-----
قال رحمه الله أيضاً من مشايخنا من قال: تأويل المسألة (264أ1) إذا خالعها على مال مثل صداقها، وأمّا إذا خالعها على الصداق لا يجوز الخلع أصلاً، قال رحمه الله: والأصح أنَّ الخلع على صداقها، وعلى مال مثل صداقها سواء، وكتبت في كتاب الجعل إذا وقع الخلع على صداقها، وله يضمن المخالع للصداق للزوج لا شكَّ أنّه لا يسقط صداقها بهذا الخلع، وهل تقع البينونة يُنْظَر إن قبلت الصغيرة عند الخلع وكانت من أهل ذلك بأن كانت تقبل العقد وتعتبر يقع الطلاق بالاتفاق، وإن لم تقبل الصغيرة عقد الخلع ينظر إن كان العاقد أجنبياً لا يقع الخلع والبينونة بالاتفاق، ولكن تكلمّوا أنّه هل يتوقف لأنَّ هذا عقد لا يحتمله ذلك على إجازتها إذا بلغت، قال بعضهم: لا يتوقف؛ لأنَّ هذا عقد لا يحتمله في الحال وقال بعضهم: يتوقف.
وهكذا ذكر الخصّاف في شروطه في باب الخلع، وإليه أشار في حيل «الأصل» وهذا لأنَّ لهذا العقد يجيز حال وقوعه، فإنَّ الأب أو الأجنبي الآخر لو قال للزوج: اضمن لكن بدل الخلع للحال يجوز، فجاز أن يتوقّف.
وأمّا إذا كان العاقد أباً ولم يضمن الصداق هل يقع الطلاق؟ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب «الطلاق» أنَّ فيه اختلاف المشايخ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنَّ فيه روايتين: على رواية الشروط يقع الطلاق ولا يسقط صداقها، وعلى رواية الحيل: لا يقع الطلاق، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ما ذكر في الشروط محمول على ما إذا ضمن الأب بدل الخلع توفيقاً بين رواية الشروط وبين رواية الحيل.(3/658)
-----
ولو خلع ابنته الكبيرة على صداقها وضمن الأب الصداق أو كان مكان الأب أجنبياً، وضمن الصداق للزوج يقع الطلاق، ثمَّ ينظر إن أجازت أنَّ صداقها بدل الخلع عمل إجازتها، وإن لم يجز كان لها أن ترجع بالصداق على الزوج، ثمَّ الزوج يرجع على الأب، وهذا لأنَّ الخلع مضاف إلى مالها فيتوقف نفاذه على إجازتها، فإن أجازت نفذ الخلع عليها، وإن لم تجز كان الخلع على الأب، كأنّه لم يضف إلى مالها، وصار تقدير الكلام من الأب خالعاً على إن أجازت، وإن لم تجز فعلى مقدار ذلك، وإن لم يضمن الأب ذلك فالخلع يقف على قبولها، فإن قبلت يتمّ الخلع يعني في حقّ المال وما لا فلا، وهذا لأنّ الإيجاب إذا كان مطلقاً كان إيجاباً على المرأة فيتوقف على قبولها لهذا، ثمَّ قوله: إن قبلت تمَّ الخلع في حق المال يشير إلى أن الطلاق واقع، وقد كتبت في شرح الحيل أن في هذه لا يقع الطلاق إلا بإجازتها.j
اختلعت الصبيّة من زوجها وزوجها كبير، فالطلاق واقع والمال لا يجب؛ لأنَّ بدل الخلع بمنزلة التبرع، والصبية ليست من أهل التبرّع. وذكر المسألة في «الأصل» مطلقة وقيّدها في حيل «الأصل» بما إذا كانت تعقد العقد وتعبّر عن نفسها.
وكذلك الأمة إذا اختلعت من زوجها أو طلاقها على جعل، فإنه يقع الطلاق، ولا يؤاخذ بالجعل في الحال، وإنّما يؤاخذ به بعد العتق. وإن اختلعت بإذن المولى تؤاخذ به للحال، وتباع فيه إلا أن يقوّمها المولى كما في سائر الديون، والأمة تفارق الصغيرة،
والعاقلة إذا اختلعت من زوجها، فإنّها لا تؤاخذ ببدل الخلع بعد البلوغ كما لا تؤاخذ به في الحال. والمدبرة وأم الولد في ذلك كالأمة، إلا أنّها لا تحتمل البيع فتؤدي البدل من كسبها إذا التزمت بإذن المولى. والمكاتبة لا تؤاخذ ببدل الخلع إلا بعد العتق سواء اختلعت بإذن المولى أو بغير إذنه.(3/659)
-----
وإذا اختلعت الأمة من زوجها بمهرها بغير إذن مولاها يقع الطلاق، ولكن لا يسقط المهر لأنَّ مهرها حقّ المولى ولا يسقط إلا برضا المولى. وإذا وكلت الصغيرة رجلاً بالخلع، فخلعها الوكيل بصداقها أن يضمن للزوج ذلك تقع البينونة بالاتفاق، وإن لم يضمن ذكر في كتاب الوكالة أنها تبين من زوجها. وذكر في «النوادر»: أنّها تبين من زوجها.
نوع آخر
ينبني على أصل أن خطاب الخلع متى جرى بين الزوج وبين المرأة، كان القبول إلى المرأة، سواء كان البدل مرسلاً أو مضافاً إلى المرأة أو إلى الأجنبي إضافة ملك أو إضافة ضمان، وأمّا إذا كانت البدل مرسلاً، فكان هذا الخطاب لو جرى بين الزوج وبين أجنبي وكان البدل مرسلاً كان القبول إلى المرأة، فإذا جرى بين الزوج وبين المرأة أولى، وأمّا إذا كان البدل مضافاً إلى الأجنبي ولأن شروع المرأة في الخلع والمبدل سلّم لها بسبب الخلع بمنزلة اشتراط الضمان على نفسها دلالة؛ لأنَّ البدل بقضيّة «الأصل» إنّما يجب على من يُسلّم له المبدل، فقد وجد من المرأة اشتراط الضمان على نفسها دلالة بقضيّة «الأصل»، ووجود إضافة البدل إلى الأجنبي أيضاً صريحاً ذلك واحد منهما يجوز أن يكون عاقداً في باب الخلع، فأمّا المرأة فظاهر، وأمّا الأجنبي بدليل أنّه يجب عليه بدل الخلع بحكم العقد على ما تبيّن، وإذا صلح كلّ واحد منهما عاقداً كان جعل المرأة عاقدة، حتّى يشترط قبول المرأة أولى؛ لأنّا إذا جعلنا الأجنبي عاقداً يحتاج إلى إثبات عقد جديد من جهة، مع أنّه لم يوجد منه العقد حقيقة، ولو جعلنا المرأة عاقدة لا تحتاج إلى إثبات عقد جديد، فإنَّ العقد وجد منها حقيقة فجعلنا المرأة عاقدة وشرطنا قبولها وجعلنا الأجنبي كتب لا عنها، حتّى تبطل إضافة الضمان إليه، وصار تقدير المسألة كأنَّ الزوج قال لها: خالعتك على ألف درهم على أنَّ فلاناً كتب لاعنك بذلك، ولو نصّ على هذا كان القبول إلى المرأة، كذا هنا.(3/660)
-----
وأمّا إذا جرى خطاب الخلع من الأجنبي ومن الزوج؛ فإن كان البدل مرسلاً فالقبول إلى المرأة. وصورته أن يقول أجنبي للزوج: اخلع امرأتك فلانة على ألف درهم، فالقبول إلى المرأة؛ لأنَّ الأجنبي يجوز أن يكون هو العاقد بأن أراد أن يقوله بألف على المرأة، فكان جعل المرأة عادة، والنفقة تحصل لها (264ب1) أولى.
فإن كان البدل مضافاً إلى الأجنبي إضافة ملك أو إضافة ضمان لا يشترط قبول المرأة ولا تجعل المرأة عاقدة.
وصورته: أن يقول أجنبي للزوج: خالع إمرأتك على ألف درهم عليَّ، أو على ألف على أنّي ضامن، أو يقول: خالع إمرأتك على ألفي أو على ألف من مالي، وهذا لأنا لو جعلنا المرأة عاقدة نحتاج إلى إثبات عقد جديد من جهة المرأة، والعقد لم يوجد منها حقيقة، ولو جعلنا الأجنبي عاقداً لا نحتاج إلى إثبات عقد جديد، فجعلنا الأجنبي عاقداً. وصار تقدير هذا الخلع كأن الأجنبي قال للزوج: خالع إمرأتك على ألفٍ تجب عليَّ لا على المرأة. ولو صرّح بهذا لا يشترط قبول المرأة؛ لأن القبول إنّما يشترط ممّن عليه البدل لا ممّن يقع عليه الطلاق؛ لأنَّ القبول إنّما يشترط بوجود البدل لا لوقوع الطلاق.
بيان هذا الأصل من المسائل ما ذكر محمّد رحمه الله في نكاح الجامع: رجل قال لغيره اخلع امرأتك على هذا العبد، أو على هذا الدّار، أو على هذا الألف فالقبول إلى المرأة؛ لأنَّ خطاب الخلع وإن جرى بين الأجنبي وبين الزوج ولكنّ البدل مرسل. وفي مثل هذه الصورة العاقد المرأة وتطلق، هذا إذا قال الرّجل لغيره: بع عبدك هذا من فلان بألف درهم، أو قال بهذا العبد، يتوقف على قبوله ولأنَّ في هذا المجلس...، ولا يقف على قبوله في المجلس، والخلع هو على مجلس علم المرأة، والفرق معروف.(3/661)
-----
ثمَّ إذا قبلت المرأة الخلع كان عليها أن تسلّم للزوج ما سمى في عقد الخلع إن قدرت على تسليمه؛ لأنّها هي العاقدة، وإن عجزت عن تسليم ذلك بالاستحقاق أو بسبب آخر فعليها تسليم المثل في المثلي، وتسليم القيمة في غير المثلي.
والبيع في هذا يخالف الخلع؛ لأنَّ البيع ينفسخ بالاستحقاق، ولا ينفي السبب الموجب للتسليم ليصار إلى المثل أو إلى القيمة، وأمّا الخلع لا ينفسخ بالاستحقاق فيبقى السبب الموجب للتسليم.
ولو كان قال للزوج: خالع إمرأتك على عبدي هذا، أو على داري هذه، أو على ألفي هذه ففعل فالخلع واقع ولا يحتاج إلى قبول المرأة؛ لأنَّ عاقد الخلع في هذه الصورة الأجنبي لأنَّ خطاب الخلع جرى منه، والبدل مضاف إليه إضافة ملك، ثمَّ يتمّ الخلع بقول الزوج: فعلت، ولا يحتاج إلى قبول الأجنبي؛ لأنَّ الواحد يصلح عاقداً في باب الخلع من الجانبين، والعاقد من الجانبين إذا كان واحداً يتمّ العقد بقوله: فعلت، كالأب إذا باع مال ابنه من نفسه، فإنّه يتمّ العقد بقوله: بعت. ثمَّ إذا وقع الخلع وجب على الأجنبي تسليم ما يسمّى في الخلع؛ لالتزامه ذلك.
ولو قالت المرأة لزوجها: اخلعني على عبد فلان، أو قالت: على دار فلان، ففعل تمَّ الخلع، ولا يحتاج في هذا إلى قبول صاحب العبد والدّار؛ لأنَّ العاقد في هذه الصورة المرأة؛ لأن خطاب الخلع جرى منها، ولم يشترط في «الكتاب» قبول المرأة لتمام الخلع، وكذلك لم يشترط قبول المرأة في هذه الصورة في كتاب الوكالة.(3/662)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة»: يشترط قبول المرأة، فعلى رواية هذا الكتاب يحتاج إلى الفرق بينما إذا كانت البداية من المرأة وبينما إذا كانت البداية من الزوج بأن قال لامرأته: خالعتك على دار فلان، أو قال: على عبد فلان، فإنَّ هناك يشترط قبول المرأة لتمام الخلع. والفرق: أنَّ الخطاب إذا كان من جانب المرأة فالزوج مأمور بالخلع من جهة المرأة، فيجعل عاقداً من جهة نفسه بطريق الأصالة، ومن جهة المرأة بطريق النيابة عنها يتمّ الخلع بالزوج، ولا يشترط قبولها بائناً، فأمّا الخطاب إذا كان من جهة الزوج، فالزوج غير مأمور من جهة المرأة بشيء، فكان عاقداً من جهة نفسه لا من جهة المرأة، فلهذا يشترط قبول المرأة. قال: وعلى المرأة تسليم الدّار والعبد إن أجاز ذلك صاحب الدار والعبد، وإن لم يجز فعليها تسليم القيمة هذا إذا ابتدأت المرأة بالخطاب، وأمّا إذا ابتدأ الزوج بالخطاب بأن قال لها: طلقتك على عبد فلان أو قال: خالعتك على عبد فلان كان القبول إلى المرأة؛ لأنّها عاقدة.
ولو أنَّ الزوج خاطب صاحب العبد والمرأة حاضرة، فقال: أنا وفلان قد خلعت امرأتي بعبدك، فالقبول إلى صاحب العبد إن قبل هو تمّ الخلع وما فلا فلا؛ لأنَّ العاقد في هذه الصورة صاحب العبد؛ لأنَّ خطاب الخلع جرى بين الزوج وبين صاحب العبد والبدل يضاف إلى صاحب العبد.
ولو أنَّ أجنبيّاً قال للزوج: خالع امرأتك على عبد فلان هذا فالقبول إلى صاحب العبد.
وكذلك لو قال الأجنبي للزوج: خالع امرأتك بألف على أنَّ فلان ضامن لها، فالقبول إلى فلان لما ذكرنا ولو قالت المرأة لزوجها خالعني على ألف درهم، على أنَّ فلاناً ضامن لها ففعل تمَّ الخلع، ولا يلتفت إلى قبول الضمين، وبعد ذلك ينظر إن قبل فلان المال كان للزوج الخيار إن شاء أخذ المرأة بذلك، بحكم الأصالة، وإن شاء أخذ الضمين بحكم الكفالة، وإن لم يقبل الضمين من ذلك لا شيء عليه ولا يبطل الخلع.(3/663)
-----
نوع آخر
قال في الخالع: امرأة وكّلت رجلاً بأن يخلعها من زوجها بألف درهم، ففعل الوكيل، فهذا على وجهين:
أما إن أرسل الوكيل البدل بأن قال: خالع امرأتك على ألف درهم، أو على هذه الألف أو أضاف البدل إلى نفسه إضافة ملك، أو إضافة ضمان، بأن قال: خالع إمرأتك على ألف درهم من مالي، أو على ألف على أنيّ ضامن. وفي الوجهين جميعاً يتمّ الخلع بقبول الوكيل؛ لأنَّ الوكيل نائب عن المرأة، فيكون قبوله كقبولها، فبعد ذلك ينظر إن كان البدل مرسلاً فالبدل عليها وهي المطالب به؛ لأنَّ الوكيل في باب الخلع سفير، وحقوق العقد ترجع إلى من وقع العقد له لا إلى السفير ولا لكونه سفيراً أنّه لا يستغني عن إضافة العقد إلى المرأة، لا بدّ وأن يقول للزوج خالع امرأتك، وفي مثل هذا الوكيل سفير كما في النكاح.
وإن كان (265أ1) البدل مضافاً إلى الوكيل إضافة ملك أو إضافة ضمان فالوكيل هو المطالب بالبدل دون المرأة، ويرجع الوكيل بما أدّى على المرأة، وإنّما كان كذلك؛ لأن ما يجب على الوكيل بالخلع متى كان مضافاً إليه إضافة ملك وضمان يجب ابتداءً بحكم العقد لا بحكم الكفالة عن المرأة؛ لأنَّ ما يملك الوكيل من الخلع قبل الوكالة نوعان: نوع يوجب البدل على المرأة بأن يرسل الوكيل البدل إرسالاً، ونوع يوجب البدل على الأجنبي ابتداءً بحكم الخلع، لا بحكم الكفالة عن المرأة بأن يخاطب الأجنبي الزوج بالخلع ونصف البدل إلى نفسه إضافة ملك أو إضافة ضمان.(3/664)
-----
وإذا كان ما يملكه الوكيل من الخلع قبل الوكالة نوعان وقد أمرا به بالخلع مطلقاً، والأمر المطلق انصرف إلى النوعين، فكان فائدة الأمر وإن كان مالكاً لهذا قبل الوكالة الرجوع بما ضمن على الموكل، كما في الوكيل بالشراء، وإذا كان ما يلزم الوكيل من الضمان متى كان البدل مضافاً إليه إضافة ملك أو إضافة ضمان يلزمه ابتداءً بالخلع، لا بحكم الكفالة، وقد دخل هذا الخلع تحت الأمر كان له أن يرجع بما ضمن على موكلته، وكانت المطالبة على الوكيل خاصّة، كما في الوكيل بالشراء، ولهذا كان له الرجوع على المرأة قبل الأداء، كالوكيل بالشراء؛ لأنّه يرجع بحكم الخلع ابتداء لا بحكم الكفالة.
وإذا وكلت رجلاً بأن يخعلها من زوجها، فخلعها على عَرَضٍ له يعني للوكيل، وهلك العرض في يد الوكيل قبل التسليم إلى الزوج فإن الوكيل يضمن فيه ذلك للزوج؛ لما ذكرنا أنَّ ما يجب على الوكيل بدل الخلع إذا كان البدل مضافاً إليه يجب ابتداءً بحكم الخلع لا بحكم الكفالة، فصار الوكيل في هذا بمنزلة المرأة. والمرأة لو اختلعت من زوجها على عرض لها وهلك العرض، كان عليها تسليم قيمة العرض كذا ها هنا.
قال في «الزيادات»: إذا وكلت المرأة رجلاً بالخلع، ثمَّ رجعت من غير علم الوكيل لا يعمل رجوعها، فرّق بين هذا وبينما إذا قالت: خلعت نفسي من زوجي بألف درهم، فاذهب يا فلان إلى زوجي وأخبره بذلك، فلما ذهب الرسول إلى الزوج أشهدت على أنّها قد رجعت عن ذلك، ثمَّ بلّغ الرسول الزوج ذلك فقبل كان قبوله باطلاً، حتّى لا يقع عن الخلع علم الرسول بالرجوع أو لم يعلم، والفرق وهو أنَّ التوكيل إثبات الحكم في حقّ الوكيل، فإنَّ التوكيل إطلاق التصرّف، والعزل منع له عن التصرّف، ولو صحّ من غير علم الوكيل كان غروراً في حق الوكيل وإنّه حرام.(3/665)
-----
وأمّا الرسالة فليست إثبات شيء للرسول؛ لأنّ الرسول ينقل عبارة المرسل، كأنَّ المرسل بنفسه حضر بنفسه وقال ذلك، ولو صحّ الرجوع من غير علمه لا يكون ذلك غروراً في حقّ نفسه، وكذلك لو رجعت بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج صحّ رجوعها أيضاً وإن لم يعلم الرسول بذلك، وكذلك هذا الجواب في البيع والعتق والنكاح والإجارة إذا رجع المرسل قبل قبول المرسل إليه صح رجوعه، وإن لم يعلم الرسول به.
وإذا قالت المرأة لزوجها: اخلعني على ألف درهم، ثمَّ رجعت من غير علم الزوج لا يصحّ رجوعها؛ لأنَّ هذا توكيل منها للزوج والتوكيل لا يقبل الرجوع من غير علم الوكيل.
أمر رجلاً أن يخلع امرأته، فليس للمأمور أن يخلعها إلا بمال، رواه بشر عن أبي يوسف رحمه الله. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمه الله: أنّه لو خلعها بغير مال كان طلاقاً بائناً بلا مال، وَكّل رجلين بالخلع بألف درهم فخالعها أحدهما بألف درهم وأجاز الآخر ذلك لم يجز، وإن قال أحدهما: قد خلعها وقال الآخر: قد خلعها، فهو جائز. هشام عن محمّد: إذا وكّل الزوج رجلاً بأن يخلع إمرأته إن تركت مهرها، فتركت فقال الوكيل: طلقتك ثلاثاً لا يقع شيء في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. قال محمّد رحمه الله: ونحن نرى أنّه يقع واحدة بجميع المهر.(3/666)
-----
وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال لغيره إخلع امرأتي، فإن أتت فطلقها بانت المرأة بالخلع، فطلقها الوكيل، ثمَّ قالت: أنا أختلع، فخالعها جاز إن كان الطلاق رجعياً، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رسول المرأة إلى زوجها إذا قال لها: طلقها أو أمسكها، فقال الزوجة أمسكها ولكن أطلقها، فقال الرسول: أبرأتك على جميع مالَها عليك، فطلقها الزوج، ثمَّ أنَّ المرأة أنكرت أن تكون أمرت رسولها بالإبراء والرسول يدّعي، فإن ادّعى الزوج توكيلها للرسول بذلك فالطلاق واقع وهي على حقّها لأنَّ إقرار الزوج يصح فيما يملك لا فيما لا يملك. وإن لم يدّع الزوج توكيلها للرسول بذلك فهو على قسمين: إن كان الرسول قال للزوج أبرأتك عن حقّها عليك على أن تطلقها على ما ذكرنا، والطلاق غير واقع فهي على حقّها؛ لأنَّ إيقاع الطلاق بالمهر يتوقّف على إجازتها، وإن لم يكن قال الرسول على أن تطلقها، أو فطلقها، فالطلاق واقع وهي على حقّها؛ لأنّ....
ولو أنَّ قوماً جاؤوا إلى رجل وزعموا أنَّ امرأته وكّلتهم باختلاعها منه، فخالعها معهم على ألف درهم وأنكرت التوكيل، إن ضمنوا بدل الخلع للزوج فالطلاق واقع؛ لأنّ خطاب الخلع جرى بين الزوج وبين الأجنبي وضمن الأجنبي بدل الخلع، وفي مثل هذا يشترط قبول الأجنبي على ما مرّ، وإن لم يضمنوا فهذا على وجهين، إمّا أن يدعي الزوج أنّها وكلتهم أو لم يدع إلى آخر ما ذكرنا في المسألة المتقدّمة، هذا إذا خالع الزوج معهم. وأمّا إذا باع منهم تطليقة بألف درهم، قال الفقيه أبو القاسم الصفّار رحمه الله: وقع الطلاق وجد منهم الضمان أو لم يوجد؛ لأنّ لفظ الشراء لفظ الضمان، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذا والأوّل سواء وعليه الفتوى.(3/667)
-----
وإذا وكّل الرجل رجلاً بطلاق امرأته، فطلقها بمهرها ونفقة عدّتها أو خالعها على ذلك، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يجوز ذلك كانت مدخولاً بها أو غير مدخول؛ لأنَّ الغالب من عادات النّاس أنّهم يريدون بالتوكيل بالطلاق (265ب1) الطلاق بجعل، لكن هذا الوجه غير مختار؛ لأنَّ هذا يقتضي أنَّ الوكيل بالطلاق إذا طلّق مطلقاً أنّه لا يجوز، وهذا بعيد، وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله مرّة: لا يجوز من غير تفصيل بين المدخول بها وغير المدخول؛ لأنه وكلّه بالتنجيز وقد أتى بالتعليق، وهذا التعليل يوجب التسوية بين المدخول بها وغير المدخول بها، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله. وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله مرّة أخرى: إن كانت المرأة مدخولاً بها لا يجوز وإن لم يكن مدخولاً بها يجوز، وهكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفّار، وهو اختيار الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته». والوجه في ذلك أنَّ المرأة إذا لم تكن مدخولاً بها، فهذا من الوكيل خلافٌ إلى خير؛ لأنّه وكّله بطلاق يقطع النكاح مجاناً، وقد أتى بطلاق قطع النكاح بعوض ولا يعدّ ذلك خلافاً وإذا كانت مدخولاً بها. هذا من الوكيل خلاف إلى شرَ؛ لأنّه وكله بطلاق بغير عوض، والطلاق بغير عوض في المدخول بها لا يقطع النكاح، وقد أتى بطلاق قطع النكاح، فكان هذا خلافاً إلى شرَ فاعتبر خلافاً.(3/668)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل قال لغيره: طلّق امرأتي على أن تخرج من البيت، ولا تُخرِجْ منه شيئاً ففعل ثمَّ اختلفا، فقال الزوج: أخرجت، وقالت: المرأة لم أُخْرِج، فالقول قول الزوج؛ لأنّه ينكر شرط وقوع الطلاق. قال الصدر الشهيد في «واقعاته»: في المسألة نوعان إيهام أنه أراد بقوله طلّق امرأتي على شرط أن لا تخرج من البيت، علّق طلاقها بشرط أن تخرج من البيت ولا تخرج منه شيئاً، فهذا صحيح؛ لأنَّ المعلّق بالشرط عُدِمَ قبل وجود الشرط، فالزوج بقوله: أخرجتَ شيئاً من البيت أنكر شرط وقوع الطلاق فالقول قوله، وإن أراد بقوله: طلقها على شرط أن لا تخرج من البيت شيئاً. قل لها: أنتِ طالق على أن لا تخرجي من البيت شيئاً، فهذا الجواب غير صحيح، لأنها إذا قبلت ينبغي أن يقع الطلاق للحال أخرجت شيئاً أو لم تخرج، فإنَّ الرواية محفوظة فيما إذا قال: أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم ففعلت تطلق وإن لم تعط الألف، وكذلك إذا قال لها: أنتِ طالق على دخولك الدّار، يقع الطلاق إذا قبلت دخلت أو لم تدخل؛ لأنّه استعمل الدخول استعمال العوض فكان الشرط قبوله لا وجوده.
قال محمّد رحمه الله في «الأصل»: إذا وكلت المرأة صبيّاً أو معتوهاً أن يخالعها من زوجها كان التوكيل صحيحاً؛ والصبيِّ والمعتوه في هذا كالبالغ، وفيه نوع إشكال؛ لأنّ الصبي لا يملك هذا العقد لنفسه، فكيف يملك لغيره، والجواب: إنّما لا يملك الخلع لنفسه؛ لأنّه يلزم حكم الخلع فيتضرّر به، ومتى كان وكيلاً عن غيره لا يلزمه حكم الخلع، ولا ترجع إليه الحقوق ولا يتضرّر.
نوع آخر في اختلاف الواقع بين الزوج والمرأة، في صحّة الخلع وفساده في الشهادة في ذلك(3/669)
-----
إذا خلع امرأته بالفارسيّة «خريدم وفروحتم»، وقال الزوج: كان في ضميري أني بعت رأس الشاة، أو قال: قلت: «فروحتم من الانفاذ» أو قال: قلت: «فروحتم» بالفاء، فقد قيل القول في ذلك قوله مع اليمين، إلا إذا كان قبض بدل الخلع، فحينئذٍ لا يقبل قوله؛ لأنَّ الظاهر يكذبّه. وقد قيل: لا يقبل قوله قضاءً، وإن كان لم يقبض بدل الخلع؛ لأنَّ كلامه خرج جواباً، والجواب يتقيد بالسؤال، والسؤال عن تملك النفس: التوكيل، فيكون الجواب منصرفاً إليه، وعلى هذا إذا قال: كان في ضميري أنّي بعت «بيد فياي» لا يقبل قوله قضاء عند بعض المشايخ، وعليه الفتوى.
ولو أشار الزوج عند قوله «فروحت» إلى رأس شاة، أو إلى «بيد فياي» فعلى قول هؤلاء فهذا ليس بشيء، والخلع هذا صحيح، إلا إذا صرّح وقال: «بيد فناي فروحتم» فحينئذٍ لا يصح الخلع، هذا لأنّ بالإشارة لا يخرج كلامه من أن يكون خارجاً مخرج الجواب والسؤال عن تمليك النفس، فينصرف الجواب إليه. ولو أقام الزوج بيّنة (على) الشاة قبلت بينته، وكذلك إذا قالت: إنّه باع رأس الشاة، وشهدت بيّنته أو أنه قال: بعت رأس الشاة قبلت بيّنته، وكذلك إذا قامت بيّنة أنّه قال: «فروحتم من الانفاذ» قبلت بيّنته.
ولو أقامت المشتراة البيّنة بمعارضته أنّه باع نفسها، أو أنّه باعها فبيّنتها أولى، هكذا قيل وفيه نظر عندي، وينبغي أن تكون بيّنة الزوج أولى.(3/670)
-----
وفي «فتاوى النسفي»: لو أشهد الزوج شاهدين عدلين أنّ امرأتي إذا قالت: «من خويشتن خريدم» أقول: «فروختم» بالفاء، ثمَّ اجتمعوا عند القاضي لأجل الخلع واختلعا فقال الزوج بعد ذلك قد قلت: «فروختم» بالفاء وشهد شاهداه على ذلك، فإن كان القاضي قد سمع أنّه قال «فروحتم» بالحاء يقضى بالخلع، ولا يلتفت إلى شهادة شهوده فإني إذا لم تسمع القاضي ذلك، وقال: لم أتيقّن أنّه قال بالحاء أو بالفاء وشهد شاهداه أنّه قال بالفاء قبل شهادتهما، وقضى ببطلان الخلع، ولو شهد شاهداه أنّه قال بالفاء، وشهد بعض أهل المجلس أنّه قال بالحاء قضي بصحّة الخلع شهادة من شهد بالحاء.
وإذا وقع الخلع على بدل مسمّى ودفعت المرأة إليه مقدار المسمّى وقالت: إنّه بدل الخلع، وقال الزوج: قبضت بجهة كذا غير جهة الخلع، فقد قيل: القول قول الزوج، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وقيل: القول قول المرأة؛ لأنّ التمليك يصير من المرأة فيكون القول قولها في بيان جهة التمليك.l
وهذا أصل كبير في الشرع فيما إذا اختلعت الزوج والمرأة في الخلع فقال أحدهما اختلعا بألف وأقام على ذلك بيّنة، .... أحد الشاهدين أنّهم اختلعا بألف، وشهد الآخر أنّهما اختلعا بخمس مائة، فإن كان مدّعي الخلع الزوج فالجواب فيه كالجواب في دعوى مجرّد المال بلا سبب؛ لأنّ المدّعي إذا كان هو الزوج فالحاجة إلى إثبات المال لا إلى إثبات الطلاق؛ لأنَّ الطلاق وقع بإقرار الزوج.(3/671)
-----
ولو وقع الدعوى في الألف المجرّد وشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بخمس مائة فعلى (266أ1) قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل الشهادة أصلاً، وعلى قولهما تقبل الشهادة على خمس مائة، كذا ها هنا، وإذا كان مدّعي الخلع المرأة لا تقبل هذه الشهادة بلا خلاف؛ لأنَّ الحاجة ها هنا إلى إثبات الطلاق؛ لأنّ الطلاق لا يثبت بمجرّد دعوى المرأة، والطلاق بألفٍ غير الطلاق بخمس مائة؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق بألف قبول الألف، وشرط وقوع الطلاق بخمس مائة قبول خمس مائة وهما شرطان مختلفان، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد.
نوع آخر في الخلع الواقع في المرض(3/672)
-----
قال محمّد رحمه الله في «الأصل»: إذا اختلعت المرأة من زوجها في مرضها بالمهر الذي كان تزوّجها عليه فهذا على وجهين: أمّا إن كان الزوج قريباً منها بأن كان ابن عم لها أو كان أجنبياً عنها، فإن كان الزوج أجنبيّاً فهو على وجهين: أما إن كانت المرأة مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، ومتى كانت مدخولاً بها، أمّا إن ماتت هي في العدّة، أو ماتت بعد انقضاء العدّة، فإن كانت مدخولاً بها وماتت هي بعد انقضاء العدّة، وأنّه ينظر إلى المسمّى في بدل الخلع، وإلى ثلث مالها. فإن كان المسمّى ثلث مالها أو أقلّ فللزوج ذلك. وإن كان أكثر من ثلث مالها فليس للزوج الزيادة على الثلث إلا برضا باقي الورثة، وهذا إذا كان لها مال آخر سوى المهر يخرج المسمّى من الثلث، وإن لم يكن لها مال آخر سوى المهر الذي تزوّجها عليه يعتبر الثلث من المهر وهذا لأنَّ الخلع منها بمنزلة التبرّع؛ لأنّها تبدل مالاً بإزاء مال يتعلّق به حقّ الورثة، وهو منافع بضعها. ومن غير حاجتها إلى ذلك فإنّها غير محتاجة إلى الخلع حاجة أصلية، والتبرّع من المريض إذا حصل مع الأجنبي يصحّ بقدر الثلث من غير إجازة الورثة، ويقف فيما زاد على الثلث على إجازة الورثة، والتبرع حصل ها هنا مع الأجنبي لما ماتت بعد انقضاء العدّة؛ لأنّه لم يبق لها وارثٌ في هذه الحالة، لانقطاع بيّنة الورثة، وهو النكاح بعد انقضاء العدّة من كلِّ وجه.(3/673)
-----
وإن ماتت قبل انقضاء العدّة فإنّه ينظر إلى المسمّى في بدل الخلع وإلى قدر ميراثه منها، فإن كان المسمّى مثل ميراثه منها أو أقلّ سلّم للزوج ذلك، فإن كان الخلع بمنزلة التبرّع، والمريض محجور عن التبرّع على الوارث؛ لأنّ المريض إنّما حجر عن التبرّع مع الوارث لما فيه من إبطال حقّ الباقين عن الزيادة على ميراثه، وليس في قدر ميراث الزوج إبطال حقّ على الباقين، فلم تصر محجورة عن هذا التبرّع مع الزوج، وإن كان المسمّى أكثر من ميراثه فيها، فإنّه لا تسلم له الزيادة على ميراثه إلا بإجازة بقيّة الورثة؛ لأنَّ حقّ الباقين يبطل عند الزيادة على قدر الميراث، وقد حجرت عن ذلك في حالة المرض بسب النكاح، والنكاح وإن ارتفع بالخلع فالعدّة باقية، وكلّ حجر يثبت بالنكاح يبقى ما بقيت العدّة على ما عرف أنَّ العدّة من آثار النكاح بخلاف ما بعد انقضاء العدّة؛ لأنّ بعد انقضاء العدّة ارتفع النكاح بأثره، فزوال المانع من التبرّع فيما زاد على قدر حقّه في الميراث إلى تمام الثلث، وصار حاصل التفاوت بينهما قبل انقضاء العدّة، وبينهما بعد انقضاء العدّة أن بعد انقضاء العدّة لا ينظر إلى قدر حقّ الزوج في الميراث، وإنّما ينظر إلى الثلث يُسلّم للزوج قدر الثلث من بدل الخلع. وإن كان أكثر من حقّه في الميراث فسلّم للزوج قدر حقّه في الميراث من بدل الخلع، ولا تسلم له قدر ثلث مالها إذا كان ثلث مالها أكثر من حقّه في الميراث. والفرق ما مرّ.(3/674)
-----
وإن كانت المرأة غير مدخولٍ بها وقد اختلف من زوجها بمهرها فإن النصف يعود إلى الزوج بحكم الطلاق لا بحكم التبرّع، ألا ترى إنْ طلقها قبل الدخول بها ولم يختلع منها عاد إلى الزوج ذلك، فلا يعتبر ذلك النصف أصلاً إلى الزوج من جهة المرأة حتّى يكون تبرّعاً من جهتها، وأمّا النصف الآخر وصل إليه من جهة المرأة فتعتبر متبرعة في ذلك، وقد حصل التبرّع على الأجنبي؛ لأنّ النكاح انقطع بأثره فسلم للزوج ذلك النصف من الثلث، وإن لم يكن لها مال سوى المهر سلّم للزوج ثلث ذلك النصف.
وإن كان الزوج ابن عمّ لها، والمرأة مدخول بها فإن كان لا يرث منها بحقّ القرابة بأن كان لها عصبة أخرى أقرب منه، فهذا وما لو كان الزوج (أجنبيّاً) أو إن كان يرث منها بحكم القرابة، وقد جاءت بعد انقضاء العدّة فإنّه ينظر إلى بدل الخلع وإلى قدر ميراثه منها بحقّ القرابة، فإن كان بدل الخلع قدر ميراثه أو أقلّ سلّم للزوج ذلك، فإن كان أكثر فالزيادة على قدر ميراثه منها لا تسلم له إلا بإجازة باقي الورثة.
وإن كانت المرأة غير مدخول بها، فإنَّ نصف المهر سلّم للزوج بالطلاق قبل الدخول، فلم تعتبر المرأة متبرعة في ذلك النصف، وإنّما تعتبر متبرعة في النصف الآخر، وقد صارت متبرّعة على الوارث، فينظر إلى ذلك النصف وإلى قدر ميراثه منها، فتسلّم للزوج الأقلّ منهما، وهذا إذا ماتت من مرضها، وإن برأت منه تسلم للزوج جميع ما سمّت، بمنزلة ما لو وهبت له شيئاً ثمَّ برأت من مرضها. ولو اختلعت من زوجها وهي صحيحة والزوج مريض فالخلع جائز بالمسمّى قلَّ ذلك أو كثر؛ لأنّها وإن صارت متبرّعة إلا أنّها صحيحة، والتبرّع من الصحيح نافذ، ولا ميراث بينهما سواء مات بعد انقضاء العدّة أو قبل ذلك بوجود الرضا من كلّ واحد ببطلان حقّه.(3/675)
-----
وإن تبرّع أجنبي باختلاعها من الزوج بمال ضمنته للزوج، وكان ذلك من الأجنبي في مرض الموت، فالخلع جائز والطلاق واقع، ويُعتبر بدل الخلع من ثلث مال الأجنبي؛ لأنَّ الخلع عندنا تبرع من المرأة مع أنّه يحصل لها بالخلع نوع فائدة، فَلأَنْ يُعَدُّ تبرعاً من الأجنبي أولى، وإن كان الزوج مريضاً (266ب1) حين تبرّع الأجنبي باختلاعها فلها الميراث إن مات الزوج من مرضه ذلك وهي في العدّة؛ لأنها لم ترض بهذا الطلاق، فيعتبر الزّوج فارّاً، والله أعلم بالصواب.
الفصل السابع عشر: في الأيمان في الطلاق
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع في بيان معرفة اليمين بغير الله وبيان شرائط صحّته.
يجب أن تعلم بأنَّ اليمين بغير الله تعالى ذكر شرط وجزاء يحلف به عادة؛ لأنَّ اليمين بغير الله تعالى إنّما يعرف الجزاء، فإذا كان الجزاء ممّا لا يحلف به لم يكن هذا التعليق يميناً، وتعليق الجزاء بالشرط على الشرط الحقيقة وطريقه ما قلنا، والشرط يصحّ في الملك وفي غير الملك، والجزاء لا يصح إلا بالملك أو في أثره أو مضافاً إلى الملك، أو إلى أثره أو إلى سببه، وهذا لأنّ الشرط أمر حسّي، فصحته تكون بوجوده حسّاً، وأمّا الجزاء فأمر شرعي فصحته إنّما تكون بالشرائط التي اعتبرها الشرع للصحّة، والشرع اعتبر بصحته الجزاء الشرائط التي قلنا تحقيقاً بما هو المقصود من اليمين، وهو تقوي الحالف على تحصيل الشرط والامتناع عنه؛ لأنَّ الحالف إنّما يتقوّى على ذلك خوفاً لزوال الجزاء، والخوف إنّما يحصل إذا كان الجزاء غالب النزول عند الشرط، أو متيقن النزول عند الشرط، وعليه النزول عند الشرط لقيام الملك، أو أثره للحال وتيقّن النزول عند الشرط بالإضافة إلى الملك، أو إلى سبب الملك، ثمَّ الشرط إن كان متأخّراً عن الجزاء فالتعليق صحيح وإن لم يذكر حرف الفاء إذا لم يتخلّل بين الجزاء وبين الشرط سكوت.(3/676)
-----
ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخلت الدّار، أو قال: لعبده أنت حرّ إن دخلت الدّار يتعلّق الطلاق بالدخول والعتاق بالدخول؟ وإن لم يذكر حرف الفاء لما لم يتخلل بينهما سكوت، وإن كان الشرط مقدّماً على الجزاء فإن كان الجزاء اسماً قائماً يتعلّق بالشرط إذا ذكر الجزاء بحرف الفاء؛ لأنّ الاستعمال بمثله ورد، قال الله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118) حتّى إنَّ من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ طالق يتعلق الطلاق بالدخول.
ولو قال إن دخلت الدّار فأنتِ طالق يقع الطلاق للحال إلا إذا قال: عنيت به التعليق، فحينئذٍ يديّن فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يديّن في القضاء، وإن كان الجزاء فعلاً، إمّا فعلاً مستقبلاً أو فعلاً ماضياً فالجزاء يتعلق بالشرط بدون حرف الفاء، به ورد الاستعمال، قال الله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَنِيّكُمْ وَلآ أَمَانِىّ أَهْلِ الْكِتَبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} (النساء: 123) ويقول الرجل لغيره إن زرتني زرتك أو أزورك، ويبنى على هذا الأصل ما إذا قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فإنها تطلق للحال لأنَّ الشرط سابق والجزاء اسم ولا يتعلّق بدون حرف الفاء، وإن قال: عنيت التعليق يديّن أصلاً، هكذا ذكر في «الجامع»، وبعض مشايخنا قالوا: نسأل الزوج كيف نويت التعليق؟ إن قال بإضمار حرف الفاء لا تصحّ نيّته أصلاً، وإن قال بالتقديم والتأخير تصح نيّته فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصحّ في القضاء.(3/677)
-----
وكذلك إذا قال لها: أنتِ وإن دخلت الدّار أنتِ طالق تطلّق للحال، وإن عنى التعليق ديّن فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال لها: أنتِ طالق وإن دخلت الدار، فإنّها تطلق للحال؛ لأنَّ الواو في مثل هذا التحقيق بقول الرّجل لغيره أحسن إلى فلان وإن أساء إليك، ومعناه: أحسن إلى فلان على كلّ حال أساء إليك أو لم يسء فكذا ها هنا. معنى كلام الزوج أنتِ طالق على كلّ حال، وإن عنى التعليق لا يديّن أصلاً، لا في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، ولم يذكر محمّد رحمه الله ما إذا نوى به بيان الحال، ومعناه أنتِ طالق في حال دخولك الدّار.
وحكي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أنّه قال: يجب أن تصحّ نيّته؛ لأنّ الواو في مثل هذا يذكر الحال بقول الرجل لامرأته: أنتِ طالق راكبة، ومعناه: أنتِ طالق في حال ركوبك، وقد نوى ما يحتمله لفظه، ولو قال لها: أنتِ طالق ولم يذكر بعده حالاً لم يذكر محمّد رحمه الله هذه في الكتب الظاهرة، وفي «النوادر» المسألة مذكورة على الخلاف، على قول محمّد رحمه الله يقع الطلاق لا يخلو من ثلاثة أوجه: أمّا إن كان مضافاً ولم توجد الإضافة ها هنا، وإمّا أن يكون معلّقاً ولا تعليق ها هنا إذ لم يذكر عقيب الشرط فعلاً يتعلّق به، فيتعيّن تنجيزاً أو إيقاعاً للحال، وعلى قول أبي يوسف: لا يقع الطلاق إلا إذا ذكر عقيب الشرط فعلاً أنها لا يقع الطلاق في الحال؛ لأن بذكر الشرط يتبيّن أنَّ ما أراد به الإرسال، وهذا المعنى ينبىء عن ذكر الشرط، لا عن ذكر الفعل عقيب الشرط، والكلام مع ذكر الشرط لا يكون إرسالاً أصلاً.(3/678)
-----
ولو قال لها أنتِ طالق، ثمَّ إن دخلت الدّار فإنّه يقع الطلاق عليها للحال، ولو نوى التعليق لا يصحّ بيَّتَهُ أصلاً، وأمّا إذا نوى المقارنة بأن نوى وقوع الطلاق مقارناً لدخول الدار، لم يذكر محمّد رحمه الله هذه المسألة في شيء من الكتب، وكان القاضي الإمام أبو الهيثم يحكي عن القضاة الثلاثة: أنّه تصحّ نيته فيما بينه وبين ربّه؛ لأنّه نوى ما يحتمله لأنَّ كلمة ثمَّ تذكر ويراد بها الجمع والمقارنة بين الشيئين مجازاً قال الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ النَّفْسُ الإِنسَنُ الإِنسَنُ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ الْمُطْمَئِنَّةُ الإِنسَنُ الإِنسَنُ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ ارْجِعِى الإِنسَنُ الإِنسَنُ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ إِلَى الإِنسَنُ الإِنسَنُ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ جَلَّهَا نَارٌ تَلهَا الَّذِينَ الَّذِينَ} (البلد: 13 * 17) ، وكان المراد من ذلك الجمع والمقارنة، فإنّ فك الرقبة إنّما ينفع إذا كان معه إيمان، وعامّة مشايخنا على أنّه لا صحّ نيته؛ لأنَّ كلمة ثمَّ لغة للترتيب على سبيل التراخي لا للمقارنة، ولا للجمع، وفي الآية ما ثبت الجمع والقِرَان بكلمة ثمَّ وإنّما ثبت بكلام كان بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) ؛ لأنَّ كلمة كان يعبّر بها عن الماضي يعني مع وجود هذه الأفعال كان من قبل مؤمناً، والله أعلم.
نوع آخر:في بيان حروف الشرط(3/679)
-----
يجب أن تعلم أن حروف الشرط أن، وإذا وما، ومتى، وبينما ومَنْ، وما، وكل، وكلّما، هذا هو المذكور في كتب عامة المشايخ، وذكر القدوري رحمه الله أن شروط الإيمان ستة: إذا، وإذا ما، وإن، ومتى، ومهما، وكلما والأصل كلمة إن فهي شرط محض، وما سواها ففيها معنى الوقت، قال: وهذه حروف تتعلّق بالأفعال المستقبلة دون الماضي؛ لأنَّ الشرط ما يكون على خط الوجود، وذلك يكون في المستقبل دون (267أ1) الماضي وتختصّ بالأفعال دون الأسماء؛ لأن الآخرية تختص بالأفعال دون الأسماء، من قال وبهذا قيل: إنَّ كلمة كل ليست بشرط على الحقيقة؛ لأنّ الذي يليه اسم على ما نبيّن بعد هذا إن شاء الله تعالى، لكن جعل بمعنى الشرط إذا وصف الاسم بفعل كقوله: كلّ امرأة أتزوجها، وكلّ عبد أشتريه، فأخذ معنى الشرط من حيث وصف الاسم بالفعل، كأنّه قال: إن تزوجت، إن اشتريت.
قال: ويستوي إن دخل على فعله أو فعل غيره لأنَّ الشرط علم على نزول الجزاء، وفي حقّ العلميّة لا فرق بين فعله وبين فعل غيره، أما لفظ «كه»، قال امرأته طالق ثلاثاً «كه آين كاريكى»، فإن لم يتعارفوا التعريف بقوله «كه» يقع للحال؛ لأنّه تحقيق، وإن لم يتعارفوا التعليق إلا به لا تطلق ما لم يوجد الشرط؛ لأنّ المعروف كالمشروط، وإن تعارفوا التعليق بهذا وبصريح الشرط؛ ذكر الفضلي في فتاويه؛ أنّه يقع الطلاق للحال وبعض مشايخنا قالوا لا يقع وهو الأصح.
وقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنّه إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لدخلت الدار، فإن لم يكن دخل الدار تطلق، وإن كان دخل الدار لا تطلق، وهذا وما لو قال أنتِ طالق إن لم أكن دخلت الدّار سواء، فقد اعتبر قوله لدخلت الدار شرطاً ولفظ «كه» ترجمة قولهم لدخلت، والله أعلم.
نوع آخر(3/680)
-----
إذا علّق طلاق امرأته بفعل إن حصل التعليق بكلمة إن وإذا وإذا ما ومتى ومهما، فهذا على مرّة واحدة، حتّى لو فعلت ذاك الفعل مرّة وقع الطلاق، ولو فعلت ذلك الفعل مرّة أخرى لا يقع الطلاق، وإن حصل التعليق بكلمة كلّما فكلّما تكرّر ذلك الفعل يتكرّر الطلاق حتّى يستوفي طلاق الملك الذي حَلف عليه، ثمَّ يبطل اليمين حتّى لو تزوّجت بزوج آخر وعادت إلى الزوج الأوّل وفعلت ذلك الفعل لا يقع الطلاق، أمّا تكرّر الطلاق؛ لأنَّ كلمة كلّما تقتضي تكرار ما دخلت عليه من الأفعال لما تبيّن، وأمّا بطلاق اليمين باستيفاء طلقات هذا الملك؛ لأنّ اليمين انعقدت على الملك القائم لا يملك إلا ثلاث تطليقات، فإذا استوفاها تبطل اليمين؛ لأنّ اليمين إنّما تنعقد على ما تملك إيقاعه، لا على ما لا يملك إيقاعه، ولو كان أضاف الطلاق إلى ملك الثاني أو إلى كلّ ملك يملكه بكلمة كلّما بأن قال لامرأته: كلّما تزوجتك فأنتِ طالق فتزوّجها مرّة بعد مرّة حتّى وقع عليها ثلاث تطليقات وتزوجت بزوج آخر، ثمَّ تزوّجها الزوج الأوّل تطلق أيضاً؛ لأنَّ في هذه المسألة أضاف الطلاق إلى كلّ ملك يوجد منه، وطلاق الملك الأوّل وإن ذهب فطلاق الملك الثاني والثالث لم يذهب فيه من اليمين على الملك الثاني والثالث.(3/681)
-----
ولو قال: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق فتزوّج نسوة طلقن، ولو تزوّج امرأة واحدة مراراً لم تطلق إلا مرّة واحدة، وقرب بين قوله كل امرأة أتزوّجها، وبين قوله كلّما تزوجت امرأة، فإنَّ هناك لو تزوّج امرأة مراراً طلقت في كلِّ مرّة. والفرق: أنَّ كلمة كلّما وكلّ توجبان التعميم لأنّ كل موضوعة للتعميم؛ لأنَّ ضد البعض، والبعض للخصوص وضدّه وهو لكلّ يكون العموم... غير أنَّ كلمة كلّما توجد عموم الأفعال نصّاً ووضعاً، وعموم الأسماء ضرورة عموم الأفعال؛ لأنّها تصحب الأفعال، ولا تصحب الأسماء، ألا ترى أنّه يقال: كلّما ذهب وكلّما قام، ولا يقال كلّما رجل وكلّما امرأة والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء: 56) ، وقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (الملك: 8) فإذا أوجبت عموم الأفعال دخل تحت اليمين كلّ تزوّج يوجد منه، فيجب بكلّ تزوّج منه، أمّا كلمة كل توجب عموم الأسماء لأنها تصحب الأسماء، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185) وبكل يقال: كل رجل وامرأة، ولا يوجب عموم الأفعال؛ لأنّها لا تصحب الأفعال، ألا ترى أنّه لا يقال كلٌّ قام وكلٌّ ذهب وإذا ثبت أنها توجب عموم الأسماء دون الأفعال ... عموم النساء، لا عموم التزوّج، ويكون شرط الحنث في كلّ امرأة التزوّج مرّة واحدة.(3/682)
-----
وعن أبي يوسف في «المنتقى»: إذا قال: كلما تزوّجت امرأة فهي طالق، فتزوّج امرأة حتّى طلقت لو تزوّجها ثانياً لا تطلق ولا يحنث في هذا مرتين، قال: وهذا بمنزلة قوله: كلّ امرأة أتزوجها فهي طالق، قال أبو يوسف رحمه الله: وليس هذا كقوله: كلما تزوّجت إذا خاطبها، فإنّ هناك يقع عليه الطلاق كلّما تزوجها، أشار إلى أنَّ كلمة كلّما إذا دخلت على المغير، أو على المخاطب تقتضي التكرار، وإذا دخلت على غير المغيّر لا تقتضي التكرار، وأوضح هذا بما إذا قال: كلّما اشتريت هذا الثوب فهو صدقة، وكلّما ركبت هذه الدابة فعليّ صدقة كذا، فإنّه يلزمه في كلّ دفعة ما التزمه، ولو قال كلّما اشتريت ثوباً كلّما ركبت دابّة لا يلزمه ما التزم إلا مرّة واحدة، وكذلك قال في حقّ رجل قال: كلّما كلمت رجلاً فعليَّ أن أتصدّق بدرهم، فكلّم رجلاً واحداً مرتين في موطنين فإنّما عليه أن يتصدّق بدرهم واحد.
ولو قال لرجل بعينه: كلّما كلمتك فعليّ أن أتصدّق بدرهم، فكلّمة مرتين في موطنين فعليه أن يتصدق بدرهمين، قال لأجنبيّة بالفارسيّة «آك حزاز توزن كنم»، أو قال: «آكر مراجز آز تون باشد» فهي طالق، فتزوّج امرأة ثمَّ أخرى طلقت الأولى دون الثانية؛ لأنّه لما لم يقل «هررني» كان اللفظ حاصلاً، ولا يتناول إلا مرّة واحدة وقد حنث بالأولى، ولا تبقى اليمين إذا قال «آكر مرايد ين جهان زن بودان بسه طلاق» فتزوّج امرأة تطلق، ولو تزوّج الأخرى لا تطلق، ولو قال لامرأة بالفارسيّة «آكر باين خانة آندر ايتي ترا طلاق».(3/683)
-----
قال الناطقي رحمه الله: ها هنا ستة ألفاظ «آكرو ميمي وميمشة وهركاه وهرز بان وميربار»، والأوّل فارسيّة قوله «ان» ولا يحنث إلا مرّة واحدة، وقوله: «ميمي»، معناه: قوله: متى وقوله: «ميمشة» معناه قوله .... (267ب1)، فلا يحنث فيهما إلا مرّة واحدة، وأمّا قوله: «هركاه وحرزمان»، قال الناطفي: رحمه الله في «واقعاته»: هذه الألفاظ تشبه كلمة كل، ولا يقع الحنث فيها إلا مرّة واحدة، وتشبّه بكلمة كلّما فيتكرّر الحنث فيها، ورجّح المشابهة وكلمة كلّما فيتكرّر الحنث فيها.6
قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: المختار أنَّ في قوله «ميركاه وميرزمان» لا يقع الحنث إلا مرّة واحدة، وفي قوله «مربار»، يتكرّر الحنث، ولو قال: أيُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق يقع على امرأة واحدة إلا إن نوى العموم، هكذا قيل، وكان ينبغي أن لا تصحّ نيّة العموم فيه؛ لأنَّ هذه الكلمة لا تحتمل العموم، قال أهل اللغة والنحو: كلمة أَن تتناول جزءاً في جملة ما أضيفت إليه هذه الكلمة غير عين، ألا ترى أنّه لا يستقيم قران فعل الجماعة بها لا يستقيم أن يقال: أيُّ الرجال أبوك، ويستقيم قران فعل الواحد بما يستقيم أن يقال: أيَّ الرّجل أباك، غير أنّه صحّ بنيّة العموم باعتبار أنَّ عرف بعض المواضع هذه الكلمة لجميع النساء فيقع على امرأة واحدة باعتبار المواضع، وتصح نيّة العموم فيه، باعتبار عرف البعض. وذكر في «المنتقى»: أنَّ كلمة أي تتناول كل امرأة.(3/684)
-----
وصورة ما ذكر في «المنتقى»: إذا قال: أيّ امرأة أتزوجها فهي طالق وعمرة امرأة الحالف، فتزوّج امرأة طلقت هي وعمرة فإن تزوّج امرأة أخرى بعد ذلك طلقت هي، ولا تطلق عمرة ولا يعود.... في عمرة مرتين. ولو قال: «هر كدام زني كه ترى كنم»، فهذا يقع على كلّ امرأة مرّة واحدة، هكذا ذكر الفضليّ رحمه الله في «فتاويه»، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: أنّه يقع على امرأة واحدة مرّة واحدة، وقيل يقع على كل امرأة مرّة واحدة، ولو قال أيَّةُ امرأة زوجت نفسها مني، فهذا على كلّ امرأة؛ لأنَّ النكرة وضعت بصفة عامّة فتعم، بخلاف قوله: أيّة امرأة أتزوّجها، وقوله: أَيّة امرأة زوّجت نفسها مني، بمنزلة قوله: أي عبيدي ضربَك يا فلان. وقوله: أَيّة امرأة أتزوّجها بمنزلة قوله أيُّ عبيدي ضربته يا فلان، وبيان مسألة الضرب في كتاب الأيمان.
نوع آخر في لو ولولا إذا جعل شرطاً
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لو دخلت الدّار، لم تطلق حتّى تدخل الدّار؛ لأنَّ لو بمعنى الشرط، فإنّه يستعمل لأمر مترقب، فصار بمعنى الشرط الذي هو مترقب الثبوت، فيتوقّف عليه.(3/685)
-----
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنتِ طالق لو دخلت الدّار لطلقتك، فهذا رجل حلف بطلاق امرأته ليطلقها إن دخلت الدّار، وهو بمنزلة قوله: عبدي حرٌّ لو دخلت الدّار وضربتك، وهذا رجل حلف بعتق عبده ليضربها إن دخلت الدّار، فإن دخلت الدّار في مسألة الطلاق لزمه الطلاق إن طلقها، فإن ماتت أو مات هو فقد فات الشرط في آخر جزء من آخر الحياة فيقع الطلاق، كما في قوله: إن لم آتِ فأنتِ طالق فمات قبل أن يأتيها طلقت في آخر جزء من أجزاء حياته، قال محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لولا دخولك الدّار، فهذا استثناء ولا يقع الطلاق عليها، وكذلك لو قال: لولا مهرك عليّ، والأصل في جنس هذه المسائل أنَّ لولا تستعمل لامتناع الشيء بوجود غيره، قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَكَ} (هود: 91) فيصير تقدير كلامه: امتناع وقوع الطلاق عليك لمكان مهرك عليَّ، ولمكان دخولك الدّار. وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب»: هذا استثناء معناه: أنَّ هذا بمعنى الاستثناء، فإنّه يمنع ثبوت موجب الكلام كالاستثناء.
نوع آخر في حرف الباء(3/686)
-----
إذا جعل شرطاً إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني، أو قال: إلا برضاي، أو قال: إلا بعلمي أو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار بغير إذني، فهما سواء؛ لأنّ كلمة إلا وغير للاستثناء، والجواب فيهما أن بالإذن مرّة لا ينتهي اليمين حتّى لو أذن لها بالخروج مرّة وخرجت، ثمَّ خرجت بعد ذلك بغير إذنه طلقت، وإنّما كان كذلك؛ لأنّ كلمة الاستثناء دخلت على الخروج لا على الحرمة البائنة باليمين؛ لأن محلّ الاستثناء ما هو متعدّد؛ لأنَّ الاستثناء موضوع لاستخراج البعض، وذلك إنّما يتحقّق فيما هو متعدّد والخروج متعدّد، وأمّا الحرمة البائنة باليمين غير متعدّدة، فإذا قال لها: إن خرجت، فقد منعها عن جميع الخروجات، واستثنى خروجاً موضوعاً بإذن، فإذا وجد الخروج بإذن كان مستثنياً عن اليمين فلا تطلق، وإن وجد الخروج بغير إذن لم يكن مستثناً عن اليمين، فتطلق.
وهو نظير ما لو قال لها: إن خرجت من هذه الدّار إلا بملحفة، فخرجت بغير ملحفة طلقت فطريقه ما قلنا. والحيلة للزوج في ذلك أن يقول لها: كلّما شئت الخروج فقد أذنت لك، فإن أذن لها بالخروج في كلِّ مرّة ثمَّ نهاها عن الخروج؛ قال محمّد رحمه الله: يُعمل نهيه، وقال أبو يوسف: لا يعمل، وأجمعوا على أنّه لو أذن لها بالخروج مرّة ثمَّ نهاها يعمل نهيه.(3/687)
-----
ولو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار حتّى آذن لك، فأذن لها بالخروج مرة بينهنّ اليمين، حتّى لو خرجت بعد ذلك بغير إذن لا تطلق؛ لأنَّ كلمة حتّى كلمة غاية، وقد دخلت على ما يقبل التأقيت، فإن اليمين يقبل التأقيت بوقت، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرج فلان من هذه الدّار حتّى الليلة، أو قال: إلى الليلة كانت اليمين مؤقتة. إذا ثبت هذا فنقول: الزوج جعل ليمينه غاية، وهو إذن، فإذا وجد الإذن مرّة فقد وجدت الغاية فتنتهي اليمين فلا تطلق بعد ذلك وإن خرجت بغير إذنه، وإن عنى بقوله حتّى آذن إلا بإذني صحّت نيته فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء؛ لأنّه نوى ما يحتمله كلامه وفيه تغليظ عليه، وإن عنى بقوله: إلا بإذني حتّى آذن صحّت نيته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تصحّ نيته في القضاء، وفي إحدى الروايتين عن أبي يوسف في القضاء.
ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر خلاف، وذكر القدوري أنّ على قول أبي حنيفة ومحمّد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله، وفي رواية عن أبي يوسف: لا تصحّ نيته في القضاء، والوجه لهم: أنَّ (268أ1) أنَّ التكرار ما ثبت بصريح اللفظ، بل بدلالة حرف الباء، فإذا نوى مرّة واحدة فقد نوى صريح لفظه، فيصدّقه القاضي في ذلك. ولو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا أن آذن لك، فهذا وما لو قال: حتّى آذن لك سواء حتّى ينتهي اليمين بالإذن مرّة.
إذا قال لها: إن خرجت من هذه الدّار من غير إذني فأنتِ طالق، فأذن لها بالعربية فخرجت تطلق؛ لأنَّ العلم شرط تحقق الإذن، ولم يوجد. ونظير هذا ما لو أذن لها وهي نائمة أو غائبة، هكذا ذكر في «النوازل» وفي «أيمان القدوري» إذا أذن لها وهي نائمة فهو إذن.(3/688)
-----
وفي أيمان «الأصل»: إذا أذن لها من حيث لا تسمع لم يكن إذناً، إن خرجت بعد ذلك طلقت في قول أبي حنيفة ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهما الله: هو إذن، ولو خرجت بعد ذلك لم تطلق، أبو يوسف يقول: الإذن يقوم بالإذن وحده وقد وجد، فهو بمنزلة ما لو أذن لها وهي نائمة، وهما قالا: الإذن مشتق من الأذان، وهو الإعلام، ومعنى الإعلام لا يحصل إلا بوصول الكلام إلى سمعها، بخلاف ما إذا أذن لها وهي نائمة؛ لأنَّ هناك وصل الكلام إلى سمعها إلا أنّه لم يحصل لها لمانع، فهو بمنزلة ما لو أذن لها وهي عاقلة، وحكي عن أبي شجاع: أنّه لا خلاف في هذه المسألة، وإنّما الخلاف في الأمر، إلا أنّ أبا سليمان حكى الخلاف في الإذن.(3/689)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال لها أنتِ طالق إن خرجت إلا بأمري، فالأمر أن يسمعها الأمر بنفسه أو رسوله، وإذا أشهد قوماً على ذلك لم يكن أمراً قال ثمّة، وهذا الخلاف الإذن على أصله؛ لأنَّ حكم الأمر لا يثبت إلا بعد علم المأمور، كأوامر الشرع بخلاف الإذن؛ لأنَّ المقصود من الإذن أن لا يكون الخروج مع كراهية، وانعدام الكراهية لا يتوقف على علمها، ولو أنَّ هؤلاء الذين أشهدهم الزوج على الأمر بلغوها أنَّ الزوج قد أمرها بالجواب، وإن لم يأمرهم أن يبلغوها فخرجت، فهي طالق وإن أمرهم أن يبلغوها، فخرجت بعد ذلك لا تطلق. وفي الإرادات والهواء والرضاء لا يشترط رضاه، وأراد به حتّى لو خرجت بعدما قال رضيت أردت هديت لا تطلق، وإن لم تسمع هي ذلك، فلا خلاف إنّما الخلاف في الإذن والأمر، وفي هذا الموضع أيضاً إذا قال لها إن خرجت من هذه إلا بإذني، فأنتِ طالق ثمَّ سمع سائلاً، فقال لها: أعطِ هذه السائل هذه الكسوة، فإن كان السائل بحيث لا تقدر المرأة على دفع ذلك إليه إلا بالخروج، فهو إذن لها بالخروج وإن كان بحيث تقدر المرأة على دفع ذلك إليه من غير خروج، ثمَّ خرج السائل إلى الطريق فخرجت إليه وأعطته طلقت، ولو دعته فجاء حتّى صار بحال تقدر المرأة على دفع ذلك إليه من غير خروج، فلم تدفع إليه حتّى انصرف، فخرجت إليه ودفعت ذلك إليه طلقت أيضاً. ولو حلف بطلاق امرأته على جاريته أن لا تخرج من الدّار إلا بإذنه، وهي تشتري لها الحوائج، فقال لها: اشتري بهذه الدراهم لحماً، فهو إذن لها بالخروج، وإذا خرجت بعد ذلك لا تطلق امرأته.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن خرجت إلا بإذني فأنتِ طالق، فاستأذنيه بالخروج إلى أبيها، فأذن لها فخرجت إلى منزل أخيها لا تطلق من قبل أنّه إذن لها بالخروج ولا ..... ذهبت إلى الذي أمرها به أو إلى غيره من قبيل أنَّ اليمين ها هنا على الإذن في الخروج إلى أبيها، فأذن لها فخرجت إلى أخيها طلقت.(3/690)
-----
وفي «النوازل» إذا قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنتِ طالق، فاستأذنه نية للخروج إلى بعض أهلها فأذن لها، فلم تخرج إلى ذلك لكنّها كانت تكنس الدّار فخرجت إلى باب الدّار لتكنس الباب وقع الطلاق؛ لأنّها خرجت بغير إذن؛ لأنّه إنّما أذن لها في الخروج إلى بعض أهلها ولم تخرج إلى بعض أهلها، فإن تركت الخروج ثمَّ خرجت في وقت آخر إلى بعض أهلها الذي أذن لها في الخروج؛ قال: أخاف أن يقع الطلاق عليها؛ لأنَّ هذا إذن في الخروج في هذا الوقت عادة.
وفي «المنتقى»: إذا قالت المرأة لزوجها: ائذن لي في الخروج إلى بيت أبي فقال: إن أذنت لك في ذلك فأنت طالق ثمَّ قال لها: أذنت لك في الخروج، ولم يقل إلى أين لا يحنث في يمينه، وهذا بخلاف ما لو استأذن الغلام مولاه في تزوّج أمة رجل، فقال له المولى: إن أذنت لك في تزوّجها فامرأته طالق، ثمَّ قال بعد ذلك: قد أذنت لك في تزوّج النساء، أو قال: أذنت لك في التزوّج حنث (في) يمينه، وعلّل ثمّة في الفرق فقال: لأنّه لا يكون متزوّجاً غير امرأة، وقد تكون خارجة من الدّار إلى غير منزل أحد.(3/691)
-----
ومعنى هذا: أن التزوّج إذا كان لا يكون إلا بالمرأة فإذا أذن له في التزوّج مطلقاً يثبت الإطلاق في النسوة ضرورة ثبوت التزوّج الإطلاق في التزوّج، فكان نكاح هذه المرأة داخلاً تحت الإذن، وأمّا الخروج قد يكون لا إلى منزل أحد، فلم تكن من ضرورة الإطلاق في الخروج الإطلاق في جهة الخروج، فلا يكون الخروج إلى منزل أبيه داخلاً تحت الإذن فلهذا لا يحنث، وإذا قال لعبده: إن اشتريت هذا العبد بإذني فامرأتي طالق، ثمَّ أذن له في التجارة، فاشترى هذا العبد طلقت امرأة المولى، ولو قال: أذنت لك في شراء البُرّ، فاشترى هذا العبد لا تطلق امرأة المولى؛ لأنَّ الأوّل إذن عام أو مطلق، فتناول شراء العبد بعمومه أو بإطلاقه، فأمّا الثاني إذن خاص يتقيد بالبرّ، ولا يتناول بالدّقيق بحقيقته، ولكن صار مأذوناً في التجارات كلّها حكماً لا بإذن ظهر منه حقيقة، ولا يتحقق شرط الحنث نظراً إلى الحقيقة
المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: رجل حلف بطلاق امرأته أن لا تشرب نبيذاً إلا بإذن فلان، ولا تأكل طعاماً إلا بإذن فلان، قائماً هذا الإذن على شربة واحدة، وعلى لقمة واحدة.
رجل قال: امرأتي طالق إن (268ب1) دخلت هذه الدّار، إلا أنَّ يأمرني فلان، فهذا على الأمر مرّة واحدة، ولو قال إلا أن يأمرني به فلان فلا بدّ من الأمر في كلِّ مرّة. وعلى هذا إذا قال لغيره: إن عملت لك كذا إلا أن يأمرني فلان فهذا على الأمر مرّة، ولو قال: إلا أن يأمرني به فلان لا بدّ من الأمر في كلِّ مرّة، والأصل أنَّ الحالف إذا وصل الأمر بالفعل المحلوف عليه بحرف الفاء يشترط الأمر في كلِّ مرّة، وإذا ذكر الأمر مطلقاً يكتفي بالأمر مرّة واحدة.(3/692)
-----
ولو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني فأنتِ طالق، ثمَّ قال لها أطيعي فلاناً في جميع ما أمرك به، فأمرها فلان بالخروج فخرجت طلقت من قبل أن الزوج لم يأذن لها بالخروج. وكذلك لو قال الزوج لرجل: ائذن لها في الخروج، فأذن لها فخرجت طلقت، وكذلك لو قال ذلك الرجل: إنَّ زوجك قد أذن لك، وكذلك لو قال لها الزوج: ما أمرك به فلان فقد أمرتك (به)، ثمَّ أذن لها بالخروج فبلغها ذلك ثمَّ خرجت طلقت، ولو قال الزوج لرجل: قد أذنت لها بالخروج، فبلغها ذلك ثمَّ خرجت لم تطلق.
قال لامرأته: إن خرجت من هذا الدّار إلا بعلمي أو بغير علمي فأنتِ طالق، فخرجت وهو يراها فمنعها أو لم يمنعها لم تطلق؛ لأنَّها خرجت بعلمه.
وفي «المنتقى»: إذا قال: إن خرجت من هذه الدّار بغير علمي فأنتِ طالق، فأذن لها بالخروج فخرجت بغير علمه لا تطلق؛ لأنَّ غرضه أن لا تخرج بغير رضاه، وفي «القدوري»: إذا قال لامرأته إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني فأنتِ طالق، ثمَّ قال لها: إن فعلت كذا فقد أذنت لك لا يكون إذناً، ولو قال لها أذنت لك أبداً، أو الدّهر، أو كلّما شئت فهو إذن لها في كلِّ مرّة، ولو قال لها: أذنت لك عشرة أيّام، كان لها أن تخرج في العشرة ما شاءت، ولو عصبت وتهيّأت للخروج فقال الزوج: دعوها تخرج ولا نيّة له لم يكن إذناً إلا إذا نوى الإذن، ولو قال لها في غضبه: اُخرجي ولا نيّة له كان على الإذن، إلا إذا نوى اخرجي حتّى تطلق؛ لأنَّ الأمر قد يقصد به التهديد وقد نوى ما يحتمله لفظه، وفيه تشديد عليه.(3/693)
-----
ولو حلف على امرأته بطلاقها أن لا تخرج من الدّار إلا بإذنه، أو حَلّف السلطان رجلاً بطلاق امرأته أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه، أو حَلَّف صاحب الدّين مديونه أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه فاليمين .... بحال قيام الزوجيّة والسلطنة والدّين، فإن بانت المرأة، وعزل السلطان، وسقط الدّين يسقط اليمين ثمَّ لا يعود أبداً وإن عادت الولاية للسلطان والزوج وعاد الدّين.
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف: سلطان حَلَّف رجلاً لا تدخل من هذا المسجد إلا بإذنه، ثمَّ عُزِل السلطان فقد سقط اليمين، وإن مات فاليمين على حالها. رجل خرج مع الوالي فحلف أن لا يرجع إلا بإذنه وقد سقط منه شيء فرجع كذلك لا تطلق؛ لأنَّ هذا الرجوع لا يراد باليمين عرفاً. وعن أبي يوسف فيمن حلف الطلاق على امرأته أن لا تخرج من بغداد إلا بإذنه، فقال الرجل: لم آذن لك، فادّعت المرأة الإذن فالقول قول الزوج، ولو قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذن فلان، فمات فلان قبل الإذن بطلت اليمين في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد خلافاً لأبي يوسف. والأصل عندهما: أنَّ اليمين إذا انعقدت على فعل في المستقبل ومات المعقود عليه أنّ اليمين تبطل، وعند أبي يوسف لا تبطل. وسيأتي الكلام فيه في كتاب الأيمان إن شاء الله.
وفي «الفتاوى»: إذا قال إن خرجتِ من هذه الدّار بغير إذني فأنتِ طالق، فقالت المرأة للزوج تريد أن أخرج حتّى أصير مطلقة، فقال الزوج: نعم، فخرجت تطلق؛ لأنَّ هذا تهديد وليس بإذن.
نوع آخر في ذكر مسائل الشرط بكلمة إن(3/694)
-----
ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «الحيّل»: إذا وهب الرجل لرجل مالاً، ثمَّ إنّ الواهب قال للموهوب له: امرأتي طالق إن أنفقت هذا المال الذي وهبت لك إلا على أهلك، ثمَّ إنَّ الموهوب له أنفق بعض الهبة على أهله وقضى بالباقي ديناً عليه أو حجّ لا تطلق امرأة الواهب. علّل فقال: شرط برِّه إنفاق جميع الهبة على أهله، فيكون شرط حنثه ضدّ ذلك وهو إنفاق جميع الهبة على غير أهله، ولم يوجد ذلك ها هنا. قال: وهو نظير ما لو حلف لا يأخذ ماله على فلان إلا الجميع، فأخذ البعض دون البعض لا يحنث؛ لأنَّ شرط برّه أخذ جميع الدّين جملة، فيكون شرط حنثه ضدّه، وهو أخذ جميع الدّين متفرّقاً، وستأتي مسألة الاستشهاد في كتاب الأيمان مع أجناسها إن شاء الله.
إذا قال لامرأته: إن أكلت من القِدر الذي تطبخي أنتِ فأنتِ طالق، فإن أوقدت هي النّار فهي طابخة سواء حصل الإيقاد بعدما وضعت القدِر على الكانون أو في التّنّور أو قبل ذلك، وسواء حصل وضع القِدر على الكانون منها أو من غيرها، فإن أوقدت النّار غيرها، فليست بطابخة حصل الإيقاد بعدما وضعت القِدر على الكانون أو قبل ذلك، وإليه أشار في «القدوري» حيث قال: الطابخة توقد النّار دون التي تنصب القِدر ونصب القِدر ونصب الماء، وتَلَقّي الأباريق، واختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله: أنّها تكون طابخة إذا وضعت القِدر في التنور، أو على الكانون بعد إيقاد النّار وإن حصل الإيقاد من غيرها قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: وعليه الفتوى. قال: ألا ترى في العادة التنّور إذا كان في سكّة توقد النّار فيه امرأة واحدة ثمَّ تضع كلّ امرأة قدرها في التنور؟ وبعد ذلك من كلّ واحدة منهنّ طبخاً.(3/695)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا أراد الرّجل أن يجامع امرأته، فقال لها: إن لم تدخلي معي في البيت فأنتِ طالق، فدخلت بعدما سكنت شهوته وقع الطلاق عليها، وإن دخلت قبل ذلك لم تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث عدم الدخول لقضاء شهوته فيها، وقد تحقّق ذلك في الصورة الأولى دون الثانية في الباب الأوّل من طلاق «الواقعات».
رجل خرج من بخارى إلى سمرقند وقال لامرأته: «آكر سيس من بيرون بياثي» مع فلانة، فأنتِ طالق ثلاثاً، فلم تخرج المرأة حتّى رجع الزوج من سمرقند، ينظر إن كانت فلانة خرجت ولم (269أ1) تخرج امرأته معها وقع الطلاق على امرأته، وإن كانت فلانة لم تخرج أيضاً فإن أراد الزوج بقوله: أن تخرجي مع فلانة أن يكون عدم خروجها شرطها لوقوع الطلاق، فإذا لم يخرجا وقع الطلاق على امرأته، وإن أراد الزوج بذلك: إن خرجت فلانة ولم تخرجي معها على إثري، فإذا رجع الزوج قبل خروج فلانة لا يقع الطلاق، وتسقط اليمين.
قال لامرأته: إن ذهبت إلى قرية كذا فأنتِ طالق، فذهبت المرأة إلى قرية أخرى، ومرّت بضياع تلك القرية ولم تدخل عمران تلك القرية لا تطلق؛ لأنَّ القرية اسم للعمران وهو الدّور والبيوت خاصّة. نصّ عليه في «شرح القدوري» في كتاب «البيع»، هذا إذا عقد يمينه على الذهاب، وإن عقدت يمينه على الخروج بأن قال: لها إن خرجت إلى قرية كذا فأنتِ طالق فخرجت إلى قرية أخرى ومرّت بضياع تلك القرية فإن كانت حين خرجت نوت أن تمرّ بتلك القرية طلقت، وإن كان من نيّتها أنّها لا تمرّ بتلك القرية، ثمَّ بدا لها بعد ذلك فمرّت بها لا تطلق.(3/696)
-----
قال لامرأته: إن تركتُ أو قال إن تركتُ صلاةً فامرأتي طالق، فترك صلاة أو تركت وقضاها هل يقع الطلاق؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يقع الطلاق، وبه كان يفتي الشيخ الإمام سيف الدّين عبد الرحيم الكرميني رحمه الله، لأنَّ ترك الصلاة أن يتركها ولا يقضيها، وبعضهم قالوا: يقع الطلاق، وبه كان يفتي القاضي الإمام ركن الإسلام عليّ السغدي رحمه الله، وهو الأشبه والأظهر؛ لأنَّ ترك الصّلاة أن يتركها عن وقتها، ..... قال محمّد رحمه الله: إذا قضى المتروكة، وقال أيضاً: من ترك صلاة يوم وليلة وقضاها من الغد.
وفي «الفتاوى»: سيّد أبو القاسم رحمه الله: قالت المرأة لزوجها: لا طاقة لي بالكون معك جائعة، فقال لها: إن كنت جائعة في بيتي فأنتِ طالق قال: إذا لم يكن كذلك في غير الصّوم لا تطلق، وسئل هو أيضاً عن امرأة خرجت إلى ضيافة فقال الزوج لها: إن سكنت هناك أكثر من ثلاثة أيّام فأنتِ طالق فرجعت في اليوم الثالث إلى قرية زوجها، ثمَّ رجعت ومكثت هناك أيّاماً، قال: لا أفتي بالطلاق غير أنَّ الاحتياط فيه أولى، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن دخلت عمران قرية الزوج ثمَّ رجعت لا تطلق، وإن لم تدخل ينبغي أن لا تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث المكث هناك بأكثر من ثلاثة أيّام في هذا الخروج من هذه القرية بدلالة الحال، ففيما إذا دخلت عمران قرية الزوج ثمَّ رجعت فهذا مكث في خروج آخر، وفيما إذا رجعت قبل أن تدخل عمران قرية الزوج فهذا مكث في الخروج الأوّل.(3/697)
-----
وفي «الفتاوى» أيضاً: رجل خرجت امرأته إلى قرية، فقال لها بالفارسيّة «آكربيش أزسه روز باشي» فأنتِ طالق، فانصرفت المرأة في اليوم الثالث إلى قرية أخرى، ثمَّ انصرفت إليها وأقامت بها أياماً، فإن كان انصرافها من تلك القرية على أن لا تعود ثمَّ عادت لا تطلق، وإن كان انصرافها على أن تعود ثمَّ عادت تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث الكينونة في تلك القرية أكثر من ثلاثة أيّام في هذه الخرجة، فهي خرجت من تلك القرية على أن لا تعود لم تبق الكينونة في تلك القرية، ومتى خرجت من تلك القرية على أن تعود إليها فالكينونة الأولى نافية، وفي المسألة الأولى لم يذكر مثل هذا التفصيل.h
وسئل أيضاً: عمّن قال لامرأته: إن لم أشبعك من الجماع فأنتِ طالق، قال: لا يعرف ذلك إلا بقولها، وقال الفقيه أبو الليث والشيخ الإمام أبو حفص البخاري رحمهما الله: أنه إذا جامعها ودام على ذلك حتّى أنزلت فقد أشبعها ولا تطلق. قال الفقيه وبه نأخذ في فتاوى الفضلي إن لم أطأك كالدّر فأنتِ طالق ثلاثاً، فهذا على المبالغة في الجماع، وإن بالغ لم تطلق وإلا تطلق، وفي «الجامع الأصغر»: إنَّ الجماع كالدّر أن ينزلا جميعاً في ذلك الجماع إذا قال لها: إن لم أطأك مع هذه المقنعة فأنتِ طالق ثلاثاً، ثمَّ قال لها: إن وطئتك مع هذه المقنعة فأنتِ طالق ثلاثاً، والحيلة في ذلك: أن يطأها بغير مقنعة، ولا يقع الطلاق ما دامت المقنعة قائمة وهما حيّان؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق في الحال يتحقّق، وهو وجود الوطىء مع المقنعة، وكذلك العدم لا يتحقق أيضاً للحال، فإن مات أحدهما أو هلكت المقنعة وقع الطلاق؛ لأنَّ العدم قد تحقّق.(3/698)
-----
إذا قال لها: إن لم أجامعك على رأس هذا الرّمح فأنتِ طالق، فالحيلة في ذلك: .... أن يثقب السقف، ويخرج رأس الرمح من السطح فيجامعها عليه، ولو قال لها: إن لم أجامعك وسط النهار وسط السوق فأنتِ طالق، فالحيلة في ذلك: أن يحملها في عمارى ويدخل السوق ويفعل ذلك الفعل. إذا قال لامرأته: إن بتِ الليلة إلا في حجري فأنتِ طالق، فباتت في فراشه ولم يأخذها في حجره حقيقة، قال الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى حُجُورِكُمْ} ولو قال بالفارسيّة «بكنار من آندر»، وباقي المسألة بحالها يجب أن تطلق.
وفي «أيمان فتاوى أهل سمرقند»: إذا قال لها: إن لم أبت معك الليلة مع قميصك هذا فأنتِ طالق ثلاثاً، فقالت المرأة: إن بتّ معك مع قميصي هذا فجاريتي حرّة، فالحيلة في ذلك: أن يلبس الرّجل ذلك القميص فيبيتان ولا يجيبان؛ لأنَّ قصد الرّجل أن يبيت معها ومعه هذا القميص، وقصد المرأة أن لا تبيت لابسة قميصها.(3/699)
-----
إذا قال لامرأته: إن لم يكن ذكري أشدّ من الحديد فأنتِ طالق ثلاثاً، حكي عن شمس الأئمة الحلواني أنّها لا تطلق بهذه اليمين أبداً؛ لأنَّ الحديد يذوب بالنّار وينتقص بالاستعمال، وذكره لا يذوب بشيء، ولا ينتقص بالاستعمال. وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا قال لها: إن شتمتني فأنتِ طالق وإن لعنتني فأنتِ طالق فلعنته. قال محمّد بن سلمة رحمه الله: يقع تطليقتان؛ لأنَّ في كلِّ لعنة شتمة، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: إن شتمتني فأنتِ طالق فلعنته طلقت امرأته، وقال نصر رحمه الله يقع طلقة واحدة لأنَّ الزوج عَبّر عن الشتم وعن اللعن، فدلّ تعبيره على أنّه أراد بقوله: إن شتمتني غير اللعن وإن (269ب1) كان في اللعن شتماً. ولو قالت له: لا بارك الله فيك لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس بشتم بل دعاء سوء، وكذلك لو قالت له: يا جاهل يا حمار يا أبله لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس بشتم. ولو قال لها: إن شتمتك فأنتِ طالق فقال: أيُّ عراى ساحه، فهذا شتم عرفاً وإن كان لا يجب به الجدّ فتطلق بحكم العرف، ولو قال لها: إن شتمتني فأنتِ طالق، فقالت المرأة لولدها الصغير منه: «أي بلاه يحه» ينظر إن قالت ذلك لكراهة عن الولد لا يقع الطلاق؛ لأنّها شتمت الولد دون الوالد، وإن قالت ذلك لكراهة عن الولد تطلق لأنَّ هذا شتم للوالد، وهذا لأنَّ هذا اللفظ يصلح لشتم الولد ولشتم الوالد ويرجّح جانب شتم الولد في الفصل الأوّل، وجانب شتم الوالد في الفصل الثاني.
قال لامرأته إن أغضبتك فأنتِ طالق، فضرب صبيّاً لها فغضبت، ينظر إن ضربه في شيء ينبغي أن يضرب ويورث عليه لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس موضع الغضب، وإن ضربه في شيء لا ينبغي أن يُضرب ويورث عليه تطلق؛ لأنَّ هذا موضع الغضب.(3/700)
-----
إذا قال لامرأته (إن لم أقل عند الآن هذا موضع أحبك تلك قبيح في الدنيا عوك غداً)، فأنتِ طالق، فهذا اليمين لا يقع على جميع أنواع القبيح؛ لأنّه لا يتصوّر عادة، وإنّما يقع على ثلاث من أنواع القبيح والفواحش، فإذا قال ثلاثاً من أنواع القبيح والفواحش عند اجتماع أشباهها يقع البر. قال لها: إن لم تكوني عليّ أهون من التراب فأنتِ طالق، إن استهان بها استهانة يُعَدُّ إفراطاً منها لا يحنث؛ لأنّها أهون عليه من التراب عادة.
دعا امرأته إلى الفراش فقالت المرأة: ما تصنع بي ويكفيك، ولأنّه لامرأته أحببته فقال الزوّج: إن كنت أحبُها فأنتِ طالق، تكلموا فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار: أنّه لا يقع الطلاق وإن كان يحبّها ما لم يقل الزوج أحبّها؛ لأنَّ الطلاق معلّق بالإخبار على المحبّة.
رجل هدّد رجلاً بالسلطان، فقال المهدّد: إن كنت أخاف من السلطان فامرأتي طالق، إن لم يكن ساعة حلف على خوف من السلطان ولا كان سبيل من الخوف بحياته حياها يخاف من مثلها السلطان، رجوت أن لا تطلق امرأته إن لأنَّ الأمر كما زعم.
إذا قال لامرأته «آكر ترانير رود حياتك تا آكنون رفت» فأنتِ طالق ثلاثاً، فقيل هذا الكلام، ولا بدّ من قرينة يصير بها معلوماً، فإن كان له متقدّمة يرجع بها ويتقيّد بها، وإلا يرجع إلى نيته، فإن نوى أنّي كنت أتجاوز عنكِ والساعة لا تجاوز عنها وقع الطلاق؛ لأن شرط الحنث قد وجد.
قيل لسكران هذا يقول من السّكر، فقال امرأتي طالق إن قلت هذا من السّكر، وليست بسكران فتسميه على ما يسميّه الناس سكراناً، فإذا بعد كلامه ومعاملته والنّاس يسمّونه سكراناً، فتطلق امرأته.(3/701)
-----
سئل أبو القاسم عن النساء يجتمعن يغزلن لأنفسهنَّ، ولغيرهن أيضاً على وجه القرض، فقصّ زوج امرأة وقال لها: إن غزلت لأحد أو غزل لك أحد فأنتِ طالق، ثمَّ إن امرأةً منهن وجهت إلى بيت هذه المرأة قطناً لتغزله، فغزلته أمّها قال: إن كان من عادة أولئك النسوة أنَّ كلّ واحدةٍ تغزل لنفسها لا تطلق ما لم تغزل هي بنفسها.
وسئل أبو القاسم رحمه الله عمّن قال لامرأته: إن تكوني امرأتي فأنتِ طالق ثلاثاً، أنّه إن لم يطلّقها تطليقة ثانية عند فراغه من اليمين، طلقت ثلاثاً.
إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك اليوم ثلاثاً فأنتِ طالق ثلاثاً، فالحيلة في ذلك: أن يقول لها: أنتِ طالق ثلاثاً على ألف، فتقول المرأة: لا أقبل، فإنَّ في هذه الصورة لا يقع الطلاق في رواية أبي حنيفة رحمه الله، وبه أخذ كثير من المشايخ؛ لأنّه أتى بالتطليق، ولكن على ألف وكان تطليقاً مقيداً، والمقيد يدخل في المطلق، فيتقدّم شرط وقوع الطلاق وقيل هذه الرواية لا تصلح حيلة ويقع الطلاق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق عدم التطليق، وما أتى به ليس بتطليق، بل هو تطليق والتطليق غير التطليق. ولو قال لها: إن لم أطلقك اليوم ثلاثاً على ألف درهم، فكذا، فهو على ما قال، فإن قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً على ألف درهم فقالت: لا أقبل، لا يلزمه الحنث، وهذا الجواب يجب أن يكون على الروايات كلّها.(3/702)
-----
إذا قال لامرأته «آكر بحانة آندر ايش باشد برا طلاق» فإذا في البيت سراج، قال الفقيه أبي الليث: إن كان يمينه لأجل إيقاد النّار تطلق امرأته، وإن كانت يمينه لأجل الاصطلاء ونحوه لا تطلق امرأته، وإن لم يكن له نيّة لا تطلق امرأته؛ لأنّ هذا ممّا لا يسمّى ناراً على الإطلاق. وفي «فتاوى الفضلي» إذا قال لها: إن سألتني الليلة طلاقك فلم أطلقك فأنتِ طالق فأنتِ طالق ثلاثاً، فقالت المرأة: إن لم أسألك الليلة طلاقي فجميع مالي صدقة في المساكين، فسألت المرأة الطلاق، فقال لها الزوج: أنتِ طالق إن شئتِ، فقالت: لا أشاء ومضت الليلة لا تطلق، ولو قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فمضت الليلة طلقت ثلاثاً.
والفرق: أنَّ قوله: أنتِ طالق إن شئت إيقاع؛ لأنّه تقدّر جعله تعليقاً بدلالة اقتصاره على المجلس، وقوله: إن دخلت الدّار تعليق فلم يكن إثباتاً لتطليق.
وفي «فتاوى أبي الليث»: إذا قال لها بالفارسيّة «آكر توفر دازن من باشي» فأنتِ طالق ثلاثاً، فخالعها بعد ما طلع الفجر من الغد، ينظر إن كان مراد الزوج من كلامه السابق منع كونها امرأة له في شيء من الغد، فإذا أخّر الخلع إلى ما بعد طلوع الفجر طلقت ثلاثاً؛ لأنَّ شرط وقوع الثلاث قد وجد وهو كونها امرأة له في شيء من الغد، وإن لم يكن له نيّة إذا خالعها قبل غروب الشمس من الغد لا تطلق بحكم اليمين؛ لأنَّ البر إنما يتحقّق في آخر النّهار، وهي ليست امرأته في آخر النّهار، وإن خالعها قبل غروب الشمس من الغد ثمَّ تزوجها قبل غروب الشمس طلقت بحكم اليمين؛ لأنها امرأته قبل غروب الشمس، ولو خالعها قبل غروب الشمس ثمَّ تزوّجها في اليوم الجائي، لا تطلق بحكم اليمين؛ لأنّها لم تكن امرأته قبل غروب الشمس من الغد.(3/703)
-----
وفي «فتاوى سمرقند»: إذا قال لها بالفارسيّة ليلاً: «آكر تراجزا مشب دارم» فأنتِ طالق ثلاثاً، فطلقها في الليلة تطليقة بائنة ومضت الليلة، ثم تزوّجها في الغد (270أ1) لا تطلق، وكذلك إذا قال لها نهاراً: «آكر جزا مروز ترادام» فطلقها تطليقة بائنة في هذا اليوم، ومضى اليوم لا تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث في المسألة الأولى أن يديم نكاحها بعد مضي هذه الليلة. وفي المسألة الثانية أن يديم نكاحها بعد مضي هذا اليوم ولم يوجد، وهذا نكاح جديد، فلهذا لا تطلق بحكم اليمين.
وفي «فتاوى أبي الليث»: رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فتزوّجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني وفارقها، وقيل للزوج الأوّل: لمَ لا تتزوّجها، فقال بالفارسيّة: «آكر كار من با أو بيكوشود آكرا رحبايب ميخ مردسر شتست»، فهي طالق ثلاثاً ثمَّ تزوّجها قال: إن كان أراد بقوله «بيكو شود» أن يتزوّجها طلقت ثلاثاً؛ لأن شرط وقوع الطلاق قد تحقّق، وهو التزوّج. وإن كان أراد بقوله «بيكو شود» أن تصير حلالاً له لا تطلق؛ لأنها صارت حلالاً له قبل اليمين حال ما انقضت عدّتها من الزوج الثاني، فلم تنعقد اليمين؛ لأنّها عقدت على شرط موجود، فتكون إيقاعاً في الحال لا يميناً، أو هي في الحال ليست بمنكوحة له، وليست في عدّته. وهذا الجواب يستقيم فيما إذا أراد بقوله: «حلال شود» حلّ التزوّج، وأمّا إذا أراد به حلّ الوطء بالتزوّج ينبغي أن تطلق؛ لأنَّ اليمين حينئذٍ يكون مضافاً إلى التزوّج، فينعقد وينحلّ عند التزوّج.(3/704)
-----
وفيه أيضاً: إذا قال لها: إن تزوجت عليك ما عشت فحلال الله عليّ حرام، ثمَّ قال لها: إن تزوجت عليك فالطلاق عليَّ واجب، ثمَّ تزوّج عليها امرأة، قال: يقع على كلِّ واحدة تطليقة، ويقع تطليقة أخرى يصرفها إلى أيّهما شاء؛ لأنَّ اليمين الأولى انصرفت إلى الطلاق عرفاً فينصرف إلى طلاق كل واحدة منهما، واليمين الثانية يمين بطلاق الواحدة منهما، وإذا تزوّج امرأة انحلّت اليمينان، فيقع باليمين الأولى على كلِّ واحدة تطليقة، ويقع باليمين الثانية طلاق آخر، فيصرفه الزوج إلى أيهما شاء؛ لأنَّ اليمين الأولى لما انصرف إلى الطلاق فصار كأنّه قال «دون وراء» طلاق.
ومن قال «زن وراء» وله امرأتان يقع الطلاق على إحداها على ما اخترناه قبل هذا، فها هنا يجب أن يكون كذلك.
إذا قال لامرأته في حالة الغضب: إن فعلت كذا إلى خمسين سنة تصيري منّي مطلقة، وأراد بذلك تخويفها، ففعلت ذلك الفعل قبل انقضاء المدّة التي ذكرها، فإنّه يسأل الزوج: هل كان حلف بطلاقها؟ فإن أخبر أنّه كان حلف بعمل يخبره بحكم يقع الطلاق عليها، وإن أخبر أنّه لم يحلف قُبِلَ قوله؛ لأن قوله: تصيري مطلقة بإيقاع مبتدأ يكون مني. معناه: وإن فعلت كذا أطلقك لا محالة، فيقبل قوله في قوله ذلك.
في «فتاوى شمس الأئمّة الأوزجندي» رحمه الله: إذا قال لامرأته: إن دخلت الدّار صرت مطلقة، فدخلت، فقال الزوج: أردت تخويفها لا يصدّق، وإذا قال لامرأته: إذا طلقتك فأنتِ طالق، وإذا لم أطلقك فأنتِ طالق، فلم يطلّقها حتّى مات طلقت ثنتين؛ لأنّه إذا لم يطلّقها حتّى مات فقد تحقّق شرط وقوع الطلاق باليمين الثانية، وعند ذلك يتحقق شرط وقوع الطلاق باليمين الأولى أيضاً، فلهذا قال طلقت تطليقتين، ولو بدأ فقال: إذا لم أطلقك فأنتِ طالق، وإذا طلقتك فأنتِ طالق، فمات قبل أن تطلق فهي طالق واحدة.(3/705)
-----
وفي «جامع إسماعيل بن حمّاد»: إذا قال لها أنتِ طالق إذا لم أطلقك، وإذا طلقتك فأنتِ طالق فهي امرأته حتّى يموت، فإن طلقها طلقت ثنتين، وإن لم يطلقها طلقت واحدة إذا مات أو ماتت، إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: إن خلوت بك أنت فأنتِ طالق، فخلا بها طلقت وعليه نصف المهر، هكذا روي عن محمّد رحمه الله؛ لأنّه صار مطلّقاً لها في أوّل الخلوة في حال لا يقدر على وطئها إلا بعد الطلاق.
وإذا قال: إن خطبت فلانة، أو قال كلّ امرأة أخطبها فهي طالق فاليمين لا تنعقد، حتّى لو تزوّج فلانة في الصورة الأولى، أو تزوّج امرأة في الصورة الثانية لا تطلق؛ لأنَّ الخطبة غير العقد، وهي تسبق العقد فلا يكون هو بهذا اللفظ مضيفاً الطلاق إلى الملك، ولا تنعقد اليمين وهذا في لسان العربية، أمّا بالفارسيّة: إذا قال: «آكر فلا نرا نحواهم»، أو قال «مرزني كه نحواهم»، فعن كلّ موضع يكون هذا اللفظ مبهم تفسيراً للخطبة لا تنعقد اليمين أيضاً، وفي كل موضع يريدون بهذا اللفظ التزوّج تنعقد اليمين إذا كان مراده هذا........ وإذا تزوجها هذه الجملة مذكورة في شرح «كتاب الحيل» لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، في عرف ديارنا قوله «نحواهم» تفسير قوله: نكحت أو تزوّجت فتنعقد اليمين.
ولو قال: «آكر فلان هكواهم يدكر كنم» فهذا تفسير الخطبة في عرفنا، ولا تنعقد اليمين بهذه اللفظة، حتّى لو تزوّجها لا يقع الطلاق.(3/706)
-----
ولو قال بالفارسيّة «آكرد حتر فلان مراد هندورا طلاق» فتزوجها لا تطلق؛ لأنّه لم يذكر النكاح، ولو قال: «يرني دهند» وباقي المسألة بحالها إذا تزوّجها طلقت، هكذا ذكر الفضلي رحمه الله في «فتاويه»، ومن المشايخ من قال: لا تطلق في الوجهين؛ لأنَّ اليمين عقدت على التزوّيج فتنحلّ اليمين بالتزوّيج قبل الدخول في نكاحه. وهو نظير ما لو قال لامرأته: إن جلست في نكاحك فأنتِ طالق، فجلس ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأن اليمين انحلّت قبل الدخول في نكاحه، وقيل: ينبغي أن تطلق في الوجهين جميعاً؛ لأنَّ شرط الحنث وإن كان هو التزويج إلا إن قام التزويج بتزوّجه، وعند ذلك هي في نكاحه، وسيأتي بعد هذا مسألة ذكرها محمّد رحمه الله في كتاب «الحيل» تؤيّد هذا القول.
والجواب في قوله: «آكرد حتر فلان بمن برني داده شود ورا طلاق» نظير الجواب في قوله «آكرد حتى فلان يرني بمن وهند».
إذا قال: إن ضرطتُ فامرأتي طالق، فخرج منه الضراط من غير قصده لا تطلق امرأته؛ لأنَّ يمينه وقعت على العمد، وهو نظير ما لو حلف أن لا يدخل، فأدخل مكرهاً، أو حلف لا يخرج فأخرج مكرهاً.
قال لامرأته: إن اشتريت جارية فدخلت عليك الغيرة فأنتِ طالق، فهذا على وجود الغيرة وقت الشراء (270ب1) لا بعده، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله، ويشترط لوقوع الطلاق أن تظهر الغيرة بلسانها، وأمّا لو دخلت في قلبها غيرة ولم تظهر بلسانها لا تطلق.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: إن سررتك فأنتِ طالق، فضربها فقالت سرني ذلك، قال هذا لا يكون على الضرب، وإنّما على ما يسرّها، قيل: فإن أعطاها ألف درهم فقالت: لم أُسرّ قال القول قولها، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأنّه يحتمل أنّها كانت تطلب الألفين، فلم تسرها الألف.(3/707)
-----
وفي «المنتقى»: رجل قال لامرأته: أنتِ طالق إن كلمتك إلى سنة، اذهبي يا عدو لله فقد كلمها، ولو قال: فاذهبي أو قال: واذهبي لا تطلق ما لم يكلمها بكلام آخر، ولو قال اذهبي طلقت؛ لأن هذا كلام منقطع عن الأوّل والأوّل متصل باليمين فكان له حكم اليمين، ولا بدّ من كلام آخر بعد ذلك للحنث.
وفيه أيضاً: إذا قال لأجنبية: إن تزوجت عليك فأنتما طالقان، أو قال فأنت وهي طالقان، فتزوّجها ثمَّ تزوّج عليها طلقت.
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن ترمذي تزوّج ببلخ امرأة بلخيّة ثمَّ إنها ذهبت إلى ترمذ بحيث لا يعرف زوجها، ثمَّ قيل له: إن لك بترمذ امرأة، فقال: إن كان لي بترمذ امرأة فهي طالق ثلاثاً. قال: قال أبو نصر رحمه الله لا تطلق وبه قال أبو يوسف، وقال غيره: تطلق، وبه قال محمّد قال وهذا....... إن أحد يقول أبو نصر فعلى هذا إذ....... امرأة، فقيل لرجل: هذه امرأتك ثمَّ قيل له احلف بالطلقات الثلاث إن كان لك امرأة سواها، فحلف فإذا....... أجنبيّة، هل تطلق امرأته؟ فالمسألة تكون على الخلاف.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار للفتوى أنّها تطلق في الفصلين قضاء لا ديانة، وهو نظيرها لو لقيت المرأة زوجها طلاقها، فطلقها وهو لا يعلم به.
وفي «فتاوى ما وراء النّهر»: إذا قال الرجل لامرأته: إن اشتريت بالخبز ما من السقّاء إلى .... فاشترت من الماء بالخبز تطلق، ولو كانت دفعت الخبز إلى السقاء أوّلاً ليحمل إليها الماء بهذا لا تطلق، وقيل تطلق لأنّه سواء عرفاً، سئل أبو نصر الدبوسي رحمه الله عمّن قال: إن تزوجت فلانة أبداً فهي طالق، فتزوجها مرّة حتّى طلقت أو تزوّجها مرّة أخرى لا تطلق.
نوع آخر في ذكر مسائل الشرط بكلمة كل وكلّما(3/708)
-----
إذا قال: كلّ امرأة تكون لي ببخارى فهي طالق، فتزوّج امرأة ببخارى طلقت، ولو تزوّج امرأة في غير بخارى ونقلها إلى بخارى لا تطلق؛ لأن في العرف يراد بقولهم يكون التزوّج قائماً عقد اليمين على امرأة ببخارى، فالمرأة التي تزوّجها في غير بخارى ليست بداخلة تحت اليمين في «فتاوى أبي الليث».
وفيه أيضاً: إذا قال: كلّ امرأة أتزوّجها في قرية كذا فهي طالق، فتزوّج امرأة في تلك القرية، إن كانت من أهل تلك القرية لا شكّ أنها تطلق، وإن كانت من غير أهل تلك القرية لم يذكر هذا الفصل ثمّة وينبغي أن تطلق؛ لأنّه تزوّجها في تلك القرية.
ولو قال كلُّ امرأة أتزوّجها من تلك القرية فهي طالق، فتزوّج امرأة من أهل تلك القرية حيث ما تزوّجها تطلق.
إذا قال: «هرزني كه مرا بودتاسي سال» فهي طالق، وإن لم ينوِ شيئاً يقع الطلاق على التي يتزوّجها، ولا يقع على التي كانت عنده وقت اليمين؛ لأنّ قوله؛ «هرزني كه مرا بود» صار عبارة عن قوله «هرزني كه بزني كندا ورا» عرفاً فانصرف المطلق إليه، وذلك الجواب فيما إذا نوى ما...... هكذا اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله.
وحكي عن بعض مشايخ بخارى أنَّ قوله «بود» يقع على المرأة التي تحته للحال، وإن نوى الحالية وما يستعيد ينصرف إليهما؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه، فإنّه جعل قوله «بود» عبارة عن الكائنة في هذه المدّة، وعند الشرط إن علّق الطلاق بالشرط والحاليّة كائنة والذي يستعيدها كذلك، وإن نوى الحاليّة غير ما يستعيد لم ينقل عن المتقدّمين في هذا الفصل شيءٌ، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» قال رحمه الله: والظاهر أنّه يقع عليها، وقد ذكرنا عن بعض مشايخ بخارى أنَّ قوله: «بود» من غير نيّة يقع على امرأته التي تحته للحال، ولا يقع على التي يتزوّجها فها هنا أولى.(3/709)
-----
وأمّا إذا قال «هرزني كه ورا بائد» فهذا وما لو قال «هرزني كه ورا بود» سواء، وأمّا إذا قال «هرزني كه ورا بود وباشد» حكي عن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي الحسن عطاء بن حمزة رحمه الله أنّه قال: كان المتقدّمين من مشايخ سمرقند يقولون بأنَّ هذه اليمين لا تنعقد على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنَّ قوله: «بود باشد» بمعنى واحد، فيصير أحدهما آخراً فاصلاً بين الشرط والجزاء كما في قول الرّجل لعبده: أنت حرّ وحرّاً إن شاء الله، صار أحد اللفظين فاصلاً بين الجزاء والاستثناء عند أبي حنيفة رحمه الله، فها هنا يجب أن يكون كذلك.
قال رحمه الله: فأمّا مشايخنا وأساتيذنا من أهل سمرقند كانوا يقولون بصحّة هذه اليمين...... هكذا ذكر عن مشايخ بلخ، وعن مشايخ بخارى أنّهم كانوا يقولون بصحّة هذه اليمين وانعقادها، غير أنَّ بعض مشايخ بخارا كانوا يقولون بأنَّ قوله «بود» يقع على المرأة التي تحته للحال، وقوله: «باشد» يقع على المرأة التي يستعيدها، ويقع الطلاق عليهما من غير نية.
وبعضهم كانوا يقولون بأن هذه المسألة والمسألة الأولى سواء لا يقع الطلاق على المرأة التي تحته في الحال إلا بالنيّة.
وفي «فتاوى النسفي»: إذا قال: «آكر فلان كركنم هرزني كه نجواهم خواستن آزمن بطلاق»، ففعل ذلك ثمَّ تزوّج امرأة لا تطلق؛ لأنّه ما (أضاف) الطلاق إلى الملك، وإنّما أضاف إلى إرادة التزوّج.(3/710)
-----
قال في «الرقيات»: إذا قال الرجل لرجلين: كلّما أكلت عندكما طعاماً فامرأته طالق، فتغدَّى عند أحدهما اليوم، وتغدَّى عند الآخر غداً طلقت امرأته ثلاثاً؛ لأنه لما تغدى صفة الأوّل، فأكل ثلاثة لقم أو أكثر فكأنّه أكل عنده ثلث مرات، فإذا تغدّى عند الآخر فأكل عنده ثلاثة لقم فكأنّه أكل عنده أيضاً ثلاث مرات، فقد وجد الأكل عندهما ثلاث مرات، والأكل عندهما (271أ1) في كلِّ مرّة شرط وقوع طلاق تطليقة، ولذا إذا قال لأحدهما: كلّما أكلت عندك ثم أكلت عند هذا فامرأته طالق كان الجواب كما قيل.
قلنا: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال الرّجل لامرأته: كلّما امرأة أتزوّجها من أقرانك أو قال من أنسابك فهي طالق، أو قال: فأنتِ طالق، فكلُّ امرأة ولدت معها في سنها فما دونه فهي من أقرانها وأنسابها ابن..... عن أبي يوسف إذا قال كلما تزوجت امرأتين فإحداهما طالق، فتزوّج أربعاً طلقت ثنتين منهنّ، والخيار إليه.
عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لامرأته: كل امرأة أتزوّجها من أهل بيتك فهي طالق، ولها ابنة فإن كان نوى ابنتها دخلت تحت اليمين، وإن لم يكن نواها لم تدخل تحت اليمين؛ لأنّها من أهل بيت زوجها؛ لأنَّ المراد من أهل البيت بنت النسب، والنسب من الآباء دون الأمهات، وإنّما أهل بيت المرأة من كانت من قبل أنّها أخواتها وعمّاتها وبنات أخيها.
وفي «الأصل»: إذا قال لامرأته وقد دخل بها: إذا طلقتك فأنتِ طالق، فطلقها واحدة يقع عليها ثنتان؛ لأنّه حلف بطلاقها وجعل شرط وقوع الطلاق عليها تطليقها، فإذا قال لها: أنتِ طالق فقد طلقها فيقع عليها تطليقة بالإيقاع وتطليقة بالحنث، فإن قال: عنيت به الإخبار عن كونها طالقاً إذا طلقها، فإنّه لا يصدّق في القضاء ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى.(3/711)
-----
كما لو قال لها: أنتِ طالق أنتِ طالق وقال: عنيت بالثانية الإخبار عن كونها طالقاً أن يُطلقها، فإنّه لا يصدّق في القضاء ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال: متى طلقتك فأنتِ طالق فإنّه يقع عليه ثنتان لما قلنا، وإذا قال لها: كلّما طلقتك فأنتِ طالق، ثمَّ طلقها واحدة فإنّه يقع عليها ثلاث تطليقات.
والفرق: أنَّ في قوله كلّما وقع عليك طلاق شرط الحنث وقوع الطلاق عليها، وقد تكرّر الوقوع، فإنّه يقع عليه تطليقتان بالإيقاع وتطليقة بالحنث، وفي قوله: كلّما طلقتك شرط الحنث تطليقها، ولم يطلّقها إلا مرّة واحدة فإنّه لم يقل لها: أنتِ طالق إلا مرّة واحدة.
وفي «الجامع»: رجل قال لامرأتين له وقد دخل بهما: كلّما حلفت بطلاق كلّ واحدة منكما فكل واحدة منكما طالق، قال ذلك مرّتين يقع على كلّ واحدة منهما تطليقة بالحنث في اليمين الأولى، ولو قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما، فكلّ واحدة منكما طالق وباقي المسألة بحالها يقع على كلّ واحدة منكما تطليقتان، ولو قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما فهي طالق، قال ذلك مرّتين وقع على كلّ واحدة منهما تطليقة، وكذلك إذا قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما طالق أو قال: وإحداكما طالق، قال: يقع تطليقة واحدة على إحداهما بغير عينها، والخيار إليه.
وفي «الجامع» أيضاً: رجل له امرأتان دخل بواحدة منهما دون الأخرى، فقال كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما فأنتما طالقان، قال ذلك مرّات طلقت المدخولة ثلاثاً، وغير المدخولة ثنتان، والله أعلم.
نوع آخر في عطف الشروط بعضها على البعض(3/712)
-----
يجب أن تعلم بأنَّ الحالف إذا ذكر شرطين وذكر بينهما جزاء يقدّر كلّ شرط في موضعه يعتبر الشرط الأوّل شرطاً لانعقاد اليمين، والشرط الثاني شرطاً لانحلال اليمين ويزول الجزاء؛ لأنّ الشرط الأوّل إذا ذكر يتحقق الجزاء؛ لأنّ الشرط بدون الجزاء لا يعتبر لأنّه لا يعتد، وإنما يصير معتداً بالجزاء، والجزاء ما يذكر عقيب حرف الفاء، والمذكور عقيب حرف الفاء يمين عامّة، وهي الشرط والجزاء، فيجعل جزاء الشرط الأوّل، إذ اليمين الثانية تصلح جزاءً للشرط، وإذا صارت جزاءً للشرط الأوّل يوجب وجود اليمين وانعقادها على وجود الشرط الأوّل، فإذا وجد الشرط لأوّل انعقدت اليمين وتعلّق الجزاء بالشرط الثاني حتّى يزول بوجوده، فهو معنى قولنا: إن الشرط الأوّل يعتبر شرطاً لانعقاد اليمين، والشرط الثاني يعتبر شرطاً لانحلال اليمين ويزول الجزاءان.
هذا الأصل فيما إذا قال: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق إن كلمت فلاناً، فتزوّج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام تطلق المتزوّجة قبل الكلام، ولا تطلق المتزوّجة بعد الكلام عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، هكذا ذكر المسألة في «الجامع» وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف: أنّه تطلق المتزوّجة بعد الكلام، ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام. بعض مشايخنا قالوا: ذكر في «الإملاء» قول أبي يوسف رحمه الله أوّلاً، وما ذكر في «الجامع» قول أبي يوسف آخراً، وبعضهم قالوا في المسألة روايتان عن أبي يوسف، وهذا إذا لم يوقّت لذلك وقتاً.(3/713)
-----
وأمّا إذا وقّت لذلك وقتاً بأن قال: كلّ امرأة أتزوّجها أبداً، أو إلى ثلاثين سنة تطلق المتزوّجة قبل الكلام والمتزوّجة بعد الكلام، وهذا إذا قدم ذكر الوقت، وأمّا لو قدّم ذكر الكلام بأن قال: إن كلّمت فلاناً فكلُّ امرأة أتزوّجها أبداً أو إلى ثلاثين سنة فهي طالق، تطلق المتزوّجة بعد الكلام ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام، وإنّما وقع الفرق بين تقديم ذكر الوقت وتأخيره؛ لأنّه إذا قدّم ذكر الوقت فقد أوقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها في ذلك الوقت، إلا وأن يجعل الكلام شرطاً ليزول الجزاء في حقّ المتزوّجة قبل الكلام وحقّ شرط الانعقاد لليمين في حقّ المتزوّجة بعد الكلام.
وإذا قدّم ذكر الكلام فقد أوقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام أبداً، وأمكن القول بوقوع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام أبداً من غير تعيين ومن غير أن يعتبر الشرط الواحد شرطاً لانعقاد اليمين، وليزول الجزاء، فاعتبرنا الكلام شرطاً لانعقاد اليمين لا غير، وصار كأنّه قال عند الكلام: كلّ امرأة أتزوّجها أبداً فهي طالق، فيقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام (271ب1)، ثمَّ إذا لم يذكر الوقت حتّى لم تطلق المتزوّجة بعد الكلام. لو كلّم فلاناً مرة أخرى هل تطلق؟ ذكر في «الجامع» أنها لا تطلق؛ لأنّها لو طلقت؛ أمّا إن طلقت بالكلام الأوّل ولا وجه له؛ لأنّه وجد قبل انعقاد اليمين، وأمّا إن طلقت بالكلام الثاني ولا وجه إليه؛ لأنّ الكلام حينئذٍ يصير شرطاً متكرّراً ولا وجه إليه؛ لأنّه ذكر الكلام بكلمة إن، وإنّها لا توجب التكرار، وزعم بعض مشايخنا أنّ المذكور في «الجامع» يخالف المذكور في «القدوري».(3/714)
-----
فقد ذكر في «القدوري» أنّ من قال: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق إن دخلتِ الدّار، فدخلت الدّار ثمَّ تزوّج امرأة لا يقع الطلاق عليهما، فإن دخل الدّار ثانياً وقع عليها الطلاق. قال الصدر الشهيد: قال والدي تاج الدين تغمّده الله بالرحمة والرضوان. وليس الأمر كما زعموا؛ لأنّ موضع المذكور في «القدوري» أنّه دخل الدّار بالتزوّج أصلاً، والدخول قبل التزوّج لم تنعقد اليمين عليه، ولم يصر شرطاً في اليمين أصلاً، فصار أن يقع الطلاق بدخول آخر يوجد بعد التزوّج، أو الدخول حينئذٍ لا يصير شرطاً متكرّراً، وموضوع المذكور في «الجامع» أنّه يتزوّج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام، ثمَّ كلّم فلاناً مرّة أخرى والكلام الأوّل انعقد عليه اليمين، واعتبر شرطاً في حقّ اليمين المتزوّجة قبل الكلام، حتّى يقع الطلاق على المتزوّجة قبل الكلام بالكلام الأوّل بحكم اليمين، وإذا صار الكلام الأوّل شرطاً بحكم هذا اليمين لا يصير الثاني شرطاً؛ لأنّ الكلام بحكم هذا اليمين غير مكرّر حتّى إن في مسألة الجامع لو لم يصر الكلام الأوّل شرطاً فإن لم يتزوّج امرأة أصلاً حتّى كلّم فلاناً ثمَّ تزوّج امرأة يقع الطلاق عليها إذا كلّم فلاناً.
وفي «مسألة القدوري»: لو صار الدخول الأوّل شرطاً بأن تزوّج امرأة، ثمَّ دخل الدار، ثمَّ تزوّج امرأة لا تطلق المتزوّجة بعد الدخول، وإن دخل الدّار بعد ذلك مرّة أخرى، فإذاً لا مخالفة بينما ذكر في «الجامع» وبينما ذكر «القدوري» من حيث المعنى، وإنّما المخالفة من حيث الصورة لاختلاف الوضع، ولو قال: إن كلمت فلاناً فكلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ففي هذه الصورة تطلق المتزوّجة بعد الكلام، ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام.
هذا كلّه إذا ذكر الحالف شرطين وذكر بينهما جزاء، وأمّا ذكر شرطين ولم يذكر بينها جزاءه وإنّما ذكر الجزاء عقيبها، فإن ذَكَرَ بين الشرطين حرفَ العطف يتعلّق الجزاء بهما، ويصيران في معنى شرط واحد.(3/715)
-----
بيانه: فيما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار فأنتِ طالق فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدّارين، وإن لم يذكر بينهما حرف العطف يجعل الشرط الأوّل شرط الجزاء، وانحلّ اليمين، ويجعل الشرط الثاني شرط انعقاد اليمين.
بيانة: في قوله: كلّ امرأة أتزوّجها إن دخلت الدّار فهي طالق، فتزوّج امرأة قبل الدخول وامرأة بعد الدخول تطلق المتزوّجة بعد الدخول، ولا تطلق المتزوّجة قبل الدخول، ويصير تقدير المسألة: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، وهو معنى قول محمّد رحمه الله في الكتب: الشرط إذا اعترض على الشرط قبل مجازاة الأوّل بشيء يجعل المقدم هو جزاء، والمؤخّر مقدّماً. وإن ذكر شرطين وقدّم الجزاء عليهما إن جمع بينهما بحرف الجمع يتعلّق الجزاء بهما أيضاً.
بيانه: فيما إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار، فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدارين، وإن لم يجمع بينهما بحرف الجمع يجعل الشرط الثاني شرط انعقاد اليمين.
بيانه: فيما إذا قال لأجنبيّة: أنتِ طالق إن تزوجتك إن كلمت فلاناً، ثمَّ تزوجها تطلق، ولو تزوّجها أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا تطلق. هذا إذا لم يذكر كلّ شرط بصريح حرف الشرط، فإن ذكر الجزاء بينهما يقدر كلّ شرط في موضعه، ويعتبر الأوّل شرطاً لانعقاد اليمين، ويعتبر الشرط الثاني شرطاً لانحلال اليمين ويزول الجزاء.(3/716)
-----
بيانه: فيما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق إن كلّمت فلاناً، فدخلت الدّار ثمَّ كلمت فلاناً تطلق، ولو كلمت فلاناً أوّلاً ثمَّ دخلت الدّار لم تطلق، وإن ذكر الجزاء أوّلاً فإنْ جمع بين الشرطين بحرف الجمع فإنّه يعتبر كلُّ شرط شرطاً ليزول الجزاء أوْ لا يشترط اجتماعهما، وإذا وجد إحداهما ويزول الجزاء فيبطل اليمين. بيانه: فيما ذكر «القدوري»: إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار الأخرى. فدخلت إحدى الدّارين طلقت وبطلت اليمين؛ لأنّه لمّا أعاد حرف الشرط لم يكن عطفاً على الأوّل في الشرطية، بل كان شرطاً على حدة وصار جزاء الأوّل مضمراً فيه. كأنّه قال: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار الأخرى تلك التطليقة، وهناك يقع الطلاق بدخول إحدى الدّارين وتبطل اليمين؛ لأنّ جزاء الثاني لم يبق كذا ها هنا.
وكذلك الجواب فيما إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن كلمت فلاناً، أمّا إذا لم يجمع بينهما بحرف الجمع يجعل الشرط الآخر مقدّماً على الجزاء، حتّى يصير الجزاء بين الشرطين، ويصير الشرط الآخر شرطاً لانعقاد اليمين، ويصير الأوّل شرطاً لانحلال اليمين. بيانه فيما ذكر في «الجامع» إذا قال: عبدي حرّ إن دخلت هذه الدّار إن كلّمت فلاناً، فدخل الدّار أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا يعتق عبده، ولو كلّم فلاناً أوّلاً ثمَّ دخل الدّار عتق؛ لأنّ الشرط الثاني وهو الكلام صار مقدّماً على الجزاء، وصار تقدير المسألة: إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ إن دخلت الدّار، وهناك كان الجواب كما قلنا، وها هنا كذلك.
وإن ذكر الجزاء آخراً إن جمع بين الشرطين بحرف الجمع ففي قول محمّد رحمه الله يعتبر كلامهما شرطاً واحداً ويشترط وجودهما لزوال الجزاء، وفي قول أبي يوسف يعتبر كلُّ شرط شرطاً ليزول الجزاء ولا يشترط وجودهما ليزول الجزاء.(3/717)
-----
بيانه فيما ذكر «القدوري»: إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار الأخرى فأنتِ طالق، فعلى قول محمّد رحمه الله لا تطلق إلا بدخول (272أ1) الدارين، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: تطلق بدخول إحدى الدارين، أبو يوسف يقول: لا فرق في الأيمان بين تقديم الجزاء أو تأخيره، ومحمّد فرّق بينهما، وإن لم يجمع بين الشرطين بحرف الجمع يجعل الشرط الأوّل مؤخّراً عن الجزاء، حتّى يصير الجزاء بين الشرطين، ويصير الشرط الأوّل شرط انحلال اليمين والشرط الآخر شرط انعقاد اليمين.
بيانه فيما ذكر في «الجامع» إذا قال: إن دخلت الدّار إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ، ودخل الدّار أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا يعتق عبده، ولو كلّم فلاناً أوّلاً ثمَّ دخل الدّار عتق عبده؛ لأن الشرط الأوّل وهو الدخول صار مؤخّراً عن الجزاء، وصار تقدير المسألة: إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ إن دخلت الدّار، وهناك لا يعتق العبد ما لم يوجد الكلام قبل الدخول كذا ها هنا، وروي عن محمّد رحمه الله في غير رواية الأصول أنّه رجع عن التقديم والتأخير في الشرط المعترض على الشرط، بل قدّر كلّ شرط في موضعه وأضمر حرف العطف، حتّى صار تقدير المسألة فيما إذا قدّم الجزاء: عبدي حرّ إن دخلت الدّار وإن كلّمت فلاناً، وصار تقدير المسألة فيما إذا أجرى الجزاء: إن دخلت الدّار وإن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ، وصار تقدير المسألة في قوله: كلُّ امرأة أتزوّجها إن دخلت الدّار فهي طالق، كلُّ امرأة أتزوّجها فإن دخلت الدّار فهي طالق، فتطلق المتزوّجة قبل الدخول، ولا تطلق المتزوّجة بعد الدخول.(3/718)
-----
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أن الحالف إذا ذكر شرطين مرتبين فعلاً من حيث العرف نحو قوله: إن دعوتني إن أجبتك فعبدي حرّ، إن أكلت إن شربت فعبدي حرّ، فإنّه يعتبر هذا الترتيب الظاهر، وقدر كلّ شرط في موضعه حتّى إذا شرب أوّلاً ثمَّ أكل لا يعتق عبده، ولو أكل أولاً ثمَّ شرب عتق عبده؛ لأنّ الأكل يتقدّم على الشرب فعلاً من حيث العرف.
وأما إذا ذكر شرطين غير مرتبين فعلاً من حيث العرف نحو قوله: إن أكلت إن كلّمت فلاناً، ونحو قوله: إن شربت إن أكلت، يجعل المقدّم مؤخراً أو المؤخّر مقدّماً، كما هو ظاهر مذهب محمّد رحمه الله. ولو قال لها: إن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق وهذه الدار، فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدُّارين؛ لأنّ قوله: وهذه لا يصلح عطفاً على الجزاء، فيجعل عطفاً على الشرط، وتخلّلُ الجزاء بينهما لا يمنع صحّة العطف، هكذا ذكر «القدوري»: رحمه الله في كتابه.
قال في «الجامع»: وإذا قال الرجل: كلُّ امرأة أملكها فهي طالق إن دخلت الدّار، أو قال: إن دخلت الدّار فكل امرأة أملكها فهي طالق، وفي ملكه يوم اليمين امرأة ثمَّ تزوّج امرأة قبل الدخول وامرأة بعد الدخول طلقت التي كانت في ملكه يوم اليمين، ولا تطلق التي استعادها بعد اليمين، وهذا الاستحسان، والقياس: أن تطلق التي يملكها في المستقبل، ولا تطلق التي كانت في ملكه يوم اليمين.
وجه القياس: وهو أنَّ كلمة أفعل للاستقبال، كقوله أسافر وأتزوّج، فكأنّه صرّح الاستقبال.
وجه الاستسحان أنَّ صفة أفعل للاستقبال حقيقة، وللحال حقيقة؛ لأنها مستعملة فيهما في الاستقبال كقول الرّجل: أسافر وأتزوّج وفي الحال كقول الرّجل بين يدي القاضي: أشهد.(3/719)
-----
بعد هذا اختلف عبارة المشايخ، بعضهم قالوا: إنّها للحال أحقّ إذ ليس للحال صفة أخرى، وللاستقبال صفة أخرى وهي سأفعل، سوف أفعل، فإذا كانت هذه الصفة للحال أحقّ فعند الإطلاق ينصرف إليه، فكأنّه مضى على الحال. وبعضهم قالوا: لمّا كانت هذه الصفة حقيقة لهما يتعيّن لإحداهما بحكم العرف، وعليه الاستعمال كما تعيّن للاستقبال، كما في قوله: أسافر وكما تعيّن للحال كما في قول الشاهد: أشهد. قلنا وفي الأملاك استعمال هذه الكلمة للحال بقول الرّجل: أنا أملك كذا، وفلان يملك كذا يريدون الحال.
فإذا علمت استعمال هذه الكلمة للحال كالمنصوص عليه فانصرف يمينه إلى الحال لهذا، ولو عطف أحد الشرطين على الآخر بحرف الياء بأن قال: إن دخلت هذه الدّار فهذه الدّار، يُشترط لوقوع الطلاق دخول الدّارين كما لو عطف بحرف الواو، إلا أنَّ في هذه المسألة يجب أن يكون دخول الدّار الثانية بعد دخول الدّار الأولى، وكذلك إذا عطف بكلمة ثمَّ بأن قال: إن دخلت هذه الدّار ثمَّ هذه الدّار؛ لأنّ كلمة ثمَّ للتراخي، فاقتضى أن يكون دخول الدّار الثانية متراخياً عن دخول الدّار الأولى.(3/720)
-----
ولو قال: إن دخلت هذه الدّار ودخلت هذه الدّار أو قال: فدخلت هذه الدّار يشترط دخول الدارين في الحرفين جميعاً، إلا أنَّ في حرف الواو لا يعتبر الترتيب، وفي حرف الفاء يعتبر لما مرّ. وروي عن محمّد رحمه الله إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار فدخلت هذه الدّار، فأتى بها فدخلت الدّار الأولى ثمَّ تزوّجها فدخلت الثانية لم تطلق، كأنّه جعل دخول الدّار الأولى شرط انعقاد اليمين الثانية، بخلاف قوله: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار، وروي عن أبي يوسف رحمه الله مثل ذلك في مسألة أخرى أنّه إذا قال لامرأتين له: إن غشيت هذه، فغشيت هذه الأخرى فليس الحلف على الأولى، ويكون مولياً من الثانية إذا غشى الأولى فقد جعل غشيان الأولى شرط انعقاد اليمين في حقّ الثانية، ثمَّ قال: والفاء في هذه الموضع لا تشبه الواو.
قال في «الجامع»: إذا قال: إن دخلت هذه الدّار إن دخلت هذه الدّار فعبدي حرّ والدّار واحدة فالقياس أن لا يحنث حتّى يدخل دخلتين.
وفي الاستحسان يحنث بدخلة واحدة، وكذلك إذا قال: إن كلّمت فلاناً إن كلمت فلاناً، وفلان واحد، كانت المسألة على القياس، والاستحسان على نحو ما ذكرنا في الدخول، ثمَّ على جواب الاستحسان علّق العتق بالدخول في المسألة الأولى، وبالكلام في المسألة الثانية من غير ذكر خلاف، وكان الكرخي من أصحابنا رحمهم الله يقول على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يثبت العتق في الحال ولا يتعلّق، وجعل هذه المسألة فرعاً لمسألة أخرى ذكرت في كتاب الإقرار، وهو ما إذا قال لعبده: أنت حرٌّ و(272ب1) حرٌّ إن شاء الله فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يعمل الاستثناء، ويقع العتق للحال؛ لأنّ قوله وحرٌّ في المرة الثانية تكرار، فصار فاصلاً بين الجزاء والاستثناء، فيمنع تحمّل الاستثناء، فكذا ها هنا.(3/721)
-----
قوله في المرّة الثانية: إن دخلت هذه الدّار تكرار للأوّل، فيصير فاصلاً بين العتق وبين الدخول، وغيره من المشايخ قالوا: لا بل ما ذكر من الجواب صحيح على قول الكلّ، وفرّقوا بين هذه المسألة وبين مسألة كتاب الإقرار. والفرق: أنّ في مسألة الإقرار قوله: وحرٌّ في المرّة الثانية، إن كان تكراراً من حيث المعنى والاعتبار؛ لأن حرٌّ بيان لا يتصوّر (أن) ينويهما في عبد واحد، فمن حيث اللفظ ليس بتكرار؛ لأنّه عطف الثاني على الأوّل والشيء لا يعطف على نفسه إنّما يعطف على غيره، والعبرة في هذا الباب اللفظ، وباعتبار اللفظ هذا ليس بتكرار، وإذا لم يكن تكراراً كان حشواً من الكلام فاعتبر فاصلاً.
أمّا في مسألتنا لم يعطف أحد الشرطين على الآخر؛ لأنّه لم يذكر بينهما حرف العطف، فأمكن جعل الثاني تكراراً، فإذا جعلنا الثاني تكراراً كانا شيئاً واحداً من حيث المعنى والاعتبار، فلا يعتبر فاصلاً، وإن تلك المسألة من مسألتنا ما لو قال: عبدي حرٌّ حرٌّ إن شاء الله، ولو كان هكذا لا يعتق العبد عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً، ولا يصير قوله حرٌّ ثانياً فاصلاً، ولا رواية في هذه المسألة عن أبي حنيفة رحمه الله.
قلنا إنما يمنع على قياس مسألة «الجامع» ووزان مسألتنا من تلك المسألة ما لو قال لها: إن دخلت هذه الدّار، وإن دخلت هذه الدّار فعبدي حرّ، ولو قال هكذا يعتق العبد للحال على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ويصير قوله: وإن دخلت هذه الدّار ثانياً فاصلاً.v(3/722)
-----
قال في «الجامع» أيضاً: رجل له امرأة لم يدخل بها فقال: كلُّ امرأة لي، وكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق إن دخلت الدّار، فتزوّج امرأة وطلّقها وطلّق التي كانت عنده ثمَّ تزوّجها في الثلاثين سنة، ثمَّ دخلت الدّار طلقت القديمة تطليقتين باليمين سوى التطليقة التي أوقع عليها بالتنجيز، فتطلق ثلاثاً؛ لأنّه انعقد عليها يمين الكون بقوله: كلُّ امرأة لي، ولم يبطل بالبينونة بتطليقة واحدة، والعقد في حقها يمين التزوّج أيضاً بقوله: كلُّ امرأة أتزوّجها إلى ثلاثين سنة، وشرط الحنث فيهما دخول الدّار، فإذا دخل الدار والشرط الواحد يكفي شرطاً في أيمان كثيرة وقع عليها تطليقتان بحكم اليمينين، وأمّا الجديدة فتطلق واحدة باليمين سوى ما أوقع عليها بالتنجيز، فتطلق تطليقتان؛ لأنّ المنعقد في حقّهما بيمين واحدة وهي يمين التزوّج.
