ومن رخص فيه تأول قول الله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال} (النور:31) الآية وبين أهل التفسير كلاماً في معنى هذا، فقيل: هو المجبوب الذي جف ماؤه، وقيل: هو المخنث الذي لا يشتهي النساء، والكلام في المخنث عندنا أنه إن كان مخنثاً في الرديء من الأفعال، فهو كغيره من الرجال، هو من .... وينحى عن النساء، فأما إذا كان في أعضائه لين، أو في لسانه تكسر بأصل الخلقة، ولا يشتهي النساء، ولا يكون مخنثاً في الرديء من الأفعال، فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روي أن مخنثاً كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع منه رسول الله عليه السلام كلمة فاحشة، فإنه قال: لعمر بن أبي سلمة: إن فتح الله تعالى على رسوله الطائف لأدلنك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان فقال: «ما كنت أعلم أنه يعرف مثل هذا، أخرجوه»، وقيل: المراد بقوله: {أو التابعين غير أولي الإربة} الذي لا يدري ما يصنع بالنساء، إنما همته بطنه، وفي هذا كلام أيضاً عندنا إذا كان شاباً ينحى عن النساء، وإنما ذلك إذا كان شيخاً كبيراً قد ماتت شهوته، فحينئذٍ يرخص في ذلك، والأصح أن يقول قوله تعالى: {أوالتابعين} من المتشابه، وقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} (النور:3) محكم فنأخذ بالمحكم، فنقول: كل من كان من الرجال لا يحل لها أن تبدي موضع الزينة الباطنة بين يديه، ولا يحل له أن ينظر إليها إلا أن يكون صغيراً، فحينئذٍ لا بأس بذلك، بقوله(5/182)
تعالى:(5/183)
-----
{أو الطفل الذين} (النور:31) الآية ولا بأس بدخول الصبي على النسوان ما لم يبلغ حد الحلم، وذلك خمس عشر سنة؛ لأنه لا يحتلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
جماع الحائض في الفرج: وإنه حرام بالنص، يكفر مستحله ويفسق مباشرة لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة:222) ، وفي قوله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهرن} (البقرة: 222) ، دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر، وقال عليه السلام : «من أتى امرأته في غير مأتاها أو أتاها في حالة الحيض، أو أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد»، ولكن لا يلزمه بالوطء سوى الاستغفار والتوبة، ومن العلماء من يقول: إن وطئها في أول الحيض فعليه أن يتصدق بدينار، وإن وطئها في آخر الحيض فعليه أن يتصدق بنصف دينار، ورووا فيه حديثاً شاذاً، ولكن الكفارة لا تثبت بمثله.
وحجتنا في ذلك: ما روي أن رجلاً جاء إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: إني رأيت في منامي كأني أبول دماً، فقال: أتصدقني؟ فقال: نعم، فقال: إنك تأتي امرأتك في حالة الحيض، فاعترف بذلك فقال: استغفر الله ولا تعدْ، ولم يلزمه الكفارة.
واختلفوا فيما سوى الجماع، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: له أن يستمتع بها فوق المئزر وليس له ما تحته، وقال محمد رحمه الله: يتجنب شفار الدم وله ما سوى ذلك، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما، وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وذكر الكرخي مع محمد.(5/184)
-----
وجه قوله الاستدلال بقوله تعالى: {قل هو أذى} (البقرة:222) ففيه بيان أن الحرمة لمعنى استعمال الأذى، وذلك في محل مخصوص، وروي في «الكتاب» عن الصلت بن دينار، وعن معاوية بن مرة قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، قالت: يتجنب شفار الدم، وله ما سوى ذلك، وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح يعني الجماع، والمعنى فيه أن ملك النكاح باقٍ زمان الحيض، وحرمة الفعل لمعنى استعمال الأذى، وذلك فعل لا يكون فيه معنى استعمال الأذى، فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض، وقاسه بالاستمتاع (88ب2) فوق المئزر.
وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة:222) فظاهره يقتضي تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فيما اتفق عليه الآثار صار مخصوصاً من هذا الظاهر، وبقي ما سواه على الظاهر، وروي أن وفداً سألوا عمر رضي الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض، فقال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: «للرجل من امرأته الحائض ما فوق المئزر، وليس له ما تحته»، والمعنى فيه: أن الاستمتاع في موضع الفرج يحرم عليه، وإذا قرب من ذلك الموضع لا يأمن على نفسه أن يقع في الحرام، فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر.
ولا ينبغي أن يعتزل فراشها، فإن ذلك تشبه باليهود، وقد نهينا عن التشبه بهم؛ روي أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك، فبلغ ميمونة رضي الله عنهما، فأنكرت عليه وقالت: أترغب عن سنة رسول الله عليه السلام تضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض.(5/185)
-----
ذكر في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد ترتديه مكشوف البطن والظهر؛ لأنها إذا حاضت فقد بلغت، وثبت لأعضائها حكم العورة، فلا يحل للأجنبي النظر إلى بطنها وظهرها، وإنما يحل النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة كما في المحارم.
الفصل العاشر في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره
ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب العمائم حديثاً يدل على أن لبس السواد مستحب، وأن من أراد أن يجدد اللف بعمامته ينبغي أن ينقضها كوراً كوراً، وإن ذلك أحسن من رفعها عن رأسه وإلقائها في الأرض دفعة واحدة، وإن المستحب إرسال ذنب العمامة بين الكتفين، واختلفوا في مقدار ما ينبغي أن من يكون من ذنب العمامة، منهم من قدره بشبر، ومنهم من قال: إلى وسط الظهر، ومنهم من قال: إلى موضع الجلوس.
وذكر فيه أيضاً: أنه لا بأس بلبس القلانيس، فقد صح أنه كان لرسول الله عليه السلام قلانيس يلبسها.
ذكر في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: أنه كان يكره لبس الحرير والديباج، وكان لا يرى بالتوسد به والنوم عليه بأساً، وقال محمد رحمه الله: يكره التوسد والنوم كما يكره اللبس، وقول أبي يوسف رحمه الله مثل قول محمد.
يجب أن تعلم بأن لبس الحرير وهو ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً حرام على الرجال في جميع الأحوال عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يكره في حالة الحرب، ويكره في غير حالة الحرب، ومن العلماء من قال: لا يكره ذلك في الأحوال كلها. وفي «شرح القاضي الإمام الإسبيجابي» رحمه الله: أن عند أبي يوسف ومحمد إنما لا يكره لبس الحرير للرجال في حالة الحرب إذا كان صفيقاً يدفع مضرة السلاح.
والكلام في موضعين: في حالة الحرب، وفي غير حالة الحرب:
أما في حالة الحرب: فحجة قول من قال بعدم الكراهية ما روى عقبة بن عامر أن النبي عليه السلام صلى وعليه حرير.(5/186)
-----
وجه قول عامة العلماء: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة»، وعنه عليه السلام أنه نهى عن لبس الحرير والديباج إلا قدر إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة، وأراد به الأعلام، وعن عمر رضي الله عنه: أنه بعث جيشاً وغنموا غنائم، فلما رجعوا فلبسوا الحرير والديباج، فلما رآهم أعرض عنهم، وقال: انزعوا عنكم ثياب أهل النار، فنزعوا.
وما رواه الخصم محمول على ما قبل التحريم؛ الدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة حرير، وذلك قبل أن ينهى عنه، ولأن هذا من زي الأعاجم وتشبه بالأكاسرة، وذلك منهي. قال عمر رضي الله عنه: «إياكم وزي الأعاجم»، وهذا إذا لم تقع الحاجة إليه، فأما إذا وقعت الحاجة إليه فلا بأس بلبسه؛ لما روي عن عبد الرحمن بن عوف، والزبير رضي الله عنهما أنه كان بهما جرب كثيرة، فاستأذنا رسول الله عليه السلام في لبس الحرير فأذن لهما فيه.
وكما يكره لبس ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً في غير حالة الحرب، فكذلك يكره لبس ما كان لحمته حريراً وسداه غير حرير، وأما ما كان سداه حريراً ولحمته غير حرير فلا بأس بلبسه بلا خلاف بين العلماء، وإنما كان كذلك؛ لأن الثوب إنما يصير ثوباً بالنسج، والنسج إنما يتأتى باللحمة والسدى، واللحمة آخرهما فيضاف صيرورته ثوباً على اللحمة، فإذا كانت اللحمة من الحرير فكأن الكل من الحرير حكماً، وإذا كانت اللحمة غير حرير، فكأن الكل غير حرير، فقد اعتبر اللحمة في هذه المسائل، فقيل: هذا إذا كانت اللحمة غالبة على السدى، وقيل: لا بل العبرة للحمة على كل حال وهو الصحيح، وعليه عامة المشايخ.(5/187)
-----
وذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب الثوب: إذا كان لحمته من قطن أو كتان، وسداه من إبريسم، فإن كان الإبريسم يرى كره للرجال لبسه، وإن كان لا يرى لا يكره لهم لبسه، فعلى هذا يكره للرجال لبس العتابي، وإليه أشار محمد رحمه الله في هذا الباب أيضاً؛ هذا هو الكلام في غير الحرب.
جئنا إلى حالة الحرب، فنقول: لا شك أن ما كان لحمته غير حرير وسداه حرير يباح لبسه في حالة غير الحرب، فلأن يباح لبسه في حالة الحرب والأمر فيه واسع كان أولى. وأما ما كان لحمته حريراً وسداه غير حرير، فإنه يباح لبسه في حالة الحرب بالإجماع، وإنما يباح لنوع ضرورة وحاجة تختص بحالة الحرب؛ وذلك لأن في لبسه يهيب بصورته، وبريقه، ولمعانه، ولونه، وبمعناه يحصل دفع حضور السلاح كان القز يدفع مضرة السلاح، وقد جاءت السنة في الإطلاق عند الحاجة، فإن النبي عليه السلام أطلق للزبير، وعبد الرحمن بن عوف لبس الحرير على ما روينا، وأما ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً، ففي لبسه حالة الحرب خلاف بين علمائنا على ما مر.
حجتهما: حديث الشعبي أن النبي عليه السلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب، ولأن الحاجة مست إلى ذلك؛ لأن الخالص أدفع لمضرة السلاح، وأهيب في عين الناظرين.(5/188)
-----
واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بعموم النهي، ورد عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: التولي عن الحرام في حالة التعرض للشهادة أولى، ولأن الحرام لا يحل إلا عند الضرورة، والضرورة اندفعت بالمخلوط؛ لأن المخلوط ما لحمته حرير أو سداه حرير، والذي سداه حرير ولحمته غير حرير ليس له حكم الحرير بالإجماع، والذي لحمته حرير، وإن كان (89أ2) حريراً في الحكم، ففيه شبهة الغزل؛ لأنه موجود وإن لم ينسب إليه، فصار هذا حريراً ناقصاً، والمهابة تحصل بظاهره، والدفع بمعناه يحصل أيضاً؛ لأنه إن كان للخالص من الحرير مزية الخلوص، فلهذا مزية القوة والثخانة فاستويا، فيجب أن يكتفى بالأدنى عن الأعلى، فيباح الأدنى ويبقى الأعلى على أصل الحرمة، وحديث الزبير وعبد الرحمن بن عوف، فإنما أطلق لهما؛ لأن ضرر الحكة كان لا يندفع إلا بالدقيق الخالص، وأمر الحرب على ضد ذلك، أو نقول: كان ذلك قبل النهي والتحريم.
هذا هو الكلام في حق الرجال، بقي الكلام في حق النساء؛ قال عامة العلماء: يحل لهن لبس الحرير الخالص، وبعضهم قالوا: لا يحل، وهذا القائل يحتج بعموم النهي، وعامة العلماء احتجوا بما روى علي وابن عمر وأبو موسى الأشعري، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم؛ أن النبي عليه السلام خرج يوماً وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب، فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي حلّ لإناثهن». وأعطى رسول الله عليه السلام حريراً لعلي رضي الله عنه فكره ذلك عليه، وأمره أن يقطعه خُمراً للفواطم الأربع، وهي: أمه، وفاطمة الزهراء زوجته، وفاطمة حمزة، وفاطمة أخرى رضي الله عنهن، وأما لبس ما علمه حرير أو مكفوف به فمطلق عند عامة الفقهاء خلافاً لبعض الناس بعموم النهي.(5/189)
-----
ولعامة العلماء حديث عائشة رضي الله عنها في لبس رسول الله عليه السلام قطيفة علمها حرير، وفي حديث أسماء: أن النبي عليه السلام كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير؛ لأن القليل من الفضة وهو الخاتم يحل للرجال ترغيباً في نعيم الآخرة، فكذلك العلم. وذكر «القدوري» في «شرحه»:: أن النبي عليه السلام لبس خوذة أطرافها من الديباج، فهذا دليل على أنه لا بأس بمثل هذا الثوب، وعن هشام عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لم يرَ بأساً بالعلم في الثوب قدر أربعة أصابع؛ قال: لأن العلم يكون تابعاً للثوب، فلا يكون لابساً له.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا لبس قميصه حريراً، أو عروة أو إزراراً لم يكن عندي بذلك بأس، وهو كالعلم يكون في الثوب، ومعه غيره (فلا) بأس به، وإن كان وحده كرهه، وأكره تكة الحرير؛ لأنها تلبس وحدها؛ وهذا لأنه إذا كان مع غيره فاللبس لا يكون مضافاً إليه؛ بل يكون هو تبعاً في اللبس، والمحرم لبس الحرير.
وفي شرح «الجامع الصغير» لبعض المشايخ؛ لا بأس بتكة الحرير للرجل عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في أيمان «الواقعات» أنه يكره عند أبي يوسف ومحمد، وفي حاشية شرح «الجامع الصغير» للصدر الشهيد مكتوب بخطه أن في تكة الحرير اختلاف بين أصحابنا.
ويكره لبس الثوب المعصفر للرجال، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر وقال: «إياكم والحمرة فإنها زي الشيطان»، وفي «المنتقى»: وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكره للرجال أن يلبسوا الثوب المصبغ بالمعصفر أو بالورس أو بالزعفران للأثر الوارد فيه، وذكر هشام عن محمد أنه لم يرَ باللباس المرتفع جداً بأساً، وكذا لم يرَ باللبد الأحمر للسرج بأساً.
(5/190)
-----
وفي «مجموع النوازل» وسئل عن الزينة والتجمل في الدنيا، قال: خرج رسول الله عليه السلام ذات يوم وعليه رداء قيمته ألف درهم، وربما قام إلى الصلاة وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم، ودخل عليه رجل يوماً من أصحابه وعليه خز، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى آثار نعمته عليه» وأبو حنيفة رضي الله عنه كان يرتدي رداء قيمته أربع مائة دينار، وأباح الله تعالى الزينة لقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف: 32) ، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول لنا بكوفة: إذا رجعتم إلى أوطانكم فعليكم بالثياب النفيسة، وإياكم والثياب الخسيسة فإن الناس ينظرون إليكم بعين الرحمة، فهو مع زهادته وورعه كان يوصيهم بهذا.
ومحمد بن الحسن رحمه الله كان يلبس الثياب النفيسة، فقيل له في ذلك، فقال: لي نساء وجوار فأزين نفسي كيلا ينظرون إلى غيري، ومحمد بن الحسن كان يتعمم بعمامة سوداء، فدخلت عليه يوماً مستغنية وقفت متحيرة تنظر في وجهه، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أتعجب من بياض وجهك تحت سواد عمامتك، فوضعها عن رأسه ولم يتعمم بعمامة سوداء بعد ذلك.(5/191)
-----
قيل للشيخ: أليس روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس قميصاً عليه كذا كذا رقعة، قال: إنما فعل عمر رضي الله عنه لنوع من الحكمة، وهو أنه كان أمير المؤمنين، فلو لبس ثياباً نفيسة واتخذ لنفسه ألواناً من الأطعمة، فعماله وحشمه يقتدون به، وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين، فإنما اختار ذلك لهذه المصلحة. وحكي أن حاتم الأصم رحمه الله خرج حاجاً فدخل المدينة، وقصد زيارة مالك بن أنس، فلما انتهى إلى باب داره استأذن فلم يؤذن له، وقيل له: اجلس حتى يخرج إلى الصلاة، فخرج وصلى ودخل عليه حاتم، فرأى داراً مرتفعة مفروشة بألوان الفرش، ورأى خدماً وغلماناً، فسلم عليه حاتم وجلس فقال: أخبرني ماذا يجب على العباد بعد التوحيد؟ فقال: الفرائض، قال: ثم ماذا؟ قال: السنن والآداب، فقال: أخبرني عن دورك هذه، وغلمانك هؤلاء من الفرائض ومن السنن؟ قال: يا حاتم؛ إن الله تعالى قسم هذا قسماً حلالاً، ثم قال: يا حاتم؛ إن لنا رباً يعرف المؤمن تحت الخز والبز كما يعرف الكافر تحت العبادة واللبد، فلما خرج من عنده قال: لو لم أشهد هذا المشهد؛ خفت على نفسي أن أخرج من الدنيا على غير دين الإسلام لكثرة ما أوقع في الفقهاء وأغنى بهم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الشهرتين في اللباس؛ معناه لا ينبغي للإنسان أن يختار لنفسه اللبسة المحصورة التي ترجع إلى الإهانة، ولا اللبسة المشهورة التي تجعل اللابس نفسه أعجوبة للخلق ينظر إليه كل ناظر، بل يختار فيما بين ذلك، فالوسط محمود في كل شيء.
(5/192)
-----
ذكر الحاكم في «المنتقى»: لا بأس بلبس الخز، والخز اسم لدابة يكون على جلدها خز، وإنه ليس (من) جملة الحرير، والمحرم على الرجال لبس الحرير لا لبس غيره. قال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الكسب: ينبغي أن يلبس عامة الأوقات الغسيل ويلبس أحسن ما يجد في بعض الأوقات إظهاراً لنعم الله، فإن ذلك مندوب إليه، ولا يلبس أحسن ما يجد في جميع الأوقات؛ لأن ذلك يؤذي المحتاجين.
وكذلك لا ينبغي في زمن الشتاء أن يظاهر بين جبتين أو ثلاثة إذا كان يكفيه لدفع البرد جبة (89ب2) واحدة؛ لأن ذلك يؤذي المحتاجين، وهو منهي عن اكتساب سبب أذى الغير.
وأما التوسد بالحرير والديباج والنوم عليه حرام عند محمد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف، وعند أبي حنيفة لا بأس به، وعلى هذا الاختلاف نشر الخز، وتعليقه على الأبواب لحماً لما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: لأن أتوسد على الجمر أحب إلي من أن أتوسد على الحرير.j
وعن علي رضي الله عنه: أنه أتي بدابة على سرجها حرير، فقال: هذا لهم في الدنيا ولنا في الآخرة، ولأن التنعم بالجلوس والنوم عليه مثل اللبس، وذلك من عادة المسرفين، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: النص ورد بتحريم اللبس، والنوم عليه دون اللبس في الاستعمال فلا يلحق به، ولأنا أجمعنا على أن القليل من الملبوس حلال، وهو ما قلنا من الأعلام فكذلك من اللبس والاستعمال؛ وهذا لأن التوسد والنوم عليه وافتراشه استعمال على سبيل الامتهان، فقصر معنى الاستعمال والتزين فيه، فلم يبعد حكم التحريم من اللبس الذي هو استعمال كامل إليه؛ بل كان تقليل الملبوس أشبه ليصير سبباً للرغبة في الآخرة.(5/193)
-----
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله: وليس القعود على الحرير والديباج كاللبس فإن أراد بقوله: ليس القعود على الحرير والديباج كاللبس نفي الكراهة عن القعود أصلاً جاء عن محمد روايتان؛ فإن ظاهر مذهبه أن القعود على الديباج مكروه، وإن أراد به إثبات التفاوت في الكراهة لا يصير في المسألة روايتان؛ بل كل واحد منهما مكروه، إلا أن اللبس أشد كراهة؛ لأن الاستعمال فيه أكثر.
وفي «شرح القدوري» عن أبي يوسف: أنه قال: أكره ثوب القز يكون بين الفرو وبين الظهارة، ولا أرى بحشو القز بأساً؛ وذلك لأن الثوب إذا كان بين ثوبين فهو ملبوس، ولبس الحرير لا يجوز للرجال، فأما الحشو ليس بملبوس إذ ليس منه عليه شيء فلا يكره عند أبي حنيفة رضي الله عنه لهذه العلة. وعندهما ليس بملبوس ولا مفروش فلا يكره.
وعنه أيضاً: وما كان من الثياب الغالب عليه غير القز كالخز ونحوه فلا بأس بلبسه للرجال، وما كان ظاهره قزاً فهو مكروه، وكذا ما كان خط منه قز وخط منه خز وهو ظاهر فهو مكروه.
وفي «شرح القدوري» أيضاً: عن أبي حنيفة: أنه قال: لا بأس بالفراء كلها؛ السباع وغير ذلك الميتة المدبوغة والذكية، وقال: دباغه ذكاته؛ وهذا لأن الجلود كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير. والأصل فيه قوله عليه السلام: «أيما إهاب دبغ فقد طهر»، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتوضأ من ماء في شن فقيل: إنه جلد حمار ميت، فقال عليه السلام: «أليس في الشب والقرظ ما يطهره، فإنما يلبس عيناً طاهراً أفلا يكون به بأساً».(5/194)
-----
الجبة إذا كانت كفافها من ديباج هل يكره للرجال لبسها؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر الطحاوي في «شرح الآثار» حديثين أحدهما يدل على الكراهة، والآخر يدل على عدم الكراهة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام في شرح «السير الكبير» الصحيح أنه لا يكره، وذكر القاضي ركن الإسلام علي السغدي في «شرحه»: أنه لا يكره، ولم يذكر اختلاف المشايخ، وإليه أشار محمد رحمه الله في رواية «السير».
الفصل الحادي عشر في استعمال الذهب والفضة
في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يكره الأكل والشرب في آنية الفضة والذهب، والأدهان فيها، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة وألحق الوعيد بالشارب منها، فإنه قال: «من شرب منها فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم»، وفي بعض الأخبار: «من أكل أو شرب»، وروي أن حذيفة رضي الله عنه: نزل عند وفد من العجم، فقدم إليه الشراب في آنية الفضة فردها عليه، وقال: إن رسول الله عليه السلام كان نهانا عن الشرب في أواني الفضة، والمعنى فيه أنه تشبه بالأكاسرة والجبابرة، والتشبه بهم فيما له بدّ منه مكروه، وإذا ثبت الكراهة في الأكل والشرب؛ ثبت الكراهة في الأدهان؛ إما لأن للأدهان منفعة تخص البدن فيكون بمنزلة الأكل والشرب أو لأن كراهة الأكل والشرب في الذهب والفضة لمكان التشبه بالأكاسرة، وذلك موجود في الأدهان.
قالوا: وهذا إذا كان يصب الدهن من الآنية على رأسه أو بدنه؛ أما إذا أدخل يده في الإناء وأخرج منها الدهن ثم استعمله لا بأس به، وكذلك إذا أخذ الطعام من القصعة ووضعه على خبز أو ما أشبه ذلك، ثم أكل لا بأس به.
قال: ويستوي فيه الرجل والمرأة؛ يعني الأكل والشرب من الذهب والفضة لعموم النهي، فإن كلمة (من) عامة.(5/195)
-----
قال: وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى بالإناء المفضض بأساً إذا وضع فاه على .... وعلى الكوز، وكره أبو يوسف ذلك، وكذلك في الإناء المصبب، وكذلك الكرسي المصبب بالذهب والفضة لا بأس بالجلوس عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه.
وكذلك المداهن والمجامر، والسرير المصبب لا بأس به عنده، وكره أبو يوسف ذلك، وكذا إذا جعل المصحف مذهباً أو مفضضاً لا بأس به عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وكره عند أبي يوسف، وقياس قول أبي حنيفة: أن لا يكره في الباب والسرج واللجام، وقول محمد مثل قول أبي يوسف، هكذا حكاه القاضي الإمام أبو عاصم العامري المروزي، وهذا كله إذا كان يخلص.
فأما التمويه: وهو أن يجعل الدهن ماء بحيث لا يخلعن بعد ذلك لا بأس به بالإجماع، فحدَّ بها العمومات الواردة بالنهي عن استعمال الذهب والفضة، ومن استعمل إناءً كان مستعمل جزء منه فكره؛ وهذا لأن الحرمة في استعمال الذهب والفضة في الإناء وغيره؛ إنما كان لما فيه من التشبه بالأكاسرة والجبابرة، فكل ما كان بهذا المعنى يكره بخلاف خاتم الفضة للرجال، وحلية السيف والمنطقة حيث لا يكره؛ لأن الرخصة جاءت في ذلك نصاً، أما ههنا بخلافه.
ولأبي حنيفة رضي الله عنه حرفان:
أحدهما: أن الأصل في المخلوقات إباحة الانتفاع بها، والحرمة لعارض، والنص ورد في تحريم الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة، فكل ما يشبه المنصوص عليه في الاستعمال يلحق بالمنصوص عليه، وما لا يشبه المنصوص عليه (90أ2) يبقى على أصل الإباحة، وهناك يتصل الذهب والفضة بيده، وههنا لا يتصل بيده، فلم يكن نظير المنصوص عليه في الاستعمال، فالحاصل أن أبا حنيفة على هذا الوجه اعتبر حرمة الاستعمال فيما يتصل بيده صورة.(5/196)
-----
والثاني: أن هذا مانع فلا يكره، كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، وقياساً على الشرب من يده وعلى خنصره خاتم فضة، فإن ذلك لا يكره، وقد قال بعض مشايخنا في الشرب من الفضة الصبة، والصبة الذهب العريض أو الفضة العريضة تجعل على وجه الباب، وما أشبه ذلك أن الصفات على القصعة إذا كانت لتقوم القصعة بها لا للزينة لا بأس بوضع الفم على الصاب، وإن كانت الصاب لأجل الزينة لا لتقوم القصعة بها كره وضع الفم على الصاب.
وهذا القائل يستدل بمسألة ذكرها محمد في «السير» في باب الأنفال.
وصورتها: إذا قال الأمير للخيل: من أصاب ذهباً أو فضة فهو له، فأصاب رجل قصعة مصببة بالذهب أو الفضة، أو قدراً مصبباً، فإن كانت الصباب لزينة القصعة لا لتقوم القصعة بها كانت الصباب للمنفل له، وإن كانت الصباب لتقوم القصعة بها بحيث لو نزعت الصباب فتبقى القصعة متقومة لم يكن الصباب للمنفل له، ولأن الصباب إذا كانت لتقوم القصعة بها يعتبر من أجزاء القصعة غير الذهب والفضة معنى، ألا ترى أنه لا تجعل الصباب في هذه الصورة للمنفل له، وإنما تجعل؛ لأنها غير الذهب والفضة معنى كذا ههنا، فيجوز وضع الفم عليها.
ثم فرق بين التختم بالذهب وبالفضة فإنه حلال، وبين الجلوس على كرسي الفضة فإنه حرام.(5/197)
-----
والفرق: أنه لا بد من إطلاق القليل في الدنيا ليصير نموذجاً لما وعد الله تعالى في الآخرة لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يطلق على وجه يصير مقصوداً، والحرير والديباج لباس أهل الجنة، قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} (الحج:23) فيجب إطلاق القليل منه كالعلم، والقليل من لبسه نحو الافتراش ليكون نموذجاً لذلك الكثير الكامل، فأما الفضة فليس منها في دار الآخرة لباس، وإنما يكون منه الكرسي والسرير وما أشبه ذلك، فلو أطلقنا ذلك في الدنيا لصار عين الموعود في دار الآخرة مطلقاً، وعين الموعود لا يصلح نموذجاً، فصار هذا نظير لبس الحرير الخالص، ولبس الحرير الخالص حرام، فكذلك الجلوس على الكرسي من الفضة، وصار لبس الفضة مثل افتراش الحرير.
وفي «المنتقى»: روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يكره أن يستجمر بمجمر ذهب أو فضة، كما هو قول أبي يوسف، ولا خير في أن يكتحل بمكحلة من فضة، أو بميل من ذهب أو فضة وكذا المرآة ......، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا بأس بحلقة المرأة من الفضة إذا كانت المرآة حريراً، وقال أبو يوسف: لا خير فيه، وذكر الحاكم في «المنتقى»: لا خير في أن يلبس الرجل ثوباً فيه كتابة بذهب أو فضة ولم يذكر أنه قول ....، وذكر «القدوري»: أنه قول أبي يوسف قال: وعلى قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا يكره، وأما المرأة فلا بأس بأن تلبسه.
وفي «الجامع الصغير»: لا يتختم إلا بالفضة؛ هذا اللفظ بظاهره يقتضي أن التختم بالذهب والحديد والصفر، والشبة وما أشبه ذلك حرام على الرجال؛ أما التختم بالذهب فحرمته على الرجال مذهب عامة العلماء، وقال بعض: لا بأس به لحديث البراء بن عازب أنه لبس خاتم ذهب، وقال: كسانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى ابن طلحة بن عبد الله قد قيل: وعليه خاتم ذهب، وقاس التختم بالذهب على التختم بالفضة، وإنه حلال بلا خلاف.(5/198)
-----
وجه قول عامة العلماء حديث علي، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله عليه السلام نهى عن ذلك، وقوله عليه السلام: «هذان حرامان على ذكور أمتي حلال لإناثها». وحديث البراء بن عازب محمول على ما قبل النهي الدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتم ذهب، ثم رماه رسول الله عليه السلام وقال: «لا ألبسه» فرماه الناس، وحديث طلحة معارض لحديث علي، وابن مسعود، وأبي هريرة.
وقياس التختم بالذهب على التختم بالفضة قياس فاسد؛ لأن جواز التختم بالفضة عرف بالحديث، فإنه روي أن رسول الله عليه السلام بعدما رمى بخاتم الذهب اتخذ خاتماً من الفضة، وفي الذهب نص بخلافه، ونوع من المعنى يدل على التزين، فإن التختم بالفضة إنما جاز للحاجة إلى الختم أو ليكون نموذجاً، والحاجة تندفع بالفضة، فيبقى الذهب على أصل الحرمة.
فأما التختم بالحديد والرصاص والصفر والشبة فهو حرام على النساء والرجال جميعاً، والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام؛ رأى على رجل خاتم صفر، فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام، ورأى رسول الله عليه السلام على رجل خاتماً من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار»، وإذا ثبت التحريم في حق الحديد والصفر ثبت التحريم في حق الشبة؛ لأنه قد يتخذ منه الصفر فيؤخذ منه ريح الأصنام، وهو المعول عليه في النهي عن التختم بالصفر على ما وقعت الإشارة إليه في الحديث.
(5/199)
-----
وأما التختم بالحجر الذي يسمى يشب فقد اختلف المشايخ فيه، وظاهر عموم النهي في الكتاب دل على الحرمة، قال: لا بأس بأن يكون الفص من الحجر، وهذا دليل على أن العبرة في الحظر والإباحة للخدم لا للفص وهو المذهب؛ لأنه إنما يصير مستعملاً للحلقة لا للفص. قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في الفص؛ يريد به المسمار ليحفظ به الفص، وإنما لا يكره ذلك؛ لأنه تابع للفص، ولأنه لا يتزين به في العادة؛ لأنه لا يظهر ولا قليل، فصار كالقليل من الحرير، وقد ورد في القليل من الحرير نص، وهو قدر أربعة أصابع.
وفي «الفتاوى»: ولا بأس بأن يتخذ خاتم حديد قد سوي عليه فضة، وألبس بفضة حتى لا يرى؛ لأن التزين يقع بالفضة دون الحديد؛ لأن الحديد ليس بظاهر، ذكر في «الجامع الصغير» وينبغي أن يكون قدر فضة الخاتم المثقال ولا يزاد عليه، وقيل: لا يبلغ به المثقال، وبه وردت الآية على ما يأتي بهد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم التختم سنة، ولكن في حق من يحتاج إلى التختم بأن يكون سلطاناً أو قاضياً، فإن النبي عليه السلام إنما تختم عند حاجته إلى الختم (90ب2) فأما إذا لم يكن محتاجاً إلى الختم فالترك أفضل، وحكي أن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رأى بعض تلامذته قد تختم حالة التعلم، فقال: إذا صرت قاضياً فتختم، وذكر الفقيه أبو الليث في «البستان» كره بعض الناس اتخاذ الخاتم إلا لذي سلطان، وأجازه عامة أهل العلم، وإذا تختم ينبغي أن يجعل الفص إلى بطن الكف لا إلى ظهر الكف؛ هكذا روي عن رسول الله عليه السلام، وهذا في حق الرجال، وأما النسوان فلا يفعلن كذلك يعني لا يجعلن الفص إلى بطن الكف إن شئن؛ لأن التزين مباح لهن، والتزين لا يحصل إلا به.(5/200)
-----
قال في «الفتاوى»: وينبغي أن يلبس الخاتم في خنصره اليسرى دون سائر أصابعه، ودون اليمنى؛ لأن لبسه في اليمنى علامة الرفض، فأما الجواز ثابت في اليمنى والشمال جميعاً، وبكل ذلك ورد الأثر ذكره الفقيه أبو الليث في «البستان»، وقال عليه السلام لواحد من أصحابه: «اتخذه من ورق ولا يبلغ به مثقالاً وتختم به في يمينك».
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة، يريده إذا تحركت الأسنان وخيف سقوطها، فأراد صاحبها أن يشدها شدها بالفضة ولا يشدها بالذهب، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال محمد: يشدها بالذهب أيضاً، ولم يذكر في «الجامع الصغير» قول أبي يوسف؛ قيل: هو مع محمد، وقيل: هو مع أبي حنيفة رضي الله عنه.
وعلى هذا الخلاف إذا خلع أنفه أو أذنه فأراد أن يتخذ أنفاً أو أذناً من ذهب أو فضة، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يتخذ ذلك من الفضة دون الذهب، وعند محمد من الذهب أيضاً.
وعلى هذا الاختلاف إذا سقط منه فأراد أن يتخذ سناً آخر على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يتخذ من الفضة دون الذهب، وعند محمد يتخذ من الذهب أيضاً.
حجة محمد رحمه الله: ما روي أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب، فأخذ أنفاً من الفضة، فأنتن فأمره رسول الله عليه السلام أن يتخذ أنفاً من ذهب.(5/201)
-----
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الشرع حرم استعمال الذهب على الرجال من غير فصل، قال عليه السلام: «هذان حرامان على ذكور أمتي»، غير أن الاستعمال لحاجة خارج عن التختم، والحاجة تندفع بالفضة وحكمه أقل، فلا يباح الذهب كما في التختم، وأما حديث عرفجة قلنا: الحاجة في حقه لا ندفع بالفضة حيث أنتن، وذكر هذه المسألة في «النوادر»، وذكر الخلاف فيها على الوجه الذي ذكر في «الجامع الصغير» فقال: على قول محمد يشدها بالذهب أيضاً؛ قال بشر: وهو قول أبي يوسف، قال: ثم رجع أبو يوسف وقال: لا يشدها بالذهب، وهو قول الشافعي رحمه الله.
وذكر الحاكم في «المنتقى»: لو تحرك ثنية رجل وخاف سقوطها فشدها بذهب أو فضة، لم يكن به بأس عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فرق بين السن والأنف، فقال في السن: لا بأس بأن يشدها بالذهب، وفي الأنف كره ذلك، قال:؛ لأن الأنف شيء ظاهر، فكان اتخاذ ذلك راجعاً إلى الزينة، فكان كاستعمال الحرير، واتخاذ الخاتم من الذهب، وأما السن فشيء باطن، فلم يكن اتخاذ ذلك راجعاً إلى الزينة، فصار كمسمار الذهب في فص الخاتم.
ومما يتصل بهذا الفصل
ما روى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي»: أنه إذا سقط ثنية رجل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه يكره أن يعيدها ويشدها بذهب أو فضة، وكان يقول: هي كسن منه يشدها مكانها؛ قال: ولكن يأخذ سن شاة ذكية ويشد مكانها، وقال أبو يوسف: لا بأس بأن يشد ثنية مكانه؛ قال أبو يوسف: بين سنه وبين سن ميت فرق، وإن لم يحضرني، قال بشر: قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك في مجلس آخر، فلم يرَ بإعادتها بأساً.
(5/202)
الفصل الثاني عشر في الكراهية في الأكل
-----
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وينبغى للرجل أن لا يكثر الأكل، ولا يأكل فوق الشبع، فإن ذلك مذموم عند الله تعالى وعند الناس، وهو مضر بالبدن؛ روي عن بعض الأطباء أنه قيل له: هل نجد الطب في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، قد جمع الله تعالى الطب في هذه الآية، وهو قوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف:31) يعني أن الإسراف في الأكل والشرب يتولد منه الأمراض، وقيل: إذا كان الرجل قليل الأكل كان أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأذكى فهماً، وأقل نوماً، وأخف نفساً.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الكسب؛ وكل واحد منهي عن إفساد الطعام، قال من الإفساد السرف، والسرف في الطعام أنواع، فمن ذلك أن يأكل فوق الشبع فإنه حرام.
ومن المتأخرين من استثنى ذلك أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس به، وذلك بأن يأتيه ضيف بعدما أكل قدر حاجته، فيأكل لأجل الضيف حتى لا يخجل، أو يريد صوم الغد فيتناول فوق الشبع.
ومن الإسراف في الطعام الإكثار في المباحات والألوان، فذلك منهي إلا عند الحاجة؛ بأن قبل حاجة واحدة، فيستكثر من المباحات ليستوفي من كل نوع شيئاً، فيجمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة، وكذلك إذا كان من قصده أن يدعو بالأضياف قوماً بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام، فلا بأس بالاستكثار في هذه الصورة.
ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز، ونزع حواشيه، أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ، ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك من حواشيه؛ فأما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس بذلك، كما لا بأس بأن يختار لتناوله رغيفاً بعد رغيف.(5/203)
-----
ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يتمسح به؛ لأن غيره يستقذره فلا يأكله، فإما إذا أكل ما يتمسح به فلا بأس. ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها؛ بل ينبغي أن يبدأ بتلك اللقمة؛ لأن في تركها استخفاف بالخبز، ونحن أمرنا بإكرام الخبز؛ قال عليه السلام: «أكرموا الخبز فإنها من بركات السماء والأرض»، (91أ2) وينبغي أن لا ينتظر الإدام إذا حضر الخبز، ويؤخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالإدام.
ويستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعده، فإن فيه بركة، قال سليمان: قرأت في التوراة الوضوء قبل الطعام وبعده بركة، يعني غسل اليدين، وإذا غسل يديه بالنخالة، أو غسل رأسه بذلك أو أحرقها، فإن لم يبق فيها من الدقيق شيء، وهو بحال يعلف بها الدواب فلا بأس بذلك؛ لأنها بمنزلة التبن.
وينبغي أن يصب الماء من الآنية على يده بنفسه ولا يستعين بغيره، وقد حكي عن بعض مشايخنا أنه قال: هذا كالوضوء، ونحن لا نستعين بغيرنا في وضوئنا، ولا يؤكل طعام حار، به ورد الأثر، ولا يشم الطعام فإن ذلك عمل البهائم. ولا ينفخ في الطعام والشراب؛ لأن ذلك يسوء الأدب.
ومن السنة أن لا يأكل الطعام من وسطه، يعني في ابتداء الأكل، ومن السنة أن يلعق أصابعه قبل أن يمسحها بالمنديل، وتركه من أمر العجم والجبابرة، ومن السنة أيضاً لعق القصعة، جاء في الحديث أن النبي عليه السلام أمر بلعق الصفحة، ومن السنة أن يأكل ما سقط من المائدة، ومن السنة أن يبدأ بالملح، ويختم بالملح.
بيان ما يكره من الحيوانات وما لا يكره يأتي في كتاب الصيد؛ إن شاء الله تعالى.(5/204)
-----
ذكر في «عيون المسائل»: إذا مر الرجل بالثمار في أيام الصيف، وأراد أن يتناول منها، والثمار ساقطة تحت الأشجار، فإن كان ذلك في المصر لا يسعه التناول إلا إذا علم أن صاحبها قد أباح إما نصاً أو دلالة بالعادة، وإن كان في الحائط، فإن كان من الثمار التي تبقى مثل الجوز وغيره لا يسعه إلا إذا علم الإذن، وإن كان من الثمار التي لا تبقى تكلموا. قال الصدر الشهيد: والمختار أنه لا بأس بالأكل ما لم يتعين النهي إما صريحاً أو عادة، فإن كان ذلك في الرساتيق الذي يقال بالفارسية بير استه فإن كان من الثمار التي تبقى لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كان من الثمار التي لا تبقى، فالمختار أنه لا بأس بالتناول ما لم يبين النهي.
وأما إذا كانت الثمار على الأشجار فالأفضل أن لا يأخذ في موضع ما إلا بإذن، إلا أن يكون موضعاً كثير الثمار؛ يعلم أنه لا يشق عليهم أكل ذلك يسعه الأكل، ولا يسعه الحمل، وأما أوراق الشجر إذا سقط على الطريق في أيام العتاق، فأخذ إنسان شيئاً من ذلك بغير إذن صاحب الشجر، فإن كان هذا ورق شجر ينتفع بورقه نحو التوت وما أشبهه؛ ليس له أن يأخذ، ولو أخذ يضمن، وإن كان لا ينتفع به له أن يأخذ، وإذا أخذ لا يضمن.p
رفع الكمثرى من نهر جار ورفع التفاح وأكلهما يجوز، وإن كثر. في «فتاوى أهل سمرقند» وفي هذا الموضع: الجوز الذي يلعب به الصبيان في يوم العيد لا بأس بأكله إذا لم يكن لعبهم على وجه القمار، وفي «فتاوى أبي الليث» لا بأس بالأكل متكئاً إذا لم يكن على وجه التكبر.(5/205)
-----
الأكل يوم الأضحى قبل الصلاة فيه روايتان؛ والمختار أنه لا يكره، ولكن يستحب الإمساك. أكل الطين مكروه هكذا في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح ....: أنه إذا كان يخاف على نفسه أنه لو أكله أورثه ذلك علة أو آفة؛ لا يباح له التناول، وكذلك هذا في كل شيء سوى الطين، وإن كان يتناول منه قليلاً، وكان يفعل ذلك أحياناً لا بأس به، والمرأة إذا اعتادت أكل الطين تمنع من ذلك إذا كان ذلك يوجب نقصاناً في جمالها في هذا الموضع أيضاً.
ومما يتصل بمسائل
الأكل ووضع المملحة على الخبز على الخوان، وإنه مكروه؛ لأنه استخفاف بالخبز، ولكن ينبغي أن يوضع الملح وحده على الخبز، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند»، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: لا أجد نية الذهاب إلى الضيافة سوى أن آمر برفع المملحة عن الخبز، وأئمة بخارى لم يروا به بأساً، وكذلك تعليق الخبز بالخوان مكروه، وكذلك يكره وضع الخبز تحت القصعة، وفي مسح الإصبع والسكين بالخبز إذا كان يأكل، وكذا الخبز بعد ذلك، ومن مشايخ زماننا من أفتى بكراهة مسح الإصبع والسكين بالخبز، وإن أكل الخبز.
بعد ذلك مضغ العلك للنساء لا بأس به بلا خلاف واختلف المشايخ في مضغه للرجال؛ منهم من كره ذلك، ومنهم من قال: إن كان الرجل يمضغ كما تمضغ المرأة، وكان يرى هيئته هيئة النساء يكره، وإن كان يمضغ جلداً كمضغ الرغيف؛ لا يكره. قال شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: والصحيح أنه لا بأس به في حق الرجال والنساء جميعاً إن كان لغرض صحيح.
وفي «مختلفات الفقيه أبي الليث»: إذا ماتت دجاجة وخرج منها بيضة؛ جاز أكلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه اشتد قشرها أو لم يشتد، ويجوز استعمال .... الميت عند أبي حنيفة مائعة كانت أو جامدة، ومن ظاهره عنده على كل حال، وعندهما إن كانت مائعة فهي نجسة فلا تستعمل، وإن كانت جامدة تغسل وتستعمل.(5/206)
-----
الفصل الثالث عشر في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه
ذكر في «فتاوى أهل سمرقند»: أن الهبة جائزة إذا أذن صاحبها فيها، والأصل فيه ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نحر خمس بدنات أو ست بدنات، وقال: «من شاء اقتطع».
إذا عرفنا هذا فنقول: إذا وضع الرجل مقداراً من السكر، أو عدداً من الدراهم بين قوم، وقال: من شاء أخذ منه شيئاً، أو قال: من أخذ منه شيئاً فهو له، فكل (من أخذ) منه شيئاً يصير ملكاً له، ولا يكون لغيره أن يأخذ ذلك منه؛ لأن هذا بمنزلة الهبة منه.
بيانه: أن قول صاحب السكر والدراهم: من أخذ منه شيئاً فهو له؛ تمليك للسكر، والدراهم من الآخر بغير مال، وهو تفسير الهبة، والأخذ من الآخذ قبول لتلك الهبة، فقد جرى بين صاحب الدراهم والسكر وبين الآخذ عقد الهبة، وقد اتصل بها القبض فيصير المقبوض ملكاً للقابض، فهو معنى قولنا: إن هذا بمنزلة الهبة.(5/207)
-----
فإن قيل: هذا التصرف إن كان تمليكاً من الآخذ إلا أنه كما يحتمل الهبة منه؛ يحتمل الإقراض منه، وجعله إقراضاً أولى؛ لأنه أقل، فيكون متيقناً هذا كما قلنا فيمن دفع إلى رجل ألف درهم، وقال: خذ هذه الدراهم فاعمل بها على أن يكون الربح كله لك، كان ذلك إقراضاً ولم يكن هبة؛ لأنه احتمل كلا الأمرين والقرض أقلها، وكذلك إذا دفع الرجل إلى رجل كر حنطة، وقال: ازرعه في أرضي على أن يكون الخارج كله (91ب2) لك؛ كان معيراً للأرض منه، ومقرضاً الكر منه، وإن لم يجعل هبة منه وطريقه ما قلنا، وجواب هذا هكذا في كل موضع لم يترجح احتمال كونه هبة على احتمال كونه قرضاً كما في تلك المسألتين، وههنا احتمال كونه هبة ترجح بحكم العرف، فإن المتعارف والمعتاد فيما بين الناس أنهم يريدون في مثل هذا الهبة دون القرض؛ الدليل عليه أنه كما جرى التعارف بهذا فيما يصح فيه الإقراض، وهو ما كان من ذوات الأمثال؛ جرى فيما لا يصح فيه الإقراض، وهو ما ليس من ذوات الأمثال، فإن التاجر إذا أثقل عليه أمتعته في المفازة وعجز عن حمله يطرحها، ويقول: من أخذ شيئاً فهو له، وههنا لا يمكن حمله على القرض؛ لأن إقراض المتاع لا يصح، فعلمنا أن المتعارف من مثل هذا التصرف الهبة دون القرض، والدليل عليه أن الناس تعارفوا نثر السكر والدراهم في العرس والوليمة، وأحد لم يقل بأن المأخوذ يكون قرضاً على الآخذ؛ مع أنه يصلح للقرض، فعلمنا أن المتعارف في هذا الباب الهبة دون القرض.
فإن قيل: كيف يمكن أن يجعل هذا هبة، وإن الموهوب له وقت الهبة مجهول، وجهالة الموهوب له وقت الهبة تمنع جواز الهبة؛ ألا ترى أنه لو قال: وهبت هذا العين لواحد من عرض الناس كانت الهبة فاسدة، وفسادها بجهالة الموهوب له، وكذلك الموهوب مجهول، وجهالة الموهوب تمنع جواز الهبة.
(5/208)
-----
والجواب أن الموهوب له والموهوب وإن كانا مجهولين وقت الهبة، إلا أن هذه الجهالة تزول عند القبض، وما يمنع جواز الهبة إذا زال وقت القبض يحكم بجواز الهبة، ويجعل كأنه لم يوجد وقت الهبة؛ ألا ترى أن من وهب من رجل مشاعاً يحتمل القسمة، وقسمه وسلم تجوز الهبة، ويجعل كأن الهبة من الابتداء وردت على المقسوم، وهذا لما عرف أن تمام الهبة بالقبض، فتكون العبرة لحالة القبض، ووقت القبض الهبة معلومة، والموهوب له معلوم، فيجوز كما لو وهبه منه عند الأخذ، وكذلك الموهوب إذا كان غائباً عن مجلس الهبة، وإن الواهب (أمر) الموهوب له بقبضها فقبض جازت الهبة لما ذكرنا أن العبرة لحالة القبض، وصار من حيث المعنى كأنه قال: اقبضها، ثم أمسكها لنفسك هبة، وكذلك إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وأمره بقبضه يجوز؛ لأن الهبة عند القبض تصير عيناً، فكأنه قال: اقبضه ثم اجعله لنفسك هبة، فكذا ههنا عند الأخذ يصير كأن المالك قال له: خذه هبة لك، وعند الأخذ الهبة والموهوب له معلومان، والدليل عليه فصل نثر السكر في العرس وغيره، فإن هناك من أخذ شيئاً يصير ملكاً له؛ لأن صاحب السكر بالنثر ملك السكر ممن ينتهبه؛ لأنه نثره للاتهاب، وصار راضياً بصيرورة المتهب ملكاً للمتهب بالاتهاب، ويصير عند الاتهاب كأنه قال للمتهب: هو لك هبة فجاز لكون الموهوب له معلوماً وقت الأخذ، وإن كان مجهولاً وقت النثر كذا ههنا.
اختلف المشايخ في نثر الدراهم والدنانير والفلوس التي كتب عليها اسم الله تعالى، منهم من كره ذلك؛ لأنها بين قوائم الذين ينتهبونها فيطؤوها، وفيه ترك تعظيم اسم الله تعالى، ومنهم من لم يكره ذلك؛ لأنه يقصد بذلك تعظيم الدراهم وإعزازها لا .... لذلك ....(5/209)
-----
وإذا نثر السكر فحضر رجل لم يكن حاضراً وقت النثر قبل أن ينتهب المنثور، وأراد أن يأخذ منه شيئاً هل له ذلك؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: له أن يأخذ، واستدل هذا القائل بقول النبي عليه السلام: «من شاء اقتطع»، ومعلوم أن هذا يتناول الحاضر، والذي يحضر. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ليس له ذلك.
وإذا نثر السكر ووقع في ذيل رجل أو كمه وأخذه غيره؛ كان ذلك للآخذ؛ هكذا ذكر في «المنتقى»، وذكر هذه المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» وفصل الجواب تفصيلاً، قال: إن كان بسط ذيله أوكمه، ليقع عليه السكر لا يكون لأحد أخذه، ولو أخذه كان لصاحب الذيل والكم أن يسترده منه، وإن لم يبسط ذيله أو كمه لذلك فالسكر للآخذ، وليس لصاحب الذيل والكم أن يسترده منه.
وإذا دخل الرجل مقصورة الجامع، ووجد فيها سكراً جاز له الأخذ؛ إلا على قول الفقيه أبي جعفر؛ لأن السكر إنما يدخل في المقصورة لأجل النثار في العقد غالباً، فصار بقية النثار غالباً إلا أن هذا الرجل لم يكن حاضراً وقت النثر، فلا يملك الأخذ على قول الفقيه أبي جعفر، ولو مر بسوق .... فوجد سكراً ملقى لم يسعه أن يأخذها؛ لأن الغالب أنه سقط من حوانيتهم، والحكم للغالب.(5/210)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا دفع الرجل إلى غيره سكراً، أو دراهم لينثره على العروس، فأراد أن يحبس لنفسه شيئاً، ففيما إذا كان المدفوع دراهم ليس له ذلك؛ لأنه مأمور بالنثر لا بالحبس، وكذا ليس له أن يدفع الدراهم إلى الغير لينثر ذلك الغير؛ لأن صاحب الدراهم ائتمنه ... ائتمن غيره، وإذا نثر ليس له أن يلتقط منه شيئاً، وفيما إذا كان المدفوع سكراً، له أن يحبس قدر ما يحبسه الناس في العادة، هكذا اختيار الفقيه أبي الليث قال: لأن أمر السكر على السهولة، وأمر الدراهم على الاستقصاء، وبعض مشايخنا قالوا: ليس له ذلك، قال الفقيه أبو الليث: وله أن يدفع السكر إلى غيره لينثر، وإذا نثر له أن يلتقط، وبعض مشايخنا قالوا: ليس له ذلك كما في الدراهم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل نفق حماره وألقاه في الطريق فجاء إنسان وسلخه، ثم جاء صاحب الحمار فلا سبيل له على أخذ الجلد، ولو لم يلق الحمار على الطريق فأخذه رجل من منزل صاحبه وسلخه وأخذ جلده، فلصاحب الجلد أن يأخذ الجلد، ويرد ما زاد الدباغ فيه.
وعنه أيضاً: في شاة ميتة نبذها أهلها، فأخذ رجل صوفها وجلدها فدبغها فذلك له، فإن جاء صاحبها بعد ذلك أخذ الجلد ورد ما زاد الدباغ فيه، وجوابه في مسألة الشاة يخالف جوابه في مسألة الحمار، فيكون كل واحد من المسألتين نقضاً على الأخرى، فيصير في المسألتين روايتان، ومن هذا الجنس مسائل كثيرة تأتي في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى (92أ2).
(5/211)
الفصل الرابع عشر في الكسب
-----
بدأ محمد رحمه الله كتاب «الكسب» الذي صنعه بحديث رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طلب الكسب فريضة على كل مسلم»، كما أن طلب العلم فريضة؛ وهذا لأن الله تعالى فرض الفرائض على عباده، ولا يتوصل إلى أداء الفرائض إلا بالكسب، فكان فريضة بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة، ولأن ذلك يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه، ولا حصول لقوة البدن عادة إلا بالقوت، ولا حصول للقوت، وكذلك لا بد للصلاة من ستر العورة، إنما يحصل بالثوب، وطريق تحصيل الثوب الكسب، فهو معنى قولنا: لا يتوصل إلى أداء الفرائض إلا بالكسب فصار فرضاً؛ كيف وإن الله تعالى أمرنا بالتجارة في كتابه، لقوله: {وإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10) والمراد منه التجارة والأمر على الوجوب، ولأن الكسب طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام، أول من اكتسب أبونا آدم عليه السلام، فلما أهبط إلى الأرض أتاه جبرائيل عليه السلام بالحنطة وأمره أن يزرعها، فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها. وكذلك نوح عليه السلام كان نجاراً يأكل من كسبه، وإدريس عليه السلام كان خياطاً، وإبراهيم عليه السلام كان بزازاً، وداود كان بزازاً حتى روي أن نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: «عليكم بالبز، فإن أباكم إبراهيم كان بزازاً»، وداود عليه السلام كان يصنع الدرع، وسليمان عليه السلام كان يصنع المكاييل، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وربما كان يلتقط السنابل، فعلم أن الكسب طريق الأنبياء والمرسلين صلاة الله عليهم أجمعين، ونحن أمرنا بالاقتداء بهم قال الله تعالى: {فبهداهم اقتده} (الأنعام:90) .(5/212)
-----
ثم الكسب على مراتب، فمقدار ما لابد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه ههنا؛ وكذلك إذا كان له عيال من زوجة، وأولاد صغار، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عيناً؛ لأن نفقة الزوجة مستحقة على الزوج، وكذلك نفقة الولد مستحقة على الوالد، ولا يتوصل إليها إلا بالكسب، فصار الكسب مستحقاً عليه، وكذلك إذا كان له أبوان معسران يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما؛ لأن نفقتهما فرض عليه، وما زاد على قدر كفايته وكفاية عياله مباح إذا لم يرد به الفخر والرياء.
ثم المذهب عند جمهور الفقهاء: أن جميع أنواع الكسب في الإباحة على السواء فبعض الفقهاء قالوا: الزراعة مذمومة، والصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أزدء بالحرف قال عليه السلام: «اطلبوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزراعة، فكان لابن مسعود والحسن بن علي وأبي هريرة أراض بسواد العراق يزرعونها ويؤدون خراجها.
ثم اختلف مشايخنا في التجارة والزراعة أيهما أفضل؛ قال بعضهم: التجارة أفضل، قال عمر رضي الله عنه: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إليَّ من أن أقتل مجاهداً في سبيل الله. وأكثر مشايخنا على أن الزراعة أعم نفعاً؛ لأنه يتناول مما حصل بزرعه هو والدواب.
قال: وعلى الناس اتخاذ ... لنقل الماء إلى النساء؛ لأنها تحتاج إلى الماء للشرب، ولا يمكنها الخروج للشرب من الأنهار، والحياض؛ لأنهن أمرن بالقرار في البيوت، فكان على الزوج أن يأتي بذلك إليها؛ لأن الشرع ألزمه ما هو من حوائجها كالنفقة، والماء من حوائجها.(5/213)
-----
قال: ومن امتنع من الأكل حتى مات وجب عليه دخول النار؛ لأنه قتل نفسه قصداً، فهو بمنزلة ما لو قتل نفسه بحديدة. وفي «واقعات الناطفي»: إسكاف أمره إنسان أن يتخذ له خفاً مشهوراً على زي الفسقة أو المجوس، وزاد له في الأجرة له أن يفعل ذلك، وكذلك الخياط إذا أمره إنسان أن يخيط له ثوباً على زي الفساق، وذلك مكعب الرجال مع سرير وقع الزنار من النصارى، وبيع قلنسوة المجوس من المجوسي جائز من غير كراهة، وقالوا: وبيع مكعب الفصص من الرجال إذا علم أنه ملبوس مكروه، والكلام ههنا أظهر من الكلام في بيع المكعب مع سريره.
في «العيون»: إذا استأجره رجل لغسل الميت فلا أجر له، لو استأجره لحمل الميت أو حفر القبر فله الأجر. في «القدوري» ذكر مسألة الغسل وحمل الميت، وقصد الجواز فيهما تفصيلاً، فقال: إن كان في موضع لا يجد من يغسله أو يحمله غير هؤلاء فلا أجر لهم، وإن كان ثم إنسان غيرهم فلهم الأجر، وستأتي هذه المسألة في كتاب «الإجارات» إن شاء الله تعالى.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: استأجر رجلاً لضرب الطبل؛ إن كان للهو لا يجوز؛ لأنه معصية، وإن كان للعدو والقافلة يجوز؛ لأنه طاعة. وفي «المنتقى»: إبراهيم عن محمد امرأة نائحة، أو صاحب طبل أو مزمار اكتسب قال: إن كان على شرط رده على أصحابهم إن عرفهم يريد بقوله على شرط إن شرطوا لها أو له مالاً بإزاء النياحة أو بإزاء الغناء؛ وهذا لأنه إذا كان الأخذ على شرط كان المال بمقابلة المعصية، فكان الأجر معصية، والسبيل في المعاصي ردها، ولذلك ههنا يرد المأخوذ إن تمكن من رده بأن عرف صاحبه، وبالتصدق منه إن لم يعرفه ليصل إليه نفع ماله إن كان لا يصل إليه عين ماله؛ أما إذا لم يكن الأخذ على شرط لم يكن الأخذ بمعصية، والرفع حصل عن المالك برضاه فيكون له (92ب2) ويكون حلالاً له.
(5/214)
-----
فيه أيضاً عن محمد في «الكسب»: إن قضى به دينه لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه؛ لأنه في يده بمنزلة الغصب، وأما في القضاء فهو مخير على الأخذ، وينبغي على قياس المسألة المتقدمة أنهاإذا أخذت ذلك من غير شرط أن يسع رب الدين أن يأخذه.
فيه أيضاً عن أبي يوسف: إذا ورث خمراً، وهم مسلمون لا أقسم الخمر بينهم، ولكنها تتخلل ثم تقسم.
مات وماله من بيع السارق إن تورع الورثة عن أخذ ذلك كان أولى، ويردوا على أربابها إن عرفوا أربابها؛ لأنه تمكن فيه نوع خبث، وإن لم يعرفوا أربابها، فالميراث حلال لهم في الحكم، ولا يلزمهم التصدق به وفسقا بأخذ هذا بل هو حرام مطلق على الورثة، قال: وإن تورعوا أو تصدقوا كان أولى، وكذا الجواب فيما إذا أخذه برشوة ظلماً إن تورع الورثة كان أولى، وإذا أراد الوارث أن يتصدق بين خصمائه.
في «فتاوى أهل سمرقند»: وأما الذي تأخذه النائحة والقوال والمغني فالأمر فيه أيسر؛ لأن فيه إعطاء برضاه من غير عقد، وقد ذكرنا الكلام في كسب المغنية والنائحة قبل هذا، والفتوى على ما ذكرنا قبل هذا.
سئل الفقيه أبو جعفر عمن اكتسب ماله من أمر السلطان، وجمع المال من أخذ الغرامات المحرمة وغير ذلك؛ هل يحل لأحد عرف ذلك أن يأكل من طعامه؟ قال: أحب إلي في دينه أن لا يأكل، ويسعه أكلها حكماً إذا كان الطعام لم يقع في يد المطعم غصباً أو رشوة.
(رجل) يبيع التعويذ في المسجد، ويكتب فيه التوراة والإنجيل، ويأخذ عليه مالاً، ويقول: إني أوقع هذا هدية لا يحل له المأخوذ؛ لأنه نص على الهدية، وأخذ المال لا يجوز.
ذكر رحمه الله تعالى في كتاب «الكسب» كسب الخصي حرام لم يرد به ما اكتسبه، وإنما أراد به أن اتخاذه خصياً، وإخصاؤه مكروه؛ نقل عن كتاب «الطحاوي» هكذا، والله أعلم.
(5/215)
الفصل الخامس عشر في نقل الميت
-----
روى ابن أبي مليكة: أن عبد الرحمن بن أبي بكر مات خارج مكة على اثني عشر ميلاً، فنقل إلى مكة ودفن بمكة، فجاءت حاجة أو معتمرة وزارت قبره، وقالت: أما والله لو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذي مت فيه؛ قولها أما والله لو شهدتك ما زرتك تكلم المشايخ في تأويله وفي معناه، بعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان أن زيارة القبور ليست بواجبة، وإلى هذا القول مال القاضي الإمام علي السغدي، وبعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان عذرها في زيارته، فإن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله زوارات تمنع النساء عن زيارة القبور» والحديث وإن كان مؤولاً، فلحشمة ظاهرة، قالت ما قالت، ووجه العذر أنه قال: عليها لقاؤه عند الموت فزارت قبره ليكون لقاء قبره قائماً مقام لقائه عند الموت، وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، وبعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان أن زيارة القبور مع أنها مكروهة في حق النساء، وإن الحديث الوارد في هذا الباب منسوخ نسخه قوله عليه السلام «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجراً» ولكن الترك أولى إلا أنها قالت: لو شهدتك ما زرتك، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام شيخ الإسلام، وقولها: لو شهدتك ما زرتك إلا في مكانك الذي مت فيه؛ دليل دفن الميت في مكانه الذي مات فيه، وفي مقابر ذلك القوم أفضل.(5/216)
-----
قال محمد رحمه الله في «السير»: أحب إلينا أن ندفن الميت والقتيل في المكان الذي مات فيه في مقابر المسلمين ... وإن نقل ميلاً أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به، فقد نهى الناس عن النقل ميلاً أو ميلين، فهذا دليل على أن الزيادة على ذلك مكروه، وإنما صار قدر ميلين عفواً؛ لأنه لا بد منه في الأعم الأغلب، فإن الغالب في كل بلد أن تكون مقابرها بفنائها، وربما يكون من المكان الذي مات فيه إلى المقبرة قدر ميلين فصار هذا القدر عفواً، فأما الزيادة على ذلك .... الأعم والأغلب، وفيه تشبه باليهود وحمل الجنائز من غير فائدة فيكره؛ قال شمس الأئمة السرخسي في شرح «السير»: لو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه، لكان كافياً في كراهته، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه»: أن نقل الميت من بلد إلى بلد لغرض ليس بمكروه.
وفي «العيون»: ذكر مطلقاً أن نقل الميت من بلد إلى بلد ليس بمكروه، وحكم قراءة القرآن في المقابر مر قبل هذا فلا نعيده.
الفصل السادس عشر في معاملة أهل الذمة
........ التي تعود إليهم يجب أن يعلم بأن أهل الذمة لا يمنعون عن الدخول في سائر المساجد، سوى المسجد الحرام عندنا خلافاً لمالك، وهل يمنعون؛ ذكر في «الجامع» ذكر محمد رحمه الله تعالى في «السير الكبير» في باب دخول الكافر في المسجد: أنهم يمنعون، وذكر في «الجامع الصغير:» أنهم لا يمنعون، وهكذا ذكر الكرخي في «مختصره»؛ قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه كان يقول محمد أولاً ثم رجع وقال: يمنعون، وهو المذكور في «السير».
فوجه قول محمد الآخر قول الله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة:28) أي بعد عام الفتح، فقد خص المسجد الحرام بالنهي عن الدخول، فيدل على حرمة الدخول إليه، واختصار الحرمة عليه.j(5/217)
-----
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن القاضي إنما يجلس للقضاء في المسجد الحرام، وأهل الذمة لا يجدون بداً من رفع خلافاتهم إليه، وكذلك المسألة ربما يكون به حق على الذمي فلا يجد بداً من إدخاله المسجد، فلو لم يجز لهم الدخول في المسجد الحرام أدى إلى إبطال حقوقهم، وحقوق المسلمين، وفساد ذلك ما لا يخفى بهذا الطريق؛ جاز الدخول في سائر المساجد، والجواب عن التعليق بالآية ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوي: أنه ليس المراد من القربان المذكور في الآية القربان من جهة الدخول، وإنما المراد القربان من حيث التدبير والاستيلاء، والقيام بالعمارة، فرؤساء قريش كانوا يلون ذلك قبل الفتح، وبعد الفتح منعوا عن ذلك، فإنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لما دخل مكة عام الفتح أخذ مفاتيح المسجد منهم، ودفعها إلى من أراد من المسلمين.
وجواب آخر إن كان المراد من القربان المذكور في الآية الدخول، ولكن على الوجه الذي اعتادوا في الجاهلية، وهو الدخول لعبادة غير الله تعالى والطوف لا على الوجه المشروع، فإنه روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عرياناً.
ثم إن أصحابنا رحمهم الله تعالى فرقوا بين الكافر وبين المسلم (93أ2) الجنب، فلم يجوزوا للمسلم الجنب الدخول في المسجد؛ مع أن الكافر جنب، قال: من الكفار (من) لا يغتسل ومنهم من يغتسل، ولكن لا يدري كيفيته، ولهذا يؤمر بالاغتسال إذا أسلم، والفرق: أن المسلم يدين وجوب الاغتسال بالجنابة، ويعتقد كون الجنابة مانعة من دخول المسجد فتعاملنا معه على حسب اعتقاده، وثبتنا الحكم على ما يدينه، فأما الكافر فلا يدين وجوب الاغتسال بالجنابة أو لا يدين كيفيته ولا يعتقد الجنابة مانعة من الدخول في المسجد، فتعاملنا معه على حسب اعتقاده، وثبتنا الحكم في حقه على ما يدينه فلهذا افترقا.
(5/218)
-----
وإذا قال الكافر من أهل الحرب، أو من أهل الذمة لمسلم: علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه، ويفقهه في الدين؛ علل فقال: لعله يقبل بقلبه؛ قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة:6) معناه حتى يسمع فيفهم، فيقف على مجلس الإسلام والشريعة، فربما يرغب في الإيمان، وهو معنى قول محمد في «الكتاب»: لعله يقبل قلبه، وروي أن واحداً من الكفار سمع القرآن فأسلم، وقال: وجدت له حلاوة.
قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي: وتعليم الفقه كذلك أيضاً؛ لأن في الفقه معالم الدين، وسنن الهدى، فربما يصير ذلك سبباً لإسلامه.
قال محمد رحمه الله: يكره الأكل والشرب في أواني المشركين قبل الغسل؛ لأن الغالب والظاهر من حال أوانيهم النجاسة، فإنهم يستحلون الخمر والميتة ويشربون ذلك، ويأكلون من قصاعهم وأوانيهم، فكره الأكل والشرب فيها قبل الغسل اعتباراً للظاهر، كما كره التوضؤ بسؤر الدجاجة؛ لأنها لا تتوقى من النجاسات في الغالب، والظاهر مع هذا لو أكل أو شرب فيها قبل الغسل جاز، ولا يكون آكلاً ولا شارباً حراماً؛ لأن الطهارة في الأشياء أصل والنجاسة عارض، فيجري على الأصل حتى يعلم حدوث العارض، وما يقول بأن الظاهر هو النجاسة، قلنا: نعم، ولكن الطهارة كانت ثابتة، واليقين لا يزال إلا بيقين مثله؛ ألا ترى أنه لو أصاب عضو إنسان أو ثوبه سؤر الدجاجة، أو الماء الذي أدخل فيه يده، وصلى مع ذلك جازت صلاته، وطريقه ما قلنا: أن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد تيقنا بالطهارة وشككنا في النجاسة فلا تثبت النجاسة بالشك، وهذا إذا لم يعلم بنجاسة الأواني.
فأما إذا علم فإنه لا يجوز أن يشرب ويأكل منها قبل الغسل، ولو شرب أو أكل كان شارباً وآكلاً حراماً، وهو نظير سؤر الدجاجة إذا علم أنه كان على منقارها نجاسة، فإنه لا يجوز التوضؤ به.(5/219)
-----
والصلاة في سراويلهم نظير الأكل والشرب من أوانيهم، إن علم أن سراويلهم نجسة لا تجوز الصلاة فيها، وإن لم يعلم تكره الصلاة فيها، ولو صلى يجوز، ولا بأس بطعام اليهود والنصارى كله من الذبائح وغيرها لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (المائدة: 5) من غير فصل بين الذبيحة وغيرها، ويستوي الجواب بين أن يكون اليهود والنصارى من بني إسرائيل أو من غيرهم، كنصارى العرب؛ لأن ما تلونا من الآية لم تفصل.
ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة، فإن ذبيحتهم حرام، قال عليه السلام: «سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» ولم يذكر محمد رحمه الله الأكل مع المجوسي ومع غيره من أهل الشرك أنه هل يحل أم لا، وحكي عن الحاكم عبد الرحمن الكاتب أنه إن ابتلي به المسلم مرة أو مرتين فلا بأس به، فأما الدوام عليه يكره؛ لأنا نهينا عن مخالطتهم وموالاتهم وتكثير سوادهم، وذلك لا يتحقق في الأكل مرة أو مرتين، إنما يتحقق بالدوام عليه.
رجل له امرأة ذمية، أو أب ذمي ليس له أن يقوده إلى البيعة، وله أن يقوده من البيعة إلى منزله؛ لأن الذهاب إلى البيعة معصية وإلى المنزل لا، ولا يحمل الخمر إلى الخل ولكن يحمل الخل إليها، وكذلك لا يحمل الجيفة إلى الهرة ويحمل الهرة إلى الجيفة.
مسلم له امرأة من أهل الذمة ليس له أن يمنعها من شرب الخمر؛ لأنه حلال عندها، لكن يمنعها من ادخارها في بيته، ولا يجبرها على الغسل من الجنابة؛ لأن ذلك ليس بواجب عليها.(5/220)
-----
وقال في «القدوري»: في النصرانية تحت مسلم لا تنصب في بيته صليباً، وتصلي في بيته حيث شاءت، ومن سأل من أهل الذمة مسلماً عن طريق البيعة فلا ينبغي له أن يدل عليه؛ لأنه أعانه على المعصية، ولا بأس بالذهاب إلى ضيافة أهل الذمة؛ لأنه نوع بر، وإذا آجر المسلم نفسه من ذمي ليعصر له فيتخذ خمراً فهو مكروه، ولو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها فلا بأس به؛ إذ ليس في نفس العمل معصية، ولا بأس أن يصل المسلم المشرك قريباً كان أو بعيداً، محارباً كان أو ذمياً، وأراد بالمحارب المستأمن، فأما إذا كان غير مستأمن فلا ينبغي بأن يصله بشيء، والأصل في ذلك قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلو في الدين} (الممتحنه: 8) الآية إلى آخرها، فالله تعالى بين بأول الآية أنه ما نهانا عن مبرة الذمي، وبين بآخر الآية أنه نهانا عن مبرة أهل الحرب؛ إلا أن المستأمن صار مخصوصاً عن آخر الآية؛ لأن الأمان المؤبد أو المؤقت خلف عن الإسلام في أحكام الدنيا، فكما لا يكون بصلة المسلم بأساً، فلا يكون بصلة المستأمن بأساً؛ بخلاف غير المستأمن؛ لأنه لم يوجد في حقه ما هو خلف عن الإسلام؛ حتى يلحق بالمسلم في حق هذا الحكم، فبقي داخلاً تحت النهي؛ هذا هو الكلام في صلة المسلم المشرك.(5/221)
-----
جئنا إلى صلة المشرك المسلم، فقد روى محمد رحمه الله في «السير الكبير» أخباراً متعارضة في بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هدايا المشرك، وفي بعضها أنه لم يقبل، فلا بد من التوفيق، واختلفت عبارة المشايخ في وجه التوفيق، فعبارة الفقيه أبي جعفر الهندواني أن ما روي أنه لم يقبلها محمول على أنه لم يقبلها من شخص غلب على ظن رسول الله عليه السلام أنه وقع (93ب2) عند ذلك الشخص أن رسول الله عليه السلام إنما يقاتلهم طمعاً في المال؛ لا لإعلاء كلمة الله، ولا يجوز قبول الهدية من مثل هذا الشخص في زماننا، وما روي أنه قبلها محمول على أنه قبل من شخص غلب على ظن رسول الله أنه وقع عند ذلك الشخص أن رسول الله عليه السلام إنما يقاتلهم لإعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله لا لطلب المال، وقبول الهدية من مثل هذا الشخص جائز في زماننا أيضاً؛ لأن قبول الهدية حينئذٍ لا يكون لترك القتال بل للتألف وإنه جائز.
ومن المشايخ من وفق من وجه آخر، فقال: لم يقبل من شخص علم أنه لو قبل منه تقل صلابته وعزمه في حقه، وبين له بسبب قبول الهدية على ما قال عليه السلام: «الهدية تذهب وحر الصدر» ومتى كانت الحالة هذه لا يجوز قبول الهدية؛ لأن سبيل المسلم أن يكون غليظاً شديداً على الكفرة، وقبل من شخص علم أنه لا تقل صلابته، وعزمه في حقه، ولا يلين له بسبب قبول الهدية.(5/222)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: ويأمر الإمام أهل الذمة بإظهار الاستنحاب والركوب على السرج الذي هو كهيئة الأكف؛ هذا هو لفظ «الجامع الصغير»، ولفظ كتاب العشر والخراج من «الأصل»: وينبغي أن لا يترك أحداً من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في ملبوسه ولا في ركوبه، ولا في زيه وهيئته، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء الأمصار أن لا يتركوا أهل الذمة يتشبهون بالمسلمن في لباسهم، ومركبهم، وهيآتهم، فهذا روي عن عمر رضي الله عنه ولم يرو عن غيره خلافه، فحل محل الإجماع.
قال: ويمنعون عن ركوب الفرس؛ لأن ركوب الفرس من باب العز والشرف، وما كان من باب العز فأهل الذمة يمنعون عنه؛ لأنهم من أهل الصغار، فيمنعون عنه إلا إذا وقعت الحاجة إلى ذلك؛ بأن استعان الإمام بهم في المحاربة، والذب عن المسلمين، ولا يمنعون عن ركوب البغل؛ لأنه نتيجة الحمار، ولا يمنعون من ركوب الحمار؛ لأن كل أحد لا يقدر على المشي، لكنهم يمنعون من أن يضعوا على الراكب سرجاً كسرج المسلمين، وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل الرمانة؛ وهذا لأنهم كما أمروا بالمخالفة في هيئة اللباس، فكذلك أمروا بالمخالفة في هيئة المركب من حديث عمر رضي الله عنه.
واختلفوا في قوله وعلى قربوس السرج مثل الرمانة؛ قال الفقيه أبو جعفر: لم يرد بقوله: وعلى قربوس السرج مثل الرمانة أن يكون مقدم سروجهم مثل مقدم سروجنا، ثم تكون عليه رمانة، وإنما أراد به أن يكون مقدم سرجهم مثل مقدم الإكاف، وهو كالرمانة وغيره. قال: أراد به أن يكون مقدم سروجهم مثل مقدم سروجنا، ثم تكون عليه الرمانة.(5/223)
-----
ويمنعون عن لبس الرداء والعمائم التي يلبسها علماء الدين؛ لأن فيه شرفاً، وكذلك يمنعون أن يكون شراك نعالهم كشراك نعالنا، وكذلك يمنعون أن تكون خفافهم كخفافنا، ونعالهم كنعالنا، وينبغي أن يؤخذوا حتى يأخذ كل واحد منهم مثل الخيط بعقد ليكون ذلك علامة فلا نعظمهم، وينبغي أن يكون ذلك الخيط غليظاً، ولا يكون رقيقاً؛ بحيث لا يقع عليه البصر؛ إلا أن يبالغ في النظر، وينبغي أن لا يكون من الإبريسم؛ لأن ذلك من باب التزين والتجمل.
ثم اختلف المشايخ أن المخالفة بينهم وبيننا شرط بعلامة واحدة، أو بعلامتين، أو بثلاث علامات، قال بعضهم: العلامة الواحدة تكفي إما على الرأس كالقلانس الطحال المصرية، أو على الوسط كالنسيج، أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا ومكاعبنا، وبعضهم قالوا: لابد من العلامات الثلاث، وبعضهم قالوا في النصراني: يكتفى بعلامة واحدة، وفي اليهودي: يشترط علامتان، وفي المجوسي: يشترط ثلاث علامات، وذكر شيخ الإسلام أنه يشترط الثلاث في حق كل شخص، وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي يقول: إن كان صالحهم الإمام وأعطاهم الذمة لعلامة واحدة، فلا يزاد على ذلك، فأما إذا فتح بلدة عنوة وقهراً كان للإمام أن يلزمهم العلامات الثلاث، وكذلك في الهيئات من حيث المركب والملبوس وغير ذلك مما ذكرنا من الجواب فيما إذا فتح بلدة عنوة، فأما إذا فتحت صالحاً، وأعطاهم الصلح على بعض ما ذكرنا لا يزاد على ما وقع عليه الصلح وهو الصحيح.(5/224)
-----
ولا ينبغي أن يتركوا أن يحدثوا بيعة وكنيسة في مصر من أمصار المسلمين؛ لأن في إحداث البيع والكنائس إعلان دين الكفر، وقد منعوا من إعلان دينهم، فإنا إنما أعطيناهم الذمة بشرط أن لا يعلنوا ما في دينهم. فإن أرادوا أن يحدثوا ذلك في القرى؛ روى الحسن عن أبي حنيفة: أنهم يمنعون عنه، وفي ظاهر الرواية: لا يمنعون عنه، فإن أحدثوا بيعة في قرية من القرى، ثم بنى فيها أبنية كثيرة فمصرها الإمام، فالإمام ينقض ذلك، وكذلك لو أحدثوا كنيسة بقرب مصر، وبني هناك أبنية حتى اتصل ذلك الموضع بالمصر، وصار كمحلة من محال المصر، فإن الإمام ينقض ذلك كله، ويضمن لهم قيمة ذلك ليشتروا موضعاً ويبنوا فيه مثلها، أو يعوض لهم مكاناً آخر فارغاً حتى يبنوا فيها مثلها، هذا جواب ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في هاتين الصورتين: أن الإمام لا ينقض ذلك.
وجه رواية الحسن قوله عليه السلام: «لا خصاء ولا كنيسة في الإسلام» وأراد الإحداث، فإن القديمة يجوز تركها في القرى، فالنبي عليه السلام نهى عن إحداث الكنيسة، ولم يفصل بين القرى والأمصار، ولأن في إحداث الكنيسة إعلان دينهم، وهم كما منعوا عن إعلان دينهم في المصر منعوا عنه في القرى؛ ألا ترى أنهم يمنعون عن إظهار بيع الخمور والخنازير، وعقود الربا في القرى كما يمنعون عنها في الأمصار.
وجه ظاهر الرواية: أن إحداث الكنيسة والبيعة تصرف مباح بنفسه؛ لأنه بناء وعمارة بمكان، وإنه مباح في الإسلام، ألا ترى أنه لو وجد مثل ذلك من المسلم كان مباحاً، وإنما الحرمة بقصدهم أن هذا البناء للبيعة والكنيسة (94أ2)
(5/225)
-----
فكان هذا الفعل مباحاً لعينه حراماً لغيره، وهو قصد الفاعل، فلو كان مباحاً من كل وجه تركوا في الأمصار والقرى كبناء الدار، ولو كان حراماً لعينه كبيع الخمر والخنزير لمنعوا عنه في المواضع كلها، فإذا كان مباحاً لعينه حراماً لغيره منعوا عنها في المصر اعتباراً لجانب الحرمة، ولم يمنعوا عنها في القرى اعتباراً لجانب الإباحة، وكان العمل على هذا الوجه أولى من العمل على العكس؛ لأن للمصر حرمة زائدة ليست للقرى، فإنها إقامة الجمع والأعياد وجلوس المفتي والقضاء بخلاف بيع الخمر؛ لأنه حرام لعينه؛ ألا ترى أنه لو وجد من المسلم كان حراماً ومعصية، وهم منعوا عن إظهار المعاصي في دار الإسلام؛ المصر والقرى في ذلك على السواء ولا كذلك بناء البيعة والكنيسة على ما ذكرنا.
فأما الكنائس القديمة والبيع القديمة في الأمصار والقرى ذكر في عامة الكتب أنها تترك على حالها ولا تنقض، وفي كتاب العشر والخراج من «الأصل»: يشير إلى أنها تهدم، وهو قول الحسن، والصحيح ما ذكر في عامة الروايات، وهذه الروايات فيما إذا ظهر الإمام عليهم عنوة وقهراً، فأما إذا وقع الصلح بينهم وبين الإمام فالكنائس والبيع تترك على حالها، ولا يتعرض لها باتفاق الروايات.
ثم إذا كانت الكنائس قديمة وقد ظهر الإمام عليهم عنوة، حتى لم يكن للإمام نقضها على ظاهر الرواية، انهدمت كنيسة منها كان لهم بناؤها؛ لأن هذا ليس بإحداث؛ بل إعادة للأول، فكأنه غير الأول، فلا يمنعوا عنه إلا إذا أرادوا أن يبنوا أوسع من الأول، فحينئذٍ يمنعون عن الزيادة في حق الزيادة إحداث.(5/226)
-----
ولا ينبغي أن يتركوا حتى يشتري أحد منهم، داراً أو منزلاً في مصر من أمصار المسلمين، ولا ينبغي أن يتركوا بأن يسكنوا في مصر من أمصار المسلمين؛ هكذا ذكر في كتاب العشر والخراج من «الأصل»، فعلى رواية كتاب العشر والخراج: لم نمكنهم من المقام في أمصار المسلمين، وفي عامة الكتب نمكنهم من المقام في أمصار المسلمين إلا أن يكون المصر من أمصار العرب نحو أرض الحجاز وما أشبهه، فحينئذٍ لا يمكنون من المقام فيها؛ قال عليه السلام: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» والصحيح ما ذكر في عامة الكتب، فقد صح أن عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس صلحاً، وترك أهل الذمة فيها، وخالد بن الوليد رضي الله عنه فتح بلدة وترك أهل الذمة فيها، وفتح عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان أرض الشام عنوة وقهراً، وتركوا أهل الذمة فيها، وأبو موسى الأشعري وعثمان بن العاص، وعتبة بن عمرو فتحوا نهاوند وتركوا أهل الذمة، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم جوزوا ترك أهل الذمة في أمصار المسلمين من بلاد العجم، فيصير فعلهم حجة لما ذكرنا في عامة الكتب.
(5/227)
-----
إذا قال لذمي: أطال الله تعالى بقاءك، إن كان نيته أن الله تعالى يطيل بقاءه ليسلم أو يؤدي الجزية عن ذل وصغار فلا بأس به، وإن لم ينوِ شيئاً يكره، وفي «فتاوى أهل سمرقند» وفي هذا الموضع أيضاً: مسلم دعاه نصراني إلى دار ضيفاً حل له أن يذهب؛ لأن فيه ضرب من البر، وقد ندبنا إلى بر من لم يقاتلنا في الدين؛ قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} (الممتحنة: 8) . وفي أضحية «النوازل»: المجوسي أو النصراني إذا دعا رجلاً إلى طعامه يكره الإجابة، فإن قال اشتريت اللحم من السوق؛ لأن المجوسي يبيح المنخنقة والموقوذة، والنصراني لا ذبيحة له، وإنما يأكل ذبيحة المسلم، أو، وإن كان الداعي يهودياً فلا بأس به؛ لأنه لا يأكل إلا من ذبيحة اليهودي، أو من ذبيحة المسلم، وما ذكر في حق النصراني يخالف رواية محمد على ما تقدم ذكرها.
وفي «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني؛ لأن العيادة من باب البر والصلة، ولا بأس بالبر في حقهم، وقد صح أن رسول الله عليه السلام عاد يهودياً في جواره قد مرض.
الفصل السابع عشر في الهدايا والضيافات
هدايا القضاة وتأتي في كتاب أدب القاضي من هذا الكتاب، وأما هدية المستقرض المقرض، فإن كانت مشروطة في الاستقراض فهي حرام، ولا ينبغي للمقرض أن يقبل، وإذا لم تكن مشروطة في العقد، ولم يعلم أنه أهدى إليه لأجل الدين، أو لا لأجل الدين؛ ذكر شيخ الإسلام لا بأس بقبولها، والتورع عنه أولى، وهكذا حكي عن بعض مشايخنا.(5/228)
-----
بعد هذا قالوا: إذا كانت المهاداة تجري بينهما قبل القرض بسبب القرابة أو الصداقة أو كان المستقرض معروفاً بالجود والسخاء، فهذا قائم مقام العلم أنه أهداه لا لأجل الدين، فلا يتورع عنه، وإن لم يكن شيئاً من ذلك، والحالة حالة الإشكال، فيتورع عنه حتى ينص أنه أهدى لا لأجل الدين، ومحمد رحمه الله لم يرَ به بأساً بلا تفصيل.
جئنا إلى فصل الدعوة، قال محمد رحمه الله: ولا بأس بأن يجيب دعوة رجل له عليه دين، قال شيخ الإسلام: هذا هو جواب الحكم، فأما الأفضل أن يتورع عن الإجابة إذا علم أنه لأجل الدين، أو أشكل عليه الحال؛ قال شمس الأئمة الحلواني: حالة الإشكال؛ إنما يتورع إذا كان يدعوه قبل الإقراض في كل عشرين يوماً بعد الإقراض جعل يدعوه في كل عشرة أيام، أو زاد في ... أما إذا كان يدعوه بعد الإقراض في كل عشرين كما كان يدعوه قبل الإقراض، ولا يزيد في... فلا يتورع إلا إذا نص أنه أضاف لأجل الدين، فإن كان لا يدعوه قبل الإقراض أصلاً، وجعل يدعوه بعد الإقراض يتورع إلا إذا نص أنه أضافه لا لأجل الدين، وههنا زيادة تفريع سيأتي في كتاب أدب القاضي إن شاء الله تعالى.
وأما هدايا الأمراء في زماننا؛ حكي (عن) الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه سئل عن هدايا الأمراء في زماننا قال: ترد على إبانها والشيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن حامد سئل عن هذا، فقال: يوضع في بيت المال، وهكذا ذكر محمد في «السير الكبير» فذكر ذلك الشيخ الإمام الجليل محمد بن الفضل، فقال: كنت أعلم أن المذهب هذا؛ إلا أني لم أجب به مخافة أن يوضع في بيت المال، ثم الأمراء يصرفونها إلى شهواتهم ولهوهم، فقد علمنا أنهم إنما يمسكون (94ب2) بيت المال لشهواتهم؛ لا لجماعة المسلمين، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع عماله عن قبول الهدايا، وإذا قبلوها ردوهاعلى أصحابها إن قدروا عليهم، وإن لم يقدروا عليهم وضعوها في بيت المال.(5/229)
-----
واختلفت الصحابة ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور، فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يقبلان هدية المختار، وعن إبراهيم النخعي: أنه كان يجوز ذلك، وأبو ذر وأبو درداء كانا لا يجوزان ذلك، وعن علي رضي الله عنه: أن السلطان يصيب من الحلال والحرام، فإذا أعطاك شيئاً فخذه، فإن ما يعطيك حلال لك، وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال، وإن كان صاحب تجارة وزرع وأكثر ماله من ذلك، فلا بأس بقبول الجائزة ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حرام، وفي قبول رسول الله عليه السلام الهدية من بعض المشركين دليل على ما قلنا.
وفي «عيون المسائل»: رجل أهدى إلى إنسان أو أضافه إن كان غالب ماله من حرام لا ينبغي أن يقبل ويأكل من طعامه ما لم يخبر أن ذلك المال حلال استقرضه أو ورثه، وإن كان غالب ماله من حلال فلا بأس بأن يقبل ما لم يتبين له أن ذلك من الحرام؛ وهذا لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام وتخلو عن كثيره، فيعتبر الغالب ويبنى الحكم عليه.r
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: رجل دخل على السلطان فقدم إليه بشيء مأكول، فإن اشتراه بالثمن أو لم يشتر، ولكن هذا الرجل لا يعلم أنه مغصوب بعينه حل له أكله؛ أما إذا اشتراه بالثمن فلأن العقد يقع على مثل الثمن المشار إليه؛ لا على عين المشار إليه، فلا يتمكن الخبث في المشترى هكذا ذكر، وههنا كلمات تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى في مسائل الغصب، وأما إذا لم يشترِ، ولكن لا يعلم الداخل أنه مغصوب بعينه، فلأن الأشياء على أصل الإباحة ما لم يعلم دليل الحرمة، فلا يحرم لو علم دليل الحرمة بأن علم بأن هذا الشيء مغصوب بعينه لا يحل له الأكل هكذا ذكر، والصحيح أنه ينظر إلى غالب مال السلطان، ويبنى الحكم عليه على ما ذكرنا قبل هذا.(5/230)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: لا يباح اتخاذ الضيافة في المصيبة بعد ثلاثة أيام، ويقال فيما بين الناس «سه ديكر»، وفي «النوازل»: الضيف إذا أعطى اللقمة بعضهم لبعض يعتبر في ذلك تعامل الناس، ويترك القياس بالاستحسان، ولا يجوز أن يعطي سائلاً؛ لأنه لا تعامل فيه. وفي «العيون»: إذا كان الرجل ضيفاً عند إنسان فناول لقمة من طعامه إلى من كان ضيفاً أيضاً؛ قال بعض مشايخنا: لا يحل للمناول أن يفعل ذلك، ولا يحل له الأكل على فوره؛ بل يضعها على المائدة ويأكل من المائدة، وهكذا روي عن محمد، وكثير من المشايخ جوزوا ذلك استحساناً لوجود الإذن عادة، ولا يجوز للضيف أن يعطي من ذلك إنساناً دخل عليهم لطلب إنسان أو حاجة أخرى؛ لأنه لا تعامل فيه، وكذا لا ينبغي له أن يعطي سائلاً؛ لأنه لا تعامل فيه، ولو ناول من المائدة هرة صاحب الدار، أو هرة غير صاحب الدار شيئاً من الخبز، أو قليلاً من اللحم فلا بأس به؛ لأن فيه تعامل، فكان الإذن به ثابتاً عادة، وإن كان شيئاً من الخبز المحرق أما لشبهة، فهو في سعة منه؛ لأن فيه تعامل، وأما رفع الزلة فهو حرام بكل حال إلا أن يأذن صاحب الضيافة بها نصاً.
وفي هبة «العيون»: لو دعا رجل قوماً إلى منزله لضيافة، وفرقهم على الأخونة فليس لأهل إحدى الخوانين أن يتناول من طعام الخوان الآخر؛ لأنه إنما أباح طعام كل خوان لجماعة معينين، فلا تثبت الإباحة في حق غيرهم.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: رجل يأكل خبزاً مع أهله، فاجتمع كسرات الخبز، ولا يشتهيها أهله فله أن يطعم الدجاجة أو البقرة أو الشاة؛ ذكر الشاة والبقر والدجاجة ولم يذكر الكلب والهرة قال: لا ينبغي أن يلقيها في الطريق، أو في النهر إلا إذا وضع لأجل النمل ليأكل، فحينئذٍ يجوزه، هكذا نقل عن السلف.(5/231)
-----
أب الصبي إذا أهدى إلى معلم الصبي أو إلى مؤدبه في العيد إن لم يسأل ولم يلح عليه لا بأس به؛ لأنه بر وبر المعلم مستحب، وأما أجرة المعلم فنقول: لا بأس بها في زماننا، وسيأتي ذلك في كتاب الإجارات مع ما يجانسها.
وحكي عن الإمام أبي الليث الحافظ أنه كان يقول: كنت أفتي بثلاثة أشياء، ورجعت عنها؛ كنت أفتي أنه لا يحل للمعلم أخذ الأجر على تعليم القرآن، وكنت أفتي أنه لا ينبغي للعالم أن يدخل على السلطان، وكنت أفتي أن لا ينبغي لصاحب العلم أن يخرج إلى القرى فيذكرهم بشيء ليجمعوا له شيئاً، فرجعت عن ذلك كله، وإنما رجع تحرزاً عن ضياع القرآن والحقوق والعلم.
(5/232)
الفصل الثامن عشر في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف
-----
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو كان يتغنى، قوله: وهو يتغنى بظاهره حجة لمن قال: لا بأس للإنسان أن يتغنى إذا كان يسمع ويؤنِّس نفسه، وإنما يكره إذا كان يسمع ويؤنس غيره، ومن الناس من يقول: لا بأس به في الأعراس والوليمة، ألا ترى أنه لا بأس بضرب الدفوف في الأعراس والوليمة، وإن كان ذلك نوع لهوٍ وإنما لم يكن به بأس؛ لأن فيه إظهار النكاح وإعلانه، وبه أمر صاحب الشرع حيث قال: «أعلنوا النكاح، ولو بالدف» فكذلك التغني، ومنهم من قال: إن كان يتغنى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به، ومنهم من قال: إذا كان وحده فغنى لدفع الوحشة عن نفسه فلا بأس به، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي، وإنما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وذكر شيخ الإسلام أن جميع ذلك مكروه عند علمائنا، ويحتج بظاهر قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (لقمان: 6) جاء في التفسير أن المراد منه الغناء، وحديث البراء بن مالك محمول على أنه كان ينشد الشعر المباح، يعني الشعر الذي فيه الوعظ والحكمة؛ وهذا لأن الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره، قال عليه السلام: «من لم يتغن بالقرآن (95أ2) فليس منا».
قلنا: وإنشاد ما هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإذا كان في الشعر صفة المرأة إن كانت امرأة بعينها، وهي حية يكره، وإن كانت ميتة لا يكره، وإن كانت امرأة وسيمة لا يكره؛ هذه الجملة من شرح «السير الكبير».
وفي «فتاوى أهل سمرقند» استماع صوت الملاهي كالضرب بالقصب، وغير ذلك من الملاهي حرام، وقد قال عليه السلام: «استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها من الكفر» وهكذا خرج على وجه التشديد بعظم الذنب؛ قالوا: إلا أن يسمع نفسه فيكون معذوراً، والواجب على كل أحد أن يجتهد حتى لا يسمع.(5/233)
-----
روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه: في الرجل يدعى إلى وليمة أو طعام، فوجد ثمة لعباً أو غناء، فلا بأس بأن يقعد ويأكل؛ قال أبو حنيفة رضي الله عنه: ابتليت بذلك مرة. واعلم بأن هذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يكون اللعب والغناء على المائدة، وفي هذا الوجه لا ينبغي له أن يقعد لقوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام: 68) ، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يشربون الخمر، فلا ينبغي له أن يقعد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى أن يتناول الطعام في مجلس يشرب فيه الشراب، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يغتابون لا يقعد، والغيبة أشد من اللهو واللعب؛ لأنها أشد من الزنا؛ قال عليه السلام: «الغيبة شر من الزنا».
(5/234)
-----
والوجه الثاني: أن يكون اللعب والغناء في المنزل، وفي هذا الوجه لا بأس بأن يقعد على المائدة ويأكل، وهو المراد من المذكور في «الكتاب»، قيل: هذا إذا كان الرجل ذا حشمة يتركون ما هم عليه بحشمته، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة لا ينبغي أن يقعد ويأكل بل يعرض عنهم، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه: ابتليت بهذا مرة يحمل أنه كان بعدما صار ذا حشمة، وعلى قياس هذا القول ينبغي أن يقال في الوجه الأول: إذا كان الرجل ذا حشمة يتركون ما هم عليه لحشمته لا بأس بأن يقعد ويأكل؛ بل القعود أولى ليصير ذلك سبباً لامتناعهم عن المعصية، وقيل أيضاً: ما ذكر في الوجه الثاني أن يقعد محمول على ما إذا كان الرجل خامل الذكر، ولا يقتدى به؛ أما إذا كان عالماً ويقتدى به لا يقعد ولا يأكل حتى لا يصير قدوة للشر، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه ابتليت بهذا مرة؛ محمول على أنه كان قبل أن يصير معتداً، وقيل: يقعد في الوجه الثاني على كل حال، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه، وجه ذلك أن التناول من الوليمة والضيافة سنة، واللعب والغناء حرام، يباشره غيره، ولا يجوز ترك سنة لحرام يباشره غيره، إلا إذا كان في المجلس كما في الوجه الأول، ولم يوجد ذلك ههنا، وهذا كله إذا علم بعد الحضور، فإذا علم قبل الحضور لا يحضر أصلاً، وقد قيل: لو كان هذا الرجل بحال يمتنعون عن الفسق لو امتنع هو عن الإجابة يفترض عليه الامتناع عن الإجابة، وإن كان بحال لا يمتنعون عن الفسق لو امتنع عن الإجابة لا بأس بأن يجيب ويطعم منكراً للهو غير مصغ إليه.
وفي «النوازل»: قراءة شعر الأدب إذا كان فيه ذكر الخمر والفسق والغلام يكره، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في أول هذا الفصل، والاعتماد في الغلام على ما ذكرنا في المرأة ثمة.(5/235)
-----
رجل أظهر الفسق في داره، فقدم إليه الإمام، فإن كف عنه لم يتعرض له، وإن لم يكف عنه فالإمام بالخيار؛ إن شاء حبسه، وإن شاء أدبه بضرب سياط، وإن شاء أزعجه عن داره؛ لأن الكل يصلح للتعزير؛ ذكر في «فتاوى النسفي»: أنه يكسر دنان الخمر، وإن كان قد ألقى فيها الملح، وذكر أن الكاسر لا يضمن الدنان، وستأتي هذه المسألة مع أجناسها في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.
في «النوازل»: رجل رأى منكراً وهذا الرائي يرتكب مثل هذا المنكر يلزم الرائي أن ينهى عنه؛ لأن الواجب عليه ترك المنكر والنهي عنه، فإن ترك أحدهما لا يوجب ذلك ترك الآخر.
رجل يعلم أن فلاناً يتعاطى من المناكير، فأراد أن يكتب إلى أبيه بذلك؛ قال: إن وقع في قلبه أنه يمكن للأب أن يغير على ابنه فليكتب؛ لأن الكتابة تفيد، فإن وقع في قلبه أنه لا يمكنه ذلك لا يكتب؛ لأن الكتابة لا تفيد في هذه الصورة سوى وقوع العداوة بين الوالد والولد، وكذلك هذا الحكم بين الزوجين، وبين السلطان والرعية.
قال محمد رحمه الله في «السير الكبير»: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده على المشركين، وإن كان غالب رأيه أنه يقتل إذا كان في غالب رأيه أنه ينكي فيه نكاية بقتل أو جرح أو هزيمة، وإن كان غالب رأيه أنه لا ينكي فيهم أصلاً، لا بقتل ولا جرح ولا هزيمة ويقتل هو، فإنه لا يباح أن يحمل وحده، والقياس أن يباح له في الأحوال كلها، وإن علم أنه يقتل؛ لأنه يبتغي بما قصد الحياة الدائمة؛ يعني فإن الشهداء أحياء قال الله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} (آل عمران: 169) إن كان مهلكاً نفسه صورة، والعبرة للمعنى؛ لكن ترك القياس فيما إذا كان يعلم أنه يقتل، ولا ينكي فيهم نكاية بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان يعلم أن بخروجه لا ينكي فيهم نكاية، فيعمل فيه بقضية القياس.(5/236)
-----
وأما قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195) فلأهل التفسير في تأويل الآية ومعناها كلام، فالمحققون فيهم قالوا: معنى الآية أنفقوا أرواحكم في الجهاد، ولا تلقوا بأيديكم إلى الموت المعتاد فراراً عن القتل بالجهاد، وأحسنوا تسليم أنفسكم وأموالكم التي اشتراها الله تعالى منكم بالجنة والنعيم، وبعضهم قالوا: معنى الآية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} بترك الجهاد، ولها وجوه وعرف ذلك في كتب التفسير.
ثم فرقوا بين الحملة على المشركين، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بين المسلمين، فقالوا: من أراد أن ينهى قوماً من فساق المسلمين عن منكر، وكان من غالب رأيه أنه يقتل لأجل ذلك، ولا ينكي فيه نكاية بضرب أو ما أشبهه، فإنه لا بأس بالإقدام عليه، وهو العزيمة، وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت، وقالوا في الحملة على المشركين: إذا كان غالب رأيه أنه متى حمل عليهم يقتل من غير أن ينكي فيهم نكاية لا يحل له ذلك، ولا فرق بينهما من حيث المعنى؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكي فيهم لا محالة. (95ب2)
وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن المسلمين يتركون الفساد حال ما يشتغلون بقتاله والمجادلة معه، فيقل الفساد، فيحصل نوع نكاية بالأمر بالمعروف بتقليل الفساد؛ أما الكفار لا يتركون الكفر والحراب حال ما يشغتلون بقتاله؛ بل يحققون ذلك ... لا يؤثر في تقليل الفساد، فتعتبر النكاية من حيث الجرح والضرب فلا يباح.
الثاني: أن القوم هناك يعتقدون ما نأمرهم به، فلا بد وأن يكون فعله مؤثراً في باطنهم، وههنا القوم لا يعتقدون ما يدعوهم، فلا يؤثر فعله في باطنهم، فتعتبر الآية حسب الظاهر، فإذاً لا فرق بينهما صورة، إنما الفرق من حيث المعنى؛ هذه الجملة من شرح شيخ الإسلام.
(5/237)
-----
وذكر الفقيه أبو الليث في كتاب «البستان»: أن الأمر بالمعروف على وجوه؛ إن كان يعلم بأكثر رأيه أنه لو أمر بالمعروف يعقلون ذلك منهم، ويمتنعون عن المنكر، فالأمر واجب عليه، ولا يسعه تركه، ولو علم بأكثر رأيه أنه لو أمرهم بذلك قذفوه وشتموه فتركه أفضل، وكذلك لو علم أنهم يضربونه، ولا يصبر على ذلك، ويقع بينهم العداوة، وينتج منه القتال فتركه أفضل، ولو علم أنهم لو ضربوه وصبر على ذلك، ولم يشكو إلى أحد فلا بأس به وهو مجاهد، ولو علم أنهم لا يقبلون منه، ولا يخاف منهم ضرباً ولا شتماً فهو بالخيار، والأفضل أن يأمر.