ولو أنَّ الزوج حين طلّقها أوّل مرّة لم يتزوّجها حتّى تدخل الدّار ثمَّ تزوّجها طلقت القديمة واحدة بالحنث في يمين التزوّج بنفس التزوّج، وإن كان المنعقد في حقهما يمينان يمين التزوّج ويمين الكون؛ لأنّه حين دخل الدّار قبل أن يتزوّج القديمة فقد وجد شرط الحنث في يمين الكون، وهي ليست في نكاحه ولا عدّته، وأنّه يوجب انحلال اليمين، لا إلى جزاء، وأما الجديدة فلا يقع عليها بالحنث شيء؛ لأنّ المنعقد في حقّها يمين التزوّج، ووقوع الطلاق فيها معلّق بالدخول، وحين دخل الزوج الدّار لم تكن هي في نكاحه ولا عدّته فانحلت اليمين في حقها لا إلى حنث، وحين تزوّجها من أخرى لم تنعقد عليها يمين أخرى؛ لأن عقد اليمين بكلمة كل، وإنها لا توجب تكرار الفعل في المرأة الواحدة، فلا يتكرّر انعقاد اليمين عليها.(3/723)
-----
ولو قال: كلُّ امرأة لي وكلّما تزوّجت امرأة إلى ثلاثين سنة فهي طالق، إن دخلت في ملكه امرأة ثمَّ تزوج امرأة أخرى ثمَّ طلقهما جميعاً، ثمَّ تزوّجهما ثانياً، ثمَّ دخل الدّار طلقت كلُّ واحدة منها ثلاثاً، واحدة بالإيقاع وثنتان بالحنث، وأمَّا القديمة فلما ذكرنا، وأمّا الجديدة فلأن المنعقد عليها يمينان في هذه الصورة؛ لأنَّ الزوج جعل التزوّج شرط انعقاد اليمين بكلمة تقتضي التكرار، وهي كلمة كلّما، فحين يتزوّج الجديدة ثانياً انعقد عليها يمين التزوّج ثانياً، واليمين الأولى باقية، والدخول شرط الحنث فيهما، والحنث فيهما يوجب الطلاقين، ولو كان حين طلقهما لم يتزوّجهما حتّى دخل الدّار ثمَّ تزوّجها طلقت كلُّ واحدةٍ واحدةً بالحنث.
وفي «القدوري»: إذا قال: كلّما دخلت هذه الدّار وكلّمت فلاناً، أو فكلّمت فلاناً فامرأة من نسائي طالق، فدخل الدّار دخلات وكلّم فلاناً مرّة واحدة، لم تطلق إلا امرأة واحدة؛ لأنّ الشرط هو الدخول والكلام والدخول، إن تكرّر لم يتكرّر الكلام وإن تكرر بعض الشرط لا يتكرّر الجزاء.
ولو قال: كلّما دخلت هذه الدّار فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فدخل الدّار ثلاثاً وكلّم فلاناً بأمره طلقت ثلاثاً؛ لأنّ قوله: فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق يمين تامّة هو جزء الدخول، والجزاء يتكرّر بتكرار الشرط، والشرط وهو الدخول تكرّر، فيصير قائلاً عند كلّ دخول: أنتِ طالق إن كلّمت فلاناً، فإذا كلم فلاناً مرّة والشرط الواحد يصلح شرطاً في أيمان كثيرة طلقت ثلاثاً.
وفي «القدوري»: إذا قال: كلّما دخلت هذه الدّار وكلّمت فلاناً، أو فكلّمت فلاناً فامرأة من نسائي طالق، فدخل الدّار دخلات وكلّم فلاناً مرّة واحدة، لم تطلق إلا امرأة واحدة؛ لأنّ الشرط هو الدخول والكلام والدخول، إن تكرّر لم يتكرّر الكلام وإن تكرر بعض الشرط لا يتكرّر الجزاء.(3/724)
-----
ولو قال: كلّما دخلت هذه الدّار فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فدخل الدّار ثلاثاً وكلّم فلاناً بأمره طلقت ثلاثاً؛ لأنّ قوله: فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق يمين تامّة هو جزء الدخول، والجزاء يتكرّر بتكرار الشرط، والشرط وهو الدخول تكرّر، فيصير قائلاً عند كلّ دخول: أنتِ طالق إن كلّمت فلاناً، فإذا كلم فلاناً مرّة والشرط الواحد يصلح شرطاً في أيمان كثيرة طلقت ثلاثاً.
نوع آخر
قال في «القدوري»: إذا قال الرّجل: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق وفلانة وفلانة امرأته طلقت فلانة السّاعة، ولا ينتظر التزوّج؛ لأنّ قوله كلّ امرأة ليس بشرط على الحقيقة، ولكن أخذ معنى الشرط لأمر أن الفعل له، فصار قوله: وفلانة معطوفة على المذكور في الطلاق لا على المذكور في الشرط، فوقع الطلاق على فلانة السّاعة لهذا، ولو قال لامرأته: أنتِ طالق وفلانة، إن تزوّجها لم يقع الطلاق على امرأته حتّى يتزوّج بالأخرى؛ لأنّه صريح بحرف الشرط، فصار طلاقهما متعلّقاً بالتزوّج بخلاف المسألة الأولى، ولو قال: كلُّ امرأة من نسائي تدخل الدّار فهي طالق وفلانة طلقت فلانة للحال، وإن دخلت الدّار وهي في العدّة طلقت الأخرى.(3/725)
-----
وقال في «الجامع» إذا قال: كلُّ امرأة لي تدخل الدّار فهي طالق وعبد من عبيدي حرٌّ، فدخلت امرأتان الدّار طلقتا وعتق عبد من عبيده، وأمّا (273أ1) طلاقهما فظاهر، وأمّا عتق عبده فلأنَّ قوله: وعبد اسم منكر ذكر في موضع الإثبات والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تتناول إلا عبداً واحداً، ولهذا لو قال ابتداءً: عبد من عبيدي حر لا يعتق إلا عبد واحد، لو ثبت العموم في العبد إنّما يثبت ضرورة العطف على المرأة التي دخل عليها كلمة كل من حيث أنَّ حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، والعموم ثابت في حقّ المعطوف عليه ولا وجه إليه؛ لأنّ قوله وعبد غير معطوف عليه المرأة، ألا يرى أنّهما اختلفا في الإعراب، فإن إعراب المرأة كسر وإعراب العبد رفع، فبعد ذلك إما أن يعتبر معطوفاً على قوله «فهي»؛ لأنّ محلّه من الإعراب الرفع؛ لأنّه مبتدأ، أو على قوله طالق؛ لأنّه مرفوع، والأوّل لأنَّ قوله وعبد اسم فرد لا يتصل بالفعل، وقوله فهنّ كناية عن فرد لا يتصل بالفعل، وقوله: طالق اسم فرد يتصل بالفعل، والأحسن في العطف عطف الاسم المفرد عن الفعل على الاسم المفرد عن الفعل، فكان عطفه على قوله فهي أولى.
وإذا صار قوله: وعبد معطوفاً على قوله فهي مفعول لا يجوز أن يثبت العموم في العبد لكونه معطوفاً على هي؛ لأنّ هن فرد يضعه، وإنّما يثبت العموم فيه ضرورة كونه كناية عن المرأة الداخلة عليها كلمة كل؛ لأنَّ الكناية لا تستقل بنفسها، فأخذنا حكمها من المكنّى عنه وهو المرأة، وإذا كانت المرأة عامّة كانت الكناية عامّة ضرورة، ولا ضرورة في قوله: وعبده لأنّه ليس بكناية بل هو كلام مستقل بنفسه، ولهذا لو قال ابتداء: وعبد من عبيدي حرٌّ كان كلاماً مستقيماً مفهوماً، ويكون له حكم نفسه وحكمه الخصوص؛ لأنّه فرد صفة.(3/726)
-----
فإن قيل: إن لم يثبت من وجه آخر من حيث العبد من الوجه الذي منهم يثبت من وجه آخر من حيث أنَّ كلمة كلّما وقعت على جماعة النساء، وقعت على جماعة الدخول في حقهن، ألا يرى أنّه لو دخلت أربعة الدّار طلّقهن جميعاً والعتق معلّق بالدخول، فإذا تعدّد الدخول تعدّد العتق، ألا يرى أنّه لو كان مكان كلمة كلّ كلمة كلّما بأن قال: كلّما دخلت امرأة هذه الدّار فهي طالق وعبد من عبيدي حرٌّ، فدخلت امرأتان عتق عبدان وطريقة ما قلنا. قلنا: كلمة كل تقع على جماعة الأسماء مقصوراً، وأمّا على جماعة الأفعال إذا كان الفعل مقروناً بالاسم يقع ضرورة تعميم الفعل الاسم، فما لم يثبت تعميم الاسم مقصوراً لا يثبت تعميم الفعل.
إذا ثبت هذا فنقول: تعميم الاسم في حقّ البنوّة يثبت مقصوداً، فيثبت تعميم الفعل وهو الدخول في حقّ كلهنّ تبعاً، وأمّا في حقّ العبيد تعميم الاسم لم (يكن) مقصودا، فلا يثبت تعميم الفعل في حقّهن مقصود، فبقي الشرط في حقّهم دخول واحد من واحدة من نسائه، كأنّه قال: إن دخلت واحدة من نسائي الدّار فعبد من عبيدي حرٌّ، ولو نصّ على هذا كان الجواب كما قلنا، وأمّا كلمة كلّما تعم الأفعال مقصوداً، أو صار كلُّ دخول من جماعة....... أو من امرأة واحدة شرطاً، وعتق العبد معلّق بالدخول، فإن كان الدخول متكرراً كان العتق متكرراً.
نوع آخر في الشرط الذي يحتمل الحال والاستقبال
إذا قال لامرأته وهي حائض: إن حضت أو قال لها وهي مريضة: إن مرضت فأنتِ طالق، فهذا على الخصوص والمرض في المستقبل، فإن نوى ما يحدث من هذا الحيض، أو من هذا المرض فهو على ما نوى؛ لأنّ الحيض داء أجزاء والمرض كذلك.(3/727)
-----
وإذا نوى الجزء الذي يكون في المستقبل، فقد نوى ما يحتمله لفظه فصحت نيته، ولو قال: إن حضت غداً فأنتِ طالق، وهو يعلم أنها حائض فهذا على هذه الحيضة، فإذا دام حتّى انشقّ الفجر من الغد طلقت بعد أن تكون تلك الساعة تمام الثلاث أو زائداً على الثلاث؛ وهذا لأنّه إذا كان عالماً بحيضها لا يكون من قصده تعليق الطلاق بدون حيضة أخرى؛ لأنّ ذلك مستحيل، فكان قصده تعليق الطلاق باستمرار ذلك، وإنّما اعتبرنا تمام الثلاث؛ لأنّ الدّم إذا انقطع فيما دون الثلاث لا يكون حيضاً، وإن كان لا يعلم بحيضها فهذا على حدوث الحيض في الغد.
وكذلك إذا قال لها إن حممت وهي محمومة، أو قال إن صدعت وهي مصدوعة، فهذا على التفصيل الذي قلنا في الحيض والمرض. ولو قال وهي صحيحة: إن صححت فأنتِ طالق وقع الطلاق حين سكت يعني في الحال، وكذلك إذا قال لها: إن أبصرت أو سمعت فهي طالق وهي سمعة بصرة وقع للحال؛ لأنّ هذا ليس بمعنى حادث فيتعلّق اليمين بوجودها.
قال: وأمّا القيام والقعود والركوب والسكنى فهو على أن يمكث ساعة بعد اليمين، وأمّا الدخول فلا يكون من داخل إلى خارج وهذا المعنى لا يبقى، وكذلك الحبل هو ابتداء العلوق، وكذلك الشرب والأكل على الحادث بعد اليمين، ولو قال: أنتِ طالق ما لم تحيضي أو ما لم تحبلي وهي حائض أو حبلى، فهي طالق حين سكت إلا أن يكون ذلك منها حين سكوته، فإن نوى ما بقي فيه من الحيض والحبل ديّن في الحيض فيما بينه وبين الله تعالى، ولم يديّن في الحبل؛ لأنّ الحيض داء آخر وما يزداد يسمّى حيضاً، والحبل لا يزداد، وهذه الجملة من «القدوري».(3/728)
-----
وفي «الأصل»: إذا قال لها: إذا حضت حيضة فأنتِ طالق، وإذا حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة وقع عليها تطليقتان، وكانت الحيضة الأولى كمال الشرط في اليمين الأولى وبعض الشرط في اليمين الثانية، ولو قال: إذا حضت حيضة فأنتِ طالق ثمَّ إذا حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة حتّى وقع الطلاق باليمين الأولى، لا يقع الطلاق باليمين الثانية ما لم تحض بعد ذلك به حيضتين أخراوين عملاً بكلمة ثمَّ، فإن قال: عنيت به الأوّل صدّق ديانة لا قضاء؛ لأنّ ثمَّ لا تكون للتعقيب، فكان ناوياً ما يحتمله لفظه إلا أنّه خلاف الظاهر.
وفي «البقالي»: إذا قال لها: إذا حضت فأنتِ طالق، ثمَّ قال كلّما حضت حيضتين فأنتِ طالق وقع بأوّل الحيضة طلاق وبانقضائها، وحيضة أخرى بعدها تقع تطليقة أخرى.
وفي «الجامع»: إذا قال لها: إذا حضت حيضة، فأنتِ طالق لا تطلق ما لم تحض وتطهر؛ لأنّ الحيضة مع الهاء اسم للكامل منها وكمالها (273ب1) بالطهر.
ولو قال لها: إذا حضت نصف حيضة، فكذلك الجواب لا تطلق ما لم تحض وتطهر؛ لأنَّ الزوج ذكر النصف مطلقاً، واسم النصف عند الطلاق يقع على الشائع، وذلك لا يوجد حتّى بينهنّ، ولو قال لها: إذا حضت نصف حيضة فأنتِ طالق، وإذا حضت نصفها الأخرى فأنتِ طالق، فحاضت حيضة طلقت ثنتان؛ لأنّه وجد كلا النصفين سابقاً.
نوع آخر في الشرط يكون على الفور أو على التراخي(3/729)
-----
عن محمّد رحمه الله فيمن قال لغيره: إن ضربتني ولم أضربك فامرأته طالق، هذا على الفور قال: ولم تكون على وجهين: على قبل وبعد، فإذا كان على بعد فهو على الفور، وإذا كان على قبل فهو على ذلك، قال وقوله: إن ضربتني ولم أضربك فهذا على الماضي عندنا، كأنّه قال: ضربتني، ولم أكن ضربتك قبل ضربك إياي فكذا وإن نوى بعد فهو على (ما) نوى، ومعناه: إن ضربتني ابتداء فلم أضربك بعد ذلك فكذا، فهو على ما نوى، ويكون على الفور، والحاصل: أنّ كلمة «لم» قد تقع على الأبد كقوله: إن أتيتني ولم آتك إن زرتني ولم أزرك، فهذا على الأبد وقد يقع على الفور، والمعتبر في حمله على أحدهما معاني كلام النّاس، وكذلك قد تقع هذه الجملة على قبل وقد تقع على بعد، والمعتبر في حمله على أحدهم معاني كلام النّاس، أو يوجد منطق يستدل به عليه، وما كان شبيهاً نحو قوله: إن كلمتك ولم تكلمي، فهذا على قبل وبعد، فإن نوى شيئاً فهو على ما نوى، وإن لم يكن له نيّة فإنَّه إنْ فعل فقد برَّ في يمينه، ولو قال: إن كلمتني ولم أكلمك فهو على المستقبل والفور؛ لأنّ الجواب لا يصحّ إلا بتقديم الكلام، وإنّما حمل على الفور باعتبار العادة.
وعن محمّد رحمه الله فيمن قال: كلُّ جارية أشتريها فلا أطؤها فكذا، فهو على الوطء ساعة يشتري، فإن قال: فإن لم أطأها فهذا على ما بينه وبين الموت، ومتى وطئها برَّ في يمينه؛ لأن إنْ شرط لا يقتضي التعجيل، وعن أبي يوسف رحمه الله: فيمن قال لغلامه: إن لم تأتني حتّى أضربك فكذا، فأتى قال متى ضربه برّ في يمينه، إلا أن ينوي أن يضربه ساعة ما يأتي، وكذا إذا لم يأتِ ساعة ما أمره وأتاه في وقت آخر؛ لأنّه ليس في لفظه ما ينبىء عن التعجيل فلا يحمل على الفور إلا بدلالة.(3/730)
-----
وعن محمّد رحمه الله فيمن قال: إن لم أشترِ اليوم عبداً فأعتقه فامرأته طالق، فاشترى عبداً ووهبه ثمَّ اشترى آخر فأعتقه، قال: اليمين على العبد الأوّل وتطلق امرأته؛ لأنّ تقدير كلامه: أشتري اليوم عبداً فأعتقه، فإن لم أعتقه فكذا، فحين اشترى عبداً فقد انعقد عليه اليمين إذ لا مزاحم له فلا يدخل غيره تحت اليمين.
وعن محمّد رحمه الله: قال لغيره: إن بعثت إليك فلم تأتني فكذا، فبعث إليه فأتاه ثمَّ بعث إليه فلم يأته حنث في يمينه؛ لأنّ اليمين لم تسقط بإتيانه، وكذلك إذا قال: إن بعثت إليَّ فلم آتك، فبعث إليه، فأتاه ثمَّ بعث إليه فلم يأته حنث في يمينه.
وروى المعلّى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: إذا قال لغيره: إذا فعلت كذا فلم أفعل كذا فامرأته طالق، فلم يفعل ما قال على إثر المحلوف عليه طلقت امرأته. ولو قالت: إن فعلت كذا ثمَّ لم أفعل كذا فهو على الأبد، قال أبو يوسف رحمه الله: هما سواء وهو على الفور.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال: إن أحدّث فلاناً لأضربنّه مائة سوط، فحدّثه وضربه سوطاً أو سوطين، قال: هو على الأبد. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرّجل: إن رأيت فلاناً لم آتك به فامرأته طالق، فرآه الحالف في أوّل ما رآه مع هذا الرجل الذي قال له فلم آتك به، قال: الحالف حانث الساعة؛ لأنه لا يستطيع أن يأتيه به.
ولو قال: إن رأيت فلاناً، فلم أعلمك به فكذا، فرآه أوّل ما رآه مع هذا الرجل الذي قال له: فلم أعلمك به لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله؛ لأنه ليس هاهنا موضع إعلام، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله يحنث، وهو بمنزلة قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز غداً، فانصبّ الماء قبل مجيء الغد ولم ينضح. ولنا وجه الفرق بين المسألتين على قول أبي حنيفة رحمه الله.(3/731)
-----
وروى إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: في رجل خرج إلى الصيد، فأعجب رجلاً فقال له: اخرج معي إلى الصيد، فقال: نعم، اذهب بما معي إلى البيت فأضعه وأتيك، فقال له: احلف بالطلاق، فحلف بالطلاق ليأتينّه ولم يقل اليوم فأتاه بعدما رجع عن الصيد، قال هو حانث.
وفي «المنتقى»: إذا قال الرجل لغيره: ادخل هذه الدّار اليوم فقال: إن دخلت اليوم فكذا، فهو على تلك الدّار دون غيرها، وكذلك إذا قال له: كلّم هذا الرجل، فقال: إن كلمت فكذا، فهو على كلام ذلك الرجل، ولو قال لغيره: تزوّج فلانة، فقال: إن تزوّجت فلانة أبداً فكذا، فتزوّج غير فلانة حنث في يمينه، ومسألة التزوّج يخالف مسألة الدخول وإنّها مشكلة.
نوع آخر في تعليق الطلاق بالفعلين صورة وبفعل أحدٍ معنى
قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال الرّجل لامرأتين: إذا ولدتما ولداً، إن ولدتما ولداً فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما ولداً فإنهما تطلقان وهذا استحسان، والقياس أن لا تطلق واحدة منهما، وعلى هذا القياس إذا قال لهما: إذا حضتما حيضة إن حضتما حيضة، فأنتما طالقتان، فحاضت إحداهما حيضة فإنّهما تطلقان استحساناً، والقياس أن لا تطلق واحدة منهما أبداً.
وجه القياس في ذلك: أنّه علّق الطلاق بفعلهما فلا يقع بفعل إحداهما؛ لأنّه بعض الشرط، وبوجود بعض الشرط لا يترك الجزاء. وجه الاستحسان في ذلك: أنّه علّق الطلاق بفعل إحداهما، فإذا ولدت إحداهما أو حاضت إحداهما فقد وجد شرط وقوع الطلاق عليها، فيقع.(3/732)
-----
بيانه: وهو أنَّ الزوج وإن ذكر فعلهما إلا أنّه تعذّر العمل بحقيقته؛ لأنّ ولادتهما ولداً واحداً وحيضهما حيضة واحدة مستحيل، وأمكن جعله مجازاً عن فعل إحداهما، فإن ذكر المثنّى وإرادة الواحد شائع في اللغة مستعمل فيما بين أهل الشرع، قال الله تعالى في قصّة موسى عليه السلام: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً} (الكهف: 61) أضاف النسيان (274أ1) إلى الاثنين، والنسيان كان من أحدهما، وهو يوشع بن نون بدليل قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} (الكهف: 63) والمعنى في ذلك: وهو أنّه ليس في ذكر الاثنين، فإرادة الواحد إرادة الخصوص من العموم، وإرادة الخصوص من العموم شائع في اللغة والشرع، فإذا جاز ذلك جعلنا ذكر الاثنين ههنا مجازاً عن ذكر الواحد، وصار تقدير هذه اليمين: إذا ولدت إحداكما ولداً إذا حاضت إحداكما حيضة. وبهذا يتبيّن أن الطلاق معلّق بفعل إحداهما لا بفعلهما.(3/733)
-----
لو قال لهما: إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان، فولدت إحداهما ولداً لا تطلق واحدة منهما ما لم تلد كلُّ واحدة منهما ولداً بخلاف الصورة الأولى؛ لأنّ الشرط في الصورة الأولى ولادتهما مطلقاً لا ولادتهما ولداً واحداً وولادتهما مقصورةً، والشرط في الصورة الثانية: ولادتهما ولدين، وولادتهما ولدين مقصور بأن تلد كلُّ واحدة منهما ولداً، فالعمل بحقيقة الكلام هناك ممكن، فلا يصار إلى المجاز، وكذلك في قوله: إن حضتما حيضتين العمل بحقيقة الكلام ممكن على نحو ما قلنا في الولادة، فصار الشرط فعلهما، أمّا ههنا بخلافه، فإذا قال لهما: إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما ولدين، أو قال: إذا حضتما فأنتما طالقتان فحاضت إحداهما حيضتين لا تطلق واحدة منهما، ولو حاضت كلُّ واحدة منها حيضة أو ولدت كلُّ واحدة منهما ولداً طلقتا، ولا يشترط ولادة كلِّ واحدة منهما ولدين.
وهو نظير ما لو قال لهما: إن دخلتما بين الدارين فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما داراً ودخلت الأخرى الدّار الأخرى طلقت كلُّ واحدة منها استحساناً، وكذلك إذا قال لهما: إن دخلتما هذه الدّار وهذه الدّار الأخرى فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما داراً ودخلت الأخرى الدّار الأخرى، وهذا استحسان، والقياس في المسألتين أن لا تطلق واحدة منهما حتّى يدخلا هذه الدّار، ويدخلا هذه الدّار الأخرى، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي».(3/734)
-----
ولو قال لهما: إن دخلتما هذه الدّار، ودخلتما هذه الدّار الأخرى فأنتما طالقتان لا تطلق واحدة منهما ما لم يدخلا هذه الدّار ويدخلا هذه الدّار الأخرى قياساً واستحساناً، والأصل في جنس هذه المسائل: أنّ الجمع المضاف إلى الواحد يعتبر جمعاً في حقّ الواحد المضاف إليه، ولا يعتبر واحداً. ألا ترى أنّ من قال لامرأته: إن لبست ثيابك فأنتِ طالق، فلبست ثوباً واحداً لا تطلق، وهذا لأنّ المتكلّم أضاف الجمع إلى الواحد، فالواحد إبطال القيد الذي ذكره الحالف، وفيه إبطال غرضه وأنّه لا يجوز فيجب اعتبار الجمع في حقّ الآخر إلا إذا لم يمكن اعتبار الجمع في حقّ الواحد، فحينئذٍ يعتبر الواحد.
بيانه في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (الإسراء: 33) هذا جمع أضيف إلى الواحد ولم يعتبر معاً في حقّ الواحد حتى لا يشترط التحريم ثمَّ اجتماع النّاس على زنا واحد، بل إذا وجد الزنا من واحد كان حراماً؛ لأنَّ اجتماع الناس على زنا واحد غير ممكن، وأمّا الجمع المضاف إلى الجمع يعتبر واحداً في حقّ الواحد استحساناً، ولا يعتبر جمعاً في حقّ الواحد؛ لأنَّ في اعتباره جمعاً في حقّ الواحد إبطال القيد الذي ذكره الحالف، وهو إضافة الجمع إلى الجمع، ولكن إنّما يعتبر واحداً في حقّ الواحد إذا كان شيئاً يقبل الخصوص، بأن كان عاماً كل.(3/735)
-----
......؛ لأنّ العام يذكر ويراد به الخصوص، أمّا إذا لم يكن قابلاً للخصوص لا يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد، بل يعتبر جمعاً في حقّ الآحاد؛ لأنّه يكون في ذلك إثبات الخصوص فيما لا يقبل الخصوص، ألا ترى أنَّ من قال لثلاث نسوة: أنتنّ طوالق ثلاثاً طلقت كلُّ واحدة ثلاث تطليقات، وهذا جمع مضاف إلى الجمع، ولم يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد؛ لأنّ الثلاث لا تحتمل الخصوص؛ لأنّه اسم عدد، واسم العدد لا يحتمل الخصوص إلا بالاستثناء، فإن من سمّى عشرة وقال: أردت التسعة والثمانية لا يصح.
وإذا لم يكن الثلاث قابلاً للخصوص لم يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد، بل اعتبر جمعاً في حقّ الآحاد، فيقع على كلّ واحدة منهنّ ثلاث تطليقات، وهذا بخلاف ما لو قال إن دخلتما هذه الدّار، ودخلتما هذه الدّار الأخرى؛ لأنّ هناك الجمع مضاف إلى الواحد في كلّ كلام، فيعتبر الجمع بالواحد في كلّ كلام.
لو قال لهما: إذا أكلتما هذا الرغيف فأنتما طالقتان، لا يقع الطلاق على واحدة منهما ما لم يأكلا جميعاً؛ لأنّه على الطلاق بفعل يكون منهما، وهو اجتماعهما على الأكل فلا يقع الطلاق ما لم يوجد الأكل منهما، كما لو قال لهما: إن ولدتما إن حضتما، وإن أكلا جميعاً يقع الطلاق عليها، وإن أكلت إحداهما أكثر من الأخرى، لأنّ الشرط أكل كلّ واحدة بعض الرغيف بعضاً مطلقاً، لا بعضاً مقيَّداً، والتي أكلت أقلّ فقد أكلت بعض الرغيف؛ لأنّ اسم البعض كما ينطلق على الكثير ينطلق على القليل، حتّى قالوا: لو أكلت إحداهما مقداراً لا ينطلق عليه اسم البعض بأن أكلت كسرة خبز لا تطلق واحدة منهما لانعدام الشرط، وهو أكل كل واحدة منهما بعض الرغيف في دخول الواحد تحت الشرطين.(3/736)
-----
قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال الرجل لامرأته وهي حامل: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ثنتين، ثمَّ قال لها: إن كان الولد الذي تلدينه غلاماً فأنتِ طالق واحدة، فولدت المرأة غلاماً طلقت ثلاثاً، لأن المنعقد ههنا يمينان؛ لأنّه ذكر شرطين وجزاءين أحد الشرطين ولادة ولد مطلق وجزاؤه تطليقتان، والشرط الآخر ولادة الغلام وجزاؤه طلقة واحدة، وإذا ولدت غلاماً والغلام ولد كما أنّه غلام يقع الحنث في اليمينين جميعاً.
وهو نظير ما لو قال: إن دخل رجل داري هذه فعبدي حرٌّ، ثمَّ قال: إن دخل زيد داري هذه فامرأته طالق، فدخل زيد الدّار عتق العبد وطلقت المرأة، وطريقه ما قلنا.
ولو كان قال لها: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ثنتين، ثمَّ قال لها: إن كان الولد الذي في بطنك غلاماً فأنتِ طالق واحدة فولدت غلاماً، فإنّها تطلق واحدة بخلاف المسألة المتقدّمة، فإنَّ هناك قال: إذا ولدت غلاماً تطلق ثلاثاً. والفرق: أنَّ في هذه المسألة وقوع (274أ1) الواحدة سابق على الولادة؛ لأنَّ وقوعها معلّق بكون ما في البطن غلاماً بولادة الغلام، وبولادة غلام تبيّن أنَّ ما في بطنها كان غلاماً، وأنَّ الواحدة كانت واقعة قبل الولادة إذ تبيّن أنَّ شرط وقوعها كان موجوداً، وتبين أنها صارت معتدة قبل الولادة، فبالولادة وقع على الأجنبيّة، أمّا في المسألة المتقدّمة وقوع الواحدة لا يسبق الولادة؛ لأنَّ هناك الواحدة معلّقة بالولادة صريحاً كالثنتين؛ إلا أنَّ الواحدة تعلقت بولادة الغلام، والثنتان تعلقتا بولادة ولد مطلق، فإذا ولدت غلاماً فقد وجد شرط الحنث في اليمنين في ساعة واحدة، فنزلت الطلقات الثلاث في ساعة واحدة.(3/737)
-----
ونظير هذه المسألة: ما قال محمّد بن الحسن رحمه الله في رجل قال: إن كان الذي في هذه الدّار اليوم رجلاً فامرأته طالق، ثمَّ تبيّن في آخر النّهار أنّه كان فيها رجل طلقت المرأة، وحنث حين تكلم به، إذا تبيّن أنّ الشرط الذي علّق به الطلاق كان موجوداً، ولو قال: إن كان الذي يدخل في هذه الدّار اليوم رجلاً فامرأته طالق، فدخل في آخر النّهار رجل طلقت المرأة حين دخل؛ لأنَّ التعليق حصل بدخول الدّار، ودخول الدّار كان معدوماً حالة التعليق، فكان تعليقاً على الحقيقة، فوقع الطلاق عند الدخول فكذا فيما تقدّم.
فإن قيل: كون ما في البطن غلاماً إنّما يعرف بالولادة، فينبغي أن يجعل الولادة شرطاً في المسألة الثانية، حتّى لا تقع الواحدة سابقاً على الولادة كما في المسألة المتقدمة، ألا يُرى أن من قال لامرأته: أنتِ طالق قبل قدوم فلان بشهر، فقدم فلان لتمام الشهر فإنّه يقع الطلاق عليها بعد القدوم، أو مقارناً للقدوم على حسب ما اختلفوا، وبقدوم فلان لتمام الشهر، (فإنْ) ظهر أنَّ هذا شهر قبل قدوم فلان فينبغي أن يقع الطلاق من أوّل الشهر، ولكن قبل بأن الوقت الموصوف بأنّه قبل قدوم فلان بشهر إنّما يعرف بالقدوم، فيجعل القدوم شرطاً.
والجواب: أنَّ في القدوم أمكن جعل القدوم شرطاً؛ لأنّ القدوم ملفوظة به، وهي على خطر الوجود، وفي مسألتنا لا يمكن أن يجعل الولادة شرطاً؛ لأنّها غير ملفوظ بها إن كانت على خطر الوجود، فلم يجعل شرطاً بل كان معرفاً محضاً وكان بمنزلة ما لو قال لامرأته: إن كان في هذا الجوالق حنطة فأنتِ طالق، فحلَّ الجوالق فإذا فيها حنطة وقع الطلاق من حين تكلّم، وإنّما عرف كون ما في الجوالق حنطة بالحلّ، ومع هذا لم يجعل الحلّ شرطاً؛ لأنّ الحلّ غير ملفوظ به.
وفي «الأصل»: إذا قال لها: كلّما ولدت ولداً فأنتِ طالق، وقال لها أيضاً: إذا ولدت غلاماً فأنتِ طالق، فولدت ولداً فصارت ولادتها شرطاً لانحلال اليمينين جميعاً.(3/738)
-----
وهو نظير ما لو قال لها: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق وقال لها أيضاً: إن كلَّمت أنا فأنتِ طالق، فكلّم فلاناً طلقت تطليقتين؛ لأنّه فلان وإنسان.
وكذلك إذا قال لامرأته: إذا تزوّجتُ فلانة فهي طالق، ثمَّ قال: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق، ثمَّ تزوّج فلانة طلقت تطليقتين؛ لأنها امرأة وفلانة، إذا حصل تعليق الطلاق بشرطين ووجد الشرط الأوّل وهي في نكاحه ووجد الشرط الثاني وهي ليست في نكاحه ولا عدّته بأن أبانها بواحدة بعدما وجد الشرط الأوّل وانقضت عدتها، ثمَّ وجد الشرط الثاني لا يقع الطلاق، ولو وجد الشرط الأوّل في غير ملكه وعدّته ووجد الشرط الثاني في ملكه بأن تزوّجها بعد ما وجد الشرط الأوّل ثمَّ وجد الشرط الثاني يقع الطلاق.
مثال الأوّل: إذا قال لامرأته: إن كلمت زيداً وعمراً فأنتِ طالق، فكلمت أحدهما، ثمَّ إنَّ الزوج أبانها بواحدة وانقضت عدتها، ثمَّ كلمت الآخر فإنّه لا يقع الطلاق.
ومثال الثاني: إذا قال لها: إن كلمت زيداً وعمراً فأنتِ طالق، فأبانها بواحدة وانقضت عدتها، ثمَّ كلّمت أحدهما، ثمَّ تزوّجها، ثمَّ كلّمت الآخر وقع الطلاق عندنا، خلافاً لزفر، وزفر يقول: قيام الملك وقت دخول الشرط شرط وقوع الطلاق، والشرط ههنا كلامهما، فيعتبر قيام الملك وقت دخول الكلامين، وإنّا نقول: قيام الكل وقت وجود الشرط إنّما يعتبر ليَزول الجزاء، لا لوجود الشرط نفسه، ووقت يزول الجزاء عند وجود آخر الشرطين، فيعتبر قيام الملك عندهما، وإذا حصل التعليق بشرط واحد، ووجد بعض الشرط في ملكه والبعض في غير ملكه وعدّته؛ إن وجد أوّل الشرط في ملكه وآخره في غير ملكه لا يقع الطلاق، وإن وجد أوّل الشرط في غير ملكه ووجد آخر الشرط في ملكه وقع الطلاق.(3/739)
-----
مثال هذا: قال الرجل لامرأته: إن أكلت هذا الرغيف فأنتِ طالق، فأبانها وانقضت عدّتها فأكلت بعض الرغيف، ثمَّ تزوّجها بعد ذلك، ثمَّ أكلت الباقي طلقت عندنا، ولو أكلت بعض الرغيف وهي في نكاحه ثمَّ أبانها وانقضت عدّتها، فأكلت الباقي لا تطلق، فعلى هذا القياس تخرج جنس هذه المسائل.
وفي «الأصل»: إذا قال لها: كلّما حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة في ملكه ثمَّ أبانها وانقضت عدّتها، فحاضت حيضة أخرى لا يبقى اليمين، حتّى لو تزوّجها ثمَّ حاضت حيضتين لا يقع الطلاق. قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا جواب قوله: إذا حضت إن حضت لا جواب.
قوله: كلّما حضت وفي قوله: كلّما حضت إذا تزوّجها ثمِّ حاضت حيضتين يقع عليها الطلاق، وإليه أشار محمّد رحمه الله في «الجامع»، إلا أن محمداً رحمه الله في «الأصل» ذكر كلمة إذا وكلّما وإن، وأجاب في الكلّ بجواب إن وإذا، كأنّه ذهب عليه لينقل خاطره، وهذا لما عرف أنَّ كلمة كلّما توجب التكرار بخلاف كلمة إن وإذا.
ومن المشايخ رحمهم الله من قال: ما ذكر في «الأصل» جواب كلّما، وهذا القائل يقول: في المسألة روايتان، على رواية «الجامع» يقع الطلاق إذا حاضت حيضتين بعدما تزوّجها، وعلى رواية «الأصل» لا يقع، وهذا القائل يقول بأنَّ الثابت بكلمة كلّما في الحال يمين واحدة (274ب1) على رواية «الأصل»، ويتجدّد انعقادها مرّة بعد مرّة كلّما حنث يتجدّد بيمين أخرى، فإذا لم يكن في ملكه ولا تجدّد به حال تمام الشرط الأوّل الذي هو حال انعقاد اليمين الأخرى لم تنعقد الأخرى؛ لأنّ اليمين لا تنعقد في غير الملك إذا لم يكن مضافاً إلى الملك، وعلى رواية «الجامع»: الثابت بكلمة كلّما في الحال أيمان منعقدة يقع الحنث في البعض بوجود شرط الحنث فيها ويبقى الباقي، فصار حال تمام الشرط الأوّل حال بقاء اليمين الثانية، فلا يشترط قيام الملك في تلك الحالة في تعليق الطلاق بأحد الشرطين صورة ومعنى.(3/740)
-----
إذا قال الرجل: إن خطبت فلانة وتزوّجها فهي طالق، فخطبها ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأنَّ الشرط حيث أحد الشيئين الخطبة أو التزوّج، فإن خطبها فقد وجد شرط الحنث والمرأة ليست في نكاحه فتنحلّ اليمين لا إلى جزاء، فإذا تزوّجها بعد ذلك فإنما تزوّجها واليمين منحلة، فلا يحنث. ذكر المسألة في «الأصل».
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه»: وهو بمنزلة ما لو قال: إن قبلت فلانة أو تزوّجتها فهي طالق، فقبّلها ثمَّ تزوّجها لم تطلق؛ لأنَّ اليمين انحلت بالتقبيل، فإن تزوّجها قبل الخطبة بأن زوجها منه، وقولي: فبلغها فأجازت طلقت، بمنزلة ما لو قال: إن قبّلت فلانة أو تزوّجتها فهي طالق، فتزوّجها قبل أن يقبّلها فإنّها تطلق وكان ينبغي أن لا تطلق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق التزوّج وقد حصل قبل دخولها في نكاحه فينبغي أن ينحلّ اليمين لا إلى حنث، قلنا: نعم شرط الحنث التزوّج، إلا أنَّ التزوّج إنّما بإجازتها، وعند ذلك هي في نكاحه، وهذه المسألة تؤيّد قول من يقول «آكمر وختر فلان مراد هند»، أو قال «بزني وهند» فهي طالق، فتزوّجها تطلق في الوجهين؛ لأنّ شرط الحنث وإن كان هو التزويج إلا أنَّ تمام التزويج بتزوّجه، وعند ذلك هي في نكاحه، (ألا ترى أنَّ محمداً رحمه الله في هذه المسألة).
وفي «المنتقى»: إذا قال: إن تزوجت فلانة أو أمرت إنساناً بتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً بذلك فزوّجها منه أو تزوّجها بنفسه بعد ذلك لا تطلق؛ لأن اليمين انحلّت بالأمر لا إلى جزاء.
لو قال: إن تزوّجت فلانة فهي طالق، وإن أمرت إنساناً بتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً فزوّجها منه طلقت؛ لأنَّ ههنا يمينان إحداهما انعقدت على الأمر، والثانية على التزوّج؛ فبالأمران انحلت اليمين المنعقدة على الأمر، ثمَّ تنحل اليمين المنعقدة على التزوّج، وكذا لو تزوّجها بنفسه طلقت لما ذكرنا.(3/741)
-----
لو قال: إن تزوجت فلانة وإن أمرت من يتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً فزوّجها منه طلقت واليمين واحدة، والشرط إثبات الأمر والتزوّج، فلمجرّد الأمر لا تنحل اليمين، وهو بمنزلة قوله: إن دخلت هذه الدّار، وإن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق، وإن تزوّج فلانة من غير أن يأمر أحداً بذلك لا تطلق؛ لأنّه بعض الشرط، فإن أمر بعد ذلك رجلاً فقال: زوجني فلانة، وهي امرأته على حالها طلقت لامرأته... كمل الشرط، فقد تزوّج وقد أمر.
وعن ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرّجل: إن تزوجت فلانة فهي طالق، إذا أمرت فلاناً فزوّجها فهي طالق، فأمر فلاناً فزوّجها إيّاه قال تطلق ثنتين وإن نوى واحدة فهي واحدة.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأتين لا يملكهما: إن خطبتكما، أو تزوجتكما فأنتما طالقتان، فخطبهما ثمَّ تزوّجهما لم تطلقا، وقد مرّ مثل هذا في الواحدة، ولو تزوّجهما عن غير خطبة في عقدة أو في عقدتين طلقتا، ولو خطب واحدة وتزوّجها ثمَّ خطب الأخرى وتزوّجها لم تطلقا، ولو خطب واحدة وتزوّجهما طلقتا، ولو تزوّج واحدة وطلقها ثمَّ تزوّجهما طلقتا.
ولو قال: إن خطبتكما أو تزوجت هذه وأشار إلى امرأة أخرى غير المخاطبتين فأنتنّ طوالق، فتزوّج المنفردة ثمَّ خطب الأخريين وتزوّجهما لم يقع الطلاق.
إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا أكل كذا أو شرب كذا وكلّم فلاناً، أو قال إذا أكلت كذا وشربت كذا وكلّم فلاناً، وامرأته طالق ما لم تجتمع هذه الأمور لا يقع الطلاق إلا أن ينوي شيئاً آخر، هكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفّار رحمه الله.(3/742)
-----
وإن كرّر حرف الشرط فقال: إن أكل وإن شرب وإن كلّم فلاناً، إن قدّم الجزاء فأي شرط وجد من هذه الأشياء يقع الطلاق ويرتفع اليمين، وإن أخّر الجزاء لا يقع الطلاق ما لم توجد الأمور كلّها، وهذا يجب أن يكون قول محمّد رحمه الله، فأمّا على قول أبي يوسف رحمه الله: إذا وجد واحد من هذه الأشياء يقع الطلاق وترتفع اليمين.
وذكرنا الخلاف على هذا الوجه في قوله: إن دخلت هذه الدّار الأخرى، وقد مرّت المسألة من قبل... به طلاق «سكند خورد كه بزمين فلان آندر بياتم وينبّه ني جينم»، فدخل الأرض ولم يلتقط القطن طلقت لأنَّ كل واحد منهما منتفٍ فيبقى على حدة، فصار كلّ واحد منهما شرطاً على حدة.
وإذا حَلف بطلاق امرأته أن لا تذوق طعاماً ولا شراباً، فذاقت إحداهما طلقت امرأته، وكذلك إذا حلف أن لا تكلّم فلاناً ولا فلاناً فكلّمت أحدهما، وكذلك إذا حلف أن لا يأكل كذا ولا كذا فأكل أحدهما. وأمّا إذا قال: لا أذوق طعاماً وشراباً، فذاق أحدهما لا يحنث، هكذا ذكر محمّد رحمه الله في أيمان «الأصل».
وعن الفقيه أبي القاسم الصفّار رحمه الله أنّه يحنث اعتباراً للعرف، وفي العرف يراد به نفي كلّ واحد منهما، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمّد بن الفضل رحمه الله يقول: ينوي الزوج، فإن لم يكن له نيّة فالجواب كما قال في «الكتاب»: إذا قال: «رن آوى بطلاق آكر سيكي خورد ومقامري كندو كبو تردارد»، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله أنّه قال: كلُّ واحد من هذه الأشياء شرط على حدة، وغيره من المشايخ قالوا: الكلّ شرط واحد، ولو قال: «سيكي ني خورد ومقامري بكند وكبوتر ني دارد»، فكلُّ واحد شرط على حدة بلا خلاف.(3/743)
-----
إذا علّق الطلاق بعدم الفعل في مجلس في وقت معيّن بأن (275أ1) قال: إن لم أدخل هاتين الدّارين اليوم، أو قال: إن لم أضرب فلاناً سوطين اليوم، فدخل إحدى الدارين دون الأخرى، أو ضرب أحد السوطين اليوم، ومضى اليوم حنث في يمينه؛ لأنّ شرط برّه دخول الدارين وضرب السوطين ولم يوجد، وفات شرط البرّ، وعند فوات شرط البرّ يتعين الحنث.
وكذلك إذا قال: إن لم أكلّم فلاناً وفلاناً اليوم فامرأته طالق، فكلّم أحدهما ولم يكلّم الآخر حتّى مضى اليوم طلقت امرأته. وصار الأصل أنَّ اليمين متى عقدت على عدم الفعل في مجلس ينظر فيها إلى شرط، وعند فوات شرط البرّ يتعيّن الحنث في أيمان «الجامع» في باب الأيمان، مما يوجب الرجل على نفسه.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: فيمن قال لامرأته: إن لم أدخل الليلة المدينة ولم ألق فلاناً فأنتِ طالق، فدخل فلم يصادفه في منزله ولم يلقه حتى أصبح، قال: إن كان حين حلف كان عالماً أنّه غائب عن منزله يحنث، وإن كان لا يعلم بغيبته لا يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. وهو نظير ما لو حلف ليقتلن فلان وفلان ميّت.(3/744)
-----
وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن تطلق على كلّ حال وينظر إلى شرط البرّ، وشرط البرّ شيئان: دخول المدينة ورؤية فلان ولم يوجد رؤية فلان، وإن شرط البرّ فيتعيّن الحنث. يبنى على أصل أنَّ المعرّف من كلّ وجه لا يدخل تحت اسم النكرة، وهو قول أحد وما أشبهه، والمعرّف من وجه يدخل اسم النكرة، والمعرّف من كلّ وجه ما لا يشاركه غيره وفي ذلك كالمشار إليه، وكالمضاف بالكناية والمشار إليه، نحو قولك: هذه الدّار وهذا العبد، فإنّه لا يدخل تحت قوله: هذه الدّار وهذا العبد غير المشار إليه، والمضاف بالكناية نحو قولك: داري وعبدي، فإنّه لا يدخل تحت قوله: داري وعبدي دار غيره وعبد غيره، فأمّا المعرّف بالاسم نحو قولك: محمّد بن عبد الله، والمضاف إلى الاسم نحو قولك: دار محمّد بن عبد الله يدخل تحت اسم النكرة؛ لأنّه معرّف من وجه؛ لأنَّ التعريف بالاسم والإضافة إلى الاسم لا يقطع الشركة من كلِّ وجه؛ لأنَّ المسمّى بمحمّد بن عبد الله كثير، ولهذا يحسن الاستفهام فيقال: من محمّد بن عبد الله، فيحتاج إلى زيادة تعريف، فيبقى فيه نوع تنكير إن صار معرّفاً من وجه بالاسم من حيث أنَّ الأسامي في الأصل وضعت للتعريف، فمن حيث أنّه معرفة إن كان يخرج عن اسم النكرة فمن حيث أنّه نكرة لا يخرج، فلا يخرج بالشكّ والاحتمال.(3/745)
-----
بيان هذا الأصل في مسائل ذكرها محمّد بن الحسن في «الجامع»: إذا قال الرّجل: إن دخل داري هذه أحد، فامرأته طالق، فدخلها الحالف بنفسه لا تطلق امرأته إذا لم يكن له نيّة وقت اليمين؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق دخول شخص منكّر، والحالف صار معرّفاً من كلِّ وجه بإضافة الدّار إليه بالكناية، وإن نوى الحالف نفسه صحّت نيَّتُهُ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأنَّ أحد اسم شخص من بني آدم نكرة، فإذا نوى نفسه فقد نوى شخصاً من بني آدم معرفة، فقد وجد بعض معاني الحقيقة فكان، وبالمجاز من كلامه، وفيه تغليظ عليه؛ لأنّه يحنث بدخوله بإرادته ويحنث بدخول غيره بالظّاهر في القضاء.
قال: رجل اسمه محمّد بن عبد الله وله غلام قال: إن كلّم غلام محمداً بن عبد الله هذا أحد فامرأته طالق أشار الحالف إلى الغلام لا إلى نفسه، فإن الحالف كلمه بنفسه، أو كلّم غيره تطلق امرأته، وإنّما وقع الطلاق بكلام الحالف وإن صار معرّفاً بالاسم؛ لأنّه صار معرّفاً من وجه لما ذكرنا أنَّ التعريف بالاسم تعريف من وجه دون وجه، وقد ذكرنا أنَّ المعرّف من وجه يدخل تحت اسم النكرة، فإن قيل: لا بل التعريف بالاسم تعريف من كلّ وجه، بدليل أنَّ من قال: فلانة بنت فلان التي أتزوّجها طالق لا يتعلق بالتزوّج؛ لأنّها صارت معرفة بالاسم فلغت الصفة إذاً بالإشارة في هذه الصفة فههنا يجب أن يكون كذلك، ولو عرف الحالف نفسه بالإشارة إلى نفسه لا يدخل تحت اليمين، فكذا إذا عرف نفسه بالاسم.
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين.(3/746)
-----
أحدهما: لا بل التعريف بالاسم تعريف من وجه على ما مرّ، فصار الحالف معرّفاً من وجه دون وجه وحاجتنا إلى إخراجه عن قوله: أحد، فمن حيث أنّه معرّف إن كان يخرج من حيث أنّه منكر لا يخرج، فلا يخرج بالشك والاحتمال، وفي مسألة الطلاق الحاجة إلى إيقاع الطلاق عند التزوّج، فلا يقع بالشكّ والاحتمال. فإن قيل: ما ذكرتم يشكل كما لو قال: كل امرأة أتزوّجها ما دامت عمرة حيّة، أو قال متى يموت عمرة معرّفة بالاسم فينبغي أن يدخل تحت اسم النكرة وهو قوله كل امرأة، حتّى تطلق إذا تزوّجها، ومع هذا لا تطلق.
قلنا: عامّة المشايخ على أن تأويل المسألة أنَّ عمرة كانت مشاراً إليها، فإن قال: ما دامت عمرة هذه حيّة، فأمّا إذا لم تكن مشاراً إليها تطلق وتدخل تحت اسم النكرة.
الجواب الثاني: أنَّ الاسم والنسبة وضعا لتعريف الغائب، لا لتعريف الحاضر، بل لتعريف الحاضر الإشارة كما في الشهادة فإنّها (إن) قامت على غائب أو ميّت يشترط الاسم والنسب، وإذا قامت على حاضر تشترط الإشارة. إذا ثبت هذا فنقول: الحالف ها هنا حاضر يشترط لتعريفه الإشارة أو الإضافة بالكناية ولم يوجد، فلم يصير معرّفاً بل بقي منكّراً، فتدخل تحت اسم النكرة، وفي مسألة الطلاق الاسم والنسب في الغائب لا في الحاضر، فيحصل بهما التعريف وتلغوا الصفة، حتّى لو كانا في الخاص بأن كانت فلانة حاضرة لا يحصل لهما التعريف، ولا تلغوا الصفة ويتعلّق الطلاق بالتزوّج، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. ولو قال لنسائه: المرأة التي تدخل منكنّ الدّار طالق، فدخلت امرأة من نسائه (275ب1) الدّار طلقت ولا تطلق واحدة منهن قبل الدخول، ولو قال: امرأته فلانة التي تدخل الدّار طالق طلقت فلانة للحال، ولا يتعلق طلاقها بدخول الدّار؛ لأنّ في المسألة الأولى المسماة غير معرفة، فتعلق الحكم بالصفة المذكورة وصارت بمعنى الشرط، كأنّه قال: إن دخلت امرأة من نسائي الدّار فهي طالق.g(3/747)
-----
وفي المسألة الثانية المسمّاة معرفة بالنسبة، فلغى ذكر الصفة فيها والتحقت بالعدم كأنّه قال: فلانة طالق، وعلى قياس مسألة عمرة ينبغي أن يقال على قول عامّة المشايخ: إنّما تطلق فلانة للحال إذا كانت فلانة مشاراً إليها؛ لأنَّ التعريف لا يحصل بالاسم من كلِّ وجه، فلا يلغوا ذكر الصفة فيها، وعلى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله يجب أن يقال: لو كانت فلانة حاضرة لا تطلق فلانة للحال؛ لأنّها إذا كانت حاضرة فتعريفها بالإشارة فلا تصير معرفة بالاسم، فلا يلغوا ذكر الصفة فيها، ولو قال: فلانة بنت فلان طالق إن دخلت الدّار لم تطلق حتّى تدخل، بخلاف ما لو قال: فلانة بنت فلان التي تدخل الدّار طالق، والفرق: أنَّ قوله: إن دخلت صريح في الشرط وإنَّ حكم الشرط أنَّ المعلّق به لا يزال إلا عند وجوده، وفي حقّ هذا المعنى المعرّف والمنكّر سواء، فأمّا النسبة أو الصفة ليس بصريح في الشرط ولكن يعتبر النسب والصفة شرطاً إذا صحّ ذكرهما، وإنّما يصح ذكرهما في المنكر دون المعرفة.
إذا قال: المرأة التي أتزوّجها طالق فتزوّج امرأة تطلق، ولو قال: هذه المرأة التي أتزوّجها طالق فتزوّجها لا تطلق؛ لأنَّ في المسألة الأولى المسمّاة غير معرفة أصلاً، فتعلّق الحكم بالصفة المذكورة وصارت شرطاً كأنّه قال: إن تزوّجت امرأة، وفي المسألة الثانية المسمّاة معرفة بالإشارة فلغت الصفة المذكورة، والتعريف بالعدم كأنّه قال: هذه طالق، ومن قال لأجنبيّة: هذه طالق ثمَّ تزوّجها لا تطلق. وإذا قال: إن دخلت الدّار فكل امرأة أتزوّجها فهي طالق وله امرأة، فدخل الدّار وطلق امرأته ثمَّ تزوّجها طلقت؛ لأنّ المعلّق بالشرط كالمرسل عند الشرط فيصير قائلاً عند دخول الدّار: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ولو قال: كلّ امرأة أتزوّجها طالق وله امرأة، فطلّقها ثمَّ تزوّجها تطلق.(3/748)
-----
ولو قال لامرأته: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فدخلت الدّار وطلّقها زوجها ثمَّ تزوّجها تطلق أيضاً. وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله؛ لأنّها لا تطلق، وروي عنه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن طلقت فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فطلقها ثمَّ تزوّجها لا تطلق وعلّل فقال: لأنّ اليمين إنّما وقعت بفعل فيها بالنكاح على غيرها.
وروي عنه أيضاً: إذا قال: إن طلقت فلانة فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فهذا على غير وجه ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنّها صارت معرفة بالإضافة بالكناية، ويذكر الاسم ولا يدخل تحت اسم النكرة، كما لو قال لامرأته: كلّ امرأة أتزوّجها ما دمت حيّة فهي طالق، فطلق امرأة ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأنّها صارت معرفة بالإضافة بالكناية، فلم تدخل تحت اسم النكرة.
وجه ما ذكر أنّها تطلق: أنَّ قوله لامرأته: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق يمينان معنى إن كانت يميناً واحدة؛ لأنّ قوله: إن دخلت الدّار شرط وجزاؤه قوله: فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، وقوله: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق عين تامة، فعلم أنّه يمينان معنى بصيرورتها معرفة في اليمين الأولى، لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين الثانية، ألا ترى أنَّ الرّجل إذا قال: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق وفلانة هذه وأشار إلى المرأة التي في نكاحه فدخل الدّار حتّى وقع الطلاق على فلانة، ثمَّ تزوّج فلانة طلقت، وهل لأحد أن يقول بأنَّ فلانة صارت معرفة بالإشارة إليها؟ فلا تدخل تحت اسم النكرة، ولكن قبل الدخول ههنا يمينان بصيرورتها معرفة في إحديهما لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في الأخرى.(3/749)
-----
والدليل على صحة ما قلنا: ما ذكر الفضلي في «فتاواه» فقال: إذا قال الرجل: إن فعلت كذا ما لم أتزوّج فاطمة فكلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ففعل ذلك الفعل ثمَّ تزوّج فاطمة تطلق؛ لأنّ عند ذلك الفعل يصير قائلاً: كلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فيقع الطلاق على فاطمة، وإن صارت معرفة بقوله: ما لم أتزوّج فاطمة، ولكن قيل هذان يمينان معنى فصيرورتها معرفة في اليمين الأولى لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين الثانية.
وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنّه سئل عمّن قال: امرأته «آكر ترا ترنم زني كه مرابو دو باشد آزمن بطلاق»، فضربها وطلقها وتزوّجها بعد ذلك إنها لا تطلق؛ لأنّه أوقع الطلاق على امرأة منكرة وهي صارت معرفة بالخطاب، وفتواه توافق....
وصار الحاصل: أنّ في كلّ موضع كان الموجود يمينان بالمعرّف في شرط إحديهما تدخل تحت اسم النكرة في اليمين الأخرى، وإن كانت يميناً واحدة؛ والمعرّفة في الجزاء تدخل تحت اسم الشرط إن إذا كان الشرط باسم النكرة، كما لو قال لامرأته: إن دخل داري هذه أحد فأنتِ طالق، فدخلت المرأة الدّار طلقت، وإن صارت معرفة في الجزاء ولم يمنع ذلك دخولها تحت الشرط المذكور باسم النكرة، والمعرفة في الشرط تدخل تحت الجزاء إذا كان الجزاء باسم النكرة.
بيانه فيما ذكر في «النوادر»: إذا قال لامرأته: إن فعلت كذا فنسائي طوالق، ففعلت ذلك الفعل وقع الطلاق عليها وعلى غيرها.
وذكر في «المنتقى»: عن محمّد رحمه الله إذا قال لامرأته: إن وطئتك فكل امرأة لي طالق، ثمَّ وطئها طلقت هي، ولو قال: إن وطئتك فأنتِ طالق وكلّ امرأة لي طالق فوطئها وقع الطلاق عليها تطليقتان، ولو كانت له امرأة أخرى وقع عليها تطليقة، والمعرّف في الشرط لا يدخل تحت اسم النكرة المذكورة في الشرط.(3/750)
-----
بيانه: فيما إذا قال: إن دخل داري هذه أحد فامرأتي طالق، فدخلها الحالف لا تطلق امرأته؛ لأنّه صار معرّفاً في الشرط بإضافة الدّار فلا تدخل تحت اسم النكرة، وهو قوله: أحد، فعلى هذا يخرّج جنس هذه المسائل.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: إذا قالت المرأة لزوجها: إنّك تزوّجت عليّ، فقال الرّجل: كلّ امرأة لي طالق ثلاثاً طلقت (276أ1) المخاطبة. وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: أنّها لا تطلق؛ لأنَّ غرض الزوج من هذه اليمين تطييب نفسها وتسكين قلبها من كلّ وجه، وذلك إنّما يحصل إذا أراد الزوج إيقاع الطلاق على امرأة أخرى، فإنّما نقول يحتمل أن يكون غرض الزوج ما قاله، ويحتمل أن يكون غرضه مغايظتها بإيقاع الطلاق عليها لما أنّها بالغت في الخصومة والمشاجرة، فأغضبه كلامها، فأراد أن يطلّقها مع غيرها مغايظة لها....... الدلالتان تثبت العبرة لعموم اللفظ.
وحكي من بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: أنّه ينبغي أن يحكم الحال في هذا، فإن كان قد جرى بينهما قبل ذلك مشاجرة وخصومة فدلَّ على أنَّ ذلك أغضب الزوج وأنّ الزوج قد قال ذلك على سبيل الغضب يقع الطلاق عليها، وإن لم يجر بينهما قبل ذلك خصومة ومشاجرة تدلّ على أن ذلك أغضب الزوج لا يقع الطلاق عليها، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وهذا القول حسن عندي، وكذلك إذا قالت: إنك تريد أن تتزوّج عليّ فقال الزوج: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فطلّق المخاطبة ثمَّ تزوّجها تطلق، ولو قيل لرجل: أكلُّ امرأة غير هذه المرأة، فقال: كلُّ امرأة لي فهي طالق لا تطلق هذه، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.(3/751)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا قالت المرأة لزوجها: إنك تزوّجت عليَّ امرأة، فقال: كلُّ امرأة لي فهي طالق حيث تطلق المخاطبة. والفرق أنّ كلام الزوج في المسألتين بناءً على سؤال السائل، فإنّما يدخل تحت كلام الزوج ما يجوز أن يكون داخلاً في سؤال السائل، والمذكور في قول المرأة: إنّك تزوجت عليّ امرأة، واسم المرأة يتناولها كما يتناول غيرها، فجاز أن يدخل تحت قول الزوج، أمّا المذكور في المسألة الأخرى في سؤال السائل غير هذه، وقوله غير هذه المرأة لا يحتمل هذه المرأة، فلا تدخل تحت قول الزوج.
قال لامرأته كلّ امرأة أتزوّجها باسمك فهي طالق هذه المرأة، ثمَّ تزوّجها لا تطلق وإن نواها عند اليمين.
الفصل الثامن عشر: في الطلاق الذي يقع بقوله أوّل امرأة أتزوّجها وبقوله آخر امرأة أتزوّجها
قال حسن رحمه الله في «الأصل»: إذا قال الرجل: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأتين في عقدة واحدة، وواحدة في عقدة لم تطلق واحدة منهنّ؛ لأنّه أوقع الطلاق على أوّل امرأة يتزوّجها؛ والأوّل اسم مفرد سابق، وفي المرأتين إذا وجد السبق لم توجد الفرديّة، وفي الواحدة؛ لأنّ وحدة الفردية لم توجد السبق، فإن كان قال مع هذا: وآخر امرأة أتزوّجها فهي طالق لا تطلق الثانية ما لم يثبت الزوج، فإذا مات يقع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله مستنداً إلى وقت التزوّج وعندهما مقيض.
أو لو: قال آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج أم لم يتزوّج قبلها ولا بعدها حتّى مات لم تطلق؛ لأنّها موصوفة بالأوليّة، فلا تتصف بالآخرية ليستا بينهما. ولو قال: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأة طلقت تزوّج بعدها أخرى أو لم يتزوّج.(3/752)
-----
ولو قال: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأتين إحداهما معتدّة الغير وقع الطلاق على التي صحّ نكاحها، وكذلك لو تزوّج امرأة نكاحها فاسدة ثمَّ تزوّجها بعدها أخرى نكاحاً صحيحاً يقع الطلاق على الأخرى، وهذا بناءً على أن ذكر التزوّج في المستقبل ينصرف إلى النكاح الصحيح دون الفاسد، فكأنّه قال: أوّل امرأة أتزوّجها نكاحاً صحيحاً، فهي طالق، والتي صحّ نكاحها أوّل امرأة تزوجها نكاحاً صحيحاً.
قال في «الجامع»: إذا قال الرّجل: آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج عمرة ثانياً ثمَّ مات الحالف طلقت زينب، ولا تطلق عمرة؛ لأنّ الحالف جعل الآخرية صفة للعين وزينب هي الموصوفة بذلك لا عمرة؛ لأنّ عمرة موصوفة بكونها أوّلاً في النكاح الأوّل، وكلّ ذات اتصفت بالأوليّة في نكاح لا يتصف بالآخرية في نكاح الآخر؛ لأن الذات لا تختلف باختلاف النكاح، والذات الواحدة في الشاهد لا يجوز أن تتصف بالأوّلية والآخرية.
ولو نظر إلى عشر نسوة وقال: آخر امرأة أتزوّجها منكنَّ طالق، فتزوّج واحدة منهن، ثمَّ تزوّج أخرى ثمَّ طلق الأولى، ثمَّ تزوّجها ثمَّ مات فالطلاق واقع على التي تزوّجها مرّة دون التي تزوّجها مرتين، وهذه المسألة والمسألة الأولى سواء فيما إذا مات الزوّج بعد تزوّج الثانية، وإنّما يفترقان فيما إذا لم يمت الزوج حتى تزوّج العاشرة بأن تزوّج مثلاً أربعاً وفارقهنَّ، ثمَّ تزوّج أربعاً أخرى وفارقهن، ثمَّ تزوّج التاسعة، ثم تزوّج العاشرة فإنّ العاشرة تطلق كما تزوّجها مات الزوج أو لم يمت.
وفي المسألة الأولى: لو تزوّج عشر نسوة على التفاريق، فالعاشرة لا تطلق ما لم يمت الزوج، والفرق أنَّ في المسألة الأولى أوقع الطلاق على آخر امرأة تزوّجها من نساء العالم، وما دام الزوج حيّاً لا ينبغي أن تكون العاشرة آخر امرأة يتزوجها من نساء العالم.(3/753)
-----
وفي المسألة الثانية: أوقع الطلاق على آخر امرأة يتزوّجها من العشرة، وكما تزوّج العاشرة فقد ... ... آخر امرأة تزوّجها من العشرة؛ لأنّه لا يحتمل ثبوت هذه الصفة الأخرى منهنّ لإنصاف الأولى بالأوليّة والثانية والثالثة وغيرهما بالوسطى، فتعيّن العاشرة الآخريّة مات الزوج أو لم يمت.
قال في «الكتاب»: ألا ترى أنّه لو نظر إلى امرأتين وقال: آخر امرأة أتزوّجها منكما فهي طالق، فتزوّج إحداهما ثمَّ تزوّج الأخرى طلقت الثانية حين تزوّجها وإن لم يمت الزوّج وهو إشارة إلى ما قلنا، ولو قال: آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأة وطلقها ثمَّ تزوّجها ثانياً لم تطلق، وهو إشارة إلى ما قلنا: أن المرأة إذا اتصفت بالأوّلية في نكاحَ لا يتصوّر إتصافها بالآخرية في نكاح آخر.
ولو قال: آخرُ تزوّيج أتزوّجه فالتي أتزوّجها طالق، فتزوّج امرأة وطلقها ثمَّ أخرى ثمَّ تزوّج التي طلقها ثانياً ومات الزوج طلقت التي تزوّجها مرتين لا التي تزوّجها مرّة؛ لأنّه جعل الآخرية ها هنا صفة للتزوّج، وآخر تزوّج باشره نكاح التي تزوّجها مرتين أكثرها في الباب (276ب1) أنّه تزوّجها أوّلاً، إلا أن النكاح الثاني غير الأوّل حقيقة، فجاز أن يتصف بكونه آخراً بخلاف ما تقدّم؛ لأنَّ هناك جعل الآخرية صفة للمرأة وغير هذه المرأة قد اتصف بالأوليّة، فلا يتصوّر اتصافها بالآخرية.
وكذلك لو نظر إلى عشر نسوة وقال: آخر تزوّج أتزوّجه منكن فالتي أتزوّج طالق، فتزوّج واحدة وطلقها، ثم تزوّج أخرى ثمَّ تزوّج التي طلقها، ثمَّ مات الزوج طلقت التي تزوّجها مرتين لما قلنا.(3/754)
-----
ولو تزوّج العاشرة لم تطلق العاشرة حتّى يموت الزوج، فرق بين هذا وبين ما إذا قال: آخر امرأة أتزوّجها منكن طالق، حيث تطلق العاشرة كما تزوّجها وإن لم يمت الزوج، الفرق أنَّ في هذه المسألة حصلت الآخرية صفة للزوج، وقبل موت الزوّج لم تثبت هذه الصفة للعاشرة، فإنّه إذا تزوّج واحدة أخرى من العشرة، ثمَّ مات الزوج كأنْ تزوّجها آخراً وفيما تقدّم جعل الآخرية صفة للمرأة، وقبل موت الزوج صفة الآخرية للعاشرة.
قال في «الكتاب»: ألا ترى أنّه لو نظر إلى امرأتين وقال: آخر تزويج أتزوّجه منكما فالتي أتزوّج طالق، فتزوّج واحدة ثمَّ الثانية لا تطلق الثانية ما لم يمت الزوج، وبمثله لو قال: آخر امرأة أتزوّجها منكما طالق، فتزوّج إحداهما ثمَّ تزوّج الأخرى طلقت الأخرى، وقع الفرق بينما إذا جعل الآخرية صفة للمرأة وبينما إذا جعل الآخرية صفة للزوج، فكذا فيما تقدّم.
الفصل التاسع عشر: في الشهادة في الطلاق والدعوى والخصومة
إذا قال محمّد رحمه الله في «الأصل»: إذا شهد شاهدان على رجل أنّه طلّق إحدى امرأتيه ثلاثاً، ولم يسم لنا، فالقياس أن لا تقبل شهادتهما، وفي الاستحسان تقبل ويجبر الزوج على البيان، وبه أخذ علمائنا رحمهم الله.
وحاصل المسألة راجع إلى أنَّ الدعوى هل هي شرط لقبول الشهادة على الطلاق فعلى جواب القياس: شرط والدعوى من المجهول لا تتحقّق، وعلى جواب الاستحسان الدعوى ليس بشرط؛ لأنّها قامت على تحريم الفرج وحرمة الفرج حقّ الله تعالى، بدليل أنّه لا تزول الحرمة بإباحتها وبذلها، والشهادة على حقّ الله تعالى تقبل بدون الدعوى، كالشهادة على الزنا، وإذا لم تكن الدعوى شرطاً لقبول الشهادة على الطلاق استحساناً لم يكن جهالة المطلقة مانعة قبول الشهادة؛ لأنّه ليس في قبول جهالة المطلقة إلا عدم الدعوى، والدعوى ليس بشرط على جواب الاستحسان.(3/755)
-----
وإذا شهد الشهود على رجل أنّه طلق فلانة، فقالت امرأته: ما طلقني وقال الزوج: ليس اسمها فلانة، وشهد الشهود أنَّ اسمها فلانة والطلاق ثلاث، فإنّه ينبغي للقاضي أن يفرق بينهما بناءً على ما قلنا: أنّ الشهادة على الطلاق تقبل من غير الدعوى استحساناً، فإذا قبلت الشهادة وقد ثبت أنّ له امرأة بالاسم الذي سمّاها به وقع الطلاق عليها، وكذلك هذا في عتق الأمة.
إذا شهد الشهود أنّه أعتق فلانة وشهد الشهود أنّ اسم مملوكته فلانة، وقالت فلانة لم يعتقني، فإنَّ القاضي يقضي بالعتق، وإذا شهد شاهدان على تطليقة وشهد آخر على تطليقتين أو على ثلاث تطليقات لم تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله تقبل الشهادة على تطليقة واحدة، وهو نظير ما لو شهد أحد الشاهدين بألف وآخر شهد بالألفين والمدعي يدعي الألفين لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله أصلاً، على ما يأتي بيانه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.
وإذا شهد أحدهما أنّه طلقها إن دخلت الدّار وقد دخلت، وشهد الآخر أنّه طلقها إن كلّمت فلاناً وقد كلّمت فشهادتهما باطلة؛ لأنهما شهدا بيمينين مختلفين، وكذا إذا شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً، وشهد الآخر أنّه قال لها: أنتِ عليّ حرام ينوي الطلاق، فشهادتهما باطلة أيضاً.
وكذا إذا شهد أحدهما بالخليّة، والآخر بالبريّة، أو شهد أحدهما بنيّة، وشهد الآخر بالبائن فشهادتهما باطلة، وكذا لو شهد أحدهما أنّه قال: إن دخلت فلانة وفلانة الدّار فهما طالقتان، وشهد الآخر أنّه قال: إن دخلت فلانة الدّار فهي طالق فشهادتهما باطلة.(3/756)
-----
ولو شهد أحدهما أنّه قال لامرأته: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق وفلانة معك، وشهد الآخر أنّه قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فإنّه تقبل الشهادة على طلاقها ولا تقبل على طلاق فلانة؛ لأنّ ههنا اتفقا على أن شرط الحنث واحد وهو دخولها الدّار؛ لأنّ أحدهما شهد أنّه على هذا الشرط طلاقها، وطلاق الأخرى بلفظة الجمع، فهذا لا يمنع قبول الشهادة في التنجيز بأن شهد أحدهما أنّه طلّق زينب، وشهد الآخر أنّه طلق زينب وعمرة، فإنّه تقبل شهادتهما على طلاق زينب، فكذا في التعليق بخلاف المسألة الأولى؛ لأنّ هناك اختلفا في شرط الحنث، وليس على كلّ واحد منهما إلا شاهد واحد.
وكذلك إذا شهد أحدهما أنّه قال: فلانة طالق، لا بل فلانة، وشهد الآخر أنّه قال: فلانة طالق سمّى الأولى لا غير، تقبل شهادتهما على طلاق فلانة لاتفاقهما على طلاقها لفظاً ومعنى، وإذا اختلفا في مقدار الشروط التي علّق بها الطلاق أو في التعليق والإرسال أو في مقدار الأجعال أو في صفاتها أو في أشراطها وحذفها، فكذلك كل اختلاف في المشهود به فيمنع قبول الشهادة.
وإذا شهد الرجل على طلاق أمّه، إن كانت الأم تدّعي الطلاق لا تقبل شهادته، وإن كانت تجحد تقبل شهادته؛ لأنّ الأمّ في طلاق نفسها منفعة ومضرّة، فتعيين الشهادة لها إذا ادّعت، وعليها إذا جحدت.
وهذا بخلاف ما لو شهد على طلاق ضرّة أمّه حيث لا تقبل شهادته ادّعت الأمّ ذلك أو جحدت؛ لأنّ للأمّ في طلاق ضرّتها منفعة من كلّ وجه لا يشوبه ضرر، فإنّه يخلص لها الفراش، فاعتبرت الشهادة واقعة للأمّ وإن جحدت.
وإن شهد على طلاق (277أ1) أخته قبلت شهادته، ادعت الأخت ذلك أو جحدت؛ لأنّه إمّا أن تعتبر هذه الشهادة واقعة للأخت، أو عليها وكلُّ ذلك مقبولة.
وإذا شهد أحد الشاهدين على تطليقة واحدة بائنة، وشهد الآخر على تطليقة رجعيّة قبلت شهادتهما، على تطليقة رجعيّة؛ لأنّهما اتفقا على أصل الطلاق وتفرّد أحدهما بزيادة صفة.(3/757)
-----
وإذا شهد أحدهما بتطليقة والآخر بنصف تطليقة لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله كما لو شهد أحدهما بتطليقة والآخر بتطليقتين، وهذا لأنّ النصف من الواحدة كالواحدة من الثنتين.
وإذا اختلفا الإنشاء والإقرار شهد أحدهما بالإنشاء، وشهد الآخر بالإقرار، واختلفا في الزمان أو في المكان، بأن شهد أحدهما أنه طلقها يوم الجمعة، وشهد الآخر أنّه طلقها يوم السبت، أو شهد أحدهما أنّه طلقها في بلدة كذا، وشهد الآخر أنّه طلقها في بلدة كذا تقبل شهادتهما.
ولو شهد أحدهما أنّه طلّقها يوم النحر بمكّة، وشهد الآخر أنّه طلقها في ذلك اليوم بكوفة، لا تقبل شهادتهما لا لاختلاف المكان، بل لأنّ القاضي تيقّن بكذب أحدهما.
ولو كانا شهدا بذلك على يومين متفرقين بينهما من الأيام على قدر ما يسير الراكب من كوفة إلى مكّة جازت شهادتهما؛ لأنّا لم نتيقّن بكذب أحدهما في هذه الصورة لم يبق الاختلاف المكان، وباختلاف المكان لا يختلف المشهود به وهو الطلاق، ثمَّ في الوجه الأوّل لو كان أحد الفريقين شهد أوّلاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثمَّ شهد الفريق الآخر فالقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني، ولا يبطل قضاؤه بشهادة الفريق الأوّل؛ لأنّ في هذا الوجه بعد قضاء القاضي من حيث الظاهر وقع الشكّ في بطلان شهادة الفريق الثاني، إن كانوا صَدَقَةً يبطل، وإن كانوا كَذَبَةً لا يبطل، فلا يبطل القضاء بالشك، وفي الوجه الأوّل وقع الشك في جواز القضاء.
ونظير هذه المسألة ما لو قال لامرأتين له: أيتكما أكلت هذه الرغيف فهي طالق، فجاءت كلُّ امرأة بالبينة أنّها هي التي أكلته لا تقبل شهادتهما؛ لأنّ القاضي تيقن بكذب إحدى البينتين؛ لأنّ الشرط أكل كل الرغيف، واستحال أن تكون كلّ واحدة منهما أكلت كلّ الرغيف، وإن جاءت إحدى البينتين قبل الأخرى وقضى القاضي بها، ثمَّ جاءت الأخرى فالقاضي لا يلتفت إليها وطريقة ما قلنا.(3/758)
-----
وفي «نوادر هشام» عن محمّد بن الحسن رحمه الله: في رجل ادعت عليه امرأته أنه طلّقها ثلاثاً وهو يجحد، ثمَّ مات الزوج، فجاءت المرأة تطلب الميراث، قال: إن صدّقته المرأة قبل أن يموت وقالت: صدقت، لم تطلقني وَرِثته، وإن لم ترجع إلى تصديقه حتّى مات لم ترثه.H
مرت امرأة بين يدي رجل، فقال الرجل: هي طالق، وسمع ذلك قوم ثمَّ رأوها معه بعد ذلك، فقال: هذه امرأتي فشهدوا عليه أنّه طلّقها، فقال الزوج: طلقتها أمس وهي ليست لي بامرأة وتزوّجتها اليوم، وقال القوم: طلّقها أمس ولا ندري أكانت امرأته أم لا لا تطلق حتىّ يشهدوا عليه أنّه طلقها وهي امرأته.
ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله في رجل شهد عليه شاهد أنّه طلّق امرأته واحدة بائنة، وشهد آخر عليه أنّه طلّقها ثلاثاً فهي واحدة يملك الرجعة.
وفي «المنتقى»: روي عن محمّد في رجل قال: امرأته طالق ثلاثاً إن كان دخل الدار اليوم، فشهد شاهدان أنّه دخل، فقال: امرأته طالق، فإن قال الزوج: عبده حرٌّ إن كانا رأياني دخلت الدّار، معناه: إن كان الشاهدان رأياني لا يحكم بعتق العبد بقولهما، حتّى شهد شاهدان غير الأولين أنّ الأولين رأياه قد دخل، وكذلك لو كان الزوج قال: عبدي حرٌّ إن لم يكونا شهدا علي الزور لا يحكم بعتق عبده؛ لأنه يمكن للذي حلف أن يقول: إنَّ الشاهدين لم يرياني قد دخلت وقد شهدوا بزور.
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنّه طلّق امرأته وشهد آخران في ذلك أنّه قال: إن دخلت الدّار، والمجلس واحد والكلام واحد، فإني أجد ببيّنة الثبات، ولو لم تدع المرأة ذلك فرقت بينهما؛ لأنّهما شهدا بالتحريم.(3/759)
-----
داود بن رسرد عن محمّد رحمه الله: شهد شاهدان على رجل أنّه طلّقها واحدة قبل أن يدخلها، وشهد آخران أنّه طلقها ثلاثاً ولا ... أيهما أوّل، قال أجعلها ثلاثاً من قبل أن شهادتهم أنّه طلقها ثلاثاً إقرار منه أنّه طلّقها وهي امرأته. وكذلك لو شهد كل فريق منهما بطلاق معلّق بدخول الدّار.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا شهد شاهد على رجل أنّه طلّق امرأته واحدة، وشهد آخر أنّه طلّقها ثنتين، وشهد آخر أنّه طلّقها ثلاثاً، وكانت المرأة مدخولاً بها قال: هي طالق ثلاثاً، وإن لم يكن دخل بها فهي طالق ثنتين. قال في تعليل وقوع الثلاث: قيل إنَّ صاحب الثلاث وصاحب الثنتين قد أجمعا على الثنتين، وصاحب الثلاث مع صاحب الواحدة أجمعا على الواحدة فطلقت ثلاثاً لهذا.
وفي شهادات «المنتقى»: رجل حلف بطلاق امرأته أو بعتاق عبده أنّه...... عن فلان خصم له به عليه حقّاً، فشهدت عليه بنته أنّه قد خرج من المصر خروج هَرَبٍ من المدعي، ولم يشهدوا على إقرار الخارج أنّه هرب من الخصم، قال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا عليه أنّه خرج خروج هرب منه، ... عنه قبلت الشهادة وطلقت المرأة وعتق العبد قال: وهذا عندي بمنزلة الشهادة على الإباق.
رجل جعل أمر امرأته بيدها، ثمَّ قال لرجلين: أخبراها أني جعلت أمرها بيدها، فقالا: نشهد أنّا أخبرناها أنَّ زوجها قد جعل أمرها بيدها، وطلّقت نفسها والزوج يجحد ذلك أجزت شهادتهما. ولو قال: لهما طلِّقاها، اجعلا أمرها بيدها، فقالا: نشهد أنّا جعلنا أمرها بيدها وأنّها اختارت نفسها لم أقبل شهادتهما؛ لأنّه فعلهما فلا يستقيم أن يصير الأمر بيدها إلا بقولهما: جعلنا أمرك بيدك، أمّا في الفصل الأوّل لم يشهدا على فعل منهما مثل ذلك، ألا ترى أنّه لو قال: خيراها فلم يفعلا وأخبرها غيرهما أنّ الأمر يصير في يدها.(3/760)
-----
ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف شاهدان في الطلاق (279أ1)، فشهد أحدهما بالنبطية أو بالفارسيّة أو بلسان آخر غير ذلك، وشهد آخر أنّه طلّقها بالعربية لا تقبل شهادتهما، قال: ولو كان هذا في الإقرار بمال أجزته، قال: وليس الطلاق كذلك؛ لأنّي أنويه في الطلاق في وجوه، وقال فيما إذا شهد شاهد على رجل أنه قال له: أنت حرٌّ، وشهد الآخر أنّه قال له بالفارسيّة: «بوارادي» تقبل شهادتهما، قال: لأنّه ليس له وجه آخر غير العتق.
ابن سماعة عن أبي يوسف في «نوادره»: إذا قال لامرأته: إن قلت لك أنتِ طالق فعبدي حرٌّ، فشهد عليه شاهد أنّه قال لها يوم الجمعة غدوة: أنتِ طالق، وشهد عليه شاهد آخر أنّه قال لها يوم الجمعة عشيّة: أنتِ طالق قبلت شهادتهما.
وعنه أيضاً في...... أخرى: إذا قال لامرأته: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فشهد أحد الشاهدين أنّها كلّمته غدوة، وشهد الآخر أنّها كلّمته عشيّة طلقت امرأته، وعنه في فصل العتق بخلاف هذا، فإنّه قال فيمن قال لعبده: إن كلّمت فلاناً فأنت حرٌّ، فشهد شاهد أنّه كلّمه اليوم وشهد الآخر أنّه كلّمه أمس لا تقبل هذه الشهادة.
وعنه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن ذكرت طلاقك سميت طلاقك إن تكلّمت به فعبدي حرّ، فشهد أحدهما أنّه طلّقها اليوم، وشهد الآخر أنّه طلقها أمس يقع الطلاق ولا يقع العتق. وعنه أيضاً: إذا قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فشهد أحد الشاهدين أنّه دخلها غدوة وشهد الآخر أنّه دخلها عشيّة لم تقبل. وعنه أيضاً: لو جعل أمر امرأته بيدها شهراً، فشهد شاهد أنّها اختارت نفسها يوم الجمعة وشهد الآخر أنّها اختارت نفسها يوم الخميس لا تقبل شهادتهما.(3/761)
-----
وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمّداً رحمه الله يقول في رجل تحته أمة أعتقت، فشهد شاهد عليه أنّه طلّقها * وهي أمة * ثنتين، وشهد آخر أنّه طلقها بعدما أعتقت ثلاثاً، فهما تطليقتان يملك الرجعة. قال هشام: وسمعته يقول في الشاهد شهد أنَّ فلاناً طلّق امرأته ثلاثاً ألبتة، وشهد آخر أنَّ فلاناً طلّقها ثنتين ألبتّة، قال: هي تطليقتان يملك الرجعة.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف (في) «نوادره»: إذا شهد شاهد أنّه قال: إن دخلت هذه الدّار فامرأتي طالق، وشهد آخر أنّه قال: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدر فامرأتي طالق، فالشهادة باطلة؛ لأنّ الذي شهد بهذه أو هذه، وشهد أنّه إذا دخل غير الدّار التي شهد عليها صاحبه أنّه يقع الحنث، ثمَّ لا يقع الحنث بعد ذلك بدخول الدّار الأخرى التي شهد عليها صاحبه.
وفي كتاب الأقضية من «المنتقى»: إذا شهد شاهدان على رجل أنّه قال لامرأته: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق ثلاثاً، فالقاضي يسأل المرأة هل كلّمت فلاناً بعد ذلك اليمين، فإن قالت: نعم سمع من الشاهدين شهادتها، وإن قالت: لا، لا يسمع شهادتهما، وإن قالت: لا أدري وهناك شهود يشهدون كلامها سمع القاضي شهادتهم، فإذا شهد الشاهدان على اليمين وشهد آخران على الكلام بعد ذلك فرق بينهما، فإن كان حلف في ذلك بطلاق كلّ امرأة وله امرأة أخرى غائبة وحضرت بعدما نفذ الحكم فإنَّ القاضي يطلّقها في قول أبي يوسف، ولا يطلّقها في قول أبي حنيفة رحمهما الله حتّى يعيد الشهود الشهادة على اليمين والشهادة على الكلام.(3/762)
-----
وإذا شهد شاهدان عند المرأة بطلاقها، فهذا على وجهين: إن كان الزوج غائباً وسعها أن تتزوّج، وإن كان الزوج حاضر....... الطلاق لا يسعها أن تتزوّج، لكن لا يسعها أن تمكّن منه؛ لأنَّ في الوجه الأوّل لا يمكنها السؤال عن الزوج ... على أنّه في الوجه الثاني السؤال ممكن، فإذا جحد احتيج إلى القضاء بالفرقة، والقضاء بالفرقة إنّما يكون من القاضي بحضرة الخصمين.
وفي «فتاوى النسفي»: رحمه الله: إذا شهد الشهود على رجل أنَّ امرأته هذه محرّمة عليه بثلاث تطليقات، أو قالوا: حرام عليه بثلاث تطليقات ولم يقولوا: طلّقها ثلاثاً، قال: في الشهادة قصور، ولا بدّ من إضافة الطلاق إليه، وقال: لا قصور في الشهادة ولا حاجة إلى إضافة الطلاق إليه، وقال: لا، وهو الأشبه والأصوب.
وفيه أيضاً: إذا شهد شاهدان على رجل أنّه حلف بالطلاق أن لا يفعل كذا، وقد فعل وحنث في يمينه، فقيل: ينبغي أن لا تقبل الشهادة بدون لفظ اليمين؛ لأنّ الشاهد قد يظنّ الحنث في اليمين ولا حنث فيه.
وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود أنَّ هذه المرأة حرام على زوجها هذا لا تقبل شهادتهم؛ لأنّ الحرمة أنواع، حرمة بالإيلاء، وحرمة بالظهار، وحرمة بالطلاق، وأحكامه مختلفة، فلا بدّ من البيان، والله أعلم بالصواب.
الفصل العشرون: في طلاق المريض
إذا طلّق المريض امرأته طلاقاً رجعيّاً ورثت ما دامت في العدّة، ولو طلّقها طلاقاً بائناً أو ثلاثاً ثمَّ مات وهي في العدّة، فلو طلّقها فكذلك عندنا ترث، ولو انقضت عدّتها ثمَّ مات لم ترث.(3/763)
-----
والحاصل: أنّ الزوج بالطلاق في حالة المرض قصد إبطال حقّها؛ لأنّه قصد إبطال الزوجيّة، والزوجيّة من الوجه الذي هي متعلّق الإرث حقّها، فيرد عليه إبطاله، وذلك بإبقاء الزوجيّة من الوجه الذي هي متعلّق الإرث ما دام في إمكان الإبقاء ثابتاً، وما دامت العدّة باقية الإمكان ثابت؛ لأنّ الشرع ورد بتأخير عمل الطلاق إلى وقت انقضاء العدّة في كثير من الأحكام، فكذا في حقّ هذا الحكم، أمّا بعد انقضاء العدّة فالإمكان غير ثابت؛ لأنّ الشرع لم يرد بتأخير عمل الطلاق بعد انقضاء العدّة في حق حكم ما يعمل الطلاق عمله، وارتفع النكاح من كلّ وجه، فلهذا لا ترث، وهذا إذا طلقها من غير سؤالها.
فأمّا إذا طلّقها بسؤالها فلا ميراث لها. وكذلك إذا وقعت الفرقة بمعنى من قبلها فلا ميراث لها؛ لأنّا إنّما أبقينا النكاح في حقّ الإرث مع وجوب القاطع ديانة لحقّها، وقد رضيت ببطلان حقّها بسؤالها الطلاق وبّما يسرته بسبب الفرقة، فعمل القاطع عمله، وعن هذا قلنا: إنَّ امرأة العنين إذا (277ب1) اختارت نفسها في مرض الزوج فلا ميراث لها، وإذا جامعها ابن المريض مكرهة لم ترث؛ لأنّ الفرقة غير مضافة إلى الزوج، وبقاء الإرث بعد الفرقة بسبب الفرار، وذلك عند إضافة الفعل إليه، فإذا لم يوجد لا يبقى الميراث.
قال في «الأصل»: إلا أن يكون الأب أمر الابن بذلك ونقل فعل الابن إلى الأب في حقّ الفرقة، كأنّه باشر بنفسه فيصير فارّاً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قالت لزوجها: طلقني، فطلقها ثلاثاً ثمَّ مات وهي في العدّة ورثت استحساناً؛ لأنّها سألت الواحدة، وهو طلّقها ثلاثاً، فقد طلّقها بغير رضاها.(3/764)
-----
وحدُّ مرض الموت الذي يصير الزوج بالطلاق فيه فارّاً ولا يصحّ من المريض تبرعاً به: أن يكون صاحب فراش قد أضناه المرض، فأمّا الذي يجيء ويذهب في حوائجه فليس بمريض ولا فار، وإن كان يشتكي مع ذلك ويحم، هكذا ذكر محمّد رحمه الله، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» فقد شرط أن يكون صاحب فراش، وبه أخذ بعض مشايخ بلخ، وبعض مشايخ ما وراء النّهر رحمهم الله حتى إنَّ على قول هؤلاء: من أخذه وجع البطن لا يكون مريضاً مرض الموت.
واختلفوا فيما بينهم في معنى قوله: فأما الذي يجيء ويذهب في حوائجه، قال مشايخ بلخ رحمهم الله: أراد به الذهاب إلى حوائجه في البيت من مشيه إلى الخلاء، وأشباه ذلك. وقال مشايخنا رحمهم الله: أراد به الذهاب إلى حوائجه خارج البيت، حتّى إنَّ على قول مشايخنا رحمهم الله إذا أمكنه الذهاب إلى حوائجه في البيت ولكن لا يمكنه الذهاب إلى حوائجه خارج البيت فهو مريض وهو الصحيح.(3/765)
-----
فأمّا المرأة لا تحتاج إلى الخروج في حوائجها، فلا يعتبر هذا الجزء في حقّها، ولكن إذا كانت بحيث لا يمكنها الصعود على السطح فهي مريضة، وقد ذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» مسائل تدلُّ على الشرط الذي هو خوف الهلاك على طريق الغلبة، لا كونه صاحب فراش، فإنّه قال: إذا أخرج الرّجل للقصاص أو للرجم فهو في حكم المرض، وكذا قال: إذا بارز وخرج عن الصفّ فهو في حكم المريض. ولو كان محصوراً ومحبوساً في جزاء وقصاص أو واقعاً في صفّ القتال فهو في حكم الصحيح؛ لأنّ الهلاك غالب في الذي أخرج للقتل، أو أُخرج للبراز، وليس بغالب في المحبوس والواقف في صفّ القتال، والمرأة في حالة الطلاق في حكم المريض وإن لم تكن صاحبة فراش؛ لأنّ التلف في هذه الحالة غالب، ذكره «القدوري»، وإذا نزل في مسبعة أو ركب سفينة فهو في حكم الصحيح؛ لأنّ الهلاك في حقّها ليس بغالب، وإذا أخذه السبع بفمه، أو انكسرت سفينته وبقيت على لوح واحد فهو في حكم المريض؛ لأنَّ الهلاك في حقّه غالب.
وفي «الجامع الصغير» أيضاً ما يدلّ على أنّ الشرط خوف الهلاك على طريق الغلبة، فإنّه قال في المشلول والمقعد والمفلوج: ما دام يزداد منه فهو في حكم المريض؛ لأنّه ما دام يزداد منه من العلّة فالغالب أن آخره الموت، فإن صار قديماً لا يزداد فهو بمنزلة الصحيح؛ لأنّه لا يخلف عنه الهلاك غالباً، كذلك الموقوف على هذا، وبه أخذ بعض المشايخ رحمهم الله، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام ... رحمهما الله، ومن المشايخ من قال: إذا خرج للرجم فهو في حكم المريض، وإذا خرج للقصاص فهو في حكم الصحيح.(3/766)
-----
وفي «المنتقى»: أبو سليمان عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنَّ البارز طلاقه كطلاق الصحيح، وهذا خلاف ما ذكرنا في مسائل «الأصل»، ثمَّ في كلِّ موضع صار في حكم المريض وطلّقها ومات وهي في العدّة ورثت كان بهذه الجهة أو بجهة أخرى، هكذا ذكر في «الجامع الصغير»؛ لأنّه لمّا ثبت له حكم مرض الموت صار الموت الواقع عقيبه وعقيب سبب آخر مضافاً إليها، كالموت الواقع عقيب جرحين صالحين .... وإن كان التعاقب والترادف، ولهذا قال في «الأصل»: المريض الذي هو صاحب فراش إذا طلّق امرأته ثلاثاً ثمَّ قتل إنّها ترث.
ولو طلّقها ثلاثاً وهو مريض وهما لا يتوارثان ثمَّ صار الحال يتوارثان، نحو أن يكون أحدهما عبداً فيعتق، أو تكون المرأة كتابيّة فتسلم لم ترثه؛ لأنّ حكم الفرار لم يثبت بالإيقاع إذ النكاح لم يكن سبب الميراث في ذلك الوقت ولا شرطه، فلا يثبت حكم الفرار بعد ذلك.
ولو طلّقها ثلاثاً وهو مريض ثمَّ قبّلت ابن زوجها ثمَّ مات وهي في العدّة فلها الميراث. ولو ارتدت في عدّتها ثمَّ أسلمت فلا ميراث لها. والفرق: أنَّ بالارتداد خرجت من أن تكون أهلاً لاستحقاق الإرث، فبطل حقّها في الإرث فلا يعود بالإسلام، فأمّا التقبيل لم تخرج عن أهلية الوراثة؛ لأنّ أثر التقبيل في إثبات المحرميّة والمحرميّة لا تنافي الإرث، فلا تنافي بقاء النكاح في حقّ الإرث.(3/767)
-----
وإذا علّق الزوج طلاق امرأته بفعل نفسه ففعل ذلك الفعل وهو مريض، فهو فارّ، سواء كان التعليق في حالة الصحّة والشرط في حالة المرض، أو كان التعليق والشرط في حالة المرض، فلأنّه لمّا باشر الشرط مع علمه بوقوع الطلاق عنده لا محالة، وببطلان حقّها في الإرث صار كأنّه أوقع الطلاق في حالة المرض، ويستوي أن يكون فعلاً للزوج منه بُدٌّ كدخول الدّار، ولا بدّ له منه كالصلاة والكلام مع الأبوين؛ لأنَّ الفعل الذي لا بدَّ للزوج منه إن لم يكن جناية في حقّه فهو جناية في حقّها حيث إنّه يضرُّ بها ويبطل حقّها، وحقّها معصوم محترم في حقّ الزوج فيجعل اضطرار الزوج عدماً في حقّها، كتناول مال الغير عند الضرورة.
وإن حصل التعليق بفعل أجنبي إن حصل التعليق ومباشرة الشرط في مرض الزوج ورثت، وإن حصل التعليق في حالة الصحة لا ترث؛ لأنّه لم يوجد من الزوج حال تعلّق حقّها بماله لا مباشرة العلّة، ولا مباشرة الشرط، وكذلك الجواب إذا حصل التعليق بفعل سماوي كمجيء رأس الشهر وما أشبهه.
وإن حصل التعليق بفعلها إن كان فعلاً لها منه بدّ فإنّها لا ترث على كلّ حال؛ لأنّ مباشرة الشرط منها بلا ضرورة دلالة (الدّار) الرضا بوقوع الطلاق فنفذ الطلاق (277ب1) في حقّها، كما لو طلّقها بسؤالها.
وإن كان فعلاً لا بدّ لها منه إن كان التعليق في حالة المرض ترث بالإجماع؛ لأنَّ مباشرة العلة وجدت في حالة المرض بغير رضاها، ومباشرة الشرط منها لا يدلّ على الرضا بحكم هذه العلّة؛ لأنها مضطرّة في مباشرة هذا الشرط، فقد ابتليت بين بليتين فاختارت أهونهما، والعاقل يكون مضطراً باختيار أدون السوءين لدفع أعلاهما، فلا يثبت به الرضا بوقوع الطلاق.(3/768)
-----
وإن كان التعليق في حالة الصحّة والشرط في حالة المرض فإنها ترث في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله لا ترث؛ لأنّه لم يوجد من الزوج مباشرة العلّة في حالة المرض ولا مباشرة الشرط فلا يكون فارّاً كما لو حصل التعليق بفعل أجنبي.
ولهما: أنّ الشرط وجد من الزوج حالة المرض معنى. بيانه: أنّها محمولة من جهة الزوج على مباشرة هذا الشرط، فإنّها بسبب تعليقه ابتليت بين بليتين: أن تفعل هذا الفعل فيقع الطلاق عليها، وبين أن لا تفعل فتتضرّر بسبب الامتناع عن الفعل، إمّا في الدنيا بأن كان استيفاء مال، أو في الآخرة بأن كانت مبلوة......، أو كلام الأبوين، والمبتلى بين الشرّين يكون محمولاً على تحمّل أدناهما ودفع أعلاهما بحكم الطبيعة والعادة كالمبتلى بين قتل نفسه وبين قتل غيره يكون محمولاً على قتل الغير لهذا، وفعل المحمول مضاف إلى الحامل كما في الإكراه، وإذا أضيف فعل المرأة إلى الزوج صار كأن الزوج علق الطلاق في حالة الصحّة بفعل نفسه، وفعل ذلك في مرضه.
وإذا جعل طلاق امرأته إلى أجنبي في الصحّة فطلّقها في المرض، فإن كان التفويض على وجه لا يملك عزله، نحو أن يملكه لم ترث، وإن ملك عزله ورثت؛ لأنّه إذا ملك عزله لا يكون التفويض لازماً، وما لا يكون لازماً من التصرّف كان لبقائه حكم الإنشاء، فكأنّه أنشأ التفويض في المرض، وإذا لم يملك عزله كان التفويض لازماً، فلا يكون لدوامه حكم الإنشاء فلم يوجد في مرض الموت لا مباشرة نفس الطلاق ولا التفويض لا حقيقة ولا حكماً، فلا يثبت حكم الفرار.(3/769)
-----
وفي «المنتقى»: يقول: إذا أمر رجلاً في صحّته أن يطلّق امرأته ثلاثاً، فانطلق الوكيل إلى خراسان وطلّق امرأة الآمر، ووافق ذلك مرض الآمر فلا ميراث لها إذا كان الآمر في حال لا يستطيع أن يخرج الوكيل، وإن قدر على إخراجه فلم يخرجه فلها الميراث، قلت: وإخراج الوكيل عن الوكالة إنّما يصح إذا علم الوكيل بالإخراج والوكيل ها هنا غائب، فإنّما يثبت........ على الإخراج إذا كان الآمر بحال يخرجه ويعلمه بالإخراج.
وإذا قال: إن لم أفعل كذا فأنتِ طالق ثلاثاً، فلم يفعل حتّى مات ورثت إن كان دخل بها؛ لأنَّ الطلاق إنّما وقع في آخر جزء من آخر حياته؛ لأنّ عدم الفعل عنده يتحقّق وهو مريض في تلك الحالة، فيصير فارّاً، وإن ماتت هي ورثها؛ لأنّ شرط وقوع الطلاق عدم الفعل من الزوج، فإنّه لا يتحقّق بموتها فيَرث منها لبقاء النكاح.
ولو قال: إذا مرضت فأنتِ طالق ثلاثاً، مرض ثمَّ مات ورثته؛ لأنّ المتعلّق بالشرط كالمرسل عند وجود الشرط، فكأنّه قال بعدما مرض: أنتِ طالق ثلاثاً. وكان الفقيه أبو القاسم الصفّار رحمه الله يقول: ينبغي أن لا ترث؛ لأنّ الطلاق إنّما يقع أوّل المرض، وهو في تلك الحالة لا يكون صاحب فراش، والمرض الذي يوجب تعلّق حقّها بماله المرض الذي يصيبه ويجعله صاحب فراش.
إذا ارتدت المرأة وهي مريضة وماتت في العدّة فلزوجها الميراث، ولو ارتدت وهي صحيحة لم يرثها الزوج. والفرق: أنّ الردّة منها متى كانت في حالة المرض فالفرقة جاءت من قبلها بعدما تعلّق حقّ الزوج بمالها، فصارت قاصدة إبطال حقّه فارّة عن الميراث، فيردّ عليها قصدها ما أمكن، فأمّا إذا كانت الردّة منها في حالة الصحّة فالفرقة جاءت من قبلها في حال لم يتعلّق حقّ الزوج بمالها فلا تصير فارة قاصدة إبطال حقّه.(3/770)
-----
وإذا ارتدّ الزوج ورثت ما دامت في العدّة وإن كان الزوج صحيحاً؛ لأنّ ردّة الزوج توجب القتل فيصير الزوج بها على شرف الهلاك، فيصير كالمريض بسبب الرّدة، والفرقة موجبة الردّة، فحصلت الفرقة في حالة المرض معنى، فيصير الزوج بمباشرتها فارّاً، بخلاف ردّة المرأة؛ لأنّها لا توجب القتل، فلا تصير بمعنى المريضة إذا آلى منها وهو صحيح ثمَّ بانت بالإيلاء وهو مريض لم ترثه؛ لأنّه لم يباشر في مرض موته لا نفس الطلاق ولا شرطه، فلا يصير فارّاً.
ولو كان الإيلاء في المرض ورثت لمباشرته سبب الطلاق؛ لأنّ الإيلاء طلاق مؤجّل؛ لأنّ المولى في المعنى كأنّه قال: إنَّ مضى أربعة أشهر ولم أقربك فأنتِ طالق، أو قال لامرأته في مرضه: قد كنت طلقتك ثلاثاً في صحّتي، أو قال: جامعت أمَّ امرأتي أو أتيت امرأتي، أو قال: تزوّجها بغير شهود، أو قال: كان بيننا رضاع قبل النكاح، أو قال: تزوّجها في العدّة ونكرت المرأة ذلك بانت منه ولها الميراث إن مات وهي في العدّة.
إذا قال: طلقتك في صحتي فلأنه أقرّ بالطلاق في المرض، وادّعى الإسناد إلى حالة الصحّة، ولم يصدّق في دعوى الإسناد صيانة لحقّها في الميراث، بقي الإقرار بالطلاق في المرض، وأمّا إذا قال: جامعت أمّ امرأتي أو أتيت امرأتي، أمّا إذا قال: فعلت ذلك في المرض فظاهر؛ لأنّه باشر سبب الفرقة في المرض، وأمّا إذا قال فعلت في الصحّة فلأنّه لم يصدّق في دعوى الإسناد لما ذكرنا.v
بقي الإقرار بمباشرة بسبب الفرقة في المرض، فأمّا إذا قال: كان بيننا رضاع، أو قال: تزوّجتها في العدّة فلأنّه أقرّ بفساد النكاح من الأصل، والإقرار بفساد النكاح من الأصل من الزوج جعل إنشاء للحرمة في الحال، على ما عرف في كتاب النكاح.(3/771)
-----(3/772)
المحيط البرهانى
وإذا مات الرّجل فقالت المرأة: فإنّه كان طلقني ثلاثاً في مرض موته ومات وأنا في العدة ولي الميراث، وقالت الورثة: طلقك في صحّته ولا ميراث لك فالقول قولها؛ لأنّ (278أ1) الظاهر شاهد لها؛ لأنّها تدّعي بقاء النكاح بعد الموت في حقّ الميراث، والنكاح كان ثابتاً، والظاهر في الثبات البقاء، فكان الظاهر شاهداً لها.
وهذا بخلاف ما إذا قالت امرأة الرّجل بعد موته: قد كنت أعتقت قبل أن يموت زوجي ولي الميراث، وقالت الورثة: لا بل أعتقت بعد موته. أو قالت امرأة مسلمة * وهي يهوديّة أو نصرانيّة بعد موته : أسلمت قبل موته، وقالت الورثة بعد موته فالقول قول الورثة؛ لأنّ هناك الظاهر شاهد للورثة، العتق عارض والإسلام كذلك، والأصل في العوراض: أن يحال حدوثها على أقرب ما ظهر، أمّا ها هنا بخلافه.
وإذا طلّق امرأته ثلاثاً في مرض موته ومات وهي تقول: لم تنقضِ عدّتي قُبِلَ قولها مع اليمين وإن تطاولت المدّة؛ لأنّها أمينة أخبرت عما هو محتمل؛ لأنّ مدة العدة قد تطول، فإذا حلفت أخذت الميراث، وإن نلكت فلا ميراث له كما لو أقرت بانقضاء العدّة، ثمَّ أنكرت الانقضاء وإن لم تقل شيئاً ولكنها تزوّجت بزوج آخر في مدّة تنقضي في مثلها العدّة، ثمَّ قالت: لم تنقضِ عدّتي من الأوّل، فإنّها لا تصدّق على الثاني، وهي امرأة الثاني، ولا ميراث لها من الأوّل وجعل إقدامها على التزوّج إقراراً منها بانقضاء عدتها دلالة، ولو لم يتزوّج ولكن قالت: أيست من المحيض، وَاعْتَدَتُّ بثلاثة أشهر ثمَّ مات الزوج وحرمت عن الميراث ثمَّ تزوجت بعد ذلك بزوج وجاءت بولد أو حاضت فلها الميراث من الأوّل ونكاح الآخر فاسد.(4/1)
-----
ولو جاءت الفرقة من المرأة في مرضها أو في حال طلّقها ترث، ويرث الزوج منها؛ لأن حقّ الزوج يتعلّق بمالها في مرضها، كما أنَّ حقّ المرأة يتعلّق بما في مرضه، فكما يمنع الزوج عن إبطال حقّها، وتردّ عليه إبطاله في حقّها فكذا يردّ على المرأة إبطالها حقّ الزوج، ويبقى النكاح في حقّ ميراثه عنها.
فإنْ قيل: كيف يمكن إبقاء النكاح مع الردّة، والردّة تنافي النكاح. قلنا: الردّة تنافي الحلّ أما لا تنافي الميراث، فإنَّ المسلم يرث من المرتدّ فيمكن إبقاء النكاح في حقّ الميراث إن كان لا يمكن إبقاؤه في حقّ الحلّ.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: رجل قال لامرأتين له في مرض موته وقد.......: طلّقا أنفسكما ثلاثاً، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها في المجلس ثلاثاً ثمَّ طلقت الأخرى نفسها، وصاحبتها في المجلس ثلاثاً طلقتا ثلاثاً وترث التي طلقت أخيراً، ولا ترث التي طلقت أوّلاً.
هذا الجنس من المسائل ينبني على أصول:
أحدها: أنّ المرأة إذا باشرت علّة الفرقة أو شرط الفرقة لا ترث، وكذلك إذا باشرت أحد وصفي العلّة وهو آخرهما أو باشرت إحدى العلتين لا ترث، وهذا لأنّ الحكم يضاف إلى العلّة ثبوتاً بها وإلى الشرط وجوداً عنده، فتصير المرأة بمباشرة أحدهما راضية بوقوع الطلاق عليها مقروناً بسبب الطلاق، فلا ترث، وكذا إذا باشرت أحد وصفي العلّة وهو آخرهما وجوداً، وباشرت إحدى العلتين لما عرف أنّ الحكم يضاف إلى أحد الوصفين، وعند اجتماع العلل يضاف الحكم إلى كلّ علّة كأنّه ليس معها علّة أخرى كالقتل العمد الموجود من القاتلين وما أشبه ذلك، فتصير المرأة أيضاً راضية بالطلاق، ومتى باشرت بعض الشرط أو بعض العلَّة أو أحد وصفي العلّة * وهو ليس آخرهما وجوداً * ترث؛ لأنَّ الحكم لا يضاف إليه ثبوتاً به، ولا وجوداً عنده فيما باشرته، ولا تصير المرأة راضية بالفرقة.(4/2)
-----
وأصل آخر: أنّ الأمر بالطلاق في حقّ المرأة المأمورة بطلاق نفسها تمليك وتفويض حتّى يقتصر على المجلس، وقد مرّ بيان هذا فيما تقدّم.
وأصل آخر: أنّ المأمورين بالطلاق بغير بدل إذا لم يكن الأمر معلّقاً بمسببهما، أو ما أشبهه ذلك يتفرّد أحدهما به؛ لأنّه تصرّف لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير، فيكون الواحد والمثنى فيه سواء. إذا عرفنا الأصول جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا طلقت الأولى نفسها وصاحبتها ثلاثاً في المجلس طلقتا؛ لأنّهما أمرتا بالطلاق بغير بدل ولم يعلّق الأمر بشرط، فتنفرد إحداهما بالإيقاع، ومتى طلقت كلُّ واحدة ثلاثاً بإيقاع الأولى لغى إيقاع الثانية؛ لأنّ الطلاق لا يزيد على الثلاث ولا ترث التي طلقت أوّلاً؛ لأنها لم تباشر علّة الفرقة في حقّها، وترث التي طلقت آخراً؛ لأنّها لم تباشر علة الفرقة ولا شرط الفرقة ولا أحد وصفي علّة الفرقة وهو آخرها، أكثر ما فيه أنَّ قول الآخرة: طلقت نفسي ثلاثاً رضاً منها بوقوع الفرقة، إلا أنَّ هذا رضاً لا يقترن بوقوع الفرقة بل تأخّر عنه، ومثل هذا الرضا لا يبطل حقّها عن الإرث كما لو طلّق الزوج امرأته في مرضه بغير سؤالها، فسألته الطلاق بعد ذلك لا يبطل حقّها عن الإرث بهذا السؤال كذا هذا.(4/3)
-----
ولو خرج كلامهما معاً بأن قالت كلُّ واحدة منهما...؛ لأن وقوع الطلاق على كلّ واحد منهما بإيقاعها على نفسها؛ لأنّ كلّ واحدة منهما مطلقة نفسها بحكم الملك وصاحبها بحكم الوكالة، فاجتمع في حقّ كلِّ واحدة منهما تطليقها وتطليق صاحبتها ولا يمكن الجمع بينهما؛ لأنّ الطلاق لا يزيد على الثلاث، فلا بدَّ من تنفيذ إحداهما، فنقول: تنفيذ تطليق المالك أولى؛ لأنّ تطليق المالك أسبق لأنّ في التوكيل يحتاج إلى نقل عبارة الوكيل إلى الموكّل، وفي تصرّف المالك لا يحتاج إلى النقل، بل يتقيّد بنفسه فكان تطليق المالك أسبق من هذا الوجه، ولما كان وقوع الطلاق على كلّ واحدة منهما بإيقاع نفسها صارت كلّ واحدة منهما مباشرة علّة الفرقة، فلم يرثا لهذا.
وإن قالت كلُّ واحدة منهما: طلقت صاحبتي ونفسي، لم يذكر محمّد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» وحكي عن أبي الحسن الجقمي رحمه الله أنّهما يرثان، لأنّ كلَّ واحدة منهما إنّما طلقت بفعل صاحبتها، وفعل صاحبتها لا أثر له في حرمانها، وعامّة المشايخ رحمهم الله على أنّهما لا يرثان؛ لأنّ كلّ واحدة منهما إنّما طلقت بفعل نفسها.
بيانه: أنَّ أوّل الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يغيّر حكم أوّله، وقد وجد في آخر كلام كلّ واحدة منهما ما (278ب1) تغيير حكم أوله؛ لأنّ كلّ واحدة لو اقتصرت على قولها: طلقت صاحبتي تطلق كلّ واحدة بتطليق صاحبتها وترثان، فإذا .... قولها: ونفسي فإنما تطلق كلَّ واحدة منهما بتطليق نفسها لما مرَّ، فتوقّف أوّل الكلام من كلّ واحدة على آخره، فصار هذا وما لو قالت: كل واحدة: طلّقت نفسي وصاحبتي سواء.
ولو طلّقتها إحداهما بأن قالت إحداهما: طلّقت نفسي، وقالت الأخرى: طلقتك، طلقت هي ولا ترث؛ لأنها إنما طلقت بفعل نفسها، فقد باشرت علّة الفرقة وورثت الأخرى؛ لأنّها لم تطلق، بل بقيت منكوحة.(4/4)
-----
وإن طلقتهما إحداهما بأن قالت إحداهما: طلّقت نفسي وصاحبي طلقتا ولم ترث هي؛ لأنّها حرّمت بفعلها وورثت الأخرى؛ لأنّها حرمت بفعل غيرها، فإن قالت إحداهما: طلّقت صاحبتي ثلاثاً ثمَّ قالت صاحبتها بعد ذلك: طلّقت نفسي ثلاثاً ورثتا؛ لأنّ التي تكلّمت أوّلاً لم تطلق أصلاً والتي تكلّمت آخراً حرمت بفعل غيرها، وإن طلقت كلّ واحدة صاحبتها ورثتا؛ لأنّ كلَّ واحدة طلقت بفعل غيرها. وهذا كلّه إذا كانتا في المجلس.
فأمّا إذا قامتا عن المجلس ثمَّ طلقت كلّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً وخرج الكلامان منهما معاً أو على التعاقب طلقتا وورثتا؛ لأنّ الأمر والتفويض خرج من يد كل واحدة منهما بالقيام عن المجلس، وبقيت الوكالة فصار وقوع الطلاق على كلّ واحدة منهما مضافاً إلى صاحبتها على كلّ حال، فلذلك ورثتا، وكذلك لو طلقت كلّ واحدة منهما صاحبتها، ولو طلقت كلّ واحدة منها نفسها لا يقع الطلاق؛ لأنّ الأمر خرج من يد كلّ واحدة منهما في حقّ نفسها، وإذا لم يقع الطلاق بقيتا منكوحتين فترثان.(4/5)
-----
ولو قال لهما في مرضه: طلّقا أنفسكما ثلاثاً إن شئتما، وقد دخل بهما فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً لم تطلق واحدة منهما، بخلاف ما إذا قال: طلّقا أنفسكما ثلاثاً ولم يقل: إن شئتما، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها حيث تطلقان؛ لأنّ في هذه المسألة علّق التفويض بمشيئتهما، ولم يذكر لذلك سبباً، فانصرف السّابق ذكره وهو طلاقهما كأنه قال: طلّقا أنفسكما إن شئتما طلاقكما، وما شاءتا طلاقهما إنّما شاءت إحداهما ذلك. أمّا في المسألة الأولى التفويض غير معلّق بالشرط، وفي هذا ينفرد أحد المأمورين بالإيقاع، فلو أنّ في هذه المسألة طلقت الأخرى بعد ذلك نفسها وصاحبتها ثلاثاً قبل القيام عن المجلس طلقتا؛ لأنّهما شاءتا طلاقهما وورثت الأولى دون الأخرى، بخلاف المسألة الأولى، فإنَّ في المسألة الأولى ورثت الآخرة دون الأولى؛ لأنّ في المسألة الأولى الأولى ثابت بفعل نفسها، والآخرة ثابت بفعل الأولى، أمّا في هذه المسألة الأولى والآخرة ثابتان بفعل الآخرة؛ لأنّها باشرت أحد وصفي العلّة، فكان حريتهما مضافة إلى الآخرة فلهذا ورثت الأولى دون الآخرة.
ولو خرج كلامهما معاً وباقي المسألة بحالها طلقتا وورثتا؛ لأنّ كلّ واحدة منهما باشرت بعض العلّة ولم يوجد شيء من ذلك آخراً لينسب إليه، فلا يضاف الوقوع إلى واحدة منهما على سبيل الانفراد.
ولو طلقتا إحداهما لم تطلق، ولو قامتا عن المجلس وطلقت كلُّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها معاً أو على التعاقب لم يقع الطلاق على واحدة منهما؛ لأنّ الأمر كلّه معلق بالمشيئة فكان كلّه تمليكاً، فيبطل بالقيام عن المجلس.(4/6)
-----
رجل قال في مرض موته لامرأتين له وقد دخل بهما: أَمْرُكُمَا بيدكما، يريد به: الطلاق، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها في المجلس ثمَّ طلقت الأخرى بعد ذلك نفسها وصاحبتها في المجلس طلقتا، وورثت الأولى إن مات الزوج وهي في العدّة، ولا ترث الآخرة؛ لما مر في مسألة المشيئة في إضافة الحكم إلى الوصف الأخير، وذلك موجود في الآخرة.
وإن طلقتا إحداهما طلقت بخلاف مسألة المشيئة، فإنّ هناك إذا طلقتا إحداهما لا تطلق؛ لأنّ هناك فوّض الطلاق إليهما معلّقاً بشرط مشيئتهما طلاقهما، ولا يوجد هذا الشرط باجتماعهما على طلاق إحداهما، أمّا في هذه المسألة التفويض مطلق غير معلّق، لكن طلب الرأي والتدبير منها، فإذا اجتمعتا على طلاق إحداهما فقد وجد رأيهما، بعد هذا ينظر إن تكلمتا معاً ورثت المطلقة؛ لأنّ البينونة مضافة إليهما لا إلى المطلقة وحدها، وكذلك إن بدأت المطلقة بطلاق نفسها ثمَّ طلقتها الأخرى ترث أيضاً؛ لأنّ البينونة مضافة إلى صاحبتها لمباشرتها الوصف الأخير، وإن بدلت الأخرى ثمَّ المطلقة لم ترث المطلقة، وإن طلقتهما إحداهما لم يقع، فإن قامتا عن المجلس بطل ذلك كلّه يقع بعد ذلك طلاق بحال....... هذا الأمر.
ولو قال في مرضه لامرأتين له، وقد دخل بهما: طلّقا أنفسكما بألف درهم، فالأصل في هذا ما مر أنَّ الأمر بالطلاق في حقّ المأمورة بالطلاق تفويض، وفي حقّ صاحبتها توكيل، إلا أنَّ في هذه المسألة لا تنفرد إحداهما بالإيقاع؛ لأن الأمر بالطلاق على مال بالمعاوضة، والأصل في المأمورين بالمعاوضة أن لا ينفرد أحدهما بها على ما عرف.(4/7)
-----
إذا ثبت هذا فنقول: لو طلقت كلُّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها وخرج الكلامان معاً طلقتا لاجتماعهما على تطليق كلُّ واحدة منهما، ولا ترثان؛ لأنّ كلّ واحدة منهما إنما تلتزم البدل بمقابلة طلاق نفسها، لا بمقابلة طلاق صاحبتها، والتزام البدل بمقابلة طلاق نفسها يكون رضاً منها بطلاقها، والرضا بالطلاق مقارناً للطلاق يوجب حرمان الإرث، بخلاف الفصل الثاني والثالث؛ لأنّ هناك الرضا لم يثبت باعتبار وجوب البدل. لو ثبت إنّما يثبت باعتبار أنّها ثابت بفعلها، وكلُّ واحدة ثابت بفعلها وفعل صاحبتها فلا يثبت الرضا من كلّ وجه.
وكذلك إذا خرج كلامهما على التعاقب لا يرثان أيضاً؛ لأنّ امتناع الإرث ها هنا بسبب الرضا الثابت مقتضى البدل، وفي حقّ هذا المعنى لا تفاوت بينهما إذا خرج الكلامان معاً أو على التعاقب. وإن طلقتا إحداهما جاز ولم ترث المطلقة تكلمتا معاً أو على التعاقب، وإن قامتا عن المجلس قبل أن قولا شيئاً ثمَّ طلقتا (279ب1) أنفسها لم يقع شيء وورثتا.
قال في «الجامع الصغير»: إذا قال: طلقتك ثلاثاً في حجّتي، وانقضت عدّتك وصدّقته المرأة، ثمَّ أقرّ لها بدين أو أوصى لها بوصيّة فلها الأوّل من ذلك ومن الميراث. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: إقراره ووصيّته جائزة؛ لأن بتصادقهما ثبت الطلاق، وثبت انقضاء العدّة والتحقت هي بالأجنبيّات، ولهذا ثبت أحكام الأجنبيات في حقّها حتّى لو تزوّجت آخر يجوز، ويبطل حقّها في النفقة والسكنى، ويجوز وضع الزكاة فيها، وتقبل شهادته لها، والإقرار للأجنبي صحيح، والوصيّة له صحيحة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنّه تمكنت التهمّة في هذا التصادق، وشبهة الظلم في هذه الوصية يجوز أنهما تصادقا على ذلك ليبطل الميراث، فيصحّ الإقرار والوصيّة فيزداد حقّها، والنكاح سبب التهمة، فيعتبر تصادفهما في حقّهما ولا يعتبر تصادقهما في حقّ غيرهما؛ لأنّ التهمة تتأتى في حقّ غيرهما.(4/8)
-----
إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان الميراث أكثر من الوصيّة والمقرّ به فلا تهمة؛ إذ ليس فيه إبطال حقّ على الغير، فيعتبر تصادقهما فيه، وإذا كانت الوصية والمقرّ به أكثر ففي حقّ الزيادة تهمة، فلا يعتبر تصادقهما في حقّ الزيادة، وبدون تصديقها إيّاه لا يرتفع النكاح فيما يرجع إلى الطلاق حقّها في الإرث، فبقي الإرث، ومع بقاء الإرث لا يصحّ الإقرار والوصيّة، وأمّا ما ذكر من الأحكام قلنا: تلك الأحكام ثبتت بتصادقهما؛ لأنه لا تهمة فيها إذ ليس فيها ضرر على أحد بخلاف الإقرار والوصية.
فإن طلّقها في مرضه بأمرها ثمَّ أقرّ لها بدين أو أوصى لها بوصيّة فلها الأقلّ من الميراث ومن الوصية في قول علمائنا الثلاثة، وفي قول زفر: الإقرار والوصيّة لها جائز؛ لأنّ المانع من جوازهما الميراث، وقد بطل الميراث بسؤالها الطلاق، ولنا ما بيّنا من التهمة من حيث إنّه يجوز أنّها قصدت بالسؤال تصحيح الإقرار والوصيّة، فرددنا سؤالها لهذه التهمة، وأقيمت العدّة مقام النكاح في حقّ الحجر عن الوصية والإقرار، بخلاف المسألة الأولى على قولها؛ لأنّ ثمّة ثبت وقوع الطلاق في حالة الصحّة بتصادقهما، وثبت انقضاء العدّة محال، وما أقرّ سبب التهمة لم يوجد، وهو النكاح والعدّة، أمّا ها هنا بخلافه، وأبو حنيفة رحمه الله يجيب عن كلامهما في تلك المسألة، ويقول: الزوج متهم في إقراره بالطلاق في حالة الصحّة، فرددنا إقرارها في حقّ صحّة الإقرار والوصية بالزيادة.(4/9)
الفصل الحادي عشر: في التعليقات التي هي إيقاع في الحال معنى بطريق المجازات
-----
إذا قالت المرأة لزوجها: «بامه»، .... أو قالت ما «قلينان»، فقال الزوج: إن كنت أنا ...، فقال أو قال: إن كنت أنا «قلينان» فأنتِ طالق، فحاصل الجواب في هذه المسألة وأجناسها أنّ الزوج ينوي، إن أراد التعليق لا يقع الطلاق ما لم يكن كذلك، وإن أراد المكافأة والمجاراة «وفارسيّة حشم رادن» يقع الطلاق وإن لم يكن الزوج كذلك، ومعنى المجاراة بالعربيّة: أني طلقتك مجاراة على مقالتك هذه، ومعنى «خشم رايدن» بالفارسيّة: إنك أغضبتني بهذه المقالة «خشم فيويش باين طريق راندم كه طلاق دادمت»، وإن لم يكن للزوج نيّة تكلم المشايخ فيه والمختار للفتوى: أنّه إن كان في حالة الغضب يحمل على المكافأة والمجاراة، وإن لم يكن في حالة الغضب يحمل على التعليق وتكلّموا في تفسير القلينان فقيل: أن يكون عالماً بفجور امرأته راضياً به، وقيل أن يكون التلميذ الكبير إلى امرأته، وقيل أن يخلّيها مع الغلام البالغ.
ولو قال لها: إن علمت أنّي قلينان فأنتِ طالق، لا يقع الطلاق ما لم يقل: علمت أنّك «فرطبان»؛ لأنّه علق الطلاق بمعنى في قلبها، فيتعلّق بالإخبار عنه، كما في قوله: إن كنت تحبينني وأشباه ذلك، فإذا قالت لزوجها: يا سفلة، فقال الزوج: إن كنت أنا سفلة فأنتِ طالق وأراد به التعليق لا يقع الطلاق ما لم تكن سفلة.(4/10)
-----
وتكلّموا في معنى السفلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: الموت لا يكون سفلة بل السفلة هو الكافر، وعن أبي يوسف أنّ السفلة الذي لا يبالي ما قال وما قيل له، وعن محمّد بن الحسن رحمه الله: أنَّ السفلة الذي يلعب بالحمام، ويقال عن خلف بن الأيّوب رحمه الله: أنّ السفلة الذي يرفع الدلّة من الدعوة، وقيل: هو الذي لا يعطي النائبة في قُوّتِهِ، وعن أبي عبد الله البلخي: هو الذي يشتم أباه وأمّه ويقرأ القرآن في الطريق، وعن ابن المبارك: هو الذي يتسفّل لتعجرفه، وقيل هو الطفيلي، وقيل: هو الذي يختلف باب القضاة ، وقيل: هو الذي يطعم أهله مع الإمكان خبز الشعير ولحم البقر في موضع لا يعتاد ذلك.
وفي «المنتقى»: رواية مجهولة أنّ السفلة الخسيس في عقله ودينه، والساقط قد يكون على الحسب، وعلى ما وصفت لك من الخسيس في العقل والدّين، وقيل في تفسير «بي حميت»: أن لا يمنع امرأته عن كشف الوجه عن غير المحارم، وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أيضاً: أنّ الموت لا يكون بأحد أمور، ألا ترى أنّه يأتي بكلمة الشهادة، ويدعو في صلاته للمؤمنين والمؤمنات، وإذا قال لها: «آكرمن دوزجي أم ترا طلاق» لا تطلق؛ لأنه لا يدري هل هو «دوزخي» أم لا، فإن قيل: أليس أن كل أحد يدخل النّار، قلنا: المسلم بدخول النار لا يسمّى دورخيا، وإنَّ وطئه فيها مستعار.(4/11)
-----
إذا قالت المرأة لولدها: «أي ثلاثة زاده»، فقال الزوج: إن كان هو ثلاثة زاده فأنتِ طالق وأراد به التعليق لا تطلق في الحكم؛ لأنّه لا يعرف كونه ثلاثة زاده فيما بين النّاس، وإن علمت المرأة أنّه ربا طلقت ولا يسعها المقام معه، وقيل في تفسير الكرخي: أن يشهر به، ويضحك عليه، وهو ضعيف في رأيه، وقال الكرخي: من له امرأة عفيفة صالحة أراد أن يتزوّج عليها أخرى، قيل في تفسير (أبله ريش): أن تكون له لحية طويلة جاوزت عن الحدّ حتّى صارت عاراً، وقيل في تفسير «رغباريس» أن يكون له مع اللحيّة صدغان، والتامس: الذي لا يهتدي إلى الخير، ولا يسترشده.
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنّه سئل عن الكوسج فقال: بعد أسنانه، فإن (280أ1) كانت اثنتين وثلاثين، فهو ليس بكوسج؛ لأنّه إذا كان بهذه الصفة كان وافر الخدين، فإن كانت أسنانه ثمانية وعشرين فهو كوسج؛ لأنّه إذا كان بهذه الصفة كان ينضم الخدين، وقيل: إذا كنت لحيته خفيفة فهو كوسج؛ لأنّ الناس تعارفوا إطلاق اسم الكوسج على مثل هذا.
وقيل في تفسير الكشحان: هو الذي لا يبالي عمّا اتهمت زوجته بأجنبي، ومعناه: أنّه إذا سمع ذلك لا يغضب، ولا يتغيّر عن حاله، ولا يضربها ولا يلومها على ذلك، فأمّا إذا ضربها على ذلك فهو ليس بكشحان.
امرأة قالت لزوجها: إنّك تقنت ولا تجلب إليّ النفقة، فغضب الزوج وقصد ضربها، فقالت: ليس هذا بكلام عظيم، فقال الزوج: إن لم يكن عظيماً فأنتِ طالق وأراد التعليق، فقيل في الجواب: إنّ الزوج إن كان إذا قدر بحيث تكون هذه الشكاية إهانة به لا يقع الطلاق؛ لأنّ هذه الشكاية من قبل هذا الشخص تكون كلاماً عظيماً فأبت، وإن كان دون ذلك يقع الطلاق؛ لأنّ هذه الشكاية من مثل هذا الشخص لا تكون كلاماً عظيماً.(4/12)
الفصل الثاني والعشرون: في مسائل الرجعة
-----
إذا أراد الزوج أن يرجع امرأته فالأحسن أن يراجعها بالقول لا بالفعل؛ لأنّ صحّة المراجعة بالقول متفق عليها، وصحّة المراجعة بالفعل مختلف فيها، ويستحب أن يُعلمها بالرجعة، وإن لم تعلم جازت الرجعة عندنا استدامة للعلم وليست......، فكان الزوج بالرجعة متصرّفاً من خالص حقّه، وتصرّف الإنسان في خالص حقّه لا يتوقف على علم الغير، ولكن استحب الإعلام كيلا تقع في المعصية، فإنّها ربما تتزوّج إذا انقضت عدّتها بناءً على زعمها فتقع في المعصية.f
والجماع في العدّة رجعة، وكذلك التقبيل واللمس بشهوة، وكذلك النظر إلى الفرج بشهوة، وهذا لأنّه لو لم يجعل ذلك رجعة تظهر في الآخرة أنّه وطئها حراماً؛ لأنّها تبين عند انقضاء العدّة من وقت الطلاق، والتحرّز عنه ممكن بأن يجعل ذلك من الزوج دليل استدامة الملك بهذا الطريق، قلنا: إنّ البائع يشترط الخيار له إذا وطىء الجارية المبيعة في مدة الخيار كان ذلك منه استدامة ملكه، وإذا ظهر الكلام في الوطء ظهر في التقبيل واللمس والنظر إلى الفرج؛ لأنّ هذه الأشياء دواعي الوطء فيعطى لها حكم الوطء، وقيّد شيخ الإسلام النظر بالنظر إلى داخل الفرج، وأمّا النظر إلى دبرها موضع الجماع........ بغير شهوة لم يكن رجعة في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، هكذا ذكر القدوري؛ لأنّ هذا السبيل عنده لا يجري مجرى الفرج، ألا ترى أنّ الوطء فيه لا يوجب الحدّ عنده، فكان النظر إلى هذا الموضع والنظر إلى سائر الأعضاء سواء.
في «نوادر ابن رستم» عن محمّد رحمه الله: لا يصير النظر إلى الدّبر رجعة، ولا يصير رجعة إلا النظر إلى الفرج من داخل، ويكره أن يراها متجرّدة إذا لم يرد الرجعة، وكذلك يكره التقبيل واللمس بغير شهوة؛ لأنّه لا يأمن أن يشتهي، فيصير مراجعاً لها، وإذا لم يكن من قصده الرجعة يطلّقها من ساعته، فيؤدّي إلى تطويل العدّة عليها، وذلك منهيّ.(4/13)
-----
وإن كانت المرأة قبّلته بشهوة أو لمسته بشهوة، أو نظرت إلى فرجه بشهوة، فإن كان ذلك بتمكين من الزوج فهو رجعة، ومعنى تمكين الزوج ههنا: أنّ الزوج علم ذلك منها، فتركها حتّى فعلت ذلك، وإن فعلت ذلك اختلاساً لا بتمكين من الزوج ذكر شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده أنّ قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله: يصير مراجعاً، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنّ على قول أبي حنيفة رحمه الله يصير مراجعاً، وعن محمّد رحمه الله فيه روايتان، والظاهر من قول أبي يوسف أنّه مع أبي حنيفة رحمه الله تماماً تثبت الرجعة بفعلها إذا أقرّ الزوج أنّها فعلت ذلك بشهوة، فأمّا إذا أنكر الزوج الشهوة والمرأة ادّعت ذلك لا تثبت الرجعة، وكذلك لو شهد شهود أنّها فعلت ذلك بشهوة لا تثبت الرجعة؛ لأنّ بالرجعة الشهود لا يعرفون الشهوة إلا بقولها، وقولها غير مقبول إذا أنكر الزوج ذلك.
قال محمّد بن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمهما الله: لو شهد الشهود على القبلة واللمس بشهوة لا أقبل شهادتهم، فالشهوة غيب لا تجوز الشهادة عليها، وذكر في نكاح «الجامع»: أنّ الشهادة على اللمس والتقبيل بشهوة جائزة، وفي «القدوري»: أنّ فعل المرأة لا تثبت به الرجعة عند محمّد رحمه الله، وفي رواية ابن سماعة: أن فعلها رجعة إذا صدّقها الزوج في الشهوة، أو مات الزوج وصدّقها ورثة الزوج، فصار عن محمّد رحمه الله روايتان كما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.(4/14)
-----
قال في «نوادر ابن سماعة»: وكذلك لو قبلته وهو نائم أو معتوه، ثمَّ مات وصدّقها الورثة في الشهوة، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي»: أنّ المرأة إذا لمسته بشهوة، وأقرّ الزوج أنّها فعلت بشهوة فإنَّ أبا حنيفة رحمه الله قال: هذه رجعة، وإن نظرت إلى فرجه بشهوة فإنّي لا أحفظ فيها قولاً، وهو في القياس مثل ذلك، ولكن هذا فاحش قبيح لا يكون رجعة. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا لمس أو قبّل في الصلاة بشهوة فهو رجعة، ولا تفسد صلاته.
ولو كان الرّجل وإن نظر إلى الفرج من شهوة فهو رجعة، ولا تفسد صلاته، ولو كان الرّجل في الصلاة وما فعلت ذلك فالقياس على الرجعة أن تنقض صلاته، قال: والصلاة وما....... سواء يعني الرجعة، وهو في الصلاة أقبح، وقال أبو يوسف: إذا تركها تقبّله وتباشره فهذه رجعة في الطلاق ونقض للصلاة، وإن فعلته اختلاساً وهو........ لم يكن رجعة ولا نقضاً للصلاة، ولو ... أنّه وهو مكره ثمَّ تركها دائمة عليه، فهو رجعة لا نقضاً.
وفي «نوادر هشام» عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: إذا جامعتك فأنتِ طالق، فجامعها قال: قال أبو يوسف: إذا أخرج ذكره ثمَّ أدخله فهو رجعة، وكذلك إذا قال لها: إن لمستك فأنتِ طالق، فلمسها فإذا رفع يده عنها ثمَّ أعادها فلمسها ثانياً فهو رجعة، فقال محمّد رحمه الله: إذا مكث هنيهة بعد ما جامع وإن لم يخرج ذكره فهو رجعة، وكذلك في اللمس (280ب1) إذا لم يرفع يده هنيهة.(4/15)
-----
والخلوة بالمعتدة ليست برجعة، لأنَّها لا تختص بالملك، وكلّ فعل لا يختص بالملك بالمعتدة إذا فعل الزوج لا يكون رجعة، وتعليق الرجعة بالشرط باطل؛ لأنّ الرجعة استدامة ملك النكاح فيعتبر بابتدائه، وليس في الرجعة مهر ولا عوض لما ذكرنا أنّ الرجعة استدامة الملك. والعوض يقابل ثبوت الملك لا استدامته، والمعتدة من الطلاق الرّجعي تتزين لزوجها إذا كانت المراجعة مرجوة، فأما إذا كانت المرأة تعلم أنّها لا يراجعها لشدة غضبه عليها فإنّها لا تفعل ذلك، وإذا كان من شأنه أن لا يراجعها فالأحسن أن يعلمها بدخوله عليها إمّا بالتنحنح أو تحقق الفعل؛ لأنّ الدخول عليها ليس بمباح ولكن لأنّ المرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها فربّما يراها متجرّدة، ويكره له أن يراها متجرّدة إذا لم يكن من شأنه الرجعة.
وإذا كان الطلاق بعد الخلوة والزوج يقول: لم أدخلها فلا رجعة له عليها، فالخلوة ما أقيمت مقام الوطء في حقّ المراجعة؛ لأنّ ذلك حقّ الزوج.
ادّعى الزوج الدخول بها وقد خلا بها، فله الرّجعة، وإن لم يكن خلا بها فلا رجعة له. وإذا قال لمعتدته: راجعتك أمس، وكذبت فالقول قوله، ولو كان ذلك بعد انقضاء العدّة، فالقول قولها؛ لأنّ في الفصل الأول. .... تملك استئنافه في الحال، فلا يتهم بالكذب، ولا كذلك في الفصل الثاني ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: عليها اليمين.(4/16)
-----
ولو قال لها: راجعتك فقالت مجيبة له: قد انقضت عدّتي، فالقول قول الزوج عندهما، والقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله مع اليمين وإنّما وجبت اليمين عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان الاستحسان لأجل النكول، والنكول بدل عند أبي حنيفة رحمه الله والبدل لا يجرىء في الانقضاء؛ لأنّها أمينة في الإخبار عمّا في رحمها، والأمينة تستحلف لنفي التهمة، فإذا نكلت عن اليمين فقد حقّقت التهمة فلم يبق قولها حجة مكان التهمة، فبقي حقّ الرجعة لانعدام دليل الانقضاء، لا بسبب النكول الذي هو بدل عند أبي حنيفة رحمه الله، فأمّا إذ قال لها: طلقتك، فقالت مجيبة له: قد انقضت عدّتي، فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، منهم من قال: القول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: القول قول الزوج كما في تلك المسألة، ومنهم من قال: القول قولها بالاتفاق في هذه المسألة، ولا يقع الطلاق، ومنهم من قال: القول قول الزوج بالاتفاق، ويحكم بوقوع الطلاق، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهو الأصح.
إذا قال لمنكوحته: إن راجعتك فأنتِ طالق، ينصرف يمينه إلى الرجعة الحقيقيّة لا إلى العقد حتى (إن) طلّقها ثمَّ تزوجها لا تطلق ولو راجعها تطلق.
ولو قال لأجنبيّة: إن راجعتك فعبدي حرٌّ ينصرف يمينه إلى العقد؛ لأنّ في الأجنبيّة العمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى المجاز، وفي المنكوحة العمل بالحقيقة ممكن فلا ينصرف يمينه إلى المجاز.
إذا تزوّج المطلقة طلاقاً رجعيّاً يصير مراجعاً لها، وقال الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأوّل من «واقعاته»: هو المختار؛ لأنّ العمل بحقيقة الرجوع إن لم يكن أمكن العمل بمجازه بأن يجعل مجازاً عن الرجعة. وكتبت في «المستزاد» أنَّ على قول محمّد رحمه الله يصير مراجعاً، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصير مراجعاً.(4/17)
-----
قال لمطلقته طلاقاً رجعيّاً: أنت عندي كما كنت، أو قال: أنت امرأتي، فإن نوى الرجعة يصير مراجعاً، وإن نوى في حكم الميراث وغيره أو لم تكن له نيّة لا يصير مراجعاً في هذا الموضع أيضاً.
قال لمطلقته طلاقاً رجعياً: إن راجعتك فأنتِ طالق ثلاثاً، فانقضت عدّتها ثمَّ تزوّجها لا تطلق ولو كان الطلاق بائناً تطلق، لأنّ في الوجه الأوّل: المحلّ يقبل حقيقة الرجعة فانصرفت إليه ولم يوجد، وفي الوجه الثاني: لا تقبل فانصرفت إلى الرجعة مجازاً وهو النكاح.
رجل طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً، فذهب إلى بيت أبيها، فقال الزوج: «إن رقية بارا وردمت» إن عنى به الرجعة يصحّ.
وفي «فتاوى الأصل»: إذا طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً ثمَّ راجعها وقال: زدّت في مهرك لا يصحّ لأن الزيادة مجهولة، ولو قال: راجعتك بهذا ألف درهم إن قبلت المرأة ذلك صحّ وما لا فلا؛ لأنّ هذه زيادة في المهر فيشترط قبولها، وهذا بمنزلة ما لو جدّد في النكاح، وإذا انقضت العدّة فقد بطل حقّ المراجعة، وإنّما يعرف انقضاء العدّة: إذا كانت المرأة من ذوات الأشهر، بأن كانت آيسة أو صغيرة بمعنى ثلاثة أشهر، وإن كانت من ذوات الأقراء فإن كان حيضها عشراً فجرى انقطاع الدّم، وإن كان أيّام حيضها أقلّ من عشرة فحين تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل، بل تيمّمت بأن كانت مسافرة لم تنقطع الرجعة لمجرّد التيمم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا إذا صلّت به، وقال محمّد وزفر رحمهما الله:تنقطع الرجعة بمجرّد التيّمم، فإن شرعت في الصلاة لا يحكم بانقطاع الرجعة عندهما ما لم تفرغ من الصلاة، هو الصحيح من مذهبها، وإن تيّممت وقرأت القرآن أو مسّت المصحف أو دخلت المسجد ففيه اختلاف المشايخ رحمهم الله، وفي «القدوري»: وأمّا...... فالرجعة في حقّها تنقطع بمجرّد انقطاع الدّم وإن كان أيّام حيضها دون العشرة.(4/18)
-----
ولو اغتسلت المعتدة وبقي عضو واحد لم يصبها الماء فالرجعة قائمة استحساناً ثمَّ قال في بعض النسخ: سواء كان الباقي يداً أو رجلاً أو شعراً، فقد سوّى بين الشعر وغيره، قال بعض مشايخنا رحمهم الله: المراد منه منابت الشعر وأصله لا أطراف الشعر.
وقال بعضهم رحمهم الله: المرادكلّ الشّعر بناءً على أنَّ الجنب أو الحائض إذا اغتسل وأصاب الماء منابت الشعر وأصله إلا أنّه لم يصل أطرافه هل يكفها ذلك من الاغتسال؟ ففيه اختلاف المشايخ، وعن أبي حنيفة رحمهم الله فيه روايتان، وإن كان أقلّ من ذلك يعني أقلّ من العضو، وذلك نحو الأصبع واللمعة فلا رجعة استحساناً. والفرق: أنَّ انقطاع الرجعة معلّق بالاغتسال، ولم يتمّ الاغتسال في الفصل الأوّل بيقين؛ لأنّ العضو الكامل لا يتسارع إليه الجفاف من الأعضاء، ولا يغفل الإنسان عن معرفة حاله عادة، فدلّ الجفاف على عدم وصول الماء إليه، فلا يتمّ الاغتسال؛ لأنّ اللمعة يتسارع إليها الجفاف قبل سائر الأعضاء، فيحتمل أنّ الماء وصل إليها فتنقطع الرجعة، ويحتمل أنّه لم يصل فلا تنقطع الرجعة، فيعتبر الماء واصلاً إليها في حقّ انقطاع الرجعة دون إباحة الصلاة، وإباحة تزوّج آخر احتياطاً حتّى لو تيقّنت هي بعدم وصول الماء إليها بأن منعت عنها قصداً لا تنقطع الرجعة، بخلاف العضو الكامل على ما مرّ، ولو تركت المضمضة والاستنشاق فالرجعة قائمة عند أبي حنيفة، وقالا: تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج، فإن كان الباقي أحد المنجزين فالرجعة باقية بالاتفاق.(4/19)
-----
وفي «القدوري»: لو اغتسلت بسؤر الحمار فقد انقطعت الرجعة، ولا تحلّ للأزواج، وإذا طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً فليس له أن يسافر بها، والسفر بها ليس برجعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنّه لا يختص بالملك، وليس لها أن تخرج بنفسها أيضاً لسفر وما دونه سواء؛ لأنّ النصّ المحرّم بخروجها مطلق غير مقيّد بالسفر، قال الله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) والمراد من النصّ الطلاق الرجعي، بدليل ساقه وهو قوله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) إلى قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ}.(4/20)
-----
قال في «الجامع الصغير»: وإذا طلّق امرأته وهي حامل أو ولدت منه، وقال لمّا جامعها فله عليها الرجعة لأنّا قضينا ببيان النسب منه وبيان النسب منه دليل وجود الوطء منه، فيثبت الوطء منه حكماً بدليل شرعي، فإذا وجد الوطء منه تأكّد الملك في الرجعي، والملك المتأكّد في الرجعي لا يبطل بنفس الطلاق، فتثبت الرجعة، وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب»: أو ولدت منه معناه ولدت منه قبل الطلاق، أمّا إذا ولدت منه بعد الطلاق تنقضي العدّة بالولادة فلا تتصوّر الرجعة.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: إذا ولدت فأنتِ طالق، فولدت ثم أتت بولد آخر لأكثر من سنتين من ولادة الولد الأوّل ولم تقرّ بانقضاء العدّة فهو رجعة، وكذلك إذا جاءت به لأقل من سنتين من ولادة الولد الأول ولكن لأكثر من سنتين أو لستة أشهر فهو رجعة، أما الفصل الأول لأنها لما جاءت بولد آخر لأكثر من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة يجعل الزوج واطئاً إيّاها في العدّة؛ لأنها مسلمة، والظاهر أنّ المسلمة العاقلة لا تزني، فلا يجعل ولد الزنا من زوج آخر؛ لأنّها لم تقرّ بانقضاء العدّة، وأمكن أن يجعل منه بوطء في العدّة، فيجعل كذلك، ويصير بذلك الوطء مراجعاً.
وأمّا الفصل الثاني: فلأنّه لا يمكن أن يجعل هذا الولد من علوق سابق على الطلاق؛ لأنّا متى جعلنا هكذا صار مع الولد الأوّل بطناً واحداً، وفي ثبوت اتحاد البطن شكّ إذا كان بين الولدين ستة أشهر فصاعداً، ولا يثبت الاتحاد بالشك، فصار الولد الثاني من علوق حادث بعد الطلاق فيكون رجعة.(4/21)
-----
وذكر في كتاب الدعوى: أنّ المطلقة طلاقاً رجعيّاً إذا جاءت بولد لأكثر من سنتين كان رجعة، فإن جاءت به لأقلّ من سنتين لا تكون رجعة؛ لأنها إذا جاء بالولد لأقلّ من سنتين احتمل العلوق بعد الطلاق فيكون رجعة، واحتمل العلوق قبل الطلاق فلا يكون رجعة فلا تثبت الرجعة بالشك، فأمّا في مسألتنا هذه: هذا الاحتمال ساقط الاعتبار، لأنّ في مسألتنا ولدت ولدين، فلو لم يجعل الثاني وعلوق حادث صار مع الولد الأوّل بطناً واحداً، وفي اتحاد البطن شك على ما مر، فصار العلوق الثاني من وطء حادث بعد الطلاق فيكون رجعة.
وفي «الأصل»: إذا قالت المطلقة طلاقاً رجعيّاً: أسقطت سقطاً مستبين الخلق أو بعض الخلق صدقت، ولا رجعة عليها. ولو قالت: ولدت لا يقبل قولها إلا ببيّنة، فإن طلب الزوج يمينها بالله لقد أسقطت سقطاً بهذه الصفة تحلف بالاتفاق، هو الصحيح؛ لأنّ هذا ليس استحلافاً على الرجعة.
إذا قال بعد مضي شهرين: قد انقضت عدّتي بالحيض، فقال الزوج أخبرتني أمس أنّها لم تحض، فإن صدّقته ملك الزوج الرجعة، وإن كذبته فالقول قولها مع اليمين، والله أعلم بالصواب.(4/22)
الفصل الثالث والعشرون: في مسائل الظهار وكفارته
-----
يجب أن تعلم بأنّ ركن الظهار تشبيه منكوحته بظهر أمّه، بأن يقول لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمّي، فإنه لا يصح الظاهر؛ لأنّ حكم الظاهر ثبت بالنصّ والنصّ خاص في حقّ المنكوحات، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَتِهِمْ إِنْ أُمَّهَتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2) وأن تكون المشبه بها محرّمة حرمة مؤبدة، حتّى لو شبّهها بالمحرمة حرمة مؤقتة كالمطلقة ثلاثاً لا يصحّ الظهار؛ لأنّ الأصل في هذا الباب التشبيه بالأم، وحرمة الأمّ ثابتة على سبيل التأبيد، وإذا شبّهها بذوات محارمة كالعمّة والخالة والأخت أو أشبّاههن ممن حرمت عليه برضاع أو صهرية، كأم المرأة وامرأة الأب كان مظاهراً لأن حرمة هؤلاء مؤبّدة.
ولو شبّهها بأخت امرأته أو بامرأةٍ لها زوج أو مجوسيّة أو مرتدة لم يكن مظاهراً؛ لأن حرمة هؤلاء غير مؤبدة. ولو شبهها بامرأةٍ زنى بها أبوه أو ابنه فهو مظاهر في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد: لا يكون مظاهراً، وهذا بناءً على أنّ حاكماً لو حكم بجواز نكاحها لم ينفذ في قول أبي يوسف، وقال محمّد رحمه الله: ينفذ.(4/23)
-----
وجه البيان: أنّ عند أبي يوسف لمّا لم ينفذ حكم الحاكم علم أنَّ الحرمة مؤبدة نظير حرمة الأم، وعند محمّد لمّا نفذ حكم الحاكم علم أنّ الحرمة مؤقتة، فلا يكون نظير حرمة الأمّ قول أبي يوسف: أنّ الحكم بجواز نكاح هذه حكم بخلاف النصّ، قال الله تعالى {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآء سَبِيلاً} (النساء: 22) والنكاح عبارة عن الوطء. وجه قول محمّد رحمه الله: أنّ العلماء اختلفوا في حرمة هذه المرأة فكان الحكم بجواز نكاحها حكماً في محلّ مجتهد فيه، والنكاح كما يذكر ويراد به الوطء يذكر ويراد به العقد بل إرادة العقد فيه أغلب في العرف، فلم يكن هذا حكماً بخلاف النصّ.
ولو قبّل أجنبيّة بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثمَّ شبّه زوجته بابنتها لم يكن هذا مظاهراً في قول أبي حنيفة رحمه الله، ولا يشبه هذا الوطء وقال أبو يوسف رحمه الله: يكون مظاهراً (281أ1)، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الحرمة بالوطء ثابتة بالنصّ كما قال أبو يوسف رحمه الله في المسألة المتقدّمة، وبالتقبيل والنظر يثبت باعتبار الإلحاق بالمنصوص عليه لكون هذه الأشياء وسيلة إلى الوطء، فكانت هذه الحرمة أضعف من تلك الحرمة بالنّظر إلى الفرج منصوص عليه قال عليه السلام: «ملعون من نظر إلى الفرج .... امرأة، وابنتها»، فكانت هذه الحرمة نظير الحرمة الثانية بالوطء، وعلى هذا الاختلاف رجل مسّ جاريته ثمَّ قال أبوه لامرأته: أنتِ عليّ كظهر هذه الجارية.(4/24)
-----
وإن كان الرجل قد جامعها وباقي المسألة بحالها فهو مظاهر بلا خلاف، وحكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية الكفارة مع بقاء أصل الملك، عرف ذلك بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَتِهِمْ إِنْ أُمَّهَتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2) وبقوله عليه السلام لسلمة بن محمد حين ظاهر من امرأته، ثمَّ واقعها قبل الكفارة «استغفر الله ولا تعد حتّى تكفّر».
وأهل الظهار من كان من أهل التحريم والكفارة حتّى لا يصحّ ظهار الصبي والمجنون (لأنهما) ليسا من أهل التحريم كما في الطلاق، وكذلك ليسا من أهل وجوب الكفارة عليهما.
والذمي ليس من أهل وجوب الكفارة عليه إن كان من أهل التحريم؛ لأنّ الكفارة عبادة بدليل أنّها تُفادى بالصوم عبادة، والذمي ليس من أهل العبادة.
ولا تكون المرأة مظاهرة من زوجها؛ لأنّ موجب الظهار التحريم كالطلاق، والطلاق يختص بالزوج وكذا الظهار، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنّه يلزمها الظهار كفارة؛ لأنّ المعنى في جانب الرجل تشبيه المحلّلة بالمحرّمة، وهذا المعنى موجود في جانب المرأة؛ لأنّ الحل مشترك بينهما، وقال الحسن: تلزمها كفارة اليمين؛ لأنّ هذا من المرأة بمنزلة تحريم الزوج على نفسها، وتحريم الحلال يمين، وذكر في بعض المواضع الخلاف بين أبي يوسف والحسن رحمهما الله على عكس هذا.
وإذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي لم يكن إلا ظهاراً ونوى الطلاق، أو لم ينوِ شيئاً، وأمّا إذا لم ينوِ شيئاً أو نوى الظهار فكأنّه صرح في الظهار، وأمّا إذا نوى الطلاق فلأنّ حكم الطلاق منسوخ في هذا الباب، ونيّة المنسوخ باطلة.A(4/25)
-----
ولو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي فهو مظاهر، ولو قال: كظهر ابنتك فلانة يريد به ابنتها من غيره، وإن كان دخل بامرأته فهو مظاهر، وهذا بناءً على ما عرف في كتاب النكاح أن الأمّ تحرم بمجرّد عقد البنت و (البنت) لا تحرم بمجرّد عقد الأم.
ولو قال: أنتِ عليّ كأمّي أو قال: أنتِ عليّ مثل أمّي، فإن نوى ظهاراً أو طلاقاً فهو على ما نوى؛ لأنّه ليس بصريح في الظهار ولا في الطلاق، ولكن يحتمل الظهار بأن قصد تشبيهها بالأمّ في الحرمة كذباً، ويحتمل الطلاق بأن قصد إيجاب الحرمة دون الكذب، فأيّ ذلك نوى حجب بيّنته، فإن أراد به اليد والكرامة لا تلزمه؛ لأنّ ما نواه محتمل، ومعناه: أنتِ عندي في استحقاق البرو الكرامة كأمّي، وإن لم يكن له نيّة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله هو ليس بشيء؛ لأنّ هذا الكلام يحتمل معنى البرّ والكرامة، وهو أولى فيحمل عليه أخذاً...... وقال محمّد رحمه الله هو ظهار؛ لأنّ في التشبيه بجميع الأم تشبيه بظهارها وزيادة، ثمَّ ذاك ظهار بلا نيّة، فهذا كذلك.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: إذا كان في غضب فهو يمين، إن تركها أربعة أشهر ولم يقربها بانت منه بتطليقة؛ لأنّ في حمل كلامه على الطلاق حمله على الصدق، وفي حمله على الظهار حمله على الكذب، فكان الأوّل أولى، وعنه رواية أخرى: أنّه إذا كان في غضب فهو على الظهار.
وعن محمّد رحمه الله إذا قال: أنت مثل أمّي يريد به التحريم، فهو ظهار وإن لم يكن له نيّة فهو باطل، وفرق بين هذا وبينما إذا قال لها: أنتِ عليّ مثل أمّي.(4/26)
-----
وعنه أيضاً: إذا قال لها أنتِ أمّي يريد الطلاق فهو باطل؛ لأنّه كذب، وكذلك إذا قال لها: إن فعلت كذا فأنتِ أمّي يريد به التحريم ثمَّ يفعل ذلك وهو باطل، ولو قال لها: أنتِ عليّ حرام كأمّي، فإن نوى الطلاق كان طلاقاً، وإن نوى الظهار أو نوى التحريم لا غير أو لم تكن نيّة فهو ظهار؛ لأنّ معنى البرّ انتفى بقران التحريم بحرف التشبيه، فبقي احتمال الظهار والطلاق، فأيُّ ذلك ينوي صحت نيّته، وعند عدم النيّة يحمل على الظهار؛ لأنّه أدنى.
ولو قال لها: أنتِ عليّ حرام كظهر أمّي فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: ظهار على كلّ حال، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: إذا نوى الطلاق أو نوى الإيلاء فهو على ما نوى؛ لأنّ لفظة التحريم يشترك فيه الإيلاء والطلاق، فأيّهما نوى صح وصار قوله: كظهر أمّي مؤكداً لما نوى، ولأبي حنيفة رحمه الله: أنّ التشبيه بظهر الأم محكم في الظهار، وقوله: أنتِ عليّ حرام يحتمل في نفسه، والجملة واحد وردّ المحتمل إلى المحكم في الكلام الواحد أولى من ردّ المحكم إلى المحتمل.
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنتِ عليّ حرام كظهر أمّي، فأراد بالحرام الطلاق أَلْزَمْتُهُ الطلاق ولا أصدّقه في إبطال الظهار؛ لأنّ هذا الكلام صريح في الظهار فهو بنيته يريد حرف الكلام عن ظاهره، وليس له هذه الولاية فيلزم به، وكذلك إذا أراد بالحرام اليمين ألزمه اليمين ولا أصدّقه في إبطال الظهار، فيكون مولياً ومظاهراً.(4/27)
-----
ولو قال لامرأته: أنتِ عليّ كفرج أمّي ولا نيّة له فهو ظهار. وهكذا ذكر في «الجامع الصغير»، لأنّ هذا التشبيه فوق التشبيه بظهر الأم يلزمه لفرجها على ظهرها في الحرمة، وهذا دليل على أنّ حكم الظهار لا يختص بالتشبيه بظهر الأم، وهكذا ذكر القدوري، والمذكور في «القدوري»: إذا شبّه امرأته بعضو في أمّه إن كان لا يجوز النظر إليه كالبطن والفخذ والفرج فهو ظاهر، وفي موضع آخر قال: ويشترط أن يكون ذلك العضو يعبّر به عن جميع البدن؛ لأن الأصل في الظهار التشبيه كظهر الأم، وظهر الأم عضو لا يجوز النظر إليه، ويعبّر به عن جميع البدن بكلّ عضو لا يجوز النظر إليه، ويعبّر عن جميع البدن كان ملحقاً بالظّهر في حقّ هذا الحكم وما لا فلا.
ولو شبّه عضواً في امرأته بظهر أمّه فإن شبّه عضواً يعبّر به عن جميع البدن بظهر أمّه، أو شبّه جزءاً شائعاً من امرأته بظهر امرأته فهو مظاهر، وإن شبّه عضواً من امرأته لا (281ب1) يعبّر به عن جميع البدن كاليد والرجل لا يصير مظاهراً عندنا، والكلام فيه نظير الكلام في الطلاق.
وفي القدوري: إذا قال لها: أنا منك مظاهر أو ظاهرت منك وعنى الإيجاب، فهو مظاهر، وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: لو قال لها: أنتِ منّي مظاهر، فهو باطل. ولو قال لها: أنتِ منّي كظهر أمّي أو عندي أو معي فهو مظاهر؛ لأنّ هذه الحروف يُقام بعضها مقام البعض.
ولو ظاهر مدّة معلومة يوماً أو شهراً عن مضي الوقت سقط الظهار عندنا، فالأصل عندنا: أنّ الظهار كما يصحّ مطلقاً يصح مؤقتاً؛ لأنّ حكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية الكفارة شرعاً، وكذلك دليل على قبول التأقيت من قبل الزوج وبه فارق الطلاق.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي غداً، أو بعد غدٍ فهو ظاهر واحدة، ولو قال: أنتِ عليّ كظهر أمّي غداً ولها إذا جاء بعد غد فهما ظهاران، إن كفّر اليوم لم يجز عن الظهار الذي يقع بعد الغد.(4/28)
-----
وفيه أيضاً: إذا قال لها أنتِ عليّ كظهر أمّي رمضان كلّه ورجب كلّه، فكفّر في رجب سقط عنه ظهار رجب وظهار رمضان استحساناً والظهار واحد، وإن كفّر في شعبان لم يجزه؛ لأنّه كفّر وهو غير مظاهر. قال أرأيت لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي أبداً إلا يوم الجمعة ثمَّ كفّر، إن كفّر عن يوم الاستثناء لم يجزه، وإن كفّر في اليوم الذي هو مظاهر فيه أجزأه عن الكل، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لها أنتِ عليّ كظهر أمّي إلى شهر، قال: لا يكون مظاهراً قبل مضيّ الشهر وإذا مضى صار مظاهراً.
ومما يُحرِّم الوطء على المظاهر إلى غاية الكفارة، فكذا تحرم الدواعي نحو المسّ، والتقبيل وما أشبه ذلك، وروى ابن رستم عن محمّد رحمهما الله: إذ قال: يقبّل المظاهر امرأته بغير شهوة إذا قدم من السفر كما يقبّل أمّه، ويصحّ تعليق الظهار بالشرط؛ لأنّ الظهار يسبّب الحرمة فكان نظير الطلاق، فيصحّ تعليقه بالشرط كما يصح تعليق الطلاق بالشرط.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي رأس الشهر، ولو علّق الطلاق بشرط ثمَّ أبانها ثمَّ وجد الشرط لا يثبت الظهار؛ لأنَّ المعلّق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل.
ولو أرسل الظهار بعد البينونة لا يصحّ؛ لأنّ حكم الظهار حرمة مؤقتة، وسببه تشبيه المحلّلة بالمحرّمة، وكل ذلك لا يتصوّر بعد ثبوت الحرمة بالبينونة، وهذا بخلاف ما لو علّق البينونة بالشرط ثمَّ أبانها، ثمَّ وجد الشرط حيث يقع الطلاق؛ لأنّ البينونة إذا صحّ تعليقها بالشرط صار تقديره: كأنّه علّق الطلاق الثاني بالشرط فينزل الشرط طلاق بائن، وإيقاع الطلاق على المبانة صحيح، وإذا قال لها: إن ... فأنتِ عليّ كظهر أمّي، فبان ذلك في محلته لها لزمها الظهار، وهذا والطلاق سواء، ذكر في «الأصل».(4/29)
-----
وفيه أيضاً: إذا ظاهر هو من امرأته، ثمَّ قال لامرأة أخرى له: أنتِ عليّ مثل هذه ينوي الظهار فهو مظاهر، وكذلك إذا ظاهر الرّجل من امرأته: ثمَّ قال رجل لامرأته أنتِ عليّ مثل امرأة فلان فهو مظاهر منها، وكذلك إذا ظاهر من امرأته ثمَّ قال لامرأة أخرى: أشركتك في ظهارها كان مظاهراً منها، وإذا ظاهر من أربع نسوة فعليه لكلّ واحدة كفّارة؛ لأنّ حكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية الكفّارة، فإذا أضاف الظهار إلى محال مختلفة يثبت في كلّ محلّ حرمة على حدة فيحتاج إلى الغاية، وهي الكفّارة في كلّ محلّ على حدة.
وإذا ظاهر من امرأته مراراً في مجالس مختلفة، أو مجلس واحد فعليه لكلّ ظهار كفّارة، هكذا روي عن علي رضي الله عنه؛ ولأنّ الظهار سبب الحرمة، فاجتماع أسباب الحرمة في محلّ واحد جائز، ألا ترى أنَّ صيد الحرم حرام على المحرم لإحرامه، ولكون الصيد في الحرم، وألا ترى أنَّ الخمر على الصائم حرام لعينه، ولصومه، وليمينه إذا حلف لا يشربها، فلهذا وجب بكلّ ظهار كفّارة، قال إلا أن يكون عنى بالثانية والثالثة الأولى، فحينئذٍ لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة؛ لأنّ صفة الإخبار والإنشاء في الظهار واحد والكلام يحتمل الإعادة والتكرار، فلا يلزمه إلا ما لزمه بالأوّل.(4/30)
-----
بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي مائة مرّة، فعليه كفّارة بكلّ مرّة كفّارة، أو إذا وطء المظاهر فينبغي له أن يستغفر الله لا يلزمه سوى الاستغفار شيء؛ لأنُّ النبي عليه السلام لم يوجب على مسلمة بن حجر سوى الاستغفار، ولا ينبغي للمرأة التي ظاهر منها زوجها أن تدعه يقربها حتّى يكفّر؛ لأنّ الوطء حرام عليه إلى غاية الكفّارة، والتمكين في الحرام لا يجوز ولها أن تطالبه بالكفّارة، وإذا أخبرت الحاكم بذلك أجبره الحاكم على أن يكفّر، وروى هشام عن محمّد رحمهما الله أنّه قال: أجبر المظاهر على أنّ يكفّر ليقربها، فإن لم يفعل حبسته، فإن لم يفعل ضربته وأحبسه في الدَّين ولا أضربه.
وإذا أجبر الزوج عن التكفير قبل ولا يمين عليه، ويسعها أن تصدّقه ما لم تعلم خلاف ما قال، أو تعرفه بالصدق والكذب.
وتكلّم العلماء في سبب وجوب هذه الكفّارة، قال عامّة العلماء: سبب وجوب هذه الكفّارة: الظهار والعود؛ لأنّ الله تعالى أعطف العود على الظهار في بيان سبب الكفّارة، وحكم المعطوف عليه واحد، والمحققون من أصحابنا قالوا سبب وجوبها: العود وحده، وهذا القول أقرب إلى الفقه؛ لأنّ الكفّارة عبادة، والظهار منكر من القول وزور فكان كبيرة، والكبيرة لا تصح سبباً للعبادة، وأمّا العود مباح بل مندوب إليه فيصلح سبباً لوجود العبادة، والعود عندنا هو العزيمة على أن يطأها، وهذا لأنّ العود هو الرجوع عمّا أوجب كلامه، ليكون نقضاً لما صنع كالعود في الهبة رجوع عمّا أَوْجَبَتْهُ الهبة بالبعض، وقد وجب عليه بالظهار أن يعزم على ترك الوطء؛ لأنّ الظهار مشروع لتحريم الوطء وحرمة الفعل توجب العزم على تركة فمتى عزم على الوطء فقد رجع عمّا أوجبه بالبعض فكان عوداً.(4/31)
-----
ولو عاد ثمَّ بدا له أن لا يطأها سقطت الكفّارة، فكأنّها تجب عندنا غير مستقرّة، ولهذا تسقط بموته وموتها؛ لأنّ الكفّارة تجب بالعزم عندنا، وما يجب بالعزم ما يجب مستقرّة؛ لأنّ العزم يرد عليه البعض والفسخ. وكفّارته ما ذكر الله تعالى في كتابه، {وَالَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المجادلة: 3، 4) (282أ1) فوجب على هذا الترتيب ويجب تقديمها على الميتين. قال عليه السلام لسلمة بن حجر «استغفر الله ولا تعد حتّى تكفّر».
ولو أعتق بعض الرقبة ثمَّ وطىء فعليه أن يستقبل عتق الرقبة في قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنّ الشرط في الإعتاق تقديمه على المسيس، ومن ضرورته إخلاء الإعتاق عن المسيس فلم يوجد الإخلاء عنده؛ لأنّ الإعتاق عنده يتجزأ وعندهما لا يتجزأ فكما أعتق البعض عتق الكلّ، فيعتق أجلا الإعتاق عن المسيس. ولو جامعها في خلال الصوم بعد الصوم استقبل الصوم، لوجهين: أحدهما: أنّ الواجب صوم شهرين متتابعين، وقد فات التتابع لما قبل بعض الصوم، والثاني: أنّ الشرط تقديم الصوم على المسيس ومن ضرورته إخلاء الصوم عن الجماع، ولم يوجد الإخلاء.(4/32)
-----
ولو جامعها ليلاً أو نهاراً ناسياً لصومه استقبل في قول أبي حنيفة ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهم الله: يمضي فيه، فأبو يوسف رحمه الله اعتبر معنى الأوّل، وهما اعتبرا المعنى الثاني، ولو جامعها في خلال الإطعام لا يلزمه الاستقبال؛ لأنّ تقديم الطعام على المسيس ليس بشرط في كتاب الله تعالى حتّى يثبت شرط إخلاء الإطعام عن المسيس، ولا كذلك الإعتاق والصوم ولا يتجزأ في كفّارة الرقبة العمياء، ولا مقطوعة اليدين ولا مقطوعة الرجلين، ولا مقطوعة اليد والرجل من جانب واحد.
والحاصل: أنّ المأمور به رقبة مطلقة، والمطلقة من........ يتناول الكامل والقائم من كلّ واحد، وكل واحد ممّن سمّيْنا....... من وجه أن جنس منفعته، وأمّا العمياء ومقطوعة اليدين ومقطوعة الرجلين فظاهر، وكذا مقطوعة اليد والرجل من جانب واحد؛ لأنّه لا يمكنه المشي بالعصا، بخلاف مقطوع اليد والرجل من جانبين حيث يجوز؛ لأنه يمكنه المشي بالعصا، ويمكنه البطش بأحد اليدين، فلم يغب في حقّه جنس منفعة، وكذلك لا تجوز الخرساء لفوات جنس منفعته، وهو البطش، وتجوز الصمَّاء استحساناً.
وذكر في «النوادر»: أنّ الصمّاء لا تجور وهو القياس، وقيل: رواية «النوادر» محمولة على الصمّ الأجلي؛ لأنّه لا يخلو عن الخرس؛ لأنّه لم يسمع الكلام ليتعلّم، وظاهر الحوار محمول على الصمّ العارضي؛ لأنّه يخلق عن الخرس ويسمع عند المبالغة في رفع الصوت.
ويجوز مقطوعة الأذنين، وذاهب الحاجبين وشعر اللحية، وكذا يجوز مقطوع الشفتين إذا كان يقدر على الأكل؛ لأنّ الفائت بفوات هذه الأشياء الريبة لا غير، وبه لا تصير الرقبة مستهلكة.(4/33)
-----
ولا يجوز ساقط الأسنان لفوات جنس منفعته في حقّها وهو منفعة المضغ، ولا يجوز المدبّر وأم الولد، ويجوز المكاتب إذا لم يؤدّ شيئاً من بدل الكتابة عندنا، وإن أدّى شيئاً من بدل الكتابة لا يجوز في «ظاهر الرواية»، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنّه يجوز، ولا يجوز مقطوع الإبهامين، ولا ثلاثة أصابع من سواهما، ولا يجوز الختين، ويُجزىء الرضيع.
وكذا لا يجوز المجنون والمعتوه، وإن كان يجنّ ويفيق يجوز، يريد به: إذا أعتقه في حال إفاقته، والمريض الذي في حدِّ مرض الموت لا يجزىء، وإذا كان يجزىء ويخاف عليه يجوز والمرتد يجوز عند بعض المشايخ وعند بعضهم لا يجوز؛ لأنّ بالردّة صار حربيّاً، ولهذا أحلّ قتله، فقد صرف الكفّارة إلى الحربي فلا يجوز، والمرتدة يجوز بلا خلاف ولو أعتق عبداً حربياً في دار الحرب إن لم يخلّ سبيله لا يجوز، فإن خلّى سبيله ففيه اختلاف المشايخ بعضهم قال لا يجوز؛ لأنّه صرف الكفّارة إلى الحربي.
وروى إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: إذا أعتق عبداً حلال الدّم قد قضي بدمه عن ظهاره، ثمَّ عفي عنه لم يجز.
وفي «البقالي» رواية مجهولة إذا أعتق عبداً حلال الدّم قد قضي بدمه ثمَّ عفي عنه، أو كان أبيض العينين فزال البياض، أو كان مرتداً وأسلم أنّه يجزئه، وإذا أعتق عبداً على جعل بنيّة الكفّارة لم يجزءه عن الكفّارة وإذا سقط الجعل، ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنّه حيّ.
في «المنتقى»: ولو أعتق نصف عبد مشترك بينه وبين غيره عن ظهاره ثمَّ أدّى الضمان وأعتق الباقي عن ذلك الظهار لم يجزء في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يجوز إذا كان موسراً؛ لأنّ الإعتاق عندهما لا يتجزىء، فبإعتاق النصف يصير معتقاً للكلّ، لكن يشترط أن يكون المعتق موسراً؛ لأنّه إذا كان معسراً كان على العبد السعاية في نصيب شريكه، فيكون هذا إعتاقاً بعوض، فلا تتأدّى به الكفّارة، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز.(4/34)
-----
وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا أعتق نصف عبده عن ظهاره، ثمَّ أعتق النصف الباقي عن ذلك الظهار حيث يجوز، ولا فرق بينهما من حيث الصورة؛ لأنّ الإعتاق عند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ، فإذا أعتق النصف اقتصر الإعتاق على نصيبه، وتمكن النقصان في النصف الباقي بسببه؛ لأنّ النصف الباقي خرج من أن يكون محلاً للتمليك والتملّك، وصار في معنى المرتد وأمّ الولد، وبإعتاقهما لا تسقط كفّارة، وفي حقّ هذا.... على السواء.
والفرق: وهو أنّ في الفصلين على النقصان في النصف الباقي بسبب إعتاق النصف الأوّل عن الكفارة، إلا أنَّ العبد إذا كان كلّه له أمكن أن يجعل ذلك النقصان مصروفاً إلى الكفارة؛ لأنّ النصف الآخر في المدّة الثانية أعتق ما بقي فيجزؤه.
أمّا إذا كان العبد مشتركاً لا يمكن أن يجعل النقصان الحاصل في النصف الباقي مصروفاً إلى الكفّارة؛ لانعدام الملك له في ذلك النصف، فيبطل قدر النقصان ولم يقع عن الكفّارة، فإذا ضمن قيمة النصف الباقي وأعتقه فقد صرفه إلى الكفّارة وهو ناقص، وصار في الحاصل كأنّه أعتق عبداً لا... النقصان.
ولو أعتق عبداً عن ظهاره عن امرأتين أجزأه أن يجعله عن أحدهما عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنّ الجنس متحدّ ونية التعيين في الجمع والجنس الواحد لغو، وهذا لأنّ في الجنس الواحد الواجب عليه الكفارات مطلقاً بعدد الواجب؛ لأنّ التغيير (282ب1) كما في قضاء رمضان، فإن من عليه قضاء يومين من رمضان لا يجب عليه التغيير عند القضاء، بل يجب عليه الصوم مطلقاً بعدد الواجب، كذا ههنا، وإذا ثبت أنَّ نيّة التغيير ههنا لغوٌ صار وجه ردّها وعدمها بمنزلة، فكأنّه أعتق عن ظهاره ولم يعتبر أصلاً، وهناك يجوز الإعتاق عن أحدهما كذا ههنا.(4/35)
-----
وإذا وجب عليه كفارتان أو ثلاث عن الظهار، فأعتق ثلاث رقاب ينوي عند إعتاق كل رقبة أن يكون عن كفّارة، وإن لم ينوِ رقبة بعينها عن كفّارة بعينها جاز عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن عند اتحاد الجنس لو نوى عند إعتاق كل رقبة أن يكون عن الكفارات كلّها جاز فههنا أولى، ومن ملك رقبة لزمه العتق وإن كان يحتاج إليها، وكذلك من ملك ثمن الرقبة من التقدير ولا اعتبار بالمشكل، وما فيه من اليسار...... منهما أنّها يعتبر الفصل.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: أنّها يعتبر الفصل إذا بلغ نصاباً، وعن محمّد رحمه الله أنّه قال: يحبس الذي يعمل أي..... قوت يومه والذي لا يعمل قوت شهر.
وإذا قال لعبد: إن اشتريتك فأنت حرّ، فاشتراه ينوي الكفّارة عن الظهار لا يجوز عن الظهار، ولو قال عند اليمين عن كفّارة ظهاره جاز، ولو قال لعبد: إن اشتريتك فأنت حرّ عن كفّارة يمين أو قال تطوّعاً، ثمَّ اشتراه ناوياً عن ظهاره لم يكن عن ظهار.
وكذلك إن قال إن اشتريته فهو حرّ تطوّعاً، ثمَّ قال: إن اشتريته فهو حرّ عن ظهاريّ ثمَّ اشتراه يقع العتق عن الجهة التي عيّنها أوّلاً، ولا يلحقها الفسخ.
وعلى هذا إذا قال: إن اشتريت هذا العبد فهو حرّ عن ظهاري، ثمَّ قال إن اشتريته فهو حرّ عن يمين ثمَّ اشتراه، فهو حرّ عن الظهار، وكذلك إذا قال: إن اشتريته فهو حرّ عن ظهاري من فلانة، ثمَّ قال لامرأة أخرى ذلك ثمَّ، اشتراه فهو حرّ عن ظهار الأولى.
وإذا لم يملك رقبة ولا ثمن رقبة بصوم شهرين متتابعين، فإن صام شهرين بالأهلة جاز وإن كان كلّ شهر تسعة وعشرين يوماً، وإن صام لغير الأهلة ثمانية (ثم) فطر لتمام تسعة وخمسين يوماً فعليه الاستقبال.(4/36)
-----
وإن عجز عن الصيام يطعم ستين مسكيناً ويجزىء فيه طعام التمليك وطعام الإباحة، وتفسير طعام الإباحة: أن يعدّ منهم ويعيّنهم، وتفسير طعام التمليك ظاهر، فإن أراد أن يطعم طعام التمليك يطعم لكلّ مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير كما في صدقة الفطر، به ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه عن الحنطة تختلف أجناسها، فإنَّ من الحنطة ما يبلغ منوين، منها نصف صاع، ومنها ما يبلغ أكثر من منوين نصف صاع، فلا بدّ من التقدير بأحدهما، أمّا الصاع أو المنّ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد اختلف المشايخ رحمهم الله في هذا الفصل، قال بعضهم: يعتبر الصّاع، كما في صدقة الفطر، فإنَّ رسول الله عليه السلام اعتبر الصّاع في صدقة الفطر من غير فصل، وعمر رضي الله عنه اعتبر الصّاع في غير هذه الصورة من غير فصل، ومنهم من قال يختلط فيه، فيعطي أكثر من منوين، ومنهم من قال: يعتبر الوزن.
ولو أدّى نصف صاع من تمر جيّد يبلغ نصف صاع من حنطة لا يجوز، وكذلك لو أدّى أقلّ من نصف صاع من حنطة يبلغ صاعاً من تمر أو شعير لا يجوز، والأخذ فيه أنّ كلّ جنس هو منصوص عليه من الطعام لا يكون بدلاً عن جنس آخر هو منصوص عليه، وإن كان في القيمة أكثر.k
ولو أدّى ثلاثة أمناء من الذرة تبلغ قيمتها منوين من الحنطة جاز، قال هشام: إنّها تجوز إذا أراد أن يجعل الذرة لا عن الحنطة، وأمّا إذا أراد أن يجعل الحنطة بدلاً عن الذرة لا يجوز؛ لأنّه أراد أن يجعل المنصوص عليه بدلاً عن عين المنصوص عليه.
ولو أدّى الدقيق والسويق أجزأه، واختلف المشايخ في طريق الجواز. قال بعضهم: يجوز باعتبار العين فيعتبر فيه عام الكيل وذلك نصف صاع من دقيق الحنطة، وإليه قال الكرخي والقدوري رحمهما الله، وقال بعضهم: يجوز باعتبار القيمة ولا يجوز فيه اعتبار عام الكيل، وقد ذكرنا هذا الفصل مع أجناسها في باب صدقة الفطر.(4/37)
-----
ولو أراد أن يطعمهم قيمة الطعام أعطى كلّ مسكين قيمة نصف صاع من حنطة أو قيمة صاع من تمر أو قيمة صاع من شعير، وإن أراد أن يطعمهم طعام الإباحة غدّاهم وعشّاهم، وإن غدّاهم لا غير أو عشّاهم لا غير لا يجوز عندنا، يريد به: أنّ الغداء بدون العشاء لا يجوز، وكذلك العشاء بدون الغداء لا يجوز، هكذا ذكر في أيمان «الأصل».
وفي القدوري: في حقّه طعام الإباحة أن يغدّيهم ويغشّيهم، فيحصل له الكيان، إمّا غداءين أو عشاءين أو يعشّيهم ويجزهم وهذا بيان الغداء بدون العشاء بدون الغداء يجوز، قال ثمة: قال أيضاً: ولو غدّى إنساناً وعشّى آخر لم يجز وفي المجرّد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا غدّى ستين، وعشّى آخرين لم يجز ولو غدّى رجلاً ستيّن يوماً وعشّى امرأة ستين يوماً جاز، وكذلك إذا غدّى ثلاثين يوماً، وعشّى ثلاثين يوماً، وعن الحسن بن زياد إذا غدّى في الظهار مسكيناً، وآخر عشرين ومائة يوم أجزأه، وعن الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف رحمهما الله لو غدّى مسكيناً واحد، وعشّاه في ستّين يوماً لا يجوز به قال هذا قوله الآخر، وإذا غدّاهم وعشّاهم، فالمعتبر فيه الكيان......، ولا غيره فيه بمقدار الطعام حتّى روي عن أبي حنيفة رحمه الله في كفارة اليمين لو قدم أربعة أرغفة أو ثلاثة بين يدي عشرين وشبعوا أجزأه وإن لم يبلغ ذلك إلا صاعاً أو نصف صاعٍ، وإن كان أحدهم شبعان هل يجوز؟
اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، قال بعضهم: يجوز لأنّه وجد الطعام العشرة، وقد شبعوا، وقال بعضهم لا يجوز؛ لأنّ المأجور عليه إشباع العشرة وهو ما أشبع العشرة إنّما أشبع التسعة، وإلى هذا القول مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والمستحب أن يغدّيهم ويعشّيهم خبز معه إدام، ولو أعطاهم خبزاً قفّازاً بغير إدام جاز، وإذا غدّاهم وعشّاهم خبز الشعير لم يذكر خبز رحمه الله في «الأصل»، وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه قال بعضهم يعتبر محمد رحمه الله في «الأصل» بخبز البرّ.(4/38)
-----
في «الزيادات»: دليل أنه لا يجوز (283أ1) خبز الشعير، وبعضهم جوزوا ذلك وإليه مال الكرخي رحمه الله، ثمَّ على قول من جوّز خبز الشعير لا بدّ وأن يكون معه إدام، وإذا غدّاهم وأعطاهم قيمة العشاء لو عشاهم وأعطاهم قيمة الغداء يجوز، هكذا ذكر في «الأصل».
وفي «البقالي»: إذا غدّاهم مداً فيه روايتان، وكذلك الغداء وقيمة العشاء وكذلك إذا أعطى كلّ مسكين نصف صاع من تمر أو شعير ومدّاً من برّ، وذكر في «الأصل» أنّه لا يجوز، وإذا دعا مساكين وأحدهم.... ذلك سنّاً وغدّاهم وعشّاهم لا يجزؤه، كذا ذكر في «الأصل».
وفي «المجرّد» إذا كانوا علماءنا يعتمدون مثلهم يجوز وإذا أعطاهم ستّين مسكيناً، كل مسكين مدّاً من حنطة لم يجز، فعليه أن يعيد مدّاً آخر على كل مسكين فإذا لم يجز الأوّلين فأعطى ستّيناً آخرين كلّ مسكين مدّاً لا يجوز، لأنّ المأخوذ عليه في باب الكفارة مراعاة عدد المساكين ومراعاة وظيفة كلّ مسكين، وقد أخذ بمقدار وظيفة كلّ مسكين فلا يجزئه، وإن أعطى مسكيناً واحداً طعام ستين مسكين في يوم واحد بدفعة واحدة لا يجوز، ولو صرف إليه طعام ستّين مسكيناً في ستّين يوماً جاز عندنا، وقد ذكرنا قول أبي يوسف رحمه الله أجزأ في المسكين الواحد في طعام الإباحة، بخلاف هذا، ولو صرف طعام ستين مسكيناً إلى مسكين واحد في يوم واحد بدفعات متفرقات، اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنّه لا يجوز في طعام الإباحة ولا يجوز في يوم واحد وإن فرّق بلا خلاف بين المشايخ.(4/39)
-----
وإن أطعم عن ظهارين ستّين مسكيناً في يوم واحد كلّ مسكين صاعاً من حنطة جاز عنهما عند محمّد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يجوز عن واحد منهما، فمحمّد يقول.... وفاءً بالوظيفتين وزيادة، والمصرف محلّ الكفّارتين، فيجزئه، وهما يقولان الانقسام لغو؛ لأنّها حصلت في غير محله لأنّ محلّها شيئان، والكفّارتان من جنس واحد كأنّها كفّارة واحدة لاتحاد الجنس، والشيء الواحد لا يكون محلا للانقسام، فالتحقت نيّة الانقسام بالعدم، وصار كأنّه نوى الكفّارة لا غير، وهناك يقع عن الواحدة؛ لأنّ النقدين في هذا الباب بنصف الصّاع من الحنطة لمنع النقصان لا لمنع الزيادة، فيقع عن الواحدة احتياطاً كذا ها هنا.
الفصل الرابع والعشرون في مسائل الإيلاء
الإيلاء: هو اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر فصاعداً؛ لأنّ كتاب الله تعالى قيّده بأربعة أشهر، حتّى لو عقد يمينه على ترك وطء المنكوحة أقلّ من ذلك أربعة أشهر لا يكون إيلاءً، بل يكون يميناً، وإنّه على نوعين:
أحدهما: أن يكون اسم الله أنّه يمين بالله تعالى؛ لأنّ صورة اليمين بالله تعالى قوله: والله لا أفعل كذا، وصورة الإيلاء إذا كان الإيلاء باسم من أسماء الله تعالى أن يقول لامرأته: والله لا أقربك أربعة أشهر.
والثاني: أن يكون بطلاق أو عتاق أو ما أشبه وأنّه غير الطلاق والعتاق؛ لأنّ صورة اليمين بالطلاق أو العتاق إن فعلت كذا فامرأته طالق، إن فعلت كذا فعبدي حرٌّ، وصورة الإيلاء إذا كان الإيلاء بطلاق أو عتاق أن يقول لامرأته: إن قربتك فعبدي فلان حرّ، إن قربتك، فامرأتي فلانة طالق.
وحكم الإيلاء اثنان:
أحدهما: يتعلق بالحنث بأن يقربها في مدّة الإيلاء، وهو لزوم الكفّارة إن كان الإيلاء باسم من أسماء الله تعالى، ولزوم ما جعل حرّاً إن كان الإيلاء بغير الله تعالى.(4/40)
-----
والثاني: يتعلّق بالبرّ بأن لم يقربها حتّى مضت مدّة الإيلاء، وهو وقوع تطليقة بائنة، فالإيلاء يوافق سائر الأيمان في حقّ حكم الحنث، وهو وجوب الكفّارة بوجود المحلوف عليه، وهو القربان إن كان الإيلاء بالله ولزوم ما صار جزاءً على المحلوف عليه وهو الطلاق أو العتاق إن كان الإيلاء بالطلاق أو العتاق، ويخالف سائر الأيمان في حقّ حكم البرّ فإنَّ في سائر الأيمان لا يلزمه بالبرّ شيء، وفي الإيلاء بالبرّ تلزمه تطليقة بائنة.
وصار تقدير الإيلاء في حقّ حكم البرّ، كأنّه قال إن مضت أربعة أشهر ولم أقربك فأنتِ طالق تطليقة بائنة عرف ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 227) جاء عن رسول الله عليه السلام أنّه قال: «عزيمة الطلاق مضيّ أربعة أشهر»، وهكذا نقل عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين، أنّهم قالوا: «عزيمة الطلاق مضي أربعة أشهر»، ولأنّ الإيلاء كان طلاقاً في الابتداء وجب النظر في قدر ما يعتبر بالشرع، وذلك بما أوجب الله تعالى له من التربّص أربعة أشهر فبقي بعد مضي المدّة طلاقاً كما كان.
وأمّا مدّة إيلاء الأمة شهران، وإذا مضت هذه المدّة فالحكم فيها كالحكم في الحرة لأنّ هذه المدّة شرعت أصلاً للبينونة، فتشابه مدّة العدّة فيثبت جرء بالرّق كما في العدّة، قال القدوري: لا يكون الإيلاء إلا بالحلف على الجماع في الفرج خاصة؛ لأنّ الإيلاء إنّما صار طلاقاً بواسطة الظلم بمنع حقّها المستحقّ، وحقّها في الجماع في الفرج.
وروي عن محمّد رحمه الله: إذا قال: لا يمسّ جلدي جلدك لا يكون إيلاءً؛ لأنّه يخبر بغير الجماع، وكذلك إذا قال والإيلاء ما يوقف الخبر فيه على الجماع، زاد في «البقالي» إلا أن ينوي الجماع، وكذلك إذا قال: والله لا أمسك لا يكون إلا أن ينوي الجماع.(4/41)
-----
وفي «الفتاوى»: إذا قال والله لا يمسّ فرجي فرجك فهو مولى، وقال محمّد رحمه الله: إن اجتمع رأسي ورأسك وعنى به الجماع فهو مولى، فإن لم يعنى الجماع، فليس بمولى وله أن يجامعها بغير اجتماع على فراش، ولا شيء يجتمع رأسهما عليه، ولو اجتمعا على شيء واجتمع رأسهما عليه من غير جماع حنث في يمينه، ولو قال: والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة أو لا يؤويني وإياك بيت، ولا أبيت معك على فراش فإن عنى الجماع فهو مولى وإن لم يكن له نيّة فهو على الإيواء، والبيات على الفراش ولا يجتمعا على وسادة وسواء كان على البواري والأرض، ولو حلف لا يجامعها فهو مولى مع أنّ هذا اللفظ يتناول الجماع فيما دون الفرج، لأنّه مأخوذ من الاجتماع أما كان كذلك؛ لأنّ هذا اللفظ عند الإطلاق يراد به الاجتماع الخاص، وهو التقاء الختانين، ولهذا فهم رسول الله عليه السلام من قول: جامعت امرأتي في نهار رمضان الجماع في الفرج، حتّى أوجب الكفّارة عليه من غير استفسار وانصرف (283ب1) مطلق اللفظ إلى الجماع في الفرج لهذا.
وكذلك إذا حلف لا يقربها لأنّ القربان المضاف إلى المرأة يراد به عادة الوطء، وكذلك لا ينام معها؛ لأنّ المضاجعة...... من البضع، وذلك بالتقاء الختانين وكذلك لا يغتسل منها؛ لأنّ الاغتسال إنّما يكون بالإيلاج في الفرج، وإذا قال لم أعن الجماع في هذه الصورة صدّق ديانة لا قضاء.
ولو قال إن أتيتك أو أخبرتك وإن نوى الجماع، فهو مولى وإنّما شرط نيّة الجماع ههنا؛ لأنّ الرجل قد يأتي المرأة لشغل، وقد يصب منها مالاً ونفقة ولم يتعيّن الجماع مراد فهذين اللفظين عادة، فلا بدّ من التعيين بالبنية وإذا قال لم أعن الجماع في هذين اللفظين صدّق ديانة وقضاء.(4/42)
-----
وإذا قال إن وطئتك أو افتضضتك، وهي بكر فهو مولى وإذا حلف لا يدخل عليها لا يصير مولياً بدون نيّة الجماع، وإذا قال: لم أعن الجماع صدّق قضاء، وإذا حلف لا يدخل بها، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يصير مولياً بدون نيّة الجماع.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لامرأته آكرنا بخسم فأنتِ طالق، فإن لم يكن له نيّة، فهو مولى؛ لأنّ اليمين على الجماع وقعت عرفاً وإن نوى اليوم فهو ليس بمولى، ويمينه على المضاجعة إن جامعها حنث في يمينه، وإن لم يجامعها، وبدون المضاجعة لا يحنث ولو قال: آكر من دست فراكنم رن كنم بايك سال فكذا، فهو مولى حتّى لو تركها أربعة أشهر، ولو جامعها بانت بالإيلاء لأنّه يراد بهذا الجماع عادة يا آكرد ست فراروي كندا وجامعها فيما دون الفرج لا يحنث في يمينه، وإن كان ذلك في السنّة.
ولو قال لها: إن اغتسلت من جنابتي ما دمت امرأتي، فأنتِ طالق ثلاثاً، فهو مولى منها حتّى لو تركها أربعة أشهر، ولم يجامعها بانت منه بتطليقة، لأنّ هذا اللفظ صار عبارة عن الجماع عادة.
امرأة قالت لزوجها: من انتمارعي داري وحامة عنكنى مرااز مهر مسواك رن مي داري، فقال الزوج: آكرارا كيون بايك سال مسواك رنم فكذى، فإن أراد به الجماع فهو مولى، وبدون النيّة لا يكون مولياً؛ لأنّ هذا ليس بصريح، فلا بدّ من النيّة.
إذا قال: لها إن قربتك، فعليّ كفّارة يمين فهو مولي، وكذلك إذا قال لها إن قربتك فعليّ يمين؛ لأنّ اليمين سبب الكفّارة، فهذا رجل ذكر السبب وأراد به المسبب.(4/43)
-----
ولو قال: إن قربتك فعليّ حجّة أو عمرة أو هدي أو صدقة أو اعتكاف أو صيام، فهو مولى؛ لأنّ الإيلاء بألية إنما صار إيلاءً باعتبار أنّ حرمة اسم الله تعالى، يمنعه عن القربان لما فيه من هتك حرمة اسم الله تعالى، فيتحقّق الظلم بمنع حقّها المستحق وهو الوطء، هذا المعنى موجود ها هنا فإنّ ما التزم عند القربان من الحج والعمرة، وغير ذلك يمنعه من القربان.
ولو قال: إن قربتك فعليّ أن أصلّي ركعتين فهو ليس بمولى لأنّ قوام الركعتين من الصلاة لا يمنعه عن القربان، إذ لا يلحقه مشقّة بأدائها ولا خسران في ماله؛ بخلاف ما لو التزم بالقربان عتق عبد أو حجّة وعمرة وعن أبي يوسف رحمه الله فيما إذا قال: لها إن قربتك، فعبدي حرٌّ أن لا يكون مولياً؛ لأنّ له أن يبيع العبد بقربانها قبل أربعة أشهر من غير شيء يلزمه.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله إذ قال لامرأته: إن قربتك فلانة طالق بعد سنة، والله لأطلّقنّ فلانة أراد بفلانة امرأة أخرى له فإنّه لا يكون مولياً، ولو قال: إن قربتك فلانة طالق بعد سنة فهو مولى، وذكر هشام عن محمّد رحمه الله إذا قال: إن قربت امرأتي فمالي هبة في المساكين قال: إن نوى الصدقة، فهو مولى، وإن لم ينوِ صدقة فهو ليس بمولى، والقول في ذلك قوله.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله على إن أعتق عبدي هذا عن ظهاري إن قربت امرأتي فلانة، وهو مظاهر أو ليس بمظاهر لا يكون مولياً، ولو قال: عبدي هذا حرٌّ عن ظهاري إن قربت امرأتي، فهو مولى مظاهراً كان أو غير مظاهر، ويجزىء عن ظهاره يريد به إذا كان مظاهراً، وقد قربها ثمَّ قال: كلّ شيء يعتق إذا قرب امرأة فهو مولى، وكل شيء لا يعتق إلا بفعل آخر لا يكون مولياً، وعلى هذا إذا قال لله تعالى عليّ أن أصوم شهرين عن ظهاري إن قربتك، أو قال: لله تعالى عليّ أن أتصدّق على ستّين مسكيناً، فإنّه لا يكون مولياً سواء كان مظاهراً أو لم يكن.(4/44)
-----
وروى بشر عنه في هذه المسألة أنّه إن كان مظاهراً فهو مولى ولو قال لها: إن قربتك، فكلّ مملوك أملكه فيما استقبل فهو حرٌّ أو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق، فهو مولى في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهما الله: لا يكون مولياً؛ لأنّه لا يلزم بالقربان شيء وبعد القربان يمكنه دفع الطلاق والعتاق عن نفسه، بأن لا يتملك مملوكاً، ولا يتزوّج امرأة.
وجه قولهما: أنّه يلزمه اليمين بالقربان فيصير مولياً كما لو قال لها: إن قربتك، فهذا العبد حرّ إن دخل الدّار، وهذا لأنّ لزوم اليمين يصلح مانعاً عن القربان؛ لأنّه يلزمه الامتناع عن تحصيل الشرط خوفاً عن نزول الجزاء.
وروى هشام عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لها: إن قربتك، فإن اشتريت، فهو حرّ قال ذلك لعبد بعينه فهو ليس بمولى، قال: وليس هذا كعموم قوله: وكلّ مملوك اشتريته فهو حرّ، وكذلك على هذا إذا قال لها: إن قربتك ففلانة طالق، إن تزوجها لم يكن مولياً من امرأته بخلاف ما إذا أعلم فقال: فكل امرأة أتزوجها، فهي طالق رواه ابن سماعة عن محمّد رحمه الله وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله.
وروى هشام عن محمّد رحمه الله إذا قال لها: إن قربتك فعليّ صوم شهر كذا بأن قال مثلاً، فعليّ صوم شهر رجب أو قال فعليّ أن أحج العام، فإن كان رجب يمضي قبل الأربعة الأشهر أو كان الحج في العام يمضي قبل الأربعة الأشهر، فليس بمولى لأنّه يمكنه القربان في المدّة، وذلك بعد رجب والحج من غير شيء يلزمه فإن مضى الوقت المضاف إليه النذر يبطل النذر، وإن كان لا يمضي إلا بعد الأربعة الأشهر، فهو مولى؛ لأنّه لا يمكنه القربان من غير شيء يلزمه.(4/45)
-----
وروى هشام عن محمّد رحمه الله أيضاً: إذا قال لها: إن قربتك فعليّ أن أعتق هذا العبد غداً، فهو مولى، وقوله غداً فضل وعليه أن يعتقه إن قربها وهو بمنزلة (284أ1). قوله: إن قربتك فعليّ أن أعتق عبدي هذا الأمس، فقوله: أمسِ فضل، وعليه أن يعتقه إن قربها. ولو قال لها: إن قربتك فأنت عليّ حرام، ينوي به الطلاق فهو مولي؛ لأنه لا يمكنه القربان إلا بطلاق يلزمه، وإن نوى اليمين فهو مولي أيضاً في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما: الله لا يكون مولياً حتى يقربها؛ لأن قوله: أنت عليّ حرام عند إرادة اليمين يمين، فصار الإيلاء معلقاً بالقربان، فكأنه قال لها: إن قربتك، وقوله: فوالله لا أقربك، وعداً لها يصير مولياً فهاهنا للحال كذا هاهنا.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يمكنه القربان إلا بشيء يلزمه، وهذا هو حد المولي كان القياس في قوله: إن قربتك فوالله لا أقربك أن يصير مولياً للحال، لكن تركنا القياس في هذه الصورة؛ لأنه علّق الإيلاء بالقربان لفظاً ومعنى ولو صار مولياً للحال تفوت فائدة التعليق من كل وجه.
وقوله: أنت عليّ حرام، ليس يمين لفظاً ولو كان يميناً كان يميناً معنى، فلو صار مولياً للحال تفوت فائدة التعليق من وجهٍ، وليس إذا ترك القياس لضمانه فائدة التعليق من كل وجه ما يدل على تركه لضمانه فائدة التعليق من وجه.
ولو قال لامرأته: إن قربتك فأنت عليَّ مثل امرأة فلان، وقد كان فلان آلى من امرأته، فإن نوى الإيلاء كان مولياً، وإن لم ينو لا يكون مولياً؛ لأن النسبة لا تقتضي الاستواء في كل الأشياء.
ولو آلى من امرأته ثم قال لامرأةٍ أخرى له: قد أشركتك في إيلائها، كان باطلاً لأن الاشتراك يغير حكم الإيلاء؛ لأن قبل الاشتراك كان يحنث بقربان الأولى وحدها، وبعد الاشتراك لا يحنث إلا بعد إتيانهما، كما لو قال: والله لا أقربكما، وهو لا يملك تغيير حكم اليمين.(4/46)
-----
ولو قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، ثم قال لامرأةٍ له أخرى: أشركتك معها كان مولياً منهما؛ لأن الاشتراك ههنا لا يغير موجب اليمين، فإنه لو قال لهما: أنتما عليَّ حرام يصير مولياً من كل واحدة منهما، ويلزمه الكفارة بوطىء كل واحدةٍ منهما، بخلاف قوله: والله لا أقربكما.
والفقه فيه: أن قوله: والله لا أقربكما إنما صار يميناً موجباً للكفارة باعبتار هتك حرمة اسم الله تعالى بمباشرة الشرط، وذلك لا يتحقق إلا بقربانهما. أما قوله: أنتما عليّ حرام إنما صار إيلاء باعتبار معنى التحريم وذلك موجودٌ في حق كل واحد منهما على حدة.
ولو الله قال: والله لا أقربك سنةً إلا يوماً لم يكن مولياً؛ لأنه استثنى يوماً منكراً فما من يومٍ بعد يمينه إلا ويمكنه أن يجعل مستثنياً عن يمينه فيقربها من غير شيء يلزمه، والمولي من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه؛ فإن قربها وقد بقي من السنة أربعة أشهر الآن يصير مولياً؛ لأنه صار بحال لا يمكنه قربانها في الأربعة الأشهر إلا بشيء يلزمه.
قال في «الجامع»: إذا قال لامرأتين له: والله أقربكما إلا يوم الخميس، لا يكون مولياً حتى يمضي خميس ثاني عليه بعد اليمين؛ لأن أول خميس يأتي عليه بعد اليمين فهو مستثنى عن اليمين، فيمكنه القربان فيه من غير شيء يلزمه. فإذا مضى أول خميس أتى عليه من وقت اليمين الآن صار مولياً؛ لأن بمضي أول الخميس يمضي يوم الاستثناء وبقيت اليمين بالاستثناء.
ولو قال: والله أقربكما إلا يوم الخميس لا يصير مولياً بهذه الغير إيلاءً؛ لأن المستثنى في هذه الصورة كل خميس يأتي عليه؛ لأنه أضاف النكرة وهو يوم إلى حقه عامة وهو الخميس، والنكرة إذا أحدثت إلى حقه عامة عمّت؛ لأن الإضافة بمنزلة الصفة، فكل يوم اتصف بكونه خميساً يدخل تحت الاستثناء، فيمكنه القربان في كل خميس يأتي عليه من غير شيء يلزمه، فلهذا لم يصر مولياً.(4/47)
-----
قال في «الجامع الصغير»: إذا قال لامرأته: والله لا أقربك شهرين، وشهرين فهو مولي؛ لأنه جمع بينهما بحرف الجمع فيعتبر بما لو جمع بينهما بلفظ الجمع بأن قال: والله لا أقربك أربعة أشهر. وكذلك إذا قال: والله لا أقربك شهرين فمكث يوماً ثم قال: والله لا أقربك شهرين بعد شهرين فهو مولي منه لما قلنا.
ولو قال: والله لا أقربك شهرين، فمكث يوماً ثم قال: والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين الأوليين لا يكون مولياً. وأراد بقوله: لا يكون مولياً في حق الطلاق، حتى لو تركها أربعة أشهر ولم يقربها لا تبين منه؛ لأن بالكلام الأول لم يصر مولياً في حق الطلاق؛ لأن الإيلاء في حق الطلاق لا ينعقد على أقل من أربعة أشهر. فإذا قال بعدما مكث يوماً: والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين صار مولياً في حق الطلاق صار مولياً الآن تعذر جعله مولياً الآن؛ لأنه يمنع نفسه عن قربان امرأته في أقل من أربعة أشهرٍ بيوم؛ لأنه مضى من الشهرين الأوليين يوم، حتى لو قال المقالة الثانية عقيب المقالة الأولى يصير مولياً، نص عليه في «المنتقى».
إذا قال لها: والله لا أطأك شهراً بعد سنة فإنما حلف على شهرٍ بعد سنة تمضي فلا يحنث إن وطىء في السنة. وكذلك لو قال: والله (لا) أطأك يوماً بعد شهر فإنما حلف على يومٍ بعد شهر يمضي.
ولو قال: والله لا أقربك شهرين قبل شهرين فهو مولي. ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في رجل قال لامرأته:والله لا أقربك أربعة أشهر إلا يوماً، ثم قال في ساعته: والله لا أقربك هذا اليوم فهو مولي.(4/48)
-----
قال في «الجامع»: إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً قبل أن أقربك بشهرٍ لا يصير مولياً للحال ما لم يمضي شهر بعد اليمين؛ لأن المولي من لا يمكنه قربان امرأته من غير شيء يلزمه؛ لأن الملتزم ههنا الطلقات الثلاث مضافاً إلى شهر موصوف بأنه قبل القربان. والمراد شهرٌ بعد اليمين فما لم يمض بعد اليمين شهر قبل القربان لا يوجد الوقت المضاف إليه الطلاق فلا يلزمه الطلاق، فإن مضى شهرٌ بعد اليمين ولم يقربها فقد وجد الوقت المضاف إليه الطلاق وصار بحيث لا يمكنه قربانها إلا بطلاق يلزمه فيصير مولياً الآن.
ولو قال: إن قربتك فأنت طالق ثلاثاً قبل أن أقربك شهر، فهاهنا يشترط لصيرورته مولياً (284أ1). بيان القربان ومضي أربعة أشهر بعد القربان لا بقربان فيه؛ لأن عند القربان يصير قائلاً: أنت طالق قبل أن أقربك شهر.
ولو قال لامرأتين له: أنتما طالقتان ثلاثاً قبل أن أقربكما بشهر لم يصر مولياً للحال لما مرّ. فإذا مضى شهر ولم يقربهما فيه يصير مولياً منهما. والقياس أن لا يصير مولياً ما لم يقرب إحداهما؛ لأن المولي من لا يمكنه القربان من غير شيء يلزمه وأمكنه قربان إحداهما من غير طلاق يلزمه؛ لأن قربان إحداهما نصف الشرط وبنصف الشرط لا يتبين أن الجزاء (واقع).
فإذا قرب إحداهما الآن صار الحال لا يمكنه قربان الأخرى إلا بطلاق يلزمه، فحينئذ يصير مولياً استحساناً، وقلنا: (لا) بأنه يصير مولياً إلا بقربان إحداهما إن كان لا يلزمه الطلاق إلا أنه يقربه إلى الطلاق، وقبله كان لا يلزمه الطلاق بقربان الأخرى وحدها، وهذا نوع ضرر.
فإن قرب إحداهما في مسكنها بعد مضي شهر لم يقربهما فيه لم يحنث؛ لأنه نصف الشرط، وسقط الإيلاء عنها لوجود الملغي إليها بعد انعقاد الإيلاء، وبقي مولياً من الثانية لو تركها أربعة أشهر من غير قربان، بانت بالإيلاء، وإن قربها في الأربعة الأشهر بانت بالحنث.(4/49)
-----
إذا قال لامرأته: أنت طالق قبل أن أقربك، ولم يؤقت لذلك وقتاً مقدّراً طلقت ثلاثاً للحال. ولو قال: قبيل أن أقربك، لا تطلق ما لم يقربها؛ لأن قبيل الشيء ينبىء عن التداني والتقارب إلى ذلك الشيء.
وصار تقدير المسألة: أنت طالق قبل أن أقربك بوقت قريب من القربان فإنما يتصف الوقت بالقرب من القربان إذا وجد القربان، أما قبل الشيء لا ينبىء عن التداني والتقارب، وإنما ينبىء عن وقت مطلق، وليس من ضرورة اتصاف الوقت المطلق بالقَبْليَّة عن الشيء وجود ذلك الشيء بعده، كما في قوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا} (المجادلة: 3) وكما في قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسّوهُنّ} (البقرة: 237) وإذا لم يكن هذا شرطاً فقد وجد الوقت المضاف إليه الطلاق فيقع الطلاق. فهذا هو الفرق.
ولو آلى من امرأته المدخول بها ولم يقربها حتى مضت أربعة أشهر، وبانت منه بتطليقة ووجبت عليها العدة، ثم مضت أربعة أشهر أخرى، ولم يقربها وهي في العدة بانت ابتداءً طهرها لا تقع عليها تطليقة أخرى عند عامة المشايخ. وإليه مال الكرخي رحمه الله، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الجامع» في باب اليمين في الإيلاء على إحداهما دون الأخرى. وقال بعض مشايخنا يقع عليها تطليقة أخرى. وأجمعوا على أنه لو تزوجها بعده بانت بمضي أربعة أشهر ثم مضت أربعة أشهر أخرى من غير قربان أنه يقع عليها تطليقة أخرى. وكذلك في الكرّة الثانية، وأجمعوا على أنها لو عادت إليه بعد الزوج الثاني ومضت أربعة أشهر من غير قربان أنه لا يقع عليها تطليقة أخرى.
وجه قول بعض المشايخ: أن بعد وقوع الطلاق بحكم الإيلاء، والإيلاء باقي، ألا ترى أنه لو تزوجها ثم مضت أربعة أشهر من غير قربان أنه يقع عليها تطليقة أخرى بحكم الإيلاء بالإجماع. فإذا مضت أربعة أشهر بعد ذلك فقد مضت مدة الإيلاء حال قيام الإيلاء، وأنه يوجب وقوع الطلاق لو لم يقع الطلاق.(4/50)
-----
وإنما لا يقع الطلاق لقيام البينونة في المحل إلا أن قيام البينونة لا يمنع وقوع الطلاق بحكم الإيلاء، ألا ترى أنه لو آلى منها ثم أبانها بتطليقة ثم مضت مدة الإيلاء وهي معتدة يقع عليها تطليقة بحكم الإيلاء.
وجه قول عامة المشايخ: أنها لما بانت بالإيلاء مرّة تحتاج إلى استئناف مدة الإيلاء عليها والمبانة ليست بمحل لابتداء الإيلاء فلا يكون محلاً لاستئناف المدة؛ لأن استثناء مدة الإيلاء معتبرة باستئناف الإيلاء؛ لأن للمدة أثر في إيقاع الطلاق كما لابتداء الإيلاء، بخلاف ما إذا آلى منها ثم أبانها؛ لأن هناك انعقدت المدة من وقت الإيلاء، وقع الشك في إبطالها بالبينونة إن أمكن من حيث إن النكاح بقي من وجهٍ فلا يبطل بالشك، على أن المدة إنما تستأنف ليقع الطلاق بمضيها دفعاً لظلم الزوج بمنع حقّها في الجماع في هذه المدة.h
وبعد البينونة لم يبق لها حق (من) قبل الزوج في الجماع، فلا يتحقق الظلم، فلا حاجة إلى استئناف المدة، فلم تنعقد المدة الثانية فلا يقع الطلاق.
وإذا قال الرجل لأمتِهِ وامرأته: والله (لا) أقربكما لا يصير موليا من امرأتيه للحال؛ لأن المولى من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه، وقبل قربان الأمة يمكنه قربان المرأة من غير شيء يلزمه؛ لأنه إنما يحسب بقربانهما لا بقربان المرأة وحدها.
وبهذه المسألة يستدل زفر رحمه الله عليه في رجل قال لأربع نسوةٍ له: والله لا أقربكن، فعلى قول علمائنا الثلاثة رحمهم يصير مولياً منهن جميعاً استحساناً، حتى لو تركهن أربعة أشهر ولم يجامعهن جميعاً، وعند زفر رحمه الله: لا يصير مولياً حتى يجامع ثلاثاً منهن. فإذا جامع ثلاثاً منهن يصير مولياً من الرابعة.(4/51)
-----
وكذلك إذا قال لامرأتين له: والله لا أقربكما صار مولياً منهما استحساناً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وعلى قول زفر رحمه الله لا يصير مولياً ما لم يقرب واحدة منهما، قال: لأنه يمكنه قربان الثلاثة في المسألة الأولى وقربان إحداهما في المسألة الثانية من غير شيء يلزمه، ونحن فرّقنا.
ووجه الفرق: أن في تلك المسألتين لا يمكنه قربان واحدة إلا بشيء يلزمه؛ لأن قربان الواحدة إن كان لا يوجب عليه الكفارة ولكن يوجب عليه قربان الباقيات، لأن قربان الواحدة يهيج الباقيات على مطالبة حقهن في الجماع ومتى طالبته بالجماع يجب عليه إبقاؤها ديانةً، فيصير قربان الواحدة، سبباً لوجوب قربان الباقيات من هذا الوجه، والمولى من لا يمكنه القربان إلا بشيء يلزمه.
أما في مسألتنا بقربان الحرة قبل قربان الأمة لا تلزمه الكفارة ولا يلزمه جماع الأمة، وإن كان جماع الحرة يهيّج الأمة على مطالبة حقها إلا أن بطلبها لا يجب على المولى قربانها فيمكنه قربان الحرة من غير شيء يلزمه، فلهذا لا يصير مولياً من الحرة.
وفي «عيون المسائل»: إذا قال لها: (285أ1) والله لا أقربك سنة فمضت أربعة أشهر ولم يقربها حتى بانت منه ثم تزوجها، ثم مضت أربعة أشهر أخرى بانت أيضاً. فإن تزوجها ثانياً لا يقع شيء؛ لأنه لم يبق من السنة بعد التزوج أربعة أشهر.
ذكر محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال لامرأتين له: والله لا أقرب إحداكما يصير مولياً من إحداهما، حتى لو قرب إحداهما يلزمه الكفارة، ولو لم يقربهما حتى مضت أربعة أشهر بانت إحداهما بالإيلاء، وكان البيان إليه وتقدير كلامه: إن قربت أحدهما فعليَّ كفارة يمين، وإن لم أقرب إحداكما حتى مضت أربعة أشهر وإحديكما....(4/52)
-----
ولو قال: هكذا، كان الجواب على نحو ما ذكرنا، فجعل هذا الإيلاء خاصاً في حق الكفارة والطلاق جميعاً. وفرق بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها بعد هذه المسألة، وهذا ما إذا قال لامرأتين له: والله لا أقرب واحدة منكما، فقرب واحدة منهما تلزمه الكفارة. ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانتا، وجعل الإيلاء خاصاً في حق الكفّارة عاماً في حق الطلاق.
وذكر القدوري في «شرحه» هاتين المسألتين، وذكر في قوله: والله (لا) أقرب واحدة منكما، خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وقال: على قول محمد رحمه الله: يصير مولياً من واحدة منهما في حق الكفارة والطلاق حتى قال: لو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت إحداهما والبيان إليه والقياس (أن) تبين بها.
ذكر القدوري رحمه الله أن ما ذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وأنه استحساناً، وإن كان ما ذكر في «الجامع» قول الكل كان لمحمد رحمه الله قولان في المسألة.
ثم الفرق على جواب الاستحسان في المسألتين: أن قوله واحد إن كانت خاصة لفظاً فهو عام معنى؛ لأنها نكرة في محل النفي والنكرة في موضع النفي تَعُمُّ، فاعتبرنا معنى العموم في حق الطلاق.
ومعنى الخصوص في حق الكفارة، وإنما أظهرنا معنى العموم في حق الطلاق؛ لأن حكم الطلاق أعم من حكم الكفارة، ألا ترى أنه لو قال لها: والله لا أقربك، وبانت بمضي أربعة أشهر وتزوجها ومضت أربعة أشهر بانت بتطليقة أخرى. وكذا في الكرة الثالثة، ولو قربها في النكاح الأول حتى حنث ولزمته الكفارة لو قربها مرة أخرى لا تلزمه كفارة أخرى، فعلم أن حكم الطلاق أعم. فأظهرنا معنى العموم في حق الطلاق لهذا.(4/53)
-----
ثم في المسألة الأولى هو ما إذا قال: والله لا أقرب إحداكما حتى صار مولياً من إحدهما لو أراد أن يعتبر الإيلاء؛ لأن الإيلاء في إحدهما قبل مضي أربعة أشهر لا يقدر عليه؛ لأن فيه يعتبر الإيلاء؛ لأن الإيلاء انعقد على واحدة بغير عينها في حكم الحنث والبرّ جميعاً، وهو يرى أن يجعله منعقد على المعينة في الحكمين جميعاً ولكن إذا مضت المدة ووقع الطلاق على إحداهما يجبر على البيان، هكذا ذكر المسألة في «الجامع».
وذكر في «المنتقى» هذه المسألة في موضعين، وذكر في أحد الموضعين خلافاً بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فقال: إذا وقع الطلاق على إحديهما تعليقاً مضت أربعة أشهر، ثم مضت أربعة أشهر أخرى بانت الأخرى في قول محمد رحمه الله. وفي قول أبي يوسف رحمه الله: لا تبين الأخرى، وفي الموضع الآخر قول أبي يوسف رحمه الله، أو يكون في المسألة عن محمد رحمه الله روايتان.
وفي «المنتقى» إذا قال لامرأته: إن قربتك فعبدي هذا حر، فمكث أربعة أشهر ولم يقربها فرافقته إلى القاضي، فأقرّ أن هذا العبد عبده وأنه قال لها: إن قربتك فعبدي هذا حرّ، وإنه قد مضى أربعة أشهر من غير قربان ففرق القاضي بينهما، الإيلاء وجعلها طلاقاً بائناً، ثم إن العبد أقام البينة أنه حرّ الأصل وقضى القاضي بحريته، فإنه يبطل الإيلاء والطلاق، وتردّ المرأة على زوجها؛ لأنه تبين أنه لم يكن مولياً، ولو لم يُقم العبد بينة على أنه حر الأصل ولكن أقام رجل بينة أن العبد عبده، وقضى القاضي بالعبد للمستحق، وقال الزوج: العبد عبدي وشهوده زور فإن هذا في (القياس) والعتق سواء، ألا ترى إلى..... في هذا على ما قضاؤه بائعه بالثمن، وكذلك أبطل الإيلاء فيه، وقال: تعد هذه المسائل قضاؤه بالإيلاء، وفرق ما قضى على الزوج بإقراره أن العبد عبده وأن ما قضى به لازم ثم قال متصلاً به، والعتاق والاستحقاق سواء في جميع ذلك ما لم يكن في العتاق بسبب معروف أو أمرٍ مشهور.(4/54)
-----
فإذا جاء الأمر على ذلك أُبطل قضاء القاضي الإيلاء، وقال في هذا الموضع أيضاً: إن كان الاستحقاق في الأربعة الأشهر أو بعدها قبل أن يقضي القاضي بالفرقة، فإن القاضي يبطل الإيلاء قِبَل أنه قضى بالعبد للغير.
نوع آخر في الإيلاء في الغاية
الإيلاء المعقود إلى غاية له حكمان:
أحدهما: حال قيام الغاية، والثاني: بعد فوات الغاية.
فأما حكمه حال قيام الغاية: أن الغاية إذا كانت شيئاً يحلف بها أو يلتزم بالنذر ويتوهم بقاؤها إلى تمام مدة الإيلاء ينعقد الإيلاء، وإن كان يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وذلك كالعتق والطلاق والصوم لا يَنْعَقِدْ بالإيلاء.
وإن كانت الغاية شيئاً لا يحلف بها ولا تلتزم بالنذر؛ إن كان يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح عتق عبده، ودخول الدار، لا ينعقد الإيلاء، وإن كان لا يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وإنما يتوهم وجودها حال انقطاع النكاح وفساده كقتله أو قتلها فإنه ينعقد الإيلاء. وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: إن كانت الغاية شيئاً يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، لا ينعقد الإيلاء، سواء كانت الغاية مما يُحلف بها أو لا يحلف بها يتوهم بقاؤها إلى مدة الإيلاء أو لا يتوهم.
وإن كانت الغاية شيئاً لا يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وإنما يتوهم وجودها حال انقطاع النكاح وفساده ينعقد الإيلاء على كل حال (285ب1).(4/55)
-----
بيانه: إذا قال لامرأته: والله لا أقربك حتى أعتق عبدي فلان، أو حتى أطلق امرأتي فلانة، أو حتى أصوم شهراً، فإنه يصير مولياً عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الغاية شيء يُحلف بها غالباً، قد تلتزم بالنذر، ويتوهم بقاؤها إلى تمام مدة الإيلاء، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يكون مولياً؛ لأن الغاية يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته.
وإذا قال: والله لا أقربك حتى أقتل عبدي فلاناً، أو حتى أضرب عبدي فلاناً، فإنه لا يصير مولياً بلا خلاف. أما عندهما؛ لأن الغاية لا يحلف بها ولا تلتزم بالنذر، وأما عند أبي يوسف رحمه الله: فلأنه يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته.
وإذا قال: والله لا أقربك حتى أقتلك أو قال: حتى تقتليني، أو قال: حتى أُقْتَل أو حتى تُقْتَلي كان مولياً عندهم جميعاً.
أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فلأن الغاية وإن كانت شيئاً لا يحلف بها إلا أنه لا يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته. وأما على قول أبي يوسف رحمه الله: فلأنه لا يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته. أو نقول بأن قتلها أو قتله لا يصلح غاية؛ لأن الغاية في اليمين إنما تذكر لإخراج ما وراء الغاية بحيث لولا الغاية لتناول اليمين كلها، واليمين لا تتناول ما وراء قتل أحدهما؛ لأن النكاح لا يبقى بعد موت أحدهما، والقربان لا يتصور، فلم تصح هذه الأشياء غاية، فصار ذكرها والعدم بمنزلة، ولو لم يذكر الغاية كان مولياً كذا هاهنا.
ولو قال لامرأته وهي أمة لغيره. والله لا أقربك حتى استبرئك، لا يكون مولياً عندهم جميعاً؛ لأن ما جعله غاية يتوهم وجوده في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، بأن استبرأها لغيره.
ولو قال: لا أقربك حتى أملكك أو...... منك فهو مولي عندهم جميعاً؛ لأنه لا يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء مع بقاء النكاح وبيانه.(4/56)
-----
هذا بيان حكمه حال بقاء الغاية.
أما بيان حكمه بعد فوات الغاية فنقول: فإذا فاتت الغاية وصارت مستحيلة الكون بحيث لا توجد على ما عليه الغالب فإنه يسقط الإيلاء، سواء كانت الغاية مما يلزم مثلها ديناً في الذمة حال فواتها متى كان منذوراً بها كالصوم، أو لا يلزم مثلها ديناً في الذمة حال فواتها، بأن كان منذوراً بها كالطلاق والعتاق، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا يسقط الإيلاء بفوات الغاية أي شيء ما كانت الغاية، وتصير اليمين مرسلة فيصير مولياً حين فاتت الغاية عنده، وعلى قول محمد رحمه الله بأن كانت الغاية مما يلزم مثلها ديناً في الذمة عند فواتها لو كان المنذور بها كالطلاق والعتاق يبطل الإيلاء بفواتها، وإن كانت الغاية مما يلزم مثلها ديناً في الذمة عند فواتها لو كان منذوراً بها كالصوم المضاف إلى وقتٍ بعينه وقد فات، فإنه لا يبطل الإيلاء بفوات مثل هذه الغاية.
بيان هذا: إذا قال لها: والله لا أقربك حتى أقتل فلاناً فإنه لا يكون مولياً قبل موت فلان بالإجماع؛ لأنه يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وإنه مما لا يحلف به ولا يلتزم بالنذر عادةً، فإذا مات بطلت اليمين عندهما؛ لأن الغاية فاتت على سبيل التأبيد، وعند أبي يوسف رحمه الله: متى مات فلان صارت اليمين مرسلة، ولو قال لها: لا أقربك حتى يأذن لي فلان لا يصير مولياً؛ لأن الغاية مما لا يحلف بها ولا يلتزم بالنذر، ويتوهم وجودها في المدة مع قيام النكاح وثباته، ولكن اليمين منعقدة، فإن مات فلان قبل الإذن سقطت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف رحمهم الله: تصير اليمين مرسلة، ويصير مولياً من حيث مات حتى لو قربها قبل مضي أربعة أشهر تلزمه الكفارة، ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهرٍ بانت منه بالإيلاء.(4/57)
-----
ولو قال لها: والله لا أقربك حتى أصوم شعبان، قال ذلك في رجب لا يصير مولياً في قولهم جميعاً. أما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلأنه لا يتوهم بقاء الغاية إلى تمام مدة الإيلاء، فيمكنه قربانها بعد الغاية في مدة الإيلاء من غير شيء يلزمه. وعند أبي يوسف رحمه الله: يتوهم وجود الغاية في مدةٍ تمنع انقعاد الإيلاء فَتَحَقُّقُ الوجود أولى ولكن وجود اليمين منعقدة، فإذا طلع الفجر من أول يوم في شعبان وأكل أو صنع صنيعاً لا يستطيع معه الصوم بطلب اليمين عند أبي حنيفة رحمه الله لضرورة الغاية ما..... الوجود، وعند أبي يوسف رحمه الله بفوات الغاية صارت اليمين مرسلة وصار مولياً من حين أكل، وعند محمد رحمه الله: كما أكل يصير مولياً؛ لأن هذه غاية..... مثلها ديناً في الذمة حال فواتها لو كان منذوراً بها، وإذا قال لامرأته: إن قربتك فعليَّ صوم شعبان. لو قربها بعد مضي شعبان يلزمه صوم شهر آخر بغير عينه، وفوات مثل الغاية لا يوجب بطلان اليمين؛ لأنه يكون فائتاً إذا حلف، وإذا بقيت اليمين عند محمد رحمه الله صار مولياً من حين حلف؛ لأنه من حيث حلف صار بحالٍ لا يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأته: والله لا أقربك حتى أقرب فلانة، يريد به امرأة أخرى له، ثم قال لفلانة: والله لا أقربك، فهو مولي منها دون الأولى.(4/58)
-----
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: والله لا أطأك حتى أطأ فلانة يريد امرأة أخرى له، ثم قال لفلانة: والله لا أطأك حتى أطأ فلانة، يريد به المرأة الأولى، لم يكن مولياً من واحدة منهما من قبل أنه لا يكون مولياً من امرأته بحيث يطأها في..... خلف بها على غيره ألا ترى أنه لو قال لامرأته: والله لا أطأك حتى أدخل هذه الدار ثم قال: والله لا أدخلها لا يكون مولياً من امرأته، وعن محمد رحمه الله: فيمن قال لامرأته: إن قربتك ما دمت معي فأنت طالق ثلاثاً، قال: يطلقها تطليقة بائنة ثم يتزوجها من ساعته فيطأها ولا يحنث.
وعلى هذا إذا قال لها: والله لا أقربك ما دمت امرأتي، فأبانها ثم تزوجها لم يكن مولياً، ويقربها ولا يحنث، وهذا بخلاف ما لو قال: والله لا أقربك وأنت امرأتي، فأبانها ثم تزوجها كان مولياً منها.
عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: (286أ1) والله لا أقربك ما دام هذا النهر يجري، قال: إن كان هذا مما لا ينقطع فهو مولي، وإن كان ينقطع فليس بمولي.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: والله لا أقربك ما دمت حاملاً، أو قال: حتى تضعي، فمضت بعد ذلك أربعة أشهر لا يدخل عليه الإيلاء.
نوع آخر في الفيء في باب الإيلاء مشروع
عرف شرعه بقوله: {فإن فاءوا} (البقرة: 226) ، له تُعَد عبارة عن الرجوع، يقال: فاء الظلِّ: أي رجع، سمي الفيء في الإيلاء فيئاً لأن المولي بالإيلاء قصد منع حقها في الجماع وبالفيء يرجع عما قصد.
وأنه على ضربين:
أحدهما: بالوطء والآخر بالقول عند العجز عن الوطء فينظر في حال الزوج حتى آلى من امرأته إيلاءً مرسلاً، فإن كان صحيحاً قادراً على الجماع ، وإن كان مريضاً في كل المدة ففيئه باللسان يعتبر في حق أخذ حكمته، حتى أنه إذا فاء إليها بالجماع، ومضت المدة لا تطلق بالإيلاء.(4/59)
-----
وكذلك لو جامعها في المدة وجبت لو جامعها مرة أخرى في المدة لا يحنث، ولا تلزمه كفارة، ولو فاء إليها بلسانه ومضت المدة لا تطلق بالإيلاء، ولكن لو جامعها في المدة يحنث ويلزمها الكفارة.
فالحاصل: أن الفيء باللسان يعمل عمل الجماع في حق إبطال الإيلاء في حق الطلاق لا في حق الحنث، ويجوز أن يبطل الإيلاء في حق الطلاق ويبقى في حق الحنث ألا ترى من آلى من امرأته ثم طلقها ثلاثاً يبطل الإيلاء في حق الطلاق ولا يبطل في حق الحنث، حتى لو جامعها تلزمه الكفارة كذا هاهنا.
هذا إذا كان مريضاً في كل المدة، ولو كان مريضاً في بعض المدة وصحّ في بعض المدة وقدر على الجماع، وذلك قبل أن يفيء إليها بلسانه ففيئه بالجماع، ولو كان فاء إليها بلسانه وهو مريض ثم زال المرض في المدة وقدر على الجماع بطل الفيء باللسان، وهذا إذا كان الإيلاء مطلقاً.
فأما إذا كان معلقاً بالشرط، فإنه يعتبر الصحة والمرض في حق جواز الفيء باللسان وعلقه وقت وجود الشرط ولا وقت وجود الإيلاء، حتى أن من قال لامرأة وهو صحيح: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، فلم يتزوجها حتى مرض مرضاً لا يستطيع الجماع معه، ثم تزوجها وهو مريض وفاء إليها بلسانه، كان فيئه صحيحاً، وهذا لأن الفيء إنما يعتبر بعد انعقاد الإيلاء وإذا كان الإيلاء معلقاً بالشرط فإنما ينعقد الإيلاء بعد مباشرة الشرط، فكانت العبرة لحال وجود الشرط من هذا الوجه، والمعتبر في اعتبار الفيء باللسان: هو العجز الحقيقي دون العجز الحكمي.
وفسّر العجز الحقيقي فقال: أن يكون الزوج مريضاً لا يستطيع جماعها، أو كانت مريضة أو صغيرة لا يستطيع جماعها، أو كانت غائبة وبينهما مسافة لا يقدر على قطعها في مدة الإيلاء.(4/60)
-----
هكذا ذكر في «الجامع»، ذكر في «القدوري» على هذا فقال: أو تكون مباشرة صحيحة في مكان لا يعرفه، أو تكون المرأة رتقاء فالفيء في جميع ذلك بالقول، وذلك بأن يقول:..... إليها أو راجعتها أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الدالة على الرجوع عما عزم عليه.
وفسّر العجز الحكمي فقال: أن يكون أحدهما محرماً، ولو كان الزوج..... فهو ملحق بالعجز الحكمي على رواية: «الجامع» حتى لا يعتبر فيه باللسان، وعلى رواية «القدوري»: هو ملحق بالعجز الحقيقي حتى يعتبر فيه باللسان إذا كان لا يقدر أن يدخلها عليه.
ثم إنما يعتبر الفيء باللسان في حق المريض حال قيام الزوجية لا بعد البينونة، حتى إن المريض إذا لامس المرأة ومضت أربعة أشهر ولم يفء إليها حتى بانت منه بتطليقة ثم فاء إليها بلسانه، بعد ذلك لا يبطل الإيلاء، حتى لو تزوجها وهو مريض على حالة ثم مضت أربعة أشهر ولم يفء إليها بانت بتطليقة أخرى.
أما الفيء بالجماع: كما يعتبر حال قيام الزوجية يعتبر بعد البينونة حتى إن الصحيح إذا لامس امرأته ومضت أربعة أشهر وبانت منه بتطليقة ثم جامعها بعد ذلك يبطل الإيلاء، حتى لو تزوجها بعد ذلك ومضت أربعة أشهر أخرى من غير جماع لا يقع عليها طلاق آخر وإنما افترقا؛ لأن الفيء باللسان شرع لاستدامة الملك؛ لأن الملك صار على شرف الزوال بمضي مدة الإيلاء إذا لم يوجد الفيء، والشرع شرع الفيء باللسان لاستدامة الملك، أما ما شرع لإبطال اليمين؛ لأن بطلان اليمين حكم الحنث، والحنث بالجماع وبالفيء باللسان.
وإذا كان الفيء باللسان مشروعاً لاستدامة الملك، فإنما يصح في حال بقاء الملك، وأما بعد البينونة ليس حال بقاء الملك، وأما الفيء بالجماع كما شرع لاستدامة الملك شرع لإبطال اليمين؛ لأن الجماع شرط حنث في الإيلاء وبالحنث يبطل اليمين، وبعد البينونة إن تعذر شرعه وتصحيحه استدامة الملك.... تصحيحاً إبطالاً لليمين فصححناه والله أعلم.(4/61)
-----
الفصل الخامس والعشرون في مسائل اللعان
يجب أن يعلم بأن اللعان مشروع فيما بين الأزواج ثبت شرعه بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} (النور: 6) الآية. وبما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن بني العجلاني وبين امرأته، وبين هلال بن أمية وبين امرأته.
وسببه: قذف الرجل امرأته بالزنا. وصورته: ما قال محمد رحمه الله في «الأصل»: أن يبدأ القاضي بالزوج فيقول له: قم فالتعن، فيقول الرجل أربع مرات: أشهد بالله أني صادق فيما رميتها من الزنا ويقول في المرة الخامسة لعنة الله عليه إن كنت كاذباً فيما رميتها من الزنا. ثم تقول المرأة وتقول أربع مرات: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني من الزنا، وتقول في المرة الخامسة: غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما رماني من الزنا.
وهذا الترتيب استفيد من كتاب الله تعالى. ومحمد رحمه الله ذكر قيامهما عند اللعان وأنه ليس بأمرٍ لازم، ألا ترى أن كتاب الله تعالى لم يتعرض له؟ وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يحتاج إلى لفظة المواجهة وهو أن يقول: فيما رميتك من الزنا؛ لأنه إذا ذكر المغايبة ويمين فيه شبهة واحتمال. وقال أبو الحسن الكرخي: إذا ذكر بلفظ المغايبة وأشار (286ب1) كفى؛ لأن بالإشارة ينقطع الاحتمال.
وأهله عندنا من كان أهلاً للشاهدة، حتى أنّ اللعان لا يجري بين الزوجين عندنا إذا كانا محدودين في القذف أو أحدهما، أو كانا رقيقين أو أحدهما، أو كافرين أو أحدهما، أو أخرسين أو أحدهما، أو.I
...، أو مجنونين أو أحدهما، وفيما عدا ذلك يجري اللعان، وهذا بناءً على أن الزنا في باب اللعان عندنا: شهادات مؤكدات بالأيمان من الجانبين من كان باللعن والغصب قائمة مقام حدّ الزنا من وجه، فيشترط أهلية الشهادة من الجانبين، وإحضان المرأة لوجوبها؛ لأن قذف غير المحصنة لا يوجب الحد على القاذف.(4/62)
-----
أما بيان أن الركن في باب اللعان: شهادات مؤكدات بالأيمان، فإن الله تعالى نص على الشهادة وعلى اليمين حيث قال: {فشهادة أحدهم أربع شهادات با} (النور: 6) فقوله: {فشهادة أحدهم} نص على الشهادة، وقوله {با} يمين بعلمنا، فجعلنا الركن شهادات مؤكدات بالأيمان.
فإن قيل: العمل بالشهادة واليمين غير ممكن؛ لأن كلَّ واحدٍ من الزوجين يشهد لنفسه والشهادة شرعت حجة لغير الشهادة لا للشاهد، واليمين شرعت حجة للحالف، ولأن اللعان شرع مكرراً، والتكرار في اليمين غير مشروع في موضعٍ ما.
والدليل على أن اللعان ليس بشهادة؛ إنا أجمعنا أن اللعان يجري بين الأعمى وبين امرأته، والأعمى ليس من أهل أداء الشهادة؟
قلنا: أما الأول: العمل بينهما ممكن في الجانبين، أما في جانب الزوج فلأن الزوج يحتاج إلى الشهادة ليدفع ما ثبت عن نفسه حد القذف واحتاج إلى اليمين لتنقطع التهمة عن شهادته؛ لأنه يشهد لنفسه والمرأة كذلك تحتاج إلى الشهادة لتدفع ما ثبت عليها من الزنا بشهادة الزوج، فإن الزنا قد ثبت على المرأة بشهادة الزوج، وإليه وقعت الإشارة في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات با} (النور: 8) أشار إلى أن العذاب قد يوجه عليها بحجةٍ سبقت ويسقط ذلك بلعانها وهو معقول، فإن ما ثبت بالشهادة لا يندفع إلا بالشهادة ويحتاج إلى اليمين أيضاً لتدفع التهمة عن شهادتها.
واليمين لدفع التهمة مشروعة كما في المودع. وقوله: بأن الشهادةأن تشرع حجة للشاهد، قلنا: إنما لم تشرع حجة لمكان التهمة، وهاهنا انقطعت باليمين.
وقوله: بأن اللعان شرع مكرراً، قلنا: لأن الواجب إقامة أربع شهادات من أربع شهداء، وقد عجز عن إقامة أربع شهود، أما (ما) عجز عن إقامة أربع شهادات.(4/63)
-----
أما فصل الأعمى قلنا: لأنه من أهل الشهادة إلا أنه إنما لا تقبل شهادته لأنه لا يمكنه اليمين بين المشهود له وبين المشهود عليه إلا بالتهمة بشبه التهمة فيتمكن في شهادته بشبهة الغلط، وهذه التهمة هاهنا؛ لأن المشهود له نفسه والمشهود عليه امرأته، ويمكنه التمييز بين نفسه وبين امرأته بحيث لا تمكن فيه تهمة الغلط.
وأما بيان أنها قائمة مقام حد القذف من وجه من جانب الزوج، ومن جانب المرأة قائمة مقام حد الزنا من وجه؛ لأن اللعان شهادة من الجانبين إلا أنها شهادة حكماً وليست بشهادةٍ حقيقيةً، فمن حيث إنها ليست بشهادة حقيقيةً لم يندفع حد القذف عن الزوج إذا كانت المرأة محصنة، ومن حيث إنها شهادة حكماً ثبت الزنا على المرأة واندفع حد القذف عن الزوج، فكان حد القذف عن الزوج مندفعاً من وجهٍ دون وجه، فلم يجب الحد بالاحتمال، واكتفى باللعان الموجبة للحرمة في الدنيا، والمؤاخذة في الآخرة حداً من جانبه إن كان كاذباً، وكذلك في جانب المرأة ثبت الزنا بشهادة الزوج عليها ولم تندفع شهادتهما لنفسها من كل وجه، بل اندفعت من وجهٍ دون وجه، فلم يجب الحد عليها أيضاً بالاحتمال، واكتفى باللعان الموجبة للحرمة في الدنيا والمؤاخذة في الآخرة حدّاً في جانبها إن كانت كاذبة. ومعنى العقوبة في اللعان في حرمة المتعة في الدنيا على تبيين بعد هذا ونفي المؤاخذة في الآخرة.
فإن قيل: ما ذكرتم من المعنى ليس بصحيح، وإن الزوج لو أكذب نفسه بعد اللعان يقام عليه حد القذف، ولو كان اللعان قائماً مقام حد القذف كان بدلاً عنه، والجمع بين البدل والمبدل لا يجوز.(4/64)
-----
قلنا: اللعان إنما كان قائماً مقام حد القذف من حيث إنه يوجب حرمة المتعة في الدنيا والمؤاخذة في الآخرة لم..... بعد، والأصل أنه إذا ثبتت القدرة على الأصل قبل حصول المقصود من البدل أن يسقط حكم البدل. وحكمة: حرمة الاستمتاع إذا فرغا من اللعان من غير حكم القاضي، حتى أن بعد التلاعن لا يحل لأحدهما الاستمتاع بصاحبه. نصّ عليه محمد رحمه الله في «المنتقى» إلا أن الفرقة لا تثبت إلا بقضاء القاضي بالفرقة بينهما، وإنما ثبتت هذه الحرمة بنفس اللعان بالحديث، قال عليه السلام «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» وفي إباحة الاستمتاع اجتماع، فيحرم الاستمتاع، وإنما يوقف وقوع الفرقة بينهما على قضاء القاضي لحديث العجلاني، فإن رسول الله عليه السلام لما لاعن بين العجلاني وبين امرأته، «قال العجلاني: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثاً، ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّممقالته»، ولو كانت الفرقة تقع بنفس اللعان لأنكر.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن السُّنّة بين المتلاعنين فقال: التفريق بينهما متى فرغا من اللعان.
ثم العلماء اختلفوا في حق الحرمة التي ثبتت بينهما بنفس اللعان. قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: تثبت حرمة مؤقتة إلى غاية تكذيب أحدهما نفسه. وقال أبو يوسف رحمه الله: تثبت حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع والصهرية.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا أكذب الملاعن نفسه بعدما فرق القاضي بينهما ثم إذا أراد أن يتزوجها قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: أن يتزوجها، وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله: ليس له أن يتزوجها.
حجة أبو يوسف وزفر رحمهما الله قوله عليه السلام: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً». حجة أبي حنيفة رحمه الله: أن الثابت بالنصِّ اللعان بين الزوجين، والثابت (287أ1) بالإجماع على أصل الحرمة، فمتى أثبتت الحرمة المؤبدة فقد أثبتت الزيادة على النص والإجماع، وإنه لا يجوز.(4/65)
-----
والمعنى: أن اللعان غير موضوع للفرقة، وإنما حكم بالفرقة لفوات الإمساك بالمعروف عن جهة الزوج، ويعتبر التسريح بالإحسان، وقيام القاضي مقامه عند امتناعه عن التسريح بالإحسان، ومثل هذا يكون طلاقاً؛ لأن فعل القاضي بثباته كفعله بنفسه، وإذا ثبت أنه طلاق والحرمة الواقعة بالطلاق لا تتأبد والحديث لا حجة له فيه؛ لأن النبي عليه السلام نفى اجتماع المتلاعنين، وحقيقة هذا الاسم لمن يكون مشغولاً باللعان.... ولمن نفى اللعان في حقه حكماً، وعندنا لا يجتمعان ما بقي اللعان بينهما حكماً، وإنما يجتمعان، إذا زال اللعان حكماً بالإكذاب؛ لأنه وجب عليه حدّ القذف بإكذابه نفسه، ومن ضرورته بطلان اللعان.
ولو أكذب نفسه وجب الحد، ولو صدقته المرأة فلا حدّ ولا لعان، وإذا أخطأ الحاكم وفرق بينهما بعد وجود أكثر اللعان من واحدٍ منهما وقعت الفرقة، وإن كان قبله لم تقع.
ولو أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة قبل الزوج فإنه يعيد اللعان على المرأة فإن لم يفعل وفرق بينهما وقعت الفرقة.
ولو التقيا عند الحاكم ولم يفرق بينهما حتى عُزل، أو مات، فإن الحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يستقبل.
ولو طلقها ثلاثاً أو بائناً بعد القذف فلا حد ولا لعان.
وكذا لو تزوجها بعد ذلك ولو كان الطلاق رجعياً لاعن؛ لأن الزوجية قائمة من كل وجهٍ وكان الحال بعد الطلاق الرجعي والحال قبله سواء.
وأي الزوجين أبى أن يلتعن حُبِسَ؛ لأن في اللعان معنى اليمين والحد، إن كان فيه معنى الشهادة، والخبر يجري على اليمين والحد، إن (كان) لا يجري على الشهادة.
وإذا نفى ولد زوجته بأن قال: هذا الولد ليس مني، يلاعنها بقول الرجل: أشهد بالله أني لصادق فيما رميتك من نفي الولد، وكذا في جانب المرأة.(4/66)
-----
ولو قذفها بالزنا ونفى الولد ذكر في اللعان الأمرين، كما ذكر الزوج في القذف الأمرين، فإذا فرغ من ذلك فرّق القاضي بينهما ولزم الولد أمه، وروى عن أبي يوسف رحمه الله: أن القاضي يفرق بينهما ويقول: التزمته...... فيه من نسب الوالد؛ لأنه ليس من ضرورة اللعان والتفريق به نفي النسب، كما بعد موت الولد يفرق بينهما ولا ينتفي نسب الولد، فلا بد من تصريح القاضي بنفي الولد لهذا.
أما إذا ثبت بإقراره أو بطريق الحاكم لا ينتفي بعد ذلك، وأما إذا ثبت بإقراره فلأنَّ الإنكار بعد الإقرار غير مسموع، وأما إذا ثبت من طريق الحاكم.
بيانه: فيما روي عن محمدٍ وأبو يوسف رحمه الله في رجلٍ جاءت امرأته بولد فنفاه، فلم يلاعنها حتى قذفها أجنبي بالولد، ثبت نسب الولد ولا ينتفي بعد ذلك؛ لأنه لما حُدَّ قاذفها فقد حكم بكذبه، وذلك حكم بثبات النسب، والنسب المحكوم به لا ينتفي.
ولو نفى ولد زوجته فهما ممن لا لعان بينهما لا ينتفي؛ لأن المثبت للنسب وهو الفراش وأتم القطع باللعان، فإذا امتنع انعدم القاطع فيثبت النسب بسببه.
وكذلك لو كان العلوق في حالٍ لا لعان بينهما ثم صار الحال يتلاعنان، نحو إن كانت المرأة أَمَةً أو كتابيةً حالة العلوق فأعتقت أو أسلمت، فإنه لا تتلاعن ولا ينتفي نسب الولد؛ لأن ثبات النسب وقت العلوق. فإذا كان العلوق على وجهٍ لا يمكن قطعه وإبطاله فلا يعتبر هذا الحكم بعد ذلك.
ولو نفى ولد الحرة فصدقته فلا حدّ على الزوج ولا لعان، وهو أنهما لا يصدقان على النفي، أما لا حدّ ولا لعان لمكان التصديق، وأما يصدقان على نفي نسب.... الولد فلأن نسب الولد قد ثبت بحكم الفراش والقاطع هو اللعان، واللعان ممتنع.
ولو جاءت بولدين في بطنٍ واحد فأقرّ بالأول ونفى الثاني لزمه الولدان ويلاعنها.(4/67)
-----
ولو نفى الأول وأقرّ بالثاني حدّ؛ لأن في المسألة الثانية بنفي الأول صار قاذفاً لها بالزنا، وبالإقرار للثاني صار مكذباً نفسه ذلك النفي؛ لأن الإقرار بنسب أحدهما إقرار بنسبتهما؛ لأنهما توأمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حق النسب، وهذا التكذيب (إن) وجد بعد النفي حقيقة وحكماً فيلزمه الحد، فأما في المسألة الأولى بنفي الثاني صار قاذفاً لها بالزنا، وبالإقرار صار مكذباً نفسه في نفي الثاني حكماً حيث إن الإقرار للأول باقي، ولكن هذا أمر حكمي، أما الإقرار بعد القذف لم يوجد حقيقة. فباعتبار الحكم أن صار مكذباً نفسه، فباعتبار الحقيقة لا يصير مكذباً بنفسه فلا يجب الحد مع الشك.
.... نفاهما ثم مات أحدهما أو قتل لزمه الولدان؛ لأنه لزمه نسب الميت على وجهٍ لا يمكن قطعه فيلزمه نسب الآخر ضرورةً وبطل اللعان في قول أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: لا يبطل؛ لأن حكم اللعان ينفصل عن الولد في الجملة، فامتناع قطع نسب الولد لا يمنع اللعان، وأبو يوسف رحمه الله يقول: القذف حال وجوده انعقد موجباً إلغاء ما ينقطع له نسب الولد، فلو بقي بعدما صار نسب الولد بحال لا ينقطع لا يكون البقاء على وقف الثبوت.
ولو ولدت أحدهما ميتاً فنفاهما لزمه الولدان ويلاعن، لأن القذف هاهنا انعقد موجباً إلغاء ما لا ينقطع به نسب الولد فيكون البقاء على وقف الثبوت، بخلاف المسألة الأولى على قول أبي يوسف رحمه الله.
وإذا نفى حمل امرأته فليس بقاذف ولا لعان في قول أبي حنيفة رحمه الله وزفر، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لاعَنَهَا، فإن كان أكثر يلاعن، وأجمع أصحابنا أنه لا ينتفي نسبه وهو حملٌ؛ لأن انتفاخ البطن محتمل، يحتمل أن يكون عن ولدٍ، ويحتمل أن يكون عن ولد ويحتمل أن يكون عن ريح أو علة أخرى، فتمكنت الشبهة، واللعان فيما بين الأزواج أقيم مقام الحد فيما بين الأجانب فلا يقام مع الشبهة.(4/68)
-----
بقي الكلام بين أبي حنيفة وصاحبيه (287ب1).
حجتهما: أنها لما جاءت به لأقل من ستة أشهرٍ يثبتان أن الحبل كان موجوداً حين نفاه عن نفسه فكان هذا ونفيه بعد الولادة سواء، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن انتفاخ البطن لما كان محتملاً لما مرّ لا يصح النفي للحال، فيصير الفرق في معنى المعلق كأنهُ قال: إن كنت حاملاً فأنت بائنة.
الفصل السادس والعشرون في مسائل العدة بالحيض
يجب على المطلقة، وكذلك بالفرقة عن النكاح الفاسد، وكذلك بالوطء بشبهة النكاح؛ لأن الفاسد معتبر بالجائز في حق الأحكام، والشبهة ملحقة بالحقيقة في موضع الاحتياط، وتعتبر العدة في النكاح الفاسد من وقت التفريق، كذا ذكر الكرخي رحمه الله، والشهور تدل على الحيض فيمن لا تحيض لصغر أو كبر أو فقد حيض. يعني به: الآيسة. والحرة تعتد بثلاث حيض وثلاثة أشهر، والأمة تعتد بحيضتين وبشهرين ونصف، وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حائلاً وهي حرة أربعة أشهرٍ وعشراً، يستوي في ذلك الدخول وعدم الدخول والصغر والكبر.
ولا تجب هذه العدة إلا في النكاح الصحيح، حتى أن المنكوحة نكاحاً فاسداً إذا مات عنها زوجها تعتد بثلاث حيض؛ لأن الله تعالى نص على الأزواج مطلقاً بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} (البقرة: 240) ومطلق هذا الاسم لا يثبت إلا بالنكاح الصحيح.(4/69)
-----
وإن كان المتوفى عنها زوجها أمة وهي حائل فعدتها شهران وخمسة أيام. وفي الحامل عدتهما أن تضع حملها، الحرة والأمة والمطلّقة والمتوفى عنها زوجها في ذلك سواء؛ لأن قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (الطلاق: 4) لا يفصل بين الحرة والأمة والمطلقة والمتوفى عنها زوجها، ولا تقدير في حدّ الآيسة بالسنين في رواية، وإياسها على هذه الرواية أن تبلغ من السن ما لا يحيض مثلها، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع الدم يحكم بإياسها. وإن رأت بعد ذلك دماً يكون حيضاً على هذه الرواية ويظهر كونها حائضاً في حق بطلان الاعتداد بالأشهر، وفي فساد الأنكحة. وفي رواية فيها تقدير.
واختلفت الأقاويل في التقدير. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار خمسة وخمسون سنة، وعليه أكثر المشايخ، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع دمها حكم بإياسها. فإن رأت الدم بعد ذلك هل يكون حيضاً على هذه الرواية؟ فقد اختلف المشايخ فيما بينهم.
قال بعضهم: لا يكون حيضاً ولا يبطل به الاعتداد بالأشهر، ولا يظهر فساد الأنكحة، وقال بعضهم: يكون حيضاً ويبطل به الاعتداد بالأشهر؛ لأن الحكم بالإياس بعد خمس وخمسين سنة كان بالاجتهاد و...... بالنص، فإذا رأت الدم فقد وجد النص بخلاف الاجتهاد فيبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، ولهذا قال هؤلاء المشايخ: الدم المرئي بعد هذه المدة إنما يكون حيضاً إذا كان أحمر أو أسود، أما إذا كان أخضر أو أصفر لا يكون حيضاً؛ لأن يكون هذا المرئي ثبت حيضاً بالاجتهاد فلا يبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، فعلى قول هؤلاء: يبطل الاعتداد بالأشهر، ويظهر فساد الأنكحة، وقال بعضهم: إن كان القاضي قضى بجواز ذلك النكاح ثم رأت الدم، لا يقصى بفساد ذلك النكاح.
وطريق القضاء: أن يدعي أحدهما يعني أحد الزوجين فساد النكاح بسبب قيام العدة فيقضي القاضي بجوازه. وانقضاء العدة بالأشهر.(4/70)
-----
وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يفتي: بأنها لو رأت الدم بعد ذلك على أي جهة رأت يكون حيضاً، ويفتي ببطلان الاعتداد بالأشهر إن كانت رأت الدم قبل تمام الاعتداد بالأشهر، وبفساد الأنكحة إن كانت (رأت) الدم بعد تمام الاعتداد بالأشهر، قضى القاضي بجواز الأنكحة أَمْ لا.
وعدة أم الولد ثلاث حيض، إذا أعتقها مولاها أو مات عنها عندنا، والأصل فيه: ما روي «(أن) مارية القبطية اعتدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أقراء فكانت هي أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّمولا تعرف المقادير قياساً فالظاهر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولأن فراش أم الولد بعد العتق ملحق بفراش المنكوحة الحرة في حق حكم يتعلق بقيام الفراش وهو النسب، حتى يثبت نسب ولدها من غير دعوى.
ولا ينتفي بمجرد النفي فيلحق بفراش المنكوحة في حق حكم يتعلق بزوال الفراش وهو العدة أيضاً، وإذا وجبت العدة بالشهور في الطلاق و.....
وإن اتفق ذلك في عدة الشهر اعتبرت الشهور بالأهلّة، وإن نقص العدد من ثلاثين يوماً، وإن اتفق ذلك في خلال الشهر فإن عند أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله يعتبر مائة وثلاثون يوماً، وعند محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله: يحتسب الشهر الأول بالأيام ويكمل من الشهر الأخير، وباقي الشهور بالأهلة.
فإذا كانت المعتدة حاملاً فولدت ولدين انقضت العدة بأحدهما لأن الله تعالى جعل الأجل في حق الحامل وضع الحمل، والحمل اسم للجملة.(4/71)
-----
وقيل في الرجعية: إذا ظهر منها أكثر الولد بانت ولا تحل للأزواج احتياطاً، فمن مشايخنا من قال: ينبغي أن تحل للأزواج؛ لأن الحل للأزواج معلق بانقضاء العدة وقيام حق الرجعة يبتدىء شرط قيام العدة، فإذا انقطعت الرجعة: دلّ ذلك على انقضاء العدة، فتحل للأزواج، ومنهم من فرق بينهما؛ لأن الأكثر إنما يقام مقام الكل في حق انقطاع الرجعة احتياطاً، والاحتياط في أن لا يقام مقام الكل في حق حِلِّها للأزواج.
وروى هشام عن محمد رحمهما الله: إذا طلقها وهي حامل فإذا خرج الولد من قِبَلِ الرجلين أو من قِبَلِ الرأس النصف من البدن سوى الرجلين وسوى الرأس فقد انقضت العدة، قال محمد رحمه الله: والبدن هو من..... إلى منكبيه. ويجب على الكتابية إذا كانت تحت مسلم ما يجب على المسلمة، الحرة كالحرة، والأمة كالأمة.
وإن كانت تحت ذمِّي فلا عدة عليها في الموت، ولا فرق في قول أبي حنيفة رحمه الله (288أ1) إذا كان كذلك في دينهم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليها العدة؛ لأنّ في العدة حق الزوج إن كان فيها حق الشرع، والكتابية مخاطبة بحقوق العباد، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن العدة لو وجبت على الكتابية إما أن تجب بحق الشرع، ولا وجه إليه؛ لأنهم لا يخاطبون بحقوق الشرع، وإما أن يجب لحق الزوج ولا وجه إليه أيضاً؛ لأنه لا يعتقد ذلك، بخلاف ما إذا كان الزوج مسلماً؛ لأن العدة هناك تجب حقاً للزوج؛ لأنه يعتقد ذلك.
فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله(4/72)
-----
فقال: إذا كانت حاملاً تمنع من التزويج إذا كان ذلك في دينهم، هكذا وقع في بعض النسخ. وفي بعض النسخ: بعض إذا كانت حاملاً تمنع من التزويج على قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يذكر إذا كان كذلك في دينهم فإن كانت الرواية تمنع عن التزوج من غير ذكر تلك الزيادة فوجهه أن المنع من التزوج على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما كان لوجوب العدة بل (لكونه) في بطنها ولد ثابت النسب، ألا ترى أن المولى إذا زوّج أم ولده وهي حامل فإنه لا يجوز وإن لم يكن عليها عدة؛ لأن في بطنها ولد ثابت النسب.
وإذا كانت الرواية: إذا كان ذلك في دينهم يجوز أن يقال بأنّ المنع عن التزويج لوجوب العدة؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله يرى وجوب العدة على (أهل) الذمة لحق زوجها الذمي إذا كان زوجها يدين بذلك.
لا عدة على المهاجرة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال: تجب.
معنى المسألة: الحربية إذا هاجرت إلى دار الإسلام مسلمة، فوجه قولهما: أن الفرقة وقعت في دار الإسلام وهي مسلمة، فكانت كسائر المسلمات.
ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم المؤمنات} إلى قوله: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن} (الممتحنة: 10) أباح التزوج بالمهاجرات مطلقاً، ولم يشترط انقضاء العدة، فهذا دليل على أن العدة.... ولأن العدة أثر من آثار النكاح وتباين الدارين حقيقة وحكماً، فبقي النكاح على ما عرف في موضعه فينافي أثره وهو العدة.(4/73)
-----
وإن كانت حاملاً فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان: روى أبو يوسف رحمه الله عنه: أنه يجوز النكاح ولا يطأها حتى تضع وهو اختيار الكرخي رحمه الله وروى محمد رحمه الله عنه أنه لا يتزوجها وجه رواية أبي يوسف رحمه الله أن المنع عن التزويج في الحامل إذا كانت مسلمة لحق صاحب الفراش، ولا حرمة لحق الحربي. وجه رواية محمد رحمه الله: أن النكاح وضع لإثبات الفراش الذي هو أساس النسب، ولما كان في بطنها ولدٌ ثابت النسب كان عليها فراشاً لصاحب النسب، فلا يستقيم إيراد يثبت الفراش لغيره.
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله ما يدل على أنه لا عدة على المهاجرة، فإنه قال: إذا خرجت وتركت زوجها في دار الحرب وهي حامل فتزوجت جاز، وإن جاء الزوج مسلماً وتركها في دار الحرب فلا عدة عليها في قولهم جميعاً، وقد فرقوا بين الذمية والحربية فأوجبوا العدة على الذمية من المسلم، ولم يوجبوها على الحربية.h
والفرق: أن الذمية من أهل دار الإسلام قد شاع في دار الإسلام....، فلهم الشيوع مقام البلوغ.
فأما الحربية في دار الحرب فلا شيوع في دار الحرب فلا يقام مقام البلوغ. وبدون البلوغ لا يثبت حكم النكاح. وإلحاق (الخلوة) الصحيحة يوجب العدة في النكاح الصحيح دون الفاسد؛ لأن الخلوة إنما أقيمت مقام الوطء لوجود التمكين من الوطء، ولا يمكن في النكاح الفاسد فلا تقام الخلوة مقامه.
والخلوة الفاسدة على ضربين.
وكل خلوة يتمكن بها من الوطء حقيقة وهو ممنوع لحق الشرع تجب العدة، كما لو كان أحدهما صائماً أو محرماً أو حائضاً. وكل خلوة لا يمكن معها الوطء كخلوة المريض المزمن أو الصغير أو الصغيرة فلا عدّة. هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه».
والخصي كالفحل في حق الولد والعدة، كذا ذكر في «الأصل» ولو خلا بها وهي رتقاء فلا عدة عليها. هكذا ذكر في «القدوري»، وفي «المنتقى» وفي «الأصل» أن عليها العدة؛ لأن الوطء يتصور بالفتق.(4/74)
-----
ولو خلا بها وهي.... فعليها العدة في قول أبي حنيفة رحمه الله: لأن احتمال يزول...... قائم وفي العدة حق الولد وحق الله تعالى فيحتاط فيها وأما على قولهما ذكر أبو الحسن رحمه الله العدة واجبة وعلى قولهما أيضاً. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان ينزل فعليها العدة وإن كان لا ينزل فلا عدة عليها.
إذا طلق الرجل امرأته وهي صغيرة لم تحض، وقد دخل بها فعليها أن تعتد بثلاثة أشهر. هذا هو جواب «الكتاب». حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إذا كانت الصغيرة مراهقة يُجامَع مثلها وقد كان دخل بها الزوج فعدتها لا تنقضي بالأشهر بل يوقف حالها إلى أن تظهر أنها هل حبلت بذلك الوطء أم لا، فإن ظهر أنها حبلت كان انقضاء عدتها بوضع الحمل. وإن ظهر أنها لم تحبل كان انقضاء عدتها بثلاثة أشهر.
ولو حاضت في الأشهر الثلاثة تستأنف العدة بالحيض؛ لأنها قدرت على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل. ذكر النسفي رحمه الله في «فتاويه»: اختلف مشايخنا في إطلاق إيجاب العدة على الصغيرة، أكثر مشايخنا: لا يُطْلِقُون لفظ الوجوب، لأنها غير المخاطبة، ولكن ينبغي أن يقال: «عرت باندراتسيت»
وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج صبيّةً (عمرها) ثلاثة عشر سنة وخلا بها وقال: لم أدخل بها، ثم فارقها. قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: أحبّ إليَّ أن تعتد بثلاثة أشهر؛ قال لأن من النساء من يحتمل الجماع إذا بلغت عشراً، أو أَخَذَ في ذلك بالثقة.
وفي «الفتاوى»: امرأة بلغت فرأت يوماً دماً ثم انقطع عنها الدم حتى مضت سنة، ثم طلقها زوجها فعدتها بالأشهر؛ لأنها لم تحض، فدخلت تحت قوله تعالى: {واللائي لم يحضن} (الطلاق: 4) .(4/75)
-----
إذا أقرّ الرجل أنه طلق امرأته منذ خمسين سنة، فإن كذبته المرأة في الإسناد أو قالت: لا أدري تجب العدة من وقت (288ب1). الإقرار، قالوا: هذا الجواب في حق النفقة والسكنى، أما في حق حل التزوج بأختها وأربع سواها تعتبر العدة من وقت الطلاق، وهكذا ذكر في «الجامع» في باب نكاح المخاطبة.
وذكر شيخ الإسلام في شرح إقرار «الأصل» أن في حق التزوج بأختها وأربع سواها تعتبر العدة من وقت الإقرار أيضاً، فيتأمل عند الفتوى.
وإن صدقته المرأة في الإسناد، قال محمد رحمه الله في طلاق «الأصل»: تجب العدة من وقت الطلاق، واختيار مشايخ بلخ على أنه تجب العدة من وقت الإقرار عقوبة عليه، جزاءً على كتمانه للطلاق، ولكن لا تجب عليه نفقة العدة ولا مؤنة السكنى؛ لأن ذلك حقها وقد أقرت هي بسقوطه وينبغي على قول هؤلاء أن لا يحل له التزوج بالأخت والأربع سواها ما لم تنقض العدة من وقت الإقرار.
وحكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي أنه قال: كان يقول ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل»: أن العدة تعتبر من وقت الطلاق محمول على ما إذا كانا متفرقين من الوقت الذي أسند الطلاق إليه. أما إذا كانا مجتمعين فالكذب في كلامهما ظاهر فلا يصدقان في الإسناد.
قال محمد رحمه الله: على هذا إذا فارق الرجل امرأته زماناً ثم قال لها: لقد طلقتك منذ كذا، والمرأة لا تعلم بذلك يصدق وتعتبر عدتها ذلك من الوقت.
وإذا طلق امرأته في مرض الموت ثلاثاً أو طلاقاً بائناً ثم مات قبل انقضاء العدة فورثت، اعتدت بأربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: عليها ثلاث حيض، وكذلك كل بعيدة ورثت، يريد به: إذا ارتد الزوج فقتل أو مات في الردة ورثت وعليها من العدة ما بيّنّا على الاختلاف.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن النكاح انقطع فيما بينهما قبل الموت بالطلاق الثاني والطلقات الثلاث، ولهذا يجب الحدّ إذا وطئها ولم يدع شبهة فلا تنتهي بالموت.(4/76)
-----
وعدة الوفاة إنما تجب بانتهاء النكاح بالموت. يبقى هذا القدر أنها ترث. قلنا: إنما ترث باعتبار العدة لا باعتبار النكاح لأن الزوج لما قصد الفرار رد الشرع عليه قصده وأقام العدة مقام النكاح في حق الإرث فالإرث باعتبار العدة لا باعتبار النكاح. ولهما: أن الزوجية في حق الإرث باقية، لأن جريان الإرث فيما بين الزوجين عرف بالنص، والنص أوجب الإرث باسم الزوج، فبدا بذلك أن متعلق الإرث الزوجية، ..... الإرث دلّ على بقاء الزوجية في حق الإرث، فإذا بقيت الزوجية في حق الإرث تنتهي بالموت في حق الإرث، فتجب عدة الوفاة بانتهاء النكاح، وقد كانت عدة الطلاق واجبة بانقطاع النكاح بينهما في حق أحكام أُخَر، فجمعنا بينهما احتياطاً.
وإذا كان الطلاق رجعياً في صحة أو مرض، فعدتها أربعة أشهر وعشراً وقد بطل عنها الحيض في قولهم؛ لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح عندنا فكانت الزوجية قائمة لدى الموت، والله تعالى جعل الواجب على المرأة عند موت الزوج التربص بأربعة أشهر وعشراً، فكان من ضرورته سقوط الاعتداد بالحيض.