الفصل التاسع عشر في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد
ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب دواء الجراحة عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه بعظم بال في الحديث دليل على أنه لا بأس بالتداوي، وبه نقول ومن الناس من كره ذلك، ويروي آثاراً تدل على كراهيته، ونحن نستدل بما روينا، وبقوله عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يخلق داءً إلا وقد خلق له دواءً إلا السام والهرم»، ولكن ينبغي لمن يشتغل بالتداوي أن يرى الشفاء من الله لا من الدواء، ويعتقد أن الشافي هو ا لله دون الدواء.(5/238)
-----
وتأويل ما رووا من الأخبار إذا كان الشفاء من الدواء ويعتقد أنه لو لم يعالج لا يسلم، ونحن نقول: إنه لا يجوز التداوي لمثل هذا؛ قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير أو فرس أو غيره من الدواب؛ إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه يكره التداوي بهما، فقد جوز التداوي بعضم ما سوى الآدمي والخنزير من الحيوانات مطلقاً من غير فصل بينهما إذا كان الحيوان ذكياً أو ميتاً، وبينما إذا كان العظم رطباً أو يابساً، وما ذكر من الجواب يجري على إطلاقه فيه إذا كان الحيوان ذكياً؛ لأن عظمه طاهر، رطباً كان أو يابساً يجوز الانتفاع به جميع أنواع الانتفاعات رطباً كان أو يابساً، فيجوز التداوي به على كل حال؛ أما إذا كان الحيوان ميتاً، فإنما يجوز الانتفاع بعظمه إذا كان يابساً، ولا يجوز الانتفاع به إذا كان رطباً؛ وهذا لأن اليبس في العظم بمنزلة الدباغ في الجلد من حيث إنه يقع الأمن عن فساد العظم باليبس، كما يقع الأمن عن فساد الجلد بالدباغ، ثم جلد الميتة يطهر بالدباغ، فكذا عظمه يطهر باليبس، فيجوز الانتفاع به، فيجوز التداوي به.
وإنما لم يجز الانتفاع بعظم الخنزير والآدمي؛ أما الخنزير فلأنه نجس العين بجميع أجزائه، والانتفاع بالنجس حرام، وأما الآدمي فقد قال بعض مشايخنا: إنه لم يجز الانتفاع بأجزائه لنجاسته، وقال بعضهم: لم يجز الانتفاع به لكرامته وهو الصحيح، فإن الله تعالى كرم بني آدم وفضلهم على سائر الأشياء، وفي الانتفاع بأجزائه نوع إهانة به.
امرأة تأكل... تلتمس السِّمَن لا بأس به إذا لم تأكل فوق الشبع، وإن أكلت فوق الشبع فهو حرام؛ لأن الأكل فوق الشبع حرام، وليس هذا الحكم يختص بهذا الموضع بل هو الحكم في جميع المباحات، فأكل جميع المباحات حرام فوق الشبع، وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إن كانت تسمن نفسها لزوجها لا بأس به؛ لأن هذا فعل مباح لقصد المباح.
(5/239)
-----
وفي «النوازل»: الرجل إذا ظهر به داء، فقال له الطبيب: قد غلبك الدم فأخرجه، فلم يخرجه حتى مات لا يكون مأخوذاً؛ لأنه لا يعلم يقيناً أن الشفاء فيه، وفيه أيضاً: استطلق بطنه، أو رمدت عينه، فلم يعالج حتى أضعفه ومات بسببه لا إثم عليه؛ فرق بين هذا وبينما إذا جاع ولم يأكل مع القدرة على الأكل حتى مات فإنه يأثم، والفرق: أن الأكل قدر قوته فيه شفاء يتعين، فإذا تركه صار مهلكاً نفسه، ولا كذلك المعالجة.
التداوي بلبن الأتان إذا أشاروا إليه لا بأس به؛ هكذا ذكر هنا.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: وفيه نظر؛ لأن لبن الأتان حرام، والاستشفاء بالحرام حرام، وما قاله الصدر الشهيد فهو غير مجرىً على إطلاقه، فإن الاستشفاء بالمحرم إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاءً؛ أما إذا علم أن فيه شفاء، وليس له دواء آخر غيره فيجوز الاستشفاء به؛ ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة إذا خاف الرجل على نفسه العطش، ووجد الخمر شربها إن كان يدفع عطشه؛ لكن يشرب بقدر ما يرويه ويدفع عطشه، ولا يشرب للزيادة على الكفاية.
وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ: أنه سئل عن معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم؛ يجوز أن عبد الله قال ذلك في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذٍ يستغني بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء في الحرام، وإنما يكون في الحلال.
ولو أن مريضاً أشار إليه الطبيب بشرب الخمر؛ روي عن جماعة من أئمة بلخ: أنه ينظر إن كان يعلم يقيناً أنه يصح حل له التناول، وقال الفقيه عبد الملك حاكياً عن أستاذه: أنه لا يحل له التناول.(5/240)
-----
وفي «النوازل»: رجل أدخل مرارة في إصبعه للتداوي قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يكره، وقال أبو يوسف: لا يكره، والفقيه أبو الليث أخذ بقول أبي يوسف لمكان الحاجة، وفيه أيضاً: العجين إذا وضع على الجرح إن عرف به الشفاء فلا بأس به، لأنه يكون دواء حينئذٍ. وإذا سال الدم من أنف إنسان، فكتب فاتحة الكتاب على جبهته بالدم وكتب بالبول، فقد ذكرنا قبل هذا في فصل القرآن.
جئنا إلى مسائل العزل، وتفسيره: أن يطأ الرجل امرأته أو أمته (96أ2) فيعزل عنها قبل أن يقع الماء في الرحم مخافة الحبل، فنقول: اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في العزل، فعلي رضي الله عنه يكره ذلك، وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا لا يكرهون ذلك، إلا أن علماءنا رحمهم الله قالوا في المرأة المنكوحة: يشترط رضا المولى عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما يشترط رضا الأمة، وفي الأمة المملوكة لا يشترط رضاها بلا خلاف، والمسألة على هذا الوجه مذكورة في «الجامع الصغير»، وفي «فتاوى أهل سمرقند:» أنه إذا عزل خوفاً من الولد السوء لفساد هذا الزمان فهو جائز من غير رضا المرأة.
وبعدما وصل الماء إلى رحمها إذا أرادت الإلقاء هل يباح لها ذلك: إن أرادت ذلك بعد مضي مدة ينفخ فيه الروح، فليس لها ذلك؛ لأنها تصير قاتلة؛ فإنه اعتبر هنا على غلبة الظاهر، فلا يحل لها كما بعد الانفصال، وإن أرادت الإلقاء قبل مضي مدة ينفخ فيه الروح؛ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يحل لها ذلك؛ لأن قبل مضي المدة التي ينفخ فيه الروح لا حكم لها، فهذا والعزل سواء.(5/241)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا أرادت إسقاط الولد فلها ذلك إذا لم يستبن شيء من خلقه؛ لأن ما لا يستبين شيء من خلقه لا يكون ولداً، وكان الفقيه علي بن موسى القمي يقول: يكره لها ذلك، وكان يقول: مآل الماء بعدما وصل إلى الرحم الحياة، فإنه لا يحتاج إلى صنع أحد بعد ذلك، لينفخ فيه الروح، و إذا كان مآل الحياة للحال كما في بيضة الحرم لما كان مآلها أن تصير صيداً يعطى لها حكم الصيد حتى إن من أتلف بيضة صيد الحرم ضمن بخلاف العزل؛ لأن الماء قبل أن يصل إلى الرحم ليس مآله الحياة، فإنه يحتاج إلى صنع بعد ذلك لينفخ فيه الروح، وهو الإلقاء في الرحم، أما هنا بخلافه.
وفي نكاح «فتاوى أهل سمرقند»: امرأة مرضعة ظهر بها حبل وانقطع لبنها، وتخاف على ولدها الهلاك، وليس لأب هذا الولد سعة حتى يستأجر الظئر، هل يباح لها أن تعالج في إسقاط الولد؟ قالوا: يباح ما دام نطفة، أو علقة، أو مضغة لم يخلق له عضو؛ لأنه ليس بآدمي .... بالأم؛ ذكرت في «الواقعات» المرتبة في الباب الثالث من النكاح في تعليل المسألة أن خلقه لا يستبين إلا في مائة وعشرين يوماً.
الحجامة والفصد وإلقاء العلق على الظهر بعد تحرك الولد لا بأس به، وقبل تحرك الولد، وحال قرب الولادة لا ينبغي أن يفعل ذلك.
الفصل العشرون في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها.
أقصى وقت للختان اثنا عشر سنة، وأما أول وقته قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا علم لي به، ولم يرو عن أبي يوسف ومحمد فيه شيء، واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: أول وقته إذا بلغ سبع سنين، وبعضهم قالوا: إذا بلغ تسع سنين، وبعضهم قالوا: إذا بلغ عشر سنين؛ لأنه أول وقت يجوز إيصال الألم إليه؛ قال عليه السلام: «واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً» وبعضهم لم يؤقتوا في ذلك وقتاً، وقالوا: إذا كان الصبي بحال يطيق ألم الختان يحسن، وإلا فلا.(5/242)
-----
وإنه من جملة السنن حتى قالوا: إذا اجتمع أهل المصر على ترك الختان يحاربهم الإمام؛ لأن الختان سنة، فيحاربهم في تركه، كما يحاربهم في سائر السنن.
وفي «العيون»: غلام ختن فلم يقطع الجلدة كلها، فإن قطع أكثر من النصف يكون ختاناً؛ لأن الأكثر يقوم مقام الكل، وإن كان نصفاً أو دونه لا يكون ختاناً لانعدام الختان حقيقة وحكماً. وفي صلاة «النوازل»: الصبي إذا لم يختن، ولا يمكن أن يمد جلده ليقطع إلا بتشديد وحشفته قاصرة، إذا رآه إنسان يراه كأنه اختتن ينظر إليه الثقات، وأهل البصر من الحجامين، فإن قالوا: هو على خلاف ما يمكن الإحسان، فإنه لا يشد عليه ويترك؛ لأن الواجبات تسقط بالأعذار فالسنن أولى، وكذا الشيخ الضعيف من أهل المجوس إذا أسلم، وقال أهل البصر: إنه لا يطيق الختان يترك، وفي فوائد أكثر ... أختن الصبي ثم طال جلدته؛ إن صار بحال يستر حشفته يقطع، وما لا فلا.
اختلفت الروايات في ختان النساء؛ ذكر في بعضها أنها سنة، وهكذا حكي عن بعض المشايخ، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الخنثى: أن الخنثى يختن، ولو كان مكرمة لا يختن؛ لأنه يحتمل أنه امرأة، وعلى هذا التقدير لا يجوز للمرأة أن تفعل ذلك، فيتعذر الفعل لانعدام الفاعل فيسقط، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «أدب القاضي» للخصاف: أن ختان النساء مكرمة.(5/243)
-----
إخصاء الفرس لا بأس به عندنا، ومن الناس من كرهه، وكذلك إخصاء سائر الحيوانات لا بأس به عندنا، ومن الناس من كرهه، والذي كرهه احتج بما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل، وقوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (النساء:119) يشهد لما قالوا أويؤيد ما رووا، وعندنا لا بأس بإخصاء سائر الحيوانات سوى بني آدم، وتأويل الآية إخصاء بني آدم هذه الجملة من شرح «السير»، وهذا هو التأويل لقوله عليه السلام: «لا خصاء في الإسلام»، وقيل: تأويل الحديث أن يخصي الرجل نفسه وإنه حرام. وفي إجارات «الأصل»: إن إخصاء بني آدم حرام بالاتفاق، فأما إخصاء الفرس فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه»: أنه لا بأس به عند أصحابنا، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه»: أنه حرام، وقد صح عن عمر رضي الله عنه: أنه نهى عن إخصاء الفرس، وأما غيره من البهائم فلا بأس به إذا كان فيه منفعة، وإذا لم يكن فيه منفعة فهو حرام، وفي أضحية «النوازل» في إخصاء السنور إنه لا بأس به إذا كان فيه منفعة أو دفع ضرره. وفي «الواقعات»: لا بأس بإخصاء البهائم إن كان يراد به إصلاح البهائم، فأما كي البهائم فقد كرهه بعض المشايخ، وبعضهم جوزوه؛ لأن فيه منفعة ظاهرة فإنها علامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن كي الحيوان على الوجه، فهذا يشير إلى جوازه على غير الوجه. (96ب2)
وفي «النوازل:» إذا وقت يوم الجمعة لقلم الأظفار إن رأى أنه جاوز الحدّ قبل يوم الجمعة ومع هذا يؤخر إلى يوم الجمعة يكره؛ لأن من كان ظفره طويلاً كان رزقه ضيقاً، وإن لم يجاوز الحدود فيه تبركاً بالأخبار فهو مستحب؛ لأن عائشة رضي الله عنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قلم أظافره يوم الجمعة أعاذه الله تعالى من البلايا إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام».(5/244)
-----
ولو قلم أظفاره أو جز شعره يجب أن يدفن، وإن رمى فلا بأس، وإن رماه في الكنيف والمغتسل فهو مكروه، ويغسل؛ لأنه يورث الدّاء.
وينبغى للرجل أن يأخذ من شاربه حتى يصير مثل الحاجب، قال الفقيه رحمه الله تعالى: وقد استدلّ بعض المشايخ من أصحابنا بهذه المسألة أن رجلاً لو توضأ ولم يصل الماء إلى ما تحت شاربه أنه يجوز؛ لأنه رخص في مقدار الحاجب، ثم لو لم يصل الماء تحت الحاجب يجوز، فكذا هذا وبه نأخذ وعليه الفتوى، وهذا الذي ذكرنا كله في حق غير الغازي، فأما الغازي في دار الحرب يندب إلى تطويل الأظفار ليكون سلاحاً له، ويندب إلى تطويل الشارب ليكون أهيب في عين العدو.
وإذا حلقت المرأة شعرها؛ فإن حلقت لوجع أصابها فلا بأس به، وإن حلقت تشبهاً بالرجال فهو مكروه، وهي ملعونة على لسان صاحب الشرع، وإذا وصلت المرأة شعر غيرها بشعرها فهو مكروه، قال عليه السلام: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» هي التي تصل شعر امرأة بشعر امرأة أخرى، وإنما جاءت الرخصة في شعر غير بني آدم، تتخذه المرأة، ويزيد في قرونها، هكذا ذكر في «النوازل» وهو مروي عن أبي يوسف، قال: وإذا لم يكن للعبد شعر في الجبهة، فلا بأس للتجار أن يعلقوا على جبهته شعراً؛ لأنه يوجب زيادة في الثمن، هذا دليل على أنه إذا كان العبد للخدمة، ولا يريد بيعه أنه لا يفعل ذلك.
الفصل الحادي والعشرون في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة
اعلم بأن الزينة نوعان: نوع يرجع إلى البدن، ونوع يرجع إلى غيره، نبدأ بالذي يرجع إلى البدن، فنقول اتفق المشايخ أن الخضاب في حق الرجال بالحمرة سنة، وأنه من سير المسلمين وعلاماتهم، والأصل فيه قوله عليه السلام: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» وقال الراوي: رأيت أبا بكر على منبر رسول الله عليه السلام ولحيته كأنها صرام عرفج، والعرفج اسم لبنت في البادية هي أشد حمرة من النار.(5/245)
-----
وأما الخضاب بالسواد: فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين العدو فهو محمود منه، اتفق عليه المشايخ، ومن فعل ذلك ليزين نفسه للنساء، وليحبب نفسه إليهن فذلك مكروه عليه عامة المشايخ. وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه، وبعضهم جوزوا ذلك من غير كراهية، روي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها، هذه الجملة من شرح «السير الكبير».
اتفق المشايخ على أنه لا بأس بالإثمد للرجل، واتفقوا على أنه يكره الكحل الأسود إذا قصد به الزينة، واختلفوا فيما إذ لم يقصد به الزينة عامتهم على أنه لا يكره في «شرح السير» أيضاً، وفي «فتاوى أهل سمرقند»: لا بأس بالاكتحال يوم عاشوراء، روي أن أم سلمة كحلت رسول الله عليه السلام يوم عاشوراء، وفي «المنتقى»: روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس بأن تخضب المرأة يدها ورجلها تتزين بذلك لزوجها، ما لم يكن خضاباً فيه تماثيل، ولا بأس بالخضاب للجارية الصغيرة والكبيرة، وأما الصبي فلا ينبغي أن تخضب يده ولا رجله كالرجل.(5/246)
-----
وأما الذي يرجع إلى غير البدن قال محمد رحمه الله: ولا بأس بأن يتخذ الرجل في بيته سريراً من ذهب أو فضة، وعليه الفرش من الديباج يتجمل بذلك للناس من غير أن يقعد أو ينام عليه، فإن ذلك منقول عن السلف من الصحابة والتابعين روي أن الحسن أو الحسين لما تزوج امرأة يزدجر، وزينت بيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذهب والفضة، فدخل عليه بعض من بقي من أصحاب رسول الله؛ وقال: ما هذا الذي في بيتك يا ابن رسول الله؟ فقال: هذا امرأة تزوجتها فأتت بهذه الأشياء، فلم أستحسن أن أمنعها من ذلك، عن محمد بن الحنفية أنه زين داره بمثل هذه فعاتبه في ذلك بعض الصحابة، فقال: إنما أتجمل للناس بهذا، ولست أستعمله كيلا ينظر أحد إلي بغير الجميل، وقول محمد من غير أن يقعد أو ينام عليه، فذلك راجع إلى قول محمد؛ لأنه لا يرى القعود والنوم على الديباج على ما مرَّ. فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا يتأتى؛ لأنه يرى النوم والقعود على الديباج على ما مرَّ.
(5/247)
-----
ذكر الفقيه أبو جعفر في شرح «السير الكبير»: أنه لا بأس بأن تستر حيطان البيوت باللبود المنقشة إذا كان قصد فاعله دفع البرد، فإن كان قصد فاعله الزينة فهو مكروه، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرح السير» أيضاً: لا بأس بأن تستر حيطان البيت باللبود إذا كان قصد فاعله دفع البرد، وزاد عليها فقال: أو بالخيش إذا كان قصد فاعله دفع الحر؛ لأن مقصود فاعله الانتفاع دون الزينة، وإنما يكره من ذلك ما يكون على قصد الزينة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه أمر بنزعه ولما رأى سليمان ذلك، فقال أبو .... بينكم هذا، وتحولت الكعبة في كبده أشار إلى معنى الكراهة وهو تشبيه سائر البيوت بالكعبة، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إرخاء الستر على البيت مكروه، قالوا: نص عليه محمد رحمه الله في «السير الكبير»؛ لأنه زينة وتكبر، ذكر محمد في «السير الكبير» عن ابن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم، يعني يوم فتح مكة، ورأيت بلالاً قد أدخل عليه وجوه لم يحرجه نهر نفسه الحديث إلى أن قال ثم خرج رسول الله عليه السلام وعليه حلة حمراء، في الحديث دليل على أنه لا بأس بالتزين، ألا ترى أنه كان لرسول الله عليه السلام جبة حمراء من أدم، وفيه دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يكون معه من يخدمه، ألا ترى أنه كان بلال مع رسول الله عليه السلام، وكان يقوم بخدمة وضوئه وغير ذلك، ولكن ينبغي أن يكلفه الخدمة قدر ما يطيق، وعن هذا قلنا: إنه لا بأس للإنسان أن يذهب راكباً حيث شاء وغلامه يمشي معه بعد أن كان يطيق ذلك، وإن كان لا يطيق ذلك فهو مكروه.(5/248)
-----
بلغنا أن عثمان رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم (97أ2) راكباً، وغلامه يمشي مسرعاً، فكره ذلك رسول الله فقال: أولم تتركه في البيت، فأعتقه عثمان، وتأويله أنه كان لا يطيق، وقوله: خرج رسول الله عليه السلام وعليه حلة، إن كان ذلك قبل تحريم الإبريسم على الرجال، فلا حاجة إلى حمله على محمل، وإن كان بعد ذلك فالمراد من الحلة المنسوج من القطن، فإن العرب كانوا يسمون المنسوج من القطن حلة لجودته، وقوله حمراء إن كان قبل تحريم لبس المعصفر والمزعفر على الرجال فلا حاجة إلى تأويله وحمله على محمل، وإن كان بعد ذلك فهو محمول على لون القطن، يعني وعليه جبة منسوجة خير من قطن لونه أحمر.
(5/249)
الفصل الثاني والعشرون في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه
-----
قال محمد رحمه الله: لا بأس بأن يقتل الرجل المسلم كل ذي رحم محرم من المشركين نبذوا به إلا الوالد خاصة، وإنما يكره له أن يترك والده بذلك، والأصل فيه قول الله تعالى: {قاتلوا المشركين كافة} (التوبة: 36) من غير فصل بين كافر وكافر لكن تركنا ظاهره في حق الوالد بالإجماع، وبنص آخر وهو قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الإسراء: 32) ، والنهي عن التأفف نهي عن القتل بطريق الأولى، وتخصيص الوالد عن ظاهر ما تلونا لا يدل على تخصيص غير الوالد من الابن والأخ والعم والخال وأشباههم؛ لأنه اجتمع في حق الوالد حرمتان؛ حرمة القرابة وحرمة الأبوة، فإن للأب زيادة حرمة بسبب الأبوة ليست هي لغيره ممن له قرابة محرمة للنكاح، حتى لا يقتل الوالد بالولد، ولا يحبس بدينه، فخصص بالوالد عن ظاهر ما تلونا وله زيادة حرمة لا يدل على تخصيص غير الوالد، وليس له تلك الزيادة، وإذا ثبت هذا في الوالد ثبت في الوالدة من طريق الأولى؛ لأنه اجتمع في حقها ثلاث حرمات؛ حرمة القرابة، وحرمة الأمية، فإن للأم زيادة حرمة ليست لغيرها، حتى لا تقتل بولدها، ولا تحبس بدين الولد، والأنوثة، فإن الأنوثة مما يحرم القتل فيخصص الأب عن ظاهر الآية، وله حرمتان، فيكون مخصصاً للأم ولها ثلاث حرمات، فإن أثبت في هذا الحكم في حق الوالد والوالدة ثبت في حق الأجداد والجدات من قبل الأب والأم؛ لأنهم بمنزلة الآباء والأمهات، ألا ترى أنهم لا يقتلون بولد الولد، ولا يحبسون بدينه كالأب والأم.(5/250)
-----
وهذا إذا لم يضطره الوالد إلى قتله فلا بأس بقتله إذا لم يمكنه الهرب منه؛ لأن ترك الأب حتى يقتله إهلاك نفسه والمأمور به في حق الابن شرعاً أن لا يتعرض للأب بشيء، ابتداءً لا إهلاك نفسه، وهذا كما نهينا عن قتل الصبي والشيخ الفاني من المشركين ابتداءً، ثم إذا جاء الاضطرار منهم بأن قصد واحد منهم مسلماً بالقتل، كان للمسلم (أن يقتله) وطريقه ما قلنا، وإذا ظفر بوالده في الصف فلا يقصده بالقتل، ولا يمكنه من الرجوع حتى لا يعود حرباً على المسلمين، ولكن يلجئه إلى موضع ويمسك به حتى يجيء غيره ويقتله، قال محمد رحمه الله: وهو أحب إلينا، هذا هو الكلام فيما بين المسلمين والمشركين.
بقي الكلام بين أهل البغي، وبين أهل العدل، فنقول: لا ينبغي للعادل أن يبتدىء كل ذي رحم محرم من أهل البغي بالقتل؛ لأنه اجتمع في حق التناهي حرمتان؛ حرمة الإسلام، وحرمة القرابة، فكان نظير الأب المشرك الذي اجتمع فيه حرمة القرابة، وحرمة الأبوة، وهو نظير ما قالوا: لا ينبغي للمسلم أن يقتل كل ذي رحم محرم في الرحم، والخصومة بالأب لاجتماع الحرمتين، وهو حرمة الإسلام والقرابة.
(5/251)
الفصل الثالث والعشرون فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات،وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك.
-----
في «فتاوى أبي الليث» في امرأة حامل ماتت، وعليه أن ما في بطنها حي، فإنه يشق بطنها من الشق الأيسر، وكذلك إذا كان أكثر رأيهم أنه حي شق بطنها. في «القدوري» وفي نكاح «فتاوى أبي الليث»: البكر إذا جومعت فيما دون الفرج، فحبلت بأن دخل الماء فرجها، ودنا أوان الولادة، تزال عذرتها إما ..... أو بطرف درهم؛ لأن بدونه لا يخرج الولد، ولو اعترض الولد في بطن حامل، ولم يوجد سبيل إلى استخراج ذلك إلا بقطع الولد إرباً إرباً، ولو لم يفعل ذلك يخاف الهلاك على الأم، فإن كان الولد ميتاً في البطن فلا بأس به، وإن كان حياً لا معنى لجواز القطع؛ لأن هذا قتل النفس لصيانة نفس آخر، والشرع لم يرد بمثله.
وفي «القدوري» و «العيون»: رجل ابتلع درة لرجل، فمات المبتلع ولم يدع مالاً، قال: لا يشق بطنه وعليه القيمة، وذكر في أول الفصل الثاني من كتاب «الحيطان»: أنه يشق بطن المبتلع، وصورة ما ذكر في كتاب «الحيطان»: رجل ابتلع عشر دنانير رجل، ومات المبتلع يشق بطنه، فعلى ما ذكر في «الحيطان» لا يحتاج إلى الفرق بين المبتلع وبين المرأة الحامل إذا ماتت واضطرب في بطنها شيء، وعلى ما ذكر في «العيون» يحتاج إلى الفرق، والفرق الثاني مسألة المبتلع لو جوزنا الشق كان فيه إبطال حرمة الأعلى، وهو الأوفى لصيانة الأدنى وهو المال، ولا كذلك مسألة الحامل.(5/252)
-----
وفي «البقالي» عن أبي يوسف أنه قال: أكره من طلب الصيد ما طلب منه للهو، قال: وأكره تعليم البازي بالطير الحي، يأخذه فيعذبه، وقال: ويعلم بالمذبوح، قال: ولا بأس بالحمار وغيره يكون به الداء ويكون صاحبها معها في .... ويعجز عن .... أن يذبحها، وعنه في الدابة تقطع يدها أو رجلها أنها إن كانت في مما يؤكل يذبحها وإلا عالجها، وعن بعض المتقدمين أنه لا بأس بقطع الألية من الشاة إذا كانت الألية بحالة يمنع بقاءها الشاة أن تلتحق بالقطيع وخيف عليها الذئب، وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل مضطر لا يجد ميتة خاف الهلاك، فقال له رجل: اقطع يدي وكلها، أو اقطع مني قطعة وكلها لا يسعه ذلك؛ لأنه ربما يؤدي إلى إتلافه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: رجل له كلب عقور في قرية، كل من مرَّ عليه عقره، فلأهل القرية أن يقتلوا هذا الكلب دفعاً لضرره، فإن عقر أحداً هل يجب الضمان على صاحبه؟ إن لم يتقدموا إليه قبل العض فلا ضمان عليه، وإن تقدموا إليه فعليه الضمان، بمنزلة الحائط المائل إذا سقط على إنسان، وفيه نظر. وفي «الواقعات» لا ينبغي للرجل أن يتخذ كلباً (97ب2) في داره إلا كلباً يحرس ماله؛ لأن كل دار فيها كلب لا يدخلها الملائكة، وفي «العيون»: قرية فيها كلاب كثيرة، ولأهل القرية منها ضرر يؤمر أرباب الكلاب بقتل الكلاب دفعاً للضرر عنهم، فإن أبوا رفعوا الأمر إلى الإمام حتى يأمرهم الإمام بذلك.
وفي أضحية «النوازل»: رجل له كلاب لا يحتاج إليها ولجيرانه منها ضرر، فإن أمسكها في ملكه فليس لجيرانه منعه؛ لأنه يتصرف في ملكه، وإن أرسلها في السكة فلهم منعه، فإن امتنع رفعوا إلى القاضي أو إلى صاحب الحسبة حتى يمنعه عن ذلك، وكذلك من امتلك دجاجة أو جحشاً أو عجولاً في الرستاق، فهو على هذين الوجهين.(5/253)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: الهرة إذا كانت مؤذية لا تضرب، ولا تفرك أذنها ولكنها تذبح بسكين حاد، وفي «فتاوى أهل سمرقند»: قتل الجراد يحل؛ لأنه صيد، لا سيما إذا كان فيه ضرر عام، وتكلم المشايخ في النملة، قال الصدر الشهيد: والمختار للفتوى أنها إذا ابتدأت بالأذى فلا بأس بقتلها، وإن لم تبتدىء يكره قتلها، والأصل في ذلك: ما روي أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأحرق بيت النملة، فأوحى الله تعالى هلاّ قتلت تلك النملة الواحدة، دليل على جواز قتلها عند الأذى، وعلى عدم الجواز عند انعدام الأذى، واتفقوا على أنه لا يجوز إلقاؤها في الماء، وقتل القملة يجوز على كل حال.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إحراق القمل والعقرب بالنار مكروه، جاء في الحديث: «لا يعذب بالنار إلا ربها»، وطرحها حية مباح، ولكن يكره من حيث الأدب .... الذي يقال له بالفارسية: «تبله» يلقى في الشمس ليموت.... ولا يكون به بأس؛ لأن في ذلك منفعة للناس، ألا ترى أن السمكة تلقى في اليبس فتموت ولا يكون به بأس، ولا بأس بكيِّ الصبي إذا كان لداء أصابهم؛ لأن ذلك مداواة، ذكر في «واقعات الناطفي»، وفيه أيضاً: لا بأس بثقب أذن الطفل من النعات، فقد صح أنهم كانوا يفعلون ذلك في زمن رسول الله عليه السلام من غير إنكاره.
الفصل الرابع والعشرون في تسمية الأولاد وكناهم
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله تعالى؛ عبد الله، وعبد الرحمن» قال الفقيه أبو الليث: لا أحب للعجم أن يسموا عبد الرحمن عبد الرحيم؛ لأن العجم لا يعرفون تفسيره، فيسمونه بالتصغير، وروي عن النبي عليه السلام: أنه نهى أن يسمى المملوك نافعاً أو بركة، أو ما أشبه ذلك، قال الراوي:؛ لأنه لم يحب أن يقال: ليس ههنا بركة، ليس ههنا نافع إذا طلبه إنسان، وفي الأثر: «لا يقول الرجل عبدي وأمتي، بل يقول: فتاي وفتاتي».(5/254)
-----
وفي «الفتاوى»: التسمية باسم لم يذكره الله تعالى في كتابه ولا ذكره رسول الله عليه السلام، ولا استعمله المسلمون تكلموا فيه، والأولى أن لا تفعل.
وروي إذا ولد لأحدهم ولد فمات، فلا يدفنه حتى يسميه إن كان ذكراً باسم الذكر، وإن كان أنثى فباسم أنثى، وإن كان لم يعرف فباسم يصلح لهما.
وأما الكلام في الكنية فكان عادة العرب أنه إذا ولد لأحدهم ولد كان يكنى به، وامرأته كانت تكنى به أيضاً، يقال للزوج: أب فلان، ولامرأته: أم فلان، كما قيل: أبو سلمة، وامرأته أم سلمة، وأبو الدرداء، وامرأته أم الدرداء، وأبو ذر، وامرأته أم ذر، وكان الرجل لا يكنى له ما لم يولد له، ولو كنى ابنه الصغير بأبي بكر، أو غيره كره بعضهم، إذ ليس لهذا الابن ابن اسمه بكر ليكون هو أب بكر، وعامتهم على أنه لا يكره؛ لأن الناس يريدون بهذا التعالي أنه سيصير في ثاني الحال، لا التحقيق في الحال.
ولا بأس بأن يكنى بكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي»، فقد قيل: إنه منسوخ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه سمى ابنه محمد وهو ابن الحنفية، وكناه أبو القاسم وقد كان استأذن منه. وعن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: «ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي» أو «ما الذي حلَّ اسمي، وحرم كنيتي»، وعن محمد: أن من سمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أن يكنى بكنيته، ذكره في الكشف.
(5/255)
الفصل الخامس والعشرون في الغيبة والحسد
-----
ذكر في «العيون»: رجل اغتاب أهل قرية لم يكن غيبة حتى يسمي قوماً يعدون، وفي «فتاوى أهل سمرقند»: رجل ذكر مساوىء أخيه المسلم على وجه الاهتمام فلا بأس به؛ لأن هذا ليس بغيبة، الغيبة أن يذكر ذلك مريداً البت والنقص، ولو كان الرجل يصلي ويضر الناس باليد واللسان لاغيبة في ذكره بما فيه لقوله عليه السلام: «اذكروا الفاجر بما فيه» وإن أعلم السلطان لزجره، فلا إثم عليه.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لا حسد إلا في اثنين؛ رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في طاعة الله، ورجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس ويقضي به» الحديث بظاهره دليل على إباحة الحسد في هذين؛ لأنه استثناء من التحريم إباحة، قال شيخ الإسلام: وليس الأمر كما يقتضيه ظاهر الحديث، والحسد حرام في هذين كما هو حرام في غيرهما، وإنما معنى الحديث؛ لا ينبغي للإنسان أن يحسد غيره، ولو حسد إنما يحسد في هذين لا لكون الحسد فيهما مباحاً، بل لمعنى آخر أن الإنسان إنما يحسد غيره عادة لنعمة يراها عليه، فيتمناها لنفسه، وما عدا هذين من أمور الدنيا ليس بنعمة؛ لأن مآل ذلك سخط الله، والنعمة ما يكون مآله رضا الله تعالى، وهذان مآلهما رضا الله فهما النعمة دون ما سواهما، ثم بعض مشايخنا قالوا: الحسد المذموم أن يرى على غيره نعمة، فيتمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الغير، وكينونتها لنفسه، أما لو تمناها لنفسه فذلك لا يسمى حسداً، بل يسمى غبطة، وكان شيخ الإسلام يقول: لو تمنى تلك النعمة بعينها لنفسه يكون حراماً ومذموماً؛ لأنه بمعنى الزوال عن ذلك الغير، والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) ، أما إذا تمنى مثل ذلك لنفسه فلا بأس به، وذكر شمس الأئمة السرخسي في معنى الحديث أن الحسد مذموم (98أ2) بغير الحاسد إلا فيما استثني فهو محمود في ذلك، وإنه ليس بحسد على الحقيقة بل هو غبطة، والحسد أن يتمنى الحاسد أن يذهب بنعمة(5/256)
المحسود(5/257)
-----
عنه، ويتكلف لذلك، ويعتقد أن تلك النعمة في غير موضعها، ومعنى الغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير أن يتكلف، ويتمنى ذهاب ذلك عنه، أورد محمد رحمه الله هذا الحديث في «أدب القاضي».h
الفصل السادس والعشرون في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج
ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب أن لا يدخل الحمام امرأة إلا نفساء أو مريضة، ولا تركب امرأة مسلمة على سرج، قوله: لا يدخل الحمام امرأة نهي على سبيل العموم، ولكن بصيغة الخبر، وقوله: إلا نفساء أو مريضة استثناءٌ لحالة العذر، ولا خلاف لأحد في إباحة الدخول لهن بهذه الأعذار.
أما بعذر المرض فإن للحمام أثراً في إزالة بعض الأمراض، فكان يشبه التداوي بسائر المداواة، وقد أبيح لها في حالة العذر ما هو أشد من هذا، وهو كشف العورة للتداوي.
وأما بعذر النفاس فلأنه نوع مرض، وقاس بعض مشايخنا الحيض على النفاس من حيث إنه مرض كالنفاس.
وأما دخولهن الحمام بغير هذه الأعذار، فقد اختلف المشايخ في ذلك؛ بعضهم قالوا: لا يباح، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، ويستدل بهذا القائل بعموم قوله: لا يدخل الحمام امرأة، ويستدل أيضاً بامتناع محمد رحمه الله عن ردّ هذا الحديث عند ذكره، فإنه لم يقل: ولا نأخذ به، فدل أن ذلك قوله، ويؤيد ذلك قوله عليه السلام: «أيما امرأة وضعت جلبابها في غير بيت زوجها، فعليها لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» ولما دخلت نساء ... على عائشة رضي الله عنها قالت: أنتن من اللاتي يدخلن الحمام؟ فقلن: نعم، فأمرت بإخراجهن وغسل موضع جلوسهن.(5/258)
-----
وبعضهم قالوا: يباح إذا خرجت بإذن زوجها متعففة واتزرت حين دخلت الحمام، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي؛ وهذا لأن دخول الحمام إما لأجل الزينة، وهو بالنساء أليق منه بالرجال، أو للحاجة إلى الاغتسال، وحاجة المرأة إلى الحمام لذلك أشد من حاجة الرجال؛ لأن أسباب الاغتسال في حقهن أكثر، وهي لا تتمكن من الاغتسال في الحياض والأنهار، والرجل يتمكن من ذلك، فالإباحة في حق الرجل تدل على الإباحة في حق المرأة من طريق الأولى، فتأويل الأحاديث في التي تخرج بغير إذن الزوج غير متعففة.
وقوله: ولا تركب امرأة مسلمة على سرج بظاهره، نهى النساء عن الركوب على السرج، وبه نقول وإنه خرج موافقاً لقوله عليه السلام: «لعن الله الفروج على السروج» والمعنى في النهي من وجهين؛ أحدهما: أن هذا تشبه بالرجال، وقد نهين عن ذلك، الثاني: أن فيه إعلان الفتن وإظهارها للرجال، وقد أمرن بالستر، قالوا: وهذا إذا كانت شابة، وقد ركبت السرج والفرج، فأما إذا كانت عجوزاً أو كانت شابة إلا أنها ركبت مع زوجها بعذر بأن ركبت للجهاد، وقد وقعت الحاجة إليهن للجهاد، أو للحج أو للعمرة فلا بأس إن كانت مستترة، فقد صح أن نساء المهاجرين كنَّ يركبن الأفراس، ويخرجن للجهاد، فكان رسول الله عليه السلام يراهن و(لا) ينهاهن، وكذلك بنات خالد بن الوليد كن يركبن، ويخرجن للجهاد يسقين المجاهدين في الصفوف ويداوين الجرحى.
الفصل السابع والعشرون في البيع، والاستيام على سوم الغير
ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: أن بيع السرقين جائز عندنا؛ لأن السرقين منتفع به، وإن كان نجساً يجوز بيعه كالثوب النجس، بيان الانتفاع أن الناس اعتادوا إلقاء السرقين في الأراضي لاستكثار الريع من غير تكثير، وإذا ثبت أنه منتفع كان مالاً عرفاً وشرعاً، ولأجل ذلك الناس يحرزونه، ويجري الشح والضنة فيه، وإذا ثبتت المالية جاز البيع.(5/259)
-----
ويكره بيع العذرة الخالصة؛ لأنها غير منتفع بها؛ لأن الناس لا يحرزونها ولا ينتفعون بها، وإنما ينتفعون بالمخلوط بالتراب، فالمخلوط بالتراب منتفع فيجوز البيع، أما غير المخلوط ليس يمنتفع فلا يجوز البيع، وهل يجوز استعمال العذرة الخالصة؟ فعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه روايتان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: ولا بأس ببيع من يزيد وهو بيع الفقراء ومن كسدت بضاعته، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام باع حلساً وقدحاً ببيع من يزيد، ولأن الناس تعاملوا ببيع المزايدة في الأسواق من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير.
وإنما أورد هذه المسألة لإشكال، وهو أن الاستيام على سوم الغير منهي، قال عليه السلام: «لا يستام الرجل على سوم أخيه» وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الاستيام على سوم الغير، وبين بيع المزايدة، فمعرفة ذلك بحرف، وهو أن صاحب المال إذا كان ينادي عن سلعته، فطلبه إنسان بثمن، فإن لم يكف عن النداء فلا بأس لغيره أن يزيد، ويكون هذا بيع المزايدة، ولا يكون استياماً على سوم الغير. وإن كف عن النداء، ويمكن إلى ما طلب منه ذلك الرجل، فليس للغير أن يزيد في ذلك، ويكون هذا استيام على سوم الغير، وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة فطلبه إنسان بثمن، وقال الدلال: حتى أسأل المالك فلا بأس للغير أن يزيد في هذه الحالة، فإن أخبر مالكه بذلك فقال: بعه واقبض الثمن، فليس للغير أن يزيد بعد ذلك، ويكون هذا استياماً على سوم الغير؛ وهذا لأن النهي عن الاستيام على سوم الغير لدفع الدهشة والرحمة، إنما يجعل إذا ركن قلب صاحب السلعة إلى ما طلب منه وعزم على بيعها بذلك أما قبل ذلك فلا.(5/260)
-----
والدليل على صحة ما قلنا ما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله عليك السلام إن معاوية وأبا الجهم يخطبانني فما ترى؟ فقال عليه السلام: «أما معاوية فصعلوك (98ب2) لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يرفع عصاه عن أهله، انكحي أسامة بن زيد، ففعلت ووجدت منه خيراً كثيراً»، فثبت بهذا الحديث صحة ما ذهبنا إليه من الفرق.
وفي وديعة «العيون»: رجل اشترى جارية وهي لغير البائع، أو اشترى ثوباً وهو لغير البائع، فوطىء المشتري الجارية ولبس الثوب وهو لا يعلم، ثم علم فهل المشتري آثم؟ روي عن محمد أن الجماع واللبس حرام، إلا أنه يوضع عن المشتري الإثم، وقال أبو يوسف: الوطء حلال وهو مأجور في إتيان الجارية، وإذا تزوج امرأة ثم تبين أنها كانت منكوحة الغير، وقد وطئها الزوج الثاني، يجب أن تكون المسألة على الخلاف الذي (ما) ذكرنا.
الفصل الثامن والعشرون في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهمامن الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة
قال محمد رحمه الله في «السير»: ولا يخرج الرجل إلى الجهاد وله أب أو أم إلا بإذنه، إلا من النفير العام، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: «الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد، والمعنى أن الجهاد فرض عام ينوب البعض فيه عن البعض، وطاعة الوالدين وبرهما فرض خاص لا ينوب البعض فيه عن البعض، ولا شك أن الاشتغال بالفرض الخاص الذي لا ينوب البعض فيه عن البعض أولى من الاشتغال بالفرض العام الذي ينوب عنه فيه غيره، وهذا استحسان أن يخرج بغير إذنهما.
ولو أراد أن يخرح من بلدة إلى بلدة للتجارة أو للتفقه، وكان الطريق آمناً لا يخاف عليه الهلاك، فله أن يخرج من غير إذنهما قياساً واستحساناً.(5/261)
-----
وجه القياس: أن الجهاد قبل النفير العام إما أن يعتبر فرض كفاية أو يعتبر تطوعاً، فإن اعتبرناه تطوعاً، للولد إقامة التطوعات بحق الصلاة والصوم بغير إذن الوالدين، وإن اعتبرناه فرض كفاية، فكذلك للولد إقامة ما هو فرض كفاية بغير إذن الوالدين كصلاة الجنازة ورد السلام وما أشبهه.
وجه الاستحسان في ذلك ما روينا وما روي أن رجلاً قال لرسول الله عليه السلام: إني أريد الجهاد فقال له: «ألك أم»؟ فقال: نعم، فقال له: «الزم أمك، فإن الجنة عند رجل أمك» يحتمل أن تكون الرواية بالجيم رجل أمك، ويحتمل أن تكون الرواية بالحاء رحل أمك، وروي أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام وقال: جئت أجاهد معك، وتركت والديَّ يبكيان، فقال: «اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما» وقال عليه السلام: «ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار، وليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة» وقال عليه السلام: «من أصبح ووالداه راضيان عنه، فله بابان مفتوحان إلى الجنة» فتركنا القياس في الجهاد بهذه الآثار، وما ثبت بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والنص الوارد لاشتراط إذن الوالدين في حق الجهاد قبل مجيء النفير عاماً، وفي الخروج إلى الجهاد إفجاعهما وإلحاق المشقة بهم لما يخافان عليه من الهلاك بالقتل في الجهاد، لا يعتبر وارداً دلالة في صلاة الجنازة وردِّ السلام ولا في غيرهما من التطوعات، وهما لا يخافان عليه بسبب إقامة هذه العبادات، وإذا لم يعتبر وارداً فيهما دلالة رد صلاة الجنازة ورد السلام إلى مما يقتضيه القياس، ولا يعتبر وارداً أيضاً؛ لأنه بعد مجيء النفير العام؛ لأن الجهاد، حال مجيء النفير العام فرض عين في حق من قدر على الجهاد حتى لو ترك مع القدرة أثم، كما لو ترك الصلاة المفروضة والصوم المفروض، وقبل النفير العام الجهاد فرض كفاية حتى لو ترك مع القدرة لم يأثم كما لو ترك سائر التطوعات، وفرض العين فوق فرض الكفاية، فالنص الوارد باشتراط(5/262)
الإذن(5/263)
-----
قبل النفير العام لا يصير وارداً بعد النفير العام؛ لأن النص يدل على مثله وعلى ما دونه، ولا يدل على ما فوقه، فرد هذه الحالة وهو ما بعد مجيء النفير العام إلى ما يقتضيه القياس، ولأن النفير إذا كان عاماً فكل واحد من المسلمين مقصود بالقتل، فكان للولد الدفع عن نفسه بغير إذن الوالدين وإن كان في خروجه إفجاعهما، وإلحاق المشقة بهما؛ لأن الولد مضطر في ذلك، وصار كما لو قصد إنسان قتل الولد كان له دفعه عن نفسه بغير إذن الوالدين، فطريقه ما قلنا، فكذلك هذا بخلاف ما إذا لم يصر النفير عاماً؛ لأنه بالخروج إلى الجهاد لا يدفع القتل عن نفسه؛ لأن القتل لم يتجه عليه لا حقيقة ولا اعتباراً، فلا يضطر الولد في هذه الحالة إلى تفجيعهما وإدخال المشقة عليهما، وقد يمنع الولد من تفجيع الأبوين، ولهذا لا يقاد الوالد بقتل الولد، ولا يحبس بدينه ولا يحد حدَّ القذف بقذف الابن لما فيه من تفجيعهما، وإدخال المشقة عليهما، فلا يجوز له تفجيعهما بالخروج إلى الجهاد من غير ضرورة.
وإذا خرج للتجارة أو للتفقه بفقه يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وهكذا الجواب في العبد لا يخرج إلى الجهاد بغير إذن المولى إلا أن يقع النفير عاماً، والنص الوارد في الولد يكون وارداً في العبد دلالة، وذلك؛ لأن حق السيد في عبده أكثر من حق الوالدين في ولدهما؛ لأن للسيد حقيقة ملك في عبده، وليس للوالدين حقيقة ملك في رقبة ولدهما، ولا حق ملك وإنما لهما حق ملك في كسب ولدهما، وكما منع الولد من تفجيع والديه منع العبد من تفجيع مولاه حتى لا يقاد السيد بعبده كما لا يقاد الوالد بولده، فصار الجواب في العبد كالجواب فيما بين الولد والوالدين.(5/264)
-----
فإن قيل: الولد إنما كان له الخروج بغير إذن والديه إذا جاء النفير عاماً؛ لأن منافع الولد غير مملوك للوالدين، فأما منافع العبد مملوك فهذا إنما يقاتل بملك غيره فلا يحل إلا بإذن صاحب المال. قلنا: نعم يقاتل العبد بمنافع مملوك للمولى بغير إذنه، إلا أن القتال بملك الغير بغير إذنه حالة الضرورة مباح، فيباح للعبد ذلك بغير إذن المولى.
وإن كان له أبوان، وقد أذنا له بالخروج إلى الجهاد كان له الخروج؛ لأنه إنما منع من الخروج لحقهما، فإذا أذنا له بالخروج إلى الجهاد فقد زال المانع من الخروج فزال المنع، وكان كالعبد لا يخرج إلى الجهاد بغير إذن مولاه، وإذا أذن له مولاه بالخروج كان له الخروج؛ لأن المانع (99أ2) من الخروج قد زال، فكذلك هذا.
وإن أذن له أحدهما، ولم يأذن له الآخر، فإنه لا يخرج؛ لأنه كان ممنوعاً من الخروج لحق كل واحد من الأبوين، فإذا أذن له أحدهما في الخروج إلى الجهاد، ولم يأذن الآخر، فالمانع من الخروج لم يزل بعد فيبقى المنع، وكان كعبد بين شريكين أذن له أحدهما في الخروج إلى الجهاد، ولم يأذن له المولى الآخر، لا يباح له الخروج؛ لأنه كان ممنوعاً عن الخروج لحق كل واحد من الموليين، فإذا أذن له أحدهما، ولم يأذن الآخر لم يزل المانع فيبقى المنع، والوالدان في سعة من أن .... إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة؛ لأنهما يحملانه على ما هو الأقوى في حقه، وهو برهما، ثم إن كره الوالدان أو أحدهما خروجه إلى الجهاد لا فرق بين أن يخاف ضيعة عليهما، بأن كانا معسرين، وكان نفقتهما عليه، أو لا يخاف عليهما الضيعة متى خرج بأن كانا موسرين، ولم تكن نفقتهما عليه، فإنه لا يباح له الخروج في الحالين استحساناً؛ لأنه منع من الخروج قبل إذنهما شرعاً لما يلحقهما من التفجيع بما يخافان عليه من القتل، وهذا المعنى لا يوجب الفصل، بينما إذا كان يخاف الضيعة عليهما أو لا يخاف فهو عليهما.
(5/265)
-----
هذا الذي ذكره كله إذا كان أبواه مسلمين، فأما إذا كان أبواه كافرين، أو أحدهما فاستأذنهما في الخروج إلى الجهاد فكرها له ذلك، أو كره الكافر منهما هل له أن يخرج؟ قال: فلينظر في ذلك، يريد بقوله: فلينظر في ذلك، أي فليتحر في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه إنما كرها خروجه لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من القتل، فإنه لا يخرج؛ لأنه كما منع الولد عن إلحاق التفجيع لوالديه إذا كانا مسلمين، منع من إلحاق التفجيع بهما إذا كانا كافرين، ألا ترى أن الوالد المسلم كما لا يقاد بولده المسلم، لا يقاد بوالده الكافر، وكما لا يحبس الوالد المسلم بدين ولده المسلم، لا يحبس الوالد الكافر بدين ولده المسلم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} (لقمان: 15) والوالد الكافر في هذا والمسلم سواء.
فأما إذا وقع تحريه على أنه إنما كرها خروجه للجهاد كراهة أن يقاتل مع أهل دينه وملته لا لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من قتله كان له الخروج بغير إذنهما؛ لأنهما نهياه عن مقاتلة أهل الكفر، والنهي عن مقاتلة أهل الكفر معصية، ولا يجب طاعة المخلوق في معصية الخالق، قال الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}، وقال عليه السلام: «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق» فكان له أن يخرج بغير إذنهما إلا أن يخاف الضيعة عليهما، فإذا خاف الضيعة عليهما لا يسعه الخروج؛ لأن صيانتهما عن الضياع فرض عليه عيناً بحيث لا يسعه تركهما وإن كانا كافرين، ألا ترى أنه يلزمه نفقتهما صيانة لهما عن الضياع، والقتال مع الكفرة قبل النفير عاماً مما لا يسعه فإنه مخير في هذه الحالة بين أن يخرج وبين أن لا يخرج، ولا شك أن الاشتغال بما لا يسع تركه أولى من الاشتغال بما يسع تركه.(5/266)
-----
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أنه إذا تحرى، ولم يقع تحريه على شيء بل شك في ذلك، ولم يترجح أحد الظنين على الآخر أنهما كرها خروجه لما لا يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من قتله أو كرها خروجه لما فيه من القتال مع أهل دينهما، قالوا: وعلى ما ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب طاعة الوالي، يجب أن لا يخرج، فقد ذكر في باب طاعة الوالي أن الأمير إذا أمر الجند بشيء وشكوا أنهم ينتفعون به أو يتضررون به وتساوى الظنان، قال: عليهم أن يطيعوا الأمير ولا يسعهم خلافه؛ لأن طاعة الأمير واجب عليهم بيقين ووقع الشك في سقوطه، فلا يسقط عنه بالشك، كذا طاعة الولد للوالدين فيما يأمرانه واجبة عليه بيقين ووقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك، فإن كرها خروجه لكراهة قتاله مع أهل دينه، ولأجل المشقة عليه أيضاً لم يخرج لوجود المعنى المانع عن الخروج، وهو الخوف والمشقة عليه.
وإن كان له أبوان مسلمان أو كافران، وأذنا له في الخروج، وله جدان وجدتان؛ فكرها خروجه فليخرج، ولا يلتفت إلى كراهة الجدين والجدتين حال قيام الأبوين؛ لأن الأجداد والجدات حال قيام الأبوين ألحقوا شرعاً بالأخوة والأخوات ولم يلحقوا بالأبوين، ألا ترى أن الجد لا يلي على حافده لا في النفس ولا في المال حال قيام الأب، ولا يكون للجدة حق الحضانة حال قيام الأم، كما لا يكون للأخت ..... بالأخ والأخت حال قيام الأبوين، فكما لا يعتبر كراهة الأخوة والأخوات في الخروج إلى الجهاد بعد وجود إذن الأبوين لا يعتبر كراهة الجد والجدة حال قيام الأبوين بعد وجود الإذن منهما.(5/267)
-----
فأما إذا كان الأبوان ميتين، وكان له جد من قبل الأب وجدة من قبل الأم أم الأم، لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجد بعد موت الأب بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ، ألا ترى أنه في حق الولاية على حافده قائم مقام الأب، فكذا في حق الإذن بالجهاد، والجدة أم الأم بعد موت الأم بعد موت الأم قامت مقام الأم في حق الحضانة، فكذا في حق الإذن بالجهاد تقوم مقام الأم، وإذا قاما مقام الأبوين لم يخرج إلا بإذنهما، كما لا يخرج إلا بإذن الأبوين.
وإن كان له جدان؛ أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم أب الأم، وجدتان إحداهما من قبل الأم أم الأم، والأخرى من قبل الأب أم الأب، فالإذن إلى أب الأب وإلى أم الأم، ولا عبرة للآخرين، ألا ترى أن الآخرين صارا محجوبين بأب الأب، وأم الأم في حق الولاية والحضانة بالأخ والأخت لا بالأبوين، كذا في حق الإذن يصيران محجوبين بهما، ويلحقان بالأخ والأخت، فيعتبر إذن أب الأب، وأم الأم وكذا ههنا لهذا، فإن لم يأذن له اللذان ذكرنا وهو الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم، وأذن له الآخران، قال محمد في «الكتاب»: لا يعجبني أن يخرج، وكان المقام أحب إلي من الخروج، فلم تثبت الكراهة ههنا لحق الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم، ولكن جعل المقام أحب من الخروج.
وفيما إذا كان له أبوان وجدان وجدتان، فلم يأذن له الأبوان، وأذن له الجدان (99ب2) والجدتان أثبت الكراهة، فقال: لا ينبغي أن يخرج، وإنما فعل هكذا؛ لأن الأبوين أقرب من الجدود والجدات، ولارتفاع درجة الأبوين أثبت الكراهة إذا لم يأذنا له في الخروج، ولانحطاط درجة الأجداد والجدات لم نثبت الكراهة إذا لم يأذن له الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم بعد وجود الإذن من الجد من قبل الأم.(5/268)
-----
فإن لم يكن له جدة من قبل الأم أب الأم، فإنه لا يخرج للجهاد إلا بإذنهما، وإن أذن له أحدهما، ولم يأذن له الآخر، فإنه لا يخرج، علل محمد رحمه الله في «الكتاب» وقال: لأنهما بمنزلة الوالدين إذا لم يكن له والدين يريد بذلك والله أعلم أن أم الأب حال عدم الأم، والجدة من قبل الأم بمنزلة الأم، وليست بمنزلة الأخت في حق الحضانة حتى كانت أم الأب أولى بالحضانة حال عدم الأم، والجدة من قبل الأم ... من الأخت؛ فكذا في حق الإذن في الجهاد تكون بمنزلة الأم، ولم تكن بمنزلة الأخت، ولا يخرج إلى الجهاد بغير إذن الأم، فكذا لا يخرج بغير إذن أم الأم، والجد من قبل الأم أب الأم حال عدم الأب، والجد من قبل الأب إن لم يكن بمنزلة الأب في حق الولاية عليه بالنفس والمال، فهو بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ في حق الحبس حتى لا يحبس أب الأم بدين وجب لولد البنت عليه، ولا يقتص بقصاص وجب لولد البنت عليه، ولو قذف ولد البنت فإنه لا يحد حد القذف، فكان في هذه الأحكام بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ، فكذا في حق الإذن بالجهاد.
فإن كان له جد من قبل أب وأم، ولم يكن له أب، فإنه لا يخرج إلا بإذن الأم، وإذن الجد؛ لأن الجد من قبل الأب حال عدم الأب بمنزلة الأب في حق الولاية حتى كانت الولاية إلى الجد من قبل الأب في حق النفس والمال جميعاً حال عدم الأب، فلا يخرج إلا بإذنهما، كما لا يخرج إلا بإذن الأبوين.
وإن لم يكن له أم، وكانت له جدة من قبل الأم، وجدة من قبل الأب فأذنت له الجدة من قبل الأم، ولم تأذن له الجدة من قبل الأب فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجدة من قبل الأب حال قيام الجدة من قبل الأم بمنزلة الأخت في حق الحضانة والتربية حتى كان حق الحضانة إلى الجدة من قبل الأم، ولم يكن للجدة من قبل الأب كما لا يكون للأخت، فكذا في حق الإذن بالجهاد.(5/269)
-----
ولو كان له أم وأخت، فأذنت له الأم بالجهاد، ولم تأذن له الأخت كان له أن يخرج فكذا هذا.
فإن كانت له أم وجدات، فأذنت له الأم فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجدات حال قيام الأم بمنزلة الأخوات في حق الحضانة حتى لم يكن لهن حق الحضانة حال وجود الأم، كما لا يكون للأخوات، فكذا في حق الإذن بالجهاد قامت الجدات مع الأم مقام الأخوات.h
وكذا إذا كان له أب وأجداد، فأذن له الأب فلا بأس بأن يخرج، ثم قال: وذلك؛ لأن الأجداد حال وجود الأب بمنزلة الإخوة لا بمنزلة الأب في حق الولاية والميراث، فكذا في حق الإذن في الجهاد.
قال: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو لحج أو عمرة، فكره ذلك أبواه له أن يخرج بغير إذنهما، فهذا على وجهين: أما إن كان لا يخاف الضيعة عليهما، فإن كانا موسرين، ولم تكن نفقتهما عليه، أو كان يخاف الضيعة عليهما بأن كانا معسرين، وكانت نفقتهما عليه، وكان السفر سفراً يخاف على الولد الهلاك فيه؛ كركوب السفينة في البحر، وكاجتياز البادية ماشياً في الحر الشديد، أو كان سفراً لا يخاف على الولد الهلاك فيه، فإن كان يخاف الضيعة عليهما، فإنه لا يخرج بغير إذنهما سواء كان السفر سفراً يخاف على الولد الهلاك فيه، أو لا يخاف، وذلك؛ لأن صيانتهما عن الهلاك بالإنفاق عليهما فرض عليه حتى يجبر على ذلك، والخروج للتجارة وللكسب مباح، والخروج للعمرة تطوّع، وللحج إن كان حجة الإسلام تطوع إذا لم يكن له مال يفي بالزاد والراحلة، ونفقة من يلزمه نفقته إلى أن يذهب إلى الحج ويجيء، وهنا ماله لا يفي بالكل حتى خاف الضياع عليهما فلا يفرض عليه الخروج للحج، ويكون بمنزلة حج التطوع، ولا يجوز الاشتغال بالتطوع والمباح، إذا تضمن ترك فرض.
(5/270)
-----
فعلى هذا قالوا: لا يباح له الخروج للتفقه بغير إذن والديه إذا كان يخاف الضيعة عليهما، فأما إذا كان لا يخاف الضيعة عليهما متى خرج هل له أن يخرج بغير إذنهما؟ إن كان السفر سفراً لا يخاف على الولد الهلاك فيه كان له أن يخرج بغير إذنهما؛ لأن القياس أن يخرج في الجهاد بغير إذنهما لقوله تعالى: {اقتلوا المشركين} (النساء: 66) ولقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة: 29) إلا أنا تركنا القياس في الجهاد بالنص، والنص الوارد في الجهاد بخلاف القياس، وفيه تفجيعهما وإلحاق المشقة بهما، لأجل ما يخافان الهلاك على ولدهما في الجهاد يعتبر وارداً دلالة في سفر لا يخافان الهلاك عليه، فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، ولأن الخروج للتجارة خروج للتكسب، ولا بد للولد من التكسب لإصلاح معيشته، فإنه متى ترك ذلك ربما يحوجه ذلك إلى ما فيه مذلة، وهو السؤال من غيره من الناس، أو يلقيه في المهالك بأن يوقعه في السرقة، ألا ترى أن له الخروج إلى ضيعته للزراعة، وإلى سوقه للتجارة وإن لم يأذنا فيه كذا ههنا.(5/271)
-----
وإن كان سفراً يخاف عليه الهلاك، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأنه إذا كان سفراً يخاف عليه الهلاك كان بمنزلة الجهاد، ولا يخرج في الجهاد إلا بإذنهما، فكذلك هذا، وكذا الجواب فيما إذا خرج للتفقه إلى بلدة أخرى إن كان لا يخاف عليه الهلاك بسبب هذا الخروج كان بمنزلة السفر للتجارة، وإن كان يخاف عليه الهلاك كان بمنزلة الجهاد، و هذا إذا خرج للتجارة إلى مصر من أمصار المسلمين، فأما إذا خرج للتجارة إلى أرض العدو بأمان فكرها خروجه، فإن كان أمراً لا يخاف عليه منه وكانوا قوماً يوفون بالعهد (و)يعرفون بذلك (100أ2) وله في ذلك منفعة فلا بأس بأن يعصيهما؛ لأن أرض الحرب والحالة هذه من حيث الأمن بمنزلة أرض الإسلام، فكان الخروج إليها للتجارة، والخروج إلى مصر من أمصار المسلمين سواء، وإن كان يخرج في تجارة إلى أرض العدو ومع عسكر من عساكر المسلمين، فكره ذلك أبواه أو أحدهما، فإن كان ذلك العسكر عسكراً عظيماً مثل أهل الصائفة ونحوهم لا يخاف عليهم من العدو عليه أكثر الرأي، فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجيش إذا كان عظيماً، فالظاهر أنهم ينتصرون وينتصفون من عدوهم، ولا يضيع من كان معهم فلا بأس بأن يخرج معهم، ويكون الخروج للتجارة إلى أرض العدو معهم والخروج إلى مصر من أمصار المسلمين سواء. وإن كان يخاف على أهل العسكر من العدو بغالب الرأي كان بمنزلة الجهاد فلا يخرج بغير إذنهما، وكذلك إذا كانت سرية أو جريدة جند ونحوها، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الغالب هو الهلاك في السرايا، فكان بمنزلة الجهاد، هذا الذي ذكرنا في الوالدين والأجداد والجدات.
(5/272)
-----
فأما من سواهم من ذي الرحم المحرم كبناته وبنيه، وإخوته وعماته وأخواله وخالاته، وكل ذي رحم محرم منهم إذا كرهوا خروجه للجهاد، وكان يشق ذلك عليهم هل له أن يخرج بغير إذنهم؟ إن كان يخاف عليهم الضيعة بأن كان نفقتهم عليه، بأن لم يكن لهم مال، وكانوا صغاراً أو صغائر، أو كن كبائر إلا أنه لا أزواج لهن، أو كانوا كباراً زمنى لا حرفة لهم، فإنه لا يخرج بغير إذنهم لما ذكرنا في الوالدين، وإن كان لا يخاف عليهم الضيعة بأن لم تكن نفقتهم عليه، بأن كان لهم مال، أو لم يكن لهم مال إلا أنهم كبار أصحاء، أو كبار لهن أزواج، كان له أن يخرج بغير إذنهم؛ لأن القياس في الوالدين أن يخرج بغير إذنهما، إلا أنَّا تركنا القياس في الوالدين بالأثر بخلاف القياس، والنص الوارد في الوالدين بخلاف القياس، ولهما من الحرمة ما ليس لغيرهما من ذي الرحم المحرم حتى لم يحبسوا بدين أولادهم، ولم يقتصوا بقتل أولادهم، ولم يحدوا حد القذف لأولادهم، لا يعتبر وارداً دلالة فيما عدا الوالدين من ذي الرحم المحرم، وليس لهم هذه الحرمة، فيردون إلى ما يقتضيه القياس.
وأما امرأته إن كان يخاف الضيعة عليها، فإنه لا يخرج إلا بإذنها؛ لأن عليه نفقتها كما في الوالدين وغيرهما من ذي الرحم المحرم، وإن كان لا يخاف عليها الضيعة كان له الخروج بغير إذنها. وإن شق ذلك عليها، وترك القياس في الوالدين لا يوجب ترك القياس في المرأة، وليس للمرأة من الحرمة ما للوالدين.(5/273)
-----
قال محمد رحمه الله: إذا جاء النفير، فقيل لأهل مدينة أو مصر قريب من العدو، وقد جاء العدو يريدون أنفسكم وذراريكم وأموالكم، فلا بأس بأن يخرج الرجل بغير إذن والديه، وإن نهياه فلا بأس بأن يعصيهما إذا كان ممن يقدر على الجهاد، وقد ذكرنا هذا، وليس للوالدين أن ينهيا الولد عن الخروج في هذه الحالة؛ لأن القتال في هذه الحالة فرض عين، وليس لهما أن ينهيا الولد عما هو فرض عين، وهذا إذا كان بالولد قوة القتال أو يحصل بخروجه قوة للمسلمين.
فأما إذا لم يكن له قوة القتال ولا يحصل بخروجه قوة للمسلمين، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجهاد بعد النفير العام إنما يفترض على القادر، أو على أن يحصل بخروجه قوة للمسلمين إن كان يقدر على القتال، ولا يجب على العاجز؛ لأن العجز مما يسقط الفرائض، فإذا كان لا يفترض عليه حالة العجز كان الجواب في حقه بعد مجيء النفير كالجواب في حق القادر قبل مجيء النفير العام كان لا يخرج القادر إلا بإذنهما، فكذلك هذا.
(5/274)
-----
ثم الجهاد بعد مجيء النفير العام لا يفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً فرض عين وإن بلغهم النفير، وإنما يفترض فرض عين على من كان يقرب من العدو، وهم يقدرون على الجهاد، فأما على من وراءهم يبعد من العدو، فإنه يفرض عليه فرض كفاية لا فرض عين حتى يسعهم تركه إذا لم يحتج إليه، فأما إذا احتيج إليه بأن عجز من كان يقرب من العدو من المقاومة مع العدو، أو لم يعجزوا عن المقاومة إلا أنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم فرض عين كالصوم والصلاة ولا يسعهم تركه، ثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً، على هذا الترتيب والتدريج، ونظيره الصلاة على الميت، فإن من مات في ناحية من نواحي البلدة، فعلى جيرانه وأهل محلته أن يقوموا بأسبابه، وليس على من كان يبعد على الميت أن يقوم بذلك، وإن كان الذي يبعد منه يعلم أن أهل المحلة يضيعون حقوقه، أو يعجزون عنه، فعلى الذين يبعدون منه أن يقوموا به، كذا ههنا.
ثم يستوي أن يكون عدلاً أو فاسقاً يقبل خبره في ذلك؛ لأن هذا خبر ينتشر ويشتهر في المسلمين في الحال، وكذا الجواب في منادي السلطان يقبل خبره عدلاً كان أو فاسقاً.
ثم استشهد في «الكتاب» لإيضاح ما تقدم فقال: ألا ترى أن رجلاً لو قطع الطريق على رجل ليأخذ ماله، أو ليقتله، أو أراد امرأة ليفجر بها، وقد حضر ذلك رجل يظن أن به قوة عليه أو أنه ينتصف منه، لم يسعه إلا أن يمنع المظلوم ممن يريد الظلم عليه، وإن كان مع الرجل الذي يريد أن يعينه أبواه فنهياه عن ذلك، فليس ينبغي له أن يطيعهما، ولا يسعهما أن يمنعاه إلا أن يكون به قوة عليه، فإن كان كذلك فليطعهما، وإنما ينبغي طاعة الوالدين في التطوع الذي يسع تركه، فنفاذ برهما أفضل من الجهاد التطوع، فإذا جاءت الفريضة والأمر الذي لا يسع الرجل فيه إلا أن ... لم يلتفت في هذا إلى طاعة الوالدين، وكانت طاعة الله تعالى أحقّ أن يؤخذ بها من طاعة الوالدين.(5/275)
-----
ولا تسافر المرأة من غير محرم ثلاثة أيام فما فوقها، واختلفت الروايات فيما دون ذلك، قال أبو يوسف: أكره لها أن تسافر يوماً بغير محرم، وهكذا روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال الفقيه أبو جعفر: اتفقت الروايات في الثلاث، فأما ما دون ذلك (100ب2) قال الفقيه أبو جعفر: هو أهون من ذلك، وقال حماد: لا بأس للمرأة أن تسافر بغير محرم مع الصالحين، والصبي والمعتوه ليسا بمحرمين، والكبير الذي يعقل محرم.
الفصل التاسع والعشرون في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره
ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يكره كل قرض فيه جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد، وذلك بأن أقرضه غلته ليرد غلته صحاحاً أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن مشروطاً فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به، وكذلك إذا أقرض رجلاً دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض من المقرض متاعاً بثمن غالٍ فهو مكروه، وإن لم يكن شراء المتاع مشروطاً في القرض، ولكن المستقرض اشترى من المقرض بعد القرض متاعاً بثمن غالٍ، فعلى قول الكرخي لا بأس به، وذكر الخصاف في «كتابه»، وقال: ما أحب له ذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه حرام؛ لأن هذا قرض جر منفعة؛ لأنه يقول: لو لم أشتره منه طالبني بالقرض في الحال.(5/276)
-----
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف: أن السلف كانوا يكرهون ذلك، إلا أن الخصاف لم يذكر الكراهة، إنما قال: (ما) أحب له ذلك، فهو قريب من الكراهة، ولكنه دون الكراهة، ومحمد رحمه الله لم يرَ بذلك بأساً، فإنه قال في كتاب الصرف: المستقرض إذا أهدى للمقرض شيئاً لا بأس به من غير فصل، فهذا دليل على أنه رفض قول السلف، قال شيخ الإسلام: ما نقل عن السلف فذاك محمول على ما إذا كانت المنفعة وهو شراء المتاع في مسألتنا بثمن غال مشروط في الاستقراض، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تكن المنفعة وهي الإهداء مشروطة في القرض، وذلك لا يكره بلا خلاف، هذا إذا تقدم الإقراض على البيع.
فأما إذا تقدم البيع على الإقراض؛ وصورة ذلك: رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب منه المعاملة من الطالب ثوباً قيمته عشرون ديناراً، بأربعين ديناراً، ثم أقرضه ستين ديناراً على صار للمقرض على المستقرض مائة دينار، وحصل للمستقرض ثمانون ديناراً، ذكر الخصاف رحمه الله: أن هذا جائز، وهذا مذهب محمد بن سلمة إمام بلخ، فإنه روي أنه كان له سلع، فكان إذا استقرض إنسان منه شيئاً كان يبيعه أولاً سلعة بثمن غالٍ، ثم يقرضه بعض الدنانير إلى تمام حاجته.
وكثير من مشايخ بلخ كانوا يكرهون ذلك، وكانوا يقولون: هذا قرض جر منفعة، فإنه لولا ذلك القرض كان لا يتحمل المستقرض غلاء ثمن الثوب، فكان قرضاً جر منفعة، ومن المشايخ من قال: إن كانا في مجلس واحد يكره، وإن كانا في مجلسين مختلفين لا بأس به؛ لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة، فكأنهما واحد من المنفعة المشروطة في القرض، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يفتي بقول الخصاف، وبقول محمد بن سلمة، ويقول: هذا ليس بقرض جر منفعة، هذا بيع جر منفعة وهو القرض.
(5/277)
-----
الفصل الثلاثون في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يدغيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: من قبل الأرض بين يدي السلطان أو أمير، أو سجد له، فإن كان على وجه التحية لا يكفر، ولكن يصير آثماً مرتكباً الكبيرة، أما لا يكفر؛ لأن السجدة على وجه التحية نفسها ليس بكفر، ألا ترى أن السجدة لغير الله تعالى على سبيل التحية كانت مباحة في الابتداء، والكفر لم يبح في زمان، والدليل على صحة ما قلنا أن الله تعالى أمر الملائكة بسجدة آدم عليه السلام، ولا يجوز أن يكون الكفر مأموراً به.
ثم تكلم العلماء أن سجدة الملائكة كانت لمن؟ بعضهم قالوا: كانت لله تعالى، ولكن التوجه إلى آدم كان تشريفاً وتكريماً لآدم، ألا ترى أنه تستقبل الكعبة في الصلاة، والصلاة تكون لله تعالى، والتوجه إلى الكعبة لتشريف الكعبة، كذا ههنا، وقال بعضهم: لا بل كانت السجدة لآدم على وجه التحية والإكرام له، ثم نسخ ذلك بقوله عليه السلام: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» أما الإثم فلأنه ارتكب ما هو محرم ومنهي عنه، وارتكاب المحرم يوجب الإثم.
والدليل على صحة ما قلنا مسألة ذكرها في «واقعات الناطفي».
وصورتها: إذا قال أهل الحرب لمسلم: اسجد للملك وإلا قتلناك، فالأفضل له أن لا يسجد؛ لأن هذا كفر صورة، والأفضل للإنسان أن لا يأتي بما هو كفر صورة إن كان في حالة الإكراه، وإن أراد أن يسجد بنية التحية فالأفضل له أن يسجد؛ لأن هذا ليس بكفر، فهذه المسألة تؤيد ما ذكرنا فيمن سجد للسلطان على وجه التحية أنه لا يكفر، هذا إذا سجد بنية التحية، وإن سجد بنية العادة للسلطان أو لم تحضره النية، فقد كفر هذا هو الكلام في السجدة.
جئنا إلى الانحناء للسلطان أو لغيره، وإنه مكروه؛ لأنه تشبه بفعل المجوس.(5/278)
-----
وأما الكلام في تقبيل اليد، فإن (قدم) يد نفسه لغيره فهو مكروه؛ لأن ذلك من فعل الفساق، وإن قبل يد غيره، أو قبل يد عالم أو سلطان عادل لعلمه وعدله لا بأس به، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند»، وقد صح أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخذ بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال زيد: مهلاً يا ابن عم رسول الله، فقال عبد الله: هكذا كنا نصنع بعلمائنا من أكابر أصحاب رسول الله، فلما استوى زيد بن ثابت على بغلته، فقال لابن عباس: ناولني يدك فناوله، فقبل زيد يده، وقال: هكذا نصنع بأهل بيت رسول الله عليه السلام، فهذا يدلك على أنه لا بأس بتقبيل يد غيره لعلمه أو شرفه، وقد حكي عن سفيان أنه سمى تقبيل يد العالم، والسلطان العادل سنة، فقال له عبد الله بن المبارك: ومن يحسن هذا غيرك.
وإن قبل يد غير العالم، وغير السلطان العادل أراد به تعظيم المسلم وإكرامه فلا بأس به، وإن أراد به عبادة له أو يسأل منه شيئاً من عرض الدنيا فهو مكروه، وكان الصدر الشهيد يفتي بالكراهة في هذا الفصل من غير تفصيل، وعن علي الرازي أنه قال: كنا ندخل على المأمون ونقبل يده، وبشر يقول: هذا فسق.
وأما الكلام في تقبيل الوجه؛ حكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: لا بأس بأن يقبل الرجل الرجل إذا كان فقيهاً (101أ2) أو عالماً أو زاهداً، يريد بذلك إعزاز الدين، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بين عيني عمران بن مطعوم بعد موته، وقبل أبو بكر رضي الله عنه جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وذكر في «الجامع الصغير»: ويكره أن يقبل الرجل وجه آخر أو جبهته أو رأسه.(5/279)
-----
رجل يختلف إلى رجل من أهل الباطل والشر ليدفع ظلمه وشره عن نفسه، فإن كان هذا الرجل مشهوراً ممن يقتدى به يكره؛ لأنه إذا كان يختلف إليه يظن أنه يرضى بأمره، فكان فيه مذلة أهل الحق، وإن لم يكن مشهوراً يقتدى به لا بأس به إن شاء الله تعالى؛ لأنه عري عن هذا المعنى.
رجل يدعوه الأمير فيسأله عن أشياء، فإن تكلم بما يوافق (الحق) يناله المكروه، لا ينبغي أن يتكلم بخلاف الحق، لقوله عليه السلام: «من تكلم عند ظالم بما يرضيه بغير حق، يغير الله تعالى قلب الطالب عليه، ويسلطه عليه» وهذا إذا لم يخف القتل أو تلف بعض جسده، أو أخذ ماله، فإن خاف ذلك لا بأس بذلك؛ لأنه مكره عليه معنى.
الفصل الحادي والثلاثون في الانتفاع بالأشياء المشتركة
ذكر في وديعة «العيون» و «الواقعات»: الأرض أو الكرم إذا كان بين حاضر وغائب، أو بين بالغ ويتيم أن الحاضر أو البالغ يرفع الأمر إلى القاضي، ولو لم يرفع الأمر إلى القاضي ففي الأرض يزرع بحصته ويطيب له وفي الكرم يقوم عليه، فإذا أدركت الثمرة يبيعها ويأخذ حصته، ويوقف حصة الغائب وسع له ذلك إن شاء الله تعالى، فإذا قدم الغائب؛ فإن شاء ضمنه القيمة، وإن شاء أجازه، وذكر عن محمد رحمه الله في موضع آخر؛ لو أن الشريك أخذ حصته من الثمرة وأكلها جاز له، ويبيع نصيب الغائب ويحفظ ثمنه، فإن حضر صاحبه وأجاز فعله يجيزه، وإلا ضمنه قيمته، وإن لم يحضر فهو كاللقطة يتصدق بها، قال الفقيه أبو الليث: وهذا استحسان وبه نأخذ.(5/280)
-----
قال: ولو أدى الخراج كان متطوعاً، وذكر محمد في شروط «الأصل» في الدار إذا كانت مشتركة، وأحد الشريكين غائب، فأراد الحاضر أن يسكنها إنسان، أو يؤاجرها إنساناً، قال: فيما بينه وبين الله تعالى فلا ينبغي له ذلك؛ لأنه يتصرف في نصيبه ونصيب شريكه، والتصرف في ملك الغير حرام حقاً لله تعالى، وحقاً لصاحب الملك، وفي القضاء لا يمنع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يمنع عن التصرف فيما بيده إذا لم ينازعه أحد، فإن أجر وأخذ الأجر ينظر إلى حصة نصيب شريكه من الأجر، ويرد ذلك عليه إن قدر، وإلا يتصدق؛ لأنه تمكن فيه خبث لحق شريكه، وكان كالغاصب إذا أجر، وقبض الأجر يتصدق أو يرده على المغصوب منه، أما ما يخص نصيبه يطيب له؛ لأنه لا خبث فيه، هذا إذا أسكن غيره.
فأما إذا سكن بنفسه وشريكه غائب، والقياس أن لا يكون له ذلك فيما بينه وبين الله كما لو أسكن غيره، وفي الاستحسان: له ذلك؛ لأن له أن يسكن الدار من غير إذن صاحبه حال حضرة صاحبه؛ لأنه يتعذر الاستئذان في كل مرة، وعلى هذا أمر الدور فيما بين الناس، فكان له أن يسكن حال غيبته، فأما ليس له إسكان غيره حال حضرة صاحبه بغير إذنه فكذا حال غيبته، وإلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في «الكتاب»، فقال: هكذا عامة الدور.
وفي «العيون»: لو أن داراً غير مقسومة بين رجلين غاب أحدهما، وسع الحاضر أن يسكن بقدر حصته فيسكن الدار كلها، وكذا خادم بين رجلين غاب أحدهما، فللحاضر أن يستخدم الخادم بحصته، وفي الدابة لا يركبها الحاضر؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب؛ أما لا يتفاوتون في السكنى واستخدام الخادم، فيتضرر الغائب بركوب الدابة، ولا يتضرر بالاستخدام والسكنى. في «إجازات النوازل» عن محمد بن مقاتل: أن للحاضر أن يسكن الدار قدر نصيبه، وعن محمد رحمه الله: أن للحاضر أن يسكن جميع الدار إذا خاف على الدار الخراب إن لم يسكنها.
(5/281)
-----
وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الأرض: أنه ليس للحاضر أن يزرع بقدر حصته، وفي الدار له أن يسكنها. وفي «نوادر هشام» له ذلك في الوجهين.
فإن أراد الرجل إحداث مظلة في طريق العامة ولا ضرر بالعامة، فالصحيح من مذهب أبي حنيفة: أن لكل واحد من آحاد المسلمين حق المنع وحق الطرح، وقال محمد: له حق المنع من الإحداث وليس له حق الطرح، فإن كان يضر ذلك بالمسلمين، فلكل واحد من آحاد المسلمين حق الطرح والرفع، وإن أراد إحداث الظلة في سكة غير نافذة لا يعتبر فيه الضرر، وعدم الضرر عندنا بل يعتبر فيه الإذن من الشركاء.
وهل يباح إحداث الظلة على طريق العامة؟ ذكر أبو جعفر الطحاوي أنه يباح، ولا يأثم قبل أن يخاصمه أحد، وبعدما خاصمه لا يباح الإحداث، ولا يباح الانتفاع ويأثم بترك الظلة، وقال أبو يوسف ومحمد: يباح له الانتفاع إذا كان لا يضر ذلك بالعامة.
وفي «المنتقى» قال: إذا أراد أن يبني كنيفاً أو ظلة على طريق العامة، فإني أمنعه من ذلك، وإن بنى ثم اختصموا نظرت في ذلك، فإن كان فيه ضرر أمرته أن يقلع، وإن لم يكن فيه ضرر تركته على حاله، وقال محمد: إذا أخرج الكنيف، ولم يدخله في داره، ولم يكن فيه ضرر تركته، وإذا أدخله داره منع عنه؛ لأنه إذا أدخله داره، فالبينة على الذي يخاصم أنه من الطريق.p
وقال في رجل له ظلة في سكة غير نافذة، فليس لأصحاب السكة أن يهدموها إذا لم يعلم كيف كان أثرها، وإن علم أنه بناها على السكة هدمت، ولو كانت السكة نافذة هدمت في الوجهين جميعاً، وقال أبو يوسف: إن كان ضرراً هدمتها وما لا فلا.(5/282)
-----
والحاصل أن ما كان على طريق العامة إذا لم يعرف حالها على قول محمد تجعل حديثة حتى كان للإمام رفعها، وما كان في سكة غير نافذة إذا لم يعلم حالها تجعل قديمة حتى لا يكون لأحد رفعها، قال شيخ الإسلام خواهر زاده: وتأويل هذا في سكة غير نافذة أن تكون داراً مشتركة بين قوم، أو أرضاً مشتركة بينهم بنوا فيها مساكن وحجراً ورفعوا بينهم طريقاً حتى يكون الطريق ملكاً لهم، فأما إذا كانت السكة في الأصل ... بأن يبنوا داراً ويتركون هذا الطريق للمرور، فالجواب فيه كالجواب في طريق العامة؛ لأن هذا الطريق بقي على ملك العامة، ألا ترى (101ب2) أن لهم أن يدخلوا هذه السكة عند الزحام، وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه كان يقول في حد السكة الخاصة أن يكون فيها قوم يحصون، أما إذا كان فيها (قوم) لا يحصون فهي سكة عامة، والحكم فيها نظير الحكم في طريق العامة.
الفصل الثاني والثلاثون في المتفرقات
رجل له امرأة لا تصلي يطلقها، حتى لا تصحب امرأة لا تصلي، فإن لم يكن له ما يعطي مهرها فالأولى أن يطلقها، قال الإمام أبو حفص الكبير رحمه الله صاحب محمد بن الحسن رحمة الله عليه: إن لقي الله تعالى ومهرها في ذمته أحب إلي من أن يطأ امرأة لا تصلي.
غمز الأعضاء في الحمام من غير ضرورة مكروه في «فتاوى أهل سمرقند»، قال الفقيه أبو جعفر: سمعت الشيخ أبا بكر يقول: لا بأس بأن يغمز الرجل الرجل إلى الساق، ويكره أن يغمر الفخذ ويلمسه من وراء ثوب أو غيره، قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبيح هذا، ولا بأس به، قال الفقيه أبو جعفر: وكان الشيخ أبو بكر يقول: يغمز الرجل رجل والديه، ولا يغمز فخذ والديه.
من أمسك حراماً لأجل غيره كالخمر ونحوه إن أمسك لمن يعتقد حرمته كالخمر يمسكه للمسلم لا يكره، وإن أمسك لمن يعتقد إباحته كما لو أمسك الخمر للكافر يكره.(5/283)
-----
سئل الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن قوم أرادوا الخروج على سلطانهم بجوره، هل يحل لهم ذلك؟ فأجاب، وقال: إن كانوا اثنا عشر ألفاً كلمتهم واحدة وسعهم ذلك، وإن كانوا أقل من اثني عشر ألفاً لا يسعهم ذلك، وكان يستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يغلب اثنا عشر ألفاً عن قلة كلمتهم واحدة»، ونقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر ووعد أن اثني عشر ألفاً لا يغلبون إذا كانت كلمتهم واحدة، ووعد النبي عليه السلام حق، وإذا كانوا لا يغلبون بوعد النبي عليه السلام، والخروج على السلطان لدفع جوره لا يكون سعياً إلى إهلاك أنفسهم فيسعهم ذلك، وإذا كانوا أقل من اثني عشر ألفاً لم يتيقن بغلبتهم، فلو خرجوا ولم يغلبوا يقصدهم السلطان الجائر بالأذى فكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فلا يسعهم ذلك.
سئل الفقيه أبو بكر عن قراءة القرآن أهو أفضل للمنفعة أو دراسة الفقه؟ قال: حكي عن الفقيه أبي مطيع أنه قال: النظر في كتب أصحابنا من غير سماع أفضل من قيام ليلة.
في آخر «النوازل»، وعن أبي عاصم أنه قال: طلب الأحاديث حرفة المفاليس، يعني به إذا طلب الحديث، ولم يطلب فقهه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: يكره الجلوس في المسجد في المصيبة ثلاثة أيام، وفي غير المسجد جاءت الرخصة ثلاثة أيام للرجال، وتركه أحسن.(5/284)
-----
وفي «النوازل»: لا بأس أن يتخذ في المسجد بيت يوضع فيه البواري لتعامل الناس، وفي كراهية «واقعات الناطفي»: ويكره الوضوء في المسجد إلا أن يكون فيه موضع اتخذ لذلك، ولا يصلى فيه، وفي «القدوري»: كره أبو حنيفة وأبو يوسف الوضوء في المسجد، وقال محمد: لا بأس به إذا لم يكن عليه قذر، وفي «النوازل»: رجل مرَّ في مسجد ويتخذ منه طريقاً، فإن كان بعذر يجوز، وإن كان بغير عذر لا يجوز، ثم إذا جاز يصلي في اليوم مرة واحدة تحية المسجد، ولا يصلي أكثر من ذلك؛ لأن فيه حرج، وإذا تعلق بثياب المصلي بعض ... في المسجد من البواري والحشيش فأخرجه، فليس عليه أن يرجعه إلى المسجد إذا لم يتعمد ذلك؛ لأن ما في المسجد يخرجه خادمه عيسى، فإذا وقع خارج المسجد لا تجب الإعادة إلى المسجد.
رجل مات وأجلس ولداه على قبره رجلاً يقرأ القرآن؟ تكلموا فيه؛ بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره، والمسألة في الحقيقة بناءاً على أن قراءة القرآن في المقبرة هل تكره؟ والمختار أنه لا تكره، وهل ينفع الميت؟ تكلموا فيه، والأشبه أنه ينفع؛ لأن الأخبار وردت بقراءة آية الكرسي، وسورة الفاتحة، وسورة الإخلاص وغير ذلك، وحكي عن الفقيه أبي بكر الفياض أنه أوصى موصى عند موته بذلك.
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وأرجع له دانقاً، قال: لا يقبله حتى يقول: أنت في حل أو هو لك.
سئل محمد بن المقاتل عن رجل سرق (الماء)، وساقه إلى أرضه وكرمه أنه يطيب له ما خرج بمنزلة رجل غصب شعيراً أو تبناً، وسمن به دابته، فإنه يجب عليه مثل ما غصب، وما زاد في الدابة يطيب له، قال الفقيه أبو الليث: وقد حكي عن بعض الزاهدين أن الماء وقع في كرمه في غير نوبته، فأمر بقطع كرمه، ونحن لا نقول بقطع كرمه؛ لأن فيه إفساد المال، ولكن لو تصدق بنزله كان حسناً أما لا يجب عليه التصدق في الحكم.(5/285)
-----
سئل الفقيه عن رجل زرع أرض رجل بغير إذنه، فلم يعلم صاحب الزرع حتى استحصد الزرع، فعلم ورضي به، هل يطيب للزارع الزرع؟ قال: نعم، قيل له: فإن قال: لا أرضى، ثم قال: رضيت، هل يطيب له؟ قال: يطيب له أيضاً، قال الفقيه أبو الليث: وهذا استحسان وبه نأخذ.
اختلف العلماء في كراهية تعليق الجرس على الدواب، فمنهم من قال بكراهيته في الأسفار كلها الغزو وغيره في ذلك سواء، وهذا القائل يقول بكراهيته في الحضر، كما يقول بكراهيته في السفر، ويقول أيضاً بكراهية اتخاذ الخلاخل في رجل الصغير، والمعنى في ذلك: أن الشيطان يستأنس ويتلهى بصوته، كما يستأنس ويتلهى بصوت المزامير، وقال محمد في «السير الكبير»: إنما يكره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب، وهو المذهب عند علمائنا أن تعليق (الجرس) على الدواب إنما يكره في دار الحرب؛ لأن العدو يشعر بمكان المسلمين، فإن كان بالمسلمين قلة يتبادرون إليهم فيقتلونهم، فإن كان بهم كثرة، والكفار يتحرزون عنهم ويتحصنون، فعلى هذا قالوا: إذا كان الراكب في المفازة في دار الإسلام ويخافون من اللصوص يكره لهم تعليق الجرس على الدواب أيضاً حتى لا يشعر بهم اللصوص، فلا يستعدون لقتلهم وأخذ أموالهم، والذي ذكرنا في الجواب في الجرس، فهو الجواب في الخلال، قال محمد رحمه الله في «السير»: فأما ما كان في دار الإسلام فيه منفعة لصاحب الراحلة فلا بأس به، قال: في الجرس منفعة جمة منها؛ إذا ضلّ واحد من القافلة يلتحق بها بصوت الجرس، ومنها أن صوت الجرس يبعد هوام الليل عن القافلة كالذئب وغيره، ومنها أن صوت الجرس يزيد في نشاط الدواب، وهو نظير الحدو، فإنه جوّز؛ لأنه يزيد في نشاط الدواب.
(5/286)
-----
اختلف الناس في ضرب الدف في العرس قال بعضهم: لا بأس لما روي عن عائشة رضي الله عنها (102أ2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف» وقال محمد بن سيرين: نبئت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع صوتاً أنكره سأل عنه، فإن قالوا: عرس أو ختان أقره، وقال بعضهم: يكره لقوله عليه السلام: «كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاث؛ تأديبه فرسه ورميه عن قوسه وملاعبته مع أهله» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: الدف الذي يضرب في زماننا هذا مع الصنجات والخلاخلات ينبغي أن يكون مكروهاً، وإنما الخلاف في الذي كان يضرب في الزمن المتقدم.
قال محمد في «الجامع الصغير»: مسلم باع خمراً، وأخذ ثمنه، وعلى بائع الخمر دين لرجل كره لصاحب الدين أن يقتضي دينه من ذلك، وإن كان البائع نصرانياً فلا بأس به، والوجه في ذلك أن الخمر ليست بمتقومة في حق المسلم، فلم يجز بيعه، و لم يملك ثمنها لا بالعقد ولا بالقبض، بل بقي الثمن على ملك مشتري الخمر، فإذا أخذ صاحب الدين ذلك فقد أخذ ملك المشتري بغير إذنه فلا يجوز، فأما الخمر متقوم في حق الذمي فجاز بيعه، وملك ثمنها، فلو أخذ صاحب الدين ذلك فقد أخذ ملك البائع بأمره فيجوز.
ولا ينبغي أن يتصدق على السائل في المسجد الجامع؛ لأنه إعانة لهم على أذى الناس، وقد قال خلف بن أيوب: لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من يتصدق في المسجد الجامع، وقال الفقيه أبو بكر بن إسماعيل الواهب بفلس يحتاج إلى سبعين فليساً ليصير كفارة له.
الصبرة إذا أصاب طرف منها نجاسة، ولا يعلم ذلك بعينه يعزل منها قفيزاً أو قفزين فعل ذلك، أو أزال ذلك عن ملكه ببيع أو هبة يحكم بطهارة ما بقي من الصبرة لجواز أن المعزول هو الذي أصابته النجاسة، فلا يقضى بنجاسة ما بقي، وقد عرفناه مباح التناول، فلا تثبت الحرمة بالشك.(5/287)
-----
ولا رواية عن أصحابنا في هذه المسألة، ومشايخنا استخرجوها ... من في «السير»، وصورتها: أن رجلاً من أهل الذمة دخل حصناً من حصون أهل الحرب قد حاصره المسلمون، ثم إن المسلمين فتحوا الحصن، وأخذوا الرجال، وعلموا يقيناً أن الذمي فيهم، إلا أنهم لا يعرفونه بعينه، وكل واحد منهم يدعي أنه الذمي، فإنه لا يحل للمسلمين قتلهم، ولو قتل واحد من أهل الحصن بعدما دخل فيه الذمي أو مات، أو خرج واحد منهم، فإنه يحل للمسلمين قتلهم؛ لأنه بعدما مات واحد منهم أو قتل أو خرج من الحصن لم يتيقن أن فيهم من هو محرم القتل، لجواز أن محرم القتل قتل أو مات أو خرج، وقد عرفناهم مباح الدم في الأصل، فلا تثبت الحرمة بالشك.
صبي يسمع الأحاديث، وهو لا يفهم، ثم كبر؛ يجوز له أن يروي عن المحدث، وإذا قرىء صك على صبي وهو لا يفهم، ثم كبر لا يجوز له أن يشهد، ألا ترى أن البالغ إذا قرىء عليه صك وهو لا يفهم ما فيه لا يجوز له أن يشهد بما فيه، ولو سمع الأحاديث ولم يفهم معناه جاز له أن يروي.
تعلم علم الكلام والنظر فيه وراء قدر الحاجة منهي.
وتعلم علم النجوم قدر ما يعرف القبلة، ومواقيت الصلاة لا بأس به، وفيما عدا ذلك فهو حرام.
التمويه في المناظرة والحيلة فيها هل يحل أن يتكلمه متعلم مسترشد أو غيره على الإنصاف بلا تعنت لا يحل، وإن كان يكلمه من يدخل ... ويريد أن يطرحه يحل، بل يحتال كل حيلة لدفعه عن نفسه؛ لأن دفع .... مشروع بأي طريق يكون الدفع.(5/288)
-----
قال هشام في «نوادره»: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفتين بمسامير إلى زيد قلت له: أترى بهذا الحديث بأساً، فقال: لا، فقلت: إن سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأنه تشبه بالرهبان، فقال أبو يوسف: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي بها شعر، وإنها من لباس الرهبان، فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما يتعلق به صلاح العبد لا يضر، وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن من الأراضي ما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع من الأحكام.
قال في «الجامع الصغير»: ويكره هذه الخرقة التي تحمل، ويمسح بها العرق، وهكذا ذكر في «القدوري»، من أصحابنا من قال: الكراهة في الخرقة التي لها قيمة؛ لأن إعداد ما له قيمة لإزالة العرق فيه تضييع لماله، ومنهم من قال بالكراهة على كل حال، وإطلاق لفظ «الكتاب» دل عليه، وإنما كره؛ لأنه بدعة محدثة لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وإنما كانوا يمسحون العرق بأطراف أثوابهم، ولأن فيه ضرب من التكبر وتشبه بزي الأعاجم، وكذلك الخرقة التي يمخط بها مكروهة، والخرقة التي يمسح بها الوضوء محدثة، ومنهم من طعن في ذلك لتوارث المسلمين ذلك، والحاصل أن من فعل شيئاً من ذلك تكبراً فهو مكروه وبدعة، ومن فعل ذلك لحاجة لا يكره، وهو نظير التربع في الجلوس والاتكاء قد يفعل الرجل نحوه تكبراً فيكره، وقد يفعله لحاجة فلا يكره، وحكي عن الحاكم الإمام أنه كان يكره استعمال الكواغد في وليمة ليمسح بها الأصابع، وكان يشدد فيه، ويزجر عنه زجراً بليغاً، ولا بأس بأن يربط الرجل في إصبعه خاتماً أو خيطاً للحاجة إلى التذكر، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه بذلك.
(5/289)
-----
قال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: ولا ينتفع من الخنزير بجلده ولا بغيره إلا الشعر للأساكفة، وقال أبو يوسف: يكره بالشعر أيضاً، وقول أبي حنيفة أظهر؛ لأن حاجة الأساكفة إلى شعرها حاجة ماسة إذ غيرها لا يقوم مقامها في إقامة مصلحة الخرز.
قال الفقيه أبو الليث: قد رخص بعض الناس أن يشرب الرجل قائماً، وكرهه بعضهم إلا من عذر وبه نقول.
التضحية بالديك أو بالدجاج في أيام التضحية ممن لا أضحية عليه لعسرته تشبهاً بالمضحين مكروه، ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار في كتاب «بيان التوحيد» بالفارسية، وقال: هذا من رسم المجوس، روى نصر بن يحيى بإسناد له عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه ليس للعالم من بيت المال نصيب؛ لأنه وارث الأنبياء، وقد قال الله تعالى في حق الأنبياء: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} (الشورى: 23) وقال تعالى: {إن أجري إلا على الله} (يونس: 72) قال: والقراء لهم نصيب من بيت المال.
المرأة في بيت زوجها، والأمة في بيت مولاها لا تطعم ولا تتصدق بالطعام المدخر كالحنطة ودقيقها، فأما بغير المدخر من الطعام تتصدق على ....، وإن لم يأذن الزوج والمولى بذلك صريحاً، ويكون ذلك إذن المولى والزوج (102ب2) باعتبار العرف والعادة.
الحطب إذا وجد في نهر جار جاز أخذه والانتفاع، وإن كانت له قيمة وقت الأخذ.
الأب إذا احتاج إلى مال ولده، فإن كان في المصر واحتاج لفقره أكل بغير شيء، وإن كان في السفر واحتاج لعدم الطعام لا لفقره، بل هو موسر أكله بالقيمة، وحد اليسار ههنا أن لا تحل له الصدقة.
قال محمد رحمه الله: ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز عن الخروج والطلب، وهذه المسألة تشتمل على ثلاثة فصول:(5/290)
-----
أحدها: أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على كل من يعلم حاله أن يطعمه بمقدار ما يتقوى به على الخروج وأداء العبادات، إذا كان قادراً على ذلك حتى إذا مات ولم يعطه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعاً في المأثم، والأصل فيه قوله عليه السلام: «ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو» وقال عليه السلام: «أيما رجل مات ضياعاً بين قوم أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله» وكذلك إذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه، ولكنه قادر على أن يخرج إلى الناس ويخبرهم بحاله فيواسوه، يفترض عليه ذلك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم، ولكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
الفصل الثاني: إذا كان المحتاج قادراً على الخروج، ولكن لا يقدر على الكسب، فعليه أن يخرج، ومن يعلم بحاله فإن كان عليه شيء من الواجبات فليرده إليه حتماً وإن كان المحتاج يقدر على الكسب فعليه أن يكتسب، ولا يحل له أن يسأل.
الفصل الثالث: إذا كان المحتاج عاجزاً عن الكسب، ولكنه قادر على أن يخرج ويطوف على الأبواب، فإنه يفترض عليه ذلك، حتى إذا لم يفعل ذلك وقد هلك كان آثماً عند الله؛ وهذا لأن السؤال في حق من هو قادر على الكسب (لا يحل)
ثم قال: المعطي أفضل من الآخذ، وهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون المعطي مؤدياً للواجب، والآخذ قادراً على الكسب ولكنه محتاج، فههنا المعطي أفضل بالاتفاق، ولأنه في الإعطاء يؤدي الفرض، والآخذ متبرع في الأخذ، فإن له أن لا يأخذ ويكتسب، ولا شك أن درجة المفترض أعلى من درجة المتبرع.(5/291)
-----
والثاني: أن يكون المعطي والآخذ كل واحد منهما شرع، أما المعطي فظاهر، وأما الآخذ بأن يكون قادراً على الكسب، وفي هذا الوجه المعطي أفضل؛ لأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء، ومعنى الابتلاء في الإعطاء أظهر؛ لأن الابتلاء في العمل الذي لا تميل إليه النفس، والنفس تميل إلى الأخذ، ولا تميل إلى الإعطاء.
والثالث: أن يكون المعطي متبرعاً، والآخذ مفترضاً بأن كان عاجزاً عن الكسب، وفي هذا الوجه المعطي أفضل عند أهل الفقه، وقال أهل الحديث؛ أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه الآخذ أفضل ههنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا كان بالرجل يتلفه ذلك مثل الغدة في العين وغيره، أو كان به حجر فأراد استخراجه، ويخاف منه الموت قال: إن فعل أحد ونجا فلا بأس بأن يفعل.
لا بأس بالاستخبار عن الأخبار المحدثة في البلدة هو المختار لما فيه من المصلحة.
الغني إن أكل مما يتصدق به على الفقراء؛ إن أباح له الفقير ففي حل التناول اختلاف المشايخ، وإن ملكه من الغني لا بأس به بدليل حديث بريرة: «هي لها صدقة ولنا هدية».
باع الجيران في الحضر أو الرفقة السفر متاع الميت الذي لا وارث له معه، ليصرفوه إلى تجهيزه وتكفينه ودفنه، فلهم ذلك.(5/292)
-----
في وديعة «العيون» وحكي عن نصر بن يحيى قال: سمعت أبا سليمان الجرجاني، قال: مات غريب عند محمد بن الحسن، فباع محمد بن الحسن كتبه، قال نصير: قلت لأبي سليمان: أكان محمد يومئذٍ قاضياً؟ قال: لا، وحكي أنه مات رقيق لوكيع بن الجراح في سفره، فباع وكيع متاعه وكتبه، وقرأ هذه الآية: {والله يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) ، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال في ميت في مسجده جمع أهل المحلة دراهم ليشتروا له بها كفناً فاشتروا له الكفن، وكفنوا به، وفضل من الدراهم فضلة، فإن كان ذلك الميت من قرابتهم أو من جيرانهم؛ قاموا بتكفينه لحق الصحبة أو القرابة، فإن ما فضل من المال ردّ عليهم، فإن (لم) يعرف مال كل واحد منهم فهو منهم جميعاً، وإن لم يردوا عليهم رد على ورثته، وإن لم يرد على ورثته فأحب إليّ أن يصرف إلى ميت فقير من أهل تلك المحلة، فيصرف ذلك إلى كفنه، وإن لم يكن بينهم وبين الميت وراثة ولا كان في جيرانهم وإنما هو غريب نزله الموت فيهم، أو أخرج فوضع عندهم ليكفنوه رأيت أن يصرف ما فضل من الدراهم إلى كفن ميت آخر محتاج.
التحليف بالطلاق والعتاق والأيمان المغلطة، ذكر في «فتاوى أهل سمرقند»: أن بعض المشايخ رخصوا في ذلك، واختيار الصدر الشهيد الكبير حسام الدين رحمه الله أنه يفتى بعدم الجواز، فإن بالغ المستفتي يكتب في الفتوى الرأي في ذلك للقاضي، وللرجل أن يدخل الدار التي آجرها، ويسلمها إلى المستأجر لينظر حالها ويرم ما استمر وبإذن المستأجر وبغير إذنه عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة لا يدخل إلا بإذن المستأجر.
في سرقة «الأصل:» امرأة لها أب زمن، وليس للأب من يقوم عليه غير الابنة، والزوج يمنعها من تعاهد الأب، جاز لها أن تعصي الزوج، وتطيع الأب مسلماً كان الأب أو كافرا.(5/293)
-----
في نكاح «فتاوى أبي الليث» ابن السبيل: إذا تصدق عليه، ثم وصل إلى ماله، والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة، وكذلك الفقير إذا تصدق عليه ثم استغنى، والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة.
لا يجوز حمل تراب ربض المصر؛ لأنه حصن، فكان حق الجماعة، فإن انهدم شيء من الربض ولا يحتاج إليه لا بأس بحمله.