وإذا مات الصبي عن امرأة وهي حامل فعدتها (إلى) أن تضع حملها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: عدتها الشهور.
وجه قوله: إن ظاهر قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} (البقرة: 234) تقضي وجوب الاعتداد بالأشهر على كل متوفى عنها زوجها من غير فصلٍ بينهما إذا كان الزوج بالغاً أو صبّياً، لكن ترك ظاهر الآية فيما إذا كان الزوج بالغاً بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان الزوج صغيراً فبقي على ظاهره.(4/77)
-----
وهما يقولان أن ظاهر قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعنَ حملهن} (الطلاق: 4) يقتضي انقضاء العدة في حق الحامل بوضع الحمل مطلقاً من غير فصلٍ بينهما إذا كان الزوج صغيراً أو بالغاً، وإن كان الحبل حادثاً بعد الموت فعدتها بالشهور في قولهم؛ لأن العبرة في حق وجوب العدة بحال وجوبها وحال وجوب العدة عند الموت، فإذا لم تكن حاملاً عند الموت وجبت العدّة بالأشهر بالآية فلا تتغير بحدوث الحمل بعد ذلك. قال أبو الحسن: العدة تنقضي بحملها، ظاهراً كان عند الموت أو غير ظاهر. والذي لا تنقضي العدة الحادث وهذا صحيح؛ لأن شرط الدخول تحت قوله تعالى: {وأولات الأحمال} (الطلاق: 4) قيام الحبل، لا كونه ظاهراً عند الناس.
قال أبو الحسن: وإن حملت التي عدتها الحيض بعد الطلاق حملاً حادثاً فعدتها أن تضع حملها، وإن كان لأكثر من سنتين إذا علم أنها حبلت بعد لزوم العدة لأن الاعتداد بالحيض إنما شرع لتُعْرَفَ براءَةُ الرحم، ومع قيام الحمل لا يحصل تعرّف براءة الرحم فيشترط براءة الرحم لانقضاء العدة.
وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: (رجل) طلق امرأته ثلاثاً وكتم طلاقها بين الناس. فلما حاضت حيضتين وطئها فحبلت ثم أقرّ بطلاقها كان لها النفقة ما لم تضع؛ لأن عدتها في هذه الصورة تنقضي بوضع الحمل على ما ذكرنا.
وإذا بلغ المرأة طلاق زوجها أو موته فعليها العدة من يوم مات أو طلق؛ لأن العدة ليست إلا مدة ضربت لها لمناجزة عمل الطلاق أو لإنهاء النكاح من كل وجهٍ بالموت، ومضي العدة لا يتوقف على التي لم (تعتد).(4/78)
وإذا طلق امرأته ثلاثاً، فلما اعتدت بحيضتين أكرهها على الجماع، إن كان ينكر أنه طلقها تستقبل العدة، وإن كان مقرّاً بطلاقها مع هذا جامعها على وجه الزنا لا تستقبل العدة. وكذلك من طلق امرأته ثلاثاً ثم أقام معها زماناً، إن أقام منكراً طلاقها لا تنقضي عدتها، كذا حكي جواب المشايخ وجوباً لهما. وإن أقام مقرّاً بطلاقها انقضت عدتها.(4/79)
-----
ولو وطئها وادعى الشبهة بأن قال: ظننت أنها تحلُّ لي، فإنها تستقبل العدة بكل وطئةٍ وتداخل مع الأولى؛ لأنه لا تنقضي الأولى. فإذا انقضت الأولى وبقيت الثانية أو الثالثة فإنها لا تستحق النفقة في هذه الحالة؛ لأن هذه (289أ1). عدة الوطء لا عدة النكاح، والمرأة لا تستحق النفقة في عدة الوطء، وإن كان الطلاق بائناً واحداً أو اثنتين، ثم وطئها في العدة من غير دعوى الشبهة، ومع العلم بالحرمة تستأنف العدة، وذكر في «مجموع النوازل» أنها لا تستأنف العدة، والأول أصح.
وكذلك لو خالعها بمال أو بغير مال، ثم وطئها في العدة مع العلم بالحرمة تستأنف العدة أيضاً بكل وطئة وتداخل مع الأولى؛ لأن لا تنقضي الأولى، وهذا لأن الخلع من كنايات الطلاق، وفي الكنايات اختلاف الصحابة أنها.... أو رواجع، فعلى قول من يقول: رواجع كان الوطء بعد الطلاق الثاني كالوطء في حال قيام النكاح، فتبطل به العدة، ويجب الاستئناف. فثبت شبهة بطلاق العدة ويجب الاستئناف، وإذا انقضت الأولى بقيت الثانية أو الثالثة كانت الثانية أو الثالثة عدة الوطء حتى لو طلقها الزوج في هذه الحالة لا يقع طلاق آخر. فالأصل أن المعتدة بعدة الطلاق يلحقها الطلاق، والمعتدة بعدة الوطء لا يلحقها الطلاق.
وإذا قال زوج المعتدة: أخبرتني أن عدتها قد انقضت، وذلك في عدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قولها إن أخبرت بذلك بنفيها وهذا معروف. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إلا أن يعتبر ما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق أو نحوه، فحينئذٍ يقبل قولها.
وإذا أخبر عن انقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة وكذبت المرأة فهي خلافية معروفة، وإذا أخبر عن انقضاء عدتها، ولم يسند الخبر إليها، فهو على الخلاف أيضاً.
نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله في آخر الباب الأول من «شرح كتاب النكاح».(4/80)
-----
وإذا وجبت العدتان من جنس واحد كالمطلقة إذا تزوجت في عدتها فوطئها الثاني، وفرق بينهما، ومن جنسين كالمتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة تداخلت، واعتدت بمارأته في الحيض في الأشهر، وإنما كان كذلك؛ لأن العدة في الأصل إنما وجبت تعرفاً لبراءة الرحم، لحاجة الأزواج إلى صيانة مائهم عن الاختلاط، وهذا المعنى وهو تعرف براءة الرحم يحصل لكل واحد من صاحبي العدة بمدة واحدة على الكمال، فلا حاجة إلى اشتراط مدتين.
نوع منها في انتقال العدة
الصغيرة إذا اعتدت ببعض الشهور، ثم رأت الدم انتقلت إليه مبتوتة كانت أو رجعية، وكذا الآيسة إذا أعتدت ببعض الشهور ثم رأت الدم انتقلت إليه، هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»: وهذا على الرواية التي لم يقدر الإياس فيها، وعلى الرواية التي قدر الإياس فيها على قول بعض المشايخ، ولو اعتدت بحيضة أو حيضتين ثم آيست استقبلت العدة بالشهور، ولو طلق الأمة ثم أعتقت، فإن كان الطلاق رجعياً انتقلت إلى عدة الحرائر، وإن كان بائناً لم تنتقل.
والفرق أن الطلاق إذا كان رجعياً فالعتق حلها وملك النكاح قائم لما عرف أن بالطلاق الرجعي لا يزول ملك النكاح عندنا فيشرف بالعتق، والملك الشريف لا يزول بعد الطلاق إلا بمضي ثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر كما في العدة الأصلية أما بالطلاق الثاني زال ملك النكاح مطلقاً إلا في حق الفراش فلما زال ملكه لا يتصور تشرفه بالعتق، أما المطلقة إذا مات عنها زوجها، فإن كان الطلاق رجعياً انتقلت إلى عدة الوفاة، وإذا كانت مبتوتة، فإن كانت لا ترث لم تنتقل إلى عدة الوفاة، فإن كانت ترث فقد ذكرنا الاختلاف فلا نعيده.(4/81)
-----
قد ذكرنا أن المطلقة إذا حبلت بعد الطلاق، فعدتها أن تضع حملها، فأما المتوفى عنها زوجها فعدتها الشهور إذا حبلت؛ لأن عدة الطلاق إنما تنتقل بالحبل؛ لأن المقصود منها تعرف براءة الرحم، ووضع الحمل أدل على براءة الرحم، أما المقصود من هذه العدة ليس تعرف براءة الرحم، ألا ترى أنها تجب قبل الدخول؟ وإنما المقصود منها إظهار التأسف على فوات نعمة الزوجية في هذا المقصود لا يتفاوت، وقال محمد رحمه الله: إن حبلت بعد الطلاق، ثم جاءت بولد لا أكثر من سنتين حملنا أمرها على أنها تزوجت بعد انقضاء العدة قبل وضع الحمل لست أشهر؛ حملاً لأمرها على الصلاح.
وإذا زوج الرجل أم ولده ثم مات عنها وهي تحت (زوج) أو في عدة من زوج فلا عدة عليها، يعني من المولى؛ لأن العدة إنما تجب من المولى لزوال فراشه، ولا فراش للمولى عليها إذا كانت تحت زوج أو في عدة من زوج، فإن طلقها الزوج بعد الإعتاق فعدتها عدة الحرائر، فإن طلقها أولاً ثم أعتقها المولى فإن كان الطلاق رجعياً انتقلت إلى عدة الحرائر، وإن كان بائناً لا تنتقل، وإذا انقضت عدتها من الزوج، ثم مات المولى فعليها ثلاث حيض عدة المولى؛ لأنها عادت فراشاً للمولى بانقضاء عدة الزوج.
وإذا اشترى الرجل زوجته ولها منه ولد فأعتقها فعليها ثلاث حيض حيضتان من النكاح تجتنب فيهما ما تجتنب المنكوحة، وحيضة في العتق لا تجتنب فيها كما تسرّابها أفسد النكاح ووجبت العدة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يزوجها من غيره؟ إلا أنه لم يظهر حكم العدة في حقه لقيام حل الوطء له بملك اليمين، فإذا زال هذا المعنى ظهر حكم العدة في حقه، فتجب حيضتان لفساد النكاح بينهما وهي أمة فيلزمها ثلاث حيض بالإعتاق إلا أن العدتان متداخلتان، فما وجب من الحيضتين لفساد النكاح يعتبر ثان من الإعتاق ولكن يجب الحداد في الحيضتين الأوليين ولا يجب في الحيضة الثالثة لأنها تخص عدة أم الولد ولا حداد في عدة أم الولد.(4/82)
-----
فإن كان أبانها قبل الشراء ثم اشتراها حل له وطؤها؛ لأن ملك اليمين سبب لحل الوطء، والمطلقة الواحدة لا تمنع عمل هذا النسب فإن ثلاث حيض قبل العتق ثم أعتقها فلا عدة عليها من النكاح؛ لأنها صارت معتدة بعد الشراء لفساد النكاح إلا أن أثر العدة لأنه ظهر في حق الزوج، وإنما يظهر في حق غيره، وإذا صارت معتدة انقضت عدتها بمضي المدة وتجب (289ب1) عليها العدة ثلاث حيض، وقوله في «الكتاب»: حاضت ثلاث حيض قبل العتق وقعت اتفاقاً، والصحيح حاضت حيضتين؛ لأن تلك العدة تجب لفساد النكاح وهي أمة، وعدة الأمة إذا وجبت بفساد النكاح مقدرة بحيضتين.
نوع آخر في بيان ما يلزمها المعتدة في عدتها
المعتدة من الطلاق لا تخرج من بيتها ليلاً ولا نهاراً، أما المتوفى عنها زوجها، فلا بأس بأن تخرج بالنهار لحاجتها، ولا تبيت في غير منزلها.
والفرق: أن نفقة المتوفى عنها زوجها عليها، وعسى لا تجد من يسوي أمرها، فتحتاج إلى الخروج لتسوية أمر معيشتها غير أن أمر المعيشة عادة تسوى بالنهار دون الليالي، فأبيح لها الخروج بالنهار دون الليالي.
وأما المطلقة فنفقتها في مال الزوج فلا تحتاج إلى الخروج حتى لو كانت مختلف على نفقة لها قيل: يباح لها الخروج نهاراً لمعيشتها كالمتوفى عنها زوجها، وقيل: لا يباح لها الخروج؛ لأنها هي التي اختارت إبطال النفقة فلا يصح هذا الاختيار في إبطال حق الله تعالى، وبهذا يفتي الصدر الشهيد رحمه الله، وهذا بمنزلة ما لو اختارت على أن لا سكنى لها فإنه تبطل مؤنه السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكون في بيت الزوج، فأما أن يحل لها خروج فلا.
وعن ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه قال: المتوفى عنها زوجها لا بأس أن تغيب عن بيتها أقل من نصف الليل. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهذه الرواية صحيحة؛ لأن المحرم عليها البيتوتة في غير منزلها، والبيتوتة هي الكينونة في جميع الليل أو أكثرها.(4/83)
-----
وتعتد المتعدة في المكان الذي سكنت قبل مفارقة الزوج وقبل موته قال الله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} (الطلاق: 1) والإضافة إليهم باعتبار السكنى في البيوت التي كن يسكن فيها قبل المفارقة، ولو طلقها وهي غائبة كان عليها أن تعود إلى منزلها فتعتد فيه، وإذا طلقها ثلاثاً أو واحدة بائنة، وليس له إلا بيت واحد، فينبغي له أن يجعل بينه وبينها حجاباً حتى لا تقع الخلوة بينه وبين الأجنبية، وإنما اكتفى بالحائل؛ لأن الزوج معترف بالحرمة، فإن كان الزوج فاسقاً يخاف عليها منه فإنها تخرج وتسكن منزلاً آخر احترازاً عن المعصية، وإن خرج الزوج وتركها فهو أولى، وإن أراد القاضي يجعل معها امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فهو حسن، وللمعتدة أن تخرج من بيتها إلى صحن الدار وتلبث في أي منزل شاءت إلا أن يكون في الدار منازل لغيرهم فلا تخرج من بيتها إلى تلك المنازل؛ لأن صحن الدار ههنا بمنزلة السكة، وإن كانت المرأة مع زوجها في منزل هو ملك الزوج، فمات الزوج، فإن كان نصيبها يكفيها فإنها تسكن في نصيبها في العدة..... ليس بمحرم لها من ذرية الزوج، وإن كان نصيبها لا يكفي لها، فإن رضي ورثة الزوج، أن تسكن فيه سكنت، وإن أبوا كانت في سعة من التحويل، ويكون ذلك عذراً لها في التحول.
قال القدوري رحمه الله في «كتابه»: والمطلقة ثلاثاً أو رجعياً أو بائناً وسائر وجوه الفرق التي توجب العدة من النكاح الصحيح والفاسد سواء، يعني: في حق حرمة الخروج عن بيتها في العدة؛ لأن الله تعالى نهى المطلقة عن الخروج مطلقاً، والمعنى صيانة الماء عن الاختلاط، والنسب من الاشتباه وذلك يتفاوت، فهذه المسألة تقتضي أن المنكوحة نكاحاً فاسداً تعتد في بيت الزوج، وحكى فتوى شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنها لا تعتد في منزل الزوج؛ لأنه لا ملك للزوج عليها، وإنه يخالف رواية «القدوري».(4/84)
-----
وإذا أراد الزوج أن يلزم المرأة أن تعتد بجوار القاضي فليس له ذلك وتعتد في مسكنها قبل مفارقة الزوج، وإذا كانت مع زوجها في منزل بأجر فمات عنها زوجها، فأجر المنزل عليها في مالها، فإن مكنها أهل المنزل بالمقام بكراء وهي تجد ذلك فعليها أن تسكن فيه، وإن كانت لا تجد ذلك وهي في سعة من التحول، ولو طلقها زوجها فأجر المنزل على الزوج، فإن كان الزوج غائباً، فأجرها أهل المنزل بالكراء فعليها أن تعطي الكراء وتسكن إذا كانت تقدر على ذلك، هكذا ذكر شيخ الإسلام وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله، وذكر شمس الأئمة الحواني أن المنزل إذا كان بأجره ينظر إن كانت مشاهرة فلها أن تتحول، وإن كانت إجارة طويلة فليس لها أن تتحول، وإن خافت سقوط ذلك المنزل، أو أن ينهار على متاعها فلا بأس بأن تخرج وتسكن منزلاً آخر، ثم لا تخرج من ذلك المنزل إلا بعذر؛ لأن الانتقال عن الأول كان بعذر، فصار المنتقل إليه في أنه لا يجوز الانتقال عنه إلا بعذر نظير المنتقل عنه وفي «الفتاوى»: وإذا لم يكن مع المعتدة في منزل العدة أحد وهي تخاف بالليل لا من اللصوص..... الجيران بل تخاف بالقلب من أمر الميت والموت، إن كان الخوف شديداً كان لها الانتقال؛ لأنها تخاف ذهاب عقلها، وإن (لم) يكن الخوف شديداً فليس لها الانتقال، وهذا بمنزلة..... وجلت في قلبها، وإذا انعدم قضت العدة، والتدبير واختيار المنزل في الوفاة وفي الطلاق الثاني إذا كان الزوج غائباً إليها، وفي الطلاق الرجعي والطلاق البائن إذا كان الزوج حاضراً إلى الزوج ذكره في «الأصل».
وفي «الأصل» أيضاً: إذا كانت بالسواد وهي تخاف على نفسها، .... من سلطان أو غيره كانت في سعة من التحول إلى المصر.(4/85)
-----
وفي «الفتاوى»: إذا طلق امرأته بالبادية وهي معه في الخيمة والزوج ينتقل إلى موضع آخر في الكلأ والمهال والماء هل يسعه أن ينتقل بها؟ النظر إن كان يدخل عليها ضرر بين في نفسها ومالها بتركها في ذلك الموضع فله أن ينتقل بها، وإن كان لا يدخل عليها ضرر بين في نفسها ومالها بتركها في ذلك الموضع فله أن ينتقل بها وإن كان لا يدخل عليها ضرر بين في نفسها ومالها يتركها في ذلك الموضع فليس له أن ينتقل بها، ولا لها أن تنتقل؛ لأن الاعتداد في موضع الطلاق واجب، والخروج حرام إلا لضرورة وفي الوجه الأول: تحققت الضرورة، وفي الوجه الثاني: لم تتحقق.
وإن كانت المعتدة أمة فلها أن تخرج لخدمة المولى، فإن الوفاة والخلع والطلاق، وسواء كان الطلاق (290أ1) رجعياً أو بائناً، أما في الطلاق الرجعي فظاهر؛ لأن النكاح قائم، والحال بعد الطلاق كالحال قبله، وقبل الطلاق يحل لها الخروج لخدمة المولى، وكذلك بعد الطلاق، وإن كان الطلاق بائناً فكذلك؛ لأن بالطلاق لا تثبت حرمة جديدة بل يتأكد ما كان من الحرمة، فإذا لم تكن حرمة الخروج ثابتة قبل الطلاق لا تتأكد بالطلاق، فإن أعتقت في العدة لزمها فيما بقي من العدة ما يلزم الحرة المسلمة.
وفي «القدوري»: إذا كان المولى أمر الأمة لا تخرج ما دامت على ذلك إلا أن يخرجها المولى، وروي عن محمد رحمه الله أن لها أن تخرج وإن لم يأمرها المولى، والمدبرة وأم الولد والمكاتبة كالأمة في إباحة الخروج، وهذا الجواب مشكل في المكاتبة؛ لأنها ما كان يباح لها الخروج حال قيام النكاح لخدمة أحد، فينبغي أن لا يباح لها الخروج في العدة كما في الحرة بخلاف الأمة والمدبرة وأم الولد؛ لأنه كان يحل لهن الخروج لخدمة المولى، فيبقى كذلك.
والجواب: أن المكاتبة تحتاج إلى الخروج لاكتساب بدل الكتابة؛ لأن ذلك واجب عليها.(4/86)
-----
وأما الكتابية فإنه يحل لها الخروج بإذن الزوج ولا يحل لها الخروج بغير إذن الزوج سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً أو ثلاثاً.
والحرة المسلمة لا تخرج لا بإذن الزوج ولا بغير إذنه، لأن العدة على الحرة المسلمة كما وجبت حقاً للزوج وجبت حقاً لله تعالى، وحق الله تعالى لا يسقط بإذن الزوج، والعدة على الذمية وجبت حقاً للزوج لا غير فجاز أن يسقط بإذن الزوج، وإن أسلمت في العدة لزمها فيما بقي من العدة ما يلزم الحرة المسلمة.
وأما الصبية فإن كان الطلاق رجعياً فلها أن تخرج بإذن الزوج، وليس لها أن تخرج بغير إذنه كما قبل الطلاق، وإن كان الطلاق بائناً فلها أن تخرج بإذن الزوج وبغير إذنه إلا إذا كانت مراهقة فحينئذٍ لا تخرج بغير إذن الزوج كذا اختاره المشايخ.
والمولى إذا أعتق أم الولد فلها أن تخرج؛ لأن هذه العدة إنما وجبت لزوال الفراش لا لزوال النكاح، وحرمة الخروج تختص بعدة تجب بزوال النكاح.
والمجوسية إذا أسلم زوجها، فلا سكنى لها ولا نفقة إلا أن يحتاج الزوج إلى حفظ مائِهِ فيحبسها لصيانة مائِهِ.
وعن أبي يوسف رحمه الله في النصراني إذا طلق النصرانية أن لها النفقة ولا سكنى لها؛ لأن من أصله أن العدة تجب على الذمي لحق الذمي إلا أن السكنى لا تلزمها؛ لأن السكنى حق الله تعالى وحق الزوج، وهي غير مخاطبة بحقوق الله تعالى، وحق الزوج لا يجب إلا بطلبه. بخلاف النفقة؛ لأن ذلك حقها على الزوج، فلا يتوقف على طلب الزوج.
وإذا قبلت المرأة ابن زوجها فلا نفقة لها، ولها السكنى، وإذا اختارت المعتقة نفسها، أو امرأة العنين الفرقة فلها السكنى والنفقة، أما وجوب السكنى في هذه المسائل؛ لأن في السكنى حق الشرع، وحق الشرع لا يسقط بصنعها.(4/87)
-----
وأما الفرق بين مسألة التقبيل وبين مسألة العنين والمعتقة مع أن الفرقة كانت من قبلها في المسائل كلها؛ لأن في التقبيل الفرقة بغير حق، وفي اختيار امرأة العنين والمعتقة نفسها الفرقة بحق.
نوع آخر في الحداد
المتوفى عنها زوجها يلزمها الحداد في عدتها، ويعتبر الحداد الاجتناب عن الطيب والدهن والكحل ولبس المطيب والمعصفر وما صبع بزعفران، ولبس القصب والخز ولبس الحلي والتزين والامتشاط.
وكذلك المبتوتة يلزمها الحداد في عدتها؛ لأن وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها؛ لإظهار التأسف على فوات نعمة النكاح لما فيها من قضاء الشهوة، وحصول الصيانة، وورود النفقة عليها، وهذا المعنى يقتضي وجوب الحداد على المبتوتة، وإنما يلزمها الاجتناب عن هذه الأشياء حالة الاختيار أما في حالة الاضطرار فلا بأس بها بأن اشتكت رأسها أو عينها فصبت عليه الدهن، أو أكتحلت لأجل المعالجة فلا بأس ولكن لا تقصد به الزينة، وكذلك إن اعتادت الدهن، فخافت وجعاً يحل بها لو لم تفعل فلا بأس به إذا كان الغالب هذا الحلول؛ لأن الضرر الذي يلحق غالباً بمنزلة المتحقق فيجب الاحتراز عنه لكن لا تقصد به الزينة لما قلنا، وكذلك إذا لم يكن لها إلا ثوب مصبوغ فلا بأس به، لأن ستر العورة واجب، وإذا لم يكن لها ثوب آخر فهذا الثوب متعين لستر العورة، ولكن ينبغي أن لا تقصد بذلك الزينة.(4/88)
-----
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والمراد من الثياب المذكورة ما كان جديداً منها يقع بها الزينة، وأما ما كان خلقاً لا تقع به الزينة فلا بأس بأن تلبسها؛ لأن مقصودها ستر العورة لا التزيين، والأحكام تبنى على المقاصد، ولا حداد على الكتابية إذا كانت بائنة من مسلم أو متوفى عنها زوجها. ولا على الصبية، ويجب على الأمة والمكاتبة ولا يجب على المطلقة الرجعية؛ لأن نعمة النكاح ما فات عنها فلا يحب عليها إظهار التأسف. ولا حداد في عدة أم الولد، وكذلك في العدة من النكاح الفاسد؛ لأن الحداد إنما يجب لإظهار التأسف على فوات نعمة النكاح، والنكاح الفاسد معصية وليس بنعمة، ولا نكاح بين أم الولد وبين المولى أصلاً.
وإذا احتاجت المعتدة إلى الامتشاط فإنما تمتشط بالأسنان المنفرجة ولا تمتشط بالطرف الآخر؛ لأن الطرف الآخر للزينة، والطرف المنفرج لدفع الأذى.
نوع آخر في المطلقة تسافر في عدتها
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: عن أبي حنيفة رحمه الله: في الرجل يخرج مع امرأته من خراسان إلى الحج فلما نزلا الكوفة مات الزوج أو طلقها ثلاثاً، فإنها لا تخرج من الكوفة إلى خراسان، ولا إلى مكة إذا لم يكن لها ذو رحم محرم، وإن كان لها ذو رحم محرم لم تخرج ما دامت في عدتها، ولا بأس بأن تخرج إذا انقضت العدة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان لها ذو رحم محرم فلا بأس بأن تخرج في عدتها؛ لأنها ليس في منزلها.(4/89)
-----
يجب أن يعلم (290ب1) أنه لا خلاف أن الزوج إن مات أو طلقها ثلاثاً، وبينها وبين مصرها ومقصدها أقل من السفر أنها بالخيار إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت سواء كانت في المصر أو غيره وسواء كانت معها محرم أو لم يكن؛ لأنه ليس في الحالين جميعاً إنشاء السفر، وخروج المطلقة والمتوفى عنها زوجها ما دون السفر لا بأس به إذا مست الحاجة إليه بمحرم وبغير محرم، إلا أن الرجوع أولى ليكون الاعتداد في منزل الزوج. وإن كان آجلاً لوجهتين سفراً والآخر دونه اختارت ما دون السفر، وهذا ظاهر وإن كان كل واحد منهما سفراً، فإن كانت في المفازة فإن شاءت مضت، وإن شاءت رجعت بمحرم وبغير محرم؛ لأن المفازة ليست موضع القرار والسكون حقيقة، ولا موضع الاعتداد شرعاً، ولكن الرجوع أولى لما مر.
وإن كانت في مصر لا تخرج بغير محرم؛ لأن ما يخاف عليها في السفر بلا محرم أعظم مما يخاف عليها في المصر، وإن يكن مصرها فكان المكث في المصر أولى بخلاف المفازة، وإن كان معها محرم لم تخرج عند أبي حنيفة رحمه الله في العدة، وقالا: تخرج، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولاً، وقول أبي حنيفة رحمه الله الآخر أظهر؛ لأن هذا موضع طمأنينة وقرار، وما يخاف عليها من الفساد إذا خرجت مع المحرم أعظم مما يخاف عليها إذا مكثت في هذا المصر بلا محرم؛ لأن المصر موضع أمن وغياث، الأصل فيه الأمن عن الفساد، فإن قصدها إنسان بفساد واستغاثت يلحقها الغوث، والمفازة موضع فساد وهو الغالب فيها، وإذا توجه إليها الفساد عسى يمكن للمحرم والركب دفع ذلك وعسى لا يمكن، فكان المكث أولى لها من الخروج بخلاف المفازة؛ لأن الخوف ثمة في المكث أكثر، ولهذا حل لها إنشاء السفر من غير محرم، وبخلاف ما إذا كان بينها وبين مصرها أقل من مسيرة سفر؛ لأن الفساد في مدة قليلة وفي طريق قصير يندر.(4/90)
-----
وأما إذا كان الطلاق رجعياً ينظر: إن طلقها في المفازة، وبينها وبين مصرها مسيرة سفر، وإلى مكانها مسيرة سفر تمضي مع الزوج أينما ذهب الزوج، وإن كان بينها وبين مصرها مسيرة ما دون سفر، وإلى مكانها مسيرة سفر كان لها الخيار، وإن كان بينها وبين مكانها مسيرة ما دون السفر رجعت إلى مكانها على كل حال.
نوع آخر في بيان ما تصدّق فيه المعتدة في انقضاء العدة
يجب أن يعلم بأن أول المدة التي تصدق الحرة في انقضاء العدة فيها شهران في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: تسعة وثلاثون يوماً؛ لأنها أمينة في الإخبار عما في رحمها، فيجب قبول قولها إن أخبرت بما هو محتمل، وما قالته محتمل بأن يكون الطلاق في آخر الطهر، وطهرها أقل الأطهار خمسة عشر يوماً، وحيضها أقل الحيض ثلاثة أيام، فيكون انقضاء عدتها بطهرين وذلك ثلاثون يوماً، وبثلاث حيض، وذلك تسعة، فجملته تسعة وثلاثون يوماً.
واختلف محمد والحسن بن زياد رحمهما الله في تخريج قول أبي حنيفة رحمه الله، فعلى ما ذكره محمد رحمه الله: يجعل كأن الطلاق كان في أول الطهر تحرزاً عن إيقاع الطلاق في الطهر بعد الجماع، ويجعل طهرها خمسة عشر يوماً، ويجعل حيضها خمسة إذ هي الوسط فتنقضي عدتها بثلاثة أطهار كل طهر خمسة عشر يوماً، وثلاث حيض كل حيض خمسة، فجملة ذلك ستون يوماً.
وعلى ما رواه الحسن عنه رحمه الله: يجعل كأن الطلاق كان في آخر الطهر تحرزاً عن تطويل العدة عليها، وطهرها خمسة عشر وحيضها عشرة؛ لأنه وجب تقدير الطهر بأقل الطهر نظراً للمرأة ووجب تقدير الحيض بأكثر الحيض نظراً للزوج، فتنقضي عدتها بطهرين كل طهر خمسة عشر وثلاث حيض كل حيض عشرة، فجملة ذلك ستون يوماً.(4/91)
-----
وأما الأمة فعلى قولهما تصدق في إحدى وعشرين يوماً؛ لأن عدتها تنقضي بحيضتين كل حيضة ثلاثة، وبطهر واحد، وذلك خمسة عشر، فجملة ذلك إحدى وعشرون، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله على الوجه الذي خرجه محمد رحمه الله: تصدق في أربعين؛ لأنه يجعل كأن الطلاق كان في أول الشهر فتحتاج إلى طهرين كل طهر خمسة عشر وإلى حيضتين كل حيضة خمسة، فجملة ذلك أربعون يوماً، وعلى الوجه الذي خرجه الحسن رحمه الله: تصدق في خمسة وثلاثين؛ لأنه يجعل الطلاق واقعاً في آخر الطهر فتحتاج إلى حيضتين كل حيضة عشرة وإلى طهر واحد خمسة عشر فجملة ذلك خمسة وثلاثون.
وفي «مجموع النوازل»: المطلقة بثلاث تطليقات إذا جاءت بعد أربعة أشهر، وقد كانت تزوجت فيما بين ذلك بزوج آخر، فقالت: انقضت عدتي من الزوج الثاني، وأرادت أن تعود إلى الزوج الأول هل تصدق؟ عند أبي حنيفة؟ أجاب بعض أئمة سمرقند رحمهم الله أنها تصدق، وأجاب الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي رحمه الله أنها لا تصدق، وهو الصحيح؛ لأن أربعة الأشهر مدة العدتين عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا بد من زمان آخر لنكاح الزوج الثاني ووطئه إياها.
وفيه أيضاً: معتدة رجل أقرت بعد أربعين يوماً من وقت الطلاق أنها ما حاضت إلا مرة واحدة، ثم قالت بعد عشرة أيام: انقضت عدتي، هل للزوج المطلق أن يخاصمها ويرفع الأمر إلى القاضي؟ قال: نعم، ويأمرها القاضي بإتمام العدة إذا ثبت إقرارها عند القاضي صيانة لماء الزوج عند طلبه ذلك، ولو كانت تزوجت بزوج آخر، فالقاضي يفرق بينها وبين الزوج الثاني إذا ثبت إقرارها بذلك، والله أعلم.(4/92)
الفصل السابع والعشرون في المتفرقات
-----
سئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن زوجين وقعت بينهما مشاجرة فقالت المرأة: باتوعي اسم مرا طلاق كن، فقال الزوج: طلاق مي كنم طلاق مي كتم طلاق مي كنم؟ أجاب وقال: بأنها تطلق ثلاثاً؛ لأن قوله: طلاق مي كنم للمحض للحال وهو تحقيق بخلاف قوله: كنم؛ لأنه تمحض للاستقبال وهو (291أ1) وعد، وبالعربية قوله: أطلق، لا يكون طلاقاً في أنه دائر بين الحال والاستقبال فلم يكن تحقيقاً مع الشك حتى أن موضع علمت استعماله للحال كان تحقيقاً كقول الكافر: أشهد أن لا إله إلا الله، وكقول الشاهد: أشهد أن لهذا على هذا كذا، وكقول الحالف: بالله لأفعلن كذا، وهذا الاحتمال بالعربية، أما بالفارسية قوله: ميكنم للحال، وقوله: كنم للاستقبال.
في «المنتقى»: طلقني إن تزوجت فلانة، أو قالت: إن تزوجت علي، فقال الزوج: أنت طالق وهو ينوي جواباً لكلامها، ومعناه: إن تزوجت، فهذا ليس بجواب قضاءً وفيما بينه وبين الله تعالى وسعه أن يمسكها.
وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: امرأة قالت لزوجها: مرا طلاق ده فقال: دايم ذكر النامكان الدال فإن كان هذا لغة بلد هذا الزوج لم يصدق أنه لم يرد الجواب ويقع الطلاق؛ لأنه جواب ظاهر لما كان لغة بلده؛ لأن الظاهر أن الإنسان يتكلم بلغة بلده، وكذلك إن كان هذا لغة بلدة من البلدان كان جواباً، وإن لم يكن هذا لغة بلدة من البلدان لم يكن جواباً ولا يقع الطلاق.
وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله: قيل لرجل: أين زن زن توهست، فقال: هست فصل له أين سه طلاقه هست فقال: هست يقع ثلاث تطليقات ولا يصدق الزوج في قوله: إنها ما سمعت قوله سه طلاقه هست وإنما ظنت أنه يعيد الكلام الأول.(4/93)
-----
امرأة قالت لزوجها: من باتمونمي باشم فقال الزوج: اكربناشم ابس تراطلاق فقالت بعد ذلك: مي باشم اختلف المشايخ فيه، عامتهم على أنه يقع الطلاق؛ لأنه تحقيق لا تعليق؛ لأن مثل هذا إنما يذكر على سبيل المجاراة، وقد مر جنس هذا، وعلى هذا إذا قال الرجل: ابنه لأجل امرأته فقال: مه ابازن توخوش ينست كه اوجنين ميكنذ فقال الابن: اكر تراوي خوش ينسب داد مش سه طلاق فقال الأب بعد ذلك: مراباوي خوش نيست فليست مع الطلاق عند عامة المشايخ رحمهم الله، ولا يشبه المسلمين قوله لامرأته ابتداءً: اكرمرا نجوامي ترا طلاق فقالت ميخواهم حيث لا تطلق، فقيل: إن في الفرق إن قول الزوج: ابتداءً اكرمرا نجوامي لا يمكن حمله على المجازاة وإنه من حيث الصورة تعليق فحمل على التعليق حتى أن المرأة لو بدأت فقالت: برانمي خواهم فقال الزوج: اكر مرانمي خواهي تراطلاق فقالت: ميخواهم تطلق. وفي تلك المسألتين لو قال الزوج لها ابتداءً: اكرا بامي نباشي تراطلاق فقالت: مي باشم أو قال الابن للأب ابتداء: اكر تراباذن من خوش بنست ورا طلاق فقال الأب: خوش است لا يقع الطلاق ويكون تعليقاً.
وفي «المنتقى»: رجل قالت له امرأته: إن عصيتك وأعرضت عنك فقال الزوج: إن كنت تعصيني وأعرضت عني فأنت طالق، فسكتت المرأة ولم تقل شيئاً لا تطلق، وهذه المسألة تبطل ما ذكرنا في الفرق وتبطل قول من يقول بعدم الوقوع من تلك المسألتين، وحكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه كان يقول في الفرق: في تلك المسألتين: ذكر كلمة بس وإنها كلمة تحقيق حتى لو لم يذكر بس ولكن قال: اكراساشمي تراطلاق. قال وفي المسألة الأخرى اكر ترابادي خوش نيست دادمش سه طلاق يكون تعليقاً ولا يكون تنجيزاً، وفي هذه المسألة لم يذكر بس، وإنما قال اكر مرانجواهي ترا طلاق وهذا تعليق ولو ذكر لس في هذه المسألة بأن قال اكرامرا نجواهي بس ترا طلاق كان تنجيزاً.(4/94)
-----
في «المنتقى» أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لامرأته: إن قلت لك أنت طالق فأنت طالق، ثم قال لها: قد طلقتك فقال: تطلق أخرى قال: وإن عنى أن يكون الطلاق معلقاً باللفظ وهو قوله: أنت طالق لا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
رجل قال لامرأته هذه طالق هذه المرأة الأخرى طلقت الأولى لا غير لأن لفظ الطلاق متصل بالأولى ولم يعطف الثانية على الأولى ليثبت الاتصال بالثانية بحكم العطف، ولو قال: هذه هذه طالق طلقت الأخرى لا غير، ولو قال ذلك لامرأته واحدة لا يقع إلا واحدة في الوجهين هكذا ذكر في «النوازل»، وذكر في «المنتقى»: إذا قال: هذه طالق هذه لامرأته أخرى طلقتا، وكذلك لو قال: وهذه أو فهذه.
وفي «العيون»: إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت أو قال: أنت طالق وأنت يقع واحدة؛ لأن هذا يحتمل التكرار كقوله: أنت؛ لأنه كما يقال: أنت أنت، يقال: أنت وأنت ولو قال ذلك لامرأة أخرى يقع على كل حال واحدة تطليقة؛ لأن هذا لا يحتمل التكرار فيكون إيقاع طلاق آخر.
وعن محمد رحمه الله فيما إذا قال لامرأة واحدة: فأنت طالق وأنت له، أنه يقع تطليقتان، وما ذكر في «العيون» فيما إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت لامرأته أخرى أنه يقع على كل واحدة تطليقة يوافق ما ذكر في «المنتقى» في قوله: هذه طالق هذه لامرأته أخرى، ويخالف ما ذكر في «النوازل».
وذكر في «فتاوى أهل السمرقند» رحمهم الله: في رجل حكى عتق رجل فلما بلغ إلى ذكر الطلاق خطر بباله امرأته إن نوى عند ذكر الطلاق عدم الحكاية واستيفاء الطلاق وكان الكلام موصوفاً موصولاً بحيث يصلح للإيقاع على امرأته طلقت امرأته، وإن لم ينو ذلك لا تطلق امرأته، وهو محمول على الحكاية، وحكي عن القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله في رجل يذكر مسائل الطلاق بين يدي امرأته ويقول: أنت طالق، وهو لا ينوي بذلك طلاق امرأته لا تطلق امرأته.(4/95)
-----
قيل لرجل: ألست طلقت امرأتك؟ قال: بلى، تطلق؛ لأن «بلى» جواب الاستفهام بالإثبات فكأنه قال: طلقت امرأتي، ولو قال: نعم، لا تطلق امرأته؛ لأن «نعم» جواب الاستفهام بالنفي، فكأنه قال: ما طلقت امرأتي، والدليل عليه قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ}؟{قَالُواْ}{بَلَى} (الأعراف: 172) (291ب1) وكانت بلى للإثبات، ومن قرأ في صلاة نعم تفسد صلاته.
صاحب برسام طلق امرأته فلم تصح قال: طلقت امرأتي ثم قال بعد ذلك: إنما قلت ذلك لأني توهمت أن الطلاق وقع بأن كان إقراره في غير حال مذاكرة الطلاق الذي كان منه في حال برسامه لا يصدق؛ لأنه صحيح عاقل أقر بالطلاق مرسلاً فيؤاخذ بإقراره، وإن كان في حال مذاكرة الطلاق يصدق؛ لأن مذاكرة ذكر الطلاق. يدل على إرادة ذلك الطلاق إذا قال لامرأته: اكر ترا بذني كنم ترايك طلاق ودو طلاق فتزوجها يقع واحدة على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن أخر الشرط تقع الثلاث. أصل المسألة ما ذكرها محمد رحمه الله في باب الطلاق: إذا قال لامرأته: إن تزوجتك فأنت طالق وطالق وطالق فتزوجها وقعت واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، ولو أخر الشرط تقع الثلاث.
إذا قال: اكر فلانة رابزني كنم وي ازمن بيكي ودوسه طلاق فتزوجها تطلق ثلاثاً هكذا حكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله، وليس هذا كقوله: اكر فلانة رابزني كنم وي ازمن طلاق ودووسه طلاق فتزوجها، فإن هناك يقع تطليقة واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن قوله: ازمن يكي كلام مبهم محتاج إلى التفسير، وكذلك دو وكذلك سه والتفسير بذكر الطلاق، وعند ذكر الطلاق الأعداد قد اجتمعت فصار كقوله: أنت طالق ثلاثاً، أما قوله: أن من بيكي طلاق كلام مفسر فثبت حكمه ثم ترتب عليه الثاني والثالث فيثبتان عند الشرط كذلك والأول في الملك ويقع دون سائرها.(4/96)
-----
وسئل نجم الدين عمن قال: حلال الله علي حرام، وما أحنث بميني فهو علي حرام إن كنت فعلت كذا وقد كان فعل ذلك الفعل؟ قال: تقع تطليقة واحدة بائنة نوى أو لم ينو دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأن كل واحد من اللفظين بائن عندنا وقد تكلم بهما وعلقهما بفعل قد فعله، والتعليق بفعل موجود كائن تنجيز وليس بتعليق فكأنه نجز وما علق فقال حلال الله علي حرام وما أخذت بيمني فهو علي حرام فهناك تقع الأولى وتبطل الثانية كذا ههنا، بخلاف ما إذا علقها بفعل في المستقبل فإن هناك إذا فعل ذلك الفعل تقعان جميعاً؛ لأن هناك اللفظان تعلقا بذلك الفعل جميعاً فيؤاخذان جميعاً عند وجوده.
وسئل هو أيضاً عمن خلع امرأته ثم قال لها في العدة: ادادمت سه ولم ترد على هذا قال: إن نوى الطلقات الثلاث طلقت ثلاثاً؛ لأنه لم يتلفظ بالطلاق وقوله دامت سه كلام محتمل فلا بد من النية، قيل له: ينبغي أن لا يقع حتى وإن نوى لأن هذا من كنايات التي الطلاق، والكنايات لا تلحق المختلعة بالإجماع؟ قال: الكنايات التي بوائن لا تلحق المختلعة أما الكنايات التي هي رواجع تلحق المختلعة.
ألا ترى لو قال لمختلعة: أنت واحدة ونوى الطلاق يقع عليها تطليقة أخرى، وهذا لأن صحة هذا اللفظ بالإضمار، فإن معنى قوله: أنت واحدة، أنت طالق تطليقة واحدة، فيصير الحكم للصريح، ولكن لا بد من النية ليثبت هذا المضمر قيل له: إذا وقع الطلاق ههنا عند النية تقع الثلاث والثلاث بوائن والمختلعة لا تلحقها البوائن؟ قال: لا تقع الثلاث ههنا بل يقع ما بقي من التطليقتين؛ لأنه وقع طلقة واحدة بالخلع واثنتان رجعيتان إلا أنه تقع البينونة ههنا لأن الثلاث قد تمت لأن الواقع بوائن، وهو نظير ما لو قال لمختلعة بتطليقتين: أنت طالق، يقع الطلاق، وإن كان إذا وقع تثبت البينونة، وطريقه ما قلنا.(4/97)
-----
رجل قال لامرأته: برخيز وبجانه ما عهد دووسه ماه عدت دار من بدار ثم قال: دامت يك طلاق ثم قال: اين سجن آخربن به إن كفتم كه بايدكه معنى سحن أول ندانسته باشي، فقد قيل: يقع عليها ثلاث تطليقات؛ لأن قوله لها: قومي من مدلولات الطلاق وكذلك قوله: اذهبي إلى بيت أمك، وقد عطف هذا على الأول فكل أن اثنان ثم لما خرج بالطلاق بعد ذلك وقال: اين سخن به أن كفتي كه ساندكسه معنى سخن أول بدانسته باشي، فقد بين أنه أراد بما تقدم الطلاق، قد تقدم منه كلام أن كل واحدة تصلح فصارت التطليقتين والصريح ثالثهما فتقع الثلاث، وقد قيل: تقع تطليقتان إحداهما بقوله: برخيز والثاني بالصريح، ولا يقع بقوله: بخانه ما دردووسي؛ لأن الواقع بقوله: برخيز عند ثلاثة الطلاق الناس والواقع بقوله: بخانه مادر وكذلك والناس لا تلحق الثاني، أما الصريح يلحق الثاني.
إذا قال لامرأته: وهبتك أو قال: وهبت لك طلاقك، وقال: نويت أن يكون الطلاق في يدها لا يدين في القضاء؛ لأن الهبة تقتضي زوال ملك الواهب، وذلك بالإيقاع لا يجعل الطلاق إليها، بأن يجعل الطلاق إليها لا يزول ملك الرجل عن المرأة، فإذا نوى غير الإيقاع فقد نوى ما لا يحتمله لفظه، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يقع الطلاق؛ لأنه يحتمل وهبتك لك طلاقك أعرضت عن طلاقك، ولو أراد أن يطلقها فقالت: هب لي طلاقي أي أعرض عنه فقال: وهبت لك طلاقك صدق في القضاء، ولو قال: أعرضت عن طلاقك ينوي الطلاق لا تطلق، ولو قال: تركت طلاقك أو خليت سبيلك سبيل طلاقك ينوي الطلاق يقع، لأن تخلية الطلاق وتركه قد يكون بإخراجه عن ملكه، وذلك إيقاع الطلاق، فأما الإعراض السلبي بتركه التعرض له والإيقاع بعرض الطلاق، فكان ما نوى مخالفاً لما يقتضيه ظاهر كلامه.(4/98)
-----
سئل نجم الدين النسفي رحمه الله: عن امرأة قالت لزوجها: من برتوسه طلاقه أم فقال الرجل هذا، هل تطلق ثلاثاً؟ فقال: لا إلا أن ينويها قال: لأن هذه الكلمة في ديارنا تستعمل لمعنيين: بمعنى الاستعجال هذا روداني كاربكن وتستعمل بمعنى المواقعة، يقول (292أ1) الرجل لغيره: بياي تافلان جاي دويم فنقول: هلا وتريد به إظهار الموافقة، فعلى أحد الاعتبارين يكون الزوج موافقاً ومساعداً لها، وعلى الوجه الآخر لا يكون مساعداً لها فلا بد من النية. قيل له: إن هذه الكلمة في معنى نعم، فكأنه قال أرى قال: ليس إلا طلاق كذلك، فإن نعم يصلح للماضي والمستقبل يقول لغيره: هل ذهبت؟ هل تذهب؟ فيقول: نعم وهلا لا تستعمل للماضي لا يقال هل ذهبت؟ فيقول: هلا ولكن يقال: اذهب فيقول: هلا.
وسئل هو أيضاً: عمن قال: اكرد خثر من زرين جند روداز سوى بيون باندما دروى ازمن بطلاق، فأخرت أياماً، ثم اختلعت من زوجها قال: إن كانت اختلعت قبل تمام شهر من وقت مقالة الأب لا يقع الطلاق على أمها. قال: لأن قوله: به أبي جعل دون يستعمل بمعنى العاجل وما دون الشهر في معنى العاجل، والشهر وما فوقه في حكم الآجل، ولهذا قدر أدنى الآجال في السلم بالشهر.
سئل نجم الدين عمن قال لامرأته: داست يك طلاق سه خويش كير ودوزي خويش طلب كن، قال: الطلاق الأول رجعي، وإن لم ينو بقوله: سرخويش كير طلاقاً آخر بقي الأول رجعياً ولا يقع بهذا القول شيء، وإن نوى به الطلاق كان طلاقاً بائناً، ويصير الأول مع الثاني بائنين.(4/99)
-----
سئل هو أيضاً: عمن قال لغيره في مجلس الشرب: هو زنى كه بخواسته أم براي توخواسته أم وواشين ودها كردن دردست توبودست، فقال ذلك الرجل: اكر جنين است اين زن ترادا ولم يك طلاق ودو طلاق وسه طلاق هل تطلق امرأته؟ قال: لا؛ لأن قوله: دردست توبودست إخبار عن كون الأمر في ذلك في يده الزمان الماضي وليس من ضرورة كونه في يده بقاؤه في يده بل الأمر المطلق يقتصر على المجلس وقد تبدل المجلس فيبطل، ولو أنه قال: دردست توست فهذا إقرار منه يكون الأمر في يده في الحال فيصح منه التطليق. وسئل هو أيضاً عمن قال: سباهه مار ترا طلاق، وقال: ما عنيت امرأتي لا تطلق امرأته لانعدام الإضافة إليها، وقد مرجنس هذا.
قال لامرأته: طلاق بردانه ورمى بهذا تفويض الطلاق إليها، فإن طلقت نفسها في المجلس طلقت وما لا فلا، ولا قياس قوله لها: خذي طلاقك ينبغي أن يكون هذا إيقاعاً؛ لأن برداستر طلاق يستدعي وجود الطلاق، ووجود الطلاق بالإيقاع كما إذا أخذ الطلاق يستدعي وجوده ووجوده بالإيقاع.
امرأة قالت لزوجها: مرا حنين كران نحرينه بقيت باردة فقال الزوج: بازدادم، وهو ينوي الطلاق قال شيخ الإسلام أبو الحسن: لا تطلق، قيل له: إن قال: إن المرأة كران لحريده باردة فقال: دادم، ونوى به الطلاق؟ قال: تطلق ويكون هذا بمنزلة قوله لامرأته: الحقي بأهلك، وهو ينوي الطلاق.
إذا قال لامرأته: طالق ثلاثاً وله امرأة معتدة عنه عن طلاق بائن لا تطلق هي إلا إذا أشار إليها بأن قال لامرأته: هذه طالق أو قال بالفارسية: اين زن ورا طلاق.
وسئل أبو نصر عمن قال لامرأته: إن اشتريت أمة أو تزوجت عليك فأنت طالق واحدة، فقال: لا أرضى بطلقة واحدة، فقال: أنت طالق ثلاثاً إن لم ترض بواحدة؟ قال: هذا الكلام يراد به الشرط ولا يراد به الابتداء، ولا يقع في الحال شيء.(4/100)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال الرجل: أمر امرأتي بيد فلان شهراً ولم يَسمّ شهراً بعينه، فالشهر من يوم قال ذلك القول، وإن ذكر الشهر منكراً إلا أنا عينا الشهر الذي يلي هذه المقالة بدلالة العرف، فإن العرف الظاهر فيما بين الناس أنهم إذا أطلقوا الشهر إطلاقاً في التفويض يريدون به الشهر الذي يلي التفويض وهذا لأن الحامل على جعل الأمر بيد غيره طلبها وتطييب قلبها أو حاجة الزوج إلى الخلاص والطلب موجود في الحال، والحاجة إلى الخلاص قائمة في الحال؛ ولأن جعل الأمر باليد لا يختص بوقت دون وقت، والأصل في كل ما لا يختص بوقت دون وقت إذا ذكر له وقتاً أن يعتبر ذلك الوقت من وقت الذكر كما في الأجل والإجازة ومدة الإيلاء، فإن مضى شهر من وقت هذه المقالة ولم يعلم فلان أن الأمر جعل إليه خرج الأمر من يده؛ لأن التفويض توقت بالشهر فلا يبقى بعد مضي الشهر لما ذكرنا كان الفقه (في) ذلك لو بقي الأمر بعد مضي الشهر كان فيه إثبات زيادة على ما فوض وإنه لا يجوز.
يوضحه: أن لو اقتصر على قوله: أمر امرأتي بيد فلان اقتصر على مجلس علمه بعد اليمين فإذا قال: شهراً بعد مدة إلى الشهر فلا ينبغي بعد مضي الشهر ضرورة، ولو قال: إذا مضى هذا الشهر فأمر امرأتي بيد فلان فمضى هذا الشهر ولم يعلم به فلان، ثم مضى شهر آخر ثم علم به فلان فله مجلس العلم؛ لأن التفويض ههنا غير مؤقت بالشهر بل التفويض مطلق إلا أن هذا المطلق معلق بمضي الشهر، والمطلق إلا أن هذا المطلق معلق بمضي الشهر، والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل ولو أرسل التفويض بعد مضي الشهر مطلقاً كان له مجلس العلم كذا ههنا، بخلاف المسألة الأولى لأن التفويض ثمة مؤقت بالشهر فلا يبقى بعد مضي الشهر.(4/101)
-----
وهو نظير ما قلنا فيمن قال: والله لا أكلم فلاناً شهراً، فكلمه بعد مضي الشهر، لا يحنث لأن اليمين مؤقت بالشهر، فلا يبقى بعد مضي الشهر، ولو قال: إذا مضى هذا الشهر بالله لا أكلم فلاناً، فكلمه بعد مضي الشهر، يحنث لأن اليمين غير مؤقت بالشهر، بل هو مطلق لما فوق الشهر.
ولو قال: أمر امرأتي بيد فلان وفلان شهراً، فمضى شهر ثم علم أحدهما بما جعل إليهما ثم مضى شهر آخر ثم علم الآخر بذلك أو علما جميعاً بعد مضي شهر (سقط ذلك منهما، أو قال) فأمر امرأتي بيد فلان وفلان، ثم مضى شهر ثم علم أحدهما فأمرها بيده ما دام في مجلسه ذلك، علق يجوز الأمر بيد فلان وفلان بمضي الشهر، فيعتبر كما لو أرسل ذلك بعد مضي الشهر وهناك الجواب كما قلنا هنا كذلك، فلو أن الذي علم أولاً فرق بينهما كانت فرقته موقوفة في مجلس علمه فإن علم الآخر بعد ذلك وفرق بينهما أيضاً في مجلس على علمه وقعت الفرقة؛ لأن بعد مضي الشهر صار الأمر بيدهما (292ب1) ويؤقت على مجلس علمهما وقد اجتمعا على التفريق في مجلس علمهما فتقع الفرقة، ولو أن الذي علم أولاً لم يفرق بينهما حتى قام عن مجلس علمه، أو اشتغل بعمل آخر يدل عن الرد، بطل الأمر؛ لأن الأمر خرج عن يدي الذي علم أولاً بالقيام عن المجلس فيخرج الأمر من يد الآخر ضرورة لأن الآخر لا ينفرد بالتفويض فيبطل الأمر ضرورة، وإنما لم ينفرد الآخر بالتفويض لوجهين:
أحدهما: أن في التفويض تمليك وتعليق الطلاق بمشيئة المفوض إليه ولهذا لا يملك الرجوع، وصار كما لو قال: إذا شاء فهي طالق ولو قال هكذا يشاء أحدهما لا يقع الطلاق كذا ههنا.(4/102)
-----
والثاني: أن هذا تصرف فيه إلى المشورة والرأي وقد رضي برأيهما، والراضي برأي المثنى فيما يحتاج فيه إلى الرأي لا يكون راضياً برأي الواحد، بخلاف الوكيلين بالطلاق المفرد حيث ينفرد أحدهما بالإيقاع؛ لأن الطلاق المفرد لا يحتاج فيه إلى الرأي، والراضي برأي المثنى فيما لا يحتاج فيه إلى الرأي يكون راضياً برأي الواحد فينفرد أحدهما بالإيقاع.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: طلقي نفسك إن شئت، وأعتقي عبدي إن شئت، فبدأت بعتق العبد وثنت بتطليق نفسها جاز.
وفي «البقالي»: لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت وفلانة إن شئت، وقال لها رجل آخر: أعتقي عبدي إن شئت، فبدأت بالإعتاق خرج الأمر عن يدها.
وفي «البقالي»: (لو قال لا:) إن لم تطلقي نفسك فأنت طالق فهذا عليك.
وفي «المنتقى»: إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً وهذه كانا جميعاً على الغد. ولو قال: هذه طالق غداً وهذه طالق، طلقت الثانية ساعتئذٍ، وكذلك هذا في عتاق العبدين، وكذلك في عتق وطلاق بأن قال لامرأته: أنت طالق غداً وهذه أخرى، وأشار إلى عبد له كان العتق على الغد.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأتين له إحداهما زينب والأخرى عمرة: أنت يا عمرة طالق ويا زينب، لم تطلق زينب إلا أن ينويها.
وفي «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً * رحمهما الله * عن رجل ادعت عليه امرأته طلقها ثلاثاً وهو يجحد فمات الزوج، وجاءت المرأة وتطلب ميراثها، فقال: إن صدقته المرأة قبل أن يموت، وقالت: صدقتَ لم تطلقني، ورثته، وإن لم ترضخ إلى تصديقه حتى مات لم ترثه.
وفيه أيضاً: مرَّت امرأة بين يدي رجل فقال الرجل: هي طالق، وسمع ذلك قوم منه ثم رأوها معه بعد، وهو يقول: هي امرأتي فشهدوا عليه أنه طلقها فقال الرجل: طلقتها أمس وهي ليست أي: بامرأة (لي) وتزوجتها اليوم وقال القوم: طلقها أمس ولا ندري أكانت امرأته؟ فالقاضي لا يقضي بطلاقها حتى يشهدوا عليه أنه طلقها وهي امرأته.(4/103)
-----
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة وثلاثاً فإن لم يدخل بانت بواحدة، ولا خيار في الثلاث، وإن كان قد دخل بها فهو بالخيار ما دامت في العدة، فإن انقضت العدة بانت بواحدة، وليس في الثلاث خيار، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله، وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا أن من أوقع أحد الطلاقين إما الأخف أو الأغلظ يقع الأخف، ينبغي أن تقع الواحدة على كل حال، ولا يكون له الخيار.
وفي «البقالي»: خيار مختار الرجعي ووقعت أخرى، وكذلك إن خلعها أو طلقها.... ولو قال لها: أنت طالق لم يكن اختياراً، ولو قال: رجعياً وأراد الاستئناف كان مختاراً للرجعي ووقعت أخرى، ولو قال: عنيت الأولى صدق، وكذلك إذا قال: أنت بائن وقال: عنيت الأولى صدق.
وقال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: إذا قال الرجل لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق واحدة، فماتت المرأة بعد قوله: طالق قبل قوله: واحدة لم يقع عليها شيء. الأصل في هذه المسألة وأجناسها أن الزوج إذا وصل العدد بقوله: أنت طالق، كان العامل هو العدد لا قوله: أنت طالق، ألا ترى أنه لو قال لها قبل الدخول بها: أنت طالق ثلاثاً، تقع الثلاث؟ وكذلك لو قال لها: أنت طالق ثنتين يقع ثنتان، ولو كان العامل قوله: أنت طالق وقد بانت به لا إلى عدة ينبغي أن لا يقع عليها شيء.
قال في «الجامع الصغير» أيضاً: وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله فماتت بعد قوله: ثلاثاً قبل قوله: إن شاء الله، لا يقع شيء؛ لأن قوله: إن شاء الله، إذا اتصل بالكلام أبطله، وقد اتصلت بالإيقاع ههنا فأخرجه من أن يكون إيقاعاً وإيجاباً، والموت ينافي إيجاب الطلاق وهو يريد أن يقول: ثلاثاً فأمسك على فيه رجل فلم يقل شيئاً أو مات الزوج قبل أن يقول: ثلاثاً فإنه يقع واحدة؛ لأن الزوج ما وصل العدد بالإيقاع هنا فكان العامل قوله: أنت طالق، ونية الثلاث لا تعمل فيه.(4/104)
-----
وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال لها: أنت طالق وأنت طالق، فماتت المرأة قبل أن يتكلم بالكلام الثاني تقع واحدة بالكلام الأول، ويبطل الكلام الثاني، لأن كل كلام عامل في الوقوع، فإنما يعمل ما صادفها وهي حية، ولو قال لها: أنت طالق وأنت طالق إن دخلت الدار فماتت عند الأولى أو الثانية لا يقع عليها شيء؛ لأن الكلمات المعطوفة بعضها على البعض إذا اتصل الشرط بآخرها يخرج من أن يكون إيقاعاً، وقد وجد اتصال الشرط بعد الموت.
امرأة قالت لزوجها: وهبت لك مهري فعوضني، فقال الزوج: عوضك ثلاث تطليقات طلقت ثلاثاً، لأن العوض هبة، فصار كأنه قال: وهبت لك ثلاث تطليقات.
رجل قال لامرأته: بعت منك أمرك بألف درهم، إن اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق ولزمها المال؛ لأنه ملكها أمرها في الطلاق بالمال، وجواب التمليك يقتصر على المجلس، وإذا اختارت نفسها في المجلس فقد تملكت.(4/105)
-----
وفي «مجموع النوازل»: رجل له امرأتان قالت إحداهما له: خويشتن خريده أم أزتوبكايين وهو بين عدة فقال الزوج: أن ديكورا بجوان الأخرى، فقالت مثل ما قالت الأولى فقال الزوج: خدوختم فقيل للزوج: كدام رترافروختي فقال: هردورا تحرم عامة الأخيرة بالخلع والأولى (293أ1) بالإقرار هكذا حكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله، وإذا اختلف الزوج والمرأة كم كان بينهما من الخلع فقال الزوج: كان الخلع ثلاثاً مرتين، وقالت المرأة: لا بل كان ثلاثاً، والقول قول من؟ حكي فتوى شيخ الإسلام علي بن محمد الاسبيجابي رحمه الله أن القول قول الرجل، وحكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه كان يقول: إن كان هذا بعد نكاح جرى بينهما فقالت المرأة: النكاح لم يصح؛ لأن النكاح بعد الخلع الثالث، وقال الزوج: لا بل صح النكاح لأنه بعد خلعتين فالقول قول الزوج؛ لأن سبب الحل قد جرى بينهما وهو النكاح، والمرأة تدعي الحرمة مع قيام سبب الحل، والزوج ينكر، وأما إذا اختلفا بعدما انقضت عدتها عن خلع، والزوج يقول هذا الخلع الثاني، ويريد أن يتزوجها، والمرأة تقول: هذا هو الخلع الثالث، وليس لك أن تتزوجني، فالقول قولها، ولا يجوز النكاح بينهما؛ لأنهما اتفقا على الحرمة، وهو يريد أن يعقد عليها ويزعم أن له ذلك وهي تنكر، والأول أقرب إلى الجواب؛ لأنهما ما اتفقا على حرمة المحل بل اختلفا فيه، المرأة تدعي حرمة المحل بادعائها الخلع ثلاث مرات، والزوج ينكر.
وسئل نجم الدين هذا رحمه الله عن رجل خلع امرأته ثم تزوجها بعد ذلك بشهر مستتم ثم قال: توبر من حرامي به إن خلع هل تحرم؟ قال: نعم لأنه أقر أنها حرام عليه في الحال بذلك الحال وأن يكون كذلك إلا إن كان ذلك الخلع ثالثاً وإقراره صحيح عليه فقيل: هل يجب عليه المسمى إن كان قد دخل بها؟ قال: نعم، لأنه لم يصدق عليها في حق فساد النكاح، فصح النكاح في حقها وثبتت الحرمة بإقرارها الآن.(4/106)
-----
وفي «المنتقى»: عن محمد رحمه الله: إذا خالع امرأته على أن جعلت صداقها لولدها أو على أن جعلت صداقها لأجنبي فالخلع جائز، والمهر للزوج ولا شيء للولد.
وفي «البقالي»: إذا قالت: اخلعني على أن أهب لفلان كذا، ففعل، فالهبة من جهتها فإن سلمها فلا رجوع، والطلاق بائن وإلا....، فإن قالت: عليك فالهبة عنه.
رجل خالع امرأته ثم طلقها بعد الخلع على جعل، يقع الطلاق، ولا يجب الجعل، أما يقع الطلاق؛ لأن هذا طلاق صادف محله، وأما لا يجب الجعل؛ لأن الجعل إنما يجب بإزاء ملك النفس، والمرأة بهذا الطلاق لم تملك النفس.
رجل خلع امرأته على أن ترد على الزوج جميع ما قبضت منه، وكانت قد وهبت ما قبضت من إنسان أو باعته منه، ولم ترد على الزوج، فإن عليها أن ترد على الزوج مثل ذلك، إن كان المقبوض من ذوات الأمثال، وقيمته إن لم يكن المقبوض من ذوات الأمثال؛ لأن بدل الخلع مستحق، والحكم في مثله ما قلنا، وإذا جرى بين الزوجين خلع غير صحيح فسأله رجل: بارن هذا كردست فقال: نعم فهذا إقرار منه بالحرمة، وإقراره حجة عليه، ولو كان قال: به خلع حداني كردانم، وذلك الخلع غير صحيح لا يقع الطلاق.
قال في «الأصل»: وإذا اختلعت المرأة من زوجها على جعل إلى أجل مسمى، فالخلع جائز والمال إلى أجله، وإذا أعطت كفيلاً أو رهناً ببدل الخلع جاز؛ لأنه دين مضمون عليه، فيصح به الرهن والكفالة كسائر الديون.
وإذا اختلعت من زوجها بألف درهم إلى الحصاد والدياس فالخلع جائز والأجل جائز. ولو اختلعت من زوجها بألف درهم إلى موت فلان فالخلع جائز والأجل باطل وكل واحد من الأجلين مجهول إنما كان كذلك؛ لأن الجهالة في مجيء الحصاد والدياس يسيرة؛ لأنه لا يتقدم ولا يتأخر إلا بمقدار شهر أو أقل، والجهالة في موت فلان متفاحشة؛ لأن موت فلان قد يوجد بعد مدة يسيرة وقد لا يوجد إلا بعد مدة طويلة.(4/107)
-----
والأصل: أن الجهالة المتفاحشة في الأجل تمنع صحة التأجيل في الخلع، واليسيرة لا تمنع، فلو ذهب الحصاد في تلك السنة فإنه يعتبر الوقت؛ لأن المقصود من ذكر الحصاد الوقت لا عينه.
اختلعت من زوجها على عبد بعينه وهلك العبد قبل التسليم رجع الزوج عليها بقيمته، وقد مرجنس هذا في فصل الخلع. وإن ظهر أنه كان ميتاً وقت الخلع، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يرجع الزوج عليها إنما رجع إليها من المهر، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يرجع عليها بقيمته أن لو كان حياً، وهذه المسألة فرع ما إذا تزوجها على عبد بعينه فإذا هو حر أو ميت فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لها مهر المثل فعلى الخلع يجب عليها رد ما قبضت من المهر؛ لأن حكم فساد التسمية في النكاح وجوب مهر المثل، وحكم فساد التسمية في الخلع رد ما دفع إليها من المهر.
وإذا اختلعت من زوجها على خادم أو وصيف بغير عينه فالخلع جائز وكان للزوج خادم وسط ووصيف وسط؛ لأن الجهالة في الصفة لا في الجنس، وجهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية في معاوضة مال بما ليس بمال على ما عرف في النكاح، وإذا خالعها على عبد أو ثوب فإن كان بعينه جاز الخلع، وكان للزوج غير ذلك، وإن كان بغير عينه، فعلى العبد يجوز؛ لأن العبد معلوم الجنس إلا أنه مجهول الصفة لكن جهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية في معاوضة مال بما ليس بمال، وفي الثوب لا يجوز؛ لأن الثوب مجهول الجنس، ومثل هذه الجهالة تمنع صحة التسمية كما لو خالعها على حيوان، وإن كان العبد بعينه إلا أنه لم يرد فليس فيه خيار الرؤية؛ لأن العبد ملك بعقد لا يحتمل الفسخ وفي مثل هذا لا يثبت خيار الرؤية لعدم الفائدة، فإن وجد به عيباً إن كان يسيراً لا يرده، وإن كان فاحشاً يرده والخلاف في هذه وفي النكاح سواء والعيب اليسير ما يدخل تحت تقويم المقومين، ومعناه: أنه يقوم صحيحاً بعشرة وقد يقوم مع هذا العيب بعشرة.(4/108)
-----
وقعت في زماننا أن دخل أو كان رجلاً يخلع أمر امرأته وقال بالفارسية: تو وكيل مني بخلع مارن من حون زن من معالي من بتوده، فدفعت المرأة قباءً لرجل إلى الوكيل وجرى الخلع بينهما وكتبت خط البدل كما هو الرسم فيه فنظر الرجل إلى القباء فوجده بلا بطانة فقيل: لا يصح الخلع لأنه لا يسمى قباءً إنما يسمى يك ما هي أو سرتوا، والتوكيل بالخلع بشرط (293ب1) دفع القباء فوجده، ولو كان له بطانة إلا أنه لا كمين لها أو لم يكن له أحد الكمين فقيل: فيما إذا لم يكن له كمان وإنه لا يصح، وفيما إذا لم يكن له أحد الكمين أن الخلع صحيح. وقيل: يصح الخلع وإن لم يكن له كمان، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في أيمان «الأصل»: إذا حلف الرجل لا يلبس ثوباً فلبس ثوباً ليس له كمان يحنث في يمينه؛ لأن الكم للثوب بمنزلة اليد للرجل، ومقطوع اليدين يسمى رجلاً فمقطوع الكمين يسمى ثوباً، فكذا يسمى قباءً، وقد قيل: ينظر إن كان في زعم الرجل أن قباءه مع البطانة ومع الكمين كان التوكيل بشرط دفع القباء الذي لا بطانة له أو لا كم له وقد وجد فيصح الخلع وهو الأظهر والأشبه.d
وإذا خالع الرجل امرأته على إن أعطته درهماً قد نظر إليه في يدها فإذا هو زائف أو ستوق فإن له أن يأخذ منها درهماً جيداً أما إذا وجده ستوقاً فلأنه أشار وسمى المشار إليه من خلاف جنس المسمى فتكون العبرة للتسمية، وإذا صارت العبرة للتسمية صار كأنها قالت: خالعني على درهم ولم تشرط، قال: ينصرف إلى الجيد كذا ههنا، وما إذا وجده زيفاً فلأن المشار إليه وإن كان من جنس المسمى إلا أن الإشارة إلى الدراهم لغو عندنا في المعاوضات، فصار كأنها سمت الدرهم ولم تشر.(4/109)
-----
فإن قيل: الإشارة إلى الدراهم لغو في حق الاستحقاق عنها وأما في حق الصفة والمقدار لها غيره، ألا ترى أنه إذا قال لأخر: بعت منك هذا العبد بهذا الدرهم وهو زيف والبائع يعلم به فإنه لا يقع البيع بالجياد وإنما يقع بالزيف، قلنا: إنما تعتبر الإشارة في حقه إذا كان العاقد الآخر يعلم بصفته أما إذا كان لا يعلم فلا.
ألا ترى أن في مسألة البيع لو لم يعلم البائع بكونه زيفاً يقع البيع بالجياد، وتأويل مسألتنا أن الزوج لو لم يعلم بكونه زيفاً حتى لو علم بكونه زيفاً كان له الزيف.
وإذا اختلعت منه على ثوب في يدها أصفر فقالت: هذا هروي، فإذا هو مصبوغ كان له ثوب هروي وسط قالوا: وتأويله أن المصبوغ لم يكن هروياً؛ لأنه حتى لم يكن هروياً فقد أشارت وسمت، والمشار إليه ليس من جنس المسمى فتكون العبرة للتسمية وصار تقدير المسألة كأنها قالت: خالعني على ثوب هروي، وأما إذا كان مصنوعاً هروياً فالمشار إليه من جنس المسمى فتكون العبرة للإشارة فيكون له المشار إليه.
وفي «فتاوى أبي الليث»: رحمه الله: إن قال لامرأته: إن لم يكن فلان أوسع دبراً منك فأنت طالق قال أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذا شيء غير مفهوم ولا مقدور على معرفته فلا يقع الطلاق.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: كان رجلان قال كل واحد منهما لصاحبه: إن لم يكن رأسي أثقل من رأسك فامرأتي طالق، فطريق معرفة ذلك أنهما إذا أقاما وعاق وأيهما كان الأسرع جواباً كان رأس الآخر أثقل منه.(4/110)
-----
وفي أيمان «العيون»: رجل حلف أن فلاناً ثقيل وهو عنده ثقيل وعند الناس ثقيل، لا يحنث إلا أن ينوي ما عند الناس؛ لأن اليمين يقع على ما عند (الناس) ظاهراً فيحمل عليه ما لم ينو خلافه رجل... فقدم عليه رجل من قرية أخرى فقال: إن لم أذبح على وجه هذا القادم بقرة من بقري فامرأته طالق ينظر: إن ذبح بقرة قبل أن يرجع هذا القادم وفى بيمينه، وإلا طلقت امرأته، لأن يمينه انعقدت على هذا القدوم عادة، وإن دبح بقرة من بقر امرأته لم يبرأ في يمينه لأن شرط البر ذبح بقرته، فلا يبرأ إلا إذا كان بين هذه المرأة وزوجها من الانبساط ما لا يمنع كل واحد منهما من مال صاحبه، مال ولا يجري بينهما مجادلة فيما بينهما ولكل واحد منهما من مال صاحبه قط فحينئذٍ رجحت أن يبرأ؛ لأن هذا يعد ذبح بقرته عادة، فإن كان هذا الرجل قد ذبح بقرته بنفسه لأجله لكن ما أضافه يلحقها بعد الذبح فإن كانت القرية التي انتقل منها هذا القادم قريبة من هذه القرية بر في يمينه وإن كانت بعيدة مما يعدّ سفراً أخاف (أن) لا يبرأ لأن مثل هذا إذا قدم يتخذون الضيافة لأجله يقع اليمين على الضيافة بعد الذبح.
إذا قال بالفارسية امر هركه من كشت كنم في هذه القرية فامرأته طالق ثلاثاً، فإن زرع شيئاً من الحبوب أو بذر البطيخ أو القطن طلقت امرأته؛ لأنه قد زرع، وإن سقى زرعاً قد زرعه غيره أو حصد لا تطلق امرأته؛ لأنه ما لم يبذر لا يسمى كشت كردن ولو دع إلى غيره مزارعة أو استأجر أجيراً فزرع أجيره لا تطلق امرأته إذا كان بملك الرجل ممن يلي ذلك بنفسه، وإن نوى أن لا يأمر غيره طلقت امرأته لأنه نوى ما يحتمل لفظه وفيه تغليظ، وإن كان قد أجر أجيراً له أو زرع غلامه وقد كان يعمل له قبل ذلك تطلق امرأته؛ لأنه كان يزرع قبل اليمين بهذا الغلام وبهذا الأجير فيدخل هذا النوع تحت اليمين إلا أن يعني نفسه لأنه نوى حقيقة كلامه.(4/111)
-----
إذا قال: إن عمرت في هذا البيت عمارة فامرأته طالق، فخرب حائط بين هذا البيت وبين بيت رجل آخر فعمره، وكان من قصده عمارة البيت الآخر طلقت امرأته.
وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن هذا فقال: الإرادة مع حقيقة الفعل غير نافذة إرادة أنه لا يعتبر بالإرادة مع حقيقة الفعل.
إذا قال الرجل لأصحابه: إن لم أذهب بكم الليلة إلى منزلي فامرأته طالق فذهب منهم بعض الطريق فأخذهم العسر وحبسهم لا تطلق امرأته هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا الجواب يوافق قولهما في مسألة الكون.
وفي أيمان «المنتقى»: إذا قال لامرأته: إن لم تطلقي نفسك فأنت طالق فهذا على المجلس فهو إذن لها في التطليق ويلزمها ذلك إن طلقها.
ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمهما الله يقول: فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فليس المقصود بعد التزوج إلا أن يكون (294أ1) بينه على ما قبله.
«المعلى»: فهي طالق فتزوج امرأة فهذا على أن تشرب السويق وتلبس المقصور بعد التزويج إلا أن تكون بينة على ما قبله.
«المعلى»: عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها غيرك إلا أن لا تزوجيني نفسك فهي طالق ثم إن المحلوف عليها زوجت نفسها منه، قال: إذا تزوج هذه طلقت كل امرأة تزوجها بعد اليمين.
بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأة لا يملكها: إذا تزوجتك فأنت طالق، ثم قال لامرأة أخرى لا يملكها: إذا تزوجتك فقد أشركتك في هذه التطليقة، فتزوج الثانية مع الأولى أو بعد الأولى طلقتا ولو تزوج الثانية يقع عليها الطلاق ما لم يتزوج الأولى لأن يقع الطلاق عليها.
قال في «الجامع»: إذا قال الرجل: إن دخلت الدار فعبدي حر أو إن كلمت فلاناً فامرأتي طالق فدخلت الدار عتق عبده ولا ينتظر فيه دخول الدار، ولو قال: أنت طالق غداً أو عبدي حر بعد غدٍ لا يقع شيء ما لم يجيء بعد غدٍ، وإذا جاء بعد غد..... يكن أن يختار الطلاق أو يختار العتق.(4/112)
-----
والفرق: أن في الصورة الأولى كلمة: «أو» دخلت على الشرطين ودخولها على الشرطين لا يكون دخولاً على الحواشي، لأن الشرط تبع للجزاء، لأنه يوجب الجزاء حالاً وهو التأخر، وما لا يوجب بغير..... فهو كالصفة لذلك والصفة تابعة للموصوف وإذا كان الشرط تبعاً للجزاء لا يستتبع الجزاء فانصرفت كلمة أو على الشرطين وبقي كل جزاء للشرط الذي علق به فإذا وجد ذلك الشرط بدل الجزاء المتعلق به وبطل الآخر كيلا يلزمه حكم اليمينين وقد أدخل بينهما حرف «أو»؛ لأن «أو» وإن كانت تعم في النفي وهو الشرط يخص في الإثبات وهو الجزاء. أما في الصورة الثانية كلمة «أو» دخلت على الجزائين ودخولها على الجزائين يكون دخولاً على الوقتين؛ لأن الوقت كالصفة للجزاء؛ لأنه يوجب صفة التأخر للجزاء والصفة تابعة للموصوف، فما دخل على الأصل يكون داخلاً على البيع فصار الطلاق مضافاً إلى أحد الوقتين، والعتاق كذلك، وصار تقرير المسألة كأنه قال: امرأته طالق أو عبده حر غداً أو بعد غدٍ، فصار ملتزماً أحد الجزائين في أحد الوقتين، والملتزم في آخر الوقتين ملتزم في أحدهما، فيصير عبداً حراً لوقته كأنه قال: عبده حر وامرأته طالق، ولو قال هكذا كان له أن يختار أيهما شاء ويبطل الآخر كذا ههنا.
إذا قال الرجل: امرأته طالق، إن لم يكن دخل فلان هذه الدار أمس، ثم قال: عبده حر إن كان فلان دخل هذه الدار أمس، حلف باليمينين على رجل واحد وعلى دار واحدة ولا يدري أدخل فلان هذه الدار أو لم يدخل؟ ذكر في «الجامع»: أنه تطلق امرأته ويعتق عبده.(4/113)
-----
قال ثمة: ومن العلماء من قال: لا يعتق عبده ولا تطلق امرأته، وعن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر»: أنه تطلق امرأته ولا يعتق عبده، والوجه «لظاهر الرواية» باليمين بالطلاق أقر أن فلاناً دخل الدار وباليمين بالعتق أقر أن فلان لم يدخل الدار فقد وجد الدار شرط الحنث في اليمين بإقراره فيحنث فيهما، ألا ترى أنه لو أقر بعد اليمين فقال: فلان دخل الدار، ثم قال: لا بل لم يدخل يحنث فيهما جميعاً، وطريقه ما قلنا.
وفي «القدوري»: أن أبا يوسف رحمه الله كان يقول أولاً بالحنث في اليمين، كما ذكر في «الجامع» ثم رجع عن هذا، وقال: إذا قال بعد الأول: أو همت أو غلطت حنث في يمينه الأولى ولم تلزمه الثانية.
وفي «نوادر ابن سماعة»: عن محمد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار ثنتين قال: هي طالق بدخول ثنتين، وكذلك إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار وكذلك إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار بائن، كانت طالقاً بدخول الدار واحدة بائنة، ولو قال: أنت طالق واحدة إن دخلت الدار ثنتين، كانت طالقاً الساعة ثنتين، وإن دخلت الدار طلقت واحدة أخرى. قال: ألا ترى أنه لو قال لها: أنت طالق واحدة إن دخلت الدار طالق كانت طالقاً الساعة واحدة بقوله: طالق، وكانت الأول على دخول الدار؟.(4/114)
-----
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: فيمن قال: امرأة من نسائي تدخل الدار فهي طالق وفلانة، فسمى بعض نسائه، وقع الطلاق على المسمى قبل الدخول فإن دخلت الدار لزمها أخرى، يريد به إذا كانت في العدة فيقع عليها تطليقتان إحداهما بحكم اليمين المعتدة بقوله: كل امرأة من نسائي، والأخرى بغير يمين، وقد مرت هذه المسألة من قبل، وكذلك إذا قال: كلما دخلت امرأة من نسائي الدار فهي طالق وأنت، قال ذلك لامرأة أخرى أو قال: من دخلت من نسائي الدار فهي طالق وأنت، قال ذلك لامرأة أخرى، لزمها الطلاق ساعة سكت، فإن دخلت لزمها أخرى أيضاً ما دامت هي في العدة، وكذلك لو قال لامرأته: أنت ومن دخل الدار من نسائي طالق تطلق في الحال، فإن دخلت الدار فهي في العدة لزمها أخرى، ولو قال لها: أنت وفلانة طالق إن دخلت الدار، لم تطلق واحدة منهما حتى تدخل فلانة الدار، وكذلك إذا قال لها: أنت وفلانة طالق إن دخلت فلانة الدار، لم تطلق واحدة منهما حتى تدخل فلانة الدار.
سئل نجم الدين رحمه الله عمن له: امرأة حلال وامرأة حرمت عليه بثلاث، فدخل الرجل على امرأته الحلال فقالت له: دوبجانه در طلاق دو وقال الزوج: إن كسيست كه إن زن راسه طلاق بيكويد هل تطلق هذه ثلاثاً؟ قال: نعم.
وسئل هو أيضاً: عمن قال: كأين خانه اندر جيزى اندرارم أرباب كدخدامي فامرأته طالق. بشر أين مردنجانه بدر آمد ربيما رشد بدر كينرك أورد... بحب باحمله فورد ند. قال: لو جاء للمريض وحده لا تطلق امرأته، ولو كان بخلافه تطلق.
وسئل هو أيضاً: عمن قالت له (294ب1) امرأته «تواز من بيك سو ومن أزتو بيك سو» فقال الزوج: «تيمجنان كير» هل تطلق بهذا؟ قال: لا؛ لأنه لو قال الزوج لها: توازمن بيكسو ومن ازتو بيكو لا تطلق؛ لأن هذا ليس بصريح ولا كناية.
وسئل هو أيضاً: عمن قالت له امرأته: طلقني، فقال لها: ترانة طلاق ما ندست ونه نكاح برخين. قال: هذا إقرار أنه قد طلقها ثلاثاً.(4/115)
-----
سئل هو أيضاً: عمن حلف بطلاق امرأته أن لا يشرب الخمر، أو كانت امرأته شدّدت عليه في هذا التحليف، فقال لها: اكنون جون هنتاد طلاق شدى ديكرجه خوامي، قال: هذا إقرار بالطلقات الثلاث.
وسئل هو أيضاً: عمن قال: بينه هزار طلاق مرد كنت طلاق دادمت طلاق دادمت امرأته تتمة رنان خويشين ازمردان خريديذ من خويشين ازتومي هرم في فروشي زن كنت اكر طلاق درشكم من است دادمت وميكو يدا فسوس وي خواستم ورد سخن وي قال سه طلاق افته لأن صيغته صيغة التطليق وينبغي أن يقال: إن غيرّ النغمة بحيث يعلم أنه أراد به فسوس زن ورد كردن سخف وي لا تطلق. وقد مرّ شيء من هذا فيما تقدم.
وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: اكراربي سبس شرع داري ترا طلاق من غاية ايكسي ديكردادان زن با ان كش بدارد، قال: إن كانت يمينه للثوب منها في البيت، فإذا أمسكه غيرها في بيته لا تطلق، وإن كانت يمينه لا تبعاً لها بإمساكها وتدبير بعضها وعلقها تطلق؛ لأن ذلك قابل بإمساك غيرها بأمرها.
وسئل هو أيضاً عمن قال: اكر من خرم يا بدست كيرم زن ازوى شه طلاق، فيتناول إناءً من الخمر هل تطلق امرأته؟ قال: نعم. قال: وكذا يكون تناول الخمر باليد فإن عَنَى أن لا يتناول باليد بانفرادها وإنما يتناول في الإناء، فقيل له: إن أَخَذَ الإناء لا للفسق لكن للنقل إلى مكان التخليل هل تطلق امرأته؟ قال: نعم إذا لم يخطر بباله عند اليمين الأخذ للشرب.
وسئل هو أيضاً عمن قال: اخر ثمة زن تراجه نام است، فقال: عائشة وكان اسم امرأته فاطمة فقال: ون الدين أن زن كه ترا نجانه است عائشة نام ازتو بطلاق اكر فرداينا هي ومراينيني، قال نعم فردا بيايم هل تطلق امرأته؟ قال لا. وهذا ظاهر.(4/116)
-----
وسئل أيضاً عمن قال لامرأته: اكراز كار كرد تو ومردامكي نجورم توازمن بطلاق فعملت أو رجعت ووهبت لأخرى أن الموهوب له تقديمه إلى الحالف. قال: طلقت امرأته لأنه أكل من أجر كسبها وإرضاعها، لأنه بالهبة لا يخرج عينه من عملها وأجر إرضاعها. وقال: وهذا بخلاف ما لو قال: إن أكلت من مالك وباقي المسألة بحالها حيث لا تطلق؛ لأنه خرج عن ملكها بالهبة والتسليم، فلا يكون مالها. أما هذا بخلافه.
وفي «القدوري»: إذا حلف لا يأكل من كسب فلان فانتقل كسبه إلى غيره بشراء أو وصية فأكل الحالف لا يحنث؛ لأنه صار كسباً للثاني، فالمشتري والموصى له لا يملك حكم ملك الأول، فعلى قياس ما ذكر «القدوري» رحمه الله: ينبغي أن لا تطلق فيما إذا قال لها: اكراز كار كردن تو خورم لان الكسب عربيه كاركردن. المعنى فيه: أنه إذا اختلف سبب الملك، واختلاف سبب الملك ينزل منزلة اختلاف سبب العتق.
وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا قال لامرأته: ترا طلاق اكريشمان نشوم، قال: لا يقع الطلاق، سواءٌ ندم في الحال أو لم يندم. أما إذا ندم فلا شك، وأما إذا لم يندم فلأنه عسى يندم في الثاني.
إذا قال لها: إن لم أجامعك مع هذه الجبة التي عليك فأنت طالق، فنزعتها فأبت أن تلبسها، فالحيلة في ذلك: أن يلبس الزوج الجبة ويجامعها فلا تطلق؛ لأنه جامعها مع هذه الجبة. إذا قال لها: إن دخلت بيتاً فيه عَبْدَ الله فامرأتي طالق، ثم أراد أن يجتمع مع عبد الله في بيت؛ فالحيلة أن يدخل هو أولاً ثم عبد الله فلا تطلق.
فإذا قال لها: إن دخلت عليّ، أو قال: إن دخلت عليه فأنت طالق؛ فالحيلة أن يدخل معها فلا تطلق؛ لأنه لم يدخل عليها، ولم تدخل هي عليه.(4/117)
-----
رجل اشترى مَنَّاً من لحم فقالت له امرأته: هذا أقل مِنْ مَنَ وقد خانوك وحلفت على ذلك بالعتاق، وقال الرجل: إن لم يكن مَنَّاً فأنت طالق ثلاثاً؛ فالحيلة في ذلك: أن تطبخ المرأة اللحم قبل أن يوزن فلا يقع الطلاق ولا العتاق بالشك.
مؤذن أذن في يوم غيم، فقال رجل: هو للظهر، وقال الآخر: هو للعصر، وحلف كل واحد منهما بطلاق امرأته على ما يقول، فسألوا المؤذن، فحلف أن لا يخبرهم بذلك، ولم يعرفوا، فإنه لا يقع الطلاق على امرأة واحد بالشك.
رجل قال لامرأته: أنت طالق إن قرأت القرآن اليوم، فحضرت الصلاة؛ فالحيلة في ذلك أن تأتم بزوجها أو بامرأة أخرى.
رجل قال لامرأته: إن كلمتك ما دمت في هذه الدار فأنت طالق، فخرجت المرأة عن الدار، ثم عادت وكلمها لا تطلق. ولو قال لها: إن كلمتك ما كنت في هذه الدار، وباقي المسألة بحالها طلقت.
قال الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله: في العرف أنه يكون كونٌ بعد كون، ولا يكون ديمومة بعد ديمومة. وتفسير قوله: ما دمت باتويدين ان اندرى، وتفسير قوله: ما كنت بابوايدي سراى اندراباشِ. قال الفقه أبو حامد رحمه الله: ما كنت أعرف الفرق إلا ببيان الإمام إسماعيل رحمه الله، وستأتي مسألة ما دام في كتاب الأيمان مع تفاصيلها إن شاء الله.
إذا قال لها: إن أكلت من هذا الخبر. فأنت طالق فطلقت الحيلة في ذلك حتى تأكل ولا تطلق فالحيلة ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ينبغي لها أن تدق ذلك الخبز وتلينها في عصيدة ويطبخ حتى يصير الخبر هالكاً فتأكل العصيدة ولا تطلق.
قيل لرجل امرأتك طالق؟ فأشار برأسه: أي نعم، فإن كان له تطلق وعبارة لا تطلق بالإشارة، وإن لم يكن طلقت. رجل قال لامرأته إن.... شيء كلمة الله تعالى فأنت طالق ثلاثاً، قيل: ينبغي أن..... بالنار، فإن الله تعالى كلم النار. قال الله جلت قدرته: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً} (الأنبياء: 69) .(4/118)
-----
رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهنّ ثم قال لواحدة أخرى من الثلاث الباقيات: ثم أشركتك في طلاق هذه، ثم قال للرابعة: أشركتك في طلاقهن طلقت الأولى والثانية كل واحدة منهما تطليقة، وطلقت الثالثة ثنتين، وطلقت الرابعة ثلاثاً.
امرأة ارتدت وبانت من زوجها، فقال الزوج لامرأته الأخرى أشركتك في بينونة هذه (295أ1) فهي بائن أيضاً.
قال رجل لامرأته: إن قربتك فأنت طالق ثنتين، فتركها أربعة أشهر ثم قال: قربتها، قال: هي ثلاث تطليقات عند محمد رحمه الله. امرأة قالت لزوجها: طلقتني ثلاثاً فقال الزوج: أنت طالق، طلقت واحدة إلا أن ينوي الثلاث. ولو قال: طلقتك أو قال: فعلت، فهي طالق ثلاثاً.
امرأة قالت لزوجها: أنا طالق؟ قال: نعم، فهي طالق. ولو قالت: طلقتني فقال: نعم قال: لا تطلق، وإن نوى الطلاق.
رجل قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: اختلعت منك، أو قال لها: اختاري فقالت: اختلعت منك، فهي طالق. قال لها: أمرك بيدك فقالت: قبلتُ نفسي طالق. (رجل) خلع امرأته بجميع ما تملك ورضيت به جاز الخلع، وله المهر الذي تزوجها، فإن كان دفع إليها المهر أخذه منها، وإن لم يدفعه برىء منه، ورجع عليها غيلة دخل بها أو (لم) يدخل بها حَلّ.
قال لامرأته: أنت طالق إن جاء فلان أو قال: إذا جاء فلان وإذا جاء فلان، أو قال: متى جاء فلان، ومتى جاء فلان طلقت عند وجود أحد الفعلين. ولو قدّم الفعلين بأن قال: إن جاء فلان فأنت طالق لا يقع الطلاق إلا بوجود الفعلين؛ لأن في المسألة الأولى الكلام تام بذكر أحد الفعلين، وفي الفصل الثاني الكلام لا يتم إلا بذكر الفعلين. ولو جعل الجزاء بين الفعلين بأن قال: إن جاء فلان فأنت طالق، وإن جاء فلان فإنهما جاءا أول مرة طلقت واحدة، وإذا جاء الآخر لا تطلق إلا أن ينوي تطليقتين، فيكون على ما نوى.
رجل قال لامرأته: أمرك بيدك تطلقي نفسك غداً فلها أن تطلق نفسها للحال. وقوله: فطلقي نفسك غداً مشورة.(4/119)
-----
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عمن ادعى دابّةً في يدي رجل أنها له، والذي في يديه ينكر دعوى المدعي، فحلف المدعي بطلاق امرأته ثلاثاً أن الدابة لي، ولم يكن له نيّة، والمدعي يقول: اعلم يقيناً أن الدابة لي، هل ينبغي لامرأته أن تقيم معه قال: نعم والأحوط أن يحلفه، فإن حلف أقامت معه، وإن نكل رافعته إلى الحاكم، فإن أبى أن يحلف فرق بينهما.
سئل أبو نصر بن سلام رحمه الله عن رجل قال لامرأته: إن وجهت من هذه الدار إلى تلك الدار شيئاً فأنت طالق، ثم إن هذا الرجل أمر جاريته أن تعطى كلما طلبوا شيئاً من تلك الدار. فجاء إنسان من تلك الدار يطلب شيئاً، فأعطت الأمة ما طلب منها، فلم يرضَ الطالب بذلك الشيء، فقالت امرأة الرجل للجارية: اذهبي فاحملي من الشيء الآخر، فرجعت فجاءت بالأجود وذهبت بذلك إلى تلك الدار. قال: إن قامت دلالة ظاهرة على أنها أطاعت في ذلك مولاتها حقّ عليه الحنث. فإن قامت دلالة على أنها لم تعتمد على قول مولاتها وإنما اعتمدت على قول مولاها رجوت أن لا يكون حانثاً، وإن فقدت الدلالة سألنا الجارية، فأيّ شيء عبرت عن نفسها من طاعتها ومعصيتها رجوت أن يشيع الاعتماد على ما عبرت.
وسئل هو أيضاً: عن رجل قال لامرأته: إن رفعت من حنطتي أو من شعيري وبعثت إلى القاضي فأنت طالق ثلاثاً، وكان لهذا الرجل.... المنزل يردون، وكان بين يديه شعير فَضْلٍ من آكله مقدار كف على وجه الحثالة في فنجان، فعمدت المرأة ورفعت الفنجان مع بقيّة الشعير وقالت: إن الفنجان من شعير آخر هو يصير للزوج، وبعثت بالفنجان إلى القاضي، قال: ينظر إلى باقي الشعير وإلى حال الرجل، فإن كان لا يبالي بتلك المقدار ولا بعدد من شعير نفسه أرجو أن لا يحنث، وإن كان يبالي بذلك القدر وشحّ بقلبه وغصّ به حقّ عليه الحنث.(4/120)
-----
وسئل الشيخ الإمام أبو الحسن المعروف بشيخ الإسلام عن رجل قال لامرأته: إن رفعت من مالي إلى فلان شيئاً فأنت طالق ثلاثاً، فدفعت شيئاً من الملح والحطب أو نحو ذلك هل تطلق امرأته؟ قال إن كان الحالف شاحٌّ في ذلك وتضايق طلقت ثلاثاً، وما لا فلا.
ووقعت عين هذه المسألة في زمن محمد رحمه الله، وكانت المرأة دفعت أجرة إلى المحلوف عليه، فسئل محمد رحمه الله، عنها، فقال للسائل: سل أبا يوسف، فسأله فقال: إن كان يجري بينهما المشاحة والمضايقة في ذلك طلقت ثلاثاً، فأخبر السائل محمداً بذلك، ومن يحسن مثل هذا الجواب إلا أبا يوسف رحمه الله.
وروي عن محمد بن الحسن رحمه الله عن رجل حلف أن لا يتزوج امرأةً كان لها زوج، ثم إنه طلق امرأته وتزوجها لا يلزمها الطلاق؛ لأن يمينه على غيرها.
عن الحسن بن زياد رحمه الله: امرأة قالت لزوجها: تركت مهري عليك على أن تجعل أمري بيدي، ففعل ذلك، فلم تُطلّق المرأة نفسها، قال: المهر قائم ما لم تُطلق نفسها.
سئل أبو نصر عمن تشاجر مع امرأته من قِبَلِ أُختٍ له فقال لها: إن تكلمت بين يدي من كلام أختي وسببتها بين يدي فأنت طالق ثلاثاً، ثم إن الزوج دخل بيته، وهي تشاجر أخته وسبّتها، وهو يسمع ذلك، قال: إن كانت سبتها، وهو يراها، وهي تراه، فقد سبتها بين يدي الأخ فتطلق ثلاثاً.
وسئل أبو القاسم عمن قال لامرأته بالفارسية: اكر ابن بامه ترين من اندا فأنت طالق، وكان ذلك قميصاً فحمل على عاتقِهِ قال: إنها تقع يمينه على ما يلبس الناس.
وسئل أبو القاسم رحمه الله عن رجل قال لامرأته: إن شربتُ شيئاً من المسكر إلى سنة فأنت طالق، فرآه الناس سكران خارج من مجلس الشراب وجحد هو أن يكون شرب، فشهدوا عند الحاكم قال ينبغي للحاكم أن يحتاط لنفسه ولا يقبل بشهادة من لا يعاين الشرب، وينبغي للمرأة أن تحتاط لنفسها في مفارقته بالعدة.(4/121)
-----
وفي أحد حدود «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل: امرأته طالق إن شرب نبيذاً، أو قال: خمراً حتى سَكِرَ، فشهد شاهدان أنهما وجداه سكران، ووُجِدَ منه رائحة الخمر وجاءوا به إلى الحاكم على تلك (الحالة) قال الحاكم: (295أ1) نحدُّه ونفرق بينه وبين امرأته، ولا يحمل هذا على أنه.... وإنما هذا على أن يشربه، قال ثمة: ألا ترى أنه إذا وجد الرجل سكراناً، أو وُجد منه ريح الخمر أو الشراب أنه يُحدّ. ولا يوضع هذا على أن أكرهه عليه ذلك الحاكم أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن هذا قول محمد رحمه الله. قد ذكر في «الأصل» أنه لا يحدُّ بالريح ولا بالسكر.
وفي هذا الموضع أيضاً قال محمد رحمه الله: إذا قال: امرأتي طالق إن شربت نبيذاً حتى سكرت، فشهِدَ عليه شاهدان أنه سكر وقالا: لم نجد منه الشرب ولا ندري من أي شيء سكر، فأمضى القاضي الحكم عليه بالطلاق، ثم رُفع إليَّ لم أنقض قضاءَه.
سئل محمد بن سلمة رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته إن غسلت ثيابه، فغسلت لُفافته قال لا تطلق إلا أن ينوي ذلك. ولو أوصى لرجل بثيابه دخلت اللفافة في الوصية. وسئل أبو القاسم رحمه الله عمن قال: لامرأته: إن غسلت ثيابي فأنت طالق، فغسلت كُمَّهُ أو ذَيْلَه، قال: إن كانت تغسل ذلك القدر لا تُسمى غاسلة الثياب في إرسال الكلام لا يلزمه الحنث.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وروي عن محمد بن سلمة رحمه الله: لا يقع الطلاق بغسل هذا القدر، ولم يشترط هذا الشرط، وبه نأخذ.
حلف بالطلاق أن لا يأكل من مال (أخيه) شيئاً، فجعل خميرة الخبز في دقيق الحالف وَخَبَزهُ وأكل قال الحسن بن زياد رحمه الله: لا يلزمه الطلاق؛ لأن الخمير قد ذهب.(4/122)
-----
سئل نصر عمن قال لامرأته: إن فارقتك فكلّ امرأةٍ أضع رأسي مع رأسها فأنت طالق، أو قال: كل جارية أضع رأسي مع رأسها، أو قال: كل جارية أطؤها فهي حرة. ففارقها ثم تزوج امرأةً، ووضع رأسه مع رأسها، أو اشترى جارية ووطئها لا يلزمه الحنث؛ لأنه حَلَفَ في ما لا يملكه وما أضاف الحلف إلى الملك، حتى لو كان في نكاحه امرأة أخرى وقت الحلف، أو كانت في ملكه جارية وقت الحلف ووطىء تلك الجارية، أو وضع رأسه مع رأس تلك الجارية يلزمه الحنث.
وسئل نصر عمن قال لامرأته: إن لم تقومي الساعة وتجيئي إلى دار والديّ فأنت طالق، فلبست الثياب وخرجت من الدار ثم رجعت وجلست، ثم ذهبت إلى دار والديه قال: لا تطلق ما دامت في نهي الذهاب ورجوعها وجلوسها ما دامت في نهي الذهاب لا يكون تركاً للفوت.
وكذلك أَخْذُهَا الثوب، فقالت مثل لبس الثياب، ثم لبست الثياب لا تطلق. قال: ألا ترى أن رجلاً قال لامرأته: إن لم تجيئي هذه الساعة إلى الفراش فأنت طالق، وهما في تشاجر ذلك الأمر حتى طال غيابها أنها لا تطلق، ولا تنقطع الصور قبل الدار أنت إن خافت ذهاب وقت الصلاة فعلت، قال: الصلاة عمل آخر. فهي قطعٌ للصور.
وروى ابن زياد رحمه الله في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن أكلت أو شربت، فإن أكلت أو شربت طلقت واحدة، ولو قال: إن أكلتِ أو شربتِ فأنت طالق لا تطلق ما لا تأكل وتشرب. وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: إن سببت أو إن بتُّ سكران.
تشاجر مع غيره، فقال له ذلك الغير: تقول هذا من السكر فقال: أنا لست بسكران، ولا أقول هذا من السكر، وحلف على ذلك بطلاق امرأته، قال أبو القاسم رحمه الله: يمينه على ما سمعه الناس سكراناً إذاً بغير كلامه ومقالته، وهذامما سمعه الناس سكراناً، فتطلق امرأته.(4/123)
-----
سئل أبو القاسم رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته إن لم يجامع فلاناً ألف مرة، قال: يمينه على كثرة العدد لا على كمالٍ بالألف ولا يُقدّر فيه تقديراً، والسبعون كثير، قال الله: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر ا لهم} (التوبة: 80) .
إذا قال لامرأته: أنت طالق كل سنة ثلاثاً تقع الثلاث في ساعته؛ لأن هذه الساعة من السنة. في «فتاوى أهل سمرقند»: إن قال لامرأته في يوم الخميس: أنت طالق يوم الخميس أو في يوم الخميس، فهو على اليوم الخميس القائم.
في باب الطلاق. من «الأصل»: أنت طالق اليوم، إذا جاء غد، يقع الطلاق إذاجاء الغد؛ لأن قوله أنت طالق اليوم إيقاع في اليوم، وقوله: إذا جاء غد تعليق، والإيقاع مع التعليق إذا اجتمعا كانت العبرة للتعليق.
في هذا الموضع أيضاً: اكرا مسالي زن خواهم فهي طالق ثلاثاً، فهذا يقع على.... ذي الحجة؛ لأن قوله: امسالي، إلى السنة التي هو فيها، فتصير عبارة عما بقي من السنة. في الباب الأول من طلاق «الواقعات»: إذا علّق الطلاق بفعلٍ في وسعها إقامته لا يقع الطلاق بترك الفعل إلا في آخر جزء من آخِر حياتها.
وإن جعل التعليق بفعلٍ ليس في وسعها إقامته يقع الطلاق في الحال إلا إذا وقَّت لذلك وقتاً فحينئذ لا يقع الطلاق إلا بعد مضي ذلك الوقت.
في باب الطلاق من «الأصل»: سئل الفقيه أبو بكر عن رجل طلق امرأة غيره فقال الزوج: بئس ما صنعت وقال: نِعمَ ما صنعت، قال: كان عبد الله يقول: إن قال: بئس ما صنعت وقع الطلاق، وإن قال: نعم ما صنعت لا يقع الطلاق. قال الفقيه أبو بكر: وأنا أقول على.... هذا. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله فيه نأخذ؛ لأنه هو الظاهر.(4/124)
-----
وسئل هو أيضاً: عن رجلٍ غضب على امرأته لما أنها خرجت من دارها إلى سطحٍ جارٍ لها فقال لها: إن خرجت من الدار إلى سطح الجار فأنت طالق، فخرجت إلى سطح جارٍ آخر قال: إن علم أن مراده سطح جارٍ بعينه لا تطلق، وإن لم يعلم فيمينه على جميع الجيران، وتطلق بالخروج إلى سطح جارٍ آخر. وستأتي هذه المسألة في كتاب الأيمان بخلاف هذا.
وسئل أبو القاسم عن رجل اتُّهم بشيء فقال: فلانة طالق أكثر من وقطع الكلام لا يقع الطلاق، ويجب أن تكون المسألة على الخلاف على قياس مالو قال لامرأته: أنت طالق إن ولم يزد، وقد مرت تلك المسألة من قبل.
حلف أن لا يطلق امرأته والى منها فمضت أربعة أشهر من غير (296أ1) قربان حتى وقع عليها طلاق بالإيلاء، هل يقع عليها تطليقة أخرى باليمين؟ قال نصر: يقع، وقال غيره: لا يقع.
وفي اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله من جهته، وذكر ثمة في العنِّين إذا حلف: لا (يطأ) امرأته، وفرق القاضي بينهما بحكم العنّة هل يلزمه الحنث؟ على قول زفر لا يلزمه. وعن أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان. وستأتي المسألة في كتاب الأيمان إن شاء الله.
وسئل أبو بكر عمن قال لامرأة من جيرانه أن تريدي أخلصك من زوجك فقالت: نعم، فذهب الرجل وخلصها من زوجها بمهرها ونفقة عدتها، فبلغها فلم ترضَ به، قال: إن قالت المرأة: لم أُرِدْ بذلك هذا النوع في التخليص فالقول قولها.
سئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: إن دخل فلان بغير مرادي فأنت طالق ثلاثاً، فأرادت أن يذهب فقال الزوج: توهمي ورو وبر من جه آيد. فقال: هذا وعيد وليس بإذن، فإذا ذهبت ودخلت دار فلان طلقت ثلاثاً.
وسئل هو أيضاً عن رجل قال لامرأته: بعت منك أمرك بألف درهم، قال: إن اختارت نفسها في المجلس في المجلس وقع عليها الطلاق، ولزمها المال.(4/125)
-----
وسئل هو أيضاً: عن رجل باع من امرأته بمهرها ونفقة عدتها، واشترت هي ثم قال الزوج من ساعته: هرسنة هرسنة، قال: أخاف أن يقع عليها ثلاث تطليقات. وينبغي أن ينوي الزوج إن أراد بقوله: هرسنة إيقاع الطلاق طلقت ثلاث تطليقات، وما لا فلا. وقد مرّ نظير هذا في مسائل الخلع.
وسئل هو أيضاً: عن رجل قال لامرأته: هَبيْ صداقك مني فقالت: لا أهب. قال: أنت طالق ثلاثاً إن لم تهبي وأتى على ذلك أيام، ثم إن المرأة تزعم أنها كانت وهبت منه إلا أنه لم يسمع لا يصدق، وطلقت ثلاثاً، وفيه نظر، وينبغي أن لا تطلق ما دامت حيّة.
وسئل أبو القاسم رحمه الله عن رجل قال لامرأته: جعلت إلى ثلاث تطليقات بيدك إن أبرأتيني عن المهر فطلقت نفسها في المجلس، إن طلقت بعدما أبرأته عن المهر يقع الطلاق، وما لا فلا؛ لأن التوكيل على شرط تبرئته عن المهر.
وسئل أبو بكر رحمه الله عمن قال: حلال الله عليَّ حرام إن فعلت كذا، ففعل ذلك الفعل، وليست له امرأة يومئذ، فتزوج امرأة، قال: تلزمه كفارة اليمين، ولا تطلق امرأته التي تزوجها، ولو كانت له امرأة وقت اليمين، طلقت. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن تزوج امرأة يقع الطلاق عليها، ويجعل ذلك بمنزلة قوله: كل امرأة أتزوجها. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وأنا أقول بقول أبي بكر.
قيل: جواب أبي جعفر رحمه الله لا يستقيم، وإن جعلنا قوله: حلال الله عليَّ حرام بمنزلة قوله: كل امرأة أتزوجها على ما هو موضوع المسألة في «الكتاب»؛ فإن موضوع المسألة: أن الحالف ذكر الفعل آخراً في اليمين، وتزوج امرأة بعدما باشر ذلك الفعل، وفي هذه الصورة لا يقع الطلاق على اليمين المتزوجة بعد مباشرة الفعل، وإنما يقع على المتزوجة قبل مباشرة الفعل، وإنما يستقيم هذا الجواب فيما إذا ذكر الفعل أولاً بأن قال: إن فعلت كذا فحلال الله عليَّ حرام.(4/126)
-----
وسئل أبو بكر أيضاً عمن قال لامرأته: هرار بار هشته به يك طلاق، قال: طلقت ثلاثاً.
وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: إن صعدت هذا السطح فأنت طالق، فارتقت.... أو ثلاثة، قال: يجب أن يكون في المسألة اختلاف بين نصر ومحمد بن سلمة رحمهما الله بناءً على أن من قال لامرأته: إن ذهبت إلى قرية كذا فأنت طالق، فخرجت إليها، قال أحدهما: يحنث بنفس الخروج، وقال الآخر: لا يحنث بنفس الخروج ما لم تنتهِ إليها فهاهنا يجب أن يكون كذلك.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنه يقع الحنث هاهنا بالاتفاق؛ لأنه لا يقال: صعد السطح ما لم يرتفع. ويقال اذهب إلى موضع كذا وإن لم ينتهِ إليه.
وسئل هو أيضاً: عمن قال لامرأته: إن ارتقيت هذا السلم أو وضعت رجلك عليه فأنت طالق فوضعت رجلها عليها فتذكرت الحلف فرجعت، قال: أخاف أنها تطلق. قيل له: أليس هذا اللفظ صار كناية عن الصعود، كما أنّ وضْع القدم في الدار صار كناية عن الرجل؟ قال: إن استقضى في هذا اليمين حنث. قال: إن ارتقيت أو وضعت رجلك عليه والصعود يستفاد بقوله: إن ارتقيت عليها أنه أراد بوضع الرجل نفس الوضع، فهو بمنزلة ما لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار ووضعت رجلك في السكة فأنت طالق، وهناك إذا وضعت رجلها في السكة تطلق، وإن لم تخرج والمعنى: ما ذكرنا كذا هاهنا.
وسئل هو أيضاً: عمن قال لامرأته: كابتن وهرينة عدة توتبو فروخم شيه طلاق تو فقالت: اشتريت لا يقع وهي امرأته؛ لأنه باع مالها منها، فهو بمنزلة ما لو قال لها: بعت منك عبدك هذا بكذا، وذلك لا يصح كذا هذا.
وسئل هو أيضاً: عن رجل حلّفه السلطان بطلاق امرأته أن يضع مئتي درهم على كف خليفته فلان، فجاء الرجل بالدراهم ليضع على كفّ الخليفة فأمره الخليفة أن يدفع الدراهم إلى خادم له، ولم يضعها على كف الخليفة قال: أرجو أن لا تطلق امرأته.(4/127)
-----
سئل أبو القاسم عمن قال لامرأته: اكم ما در توا زجر من نجورد فأنت طالق ثلاثاً، فحملت المرأة من دقيق زوجها ودفعت إلى أخيها، فدفع الأخ إلى امرأته، فخبزت، ثم وضع الأخ الخبز بين يدي أمه فأكلت، قال: إن دفعت الأخت الدقيق إلى الأخ على وجه الهبة لم تطلق، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنها لا تطلق على كل حال؛ لأن الأخ لما خبز الدقيق صار الدقيق ملكاً، له وهو ضامنٌ للدقيق.
وسئل أبو نصر رحمه الله عمن قال لامرأته: إن فعلت كذا فأنت طالق واحدة، فقالت: لا أرضى بالواحدة فقال الزوج: أنت طالق ثلاثاً إن لم ترض بالواحدة. قال: هذا الكلام يراد به الشرط ولا يراد به الإيقاع، فلا يقع في الحال شيء.
سئل علي بن أحمد رحمه الله عن رجل تشاجر مع امرأته فقالت المرأة: وهبت حقي جنك ازمن بدار، فقال: جنك بازد اشتم، قال ذلك ثلاثاً. قال: خفت (296ب1) أن يقع عليهما ثلاث تطليقات. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنه يقع عليها واحدة؛ لأن قوله: جنك بازد اشتم فارسية، وقوله: خليت سبيلك وذلك ثاني، والثاني لا يلحق.
إذا قال لامرأته: إن لم تصومي غداً فأنت طالق، فأصبحت من الغد صائمة، فلما مضى ساعة حاضت، ومضى اليوم طلقت، هكذا ذكر في «الفتاوى». قال الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: هذا الجواب يستقيم على قول أبي يوسف، غير مستقيم على قول محمد رحمه الله بناءً على ما إذا عقد يمينه على شرب الماء الذي في الكوز اليوم، وفيه ماء، فانصبّ قبل مضي اليوم. والصحيح أنها تطلق عند الكل، وإليه أشار محمد رحمه الله في «أيمان الجامع» كتبته في «واقعات» بخارى بعد الرجوع من سمرقند.(4/128)
-----
سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عمن قال: اكر مرا مركز جزار فلان زن باشد وشما ازمن مهر از طلاق، ثم أراد أن يتزوج امرأة غيرها قال: ينبغي أن يبدأ ويتزوج امرأة سوى التي يريد نكاحها بمهر قليل، فتطلق ثلاثاً، ويلزمه نصف مهرها، ثم تزوج بالتي يريد نكاحاً بما أحب فلا تطلق إن لم يكن للحالف نية كل امرأة يتزوجها. وهذه المسألة تشير إلى أن اليمين بهذا اللفظ ينعقد على امرأة واحدة.
سئل أبو نصر عن رجلٍ أتهم امرأته برفع شيء من الدراهم فأنكرت، فقال الزوج: تواز من بسيه طلاق هشته اكر تيو داشيه، ثم ظهر أنها لم ترفعه قال: طلقت ثلاثاً، وهذا ظاهر؛ لأن الزوج علق طلاقها به.......، وكذلك لو قال: تواز من به طلاق هشته كه برداسته وظهر أنها لم ترفع طلقت ثلاثاً لأن الزوج أخبر عن دفعها وأكدّ ذلك باليمين، فكان شرط وقوع الطلاق عليها عدم الدفع وهو نظير ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر»: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلتُ الدار ولم يكن دخل طلقت؛ لأنه أخبر عن الدخول وأكَّدَهُ باليمين، فكان شرط الحنث عدم الدخول.
سئل نصر عمن قال لامرأته: طلاق ترادام خريدي، فقالت: خريدم وخويشين راشين بارهشتم اززني، فقال لها الزوج: رستي، قال: إن أراد بقوله: رستي الإجازة وقع الثلاث، وإن لم يرد به الإجازة لا يقع إلا واحدة رجعية.
سئل أبو القاسم عن سكران ذهب إلى دار.... فقال: إني حلفت بطلاق امرأتي أن ألتقي بها الليلة فأبوا ذلك عليه، فلما صح قال: إني أردت بذلك تخويفهم ولم أكن حلفت بالطلاق، قال: طلقت امرأته.
وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: إن تكوني امرأتي عند غدٍ فأنت طالق ثلاثاً، قال: طلقها واحدة بائنة في يومه ذلك أو في الغد ثم مضى الغد سقطت اليمين وله أن يتزوجها بعد ذلك في العدة وبعد مضي العدة. ولا تطلق.(4/129)
-----
سئل أبو نصر عمن قال لامرأته: اكر تو باكسي حرام اكشي فأنت طالق ثلاثاً، ثم إن الزوج طلقها واحدة بائنة وجامعها في عدتها هل تطلق ثلاثاً؟ قال: لا وبيمينه على غيره. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أن المسألة يجب أن تكون على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تطلق، وتقع يمينه عليه وعلى غيره. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا تطلق.
أصل المسألة: إذا قالت لزوجها: إنك تزوجت عليّ امرأة فقال الزوج: كل امرأة لي فهي طالق.
وسئل أبو نصر رحمه الله عن رجل قال لامرأته: إن أعطيتك دراهم تشتري بها شيئاً فأنت طالق، فدفع إليها دراهم، وأمرها أن تعطي فلانة تشتري بها شيئاً، ثم تذكر يمينه واستردّ الدراهم منها هل تطلق امرأته؟ قال: إن كانت امرأته هي التي تشتري الأشياء بنفسها لا تطلق، وإن كانت لا تتولى شراءها بنفسها أخاف أن يقع الطلاق عليها.
قال صاحب «مجموع النوازل» سألت نجم الدين رحمه الله عن معنى هذا الجواب فقال: لأنها إذا كانت تشتري بنفسها وقعت يمينه على حقيقة فعلها فما لم تشترِ لا يحنث، وهذا الجواب مستقيم فيما إذا دفع إليها الدراهم ولم يأمرها أن تدفع إلى فلانة تشتربها، فأما إذا أمرها أن تدفع إلى فلانة تشتري بها فلانة ينبغي أن لا تطلق امرأته على كل حال.
إذا قال الرجل: إن فعلت كذا فكل امرأة لي طالق، وليس له امرأة، وكان من نيّته كل امرأة يتزوجها بعد هذا هل تصح نيته؟ كان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: تصح نيته. ويصير تقدير المسألة: كل امرأة تكون لي، فهذا من باب نيته الإضمان وأنها صحيحة، وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يُفتي بأنه لا تصح نيته.(4/130)
-----
ولو قال: إن فعلت كذا هرج بدست راست كيرم برمن حرام، وليست له امرأة وقت الحلف، ولم ينوِ امرأة يتزوجها كان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: يكون يميناً وعليه الكفارة، وبه كان يفتي شيخ الإسلام أبو الحسن رحمه الله، وقد مرّ نظير هذا في قوله: حلال الله عليَّ حرام. وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يفتي بأنه لا شيء عليه. ولو نوى امرأة يتزوجها تصح نيته بلا خلاف.
قال نجم الدين: وإنما صحت نيّة كل امرأة يتزوجها في هذه الصورة لأن قوله: هرج بدست راست كيرم صيغته صيغة استقبال فتصح نيّة الاستقبال لاحتمال اللفظ، بخلاف قوله: كل امرأة لي؛ لأنه للحال، فلا يحتمل الاستقبال، فلا تصح نية الاستقبال فيه، وقد مرّ جنس هذا في مسائل الكنايات.
سئل نجم الدين رحمه الله عمن قال: امرأته تجدد النكاح بيننا احتياطاً فقالت: بيّن وجه الحرمة حتى أعرف وبارعته في ذلك وقالت: لم تكتم الحرمة، فغضب الزوج فقال: سراني اني ريكان است كه معجنين بداري هل يكون هذا إقراراً بالحرمة؟ قال: نعم؛ لأنه أشار إليها مرتين بقوله: اين ريكان وبقوله: معجنين وهو تحقيق لصفة الحرمة فيها.
ولو قال: سراي اين تكان انست كه حرام بداري لا يكون إقراراً بالحرمة. هذا إذا قال لغيره: خوامي تازنت طلاق كنم فقال: دادمش شيه طلاق. وفي هذه المسألة تقع تطليقة واحدة، والثانية يقول: دادمش شيه طلاق وفي هذه المسألة (297أ1) لا تطلق أصلاً، وهو فتوى قول أبي حنيفة رحمه الله.
سألت المرأة زوجها أن يطلقها واحدة فقال: دا دم يكي ودوست فقالت: جه يكي وجه دو وجه شه، فلم يجبها بشيء فقد قيل: إنها تطلق ثلاثاً. وظهر بسبق سؤال العدد في الطلاق أنه أراد به عدد الطلقات.(4/131)
-----
قال الرجل لغيره: استعدت امرأة حليلةً فقال الزوج: بده ترهم تجديد سي فقال ذلك الرجل: مرابسيد درم فروختى فقال: فروحنم، فقد قيل: لا تحرم وهي على زوجها بهذه المقالات؛ لأن الأجنبي ما أخرج الكلام مخرج الاختلاع، فإنه لم يقل: سروي فروختي سد درم يجعل ذلك خلعاً، بل طلب شراءها لنفسه، وهي ليست بمحل لشرائه إياها لنفسه، فبطل ضرورة.r
رجل له امرأتان فقال لإحداهما: سيه طلاق أن زن ديكرترا دادم. أو قال: يتوا دادام تواين نيت طلاقه وي ده ابن زن كنت من اين شيه طلاق بوي دادم لا تطلق واحدة منهما؛ لأن كلام الزوج تفويض، وكلام المرأة أيضاً تفويض، ولم يوجد التطليق من المفوض إليها، ولهذا لا تطلق واحدة منهما.
إذا طلق امرأته تطليقة، ثم قال بعد ذلك: زن برمن حرام رست، يُسألُ الزوج: عنيت بقولك: زن فرض حرام است الحرمة بتلك التطليقة أو هذا الكلام، إن قال: عنيت بتلك التطليقة، فقد جعل الطلاق الرجعي بائناً، فلا تقع تطليقة أُخرى. وإن قال هذا الكلام مثلاً، فهو طلاق آخر ثاني.
قال لامرأته: تواز من جنان دوري جون مكة از مدينة لا تطلق إلا بنية الطلاق. قال لها: سرم نمي داوي كه حرام كرد كيار منكر دي، فهذا إقرار بحرمتها.(4/132)
-----
سئل شيخ الإسلام أبو الحسن السغدي رحمه الله عمن قال لامرأته: اذهبي إلى فلان واستردي منه كذا واحمليه إليّ السّاعة، فإن لم تحمليه فأنت طالق ثلاثاً، فذهبت ولم تقدر على الاسترداد، فرجعت ثم استردته في يوم آخر فحملته فقال: قد وقع عليها ثلاث تطليقات؛ لأن قوله: فإن لم تحمليه كان مطلقاً، إلا أنه بناءً على قوله: واحمليه إليَّ الساعة فيكون على الفور، وينبغي أن لا يقع الطلاق، ويكون عجزها عن الاسترداد بمنع فلان إياها عن ذلك عذراً كما في المسألة التي تقدم ذكرها وهو ما إذا حلف بالفارسية: اكرا شيت بدين شهر اندر باشم، فكذا فتوجه للخروج فأخذ وجلس فإنه لا يلزمه الحنث، وجعل عجزه عن الخروج بمنعهم إياه عن الخروج عذراً.
سئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: دست بازدا شتمت بيك طلاق فقالت المرأة: باكوي باكويان تشوند، فقال: دست بازدا شتمت بيك طلاق، ثم تفرَّقا، فقال رجل للزوج: دست بازداستي زن را، فقال: دست بازداشية أم بيك طلاق، أو قال: بازدا شتم فهذا إخبار عن الأول فلا يقع بهذا طلاق آخر، ولو قال: بازدا شتم بيك طلاق، فهذا طلاق آخر، فتقع الثلاث إلا إذا قال: عنيت بالثاني والثالث الإخبار، فيصدق ديانة لا قضاءً.
وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق، أو قد طلقتك، وقال: عنيت بالثاني الإخبار، فإنه يصدق ديانة لا قضاءً كذا هنا، وأشار في «القدوري» إلى أنه تقع واحدة أيضاً في الفصل الثاني. وقد مرّ هذا في صدر الكتاب.
وسئل هو أيضاً عن سكران يضرب امرأته، فهربت منه فقال: إن لم تَعُدْ هي إليَّ فهي طالق ثلاثاً، وكان ذلك عند العصر، فعادت إليه عند العشاء الآخر قال: هي طالق ثلاثاً؛ لأن هذا يمين فور فقيل له: هل يصدق في أنه لم يرد الفور؟ قال: لا قيل: بماذا تُقدِّر مدة الفور؟ قال: ساعة، واستدل بما ذكر في «الجامع الصغير».(4/133)
-----
إذا قال الرجل لامرأته حين أرادت الخروج: إن خرجت فأنت طالق، فعادت وجلست، ثم خرجت بعد ذلك ساعة لا تطلق. وسئل أيضاً عمن قال: إن فعلت كذا فامرأته طالق ففعل ذلك، وله امرأة معتدة من طلاق بائن هل تطلق؟ فقال: لا إلا إذا أشار إليها بقوله: اين زن مرارز من بطلاق، فحينئذ تطلق، هذا الجواب صحيح ظاهر؛ لأن اسم امرأته وإن كان لا يقع على معتدته عن طلاق بائن إلا أنه إذا أشار إليها يقع الطلاق عليها بحكم الإشارة لا بالاسم، وهذا لما عرف أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعا، والمشار إليه من جنس المسمى، فالعبرة للإشارة.
إذا قالت المرأة لزوجها: خويشين خريدم ازتو بعدت وكاتين، فقال الزوج: دست كوتاه كردم، لا يقع الخلع بنيّة الطلاق في الخلع والمبادات شرط لصحة الخلع و.... إلا أن مشايخنا لم يشترطوا نية الطلاق في الخلع، قالوا: لأن العرف جرى فيما بين الناس في الطلاق على مال بهذه الألفاظ: نويشين خريدم ازتو بكذا فيقول الزوج: فروختم خويشين تحورا من بكذا، فتقول المرأة: خريدم. وصار ذلك ظاهراً معروفاً فيما بينهم لا صريح فيما بينهم فبحكم غلبة الاستعمال وقع الاستغناء عن النيّة، وإن كان هذا من كنايات الطلاق فبقيت النية مشروطة في المبادات وسائر الكنايات على ما هو قضية «الأصل».
إذا قال لها: اكرتو قلتباكي كه تراشيه طلاق، وكان الزوج يخادن امرأة وكانت تلك المرأة من معارف هذين الزوجين، وكانت تأتي دراهم مظهرة زيارتها وغرضها تجارة هذا الرجل فاجتمع هو الحالف وتلك المرأة يوماً في هذه الدار وتمازحا وتصافحا وتعلق كل واحدٍ منهما بالآخر وامرأة الحالف تنظر إليهما وتراهما ولا تمنعهما عن ذلك هل تطلق امرأته؟ قيل: إن كان الناس يعدون هذا نية تطلق وما لا فلا.(4/134)
-----
سئل شيخ الإسلام أبو الحسن رحمه الله عمن له امرأتان طلقت إحداهما من الزوج قبل أن يطلق صاحبتها، وضعت الأمر عليه وهو يتخلص عنها وليس من رأيه أن يفارق صاحبتها، ما الوجه في ذلك؟ قال: يتزوج امرأة أخرى باسم صاحبتها ثم يقول: طلقت امرأتي فلانة ويعني التي تزوجها؛ لأنه وجه آخر أن يكتب اسم تلك المرأة واسم أبيها على كفّه اليسرى ويشير بيده اليمن إلى المكتوب وهو يقول: طلقت فلانه (297ب1) هذه بنت فلان فيوهم الطالبة أنه يطلق التي تطلب منه طلاقها.
قال وسمعت نحو هذا من القاضي الإمام الحسن الماتريدي رحمه الله أنه فعل مثل ذلك في تحليف الخاقان إياه، ومشايخ عصره أنهم لا يخالفونه ولا يخرجون عليه، فكتب على كفه اليسرى اسم الخاقان وكان يقول: التحليف لا أخالف هذا الخاقان ولا أخرج عليه وكان يشير بيمينه إلى يساره.
سكران قال: إن كان لي ولد سوى عمر فامرأته طالق، وله ولد مسمى عمر، وامرأته حامل بولد آخر، قال: إن كان عنى بهذا الكلام الولد المولود لا تطلق امرأته، وإلا فطلقت؛ لأن الولد في البطن ولد في حق جميع الأحكام، وإنما يعرف كون الولد في البطن يوم الحلف إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر.
وسئل نجم الدين عمن قال لامرأته: ابن تيراهن كه ساخته اكر من ابن عبد ببوشتم تراشيه طلاق وليس بعد العيد بعشرة ايام هل تطلق امرأته؟ قال: لا لأن قوله العيد فلا يقطع فقيل: ما لي اين وقت بعد أيام العيد قال: إلى تسعة أيام، فإن ثلاثة أيام لزيادة العادة، وبعد ذلك إلى تمام الأسبوع الأقارب يجتمعون في هذه الأيام ويسمون ذلك: مبارك بالعيد، وأهل السوق لا يفتحون الأبواب للصناعة، والتجارة، وكذلك أهل المدارس لا يجتمعون هذه الأيام للتدريس، ويسمون ذلك اليوم «فارعى».(4/135)
-----
عبد رجل اتهم بفعل قد فعله وأرادوا أن يحلفوه بثلاث تطليقات امرأته، وهو يريد أن يحلف ولا تطلق امرأته ما الحيلة في ذلك؟ فقيل: الحيلة أن يطلق امرأته تطليقة بائنة، ثم يقول: كل امرأة لي فهي طالق ثلاثاً إن فعلت كذا، ولا ينوي امرأته المطلقة فلا تطلق هي.
ووجه آخر إن كان له أم تجيء إليها تعانقها قبل أن يذهب المحلف ثم يذهب هو ويقول: منذ فارقت بطن أمي ما فعلت هذا الفعل، ولو كنت فعلت هذا الفعل فامرأته طالق ثلاثاً، وينوي بذلك المفارقة للحال دون الولادة، وإن لم يكن له أم تعانق امرأته التي له منها ولد أو لها ولد من غيره فهي أم ذلك الولد لا محالة، ثم يحلف ويقول: منذ فارقت بطن أمي ما فعلت هذا الفعل.
رجل قال: إن فعلت كذا فعليَّ صوم سنة وسه طلاق أندروي بفعل ذلك الفعل لا تطلق امرأته، إما لأن صوم السنة لا يكون فيه الطلاق، أو لأن الرجل لم يضف الطلاق إلى المرأة.
رجل قال لامرأته: إن لم تهبي صداقك مني اليوم فأنت طالق ثلاثاً، فاستأذنت أباها في ذلك فقال الأب: إن وهبت صداقك فأمك طالق ثلاثاً، فالحيلة في ذلك أن تشتري من زوجها ثوباً ملفوفاً في شيء بمهرها وبعض ذلك الشيء من الزوج، فإذا مضى اليوم فقد مضى وقت اليمين فلا مهر لها في ذمة الزوج، فتسقط اليمين، ولا يحنث الزوج بترك الهبة، ثم تكشف عن الثوب المشترى، فترده بخيار الشرط، ويعود المهر على الزوج، ولا تطلق أمها أيضاً؛ لأنها ما وهبت المهر، إنما اشترت به.(4/136)
قال لامرأته: اكر ترا نجا اندرني كنم بيروت باسدى ترا طلاق ومرادس ازتو وكه جهان برتوبيك وعيش برتو تلخ كنم وبحق لوجفاها اكراين جيزها بكندا طلاق بيفيد. قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك وآتيك بها حتى تنظري إليها فأنت طالق، فأتى بها فلم تنظر إليها قال: لا تطلق؛ لأن النظر ليس بغاية. وكذلك إن قال لها: إن لم آتيك بثوب أو لبسة فأنت طالق، فأتاها غداً فلم تلبسه لم تطلق؛ لأن اللبس ليس بغاية لبسته غداً أو لم تلبسه لم تطلق.(4/137)
-----
رجل قال لامرأته: إن لم تغزلي كل جمعة قطناً بدرهم فأنت طالق فاشترى قطناً بدرهم وغزلته ثم رخص القطن حتى يوجد بدرهم أضعاف ذلك أو غدا حتى يوجد بدرهم نصف ذلك أو ثلث ذلك. قال محمد رحمه الله: هو على غزل قدر ذلك القطن. معناه: أن يمينه على غزل قدر قطن يوجد بدرهم يوم الحلف، ولا ينظر إلى الغلاء والرخص بعد ذلك، وإن أعطاها قطناً وهب له أو ورثه فهو على ما يساوي درهماً وقت اليمين قال بعد ثمة: أكرمن شانكاه سم توراست اي كنم رن طلاق لا تطلق امرأته قبل غيبوبة الشفق. قال: ألا ترى أن الرجل يقول لغيره في العادة شانكاه بنزد ما باش تابا ما سرام حورهم وربما يكون غيباً وهم عند غيبوبة الشفق هكذا ذكر في «مجمع النوازل».
وفي «القدوري» المساء مساءان أحدهما إذا زالت الشمس والآخر إذا غربت الشمس، وإذا حلف بعد الزوال لا يفعل حتى يمسي فهذا على غيبوبة الشمس، قال لامرأته: إن تركت هذا الصبي حتى يخرج من الدار فأنت طالق، فأفلت منها وخرج، أو قامت تصلي فخرج فإنها لم تتركه ولم تطلق، قال لقوم: اكرنجانه من مهمان ترويت فامرأته طالق، فذهبوا ولم يعطهم شيئاً لا تطلق امرأته.
قال لامرأته بعد أن أصبح: إن لم أجامعك هذه الليلة فأنت طالق، فإن كان يعلم أنه أصبح فيمينه على الليلة القابلة، وإن كان لا يعلم وهو ينوي تلك الليلة لم تطلق عند أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله، وهي مسألة الكوز.(4/138)
-----
رجل قال لامرأته: أنت طالق تطليقتين تطليقة بألف وقبلت المرأة، إن كانت المرأة غير مدخول بها تقع واحدة بغير شيء، وإن كانت مدخولاً بها يقع تطليقتان بألف درهم، ووجه ذلك: أن إحدى التطليقتين للعَجَل؛ لأنها بغير بدل لا يحتاج لوقوعها إلى القَبول، والأخرى تقف على القبول، فإذا كانت غير مدخول بها تبين بالمعجلة ولا تقع الثانية. وإذا كانت مدخولاً بها لا تبين بالمعجلة، وتجب العدّة فيصح قبول الثانية ويقع لما دفعها المعتدة.
رجل قال: كلما وطئت امرأة فهي طالق، فتزوج امرأة ووطئها لا تطلق؛ لأن اليمين في حق هذه المرأة لم تنعقد؛ لأنها ما حصلت في الملك، ولا مضافاً إلى الملك. حلف بطلاق امرأته أن لا يجامعها، فأتاها في دبرها، وهذه المسألة في «مجموع النوازل» في موضعين، وأجاب في أحد الموضعين بالحنث، وفي أحدهما بعدم الحنث، ولو كان حلف بطلاق امرأته أن لا يزني (298أ1) فأتاها في دبرها أو أتى امرأة أجنبيّة في دبرها، حكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله أنه قال: يمينه على الجماع في الفرج.
وسئل محمد بن مقاتل عن رجل قال لامرأته: إن لم تجيئي غداً المتاع كذا فأنت طالق، فبعثت به مع إنسان غداً، ولم تجىء هي، قال: يسأل عن نيته ومراده، فإن كان مراده دخول عين المتاع إليه لا غير لا تطلق، وإن كان مراده أن تحمل هي بنفسها تطلق، وإن لم يكن له نيّة فلا جواب له عندي، وأما عند علمائنا رحمهم الله فهو على ما لفظ به.(4/139)
-----
سئل الفقيه أبو حفص رحمه الله عمن قال لجاره: إن امرأتي كانت عندك البارحة، فقال الجار: إن كانت امرأتك عندي البارحة فامرأته طالق، ثم قال بعدما سكت: ولا غيرها، ثم تبيّن أنه كانت أخرى عنده، قال اختلف نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة رحمهما الله في كل يمين يلحقها شرط آخر بعد الفراغ من اليمين والسكون قال نصر: إن كان الشرط على الحالف يلتحق باليمين، وإن كان الشرط له لا يلتحق، وقال محمد بن سلمة: لا يلتحق باليمين في الحالين، قال ويقول محمد بن سلمة: أخذ أبو نصر بن سلام وبه نأخذ، وستأتي هذه المسألة ومع زوائد في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى.
وسئل أبو بكر عن جماعة كانوا على سطح، فأراد أحدهم أن يذهب فمنعوه فقال إن بتّ الليلة هاهنا فامرأته طالق، وقال: أردت به البيتوتة في موضع قدمي، فنام على غير ذلك الموضع من السطح، قال: طلقت امرأته قضاءً لا ديانة.
وسئل نصر عمن قال لامرأته: إن شكوت مني إلى أخيك فأنت طالق فجاء أخوها وعندها صبي لا يعقل فقالت المرأة: إن زوجي فعل كذا وكذا خاطب الصبي بذلك حتى يسمع أخوها قال: لا تطلق، قيل له: فإن كان قال لها: إن شكوت بين يدي أخيك قال: هذا أشد.
وسئل شيخ الإسلام أبو الحسن عمن قال: امرأته اكر حبري ازمال من برسين دهي فأنت طالق ثلاثاً، فأمرت المرأة امرأة حتى غزلتها وجعل أجرتها ثوب خَلِق كان ملكاً لها، وقبضت الثوب الخلق ثم باعت هذا الثوب من المرأة بشيء من دقيق الحالف، ورفعت الدقيق إليها ثمناً للثوب قال: تطلق امرأته ثلاثاً؛ لأن غرض الزوج أن لا تعطي شيئاً من ماله، وقد أعطت، وقد قيل: ينبغي أن تطلق؛ لأن اللفظ في باب اليمين مراعىً عند الإمكان والإمكان ثابت هاهنا.(4/140)
-----
وسئل هو أيضاً عمن لغيره: اكر من يك درم نومكان يوم رن ازمن بطلاق فدفع ذلك الغير إلى الحالف درهماً، وأمره أن يشتري به الأخباز ليتصدق بها على المساكين فاشترى هل تطلق امرأته؟ قال: نعم لأنه وجد الشرط وهو بكار بردن، واليمين مطلقة فتعمل بإطلاقها، وقيل: ينبغي أن لا تطلق؛ لأنه إنما يراد بمثل هذا في المتعارف بكار بردني بحوايح خويشين وهو الأشبه والأظهر.
وسئل هو أيضاً عن رجل يضر الناس بالجنايات والسعايات وغير ذلك من وجوه المضرات فأخذ وحلف: اكرنيس كشي داريادت ده درم دكان كنم فامرأته طالق ثلاثاً زن خويشين زازيادت ده درهان كرد لا تطلق امرأته هكذا أجاب، والصحيح أنها تطلق، وقد ذكرنا جنس هذه المسألة فيما تقدم.
وسئل نجم الدين عمن قال لآخر في حال سكره: حلال خداي بومن حرام اكراين اين زن براير توتك رورما ثم وحيد رور دريد تيران كداست وسواست بيرون آوردن، قال: حو دربيس سوكنديك روز فاند زن بروي حرام وفيه نظر.
وسئل هو أيضاً عمن حلف بطلاق امرأته أن يعطيها كل يوم درهماً فربما دفع إليها عند المغرب وربما دفع إليها عند العشاء قال: إذا لم يخل يوم وليلة عن دفع درهم بَرَّ؛ لأنه ذكر اليوم على سبيل العموم واسم اليوم على العموم: ستتبع ما بإزائها من المعاني فصار من حيث التقدير كأنه قال: أعطيتك كل يوم وليلة درهماً وفيه نظر.
وسئل أيضاً عمن قالت له امرأته: مرابرك باتو باشيدن نيست مر طلاق ده فقال الزوج: جون تورقتي طلاق داده شدة وقال: لم أنو الطلاق هل يصدق؟ قال: نعم، ووافقه في هذا الجواب بعض الأئمة.
وسئل أيضاً عمن قال: اكراز خدنحست بيرون زن ازمن شيه طلاق قال: هذا على أن يجاوز قراها، ولو قال: اكرار شهر نحست بيرون روم فهذا على أن يجاوز عمران المصر.(4/141)
-----
وسئل هو أيضاً عمن حلف بالفارسية وقال: اكرر من سربر بالين تونهم تواز من شية طلاق، ثم إن الحالف نام على فراش، وجاءت امرأته ووضعت رأسها على وسادته قال: إن كان الزوج عَنَى بهذه المقالة الجماع إيلاء إن قربها في الأربعة الأشهر طلقت ثلاثاً. وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر طلقت واحدة بائنة بالإيلاء، وإن لم ينوِ فاليمين على أن يضع رأسه على وسادتها سواء كان معها أو وحده، وإن وضع رأسه على وسادتها سواء كان معها أو وحده.
وسئل أيضاً عمن تزوج امرأته، وحلف قبل أن يحملها إلى بيته: اكرورا بخان ارم فهي طالق، فحملها غيره إلى بيته بغير أمره ورضاه، قال: إن عنى حقيقة الحمل بنفسه لا تطلق، وإن عنى الإمساك في بيته، فأدخلها في بيته، ولم يخرجها، ولم يمنعها لم تطلق.
وسئل أيضاً عمن قال لامرأته: اكربي دستوري تواز شهر تروم ازمن شيه طلاق، ثم أشار إليها فقالت: دستوري دادمت كه بروي دوروردا ريارن لانى، فذهبت ولم تجىء أكثر من عشرة أيام لا تطلق امرأته، وهذا ظاهر؛ لأن اليمين انعقدت على الذهاب بغير إذن، والذهاب هاهنا كان بإذن إلا أن المكث هناك أكثر من عشرة أيام لم يكن بإذن ولكن اليمين ما انعقدت عليه.
وعنه أيضاً: إذا قال لها: اذهبي إلى أبويك، فقالت: طلقني حتى اذهب فقال: تور من طلاق دما دم فرستم قال: لا تطلق بهذا القدر؛ لأن هذا وعد الفعل (298ب1) وليس بفعل.
وعنه أيضاً: إذا قالت المرأة لزوجها، أو قال رجل لرجل: حلال خداي برتوا حرام، فقال: آرى، حَرُمَتْ عليه هي بتطليقه؛ لأن ارى يتضمن إعادة كلام السائل، فكأنه قال: حلال خداي بر من حرام وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم.(4/142)
-----
وعنه أيضاً إذا قال الرجل: اكر برينه اي مرني جانه اندر ايد مكرا من ارست كيرم واندرارم فامرأته طالق ثلاثاً دست بكى كرفت ابن مردواندر آورد بكيارار بعد اذان بار ديكرامكس بي وي اقدامد، قال: زن يروى طلاق في شود؛ لأنه عيّن شخصاً موصوفاً بصفة، فإذا صار مستثيناً مرة لم يدخل في اليمين قط، ولو كان قال: اكرونين دنن خان اندرايدم من دست كيرم واندارم ودست بكى كروفت واندرا ورديك بارواكريار ديكر همين مرددرايد بي وي زن بروى طلاق شود؛ لأن في هذه الصورة لم يستثن شخصاً، بل استثنى دخولاً موصوفاً بصفة، وهذا الدخول الثاني ليس بتلك الصفة.
وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لا يدخل بيت صهره، وصهره مستأجر بيتاً في خان، فدخل الخان ولم يدخل البيت الذي فيه صهره أو دخل بيت جار له يسكنه بإجارة لا تطلق امرأته، ولو جلس على دكان متخذ على باب بيتٍ استأجره الصهر مع البيت فإن كان الدكان تبعاً للبيت ينتفع به مستأجر البيت تطلق امرأته، هكذا حكي عنه وإنه مشكل، ألا ترى أن من حلف لا يدخل دار فلان فقام على اسكفه الباب، وإن كان هذا الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارج البيت لا يحنث وإن كان داخل الباب يحنث ولا شك أن تبعية الأسكبة للدار فوق تبعية الدكان المتخذ على باب الدار، ثم لا يقع الحنث بالقيام على أسكبة الباب إذا كانت الأسكفة تبقى خارج الدار إذا أغلق الباب فهاهنا أولى.
وعنه أيضاً إذا قال لغيره: اكر يكنم امروز باتوابخه بايدكرد فامرأته طالق ثلاثاً، فمضى اليوم ولم يعمل معه شيئاً لا إحساناً ولا إساءة، فإن الزوج يُسأل عن مراده ونيته، فإن كان مراده أنه لم يفعل به ما ينبغي أن يفعل مع الناس من ترك الأذى والجفاء لا تطلق امرأته؛ لأنه قد ترك الأذى والجفاء، وإن كان مراده أنه لم يُسىء إليه بضرب أو عمن جزاء على مستأجره، فإن لم يفعل ذلك تطلق امرأته، فإن لم يكن له نية لم تطلق امرأته.(4/143)
-----
وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: اتيك شيه طلاق بانت كسادة كردم قال: قوله أنك شية طلاق ليس بإيقاع بنفس قوله بانت كشاده كردم، إيقاع طلاق واحد؛ لأن هذا صريح الطلاق بالفارسية بحكم العرف والعادة، فإن عَنَى وصل هذا الكلام بالكلام الأول، فهو إيقاع الثلث وإلا فهو إيقاع الواحدة.
حَلَفَ الرجل بطلاق امرأته لغيره: كه عيب توباكسي نفته ام وقد كان قال مع امرأته فلان: سيكي فروش بود وشيكي خوارة وكارهاي باوي كردو اكنون توبه كردست قال: تطلق امرأته؛ لأنه تكلم بعينه أولاً ثم توجه بالتوبة.
وسئل هو أيضاً عن رجل كان يضرب امرأته، فأراد جماعة من النساء منعه فقال: اكر ترا باردارت ازردن فري فهي طالق ثلاثاً إن منعنه ولم يمتنع هو بمنعهن قال: طلقت هي ثلاثاً وإنه صحيح لأن المنع ممن لا ولاية له على المنع يتحقق بالقدر الذي وجد منهن.
قال: صاع في دار رجل فحلفوا كل واحد ممن كان من أهل الدار بطلاق امرأته أنه لم يأخذه ولم يخرجه من الدار، فحلفوا واحداً بعد واحد، ثم ظهر أن واحداً ممن حَلَفَ قد أخرجه مع رجل آخر هل تطلق امرأة هذا الحالف؟ ينظر إن كان ذلك شيئاً لا تطلق، وإن كان هو جملة واحدة طلقت امرأته، وإن كان شيئاً تطلق وإن كان هو جملة واحدة لا تطلق امرأته. وهو نظير مسألة جملة الخشبة المذكورة في «الجامع».
وسئل هو أيضاً دهقان جرى بينه وبين أكاره كلام فحلف الأكار بهذا اللفظ اكرا متيالي اين زمين اين دهقان رابكروي دارم زن ازمن شية طلاق فباع الدهقان هذه الأرض من رجل ممن إن الأكار أخذ الأرض من المشتري بكذا لا تطلق امرأته على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بناءً على من جمع بين النسبة والإشارة في غير مملوك للغير في اليمين يعتبر قيام النسبة وقت وجود الفعل المحلوف عليه للحنث فلم توجد النسبة هاهنا وقت وجود الفعل المحلوف عليه.6(4/144)
-----
ولو قال وقت الحلف: امتيال ابن زمين بكد نورى دارم ولم يقل: زمين اين دهقان را وباقي المسألة بحالها تطلق امرأته، ثم إ ذا أخذ مزارعة من المشتري فرفعت امرأته الأمر إلى القاضي فقالت: إن هذا الرجل حَلَفَ بطلاقي كه امساك اين رايكد تورى بي دارد وداشت ومن بطلاق شدم، وأنكر الزوج الطلاق وقال: من سوكيد حين خورده ام كه امتيال رمين ابن دهقان رابكد تورى بي دارم ويدين سوكند طلاق فرونمي ايدوزن في كويد كه تو سكوند حنين خورده كه من امساك اين زمين رابكد تورى بدارم وبدين سوكند طلاق فرودمي ايد فأقام كل واحد بينة على وفق دعواه قال: يقضي بشهادة شهود المرأة، وهذا لأن شهود الزوج، وإن أثبتوا زيادة لفظ وهو يقوله: اين دهقان إلا أنهم ينفون الحنث تبعاً، وشرطاً وشهود المرأة يثبون الحنث، والمقصود من الدعوى هو الحنث، والخلاف فيه، فكانت بينة المرأة أولى بالقبول من هذا الوجه.
وسئل هو أيضاً عن امرأة كانت بينة المرأة كان من زوجها أن يسافر فقالت لزوجها: ايدل لي عند الصكاك خطاً باليمين بطلقاتي أن لا يخرج مسافراً إلا بأذني فقال: نعم فذهبا إلى الصكاك، فقال الزوج للصكاك اكتب لها: خطاكه هركه كي مرازين شهر بسفر رودلي دستوري وي ازمن بيك طلاق، فقالت: لا أرضى بالواحدة وأريد الحلف بالطلقات الثلاث، فلم يتفقا على مرادها وخرجاً من عند الصكاك (ولم يكتبا) شيئاً هل يثبت اليمين بالواحدة، حتى لو سافر بغير إذنها يقع الطلاق عليها؟ قال: نعم؛ لأن الأمر بكتابة خط اليمين لا يكون إلا بعد ثبوت اليمين. وهو نظير قوله: أخبر امرأتي أنها طالق نبئها أنها طالق، بشرها أنها طالق، فإن هناك يقع الطلاق لا يكون إلا بعد وجود الطلاق ووقوعه.(4/145)
-----
قال محمد رحمه الله (299أ1) وهكذا فيما إذا قال للصكاك: اكتب لهذا خطاً بإقراري بمئة درهم، وكذلك إذا قال للصكاك: اكتب بهذا صكاً ببيعي دار كذا منه بألف درهم كان إقراراً منه بالبيع. قيل له: فإن قال الزوج للصكاك قال: هي يمين واحدة. اكتب كتاب الطلاق على نحو ما بينا فلم يكتب الصكاك حتى قال الزوج للصكاك ثانياً: اكتب لها كتاب الطلاق هل يكون هذا يمين، أو كانت يميناً واحدة أو يجعله كلامه الثاني ناقضاً لما طلب منه بالكلام الأول لا يميناً مبتدأ.
وسئل هو أيضاً عمن له مطلقة قد انقضت عدتها فحلف وقال: اكرورا برني كنم حلال ايزد بروي حرام ثم تزوجها قال: لا تطلق هي، وإنما تطلق امرأة كانت في نكاحه وقت اليمين، وهذا صحيح.
وسئل هو أيضاً عمن أخذ حق رجل فقال: سوما بكس روم وكونم زن بطلاق وتجه آوردم هل تطلق امرأة المتكلم بهذا الكلام؟ (قال) لا وإنه ظاهر، وسئل هو أيضاً عمن دفع بكعب غيره حصة ودفعه إلى غيره فقال صاحب المكعب لدافعه كفش توبرد اشيه بازده، فقال الزوج: من نه برداشتين ام فقال صاحب المكعب: زن توازتو بطلاق كي بردا تحنة ونمي داني كه كي بردا شية است وباكيست، فقال الدافع: بمحنتين قال: تطلق امرأته؛ لأنه تعليق عندنا، وهو حانث بشرطيه، وأنه يعلم من دفعه، ويعلم أنه في الحال باكيست.
وعنه أيضاً في سكران أنشد بيتاً فقال: بيت كنته منست اكر جزا زمن كشي اين بيت كنتست وامرأته طالق لا تطلق امرأته إلا إذا علم أنه من إنشاء غيره أو يقر هو أنه من إنشاء غيره.
وعنه أيضاً: فيمن حلف فقال: حلال ايزد برمن حرام كرم بفلان خريدم درم دارني تينت شمازكر دند دودرم ودودانك امد قال: لا تطلق امرأته، ولو كان قال: مرا بفلان درهم درم دادني است شماركر دنددو درم ودودانك امد، تطلق امرأته؛ لأن في الوجه الأول نفى الزيادة على درهمين ونصف وهي كذلك. وفي الوجه الثاني أثبت درهمين ونصف، ولم يكن كذلك.(4/146)
-----
ونظير هذه المسألة مسألة ذكرها في «الجامع» تأتي في كتاب الأيمان وصورتها: إذا قال الرجل لعبده: (أنت) حر إن كنت أملك إلا خمسين درهماً فإذا هو لا يملك إلا عشرة دراهم لا يحنث في يمينه؛ لأن العشرة بعض الخمسين، والخمسون مستثنى عن اليمين، فكذا بعضها وفيما إذا قال: مرا بفلان خردوينم درم دادني نيست دوينم درم مستثنى عن اليمين فيما دونه يكون مستثنى أيضاً.
وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته: كربدان زق اندرتيابدتا انكور بدر روند نقص درويدا رجهت ترورا اندرامد، قال اين درودن بوقت معهود درودن است، وهو عند الخريف النقل إلى البيوت طلاق يتقيد، فإن المتعارف فيما بين الناس من هذا الكلام ما قلنا، والأفهام تتسارع إليه.
وعنه أيضاً فيمن أراد أن يتزوج امرأة فقيل له: إن لك زوجة فلِمَ تتزوج بهذه التي تريد فتزوجها قال: هي تطلق، ولا تطلق التي في نكاحه، وهذا لما كانت ثلاثاً أن معنى قوله: هزني كه مرابود باشد هرزني كه يتزوجها.
وعنه أيضاً فيمن حلف وقال بالفارسية: تادرين رزيك عرب انكور مائدة است ارك من بوي اندرانم ازمن شية طلاق انكور درويد توقت حويش ونجانه بردند لكن لا بُدّ أن يبقى على العرائش حبّات عناقيد أو حبّات واقعات على الأرض لا يمكن نقلها ثم الكرم قال: لا تطلق امرأته استحساناً.
وعنه أيضاً: فيمن لازم غريمه يطالبه بدينه فواعده غداً، فقال الطالب: إني أخاف أن تخلف الوعد، فقال الغريم: لا أفعل، فقال الطالب: احلف فقال الغريم: أكر فردانيا هم وترانه تينم فامرأتي طالق ثلاثاً فردا غريم آمد، وطالب راز دور ديد أما طلب ورانديد، قال: بَرّ في يمينه. قال رحمه الله: وهكذا أجاب السيد الإمام الأجل أشرف بن محمد رحمه الله وفيه نظر.(4/147)
-----
وعنه أيضاً: في امرأة أجرت دارها من رجل فغصب الزوج فقال: تا ان فلان درين خان است وقباله درست وي است من يدين خانه اندرينا نم واكدا ندرايم تواز من شية طلاق، ثم إن الآجرة مع المستأجر تفاسخا العقد وخرج ذلك، ودخل الحالف الدار لا تطلق امرأته؛ لأن المراد من قوله: قبالة دردست وي است قيام العقد أصالة لا قيام نفس القالة.
وعنه أيضاً: إذا قرأت فقال الزوج: كردم كردم كردم طلقت ثلاثاً، وهكذا حكى فتوى السيد الإمام الأجل أشرف رحمه الله وقيل: تطلق واحدة والأول أصح.
وعنه أيضاً: فيمن رأى امرأته تكلم أجنبيّاً فغاظه فقال ذلك: اكر كوبيش بامردبيكان سخن كوهي ازمن شيه طلاق فكلمت بعد هذا..... لزوجها ليس من محرمها، أو رجلٍ يسكن في دارها، بينهما معرفة إلا أنه لا حرمة بينهما، أو كلمت رجلاً من ذوي رحمهما أو ليس من محارمها قال: تطلق.
وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لا يأكل من خبز حيّه فسافر حينه وخلّف لأهله وأولاده النفقة، وهي حنطة ودقيق، فاتخذت امرأته الأخباز وأكل منها الحالف طلقت امرأته؛ لأن ما حلف الحين باق على ملكه، والأخباز اتخذت بإذنه، فكانت الأخباز له قيل هذا الجواب مستقيم فيما إذا قال لها: بقي الخبز قال: كلي من حنطتي ودقيقي ما يكفيك ولم يقدر لها مقداراً معيناً من ذلك، ولم يقدر لها ذلك من حنطته ودقيقه، فأما إذا قدّر لها مقداراً معلوماً وقدر لها ذلك من حنطته لا يحنث؛ لأن القدر يصير ملكاً لها بالدفع إليها.
وعنه أيضاً: رجل قال لغيره: زن تورتو مهر ارطلا است فقال ذلك الغير: أن تونيز برتو منجمنن است، فهذا منه إقرار بتطليق امرأته، وعنه إذا قال: اكرتايك سال كرباس كيرم وبافيم فامرأته معجز كرافت وبافت لا تطلق امرأته؛ لأنه اختص باسم على حدة.
وعنه أيضاً: فيمن قالت له امرأته: باتونمي باشم فقال الزوج اينك شية طلاق توداينك شيه طلاق أنه لا تطلق امرأته في هذا القدر.(4/148)
-----
وعنه أيضاً في امرأةٍ لها ابن ولها بقرلبون وكان الابن يشرب (299ب1) من لبن هذه البقرة، فوقع بينهما وبين الابن.... فقال الابن للأم: اكرمن أن ستريو بحروم زن ازمن شيه طلاق، ولم يقل شيركاوتو، ثم شرب من لبن بقرتها قال: تطلق امرأته؛ لأن يمينه وقعت على لبن مملوك للأم بدلالة الحال لا على لبن يتولد منها وقد شرب لبناً مملوكاً لها.
وعنه أيضاً فيمن حلف وقال: اكر فلان راماهم ما ماي بدين درايد مهذ فامرأته طالق ثلاثاً، ثم إن الحالف رآه في الكرم ولم يره حال ما دخل فيه ولم يخرجه، وتركه فيه قال: تطلق امرأته.
ومن هذا الجنس إذا قال: زن ازمن شيه طلاق اكر فلان بدين خانة خويش اندراه دهنم، فدخل فلان عليه وهو في داره، أفتى شيخ الإسلام علي بن الإسبيجابي رحمه الله: أنه لا تطلق امرأتُه. اكرني همرا ستاني ومي درا مده باشد، أفتى نجم الدين النسفي رحمه الله: أن لا تطلق امرأته اكرهمان ساعت كه در بيرون كردش فشيخ الإسلام جعل قوله: داه دهم عبارة عن قوله: اندرايم، ونجم الدين جعل قوله: راه دهم عبارة عن تركه فيها، وما قاله نجم الدين رحمه الله الأظهر هكذا قيل.
وعنه إذا حلف الرجل وقال: اكر برا درخوش رامز ما يتم ليعمل عملاً به فامرأته طالق ثلاثاً، ثم إن الحالف دفع مكعبه إلى امرأته لتأمر أخاه أن يصلحه فأمرته، قال: إن كان الحالف أرسلها إليه بهذا الأمر طلقت امرأته.
وعنه أيضاً فيمن قال: اكرمي خورم بان مكتم حلال خداي برمن حرام ومرجد بدست راست كيرم برمن حرام في خورد، ولكن زنا بكرد، قال: تطلق تطليقتين؛ لأن الشرط أحد الشبهتين والحر أنجز يمينين فيتنزلان عند وجوده.(4/149)
-----
وعنه أيضاً: خالع امرأته، ثم خطبها فأبت إلا أن يحلف أن لا يشرب الخمر فحلف بهذه اللفظة: حلال خداي برمن حرام اكر فاشش ماه هي خورم، ثم إنه تزوجها وبيش أزشش ماه في خورد، قال: لا تطلق هذه؛ لأن اليمين في حقها ما حصلت في الملك ولا مضافاً إلى الملك قيل: أليس إنها كانت في العدة؟ قال: نعم، ولكن في عدة الخلع، والخلع طلاق بائن، واليمين حصلت بلفظة التحريم لا بلفظة صريح الطلاق، والواقع بلفظة التحريم الثاني، والثاني لا يلحق البائن، فلا يصح.
وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكر رها كتمت بخان فلان روى توازمن بهذار طلاق ما استأذنته للذهاب إلى خانة فلان فأذن لها، فذهبت طلقت وابن رها كردن بود.
وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكر باتو حنان تكتم كرشيك ما ايتارا رد كندا شية طلاق أنه ينبغي له أن يحرق بعض ثيابها ويجرها ويلقها على الإذن ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك لا تطلق امرأته عنه.
فيمن يسكن سكة كوزني، وهذه السكة في سكة عمور، حلف بطلاق امرأته أن لا يسكن في هذه السكة، فانتقل من ساعته من سكة كوزني إلى شارع سكة عمور بأهله وثقله فقد برّ في يمينه، قيل له: أليس أن سكة كوزني من أزقة سكة عمور ومن توابعها، فقوله في هذه السكة لم لا ينصرف إلى سكة عمور بأزقتها، قال: سكة كوزني ليست من الزقاق الصغار حتى تكون تبعاً لسكة عمور بل هي سكة مفردة معتبرة، وسكة عمور كالمحلة لها فتقتصر يمينه على سكة كورني، قال رحمه الله: سألت السيد الإمام أشرف بن محمد رحمه الله عن ذلك، فأجاب على نحو ما أجبت.(4/150)
-----
وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لا يدخل سكة كذا، وفي آخر هذه السكة دار ظهرها إلى هذه السكة، وبابها في سكة أخرى، فدخل في تلك الدار من السكة التي بابها فيها، ثم خرج من ذلك الباب لا يحنث، وهذا ظاهر؛ لأن باب الدار إذا لم يكن في السكة المحلوف عليها لا تكون الدار من جملة السكة المحلوف عليها، فلا يصير داخلاً في السكة المحلوف عليها. فإن كان لهذه الدار باب آخر في السكة المحلوف عليها، فدخل الدار من الباب الذي في سكة غير المحلوف عليها يحنث؛ لأنه إذا كان للدار باب في السكة المحلوف عليها يصير داخلاً في السكة المحلوف عليها بدخوله في تلك الدار فأرصد الباب الذي في السكة المحلوف عليها فلم يبق لها باب إلا من تلك السكة، فدخلها من باب تلك السكة لزمه الحنث؛ لأن طريقها عن هذه السكة لا يرتفع بسدّ هذا الباب، وله أن يفتح ذلك الباب متى شاء فسدّ هذا الباب لا يخرج من أن يكون في هذه السكة، فإن لم يكن لهذه الدار باب في السكة المحلوف عليها في الأصل ففتح لها باباً إلى السكة المحلوف عليها، فدخل من باب السكة الأخرى، ولم يخرج من الباب المحدث في السكة المحلوف عليها لا تطلق؛ لأن بفتح الباب المحدث في السكة المحلوف عليها لا تصير الدار من السكة المحلوف عليها.
وعنه فيمن قال لامرأته: اكرباي بتشير توفروكتم ترا طلاق وإن لم ينو الجماع لا يصير مولياً؛ لأن هذا اللفظ غير مستعمل في إرادة الجماع، وله حقيقة، حتى لو جامعها من غير أن يدخل في فراشها لا تطلق، وإن نوى بالطلاق القربان صدق في حق تعليق طلاقها بقربانها، ولا يصدق في حق صرف الطلاق عن دخوله في فراشها، وهي ليست في الفراش، ويتقيد اليمين بدخوله في فراشها وهي في الفراش قال: إن كان الحامل له على اليمين كراهة استعمال فراشها تطلق بدخوله في فراشها بدونها. وإن كان الحامل كراهة مضاجعتها لا يحنث إلا بدخوله في فراشها وهي فيها.(4/151)
-----
وعنه أيضاً فيمن حلف بطلاق امرأته: كه هرما هي جهل درم سو دستم مي دهم، وقد أخذ مال إنسان قرضاً، والتزم لذلك كل شهر أربعين درهماً في المستقبل على ما هو العادة، ولكن لم يعطِ لذلك شيئاً إلى الآن هل تطلق؟ قال: نعم، وهذا ظاهر، فإن كان أعطى لشهر وهو يطالب بذلك في المستقبل على العادة برّ في يمينه. ولا بُدّ من تقديم وظيفة شهر؛ لأن قوله: مي دهم صيغة حال.
وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكر روى بهيج نا محرم تمالى تراشية طلاق، وبعد اليمين يراها الناس إلا أنها لا تقصد رؤية الناس إياها، قال: إن تسترت في الكم واطلع عليها الناس لا تطلق، وإن تكشفت بحيث يراها الناس لكن لم يكن من قصدها رؤية الناس إياها، تطلق؛ لأنها أرت نفسها الناس لما تكشفت حيث يراها الناس.
وعنه في رجل قال له رجل آخر: فلان راترديك توزرهما وديهها است، فقال: اكركشي بترد (300أ1) من زرها وديهها است أن ازمن شية طلاقه، ولم يكن لفلان عنده شيء لكن كان لرجل عنده ذهبٌ وديباج قال: تطلق امرأته، هكذا أجاب، وهذا يجب أن يكون على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وأما على قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن لا تطلق.
أصل المسألة المعروفة في «الجامع»: إذا قالت المرأة لزوجها: إنك تزوجت عليَّ امرأة، فقال: كل امرأة لي طالق.
وعنه أيضاً فيمن استحلف غيره بهذه اللفظة: زن ازتوشيه طلاق كي فلان درخانة تونست، فقال: نجانه من اندرست ولم يزد على هذا قال: لا تطلق امرأته؛ لأنه لم يحلف. وعنه فيمن قال لامرأته: إن ضربتك بغير جناية فأنت طالق ثلاثاً، فأتاها بخبز قد اشتراه فقالت: باتى أوزدى جون كون بارك شياه بكير وبفلان خويش اندرفشار، فضربها بهذا لا تطلق امرأته، وهكذا حكى فتوى الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله.(4/152)
-----
وفي غيره هذه الصورة: لو جاءت المرأة بقصعة مَرَقٍ لتضعها على المائدة الموضوعة بين يدي الزوج فمالت القصعة وانصبّ بعض المَرَقِ على رجل الزوج وهي حارّة فآذته فضربها لا تطلق؛ لأن هذا جناية منها، ألا ترى أن في هذه الصورة لو انصبّ بعض المرقة على شيء وأفسده يجب الضمان، وسقوط الإثم إذا لم تكن قاصدة لا يوجب خروجه من أن يكون جناية.
وعنه أيضاً فيمن قال: إن أكلت شيئاً من مالك فأنت طالق، فجعلت شيئاً من ملحها في طعام وأكله الزوج قال: لا تطلق امرأته إلا أن يأكل منه مع الخبز، أو كان الطعام مالحاً جدّاً، فيكون ظاهراً بطعمه فحينئذ تطلق، وستأتي هذه المسألة في كتاب الأيمان، واختار الفقيه أبو الليث رحمه الله بخلاف ما ذكر هاهنا.
وعنه في رجل (له) ابنان صغير وكبير، وقد عزم أن يتخذ وليمة بعرس الولد الأكبر، وخيار الولد الأصغر ثم حلف فقال: اكبر بس كلان ترراسوركنم حلال خداي برمن هم،أنه اتخذ وليمة لخيار الابن الأصغر وحمل زوجة الأكبر إلى داره بهذه الوليمة، قال: تطلق امرأته، وفيه نظر.
وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكر بخانه توارندرايم هر زنى كه بزنى كنم ورا طلاق فدخل داراً لها ثم أنها حرمت عليه بعد ذلك بزمان فتزوجها هل تطلق؟ قال: لا؛ لأنها صارت معرفة في هذه اليمين بقوله:خانة تدوتو فلا يدخل تحت اسم النكرة وهو قوله: هر زنى؛ لأن اليمين عقد على عدمٍ في محلين، في هذا ننظر إلى شرط الترجيح، وهذا ليس بصحيح إلا على رواية أبي يوسف رحمه الله؛ لأن الموجود هاهنا يمينان، فيصير وزنها معروفة في شرط إحداها لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين الأخرى وقد ذكرنا هذه المسألة، ورواية أبي يوسف رحمه الله مع أجناسها فيما تقدم.(4/153)
-----
وعنه أيضاً فيمن قال لرجل: اكرمن ترا امشب نجانه فلان هي وفي ني دهم زن ازمن شيه طلاق، فذهب به إلى دار فلان ولم يسقه الخمر قال: تطلق امرأته؛ لأن شرط البرّ شيئان وقد وجد أحدهما، وفات البرّ، ومن ضرورته وقوع الحنث، وإنما نظرنا إلى شرط البر؛ لأن اليمين عقد على عدم الفعل في محلين، وفي هذا ننظر إلى شرط البرّ.
وعنه أيضاً فيمن حلّف رجلاً وهما بالكيسانية بهذه اللفظة: زن تواز توشيه طلاق كه مي تحورى ما انكاه كه تار من بكسانى بتايم وترامى نده، وحلف ذلك الرجل على هذا الوجه ذهب المستحلف إلى سمرقند واتبعه الحالف فسقاه الخمر بسمرقند فشرب قال: تطلق امرأته ثلاثاً؛ لأنه شرب الخمر واليمين باقية، لأن شرط انتهاء اليمين شيئان: عود المستحلف إلى كيسانية وسقيه الحالف الخمر، وهاهنا إن وجد المستحلف إياه الخمر لم يوجد عود المستحلف إلى الكيسانية، فهو معنى قولنا: إنه شرب الخمر، واليمين باقية، فلهذا طلقت امرأته.
وعنه أيضاً في رجل قال لامرأته: إن غبت عنك ولم آتك إلى أربعة أشهر فأنت طالق ثلاثاً فلما كان قبل تمام الأربعة أشهر بأيام ذهبت المرأة إليها فتمت أربعة أشهر، ولم يأت إليها تطلق وهذا ظاهر، وليس هذا كمسألة الكوز؛ لأن ثمة بصب الماء يصير شرب ما فيه بحيث لا يتصور وجوده، وهاهنا يتصور رجوعها إلى موضعها، وبعد ذلك يتصور إتيانه إياها، فإن أتى الزوج مع المرأة جميعاً المكان الذي كان فيه الحلف قبل تمام أربعة أشهر، ثم تمت الأربعة الأشهر طلقت؛ لأنه لم يأتها إنما أتيا جملة.
وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: هو جاد ران خان است اكرن جودن زن ازمن بطلاق فيمينه على أكل ما كان موجوداً في البيت وقت اليمين على ما يدخل فيه بعد ذلك، ولو قال: هو جه دران خان جودم زن ازمن بطلاق فيمينه على أكل ما يكون في البيت وقت الأكل سواء كان موجوداً في البيت وقت اليمين، أو أدخل بعد ذلك.(4/154)
-----
وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: إن كلمت فلانة فأنت طالق، ثم إن المرأة المحلوف بطلاقها اغتسلت يوماً بثيابها فقالت لها فلانةٌ: ما بده سدى وهي تعلم أنها فلانة أو لم تعلم فقالت حُبست أو قالت: نعم، أو قالت: أرى فهذا كله كلام تام، وتطلق امرأته.
وعنه أيضاً: فيمن اشترى ثلاث شياه بثلاثين درهماً، ثم حلف بطلاق امرأته على واحدة منها بعينها أنه اشترى هذه بعشرة دراهم، قال: هذا مطلق بطلاق امرأته؛ لأنه ما اشترى هذه بعشرة دراهم، إنما اشترى الكل بثلاثين، وذلك ينقسم عليهن بمقدار قيمتهن فلا يصير هذا القدر من هذه الواحدة بعينها.
وعنه فيمن قال لامرأته: اكركس توب دين خان اندرايد تراسته طلاق فدخلها إنسان هو قريب الزوج والمرأة جميعاً، قال: إن قيل تَطْلُق وله وجه، وإن قيل لا تطلق فله وجه. وإن قيل إن كان الداخل حله المرأة تطلق، وإن كان الداخل حله للزوج لا تطلق وله وجه. قال: وعليه الاعتماد.
وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكرتو ما يحتمر روى سي دستوري من توشية طلاق تدوك رسين (300ب1). رفت به دستورى شوى، قال: اكرنجان منحسابة رفنست ودرانجا جندن جمع شده اندريان ومركس دوك حويش مي ريسند لا تطلق إما اكرخد أو ندخانه دمان ديكور اخوانده است تادوك خدتوندخانه ريسند تطلق.
رجل حلف بالطلاق أنه لا يذهب إلى وليمة فلان وللحالف غريم، فلما كان يوم الوليمة ذهب الغريم إلى دار الوليمة واتبعه الطالب ودخل دار الوليمة ليخرجه، فمنع صاحب الوليمة الغريم من الخروج فمكث الطالب هناك ليحفظ الغريم، فكتب شيخ الإسلام علي بن الإسبيجابي رحمه الله على الفتوى، زن حالف بطلاق نشود حوز حالف بخانه سور ارجهة سور اندر ما مدست، وعنه أنه لا تطلق امرأة الحالف.(4/155)
-----
وكتب نجم الدين رحمه الله على الفتوى، زن حالف بطلاق نشود خور حالف نخانه سور ارجهه سور اندرما مدست. وعنه فيمن قال لامرأته: اكرسيه حرندن روى فأنت طالق ثلاثاً، فذهبت هي مع امرأته أخرى إلى القطّان وخبأت هي شيئاً من ذلك واشترت المرأة الأخرى هل تطلق هي إذا لم تشتر بنفسها، قال: نعم لأن اليمين انعقدت على ذهابها لشراء القطن لا على شرائها.
وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: أكر من به دستورى توفلان حاى روم فأنت طالق فاستأذنها وألح عليها في ذلك فقالت: خر كجا خواهى روكه من دستورى نمى دهم فذهب إلى ذلك الموضع قال: لا تطلق؛ لأن قولها هر كجا خواهى ادن، وقولها كه من دستورى نميدهم تعليل باطل، لأنها قالت اذنت له.
وقيل: تطلق لأن قولها هركجا خواهى روو مقروناً بقولها: كه من دستورى نمى دهم ليس بإذن بل هو تخويف وتهديد.
وعنه أيضاً: في رجل كان يأخذ أموال جباية السكة مجرى ثلاثة، وبين أهل السكة كلام فحلف بهذه اللفظة اكرنبش ستم جباية ندست كيرم حلال خداى برمن حرام ودفع ما كان في جيبه إلى واحد من أهل السكة وهي شيء قليل، كان وضعه في بيته فذهب وأخذ ذلك من بيته وجاء به على يده ودفعه إليهم، قال: تطلق امرأته لأنه أطلق أخذ الجباية بيده وقد أخذه، وقيل: هذا بعيد لأن يمينه ينعقد على جبايته، يدفع في المستقبل لا على جباية ماضية، هذا هو المتعارف والمتفاهم.
الدليل على حجة ما قلنا أنه إذا أخرج ما كان في جيبه وقت الحلف ليدفع إلى أهل السكة لا تطلق امرأته بذلك، وإن وجد الأخذ ما كان الطريق إلا ما قلنا.
وعنه أيضاً: في رجلين بينهما ألفة ومودة، قيل: لأحدهما إن صاحبك يتبع امرأتك فقال: اكرمن بازن خويش دريكى تسير تنيسم جدول بنا ندمراواكر بنايد زن أزمن بشيه طلاق ثم رآها مع هذا الرجل قال: إن قال جدوك نمى اندم لا تطلق لأنه علق الطلاق بصفة من صفات قلبه، فيتعلق بالأخبار عنه على ما عرف.(4/156)
-----
وعنه أيضاً: فيمن قال: اكرامش بروم وخواهرم شتيم فامرأته طالق، ثم ركب إليها في الليل وانفجر الصبح قبل أن يأتيها ويراها قال: تطلق امرأته، لأن يمينه انعقدت على الذهاب والرؤية في الليل، وقيل: لا تطلق لأن يمينه انعقدت على الذهاب ليلاً وعلى الرؤية مطلقاً.
وعنه أيضاً: فيمن قال: أين كه زن منت اكرم ابكنارايد فهي طالق ثلاثاً قال: هذا على الوطىء، قيل: إن قال الزوج مرادمن أن بودكه اكرم ايكنارايد يكد ما نوى هل يصدق قال: يصدق في حق تعليق طلاق ما فقال: يسمى كد ما نوى ولا يصدق في حق حرف الطلاق عن القربان لأن الوطء هو المراد بمثل هذا الكلام في العرف بقول الرجل: جندين كاه كه مرازن كارنيا مدو است ويريد به الوطء ويقول: هدس مرازن بكارمى ايد، ويفهم منه الوطء، فإذا قال: ما أردت الوطء فقد أراد صرف الكلام عن ظاهره فلا يصدقه القاضي في ذلك.
وعنه أيضاً: إذا قال الرجل: إن فعلت كذا فامرأتي طالق وله امرأتان سارة وسعادة، فطلق سارة ثم فعل ذلك الفعل تطلق ساره أم سعادة قال: إن طلق سارة طلاقاً بائناً طلقت سعادة.
وكذلك إن طلق سارة طلاقاً رجعياً ولم تنقض عدتها حتى فعل ذلك الفعل طلقت إحداهما والخيار إليه، وهذا لما عرف أن المعلق بالشرط عند مباشرة الشرط كالمنجز فيصير قائلاً عند التزوج امرأته طالق.
ومن قال: امرأته طالق وله امرأة مطلقة طلاقاً بائناً أو رجعياً قبل انقضاء عدتها لا يقع الطلاق عليها فكذا ههنا.
وإذا لم تكن سارة محلاً لوقوع الطلاق عليها في هذين الوجهين تعينت سعادة لوقوع الطلاق عليها.(4/157)
-----
وعنه أيضاً: فيمن له امرأتان أعطته إحداهما دراهم ليشتري بها حنطة لأهل البيت فاشترى بها حنطة، وأعطت تلك الدراهم في ثمن الحنطة إلا درهماً واحداً فإن صرف تلك الدراهم إلى حاجة أخرى، ثم دفع ذلك درهماً من مال نفسه في ثمن الحنطة عوضاً عن الدرهم الذي صرفه إلى حاجة أخرى، فقالت له المرأة الأخرى: إنك اشتريت لتلك المرأة الحنطة فاشترى مثلها فقال الزوج: اشتريتها بدراهمها وحلف على ذلك بالطلاق قال: لا يقع الطلاق لأنه اشتراها بدراهمها.
وكذلك لو قال: أعطيت في شراء هذه الحنطة دراهمها وحلف له كل اليمين لا يقع الطلاق أيضاً، واراد ادنه كه جيزى ازسيم خويش دربهاى كندم نداده لم تطلق امرأته.
وعنه أيضاً: فيمن قال لغيره: إن لم أفعل كذا غداً بدايك ايكه مرانجانه است بطلاق است ولم يفعل ذلك الفعل غداً فهي طالق ولا فرق بين قوله بدايك طلاق است وبين قوله فهي طاق.
وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: بخانه فلان اندراى تراسه طلاق، أو قال: توازمن بشه طلاق ولم يقل جون ولا اكر طلقت الساعة، نظيره بالعربية في «النوادر».
وعنه أيضاً: فيمن جاء بهدية يدعى غلات إلى غيره وقال له: اطع في متايك فقال: نعم برامناى دهم بدين غلاب واكر ندهم حلال برمن حرام ثم قال المهدي إليه: بعد ذلك بأيام، قال للمهدي: أصالحك على عشرة دراهم ورضي به المهدي وقبض العشرة وانصرف هل تطلق امرأته قال نعم، قيل (301أ1) له: أن اليمين عقدت على العدم، والعدم لا يتحقق قبل الموت قال: نعم عقدت على العدم، إلا أنه تحقق العدم ههنا لما اصطلحا عن القباء على الدراهم وقبض المهدي الدراهم وتركه وانصرف عنه.
وعنه أيضاً: فيمن قال: ان بدس وسعد بي ابن باع تخورم واكربخورم زن ازمن بطلاق فأكل من حصرمه وعنبه تطلق امرأته، ولو قال: ارشتر ين اين زرنخورم فأكل من عنبه لا تطلق، وإنما تطلق إذا شرب من الشراب الذي يتخذ من ماء العنب.(4/158)
-----
وعنه أيضاً: فيمن قال: أكر مشكاره خورم باكل شرح بنتيم فارمرأته طالق وكان الحلف بالشتاء ورأى بعد ذلك ورداً أحمراً وهو في الشتاء بعد فشرب الخمر قال: تطلق امرأته، لأن يمينه انعقدت على الورد الأحمر الذي يظهر في وقته المعهود من الربيع بحكم العرف والعادة.
وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته أن لا يشتم أباها، ثم لامرأته أي عد زن بدر، هل تطلق امرأته قال: نعم وهذا شتم لأبيها.
وعنه أيضاً: فيمن حلفه أقرباء امرأته بطلاقها كه يروى فرم شي وورانى جيري تهمه يكنى، فحلف على ذلك ثم قال لها بعد ذلك: خداى داتدنا توجد كرده هل تطلق بهذا قال: لا.
رجل له فاليز، أمر رجلاً أن يحفظ هذا الفاليز وأباح له أن يأكل منه ما شاء، فحلف هذا الحافظ بطلاق امرأته أن لا يأكل من فاليزه وليس له فاليز ملك ولا مستأجر ولا مستعار فأكل من هذا الفاليز الذي أمر بحفظه هل تطلق امرأته قال: لا، إلا إذا كان يضاف إليه هذا الفاليز عرفاً وعادة، أو ينويه أما بدون ذلك لا يحنث.
وقيل: يحنث على كل حال، لأن الإضافة للاختصاص وله نوع اختصاص بهذا الفاليز من حيث الحفظ ومنع غيره عن الدخول فيه، فإذا لم يكن له فاليز آخر هو يختص به اختصاصاً، أو نوى من هذا علمنا أنه أراد بيمينه هذا القدر من الاختصاص.
وعنه أيضاً: في مريض قالت له امرأته: فلان تراعبادت تكردوبرتونيا مد وقال: بنرحور برديدم بنرديك وي نروم وبادوى سحن بكوتم واكربروم وباوى سحن سموتم توازمن بطلاق ثم إن فلاناً عاده في مرضه وأهدى له هدايا فكلمه حين عاده وهو مريض على حاله لا تطلق امرأته لأن يمينه انعقدت على الكلام معه بعد ما قام عن مرضه حتى لو صح ثم كلمه تطلق امرأته، لأنه قال: واكر بروم وسحن كويم.
وعنه أيضاً: وينبغي أن يقال: إذا صح مرضه وذهب إليه وكلمه تطلق امرأته، لأنه قال: واكر بروم وسمن كويم.(4/159)
-----
وعنه أيضاً: في رجلين لهما على رجل دين غير مشترك فحلفَّاه بالطلاق بهذه اللفظة، اكر روى ازمانوس زن ازتوشه طلاق فحلف على ذلك ما حكمه، فقال: إذا طلباه وعلم بالطلب ولم يظهر نفسه عليهما طلقت امرأته، وإن دخل السوق مختفياً عنهما لا تطلق امرأته لأنه لا يراد بهذه أن لا يخفي نفسه في كل ساعة وزمان عرفاً وعادة، وإنما يراد بهذا أن لا يخفي نفسه عن الطلب وعلمه بالطلب، وإن طلباه أو طلبه أحدهما في داره أو سوقه أو كرمه فهو غائب ولم يعلم بالطلب لا تطلق امرأته أيضاً، وإن أدى دين أحدهما لا يبقى اليمين في حقه، لأن اليمين مؤقتة بحال قيام الدين معنى.
وعنه أيضاً: فيمن قال: هرج بدست راست كرفتم بدمن حرام كه فلان كارنكنم وكردة لا تطلق امرأته، لأن العرف في قوله هرج بدست راست هرج كرفتم لا في قوله: بدست راست هرج كرفتم.
وعنه أيضاً: فيمن حلف بالفارسية من أين بنن ماه ابن ايكورها ابن رزرامي كتم وما بازن هم ابنجاي كورم ونجانة بيرم واكرنجانة برم زن ازمن بسته طلاق فجعل كلها خمراً وشرب بعضها مع أصحابه ههنا، وحمل غيره بغير امرأة نفسها إلى بيته قال: إن كان مراده أن لا يحمل كلها بيته بنفسه لا يحنث، بحمل البعض ولا يحمل غيره بغير امرأة وإن (كان) مراده، أن يشرب الكل ههنا ولا يترك شيئاً للحمل إلى بيته يحنث، وإن لم يكن له نية فكذلك يحنث قبل وينبغي أن لا تطلق في هذين الوجهين أيضاً؛ لأن يحمل البعض إلى بيته لا يقع الناس عن الشرب، لأنه يمكن إعادة ما حمل إلى الشرب ههنا فلا تطلق ما دام الخمر دائماً وهو الصحيح.
وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لأن لا يؤذيها فتنجس ثوبه يوماً، فأمرها أن تغسله فأتت فقال: زهده ودلت بدرد نايد ستر هل يكون إيذاء، وهل تطلق امرأته قال: لا؛ لأن من اليمين الإيذاء ابتداءً من غير سبب أو يقال: سبب مثل هذا لا يعد إيذاءً فيما بين الناس إذا كان بناء على عصائها في مثل هذه الأمور.(4/160)
-----
وعنه أيضاً: فيمن حلف غريمه بهذه اللفظة كه اكرسيم من ناداه ازشهر بروى زن ازتو شين طلاق، فحلف على ذلك وأعطاه بعض حقه وذهب قال: تطلق امرأته، لأن معنى قوله سيم من بدهى تمه سيم، لأنه اسم جنس ولفظة واحد ومعناه الجمع وهو جميع دراهمه التي له عليه.
وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكرمدا جواب دهى توازمن بطلاق، فبعد ذلك بأزمنة قال رجل للحالف: توبازن خويش بفلان جاي رويت فقال الزوج: وي شهرة كيست كه من باوى بحال روم فقالت المرأة: شهرة يزار توام قال: لا تطلق بهذا لأن الجواب إنما يكون بعد الخطاب وإنه لم يخاطبها فلا يكون جواباً وفيه نظر، فإن الجواب لا يتوقف على الخطاب لا محالة عرفاً وعادة، فإن العرف والعادة فيما بين الناس، أن من ذكر غيره حال غيبته بسوء فإذا بلغ ذلك الغير مقالته يعارضه بنيله ويقول: جوابش دارم.
وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكر ازين خانه دستورى من بيرون اي توازمن من بشه طلاق وكانت ذهبت تجدود إليها رجلاً بمال وتحتاج إلى أن تخرج إليه وتقضي دينه وتفك رهنها فطلبت الإذن من الزوج بذلك فقال لها برووسيم بده وكروبير ون آر، فذهبت ولم تجده واحتاجت (301ب1) إلى الخروج مراراً حتى تم الأمر وخرجت كل مرة بغير إذن قال: لا تطلق، ووافقه بعض مشايخ عصره.
وعنه أيضاً: في امرأة قالت لزوجها: اكر زير من زن يزني كنى ارزتو بطلاق قال: يده طالق فتزوج امرأة قال: تطلق ثلاثاً.
وعنه أيضاً: قال لامرأته: اكرمن سمن طلاق تو برزبان دائم فأنت طالق ثلاثاً، ثم قال لها: اكر فلان كاركنى توارمن يشبه طلاق قال: طلقت ثلاثاً باليمين السابقة لأنها انعقدت بروايدن طلاق اوبرزبان راند فقد تحقق الشرط.(4/161)
-----
وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكر فلان يحشم حتايب بتواندر يكرد وتوبا من نكويتي تراشه طلاق قال: إنما يعرف النظر بالخيانة إذا يضم إلى النظر كلام أو عمل يدل عليه وهو أن يمازحها أو يشير إليها بيد أو شيء، أو طلاق هو دوزن دربسترى بمفتند سرا بالى اين مرد امرويان اجعت كه درحق وى سو كند نجورده بو دوان ديكر درميمن بستر بودارروى بايان قال: لم تطلق إن لم يمسها وصلاً، وإن وضع يده على رجل آخر لتخرجها من الستر وصلاً لا تطلق أيضاً؛ لأن الإخراج لم يدخل تحت اليمين والمس لأجل الإخراج لا يكون داخلاً تحت اليمين.
وعنه أيضاً: في جميع الأجزاء اعتادوا الاجتماع في موضع معلوم كل سبت للمشاورة في أمورهم فحلف واحد منهم بهذا اللفظ أكر من بايك سأل يا ابن جمع كردايم زن من شه طلاق، فاجتمع مع ثلاثة منهم يوم السبت. قال: لا تطلق امرأته، وإن اجتمع مع جملهم في غير يوم السبت، فإن كان اجتماعهم في غير يوم السبت للأمر الذي يجتمعون له يوم السبت تطلق امرأته، وإن اجتمع معهم يوم السبت لأمر آخر سوى ما كانوا يجتمعون له يوم قبل هذا بأن كان اجتماعهم قبل هذا يوم السبت لأجل المشاورة فاجتمع معهم في سبت آخر للضيافة لا تطلق امرأته، فإذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم قال: جعلته بائناً أو ثلاثاً فهو بائن وثلاث عند أبو حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله يكون بائناً ولا يكون ثلاثاً، وعند محمد رحمه الله لا يصير بائناً ولا ثلاثاً ذكر المسألة في آخر دعوى «الأصل».
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله، وأنه أحرى أن يكون ثلاثاً.
المرجع والمآب.(4/162)
-----
قال في «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله، وهذا إذا قال ذلك في العدة أما بعد انقضاء العدة إذا قال: يجعلها بائناً أو ثلاثاً لا يلزمه، وأشار أبو يوسف رحمه الله إلى الفرق بينما إذا قال: جعلته ثلاثاً، وبينما إذا قال: بائناً على ظاهر الرواية فقال: العدة إذا انقضت كانت التطليقة بائنة بغير كلام ولا يكون ثلاثاً هذا كلام أبي يوسف رحمه الله.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال لها: إن طلقتك واحدة فهي بائن أو ثلاث، فطلقها واحدة لم يكن بائناً ولا ثلثاً من قبل أنه قدم القول قبل نزول الطلاق، وكذلك إذا قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: جعلت هذه التطليقة بائناً أو ثلاثاً، وكان ذلك قبل أن تدخل الدار، وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه إذا قال لها: أنت طالق تطليقة يكون ثلاثاً فهي ثلاث.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا طلق امرأته واحدة، ثم قال في العدة: قد ألزمت امرأتي ثلاث تطليقات بتلك التطليقة، أو قال: ألزمتها تطليقتين بتلك التطليقة فإنه يقع عليها تطليقتان وفي الصورة الثانية يقع عليها تطليقة سوى الأولى فتقع تطليقتان.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله في رجل طلق امرأته واحدة، ثم قال: قد جعلتها بائناً رأس الشهر قال: إن لم يراجعها فهو بائن، وإن راجعها فيما بين ذلك لا تتحول إلى البينونة، ولو طلقها تطليقة رجعية ثم قال: جعلتها ثلاثاً رأس الشهر ثم راجعها قال: تكون ثلاثاً رأس الشهر، وليس يشبه قوله جعلتها بائناً قوله جعلتها ثلاثاً، وقال أبو يوسف رحمه الله بعد ذلك: لا تكون ثلاثاً وتكون واحدة بائنة والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(4/163)
كتاب النفقات
هذا الكتاب يشتمل على فصول:
1 * في نفقة الزوجات.
2 * في نفقة المطلقات.
3 * في نفقة ذوي الأرحام.
4 * في نفقات أهل الكفر.
5 * من نفقات المماليك.
الفصل الأول في نفقة الزوجات
-----
الأصل في نفقة الزوجات قوله تعالى: {اسكنوهن من حيت سكنتم من وجدكم} (الطلاق: 6) وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {اسكنوهن من حيث سكنتم وانفقوا عليهن من وجدكم} وقراءته لا بد وأن يكون مسموعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمفذل ذلك على وجوب النفقة، وقال عليه السلام: «أوصيكم بالنساء خيراً» إلى أن قال: «وإن لهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف» وقال عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» والمعنى فيه أن المرأة محبوسة عند الزوج لمنفعة تعود إلى الزوج فيكون كفايتها في مال الزوج كالقاضي لما حبس نفسه لأعمال المسلمين كانت نفقته في بيت مال المسلمين، وكعامل الصدقات لما حبس نفسه لعمل المساكين استوجب كفايته في مالهم كذا ههنا.
ثم هذا الفصل يشتمل على أنواع:
النوع الأول في بيان من يستحق النفقة من الزوجات ومن لا يستحق
قال: إذا تزوج الرجل امرأة كبيرة فطلبت النفقة وهي في بيت الأب بعد، فلها ذلك إذا لم يطالبها الزوج بالنقلة، لأن النفقة مستحقة لها على الزوج لما ذكرنا من الدلائل، ولكل أحد يتمكن من المطالبة بحقه، وهذا لأن النفقة حق المرأة، والانتقال حق الزوج، فإذا لم يطالبها بالنقلة فقد ترك حقه وهذا لا يوجب بطلان حقها.(4/164)
-----
وقال بعض المتأخرين من أئمة بلخ: لا تستحق النفقة إذا لم تزف إلى بيت زوجها والفتوى على جواب «الكتاب»، فإن كان الزوج قد طالبها بالنقلة فإن لم تمتنع عن الانتقال إلى بيت الزوج لها النفقة أيضاً، وأما إذا امتنعت عن الانتقال، فإن كان الامتناع لحق بأن امتنعت لتستوفي مهرها فلها النفقة لأن إيفاء المهر واجب على الزوج، ولها حق حبس نفسها عن الزوج إلى أن تستوفي المهر فإنما حبست نفسها بسبب فوات مهرها فيكون فوات الاحتباس محالاً على الزوج فلا يسقط حقها (302أ1) في النفقة كالفرقة إذا جاءت من قبل الزوج قبل الدخول بها لا يسقط حقها عن المهر كذا ههنا.
فأما إذا كان الامتناع بغير حق بأن كان أوفاها المهر أو كان المهر موجلاً، أو وهبته منه فلا نفقة لها لأن فوات الاحتباس ههنا لمعنى من جهتها، والنفقة بأن الاحتباس على تبين، فتجازى بمنع بيان أداء الاحتباس وهي النفقة، ألا ترى أن الفرقة إذا جاءت من قبلها قبل الدخول تجازى بمنع جميع البدل وهو المهر كذا ههنا.
قال: وإن كانت المرأة صغيرة، فإن كانت مثلها توطأ وتصلح للجماع فلها النفقة، وإن كانت مثلها لا توطأ ولا تصلح للجماع فلا نفقة لها عندنا حتى تصير إلى الحالة التي تطيق الجماع سواء كانت في بيت الزوج، أو في بيت الأب.
فرق بين نفقة الزوج وبين نفقة المملوك، فإن نفقة المملوك تجب على المالك، وإن كانت صغيرة لا تصلح للجماع.(4/165)
والفرق: وهو أن نفقة النكاح إنما تجب بسبب الاحتباس المستحق بعد النكاح، فإنما تجب إذا حصل للزوج منفعة من منافع النكاح على سبيل الخصوص وهذا لأن الاحتباس ما كان مطلوباً لعينه، وإنما كان مطلوباً لغيره وهو منافع النكاح وكان المعتبر حصول منافع النكاح على الخصوص، ومنافع النكاح على الخصوص هو الجماع، والدواعي إلى الجماع، والصغيرة التي لا تصلح للجماع لا تصلح لدواعي الجماع، فكان فوات منفعة الاحتباس لمعنى خاص بجهتها فصار كما لو نشزت بخلاف ما إذا كانت تصلح للجماع.(4/166)
-----
فأما نفقة المملوك تجب لأجل الملك فقط وذلك لا يختلف بالصغر والكبر.
قال: وإن كانت المرأة تصلح للجماع، والزوج لا يطيق الجماع فلها النفقة إذا لم تكن مانعة نفسها، لأن منفعة الاحتباس ههنا إنما فاتت لمعنى من جهة الزوج فلا يسقط حقها في النفقة، كما لو حبست نفسها من المهر.
قال: ولو كانا صغيرين لا يطيقان الجماع لا نفقة لها حتى تصير المرأة إلى الحالة التي تطيق الجماع، لأن المنع جاء لمعنى من جهتها فأكثر ما في الباب أن يجعل المنع من جهته كلاً منع، والمنع من قبلها قائم ومنع قيام المنفعة من قبلها لا يستحق النفقة.
والحاصل في جنس هذه المسائل: أنه ينظر إلى المرأة إن كانت لا تصلح للجماع لا نفقة لها سواء كان الزوج يطيق الجماع أو لا يطيق، وإن كانت المرأة تطيق الجماع فلها النفقة سواء كان الزوج يطيق الجماع أو لا يطيق.
وعن هذا قلنا: إن المجبوب إذا تزوج امرأة صغيرة لا تصلح للجماع لا يفرض لها النفقة، ولو تزوج امرأة تصلح للجماع فلها النفقة، وإن كان الزوج لا يقدر على الجماع في الوجهين جميعاً، لهذا المعنى أن المرأة في الفصل الأول لا تصلح للجماع وفي الفصل الثاني تصلح فعلم أن العبرة لما قلنا.
ثم الأصل أن المرأة إذا كانت كبيرة وهي غير مانعة نفسها عن الزوج بغير حق تستحق النفقة على الزوج.
وإن تعذر وطؤها بعارض أمر نحو الرتق والقرن والحيض والمرض سواء حصل هذا العارض في بيت الأب قبل الانتقال إلى بيت الزوج أو حصل بعدما انتقلت إلى بيت الزوج حتى إن المرأة الكبيرة إذا مرضت في بيت الزوج مرضاً لا يقدر الزوج على جماعها تستحق النفقة استحساناً، وكذلك الكبيرة إذا مرضت في بيت الأب مرضاً لا يقدر الزوج على جماعها، وزفت إلى بيت الزوج كذلك، أو لم تزف إلى بيت الزوج إلا أنها غير مانعة نفسها من الزوج بغير حق تستحق النفقة.(4/167)
-----
وكذلك المرأة إذا كانت رتقاء أو قرناء، أو صارت مجنونة أو أصابها بلاء يمنعه عن الجماع أو كبرت حتى لا يمكن وطؤها بحكم كبرها كان لها النفقة سواء أصابتها هذه العوارض بعدما انتقلت إلى بيت الزوج، أو قبل ذلك إذا لم تكن مانعة نفسها من الزوج بغير حق، وهذا الذي ذكرنا في هذه المسائل جواب ظاهر الرواية.
والوجه من هذه المسائل ما ذكرنا: أن المعتبر في إيجاب النفقة احتباس ينتفع به الزوج انتفاعاً مقصوداً بالنكاح وهو الجماع أو الدواعي إلى الجماع، والانتفاع من حيث الدواعي في هذه المسائل حاصل.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله في الرتقاء والمريضة التي لا يمكن وطؤها أنه لا نفقة لها قبل أن ينقلها الزوج إلى بيت نفسه وإن انتقلت إلى بيت الزوج من غير رضا الزوج فللزوج أن يردها إلى أهلها، وأما إذا نقلها الزوج بنفسه مع علمه بذلك فليس له أن يردها بعد ذلك ولها النفقة.
ووجه ذلك:أن التسليم الذي اقتضاه العقد تسليم من غير مانع يمنع من الوطء وذلك غير موجود ههنا فكان في التسليم نوع قصور وخلل فلا تستحق النفقة، فإذا نقلها الزوج إلى بيته مع علمه بذلك فقد رضي بالخلل فكان عليه النفقة فلا يجوز ردها لرضاه بالتسليم القاصر بخلاف الصغيرة التي لا تصلح للجماع، لأن هناك المنفعة فائنة أصلاً فكان له أن يردها ولا تجب نفقتها.(4/168)
-----
أما ههنا بخلافه حتى لو كانت الصغيرة بحال تصلح لمنفعة الخدمة والاستئناس فنقلها الزوج إلى بيت نفسه ليس له أن يردها وتستحق النفقة عند أبي يوسف رحمه الله فكأنه اعتبر منفعة الاستئناس على هذه الرواية، وروي عن محمد رحمه الله في الرتقاء: أنه لا يلزم الزوج نفقتها قبل أن ينقلها الزوج بنفسه إلى بيته كما هو قول أبي يوسف رحمه الله ثم فرق أبو يوسف رحمه الله بينما إذا جاءت إلى بيت الزوج مريضة وبينما إذا مرضت في بيت الزوج فقال: إذا جاءت إلى بيت الزوج مريضة فللزوج أن يردها ولا نفقة عليه، وإذا مرضت في بيت الزوج بعدما جاءت إليه صحيحة فليس له أن يردها بل ينفق عليها إلا إن تطاول قال: لأن النكاح يعقد للصحبة والإلفة، وليس من الإلفة أن يمتنع عن الإنفاق أو يردها بقليل مرض فإذا تطاول ذلك فهو بمنزلة الرتق الذي لا يزول عادة قضاء، كما لو كانت صغيرة لا تجامع مثلها فتسقط نفقتها.
قال: وإذا احتبست المرأة في دين قبل النقلة، فإن كانت تقدر (302ب1). أن تخلي بينه وبين نفسها فلها النفقة، وإن كانت في موضع لا يقدر الزوج على الوصول إليها فلا نفقه لها، وهذا لأنها إذا قدرت على أن توصل الزوج إلى نفسها فقدر الزوج على الاستمتاع بها وفوات الاحتباس في بيت الزوج ما كان من جهتها فلا يسقط حقها، وأما إذا لم تقدر أن توصله إلى نفسها لم يتمكن الزوج من الاستمتاع بها فلا تستحق النفقة.
وأما إذا حبست بعد النقلة وبعدما فرض القاضي لها النفقة لا تبطل نفقتها، لأن التسليم قد وجد والمنع حصل بعارض أمر غير مضاف إليها فلا يؤثر في إسقاط حقها كالحيض، وهذا كله إذا كانت محبوسة في دين لا تقدر على الأداء، فإن قدرت على الأداء فلم تفعل فلا نفقة لحصول المنع مضافاً إليها، وهذا كله قول أبي يوسف رحمه الله، وهو اختيار القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله.(4/169)
-----
وذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» وفي «الأصل»: أنها إذا حبست فلا نفقة لها من غير تفصيل، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنها إذا حبست فكانت قادرة على أداء الدين أو لم تكن، أو حبست ظلماً بغير حق فلا نفقة لها، وكذلك لو هرب بها هارب لم تستحق النفقة على رواية «الأصل» و «الجامع» رواية الخصاف، وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله لها النفقة.
فالحاصل: أن على رواية أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار القاضي الإمام المعتبر افوات النفقة فوات الاحتباس من جهتها ولم يوجد ذلك ههنا، وعلى رواية «الأصل» و «الجامع» رواية الخصاف المعتبر لسقوط النفقة فوات الاحتباس لا من جهة الزوج وقد فات الاحتباس ههنا لا من جهة الزوج وهذا هو الصحيح.
والمعنى في ذلك أن النفقة إنما تجب عوضاً عن الاحتباس في بيت الزوج، فإذا كان الفوات لمعنى من جهة الزوج أمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً، أما إذا كان الفوات بمعنى من جهة الزوجة لا يمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً وبدونه لا يمكن إيجاب النفقة وهو نظير ما قلنا في الغاصب. إذا غصب المستأجر من يد المستأجر لا يجب الأخذ على المستأجر بهذا إن فات التمكن من الانتفاع لا من جهة المستأجر كذا ههنا.
قال: وإن حبس الزوج وهو يقدر على الأداء أو لا يقدر أو حبس ظلماً أو هرب أو...... كان لها النفقة لأن الاحتباس ههنا فات لمعنى من جهة الزوج.
قال: ولو حجّت المرأة حجة الإسلام فإن كان قبل أن تسلم نفسها فلا نفقة لها، ولو كان الزوج (دخل) بها ثم حجت المرأة مع محرم فلها النفقة في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا نفقة لها هكذا ذكر في «القدوري»: وذكر الخصاف رحمه الله، أنه لا نفقة لها ولم يذكر فيه خلافاً فيحمل أن يكون ما ذكر الخصاف قول محمد رحمه الله.(4/170)
-----
فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الزوج لما بنى بها فقد وجد التسليم، والمانع أداء الفرض وهي مضطرة في ذلك بخلاف ما لو لم يبنى بها لأن هناك لم يوجد التسليم أصلاً.
وجه قول محمد رحمه الله: أن منفعة الاحتباس فات لمعنى من جهة المرأة فتوجب سقوط النفقة لما قلنا قبل هذا بخلاف ما لو صلت أو صامت عن رمضان فرفع على قول أبي يوسف رحمه الله فقال: تفرض لها نفقة الإقامة دون السفر بعين تعتبر ما كان قيمته للطعام في الحصر لا ما كان قيمة له في السفر لأن هذه الزيادة لحقها بأداء منفعة تحصل لها فلا يكون ذلك على الزوج أن يكتري لها؛ لأن هذا ليس من... كالمريضة لا تستحق المداواة على الزوج وليس على الزوج أن يكتري لها لأن هذا ليس من نفقة الحضر فيكون في مالها، ولو أقامت هناك مدة لا يحتاج إليها بطلت نفقتها لأنها غير مضطرة في ذلك فصارت كالناشزة، ولو طلبت من الزوج نفقة مدة الذهاب والمجيء لم يكن لها ذلك، ولكن يعطيها نفقة شهر، لأن الواجب لها نفقة الإقامة دون السفر، ونفقة الإقامة تفرض لها شهراً فشهراً.
ثم قال: فإذا عادت أخذت ما بقي، هكذا ذكر في «القدوري» وفيه نظر، فإنَّ نفقة الزوجات لا تصير ديناً إلا بالقضاء أو بالتراضي كل ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.(4/171)
-----
ولم يذكر القضاء والرضا فكانت المسألة، وله قال: فإن حج الزوج معها فلها النفقة على الزوج بالاتفاق، لكن تجب نفقة الحضر، ولا تجب على السفر، ولا مؤنة السفر لما قلنا، وروي عن أبي يوسف رحمها الله تعالى أن المرأة إذا أرادت حجة الإسلام يؤمر الزوج أن يخرج معها في حجتها وينفق عليها، قال: وإذا تزوج الحر أو العبد أو المكاتب أو المدبر بأمة رجل كان لها على الزوج النفقة بقدر ما يكفيها.... بعدما توالها بيتاً أما بدون البيتوتة لا تستحق، وتفسير البيتوتة أن يخلي المولى بين الأمة وزوجها في منزل الزوج ولا يستخدمها، وهذا لأن المعتبر في استحقاق تفريفها نفسها للقيام بمصالح الزوج، وذلك يحصّل....، قلنا قال في «الكتاب»: وكذلك العبد، أو المكاتب أو المدبر إذا تزوج امرأة حرة قد يفرض عليه نفقتها فقد شرط البيتوتة في الحرة أيضاً، وهذا.... يصح لأن الحرة مهيأة للقيام بمصالح الزوج، إذ ليس ههنا من يستخدمها ويمنعها من التزوج بخلاف الأمة، فينبغي أن تستحق الحرة النفقة، في هذه المسائل لم تكن مانعة نفسها من الزوج وإن لم توجد البيتوتة، ألا ترى أن الحر إذا تزوج بحرة تستحق النفقة وإذا لم توجد البينونة، إذ لم تكن مانعة نفسها من الزوج كذا ههنا، قال: والمدبرة وأم الولد نظير الأمة، إذ المعنى لا يوجب الفصل بينهن، ثم قال: والبيتوتة غير واجبة على المولى، لأن حق المولى في الاستخدام باقي، فلو كاتبها المولى على البيتوتة فقد أبطلا حقه في الاستخدام، وهذا مما لا وجه ولا سبيل إليه، قال: ولو برأها المولى ثم بدا له أن (203أ1) يستخدمها فله ذلك، لما ذكرنا أن حق المولى في الاستخدام باقي فلا تسقط بالبيتوة، كما لا تسقط بالإنكاح، ثم إذا استخدمها المولى بعد ذلك ولم يحل بينها وبين الزوج فلا نفقة لها، لأنه فات ما كان تجب به نفقتها وهو البيتوتة من جهة من له الحق، فشابهت الحرة الناشزة، قال: ولو بوأها المولى فكانت إلى المولى في بعض الأوقات(4/172)
-----
تخدمهُ من غير أن يستخدمها لم تسقط نفقتها، لأن البيتوتة من جهة المولى، والنفقة إنما تجب حقاً للمولى فلا يسقط بصنع يوجد من عند المولى.
بخلاف ما إذا استخدمها المولى على ما مر، قال: ولو جاءت إلى بيت المولى في وقت، والمولى ليس في البيت واستخدمها أهل المولى ومنعوها من الرجوع إلى بيته، فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها بمنزلة استخدام المولى، وفيه تفويت البيتوتة، قال: وإذا تزوجت المكاتبة بإذن المولى، فهي كالحره فلا تحتاج إلى البيتوتة لاستحقاق النفقة لأن منافعها على ملكها لضره وريها أخص بنفسها ومنافعها بعقد الكتابة، ولهذا لم يبق للمولى، ولأن الاستخدام مكانه فكانت كالحرة فلا يحتاج في حقها إلى البيتوتة، وهذه المسألة تزيد ما ذكرنا في الحرة إذا قامت تحت عبد أو مكاتب أو مدبر،
ثم فرع على مسألة العبد فقال: إذا تزوج العبد بإذن المولى، وفرض القاضي عليه النفقة، فالنفقة تتعلق بمالية الرقبة، لأن دين النفقة ظهر في حق المولى لأنه سببه وهو النكاح كان برضا المولى، وإذا اجتمع عليه من النفقة ما يعجزه عن الأداء يباع فيه إلا أن يفديه المولى، ثم إذا اجتمع عليه النفقة مرة أخرى يباع العبد ثانياً.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وليس في شيء من ديون العبد ما يباع فيه مرة بعد مرة إلا النفقة، وهذا لأن النفقة تتجدد وجوبها بمضي الزمان، فكذلك في حكم دين حادث، ولا كذلك سائر الديون.(4/173)
-----
قال: وإن مات العبد بطل ما اجتمع عليه من النفقة لا يؤاخذ المولى بشيء لأن محل الاستيفاء قد فات، قال: وإن قتل العبد كانت النفقة في قيمته، قال الشيخ أبو الحسن القدوري رحمه الله في «شرحه»: هذا ليس بصحيح، وإنما الصحيح أن تسقط النفقة بالموت، لأن النفقة في معنى الحر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله، والصِّلات تبطل بالموت قبل القبض، والقيمة إنما تقام مقام الرقبة في دين لا يسقط بالموت، لا في دين سقط بالموت، هذا الذي ذكرنا في العبد، أما المدبر إذا تزوج بإذن المولى، فالنفقة تتعلق بكسبه، لأن الاستيفاء من الرقبة ههنا متعذر لعدم جواز بيعه، فيتعلق بكسبه كسائر الديون، وكذلك نفقة امرأة المكاتب تتعلق بكسبه ما دام مكاتباً لتعذر الاستيفاء من الرقبة، فإذا عجز بيع فيها لإمكان الاستيفاء من الرقبة بعد العجز، فهذا الذي ذكرنا، إذا تزوج العبد أو المكاتب أو المدبر بإذن المولى.
وإذا تزوجوا بغير إذن المولى فلا نفقة عليهم ولا مهر، لأن وجوب النفقة والمهر يعتمد صحة العقد، ونكاح هؤلاء بغير إذن المولى لا يصح، فإن عتق واحد منهم جاز نكاحه حين عتق، لسقوط حق المولى، ويجب عليه المهر والنفقة في المستقبل.
وقال: ومعتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة المكاتب وعندهما بمنزلة من عليه دين بناءً على أن الإعتاق عندهما لا يتجزأ وعند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ فكان بمنزلة المكاتب، إلا أن الرد في الرق بالعجز ههنا لا يتصور، وفي المكاتب يتصور، أما قبل العجز خالعها وأخذ (العوض) قال: وإذا تزوج الرجل أمته من عبده بوأها بيتاً أو لم يبوىء فنفقتها على المولى، لأنهما جميعاً ملك المولى، ونفقة المماليك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال: وإذا زوج الرجل ابنته من عبده، وطلبت النفقة كان لها النفقة على العبد لأن النفقة في معنى سائر الديون من وجه والابنة تستحق الدين على الأب، فكذلك على عبد الأب.(4/174)
-----
قال: وإذا (كان) للرجل نسوة بعضهن حرائر مسلمات، وبعضهن إماء وذميات باختلاف الدين والرق والحرية، إلا أن الحرة تستحق نفقة خادمها على ما يأتي بعدها إن شاء الله، والأمة لا لأن الحرة تستخدم الأمة، فأما الأمة خادمة في نفسها فلا تستحق نفقة الخادم.
قال: ولا نفقة في النكاح الفاسد، ولا في العدة منه لأنه لم يحصل للزوج بهذا الاحتباس منفعة من منافع النكاح وهو الوطء أو الدواعي لأنه ممنوع شرعاً، فصار بمنزلة الصغيرة لا يجامع مثلها.
قال: ولو كان النكاح صحيحاً من حيث الظاهر، ففرض القاضي لها النفقة وأخذت ذلك أشهراً، ثم ظهر فساد النكاح بأن شهد الشهود أنها أخته من الرضاعة، وفرق القاضي بينهما رجع الزوج على المرأة بما أخذت، لأنه تبين أنها أخذت بغير حق، وهذا إذا فرض القاضي لها النفقة، أما إذا أنفق الزوج عليها مسامحة من غير فرض القاضي لم يرجع عليها بشيء، كذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح القاضي».
وذكر في «الحاوي في الفتاوي»، أن الرجل إذا اتهم بامرأة وظهر بها حبل فزوجت من هذا الرجل، فإن لم يقر هذا الرجل بأن هذا الحبل منه، فإن النكاح فاسد عند أبي يوسف رحمه الله فلا تستحق النفقة ، وعندهما النكاح صحيح فتستحق النفقة، وذكر في موضع آخر أن على قولهما لا تستحق النفقة أيضاً، لأن النكاح وإن كان صحيحاً عندهما إلا أن الزوج ممنوع عن وطئها، فأما إذا أقر الرجل أن الحبل منه فالنكاح صحيح بالاتفاق وهو غير ممنوع عن وطئها فتستحق النفقة عند الكل.
في «فتاوى النسفي» رحمه الله في منكوحة تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني وفرق بينهما حتى وجبت العدة، ففي الحالة التي تعتد لا نفقة لها لا على الزوج الأول، ولا على الزوج الثاني أما على الزوج الثاني فالنكاح الثاني فاسد، وأما على الزوج الأول فلأنها صارت ناشزة عن الأول ولا تستحق النفقة عليه.(4/175)
-----
وقال: ولا نفقة للناشزة (303ب1) ما دامت على تلك الحالة، لأنها إنما تستحق النفقة بتسليمها بنفسها إلى الزوج وتفريقها نفسها لمصالح الزوج فإذا امتنعت عن ذلك ظالمة، فقد فوتت ما كانت تستحق النفقة باعتباره فلا تجب لها النفقة، وقد صح أن شريحاً رحمة الله عليه سئل أن الناشزة هل تستحق النفقة: فقال: نعم.... فقال: جوالق من تراب، بين لا نفقة لها، ثم بين الخصاف رحمه الله الناشزة فقال: الناشزة هي الخارجة عن منزله زوجها المانعة نفسها منه، لأنها إذا كانت مقيمة مع الزوج في منزله فالظاهر أن الزوج يقدر على تحصيل المقصود منها فلا يوجب ذلك بطلان نفقتها، وتستوي المرأة في حق الناشزة أن تكون النفقة مفروضة أو لم تكن لا نفقة للمرأة مفروضة كانت، أو غير مفروضة بأن الاحتباس في بيت الزوج، فإذا فات الاحتباس في بيت الزوج فات ما تأدى به النفقة فتفوت النفقة ضرورة في حق هذا المعنى المفروضة وغير المفروضة على السواء، إليه أشار محمد رحمه الله في «الجامع»، في الباب الثاني من كتاب القضاء في مسألة ذكرها على سبيل الاستشهاد عبيد.
وكذلك لو كان وصورتها إذا قضى القاضي بالفرقة بشهادة الشهود، ثم ظهر أن الشهود عبيد، وكذلك لو كان المنزل ملكاً للمرأة والزوج يسكن معها في بيتها فمنعته من الدخول عليها لم يكن لها نفقة ما دامت على تلك الحالة، لأنها لما منعته عن الدخول عليها فقد حبست نفسها منه فصار كأنها نشزت إلى موضع آخر.
قال في «الكتاب»: إلا أن تكون سألته أن يحولها إلى منزله أو يكتري لها منزلاً آخر فيه وتقول: إني أحتاج إلى منزل، ومنعته من الدخول عليه فلها ذلك، وعليه النفقة، لأن منفعة الاحتباس ههنا، إنما فات لمعنى من جهة الزوج فلا يوجب بطلان المنفعة، ثم في كل موضع تسقط نفقة المرأة لأجل النشوز، لو تركت النشوز كان لها النفقة، لأن المسقط للنفقة هو النشوز.(4/176)
-----
فإذا تركت النشوز ارتفع المسقط فصار الحال بعد ترك النشوز كالحال قبل النشوز، وذكر في «الفتاوى» عمن أوفى مهر امرأته وهو يسكنها في أرض الغصب وامتنعت هي منه قال: لها النفقة لأنها محقة وليست بناشزة قال: وإذا بقيت المرأة مع زوجها، أو أبت أن تتحول معه إلى منزله أو حيث تريد من البلدان وقد أوفى مهرها فلا نفقة لها عليه، لأنها مبطلة في هذا المنع فكانت ناشزة، وإن كان لم يعطها مهرها وباقي المسألة بحالها فلها النفقة لأنها محقة في هذا المنع، هذا إذا لم يدخل بها، فإن دخل بها فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قولهما لا نفقة لها سواء أوفاها المهر، أم لا وهذا بناءً على أن بعدما دخل الزوج بها ليس لها أن تمنع حتى يوفيها الزوج المهر عندهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله لها ذلك فكانت مبطلة في هذا المنع عندهما فلا نفقة لها قال الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله: هذا كان في زمانهم، أما في زماننا لا يملك الزوج أن يسافر بها، وإن أوفى صداقها، لأن في زمانهم الغالب من حال الناس الصلاح، أما في زماننا فسد الناس، والمرأة إذا كانت بين عشيرتها فالزوج لا يقدر على أن يظلمها، ومتى نقلها إلى بلد آخر ظلمها، فقيل له أن يخرجها من البلد إلى القرية، أو على العكس قال: ذلك ليس سفر، وإخراجها إلى بلد آخر سفر.
النوع الثاني في كسوة المرأة
«الأصل»: في ذلك قوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233) والمعنى الذي أوجب النفقة للمرأة على الزوج وهو كونها محبوسة في بيت الزوج لمنفعة تعود إلى الزوج توجب الكسوة أيضاً على الزوج إذا عرفنا هذا.(4/177)
-----
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: الكسوة للمرأة على المعسر في اليسار درع يهودي وملحفة كأرخص ما يكون مما يدفنها، وعلى الموسر في اليسار درع يهودي أو هروي، وملحفة وخمار إبريسم، وكساء ولها في الصيف درع سامريّ وملحفة كتان، أو خمار إبريسم فقال: أوجب لها في الستار أكثر مما أوجب في الصيف لدفع أذى الحر، وتحتاج لدفع البرد ما لا تحتاج لدفع أذى الحر، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الأصل»: للمرأة الدرع، والخصاف ذكر القميص وهما سواء غير أن الدرع ما يلبسه النساء، وهو أن يكون مجبباً من قبل أن الصدر والقميص ما يكون مجبباً من قبل الكتف فتوسع الخصاف وأجاز ذلك للنساء، وذكر الملحفة وتكلموا في تفسيرها قال بعضهم: غطاء الليل يلبس في الليل، وقال بعضهم: التي تلبس المرأة عند الخروج.
وقال الخصاف رحمه الله في «كتابه»: الملحفة تشبه الرداء، غير أن الملحفة أعرض من الرداء فتكون أستر للمرأة ثم لم يوجب للمرأة الإزار، والخصاف أوجب الإزار لها في كسوة الشتاء لا في كسوة الصيف.(4/178)
-----
ومحمد رحمه الله لم يوجب لها الإزار أصلاً قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إنما لم يوجب محمد رحمه الله ذلك باعتبار أن الإزار إنما يحتاج إليه للخروج، والمرأة منهية عن الخروج ومأمورة بأن تكون مهيأة لبساط الزوج، فلا يكون على الزوج أن يتخذ ما يحول بينه وبين حقه، فهذا التعليل إشارة إلى أنه لا يفرض للمرأة الإزار في ديارنا أيضاً، وقال غيره من المشايخ: هذا بناء على عرف ديارهم، فإن في عرف ديار محمد رحمه المرأة تمكث في بيت الزوج بلا سراويل، وتلبس درعاً طويلاً، وفي عرف ديار الخصاف وهو ديار عراق تمكث المرأة مع السراويل لكن في الصيف لا يمكنهن ذلك لشدة الحر، وفي الشتاء يمكنهن فهذا في عرف ديارهم، أما في عرف ديارنا يجب لها الإزار، وثياب أخر تحتاج إليها في الشتاء نحو الجبة وما أشبه ذلك، ولم يوجب للمرأة الملقب والخف لأن كل واحد منهما يحتاج إليه للخروج، والمرأة لا تحتاج إلى الخروج والبروز.
قال: ويجب لها في الشتاء لحاف، أو قطيف إن لم تكن تحتمل لحافاً، وكذلك يجب لها فراش تنام عليه، لأن النوم على الأرض ربما يؤذيها ويمرضها، وهو منهي عن إلحاق الضرر والأذى بها قال في «الكتاب»: (304أ1) يجعل لها القاضي ما ينام عليه مثل الفراش أو المضربة أو المرفقة، وفي الشتاء لحاف تتغطى به، ذكر لها فراشاً على حدة ولم يكتف لها بفراش واحد، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الفراش ثلاثة، فراش لك وفراش لأهلك والثالث للشيطان».
ثم ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» من القياب فهو بناء على عاداتهم وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحر والبرد، وباختلاف العادات فيما يلبسه الناس في كل وقت فيجب على القاضي اعتبار الكناية بالمعروف فيما يعرض في كل وقت، ومكان النوع الثالث في فرض القاضي نفقة المرأة وكسوتها.(4/179)
-----
قال: وإذا طالبت المرأة زوجها بالنفقة وهي امرأة على حالها، وقالت أنه يصرف عليّ ويضربني فالقاضي يأمر بالنفقة عليها لأن الله تعالى أمر الزوج بالإمساك بالمعروف قال الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} (الطلاق: 2) وليس من المعروف ترك التوسع في النفقة والزوج هو الذي يلي الإنفاق، إلا أن يظهر للقاضي مطلب أنه يضربها ولا ينفق عليها حينئذٍ يفرض القاضي لها نفقة عليه في كل شهر وأمره أن يعطيها لتنفق هي على نفسها نظراً لها، فإذا لم يعطها وقدمته مراراً ولم يقبل نُصح القاضي ولم ينجح فيه وعظه وحبسه القاضي لظهور مطله وظلمه وسيأتي الكلام في الجنس بعد هذا إن شاء الله تعالى.v
قال: وإذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها نفقة على الزوج، فالمسألة على وجهين: أما إذا كان الزوج حاضراً أو غائباً، فإن كان حاضراً أو كان الزوج صاحب مائدة فالقاضي لا يفرض لها النفقة وإن طلبت لأنها متعينة في طلب النفقة لأن الرجل إذا كان بهذه الصفة ينفق على من ليس عليه نفقته فلا يمنع في الإنفاق على من عليه نفقتها فلا يفرض القاضي لها النفقة إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضربها ولا ينفق عليها فحينئذٍ يفرض لها النفقة.
وإن لم يكن الزوج صاحب مائدة فالقاضي يفرض نفقة لها كل شهر، وأمر بأن يعطيها هكذا ذكر في «الكتاب»، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يكون الزوج هو الذي يلي الإنفاق إذا ظهر للقاضي مطل الزوج وظلمه على ما ذكرنا فحينئذٍ يفرض.(4/180)
-----
قال: وليس في النفقة عندنا التقدير لازم، لأن المقصود من النفقة الكفاية وذلك مما يختلف فيه طباع الناس وأحوالهم، ويختلف باختلاف الأوقات أيضاً، وفي التقدير بمقدار.... بأحديهما، والذي قال في «الكتاب»: (إن) كان الزوج معسراً فرض لها القاضي من النفقة كل شهر أربعة دراهم فهذا ليس تقدير لازم لأن هذا يختلف باختلاف الأسعار في الغلاء والرخص، واختلاف المواضع، واختلاف الأوقات فكان في التقدير بالدراهم إضرار بأحدههما فلا يعتبر ذلك إلا أن محمداً رحمه الله ذكر التقدير بالدراهم بناءً على ما بينا، هذا في زمانه الذي يحق على القاضي (أما) في زمننا اعتبار الكفاية بالمعروف فيما يفرض في كل وقت ومكان، و «الأصل» فيه قوله عليه السلام لهند: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك ولولدك بالمعروف فيما يفرض» والمعنى في ذلك أن في النفقة معنى الصلة، والصلات شرعت على وجه يكون فيه نظر من الجانبين والنظر للجانبين أن يتقيد بالمعروف بلا سرف ولا تقتير، قال: وكما يفرض القاضي لها قدر الكفاية من الطعام، وكذا من الإدام والدهن، أما الإدام فلأن الخبز لا يتناول عادة إلا....، وأما الدهن فلأنه لا يستغنى عنه خصوصاً في ديار الحر من أصول الحوائج.(4/181)
-----
قال: والجواب في الكسوة كالجواب في النفقة يريد به أن القاضي يفرض لها من الكسوة للشتاء والصيف ما يكفيها بالمعروف بقوله تعالى: {رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233) والمعنى فيه أن بقاء النفس عادة بهما، والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات فيقضي لها في كل وقت ما تحتاج إليه بالمعروف غير أن الكسوة تفرض عليها في كل ستة أشهر، لأن حاجتها إلى الكسوة مما يختلف باختلاف الشتاء والصيف فيقضي لها في كل فصل بقدر الحاجة، والنفقة تفرض في كل شهر ويدفع إليها؛ لأنه متعذر على القاضي أن (يفرض) لها النفقة في كل ساعة، وتعذر عليه أن يفرض لها في جميع مدة النكاح لأن ذلك مجهول فقدرناه بكل شهر لأنه أقل الآجال المعتاد فيها بين الناس.
فرع على هذه الأفعال(4/182)
-----
إذا فرض القاضي لها نفقة شهر فلم يدفع الزوج ذلك فأرادت المرأة أن تطلب كل يوم فإنما تطلب عند المساء لأن حصة كل يوم معلوم فيمكنها المطالبة بذلك، ولا كذلك ما دون اليوم لأنه مقدر بالساعات فلا يمكن اعتبارها قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه»: ما ذكر محمد رحمه الله: أن النفقة تفرض لها شهراً فشهراً ليس بتقدير لازم، إنما ذلك بناء على عاداتهم وبعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: يعتبر في ذلك حال الرجل، فإن كان محترفاً تفرض عليه النفقة يوماً فيوماً، فإن كان من التجار تفرض عليه النفقة شهراً فشهراً، وإن كان من الدهاقين تفرض عليه النفقة سنة فسنة لأن تيسير الأداء على الدهاقين عند إدراك الغلة في كل سنة وتيسير الأداء على التجار عند حال غلة الحوانيت وغيرها في كل شهر، وتيسير الأداء على المحترف بالاكتساب كل يوم هو، ثم في ظاهر رواية «الأصل»: المعتبر في فرض النفقة (على) حال الزوج في اليسار والإعسار، وهكذا ذكر في «شرح القدوري»: وهذا بقوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (البقرة: 236) وقال الله تعالى: {فلينفق مما أتاه ا لا يكلف ا نفسا إلا ما أتاها} (الطلاق: 7) وذكر الخصاف في «النفقات» أنه يعتبر حالهما في اليسار والإعسار حتى لو كانا موسرين كان لها نفقة الموسرين، ولو كانا معسرين فلها نفقة المعسرين، وإن كانت موسرة فيقال له: تكلف إلى أن يطعمها ما يأكل بنفسه، ولا ما كانت المرأة تأكل في بيت أهلها، ولكن يطعمها فيما بين ذلك يطعمها خبز البر وناخة أو ناختين فهذا، فهو معنى..... (304ب1).
وإشارة الخصاف في «أدب (القاضي)»:...... في بعضها يسير إلى أن يعتبر حال الزوج وفي بعضها يسير إلى أنه يعتبر حالهما، قال مشايخنا رحمهم الله: والمستحب للزوج إذا كان موسراً مقراً اليسار، والمرأة فقيرة أن يأكل معها ما يأكل بنفسه لأنه مأمور بحسن العشرة معها وذلك في أن يؤاكلها لتكون نفقته ونفقتها سواء.(4/183)
-----
قال في «الكتاب»: وكل جواب عرفته في فرض النفقة من اعتبار حال الزوج أو اعتبار حالها فهو الجواب في الكسوة؛ إذ المعنى لا يختلف قال: وإذا فرض القاضي للمرأة ما تحتاج إليه من الدقيق وسائر المؤن فقالت: أنا لا أعمل ولا أخبز ولا أطبخ ولا أعالج شيئاً معها فإنها لا تجبر على ذلك، وعلى الزوج أن يأتيها بمن يكفيها عمل الطبخ والخبز وما أشبهه، وهذا لأن الواجب لها على الزوج الطعام قال الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة: 89) والطعام ما يمكن تناوله، والدقيق والحنطة مما لا يمكن تناولها ويجب على الزوج أن يجعل الحنطة والدقيق مهيأة، وذلك بالخبز والطبخ هكذا ذكر الخصاف في «آداب القاضي والنفقات» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: في نكاح «الفتاوى» هذا إذا كانت المرأة بها علة لا تقدر على هذه الأعمال، وهي ممن تخدم بنفسها لا يجب على الزوج أن يأتيها من يعمل هذه الأعمال، لأنها متعينة في ذلك.
وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إذا امتنعت المرأة من الخبز والطبخ وأعمال البيت كان للزوج أن يمتنع من الإدام أيضاً، ويعطيها خبز البر ما يمكن أكلها من وجه ويقول: هو طعام وليس علي سوى الطعام، وكذلك إذا طلبت الفواكه كان للزوج أن يمتنع عن بعض الفواكه، وإن أعطاها خبز الشعير لا بد من الإدام لأنه لا يمكن تناوله ولكن لا يجبر على ذلك في الحكم ومتى أقامت الأعمال في البيت فالزوج يؤدي هذه الأشياء إليها ويوصي بذلك ديانة لا جبراً أو حكماً، ثم على ظاهر الرواية فرق بين نفقة المرأة وبين نفقة خادمتها، فإن خادمتها إذا امتنعت عن هذه الأعمال لا تستحق النفقة على زوج مولاها.(4/184)
-----
والفرق: وهو أن نفقة الخادم إنما تجب بإزاء الخدمة، فإذا امتنعت عن هذه الأعمال ثم يوجد ما تستحق هي النفقة بمقابلها، وأما نفقة المرأة أنها تجب بإزاء التمكن وقد مكثت فلا يجب عليها هذه الأعمال، هذا الذي ذكرنا، كله إذا كان الزوج حاضراً، فإما إذا كان الزوج غائباً وله مال حاضر في بيته فطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة فإن كان القاضي يعلم بالنكاح بينهما، فرض لها النفقة في ذلك المال، لأن هذا إبقاء لحق المرأة وليس بقضاء على الزوج بالنفقة، لأن النفقة واجبة على الزوج بحكم الزوجية قبل قضاء القاضي، والقاضي عرف قيام الزوجية ههنا، إنما الحاجة إلى الإبقاء والإبقاء لا يمتنع بسبب الغيبة ألا ترى أن من أقر بدين ثم غاب وله مال حاضر من جنس الدين، فطلب صاحب الدين من القاضي الإنفاق أجابه القاضي إلى ذلك فههنا كذلك.(4/185)
-----
و «الأصل» في ذلك حديث هند على ما عرف، ولكن ينبغي للقاضي أن ينظر للغائب، وذلك: في أن يخلعها إن لم يعطيها النفقة، لجواز أن يكون أعطاها النفقة قبل أن يغيب وهو يلتبس على القاضي ليأخذ نائباً فإذا خلعت أعطاها النفقة وأخذ منهما كفيلاً هكذا، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه»، وذكر في «أدب القاضي» للخصاف أن القاضي إذا استوفى منها بكفيل فحسن، وإن لم يأخذ كان جائزاً، والصحيح ما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، لأن القاضي نصب ناظراً لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، والغائب هنا عجز عن النظر بنفسه فيجب على القاضي أن ينظر له، ونظره ههنا في أخذ الكفيل لجواز أن يخص ويقيم بينة أنه كان أوفاها النفقة، أو يقيم بينة أنه أرسل إليها بالنفقة..... الزوج وقال: كنت أوجبت النفقة أو أرسلت إليها بالنفقة، فالقاضي يقول له: أقم البينة، فإن أقام البينة عنده أمرها القاضي بردها أخذت لأنه ظهر عند القاضي أنها أخذت بغير حق، وللزوج الخيار إن شاء أخذها بذلك، وإن شاء أخذ من الكفيل وإن لم يكن للزوج بينة وحلفت المرأة على ذلك فلا شيء على الكفيل، وإن نكلت عن اليمين ونكل الكفيل لزمها وللزوج الخيار على ما قلنا، هذا إذا كان النكاح منهما معلوماً للقاضي، أما إذا لم يكن النكاح بينهما معلوماً للقاضي وأرادت المرأة أن تقيم البينة على النكاح لم يقبل القاضي ذلك منها ولا يعطيها النفقة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، لأن هذا قضاء على الغائب، لأن دفع ماله إليها لتنفق هي على نفسها لا يكون إلا بعد القضاء بالنكاح والزوجية فيكون قضاء على الغائب فلا يجوز عند زفر رحمه الله، (أن) يسمع القاضي البينة منها ولا يقضي بالنكاح ويعطيها القاضي النفقة من مال الزوج، وإن لم يكن للزوج مال يأمرها بالاستدانة..... الزوج وأقر بالنكاح أمره بقضاء الدين، وإن أنكر ذلك كلفها القاضي بإعادة البينة فإن لم تقدر أمرها بردها ما أخذت ولم يقضي لها بشيء(4/186)
بما(4/187)
-----
استدانت على الزوج فهذا قول زفر رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله
ذكر الخصاف قول أبي يوسف رحمهما الله وفي «النفقات» فيحتمل أن ما ذكره الخصاف في «النفقات»، فعن أبي يوسف رحمه الله الأول كما نص عليه في «مختصر الكافي»، وكان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول يقضي بالنفقة على الغائب، وهو قول إبراهيم ثم رجع إلى قول شريح فقال: لا يقضي قولاً واحداً، وما يفعله القضاة في زماننا من قبول البينة من المرأة وفرض النفقة على الغائب، إما ينفذ لأنه قول علمائنا الثلاث رحمهم الله في ظاهر الرواية لك لكونه مختلفاً فيه إما مع زفر أو مع أبي يوسف رحمهما الله على ما ذكر الخصاف رحمه الله فينفذ لكونه قضاء في فصل مجتهد فيه وهو أرفق بالناس ثم على قول من يقول بفرض النفقة في هذه المسألة لا تحتاج المرأة إلى إقامة البينة أن الزوج لم يخلفه النفقة، الدليل عليه الخصاف ذكر في «أدب القاضي» أنها إذا ادعت أنها زوجة فلان ولم نحلفها (305أ1) نفقه، ثم قال: إن أقامت بينة أنها زوجة فلان، القاضي يفرض لها عند أبي يوسف رحمه الله، ولم يقل إقامة البينة أن الزوج لم يخلفها نفقة، هذا الذي ذكرنا كله كأن المال في بيت الغائب، فإن احضرت المرأة غريماً للزوج أو مودعاً في يديه مال الزوج فإن كان القاضي يعلم بالنكاح وبالوديعة والدين يقضى لها بالنفقة لما قلنا، فإن أنفق المودع أو المديون على والد المودع أو ولده، أو امرأته بغير أمره يضمن الآمر والمديون لكن لا يرجع المنفق على من انفق، وإن لم يكن الحال معلوماً، وإن كان المودع والمديون مقرين بالزوجية وبالمال أمرهما القاضي بإعطاء النفقة من ذلك، لأنه ثبت النكاح والمال للغائب بتصادقهما جميعاً فوجب على القاضي إبقاء حقها من ذلك المال كما لو كان هذا المال في بيت الزوج.(4/188)
-----
وهذا بخلاف دين آخر على الغائب فإن صاحب الدين لو أحضر غريماً أو مودعاً للغائب لم يأمره القاضي بقضاء الدين، وإن كان مقراً بالمال وبدينه.
والفرق: وهو أن القاضي إنما يأمر في حق الغائب بما يكون نظراً له وحفظاً لملكه عليه، وفي الإنفاق على زوجته من ماله حفظ ملكه عليه، وليس في قضاء الدين من ماله حفظ ملكه عليه يد فيه قضاء عليه بقوله الغير هذا لا يجوز، وإن جحد المال للغائب، أو جحدالنكاح أو جحدت كلاهما لم يقبل منهما على شيء من ذلك، أما على المال فلأنها بهذه البينة بينت الملك للغائب، وليس بخصم في إثبات الملك للغائب، وأما على الزوجية فما ذكر في «الكتاب» أنه لا يقبل منهما، قول محمد رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وأبي يوسف رحمه الله الأول الآخر، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وهو قول أبي يوسف رحمه الله الأول يقبل منهما بالبينة، ولكن على قول أبي حنيفة رحمه الله يقضي بينهما بالنكاح، وعلى قول أبي يوسف الأول يقضي، هكذا ذكر الخصاف في «نفقاته».(4/189)
-----
وذكر في «القدوري»: قول أبي حنيفة الأول رحمه الله والآخر كما ذكر الخصاف ولم يتعرض لقول أبي يوسف رحمه الله وإنما لم يقبل منها هذه البينة على النكاح لأنها بهذه البينة بينت النكاح على الغائب والمودع والمديون ليسا بخصم في إثبات النكاح على الغائب هذا الذي ذكرنا إذا كان للزوج مال خاص، فإذا لم يكن للزوج مال خاص فطلبت من القاضي أن يسمع بينتها على النكاح ويفرض لها ذلك، لأن هذا قضاء على الغائب، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله النفقة على الغائب ويأمرها بالاستدانة لم يجيبها إلى شيء من ذلك، لأن هذا قضاء على الغائب وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله، أما على قول أبي حنيفة الأول رحمه الله وهو قول زفر رحمه الله: يجيبها إلى ذلك، ذكر قول أبي حنيفة الأول رحمه الله في «السير الكبير» فكان لأبي حنيفة رحمه الله في جواز القضاء على الغائب روايتان فكان هذا فصلاً مجتهداً فيه، فكان للقضاء محلاً فيه.(4/190)
-----
وذكر في «أدب القاضي»: للخصاف إذا لم يكن للزوج مال خاص والقاضي يعلم بالنكاح فطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة ويأمرها بالاستدانة لا يجيبها إلى ذلك خلافاً لزفر رحمه الله فكان هذا فصلاً مجتهداً فيه فكان للقضاء فيه مجالاً، والذي ذكرنا في النفقة كذلك في الكسوة، وهذا الذي ذكرنا كله إذا كان مال الغائب في ملكه، وما كان وديعة عندإنسان من جنس كسوتها، أو كان طعاماً له، فأما إذا كانت الوديعة والمال الذي في بيت الزوج من خلاف جنس حقها ليس لها أن تبيع شيئاً من ذلك في نفقة نفسها، وكذلك القاضي لا يبيع ذلك في نفقتها عند الكل أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن البيع إنما يكون على طريق الحجر، والحجر عند أبي حنيفة رحمه الله على الحر العاقل البالغ لا يصح، وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك الجواب، لأن عندهما إنما يبيع القاضي على الحاضر الممتنع فأما الغائب فلا يعلم امتناعه فلا يبيع القاضي قال: وينفق القاضي عليها من غلة الدار والعبد الذي هو للغائب على الوجه الذي قلنا قبل هذا.(4/191)
-----
قال في «الكتاب» عقيب هذه المسائل، وفي كل موضع كان للقاضي أن يقضي لها بالنفقة في مال الزوج فلها أن تأخذ من مال الزوج ما يكفيها بالمعروف وبغير قضاء، قال عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» قال: وإذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها النفقة وعلى زوجها وكان للزوج على المرأة دين فقال الزوج: احسبوا لها نفقتها منه كان له ذلك، لأن الدينين من جنس واحد فتقع المقاصة كما في سائر الديون، إلا أن في سائر الديون تقع المقاصة تقاصا أو لم يتقاصا، وههنا تحتاج إلى رضا الزوج لوقوع المقاصة، وإنما كان هكذا لأن دين النفقة أنقص من سائر الديون، فإن سائر الديون لا تسقط بالموت، ودين النفقة يسقط كما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فكان دين الزوج أقوى فلا تقع المقاصة إلا بنصاب الزوج كما لو كان أحد الدينين جيداً والآخر رديئاً، فإذا قال الزوج: احسبوا لها نفقتها منه فقد رضي بوقوع المقاصة فتقع المقاصة قال: وإذا فرض القاضي للمرأة الكسوة فهلكت أو سرقت منها أو صرفتها قبل الوقت فليس عليه أن يكسوها حتى يمضي الوقت الذي لا تبقى إليه الكسوة هكذا قال في الكتاب.(4/192)
-----
و «الأصل» في هذه المسألة، بل إن القاضي متى ظهر له الخطأ في التقدير يعني التقدير معتبراً فيما لم يمض الوقت الذي قدره القاضي لا يقضي لها بكسوة أخرى أما إذا ظهر الخطأ في التقدير جعل وجود هذا التقدير وعدمه بمنزلة القاضي (إذا) قضى لها بالكسوة ولم يؤقت لها وقتاً فتخرقت من غير إسراف، وهناك يقضيلها بكسوة أخرى كذا ههنا إذا ثبت هذا فنقول، إذا هلكت الكسوة أو سرقت قبل الوقت لم يبين خطأه.... فلا يقضي بكسوة أخرى حتى تمضي تلك المدة وإن تمزقت الكسوة بالاستعمال قبل مضي الوقت ينظر إن تخرقت لخرق استعمالها لم يتبين الخطأ في التقدير..... فلا يقضي بكسوة أخرى حتى يمضي ذلك الوقت، أو إن تمزقت بالاستعمال المعتاد تبين الخطأ وفي التقدير لأنه وقت (305ب1) وقتاً لا تبقى الكسوة إلى ذلك الوقت فيقضي لها بكسوة أخرى، وكذلك الجواب في النفقة إذا أساءت أو سرقت أو أكلت أو أسرفت أو لم تسرف وكان ذلك قبل مضي الوقت فهو على ما قلنا في الكسوة.
فرق بين كسوة الزوجات ونفقتهن وبين كسوة الأقارب ونفقتهن فإن القاضي إذا فرض للأقارب الكسوة أو النفقة فضاعت من أيديهم قبل مضي الوقت، وإن القاضي يفرض لهم مرة أخرى.(4/193)
-----
والفرق وهو: أن نفقة الأقارب إنما تستحق باعتبار الجماعة ولهذا لا تستحق مع الغنى، ومتى ضاعت الكسوة والنفقة قبل الوقت فقد تجددت الحاجة، أما نفقة المرأة لا تستحق النفقة باعتبار الحاجة ولهذا تستحق المرأة النفقة مع الغنى وإنما تستحق كتابة وبالضياع قبل مضي المدة لا يتبين أنها لم تكن كافية لتلك المرأة، فأما إذا مضت المدة وكسوة المرأة ما..... فإن لم تستعمل تلك الكسوة أصلاً حتى مضى الوقت يفرض القاضي لها كسوة أخرى إذا لم يظهر خطأ القاضي في التقدير، فإن استعملت تلك الكسوة، فإن استعملت معها كسوة أخرى في تلك المرة يفرض لها كسوة أخرى لأنها لما استعملت مع هذه الكسوة كسوة أخرى في تلك المدة لم يظهر قضاء القاضي في التقدير، وإن لم تستعمل مع هذه الكسوة كسوة أخرى لا يفرض لها كسوة أخرى لأنه ظهر خطأ القاضي في التقدير حيث وقَّت وقتاً تبقى الكسوة وراء ذلك الوقت، فرق بين هذا وبينما إذا فرض لها القاضي عشرة دراهم نفقة شهر بمضي الشهر وقد بقي من العشرة شيء حيث يقضي لها القاضي بعشرة أخرى.
والفرق: أن في باب النفقة لم يظهر خطأ القاضي في التقدير يتعين بجواز أنه إنما بقي من العشرة شيء...... وحرمتها في الإنفاق على نفسها فبقي التقدير معتبراً فيقضي القاضي لها بعشرة أخرى.
أما في باب الكسوة إذا لُبِسَت جميع المدة ولم يتخرق فقد ظهر خطأ القاضي في التقدير فيتعين لانتفاء أنه لم يوجد منها التغير في اللبس.
فرق بينه وبين نفقة الزوجات وكسوتهن، وبين نفقة المحارم وكسوتهم، فإن في الأقارب إذا مضى الوقت وبقي شيء من الدراهم وبقيت الكسوة، فالقاضي لا يقضي بأخرى في الأحوال كلها.(4/194)
-----
والفرق ما ذكرنا أن نفقة الأقارب وكسوتهم إنما تستحق باعتبار الحاجة فما بقي شيء من الدراهم، أو بقيت الكسوة لا حاجة إلى الأخرى أما نفقة المرأة إنما تستحق عوضاً عن الاحتباس في بيت الزوج من وجه، القاضي إنما جعل هذا المال عوضاً عن احتباس مقدر، فإذا لم يظهر خطأ القاضي في التقدير بتعين...... حيناً آخر لم يأخذ...... عرضاً فيقضي لها بإخرى، فهذا هو الفرق بينهما قال: وإذا قضى القاضي لها ما لا يكفيها.
فلها أن ترجع عن ذلك لأنه ظهر خطأ القاضي حين قضى بما لا يكفيها فعليه أن يتدارك الخطأ بالقضاء لها بما يكفيها، وكذلك إذا فرض القاضي على الزوج زيادة على ما يكفيها فله أن يمنع عن الزيادة لأنه ظهر خطأ القاضي حيث فرض لها زيادة على ما يكفيها، وذكر في «الحاوي في الفتاوي»: أن القاضي إذا فرض لها بالأقل من الدراهم لو خص الطعام فعلاً، أو كان على العكس كان لها أن تطالب بالزيادة وله أن يمتنع عن الزيادة.
قال: وإذا فرض على المعسر نفقة المعسرين ثم أيسر تفرض عليه نفقة الموسرين عند طلبها لأن النفقة تجب شيئاً فشيئاً على ما يأتي بعد هذا، فتعتبر حاله في كل وقت فكما لا يستأنف القضاء بنفقة المعسرين بعدالنسيان لا يستديم ذلك القضاء أيضاً.
النوع الرابع في نفقة خادم الزوجة
قال في «الكتاب»: وإذا كان زوج المرأة موسراً وللمرأة خادم واحد فرض على الزوج نفقة ذلك الخادم، لأنه لا بد لها من خادم واحد يقوم بخدمتها، ويلي أمور بيتها حتى تتفرغ المرأة لحوائج الزوج فكان ذلك من حوائج المرأة منفعة تعود إلى الزوج فيكون ذلك على الزوج ألا ترى أنه كما يفرض للقاضي كفاية في مال بيت المال، نفرض كفاية خادمة أيضاً كذا ههنا، وهذا إذا كانت المرأة حرة، وإن كانت أمة لا تستحق نفقة الخادم على زوجها لأن الأمة خادمة في نفسها لا تستحق نفقة الخادم.r(4/195)
-----
فإن كان لها خادمان أو أكثر على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله: لا يفرض لأكثر من خادم وقال أبو يوسف رحمه الله يفرض لخادمين، لأنها تحتاج إلى خادمين، أحدهما مأمور داخل البيت، والآخر مأمور خارج.
ولهما: أن حاجة المرأة ترتفع بخادم واحد عادة، وما زاد على ذلك الزينة والتجمل، ووجوب النفقة على الزوج للكفاية دون الزينة والتجمل.
فرق أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله بين الزوجة والأولاد، فإنه إذا كان للرجل الموسر أولاد لا يكفيهم خادم واحد عادة في الزيادة على الواحد غير محتاج إليه عادة، وأما الأولاد إذا كثروا لا يكفيهم خادم واحد يجاز أن يفرض عليه نفقة خادمين أو أكثر مقدار ما يكفيهم، والاختلاف في هذه المسألة نظير اختلافهم في العادة إذا...... قوسين لا يسهم له إلا بفرض واحد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله بسهم قوسين.(4/196)
-----
وذكر في «فتاوى أهل سمرقند»: رحمهم الله قيل: إن المرأة إذا كانت من بنات الأشراف ولها خدام كثر، خيّر الزوج على نفقة خادمين، لأن مثل هذه المرأة تحتاج إلى خادمين ليقوم أحديهما بأمور داخل البيت، والأخر بأمور خارج البيت من الرسالة وغيرها، وعن أبي يوسف رحمه الله في رواية أخرى أن المرأة إذا كانت بنت زفت إلى زوجها مع خدم كثير استحقت نفقة الخدم كلها على الزوج، فإن قال الزوج لامرأته: لا أنفق على أحد من خدمك، ولكن أعطي خادماً من استخدمك فأبت المرأة لم يكن للزوج ذلك ويخير على نفقة خادم واحد من خدم المرأة لأن المرأة عسى لايتهيأ لها الاستخدام من خدم الزوج قال: وإن لم يكن للمرأة خادم لا تفرض نفقة الخادم على الزوج في ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة رحهمهم الله لأن استحقاقها نفقة الخادم باعتبار ملك الخادم فإذا لم يكن لها خادم كيف تستوجب نفقة الخادم وهو نظر القاضي إذا لم يكن له خادم لا تستحق كفاية الخادم من مال بيت المال كذا هذا الذي ذكرنا كله إذا كان الزوج موسراً فإذا كان معسراً لم يفرض (306أ1) عليه نفقة الخادم في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وإن كان لها خادم، وقال محمد رحمه الله: يفرض إذا كان لها خادم.
وجه قول محمد رحمه الله: أنه إذا كان لها خادم وهذه المرأة لم تكتف بخدمة نفسها، فيجب على الزوج نفقة خادمها كما في حالة اليسار.
وجه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المرأة قد تكتفي بخدمة نفسها، واستعمال الخادم لزيادة الترفيه، وذلك معتبر في حالة اليسار دون حالة العسار؛ لأن المعيشين يلزمه أدنى الكتابات ولا يلزمه الزيادة على ذلك.
ثم اختلف مشايخنا في الخادم إن..... خادم المرأة تستحق المرأة النفقة على (زوجها)، منهم من قال: المملوكة لها حتى لو كانت حرة أو لم يكن لها مملوكة لا تستحق، ومنهم من قال: كل من يخدمها حرّةً كانت أو مملوكةً لها أو لغيره تستحق النفقة.(4/197)
-----
قال: ولا تقدّر نفقة الخادم بالدراهم على ما ذكرنا في نفقة المرأة بل يفرض لها ما يكفيها بالمعروف، ولكن لا تبلغ نفقة خادمها نفقتها لأن الخادم تبعٌ للمرأة فتنقص نفقة الخادم عن نفقتها حتى يظهر مؤنتها على الخادم.
قال: فإن كان للمرأة مماليك كثيرة حتى وجب على الزوج نفقة خادم واحد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فقالت المرأة للزوج: أنفق عليهم من مهري ففعل، فقالت هي: لا، أحتسب من مهري لأنك استخدمتهم.
قال في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: ما أنفق عليهم بالمعروف فهو محسوب عنه؛ لأنه أدنى ما وجب على المرأة بأمر المرأة للمرأة على الزوج المهر، فبقدر ما أنفق عليهم بالمعروف يكون محسوباً عليه.
قال في «الكتاب»: وفي كل موضع يفرض القاضي نفقة الخادم على الزوج، يفرض الكسوة للخادم أيضاً، والكسوة للخادم على المعسرة في الشتاء قميصان وإزاراً..... كأرخص ما يكون. وفي الصيف قميص مثل ذلك وإزار. وعلى الموسر في الشتاء: قميص قطني وإزار..... كأرخص ما يكون وفي الصيف قميص مثل ذلك وإزار فقد أوجب لها في الشتاء من الكسوة أكثر مما أوجب في الصيف، وإنما فعل كذلك كما قلنا في المرأة ثم لم يفرض لخادمها الخمار.
وقد ذكرنا في كسوة المرأة الخمار، وإنما كان هكذا؛ لأن الحاجة إلى الخمار ليستر الرأس، ورأس المرأة عورة، أما رأس الخادمة ليس بعورة، وفرض لها الإزار؛ لأن الخادمة تحتاج إلى الخروج لتهيء أمور خارج البيت، فتحتاج إلى الإزار، وقد ذكرنا اختلاف المشايخ في إزار المرأة.
قال في «الكتاب»: ولخادم المرأة المكعب والخف بحسب ما يكفيها، وقد فرض للخادم المكعب والخف ولم يفرض للمرأة ذلك، لأنه لا حاجة للمرأة إلى ذلك، فإنها لا تحتاج إلى الخروج والتزور، والخادم يحتاج خادم.(4/198)
-----
قال مشايخنا رحمهم الله: وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب»: من بيان الخادم فهو بناءً على عاداتهم، وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحرّ والبرد باختلاف العادات في كل وقت. فعلى القاضي اعتبار الكفاية في كسوة الخادم، وكسوة المرأة لما ذكرنا في النفقة.
النوع الخامس في الخصومة في نفقة الأزمنة الماضية
قال: وإذا خاصمت المرأة زوجها في نفقة مضى من الزمان قبل أن يفرض القاضي لها النفقة وقبل أن يتراضيا على شيء، فإن القاضي لا يقضي لها بنفقة مضى عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: يقضِ، وأجمعوا أن بعد فرض القاضي لها النفقة أو بعد تراضيهما على شيء نفقة كل شهر لو غاب الزوج عنها شهراً أو حُبس، أو كان حاضراً وامتنع من الإنفاق، وقد استدانت على الزوج أو أكلت من مال نفسها كان لها أن تأخذ (من) الزوج بنفقة ما مضى.
وأصل المسألة: أن نفقة الزوجات تصير ديناً بقضاء القاضي أو بتراضيهما على شيء معلوم لكل شهر بالإنفاق أما قبل قضاء القاضي وقبل تراضيهما لا يصير ديناً عليه عندنا. وعندالشافعي رحمه الله يصير ديناً.
وجه قول الشافعي رحمه الله: أن النفقة عوض عن الاحتباس في بيت الزوج والمنفعة تعود إلى الزوج، بدليل أنه إذا فات الاحتباس بأن تسترت لا تستحق النفقة، والأعواض تصير ديناً من غير قضاء ولا رضاء متى دخل سببه كما في الأجرة والثمن.(4/199)
-----
وإنا نقول: بأنّ النفقة عوض في وجه صلة من وجه؛ لأن النفقة بأداء الاحتباس، وفي الاحتباس: إن كان حق الزوج من حيث الاستمتاع وقضاء الشهوة منها وإصلاح أمر المعيشة ففيه حق التبرع من حيث يحصل الولد وصيانة كل واحد منهما عن الزنا من حيث إن الاحتباس حق الزوج إن أمكن جعل النفقة عوضاً عنه، فمن حيث إنه حق الشرع...... حق الشرع ملحقة على كل إنسان لا يصلح أن يكون عوضاً عنه، فكان عوضاً من وجه صلة من وجه، فمن حيث إنها صلة لا تصير ديناً عن غير قضاء ولا رضاء، كنفقة الأقارب، ومن حيث إنها عوض تصير ديناً إذا وجد القضاء أو التراضي عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.
وكذلك لو استدانت المرأة على زوجها نفقة مثلها قبل فرض القاضي وقبل التراضي منهما على شيء فإنها لا ترجع بذلك على الزوج؛ لأنها لو رجعت إما أن ترجع بحكم أنها صارت مستدينة على الزوج، ولا وجه إلى ذلك؛ لأنه ليس لها ولاية إيجاب الدين على الزوج. وإما أن ترجع بحكم أن نفقتها صارت ديناً في ذمته، ولا وجه إليه أيضاً؛ لما ذكرنا أن نفقة الزوجة لا تصير ديناً إلا بقضاء القاضي أو التراضي ولم يوجد شيء من تلك النفقة في الطلاق. وإن هذا الجواب قول أبي حنيفة الآخر رحمه الله، وأما على قوله الأول: كان لها أن ترجع بنفقة مثلها على الزوج، فكان على قول أبي حنيفة الأول رحمه الله نفقة الزوجة تصير ديناً على الزوج قبل قضاء القاضي وقبل التراضي منهما، كما هو قول الشافعي رحمه الله.(4/200)
-----
قال: وإذا فرض القاضي لها على الزوج كل شيء......، أو تراضيا على نفقة كل شهر فمضت أشهر ولم يعطها شيئاً من النفقة وقد كانت استدانت فأنفقت من مال نفسها ثم بان الزوج أو ماتت المرأة سقط ذلك كله عندنا، وعند الشافعي رحمه الله لا يسقط بناءً على أن النفقة عندنا (306ب1) تستحق استحقاق الصلات من وجه الصلات فتسقط بالموت قبل القبض، وعند الشافعي رحمه الله: تستحق استحقاق العوض من كل وجه، والعوض لا يسقط بالموت قبل القبض، وشبه هذا في «الكتاب» لمن وجبت عليه الحرمة ثم مات، وهناك لا تستوفي الحرمة من تركته كذا ههنا.
وكذلك لو طلقها الزوج في هذا الوجه يسقط ما اجتمع عليه من النفقات بعد فرض القاضي، كذا ذكر عن القاضي الإمام أبي الحسن علي بن الحسن بن الخضر النسفي رحمه الله، وكان يقول: وجدنا رواية هذه المسألة في كتاب الطلاق.
وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله : إذا وقعت المخاصمة بين الزوجين في أمر النفقة فيو سطان الزوج وأعطاها شيئاً ثم طلقها الزوج ليس لها استرداد ما تطوع به، وشبهه بالذمي إذا اجتمع عليه جراح رأسه ثم أسلم يسقط ما كان اجتمع عليه.
ووجه التشبيه به: أن الذمي إنما كان يوجد منه جراح الرأس لإصراره على الدين الباطل وقد زال ذلك المعنى بالإسلام فتسقط الحرية كذا ههنا المرأة تستحق النفقة بالوصلة التي كانت بينهما، وتلك الوصلة قد انقطعت بالطلاق، هذا الذي ذكرنا إذا فرض لها القاضي النفقة ولم يأمرها بالاستدانة.
فأما إذا أمرها بالاستدانة على الزوج فاستدانت ثم مات أحدهما لا يبطل ذلك. هكذا ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» وذكر الخصاف رحمه الله: أنه يبطل أيضاً، والصحيح ما ذكر في «المختصر»: لأن استدانتها بأمر القاضي وللقاضي ولاية عليهما بمنزلة استدانة الزوج بنفسه ولو أن الزوج استدان بنفسه لا يسقط ذلك الدين بموت أحدهما كذا ههنا، وكذلك في مسألة الطلاق يجب أن يكون الجواب هكذا.(4/201)
-----
ومما يتصل بهذا النوع
ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب»: لو عجل الزوج لها نفقة مدّة ثم مات أحدهما قبل مضي الموت لم يرجع عليها ولا في تركتها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يدفع عنها بحصة ما مضى ويجب رد الباقي إن كان قائماً، وقيمة الباقي إن كان مستهلكاً.
وجه قول محمد رحمه الله: أنها أحدثت ذلك من مال الزوج لمقصود، ولم يحصل ذلك المقصود له، وكان له أن يستردها منها كما لو عجل لها نفقة لزوجها فماتت قبل أن يتزوجها. ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنها صلةٌ من وجهٍ على ما ذكرنا، وحق الاستراد في الصلات ينقطع بالموت، كالرجوع في الهبة. وروي عن محمد رحمه الله: أنها إذا قبضت نفقتها شهراً فما دونه لم يرجع عليها بشيء.
وكذلك إذا قبضت نفقة أشهرٍ كثيرةٍ فمات أحدهما قبل مضي المدة والباقي من المدة شهراً أو دونه لا يرجع عليها ولا في تركتها بشيء؛ لأن الشهر وما دونه في حكم التيسير فصار كنفقة الحال، وهذا استحسان قال محمد رحمه الله: وإن كان أكثر من الشهر فعلى ما بيّنّا من الاختلاف والله أعلم بالصواب.
النوع السادس في الاختلاف الواقع بين الزوجين في دعوى اليسار والعسار
قال في «الكتاب»: روي أن امرأة اختصمت مع زوجها في نفقتها، فقال الزوج: ليس عندي نفقة. فقال لها أبو يوسف رحمه الله: خذي عمامته وانفقيها على نفسك قال الفقيه أبو يوسف رحمه الله: يحتمل أن أبا يوسف رحمه الله عرف أن له عمامة أخرى، وأما لو لم يكن له عمامة أخرى لا يجب عليه أن يبيع هذه العمامة في النفقة ولا في سائر الديون وفي «شرح أدب القاضي للخصاف»إنه لا يجب عليه أن يبيع مسكنه وخادمه لأن هذا من أصول حوائجه وحاجته مقدمة على سائر الديون ويبيع ما سوى ذلك.(4/202)
-----
ومن المشايخ من قال: لا يجب عليه بيع الإزارات به حاجة إلى الإزار وهي الحاجة إلى ستر العورة. وأما ما سوى الإزار يجب عليه أن يبيع الإزار إذا كان موضع برد، فحينئذٍ يترك لنفسه ما يدفع ضرر البرد، ويبيع ما سوى ذلك.
ومن المشايخ من قال: يترك لنفسه دستاً من الثياب ويبيع ما سوى ذلك. وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. ومن المشايخ من قال: يترك لنفسه دستين ويبيع ما سوى ذلك وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهذا لأن الحاجة ماسّة إلى دستين فإنه إذا غسل أحدهما يحتاج إلى الآخر، وأما إذا كان له ثياب خشنة يمكنه الاكتفاء بما دون ذلك يبيع ثيابه ويشتري بالبعض ثوباً يكفيه وبالباقي يقضي الديون وينفق على زوجته به ورد الأثر هكذا ذكر في «شرح أدب القاضي»: للخصاف في باب الملازمة.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: وإذا فرض القاضي نفقة المرأة على الزوج فامتنع الزوج من الإنفاق فقال: أنا معسرٌ، وقالت: لا بل هو موسرٌ وطلبت المرأة من القاضي أن يحبسه بالنفقة لا يحبسه القاضي أول مرة؛ لأن الحبس عقوبة لا يستوجبها إلا الظالم ولم يظهر ظلمه في أول مرة فلا يحبسه، ولكن يأمره بالإنفاق ويخبره أنه يحبسه إن عادت. فإذا عادت إليه مرتين أو ثلاثة حبسه لظهور ظلمه.
وإذا حبسه لا تسقط عنه النفقة ويؤمر بالاستدانة حتى يرجع على الزوج، إذا ظهر له قال: وإنما كان هكذا؛ لأن هذا حبسٌ بحق وجد، وحد المنع من جهته فتلزمه النفقة لما يستقبل وهو في الحبس. فإن قال الزوج للقاضي: احبسها معي فإن لي موضعاً في الحبس خالصاً فالقاضي لا يحبسها معه، ولكنها تصير في منزل الزوج. ويحبس الزوج لها، ثم إذا حبسه القاضي إن علم أنه محتاج خلى سبيله؛ لأنه مستحق للنظر إلى ميسرة بالنص.
قال: وينبغي للقاضي إذا حبس الرجل شهرين أو ثلاثة في نفقةٍ أو دينٍ أن يسأل عنه. وفي بعض المواضع ذكر أربعة أشهر. وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أشهر.(4/203)
-----
والحاصل: أنه ليس فيه تقدير لازم؛ لأن الحبس للإنزجار وذلك مما تختلف فيه أحوال الناس فيكون ذلك مفوضاً إلى رأي القاضي، فإن وقع في رأي القاضي أن هذا الرجل يضجر بهذه المدة ويظهِر المال إن كان له مال، سأل عنه بعد ذلك، وذكر (307أ1) هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله أن للقاضي أن يسأله عن ماله ولم يعتبر في ذلك مدة، فإذا سأل عنه فقامت البينة على عسرته أخرجه القاضي من الحبس ولا يحتاج إلى لفظة الشهادة بل إذا أخبر بذلك يكفي، قال الشيخ الإمام خواهر زاده رحمه الله: هذا السؤال من القاضي بعد حبسه احتياط وليس بواجب؛ لأن الشهادة بالفقر شهادة بالنفي والشهادة بالنفي وليست بحجة فكان للقاضي أن لا يسأل ويعمل برأيه ولكن لو سأل مع هذا كان أحوط وأنفى للتهمه عن القاضي، ثم إذا أخبر أنه معسر وخلّى سبيله لا يحول بين الطالب وبين ملازمته عندنا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «لصاحب الحق يد ولسان» والمراد باليد الملازمة فإن أقام المحبوس بينة على عسرته وأقام صاحب الحق بينة على يساره أخذ ببنية صاحب الحق؛ لأن بينته ثبتت أمراً عارضاً ليس بثابت، وبينة المحبوس ثبتت أمراً أصلياً وهو الفقر فكانت بنية صاحب الحق أكثر ثبتت إثباتاً فكانت أولى بالقبول.
وإن قامت البينة على عسرته قبل الحبس هل يقبل القاضي ذلك؟ فيه روايتان.
في إحدى الروايتين تقبل وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله.