في «فتاوى أبي الليث»: الكرع مكروه، ذكر في فوائد الفقيه أبي جعفر لأمر النبي عليه السلام.
حكي عن إبراهيم النخعي: أن المصحف يورث، وهو للقارىء من الورثة، والمذهب عندنا أنه يورث كسائر الأموال.
سئل الفقيه أبو جعفر عن قوم قرؤوا قراءة ورد وكبروا بعد ذلك جهراً، قال: إن أرادوا بذلك الشكر لا بأس به، قال: وإن كبروا بعد الصلاة على أثر الصلاة فإنه يكره وإنه بدعه، وإذا كبروا في الرباطات لا يكره إذا أرادوا به إظهار القوة (103أ2) والموضع موضع الخوف، وإذا كبروا في مساجد الرباطات، ولم يكن الموضع مخوفاً يكره.u
قال الفقيه أبو جعفر: سمعت شيخي أبا بكر يقول: سئل إبراهيم النخعي عن تكبير أيام التشريق على الأسواق والجهر بها، قال: ذلك تكبير الحوكة، وعن أبي يوسف: أنه يجوز، قال الفقيه: وأنا لا أمنعهم عن ذلك.
لا غيبة لمن يضر الناس يداً ولساناً، قال عليه السلام: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» روي عن محمد بن الحسن أنه قال في تأويل هذا الحديث: مراد النبي عليه السلام أن يكون قصد الذاكر النصيحة حتى لا يتضرر به أحد، وفي هذه الصورة لا إثم عليه، بل على الذاكر، فإذا أكن في صدره أنفة وهتك ستره صار غيبة، وقال عليه السلام: «الغيبة أشد من الزنا.(5/294)
-----
قال الفقيه أبو نصر: إذا عرض بسط بحر عام لا يضر بالمارة فذلك مباح له، ولمن شاء من المسلمين أن يأخذه برفع ذلك، وإن جعله وقفاً صار وقفاً، فأما على مذهب أصحابنا ليس له ذلك، وحكي أن محمد بن سلمة كان يدني دكاناً على ما به وارثاً البتة، فقيل للشيخ أبي نصر تقول (ما) به؟ قال: لا أبعده عن الصواب،.
وحكي عن أبي نصر أنه قال: كل شيء حازه الإنسان يملكه، كالطعام والماء الذي يحوزه بكوزه، فإن المضطر يقابله بما دون السلاح، وأما في ماء البئر وما أشبهه، فإنه يقابله بالسلاح، وغير السلاح.
وعن أبي يوسف في الرجل إذا طين جدار داره، وأشغل هواء المسلمين، فالقياس: أن لا ينقض ذلك، وفي الاستحسان: لا ينقض ويترك على حاله، وروي عن النصر بن محمد المروزي صاحب أبي حنيفة: أنه كان إذا أراد أن يطين داره نحو السكة، حد منه ثم طينه كيلا يأخذ شيئاً من الهواء.
سئل نصر بن يحيى عن الجذع إذا كان خارجاً من السكة أو متعلقاً بجدار الشريك، فأراد أن ينقض أو يقطع قال: إن كانت السكة نافذة فله أن ينقض، وإذا أراد نقضه لا يؤمر ببنائه، وليس لصاحب الجذع حق القرار، وإن كانت السكة غير نافذة، فإن كان قديماً فلصاحبه حق القرار، وليس للشريك حق النقض، ولو نقض يؤمر بالبناء ثانياً، وإن كان محدثاً فلصاحبه حق النقض، وإذا نقض لا يؤمر بالبناء ثانياً.
غزل الرجل إذا كان على هيئة غزل المرأة يكره.
في صوم شمس الأئمة الحلواني، تنحنح المؤذن عند الأذان والإقامة مكروه.
في «فتاوى أهل سمرقند» يكره أن يتخذ شيئاً من القرآن حتماً لشيء من الصلوات لا يتجاوز عنه إلى غيره، هكذا ذكر في كراهية «شرح الطحاوي»، قال ثمة: وهذا إذا اعتقد أن غيره لا يجوز، أما إذا لم يعتقد ذلك وعرف أن غيره يجوز، ولكن هذا أيسر عليه، أو قرأه تبركاً بقراءة رسول الله عليه السلام لا يكره.
وتكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيتها.(5/295)
-----
في «فتاوى سمرقند» قال: وفي هذا الموضع أيضاً: إذا وجد في المقبرة طريقاً لا بأس أن يمشي فيه إذا لم يقع في قلبه أنه محدث.
رجل أخذ من رجل شيئاً وهرب ودخل في داره لا بأس للمأخوذ منه أن يتبعه، ويدخل داره ويأخذ؛ لأنه موضع الضرورة.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله تعالى؛ إذا رفع طيناً أو تراباً من طريق المسلمين ففي أيام الأوحال جاز، بل هو أولى، وفي غير أيام الأوحال إن لم يصر كالأرض، وكذلك وإن كان كالأرض، واحتاج الرافع إلى قلعه؛ لا يسعه ذلك إن كان فيه مضرة بالمارة، وفي هذا الموضع أيضاً: أهل قرية ابتلوا بالدياسة بالخمر فلا بأس به.
رجل مشى في الطريق، وكان في الطريق ماء فلم يجد مسلكاً إلا أرض إنسان فلا بأس بالمشي فيه؛ لأن فيه ضرورة، وذكر في «فتاوى أهل سمرقند»: المرور في أرض الغير على التفصيل؛ إن كان لأرض الغير حائط وحائل لا يمر فيها؛ لأن ذلك دليل عدم الرضا من صاحب الأرض بالمرور فيها، وإن لم يكن هناك حائط فلا بأس بالمرور فيها، فالحاصل أن المعتبر في هذا الباب عادات الناس.
وفي «واقعات الناطفي»: نهر لرجل في أرض رجل، أراد صاحب النهر أن يدخل الأرض ليعالج نهره ليس له ذلك؛ لأن الأرض ملك الغير، ولكن ينبغي أن يمشي في بطن النهر، وإن كان النهر ضيقاً لا يمكنه المشي في بطنه؛ لا يدخل في الأرض أيضاً، قيل: هذا الجواب على قول أبي حنيفة؛ لأنه لا حريم للنهر عنده، وأما على قولهما للنهر حريم فله أن يمر على الحريم، وقيل: ما ذكر قول الكل، وتأويل المسألة على قولهما أن صاحب النهر باع الحريم من صاحب الأرض.
القيلولة المستحبة هي القيلولة من .... داس الحنطة وداس الشعير.(5/296)
-----
بساط أو مصلى كتب عليه في النسج الملك لله يكره بسطه، والقعود عليه واستعماله، فلو قطع حرف من حروفه وخيط على بعض الحروف حتى لم تبق الكلمة متصلة لا تسقط الكراهة؛ لأنه بقيت الحروف، وللحروف المفردة حرمة؛ لأن نظم القرآن وأخبار النبي عليه السلام بواسطة هذه الحروف، وقد روي أن واحداً من الأئمة رأى الشبان يرمون، وقد كان المكتوب على الهدف: أبو جهل لعنه الله، فمنعهم عن ذلك، ومضى بوجهه، ثم رجع، فوجدهم محوا اسم الله وكانوا يرمون كذلك، فقال: إنما أمنعكم لأجل الحروف.
قيل: الأعونة والسعادة والظلمة في أيام العمرة أفتى كثير من مشايخنا بإباحته، وقد حكي عن الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن الجصاص أورد في «أحكام القرآن» أن من ضرب الضرائب على الناس حل ذمته وكان السيد الإمام الأجل أبو شجاع السمرقندي يقول: يثاب قائلهم، وكان يفتي بكفر الأعونة، وكذلك القاضي الإمام عماد الدين بسمرقند يفتي بكفرهم ونحن لا نفتي بكفرهم.
إذا أدخل الرجل ذكره فم أمرأته فقد قيل: يكره؛ لأنه موضع قراءة القرآن، فلا يليق به إدخال الذكر فيه، وقد قيل بخلافه.
أيضاً السلطان إذا قال للخبازين: بيعوا عشرة أمناء من الخبز بدرهم ومن ينقص عن ذلك فعلت في حقه كذا وكذا، فاشترى رجل من الخباز عشرة أمناء من الخبز بدرهم، ولولا خوف السلطان، فالخباز لا يبيعه عشرة أمناء بدرهم لا يحل للمشتري أكله؛ لأن الخباز في معنى المكره على البيع، فإن أجاز البائع بعد ذلك من اختيار جاز، وحل للمشتري الأكل، فبيع المكره إذا لحقته الإجازة (103ب2) من البائع يخرج من أن يكون بمعنى مكره.(5/297)
-----
في عارية «الواقعات»: رجل أراد أن يستمد عن محبرة غيره فهذا على ثلاثة: أوجه: الأول أن يستأذنه، وفي هذا الوجه له أن يفعل ذلك إلا أن ينهاه، الثاني: أن يعلمه وفي هذا الوجه له ذلك أيضاً إذا لم ينهه؛ لأنه إذا لم ينهه فهو إذن له دلالة، الثالث: إذا لم يستأذنه ولم يعلمه، وإنه على وجهين: إن كان بينهما انبساط فله أن يفعل ذلك لمكان الإذن عرفاً، وإن لم يكن بينهما انبساط ليس له أن يفعل؛ لأنه في الإذن عرفاً تودُّد.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: طلبة العلم إذا كانوا في مجلس ومعهم محابر فكتب واحد من محبرة غيره بغير إذنه صريحاً لا بأس به؛ لأنه مأذون دلالة، فإنه لو استأذنه يثقل عليه.
وفيه أيضاً: استأجر كتاباً ليقرأه، فوجد في الكتاب خطأ إن علم أن صاحب الكتاب يكره إصلاحه لا ينبغي له أن يصلحه؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإن علم أنه لا يكره إصلاحه فإن أصلحه جاز؛ لأنه مأذون دلالة، وإن لم يصلحه فلا إثم عليه؛ لأن الصلاح ليس واجب عليه.
رجل في داره شجرة فرصاً وقد باع أغصانها، وإذا أبقاه المشتري اطلع على عورات الجيران، فقيل ينبغي للجيران أن يرفعوا الأمر إلى القاضي حتى يمنعه عن ذلك، والمختار أن يخبر المشتري الجيران وقت الإيفاء ليستروا أنفسهم، يفعل ذلك في كل يوم مرة أو مرتين؛ لأن هذا جمع بين الحقوق، فإن لم يفعل ذلك إلا أن يرفع الأمر إلى الحاكم، فإن رأى الحاكم المنع منعه.
شوك أو حشيش نبت على القبور؛ إن كان رطباً يكره قلعه، وإن كان يابساً لا يكره؛ لأنه ما دام رطباً يسبح، فربما يكون للميت أنس بتسبيحها، ولا كذلك اليابس منه.
ميت دفن في أرض غيره، فإن شاء رب الأرض أمر بإخراجه وإن شاء سوى القبر مع الأرض وزرع عليه، فله أن يستخلص الظاهر والباطن وحده.(5/298)
-----
رجل يعمل أعمال البر، ويقع في قلبه أنه ليس بمؤمن، إن وقع في قلبه .... مؤمن ..... أو أعماله لا تنفعه؛ لأنه عصى الله فهو مؤمن صالح، وإن وقع في قلبه أنه ليس بمؤمن ولم يعرف الله، واستقر قلبه على ذلك فهو كافر بالله، وإن خطر هذا بقلبه ووجد إنكار ذلك من نفسه فهو مؤمن؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن.
قيل: في الشفقة في الأولاد الشفقة عليهم إذا أراد الأب أن يأمر له بشيء أن يقول: «خوبت أبي بسر فلان كار بشور»؛ لأنه لو أمره ربما يعلمه الابن فيصير عاقاً، رجل أتى بفاحشة ثم تاب وأناب إلى الله لا ينبغي له أن يخبر الإمام بما صنع لإقامة الحد؛ لأن الستر مندوب.
(5/299)
-----
كتاب التحري
هذا الكتاب يشتمل على فصول:
1 * في مسائل الصلاة
2 * في مسائل الزكاة
3 * في التحري في الثياب والأواني والمساليخ والموتى
4 * في المتفرقات
الفصل الأول في مسائل الصلاة
يجب أن يعلم بأن معرفة جهة الكعبة إما بدليل يدل عليها أو بالتحري عند انعدام الدلالة، فمن الدلائل؛ المحاريب المنصوبة في كل موضع؛ لأن ذلك باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، فإن الصحابة فتحوا العراق، وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب، ثم فتحوا خراسان، وجعلوا القبلة ما بين المغربين؛ مغرب الشتاء ومغرب الصيف، وكانوا يصلون إليها، ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضاً من غير نكير أحد منهم، وكفى بإجماعهم حجة.
ومن الدليل السؤال في كل موضع؛ لأن أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة، ومن الدليل النجوم أيضاً على ما حكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة، ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى، وكان الشيخ الإمام الزاهد رئيس أهل السنة إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يقول: السبيل في معرفة جهة القبلة أن ينظر إلى مغرب الشمس في أطول أيام السنة فيعينه، ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام السنة فيعينه ثم يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره، فيكون مستقبلاً للجهة إذا وجد ذلك الموضع، وعند انقطاع هذه الأدلة فإصابة جهة القبلة بالتحري.
وجملة هذا الفصل على أربعة أوجه:(5/300)
-----
أحدها: إذا صلى إلى جهة من غير شك ولا تحر ولم يخطر بباله وقت التكبير أن هذه قبلة وليست بقبلة، وفي هذا الوجه إن علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك يجزئه؛ لأنه لو لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب يجزئه؛ لأن الجواز أصل فيما يفعله المسلم العاقل، فلأن يجزئه إذا علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك كان أولى. وإن علم أنه أخطأ لا يجزئه؛ لأن الجواز في الوجه الأول بنوع ظاهر من حيث إن الجواز أصل فيما يفعله العاقل المسلم، وهذا نوع ظاهر، والثابت بالدليل فوق الثابت بالظاهر، وكذلك إذا كان أكثر الرأي أنه أخطأ؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم في حق العمل، وهذا كله إذا علم أنه أصاب أو أخطأ بعد الفراغ من الصلاة.(5/301)
فأما إذا علم في خلال الصلاة أنه أصاب القبلة أو كان أكثر رأيه، ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أنه لا يجوز ويلزمه الاستقبال، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: أن فيه اختلاف المشايخ، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: لا يجزئه ويلزمه الاستقبال؛ لأن ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة الماضية؛ لأن التوجه إلى القبلة في الحالة الماضية كان ثابتاً بظاهر الحال وبعدما علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك فالتوجه إلى القبلة ثابت بالدليل، ولا شك أن الثابت بالدليل فوق الثابت باستصحاب الحال، فإذا كان ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة الأولى لم يمكنه بناء الباقي على ما مضى؛ لأن الأقوى لا يجوز أن يبنى على الأضعف، ألا ترى أن المؤمن إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة والأمي إذ ا صار قادراً لا يبني، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد يقول: يجزئه ولا يلزمه الاستقبال؛ لأن صلاته كانت صحيحة في الابتداء لانعدام الدليل المفسد فالتغيير لا تزداد القوة حكماً بخلاف ما بعد الشك؛ لأن هناك صلاته بنيت صحيحة إلا بالتيقن بالأصلية، فإذا شعر أنه أصاب فقد يقوى حاله حكماً فلزمه الاستقبال (104أ2).(5/302)
-----
أما ههنا بخلاف الوجه الثاني إذا اشتبهت عليه القبلة، فلم يتحر وصلى إلى جهة إن علم أنه أخطأ، أو أكثر رأيه ذلك أو لم يعلم أنه أخطأ أوأصاب لا يجزئه، وإن علم أنه أصاب بجهته هذا كله قبل الفراغ من الصلاة، أما إذا لم يعلم أنه أخطأ أو أصاب إنما لا يجزئه؛ لأن التحري افترض عليه حالة الاشتباه شرطاً لجواز الصلاة، فإذا ترك التحري فقد ترك شرطاً من شرائط جواز الصلاة فلا يجزئه كما لو ترك شرطاً آخر، وإذا ظهر الكلام فيما إذا لم يعلم أنه أخطأ أو أكثر رأيه ذلك من طريق الأولى.(5/303)
-----
فرق بين هذا وبين المسألة الأولى، فإن في المسألة الأولى: إذا لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب، فإنه يجزئه ووجه الفرق: أن في المسألة الأولى لم يصر تاركاً شرطاً من شرائط جواز الصلاة؛ لأن التحري إنما يجب حالة الاشتباه، ولم يشتبه عليه أن القبلة في المسألة الأولى أما ههنا اشتبه عليه أمر القبلة، فافترض عليه التحري شرطاً لجواز الصلاة، فإذا ترك ذلك فقد ترك شرطاً من شرائط جواز الصلاة فإن قيل: لو كان تاركاً شرطاً من شرائط جواز الصلاة لكان لا يجزئه، وإن علم أنه أصاب كما لو تحرى ووقع تحريه على جهة فترك تلك الجهة وصلى إلى جهة أخرى. الجواب: التحري ما افترض لعينه وإنما افترض لغيره، وهو إصابة القبلة؛ لأن التحري طلب، والمقصود من الطلب المطلوب لا عين الطلب، فإذا علم أنه أصاب القبلة تبين أن التحري لم يكن فرضاً عليه؛ لأن ما افترض لغيره لا يبقى فرضاً متى حصل المقصود منه بدونه كالسعي إلى الجمعة لا يبقى فرضاً متى حصل المقصود بدونه؛ بخلاف ما لو تحرى ووقع تحريه على جهة فتوجه إلى جهة أخرى؛ لأن هناك لعينه؛ لأن التوجه إلى الجهة التي وقع عليها التحري افترض لعينه؛ لأن هذه الجهة صارت قبلة له بنص الكتاب كالكعبة حالة العيان، والتوجه إلى الكعبة حالة العيان فرض لعينه فكذا التوجه إلى الجهة التي أدى تحريه. ومن ترك من صلاته ما هو فرض لعينه لا تجوز صلاته، وإن أتى بشيء آخر، كما لو ترك ركوعاً وأتى بثلاث سجدات.
فأما إذا كان أكثر رأيه أنه أصاب، وكان ذلك بعد الفراغ من الصلاة هل يجزئه؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الأصل»، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يجزئه؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم، ولو علم أنه أصاب يجزئه، فكذا هنا.(5/304)
-----
الدليل عليه: أن محمداً رحمه الله سوى بين العلم وأكثر الرأي قبل الفراغ من الصلاة، فقال: لو كان أكثر رأيه أنه صلى إلى القبلة قبل الفراغ من الصلاة يلزمه الاستقبال كما لو علم أنه صلى إلى القبلة، ومنهم من قال: لا يجزئه؛ لأن التحري لزمه بيقين، فلا يسقط إلا بيقين مثله، وغالب الرأي لا يوجب علم اليقين فلا يسقط به فرض التحري، وهذا بخلاف ما لو كان أكثر رأيه في الصلاة أنه أصاب، فإنه يلزمه الاستقبال كما لو علم يقيناً؛ لأن أكثر الرأي في الصلاة إما أن يلحق بالعلم أو بالجهل، وبأي ذلك ما ألحقنا يلزمه الاستقبال إن ألحقناه بالعلم، فلأن الحالة الثابتة أقوى من الحالة الماضية، فلا يمكنه البناء على الماضي، وإن ألحقناه بالجهل فلفساد الشروع فأما بعد الفراغ فالتحري كان فرضاً عليه بيقين، فلا يسقط عنه إلا بيقين مثله.
الوجه الثالث: إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي وقع التحري عليها، وفي هذا الوجه تجزئه صلاته، وإن علم أنه أخطأ القبلة، وقال الشافعي رحمه الله: لا تجزئه صلاته، وإذا علم أنه أخطأ القبلة وجه قوله أنه أدى حكماً عن اجتهاده، وقد ظهر خطؤه بيقين فيلزمه الإعادة، كما لو توضأ بماء على ظن أنه طاهر ثم تبين أنه نجس.(5/305)
-----
وجه قول علمائنا رضي الله عنهم حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة وإنه معروف، وإنما مسألة الثوب، وإنا قلنا: القياس في القبلة أن لا يجوز كما في الثوب والماء، إلا أنا تركنا القياس في القبلة بالنص، وماثبت بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره، والنص الوارد في القبلة لا يكون وارداً في الماء والثوب دلالة؛ لأن الصلاة إلى غير القبلة أخف من الصلاة بغير وضوء وفي ثوب نجس؛ لأن التطوع إلى غير القبلة يجوز بالعذر الذي لا تجوز بمثله الصلاة بغير وضوء، ولا في ثوب نجس، فإنه تعذر السير فيما دون السفر يجزئه التطوع إلى غير القبلة، ولا يجزئه بغير طهارة، ولا في ثوب نجس، وإذا كان أخف فالنص الوارد في القبلة بخلاف القياس، ويكون وارداً فيهما دلالة فرد فصل الماء والثوب إلى ما يقتضيه القياس والقياس ما قاله، وهذا إذا كان بعد الفراغ من الصلاة.
فأما قبل الفراغ من الصلاة إذا علم أنه أصاب القبلة فإنه يمضي في صلاته، ولا يستقبل؛ لأن الحالة الثانية مثل الحالة الأولى؛ لأن الجهة التي وقع عليها التحري صارت قبلة بالنص كالكعبة، وإذا كانت الحالة الثانية مثل الأولى لا فوقه أمكنه البناء على الحالة الأولى، ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما تحولت القبلة إلى الكعبة تحولوا إليها، وهم في الصلاة وأجزأتهم صلاتهم؟
الوجه الرابع: إذا شك وتحرى، وأعرض عن الجهة التي وقع تحريه عليها وصلى إلى جهة أخرى لا يجزئه في ظاهر رواية أصحابنا، وروى أبو سليمان الجوزجاني عن أبي يوسف أنه يجوز، وجه ظاهر الرواية ما ذكرنا، وجه رواية أبي سليمان أن التوجه إلى الجهة التي وقع تحريه عليها لم يفترض لعينه بل إنها كعبة حقيقة، فإذا أصاب الكعبة بجهة أخرى فقد حصل المقصود من التوجه إلى الجهة التي وقع تحريه عليها فيسقط فرضه التوجه إليها.(5/306)
-----
ومما يلحق بهذا الفصل إذا صلى إلى الجهة التي وقع تحريه عليها ركعة أو ركعتين، ثم علم أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة الكعبة، ويبني على صلاته، وإذا وقع تحريه إلى جهة فصلى إليها ركعة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى؛ يتحول إلى الجهة الثانية، وكذا في الثالثة، والرابعة، والأصل فيه حديث أهل قباء على ما روينا، واختلف المتأخرون فيما إذا صلى ركعة إلى جهة بالتحري، ثم وقع تحريه على جهة أخرى فصلى إليها ركعة، ثم وقع تحريه على الجهة الأولى، فمنهم من قال ينتقل إلى تلك الجهة أيضاً، ومنهم من قال: يلزمه الاستقبال.
ومما يتصل بهذا الفصل معرفة مكان التحري
ذكر في باب صلاة المريض (104ب2) من الأصل مسألة تدل على أن التحري في باب القبلة كما جوز خارج المصر يجوز في المصر، وصورتها قوم مرضى في بيت بالليل أمهم واحد وصلى بعضهم إلى القبلة، وبعضهم إلى غير القبلة، وهم يظنون أنهم أصابوا يعني تحروا، فصلاتهم جائزة؛ لأنه يجوز ذلك من الأصحاء حالة الاشتباه فمن المرضى أولى، ووجه الاستدلال بها أن محمداً رحمه الله حكم بجواز صلاتهم من غير فصل، بينما إذا كان البيت في المصر أو خارج المصر.(5/307)
-----
وعن أبي يوسف: أن الرجل إذا كان ضيفاً وكان ليلاً، ولم يجد أحداً يسأل فأراد أن يصلي التطوع جاز له التحري، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» مسألة الضيف، فقال: إذا كان الرجل ضيفاً في بيت إنسان فنام القوم، فأراد الضيف أن يتهجد بالليل، وكره أن يوقظهم، وذكر أن بعض مشايخنا قالوا: لا يجوز له التحري، وبعضهم قالوا: إن كان يريد إقامة المكتوبة لا يجوز له التحري، وإن كان يريد التهجد بالليل؛ يجوز له التحري، قال شمس الأئمة الحلواني عن مشايخه إن الصحيح أنه لا يجوز التحري في المصر؛ لأنه يتوصل إلى إصابة الجهة بالسؤال، ويجد من يسأله غالباً، والحكم يبنى على الغالب، قالوا: وما ذكرنا في باب صلاة المريض محمول على البيت الذي يكون في الرباط، ولا يكون .. في .... والمرضى مسافرون.
وفي «فتاوى النسفي»: التحري في المسجد في ليلة مظلمة يجوز حتى لو صلى المغرب في المسجد بالتحري، ثم جيء بالسراج وظهر أنه أخطأ القبلة لا يجب عليه الإعادة سواء كان المسجد له محراب أو لم يكن؛ لأن في مس الحائط لطلب المحراب احتمال الضرر، قال: وهذا جواب السيد الإمام أبي شجاع، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني، وفي النهار لا يجوز.(5/308)
-----
وفي كتاب التحري: رجل دخل مسجداً لا محراب فيه، وقبلته مشكلة، وفيه قوم من أهله فتحرى هذا الرجل القبلة وصلى، ثم تبين أنه أخطأ فعليه أن يعيد الصلاة، وإن علم أنه أصاب جازت صلاته؛ لأن السؤال من أهله ما افترض لعينه، بل لإصابة القبلة، فإذا أصاب فقد حصل المقصود بدونه فيجوز، ألا ترى أنه قد صلى بعد الشك بدون التحري؛ لأن التحري ما افترض بعينه بل لإصابة الكعبة، فإذا أصاب فقد حصل المقصود، قال في كتاب التحري عقيب ذكر هذه المسألة: وهو نظير من أتى حياً من الأحياء ولم يجد ماءً فتيمم وصلى، ثم وجد الماء فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم لا يجوز له التيمم، وإن كان في الحي قوم من غير أهله فلم يسألهم، أو سألهم فلم يخبروه، أو لم يكن بحضرته من يسأله جازت صلاته، وذكر القدوري في «شرحه» عن محمد رحمه الله فيمن بان له الخطأ بمكة بأن كان به محبوساً في بيت فاشتبهت عليه القبلة فتحرى، فلم يكن عنده من يسأله أنه لا إعادة عليه قال ثمة: وهو الأقيس؛ لأنه إذا كان محبوساً في بيت وانقطع عنه سائر الأدلة تعين عليه التحري، فقد أتى بما أمر به فيجوز، قال ثمة: وقال أبو بكر الرازي: عليه الإعادة؛ لأنه تيقن بالخطأ بمكة؛ لأن القبلة بمكة مقطوع بها، قال ثمة: وكذلك لو كان بالمدينة؛ لأن القبلة بالمدينة مقطوع بها؛ نصبها رسول الله عليه السلام بالوحي بخلاف سائر البقاع.h
الفصل الثاني في مسائل الزكاة
وإذا دفع الرجل زكاة ماله إلى رجل، ولم يخطر بباله عند الدفع أنه غني أو فقير؛ جاز الأداء إلا إذا علم أنه غني، وإن دفع إلى رجل ظن أنه فقير من غير أن يستدل على كونه فقيراً بما جعل أمارة على الفقر، فالجواب فيه كالجواب في الفصل الأول، ومعنى المسألة أنه لم يشك في أمر المدفوع إليه، بل كما رآه وقع في قلبه أنه فقير.(5/309)
-----
وإن اشتبه عليه حال المدفوع إليه، فدفع إليه بعدما تحرى، ووقع في أكثر رأيه أنه فقير أو أخبره المدفوع إليه أو أخبره عدل آخر أنه فقير، أو رآه في زي الفقراء، أو رآه جالساً في صف الفقراء، أو رآه يسأل الناس، ووقع في قلبه أنه فقير، وفي هذه الوجوه كلها إن علم أنه فقير أو أكثر رأيه أنه فقير، أو لم يعلم شيئاً، أو علم أنه غني، أو كان أكثر رأيه أنه غني؛ جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، وعند أبي يوسف الجواب كذلك إلا في وجه واحد؛ وهو ما إذا علم أنه غني؛ فإن في هذه الصورة: لا يجزئه عن زكاة ماله عند أبي يوسف، قال شيخ الإسلام: وله أن يسترد ما دفع إليه، وهو خلاف الرواية، فالرواية منصوصة عن أبي يوسف أنه لا يملك الاسترداد.
ثم إن محمد رحمه الله جمع بين فصول خمسة، بينما إذا أخبره المدفوع إليه أو عدل آخر أنه فقير، أو رآه في زي الفقراء أو جالساً في صف الفقراء، أو رآه يسأل الناس، ووقع في قلبه أنه فقير؛ ذكر هذا الشرط، وهو الوقوع في قلبه أنه فقير فيما إذا رآه يسأل الناس، ولم يذكره في الفصول الأخر، وإنه شرط في الفصول الأخر أيضاً، وهكذا ذكر في «النوادر» بعض الفصول الأخر مع هذا الشرط؛ وهذا لأنه إذا وقع في قلبه صدقه كان بمنزلة التحري.
ثم على قول أبي حنيفة ومحمد: إذا ظهر أن المدفوع إليه غني، وجازت الصدقة عند أبي حنيفة ومحمد هل يحل للقابض؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: لا يطيب، وقال بعضهم: يطيب، وقال بعضهم: يرد إلى المعطي على وجه التمليك.(5/310)
-----
ثم المعطي هل يثاب على ذلك؟ قال بعضهم: يثاب ثواب المجاملة مع الناس والبر بهم، ولا يثاب ثواب الصدقة، واستشهد في «الكتاب» حجة لأبي يوسف في المسألة المختلفة، قال: هو بمنزلة رجل توضأ بماء وصلى، ثم تبين أنه كان غير طاهر، وذكر أن هذا يجزئه ما لم يعلم، فإذا علم عاد، قال شمس الأئمة الحلواني: وتحت هذا اللفظ فائدة عظيمة، فإنه جعل تلك الصلاة مجزئة ما لم يعلم أنها فاسدة في الحقيقة قال رحمه الله: وكذلك كل صلاة وقعت فاسدة، وهو يظن أنها وقعت جائزة، فمات قبل العلم لم يعاقب، والعبرة لما عنده لا بما عند الله، قال رحمه الله: ونظيره ما روي عن أبي يوسف فيمن اشترى جاريته وطأها مراراً، ثم استحقت إن وطأها حلال له، ولا يسقط إحصانه؛ لأنه وطئها وعنده أنها ملكه فاعتبر ما عنده، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد: الوطء حرام، إلا أنه لا إثم عليه.
وإذا شك في حال المدفوع إليه فدفع إليه من غير تحر إن ظهر أنه غني، أو وقع في أكثر رأيه أنه غني، أو لم يعلم شيء لا يجوز، وإن ظهر أنه فقير يجوز، وإن وقع في أكثر (105أ2) رأيه بعد ذلك أنه فقير اختلف المشايخ فيه، أكثرهم على أنه لا يجوز، وأما إذا اشتبه عليه حال المدفوع إليه، وتحرى ووقع في أكثر رأيه أنه غني، فدفع إليه مع ذلك لا يجزئه ما لم يعلم فقره، وإذا علم أنه فقير اختلف المشايخ فيه على ثلاثة أقاويل: بعضهم قالوا: يجوز إجماعاً، وبعضهم قالوا: لا يجوز إجماعاً، وبعضهم قالوا: عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز على عكس ما ذكرنا من الاختلاف، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح هو الجواز.(5/311)
-----
ثم في المسألة المختلفة بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف، لو ظهر أن المدفوع إليه أب الدافع، أو ابنه كان على الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، لو ظهر أن المدفوع إليه هاشمي كان على الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر في «جامع البرامكة» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإن ظهر أن المدفوع إليه ذمي، كان على هذا الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر أبو يوسف في «الأمالي» عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وإن ظهر أنه حربي مستأمن ذكر في «نوادر الزكاة» أنه على هذا الخلاف، وذكر في «جامع البرامكة» عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وإن ظهر أنه حربي غير مستأمن لا يجوز عند أبي حنيفة باتفاق الروايات، وإن ظهر أنه عبده لا يجزئه إجماعاً، وإن ظهر أنه مكاتبه فعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان.
الفصل الثالث في التحري في الثياب، والمساليخ، والأواني، والموتى
إذا كان مع الرجل ثوبان، أو ثياب، والبعض نجس، والبعض طاهر، فإن أمكن التمييز بالعلامة يميز، وإن تعذر التمييز بالعلامة إن كانت الحالة حالة الاضطرار بأن لا يجد ثوباً طاهراً بيقين، واحتاج إلى الصلاة، وليس معه ما يغسل به أحد الثوبين أو أحد الأثواب يتحرى، وإن كانت الحالة حالة الاختيار إن كانت الغلبة للنجس أو كانا على السواء لا يتحرى، ثم في حالة الاضطرار إذا وقع تحريه في الثوبين على أحدهما أنه طاهر فصلى فيه الظهر، ثم وقع أكثر رأيه على الآخر أنه هو الطاهر فصلى فيه العصر لم يجزه العصر، فإن لم يحضره تحر أو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى في أحدهما الظهر، وفي الآخر العصر، ثم نظر فإذا في أحدهما قذر، ولا يدري أهو الأول أو الآخر، فصلاة الظهر جائزة، وصلاة العصر فاسدة.(5/312)
-----
وفي «النوادر»: إذا كان أحد الثوبين نجساً فصلى في أحدهما الظهر من غير تحر، وصلى في الآخر العصر، ثم وقع تحريه على أن الأول طاهر قال أبو حنيفة رضي الله عنه: هذا لم يصل شيئاً، وقال أبو يوسف: صلاة الظهر جائزة.
وأما الثوب الواحد إذا أصاب طرفاً منه نجاسة مانعة جواز الصلاة، وهي غير مرئية، هل يجوز له أن يتحرى طرفاً منه فيغسله؟ بعض المتأخرين من مشايخنا جوزوا ذلك، وبعضهم قالوا: إذا غسل طرفاً منه من غير تحر وصلى فيه لا يحكم بفساد صلاته، وتأولنا للمشايخ خلاف ما ذكره هشام في «نوادره» عن محمد، فقد ذكر ثمة: أنه لا يجوز التحري في ثوب واحد، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي: ونظير هذه المسألة مسألة أخرى لا يحفظ جوابها أن الحنطة التي تدلس بالخمر فيبول ويروث وتصب بعض الحنطة ويخلط ما أصيب منها بغيرها قالوا: لو عزل بعضها وغسل، ثم خلط الكل أبيح تناولها، وكذلك لو عزل بعضها ووهبه من إنسان أو باعه منه أو تصدق به عليه حل له تناول البقية ويباح للموهوب له، والمشتري والمتصدق عليه تناولها أيضاً.
ونظير هذا مسألة في «النوادر»: رجلان في السفر معهما ثوبان؛ أحدهما طاهر والآخر نجس، فصلى أحدهما في ثوب بالتحري، وصلى الآخر في الثوب الآخر بالتحري؛ تجوز صلاة كل واحد منهما، ولو أم أحدهما، واقتدى به الآخر، فصلاة الإمام جائزة دون صلاة المقتدي.
ونظيره مسألة أخرى: رجلان تلاعبا، فسال من أحدهما قطرة دم، وجحد كل واحد منهما أن ذلك منه، فصلى كل واحد منهما منفرداً، جازت صلاته، ولو اقتدى أحدهما بالآخر لا تجوز صلاة المقتدي.
(5/313)
-----
ومن هذا الجنس مسألة أخرى: ثلاثة نفر تلاعبوا، فسال من أحدهم قطرة دم أو فسى أحدهم أو ضرط، ثم تجاحدوا جميعاً، ثم أم أحدهم في الظهر، والثاني في العصر، والثالث في المغرب، فصلاة الظهر جائزة للكل ولا تجوز صلاة المغرب لإمام الظهر والعصر رواية واحدة، وفي إمام المغرب روايتان؛ وقال أبو القاسم الصفار: تجوز الصلوات كلها.
وإذا تحرى في الثياب ووقع تحريه على أحدهما أنه طاهر، وصلى فيه، ثم تبين أنه أخطأ؛ تلزمه الإعادة بخلاف أمر القبلة.
إذا كان في السفر ومعه أوان بعضها نجسة، وبعضها طاهرة إن كانت الغلبة للطاهرة يجوز التحري حالة الاختيار وحالة الاضطرار، للشرب والوضوء جميعاً، وإن كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء إن كانت الحالة حالة الاختيار للتحري لا للشرب، ولا للوضوء، وإن كانت الحالة حالة الاضطرار أن يتحرى للشرب بالإجماع، ولا يتحرى للوضوء عندنا، ولكنه يتيمم، فإن توضأ بالماءين إن مسح موضعاً واحداً في المرتين لا يجزئه، وإن مسح موضعين يجزئه.
وههنا مسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط»: إذا اختلط إناؤه بأواني أصحابه في السفر، وهم غيب، قال بعضهم: يتحرى، ويأخذ آنيته ويتوضأ به بمنزلة طعام مشترك بين جماعة غاب أصحابه واحتاج الحاضر إلى نصيبه، رفع قدر نصيبه، وكذلك رغيفه إذا اختلط بأرغفة صاحبه قال بعضهم: يتحرى، وقال بعضهم: لا يتحرى في الأرغفة ولكن يتربص حتى يجيء أصحابه، وهذا كله في حالة الاختيار، أما في حالة الاضطرار جاز التحري في الأحوال كلها.(5/314)
-----
إذا كان للرجال مساليخ؛ بعضها ذبيحة، وبعضها ميتة إن أمكن التمييز بالعلامة يميز في الوجوه كلها، ويباح التناول، وإن تعذر التمييز بالعلامة، فإن كانت الحالة حالة الاضطرار ويعني به أنه لا يجد كسرتيّن واضطر إلى الأكل يتناول بالتحري على كل حال، وإن كانت الحالة حالة الاختيار، فإن كانت الغلبة للحرام أو كانا سواء لم يجز التناول بالتحري، وإن كانت الغلبة للحلال يتناول بالتحري، وليس هذا كالمطلقة ثلاثاً إذا اختلطت بغيرها من الإماء، والغلبة للحلال فإن هناك لا يطأ واحدة منهن بالتحري، ولو متن إلا واحدة لا يطؤها (105ب2) والزيت إذا اختلط به ودك الميتة إن كانت الغلبة للحرام أو كانا على السواء لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه، وإن كانت الغلبة للزيت لا يحل الأكل، ويحل ما عداه من الاستعمال، ودبغ الجلد به والبيع شرط أن يبين عنده.
إذا اجتمع موتى المسلمين وموتى الكفار، فإن أمكن التمييز بالعلامة تميز، وإن تعذر التمييز بالعلامة؛ إن كانت الغلبة للمسلمين يغسلون ويكفنون، ويدفنون في مقابر المسلمين، وإن كانت الغلبة للكفار لم يصل عليهم ويغسلون ويكفنون ويدفنون في مقابر المشركين، وإن كان سواء فكذلك الجواب لا يصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المشركين، قيل: عند أبي يوسف يدفنون في مقابر المسلمين، وقال الفقيه أبو جعفر: تجد لهم مقبرة على حدة.
(5/315)
الفصل الرابع في المتفرقات
-----
رجل أم قوماً في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة، فصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه، وصلى بعضهم إلى القبلة، وبعضهم إلى دبر القبلة، وكلهم خلف الإمام، ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم، وهذا إذا كان عند كل واحد منهم أن وجه الإمام إلى هذا الجانب الذي إليه وجهه، ولم يتقدم على الإمام، أما إذا كان عند واحد منهم أن وجه الإمام إلى جهة أخرى، أو هو تقدم على إمامه لا تجوز صلاته، أما إذا كان عنده أنه تقدم على إمامه فظاهر، وأما إذا كان عنده أن وجه إمامه إلى جانب آخر، فلأنه زعم فساد صلاة إمامه لما أنه زعم أنه ترك القبلة، وهذا بخلاف ما لو صلوا في جوف الكعبة، فإنه تجوز صلاة الكل من كان وجهه إلى الجانب الذي إمامه إليه، ومن كان وجهه إلى جانب آخر؛ لأن هناك أحد لم يزعم فساد صلاة الإمام لما أنه ترك القبلة؛ لأن كل جهة حق بيقين، أما ههنا الجهات كلها ليست بحق بيقين بل الحق جهة واحدة، ولهذا أمر بالتحري، ولو كانت كل جهة حقاً لما احتيج إلى التحري، إنما الحق عند كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وما عند صاحبه خطأ، وكثير من مسائل التحري ذكرناها في أول كتاب الاستحسان فلا نعيده.(5/316)
-----
قال محمد رحمه الله في «السير الكبير»: ولا يخرج الرجل إلى الجهاد وله أم أو أب إلا بإذنه؛ إلا في النفير العام، وهذا استحسان، وإن كان أبواه كافرين أو أحدهما، وكرها له ذلك، أو كره الكافر؛ فليتحر في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه إنما كره لما يلحقه من المشقة لأجل ما يخاف عليه من القتل، فإنه لا يخرج من غير إذنهما، وإن وقع تحريه على أنه إنما كرهه كراهة أن يقاتل مع أهل دينه وملته يخرج بغير إذنهما، وإن لم يقع تحريه على شيء بل شك في ذلك، ومعناه استواء الظنين، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب»، قالوا: وينبغي أن لا يخرج؛ لأن طاعة الوالدين على الولد واجب بيقين وقع الشك في سقوطها، فلا يسقط بالشك، واستدلوا بما ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب طاعة الوالي: أن الإمام إذا أمر الجند بشيء وشكوا أنهم ينتفعون به أو يتضررون، وتساوى الظنان أن عليهم أن يطيعوا الأمير؛ لأن طاعة الأمير واجب بيقين وقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك.
وفي «مجموع النوازل»: إذا اشتبهت عليه القبلة في مفازة، فتحرى ووقع تحريه على جهة، فأخبره عدلان أن القبلة إلى جهة أخرى، فإن كانا مسافرين لا يلتفت إلى قولهما؛ لأنهما يقولان عن اجتهاد، ولا يجوز للمجتهد ترك اجتهاده باجتهاد غيره، أما إذا كانا من أهل ذلك الموضع لا يجوز له إلا أن يأخذ بقولهما؛ لأن خبرهما فوق اجتهاده.
(5/317)
-----
وفيه أيضاً: رجل صلى في مفازة بالتحري، فاقتدى رجل به، ولم يتحرَ المقتدي، ثم ظهر أن الإمام أصاب القبلة؛ جازت صلاتهما، وإن ظهر أنه أخطأ لم تجز صلاة المقتدي، وجازت صلاة الإمام؛ لأن تحري الإمام لا يصير تحرياً للمقتدي، فصار المقتدي مصلياً بغير تحر عند اشتباه القبلة فلا يجوز. وفيه أيضاً: قوم صلوا في مفازة بالتحري؛ وفيهم مسبوق ولاحق، فلما فرغ الإمام من الصلاة قاما يقضيان، فظهر الخطأ في القبلة أمكن للمسبوق إصلاح صلاته دون اللاحق؛ لأن المسبوق فيما يقضي ينفرد، وللمنفرد أن ينتقل إلى ما تحول رأيه إليه بخلاف اللاحق؛ لأنه في الحكم كأنه خلف الإمام، فليس له أن يخالف الإمام في الجهة.
رجلان خرجا إلى المفازة، فجاء أوان الصلاة فتحريا، ووقع تحري كل واحد إلى جهة غير جهة صاحبه، فافتتح كل واحد منهما الصلاة منفرداً بالتحري، ثم بدا لأحدهما في وسط الصلاة أن يتحول إلى جهة صاحبه فتحول واقتدى به، فإن استقبل التكبير جاز، وما لا فلا.
في متفرقات شمس الأئمة الحلواني: الأعمى إذا صلى ركعة إلى غير القبلة فجاء رجل وسواه، وأقامه إلى القبلة واقتدى به، إن وجد الأعمى وقت الافتتاح من يسأل عنه لا تجوز صلاة الإمام، ولا صلاة المقتدي، وإن لم يجد من يسأل تجوز صلاة الإمام؛ لأنه معذور، ولا تجوز صلاة المقتدي؛ لأن في زعمه أن أول صلاة الإمام إلى غير القبلة والله أعلم. تم كتاب التحري من المحيط البرهاني بحمد الله تعالى.
كتاب اللقيط
هذا الكتاب يشتمل على خمس فصول:
1 * في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض
2 * في بيان أحكامه
3 * في بيان من يلي عليه
4 * في دعوى نسب اللقيط ورقه
5 * في تصرفات اللقيط بعد البلوغ
(5/318)
الفصل الأول في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض
-----
الفصل الأول: في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض، المذهب لعلمائنا رضي الله عنهم في اللقيط أنه حر إما باعتبار الدار؛ لأن الدار دار أحرار، أو باعتبار الأصل، فإن الأصل في الآدمي الحرية، والعبرة في حق الدين على رواية كتاب اللقيط من «الأصل» للمكان لا للواجد حتى لو وجد في مكان الكافرين يحكم بكفره سواء كان الواجد مسلماً أو كافراً، وعلى بعض رواية كتاب الدعوى من «الأصل» العبرة للواجد، وعلى بعض رواية كتاب الدعوى من «الأصل»، وكتاب العتاق العبرة لما يوجب الإسلام أيما كان، وفي «المنتقى»: يعتبر الزي حتى إنه إذا كان عليه زي أهل الشرك يحكم بكفره وحده يعتبر دين الواحد
ونقول الملتقط: إذا كان ذمياً (106أ2) وزي اللقيط مشكل، فادعاه نصراني، فهو ابنه، وهم على دينه ولا ينظر في ذلك إلى الموضع الذي وجده فيه إن كان مسجداً أو غيره، ورفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغير، وقد قال عليه السلام: «من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا، فليس منا» قالوا: وهذا إذا كان يخاف عليه لا محالة بأن وجده واقعاً في الماء أو بين يدي سبع يفترض عليه الأخذ، وإذا جاء الملتقط باللقيط إلى القاضي، فطلب من القاضي أن يأخذه منه، فللقاضي أن لا يصدقه في ذلك بدون بينة يقيمها على أنه لقيط؛ لأنه منهم، فلعله ولده أو بعض من يلزمه نفقته، واحتال بهذه الحيلة ليدفع النفقة عن نفسه، وإذا أقام البينة على ذلك، فالقاضي يقبل من غير خصم حاضر، إما لأن هذه بينة قامت لكشف الحال، أو لأنها غير ملزمة، والخصم في مثل هذا ليس بشرط.(5/319)
-----
وإذا قبل القاضي منه إن شاء قبض اللقيط منه، وإن شاء لم يقبضه منه، ولكنه يوليه ما تولى ويقول: قد ألزمت حفظه، فأنت وما ألزمت، وليس لك أن تلزمني ما لم ألتزمه، وهذا إذا لم يعلم القاضي عجزه عن حفظه، والإنفاق عليه، فأما إذا علم فالأولى أن يأخذ منه نظير اللقيط، وإذا أخذ منه يضعه على يدي عدل ليحفظه، فإن جاء الأول بعد ذلك وسأل من القاضي أن يرده عليه، فالقاضي بالخيار؛ إن شاء رده عليه، وإن شاء لم يرد، وهذا بخلاف ما لو التقط لقيطاً فجاء آخر وانتزعه من يده، ثم اختصما، فالقاضي يدفعه إلى الأول؛ لأن في الفصل الأول الملتقط أسقط يده باختياره، وصار حاله كحال غيره من الناس في طلب الرد عليه، ولا كذلك الفصل الثاني.
وإذا وجد العبد لقيطاً، ولم يعرف ذلك إلا بقوله، وقال المولى: كذبت بل هو عبدي، فالقول قول المولى إن كان العبد محجوراً، وإن كان مأذوناً فالقول قول العبد؛ لأن العبد بقوله هذا اللقيط في يدي يخبر بسقوط حق مولاه عنه؛ لأنه العبد المحجور لا قول له في إسقاط حق المولى عما في يده، ألا ترى أنه لو أقرَّ على نفسه بدين لا يسقط به حق المولى عما في يده بخلاف المأذون.
(5/320)
الفصل الثاني في بيان أحكامه
-----
شهادة اللقيط بعدما أدرك جائز إذا كان عدلاً وحكم جنايته، والجناية عليه كحكم غيره من الأحرار؛ لأنا حكمنا بحريته باعتبار الظاهر، ويحد قاذفه في نفسه، ولا يحد قاذفه في أمه؛ لأن أمه في صورة الزانيات؛ لأن الولد لا يعرف له والد، ولا كذلك نفسه، وميراثه للمسلمين، وعقله ونفقته في بيت مال المسلمين، وإذا وجد مع اللقيط مال فذلك المال له لسبق يده إليه، ونفقته في ذلك بأمر القاضي، وللملتقط أن ينفق عليه منه، وقيل: ينفق بعد أمره أيضاً، وهو مصدق في نفقة مثله، وكذلك إذا وجد على دابة فالدابة له، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» أن اللقيط إن كان بحال يستمسك على الدابة، ولا يشد عليها فالدابة له، وإن كان لا يستمسك على الدابة، وشد عليها، فالدابة لا تكون له.
الفصل الثالث في بيان من يلي عليه
الولاية على اللقيط للإمام: قال عليه السلام: «السلطان ولي من لا ولي له» ولا يجوز للملتقط عليه عقد نكاح ولا عقد بيع ولا شراء؛ لأن هذه التصرفات تعتمد الولاية، ولا ولاية للملتقط على اللقيط، إنما له حق الحفظ والتربية، لكونه منفعة محضة في حق اللقيط، وبهذا السبب لا تثبت الولاية، وإن وجد مع اللقيط مال، وأمر القاضي الملتقط بالإنفاق عليه من ذلك المال فما اشترى له من طعام أو كسوة فذلك جائز؛ لأن القاضي لما أمره أن ينفق عليه من ذلك المال فقد أمره بأن يشتري له ما يحتاج إليه من الطعام والكسوة، والقاضي يملك ذلك بنفسه، فيملك الملتقط أيضاً بأمره، وإذا قتل اللقيط خطأ تجب الدية على عاقلة القاتل، وتكون لبيت المال.(5/321)
-----
وإن قتل هذا فصالح الإمام القاتل على الدية جاز، ولو عفى عن القاتل لا يجوز، ولو أراد أن يقتل القاتل فلا يمكن عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وإنما كان له استيفاء القصاص في قولهما؛ لأن القصاص في الأصل شرع بملك الحياة على ما قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) وذلك بطريق الزجر، حتى إذا تفكر الرجل في نفسه أنه لو قتل غيره يقتل، ينزجر عن قتله، فيكون حياة لهما جميعاً، وذلك موجود في اللقيط، فكان للإمام أن يستوفي القصاص، وإن شاء مال إلى الدية؛ لأنه مجتهد فيه، وليس له أن يعفو؛ لأنه نصب لاستيفاء حقوق المسلمين لا لإبطالها.
وإذا أنفق الملتقط على اللقيط من مال نفسه؛ إن أنفق بغير أمر القاضي فهو في ذلك متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي إن كان القاضي أمره بالإنفاق على أن يكون ديناً عليه؛ فإن ظهر له أب كان للملتقط حق الرجوع على أبيه، وإن لم يظهر له أب فله حق الرجوع عليه إذا كبر، وبناءً عليه ذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتان، وذكر شمس الأئمة السرخسي ووجهه: أن مطلق الأمر بالإنفاق محتمل يحتمل أن يكون للتحبب والترغيب في إتمام ما شرع فيه من التبرع، وإنما ينقطع هذا الاحتمال بالأمر على أن يكون ديناً عليه.d
وإذا بلغ اللقيط وصدق الملتقط فيما ادعى من الإنفاق عليه رجع عليه بذلك، وإن كذبه كان القول قول اللقيط، وعلى الملتقط البينة، كأنه يدعي ديناً لنفسه على اللقيط، وهو ينكر، وفي «المنتقى»: لو جعل الإمام ولاء اللقيط للملتقط جاز؛ لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه، فإن من العلماء من قال بأن الملتقط يشبه المعتق من حيث أنه اختاره كالمعتق والله أعلم.
(5/322)
الفصل الرابع في دعوى نسب اللقيط ورقه
-----
إذا ادعى الملتقط نسب اللقيط فالقياس أن لا تصح دعوته لمكان التناقض، فإنه زعم أنه التقط وابنه لا يكون لقيطاً، ولأن هذا إقرار على اللقيط فإنه يلزمه أحكام النسبة، والإقرار على الغير لا يصح، وفي الاستحسان: تصح دعوته؛ لأن هذا إقرار على نفسه من وجه من حيث أنه يلزمه نفقته، ويجب عليه أن يحفظه، أو إن كان إقراراً على اللقيط فهو إقرار عليه (106ب2) بما ينفعه من كل وجه، وبالالتقاط ثبت وبهذه الولاية، وما يقول بأنه متناقض قلنا: نعم، ولكن فيما طريقه طريق الخفاء، فقد يشتبه على الإنسان حال ذلك الصغير، ويظن أنه لقيط، ثم يتبين له بعد ذلك أنه ولده، فإن ادعاه رجل آخر، فالمسألة على القياس والاستحسان أيضاً، وهذا قياس أحق؛ لأن المدعي يريد أن يأخذه من يد اللقيط، ويبطل عليه ما ثبت من الحق.
وإذا مات اللقيط، وادعى رجل أنه ابنه لا تصح دعوته، فعلى جواب الاستحسان فرق بين حالة الحياة، وبين ما بعد الموت؛ لأن في حالة الحياة إنما صحت دعوته؛ لأنه أقر بما ينفع اللقيط من كل وجه، وهو النسب، وبالموت استغنى عن النسب، ففي كلامه دعوى الميراث فلا يصدق إلا بحجة، ولو ادعى الملتقط أن اللقيط عبده لم يصدق على ذلك؛ لأنا حكمنا بحريته ظاهراً فلا يبطل ذلك لمجرد قوله.
ولو ادعى رجل أنه ابنه من امرأته هذه أو من أمته هذه وصدقته المرأة أو الأمة فهو ابنهما، فقد شرط تصديق الزوجة والأمة، أما تصديق الزوجة فظاهر؛ لأنه أقر عليها بما يلزمها من حقوق النسب، وإقرار الإنسان على زوجته لا يصح إلا بتصديقها، وأما تصديق الأمة فلأنه وإن أقر على مملوكه ولكن بما يلزمها في الحال وبعد الحرية، فإن حقوق النسب كما يلزمها في الحال، يلزمها بعد الحرية، وإقرار المالك على مملوكه بما يلزمها بعد الحرية لا يصح إلا بتصديق المملوك.(5/323)
-----
ولو ادعاه عبد أنه ابنه من امرأته هذه، وهي أمة وصدقته المرأة، وصدقها المولى وقال: هو عبدي؛ ثبت النسب، وكان اللقيط مملوكاً لولي الأمة، وهذا قول أبي يوسف؛ لأن من ضرورة ثبوت النسب من الأمة أن يكون مملوكاً، وعند محمد رحمه الله هو حر؛ لأنا حكمنا بثبات نسبه؛ لأنه ينفعه، وليس في إبطال الحرية الثانية من حيث الظاهر نفع بل فيه ضرر، فثبت نسبه من الرجل، ولا يجعل ابن امرأته هذه.
فلو ادعت امرأة اللقيط أنه ابنها وهي حرة أو أمة لن تصدق على ذلك إلا ببينة، فإن أقامت امرأة واحدة على أنها ولدته قبل ذلك منها إذا كانت عدلة حرة؛ أطلق الجواب ولم يفصل، بينما إذا كان لها زوج؛ لأنها تحمل النسب على فراش الغير، أما إذا لم يكن لها زوج فلا تحتاج إلى البينة، وهي والرجل سواء، ومن المشايخ من أجرى المسألة على إطلاقها، وقال: الحكم في حقها ثبت بحقيقة الولادة وللقابلة وقوف عليها، فلا بد من إقامتها لقبول قولها، فأما في جانب الرجل الحكم منقطع عن الحقيقة، وعلق بالسبب الظاهر، فكان قوله مقبولاً.
فلو ادعى اللقيط ذمي فالقياس على الاستحسان الذي ذكرنا في المسألة أنه لا يصدق، وفي الاستحسان يصدق، ويثبت نسبه منه ويكون مسلماً، ووجه ذلك: أن إثبات النسب يقع، وإثبات التبعة في الدين ضرر، فالنفع ينفصل عن الضرر، فحصلنا النفع ونفينا الضرر.(5/324)
-----
وفي «المنتقى»: الحسن عن أبي حنيفة ويقبل على الملتقط المسلم الشهود، النصارى لمسلم أو نصراني في قولهم جميعاً، يريد به إذا كان الملتقط مسلماً، فادعى مسلم أو نصراني أنه ابنه، وأقام على ذلك شهود نصارى يقبل منه، قال أبو الحسن: هذا الجواب مستقيم فيما إذا كان الملتقط ديناً غير مستقيم، فيما إذا كان الملتقط مسلماً؛ لأنها توجب استحقاق الملتقط، وشهادة أهل الذمة لاستحقاق الله على المسلمين لا تقبل، قيل: أيضاً هذا الجواب يأتي على طريق القياس؛ لأن على طريق الاستحسان النسب ثابت بالدعوة بدون الثلاثة فلا حاجة إلى الثلاثة.
وإن ادعاه رجلان ثبت النسب منهما، ولو سبق أحدهما بالدعوة فهو للسابق، ولا تقبل دعوى الآخر بعد ذلك، إلا أن يقيم الآخر بعد ذلك بينة أنه ابنه؛ لأن السبق في الدعاوي لا يقاوم البينة، وإن ادعاه امرأتان فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا يثبت النسب من واحدة منهما؛ لأن ثبات النسب من جانبهما على حقيقة الولادة، واجتماع المرأتين على ولادة ولد واحد لا يكون بخلاف جانب الرجل؛ لأن الحكم في حقه منقطع عن الحقيقة، مبني على السبب وهو الفراش، وأما على قول أبي حنيفة فالنسب ثبت من المرأتين، ولكن لا بد له من حجة عند التعارض والتنازع، والحجة شهادة امرأة واحدة على رواية أبي حفص حتى أنه إذا قامت كل واحدة منهما امرأة ثبت النسب، فهو على رواية أبي حفص وعلى رواية أبي سليمان: الحجة شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فإن أقاما ذلك ثبت منهما، وما لا فلا.(5/325)
-----
وإذا ادعاه الملتقط ورجل آخر فالملتقط أولى، وإذا ادعا اللقيط رجلان كل واحد منهما يدعي أنه ابنه ووصفه أحدهما بعلامات في جسده، وأصاب النسب الآخر قضي للذي وصف، وجعل إصابة الوصف علامة صدقه في دعوته، وإن لم يصب واحد منهما فهو ابنهما، ولو وصفا فأصاب أحدهما دون الآخر قضي للذي أصاب، وكذلك لو قال أحدهما: هو غلام، وقال الآخر: هو جارية يقضى للذي أصاب، ولو تفرد رجل بالدعوة وقال: هو غلام، فإذا هو جارية، أو قال: هو جارية، فإذا هو غلام لا يقضى له أصلاً.
ولو ادعاه رجل أنه ابنه من هذه المرأة الحرة، وادعى آخر أنه جده، وأقاما البينة قضي للذي ادعى البنوة، وإن ادعى أحدهما أنه ابنه من هذه المرأة الحرة، وادعى الآخر أنه ابنه من هذه المرأة الأمة قضي للذي ادعا النسب من المرأة الحرة، ولو أقام كل واحد منهما بينة أنه ابنه من هذه المرأة الحرة عين كل واحد منهما امرأة أخرى؛ قضي بالولد بينهما، وهل يثبت نسب الولد من المرأتين؟ فعلى قول أبي حنيفة يثبت، وعلى قولهما لا يثبت، وإذا ادعى نسبه رجلان وَوَقّتَ بينة كل واحدة منهما، فإن عرف أن الصبي على أحد الوقتين قضي له، وإن كان سن الصبي مشكل يحتمل أن يكون على كل واحد من الوقتين فعلى قول أبي يوسف ومحمد يسقط التاريخ، ويقضى بينهما باتفاق الروايات، فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فقد ذكر شيخ الإسلام أنه اختلفت الروايات على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، ذكر في رواية أبي حفص رضي الله عنه أنه يقضي بينهما، وذكر في رواية أبي سليمان (107أ2) أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً، وذكر شمس الأئمة الحلواني ذكر في عامة الروايات أنه يقضى بينهما، وذكر في بعض الروايات أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً، قال محمد رحمه الله: والصحيح ما ذكر في عامة الروايات.
(5/326)
-----
وفي «القدوري»: ادعى اللقيط مسلم وذمي؛ قضي للمسلم؛ لأن منفعة الصبي فيه أكثر، وكذلك إذا شهد للمسلم ذميان، وشهد للذمي مسلمان قضي للمسلم؛ لأن شهادة كل واحد من المدعيين حجة على صاحبه واستويا فكان المسلم أولى، وفي «الأصل»: إذا التقطه ذميين وتنازعا في كونه عبداً لأحدهما قضي به للمسلم والله أعلم.
الفصل الخامس في تصرفات اللقيط بعد البلوغ
اللقيط إذا والى الملتقط أو رجلاً آخر بعدما أدرك جاز، وهذا إذا لم يتأكد ولاؤه أثبت المال، فأما إذا تأكد بأن حق حمايته وغفل عنه ببيت المال لا تجوز موالاته، وإذا بلغ كافراً وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين يجبر على الإسلام.... ولا يفيد استحساناً؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعاً للمكان، وكل من حكم بإسلامه تبعاً للمكان، وكل من حكم بإسلامه تبعاً إذا بلغ كافراً يجبر على الإسلام، ولكن لا يعقل استحساناً كالولد المولود بين المسلمين إذا بلغ كافراً، وإذا أقر بالرق لغيره في ذلك كان عبداً له، قالوا: وهذا إذا لم تتأكد حريته بقضاء القاضي عليه بما لا يقضى به إلا على الأحرار كالحد الكامل أو القصاص في الطرق أو ما أشبه ذلك، أما إذا تأكد حريته بقضاء القاضي لم يقبل إقراره بالرق بعد ذلك.(5/327)
-----
وإذا تزوج امرأة بعدما أدرك أو استدان ديناً أو بايع إنساناً أو كفالة أو وهب هبة أو تصدق بصدقة، أو وهب هبة، أو تصدق بصدقة وسلمها له كانت عنده، أو دبره، أو أعتقه ثم أقر أنه لفلان لم يصدق على إبطال شيء من ذلك، وكذلك في سائر التصرفات، وإذا كان اللقيط امرأة، وتزوجت بزوج، ثم أقرت بالرق لإنسان، وصدقها المقر له فهي أمة للمقر له، ولكن النكاح بينها وبين زوجها على حاله إذ ليس من ضرورة القضاء برقها بطلان النكاح؛ لأن الرق لا ينافي النكاح ابتداءاً وبقاءاً، بخلاف ما إذا أقرت أنها أثبتت أبنة زوجها، وصدقها الأب في ذلك حيث يبطل النكاح؛ لأن الجزئية تنافي النكاح ابتداءاً وبقاءاً، فإذا ثبتت الجزئية انتفى النكاح، ولو أعتقها المقر له لا خيار لها؛ لأن إقرارها بالرق لم يصر في حق الزوج، والأصل في ذلك أن لكل حكم يلحق الزوج فيه ضرر لا يمنكه دفعه عن نفسه، فإنها لا تصدق في إقرارها الرق في حق ذلك الحكم، وفي كل ما يمكنه دفع الضرر عن نفسه يكون مصدقه في حقها، حتى إذا طلقها ثنتين ثم أقرت بالرق يملك مراجعتها ولا يضر طلاقها ثنتين بإقرارها بالرق؛ لأن الزوج يتضرر بذلك على وجه لا يمكنه دفعها عن نفسه، ولو كان طلقها واحدة وأقرت بالرق بعد ذلك؛ صار طلاقها ثنتين؛ لأنه تمكن من دفع الضرر عن نفسه بأن يراجعها ثم يمسكها ولا يطلقها، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه الأحكام، والله أعلم بالصواب. تم كتاب اللقيط من المحيط البرهاني بحمد الله تعالى وحسن توفيقه.
(5/328)
كتاب اللقطة
هذا الكتاب يشتمل على أربعة فصول:
1 * في أخذ اللقطة والانتفاع بها وتملكها
2 * في تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف
3 * فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط
4 * في الخصومة في اللقطة، والاختلاف فيها، والشهادة
الفصل الأول في أخذ اللقطة والانتفاع بها وتملكها
-----
يجب أن يعلم بأن التقاط اللقطة على نوعين: نوع من ذلك يفترض وهو ما إذا خاف ضياعها، ونوع من ذلك لا يفترض وهو ما إذا لم يخف ضياعها ذلك ينافي أخذها، أجمع عليه العلماء، فاختلفوا فيما بينهم أن الترك أفضل أو الرفع، ظاهر مذهب أصحابنا أن الرفع أفضل؛ لأنه لو لم يرفع هو ربما تصل إليها يد خائنة، وبعض المتقدمين قالوا: الترك أفضل؛ لأن صاحبها يطلبها في المكان الذي سقطت منه، فإذا تركها وصل إليها يد المالك، ومن العلماء من قال: إن كان ..... .... يأمن على نفسه الخيانة، فالرفع أفضل، وإن كان فاسقاً لا يأمن على نفسه الخيانة فالترك أفضل، ثم ما يجده الرجل ......... .... أن صاحبه لا يطلبه كالنورة في مواضع مختلفة، وكقشور الرمان في مواضع متفرقة، وفي هذا الوجه له أن يأخذها وينتفع بها ................ وجدها في يده بعدما جمعها، فله أن يأخذها، ولا يصير ملكاً للآخذ، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، وشمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب اللقطة وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» في المسائل المنثورة من «كتاب الحظر» والإباحة.
ووجه ذلك: أن إلقاء هذه الأشياء إذن بالأخذ، وإباحة الانتفاع بها عادة وليس تمليك؛ لأن التمليك من المجهول لا يكون، والإباحة لا تزيل ملك المبيح، والمباح لم ينتفع به على حكم ملكه، فإذا وجدها صاحبها في يده فقد وجد عين ملكه، فكان له الأخذ، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب اللقطة أنه ليس للمالك أن يأخذها من يده بعدما جمعها أو احتجزها وتصير ملكاً للآخذ، وكذلك الجواب في التقاط السنابل، فإن كان الرامي قال حالة الرمي: فليأخذه من يشاء، لا يكون للرامي أن يأخذ بعد ذلك من الأخذ بلا خلاف، وتأويل هذا؛ إذا قال: لأقوام معلومين ذكره الفقيه أبو الليث في فتاويه في كتاب «الهبة والصدقة» أما إذا لم يقل ذلك لأقوام معلومين؛ يكون للرامي أن يأخذه من الآخذ.(5/329)
-----
وذكر في كتاب البيوع من «فتاوى أبي الليث»: رجل رمى ثوبه لا يجوز لأحد أن يأخذه إلا إذا قال وقت الرمي: فليأخذه من أراد، وتأويله ما ذكرنا، وهذا الذي ذكرنا من التأويل في المسألتين اختيار الفقيه أبي الليث، وبعض مشايخنا قالوا: ليس للرامي أن يأخذ بعد ذلك، وإن لم يقل الرامي ذلك لأقوام (107ب2) معلومين، ويستدل هذا القائل بقوله عليه السلام حين نحر بدنة «من يشاء اقتطع» ومعلوم أن هذا لم يختص بقوم معلومين، بل يتناول الكل.
ونوع آخر
يعلم أن صاحبه يطلبه كالذهب والفضة، وسائر العروض وأشباهها، وفي هذا الوجه له أن يأخذها ويحفظها، ويعرضها حتى يوصلها إلى صاحبه، وقشور الرمان والنوى إذا كانت مجمعة فهي من النوع الثاني؛ لأن صاحبها لما جمعها فالظاهر أنه ما ألقاها إنما سقطت منه، فكانت من النوع الثاني، وفي «غصب النوازل» إذا وجد جوزة ثم أخرى ثم أخرى؛ حتى بلغت عشراً، وصار لها قيمة، فإن وجدها في موضع واحد فهي من النوع الثاني بلا خلاف، وإن وجدها في مواضع متفرقة، فقد اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد: والمختار أنها من النوع الثاني بخلاف النوى، وقشور الرمان، ورمي هذه الأشياء إباحة للانتفاع، ولا كذلك الجوز، قيل: إلا إذا وجدها تحت أشجار الجوز في الخريف، فقد تركها صاحبها عند اجتناء الثمار وجمعها، صح له أن يأخذ وينتفع بها؛ لأنه تركها تحت الأشجار في هذا الوقت لانتفاع الناس بها معتاد.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» الحطب الذي يوجد في الماء لا بأس بأخذه والانتفاع به وإن كان له قيمة، وكذلك التفاح والكمثرى إذا وجد في نهر جاري لا بأس بأخذه والانتفاع به وإن كثرت.(5/330)
-----
إذا مر في أيام الصيف بثمار ساقطة تحت الأشجار، فهذه المسألة على وجوه: إن كان ذلك في الأمصار لا يسعه التناول منها إلا أن يعلم أن صاحبها قد أباح ذلك له نصاً أو دلالة بالعادة؛ لأنه لا عادة ههنا في الإباحة، وإن كان في الحائط، والثمار مما يبقى كالجوز ونحوه لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كانت الثمار مما لا يبقى تكلم المشايخ فيه؛ منهم من قال: لا يسعه أن يأخذ ما لم يعلم أن صاحبها قد أباح ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به ما لم يعلم النهي إما صريحاً أو دلالة، وهو ا لمختار، وإن كان ذلك في الرساتيق الذي يقال بالفارسية «مرا ست»، وكان ذلك من الثمار التي تبقى لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كان ذلك من الثمار التي لا تبقى يسعه الأخذ بلا خلاف ما لم يعلم الآخذ النهي، وهذا الذي ذكر بأكله إذا كانت الثمار ساقطة تحت الأشجار، أما إذا كانت على الأشجار والأفضل أن لا يأخذ من موضع إلا بالإذن؛ إلا إذا كان موضعاً كثير الثمار يعلم أنه لا يشق عليهم ذلك فيسعه الأكل، ولا يسعه الحمل.(5/331)
-----
في «واقعات الصدر الشهيد»: حمل ..... من السقاية إلى منزله يكره ولا يحل، وفي «فتاوى أهل سمرقند»: امرأة رفعت ملاء امرأة، تركت ملائها عوضاً، ثم جاءت المرأة التي أخذت ملائها، وأخذت ملاء المرأة الآخرة ليس لها أن تنتفع بها، وطريق ذلك أن تتصدق بهذه الملاء على ابنتها إن كانت فقيرة على نية أن الثواب لصاحبتها إن رضيت، ثم تهب الابنة الملاءة منها فيسعها الانتفاع بها؛ لأنها بمنزلة اللقطة، ولا يحل الانتفاع ابتداءاً إن كانت غنية، ويحل إن كانت فقيرة، وكذلك الجواب في المكعب إذا سرق وترك عوضاً، وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا كان في المقبرة حطب يجوز للرجل أن يحتطب منها، هكذا ذكر في «العيون» وهذا إذا كان يابساً، فأما إذا كان رطباً يكره كذا ذكر في «فتاوى أبي الليث»؛ لأنه ما دام رطباً يسبّح، وربما يكون للميت أنس بتسبيحها، ولهذا قلنا: بيع الحشيش الرطب بلا حاجة لا يستحب؛ لأنه ما دام رطباً يسبح.
في «شرح القدوري» في كتاب الحظر والإباحة عن أبي يوسف: في رجل ألقى شاة ميتة فجاء آخر وأخذ صوفها كان له أن ينتفع به، ولو جاء صاحب الشاة بعد ذلك كان له أن يأخذ الصوف منه، ولو سلخها ودبغ جلدها ثم جاء صاحبها كان له أن يأخذ الجلد، ويرد ما زاد الدباغ فيه.(5/332)
-----
في «واقعات الناطفي»: إذا أسقط في الطريق في أيام الصبغ فيها القز ورق الشجر، إلى أن ينتفع بورقه كالثوب وأشباهه، فليس له أن يأخذه، وإن أخذه ضمنه؛ لأنه مملوك منتفع، وإن كان ورق شجر لا ينتفع به له أن يأخذ، في «فتاوى الفضلي» المزارع إذا التقط السنابل بعدما حصد الزرع وجد، كان له خاصة؛ لأنه لو لم يلتقطها المزارع لم يلتقطها رب الأرض، وكان مباح التملك، فإن كان الأرض لليتامى يجوز، إن ترك السنابل إن كانت السنابل بحيث لو استؤجر على جمع ذلك أمراً يبقى للصبي بعد موت الأجير شيء ظاهر لا يجوز تركه، قال: وهو كثوب خلق رماه صاحبه فرفعه غيره كان له، وقد ذكرنا مسألة الثوب قبل هذا، وفي «مزارعة النوازل» ..... بقيت فيها فانتهبها الناس، قال الفقيه أبو بكر: إذا تركها أهلها ليأخذها من يشاء من ذلك لا بأس به، وهو نظير من يرفع زرعه، ويترك عنه السنابل، فالتقطها غيره لا بأس به كذا ههنا، في «النوازل» ما يجمع لله في ................. الذي هو حر من الأوقية هل يطيب لهم؟ إن كان بحال يسيل الدهن من خارج الأوقية لا من داخلها يطيب؛ لأن ما هو خارج الأوقية فليس بمستتر، أو كان الدهن يسيل من داخل الأوقية أو من الداخل والخارج، أو لا يعلم، فإن زاد الدهان لكل واحد من المشتري شيئاً طاب له ما ينظر، وإن لم يزد لا يطيب ويتصدق به، ولا ينتفع به إلا أن يكون محتاجاً؛ لأن سبيله سبيل اللقطة، والحكم في اللقطة هذا على ما يتبين إن شاء الله تعالى.(5/333)
-----
قوم أصابوا بعيراً مذبوحاً في طريق البادية إن لم يكن قريباً من الماء، ووقع في الظن أن صاحبه فعل ذلك؛ لأنه أباحه للناس فلا بأس بالأخذ والأكل، وفي «العيون» وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا أذن فيها صاحبها جاز الأخذ في الأصل، في كراهية «فتاوى أهل سمرقند» رجل له دار يؤاجرها، فجاء إنسان بإبله فأناخ في داره، واجتمع من ذلك بعير كثير، قال: إن ترك صاحب الدار ذلك على وجه الإباحة، ولم يكن من دابة أن.... وكل من أخذ هو أولى، وإن كان من رأي صاحب الدار أن .... فصاحب الدار أولى؛ (108أ2) لأنه أعد الدار للاحتراز.
وفي «نوادر هشام» في سرقين الدابة في الخان إذا ذهب صاحبها فهي لمن أخذها؛ لا لصاحب الخان، وفي «دعوى الفضلي» رجل قاطع داراً شيئاً معلومة، وسكنها، فاجتمع فيها سرقين كثيرة، وقد جمع المقاطع، فهي لمن هذا مكانه، وإن لم يفعل ذلك أحد، فهي لمن سبقت يده إليها بالأخذ والرفع، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: هي لمن سبقت يده إليها بالرفع على كل حال، وكان لا يعتبر تمدي المكان حتى قال: إذا ضرب حائطاً، وجعل موضعاً يجتمع فيه الدواب فسرقينها لمن سبقت يده إليها، بخلاف ما إذا .... مكاناً لأجل الصيد؛ لأن هناك ما اعترض على فعله لحل معتبر من غيره؛ لأنه لا عبرة لفعل الصيد، وههنا اعترض على فعله فعل معتبر من غيره، وهو إدخال صاحب الدواب الدواب في هذا المكان.
(5/334)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: سئل أبو نصر عن الغنم يجتمع في مكان فيجمع من ذلك بعر كثير في آخره التقطها قال: إن كان أرباب الغنم جمعوا ذلك، أو نصبوا مرابض لغنمهم ليجتمع بعرها، أو كانوا يشحون على ذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ ذلك من غير إذنهم، وإن لم يكن شيء من ذلك فلا بأس بالأخذ منه، وفي «دعوى الفضلي»: ساحة فضاء يطرح فيها أصحاب السكة التراب والسرقين والرماد ونحوه، حتى اجتمع من ذلك شيء كثير، فإن كان أصحاب السكة طرحوها على معنى الرمي بها وكان صاحب الساحة هيأ الساحة لذلك، فهي لصاحب الساحة، وإن لم يكن هيأ الساحة لذلك فهي لمن سبقت يده إليها بالرفع، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي يفتي لمن سبقت يده إليها على كل حال.
وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل له فرخ حمام اختلط بها حمام أهل لغيره لا ينبغي له أن يأخذه، وإن أخذه يطلب صاحبه؛ لأنه في معنى الضالة واللقطة؛ فإن فرخ عنده، فإن كان الأم غريباً لا يتعرض لفرخه، وإن كان الأم لصاحب البرج والغريب ذكر، فالفرخ له؛ لأن الفرخ والبيض متولد من الأم، فيكون لصاحب الأم، فإن لم يعرف أن في برجه غريب لا شيء على صاحب البرج إن شاء الله تعالى، وفي «شرح العبد» لشمس الأئمة السرخسي أن من اتخذ برج حمام، وأوكرت حمامات الناس فيها، فما يأخذ من فراخها لا يحل له؛ إلا إذا كان فقيراً، فيحل له أن يتناول لحاجة، وإن كان غنياً ينبغي أن يتصدق بها على فقير، ثم يشتريها منه بشيء.d
وفيه أيضاً: رجل أخذ حمامة في المصر يعلم أن منها لا يكون وحشة فعليه أن يعرفها، وفيه أيضاً ومن أخذ بازياً أوشبهه في سواد أو مصر، وفي رجليه سير، أو خلاخل وهو يعرف أن له أهل، فعليه أن يعرفه، فيرده على أهله، فإنه يتعين ثبوت يد الغير عليه؛ لأنه لا يخرج من القفص مع الخلاخل والسير، فأما إذا انفلت من يد صاحبه، أو أرسله وأياً ما كان لا يزيل ملك صاحبه عنه، فكان بمنزلة اللقطة، وكذلك إذا وجد ظبياً في عنقه قلادة.(5/335)
-----
الفصل الثاني في تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند الأخذ، ويقول: أخذتها لأردها، فإن فعل ذلك ثم لم يعرفها بعد ذلك كفى، ومن المشايخ من قال: يأتي على أبواب المساجد وينادي، وقد ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب»: يعرفها حولاً، ولم يفصل بين القليل والكثير، عن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان: روى الحسن عنه في «المجرد»: إن كانت مائتي درهم فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كان أقل من مائتي درهم إلى عشرة يعرفها شهراً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها ثلاثة أيام، وروى محمد عنه إن كانت عشرة فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى، وروى الحسن عن أصحابنا: إن كانت مائتي درهم فصاعداً يعرفها حولاً، وإن كانت عشرة فصاعداً يعرفها شهراً، وإن كانت ثلاثة فصاعداً يعرفها عشرة، وإن كانت درهماً فصاعداً يعرفها ثلاثة، وإن كانت دانقاً يعرفها يوماً، وإن كان دون ذلك نظر ثمنه و....... ونصبها في كف فقير.
والفقيه أبو جعفر كان يقول: إذا بلغ مالاً عظيماً بأن كان كيساً فيه ألف درهم أو مائة دينار يعرف ثلاثة أحوال، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يروي عن محمد يعرف اللقيطة ثلاث سنين قل أو كثر، كان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: شيء من هذا ليس بتقدير لازم، بل يبني الحكم على غالب الرأي، ويعرف القليل والكثير أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطالب بعد ذلك، وفي «المنتقى»: قدر مدة التعريف في السنور، والطائر بيوم.(5/336)
-----
ثم على قول من قدر مدة التعريف بحول أو أكثر؛ اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يعرفها كل جمعة، وبعضهم قالوا: كل شهر، وبعضهم قالوا: كل ستة أشهر، وهذا كله إذا كانت اللقطة شيئاً يبقى، وأما إذا كانت شيئاً لا يبقى إلى أن ينتهي إلى وقت يخشى عليها الفساد، ثم بعدما مضى مدة التعريف لو لم يظهر لها طالب يدفعها إلى الإمام، هكذا ذكر في «النوازل»، ولم يذكر في «المبسوط» أن الملتقط يدفعها إلى الإمام، قال في «المنتقى»: قال أبو يوسف والحسن: له أن يأمر غيره ويعطيها حتى يعرفها عنه إذا أعجز عن التعريف بنفسه، وإن مات في يده فلا ضمان على أحد في ذلك، ثم إذا دفعها إلى الإمام كان الإمام بالخيار، إن شاء قبل منه، وإن شاء لم يقبل، فإن قبل فهو بالخيار؛ إن شاء عجل تصدقها على الفقراء، وإن شاء أقرضها من رجل موثوق مليء، وإن شاء دفعها مضاربة، والحاصل أن الإمام نصب ناظم الفعل ما رآه أصلح في حق صاحب اللقطة.
(5/337)
-----
وإذا ردها على الملتقط فالملتقط بالخيار إن شاء أمسكها وأدام الحفظ فيها حتى يظهر له طالب، وإن شاء تصدق بها على أن يكون الثواب لصاحبها، وإن شاء باعها، وإن لم يكن دراهم أو دنانير، وأمسك ثمنها، فإن تصدق وحضر صاحبها فله الخيار؛ إن شاء بعد التصدق والثواب له، وإجازته الصدقة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، وإن شاء لم يجز الصدقة، وعند (108ب2) عدم الإجازة إن كانت قائمة في يد الفقير أخذها منه، وإن كانت هالكة كان له الخيار؛ إن شاء ضمن الفقير، وإن شاء ضمن الملتقط، فإن قيل: كيف يضمن الملتقط وقد تصدق بإذن الشرع؟ قلنا: الشرع ما ألزمه التصدق، إنما أذن له في ذلك، ومثل هذا الإذن يسقط الإثم ما لا يسقط عصمةً يثبت حقاً للعبد كالإذن في الرمي إلى الصيد، حتى حكي عن القاضي الإمام أبي جعفر يقول: ما ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا تصدق بغير أمر القاضي، فأما إذا تصدق بأمر القاضي فليس للمالك أن يضمن الملتقط.
وإن كان الملتقط محتاجاً له فله أن يصرف اللقطة إلى نفسه بعد التعريف؛ لأن الصرف إلى فقير آخر والصرف إلى نفسه سواء، وإن كان غنياً فليس له أن يصرفها إلى نفسه، وإن باع القاضي اللقطة أو باع الملتقط بأمر القاضي، ثم حضر صاحبها وهي قائمة في يدي المشتري كان لصاحبها الخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء أبطل البيع وأخذ عين ماله؛ لأن هذا بيع صدر لا عن ولاية، فيتوقف على إجازة المالك، وإن كانت قد هلكت، فالمالك بالخيار؛ إن شاء ضمن البائع، وعند ذلك هذا البيع من جهة البائع في ظاهر الرواية، وبه أخذ المشايخ، وفي رواية أخرى يبطل البيع، وبه أخذ بعض المشايخ.(5/338)
-----
وفي الوديعة: إذا باعها المودع، وسلمها إلى المشتري فهلكت في يد المشتري، ثم إن المالك ضمن البائع لم ينفذ البيع باتفاق الروايات، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرحه، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: أن بيع المودع ينفذ من جهته كبيع الملتقط، وأشار إلى المعنى الجامع فقال: الملتقط حين دفعها ليبيعها بغير إذن القاضي صار ضامناً لها فيستند ملكه إلى تلك الحالة فينفذ بيعه، وإن شاء ضمن المشتري قيمتها، ورجع بالثمن على البائع، وجعل استرداد القيمة من يده بمنزلة استرداد العين من يده، في وديعة «فتاوى أهل سمرقند»: غريب مات في دار رجل، وليس له وارث معروف، وخلف من المال ما يساوى في دراهم، وصاحب الدار فقير، فأراد أن يتصدق بها على نفسه، فله ذلك؛ لأنه في معنى اللقطة.
الفصل الثالث فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط
فهذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها ليردها على المالك، ويشهد عند الأخذ شاهدين أنه إنما أخذها ليردها على المالك، وفي هذا الوجه لا ضمان؛ لأن أخذها ليردها على المالك مندوب إليه شرعاً، فلا يصلح سبباً للضمان.
الوجه الثاني: إذا أخذها لنفسه، وأقر بذلك، وفي هذا الوجه هو ضامن؛ لأنه منهي عن الأخذ لنفسه، فيصير غاصباً ضامناً.
الوجه الثالث: إذا ادعا أنه أخذها ليردها على المالك إلا أنه لم يشهد على ذلك، ولكن صدقه أنه أخذها ليردها على المالك وضمنها لا ضمان، وإن كذبه المالك في ذلك، وادعى أنه أخذها لنفسه فعند أبي يوسف القول قول الملتقط مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر مباشرة ما هو حلال، والحلال من الأخذ ههنا الأخذ للرد على المالك، وعند أبي حنيفة ومحمد القول قول صاحب اللقطة؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون لنفسه ما لم يوجد دليل يدل على العمل للغير، وذلك الدليل ههنا الإشهاد، فإذا ترك الإشهاد لم يوجد دليل العمل لغيره، فعمل به يتضمنه الأصل.(5/339)
-----
وإن أشهد أنه التقط لقطة أو ضالة، أو قال: عندي لقطة فمن سمعتموه يطلب لقطة فدلوه عليَّ، فلما جاء صاحبها قال: قد هلكت فهو مصدق، ولا ضمان عليه؛ لأنه تبين بصدر الكلام أنه أخذه للرد، وأنه أمين فيها، وقول الأمين في دعوى الهلاك مقبول، ولا يضره أن يسمي جنسها ولا صنعتها في التعريف؛ لأن ترك تسمية ذلك لتحقيق الحفظ على المالك حتى لا يسمع ذلك إنسان فيدعيها لنفسه، ويرفع الأمر إلى قاضي يرى الاستحلاف لمصيب العامة، وفيه خلاف ظاهر، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو وجد لقيطان أو ثلاثة وقال: من سمعتموه ينبذ لقطة فدلوه عليَّ، فهذا تعريف للكل ولا ضمان إن هلكت الكل عنده، في «فتاوى أهل سمرقند» وجد لقطة في طريق أو مفازة، ولم يجد أحداً يشهده عليه عند الأخذ، قال: يشهد إذا ظفر بمن يشهده عليه، فإذا فعل ذلك لا يضمن؛ لأنه ليس في وسعه أكثر من هذا، وإن وجد من يشهده ولم يشهد حتى جاوزه ضمن؛ لأنه ترك الإشهاد مع القدرة عليه، وإذا التقط لقطة ليعرضها ثم ردها إلى مكانها الذي وجدها فيه فلا ضمان عليه لصاحبها، وإن هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها غيره؛ لأن الأخذ ليردها على مالكها لا يصلح سبباً للضمان، والرد إلى مكانه لا يصلح سبباً للضمان والرد إلى مكانه لا يصلح سبباً، فامتنع وجوب الضمان.
(5/340)
-----
قال الحاكم الشهيد في «إشاراته»: إن ما ذكر في الكل محمول على ما إذا أعادها بعدما حولها ضمن، وإليه ذهب الفقيه أبو جعفر، وروي عن محمد أنه إذا مشى خطوتين، أو ثلاثة خطوات ثم ردها، ووضعها في الموضع الذي أصابها فيه يبرأ من الضمان، فلا يعتبر هذا القدر من التحويل، وإن كان أخذها لنفسه ثم ردها إلى مكانه فهو ضامن لها؛ لأنه صار ضامناً بالأخذ، والضمان متى وجب لا تقع البراءة منه إلا بالرد على المالك، والإعادة إلى موضعه ليس برد على المالك، وهو نظير ما لو غصب من آخر دابة، ثم ردها على مالكها فلم يجده، وربطها على مكانها.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أنه إذا ردها إلى مكانها من غير أن يذهب بها فلا ضمان من غير فصل، بينما إذا أخذها لنفسه أو أخذها ليعرفها، وإذا ذهب بها؛ ثم ردها إلى مكانه ضمن على كل حال، وقيل: إذا اعتمد مع الإشهاد أنه يأخذ لنفسه فهو ضامن فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا اعتمد التعريف مع ترك الإشهاد فلا ضمان، وقيل: هذا التفصيل فيما إذا أخذها لنفسه، أما إذا أخذها ليعرفها فلا ضمان من غير تفصيل كما ذكر في «الكتاب».
الفصل الرابع في الخصومة في اللقطة، والاختلاف فيها، والشهادة
في «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل التقط لقطة، وضاعت منه ثم وجدها في يد رجل آخر فلا خصومة بينهما، قال: وليس الملتقط في (109أ2) هذا كالمستودع، والفرق وهو: أن المستودع مأمور في الحفظ من جهة المالك نصاً، ولا يتهيأ له الحفظ إلا باسترداد فكان مأموراً من جهة المالك بالاسترداد والخصومة ولا كذلك الملتقط.(5/341)
-----
إذا وجد الرجل لقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء رجل وادعى أنها له، وسمى وزنها وعددها ووعاءها وأصابها، فلم يصدقه الملتقط فعلى قول مالك يجبر الملتقط على دفعها إليه، وعلى قول علمائنا لا يجبر، بل يخير إن شاء دفعها، وإن شاء أبى حتى يقيم البينة؛ لأن إصابة العلامة محتمل في نفسه قد يكون جزافاً، وقد يعرف الإنسان ذلك في ملك غيره، وقد يسمع من مالكه عند طلبه، والمحتمل لا يكون حجة للإلزام، فإن دفعها إليه أخذ منه كفيلاً نظراً منه لنفسه، فلعله يأتي مستحقها، فيضمنها إياه، ولا يتمكن من الرجوع على هذا الأخذ؛ لأنه يخفي شخصه فيحتاط بأخذ الكفيل.
وإن صدقه دفعها إليه، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أنه إذا أبى هل يجبر على الدفع، وقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: لا يجبر، وقاسه على ما إذا كان في يد رجل وديعة فجاء رجل، وقال: إني وكيل المودع في استرداد الوديعة منك، فصدقه لا يجبر على الدفع إليه؛ لأنه أقر بحق القبض في ملك الغير فكذا هذا، وبعضهم قالوا: يجبر على الدفع بخلاف مسألة الوديعة.
والفرق في مسألة الوديعة: الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة، فأما في اللقطة ليس لغير الذي حضر ملك ظاهر، ثم إذا دفعها إليه في هذه الصورة في آخر، وأقام بينة أنها له إن كان العين قائماً في يد القابض يقضى بالعين للمدعي، وإن كان هالكاً كان للمدعي خياراً في التضمين، فإن ضمن القابض فالقابض لا يرجع على الملتقط، وإن ضمن الملتقط، فالملتقط هل يرجع على القابض؟ ذكر هذه المسألة في كتاب اللقطة في موضعين، قال في موضع: يرجع، وقال في موضع: لا يرجع، ومن المشايخ من وفق بين الروايتين، والأصح أن في المسألة روايتان؛ والاعتماد على رواية الرجوع.(5/342)
-----
وإذا وجد شاة أو بقرة أو بعيراً وحبسها، وأنفق عليها في مدة التعريف، ثم جاء رجل وأقام بينة أنها له لم يرجع بما أنفق، إلا إذا كان الإنفاق بأمر القاضي، وإذا رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يأمره بالإنفاق ما لم يقم بينة أنه التقطها نظراً للمالك، وقدمنا نظيره قبل هذا، فإن قال: لا بينة لي، فالقاضي يقول له: أنفق عليها إن كنت صادقاً، فإن كان صادقاً يرجع، وإن كان كاذباً لا يرجع.
قالوا: إذا كانت اللقطة شيئاً يخاف عليها الهلاك متى لم ينفق عليها إلا أن يقم البينة فالقاضي يقول له: أنفق عليها إن كنت صادقاً، فإن أقام بينة عند القاضي أمره بالإنفاق يومين أو ثلاثة، بعد هذا إن كانت اللقطة شيئاً يمكن إجارتها مؤاجرة ينفق عليها من أجرها، وإن كانت شيئاً لا يمكن إجارتها باعها القاضي بنفسه، أو أمر الملتقط بالبيع، وأعطى الملتقط من الثمن ما أنفق بأمره، وإن لم يبعها حتى جاء صاحبها، وأقام بينة قضى به القاضي له، وقضى عليه بما أنفق الملتقط، وكان للملتقط أن يحبسها منه حتى يعطيه ما أنفق، وهذا لا يشكل فيما إذا أمر بالإنفاق على أن يكون ديناً على صاحبها إذا لم يشترط ذلك، فظاهر ما ذكر في هذا الكتاب يقتضي الرجوع، قال شيخ الإسلام: يجب أن يكون في المسألة روايتان على نحو ما بينا في اللقيط.(5/343)
-----
في «المنتقى» إذا قال الرجل: وجدت لقطة وضاعت في يدي، وقد كنت أخذتها لأردها على مالكها، وأشهدت بذلك،، وكان الأمر كما قال من الأخذ للرد على المالك والإشهاد بذلك، إلا أن صاحبها يقول: ما كانت لقطة، وإنما وضعتها بنفسي لا يرجع واحد، فإن كان في موضع ليس يقربه أحد، أو كان في طريق، فالقول قول الملتقط إذا حلف أنها ضاعت عنده، وإن كان لا يدري ما قصتها ضمن الملتقط، وإن قال صاحبها: أخذتها من منزلي، فقال الملتقط: أخذتها من الطريق ضمن، وإن وجدها في دار قوم أو في منزلهم أو في نار فارغة ضمن، إذا قال صاحبها: وضعتها لأرجع فآخذها، والأصل في ذلك كله أن أخذ مال الغير سبب لوجوب الضمان، بعضه الأصل إلا إذا كان الأخذ على وجه الحفظ بأن يكون في الطريق، أو يكون في مكان لا يكون يقربه أحد؛ لأنه يعوض التوى، والتلف إذا كان بهذه الصفة، فكان الأخذ للرد على المالك، والحالة هذه من باب الحفظ، فما لم يعلم ذلك أعمل فيه بعض الأصل.
وفي «الأصل» إذا قال المالك: أخذت مالي غصباً، وكان الملتقط يقول: كانت لقطتة، وقد أخذتها لك، فالملتقط ضامن من غير تفصيل، وإذا كانت اللقطة في يدي مسلم، فادعاها رجل فأقام عليه الثلاثة وأقر الملتقط بذلك أو لم يقر ولكن قال: لا أردها عليك إلا عند القاضي فله ذلك، وإن مات في يده عند ذلك فلا ضمان، في «المنتقى»: وإذا كانت اللقطة في يد مسلم ادعاها رجل، وأقام على ذلك شاهدين كافرين لا تقبل هذه الشهادة، وإن كانت في يدي كافر، وباقي المسألة بحالها، فكذلك قياساً؛ لأني أدري بعلمها بكل مسلم.(5/344)
-----
وفي الاستحسان: تقبل الشهادة؛ لأن المستحق بهذه الشهادة في الحال اليد وإنها للكافر، وأما الكل فكما يتوهم أن تكون للمسلم يتوهم أن تكون للكافر، فيعارض الموهومان فيسقط اعتبارهما وتثبت العبرة لليد، وإن كان في يد كافر ومسلم لم تجز شهادتهما على واحد منهما قياساً، وفي الاستحسان جازت الشهادة على الكافر، وقضي بما في يد الكافر لما قال في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: سارق دفع إلى رجل متاعاً فينبغي للمدفوع إليه أن يتصدق به إذا لم يعرف صاحبه، وإن عرف صاحبه ردَّه عليه، ولا يدفعه إلى السارق، ولا ينبغي له ذلك، ألا ترى أنه لو وصل إلى أخذه بقي له أن يأخذه، ويرده على المالك، وهو ما جوز في ذلك، فكيف يدفعه إلى السارق بعدما وصل إليه، والله أعلم بالصواب.
(5/345)
كتاب الإباق
هذا الكتاب يشتمل على ست فصول:
1 * في أخذ الولد، وما يصنع به بعد الأخذ
2 * في بيان مقدار الجعل
3 * فيمن يستحق الجعل ومن لا يستحق
4 * في بيان وجوب الضمان على راد الآبق
5 * في الاختلاف الواقع في الإباق
6 * في التصرفات في الآبق
الفصل الأول في أخذ الولد، وما يصنع به بعد الأخذ
ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرحه أنه ينبغي للمراد أن يأتي بالآبق إلى الإمام، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا جاء به القاضي وقال: هذا عبد آبق، هل يصدقه القاضي من غير بينة؟ فقد اختلف المشايخ فيه، ثم إذا صدقه وأخذه منه حبسه إلى أن يحجر له طالب، ويكون هذا الحبس بطريق التعزير، ومن هذا المعنى يقع الفرق بين الأبق وبين الضال والضالة، فإن القاضي لا يحبسهما؛ لأنهما لا يستحقان التعزير ولا كذلك الأبق، وينفق عليه في هذا الحبس من بيت المال؛ لأنه محتاج إلى النفقة عاجز عن الكسب مادام محبوساً.
-----
ولو أمره القاضي ليخرج، ويكتسب فأبق ثانياً، فكان النظر في الإنفاق من بيت المال، ثم إذا حبسه الإمام في (بيت) رجل، وأقام بينة أنه عبده قبل القاضي بينته، ولم يذكر محمد رحمه الله أن القاضي هل ينصب له خصماً، قال شمس الأئمة الحلواني: اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: ينصب خصماً، فلم تقبل هذه البينة، وبعضهم قالوا: يقبل القاضي هذه البينة من غير أن ينصب خصماً، فطريقه ما ذكرنا قبل هذا.
قال: ويحلف المدعي بالله ما بعته ولا وهبته ثم يدفع إليه، فإن قيل: كيف يستحلفه وليس ههنا خصم حاضر يدعي ذلك؟ قلنا: يستحلفه لقضائه، أو يستحلفه نظراً لمن هو عاجز عن النظر لنفسه بنفسه من مشتري أو موهوب له، فإذا حلف دفعه إليه، وهل يأخذ منه كفيلاً؟ ذكر في رواية أبي حفص لا أحب له أن يأخذ كفيلاً، ولو أخذ لا يكون مسناً.
وذكر في «نوادر ابن سليمان»: أحب إليَّ أن يأخذ منه كفيلاً، ولو لم يأخذ كان في سعة منه، واختلف المشايخ فيه، منهم من قال: ما ذكر في رواية أبي حفص قول أبي حنيفة، وما ذكر في رواية ابن سليمان قولهما؛ بناءاً على أن أبا حنيفة لا يرى الكفيل للمجهول، وهما يريان ذلك، ومنهم من قال: في المسألة روايتان؛ وهو الأصح، ولكن ما ذكر في رواية ابن سليمان أحوط لجواز أن يظهر له مستحق آخر.(5/346)
-----
وإن لم يكن للمدعي بينة، وأقر العبد أنه عبده دفعه إليه، وأخذ منه كفيلاً؛ لأن العبد مع المدعي تصادقا على أنه ملك المدعي ولا منازع لهما، ولم يذكر في «الكتاب» أن القاضي يتحر في الدفع إليه، أو يجب عليه الدفع، إنما ذكر دفعه إليه، وقد اختلف المشايخ فيه، وإنما يأخذ الكفيل ههنا؛ لأن الدفع إليه بما ليس بحجة عند القاضي فلا يلزمه ذلك بدون الكفيل، بخلاف الفصل الأول على إحدى الروايتين، فإن لم يجىء للعبد طالب، وطال ذلك باعه القاضي وأمسك ثمنه، ولا يؤاجره بخلاف العبد الضال إذا حجر به إلى القاضي فالقاضي لا يبيعه بل يؤاجره؛ لأن الآبق لا يؤمن بأن يأبق ثانياً لو آجره ولم يبعه، ربما يأتي بنفقته جميع ثمنه، فكان البيع أنفع في حق المولى، ولا كذلك الضال فإنه يؤمن منه الإباق، فكانت الإجارة، وفيها آبقاً العين على ملك المولى أنفع في حق المولى ثم القاضي يرجع بما أنفق على الآبق مدة حبسه في ثمنه إن باعه، وإن حضر مولاه يرجع عليه بذلك أخذ الآبق لم يقدر على أخذه أفضل من الترك، وفي حال الضال اختلف المشايخ.
الفصل الثاني في بيان مقدار الجعل
وإذا أخذ آبقاً ورده على مولاه؛ إن كان أخذه من مسيرة سفر أو أكثر فله أربعون درهماً لا يزاد عليه، وإن كان عليه قيمته أربعين تنقص عن الأربعين درهم عند محمد، وهو قول أبي يوسف الأول، وفي قوله الآخر له الجعل حملاً؛ لأن وجوب الجعل عرف بإيجاب الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أوجبوا أربعين درهماً من غير أن يتعرضوا لقيمة العبد.(5/347)
-----
وإن كانت قيمته دون أربعين درهماً، فعلى قول محمد؛ وهو قول أبي يوسف الأول يحط عن قيمته درهم، ويجب الباقي حتى إذا كانت قيمته عشرة دراهم تجب تسعة دراهم، وعلى قول أبي يوسف الآخر يجب الجعل كله، وروي عن أبي يوسف رواية أخرى فيما إذا قيمته أربعون أنه ينقص من الجعل ما يقطع فيه العد، وإن كان أخذه في المصر أو خارجاً منه، ولكن ما دون مسيرة السفر يرضخ له هكذا ذكر في «الأصل»، وفي «المجرد» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا وجده في المصر فلا شيء له، ثم إذا وجب الرضخ إن اصطلح الراد والمردود عليه على شيء فالمراد ذلك، وإن اختصما عند القاضي، فالقاضي يقدر الرضخ على قدر المكان، هكذا قاله بعض مشايخنا.4
وتفسيره: أنه وجب للراد من مسيرة ثلاثة أيام أربعون درهماً، فيكون بإزاء كل يوم ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم فيقضى بذلك إن رده من مسيرة يوم، وإليه أشار في «الكتاب»، وبعضهم يفوض إلى رأي الإمام، وهذا ليس بالاعتبار.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: والحكم في رد الصغير؛ كالحكم في رد الكبير، إن رده من مسيرة السفر فله أربعون درهماً، وإن كان رده مسيرة السفر، فله الرضخ ويرضخ في الكبير أكثر مما يرضخ في الصغير إن كان الكبير أشدهما مؤنة. قالوا: وما ذكر من الجواب في الصغير محمول على ما إذا كان صغيراً يعقل الإباق، أما إذا كان صغيراً لا يعقل الإباق فهو ضال، ورأوا الضال لا يستحق الجعل، وقد نص على هذا التفصيل في «المنتقى».
وإن كان الدين بين رجلين فالجعل عليهما على قدر أنصبائهما، فإن كان أحد المولين حاضراً والآخر غائباً، فليس للآخر أن يأخذه حتى يعطيه جعله كله، وإذا أخطأه لم يكن متطوعاً؛ لأنه مضطر في أداء حصة صاحبه، وهو نظير المشتريين صفقة واحدة إذا أدى أحدهما كل الثمن.(5/348)
-----
وإن كان الآبق رجل؛ والراد رجلان، فالجعل بينهما على السواء، وإن كان الآبق رهناً فجاء به رجل فهو رهن على حاله، والجعل على المرتهن إن كانت قيمته مثل الدين؛ لأن الجعل للراد يسبب إحياء المالية، والإحياء بقدر الدين حصل للمرتهن، ألا ترى أنه لو لم يرده حتى تحققت .... أسقط دين المرتهن، والجعل يخالف النفقة، فإن نفقة المرهون على الراهن، وجعل المغصوب إذا أبق (110أ2) من يد الغاصب، وإذا كان الآبق خدمته لرجل ورقبته لرجل؛ فالجعل على صاحب الخدمة؛ لأن منفعة الرد في الحال لصاحب الخدمة، فكان هو المخاطب بالجعل في الحال، وإذا انقضت الخدمة رجع صاحب الخدمة بالجعل على صاحب الرقبة أو يباع العبد فيه؛ لأن صاحب الرقبة صاحب أصل.