وفي رواية أخرى لا تقبل وبه كان يفتي عامة المشايخ وهو الصحيح.(4/204)
-----
قال وإن كان المحبوس....... أدام القاضي حبسه حتى يودي النفقه والدين فبعد ذلك إن كان ماله من جنس النفقة والدين؛ أدى القاضي ذلك من ماله، وإن كان ماله عروضاً وعقاراً فالقاضي لا يبيع شيئاً من ذلك لا في النفقة ولا في الدين إلا برضاه وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما يبيع عروضه في النفقة والدين رواية واحدة.
ويبيع العقار أيضاً في أظهر الروايتين عنهما ذكر قولهما في العروض في ظاهر الرواية وفي العقار وجميع الأموال في «أدب القاضي» للخصاف في باب الحبس في الدين، ثم إذا ثبت للقاضي ولاية البيع عندهما يبدأ بالعروض، فإذا لم يف ثمن العروض بالدين والنفقة يشتغل حينئذ ببيع العقار وترتيب الأموال في قضاء الدين وذكره في «الجامع» على سبيل الاستقصاء.
ثم قال خواهر زاده رحمه الله في «شرحه»: فيما ذكر في ابتداء هذه المسألة إشارة إلى أن قول الزوج أنه عاجز لكان لا يحبسه، لأن القول قول المرأة في أنه قادر على الإنفاق، فإنه لو كان القول قول الزوج أنه عاجز لكان يحبسه القاضي وإن عادت إليه مراراً، وذكر في كتاب الحوالة والكفالة أنه إذا أوجب المهر على إنسان ولم يوجب دواعي أنه معسر وادعت المرأة أنه قادر فالقول قول المرأة حتى يحبسه القاضي. إذا عادت به إليه مرتين أو ثلاث فقد سوى في «ظاهر الرواية» بين النفقة والمهر والقرض وثمن البيع.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» عن أصحابنا رحمهم الله: أن في النفقة والمهر القول قول الزوج حتى لا يحبس الزوج ما لم تثبت المرأة يساره فصار في النفقة والمهر روايتان. فعلى ظاهر الرواية والمهر وعلى رواية الخصاف لم يجعل هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.(4/205)
-----
وذكر محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا وقع الاختلاف بين المرأة والزوج، فقال الزوج: أنا معسر وعليّ نفقة المعسرين، وقالت المرأة: لا بل أنت موسر وعليك نفقة الموسرين فالقول قول الزوج مع يمينه وعلى المرأة البينة؛ لأن الفقر في الناس أصل، فالزوج يتمسك بما هو الأصل فيكون القول قوله مع يمينه.
وهكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» ولم يذكر أن هذه المسألة على الروايتين، وإنما كان هكذا؛ لأن الإقدام على النكاح يمكن أن يجعل إقراراً بالقدرة على أصل النفقة، أما لا يمكن أن يُجعل إقراراً بالقدرة على نفقة الموسرين فلهذا كانت هذه المسألة على رواية واحدة.
ومن المتأخرين...... في المسألة الثانية يحكم فيه وبه. وإن كان عليه دين للأغنياء لم يقبل قوله أنه معسر، لأن الدين علامة على غناه وما ظهر من العلامة يجعل حكماً عند انعدام دليل قوله، قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) وقال الله تعالى: في قصة يوسف عليه السلام {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين} (يوسف: 26) ففي هذا دليل على أن ما ظهر من العلامة يُجعل حكماً فيجعل الدين حكماً إلا في النفقات، فإنهم يتكلفون في الدين مع العسرة لتعطيهم الناس، ولا يُجعل الدين في حقهم حكماً، لظهور العادة بخلافه.
فعلى هذا القول إن كان على الزوج دين للفقراء (قالت) المرأة إن هذا غرر به وكان عليه دين الأغنياء قبل أن يحضر مجلس القاضي فإن القاضي يسألها البينة، فإن أقامت البينة على ذلك يسمع القاضي ويجعل القول قولها، وإن لم يمكنها إقامة البينة للحال (يحكم) بحكم الله تعالى في الحال ويجعل القول قول الزوج.(4/206)
-----
ثم فرع على المسألة الثانية فقال على «ظاهر الرواية» إذا لم يكن للمرأة بينة على يساره فسألت القاضي أن يسأل عن يسار الزوج في السر وليس على القاضي ذلك؛ لأن القاضي وجد دليلاً آخر، فإن يعتمد لفصل الحكم وهو التمسك بالأصل فليس عليه أن يطلب دليلاً آخر. فإن سأل فأتاه عنه أنه موسر لا يفرض القاضي عليه نفقة الموسرين، إلا أن يخبره رجلان عدلان أنه موسر ويكونان بمنزلة الشاهدان يشهدان على يساره، ولا يحتاج لفظة الشهادة لأن في النفقة حق الله تعالى وحق المرأة؛ لأنها وجبت بالاحتباس وفي الاحتباس حق الله تعالى وحق الزوج على ما ذكرنا فما وجب بمقابلة الاحتباس يكون حق الله تعالى وحق الله (وحق) المرأة وحق الله تعالى يثبت بقول الواحد شهد بذلك أو أخبر وحق العبد لا يثبت إلا بقول اثنين بلفظ الشهادة، فإذا كان بين حق الله تعالى وحق العبد علمنا بها وشرطنا العدد من حيث إنه حق المرأة، ولم تشترط لفظة الشهادة من حيث إنه حق الله تعالى عدلاً (307ب1) بالدليلين بقدر الإمكان. وإن قالا: بلغنا أنه موسر وسمعنا أنه موسر لا يثبت اليسار بذلك لأنهما ما قالا علمنا وإنما: قالا: بلغنا أو سمعنا وقد يبلُغ الإنسان الباطل كما يبلغه الحق، وكذلك يسمع الكذب كما يسمع الصدق فلا يثبت اليسار بمثل هذا الخبر.
هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن حال الزوج في المعسره معلوماً للقاضي أما إذا كان معلوماً للقاضي فالقاضي لا يحبسه لأن الحبس جزء الظلم ولم يظهر الظلم ههنا ولا نفرق بينهما أيضاً عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله والمسألة معروفة.g
ثم إذا لم يفرق القاضي بينهما عندنا ولم يحبس الزوج فأدى بفعل يأمر المرأة بالاستدانة على الزوج حتى يرجع عليه إذا أيسر.
فرق بين هذا وبين سائر الديون، فإن في سائر الديون من عليه الدين إذا عجز عن قضاء الدين لا يؤمر صاحب الدين بالاستدانة عليه، وههنا بعد ما فرض لها النفقة يؤمر بالاستدانة على الزوج.(4/207)
-----
ووجه الفرق بينهما: هو أن المرأة لو لم تؤمر بالاستدانة على الزوج بعد فرض القاضي عسى تموت هي أو بموت الزوج فتسقط نفقتها على ما مر. وإذا اسقط لا يعيد القضاء بالنفقة لها شيئاً فتؤمر هي بالاستدانة حتى لا يبطل حقها بموت أحدهما فكان الأمر بالاستدانة من القاضي بعد فرض النفقة لها ليأخذ حقها في النفقة، وهذا المعنى معدوم في سائر الديون فلهذا افترقا.
وأما إذا أمرها القاضي بالاستدانة على الزوج يرجع بذلك على الزوج إذا أيسر؛ لأن استدانتها بأمر القاضي على الزوج وللقاضي ولاية عليهما كاملة كاستدانتها بأمر الزوج. فقد ذكر محمد رحمه الله الاستدانة على الزوج ولم يبين تفسيرها. وذكر في «أدب القاضي» للخصاف أن تفسير الاستدانة على الزوج الشراء بالنسبة ليقتضي الثمن من مال الزوج.
قال مشايخنا رحمهم الله: وليس فائدة الأمر بالاستدانة بعد فرض القاضي إثبات حق الرجوع للمرأة على الزوج، لأن بعد فرض القاضي صارت النفقة ديناً للمرأة على الزوج وثبت لها حق الرجوع بالنفقة على الزوج سواء أكلت من مال نفسها أو استدانت بأمر القاضي أو بغير أمر القاضي، ولكن فائدة الأمر بالاستدانة أنها إذا استدانة على الزوج بأمر القاضي كان لرب الدين أن يرجع بذلك على الزوج ولكن يرجع رب الدين على المرأة ثم المرأة ترجع بما فرض لها القاضي على الزوج؛ وهذا لأن الاستدانة على الزوج إيجاب الدين في ذمة الزوج، فإذا حصل بأمر القاضي فقد حصل ممن له ولاية عامة على الزوج.
أما إذا حصل بأمر القاضي فقد حصل إيجاب الدين في ذمة الزوج من المرأة وليس لها على الزوج هذه الولاية وذكر في «تجريد القدوري» أن فائدة الأمر بالاستدانة أن يجعل المرأة الغريم على الزوج وإن لم يرض الزوج بذلك وبدون الأمر بالاستدانة ليس لها ذلك إلا برضى الزوج.(4/208)
-----
وذكر الحافظ الشهيد في «المختصر»: أن فائدة الأمر بالاستدانة أنه يرجع بذلك على الزوج، وفي ما له وبدون الأمر بالاستدانة لا يرجع على ما مر قبل هذا.
ومما يتصل بهذاالنوع
إذا فرضت النفقة للمرأة على الزوج ولها على الزوج بقدر المهر فأعطاهما الزوج شيئاً ثم اختلفا فقال الزوج: هو من المهر، وقالت المرأة: لا بل هو من النفقة، فالقول قول الزوج لأن التمليك وجد من جهة الزوج والقول في ثبات جهة التمليك، قول المملك وكذلك هذا في جميع قضاء الديون إذا كان من وجوه مختلفة.
قال شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: هذا إذا كان المؤدي شيئاً يعطى في المهر عادة، وأما إذا كان شيئاً لا يعطى في المهر عادة كقصعة ثريد ورغيف وطبق فاكهة وما أشبهه ذلك لا يقبل قول الزوج؛ لأن الظاهر يكذبه وكذلك إذا بعث إليها دراهم، فقال: هي نفقة، وقالت المرأة: هدية. فالقول قول الزوج لما بينا.
وكذلك إذا بعث إليها ثوباً وقالت هو: هدية، وقال الزوج: هو من الكسوة. فالقول قول الزوج مع يمينه لما قلنا، إلا أن تقيم المرأة البينة على ما ادعت، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج؛ لأن البينتين استويتا في بيان جهة الملك للمرأة. إلا أن بينة الزوج ترجحت بزيادة الإثبات لأن بينة الزوج مع إثبات جهة الملك أثبتت المرأة للزوج عما وجب عليه من النفقة والكسوة وبينة المرأة تنفي ذلك فكانت بينة الزوج أكثر إثباتاً، فكانت أولى بالقول. وكذلك إن أقام كل واحد منهما بينة على إقرار الآخر بما ادعى، لأن الزوج هو المدعي للقضاء فيما عليه من الحق فمعنى الإثبات في بينة الزوج أكثر فكانت أولى بالقول، وكذلك لو اصطلحا على أن يعطها الزوج كل شهر خمسة عشر درهم والزوج يدفع على فتوى أنها مهرها مضى على ذلك زمان، ثم اختلفا فالقول قول الزوج لما قلنا.(4/209)
-----
وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ومتى جعلنا القول قول الزوج أن المدفوع من المهر كان للمرأة أن تأخذ من الزوج قدر ما فرض لها القاضي وقدر ما اصطلحا عليه من وقت الغرض والاصطلاح إلى هذا الوقت الذي اختلفا فيه؛ لأن باصطلاحهما وبقضاء القاضي صارت النفقة ديناً في الذمة فكان لها أن تطالبه بذلك الدين. قال: وإذا وقع الاختلاف بين المرأة والزوج فيما وقع الصلح عليه أو فيما وقع الحكم من النفقة في الحبس أو القدر فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة لأنها مدعية الزيادة فيحتاج إلى إثباتها بالبينة والزوج مثلها لذلك فيكون القول قوله مع يمينه بعد هذا ينظر، إن كان ما أقر به الزوج وحلف عليه......... وأن لا يكفها يبلغ الكفاية في..... كما لو ثبت الصلح أو الحكم بذلك القدر تابعاً..... وقد مر هذا من قبل.
قال: وإذا وقع الاختلاف بين الزوج والمرأة فيما مضى من المدة من وقت الفرض أو من وقت الصلح فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة؛ لأنها تدعي زيادة والزوج ينكر فيكون القول قوله مع يمينه.
قال وإذا ادعى الزوج (308أ1) الإنفاق وأنكرت المرأة فالقول قولها مع اليمين لأنها أنكرت وصول حقها إليها فيكون القول قولها مع اليمين كما في سائر الديون والله أعلم بالصواب.
النوع السابع في الكفاية بالنفقة(4/210)
-----
قال: ولا يوجد من الزوج كفيل بالنفقة، ومعناه أن الزوج لا يجبر على إعطاء الكفيل بالنفقة لا قبل ضرورة النفقة ديناً على الزوج ولا بعد ذلك. هكذا ذكر الحاكم في «المختصر» وذكر الخصاف في «أدب القاضي»: أن المرأة إذا أخذت زوجها بنفقتها وهو يريد أن يغيب، فقالت أقم لي كفيلاً بنفقتي شهراً فشهراً، على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجبر على اعطاء الكفيل، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يجبر على إعطاء الكفيل نفقة شهر واحد. وذكر الخصاف في النفقات أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجبر على إعطاء الكفيل نفقة شهر واحد ولم يذكر الخصاف في «المختصر» بل ذكره مطلقاً أنه لا يجبر وإنما لا يجبر لأن إعطاء الكفيل تبرع والمرأة لا تجبر على التبرعات وصار كالدين المؤجل إذا أراد صاحب الدين يأخذ منه كفيلاً قبل حلول الأجل مخافة أن يغيب عنه عند حلول الأجل فإنه لا يجبر على ذلك. كذا ههنا قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب النكاح.
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إذا قالت المرأة إنه يريد أن يغيب ولا يترك لي نفقة أمره القاضي أن يعجل لها نفقة شهر أو يعطيها كفيلاً بنفقة شهر، وذكر الخصاف عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً: أن القاضي يسأل الزوج أنك كم تغيب؟ فإن قال: شهراً يأخذ منه كفيلاً بنفقة شهرين، وهكذا قال: وإن أعطاها الزوج كفيلاً بالنفقة كل شهر عشرة، قال أبو حنيفة رحمه الله: يقع على شهر واحد، وقال أبو يوسف رحمه الله: يقع ذلك على الأبد ما داما زوجين هكذا ذكر الخصاف في النفقات وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح نكاحه.
وذكر الحاكم رحمه الله في «المختصر»: أن الكفالة تنصرف إلى شهر واحد من غير ذكر خلاف فيحتمل أن يكون المذكور في «المختصر» قول أبي حنيفة رحمه الله.(4/211)
-----
وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المطلق فيما يحتمل التأبيد ينصرف إلى الأبد فكأنه نص عليه، ولو نص على الأول فقال: كفلت لك بنفقة كل شهر عشرة أبداً أو ما دمتما زوجين تقع على الأبد ما داما زوجين. وتصح الكفالة كذا ههنا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن العمل بكلمة كل متعذر في الكفالة لأن كلمة متى أضيفت إلى جملة من الأعداد قائماً يتناول كل عدد من تلك الجملة على سبيل الانفراد.
ألا ترى أنه لو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق يجب بنكاح كل امرأة تزوجها كأنه عقد اليمين عليها لا غير، ولا يشترط نكاح الجماعة لوقوع الحنث كان يتناول كل عدد من الجملة على سبيل الانفراد لو صححنا الكفالة في الشهر الثاني والثالث فقد تناولت الكفالة الشهر الثاني والثالث كما تناولت الشهر الأول لا يبنيان بلفظ واحد عقدين مختلفين، أحدهما مرسل والآخر مضاف وبين المرسل والمضاف تصادق ينافي، وإذا تعذر العمل بكلمة كل..... كلفة كل فصار كأنه قال: كفلت بنفقة شهر.
ونظيره الإجارة إذا أجر داره كل شهر بعشرة تنصرف الإجارة إلى شهر واحد كأنه قال: أجرتك شهراً ولهذا كان لصاحب الدار أن يخرجه متى حازا بين الشهر الثاني. كذا ههنا: بخلاف ما لو قال: كفلت لك بنفقة كل شهر عشرة أبداً ما عاشت كان الضمان صحيحاً كما قال؛ لأن هناك المذكور وقت واحد وهو العمر فيكون الثابت عقداً واحداً فصحت الكفالة بنفقة جميع العمر فكان ذكر العمر وإنه اسم لوقت واحد بمنزلة، ذكر السنه مما أشبه ذلك.
ولو قال كفلت كل بنفقة...... عشرة أشهر صحت الكفالة وانصرفت إلى الوقت المذكور لكون الوقت واحد، كذا ههنا.(4/212)
-----
أما في قوله كل شهر المذكورة أوقات مختلفة فكان الثبوت عقوداً مختلفة، وإن كفل لها بنفقتها على زوجها أبداً أو ما داما زوجين، فإن ذلك جائز وأراد بالأبد ما داما على النكاح؛ لأن لفظة الأبد فيما بين الزوجين تقع على أنهما على النكاح حتى لو مات أحدهما أو انقطع النكاح بينهما والنفقة لها على النكاح الكفيل. هكذا ذكر في «أدب القاضي» للخصاف وذكر الخصاف في نفقاته أن هذا يتناول زمان العدد أيضاً وهذا لأنه كفيل بنفقتها ما دام النكاح باقياً والنكاح ههنا باقي من وجه وإنما صحت الكفالة في هذه المسألة إلى وقت إنهاء النكاح وكل وجه لأن الوقت ههنا واحد فكان العقد واحد.
ثم فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا كفل لها بنفقة ولدها أبداً ومطلقاً كان باطلاً وكان الوقت واحداً لأن نفقة الأولاد لا تجب على التأبيد ما دام حياً، فإنه أوسع تسقط النفقة عن الأب وكذلك إذا أيسر أما نفقة المرأة تجب على التأبيد ما دام النكاح موسرة كانت أو معسرة فلهذا افترقا.
وذكر في «الفتاوى»: في امرأة قالت لزوجها: أنت بريء من نفقتي أبداً ما كنت أمرأتك لا يصح هذا الإبراء؛ لأن صحة الإبراء يعتمد الوجود أو قيام سبب الوجوب ولم يوجد شيء من ذلك ههنا على ما يأتي في نوع الصلح عن النفقة إن شاء الله تعالى.
وبعدما فرض لها القاضي النفقة كل شهر أو قالت ذلك، إن قالت قبل أن يمضي زمان من وقت الفرض برىء من نفقة الشهر الأول لا غير ولو قال: بعدمامضى أشهر صحت البراءة لما مضى دون ما بقي واعتبره ما لا...... آخره انعدام الذي أخره سنة ومضى على ذلك بعض السنة صح الإبراء لما مضى دون ما بقي، وكذلك لو أخره كل شهر بكذا أو كل سنة بكذا ثم آبرأه عن الآخر صح للشهر الأول وللسنة الأولى كذا ههنا والله أعلم بالصواب.
النوع الثامن في الصلح عن النفقة(4/213)
-----
قال: وإذا (308ب1) صالحت المرأة زوجها من نفقتها من ثلاثة دراهم من كل شهر فهو جائز وكان ينبغي أن لا يجوز لأن الصلح من نفقتها إبراء بعوض فيعتبر بالإبراء بغير العوض، وذلك لا يصح لما أن النفقة للحال ليست بواجبة وإنما تجب شيئاً فشيء.
والجواب: هذا إنما يستقيم إذ لو كان جواز الصلح عن النفقة بطريق المعاوضة وجواز هذا الصلح ليس بطريق المعاوضة إنما يكون بطريق أنه تقدير لنفقتها كل شهر بشيء معلوم وتقدير النفقة كل شهر بشيء معلوم جائز.
وهذا بخلاف الأجر أو إبراء المستأجر عن الأجر قبل استيفاء المنفعة حيث يجوز لأن هناك سبب الوجوب وهو العقد موجود فقام مقام حقيقة الوجوب في حق صحة الإبراء فكان إبراءً بعد الوجوب، أما ههنا فسبب الوجوب النفقة في المستقبل وهو الاحتباس في المستقبل، وأنه غير موجود للحال ثم الأصل في جنس مسائل الصلح عن النفقة أن الصلح عن النفقة من الزوجين متى حصل شيء يجوز للقاضي أن يفرض على الزوج في نفقتها بحال يعتبر الصلح منها تقدير للنفقة ولا يعتبر معاوضة، سواء كان هذا الصلح قبل فرض القاضي النفقة وقبل تراضي الزوجين على شيء لكل شهر، أو كان هذا الصلح بعد فرض القاضي لها النفقة، أو بعد تراضيهما على شيء لكل شهر، وإن وقع الصلح على شيء لا يجوز للقاضي أن يفرض على الزوج في نفقتها بحال، كما لو وقع الصلح على عبد أو ثوب.
ينظر إن كان الصلح بينهما قبل قضاء القاضي لها بالنفقة، وقبل تراضيهما على شيء لكل شهر يعتبر الصلح منها تقدير للنفقة أيضاً، وإن كان الصلح بعد فرض القاضي لها النفقة أو بعد تراضيهما على شيء لكل شهر يعتبر هذا الصلح منها معاوضة.
وفائدة اعتبار التقدير أن تجوز الزيادة على ذلك والنقصان عنه، وفائدة اعتبار المعاوضة أن تجوز الزيادة على ذلك ولا يجوز النقصان عنه، وعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل.
قال: وإذا صالحت المرأة زوجها على ثلاثة دراهم لكل شهر، فقالت المرأة: لا يكفيني بهذا القدر.(4/214)
-----
كان لها أن تخاصمه حتى يزيدها مقدار ما يكفيها إذا كان الزوج موسراً، وإنما كان هكذا لأن صلحها لا يكون أقوى من قضاء القاضي، والقاضي لو قدر لها نفقتها في كل شهر مقدار ما لا يكفيها كان لها أن تطالبه بما لها.....، فهاهنا أولى.
قال: وإذا صالحت المرأة زوجها عن نفقة كل شهر على ثلاثة دراهم، ثم قال الزوج: لا أطيق ذلك فإنه لا يصدق في ذلك، لأنه التزم باختياره، وذلك دلالة على كونه قادراً على أداء ما التزمه. فإذا قال: لا أطيق فقد ادعى خلاف ما كان ثابتاً فلا يصدق ويلزمه جميع ذلك.
قال في «الكتاب»: إلا أن تبرئه عند القاضي يريد به إلا أن يتعرف عن حاله بالسؤال من الناس، فإذا أخبروه أنه لا يطيق ذلك فعفي عنه وأوجب على قدر طاقته.
ألا ترى أن في الابتداء لو علم القاضي أن الزوج لا يطيق هذا المقدار لا يفرض عليه ذلك المقدار، ويفرض بقدر طاقته، فإذا علم في الانتهاء رفع عنه الزيادة على قدر طاقته أيضاً، أو تبرئه المرأة بنفسها لأن النفقة حق المرأة فكان لها أن ترضى بدون حقها، أو يرخص السعر فيكفيها دون ذلك والقاضي يرفع عنه قدر الزيادة وهذا لما ذكرنا أن المعتبر في النفقة مقدار الكفاية، والكفاية داخلة بدون الزيادة فترفع عنه الزيادة.
قال: فإن لم يمض شيء من الشهر حتى صالحها من هذه الثلاثة الدراهم على شيء إن كان شيئاً يجوز للقاضي أن يفرض لها في نفقتها بحال، نحو ما إذا صالح من هذه الثلاثة دراهم على ثلاثة مخاتم دقيق بعينه أو بغير عينه يعتبر هذا الصلح تقديراً للنفقة، فإن كان شيئاً لا يجوز للقاضي أن يفرض في نفقتها بحال يعتبر الصلح الثاني معاوضه، وأما اعتبار التقدير والمعاوضة قد ذكرنا قبل هذا.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: عقيب هذه المسألة ولا شبيه من الدراهم على ثلاث مخاتم دقيق يعتبر عينها لا يجوز الصلح.(4/215)
-----
والفرق: أن في سائر الديون والصلح منهما معاوضة لأن الدين كان واجباً وقت الصلح فاعتبر الصلح معاوضة فكان هذا بيع دين بدين فلا يجوز إلا أن يدفع الدقيق في المجلس، فأما ههنا قبل مضي الشهر، فالنفقة لا تعتبر ديناً فلم يكن الصلح الثاني معاوضة بل كان تقدير النفقة حتى لو مضى الشهر وصارت الثلاثة الدراهم ديناً، ثم صالحها على ثلاثة مخاتم دقيق بغير عينها، لا يجوز الصلح أيضاً لما قلنا.
قال: وإذا صالحت المرأة زوجها على ثلاث دراهم نفقة كل شهر، ثم إن الزوج أعطاها كفيلاً ببدل الصلح جاز، لأن الكفالة ببدل الصلح والصلح منهما تقديراً للنفقة إن لم تكن واجبة للحال تجب في الثاني والكفارة بدين تجب في الثاني جائزة على ما عرف في موضعه وكذلك الصلح عن نفقة الأقارب على هذا لأن النفقة تستحق بالزوجية مرة وبالقرابة أخرى فكان الجواب في نفقة الأقارب كالجواب في نفقة الزوجة.
قال في «الكتاب والذي ذكرنا من الجواب والصلح عن النفقة فكذلك في الصلح عن الكسوة لأن الكسوة للحاجة والمعتبر فيها الكفاية في النفقة.
قال: وإذا صالح الرجل امرأته من كسوتها على درع يهودي ويلحقه..... وحمار..... ولم يسم طوله وعرضه ورفعته جاز لأن الثوب غير حقها لأن حقها في المطعوم والملبوس وإنه يجب بدلاً عما ليس بمال وهو الاحتباس المستحق عليهما بسبب النكاح، والثوب إذ كان معلوم الجنس يجوز أن يجب ديناً في الذمة مجهول الوصف بدلاً عما ليس بمال كما في الخلع والنكاح.(4/216)
-----
قال وإذا صالح امرأته من نفقة سنة على ثوب دفعه إليها فهو جائز على ما ذكرنا، فإن استُحق الثوب بعد ذلك ينظر، إن وقع الصلح على الثوب بعد ما فرض القاضي لها النفقة أو بعدما اصطلحا على شيء بنفقة كل شهر ثم وقع الصلع عن ذلك على هذا الثوب فإنها ترجع (309ب1) بما فرض لها القاضي من النفقة وبما وقع الصلح عليه أول مرة، لأن النفقة صارت ديناً على الزوج بمضي المدة، فإذا أحدث ثوباً بمقابلة النفقة صارت مشترية لهذا الثوب ما وجب لها على الزوج من المال وشراء الثوب مما ينفسخ باستحقاق الثوب وبالرد بالعيب فثبت لها الرجوع بثمنه وذلك ما فرض لها، وأما إذا وقع فاسداً الصلح فإنها ترجع بقيمته أي بقيمة الثوب لأن ابتداء الصلح إذا وقع على الثوب فالثوب إنما ملك ما داما ليس بمال وهو الاحتياس المستحق عليها بعقد النكاح والثوب إذا ملك ما داما ليس بمال وهو الاحتباس المستحق عليها بعقد النكاح، والثوب إذا ملك ما داما ليس بمال فعقد الإستحقاق يثبت الرجوع بقيمة الثوب كما في النكاح والخلع.
وهو نظير ما ولو وقع الصلح عن نفقة المرأة على وصف وسط ولم يجعل له أجلاً أو جعل له أجلاً وإن كان قبل فرض القاضي وقبل اصطلاحها جاز؛ لأن النفقة غير واجبة في هذه الحالة فيكون الوصف بدلاً عن الاحتباس الذي ليس بمال، والحيوان يثبت ديناً في الذمة بدلاً عما ليس بمال حالاً ومؤجلاً، وإن كان هذا الصلح بعد فرض القاضي بعد اصطلاحهما لا يجوز لأن الحيوان ههنا بدلٌ عن النفقة والنفقة مال والحيوان لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال.
قال وإذا كان للرجل امرأتان إحداهما حرة والأخرى أمة بوأها المولى بيتاً فصالحها عن النفقة وقد شرط للأمة أكثر مما شرط للحرة جاز لأن المعتبر في النفقة مقدار الكفاية وقد يكفي للحرة ما لا يكفي للأمة.
فرع في الكتاب على مسألة الأمة(4/217)
-----
فقال: إذا بوأها المولى بيتاً فكما يجوز صلح الأمة عن النفقة فكذا يجوز صلح مولى الأمة، وهذا لأن كل واحد منهما ذواحطٍ عن النفقة، أما الأمة فظاهر وأما المولى فلأن في النفقة إحياء مال المولى فكان كل واحد منهما ذوا حط عن النفقة، فإنهما صلح فإنما صلح عن حقه فيجوز بخلاف ما لو صالحت الأمة زوجها عن المهر، حيث لا يجوز لأن مهرها حق المولى من كل وجه وصلح الإنسان عن حق غيره من كل وجه لا يجوز بخلاف النفقة على ما مرّ. وإن كان المولى لم يبوءها بيتاً ولم يجز هذا الصلح وكان له أن يرجع عن ذلك؛ لأنها صالحت عما ليس بحق لها فإنه لا نفقة لها متى لم المولى بيتاً.
وكذلك إذا صالح الرجل امرأته عن نفقتها ونكاحها فاسد لا يجوز؛ لأنه صالحها عما ليس بحق لها، فإن النفقة لا تستحق بالنكاح الفاسد.
والحاصل: أن الصلح عن النفقة في كل موضع لا نفقة ثمة باطل.
قال: وإذا صالحت المرأة زوجها عن نفقتها كل شهر على أكثر من نفقتها زيادة لا يتغابن الناس في مثله، فإن الزوج تلزمه نفقة مثلها ولا يلزمها الزيادة على ذلك، لأن الزوج في الزيادة على نفقة مثلها متبرع فإن شاء أمضى تبرعه وإن شاء لم يُمضِ.
قال: وإذا كانت المرأة مكاتبة بوأها المولى بيتاً صالحت زوجها عن نفقتها أو مهرها جاز لأنها صالحت عما هو حقها وكذلك العبد المحجور إذا صالح عن نفقة امرأته وقد تزوج بإذن المولى جاز؛ لأن الإذن بالنكاح إذن بالإنفاق، لأنه لا بد منه، فإذا كان له الإنفاق كان له الصلح عن النفقة لأن في الصلح إبقاء النفقة.
وكذلك المكاتب إذا صالح امرأته عن نفقة كل شهر جاز كما جاز عن العبد المحجوز من طريق الأولى والله أعلم.
النوع التاسع في إيجاب النفقة في كتاب النكاح الذي لم يعرف ثبوته
قال: رجل ادعى نكاح امرأة وهي تجحد وأقام عليها شهوداً لم يكن لها على الزوج النفقة لأنه تبين أنها منكوحة ممنوعة عن الزوج لا بفعل الزوج.h(4/218)
-----
وإن ادعت امرأة على تزوج رجل أنه تزوجها وهو يحجد ذلك فأقامت عليه بينة والقاضي لا يعرف الشهود واحتاج إلى المسألة لا تُجعل لها النفقة لم تكن واجبه لها بيقين فلا تحب بالشك.
فرّق بين هذا وبينها إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلّق امرأته ثلاثاً وقد كان دخل بها وهي تدعي الطلاق أو تنكره والقاضي لا يعرف الشهود منع القاضي الزوج عن الدخول على المرأة على ما عرف ويقضي القاضي لها على الزوج بالنفقة إذا طلبت ذلك؛ لأن النفقة كانت مستحقة لها على الزوج بيقين والآن وقع الشك في السقوط إن كانت مطلقة لا يسقط، وإن كانت منكوحة يسقط لأنها ممنوعة لا بفعل الزوج فلا يسقط بالشك.
فرع على مسألة النكاح
فقال: إن رأى القاضي أن يقضي لها بالنفقة لما رأى من المصلحة ينبغي أن يقول لها: إن كنت امرأةً فقد فرضت لك نفقة كل شهر كذا، ويشهد على ذلك. فإذا مضى شهراً فقد استدانت على الزوج إن عُدّلت تلك البينة أخذ ثمة بنفقة تلك الأشهر منذ فرض لها: لأنه إذا عُدّلت الشهود تبين أنها كانت منكوحة ممنوعة عن الزوج بفعل الزوج، وهو الجحود.
وإن لم يُعدّل الشهود لم يكن لها عليه شيء قال: ولو أنّ أختين ادعت كل واحدةٍ منهما أن هذا الرجل زوجها وهو يجحد ذلك فأقامت كل واحدة منهما شاهدين على ذلك النكاح ولم تؤقت البينتان وقت النكاح لكن أقامت على إحداهما بينةً على إقراره أنه تزوجها على ألف درهم وأنه دخل بها، وأقامت الأخرى بينة على إقراره أنه تزوجها على مائة دينار وأنه دخل بها والقاضي في مسألة الشهود فطلبتا النفقة جعل القاضي لهما نفقة امرأة واحدة.
هكذا ذكر في « الكتاب»، وعلى قياس المسألة الأولى، ينبغي أن لا يفرض لأنه وقع الشك في وجوب نفقة كل واحدة منهما مع هذا فرض لهما نفقة امرأة واحدة منهما. إنما كان كذلك لأن إحدى البينتين تعدل غالباً فكان نكاح إحداهما ثابتاً غالباً فلا يقع الشك بالوجوب بخلاف المسألة الأولى.(4/219)
-----
وإذا قضى القاضي بنفقة امرأة واحدة وليست إحداهما بأولى من الأخرى كان ذلك بينهما.
قال: فإن عُدِّلَت البينتان حكم لكل واحدةٍ منهما بنصف المال. (309ب1) الذي قامت عليه البينة وبالأقل من نصف المال الذي قامت عليه البينة على إقراره بالدخول بها دون الآخرى، قضى للمدخول بها بالمهر الذي قامت عليه البينة.
ولو لم تدع كل واحدة الدخول أصلاً، والشهود لم يتعرفوا إقرار الزوج بذلك يفرق بينه وبينها ويكون لهما نصف المالين بينهما.
قال في «الكتاب»: وفي كل موضع وجبت النفقة وجبت السكنى مع ذلك وهو النوع العاشر من هذا الفصل، وهذا لأن الله تعالى أوجب السكنى مقروناً بالنفقة. قال تعالى: {اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (الطلاق: 6) وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {من حيث سكنتم وانفقوا عليهن من وجدكم}، ولأنها محتاجة إلى السكنى كحاجتها إلى النفقة.
قال: وللزوج أن يسكنها حيث يسكن ولكن بين جيران صالحين، فإذا كان.... لأن الزوج لو كان أرملاً ينبغي له أن يسكن بين قوم صالحين فإذا كان..... كان أحوج إلى جيران صالحين قال: فإن أراد الزوج أن يسكنها مع أحد من أقربائه فطلبت المرأة منزلاً على حده، فلها ذلك لأن حق السكنى للمرأة إنما كان بمعنيين: أحدهما: أن يقاس مع الزوج.
والثاني: أن تأمن على متاعها. وإذا كان معها ثالث تستحي من المعاشرة مع زوجها وتخاف على متاعها، هذا إذا كان البيت واحد، وأما إذا كان داراً فيها بيوت وأعطى لها بيتاً تغلق عليها وتفتح، لا يكون لها أن تطالبه بمنزل آخر، لأنه متى كان لها بيت في الدار تغلق عليها، كان هذا بمنزلة، المنازل....... عليها حقها ولا تثبت لها المطالبة بشيء آخر.(4/220)
-----
وكذلك إذا كانت له امرأتان يسكنهما في بيت واحد، فطلبت إحداهما بيتاً على حدة فلها ذلك، لأن في اجتماعهما في بيت واحد ضررتهما والزوج مأمور بإزالة الضرر عن المرأة. هكذا حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله، وهذا التعليل....... إلى أن الدار وإن كانت مشتملة على بيوت سكنى، كل واحدة من المرأتين في بيت على حدة تغلق عليها وتفتح، كان لها أن تطالب بمسكن...... قال: فإن اسكنها في منزل ليس معها أحد، فشكت إلى القاضي أن الزوج يضر بها ويؤذيها وسألت من القاضي أن يأمره بأن يسكنها بين قوم صالحين يعرفون إحسانه وإساءته، فإن علم القاضي أن الأمر كما قالت المرأة زجره عن ذلك ومنعه عن التعدي؛ لأنه علم أنه ارتكب ما لا يحل وإن لم يعلم، ينظر إن كان جيران هذه الدار قوماً صالحين أقرهما هناك، لأنه لو أمره بنقلها من هذه الدار لنقلها إلى قوم آخرين مثلهم فلا..... فلا يأمر لكن يسأل الجيران عن صنيعه بها، وإن ذكروا مثل ذلك الذي ذكرت زجره عن ذلك ومنعه عن التعدي في حقها، وإن ذكروا أنه لا يؤذيها فالقاضي يتركها ثمة، لأنه علم أنها منعته.
وإن لم يكن في جوارها من يوثق به أو كانوا يميلون إلى الزوج، فالقاضي يأمر الزوج أن يسكنها بين قوم صالحين ويسأل عنهم ويبين الأمر على خبرهم كما قلنا.
ومما يتصل بهذه المسائل(4/221)
-----
إذا أراد الرجل أن يمنع أم..... أتاها أو واحد من أهلها من الدخول عليها في منزله فله ذلك لأن المنزل ملكه فله أن يمنع من الدخول فيه من يشاء، وهذا لأنهم متى دخلوا في منزله يتكلمون بما هو من إذاءه فيؤدي إلى الإضرار بالزوج، وكذلك يمنعها عن الخروج إلى بيت الأبوين لما قلنا، ولكن لا يمنعهم من النظر إليها ومن تعاهدها والتكلم معها فيقفون على باب الدار والمرأة داخل الدار لأنه لو منعهم عن ذلك كان ذلك قطيعة الرحم وإنه حرام وهذا في حق الأبوين ومن كان ذو رحم محرم من المرأة ومن لا يتهمه الزوج. وأما إذا لم يكن يحرم لها ويتهمه الزوج ولم يكن له أن يمنعه من النظر إليها أيضاً، فإذا كان للمرأة ولد من غير هذا الزوج لم يكن له أن يمنعها ولا أن يمنعهن أن ينظر بعضهم إلى بعض كما قلنا من المعنى. هكذا ذكر الخصاف في «النفقات» وفي «أدب القاضي» في أبواب النفقة.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أن الزوج لا يملك أن يمنع أبوي المرأة من الدخول عليها للزيارة كل شهر مرتين، وإنما يمنعهما من الكسوة. وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه». عن أبي بكر الإسكاف رحمهما الله: أن الزوج لا يمنع أبوي المرأة عن الدخول عليها للزيارة في كل جمعة، وإنما يمنعهما من الكسوة لأن الزيارة في كل جمعة هي الزيارة المعتادة وهذا لأن التكلم معهما على ما هو مرادها إنما يحصل بالكسوة لا بالزيادة فلا يمنعهما عن الدخول عليها في كل جمعة، وعليه الفتوى.
وأما غير الأبوين من المحارم فقد ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وفي «النفقات» أنه يمنعهم من الدخول عليها ولا يمنعهم من النظر إليها.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» عن أبي بكر الإسكاف رحمه الله: للزوج أن يغلق الباب عليها من الزوار غير الأبوين، وقال محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله: لا يمنع المحرم من الزيارة في كل شهر وهو الأرفق بالباقي.(4/222)
-----
وقال مشايخ بلخ: في كل سنة. وكذلك المرأة إذا أرادت الخروج إلى زيارة الأبوين أو إلى زيارة المحارم فأراد الزوج أن يمنعها من ذلك فهو على الاختلاف الذي قلنا.
الفصل الثاني في نفقة المطلقات
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
النوع الأول في بيان من يستحق النفقة من المطلقات
اجتمع على المطلقة طلاقاً رجعياً تستحق النفقة والسكنى ما دامت العدة قائمة سواء كانت حاملاً أو حائلاً، وهذا لأن بعد الطلاق الرجعي النكاح قائم وإنما أشرف على الزوال عند انقضاء العدة وذلك غير مسقط للنفقة، كما إذا أو علق طلاقها بمضي شهر، وأما المبتوتة فلها النفقة والسكنى أيضاً ما دامت في العدة حائلاً كانت أو حاملاً، وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله لها السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً والمبتوتة هي التي طلقها الزوج ثلاثاً، أو طلقها بعوض حتى وقع الطلاق (310أ1) بائناً عندهم جميعاً.
حجة الشافعي رحمه الله في ذلك ما روي عن فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي ثلاثاً ولم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلّمنفقة ولا سكنى، قال: ولو كنت حاملاً كانت لك النفقة إلا أنا تركنا ظاهر الحديث في حق السكنى بالإجماع ولا إجماع في النفقة فبقي على ظاهره.
وحجتنا في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: للمطلقة ثلاثاً النفقة والسكنى وهذا نص في الباب، وما روي من الحديث قد طعن الكبار من الصحابة والتابعين فلا يكون حجة.
والمعنى في ذلك أن المرأة ما دامت في العدة فهي محبوسة بحق الزوج، فإن منفعة الحبس تعود إليه وهو صيانة مائه فكانت محبوسة بحقه فتكون نفقتها عليه، كما في حال قيام النكاح.
ثم فرق بين المطلقة وبين المتوفي عنها زوجها. فإن المتوفى عنها زوجها لا تستحق النفقة في تركة زوجها، والمطلقة تستحق النفقة على الزوج، وموضع الفرق: شرح الطلاق المبسوط.(4/223)
-----
قال في «الكتاب»: والنفقة واجبة للمعتدة طالت المدة أو قصرت فيكون القول في العدة إنها لم ينقض قولها مع عينها، لأنها اثبتته في الأخبار عما في رحمها، وقول الأمين مقبول وإليه أشار أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: من الأمانة أن تؤمن المرأة على ما في رحمها فإن أقام الزوج بينة على إقرارها بانقضاء العدة بريء من النفقة، لأن ثبوت إقرارها بالبينة كثبوته بالمعاينة، فإن ادعت حملاً أنفق عليها ما بينها وبين سنتين، فعد يوم طلاقها لأن عدة الحامل إنما تنقضي بوضع الحمل والولد يبقى في البطن إلى سنتين.
وإن مضت سنتان ولم تلد انقطعت النفقة لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين. فإن قالت: كنت أظن أني حامل ولم أحض إلى هذه الغاية، وأظن أن هذا الذي فيَّ ريح، وأنا أريد النفقة حتى تنقضي عدتي.
وقال الزوج: قد ادعت الحمل وأكثر مدة الحمل سنتان فالقاضي لا يلتفت إلى قوله ويلزمه النفقة ما لم تنقض العدة، لأن هذا أمر قد يسببه، لأن معرفة ما في الرحم حقيقة إلى الله تعالى، قال تعالى {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34) فتكون معذورة في ذلك فكان لها النفقة حتى تنقضي عدتها، وعدتها تنقضي بثلاث حيض أو بدخولها في حد الإياس ومضي ثلاثة أشهر بعد ذلك، فإن حاضت في هذه الأشهر الثلاثة استقبلت العدة بالحيض، لأنه تبين أنها لم تكن اثبتته والنفقة واجبة لها في جميع ذلك ما لم يحكم بانقضاء العدة، لأنها محتبسة بعدتها منه.
وسئل أبو بكر رحمه الله: عمن طلق امرأته وكتم عن الناس، فلما حاضت حيضتين وطئها فحبلت ثم أقر بطلاقهاوقال: لها النفقة ما لم تضع، لأن انقضاء عدتها بوضع الحمل.(4/224)
-----
قال: وإن طلق الزوج امرأته وهي صغيرة لم تحض بعد وقد دخل بها ومثلها يجامع فعدتها ثلاثة أشهر على ما عرف في كتاب الطلاق، وينفق عليها ما دامت العدة قائمة لما ذكرنا وهذا إذا لم تكن المرأة مراهقة، وأما إذا كانت مراهقة فعدتها لا تنقضي بثلاثة أشهر بل يتوقف في حالها إلى أن تظهر أنها هل حبلت بذلك الوطء أم لا، فينبغي أن يدر عليها النفقة ما لم يظهر فراغ رحمهما.
هكذا حُكِيَ عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فلو أنها حاضت في هذه الأشهر الثلاثة تستأنف العدة بالحيض وتكون لها حاضت النفقة حتى تنقضي عدتها لما ذكرنا ويعتبر في هذه النفقة ما يكفيها وهو الوسط من الكفاية وهي غير مقدرة، لأن هذه النفقة نظير نفقة النكاح فيعتبر فيها ما يعتبر في نفقة النكاح ثم نفقة العدة إنما لنفقة النكاح وليست شيء آخر.
حتى قلنا: إن كل امرأة تستحق النفقة حال قيام النكاح تستحق النفقة حال قيام العدة لكل أمر لا تستحق النفقة حال قيام النكاح لا تستحق النفقة حال قيام العدة فإن المولى إذا بوأ الأمة بيتاً لما استحقت النفقة حال قيام النكاح استحقت أيضاً بعد الفرقة ومتى لم يبوئها المولى بيتاً لما لم تستحق النفقة حال قيام النكاح لا تستحق النفقة بعد الفرقة أيضاً.
إذا ثبت هذا فتقول المعتدة: إذا لم تخاصم في نفقتها ولم يفرض القاضي لها شيئاً حتى انقضت العدة فلا نفقة لها، لأن النفقة في حال قيام النكاح لا تصير ديناً إلا بقضاء أو برضاء فكذا في حالة العدة، وإن كان الزوج غائباً فاستدانت عليه ثم قدم بعد انقضاء العدة يقضي عليها بنفقة مثلها، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله الأول، ثم رجع وقال: لا يقضي، كما في نفقة النكاح. وإذا فرض لها النفقة في حال العدة وقد استدانت على الزوج أو لم تستدن....(4/225)
-----
إن انقضت عدتها قبل أن تبعض شيئاً من الزوج، وإن استدانت بأمر القاضي كان لها أن ترجع بذلك على الزوج بذلك، لأنها استدانت المرأة بأمر القاضي، وللقاضي ولاية متكاملة بمنزلة (أنها) أستدانت (من) الزوج بنفسه، وأما إذا استدانت بغير أمر القاضي أو لم تستدين أصلاً، هذا يرجع على الزوج بذلك أم لا. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح أدب القاضي» فيه كذا.
قال الصدر الإمام الشهيد رحمه الله: فالظاهر عندي أنه لا يرجع. وأشار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله إلى أن لا يرجع حيث علل فقال: ليست استحقاق هذه النفقة والمستحق بهذا السبب في حكم الصلة ولا بد من قيام السبب لاستحقاق المطالبة، ألا ترى أن الذمي إذا أسلم وعليه خراج رأسه لم يطالب بشيء منه، فكذا ههنا وهو الصحيح.
قال الخصاف في نفقاته: وكل نكاح كان الزوجان يتوارثان عليه لو مات أحدهما فطلقها الزوج وقد دخل بها، فإن لها فيه النفقة والمهر بدخوله بها.
قال رحمه الله: في «شرحه»: وهذا الأصل غير سديد على قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن الذمي إذا تزوج أمة فإنها تستحق النفقة عنده ولا يتوارثان لو مات أحدهما فكما تستحق المعتدة النفقة الكسوة تستحق الكسوة لأن المعنى يجمعهما وهو (310ب1) الحاجة غير أن في «الكتاب» لم يذكر كسوتها؛ لأنها لا تبقى في العدة مدة تحتاج إلى الكسوة غالباً، حتى لو احتاجت يفرض لها ذلك أيضاً.
الدليل على أن المعتدة تستحق الكسوة أنها تستحق النفقة واسم النفقة كما يتناول الطعام يتناول الكسوة.
قال هشام في «نوادره»: قلت لمحمد رحمه الله: النفقة هي الطعام وحده قال: لا لكن الطعام والكسوة.
قال في «الكتاب»: وفي كل موضع وجبت على الزوج نفقة العدة يجب عليه مؤنة السكنى كما في حال قيام النكاح.
فبعد هذا ينظر إن كان للزوج منزل مملوك فعليه أن يُسكنها فيه، وإن لم يكن للزوج منزل مملوك فعليه أن يكتري منزلاً لها ويكون لكن على الزوج، لأن الإسكان عليه.(4/226)
-----
وإن كان الزوج معسراً تؤمر المرأة أن تستدين لكن أو تؤدي ثم ترجع على الزوج إذا أيسر كما هو الحكم في النفقة حال قيام النكاح، ثم الأصل لما بعد هذا.
إن نفقة الفرقة متى وقعت بين الزوجين ينظر، إن كانت الفرقة من جهة الزوج فلها النفقة سواء كانت الفرقة بمعصية أو بغير معصية. وإن كانت الفرقة من جهة المرأة، إن كانت (من غير معصية) تجوز لها النفقة.
وإن كانت بمعصية فلا نفقة لها، وإن كانت الفرقة بمعنى من جهة غيرها فلها النفقة. وهذا لأن النفقة صلة وعصار من يستحق عليه الصلة لا تؤثر فيه بطلان الصلة.
أما عصار من يستحق الصلة تؤثر في ذلك، واعتبر هذا بالوارث إذا قتل المورث، إن كان بحق لا يحرم عن الميراث وإن كان بغير حق يحرم، كذا ههنا إذا عرف هذا الأصل فنقول للملاعنة: لها النفقة والسكنى، لأن الفرقة باللعان فرقة بطلان فكانت خيانة من قبل الزوج. وكذلك الثانية بالخلع، والإيلاء، وردة الزوج، ومجامعة الزوج أمها تستحق النفقة لأن هذه الفرقات كلها من جهة الزوج بعد إن كانت مستحقة للنفقة في أصل النكاح فينبغي هذا الحق تبعاً للعدة.
فامرأة العنين إذا اختارت الفرقة فلها النفقة والسكنى، وكذلك المدبرة وأم الولد إذا اعتقتا.
ومما عند الزوج قد يواليهما المولى بيتاً فلهما النفقة والسكنى، وكذلك الصغيرة إذا أدركت فاختارت نفسها فلها النفقة والسكنى وإن جاءت الفرقة من قبل المرأة في هذه المسائل إلا أن الفرقة ما جاءت بسبب هي معصيه، وكذلك إذا وقعت الفرقة بسبب عدم الكفاءة بعد الدخول، فلها النفقة لأن الفرقة جاءت بحق تُستحق.
والمنكوحة إذا ارتدت أو طاوعت ابن الزوج حتى وقعت الفرقة لا نفقة لها، لأن الفرقة جاءت من قبلها بسبب هو معصية.(4/227)
-----
وإن جامعها ابن الزوج مكرهة تقع الفرقة ولا..... لأن الفرقة جاءت من غيرها، ثم فرق بين النفقة وبين المهر فإن الفرقة إذا جاءت من قبل المرأة قبل الدخول يسقط المهر سواء كانت عاصية في ذلك أو بحقه.
والفرق: إن المهر عوض من كل وجه ولهذا لا يسقط بموت أحدهما فإذا فات المعوض بمعنى ما من جهة من له العوض يسقط حقه في العوض إذ العوض لا يستحق بدون المعوض كاليمين في باب البيع، أما نفقة الزوجات عوض من وجه صلة من وجه فإذا كان بين العوض والصلة اعتبرناه عوضاً متى حاءت الفرقة بسبب هي في ذلك عاصية، والعوض يسقط متى فات المعوض من جهة من له الحق في العوض كما في المهر، ومن حيث إنها صلة لا تسقط، فإن فات العوض من جهتها وإن كانت في ذلك محقة فالصلات تحبب فلا عوض، كنفقة الأقارب.
ثم قال في «الكتاب»: والمنكوحة إذا ارتدت حتى وقعت الفرقة لا نفقة لها اجبرت على ذلك أو رجعت عن الردة وتابت.
فرق بين هذا، وبينما إذا نشزت فطلقها الزوج ثم تركت النشوز فإنها تستحق النفقة ما دامت العدة باقية.
وههنا قال: إذا اسلمت والعدة باقية لا تستحق النفقة والفرق وهو: أن في الردة المسقط للنفقة فرقة جاءت من قبلها بسبب هو معصية، وهذا لا يرتفع بالإسلام فلا يرتفع السقوط، وأما في المسألة تلك المسألة المسقط هو النشوز دون الفرقة الجائية من قبلها، لأن الفرقة لا تقع لنشوز فإذا عادت إلى بيت الزوج ارتفع النشوز فارتفع المسقط فعاد حقها في النفقة، ثم ما ذكر في «الكتاب» أن المختلف تستحق النفقة فذلك إنما يكون وقع الخلع مطلقاً.(4/228)
-----
فأما إذا شرط في الخلع أن لا سكنى لها ولا نفقة فلها السكنى ولا نفقة لها لأنها بهذا الشرط اسقطت النفقة والسكن والنفقة حق المرأة والسكنى في بيت العدة كما هو حقها فهو حق الشرع فأسقاطها إن عمل في حقها لا يعمل في حق الشرع حتى لو شرط الزوج في الخلع أن لا يكون عليه مؤنة السكنى من مالها، بأن كانا يسكنان في بيت صح، ويجب الأجر، ورفضت المرأة أن تسكن في بيت نفسها أو تلتزم مؤنة السكنى من مالها بأن كانا يسكنان في بيت..... صح ويجب الأجر عليها، لأن ذلك محض حقها.
ثم فرق بين هذا وبينما إذا أبرأت المرأة زوجها عن النفقة قبل أن تصير النفقة ديناً في الذمة، فإنه لا يصح ذلك بالاتفاق.
وإذا شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن النفقة صح، والفرقة وهو أن الإبراء إذا شرط في الخلع كان إبراء بعوض والإبراء بعوض يكون استيفاء لما وقعت البراءة عنه، لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه، والاستيفاء قبل الوجوب جائز، فإنها إذا أخذت نفقة شهر جملة جاز.
وأما في غير الخلع الإبراء إنما حصل بغير عوض فيكون إسقاطاً لحقها، وإسقاط الشيء قبل الوجوب لا يصح بالاتفاق، وكذلك الجواب في نفقة الولد وهو مؤنة الرضاع لا يسقط بسبب الخلع أن لا يسقط إن لم يشترط ذلك في الخلع، وإن شرط في الخلع إن وقت، بأن قال: إلى سنة أو سنتين أو ثلاث جاز، وما لا فلا.
وإذا وقت جاز إن مات الولد قبل تمام المدة فالزوج يرفع عليها بما بقى من آجر، مثل الرضاع إلى تمام المدة.
هكذا ذكر في «الكتاب» والحيلة في ذلك حتى لا يرجع أن تقول المرأة للزوج حتى يقول لها الزوج: عليَّ (311أ1) هذا الوجه خالعتك على أني بري من نفقة الولد إلى سنتين، إن مات في بعض السنة فلا رجوع لي عليك.(4/229)
-----
قال في «الكتاب»: وفي فصل الخلع في كل موضع لم يصح الإبراء عن السكنى ينظر إن (كان) المنزل ملكاً للزوج ينبغي أن يخرج الزوج من المنزل ويعتزل عنها ويتركها في ذلك المنزل إلى أن تقضي عدتها، وكذلك إذا كان المنزل..
..... وإن استكرى لها منزلاً...... يجوز لكن الأفضل أن يتركها في المنزل الذي كانا يسكنانه قبل الطلاق، هذا هو الكلام في الطلاق الثاني.
أما إذا كان الطلاق رجعياً فقد ذكر الخصاف في نفقاته: أنه يسكنها في المنزل الذي كانا يسكنان فيه قبل الطلاق، لأنه لا يجب على الزوج أن يعتزل عنها فكان له أن يُسكنها في ذلك المنزل وهو فيه، وفي الطلاق الثاني يسكنها أيضاً في ذلك المنزل، لكن الزوج يخرج عن ذلك المنزل أو يعتزل عنها في ناحية.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته طلاقاً بائناً وهي أمة، وقد كان بوأها المولى بيتاً فعلى الزوج النفقة، فإن أخرجها المولى لخدمته وكانت في العدة لا نفقة لها وإن أعادها إلى بيت زوجها وترك استخدامها فلها النفقة، وهذا لأن نفقة العدة معتبرة بنفقة النكاح.
والجواب في نفقة النكاح على هذه التفاصيل. فكذا في نفقة العدة، فإما إذا كانت قبل الطلاق في بيت الزوج ولم تعد إلى بيت الزوج حتى طلقها الزوج، ثم عادت إلى بيت الزوج بعد الطلاق فلا نفقة لها عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
فرق بين هذا وبين الحرة إذا كانت ناشزة وقت الطلاق ثم عادت إلى بيت الزوج، فإنها تستحق النفقة.
والفرق: أن في حق الأمة النكاح حالة الطلاق لم يكن سبباً لوجوب النفقة؛ لأنه لم يكن سبباً لوجوب الاحتباس، ولهذا لو أراد الزوج أن يعيدها إلى منزله من غير رضا المولى لم يكن له في ذلك.
وبالطلاق زال النكاح وبقي (من وجه) من وجه، فإذا عادت إلى بيت الزوج وتحقق الاحتباس إن صار النكاح سبباً من الوجه الذي هو باقي، فمن الوجه الذي هو زائل لا يصير سبباً فلا يصير سبباً بالشك والاحتمال.(4/230)
-----
أما في الحرة النكاح حالة الطلاق كان سبباً لوجوب النفقة، لأنه كان سبباً لوجوب الاحتباس ولهذا أراد الزوج أن يعيدها إلى بيته كان له ذلك شاءت أو أبت إلا أنها بالنشوز وجب الاستيفاء على الزوج يجوز...... بالمنع من الاستيفاء ما عليها فتمكنت المرأة من استيفاء ما عليه أيضاً.
فرق بين هذا وبينما لو أخرجها المولى من بيت الزوج بعد الطلاق ثم أعادها كان لها النفقة لأن النكاح حالة الطلاق كان سبباً لوجوب النفقة لكن السقوط كان يعارض أمراً. فإذا زال العارض ارتفع المسقط فيرتفع السقوط، أما ههنا بخلافه على ما مر.
قال: ولو أن رجلاً تزوج أمة رجل بأذن مولاها ولم يبوئها المولى بيتاً حتى لو طلقها الزوج طلاقاً رجعياً فإن للسيد أن يأخذ الزوج حتى يبوئها بيتاً يعني، للمولى أن يخلي بينها وبين الزوج في بيت واحد وينفق الزوج عليها حتى تنقضي العدة، لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح، فإن كان الطلاق بائناً فليس للسيد أن يأخذ الزوج حتى يبوئها بيتاً بمعنى لا يخلي بينها وبين الزوج في بيت واحد، لأن الطلاق الثاني يحرم الوطء، وهل للمولى أن يطالب الزوج بالنفقة ما دامت معتدة؟
ذكر الخصاف في نفقاته: أن له ذلك.
قال الصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله: أنه ليس لها النفقة وما ذكرنا من المسألة قبل هذه المسألة يصير رواية لما قاله رحمه الله، وهذا لأنه لا يستحق النفقة حال قيام النكاح قبل البيتوتة، وكل من لا يستحق النفقة حالة النكاح لا يستحق بعد الطلاق، وقد ذكرنا هذا الأصل قبل هذا.
فرع على هذه المسألة
فقال: لو طلقها الزوج طلاقاً رجعياً ثم أعتقها المولى كان لها أن تطالب من الزوج حتى يبوئها بيتاً وينفق عليها لأنها ملكت أمر نفسها، وإن كان الطلاق بائناً فالزوج لا يخلو بها في بيت واحد لما قلنا. وهي لا تأخذه بالسكنى، وهل لها أن تأخذه بالنفقة؟
ذكر الخصاف أن لها ذلك. والصحيح أنه ليس لها ذلك لما قلنا.(4/231)
-----
قال: وإذا أعتق أم ولده لا نفقة لها في العدة لأنه ما به يستحق النفقة وهو ملك اليمين، وقد زال كله فسقطت النفقة الواجبة قبل العدة لو وجبت النفقة وجبت ابتداءً والعدة لا تصلح لإيجاب نفقة لم تكن وكذلك لو فات المولى حصة عتق أم الولد بموته لا نفقة لها في تركة الميت، ولكن إن كان لها ولد فنفقتها تكون في نصيب الولد، لأن الأم إذا كانت معسرة معتده فنفقتها على الولد، وإن كان الولد صغيراً على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: وإذا أقر الزوج بحرمة امرأته وقد دخل بها وفرق بينهما فلهذا المسمى من المهر ونفقة العدة.
ومعنى هذه المسألة أن الزوج أدعى فساد النكاح الأصل، أو أقر بالحرمة وأسند الحرمة إلى الزمان الماضي، وهذا لأن الزوج أقر على نفسه بالحرمة وعليها يسقط المسمى، والنفقة فيصدق في حق نفسه لا في حقها والله أعلم.
النوع الثاني في الأسباب المسقطة لهذه النفقة(4/232)
-----
قال محمد رحمه الله: المعتدة إذا وجبت لها النفقة كانت لها في العدة بمنزلة الزوجة التي لم تطلق، فما وجب للزوجة التي لم تطلق من النفقة فكذلك للمعتدة ما دامت في العدة، وما حرمت به من النفقة وهي زوجة تحرم به إذا كانت في العدة، والمرأة فيه إذا ارتدت عن الإسلام في عدتها فحلست حتى تفوت، أو حبست المعتدة في الدين، أو خرجت للحج، لأنه لما فات حقيقة الاحتباس لهذه الأسباب فإن منفعته صيانة ماء الزوج فلا يستحق النفقة. فأما إذا لم يجب الإحتباس في العدة بأن ارتدت في العدة ولكن لم تحبس بعد، إنما هي في بيت الزوج أو قبّلت ابن الزوج أو ما (311ب1) أشبه ذلك فإنه لا تسقط نفقتها متى حصلت في العدة وإن كانت تسقط النفقة حال قيام النكاح، وإنما كان كذلك لأن في حال قيام العدة إذا لم يجب الاحتباس بسبب هذه الأفعال كان منفعته وهو صيانة الماء حاصل للزوج فكان ما هو المقصود خاصة للزوج فتستحق النفقة أما في حال قيام النكاح فوجب الاحتباس الذي هو مطلوب بالنكاح وهو الاحتباس لمنفعة الوطء ودواعيه فجوزيت بالحرمان.
فرع على ما إذا ارتدت وحبست حتى سقطت النفقة فقال لو رجعت إلى الإسلام فلها النفقة والسكنى لأن الاستحقاق النفقة كان ثابتاً لها لكن السقوط كان قد تعارض وهو الحبس بالردة حتى تتوب فإن اسلمت زال العارض فيعود الاستحقاق كما لو نشزت ثم عادت إلى بيت العدة.
فرق بين هذا وبينما لو ارتدت وهي منكوحة حتى وقعت الفرقة وسقطت النفقة ثم أسلمت بعد ذلك، فإن النفقة لا تعود.(4/233)
-----
والفرق: أن الفرقة في ارتداد المنكوحة إنما وقعت بمعنى مضاف إليها وهو معصية فسقطت النفقة أصلاً فلا يعود بعد ذلك، أما إذا ارتدت وهي معتدة فسبب الوجوب قد تعدد لكن امتنع الوجوب في بعض المدة تعارض أمر وقد زال ذلك فيزول المنع كما في النشوز قال وإن كاتب المعتدة حتى ارتدت التحقت بدار الحرب ثم أسلمت بعد ذلك أو سبيت وأعتقت فلا نفقة لها لأنها لما لحقت بدار الحرب مرتدة فسقطت العدة حكم الانقطاع العصمة بتباين الدارين فكان بمنزلة ما لو سقطت العدة بمضي المدة، وهذا الذي ذكرنا كله في الطلاق الثاني والطلقات الثلاث.
جئنا إلى الطلاق الرجعي فنقول: المعتدة بالطلاق الرجعي إذا وطئها ابن الزوج أو قبلها بشهوة وهي مطاوعة وارتدت فحبست أو لم تحبس فلا نفقة لها، لأن في الطلاق الرجعي الفرقة ما وقعت بالطلاق فيكون وقوع الفرقة بسبب وجد منها وهو معصية فيوجب ذلك سقوط النفقة ولا كذلك في الطلاق الثاني والطلقات الثلاث.
قال: المعتدة إذا خرجت من بيت العدة سقطت نفقتها.
هكذا روي عن الضحاك مطلقاً، وهذا عندنا ما دامت على النشوز، وإن عادت إلى بيت الزوج كان لها النفقة والسكنى كما في حال قيام النكاح، ثم الخروج من بيت العدة على سبيل الدوم ليس بشرط لسقوط النفقة، فإنها إذا خرجت زماناً وسكنت زماناً لا تستحق النفقة. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «أدب القاضي» للخصاف في شرح أحاديث باب إثبات الوكالة.
قال: وكذلك إن كانت ناشزة وقت الطلاق ثم عادت إلى بيت الزوج بعد الطلاق تستحق النفقة، وهذا لما ذكرنا أن نفقة العدة تبعاً لنفقة النكاح، فتكون هذه الحالة معتبرة بحال قيام النكاح.
والجواب: حال قيام النكاح على هذا الوجه، فكذا حال قيام العدة.(4/234)
-----
وفي «فتاوى النسفي»: في المعتدة عن طلاق بائن إذا تزوجت في العدة ووجد الدخول وفرق بينهما ووجبت عليها العدة منهما لا نفقة لها على الزوج الثاني؛ لأن النكاح مع الزوج الثاني فاسد وإنما نفقتها على الزوج الأول؛ لأنها لا توصف بالنشوز بمنعها نفسها منه ههنا، لأن الطلاق الخل وزال هكذا ذكر ههنا.
وتأويل هذه المسألة ما إذا تزوجت وهي في بيت العدة لم تخرج من بيت العدة، أما إذا خرجت من بيت العدة لا تستحق النفقة لما قلنا والله أعلم.
النوع الثالث في الصلح عن نفقة العدة
قال: وإذا صالح الرجل امرأته عن نفقتها ما دامت في العدة على دراهم مسماة لا يزيد عليه حتى تنقضي العدة ينظر إن كانت عدتها بالحيض لا يجوز الصلح، وإن كانت بالأشهر جاز، وإنما كان هكذا لأن العدة إذا كانت بالحيض فمدة النفقة مجهولة فلا يدري حيضة كل يوم من المصلح عليه، وإنما يحتاج إلى استيفاء حصة كل يوم بعد الصلح، لأن كل يوم مضى فنفقة ذلك اليوم تصير ديناً لها على الزوج فيكون لها استيفاء ذلك لا محالة.
فأما إذا لم يكن حصة كل يوم معلومة تقع بينهما منازعة مانعة من التسليم، والتسليم مثل هذه الجهالة تمنع جواز الصلح كما لو صالحت عن نفقتها مع الزوج، وما دامت زوجة له على مال معلوم كان صلح الطلاق باطلاً، فكذا ههنا بخلاف ما إذا كانت عدتهما بالأشهر، لأن مدة النفقة معلومة وهي ثلاثة أشهر فتكون حصة كل يوم من النفقة معلومة فيمكنها استيفاء حصة كل يوم يمضي من وقت الصلح، فكان الصلح جائز.(4/235)
-----
قال: وإذا خلع الزوج امرأته أو طلقها طلاقاً بائناً ثم صالحها من السكنى على دراهم فإن هذا لا يجوز، لأن السكنى حال قيام العدة، وإن كان حقوق الزوجة ففيه حق الله تعالى أيضاً، فلو جاز هذا الصلح أدى إلى إبطال حق الله تعالى فلا يجوز وإن صالحها من النفقة على دراهم، إن لم يشترط في الخلع أبرأته عن النفقة لا يجوز الصلح لأن البراءة عن النفقة متى كانت مشروطة في الخلع الصحيح فهي إنما صالحت عما ليس بحق لها فلا يجوز.
استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن المنكوحة نكاحاً فاسداً (إذا) صالحت من النفقة على دراهم لا يجوز؛ لأنها صالحت عما ليس بحق لها فكذا ههنا.
النوع الرابع في اختلاف الزوجين في وقوع الطلاق وبيان حكم النفقة فيه
قال الخصاف رحمه الله في نفقاته: ولو أن رجلاً قدمته امرأة إلى القاضي وطالبته بالنفقة، فقال الرجل للقاضي: كنت طلقتها منذ سنة وانقضت عدتها في هذه المدة وجحدت المرأة الطلاق فإن القاضي لا يقبل قوله، لأن الطلاق ظهر بقوله في الحال وهو بالإسناد يريد إسقاط النفقة عن نفسه فلا يصدق إلا ببينة، فإن شهد له شاهدان بذلك والقاضي لا يعرفهما فإنه يأمره بالنفقة عليها؛ لأن وقوع الطلاق في ذلك الوقت لم يظهر بعد، فإن عدلت الشهود وأقرت أنها قد حاضت ثلاث حيض في هذه السنة فلا نفقة (312أ1) لها عليه، وإن كانت أخذت منه شيئاً ردت عليه؛ لأنه ظهر أنها أخذت مال الغير بغير حق مال.(4/236)
-----
ولو شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً وهي تدعي الطلاق أو تنكر فإنه ينبغي للقاضي أن يمنع الزوج عن الدخول عليها والخلوة معها ما دام القاضي من...... يتركه الشهود، لأن الشهود يحتمل أن يكون صدقة، وعلى هذا التقدير كانت المرأة أجنبية، ويحتمل أن يكونوا كذبة فعلى هذا التقدير كانت منكوحة بوجوب المنع احتياطاً، ولا يخرجها القاضي من هذا الوجه من منزل زوجها. نص عليه في «الجامع» ولكن يجعل معها امرأة أمينة تمنع الزوج من الدخول عليها.
وإن كان الزوج عدلاً فرق بين هذا وبينما إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ومنزله.....، يجعل بينهما ستراً حائلاً، فإنه يكفي ولا يحتاج إلى امرأة أمينة إذا كان الزوج عدلاً والفرق عرف في موضعه.
ونفقة الأمنية ههنا في بيت المال لأنها مشغولة بمنع الزوج عن الدخول عليها حقاً لله تعالى. احتياطاً لأمن الفرج فكانت عاملة لله تعالى فتكون نفقتها في مال الله تعالى وهو مال بيت المال.
وإن طلبت المرأة من القاضي النفقة وهي تقول: طلقني أو تقول: لا يطلقني، أو تقول: لا أدري أطلقني أم لم يطلقني فهذا على وجهين: إن لم يكن الزوج دخل بها فالقاضي لا يقضي لها بالنفقة، لأنه إن وقع الطلاق عليها فهي....... من غير عدة، فلا تجب لها النفقة. فإن لم يقع الطلاق عليها فهي محبوسة عن الزوج.(4/237)
-----
والمنكوحة متى حبست عن الزوج لا تستحق النفقة، وإن كان قد دخل بها فالقاضي يقضي لها بمقدار نفقة العدة إلى أن يسأل عن الشهود؛ لأنه إن وقع الطلاق عليها فلها نفقة العدة، وإن لم يقع لا نفقة لها لأنها منكوحة محبوسة عن الزوج، وإذا احتمل يقضي لها بنفقة العدة إلى أن يسأل عن الشهود، وإن تطاولت المسألة عن الشهود حتى انقضت العدة لم يردها القاضي على نفقة العدة شيئاً لأنا تيقنا أنه لا نفقة لها بعد مضي مدة العدة، لأنه إن وقع الطلاق عليها فقد انقضت عدتها، وإن لم يقع الطلاق عليها فهي ممنوعة عن الزوج، بعد هذا إن كتب الشهود فرق بينهما وسلم لها ما أخذت من النفقة؛ لأنها تتبين أنها منكوحة محبوسة عن الزوج لا يفعل الزوج فلم يكن لها نفقة النكاح فكان أخذها بغير حق فيجب عليها الرد.
استشهد في «الكتاب» لا تصح هذه المسألة، فقال: ألا ترى أن القاضي لو فرق بينهما شهادة شهود فمكث زماناً، وقد كانت للمرأة على الزوج فريضة نفقة معلومة لكل شهر فكانت المرأة تأخذ ذلك حالة العدة، ثم علم أن الشهود كانوا عبيداً أو محدودين في المقذف فردت شهادتهم وردت المرأة على زوجها ويجب عليها رد ما أخذت في هذه المدة لأنه يتبين أنها منكوحة في هذه المدة ممنوعة عن الزوج، لا بمعنى من جهة الزوج. كذا ههنا.
ومما يتصل بهذا الفصل
المعتدة إذا أنفق عليها إنسان ليتزوجها، ثم لما انقضت العدة إنسان تزوج نفسها منه، فهذا على وجهين: الأول أن يشترط الزوج وقت الإنفاق بأن يقول لها: أنفق عليك ما دمت في العدة على أن تزوجي نفسكِ مني إذا مضت عدتك ففي هذا الوجه للزوج أن يرجع عليها بها إذا أنفق، سواءً زوجت نفسها أو لم تزوج، لأنه أنفق عليها بشرط فاسد.
وذكر في «فتاوى الفضلي» رحمه الله: في هذا الوجه أن الزوج إن كان أعطاها دراهم فله أن يرجع عليها إذا أبت أن تزوج نفسها منه. إلا أن يكون أعطاها على وجه الصلة.(4/238)
-----
الوجه الثاني: أن ينفق عليها من غير شرط التزويج لكن علم عرفاً أنه يتفق بشرط أن تزوج المرأة نفسها منه، ثم لم ترجع.
وفي هذا الوجه اختلف المشايخ بعضهم، قالوا: يرجع لأن المعروف كالمشروط، وبعضهم قالوا: لا يرجع وهو الصحيح؛ لأنه أنفق على قصد التزوج لا على شرط التزويج الفضل.
الفصل الثالث في نفقة ذوي الأرحام
هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً:
النوع الأول فيما يحب على الأب والأم في رضاع الصغير ونفقته.
والأصل في ذلك قول الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (البقرة: 233) الآية ولأهل العلم في معنى أول الآية إلى آخرها كلام، وأما قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} اختلفوا فيه:
قال بعضهم: هذا مجرد...... الوالدات، كذا يفعلن في العام الغالب. وليس فيه إيجاب الإرضاع على الأمهات.
وقال بعضهم: فيه إيجاب الإرضاع على الأمهات، وإن كان بصيغة الخبر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (البقرة: 228) وعن هذا ثلاث، إن حال قيام النكاح لا يجوز لها أن تأخذ الأجر بالإرضاع، لأنه يجب عليها الإرضاع ديانة، وإن كانت لا تجبر على ذلك في الحكم واحد الأجرة إذا ما يجب عليها من الدين لا يجوز.
ألا ترى أنه لا يجوز لها أخذ الأجر من الزوج بسبب أعمال داخل البيت ولهذا أن أعمال داخل البيت واجبة عليها ديانة، كذا ههنا.
وفي الجبر على الإرضاع كلام، واختلاف يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {حولين كاملين} فيه اختلاف ظاهر: أن هذه مدة الرضاع في حق التحريم بأدنى (المدة) قال أبو حنيفة رحمه الله: شهراً إن وجد الرضاع في هذه المدة ثبتت الحرمة وفُطِم على رأس الحولين، أو لم يفطم، وإن وجد بعد هذه المدة تثبت الحرمة وفطم على رأس هذه المدة، أو لم يفطم. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: حولين، وهو قول الشافعي رحمه الله.(4/239)
-----
وقال زفر رحمه الله: ثلاث سنين والحجج معروفة في «المبسوط» ثم مدة الرضاع ثلاث أوقات: أدنى، وأوسط، وأقصى.
فالأدنى: حول ونصف.
والأوسط: حولان.
والأقصى: حولين ونصف، حتى لو نقص عن الحولين لا يكون شططا، ولو زاد على الحولين لا يكون مقدراً، والوسط: هو الحولان فلو كان الولد يستغني عنها دون الحولين تفطمه في حول ونصف بالإجماع يحل ولا تأثم، ولو لم يستغن عنها بحولين يحل لها أن ترضعه بعد ذلك (312ب1). عند عامة العلماء إلا عند خلف بن أيوب رحمه الله، إنما الكلام في ثبوت الحرمة واستحقاق الأجر عند أبي حنيفة رحمه الله ثبتت حرمة الرضاع في ثلاثين شهراً، وعندهما إلى حولين.
أما الكلام في استحقاق الأجر قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هو على هذا الخلاف حتى أن من طلّق امرأته فأرضعت بعد الحولين فطلبت الأجر عند أبي حنيفة رحمه الله: استحق الأجر إلى تمام حولين ونصف وعند أبي يوسف ومحمد رحمها الله: لا يستحق الأجرة فيما عدا الحولين، وأكثر المشايخ أن على مدة الرضاع في حق استحقاق الأجر على الأب فقدره بحولين عند الكل حتى لا تستحق المطلقة أجرة الرضاع بعد الحولين بالإجماع، وتستحق في الحولين بالإجماع.
وأما قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} (البقرة: 233) هي من إرادة تمام الرضاع ترضع حولين كاملين لا ينقص عن ذلك، ولكن إذا نقص عن ذلك، وكان الولد يستغني عن ذلك يجوز، وقد مرّ جنس هذا، وأما قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233) سنبّين معناه بعد هذا إن شاء الله.
قال أصحابنا رحمهم الله، ولا تجبر الأم على إرضاع ولدها؛ لأن الإرضاع بمنزلة النفقة ونفقة الأولاد تجب على الآباء لا على الأمهات فكذا الإرضاع. وإن كان الصبي لا يأخذ لبن غريها ولا يوجد من ترضعه هل تجبر الأم على الإرضاع؟.(4/240)
-----
ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه»: أن القاضي الخصاف في باب نفقة الصبيان أن في «ظاهر الرواية» عن أصحابنا رحمهم الله: لا تجبر. وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة رحمهما الله في «النوادر» أنها تُجبر، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف أيضاً أنها تجبر من غيره بلا خلاف.
وهكذا ذكر في «شرح القدوري»، وهذا لأنها لو لم تجبر والولد لا يأخذ لبن غيرها...... الولد وهي ممنوعة عن إتلاف الولد.
وجه ما ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن الولد تغذى بالدهن وغيره من المائعات لا يؤدي هذا إلى إتلاف الولد. قال الضحاك: إذا لم يكن للصبي أو للأب مال أجبرت الأم على الإرضاع وهو الصحيح، لأنها..... في اللبن، فصار هذا قياس ما قال أصحابنا رحمهم الله في الأب إذا غاب وليس له مال، وترك امرأة وصغيراً وللمرأة مال فالمرأة تجبر على الإنفاق على الصبي، ثم هي ترجع عليه، كذا ههنا.
ثم إرضاع الصغير إذا كان يوجد من يرضعه إنما يجب على الأب إذا لم يكن للصغير مال. أما إذا كان له مال بأن ماتت أمه فورث مالاً أو استفاد مالاً بسببٍ آخر يكون مؤنة الرضاع في مال الصغير، وكذلك نفقة الصبي بعد الفطام إذا كان له مال لا يجب على الأب.
فرق بين نفقة الولد وبين نفقة الزوجات، فإن المرأة وإن كانت موسرة فنفقتها على الزوج.
والفرق وهو: أن نفقة الزوجة إنما تجب إذا تمكن من الاستمتاع، فكان سببه البدل، والبدل يجب وإن كان من يستحقهُ غيناً. فأما نفقة الولد لا تجب إذا تمكن من الانتفاع، وإنما تجب لأجل الحاجة فلا تجب بدون الحاجة، كنفقة المحارم.
فإن كان للصغير عقاراً....... ذلك للنفقة كان للأب أن يبيع ذلك كله وينفق عليه؛ لأنه غني بهذه الأشياء، ونفقة الصبي تكون في ماله إذا كان غنياً.6(4/241)
-----
وإن كان مال الصغير غائباً توجب على الأم أن تنفق من مال الولد إذا حضر ماله، ولكن إن أشهد على ذلك فله أن يرجع في الحكم، وإن أنفق بغير إشهاد على نية الرجوع ليس له أن يرجع في الحكم؛ لأن الظاهر أن الأب قصد فيما ينفق على ولده التبرع والقاضي لا يطلع إلا على الظاهر، أما الله تعالى فمطلع على الضمائر والظواهر، فكان له أن يرجع إذا كان قصده عند الإنفاق الرجوع. وأما إذا لم يكن قصده عند الإنفاق الرجوع.
وأما إذا لم يكن للصبي مال فالنفقة على والده لا يشاركه أحد في ذلك؛ لأنه إنما يستحق النفقة على الوالد لكونه........ إليه غيره لا يشاركه في هذا المعنى فلا يشاركه في النفقة عليه.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن النفقة على الأب والأم أثلاثاً على حسب ميراثهما إلا أن في «ظاهر الرواية» جعل الكل على الأب لأن النفقة نظير الإرضاع، فكما لا يشارك الأب في مؤنة الإرضاع أحدٌ فكذا في النفقة. قال: وإن كان الأب معسراً والأم موسرة أمرت أن تنفق من مالها على الولد ويكون ديناً على الأب ترجع عليه إذا أيسر، لأن نفقة الولد الصغير على الأب وإن كان معسراً كنفقة نفسه فكانت الأم صاحبة حق واجب عليه يأمرها القاضي فترجع عليه إذا أيسر كما إذا أدت بأمره ثم جعل الأم أولى بالتحمل من سائر الأوقات، حتى لوكان الأب معسراً والأم موسرة، وللصغير جدٌّ موسر تؤمر الأم بالإنفاق من مال نفسها ثم ترجع على الأب، ولا يُؤمر الجد بذلك؛ لأنه وقعت الحاجة إلى الاستدانة من مالها وهي أقرب إلى الصغير وأولى.
قال: رجل له ولد صغير وأمه في نكاحه، فطلبت من زوجها أجرة الرضاع لا تستحق وإن استأجرها على ذلك لما ذكرنا من المعنى، ومعنى آخر: أن نفقة النكاح واجب على الزوج كما وجب على الزوج، فلو أوجبنا عليه أجرة الرضاع يجتمع أجرة الرضاع مع نفقة النكاح في مالٍ واحد وهذا لا يجوز هذا إذا لم يكن للصغير مال.(4/242)
-----
أما إذا كان له مال هل يجوز أن يقرض أجرة الرضاع من ماله؟ ذكر رحمه الله في أول «شرح النفقات» للخصاف رحمه الله: أنه روى عن محمد رحمه الله أنه يقرض من مال الصبي، وهكذا ذكر في إجارات القدوري.
قال محمد رحمه الله في أول «شرح النفقات»: وليس فيه اختلاف الروايتين ولكن ما روي عن محمد رحمه الله أنه يقرض من مال الصغير تأويله إذا لم يكن للأب مال، وما ذكر أن الزوج إذا استأجرها على إرضاع ولده لا يجوز تأويله إذا فرض أجرة الرضاع في ماله نفسه ولا يستحق ذلك كيلا تجتمع أجرة الرضاع مع نفقة النكاح في مال واحد، وهذا (313أ1) المعنى لا يتحقق إذا فرض لها في مال الصغير فقلنا إنها تستحق ذلك المال، وإن كانت الأم معتدة عن طلاق رجعي لا تستحق أجرة الرضاع على الزوج أيضاً، لأن بالطلاق الرجعي النكاح لم يزل، فصارت هذه الحالة حال قيام النكاح، فأما إذا كانت الأم معتدة عن طلاق بائن أو طلقات ثلاث هل تستحق أجرة الرضاع؟ فيه روايتان: وجه الرواية التي قال: لا تستحق بالطلقات الثلاث والطلاق البائن التحقت بسائر الأجنبيات والأجنبية تستحق الأجرة للرضاع فكذا هذه المرأة.
وجه الرواية الأخرى: أن العدة من أحكام النكاح فلهذا تجب النفقة ما ثبتت العدة.
والدليل عليه: أن الرجل إذا...... زكاة ماله إلى معتدته عن طلاق ثاني أو ثالث أو شهد لمعتدته عن طلاق ثاني أو ثالث لا يجوز رواية واحدة فعلم أن هذه الحالة معتبرة بحال قيام النكاح، فلا تستحق أجرة الرضاع كما في حال قيام النكاح أما بعد انقضاء العدة تستحق أجرة الرضاع باتفاق الروايات؛ لأن هذه الحالة ليست بحالة قيام النكاح أصلاً، فكانت في هذه الحالة ملحقة بالأجنبيات من كل وجه.
فرع على هذه المسائل في كتاب الصلح(4/243)
-----
فقال: لو صالحت المرأة زوجها عن أجرة الرضاع على شيء إن كان الصلح حال قيام النكاح أو في العدة عن طلاق رجعي لا يجوز، وإن كان الصلح في العدة عن طلاق ثاني أو طلقات ثلاث جاز على إحدى الروايتين؛ لأن الصلح على أن يعطيها شيئاً لترضع ولدها استئجار لها على إرضاع ولده منها وذلك على هذا التفصيل على ما ذكرنا، كذا هنا.
وإذا جاز الصلح بعد الطلاق الثاني على إحدى الروايتين كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا استأجرها على عمل آخر من الأعمال ولو استأجرها على عمل أخر من الأعمال على دراهم أو صالحها عن تلك الدراهم بعينه جازو إن صالح عن تلك الدراهم على شيء بغير عينه لا يجوز إلا أن يدفع ذلك في المجلس حتى لا يكون هذا بيع دين بدين كذا ههنا.
وفي كل موضع جاز الاستئجار ووجبت النفقة لا يسقط بموت الزوج؛ لأنها أجرة ليست بنفقة، ثم إذا لم تحب أجرة الإرضاع حال قيام النكاح من كل وجه، وفي العدة عن طلاق رجعي في العدة، عن طلاق ثاني أو ثالث على إحدى الروايتين كان لها أن تمنع عن الإرضاع ولا تجبر على ذلك ولكن بالشرائط التي ذكرنا قبل هذا وإذا لم يجبرو لم يكن للصبي مال كان على الأب أن يكتري امرأة ترضعه عند الأم ولا تبرع على الأم؛ لأن الأم أجمعت على أن الجحد لها، لكن لا يجب على...... تمكث في بيت الأم إذا لم يشترط ذلك عليها عند العقد، وكان الولد يستغني عن الظئر في تلك الحالة، بل لها أن ترضع وتعود إلى منزلها.(4/244)
-----
وإذا لم يشترط عند العقد أن ترجع عند الأم كان لها أن تحمل الصبي إلى منزلها أو يقول: أخرجوه وأرجعوه عند فناء الدار، ثم يدخل الولد على الوالدة إلا أن يكون شرط عند العقد أن الظئر تكون عند الأم، فحينئذ يلزمها الوفاء بذلك الشرط، فإذا قالت: أنا أرضع الولد بمثل ذلك الأجرة، ففي كل موضع تستحق هي أجرة الرضاع كما في العدة عن طلاق ثاني أو ثالث على إحدى الروايتين أو بعد انقضاء العدة على الروايات كلها كانت هي أولى، بخلاف ما إذا كانت تطلب زيادة على ما ترضعه غيرها حيث لا تكون هي أولى.
والفرق: وهو أن إرضاع الأم للصغير، فإذا كانت ترضعه بما يرضعه غيرها فالأب في انتزاع الولد منها متعنت محض مأخذ الإضرار بالولد فكانت الأم أولى: أما إذا طلبت الزيادة على ما يرضعه غيرها لم يكن الزوج في انتزاع الولد منها متعنتاً، فكان للزوج ذلك، وإلى هذا وقعت الإشارة في الكتاب. قال الله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} (الطلاق: 6) جاء في التفسير: أن التعاسر أن يجرى بينهما المكس في الأجرة.
قال: ولو.... أولاد صغار، بعضهم رضيع وبعضهم فطيم وأمهم زوجية وليس للأولاد مال، فخاصمته أمهم في نفقتهم فالقاضي يفرض لهم النفقة على الأب ما داموا صغاراً للأب نفقة الأولاد الصغار ويكون على الأب بالإجماع. وإن شكت الأم..... في النفقة عليهم، فينبغي للقاضي أن يسمع..... ويدفع بعض نفقة الأولاد إليها؛ لأن الأب إذا كان..... عليهم ربما يموتوا جوعاً فيدفع بعض نفقة الأولاد إليها لأنها أرفق بالأولاد فلا..... عليهم.(4/245)
-----
فإن قال الأب: إنها تدخل..... نفقة الأولاد ولا ينفق ذلك على الأولاد وتجمعهم لا يقبل قوله عليها؛ لأنها أمينة، ودعوى الجناية على الأمين لا تسمع من غير حجة. فإن قال للقاضي: سَلْ جارتها عنها، فإن القاضي يسأل عن جيرانها احتياطاً، وإنما يسأل عن كل من تداخلها؛ لأنه إنما يعرف حالها من تداخلها فإن جيرانها مثل الذي ادعى الأب...... القاضي ومنعها عن ذلك لأنه نصب ناظراً للمسلمين، ونظر الصغار في هذا.
ومن مشايخنا رحمهم الله من قال: إذا وقعت المنازعة بين الزوجين في هذا الباب وظهر قدر النفقة فالقاضي بالخيار؛ إن شاء دفعها إلى نفقتها يدفعها إليها صباحاً ومساءً، ولا يدفعها إليها جملة، وإن شاء أمر غيرها أن تنفق على الأولاد.
قال: وإن صالحت المرأة زوجها عن نفقة الأولاد الصغار صحّ سواء كان الأب معسراً أو موسراً؛ لأن نفقة الصغار من الأولاد لا يسقط بعسرة الأب، ثم اختلفت عبارة المشايخ....... جاز هذا الصلح. قال بعضهم: إنما جاز لأن الأب هو العاقد من الجانبين، والأب يصلح أن يكون عاقداً من الجانبين. ألا ترى أن الأب يبيع مال نفسه من الصغير ويشتري مال الصغير لنفسه فيكون هذا العاقد من الجانبين.
وقال بعضهم: إنما جاز؛ لأن العاقد من جانب الأب ومن جانب الصغار الأم، ونفقة الصغير من أسباب التربية والحضانة فكان للأم في ذلك ولاية قائمة (313ب1) جاز هذا الصلح بولاية الأب وولايتها. فبعد هذا ينظر؛ إن كان وما وقع الصلح عليه أكثر من نفقتهم، فإن كانت الزيادة مما يتغابن الناس فيه بأن كانت الزيادة زيادة تدخل تحت تقدير المقدرين في مقدار كفايتهم فإنه يكون عفواً؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه.(4/246)
وإن كانت الزيادة بحيث لا ندخل تحت تقدير المقدرين يطرح عنه لأن الواجب مقدار الكفاية، فما زاد على قدر الكفاية لا ينسب له فيبطل، وإن كان المصالح عليه أقل من نفقتهم بأن كان لا يكفيهم يبلغ إلى مقدار كفايتهم؛ لأن الواجب على الأب مقدار ما يكفيها.(4/247)
-----
فرق بين نفقة الأولاد وبين نفقة الأقارب، فإن المعسر إذا صالح قريبه عن النفقة لا يجوز الصلح؛ لأن النفقة للأقارب لا تجب إلا على الموسر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فهذا الصلح إنما وقع عما ليس بحق القريب فلا يصح. أما نفقة الأولاد واجبة على الأب. وإن كان الأب معسراً فالصلح إنما وقع عمّا هو حق الأولاد فصح.
قال: رجلٌ له أولاد صغار لا مال له ولا مال للصغار هل أيضاً يفرض عليه؟ فيكتسب وينفق عليهم؛ لأن نفقة الأولاد الصغار لا تسقط بعسرة الأب. قال الله تعالى: {وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (البقرة: 236) ثم قال الله تعالى: {من وجدكم} (الطلاق: 6) والوجد: هو الطاقة. علم أن هذه النفقة لا تسقط بالعسار ولكن يفرض عليه مقدار طاقته لما تلونا من النص.
وإن أبى الأب أن يكتسب وينفق عليهم يجبر على ذلك ويحبس، بخلاف سائر الديون، فإن الوالدين وإن عَلَو لا يحبسون بديون الأولاد وفي هذا الدين، قال يحبس.
والفرق: وهو أن في الامتناع عن الإنفاق ههنا إتلاف النفس، والأب لا يستوجب العقوبة عن قصده إتلاف الولد كما لوعدا على ابنه بالسيف كان للابن أن يقتله، بخلاف سائر الديون.
ولو كان الأب عاجزاً عن الكسب لماله من السعاية أو كان مقعداً يتكفف الناس وينفق عليهم. هكذا ذكر في نفقات الخصاف رحمه الله، ومن المتأخرين من قال تكون نفقة الأولاد في هذه الصورة في بيت المال؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة تكون نفقته في بيت المال فكذا نفقة أولاده.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي»: أن في هذه الصورة يفرض القاضي النفقة على الأب ويأْمُرُ المرأة بالاستدانة على الزوج سواء التمست المرأة ذلك من القاضي أو لم تلتمس، فإذا أيسر وقدر عليه طالبته المرأة بما استدانت.(4/248)
-----
وكذلك لو كان الأب في أخذ النفقة لكنه امتنع عن النفقة على الصغير يفرض القاضي على الأب نفقة الأولاد فامتنع الأب عن (النفقة) على الأولاد فالقاضي يأمرها أن تستدين عليه وتنفق على الصغير لترجع بذلك على الأب.
قال: وكذلك إن فرض القاضي النفقة على الأب ومات الأب فتركهم بلا نفقة فاستدانت بأمر القاضي وأنفقت عليهم فإنها ترجع على الأب بذلك الإنفاق على الصغير بأمر القاضي كالإنفاق عليهم بأمر الأب، وكذلك هذا الحكم في مؤنة الرضاع إذاكان الأب معسراً فالقاضي يأمر المرأة بالاستدانة فإذا أيسر رجعت عليه بالقدر الذي أمرها القاضي بالاستدانة لما قلنا.
وإن لم تكن المرأة استدانت بعد الفرض لكنهم كانوا يأكلون من مسألة الناس لم ترجع على الأب بشيء، لأنهم إذا سألوا وأُعطوا صار ذلك ملكاً لهم، فوقع الاستغناء عن نفقة الأب، واستحقاق هذه النفقة باعتبار الحاجة. فإذا وقع الاستغناء لهم ارتفعت الحاجة فتسقط النفقة عن الأب، فإن كانوا أُعطوا مقدار نصف الغاية سقط نصف النفقة عن الأب، وتصح الاستدانة في النصف بعد ذلك. وعلى هذا القياس فافهم.
وليس هذا في حق الأولاد خاصة بل في نفقة جميع المحارم إذا أكلوا من مسألة الناس لا يكون لهم حق الرجوع على الذي فرضت نفقتهم عليه واجب المسألة أن نفقة الأقارب لا تصير ديناً، بقضاء القاضي بل تسقط بمضي المدة، بخلاف نفقة الزوجات والفرق قد مرّ قبل هذا.(4/249)
-----
وذكر في أبواب «زكاة الجامع»: أن نفقة الأقارب تصير ديناً بقضاء القاضي. واختلف المشايخ فيه: قال بعضهم، إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضع، فموضوع المحارم ما ذكر في «الجامع» إذا استدان المقضي له بالنفقة وأنفق من ذلك فتكون الحاجة قائمة لقيام الدين. وموضوع ما ذكر في سائر المواضع: إذا أنفق مال صدقة تُصُدِّقَ بها عليها فلا تُنفى الحاجة بعد مضي المدة، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب النكاح. وقال بعضهم: ما ذكر في سائر المواضع محمول على ما إذا طالت المدة.
وما ذكر في «الجامع» محمول على ما إذا قصرت المدة، ونفقة الأقارب، إنما لا يصير ديناً بقضاء القاضي إذا طالت المدة، أمّا إذا قصرت يصير ديناً فكيف لا يصير ديناً؟ فإن القاضي مأمور بالقضاء بالنفقة، ولو لم يصير ديناً أصلاً لم يكن للأمر بالقضاء بالنفقة معنى وفائدة، لكن لا بد من حلَ فاصلٍ بين القصر والمزيد، فقدَّروا القصر ما دون الشهر، وذكر في «الحاوي» في «الفتاوى» هذه المسألة.
وفرق بين نفقة الصبي وبين نفقة سائر المحارم فقال: نفقة الصبي تصير ديناً على الأب بقضاء القاضي، ونفقة سائر الأقارب لا تصير ديناً بقضاء القاضي، قال: فإن كان القاضي بعدما فرض نفقة الأولاد أمرها بالاستدانة فاستدانت حتى يتثبت لها حق الرجوع على الأب فمات الأب قبل أن يؤدي إليها هذه النفقة هل لها أن تأخذ من ماله إن ترك مالاً؟ ذكر الخصاف في «نفقاته»: أنه ليس لها ذلك، وذكر في «الأصل»: أن لها ذلك وهو الصحيح؛ لأن استدانة المرأة بأمر القاضي، وللقاضي ولاية كاملة بمنزلة استدانة الزوج بنفسه، ولو استدان الزوج بنفسه ثم مات لا يسقط عنه الدين كذا ههنا.(4/250)
-----
هذا إذا استدانت بأمر القاضي، فأما إذا فرض القاضي نفقة الأولاد ولكن يأمرها بالاستدانة فاستدانت ثم مات الزوج قبل أن يُؤدي ذلك إليها ليس لها أن تأخذ من ماله إن ترك مالاً بالإنفاق، وقد مرّ جنس (314أ1) هذه الفصول في باب نفقة الزوجات، ثم قدّر محمد رحمه الله نفقة الصغير وكسوته على المعتبر بالدراهم، وهذا ليس بتقدير لازم، إنما المعتبر ما يحصل به الكفاية لكن إن موسراً يؤمر بأن يوسع على الأولاد في النفقة والكسوة على حسبه لما يرى الحاكم، وقد مرّ نظائره في نفقة الزوجات أيضاً.
قال: وأما الذكور من الأولاد إذا بلغوا أحد الكسب ولم يبلغوا في أنفسهم، فأراد الأب أن يشغلهم في عمل ليكسبواوينفق عليهم من ذلك فله ذلك. وكذلك لو أراد الأب أن يؤاجره في عمل أو حرفةٍ فله ذلك؛ لأن فيه منفعة للصغير؛ لأن يتعلم الكسب. أما قبل أن يتعلم أو بعدما تعلّم ولكنه لا يحسن العمل فنفقته على الأب؛ لأنه إذا كان لا يحسن العمل لا يستعمل في الأعمال غالباً وظاهراً، فكأنه لم يتعلم أصلاً.
وأما إذاكان الولد من الإناث فليس للأب أن يؤاجرها في عملٍ أو حرفة لأن المستأجر لحلاوتها وذلك منهيٌ في الشرع، ثم في الذكور إذا أشغلهم في عمل واكتسبوا أموالاً فالأب يأخذ كسبهم وينفق عليهم من كسبهم؛ لأن ذلك ملكهم، ونفقة الولد في ماله إذا كان له مال وما فضل من نفقتها فالأب يحفظ ذلك عليهم إلى وقت بلوغهم كسائر أموالهم.
فإن كان الأب مبذراً لا يؤمر على ذلك، فالقاضي يخرج ذلك من يده ويجعله في يد أمين ليحفظه لهم، فإذا بلغوا سلم إليهم، وهذا لا يختص بهذا المال، بل هذا الحكم في جميع أموال الصبيان.(4/251)
-----
قال: وإذا جاءت الأمة المشتركة بولد فادعاه الموليان فنفقة الولد عليهما، إذا كبر نفقة كل واحد منهما، وهذا يشكل على أصل أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، فإنهما يقولان: الأب أحدهما حتى قالا: لا ينفرد أحدهما بالتصرف، مع هذا استحق كل واحد منهما نفقته أب كامل، إنما كان كذلك؛ لأنا لو أوجبنا نفقة أب واحد ما يصرف إليهما، ولا وجه إليه، إذ الأصل إلى الأب كفايته.
وأما أن يُصرف إلى أحدهما ولا وجه إليه، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، فلم يبق ههنا وجهاً سوى ما قلنا، ولهذا قلنا: لا ينفرد أحدهما بالتصرف حتى لا يكون المتصرف غير الأب يشيء.
ومما يتصل بهذا الفصل
الكبار الذين أُلحقوا بالصغار.
قال: الرجل البالغ إذا كان ذمياً أو مقعداً أو أشلَّ اليدين لا ينتفع بهما، أو معتوهاً أو مفلوجاً، فإن كان له مال يجب النفقة في ماله، وإن لم يكن له مال وكان له (ابنة) موسرة أو أب موسر يجب النفقة على الأب لأن الله تعالى أوجب النفقة على الوالد مطلقاً. قال الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} (البقرة: 233) إلا أنه خصّ عن هذا النص من كان له أو من كان قادراً على الكسب، فبقي ما عداه على ظاهر النص.
وإذا طلب من القاضي أن يفرض له النفقة فعلى الأب إجابة القاضي إلى ذلك، ويدفع ما فَرَض لهم إليهم؛ لأن ذلك حقهم، ولهم ولاية استيفاء حقوقهم، وكذلك الإناث من الأولاد نفقتهن بعد البلوغ على الأب ما لم يُزوجن إذا لم يكن لهن مال؛ لأن بهن عجز ظاهر عن الاكتساب فتكن بمنزلة الزمنى من الذكور، ثم ما ذكر أن نفقة البالغين من الذكور الزمنى ومن الإناث على الأب فذلك جواب «المبسوط».
وأما على ما ذكر الخصاف في «نفقاته»: يجب على الأب والأم أثلاثاً، ثلثاها على الأب وثلثها على الأم. وجه ما ذكرنا في «المبسوط»: أن البالغ إذا لم يكن من أهل أن ينفق على نفسه صار هو والصغير سواء.(4/252)
-----
وجه ما ذكر الخصاف وهو الفرق بين البالغ الزَّمِنْ والصغير؛ وهو أن للأب على الصغير ولاية كماله على نفسه ولاية، فكان الصغير بمنزلة نفسه.
وغير الأب لا يشارك الأب في النفقة على نفسه فكذا في النفقة على الصغير. وأما البالغ فليس للأب عليه ولاية ليصير معني بنفسه فاعتبر كسائر المحارم فتكون نفقته باعتبار ميراثه، وميراثه يكون بينهما أثلاثاً فكذا النفقة.
ثم ذكر في «الكتاب»: ما إذا كان الابن البالغ عاجزاً عن الكسب وأراد موسر وأم موسرة وأوجب جميع النفقة على الأب على رواية «المبسوط» ولم يذكر ما إذا كان الأب معسراً إلا أنه قادر على الكسب، والابن الكبير عاجز عن الكسب وله أم موسرة هل تؤمر الأم بالإنفاق على أن ترجع بذلك على الأب؟ فمن مشايخنا من قال على قياس ما ذكر في «الكتاب»: تؤمر الأم بذلك حتى ترجع على الأب فإنه قال في الولد الكبير: إذا كان عاجزاً عن الكسب فهو بمنزلة الصغير.
والصغير إذا كان له أب معسرٌ قادرٌ على الكسب وله أم موسرة تؤمر الأم بالإنفاق على أن ترجع على الأب إذا أيسر فكذا ههنا.
ومن المشايخ من قال: لا ترجع الأم على الأب ههنا بما أنفقت.
وفرّق هذا القائل بين الصغير والكبير الذي لا يقدر على الكسب. هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه الفرق: وهو أن نفقة الولد الصغير على الأب وإن كان معسراً، إلا أنه لا يمكن جبر الأب على الكسب فتؤمر الأم بالتحمل عنه فكانت الأم قاضية ديناً واجباً على الأب، فترجع بذلك على الأب.
فأما نفقة الابن الكبير فليس على الأب إذا كان معسراً فلم تَصِرْ الأم مؤديةً حقاً واجباً على الأب فلا يرجع بذلك على الأب فلهذا افترقا.
قال: والصحيح الذي به قوة العمل إلا أنه لا يُحْسِنْ العمل فنفقته على الأب إذا كان لا يحسن العمل، والناس لا يأمروه بالعمل، فصار هو كالعاجز عن الكسب.(4/253)
-----
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الرجل الصحيح قد لا يقدر على الكسب لحرفة أو لكونه من أهل البيوتات فيكون عاجزاً عن الكسب. فإذا كان هكذا كان نفقته على الأب وهكذا قالوا في طالب العلم: إذا كان لا يهتدي إلى الكسب لا تسقط نفقته على الأب بمنزلة الزَّمِنْ والأنثى، هذا الذي ذكرنا كلّه إن كان الأب حاضراً.
وإن كان الأب غائباً أو مفقوداً فقد قال في «الكتاب» لا يقضى بالنفقة في مال أحد إذا كان رب المال غائباً إلا للوالدين والوالد (314ب1) والزوجة إذا كان المتروك من جنس حقهم، وهذا يبنى على أصل معروف أن القضاء على الغائب باطل، وإبقاء حق وجب على الغائب من ماله جائز والقضاء بنفقة الوالدين والمولودين والزوجة.....
لما وجب على الغائب، وليس بقضاء على الغائب لأن القضاء إيجاب ما لم يكن واجباً قبل القضاء، ونفقة الوالدين والمولودين والزوجة واجبة قبل القضاء حتى إذا طعن واحد من هؤلاء يحبس حقهم كان لهم الأخذ من غيرقضاء ولا رضا. فأما نفقه سائر الأقارب لا تجب إلا بالقضاء والرضا حتى لو طعن واحد من الأقارب يحبس حقهم لم يكن لهم الأخذ إلا بقضاء أو برضا فلما كان نفقة الوالدين والمولودين والزوجة واجبة قبل القضاء كان القضاء من القاضي أيضاً لما وجب عليه الإيجاب مبتدأً فأما نفقة سائر الأقارب لما لم تكن واجبة كان القضاء إيجاباً مبتدأ أو القضاء على الغائب باطل.
قال في كتاب المفقود: القاضي متى أعطى النفقة لهؤلاء من مال الغائب إن استوثق من الأخذ فحسن لجواز أن هؤلاء أخذوا النفقة من الغائب حال حضرته أو تغيب الغائب بالنفقة إليهم فينظر القاضي للغائب حال عجز الغائب عن النظر لنفسه بنفسه، وإن لم يأخذ منه كفيلاً فهو مستقيم أيضاً، إذا ليس ههنا..... يطلب من القاضي أخذ الكفيل وإنما يجب على القاضي أخذ الكفيل عند طلب الخصم ذلك.(4/254)
-----
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب النكاح: أن زوجة الغائب إذا طلبت النفقة من القاقضي وللغائب مال حاضر والقاضي يعلم بذلك كلّه فرض لها القاضي النفقة بعد أن يُحلّفها أنه لم يعطيها النفقة. فإذا حلفت أعطاها النفقة وآخذ منها كفيلاً وهو الصحيح، وقد ذكرنا وجه ذلك في باب نفقة الزوجات.
فرع على هذه (المسألة)
قال إن كان للغائب عند الوالدين أو الوالد أو الزوجة قال: هو من جنس حقوقهم فأنفقوا على أنفسهم جاز ولم يضمنوا لأنهم ظفروا بجنس حقهم فكان لهم ولاية الأخذ بمقدار حقهم فإن كان عند غيرهم فأعطاهم بأمر القاضي حتى أنفقوا على أنفسهم لم يضمن صاحب اليد وإن كان أعطاهم بغير أمر القاضي كان ضامناً له؛ لأن صاحب اليد مأمور بالحفظ ودفعه إلى غيره لينفق على نفسه ليس من الحفظ في شيء فيصير به مخالفاً ضامناً، وهو نظير المودع إذا قضى دين المودع بالوديعة كان ضامناً كذا ههنا، وكان الحاكم الإمام أبي إسحاق..... رحمه الله يقول في المودع: إذا قضى دين المودع بالوديعة أنه لا يضمن.
والصحيح أنه يضمن، وأشار إليه محمد رحمه الله في كتاب الوديعة، هذا إذا كان ما تركه الغائب من جنس حقهم. فأما إذا لم يكن من جنس حقهم فأرادوا أن يبيعوا شيئاً من مال الغائب بنفقتهم أجمعوا على أن سوى الوالد بمحتاج لا يملك بيع عقار الغائب ولا يبيع عروضه بالنفقة. وأما الأب المحتاج يمنع بيع المنقول بالنفقة استحساناً ولا يملك بيع العقار إلا إذا كان الولد الغائب صغيراً، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله في كتاب المفقود. وكذلك قياس قوله في المفقود.
والقياس: أن لا يملك الأب البيع على ابنه الكبير الغائب في العقار ونحوه كما لا يملك غير الأب، وأجمعوا على أن حال حضرة من يجب عليه النفقة ليس لأحد ممن يستحق النفقة بيعُ العروض والعقار.(4/255)
-----
وجه القياس في ذلك: وهو أن ولاية الأب تنقطع ببلوغ الصبي رشيداً إلا فيما يبيعه تحصيناً لولده الغائب، فإن الابن إذا بلغ وهو غائب فللأب ولوصي الأب بيع عروضه تحصيناً على الغائب، وههنا هو لا يبيع تحصيناً على الغائب، إنما يمنع لنفسه وليس له هذه الولاية.
وجه الاستحسان: وهو أن ولاية الأب وإن دلّ بالبلوغ ولكن بقي أثره، ولهذا صح منه الاستيلاد في جارية الابن فلبقاء أثر الولاية أثبتنا له ولاية بيع العروض؛ لأن بيع العروض من الحفظ؛ لأنه يخشى عليه التلف وحفظ الثمن أيسر، وولاية الحفظ ثبتت لمن لا يثبت له ولاية التصرف كما قلنا في الوطء في حق الوارث الكبير الغائب، فكذلك الأب فيعُدُّ بيع بيع الثمن من جنس حقه، فله أن يأخذ منه مقدار النفقة، فأما العقار محصنة بنفسها فلم يكن بيعها بحق الحفظ لو كان بحق الولاية وقد زالت الولاية بالبلوغ عن عقدٍ بخلاف الأم وسائر الأقارب؛ لأنه لم يكن لهم ولاية التصرف حالة الصغر ليبقى أثر تلك الولاية بعد البلوغ فلم يجز بيعهم، أما ههنا بخلافه.
فأما إذا أراد القاضي أن يتولى البيع في هذه الصورة بنفسه ليس له ذلك عند الكل لا في العروض ولا في العقار ولا في النفقة ولا في سائر الديون. وقد ذكرنا هذا في نفقة الزوجات. هذا الذي ذكرنا إذا كان الحال معلوماً للقاضي، فأما إذا لم يكن فالقاضي ماذا يصنع فوجوه ذلك قد مرّ في نفقة الزوجات أيضاً.
هذا الذي ذكرنا حالة حياة الأب، فإن كان الأب قد مات وترك أموالاً وأولاداً صغاراً كان نفقة الأولاد من أنصبائهم لأنهم أغنياء وكذلك كل ما يكون وارثاً فنفقته في نصيبه، وكذلك امرأة الميت تكون نفقتها في حصتها من الميراث حائلاً كانت أو حاملاً.(4/256)
-----
بعد هذا ينظر إن كان الميت قد أوصى إلى رجلٍ، قالوا: ينفق على الصغار من أنصبائهم. فإن كان الميت لم يؤمن إلى أحد فالقاضي يفرض لكل واحد من الصغار في نصيبه بقدر ما يحتاج إليه من النفقة على قدر سعة أموالهم وضعفها، ويشتري للصغير خادماً إن كان يحتاج إلى الخادم؛ لأنه من جملة مصالحه. والقاضي نصب لأقامة مصالح كل من عجز عن الإقامة بنفسه. فكذا كل من كان من المصالح فالقاضي يشتري ذلك للصغير من نصيبه، ولم يذكر في هذه المسألة أن القاضي ينصب لهم وصياً إذا لم يكن الميت أوصى إلى أحدٍ وذكر في المسألة التي تلي هذه المسألة. وذكره في تلك المسألة يكون (315أ1) ذكراً في هذه المسألة قال:
وإن كان الميت لم يوصِ إلى أحد وله أولاد كبار وصغار فنفقة كل واحد منهم يكون في نصيبه لما ذكرنا، وينصب القاضي وصيّاً في ماله، لأن للقاضي أن ينصب الوصي في مال الميت في ثلاث مواضع:
أحدها: أن يكون على الميت دين.
والثاني: أن يكون الميت أوصى......
والثالث: أن يكون الورثة صغاراً، وههنا في الورثة الصغار.
فكان للقاضي أن ينصب وصياً، فإن لم يكن في البلد قاض فأنفق الكبار على الصغار، وأيضاً: الصغار كانوا متطوعين في هذه النفقة لأنه لا ولاية لهم على الصغار في مالهم، وهذا في الحكم، أما فيما بينهم وبين الله تعالى لا ضمان عليهم لأنهم احتسبوا فيما فعلوا.
ونظير هذا ما ذكر في كتاب الوديعة: أن للمودع إذا باع اللبن من غير استطلاق رأي القاضي وفي المصر قاضي ضمن، وإن كان..... وذكر في «النوادر»: إذا لم يكن في الموضع يمكنه استطلاق رأي القاضي لا يضمن استحساناً. وكذلك قال مشايخنا في الرجلين في سفر فأغمي على أحدهما، فأنفق الآخر على المغمى عليه من مال المغمى عليه لم يضمن استحساناً.(4/257)
-----
وكذا إذا مات فجهزه صاحبه من ماله لم يضمن استحساناً. وكذا العبيد المأذونون في التجارة إذا كانوا في البلاد فمات مواليهم فأنفقوا في الطريق لم يضموا استحساناً. وكذا روي عن مشايخ بلخ أنهم قالوا: إذا كان للمسجد أوقاف ولم يكن لها متولي فقام واحد من أهل المحلة في جميع غلة الأوقاف وأنفق على المسجد فيما يحتاج إليه من الحصير والحشيش لا يضمن استحساناً فيما بينه وبين الله تعالى.
وحكى عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه مات واحد من تلامذته فباع محمد رحمه الله كتبه وأنفق في تجهيزه، فقيل له: ألم..... بذلك فتلا محمد رحمه الله قول الله تعالى: {وا يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) فكان على قياس هذا فلا ضمان عليه فيما بينه وبين الله تعالى استحساناً. أما في الحكم ضامن لما قلنا.
قال:لو كان الكبار أنفقوا على الصغار ثم لم يقروا بذلك ببيعه نصيبهم وسعهم ذلك، ولو اختلفوا على ذلك؛ قال في «الكتاب»: رجوت أن لا يكون عليهم شيء.
نظير هذا إذا عرف الوصي الدين على الميت فقضاه ولم يقرّ بذلك ولم يعرفه القاضي ولا الورثة لا يأثم فيما فعل وكذلك إذا كان لرجل عند رجل وديعة وعلى المودع مثل تلك الوديعة، والمودع يعلم أنه مات ولم يقبض دينه ليسمح للمودع أن يقضي ذلك الدين بماله ولا يقربه.
وكذلك إذا كان على زيد لعمروٍ دين، وعلى عمرو مثل ذلك دين لرجل آخر فمات عمرو، وزيد يعرف أن عمرو لم يقض ليسع لزيد أن يقضي دين عمرو، وبما لعمرو على زيد، ولا تجبر ورثته بذلك.
وكذلك إذا مات الرجل ولم يوصِ إلى أحد وله أولاد صغار، وله مال وديعة عند رجل ليس للمودع في الحكم أن ينفق عليهم، ويحتسب بذلك من مال الميت، ولكن إذا فعل وحلف أنه ليس لهم عليه حق رجوت أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله؛ لأنه لم يرد بهذا إلا الإصلاح، وإنه موافق لما روينا عن محمد رحمه الله.(4/258)
-----
النوع الثاني فيما لا يجب على الآباء من نفقة الأولاد
قال: وإذا تزوج العبد أو المدبر أو المكاتب امرأة بإذن المولى فولدت امرأته أولاداً لا يجبر على نفقة الأولاد سواء كانت أمهم حرة أو أمة أو مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة؛ لأن ما يستحق الولد من النفقة صلة محضة، وما كان صلة محضة لا يستحق على هؤلاء، وهذا بخلاف نفقة المرأة؛ لأنها صلة من وجه، عوض من وجه، وما كان صلة من وجه عوضاً من وجه جاز أن يستحق على هؤلاء من حيث إنه عوض.
فرّععلى هذا في الكتاب
فقال: إذا لم يجب على الأب نفقة الأولاد، على من يجب؟ ففيما إذا كانت المرأة مكاتبة فنفقة الأولاد عليها؛ لأن الولد تابع للأم في كتابتها، فكان كالمملوك لها، ألا ترى أن كسبه لها وأرش الجنابة عليه لها، وميراثه إن مات لها. فإذا كان كالمملوك لها كان نفقته..... عليها إذا كانت المرأة مدبرة أو أم ولد فأولاد..... وتكون نفقتهم على مولاهما وهو مولى أم الولد، والمدبرة فيما إذا كانت أَمَةُ رجل آخر فنفقة الأولاد على مولى الأمة؛ لأن أولادها أَرِقّاء لمولى الأمة، فتكون نفقتهم على مولى الأمة.
وفيما إذا كانت المرأة حرة فنفقة الأولاد على الأم إن كان للأم مال، وإن لم يكن لها مال فنفقة الأولاد على من يرث الأولاد الأقرب فالأقرب. وكذلك الحر إذا تزوج أمة أو مكاتبة أو أم ولد فالجواب فيه كالجواب في العبد والمدبر والمكاتب على ما ذكرنا.
فرع على مسألة الحر
فقال: إن كان مولى الأمة وأم الولد والمدبرة، وأب الأولاد غنيٌّ هل يؤمر الأب بالإنفاق، فإن كان الولد من الأمة لا يؤمر الأب بذلك لأن ابنه مملوك مولى الجارية، فأما أن يبيعه مولاه أن ينفق عليه على ما يأتي بعد هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.(4/259)
-----
وإن كان الولد من أم ولد أو مدبرة فإن ههنا يؤمر الأب بالإنفاق عليهم؛ لأن ههنا لا يمكن أن يجبر المولى على بيعهم، فتعين طريق إيصال النفقة إليهم، أمر الأب بذلك.
قال: رجل كاتب عبده وأمته فزوجها منه، فولدت ولداً فنفقة الولد على الأم دون الأب؛ لما ذكرنا: أن ولدها كالمملوك لها.
هذا بخلاف ما لو وطىء المكاتب أمة نفسه فولدت له ولداً، فإن نفقة ذلك الولد على المكاتب لأنه داخل في كتابته حتى كان كسبه له، وأرش الجنابة عليه له أيضاً، ليس للأم، فكان الولد كالمملوك للمكاتب، فتكون نفقته على المكاتب.
قال: وإذا تزوج المكاتب أمة رجل فولدت منه ولداً أو لم تلد حتى اشتراها المكاتب فولدت ولداً فنفقة الأولاد على المكاتب؛ لأن الأمة صارت كسباً للمكاتب، وأولاده من كسبه مكاتبون عليه فصاروا بمنزلة أرقائه.
النوع الثالث فيما يجب من نفقات الوالدين
قال: ويجبر الرجل الموسر على نفقة أبيه وعلى نفقة أمه. وإذا كانا محتاجين لقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً}. (العنكبوت: 8) فقد أوجب على الولد الإحسان لوالديه، ورأس الإحسان بوالديه إحيائهما، وذلك بالإنفاق عليهما، وقال عليه السلام: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده لمن (315ب1) كسبه، كلوا من كسب أولادكم إذا احتجتم إليه بالمعروف» ولأن للأب في مال الابن حق الملك، قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» وله كان له فيه حقيقة الملك كانت نفقته في ماله، فكذا إذا كان له حق الملك، إلا أنه إنما يجب عليه إنفاقهما إذا كان موسراً؛ لأن نفقة الأقارب صلة محضة والصلات المالية ما شرعت إلا على أهل الثروة واليسار، واعتبره بصدقة الفطر والأضاحي.(4/260)
-----
هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والخصاف رحمه الله في «كتابه» اعتبر القدرة على الإنفاق ولم يعتبر اليسار، حتى إذا كان في كسب الابن فضلٌ عن قوته يجبر الابن على أن ينفق على أبيه من ذلك الفضل وهو موافق (لقوله) عليه السلام: «كلوا من كسب أولادكم».
قال: فإن كان الأولاد ذكوراً وإناثاً موسرين فنفقة الأبوين عليهم بالسوية في أظهر الروايتين، وروى الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن النفقة بين الذكور والإناث أثلاثاً قياساً على الميراث واعتبره بنفقة ذوي الأرحام.
وجه الرواية الأخرى وهو الأصح: أن استحقاق الأبوين باعتبار حق الملك لهما في مال الولد لما روينا من الحديث. وفي هذا الذكور والإناث سواء، ولهذا ثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف المسألة عندنا وإن انعدم التوارث بسبب اختلاف المسألة، ثم يفرض على الابن نفقة الأب إذا كان محتاجاً والابن موسراً سواء كان الأب قادراً على الكسب أو لم يكن. هكذا ذكر خواهر زاده في «شرح المبسوط».
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف أن الأب إذا كان كسوباً والابن أيضاً كسوب يجد الابن على الكسب والنفقة على الأب. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «أدب القاضي» للخصاف أنه لا يجبر الابن على نفقة الأب إذا كان الأب قادراً على الكسب فاعتبره بذي الرحم المحرم، فإنه لا يستحق النفقة في كسب قريبه ولا على قريبه الموسر إذا كان هو كسوباً، وهذا لأن استحقاق النفقة على الأقارب عندنا: الفقر والحاجة، فإذا كان قادراً على الكسب كان غنياً باعتبار الكسب، فلا ضرورة إلى إيجاب النفقة على الغير ثم على ما ذكر خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يحتاج إلى الفرق بين نفقة الولد وبين نفقة الوالد، فإن الولد إذا كان ذكراً بالغاً وهو قادر على الكسب لا يجب على الأب نفقته.(4/261)
-----
والفرق: وهو أن استحقاق نفقة الأقارب باعتبار الحاجة، وللأب زيادة فضلة على الولد في الاستحقاق باعتبار الحاجة، فإنه يستحق مال ولده بالحاجة الضرورية، وهي الحاجة إلى النفقة. وبغير الحاجة الضرورية كالاستيلاد، والولد لا يستحق مال الوالد إلا بالحاجة الضرورية وهي الحاجة إلى النفقة. فلو شرط عجز الأب عن الكسب لاستحقاق النفقة على الابن كما شرح في حق الابن لوقعت المساواة بينهما في الاستحقاق بسبب الحاجة. وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه.
فالحاصل: أن في نفقة الوالدين يعتبر الفقر لا غير على ما هو «ظاهر الرواية» إلا على قول شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
قال: رجل، وله ابنان أحدهما موسر مكثر والآخر متوسط الحال كانت نفقة الأب عليهما، يجعل على الموسر المكثر من ذلك أكثر مما يجعل على الآخر هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وفي «نفقاته»، وذكر محمد رحمه الله في «المبسوط» وقال: يكون بينهما على السواء لأن العبرة لليسار، وكل واحد منهما موسر، فكانت النفقة عليهما على السواء.(4/262)
-----
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: إنما تكون النفقة عليهما على السواء إذا تفاوتا في اليسار تفاوتاً يسيراً. أما إذا تفاوتا فاحشاً يجب أن يتفاوتا في قدر النفقة. ثم إذا قضى القاضي بالنفقة عليهما فيأمر أحدهما أن يعطي الأب ما يجب عليه، فالقاضي يأمر الآخر بأن يعطي كلّ النفقة ثم يرجع على الآخر بحصته لأنه لو لم يكن إلا هو كان كل النفقة عليه. فإذا وقع العجز عنها من جهة الأخ يؤخذ كل ذلك منه ثم هو يرجع على الأخ بحصته. قال: وإذا كان للرجل المعسر زوجة ليست أم ابنه الكبير لم يجبر الابن على أن ينفق على امرأة أبيه. وكذلك أم ولده وأمته فلا يجبر الابن على نفقة هؤلاء، وهذا لأن نفقة الأب إنماوجبت بسبب القرابة ولا قرابة بينه وبين امرأة أبيه وبين أم ولده وأمته، فلا يجبر على النفقة عليهما إلا أن يكون بالأب علة لا يقدر على خدمة نفسه، فيحتاج إلى خادم يقوم بشأنه ويخدمه فحينئذ يجبر الابن على نفقة خادمة الأب منكوحة كانت أو أمة؛ لأن الأب لا يستغني عنها فصار ذلك من فروض حاجة الأب، فصار كنفقة الأب، فجاز أن يستحق بقرابة الأب.
هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» فعلى هذا لا يحتاج إلى الفرق بين امرأة الأب وبين امرأة الابن، فإن الابن إذا كان معسراً و كان عاجزاً عن خدمة نفسه بأن كان زَمِنَاً أو صغيراً بحيث لا يأكل وحده ولا يشرب وحده يفرض نقد خادمة على الأب، وإن كان صحيح اليدين يمكنه خدمة نفسه لا يفرض كما في الأب.
وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يفرض نفقة امرأة الأب على ابنه إذا كانت المرأة عنده مطلقاً، فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين امرأة الأب وبين امرأة الابن.
ووجه الفرق بينهما: وهو أن نفقة الأب تشبه نفقة المرأة من وجه حتى يستحق مع ضرب غنيه بأن كان الأب قادراً على الكسب ثم يفرض نفقة خادم المرأة على الزوج على كل حال، فكذا نفقة خادم الأب.(4/263)
-----
أما نفقة الابن صلة محضة لا تشبه نفقة المرأة بوجهٍ ما، حتى لا يستحق مع ضرب عينيه بأن كان الابن قادراً على الكسب فكانت نفقة الولد نظير نفقة سائر الأقارب، تجب نفقة القريب ولا تجب نفقة الخادم كذا ههنا.
قال: ولو أن امرأة معسرة لها ابن موسر ولها زوج معسر، وليس هو أب الابن كان نفقتها على زوجها، ونفقة الزوجة لا تسقط بالعسار على ما مرّ في نفقات الزوجات (316أ1) إلا أن ههنا يؤمر الابن أن يقرضها على زوجها، فإذا أيسر الزوج رجع عليها بما أقرضها؛ لأن الزوجية تسقط النفقة عن ذوي المحارم، ألا ترى أن الأب يفرض عليه نفقة ابنته المراهقة، فإذا زوجها سقطت عنه نفقتها إلا أنه تعذر إيصال النفقة إليها من جهة الزوج بعسرته وتعذر فرض النفقة على الابن كما ذكرنا، فيؤمر الابن بالإقراض؛ لأنه أقرب إليها، وهي محتاجة إلى الاستدانة فيستدين من أقرب الناس إليها.
فإن لابن الابن أن يقرضها النفقة. قال الخصاف في «أدب القاضي»: قال الحسن بن زياد رحمه الله فرضت على الابن نفقتها وأخذته بذلك. والمراد منه أبى من القرض المذكور هنا هو الجبر على الإقراض لا القرض بطريق الإيجاب كما ذكرنا: أن الزوجية تسقط النفقة عن المحارم، وإنما ذكرنا قول الحسن؛ لأنه لم يحفظ في هذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر الخصاف هذه المسألة في «نفقاته» إلا أن هناك وضع المسألة في الزوج مع الأخ، وفي الزوج مع الأب. وذكر هناك أن الأخ الموسر أو الأب الموسر إذا امتنع عن الإقراض يحبس؛ لأن هذا من المعروف؛ لأن كل نفقة معروف وصلة فيجوز أن يحبس في الأمر بالمعروف.
وفي «القدوري»: وضع المسألة في الزوج مع الأخ، وقال أجبرت الأخ على نفقتها، ويرجع على الزوج، ثم الأصل في نفقة الوالدين والمولودين أنه يعتبر القرب والجزئية ولا يعتبر الميراث. وإذا استويا في القرب يجب على من له نوع رحجان، وإذا لم يكن لأحدهما رجحان فحينئذ تجب النفقة بقدر الميراث.(4/264)
-----
بيان هذا الأصل: إذا كان للفقير والد وابنُ ابنٍ موسرين فالنفقة على الوالد لأنه أقرب. وإذا كان له بنت وابنُ ابنٍ فالنفقة على البنت خاصة وإن كان الميراث بينهما لأن البنت أقرب. وإن كان له بنت بنت أو ابن بنت وله أخ لأب وأم فالنفقة على ولد الابنة ذكراً كان أو أنثى وإن كان الميراث للأخ لا لولد الابنة فعلم أن العبرة لقرب القرابة والجزئية وإن سفل، ولد الولد وبنت الولد أو ولد ابن فهم سواء في النفقة عليهم دون الأخ لما قلنا. ولو كان له والد وولد وهما موسران فالنفقة على ولده وإن استويا في القرب الابن يرجح باعتبار تأويل الثالث له في مال ولده، ولو كان جد وابن ابن فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما، على الجد السدس والباقي على ابن الابن.
ثم استشهد في «الكتاب» لبيان أن العبرة في نفقة الوالدين والمولودين للقرب والجزئية دون الإرث بمسائل: منها إن المعسر المسلم إذا كان له ابنان موسران أحدهما مسلم والآخر ذمي فنفقته عليهما جميعاً بالسوية وإن كان الإرث لا يجري بين المسلم والكافر. وكذلك إذا كان للرجل الفقير ابنة وأخت لأب وأم وهما موسران فالنفقة على البنت وإن كانا تستويان في الميراث.m
وإذا كان للفقير ابن نصراني وله أخ مسلم وهما موسران فالنفقة على الابن، وإن كان الميراث للأخ. وكذا إذا كان للفقير ابنة ومولى عتاقه وهما موسران فالنفقة على الابنة وإن كانا يستويان في الميراث. وكذا المعسرة إذا كانت لها ابنة وأخت لأب وأم فالنفقة على ابنتها. وإن كانتا تشتركان في الميراث.(4/265)
-----
قال: الرجل إذا كان محتاجاً وله ابن كبير فطلب الأب منه النفقة ونازعه في ذلك إلى القاضي فإن القاضي لا يجبر الابن على نفقة الأب إلا أن يعلم أنه يطيق. وفي بعض النسخ إلى أن يعلم أنه مصطلح لذلك أي قادر عليه. وهذا لأن شرط وجوب الإنفاق والقدرة على الإنفاق فالأب يدعي على الابن النفقة بواسطة شرطه، وهو ينكر، فعلى الأب أن يثبت الشرط بالحجة، فإن قال الأب: إنه يكسب ما يقدر على أن ينفق منه فإن القاضي ينظر في كسب الابن، فإن كان فيه فضل عن قوته يجبر الابن على أن ينفق على أبيه من ذلك الفضل لأن شرط وجوب النفقة على الولد القدرة على الإنفاق وقد وجد، وإن لم يكن في ذلك فضل عنه فلا شيء عليه في الحكم، لكن يؤمر من حيث الديانة أن لا يضيع والده. وقال بعض العلماء يجبر الابن على أن يدخل الأب في قوته إذا كان ما نصب الابن من ذلك القوت يقوم معه بدنه ولا يضره إضراراً يمنعه من الكسب، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن على الابن في هذه الصورة أن يضمن الأب إلى نفسه لأنه لو لم يفعل ضاع الأب. ولو فعل لا يخشى الهلاك على الولد والأب إذ لا يملك على نصف يطلبه إلا أن في ظاهر الرواية عن أصحابنا رحمهم الله: لا يجبر على ذلك. لقوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» هذا الذي ذكرنا إذاكان الابن وحده.
أمّا إذا كان للابن زوجة وأولاد صغار وباقي المسألة بحالها فالقاضي يجبر الابن على أن يدخل الأب في كسبه ويجعله كأحد العيال الذين ينفق عليهم ولا يجبره أن يعطي له شيئاً على حدة.
فرق بين هذا وبينما إذا كان الابن وحده، والفرق: هو أن الابن إذا كان يكتسب مقدار ما يكفي له ولزوجته وأولاده الصغار فإذا دخل الأب في طعامهم يقل الضرر؛ لأن طعام الأربعة إذا فرق على الخمسة لا يتضرر كل واحد منهم إضراراً فاحشاً. أما إذا دخل الواحد في طعام الواحد يتفاحش الضرر.(4/266)
-----
فإن قال الأب: إن ولدي هذا كسوب يقدر على أن يكسب مقدار ما يكفيه ويكفيني، لكنه ذرع العمل عمداً كيلا يفضل منه ما يعطيني شيئاً منه، يريد بذلك عقوقي نظر القاضي فيما قال. وطريق النظر: أن يسأل من أهل حرفته لأن لهم نظراً في هذا الباب فإن ظهر للقاضي أن الأمر على ما قاله الأب أجبر الابن على نفقة أبيه وأخذ بذلك لأنه فضل الإضرار بالأب. وهذا كله إذا لم يكن الأب كسوباً. وأما إذا كان الأب كسوباً هل يجبر الابن على الكسب والنفقة فقد ذكرنا فيه الاختلاف قبل هذا فلا نعيد، فإن كان للأب مسكن أو دابة فالمذهب عندنا أن يفرض النفقة على الابن إلا أن يكون في المسكن فضل عران يكفيه أو يسكن ناحية منه فحينئذ يؤمر الأب ببيع لفضل والإنفاق (316ب1) على نفسه فإذا آل الأمر إلى الناحية التي يسكنها الأب يفرض نفقته حينئذ على الابن، وكذا إذا كانت للأب دابة نفيسه يؤمر أن يبيع الفضل ويشتري الأَوْكَس وينفق الفضل على نفسه، فإذا آل الأمر إلى الأوكس يفرض النفقة على الابن ويستوي في هذا الوالدين والمولودين وسائر المحارم هو الصحيح من المذهب.
فإن فرض القاضي نفقة الأب على الابن الموسر كل شهر كذا أو فرض الكسوة للأب على الابن كل سنة فتخرقت الكسوة ولم تبق النفقة قبل مضي الوقت أو بقيت الكسوة وشيء من النفقة بعد مضي الوقت. وقد مرّ هذا في الفرق بين نفقة الأقارب وكسوتهم وبين نفقة الزوجات وكسوتهن في باب نفقة الزوجات فلا نعيد.(4/267)
-----
قال فإن طلب الأب النفقة من ولده فقال الابن: هو غني، وقال الأب: أنا فقير. قال في «المنتقى» روى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه يسأل عن حال الأب، فإن أخبر أنه فقير يجعل عليه النفقة، وإن قالوا: لا ندري لا يجعل على الابن النفقة ما لم يقم الأب البينة أنه فقير فلم يحكم بقبول قول الأب أنه فقير، وإن كان الظاهر شاهداً للأب؛ لأن الأصل في الأدمي هو الفقر إلا أن الأب بهذا الظاهر يريد إثبات الاستحقاق على الابن، والظاهر لا يصلح حجة لإثبات الاستحقاق، وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة الأب؛ لأن بينة الأب ثبتت الاستحقاق على الابن وبينة الابن تنفي ذلك، فكانت بينة الأب أولى بالقبول.
وذكر في «شرح القدوري» في الأب إذا أنفق من مال الابن حال غيبة الابن ثم خصّ الابن فقال الابن للأب: كنت موسراً وقت الإنفاق من مالي، وقال الأب: كنت معسراً نظر إلى حال الأب وقت الخصومة؛ لأن الحال يصلح دليلاً على الماضي وله أمثلة في الشرع، كمسألة الطاحونة وغيرها.
فإن أقاما البينة فالبينة بينة الابن؛ لأن شهود الابن يثبتون الرجوع على الأب بما أنفق، وشهود الأب ينفون ذلك، والإثبات أولى من النفي في باب البينات.
ومما يتصل بهذا الفصل
الكبار الذين أُلحقوا بالصغار.
قال: الرجل البالغ إذا كان ذمياً أو مقعداً أو أشلَّ اليدين لا ينتفع بهما، أو معتوهاً أو مفلوجاً، فإن كان له مال يجب النفقة في ماله، وإن لم يكن له مال وكان له (ابنة) موسرة أو أب موسر يجب النفقة على الأب لأن الله تعالى أوجب النفقة على الوالد مطلقاً. قال الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} (البقرة: 233) إلا أنه خصّ عن هذا النص من كان له أو من كان قادراً على الكسب، فبقي ما عداه على ظاهر النص.(4/268)
-----
وإذا طلب من القاضي أن يفرض له النفقة فعلى الأب إجابة القاضي إلى ذلك، ويدفع ما فَرَض لهم إليهم؛ لأن ذلك حقهم، ولهم ولاية استيفاء حقوقهم، وكذلك الإناث من الأولاد نفقتهن بعد البلوغ على الأب ما لم يُزوجن إذا لم يكن لهن مال؛ لأن بهن عجز ظاهر عن الاكتساب فتكن بمنزلة الزمنى من الذكور، ثم ما ذكر أن نفقة البالغين من الذكور الزمنى ومن الإناث على الأب فذلك جواب «المبسوط».
وأما على ما ذكر الخصاف في «نفقاته»: يجب على الأب والأم أثلاثاً، ثلثاها على الأب وثلثها على الأم. وجه ما ذكرنا في «المبسوط»: أن البالغ إذا لم يكن من أهل أن ينفق على نفسه صار هو والصغير سواء.
وجه ما ذكر الخصاف وهو الفرق بين البالغ الزَّمِنْ والصغير؛ وهو أن للأب على الصغير ولاية كماله على نفسه ولاية، فكان الصغير بمنزلة نفسه.
وغير الأب لا يشارك الأب في النفقة على نفسه فكذا في النفقة على الصغير. وأما البالغ فليس للأب عليه ولاية ليصير معني بنفسه فاعتبر كسائر المحارم فتكون نفقته باعتبار ميراثه، وميراثه يكون بينهما أثلاثاً فكذا النفقة.
ثم ذكر في «الكتاب»: ما إذا كان الابن البالغ عاجزاً عن الكسب وأراد موسر وأم موسرة وأوجب جميع النفقة على الأب على رواية «المبسوط» ولم يذكر ما إذا كان الأب معسراً إلا أنه قادر على الكسب، والابن الكبير عاجز عن الكسب وله أم موسرة هل تؤمر الأم بالإنفاق على أن ترجع بذلك على الأب؟ فمن مشايخنا من قال على قياس ما ذكر في «الكتاب»: تؤمر الأم بذلك حتى ترجع على الأب فإنه قال في الولد الكبير: إذا كان عاجزاً عن الكسب فهو بمنزلة الصغير.
والصغير إذا كان له أب معسرٌ قادرٌ على الكسب وله أم موسرة تؤمر الأم بالإنفاق على أن ترجع على الأب إذا أيسر فكذا ههنا.
ومن المشايخ من قال: لا ترجع الأم على الأب ههنا بما أنفقت.(4/269)
-----
وفرّق هذا القائل بين الصغير والكبير الذي لا يقدر على الكسب. هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه الفرق: وهو أن نفقة الولد الصغير على الأب وإن كان معسراً، إلا أنه لا يمكن جبر الأب على الكسب فتؤمر الأم بالتحمل عنه فكانت الأم قاضية ديناً واجباً على الأب، فترجع بذلك على الأب.
فأما نفقة الابن الكبير فليس على الأب إذا كان معسراً فلم تَصِرْ الأم مؤديةً حقاً واجباً على الأب فلا يرجع بذلك على الأب فلهذا افترقا.
قال: والصحيح الذي به قوة العمل إلا أنه لا يُحْسِنْ العمل فنفقته على الأب إذا كان لا يحسن العمل، والناس لا يأمروه بالعمل، فصار هو كالعاجز عن الكسب.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الرجل الصحيح قد لا يقدر على الكسب لحرفة أو لكونه من أهل البيوتات فيكون عاجزاً عن الكسب. فإذا كان هكذا كان نفقته على الأب وهكذا قالوا في طالب العلم: إذا كان لا يهتدي إلى الكسب لا تسقط نفقته على الأب بمنزلة الزَّمِنْ والأنثى، هذا الذي ذكرنا كلّه إن كان الأب حاضراً.
وإن كان الأب غائباً أو مفقوداً فقد قال في «الكتاب» لا يقضى بالنفقة في مال أحد إذا كان رب المال غائباً إلا للوالدين والوالد (314ب1) والزوجة إذا كان المتروك من جنس حقهم، وهذا يبنى على أصل معروف أن القضاء على الغائب باطل، وإبقاء حق وجب على الغائب من ماله جائز والقضاء بنفقة الوالدين والمولودين والزوجة.....(4/270)
-----
لما وجب على الغائب، وليس بقضاء على الغائب لأن القضاء إيجاب ما لم يكن واجباً قبل القضاء، ونفقة الوالدين والمولودين والزوجة واجبة قبل القضاء حتى إذا طعن واحد من هؤلاء يحبس حقهم كان لهم الأخذ من غيرقضاء ولا رضا. فأما نفقه سائر الأقارب لا تجب إلا بالقضاء والرضا حتى لو طعن واحد من الأقارب يحبس حقهم لم يكن لهم الأخذ إلا بقضاء أو برضا فلما كان نفقة الوالدين والمولودين والزوجة واجبة قبل القضاء كان القضاء من القاضي أيضاً لما وجب عليه الإيجاب مبتدأً فأما نفقة سائر الأقارب لما لم تكن واجبة كان القضاء إيجاباً مبتدأ أو القضاء على الغائب باطل.
قال في كتاب المفقود: القاضي متى أعطى النفقة لهؤلاء من مال الغائب إن استوثق من الأخذ فحسن لجواز أن هؤلاء أخذوا النفقة من الغائب حال حضرته أو تغيب الغائب بالنفقة إليهم فينظر القاضي للغائب حال عجز الغائب عن النظر لنفسه بنفسه، وإن لم يأخذ منه كفيلاً فهو مستقيم أيضاً، إذا ليس ههنا..... يطلب من القاضي أخذ الكفيل وإنما يجب على القاضي أخذ الكفيل عند طلب الخصم ذلك.
ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب النكاح: أن زوجة الغائب إذا طلبت النفقة من القاقضي وللغائب مال حاضر والقاضي يعلم بذلك كلّه فرض لها القاضي النفقة بعد أن يُحلّفها أنه لم يعطيها النفقة. فإذا حلفت أعطاها النفقة وآخذ منها كفيلاً وهو الصحيح، وقد ذكرنا وجه ذلك في باب نفقة الزوجات.
فرع على هذه (المسألة)(4/271)
-----
قال إن كان للغائب عند الوالدين أو الوالد أو الزوجة قال: هو من جنس حقوقهم فأنفقوا على أنفسهم جاز ولم يضمنوا لأنهم ظفروا بجنس حقهم فكان لهم ولاية الأخذ بمقدار حقهم فإن كان عند غيرهم فأعطاهم بأمر القاضي حتى أنفقوا على أنفسهم لم يضمن صاحب اليد وإن كان أعطاهم بغير أمر القاضي كان ضامناً له؛ لأن صاحب اليد مأمور بالحفظ ودفعه إلى غيره لينفق على نفسه ليس من الحفظ في شيء فيصير به مخالفاً ضامناً، وهو نظير المودع إذا قضى دين المودع بالوديعة كان ضامناً كذا ههنا، وكان الحاكم الإمام أبي إسحاق..... رحمه الله يقول في المودع: إذا قضى دين المودع بالوديعة أنه لا يضمن.
والصحيح أنه يضمن، وأشار إليه محمد رحمه الله في كتاب الوديعة، هذا إذا كان ما تركه الغائب من جنس حقهم. فأما إذا لم يكن من جنس حقهم فأرادوا أن يبيعوا شيئاً من مال الغائب بنفقتهم أجمعوا على أن سوى الوالد بمحتاج لا يملك بيع عقار الغائب ولا يبيع عروضه بالنفقة. وأما الأب المحتاج يمنع بيع المنقول بالنفقة استحساناً ولا يملك بيع العقار إلا إذا كان الولد الغائب صغيراً، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله في كتاب المفقود. وكذلك قياس قوله في المفقود.
والقياس: أن لا يملك الأب البيع على ابنه الكبير الغائب في العقار ونحوه كما لا يملك غير الأب، وأجمعوا على أن حال حضرة من يجب عليه النفقة ليس لأحد ممن يستحق النفقة بيعُ العروض والعقار.
وجه القياس في ذلك: وهو أن ولاية الأب تنقطع ببلوغ الصبي رشيداً إلا فيما يبيعه تحصيناً لولده الغائب، فإن الابن إذا بلغ وهو غائب فللأب ولوصي الأب بيع عروضه تحصيناً على الغائب، وههنا هو لا يبيع تحصيناً على الغائب، إنما يمنع لنفسه وليس له هذه الولاية.(4/272)
-----
وجه الاستحسان: وهو أن ولاية الأب وإن دلّ بالبلوغ ولكن بقي أثره، ولهذا صح منه الاستيلاد في جارية الابن فلبقاء أثر الولاية أثبتنا له ولاية بيع العروض؛ لأن بيع العروض من الحفظ؛ لأنه يخشى عليه التلف وحفظ الثمن أيسر، وولاية الحفظ ثبتت لمن لا يثبت له ولاية التصرف كما قلنا في الوطء في حق الوارث الكبير الغائب، فكذلك الأب فيعُدُّ بيع بيع الثمن من جنس حقه، فله أن يأخذ منه مقدار النفقة، فأما العقار محصنة بنفسها فلم يكن بيعها بحق الحفظ لو كان بحق الولاية وقد زالت الولاية بالبلوغ عن عقدٍ بخلاف الأم وسائر الأقارب؛ لأنه لم يكن لهم ولاية التصرف حالة الصغر ليبقى أثر تلك الولاية بعد البلوغ فلم يجز بيعهم، أما ههنا بخلافه.
فأما إذا أراد القاضي أن يتولى البيع في هذه الصورة بنفسه ليس له ذلك عند الكل لا في العروض ولا في العقار ولا في النفقة ولا في سائر الديون. وقد ذكرنا هذا في نفقة الزوجات. هذا الذي ذكرنا إذا كان الحال معلوماً للقاضي، فأما إذا لم يكن فالقاضي ماذا يصنع فوجوه ذلك قد مرّ في نفقة الزوجات أيضاً.
هذا الذي ذكرنا حالة حياة الأب، فإن كان الأب قد مات وترك أموالاً وأولاداً صغاراً كان نفقة الأولاد من أنصبائهم لأنهم أغنياء وكذلك كل ما يكون وارثاً فنفقته في نصيبه، وكذلك امرأة الميت تكون نفقتها في حصتها من الميراث حائلاً كانت أو حاملاً.(4/273)
-----
بعد هذا ينظر إن كان الميت قد أوصى إلى رجلٍ، قالوا: ينفق على الصغار من أنصبائهم. فإن كان الميت لم يؤمن إلى أحد فالقاضي يفرض لكل واحد من الصغار في نصيبه بقدر ما يحتاج إليه من النفقة على قدر سعة أموالهم وضعفها، ويشتري للصغير خادماً إن كان يحتاج إلى الخادم؛ لأنه من جملة مصالحه. والقاضي نصب لأقامة مصالح كل من عجز عن الإقامة بنفسه. فكذا كل من كان من المصالح فالقاضي يشتري ذلك للصغير من نصيبه، ولم يذكر في هذه المسألة أن القاضي ينصب لهم وصياً إذا لم يكن الميت أوصى إلى أحدٍ وذكر في المسألة التي تلي هذه المسألة. وذكره في تلك المسألة يكون (315أ1) ذكراً في هذه المسألة قال:
وإن كان الميت لم يوصِ إلى أحد وله أولاد كبار وصغار فنفقة كل واحد منهم يكون في نصيبه لما ذكرنا، وينصب القاضي وصيّاً في ماله، لأن للقاضي أن ينصب الوصي في مال الميت في ثلاث مواضع:
أحدها: أن يكون على الميت دين.
والثاني: أن يكون الميت أوصى......
والثالث: أن يكون الورثة صغاراً، وههنا في الورثة الصغار.
فكان للقاضي أن ينصب وصياً، فإن لم يكن في البلد قاض فأنفق الكبار على الصغار، وأيضاً: الصغار كانوا متطوعين في هذه النفقة لأنه لا ولاية لهم على الصغار في مالهم، وهذا في الحكم، أما فيما بينهم وبين الله تعالى لا ضمان عليهم لأنهم احتسبوا فيما فعلوا.
ونظير هذا ما ذكر في كتاب الوديعة: أن للمودع إذا باع اللبن من غير استطلاق رأي القاضي وفي المصر قاضي ضمن، وإن كان..... وذكر في «النوادر»: إذا لم يكن في الموضع يمكنه استطلاق رأي القاضي لا يضمن استحساناً. وكذلك قال مشايخنا في الرجلين في سفر فأغمي على أحدهما، فأنفق الآخر على المغمى عليه من مال المغمى عليه لم يضمن استحساناً.(4/274)
-----
وكذا إذا مات فجهزه صاحبه من ماله لم يضمن استحساناً. وكذا العبيد المأذونون في التجارة إذا كانوا في البلاد فمات مواليهم فأنفقوا في الطريق لم يضموا استحساناً. وكذا روي عن مشايخ بلخ أنهم قالوا: إذا كان للمسجد أوقاف ولم يكن لها متولي فقام واحد من أهل المحلة في جميع غلة الأوقاف وأنفق على المسجد فيما يحتاج إليه من الحصير والحشيش لا يضمن استحساناً فيما بينه وبين الله تعالى.
وحكى عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه مات واحد من تلامذته فباع محمد رحمه الله كتبه وأنفق في تجهيزه، فقيل له: ألم..... بذلك فتلا محمد رحمه الله قول الله تعالى: {وا يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) فكان على قياس هذا فلا ضمان عليه فيما بينه وبين الله تعالى استحساناً. أما في الحكم ضامن لما قلنا.
قال:لو كان الكبار أنفقوا على الصغار ثم لم يقروا بذلك ببيعه نصيبهم وسعهم ذلك، ولو اختلفوا على ذلك؛ قال في «الكتاب»: رجوت أن لا يكون عليهم شيء.
نظير هذا إذا عرف الوصي الدين على الميت فقضاه ولم يقرّ بذلك ولم يعرفه القاضي ولا الورثة لا يأثم فيما فعل وكذلك إذا كان لرجل عند رجل وديعة وعلى المودع مثل تلك الوديعة، والمودع يعلم أنه مات ولم يقبض دينه ليسمح للمودع أن يقضي ذلك الدين بماله ولا يقربه.
وكذلك إذا كان على زيد لعمروٍ دين، وعلى عمرو مثل ذلك دين لرجل آخر فمات عمرو، وزيد يعرف أن عمرو لم يقض ليسع لزيد أن يقضي دين عمرو، وبما لعمرو على زيد، ولا تجبر ورثته بذلك.
وكذلك إذا مات الرجل ولم يوصِ إلى أحد وله أولاد صغار، وله مال وديعة عند رجل ليس للمودع في الحكم أن ينفق عليهم، ويحتسب بذلك من مال الميت، ولكن إذا فعل وحلف أنه ليس لهم عليه حق رجوت أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله؛ لأنه لم يرد بهذا إلا الإصلاح، وإنه موافق لما روينا عن محمد رحمه الله.(4/275)
-----
النوع الثاني فيما لا يجب على الآباء من نفقة الأولاد
قال: وإذا تزوج العبد أو المدبر أو المكاتب امرأة بإذن المولى فولدت امرأته أولاداً لا يجبر على نفقة الأولاد سواء كانت أمهم حرة أو أمة أو مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة؛ لأن ما يستحق الولد من النفقة صلة محضة، وما كان صلة محضة لا يستحق على هؤلاء، وهذا بخلاف نفقة المرأة؛ لأنها صلة من وجه، عوض من وجه، وما كان صلة من وجه عوضاً من وجه جاز أن يستحق على هؤلاء من حيث إنه عوض.
فرّععلى هذا في الكتاب
فقال: إذا لم يجب على الأب نفقة الأولاد، على من يجب؟ ففيما إذا كانت المرأة مكاتبة فنفقة الأولاد عليها؛ لأن الولد تابع للأم في كتابتها، فكان كالمملوك لها، ألا ترى أن كسبه لها وأرش الجنابة عليه لها، وميراثه إن مات لها. فإذا كان كالمملوك لها كان نفقته..... عليها إذا كانت المرأة مدبرة أو أم ولد فأولاد..... وتكون نفقتهم على مولاهما وهو مولى أم الولد، والمدبرة فيما إذا كانت أَمَةُ رجل آخر فنفقة الأولاد على مولى الأمة؛ لأن أولادها أَرِقّاء لمولى الأمة، فتكون نفقتهم على مولى الأمة.
وفيما إذا كانت المرأة حرة فنفقة الأولاد على الأم إن كان للأم مال، وإن لم يكن لها مال فنفقة الأولاد على من يرث الأولاد الأقرب فالأقرب. وكذلك الحر إذا تزوج أمة أو مكاتبة أو أم ولد فالجواب فيه كالجواب في العبد والمدبر والمكاتب على ما ذكرنا.
فرع على مسألة الحر
فقال: إن كان مولى الأمة وأم الولد والمدبرة، وأب الأولاد غنيٌّ هل يؤمر الأب بالإنفاق، فإن كان الولد من الأمة لا يؤمر الأب بذلك لأن ابنه مملوك مولى الجارية، فأما أن يبيعه مولاه أن ينفق عليه على ما يأتي بعد هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.(4/276)
-----
وإن كان الولد من أم ولد أو مدبرة فإن ههنا يؤمر الأب بالإنفاق عليهم؛ لأن ههنا لا يمكن أن يجبر المولى على بيعهم، فتعين طريق إيصال النفقة إليهم، أمر الأب بذلك.
قال: رجل كاتب عبده وأمته فزوجها منه، فولدت ولداً فنفقة الولد على الأم دون الأب؛ لما ذكرنا: أن ولدها كالمملوك لها.
هذا بخلاف ما لو وطىء المكاتب أمة نفسه فولدت له ولداً، فإن نفقة ذلك الولد على المكاتب لأنه داخل في كتابته حتى كان كسبه له، وأرش الجنابة عليه له أيضاً، ليس للأم، فكان الولد كالمملوك للمكاتب، فتكون نفقته على المكاتب.
قال: وإذا تزوج المكاتب أمة رجل فولدت منه ولداً أو لم تلد حتى اشتراها المكاتب فولدت ولداً فنفقة الأولاد على المكاتب؛ لأن الأمة صارت كسباً للمكاتب، وأولاده من كسبه مكاتبون عليه فصاروا بمنزلة أرقائه.
النوع الثالث فيما يجب من نفقات الوالدين
قال: ويجبر الرجل الموسر على نفقة أبيه وعلى نفقة أمه. وإذا كانا محتاجين لقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً}. (العنكبوت: 8) فقد أوجب على الولد الإحسان لوالديه، ورأس الإحسان بوالديه إحيائهما، وذلك بالإنفاق عليهما، وقال عليه السلام: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده لمن (315ب1) كسبه، كلوا من كسب أولادكم إذا احتجتم إليه بالمعروف» ولأن للأب في مال الابن حق الملك، قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» وله كان له فيه حقيقة الملك كانت نفقته في ماله، فكذا إذا كان له حق الملك، إلا أنه إنما يجب عليه إنفاقهما إذا كان موسراً؛ لأن نفقة الأقارب صلة محضة والصلات المالية ما شرعت إلا على أهل الثروة واليسار، واعتبره بصدقة الفطر والأضاحي.(4/277)
-----
هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والخصاف رحمه الله في «كتابه» اعتبر القدرة على الإنفاق ولم يعتبر اليسار، حتى إذا كان في كسب الابن فضلٌ عن قوته يجبر الابن على أن ينفق على أبيه من ذلك الفضل وهو موافق (لقوله) عليه السلام: «كلوا من كسب أولادكم».
قال: فإن كان الأولاد ذكوراً وإناثاً موسرين فنفقة الأبوين عليهم بالسوية في أظهر الروايتين، وروى الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن النفقة بين الذكور والإناث أثلاثاً قياساً على الميراث واعتبره بنفقة ذوي الأرحام.
وجه الرواية الأخرى وهو الأصح: أن استحقاق الأبوين باعتبار حق الملك لهما في مال الولد لما روينا من الحديث. وفي هذا الذكور والإناث سواء، ولهذا ثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف المسألة عندنا وإن انعدم التوارث بسبب اختلاف المسألة، ثم يفرض على الابن نفقة الأب إذا كان محتاجاً والابن موسراً سواء كان الأب قادراً على الكسب أو لم يكن. هكذا ذكر خواهر زاده في «شرح المبسوط».
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف أن الأب إذا كان كسوباً والابن أيضاً كسوب يجد الابن على الكسب والنفقة على الأب. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «أدب القاضي» للخصاف أنه لا يجبر الابن على نفقة الأب إذا كان الأب قادراً على الكسب فاعتبره بذي الرحم المحرم، فإنه لا يستحق النفقة في كسب قريبه ولا على قريبه الموسر إذا كان هو كسوباً، وهذا لأن استحقاق النفقة على الأقارب عندنا: الفقر والحاجة، فإذا كان قادراً على الكسب كان غنياً باعتبار الكسب، فلا ضرورة إلى إيجاب النفقة على الغير ثم على ما ذكر خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يحتاج إلى الفرق بين نفقة الولد وبين نفقة الوالد، فإن الولد إذا كان ذكراً بالغاً وهو قادر على الكسب لا يجب على الأب نفقته.(4/278)
-----
والفرق: وهو أن استحقاق نفقة الأقارب باعتبار الحاجة، وللأب زيادة فضلة على الولد في الاستحقاق باعتبار الحاجة، فإنه يستحق مال ولده بالحاجة الضرورية، وهي الحاجة إلى النفقة. وبغير الحاجة الضرورية كالاستيلاد، والولد لا يستحق مال الوالد إلا بالحاجة الضرورية وهي الحاجة إلى النفقة. فلو شرط عجز الأب عن الكسب لاستحقاق النفقة على الابن كما شرح في حق الابن لوقعت المساواة بينهما في الاستحقاق بسبب الحاجة. وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه.
فالحاصل: أن في نفقة الوالدين يعتبر الفقر لا غير على ما هو «ظاهر الرواية» إلا على قول شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
قال: رجل، وله ابنان أحدهما موسر مكثر والآخر متوسط الحال كانت نفقة الأب عليهما، يجعل على الموسر المكثر من ذلك أكثر مما يجعل على الآخر هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وفي «نفقاته»، وذكر محمد رحمه الله في «المبسوط» وقال: يكون بينهما على السواء لأن العبرة لليسار، وكل واحد منهما موسر، فكانت النفقة عليهما على السواء.(4/279)
-----
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: إنما تكون النفقة عليهما على السواء إذا تفاوتا في اليسار تفاوتاً يسيراً. أما إذا تفاوتا فاحشاً يجب أن يتفاوتا في قدر النفقة. ثم إذا قضى القاضي بالنفقة عليهما فيأمر أحدهما أن يعطي الأب ما يجب عليه، فالقاضي يأمر الآخر بأن يعطي كلّ النفقة ثم يرجع على الآخر بحصته لأنه لو لم يكن إلا هو كان كل النفقة عليه. فإذا وقع العجز عنها من جهة الأخ يؤخذ كل ذلك منه ثم هو يرجع على الأخ بحصته. قال: وإذا كان للرجل المعسر زوجة ليست أم ابنه الكبير لم يجبر الابن على أن ينفق على امرأة أبيه. وكذلك أم ولده وأمته فلا يجبر الابن على نفقة هؤلاء، وهذا لأن نفقة الأب إنماوجبت بسبب القرابة ولا قرابة بينه وبين امرأة أبيه وبين أم ولده وأمته، فلا يجبر على النفقة عليهما إلا أن يكون بالأب علة لا يقدر على خدمة نفسه، فيحتاج إلى خادم يقوم بشأنه ويخدمه فحينئذ يجبر الابن على نفقة خادمة الأب منكوحة كانت أو أمة؛ لأن الأب لا يستغني عنها فصار ذلك من فروض حاجة الأب، فصار كنفقة الأب، فجاز أن يستحق بقرابة الأب.
هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» فعلى هذا لا يحتاج إلى الفرق بين امرأة الأب وبين امرأة الابن، فإن الابن إذا كان معسراً و كان عاجزاً عن خدمة نفسه بأن كان زَمِنَاً أو صغيراً بحيث لا يأكل وحده ولا يشرب وحده يفرض نقد خادمة على الأب، وإن كان صحيح اليدين يمكنه خدمة نفسه لا يفرض كما في الأب.
وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يفرض نفقة امرأة الأب على ابنه إذا كانت المرأة عنده مطلقاً، فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين امرأة الأب وبين امرأة الابن.
ووجه الفرق بينهما: وهو أن نفقة الأب تشبه نفقة المرأة من وجه حتى يستحق مع ضرب غنيه بأن كان الأب قادراً على الكسب ثم يفرض نفقة خادم المرأة على الزوج على كل حال، فكذا نفقة خادم الأب.(4/280)
-----
أما نفقة الابن صلة محضة لا تشبه نفقة المرأة بوجهٍ ما، حتى لا يستحق مع ضرب عينيه بأن كان الابن قادراً على الكسب فكانت نفقة الولد نظير نفقة سائر الأقارب، تجب نفقة القريب ولا تجب نفقة الخادم كذا ههنا.
قال: ولو أن امرأة معسرة لها ابن موسر ولها زوج معسر، وليس هو أب الابن كان نفقتها على زوجها، ونفقة الزوجة لا تسقط بالعسار على ما مرّ في نفقات الزوجات (316أ1) إلا أن ههنا يؤمر الابن أن يقرضها على زوجها، فإذا أيسر الزوج رجع عليها بما أقرضها؛ لأن الزوجية تسقط النفقة عن ذوي المحارم، ألا ترى أن الأب يفرض عليه نفقة ابنته المراهقة، فإذا زوجها سقطت عنه نفقتها إلا أنه تعذر إيصال النفقة إليها من جهة الزوج بعسرته وتعذر فرض النفقة على الابن كما ذكرنا، فيؤمر الابن بالإقراض؛ لأنه أقرب إليها، وهي محتاجة إلى الاستدانة فيستدين من أقرب الناس إليها.
فإن لابن الابن أن يقرضها النفقة. قال الخصاف في «أدب القاضي»: قال الحسن بن زياد رحمه الله فرضت على الابن نفقتها وأخذته بذلك. والمراد منه أبى من القرض المذكور هنا هو الجبر على الإقراض لا القرض بطريق الإيجاب كما ذكرنا: أن الزوجية تسقط النفقة عن المحارم، وإنما ذكرنا قول الحسن؛ لأنه لم يحفظ في هذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر الخصاف هذه المسألة في «نفقاته» إلا أن هناك وضع المسألة في الزوج مع الأخ، وفي الزوج مع الأب. وذكر هناك أن الأخ الموسر أو الأب الموسر إذا امتنع عن الإقراض يحبس؛ لأن هذا من المعروف؛ لأن كل نفقة معروف وصلة فيجوز أن يحبس في الأمر بالمعروف.
وفي «القدوري»: وضع المسألة في الزوج مع الأخ، وقال أجبرت الأخ على نفقتها، ويرجع على الزوج، ثم الأصل في نفقة الوالدين والمولودين أنه يعتبر القرب والجزئية ولا يعتبر الميراث. وإذا استويا في القرب يجب على من له نوع رحجان، وإذا لم يكن لأحدهما رجحان فحينئذ تجب النفقة بقدر الميراث.(4/281)
-----
بيان هذا الأصل: إذا كان للفقير والد وابنُ ابنٍ موسرين فالنفقة على الوالد لأنه أقرب. وإذا كان له بنت وابنُ ابنٍ فالنفقة على البنت خاصة وإن كان الميراث بينهما لأن البنت أقرب. وإن كان له بنت بنت أو ابن بنت وله أخ لأب وأم فالنفقة على ولد الابنة ذكراً كان أو أنثى وإن كان الميراث للأخ لا لولد الابنة فعلم أن العبرة لقرب القرابة والجزئية وإن سفل، ولد الولد وبنت الولد أو ولد ابن فهم سواء في النفقة عليهم دون الأخ لما قلنا. ولو كان له والد وولد وهما موسران فالنفقة على ولده وإن استويا في القرب الابن يرجح باعتبار تأويل الثالث له في مال ولده، ولو كان جد وابن ابن فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما، على الجد السدس والباقي على ابن الابن.
ثم استشهد في «الكتاب» لبيان أن العبرة في نفقة الوالدين والمولودين للقرب والجزئية دون الإرث بمسائل: منها إن المعسر المسلم إذا كان له ابنان موسران أحدهما مسلم والآخر ذمي فنفقته عليهما جميعاً بالسوية وإن كان الإرث لا يجري بين المسلم والكافر. وكذلك إذا كان للرجل الفقير ابنة وأخت لأب وأم وهما موسران فالنفقة على البنت وإن كانا تستويان في الميراث.m
وإذا كان للفقير ابن نصراني وله أخ مسلم وهما موسران فالنفقة على الابن، وإن كان الميراث للأخ. وكذا إذا كان للفقير ابنة ومولى عتاقه وهما موسران فالنفقة على الابنة وإن كانا يستويان في الميراث. وكذا المعسرة إذا كانت لها ابنة وأخت لأب وأم فالنفقة على ابنتها. وإن كانتا تشتركان في الميراث.(4/282)
-----
قال: الرجل إذا كان محتاجاً وله ابن كبير فطلب الأب منه النفقة ونازعه في ذلك إلى القاضي فإن القاضي لا يجبر الابن على نفقة الأب إلا أن يعلم أنه يطيق. وفي بعض النسخ إلى أن يعلم أنه مصطلح لذلك أي قادر عليه. وهذا لأن شرط وجوب الإنفاق والقدرة على الإنفاق فالأب يدعي على الابن النفقة بواسطة شرطه، وهو ينكر، فعلى الأب أن يثبت الشرط بالحجة، فإن قال الأب: إنه يكسب ما يقدر على أن ينفق منه فإن القاضي ينظر في كسب الابن، فإن كان فيه فضل عن قوته يجبر الابن على أن ينفق على أبيه من ذلك الفضل لأن شرط وجوب النفقة على الولد القدرة على الإنفاق وقد وجد، وإن لم يكن في ذلك فضل عنه فلا شيء عليه في الحكم، لكن يؤمر من حيث الديانة أن لا يضيع والده. وقال بعض العلماء يجبر الابن على أن يدخل الأب في قوته إذا كان ما نصب الابن من ذلك القوت يقوم معه بدنه ولا يضره إضراراً يمنعه من الكسب، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن على الابن في هذه الصورة أن يضمن الأب إلى نفسه لأنه لو لم يفعل ضاع الأب. ولو فعل لا يخشى الهلاك على الولد والأب إذ لا يملك على نصف يطلبه إلا أن في ظاهر الرواية عن أصحابنا رحمهم الله: لا يجبر على ذلك. لقوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» هذا الذي ذكرنا إذاكان الابن وحده.
أمّا إذا كان للابن زوجة وأولاد صغار وباقي المسألة بحالها فالقاضي يجبر الابن على أن يدخل الأب في كسبه ويجعله كأحد العيال الذين ينفق عليهم ولا يجبره أن يعطي له شيئاً على حدة.
فرق بين هذا وبينما إذا كان الابن وحده، والفرق: هو أن الابن إذا كان يكتسب مقدار ما يكفي له ولزوجته وأولاده الصغار فإذا دخل الأب في طعامهم يقل الضرر؛ لأن طعام الأربعة إذا فرق على الخمسة لا يتضرر كل واحد منهم إضراراً فاحشاً. أما إذا دخل الواحد في طعام الواحد يتفاحش الضرر.(4/283)
-----
فإن قال الأب: إن ولدي هذا كسوب يقدر على أن يكسب مقدار ما يكفيه ويكفيني، لكنه ذرع العمل عمداً كيلا يفضل منه ما يعطيني شيئاً منه، يريد بذلك عقوقي نظر القاضي فيما قال. وطريق النظر: أن يسأل من أهل حرفته لأن لهم نظراً في هذا الباب فإن ظهر للقاضي أن الأمر على ما قاله الأب أجبر الابن على نفقة أبيه وأخذ بذلك لأنه فضل الإضرار بالأب. وهذا كله إذا لم يكن الأب كسوباً. وأما إذا كان الأب كسوباً هل يجبر الابن على الكسب والنفقة فقد ذكرنا فيه الاختلاف قبل هذا فلا نعيد، فإن كان للأب مسكن أو دابة فالمذهب عندنا أن يفرض النفقة على الابن إلا أن يكون في المسكن فضل عران يكفيه أو يسكن ناحية منه فحينئذ يؤمر الأب ببيع لفضل والإنفاق (316ب1) على نفسه فإذا آل الأمر إلى الناحية التي يسكنها الأب يفرض نفقته حينئذ على الابن، وكذا إذا كانت للأب دابة نفيسه يؤمر أن يبيع الفضل ويشتري الأَوْكَس وينفق الفضل على نفسه، فإذا آل الأمر إلى الأوكس يفرض النفقة على الابن ويستوي في هذا الوالدين والمولودين وسائر المحارم هو الصحيح من المذهب.
فإن فرض القاضي نفقة الأب على الابن الموسر كل شهر كذا أو فرض الكسوة للأب على الابن كل سنة فتخرقت الكسوة ولم تبق النفقة قبل مضي الوقت أو بقيت الكسوة وشيء من النفقة بعد مضي الوقت. وقد مرّ هذا في الفرق بين نفقة الأقارب وكسوتهم وبين نفقة الزوجات وكسوتهن في باب نفقة الزوجات فلا نعيد.(4/284)
-----
قال فإن طلب الأب النفقة من ولده فقال الابن: هو غني، وقال الأب: أنا فقير. قال في «المنتقى» روى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه يسأل عن حال الأب، فإن أخبر أنه فقير يجعل عليه النفقة، وإن قالوا: لا ندري لا يجعل على الابن النفقة ما لم يقم الأب البينة أنه فقير فلم يحكم بقبول قول الأب أنه فقير، وإن كان الظاهر شاهداً للأب؛ لأن الأصل في الأدمي هو الفقر إلا أن الأب بهذا الظاهر يريد إثبات الاستحقاق على الابن، والظاهر لا يصلح حجة لإثبات الاستحقاق، وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة الأب؛ لأن بينة الأب ثبتت الاستحقاق على الابن وبينة الابن تنفي ذلك، فكانت بينة الأب أولى بالقبول.
وذكر في «شرح القدوري» في الأب إذا أنفق من مال الابن حال غيبة الابن ثم خصّ الابن فقال الابن للأب: كنت موسراً وقت الإنفاق من مالي، وقال الأب: كنت معسراً نظر إلى حال الأب وقت الخصومة؛ لأن الحال يصلح دليلاً على الماضي وله أمثلة في الشرع، كمسألة الطاحونة وغيرها.
فإن أقاما البينة فالبينة بينة الابن؛ لأن شهود الابن يثبتون الرجوع على الأب بما أنفق، وشهود الأب ينفون ذلك، والإثبات أولى من النفي في باب البينات.
النوع الرابع في حق استحقاق النفقة عليه
إذا كان الأب ميتاً أو كان الأب حياً فقيراً لأن الفقير يلحق بالميت في حق استحقاق النفقة على الموسر، وفيه كلمات: أنّ من يلحق بالميت ومن لا يلحق سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ويعتبر في حق الحد لاستحقاقه النفقة الفقر لا غير على ما هو ظاهر الرواية كما في حق الأب والجد من قِبَل الأم كالجد من قبل الأب، وكذا يفرض نفقة الجدات من قِبَلِ الأم ونفقة الجدات من قبل الأب، ويعتبر في حق الجدات ما يعتبر في حق الأجداد أيضاً.(4/285)
-----
قال: فإن مات الأب فالنفقة على الجد؛ لأنه قائم مقام الأب فإن كان للصغير أم وجد فالنفقة على الأم والجد على قدر ميراثهما أثلاثاً بخلاف الأب في «ظاهر الرواية».
والفرق: وهو أن إيصال النافلة بالجد بواسطة الأب كاتصاله بالأخ، ثم في الأخ والأم النفقة عليهما على قدر ميراثهما أثلاثاً فكذا في الجد والأم، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن النفقة كلها على الجد، وهذا أليق بمذهب أبي حنيفة رحمه الله في الميراث فإنه يلحق الجد بالأب مطلقاً حتى قال: الجد أولى من الأخوة والأخوات.
قال: وإن كان للفقير أولاد صغار وجد موسر لم تفرض النفقة على الجد؛ لأن النفقة لا تجب على الجد حال قيام الأب، ولكن يؤمر الجد بالإنفاق صيانة لولد الولد، ويكون ديناً على والد الصغار كأن والد الصغار أمره بذلك كذا ذكَرَ هذه المسألة في «القدوري». فلم يجعل النفقة على الجد حال عسرة الأب.
وقد ذكرنا في أول هذا النوع أب الأب الفقير يلحق بالميت في حق استحقاق النفقة على الجد، وهذا هو الصحيح من المذهب، وما ذكر في «القدوري» فذاك قول الحسن بن صالح. هكذا ذكر رحمه الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف، قال: وإن كان الأب زَمِنَاً قضى بنفقة الصغار على الجد ولم يرجع على أحد بالإنفاق؛ لأن نفقة الأب في هذه الحالة على الجد، فكذا نفقة الصغار.(4/286)
-----
وروي عن أبي يوسف رحمه الله: في صغير له والد محتاج وهو زَمِنٌ فرضت نفقته على قرابته من قبل أبيه دون أمه، فكل من يجبر على نفقة الأب يجبر على نفقة الغلام، فإن لم يكن له قرابة من قبل أبيه قضيت بالنفقة على أبيه، وأمرت قرابة الأم بالإنفاق فيكون ذلك ديناً على الأب، هذا لأنّ قرابة الأم لا يجوز أن تجب عليهم نفقة الولد؛ لما عرف أن الأب لا يشاركه غيره في نفقة الصغير، فإن لم يكن للأب قرابة لم يبق ههنا وجهاً سوى أن يقضى بالنفقة على قرابة الأم ويكون ذلك ديناً على الأب كيلاً يشاركه الأب غيره في نفقة الولد، فأما قرابة الأم فما يلزمهم نفقة الأب فجاز أن يلزمهم نفقة الغلام لكون نفقة ولده جارياً مجرى نفقته.
هكذا ذكر هذه المسألة في «شرح القدوري»: وهذا الجواب إنما يستقيم إذا لم يكن في قرابة الأم من يكون محرماً للصغير، ويكون أهلاً للإرث، لأن شرط وجوب النفقة في غير قرابة الأولاد المحرمية وأهلية الإرث على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، فأما إذاكان في قرابة الأم من كان محرماً للصغير وهو أهل للإرث، تجب عليه النفقة ويلحق الأب المعسر بالميت لما ذكرنا قبل هذا.
النوع الخامسنفقة من سوى الوالدين والمولودين من ذوي الأرحام(4/287)
-----
والأصل فيه قول الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} (البقرة: 233) المراد: الوارث الذي هو ذو رحم محرم، وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهكذا كان يقرأ، وبه أخذ أصحابنا رحمهم الله حتى لا تجب النفقة على ابن العم وإن كان وارثاً؛ لأنه ليس بمحرم للصغير، والمراد من الوارث المذكور في هذه الآية كونه أهلاً للإرث لا كونه وارثاً حقيقاً، وبه أخذ أصحابنا رحمهم الله حتى إنه إذا اجتمع الخال وابن العم فالنفقة على الخال عند علمائنا رحمهم الله وإن كان الميراث لابن العم؛ لأن الخال ذو رحم محرم وهو أهل للإرث، وابن العم وإن كان وارثاً فهو ليس بمحرم للصغير.
والحاصل: أن هذه النفقة لا تجب إلا على ذي رحم محرم هو أهل للإرث سواء كان وارثاً في هذه الحالة أو لم يكن، وعندالاستواء في المحرمية وأهلية (317أ1) الإرث يترجح من كان وارثاً حقيقة في هذه الحالة، حتى إنه إذا كان له عم وخال فالنفقة على العم لأنهما استويا في المحرمية، وترجح العم على الخال في هذه الحالة لكونه وارثاً حقيقة. وكذلك إذا كان له عم وعمة وخالة فالنفقة على العم الموسر لا غير؛ لأنه ساواهما في المحرمية، والعم هو الوارث دونهما فتكون النفقة عليه، ولوكان العم معسراً فالنفقة على العمة والخالة أثلاثاً على قدر ميراثهما، ويجعل العم كالميت.
إذا ثبتت هذه الجملة فنقول: هذه النفقة لا تجب إلا على الموسر ولا تجب على الفقير لا قليل ولا كثير؛ لأن هذه النفقة تجب بطريق الصلة، والصلات تجب على الأغنياء، ودون الفقراء لمكان التعارض.(4/288)
-----
ثم لا بد من معرفة حدّ اليسار الذي تعلق به وجوب هذه النفقة. ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه اعتبر نصاب الزكاة، وروى هشام عن محمد رحمهما الله إذا كان له نفقة شهر لنفسه وعياله وفضل على ذلك يجبر على نفقة الأقارب، وإن لم يكن له شيء واكتسب كل يوم درهماً ويكفيه أربعة دوانيق ينفق الفضل عليهم. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: أن المعتبر بسائر (ما) يحرم الصدقة بأن يملك ما فضل عن حاجته ما يبلغ مائتي درهم فصاعداً وهو الصحيح، وهذا لأنه لم يشترط بوجوب صدقة الفطر غنىً موجباً للزكاة، وإنما شرط غنىً يحرم الصدقة، فكذا في حق إيجاب النفقة لأن النفقة بصدقة الفطر أشبه منه بالزكاة؛ لأن في صدقة الفطر معنى المؤنة، ومعنى الصدقة.
فإذا لم يشترط لصدقة الفطر غنىً موجباً للزكاة وهي صدقة من وجد مؤنة من وجه فلأن لا يشترط لوجوب النفقة غنىً موجباً للزكاة وإنها مؤنة من كل وجه كان أولى.
قال ولا يقضى بنفقة أحد من ذوي الأرحام إذا كان غنياً والكبار الأصحاء، فلا يقضى لهم بنفقتهم على غيرهم وإن كانوا فقراء إلا الأبوين والجد والجدة مع عدمهما. وقد ذكر هذا فيما تقدم. وتجب نفقة الإناث الكبار من ذوي الأرحام وإن كُنَّ صحيحات البدن إذا كان بهن حاجة إلى النفقة. وقد ذكرنا مثل هذا في نفقة الأولاد.
ثم الأصل في نفقته من سوى الوالدين من ذوي الرحم المحرم أنه ينقسم على الميراث؛ لأن الله تعالى أوجب النفقة باسم الوارث. قال الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} (البقرة: 233) فقد أوجب باسم الوارث فيجب التقدير به.
ولهذا قلنا: إن الرجل إذا أوصى لورثة بني فلان وله بنون وبنات كانت الوصية لهم على قدر الميراث ولو أوصى لولد فلان كان الذكور والأنثى فيه على السواء، على هذا تخرج جنس هذه المسائل.(4/289)
-----
قال: إذا كان للصغير أم وعم أو أم وأخ لأب وأم كل واحد منهما موسر فالنفقة عليهما على قدر الميراث، وكذلك الرضاع عليهما أثلاثاً فالنفقة عليهما؛ لأن الرضاع نفقة الولد فتكون عليهما على قدر الميراث كنفقة الولد بعد الفطام.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله: أن في النفقة بعد الفطام الجواب هكذا، وكذلك فيما يحتاج إليه من النفقة قبل الفطام. فأما الرضاع كله على الأم؛ لأنها موسرة باللبن، والعم معسر في ذلك، ولكن في «ظاهر الرواية» قال: قدرة العم على تحصيل ذلك بماله يجعله موسراً فيه، فلهذا كان عليهما أثلاثاً، وإن كان العم فقيراً والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم؛ لما ذكرنا أن المعسر يجعل كالمعدوم في حق إيجاب النفقة على الموسر.
وإن كانت له أم وأخ لأب وأم، أو أخ لأب وعم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ أثلاثاً بحسب الميراث، لأن العم ليس بوارث في هذه الحالة، فترجح الأخ على العم لكونه وارثاً حقيقة.
قال: وإذا كان للفقير الزمن ابن صغير معسر أو كبير زمن، ولهذا المعسر ثلاثة أخوة متفرقون أهل يسار. فنفقة الرجل على الأخ من الأب والأم وللأخ من الأب أسداساً؛ لأن الابن الصغير أو المعسر يجعل كالعدم في حق إيجاب النفقة على الغير لما ذكرنا: أن نفقة ما عدا الوالدين والمولدين تجب على وارث ذي رحم محرم ولم يجعل الابن كالمعدوم، فلا يصير الأخوة ورثة فينعدم إيجاب النفقة عليهم حال قيام الابن، فيجعل الابن كالمعدوم، وبعد الميراث بين الأخ لأب وأم وبين الأخ لأم أسداساً، فكذا النفقة.
ولو كانت مكان الابن ثلاث فنفقة الأب على الأخ لأب وأم خاصة؛ لأنا نحتاج إلى أن نجعل الابنة كالمعدوم في حق إيجاب النفقة على الإخوة؛ لأنه يرث مع الابنة لأخ لأب وأم، لكن تعتبر صفة الوارثة مع بقائها وبعد تعذر إيجاب النفقة على الابنة فتجب على الأخ لأب وأم.(4/290)
-----
فأما نفقة الصغير فعلى العم لأب وأم خاصة، لأن الأب المعسر في حق النفقة جعل كالمعدوم، وبعد الأب ميراث الولد للعم لأب وأم خاصة، فكذا نفقة الولد تجب على العم لأب وأم.
قال: فإن كان مكان الإخوة أخوات متفرقات فإن كان الولد ذكراً فنفقة الأب على الأخوات أخماساً؛ لأن أحداًمن الأخوات لا يرث مع الابن لا بُدّ وأن يجعل الابن كالمعدوم لتمكن إيجاب النفقة على الأخوات، وبعد الابن ميراث الأب بين الأخوات أخماساً ثلاثة أخماسه للأخت لأب وأم وخمسه للأخت فرضاً وردّاً فالنفقة عليهم بحساب ذلك، ونفقة الولد على الأخت لأب وأم خاصة عندنا؛ لأن الولد المعسر جعل كالمعدوم، وعند عدم الولد ميراث الولد للعمة لأب وأم عندنا، فالنفقة تكون عليها أيضاً، وإن كان الولد ابنة فنفقة الأب على الأخت لأب وأم خاصة؛ لأنها وارثة مع الابنة، فإن الأخوات مع البنات عصبة فلا تجعل الابنة كالمعدومة ههنا ولكن لو مات الأب كان نصف ميراثه للابنة والباقي للأخت للأب وأم، فكذا النفقة على الأخت لأب وأم ونفقة الابنة على العمة لأب وأم خاصة عندنا؛ لأن الأب المحتاج جعل كالمعذور عند انعدام الولد، فميراث الابنة يكون للعمة لأب وأم خاصة عندنا، فكذا النفقة أيضاً عليها عندنا.
وصار الأصل في إيجاب نفقة من سوى الوالدين والمولودين من ذوي الأرحام أنه إذا اجتمع الموسرون والمعسرون من قبل أبيه ينظر إلى المعسر، فإن كان بحال يحرز كل الميراث ولا يرث معه أحد من الموسرين (317ب1) كالإخوة والأخوات مع الابن يجعل هذا المعسر كالميت، ثم ينظر إلى الموسرين فتجب النفقة عليهم على قدر مواريثهم، فإن كان هذا المعسر لا يحرز كلّ الميراث كالابنة مع الإخوة والأخوات لا يلحق هو لميت بل يعتبر هو حيّاً، ويقسم الميراث بينهم على سهامهم، ثم تجب كل النفقة على الموسرين، ولكن على السهام التي كان نصيبهم من الميراث.(4/291)
-----
بيان هذا الأصل: إذا كان للصغير أم وثلاث أخوات متفرقات، والأخت من الأب والأخت من الأم معسرتان والأم والأخت لأب وأم موسرتان فكلّ النفقة تجب على الأم والأخت لأب وأم، لكن على أربعة أسهم، ثلاثة أسهم على الأخت لأب وأم وسهم على الأم، ميراث الصغير بينهم ينقسم على ستة أسهم، ثلاثة أسهم للأخت لأب وأم وسهم للأخت لأب وسهم للأخت، وسهم للأم من ميراث الصغير سهم وللأخت لأب وأم ثلاثة، فتكون النفقة عليهما أرباعاً. ولو كانت الأخت لأب والأخت لأم ملحقتان بالأموات كان ميراث الصغير بين الأم والأخت أخماساً فرضاً وردّاً فينبغي أن تكون النفقة عليهما أخماساً أيضاً، على أن المعتبر ما قلنا.
فعلى هذا الأصل تخرج جنس هذه المسائل.
الفصل الرابع في نفقات أهل الكفر
في هذا الفصل نوع واحد، ولا يجبر المسلم على نفقة الكفار من قرابته، ولا الكفار على نفقة المسلمين من قرابتهِ لأن استحقاق النفقة متعلقة بصفة القرابة قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} (البقرة: 233) .
واختلاف الدينين يمنع الوراثة فيمنع القضاء بالنفقة إلا الزوجة والوالدين والوالد. أما الزوجة فلأن استحقاق الزوجة النفقة بحكم العقد وذلك متحقق مع اختلاف الدينين، وأما الوالدان والولد، فالقياس أن لا يثبت لهم استحقاق النفقة مع اختلاف الدين؛ لأن استحقاق الوالدين والولد النفقة بطريق الصلة، كما في سائر الأقارب، ولكن في الاستحسان يثبت الاستحقاق إذا كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً لقوله تعالى: {وَصَحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15) وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعمِ الله تعالى ويتركهما يموتان جوعاً؛ ولأن الاستحقاق فيما بين الوالدين والمولودين متعلق بالولاد وذلك لا يختلف باختلاف الدين.(4/292)
-----
وفي سائر الأقارب الاستحقاق تعلق بالوراثة وذلك يختلف باختلاف الدين، قال: والنوافل بمنزلة الأولاد والأجداد الجدات من قبل الأب.
والأم بمنزلة الوالدين؛ لأن استحقاق هؤلاء باعتبار الولاد كاستحقاق الأبوين.
قال: ولا يجبر المسلم والذمي على نفقة والديه وولدهِ من أهل الحرب وإن كانا مستأمنين في دار الإسلام؛ لأنها صلة وقد نهينا عن صلة الحربي قال الله تعالى: {إنما ينهاكم ا عن الذين قاتلوكم في الدين} (الممتحنة: 9) الآية وكذلك الجدين الذي دخل علينا بأمان لا يجبر على نفقة والديه وولدهِ إن كانا مسلمين، أو كانا من أهل الذمة.
قال: ولا يجبر أهل الذمة على أن ينفقوا على أحد من ذوي أرحامهم إذا كانوا على غير دينهم، يُريد به ديناً هو غير دين الإسلام إلا على الوالدين والأجداد والأولاد، هكذا ذكر الخصاف في «نفقاته». قال الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح النفقات»: ما ذكر الحصاف إن كان محمولاً ما إذا كان من دارين مختلفين، يعني إذا كان للذمي ذو رحم محرم هو من أهل الحرب فهذا الجواب صحيح لما ذكرنا قبل هذا. فأما إذا كان هذا الجواب يجري على الإطلاق فالصحيح ما ذكر في «المبسوط»: أنهم يجبرون لأن الكفر كلهُ ملة واحدة ولهذا يتوارثون فيما بينهم إذا كانوا من أهل دار الإسلام وتقبل شهادة بعضهم على البعض. فأما نفقة المرأة فيجب وإن كانت على غير دينه لما ذكرنا أنها تستحق النفقة بالعقد، وذلك لا يختلف باختلاف الدين.
قال: ولو أن مستأمناً في دارنا تزوج ذمية ودخل بها ثم طلقها فلها النفقة، في قول من يوجب على الذمي العدة، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وقد عرف هذا في نكاح «المبسوط»، في باب نكاح أهل الحرب نفقة النكاح، فعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: نعرض لها نفقة النكاح.(4/293)
-----
وعلى قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا نفرض بناء على أن لهذا النكاح حكم الصحة عند أبي حنيفة رحمه الله. حتى قال: إذا طلب أحدهما النفقة فالقاضي لا يفرق بينهما ما لم يطلب الآخر، والمرأة تستحق النفقة في النكاح الصحيح.
وعندهما لهذا النكاح حكم الفاسد حتى قالا: يفرق بينهما إذا طلب أحدهما. وفي النكاح الفاسد لا يثبت استحقاق النفقة، وأجمعوا على أن في النكاح بغير شهود تستحق هي النفقة لأن هذا النكاح محكوم بالصحة فيما بينهم عند الكل. ويستحق النفقة لهذا.
قال: وإذا أسلم الذمي وامرأته من غير أهل الكتاب فأبت الإسلام ففرق بينهما، فلا نفقة لها في العدة؛ لأن منفعة الاحتباس فاتت من جهتها، ولهذا سقط جميع المهر متى كان قبل الدخول بها. ومنفعة الاحتباس متى فاتت من جهتها توجب سقوط النفقة. كما لو نشزت.
وأما إذا أسلمت المرأة وأبى الزوج الإسلام يُفرق بينهما، سواء كان الزوج كتابياً أو غير كتابي، على ما عرف في نكاح «المبسوط»: فكان لها النفقة والسكنى، إذا كان بعد الدخول بها، لأن منفعة الاحتباس إنما فاتت بمعنى من جهة الزوج فيكون محسوباً عليه، كما لو طلقها بعد الدخول بها.h
قال: وإذا خرج الحربي وامرأتهُ إلينا بأمان فطلبت النفقة فالقاضي لا يفرض لها ذلك. هكذا ذكرهُ الخصاف في «نفقاتهِ»: وعلل فقال: لأن هذا من أحكامنا إلا أن يصيرا ذميين فحينئذٍ القاضي يفرض لها النفقة لأنهم رضوا بأحكامنا.
قال: وإذا خرج أحد الزوجين مسلماً ثم خرج الآخر بعدهُ فلا نفقة لها عليه، لأن الزوج إن كان هو الخارج أولاً فلا عدة عليها بالاتفاق. وإن كانت المرأة هي الخارجة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله لا عدة عليها.
وعندهما وإن كانت عليها العدة إلا أن وجوب نفقة العدة باعتبار ملك الحبس (318أ1) الثابث للزوج عليها في حاله العدة. وبيان الوالدين كما ينقطع عصمة النكاح يقطع ملك... الحبس الثابث بالنكاح أيضاً.(4/294)
-----
قال في «السير الكبير»: لو فرض القاضي نفقة الزوجة والوالدين والوالد في مال مسلم أسير في دار الحرب ثم قامت بينة على ردة الأسير قبل فرض القاضي نفقة المرأة ضمنت ما أخذت من النفقة؛ لأنه يتبين أنها أخذت بغير حق فإن قالت: حاسبوني من نفقة عدتي يقول لها الحاكم: لا نفقة لك؛ لأن ردة الزوج حصلت في دار الحرب فكانت بمنزلة الموت. ولو مات الزوج لا نفقة لها كذا ههنا.
ولو قبضت نفقة شهر ثم قامت بينة على ردة الزوج بعد مضي عشرة أيام من الشهر كان كل ذلك للمرأة في قياس قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قياس قول محمد رحمه الله: لها مقدار ما وجب لها قبل الردة، وهذا بناء على ما لو أعطى الزوج امرأة نفقة شهر ثم مات أحدهما قبل مضي المدة لم يرجع عليها ولا في تركتها في قول أبي يوسف، وفي قول محمد رحمهما الله: يرجع عليها بحساب ما مضى ويجب رد الباقي.
ووجه البناء: وهو أن الردة حصلت في دار الحرب وكان بمنزلة الموت.
الفصل الخامس في نفقات المماليك
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
النوع الأولفي بيان استحقاق نفقة المماليك
قال في «الكتاب»: ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله: أن الإنسان لا يجبر على إنفاق ملكه سوى الرقيق كالدابة والدرع والخيل، وأما في سائر الحيوانات يفتى فيما بينهُ وبين الله تعالى بالاتفاق، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنهُ يجبر على الإنفاق على البهائم أيضاً هو قول الشافعي رحمه الله، وأما في غير الحيوانات كالدور والعقار فلا يجبر على النفقة، ولا يفتى بهُ أيضاً، إلا أنهُ إذا كانت فيه تضييع المال يكون مكروهاً. وأبو يوسف والشافعي رحمهما الله احتجا، وقالا بأن في عدم الجبر بالإنفاق على البهائم تعذيب الحيوانات بلا فائدة، وذلك منهيٌ وقاساه على الرقيق وإنما يفرق بينهما.(4/295)
-----
ووجه الفرق: أن إجْبار القاضي المولى على الإنفاق على مملوكة نوع قضاء، والقضاء لا بد له من مقضي لهُ هو من أهل الاستحقاق، وهذا يوجد في الرقيق؛ لأن الرقيق من أهل أن يستحق حقوقاً على المولى، وعلى غيره في الجملة ألا ترى أن بالكتابة يستحق حقوقاً على المولى، وإن مملوكاً فأما غير الرقيق لا يستحق حقوقاً على المولى فلا يصلح مقضياً له، فانعدم شرط القضاء فينعدم القضاء.
ثم الأصل في نفقة الرقيق: أن من كان مملوك المنافع والمكاسب يجبر المولى على نفقته، ومن كان غير مملوكة المنافع لا يجبر المولى على إنفاقه.
إذا ثبت هذا فنقول: رجل له عبد أو أمة أو مدبرة أو أم ولد يجبر المولى على نفقتهم، فإن أبى المولى الإنفاق فكل من يصلح للإجارة يؤاجر وينفق عليه من أجرته، وكل من لا يصلح لذلك لعذر الصغر أو ما أشبهه ففي العبد والأمة يؤمر المولى لينفق عليهما أو يبيعهما. وفي المدَّبر وأم الولد يجبر المولى على الإنفاق لا غير، لأنهُ لا يمكن بيعهما، وأما المكاتب فالمولى لا يجبر على نفقتهِ لأنهُ غير مملوك المنافع والمكاسب.
ثم فرق بين نفقة الرقيق وبين نفقة الزوجة من وجهين:
أحدهما: أن الرقيق وإن كان صغيراً تجب النفقة على المولى، والزوجة إذا كانت صغيرة لا تُشتهى لا تحب النفقة على (الزوج).
والثاني: أن المولى إذا أبى الإنفاق على الرقيق يجبر (على) البيع، والزوج إذا عجز عن الإنفاق على المرأة لا يفرق بينهما.
أما الفرق الأول: فقد ذكرناه في أول نفقات الزوجات. وأما الفرق الثاني: وهو أن المولى إذا أجْبِرَ على البيع دفعاً للظلم عن المملوك يزول ملكه إلى خلف وهو الثمن، ولو لم يجبر يفوت حق المملوك في النفقة لا إلى خلف لأن نفقة المملوك لا يصير ديناً على المولى بحال من الأحوال، فكان الجبْر على البيع أقل ضرراً.(4/296)
-----
أما في باب النكاح: لو أمر الزوج بالتفريق دفعاً للظلم عن المرأة ثفوت ملك الزوج بغير خلف ولو لم يجبر يفوت حق المرأة في الحال إلى خلف فإن نفقة الزوجة تصير ديناً بقضاء القاضي، فكان ما يلحق الزوج من الضرر أكثر، فكان أولى بالدفع.
قال: أمةٌ أو عبد في يدي رجلين تنازعا فيه وكل واحد منهما يدعي أنه له فإنهما يجبران على النفقة عليه لأنهُ لما كان في أيديهما، فالظاهر أنهُ ملكهما، ولو كان مكان العبد والأمة دابة لا يجبران؛ لأنها لو كانت ملكهما لا يجبران فكذا إذا كان في أيديهما.
قال: ولا تحب نفقة المعتق على المعتق وإن كان المعتق عاجزاً عن الاكتساب لصغرٍ أو زَمَانَةٍ أو ما أشبههُ، ولكن عليه من بيت المال؛ لأنهُ مسلم ليس له قرابة غنى ومال بيت المال معد ذلك.
قال: ولو أنّ رجلاً في يديه صغير قال لآخر: هذا عبدك أودعتني وجحد الآخر يستحلف بالله ما أودعهُ. وإذا حلف قُضي بالنفقة على صاحب اليد؛ لأن الغلام إذا كان صغيراً لا يكون في يد نفسه، فكان القول في رِقّهِ وحرّيتهِ قول من هو في يدهِ وقد اعترف ذو اليد برقهِ، فصح اعترافهُ. ثم أَقرَّ أن ذلك الرق لغيرهِ فبقي على حكم ملكه ما لم يصدقهُ ذلك الغير، ولو كان الغلام كبيراً لم يستحلف المدعى عليه؛ لأن الكبير في يد نفسهِ، فكان القول في الرق والحرية قوله فيكون الإنفاق واجباً على من يدعي الغلام أنهُ عبده إذا أثبت هذا دون من يعدله ذو اليد ذلك الأصل لما بعد هذا: أنّ النفقة إنما تجب على من تحصل لهُ المنفعة فكل من حصّل المنفعة كانت النفقة عليه سواء كان هو مالك رقبة أو لم يكن.
إذا أثبت هذا فنقول: إذا أوصى أَمَتَهُ لرجل وبما في بطنها لآخر، فإن نفقة الجارية على الموصى له برقبتها؛ لأن منفعتها تحصل له ولو أوصى بداره لرجل وسكناها لآخر وهو يخرج من الثلث فالنفقة على صاحب السكنى لأن النفقة تحصل له.
فرع على مسألة السكنى(4/297)
-----
فقال: لو انهدمت الدار كلها قبل (318ب1) أن يقبضها، فقال صاحب السكنى: أنا أبنيها وأسكنها كان له ذلك ولا يصير متطوعاً؛ لأنهُ لا يصل إلى حقه إلا بهذا، وهو مضطر فيه، فصار كصاحب العلو مع صاحب السفل إذا..... صاحب السفل، فامتنع صاحب السفل عن بنائه فبناه صاحب العلو لا يصير متطوعاً ويرجع على صاحب السفل لكن بماذا يرجع؟ فيه كلام يأتي بعد هذا إن شاء اللَّهُ تعالى، كذا ههنا لا يصير متطوعاً. فإن انقسمت السكنى ينظر، إن اجتمعا على أن يكون البناء لصاحب الرقبة ويعطيه قيمتها يجوز؛ لأن البناء ملك صاحب السكنى فإذا باعهُ من صاحب الرقبة يجوز، وإن لم يجتمعا كان لهُ أن ينقض بناءه، كما في المشتري إذا بنى ثم جاء الشفيع كان الجواب على هذا الترتيب يثبت كذا ههنا.
قال: ولو أوصى الرجل بنخل ولآخر بثمرته أبداً فإن الوصية جائزة فتكون النفقة على صاحب الثمرة؛ لأن المنفعة تحصل له.
ومن هذا الجنس
إذا أوصى الرجل بتبن هذهِ الحنطة، وأوصى للآخر بالحنطة فإن بقي من الثلث شيء فالتخليص يكون في ذلك المال وإن لم يبق فالتخليص عليهما؛ لأن المنفعة تحصل لهما.
فرق بين هذا وبينما إذا أوصى لرجل بدهن هذا السمسم وأوصى لآخر بكسبه فإن أجر التخليص على صاحب الدهن.
والفرق: وهو أن الدهن ههنا خفي وقعت الحاجة إلى إظهاره فأما الكسب فظاهر فكان التخليص عملاً لصاحب الدهن، فيكون أجره عليه. فأما الحنطة فحاصلة غير أنها مستورة، فكان التخليص عملاً لهما فكان الأجر عليهما. وكذلك الزيت والزيتون على هذا القياس.(4/298)
-----
قال محمد رحمه الله: لو أن رجلاً ذبح شاة ثم أوصى لرجل بلحمها وللآخر بجلدها فالتخليص عليهما إذا لم يبق من الثلث شيء كما في الحنطة والتبن، فإن كانت الشاة حيّة وباقي المسألة بحالها فأجر الذبح على صاحب اللحم؛ لأن اللحم لا يحصل إلا بالذبح، فأما الجلد حاصل من غير ذبح؛ لأنها وإن كانت ميتة يحصل الجلد ثم أجر السلخ عليهما؛ لأن منفعة السلخ يحصل لهما.
النوع الثاني في إيجاب النفقة في الملك الموقوف
قال: ولو شهد شاهدان على رجل في يديه أمة أن هذهِ الأمة حرة قبل القاضي هذه الشهادة ادعت الأمة ذلك أو جحدت ويضع القاضي الأمة على يدي عدل، ما دام في مسألة الشهود هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي»: وذكر محمد رحمه الله في «الجامع»: أن القاضي يضعها على يدي امرأة ثقة ويستوي فيه أن يكون المولى عدلاً كما في طلاق المرأة على مامر قبل هذا، فإن طلبت النفقة بعدما وضعها القاضي على يدي عدل، فرض لها القاضي النفقة على الذي كانت في يديهِ وهو المولى الظاهر، لأن نفقتها كانت واجبة عليه قبل قيام البينة، فإن كانت البينة صدقة يسقط نفقتها عنه؛ وإن كانت كذبة لا يسقط. وإن صارت ممنوعة عن المولى؛ لأن نفقة المملوك لا يسقط عن المولى؛ وإن كان ممنوعاً عن المولى على ما يأتي بعدما أوقع الشك في سقوط النفقة فلا يسقط بالشك. وقول محمد رحمه الله: في «الكتاب»: إن القاضي. يفرض لها النفقة، ليس المراد منه الفرض حقيقة، لأن مولاها ظاهر ونفقة المملوك لا يصير ديناً على المولى فيما مضى. وإن أفصل بها القضاء أداء المملوك لا يستوجب على مولاه ديناً ولكن المراد منه أن القاضي يقدر لها نفقة ويجبره على أدائها فالفرض هو التقدير. قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237) أي: قدرتم.
فإن أخذت نفقتها شهراً، ثم لم يذكر الشهود ورُدَّتْ الأمة على مولاها لا يرجع المولى عليها بما أنفق.(4/299)
-----
وفي المنكوحة إذا كانت مدخولاً بها وفرض القاضي لها النفقة، ولم تزك الشهود، وُرُدَّتْ المرأة على الزوج. فالزوج يرجع عليهما بما أنفق وفي المسألتين جميعاً تَبَّينَ أن كل واحد منهما منكوحة ومملوكة منعتا عن الزوج والمولى لا لمعنى من جهة الزوج والمولى إلا أن المنكوحة إذا امتنعت من الزوج لا لمعنى من جهة الزوج تسقط نفقتها عن الزوج لما مرَّ قبل هذا. والمملوكة إذا امتنعت عن المولى لا لمعنى من جهة المولى لا تبطل نفقتها؛ لأن نفقة المملوك بعلة الملك؛ والملك باقٍ في هذه الحالة.
وإن زكت المشهود فإن أنفق المولى عليها على وجه التبرع أو أكلت في بيت المولى بإذن المولى فلا رجوع له عليها كما في سائر التبرعات. وإن أجبر القاضي المولى على ذلك أو أكلت في بيت المال بغير إذن المولى، رجع عليها بخلاف الطلاق.
والفرق وهو: أن الاستحقاق ههنا بحكم الملك وتبين أنه لا ملك في ذلك الوقت. إذ القاضي إنما يقضي بحريتها من الوقت الذي شهد به الشهود. فتبين أنهما أخذت بغير حق وثمة الاستحقاق باعتبار كونها محبوسة بحق الزوج، وتبين أنها محبوسة بحق الزوج في العدة.
ويستوي في جميع ما ذكرنا إن شهد الشهود بحريتها من «الأصل»: أو بحريتها بإعتاق وجد من المولى، إذ المعنى لا يوجب الفصل.(4/300)
-----
قال: أمة في يدي رجل ادعى رجل أنها لهُ. وأقام شاهدين فالقاضي يضعها في يدي عدل ما دام في مسألة الشهود لما قلنا: طلبت النفقة وفرض لها القاضي النفقة، ثم لم تزك الشهود وردت الجارية على المولى فالمولى لا يرجع بما أنفق على أحد لما قلنا، و(لو) زكيت الشهود وقضى القاضي بالجارية للمدعي، لم يكن للشهود عليه أن يرجع على المدعي؛ لأنه أنفق على جارية الغير بغير إذن ذلك الغير وهل يرجع بذلك على الجارية؟ على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يرجع وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يرجع ويكون ذلك ديناً في ذمة الجارية تباع فيه إلا أن يقرّبه المقضي له؛ لأن القاضي لما قضى بالجارية للمدعي ظهر أن المدعى عليه كان عاصياً في حال ما أنفق عليها؛ لأنها في يد العدل ويد العدل يد المدعى عليه.
ولهذا لو هلكت في يد العدل ضمن المدعى (319أ1) عليه قيمتها فتبين أن الجارية استهلكت شيئاً من مال الغاصب ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن جناية المغصُوب على مال الغاصب هَدَرٌ كجناية المملوك على مال المالك، وعندهما معتبر كالجناية على مال الأجنبي وهي من مسائل «الزيادات»، ثم عندهما إذا بيعت أو فداها المقضي له يرجع على المقضي عليه بالأقل من قيمتها ومن الفداء.
وكذلك لو رافعتهُ وهي في يده ففرض لها النفقة وأكلت شيئاً من ماله بغير إذنه؛ ثم استحقت فهذا والأول سواء يعني لم يصير ديناً في رقبتها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما.
قال: وإن كان مكان الجارية عبد وباقي المسألة بحالها؛ لا يوضع العبد على يدي العدل إلا إذا كان المدعى عليه لا يحل كفيلاً بنفسهِ وكفيلاً بالعبد وكان المدعي لا يقدر على ملازمته. وكان المدعى عليه مخوفاً على ما في يدهِ بالإتلاف فحينذٍ يضعهُ القاضي على يدي عدل بخلاف الأمة، والفرق عرف في موضعه.(4/301)
-----
وكذا إذا كان المدعى عليه فاسقاً معروفاً بالفجور مع الغلمان، فالقاضي يضعه على يدي العدل وهذا لا يختص بالدعوى والبينة بل في كل موضع كان صاحب الغلام معروفاً بالفجور مع الغلمان فالقاضي يخرج الغلام عن يده ويضعهُ على يدي عدل بطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا وضع القاضي العبد على يدي العدل أمره أن يكتسب وينفق على نفسهِ إذا كان قادراً على الكسب كما قبل الوضع على يدي العدل؛ بخلاف الأمة لأنها عاجزة عن الكسب عادة، حتى لو كانت الأمة قادرة على الكسب معروفة بذلك بأن كانت خبازة وأو غسالة تؤمر بالكسب أيضاً. هكذا قال الفقيه أبو بكر البلخي والفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمهما الله. وإن كان العبد عاجزاً عن الكسب لمرضه أو صغره يؤمر المدعى عليه بالنفقة لأنهُ الآن بمنزلة الأمة.
قال: وإن كان مكان العبد دابة والمدعى عليه لا يجد كفيلاً؛ وهو مخوف على ما في يده، والمدعي لا يقدر على ملازمته، فالقاضي يقول للمدعي أنا لا أجبر المدعى عليه على الإنفاق لكن إن شئت أن أضعها على يدي عدل فأنفق عليها. ولا يضع على يدي عدل بخلاف العبد والأمة؛ وهذا لأن المقصود من الوضع على يدي العدل صيانة حق المدعي. وهو القضاء له بالمدعى به متى زكت الشهود وهذا المقصود يفوت في الدابة متى أبى المدعي الإنفاق لأن المدعى عليه لا يُجبَرُ على إنفاقهِ وإن كان هو المالك ظاهراً على ما عليه ظاهر الرواية عن أصحابنا رحمهم الله ولو لم ينفق المدعي على الداية تتلف الدابة ولا يحصل ما هو المقصود للمدعي من وضع الدابة على يدي العدل بخلاف العبد والأمة لأن المدعى عليه يجبر على إنفاقهما وإن وضعا على العدل فلا ضرورة إلى أمر المدعي بالإنفاق.
النوع الثالث في الإنفاق على الغير(4/302)
-----
المشتري قال: دابةٌ بين رجلين امتنع أحدهما عن الإنفاق عليها؛ وطلب الآخر من القاضي أن يأمره بالنفقة حتى تأخر لا يصير متطوعاً. فالقاضي يقول للآبي: إما أن تبيع نصيبك أو تنفق عليه هكذا ذكر الخصاف في «نفقاتهِ»: وقد فرق بين هذا وبينما إذا كانت الدابة كلها له: فإن هناك إذا امتنع عن الإنفاق عليها لا يجبر على ذلك وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب المزارعة»: أن ههنا لا يجبر الآبي على الإنفاق أيضاً.
والفرق على رواية الخصاف: أن الدابة كلها إذا كانت لرجل فليس في ترك الإنفاق إتلاف ملك الغير بل فيه إتلاف ملك نفسهِ. فلو وجب الإنفاق لوجب بملك نفسهِ وملك دابتهِ وإنها ليست من أهل الاستحقاق.
أما ههنا في ترك الإنفاق إتلافُ ملك الغير وهو ملكُ صاحبه وصاحبه من أهل الاستحقاق فجاز الجبر للغير وهو ملك.
قال: بهو مشترك بين قوم وهو شربٌ لهم ولأراضيهم احتاج هذا النهر إلى الكَرِيّ فأبى بعض أهل النهر الكراء. والكلام ههنا في مواضع.
أحدها: في النهر الأعظم فنقول: النهر الأعظم إذا احتاج إلى الكرايّ فالسلطان يكريه من مال بيت المال. وكذلك إذا احتيج إلى إصلاح مسنناته ويصرف في هذا الكراء قال: الخراج والجري وما يجري مجراهما ولا يصرف فيه الصدقات والعشر وإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على الكراء إلا أنهُ يخرج لكراء من كان يطيق الكراء منهم. ثم يجعل مؤنتهم على الأغنياء بالمياسير الذين لا يطيقون الكراء بأنفسهم.
فأما النهر الذي دخل تحت القسمة إلا أن الشركة فيها عامة كالكلم وما أشبههُ. فكذا هذا النهر على أهلها، وأن ابن بعضهم الكراء يجبر الآبي على الكرا.(4/303)
-----
وأما النهر الخاص بين قوم من كل وجه فكريه على أهل النهر وإن أبى بعضهم الكراء هل يجبر الآبي على الكراء؟ اختلف فيه المشايخ رحمهم الله. بعضهم قالوا: يجبر وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وقال بعضهم: لا يجبر وبه أخذ الفقيه أبو جعفر رحمه الله بل يرفع الأمر إلى الإمام حتى إن الإمام يأمر الباقين بكراء نصيب الآبي على أن يستوفى مؤنة الكراء من نصيبه من الشرب بأن يستوفى نصيب الآبي من الشرب مقدار ما يبلغ قيمة ما انفق، وباقي نصيبه للكراء هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله هذه المسألة في «كتاب الشرب» وبه تبين أن ما ذكر الخصاف في «نفقاته»: أن النهر الخاص بين قوم يجبر الممتنع على الكراء فذلك قول بعض المشايخ.
ثم على قول بعض المشايخ: الذين يرون الكراء إذا لم يدفعوا إلى القاضي يرجعون على الآبي تسقط من النفقة. وهل يُمنعُ الآبي من الشرب حتى يؤدي ما عليه من النفقة؟
ذكر رحمه الله في «شرح نفقات الخصاف»: أن فيه اختلاف المشايخ رحمهم الله، وذكر في «عيون المسائل» أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يمنع ولم يأخذ بهذا شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وأما إذا خيفَ أن ينشف النهرُ الخاصُ وأرادوا أن يحصوه فامتنع بعضهم فإن كان في هذا ضررٌ عام، بأن كان الماءُ يخرج إلى طريق المسلمين وإلى أراضيهم لو لم يصلحوا يُجبر الآبي على ذلك، وإن لم يكن فيه ضرر عام لا يجبر على الإنفاق، وأما إذا اتفق أهل النهر (319ب1) الخاص على ترك الكراء في هذا النهر لا يجبر. يضمن الإمام على ذلك في ظاهر المذهب.(4/304)
-----
وقال بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: يجبرهم الإمام على ذلك لحقِ أصحاب الشفعة في النهر هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرح كتاب الشرب» وبه تبين أن ما ذكر الخصاف في «نفقاتهِ» أن صاحب النهر الخاص وصاحب البئر يجر على كراء النهر وعلى إصلاح البئر لحق أصحاب الشفعة قول بعض المتأخرين من المشايخ، وليس بجواب ظاهر الرواية.
فرع على هذه المسائل في كتاب الشرب
فقال: إذا أنفق أهل النهر الخاص على الكراء. قال: أبو حنيفة رحمه الله: عليهم مؤنة الكراء من أعلى النهر: فإذا جاوزوا أرض رجل يرفع عنه مؤنة الكراء. وقال: أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الكراء عليهم جميعاً من أول النهر إلى أخره يخصص للشرب والأرضين. فأما إذا جاوزوا فوهة أحدث رجل هل يرفع مؤنة الكراء عند أبي حنيفة رحمه الله؟ والصحيح: أنه لا يرفع ما لم يجاوزوا أرضه وعلى هذا الاختلاف إذا احتاجوا إلى إصلاح حافني هذا النهر.
وأما إذا كان النهر عظيماً عليه قرى يشربون فيها، وهي التي تدعي بالفارسية «كام» فأنفقوا على كراء هذا النهر فبلغوا فوهة نهر قرية هل يرفع عنهم مؤنة الكراء لا رواية لهذه المسألة في «المسبوط».
قال خواهر زاده رحمه الله: ذكر هذه المسألة في «النوادر» أنه يرفع بالاتفاق وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يشترط لدفع مؤنة الكراء مجاورة إذا وصل هذه القرية.
قال: زرع بين رجلين أبى أحدهما أن ينفق عليه لا يجبر على ذلك لما قلنا، لكن يقال للآخر أنفق أنت وارجع بنصف القيمة في حصة شريكك؛ وكذلك الحمام إذا كان بين رجلين..... القدر أو أحرض أو شيء من الحمام فأبى أحدهما بالإنفاق لا يجبر عليه.l
ولكن يؤمر الآخر بالإنفاق ثم يرجع بحصة صاحبه في الغلة أما إذا ولاية انهدم الحمام كلهُ فأراد أحدهما أن يبني وأبى الآخر يقسم أرض الحمام، لأنه إن كان لا يمنكهُ أن يبني الحمام فيه: يمكنهُ أن يبني شيئاً آخر.(4/305)
-----
قال: البئر إذا كان بين رجلين وهو شرب مواشيهم فامتنع أحدهما عن إصلاحه وقال: أنا لا أسقي ماشيتي منها لا يجبر على ذلك لما قلنا، وإذا أصلح الآخر لا يكون له أن يرجع على الآبي، ولم يذكر الرجوع ههنا على الآبي وذكر الرجوع في المسائل المتقدمة فيحتمل أن الذي أصلح البئر أصلح بغير أمر القاضي في تلك المسائل إذا كان الإنفاق بغير أمر القاضي، لا يكون للمنفق ولاية الرجوع أيضاً على الآبي، ويحتمل أن يكون أصلح بأمر القاضي.
فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين المسائل المتقدمة.
والفرق: وهو أن النفقة ههنا إنما تجب بأداء المنفعة. فإذا امتنع من الانتفاع لم يكن عليه شيء أما فيما تقدم إن تعذر الإيجاب بأداء المنفعة أمكن الإيجاب بأداء ملك الرقبة لهم.
قال: دار وحانوت بين رجلين لا يمكن قسمتهما تشاجرا فيه فقال أحدهما: لا أكري ولا أنتفع وقال الآخر: أريد أن أنتفع فإن القاضي يأمره بالمهايأة ثم يقال للذي يريد الانتفاع به في مدتهِ إن شئت فانتفع بها وإن شئت فأغلق الباب، لأن في امتناعهُ من المهايأة إلحاق الضرر بصاحبهِ.
وقال العبد: إذا كان مشتركاً بين رجلين غاب أحدهما فأنفق الآخر بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحبه، فهو متطوع في النفقة.
وكذا الذرع إذا كان مشتركاً بين رجلين أو النخل إذا كان مشتركاً بين رجلين غاب أحدهما فأنفق الآخر بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحبه فهو متطوع في النفقة، لأنه أنفق على ملكه وملك الغير بغير أمره وبغير أمر من يلي عليه وهو غير مضطر في ذلك. يمكنهُ الإنفاق بأمر القاضي حتى يرجع بما أنفق في حصتهِ، ويحيي ملك نفسهِ. فكان بمزلة المودع إذا أنفق على الوديعة، أو الملتقط على اللقطة بغير أمر القاضي وكان كالأجنبي إذا قضى دين غيره بغير أمر من عليه الدين وهناك كان متبرعاً كذا ههنا،.(4/306)
-----
وكذلك الدار المشتركة إذا اشتريت فأنفق أحدهما في مؤنتها بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحبه فهو متطوع.
وهذا بخلاف ما لو أوصى برقبة نخلة لإنسان وبثمرتهِ لآخر ثم غاب صاحب الثمرة فأنفق صاحب الرقبة على النخيل بغير أمر القاضي لم يكن متبرعاً حتى كان له أن يستوفي مال أنفق من الغلة. وموضع الفرق بان العذر في المزارعة.
في «شرح خواهر زاده» رحمه الله فرع على هذه المسألة فقال: إن لم يخرج النخيل من الغلة فيما يستقبل مثل ما أنفق لا يكون لصاحب النخيل أن يرجع بما بقي من نفقته على صاحب الغلة ولكن يبيع الخارج في السنة الأخرى حتى يستوفي تمام نفقته. فرق بين هذا وبين الزرع المشترك بين رجلين، إذا أنفق أحدهما بأمر القاضي حتى كان للمنفق ولايةُ اتباع الخارج دون المزارع إذا استوفى حصة المزارع من الخارج وبقي من نفقتهِ شيء لا يكون له أن يتبع الخارج في السنة الأخرى بما بقي من النفقة.
وإن كان الإنفاق بأمرِ صاحبه في مسألة الزرع أو بأمر صاحب الغلة في مسألة النخيل كان له أن يرجع على صاحبه وعلى صاحب الغلة بجميع ما أتفق ولا يعتبر الخارج والفرق في هذا الباب أيضاً.(4/307)
-----
ثم الأصل في النفقة على المشترك، وهو أن كل نفقة يجري الجبَر عليها إذا امتنع أحد الشريكين من الإنفاق وأنفق الآخر بأمر القاضي أو بأمر الآبي، فالمنفق يرجع بنصف النفقة على الآبي بالغاً ما بلغ سواء بقي نصيب الآبي سالماً له أو هلك كالعبد الصغير إذا كان بين شريكين ولم يعد أحدهما على الإنفاق فأنفق الآخر بأمر القاضي أو بأمر صاحبه رجع المنفق على صاحبهِ بحصتهِ من النفقة بالغاً ما بلغ سواء بقي الصبي أو هلك وكل نفقة لا يجري الجبر عليها كما في نفقة الدابة المشتركة إذا أنفق أحدهما بأمر القاضي لم يكن للمنفق أن يرجع على شريكه فيما زاد على قيمة نصيبهِ، ولا بعد هلاك الدابة، وكل نفقة لا يجري الجبر عليها إذا أنفق أحدهما بأمر صاحبه يرجع على صاحبه بجميع حصتهِ بالغاً ما بلغ في ذلك الشيء (320أ1) أو هلك فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل من الزرع المشترك وغير ذلك.
وذكر في «كتاب المزارعة»: إذا مات ربُّ الأرض في وسط المدة وقال المزارع: أنا أقلع الزرع، وأنفق ورثة رب الأرض بأمر القاضي رجع على المزارع بجميع النفقة. قدراً بحصته ولو انقضت مدة المزارعة وأنفق ربّ الأرض بأمر القاضي فإنه يرجع بنصف القيمة مقدراً بحصته.
ولو كانت المزارعة قائمة وعجز المزارع عن الإنفاق عليه لعسرته فأنفق صاحب الأرض على الزرع بأمر القاضي حتى بلغ الزرع، فإن صاحب الأرض يرجع على المزارع بما أنفق بالغةً ما بلغت غير مقدرة بالحصة ولهذه المسائل تفاصيل تفريعات في المزارعة الكبيرة في باب العذر في المزارعة بعضها في «شرح خواهر زاده» رحمه الله وبعضها في «شرح شمس الأئمة السرخسي» رحمه الله.
ومما (يتصل) بهذا الفصل
رجل أخذ عبداً آبقاً فطلب صاحبه. فلم يقدر عليه فجاء إلى القاضي وأخبره بالقصة وطلب من القاضي أن يأمره بالإنفاق عليه فالقاضي لا يلتفت إلى قوله.(4/308)
-----
قبل إقامة البينة وبعد ما أقام البينة، كان للقاضي الخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل كما في اللقيط واللقطة. وبعدما قبل القاضي البينة، إن كان (البيع) أصلح بأن خاف أن تأكلها النفقة أمره ببيعها، وإمساك الثمن. وتمام هذه المسائل في اللقيط واللقطة والإباق.
وكذلك الحكم، فيما إذا ادعى هذا بأن هذا الشيء وديعة وأقام البينة أو لم يقم فهو على ما قلنا، والله أعلم بالصواب. وتم الكتاب بعون الله وحسن توفيقه.(4/309)
-----
كتاب العتاق
هذا الكتاب يشتمل على أحد عشر فصلاً:
1 * في الألفاظ التي يقع بها العتق.
2 * في الألفاظ التي لا يقع بها العتق.
3 * في تعليق العتق وإضافته وما هو بمعناهما.
4 * في العتق المبهم.
5 * في إعتاق بعض الرقيق.
6 * في عتق ما في البطن.
7 * في الخصومات أربعة في الرق والحرية والشهادة على ذلك.
8 * في تفويض العتق إلى غيره.
9 * في التدبير.
10 * في أمهات الأولاد.
11 * في المتفرقات.
الفصل الأول في الألفاظ التي بقع بها العتق
نوعان: صريح وكناية، فالصريح لفظ العتق والحرية، وهما لغتان أي لفظان.....: لا يعتبر فيهما النية؛ لأن النية إنما تعتبر فيما إذا كان مراد المتكلم مشتبهاً والاشتباه في ..... فإن استعمال اللفظ لما وضع أصل ويثبت العتق بهذين اللفظين سواء ذكرهما على سبيل الصفة نحو قوله: أنت حر أنت عتيق أو على سبيل وحررتك الإخبار نحو قوله: أعتقتك وحررتك أو على سبيل الصفة نحو قوله: أنت حر أنت عتيق أو على سبيل النداء. نحو قوله: يا حر يا عتيق أو على الإشارة نحو قوله: هذا حر وهذا عتيق.
قال محمد رحمه الله: في «الأصل»: وإذا قال لعبده: أنت حر لوجه الله تعالى عتق قال مشايخنا رحمهم الله: ذكر وجه الله ليس على سبيل الشرط بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب»: إذا قال لعبده: أنت حر لوجه الشيطان إنه يعتقد.
والأصل فيه قول عمر رضي الله عنه من تكلم بطلاق أو عتاق فهو جائز عليه من غير فصل لكن ذكر وجه الله لبيان أُنه قصد بالعتق القربة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أن من أشهد أن اسم عبده حر ثم ناداه يا حر لا يعتق ولو دعاه بالفارسية يا اداد يعتق لأن في الوجه الأول دعاهُ باسمه، وفي الوجه الثاني دعاه بغير اسمه وعلى هذا لو سماه اداد ثم دعاه باداد لا يعتق ولو سماه يا حر يعتق.(4/310)
-----
وذكر في بعض نسخ «الأصل» إذا قال له: يا عتق يعتق نوى أو لم ينو، لأن العتق مصدر والمصدر يقوم مقام الاسم: ولو قال لعبده: يا حر أو قال لأمتهِ يا حرة وقال: أردت به اللعب يعتق ديانة وقضاء؛ لأن الجد واللعب في العتق على السواء.
ولو قال: أردت به الكذب لا يتعلق ديانة لأن الكذب لا يتعلق به حكم إلا أن القاضي لا يصدقه في دعوى الكذب، لأنه دعوى أمر بخلاف الظاهر لأن الظاهر في الخبر الصادر عن عقل ودين أن يكون صدقاً أما الله تعالى مطلع على الضمائر والظواهر جميعاً. والخبر في نفسه محتمل للصدق والكذب ويصدق ديانة لهذا إلا أن احتمال الكذب إنما يتأتى في الإخبار لا في إيجاب ولا يصدق في دعوى الكذب في الإيجاب.
ولو جرى لفظة التحرير على لسانه خطأ بأن أراد أن يقول لعبده: اسقني فقال له: أنت حر أو جرى لفظة أنت طلالق على لسانه خطأ بأن أراد أن يقول لها: افعلي كذا فقال لها: أنت طالق فالطلاق وقع باتفاق الروايات، وفي العتاق روي عن أبي حنيفة: لا يقع.
وفي «المنتقى»: ابن سماعة في رجل جالس مع قوم وأمته كانت قائمة بين يديه فسألها رجل أمة أنت أو حرة فأراد المولى أن يقول ما سؤالك عنها أنها أمة أو حرة فعجل في القول وقال: هي حرة إنه يعتق في القضاء ولا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا بعث الرجل غلامه إلى بلدة وقال له: إذا استقبلك رجل فقل: إني حر فذهب الحر فاستقبله رجل فسأله فأجاب بما قال المولى فإن كان قال له المولى: سميتك حراً فقل إني حر لا يعتق أصلاً، لأن قوله بأمر المولى إني حر كقول المولى هو حر والمولى لو قال بغلامه بعدما سماه حراً هذا حر لا يعتق وإن لم (يقل) المولى سميتك حراً يعتق قضاء لا ديانة. كما لو قال المولى: هو حر وأراد به الكذب دون التحقيق وعلى هذا إذا قال لجماعة تذهبون مع غلامه إذا استقبلكم أحد فقال لو قال آرادست.(4/311)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال لعبده: إذا مررت على التي أشر فسألك فقل: أنا حر فهو عليه فسأله فقال: أنا حر عتق ولا يعتق قبل ذلك ألا ترى لو قال لعبده ابتداء قل أنا حر عتق ولا يعتق ما لم يقل أنا حر وإذا قال ذلك يعتق كذا ههنا.
وفي «واقعات الناطقي» إذا قيل: عبيد أهل بلخ أحرار وهو من أهل بلخ ولم ينو عبده أو قال كل عبد أهل بغداد أحرار وقال كل عبد أهل بلخ أحرار ولم ينو عبده قال أبو يوسف: لا يعتق عبده.
وكذلك إذا قال: كل مملوك ببغداد حر لا يعتق عبده وإن كان عبده ببغداد إلا أن ينويه عند أبي يوسف قال: لأن هذا أمر عام وبقوله أخذ عصام بن يوسف.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه يعتق عبده في هذه الصور كلها وبقوله أحد شداد ببغداد هذا بخلاف الطلاق.
وعلى هذا الخلاف إذا قال كل عبد في هذا المسجد يعني المسجد الجامع يوم الجمعة فهو حر وعبده في المسجد إلا أنه لم ينو عبده أو قال كل امرأة في هذا (320ب1). المسجد يعني المسجد الجامع يوم الجمعة طالق وامرأتهُ في المسجد الجامع إلا أن ينويها.
ولو قال: كل عبد في هذه السكة حر أو قال: كل عبد في هذه الدار حر وعبده في الدار والسكة عتق وإن لم ينو بلا خلاف.
ولو قال: ولد آدم كلهم أحرار لا يعتق عبده إلا بالبينة بالاتفاق.
وفي «نوادر ابن سماعة»: عن محمد رحمه الله أيضاً: إذا قال: كل عبد يدخل هذه الدار فهو حر أو قال كل عبد يملكني بشيء فهو حر فدخل الدار عبد له أو كلمه عبد له عتق.
وكذلك إذا قال: كل عبد في الأرض حر عتق عبده ولم يرو عن أبي يوسف في هذين الفصلين شيء.
وفي «نوادر ابن سماعة»: عن محمد رحمه الله أيضاً: رجل قال: قد أعتق كل رجل عبده ثم اشترى عبداً لم أعتق العبد الذي اشتراه منه بهذا القول منه لأني أعلم أنه قيمة كاذب قال: وأما المسائل المتقدمة فيمن أوقع بها العتق فأوقع بها ما أوقعه منه على عبده.
(4/312)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لعبده: أنت حر أو قال لأمته: أنت حرة عتق ولو قال لرجل يا زانية لا يحد.
وفي «الأصل»: إذا قال لعبده: أنت حر من عمل كذا أو قال: أنت حر اليوم من هذا العمل عتق في القضاء؛ لأنه وصفهُ بالحرية وتخصيصه وقتاً أو عملاً لا يعتبر حكم ما وصفه به فأما فيما بينه وبين الله تعالى إن كان لم يرد به العتق فهو عبده؛ لأنه يحتمل أن يكون مراده لا أكلفك اليوم هذا العمل والله تعالى مطلع على ما في ضميره كنه خلاف الظاهر فإنه جعل الحرية صفة له في الظاهر فلا يصدقه القاضي.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا قال لأمتهِ: أنت حرة من هذا العمل يعني به قد أعتقتك منه فهي حرة في القضاء. قال: ولا يشبهه قوله لامرأته: أنت طالق من وثاق.
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال: لأمتهِ فرجك حر عن الجماع قال: تعتق في القضاء.
وفي «المنتقى» أيضاً: رجل له عبد فدخل له دمه بالقصاص فقال له: قد أعتقتك ثم قال: عنيت العتق عن الدم، فإنه في القضاء على الرق ويلزمه العفو بإقراره أنه عناه ولو لم يقل عنيت العتق عن القتل لم يلزمه العفو.
ألا ترى أنه لو قال: عنيت العتق عن الرق كان له أن يقتله لأن وجه الكلام على ذلك كذا ههنا ولو اعتقه لوجه الله عن القصاص بالدم كان كما قال.
ولو كان له على رجل قصاص فقال قد أعتقتك فهو عفو استحساناً. ولو قال له أعتقتك من القصاص أو من القتل فهو عفو قياساً واستحساناً.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله سئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله: (عن) رجل قال لعبده نواراد توارمني قال: لا يعتق لأنه يراد به التشبيه ألا ترى أنه لو قال لآخر أنت أزنى الناس لا يكون قاذفاً قال الفقيه أبو الليث رحمه الله هذا إذا لم ينو العتق. فأما إذا نوى العتق يعتق؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظهُ.(4/313)
ألا ترى أنه لو قال لامرأته: أنت أطلق من فلانة وفلانة مطلقة ونوى الطلاق تطلق كذا ههنا، وقيل: يجب أن يعتق بدون النية.(4/314)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال لعبده: أنت أعتق من فلان يعني به عبداً آخر له وعنى به أنت أقدم في ملكي دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء ويعتق.
ولو قال: أنت أعتق من هذا في ملكي أو قال: في السر لم يعتق أصلاً، وكذلك إذا قال له: أنت عتيق السن، ولو قال له: أنت حر النفس يعني في أخلاقك وأفعالك لم يعتق أصلاً.
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لغيره قل: لغلامي إنك حر أو قال: قل له إنه حر عتق في القضاء ساعة تكلم.
ولو قال له: أنت حر لم يعتق حتى يقول له أنت حر، وهذا على الوكالة كأنه وكله بعتقهُ.
هشام قال: سمعت أبا يوسف قال: في رجل قال لثوب خاطه مملوكة هذه خياطة حر بالإضافة أو قال: له إنه مملوكة هذه وإنه حر قال: لا يعتق في شيء من هذه أو قال في رجل قال لمملوكه أنت مولى فلان أو أنت عتيق فلان فهو حر، ولو قال أعتقتك فلان فليس بشيء.
والفرق: أن في الفصل الأول أخبر عن عتقه ولا يتحقق العتق فيه إلا بإعتاقهِ إياه فيصير مقراً بإعتاقهِ إياهِ وإقرارهُ حجة عليه.
وفي الفصل الثاني: أخبر عن إعتاق فلان وقد يتحقق إعتاق فلان من غير إعتاقه فلا يصير مقراً بإعتاقه والله (أعلم) بالصواب.
الفصل الثاني في الألفاظ التي لا يقع بها العتق
في «المنتقى»: إذا قال لأمته أنت مثل هذه وأشار إلى امرأة حرة لم يعتق إلا أن يقول أردت أنها حرة مثل هذه.
وكذا إذا قال لامرأة حرة أنت مثل هذه الأمة وأشار إلى أمته لا تعتق أمته إلا أن ههنا لو أراد التشبيه في الحرية لا تعتق أمته بخلاف الفصلين المتقدمين.(4/315)
-----
وفيه أيضاً: إذا قال: كل مال لي حر وله رقيق لا يعتق واحد منهم لأن محل الرقيق لا مطلق المال فهذا الكلام لم يلاق محله فلا يصح، وفيه إذا قال لعبده نسبك حر أو قال أصلك حر فإن كان يعلم أنه سبي لم يعتق وإن كان لا يعلم أنه فهو حر؛ لأن في الوجه الأول ما أقر بحريته لا نصاً ولا ضرورة الإقرار بحرية إذ ليس من ضرورة حرية الأصل المسبي حريته فالكفار كلهم أحرار قبل الظهور عليهم ويثبت حكم الرق في أولادهم بالاستيلاء على الأولاد وهو معنى قولنا: إنه ما أقرَّ بحريته وفي الفصل الثاني صار مقراً بحريته ضرورة الإقرار بحرية أصله فإن من ضرورة حرية أصل غير المسبي حريتهُ والثابت ضرورة والثابت صريحاً سواء.
أو نقول في الوجه الأول هو صادق في مقالته لأن المسمى نسبه حر وأصله حر فلا ضرورة إلى الحكم بحرية الولد أما غير المسمى لا يكون نسبه حراً إلا أن يكون هو حر لأن حرية الأبوين تقتضي حرية الولد إلا أن يجري السبي على الولد فإذا لم يجر تثبت هذه اللفظة موجبة حرية الولد.
ولو قال له: أبواك حران لم يعتق على كل حال؛ لأنه يجوز أن يكون الأبوان حرينن ويكون رقيقهُ بأن عتق أبواه بعد ولادتهِ إذا قال لعبدهِ عتقك عليّ واجب لا يعتق بخلاف ما لو قال طلاقك علي واجب (321أ1).
هكذا ذكر في «الفتاوى للفضلي»: والفرق: أن العتق قد يجب في الجملة فلم يقتضِ هذا اللفظ وقوع العتق بخلاف الطلاق لأن الطلاق لا يجب بحال وإنما يجب حكمهُ بعد وقوعه فاقتضى هذا وقوع الطلاق.
وقد ذكر القدوري في «شرحه» في مسألة الطلاق عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بخلاف ما ذكر ههنا، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الطلاق.
وإذا قال لعبده رأسك حر أو قال بدنُكَ حر فالكلام في العتق نظير الكلام في الطلاق ففي كل ما يقع به الطلاق بالإضافة إليه لا يقع العتق بالإضافة إليه قد مر فصل الطلاق في كتاب الطلاق، وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لغلامه: ركبك حر إنه يعتق كما لو قال فرجك حر.(4/316)
-----
إذا قال لعبده: رأسك رأس حر، أو قال بدنك بدن حر قال: لا يعتق بالإضافة عنده؛ لأن معناهُ مثل رأس حر، مثل بدن حر، وإنه تشبيه والتشبيه لا يقتضي المساواة من كل وجه. ولو قال: رأسك رأس حر بدنك بدن حر عتق، لأن هذه صفة وليس بتشبيه، ولو قال: ما أنت إلا مثل الحر لا يعتق لأن هذا تأكيد في التشبيه والتشبيه لا يوجب العتق. ولو قال ما أنت إلا حر عتق لأن كلامه اشتمل على النفي والإثبات وهذا أكذ ما يكون في الإثبات فكان هذا وقوله: أنت حر سواء، ولو أن عبداً قال لمولاه: إرادي من يبداكن فقال المولى: إرادي يو كردم لا يعتق العبد؛ لأنه يحتمل أنه أظهر بالتعليق لا بالتنجيز.
رجل قال لعبده انت..... مملوك فهذا الا يكون عتقاً منه ولكن ليس له أن يدعيه وإن مات لا يرثه بالولاء وإن قال المملوك بعد ذلك إني مملوك له فصدقه كان مملوكاً رواه إبراهيم عن محمد رحمه الله.
وفي «الفتاوى» عبد أخذ منديل مولاه ووصفهُ بحسنه فقال المولى: بارخداي مرادساد من مي باين بارندحود بير لا يغير العبد بهذا اللفظ لأن معناه أين يدرك مرا وبهذا لا يثبت العتق، لأنه استهزاء. إذا قال لعبده باسدا، وقال: باسدين أو قال لأمته باسده أو قال لها: يا سيدف أو قال له: بالواد مردا أو قال: بامرادمرد من أو قال لها: يا ازادون أو قال: يا ارادرن من أو قال لها: يا كدبا نواياكد ترى من، فإن نوى العتق في هذه المسائل يثبت العتق بلا خلاف وإن لم ينو العتق اختلف المشايخ فيه.
واختيار الفقيه أبي الليث أنه لا يعتق لأنه يراد ببعض هذه الألفاظ اللفظ وببعضها الإنشائية وليس فيه ذكر ما يختص بإعتاقه إياه ولو قال لغلامه: يا ازاد مرد بدون حرف الألف لا يعتق وإن نوى العتق هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر ولو قال لغلامه: أنت مولاي أو قال له: يا مولاي اختلف المشايخ فيه وذكر الكرخي أنه يعتق ولا يحتاج فيه إلى النية.(4/317)
-----
وقال هشام: سألت محمداً رحمه الله عمن قال لغلامه: يا مولاي أو قال لأمته: يا مولاتي قال: يعتق. قلت: وإن قال: يا سيدي يا سيدتي قال: لا يعتق وهذا ليس بشيء.
وقال إبراهيم بن رستم سمعت محمداً رحمه الله يقول: لا يعتق في النداء إلا في خصلتين يا حر ويا حرة يا مولاي ويا مولاتي قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وهذا لأن لفظ المولى وإن كان لفظاً مشتركاً فإنه يذكر بمعنى الناصر قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ} (محمد: 11) ويذكر بمعنى ابن العم قال الله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي} ويذكر بمعنى المولى الأعلى ويذكر بمعنى المولى الأسفل إلا أنه يعتق مولى الأسفل ههنا لأن المولى لا يستنصر بعبده عادة وليست العبد معروف ما ينفي معنى الناصر، ومعنى ابن العم وكذلك المولى الأعلى منتف وإنه ظاهر فتعين معنى مولى الأسفل وإنما لا يحتاج إلى النية لأن اللفظة المشترك إذا تعين فيه بعض وجوهه كان الحكم في ذلك الوجه ثابتاً بطريق الحقيقة فلا يحتاج فيه إلى النية.h
إذا قال اين كوجه من است ذلك قال: لغلامه أو لأمته يعتق هل يعتق فيه اختلاف المشايخ واختيار الصدر الشهيد الكبير برهان الأئمة رحمه الله أنه لا يعتق لأنه لا يراد به التحقيق. ألا ترى أنه يقال في العرق ابن كو مكان امن ديدايد ولا يراد به التحقيق وإذا قال لغلامه: أي جاف بدر لا يعتق في باب بنيته..... وإذا قال لغلامه بالفارسية: تاتو بسنده من بودي بعد ابستواند ربودم واكنوكي ينستي بعداب توازرم فقد قيل: إنه يعتق في القضاء لأنه أقرب بالعتق.
(4/318)
-----
وقيل: لا يعتق بدون النية عند أبي حنيفة رحمه الله كما في قوله لامرأته: لست لي بامرأة وأشباه ذلك وهذا لأنهُ ليس من ضرورة أن لا يكون عبده أن يكون حراً لجواز أن يكون عبد غيره وسيأتي بعد هذا ما يؤكد هذا القول. قال: لجارية: وجهك أضوأ من الشمس... عندك لم تعتق لأن هذا للطف لا للتحقيق رجل قال لعبدهُ: وهبت لك نفسك، بعت منك نفسك عتق قبل أو لم يقبل نوى أو لم ينوِ.
وكذلك إذا قال له وهبت لك رقبتك فقال: لا أريد عتقاً وذكر مسألة هبة الرقبة في موضع آخر وقال يعتق والأول أصح لأن الهبة والبيع يقتضيان زوال الملك إلا أنه أوجبه لا....... يكون من...... الملك إليه فيشترط قبوله.
وإذا أوجبه العبد يكون مزيلاً للملك بطريق الإسقاط فلا يشترط القبول وإذا قال لعبده لا سبيل لي عليك فإن نوى العتق يعتق وإن لم ينو لا يعتق؛ لأن هذا اللفظ يحتمل وجوهاً شتى: يحتمل لا سبيل لي عليك عقوبة ولوماً لأنك وفيت بما أمرتك به ويحتمل لا سبيل لي عليك لأني بعتك ويحتمل لأني أعتقتك.
وكذلك إذا قال: لا ملك لي عليك لا يعتق ما لم ينو، لأنه يحتمل وجهاً آخر سوى العتق، يحتمل لا ملك لي عليك لأني بعتك؛ لأني وهبتك.
وكذلك إذا قال: خرجت عن ملكي، خليت سبيلك لا يعتق ما لم ينوِ؛ لأنه يحتمل وجهاً آخر سوى (هذا) وهذه المسائل تؤكد القول الثاني في المسألة الثانية التي تقدم ذكرها. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا قال له: لا سبيل لي عليك إلا سبيل الولاء فهو حر في القضاء ولا يصدق أنه لم يرده لأنه لما استثنى سبيل الولاء فقد عين في نفي السبيل جهة الحرية، ولا ولاء إلا بعد الحرية (321ب1).
ولو قال إلا سبيل الموالاة دين في القضاء لأن الطلاق الموالاة ينصرف إلى الموالاة في الدين، وإن جاز أن يعبر بها عن ولاء العتق، ولو قال له اذهب حيث شئت توجه أينما شئت في بلاد الله لا يعتق وإن نوى؛ لأن هذا يستدعي زوال يد المولى عنه وزوال يد المولى عن العبد لا يوجب العتق.(4/319)
-----
ولو قال له لا سلطان لي عليك فنوى به العتق لا يعتق، بخلاف ما إذا قال لا سبيل لي عليك ونوى به العتق، والفرق: أن السبيل في اللغة عبارة عن الطريق المسلوك؛ لأن العمل بحقيقته غير ممكن إذا أضيف إلى العبد؛ لأن العبد ليس بطريق المسلوك، فيجعل كناية عن الملك؛ لأن الملك في العبد لمعنى الطريق، لأن الطريق ما يتوصل به إلى غيره والملك في العبد مما يتوصل به في التصرفات شرعاً، فكأنه قال لا ملك لي عليك. ولو قال لا ملك لي عليك ونوى به بالعتق يعتق، كذا ههنا، فأما السلطان في اللغة: يذكر ويراد به الحجة، ويذكر ويراد به الاستيلاء واليد، فكأنه قال لا حجة لي عليك لا يد لي عليك، ولو نص على هذا لا يعتق وإن نوى، كذا ههنا.
فرق بين قول لا ملك لي عليك من كنايات العتق، ولم يجعل قوله لا يد لي لا حجة لي عليك من كنايات العتق، والفرق أن قوله لا يد لي عليك يتعرض لنفي اليد، لا لنفي الملك واليد تنتفي من غير انتفاء الملك كما في الإجارة والكناية، ولو جعل كناية عن العتق وفيه إزالة اليد والملك يؤدي إلى أن يثبت باللفظ أكثر مما وضع له اللفظ وإنه يجوز، وكذا قوله: لا حجة لي، يتعرض لنفي الحجة لا لنفي الملك، والتقريب ما مر.
قوله لا ملك لي عليك يتعرض لنفي الملك مطلقاً الرقبة واليد فيه سواء، ولو جعل كناية عن العتق، وفيه إزالة ملك الرقبة واليد، لا يؤدي إلى أن يثبت باللفظ أكثر مما وضع له اللفظة، فلهذا افترقا.(4/320)
-----
وإذا قال لأمته أنتِ طالق، أو ذكر شيئاً من كنايات الطلاق، نحو قوله: بنت مني أو حرمتك أو أنت خلية، أو ما أشبه ذلك وهو ينوي العتق لا يعتق في جميع ذلك عندنا، وعند أبي يوسف إذا قال لأمته اللفظ ونوى العتق عتقت؛ لأن الإطلاق يقتضي زوال اليد فهو بمنزلة قوله خليت سبيلك، ولو قال فرجك علي حرام يريد به العتق، لا يعتق لأنه جزء من المنفعة على نفسه، وتحريم المنفعة بجامع الرق، ألا ترى لو اشترى أخته من الرضاعة، أو اشترى جارية وطىء أمها صح وإن كانت المتعة حراماً عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لأمته: ألف نون تاء حاء راء أو قال لامرأته ألف نون تاء طاء ألف لام قاف إنه إن نوى الطلاق والعتاق تطلق المرأة، وتعتق الأمة، هذا بمنزلة الكناية؛ لأن هذه الحروف يفهم منها ما عدا المفهوم من صريح الكلام، إلا أنها لا تستعمل لذلك، فصار كالكناية في حق الافتقار إلى النية.
وإذا قال لعبده: هذا ابني ومثله يولد لمثله عتق العبد، سواء كان معروف النسب أو كان مجهول النسب وإن كان مثله لا يولد لمثله عتق العبد عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لهما، فاحتج محمّد رحمه الله على أبي حنيفة رحمه الله، فقال: ألا ترى أنه لو قال لغلامه هذه ابنتي أو قال لجاريته هذا ابني، فإنه لا يعتق، من مشايخنا رحمهم الله من قال: هذه المسألة على الخلاف أيضاً ومحمّد رحمه الله كثيراً ما يستشهد بالمختلف على المختلف، ويكون غرضه نقل الكلام إلى ما هو أوضح. ومنهم من قال لا بل تلك المسألة على الوفاق وهو الأظهر.(4/321)
-----
وإذا قال لعبده يا أبي ذكر في «النوادر» أنه يعتق وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يعتق، وهو الصحيح. فعلى ما ذكر في «النوادر» لا يحتاج إلى الفرق، والفرق وهو أن النداء لاستحضار المنادى وذلك بذكر ما هو وصف تعضية الأصل حتى يعلم أنه هو المقصود بالنداء، فإذا ناداه بوصف يملك إيجابه فيه كما في قوله يا حرّ يجعل ذلك بمنزلة الإيجاب، ليكون النداء بما هو وصف له، وإذا ناداه بوصف لا يملك إيجابه فيه كما في قوله: يا أبي لا يمكن أن يجعل ذلك بمنزلة الإيجاب ليكون النداء بما وصف له، فيكون الاستحضار لصورة اللفظ ووقوع العتق بقوله ابني باعتبار معنى هذا اللفظ، وهو البنوة لا باعتبار الصورة فلهذا لا يقع الإعتاق، ولو قال لغلامه يا أخي يا عمي أو قال لأمته يا أختي يا عمتي يا خالتي لا يعتق وهو بناء على ما قلنا.
ولو قال لغلامه: هذا عمي ذكر في بعض النسخ أنه لا يعتق ومن مشايخنا من قال: يعتق هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» وفي «مجموع النوازل» لو قال لغلامه هذا عمي، وقال هذا خالي أو قال لأمته هذه عمتي هذه خالتي يعتق. ولو قال هذا أخي، أو قال هذه أختي، لا يعتق لأن الأخ اسم مشترك، يذكر ويراد به الأخ من حيث الدين، ويذكر ويراد به الأخ من حيث القبيلة، ويذكر ويراد به الأخ من حيث النسب، والمشترك لا يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي، أو قال لأمي يعتق عليه ولا كذلك اسم العم، واسم الخال، وروى الحسن عن أبي حنيفة في قوله هذا أخي، هذه أختي أنه يعتق.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إن قال لغلامه هذا ولدي الأكبر عتق في القضاء؛ لأنه أقر بالبنوة والإقرار بالعتق، ولا يعتق ديانة؛ لأن هذه الكلمة تستعمل للعتاق والتشبيه.(4/322)
-----
عبد في يدي رجل (حتى) له أهذا ابنك، فأشار برأسه أي نعم ثبت النسب منه، والفرق: هو أن العتق يتعلق ثبوته بالعبارة، (والإشارة) لا تقوم مقام العبارة عند القدرة عليها، أما النسب لا يتعلق ثبوته بالعبارة ألا ترى أن الولد المولود على الفراش ثابت النسب من صاحب الفراش، وإن لم يصرح به، فجاز أن يثبت بالإشارة إذا قال لعبده أنت لله، لم يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله وإن نوى؛ لأنه وصفه بوصف هو ثابت قبل وصفه فإن جميع الأشياء لله تعالى، والعتق لا يثبت إلا ثابتاً من وصف لا يوصف به المملوك قبل العتق، وقال أبو يوسف يقع العتق إذا نوى؛ لأن العتق يقع لله تعالى غالباً، فإذا نوى العتق بهذا اللفظ فكأنه قال أنت حرٌّ لله تعالى، وهكذا روي عن محمّد رحمه الله وقال هشام سألت أبا يوسف عن رجل قال في صحته أو مرضه جعلتك لله تعالى، قال إن نوى العتق عتق، وإن لم (322أ1) ينوِ العتق أو مات ولم يبين لم يعتق لأنه يحتمل أنه أراد به النذر، ويحتمل أنه أراد به العتق فلا يتعين لأحدهما إلا بالنيّة وإذا مات لم يلزموا الورثة بشيء؛ لأن النذر يسقط بالموت، ولو قال له أنت عبد الله لا يعتق بالإجماع.
وفي «العيون»: إذا قال لأمته الحامل أنت حرة وقد خرج منها بعض الولد، إن كان الخارج أقل يعتق، وإن كان الخارج أكثر لا يعتق؛ لأن للأكثر حكم الكل لا لما دونه، وذكر هشام والمعلى عن أبي يوسف فيمن قال لأمته الحبلى وقد خرج نصف بدن الولد أنت حرة، إن كان الخارج النصف سوى الرأس، فهو مملوك فإن كان النصف من جانب الرأس ومعناه أن يكون الخارج من البدن مع الرأس بصفاته الولد حر، والله أعلم بالصواب.
الفصل الثالث في تعليق العتق وإضافته وما هو بمعناهما
ذكر في «المنتقى» إذا قال لمملوكه إن ملكتك فأنت حر، عتق حين سكت، والملك الحادث بعد اليمين ملك، وهذا..... صححت وهي صحيحة.(4/323)
-----
في «مجموع النوازل» إذا قال لعبده إذا سقيت الحمار فأنت حر، فذهب العبد بالحمار إلى الماء ولم يشرب الماء عتق العبد لأنه قد سقاه.
في «المنتقى» رجل قال إن اشتريت عبد فلان، فقد صار حراً، أو قال فقد جرى فيه العتق فاشتراه عتق، ولو قال إن اشتريت عبد فلان عتق، أو قال جرى فيه عتق فاشترى لا عتق روى خالد بن صبح عن أبي يوسف في رجل قال: كلما دخلت هذه الدار، فعبدي حر، وله عبيد فدخلها أربع مرات وجب عليه بكل دخلة عتق يوقعه على أيّهم شاء واحداً بعد واحد.
إبراهيم بن رستم عن محمّد رحمه الله: رجل قال لعبده أنت حر على أن تدخل الدار فهو حر دخل أو لم يدخل، وعنه أيضاً: إذا قال لعبده أنت حر على أنه إن بدا لي رددتك جاز العتق وبطل الشرط، وقال إذا كان شرطه في شيء يجب عليه، أي على العبد فلا شيء عليه ولا تثبت الحرية ما لم يقبل. وإذا كان الشرط في شيء لا يجب عليه، فهو حر قبل أو لم يقبل.
إذا قال لعبده إن شتمتك فأنت حر ثم قال لا بارك الله فيه، لا يعتق؛ لأن هذا ليس بشتم بل دعاء عليه.
رجل قال لمكاتبه إن أنت عبدي، فأنت حر لا يعتق؛ لأن في كونه عبداً له قصور، وهو نظير ما لو قال لمطلقته طلاقاً بائناً: إن أنت امرأتي فأنتِ طالق لا تطلق لأن في كونها امرأة له قصور.(4/324)
-----
رجل قال لعبد على رجل إن وهبك مولاك مني فأنت حر، فوهبه منه فهذا على وجهين: أما إن كان العبد في يد الواهب وفي هذا الوجه لا يعتق العبد قبل أو لم يقبل سُلِّم إليه، أو لم يُسلَّم؛ لأنه انحلت اليمين بنفس الهبة ولا ملك، وأما إن كان العبد وديعة في يد الموهوب له، وهو الحالف، فإنه على وجهين: إن بدأ الواهب، فقال: وهبته منك لا يعتق قبل الموهوب له أو لم يقبل؛ لأن اليمين انحلت بنفس الإيجاب، ولا ملك وإن بدأ الموهوب له وهو الحالف، فقال: هبه مني فقال صاحب العبد وهبته منك عتق العبد؛ لأن القبول لما سبق والعبد معتق منه يثبت الملك كما وهبه منه، فتنحل اليمين بالهبة والملك ثابت، فهذا عتق ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في باب العتق.
وفي «النوازل» إذا قال الرجل كل عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبداً شراءً فاسداً ثم اشتراه ثانياً شراءً صحيحاً لا يعتق؛ لأن اليمين انحلت بالشراء الفاسد، لأن الشراء الفاسد شراء حقيقة لكن لم يعتق العبد لانعدام الملك، لانعدام شرطه وهو القبض فلا تنحل بالشراء الصحيح، وهذا بخلاف ما لو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً، ثم تزوجها ثانياً نكاحاً صحيحاً تطلق؛ لأن هناك باليمين لا تنحل بالنكاح الفاسد؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح على الحقيقة وإذا لم تنحل اليمين بالنكاح الفاسد تنحل بالنكاح الصحيح، فلهذا افترقا.
(4/325)
-----
وفي «الروايات» عبد بين رجلين قال أحدهما للعبد: أنت حر على ألف درهم، فقبل العبد ذلك، عتق نصيبه لا غير عند أبي حنيفة رحمه الله، ولا يلزمه إلا خمسمائة؛ لأن الألف مقابل بجميع الرقبة، ولم يعتق من جهته إلا نصف الرقبة ويرجع الشريك الآخر على المعتق بنصف ما قبض من العبد؛ لأنه كسب شخص نصفه مملوك للساكت، ثم يرجع المعتق على العبد بنصف ما أخذ منه لأن المأخوذ من العبد نصف الرقبة، وقد سلم للعبد نصف الرقبة ولم يسلم للمولى إلا نصف البدل، فرجع عليه بالنصف الآخر، ولو كان قال: نصيبي منك حر على ألف درهم، فقبل العبد ذلك عتق نصفه لا غير عند أبي حنيفة رحمه الله وكان على العبد ألف درهم ههنا للمعتق، بخلاف الفصل الأول.
والفرق في هذا الفصل الألف تجزيه نصيبه وقد سلم له ذلك، فيلزمه كل الألف، ولا كذلك في الفصل الأول، ويرجع الساكت على المعتق بنصف ما قبض من العبد، ثم المعتق يرجع بذلك على العبد لما مر.
وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله، وأما قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله إذا أعتقه أحدهما، أو أعتق نصيبه عتق الكل؛ لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ، فكان على العبد ألف درهم في الوجهين؛ لأن الألف مقابل بجميع الرقبة وقد سلم للعبد جميع الرقبة من جهته، ويرجع الساكت على المعتق بنصف ما أخذ من العبد، ثم المعتق يرجع بذلك على العبد، هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ: ولا يرجع الساكت على المعتق بما أخذ من العبد، قالوا: تأويل ما ذكرنا أن الساكت يرجع على المعتق بأن يكون المؤدى كسب الرق، فيكون كسب عبد مشترك، وتأويل ما ذكرنا أن الساكت لا يرجع أن المؤدى كسب ما بعد الإعتاق، وعندهما الإعتاق لا يتجزأ وكان هذا كسب حر عندهما.(4/326)
-----
وفي أبواب البيوع من «الزيادات» إذا قال لعبده: أنت حر بألف درهم، أو قال على ألف درهم، فقال العبد: قبلت العتق في نصفي لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، ولا يعتق، ولا يلزمه شيء وعندهما يعتق ويلزمه الألف؛ لأن الإعتاق عندهما (322ب1) لا يتجزأ، فصار قبول العتق في النصف قبولاً في الكل.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: الإعتاق متجزىء فإن صح قبوله في النصف، يعتق نصفه بخمسمائة، ويخرج النصف الآخر إلى الحرية بالسعاية، فتقصر يد المولى عن العبد بإيجاب الدين في ذمته، وإنه مفلس والدين في ذمة المفلس.... فيتضرر به المولى، وإن قال العبد قبلت العتق في نصفي بخمسمائة فهو باطل بالإجماع، أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر وأما عندهما؛ فلأن قبول العتق في نصفه لما كان قبولاً في الكل عندها، صار كأنه قبل العتق في الكل بخمسمائة، ولو قبل العتق في الكل بخمسمائة لا يجوز ولا يعتق، لأن المولى ما وصى به كذا ههنا.
ولو قال العبد لمولاه أعتقني على ألف درهم أو قال بألف درهم، فقال المولى؛ أعتقت نصفك فعلى قولهما عتق كله وعليه الألف، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان العبد قال أعتقني من فلان بألف، فقال المولى أعتقت نصفك عتق نصفه بخمسمائة، ويجب عليه السعاية في النصف الباقي، وإن كان قال أعتقني على ألف درهم فقال المولى أعتقت نصفك عتق نصفه بغير شيء.
وفي «مجموع النوازل» رجل قال لعبده أنت حر (بعد) موتي إن لم تشرب الخمر، فأقام أشهراً ثم شرب الخمر قبل أن يعتق بطل عتقه، وإن رفع الأمر إلى القاضي بعد موت المولى قبل أن يشرب الخمر فأمضى فيه العتق ثم شرب الخمر بعد ذلك لم يرد إلى الرق.
ولو قال لعبده أنت حر على أن تشرب الخمر، فهو حر شرب الخمر أو لم يشرب.(4/327)
-----
وفي «المنتقى» الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله، وهو قول أبي يوسف: إذا أشكل أمر الغلام في الاحتلام فقال قد احتلمت صدق فيما له، وفيما عليه كما تصدق الجارية على الحيض، فعلى فهذا إذا قال لغلامه إذا احتلمت فأنت حر، فقال: احتلمت عتق.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله إذا قال الرجل أول غلامين أشتريهما حران، فاشترى غلاماً ثم اشترى غلامين لم يعتق واحد منهم، ولو اشترى أولاً غلاماً، ثم اشترى غلاماً وأمه عتق الغلامان أما الفصل الأول، فلأن المشترى أولاً ليس بغلامين، والغلامان ليسا بأول لأن الأول اسم لعدد سابق لم يسبقه مثله.
وأما الفصل الثاني فلأن الغلامين أول غلامين اشتراهما؛ لأنه لم يسبقهما شراء غلام وفي «الجامع» إذا قال: أول عبد أملكه فهو حر، فملك عبدين، ثم عبداً لم يعتق واحد منهم؛ لأنه وجب العتق لأول عبد يملكه والاسم لفرد سابق.
وفي العبدين إن وجد السبق لم يوجد الفردية، وفي العبد إن وجد الفردية لم يوجد السبق.
وهذا بخلاف ما لو قال أول عبدين أملكهما حران فملك عبدين عتقا؛ لأن هناك أضاف العتق إلى أول عبدين يملكهما فيعتبر الأولية في العبدين، وقد وجد،و ههنا أضاف العتق إلى أول عبد يملكه فتعتبر الأولية في العبد الواحد ولم يوجد. وكذلك إذا قال أول عبد أملكه واحداً فهو حر، فملك عبدين ثم ملك عبداً لم يعتق واحد منهم؛ لأن قوله واحداً ذكره ولا ذكره سواء لأنه لا يفيد إلا ما قاله صدر الكلام؛ لأن قوله واحداً صفة للعبد بالتفرد وقد استعدنا تفرد العبد؛ بقوله أول عبد أملكه؛ لأن الأول اسم لفرد سابق.(4/328)
-----
ولو قال أول عبد أملكه وحده فهو حر، فاشترى عبدين، ثم اشترى عبداً عتق الثالث؛ بخلاف قوله أول عبد أملكه واحداً. والفرق أن قوله وحده يقتضي الانفراد في الفعل المقرون به، ولا يقتضي الانفراد في الذات، وقوله واحد يقتضي الانفراد في الذات، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال عبد وحده ويستقيم أن يقال عبد أملكه وحده.
وكذلك إذا قلت في الدار رجل وحده يفيد ذلك صفة التفرد للرجل في الفعل المقرون به، وهو الكينونة في الدار حتى لو كان في الدار صبي أو امرأة مع الرجل يكون كاذباً، وإذا قلت في الدار رجل واحد يقتضي ذلك صفة التفرد للرجل في ذاته، حتى لو كان في الدار مع الرجل صبي أو امرأة لا يكون كاذباً.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله أملكه وحده يقتضي التفرد في الفعل المقرون به، وهو التملك فيصير مضيفاً العتق إلى أول عبد موصوف بصفة التفرد في التملك، والعبد الثالث بهذه الصفة، وصار كما لو قال أول عبد أسود عتق؛ لأنه أضاف العتق إلى أول عبد موصوف بصفة التفرد في السواد وهذا العبد بهذه الصفة.
أما قوله: أملكه واحداً يقتضي التفرد في الذات فيصير مضيفاً العتق إلى أول عبد موصوف بصفة التفرد في الذات والثالث ليس بهذه الصفة.
وفي «فتاوى أبي الليث» إذا قال: إن اشتريت عبدين فهما حران، فاشترى ثلاثة أعبد في صفقة واحدة عتق اثنان منهم والخيار إلى المولى، وكذلك إذا اشترى عبداً ثم عبدين عتق اثنان منهم والخيار إلى المولى؛ لأنه لما اشترى ثلاثة أعبد، فقد اشترى عبدين.
ولو اشترى عبداً وأعتقه، ثم اشترى عبدين عتق العبدان أيضاً، فيعتقون جملة لأن العبد الأول خرج من أن يكون مراداً بقوله فهما حران؛ لأنه أنشأ العتق، والأول بعد ما أعتقه المولى لم يبق محلاً للإنشاء، فيعتق العبدان الآخران لقوله فهما حران.(4/329)
-----
وإذا قال: آخر غلام أشتريه حر، فهذا على المنفرد الذي تأخر عن غيره في الزمان؛ فإذا اشترى غلاماً ثم غلاماً ثم مات الحالف عتق الآخر مستنداً إلى حين الشراء ويعتبر عتقه من جميع المال إذا كان الشراء في حالة الصحة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله يعتق مقصوراً على الحال.
وإذا قال: آخر غلام أشتريه، فاشترى غلاماً ثم اشترى آخر ثم باع الثاني ثم اشتراه ثم مات فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق العبد الثاني بالشراء الأول والملك الأول، وينتقض بيعه الثاني، وقال محمّد رحمه الله يعتق في الملك الثاني بالشراء الثاني، ولا ينتقض ذلك البيع، ولو كان اشترى ثلاثة أعبدٍ واحداً بعد واحد، ثم باع الآخر منهم ثم مات الرجل فبيع الآخر ينتقض ويعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمّد رحمه الله لا يعتق؛ لأنه إنما يقع اليمين..... فوقعت (323أ1) اليمين وليس في ملكه، ألا ترى أنه لو قال لعبده إن لم أشترِ بعدك عبداً فأنت حر، ثم باع عبده ولم يشترِ غيره حتى مات، فإنه لم يعتق.
وإذا نظر الرجل إلى عشرة أعبد وقال آخركم تزوجاً حر، فتزوج عبد ثم تزوج عبد، ثم تزوج العبد الأول امرأة أخرى ذلك كله بأمر المولى، ثم مات المولى لم يعتق واحد منهم؛ لأنه بموت المولى لايتبين آخرهم تزوجاً لجواز أن يتزوج الباقون بعد موته، بخلاف قوله آخر عبد أشتريه حر؛ لأن هناك بموت الحالف يتبين الآخر؛ إذ لا يمكنه الشراء بعد موته.g
ولو وقت وقتاً، فقال آخركم تزوجاً اليوم حر، فتزوج واحد منهم بأمره، ثم تزوج آخر بأمره ثم تزوج الأول بأمره، ثم غربت الشمس عتق العبد الثاني دون الذي تزوج مرتين لوقوع التيقن بصفة ثبوت صفة الآخرية للثاني دون الذي تزوج مرتين؛ لأن الذي تزوج مرتين اتصف بالأولية في النكاح الأول، ولا يتصور اتصافه بالآخرية.(4/330)
-----
ولو قال آخر تزوج يوجد من أحدكم اليوم، فالذي تزوج حر، فتزوج عبد، ثم عبد ثم تزوج الأول أخرى ثم غابت الشمس عتق الذي تزوج مرتين، بخلاف الفصل الأول وهو قوله آخركم تزوجاً.