ولمن جاء بالعبد الآبق أن يمسكه حتى يستوفي الجعل؛ لأنه استوجب الجعل بإحياء المالية، فكان بما استوجب تعلقاً بالمالية، فيحبسه به كما يحبس البائع المبيع بثمنه، وإن هلك في يده بعدما قضى القاضي له بالإمساك بالجعل، أو قبل المرافعة إلى القاضي فلا ضمان ولا جعل، وإذا صالح الذي جاء بالآبق مع مولاه من الجعل على عشرين درهماً جاز؛ لأنه يجوز بدون حقه، وإن صالح على خمسين درهماً وهو لا يعلم أن الجعل أربعون جاز بقدر أربعين، وبطل الفضل، وإذا أبقت الأمة ولها صبي رضيع فردهما رجل فله جعل واحد، إلا إذا ارتهن فحينئذ تجب ثمانون درهماً وإذا رجع الواهب في الهبة بعدما رد الموهوب من إباقه، فالجعل على الموهوب له؛ لأن الرد إحياء المالية له بالرد إليه، فزوال ملكه بعد ذلك بالرجوع لزوال ملكه بموت العبد.
(5/349)
الفصل الثالث فيمن يستحق الجعل ومن لا يستحق
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وإذا (كان) المكاتب لا يستحق الجعل؛ لأن استحقاق الجعل بالرد لإحياء مالية الرفعة بالردة، وذلك لا يوجد في المكاتب؛ لأن حق المولى في بدل الكتابة في ذمته خاصة، ولم يصر ذلك على شرف الهلاك بإباقه حتى يكون في الرد إحياؤه، ولراد المدبر وأم الولد الجعل، وهذا الجواب مشكل في أم الولد؛ لأن الجعل يستحق بإحياء المالية، والمالية لأم الولد خصوصاً عند أبي حنيفة رضي الله عنه، والجواب أن لها مالية باعتبار الكسب، فإنه أحق بكسبها، وقد أحيا الراد بالرد بخلاف المكاتب؛ لأن كسب المكاتب له لا حق للمولى فيه، فالراد بالرد لا يحيي مالية للمولى لا باعتبار القيمة، ولا باعتبار الكسب، ولو مات المولى قبل أن يصل بها إليه، فلا جعل، وإن كان على المدبر سعاية ورده إلى الورثة فلا جعل؛ لأنه رد حراً عندهما، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه رد مكاتباً، ولا رد بجعل المكاتب، ولا جعل للوصى إذا رد عبداً لهم، وكذلك كل من يعول صغيراً، ولا جعل للسلطان إذا رد آبقاً؛ لأنه فعل ما هو واجب عليه، وكذلك رآه بأن .... إذا رد المال من المدبر القطاع فلا شيء لهما، ولا جعل للابن إذا رد آبقاً لأبيه، وللأب الجعل إذا رد آبقاً للابن إذا لم يكن الآبق في عيال الابن؛ وهذا لأن رد الآبق على المولى نوع خدمة في حق المولى، وخدمة الأب مستحقة على الابن، وإقامة ما هو مستحق عليه الإنسان لا يقابل بالأجر، فأما خدمة الابن غير مستحقة على الأب، فيجوز أن يقابل بالأجر، إلا أن الأب إذا كان في عيال الابن لا يستحق الجعل؛ لأن أبق الرجل يطلبه من هو في عياله عادة، ولهذا ينفق عليهم فلا يستوجب مع ذلك جعلاً آخر.(5/350)
-----
وفي «البقالي»: روي أن الأب لا يستحق الجعل والابن يستحق، ولأحد الزوجين الجعل على صاحبه برد آبقه، والأخ يستحق الجعل على أخيه وأخته استحساناً إذا لم يكن الراد في عيال المردود عليه، وإذا جاء بالعبد الآبق ليرده على مولاه فوجده قد مات فله الجعل في تركته، وإن لم يكن له مال سوى العبد .... بالجعل، وإن كان الذي جاء به وارث الميت فلا يخلو أما إن كان ولده أو لم يكن ولده ولكن كان في عياله، أو لم يكن ولده ولم يكن في عياله؛ أجمعوا على أنه لو أخذه في حال حياة المورث ورده في حال حياة المورث أن له الجعل، وأجمعوا على أنه لو أخذه بعد وفاة المورث، ورده أنه لا جعل له، وأما إذا أخذه في حال حياة المورث وجاء به إلى المصر في حياته أيضاً إلا أنه سلمه بعد الموت، قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما: يجب الجعل له في حصة شركائه، وقال أبو يوسف لا يجب، وإن كان الراد ولداً أو لم يكن ولداً، ولكن كان في عياله لا يستحق الجعل على كل حال.
رجل قال لغيره: إن عبدي قد أبق إن وجدته فخذه، فقال المأمور: نعم، فأخذه المأمور، وعلى مسيرة ثلاثة أيام وجاء به إلى المولى فلا جعل له؛ لأن المولى قد استعان منه في رده عليه، وقد وعد له الإعانة، والعين لا يستحق شيئاً، أخذ آبقاً من مسيرة ثلاثة أيام، وجاء به ليرده على مولاه، فلما أدخله المصر أبق منه قبل أن ينتهي إلى مولاه، فأخذه رجل في المصر، ورده على المولى فلا شيء للأول؛ لأن سبب استحقاق الجعل إحياء المالية بالرد على المولى، ولم يوجد من الأول الرد على المولى، ويرضخ للثاني على قدر غيابه على نحو ما بينا.(5/351)
-----
وإن أخذاه بعد ذلك في المصر أو في مسيرة يوم فللأول نصف الجعل تاماً، ورضخ للثاني على قدر غيابه؛ لأنهما هما السبب بالرد على المولى، ويجعل في حق الأول كأنهما رداه في مسيرة السفر، ذكر في «الأصل» وفي «المنتقى»: جاء بالآبق من مسيرة ثلاثة أيام ليرده على المولى، فأخذه منه غاصب، وجاء به الغاصب إلى مولاه، ثم جاء الآخذ الأول، وأقام بينة أنه أخذه من مسيرة ثلاثة أيام أخذ الجعل ثانياً من المولى، ويرجع المولى على الغاصب بما أخذ منه.
وفيه أيضاً أخذ آبقاً من مسيرة ثلاثة أيام، وجاء به يوماً، ثم أبق العبد منه، وسار يوماً نحو المصر الذي فيه المولى، وهو لا يريد الرجوع إلى المولى، ثم إن ذلك الرجل أخذه ثانياً، وجاء به اليوم الثالث، فدفعه إلى المولى، فله جعل اليوم الأول والثالث، وهو كالجعل، ولو كان حين أبق من الذي أخذه وجده مولاه فلا جعل للذي أخذه، ولو كان العبد فارق الذي أخذه وجاء متوجهاً إلى مولاه لا يريد الإباق فللأول جعل يوم، وفيه أيضاً؛ أخذا عبداً آبقاً ودفعه إلى رجل، وأمر له أن يأتي به مولاه، ويأخذ منه الجعل فيكون له؛ يعني للمأمور، فقدم به ودفعه إلى مولاه أخذ الجعل منه، ويكون لو قال ثمة، وهو بمنزلة دين (110ب2) لرجل على رجل، وهبه من رجل وأمره بقبضه فقبضه.
في «الأصل»: عبد أبق إلى بعض البلدان، فأخذه رجل، واشتراه منه رجل آخر وجاء به لا جعل له، إنما رده لنفسه، فإن المشتري يكون غاصباً لملك المشتري فيكون غاصباً في حق المولى لا عاملاً له في الرد، فإن كان حين اشتراه أشهد أنه إنما اشتراه ليرده على صاحبه؛ لأنه لا يقدر عليه إلا بالشراء؛ فله الجعل لأنه بهذا الإشهاد أظهر أنه في الرد عامل للمولى، فلا يرجع على المولى بما أدى من الثمن قل أو كثر، وإن وهب له أو أوصى له به أو ورثه، فالجواب فيه كالجواب في الشراء، ولا يستحق الجعل.
(5/352)
-----
أخذ عبداً آبقاً وجاء به ليرده على مولاه، فلما نظر إليه المولى أعتقه، ثم أبق من يد الآخر، كان له الجعل؛ لأن الإعتاق نص معنى؛ لأنه إتلاف للمالية، فقد وصل العبد إلى المولى معنى، ألا ترى أن المشتري لو أعتق المشترى قبل القبض صار قابضاً له كذا ههنا، ولو كان دبره والمسألة بحالها فلا جعل له؛ لأن التدبير ليس بقبض؛ لأنه لا يتلف به المالية، فلم يصل العبد إلى يد المولى أصلاً.
ولو كان الآخذ حين سار به ثلاثة أيام أبق منه قبل أن يأتي به إلى المولى، ثم أعتقه المولى فلا جعل؛ لأن المولى لم يصر قابضاً من يد الآخذ؛ لأنه حين أعتقه لم يكن في يد الآخذ، ولو جاء به إلى مولاه فقبضه، ثم وهبه منه فعليه الجعل، ولو وهبه منه قبل أن يقبضه فلا جعل له؛ لأنه لم يصل إلى المولى من جهة لا بصورته ولا بمعناه، ولو باعه منه قبل أن يقبضه فعليه الجعل؛ لأنه وصل إلى المولى عوضه، فصار كما لو وصل إليه عينه بهذه الجملة.
وفي «العيون» قال شمس الأئمة الحلواني: الراد إنما يستحق الجعل إذا أشهد عند الأخذ أنه إنما أخذه ليرده على المالك أما إذا ترك الإشهاد لا يستحق الجعل وإن رده على المالك.
إذا مات الآبق عند الآخذ أو أبق منه قبل أن يرده على المولى؛ فإن كان حين أخذ أشهد أنه إنما أخذه ليرده على صاحبه لا ضمان عليه، وكذلك إذا قال وقت الأخذ: هذا آبق أخذته فمن وجد له طالباً فليدله عليّ فلا ضمان عليه؛ لأنه وجد منه الإشهاد. قال شمس الأئمة الحلواني: وليس من شرط الإشهاد أن يكرر ذلك، والحر يكفي بحيث لا يقدر على أن يكتم إذا سئل، وهكذا في اللقطة.(5/353)
الفصل الرابع في بيان وجوب الضمان على راد الآبق
-----
وأما إذا ترك الإشهاد، وكان الإشهاد ممكناً كان عليه الضمان عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله، وهذا إذا علم كونه آبقاً، وإن أنكر المولى أن يكون عبده آبقاً فالقول قوله، والآخذ ضامن إجماعاً؛ لأن سبب وجوب الضمان قد ظهر من الآخذ، وهو أخذ مال الغير بغير إذنه، فهو يعبر عن المسقط وهو الإذن شرعاً بكون العبد آبقاً، وإذا أخذ عبداً آبقاً فادعاه رجل وأقر له بالعبد فدفعه إليه بغير أمر القاضي فهلك عنده، ثم استحقه آخر بالبينة، فله أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الدافع رجع به على القابض، وإن كان لم يدفع إلى الأول حتى شهد عنده شاهدان أنه عبده، فدفعه إليه بغير حكم، ثم أقام الآخر البينة أنه له، قضى به للثاني؛ لأن البينة الأولى قامت في غير مجلس الحكم، فلا يكون معارضة للبينة التي قامت في مجلس الحكم.
فإن أعاد الأول البينة لم ينفعه أيضاً؛ لأن العبد في يده، وحقه في اليد في الملك المطلق، لا يعارض بينة الخارج، وإذا أخذ عبداً آبقاً وباعه بغير أمر القاضي حتى لم يصح البيع، وهلك العبد في يد المشتري، ثم جاء رجل فادعاه، فأقام البينة أنه عبده، فالمستحق بالخيار؛ إن شاء ضمن المشتري، وعند ذلك يرجع المشتري بالثمن على البائع، وإن شاء ضمن البائع قيمته، وعند ذلك ينفذ البيع من جهة البائع، ويكون الثمن له، ويتصدق بما فضل على القيمة من الثمن؛ لأنه ربح حاصل لا على ملكه بسبب كسب خبيث.
(5/354)
الفصل الخامس في الاختلاف الواقع في الإباق
-----
إذا أنكر المولى أن يكون عبده آبقاً فلا جعل للراد؛ إلا أن يشهد الشهود أنه أبق من مولاه، أو على إقرار المولى بالإباق، وإذا أبق العبد وذهب بمال المولى، فجاء رجل وقال: ما أخذت منه شيئاً فالقول قوله، ولا شيء عليه، ولا يكون وصول يده إلى العبد دليلاً على وصول يده إلى المال ما لم يعلم كون المال في يد العبد حين أخذ العبد، فالمولى يدعي عليه ذلك، وهو ينكر، فيكون القول قوله، كما لو ادعى عليه أنه غصبه مالاً آخر، وهو ينكر، فإن أقر، فإذا أنكر يستحلف .... ليقوم ذلك مقام إقراره.
الفصل السادس في التصرفات في الآبق
بيع الآبق من الأجنبي أو من ابن صغير له لا يجوز، وبيعه ممن في يده يجوز، وهبته من الأجنبي لا يجوز، وإن وهب من ابن صغير له؛ إن كان مرة أبقى إلى دار الإسلام، وإن أبق إلى دار الحرب؛ اختلف فيه المشايخ، وروى قاضي الحرمين أنه لا يجوز، ويجوز إعتاقه عن كفارة ظهاره، ولو وكل المولى رجلاً يطلب الآبق، فأصابه الوكيل، وهو لا يعلم به، ثم باعه المولى من إنسان، ولا يعلم البائع والمشتري أن الوكيل أصابه فالبيع باطل، حتى يعلم أن الوكيل أصابه، وإن أخذ الآبق رجل، وآجره الآخذ فالأجرة له؛ لأنها وجبت بعقده، ويتصدق بها؛ لأنها حصلت بكسب خبيث، فإن دفعه إلى المولى مع القيد، وقال: هذه غلته عندك، وقد سلمته لك فهي للمولى، ولا يحل للمولى أكلها قياساً؛ لأن حق الفقراء أثبت فيها حين وجب التصدق، فلا يملك الآخذ إسقاطها، ويحل استحساناً؛ لأن الخبث إنما تمكن فيها لعدم رضا المولى، فإنما يظهر ذلك في حق الآخذ؛ لا في حق المولى، فيزول الخبث عند التسليم إلى المولى.(5/355)
كتاب المفقود
هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة فصول: (111أ2)
1 * في تفسير المفقود وحكمه
2 * في التصرفات في مال المفقود
3 * في الخصومة في الميراث، وفي الورثة مفقوده
-----
الفصل الأول في تفسير المفقود وحكمه
فأما تفسيره ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل»: الرجل يخرج في بيته فيقصد ولا يعرف موضعه، ولا يستبين أثره، ولا موته إذ باشره العدو فلا يستبين موته، ولا قتله، وأما حكمه: فما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أنه يعتبر حياً في حق نفسه حتى لا يقسم ماله بين ورثته، ولا تتزوج امرأته، ولا يحكم القاضي في شيء من أمره حتى يثبت موته، أو قتله، ويصير ميتاً في حق غيره، حتى لا يرث أحداً من أقربائه إذا مات.(5/356)
-----
ومعنى قوله: لا يرث أحداً من أقربائه؛ أن نصيبه المقصود من الميراث لا يصير ملكاً للمفقود أما يوقف للمفقود نصيباً من ميراث من مات من أقربائه؛ وهذا لأن حياة المفقود محتملة، والمحتمل يكفي للتوقف كما في الجنين، فإن ظهر حياً ظهر أنه كان مستحقاً، وإن لم يظهر حياً حتى بلغ من السن ما قال في «الكتاب» على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى مما وقف له يرد على ورثة صاحب المال يوم مات صاحب المال بمنزلة الموقوف للجنين إذا انفصل الجنين ميتاً، قال مشايخنا: مدار مسائل المفقود على حرف واحد، أن المفقود يعتبر حياً في ماله، ميتاً في مال غيره، حتى ينقضي من المدة ما يعلم أن مثله لا يعيش إلى تلك المدة أو يموت أقرانه، وبعد ذلك يعتبر ميتاً في ماله يوم تمت المدة أو مات الأقران، وفي مال الغير يعتبر كأنه مات يوم فقد حتى أنه إذا .... المراحل ثم مات ابنه، ولهذا الابن أخ لأمه، والمفقود عصبة في ضم أخ الابن عصبة المفقود؛ ينظر إن كان الابن قد مات قبل أن يموت أقران المفقود، فإن جميع مال المفقود لعصبة المفقود متى مات أقران المفقود لا يكون للابن من ذلك شيء؛ لأنا حكمنا بحياته بعد موت الابن في حق نفسه، ولا يكون للمفقود من ميراث الابن شيء؛ لأنا اعتبرناه ميتاً في حق غيره، ولكن يوقف نصيب المفقود من مال الابن إلى أن يظهر حال المفقود؛ لأنه احتمل أن يكون حياً فيكون له الميراث من أبيه، واحتمل أن يكون ميتاً فلا يكون له الميراث من ابنه بل يكون ميراث الابن لأخيه.(5/357)
-----
فإن ظهر المفقود حياً فما وقف له يكون له، وإن لم يظهر حاله حتى مات أقرانه فما أوقفنا للمفقود من مال الابن يكون ميراثاً لأخ الابن؛ لأنا تيقنا بكون الأخ وارثاً، فثبت موت الابن، وشككنا في كون المفقود وارثاً، فكان جعله ميراثاً لمن كان وارثاً له بيقين أولى، فإن كان أقران المفقود قد ماتوا قبل موت الابن؛ فميراث المفقود صار للابن؛ لأنا حكمنا بموت المفقود والابن حي، فيكون ميراثه للابن، فإذا مات الابن يكون لورثة الابن، فهذا هو حاصل ما يبنى عليه من مسائل المفقود.
ثم طريق ثبوت موت المفقود إما البينة أو موت الأقران، وطريق تحوّل هذه إليه أن يجعل القاضي من في يديه المال خصماً عنه، أو ينصب عنه قيماً فتقبل عليه البينة، وأما موت الأقران وهو المذكور في «الكتاب» عن محمد رحمه الله: ويشترط موت جميع الأقران ما بقي واحد من أقرانه لا يحكم بموته، ولم يذكر أنه يعتبر موت جميع أقرانه في جميع البلدان، أو في بلد المفقود، وقد اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يعتبر موت أقرانه من أهل بلده، وهذا القول أرفق بالناس؛ لأن التفحص عن حال أقرانه في جميع البلدان إما غير ممكن أو فيه حرج ظاهر.
ولم يعتبر محمد رحمه الله في موت المفقود وحياته السنين، والمشايخ اعتبروا ذلك، فالمتقدمين من المشايخ بعد محمد رحمه الله قدروا عمره بمائة وعشرين سنة، وقالوا: متى مضى من مولده مائة وعشرين سنة فإنه يحكم بموته، وإن بقي بعض أقرانه في الأحياء، ولا يحكم بموته قبل ذلك وإن مات جميع أقرانه، وعن نصير بن يحيى أنه قدر عمره بمائة سنة، وهو المروي عن أبي يوسف والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد رحمة الله عليهما شهدا به تسعين سنة، قالا: لأن الأعمار قد قصرت في زماننا، قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله: وعليه الفتوى.(5/358)
-----
قال شيخ الإسلام في «شرحه»: ما قاله محمد رحمه الله أحوط وأقيس؛ لأن مضي ما قالوا من المدة إن دل على موته، فبقاء من بقي من أقرانه بعد مضي هذه المدة يدل على حياته، فيقع التعارض بين دليل الحياة وبين دليل الموت، فلا يثبت الموت مع التعارض، ومتى اعتبرنا موت أقرانه، فإنما يثبت موته بدليل لا يعارض، وما قال المشايخ أرفق بالناس؛ لأن التفحص عن حال الأقران أنهم ماتوا أو لم يموتوا أمر غير ممكن أو فيه حرج، وإذا أوصى رجل للمفقود بشيء لم أقض بها ولم أبطلها؛ لأن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث تحبس حصة المفقود إلى أن يظهر حاله، كذا ههنا.
الفصل الثاني في التصرفات في مال المفقود
قال محمد رحمه الله: ما كان يخاف عليه الفساد من مال المفقود فالقاضي يبيعه، وما لا يخاف عليه الفساد فحفظه ممكن بدون البيع فلا حاجة إلى البيع، ولا كذلك ما يخاف عليه الفساد، وإن أراد واحد من أقاربه أن يبيع شيئاً من ماله لحاجة النفقة؛ إن كان المال عقاراً فليس له ذلك بالإجماع؛ سواء كان البائع أباً أو غيره، وإن كان منقولاً ليس من جنس حقه كالخادم والدار ونحو ذلك؛ أجمعوا على أن غير الأب لا يملك البيع؛ الأم وغيرها في ذلك على السواء، وأما الأب فلا يملك البيع قياساً، وهو قولهما، وعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يملك، وهو استحسان، وجه القياس: أن جواز البيع يشهد بالولاية، ولا ولاية للأب في مال ولده الكبير، ألا ترى أنه لا يمكن بيع عقاره.
وجه الاستحسان: أن أثر الولاية في حق مال ولده الكبير قائم حتى صح منه استيلاد جارية الابن لحاجته إلى ذلك، والحاجة إلى النفقة لبقاء نسبه فوق الحاجة إلى الاستيلاد لبقاء نسله، وإذا بقي أثر الولاية؛ لأنه كان حاله كحال الوصي في الوارث الكبير الغائب، وقد ثبت للوصي حق بيع المعروض دون العقار كذا ههنا.(5/359)
-----
وإن كان المفقود وديعة أو دين؛ أنفق القاضي من ذلك على زوجته وولده وأبويه إذا كان المودع مقراً بالوديعة، والمديون مقراً بالدين، وذكر هذه المسألة في كتاب «النكاح» من «الأصل» (111ب2) وشرط إقرارهما بالنكاح والمال، وههنا لم يشترط إقرارهما بالنكاح، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، بل إنما اختلف الجواب لاختلاف الوضع، موضوع ما ذكرنا في كتاب «النكاح»: أن النكاح والنسب لم يكن معلوماً للقاضي، فشرط إقرار صاحب اليد لهما.
وموضوع ما ذكر ههنا: أن النكاح والنسب كان معلوماً للقاضي فلم يشترط إقرارهما بالنكاح والنسب، فإن أعطاهم الرجل شيئاً بغير أمر القاضي، فالمودع يضمن ولا يبرأ المديون، وإن أعطاهم بأمر القاضي فالمودع لا يضمن، والمديون يبرأ، وللقاضي أن ينصب وكيلاً في جميع غلات المفقود؛ طلب الورثة ذلك أو لم يطلبوا، ولهذا الوكيل أن يتقاص ويقبض، ويخاصم من يجحد حقاً وجب بعقد جرى بينه وبين هذا الوكيل؛ لأن الوكيل في حق الحقوق بمنزلة المالك، أما كل دين كان المفقود تولاه أو نصب كان له في عقار، أو عرض في يدي رجل، أو حق من الحقوق، فإن هذا الوكيل لا يخاصم؛ لأنه ليس بمالك، ولا نائب عن المالك في الخصومة في ذلك؛ لأنه وكيل بالقبض، والوكيل بالقبض من جهة القاضي لا يملك الخصومة بلا خلاف، وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض، والوكيل بالقبض من جهة القاضي المالك؛ قال في «الكتاب»: إلا أن يكون القاضي ولاه ذلك ورآه، وأنفذ الخصومة بينهم فإنه يجوز.
وعلل فقال: لأن هذا مما اختلف فيه القضاء، وهذا بناءً على أنه ليس للقاضي أن يقضي على الغائب وللغائب إلا إذا كان عنه خصم حاضر عندنا، ولو قضى ينفذ قضاؤه لكونه واقعاً في فصل مجتهد فيه، وكذا لا ينبغي للقاضي أن ينصب وكيلاً عن الغائب وللغائب، ولو فعل ينفذ قضاؤه بالإجماع لما قلنا.(5/360)
-----
ثم أشار ههنا إلى أن القضاء على الغائب وللغائب نفاذه لا يتوقف على إمضاء قاضٍ آخر، وهذا إشارة إلى أن نفس القضاء ليس بمختلف فيه، أما المجتهد بسبب القضاء أن البينة هل هي حجة يثبته الخصم، وفي «شرح الجامع» مما علقته على والدي * تغمده الله بالرحمة * أن نفس القضاء مختلف فيتوقف على إمضاء قاضٍ آخر كما لو كان القاضي محدوداً في قذف.
وإن ادعى رجل على المفقود حقاً لم يلتفت إلى دعواه، ولم تقبل منه البينة، ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من الورثة خصماً له، وإن رأى القاضي سماع البينة، وحكم به بعد حكمه بالإجماع، وإذا رجع المفقود حياً لم يرجع في شيء مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله ودينه وغلته، وكذلك ما أنفقوا على أنفسهم من دراهم أو دنانير أو تبر في وقت حاجتهم إلى النفقة أو ثياب لبسوها للكسوة، أو طعام أكلوه، أما سوى ذلك من الأموال إذا باعوها لحاجتهم إلى النفقة فقد مرَّ تفاصيل ذلك، وإذا فقد المكاتب، وترك أموالاً لأهله يؤدي مكاتبه من تركته؟ ينظر إن كان ما ترك المكاتب من خلاف جنس ما عليه؛ لا يؤدي، وإن علم القاضي بوجوب الدين عليه؛ لأنه لا يمكنه القضاء إلا بالبيع.(5/361)
-----
وولاية القاضي في مال المفقود مقصورة على الحفظ اتفاقاً عليه، والبيع ليس من قبيل ذلك، وإن كان ترك المكاتب من جنس المكاتبة وعلم القاضي بوجوب الدين عليه؛ فإن كان لهذا المكاتب ابن حرّ مات هذا الابن وترك ورثةً قسم ماله بين ورثته، ولم يحبس للمكاتب شيئاً؛ لأن المكاتب لا يرث شيئاً من ابنه فلا يكون للتوقف فائدة، وإذا كان المفقود قد باع خادماً قبل أن يفقد، فطعن المشتري بعيب، وأراد أن يرد على ولد المفقود فليس له ذلك؛ لأن الولد ليس بمالك ولا عاقد، ولا نائب عمن هو مالك أو عاقد، ولا رد على غير مولاه، وإن استحق هذا الخادم من يد المشتري، فالقاضي هل يوفي عنه من ماله؟ إن كان ماله من جنس الثمن يوفي إذا علم وجوب الثمن عليه؛ لأن الخادم لما استحق من يد المشتري صار الثمن ديناً له على المفقود، فصار الجواب فيه كالجواب في سائر الديون.
الفصل الثالث في الخصومة في الميراث، وفي الورثة مفقود
إذا مات الرجل وترك ابنتين وابناً مفقوداً، ولهذا الابن المفقود ابن وابنة، والتركة في يد الابنتين، والكل مقرون بأن الابن مفقود، واختصموا إلى القاضي، فإن القاضي لا ينبغي له أن يحرك المال عن موضعه؛ هكذا ذكر في «الأصل»، ومعنى قوله القاضي لا يحرك المال عن موضعه: لا يشرع القاضي سبباً من يد الابنتين؛ لأن النصف مما في أيديهما صار ميراثاً لهما بموت أبيهما بيقين؛ لأن المفقود إذا كان حياً فلهما هذا القدر، وإن كان ميتاً فلهما الثلثان، فالنصف لهما بيقين والنصف الآخر لا خصم له؛ لأن ورثة المفقود لا يدعون ذلك لأنفسهم ولا يكونون خصماً عن المفقود؛ لأنه لا يدرى أنه حي أو ميت، ولا يزال بصاحب اليد إلا بمحضر من الخصم بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له؛ لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه، فإنهم يستحقون النفقة في ملكه، واستصحاب المال يكفي لإبقاء ما كان على ما كان.(5/362)
-----
وكذلك إذا قال الإنسان: قد مات أخونا، وقال ولد الابن: هو مفقود؛ لأن من في يديه المال إقرار لدى الابن بنقض ذلك وقد رد ولد الابن إقرارهما بقولهما أبونا مفقود، ولو كان مال الميت في يدي ولدي الابن المفقود وطلب الابنان ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود، فإنه يعطي لهما النصف؛ لأنهما يدعيان بنصف ما في يدي ولدي المفقود، وقد صدقا في ذلك فيعطيان النصف لهما من ذلك، والنصف الآخر يترك على يدي ولدي المفقود من غير أن يقضى به لهما ولا لأبيهما؛ لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي.
ولو كان مال الميت في يد أجنبي، فقالت الابنتان: مات أخونا قبل الأب، وقال ولد الابن: إنه مفقود، فإن أقر الذي في يديه المال أنه مفقود؛ فإنه يعطي الابنتين من ذلك النصف؛ لأنهما تدعيان لأنفسها الثلثان، وذو اليد أقر لهما بالنصف حين قال إنه مفقود، فيعطي لهما النصف، والنصف الآخر يوقف في يديه، ولو قال الذي في يديه المال: إنه مات قبل الأب فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين؛ لأن صاحب اليد صدقهما فيما ادعتا من ثلثي ما في يديه، ويوقف الثلث الآخر على يديه؛ (112أ2) لأنه لا خصم له، ولو كان الذي في يديه المال أنكر أن يكون هذا المال للميت، فأقامت الابنتان بينة أن أباهم مات، وترك هذا المال ميراثاً لهما ولأخيهما المفقود، فإنه يقبل بينتهما؛ لأن أحداً ليس متهم فيقسم بين جميع الورثة فيما يدعي للميت، وهما يدعيان المال للميت فينصبان خصماً عن جميع الورثة، فقبلت بينتهما، ويعطى لهما النصف، وينزع النصف الآخر من يد ذي اليد، وتوقف على يدي عدل؛ لأنه ظهر خيانة ذي اليد حين جحد المال للميت، ومال الغائب لا يترك في يد الخائن بخلاف ما لو كان أقر بذلك؛ لأنه لم يظهر خيانته، فيترك في يديه إلى أن يظهر حال المفقود، والله أعلم بالصواب، تم كتاب المفقود بحمد الله تعالى.
(5/363)
كتاب الغصب
هذا الكتاب يشتمل على خمسة عشر فصلاً:
-----
1 * في نفس الغصب
2 * في حكم الغصب
3 * فيما لا يجب الضمان باستهلاكه
4 * في كيفية الضمان
5 * في خلط الغاصب مال رجلين أو رجل، أو مال غيره بماله، أو اختلط أحد المالين بالآخرين من غير خلط
6 * في استرداد المغصوب من الغاصب، وما يمنع من ذلك، وفيما يبرأ الغاصب به عن الضمان وما لا يبرأ
7 * في التسبب إلى الإتلاف
8 * قي الدعوى الواقع في الغصب، واختلاف الغاصب، والمغصوب منه والشهادة في ذلك
9 * في تملك الغاصب المغصوب، والانتفاع به
10 * في الأمر بالإتلاف
11 * في زراعة الأرض المغصوبة، والبناء فيها
12 * فيما يلحق العبد الغصب، فيجب على الغاصب ضمانه
13 * في غاصب الغاصب ومودع الغاصب
14 * في غصب الحر والمدبر، والمكاتب، وأم الولد
15 * في المتفرقات
الفصل الأول في نفس الغصب
فنقول: الغصب شرعاً: أخذ مال متقوم محرم بغير إذن المالك على وجه ينفي يد المالك إن كان في يده أو تتغير يده إن لم يكن في يده، وإنه نوعان:
نوع يتعلق به المأثم، وهو ما وقع عن علم، ونوع لا يتعلق به المأثم، وهو ما وقع عن جهل، والضمان يتعلق بهما جميعاً؛ لأن الضمان لجبر الحق، والحق يفوت في الحالين على نمط واحد، وشرطه عند أبي حنيفة رضي الله عنه :كون المأخوذ منقولاً، وهو قول أبي يوسف آخراً حتى إن غصب العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لا ينعقد موجباً للضمان. استعمال عبد الغير غصب له حتى لو هلك من ذلك العمل ضمن المستعمل قيمته علم المستعمل أنه عبد الغير أو لم يعلم، بأن جاء إليه وقال: أنا حر فاستعمله، وهذا لما بينا أن ضمان الغصب لا يختلف بالعلم وعدم العلم، وهذا إذا استعمله في أمر من أمور نفسه.(5/364)
-----
أما إذا استعمله في أمر نفسه لا يصير غاصباً له، فقد ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أن من قال لعبد الغير: ارتق شجرة المشمش هذه لتأكل أنت، فوقع من الشجرة ومات لا يضمن الآمر، ولو قال: لآكل أنا وباقي المسألة بحالها يضمن، وما افترقا إلا؛ لأنه في الفصل الأول ما استعمله في أمر نفسه، وفي الفصل الثاني استعمله في أمر نفسه.
وسئل شمس الإسلام عمن استعمل عبد الغير أو جارية الغير، فأبق في الاستعمال، فهو ضامن بمنزلة المغصوب إذا أبق من يد الغاصب، ومن استعمل عبداً مشتركاً، أو حماراً مشتركاً بينه وبين غيره بغير إذنه يصير غاصباً نصيب شريكه، وفي «أجناس الناطفي» في أمر الحبس الأول من كتاب «الدعوى» أن في استعمال العبد المشترك بغير إذن شريكه روايتان؛ عن محمد روى هشام عنه أنه يصير غاصباً نصيب صاحبه، وروى ابن رستم عنه: أنه لا يصير غاصباً، وفي الدابة يصير غاصباً نصيب صاحبه في الروايتين ركوباً وحملاً، وورد في زماننا من هذا الجنس فتوى من بعض البلدان.
وصورته: رجل كان يكسر الحطب، فجاء غلام رجل وقال: أعطني القدوم والحطب حتى أكسرها، فأبى صاحب الحطب ذلك، فأخذ الغلام القدوم منه، وأخذ الحطب وكسر بعضه، وقال: ائتِ آخر معي أكسر، فأتى صاحب الحطب، بحطب آخر فكسره الغلام، فضرب بعض المكسور من الحطب على عين الغلام، وذهبت عينه، فأفتى مشايخ زماننا أنه لا يكون على صاحب الحطب شيء؛ لأن صاحب الحطب لم يأمر الغلام بكسر الحطب، ولم يستعمله فيه، وإنما فعل العبد ذلك باختياره، فلا يكون على صاحب الحطب شيء.
وسئل أبو بكر عمن وجه جاريته إلى النخاس فبعثتها امرأة النخاس في حاجة فهربت، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: الضمان على امرأة النخاس لا غير، وعلى قولهما؛ وإن شاء ضمن النخاس أيضاً كما عرف في أجير المشترك.(5/365)
-----
في «فتاوى أبي الليث»: جارية جاءت إلى النخاس بغير إذن مولاها، وطلبت البيع، ثم ذهبت، ولا يدري أين ذهبت، وقال النخاس: رددتها على المولى، فالقول قول النخاس، ولا ضمان عليه، ومعنى ذلك أن النخاس لم يأخذ الجارية، ومعنى الرد أمره إياها بالذهاب إلى منزل المولى، أما إذا أخذ النخاس الجارية من الطريق، أو ذهب بها من منزل مولاها بغير أمره لا يصدق.
ركب دابة رجل في حال غيبته بغير أمره، ثم نزل عنها وتركها في مكانها، ذكر في آخر كتاب «اللقطة» أن عليه الضمان، وذكر الناطفي في «واقعاته» اختلاف الروايات، قال عنه: والصحيح أنه لا يضمن على قول أبي حنيفة؛ لأن غصب الدابة لا يتحقق من غير النقل، وعن أبي يوسف أيضاً في «المنتقى» أنه لا ضمان، وفي اختلاف زفر ويعقوب عن أبي يوسف أنه يضمن.
وصورة ما ذكر في «المنتقى»: رجل قعد على ظهر دابة رجل، ولم يحولها عن موضعها، وجاء رجل آخر وعقرها، فالضمان على الذي عقرها دون الذي ركب إذا لم تعطب من ركوبه، وإن كان قد جحدها قبل أن تعقر، ومنعها من صاحبها، ولم يخرجها من موضعها، ثم عقرها هذا الآخر فلصاحبها الخيار؛ يضمن أيهما شاء، وقال: وكذلك من أخذ متاع إنسان في دار صاحب المتاع، ثم حجده فهو ضامن، وإن لم يخرجه من الدار، وإن لم يجحد، فلا ضمان عليه إلا إذا هلك من فعله أو أخرجه من الدار، وهذا استحسان.
وفيه عن أبي يوسف أيضاً: رجل دخل منزل رجل وحمل من بيت منه إلى بيت آخر من ذلك المنزل، أو إلى ضمن ذلك المنزل متاعاً، وإنما يسكن المنزل الرجل وغلمانه، فضاع ففي القياس: هو ضامن، وفي الاستحسان: لا ضمان إذا كان هذا الموضع في الحرز مثله، وسئل قاضي القضاة شمس الإسلام الأوزجندي عن إصطبل مشترك بين رجلين لكل واحد منهما فيه بقر، دخل أحدهما الإصطبل وشد بقر صاحبه حتى لا يضرب بقره، فحرن البقر، ويخنق بالحبل ومات قال: لا ضمان عليه إذا لم ينقله من مكان إلى مكان.(5/366)
-----
السلطان (112ب2) إذا أخذ عيناً من أعيان رجل، فرهن عند رجل، فهلك عند المرتهن؛ إن كان المرتهن طائعاً يضمن، ويكون للمالك الخيار بين تضمين السلطان والمرتهن، ويبنى على هذا الحال الذي يقال له جابي كبار إذا أخذ شيئاً رهناً وهو طائع يضمن، وكذا الصراف إذا كان طائعاً يضمن، وصار الصراف والجابي مجروحين في الشهادة؛ ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «وديعة واقعاته»؛ وقعت قلنسوة من رأس المصلي، فجاءها رجل، فإن نحاها حيث ينالها المصلي لا يضمن، وإن نحاها أكثر من ذلك يضمن.
في «واقعات الناطفي» (و)في «العيون»: رجل دخل منزل رجل بإذنه، وأخذ إناءً من بيته بغير إذنه لينظر إليه، فوقع من يده وانكسر فلا ضمان إلا إذا كان نهاه صاحب البيت عن الأخذ قبل ذلك؛ لأنه مأذون في أخذه دلالة، ألا ترى أنه لو أخذ كوزماء، وشرب منه فسقط من يده وانكسر فلا ضمان عليه، ولو أتى سوقياً يبيع أواني من زجاج أو غيره، فأخذ آنية بغير إذنه لينظر إليه فسقط من يده وانكسر ضمن؛ لأنه غير مأذون في أخذه لا نصاً ولا دلالة.
في «فتاوى أهل سمرقند» قدم إلى بياع الخزف وأخذ منه غضارة بإذنه لينظر فيها، فوقعت الغضارة من يده على غضارة أخرى، فانكسرت الغضارات، فلا ضمان عليه في المأخوذة؛ لأنها مأخوذة بإذن ويجب ضمان الباقيات. شرع في الحمام، وأخذ فنجانه وأعطاها غيره، فوقع من يد الثاني وأنكر فلا ضمان على الأول؛ إما أن يكون مستأجراً، أو مستعيراً، وللمستأجر أن يعير، وكذلك للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس فيه.
في «المنتقى»: رجل عنده وديعة لرجل، وهي ثياب، فجعل المودع فيها من ماله، ثم طلبها صاحب الوديعة، فدفع كلها إليه، فضاع ثوب المودع، فصاحب الوديعة ضامن له، قال: ثمة كل من أخذ شيئاً على أنه له، ولم يكن له فهو ضامن.(5/367)
-----
رجل أضاف رجلاً، فنسي الضيف عنده ثوباً، فأتبعه المضيف بالثوب، فغصب الثوب غاصب في الطريق، قال: إن غصب في المدينة فلا ضمان على المضيف، وإن غصب خارج المدينة فهو ضامن.
في «نوادر ابن رستم»: ضرب رجلاً حتى سقط ومات، ومع المضروب مال .... قال محمد رحمه الله: الضارب ضامن المال الذي كان مع المضروب، وكذلك يضمن ثيابه التي عليه إذا ضاعت؛ لأنه هو الذي استهلك ذلك كله. تعلق برجل وخاصمه، فسقط عن التعلق به شيء، وضاع ضمنه المتعلق.
في «فتاوى أهل سمرقند»: بعث الرجل رجلاً إلى القصار ليأخذ ثوباً له، فدفع القصار إلى الرسول ثوباً، فضاع الثوب من يد الرسول، وظهر أن الثوب لم يكن للمرسل، وإنما كان لغيره؛ قال: ينظر؛ إن كان الثوب للقصار فلا ضمان على الرسول، وإن كان لغير القصار فرب الثوب بالخيار؛ إن شاء ضمن القصار، وإن شاء ضمن الرسول.(5/368)
-----
في غصب «المنتقى»: بعث الرجل غيره إلى ما....، فأخذ المبعوث دابة الآمر وركبها، فهلكت الدابة في الطريق؛ إن كان بين الآمر والمبعوث انبساط في أن يفعل مثل ذلك فلا ضمان، وإلا فهو ضامن، في غصب «فتاوى أبي الليث»: ارتهن خاتماً، وجعله في خنصره، فضاع فهو ضامن؛ لأن هذا ليس معتاد، فيصير به غاصباً. في «العيون»: والخنصر اليمنى واليسرى سواء، وهو الصحيح؛ لأن بعض الناس يجعلونه في اليمنى، والبعض يجعلونه في اليسرى، وإن جعله في البنصر فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا ضمان؛ لأن هذا ليس بلبس معتاد بل هو للحفظ، فلا يصير به غاصباً، وذكر شيخ الإسلام أنه ضامن، وسوى بين الخنصر والبنصر، والأول أصح، وإن جعله في خنصره فوق خاتم آخر، فالمروي عن محمد في بعض الروايات أنه لا ضمان، فذكر له عن بعض السلاطين أنه يلبس الخاتم فوق الخاتم، فقال محمد رحمه الله: يلبسه للختم، أشار إلى أن هذا اللبس ليس للتزين فلا يكون استعمالاً، فلا يكون غصباً، وفي آخر كتاب «اللقطة»: إن الرجل إذا كان معروفاً بلبس خاتمين للتزين فهو ضامن، وإلا فلا يضمن، وإن (كان) سيفاً فتقلده، صار ضامناً، وكذلك إن كان متقلداً سيفاً فتقلد بهذا، وإن كان متقلداً سيفين فتقلد بهذا لا يضمن بالإجماع.
سكران ذاهب العقل دفع ثوبه في الطريق، والسكران نائم في الطريق، جاء رجل وأخذ ثوبه ليحفظه في مكان، فهلك الثوب في يده فلا ضمان، ولو كان الثوب تحت رأسه، والمسألة بحالها ضمن، في «فتاوى سمرقند»: إذا أخذ القلنسوة من رأس رجل فوضعها على رأس رجل آخر، فطرحها الآخر من رأسه فضاعت، فإن كانت القلنسوة بمرأى من غير صاحبها وأمكنه رفعها، وأخذها فلا ضمان على واحد منهما؛ لأنه حصل الرد إلى المالك، وإن كان بخلاف ذلك فصاحب القلنسوة بالخيار؛ إن شاء ضمن الآخذ، وإن شاء ضمن الطارح.(5/369)
-----
زق انفتح فمر به رجل، فإن لم يأخذه، ولم يدن منه فلا ضمان عليه، وإن أخذه ثم تركه، فإن كان المالك غائباً فهو ضامن، وإن كان حاضراً فلا ضمان، وعلى هذا إذا رأى إنسان ما وقع من كم غيره.
في «فتاوى أبي الليث» عن خلف بن أيوب، عن محمد بن الحسن رحمهم الله: رجل أدخل دابته في دار رجل، فأخرجها صاحب الدار فضاعت، فلا ضمان عليه، ولو وضع رجل ثوباً في دار رجل، فرمى به صاحب الدار، فضاع فهو ضامن؛ لأن كون الدابة في الدار ضرر لصاحب الدار، فهو بالإخراج يدفع الضرر عن نفسه، ولا كذلك الثوب في الدار.
الفصل الثاني في حكم الغصب
فنقول: للغصب حكمان: أحدهما: وجوب رد العين ما دام على حاله لم يتغير، قال عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى ترد» والتغير نوعان: قد يكون من حيث الزيادة، وقد يكون من حيث النقصان، وقد يكون بفعل الغاصب، وقد يكون بفعل غيره، وقال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا غصب من آخر ثوباً، فصبغه أحمر أو أصفر فصاحب الثوب بالخيار؛ إن شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه الأبيض، وكان الثوب للغاصب، وإن شاء أخذ الثوب وضمن للغاصب ما زاد الصبغ فيه؛ لأن الصبغ مال متقوم للغاصب، قائم في الثوب، ويقدر اتصال منفعة كل واحد منهما إلى صاحبه على الانفراد، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين، فرجحان جانب صاحب الثوب؛ لأنه صاحب الثوب؛ (113أ2) صاحب أصل، وإن شاء ضمنه قيمة الثوب الأبيض، وترك الثوب عليه حتى لا يلزمه زيادة غرم، وهو قيمة الصبغ، وإن شاء أخذ الثوب، وضمن قيمة ما زاد الصبغ فيه، فيصل إلى مالك الثوب عمن حقه، وإلى صاحب الصبغ مالية حقه، وفيه خيار آخر، وهو أن يترك الثوب على حاله، والصبغ على حاله، ويباع الثوب، ويقسم الثمن بينهما على قدر حقيهما.(5/370)
-----
وإن صبغه أسود، ثم جاء رب الثوب كان له أن يضمن الغاصب، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف ومحمد: السواد بمنزلة العصفر، وهذا اختلاف زمان، وقيل: السواد يزيد في قيمة بعض الثياب، وينقص من قيمة البعض، فإن كان المغصوب شيئاً ينقص بالسواد فالجواب ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه، وإن كان يزيد فالجواب ما قالا، ولم يذكر في «الكتاب» ما إذا نقص عصفر الثوب بأن كان قيمة الثوب ثلاثون فعاد قيمته إلى عشرين، وقد يكون لون عصفر نقصاناً في الثوب.
وروى هشام عن محمد: أنه ينظر إلى قيمة الصبغ في ثوب يزيد فيه، فإن كان قيمته خمسة فلصاحب الثوب أن يأخذ ثوبه، ويأخذ خمسة دراهم؛ لأن صاحب الثوب استوجب على الغاصب عشرة، والغاصب استوجب عليه قيمة الصبغ خمسة، فصارت الخمسة بالخمسة قصاصاً، بقي نقصان الثوب بقدر خمسة بلا جابر، وكذلك السواد على هذا، ولو غصب من آخر ثوباً وقصره؛ كان لصاحب الثوب أن يأخذ الثوب، ولا يضمن للغاصب شيئاً؛ لأنه لم يتصل بالثوب شيء من مال الغاصب.
وإذا غصب سويقاً ولته بسمن ثم حضر المالك فله الخيار؛ إن شاء ترك السويق مع أن السويق من ذوات الأمثال، بعض مشايخنا قالوا: المراد فهو من القيمة المذكورة في «الكتاب» المثل، أو إن كان المراد حقيقة القيمة فهو محمول على ما إذا انقطع السويق، وبعضهم قالوا: إن كان المراد حقيقة القيمة فهو محمول على الرواية التي لا تجوز بيع السويق بمثله، فإن في بيع السويق بمثله روايتان؛ وإن شاء أخذ السويق وضمن سمناً مثل سمن الغاصب.
(5/371)
-----
وإذا غصب ثوباً وقطعه قميصاً، ولم يخطه، فله أن يأخذ ثوبه، وضمنه ما نقصه القطع،و إن شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته، حتى المسألة تبنى على مسألة أخرى أن من خرق ثوباً لغيره إن كان الخرق فاحشاً، فصاحب الثوب بالخيار؛ إن شاء ترك الثوب عليه، وضمنه جميع قيمة الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان، وإن كان الخرق يسيراً كان المهلك يضمن النقصان لا غير.
واختلف المتأخرون في الحد الفاصل بين الخرق اليسير وبين الفاحش؛ بعضهم قالوا: إن أوجب نقصان ربع القيمة فصاعداً فهو فاحش، وإن كان دون ذلك فهو يسير، وقال بعضهم: إن أوجب نقصان نصف القيمة فهو فاحش وما دونه يسير، وبعضهم قالوا: الفاحش ما لا يصلح لثوب ما، واليسير ما يصلح، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: قالوا: ما ذكر من التحديد من هذه الوجوه الثلاثة لا يصح بدليل مسألة قطع القميص على الوجه الذي قلنا.w
والثوب بعدما قطع قميصاً يصلح للقميص إن كان لا يصلح للفساد أمثاله، والساقط من القيمة أقل من النصف ومن الربع مع هذا اعتبره محمد رحمه الله فاحشاً، والصحيح من الحد على ما قاله محمد رحمه الله أن الخرق الفاحش ما يفوت بهم بعض العين، وبعض المنفعة بأن فات جنس منفعته، وبقي بعض العين وبعض المنفعة، واليسري من الخرق ما يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يفوت الجودة، ويدخل يسير نقصان في المالية، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد قيل: يرفع في ذلك إلى الخياطين، وأهل الصناعة إن عدوا ذلك نقصاناً فاحشاً فهو فاحش، وإن عدوا ذلك نقصاناً يسيراً (فهو يسير)، وقال بعضهم: إن كان طولاً فهو فاحش، وإن كان عرضاً فهو يسير؛ قال رحمه الله: والقول الأول أصح.(5/372)
-----
جئنا إلى مسألة قطع القميص فنقول: قطع القميص خرق فاحش؛ لأنه يفوت به بعض المنافع، وفي الخرق الفاحش صاحب الثوب بالخيار؛ لأن استهلاك من وجه دون وجه، فإن شاء مال إلى جهة الاستهلاك وضمنه القيمة، وإن شاء مال إلى جهة القيام وضمنه النقصان.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القطع أنواع ثلاثة: قطع فاحش غير مستأصل للثوب، وهو باتفاق الحكم فيه ما ذكره، وقطع يسير، وهو أن يقطع طرفاً من أطراف الثوب فلا يثبت فيه الخيار للمالك؛ بل يضمنه النقصان، وقطع فاحش مستأصل للثوب، وهو أن يجعل الثوب قطعاً لا تصلح إلا للخرقة، ولا يرغب في شرائه، وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في هذا الفصل أن للمالك الخيار؛ إن شاء ترك القطع عليه وضمنه القيمة، وإن شاء أخذ القطع ولا شيء له، وعندهما: له أن يأخذ الثوب ويضمنه النقصان.
وهذه المسألة فرع مسألة الديات؛ إذا قطع يدي عبد إنسان قال الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله: والحكم الذي ذكرنا في الخرق في الثوب من تخير المالك إذا كان الخرق فاحشاً، وإمساك الثوب، وأخذ النقصان إذا كان الخرق يسيراً، فهو الحكم في كل عين من الأعيان إلا في الأموال الربوية فإن التعييب هناك فاحشاً كان أو يسيراً، فهو الحكم في كل عين مثلاً كان لصاحبها الخيار بين أن يمسك العين، ولا يرجع على الغاصب بشيء، وبين أن يسلم العين له ويضمنه مثله أو قيمته؛ لأن تضمين النقصان يتعذر؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وإذا قطع الثوب قميصاً، أو لم يخطه، فإن خاطه ينقطع حق المالك.(5/373)
-----
وإذا غصب دابة وقطع يدها أو رجلها فلا خيار للمالك فيها، ويضمنه القيمة ويترك الدابة عليه، وكذلك لو كانت شاة أو بقرة، فذبحها أو قطع يدها، أو رجلها كان الجواب كذلك، قال شمس الأئمة الحلواني: ويستوي أن تكون الشاة للغاصب أو غيره وهو الصحيح، فقد روي في رواية أخرى في مأكول اللحم للمالك الخيار، ولم يذكر محمد رحمه الله في مسألة (113ب2) الشاة ما إذا أراد المالك أن يأخذ الشاة بعد الذبح، ولا يضمنه النقصان هل له ذلك؟ وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن له ذلك، قال شيخ الإسلام: وقد ذكر محمد في كتاب «الغصب» ما يدل على هذا، فإنه قال: ضمن.
غصب عصيراً فصار خلاً عنده، ثم جاء المالك كان بالخيار، إن شاء ضمن عصيراً مثل عصيره، وإن شاء أخذ الخل، وبعدما صار خلاً لم يبق فيه شيء من منافع العصير، كالشاة بعد الذبح، ثم أثبت للمالك حق الأخذ إن شاء، فهذا يدل على أن في الشاة المذبوحة له ذلك؛ لأن الذبح والسلخ زيادة، وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح أنه ليس له ذلك، أشار إلى أن حق المالك ينقطع بمجرد الذبح، وإنه يخالف ظاهر الرواية.
وفي «المنتقى»: هشام عن محمد رحمه الله: رجل قطع يد حمار أو رجل حمار وكان لما بقي قيمة فله أن يمسكه، ويأخذ النقصان، ولا يسلم إليه الجلد، فإن كان لجلد الحمار ثمن فله ذلك، وإن كان قتله فليس له ذلك، قال هشام: لأن ذبحه بمنزلة الدباغ.
وفي «النوادر»: إذا قطع أذن الدابة أو بعضه يضمن النقصان، وجعل قطع الأذن من الدابة نقصاناً يسيراً، وكذلك لو قطع ذنبها يضمن النقصان، وعن شريح رحمه الله: إن قطع ذنب حمار القاضي يضمن جميع القيمة، وإن كان لغيره يضمنه النقصان لا غير.(5/374)
-----
استهلك قلب فضة إنسان وأحرقه؛ يضمن قيمته مصنوعاً من الذهب؛ لأن الصناعة في مال الربا تضمن مع الأصل بالإتلاف كالجودة، ولا يمكن إيجاب قيمته مصنوعاً من جنسه؛ لأنه ربا ولا يمكن إيجاب مثله مصنوعاً؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال، فيتعين إيجاب القيمة مصنوعاً من خلاف الجنس، فإن وجده صاحبه مكسوراً فهو بالخيار؛ لأن الكسر عيب فاحش، وإن رضي به لم يكن له فضل ما بين المكسور والصحيح؛ لأنه ربا، وإذا أراد القاضي أن يضمن الغاصب قيمته ضمنه مصنوعاً من الذهب، وكذلك كل إناء مصنوع كسره رجل إن من فضة فعليه الذهب.
وإن كسر درهماً أو ديناراً، فعليه مثله والمكسور للكاسر، قال شيخ الإسلام: قال مشايخنا: هذا إذا كان الكسر ينقص من ضربه، وأما إذا كان الكسر لا ينقص من ضربه ليس له إلا ذلك المكسور؛ لأن ما هو المقصود من الدراهم والدنانير تام بعد الكسر على حاله لم ينقص، وهذا كما قلنا من كسر رغيف إنسان ليس لصاحبه إلا المكسور لما قلنا ههنا، قال شمس الأئمة السرخسي: عليه مثله، وإن شاء صاحبه أخذه، ولم يرجع عليه يشيء، سواء انتقصت ماليته بالكسر أو لم تنتقص.
غصب من آخر جارية شابة، فكانت عنده حتى صارت عجوزاً، فإن لصاحبها أن يأخذها وما نقصها، وكذلك لو غصب غلاماً شاباً، فكان عنده حتى هرم أخذه صاحبه وما نقصه، وهذا إذا كان النقصان يسيراً، فإن كان فاحشاً يخير المالك بين الأخذ والترك، وعليه أكثر المشايخ، ولو غصب صبياً فشب عنده، أو نبت شعر وجهه فصار ملتحياً، أخذه صاحبه، ولا يضمنه شيئاً. ولو غصب جارية ناهدة الثديين، فانكسر ثديها عنده ضمن النقصان.(5/375)
-----
ولو غصب عبداً محترفاً فنسي ذلك عند الغاصب كان ضامناً للنقصان، ولو غصب ثوباً فعفي عنده أو اصفر، أخذه المالك وما نقصه، وهذا إذا كان النقصان يسيراً، فأما إذا كان كثيراً يخير بين الأخذ والترك، وإن كان المغصوب مكيلاً أو موزوناً فعفن عند الغاصب فعليه مثله، وهذا الفاسد للغاصب، وإن شاء أخذ الطعام العفن ولا شيء له، وإنما كان كذلك؛ لأن تضمين النقصان في المكيلات والموزونات يؤدي إلى الربا؛ لأنه يصل إليه مثل وزنه وكيله وزيادة، فتكون الزيادة بإزاء الجودة، والجودة في مال الربا لا قيمة لها بانفرادها، والاعتياض عما لا قيمة له ربا، وفي الثياب لا يكون رباً؛ لأن الزيادة تكون بإزاء الجودة، والاعتياض عن الجودة في الثياب جائز.
غصب فضة وضربها دراهم أو صاغها إناءً، أو غصب ذهباً فضربه دنانير، أو صاغه إناءً؛ قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينقطع حق المالك بل يأخذ الذهب والفضة، ولا أجر للغاصب، وقال أبو يوسف ومحمد: ينقطع حق المالك، ويعطيه مثل ذهبه، وإن غصب دراهم وسبكها، ولم يضرب منه شيئاً، فإنه لا ينقطع حق المالك بلا خلاف.
فوجه قول أبي يوسف ومحمد: أنه أحدث صنعة متقومة، واستهلك المغصوب من وجه، أما إذا ضربها دراهم؛ لأنه كسرها؛ لأن ضرب الدراهم لا يتأتى إلا بعد الكسر، وأما إذا صاغها إناءً، فلأنه أخرجه من الثمنية؛ لأنه قبل هذا لا يتعين بالتعيين، والآن يتعين.(5/376)
-----
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الاستهلاك لم يوجد، ومجرد الصنعة بدون الاستهلاك من وجه لا يوجب انقطاع حق المالك، وإنما قلنا: لم يوجد الاستهلاك؛ لأن الاستهلاك من وجه بتفويت بعض الأعيان، أو بتفويت جنس المنفعة، وبضرب الفضة دراهم لم يثبت شيء من العين؛ لأن قيام العين في الذهب والفضة بقيام الوزن، والوزن على حاله، ولم يثبت جنس المنفعة؛ لأن منفعتها الثمنية، والثمنية قد ازدادت بالضرب دراهم، وكذلك بجعلها إناءً لم تفت العين، ولم تفت منفعة الثمينة، بل انتقصت مع الثمنية، وبالنقصان لا ينقطع حق المالك.
ولو غصب صفراً وجعل كوزاً انقطع حق المالك، وكان الكرخي رحمه الله يقول: هذا إذا كان بعد الصنعة لا يباع وزناً، أما إذا كان يباع وزناً ينبغي أن لا ينقطع حق المالك عند أبي حنيفة رضي الله عنه كما في النقرة، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أن الجواب مطلق؛ بخلاف النقرة عند أبي حنيفة رضي الله عنه.
وإن كسر صاحب الصفر الكوز بعدما ضمن الغاصب قيمة صفرته، أو قبل أن يقضى له بالقيمة، قال: عليه قيمة الكوز صحيحاً، ويأخذ الكوز، قال شمس الأئمة الحلواني: ولا يقع المقاصة بين الضمانين؛ لأن ما وجب لصاحب الصفر على الغاصب ضمان المثل؛ لأنه يضمنه مثل وزنه من الصفر، وما وجب للغاصب على صاحب الصفر ضمان القيمة، وهو قيمة الكوز، فكانا من جنسين، فلا تقع المقاصة بينهما، قال في «الكتاب»: إلا أنه يحاسب بما عليه بعض مشايخنا قالوا: مراده من هذا (114أ2) إذا اصطلحا على شيء، فيكون استبدالاً فيجوز، أما بدون ذلك لا يجوز، لما بينا أن ما وجب لصاحب الصفر على الغاصب ضمان المثل، وما وجب للغاصب على صاحب الصفر ضمان القيمة، وبعض مشايخنا قالوا: تأويله إذا كان المغصوب صفراً ليس له بديل حتى وجب قيمة الصفر، فتقع المقاصة.(5/377)
-----
غصب من آخر مصحفاً ونقطه فهي زيادة، وصاحبه بالخيار؛ إن شاء أعطاه ما زاد ذلك فيه، وإن شاء ضمنه قيمته غير منقوط، وهذا قول محمد رحمه الله، وروى العلاء عن أبي يوسف أنه يأخذ بغير شيء، كرجل غصب غلاماً، وعلمه الكتاب.
في غصب «المنتقى»: غصب من آخر كاغدةً وكتب عليها، ذكر شيخ الإسلام أنه ينقطع حق المالك، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله فيه اختلاف المشايخ، قال رحمه الله: والصحيح أنه لا ينقطع.
غصب من آخر قطناً وغزله ونسجه، أو غصب غزلاً ونسجه، ينقطع حق المالك، ولو غصب قطناً وغزله ولم ينسجه، ففيه اختلاف المشايخ، والصحيح أنه ينقطع.
غصب حنطة وطحنها، فقول أبي حنيفة ومحمد فيها معروف، وعن أبي يوسف ثلاث روايات؛ في رواية مثل ما قالا، وفي رواية قال: يزول ملكه، ولكن لا يسقط حقه عنه، وتباع العين في ديّته وهو أحق بذلك من جملة الغرماء إن مات، وفي رواية قال له أن يأخذ الدقيق، ويرأ الغاصب عن الضمان.
غصب دقيقاً وخبزه، أو لحماً فشواه، أو سمسماً فعصره، ينقطع حق المالك في ظاهر رواية أصحابنا، وكذلك إذا غصب ساجة، وجعلها باباً، أو حديدة وجعلها سيفاً، ينقطع حق المالك، ويضمن قيمة الحديدة والساجة، وجميع ذلك للغاصب، وكذلك لو غصب ساجة أو خشبة، وأدخلها في بنائه أو غصب آجراً وأدخله في بنائه أو جصاً..... فعليه في ذلك كله القيمة، وليس للمغصوب منه أن ينقض البناء، ويأخذ الساجة والخشبة، والآجر والجص.
(5/378)
-----
ولو غصب ساجة وبنى عليها لا ينقطع حق المالك، وكان له أن يأخذها، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الكرخي أنه ذكر في بعض كتبه تفصيلاً فقال: إن كانت قيمة الساجة أقل من قيمة البناء، ليس له أن يأخذها، وإن كانت قيمة الساجة أكثر، فله أن يأخذها، وكذا في الساجة إذا كانت قيمتها أقل من قيمة البناء، لا يأخذ الساجة، وإذا كانت قيمة الساجة أكثر من قيمة البناء له أن يأخذ الساجة، وقال: المراد بما ذكر في «الكتاب» ما قلنا، وزعم أن هذا هو المذهب، قال مشايخنا: وهذا قريب من مسائل حفظت عن محمد رحمه الله أن من كان في يده لؤلؤة، فسقطت اللؤلؤة، فابتلعتها دجاجة إنسان ينظر إلى قيمة الدجاجة واللؤلؤة، إن كانت قيمة الدجاجة أقل يخير صاحب اللؤلؤة إن شاء أخذ الدجاجة، وضمن قيمتها للمالك، وإن شاء ترك اللؤلؤة، وضمن صاحب الدجاجة قيمة اللؤلؤة، وكذلك لو أودع رجلاً فصيلاً، فكبر الفصيل حتى لا يمكن إخراجه من البيت إلا بنقض البناء ينظر إلى أكثرها قيمة، ويخير صاحب الأكثر، وستأتي مسألة الدجاجة واللؤلؤة، ومسألة الفصيل بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولم يذكر في «الأصل» ما إذا أراد الغاصب أن ينقض البناء، ويرد الساجة هل يحل له ذلك؟ وهذا على وجهين: إن كان القاضي قضى عليه بالقيمة لا يحل له نقض البناء، وإذا انتقض لم يستطع رد الساجة، وإن كان القاضي لم يقض عليه بالقيمة؛ اختلف فيه المشايخ؛ بعضهم قالوا: يحل وبعضهم قالوا: لا يحل لما فيه من تضييع المال من غير فائدة.(5/379)
-----
غصب من آخر داراً ونقشها بهذه الأصباغ بعشرة آلاف، ثم جاء صاحب الدار أقول له: إن شئت فخذ الدار، وأعط الغاصب ما زاد الأصباغ فيه، فإن أبى جعلت الدار للغاصب بقيمتها إذا كان يبلغ الأصباغ شيئاً كبيراً، ولم ترتث هكذا روى هشام عن محمد رحمه الله، واستشهد عليه بدجاجة ابتلعت لؤلؤة؛ قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في هذه المسألة: يقال لصاحب الدار: أعطِ الغاصب ما زاد النقش في دارك، فإن أبى أمر به بقلعه، وضمنه ما نقص القلع.
وفي «القدوري»: غصب من آخر داراً وجصها ثم ردها، قيل لصاحبها: أعطِ ما زاد الجص فيها إلا أن يرضى صاحب الدار أن يأخذ الغاصب جصه، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل وثب على باب مقلوع، ونقشه بالأصباغ، قال: سبيله سبيل الدار، قلت: وإن كان نقشه بالنقر وليس بالأصباغ قال: فهذا مستهلك للباب، وعليه قيمته، والباب له، قال: وكذلك لو نقش إناء فضة بالنقر.
قال هشام: وسألت محمداً عن رجل غصب أرضاً، وغرس فيها أشجاراً فَغَلُظَ وبلغ، قال: إن كان قلع الأشجار يفسد الأرض، فصاحب الأرض بالخيار؛ إن شاء أعطاه ما زاد الأشجار في أرضه بالغاً (ما بلغ) وإن شاء أخذه فقلعه وضمنه النقصان، وإن كان قلع الأشجار لا يفسد الأرض ولكن ينقصها شيئاً، فإنه يأخذ الأرض، ويقلع الأشجار ويضمنه النقصان، وليس لصاحب الأرض أن يقول: أنا آخذ الأشجار ولا أقلعها، وأعطيه قيمتها، إنما له أن يعطيه قيمتها إذا كان القلع يفسد الأرض.
(5/380)
-----
غصب خمر مسلم وخللها، قال في «الكتاب»: لرب الخمر أن يأخذها، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تأويل المسألة ما إذا خللها بشيء لا قيمة له بأن نقل من الشمس إلى الظل أو من الظل إلى الشمس أو ألقى فيه شيئاً يسيراً من الملح أو الخل، بحيث لا قيمة له، أما إذا ألقى فيه خلاً أوله قيمة عند أبي حنيفة يصير الخل ملكاً للغاصب، ولا شيء عليه، وأما على قول أبي يوسف ومحمد؛ إن كان ألقى فيه الملح أخذه المالك، وأعطاه ما زاد الملح فيه، وإن كان ألقى فيه الخل فهو بينهما على قدر كيلهما.
ويستوي إن صبت من ساعتها أو بعد حين، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان الذي صبَّ فيها خل كثير، حتى صار خلاً من ساعته، فهو كله للغاصب، وإن كان قليلاً، وصار خلاً بعد حين، فهو بينهما على مقدار كيلهما، وبعض مشايخنا قالوا: إن خلله بما ليس له قيمة أخذه مجاناً، وإن خلله بما له قيمة أخذه وأعطاه ما زاد الملح والخل فيه.
وإذا غصب عصيراً فصار خمراً عنده، فله أن يضمنه مثله إن كان في حينه، وقيمته إن كان في غير حينه، ولو أراد أن يأخذ الخمر، ولا يضمنه؛ هل له ذلك؟ اختلف المشايخ فيه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. والصحيح أنه ليس له ذلك (114ب2) وقال بعضهم: له ذلك، وهكذا ذكر الكرخي في «كتابه» عن أبي يوسف.
ثم إذا كان له حق الأخذ على قول هؤلاء؛ لو أراد أن يضمنه النقصان مع ذلك ليس له ذلك، وذكر في «القدوري» عن أبي يوسف: أن من غصب عصيراً فصار عنده خلاً، أو لبناً حليباً، فصار عنده مخيضاً، أو عنباً فصار زبيباً، فالمغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذ ذلك بعينه، ولا شيء له غيره، وإن شاء ضمنه مثله وسلم ذلك إليه؛ لأنه قد انتقص في يد الغاصب وتعيب ولا يمكن النقصان مع أخذ العين؛ لأن هذه الأعيان تجري فيها الربا، فلم تكن الجودة بانفرادها متقومة، فإذا أخذ العين سقط حق التضمين، وإن شاء ضمنه المثل.(5/381)
-----
وإذا غصب جلد ميتة ودبغه، إن دبغه بما لا قيمة (له)، فإنه يأخذه مجاناً، وإن دبغه بما له قيمة أخذه، وأعطاه ما زاد الدباغ فيه. قال القدوري في «كتابه»: هذا إذا أخذ الجلد من ميتة له ودبغه، أما إذا ألقى صاحب الميتةِ الميتةَ في الطريق، فأخذ رجل جلدها، ودبغه بما لا قيمة له، فليس للمالك أن يأخذ الجلد.
وللغاصب أن يحبس الجلد حتى يصل إليه قيمة ماله. ولو أراد صاحب الجلد أن يترك الجلد على الغاصب ويضمنه قيمة الجلد ليس له ذلك، ولو كان المغصوب جلد ذكي كان له ذلك.
قال مشايخنا: هذا الفرق بين جلد الميتة وبين جلد الذكي ذهب إليه الحاكم الشهيد، والجواب في الميتة وفي الذكي واحد، للمالك أن يترك الجلد عليه، ويضمنه قيمة جلده.
وفي «القدوري»: لو أن الغاصب جعل هذا الجلد أديماً أو وقراً أو جراباً لم يكن للمغصوب منه على ذلك سبيل؛ لأنه تبدل الاسم والمعنى بصنع الغاصب، فكان هو أولى. فإن كان الجلد ذكياً، فله قيمته يوم الغصب، وإن كان جلد ميتة فلا شيء له.
وفيه أيضاً: لو غصب خمراً وخللها، ثم استهلكها، فعليه خل مثله؛ لأنه صار خلاً على ملك مالكه. وإذا غصب تراباً ولبّنة، أو جعله آنية، فإن كان له قيمة، فهو مثل الحنطة إذا طحنها، وإن لم يكن له قيمة فهو له، ولا شيء عليه من الضمان؛ لأن الضمان إنما يقام مقام العين عند تقومه، وفي كل موضع ينقطع حق المالك، فالمغصوب منه أحق بذلك الشيء من بين سائر الناس حتى يستوفي حقه، فإن ضاع ذلك ضاع من مال الغاصب، ولا يكون هذا بمنزلة الرهن، هكذا ذكر في «المنتقى». وفي «القدوري» أن المغصوب منه يكون أسوة للغرماء في الثمن، ولا يكون أخص بشيء من ذلك.(5/382)
-----
وفي «المنتقى»: ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: رجل هشم طستاً لرجل، وهو مما يباع وزناً، فرب الطست بالخيار؛ إن شاء أمسك الطست، ولا شيء له، وإن شاء دفعه وأخذ قيمته وكذلك كل إناء مصنوع. وإن كان مما لا يباع وزناً كالسيف، فكسره رجل كان عليه ما نقصه، فإن جاء آخر، واستهلك السيف المكسور كان عليه حديد مثله، قال من قبل أنه يجوز للرجل أن يبيع سيفاً بدراهم وحديد مثل السيف، ولا يجوز أن يبيع طستاً يباع وزناً بدراهم وصفر مثل وزن الطست. قال في «المنتقى» أيضاً: وإذا باع الرجل شيئاً من غيره، ثم إن البائع فعل بعض ما وصفنا كل شيء كان الغاصب فيه مستهلكاً، ولم يكن للمغصوب منه أن يأخذه، فكذا ليس للمشتري أن يأخذه، وكل شيء لم يكن الغاصب فيه مستهلكاً، وكان للمغصوب منه أن يأخذه، فللمشتري أن يأخذه.
وفي «العيون»: غصب من آخر عبداً قيمته خمسمائة فخصاه فصار يساوي ألف درهم، نص عن محمد أن صاحب الغلام بالخيار؛ إن شاء ضمنه قيمته يوم الخصاء خمسمائة، وإن شاء أخذ الغلام، ولا شيء له، وقال بعض المشايخ: يقوم الغلام بكم يشترى للعمل قبل الخصاء، ويقوم بعد الخصاء فيرجع بفضل ما ينتهي، قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله: وهذان الجوابان خلاف ما حفظنا في المسائل المختلفة، فالمحفوظ فيها أن صاحب الغلام بالخيار؛ إن شاء ترك الغلام على الغاصب، وضمنه قيمته بخمسمائة، وإن أراد أخذ العبد يقوم العبد قبل الخصاء للعمل، ويقوم بعد الخصاء للعمل، فيرجع بنقصان ما بينهما؛ لأن هذه الزيادة حدثت بناء على رغبات فاسدة فيتأمل عند الفتوى، هذا كله بيان أحد حكمي الغصب.
(5/383)
-----
جئنا إلى بيان الحكم الآخر، وهو وجوب الضمان حال عجز الغاصب عن رد العين، فنقول: المغصوب نوعان: مثلي الكيل والوزن الذي ليس في تبعيضه ضرر، والعددي المتقارب كالبيض والجوز والفلوس الرائجة، وما أشبه ذلك من العدديات التي لا تتفاوت أفراده وغير مثلي كالذرعيات والحيوان والعدديات المتفاوتة، والوزن الذي يضر تبعيضه، فإن كان غير مثلي فهلك في يد الغاصب بآفة سماوية أو بفعل الغاصب، أو بفعل غيره وجب عليه قيمته يوم الغصب، وإن كان مثلياً وجب عليه مثله إلا إذا وقع العجز عن رد المثل، وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس، فحينئذٍ يصار إلى القيمة.
ثم إن عند أبي حنيفة تعتبر القيمة يوم القضاء والخصومة، وعند أبي يوسف تعتبر قيمته يوم الغصب، وعند محمد تعتبر قيمته في آخر يوم كان موجوداً وانقطع، ثم إن مشايخنا استثنوا من الموزونات الناطف المبرز، والدهن المربى فقالوا بضمان القيمة فيهما؛ لأن الناطف يتفاوت بتفاوت البزر، وكذلك الدهن المربى.
وإن كان المغصوب مثلياً فلقيه في بلد آخر والمغصوب قائم في يده والقيمة في هذا البلد مثل القيمة في بلد الغصب أو أكثر منها، فالمغصوب منه يأخذ المغصوب، وليس له أن يطالبه بالقيمة، وإن كان سعره في هذه البلد أقل من سعره في بلد الغصب فالمغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذه في هذا البلد بقيمته في بلد الغصب، وإن شاء انتظر؛ لأنه يأخذ العين.w
وإن كان يصل إليه عين حقه ولكن مع ضرر لحقه من قبل الغاصب، فكان له أن لا يلتزم الضرر، ويطالبه بقيمة ذلك البلد، وإن شاء انتظر بخلاف ما إذا وجده في البلد الذي غصب فيه، وقد انتقص السعر حيث لا يكون له الخيار؛ لأن النقصان ما حصل بفعل الغاصب بل هو مضاف إلى قلة رغبات الناس، فأما إذا نقله إلى بلد آخر، فالنقصان مضاف إلى فعل الغاصب. وهذه الجملة في «القدوري».(5/384)
-----
ومن هذا النوع مذكور في «المنتقى» وصورته: غصب من آخر دواء بالكوفة وردها عليه بخراسان (110أ2) فإن كانت قيمتها بخراسان أقل من قيمتها بالكوفة فالمغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذها، وإن شاء أخذ قيمتها بالكوفة، وإن كانت قيمتها بخراسان مثل قيمتها بالكوفة أمر المغصوب منه بأخذها؛ قال: وكذلك الخادم، وكل ماله حمل ومؤنة إلى ذلك الموضع قال: وكذلك ما كان ..... إلا الدراهم والدنانير، فإنه يأخذها حيث وجدها، وليس له أن يطالبه بالقيمة؛ لأنها الأثمان التي تجري عليها بياعات الناس، ومعناه أن معنى الثمنية لا يختلف باختلاف الأماكن، فلا يطالبه لغيره، وإن شاء أخر المطالبة؛ لأنها حقه.
وإن كان المغصوب مثلياً، وقد هلك في يد الغاصب، فإن كان السعر في المكان الذي التقيا مثل السعر في مكان الغصب، أو أكثر يدين برد المثل، وإن كان السعر في هذا المكان أقل، فهو بالخيار؛ إن شاء أخذ قيمة العين حين غصب، وإن شاء انتظر؛ لأنه إذا رد في المكان الذي طالبه به يستضر به، فإن اختلاف القيمة في المكانين لأجل الحمل والمؤنة، فصار كما لو كانت العين قائمة، ونقلها إلى بلدة أخرى، فكان بالخيار؛ إن شاء أخذ القيمة، وإن شاء انتظر، وإن كانت القيمة في مكان الخصومة أكثر، فالغاصب بالخيار؛ إن شاء أعطى مثله، وإن شاء أعطى قيمته حيث غصب؛ لأن المالك لا يستحق إلا الرد في مكان الغصب، فلو ألزمناه تسليم المثل ههنا يستضر الغاصب، فإنه أدركته زيادة قيمة لا يستحق المغصوب منه، وفي التأخير إلى العود إلى مكان الغصب إضرار بالمغصوب منه، فقلنا: فإنه يسلم القيمة في مكان الغصب إلا أن يرضى المغصوب منه بالتأخير، وإن كانت القيمة في المكانين سواء كان للمغصوب (منه) أن يطالب بالمثل؛ لأنه لا ضرر على واحد منهما، هذه الجملة في «القدوري».(5/385)
-----
وفي «المنتقى»: غصب من آخر كراً من طعام يساوي مائة، ثم صار يساوي مائة وخمسين، ثم انقطع عن أيدي الناس، وعز وارتفع، وصار لا يقدر على مثله، وصار يساوي مائتين، ثم استهلكه الغاصب، فللمغصوب منه أن يضمنه مائتي درهم قيمته يوم استهلكه؛ لأنه حين انقطع من أيدي الناس صار بمنزلة عرض لا مثل له غصبه رجل فزادت قيمته، ثم استهلكه، فله أن يضمنه قيمته يوم استهلكه إن شاء، ولو كان غصب الكر، وهو يساوي مائتين، ثم صارت قيمته مائة وخمسين، ثم انقطع من أيدي الناس، ثم صارت قيمته مائة، ثم استهلكه الغاصب، فللمغصوب منه أن يضمنه قيمة مائة وخمسين آخر ما كان موجوداً في أيدي الناس، وليس له أن يضمنه أكثر من ذلك.
وذكر ابن رستم عن محمد في «نوادره» إذا أحرق كدس رجل إن كان البر إذا كان في السنبل أقل قيمة منه إذا كان خارجاً فعليه القيمة، وإن كان خارجاً أكثر قيمة، فعليه بر مثله وعليه وفي الحل القيمة.
وفيه أيضاً: رجل غصب كدساً فداسه، ثم أقام المغصوب منه قال: لا يقضى له بالبر كله، وبقيمة الحل؛ لأنه غيره عن حاله، فهو كبر طحنه. وفيه أيضاً: عن محمد رجل غصب من آخر حنطة، فلا شيء على الغاصب؛ لأنه لا قيمة لها، فقيل: لو أن رجالاً غصبوا حبة حبة، فبلغ ذلك قفيز حنطة، قال أبو يوسف: قوم .... ما له قيمة، ضمنتهم قيمته، فإذا جاء برجل بعد رجل لم أضمنهم شيئاً؛ لأن كل إنسان إنما غصب منه ما لا قيمة له، ولو كانت في حبة حنطة قيمة، ما حل لأحد أن يلتقط النوى، وكان عليه أن يعرفها؛ لأنه لقطة. وإذا استهلك المغصوب، وضمنه القاضي القيمة ينظر؛ إن كان ذلك الشيء يباع في السوق بالدراهم (يقوم بالدراهم)، وإن كان يباع بالدنانير يقوم بالدنانير، وإن كان يباع بهما، فالقاضي مخير.
(5/386)
-----
في شرح كتاب الصرف في باب الغصب الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: رجل غصب بيضة وأتلفها فعليه مثلها، وهذا آخر قوله، وكان قوله الأول القيمة. في «المنتقى»، وفيه أيضاً بشر عن أبي يوسف: رجل غصب شاة وحلبها ضمن قيمة لبنها، وإن غصب جارية، فأرضعت ولداً له لا يضمن قيمة اللبن، وحكاه في موضع آخر من هذا الكتاب، عن أبي حنيفة رضي الله عنه.
وفيه أيضاً هشام عن محمد رحمهما الله قال أبو حنيفة رضي الله عنه: رجل غصب من آخر لحماً، واستهلكه، فعليه قيمته، وفيه كلمات أخر عرفت في كتاب البيوع، استهلك سرقين إنسان يجب عليه القيمة؛ لأنه ليس بمثلي؛ لأنه لا يكال ولا يورث إنما يحمل أوقاراً فيضمن بالقيمة؛ ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن رد مثل المغصوب ومثل المستهلك في الموضع الذي وجب المثل يجب في موضع الغصب والاستهلاك، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ضمان الجناية لا تجب في موضع الجناية، وإنما يجب في موضع الخصومة.
استهلك ثوباً لرجل وجاء بقيمته، فقال رب الثوب: لا أريدها، ولا أجعلك في حل، فللغاصب أن يرفع الأمر إلى القاضي حتى يجبره على القبول، وإن لم يرفع الأمر إلى الحاكم، ووضع القيمة في حجره يبرأ وإن وضعه بين يديه لا يبرأ.
الفصل الثالث فيما لا يجب الضمان باستهلاكه
كسر بيضة أو جوزة لغيره، فوجد داخلها فاسداً، فلا ضمان عليه؛ لأنه ظهر أنه ما استهلك مالاً، وكذلك لو كسر درهم إنسان، ثم ظهر أنه ستوق، فلا ضمان عليه لما قلنا. إذا أفسد تأليف حصير إنسان، فإن أمكن إعادته كما كان أمرناه بالإعادة؛ لأنه قادر على رده كما أخذ، فصار كمن غصب سلمة إنسان .... ..... ......... يؤمر بإعادة التركيب؛ لأن الإعادة ممكنة فيؤمر بالإعادة، وإن لم يمكنه الإعادة كما كان سلم له المقبوض، وضمن قيمة الحطب صحيحاً؛ لأنه عجز عن الرد كما أخذ فيصار إلى القيمة.(5/387)
-----
وإذا حل شراك نعل غيره، فإن كان النعل من النعال التي يستعملها العامة لا شيء عليه؛ لأنه لا مؤنة في إعادة شراكه، وإن كان النعل غريباً فإن كان لا ينقص سيره، ولا يدخله عيب لو أعيد يؤمر بالإعادة، ولا يضمن شيئاً، وإن كان ينقص سيره، ويدخله عيب لو أعيد يضمن النقصان.
وفي «واقعات الناطفي»: نزع باب دار إنسان عن موضعه أو حل سرج إنسان، أو جاء إلى ثوب ... الحائك، نسجه فنشره حتى أعاده إلى الحالة الأولى، فكل ما كان مؤلفاً، فنقض تأليفه، فالجواب فيه على الحق كما ذكرنا (115ب2) في النعلين والحصير.
في «النوازل» هدم جدار رجل، ثم بناه الهادم قبل أن يضمن القيمة؛ إن بناه كما كان فلا ضمان عليه؛ لأنه أعاد الأول كلاً، فصار كمن فتق مخيط إنسان، ثم خاطه إذا دخل على صاحب، دكانه بإذنه فعلق بثوبه شيء مما في دكانه، فسقط لا يضمن، هكذا ذكر في «واقعات الناطفي» وتأويله الصحيح: أن السقوط لم يكن بفعله ويده.
دفع إلى خياط كرباساً ليخيط له قميصاً، فخاط قميصاً فاسداً، وعلم صاحب الثوب بالفساد، فلبسه مع ذلك، فلا ضمان؛ لأنه لبسه مع العلم رضاءً بالفساد، ويعلم عن هذه المسألة كثير من المسائل.
إذا ذبح شاة إنسان لا يرجى حياتها ضمن، والراعي والبقار في مثل هذا لا يضمن، هكذا ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من شركة «واقعاته».
وجواب محمد رحمه الله في «الأصل:» أن الراعي يضمن، وهو القياس في المسألة في باب إجارة الراعي، فالصدر الشهيد رحمه الله، فرق بين الراعي والبقار وبين الأجنبي، فضمن الأجنبي، ولم يضمن الراعي والبقار، والفقيه أبو الليث رحمه الله سوى بينهما فقال: لا يضمن الأجنبي كما لا يضمن الراعي لوجود الإذن بالذبح في هذه الحالة في حق الكل.(5/388)
-----
وكذلك الجواب في البعير؛ لأن الذبح في هذه الحال لإصلاح اللحم، وأما في الحمار والبغل، فلا يذبح؛ لأن ذبحهما ليس لإصلاح اللحم، وفي الفرس أيضاً لا يذبح؛ لأن ذبحه ليس لإصلاح اللحم عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن كراهته كراهة تحريم عنده وهو الصحيح.
إذا رفع التراب من أرض الغير إن لم يكن للتراب قيمة في ذلك الموضع إن انتقص الأرض برفعه ضمن النقصان، وإن لم ينتقص فلا شيء عليه، فلا يؤمر بالكثير، وإن قال به بعض العلماء، وإن كان للتراب قيمة في ذلك الموضع ضمن قيمته تمكن في الأرض أو لم يتمكن.
في «أدب القاضي» للخصاف في آخر باب اليمين: الصراف إذا غمز الدراهم وكسرها ضمن، إلا إذا قال المالك: اغمز، في غصب «العيون»، وكذلك دفع إليه قوساً، وقال له: أده فمده فهده، وانكسر؛ يضمن إلا إذا قال له مدة في هذه الموضع أيضاً.
وفي صرف «المنتقى»: عن أبي يوسف في الصيرفي إذا انتقد الدراهم بإذن صاحبها فغمز درهماً فانكسر، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ضمان، وقال أبو يوسف: إن كان الناس إنما يعرفون الدراهم بالغمز فلا ضمان.
والمختار للفتوى أن صاحب المال إن أمره بالغمز فلا ضمان، وإن لم يأمره بالغمز، فإن كان الناس إنما يعرفون الدراهم بالغمز، فلا ضمان عليه أيضاً، ويثبت الإذن بالغمز دلالة إذا كانت الحالة هذه إذا طبخ لحم غيره بغير إذنه ضمن، ولو جعل صاحب اللحمِ اللحمَ في القدر ووضع القدر على الكانون ووضع تحتها الحطب، فأوقد النار وطبخ، فإنه لا يضمن استحساناً، ومن هذا الجنس مسائل أحدها هذه.
المسألة الثانية: إذا طحن حنطة غيره بغير أمره ضمن، ولو أن صاحب الحنطة جعل الحنطة في الدورق، وربط عليه الحمار في آخر، وساق الحمار فطحن لا يضمن.
المسألة الثالثة: إذا رفع جرة غيره بغير أمره فانكسر يضمن، ولو أن صاحب الجرة رفع الجرة فأمالها إلى نفسه، فجاء إنسان وأعانه على الرفع فانكسر فيما بين ذلك، لا يضمن.(5/389)
-----
المسألة الرابعة: من حمل على دابة غيره بغير أمره حتى هلكت الدابة يضمن، ولو حمل المالك على دابته شيئاً ثم سقط في الطريق فجاء إنسان وحمل بغير إذنه، فهلكت الدابة لا يضمن.
المسألة الخامسة: إذا ذبح أضحية غيره بغير إذنه؛ إن ذبح في غير أيام الأضحية لا يجوز، ويضمن الذابح، وإن ذبح في أيام الأضحية يجوز، ولا يضمن؛ لأن الإذن ثابت دلالة في هذه المسائل، والدلائل يجب اعتبارها ما لم يوجد الصريح بخلافه، هذه جملة ذكرها الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام رحمه الله في باب ما لا يجزىء في الأضحية.
ومن جنس هذه المسائل: ذكر محمد رحمه الله في شرح المزارعة في باب قبل باب المزارعة التي يشترط فيها المعاملة أن من أحضر فعلة لهدم حائط فجاء آخر، وهدم بغير إذنه لا يضمن استحساناً، وصار الأصل في جنس هذه المسائل أن كل عمل لا يتفاوت فيه الناس ثبتت الاستعانة بكل واحد من آحاد الناس دلالة، فأما إذا كان عملاً يتفاوت فيه الناس لا تثبت الاستعانة بكل واحد من آحاد الناس، كما لو علق الشاة بعد الذبح للسلخ فجاء إنسان وسلخ بغير إذنه ضمن، ذكره رحمه الله هذا الأصل.
في الباب أيضاً: القصاب إذا اشترى شاة، فجاء إنسان وذبحها، فهذا على وجهين: أما إن ذبحها بعدما أخذه القصاب، وشد رجلها، أو قبل ذلك، ففي الوجه الأول: لا يضمن، وفي الوجه الثاني: يضمن. نزع غريم رجل من يده يعزر لكن لا ضمان عليه.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دابة لرجل دخلت زرع إنسان، فأخرجها صاحب الزرع، فجاء ذئب وأكلها، إن أخرجها ولم يسقها بعد ذلك، فلا ضمان عليه، عليه أكثر المشايخ، وهو المختار للفتوى، وإن ساقها بعد ذلك أكثر مشايخنا على أنه يضمن سواء ساقها إلى مكان بأن عليها من زرعه، أو أكثر من ذلك، وعليه الفتوى.(5/390)
-----
وكذلك الراعي إذا وجد في بادوكه بقرة لغيره، فطردها قدر ما تخرج من بين بادوكه لا يضمن، وإن ساقها بعد ذلك يضمن، فأما إذا وجد بقرة في زرعه، فأخبر صاحبها، فأخرجها صاحبها، فأفسدت الدابة الزرع إن أمر صاحب الزرع صاحب الدابة بالإخراج لا يضمن صاحب الدابة شيئاً هذه الجملة في الباب الأول من غصب «الواقعات».
المزارع إذا دفع البقر الذي دفعه إليه رب الأرض مع البذر، والأرض مزارعة إلى الراعي، فضاع لا ضمان على أحد. في غصب «فتاوى (أهل) سمرقند» إذا منع صاحب الزرع عن السقي حتى فسد الزرع؛ لم يكن عليه ضمان الزرع في «واقعات الناطفي» .
الفصل الرابع في كيفية الضمان
في «المنتقى»: بشر بن الوليد عن أبي يوسف في رجل خرق طيلساناً ثم رماه، قال أقومه صحيحاً وأقومه مخروقاً فأضمنه فضل ما بينهما، وعنه أيضاً: رجل حفر بئراً في ملكه، فطمها رجل بترابها، قال: أقومها محفورة، وغير محفورة، فأضمنه فضل ما بينهما، وإن طرح فيها تراباً أجبرته على أن يخرجه، وإن كانت في الصحراء، فإن لم يخرج الماء (116أ2) فليس عليه من طمها شيء، وإن أخرج الماء، فقد استحقها؛ لأنه بئر عطن، فهو ضامن لفضل ما بينهما.
إذا مزق دفاتر حساب إنسان، فاستهلكها ولم يدر ما أخذ وما أعطى، يضمن للمالك قيمة دفاتر الحساب، وهو أن ينظر بكم يشترى ذلك.
في غصب «فتاوى أهل سمرقند» وهو نظير ما ذكر في «فتاوى أبي الليث»: أن من حرق صك إنسان، يضمن قيمة الصك مكتوباً على قول أكثر المشايخ، ولا ينظر إلى المال؛ لأن الإتلاف صادف الصك، أما ما صادف المال.(5/391)
-----
في «المنتقى»: هشام عن محمد قال: عند المفتين باطل؛ لأنه لو صبه إنسان لمسلم لم أضمنه، فقيل له: يقول أبو حنيفة فيمن صب سكراً لمسلم أيضمن قيمته أو مثله، قال: قيمته إذا كسر بربط إنسان أو طنبور إنسان أو دفه أو ما أشبه ذلك من الآلات الملاهي فعلى قولنا: لا ضمان عليه، وعلى قول أبي حنيفة: يجب الضمان؛ لأن هذه الأشياء صالحة للانتفاع بجهة أخرى سوى اللهو بأن يجعل ظرف الأشياء، فيضمن قيمتها من هذا الوجه لا من حيث كونه طنبوراً أو بربطاً.
وذكر في «الجامع الصغير»: أن على قول أبي حنيفة يضمن؛ إلا إذا فعل بإذن الإمام، قال القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح «الجامع الصغير» والفتوى على قولهما لكثرة الفساد فيما بين الناس، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي في «الجامع الصغير» أيضاً: أن قول أبي حنيفة قياس، وقولهما استحسان، قال صدر الإسلام ثمة: ثم عند أبي حنيفة: إذا وجب الضمان يجب الضمان على وجه الصلاحية بغير التلهي على أي وجه يمكن الانتفاع بذلك وعلى هذا الخلاف النرد والشطرنج؛ لأنه يمكن أن يجعل هذه الأشياء ..... وفي «القدوري» يقول في مسألة الطنبور والبربط أنه يضمن قيمته خشباً منحوتاً، وفي «المنتقى» يقول: يضمن قيمته خشباً ألواحاً.
هشام قلت لمحمد رحمه الله: إذا أحرق باباً منحوتاً عليه تماثيل منقوشة، قال: في قولي: يضمن قيمته غير منقوش بتماثيل، فإن كان صاحبه قطع رؤوس التماثيل ضمن قيمته منقوشاً بمنزلة منقوش شجر، قلت: لو أحرق بساطاً فيه صورة رجال، قال: ضمن قيمته مصوراً؛ لأن البساط يوطأ.
(5/392)
-----
قلت: إذا هدم بيتاً مصوراً بهذه الأصباغ تماثيل الرجال والطير قال: أضمنه قيمة البيت، والأصباغ غير مصورة، وإن قتل جارية مغنية ضمن قيمتها غير مغنية، إلا أن يكون الغناء نقصاً فأقومها على ذلك سواء وإن كانت الجارية حسن الصوت؛ إلا أنها لا تغني، فهو على حسن الصوت، والحمامة إذا كانت تقرقر، والفاختة إذا كانت تقرقر تعتبر قيمتها مقرقرة، والحمامة إذا كانت تجيء من بعيد، لا تعتبر قيمتها على ذلك.
والفرس إذا كان يسبق عليه، فهو على السابق قيمته، وفي الحمامة إذا كانت طائرة تعتبر قيمتها غير طائرة، وكذلك كل شيء يكون بغير تعليم.
غصب من آخر أرضاً وزرعها، وانتقصت الأرض بسبب الزراعة، فعلى الغاصب نقصان الأرض، واختلف المشايخ في طريق معرفة النقصان، قال بعضهم: ينظر بكم تؤاجر هذه الأرض قبل الزراعة، وبكم تؤاجر بعد الزراعة، فمقدار التفاوت نقصان الأرض، وقال بعضهم: ينظر بكم تشترى هذه الأرض قبل الزراعة، وبكم تشترى بعد الزراعة فمقدار التفاوت نقصان الأرض، قال شمس الأئمة السرخسي: والقول الأول أقرب إلى الصواب.
قطع شجرة من دار رجل بغير أمره، فرب الدار بالخيار؛ إن شاء ترك الشجرة على القاطع، وضمنه قيمة الشجرة قائمة، وطريقة معرفة ذلك أن تقوم الدار مع الشجرة، ويقوم الدار بدون الشجرة، فيضمن فضل ما بينهما. وإن شاء أمسك الشجرة، ويضمنه قيمة النقصان قائماً وطريقة معرفة ذلك: أن يقوم الدار مع الشجرة، وبغير الشجرة أصلاً، فتفاوت ما بينهما قيمة الشجرة، ثم ينظر إلى ذلك وإلى قيمة الشجرة مقطوعة ففضل ما بينهما قيمة نقصان القطع، حتى لو كان قيمة الشجرة مقطوعة وغير مقطوعة على السواء، لا شيء عليه.(5/393)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وفي «مجموع النوازل» من قلع شجرة من بستان رجل أو من داره فاستهلكها، فعليه نقصان الدار والبستان، ومن قلع شجرة من أرض رجل، فعليه قيمة الحطب، جاء إلى تنور راش وقد سخنت بقصب فصب فيه الماء، ننظر إلى قيمة التنور كذلك وإلى قيمته غير مسجور فيضمن فضل بينهما، وكذلك بئر الماء إذا بال فيها إنسان على هذا.
في «واقعات الناطفي»، وفي جنايات «فتاوى أهل سمرقند»: فتح رأس تنور إنسان حتى برد، فعليه قيمة الحطب مقدار ما يسجر به التنور، ويمكن أن يقال: ينظر بكم يستأجر التنور المسجور يبيع به من غير أن يسجره، فيضمن ذلك القدر، أو ينظر إلى أجرته مسجوراً أو غير مسجور، فيضمن تفاوت ما بينهما.
الفصل الخامس في خلط الغاصب مال رجلين أو رجل، أو مال غيره بماله،أو اختلط أحد المالين بالآخرين من غير خلط
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: غصب من آخر حنطة، وغصب من آخر شعيراً، وخلطهما؛ ضمن لكل واحد منهما مثل ما غصب منه، ولم يذكر في «الكتاب» أن المخلوط لمن يكون، واعلم بأن الخلط يكون على نوعين:
خلط لا يتأتى معه التمييز كخلط اللبن باللبن، والحنطة بالحنطة وفي هذه الصورة يكون المخلوط ملكاً للخالط، ويتقرر حق المالك في المثل عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ولكن لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط، قبل أداء البدل وعلى قول أبي يوسف ومحمد: للمالك الخيار؛ إن شاء ضمنه مثل حقه، وإن شاء شاركه في المخلوط، وأجمعوا على أنه لو غصب دهن جوز وخلط بدهن بزر أن المخلوط يصير ملكاً للخالط.(5/394)
-----
وخلط يتأتى معه التمييز، وهو على نوعين: نوع يحتاج فيه إلى كلفة، ومشقة للتميز كخلط الحنطة بالشعير، والجواب في هذا النوع عندهما كالجواب في النوع الأول في ظاهر الرواية، وبه أخذ بعض المشايخ، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن قوله في هذا النوع كقولهما، وبه أخذ بعض المشايخ، وإليه أشار في كتاب الغصب في أول كتاب الوديعة فإنه قال: إذا كان الخالط أجنبياً، ولا يظفر به فلهما أن يبيعا، وأن يكون لهما حق البيع إذا كان مشتركاً بينهما.
أما إذا كان ملك الخالط لا يمكنهما البيع، من المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب في تلك المسألة قول أبي يوسف ومحمد، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، أما على ظاهر رواية أبي حنيفة رضي الله عنه (116ب2) لا يكون لهما حق البيع، ومنهم من قال: ما ذكر ثمة قول الكل وهو الأصح، والعذر لأبي حنيفة على ظاهر الرواية أن حق البيع لهما في تلك الصورة ما كان باعتبار أن المخلوط لم يصر ملكاً للخالط، بل باعتبار أن المخلوط، وإن صار ملكاً للخالط فحقهما لم ينقطع عنه بل يتوقف تمام الانقطاع على وصول البدل إليهما.
ألا ترى أنه لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط ما لم يؤدِّ البدل إليهما، وإذا بقي حقهما قلنا إنه يباع المخلوط لإبقاء حقهما كالمبيع يباع عند تعذر استيفاء الثمن من المشتري لعينه كذا ههنا. ومن المشايخ من قال على قول أبي حنيفة رضي الله عنه في هذا الخلط قياس واستحسان، القياس: أن يصير المخلوط ملكاً للخالط، وفي الاستحسان: لا يصير.
ونوع لا يحتاج إلى التمييز فيه إلى كلفة ومشقة كخلط البيض بالسود، والدراهم بالدنانير، وفي هذا النوع لا يجب الضمان على الخالط، ولا يصير المخلوط ملكاً للخالط بالإجماع.
(5/395)
-----
في «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل غصب من رجل ألف درهم، وخلطهما درهماً من ماله، قال: مذهب أبي يوسف في هذا أن دراهم الخالط إذا كان أكثر، فهو مستهلك ضامن للدراهم المغصوبة، وإن كان دراهم الخالط أقل، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه دراهم، وإن شاء شاركه في المخلوط بقدر دراهمه قلت: فإن كانا سواء، فما مذهب أبي يوسف؟ فقال: لا أدري، وأما في قولنا: المغصوب منه بالخيار على كل حال؛ إن شاء ضمن الغاصب دراهمه، وإن شاء كان شريكاً فيها.h
وفيه أيضاً هشام عن محمد: إذا كان مع رجل سويق، ومع رجل آخر سمن أو زيت فاصطدما فانصب زيت هذا أو سمنه في سويق هذا، فإن صاحب السويق يضمن لصاحب السمن أو الزيت مثل كيل زيته أو سمنه؛ لأن صاحب السويق استهلك سمن هذا، ولم يستهلك صاحب السمن سويق هذا؛ ولأن هذا زيادة في السويق.
وإن كان مع أحدهما سويق، ومع الآخر نورة، فاصطدما فانصب سويق هذا في نورة هذا، فإن شاء صاحب السويق أخذ سويقه ناقصاً، وأعطى الآخر مثل نورته، وإن شاء ضمن صاحب النورة مثل كيل سويقه، وسلم له سويقه، وضمن صاحب السويق لصاحب النورة مثل كيل نورته؛ لأن كل واحد منهما جانٍ، وإن فعل ذلك غريب وذهب، فليس لصاحب النورة على صاحب السويق شيء؛ لأن النورة لم تزد في سويقه بل نقصه، والسويق لصاحب السويق.
وفي «القدوري» صب ماء في طعام فأفسده، وزاد في كيله، فلصاحب الطعام أن يضمنه قيمته قبل أن يصب فيه الماء، وليس له أن يضمنه طعاماً مثله، وكذا لو صب ماء في دهن أو زيت؛ لأن الطعام المبتل والدهن الذي صب في الماء لا مثل له، فيغرم القيمة، ولا يجوز أن يغرم مثل كيله قبل صب الماء؛ لأنه لم يكن منه غصب مقدم؛ حتى لو غصب ثم صب عليه الماء فعليه مثله.
وفي «المنتقى:» عن محمد رحمه الله رجل معه دراهم ينظر إليها، فوقع بعضه في دراهم رجل، فاختلط، كان ضامناً لها؛ قال: لأن هذا جناية منه، وإن لم يتعمد.(5/396)
(5/397)
-----
نوع منه
ذكر في «فتاوى أبي الليث:» دجاجة ابتلعت لؤلؤة رجل؛ ينظر إلى قيمة اللؤلؤة، وإلى قيمة الدجاجة أيهما أكبر يخير صاحبها؛ إن كانت قيمة اللؤلؤة أكثر يقال لصاحبها: إن شئت فأعط قيمة الدجاجة واذبحها، وإن شئت فتربص إلى أن تخرج اللؤلؤة منها.
وإن كانت قيمة الدجاجة أكثر؛ يقال لصاحبها: إن شئت فأعط قيمة اللؤلؤة، وإلا فاذبح الدجاجة، وهكذا الجواب في الأترجة إذا دخلت في قارورة الإنسان وكبرت، ولو أدخل رجل أترجة رجل في قارورة رجل، فكبرت الأترجة فلا خيار لأحد، وضمن الفاعل لصاحب الأترجة قيمة الأترجة، ولصاحب القارورة قيمة القارورة، وتكون الأترجة والقارورة له بالضمان.
وفيه أيضاً: شجرة قرع نبتت في أرض رجل، فصارت في حب رجل، وانعقدت فيه حتى عظمت، ولم يتمكن إخراجها إلا بكسر الحب أو القرع؛ ينظر إلى أكثرهما قيمة يقال لصاحبه: أد قيمة الآخر وتملكه وإن باعا الحب والقرع جاز، ويضرب كل واحد منهما من الثمن بقيمة سلعته.
وفي كتاب الحيطان: دخل قرن الشاة في قدر ... وتعذر إخراجه، ينظر أيهما كان أكثر قيمة من الآخر، فيؤمر صاحب أكثرهما قيمة بدفع قيمة الآخر إلى صاحبه، ويتملك مال صاحبه، ويكون مخيراً بعد ذلك يتلف أيهما شاء، وكذلك إذا كان للمستأجر حب في الدار المستأجرة لا يمكن إخراجه إلا بهدم شيء من الحائط؛ ينظر أيهما أكثر قيمة، ما ينهدم من الحائط بإخراج الحب، أو الحب.
وفي «المنتقى» هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله: دجاجة رجل ابتلعت لؤلؤة رجل آخر؛ يقال لصاحب الدجاجة: إن شئت فأعط قيمة اللؤلؤة، فإن أبى صاحب الدجاجة إعطاء قيمة اللؤلؤة، أعطي الدجاجة بقيمتها، وكذلك إن ابتلعها بعير، وقيمة اللؤلؤة كثيرة، وإن كانت قيمة اللؤلؤة شيئاً يسيراً فلا شيء على صاحب البعير.(5/398)
-----
وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف: في طائر ابتلع لؤلؤة، فأراد صاحب اللؤلؤة أن يأخذ الطائر، قال: لا أجبر صاحب الطائر أن يعطيه الطائر، ويأخذ قيمة الطائر، وكذلك كل شيء يبتلع اللؤلؤة، وقيمة اللؤلؤة خير منه.
وفي «العيون»: رجل أودع رجلاً فصيلاً، فأدخله المودع في بيته حتى عظم، فلم يقدر على إخراجه إلا بقلع بابه، فله أن يعطي قيمة الفصيل يوم صار الفصيل في حد لا يستطيع الخروج من الباب، ويتملك الفصيل دفعاً للضرر عن نفسه إن شاء، وإن شاء قطع الباب، ورد الفصيل.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته»: ويجب أن يكون تأويل المسألة إذا كان قيمة ما ينهدم من البيت بإخراج الفصيل أكثر من قيمة الفصيل، أما إذا كان قيمة الفصيل أكثر من قيمة ما ينهدم من البيت بإخراج الفصيل؛ يؤمر صاحب الفصيل بدفع قيمة ما ينهدم إليه، وأخرج الفصيل ليكون هذا الجواب مطابقاً لما ذكر في «النوازل».
وفي كتاب «الحيطان»: هذا إذا أدخل المودع الفصيل في بيته. ولو استعار المودع بيتاً وأدخل الفصيل وعظم الفصيل وباقي المسألة بحالها، يقال لرب الفصيل: إن أمكنك إخراج الفصيل، فأخرجه، وإلا (117أ2) فانحره واجعله قطعاً قطعاً، وإن كان حماراً أو بغلاً إن كان ضرر الباب فاحشاً كذلك أيضاً، وإن كان يسيراً له أن يقلع الباب، ويغرم مقدار ما أفسد من الباب، وهذا نوع استحسان؛ لأنه لو لم يجعل كذلك يتضرر صاحب الحمار والبغل بفوات حقه أصلاً.(5/399)
-----
وفي «الواقعات» للناطفي: قصار بسط ثوباً على حبل في الريح، فجاءت وحملته وألقته في صبغ إنسان حتى انصبغ، فليس على القصار ولا على رب الثوب شيء من قيمة الصبغ، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وهذا بخلاف ما حفظنا في المسائل الخلافية، فالمحفوظ في الخلافية أن صاحب الثوب يأخذ ثوبه، ويضمن ما زاد الصبغ فيه إلا إذا أبى صاحب الثوب أخذ الثوب فحينئذٍ كان الجواب كما ذكر الناطفي، وذكر «القدوري» في باب الثوب يصبغه الغاصب على نحو ما ذكره الصدر الشهيد رحمه الله.
الفصل السادس في استرداد المغصوب من الغاصب، وما يمنع من ذلك، وفيمايبرأ الغاصب به عن الضمان وما لا يبرأ
قال الكرخي رحمه الله: إذا أحدث المغصوب منه في الغصب حدثاً يصير به غاصباً لو وقع في ملك الغير صار مسترداً للغصب، وبرىء الغاصب به عن الغصب، وذلك نحو أن يستخدم المغصوب أو يلبس المغصوب؛ لأن غاصب إثبات اليد على المحل، فإذا أحدث حدثاً يصير به غاصباً، فقد أثبت يده على المغصوب، وثبوت يد المالك يوجب سقوط الضمان عن الغاصب، وسواء عرف ذلك أو لم يعرف؛ لأن الحكم يبنى على السبب دون العلم، ولا يكون الغاصب غاصباً بالغصب الأول لهذا إلا أن يحدث غصباً مستقبلاً.
وكذلك لو أن الغاصب كسى الثوب رب الثوب، فلبسه حتى تخرق، وعرفه أو لم يعرفه، وكذلك إذا باعه من صاحبه أو وهبه له، ولم يعرفه حتى لبسه وتخرق، كذلك إذا غصب طعاماً ثم أطعمه، وعرفه أو لم يعرفه.
وكذلك إذا جاء المغصوب منه إلى بيت الغاصب، وأكل ذلك الطعام بعينه، وقد عرفه أو لم يعرفه (لم يجب) به شيء من الضمان، وإن كان الغاصب خُبَز الدقيق أو شَوَى اللحم، ثم أطعمه لم يبرأ عن الضمان؛ لأنه ما أثبت يده على المغصوب في هذه الصورة؛ لأنه بالخبز والشي خرج من أن يكون مغصوباً، وصار ملكاً للغاصب.(5/400)
-----
قال: ولو أن المغصوب منه آجر العبد من الغاصب للخدمة أو الثوب للبس برىء من ضمان العبد حتى وجب عليه الأجر بالإجارة؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان، وقد قالوا: إذا استأجر العبد المغصوب من مولاه ليبني له حائطاً معلوماً لا يسقط عنه الضمان حتى يبدأ بالبناء؛ لأن الأجرة في هذه الصورة لا تجب بالتخلية، وإنما تجب بالعمل، وسقوط الضمان معلق بوجوب الأجر، فأما في الاستخدام؛ فالأجر يجب بالتخلية كما وقع عقد الإجارة يبرأ عن الضمان.
ولو زوج الجارية المغصوبة من الغاصب، لم يبرأ عن الضمان في قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه، خلافاً لأبي يوسف: وهو فرع اختلافهم في المشتري إذا زوج الجارية المشتراة قبل القبض، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا يصير قابضاً لها، وعلى قول أبي يوسف: يصير قابضاً لها، ولو كان المغصوب منه استأجر الغاصب ليعلم المغصوب عملاً من الأعمال، فذلك جائز، وهو في يد الغاصب على ضمانه إن هلك قبل أن يأخذ في ذلك العمل أو بعده ضمن.
وكذلك لو استأجر ليفتل الثوب المغصوب؛ لأن الاستئجار على التعليم، وفتل الثوب لا يقتضي ثبوت اليد عليه، فإنه يتصور وقوع العمل فيه مع كونه في يد المالك وداره، فلا يبرأ من الضمان، وإن كان له أجر في عمله إنما يبطل عنه الضمان إذا صار عليه الأجر؛ لأنه لا يتحمل أجر وضمان أما أن يكون له الأجر وهو ضامن، فهذا جائز، بخلاف استئجار الدابة للركوب؛ لأن استيفاء منفعة الدابة لا يكون إلا بعد كونه مسلماً إليه فثبوت بدل الإجارة، يستدعي انتفاء ضمان الغصب.
رجل خان رجلاً حنطة، ثم دفعها إليه بعينها إليه، وقال: اطحنها لي، فطحنها، ثم علم أنها كانت حنطته برىء من الضمان، وكذلك لو خانه غزلاً ثم دفع ذلك الغزل بعينه إلى صاحب الغزل، وقال: انسجه لي فنسجه ثم علم به.(5/401)
-----
وكذلك إذا غصب من رجل دابة، ومات صاحب الدابة، إن ابنه استعار منه دابة فأعارها إياه، وعطبت تحته برىء من الضمان.
المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف.. عن أبي حنيفة رضي الله عنه: رجل غصب من رجل ثوباً، فأحرقه رجل في يده، ثم أعطى المحرق الغاصب قيمة الثوب برىء، قال أبو يوسف: ليس على المحرق أن يعطي الغاصب قيمته، وإذا أعطى لا يبرأ؛ إلا إذا كان الإعطاء بقضاء القاضي، ولا ينبغي للقاضي أن يجبره على إعطاء القيمة إذا علم أن الطالب غاصب، لكن يضمنها على يدي رجل عدل حتى يحضر رب الثوب، فيختار ضمان أيهما، قال أبو الفضل رحمه الله: هذا الجواب خلاف ما قال في «الأصل» غصب من آخر داراً، ثم إن الغاصب استأجرها من المغصوب منه، والدار ليست بحضرتهما حين استأجرها ينظر إن كان هو ساكنها أو لم يكن هو ساكنها؛ إلا أنه قادر على إسكانها برىء من ضمانها؛ لأني أوجب عليه الأجر حينئذٍ.
وفي «الجامع» في باب متصل بباب الطويل من البيوع: إذا أمر المالك الغاصب ببيع المغصوب، فقبل البيع لا يخرج عن ضمان الغاصب، وكذا بعد البيع قبل التسليم لا يخرج من ضمان الغصب حتى لو هلك قبل البيع، أو بعد البيع قبل التسليم بحكم البيع يهلك بالغصب.
وكذا المغصوب منه إذا باع بنفسه فقبل التسليم لا يخرج عن ضمان الغاصب، وكذا المغصوب منه إذا أمر الغاصب بأن يضحي الشاة، فقبل أن يضحي بها لا يخرج عن ضمانه، نص عليه شمس الأئمة السرخسي في أول شرح كتاب العارية: إذا رد الغاصب المغصوب على المغصوب منه، فجواب «الكتاب» أنه يبرأ مطلقاً، قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في كتاب الإقرار:(5/402)
-----
والمسألة في الحاصل على وجوه: إن كان المأخوذ منه كبيراً بالغاً؛ فالجواب ما قال في «الكتاب»، وإن كان صغيراً، إن كان مأذوناً في التجارة فكذلك، وإن كان محجوراً إن كان صبياً لا يعقل القبض والحفظ؛ لا يبرأ عن الضمان إذا رده عليه بعدما أخذ منه، وتحول منه، وإن ردَّ عليه قبل أن يتحول عن مكان الأخذ يبرأ استحساناً، وكان الجواب فيه كالجواب فيما إذا أخذ (117ب2) لقطة، وردها إلى مكانها؛ إن رد بعدما تحولت لا يبرأ، وإن رد قبل التحول برىء استحساناً، وإن كان صبياً يعقل القبض والحفظ، ففيه اختلاف المشايخ.
وفي «فتاوى الفضلي»: أنه يبرأ عن الضمان إذا كان الصبي يعقل الأخذ والإعطاء من غير ذكر خلاف، وإن كان لا يعقل الأخذ والإعطاء؛ لا يبرأ من غير تفصيل.
وفيه أيضاً: إن كان المغصوب دراهم، وقد استهلكها الغاصب، ثم رد مثل ذلك على الصبي، وهو يعقل يبرأ إذا كان مأذوناً، وإن كان محجوراً عليه لا يبرأ.
ذكر في آخر كتاب «اللقطة»: إذا نزع الخاتم من إصبع نائم، ثم أعاده إلى إصبعه قبل أن يفيق من تلك النومه يبرأ، وإن أعاد إلى إصبعه بعدما تنبه ثم نام لا يبرأ، وذكر الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف أخذ من نائم نعله أو خاتماً كان في إصبعه، ثم أعاد إلى مكانه وهو نائم؛ قال أبو يوسف: إن لم يستيقظ حتى رده برىء، وإن استيقظ ثم نام ثم رده، ثم ضاع ضمن إذا لم ينتبه بعد ذلك، وقال محمد رحمه الله: إن أعاد في مجلسه ذلك استحسن أن يبرأ عن الضمان؛ سواء رده في تلك النومة أو نومة أخرى وإلا ضمنته، وكذلك إذا رده إلى إصبع أخرى.
إذا لبس ثوب غيره بغير أمره حال غيبته، ثم نزعه، وأعاده إلى مكانه؛ لا يبرأ قال مشايخنا: وهذا إذا لبس كما يلبس ذلك الثوب عادة، فأما إذا كان قميصاً، فوضعه على عاتقه، ثم أعاده إلى مكانه، فلا ضمان؛ لأن هذا حفظ، وليس باستعمال.(5/403)
-----
في آخر كتاب «اللقطة» وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: في رجل أخذ ثوب رجل من بيته بغير أمر، فلبسه ثم رده إلى بيته، فوضعه فيه، فهلك؛ لم يضمن استحساناً، وكذلك لو أخذ دابة غيره من آرية بغير أمره، ثم ردها إلى موضعها، فذهبت فلا ضمان استحساناً، وإن أخذ الدابة من غير المالك غصباً ثم ردها، فلم يجد صاحبها، ولا خادمه، فربطها في دار صاحبها على معلفها، فهو ضامن؛ نص عليه شمس الأئمة في شرح كتاب العارية.
وفي «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل أخذ شيئاً من دار رجل بغير علمه، ثم رده بعد أيام إلى ذلك الموضع؛ لا يبرأ عن الضمان ما لم يرده على صاحبه.
وفيه ابن سماعة عن محمد: في رجل أخذ من كيس رجل خمسمائة درهم، وقد كان في الكيس ألف درهم، فذهب، ثم ردها بعد أيام، ووضعها في الكيس الذي أخذها منه، فإنه يضمن الخمسمائة التي كان أخذها، ولا يبرأ منها بردها إلى الكيس.
وفي «فتاوى أبي الليث»: غصب من رجل ثوباً، وجاء به إلى المغصوب منه، ووضعه في حجره، والمغصوب منه يعلم بالوضع؛ إلا أنه لا يعلم أنه ثوبه فجاء إنسان، وحمله من حجر المغصوب منه؛ قال: أخاف أن لا يبرأ عن الضمان؛ لأنه يقع عند المغصوب أنه وديعة، ولا يعلم أنه ثوبه ليتابع في الحفظ.
في هذا الموضع أيضاً: غصب من آخر سفينة، فلما ركبها وبلغ وسط البحر لحقه صاحبها، فليس له أن يستردها من الغاصب، لكن يؤاجرها من ذلك الموضع إلى الشط مراعاة للجانبين.
وكذلك لو غصب دابة، ولحقها صاحبها في المفازة في موضع المهلكة، فليس له أن يستردها، ولكن يؤاجرها منه لما قلنا.(5/404)
-----
وإذا كفن الميت في ثوب غصب، ودفن وأهيل التراب عليه، فإن كان للميت تركة أخذ القيمة من تركته، ولا ينبش الميت، وكذا إذا لم يكن للميت تركة، ولكن تبرع إنسان بأداء القيمة أخذ المالك القيمة من المتبرع، ولا ينبش القبر، وإن لم يكن شيء من ذلك فصاحب الكفن بالخيار؛ إن شاء تركه لآخرته، وهو له فضل، وإن شاء نبش القبر، وأخذ الكفن، قيل: هذا إذا كفن من غير خياطة، فإن نبش القبر، وأخذ الكفن، فوجده قد انتقص، فله أن يضمن الذين كفنوه ودفنوه؛ لأنهم صاروا غاصبين.
غصب من آخر دابة، أو ثوباً، أو دراهم، وهي قائمة بعينها، فأبرأه المغصوب منه منها صح الإبراء، وتكون العين أمانة في يده، وكذا لو قال: حللته من الغصب، وإن كان المغصوب مستهلكاً برىء من ضمان القيمة، ويكون إبراء عن ضمانها.
في «عيون المسائل» وفي «فتاوى النسفي»: غصب من آخر ساجة وأدخلها في ثيابه أو غصب من آخر بالة وغرسها في أرضه، وكبرت حتى انقطع حق المالك، ثم إن المالك قال للغاصب: وهبت منك الساجة، والبالة صح، وهذا إبراء عن الضمان في الحاصل.
إذا هشم إبريق فضة إنسان فجاء آخر، وهشمه هشماً برىء الأول عن الضمان، والثاني ضامن، وإنما برىء الأول؛ لأن صاحب الإبريق لا يمكن أن يرد الإبريق على الأول على الحالة الذي هشمه، قال الفقيه أبو الليث: وكذا روي عن محمد بن الحسن في رجل صب ماء على حنطة رجل، فجاء رجل آخر، وصب ماء آخر، وزاده نقصاناً، فالأول يبرأ، والضمان على الثاني قيمتها يوم صب عليها الثاني.
وفي صرف «الأصل»: إذا كسر إناء فضة لرجل، واستهلكه صاحبه قبل أن يعطيه إناءه، فلا شيء على الكاسر؛ لأن شرط التضمين تسليم المكسور إليه، وقد فوته بالاستهلاك.
(5/405)
الفصل السابع في التسبب إلى الإتلاف
-----
قال محمد رحمه الله في كتاب اللقطة: إذا حل دابة مربوطة لرجل، ولم يذهب بها، فذهبت الدابة، فلا ضمان على الذي حلها عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ سواء ذهبت الدابة على الفور أو بعد ذلك بزمان، وعلى قول محمد يجب الضمان.
وكذلك إذا فتح باب دار إنسان، وفي الدار دواب، فذهبت الدواب.
وكذلك إذا فتح باب قفص إنسان، فطار الطير الذي فيه؛ روي عن محمد رواية أخرى أنه إذا ذهبت الدابة على الفور، أو طار الطير على الفور؛ أنه ضامن، وإذا ذهبت وطار لا على الفور، فلا ضمان، وإنما لم يجب الضمان عندهما؛ لأن الطائر في الطيران مختار، وتركه منه متصور، فلا يحال بالتلف على الفاتح، كما لو حل قيد عبد إنسان حتى ذهب العبد، ومحمد رحمه الله يقول في فصل العبد: العبد له اختيار معتبر شرعاً حتى لو لم يكن كذلك بأن كان العبد مجنوناً؛ ذاهب العقل، فهو والدابة سواء، وعن محمد أيضاً؛ لو كان العبد المجنون مقيداً في بيت مغلق، فحل إنسان قيده، وفتح الآخر الباب، فالضمان على الفاتح لا على الحال؛ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله (118أ2) وقد ذكر محمد رحمه الله في «المبسوط»: أنه لا ضمان في ذلك كله، ولم يذكر فيه اختلافاً.
ولو حل رباطاً لزيت فسال الزيت، إن كان الزيت سائلاً، فهو ضامن؛ لأن الفاتح هو المسيل بحل الرباط؛ لأن طبعه كذلك لا يتصور خلافه، ولو كان جامداً وذاب بالشمس، وسال لم يضمن؛ لأنه ليس بمسيل؛ لأن السيلان من طبع المائع، وإنما صار مائعاً من فعل الغير.
وذكر في «واقعات الناطفي» فيمن جاء إلى سفينة مشدودة، فحلها، وذلك يوم ريح شديد، فغرقت السفينة، فهذا على وجهين؛ إما أن تثبت بعد الحل ساعة قليل الأوقات، ثم سارت وغرقت، أو كما انحلت لم تقف وسارت وغرقت ففي الوجه الأول لم يضمن وفي الوجه الثاني يضمن.(5/406)
-----
وفي «المنتقى»: إذا كانت الدابة في مربط؛ جاء إنسان وفتح الباب، وذهبت الدابة؛ قال محمد رحمه الله: هو ضامن لها، فإن كانت مشدودة، والباب مغلق فجاء إنسان وحلها، وجاء آخر، وفتح الباب، وذهبت؛ قال: الضمان على الذي فتح الباب، وكذلك الغنم ثقب حائط إنسان بغير إذن صاحب الحائط، ثم غاب الثاقب فدخل سارق من ذلك، وسرق شيئاً يجب أن لا يضمن الثاقب؛ لأن الثاقب مسبب، والسارق مباشر، وصار كما لو فتح باب القفص، وطار الطير، ويجوز أن يكون بين المسألتين فرق، والفتوى في الثاقب أنه لا يضمن مذكورة في «فتاوى سمرقند».
نظر في دن دهن مائع لغيره، فوقعت قطرة دم من أنفه في الدن، وتنجس الدن؛ صار ضامناً إذا كان النظر بغير إذن المالك، ثم ماذا يضمن؟ إن كان الدهن مأكولاً يضمن مثل ذلك قدراً، ووزناً؛ لأن الدهن الذي هو مأكول، فالمقصود الأصلي منه الأكل وفرقات ذلك، فكان إتلافاً له؛ ألا ترى أن من قطع يد دابة هي غير مأكول اللحم، أو رجلها؛ ضمن قيمتها لفوات المنفعة المطلوبة منها من حيث الركوب واللحم، وإن كان الدهن غير مأكول، يضمن النقصان.
إذا أوقف دابة في سوق الدواب، فرمحت، فلا ضمان على صاحبها؛ لأن الوالي قد أذن للناس في إيقاف دوابهم في ذلك الموضع، وكل ما كان بإذن الإمام في موضع جاز له الإذن، فهو مباح مطلقاً؛ غير مقيد بشرط السلامة.
وكذلك لو كانت سفن واقفة على الشط جاءت سفينة، وأصابت هذه الواقفة؛ فانكسرت الواقفة كان الضمان على الجائية، وإن كسرت الجائية، فلا ضمان على الواقفة؛ لأن الإمام قد أذن لأصحاب السفن على الشط.
وفي «فتاوى النسفي»: طحان خرج بالليل من الطاحونة؛ ينظر إلى مبل الماء حين قل الماء، فدخل السارق وسرق أحمال الناس، فالطحان ضامن إن بعد عن الباب بعداً يعد به مضيعاً.
وفي «الحاوي»: إذا غصب عجولاً واستهلكه حتى تبين إن .... يضمن قيمة العجول، وما نقص من البقرة.(5/407)
-----
إذا سعى إلى السلطان بغير ذنب أصلاً، فهو ضامن، وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في آخر شرح اللقطة السعاية على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بحق بأن يكون يؤذيه، ولا يمكنه دفعه عن نفسه إلا بالدفع إلى السلطان، وفي هذا الوجه لا ضمان، وحكي عن القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي؛ أن المضروب إذا شكى إلى السلطان حتى أخذ السلطان مالاً من الضارب أنه لا ضمان عليه. وكذا إذا كان يفسق ولا يمتنع عنه بالأمر بالمعروف، فرفع إلى السلطان، وأخذ السلطان مالاً، فلا ضمان عليه.
الوجه الثاني: أن يقول للسلطان إن فلاناً وجد كنزاً في داره، أو قدر غطارف فإن كان السلطان يغرم الناس جزافاً لا محالة فهو ضامن، وإن كان قد يغرم الناس جزافاً، وقد لا يغرم؛ فلا ضمان.m
الوجه الثالث: أن يكون السعاية بغير حق، وفي هذا الوجه لا ضمان على الساعي في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف خلافاً لمحمد رحمه الله، وجعل هذه المسألة فرع مسألة فتح باب القفص؛ قال رحمه الله: والفتوى على قول محمد في زماننا؛ لكثرة السعاية زجراً لهم؛ صيانة لأموال الناس.
وذكر في «فتاوى النسفي» أنه سئل عن السعاية بغير ذنب؛ قال: روي عن زفر أنه ضامن، وبه أخذ كثير من مشايخنا.
وفيه أيضاً: العبد إذا سعى غيره بغير ذنب إلى السلطان حتى أخذ منه مالاً، إن العبد ضامن، ولكن لا يؤاخذ به إلا بعد العتق؛ لأن العبد ضامن العبد، ولكن لا يؤاخذ به إلا بعد العتق؛ لأن هذا ضمان القول.
إذا رش الماء في الطريق، فجاء حمار وزلق به وعطب؛ ذكر في «فتاوى أبي الليث» أن عليه الضمان، ولم يذكر ما إذا زلق به إنسان وعطب وذكر محمد رحمه الله في ديات «الأصل»: أن على عاقلته الضمان من غير فصل، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام تأويل المشايخ وأحسن التأويل، إذا رش كل الطريق بحيث لا يجد المار موضعاً يابساً يمر عليه، ففي هذا الوجه: الراش ضامن.(5/408)
-----
وكذلك الجواب في الخشبة الموضوعة في الطريق؛ إن أخذت الطريق كلها، فمر عليها وعثر ومات، فالواضع ضامن، وأما إذا رش بعض الطريق، فمر إنسان على الموضع الذي رش؛ إن لم يعلم بذلك بأن كان ليلاً وعثر ومات من ذلك وجب الضمان على الراش، وإن علم بذلك، ومع ذلك مر على موضع الرش فلا ضمان على الراش.
وكذلك الجواب في الخشبة الموضوعة في الطريق إذا أخذت بعض الطريق، فمر عليها إنسان متعمداً، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في مسألة حفر البئر.
وصورتها: إذا حفر بئراً على قارعة الطريق، فجاء إنسان، ووثب من إحدى حافتي البئر إلى الآخر خاطر بذلك، فوقع في البئر ومات، فلا ضمان على الحافر، وأما إذا أمر غيره بالرش؛ إن أمره بالرش على فناء الدكان، يعني دكان الآمر؛ فالآمر ضامن، ولا ضمان على الراش، وإن كان بخلافه فالراش ضامن، والحارس إذا رش هو يضمن كيف ما كان، وإذا رش الماء في الطريق، وجاء رجل بحمارين فيقوم صاحب الحمار إلى أحدهما يقوده، فتبعه الحمار الآخر فزلق فانكسرت رجله، فإن كان صاحب الحمارين سابقاً فلا ضمان على الراش؛ لأن التلف يحال منه على سوقه، وإن لم يكن سابقاً لهما فالراش ضامن (118ب2) إذا ربط حماراً علق على موضع، فجاء آخر، وربط حماره على ذلك الموضع أيضاً، فعض أحد الحمارين الآخر؛ فإن ربطا في موضع كان لهما ولاية الربط بأن لم يكن ذلك الموضع طريقاً، ولا ملكاً لأحد، فلا ضمان؛ لأن الربط على هذا الموضع ليس بجناية، وإن ربطا في موضع ليس لهما ولاية المربط يجب الضمان على صاحب الحمار؛ لأنه ربطه على هذا الموضع جناية منه فما تولد منه يكون مضموناً.(5/409)
-----
في غصب «فتاوى أبي الليث»: زعم بعض مشايخنا أن المسألة مؤولة في باب الضمان، وتأويلها إذا عض حمار الرجل الثاني حمار الرجل الأول؛ أما إذا عض حمار الأول حمار الثاني؛ لا ضمان على الأول؛ لأن فعل الثاني تسبب إلى التلف؛ أما فعل الأول ليس بتسبب، وليس الأمر كما ظنوا؛ بل المسألة مجراة على إطلاقها، والضمان واجب على صاحب العاض أيهما كان.
إذا شق راوية الرجل، فهو ضامن لما شق من الراوية، ولما سال منها، ولما عطب بما سال منها؛ ما لم يشقها صاحبها، فإن ساقها صاحبها، وهو يعلم بذلك ضمن صاحبها ما عطبه بما سال منها بعد سوقه إياها، ولا يضمن الشاق ذلك.
وكذلك لا يضمن الشاق ما سال منها بعد سوقه إياها، ولا يضمن الشاق ذلك، وكذلك لا يضمن الشاق ما سال منها بعد سوقه إذا كان الشق بحال يمكن لصاحبها دفع ذلك، فإن الضمان على الشاق.
وكذلك إذا شق راوية رجل، وسال ما فيها حتى مال الجانب الآخر ووقع وتخرق، وسال ما في الدن الآخر كان ضمان ذلك على الشاق إلا إذا ساقها رب الدابة مع العلم بالشق فحينئذٍ لا ضمان على الشاق.
ذكر شيخ الإسلام هذه المسألة على هذا الترتيب في آخر شرح الإجارات، وإذا ساق حماراً عليه وقر حطب، وكان يليه رجل واقف في الطريق أو يسير، فقال السائق بالفارسية: «يرث برث»، أو قال: «كرست» ولم يسمع الواقف حتى أصابه الحطب، وخرق ثوبه، أو سمع إلا أنه لم يتهيأ له أن يتنحى عن الطريق لضيق المدة ضمن السائق ثوبه؛ لأن التخرق مضاف إلى سوقه، والمرور في الطريق، وحمل الحطب مباح له بشرط السلامة، وإن سمع وتهيأ له التنحي عن الطريق، فلم يتنح فلا ضمان؛ لأنه رضي بخرق ثوبه؛ ذكر المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» ولم يذكر ما إذا كان الحمار يمشي، والرجل يأتي أمامه، وضرب عليه الحطب، وتخرق ثوبه.(5/410)
-----
والجواب فيه: أن الرجل الآتي إن لم يكن غافلاً، أمكنه أن يتنحى عن الطريق ولم يتنحَ، فلا ضمان على صاحب الدابة، وإن كان الرجل الآتي غافلاً، وحصل الخرق بذنب الحمار، ومجيء الرجل يجب أن يكون على صاحب الحطب نصف الضمان على قياس مسألة المكعب، وجناسها على ما سيأتي بيانها بعد هذا إن شاء الله.
وفي «النوازل» قصار أقام حماراً على الطريق، وعليه ثياب، فجاء راكب، وفرق الثياب، يريد به «كرست زوش»؛ قال: إن كان الراكب يتضرر الحمار أو الثوب يضمن؛ لأن فعله جناية في هذه الحالة، وإن كان لا يتضرر لا يضمن؛ لأن فعله ليس بجناية، والمرور في الطريق مأذون فيه؛ قال ثمة فعلى هذا لو وضع الثوب على الطريق، فجعل الناس يمرون عليه حتى تخرق؛ وهم لا يبصرون، فلا ضمان عليهم.
وكذلك رجل جلس على الطريق، فوقع عليه إنسان، فلم يره، فمات الجالس، فلا ضمان عليه؛ لأن القنن يجمع الكل؛ قال الفقيه أبو الليث، وقد روي عن أصحابنا خلاف ذلك، ولكن لو أفتى مفتٍ بما ذكرنا أولاً لا بأس به.
قال الصدر الشهيد في «واقعاته»: فإذا نص المفتي في هذه المواضع أن الرأي للقاضي، قال: وهكذا يفتى، وعلى قياس مسألة وقر الحطب ينبغي أن يقال في هذه المسألة: إذا كان الراكب تبعه الحمار، والقصار إن لم يقل «برت كوست» أو قال: ولم يسمع القصار قوله، أو سمع، ولكن لم يتهيأ له أن يتنحى؛ ينبغي أن يصير الراكب ضامناً إلى آخر ما ذكرنا.
(5/411)
الفصل الثامن قي الدعوى الواقع في الغصب، واختلاف الغاصبوالمغصوب منه والشهادة في ذلك
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا ادعى رجل على رجل أنه غصب منه جارية له، وأقام على ذلك بينة؛ يحبس المدعى عليه حتى يجيء بها، ويردها على صاحبها؛ قال شمس الأئمة الحلواني: ينبغي أن تحفظ هذه المسألة؛ لأنه قال: أقام بينة أنه غصب جارية له، ولم يتبينوا جنسها وصفتها، .... المشايخ من شرطه بيان الجنس، والصفة والقيمة، وأول ما ذكر في الكتاب على هذا، وحكي عن أبي بكر الأعمش تأويل المسألة أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب أنه غصب منه جارية فثبت غصب الجارية، فإقراره في حق الحبس والقضاء جميعاً.
والصحيح: أن هذه البينة تقبل في حق الحبس من غير بيان الجنس والصفة والقيمة، فإذا حبسه القاضي، وأحضر المحبوس جارية، فإن اتفق الغاصب والمغصوب منه أن جاريته هذه يقضى بها للمغصوب منه، وإن أنكر الغاصب أن تكون هذه الجارية جارية المدعي، وادعاها المالك؛ لم يقضَ بها للمغصوب منه ما لم تفد البينة أنها هي الجارية التي غصبها منه.
وإن قال الغاصب: قد ماتت الجارية، أو بعتها، ولا أقدر عليها إن صدقه المغصوب منه في ذلك خلي سبيله، وقضي عليه بالقيمة إن أراد المغصوب منه فإن كذبه يحبس، وينظر ويتلوم، فإذا مضى مدة يقع في غالب رأي القاضي أنه لو كان قادراً لما تحمل مرارة الحبس إلى مثل هذه المدة، فالقاضي يخلي سبيله.(5/412)
-----
قال شمس الأئمة: وهذا التلوم إذا لم يرض المغصوب منه بالقيمة، فإن لم يعرف منه الرضا ومضت هذه المدة فالقاضي يخلي سبيل المدعى عليه بعد هذا القاضي يقول للمغصوب منه: إذا تريد ضمان القيمة أو التلوم إلى أن تظهر الجارية؛ إن قال: ضمان القيمة إن اتفقا على القيمة قضى بتلك البينة، وإن لم يكن، فالقول قول الغاصب مع يمينه، ويحلف بالله ما قيمته إلا عشرين درهماً ذكر هذه الكيفية في غصب «الأصل» قبل مسألة الخلط، فإذا حلف وأدى القيمة، ثم ظهرت الجارية؛ كان للمالك الخيار؛ إن شاء رضي بالقيمة التي أخذها، وإن شاء ردها، وأخذ الجارية؛ قال شيخ الإسلام: قال بعض مشايخنا: إذا كان المأخوذ مثل قيمته أو أكثر؛ لا يكون للمالك الخيار في استرداد الجارية، وذكر شمس الأئمة السرخسي أن هذا القائل هو الكرخي؛ قال شمس الأئمة هذا: والصحيح أن للمالك الخيار على كل حال.
وإليه أشار في «الكتاب» حيث أطلق الجواب إطلاقاً، وذكر شمس الأئمة الحلواني: إذا ظهر أن قيمتها (119أ2) مثل ما قال الغاصب ..... الجواب فيه؛ قال في موضع: لا خيار للمولى، ولا سبيل له عليها، وقال في موضع آخر: له الخيار، وإن كان ما أخذ أضعاف قيمتها؛ قال شمس الأئمة هذا: والقول الأول أشبه.
ولو ادعى الغصب وجاء بشاهدين شهد أحدهما على الغصب، وشهد الآخر على إقرار الغاصب بالغصب؛ لا تقبل الشهادة، وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما بالبيع، وشهد الآخر على الإقرار بالبيع حيث تقبل الشهادة، ولو شهد أحد الشاهدين له بالملك، وشهد الآخر على إقرار الغاصب له بالملك؛ لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به مختلف؛ لأن الملك المطلق الثابت بالشهادة غير الملك المطلق الثابت بالإقرار حتى يستحق بالأول الزوائد المنفصلة دون الثاني.(5/413)
-----
وإذا ادعى جارية في يدي رجل أنها جاريته غصبها هذا منه، وشهد أحد الشاهدين بذلك، وشهد الآخر أنها جاريته غصبها هذا منه؛ تقبل الشهادة؛ لأنهما اتفقا على الملك، وتفرد أحدهما بالزيادة فتقبل الشهادة على ما اتفقا عليه.
ادعى جارية في يدي رجل أنها له غصبها صاحب اليد منه، ولم يشهد شهود المدعي بالغصب، وإنما شهدوا له بالملك، فأراد القاضي أن يقضي بالجارية للذي أقام البينة هل يحلفه بالله ما بعت، ولا أديت له فيه؟ قال: لا، إلا أن يدعي صاحب اليد شيئاً من ذلك، وعن أبي يوسف إنه عدم، وإن لم يطلب الخصم، فيكون أحكم للقضاء وأبرم. وأجمعوا أن من ادعى ديناً في التركة، فالقاضي يحلفه مع إقامة البينة أنك ما استوفيت الدين، ولا أبرأته وإن لم يدع الخصم ذلك، وهذه المسألة تشهد لأبي يوسف.
وإذا ماتت الدابة المغصوبة، ووقع الاختلاف بين الغاصب والمغصوب منه، فقال الغاصب: رددت الدابة عليك، ونفقت عندك، وقال المغصوب منه: لا بل نفقت عندك من ركوبك، ولم يكن لواحد منهما بينة، فالقول قول رب الدابة؛ وذلك لأن الغاصب أقر بالسبب الموجب للضمان، وهو الغصب، وادعى ما يبرئه فيكون القول قول صاحب المال؛ كما لو قال: أكلت مالك بإذنك، أو أخذت مالك بإذنك، وأنكر صاحب المال؛ كان القول قوله لما ذكرنا أنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وادعى ما يبرئه فلم يصدق إلا ببينة، فكذلك هذا فإن أقاما جميعاً البينة؛ أقام رب الدابة البينة أنها نفقت عند الغاصب من ركوبه، وأقام الغاصب البينة أنه قد ردها عليه، ثم ماتت في يده، فإن الغاصب يضمن قيمتها.(5/414)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا أقام البينة أنه ردها على المالك، وأقام المغصوب منه البينة أنها نفقت عند الغاصب، ولم يشهد أنها نفقت من ركوبه، فلا ضمان على الغاصب، وبين المسألتين فرق من حيث الصورة؛ أما لا فرق بين المسألتين من حيث المعنى، وذلك؛ لأنا نعمل بالبينتين جميعاً في الموضعين، ويجعل كأن الأمرين كانا في المسألتين يجعل في المسألة الأولى كأن الغاصب رد دابته ثم ركب بعد الرد، ونفقت من ركوبه ويجعل في المسألة الثانية كأنه ردها، ثم نفقت عند الغاصب بعد الرد؛ إلا أن العمل بالبينتين جميعاً في مسألة الركوب توجب الضمان؛ لأنه متى ردها على المالك ثم ركب بعد الرد، ونفقت من ركوبه ضمن، ويكون هذا غصباً آخر منه، فصار ضامناً، والعمل بالبينتين في المسألة الأخرى لا يوجب على الغاصب ضماناً؛ لأنه متى رد ثم نفقت الدابة بعد الرد عند الغاصب من غير صنعه بأن انفلتت الدابة بعد الرد ونفقت عنده، لا يكون ضمانها عليه فكذلك هذا، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» الفرق: أن ما ذكر أنه لا ضمان على الغاصب قول محمد، أما على قول أبي يوسف هو ضامن.
وإذا اختلف رب الثوب والغاصب في قيمة الثوب، وقد استهلكه الغاصب، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه منكر الزيادة، والبينة بينة رب الثوب؛ لأنها تثبت الزيادة، وإن لم يكن لرب الثوب بينة، وجاء الغاصب ببينته أن قيمة ثوبه كذا، وكذبه رب الثوب وسأل القاضي يمين الغاصب، فإنه يحلف على دعواه، فلا تقبل بينته؛ لأن بينته تنفي الزيادة، والبينة على النفي لا تقبل؛ قال بعض مشايخنا: ينبغي أن تقبل بينة الغاصب لإسقاط اليمين عن نفسه، وقد تقبل البينة لإسقاط اليمين؛ ألا ترى أن المودع إذا ادعاه رد الوديعة يقبل قوله، ولو أقام البينة على ذلك قبلت بينته، وطريقه ما قلنا.(5/415)
-----
وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يكون في كل فصل روايتان، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: هذه المسألة عدت مشكلة، ومن المشايخ من فرق بين مسألة الوديعة وبين هذه المسألة، وهو الصحيح.
ولو شهد لرب الثوب أحد الشاهدين أن قيمة ثوبه كذا، وشهد الآخر على إقرار الغاصب أن قيمة ثوبه كذا؛ لا تقبل هذه البينة؛ لأن المشهود به يختلف، وإن جاء الغاصب بثوب مرتي، فقال: هذا الذي غصبتكه، وقال رب الثوب: بل هو ثوب هروي، فالقول قول الغاصب مع يمينه، ويحلف بالله أن هذا الثوب ثوبه الذي غصبه إياه، وما غصبه ثوباً هروياً قال مشايخنا: والصواب ما ذكره في كتاب الاستحلاف أنه يكفيه أن يقول: بالله ما غصبت هروياً كما يدعيه المالك، وإن جاء بثوب مروي وقال: هذا الذي غصبتك، وهو على حاله، وقال رب الثوب بل كان ثوبي جديداً حين غصب، فالقول قول الغاصب مع يمينه.
وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الثوب، فإن لم يقم واحد منهما بينة، وحلف الغاصب، وأخذ رب الثوبِ الثوبَ، ثم أقام بينة أنه غصبه إياه، وهو جديد؛ ضمن الغاصب فضل ما بينهما، هكذا ذكر في «الأصل» قال شمس الأئمة الحلواني: هذا إذا كان النقصان يسيراً، فإن كان فاحشاً، فرب الثوب بالخيار؛ إن شاء أخذ الثوب، وضمنه النقصان، وإن شاء ترك الثوب عليه، وضمنه قيمة الثوب.
رجل ادعى ثوباً في يدي رجل أنه له، وأن صاحب اليد غصبه منه، وأقام صاحب اليد البينة أن المدعي وهبه منه أو أقر له، فإنه يقضى به لذي اليد ويجعل كأن صاحب اليد غصب، أو لأنه وهبه المدعي أو باعه منه.
ولو ادعى رجل أن الثوب له وأن صاحب اليد غصبه منه، وأقام على ذلك بينة وأقام رجل آخر أن صاحب اليد أقر له بهذا الثوب، فإنه يقضى به للذي أقام البينة أن الثوب له، ويجعل كأن صاحب اليد غصب أولاً حتى يصير الثوب في يده، فيصح الإقرار، وإذا جعل كأن صاحب اليد غصب أولاً جعل مقراً بملك الغير، والإقرار بملك الغير لا يعتبر.(5/416)
-----
إذا قال: غصبتك هذه الجبة ثم قال: البطانة لي، أو قال: الحشو لي، لم يصدق؛ لأنه رجع بعد الإقرار (119ب2) فإن اسم الجبة اسم للكل.
ولو قال: غصبتك هذا الخاتم، أو هذه الدار، أو هذه الأرض، ثم قال بعد ذلك: .... الخاتم لي، أو قال: بناء الدار لي، أو شجر الأرض لي، فكذلك الجواب لا يصدق؛ لأن اسم الخاتم اسم للكل، فيصير راجعاً بعد الإقرار، ولو قال: غصبت هذه البقرة من فلان، ثم قال: ولدها لي؛ قبل قوله.
فرق بين الإقرار والشهادة، فإنه إذا شهد شاهدان لرجل أن هذه بقرته، ولها ولد، فإن المشهود له يستحق البقرة مع الولد.
وفي «القدوري»: وإذا شهد شهود المدعي بغصب العبد، وموته عند الغاصب، وشهد شهود الغاصب أن العبد مات في يد مولاه قبل الغصب؛ لم ينتفع بهذه البينة؛ يعني الغاصب؛ لأن شهود الغاصب عرفوا يد المولى، ولم يعرفوا الغصب، وشهود المدعي عرفوا الغصب، فكانت شهادتهم أولى.
إذ أقام المدعي بينة أن الغاصب غصبه يوم النحر بالكوفة، وأقام الغاصب البينة أنه كان يوم النحر بمكة أو العبد، فالضمان واجب على الغاصب؛ لأن البينة التي أقامها الغاصب على كونه يوم النحر بمكة لا يتعلق بها حكم، فيطلق ضرورة.
وقال محمد رحمه الله في «الإملاء»: إذا شهد شهود الغاصب أنه مات في يد المغصوب منه، وشهد شهود المغصوب منه أنه مات في يد الغاصب، فالبينة بينة الغاصب؛ لأن بينة المالك لا تثبت بإقرار الغاصب، فإن الضمان يجب بالغصب لا بالموت، والغاصب قد أقر بالغصب، فخرجت بينة المالك من البين والغاصب ببينته يثبتت الرد حيث أثبت الموت في يد المالك، وسيأتي بعد هذا عن أبي يوسف بخلافه.(5/417)
-----
في «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف: في رجل غصب من آخر عبداً، فوجد المغصوب منه عبده فأخذه، وفي يده مال، فقال الغاصب: هو مالي، وقال المغصوب منه: هو مالي، قال: إن كان العبد في منزل الغاصب، والمال في يده فهو للغاصب، وإن لم يكن في منزل الغاصب، فهو للمغصوب منه.
بشر عن أبي يوسف: غاصب الثوب إذا قال: صبغته أنا، وقال المغصوب منه: غصبته مصبوغاً، فالقول قول المغصوب منه، وكذلك إذا اختلفا في بناء الدار، وحلية السيف فهو مثل اختلافهما في الصبغ.
عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله: إذا وقع الاختلاف في بناء الدار، فالقول قول رب الدار؛ كما قال أبو يوسف، قال: وإن أقاما البينة، فالبينة بينة الغاصب، قال وكذلك النخيل والشجر في الأرض، ولو اختلفا في متاع موضوع في الدار المغصوبة أو في آجر موضوع أو في باب موضوع فالقول قول الغاصب والبينة بينة المغصوب منه.
رجل غصب عبد رجل وباعه، وسلم العبد، وقبض الثمن، ومات العبد في يد المشتري، فقال المالك: أنا أمرته بالبيع، فالقول قوله، ولو قال: لم أقره ولكني أجزت البيع حين بلغني؛ لم يلتفت إلى قوله، ولا سبيل له على الثمن إلا أن يقيم البينة أنه أجاز البيع قبل موت العبد.
هشام في «نوادره»: سألت محمداً عن رجل أتى سوقاً، وصب لإنسان زيتاً أو سمناً، أو شيئاً من الأدهان أو الخل، وعاينت البينة ذلك، وشهدوا عليه فقال الجاني: صببت، وهو نجس قد ماتت فيه الفأرة، فالقول قوله، فإن (دخل) إلى سوق القصاص، فعمد إلى طواس اللحم، فرمى بها، واستهلكها، والشهود عاينوا ذلك، فشهدوا عليه، فقال الجاني: هي ميتة؛ قال: لا أصدقه على ذلك، ويسع الشهود أن يشهدوا أنها ذكية؛ لأنه لا يباع في السوق لحم ميتة، ويباع فيه زيت وسمن قد ماتت فيه الفأرة.
إبراهيم عن محمد: رجل اتخذ من طين لبناً أو جداراً، فهو له، وعليه قيمة الطين، وإن قال رب الطين: أنا أمرته أن يتخذه؛ قال هو لرب الطين.(5/418)
-----
بشر عن أبي يوسف: إذا شهد شهود الغاصب أن رب العبد قبضه منه، فمات عنده، وشهد شهود المغصوب منه أن العبد قد مات عند الغاصب، فالغاصب ضامن لقيمته؛ قال أبو الفضل: وهذا خلاف جواب «الأصل».
الفصل التاسع في تملك الغاصب المغصوب، والانتفاع به
ذكر في «فتاوى أبي الليث» عن الفقيه أبي بكر الإسكاف فيمن غصب من آخر لحماً وطبخه، وغصب حنطة، وطحنها، وصار المال له، ووجب عليه القيمة فأكله حلال في قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وفي قول أبي يوسف أكله حرام قبل أن يرضى صاحبه.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: من غصب من آخر طعاماً فمضغه حتى صار بالمضغ مستهلكاً، فلما ابتلعه حلالاً في قول أبي حنيفة رضي الله عنه خلافاً لأبي يوسف رحمه الله بناء على أن شرط الطيب الملك بالبدل عند أبي حنيفة، وعندهما أداء البدل. حكي عن الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي أنه كان لا يصحح ما ذكر عن أبي حنيفة في هاتين المسألتين، وكان ينكر أن يكون ذلك قول أبي حنيفة، وكان يقول: الصحيح عند المحققين من مشايخنا على قضية مذهب أصحابنا أن الغاصب لا يملك المغصوب إلا عند أداء الضمان، أو قضاء القاضي بالضمان، أو تراضي الخصمين على الضمان.
وإذا وجد شيء من هذه الأشياء الثلاثة ثبت الملك، وما لا فلا، وبعد وجود شيء من هذه الأشياء الثلاثة إذا ثبت الملك لا يحل للغاصب تناوله؛ لأنه استفاده بفعل لا يحل، فصار كالمملوك بالبيع الفاسد عند القبض؛ إلا أن يجعله صاحبه في حل فحينئذٍ يباح تناوله لانقطاع ذلك السبب.
وفي «القدوري»: غصب حنطة، وزرعها فعليه مثلها، ويتصدق بالفضل، ويكره الانتفاع بها حتى يرضى صاحبها، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف على ما روى عنه بشر؛ لا يكره الانتفاع قبل أداء الضمان، وعلى ما روى عنه هشام؛ يكره الانتفاع.(5/419)
-----
فرق أبو يوسف بين هذه المسألة، وبين إذا غصب من آخر حنطة، وطحنها على رواية بشر، فإن تلك المسألة يكره له الانتفاع قبل أداء الضمان عنده باتفاق الروايات، والفرق: أن الطحن ليس بإتلاف حقيقة، وإنما هو تغير لصفة العين، فجاز أن يبقى حق المالك لقيام المعنى، فأما الحنطة إذا زرعت هلكت، فلم يبق لها عين يتعلق به حق المغصوب منه، فلم يكره الانتفاع به قبل أداء الضمان لهذا، وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف: إذا غصب من آخر نواً، وغرسه، واتخذ منه نخلاً، فلا بأس بالانتفاع به قبل أن يرضى صاحبه، ولو غصب بالة، وغرسها حتى صار نخلاً؛ كره الانتفاع بها قبل أن يرضى صاحبه؛ لأن النوى يعفن ويهلك، والبالية تزيد في نفسها وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف على رواية هشام؛ إنما كرهوا الانتفاع قبل أداء الضمان؛ حتى لا يصير سبباً لفتح باب تناول أموال الناس بالباطل.
وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الشاة المغصوبة: إذا ذبحها وشواها، لم يسع له أن يأكلها، ولا يطعم أحداً حتى يضمن، وإن كان صاحبها غائباً، أو حاضراً لايرضى بالضمان لا يسع له الأكل، وإذا دفع الغاصب (120أ2) قيمتها حل له الأكل؛ لأن حق المالك صار موفى بالبدل، وكذلك إذا أبرأه أصلاً؛ لأن حقه سقط بالبراءة، وكذلك إذا ضمنه المالك القيمة، أو ضمنه الحاكم؛ لأن الحاكم لا يضمنه إلا بعد طلبه فكان راضياً به.
وقال زفر رحمه الله: بعدما طحن الحنطة وشوى اللحم فله أن يأكل، ويطعم من شاء، فلا يعتبر رضا المغصوب منه؛ لأن حق المغصوب منه قد انقطع عن العين، وتقررت في القيمة، فلا يعتبر برضاه.
ولو غصب بيضة فحضنه، فخرج فراريخ، فلا بأس بأن ينتفع بها قبل أن يؤدي ضمان النقص؛ لأنه قد تغير عن حال الغصب.
ولو غصب من آخر عصفراً، وصبغ به ثوباً، أو غصب من آخر سمناً ولت به سويقاً لم يسع له أن ينتفع حتى برضى صاحبه في «المنتقى».(5/420)
-----
وفيه أيضاً: كل ما غاب عنه صاحبه من ذلك، ويخاف عليه الفساد، فلا بأس بأن ينتفع به بعدما شهد على نفسه بضمانه، وليس يخرجه ذلك من إثم الغصب.
رجل غصب من آخر جارية فعتقها فقال رب الجارية: قيمة جاريتي ألفان، وقال الغاصب: لا بل ألف، وحلف على ذلك، وقضى القاضي على الغاصب بألف لرب الجارية؛ لم يحل للغاصب أن يستخدمها ولا يطأها ولا يبيعها، وليس كلها له إلا أن يعطيه قيمتها بأتمه، وإن أعتقها الغاصب بعد القضاء بالقيمة الناقصة؛ جاز عتقه، وعليه تمام القيمة كالعتق في الشراء الفاسد إذا تملك الغاصب المغصوب بالضمان، ثم نظر إليه فوجده معيباً، فله أن يرده بالعيب، ولكن بعد أن يحلف بالله لقد ضمن القيمة، ولم يعلم بالعيب، وكذلك له أن يرد بخيار الرؤية.
وعن أبي يوسف في السيل يذهب بحنطة رجل، فيقع في أرض رجل فنبتت قال: إن كان للحنطة ثمن، فإن جميع ما يخرج منها لصاحب الحنطة، ويتصدق بالفضل، ولا شيء عليه من نقصان الأرض.
اشترى جارية بثوب مغصوب؛ لا يحل له وطؤها قبل أداء الضمان؛ لأنه لو استحق الثوب يلزمه رد الجارية.
ولو تزوج امرأة بثوب مغصوب؛ حل له وطؤها؛ لأنه لو استحق الثوب لا يبطل النكاح.
في أول غصب شمس الأئمة السرخسي، وفي «المنتقى»: ابن سماعة في «نوادره» عن محمد في رجل غصب من آخر ألف درهم؛ وتزوج بها امرأة أو اشترى ثوباً؛ وسعه وطء المرأة، ولبس الثوب، قال من قبل أن العقد جاز على ألف درهم، ولم يقع على تملك الدراهم بعينها، فلا أبالي نقدها، أو غيرها.
وفيه أيضاً: لو اشترى بالألف المغصوبة جارية أو ثوباً، ودفع الألف في الثمن إلى البائع، ثم باع الأمة، أو الثوب بفضل طاب له الفضل.
وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد غصب من آخر دراهم، واشترى بها دنانير؛ قال: لا يسعه أن ينفق الدنانير؛ لأن الدراهم إذا استحقت بعدما افترقا انتقض البيع في الدنانير، فإن قضى على غاصب الدراهم بمثلها حلت له الدنانير.(5/421)
-----
اشترى بدراهم مغصوبة أو بدراهم اكتسبها من الحرام شيئاً، فهذا على وجوه؛ أما إن دفع إلى البائع تلك الدراهم، أولاً، ثم اشترى منه بتلك الدراهم. أو اشترى قبل الدفع بتلك الدراهم، ودفعها أو اشترى قبل الدفع بتلك الدراهم، ودفع غير تلك الدراهم، أو اشترى مطلقاً، ودفع تلك الدراهم، أو اشترى بدراهم أخر، ودفع تلك الدراهم، وفي الوجوه كلها لا يطيب له التناول قبل ضمان الدراهم، وبعد الضمان لا يطيب له الربح؛ هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قال أبو الحسن الكرخي: هذا الجواب صحيح في الوجه الأول والثاني، وأما في الوجه الثالث والرابع والخامس فلا، واليوم الفتوى على قول أبي الحسن لكثرة الحرام دفعاً للحرج عن الناس، وعلى هذا تقرر رأي الشيخ الإمام الأجل الشهيد.
ذكر في الباب الأول من شرح «الواقعات» نهر مغصوب، جاء إنسان وأراد الغوص أو الشرب منه إن حول الغاصب النهر عن موضعه يكره؛ لأنه انتفاع بملك الغير، وصار كالصلاة في الأرض المغصوبة، وإن لم يحول لا يكره؛ لأن الناس شركاء في الماء.
رجل غصب طاحونة، وأجرى ماءها في أرض غيره من غير طيب من نفس صاحب الأرض؛ لا يحل للمسلمين الانتفاع بهذه الطاحونة إذا علموا بذلك؛ لا شراء ولا إجارة ولا طحناً بأجر ولا عارية؛ لأنه استعمال لملك الغير.(5/422)
-----
الأكل من أرض الجور، يريد به أرض المملكة، وهي الأض يطيب نصيب الأكل، ولهم إذا أخذوا مزارعة، وإجارة؛ لأنهم ملكوه، وفي الكروم والأشجار إن كان يعرف أربابها لا يطيب للإكراه ولا لغيره؛ لأنه بملك الغير، وإن لم يعرفوا طاب للإكراه نصيبهم؛ لأن التدبير في معاملته إلى السلطان، وصار بمنزلة أرض بيت المال، أما نصيب بيت المال ينبغي للسلطان أن يتصدق به، فإن لم يفعل فلا إثم عليه؛ هذا الذي ذكرنا طريق الحكم، أما طريق الاحتياط، ما روى خلف بن أيوب: أنه كان لا يأكل من طعام بلخ إلا وقت تباح له الميتة وكان لا يملك مدر الشيخ؛ لأن السلطان أخذ ضياع علي بن عيسى لنفسه؛ لكن في هذا الزمان الاختيار عن هذه الشبهات قدر ما يمكن حتى روي عن علي بن إبراهيم أنه سئل عن هذه الشبهات، فقال: ليس هذا زمان الشبهات؛ اتق الحرام عياناً بمعنى إن اجتنبت عن غير الحرام كفاك، وذكر بعد هذا أن الشبهة إلى الحرام أقرب، قيل هكذا قال أبو يوسف؛ لأنه لو لم يكن حقيقة يجعل كذلك احتياطاً، وأما المكروه: تكلموا، والمختار ما قاله أبو حنيفة، وأبو يوسف: إنه إلى الحرام أقرب، وقد روي عن محمد نصاً أن كل مكروه حرام ما لم يقم الدليل بخلافه.
في «فتاوى أهل سمرقند»: غصب حانوتاً وأغل فيه وربح؛ طاب له الربح؛ لأنه حصل بالتجارة.
في «فتاوى أبي الليث»: إذا أعلف دود القز من أوراق اتخذها بغير إذن المالك؛ قال أبو النعيم: عليه أن يتصدق بالفضل على قيمة دوده يوم يبيع العلق.
في «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا غصب رجل أرضاً، وبناها حوانيت وحماماً ومسجداً؛ فلا بأس بالصلاة في ذلك المسجد، فأما الحمام، فلا يدخل، ولا تستأجر الحوانيت؛ قال: ولا بأس بأن يدخل الحوانيت لشراء متاع، قال هشام: وأنا أكره الصلاة فيه حتى تطيب ذلك ....، وأكره شراء المتاع في أرض غصب، أو حوانيت غصب، ولا أرى أن يقبل شهادة الذي يبيع في حوانيت الغصب إذا علم أن ذلك غصب.(5/423)
-----
إذا أراد أن يمر في أرض الغير؛ إن كان له طريق آخر ليس له أن يمر في أرض الغير، وإن لم يكن له طريق آخر له أن يمر في أرض الغير ما لم يمنعه عن ذلك صريحاً، وهذا في حق الواحد، فأما الجماعة فليس لهم أن يمروا في أرض الغير إلا برضاه صريحاً؛ لأن مرور الواحد لا يضر بالأرض ضرراً فاحشاً فلم يكن صاحب الأرض راضياً به دلالة، فيشترط الرضاء صريحاً، وإذا أراد المرور في الطريق المحدث إن علم أن صاحب الملك هو الذي جعل ملكه طريقاً أحل له المرور فيه، وإن لم يعلم ذلك، ولكن لا يعلم أيضاً أنه غصب، فكذلك الجواب، هكذا نقل عن بعض مشايخ بلخ رحمهم الله، (120ب2)
الفصل العاشر في الأمر بالإتلاف
إذا أمر غيره بأخذ مال الغير، فالضمان على الآخذ، ولا رجوع له على الآمر؛ لأن الأمر لم يصح، وفي كل موضع لم يصح الأمر، فالضمان على المأمور من غير رجوع، وأما الجابي إذا أمر العوان بالأخذ؛ قال الصدر الشهيد: فيه نظر باعتبار الظاهر؛ لا ضمان على الجابي، وإنما الضمان على الآخذ، وباعتبار السوائم يجب الضمان على الجايي فيتأمل عند الفتوى، والمختار أنه لا يجب الضمان على الحبابي، فأما الجابي إذا أرى العوان بيت صاحب الملك، ولم يأمره بشيء، أو الشريك إذا أرى العوان بيت الشريك حتى أخذ المال، وأخذ من بيته رهناً بالمال الذي طولب به لأجل ملكه وضاع الرهن، فالشريك والجايي لا يضمنان بلا شبهة، والكلام في هذا الفصل أظهر؛ لأنه لم يوجد منهما أمر ولا عمل، ودفع العوان في الجملة ممكن بطريقته، فأما دفع السلطان غير ممكن.
وإذا أخذ الرجل غيره بأن يذبح له هذه الشاة، وكانت الشاة لجاره؛ ضمن الذابح علم أن الشاة لغير الآمر أو لم يعلم، وهل يرجع بالضمان على الآمر؟ إن علم أن الشاة لغير الآمر حتى علم أن الأمر لم يصح لا يكون له حق الرجوع، وإن لم يعلم حتى ظن صحة الأمر رجع، وذكر شيخ الإسلام هذه المسألة مع أجناسها في شرح كتاب الديات.(5/424)
-----
في غصب «فتاوى أبي الليث»: سئل أبو بكر عن رجل جاء بدابة إلى شط نهر ليغسلها، وهناك رجل واقف، فقال الذي جاء بالدابة للرجل الواقف: أدخل هذه الدابة النهر، فأدخلها وغرقت الدابة وماتت الدابة، والآمر سائس الدابة، إن كان الماء بحال يدخل الناس فيه دوابهم للغسل والسقي؛ لا ضمان على أحد؛ لأن للسائس أن يفعل ذلك بيده، ويد غيره، وإن لم يكن الماء بحال يدخل الناس دوابهم فيه، فلصاحب الدابة الخيار؛ إن شاء ضمن السائس، وإن شاء ضمن المأمور، وهكذا ذكر ههنا، وفيه نظر ينبغي أن لا يجب الضمان على الآمر، وهو السائس؛ لأن مجرد الأمر بالإتلاف إنما يوجب الضمان على الآمر إذا كان الآمر هو السلطان، أو من بمعناه؛ فإن ضمن للسائس لا يرجع السائس على المأمور، وإن ضمن المأمور إن كان المأمور لم يعلم أن الآمر ليس له الدابة حتى ظن صحة الأمر رجع على السائس.
وفيه أيضاً: رجل قال لغيره: خرق ثوبي هذا، وارم الماء .... ففعل المأمور ذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل بأمره لكنه يأثم؛ لأنه إضاعة المال بلا فائدة.
في «العيون» قال لآخر: احفر لي باباً في هذا الحائط، ففعل فإذا الحائط لغيره ضمن الحافر؛ لأنه ملك الغير، ويرجع على الآمر؛ لأن الأمر قد صح بزعمه، فإنه قال: احفر لي، وإنه يدل على كونه مالكاً وكذلك إذا قال: احفره في حائطي أو لم يقل ذلك، ولكن كان ساكناً في ذلك الدار؛ لأنه من علامات الملك أيضاً، ولو لم يقل: لي ولم يقل في حائطي، ولم يكن ساكناً في ذلك الدار؛ لأنه من علامات الملك أيضاً، ولو لم يقل في حائطي، ولم يكن ساكناً في تلك الدار، ولم يستأجره على ذلك، فلا رجوع له على الآمر؛ لأن الأمر لم يصح بزعمه.
(5/425)
الفصل الحادي عشر في زراعة الأرض المغصوبة، والبناء فيها
-----
في «فتاوى أبي الليث»: غصب من آخر أرضاً، وزرعها ونبتت، فلصاحبها أن يأخذ الأرض، ويأمر الغاصب بقلع الزرع تفريغاً لملكه، فإن أبى أن يفعل، فللمغصوب منه أن يفعل ما لو رفع إلى الحاكم كان يفعله يريد به أن للمغصوب منه أن يقلعه بنفسه.
في «العيون»: غصب من آخر أرضاً، وزرعها حنطة، ثم اختصما، وهي بذر لم ينبت بعد، فصاحب الأرض بالخيار؛ إن شاء تركها حتى ينبت، ثم يقول له: اقلع زرعك، وإن شاء أعطاه ما زاد البذر فيه.
وطريق معرفة ذلك ما روى هشام عن محمد رحمه الله أنه تقوم الأرض وليس فيها بذر، وتقوم وفيها بذر، فيضمن فضل ما بينهما. وروى المعلى عن أبي يوسف: أنه يعطيه مثل بذره، والمختار أنه تقوم الأرض غير مبذور، وتقوم وهي مبذور ببذر لغيره حق القلع، ففضل ما بينهما قيمة ما بذر، مبذور في أرض الغير كذلك للغير حق القلع.
في «المنتقى» المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف: أرض بين رجلين زرعها أحدهما بغير إذن شريكه، وتراضيا على أن يعطي غير الزارع الزارع نصف البذر، ويكون الزرع بينهما نصفين؛ قال: إن كان ذلك منهما بعدما نبت الزرع فهو جائز، وإن كان قبل أن ينبت؛ لا يجوز؛ لأن غير الزارع يصير مشترياً نصف الزرع، وشراء الزرع قبل النبات لا يجوز. وإن كان الزرع قد نبت، فأراد الذي لم يزرع أن يقلع الزرع، فإن الأرض تقسم بينهما نصفين، فما أصاب الذي لم يزرع من الأرض قلع ما فيه من الزرع، ويضمن له الزارع ما دخل أرضه من نقصان القلع.
غصب بالة من أرض إنسان، فزرعها في ناحية أخرى من تلك الأرض، فكبرت البالة وصارت شجرة، فالشجرة للغارس، وعليه قيمة البالة لصاحبها يوم غصبها، ويؤمر الغارس بقلع الشجرة.(5/426)
وكذلك لو غرس رجل مال نفسه في أرض غيره، فلصاحب الأرض أن يأمره بقلعها، وإن كان القلع يضر بالأرض أعطاه صاحب الأرض قيمة شجرته، ولكن مقلوعة؛ كذا قيل، وعلى قياس مسألة الزرع التي تقدم ذكرها إنه يمكن بيان إعطاء صاحب الأرض قيمة شجرته لغيرها حق القلع.(5/427)
-----
وفي «فتاوى الفضلي»: رجل زرع أرض نفسه فجاء آخر، وألقى بذره في تلك الأرض، وقلب الأرض قبل أن ينبت بذر صاحب الأرض، أو لم يقلب، وسقى الأرض حتى نبت البذران، فالنابت يكون للثاني عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن خلط الجنس بالجنس عنده استهلاك، وللأول على الثاني قيمة بذره، ولكن مبذوراً في أرض نفسه، فيقوم الأرض ولا بذر فيها، ويقوم وفيها بذر، فيرجع بفضل ما بينهما، فإن جاء الزارع الأول، وهو صاحب الأرض، وألقى فيها بذر نفسه مرة أخرى، وقلب الأرض قبل أن ينبت البذران؛ أو لم يقلب، ولكن سقى الأرض فنبتت البذور كلها، فجميع ما نبت لصاحب الأرض، وعليه للغاصب مثل بذره، ولكن مبذوراً في أرض غيره، هكذا ذكر ولم يشبع الجواب.
والجواب المشبع: أن الغاصب يضمن لصاحب الأرض قيمة بذره مبذوراً في أرض نفسه، ثم يضمن صاحب الأرض للغاصب قيمة البذرين لكن مبذوراً في أرض الغير؛ لأن الاختلاف كذلك ورد، هذا كله إذا لم يكن الزرع نابتاً.
فأما إذا نبت زرع المالك، فجاء رجل، وألقى بذره وسقى، فإن لم يقلب حتى نبت الثاني فالجواب كما قلنا، وإن كان لا ينبت مرة أخرى كما ينبت فهو للغاصب، ويضمن الغاصب للمالك قيمة زرعه نابتاً؛ لأن الإتلاف كذا ورد.
في «النوازل»: غصب أرضاً، وبنى فيها حائطاً، فجاء صاحب الأرض، وأخذ الأرض، فأراد الغاصب أن يأخذ الحائط، فإن كان الغاصب بنى الحائط من تراب هذه الأرض؛ ليس له، ويكون لصاحب الأرض؛ لأنه لو نقض صار تراباً كما كان، فيكون عليه تركه، فلا يفيد النقض، وإن بنى الحائط لا من تراب هذه الأرض، فله النقض؛ لأنه لو نقض لا يكون عليه تركه؛ بل يكون له النقل فكان (121أ2) النقض مفيداً.(5/428)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: بنى رجل حائطاً في كرم رجل بغير أمره، فإن لم يكن للتراب قيمة، فالحائط لصاحب الكرم، والباني معين؛ لأنه لم يصر غاصباً التراب،وإن كان للتراب قيمة، فالحائط للباني، وعليه قيمة التراب؛ لأنه صار غاصباً للتراب، فصار ضامناً.
الفصل الثاني عشر فيما يلحق العبد الغصب، فيجب على الغاصب ضمانه
قال القدوري في «كتابه»: غصب من آخر عبداً أو جارية، فأبق في يد الغاصب، ولم يكن أبق قبل ذلك، أو زنت أو سرقت، ولم تكن فعلت ذلك قبل ذلك، فعلى الغاصب ما انتقص بسبب السرقة والإباق، وعيبة الزنا؛ لأن هذه العيوب لازمة توجب نقصان القيمة، فالواجب على الغاصب أن يرده على الوجه الذي غصبه معنىً.
وكذلك كل ما حدث في يد الغاصب مما ينتقص القيمة من عور أو شلل أو ما أشبه ذلك كان مضموناً عليه، فيقوم العبد صحيحاً، ويقوم وبه العيب فيأخذه، ويرجع بفضل المولى بينهما، وإن أصابه عمى في يد الغاصب، أو أصابه بياض في عينه لم يرده على المولى ورد معه الأرش، ثم ذهب العمى وزال البياض، فللغاصب أن يرجع على المولى بالأرش، وإن حبلت عند الغاصب من الزنا فردها على المولى كذلك.... يرد معها النقصان، فينظر إلى أرش عيب الزنا، وإلى ما نقصها الحبل فيضمن الأكثر من ذلك، ويدخل الأقل في الأكثر، وهذا استحسان أخذ به أبو يوسف؛ لأن السبب متحد، وهو الزنا، فتعذر الجمع بين الضمانين، ويدخل الأقل في الأكثر.
والقياس: أن يضمن الأمرين جميعاً، وهو قول محمد؛ لأنهما عيبان مختلفان، فإن ولدت في يد المالك، وسلمت من الولادة، فإنه يروى عن أبي يوسف: أنه ينظر إلى أرش الحبل وإلى أرش عيب الزنا، فإن كان عيب الزنا أكثر لا يرد شيئاً، وإن كان أرش الحبل أكثر رد الفضل عن عيب أرش عيب الزنا؛ لأن عيب الزنا ثابت، وقد ذهب عيب الحبل.(5/429)
-----
فإن ماتت من الولادة، وبقي ولدها، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ ضمن الغاصب جميع قيمتها، وعلى قولهما ضمن نقصان الحبل خاصة؛ هكذا ذكر «القدوري».
وفي «المنتقى» عن محمد: أن الجارية تقوم غير حامل ولا زانية، وتقوم وهي حامل وزانية فيرجع بفضل ما بينهما.
ولو حبلت عند الغاصب من زوج قد كان لها في يد المولى، فلا ضمان على الغاصب في ذلك بحال؛ لأن ذلك من تسليط المولى الزوج عليه، فأشبه فعل المولى. ولو أحبلها المولى بنفسه في يد الغاصب؛ لا ضمان على الغاصب في ذلك كذلك ههنا، ولو حمت في يد الغاصب ثم ردها على المولى، فماتت في يد المولى من الحمى التي كانت في يد الغاصب؛ لم يضمن إلا ما نقصها الحمى؛ لأن الموت إنما يحصل بزوال القوى، وذلك بترادف الآلام، فلم يكن الموت حاصلاً بسبب كان في ضمان الغاصب، وإنما الحاصل في ضمانه نقصان الحمى، فيضمن قدر نقصان الحمى لهذا.
ولو غصب جارية محمومة أو حبلى بها جراح، أو مرض، فماتت من ذلك في يد الغاصب، فهو ضامن قيمتها، وبها ذلك المرض.
ولو قتل العبد المغصوب في يد الغاصب قتيلاً، حراً، أو عبداً، أو جنى جناية فيما دون النفس يخير المولى إن شاء دفع أو فداه ويرجع على الغاصب بالأقل من قيمته، ومن أرش الجناية، وإن استهلك مالاً، وخوطب الولي بالبيع أو الفداء رجع بالأقل من قيمته، ومما إذا عمت به من الدين.
وإن غصبه، وقيمته ألف درهم، فصار قيمته بعد ذلك ألفي درهم، ثم قتله قاتل في يد الغاصب، فالمولى بالخيار؛ إن شاء ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم، فرجع الغاصب على القاتل بألفي درهم، ويتصدق بالألف الزائد، وإن شاء ضمن القاتل قيمته يوم القتل ألفي درهم، ولا يرجع القاتل على الغاصب بشيء.
ولو قتل العبد نفسه في هذه الصورة ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم، ولا يضمن قيمته يوم القتل؛ لأن قتل الإنسان نفسه لا يتعلق به حكمه، فصار كموته.(5/430)
(5/431)
-----
الفصل الثالث عشر في غاصب الغاصب ومودع الغاصب
يخير المالك بين تضمين الغاصب، وبين تضمين غاصب الغاصب، وكذا يخير بين تضمين الغاصب، وبين تضمين مودع الغاصب؛ لأن كل واحد منهما متعدٍ في حقه، فإن أراد المالك أن يضمن كل واحد نصف قيمة المغصوب، فله ذلك؛ ذكر شيخ الإسلام في باب الرهن؛ يوضع على يدي عدل.
وإذا ضمن المالك أحدهما إما الغاصب، وإما غاصب الغاصب، أو مودعه يبرأ الآخر عن الضمان، وأما إذا اختار تضمين أحدهما ولم يضمنه بعد، هل يبرأ عن الضمان؟ فيه روايتان، وفي بعض النسخ برىء الآخر عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وإن ضمن الغاصب الثاني، فالغاصب الثاني لا يرجع على الأول، وإن ضمن مودع الغاصب إن لم يعلم المودع بكون المال غصباً؛ رجع بما ضمن على الغاصب المودع، وإن علم ذلك ذكر شيخ الإسلام أنه لا يرجع، وذكر شمس الأئمة الحلواني أن فيه شبهة اختلاف الرواية.
في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: إذا اختار المغصوب منه تضمين الغاصب الأول، ورضي به الغاصب الأول، أو لم يرضَ إلا أن القاضي قضى له بالقيمة على الأول، فليس له أن يرجع عن ذلك ويضمن الثاني، فإن اختار تضمين الأول، فلم يعطه الأول شيئاً، وهو معدم، فالقاضي يأمر الأول بقبض ماله من الثاني، ويدفع ذلك إلى المغصوب منه، فإن أبى الأول ذلك، فمولى العبد إذا أحضر مما قبلت منه البينة على الغاصب الثاني للغاصب الأول حتى يوجد ذلك من الثاني فيقبضه المغصوب منه، قال: وهذا بمنزلة رجل له على رجل دين، وللمطلوب على رجل آخر دين.w(5/432)
-----
وفيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في رجل غصب من آخر عبداً، فقتله قاتل في يد الغاصب، فاختار المالك تضمين أحدهما لا سبيل على الآخر، وقال أبو يوسف: له أن يضمن الآخر ما لم يقض القيمة من الذي اختار تضمينه؛ قال: فإن أبرأ الغاصب، فهو بريء، ولا يرجع عليه بعد الإبراء بشيء، وإن أبرأ القاتل، فله أن يعود فيما أبرأه منه، ويأخذ منه قيمة عبده؛ لأن ذلك يؤخذ منه على كل حال.
ألا ترى أن المولى إذا أبرأ القاتل كان للغاصب أن يضمن القاتل، ولو أبرأ الغاصب على أنه إن لم يأخذ القيمة من القاتل يرجع على الغاصب، فله أن يعود ويضمنه.
عن ابن سماعة: أنه كتب إلى محمد رحمه الله في رجل غصب من آخر عبداً، وقتله في يده قاتل خطأ، واختار المولى اتباع الغاصب بنصف قيمة العبد حالاً، واتباع عاقلة القاتل بنصف القيمة مؤجلاً له ذلك.
غاصب الغاصب، ومودع الغاصب يبرأان بالرد على المالك، وكذا يبرأان بالرد على الغاصب؛ إلا رواية عن أبي يوسف، وكذلك إن كان المودع صبياً محجوراً.
وكذلك إن كان رب الوديعة صبياً أو عبداً؛ لأن المسقط للضمان في حق المودع رده إلى من أخذ منه، وذلك متحقق، وإن كان المستودع رده إلى السابق بأمر الغاصب؛ كان للمغصوب منه أن يضمنه؛ لأن في الفصل الأول إنما برىء عن الضمان؛ لأنه رده إلى من أخذه منه (121ب2) فانفسخ حكم فعله، وههنا ما رده إلى من أخذه منه إنما رده على غيره، وذلك سبب للضمان، فلهذا افترقا.
في «فتاوى أبي الليث»: غصب رجل من رجل مالاً، فغصب ذلك المال غريم للمغصوب منه؛ قال أبو نصر: كان نصر يقول يبرأ الغاصب الأول،وكان محمد بن سلمة يقول: المغصوب منه بالخيار؛ قال الصدر الشهيد رحمه الله: وهو المختار على ما يأتي بيانه في المسألة التي تلي هذه المسألة، فإن ضمن الثاني صار قصاصاً بدينه، وبرىء الأول، وإن ضمن الأول لا يبرأ الثاني.(5/433)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: رجل له على آخر دين، فأخذ من ماله مثل حقه، قال أبو نصر محمد بن سلام: يصير غاصباً، ويصير ما أخذ قصاصاً بما عليه؛ لأنه أخذ بغير إذنه؛ قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يصير غاصباً؛ لأنه أخذ بإذن الشرع؛ لكن يصير مضموناً عليه؛ لأن طريق قضاء الدين هذا، فلو أخذ ذلك غير صاحب الدين، ودفعه إلى صاحب الدين؛ قال محمد بن سلمة: المغصوب منه بالخيار؛ إن شاء ضمن الآخذ، وإن شاء ضمن صاحب الدين؛ لأن الأول غاصب، والثاني غاصب، أو غير غاصب؛ لكنه مضمون عليه، فإن اختار تضمين الآخذ لم يصر قصاصاً منه بدينه، وإن اختار تضمين صاحب الدين صار قصاصاً بدينه، وقال نصير بن يحيى: لا خيار، ويصير قصاصاً بدينه؛ لأن الآخذ كالمعين لصاحب الدين على أخذ حقه، والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع عشر
في غصب الحر والمدبر، والمكاتب، وأم الولد
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد في رجل خدع امرأة رجل أو ابنته، وهي صغيرة، وأخرجها من منزل أبيها أو زوجها؛ قال: أحبسه حتى يأتي بها، أو يعلم حالها.
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف؛ رجل سرق صبياً، فسرق من يده، ولم يستبن لهم موته، ولا قتله لم يضمن، ولكنه يحبس حتى يأتي به، أو يعلم حاله.
وفي «القدوري»: لو غصب صبياً من أهله، فمرض، ومات في يده، فلا ضمان عليه؛ لأن الحر ليس بمحل للغصب حتى يجب الضمان بصورة هذا الفعل، ولا يضمن بالموت؛ لأنه أمر مجبور لا صنع لأحد فيه، ولو عقره سبع في يده أو نهشته حية، فمات، فعلى عاقلة الغاصب الدية.(5/434)
-----
وكذلك لو وقع عليه حائط، أو وقع في بئر كان على عاقلة الغاصب الدية، ولو قتل هذا الصبي رجل خطأ في يد الغاصب، فلأولياء الصبي أن يتبعوا عاقلة أيهما شاؤوا، فإن ضمنوا عاقلة الغاصب رجعوا على عاقلة القاتل، وإن قتل الصبي نفسه فديته على عاقلة الغاصب، ولا يرجعون بها على عاقلة الصبي، وكذلك لو أتى على شيء من نفسه من اليد والرجل، وما أشبه ذلك.
وكذلك لو أركبه دابة، فألقى نفسه منها، وهذا كله قول أبي يوسف، وقال محمد: لا ضمان على الغاصب بجناية الصبي على نفسه، ولو قتل رجل هذا الصبي عمداً في يد الغاصب، فلأوليائه أن يتبعوا القاتل، فيقتلوه، وعند ذلك يبرأ الغاصب، وإن شاؤوا اتبعوا عاقلة الغاصب بالدية، ورجعت عاقلة الغاصب في مال القاتل عمداً.
ولو قتل هذا الصبي إنساناً في يد الغاصب فرده على الولي، وضمن عاقلة الصبي الدية لم يكن لهم أن يرجعوا على الغاصب؛ لأنهم لو رجعوا على الغاصب لرجعوا بحكم الغصب، والحر لا يضمن بالغصب.
ولو غصب مدبراً، ومات في يده ضمن، ولو غصب أم ولد، وماتت في يده لم يضمن في قول أبي حنيفة، وعندهما يضمن، ولو غصب مكاتباً، ومات في يده؛ لم يضمن في قول أبي حنيفة، وعندهما يضمن، ولو غصب مكاتباً، ومات في يده يضمن بلا خلاف؛ كما لو غصب مدبراً.
(5/435)
الفصل الخامس عشر في المتفرقات
-----
وإذا باع الغاصب المغصوب من رجل، وأجاز المالك بيعه صحت الإجازة؛ إذا استجمعت الإجازة شرائطها، وهي قيام البائع، والمشتري والمعقود عليه، وأن تكون الإجازة قبل الخصومة عند أبي حنيفة، ولا يشترط قيام الثمن في ظاهر الرواية إذا كان البيع بالدراهم أو بالدنانير، وإن كان المالك قد خاصم الغاصب في المغصوب، وطلب من القاضي أن يقضى له بالملك، ثم أجاز البيع، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا تصح إجازته؛ هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني، وشيخ الإسلام خواهر زاده، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» أن الإجازة صحيحة في ظاهر الرواية، وذكر في «النوادر» أنها لا تصح.
فوجه قول أبي يوسف ومحمد: أن الإجازة لاقت عقداً موقوفاً، فتصح كما قبل الخصومة بيانه أن الفسخ لم يوجد من المالك نصاً ....... الخصومة، والخصومة كما تكون لاستدامة الملك فيما يتخاصم، فيكون ... تكون لإثبات الملك لنفسه حتى يجبر العقد فيه، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: بأن الإجازة صحيحة قبل الخصومة، فتكون الخصومة لاستدامة الملك؛ لا لصحة الإجازة، فتثبت استدامة الملك تنتفي الخصومة، فيكون ذلك فسخاً للعقد كما لو ثبتت استدامة الملك نصاً، فإن كان لا يعلم قيام البيع وقت الإجازة بأن كان قد أبق من يد المشتري؛ ذكر في ظاهر الرواية أن الإجازة صحيحة، وروي عن أبي يوسف: أنها لا تصح، فإن كان الغاصب قد قبض الثمن، وهلك في يده، ثم أجاز المالك البيع؛ هلك الثمن على ملك المغصوب منه اعتباراً للإجازة في الانتهاء بالإذن في الابتداء.
ذكر شيخ الإسلام في أول صلح «الجامع» إذا قال الرجل لغيره: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن فسلك، وأخذه اللصوص؛ لا يضمن، ولو قال: إن كان مخوفاً وأخذ مالك، فأنا ضامن، وباقي المسألة بحالها يضمن.(5/436)
-----
وصار الأصل في جنس هذه المسائل أن الغرور إنما يثبت حق الرجوع للمغرور على الغار إذا حصل ذلك في ضمن عقد معاوضه، أو ضمن الغار للمغرور صفة السلامة نصاً، وكذلك إذا قال: كل هذا الطعام فإنه طيب، فإذا هو مسموم، فهو على ما قلنا.
نخلة لرجل في ملكه خرج سعفها إلى جاره، فأراد جاره أن يقطع ذلك ليفرغ هواءه كان له ذلك، هكذا ذكره محمد رحمه الله، قال الناطفي في «واقعاته»: ظاهر لفظ محمد يفيد ولاية القطع بغير إذن القاضي.
وقيل: هذا على وجهين؛ إن كان يمكن تفريغ الهواء بمد السعف إلى النخلة، والشد عليها ليس له أن يقطع، ولو قطع يضمن، ولكن يطلب من صاحبه أن يمد السعف إلى النخلة، ويشد عليها بحبل، ويلزمه القاضي ذلك، وكذلك إذا أمكنه مد بعض السعف إلى النخلة، والشد عليه؛ ليس له أن يقطع ذلك البعض.
فأما إذا لم يمكن تفريغ الهواء إلا بالقطع، فالأولى أن يستأذن صاحب النخلة حتى يقطع بنفسه، أو يأذن له بالقطع، فإن استأذن وأبى يرفع الأمر إلى القاضي حتى يجبره على القطع، فإن لم يفعل الجار شيئاً من ذلك، ولكن قطع بنفسه ابتداء، فإن قطع من موضع لا يكون القطع من موضع آخر أعلى منه، أو أسفل أنفع للمالك (122أ2) لا يضمن.(5/437)
-----
هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أيضاً: أنه إذا أراد القطع، فإنما يقطع في ملك نفسه، ولا يكون له أن يدخل بستان جاره حتى يقطعه؛ قال رحمه الله: وقد قال مشايخنا: إنما يكون له أن يقطع من جانب نفسه إذا كان يقطعه من جانب نفسه مثل قطعه من جانب صاحبه في الضرر، أما إذا كان قطعه من جانب صاحبه أقل، فهذا ليس له أن يقطع، ولكن يرفع الأمر إلى القاضي ليأمره بالقطع، فإن لح وإن بعث القاضي نائباً حتى يقطعه من جانب صاحب النخلة، ثم في الموضع الذي لا يضمن إذا قطعه بنفسه؛ لا يرجع على صاحب النخلة بما أنفق في مؤنة القطع؛ لأنه كان يمكنه أن يرافع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بذلك، أو يأمر به صاحب النخيل، فإذا لم يقطع صار متبرعاً.
أخرج شجرة الجوز صغاراً رطبة فأتلف إنسان تلك الجوزات يضمن نقصان الشجرة؛ لأن تلك الجوزات، وإن لم يكن لها قيمة، وليست بمال حتى لا يضمن بالإتلاف لأعلى الشجرة، فإتلافها ينقص قيمة الشجرة، فينظر: أن هذه الشجرة بغير تلك الجوزات بكم تشترى ومع تلك الجوزات بكم تشترى فيضمن فضل ما بينهما.
رجل غصب من آخر ثوباً، فقطعه قميصاً وخاطه، فاستحقه رجل من يد الغاصب؛ رجع المغصوب منه بقيمة الثوب على الغاصب؛ لأن هذا قضاء ما نملك بسبب حادث من جهة المدعى عليه، فلا يظهر أن الغاصب لم يغصب مال المغصوب منه.
وكذلك لو غصب لحماً فشواه، فاستحق الشوي، فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمة المغصوب، وهو اللحم، ولو كان المستحق أقام البينة أن اللحم كان له قبل أن يشويه، أو كان الثوب له قبل أن يخيطه، أو كانت الحنطة له قبل الطحن؛ لم يرجع المغصوب منه على الغاصب بشيء؛ لأن هذا قضاء بالملك من الأصل، فتبين أن الغاصب لم يغصب مال المغصوب منه؛ هذه المسائل مع أجناسها في الباب الثامن من بيوع «الجامع».(5/438)
-----
(حمل) على حمار غيره شيئاً بغير أمره، فتورم ظهر الحمار، فشق رب الحمار الورم، فانتقص قيمة الحمار، فإنه يتلوم بالحمار؛ إن اندمل من غير نقصان، فلا ضمان على الذي غصب، وإن اندمل مع النقصان ينظر؛ إن كان النقصان من الورم، فضمان ذلك على الغاصب، وكذا إذا مات كان الجواب كما قلنا، فإن اختلفا، فقال صاحب الحمار الموت كان من الورم، وقال الغاصب: كان من الشق، فالقول قول الغاصب مع يمينه.
في غصب «فتاوى أبي الليث»: إذا استهلك رجل أحد مصراعي باب غيره أو أحد زوجي خف غيره، أو ما أشبه ذلك؛ كان للمالك أن يسلم الباقي، ويأخذ قيمتهما منه، في «الجامع» في باب بيع الشيئين المزدوجين كأنهما شيء واحد.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: رجل استهلك فرو نعل لرجل لم يضمن إلا قيمة ما استهلك، ولا يدفع إليه الأخرى، ويضمنهما جميعاً قال: وكذلك لو أحرق مصراعاً لرجل أو أخذ جصه قال: أرأيت لو كسر حلقة خاتم فيها فص قيمته مائة أكنت أضمن الفص والخاتم؟ لا أضمن إلا ما استهلك؛ قال ثمة: وكسر .... بسرج ضمنه ولم يضمن السرج؛ لأن هذا يخلص منه بلا ضرر، وكل شيئين مفردين أو ثني واحد يخلص بعضه عن بعض، فلا ضرر؛ مثل ..... السرج ..... فإنه يضمن ما جنى عليه من ذلك؛ لا يضمن غيره.
إذا جاء الرجل بالحنطة إلى الطحان، ووضعها في صحن الطاحونة، وأمر صاحب الطاحونة أن يدخلها بالليل في بيت الطاحونة، فلم يدخلها في بيت الطاحونة بالليل، وسرقت الحنطة، فإن كان صحن الطاحونة محوطاً بحائط مرتفع مقدار ما لا يرتقى إلا بسلم، فلا ضمان، وإن كان بخلافه وجب الضمان؛ لأنه في هذا الوجه مضيع، وفي الوجه الأول ليس بمضيع.
في «فتاوى أبي الليث»: هدم بيت نفسه، وانهدم من ذلك بيت جاره فلا ضمان.(5/439)
-----
في «فتاوى أهل سمرقند»: إذا دفع إلى القصار ثوباً ليقصره فلف القصار في الثوب الخبز وذهب به حيث تقصر الثياب، فسرق الثوب منه، فإن لف الثوب على الخبز كما يلف المنديل على ما جعل منه، وعقده، فهو ضامن؛ لأنه استعمله استعمالاً معتاداً، فصار غاصباً، وإن جعل الثوب تحت إبطه، ودس فيه الخبز، فلا ضمان في هذا الموضع أيضاً.
وفيه أيضاً: الحمال إذا نزل في مفازة، وتهيأ له الانتقال، فلم يفعل حتى فسد المتاع بمطر أو سرق، فهو ضامن؛ هكذا ذكر، قيل هذا إذا كان المطر في ليلة غالباً؛ لأنه حينئذٍ يكون مضيعاً وقيل أيضاً: ويشترط مع ذلك أن لا يكون المالك معه، أما إذا كان المالك معه، فلا ضمان.
وفيه أيضاً: إذا دفع حمولة إلى جمال ليحملها إلى بلدة، فجاء الجمال إلى نهر عظيم، وفي النهر جمد كثير يجري كما يكون في الشتاء، فركب الجمال جملاً من الجمال، والجمال الآخر يدخلون الماء على أثر هذا الجمل، وقع جمل من الجمال في الماء من جريان الجمد وسقط الجمل في الماء قال: إن كان الناس يسلكون في مثل هذا، ولا ينكرون هذا، فلا ضمان.
جاء إلى قطار إبل وحل بعضها فلا ضمان؛ لأنه لم يغصب إبلاً. غصب بيضتين فحضن إحدهما تحت دجاجة له، أو حضنت دجاجة أخرى على البيضة الأخرى، فالفرختان له، وعليه بيضتان؛ لأنه استهلك الأولى وهلكت الأخرى في ضمانه، ولو كان مكان الغصب وديعة فالتي حضنت الدجاجة لصاحب البيضة؛ لأن الأمانة هلكت.
في «العيون» في «مجموع النوازل»: رجل غصب من آخر بقرة، وغصبها آخر من الغاصب، ثم سرقها المالك من الغاصب الثاني لعجزه عن استردادها منه مجاهرة، ثم إن الغاصب الثاني غلب على المالك، وغصب البقرة منه، فلا خصومة لصاحب البقرة على الغاصب الأول؛ لأن عين ما غصب منه الغاصب الأول قد وصل إليه.(5/440)
-----
سئل قاضي القضاة شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن رجل دفع إلى آخر غلامه مقيداً بالسلسلة، وقال: اذهب به إلى أبيك، فذهب به بدون السلسلة، فأبق العبد؛ قال: لا ضمان؛ لأنه أمره بشيئين، وقد أتى بأحدهما.
جز غنماً بغير إذن صاحبها، وجعل صوفها لبوداً، فاللبود له؛ لأنه حصل بصنعه، فبعد ذلك ينظر؛ إن كان جز الصوف لم ينقص من قيمة الغنم شيئاً، فعليه مثل ذلك الصوف، وإن كان نقص منه فهو بالخيار؛ إن شاء ضمنه مثل ذلك الصوف، وإن شاء ضمنه ما دخل النقصان في الغنم.
في «فتاوى أبي الليث»: غصب من آخر عبداً أو جارية، وغاب المغصوب منه فجاء الغاصب إلى القاضي، وطلب منه أن يأخذ المغصوب منه، أو يفرض له النفقة، فحاصل الجواب في هذه المسألة أن القاضي يفعل ما هو الأصلح فيه في حق الغائب، فإن كان الأصلح أن يأخذ منه، فإن كان الغاصب مخوفاً يأخذه، ويبيعه إن رأى المصلحة في البيع، وإن كان الأصلح أن يتركه في يد الغاصب تركه.
حريق وقع في محلة، فهدم إنسان دار رجل بغير إذن صاحبها حتى انقطع الحريق من داره، فهو ضامن إذا لم يفعل (122ب2) بإذن السلطان، ولكن لا إثم عليه في ذلك؛ لأنه هدم ملك الغير بغير إذنه، وبغير إذن من يلي عليه، ولكن تعذر فهو نظير المضطر بتناول طعام الغير بغير إذنه.
في «فتاوى أبي الليث»: سفينة حملت عليها حمولات لأقوام، بعض أرباب الحمولات معها، فاستقرت السفينة في جزيرة، فأخرج بعض الحمولات لتخف السفينة، ووضعت في الجزيرة، فضاعت الحمولات، فإن كان لا يخاف الغرق، فالذي أخرج الحمولات ضامن، وإن كان يخاف الغرق، فإن ضاعت الحمولات قبل أن يقع الأمن عن الغرق فلا ضمان، وإن ضاعت بعدما وقع الأمن، فهو ضامن؛ وهذا لأن إخراج بعض الحمولات إذا خيف الغرق على السفينة ليس بجناية، ولكن على الذي أخرج إعادتها إلى السفينة بعدما وقع الأمن عن الغرق، فيصير بترك الإعادة في هذه الحالة جانياً ضامناً.(5/441)
-----
في «فتاوى أهل سمرقند»: إذا سقى أرض نفسه، وتعدى إلى أرض جاره، فلا ضمان على الساقي.
وكذلك إذا أحرق الكلأ في أرضه، وذهب النار يميناً وشمالاً، فأحرق شيئاً لغيره، فلا ضمان على الموقد؛ وهذا جواب «الكتاب».
ومن المشايخ من فرق بين إرسال الماء، وبين إيقاد النار، فقال: من طبع النار الخمود، والتعدي بفعل الريح، ونحوه، فلا يضاف إلى فعل الموقد، ومن طبع الماء السيلان، فأضيف السيلان والإتلاف إلى المرسل، وفي المسألة كلمات تأتي في كتاب الشرب والجنايات.
العبد المغصوب إذا مات في يد الغاصب، وأقر الغاصب أنه كان غصبه من فلان؛ يؤمر بتسليمه القيمة إلى المقر له، فإن جاء رجل، وأقام البينة أنه عبده غصبه منه، فالقاضي يقضي بالقيمة لصاحب البينة، فإذا قضى بالقيمة لصاحب البينة، وأخذها لا شيء للمقر له على الغاصب، فإن وصلت تلك القسمة بعينها إلى الغاصب من جهة المقضي له، أو بالإرث أو بالوصية أو بالمبايعة؛ يؤمر بردها إلى المقر له، ولو وصل إلى الغاصب ألف آخر من المقضي له سوى المأخوذ منه، فإن وصل بالهبة أو بالمبايعة؛ لا يؤمر بالرد على المقر له، وإن وصل بالميراث أو بالوصية يؤمر.
في «الزيادات» في باب الحوالة قبل باب السلسلة: المغصوب إذا اكتسب كسباً، ثم استرده المالك مع الكسب؛ لا يتصدق بالكسب، والغاصب إذا ضمن القيمة عند الهلاك أو الإباق صار الكسب له؛ يتصرف بالكسب.
في «الزيادات» في آخر باب الكسب: إذا أقر أنه غصب من فلان شيئاً، ولم يبين، فالقول قوله، ولا بد من أن يعتبر شيء يمانعه الناس ويقصد بالغصب حتى لو لم يكن كذلك، بأن بين بالتراب ونحوه لا يصدق؛ لأنه لا يسمى غاصباً، ولو بين بشيء يقصده الناس، ولا قيمة له؛ نحو أن يقر أنه غصب حراً أو جلد ميتة قبل قوله، وهو اختيار مشايخ عراق، واختيار مشايخ ما وراء النهر؛ لأنه لا بد من أن يفسر بشيء له قيمة.(5/442)
-----
في غصب «القدوري» في أوله ذكر في «أدب القاضي» للخصاف في باب العدوى، عن عثمان رضي الله عنه: إحراق البيت الذي فيه الخمر، ولم يروَ ذلك عن أصحابنا رحمهم الله؛ إنما روي عنهم هدم البيت على صاحب الخمر، فإنهم قالوا: يهدم عليه بيته، كأنهم أخذوا ذلك من هذا الحديث، وأما كسر الدنان، ذكر في «السير الكبير»: أنه إن فعل ذلك بإذن الإمام، أو فعل الإمام بنفسه، فلا ضمان، وإن فعل غير الإمام بغير إذن الإمام، فعليه الضمان.
وفي سير «العيون» مسلم شق زق خمر لمسلم، لا يضمن الخمر، ويضمن الزق؛ إلا أن يكون إماماً يرى ذلك فحينئذٍ لا يضمن؛ لأنه مختلف فيه، وكذلك إذا أظهر بيع الخمر في المصر يمنع منه، فإن أتلف ذلك إنسان يضمن (إلا أن يكون) إماماً يرى ذلك؛ لأنه مختلف فيه.
في «المنتقى» قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل في يده ثوب فتشبث رجل بالثوب، فجذب صاحب الثوب من يد المتشبث فانخرق الثوب؛ قال: يضمن المتمسك نصف ذلك، قلت: من أين افترق هذا، واليد؟ قال: لأن .... يده أذى والتشبث ليس بأذى، وإن كان الذي جذب هو المتشبت، فهو ضامن جميعه؛ لأنه لم يكن له الجذب.
قال هشام: قلت: جلس رجل إلى جنب رجل، فجلس على ثوبه، وهو لا يعلم، فقام صاحب الثوب، فانشق ثوبه من جلوسه عليه؛ قال: يضمن نصف الشق؛ لأنه لم يكن له أن يجلس على ثوبه، فكان متعدياً في الجلوس، وقد حصل الشق بفعلهما، فيسقط ما كان بفعل المالك، ويجب ما كان بفعل الجالس.
وروى إبراهيم بن رستم عن محمد: في رجل قعد على رداء رجل، وهو لا يعلم، فنهض الرجل، فتخرق الرداء؛ قال: يضمن الذي قعد على الثوب؛ أوجب الضمان مطلقاً غير مقدر بالنصف، وإنه يخالف رواية هشام عنه، وعلى هذا المكعب إذا تخرق من وضع رجل غير صاحبه عليه، وصاحبه لم يعلم به، فعلى قياس رواية هشام يضمن الواضع نصف النقصان على نحو ما بينا في مسألة الثوب.(5/443)
-----
وفي «نوادر ابن رستم»: أن الحائك إذا حاك لرجل، فجاء الطالب ليأخذ الثوب، وأبى الحائك أن يدفع حتى يأخذ الأجر ضمن صاحب الثوب الثوب، فتخرق إن تخرق من يد صاحبه لا يضمن الحائك شيئاً، ولو تخرق من يديهما ضمن الحائك نصف قيمة الخرق؛ يعني نصف قيمة النقصان المتمكن بالخرق.
دفع عيناً إلى دلال ليبيعه، فعرض الدلال على صاحب دكان، وترك عنده، فهرب صاحب الدكان، وذهب بالمتاع؛ يضمن الدلال؛ لأن الدلال أمين، وليس للأمين أن يودع.
وذكر النسفي في «فتاويه» عن شيخ الإسلام أبي الحسن: أنه لا يضمن، وهو الصحيح؛ لأن هذا أمر لا بد منه؛ لأن المستام يعرض المتاع على أهله، أو من أحب لينظر في ذلك، ثم يشتري، فكان هذا أمراً لا بد منه، فلا يضمن الدلال لهذا.
وإذا كان في يد الدلال ثوب يبيعه، فظهر أنه مسروق، وقد كان رده إلى من دفع إليه، فطلب منه المسروق منه الثوب، فقال الدلال: رددته إلى من كان دفع إليّ برىء؛ لأن غاصب الغاصب إذا رد المغصوب على الغاصب يبرأ.
في «مجموع النوازل»: جارية دفعت جارية أخرى، فذهبت عذرتها، قال محمد بن الحسن: عليها صداق مثلها، بلغنا ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف في رجل قتل ذئباً، أو أسداً لرجل؛ قال: لا ضمان عليه، وإن قتل قرداً ضمن قيمته؛ لأن القرد بمنزلة الكلب؛ قال الفقيه أبو الليث: القرد يخدم في البيت ويكنس البيت، فتكون له قيمة الكلاب، بخلاف الذئب والأسد.
سئل نجم الدين عن أهل مسجد من الصبيان مع المعلم أصابهم برد، وعلى الجدار كوة مفتوحة، قال المعلم لواحد من الصبيان: خذ فوطة هذا الصبي، وسد بها الكوة ليرتفع البرد عنا (1232) ففعل وضاعت الفوطة، فلا ضمان على المعلم، ولا على الصبي الذي أخذ الفوطة وسد بها الكوة؛ لأن جعلها في الكوة وهم حاضرون لا يكون تضييعاً، فلا يضمنان.
(5/444)
-----
في «الحاوي»: سئل أبو القاسم عمن تعلق ثوبه بقفل قفله رجل وتخرق، قال: إن مده صاحب الثوب حتى تخرق لم يضمن صاحب القفل، وإن تخرق من غير المد إن فعل المالك في موضع مأذون له لا يضمن وإلا فيضمن.
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد في رجل غصب عبداً، وضمن رجل للمغصوب منه العبد أن يدفعه إليه غداً فإن لم يفعل، فعليه ألف درهم، وقيمة العبد خمسون درهماً، فلم يدفع إليه العبد غداً؛ قال: إذا ثبت العبد للمغصوب منه لزم الضامن قيمة خمسين درهماً، وبطل الفضل، فإن اختلفا في قيمته، فالقول قول المغصوب منه مع يمينه فيما بينه وبين ألف درهم، والقول قول الكفيل فيما زاد، في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رضي الله عنهما.
وأما في قولنا، فالقول قول الغاصب في القيمة وضمان الألف باطل؛ لأنه لم ينسبها إلى قيمة العبد، فإن ضمن القيمة وسماها، فينظر في ذلك، فإذا هي أكثر من قيمة العبد بما يتغابن الناس فيه؛ فتلك قيمة العبد قبل منه ذلك، وإن كانت أكثر من قيمة العبد بما لا يتغابن الناس فيه؛ بطل الفضل على ما يتغابن الناس فيه.
دابة لرجل دخلت زرع إنسان، فأخرجها صاحب الزرع، فجاء ذئب وأكلها؛ إن أخرجها ولم يسقها بعد ذلك، فلا ضمان، عليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، وإن ساقها أكثر مشايخنا على أنه يضمن؛ سواء ساقها إلى مكان يأمن عليها من زرعه، أو أكثر من ذلك، وعليه الفتوى.
وكذلك الراعي إذا وجد في بادوكه بقرة لغيره، فطردها قدر ما تخرج من بين بادوكه لا يضمن، وإن ساقها بعد ذلك يضمن، فأما إذا وجد في زرعه، فأخبر صاحبها، وأخرجها صاحبها، فأفسدت الدابة الزرع؛ إن أمره صاحب الزرع بالإخراج؛ لا يضمن صاحب الدابة، وإن لم يأمره يضمن هذه الجملة في الباب الأول من غصب «الواقعات».(5/445)
-----
رجل أرسل دابة وكان سائقاً لها، فأصابت شيئاً ضمن السائق، ولو أرسلها إلى جهة، ولم يكن سائقاً لها، فأصابت في وجهها ذلك؛ ضمن صاحبها بخلاف ما إذا أرسل كلباً أو بازياً على صيد، فأتلف شيئاً في حرزه ذلك حيث لا يضمن صاحبها إذا لم يكن سائقاً للكلب إلى الصيد وإرسال الكلب إلى الصيد يخالف إرساله إلى إنسان، فإن من أرسل كلبه إلى إنسان، فأصابه؛ ضمن المرسل، وإن لم يكن سائقاً للكلب؛ قال: فلو أن الدابة لم تذهب إلى وجهها؛ بل انعطفت يميناً وشمالاً، وأصابت شيئاً فلا ضمان على صاحبها إذا كان لها طريق في وجهها ذلك، وإن لم يكن لها طريق في وجهها ذلك، وإنما الطريق له يمين، وشمال لا غير، فانعطف وأصابت شيئاً (فيضمن) صاحبها، وإن وقفت ثم سارت فما أصابت بعد ذلك، فلا ضمان على صاحبها؛ لأن حكم إرساله قد انقطع لما وقف ساعة.
بخلاف الكلب إذا أرسل على صيد، فوقف ساعة، فإن الإرسال لا ينقطع حتى لو أخذ الصيد بعد ذلك رجل، وكذلك إذا أرسل حماره، فدخل زرع إنسان، فأفسده إن ساقها إلى الزرع ضمن، وإن لم يسق بأن لم يكن خلفه إن لم ينعطف عليه يميناً وشمالاً؛ بل ذهب إلى الوجه الذي أرسلها صاحبها، فأصابت الزرع؛ ضمن صاحبها، وإن انعطفت يميناً وشمالاً، فهو على التفصيل الذي قلنا؛ هذه الجملة في شرح ديات شيخ الإسلام؛ في باب جناية الراكب.
وإن وجد الرجل دابة في مربط، فأخرجها، ولم يسقها بعد الإخراج، فأكلها الذئب؛ ضمن قيمتها.(5/446)
-----
فرق بين هذا، وبينما إذا وجدها في كرمه أو زرعه فأخرجها، ولم يسقها بعد الإخراج، فأكلها الذئب حيث لا يضمن قيمتها، والفرق أن الدابة لا تفسد المربط، فكان في إخراجها عن المربط مضيعاً للدابة لا دافعاً شرها عن نفسه، أما الدابة تفسد الزرع والكرم، فكان الإخراج في هذين الوجهين لدفع ضرر الدابة لا تضييعاً لها، وإن وجد دابة في كرمه أو زرعه فحبسها في منزله فهلكت؛ ضمن قيمتها لصاحبها؛ لأنه ليس له ولاية الحبس، فيصير بالحبس غاصباً مضموناً.
ذكر في «السير الكبير» على سبيل الاستشهاد أن من أخذ جلود دابة لرجل، فدبغها، وفعلها فرواً؛ ينقطع حق المالك عن الجلود، وكان الفرو للعامل وغرم قيمة الجلود لما ملكها. ولو أخذ جلود ميتة وجعلها فرواً؛ ثم دبغها لا ينقطع حق المالك عن العين، ويقوّم الفرو جلداً غير معمول، ويقوم معمولاً، فإن شاء العامل إعطاء قيمة جلده ذكياً غير معمول، وإن شاء باع الفرو فقسم ثمنه على قيمة الجلد ذكياً غير معمول، وعلى قيمته فرواً معمولاً فما أصاب الجلد كان لصاحبه، وما أصاب العمل كان لصاحب العمل.
والفرق بين الجلود الذكية وبين الميتة: أن الصنعة في الذكاة إنما جعلت في جلد يضمن بالغصب والاستهلاك، فأوجبت انقطاع حق صاحب العين عن العين، وفي جلد الميتة الصنعة جعلت في جلد لا يضمن بالغصب، والاستهلاك، فلم يوجب انقطاع حق صاحب العين عن العين.
وهذا هو الأصل: أن الصنعة إنما تجعل المصنوع ملكاً للصانع إذا كان المصنوع قبل الصنعة مما يضمن بالغصب والاستهلاك؛ أما إذا كان مما لا يضمن بالغصب والاستهلاك قبل الصنعة، فبالصنعة لا يصير مملوكاً للصانع.(5/447)
-----
وأصل هذا ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير»: لو أن رجلاً من أهل الجند وجد في دار الحرب من الخشب المليح، فعمل منه قصاعاً، وأخونة، ثم أخرجها إلى دار الإسلام، فإن للإمام أن يأخذ ذلك منه، ويعطيه قيمة ما زاد الصنعة فيه، وإن شاء باعه، وقسم الخشب على قيمة هذا الخشب غير معمول، وعلى قيمته معمولاً فما أصاب غير المعمول من ذلك، فإنه يرده في القسمة، وما أصاب المعمول حين ذلك، فإنه يرد، ولا يصير المصنوع ملكاً للعامل ولو أخرجت الغنائم إلى دار الإسلام، فأخذ رجل من هذا الخشب المليح، وجعله قصاعاً، وغير ذلك مما وصفنا لك فإنه يضمن قيمة الخشب، وكان المصنوع للذي عمل، لا سبيل للإمام عليه؛ لأن في الفصل الأول الصنعة إنما وجدت في خشب لا يضمن بالغصب والاستهلاك؛ لأن الغنائم لا تضمن بالغصب والاستهلاك في دار الحرب، فلم يوجد انقطاع حق الغزاة عن العين، وفي الوجه الثاني: الصنعة إنما وجدت في خشب يضمن بالغصب والاستهلاك.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج مسألة الفرو، فنقول: إنما الخيار للعامل في جلد الميتة؛ لا لصاحب الجلد، وإن كان صاحب العمل صاحب تبع (123ب2) وصاحب الجلد صاحب أصل، والخيار ثبت في مثل هذا لصاحب الأصل كما في الثوب االمصبوغ؛ لا لصاحب التبع؛ فذلك لأن صاحب العمل ..... كان صاحب تبع ههنا من حيث الحقيقة، فإن الصنعة صارت صفة للجلد، والأوصاف أتباع فمن حيث المعنى صاحب العمل أصل؛ لأن جلد الميتة لم يكن مالاً قبل الصنعة، والدباغة والمالية هي المقصودة من الأعيان لا نفس العين، وإنما صار مالاً بعمله، فصار من حيث المعنى صاحب العمل صاحب أصل، وصاحب الجلد من حيث المعنى صاحب تبع.
والعبرة للمعنى، وإنما اعتبر قيمة الجلد ذكياً؛ لأنه متى اعتبره ميتاً، وجلد الميتة لا قيمة له؛ لا يستحق صاحب الجلد شيئاً، فلهذا اعتبرت قيمته ذكياً.(5/448)
-----
قال محمد رحمه الله في كتاب «الأصل»: إذا غصب الرجل ثوباً من غيره ولبسه، ثم جاء صاحب الثوب ومدّ الثوب والغاصب لم يعلم بذلك، ولم يطلب صاحب الثوب الثوب منه فتخرق الثوب من ذلك، فلا شيء على الغاصب، وكان ينبغي أن يقال: بأنه يضمن الغاصب للمغصوب منه نصف قيمة الخرق؛ لأن الخرق حصل بيد صاحب الثوب، وإمساك الغاصب جميعاً، فإنه لولا إمساك الغاصب بعد مد المغصوب منه كان لا يخرق الثوب من يده، وإذا حصل الخرق من فعلهما يجب أن يكون على الغاصب نصف الضمان، كما لو خرقاه جميعاً، وكما لو طلب صاحب الثوب الثوب من الغاصب، فمنعه فمده المغصوب منه الثوب مثله فتخرق الثوب؛ ذكر أن الغاصب يضمن نصف قيمة ما تخرق؛ لأن الخرق حصل بفعلهما والجواب أن الإمساك من الغاصب إن وجد حقيقة بلبس الثوب لم يوجد معنى؛ لأن الغاصب بلبس الثوب قصد ستر نفسه في إمساكه عن المالك، فلم يوجد الإمساك من الغاصب معنى، فبقي التلف كله مضافاً إلى مد المالك؛ بخلاف ما إذا طلب منه المالك وأمسكه؛ لأن هناك وجد الإمساك من الغاصب حقيقة ومعنى.
ولو طلب المغصوب منه الثوب من الغاصب، فمنعه الغاصب عنه، ثم إن المغصوب منه مده مداً شديداً؛ لا يمد مثله، فتخرق الثوب؛ لا ضمان على الغاصب؛ علل فقال: لأنها بمنزلة سكين جاء به وخرقه، فقد أضاف الخرق كله إلى فعل المالك، وهذا مشكل؛ لأنه لولا إمساك الغاصب الثوب لكان لا ينخرق بمد المالك، فكان الخرق مضافاً إلى فعلهما.
ألا ترى أنه لو مد مد مثله كان الخرق مضافاً إليهما حتى كان على الغاصب نصف الخرق، فههنا يجب أن يكون كذلك.
(5/449)
-----
والجواب أن الإمساك قد يتحقق من الغاصب، ولا يكون سبب خرقه، فإن كان قبل المد، ويكون سبب خرقه بأن كان في حال المد، فكان الإمساك في نفسه سبب الخرق من وجه دون وجه، فاعتبر سبب الخرق إذا كان مد المالك مداً يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد، والإمساك جميعاً، ولم يعتبر سبب الخرق إذا كان مداً لا يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد وحده بخلاف المد حيث يضاف الخرق إليه؛ لأن المد سبب الخرق على كل حال، وقيل: الإمساك إنما لا يحصل الخرق؛ لأن المد لا يؤخذ؛ لأن بدون الإمساك يكون أخذاً، ولا يكون مداً، وإذا كان المد متى تحقق بسبب خرق على كل حال، والإمساك سبب الخرق في حال دون حال أضيف الخرق إلى المد على كل حال دون حال، وأضيف الخرق إلى الإمساك في حال دون حال.
ونظير هذا الممسك: الثوب إذا كان (على) صاحب الثوب جاء آخر ومد الثوب مداً (يمد) مثله أو مداً لا يمد مثله ليبديه كان الضمان على الماد، وأضيف الخرق كله إلى المد دون الإمساك، وطريقه ما قلنا.
ذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب قصور الغنائم؛ قال مشايخنا: الغاصب إذا ندم على ما صنع، ولم يظفر بالمغصوب منه يمسك المغصوب إلى أن ينقطع مجيء صاحبه، فإذا انقطع طمعه في مجيء صاحبه، يتصدق إن شاء بشرط أن يضمن متى لم يجز صاحبه صدقته؛ قال: والأحسن أن يرفع ذلك إلى الإمام؛ لأن الإمام لتدبيره رأي في أموال الغيب، فالأحسن أن لا يقطع عليه رأيه.(5/450)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: رجل غصب عبداً أو أجر العبد نفسه، وسلم من العمل صحت الإجارة على ما عرف، فإن أخذ العبد الأجر، وأخذ الغاصب الأجر منه وأتلفه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله، وقالا: يجب عليه الضمان، وإن كان الأجر قائماً كان للمالك أخذه بالإجماع، هما يقولان: إنه أتلف مال الغير وهو مولى العبد؛ لأنه كسب عبده، وكسب العبد تبع لرقبته فيكون لمالك الرقبة؛ ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الكسب مال المالك؛ لكنه لا عصمة لها في حق الغاصب بعد الغصب، فأشبه صاحب السرقة بعد القطع، وبيان عدم العصمة أن العصمة ثبتت بيد حافظة؛ إما بنفسه أو بيد ثانية، ويد المالك لم تثبت على هذا المال، ويد الغاصب ليس يد المالك.
فإن قيل: يد العبد يد المولى، والكسب في يد العبد، فيصير كأنه في يد المولى؛ قلنا: العبد في يد الغاصب حتى كان مضموناً عليه، وإذا كان العبد في يد الغاصب لم يكن العبد محرزاً وحافظاً نفسه عن الغاصب، فلا يكون محرزاً وحافظاً ما في يده أيضاً.
والجواب أن الإمساك قد يتحقق من الغاصب، ولا يكون سبب خرقه، فإن كان قبل المد، ويكون سبب خرقه بأن كان في حال المد، فكان الإمساك في نفسه سبب الخرق من وجه دون وجه، فاعتبر سبب الخرق إذا كان مد المالك مداً يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد، والإمساك جميعاً، ولم يعتبر سبب الخرق إذا كان مداً لا يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد وحده بخلاف المد حيث يضاف الخرق إليه؛ لأن المد سبب الخرق على كل حال، وقيل: الإمساك إنما لا يحصل الخرق؛ لأن المد لا يؤخذ؛ لأن بدون الإمساك يكون أخذاً، ولا يكون مداً، وإذا كان المد متى تحقق بسبب خرق على كل حال، والإمساك سبب الخرق في حال دون حال أضيف الخرق إلى المد على كل حال دون حال، وأضيف الخرق إلى الإمساك في حال دون حال.(5/451)
-----
ونظير هذا الممسك: الثوب إذا كان (على) صاحب الثوب جاء آخر ومد الثوب مداً (يمد) مثله أو مداً لا يمد مثله ليبديه كان الضمان على الماد، وأضيف الخرق كله إلى المد دون الإمساك، وطريقه ما قلنا.
ذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب قصور الغنائم؛ قال مشايخنا: الغاصب إذا ندم على ما صنع، ولم يظفر بالمغصوب منه يمسك المغصوب إلى أن ينقطع مجيء صاحبه، فإذا انقطع طمعه في مجيء صاحبه، يتصدق إن شاء بشرط أن يضمن متى لم يجز صاحبه صدقته؛ قال: والأحسن أن يرفع ذلك إلى الإمام؛ لأن الإمام لتدبيره رأي في أموال الغيب، فالأحسن أن لا يقطع عليه رأيه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: رجل غصب عبداً أو أجر العبد نفسه، وسلم من العمل صحت الإجارة على ما عرف، فإن أخذ العبد الأجر، وأخذ الغاصب الأجر منه وأتلفه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله، وقالا: يجب عليه الضمان، وإن كان الأجر قائماً كان للمالك أخذه بالإجماع، هما يقولان: إنه أتلف مال الغير وهو مولى العبد؛ لأنه كسب عبده، وكسب العبد تبع لرقبته فيكون لمالك الرقبة؛ ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الكسب مال المالك؛ لكنه لا عصمة لها في حق الغاصب بعد الغصب، فأشبه صاحب السرقة بعد القطع، وبيان عدم العصمة أن العصمة ثبتت بيد حافظة؛ إما بنفسه أو بيد ثانية، ويد المالك لم تثبت على هذا المال، ويد الغاصب ليس يد المالك.
فإن قيل: يد العبد يد المولى، والكسب في يد العبد، فيصير كأنه في يد المولى؛ قلنا: العبد في يد الغاصب حتى كان مضموناً عليه، وإذا كان العبد في يد الغاصب لم يكن العبد محرزاً وحافظاً نفسه عن الغاصب، فلا يكون محرزاً وحافظاً ما في يده أيضاً.
وكذلك قلنا: إن كسب المبيع قبل القبض غير مضمون على البائع بالاتفاق، فكذلك هذا، أو نقول هذا مال الغاصب فيه تأويل الملك، ولا يكون مضموناً عليه، بالإتلاف كمال الابن في حق الأب.(5/452)
-----
بيانه: أن العبد إذا هلك في يد الغاصب وضمن رقبته للمالك فالأحر يسلم للغاصب أو نقول الأجر بدل منفعة العبد، ولو استهلك الغاصب منفعة العبد بأن استعمله في محل من الأعمال لا يضمن، فكذا إذا استهلك بدلها.
قال في «الجامع الكبير»: رجل غصب من آخر جارية قيمتها ألف درهم غصب من الغاصب رجل وقيمتها يوم الغصب الثاني أيضاً ألف درهم، فأبقت من الغاصب فللأول أن يضمن الثاني قيمتها، وإن لم يضمن المالك الأول؛ لأن القيمة قائمة مقام العين، ولو كانت الجارية حاضرة، وكان للغاصب الأول أن يسترد الجارية للتمكن من إقامة الفعل الواجب عليه، وهو الرد، فكذلك ما يقوم مقام العين، وهو القيمة.
ألا ترى قوله عليه السلام: «ما أخذت حتى ترد»، والغاصب الثاني إنما أخذها من الغاصب الأول، فوجب عليه الرد على الغاصب الأول، فإذا عجز عن رد العين، وجب رد القيمة التي هي قائمة مقام العين، فإذا أخذ الغاصب الأول القيمة برىء الثاني عن الضمان؛ لأن الثاني برد الجارية على الأول (124أ2) برىء من الضمان، فكذا إذا رد القيمة، تكون القيمة قائمة مقام العين، وتكون القيمة المأخوذة من الثاني مضمونة على الغاصب الأول؛ حتى لو هلكت في يد الغاصب الأول كان للمغصوب منه أن يضمنه قيمتها بالغصب؛ لأن الغاصب الأول لو أخذ الجارية لم تكن أمانة في يده، فكذلك إذا أخذ القيمة، فإذا حضر المالك كان له الخيار؛ إن شاء أخذ من الغاصب الأول القيمة التي أخذها من الغاصب الثاني، وتصير الجارية مملوكة للغاصب الثاني، وإن شاء ضمن الأول قيمتها ابتداء بالغصب، وتصير الجارية مملوكة للغاصب الأول من جهة المالك، ثم تصير للغاصب الثاني من جعة الغاصب الأول.(5/453)
-----
وإن كانت قيمة الجارية يوم الغصب الأول ألف درهم، ويوم الغصب الثاني ألفي درهم، ثم انفقت من يد الثاني، وأخذ الأول من الثاني ألفي درهم، وهلكت في يد الأول؛ لم يكن للمالك أن يضمن الأول ألفي درهم؛ لأن أخذ الألفين قيمة الزيادة المتصلة؛ الحادثة في يد الغاصب، وإنها أمانة عندنا في يد الغاصب، فكذلك ما قام مقامها.
ألا ترى أن الجارية إن كانت حاضرة فاستردها؛ كان الفضل على الألف أمانة عنده، فكذلك إذا أخذ الألف القيمة، فلهذا لا يضمن الفضل، وإنما يضمن قيمتها يوم الغصب ألف درهم، ولو أن المولى حضر والقيمة في يد الغاصب الأول قائمة على حالها، وقد ظهرت الجارية، فالمالك بالخيار؛ إن شاء أخذ جاريته حيث ما وجدت، وإن شاء أخذ القيمة التي أخذها الغاصب الأول من الثاني، وإن شاء ضمن الغاصب الأول قيمتها يوم الغصب، وهذا مشكل من وجهين:
أحدهما: أنه جعل للغاصب الأول سبيلاً من تضمين الثاني، ولم يجعله سبيلاً من تمليك الجارية حتى قال: إن للمولى ولاية أخذ الجارية متى ظهرت، وإن كان الملك ثبت في المضمون ضرورة الاستيفاء.
والثاني: هو أنه جعل للمولى حق تضمين الغاصب الأول بعد ظهور الجارية، والصورة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف.(5/454)
-----
والجواب عن الإشكال الأول أن نقول بأن الغاصب الأول ليس بنائب عن المالك في التضمين حتى يصير نائباً عنه في تمليك الجارية من الثاني، وكيف يكون نائباً عنه، وإنه فوت عليه اليد كلاً إنما كان للأول تضمين الثاني ليتمكن من إقامة ما عليه من الرد، والاستيفاء من ضرورات الرد؛ أما التمليك ليس من ضروراته كما في المدبر؛ إلا أن عند عدم الوقوف لمكان الجارية الحالة حالة الاستيفاء لا غير، وهو السبيل من ذلك أما بعدما ظهرت الجارية الحالة حالة الاستيفاء، وحال تملك الجارية، وهو منقول من الاستيفاء؛ أما ما ليس بسبيل من تملك الجارية، فكان بمنزلة الفضولي فتوقف على إجازة المالك، فإن أجاز أخذ القيمة، وإن رد كان حقه في استرداد الجارية؛ عرف مكانها لا أنها وصلت إلى مكانها.(5/455)
-----
قلنا: والمعرفة بمكان الجارية لا تمنع المصير إلى القيمة، فإن اختار المولى أخذ الجارية رجع الغاصب الثاني على الغاصب الأول بالقيمة التي أخذها؛ لأن المعوض استحق من يده، فإن كانت القيمة هلكت في يد الأول ضمن الغاصب الأول ذلك للغاصب الثاني؛ لأن للأول أخذ القيمة بدلاً عن المعوض، فيكون مضموناً عليه؛ كالثمن على البائع، ولا يرجع الغاصب الأول بذلك على المغصوب منه؛ لأن الغاصب الأول ليس بوكيل عن المالك أصلاً، والرجوع بالعهدة حكم الوكالة، وإن كان أخذ المولى من الغاصب الأول القيمة التي أخذها من الغاصب الثاني؛ سلمت الجارية للغاصب الثاني لنفاذ التمليك على المالك، وإن ضمن المولى الغاصب الأول قيمة الجارية يوم الغصب الأول سلمت القيمة التي أخذها الغاصب الأول له؛ لأنه تيقن أنه ملكها من وقت الغصب الأول، وإن الثاني غصب ملك الغاصب الأول، فكان الضمان الأول؛ إلا أن الأول يتصدق بأحد الألفين وهو الفضل على القيمة التي أداها إلى المالك، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد؛ أما على قول أبي يوسف؛ لا يتصدق بشيء؛ بل يطيب له؛ لأن شرط الطيب عندهما الملك والضمان، والضمان ههنا، وإن كان واجباً وقت المبادلة فالملك لم يكن، وعند أبي يوسف شرط طلب الضمان لا غير، وقد وجد ذلك ههنا، وأصل المسألة: المودع إذا باع الوديعة، وربح ثم ضمن؛ هل يطيب له الربح؟ فهو على هذا الاختلاف.
(5/456)
-----
قال: وليس للغاصب الثاني أن يطأ الجارية حتى يختار المولى أخذ القيمة التي أخذها الغاصب الأول، ويختار ضمان الغصب الأول؛ لأن الملك قبل ذلك موقوف، والحل لا يثبت بالملك الموقوف، فإن كانت الجارية حاضت حيضة بعدما أخذ الأول القيمة من الثاني قبل أن يختار المولى شيئاً من ذلك، ثم اختار شيئاً من ذلك، لا يجزىء بتلك الحيضة؛ لأن الملك موقوف، والحيضة إذا وجدت بعد ثبوت الملك قبل وجود اليد لا تجزىء بها عن الاستبراء، فإذا حصلت قبل ثبوت الملك؛ لأن لا يجزئ بها كان أولى.
ولو كان الغاصب الأول أقر بقبض القيمة من الغاصب الثاني، فهذا وما لو ثبت أخذ القيمة بإقامة البينة سواء، غير أن بينهما فرقاً من وجه أن في هذه الصورة كان للمولى أن يضمن الثاني، وفيما إذا ثبت ذلك بالبينة ليس للمولى تضمين الثاني.
والفرق: أن حق تضمين الثاني قد ثبت للمالك لكونه غاصب الغاصب؛ إلا أن تضمين الأول الثاني يبطل هذا الحق للمالك، وذلك ههنا إنما ثبت بإقرار الأول، والإقرار حجة قاصرة، فلم يظهر أخذ الأول القيمة من الثاني في حق بطلان حق المالك في تضمين الثاني بخلاف الأول؛ لأن هناك أخذ القيمة ثبت بأمر حجة عامة؛ أما هاهنا بخلافه وكان المعنى فيه، وهو أن الغاصب الأول إنما ملك الاستيفاء ليتمكن من إقامة ما عليه من فعل الرد وصفة الضرورة تندفع بحقيقة الاستيفاء، فلا ضرورة إلى اعتبار الإقرار بالاستيفاء.
وكذلك الجواب فيما إذا قضى القاضي بالقيمة، ثم أقر الغاصب بقبض القيمة، وكذلك لو أقر الأول بقبض الجارية من الثاني، وأقر أنها ماتت عنده لم يقبل قوله حتى كان للمالك أن يضمن الغاصب الثاني في هذه الوجوه كلها لما ذكرنا، ويرجع الغاصب الثاني على الغاصب الأول بالقيمة؛ لأن إقراره بالاستيفاء صحيح في حقه إن لم يصح في حق المالك.(5/457)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل غصب من آخر عبداً، ثم استأجره من المغصوب منه صح؛ لأنه لو اشتراه من المغصوب منه صح، فالإجارة أولى، ويصير المستأجر قابضاً له (124ب2) بحكم الإجارة بنفس العقد؛ لأن يد الغاصب يد ضمان بقيمة المضمون، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء؛ فأولى أن يقع عن قبض الإجارة، ويبرأ الغاصب من الضمان؛ لأن يد الغاصب بدلت بيد الإجارة، ويد الإجارة يد أمانة، وضمان الغصب مما يحتمل البطلان.
ألا ترى أن المغصوب منه لو أبرأ الغاصب عن الضمان يبرأ، فكذلك إذا أبدلت يد الغصب بيد الأمانة، فإن مات العبد في يد الإجارة مات أمانة لما مر، ويجب على الغاصب الأجر بقدر ما مضى من مدة الإجارة، ويسقط الباقي؛ لأن فيما مضى وجه تسليم المنافع إلى المستأجر بحكم إجارة صحيحة، فإن مضت مدة الإجارة والعبد حي لم يعد مضموناً؛ لأن يد الغصب بدلت بيد الأمانة، فلا يعود إلا بغصب جديد.h
وهو الفقه: وهو أن الغصب تفويت يد المالك على وجه التعدي، وبالإجارة فات معنى التعدي، وبمضي مدة الإجارة لا يعود معنى التعدي؛ فلا يعود حكم الغصب.
ولو أن المغصوب منه أعار العبد من الغاصب صح؛ لأنه إذا آجره منه يصح، فإذا أعاره منه أولى أن يصح، ولا يصير قابضاً له بحكم العارية بنفس العارية بخلاف الإجارة، والفرق: وهو أن الإجارة أوجبت استحقاق المنافع للمستأجر، فيوجب استحقاق اليد تسليماً للمستحق، ويد الغاصب تصلح نائبة عن يد الإجارة، فقامت مقام يد الإجارة أيضاً للماهية المستأجرة، فأما العارية فلا توجب استحقاق المنافع لما عرف، فلا توجب استحقاق اليد، فلم يجب إيفاؤها، فلا تقوم يد الغاصب مقام يد العارية، فلهذا لا يصير قابضاً بنفس العارية، فإذا انتفع به الآن ثبتت يد العارية، وهي يد أمانة، فبطل بها يد الغاصب، فإذا فرغ من العاريةلم يعد غصباً بخلاف الرهن.(5/458)
-----
والفرق: وهو أن بيد العارية إنما بطلت يد الرهن، وبطل الضمان أيضاً لكون الضمان متعلقاً بحقيقة اليد؛ أما عقد الرهن فهو باق لبقاء حكمه، وهو تمليك اليد والحبس، فإذا بطلت يد العارية عادت يد الرهن، فعاد الضمان المتعلق به، فأما ضمان الغصب يتعلق بقاؤه ببقاء اليد المتعدية، وقد بطل ذلك بيد العارية، فلا يعود، وبالفراغ من العمل، فلا يعود الضمان المتعلق به، ولوأمر المالك الغاصب أن يتبع المغصوب صح، ويصير وكيلاً، ولا يخرج العبد عن ضمانه؛ لأن كونه غاصباً ضامناً لا ينفي كونه وكيلاً.
ألا ترى أن الوكيل بالبيع إذا استعمل المبيع حتى صار ضامناً بقي وكيلاً؛ كذا هنا؛ كان المعنى فيه، وهو أن الأمر يقتضي الائتمار، والائتمار لا يقتضي قيام يد الوكيل، فلا يقتضي أيضاً قيام وصفه، وهو كونه يد أمانة، فإن باعه هلك قبل التسليم، انتقض البيع ولزمته قيمة العبد المغصوب؛ لأن الغصب لا يبطل بمجرد البيع.
فإن قيل البيع بالمبيع صار مضموناً بالثمن في يد الوكيل، وهذا ينفي كونه مضموناً بضمان القيمة؛ لأن ضمان القيمة مع ضمان الثمن لا يجتمعان في عين واحد؛ قلنا تفسير كونه مضموناً بالثمن ليس إلا كونه بحال لو هلك قبل القبض يسقط الثمن عن المشتري، وهذا لا ينفي ضمان القيمة على الغاصب، فإن رده المشتري بالعيب إن كان قبل القبض فهو في ضمان الغصب على حاله؛ لأن الغاصب لا يبطل بمجرد البيع، فلا يبطل الضمان المتعلق به، وإن كان الرد بعد القبض لا يعود مضموناً؛ لأن التسليم حصل بأمر المالك؛ لأن الأمر بالبيع أمر بالتسليم، والتسليم إلى المشتري بأمر المالك بمنزلة التسليم من المالك، ولو سلم المالك إلى المشتري برىء الغاصب من الضمان، فكذا إذا سلم الغاصب بأمر المالك، وضمان الغصب متى بطل لا يعود إلا بغصب جديد.
(5/459)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل غصب من رجل جارية، وغصب آخر من رب الجارية عبداً، وتبايعا العبد بالجارية وتقابضا، ثم بلغ المالك فأجازه كان باطلاً؛ لأن الإجازة إنما تلحق العقد الموقوف دون الباطل، وهذا العقد وقع باطلاً؛ لأن البيع تمليك بتملك، وتملك بتمليك، وذلك لا يكون في بيع مال الرجل بماله.
يوضحه: أن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذن المالك لهما في الابتداء بذلك لا ينعقد فكذا إذا فعلها بغير إذن المالك لا يتوقف.
ولو كان مالكهما رجلين فبلغهما فأجازا، كان جائزاً، وصارت الجارية لصاحب الغلام، وعلى غاصب الغلام قيمة الغلام لمولاه، ويصير الغلام لصاحب الجارية، وعلى غاصب الجارية قيمة الجارية لمولاها؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن كل واحد من المالكين في الابتداء بأن قال صاحب الغلام للذي غصبه: اشتر جارية فلان بغلامي هذا، وقال صاحب الجارية لغاصبها: اشتر غلام فلان بجاريتي هذه؛ كان الجواب كذلك؛ وهذا لأن كل واحد منهما صار مشترياً ما في يد صاحبه بما في يده بإبقاء ما في يد صاحبه بما في يده، ولا يتوقف في الشراء؛ لأن شراء الفضولي لا يتوقف على الإجازة؛ بل يتوقف على المشتري إنما التوقف في البيع، ولما كان هكذا صار شراء كل واحد منهما واقعاً لنفسه؛ كأن كل واحد منهما قال لغاصبه: اشترِ لنفسك مملوك فلان بمملوكي، وإنما احتيج إلى الإجازة لنفاذ البيع، فانعقد تصرف كل واحد منهما على أن يد الملك للمشتري في المشترى، ولكن عند إجازة المالك وصار كل واحد منهما مستقرضاً ما غصب حتى يكون البدل على من ثبت له الملك في المبدل.(5/460)
-----
واستقراض الحيوان، وإن كان لا يجوز إلا أنه إنما لا يجوز إذا حصل قصداً، وههنا حصل في ضمن الشراء، وإنه تصرف مشروع قطعاً فصار هو مشروعاً بشرعيته أيضاً، ولما صار كل واحد منهما مستقرضاً ما غصب والمستقرض فيما ليس من ذوات الأمثال مضمون بالقيمة ووجب على كل واحد من الغاصبين قيمة ما غصب؛ لهذا.
قال فيه أيضاً: رجل غصب من آخر مائة دينار، وغصب آخر من ذلك الرجل ألف درهم، ثم تبايع الغاصب الدنانير بالدراهم، وتقابضا، ثم تفرقا، ثم حضر المالك فأجازه جاز.
فرق بين هذا، وبين الوجه الأول، والفرق: وهو أن ههنا العقد ما وقع على الدراهم، والدنانير بأعيانهما لما عرف من أصلنا: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات، وإنما وقع العقد على مثلهما ديناً في الذمة، فلم يقع العقد على ما لا عين لمالك واحد، فيقع البيع بلا توقف.
ألا ترى أنه لو لم يجز واحد، ولم يتفرقا حتى نقد كل واحد من ماله يجوز، ولا يفسد العقد، وهذا دليل على أن العقد إنما وقع على مثلهما ديناً في الذمة؛ إلا أن كل واحد منهما صار قاضياً ما وجب في ذمته (1252) بما غصب فإذا أجازه صار معرضاً، فيلزمه ضمانه بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك العقد وقع على العرضين بأعيانهما؛ لأن العرض يتعين في عقد المعاوضة، فإذا كانا لشخص واحد لم ينعقد العقد على ما مر، والفلوس في هذا نظير الدراهم، والدنانير؛ لأنهما لا تتعين بخلاف العرض.
وقال فيه أيضاً: رجل غصب من آخر جارية، وغصب رجل آخر من المغصوب منه مائة دينار، فباع غاصب الجارية من غاصب الدنانير الجارية بتلك الدنانير، فبلغ المالك فأجازه صح؛ لأن الجارية وإن تعينت في العقد؛ إلا أن الدينار لم يتعين، فلم يقع العقد على مالين لأحد؛ بل وقع على جارية مغصوبة بدنانير في الذمة، فإذا أجازه صحت الإجازة في حق البيع؛ لأن البيع قد توقف، فإذا لحقته الإجازة صح.(5/461)
-----
وأما نقد الدينار، فلا يصح إما إن كان العقد قبل الإجازة أو بعد الإجازة فإن كان قبل الإجازة عملت الإجازة فيه إذا علم المغصوب منه بأنه نقد من ماله، ويصير هو مقرضاً الدينار من مشتري الجارية، فإن المنقود قائم في يد غاصب الجارية، فهو للمجيز وهو المغصوب منه، وإن هلك في يد غاصب الجارية لا ضمان عليه؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، فظهر أنه حين قبض الثمن، كان وكيلاً ببيع الجارية؛ أميناً في ثمنها، وهلاك المال في يد الأمين لا يوجب عليه ضماناً.
وإن كان النقد بعد الإجازة، فإن لصاحب المال أخذ ماله؛ إن وجده فيبطل النقد، ويلزم المشتري ثمن آخر؛ لأن الإجازة إذا حصلت قبل النقد، فليس ذلك بإذن في النقد؛ لأن النقد لم يكن موجوداً وقت الإجازة، ولا يدري أنه ينقد الدنانير المغصوبة، أو غير ذلك، فلم تعمل الإجازة في حق النقد، وحصل نقد الدنانير بغير إذن صاحبها، فكان له حق القبض إن وجدها قائمة، وإن وجدها هالكة فله الخيار؛ إن شاء ضمن بائع الجارية لكونه غاصب الغاصب، وإن شاء ضمن مشتري الجارية لكونه غاصباً، فإن ضمن المشتري ظهر أنه ملك الدنانير من وقت الغصب السابق، وأنه نقد ملك نفسه، فصح التسليم إلى بائع الجارية، وصار بائع الجارية أميناً في قبض الزيادة وإن اختار تضمين البائع رجع البائع على المشتري؛ لأن ما قبض البائع لم يسلم هنا لما استحق عليه عوضه، فاستوجب الرجوع به على المشتري؛ كما لو كانت الدنانير قائمة بأعيانها، فأخذت من يده، فإذا رجع بها سلم ذلك للبائع.
وطعن عيسى بن أبان في هذا فقال: ينبغي أن يردها على المغصوب منه؛ لأن القبض الأول كان موقوفاً، فلما ضمن المغصوب منه البائع، وقبض البدل بمنزلة قبض المبدل؛ بطل القبض الأول، وصار الثمن هو الثاني الذي يقبضه البائع من المشتري، فينبغي أن لا يسلم للبائع كما لو أخذ العين من يده، ثم رجع على المشتري.(5/462)
-----
والجواب عن هذا: أن يقال المغصوب منه لما ضمن البائع، ورجع البائع على المشتري صار قرار الضمان على المشتري، وظهر أنه كان مالكاً لما نقد؛ إذ الملك في المضمون؛ إنما يثبت لمن كان قرار الضمان عليه، وظهر أن البائع صار وكيلاً، وأن له حق الرجوع على الموكل بما ضمن؛ لأنه أمينه، وما رجع به البائع على المشتري مال الموكل، فقد ظفر بجنس حقه، فيستوفي بحقه على ما عرف.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل غصب عبداً، فباعه من رجل بخمسمائة إلى سنة، والعبد معروف للمغصوب منه، فقال المغصوب منه للغاصب: إنك قد اشتريت مني هذا العبد بألف درهم حالة وقبضته مني، ثم بعته من هذا الرجل بخمسمائة درهم إلى سنة، وقال الغاصب: ما اشتريته منك قط، ولكنك أمرتني فبعته منه بخمسمائة إلى سنة بأمرك فالعبد قائم عند المشتري، فالعبد سالم للمشتري؛ لأنهم اتفقوا على صحة شرائه ولا ضمان على الغاصب بسبب الغصب؛ لأن تعذر الرد على المالك كان لمعنى من جهته، وهو إقراره بالبيع من الغاصب، ويستحلف الغاصب بالله ما اشتريته؛ لأن المغصوب منه يدعي عليه الثمن بسبب صحيح، وهو ينكر، فإن حلف لا شيء عليه وإن نكل كان عليه الثمن الذي ادعاه المغصوب منه، وإن كان العبد قد مات عند المشتري، وباقي المسألة بحالها؛ فههنا يحلف كل واحد منهما، وعلى دعوى صاحبه أما يحلف الغاصب فلما مرَّ، وأما يحلف المالك بخلاف الفصل الأول.(5/463)
-----
والفرق وهو: أن الغاصب لا يدعي على المغصوب منه في الفصلين جميعاً إلا الوكالة، إلا أن الوكالة في هذه المسألة حق يلزم المغصوب منه؛ لأن في دعوى الوكالة في هذا الفصل دعوى البراءة عن ضمان القيمة؛ لأن تعذر الرد على المغصوب منه ههنا ما كان لمعنى من جهته، وهو إقراره بالبيع، وإنما كان لأجل الموت، فإن تسبب موت العبد بعجز الغاصب عن الرد على المغصوب منه؛ سواء سبق من المولى الإقرار بالبيع، أو لم يسبق، فكان ضمان القيمة واجباً على الغاصب، فكان بدعوى الوكالة على المالك مدعياً إبراءه نفسه عن ضمان القيمة، والمالك ينكر، فيحلف؛ أما في الفصل الأول دعوى الوكالة لا تلزم المغصوب منه شيئاً؛ لأن ضمان القيمة هناك غير واجب على الغاصب، على ما مر، فلهذا لا يحلف المغصوب منه ثمة؛ أما ههنا بخلافه على ما مر، فإن كان الغاصب وهب هذا العبد من رجل، وسلمه إليه، ثم ادعى أنه فعل ذلك بأمر المغصوب منه، وقال المغصوب منه: بعته منك بألف، ثم وهبته، فهو على التفاصيل التي قلنا في البيع.
ولو كان الغاصب ضرب العبد، فقتله، ثم قال الغاصب: ضربت بأمر المالك، وقال صاحب العبد: لا بل بعته منك فضربت ملك نفسك؛ يحلف الغاصب أولاً، فإن نكل لزمه الثمن، وإن حلف لزمته القيمة لتعذر الرد لمعنى من جهة الغاصب؛ ثم يحلف المالك، فإن نكل بطلت القيمة، وإن حلف، فله قيمته على الغاصب، وهو نظير الهلاك فيما تقدم.(5/464)
-----
وقال فيه أيضاً: رجل أقر أنه قطع يد عبد رجل خطأ، وكذبته عاقلته في ذلك؛ يعني أن عاقلة المقر كذبت المقر في إقراره، ثم غصبه رجل من مولاه، فمات عنده، فالمولى بالخيار؛ إن شاء ضمن الجاني قيمته في ماله في ثلاث سنين، وإن شاء ضمن الغاصب قيمته أقطع، في ماله حالاً، وضمن الجاني أرش يده، وهو نصف قيمته في ماله، فإن ضمن الجاني قيمته بإقراره، فإنه يرجع الجاني على الغاصب بقيمة العبد أقطع في ماله؛ علل في «الكتاب» فقال: لأن العبد صار للقاطع بجنايته، وهذا دليل على أن (125ب2) ضمان الدم يوجب الملك في المضمون.(5/465)
-----
ووجه ذلك: وهو أن سبب الضمان هو القطع السابق فيستند الضمان إليه، فثبت الملك من ذلك الوقت، وفي تلك الحالة هو قابل للملك كما في ضمان الغصب، فإنه لا يتقرر إلا عند الهلاك؛ ذلك لما كان عند الغصب السابق أسند إليه، ووقع الملك في المضمون؛ كذا ههنا، ومن المحققين من أصحابنا من قال: لا بل ضمان القتل لا يوجب الملك للضامن في المقتول؛ لأن ضمان القتل يجب مقصوراً على وقت القتل، والقطع السابق إنما يصير قتلاً وقت السراية، فيجب الضمان مقصوراً على حالة القتل، وفي حالة القتل هو غير قابل للملك لكن إن تعذر إثبات الملك في ذاته، أمكن إثباته في بدله وهو الضمان الذي على الغاصب كما قلنا في المدبر إذا غصبه من غاصبة، واختار المولى تضمين الأول؛ كان للأول أن يضمن الثاني، وإن لم يملك الأول بالمدبر بأداء الضمان لكن قبل السبب، وإن لم يعمل في حق المدبر لمكان التعذر، يحل في حق بدله، وهو الضمان الواجب على الغاصب؛ كذا ههنا، ثم أوجب الضمان على الجاني ههنا في ماله؛ لأنه وجب بإقراره، والإقرار حجة قاصرة، وإن كانت الجناية ثابتة بالبينة فهذا وما لو ثبتت الجناية بإقرار الجاني سواء، إلا في فعل واحد، وهو أن ما يجب على الجاني في فصل الإقرار يجب على عاقلته في فصل البينة؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة، فثبتت الجناية في حق العاقلة؛ كما ثبتت في حق غيرها.
رجل غصب من آخر شيئاً وغيبه، فطلب المغصوب منه من القاضي تضمينه؛ ذكر في بعض الكتب أن القاضي يتلوم في ذلك يومين أو ثلاثة رجاء أن يظهر ولا يقضي بالقيمة في الحال.
(5/466)
وذكر في «السير الكبير»: في باب ما لم يبطل فيه سهم الفارس أن القاضي يقضي بالقيمة قبل التلوم؛ قال شيخ الإسلام في شرح «السير»: ما ذكر في «السير» جواب الجواز يعني لو قضى بالقيمة قبل التلوم يجوز، وما ذكر في بعض الكتب جواب الأولوية؛ يعني الأولى أن يتلوم القاضي، ثم يقضي بالقيمة، والله أعلم بالصواب.
وقد تم كتاب الغصب من المحيط بحمد الله تعالى.
(5/467)
كتاب الوديعة
-----
هذا الكتاب يشتمل على عشر فصول:
1 * في بيان ركن الإيداع، وشرطه، وما يكون إيداعاً بدون اللفظ
2 * في حفظ الوديعة بيد الغير
3 * ..........
4 * فيما يكون تضييعاً للوديعة، وما لا يكون، وما يضمن به المودع، وما لا يضمن
5 * في تجهيل الوديعة
6 * في طلب الوديعة، والأمر بالدفع إلى الغير
7 * في رد الوديعة
8 * فيما إذا كان صاحب الوديعة أو المستودع غير واحد
9 * في الاختلاف الواقع في الوديعة، والشهادة فيها
10 * في المتفرقات
الفصل الأول في بيان ركن الإيداع، وشرطه، وما يكون إيداعاً بدون اللفظ
قال مشايخنا: ركن الإيداع في حق صيرورة العين أمانة عند الغير قول المالك: أودعتك هذا العين. حتى لو قال هذا الغاصب صار العين أمانة عنده، وإن لم يقبل: حتى لو هلك بعد ذلك عنده من غير صنعه لا ضمان عليه، وفي حق وجوب الحفظ على المودع الركن هو الإيجاب، والقبول؛ وهذا لأن صيرورة العين أمانة عند الغير تلزم الملك، فيتم به وحده، فأما وجوب الحفظ حكم يلزم المودع، فلا بد من قبوله، وشرطه كون العين ماثلاً لإثبات اليد عليه؛ لأن الإيداع عقد استحفاظ، وحفظ الشيء لا يتأتى إلا بعد إثبات اليد عليه؛ ألا ترى أن إيداع الآبق، وإيداع الطير الذي في الهواء لا يصح، وإنما لا يصح لأنه لا يتهيأ للمودع إثبات اليد على هذه الأشياء.(5/468)
-----
في «المنتقى»: رجل في يديه ثوب قال له رجل: أعطني هذا الثوب، فأعطاه؛ كان هذا على الوديعة؛ لأن الإعطاء جهات فعند الإطلاق يحمل على أقلها، وهو الوديعة، وذكر في كتاب الهبة من «المنتقى» أن قوله: أعطني أعطيتك على الهبة، رجل جاء بثوب إلى رجل، وقال: هذا الثوب وديعة، ولم يقل الآخر شيئاً بل سكت ثم غاب صاحب الثوب، ثم غاب الآخر بعده وترك الثوب هناك، وضاع الثوب هناك، وضاع الثوب، فهو ضامن؛ لأنه قبل دلالة، وكذلك إذا جاء بالثوب ووضع بين يديه، ولم يقل شيئاً؛ وباقي المسألة بحالها، فهو ضامن؛ لأن صاحب الثوب أودع دلالة، وذلك الرجل قبل دلالة، ولو قال الآخر: أنا لا أقبل الوديعة، وباقي المسألة بحالها، فلا ضمان؛ لأن الدلالة إنما تعتبر إذا لم يوجد الصريح بخلافها.
في «فتاوى أهل سمرقند»: رجل دخل بدابته خاناً، وقال لصاحب الخان: أين أربطها؟ فقال: هناك، فربطها، وذهب، ثم رجع، فلم يجد دابته، فقال صاحب الخان: إن صاحبك أخرج الدابة ليسقيها، ولم يكن له صاحب، فصاحب الخان ضامن؛ لأن قول صاحب الدابة لصاحب الخان أين أربطها استحفاظ، وقول صاحب الخان: هناك؛ إجابة إلى الحفظ، فصار مودعاً، فيصير ضامناً بالتضييع.(5/469)
-----
وكذلك إذا دخل رجل الحمام، وقال لصاحب الحمام أين أضع الثياب؟ فقال صاحب الحمام: ثمة، فوضع، ودخل الحمام، ثم خرج رجل آخر، وأخذ ثيابه، وذهب، فصاحب الحمام ضامن لما قلنا، وإن وضع الثياب بمرأى عين صاحب الحمام، ولم يقل شيئاً، وباقي المسألة بحالها، فهذا على وجهين؛ إما أن لا يكون للحمام ثيابي وهو الذي يقال بالفارسية «جانيه دار» أو يكون «له ثيابي وهو حاضر»، ففي الوجه الأول الضمان على صاحب الحمام، والحالة هذه استحفاظ لصاحب الحمام، ودلالة وفي الوجه الثاني الضمان على الثيابي دون صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ للثيابي دلالة فيضمن الثياب ما يضمن المودع إلا إذا نص على استحفاظ صاحب الحمام بأن قال لصاحب الحمام: أين أضع الثياب فحينئذٍ يجب الضمان على صاحب الحمام، وإن كان له ثيابي، وهو حاضر، هذه الجملة في الباب الأول في وديعة «الواقعات».
وفي غصب «فتاوى أبي الليث»: رجل دخل الحمام، ووضع ثيابه مرأى عين صاحب الحمام ثم خرج، فوجد صاحب الحمام نائماً، وقد سرق ثيابه، فإن نام قاعداً، فلا ضمان، وإن وضع جثته على الأرض، فهو ضامن؛ لأن هذا مودع ترك الحفظ في الوجه الثاني، وفي الوجه الأول لم يترك.
وفيه أيضاً: رجل من أهل المجلس قام وترك كتابه فيه، فذهبوا جملة، وتركوا الكتاب، فضاع الكتاب فالكل ضامنون، (126أ2) وإن قام واحد بعد واحد، فالضمان على آخرهم؛ لأن في الوجه الأول الكل حافظون، وفي الوجه الثاني تعين الأخير حافظاً؛ كمن باع قفيز حنطة من قفيزين ثم هلك قفيز يتعين القفيز الباقي.
الفصل الثاني في حفظ الوديعة بيد الغير
إذا دفع الوديعة إلى بعض من في عياله نحو المرأة والابن الكبير الذي هو في عياله، والأب إذا كان في عياله، والأجير، فهلكت لم يضمن استحساناً؛ لأن الدفع إلى هؤلاء حصل بإذن صاحب الوديعة دلالة.(5/470)
-----
بيانه: أنه لا بد للمودع من الخروج عن منزله لإقامة مصالحه، ولا يمكنه إخراج الوديعة مع نفسه، فتركها في منزله، فإذا تركها في منزله فقد صارت في يد من هو في عياله، فكان صاحب الوديعة راضياً بيد من في عياله من هذا الوجه، فهو معنى قولنا الدفع إلى هؤلاء حصل بإذن صاحب الوديعة.
والمراد من الأجير المذكور في «الكتاب» الأجير الخاص الذي استأجره مشاهرة، أو مشافهة، ويسكن معه.
أما الأجير لعمل من الأعمال والذي يجري عليه نفقته كل شهر، ولا يسكن معه، ويقال بالفارسية: «إجراء أخوار»، فهو وسائر الأجانب سواء فيضمن بالدفع إليه.
فأما الابن الكبير إذا لم يكن في عياله، والأب أو الأم إذا لم تكن في عياله، فدفع إليه ضمن، والابن الصغير إذا لم يكن في عياله فدفع إليه لا يضمن؛ لأن تدبيره إلى الأب، وإن لم يكن في عياله، ولكن يشترط أن يكون الصغير قادراً على الحفظ.
وفي حق الزوجة لا يشترط المساكنة والنفقة، حتى أن المرأة إذا كانت تسكن في محلة، والزوج يسكن في محلة أخرى، ولا ينفق عليها، فدفع الوديعة إليها، فلا ضمان، والزوجة في حق هذا الحكم بمنزلة الابن الصغير للمعنى الذي ذكرنا، ولو دفعت المرأة الوديعة إلى زوجها فلا ضمان، وإن لم يكن الزوج في عيالها؛ لأنه يسكن معها.
والعبرة في هذا الباب للمساكنة إلا في حق الزوجة والولد الصغير، للمعنى الذي ذكرنا في المسألة المتقدمة؛ لا للنفقة؛ ألا ترى أنه إذا دفع الوديعة إلى ابنه الكبير الذي يسكن معه، ويترك المنزل عليه، فإنه لا يضمن، وإن لم يكن الابن في نفقته.f
ولو كان له امرأتان، ولكل واحدة منهما ابن من غيره يسكن معها، فهما في عياله لا يضمن بدفع الوديعة إلى ابنيهما، وإذا دفع الوديعة إلى من ليس في عياله؛ إن كان الدفع لضرورة بأن احترق بيت المودع فأخرجها من بيته، ودفعها إلى جاره، فلا ضمان عليه في هذا، وما يشبه هذا استحساناً.(5/471)
-----
وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح: إذا وقع في بيت المودع حريق، فإن أمكنه أن يناولها من في عياله، فناولها أحنبياً ضمن، وإن كان لا يجد بداً من الدفع إلى الأجنبي لا يضمن.
وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح أيضاً: الحريق إذا كان غالباً، وقد أحاط منزل المودع إذا تناول الوديعة جاز أنه لا يضمن استحساناً، وإن لم يكن أحاط بمنزل المودع ضمن هذا إذا كان الدفع لضرورة، وإن كان الدفع لغير ضرورة، فهلك في يد الثاني؛ إن هلك قبل أن يفارق الأول الثاني، فلا ضمان على أحد بلا خلاف، وإن هلك بعدما فارقه الأول، فالأول يضمن بلا خلاف، وأما الثاني ففيه خلاف على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة لا يضمن؛ لأن بهذا الدفع صار المال أمانة في يد الثاني؛ لأن للأول أن يحفظ الوديعة بيد الثاني بحضرته، ولهذا لو هلكت في يد الثاني قبل أن يفارقه الأول؛ لا ضمان على واحد منهما، فهو معنى قولنا: إن المال حصل أمانة في يد الثاني، والأمانة لا تضمن بدون التعدي، ولم يوجد من الثاني التعدي، إنما وجد من الأول حيث فارقه.
فإن ادعى المودع الضرورة بأن ادعى أنه وقع الحريق في بيته؛ ذكر «القدوري»: أنه لا يصدق إلا ببينته في قول أبي يوسف، وهو قياس قول أبي حنيفة.
وذكر في «المنتقى»: أنه إن علم أنه قد احترق بيته قبل قوله، وإن لم يعلم لا يقبل قوله إلا ببينته، وفي « القدوري» يقول: إذا حفظ الوديعة في حرز ليس فيه ماله يضمن، والمراد منه حرز غيره؛ لأن الحرز في يد ذلك الغير، فصار الوضع في الحرز كالتسليم إلى ذلك الغير؛ أما إذا استأجر حرزاً لنفسه، وحفظ فيه لم يضمن، وإن لم يكن فيه ماله؛ لأنه بمنزلة بيته.(5/472)
-----
وسئل نجم الدين: عن خفَّافٍ خرج إلى القرى للاكتساب، فأعطاه رجل خفاً ليصلحه، فوضعه مع رحله في داره، ودخل البلدة، فسرق الخف، قال: إن كان اتخذ داراً ليسكن بأي وجه كان فلا ضمان، وإن كان وضعه في دار رجل لا يسكن هو معه في تلك الدار فهو ضامن؛ لأنه أودع الأمانة أجنبياً من غير ضرورة.
وإذا كان عند امرأة وديعة حضرتها الوفاة فدفعتها إلى جارة لها، فهلكت عندها، فإن لم يكن وقت وفاتها بحضرتها أحد من عيالها فلا ضمان؛ لأنها دفعت الوديعة إلى الأجنبية لضرورة.
في «فتاوى أبي الليث» وفي هذا الموضع أيضاً: إذا أجر المودع شيئاً من داره من إنسان، ودفع الوديعة إلى هذا المستأجر، فهذا على وجهين: أما إن كان لكل واحد منهما أعني الآجر والمستأجر غلق على حدة، وفي هذا الوجه عليه الضمان؛ لأنه ليس في عياله، ولا بمنزلة من في عياله، وإن لم يكن لكل واحد منهما غلق على حدة، وكل واحد منهما يدخل على صاحبه بغير حشمة فلا ضمان؛ لأنه بمنزلة من في عياله.
وفي هذا الموضع أيضاً: رجل غاب وخلف امرأة، وفي منزله الذي فيه ودائع الناس، ثم رجع وطلب الوديعة، فلم يجدها، فإن كانت المرأة أمينة فلا ضمان على الزوج، وإن كانت غير أمينة، وعلم الزوج بذلك، مع هذا ترك الوديعة فهو ضامن، وعن هذه المسألة قالوا: «ثم بان ثم خونست» فذهب الغلام بودائع الناس، «فالتواكه يتم بأن ضامن شرد» علم أن غلامه سارق، وليس بأمين.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا أودع رجل رجلاً ألف درهم، وقال له: أخبئها في بيتك هذا فخبأها في بيت آخر من داره تلك لا يضمن استحساناً؛ لأنه إنما يراعى من الشروط ما يفيد، وهذا الشرط لا يفيد.(5/473)
-----
ألا ترى أنه لو قال له: أخبئها في هذا الصندوق الذي في بيتك، فخبأها في صندوق آخر في بيته فضاع لا ضمان، وإن قال: أخبئها في هذه الدار، فخبأها في دار أخرى في محلة أخرى، أو في تلك المحلة، فهو ضامن، وإن كانت الثانية أحرز من الأولى هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الوديعة وذلك إذا قال: أخبئها في هذه الدار، ولا تخبئها في الدار الأخرى، وفي «شرح الطحاوي» إذا كانت الدار التي خبأها فيها في الحرز على السواء (126ب2) أو كانت هي أحرز، فلا ضمان عليه سواء نهاه عن الخباء فيها (أو لم يفعل)
وفي «نوادر هشام» عن محمد؛ إن كانت الدار الثانية أحرز فلا ضمان، ولم يذكر محمد في مسألة البيتين ما إذا قال: أخبئها في هذا البيت، ولا تخبئها في هذا البيت، فخبأها في هذا البيت المنهي عنه، وذكر شيخ الإسلام في كتاب الوكالة في باب وكالة الصبي أنه يضمن، وفي «شرح الطحاوي:» إن كان البيت الآخر أحرز من المنهي عنه يضمن، وما لا فلا، والجواب في المصرين نظير الجواب في الدارين.
إذا قال للمودع: احفظ الوديعة بيدك، فلا تضعها ليلاً ولا نهاراً، فوضعها وهلكت، فلا ضمان، وإن كان هذا شرطاً مفيداً؛ لأنه لا يمكن اعتباره إذا قال له: احفظ في هذا المصر، أو قال له: لا تخرجها عن هذا المصر، فسافر بها؛ إن كان سفراً له منه بد ضمن، وإن كان سفراً لا بد له منه؛ إن أمكنه حفظ الوديعة في المصر الذي أمر بالحفظ فيها مع السفر بأن كان ترك عبداً له في المصر المأمور به، أو بعض من في عياله، فإذا سافر بها والحالة هذه ضمن؛ لأنه خالف شرطاً مفيداً من غير عذر، وإن لم يمكنه ذلك فسافر، فلا ضمان؛ هذا إذا عين عليه مكان الحفظ، وإن لم يعين عليه مكان الحفظ، ولم ينهه عن الإخراج عن المصر؛ بل أمره بالحفظ مطلقاً، فسافر بها؛ إن كان الطريق مخوفاً يضمن بالإجماع.(5/474)
-----
وإن كان الطريق أميناً إن كانت الوديعة شيئاً لا حمل لها ولا مؤنة فلا ضمان؛ لأن الطريق إذا كان آمناً كان صالحاً للحفظ فيه قد حفظ الوديعة في مكان صالح للحفظ، والأمر بالحفظ مطلق، فيدخل هذا النوع من الحفظ تحته.
فإذا كانت الوديعة شيئاً له حمل ومؤنة، إن كان لا بد له من المسافرة بها، بأن كان عجز عن الحفظ في المصر الذي أودعه فيه، فإنه لا يضمن عندهم جميعاً، فأما إذا كان له بد من المسافرة بها، فعلى قول أبي حنيفة: لا ضمان؛ قربت المسافة أو بعدت، وعند محمد يضمن قربت المسافة أو بعدت؛ لأن الأمر بالحفظ يقبل بمكان الوديعة عرفاً وعادة إذا كانت الوديعة شيئاً لها حمل ومؤنة حتى لا يلزم صاحب الوديعة الحمل والمؤنة، وعلى قول أبي يوسف: إن قربت المسافة فلا ضمان، وإن بعدت فهو ضامن.
وإذا دفع الرجل إلى غيره وديعة، وقال له: لا تدفعها إلى امرأتك، فإني أتهمها، أو قال: إلى ابنك، أو قال: إلى عبدك، وما أشبه ذلك، فدفع إليه، فإن كان لا يجد المودع بداً من الدفع إليه بأن لم يكن عيال سواه؛ لم يضمن بالدفع إليه، وإن كان يجد بداً منه فهو ضامن؛ لأنه خالف شرطاً مفيداً؛ لأن من في عياله قد يتفاوتون في الحفظ، ولا ضرورة له في ذلك.
المودع إذا وضع الوديعة في حانوته، فقال صاحبها: لا تضعها في الحانوت، فإنه مخوف، فتركها فيه حتى سرق ليلاً، فهذا على وجهين إن لم يكن له موضع آخر أحرز من الحانوت لا يضمن، وإن كان له موضع آخر أحرز من الحانوت فهو ضامن إذا كان قادراً على الملك.(5/475)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل دفع إلى رجل مرّاً وقال: اسق به أرضي، ولا تسقِ أرض غيري، فسقى الرجل أرض الآمر، ثم سقى أرض غيره، فضاع المرّ، فهذا على وجهين: إما إن ضاع قبل أن يفرغ من السقي الثاني، أو بعدما فرغ، ففي الوجه الأول يضمن؛ لأنه مودع مخالف، وفي الوجه الثاني لا؛ لأن الساقي أجير أو معين، وكيف ما كان فالمر غير مستأجر ولا مستعار، فإنما هو وديعة، فإذا سقى به أرض غيره، وصار مخالفاً، فإذا هلك قبل أن يفرغ من السقي، فقد هلك في حالة الخلاف، وإذا ترك الاستعمال عاد إلى الوفاق، فيخرج عن الضمان، وحكم الرهن كالوديعة، هذه الجملة في «فتاوى الفضلي».
وسئل أبو بكر عن أكار لإمرأة قالت له: لا تطرح أنزالي في منزلك، وهو يطرح في منزله في جناية، فهرب من منزله، فرفع السلطان ما كان في منزله؛ قال: إن كان منزله قريباً من موضع البيدر فلا ضمان عليه؛ لأن حجرها ليس بمعتبر؛ لأن حفظ الكدس وتحصينها كان على الأكار، وقد طرحها في موضع أحسن من البيدر، وأخف مؤنة، فلا يكون ضامناً.
سئل الفقيه أبو بكر: إذا قال المضيع للتاجر: ضعها في هذا العدل وأشار إليها، فوضعها في الحقيبة؛ قال: لا يضمن وضع الكتاب في يد متوسط، وأمره بأن يسلم الصك إلى غريمه؛ إن دفع الدراهم إليه قبل مضي ثلاثة أشهر، فلم يدفع إليه إلا بعد مضي سنة فجاء الطالب يريد أن يسترد الصك منه؛ قال: إن علم إيفاء حقه قبل المدة أو بعدها؛ يدفع المتوسط الصك إلى المطلوب دون الطالب.
وقال محمد رحمه الله: في ثلاثة نفر أودعوا رجلاً مالاً، وقالوا: لا تدفع إلى أحد منا حتى نجتمع، فدفع نصيب واحد منهم إليه، قال: ضمن قياساً وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنهم، ولم يضمن استحساناً، وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله.
(5/476)
الفصل الرابع فيما يكون تضييعاً للوديعة، وما لا يكون، ومايضمن به المودع، وما لا يضمن
-----
إذا قال المودع: سقطت الوديعة مني أو قال بالفارسية: «بينتاد ازمز» لا يضمن، ولو قال: أسقطت، أو قال بالفارسية: «بيكندم» يضمن؛ هكذا ذكر الفقيه أبو الليث في «فتاويه»، وينبغي أن لا يضمن بمجرد قوله: «بيكندم»، أو أسقطت؛ لأن نفس الإسقاط ليس يصلح موجباً للضمان.
ألا ترى أنه لو سقط ثم رفع، أو لم يرفع، ولكن لم يبرح عن ذلك المكان لا يضمن؛ إنما يضمن بالإسقاط، والذهاب عن ذلك الموضع والترك هناك والإسقاط في موضع يضيع كما في الماء، ونحو ذلك يكون ذلك تضييعاً، والذي يؤيد هذا الإشكال أن المودع إذا دفع الوديعة إلى من ليس في عياله، وهلكت الوديعة في يد الثاني قبل أن يفارقه الأول، فإنه لا يضمن الأول بلا خلاف، وإنما يجب عليه الضمان؛ لأن مجرد الإيداع ليس بتضييع، وإنما التضييع الذهاب وترك الحفظ، ولم يوجد بعد. والذي يؤيده أيضاً ما ذكر في «المنتقى»: إذا قال الرجل لقوم: اشهدوا أن فلاناً أودعني كذا وكذا، وإني قد بعت ذلك، وقبضت ثمنه، أو قال له المودع: ما فعلت بوديعتي؟ فقال: بعتها، وقبضت الثمن؛ لا يضمن بذلك ما لم يقل: دفعتها؛ لأن مجرد البيع ليس سبباً للضمان، فكذلك في مسألتنا ينبغي أن لا يجب الضمان بمجرد قوله أسقطت، بل يشترط مع ذلك أن يقول: أسقطت وتركت، أو يقول: أسقطت وذهبت، أو يقول: أسقطت في الماء، أو ما أشبه ذلك.
وفي «فتاوى أبي الليث»: سوقي قام من حانوته إلى الصلاة، وفي حانوته ودائع، فضاع شيء منها لا ضمان عليه؛ لأنه غير مضيع لما في حانوته؛ لأن جيرانه يحفظون هذا إيداعاً من الجيران؛ ليقال: ليس للمودع أن يودع؛ لكن بهذا مودع لم يضيع، وذكر الصدر الشهيد في آخر كتاب الغصب مسألة تدل على الضمان ههنا فتأمل عند الفتوى.(5/477)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» ولو أن المودع (127أ2) قال: وضعت الوديعة من يدي، فقمت ونسيتها فضاعت يضمن؛ لأن نسيانه تضييع، ولو قال: وضعت بين يدي في داري والمسألة بحالها ينظر؛ إن كان مالاً لا يحفظ في عرصة الدار، وعرصة الدار لا تعد حرزاً له كصرة الذهب ونحوه، فكذلك. ولو قال: دفنت في داري، أو في كرمي، ونسيت موضعها؛ لم يضمن إذا كان للدار والكرم باب؛ لأنه ليس بمضيع، وإن قال: دفنت في موضع آخر ونسيت مكانها يضمن؛ لأنه تضييع، وكذلك تبين مكان الدفن؛ لكن سرقت الوديعة من المكان المدفون فيه، وإن كان للدار والكرم باب لم يضمن، وإن لم يكن لها باب يضمن.
وفي أول هذا الكتاب إذا وضع الوديعة في مكان حصين فنسي اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يضمن، وقال بعضهم: لا يضمن؛ قال الصدر الشهيد: والمختار أنه إذا قال: وضعت في داري، فنسيت المكان لا يضمن؛ لأن له أن يضع في داره، وإن قال: لا أدري وضعت في داري أو في موضع آخر يضمن؛ لأنه لا يدري أنه وضع في موضع له ولاية الوضع، وقد قيل: إذا كانت الوديعة مدفونة في الدار، وفي الكرم لا يشترط أن يكون لهما باب.
ألا ترى أنه لو سرق المدفون في المغارة يقطع، وإذا لم تكن مدفونة لكن كانت موضوعة؛ إن كانت موضوعة في موضع لا يدخل فيه عليه أحد إلا باستئذان؛ لا يضمن وإن لم يكن له باب.(5/478)
-----
المودع إذا وضع الوديعة في الجبانة، فسرقت الوديعة ضمن؛ لأنه ضيعها، فإن توجهت السراق نحو المودع، فدفن الوديعة في الجبانة حتى لا تؤخذ من يده، وفر من خوفهم، ثم جاء فلم يظفر بالمكان الذي دفن الوديعة فيه؛ إن أمكنه أن يجعل له علامة، فلم يفعل ضمن، وإن لم يمكنه أن يجعل لذلك علامة، وأمكنه العود بأقرب الأوقات بعد زوال الخوف، فلم يعد وأخرّ ثم جاء فلم يجد الوديعة كان ضامناً، وإن كان رب الوديعة معه يذهبان جملة، فلما تواجد السراق قال له رب الوديعة: ادفنها فدفنها، ثم ذهب السراق، وذهبوا أيضاً بعد ذلك، أو ذهبوا أولاً ثم ذهب السراق، ثم حضروا، فلم يجدوا المدفون؛ لا شك أن المودع لا يكون ضامناً في هذه الصور حيث دفن بأمر المالك.
وأما إذا كان المودع وحده، والمسألة بحالها فالجواب فيه على التفصيل؛ إن ذهب السراق أولاً وتمكن المودع من دفع الوديعة فلم يدفع، وترك ثمة مع الإمكان، فهو ضامن، وأما إذا مكث االسراق ثمة، ولم يمكنه الفرار ثمة، فذهب ثم جاء فلم يجد، فهذا على وجهين: إن جاء على فور ما أمكنه، وزال الخوف فلم يجد لا يكون ضامناً، وإن أخرّ مع الإمكان كان ضامناً استدلالاً بمسألة ذكرها في كتاب الغصب والضمان.
في «فتاوى أهل سمرقند»: أن السفينة إذا خيف غرقها، فرفعوا بعض الحمولات، ووضعوه في ناحية، فضاع شيء من ذلك؛ إن ضاع قبل زوال الخوف لا يكون الرافع ضامناً، وإن ضاع بعد زوال الخوف كان ضامناً؛ لأنه لما زال الخوف وجب عليه إعادتها إلى السفينة، فحيث أخر وقصر كان ضامناً، كذا ههنا.
الوديعة إذا أفسدتها الفأرة، وقد اطلع المودع على ثقب معروف؛ إن كان أخبر صاحب الوديعة أن ههنا ثقب الفأرة فلا ضمان، وإن لم يخبر بعدما اطلع عليه، ولم يسده ضمن؛ لأنه ضيعها.
(5/479)
-----
وفي «مجموع النوازل»: سئل نجم الدين عمن دفع خفاً إلى خفَّاف ليصلحه، فتركه الخفاف في حانوته، فسرق ليلاً؛ هل يضمن؟ قال: لا إن كان في الحانوت حافظ، أو في السوق حارس، وكان الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين رحمه الله يفتي بعدم الضمان، وإن لم يكن حافظ، ولا حارس، وقد قيل: يعتبر العرف إن كان العرف فيما بين الناس أنهم يتركون الأشياء في الحوانيت من غير حافظ فيها، ومن غير حارس في السوق، فلا ضمان، وإن كان العرف بخلافه يجب الضمان.
وكذلك قيل: لو ترك باب الدكان مفتوحاً وكان في موضع ذلك عرفهم وعادتهم لا ضمان، وفي بخارى أجري العرف بترك باب الدكان مفتوحاً باليوم، وتعليق شيء على باب الدكان نحو الشبكة وأشباه ذلك، والرواية محفوظة فيما ترك الحائك الثوب الذي ينسج بعضه، والغزل في بيت الطراز، ولم يكن هناك حافظ، ولا حارس في السوق أنه لا ضمان على الحائك.
وفي «فتاوى أبي الليث»: المودع إذا وضع الوديعة في الدار، وخرج والباب مفتوح، فجاء سارق ودخل الدار، وسرق الوديعة، فإن لم يكن في الدار أحد في موضع يسمع الحس؛ لأن هذا ....
إذا ربط دابة الوديعة على باب داره وتركها ودخل الدار، فضاعت؛ إن كان بحيث يراها، فلا ضمان، وإن كان بحيث لا يراها ضمن؛ إن كان في المصر، وإن كان في القرى فلا ضمان؛ وهذا لأن العادة في حق أهل القرى أن النسوة يجلسن على باب دورهن فيحفظن ما على باب جارهن، فلم يكن مضيعاً، ولا كذلك في الأمصار، وإن ربطها في الكرم أو على رأس الفالة فذهب، فقد قيل: إن غابت عن بصره، فهو ضامن، وإن لم تغب عن بصره، فلا ضمان.(5/480)
-----
وقد قيل: إذا كان للكرم باب وحيطان فلا ضمان على كل حال، وقد قيل: يعتبر العرف؛ أو قد مر جنس هذا، المودع إذا جعل دراهم الوديعة في خفه، فسقطت عنه قبل أن يجعلها في الخف اليمنى، فهو ضامن، وإن جعلها في الخف اليسرى فلا ضمان، وقيل: لا ضمان على كل حال؛ لأن العادة جرت بجعل الناس أموالهم في خفافهم، ولا يميزون بين اليسرى واليمنى.
وكذلك إذا ربط دراهم الوديعة في طرف كمه، أو جعلها في الأذن أو في طرف العمامة فلا ضمان؛ لأن الناس في عاداتهم يفعلون كذلك بأموالهم، ويعدون ذلك حفظاً، وكذلك لو شد دراهم الوديعة على منديل، ووضع في كمه، فسرق منه فلا ضمان.
في «فتاوى أبي الليث»: وإذا جعل الرجل دراهم الوديعة في جيبه، وحضر مجلس الفسق فسرق منه فلا ضمان؛ لأنه يحفظ ماله هكذا، ذكره في «فتاوى النسفي»، وإن ظن أنه جعلها في جيبه، فإذا هي لم تدخل الجيب، فعليه الضمان.
إذا قال المودع: لا أدري أضيعت الوديعة، أو لم أضيع، يضمن، أو قال: لا أدري أضاعت الوديعة أو لم تضع، فلا ضمان؛ لأن في الوجه الأول لو تحقق ما يزعم يجب الضمان، وفي الوجه الثاني لا يجب.
في «فتاوى أهل سمرقند»: امرأة أودعت صبية من بنات سنة، واشتغلت بشيء فوقعت الصبية في الماء؛ لا ضمان عليها؛ فرق بين هذا وبين الغصب؛ هكذا ذكر المسألة في «فتاوى أبي الليث»، وفي هذا الجواب نوع نظر، وينبغي إن لم تغب عن بصرها فلا ضمان، وإن غابت (127ب2) عن بصرها فهي ضامنة.
إذا نام المودع وجعل الوديعة تحت رأسه، أو تحت جنبه فضاع، فلا ضمان عليه، وكذلك إذا وضعه بين يديه، وهو الصحيح، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب السرقة قالوا: إنما لا يجب الضمان في الفصل الثاني إذا نام قاعداً، أما إذا نام مضطجعاً فعليه الضمان، وقد مر شيء من هذا فيما تقدم، وهذا إذا كان في الحضر، أما إذا كان في السفر، فلا ضمان نام قاعداً أو مضطجعاً.(5/481)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: سئل أبو القاسم عمن حمل ثياب الوديعة على دابته، فنزل عن دابته في بعض الطريق، ووضع الثياب تحت جنبه، فسرقت الثياب؛ قال: إن أراد به الترفق فهو ضامن، وإن أراد به الحفظ فلا ضمان، وإن كان مكان الثياب كيس فيه دراهم لم يضمن؛ لأنه لم يجعل ذلك بالدراهم إلا للحفظ.
وفيه أيضاً: إذا كانت الوديعة شيئاً يخاف عليه الفساد، وصاحب الوديعة غائب، فإن رفع المودع الأمر إلى القاضي حتى يبيعه جاز، وهو الأولى، وإن لم يرفع حتى فسد لا ضمان عليه؛ لأن حفظ الوديعة على مقدار ما أمر به.
وفي «الجامع الأصغر:» سئل أبو القاسم عمن عنده وديعة، فرفعها رجل، فلم يمنعه المودع؛ قال: إن أمكنه منعه ودفعه ولم يفعل فهو ضامن، وإن لم يمكنه ذلك لما أنه يخاف من دعاء وضربه فلا ضمان، وذكر شيخ الإسلام في أول وصايا «الجامع:» المودع إذا دل إنساناً على أخذ الوديعة إنما يضمن المودع إذا لم يمنع المدلول من الأخذ حالة الأخذ؛ أما إذا منعه فلا ضمان عليه.
وفي «فتاوى النسفي»: سئل عن مودع ربط سلسلة باب خزانته في الخان بحبل، ولم يقفله، وخرج فسرقت الوديعة؛ قال: إن عد هذا إغفالاً وإهمالاً لا يضمن، وما لا فلا.
وفي «فتاوى الفضلي»: سئل عمن خرج إلى الجمعة، وترك باب حانوته مفتوحاً، وأجلس على باب الدكان ابناً صغيراً، وفي الحانوت ودائع الناس، فسرقت الودائع؛ قال: إن كان الصبي ممن يعقل الحفظ، ويحفظ الأشياء لم يضمن، وإلا فهو ضامن.
وفيه أيضاً: سئل عن مودع غاب عن بيته، فقال له أجنبي: لي في بيتك شيء، وأخذ منه المفتاح، فلما رجع إلى بيته لم يجد الوديعة؛ قال: لا ضمان عليه، قيل له: بدفع المفتاح إلى الأجنبي لا يصير عاطياً البيت بما فيه في يده. قال: لا.(5/482)
-----
وسئل أبو جعفر عرفاً في حانوته وديعة رجل أخذ سلطاني الوديعة من حانوته لنائبه ورهنه عند رجل؛ قال: إن كان المرتهن طائعاً في الارتهان فلصاحب الوديعة أن يضمن السلطاني إن شاء، وإن شاء ضمن المرتهن، ولا ضمان على الجابي إن كان لا يقدر على تمنيع السلطاني، وينبني على هذا الجابي الذي يقال بالفارسية: «باي كار» إذا أخذ شيئاً من بيت إنسان رهناً، وهو طائع يضمن، وكذا إذا أخذ الجباية دراهم وهو طائع يضمن، وكذا الصراف إذا كان طائعاً في أخذ الدراهم يضمن، ويصير الجابي والصراف مجروحين في الشهادة.s
وسئل نجم الدين: عمن عنده وديعة إنسان، وهي ثياب ملفوفة في لفاف، فوضعها تحت رأس ضيف له بالليل كالوسادة، ثم رمى على صاحبها كان كذا وكذا ثوباً، وقد ذهب بعضها؛ قال: ما لم يثبت أنها كانت كذا وكذا، وقد ضاعت منها كذا تلك الليلة، فوضعها تحت رأس الضيف لا يمكن إيجاب الضمان، وبعدما ثبت ذلك لا يمكن إيجاب الضمان بمجرد الوضع تحت رأس الضيف ما دام المودع حاضراً؛ لأنه إذا كان حاضراً، فهو حافظ لها، وليس بمضيع، فإذا غاب الآن يصير ضامناً؛ لأنه ترك حفظها.
وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل أودع رجلاً زنبيلاً فيه آلات النجارين، ثم جاء واسترده، وادعى أنه كان فيه قدوماً قد ذهب منه، فقال المودع: قبضت منك الزنبيل، ولا أدري ما فيه، فلا ضمان على المودع، ولا يمين عليه أيضاً؛ لأنه لا يدعي عليه صنعاً
وكذلك إذا كان أودع عند رجل دراهم في كيس، ولم يزن على المودع، ثم ادعى أنه أكثر من ذلك، وقال المودع: قد قبضت الكيس، ولا أدري كم كان فيه فلا ضمان عليه، ولا يمين لما قلنا، قيل: وينبغي أن يحلف، فإن محمداً رحمه الله يقول: القول قول الغاصب، والمودع في المقدار مع يمينه.(5/483)
إذا كانت المرأة تغسل ثياب الناس، فغسلت ثوباً لرجل، وعلقته على حصن سطحها، للتجفيف، فطار الثوب من الجانب الآخر، قيل: هي ضامنة، وقيل على قياس مسألة الطاحونة إذا لم يكن الحصن مرتفعاً تضمن.(5/484)
-----
في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا جحد الوديعة في وجه عدو يخاف عليها التلف؛ إن أقر ثم هلكت لا يضمنها؛ قال: لأن الجحود في هذه الصورة جهة من جهات الحفظ كذا وقع في بعض نسخ «الكتاب»، ووقع في بعضها، إذا جحد الوديعة ثم أقر بها، ثم هلكت لم يضمنها.
وفي هذا الكتاب أيضاً رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا جحد الوديعة في وجه صاحبها يضمن، وإن جحدها لا في وجهه لا يضمن.
وفي «النوادر» عن محمد: أنه لا ضمان إذا لم يواجه صاحبها بالجحود، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الوديعة: إذا جحد الوديعة في وجه المالك لا بناءاً على طلب المالك بأن قال له المالك: ما حال وديعتي ليشكره على الحفظ، فقال: ليس لك عندي وديعة، فلا ضمان في قول أبي يوسف؛ هذا كله في المنقول.
وأما إذا جحد الوديعة في العقار ذكر شمس الأئمة هذا في «شرحه» أنه لا ضمان في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف الآخر في جميع الوجوه؛ لأن جحود الوديعة بمنزلة الغصب، ومن المشايخ من قال: العقار يضمن بالجحود بلا خلاف؛ قال شمس الأئمة الحلواني في ضمان الجحود، وفي العقار عن أبي حنيفة روايتان.
وفيه أيضاً بشر عن أبي يوسف: رجل استودع رجلاً وديعة فجحدها إياه، ثم أخرجها بعينها، وأقر بها، وقال لصاحبها: اقبضها، فقال صاحبها: دعها وديعة عندك، فضاعت بعد ذلك؛ قال: إن تركها عنده، وهو قادر على أخذها إن شاء فهو بريء، وهي وديعة عنده، وإن كان لا يقدر على أخذها فهو على الضمان الأول؛ يعني به الضمان الثابت بالجحود، فإن الوديعة دخلت في ضمانه، وكذلك إذا قال: اعمل به مضاربة.
في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا قال المودع لصاحب الوديعة وهبت مالي الوديعة وأنكر صاحبها ذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يجحدها، وإن طلبها صاحبها فمنعها عنه؛ ضمن بالمنع.(5/485)
-----
أودع طستاً عند غيره، فوضع المودع الطست على رأس التنور في بيته، فوقع عليه شيء، فانكسر، فالجواب فيه على التفصيل؛ إن كان وضعه على رأس التنور يغطي به التنور يضمن، وإن كان وضعه كما يوضع في العادة لا لأجل التغطية لا يضمن؛ لأن في الوجه الأول مستعمل، وفي الوجه الثاني لا.
ومن هذا الجنس أودع عند رجل طبقاً؛ فوضع المودع الطبق على رأس الجب، فضاع؛ إن كان الوضع (لا) على وجه الاستعمال لا يضمن.
وطريق معرفة ذلك: أن ينكر أن كان في الجب شيء نحو الماء، والدقيق، أو نحو ذلك مما يغطى رأس الجب لأجله؛ كان استعمالاً، وإن كان خالياً أو كان فيه شيء لا يغطى رأس الجب لأجله لم يكن استعمالاً، وإذا أخذت المرأة ثوب الوديعة، وسترت العجين فهي ضامنة، وهذا استعمال وليس بحفظ.
في «العيون»: الدابة المودعة إذا أصابها شيء، فأمر المودع إنساناً أن يعالجها فعطبت من ذلك (128أ2) فصاحب الدابة بالخيار؛ يضمن أيهما شاء، فإن ضمن المستودع لم يرجع هو على الذي عالجها؛ لأنه تبين أنه عالج دابته بأمره، وإن ضمن الذي عالجها هل يرجع هو على المستودع؟.
فالمسألة على ثلاثة أوجه: إما أنه علم أنه دابة المودع، أو لم يكن علم أنها لغيره، أو علم أنها لغيره بأن أخبره أنها ليست بدابتي، ولم أؤمر فيها بهذا.
ففي الوجه الأول: يرجع؛ لأن الأمر قد صح فانتقل الفعل إليه.
وفي الوجه الثاني: كذلك فرق بين هذا، وبين مسألة حفر البئر في الحائط على ما مر ذكرها في كتاب الغصب.
والفرق: أن موضوع تلك المسألة في الدار، والدار إذا لم يكن الآمر ساكناً فيها؛ لا يعرف أنها في يده لجواز أنها في يد غيره، وانعدم دليل الملك؛ أما الدابة منقولة، واليد على المنقول لا تثبت إلا بالنقل، وإذا لم يوجد النقل من الغير علم أنها ليست في يد الغير، فكان في يد المستودع واليد دليل الملك.(5/486)
-----
وفي الوجه الثالث: لا يرجع؛ لأن الآمر لا يصح المودع إذا بعث الحمار أو البقر إلى السرح يعتبر في ذلك العرف، والعادة.
الفصل الخامس في تجهيل الوديعة
إذا مات المودع مجهلاً للوديعة ضمنها؛ إما لأن ما بعد الموت حال أخذ الورثة جميع ما كان في يده؛ لأن ظاهر اليد تدل على الملك إلا إن ثبت خلافه ولم يثبت، والمودع يضمن بمثل هذا التمكين؛ وإما لأنه التزم أداء الأمانة، ومن أداء الأمانة الرد عند طلب المالك يضمن كذلك، والبيان عند الموت، ولو ترك الرد عند طلب المالك يضمن، فكذا إذا ترك البيان عند الموت؛ وإما لأنه خلط الوديعة بماله على وجه لا يمكن التمييز، ومثل هذا الخلط يوجب الضمان كما في حالة الحياة، ثم إن المودع إنما يضمن بالتجهل عند الموت إذا لم يعرف الورثة الوديعة بعينها؛ أما إذا عرفت فلا؛ لأن ما ذكرنا من المعاني لا يتأتى إذا عرفت الورثة الوديعة بعينها.
وفي «الأصل»: رجلان جاءا إلى رجل فقال كل واحد منهما: أودعتك هذه الوديعة، فقال المودع: لا أدري أيكما استودعني هذه الوديعة، ولكني أعلم أنها لأحدكما، وليس لواحد منكما على ذلك بينة، فعليه أن يحلف لكل واحد منهما ما أودعه هذه الوديعة بعينها، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار، وغرض محمد من إيراد هذه المسألة في كتاب الوديعة بيان حكم الضمان بسبب التجهيل، فقال: إذا أبى أن يحلف لهما، فالقاضي يدفع الوديعة إليهما، ويضمنه قيمة الوديعة بينهما؛ لأنه صار مجهلاً في حق كل واحد منهما، فيصير ضامناً.
وفي كتاب «الأجناس»: إن الأمانات بالموت تنقلب مضمونة إذا لم يبينها؛ إلا في ثلاث مواضع:
أحدها: متولي الأوقاف إذا مات، ولا يعرف حال عليها التي أخذها ولم يبينها، فلا ضمان عليه، وأحاله إلى وقف حلال.
الثاني: السلطان إذا خرج إلى الغزو فغنموا، وأودع بعض الغنيمة إلى بعض الغانمين ومات، ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه، وأحاله إلى «السير الكبير».(5/487)
-----
الثالث: أحد المتفاوضين إذا مات وفي يده مال الشركة ولم يبين؛ لا ضمان عليه، وأحاله إلى شركة «الأصل».
وفي «الواقعات»: القاضي إذا قبض أموال اليتامى، ولم يبين، فهذا على وجهين: إن وضعه في بيته، ولا يدري أين المال ضمن؛ لأنه مودع مات مجهلاً، وإن دفعها إلى قوم، ولا يتبينهم ولا يدري إلى من دفعها فلا ضمان؛ لأن القاضي ههنا ليس بمودع؛ إنما المودع غيره، وذلك الغير على حاله لم يمت فضلاً من الموت مجهلاً.
وفي «الهاروني»: لو أن المستودع لم يمت، ولكن جن جنوناً مطبقاً، وله أموال، فطلبت الوديعة، فلم توجد، وقد آيسوا أن يرجع إليه عقله؛ كانت ديناً عليه في ماله، ويجعل له القاضي ولياً ليقبضها من ماله، ويأخذ بها قيمة الذي يدفع إليه، فإن أفاق المستودع بعد ذلك وقال: ضاعت الوديعة، أو قال: رددتها عليه، وحلف على ذلك رجع بها على الذي دفعها إليه.
وفي «الأجناس»: لو كان المستودع دفع الوديعة إلى امرأته، وقد علم ذلك، ثم مات المستودع أخذت المرأة بها، فإن قالت المرأة: قد ضاعت، أو قالت: قد سرقت، فالقول قولها مع يمينها، ولا ضمان عليها، ولا يصير ديناً على الميت، وإن كان الميت ترك مالاً صارت الألف ديناً فيما ورثت المرأة من الزوج؛ لأنها لما زعمت أنه دفعها إليه، فقد زعمت أنها صارت مضمونة عليه بموته تجهلاً، وزعمها حجة في حقها، وإن لم يعلم أنه دفعها إلى امرأته إلا بقوله بأن قيل له قبل أن يموت: ما فعلت بالألف التي أودعكها فلان، فقال: دفعتها إلى امرأتي، ثم مات، ثم سئلت المرأة فأنكرت أن يكون دفعها إليها، فإنها تحلف ولا شيء عليها، وإن كان الميت ترك مالاً فهي دين فيما ورثت المرأة منها؛ لأنها حين قالت: لم يودعني فقد زعمت أنها عنده على ما ادعى وإنها صارت ديناً عليه، والدين مقدم على الميراث، وزعمها معتبر في حقها.(5/488)
-----
وفيه أيضاً: إذا قال المضارب قبل أن يموت أودعت مال المضاربة فلاناً الصيرفي، ثم مات، فلا شيء عليه، ولا على ورثة الميت، وإن مات الصيرفي قبل أن يقول شيئاً، ولا يعلم أن المضارب دفعها إلى الصيرفي إلا بقوله: ... على الصيرفي، وإن دفعها إلى الصيرفي ببينته، أو إقرار من الصيرفي، ثم مات المضارب، ثم مات الصيرفي، ولم يبينها كانت ديناً في مال الصيرفي، ولا شيء على المستودع، وإن مات المضارب والصيرفي حيٌّ فقال الصيرفي: رددتها عليه في حقوقه كان القول قوله، ويحلف، ولا ضمان عليه، ولا على الميت، وإن أودع جارية فمات المستودع ولم يبينها، ثم رأوها حية بعد موته، فلا ضمان على المستودع، وإن لم يروها بعد موته فقالت ورثته قد رددناه عليه في حياته أو دبر موته، لا يقبل قولهم في شيء من ذلك؛ لأنهم يدفعون عن أنفسهم الضمان، وتصير قيمتها آخر ما رأوها حية عنده ديناً في ماله، وكذلك العارية والإجارة.
في «الأجناس» أيضاً وفي «النوازل»: إذا مات المستودع فقالت ورثته: قد رد الوديعة في حياته لم يقبل قولهم، والضمان واجب في مال الميت؛ لأنه مات مجهلاً، فإن أقام الورثة البينة على إقرار الميت أنه قال في حياته: رددت الوديعة، فلا ضمان؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً، ولو عاينا إقرار المودع حال حياته بذلك، ثم مات لا ضمان عليه؛ كذا ههنا.
وفي «الواقعات»: إذا اختلف الطالب وورثة المودع في الوديعة، فقال الطالب: (128ب2) قد مات ولم يبين، فصار ديناً في ماله، وقالت الورثة: كانت قائمة بعينها، ثم مات المودع، وكانت معروفة ثم هلكت بعد موته، فالقول قول الطالب هو الصحيح؛ لأن الوديعة صارت ديناً في التركة ظاهراً، والورثة يدعون أمراً بخلاف الظاهر، والطالب متمسك بما هو الظاهر.
(5/489)
-----
وذكر في «الجامع الكبير»: مستودع قال لصاحب المال: قد قبضت بعض وديعتك ثم مات، وقال صاحب المال: لم أقبض شيئاً؛ قيل لصاحب المال: لا بد أن تقر بقبض شيء، وتحلف على ما بقي بالله ما قبضت منه ما قالت الورثة؛ لأن إقرار المستودع على صاحب الوديعة بالقبض جائز لكونه موقناً من جهته، فصار إقراره كإقرار صاحب الوديعة.
ألا ترى أن المستودع لو قال لصاحب الوديعة: قبضت جميع وديعتك جاز؛ كما لو أقر صاحب الوديعة بنفسه، ولو أقر صاحب الوديعة بقبض بعض الوديعة، ثم مات المستودع قيل له: بين؛ لأنه أقر بقبض شيء مجهول، فيرجع في البيان إليه، وإذا بين كان القول قوله في البيان كذلك ههنا، وعليه اليمين فيما يدعي الورثة من الزيادة؛ لأن ورثة المستودع صاروا ضامنين تجهيل المورث، والضامن إذا ادعى على صاحب الضمان زيادة قبض كان القول قول صاحب الضمان كما في الغاصب والمغصوب منه، وكذلك إذا قال رب الوديعة: قد قبضت بعض وديعتي، ثم مات المستودع، فالقول قول رب المال فيما قبض؛ لأنه أقر بقبض شيء مجهول، فيرجع في البيان إليه، ويكون القول قوله فيما وراء ذلك؛ لأنه منكر للقبض، والورثة ضامنون بسبب تجهيل المستودع، فكان القول قوله، وكذلك لو قال ذلك بعد موت المستودع؛ لأن المعنى يجمعهما.
في «المنتقى»: رجلان أودعا رجلاً ألف درهم، فمات المستودع، وترك ابناً، فإن ادعى أحد الرجلين أن الابن استهلك الوديعة بعد موت أبيه، وقال الآخر: لا أدري ما حالها، فالذي ادعى على الابن الاستهلاك أبرأ الابن منها حيث زعم أن أباه مات وتركها قائمة بعينها، فاستهلكها ابنه، وادعاء الضمان على الابن يصدق في حق الأب، ولم يصدق في حق الابن حتى لا يقضى له على الابن بشيء، فأما الآخر فله خمسمائة درهم في مال الميت لوجود التجهيل في حقه، ولا يشارك صاحبه فيها.(5/490)
-----
وفي «الجامع الكبير»: صبي ابن اثني عشر سنة يعقل البيع والشراء؛ وقبض الودائع لكنه محجور عليه؛ أودعه رجل ألف درهم فأدرك ومات ولم يدرِ ما حال الوديعة، فلا ضمان في ماله إلا أن يشهد الشهود أنه أدرك وهي في يده، والحكم في المعتوه نظير الحكم في الصبي إذا أفاق ثم مات، ولم يدرَ حال الوديعة؛ لا ضمان في ماله إلا أن يشهد الشهود أنه أفاق وهي في يده، وإن كان الصبي مأذوناً في التجارة والمسألة بحالها، فهو ضامن الوديعة، وإن لم يشهد الشهود أن الصبي أدرك، وهي في يده، ولو مات الصبي بعد البلوغ، ولا يدرى في أي حال هلكت الوديعة لا يقضى بوجوب الضمان، وكذلك في المعتوه إذا كان مأذوناً في التجارة.
ولو أن عبداً محجوراً عليه أودعه رجل، ثم أعتقه المولى، ثم مات ولم يبين الوديعة، فالوديعة دين في ماله، وإن مات وهو عبد فلا شيء على مولاه إلا أن يعرف الوديعة بعينها، فيرد على صاحبها، وإن أذن المولى في التجارة بعدما استودع، ثم مات، فلا ضمان إلا أن يشهد الشهود أنها كانت في يده بعد الإذن، فإذا شهد الشهود بذلك ثم مات وترك مالاً فالوديعة في ذلك المال.
في «المنتقى»: رجل أودع رجلاً بطيخاً أو عنباً وغاب، ثم مات المستودع، ثم قدم المودع بعد مدة يعلم أن تلك الوديعة لا تبقى إلى تلك المدة، فهي دين في مال الميت؛ لأنه لا يعلم باستيفائها بعد الميت، وهذا بناء على ما قلنا إن تجهيل الوديعة عند الموت سبب للضمان.
(5/491)
الفصل السادس في طلب الوديعة، والأمر بالدفع إلى الغير
-----
في «فتاوى الفضلي»: إذا طلب صاحب الوديعة الوديعة، فقال المودع: اطلبها غداً، فلما كان من الغد قال المودع: ضاعت الوديعة، فالقاضي يسأله عن وقت الضياع متى ضاعت قبل قولك: اطلبها غداً، أو بعد ذلك؟ إن قال: قبل ذلك، فهو ضامن؛ لأنه متناقض؛ لأن قوله اطلبها غداً إقرار منه أنه ما ضاع، فإذا قال بعد ذلك: قد كان ضاعت قبل ذلك صار متناقضاً، وإن قال: بعد ذلك فلا ضمان؛ لأنه لا تناقض.
في «مجموع النوازل»: إذا جاء المودع إلى المودع يريد استرداد الوديعة، فقال المودع: لا يمكنني أن أحضرها هذه الساعة، فتركها ورجع فهذا ابتداء إيداع، قال ثمة: لما طلب رد الوديعة فقد عزله عن الحفظ، فخرج من أن يكون مودعاً، وبالترك عنده بعد ذلك صار مودعاً ابتداءاً.
وفيه أيضاً: إذا قال رب الوديعة للمودع: احمل إليَّ الوديعة اليوم، فقال: أفعل ولم يحملها إليه حتى مضى اليوم، وهلكت عنده بعد ذلك، فلا ضمان؛ لأنه لا يجب على المودع نقل الوديعة إلى صاحبها؛ بل مؤنة الرد على رب الوديعة.
وفيه أيضاً: سئل شيخ الإسلام عمن قال لمودعه: إذا جاءك أخي، فادفع إليه وديعتي التي عندك، فجاء أخوه، وطلب الوديعة، فقال المودع: عدْ إليَّ بعد ساعة لأدفعها، فلما عاد إليه قال: إنه قد كان هلك؛ يعني قبل مقالتي: عد إليَّ بعد ساعة، فهو ضامن لمكان التناقض، وهذه المسألة قريبة من المسألة المذكورة في أول هذا الفصل.
وفي «النوازل»: قال صاحب الوديعة للمودع في السر: من أخبرك بعلامة كذا، فادفعها إليه، فجاء رجل، وزعم أنه رسول المودع، وأتى بتلك العلامة، فلم يصدقه المودع، ولم يدفعها إليه حتى هلكت الوديعة، فلا ضمان؛ لأنه يتصور أن يأتي غير رسول المودع بتلك العلامة.(5/492)
-----
رسول المودع إذا جاء إلى المودع، وطلب الوديعة، فقال: لا أدفع إلا إلى الذي جاء بها، فلم يدفعه إليه حتى هلكت؛ ذكر شيخ الإسلام نجم الدين عمر النسفي أنه يضمن، وفيه نظر، فقد ذكر في الكتب في مواضع أن من جاء إلى المودع، وقال: إن فلاناً وكلني بقبض وديعته منك، فصدقه في دعوى الوكالة لا يؤمر بدفع الوديعة إليه، بخلاف ما إذا قال: وكلني بقبض ما له عليك من الدين وصدقه المديون في دعوى الوكالة، فإنه يجبر على دفع الدين إليه.
رجل بعث ثوباً إلى القصار على يدي تلميذه، ثم بعث إلى القصار أن لا تدفع الثوب إلى من جاءك، ينظر: إن كان الذي جاء بالثوب إلى القصار لم يقل للقصار: هذا ثوب فلان بعثه إليك؛ لا يضمن القصار بالدفع إليه، وإن قال: هذا ثوب فلان بعثه إليك، فإن كان الذي جاء بالثوب متصرفاً في أموره، فكذا (129أ2) لا يضمن، وإن لم يكن متصرفاً في أموره يضمن بالدفع إليه هكذا قيل، وقد قيل: ينبغي أن يضمن، وإن كان متصرفاً في أموره؛ لأنه لما نهى القصار عن دفع الثوب إليه فقد عزله عن هذا النوع من التصرف، والأول أوجه؛ لأن العزل لا يصح من غير علم المعزول، وليس في وضع المسألة أن الذي جاء بالثوب علم بهذا النهي.
في «الأصل»: إذا أمر صاحب الوديعة المودع أن يدفعها إلى رجل بعينه، فقال: دفعتها، وقال ذلك الرجل: لم أقبضها، وقال رب الوديعة: لم يدفعها، فالقول قول المستودع، ولا ضمان على المدفوع إليه، ويعتبر قول المودع في حق براءته عن الضمان؛ لا في حق إيجاب الضمان على المدفوع إليه.(5/493)
-----
وفيه أيضاً: أودع رجل رجلاً دراهم، فجاء رجل وقال: أرسلني إليك صاحب الوديعة لتدفعها إليَّ، فدفعها إليه، فهلكت عنده، ثم جاء صاحبها، وأنكر ذلك، فالمستودع ضامن لها، وهل يرجع على الرسول بما ضمن؟ إن صدقه المودع في كونه رسولاً، ولم يشترط عليه الضمان لا يرجع، وإن كذبه في كونه رسولاً مع هذا دفع؛ لو لم يصدقه، ولم يكذبه مع هذا دفع، أو صدقه، ودفع إليه على الضمان رجع، ومعنى الضمان ههنا أن يقول المودع للرسول: أنا أعلم أنك رسول، ولكن لا آمن أن يحضر المالك، و يجحد الرسالة، ويضمنني، فهل أنت ضامن فيما تأخذ مني، فإذا قال: نعم، حصلت الكفالة بدين مستحب مضافاً إلى سبب الوجوب، وإنه جائز، فيرجع المودع على الرسول بحكم الكفالة.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: رجل أودع رجلاً ألف درهم، ثم قال: إني أمرت فلاناً بقبضها منك، ثم نهيته بمكاني عن ذلك، فقال المودع: فلان أتاني ودفعتها إليه، وقال فلان: لم آته، ولم أقبضها منه، قال المستودع بريء منها.
وفي «الفتاوى»: سئل أبو بكر عن مودع طلب الوديعة من المستودع، وقد ..... فقال المستودع: لا أصل إليها الساعة، فاعتبر على ملك التأخير وقال المستودع: أعتبر علي الوديعة أيضاً، قال: إن لم يقدر المستودع على ردها في تلك الحالة لبعدها أو لضيق الوقت، فلا ضمان، والقول قوله فيه، وإلا ضمن.(5/494)
-----
وفي «فتاوى النسفي»: أتى عبد رجل بوقر من الحنطة، إلى بيت رجل وهو غائب، فسلمها إلى امرأته، وقال: هذا وديعة مولاي بعثه إلى زوجك، وغابت، فلما أخبرت الزوج بذلك لامها على القبول، وأرسل إلى مولى العبد أن ابعث من يحمل هذا الوقر، فإني لا أقبله، فأجاب إنه يكون عندك أياماً، ثم أحمله، فلا تدفع ذلك إلى عبدي، ثم طلبه المولى، فقال: لا أدفعه إلا إلى العبد الذي حمل إلى بيتي ثم سرق الوقر، فقال: إن صدق صاحب البيت العبد بما قاله العبد ضمن بالمنع، وإن لم يصدقه، أو قال: لا أدري أهو لمولاه، أو هو غصب في يدي العبد، أو وديعة من غيره، وتوقف في الرد ليعلم ذلك لم يضمن بالمنع.
وفي «الفتاوى»: سئل أبو بكر عمن خاصم آخر بألف درهم، وأنكر الآخر، ثم أخرج المدعى عليه ألف درهم، ووضعه في يد إنسان حتى يأتي المدعي بالبينة، فلم يأتِ بالبينة، فاسترد المدعى عليه، فأبى أن يرد عليه، ثم أغاروا على الناحية، ورهنوا بالألف هل يضمن قال: إن وضع المدعي والمدعى عليه عنده؛ فلا يضمن إذ ليس له أن يدفع إلى أحدهما، وإن كان صاحب المال وضعه يضمن بالمنع عنه؛ لأنه صار غاصباً بمنعه عنه.w
الفصل السابع في رد الوديعة
إذا رد المودع الوديعة إلى منزل المودع، أو إلى أحد من في عياله، فهلكت فالمودع ضامن.
وأشار في «الجامع الكبير»: إلى أنه لا ضمان، وإذا ردها بيد من في عياله، فلا ضمان، وإن ردها بيد ابنه، والابن ليس في عياله، فإن كان الابن بالغاً فهو ضامن؛ لأنه ليس له أن يحفظ الوديعة بيده إذا لم يكن في عياله، فلا يكون له الرد بيده، وإن كان الابن غير بالغ فلا ضمان؛ لأنه إذا كان غير بالغ فتدبيره إلى الأب، وإن لم يكن في عياله، والأب يتصرف فيه كما لو كان في عياله.
ألا ترى لو بعث الوديعة على يدي عبده، وقد أمر العبد من غيره؛ لا يضمن.(5/495)
-----
في «النوازل» قالوا: إذا كان الابن غير بالغ إنما لا يضمن بالرد عليه إذا كان يعقل الحفظ، ويحفظ الأشياء؛ أما إذا كان لا يحفظ، فهو ضامن.
إذا قال المستودع لصاحب الوديعة: بعثت بها إليك مع رسولي، وسمى بعض من في عياله؛ بأن قال: مع ابني، أو قال: مع عبدي وما أشبهه؛ كان القول قوله؛ لأن له أن يرد بيد هؤلاء، كما له الرد بنفسه، ولو ادعى الرد بنفسه كان القول قوله، فكذا إذا ادعى الرد بيد هؤلاء، ولو قال: رددتها بيد أجنبي ووصلت إليك، فأنكر ذلك صاحب المال، فهو ضامن إلا أن يقر به رب الوديعة، أو يقيم المودع بينة على ذلك؛ لأنه ليس له الرد بيد الأجنبي، فإذا ادعى ذلك، فقد أقر بسبب الضمان، فقوله: وصل إليك ادعاء يبرئه عن الضمان، فلا يصدق إلا بحجة، والحجة إقرار رب الوديعة، أو البينة، فإن قال: بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي، أو قال: استودعتها إياه، ثم ردها عليَّ، فضاعت عندي لا يصدق على ذلك إلا بحجة؛ لأنه أقر بسبب الضمان وادعى ما يبرئه، هذه المسائل في «الأصل».(5/496)
-----
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد: في رجل أودع رجلاً ألف درهم، فاشترى بها، ودفعها إليه، ثم استردها بهبة أو شراء وردها إلى موضعها برىء، فقد روى إبراهيم عن محمد إذا قضاها غريمه بأمر صاحب الوديعة، ثم وجدها زيوفاً فردها إليه، فهلكت ضمن حالاً، فقال: لأن له أن يستعملها في الذي يشارك كسائر أملاكه وههنا ليس له صرفها في منافعه، فهي عنده كالوديعة، فالتعليل على هذا الوجه مذكور في «الكتاب» يعني قوله في فصل القضاء من الوديعة صار مقرضاً الدراهم الوديعة منه، وصار المودع قابضاً دين نفسه، وصار مثل تلك الدراهم ديناً لصاحب الوديعة في ذمة المودع، فإذا ردت الدراهم على المودع، فقد عادت الدراهم إلى ملكه، فإذا هلكت؛ هلكت ضمن ماله؛ أما في فصل الشراء الدراهم لم تصر مملوكة للمودع، ووجب ردها بعينها؛ لأنها في حكم المغصوبة، فإذا ردها إلى مكانها فقد أتى بالمستحق عليه، فيبرأ عن الضمان.
في «الأصل»: إذا كانت الوديعة دراهم، أو دنانير، أو شيئاً من المكيل، والموزون، فأنفق المودع طائفة منها في حاجة نفسه؛ كان ضامناً لما أنفق منها، ولم يصر ضامناً لما بقي منها، فإن جاء بمثل ما أنفق، وخلطه صار ضامناً لجميع ما أنفق بالإتلاف، وما بقي من الخلط قالوا: وهذا إذا لم يجعل على ماله علامة حين خلط بمال الوديعة، أما إذا جعل لا يضمن إلا ما أنفق، وإن كان قد أخذ بعض الوديعة لينفقه في حاجته، ثم بدا له، فرده في مكانه، فضاع، فلا ضمان عليه.
واختلف (129ب2) المشايخ في تخريج المسألة؛ بعضهم قالوا: لا يضمن أصلاً، وقال بعضهم: ضمن، ثم برىء بالرد إلى مكانه، وهو الصحيح؛ وهذا لأن الدفع بنية الإنفاق أخذ لنفسه، وإن أخذ لنفسه بسبب الضمان؛ لأنه خلاف كما لو كان ثوباً فلبسه، أو كان دابة، فركبها.(5/497)
-----
والدليل عليه: أن الدفع بنية البيع سبب الضمان حتى لو دفع ليبيع، وباع، وضمن القيمة نفذ البيع من جهته، وإنما ينفذ البيع إذا استند الملك إلى ما قبل البيع، وإنما لا يستند الملك إلى ما هو سبب الضمان.
الفصل الثامن فيما إذا كان صاحب الوديعة أو المستودع غير واحد
قال في «الأصل»: رجلان أودعا دراهم أو دنانير، أو ثياباً، أو دفاً أو عبيداً، فجاء أحدهما، وطلب حصته، والآخر غائب، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: ليس للمودع أن يدفع إليه حصته، وقال أبو يوسف ومحمد: يدفع إليه حصته، ولا تكون قيمته جائزة على الغائب.
وضع المسألة في الدفع في «الأصل» وفي «الجامع الصغير»: وضعها في الأخذ فقال: ليس للحاضر أن يأخذ حصته من المودع عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما له ذلك، فقد جمع في «الكتاب» من المكيل والموزون والعبيد والثياب، وأجاب عقيب الكل بجواب واحد، فقال: ليس للمودع أن يدفع إلى الحاضر حصته عند أبي حنيفة وعندهما يدفع، فمن مشايخنا من قال بأن الخلاف في الكل واحد.
ألا ترى أن محمداً لم يفصل في «الكتاب» بين المكيل، والموزون، وغيرهما، ومنهم من قال: الخلاف في المكيل، والموزون خاصة، فأما في الثياب والعبيد فليس للمودع أن يدفع إلى الحاضر حصته بلا خلاف، وهو الأشبه بالصواب؛ وهذا لأنا نعتبر يد المودع بيد المودع، وغير المكيل، والموزون لو كان في يد المودعين، وغاب الآخر لا يكون للحاضر أن يأخذ نصيبه من ذلك بالإجماع، فكذلك إذا كان في يد المودع.(5/498)
-----
في «المنتقى»: لو دفع المودع نصفها، ثم ملك ما بقي، وحضر الغائب؛ قال أبو يوسف: إن كان الدفع بقضاء، فلا ضمان على أحد بكون المسألة مجتهدة، وإن كان بغير قضاء فإن شاء الذي حضر أتبع الدافع بنصف ما دفع، ويرجع به الدافع على القابض، وإن شاء أخذ من القابض نصف ما قبض، ولو أراد أحد الرجلين أن يقيم البينة على المودع، أن الوديعة كلها له لا تسمع بينته، وكذا لو أراد أن يقيم البينة على إقرار صاحبه وقت الإيداع أن الوديعة كلها له؛ لا تسمع بينته، ولو أن المودع في هذه الصورة ادعى هلاك الوديعة، أو أخذ ظالم منه، فقال أحد المودعين: قد بقي في يدك شيء من الوديعة كان له أن يحلفه على ذلك بلا خلاف، فأبو حنيفة رضي الله عنه إن كان لا يرى استرداد الوديعة لأحدهما يرى حق الاستحلاف لأحدهما.
في «فتاوى النسفي»: وإذا كانت الوديعة عند رجلين من ثياب أو غير ذلك، فاقتسماها، وجعل كل واحد منهما نصفها في بيته، فهلك أحد النصفين أو كلاهما فلا ضمان، وإن أودعاها عند رجل فهلكت ضمناها، والحكم في المستنصفين والوصيين، والعدلين في الرهن هكذا، وإن ترك أحدهما كل الوديعة عند صاحبه إن كان شيئاً لا يحتمل القسمة لا يضمنان، وإن كان شيئاً يحتمل القسمة أجمعوا على أن المدفوع إليه لا يضمن، فأما الدافع فقد اختلفوا فيه.
قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يضمن نصف الوديعة وما لا، لا يضمن شيئاً، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «الوديعة» بعد هذه المسألة بمسائل، فيما إذا كانت الوديعة شيئاً يحتمل القسمة إذا رضيا أن يكون المال عند أحدهما إلى أن يحضر صاحب المال جاز، ولم يذكر فيها خلافاً، وذكر أيضاً إذا كانت الوديعة شيئاً لا يحتمل القسمة، فإنهما يقسمان من حيث الرهان.(5/499)
-----
في «المنتقى»: رجلان أودعا عند رجل ألف درهم، فقال أحدهما للمودع: ادفع إلى شريكي مائة درهم، فدفعها وضاعت البقية قال: ما أخذ فهو من مال الآخذ حتى لا يرجع عليه شريكه بشيء، وكذلك إذا قال: ادفع إليه مئتين أو ما أشبه ذلك ما لم ينته إلى النصف، ولو قال: ادفع إليه النصف، فهو من الكل؛ حتى لو ضاع الباقي رجع عليه شريكه بنصف ما أخذ، ولو قال: ادفع إليه حصته، فدفع، فهو من حصته حتى لو هلك الباقي لا يرجع عليه شريكه بشيء، أما إذا قال: ادفع إليه مائة، أو ما أشبهها؛ فلأن المائة اسم المفروز المعين فقد أمره بإعطاء شيء مفرز إلى صاحبه، والمفرز ليس حق صاحبه، فيضمن الآمر به أمراً بإفراز نصيب صاحبه، وصاحبه لما أخذه، فقد رضي بذلك الإفراز فتم الإفراز فصار قابضاً حقه من كل وجه، فأما النصف، فهو اسم للشائع؛ لا اسم المفرز، فقد أمره بإعطاء النصف من النصيبين بشرط أن يسلم له النصف الباقي، ولم يسلم لما ضاع الباقي، فكان له أن يرجع عليه بنصفه.
وفيه أيضاً: رجلان بينهما ألف درهم وضعاها عند أحدهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: خذ نصيبك منها، فأخذ، وضاع النصف الباقي، فالنصف الذي أخذ صاحبه يكون بينهما؛ قال: لأنه لا يكون مقاسماً لنفسه؛ قال: وإن كان ضاع النصف الذي أخذ سلم الباقي للشريك؛ قال: لأنه احتبس عند الأخذ مالية النصف على وجه لا يملك رده، فهو بمنزلة ما لو أكل النصف المأخوذ، وهناك يتعين النصف الباقي للشريك؛ كذا ههنا.
الفصل التاسع في الاختلاف الواقع في الوديعة، والشهادة فيها
في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: رجل ادعى قبل رجل وديعة، وجحده المودع، فأقام المدعي البينة على دعواه، وأقام المودع بينة على المدعي أنه قال: ما لي على فلان شيء، قال: إن كان مدعي الوديعة يدعي أن الوديعة قائمة بعينها عند المودع، فهذه البراءة لا تبطل حقه؛ لأنها ما دامت عنده، فليس له عليه إنما له عنده.(5/500)
-----
وفيه أيضاً: رجل قال: لفلان عندي ألف درهم وديعة، ثم قال بعد ذلك: قد ضاعت قبل إقراري، فهو ضامن، ولو قال: كان له عندي ألف درهم وضاعت، فالقول قوله، ولا ضمان، ولو قال: له عندي ألف درهم وديعة، فقد ضاعت، ووصل الكلام صدقته استحساناً، وصار تقدير هذه المسألة كانت له عندي ألف درهم وضاعت، إذا قال المودع: ذهبت الوديعة، ولا أدري (130أ2) كيف ذهبت؛ كان القول قوله مع اليمين فلا ضمان؛ لأنه لو اقتصر على قوله: ذهبت، كان القول قوله مع اليمين؛ لأنه أمين أخبر بما هو محتمل، فكذا إذا قال: ذهبت، ولا أدري كيف ذهبت؛ لأنه عسى ذهبت على وجه لا يعلم بنفسه بأن ذهب، وهو نائم أو غائب؛ قال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الوديعة، واختلف المتأخرون فيما إذا قال: ابتداءاً لا أدري كيف ذهبت فمنهم من قال هو ضامن؛ لأنه جهلها بما قال بخلاف ما إذا قال: ذهبت، ولا أدري كيف ذهبت؛ لأنه بقوله ذهبت يخبر بهلاكها وهذا القدر يكفيه، فلا يغيره بعد ذلك، ولا أدري كيف ذهبت، ومنهم من قال: لا يضمن، وهو الأصح؛ لأن أصل الذهاب معلوم من هذا اللفظ لا محالة، وإنما التجهيل في كيفية الذهاب والإخبار بأصل الذهاب يكفي في البراءة عن الضمان.
في «النوازل»: إذا قال المودع: ذهبت الوديعة من منزلي، ولم تذهب من مالي هي قبل قوله مع اليمين؛ لأنه أمين أخبر بما يتصدق مع اليمين. إذا أقام رب الوديعة البينة على الإيداع بعدها جحد المودع، وأقام المودع بينة على الضياع، فهذه المسألة على وجهين:(5/501)
-----
الأول: أن يجحد المودع الإيداع بأن يقول للمودع: لم يودعني، وفي هذا الوجه المودع ضامن وبينته على الضياع مردودة، سواء شهد الشهود على الضياع قبل الجحود، أو بعد الجحود، أما إذا شهدوا بالهلاك بعد الجحود؛ لأن بالجحود صار المودع ضامناً، وهلاك المضمون في يد الضامن بقدر الضمان لا أن يسقطه، فأما إذا شهدوا على الهلاك قبل الجحود، فإن البينة إنما تقبل بعد دعوى صحيحة، ودعوى الهلاك من المودع بعدما أنكر أصل الإيداع لا تصح لمكان التناقض.
والوجه الثاني: أن لا يجحد الإيداع وإنما يجحد الوديعة بأن قال: ليس لك عندي وديعة، ثم أقام بينة على الضياع؛ إن أقام بينة على الضياع بعد الجحود، فهو ضامن؛ لأن بهذه البينة يثبت هلاك المضمون، وإن أقام بينة على الضياع قبل الجحود، فلا ضمان؛ لأن بهذه البينة يثبت هلاك الأمانة، وإن أقام البينة على الضياع مطلقاً، ولم يتعرضوا لما قبل الجحود، ولما بعد الجحود، فهو ضامن؛ لأنه يحتمل الهلاك بعد الجحود، وعلى هذا التقدير لا يسقط الضمان فلا يسقط الضمان بالشك.(5/502)
-----
وفي «القدوري»: إذا قال المودع للقاضي: حلف المودع ما هلكت قبل جحودي؛ حلفه القاضي؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول الذي هو إقرار، ويحلفه على العلم؛ لأن هذا تحليف على أمر وقع في يد الغير، فإذا قال المودع: قد أعطيتكها، ثم قال بعد أيام: لم أعطكها، ولكنها هلكت، فهو ضامن، ولا يصدقه فيما قال؛ إما لأنه لما قال: أعطيتكها فقد أقر أنه ليست عنده وديعة، فإذا قال بعد ذلك: هلكت عندي، فقد أقر أنه كانت عنده وديعة حين قال: ليست عندي، فثبت جحوده بالكلام الثاني، وإنه سبب ضمان؛ أو لأنه تكلم بكلامين، لا يمكن الجمع بينهما، فينتقض كل واحد منهما بصاحبه، فبقي ساكتاً ممتنعاً من الرد بعد الطلب، وإنه سبب الضمان، وعلى هذا إذا ادعى الهلاك أولاً، ثم قال: أو قد رددتها عليك؛ لا يصدق، وهو ضامن لما ذكرنا من المعنى الثاني.
وفي «المنتقى»: رجل أودع عند رجل وديعة، فقال المودع: ضاعت منذ عشرة أيام، وأقام صاحب الوديعة بينة أنها كانت في يده منذ يومين، فقال المودع: وجدتها، فضاعت قبل ذلك منه. رجل قال لغيره: قد استودعتني ألف درهم فضاعت، وقال ذلك الغير: كذبت ما استودعتك إنما غصبتها، أو قال: أخذتها بغير أمري، فلا ضمان عليه بخلاف ما إذا قال: أخذتها وديعة، وقال صاحب المال: لا بل أخذتها بغير أمري، فالقول قول صاحب المال، ومدعي الوديعة ضامن.(5/503)
-----
والفرق: أن في المسألة الثانية أقر بسبب الضمان، وهو الأخذ؛ ثم ادعى ما يبرئه فلا يصدق في دعواه؛ كما لو قال لغيره: أكلت مالك بإذنك، وقال صاحب المال: لا بل أكلت بغير إذني، أما في المسألة الأولى ما أقر بالأخذ؛ لأن الإيداع بدون الأخذ متصور بأن يضع المال بين يديه، ويقول: احفظه، ولو قال صاحب المال: أقرضتكها، وقال ذلك: لا بل أخذتها وديعة، فالقول قول مدعي الوديعة؛ لأنهما اتفقا عل أن الأخذ كان بإذن المالك، والأخذ بإذن المالك لا يكون سبب ضمان إلا باعتبار عقد ضمان، فالمالك يدعي عقد الضمان، ومدعي الوديعة منكر ذلك؛ بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك ما اتفقا أن الأخذ كان بإذن المالك.
رجل له عند رجل ألف درهم وديعة، وله على المودع ألف درهم دين، فدفع المودع إليه ألف درهم، ثم اختلفا بعد ذلك بأيام، فقال رب المال: أخذت الوديعة والدين عليك على حاله، وقال المودع: لا بل أعطيتك القرض، وقد ضاعت الوديعة، فالقول قول المودع؛ لأنه لا عبرة لاختلافهما في الألف المردودة؛ لأنها وصلت إلى المالك أنى كانت، وإنما اختلافهما في الألف الهالكة فالمالك يدعي فيها الأخذ قرضاً، والمدعى عليه يدعي الأخذ وديعة، وفي هذا القول قول مدعي الوديعة لما مر.
رجل أودع عند رجل وديعة فغاب رب الوديعة، ثم قدم، وطلب الوديعة، فقال المودع: أمرتني أن أنفقها على أهلك وولدك، وقد أنفقتها عليهم، ورب الوديعة يقول: لم آمرك بذلك، فالقول قول رب الوديعة والمودع ضامن؛ لأنه أقر بسبب الضمان، وادعى ما يبرئه، فلا يصدق في دعواه إلا بحجة.(5/504)
-----
وهذه المسألة دليل على أن من كان له عند آخر ألف درهم وديعة، وعلى رب الوديعة دين ألف درهم، فدفع المودع الألف إلى صاحب الدين بغير أمر صاحب الوديعة أنه يضمن، وهذا أفضل؛ اختلف المشايخ فيه كان الحاكم الإمام أبو إسحاق .... يقول: لا يضمن، وغيره من المشايخ كانوا يقولون بالضمان، وهذه دليل على الضمان؛ لأن نفقة الأصل تصير ديناً بقضاء القاضي، وقد أوجب محمد رحمه الله الضمان على المودع بلا تفصيل، إذا مات صاحب الوديعة، فالورثة خصماء المودع في دعوى الوديعة، ويجبر المودع على دفعها إلى الورثة.
فرق بين هذا وبين العبد إذا أودع، وغاب لا يكون للمولى أن يأخذ حتى يحضر العبد؛ إلا إذا علم أن الوديعة من أملاك المولى أو من أكساب العبد، وإذا قال رب الوديعة: أودعتك عبداً أو أمة، قال المودع: ما أودعتني إلا أمة، وقد هلكت، فأقام رب الوديعة على ما ادعى بينة ضمن المستودع قيمة العبد، قال شيخ الإسلام: إنما يقبل القاضي شهادتهم (130ب2) ويقضي بقيمة العبد إذا وصفوا، ونعتوا للقاضي، والقاضي يعرف مقدار قيمة مثل ذلك العبد، وإن لم يعرف سأل المدعي حتى يقيم بينة على مقدار قيمة العبد، فأما إذا لم يصفوا العبد، وإنما شهدوا أنه أودعه عبداً، فالقاضي لا يقبل شهادتهم؛ لأنهم شهدوا لمجهول لا يمكن القضاء به، وعلى قياس ما ذكرنا في كتاب الغصب إن المدعي إذا أقام البينة أنه غصب منه جارية تقبل هذه البينة، ويثبت الغصب بها في حق الحبس؛ لا في حق القضاء بالجارية ينبغي أن تقبل هذه البينة، ويثبت الغصب في حق الحبس لا في حق القضاء بالعبد.
وإذا ادعى المودع الرد أو الهلاك، وادعى المالك الاستهلاك، فالقول قول المودع، وإن أقاما البينة، فالبينة أيضاً بينة المودع كبينته.(5/505)
-----
في «الجامع»: في باب من الاختلاف في المرابحة، ورأس المال؛ قال الصدر الشهيد رحمه الله: ويجوز أن لا تقبل البينة ههنا أصلاً، وسيظهر الفرق بين المسألتين بالتأمل إن شاء الله تعالى.
الفصل العاشر في المتفرقات
إذا هلكت الوديعة في يد المودع؛ يستوي فيه الهلاك بأمر يمكن الاحتراز عنه أولا يمكن التحرز؛ لأن الهلاك مما يمكن التحرز عنه يعني العيب في الحفظ وصفة السلامة عن العيب إنما يصير مستحقاً في المعاوضات دون التبرع، والمودع متبرع.
إذا كانت الوديعة دراهم، فاختلط بدراهم المودع على وجه تيسر التمييز لا يصير المخلوط مشتركاً بينهما، فإن اختلطت على وجه تعذر التمييز صار المخلوط مشتركاً بينهما، وإن خلطهما بعض من في عيال المودع، وكان الخلط على وجه تعذر التمييز أو كان الخلط على وجه يتعسر التميز بأن خلط حنطة الوديعة بشعير المودع صار الخالط ضامناً، وحكم المخلوط ما في كتاب الغصب، فإن لم يظفر بالخالط، فقال أحدهما آخذ المخلوط، وأغرم لصاحبي مثل ما كان له، فرضي به صاحبه جاز؛ لأن صاحبه لما رضي صار بائعاً نصيبه منه، وهو قادر على تسليمه، فيجوز بخلاف ما لو باع من غيره، وإن اتفقا على البيع يباع المخلوط، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الشعير والحنطة، إلا أن صاحب الشعير يضرب بشعير غير مخلوط بالحنطة، وإن لم يتفقا على شيء، فالخيار لصاحب الكثير إن كان الشعير أكثر، فالخيار لصاحب الشعير يأخذ المخلوط، ويضمن لصاحب الحنطة قيمة حنطته مخلوطاً بالشعير، وإن كانت الحنطة أكثر، فالخيار لصاحب الحنطة.
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف برواية ابن سماعة في رجل عنده ألف درهم وديعة لرجل فأقرضه إياها، أو قال: هي قضاء لما لك علي بأن كان للمودع على صاحب الألف ألف درهم، فلم يرجع إلى منزله ليقبضها حتى ضاعت، فهي من مال المودع، فلم يقبضها.(5/506)
-----
أصل المسألة: أن قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الضمان، والقبض بجهة القرض، وبجهة الاقتضاء قبضُ ضمان.
استهلك الوديعة إنسان كان للمودع أن يخاصم المستهلك في القيمة؛ ذكره شمس الأئمة السرخسي في كتاب «الوكالة»: في باب الوكالة بقبض الوديعة والعارية: رجل أودع رجلاً صك ضيعة، والصك ليس للمودع، ثم جاء من كان الصك باسمه، وادعى ملك تلك الضيعة والشهود الذين بدلوا خطوطهم أبوا الشهادة حتى رأوا خطوطهم في الصك، فالقاضي يأمر المدعي المودَع حتى يرى الصك من الشهود ليروا خطوطهم، ولا يدفع الصك إلى المدعي، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوي، وعليه الفتوى.
ذكر شيخ الإسلام في أول شرح الشفعة: رجل أجلس عبده في حانوته، وفي الحانوت ودائع، فسرقت الودائع، ثم وجد المولى بعضها في يد عبده، وقد أتلف البعض، فباع المولى الغلام، فهذا على وجهين: إما إن كان للمودع بينة على ذلك، أو لم يكن، فإن كان للمودع بينة على ذلك، فهو بالخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء نقض البيع وباعه في دينه؛ لأنه ظهر أن المولى باع المديون، وإن لم يكن له بينة، فله أن يحلف مولاه على علمه، فإن حلف لم يثبت، وإن نكل فهذا على وجهين: إن أقر المشتري بذلك، أو أنكر؛ إن أقر بذلك فهذا وما لو ثبت بالبينة سواء، وإن أنكر ليس له أن ينقض البيع، ويأخذ الثمن من المولى؛ لأن الدين ظهر في حق المولى أمّا ما ظهر في حق المشتري.
(5/507)
-----
في «فتاوى أبي الليث»: استودع رجلاً ألف درهم، ثم غاب رب الوديعة، ولا يدري أحي هو أم ميت، فعليه أن يمسكها حتى يعلم موته، ولا يتصدق بها بخلاف اللقطة. إذا كانت الوديعة إبلاً أو بقراً أو غنماً، وصاحبها غائب، وأنفق عليها المودع بغير أمر القاضي، فهو متطوع؛ لأنه أنفق على دابة الغير بغير أمره، وبغير أمر من يلي عليه، وإن رفع الأمر إلى القاضي سأله البينة على كون العين وديعة عنده، وعلى كون المالك غائب، فإن أقام بينة على ذلك؛ إن كانت الوديعة شيئاً يمكن أن يؤاجر، وينفق عليه من غلتها؛ أمره القاضي بذلك، وإن كانت الوديعة شيئاً لا يمكن أن يؤاجر، فالقاضي يأمره بأن ينفق عليه من ماله يوماً أو يومين أو ثلاثة، رجاء أن يحضر المالك، ولا يأمره بالإنفاق زيادة على ذلك، بل يأمره بالبيع، وإمساك الثمن.
والحاصل: أن القاضي يفعل بالوديعة ما هو أصلح، وأنظر في حق صاحبها، وإن كان القاضي أمره بالبيع في أول الوصاية جاز، وما أنفق المودع على الوديعة بأمر القاضي، فهو دين على صاحبها يرجع عليه إذا حضر؛ غير أن في الدابة يرجع بقدر قيمة الدابة، وفي العبد يرجع بالزيادة على قيمته؛ لأن الإنفاق على العبد كان بحق العبد، وبحق المولى حفظاً للمالية عليه فلئن كان لا يرجع بالزيادة على القيمة بحق المولى؛ لأنه لا حفظ في حق الزيادة يرجع باعتبار حق العبد؛ لأن الأمر باعتبار حق العبد قد صح، ولهذا يجبر المولى على الإنفاق على العبد بحقه، فأما في الدابة الأمر بالإنفاق صح حفظاً للمالية على المولى؛ لا لحق الدابة.(5/508)
-----
ألا ترى أن المولى لا يجبر على الإنفاق على الدابة، وفي الزيادة على القيمة لا حفظ، فلهذا لا يرجع بالزيادة، وإن لم يدفع الوديعة إلى القاضي حتى اجتمع من ألبانها شيء كثير له ثمن، وهو يخاف فساده، أو كانت الوديعة أرضاً فأخرجت ثمرة فخاف فسادها، فباع ذلك بغير أمر القاضي، فإن كان في المصر، أو في موضع يتوصل إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك الشيء، فهو ضامن، وإن كان في موضع لا يتوصل إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك الشيء، فهو ليس ضامن؛ لأن بيعه في الوجه الأول ليس يحفظ؛ بخلاف الوجه الثاني. (131أ2)
ألا ترى أنه لو باع في المفازة ما يتسارع إليه الفساد من مال الغير يجوز بيعه ولا ضمان، وإن لم يكن مأموراً بالحفظ من جهته فلا يجوز بيعه ههنا، وقد أمر بالحفظ أولى، فإن كان في المصر، ولم يرفع الأمر إلى القاضي حتى يبيع، أو كان في المفازة، فلم يبع حتى فسد لا يضمن.
في وديعة «فتاوى أبي الليث» في «العيون»: رجل استقرض من رجل خمسين درهماً، فأعطاه ستين، فأخذ العشرة ليردها، فهلكت في الطريق يضمن خمسة أسداس العشرة؛ لأن ذلك القسط قرض، والباقي وديعة.
وفيه أيضاً: رجل استقرض من رجل عشرين درهماً، فأعطاه مئة، وقال: خذ منها عشرين قرضاً والباقي عندك وديعة ففعل؛ يعني أخذ العشرين منها، وصرفها إلى حاجته، ثم أعاد العشرين من المائة، ثم دفع إليه رب المال أربعين درهماً، وقال له: اخلطها بتلك الدراهم ففعل، ثم ضاعت الدراهم كلها؛ لا يضمن الأربعين ويضمن نفقتها، أما النفقة؛ فلأن العشرين قرض والقرض مضمون، وما جاء من العشرين ملك المستقرض، وقد خلطها بالوديعة، فصار مستهلكاً للوديعة، فأما الأربعون فقد خلطها بإذن صاحب المال.(5/509)
-----
في غصب «فتاوى أبي الليث»: دفع إلى آخر عشرة دراهم، وقال: خمسة منها هبة لك، وخمسة وديعة عندك، واستهلك القابض منها خمسة، وهلكت الخمسة الباقية يضمن سبعة ونصف؛ لأن الهبة فاسدة؛ لأنها هبة المشاع، والمقبوض بحكم الفاسد مضمونة، فالخمسة التي هلكت نصفها أمانة، ونصفها مضمونة، فيجب ضمان نصفها، وذلك درهمان ونصف، والخمسة التي استهلكها كلها صارت مضمونة بالاستهلاك، فيضمن سبعة دراهم ونصف لهذا، ولو قال: ثلاثة من هذه العشرة لك، والسبعة الباقية سلمها إلى فلان، فهلكت الدراهم في الطريق يضمن الثلاث؛ لأنها كانت هبة فاسدة، ولو كان ذلك وصية من الميت لم يضمن شيئاً؛ لأن وصية المشاع جائزة، ولا يضمن في المسألتين جميعاً.
في «المنتقى» إبراهيم بن رستم عن محمد: رجل له على رجل مائة درهم، فدفع المطلوب إلى الطالب مائتي درهم، وقال: هذا مالك فخذها فأخذها فضاعت، والآخذ لا يعلم كم هي؛ قال أبو حنيفة: لا شيء عليه، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه مائة درهم، فالكلام لأبي حنيفة ظاهر، وأما الكلام لهما: أن إحدى المائتين مقبوض بجهة اقتضاء الدين، والمقبوض بجهة الشيء يلحق بحقيقة ذلك الشيء؛ عرف ذلك في موضعه، والمقبوض بحقيقة الاقتضاء مضمون؛ لما عرف أن الديون تقضى بأمثالها، فكذا المقبوض بجهة اقتضاء الدين.
وذكر بعد هذه المسائل مسائل هشام عن محمد: رجل له على رجل ألف درهم دين، أعطاه ألفين، وقال: ألف منها قضاء من حقك، وألف تكون وديعة، فقبضها، وضاعت، وقال: هو قابض حقه، ولا يضمن شيئاً؛ لأن في هذه الصورة القبض بجهة الاقتضاء حصل بقدر الألف لا غير.
-----
وفيه أيضاً: رجل له على رجل ألف درهم، فقال: ابعث بها مع فلان، فضاع من يد الرسول، فضاع من مال المديون، وهذا بناءاً على أن يد الرسول يد المديون؛ لأن اختيار الرسول إليه؛ لأن يبعث مال نفسه، ويقول رب الدين: ابعث بها على يد فلان؛ لا يلزمه البعث على يديه، فهو معنى قولنا: إن يد الرسول يد المديون، فلهذا كان الهلاك على المديون.
في «فتاوى النسفي»: أمة أسرت شيئاً من مال اكتسبته في بيت المولى، وأودعته عند رجل، فهلكت في يده، فللمولى أن يضمن المودع؛ لأنها مال المولى أودعته بغير إذن المولى، فكان المودع مودع الغاصب، فيضمن، والله أعلم بالصواب. تم كتاب الوديعة بحمد الله تعالى.
(5/510)
كتاب العارية
هذا الكتاب يشمل على عشر فصول:
1 * في بيان شرط جواز الإعارة، وبين نوعها وصفتها
2 * في الألفاظ التي تنعقد بها العارية
3 * في التصرفات التي يملكها المستعير في المستعار والتي لا يملك
4 * في خلاف المستعير
5 * في تضييع العارية ما يضمنه المستعير، وما لا يضمن
6 * في رد العارية
7 * في استرداد العارية، وما يمنع من استردادها
8 * في الاختلاف الواقع في هذا الباب، والشهادة فيه
9 * في المتفرقات
الفصل الأول في بيان شرط جواز الإعارة، وبيان نوعها وصفتها
أما بيان شرطها فنقول: شرط جواز الإعارة كون العين قابلة للانتفاع به مع بقاء العين، وكونه قابلاً لتمليك بمنافعه بعوض بعقد الإجارة حتى كان إعارة الدراهم والدنانير والفلوس قرضاً؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء مع بقاء العين، فيقدر العمل بحققة الإجارة في هذه الأشياء؛ لأن الإجارة شرعت لتمليك المنفعة مع بقاء العين على ملكه، فيجعل كناية عن عقد آخر، وأمكن جعله كناية عن القرض؛ لأن العارية متى تحققت كان من حكمها رد العين.(5/511)
-----
والقرض يوجب أداء المثل قائماً مقام العين، وهذا إذا حصل إعارة الدراهم والدنانير مطلقة، أما إذا عين في الإعارة انتفاعاً يتأتى مع بقاء العين لا يكون قرضاً؛ بل يكون عارية، وذلك يجوز أن يعير من صيرفي دراهم ليحمل بها في حانوته وليصير بها ستمئة، ذكر هذه الزيادة شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية، ويجب أن يكون الحكم في إعارة جميع ما يكال أو يوزن هكذا.
وقال الفقيه أبو بكر فيمن قال لآخر: أعرتك هذه القصعة من الثريد، فأخذها، وأكلها، فعليه مثلها، أو قيمتها بناءً عل ما قلنا إن الإعارة ما لا يمكن الانتفاع مع بقاء العين قرض، قال الفقيه أبو الليث: الجواب هكذا إذا لم يكن بينهما مباسطة، أو دلالة الإباحة ونحوها.
وفي «العيون»: من أخذ رقعة يرقع بها قميصه، أو خشبة يدخلها في بنائه، أو آجرة فهو ضامن؛ لأن هذا ليس بعارية؛ بل هو قرض؛ هذا إذا لم يقل: لأردها عليك؛ أما إذا قال: لأردها عليك فهو عارية، وتصح الإعارة من غير بيان الوقت والمكان، وما يحمل على الدابة؛ لأن جهالة هذه الأشياء في الإعارة لا تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم؛ لأنها لا توجب التسليم، وعند ذلك للمستعير أن ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب؛ كما ينتفع بدابة نفسه في قليل المدة وكثيرها.
وأما بيان نوعها فهي نوعان: مطلقة ومؤقتة؛ نحو أن يقول في الإعارة شهراً، أو يقول: إلى مكان كذا، أو يقول: يحمل عليها كذا، ففيما كانت مطلقة يجب إجراؤها على إطلاقها، أو فيما كانت مقيدة يجب رعاية القيد فيه.
وأما بيان صفتها، فنقول: صفتها أنها غير لازمة، وللمعير أن يرجع فيها متى شاء؛ لأن الإعارة تبرع بالمنفعة، فلا تكون لازمة قبل قبضها؛ كالتبرع بالعين، وما لم يستوف من المنفعة في المستقبل لم يتصل بها القبض، ومن صفتها أنها ترتفع لمجرد النهي، ويبطل بموت أحدهما أيهما مات.
(5/512)
الفصل الثاني في الألفاظ التي تنعقد بها العارية
-----
تنعقد العارية بلفظ التمليك؛ حتى أن (131ب2) من قال لغيره: ملكتك منفعة داري هذه شهراً؛ جعلت لك سكنى داري هذه شهراً؛ كانت عارية، وكذلك إذا قال: داري لك سكنى كانت عارية؛ لأن قوله لك: يحتمل تمليك العين، وتمليك المنفعة، وقوله سكنى يكون تفسيراً لذلك المحتمل، وكذلك إذا قال: عمرتي سكنى كانت عارية لما قلنا، وإذا استعار من آخر أرضاً على أن يبني فيها ويسكنها ما بدا له، فإذا خرج فالبناء لصاحب الأرض، فهذا لا يكون إعارة؛ بل يكون إجارة فاسدة؛ وهذا لأن الإعارة تمليك المنافع بغير عوض، ولما شرط البناء لرب الأرض، فقد شرط العوض، وهذا هو معنى الإجارة، والعبرة للمعاني دون الألفاظ؛ ألا ترى أن من قال لغيره: وهبت لك هذه الدار بألف درهم بيعاً، واعتبر المعنى دون اللفظ؛ كذا ههنا.
الفصل الثالث في التصرفات التي يملكها المستعير في المستعار والتي لا يملك
ليس للمستعير أن يؤاجر المستعار من غيره، وإذا آجر صار ضامناً، وكان الأجر له، ويتصدق به في قول أبي حنيفة ومحمد، وله أن يعير من غيره؛ سواء كان شيئاً يتفاوت الناس في الانتفاع أو لا يتفاوت؛ إذا كانت الإعارة مطلقة، ولم يشترط على المستعير أن ينتفع بنفسه، فأما إذا شرط على المستعير أن ينتفع بنفسه، فله أن يعيرها فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع، وليس له أن يعير فيما يتفاوت الناس في الانتفاع به.
هذا إذا استعار من آخر ثوباً ليلبسه المستعير بنفسه، أو دابة ليركبها المستعير بنفسه، فليس له أن يلبس غيره، وأن يركب غيره؛ لأنه شرط لبسه وركوبه، وهذا شرط مفيد في حق المالك؛ لأن الناس يتفاوتون في اللبس والركوب.(5/513)
-----
ولو استعار داراً ليسكنها المستعير بنفسه؛ فله أن يسكنها غيره، وإن شرط سكنى المستعير؛ لأن هذا شرط غير مفيد؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى، ولو استعار ثوباً للبس ولم يسم اللابس، أو استعار دابة للركوب ولم يسم الراكب، فله أن يلبس ويركب غيره عملاً بإطلاق العقد، فإن ألبس غيره في هذه الصورة، أو أركب غيره، ثم ركب بنفسه أو لبس بنفسه، أو ركب بنفسه، ثم أركب غيره؛ ظاهر ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام خواهر زاده، أنه لا يضمن.
ونص فخر الإسلام علي البزدوي في شرح «الجامع الصغير»: أنه يضمن، وهل له أن يودع؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: ليس له أن يودع، وإليه أشار في كتاب الوديعة، فإنه قال ثمة: إذا رد المستعير الدابة على يدي أجنبي فضاعت ضمن، ولو ملك الإيداع لما ضمن.(5/514)
-----
وإليه أشار في «السير الكبير» أيضاً في باب من يرضخ له من الأولاد وغيره، وقال بعضهم: له أن يودع، وهو اختيار مشايخ العراق، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، والصدر الشهيد برهان الأئمة، وإليه أشار محمد في آخر عارية الأجناس هؤلاء قالوا: ما ذكر في كتاب الوديعة تأول، وتأويله أن الإعارة قد انقطعت فبقي المستعير مودعاً، والمودع لا يملك الإيداع بالاتفاق، ولكن هذا التأويل غير صحيح على ما هو موضوع المسألة في «السير الكبير» فينظر ثمة ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الديات في باب قبل باب ..... للمستعير أن يربط الدابة في الدار المستعار؛ لأن ذلك من جملة السكنى، فهلكة المستعير كالمستأجر، ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «واقعاته»: أن من أعار رجلاً شيئاً، وقال له: لا تدفع إلى غيرك، فدفع فهلك عنده فهو ضامن؛ لأنه دفع بغير إذنه، هكذا قاله أبو جعفر، قال الصدر الشهيد: مراده من هذه المسألة مال لا يختلف الناس في الانتفاع به، أما المال الذي يختلف الناس في الانتفاع يضمن بالدفع إلى غيره، وإن لم يقل له المالك لا تدفع إلى غيرك، وما ذكر الصدر الشهيد مستقيم فيما إذا كانت العارية مقيدة بشرط على المستعير أن ينتفع به بنفسه، أما إذا كانت الإعارة مطلقة لا يضمن المستعير بالدفع إلى غيره إذا لم يقل له المالك لا تدفع إلى غيرك، وإن كان مالاً يختلف الناس في الانتفاع به، وقد ذكرنا ذلك في أول الفصل.
الفصل الرابع في خلاف المستعير
استعار من آخر دابة ليحمل عليها شيئاً، فحمل عليها غير ذلك، فهذه المسألة على أربعة أوجه:(5/515)
-----
الأول: أن يحمل عليها غير ما سماه المالك، إلا أنه مثل ما سماه المالك في الضرر على الدابة من جنسه؛ بأن استعار ليحمل عشرة مخاتم من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة مخاتم من حنطة أخرى، أو ليحمل عليها حنطة نفسه، فحمل عليها حنطة غيره، وفي هذا الوجه لا ضمان عليه؛ لأن هذا التقييد لم يعتبر إذ لا فائدة فيه.
الثاني: إذا خالف في الجنس بأن استعار ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة، فحمل عليها عشرة أقفزة شعير فهلكت لا ضمان عليه استحساناً؛ لأن هذا أقل ضرراً بالدابة، فأما إذا حمل عليها أكثر من عشرة مخاتم من الشعير؛ إلا أنه في الوزن مثل الحنطة؛ ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يضمن مطلقاً، وذكر الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام: أنه لا يضمن استحساناً، وهو الأصح؛ لأن ضرر الشعير مثل ضرر الحنطة في حق الدابة عند استوائهما وزناً؛ لأنه يأخذ من موضع الحمل من الدابة أكثر مما تأخذه الحنطة، فصار ذلك داخلاً في الإذن.
الثالث: إذا خالف إلى ما هو أضر بالدابة؛ بأن استعارها ليحمل عليها حنطة، فحمل عليها آجراً أو حديداً أو لبناً مثل وزن الحنطة فهو ضامن؛ لأن هذا يأخذ من ظهر الدابة أقل، فكان أدق على الدابة، فيكون أضر بالدابة، وكذا إذا حمل عليها في هذه الصورة قطناً أو تبناً أو حطباً أو تمراً؛ لأن هذا يأخذ ما وراء موضع الحمل، وذلك أضعف فيكون أضر بالدابة.
الرابع: أن يخالف في أن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتم حنطة، فحمل عليها خمسة عشر مختوماً، فهلكت الدابة، وفي هذا الوجه يضمن ثلث قيمتها، وهذا بخلاف ما إذا استعار ثوراً ليطحن به عشرة مخاتم حنطة، فطحن أحد عشر حيث يضمن جميع قيمة الدابة.(5/516)
-----
وموضع الفرق: أول كتاب العارية من شرح شمس الأئمة السرخسي، وهذا إذا كانت الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوماً، فإن كانت لا تطيق يصير متلفاً لها، فيضمن جميع قيمة الدابة، أخذ المستعير في مكان آخر ضمن، وإن كانا في المسيل مثل الطريق المشروط؛ لأن الطرق متفاوتة في السهولة والصعوبة، في الخشونة واللين، فكان خلافاً إلى شر.
استعار دابة ليركبها هو، فحمل مع نفسه (132أ2) رجلاً وهلكت الدابة؛ ضمن النصف، ولا يعتبر الثقل، والخفة كما يعتبر في حق الأحمال؛ قالوا: وهذا إذا كانت الدابة تطيق حمل رجلين، فأما إذا كانت لا تطيق حمل رجلين؛ ضمن الكل.
إذا استعار الدابة من آخر ليركبها إلى مكان معلوم، وأخذ بها في طريق آخر، فعطبت؛ هل يضمن؟ فهذا على وجهين: إن ذهب بها إلى ذلك المكان في طريق لا يسلكه الناس، فهو ضامن، وإن كان طريقاً مسلوكاً لا يضمن؛ وذلك لأنه لما استعارها للذهاب إلى المكان المسمى، ولا يمكنه الذهاب إليه إلا بطريق؛ لأنه من إدخال الطريق تحت الإذن، فأدخلنا تحت الإذن الطريق المسلوك باعتبار العرف، والعادة لا غير المسلوك، وإذا أدخل تحته المسلوك صار كأنه نص على ذلك، فقال: اذهب إلى مكان كذا في طريق يسلكه الناس، ولو نص على هذا إذا ذهب بها في طريق لا يسلكه الناس، يصير ضامناً، فإذا ذهب بها في طريق يسلكه الناس لا يضمن، فكذا هذا.
وفي «فتاوى» شمس الإسلام محمود الأوزجندي: إذا سلك طريقاً ليس هو طريق الجادة، وهو الذي يقال بالفارسية: يريبه يضمن.
استعار دابة ليركبها في حاجة مسماة إلى ناحية من نواحي الكوفة، فأخرجها إلى الفرات ليسقيها، والناحية التي استعارها إليه من غير ذلك المكان، فهلكت، فهو ضامن لها؛ لأنه أخرجها في ناحية لم يؤذن له في الإخراج إليها أصلاً من غير ضرورة؛ لأنه يمكنه سقيها بالإخراج في الناحية التي أذن له بالركوب فيها، فيصير متعدياً ضامناً.(5/517)
-----
استعار من آخر ثوراً ليكرب أرضه، وعين الأرض، فكرب أرضاً أخرى غير تلك الأرض، وعطب الثور، فهو ضامن؛ لأنه خالف شرطاً مفيداً؛ لأن الأراضي يتفاوت كرابها من حيث الصعوبة، والسهولة تفاوتاً فاحشاً، وإذا استعار دابة إلى مكان مسمى، فجاوز المستعير ذلك المكان، ثم عاد إليه، فهو ضامن لها حتى يردها على المالك قبل هذا إذا استعارها إلى ذلك المكان ذاهباً لا جائياً، فأما إذا استعارها ذاهباً وجائياً، فإذا أتى ذلك المكان المسمى يبرأ عن الضمان؛ وهذا لأنه إذا استعار ذاهباً لا جائياً، فإذا بلغ ذلك المكان انتهى العقد، فإذا جاوزه دخل العين في ضمانه، فإذا عاد إليه فقد عاد إلى الوفاق.
ألا ترى أن المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، والعقد منتهٍ بأن كان مؤقتاً لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك، فكذا هذا، فأما إذا استعار ذاهباً وجائياً، فإذا عاد إلى ذلك المكان، فقد عاد إلى الوفاق، فالعقد باق، فيبرأ عن الضمان؛ كالمودع إذا عاد إلى الوفاق والعقد باق، فهذا القائل يسوي بين المودع وبين المستعير، وبين المستأجر إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق، ويقول ببراءة الكل عن الضمان.
ومن المشايخ من قال في مسألة العارية: لا يبرأ عن الضمان ما لم يردها على أن المالك سواء استعارها ذاهباً وجائياً، أو ذاهباً لا جائياً، وهذا القائل يقول بأن المستعير والمستأجر إذا خالفا، ثم عادا إلى الوفاق لا يبرأان عن الضمان بخلاف المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، والقول الأول أشبه، والتفصيل الذي ذكرنا في مسألة العارية مذكور في الشروط و «النوادر»، وإليه أشار محمد في عارية «الأصل»، وبه أخذ الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
(5/518)
الفصل الخامس في تضييع العارية ما يضمنه المستعير، وما لا يضمن
-----
إذا كان على دابة بإجارة أو عارية، فنزل عنها في السكة، ودخل المسجد ليصلي، فخلى عنها فهلكت، قال: هو ضامن لها، وكذلك إذا أدخل الحمل بيته، وخلى عنها في السكة فهلكت، فهو ضامن لها، من مشايخنا من قال: هذا إذا لم يربطها بشيء، أما إذا ربطها لا يضمن؛ لأنه متعارف، ومنهم من قال: يضمن على كل حال، وإطلاق محمد يدل عليه، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية؛ وهذا لأنه لما دخل المسجد أو البيت، وتركها خارج المسجد أو البيت، ألا ترى أنه لو سرق سارق في هذه الحالة لا يقطع.
قال محمد في «الكتاب»: ولو كان يصلي في صحراء، فنزل عن الدابة وأمسكها فانفلتت منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يترك حفظها، فهذه المسألة دليل على أن المعتبر أن لا يغيبها عن بصره.
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد: استعار دابة، أو استأجرها إلى المقابر يشيع جنازة فركبها ثم رجع، فدفع بها إلى إنسان ليصلي، فسرقت، فلا ضمان على المستعير ولا على المستأجر، وصار الحفظ بنفسه في هذا الوقت مستثنى عن العقد.
وفي «فتاوى الفضلي»: عن محمد فيمن استعار دابة فحضرت الصلاة، فدفعها إلى غيره ليمسكها فضاعت، قال: إن كان شرط في العارية ركوب نفسه ضمن، وإلا فلا يضمن؛ لأن في الأول لا يملك الإعارة، وفي الثاني يملك، ومن ملك الإعارة يملك الإيداع.
وفيه أيضاً: رجل استعار ذهباً، فقلد صبياً، فسرق، فهذا على وجهين؛ إما إن كان الصبي يضبط ما عليه، أو لا، ففي الأول: لا يضمن؛ لأنه لم يضيع، وفي الوجه الثاني: يضمن؛ لأنه لم يضيع.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: امرأة استعارت من امرأة سراويل لتلبسه، وهي تمشي، فزلقت رجلها، فتخرق السراويل؛ لا ضمان عليها؛ لأنه لا صنع لها فيه.
وفيه أيضاً: رجل استعار ثوراً من رجل على أن يعيره ثوره يوماً، ثم جاء ليستعير ثوره وكان الرجل غائباً، فاستعار من امرأته، فدفعت إليه، فذهب به إلى الأرض فضاع ضمن؛ لأنه قبض بغير إذن المالك.(5/519)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل استعار من رجل بقراً، فاستعمله، ثم تركه في المرج، فضاع، فهذا على وجهين: إما إن علم أن المعير يرضى بكونه فيها يرعى وحده كما هو عادة بعض أهل الرساتيق، أو لم يعلم ذلك عنه؛ بأن كانت العادة مشتركة، ففي الوجه الأول لا يضمن؛ لأنه تركه في المرج بإذنه، وفي الوجه الثاني يضمن؛ لأنه تركه بغير إذنه.
وفيه أيضاً: رجل طلب من رجل ثوراً عارية، فقال له المعير: أعطيك غداً، فلما كان الغد أخذ المستعير الثور بغير إذنه، واستعمله، ومات في يد المستعير؛ ضمن؛ لأنه أخذ بغير إذنه، ولو رده فمات عنده لا ضمان عليه؛ لأنه بالرد برىء عن ضمانه، وفي «مجموع النوازل»: إنه لا ضمان على المستعير، وإن مات في يده قبل الرد على المالك.
دخل الحمام واستعمل القصاع، فوقعت من يده وانكسرت، فلا ضمان، وكذا إذا أخذ كوز الفقاع، فسقط وانكسر فلا ضمان؛ لأنه عارية في يده، ولم يوجد منه التعدي.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: امرأة أعارت شيئاً بغير إذن الزوج؛ إن أعارت من متاع البيت مما يكون (132ب2) في أيديهن عادة فضاع فلا ضمان؛ لأنها أعارت بإذن الزوج.
وفي «الأصل»: إذا كانت العارية مؤقتة بوقت، فأمسكها بعد الوقت، فهو ضامن لها، ومن مشايخنا من قال: هذا إذا انتفع به بعد مضي المدة، فأما إذا لم ينتفع به فلا ضمان، ومنهم من قال: يضمن على كل حال.(5/520)
-----
وفرق هذا القائل بين العارية، وبين الوديعة، فإن الوديعة إذا كانت مؤقتة بوقت، فأمسكها المودع بعد مضي الوقت، وهلكت في يده لا يضمن ما لم ينتفع به، وكذلك المستأجر إذا أمسك المستأجر بعد مضي المدة لا يضمن ما لم ينتفع به، والفرق: أن الرد على المستعير، فكأنه قال له صاحب العارية: ردها علي بعد مضي اليوم، فإذا لم يرد صار مانعاً العارية بعد الطلب، فيصير ضامناً؛ بخلاف المودع والمستأجر، ويستوي فيه أن تكون العارية مؤقتة نصاً أو دلالة، حتى قيل: إن من استعار من آخر قدوماً ليكسر به حطباً، فكسر الحطب، وأمسكه حتى هلكت؛ ضمن.
إذا ربط المستعير الحمار على الشجر بالحبل الذي عليه، فوقع الحبل في عنقه، ومات؛ لا يضمن المستعير.
هكذا حكى فتوى شمس الإسلام محمود الأوزجندي: رجل استعار من رجل دابة، فنام المستعير في المفازة، ومقودها في يده، فجاء إنسان وقطع المقود وذهب بالدابة؛ لا ضمان عليه، ولو مد المقود من يده وأخذ الدابة، وهو لم يشعر بذلك ضمن؛ لأن في الوجه الأول: غير مضيع، وفي الوجه الثاني: مضيع؛ إذا نام بصفة أمكن مد المقود من يده هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» قال الصدر الشهيد في «واقعاته»: ويجب أن يكون تأويله إذا نام مضطجعاً؛ أما إذا نام جالساً لا؛ لأنه لو نام جالساً، والمقود ليس في يده لا يعد مضيعاً، فإنه نص أن المودع إذا نام جالساً، فسرقت الوديعة؛ لا ضمان عليه، والمودع والمستعير في هذا الأمر سواء؛ نص على التسوية شمس الأئمة السرخسي في كتاب وديعة السرقة.
قالوا: فإنما يجب الضمان بالنوم مضطجعاً إذا كان في الحضر؛ أما إذا كان في السفر، فلا، وعلى هذا إذا وضع المستعار بين يديه، ونام قاعداً؛ لا ضمان عليه، وإن نام مضطجعاً يضمن؛ إذا كان في الحضر.(5/521)
-----
وقد وقعت في زماننا: أن رجلاً استعار مراً ليسقي به أرضه، ففتح النهر ووضع المر تحت رأسه، ونام مضطجعاً كما هو عادة أهل الرستاق، فسرق منه، فأفتوا أنه لا يضمن، ولو وضع المستعار تحت رأسه، أو تحت جنبه، ونام عليه مضطجعاً؛ لا يجب الضمان.
في «الأصل»: جاء رجل إلى المستعير، وقال: إني استعرت من فلان هذا الذي هو عارية عندك من جهته، وأمرني أن أقبضه منك، فصدقه المستعير، ودفعه إليه، فضاعت الوديعة في يده، ثم جاء المالك، وأنكر أن يكون أمره بذلك، فالقول قول المالك، والمستعير ضامن؛ لأنه دفع مال المالك إلى غيره، وإنه سبب الضمان يوجبه الأصل، إلا إذا كان بإذن المالك، ولم يثبت الإذن ههنا لما أنكر المالك ذلك.
فإن قيل: لماذا لا يجعل هذا إعارة من المستعير الأول من غيره حتى لا يجب عليه الضمان.
قلنا: إذا أعار المستعير من غيره إنما لا يضمن؛ لأنه يقيم يده مقام يد نفسه، وههنا تسليمه إلى الثاني لم يكن بهذا الطريق.
ألا ترى أن ثمة لو أراد المستعير استرداده من يد الثاني له ذلك، وفي الفصل الثاني: لو أراد المستعير استرداده من يد الثاني ليس له ذلك، وإذا طلب المعير العارية فمنعها المستعير عنه، فهو ضامن وهذا ظاهر، وإن لم يمنعه منه، ولكن قال لصاحبه: دعه عندي إلى غدٍ ثم أرد عليك فرضي بذلك، ثم ضاع لا ضمان عليه؛ لأنه أعاره مرة أخرى؛ هكذا ذكر المسألة في «الأصل»، وذكر في «فتاوى أبي الليث» هذه المسألة في صورة أخرى، فقال: إذا قال المستعير: نعم أدفع، وفرط في الدفع حتى مضى شهر، ثم سرق من المستعير؛ جعلها على وجهين:
الأول: أن يكون المستعير عاجزاً عن الرد وقت الطلب، وفي هذا الوجه لا ضمان.(5/522)
-----
والوجه الثاني: أن يكون المستعير قادراً على الرد وقت الطلب، وإنه على وجوه ثلاثة؛ إما إن نص المعير على السخط، أو لم ينص على السخط، والرضا، وفي هذين الوجهين يجب الضمان، وإما إن نص على الرضا وقال: لا بأس به، وفي هذا الوجه لا ضمان، ويكون هذا منه ابتداءاً إعارة، وإذا أرسل الرجل رسولاً إلى غيره، وهما ببخارى استعير له دابة منه إلى بيوت سكنه، فذهب الرسول إلى صاحب الدابة، وقال: إن فلاناً يقول: أعرني دابتك إلى سمرقند، فدفعها إليه، فجاء الرسول بالدابة إلى المستعير، ودفعها إليه؛ ثم بدا للمستعير أن يركبها إلى سمرقند، وهو لا يشعر بما كان من قول الرسول، فركبها، وهلكت الدابة تحته، فلا ضمان؛ لأنه ركبها إلى سمرقند بإذن المالك.
فإن قيل: المستعير لم يحضر يسمع إذن المالك بالركوب إلى سمرقند، والإذن السماع لا يصح.
قلنا: لا بل سمع اعتباراً حيث سمع رسوله، ولو ركبها إلى ....... وباقي المسألة بحالها، فهو ضامن؛ لأنه ركبها بغير إذن المعير.
رجل استعار من رجل ثوراً يساوي خمسين درهماً، فقرنه مع ثور يساوي مائة، فعطب ثور العارية، فهذا على وجهين: إن كان الناس يفعلون مثل ذلك عادة يعني يقرنون ثوراً يساوي خمسين بثور يساوي مائة، فلا ضمان لوجود الإذن به دلالة عرفاً، وإن كانوا لا يفعلون مثل ذلك، فهو ضامن في «فتاوى أبي الليث».
وفيه أيضاً: رجلان يسكنان في بيت واحد؛ كل واحد منهما زاوية فاستعار واحد منهما من صاحبه شيئاً، فطالبه المعير بالرد، فقال المستعير: وجدتها في الطاق الذي في زاويتك، وأنكر المعير، فإن كان البيت في أيديهما لا ضمان عليه؛ لأنه إن لم يثبت الرد لكن لم يصر المستعير مضيعاً بالوضع في الطاق، فلا يضمن.(5/523)
-----
سئل أبو بكر رضي الله عنه: عن معير الكتاب طلب رد الكتاب عليه، وأنعم له فذهب ثم أخبره بالضياع، قال: إن كان المستعير يرجو وجوده ولم ييأس عنه لم يضمن، وإن كان آيساً عن وجوده، ووعده في رده ثم أخبره أنه كان ضائعاً، فعليه الضمان، وهذا التفصيل خلاف ما ذكر محمد، فقد ذكر أنه إذا وعد له الرد ثم أخبره بالضياع قبل ذلك، فلا ضمان.
وفيه أيضاً: بعث الرجل أجيره إلى رجل ليستعير منه دابته، فأعارها وعليها عنانه فسقطت العنان إن سقطت العنان بعنف الأجير، فهو ضامن، وإلا فلا ضمان.
وفيه أيضاً: استعار من آخر ثوباً .... ويقال بالفارسية: «خواره»، فضاع السير من ...، فلا ضمان على المستعير إذا لم يترك حفظه.
وفيه أيضاً: سئل نصير عمن استعار حماراً إلى الطاحونة، فأدخله في المربط الذي هناك، ووضع على الباب خشباً كيلا يخرج الحمار، فسرق، قال: إن استوثق وثيقه لا يقدر الحمار على الذهاب، فلا ضمان؛ لأنه غير مضيع.
وفي «الجامع الأصغر»: امرأة استعارت ملاءة (133أ2) فوضعتها داخل الدار، والباب مفتوح، فصعدت السطح، فلما نزلت لم تجد المرأة الملاءة؛ قيل: لا ضمان عليها، وقيل: هي ضامنة.
العبد المحجور إذا استعار من آخر شيئاً واستهلكه، فهذا على الخلاف المعروف فيما إذا كان مودعاً واستهلكه، عبد محجور عليه أعار عبداً محجوراً عليه شيئاً، فاستهلكه المستعير منه (و) استحق المستعار رجل فله الخيار؛ إن شاء يضمن أيهما شاء؛ لأن الأول غاصب، والثاني غاصب الغاصب، فإن ضمن الثاني لا يرجع على الأول؛ لأنه ضمن بسبب القبض، وفي القبض عامل لنفسه.
(5/524)
-----
ألا ترى أنه لو كان الثاني حراً لا يرجع على أحد بشيء، وإن ضمن الأول فلمولاه أن يرجع بما ضمن على الثاني بخلاف الحر؛ وذلك لأن الحر بالضمان يملك المستعار؛ حيث إنه أعار ملك نفسه، والعبد إذا ضمن، فالملك يثبت لمولاه، فيصير الأول معيراً ملك مولاه، والعبد إذا أعار ملك مولاه، وهلك في يد المستعير؛ كان للمولى أن يضمن المستعير.
وفي «مجموع النوازل»: رجل باع من رجل حصيراً، وأعاره حماره حتى يحمله عليه، وقال له عذاره، ومشية لا يحل عينه فقال: أفعل؛ فلما سار ساعة خلى عن عذاره، وأسرع في المشي فسقط، فانكسر، فعليه ضمان الحمار.
وفيه أيضاً: إذا استقرض القروي ثوراً فأعار عليه الأتراك فلا ضمان على المستقرض قال: لأن هذا عارية، فإن من عادة أهل القرى أنهم يستقرضون الثور؛ بعضهم من بعض يوماً أو ما أشبه ذلك، وينتفعون به؛ ثم يردونها، ويدفعون ثور أنفسهم بعد ذلك إلى صاحب الثور لينتفع هو بالثور الثاني حسب انتفاع الأول بالثور الأول؛ ثم يرده على صاحبه، فهذا في معنى العارية فيها.
وقول محمد في «الكتاب»: إن استقراض الحيوان يوجب الضمان فذلك فيما دفع إليه حيواناً استهلكه وينتفع به، ثم يدفع إليه حيواناً آخر مكانه، فيأخذه المستقرض للتملك دون الانتفاع، ورد عينه بعد ذلك.
(5/525)
الفصل السادس في رد العارية
-----
قال محمد في «الأصل»: إذا رد المستعير الدابة مع عبده أو بعض من في عياله، فلا ضمان عليه؛ كما في الوديعة، وهذا هو العرف في الظاهر فيما بين الناس أن المستعير بعدما فرغ من الانتفاع يرد العارية على يدي غلامه أو بعض من في عياله، وإن ردها على عبد صاحب الدابة عبد القوم عليها، وتعاهدها يبرأ عن الضمان، وأراد به ضمان الرد لا ضمان العين؛ لأن ضمان العين لم يجب بعد؛ أما ضمان الرد واجب، فانصرفت البراءة إلى ما كان مضموناً عليه، ولو هلكت الدابة بعد ذلك في يد العبد لا يضمن ضمان العين؛ قال شمس الأئمة السرخسي: وهذا استحسان.
والقياس: أن يضمن كما لو رد الوديعة على يدي من في عيال صاحب الوديعة، والفرق على جواب الاستحسان العرف، فإن الظاهر فيما بين الناس أن سائس الدابة هو الذي يسلم الدابة إلى المستعير عند الإعارة، وهو الذي يسترد منه عند الفراغ عن الحاجة، ومثل هذا العرف لا يوجد في الوديعة، فإن صاحب الوديعة يتولى: أخذها، وإنما أودعها؛ لأنه لم يرضَ بكونها في يدي من في عياله؛ قال شيخ الإسلام: وعلى قياس ما ذكر في العارية يجب أن يقال بأن الغاصب إذا رد المغصوب على عبد المغصوب منه عبداً يقوم على الدابة أنه يبرأ عن الضمان، فأما إذا رد المستعير الدابة على عبد لا يقوم عليها، ولا يحفظها؛ هل يبرأ عن ضمان الرد؛ ذكر شيخ الإسلام وقال: يجب أن لا يبرأ كما في الغاصب إذا رد الدابة المغصوبة على عبد لا يقوم عليها، فإنه لا يبرأ عن ضمانها، وهل يضمن ضمان العين إذا ضاع في يده لم يذكر محمد هذه المسألة ههنا صريحاً، وذكر شمس الأئمة السرخسي ما يدل على أنه يضمن.
فإنه قال في المستعار: لو كان عقد لؤلؤة، فردها على عبد يقوم على الدواب فهو ضامن ما لم تصل إلى المالك.(5/526)
-----
وهكذا ذكر في «المنتقى» أيضاً: فإنه قال: إذا كانت العارية عقد لؤلؤة فردها على عبدٍ لا يقبض مثله مثلها إنه يضمن، وذكر شيخ الإسلام: أن هذه المسألة تكون على القياس والاستحسان؛ القياس: أن يضمن، وفي الاستحسان: لا يضمن؛ كما لو ردها إلى منزله أو ربطها، وضاع ثمة يضمن قياساً ولا يضمن استحساناً؛ لأن المنزل في يد المولى حكماً، فالرد إلى منزله أو الربط يكون رداً على المالك حكماً، فكذا العبد الذي لا يقوم على الدابة في يد المولى حكماً، فكان الرد عليه كالرد على المولى.
وأشار محمد رحمه الله بعد هذه المسألة بمسائل إلى أنه لا يضمن قياساً واستحساناً، فقد قال: إذا رد المستعير الدابة، فلم يجد صاحبها ولا خادمه، فربطها في دار صاحبها على معلفها فضاعت؛ لا يضمن استحساناً، فقد شرط الاستحسان عدم صاحبها وخادمه مطلقاً من غير فصل بين خادم يقوم عليها، أو لا يقوم عليها، فهذا إشارة إلى أنه إذا ردها إلى عبد لا يقوم عليها إنه لا يضمن قياساً واستحساناً؛ هذا هو الكلام في العارية.
وأما الكلام في الوديعة، فقد ذكرنا في كتاب الوديعة: أن المودع إذا رد الوديعة على عبد صاحبها أنه ضامن من غير فصل، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب العارية: أن الجواب في الوديعة كالجواب في العارية، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية: أن المودع ضامن على كل حال؛ كما ذكرنا في كتاب الوديعة، وهكذ ذكر القدوري في «شرحه»، والفقيه أبو الليث في «فتاويه».
(5/527)
الفصل السابع في استرداد العارية، وما يمنع من استردادها
-----
ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» عن محمد؛ فيمن استعار من آخر أرضاً ليزرعها، فأعارها إياه، وأذن له في ذلك إلى أن أدرك زرعه فزرعها ثم أراد صاحبها أن يأخذها قبل أن تستحصد، فالمزارع بالخيار؛ إن شاء قلع الزرع، وإن شاء كانت الأرض عليه بأجر مثلها إلى أن يستحصد الزرع؛ وهذا لأن المزارع محق في الزراعة؛ لأنه زرع بإذن رب الأرض، فيجب مراعاة حقه في الزرع؛ كما يجب مراعاة حق رب الأرض في الأرض، وذلك بترك الأرض في يد صاحب الزرع إلى وقت إدراك الزرع بالإجارة أو أن صاحب الزرع قلع الزرع؛ لأنه فيه قطع حق صاحب الأرض عن منفعة الأرض مدة معلومة بعوض مع مراعاة حق المزارع في الزرع من كل وجه، وذكر محمد هذه المسألة في «المبسوط»، وذكر فيها القياس والاستحسان.
القياس: أن يكون لصاحب الأرض أن يخرج الأرض من يد المستعير؛ سواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة، وفي الاستحسان: أن لا يخرج الأرض من يده.
وذكر في «المنتقى»: ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن زرع أرض غيره لنفسه بإذن صاحب الأرض، ثم أراد رب (133ب2) الأرض أن يخرج الأرض من يده بعدما زرعها ليس له ذلك حتى يستحصد الزرع؛ لأن التغرير بالمؤمن حرام، فإذا استحصد الزرع ذكر في بعض روايات «المبسوط» أن صاحب الأرض يأخذ الأرض مع الأجر، ولم يذكر هذا في بعض الروايات وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول: إنما يجب الأجر لصاحب الأرض إذا أجر الأرض منه صاحب الأرض أو القاضي، فأما بدون ذلك لايجب الأجر؛ لأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد.
وعبارة «المنتقى» وإن شاء المزارع كانت الأرض عليه بأجر مثلها، ولم يشترط إجارة رب الأرض، والقاضي.(5/528)
-----
وعبارة شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: إنه يترك الأرض في يد المزارع بأجر المثل من غير اشتراط إجارة رب الأرض. أو القاضي، وإن أبى المزارع أن تكون الأرض في يده بأجر المثل وكره قلع الزراع أيضاً، وأراد أن يضمن رب الأرض قيمة الزرع، وقال: زرعي متصل بأرضك، فأشبه الصبغ المتصل بثوبك، فلي أن أضمنك قيمته كما في الصبغ؛ لم يذكر هذه المسألة في «الأصل»، وذكر في «المنتقى» في موضع أن له ذلك إلا إن رضي رب الأرض أن يترك الزرع في أرضه حتى يستحصد أو يكون ذلك منه وفاءً بالشرط الذي شرط في عقد العارية، فلا يلزمه شيء آخر، وقال في موضع آخر: ليس للمزارع أن يضمن رب الأرض قيمة الزرع.
قال في «المنتقى»: وإن أراد رب الأرض أن يعطي المزارع بذره ونفقته ويخرج الأرض من يده، ويكون الزرع له؛ يعني لرب الأرض، ورضي المزارع به، فإن كان لم يطلع من الزرع شيء لا يجوز، وإن كان الزرع قد خرج جاز؛ لأن المزارع يصير بائعاً الزرع، وبيع الزرع قبل أن يخرج لا يجوز بلا خلاف، وبعد أن يخرج فيه كلام، وأشار ههنا إلى الجواز.
ولو استعار داراً ليبني فيها بناءً، أو أرضاً ليغرس فيها نخلاً ففعل ثم أراد رب الدار والأرض أن يخرجه، فله ذلك؛ سواء كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة ولا يضمن صاحب الدار والأرض قيمة البناء والأشجار؛ إن كانت العارية مطلقة عند علمائنا، ويضمنها إن كانت العارية مؤقتة، وأراد إخراجه قبل الوقت؛ هكذا ذكر المسألة في «الأصل»، وذكر في «المنتقى» عن أبي حنيفة أن عليه قيمة البناء سواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة، فصار في العارية المطلقة عن أبي حنيفة روايتان.(5/529)
-----
وجه ما ذكر في «المنتقى»: أن البناء للدوام، وقد أذن له في ذلك فبالإخراج يصير غاراً، فلدفع الغرور أوجبنا القيمة. وجه ما ذكرنا في «الأصل»: أن الثاني معير، وليس بغرور؛ لأنه بنى هذا البناء معتمداً على إذنه مع علمه أن البناء بهذا الإذن على الجواز دون اللزوم، وأما إذا كانت العارية مؤقتة، وأراد إخراجه قبل الوقت يغرم قيمة البناء والأشجار قائماً يوم الاسترداد باتفاق الروايات؛ لأن التوقيت غير محتاج إليه لتصحيح العارية، وإنما فائدته ضمان تبعية البناء إلى هذا الوقت، وضمان قيمة البناء إن أخرجه قبل الوقت، وإنما يعتبر قيمة البناء قائماً؛ لأن القلع والنقض غير مستحق عليه قبل الوقت ولهذا يضمن له، وإذا لم يكن القلع مستحقاً عليه كان حقه في بناء قائم بغير الاسترداد، فيعتبر قيمته.
كذلك هذا إذا أراد صاحب الأرض إخراجه قبل الوقت، وإن مضى الوقت، فصاحب الأرض يقلع عليه الأشجار والبناء، ولا يضمن شيئاً عندنا؛ لأن القلع بعد الوقت مشروط يقتضي ذكر الوقت فيعتبر بما لو كان مشروطاً نصاً؛ قال: إلا أن يضر القلع بالأرض، فحينئذٍ صاحب الأرض يتملك البناء، والأغراس بالضمان، ويعتبر في الضمان قيمته مقلوعاً؛ لأن القلع مستحق عليه بعد الوقت؛ بخلاف ما لو أراد إخراجه قبل الوقت حيث يضمنه قيمته قائماً؛ لأن النقض والقلع هناك غير مستحق عليه، فكان حق المستعير في البناء القائم، وفي الأشجار القائمة.
في «النوازل»: رجل استعار من رجل داراً، وبنى فيها حائطاً بالتراب، ويقال بالفارسية: باجنره، واستأجر الأجراء بعشرين درهماً، وكان ذلك بغير إذن رب الدار، ثم إن صاحب الدار استرد الدار منه، فليس للمستعير أن يرجع بما أنفق؛ لأنه فعل بغير إذنه، وهل له أن ينقض الحائط؟ إن كان قد بناه من تراب من صاحب الأرض، فليس له ذلك؛ لأنه لا يفيد؛ لأن بالهدم يعود تراباً، والتراب حق صاحب الدار، والله أعلم.
(5/530)
-----
الفصل الثامن في الاختلاف الواقع في هذا الباب، والشهادة فيه
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: رجل استعار من رجل دابة ليركبها إلى حمام أعس فجاوز بها إلى حمام أعس ثم رجع إلى حمام أعس أو إلى الكوفة، والدابة على حالها، ثم عطبت الدابة، فقال رب الدابة: قد خالفت، ولم تردها إلى الموضع الذي أذنت لك، فقال المستعير: قد خالفت فيها، ثم رجعت بها إلى الموضع الذي أذنت لي، فلا ضمان عليَّ، فالقول قول رب الدابة، و المستعير ضامن؛ لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وهو المجاوزة عن المكان المسمى، ثم ادعى ما يبرئه، وهو العود، فلا يصدق إلا بحجة، فإن أقام البينة أنه قد ردها إلى الكوفة، أو إلى الموضع الذي أخذها إليه، ثم نفقت بعدما ردها، قال: هو ضامن لها حتى يرجعها إلى صاحبها، وتأويله أنه استعارها إلى ذلك المكان ذاهباً جائياً، ومتى كان كذلك كان ضامناً؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاينا أنه عاد إلى المكان المشروط؛ فإنه لا يبرأ؛ لأنه عاد إلى الوفاق، فالعقد منتهٍ، فلا يبرأ عن الضمان، فأما إذا كان ذاهباً وجائياً يبرأ عن الضمان متى أظهر البينة أنه عاد إليه كما لو تمت معاينته، ولو تمت معاينته برىء؛ لأنه عاد إلى الوفاق، والعقد قائم، فيبرأ عن الضمان.
إذا قال: أعرتني دابتك وهلكت، وقال المالك: غصبتها مني، فلا ضمان عليه إن لم يكن ركبها، وإن كان قد ركبها، فهو ضامن، ولو قال: أعرتني، وقال المالك: ركبها وهلكت من ركوبه، فالقول قول الراكب، ولا ضمان عليه.
وفي «القدوري»: وإن اختلف المعير والمستعير في الأيام أو في المكان أو فيما يحمل عليه، فالقول قول رب الدابة مع يمينه؛ لأن الإذن من جهته مستفاد، فكان القول قوله.
وفيه أيضاً: وإذا تصرف المستعير، وادعى أن المعير أذن له وجحد المعير، فهو ضامن؛ إلا بقوم البينة على الإذن؛ لأن سبب الضمان قد تحقق، فإذا ادعى الإذن، فقد ادعى المسقط، فلا يفضل إلا بحجة.H
(134أ2)(5/531)
-----
وفي «المنتقى»: رجل قال لغيره: أعرتني هذه الدار، أو هذه الأرض لأبنيها، أو أغرس فيها ما بدا لي من النخل أو الشجر، فغرستها هذا النخيل، وبنيتها هذا البناء، وقال المعير: أعرتك الدار والأرض وفيها هذا البناء والأغراس، فالقول قول المعير؛ لأن البناء والأغراس بحكم الاتصال صار وصفاً للأرض بمنزلة أوصاف الحيوان.
وإن أقاما البينة، فالبينة بينة المعير أيضاً؛ لأن الإعارة لا تكون إلا بعد سابقة الاستعارة، فالمعير ببينته أثبت استعارته الأرض مع البناء والأغراس، وباستعارة الأرض مع البناء والإغراس يصير مقراً بالبناء والإغراس.
الفصل التاسع في المتفرقات
رد المستعار على المستعير، ورد المستأجر على الآجر، والعبرة لما يعود ويحصل.
فالحاصل للآجر بدل المنفعة، وللمستأجر المنفعة، وبدل المنفعة عين فكان خيراً من المنفعة، فكان مؤنة الرد عليه.
والحاصل للمستعير المنفعة، والمعير لا شيء له، فإنما يعود إليه ملكه لا غير، فكان المستعير أسعد حالاً، فكان مؤنة الرد على المستعير ذكره الصدر الشهيد في باب من المسائل المتفرقة من كتاب الإجارة، وفي «الواقعات» نفقة العبد المستعار على المستعير، وكسوته على المعير؛ لأن بقاء المنفعة الحالية بالنفقة، والمنفعة تعود إلى المستعير، ولا كذلك الكسوة.
قال أبو نصر: لو أن رجلاً استعار من رجل عبداً فطعام العبد على المستعير، ولو أن مولى العبد أعاد العبد فطعامه على المعير؛ قال الفقيه أبو الليث: يعني إذا قال مولى العبد: خذ عبدي، واستخدمه من غير أن تستعيره، فإن هذا بمنزلة الوديعة، فطعامه على مولاه.
في «المنتقى»: إذا قال لغيره: أعرني ثوبك، فإن ضاع فأنا له ضامن، فلا ضمان عليه، وهذا الشرط باطل؛ لأنه يخالف قضية التبرع، وكذلك هذا الحكم في سائر الأمانات؛ نحو الودائع وغيرها.(5/532)
-----
وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف في المستعير إذا خرج بالدابة، أو الثوب من المصر، فاستعمله، فهو ضامن، وإن خرج به ولم يلبس، ولم يركب؛ ضمن في الدابة، ولم يضمن في الثوب؛ معنى المسألة استعار ثوباً، أو دابة في المصر حتى تقيد الإذن بالاستعمال في (المصر) لما أن الاستعمال خارج المصر يخالف الاستعمال في المصر، ثم خرج بهما عن المصر إن استعمل الثوب والدابة، فهو ضامن، وإن لم يستعملهما ففي الثوب لا ضمان؛ لأنه حافظ له خارج المصر؛ كما هو حافظه في المصر؛ بخلاف الدابة؛ لأنها بمجرد الخروج، صارت عرضة للنفور، فيكون إخراجها إتلافها معنى فيضمن لها.
وفيه أيضاً: ذكر المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف: في رجل استعار محملاً أو فسطاطاً، وهو في مصر، فسافر به؛ لا يضمن، وإن استعار سيفاً أو عمامة، وسافر به ضمن، والفرق: أن الاستعارة، وإن وجدت في المصر؛ إلا أن الفسطاط والمحمل يستعملان خارج المصر عادة، فصار عادتهما إذناً بالمسافرة بهما، ولا كذلك السيف، والعمامة.
وفيه أيضاً: استعار من رجل فرساً ليغزو عليه أربعة أشهر، ثم لقيه المعير بعد شهرين في بلاد المسلمين، وأراد أخذه، فله ذلك، وإن لقيه في بلاد الشرك في موضع لا يقدر على كراء وعلى شراء ليس له أن يأخذه دفعاً للضرر عن المستعير، ويكون على المستعير، أجر مثل ذلك الفرس من ذلك الموضع الذي طلبه منه صاحبه دفعاً للضرر من الطرفين.
ونظير هذه المسألة: رجل استعار من آخر أمة ترضع ابناً له، فلما تعود الصبي وصار لا يرضع إلا منها؛ قال المعير: اردد عليَّ أمتي، فليس له ذلك، وله أجر مثل جاريته إلى أن يفطم الصبي، وكذلك إذا استعار من آخر زقاقاً وجعل فيها زيتاً فأخذه في صحراء، فليس له أن يأخذ الزقاق وله أجر مثلها إلى موضع يجد فيها زقاقاً فيحول زيته.(5/533)
-----
وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رجل قال لرجل: أعرني دابتك فرسخين، أو قال: إلى فرسخين، قال: له فرسخان ذاهباً وجائياً، فتصير أربعة فراسخ، وكذلك كل عارية تكون في المصر؛ نحو تشييع الجنازة وأشباهها، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا لمكان العرف الظاهر فيما بين الناس، والقياس أن يكون هذا على الذهاب خاصة، ولا يكون له أن يرجع عليها.
استعار من آخر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فبعث الدابة مع وكيل له ليحمل عليها الحنطة، فحمل الوكيل حنطة نفسه مثلها لا يضمن. في كتاب الشركة في باب خصومة المتفاوضين استعارة الشيء للرهن من غيره جائز، وإنه معروف، والاستعارة ليؤاجر من غيره جائز؛ ذكر شيخ لإسلام في شرح كتاب المزارعة في باب اختلافهما في الزراعة.
وذكر في «فتاوى أبي الليث»: أن والد الصغير ليس له أن يعير متاع ولده الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني في أول شرح الوكالة: أن للأب أن يعير ولده الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني، وهل له أن يعير مال ولده الصغير؟ بعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: له ذلك، وعامة المشايخ على أنه ليس له ذلك.
صبي استعار من صبي شيئاً كالقدوم، ونحوه، فأعطاه، وكان الشيء لغير الدافع، فهلك في يده؛ إن كان الصبي الأول مأذوناً لا يجب على الثاني شيء، وإنما يجب على الأول؛ لأنه إذا كان مأذوناً صح الدفع منه، فكان التلف حاصلاً بتسليطه، وإن كان الشيء للأول لا يضمن الثاني أيضاً لما قلنا، وإن كان الأول محجوراً عليه ضمن هو بالدفع، ويضمن الثاني بالأخذ منه، ويكون الأول غاصباً، والثاني غاصب الغاصب.
استعار من آخر شيئاً، فدفع ولده الصغير المحجور عليه المستعار إلى غيره بطريق العارية، فضاع يضمن الصبي الدافع، وكذا المدفوع إليه؛ لأن كل واحد منهما غاصب في حقه.
-----
أعار من آخر شيئاً وهلك في يد المستعير، ثم استحقه مستحق فله الخيار؛ يضمن أيهما شاء، فإن ضمن المعير، فليس له أن يرجع على المستعير؛ لأنه تبين أنه أعار ملك نفسه، وإن ضمن المستعير، فكذلك لا يرجع على المعير؛ لأن المستعير في القبض عائد لنفسه، فإنما يضمن بسبب عمل لنفسه، فلا يرجع به على غيره.
في «الجامع الأصغر»: أرض بين جماعة؛ أذن واحد منهم للباقين أن يبنوا فيها قصوراً، فبنوا ثم أراد الآذن أن يهدم بناء قصر منها؛ كان لهم منعه، وله أن يأخذهم برفع قصورهم بناء على ما قلنا: إن العارية غير لازمة، والله أعلم. تم كتاب العارية.
(5/534)
كتاب الشركة
هذا الكتاب يشتمل على ثمانية فصول
1 * في بيان أنواع الشركات، وشرائطها، وحكمها
2 * في الألفاظ التي تصح الشركة بها والتي لا تصح
3 * في المفاوضة
4 * في العنان
5 * في الشركة بالوجوه
6 * في الشركة بالأعمال
7 * في تصرف أحد الشريكين في الدين المشترك
8 * في المتفرقات
الفصل الأول في بيان أنواع الشركات، وشرائطها، وحكمها
فأما بيان أنواعها فنقول: شركة العقود أنواع ثلاثة: شركة بالمال، وشركة بالوجوه، وشركة بالأعمال، وكل ذلك على وجهين؛ مفاوضة وعنان، وشرط جواز هذه الشركات كون المعقود عليه عقد الشركة قابلاً (134ب2) للوكالة؛ لأن المقصود من هذه العقود الشركة في التصرف، والشركة في التصرف إنما تثبت إذا صار كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في التصرف، فيشترط كون ما عقدا عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة لهذا.(5/535)
-----
ثم الشركة إذا كانت بالمال لا تجوز عناناً كان أو مفاوضة؛ إلا إذا كان رأس مالهما من الأثمان التي لا تتعين في عقود المبادلات؛ نحو الدراهم والدنانير، فأما ما يتعين في عقود المبادلات نحو العروض، فلا تصح الشركة بها سواء كان ذلك رأس مالهما أو رأس مال أحدهما، وإنما لا تصح الشركة بالعروض لما أشار إليه في «الكتاب»: أن رأس المال مجهول، ومعناه أن العروض ليست من ذوات الأمثال، وعند القسمة لا بد من تحصيل رأس المال أولاً ليظهر الربح، فإن كان رأس المال عروضاً فتحصيله عند القسمة يكون بطريق الحزر والظن، فلا يثبت اليقين به، ولمعنى آخر أن كل واحد من الشريكين يصير وكيلاً عن صاحبه بالتصرف، فإذا كان رأس المال عروضاً صار كل واحد موكلاً صاحبه ببيع متاعه على أن يكون له بعض ربحه، وذلك لا يجوز؛ لأن الوكيل بالبيع يكون أميناً ليكون هذا ربح ما لم يضمن في حقه، وإنه لا يجوز، وإذا كان رأس المال دراهم أو دنانير؛ صار كل واحد منهما موكلاً صاحبه بالشراء بماله على أن يكون له بعض الربح وذلك جائز؛ لأن الوكيل بالشراء يكون ضامناً للثمن في ذمته، فيكون هذا ربح ما قد ضمن وإنه جائز.
ويشترط مع ذلك أن يكون رأس المال عيناً، إما حاضراً في المجلس، أو غائباً عن المجلس؛ مشاراً إلى مكانه؛ حاضراً عند الشراء.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»، والشيخ أبو الحسن القدوري: أن من دفع إلى رجل ألف درهم، وقال: أخرج من عندك ألفاً مثل هذه الألف واشتر بها وبع، فما ربحت من شيء فهو بيننا، ففعل المأمور كذلك، فهو جائز، وإن لم يكن المال حاضراً في مجلس العقد، ولا مشاراً إلى مكانه، واكتفي بوجوده عند الشراء.
وأما التبر من الذهب والفضة، فقد جعله في كتاب الشركة من «الأصل» بمنزلة العروض، فلم تجز الشركة بها، وفي صرف «الأصل» جعله بمنزلة الأثمان فجوز الشركة بها.(5/536)
-----
قال شمس الأئمة السرخسي: والحاصل: أن المعتبر في هذا العرف، ففي كل بلد جرى التعامل بالمبايعة بالتبر، فهو بمنزلة الأثمان لا يتعين في العقود، وتجوز الشركة به، وفي كل بلد لم يجز التعامل بالمبايعة بالتبر، فهو بمنزلة العروض يتعين في العقود، ولا تجوز الشركة به.
فأما الفلوس فالمشهور من قول أبي حنيفة: أن الشركة والمضاربة بها لا تجوز، وعن محمد وزفر: تجوز، محمد وزفر يقولان: إن الفلوس ما دامت رائجة، فهو بمنزلة النقود، وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: الرواج من الفلوس عارض باصطلاح الناس، وذلك يتبدل ساعة فساعة، فلو جوز بالشركة بها أدى إلى جهالة رأس المال عند قسمة الربح إذا كسدت تلك الفلوس؛ لأن رأس المال عند قسمة الربح يحصل باعتبار المالية؛ لا باعتبار العدد، ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد.
وأما الشركة بالمكيلات والموزونات فقيل: الخلط في جنس واحد في الجنسين المختلفين قبل الخلط وبعد الخلط لا يجوز بالاتفاق، وأما بعد الخلط في جنس واحد، وفي المعدودين إذا اتفقا في المقدار على قول أبي يوسف: لا تصح الشركة، ويكون المخلوط بينهما شركة ملك حتى لو تصرفا وربحا، فالربح بينهما على قدر الملك، وقال محمد: تصح الشركة والربح بينهما على الشرط، فكلام أبي يوسف ظاهر، إن قبل الخلط إنما لا تجوز الشركة؛ لأنها تتعين بالتعيين، وهذا المعنى لا تبطل بالخلط، وما يتعين بالتعيين لا يصلح أن يكون رأس ماله الشركة.(5/537)
-----
ومحمد رحمه الله يقول: بأن المكيلات والموزونات عرض من وجه، ثمن من وجه، ألا ترى أن الشراء بها ديناً في الذمة يصح، وإنه حكم الثمن ويتعين في العقود بالتعيين، وإنه حكم العروض، فمن حيث إنه عرض لم يجز الشركة بها قبل الخلط في الجنس الواحد، ومن حيث إنه ثمن جوز الشركة بها بعد الخلط؛ وهذا لأن باعتبار الشبهين تحقق إضافة عقد الشركة إليها، فيتوقف ثبوته على ما يفوتها، وهو الخلط؛ لأن بالخلط تثبت شركة الملك لا محالة، فتتأكد شركة العقد أيضاً، وفي الجنسين المختلفين: إنما لا تصح الشركة على قول محمد بعد الخلط؛ لأن عقد الشركة عنده يثبت بعد الخلط باعتبار المخلوط، فعند اختلاف الجنس المخلوط ليس من ذوات الأمثال.
ألا ترى أن متلفه يضمن القيمة دون المثل؛ لأنه لا مثل له، فلا يكون الجنس واحداً فالمخلوط من ذوات الأمثال، فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل، فأما إذا كان الجنس واحداً فالمخلوط من ذوات الأمثال، فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل في الجنس المختلف إذا عملا بذلك؛ إن كانا لم يخلطا أخذ كل واحد رأس ماله كراً مثل كره، وإن كانا قد خلطا، فالثمن يقسم بينهما على قدر قيمة طعام كل واحد منهما يوم خلطاه مخلوطاً، وإنما اعتبر قيمتها يوم الخلط؛ لأن قسمة الثمن بينهما باعتبار الخلط، فيعتبر القيمة يوم الخلط، وإنما اعتبر قيمتها مخلوطاً؛ لأن استحقاق الثمن بمقابلة البيع، والمبيع دخل في البيع مخلوطاً، وإن كان أحدهما يزيده الخلط ضرراً، فإنه يضرب بقيمته يوم يقتسمون غير مخلوط.
(5/538)
-----
ومعنى المسألة: أن قيمة الشعير تزداد إذا خلط بالحنطة، وقيمة الحنطة تنقص إذا اختلطت بالشعير، فصاحب الشعير يضرب بقيمة الشعير غير مخلوط، وصاحب الحنطة يضرب بقيمة الحنطة مخلوطة؛ لأن الزيادة في الشعير حصلت من مال صاحب الحنطة، فلا يستحق صاحب الشعير الضرب بتلك الزيادة، والنقصان في الحنطة حصل بفعل رضي به صاحب الحنطة، وهو الخلط، وقيمة ملكه عند البيع ناقص، فلا يستحق الضرب إلا بذلك القدر، وطعن عيسى بن إبان في الفصلين جميعاً فقال: قول محمد في الفصل الأول: يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه، وفي الفصل الثاني: يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم يقتسمون غلط، والصحيح: أنه يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم وقع البيع؛ لأن استحقاق الثمن بالبيع، وهكذا ذكر محمد في «المنتقى»، ومما ذكر في «المنتقى»: أن في المسألة روايتين.
وإن أراد تجويز الشركة بالعروض فالحيلة في ذلك أن يبيع كل واحد منهما نصف عروض نفسه بنصف عروض صاحبه حتى صار مال كل واحد منهما مشتركاً بينهما شركة ملك، ثم يعقدان عقد الشركة بعد ذلك إن شاءا مفاوضة، وإن شاءا عياناً، وتصير العروض رأس مال الشركة، والعروض بعدما صار مشتركاً بينهما شركة ملك يصلح رأس مال الشركة، (135أ2) وإن كان قبل ذلك لا يصلح.
وكذلك إذا كان لأحدهما دراهم، وللآخر عروض ينبغي أن يبيع صاحب العروض نصف عروضه بنصف دراهم صاحبه، ويتقابضان به مشتركان؛ إن شاءا مفاوضة، وإن شاءا عياناً؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشركة قبل باب بضاعة المفاوض.
وفي «المنتقى» هشام عن محمد: عبد بين رجلين اشتركا فيه شركة مفاوضة أو عيان فهو جائز.(5/539)
-----
وفيه أيضاً: رجل له طعام، ورجل له طعام، فاشتركا عليهما، وخلطاهما وأحدهما أجود من الآخر، فالشركة في هذا جائزة والثمن بينهما نصفان؛ قال: من قبل أن هذا أشبه البيع معنىً لخلطهما على أنه بينهما. وقال في موضع آخر في هذا الكتاب: يقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الجيد والرديء.
ولو كان رأس مال أحدهما دراهم، ورأس مال الآخر دنانير؛ جازت الشركة عند علمائنا الثلاثة عناناً كان أو مفاوضة في المشهور، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن المفاوضة لا تجوز، وهكذا روي عن أبي يوسف، وعند زفر والشافعي لا تجوز الشركة أصلاً عناناً كان أو مفاوضة.
وهذا بناءً على أن عند زفر الخليط شرط صحة الشركة، فلا يصح بمالين لا يختلطان، وعندنا الخلط ليس بشرط لصحة الشركة، فيصح بمالين لا يختلطان؛ هذا كله بيان شرائط جواز الشركة بالمال عناناً كان أو مفاوضة.
ثم تختص المفاوضة بزيادة شرائط، فمن جملة ذلك التنصيص على المفاوضة حتى إنهما إذا لم يتلفظا بلفظ المفاوضة كانت الشركة عناناً؛ هكذا عن أبي حنيفة؛ قال شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: تأويل هذا أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة قائماً مقام ذلك كله، فإن (كان) المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها؛ لأن العبرة للمعنى دون اللفظ.
ومنها: أن تكون عامة في عموم التجارات؛ إليه أشار محمد في «الكتاب» وذكر شيخ الإسلام في آخر باب شركة المفاوضة أنها لا تجوز في نوع خاص أيضاً.
ومنها: أن يكون كل واحد منهما من أهل الكفالة؛ بأن كانا بالغين عاقلين حرين؛ لأن حكم هذه الشركة صيرورة كل واحد منهما من أهل الكفالة بأن كانا بالغين عاقلين حرين؛ لأن حكم هذه الشركة صيرورة كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما يلحقه من ضمان التجارات فيهما على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.(5/540)
-----
ومنها: أن رأس مالهما على السواء من حيث القدر؛ إن كانا من جنس واحد ونوع واحد، وإن كانا من جنسين مختلفين نحو الدراهم والدنانير، أو كانا من جنس واحد؛ إلا أنه اختلف نوعهما؛ نحو المكسور مع الصحاح؛ يشترط مع ذلك التساوي في القيمة، وإنما شرطنا التساوي في رأس المال في هذه الشركة عملاً بقضية لفظ المفاوضة، فإن المفاوضة مشتقة من المساواة، وعن هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية: إن المفاوضة لا تجوز إذا كانا من رأس مال أحدهما دراهم، والآخر دنانير؛ لأن المساواة بين الدراهم، والدنانير إنما تكون بالقيمة.
وطريق معرفة ذلك بالحزر والظن، وفي ظاهر الرواية يجوز؛ لأن الجنس واحد من حيث المعنى.
ولو كان لأحدهما دراهم بيض، وللآخر سود، وبينهما فضل فيه لم تصح المفاوضة في المشهور من الرواية، وعن أبي يوسف أنه يجوز؛ لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها.
ومن جملة ذلك: أن يستويا في الربح، وأن لا يكون لكل واحد منهما من المال الذي يجوز عليه عقد الشركة سوى رأس المال الذي شارك به صاحبه ابتداءً، وإنها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم إذا صحت الشركة بالمال، فإن كان مفاوضة صار كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما يلزمه من ضمان التجارات، وما يجوز أن يكون واجباً بالتجارة، وما يشبه ضمان التجارة، ويصير كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه فيما وليه صاحبه من التجارات، فيكون مخاصماً فيما وليه صاحبه بحكم الوكالة، فيكون مخاصماً منه بحكم الكفالة، ويصيران في جميع أحكام التجارة بمنزلة شخص واحد، وإنما فعلنا هكذا لما ذكرنا أن اللفظ يقتضي التساوي فيجب اعتبار التساوي في جميع ما يجب لهما وعليهما فيما يجوز أن يكون داخلاً تحت الشركة.
(5/541)
وإن كانت الشركة عناناً يصير كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في عقود التجارات، ولا يكون كل واحد وكيلاً عن صاحبه في استيفاء ما وجب بعقد صاحبه.(5/542)
-----
والحاصل: أن في هذه الشركة حقوق العقد ترجع إلى العاقد لا غير، ولا يصير كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه حتى لا يؤخذ كل واحد منهما بما لزم صاحبه؛ هذا كله بيان شرائط الشركة بالمال وحكمها.
جئنا إلى الشركة بالوجوه، فصورتها أن يشترك اثنان ولا مال لهما في نوع خاص، أو في الأنواع كلها على أن يشتريا ويبيعا، وما رزق الله تعالى من شيء فهو بينهما فهذه الشركة جائزة عندنا، وإنما سميت هذه الشركة شركة الوجوه؛ لأنه إنما يشتري بالنسيئة من له وجاهة عند الناس.
وطريق جواز هذه الشركة: أن يجعل كل واحد منهما في التصرف من وجهه وكيلاً عن صاحبه فيقع المشترى مشتركاً بينهما؛ ألا ترى أنه قال: اشتر هذه العين على أن تكون بيننا كان ذلك جائزاً؛ كذا ههنا، وهذه الشركة قد تكون مفاوضة، وقد تكون عناناً، فشرط المفاوضة أن يكونا من أهل الكفالة، وأن يكون الملك في المشترى ههنا نصفين، وثمن المشترى عليها نصفان، وأن يتساويا في الربح، وأن تكون عامة إلا على قول شيخ الإسلام، والتلفظ بلفظ المفاوضة على التأويل الذي ذكره شمس الأئمة السرخسي على ما مر، والعنان بينهما يجوز مع اشتراط التفاضل في ملك المشترى، وينبغي أن يشترط الربح في هذه الشركة على قدر اشتراط ما لهما في المشترى؛ حتى لو تفاضلا في ملك المشترى، واشترطا التساوي في الربح بينهما، أو كان على العكس لا يجوز هذا الشرط، ويكون الربح بينهما على قدر ما شرطا الملك بينهما؛ وهذا لأن اشتراط الربح لأحدهما أكثر مما شرط له من نصيبه من الملك اشتراط الربح من غير ملك ولا ضمان، والربح إنما يستحق بالملك؛ كما في رب المال في باب المضاربة، أو بالضمان كالاستلام إذا تقبل العمل وألقاه على تلميذه بأقل من ذلك الأجر الذي يقبل العمل به؛ يطلب له الفضل، وإنما يطلب له الضمان أما بدون ذلك لا يصح الربح؛ ألا ترى أن من قال لغيره: اعمل في مالك على أن لي بعض الربح لا يجوز.(5/543)
-----
فإن قيل: يجوز أن يكون فضل بالربح لفضل العمل والربح يستحق بالعمل، ألا ترى أن المضارب يستحق الربح، وإنما يستحقه بالعمل.
قلنا: إنما يستحق الربح بالعمل إذا كان العمل في مال معلوم؛ كذا في المضارب، ولم يوجد ههنا.m
في «المنتقى»: إذا أراد الرجلان أن يشتركا شركة مفاوضة، ولأحدهما دار أو خادم أو عرض، وليس للآخر شيء، واشتركا شركة مفاوضة فيعملان ذلك بوجوههما، ولم يسميا شيئاً من العروض التي لأحدهما في شركتهما كانت (135ب2) الشركة جائزة، وهي مفاوضة، والعروض لصاحبها خاصة، وهذه شركة وجوه، وكذلك إذا كان لأحدهما تبر ذهب غير مضروبة، وباقي المسألة بحالها.
جئنا إلى الشركة بالأعمال، وهي نوعان: صحيحة، وفاسدة، فالصحيحة منها أن يشترك اثنان على أن يتقبلا الأعمال من الناس، ويعملان بأبدانهما، فما رزق الله تعالى من شيء فهو بينهما، فهذه الشركة جائزة، وقد تكون هذه الشركة مفاوضة عند استجماع شرائطها على ما ذكرنا، وقد تكون عناناً.(5/544)
-----
وطريق جواز هذه الشركة: أن يجعل كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه بتقبل العمل له، والتوكيل بتقبل العمل له جائز، ولأجل هذا المعنى قلنا: تصح هذه الشركة اتفقت أعمالهما، بأن اشترك قصاران أو خياطان أو اختلفت بأن اشترك خياط وحناط، وقال زفر: إن اختلفت أعمالهما لا تصح؛ لأن كل واحد منهما عاجز عن العمل الذي تقبله صاحبه، فإن ذلك ليس من عمله، فلا يحصل ما هو المقصود من عقد الشركة، ولكننا نقول: جواز هذه الشركة من حيث التوكيل بتقبل العمل، والتوكيل بتقبل العمل صحيح ممن يحسن ذلك العمل، وممن لا يحسن؛ وهذا لأنه لا يتعين على المتقبل إقامة العمل بنفسه بل له أن يقيم بأعوانه وأجرائه، وكل واحد منهما غير عاجز عن ذلك، وفي العنان من هذه الشركة يجوز شرط التفاضل في المال المستفاد بالعمل مع اشتراط التساوي في العمل، وإنما يصح اشتراط التفاضل في المال المستفاد بالعمل إذا شرطا التفاضل في العمل؛ وهذا لأن استحقاق الكسب باشتراط العمل والتقبل دون نفس العمل.
ألا ترى أنه لو عمل أحدهما دون الآخر كان الأجر بينهما على ما اشترطا، ويصير العامل كالمعين لصاحبه على إيفاء ما صار مستحقاً عليهما من العمل بعقد الشركة إذا ثبت أن استحقاق الأجر بتقبل العمل، فإنما يستحق كل واحد منهما من الأجر بقدر ما عليه من العمل، ثم في شركة التقبل إذا لم يتفاوضا لكن اشتركا شركة مطلقة، فدفع رجل إلى أحدهما عملاً، فله أن يأخذ بذلك العمل أيهما شاء، ولكل واحد منهما أن يطالب بأجرة العمل، وإلى أيهما دفع برىء بمنزله المتفاوضين عند أبي حنيفة رضي الله عنه استحساناً، قال هشام: أخبرنا محمد بذلك وهو قول محمد، وكذلك قول أبي يوسف.(5/545)
-----
قال أبو الفضل في «المنتقى» وكذا روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف من قوله وقول أبي حنيفة، وزاد فيه إذا جنت يد أحدهما، فالضمان عليهما يأخذ صاحب العمل أيهما شاء بجميع ذلك، فقد اعتبرت هذه الشركة مفاوضة في حق هذه الأحكام مع أنهما لم يتفاوضا، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله؛ لأن هذه الشركة مقتضية للضمان، فإن ما يتقبله كل واحد منهما مضمون على الآخر، ولهذا يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه، فأجروها مجرى المفاوضة في حق ضمان العمل واقتضاء البدل، وفيما عدا ذلك لم يثبتوا معنى المفاوضة في حق ضمان العمل حتى قالوا: إذا أقر أحدهما بدين من ثمن صابون، أو أشنان مستهلك، أو أجر أجير، أو أجرة تثبت لمدة مضت لم يصدق على صاحبه إلا ببينته، وسيأتي بيان هذا الأحكام، والفرق بين المفاوضة والعنان فيما بعد هذا إن شاء الله تعالى.
(5/546)
-----
وإذا أقعد الصانع معه رجلاً في دكانه يطرح عليه العمل بالنصف جاز استحساناً لتعامل الناس ذلك من غير نكير منكر؛ ولأن بالناس حاجة إلى ذلك، فالعامل قد يدخل بلدة لا يعرفه أهلها، ولا يأمنونه على متاعهم، وإنما يأمنون على متاعهم صاحب الدكان الذي يعرفونه، وصاحب الدكان الذي لا يسرع على العامل بمثل هذا في العادة، ففي تجوز هذا العقد تحصيل غرض الكل، فإن العامل يصل إلى عوض عليه، وصاحب الدكان يصل إلى عوض منفعة دكانه، والناس يصلون إلى منفعة عمل العامل، ويطيب لرب الدكان الفضل؛ لأنه أقعده في دكانه، أو أعاره متاعه وربما يقيم صاحب الدكان بعض العمل كالخياط يتقبل المتاع، ويلي قطعه يدفع إلى آخر بالنصف؛ قال شمس الأئمة السرخسي: هذا العقد نظير عقد السلم من حيث إنه رخص فيه لحاجة الناس كالسلم، وقال الصدر الشهيد في شرح كتاب الشركة: طريق الجواز أن يجعل كأنهما اشتركا في التقبل والعمل، ثم يتقبل أحدهما ويعمل الآخر، فعلى هذا القول لو قال صاحب الدكان أنا أتقبل، ولا تتقبل أنت وأطرح عليك لتعمل بالنصف لا يجوز، وكذلك قال أبو حنيفة في الخياط يتقبل المتاع ويلي قطعه، ثم يدفعه إلى الآخر بالنصف يجوز، وكذا في سائر الصناع، قال: ولو تقبل التلميذ جاز، ولو عمل صاحب الدكان جاز أيضاً.(5/547)
-----
وأما الفاسدة من هذه الشركة: أن يشتركا في الاحتطاب، والاحتشاش وطلب الكنوز، وما أشبه ذلك من الأشياء التي تملك بالأخذ من المباحات وهذا يبنى على الأصل الذي تقدم أن من شرط جواز الشركة أن يكون ما عقد عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة، والتوكيل بهذه الأنواع لا يجوز، وبقبول الأعمال من كل صانع يعمل بالأجرة يجوز التوكيل، فلهذا جاز ذلك النوع، ولم يجز هذا النوع، وإنما جاء الفرق بين النوعين في صحة التوكيل وعدم صحته؛ لأن التوكيل أمر بالتصرف، فإنما تصح إذا حصل الأمر فيما هو ملك الموكل كما في بيع شيء من ماله، وكذا في شراء شيء له؛ لأن الشراء إيجاب في ذمته، وذمة خالص ملكه، وفي شركة التقبل كل واحد أمر صاحبه بإيجاب بعض العمل في ذمته، فيضمن الآمر، وفي أخذ المباحات لم يوجد الأمر بالتصرف في ملكه، فلم يصح الأمر.
الفصل الثاني في الألفاظ التي تصح الشركة بها والتي لا تصح
قال محمد رحمه الله: إذا اشتركا بغير مال على أن ما اشتريا اليوم فهو بينهما، وخصا صنفاً أو لم يخصا فهو جائز، وكذلك إذا قالا هذا أشهر، وكان ينبغي أن لا يجوز إذا لم يبينا جنس ما يشتريانه في الصفة أو مقدار البدل؛ لأن مبنى الشركة على الوكالة، ومن وكل رجلاً بأن يشتري له شيئاً بهذه الدراهم؛ لا يجوز ما لم يبين الجنس والصفة، أو مقدار الثمن.
والجواب: أن الشركة في معنى وكالة فوض إلى الوكيل الرأي فيما يشتري بأن يقول له: اشترِ لي اليوم ما شئت وذلك جائز، فكذا الشركة، وإنما قلنا: إن الشركة بهذه الصفة التي ذكرنا؛ لأن المقصود من الشركة طلب الربح، وإنما يحصل بهذا المقصود إذا صار الرأي مفوضاً إلى كل واحد منهما في التصرف، وإذا جازت هذه الشركة هل يتوقت بالوقت المذكور حتى لا يبقى بعد مضي الوقت؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في «الأصل»، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه مؤقت، وضعف الطحاوي هذه الرواية.(5/548)
-----
وقال: نص في كتاب وكالة «الأصل» أن من وكل رجلاً ليشتري له عبداً اليوم، أو ليبيع له عبداً اليوم إن الوكالة لا تتوقت باليوم، وغيره من المشايخ صححوا هذه الرواية وقالوا: ما ذكر في الشركة تصير (136أ2) رواية في الوكالة، وما ذكر في الوكالة تصير رواية في الشركة، فصار في المسألة روايتان على قول هؤلاء وهو الصحيح.
ولم يذكر محمد في «الأصل» ما إذا لم يذكر لفظة الشركة، ولكن قال أحدهما للآخر: ما اشتريت اليوم من شيء، فهو بيني وبينك ما حكمه وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يصح؛ إلا إذا ذكر لفظة الشركة، أو ما يدل على الشركة؛ بأن قال: ما أشتري اليوم وما اشتريت، فهو بيني وبينك، أما بدون ذلك لا يجوز ما لم يكن الرأي مفوضاً إلى الوكيل بأن قال: إذا اشتريت ما رأيت اليوم، أو ما شئت اليوم، فهو بيننا.
وروى أبو سليمان عن محمد أنه يجوز، وتثبت الشركة بهذا القدر؛ لأنهما ذكرا حكم الشركة إن لم يذكرا عقد الشركة، والعقد يصير مذكوراً بذكر حكمه ألا ترى أنهما لو ذكرا الشراء من الجانبين يجوز، وإن لم يذكرا الشركة لما ذكرا حكمة الشركة.
وجه ما روي عن أبي حنيفة: أنهما لم يذكرا الشركة، ولم يذكرا حكمة الشركة على الخصوص؛ لأن حكمة الشركة على الخصوص أن يصير كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه، ولم يذكرا ذلك، فلم تثبت الشركة لا نصاً ولا اقتضاء فبقيت وكالة، والوكيل بشراء شيء مجهول الجنس لا يجوز ما لم يكن الرأي مفوضاً إليه بخلاف ما لو ذكرا شراءهما؛ لأنهما ذكرا ما هو حكم الشركة على الخصوص فثبتت الشركة اقتضاءً بذكر الحكم، والشركة جائزة وإن كان المشترى مجهول الجنس.
(5/549)
-----
قال: وكذلك إذا لم يذكرا للشركة وقتاً بأن اشتركا على أن ما اشتريا فهو بينهما؛ لأنهما لما جعلا ما يشتريه كل واحد منهما بينهما علم أنهما أرادا الشركة؛ لأن الوكالة في العادة لا تقع من الطرفين، والشركة لا تفتقر إلى تسمية ما يشتريانه، ولا إلى ذكر الوقت بخلاف الوكالة؛ إذا فوض الرأي إلى الوكيل مطلقاً فيما يشتريه منه؛ إلا أن يقول: ما اشتريت من شيء لي فهو جائز حيث لا بد فيها من ذكر الوقت؛ نحو أن يقول: اليوم، أو شهر كذا، ويذكر مبلغ الثمن، أو نوع ما يشتريه كالبر والدقيق؛ لأن هذه الوكالة، وإن جرت مجرى الشركة بتفويض الرأي فيه إلى الوكيل حتى احتملت الجهالة؛ إلا أنها وكالة مطلقه، ومن حكم الوكالة الخصوص حتى إن من قال لغيره: وكلتك في هذا المال؛ كان وكيلاً بالحفظ؛ لأنا لو جوزناها مطلقة من غير تخصيص؛ جعلناها شركة من كل وجه، وإنها ليست بشركة من كل وجه، فقلنا: إذا وقت المدة، أو سمى النوع أو الثمن، فقد ظهر معنى الخصوص من وجه، فيجوز وإن أطلق لا يجوز.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: في رجلين قالا: ما اشترينا من شيء فهو بيننا نصفان، فهو جائز وذكر عين هذه المسألة في موضع آخر من «المنتقى» عن أبي يوسف وقال: إذا قالا: أردنا بهذا الكلام الشركة فهو جائز وإلا فهو باطل.(5/550)
-----
وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل قال لآخر: ما اشتريت من أصناف التجارة فهو بيني وبينك فقبل ذلك صاحبه فهو جائز، وكذلك إذا قال: اليوم، وما اشترى ذلك اليوم كان بينهما نصفان، وكذلك لو قال كل واحد منهما لصاحبه ولم يؤقتا، وكذلك إذا قال: ما اشتريت من الدقيق، فهو بيني وبينك، وليس لواحد منهما أن يبيع حصة صاحبه مما اشترى إلا بإذن صاحبه؛ لأنهما اشتركا في الشراء لا في البيع، ولو قال: إن اشتريت اليوم عبداً، فهو بيني وبينك، وليس لواحد منهما أن يبيع حصة صاحبه مما اشترى إلا بإذن صاحبه؛ لأنهما اشتركا في الشراء لا في البيع، ولو قال: إن اشتريت اليوم عبداً، فهو بيني وبينك فالشركة باطلة، ولو قال: عبداً خراسانياً فهو جائز.
وفيه أيضاً: بشر بن الوليد عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: ما اشتريت من شيء فهو بيني وبينك، فقال: نعم، قال: هذه الشركة غير مسماة ولا معلومة، وإن قال: ما اشتريت اليوم من شيء فهو بيني وبينك فهذا جائز، وكذلك إن وقت سنة، وإن لم يوقت وقتاً إلا أنه وقت من المشترى مقداراً بأن قال: ما اشتريت من الحنطة إلى كذا فهو بيني وبينك، فهذا جائز، وإن سمى صنفاً من البيوع ولم يبين فيه وقتاً من الأيام ولا بين المقدار، فقال: ما اشتريتَ من الحنطة من قليل أو كثير فهو بيني وبينك، ولم يؤقت ثمناً، فإن هذا لا يجوز، وكذلك الدقيق والأشياء كلها، وكذلك إذا قال: ما اشتريتَ في وجهك هذا فبيني وبينك، وقد خرج في وجه، أو قال بالبصرة، فهو باطل حتى يؤقتا ثمناً أو بيعاً أو أياماً.
(5/551)
-----
إذا قال الرجل لغيره: اشترِ عبد فلان بيني وبينك، فقال المأمور: نعم، ثم ذهب وأشهد وقت الشراء أنه اشترى لنفسه خاصة، فالعبد بينهما على الشركة؛ لأنه وكيل من جهة الآمر في نصف العبد، والوكيل لا يعزل نفسه بغير علم الموكل، وقال أبو حنيفة في «المجرد»: إذا أمره بشرائه فسكت، ولم يقل: نعم ولا لا، حتى قال عند الشراء: أشترِيه لنفسي يكون له، ولو قال: اشهدوا أني أشتريه لفلان كما أمرني، ثم اشتراه، فإن اشتراه وسكت عند الشراء، ثم قال بعد الشراء: اشتريتها لفلان الآمر؛ كان لفلان إذا كان سالماً، ولو قال ذلك بعدما حدث به عيب لم يقبل قوله إلا أن يصدقه الآمر.
ولو أن رجلاً أمر رجلاً أن يشتري له عبد فلان بينه وبينه، فقال المأمور: نعم، ثم لقيه رجل آخر، فقال: اشترِ عبد فلان بيني وبينك، فقال: نعم، ثم اشتراه المأمور، فهو بين الآمرين، ولا شيء للمأمور من العبد؛ لأن الأول أمره بشراء نصف العبد له، وصار المأمور بحال لا يملك شراء ذلك النصف حال عينه الآمر ما بقيت الوكالة، فلا يملك الشراء لغيره من طريق الأولى، فانصرفت الوكالة الثانية إلى النصف الآخر الذي يملك الوكيل الشراء لنفسه، ولغيره تصحيحاً للوكالة الثانية فصار النصف الآخر مستحقاً للثاني والنصف الأول كان مستحقاً للأول، فخرج المأمور من البين قالوا: وهذا إذا قبل الوكالة من الثاني بغير محضر من الأول، فأما إذا قبل الوكالة بمحضر من الأول؛ يكون العبد بين الآمر الثاني، وبين المأمور نصفين، وهكذا ذكر في «المنتقى»؛ وهذا لأنه لما قبل الوكالة والوكيل يملك عزل نفسه حال حضرة الموكل، ولا يملك ذلك حال غيبته.(5/552)
ولو لقيه ثالث بعد ذلك، وقال له: اشترِ عبد فلان بيني وبينك فاشتراه؛ كان العبد بين الأولين ولا شيء للثالث؛ قال في «العيون»: وهذا إذا قبل الوكالة من الثالث بغير محضر من الأول والثاني، فإذا قبلها بمحضر من الأول والثاني، فالعبد بين الثالث والمشتري، ولا شيء للأول ولا للثاني.(5/553)
-----
في «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً يقول في رجل أمرتهُ امرأة أن يشتري ثوباً موصوفاً بعشرين درهماً بيني وبينه، على أن انقد بالدراهم، فهو جائز وهو بينهما، والشرط باطل.
فيه أيضاً: إبراهيم عن محمد: رجل قال لرجل: اشترِ جارية فلان بيني وبينك على أن أبيعها أنا؛ قال: الشرط فاسد، والشركة جائزة، قال: وكذلك كل شرط فاسد في الشركة، ولو قال: على أن تبيعها؛ كان هذا جائزاً، وهي شركة بينهما يبيعانها على تجارتهما.
في «المنتقى»: قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول (136ب2) في رجل ليس له شيء تعال معي عشرة آلاف، فخذها شركة تشتري بيني وبينك، قال: هو جائز، والربح والوضيعة عليهما.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا اشترى الرجل شيئاً، فقال له آخر: أشركني فيه، فأشركه؛ هذا بمنزلة البيع، فإن كان قبل أن يقبض الذي اشترى لم يصح؛ لأن الشركة تقتضي التسوية، فمعنى قوله: أشركك فيه سويتك بنفسي فيه، وذلك تمليك النصف منه معنى قولنا: إنه بمنزلة البيع، وبيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وإن كان ذلك بعد القبض، فإن عرف مقدار الثمن جاز، وإن لم يعرف فهو بالخيار؛ إذا عرف من أصحابنا من يقول: البيع فاسد بجهالة الثمن، فإذا صار معلوماً يرتفع الفساد، ومنهم من قال: البيع صحيح؛ لأن الثمن معلوم في نفسه، وإن لم يعرفه المشتري، فهو كشراء ما لم يره يصح؛ لأنه معلوم في نفسه، وإن لم يعرفه المشتري، ولو قبض النصف دون النصف فأشرك فيه رجلاً لم يجز فيما لم يقبض، وجاز فيما قبض، وله الخيار لتفرق الصفقة عليه.(5/554)
-----
رجلان اشتريا عبداً، أو أشركا فيه رجلاً، فهذه المسألة على وجهين؛ إما إن أشركاه على التعاقب بأن قال له أحدهما: أشركتك في العبد، ثم قال له الآخر مثل ذلك، وفي هذا الوجه كان نصف العبد لذلك الرجل، ولكل واحد من الموليين ربعه، وإن أشركاه معاً بأن قالا جملة: أشركناك في هذا العبد كان للرجل ثلث العبد استحساناً، ولو أشركه أحد الرجلين في نصيبه، ونصيب صاحبه، وأجاز صاحبه كان لذلك النصف، وإن لم يجز، فله نصف نصيب المشترك، وهو الربع؛ لأن اشتراكه في نصيبه نفذ في الحال، وفي نصيب الشريك يوقف على الإجازة، وعند الإجازة يصير مشتركاً في نصيبه، فكان كل واحد منهما أشركه في نصيبه بعقد على حدة.
وعن أبي يوسف في «النوازل»: أن للرجل ثلث العبد إن أجاز شريكه، وإن لم يجز، فله سدس العبد من نصيب المشرك.
ووجهه: أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أشركه أحدهما في كل العبد بإذن صاحبه كان للرجل ثلث العبد كذا ههنا.
رجل اشترى عبداً وقبضه، فقال له رجل: أشركني فيه ففعل، ثم لقيه آخر، فقال مثل ذلك، فإن كان الثاني يعلم بمشاركة الأول، فله ربع العبد، وإن كان لا يعلم، فله نصف العبد، وللأول النصف، وخرج المشتري من البين؛ لأنه إذا لم يعلم بمشاركة الأول يكون طالباً للاشتراك في جميع العبد، وإذا علم يكون طالباً الاشتراك في نصيبه خاصة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه في «المجرد»: وللثاني ربع العبد علم بمشاركة الأول أو لم يعلم.
وإذا اشترى رجل نصف العبد وقبضه، فقال له رجل: أشركني فيه، وهو يرى أنه اشترى الكل ففعل، فله جميع النصف الذي اشتراه المشتري، وإن كان يعلم أنه اشترى النصف فله النصف، وهو بناء على ما قلنا في المسألة المتقدمة.
(5/555)
-----
ولو أن رجلاً في يديه حنطة يدعيها، فأشرك رجلاً في نصفها، فلم يقبض حتى احترق نصف الطعام، فإن شاء المشرك أخذ نصف ما بقي، وإن شاء ترك، وكذلك البيع في هذا الوجه؛ لأن الشركة والبيع وقعا على نصف الطعام، فما هلك يهلك على الحقين، وما بقي يبقى على الحقين، وله الخيار؛ إذا كان قبل القبض لتفرق الصفقة عليه، ولو استحق نصف الطعام؛ اختلف الشركة والبيع، وكان البيع على النصف الباقي، وكان الاشتراك في نصف ما لم يستحق، فيكون ذلك النصف بينهما؛ لأن بالاستحقاق تبين أن الطعام كان مشتركاً، والشركة تقتضي التساوي، وإنما يتحقق التساوي إذا كان الباقي بينهما بخلاف البيع؛ لأن البيع لا يقتضي التساوي، فانصرف إلى النصف الباقي.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: أن الشركة والبيع سواء، وله النصف كملاً في الشركة والبيع جميعاً. وقال أبو حنيفة في رجل قال لآخر: اشترِ هذا العبد وأشركني فيه، فقال: نعم، ثم اشتراه فهو بينهما، وكذلك قال أبو يوسف، وهذا استحسان.
اشترى عبداً بألف وقبضه، ثم قال لرجل: قد أشركتك، فلم يقل الرجل شيئاً حتى قال لآخر: أشركتك فيه، ثم قالا: قد قبلنا، فالعبد بينهما لكل واحد منهما النصف، وخرج المشتري من البين بمنزلة ما لو قال رجل لرجل: بعتك نصف عبدي هذا بخمسمائة، فلم يقل الرجل شيئاً؛ حتى قال لآخر: بعتك نصف عبدي هذا بخمسمائة، فقالا: قد قبلنا؛ كان لكل واحد منهما نصف العبد بخسمائة.
اشترى حنطة، وأعطى على طحنها درهماً، ثم أعطى على خبزها درهماً، فأشرك رجلاً في الخبز أعطاه المشترك نصف ثمن الحنطة، ونصف النفقة، وكذلك هذا في القطن وغزله وحياكته وفي السمسم وعصره، ولو كان هو الذي طحن وخبز، أو غزل ونسج، ولم يعطه عليه أجراً، وباقي المسألة بحالها، فعليه نصف الثمن لا غير، ولا شيء عليه لعمله في «المنتقى».
(5/556)
الفصل الثالث في المفاوضة
هذا الفصل يشتمل على أنواع
-----
نوع منهافيما يوجب بطلانها بعد صحتها
إذا اشتريا بأحد المالين شيئاً، ففي القياس تبطل المفاوضة؛ لأن المشترى صار بينهما نصفان، والآخر مختص بملك رأس المال؛ لأن رأس مال كل واحد منهما قبل الخلط باقٍ على ملكه، فتنعدم المساواة.
وفي الاستحسان: لا تبطل المفاوضة؛ إما لأن المساواة لم تنعدم؛ لأن الآخر إن ملك نصف المشترى، فقد صار نصف الثمن مستحقاً عليه لصاحبه؛ ولأنه وإن انعدمت المساواة فالتحرز عنه غير ممكن عادة، فإنهما قل ما يجدان شيئاً واحداً يشتريانه بمالهما، فلا بد من أن يكون الشراء بأحد المالين سابقاً كما لو كان رأس مالهما على السواء يوم الشركة حتى صحت المفاوضة؛ صار في أحدهما فضل قبل أن يشتريا بأن ازدادت قيمة أحد النقدين بعد عقد المفاوضة قبل الشراء؛ انتقضت المفاوضة؛ لأن عقد الشركة ليس لازم فلقائه حكم الابتداء إن لم يتم المقصود، وأما لم يتم المقصود، وإنما لم يتم المقصود بالشراء، فتحول الزيادة قبل الزيادة بمنزلة الزيادة وقت العقد.
وبهذا الطريق قلنا: لو ورث أحد المتفاوضين ما يصلح أن يكون رأس مال الشركة؛ تبطل المفاوضة.
قال محمد رحمه الله: وهذا إذا اشترى بأحد المالين وزاد الآخر؛ لأن المقصود لم يتم فيما لم يشتره، فصار كأن الزيادة كانت موجودة في الابتداء، وإن حصل الفضل بعد الشراء بالمالين، فالمفاوضة على مالهما؛ لأن المقصود قد حصل بالشراء وتأتي عقد الشركة، وكذلك إذا وقع أخذ المشترى بأحد المالين، وزاد الذي وقع الشراء به بعد ذلك لا تنقض المفاوضة لما قلنا.(5/557)
-----
وإذا هلك أحد المالين قبل الشراء انتقضت الشركة؛ لأنه يأتي على ملك صاحبه، فإذا هلك فقد فات محل العقد، فيبطل العقد، فإن اشترى الآخر بعد ذلك بماله ذكر هذه المسألة في «الأصل»: في بعض المواضع أن المشترى له خاصة، وذكر في بعض المواضع أن المشترى مشترك بينهما، وذكر هذه المسألة في شرح القدوري (137أ2) وجعلها على وجهين: إما أن يشترطا في عقد الشركة أن كل ما يشتريه واحد منا، فهو بيننا، وفي هذا الوجه كان المشترى مشتركاً بينهما، ولكن شركة ملك، فأما إن لم يشترطا في عقد الشركة أن كل ما يشتريه كل واحد منهما فهو بيننا.
وفي هذا الوجه كان المشترى لصاحب المال خاصة؛ قال شمس الأئمة السرخسي: في شركة ما ذكر في «الأصل» في بعض المواضع: أن المشترى له خاصة محمول على ما إذا أطلقا عقد الشركة، ولم يشترطا أن ما يشتريه كل واحد منا فهو بيننا، وما ذكر في بعض المواضع أن المشترى مشترك بينهما؛ محمول على ما إذا شرطا في عقد الشركة أن كل ما يشتريه كل واحد منا فهو مشترك بيننا بما ذكره القدوري؛ وهذا لأنهما إذا شرطا في عقد الشركة أن ما يشتريه كل واحد منا فهو بيننا، فهلاك أحد المالين إن بطلت الشركة لم تبطل الوكالة، فيكون المشترى بينهما، ولا كذلك إذا أطلقا عقد الشركة.
وإن هلك واحد من المالين حتى اشتريا شيئاً بأحد المالين، ثم هلك الآخر هلك على مال صاحبه، وانتقضت الشركة في الهالك، ويكون المشترى مشتركاً بينهما؛ لأن الشركة كانت قائمة حتى اشتريا بأحد المالين، وصار المشترى مشتركاً بينهما، فلا ينتقض ذلك بهلاك المال الآخر بعد ذلك؛ بعد هذا قال أبو الحسن: المشترى مشترك بينهما شركة ملك حتى لا ينعقد بيع أحدهما في جميعه؛ لأن المشترى مشتركاً بينهما شركة عقد؛ فانتهت الشركة نهائياً فلا يتعين هذا الحكم بهلاك المال الآخر بعد ذلك.(5/558)
-----
وإن أنكر أحد المتفاوضين المفاوضة انفسخت المفاوضة؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام في أول باب خصومة المفاوضين المفاوضة انفسخت المفاوضة بينهما، ويجب أن يكون الحكم في جميع الشركات هكذا، فإذا فسخ أحد الشريكين الشركة، ومال الشركة أمتعة صح الفسخ بخلاف المضاربة؛ هكذا ذكر في «الأصل».
وذكر الطحاوي: أنه لا يصح الفسخ، وجعلها بمنزلة المضاربة، وهذا إذا فسخ بحضرة صاحبه، فأما إذا فسخ بغيبة صاحبه، ولم يعلم صاحبه بالفسخ لا يصح الفسخ؛ سواء كان رأس المال أمتعة أو كان دراهم، ولو مات أحد الشريكين انفسخت الشركة علم الشريك بموته أو لم يعلم، ولو كان الشركاء ثلاثة؛ مات واحد منهم حتى انفسخت الشركة في حقه؛ لا ينفسخ في حق الباقين، وإذا قال أحد الشريكين لصاحبه: لا أعمل من كسب الشركة، فهذا بمنزلة قوله: فاسختك الشركة.
وفي «المنتقى»: ثلاثة نفر متفاوضين، غاب أحدهم، وأراد الآخران الفسخ، فليس لهما ذلك دون الغائب، ولا ينتقض بنقض العقد دون البعض، وإن ورث أحد المتفاوضين ما تصح به الشركة، كالدراهم والدنانير، وصارت في يده؛ بطلت المفاوضة، وإن ورث عروضاً أو ديوناً لم تبطل المفاوضة ما لم يقبض الديون، وإن أجر أحدهما عبداً له خاصة، أو باع لا تبطل المفاوضة ما لم يقبض الأجر؛ وهذا لأن المفاوضة ليست بملازمة، وما ليس ملازم من العقود، فلدوامه حكم الابتداء، فصارت المفاوضة في حالة الدوام كالمفاوضة في الابتداء المشتركة، ثم المفاضلة في العقود في ابتداء العقد يمنع انعقاد المفاوضة، فيمنع بقاؤها والمفاضلة في العروض والديون لا يمنع ابتداؤها، فلا يمنع بقاؤها، وفي كل موضع فات فيه شرط من شروط المفاوضة، وذلك ليس بشرط في العنان؛ كانت الشركة شركة عنان؛ لأن المفاوضة أعم من العنان، فيجوز إثبات العنان بلفظ المفاوضة.
نوع منه فى تصرف أحد المتفاوضين في مال المفاوضة(5/559)
-----
قال محمد رحمه الله: لكل واحد من المتفاوضين أن يشتري بجنس ما في يده حتى إذا كان في يده مكيلاً أو موزوناً، فما اشترى بذلك الجنس جاز، وإن اشترى بما ليس في يده من ذلك الجنس، فإن اشترى بالدراهم أو بالدنانير، وليس في يده دراهم ولا دنانير؛ كان المشترى خاصاً للمشتري، ولا يجوز شراؤه على الشركة، ولو جاز ذلك صار مستديناً على شريكه، وهو لا يملك ذلك إلا بإذن شريكه إذ لو ملك ذلك يزيد مال الشركة على مال انعقدت به الشركة، والشريك لم يرضَ بذلك، فأما إذا كان في يده من جنس ذلك، فهو ليس باستدانة، وروي عن أبي حنيفة: إذا كان في يده دنانير، فاشترى بدراهم جاز؛ لأنها كالعقد الواحد، فكأنه اشترى بجنس ما في يده.
وفي «الأصل»: لأحد المتفاوضين أن يكاتب عبداً من تجارتهما، وله أن يأذن له في التجارة، أو في الغلة، أما الإذن في التجارة وأداء الغلة؛ فلأنه من جملة التجارة، وأما الكتابة فلأنها اكتساب مال، ولهذا ملكه الأب، والوصي في مال اليتيم، واكتساب المال داخل تحت المفاوضة كالتجارة، وليس له أن يعتق عبداً من تجارتهما على مال؛ لأن العتق على مال ليس بتجارة، ولا هو اكتساب مال؛ لأن الملك يزول ببدل في ذمته فيفلس وله أن يزوج أمة من تجارتهما، وليس له أن يزوج عبداً من تجارتهما، على مال؛ لأن العتق على ما ليس بتجارة وبتزويج الأمة اكتساب المال بخلاف تزويج العبد، وإن زوج أمة من تجارتهما عبداً من تجارتهما لا يجوز استحساناً عند علمائنا الثلاثة، وكذلك المكاتب إذا زوج عبداً من كسبه أمة من كسبه؛ لا يجوز استحساناً، وكذلك إذا زوج أمة اليتيم من عبد اليتيم استحساناً، وله أن يشارك رجلاً شركة عنان ببعض مال، ويجوز عليه وعلى شريكه سواء كان بإذن شريكة، أو بغير إذن شريكه.(5/560)
-----
في «المنتقى» عن محمد: إذا شارك شركة مفاوضة بغير محضر من صاحبه؛ كان عناناً لا مفاوضة، وإن فعل ذلك بحضرة شريكه وشريكه لا يرضى فهذه مفاوضة بين الأولين، والذي فاوض منهما مفاوض للذي فاوضه، وإن شاركه شركة مفاوضة، وكانت عناناً، وليس له أن يفاوض؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام في أول باب بضاعة المفاوض، وذكر شمس الأئمة السرخسي في هذا الباب، وله أن يفاوض، وذكر بعد هذا، وقال أبو يوسف: لا يجوز للمفاوض أن يفاوض.
في «المنتقى»: عن أبي يوسف في متفاوضين شارك أحدهما رجلاً شركة عنان في الرقيق، فهي جائزة، وما اشترى هذا الشريك من الرقيق فنصفه للمشتري، ونصفه بين المتفاوضين نصفين، ولو أن المفاوض الذي لم يشارك اشترى عبداً كان نصفه لشريك شريكه، ونصفه بين المفاوضين؛ لأن شركة أحد المفاوضين جائز عليهما، ويجوز له أن يرهن مال المفاوضة بدين على المفاوضة إن الرهن إيفاء.
(5/561)
-----
وكذلك لو رهن متاعاً من خاصته، مباعاً بدين المفاوضة، ولم يكن متبرعاً، ويرجع على شريكه بنصف الدين؛ إن كان الرهن قد هلك في يد المرتهن، ولو كان الدين على أحد المفاوضين خاصة من مهر امرأته أو أرش جنايته، ورهن بذلك مالاً من تجارتهما؛ كان ذلك جائزاً عليه وعلى شريكه؛ حتى لم يكن لشريكه أن يسترده من يد المرتهن، وإذا هلك الرهن في يد المرتهن؛ رجع عليه شريكه بنصف الدين، ولا يرجع بالزيادة (137ب2) على قدر الدين؛ لأن الزيادة على قدر الدين أمانة، ولأحد المتفاوضين أن يودع، وإن كان الدين من تجارتهما على رجل فارتهن به أحدهما رهناً، فهو جائز سواء كان هو الذي يلي المبايعة أو صاحبه؛ لأن الارتهان استيفاء، وكل واحد من المتفاوضين وكيل عن صاحبه في استيفاء الدين الواجب بتجارته، ولأحد المتفاوضين أن يدين مال المفاوضة، وأن يغذي الطعام التهنئة من مال المفاوضة،وأن يدعوا إليه استحساناً؛ يريد بقوله يدعوا إليه أن يتخذ دعوة، وإنما كان ذلك له؛ لأنه من صنع التجارة، والتجار لا يجدون بداً منه.
ألا ترى أن العبد المأذون يملك ذلك، ولا يقدر في الدعوة تقديراً، وقد قال: إن المكاتب يتصدق بما دون الدرهم، فمن مشايخنا من قال: التقدير في الصدقة تقدير في الضيافة، ومنهم من فرق بينهما، فقال: التصدق بما دون الدرهم ممكن، فأما اتخاذ الضيافة والإهداء قد لا يتهيأ بما دون الدرهم ممكن، فقد تقع الحاجة إلى الإهداء إلى جماعة، وإلى اتخاذ الدعوة لجماعة، فكان التقديرمفوضاً إلى العرف فيما يعده التجار فيما بينهم تبرعاً لا يملكه المفاوض، ثم إنما يتملك الإهداء بالمأكول من الفاكهة واللحم والخبز، ولا يملك الإهداء بالذهب والفضة؛ لأنا إنما دخلنا الإهداء في الشركة لعرف التجار، وعرفهم في إهداء المأكول، ثم ذكر اللحم في «الكتاب»، ولم يفصل بين المشوي والنيء، فمن مشايخنا من قال: أراد به المشوي؛ إلا أن محمداً رحمه الله أطلق، ولم يقيد.(5/562)
-----
وإذا أعار أحد المتفاوضين دابة من المفاوضة من رجل، فركبها المستعير، ثم اختلفا في الوضع الذي ركبها إليه، وقد عطبت الدابة، فقال أحدهما: إما المعير، وإما شريكه: إنه جاوز الوقت، وقال الآخر: إنه لم يتجاوز، وكانت الإعارة إلى هذا المكان، فلا ضمان على المستعير؛ لأن قول أحدهما فيما دخل تحت المفاوضة كقولهما، ولو قالا: إن الإعارة كانت إلى هذا المكان؛ لا ضمان على المستعير؛ كذا ههنا، ولأحد المتفاوضين أن يودع مال المفاوضة؛ لأنه من توابع التجارة، فإذا ادعى المودع أنه قد ردها إليه، أو إلى صاحبه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه مسلط على الرد على كل واحد منهما، فإنه كما يقوم أحدهما مقام صاحبه في الإيداع فكذا في الاسترداد، فإن جحد الذي ادعى عليه ذلك لم يضمن لشريكه بقول المودع؛ لأن يقول المودع يثبت الدفع إليه في حق براءة المودع عن الضمان؛ لا في حق إيجاب الضمان على المدفوع إليه، ولكن يحلف بالله ما قبضه؛ لأن شريكه يدعي عليه ضمان نصيبه بجحوده القبض.
قال: ولو مات أحدهما، ثم ادعى المستودع أنه كان دفعها إلى الميت منهما، فلا ضمان على المودع؛ لأنه بقي أميناً، وقول الأمين في رد الأمانة مقبول، وإن ادعى أنه دفعها إلى ورثة الميت منهما فكذبوه، وحلفوا على دعواه، فهو ضامن للنصف حصة الحي من ذلك؛ لأن في نصيب الميت كان له حق الدفع إلى ورثته، فأما ليس له أن يدفع نصيب الحي إلى ورثة الميت؛ لأن ورثة الميت خلفا الميت في حقه خاصة، وليس لأحدها أن يفوض شيئاً من مال المفاوضة في ظاهر الرواية، قالوا: وينبغي أن يكون له الإعراض بما لا خطر للناس فيه.(5/563)
-----
وذكر الحسن أن على قول أبي حنيفة لأحد المتفاوضين أن يقرض مال المفاوضة من رجل من به، وله أن يبضع، وأن يدفع المال، مضاربة؛ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه ليس له أن يدفع المال مضاربة، فإن أبضع أحدهما، ثم تفرق المفاوضان أي تقاسما المفاوضات، ثم استحال المستبضع بالبضاعة شيئاً، فإن علم بتفرقهما، فالمشترى للمبضع وحده، فإن لم يعلم بتفرقهما؛ كان المشترى للمبضع ولشريكه؛ لأن الإبضاع توكيل، وصح ذلك من أحدهما عليهما، والافتراق عزل منهما إياه، وحكم العزل قصداً لا يثبت في حق الوكيل قبل علمه.
قال القدوري: ولأحد المتفاوضين أن يسافر بالمال بغير إذن شريكه، وهو الصحيح من مذهب أبي حنييفة، ومحمد، وروي عن أبي حنيفة أنه ليس له ذلك، وهو قول أبي يوسف، وروي عن أبي يوسف: أنه يفرق بين ما له حمل ومؤنة وبينما لا حمل له ولا مؤنة، ثم إذا سافر على قول من جوز المسافرة، أو أذن له الشريك بذلك، فله أن ينفق على نفسه في كرائه ونفقته وطعامه، وإدامه من جملة رأس المال، وروى ذلك الحسن عن أبي حنيفة، فإن ربح حسب النفقة في مال الشركة للعرف الظاهر فيما بين التجار في الإنفاق من مال الشركة إذا كان السفر لأخذ مال الشركة.
نوع فيتصرف أحد المتفاوضين في عقد صاحبه، وفيما وجب بعقد صاحبه
إذا أقال لأحدهما في بيع باعه الآخر جازت الإقالة عليهما، وكذلك إذا أقاله أحدهما في سَلَم باشره صاحبه؛ لأن الإقالة بمعنى البيع في تحصيل الربح، فإن الربح قد يحصل بالعقد مرة، وبالإقالة أخرى، فإذا نفذ عقد أحدهما على صاحبه، فكذا الإقالة.
وإذا باع أحد المتفاوضين شيئاً بالنسيئة ومات فليس للآخر أن يطالب المشتري بشيء؛ لأنه لو طالبه بحكم الشركة؛ لأنه ليس بعاقد، والشركة قد انقطعت بالموت، ولكن لو دفع نصف الثمن إليه برىء استحساناً؛ لأنه ملكه، ألا ترى أن المشتري لو دفع الثمن إلى الموكل برىء منه استحساناً، كذا ههنا.(5/564)
-----
ولو باع أحد المتفاوضين شيئاً من تجارتهما، ثم إن البائع وهب الثمن من المشتري، أو أبرأه منه؛ جازت في قول أبي حنيفة ومحمد، ويضمن نصيب شريكه، وقال أبو يوسف: يصح في حصته خاصة كالوكيل الخاص إذا وهب الثمن من المشتري، أو أبرأه منه جاز في نصيبه، ولم يجز في نصيب صاحبه إجماعاً، وإذا أخرّ أحد المتفاوضين ديناً وجب لهما جاز تأخيره في نصيبه وفي نصيب صاحبه بالإجماع؛ سواء وجب الدين بعقد المؤخر، أو بعقد صاحبه، أو بعقد لها؛ لأن التأخير من توابع التجارة لا تجد التجارة بداً منه، وقد جعل فعل أحدهما في التجارة كفعلهما، فكذا في توابع التجارة.
ذكر في «المنتقى»: وإذا كان على أحد المتفاوضين دين إلى أجل، فأبطل أحدهما الأجل بطل وحل المال عليها جميعاً. ولو مات أحدهما حل على الميت حصته، ولم تحل حصة الآخر؛ لأن بموت أحدهما بطلت المفاوضة، فإنما حل المال على الميت بعد انتقاض المفاوضة.
وفيه أيضاً: المعلى عن أبي يوسف: إذا كان لرجل على المتفاوضين مال، فأبرأ أحدهما عن صحته، فهما يبرأان جميعاً من المال كله، وإذا اشترى أحدهما شيئاً من تجارتهما، فوجد الآخر به عيباً؛ كان له أن يرده؛ كما وجد الشراء منه حقيقة، وكذلك لو باع أحدهما شيئاً من شركتهما، ثم وجد المشتري به عيباً؛ كان للمشتري أن يردها بالعيب على الشريك الآخر؛ لأن البيع وجد من الآخر حكماً.(5/565)
-----
ولو وكل أحد المتفاوضين رجلاً أن يشتري له جارية بعينها، أو بغير عينها بثمن مسمى، ثم إن الآخر نهى الوكيل عن ذلك فنهيه جائز؛ لأن عزل الوكيل من جميع التجارة كالتوكيل، ثم فعل أحدهما (138أ2) في التوكيل كفعلهما، فكذا في العزل، فإن اشتراها الوكيل بعد ذلك، فهو مشترٍ لنفسه؛ لأن الوكالة قد بطلت بعزل أحدهما إياه، وإن لم ينهه عن ذلك حتى اشتراها كان مشترياً لهما جميعاً ويرجع بالثمن على أيهما شاء، وكذلك لو وكل أحدهما بأدائه فللآخر إخراجه، ولو أجر أحد المتفاوضين عبداً من تجارتهما كان للشريك الآخر أن يطالب المستأجر بالأجر لما ذكرنا أن فعل أحدهما فيما هو تجارة بمنزلة فعلهما، وللمستأجر أن يطالب الشريك الآخر بتسليم العبد؛ لأن التسليم مضمون على الآجر بعقد التجارة، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يلزمه بعقد التجارة.
وإن آجر أحدهما عبداً له خاصة من الميراث لم يكن للآخر أن يطالب المستأجر بالأجر؛ لأن فعل أحدهما إنما جعل كفعلهما فيما هو من شركتها؛ ألا ترى أنه لو باع هذا العبد لم يكن للآخر أن يأخذ الثمن كذا ههنا؛ إذا باع أحد المتفاوضين شيئاً من متاع المفاوضة، ثم افترقا، ولم يعلم المشتري بافتراقهما؛ كان له أن يدفع جميع الثمن إلى أيهما شاء؛ لأن المشتري صار وكيلاً من جهة العاقد بتسليم جميع ما عليه إلى شريكه حالة المفاوضة، وافتراقهما عن المفاوضة عزل له عن ذلك، فلا يعمل بدون عمله، وإن علم بذلك لم يكن له أن دفع جميع الثمن إلا إلى العاقد، ولو دفع إلى الشريك الآخر برىء عن النصف دون النصف.(5/566)
-----
ولو وجد المشتري بالعبد عيباً لم يرده إلا على العاقد؛ لأن الرد على الآخر حال قيام المفاوضة، وقد انقطعت المفاوضة، فإن خاصم المشتري البائع في العيب حال قيام المفاوضة، ورد عليه؛ وقضي له بالثمن، أو بنقصان العبد عند تعذر الرد، ثم افترقا؛ كان له أن يأخذ به أيهما شاء؛ لأن هذا دين لزم أحدهما حال قيام الشركة، وصار الآخر مطالباً بحكم الكفالة، فلا يبطل حق صاحب الدين بالمفاوضة، ولو استحق العبد بعد الافتراق، وقد كان بعد الثمن كله قبل الافتراق، فللمشتري أن يرجع بالثمن على أيهما شاء؛ بخلاف الرد، فإن الرد بالعيب إذا حصل بعد المفارقة يرجع المشتري بالثمن على البائع، ولا يرجع على الشريك الآخر.
والفرق: أن في الاستحقاق تبين أن الثمن كان واجباً قبل الافتراق؛ لأنه قبض ما ليس له قبضه، وما يجب على أحدهما جعل المفارقة يطالب الآخر به بعد المفارقة أما بالرد لا يتبين أن الثمن كان واجباً قبل المفارقة، وإنما يجب بعد المفارقة على أحدهما، فلا يطالب به الشريك الآخر، والله أعلم.
نوع منه فى ما يلزم كل واحد من المتفاوضين بحكم الكفالة عن صاحبه
وإذا أقر أحد المتفاوضين بدين التجارة جاز إقراره عليه وعلى شريكه، وللمقر له أن يطالب أيهما شاء المقر بحكم إقراره، والشريك بحكم الكفالة، وكذلك ما يلزم أحدهما من دين في عقد التجارة؛ كالشراء والبيع والاستئجار، ويلزم صاحبه بحكم الكفالة، وكذلك البيوع الفاسدة، فأما ما يلزم أحدهما من دين في عقد التجارة ضمان غصب أو استهلاك أو خلاف في وديعة أو عارية؛ لزم شريكه من قول أبي حنيفة ومحمد وكذا الإقرار بذلك، وقال أبو يوسف: لا يلزم الشريك؛ لأن هذا ضمان وجب بسبب الجناية، فشأنه ضمان الجناية على الآدمي، ثم ما وجب على أحد المتفاوضين من ضمان الجناية على الآدمي عمداً أو خطأً لا يؤاخذ به شريكه، فكذا ههنا.(5/567)
-----
وأبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما يقولان: بأن ضمان الغصب يجري مجرى ضمان التجارات، فإنه يثبت الملك في المضمون ببدل وكذلك ضمان المستهلكات، ومن هذا الوجه صح إقرار العبد المأذون، والصبي المأذون، والمكاتب بذلك، وكل واحد منهما؛ كفيلاً عن صاحبه في ضمان التجارات بخلاف ضمان الجناية؛ لأنه لا يفيد الملك في المضمون، فلم يكن من جنس ضمان التجارة إلا إقرار الضمان على الغاصب، وعلى المستهلك حتى لو أدى شريك الغاصب لك من خالص ملكه، رجع بجميعه على الغاصب، وإن أدى من مال الشركة رجع بنصفه على الغاصب؛ لأن منفعة الغصب حاصلة للغاصب على الخصوص وهو إثبات اليد، والمتمكن من الانتفاع بخلاف الشراء الفاسد، فإن هناك إقرار الضمان لا يكون على المشتري خاصة، بل يكون عليهما؛ لأن منفعة الشراء الفاسد وهو الملك حاصلة لهما.
ولوكفل أحدهما بمال من غيره؛ فذلك لازم لشريكه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يلزم الشريك؛ لأن الكفالة تبرع؛ ولهذا لا يصح من المأذون والمكاتب، وإذا حصل من المريض يعتبر من الثلث، وكل واحد منهما ليس بكفيل عن صاحبه في التبرعات، ولأبي حنيفة أن الكفالة تبرع ابتداءً؛ يعني حالة الوقوع؛ إلا أنها متى وقعت وصحت تنقلب مفاوضة.
ألا ترى أن الكفيل يرجع بما يؤدي على المكفول عنه؛ إذا كفل بأمره ولكونها تبرعاً وقوعاً لم يصح من العبد والصبي، وإذا وقعت وصحت وقت الفراغ عن اعتبار معنى المفاوضة، فتلزمه بحكم الكفالة، ولوكفل أحدهما بنفس لم يوجد بذلك شريكه في قولهم جميعاً؛ لأنه لا يظهر معنى المفاوضة فيها.(5/568)
-----
وإذا تزوج أحد المتفاوضين امرأة لا يؤاخذ شريكه بالمهر؛ لأن النكاح ليس بتجارة ولا اكتساب، فلا تظهر الكفالة في حقه، وكذلك لو صالحها عن نفقتها لا يلزم الشريك، من ذلك شيء كفل أحد المتفاوضين عن رجل بمهر أو أرش جناية، فهو بمنزلة كفالة بدين آخر؛ لا يؤاخذ به شريكه في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة؛ يؤاخذ به؛ لأن الواجب على المفاوض في هذه الصورة بسبب الكفالة؛ لا بسبب الجناية والنكاح، والكفالة عنده مفاوضة.
ولو أقر أحد المتفاوضين لمن لا تقبل شهادته له بدين؛ بأن أقر لأبيه أو لابنه أو لأمته، أو ما أشبه ذلك، لم يصح إقراره في حق شريكه في قول أبي حنيفة، وعندهما يجوز إقراره لعبده، ومكاتبه على شريكه، وإنما لا يصح لما قلنا من التهمة، وإذا افترق المتفاوضان، ثم قال أحدهما: كنت كاتبت هذا العبد في الشركة؛ لم يصدق على ذلك في حق الشريك؛ لأنه أقر بما لا يملك إنشاءه للحال، ولكن يصدق في حق نصيبه، ويجعل في حق الشريك كأنه أنشأ الكتابة للحال، ولشريكه أن يرده دفعاً للضرر عن نفسه، ولكن بعدما يحلف على علمه؛ لأنه لو أقر بما أقر به شريكه فكاتباً، فإذا أنكر يستحلف، وإن قال: أعتقت هذا في الشركة؛ صح إقراره في نصيبه، ولكن لا يشتغل بتحليف الآخر ههنا؛ لأنه لو أنشأ العتق في حال حق الشريك؛ لا ينفذ إقراره في نصيب شريكه، فكذا إذا أقر بعد الافتراق بخلاف الكتابة.
رجل سلم ثوباً إلى خياط ليخيط بنفسه، وللخياط شريك في الخياطة (138ب2) شركة مفاوضة، ثم افترقا؛ لم يكن لرب الثوب أن يأخذ الشريك الآخر بالخياطة؛ لأنه لو أخذ أخذ بحكم الكفالة، والكفالة ههنا لا تصح؛ لأن هذه كفالة بخياطة رجل بعينه، وهذا بخلاف ما لو يشترط عليه أن يخيطه بنفسه، ثم افترقا، فإنه يؤاخذ الشريك الآخر بالخياطة؛ لأن الكفالة بمطلق الخياطة جائزة فلا تستقم مطالبة الآخر بعد الافتراق بحكم الكفالة.Y(5/569)
-----
قال شيخ الإسلام في تعليل المسألة الأولى: ولهذا لم يكن لرب الثوب أن يطالب الشريك الآخر بالخياطة حال قيام المفاوضة، فبعد الافتراق أولى، وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن لصاحب الثوب أن يطالب بالعمل منهما كشخص واحد، ولكل واحد منهما قائم مقام صاحبه؛ لأن المساواة التي هي ركن المفاوضة لا تتحقق إلا به، فلا تظهر معنى الكفالة ما بقيت المفاوضة، وإنما يظهر يوماً يطالب الشريك الآخر بالخياطة؛ لأن الموجب الاتحاد وهي الشركة قد انقطعت، وإنما بقي معنى الكفالة، والكفالة ههنا غير صحيحة .... أن يأخذ أيهما شاء بالأجر، وكذلك إذا استأجر أحدهما أجيراً في شيء من أمره خاصة؛ كان للأجير أن يطالب أيهما شاء.
ولو أجر أحد المتفاوضين نفسه بخيط شي له خياطة ثوب فالأجر بينهما، ولو أجر نفسه للخدمة، فالأجر له خاصة، وكذلك إذا أجر عبداً، خالصاً له فإن كان موروثاً، فالأجر له خاصة.
والوجه في ذلك: أن في إجازة نفسه للخياطة وما أشبه ذلك من الأعمال، الأجير إنما يستوجب الأجر بنفس ذلك العمل، وإنه صحيح منه في حق صاحبه فما يجب بسببه يكون بينهما، وفي إجارة نفسه للخدمة الآجر يجب بتسليم النفس في نفسه؛ ليس من شركتهما؛ كما أن العبد الموروث له ليس من شركتهما.
نوع منه فى استحلاف كل واحد من المتفاوضين بالدعوى على صاحبه(5/570)
-----
إذا ادعى رجل على أحد المتفاوضين أنه باعه كذا بكذا، وجحد المدعى عليه، وحلفه القاضي، ثم إن المدعي أراد استحلاف الشريك الآخر؛ فالقاضي يستخلفه له على علمه؛ لأن كل واحد لو أقر بما ادعاه المدعي؛ كان إقراره ملزماً للآخر فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول الذي هو إقرار؛ لأن المدعى عليه البيع يستحلف على فعل نفسه، فيحلف على النيات والآخر يحلف على الغير، فيحلف على العلم، وأيهما نكل عن الثمن رضي بالمدعي للمشتري بالثمن الذي ادعاه؛ لأن النكول إقرار، وإقرار أحدهما بالمبايعة يلزم أياً منها وكذلك كل ما كان من أعمال التجارة؛ إذا ادعى رجل على أحدهما يحلف القاضي المدعى عليه على ذلك؛ كان للمدعي أن يحلف الآخر؛ لأن فيما كان من أفعال التجارة، ففعل أحدهما كفعلهما، وإذا وكل واحد منهما ويلزم الآخر، فيحلف كل واحد منهما يدعي المدعي رجاء النكول الذي هو إقرار.
وأما ما ليس من أعمال التجارة إذا ادعاه رجل على أحدهما؛ لا يحلف الشريك الآخر عليه لأن ما ليس من أعمال التجارة لم يجعل فعل أحدهما كفعلهما، وإقرار أحدهما لا يلزم الآخر، فلا يكون في استحلاف الآخر فائدة، وإن كان أحد المتفاوضين ادعى شيئاً من أعمال التجارة على رجل وجحد المدعى عليه، وحلفه القاضي على ذلك، ثم أراد المفاوض الآخر أن يحلفه على ذلك، فليس له ذلك، فقد جعل استحلاف أحد المتفاوضين كاستحلافهما، ولم يجعل حلف أحد المتفاوضين في المسألة الأولى كحلفهما، والفرق: أن النيابة به تجري في الاستحلاف، ولا تجري في الحلف.
نوع منه فى شراء أحد المتفاوضين شيئاً لحاجة نفسه(5/571)
-----
قال في «الأصل»: وكل ما اشترى أحد المتفاوضين من التجارتين وغيرهما، فهو بينه وبين شريكه؛ لأن شراء أحدهما بحكم المفاوضة كشرائهما إلا أني أستحسن في كسوته، وكسوة عياله، وقوتهم في الطعام، والإدام أن يكون له خاصته دون شريكه؛ لأن هذا مستثنى عن حصة المفاوضة لمكان الضرورة، وللبائع أن يطالب بالثمن أيهما شاء؛ لأن كل واحد بحكم المفاوضة صار كفيلاً عن صاحبه فيما يلزمه بسبب الشراء، وإذا أدى أحدهما ذلك من مال الشركة؛ رجع الشريك الآخر على المشتري بنصفه؛ لأن الثمن كان عليه خاصة، وقد قضى ذلك من مال الشركة.
وإن اشترى أحد المتفاوضين جارية لحاجة نفسه ليطأها، فإن كان اشتراها بغير أمر الشريك فهي بينهما، وليس له أن يطأها؛ لأن هذا الشراء غير مستثنى عن عقد الشركة؛ لأنه لا ضرورة فيه، فبقي داخلاً تحت عموم عقد المفاوضة، وإن اشتراها بأمر الشريك، فهي له خاصة استحساناً، وللبائع أن يطالب بالثمن أيهما يشاء؛ كما لو اشترى طعاماً أو كسوة لأهله، ويكون إقرار الثمن على المشتري؛ حتى لو أدى أحدهما الثمن من مال الشركة؛ كان للشريك الآخر أن يرجع بنصف ذلك على المشتري؛ هكذا ذكر في كتاب الشركة ولم يحك خلافاً.
وذكر في «الجامع الصغير»: أن على قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ الجارية للمشتري بلا ثمن، وله أن يطأها، وأيهما نقد الثمن من مال الشركة، فلا رجوع على المشتري، وبين ما ذكر في «الجامع الصغير» أن ما ذكر في كتاب الشركة قولهما، فهما يقولان: الشراء وقع له خاصة، والأداء حصل من مال الشركة، فيرجع عليه شريكه نصف ذلك كما في الطعام والكسوة.(5/572)
-----
بيانه: أنه لما اشتراها بإذن صاحبه لنفسه، فقد صارت ملحقة ..... وهو الكسوة والطعام؛ وهذا لأن الحاجة إلى الوطىء .... إلى أنها ليست ملازمة، فإذا أذن له في ذلك ألحقاها بالطعام، والكسوة خاصة، فيكون الثمن عليه خاصة في الطعام والكسوة، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الشراء وقع على الشركة، والأداء حصل من مال الشركة، فلا يكون للشريك حق الرجوع على المشتري؛ كما لو اشتراها بغير إذن الشريك.
بيانه: أن قضية المفاوضة أن كل ما يتصور أن تكون الشركة أن يقع شراؤه عن الشركة إلا فيما ليس الضرورة إليه، ولا ضرورة في الجارية، فوقع شراؤها على الشركة، وإنما شراؤه الجارية خاصاً له، وحل له وطؤها؛ لا لأن الشراء وقع على الخصوص؛ بل لأن المشتري يملك نصيب الشريك بعد الشراء بتمليك من جهته، وهذا يثبت في ضمن الإذن بالوطء؛ لأنه وقع وقوع الشراء على الشركة؛ لا يحل للمشتري وطؤها إلا بعد تمليك الإذن نصيبه منه بطريق الهبة، فاقتضى الإذن بالوطء شرطاً، وهو الهبة، وتصح الهبة من غير تمليك؛ كما لو ثبت البيع في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم من غير إيجاب وقبول، وصار تقديره كأن الإذن قال: اشترِ هذه الجارية على الشركة؛ لم تملك نصيبي بالهبة، فإذا اشترى، وقبض تمت الهبة؛ بخلاف الطعام، والكسوة؛ لأن ذلك مستثنى عن قضية الشركة بحكم الضرورة، فكان الملك واقعاً للمشتري خاصة بنفس (139أ2) الشراء، فيكون الثمن عليه، فإن كان اشتراها بإذن شريكه ووطئها، ثم استحقت فللمستحق أن يأخذ بالعقر أيهما شاء؛ لأن العقد دين وجب بسبب التجارة، فإنه لولا الشراء؛ لكان الواجب الحد بخلاف المهر في النكاح الصحيح، والفاسد.
(5/573)
-----
وفي «العيون»: إذا قال أحد المتفاوضين: إني أريد أن أشتري هذه الجارية لنفسي خاصة، فسكت شريكه، فاشتراها؛ لا تكون له ما لم يقبل شريكه، ثم فرق بين هذا، وبين الوكيل بشراء جارية بعينها إذا قال للموكل: أنا أريد أن أشتري تلك الجارية لنفسي، فسكت الموكل، فاشتراها الوكيل لنفسه، فإنها تكون له.
والفرق: أن أحد المتفاوضن لا يملك تغيير موجب المفاوضة؛ إلا برضا صاحبه، وفي الرضى احتمال، والوكيل بالشراء يملك عزل نفسه بعلم الوكيل رضا الموكل أو سخط، وقد وجد العلم، أو باع أحد المتفاوضين من صاحبه شيئاً من الشركة ليقطعه قميصاً لنفسه؛ جاز بخلاف ما إذا باع أحدهما من صاحبه شيئاً من الشركة لأجل التجارة؛ لا يجوز؛ لأن البيع في الفصل الثاني غير مفيد؛ لأن المبيع قبل هذا البيع كان مشتركاً، وبعد هذا البيع يكون كذلك، وما لا يفيد لا يرد الشرع به؛ أما في الفصل الأول فالبيع مفيد؛ لأن بعد البيع يختص المشتري بملكه، وقبل البيع كان هو على الشركة.
وكذلك لو باعه جارية ليطأها، أو طعاماً ليجعله رزقاً لأهله صح البيع؛ لأنه مفيد، ويكون نصف الثمن للبائع، والنصف للمشتري؛ كما لو باع من غيره، ولو كان لأحدهما عبد ميراثاً، فاشتراه الآخر للتجارة؛ كان جائزاً؛ لأنه مفيد، وكذلك لو كان لأحدهما أمة ميراثاً فاشتراها الآخر ليطأها؛ كان الشراء جائزاً؛ لأنه مفيد وهي له خاصة استحساناً، والثمن عليه بخلاف ما إذا اشترى جارية للوطء بإذن شريكه، فإن الثمن يكون عليهما؛ لأن إيجاب الثمن عليهما إذا كان البائع أحدهما متعذر؛ لأنه يصير كالبائع من نفسه، وإنه لا يجوز.
نوع منه فى خصومة المتفاوضين، وما يتصل بذلك
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: ادعى رجل على رجل أنه شاركه شركة مفاوضة، والمال في يد الجاحد، فالقول قول الجاحد مع يمينه، وعلى المدعي البينة، فإن جاء المدعي ببينة يشهدون على دعواه فهذا على وجوه:(5/574)
-----
إما أن يشهدوا أنه مفاوضة وأن المال الذي في يديه بينهما، أو يشهدوا أنه مفاوضة وأن المال الذي في يديه من شركتهما، وفي هذين الوجهين تقبل بينته، وقضي بالمال بينهما نصفان وهذا ظاهر.
وإما أن يشهدوا أنه مفاوضة، وأن المال للذي في يده في هذا الوجه يقضى بالمال بينهما نصفان سواء شهدوا بذلك مجلس الدعوى، أو بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى، إن شهدوا في مجلس الدعوى، فظاهر؛ لأنه ثبتت المعاوضة بشهادتهما، وثبت كون المال في يد الجاحد حال قيام المفاوضة بالمعاينة؛ وهذا لأن المعاوضة، وإن انفسخت بإنكار المدعى عليه؛ إلا أن المال كان في يده قبل الإنكار، وقبل الإنكار الحال حال قيام المفاوضة، وما في يد أحد المتفاوضين حال قيام المفاوضة يكون بينهما نصفان قضية بعقد المفاوضة، وهو التساوي وأما إذا شهدوا بعد الافتراق عن مجلس الدعوى؛ فلأن معنى قولهم: وإن المال في يده حال قيام المفاوضة لا للحال؛ لأن اليد للحال قائمة باقية معاينة لا حاجة إلى إثباتها بالشهادة، وإذا كان معنى قولهم، وإن المال في يده باطناً ثبتت المفاوضة، ويكون المال في يده حال قيام المفاوضة بالشهادة، وما في يد أحد المفاوضين حال قيام المفاوضة يكون بينهما، وأما إذا شهدوا أنه مفاوضة، فلم يزيدوا على هذا في هذا الوجه.(5/575)
-----
ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: أنه تقبل بينته، ويقضى بالمال بينهما، وإليه أشار محمد في «الكتاب» بعد هذه المسألة، وذكر شيخ الإسلام: أنهم إن شهدوا في مجلس الدعوى تقبل الشهادة، وقضي بالمال بينهما نصفان؛ لأنه يثبت بهذه الشهادة بالمفاوضة دعوى كون المال في يده حال قيام المفاوضة بالمعاينة، وإن شهدوا بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى لا يقضى بالمال بينهما ما لم يشهدوا أنه بينهما نصفان، أو يشهدوا أنه من شركتهما، أو بعد الحال أن المال كان في يده يومئذٍ، أو شهد الشهود بذلك؛ وهذا لأن المناصفة لو ثبتت ههنا إنما تثبت إذا ثبت كون المال في يد الجاحد حال قيام المفاوضة لا الشهادة؛ لأن الشهود لم يتعرضوا للمال، ولم يثبت كون المال في يده حال قيام المفاوضة إذا شهدوا بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى، لجواز أنه استفاد المال بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى.
بخلاف ما لو شهدوا بذلك في مجلس الدعوى؛ لأنه ثبت كون المال في يده حال قيام المفاوضة بالمعاينة؛ لأن المفاوضة إنما انفسخت بالإنكار، وقد عاينا المال في يده قبل الإنكار به.
إذا قضى القاضي بينهما بالمال نصفين؛ ادعى الذي كان في يده المال ما في يده لنفسه ميراثاً أو هبة، أو صدقة من جهة غير المدعي فهذه المسألة على وجوه.
إن كان شهود مدعي المفاوضة شهدوا أنه مفاوضة، فإن المال الذي في يديه بينهما نصفان، أو شهدوا أنه مفاوضة، وأن المال الذي (في يديه) من شركتهما، وفي هذين الوجهين لا تسمع دعواه، ولا تقبل بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه بالمناصفة بالبينة، والمقضي عليه بالبينة إذا ادعى المقضي به لنفسه ملكاً مطلقاً الساعي من جهة غير المدعي؛ لا تسمع دعواه، وإن شهود مدعي المفاوضة شهدوا أنه مفاوضة، وأن المال في يده، أو شهدوا أنه مفاوضة، ولم يزيدوا على هذا سمعت دعواه، وقبلت بينته عند محمد؛ خلافاً لأبي يوسف.(5/576)
-----
وجه قول محمد: أن القضاء بالمال بينهما في هذين الوجهين ما كان بحكم الشهادة؛ لأن الشهود لم يتعرضوا للمال، وإنما كان بحكم الظاهر؛ لأن الظاهر ما في يد أحد المتفاوضين يكون بينهما، والقاضي متى خصه بظاهر المال؛ لا يمنع دعوى المقضي عليه للمقضى به، وإن لم يدع تلقي الملك من جهة، الدليل عليه: مسألة البناء والأشجار، وهي في آخر كتاب الشهادات.
والدليل عليه فصل الإقرار؛ إذا أقر المدعى عليه أنه مفاوضة، ولم يزد على هذا؛ ثم ادعى أن يقضى ما في يده ميراثاً له، أو هبة، أو صدقة من جهة غير المدعي، وأقام على ذلك بينة؛ قبلت بينته وطريقه ما قلنا، ولأبي يوسف: أن القضاء بالمناصفة حصل بالبينة؛ لأن الشهود، وإن شهدوا عقد المفاوضة صورة؛ إلا أن الشهادة لعقد المفاوضة في حق القضاء حصلت شهادة بموجب المفاوضة، وهو المفاوضة إذا لم يجعل كذلك لبطلت الشهادة؛ لأن القضاء بالعقد متعذر لانفساخه بالإنكار، ولما جعل الشهادة .... كانت المفاوضة مقضياً بها بالبينة.
وأما مسألة البناء والأشجار: فمن مشايخنا (139ب2) من قال: هي على الخلاف، ومنهم من فرق بينهما على قول أبي يوسف، وهو الصحيح.
والفرق: أن القضاء بالأشجار والبناء حصل بحكم الظاهر؛ يعني به ظاهر الاتصال لا بالبينة؛ لأن شهادتهم بالأرض لم تجعل كناية عن الشهادة بالبناء؛ لأن العمل بحقيقة ما شهدوا في الأرض ممكن؛ أما ههنا بخلافه، وبخلاف الإقرار؛ لأن الإقرار بالمفاوضة لم يجعل كناية عن موجبها؛ لأن العمل بحقيقة الإقرار بالمفاوضة ممكن، فكان القضاء بالمناصفة هناك بحكم الظاهر.
ولو كان المدعى عليه ادعى شيئاً ما بيده بطريق التلقي من المدعي؛ سمعت دعواه وقبلت بينته في الوجوه كلها؛ لأن صيرورته مقضياً عليه لا يمنع دعوى تلقي الملك من جهة المقضي له.(5/577)
-----
وإذا مات أحد المفاوضين، والمال في يد الحي، فادعى ورثة الميت المفاوضة، وجحد الحي ذلك، وأقام ورثة الميت بينة أن أباهم كان شريكه شركة مفاوضة؛ لم يقض لهم شيء ما بيد الحي؛ إلا أن يشهد الشهود أن المال كان في يده حال حياة الميت؛ أو أنه من شركة ما بينهما، وفي حالة الحياة لو شهد شهود المدعي بالمفاوضة في مجلس الدعوى؛ يقضي بالمفاوضة؛ لأن في حالة الحياة عرفنا كون المال في يد المدعى عليه حال قيام المفاوضة بالمعاينة، وبعد الموت لم نعرف كون المال في يد الحي حال قيام المفاوضة؛ حتى لو عرف ذلك بأن شهد الشهود أن المال كان في يد الحي حال الحياة الآن قضى بالمال بينهما، ثم إذا شهد الشهود أن المال كان في يد المدعى عليه حال حياة الميت؛ أو شهدوا أن هذا من شركة ما بينهما، وقضى القاضي بالمال بين الحي وبين ورثة الميت.
لو ادعى الحي شيئاً لنفسه مما في يده بالميراث، أو ما أشبهه، ففيما إذا شهد شهود الورثة أن هذا المال من شركة ما بينهما؛ لا تسمع دعواه بلا خلاف؛ ففيما إذا شهدوا أنه كان في يده حالة حياة أبيهم المسألة على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد.
وإذا افترق المتفاوضان ثم ادعى أحدهما أن شريكه كان شريكه بالنصف، وادعى الآخر الثلث، وقد اتفقا على المفاوضة، فجميع المال بينهما نصفان؛ لأن الذي يدعي التفاوت متناقض أو راجع عن إقراره بالمناصفة فيقتضي إقراره بالمفاوضة، وإن كان في يد أحدهما ..... فذلك ...... في يديه، ولا يجعل في الشركة استحساناً؛ لأن هذه الأشياء مستثنى عن عقد المفاوضة، فالإقرار بالمفاوضة لا يكون إقراراً بهذه الأشياء، بقي مجرد الدعوى.
وإذا ادعى رجل على غيره أنه شريكه شركة مفاوضة، وأن المال الذي في يده بينهما أثلاثاً، الثلثان لي، والثلث له، والمدعى عليه يجحد المفاوضة أصلاً، فأقام المدعي البينة على نحو ما ادعاه، لا تقبل هذه الشهادة قياساً.(5/578)
-----
وفي الاستحسان: تقبل على أصل المفاوضة، واختلف عامة المشايخ لوجه الاستحسان، فعبارة بعضهم: أن المدعي بدعوى المفاوضة، وإن أكذب شهوده فيما شهدوا من المالية إلى أن قضية المفاوضة التساوي، إلا (أن) هذا إكذاب معنى لا لفظاً، وأنه لا يمنع قبول الشهادة، فعلى قول هذا القائل: لو كان المدعي ادعى المفاوضة، والمناصفة، وشهد الشهود بالمالية؛ لا تقبل الشهادة قياساً واستحساناً، وعبارة بعضهم: أنه لا حاجة للشهود لإتمام الشهادة إلى ما ذكروا من المبالغة فتلغى تلك الزيادة، وتبقى الشهادة على أصل المفاوضة، ولأن من الناس من يقول: المفاوضة مع التفاوت في المال جائزة، فلعل الشهود ممن يعتقدون ذلك، ففسروا الشهادة بناء على ما اعتقدوا، ولكن القاضي يقضي بما ثبت عنده بناء على اعتقاده؛ لا على اعتقاد الشهود، وعلى قدر هذين التعليلين يبقى أن تقبل الشهادة على أصل المفاوضة؛ متى ادعى المدعي المناصفة على جواب الاستحسان.
(5/579)
-----
وإن ادعى المفاوضة وأشهد الشهود بالإتلاف، وقال المدعي بعد ذلك: كانت كذلك، فعلى القياس والاستحسان؛ لأن البيان المتأخر عن الكلام عليه وقت الإجمال إذا افترق المتفاوضان، وأقام أحدهما بين أن المال كان كله في يد صاحبه، وأن قاضي كذا وكذا قد قضى بذلك عليه وهو المال، وإنه قضى به بينهما نصفان، وأقام الآخر بينة على صاحبه بمثل ذلك من ذلك القاضي بعينه أو من غيره، فإن كان ذلك من قاضٍ واحد، وعلمنا التاريخ بين القضاءين أخذنا بالآخر، وهو رجوع عن الأول؛ لأن الجمع بين القضاءين متعذر، فلا بد من القضاء بأحدهما، فقضي بأحدهما، ويجعل إقدامه على القضاء الثاني وهو عالم بقضائه رجوعاً عن القضاء الأول؛ بأن ظهر له الخطأ في القضاء الأول، وإن كان ذلك من قاضيين، وعلم التاريخ بينهما أو لم يعلم؛ لزم كل واحد منهما القضاء الذي أنفذه عليه، ويحاسب كل واحد منهما صاحبه بما عليه، ويترادان الفضل؛ لأن الجمع بين القضاءين، وإن كان متعذراً؛ ليس أحدهما بتعينه للبطلان بأولى من الآخر؛ أما إذا لم يعلم التاريخ بينهما فظاهر، وأما إذا علم؛ فلأن إقدام القاضي الثاني على قضائه لا يمكن أن يجعل إبطالاً لقضاء القاضي الأول؛ إذ ليس له ولاية إبطال قضاء القاضي؛ بخلاف ما إذا كان القاضي واحداً، وعلم التاريخ بين القضاءين، (وكذلك إذا كان القاضي واحداً، وعلم التاريخ بين القضاءين)؛ وكذلك إذا كان القاضي واحداً ولم يعلم التاريخ بين القضاءين، كان الجواب كالجواب فيما إذا كان ذلك من قاضيين؛ لأنه لا يعلم الباطل من الصحيح؛ ههنا.(5/580)
-----
وإذا مات المتفاوضان، واقتسم الورثة جميع ما تركا ثم وجدوا مالاً كثيراً، فقال أحد الفريقين: هذا لنا وكان في قسمتنا، وكذبه الفريق الآخر وقال: إنه لم يكن في قسمتكم وإنه مشترك بيننا فهذا على وجهين: إن كان المال في المنكرين، فالمال بينهما نصفان، وإن كان في يد المدعين إن أشهدوا بالبراءة، من كل شرك بينهما، فالمال للمدعين؛ لأنهما اتفقا على أن هذا المال كان مشتركاً بينهما، وأحدهما منكر انقطاع الشركة، ولم يظهر سبب انقطاع الشركة، فيكون القول قول المنكر.
فأما إذا شهدوا بالبراءة فقد ظهر سبب انقطاع الشركة، فلا يعتبر دعوى الآخر بقاء الشركة؛ هذا الذي ذكرنا إذا اتفقا أن المال كان داخلاً في الشركة؛ لكن ادعى أحدهما أنه دخل في قسمنا، فأما إذا كان المال في أحد الفريقين، فقال الذي في يديه المال: هذا المال كان لأبينا قبل المفاوضة، وكذبهم الفريق الآخر، فالمال بين الفريقين نصفين؛ أشهدوا أو لم يشهدوا بالبراءة؛ فلأن الورثة يقومون مقام المورث.
ولو ادعى المورث حال حياته أن شيئاً مما في يده كان له قبل المفاوضة، وأنكر الآخر، وقال: كان من المفاوضة لا يختص به ذو اليد وكان بينهما إذا لم يكونوا أقروا بالبراءة عن كل شرك؛ كذا ههنا، وإن شهدوا فكذلك؛ لأن في رغم المدعين أن هذا المال لم يدخل تحت البراءة؛ لأنه إنما يدخل تحت البراءة ما كان من الشركة، وقد زعموا أن هذا المال لم يكن من الشركة حيث زعموا أنه (140أ2) كان لأبيهم قبل المفاوضة، فكان حكم هذا المال بعد الإشهاد على البراءة، كحكمه قبل الإشهاد عليه.(5/581)
-----
وإذا شهد الشهود على الإقرار بالمفاوضة منذ عشر سنين، وقبل القاضي شهادتهم، ثبتت المفاوضة منذ عشر سنين وقبل ذلك؛ لأن الثابت من الإقرار بالبينة كالثابت عياناً، ولو عاينا إقرار المشهود عليه بالمفاوضة منذ عشر سنين؛ ثبتت المفاوضة منذ عشر سنين، وقبل ذلك بينهما؛ لأن الإقرار يقتضي سبق المخبرية. فكذا إذا ثبت الإقرار بالبينة. وإن شهدوا على إنشاء المفاوضة منذ عشر سنين قضي بالمفاوضة منذ عشر سنين، ولا يقضى بالمفاوضة قبل ذلك؛ لأن الإنشاء لا يقتضي الوجوب قبله؛ بل يثبت الوجود مقصوراً على الإنشاء، بعد هذا ننظر ما علم بيقين أحدهما قبل المفاوضة يختص هو به وما كان مشكلاً، فهو للمفاوضة.
وإذا أبرأ أحد المتفاوضين رجلين إن اشتريا له عبداً، أو سميا بثمن مسمى، فاشتريا ووقع الافتراق بين الشريكين، فقال الآمر: اشترياه بعد التفريق فهو لي خاصة، وقال الشريك الآخر: اشترياه قبل التفريق، فهو للآمر لأن الشراء جاز، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد التفريق، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الآمر؛ لأنه يثبت زيادة في التاريخ، ولا يثبت شهادة الوكيلين في ذلك؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، وإن قال الآمر: اشترياه قبل الفرقة، وقال: الآخر: اشترياه بعد الفرقة، فالقول قول الآمر، والبينة بينة الآمر لما قلنا.
نوع منه فى وجوب الضمان على المفاوض
استعار أحد المتفاوضين دابة ليركبها إلى مكان معلوم فركبها شريكه فعطبت، فهما ضامنان، وكان يجب أن لا يضمنا؛ لأن الاستعارة من أحدهما جعلت كالاستعارة منهما؛ ألا ترى لو استعار أحدهما دابة إلى مكان معلوم، ليحمل عليها طعاماً له خاصة، فحمل عليها شريكه مثل ذلك الطعام من خاصة نفسه إلى ذلك المكان وعطبت الدابة فلا ضمان، وجعله كأنه أعار منها، والجواب على الاستعارة من .... وإنه للركوب، وصاحب الدابة قال: أعرتكما ليركب هذا بعينه، فركب الآخر يضمن.(5/582)
-----
ولو استعار دابة لحمل حنطة.....، وقال صاحب الدابة: أعرتكما ليحمل هذا حنطة نفسه، فحمل الآخر من حنطة نفسه مثل تلك الحنطة؛ لا ضمان؛ لأن تخصيص أحدهما بالركوب مفيد، فيجب اعتباره، وكان قياس الركوب من الحمل أنه لو حصلت الإعارة لحمل الحنطة، فحمل عليها حديداً أو شيئاً مثل وزن الحنطة، وهناك يجب الضمان؛ لأن بين الأحمال تفاوت في الضرب بالدابة تفاوتاً فاحشاً.
ثم في مسألة الركوب؛ إذا وجب الضمان وأدى الراكب ذلك من مال الشركة هل يرجع عليه شريكه ما أدى؟ ينظر: إن كان قد ركبها لحاجتهما؛ فلا رجوع، وإن كان قد ركبها في حاجة نفسه، فله الرجوع بنصف ما أدى، ولصاحب الدابة أن يطالب بضمان الدابة أيهما شاء؛ لأن الضمان الواجب على الراكب ضمان إتلاف مال، وما يجب على أحدهما بسبب إتلاف مال فصاحبه كفيل عنه بذلك.
وإذا مات المفاوض، ومال المفاوضة في يده، ولم يبين، فلا ضمان عليه، بخلاف المودع إذا مات، ولم يبين مال المضاربة يصير ضامناً.
والوجه في ذلك: أن ترك البيان لا يوجب الضمان بعينه، وإنما يوجب الضمان إذا صارت الأمانة مجهولة بترك البيان؛ بحيث لا يتوصل إليها صاحبها؛ ألا ترى أن الوديعة إذا كانت معروفة إذا مات، ولم يبين لا يضمنها؛ لأنها بترك البيان لا تصير مجهولة، قلنا: وفي المفاوضة لا تصير الأمانة مجهولة بترك البيان؛ لأن ما في يده كله بينهما.
في «فتاوى أبي الليث»: أحد الشريكين إذا قال لصاحبه: اخرج إلى نيسابور، ولا تجاوز عنه، فجاوز عنه وهلك المال ضمن حصة شريكه؛ لأنه نقل حصة شريكه بغير إذنه.(5/583)
-----
قال في «الأصل»: وكل وديعة كانت عند أحدهما، فهي عندهما؛ لأن قبول الوديعة لم يكن تجارة، فهي من صنيع التجار؛ لا يجدون بداً منه، وما كان من صنيع التجار ففعل أحدهما فيه كفعلهما، وإن مات المستودع قبل أن يبين، فهو ضامن، ويؤاخذ شريكه؛ لأن ضمان التجهيل ضمان ملك، فيظهر حكم الكفالة فيّه؛ لأن مال الحي ضاعت في يد الميت قبل الموت؛ لم يصدق؛ لأن الحي إنما جعل مودعاً حكماً للمفاوضة، فإذا انفسخت المفاوضة بحكم أحدهما لم يبق مودعاً، وصار هو وأجنبي آخر سواء. ولو أن أجنبياً أخذه بعدما مات المودع مجهلاً ضاع من يد الميت قبل الموت لم يصدق؛ كذا ههنا، ولأن الضمان وجب بالتجهيل، ولو زعم المودع بنفسه أنه كان قد هلكت بعدما لزمه الضمان بالجحود لم يقبل قوله كذا لا يقبل قول الشريك.
فعلى قول هذين التعليلين نقول: إذا مات المودع مجهلاً، وادعى الوارث الضياع حال حياته؛ لا يقبل قوله، وإن كان الحي هو المستودع، وقال: ضاعت الوديعة من يد الميت قبل موته قبل قوله؛ لأن الحي صار مودعاً بقبول الإيداع؛ لا حكماً للمفاوضة، فيبقى .... بعد انفساخ المفاوضة؛ يقبل قوله في دعوى الهلاك مع اليمين، وإن قال الحي منهما: قد كنت استهلكت الوديعة حال حياة الميت، فالضمان عليه خاصة، وإن أقام البينة على ذلك فالضمان عليهما؛ لأنه أقر بالدين بعد انقطاع الشركة، وبعد انقطاع الشركة لا يملك إيجاب الدين على صاحبه، وإن أقام بينة على ذلك، فالثابت بالبينة كالثابت معاينة، ثبت الإتلاف حال قيام الشركة، وإنه يلزم صاحبه.
(5/584)
الفصل الرابع في العنان
هذا الفصل يشتمل على أنواع
نوع منه فى شرط الربح والوضيعة وهلاك المال
-----
قال علماؤنا رضي الله عنهم: شركة العنان جائزة تساويا في رأس المال أو تفاضلا، ويجوز أن يشترط لأحدهما فضل في الربح إذا شرط العمل عليهما عند علمائنا الثلاثة، وتكون زيادة الربح بمقابلة العمل، والربح يستحق بالعمل، لأن المضارب يستحق الربح بالعمل، وإذا شرط العمل عليهما، فالربح بينهما على ما شرطا وإن عمل أحدهما دون الآخر وإن شرط العمل على الذي شرطا له فضل الربح جاز، وتكون زيادة الربح بمقابلة العمل. ولو شرط العمل على أقلهما ربحاً خاصة لا يجوز؛ لأن الذي شرط عليه العمل شرط لصاحبه جزءاً من ربح ماله من غير أن يكون له فيه رأس المال، أو عمل.
بيان ما ذكرنا فيما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا ربحا أحدهما بألف درهم، والآخر بألفي درهم، واشترطا على أن الربح بينهما نصفان، والعمل عليهما، فهو جائز، ويصير صاحب الألف في معنى المضارب؛ إلا أن معنى المضاربة تبع لمعنى الشركة، فالعبرة بالأصل دون التبع، فلا يغيرهما اشتراط العمل عليهما، وإن شرط العمل على صاحب الألف، فهو جائز أيضاً، ووجه الجواز ههنا أليق؛ (140ب2) لأن صاحب الألف في معنى المضارب لصاحب الألفين، واشتراط العمل على المضارب تصح المضاربة ولا يبطلها.
وإن شرط العمل على صاحب الألفين لا يجوز؛ لأن صاحب الألفين شرط لصاحب الألف جزءاً من ربح ماله من غير أن يكون فيه عمل أو رأس مال، وإن شرط الربح على قدر رأس مالهما أثلاثاً، والعمل من أحدهما كان جائزاً؛ لأن العامل منهما معين لصاحبه في العمل له في ماله؛ حيث لم يشترط لنفسه شيئاً من ربح مال صاحبه، فهو كالمستبضع في مال صاحبه.(5/585)
-----
وإن شرط الوضيعة والربح نصفان، فشرط الوضيعة نصفان فاسد؛ لأن الوضيعة هلاك جزء من المال، فكأن صاحب الألفين شرط ضمان شيء مما هلك من ماله على صاحبه، وشرط الضمان على الأخر فاسد، ولكن بهذا لا تبطل الشركة حتى لو عملا وربحا، فالربح بينهما على ما شرطا، فالشركة مما لا تبطل بالشروط الفاسدة، وإن وصفا بالوضيعة على قدر رأس مالهما، وأي المالين هلك قبل الشراء به هلك على صاحبه، هلك في يده أو في يد صاحبه، وانتقضت الشركة، وقد ذكرنا هذا في شركة المفاوضة.
وفي «النوادر»: دفع إلى رجل ألف درهم على أن يعمل بها؛ على أن الربح للعامل، والوضيعة عليه، فهلكت قبل الشراء بها، فالقابض ضامن؛ لأن المال في يده قرض، ولو قال: اعمل بها بيني وبينك، على أن الربح بيننا، والوضيعة بيننا، فهلكت قبل أن يعمل، فهو ضامن نصف المال عند محمد، وعن أبي يوسف لا ضمان عليه، وإن اشترى بالمال، ثم هلكت قبل العقد، فعلى الآمر ضمان نصف المال، وعلى المشتري مثل ذلك، فأبو يوسف يقول: نص على الشركة، فكان القبض واقعاً من المنصوص عليها، والقبض بجهة الشركة لا يستدعي ضماناً إلا إذا اشترى، فحينئذٍ يجب عليه ثمن نصف ما اشترى، ومحمد يقول بأنه نص على الشركة في المشترى، والربح، والوضيعة، وهذا لا يكون إلا بعد وجود رأس مال من جهة القابض، فيضمن القابض؛ ألا ترى أنه لو قال: اشترِ بهذه الألف على أن الربح لك كله، فهذا قرض في الكل، فكذا إذا شرط له البعض، وبه ختم.
نوع منه فى تصرف أحد شريكي العنان في مال الشركة(5/586)
-----
ولكل واحد منهما أن يشتري بجنس ما عنده على نحو ما ذكرنا في المتفاوضين، وليس لأحدهما أن يكاتب عبداً من الشركة بلا خلاف، ولا يدفع الأمة من الشركة عند أبي حنيفة خلافاً لأبي يوسف، والخلاف في أحد شريكي العنان، وفي المضارب والمأذون سواء، وليس له أن يشارك غيره، وإذا لم يقل له الشريك: اعمل برأيك، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن أحد شريكي العنان إذا شارك غيره مفاوضة بمحضر من شريكه؛ تصح المفاوضة، وتبطل شركته مع الأول، وإن كان بغير محضر من شريكه؛ لم تصح المفاوضة.
في «المنتقى»: أبو سليمان عن أبي يوسف في شريكي العنان؛ لو أشرك أحدهما رجلاً في الدقيق في الشراء، والبيع بغير إذن شريكه؛ جاز عليه وعلى شريكه، وما اشتراه واحد من الثلاثة، فنصفه للدخيل، ونصفه بين الشريكين الأولين، ولو رهن أحد شريكي العنان شيئاً من الشركة بدين خاصة؛ لم يجز إلا برضا صاحبه.
وفي كتاب الرهن يقول: إذا رهن أحد شريكي العنان متاعاً من الشركة بدين عليهما لا يجوز يريد به إذا رهن بدين وجب عليهما بعقدهما؛ لأن الرهن إيفاء كل واحد منهما لا يملك إيفاء الآخر من ماله إلا بأمره، فكذا لا يملك الرهن، وكذلك إذا ارتهن بدين إذا أتاه؛ لأن الارتهان للاستيفاء، وهو لا يملك أن يستوفي ثمن ما وليه صاحبه لنفسه، فإن هلك الرهن في يده، وقيمته والدين سواء وثبت بحصته؛ لأنه يملك استيفاء حصة نفسه، وإن وليه صاحبه، فإذا ارتهن به صار كأنه استوفى كل الدين عند الاستيفاء في حصته، وأما شريكه فهو بالخيار؛ إن شاء رجع بحصته على المطلوب، ويرجع المطلوب بنصف قيمة الرهن على المرتهن، وإن شاء ضمن شريكه حصته من الدين؛ لأن يد المرتهن يد استيفاء فتعتبر بحقيقة الاستيفاء، وأحد شريكي الدين إذا قبض كل الدين؛ كان لصاحبه أن يضمن حصته من الدين، فكذا إذا صار قابضاً بالرهن.(5/587)
-----
وفي كتاب الشركة يقول: إذا ارتهن بدين ولي المتابعة، فهو جائز في نصيبه، وفي نصيب صاحبه قياساً واستحساناً، وإن ارتهن بدين وليا المتابعة، أو يلي الآخر المتابعة؛ ذكر بعض المشايخ في «شرحه»: أنه لا يجوز في حصة صاحبه قياساً واستحساناً، ويجوز في حصته استحساناً؛ اعتباراً للاستيفاء الحكمي بالاستيفاء الحقيقي.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: أنه لا يجوز أصلاً لا في حصة صاحبه، وهو ظاهر ولا في حصته؛ لأنه لو جاز في حصته كان مشاعاً، والشيوع يمنع صحة الرهن، وهذا إذا فعل بغير أمر صاحبه، فإن فعل بأمر صاحبه جاز الارتهان عليه وعلى صاحبه، وهذا ظاهر به فعل بغير إذن صاحبه، وملك الرهن ثبتت حصته من الدين، أما على قول من قال بجواز الرهن في حصته فظاهر، وأما على قول من قال بعدم الجواز؛ فلأن المقبوض بحكم الرهن الفاسد مضمون كالمقبوض بحكم الرهن الصحيح، ولأنه المديون عن حصة شريكه، ويكون للمديون الخيار على ما بينا.
وإذا أقر أحد شريكي العنان بالرهن؛ إذ الارتهان بعدما تناقضا الشركة؛ لا يصح إقراره إذا كذبه شريكه؛ لأنه حكى أمراً لا يملك استئنافه للحال، وإن أقر به حال قيام الشركة جاز عليه، وعلى شريكه إذا كان المقر هو الذي ولي العقد؛ وإن كان الذي ولي العقد غيره، أو كانا وليا العقد لا يجوز إقراره في حصة شريكه، وهل يجوز في حصة نفسه؟ على ما ذكر قبل هذا.
ولكل واحد منهما أن يوكل بالبيع والشراء والاستئجار، وللآخر أن يخرجه من الوكالة، وإن وكل أحدهما بتقاضي ما داين فليس للآخر إخراجه؛ لأن العزل مع التوكيل يجريان مجرى واحد؛ وكل واحد منهما لا يملك التوكيل بتقاضي ما داينه صاحبه، فلا يملك عزل وكيله بتقاضي ما داينه.
وفيما سوى هذه التصرفات شريك العنان كأحد شريكي المفاوضة ما يملكه أحد شريكي المفاوضة يملكه أحد شريكي العنان.
(5/588)
-----
نوع منه فى تصرف أحد شريكي العنان في عقد صاحبه، وفيما وجب بعقد صاحبه
في «القدوري»: إذا قال أحدهما في بيع باعه الآخر؛ جازت الإقالة لما ذكرنا في فصل المفاوض.
وفيه أيضاً: لو باع أحدهما متاعاً فرد عليه بعيب، ومثله بغير قضاء جاز عليهما؛ لأنه بمنزلة الإقالة، وكذلك لو حط من ثمنه أو أخر لأجل العيب؛ لأن العيب موجب الرد، ويجوز أن يكون الحط والتأخير أنفع، وإن حط من غيره له تبرع (141أ2) والتبرع غير داخل تحت الشركة، فلم ينفذ في نصيب الشريك، ولو أقر بعيب في متاع باعه؛ جاز عليه وعلى شريكه؛ لأن موجب الإقرار بالرد بالعيب ثبوت حق الرد عليه، ولأحد الشريكين أن يسترد، ويقبل العقد إذا كان لهما على رجل دين، فأخر أحدهما، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون المؤخر هو الذي ولي المتابعة، وفي هذا الوجه يجوز تأخيره في نصيبه، ونصيب صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف؛ لأنه في نصيب صاحبه وكيل بالبيع، والوكيل بالبيع إذا أخر الثمن، فهو على هذا الخلاف.
الوجه الثاني: إذا وليا المتابعة.
الوجه الثالث: إذا ولي الآخر المتابعة، وفي الوجهين جميعاً لا يجوز تأخيره في نصيب صاحبه بالإجماع، وهل: يجوز في نصيب نفسه؟ على قول أبي حنيفة: لا يجوز، وعلى قولهما: يجوز؛ لأن حصته من الدين مملوك له لملك إسقاطه، فيملك تأخيره.
ولأبي حنيفة: أنه لو صح التأخير في نصيبه ثبتت القسمة في الدين، فإن بالتأخير يتغير وصف الدين عما كان، فإنه كان على وصف لو قبض أحدهما نصيبه كان للآخر أن يشاركه فيه، وبعد التأخير لا يبقى له حق المشاركة ما دام الأجل قائماً يتغير نصيب أحدهما على وصف سوى نصيب الآخر فبقيت القسمة، والقسمة في الأعيان تكون لا في الديون، فلم يصح التأجيل.(5/589)
-----
وإن أقر أحدهما بدين في تجارتهما وأنكر الآخر لزم المقر جميع الدين؛ إن كان أقر أنه ولي العقد فإن قال: اشتريت من فلان عبداً بكذا؛ لأن في النصف مشترٍ لنفسه، وفي النصف وكيل عن صاحبه، وحقوق العقد ترجع إلى العاقد، فيصير مقراً على نفسه بجميع الدين، فيؤاخذ بجميع ذلك، فأما إذا أقر أنهما ولياه بأن قال: اشترينا من فلان عبداً بكذا، وأنكر الآخر؛ لزمه نصفه.
وإن قال: إن صاحبه وليه بأن قال: اشترى شريكي من فلان عبداً بكذا، وأنكر الآخر؛ ذكر في عامة نسخ كتاب الإقرار أنه لا يلزمه شيء، وذكر في بعض نسخ كتاب الإقرار أنه يلزمه النصف، والصحيح ما ذكر في عامة النسخ؛ لأنه أقر على غيره، ولا ولاية له على الشريك في إلزام الدين عليه بإقراره، فبطل ضرورة.
وإن اشترى أحدهما شيئاً من تجارتهما، فوجد به عيباً؛ لم يكن للآخر أن يرده؛ لأن الآخر في النصف أجنبي، وفي النصف موكل، وليس للموكل أن يخاصم في العيب مع البائع؛ فيما اشتراه وكيله، فكذلك لو باع أحدهما شيئاً من تجارتهما لم يكن له أن يرده على الآخر، وإن استأجر أحد شريكي العنان شيئاً ليس للآجر أن يطالب الشريك الآخر بالأجر؛ لأن الشريك الآخر في النصف أجنبي وفي النصف موكل.(5/590)
-----
وكذلك إذا أجر أحدهما شيئاً من تجارتهما، فليس للشريك الآخر أن يطالب المستأجر بالأجر، وما اكتسب أحدهما بتقبل الأعمال، وذلك ليس من شركتهما، فإنه يكون له خاصة؛ لأنه وكيل صاحبه في التصرف في مال الشركة، وتقبل هذا العمل ليس بتصرف منه في مال الشركة، ولو أخذ أحدهما مالاً مضاربة وربح فالربح له خاصة؛ هكذا ذكر في «الأصل»، وذكر في « القدوري»؛ لأن المضارب يستحق بسبب العمل، فصار كما لو آجر نفسه فتفرد به، وهذا الجواب صحيح فيما إذا أخذ مالاً مضاربة، فتصرف فيما ليس من تجارتهما، أو فيما هو من تجارتهما، أو مطلقاً حال حضرة صاحبه؛ لأن ما ليس من تجارتهما لم يدخل تحت الشركة، فيكون الحال فيه بعد الشركة كالحال قبل الشركة، وقبل الشركة لو أخذ أحدهما مالاً مضاربة، كان الربح له خاصة؛ لأن كل واحد من الشريكين فيما كان من تجارتهما بمنزلة الوكيل بشراء نصف شيء بعينه، والوكيل بشراء نصف الشيء بعينه إذا قبل الوكالة من الآخر؛ بشراء ذلك الشيء كله بحضرة الموكل الأول يخرج من وكالة الأول ويصير وكيلاً للثاني، كذا ههنا.
فأما إذا أخذ ليتصرف فيما هو من تجارتهما، أو مطلقاً حال غيبة صاحبه، فنصف الربح يكون لشريكه، ونصف الربح يكون بين المضارب ورب المال؛ لأنه في النصف بمنزلة الوكيل بشراء نصف شيء بعينه، فلا يملك إخراج نفسه من الوكالة حال غيبة صاحبه، فإذا قبل الوكالة من آخر بشراء الكل تنصرف الوكالة إلى ما كان يشتريه لنفسه، ولا تنصرف إلى ما يشتريه لصاحبه، فإذا اشترى بعد المضاربة يصير مشترياً نصفه للمضارب ونصفه لشريكه، فإذا ربح؛ كان نصف الربح لشريكه، ونصفه بين المضارب ورب المال على ما شرطا.
نوع آخر منه
إذا باع أحدهما شيئاً من تجارتهما؛ فليس للشريك الآخر أن يطالب المشتري الثمن، وهذا لما ذكرنا أن هذه الشركة تشتمل على الوكالة في مباشرة عقود التجارات دون الكفالة في استيفاء ما يجب بعقد صاحبه.(5/591)
-----
وفي «المنتقى»: قال هشام عن محمد: إذا دفع المشتري الثمن إلى الشريك الآخر، لا يبرأ عن نصيب البائع إن لم يكونا شهدا حيث اشتركا أن ذلك جائز فيما بينهما، وكذا ما لزم أحدهما من ضمان التجارات لا يطالب الآخر به لما ذكرنا أنه ليس في هذه الشركة معنى الكفالة.
نوع منه فى شراء أحدهما، وفي اختلاف رأس المال، وفي اعتبار قيمة رأس المال
إذا اشترى أحد شريكي العنان شيئاً من تجارتهما، فهو له خاصة؛ لأن كل واحد منهما في شراء ما ليس من تجارتهما أجنبي عن صاحبه، وليس بوكيل عنه، فالوكالة تقبل التخصيص، وإن اشتركا بالعروض، أو المكيل، واشتريا بذلك، فلكل واحد منهما مما اشترى قدر قيمة متاعه، فإن كانت القيمة سواء، فهو بينهما نصفان، وإن كانت مختلفة فبحساب ذلك؛ لأن الشركة لما وقعت بالعروض والمكيل، وإنها تتعين بالتعيين بتقسيم ما اشتريا على العرض، ويثبت الملك في المشترى بقدر ما كان ثابتاً في العرض.(5/592)
-----
فإن باعا المشترى بعد ذلك، ثم أرادا القسمة، فإن كانت الشركة وقعت بما لا مثيل له من العروض اعتبرت قيمته يوم الشراء؛ لأن حقهما في العرض انتقل إلى المشترى، وصار رأس مالهما فيما اشتريا بالشراء، ولا يجوز أن يثبت مثله في المشترى؛ لأنه لا مثيل له، فثبتت قيمته، وإن كان له مثل من المكيل والموزون والعددي المتقارب، فقد ذكر في «الأصل»: أنه يعتبر القيمة يوم القسمة، وذكر في «الإملاء»: أنه يعتبر القيمة يوم الشراء؛ قال القدوري: وهو الصحيح، وإليه أشار في « شرح الجامع»: فإنه في شركة «الجامع» اعتبر قيمة رأس المال عند اختلاف رأس المال ليحصل الربح يوم الشركة، وليحصل الملك في المشترى يوم الشراء، وليحصل رأس المال يوم القسمة، وإذا كان المعتبر في وقوع الملك في المشترى قيمة رأس المال يوم الشراء، فإنما يملك كل واحد منهما ثمن المشترى بقدر رأس ماله عند الشراء، ثم إذا باعا ذلك ضمن كل واحد منهما؛ يكون له كما في العروض إذا كان رأس مال أحدهما دراهم، أو رأس مال الآخر دنانير (141ب2) قيمة الدنانير مثل قيمة الدراهم، فاشترى صاحب الدراهم بالدراهم غلاماً، واشترى صاحب الدنانير بالدنانير جارية ونقد المالين، وكان ذلك في صفقتين، فهلك الغلام والجارية في أيديهما يرجع كل واحد منهما على صاحبه بنصف رأس ماله.
ولو اشترياهما صفقة واحدة، وباقي المسألة بحالها؛ لا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء، وجعل كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في شراء النصف حال تفرق الصفقة، ولم يجعل كذلك حال اتحاد الصفقة، وإنما كان كذلك؛ لأن الوكالة في هذه الشركة إنما تثبت ضرورة المستفاد بالشراء مشتركاً بينهما، وإذا اشتراهما بصفقة واحدة، فقد انعدمت هذه الضرورة؛ لأن المشترى يصير مشتركاً بينهما بدون الوكالة؛ هذه المسألة مع أجناسها في «الجامع».
(5/593)
-----
في «المنتقى»: قال أبو يوسف في شريكين شركة عنان رأس مالهما سواء، وكل واحد منهما يعمل برأيه، ويبيع ويشتري وحده عليه وعلى صاحبه، فباع أحدهما حصته من متاع، وأشهد على ذلك، فالبيع من حصته، وحصة شريكه، وكذلك لو باع حصة شريكه؛ لأنه لا يستطيع أن يقاسم نفسه، وكذلك المضارب والمبضع إذا خلط ماله بمال الآخر، وقد أذن له أن يعمل فيه برأيه.
فيه أيضاً: في شريكي العنان إذا كان أحدهما يلي البيع والشراء فاستدان ديناً، معناه اشترى بالنسيئه، ثم ناقضه صاحب الشركة، وأراد قبض نصف المتاع، وقال: إذا أخذ منك الدين، فارجع علي، فليس له ذلك.l
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف في المتفاوضين إذا تناقضا المفاوضة، وفي أيديهما متاع، فأراد أحدهما أخذ نصف المتاع فله ذلك؛ لأن للغريم أن يأخذ أيهما شاء بالدين.
وفيه أيضاً: إذا قال لغيره: أشركتك فيما أشتري من الرقيق في هذه السنة، ثم أراد أن يشتري عبداً لكفارة ظهاره أو ما أشبه ذلك، وأشهد وقت الشراء أنه يشتريه لنفسه خاصة؛ لم يجز ذلك، وللشريك نصفه إذا أذن له في ذلك، وكذلك لو اشترى طعاماً لنفسه، وقد أشرك غيره فيما يشتري من الطعام.
نوع منه
مات أحد شريكي العنان، والمال في يده، ولم يبين، فهو ضامن؛ لأن بترك البيان ههنا تصير الأمانة مجهولة بحيث لا يتوصل إليها؛ لأن صاحبها بخلاف المفاوضة على ما مر.
استعار أحد شريكي العنان دابة ليحمل عليها طعاماً..... له خاصة، فحمل عليها شريكه مثل ذلك الطعام من خاصة نفسه، وهلكت الدابة ضمن قيمة الدابة، ولو استعار أحد شريكي العنان دابة ليحمل عليها طعاماً من تجارتهما، فحمل عليها شريكه مثل ذلك الطعام من تجارتهما وهلكت الدابة؛ لا ضمان.(5/594)
-----
والحاصل: أن الاستعارة من أحد شريكي العنان إذا كانت منفعة العارية راجعة إلى المستعير خاصة ليس كالاستعارة منهما، والاستعارة من أحد شريكي العنان إذا كانت منفعة العارية راجعة إليهما كالاستعارة منهما، ولم يجعل هكذا في الشراء، فإنه إذا اشترى أحدهما شيئاً من تجارتهما، فليس للبائع أن يطالب الآخر بالثمن، ولم يجعل البيع من أحدهما بمنزلة البيع منهما.
الفصل الخامس في الشركة بالوجوه
وقدم مررّصورتها، وشرط جوازها في صدر الكتاب.
قال محمد رحمه الله: وإذا اشتركا شركة عنان بأموالهما ووجوههما، فاشترى أحدهما متاعاً، فقال الشريك الذي لم يشترِ: المتاع من شركتنا، وقال المشتري: هو لي، وإنما اشتريته بمالي وبنفسي، فإن كان المشتري يدعي الشراء لنفسه بعد الشركة، فهو بينهما على الشركة إذا كان المتاع من جنس تجارتهما، وإن كان يدعي الشراء لنفسه قبل الشركة ينظر إن علم تاريخ الشراء، وتاريخ الشركة ينظر إلى أسبقهما تاريخاً، فإن كان تاريخ الشراء أسبق، فهو للمشتري مع يمينه بالله ما هو من شركتنا، وإن كان تاريخ الشركة أسبق، فهو على الشركة؛ لأن ما اشتراه أحد الشريكين بعد الشركة من جنس تجارتهما لنفسه حال غيبة الشريك الآخر، فهو على الشركة؛ لأنه لا يملك عزل نفسه حال غيبة صاحبه.
وإن علم تاريخ الشراء، أنه كان قبل هذه المنازعة بشهر، ولم يعلم تاريخ الشركة، فهو للمشتري خاصة؛ لأنه إذا لم يعلم للشركة تاريخ، وإنها حادثة يحال بحدوثها على أقرب ما ظهر كأنهما عقدا الشركة للحال، فيصير الشراء قبل الشركة.(5/595)
-----
وإن علم تاريخ عقد الشركة أنه كان قبل هذه المنازعة بشهر، ولم يعلم تاريخ الشراء أصلاً، فهو على الشركة، ويجعل كأنه اشتراه للحال لما مرَّ، وإن علم للشركة، والشراء تاريخ، فهو للمشتري مع يمينه بالله ما هو من شركتنا؛ لأنه إذا لم يعلم تاريخهما يجعل كأنهما وقعا معاً، ولو وقعا معاً، فالمشترى لا يكون على الشركة؛ لأن المشترى إنما يكون على الشركة إذا حصل الشراء بعد الشركة.
الفصل السادس في الشركة بالأعمال
قد ذكرنا أنها نوعان: صحيحة، وفاسدة.
فالصحيحة: الشركة في تقبل الأعمال، وقد ذكرنا صورتها وشرائطها وحكمها.
قال القدوري: وإن عمل أحدهما دون الآخر، وهي مفاوضة أو عنان فالأجر بينهما على ما اشترطا؛ لأن الشركة انعقدت على التقبل وذلك نافذ عليهما، والعمل من أحدهما إبقاء لما عليه وعلى صاحبه، فيصير صاحبه كالمستعير بالعامل.
في «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف في قصارين شريكين؛ طلب رجل ثوباً في أيديهما أنه دفعه بعمل له بأجر، فأقربه أحدهما وجحد الآخر، وقال: هو لي، فالمقر منهما مصدق في ذلك، فيدفع الثوب، ويأخذ الأجر استحساناً، والقياس: أن لا يصدق على شريكه؛ لأن هذه الشركة بمنزلة شركة العنان، وروي عن محمد أنه أخذ بالقياس، وقال: ينفذ إقراره بالنصف الذي في يده خاصة، وإنا استحسنا في ضمان العمل، والمطالبة بالأجر خاصة وألحقناها في هذين الوجهين بالمفاوضة، وفيما عداهما يبقى على الأصل.
وجه الاستحسان: أنه لما ظهر معنى المفاوضة في ضمان العمل ظهر في محل العمل أيضاً، فنفذ إقراره في محل العمل على صاحبه.(5/596)
-----
وكذلك إن كان في الثوب خرق؛ أقر أحدهما أنه من الدق، وجحد الآخر أن يكون الثوب؛ لو طالب وقال: هو لنا؛ صدقت المقر على ذلك؛ لأني أصدقه على الثوب أنه للمقر له. ولو أن المنكر أقر بالثوب لآخر ادعاه بعد إنكاره الأول كان الإقرار للأول في الثوب، ولا يصدق الآخر على الثوب، ويصدق على نفسه بالضمان، ولا يرجع على صاحبه بشيء من ذلك، وأيهما أقر بثبوت مستهلك ..... لرجل، والآخر منكر فالضمان على المقر خاصة.
وكذلك إذا أقر أحدهما بدين من ثمن صابون، أو أشنان مستهلك، أو أجر أجير أو أجر بيت يثبت لمدة مضت؛ لم يصدق على صاحبه (142أ2) إلا ببينة، ويلزم المقر خاصة، وإن كانت الإجارة لم تمضِ، والبيع لم يستهلك لزمهما، ونفذ إقرار المقر على صاحبه؛ إلا أن يدعي أنهما بغير شراء، فيكون القول قوله، قال: ولا يشبه الشراء الإجارة في هذا الوجه؛ إنما أحدث في الإجارة بالاستحسان.
ألا ترى أن البائع يأخذ بالثمن المشترى دون الشريك، ويأخذ في الإجارة بالعمل أيهما شاء استحساناً، وإنما أحدث في الشراء بالقياس؛ كحكم الشريكين غير المفاوضين.
وإن قال أحدهما: اشتريت هذا الصابون من هذا وشريكي بدرهم، وقال الآخر مثل ذلك، فعلى كل واحد منهما نصف درهم للذي أقر له والصابون بينهما.
ولو قال: اشتريت هذا الصابون من هذا بدرهم، وقال الآخر: لا، بل اشتريته أنا من هذا الآخر بدرهم، فعلى كل واحد منهما درهم للذي أقر له، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء.
(5/597)