والفرق: أن في قوله آخركم تزوجاً جعل الآخرية صفة للعتق، وهو التزوّج، فتراعى الآخرية في فعل وههنا جعل الآخرية صفة للفعل وهو التزوّج، فتراعى الآخرية في الفعل اعتباراً للتصرف على الوجه المار به في الفصلين جميعاً.
وإذا قال أوسط عبد أشتريه حر، فاعلم بأن الأوسط لغة اسم بمعنى الوسط، والوسط اسم لفرد متخلل بين عددين متساويين لا يشاركه غيره في اسمه ومعناه، فبعد ذلك ينظر إن كان الذي وسط فرداً الا يتصور وجوده على هذه الهيئة إلا في الأعداد المفردة، وإن كان الذي جعله وسطاً زوجاً لا يتصور وجوده على هذه الهيئة إلا في الأعداد الزوجية.
مثال الأول: الواحد لا يتصور أن يكون وسطاً إلا في الأعداد الفرد لأن أقل ذلك أن يتقدمه واحد، ويتأخر عنهما واحد، فيصير أربعة وعلى هذا الاعتبار في جميع ذلك زاد ونقص، فإذا أوجب العتق للعبد الأوسط، فكل من يتفق أنه ليس بأوسط لا يحكم بعتقه، وكل من يتفق بكونه أوسطاً يحكم بعتقه، فإذا مات الحالف وكان الذي اشتراهم شفعاً، فليس فيهم أوسط، إن كانوا خمساً أو تسعاً مثلاً كان الأوسط الفرد المتخلل بين شفعين، وكل من دخل في النصف الأول من الحساب خرج من أن يكون أوسطاً.(4/331)
-----
قال في «الجامع»: إذا قال الرجل لعبيده أيّكم حمل هذه الخشبة فهو حر، فحملوها جميعاً ينظر إن كانت الخشبة خفيفة يقدر الواحد على حملها، لا يعتقون حتى يحملها واحد بعد واحد، وإن كانت الخشبة ثقيلة لا يقدر الواحد على حملها، وإنما يقدر على (حملها) اثنان أو أكثر عتقوا، والوجه في ذلك أن كلمة (أي) تتناول واحداً منكراً من جملة ما أضيف إليهما هذه الكلمة، وقد وصف ذلك المنكر ههنا بصفة غاية، وهي الحمل؛ لأن الحمل أضيف إلى جميع العبيد الذين أضيف إليهم كلمة أي، فأوجب عموم العبيد سواء كانت الخشبة ثقيلة أو خفيفة.
بعد ذلك الكلام في أن النكرة صارت موصوفة بحمل جميع الخشبة أو بحمل بعضها، فنقول إذا كانت الخشبة خفيفة بحيث يقدر الواحد على حملها صارت النكرة موصوفة بحمل جميع الخشبة؛ لأن الخشبة اسم لجميعها، وقد أضاف حملها إلى كل واحد، والعمل بالحقيقة ممكن؛ بأن يجعل شرط العتق في حق كل واحد حمل جميع الخشبة، أو يتأتى ذلك من كل واحد، فنجعل ذلك شرطاً في حق كل واحد عملاً بحقيقة الكلام، فلا يعتق واحد منهم ما لم يحمل كل الخشبة.
وهو نظير ما لو قال لعبيده أيكم أكل هذه الرغيف فهو حر فأكله اثنان أو أكثر من ذلك لا يعتق واحد منهم، سواء كان يقدر الواحد على أكله بدفعة واحدة أو بدفعتين أو بدفعات؛ لأن أكل الرغيف من كل واحد متصور إما بدفعة أو بدفعات، فصار الداخل تحت كلمة أي موصوفاً بأكل جميع الرغيف، فلا يعتق بأكل بعض الرغيف، وستأتي مسألة الرغيف في المسائل المتفرقات، وما فيها من اختلاف المشايخ.
فأما إذا كانت الخشبة ثقيلة بحيث لا يقدر الواحد على حملها، فالنكرة صارت موصوفة بحمل بعض الخشبة؛ لأن العمل بحقيقة الكلام متعذر لأن حمل جميع الخشبة لا يأتي من كل واحد في هذه الصورة فيعمل بمجازه، ويجعل الشرط من كل واحد منهم حمل بعض هذه الخشبة.(4/332)
-----
وهو نظير ما لو قال لعبيده أيُّكم شرب ماء هذا البحر فهو حر فشرب كل واحد منهم قطرة عتقوا؛ لأن العمل بحقيقة هذا الكلام متعذر فيعمل بمجازه، وجعل الشرط في حق كل واحد من العبيد بشرب بعض الماء.
ثم إن محمّداً رحمه الله يقول في «الكتاب» إذا كانت الخشبة ثقيلة يقدر على حملها اثنان، فحملوها جميعاً عتقوا لأن الشرط في هذه الصورة حمل بعض الخشبة، والبعض من حيث إنه بعض لا يفصل فيه بين قدر وقدر.
يقول أيضاً إذا كانت الخشبة حفيفة، بحيث يقدر الواحد على حملها إذا حملها واحد عتق، وإذا حملها واحد بعد واحد عتقوا. وفيه نوع إشكال؛ لأن هذا اللفظ إن كان خاصاً ينبغي أنه إذا حملها الواحد، وحكم بعتقه، أنه لو حملها آخر بعد ذلك إنه لا يعتق، وإن كان عاماً ينبغي أن لا يعتق واحد منهم ما لم يحملوها جميعاً واحد بعد واحد، كما لو قال إن حملتم هذه الخشبة فأنتم أحرار.
والجواب هذا اللفظ خاص بصورته عام من حيث المعنى، فإذا حملها واحد عتقوا عملاً بعموم المعنى، بخلاف قوله إن حملتم هذه الخشبة، لأنه عامة صورة ومعنى؛ فما لم يحملوها لا يعتقون.
وفي «الفتاوى»: رجل قال كل جارية أشتريها ما لم أشترِ فلانة * لجارية سماها * فهي حرة ثم إن الجارية المحلوف عليها غابت، أو ماتت فاشترى جارية أخرى ففي الموت لا تعتق عند أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله؛ لأنه وجد الشرط واليمين ساقط على قولهما لفوت الغاية، وفي الغيبة يعتق ما لم يظهر موتها بلا خلاف لأن بمجرد الغيبة لا يبطل اليمين، بلا خلاف.
وإذا قال لعبيده أيُّكم بشرني بقدوم (فلان) فهو حر، فبشروه معاً عتقوا ولو بشروه واحد بعد واحد عتق الأول خاصة (323ب1).(4/333)
-----
ولو أمر واحد منهم عبداً آخر أن يذهب إلى مولاه برسالته، فإن أضاف الرسول الخبر إلى المرسل، بأن قال: إن فلاناً يقول لك أبشرك بقدوم فلان أو قال فلان أرسلني إليك، ويقول أبشرك بقدوم فلان أعتق المرسل دون الرسول، وإن قال الرسول أبشرك بقدوم فلان وأرسلني فلان إليك عتق الرسول دون المرسل.
رجل قال لعبده أنت حر قبل الفطر والأضحى بشهر، فإنه يعتق في أول رمضان؛ لأن أول رمضان وقت قبل الفطر والأضحى بشهر، وهو نظير ما لو قال لعبده أنت (حرٌّ) قبل موت فلان وفلان بشهر، فمات أحدهما لتمام شهر من وقت هذه المقالة عتق العبد؛ لأن هذا وقت قبل موت فلان وفلان بشهر.
وفي «نوادر»: المعلى عن أبي يوسف رحمه الله رجل (قال): إن اشتريت فلاناً، فهو حر وادعاه رجل أنه ابنه ثم اشترياه جميعاً، فهو حر، ونصف ولائه للذي حلف بعتقه وهو ابن الذي ادعاه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال إن اشتريت من هذا العبد شيئاً، فهو حر ثم اشتراه هو وأبوه فإنه يعتق بالقرابة ولا يقع عتق الحالف عليه؛ لأن النسب قد تقدم الملك، وتقدم عتق الحالف.
وفي « المنتقى» رجل قال لعبده إن اشتريتك أنا وأبوك، فأنت حر، فاشترياه عتق على الأب بالقرابة عند أبي يوسف وعتق باليمين عند أبي حنيفة.
وفي «نوادر داود بن رشيد» عن محمّد رحمه الله: رجل قال لغلام في يدي رجل إن اشتريته فهو حر، ثم أقر أنه لفلان ثم اشتراه كان للمقر له، ولا يعتق.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا قال: كل مملوك اشتراه، فهو حر إلى سنة فاشترى عبداً قال لا يعتق (حتى) يأتي عليه سنة من يوم اشترى.(4/334)
-----
ولو قال كل مملوك أشتريه إلى سنة فهو حر وكل عبد اشتراه في السنة فهو حر ساعة اشتراه. وإذا قال كل مملوك أملكه فهو حر يعتق ما كان في ملكه يوم حلف، ولا يعتق ما يستفيده إلا إذا عناه؛ لأن قوله أفعل وإن كان للحال وللاستقبال حقيقة إلا أنه للحال أحق لأن الحال مقصود كالماضي، والمستقبل يجب أن يكون له صفة على الخصوص، وهو قوله سوف أفعل، فكانت هذه الكلمة أحق للحال من هذا الوجه، فانصرف إليه، وإن عنى ما يستفيده صحت نيته في حق وجود ما يستفيده تحت اليمين لا في حق الخروج الحالية عن اليمين، فيعتقان جملة.
وفي «الجامع» إذا قال العبد المأذون أو المكاتب كل مملوك أملكه فيما استقبل، فهو حر، فملك مملوكاً بعدما عتق، عند أبي حنيفة، وعندهما يعتق، وعلى هذا الخلاف إذا قال كل مملوك أشتريه فهو حر، فاشترى مملوكاً بعد ما عتق.
وأجمعوا على أنه إذا قال إذا أعتقت فكل مملوك أملكه فهو حر، أو قال إذا أعتقت فكل مملوك أشتريه فهو (حرّ) فملك مملوكاً بعد العتق أو اشترى مملوكاً بعد العتق إنه يعتق.
وأجمعوا على أنه إذا قال كل مملوك لي فهو حر أو قال كل مملوك أملكه فهو حر، فملك مملوكاً بعد العتق إنه لا يعتق، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر من الخلاف يجب أن يكون على العكس، وينبغي أن يكون ما يملكه بعد العتق عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما.(4/335)
-----
وردُّوا هذه المسألة إلى مسألة أخرى، وهو ما إذا قال الرجل لأمته أول ولدٍ تلدينه فهو حر، أو قال لها إن ولدت ولداً فهو حرّ، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تنصرف نيته إلى الولد الحي تصحيحاً للجزاء، فههنا يجب أن ينصرف يمينه إلى ما يملكه بعد العتق، تصحيحاً للجزاء وعلى قولهما في تلك المسألة ينصرف يمينه إلى ما يملكه في الحال، وإلى ما يملكه بعد العتق، وعامتهم على أن الخلاف في هذه المسألة على الوجه الذي ذكر في «الجامع»، فوجه قولهما أنه ذكر الملك فيما يستقبل مطلقاً، فينصرف إلى الملك الثابت من كل وجه، لما عرف أن المطلق من الأسامي ينصرف إلى الكامل، وهو الثابت من كل وجه، وإنما يثبت الملك لهما من كل وجه بعد العتق، فينصرف يمينه إلى ما يملكه بعد العتق بخلاف قوله أول ولد تلدينه فهو حر على مذهبهما؛ لأن الولد الميت ولد من كل وجه، فيتناوله مطلق اسم الولد فلا ضرورة إلى صرفه إلى الولد الحي، أما ههنا بخلافه.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن قوله أملك للحال على ما مر، وقوله فيما استقبل يجوز أن يكون يعتق بقوله أملك فيصرف للاستقبال، ويجوز أن يكون ولد ملك للحال فيصير كأنه شرط عتق هذا الملك الموجود للحال فيما يستقبل، فلما احتمل هذا، واحتمل ذاك، وليس على أحد الاحتمالين دليل لم يصلح قوله فيما استقبل صارفاً قوله أملك إلى الاستقبال فبقي للحال، فكان موجباً للعتق كما هو مملوك للحال كان نص على الحال ولو نص على الحال لا يعتق ما يملكه بعد العتق فههنا كذلك.
وقوله ذلك للملك مطلقاً، فنصرف إلى الثابت من كل وجه وهو الملك بعد العتق، قلنا ما ذكر الملك مطلقاً بل يكون ذكره مقيداً بالحال عرف ذلك بقوله أملك، فلا يمكن صرفه إلى ما بعد العتق كما لو ذكره مقيداً بالحال صريحاً.(4/336)
-----
وفي «المنتقى» رواية عمرو بن أبي عمرو عن محمّد رحمه الله في «الإملاء» أنه جعل قوله: كل مملوك أملكه هذا الشهر وهذه السنة فهو حر، بمنزلة قوله كل مملوك أملكه هذا اليوم من حيث إنه عتق ما كان في ملكه وما يستفيده في الوقت الذي سماه، إن قيل في هذا جمع بين الحال والاستقبال وهما لا يرادان بلفظ واحد، قلنا ليس كذلك، إن قوله أملكه اليوم يتناول القائم في ملكه للحال؛ لأن اليوم اسم للوقت من حين طلوع الشمس إلى وقت غروب الشمس، والبعض منه قد مضى والبعض منه قائم، واسم اليوم يتناول القائم، فيتناول القائم في ملكه بحكم الحال ثم الحال المسند إلى غروب الشمس، فيتناول الكل باعتبار امتداد الحال؛ لأنه جمع بين الحال والاستقبال.
وإن قال كل مملوك أملكه الساعة فهو حر فهو على ما في ملكه دون ما يستفيده.
وإن قال كل مملوك أملكه رأس الشهر فهو حر، فكل مملوك جاء رأس الشهر وهو يملكه، أو يملكه في ليلة رأس الشهر ويومها، فهو حر في قول محمّد، وقال أبو يوسف هو على ما يستفيده في تلك الليلة ويومها.
وعلى هذا الاختلاف إذا قال كل مملوك أملكه غداً فهو حر ولا نية له عتق ما اجتمع في ملكه في الغد، ومن هو في ملكه للحال ومن يملكه غداً في قول محمّد، وعلى قول أبي يوسف يعتق ما يستفيده في الغد لا غير.
فوجه قول (324أ1) محمّد أن قوله: أملكه يتناول الحال حقيقة، فلا يترك حقيقة ما أمكن اعتبار حقيقة الحال وإن امتد إلى الغد؛ لأن المرء قد يستقبل بأمر ويمتد ذلك إلى الغد، فصار الغد في امتداد الحال بمنزلة اليوم، فصار هذا وما لو قال كل مملوك أملكه اليوم سواء.(4/337)
-----
ولأبي يوسف أن الغد من الأوقات المقابلة بلا شك، ألا ترى أنك تقول سأفعل ذلك غداً وحرف السين لا يدخل إلا على المستقبل، فصار الاستقبال مراداً بهذا اللفظ، فخرج الحال من أن يكون مراداً بخلاف قوله كل جارية أملكها اليوم؛ لأن اسم اليوم يتناول القائم بحكم الحال ثم الحال الممتد إلى غروب الشمس، فيتناول الكل باعتبار امتداد الحال.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: أي رجل مملوك أملكه يوم الجمعة فهو حر، فهذا على ما يملكه يوم الجمعة، ولو قال كل مملوك لي حر يوم الجمعة، والفرق أن في المسألة الأولى الوقت دخل على الملك، فانصرف إلى المملوك في ذلك الوقت، وفي المسألة الثانية الوقت دخل على العتق، فبقي قوله أملكه ههنا ولا للحال، ويصير عتقه مضافاً إلى ذلك الوقت.
ولو قال إذا دخلت الدار فكل مملوك لي يومئذٍ حر، فهذا على ما كان في ملكه يوم دخول البيت، سواء كان مملوكاً له يوم اليمين أو اشتراه بعد اليمين؛ لأن قوله يومئذٍ ينصرف إلى يوم الدخول، فإنما أثبت العتق لكل من كان في ملكه يوم الدخول، ولو لم يقل يومئذٍ وباقي المسألة بحالها فما ملكه بعد اليمين لا يعتق؛ لأن قوله كل مملوك لي يتناول الحال، والمضاف إلى الدخول الحرية دون الملك، وقد أثبت عند الدخول الحرية ممن هو مملوك له للحال.
ولو قال كل مملوك أملكه، فهو حر إذا جاء غد، فهذا على ما في ملكه في الحال في قولهم، بخلاف قوله كل مملوك أملكه غداً.
ولو قال كل مملوك أملكه إلى ثلاثين سنة، فهذا على ما يستقبل في الثلاثين بلا خلاف، ولم يدخل ما كان في ملكه يوم اليمين؛ لأن الاستقبال ههنا صار مراداً؛ لأن الحال لا يمتد إلى هذه المدة بيقين فتعين للاستقبال، مراداً بهذا اللفظ، فلا يبقى الحال مراداً، وعلى هذا إذا قال إلى سنة وعلى هذا إذا قال إلى ثلاثين سنة، أو قال سنة أو قال أبداً، أو قال إلى أن أموت، فهذا باب واحد يدخل في اليمين ما يستفيده دون ما كان في ملكه.(4/338)
-----
ولو قال عنيت بقوله ثلاثين سنة وبقولي سنة أن يدوم ما في ملكي في الحال هذه المدة، دين فيما بينه وبين الله، ولم يدين في القضاء؛ لأن الظاهر أنه ذكر الوقت لاستفادة الملك فيما لا استفراد للملك فيها، فكان مدعياً بخلاف الظاهر، فلا يصدق في الفصل.
إذا قال كل مملوك أملكه إن دخلت الدّار، أو قدّم الشرط، فقال: إن دخلت الدّار، فكل مملوك أملكه فهو حر فهما سواء، يتعلق بالدخول عتق ما كان في ملكه؛ لأن قوله أملكه لما كان منصرفاً إلى الحال لا يختلف الجواب بين تقديم الشرط وتأخيره.
ولو قال كل مملوك لي، أو قال: كل مملوك أملكه حر بعد غدٍ، وله مملوك، فاشترى آخر ثم جاء بعد غد عتق الذي كان في ملكه يوم حلف؛ لأن قوله كل مملوك لي وقوله كل مملوك أملكه يتناول المملوك القائم للحال بحقيقة، وقوله بعد غد دخل على قوله حر، لا على قوله أملكه، فبقي قوله أملكه على حقيقته.
وفي «الأمالي» عن أبي يوسف إذا قال كل مملوك يولد لي، فهو حر إن دخلت الدار فولد له مملوك من أمة كانت له يوم الحلف، ثم دخل الدّار عتق ولو اشترى أمة بعد الحلف وولدت له ولداً، ثم دخل الدار لم يعتق، والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل
إذا قال المولى لعبده إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فجاء العبد بالمال وخلى بينه وبين المولى يجبر المولى على القبول وليس معناه الإكراه بالسيف، وإنما معناه أن العبد إذا أخص المال بحيث يتمكن المولى من قبضه، وخلى بينه وبين المولى (يعد المولى) قابلاً ويحكم بعتق العبد، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة رحمهم الله.(4/339)
-----
يجب أن يعلم بأن هذا التصرف يمين ابتداءً، وينقلب كتابة عند الأداء، أما يمين ابتداءً؛ فلأن صورته صورة اليمين؛ لأن اليمين ذكر شرط وجزاء وهذا التصرف بهذه المثابة، وأما كتابة معنى عند الأداء؛ لأن معنى الكتابة أن يعتق العبد بمال يؤديه إلى المولى، وقد وجد هذا الحد عند الأداء فوفرنا على الشبهين حظهما، فجعلناه يميناً ابتداء عملاً بالصورة، فقلنا إنه يتم المولى وحده، ولا يحتمل الفسخ، ولا يمنع جواز البيع، ولا يصير للعبد حق بأكسابه للحال، حتى كان للمولى أن يأخذ منه بغير رضاه، وجعلناه كتابة معنى عند الأداء، فقلنا إذا أدى العبد المال يجبر المولى على القبول كما في فصل الكتابة، وهذا لأن المولى رضي بالعتق عند دخول العوض إليه والعبد ما رضي في اكتساب المال إلا ليصل إلى العتق، فلو لم يجبر المولى على القبول على التفسير الذي قلنا فيتضرر به العبد، ولو أجبر المولى على القبول لا يتضرر فهو بهذا الطريق أجبر المولى على القبول في الكتابة وإذا أجبر المولى على القبول صار القبول موجوداً تقديراً واعتباراً، فيتحقق الشرط وهو الأداء إلى المولى.
وذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» إذ قال لعبده إن أديت إلى ألفاً فأنت حر، فهذا إذن منه له في التجارة والعمل؛ لأن هذا التصرف وإن كان يميناً ابتداء فهو سبب لثبوت الكتابة لأنه ينقلب كتابة عند الأداء، والإذن في التجارة يثبت بالكتابة، فكذا بما هو سبب الكتابة يوضحه أنه لو لم يثبت الإذن لم يصل العبد إلى العتق أصلاً.(4/340)
-----
وفي «الأصل» أيضاً إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألف درهم فأنت حر، فهذا على المجلس، وروى بشر عن أبي يوسف: لأنه لا يتوقف على المجلس كما في الكتابة وكما في قوله إن أديت: إليّ، وجه ظاهر الرواية أن الأداء ههنا بمنزلة القبول في الكتابة من حيث إن حكم الكتابة، * وهو المعاوضة * يثبت عند الأداء ههنا، ثم القبول في الكتابة يعتبر في المجلس كذا الأول ههنا يعتبر في المجلس إذا لم يكن في لفظه ما يدل على الوقت، بخلاف قوله متى وإذا؛ لأن ذلك الوقت يعم الأوقات كلها.
وإذا مات المولى قبل أداء العبد بطل التعليق؛ لأن العبد يصير ميراثاً فلا يتوهم وجود الشرط بعد هذا على ملك المولى ليعتق به، فلا يكون في إيفاء الثمن فائدة، بخلاف الكتابة؛ لأن المكاتب لا يصير ميراثاً بل يبقى على حكم ملك الميت، فيوجد به الشرط على ملك المولى، وهو الأداء فيعتق وكان في إيفاء الكتابة فائدة.
ولو أدى العبد في مال اكتسبه قبل (324ب1) هذا القول عتق لوجود الشرط، وهو الأداء، ألا ترى أنه لو أدّى من مال غصبه من إنسان يعتق فطريقه ما قلنا، ورجع المولى عليه بمثله؛ لأن مقصود المولى جر العبد على الاكتساب ليؤدى من كسبه بعد هذا القول، فيملك ما لم يكن مملوكاً له قبل هذا القول، وهذا المقصود لا يحصل متى أدّى من كسب اكتسبه قبل هذا القول، و(لو) أدّى من كسب اكتسبه بعد هذا القول لم يرجع المولى على العبد بشيء لحصول مقصوده وهو ملك ما لم يكن مملوكاً له قبل هذه المقالة.(4/341)
-----
ولو قال له إن أديت إليّ ألف درهم فأنت حر، فاكتسب بعد هذه القالة أربعة آلاف درهم، وأدى منها ألفاً، كان للمولى أن يأخذ الثلاثة الآلاف الباقية؛ لأنه إنما يصير مكاتباً، عند الأداء (كاتبتك على نفسك وعلى ألف)، فيصير أحق بمكاتبته عند الأداء بقدر المؤدى، كأنه قال له عند الأداء: كاتبتك على نفسك وعلى ألف من كسبك بألف درهم، ولو صرح بذلك دخل تحت الكتابة ألف واحدة وصار هو أحق بألف واحدة، ويكون الباقي للمولى كذا ههنا.
ولو جاء العبد ببعض الألف يجبر على القبول لأنه لا يحصل به العتق، وجه الاستحسان: أن المولى لا يقصد بهذا الكلام أداء العبد الألف جملة، وإنما يقصد أداؤه إليه على التفاريق، وكيف يوجد أداؤه إليه جملة، وإن العبد مفلس ولإن كان لا يحصل به العتق، هذا لا يدل على أنه لا يجبر على قبوله إذا كان ذلك مقصوداً للمولى، ألا ترى أن المولى إذا قال لعبده إن أديت إلي اليوم خمسمائة، وإذا قدم فلان خمسمائة فأنت حر، فأدى اليوم خمسمائة أجبر المولى على القبول، وإن كان لا يعتق بأدائه لأن المولى قصد كذلك كذا ههنا.
ولو كان قال لأمته هذه المقالة، فولدت ثم أدّت لم يعتق ولدها؛ لأن هذا التصرف تعليق ويمين ابتداء، وإنما يثبت حكم المعاوضة عند الأداء، فقيل: الأداء هو تعليق فلا يتعدى إلى الولد كسائر التعليقات.x(4/342)
-----
ولو حط المولى شيئاً من المال المشروط لم يعتق بأداء الباقي، لأن هذا التصرف في المال تعليق والتعليق لا يحتمل حط بعض الشرط، فيبقى الشرط أداء الألف بتمامه، ولم يوجد بخلاف الكتابة؛ لأنها معاوضة للحال، فكان بدل الكتابة واجباً شرعاً، والواجب شرعاً يحتمل الإسقاط ألا ترى أنه لو أبرأ المكاتب عن كل بدل الكتابة يصح، فكذا إذا حط البعض، أما ههنا المال مشروط غير واجب ليصح حط بعضه، ولكن أداؤه شرط العتق وشرط العتق لا يحتمل الحط فلهذا لا يعتق، ولو باعه ثم اشتراه فأدّى المال المشروط إليه عتق، ويجبر على القبول في قول أبي يوسف، وقال محمّد رحمه الله في «الزيادات» لا يجبر على القبول ولكن إن قبل يعتق.
وإذا قال لعبده أنت حر على ألف أو بألف أو على أن لي عليك ألفاً، أو على ألف تؤديها، أو على أن تعطيني ألفاً، أو على أن...... بألف فقبل العبد، فهو حر ساعة قبل، وما شرط دين عليه؛ لأن المولى أعتقه على المال، والإعتاق على مال إثبات للعتق عند التزام المال، وقد وجد ذلك بقبوله فيقع العتق بقبوله كما في البيع بخلاف قوله: إن أديت إليَّ ألف درهم؛ لأن هناك المولى علق العتق بأداء الألف فلا يثبت العتق قبل الأداء.(4/343)
-----
وكذلك لو أعتقه على طعام موصوف في الذمة أو شيء من الكيل أو الموزون معلوم الجنس والوصف والقدر في الذمة؛ لأن هذا يصلح عوضاً في البيع، ففي القبول أولى، وإن كان العوض شيئاً بعينه صحت التسمية وإن كان المسمى ملك المعتق؛ لأن العبد ليس من أهل الملك، إلا أن تسمية ملك الغير عوضاً صحيح، فإن من اشترى شيئاً بعبد مملوك للغير صح العقد وصحت التسمية، وعليه العبد إلا أن ثمة إذا يجيز يفسخ المالك أن يفسخ العقد وههنا لا يفسخ العقد وعلى العبد قيمته، وإنما كان كذلك لأن تعذر التسليم بعد صحة التسمية يوجب المصير إلى القيمة، ولا تدخل القيمة في باب البيع فلهذا يفسخ العقد والقيمة تدخل في باب العتق بطريق الأصالة، فإن من أعتق عبداً على حيوان وجاء العبد بالقيمة جُبر المولى على القبول.
وإذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر فقال العبد للمولى خذ مني مكانها مائة دينار، وأخذها المولى لا يعتق لأنه استبدال بشرط اليمين وإنه لا يصح؛ لأنه يتضمن فسخ اليمين، واليمين لا يحتمل الفسخ، إلا أن يقول للعبد عند طلبه ذلك: إن أديت إلي هذا فأنت حر، فحينئذٍ يعتق باليمين الثانية. كما لو قال له إن أديت إليّ ألف درهم فأنت حر، ثم قال له: إن أديت إليّ خمسمائة، فأنت حر فأدى إليه خمسمائة يعتق باليمين الثانية كذ ههنا.(4/344)
-----
قال في «الزيادات»: وإذا قال له: إذا أديت إليَّ عبداً فأنت حر ولم يضف العبد إلى قيمة ولا إلى جنس، فهو جائز؛ لأن هذا الكلام يمين ابتداء، معاوضة المال بما ليس بمال انتهاء، واليمين صحيحة، وإن كان الشرط مجهولاً، ومعاوضة المال بما ليس بمال صحيحة، وإن لم يكن العوض الذي هو قاله معلوماً كما في النكاح، وأقرته الكتابة، وإذا وجد القبول يثبت العبد ديناً في ذمته، فإن أتى العبد بعد ذلك بعبد وسط يجبر المولى على القبول؛ لأن مطلق اسم العبد في مثل هذه المعاوضة ينصرف إلى الوسط، ويصير كأن المولى قال له: إن أديت إليّ عبداً وسطاً فأنت حر، وكذلك إن أتى بعبد هو أرفع يجبر على القبول لأنه أتى بالمشروط وزيادة، وإن أتى بعبد رديء لا يجبر على القبول، ولكن إن قبل يعتق لأن العبد في هذا التصرف ذكر مطلقاً، وإنما عينَّا الوسط نظراً للمولى، فإذا رضي بالرديء ينظر لنفسه فلم يظهر تعيين الوسط.
قال مشايخ ما وراء النهر: الأرفع في ديارنا أعزّ الأتراك وأحسنهم، والوسط أفضل الهنود وأخس الأتراك، والرديء أحسن الهنود.
ولو جاء العبد بقيمة عبد وسط لا يجبر المولى على القبول وإذا رضي بها وقبلها لا يعتق العبد بخلاف ما إذا رضي بالعبد الرديء وقبله، والفرق وهو أن اسم العبد عند الإطلاق يتناول الرديء، إلا أنه لا يجبر المولى على قبول الرديء نظراً له فإذا رضي بالرديء لم ينظر لنفسه، والاسم قد يتناوله، فيتحقق شرط العتق، فأما اسم العبد لا يتناول القيمة فلا يتحقق الشرط بقبول القيمة، فلا يعتق، والجواب في قوله إن أديت إليّ كرّ حنطة نظير الجواب في قوله: إن أديت إليّ عبداً إن جاء بكرَ وسط أو مرتفع يجبر المولى على القبول، وإن جاء بكرِّ رديء لا يجبر.(4/345)
-----
ولو قال: له إن أديت إليّ عبداً وسطاً (325أ1)، أو قال إذا أديت إلي كرّ حنطة وسط فأنت حر، فجاء بعبد مرتفع أو بكر مرتفع لا يجبر المولى على القبول، وإذا قبل لا يعتق بخلاف قوله: إذا أديت إليَّ عبداً أو أديت كراً، والفرق أن في هذه المسألة شرط الوساطة نصاً، واسم الوسط لا يتناول المرتفع، فبأدائه لا يتحقق شرط العتق وشروط الحالف مما يجب عامها، ألا ترى أنه لو قال لعبده إذا أديت إليّ ألف درهم في كيس أبيض، فأداه في كيس أسود لا يعتق أما في تقدم ما شرط الوساطة نصَّاً، بل ذكر العبد مطلقاً والكر مطلقاً، وهذا الاسم صالح لتناول الأرفع، وإذا أتى به فقد تحقق شرط العتق فلهذا افترقا.
ولو قال له إذا أديت إليّ دراهم فأنت حر، فأدى إليه ثلاثة دراهم فصاعداً لا يجبر على القبول، وكذا إذا قبل يعتق لأن الجبر على القبول باعتبار المعاوضة والمعاوضة ههنا لم تثبت لمكان الجهالة، أما التعليق قد ثبت؛ لأن جهالة الشرط لا تمنع صحة التعليق، ومن حكم التعليق نزول الجزاء عند مباشرة الشرط.
وكذلك إذا قال إن أديت إلي ثوباً فأنت حر، فأدى إليه ثوباً لا يجبر على القبول، ولو قبل يعتق.
ولو قال إن أديت إلي وزني دراهم، أو قال ثوباً فأنت حر كان هذا باطلاً، حتى لو أدى إليهم ثلاثة دراهم فصاعداً أو أدى إليهم ثوباً، وقبلوا لا يعتق؛ لأن معنى المعاوضة لا يسع في هذا اللفظ، ومعنى التعليق قد بطل بموت الحالف.
ولو قال في وصفه إذا أدّى إليكم عبدي هذا عبداً، أو قال كر حنطة، فهو حر فهذا على الوسط، فلو أنه أتى بالرديء وقبل الوارث لا يستحق العتق بخلاف ما إذا قال إذا أديت إليّ عبداً، أو قال: كر حنطة، ولو أتى بالوسط لا يعتق ولكن يستحق العتق لأن هذا عتق تأخر عن الموت، وكل عتق تأخر عن الموت لا ينفذ إلا بتنفيذ الورثة، عرف ذلك في موضعه.
(4/346)
-----
وفي «المنتقى» إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فاستقرض العبد من رجل ألف درهم ودفعها إلى مولاه، فإنه يعتق العبد ويرجع غريم العبد على المولى، فيأخذ منه ألف درهم؛ لأنه أحق بها من المولى من قبل أنه عبد مأذون في التجارة وغرماء العبد المأذون أحق بماله، حتى يستوفوا ديونهم.
ولو كان العبد استقرض من رجل ألفي درهم، وقيمته ألفا درهم، فدفع أحد الألفين المستقرضة إلى مولاه، وعتق بها. وقد كان أكل ألفاً منها قبل ذلك، فإن للمقرض أن يأخذ من المولى الألف التي دفعها العبد إليه، ويضمن المولى للمقرض أيضاً ألف درهم أخرى؛ لأن المولى منع العبد بالعتق من أن يباع بما عليه من الدين، وإن شاء المقرض اتبع العبد بجميع ديونه، ولو أن المولى أخذ من العبد ما اكتسبه العبد بعد هذا القول من غير أن يؤديه العبد إليه جاز ذلك؛ لأنه ماله، ولا يعتق العبد لانعدام الشرط، والله أعلم.
نوع آخر يتصل بهذا الفصل
إذا قال لعبدين له: إن أديتما إليّ ألف درهم، فأنتما حران، يعتبر أداؤهما، ولو أداها أحدهما من عند نفسه فإن قال خمسمائة عني وخمسمائة أتبرع بها عن صاحبي لا يعتقان؛ لأن شرط عتقهما أداؤهما ولم يوجد الأداء منهما لا حقيقة ولا اعتباراً، إلا أن يقول خمسمائة من عندي وخمسمائة بعث بها (عن) صاحبي، فحينئذٍ يعتقان، لأنه وجد الأداء منهما، من أحدها حقيقة ومن الآخر اعتباراً؛ لأن فعل الرسول منقول إلى المرسل ولو أداها أجنبي لم يعتقا إلا أن يقول أؤدّي الألف ليعتقهما، أو قال على أنهما حران، فإذا قبل عتقا لا بحكم اليمين الأولى؛ بل لأن الأداء من الأجنبي حصل مقابلاً بعتقهما، وقد رضي المولى به بالقبول، وكان للمؤدي أن يأخذ المال من المولى، لأنه أدى ذلك بغير حق؛ لأن بدل العتق لا يجب على غير العبد بالضمان بخلاف بدل الطلاق.(4/347)
-----
وفي «الزيادات» عبد بين رجلين قال أحدهما للعبد إن أديت إليّ ألفاً، فأنت حر فأدّى إليه ألف درهم عتق نصيبه عند أبي حنيفة رحمه الله لا غير، وللشريك الساكت أن يأخذ من المعتق نصف ما أخذ من العبد، ولا يرجع المعتِق (على) العبد بشيء، ولو كان قال إن أديت إليّ ألفاً فنصيبي منك حر، فأدى إليه ألف درهم عتق نصيبه لا غير عند أبي حنيفة رحمه الله، ويأخذ الساكت من المعتق نصف ما أخذ من العبد، ويرجع المعتق على العبد بذلك بخلاف الفصل الأول.
والفرق أن في الفصل الثاني المعتق قابل الألف بنصيبه، وقد سلم للعبد نصيبه، فيلزمه كل الألف، وفي الفصل الأول قابل الألف بكل العبد ولم يسلم للعبد جميعه من جهة المعتق، فلا يلزمه كل الألف وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله.
وأما على قولهما عتق العبد كله في الفصلين؛ لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ ويرجع الساكت على المعتق على العبد بذلك، إن كان المعتق موسراً يرجع، وإن كان معسراً لا يرجع؛ لأنه إذا كان موسراً، فجميع الرقبة سلم للعبد من جهته، فكان له أن يرجع على العبد بجميع الألف، فأما إذا كان معسراً لم يسلم للعبد من جهته إلا نصف الرقبة معنى، لما استسعاه الساكت في نصيبه، فلا يسلم للمعتق جميع الألف أيضاً والله أعلم.
نوع آخر يتصل بهذا الفصل
إذا قال لعبده في صحته: إن أعتقت عني عبداً، فأنت حر، فإن العبد يصير مأذوناً في التجارة؛ لأن تعليق العتق بالإعتاق إطلاق في الإعتاق، وإنه يقتضي الإذن في التجارة، وينصرف إلى العبد الوسط، وهذا وقوله: إن أديت إلي عبداً سواء.(4/348)
-----
بيانه أن المولى علق عتق العبد بتمليك العبد عبداً من المولى، فإن معنى قوله إن أعتقت عني عبداً: إن ملكت عبداً مني وأعتقته بنيابتي فأنت حر، فهو معنى قولنا: إن هذا وقوله: إن أديت إلي عبداً سواء وذلك ينصرف إلى الوسط، كذا ههنا، فإن اشترى هذا العبد عبداً وسطاً، أو وهب له عبد وسط، فأعتقه عن مولاه جاز؛ لأنه أعتقه بطريق النيابة عن المولى، فكأن المولى أعتقه بنفسه وعتق هذا العبد أيضاً لوجود شرطه.
ولو اشترى عبداً مرتفعاً أو عبداً دون الوسط وأعتقه عن مولاه لم يجز إعتاقه؛ لأن إعتاق العبد عبداً من كسبه، إنما يصح بطريق النيابة عن المولى، لا نيابة في إعتاق هذا العبد، ولا يعتق هذا العبد أيضاً لانعدام الشرط.
وكذلك إذا قال: أعتق عني عبداً وأنت حر، فهذا وما لو قال: إن أعتقت عني عبداً فأنت (325ب1) حر، فهذا وما لو قال إن أعتقت عني عبداً سواء؛ لأن جواب الأمر بحرف الواو وجواب الشرط بحرف الواو سواء ولو كان قال إن أعتقت عبداً فأنت حر؛ أو قال أعتق عبداً وأنت حر ولم يقل عني، فأعتق عبداً وسطاً، فالقياس أن لا يصح إعتاقه ولا يعتق هو؛ لأنه لما لم يقل عني كان هذا تعليق عتقه بإعتاق عبد عن نفسه. وهذا الشرط لا يكون.
وفي «الاستحسان»: يصح ويعتق هو أيضاً، ويدرج كلمة عني تصحيحاً للأمر بالإعتاق، وإن كان المولى قال ذلك في مرضه فأعتق المأمور عبداً وسطاً عن المولى صح إعتاقه استحساناً، وعتق المأمور لوجود الشرط لما بينا.(4/349)
-----
وإذا مات المولى من بعد ذلك من مرضه ذلك ينظر إلى قيمة العبد المأمور، وإلى قيمة العبد الذي أعتقه، فإن كان قيمة العبد الذي أعتقه مثل قيمة المأمور أو أكثر فلا سعاية على العبد المأمور؛ لأن عتقه حصل بعوض يعدله أو يزيد عليه؛ لأن تقدير كلامه ملكني عبداً وأعتقه عني، وعلى العبد الذي أعتقه السعاية في ثلثي قيمته إذا لم (يكن) للمولى مال آخر؛ لأنه إنما عتق من جهة المولى؛ لأن المأمور أعتقه بنيابة المولى فكأن المولى أعتقه بنفسه والإعتاق في مرض الموت إذا كان بغير عوض يعتبر من الثلث.
ولو كان قيمة العبد الذي أعتقه دون قيمة العبد المأمور فنقدر قيمة العبد الذي أعتقه من العبد المأمور عتق بعوض يعدله، فلا يعتبر فيه حكم الوصية، وما زاد على ذلك عتق بغير عوض، فيعتبر فيه حكم الوصية، والعبد الذي أعتقه عتق كله بغير عوض، فيعتبر فيه حكم الوصية، حتى إنه إذا كان قيمة العبد المأمور مثلاً ستون وقيمة العبد الذي أعتقه أربعون، ولا مال له غيرهما، فنقدر ثلثي المأمور عتق بعوض فلا وصية فيه، وثلث المأمور عتق بغير عوض، فتعتبر فيه الوصية، والمعتق عتق كله بغير بدل، فيعتبر فيه الوصية، فينظر إلى مال الميت، وينفذ وصيها من ثلثه، ومال الميت ثلث العبد المأمور وقيمته عشرون، وجميع العبد المعتق وقيمته أربعون، فجملته ستون ثلثه عشرون، يقسم ذلك بينهما على قدر وصيتهما، ووصية المأمور بقدر عشرين، ووصية المعتق بقدر أربعين، فيقسم الثلث * وذلك عشرون ثلثها * أثلاثاً ثلثه للعبد المأمور وثلثاه للعبد المعتق، فيعتق من العبد المأمور بحكم الوصية ستة وثلثان ويسعى فيما بقي من ثلاثة عشر وثلث ويعتق العبد المعتق بحكم الوصية ثلاثة عشر وثلث، ويسعى فيما بقي من رقبته، وذلك ستة و(عشرون) ثلثان، فيسلم لهما بحكم الوصية عشرون، ويسلم للورثة بطريق السعاية أربعون، فيستقيم الثلث والثلثان.(4/350)
-----
ولو قال له أعتق عني عبداً بعد موتي وأنت حر، فهذا والذي في حال الحياة في المسألة الأولى سواء، إلا في خصلة وهي: أنه إذا أعتق المأمور عبداً وسطاً عن المولى بعد موت المولى لا يعتق العبد المأمور إلا بإعتاق الورثة أو الوصي أو القاضي، وفي حال الحياة إذا أعتق المأمور عبداً وسطاً عن المولى، يعتق المأمور من غير أن يحتاج فيه إلى إعتاق أحد.
والفرق أن العبد المأمور بموت المولى ينتقل إلى ورثته؛ لأن الثابت في حقه للحال مجرد التعليق، ومجرد التعليق لا يمنع الإرث وبعد ما صار مملوكاً للوارث لا يمكن تنفيذ العتق فيه بإعتاق المولى، لكن يثبث للمولى المأمور بهذا التصرف استحقاق العتق عند إعتاقه عبداً عن المولى كما أمره المولى به، فينتقل إلى الوارث بهذه الصفة كالعبد المرهون ينتقل إلى الورثة على الصفة التي كان في ملك الراهن مشغولاً بحق المرتهن، فإذا بقي استحقاقه وجب على من قام مقامه من وارث أو وصي أو قاضٍ إعتاقه عبداً عن المولى أما في حالة الحياة أمكن تنفيذ العتق من جهة المولى لبقاء ملكه فلا حاجة إلى إلغاء العتق عند وجود الشرط من جهة أحد.
فإن قالت الورثة للمأمور أعتق عبداً وإلا بعناك لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه ثبت للعبد استحقاق العتق عند إعتاقه عبداً عن الميت، وليس للورثة ولاية إبطال حق العبد.
(4/351)
-----
وفرق بين الورثة وبين المولى، فإن المولى في حاله حياته يملك بيعه، والورثة لا يملكون ذلك بعد وفاته، والفرق أن هذا الحق لم يظهر في حق المولى؛ لأن الحقيقة ثابتة للمولى مطلقاً، فلو ظهر أثر هذا الحق في حق المولى يبطل أثر حقيقته، وإنه لا يجوز، أما في حق الورثة لو ظهر أثر هذا الحق لا يؤدي إلى إبطال أثر الحقيقة؛ لأن الحقيقة قد ثبتت للورثة بهذه الصفة، ولكن يرفعون الأمر إلى القاضي، فيمهله القاضي ثلاثة أيام، وذلك على حسب ما ترى؛ لأن تركه مؤيداً كذلك يبطل حق الورثة، والتعجيل للحال يبطل حق العبد؛ لأنه عسى لا يقدر على الإعتاق في الحال فيجب على القاضي مراعاة الحقين، وذلك فيما قلنا، فإن أعتق المأمور عبداً وسطاً في المدة التي أمهله القاضي أعتقه، وإلا رده إلى الورثة وأمرهم ببيعه، وقضى بإبطال وصيته.
ولو كان المولى قال لورثته: إذا أعتق عبدي عني عبداً بعد موتي فأعتقوه فهذا وما لو قال لعبده أعتق عني عبداً بعد موتي وأنت حر سواء؛ لأن في الموضعين جميعاً لا يعتق العبد بإيجاد الشرط ما لم يعتقه من قام مقام الميت، هذه الجملة من «الديانات».
وفي «الأصل» إذا قال المولى لعبده أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل العبد ذلك عتق، كما لو قال له أنت حر على ألف درهم فقبل، وإن مات المولى في نصف السنة فللورثة أن يأخذوا العبد بما بقي من السنة من قيمة العبد، وهذا قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة آخراً وقال محمّد وهو قول أبي حنيفة رحمهم الله أولاً يرجع بما بقي من قيمة الخدمة، وفائدة هذا الخلاف إنما يظهر إذا اختلف قيمة العبد وقيمة الخدمة بأن كانت قيمة العبد ألف درهم، وقيمة الخدمة سنةً خمسمائة فمن قال يرجع بما بقي من قيمة العبد نقول يرجع بخمسمائة، ومن قال يرجع بقيمة الخدمة نقول يرجع بمئتين وخمسين.(4/352)
-----
وإذا قال لعبده اخدم ولدي سنة ثم أنت حر، وقال إذا خدمتني وإياهم سنة فأنت حر فخدمهم سنة عتق لوجود الشرط، فإن مات المولى قبل السنة لم يعتق لفوات بعض (الشرط) (326أ1) وهو خدمة المولى، ولو شرط المولى خدمة نفسه ومات بطل اليمين.
وفي «المنتقى» إذا قال لجارية: أنت حرة على أن تخدمي فلانة، فقبلت فهي حرة وعليها أن ترد قيمتها لأن الخدمة مجهولة، ولو قال: على أن تخدمي فلانة شهراً فقبلت حتى عتقت ثم لم تخدم فلانة قال أبو يوسف رحمه الله ترد قيمتها، وقال محمّد رحمه الله ترد قيمة خدمتها شهراً.
وروي بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرجل لعبده: أنت حر على أن تخدم فلاناً سنة، فالقبول إلى فلان، فإن قبل عتق، فإن لم يخدمه رد قيمته، وروى بشر عنه أيضاً إذا قال له: اخدمني سنة وأنت حر قال أبو حنيفة رحمه الله: يعتق الساعة ولا شيء عليه وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يعتق إلا بالخدمة، قبل أو لم يقبل ولو لم يقل سنة فخدمه شيئاً يسمى خدمة عتق عند أبي يوسف رحمه الله.
وفي «المنتقى»: لو قال: أنت حر واخدمني أو قال: أنت حر وأعطني ألفاً، فإن قبل ذلك فهو حر الساعة وعليه أن يخدمه سنة إن كان العتق على الخدمة، وإن كان العتق على الألف فعليه أن يعطيه الألف.
وفي «مجموع النوازل»: إذا قال لعبده: أنت حر، وأدّ إليّ ألف درهم فهو حر ولا شيء عليه ولو قال أد إليّ (ألف) درهم وأنت حر لا يعتق ما لم يؤد ألف درهم، وهكذا ذكر الفصل الثاني في «الزيادات».(4/353)
-----
إذا قال لأمته عند وصيته: إذا خدمت ابني وابنتي حتى يستغنيا، فأنت حرة، فإن كانا صغيرين تخدمهما حتى يدركا؛ لأن استغناء الصغر بهذا، وإن أدرك أحدهما دون الآخر تخدمهما جميعاً وإن كانا كبيرين تخدم البنت حتى تتزوج لابن حتى الابن ثم جارية لأن استغناء الكبيرين بهذا، وإذا زوجت الابنة وبقي الابن يخدمهما جميعاً؛ لأن الشرط خدمتهما حتى يستغنيا، وإن مات أحدهما وهما كبيران أو صغيران بطلت الوصية لانعدام الشرط، وهو خدمتهما حتى يستغنيا وعن الحسن أبي مطيع في رجل قال لمملوكه: اخدم ورثتي سنة بعد موتي، ثم أنت حر فمات بعض الورثة قال: العبد يعتق (في) الوقت الذي قال الميت؛ لأن خدمة الورثة ليست بوصية صحيحة لهم إنما هذا شيء استلباه من هذا العبد وهذا الجواب يخالف ما ذكرنا من الجواب في قول المولى للعبد، أو قال: اخدمني وولدي سنة وأنت حر.
وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن رجل قال لعبده: صم عني يوماً وأنت حر، أو قال: صلّ عني ركعتين وأنت حر قال: يعتق العبد صام أو لم يصم صلى أو لم يصلِ.
ولو قال: حج عني حجة وأنت حر، لا يعتق حتى يحج عنه، وأشار نجم الدين النسفي رحمه الله إلى الفرق فقال: الصوم والصلوة لا مؤنة فيهما فلا يدل على اشتراطه ذلك بدلاً، والحج فيه مؤنة فيدل على اشتراطه ذلك بدلاً عنه كما في قوله: خِط هذا الثوب ولك درهم وفي «المنتقى» إذا قال لعبده: أنت حر على أن تحج عني حجة، فلم يحج فعليه قيمة حجة وسط.(4/354)
-----
وفي شرح «الزيادات»: إذا قال له حج عني في.... وأنت حر، أو قال: إذا حججت عني في حياتي فأنت حر لا يصح هذا التعليق أصلاً، وإذا قال له: أدِ إليّ ألفاً أحج بها وأنت حر، أو قال إذ أديت إليّ ألفاً أحج بها، فأنت حر فأدى الألف يجبر المولى على القبول وإذا قبل عتق حج أو لم يحج وإذا قال: إن أديت إليّ ألفاً، فحججت بها فأنت حر فأدى الألف لا يجبر المولى على القبول، وإذا قبل لا يعتق حتى يحج بها، ولو قال له: حج عني بعد موتي جحة وأنت حر فعليه أن يحج حجة وسطاً من منزل المولى، فإذا حج لا يعتق ما لم يعتقه الورثة أو الوصي أو القاضي، ولو قال: ادفع إلى وصيي بعد موتي قيمة حج يحج بها عني وأنت حر، ينصرف هذا إلى قيمة حجة وسط من منزل الميت، فإذا دفع العبد ذلك إلى الوصي عتق العبد حج بها الوصي أو لم يحج.g
ولو قال: إذا دفعت إلى وصيي بعد موتي قيمة حج يحج بها عني، فأنت حر فأداها إلى الوصي لا يجب إعتاقه حتى يحج بها الوصي والله أعلم.
الفصل الرابع في العتق المبهم
يجب أن يعلم بأن إعتاق المولى أحد عبديه لا بعينه صحيح؛ لأن الإعتاق مما يقبل التعليق بالشرط، وما يقبل التعليق بالشرط يصح إيجابه في المبهم والمجهول؛ لأن الإيجاب في المجهول في حق المعتق بمنزلة التعليق بالنسيان، ويثبت للمولى خيار التعيين؛ لأن الإبهام كائن من جهته وسواء قال: أحدهما حر أو قال: هذا حر وهذا لأن كلمة أو إذا دخلت بين إسمين تناولت أحدهما، فكان هذا وقوله أحدكما حر سواء إذا خاصم العبدان المولى إلى الحاكم أجبره الحاكم على أن يتوقع العتق على أحدهما؛ لأن كل واحد منهما تردد حاله بين الحرية والرق، فصار المولى غير متمكن من استرقاقهما فإذا اختار أحدهما وقع العتق عليه حين اختار.(4/355)
-----
قال محمّد رحمه الله: وهما قبل ذلك بمنزلة العبدين ليشير إلى أن العتق المبهم غير نازك، واعلم بأن المشايخ رحمهم الله اختلفوا أن الإيجاب المبهم في الطلاق والعتاق هل هو نازل في المحل أم لا، وأن البيان فيهما متغير بالإنشاء أو بالإظهار، وإنما اختلفوا لاختلاف ألفاظ محمّد رحمه الله في الكتب ولتعارض الأحكام فبان اختلاف الألفاظ، فإن في بعض المواضع يأمر الموجب بالإيقاع فنقول يقال له: أوقع هذا إشارة إلى أن الإيجاب المبهم غير نازل، وإن البيان إيقاع وفي بعض المواضع يأمره بالبيان، فنقول: يقال له: بين، وهذا إشارة إلى أن الإيجاب المبهم نازل، وأن البيان إظهار والأحكام متعارضة فقد ذكر في «نكاح الأصل» فيمن كان تحته أربع نسوة كو فيات لم يدخل بواحدة منهن، فقال: أحداكن طالق ثم تزوج مكية جاز، وهذا إشارة إلى أن الطلاق المبهم نازل أو لم يكن نازلاً كان المكية الخامسة ينبغي أن لا يجوز نكاحها.
وذكر في «الزيادات»: رجل له امرأتان رضيعتان قال أحداهما طالق ثلاثاً، ولم يبين الطلاق في أحديهما حتى جاءت امرأة وأرضعتهم بانتا، وهذا إشارة إلى أن الإيجاب المبهم غير نازل إذ لو كانت نازلاً كانت الأختية طارئة بعد بينونية إحديهما وأنها لا توجب حرمة الثانية بعد هذا قال بعض مشايخنا في المسألة زوايتان، على رواية الزيادات: الإيجاب المبهم غير نازل في المحل وعلى رواية الأصل نازل، وبعضهم قالوا: المذكور في «الزيادات» قول أبي حنيفة رحمه الله، والمذكور في «الأصل» قولهما، وبعض المشايخ قالوا: الإيجاب المبهم في الطلاق والطلاق لا ينزل في المحل أصلاً بالإنفاق، إلا أن يوجد من الموقع فعل يصير به موقعاً في العتق كما في العبدين لو باع أحدهما أو وهب أو تصدق.
(4/356)
-----
وفي الجاريتين إذا وطىء أحديهما عند أبي يوسف (326ب1) ومحمّد رحمهما الله. إذا ثبت هذا فيقول في مسألة النكاح وجد من الزوج فعل مستدل به على إيقاع الطلاق في العين، وهو إقدامه على نكاح المكية، فإن الظاهر من حال العاقل المسلم أن يقصد بتصرفه الصحة، ولا صحة لنكاح المكية دون وقوع الطلاق على إحدى الكوفيات بفعله، أما في مسألة «الزيادات» لم يوجد من الزوج بعد قوله: إحداكما طالق فعل مستدل به على البيان فكان النكاح باقياً فيها من كل وجه، فوجد الرضاع بعده، وهما منكوحتان له قياساً. وعامتهم على أن الإيجاب المبهم نازل من وجه دون وجه؛ لأن قوله إحداكما طالق نكرة في الأصل، فإن قوله: إحدى إسم نكرة معرفة باعتبار الإضافة فإنه أضاف إليهما وهما معروفان، والمضاف إلى المعرفة معرفة فكان معرفة من وجه دون وجه فكان البيان إنشاء من وجه إظهاراً من وجه.
بعد هذا اختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: يعتبر جهة الإنشاء في محل التهمة، وجهة الإظهار في غير محل التهمة، وبعضهم قالوا: يعتبر جهة الإظهار في حق حكم يختص بالموقع، وجهة الإنشاء في حق حكم يختص بالمحل وهو الأصح؛ لأن الإيجاب المبهم نازل في حق الموقع غير نازل في حق المحل وكل حكم يختص بالموقع فالإطلاق والعتاق يكون نازلاً فيه، فيعتبر البيان فيه إظهاراً. وكل حكم يختص بالمحل فالطلاق والعتاق لا يكون نازلاً فيه، فيعتبر فيه إنشاء، إذا ثبت هذا فنقول: حرمة الجمع بين الخمس لمعنى يرجع إلى الزوج، وهو أن حقه لا يسع للخمس، والإيجاب المبهم واقع في حقه، فلم يكن جامعاً بين الخمس، فأما حرمة الجمع بين الأختين لمعنى يرجع إليهما وهو صيانتهما عن قطيعة الرحم، والإيجاب المبهم غير واقع في حقهما فيصير جامعاً بينهما.(4/357)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لأمتيه: إحداكما حرة، فسئل عن إحديهما بعينها، فقال: لم أعن هذه تعتق الأخرى، ولو سئل عن الأخرى فقال: لم أعن هذه عتقت الأولى أيضاً، فيعتقان جميعاً، وذكر هذه المسألة في «العيون» ووصفها في العبدين، وأجاب بما أجاب في «النوازل»: قال في «النوازل»: وكذلك هذا في الطلاق، فرق بين الطلاق والعتاق والإقرار، فإن من قال لآخر: لهذين رجلين علي ألف درهم، فقيل له: أهو هذا لأحدهما بعينه، فقال: لا، لا يجب للآخر شيء، وأشار الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» إلى الفرق، فقال: البيان في الطلاق والعتاق مستحق عليه، ولهذا يجبر عليه، فجعلنا نفي أحدهما تعييناً للآخر ضرورة إخراجه عن عهدة الواجب، أما البيان في الأقرار غير مستحق عليه، ولهذا لا يجبر عليه. ولا ضرورة إلى أن يجعل نفي أحدهما تعييناً للآخر.
وفيما ذكر من الجواب في فصل الطلاق والعتاق نوع إشكال؛ لأن العتق المبهم صورة أن لا يعين واحداً منهما بعينه. فقوله: لم أعن هذا بعينه بيان صورة العتق المبهم، فكيف يقع به الطلاق والعتاق. في «العين» وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال: أمة وعبد من رقيقي حران، ولم يبين حتى مات وله عبدان وأمة عتقت الأمة، ومن كل واحد من العبدين نصفه، ويسعى كل واحد في نصفه. ولو كان له ثلاثة، أعبد وأمة عتقت الأمة، ومن كل واحد من العبيد ثلثه، ويسعى كل واحد منهم في ثلثيه، ولو كان له ثلاثة أعبد وثلاث إماء عتق من كل واحد من العبيد والإماء الثلاث ويسعون في الباقي، ولو كان له ثلاثه أعبد وأمتان، عتق من كل أمةٍ نصفها وسعت في النصف وعتق من كل عبد ثلثه، ويسعى في الثلثين. وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل.(4/358)
-----
قال محمّد رحمه الله في «الجامع الصغير»: رجل قال لعبديه: أحدكما حر، ثم باع أحدهما أو مات أحدهما عتق الآخر، أما إذا مات أحدهما؛ لأن بالموت لم يبق محلاً لإنشاء العتق فلا يبقى محلاً للبيان؛ لأن البيان إنشاء في حق محل العتق. وإذا لم يبق الميت محلاً للبيان تعين الحي ضرورة، وروي عن محمّد رحمه الله فيمن قال: أحد هذين التي أو أحدهما بين أم ولدي، فمات أحدهما لم يتعين القائم للحرية وللاستيلاد عدا إخباره عن أمر سابق، والإخبار يصح في الحي والميت جميعاً، بخلاف البيان؛ لأنه في حكم الإنشاء، فلا يصح إلا في الحي والميت.
ولو مات المولى قبل البيان عتق كل واحد نصفه ولا خيار للوارث؛ لأن خيار التعيين يعرف في اللفظ، والوارث لا يقوم مقامه فيما يرجع إلى التصرف في اللفظ، بخلاف خيار التعيين في باب البيع، فإنه إذا اشترى أحد الثوبين على أنه بالخيار بأحدهما شيئاً يأخذ برد الأخر ثم مات قبل التعيين كان الخيار للوارث؛ لأن هناك الإرث يجري من علة الخيار، وهو ملك أحدهما مجهولاً؛ فإن الوارث يقوم مقام المورث في الملك، ثم الخيار يثبت له ابتداء بناء على هذه العلة، أما ههنا تعيين الخيار لا يورث وعليه إيجاب العتق في المجهول، وهذا أيضاً لا يجري فيه الإرث، فإذا بطل له ولاية الخيار فاتت ولاية البيان، وإبطال العتق لا وجه له وليس أحد العبدين بأولى من الآخر، فلم يبق ها هنا وجهاً سوى الشيوع.(4/359)
-----
وأما إذا باع أحدهما، أو رهنه، أو كاتبه، أو دبره، أو استولد أحدهما، أو باع بشرط الخيار لنفسه، أو للمشتري، أو باع بيعاً فاسداً، ولم يسلم أو سلم أو ساوم أو..... به آو أجر، أو زوج أحديهما، أو حلف على أحديهما بالحرية، إن فعل شيئاً فهذا كله اختيار للعتق في الآخر. والأصل: أن التعيين كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة، وقد وجدها هنا دلالة التعيين لأن هذه التصرفات بياناً فيه دلالة لا يصح إلا في المملوك ملك اليمين، فصار الإقدام على هذه التصرفات بياناً فيه دلالة أن هذا المحل مملوك ملك يمين، ومن ضرورة تعين الأخرى للحرية، ولهذا سوى في البيع الفاسد بين التسليم وعدم التسليم؛ لأن انتقاء العتق عنه ما كان ضرورة ثبوت الحكم، وإنما كان دلالة الإقدام على تصرف يختص بالملك.
وروي عن محمّد رحمه الله أن اليمين إذا كانت سابقة على الحرية المجهولة فعتق أحدهما بوجود الشرط يعتق الآخر؛ لأن الذي عتق بوجود الشرط لم يبق...... البيان فصار كما لو مات، وذكر محمّد رحمه الله في «الإملاء»: إذا وهب أحدهما أو تصدق به وسلم عتق الآخر، ذكر التسليم وإنه...... لا أنه شرط، فإن التعيين دلالة يقع بالإقدام على تصرف يختص بالملك، فلا يتوقف على القبض. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمه الله (327ب1) إذا وطىء أحديهما كان وطؤه بياناً للعتق في الأخرى وإنه معروف، وعن أبو يوسف رحمه الله: أن التقبيل والنظر إلى الفرج بشهوة كالوطء؛ لأنهما يختصان بملك المتعة كالوطء، ولو استخدم أحديهما لم يكن اختياراً في قولهم جميعاً؛ لأن الاستخدام لا يختص بالملك، ولو أعتق أحدهما بعينه ثم قال: أردت به ذلك العتق، فالقول قوله؛ لأن الأول في حق العتق معلق بالبيان، فكان البيان إعتاقاً، ولهذا يقال له: أوقع العتق على أيهما شئت.(4/360)
-----
فإذا قال: أردت بذلك العتق السابق كان مدعياً حقيقة كلامه، فكان مصدقاً في القضاء ولو باعهما صفقه واحدة فسد البيع فيهما؛ لأن العتق نزل في أحديهما نكرة، والمنكر فيهما، فيصير جامعاً بين الحر والعبد في صفقة واحدة من غير بيان اليمين فيفسد البيع بالاتفاق وإذا وهبهما أو تصدق بهما أو تزوج عليهما فإنه يجبر على البيان في أحديهما وتجوز الهبة والصدقة والإمهار في الآخر؛ لأن ضم الحر إلى العبد في هذه العقود لا يوجب بطلان هذه العقود؛ لأن ضم الحر إلى العبد يجري مجرى الشرط الفاسد، وهذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع، ولو لم يعين حتى مات بطلت هذه التصرفات؛ لأن الحرية شاعت فيهما، ومعتق البعض لا يقبل النقل من ملك إلى ملك، وهذا لأن الملك فيما هو مملوك لا يثبت بهذه التصرفات قبل التعيين؛ لمكان الجهالة، فيتوقف عمل هذه التصرفات في إفادة الملك على التعيين، فقبل ذلك كانا على حكم ملك المولى فيشيع العتق فيها بموته، وتبطل هذه التصرفات.(4/361)
-----
ولو باعهما من رجل صفقة واحدة وسلمهما إليه، فأعتقهما المشتري أجبر البائع على البيان؛ لأن خيار البائع في البيان لم يبطل ببيعهما ولا بإعتاق المشتري إياهما؛ لأن المشتري قبضهما بحكم عقد فاسد وأحدهما حر والآخر عبد، فملك العبد منها بالقيمة إذ الجهالة لا تمنع الملك الفاسد بالبيع، فإذا عين البائع العتق في أحدهما تعين الملك الفاسد في الآخر، وعتق الآخر على المشتري بالقيمة، فإن مات البائع قبل البيان يقال للورثة بينوا، وإذا بينوا عتق الآخر على المشتري، ولا يشيع العتق فيهما، وآخر الملك دال عن العبد منهما بالبيع الفاسد، فتعذر القول بالشيوع وبقي الخيار وقام الوارث مقام المورث، وليس يثبت الخيار للوارث في هذه الصورة بطريق الإرث، وإنما يثبت الخيار له ابتداء؛ لأنه استحق قيمة أحد العبدين فكان منهم التعيين كما قلنا فيمن باع أحد عبديه على أنه بالخيار، وقبضهما المشتري فماتا في يده ثم مات البائع كان لورثة البائع خيار التعيين، فإن لم يعتقهما المشتري ولكن مات البائع لم يشع العتق فيهما؛ لأن الملك دال عن العبد منهما بالبيع الفاسد، فلا يمكن القول بالشيوع، إلا أن العتق الفاسد يستحق بعضه، فبعد البعض يعود العبد إلى قديم ملك البائع ويشيع العتق فيهما بموت البائع قبل البيان، فأما قبل القبض يبقى العبد على ملك المشتري، فلا يمكن القول بشيوع العتق.
(4/362)
-----
ولو قتلهما رجل معاً فعلى القاتل نصف قيمة كل واحد منهما للمولى، ونصف دية كل واحدة منهما لورثتهما، هكذا ذكر في بعض الكتب، وذكر في «الأصل»: عليه نصف قيمة كل واحد منهما ودية حر وعبد؛ لأن العتق ترك في المنكر، والمنكر فيهم،ا فقد قتل حراً وعبداً، إلا أن محمّداً رحمه الله أضاف القيمة إلى كل واحد، ولم يضف الدية إلى كل واحد؛ لأن دية الحر لا تتفاوت، فأما القيمة متفاوتة، فلو قال: عليه دية حر وقيمة عبد.... يدفع أقل القيمتين، والمولى يطالبه بأكثرهما وأوجب من قيمة كل واحد منهما قطعاً للمنازعة، إلا أن القيمة تجب للمولى؛ لأنها وجبت بإزاء العبد، والدية بدل الحر فتكون لورثتهما.
وإن قتل أحدهما بعد الآخر فعلى القاتل قيمة الأول ودية الثاني؛ لأن الأول بالقتل خرج من أن يكون..... من الثاني فتعين دية الثاني؛ لأن للأول بالقتل الحرية، فحصلت الجناية عليه بعد الحرية، فيجب ديته. وإن قتل كل واحد منهما رجل معاً فعلى كل واحد من القاتلين قيمة عبد؛ لأن قتل كل واحد صادف المعتق، والمعتق في حق المعين معلق بالبيان، بخلاف ما إذا قتلهما رجل واحد منهما بعينه، فإذا قتلهما رجل واحد صار قاتلاً حراً وعبداً.
وإذا قتل كل واحد منهما رجل واحد كان كل واحد منهما قاتلاً عبداً فيجب على كل واحد منهما قيمة عبد، ويكون نصف ذلك للورثة والنصف للمولى؛ لأن في حق المولى الحرية بدله، فلا يستحق بدلهما، فيتوزع ذلك نصفين. ولو قتل كل واحد منهما رجل على التعاقب، فعلى الأول قيمة المقتول الأول لمولاه، وعلى الثاني قيمة المقتول الثاني لورثته، ولو قطع رجل يد كل واحد منهما معاً أو أحدهما بعد الآخر كان عليه أن يبين العبد منهما جميعاً، بخلاف ما إذا قتلهما رجل واحد، فقد جعل الواحد في القتل إذا قتلهما معاً قاتلاً لما..... للمجهول الذي هو حر، ولم يجعل الواحد في القطع إذا قطع يدهما قطعاً للمجهول الذي هو حر.(4/363)
-----
والفرق: أن المقطوع يده بالقطع لم يخرج من أن يكون محلاً للبيان، فيجبر المولى على البيان ومتى بين العتق في أحدهما يصح بيانه في حق الأصل؛ لأنه قائم، وفي حق اليد بطريق التبعية والأطراف تبع، ولا يراعى البيع بشرائط الأصل، وإذا صح البيان في اليد والأصل جميعاً والبيان في حكم الإنسان من وجه، وفي حكم الإظهار من وجه لا يجب في الذي تبين العتق فيه زيادة على نصف القيمة بالشك، وبقي الآخر عبداً ابتداءً وانتهاءً، فلم يصر القاطع قاطعاً يد حر مجهول، وفي القتل لما لم يبق، ولأنه البيان، بقي الحر مجهولاً كذلك، وقد صار قاتلاً كذلك المجهول متى قتلهما معاً، فكان دية حر ونصف قيمة كل واحد منها من اكتسب من المال قبل التعيين، فهو للمولى؛ لأن الكسب يجوز أن يملكه من لا يملك الأصل، والأرش لا يملكه إلا مالك الأصل، فإذا..... المولى الأرش؛ لأن بملك الكسب كان أولى.
(4/364)
-----
وإن كانتا أمتين، وولدت كل واحدة ولداً أو ولدت إحداهما فإنه يعتق ولد الذي اختار المولى إيقاع العتق عليها؛ لأن كل واحدة منهما تردد حالها بين الرق (327ب1) والحرية، فصارت في معنى المكاتبة، وبالمكاتبة يعتق ولدها بعتقها. ولو ماتت الأمتان معاً أو قتلتا معاً خير المولى على أن يوقع العتق على أي الولدين شاءَ؛ لأن الولدين جزء الأمتين، فقاما مقام الأمتين، ولا يرث الابن المعتق ...... أن للابن الذي عينه للعتق بعد قتل الأمتين معاً لا يرث من بدل الأم شيئاً لأن هذا الولد إنما عتق بالتعيين، وذلك مؤخر عن قتل الأم، فلهذا لا يرث شيئاً. وإن مات أحد الولدين حال حياة الأمتين لم يلتفت إلى ذلك؛ لأن الأمتان لما كانتا قائمتين كان خيار التعيين باقياً تبعاً للأصلين، ولا يؤثر موت أحد الولدين في تعيين الأحد للحرية، بخلاف ما إذا مات أحد الولدين بعد موت الأمتين؛ لأن بعد موت الأمتين الخيار إنما بقي باعتبار الولدين، فصار موت أحدهما في هذه الحالة كموت إحدى الجارتين حال بقائهما، وهناك يتعين الآخر للعتق، وكذا إذا مات أحد الولدين بعد موت الجارتين بخلاف ما إذا مات أحد الولدين بعد موت الجاريتين والجاريتان قائمتان.
وفي «الجامع» إذا قال الرجل لعبدين له: إذا جاء غد فأحدكما حر ثم مات أحدهما اليوم أو أعتقه، أو باعه أو وهبه وقبضه الموهوب له، ثم جاء الغد يعتق الباقي وكان ينبغي أن لا يعتق الباقي ها هنا من غير نية؛ لأن المعلق بالشرط عند وجوب الشرط كالمرسل، ولو أرسل بعد ضحى الغد وقال: أحدكما حر وقد مات أحدهما أو زال عن ملكه بما ذكرنا من الأسباب لا يعتق الباقي من غير نية، كذا ها هنا.(4/365)
-----
والجواب: أن الإيجاب ها هنا قد صح لكون العبدين في ملكه وقعت الحاجة إلى بقاء الإيجاب، والبقاء يستدعي قيام محل الحكم، فأحدهما بعينه يصلح محلاً له، ألا ترى أن هذا الاسم قد نطلق عليه، وأنه يصح صرف الإيجاب إليه فاستقام القول ببقاء الإيجاب، وإذا بقي الإيجاب...... صح للباقي يتعين الباقي. فصار تقدير المسألة: إذا جاء غد وأحدكما في ملكي فهو حر. أما ابتداء الإيجاب بعد ما مات أحدهما أو زال عن ملكه لا يصح لعدم شرطه، وهو مزاحمة الآخر؛ لأن الإبهام لا يصح إلا بمزاحم، وهو نظير ما لو قال للمختلعة: أنت ثاني ونوى الطلاق لا يقع به شيء، ولو علق الإبانة بالشرط ثم خالعها، ثم وجد الشرط وقع عليها تطليقة بائنة والمعنى ما ذكرنا.
(4/366)
-----
فإن قال المولى قبل مجيء الغد: اخترت أن يقع العتق إذا جاء غد على هذا العبد بعينه كان باطلاً؛ لأن في تعيين أحدهما قبل مجيء الغد تغيير اليمين؛ لأن اليمين انعقدت على أن يعتق عند مجيء الغد أحدهما لا يعينه ولو صح هذا التعيين عتق عند مجيء الغد أحدهما بعينه والحالف لا يملك تغيير موجب اليمين كما لا يملك إبطاله، وكان بمنزلة ما لو حلف لا يكلم أحد هذين الرجلين ثم عين أحدهما لليمين لا يصح، حتى لو كلم الذي لم يعينه يحنث في يمينه والمعنى ما ذكرنا، وكان القياس فيما إذا كان العتق على هذا الوجه مرسلاً أن لا يملك تعيين العتق في أحدهما بعينه لما فيه من تعيين موجب الإيجاب، لكن تركنا القياس ثمة ضرورة لمكان العمل بالعتق الواقع من ولاية الشهادة والقضاء والحمل، فلا يقبل التنصيف من الحدود. وغير ذلك؛ لأن العمل بهذه الأحكام لا يمكن إلا بعد تعيين أحدهما، وهذه الضرورة معدومة المعلق لأن العتق المعلق؛ غير نازل قتل وجود الشرط فإن قيل: أليس إن قبل مجيء الغد ملك التعيين بالبيع، فإنه إذا باع أحدهما يتعين الآخر للعتق وإن كان فيه تعيين موجبه اليمين. قلنا: هناك إنما ثبت التعيين حكماً لنفاذ البيع في أحدهما، إذ الموجب للنفاذ قائم وهو الملك، والشيء قد يثبت حكماً لغيره وإن كان لا يثبت مقصوداً على ما عرف.
وفي «الجامع» أيضاً: إذا قال الرجل لعبدين له: إذا جاء غد فأحدكما حر، ثم باع أحدهما ثم اشتراه قبل مجيء الغد، أو باعهما ثم اشتراهما قبل مجيء، الغد ثم جاء الغد، ثم باع الآخر ولم يشتره حتى جاء الغد عتق الذي في ملكه عند مجيء الغد ولا يبطل اليمين بالبيع؛ لأنه لو بطل بطل من حيث أن بالبيع يزول الملك جميعاً فلا يبطل بزوال أحدهما وهو الملك، أو لأن قيام الملك إنما يشترط حال انعقاد اليمين وحال نزول الجزاء؛ إلا فيما بين ذلك.(4/367)
-----
وإذا لم يبطل اليمين ينظر إلى حال وجود الشرط فإن كانا في ملكه عتق أحدهما غد لقيام المزاحمة ومحلية البيان. وإن كان أحدهما في ملكه يتعين هو للعتق لانعدام المزاحم، ولو باع نصف أحدهما ثم جاء الغد عتق الكامل؛ لأنه لا مزاحم له؛ لأن نصف العبد لا يزاحم العبد الكامل في استحقاق اسم الأحد. ولو باع نصف كل واحد منهما إذا جاء الغد عتق أحدهما، والبيان إليه؛ لأنهما استويا من حيث أن اسم الأحد لا ينطلق على كل واحد منهما من طريق الحقيقة، واستويا من حيث أن كل واحد منهما بعض الأحد، واسم الأحد إن كان لا ينطلق على النصف من طريق الحقيقة، ينطلق عليه من طريق المجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض، وإذا لم يبق ما في ملكه ما ينطلق عليه هذا الاسم من طريق الحقيقة وقع على المجاز وهما في ذلك على السواء، فيعتق أحدهما فيكون البيان إليه.
فإن قيل: ينبغي أن يبطل اليمين ها هنا لأن المعقود عليه قد فات؛ لأن اليمين انعقدت موجبة عتق أحدها ولم يبق ها هنا من يستحق هذا الاسم وفوات المعقود عليه يوجب بطلان اليمين.r
قلنا: ما فات كل المعقود عليه إنما فات بعضه فوات العقد ضرورة فوات المحل فيتعذر بقدر فوات المحل.
ألا ترى أن من قال لعبدين له: إذا جاء غد فأنتما حران، ثم باع أحدهما، ثم جاء الغد عتق الباقي، ومعلوم أن العقد عقد على الإثنين وبعد بيع أحدهما لم يبق من ينطلق عليه هذا الاسم وفوات المعقود عليه، لكن قيل: فإن بعض المعقود عليه، لا يوجب بطلان العقد في الكل كذا ها هنا، وألا ترى أن من قال: هذان العبدان الأبيضان حران أو هذان الأسودان، فمات أحدهما أي أحد الأسودين عتق الأبيضان من غير خيار، ولو مات أحد الأسودين وأحد الأبيضين كان له الخيار، وإن فات المعقود عليه مع هذا لم يبطل اليمين لما ذكرنا أنه فات (328أ1) بعض المعقود.(4/368)
-----
وفي «البقالي»: إذا قال: هذا حر هذا..... عتقا. ولو قال: هذا حر عتق الثاني، ولو قال: هذا حر هذا إن دخل الدار، عتق الأول في الحال والثاني عند الشرط، ولو قال: هذا حر إن دخل الدار هذا حر إن كلم فلاناً، فكما قال يعني: يعتق الأول إذا دخل ويعتق الثاني إذا كلم فلاناً. ولو قال: أحدكما حر إن شاء ثم قال: أحدكما حر، فشاء أحدهما عتقا، وإذا جمع بين عبده وبين من لا يعتق عليه العتق، كالبهيمة والحائط وقال: عبدي حر أو وهذا أو قال: أحدهما حر عتق عبده عند أبي حنيفة، وقالا: لا يعتق عبده، كذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وجه قول من قال إنه لا يعتق العبد إن كلمّهُ، وإذا دخلت بين شيئين أوجبت الشك فصار في حق العبد، كأنه قال: أنت حر أولاً، ولو نص عليه هذا لا يعتق العبد كذا ها هنا. واعتبره بما إذا جمع بين عبيده، وبين عبد غيره، وقال: ذلك وجه قول أبي حنيفة رحمه الله إن الشك إنما يقع بحكم كلمة، أو إذا صح الضم وإنما يصح الضم إذا كان كل واحد منهما قائلاً بحكم ما أضيف إليهما، والمضموم ها هنا لا يقبل الحرية فلغى الضم فصار العبد هو المعتق، وجاز إيقاع العتق على المعتق بهذا اللفظ كما نوى الإيقاع عبده.
وذكر محمّد رحمه الله في عتاق «الأصل» إذا قال: أحد عبيدي حر ولا يعلم له إلا عبد واحد عتق عبده، وهذا بخلاف ما لوجمع بين عبده وبين عبد غيره؛ لأن عبد الغير محل للعتق، ولهذا جاز عتقه بإجازة مولاه فصح الضم، أما ها هنا بخلافه وروى ابن سماعة محمّد رحمه الله أنه إذا جمع بين عبده وبين مالا يقع عليه العتق وقال: هذا حر أو هذا لا يعتق عبده، ولو قال: أحدكما حر عتق عبده.
والفرق: أنه إذا قال: هذا حر هذا فقد أدخل كلمة الشك فصار في حق عبده كأنه قال أنت حر أو لست بحر، وإذا قال: أحدكما حر فهنا أدخل كلمة الشك بل وصف أحدهما بالحرية والعبد متعين لذلك، فانصرف إليه.(4/369)
-----
ولو جمع بين أمة حية وبين ميتة وقال: أحدكما حرة لا تعتق الحية؛ لأن الميتة توصف بالحرية إخباراً. يقال: فلانة ماتت حرة فلا تتعين الحية لهذا الوصف والله أعلم.
الفصل الخامس في إعتاق بعض الرقيق
وإذا أعتق الرجل بعض العبد بأن أعتق نصفه أو ثلثه أو ربعه فهذا على وجهين: أما إن كان العبد كله له أو كان العبد مشتركاً بينه وبين غيره؛ فإن كان العبد كله له فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق قدر ما أعتقه ويبقى الباقي رقيقاً، إن شاء أعتقه وإن شاء استسعاه. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: يعتق كله، ولا سبيل له على العبد، وإن كان العبد مشتركاً بينه وبين غيره فأعتق نصيبه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصيبه لا غير، سواء كان المعتق موسراً أو معسراً؛ إلا أنه إن كان موسراً فللساكت في نصيبه خيارات. ثلاثة: إن شاء أعتق نصيبه، وإن شاء ضمن شريكه قيمة نصيبه، وإن شاء استسعى العبد في نصيبه. وإن كان معسراً فله خياران: إن شاء أعتق، وإن شاء استسعى. ومن أعتق أو استسعى قالوا بينهما نصفان، وإذا ضمن المعتق بأن كان المعتق موسراً رجع المعتق بما ضمن على العبد عند أبي حنيفة رحمه الله، فالعبد لا يختص له عن السعاية على قول أبي حنيفة رحمه الله.(4/370)
-----
وفي «المنتقى» إذا اختار الساكت تضمين المعتق فله أن يستسمي العبد في ذلك قبل أن يؤدي، وإذا أخذ المعتق ذلك من العبد كان الولاء كله له، وعلى قول أبي يوسف عتق كل العبد في الحالين إلا أن المعتق إن كان موسراً ضمن قيمة نصيب الساكت، وإن كان معسراً فالعبد يسعى في نصيب الساكت والولاء كلّه للمعتق في الحالين، والمسألة بحججها معروفة في «الأصل»، ولهذه المسألة فروع، فمن جملتها: معرفة قدر اليسار في ضمان الإعتاق، والمروي فيه عن محمّد رحمه الله: أنه إذا كان مالكاً مقدار قيمة نصيب الساكت من المال والعروض سوى ملبوسه وقوت يومه فهو موسر وعليه عامة المشايخ. ومن المشايخ من اعتبر اليسار..... للصدقة، وبنحوه روي عن أبي حنيفة رحمه الله، فقد روى الحسن بن زياد عنه أنه قال: الموسر الذي له نصف القيمة سوى المنزل والخادم ومتاع البيت ..... والصحيح ما روي عن محمّد رحمه الله؛ لأن الحاجة إلى..... العبد عن السعاية أو إلى دفع الضرر عن الشريك الساكت ضرر الإفساد فتتعين المقدرة عليه ولا يعتبر ضرورة.
ومن جملة ذلك ما روي عن أبي يوسف أن المعتق إذا كان معسراً وجبت السعاية على العبد، فلم يسع، فهو بمنزلة حر عليه دين إلى أن يقضيه.(4/371)
-----
والحكم في حر هذا حاله أنه إن كان ممن يعمل بيده أو له عمل معروف أنه مؤاجر من رجل ويؤاجره فيقضيانه دينه فها هنا كذلك، وإن كان العبد صغيراً والمعتق معسراً فأراد الآخر أن يؤاجره فإن كان الغلام يفعل ورضي بذلك جاز عليه وكان الآخر للذي لم يعتق قضاء من حقه، ومن جملة ذلك: أن قيمة العبد في الضمان والسعاية يعتبر يوم الإعتاق؛ لأن سبب الضمان الإعتاق فتعتبر القيمة في ذلك الوقت كما في الغصب، ومن جملة ذلك: أن حال المعتق في اليسار والعسار يعتبر يوم الإعتاق؛ لأن النسب ينعقد في ذلك الوقت، فإذا كان موسراً وقت الإعتاق وجب الضمان لوجود السبب وهو موسر، فلا يسقط بالعسار الطارىء. وإذا كان معسراً وقت الإعتاق ثم أيسر من بعد فالإعتاق حال وجوده لم ينعقد موجباً للضمان فلا يجب الضمان بعد ذلك.
(4/372)
-----
ومن جملة ذلك: إذا اختار الساكت ضمان المعتق إذا كان المعتق موسراً ثم أراد أن يرجع عن ذلك، واستسعى العبد، فله ذلك ما لم يقبل المعتق الضمان أو يحكم به الحاكم، وهذه رواية ابن سماعة عن محمّد عن أبي حنيفة رحمهم الله، وذكر في «الأصل»: إذا اختار التضمين لم يكن له اختيار السعاية من غير تفصيل، ولو اختار استسعاء العبد لم يكن له اختيار التضمين بعد ذلك رضي العبد بالسعاية أو لم يرض باتفاق الروايات، وهذا إنما يأتي على قول أبي حنيفة رحمه الله. فأما على قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله: للساكت الضمان إذا كان المعتق موسراً ليس له غير ذلك وله السعاية، إذا كان المعتق معسراً ليس له غير ذلك، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر (328ب1) في «الأصل» مجهول على تفصل ابن سماعة؛ لأن سقوط حقه في الاستسعاء بناءً على تعذر حقه في الضمان، وحقه في الضمان لا يتعذر ما لم يتم تمليك نفسه من المعتق، وذلك إنما يكون بالقضاء أو بالرضا. وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله هكذا يقول في العاجب مع عاجب العاجب إذا اختار المالك تضمين أحدهما، فقبل القضاء والرضا إذا أراد أن يرجع عن ذلك ويضمن الآخر كان له ذلك، بخلاف ما إذا اختار استسعاء العبد؛ لأنه ليس فيه تمليك من أحد بل فيه تقدير لملكه وإبراء المعتق عن الضمان، وهذا لا يتوقف على القضاء والرضا.
ومن المشايخ من قال: في المسألة روايتان: وجه رواية ابن سماعة ما مر وجه ما ذكرنا في «الأصل»: أن اختياره تضمين المعتق يتضمن إبراء العبد عن الضمان، وتمليك المضمون من المعتق، والملك في المضمون إن كان يتوقف على القضاء والرضا فإبراء العبد عن السعاية يتم للمشتري، فلا يبقى له حق في السعاية بعد ذلك.(4/373)
-----
ومن جملة ذلك إذا مات العبد قبل أن يختار الساكت شيئاً والمعتق موسر، فأراد تضمين المعتق فله ذلك في المشهور عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول: أنه ليس له ذلك، وجه تلك الرواية أن شرط التضمين أن يصير نصيب الساكت مملوكاً للمعتق بالضمان والميت لا يحتمل التمليك والتملك. وجه المشهور: إن وجوب الضمان والإعتاق لأن الفساد به يتحقق في وقت الإعتاق كان محلاً للتمليك، فلا يمتنع الضمان بسبب الموت كما في العبد المحجور. ذكر هذا الفصل على هذا الوجه في شرح «القدوري».
وذكر شيخ الإسلام في شرحه: إذا مات العبد وترك كسباً اكتسبه بعد العتق فللساكت تضمين المعتق بلا خلاف. وهل له أن يأخذ السعاية من كسب العبد؟ اختلف المشايخ فيه منهم (من) قال: له ذلك، وإليه مال الحاكم أبو نصر رحمه الله في «الأصل» (هذا إذا مات العبد قبل أن)، وعامة المشايخ على أنه ليس له ذلك. قال: وإليه أشار محمّد رحمه الله في «الأصل» هذا إذا مات العبد قبل أن يختار الساكت شيئاً والمعتق موسر، فأما إذا كان المعتق معسراً وباقي المسألة بحالها فللساكت أن يأخذ السعاية من كسب العبد إن ترك العبد كسباً اكتسبه بعد العتق بلا خلاف، وإن لم يترك العبد كسباً اكتسبه بعد العتق بقيت السعاية ديناً على العبد إلى أن يظهر له مال، أو يتبرع عنه متبرع باذل ما عليه إن..... الساكت، وإن كان العبد قد ترك مالاً اكتسب بعضه قبل العتق وبعضه بعد العتق فما كان الكسب قبل العتق فهو بين الموليين، وما كان الكسب بعد العتق فهو للعبد، وإن كان لا يعلم متى اكتسبه فهو بمنزلة ما لو اكتسبه بعد العتق؛ لأنه اكتسبه حادثاً فيحال لحدوثه على أقرب ما ظهر وذلك ما بعد العتق.
(4/374)
-----
ومن جملة ذلك: أن الشرط.... الساكت إذا مات فلورثته ما كان له من العتق والسعاية ويضمن المعتق إن كان موسراً عند أبي حنيفة رحمه الله يختارون أي ذلك شاؤوا، وليس معنى قوله لورثته من العتق ما كان له حقيقة العتق؛ لأن حقيقة العتق لا يصح من الورثة عند أبي حنيفة؛ لأن معتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة المكاتب، والمكاتب لا تورث رقبته وإنما يورث ما عليه من بدل الكتابة.
وإذا لم تصر رقبة المكاتب ميراثاً لورثة الساكت لا يصح منهم حقيقة العتق، وإنما أراد به الإبراء عن السعاية، والعتق يصلح كناية ومجازاً عن الإبراء عن السعاية؛ لأن بدل الكتابة يورث، فكذا ما وجب على معتق بعض المال؛ لأنه في معنى الكتابة. فصار تقدير المسألة: فلورثة الساكت ما للمورث من الإبراء عن السعاية، واستقبالها وتضمين المعتق.
ومن جملة ذلك: العبد إذا كان بين جماعة أعتق أحدهم نصيبه، واختار بعض الساكتين السعاية في نصيبه، وبعضهم الإعتاق، وبعضهم الضمان فلكل واحد ما اختار عند أبي حنيفة رحمه الله. وإن مات بعض الساكتين بعد ذلك، ووقع الاختلاف بين ورثته، فاختار بعضهم الضمان، وبعضهم السعاية، وبعضهم العتق. روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ليس للورثة بمنزلة، إلا أن يضمنوا جميعاً ويعتقوا أو يختاروا السعاية؛ لأن الورثة بمنزلة المورث وما كان للمورث ..... الاختيار، بل إن شاء ضمن الكل أو أعتق الكل أو استسعى فكذلك لورثته، وروى محمّد عن أبي حنيفة رحمه الله أن لهم ذلك؛ لأن نصيب الميت انتقل إليهم حكماً فصاروا....... في «الأصل».
ومن جملة ذلك: أن المعتق مع الساكت إذا اختلفا في قيمة العبد يوم الإعتاق، فهذه المسألة على وجوه، إن اتفقا حصل في الحال ولكن اختلفا في قيمته في الحال وأنه على وجهين:(4/375)
-----
إن كان العبد قائماً لا يلتفت إلى قولهما، ولكن يقوم العبد للحال وبعض على المعتق بنصف قيمته في الحال؛ لأنه أمكن اعتبار ما وقع فيه الدعوى بالإعتاق، فلا يلتفت إلى قولهما. وإن كان العبد هالكاً فالقول قول المعتق؛ لأنه تعذر معرفة ما وقع فيه الدعوى بالمعاينة فيعتبر الدعوة والإنكار، فالساكت يدعي زيادة على المعتق، والمعتق ينكر.
والوجه الثاني: إذا اتفقا على أن الإعتاق كان قبل هذا الوقت بأيام، واختلفا في مقدار قيمته يوم الإعتاق ذكر شيخ الإسلام في «شرحه»: أن القول قول المعتق، سواء كان العبد قائماً أو هالكاً. فإن كان هالكاً فلا إشكال، وإن كان قائماً؛ لأن قيمة الشيء فيما يزداد، وينتقص بمضي الوقت فلا يمكن بحكم الحال فتعتبر الدعوى والإنكار.
قال محمّد رحمه الله: وكتبت في «شرح السير»: إذا كانت المدة من وقت الإعتاق قريبة ننظر إلى حال العبد، فنعرف قيمته من حاله، وإن كانت المدة بعيدة فالقول قول المعتق ولا نحكم الحال؛ لأن المعتبر في المدة القريبة ليس بظاهر، فيمكن بحكم الحال، والمعتبر في المدة البعيدة ظاهر فلا يمكن بحكم الحال، فنجعل القول قول المعتق لإنكاره الزيادة.(4/376)
-----
الوجه الثالث: إذا اختلفا في وقت الإعتاق وفي قيمته فقال المعتق: أعتقته قبل هذا بسنة، وكان قيمته يوم أعتقته مائة، وقال الساكت: لا بل أعتقته في الحال وقيمته في الحال ألف درهم، فهذا وما لو تصادقا أن العتق حصل في الحال سواء؛ لأن العتق حادث فيحل حدوثه على أقرب ما ظهر، فالذي بدأ الحدوث في الحال فيمسك بالأصل، فيجعل القول قوله، فصار كأن العتق ثبت بتصادقهما في الحال. والجواب فيما إذا وقع الاختلاف في حال المعتق يوم الإعتاق في اليسار والعسار بظهور الجواب فيما إذا وقع الاختلاف في قيمة العبد، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» في «المنتقى» أنه ينظر إلى حالة المعتق يوم الخصومة، فإن كان موسراً ضمن وإن كان معسراً سعى العبد. وكتبت في «السير»: إذا كانت المدة قريبة بحكم الحال، وإن كانت بعيدة يجعل القول قول المعتق؛ لأنه ينكر حق الرجوع عليه بالتضمين، والجواب فيما إذا وقع الاختلاف بين الساكت والعبد في قيمة العبد أيضاً يظهر الجواب فيما إذا وقع الاختلاف بين الساكت والمعتق في قيمة العبد. هكذا ذكر شيخ الإسلام أيضاً.
ومن جملة ذلك: إذا صالح الساكت مع المعتق، وإنه على وجهين: أما إن صالح على أقل من نصف قيمة العبد ودراهم أو دنانير فإنه جائز.
فرق بين التصالح وبين البيع فإن الساكت لو قال للعبد: بعت مالي عليك من نصف القيمة بأقل من نصف القيمة، فإن ذلك لا يجوز. والفرق: وهو أن الصلح في موضوعه لاستيفاء بعض الحق وإسقاط البعض، فإذا كان بلفظة الصلح أمكن تجويزه بطريق استيفاء بعض الحق وإسقاط البعض إن تعذر تجويزه بطريق المعاوضة، فأما البيع معاوضة من كل وجه وليس فيه معنى الإسقاط بعض الحق واستيفاء البعض، فإذا كان بلفظة البيع لا يمكن تجويزه إسقاطاً واستيفاءً تعذر تجويزه معاوضة لمكان.....، فبطل ضرورة.(4/377)
-----
الوجه الثاني: إذا صالح على أكثر من نصف قيمة العبد دراهم أو دنانير وإنه على وجهين: إن كانت الزيادة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز، وإن كانت الزيادة بحيث لا يتغابن الناس في مثلها فالزيادة على نصف القيمة باطلة، فقد أبطل الفضل وما صالح الصلح على قدر نصف قيمة العبدين.
فرق بين هذا وبينما إذا حصل هذا بلفظ البيع، فكان البيع يبطل في الأصل والزيادة جميعاً. والفرق: أن البيع لغة ينبىء عن المعاوضة، والمعاوضة إذا تمكَّن فيها الربا أبطل كلها بخلاف الصلح؛ لأن في الصلح معنى استيفاء بعض الحق ومعنى المعاوضة، ففي حق نصف إن تعذر تصحيحه بطريق المعاوضة أمكن تصحيحه بطريق استيفاء الحق، كأنه استوفى عين حقه وزيادة، فيكون الاستيفاء بقدر الحق صحيحاً وتبطل الزيادة، وإن كان الصلح على عوض هو أكثر قيمةً من نصف قيمة العبد جاز؛ لأنه لا يتمكن الربا (فيه).
ومن جملة ذلك أن العبد المعتق إذا كان مريضاً مرض الموت وهو موسر فمات يسقط عنه ضمان المعتق ولا يستوفي ذلك من تركته، بل يسعى العبد للمولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يسقط ضمان العتق بل يستوفي ذلك من تركته، وجه قولهما: أن ضمان العتق ضمان الإتلاف، فلا يسقط بالموت، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: ضمان العتق في حكم الصلة من المولى والصلات تسقط بالموت قبل القبض، وإذا كان العبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، ثم إن الآخر باع نصيبه من الذي أعتق أو وهبه له على عوض أُخِذَ منه.(4/378)
-----
ذكر محمّد رحمه الله في «الأصل»: أن هذا واختياره في الضمان في القياس سواء، غير أن هذا أقبحهما وأفحشهما، وفي «الاستحسان»: لا يجوز البيع لأن البيع يوجه الملك للحال ومعتق النصف في الحال يقابل للتمليك، فأما الضمان يفيد الملك من وقت العتق، فإنه كان قابلاً للتمليك وقت الإعتاق فجاز تمليك نصيبه منه بالضان ولم يجز بالبيع لهذا، وإذا لم يجز البيع صار الحال بعده والحال قبله سواء، وقبل البيع كان له .... أن المعتق، وإن يستسعي العبد فكذا بعد البيع، قالوا: ويجب أن يكون بيع المغصوب من الغاصب بعد الهلاك على هذا القياس والاستحسان. القياس: أن يجوز، وفي الاستحسان: لا يجوز.
وإذا كان العبد بين اثنين أحدهما صغير والآخر كبير فأعتقه الكبير وهو موسر فليس للصبي في هذا قول لا في العتق، ولا في التضمين، ولا في اختيار السعاية. يريد بقوله لا قول للصبي، وهذا لأن هذه التصرفات لا تصح من الصبي، وأنه ظاهر، فبعد ذلك ينظر إن كان له أب كان لأبيه الخيار إن شاء ضمّن المعتق، وإن شاء استسعى العبد؛ لأن تضمين المعتق بيع نصيبه بمثل القيمة معنًى، وغلات ذلك في مال الصغير، واختيار السعاية بمنزلة مباشرة عقد الكتابة، وللأب ذلك في عبد الصغير.(4/379)
-----
ووصي الأب في هذا بمنزلة الأب، وإن لم يكن للصغير أب ولا وصي للأب وله وصي للأم وكان العبد.......... الصغير عن الأم، لم يذكر محمّد رحمه الله أنه قال: سألت أستاذي الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله عن ذلك، فقال: إذا كان له وصي أم وليس له وصي غيره فله أن يضمن المعتق؛ لأن التضمين بمنزلة البيع، ولوصي الأم البيع فيما ورثه الصغير عن الأم وله استسعاء العبد أيضاً، وإن كان الاستسعاء في معنى الكتابة وليس لوصي الأم أن يكاتب إلا أن هذه كتابة حكمية، فجاز من وصي الأم، وإن لم يكن له واحد من هؤلاء..... وبلوغه للخيار إما الضمان أو الإعتاق، و الاستسعاء قبل هذا إذا كان في موضع لا قاضي فيه، فأما إذا كان في موضع فيه قاضي نصب له القاضي قيماً حتى يختار التضمين، أو السعاية؛ لأن ذلك أنفع في حق الصبي؛ لأنه يتعذر له التصرف في نصيب الصبي بعد العتق.
وإذا كان العبد بين اثنين أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، ثم إن الآخر دبره فالتدبير جائز؛ لأنه تعليق عتق نصيبه بالموت، وتعليق عتق نصيبه بسائر الشروط منه جائز فكذا بالموت. وإذا صح التدبير برىء المعتق من الضمان وكان إقدامه على التدبير إبراءً للمعتق عن الضمان، إما لأن إقدامه على التدبير استيفاءً لنصيبه على ملكه، وإما لأن ولاية تضمين المعتق بشرط أن يملك نصيبه من المعتق بالضمان، وبالتدبير أخرجه من أن يكون قابلاً للتمليك.
فإن قيل: بالتدبير اختيار استيفاء ما بقي بعد العتق على ملكه، فأما ما فات لم يصر..... له على ملكه، فينبغي أن يكون له حق التضمين بذلك القدر.(4/380)
-----
قلنا: تعذر تضمين ما فات بدون الباقي؛ لأن الفائت مجرد المنفعة ومجرد المنفعة لا تضمن بالإتلاف، وكان للمدبر إن يستسعي العبد في نصف قيمته، ولكن نستسعيه في نصف قيمته مدبراً؛ لأن ما فات بالتدبير لاحقاً فأما إن كان بالتدبير سابقاً ثم ورد العتق بعد ذلك فإن المدبر على خياره؛ لأن في هذا الفصل لم يوجد من المدبر ما يدل على إبراء المعتق عن الضمان فبقي خياره كما كان، فإن شاء استسعى العبد في نصيبه مدبراً وإن شاء ضمن المعتق نصيبه مدبراً، وإنما ثبت له الخيار؛ لأنه بالإعتاق فوت عليه منفعه الخدمة إن لم يفوت عليه منفعة البيع.
وإن كان ذلك منها جميعاً ولا يعلم أيهما أول فإنه ينبغي في القياس أن لا يضمن المعتق شيئاً وإن كان حتى يعلم أنه أعتق بعد التدبير. وفي «الاستحسان»: يضمن المعتق ربع قيمته مدبراً، وجه القياس ظاهر، وجه الاستحسان: أن إعتاق المعتق سبب الضمان، سواء كان قبل التدبير أو بعد التدبير؛ لأنه فوت على صاحبه منفعة الخدمة والبيع وإن كان بعد التدبير إن كان قبل التدبير؛ لأنه فوت على صاحبه منفعه الخدمة وإن كان بعد التدبير؛ لأنه فوّت على صاحبه منفعة الخدمة إلا أن صاحبه بالتدبير بعد الإعتاق يبرئه عن الضمان، فقد تيقنا سبب الضمان وشككنا في المبرىء، وأنه ثبت في حال دون حال فيثبت نصفه، ويبرىء عن الضمان النصف، ويبقي ضمان النصف (329ب1) فابتداءً قال: يضمن المعتق ربع القيمة مدبَّراً، والله أعلم.g
(4/381)
الفصل السادس في عتق ما في البطن
-----
قال محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لجاريته: كل ولد تلدينه فهو حر، فهذا على كل ولد تلده، ولا يعتق شيء من الأولاد قبل الولادة؛ لأن الولادة شرط وقوع العتق، كالدخول في قوله: كل امرأة لي تدخل الدار طالق، حتى لو ضرب ضارب بطن هذه الجارية وألقت جنيناً ميتاً كان على الضارب نصف عشر قيمته إن كان غلاماً، أو عشر قيمته إن كان جارية؛ لأن الولد إن كان رقيقاً قبل الولادة كان الضارب متلفاً جنيناً رقيقاً، والحكم في جنينٍ هذا حاله ما ذكرنا،
ولو مات المولى وهي حامل فولدت بعد ذلك لا يعتق الولد وكذلك لو باعها المولى وهي حامل فولدت عند المشتري لا يعتق الولد؛ لأن شرط الحنث قد وجد والمحلوف بعتقه ليس في ملكه...... اليمين لا إلى جزاء، ولو قال: كل ولد تحبلين به أو قال: تحملين به فهو حر، فكلما حبلت يعتق الولد، فلا تشترط الولادة ها هنا؛ لأن شرط وقوع العتق ها هنا حدوث الحبل لا الولادة، وإنما يعلم حدوث الحبل بعد اليمين إذا ولدت لأكثر من سنتين من وقت اليمين؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين، وإن ولدت لسنتين أو أقل فإنه لا يعتق الولد؛ لأنا لم نتيقن بحدوثه بعد اليمين؛ لأن الولد يبقى البطن إلى سنتين فيجوز أنه كان موجوداً في البطن وقت اليمين، وإن ضرب ضارب بطن هذه الجارية فألقت جنيناً ميتاً فعلى الضارب أرش جنين حر إذا جاءت به لأكثر من سنتين؛ لأنا تيقناً بحدوث الحبل بعد اليمين وهو شرط العتق، فكلما حدث الحبل وقع العتق، فصار الضارب متلفاً جنيناً حراً فعليه أرش جنين حر. وإن جاءت بالولد لسنتين أو أقل من وقت اليمين فعلى الضارب أرش جنين حر.
إن باعها المولى فولدت عند المشتري، فهذه المسألة على وجهين:(4/382)
-----
الأول: إذا ولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء، وأنه على وجهين أيضاً: إن ولدت لأكثر من سنتين من وقت اليمين، فالبيع فاسد؛ لأنا تيقنا بعتق هذا الولد؛ لأنا تيقنا بحدوثه بعد اليمين في ملك الحالف فيتبين أنه باع الأمة وفي بطنها ولد حر فيفسد البيع. وإن جاءت (به) لسنتين أو أقل من وقت اليمين فالبيع جائز؛ لأنا لم نتيقن بحرية هذا الولد؛ لأنا لم نتيقن بحدوثه في ملك البائع بعد اليمين.
الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الشراء، وفي هذا الوجه البيع جائز سواء جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت اليمين أو أقل؛ لأنا لم نتيقن بحرية هذا الولد إذا لم نتيقن بحدوث الحبل في ملك البائع، لجواز أنه حدث في ملك المشتري بعد الشرط. وشرط العتق إنما يوجب العتق إذا وجد الشرط في ملك الحالف، والجواب فيما إذا مات المولى وتركها كالجواب فيما إذا باعها المولى.
إذا قال لأمته: ما في بطنك حر، فولدت ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت هذه المقالة يعتق. ولو ولدت ولداً لستة أشهر فصاعداً من وقت هذه المقالة لا يعتق؛ لأن العتق أضيف إلى الموجود في البطن فإنما يعتق من كان موجوداً في البطن وقت الإضافة، وإنما يثبت الوجود في البطن وقت الإضافة إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر.
فإن قيل: ينبغي أن يعتق نصف الذي ولدته لستة أشهر فصاعداً؛ لأنه يعتق في حال وهو أن يكون موجوداً وقت هذه المقالة، ولا يعتق في حال وهو أن لا يكون موجوداً وقت هذه المقالة وجدت بعد ذلك، واعتبار الأحوال أصل من أصول الشرع.
قلنا: اعتبار الأحوال إنما يكون في موضع تيقن بوقوع العتق واشتبه علينا من وقع عليه العتق، وها هنا وقع الشك في العتق، وفي مثله لا تعتبر الأحوال كما لوجمع بين عبده وبين عبد غيره، وقال: أحدكما حرٌّ ومات قبل البيان.(4/383)
-----
وإن ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر، والآخر بعد الستة أشهر من وقت هذه المقالة إلا أن المدة المتخللة بين الولادتين أقل من ستة أشهر عتقا جميعاً؛ لأن المدة المتخللة إذا كانت أقل من ستة أشهر كانا توأمين، والتوأمان يكونان من بطن واحد، فتيقنا بوجودهما وقت الإعتاق.
إذا قال الرجل لأمته: إن كنت حبلى فأنت حرة، فولدت لأقل من ستة أشهر من هذه المقالة، فالجارية حرة وولدها حرٌّ، فإن ولدت لستة أشهر فصاعداً من وقت هذه المقالة لا تعتق الجارية؛ لأن تقدير يمينه إذا كنت حبلى للحال؛ لأن قوله: إن كنت حبلى تستعمل للحال، فصار معتقاً حبلاً موجوداً، وإنما يعرف وجود الحبل في الحال بالولادة لأقل من ستة أشهر، فإن ضرب ضارب بطن هذه الجارية بعد هذه المقالة لأقل من ستة أشهر فألقت جنيناً ميتاً فعلى الضارب أرش جنين حر، وإن كان الضرب بعد هذه المقالة لأكثر من ستة أشهر فعلى الضارب أرش جنين قن، ولو وقع حياً ثم مات كان فيه الدية كاملة؛ لأنه صار قاتلاً له بعد الولادة بالضرب السابق.
وإذا قال الرجل لأمته: إن كان أول ولد تلدين غلاماً ثم جارية فأنتِ حرة، فإن كانت جارية ثم غلاماً فالغلام حر، فولدت جارية وغلاماً في بطن واحد لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم، وسعت في نصف قيمتها ؛ لأنها تعتق في حال وترق في حال، وعَتَقَ نصف الغلام أيضاً وسعى في نصف قيمته لهذا المعنى، والجارية رقيقة؛ لأنا تيقنا برقها ليس لها حال عتق.
وإذا قال لها: أول ولد تلدينه فهو حر، فجاءت بولد وقالت: ولدت هذا، وأنكر المولى ذلك؛ القياس: أن لا يصدق، وفي الاستحسان: يصدق، وبالقياس نأخذ وهذا هو القياس.
(4/384)
-----
والاستحسان الذي ذكر في كتاب الطلاق فيما إذا قال لامرأته: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ولم يكن الحبل ظاهراً، ولا أقر الزوج بالحبل فقالت: ولدت، القياس: أن لا تصدق. وفي الاستحسان تصدق وبالقياس نأخذ، فإن جاءت بامرأة فشهدت على الولادة فإن الولادة عند أبي حنيفة لا تثبت، حتى يقع الطلاق والعتاق.
ولو كان الزوج مقراً بالحبل وقال لها: إذا ولدت فأنتِ حرة فقالت: ولدت، وأنكر المولى فإنها تصدق وتثبت الولادة بمجرد قولها، وتعتق عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما لا يعتق ما لم تشهد لها القابلة، والخلاف في هذا نظير الخلاف في الطلاق.
وإذا قال الرجل لأمتين له: ما في بطن أحدكما حر، فله أن يوقع العتق على أيهما شاء كما بعد الانفصال. إذا قال: أحدكما حر، فإن ضرب بطن أحدهما رجل فألقت جنيناً ميتاً؛ لأن الأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق فهو رقيق، ويتعين الآخر للعتق كما بعد الانفصال. إذا قال أحدكما حر ثم جاء إنسان وقتل أحدهما، فإنه يتعين الآخر للعتق كذا ها هنا. ولو ضرب رجلان كل واحد منهما بطن أحدهما، وألقت كل واحدة جنيناً ميتاً؛ لأن من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق (330م1) كان في كل واحد منها مثل ما في جنين الأمة كما بعد الانفصال. والحاصل: أن الجنين في حق قبول الإعتاق والمنفصل سواء.
وإذا قال الرجل لأمته: وهي حامل قد أعتقت ما في بطنك على ألف درهم فقالت: قد قبلت ذلك، ثم وضعت غلاماً لأقل من ستة أشهر فإن الغلام يعتق؛ لأنه علق عتق ولد موجود في البطن بقبولها الألف، فيعتبر بما لو علق عتقه بشرط آخر، وهناك إذا وجد الشرط يقع العتق كذا ها هنا، وإن عتق الجنين لا يجب المال على الجنين، ولا على الجارية لا يجب على الجنين؛ لأن الأب لا يلي هذا العقد على الجنين مع أنه يلي عليه بعد الانفصال فلأن لا تلي الأم عليه هذا العقد وهي لا تلي عليه بعد الانفصال أولى. ولا يجب على الجارية؛ لأن العتق ما لا يجب على غير المعتق بحال.(4/385)
-----
وإذا قال لأمته: ما في بطنك حرّ متى أدى إليّ ألفاً أو إذا أدى إليّ ألفاً، فوضعت لأقل من ستة أشهر فهو حر متى أدى إليه ألف درهم، وهذا لما ذكرنا أن الجنين في حق قبول الإعتاق والمنفصل سواء. ولو قال له بعد الانفصال: متى أديت إليّ ألفاً إذا أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فأدى إليه ألف درهم في أي وقت ما أدى يعتق كذا ها هنا.
وإذا كانت الأمة بين رجلين، فأعتق أحدهما ما في بطنها وهو غني فولدت بعد ذلك غلاماً ميتاً بيوم، فلا ضمان على المعتق إما لأنه وقع الشك في إيجاب الضمان لوقوع الشك في حياته، أو لأن العتق لا يصح إلا في الحي ولا تظهر الحياة في حقها إلا بالولادة، فصار العتق المضاف إلى ما بعد الولادة كأنه قال: الولد الذي تلدينه حر.
ولو قال: هكذا وولدت ولداً ميتاً لا يعتق كذا ها هنا. فإن ضرب رجل بطنها فألقت جنيناً ميتاً فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يضمن الضارب ما يضمن في جنين الأمة، وعلى قولهما: يضمن في جنين الحرة، وهذا لأنا حكمنا بحياة جنين أوجبنا الضمان حكمنا بصحة الإعتاق، إلا أن الإعتاق عندها لا يتجزىء فعتق كله فصار الضارب متلفاً جنيناً حراً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الإعتاق متجزىء فاقتضى الإعتاق على نصيب المعتق، وصار في معنى المكاتب، فكان الضارب متلفاً جنيناً مكاتباً، فيضمن عشر قيمته مكاتباً إن كان ذكراً، أو نصف عشر قيمته مكاتباً إن كان أنثى، والله أعلم.(4/386)
الفصل السابع في الحضومات أربعة في الرق والحرية والشهادة على ذلك
-----
ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصلح: رجل ادعى أمة، وقال: هذه أمتي وقالت الأمة: لا بل أنا حرة، فصالحها المدعي من ذلك على مائة تدفعها إلى المدعي فهو جائر، فإن أقامت بعد ذلك بينة أنها حرة الأصل، أو أنها كانت لهذا المدعي أعتقها عام أول تريد الرجوع بالمائة على المدعي قبلت بيّنتها وبطل الصلح، وإن أقامت بينة أنها كانت لفلان عام أول أعتقها في ذلك الوقت لا تقبل بينتها، ولو كان مكان الأمة عبداً وأقام بينة على حرية الأصل أو على أن المصالح أعتقه عام أول، وهو يملكه، إن كان الصلح من العبد مع إرادة الرق للمدعي قبلت بينته ورجع بالمئة على المولى؛ لأنه غير متناقص فيما ادعى.
وإن كان الصلح مع إقرار العبد بالرق على نفسه فكذلك الجواب عندهما تقبل بينة العبد على ذلك؛ لأن العبد وإن صار متناقصاً وبطل دعواه لمكان التناقص إلا أن البينة على عتق العبد عندهما مقبولة بدون الدعوى، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا تقبل بينة العبد على ذلك؛ لأن عند الدعوى من العبد شرط قبول بينته على عتقه، وقد بطل الدعوى ها هنا لمكان التناقض. وفي الأمة تقبل البينة على كل حال عند الكل، وإن بطل دعواها في فصل الإقرار لمكان التناقص، إلا أن دعواها ليست بشرط لقبول البينة على عتقها، هذا من جملة ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب الصلح، ثم إنه رحمه الله سوّى في هذه المسألة بين (العتق) الأصلي، وبين العتق العارضي عند أبي حنيفة رحمه الله، وجعل دعوى العبد فيما شرطا لقبول البينة، وجعل التناقص مانعاً صحة الدعوى، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله.
بعضهم قالوا: دعوى العبد في حرية الأصل ليس بشرط لقبول الشهادة عليها، والتناقص فيها ليس بمانع صحة الدعوى، وقبول الشهادة عليها كما هو قولها، وإنما الخلاف في العتق العارضي.(4/387)
-----
وبعضهم قالوا: دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله شرط في العتق الأصلي والعارضي جميعاً، إلا أن التناقص لا يمنع صحة دعوى العتق الأصلي، فلا يمنع قبول الشهادة ويمنع صحة دعوى العتق العارضي، فيمنع قبول الشهادة.
وبعضهم قالوا: دعوى العبد شرط في العتق الأصلي والعارضي جميعاً، والتناقص فيها مانع صحة الدعوى وقبول الشهادة، وإليه ذهب شيخ الإسلام في شرح كتاب «الصلح» على ما ذكرنا.
والأصح: أن دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله شرطهما، والتناقض لا يمنع صحة الدعوى فيهما؛ لأن طريقهما طريق الخفاء والتناقص فيما طريقه طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى، إلا أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدتها، ثم أقامت بعد ذلك بينة أن الزوج قد كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع قبلت بينتها، وإن صارت متناقضة في دعوى الطلقات الثلاث بالإقدام على الخلع، إنما كان كذلك؛ لأن الزوج ينفرد بإيقاع الطلاق الثلاث، ولا يتوقف ذلك على علم المرأة فكان طريقه طريق الخفاء، فجعل التناقض فيه عفواً، أو نقول: التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل البعض بعد ثبوته، والعتق الأصلي والعارضي لا يحتمل البعض بعد ثبوته. ألا ترى أن التناقض في باب النسب لا يمنع صحة الدعوى وأن الملاعن إذا كذب نفسه ثبت النسب منه، فطريقه ما قلنا.
أمة بين رجلين شهد رجلان على أحدهما بعينه أنه أعتقها، وكذبته الأمة وادعت على الآخر الإعتاق وجحد الآخر، وحلف عند القاضي أنه ما أعتقها، فإنها تعتق بشهادة الشهود وإن لم يوجد منها الدعوى لما شهد به الشهود، فقد عرف أن الشهادة القائمة على عتق الأمة تقبل بدون الدعوى. ألا ترى أن الأمة إذا كانت كلها للمشهود عليه كانت تعتق بالشهادة بدون الدعوى.(4/388)
-----
فإن قيل: الأمة إذا كانت كلها للمشهود عليه إنما تقبل الشهادة بدون الدعوى؛ لأنها توجب حرمة الفرج، وهذه الشهادة لا توجب حرمة الفرج. قيل: الشهادة ثابته ههنا، قلنا: لا بل هذه الشهادة توجب حرمة الفرج؛ لأن قبل هذه الشهادة لم يكن فرجها حراماً على المعتق حرمة توجب الحد لو وطئها، وبعد هذه الشهادة حرم فرجها عليه حرمة توجب الحد لو وطئها، فكانت هذه الشهادة قائمة على تحريم الفرج من هذا الوجه.
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في رجل قال: كل مملوك أمكله أو اشتريته إلى سنة فهو حر، وحاجّه عبد له في ملكه يعني في ملك يوم اليمين أقام البينة على هذه اليمين (332ب1) وقضى القاضي ثم اشترى الحالف عبداً في تلك البينة فخاصمه العبد المشتري إلى القاضي، فالقاضي يأمره بإعادة البينة، وهذا بلا خلاف، والمعنى ما أشار إليه ثمة أن البينة ما كانت للأول على قول: كل عبد أملكه. ولم أقبل البينة على غير ذلك.
ولو خاصمه عبد آخر كان في ملكه وقت اليمين فالقاضي لا يقضي بعتقه عند أبي حنيفة حتى (يقيم) العبد البينة، وعلى قول محمد يقضي بعتقه ولا يكلف إعادة البينة. وعلى هذا إذا قال: كل مملوك لي حر، وخاصمه عبد له في ملك ذلك، وأقام البينة على اليمين فقضى القاضي بعتقه، ثم خاصمه عبد آخر له فالقاضي هل يكلف إعادة الشهود؟ فهو على هذا الخلاف.
وكذا لو قال كل عبد أملكه إلى سنة فهو حر فاشترى عبداً في السنة، وخاصمه العبد عند القاضي، وأقام عليه بينة بهذه اليمين وقضى القاضي بعتقه، ثم اشترى عبداً آخر وخاصمه إلى القاضي فالقاضي يعتقه، ولا يكلفه إعادة البينة عند محمّد رحمه الله، علل فقال: لأني قضيت على الحالف بتلك اليمين فالبينة لهما، أشار إلى أن اليمين واحدة لفظاً، وقد ثنتت بينته الأولى، فيظهر ذلك في حق الثاني فلا حاجة له إلى إعادة البينة. وعلى قول أبي يوسف يكلف الثاني إعادة البينة، هذه الجملة مذكورة في عتاق «المنتقى»(4/389)
-----
وذكر في أقضية «المنتقى» :ابن سماعة عن أبي يوسف رجل شهد عليه شاهدان أنه قال كل عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبداً وخاصمه في العتق إلى القاضي وأعتقه القاضي بشهادتهما، ثم اشترى عبداً آخر، وخاصمه في العتق، فإن أبا حنيفة قال لا أعتقه حتى بعد البينة، وقال أبو يوسف أعتقه، ولا أعيد البينة، ذكر قول أبي يوسف في الأقضية بخلاف ما ذكر في العتاق، وذكر قول أبي حنيفة في الأقضية ولم يذكر في العتاق، وذكر قول محمّد رحمه الله في العتاق ولم يذكر في الأقضية.
وذكر في كتاب الأقضية في «المنتقى» مسألة أخرى من هذا الجنس وصورتها: إذا قال الرجل: إن دخل هذه الدار فكل مملوك أشتريه إلى سنة فهو حر، فدخل الدار ثم اشترى عبداً فأقام البينة بيمينه ودخوله وشرائه، وهو يجحده، قضى القاضي عليه بالعتق، ثم اشترى عبداً فأقام البينة بيمينه ودخوله وشرائه، وهو يجحده، قضى القاضي عليه بالعتق، ثم اشترى عبداً آخر وخاصمه العبد الآخر في العتق، معنى قول أبي حنيفة رحمه الله القاضي لا يقضي بعتقه حتى يعود الشهود فيشهدون للثاني بمثل ما شهدوا للأول، وقال أبو يوسف: أعتقه بالشهادة الأولى.
وفي عتاق «المنتقى» قال محمّد رحمه الله: لو قال المولى سالم ويرجع وميمون أحرار، فأقام أحدهم البينة على مقالته، ثم جاء الآخران لم يكلفا إعادة البينة؛ لأنه عتاق واحد. ولو قال: سالم حر ويرجع وميمون حر وأقام أحدهم البينة على ذلك، ثم جاء الآخران كلفا إعادة البينة؛ لأنه عتاق مختلف.
وفيه أيضاً إبراهيم عن محمّد رحمه الله في عبد أقر أنه عبد هذا، ثم قال هذا العبد للقاضي: استحلفه ما أعتقني، فالقاضي يستحلفه. ولو قال: استحلفه ما يعلم أني حق الأجل فالقاضي لا يستحلفه؛ لأنه أقر أنه عبده.(4/390)
-----
رجل في يديه صبي صغير لم يستمع منه أنه عبده يعني لم يستمع من صاحب اليد أنة عبده، ولم يستمع من الصبي أيضاً أنه عبده حتى كبر، فقال: أنا حر فالقول قوله، قال هشام سألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل قال لرجل: أنا مولى أبيك أعتقني، وجحد ذلك الرجل أن يكون له أباً أعتقه، قال: هو مملوك، وإن قال: أنا مولى أبيك ولم يقل أعتقني قال هو حر؛ لأنه قد يكون مولاه من قبل جده، وإن قال أنا مولى أبيك أعتق أبوك أبي وأمي فهو حر.
قال هشام: سمعت محمّداً يقول في رجل أعتق جارية له وهي تسمع، ثم جحدها وقضى القاضي عليها بالرق بعدما حلف الرجل، قال أتتزوج منه؟ قلنا: يسعها أن تتزوج قال: قلت، فإن مات أبوها عرفاً........ فلا.
سمع قوم من رجل أنه قال لعبده: هذا حر لوجه الله، ثم رأه معه بعد ذلك يقول: هو عبدي، فشهد أولئك القوم عليه أنه أعتقه أمس، فقال المشهود عليه أعتقه أمس، وأنا لا أملكه وإنما اشتريته اليوم، فالشهود يقولون: إنه أعتقه أمس، ولكن لا ندري أكان له أم لا، فالقاضي لا يقضي بعتق العبد حتى يشهدوا عليه أنه أعتقه وهو يملكه، قال: وكذلك الطلاق.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل أعتق أمة ثم اختصما عند القاضي وفي حجرها ولد وفي يدها كسب اكتسبته فقال المولى: أعتقتك بعد الولادة والكسب، وقالت المرأة: لا بل أعتقتني قبل الولادة والكسب فالقول قول المرأة. ولو قال: الكسب في يد المولى فالقول قول المولى، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
(4/391)
-----
وفي دعوى «الجامع»: ادعى رجل على رجل أنه عبده وجحد المدعى عليه، وقال: أنا حر الأصل لم أُمْلَكْ قط فالقول قوله وهذا معروف، فإن أقام المدعي بينة أن نصف العبد له قضى القاضي بنصف العبد له والنصف الآخر يكون موقوفاً لا يقضى فيه برق ولا حرية، لا..... يقضي بالرق؛ لأنه لا بد للقضاء من المقضي له ولا مقضي له ها هنا، وأما لا يقضي بالحرية إما بحرية الأصل؛ لأن القاضي لما قضى بالرق في النصف للمدعي فقد أبطل حرية الأصل في النصف الباقي؛ لأن الشخص لا يجوز أن يكون نصفه رقيقاً ونصفه حر الأصل، وإما بالحرية العارضة فلأن العارضة تبنى على الرق والملك، وتعذر القضاء بالرق، فالملك في النصف الباقي؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي عليه معلوم، فلم يوجد، فإن جنى العبد جناية بأن قتل رجلاً خطأ قيل لولي القتيل: أعبد هو أم حر.
فإن قال: هو عبد قيل للمقضي له بنصفه ادفع هذا النصف وأمره بنصف الدية، ويوقف النصف الباقي فلا يقضى فيه بشيء؛ لأنه لا يدري أنه رقيق أو حر. وإن قال: هو حر لا يقضي بشيء لا على المقضي له بنصفه ولا على العبد. أما على المقضي له؛ لأنه لما قال: هو حر فقد أبرأ المقضي له، وأما على العبد فلأن الحرية لا تثبت بمجرد قوله، وفي القتيل بعدما قضى القاضي..... يأتي بالبينة، فإن أقام ولي القتيل بينة على الحرية كانت (بينة) الحرية أولى من بينة الرق، وينقضي بها الحكم للأول ولو. ولم يجن هذا الشخص ولكن جنى عليه فيما دون النفس يقضى على الجاني بأرش العبد، وهو في شهادته وحدوده وجميع أموره بمنزلة الرق؛ لأنه جرى الحكم برقه من النصف، والنصف الآخر حاله موقوف أنه رقيق أو حر فلا يمكن إيجاب شيء من أحكام الحرية من كل وجه.(4/392)
-----
وإذا شهد الشهود أنه أعتق عبده سالماً، ولا يعرفون سالماً وله عبد اسمه سالم، ولا عبد له غيره فإنه تقبل هذه الشهادة وقضي بعتقه؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً، ولو عَايَنَا أنه أعتق عبده سالماً ولا يعرف له عبد بهذا الاسم إلا هذا قُضي بعتقه، كذا ها هنا، ثم إن كان سالم يدعي العتق فالمسألة على الوفاق، فإن كان لا يدعي فالمسألة على الخلاف.
وإن كان له عبدان اسم كل واحد منهما سالم، فهذا وما لو شهدا أنه أعتق أحد عبديه سواء هي المسألة التي تلي هذه المسألة، ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه فهذا على وجهين: إما إن شهدا أنه أعتق في حال حياة المولى بذلك والمولى يجحد، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وعندهما تقبل ويقال للمولى من (أردت)، وهذا بناءً على ما قلنا أن عند أبي حنيفة رحمه الله دعوى العتق من العبد بشرط، والدعوى من المجهول لا تتحقق.6
فإن قيل: كيف يجعل هذه المسألة بناءً على ذلك، فقد ذكر محمّد رحمه الله أنهما لو شهدا عليه أنه أعتق إحدى أمتيه لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله (337أ1) ودعوى الأمة ليس بشرط بلا خلاف، قلنا: دعوى الأمة إنما لا تشترط عنده إذا قامت البينة على عتق أمةٍ بعينها؛ لأن المحلية في عتق أمة بعينها حق الله تعالى لما فيه من تحريم الفرج، فأما إذا قامت البينة على عتق إحدى الأمتين فليس فيه تحريم الفرج على قوله، فقد عرف من أصله أن العتق المبهم لا يحرم وطأها بل يحل له وطأها، وبعد ما وطىء إحداهما يكون له حق البيان في الموطوءة، وإذا لم يوجد هذا العتق تحريم الفرج لم تكن الشهادة قائمة على أن المحلية فيه حق الله تعالى فكانت بمنزلة ما لو قامت على عتق أحد العبدين.(4/393)
-----
وإن شهدا بعد وفاة المولى أنه أعتق أحد عبديه في حال صحته فهو على وجهين: أما إن شهدا أنه أعتق أحد عبديه في حال صحته، وفي هذا الوجه لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، فإن شهدا أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته فالقياس: أن لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان: تقبل. ذكر القياس والاستحسان فيما إذا كانت الشهادة على إعتاق أحدهما في مرض موت المولى، ولم يذكر القياس والاستحسان فيما إذا كانت الشهادة في حال صحة المولى.
ولو شهدا بعد موت المولى أنه دبر أحد عبديه في حال الصحة، أو قالا: في حالة المرض تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله قياساً واستحساناً، وجه القياس في فصل المرض: أن هذه الشهادة قامت على عتق أحد العبدين حالة الحياة، فلا تقبل قياساً على ما إذا شهد أنه أعتق (أحد) عبديه في حالة الصحة.
وجه الاستحسان: أن المانع من قبول الشهادة على عتق أحد العبدين في حال حياة المولى خلوها عن الدعوى، وقد جدت الدعوى بعد الموت، إلا أن المشايخ اختلفوا في أن المدعي بعد موت الوصي أو العبدان فمنهم من قال: المدعي هو الوصي، وأنه عين والدعوى من المعين صحيحة، ومنهم من قال: المدعي هو العبدان وأنهما معينان وهو الصحيح وعليه عامة المشايخ، وإنما صحت دعوى العبدين بعد موت المولى إذا كان الإعتاق في حالة المرض؛ لأن الإعتاق في المرض وصية حكماً إن لم تكن وصية حقيقة، ولهذا يعتبر من الثلث، والثالث حكماً معتبر بالثالث حقيقة، ولو كانت الوصية بالعتق ثابتة حقيقة فالدعوى منهما صحيحة، وإنما يوجب الحق لأحدهما؛ لأن إيجاب الحق لأحدهما بعد الموت إيجاب فيهما معنى؛ لأنه أوجب الحق لأحدهما في حال لا يتصور ثبوته لأحدهما؛ لأنه إنما يثبت لأحدهما إذا حصل في وقت كان للمولى حق البيان، ولا يتصور للمولى حق البيان بعد الموت؛ فكان إيجاب الحق لأحدهما إيجاباً لهما، ولو أوجب لهما صحت دعواهما كذا ها هنا.(4/394)
-----
وهذا الخلاف ما لو شهدا على إعتاق أحد العبدين في حالة الصحة، فإن هناك لم توجد الدعوى؛ لأن دعوى العبدين في تلك الصورة غير صحيحة، وإن كان العتق الواقع في حالة الصحة يشيع فيهما بعد موت المولى فيثبت الحق لهما، إنما كان كذلك؛ لأن الحق لم يثبت للعبدين في هذه الصورة من المولى، لا نصاً ولا من حيث المعنى؛ لأنه أوجب الحق في وقت يتصور موته لأحدهما فلا يكون إيجاباً لهما، وإنما يشيع فيهما بعد الموت ضرورة تنفيذ العتق، فيظهر ثبوت الحق لهما في حق تنفيذ العتق لا في حق صحة الدعوى؛ لأن تنفيذ الواقع لا يخلو عن الدعوى في الجملة بأن لم يقع ثمة لحاجة، وإذا لم يظهر ثبوت الحق لهما في حق صحة الدعوى كان الحق في حق الدعوى ثابتاً لأحدهما والدعوى من أحدهما لا تتصور.
وإذا شهدا على رجل أنه أعتق عبده هذا واختلفا في الزمان بأن شهد أحدهما أنه أعتقه في يوم الخميس، وشهد الآخر أنه أعتقه يوم الجمعة واختلفا في المكان، قبل القاضي شهادتهما؛ لأن العتق تصرف قولي، والقول مما يعاد ويكرر فيكون الثاني غير الأول فقد اتفقا على عتق واحد.
وكذلك إذا شهد أحدهما..... العتق والآخر على إقرار المولى بالإعتاق بأن شهد أحدهما أن المولى (قال له:) له أعتقتك، وشهد الآخر أن المولى قال: قد كنت أعتقته لأنهما اتفقا على قوله: أعتقت إلا أن أحدهما تفرد بالزيادة، غير أن التفرد بالزيادة إذا كان لا يغير الحكم لا يمنع القبول.(4/395)
-----
وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أعتقه وشهد الآخر أنه حرره أو شهد أحدهما أنه قال له: أنت حر وشهد الآخر أنه قال له: أعتقتك؛ لأنهما اتفقا معنى؛ لأن معنى العتق والحرية واحد، إلا أنهما اختلفا لفظاً والاختلاف لفظاً مع الاتفاق معنى لا يمنع قبول الشهادة فيما يثبت مع الشبهات، كما لو شهد أحدهما بالنكاح وشهد الآخر بالتزويج، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أعتقه بالفارسية وشهد الآخر أنه أعتقه (بالفارسية) تقبل شهادتهم؛ لأنهما اتفقا معنى، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه».
وذكر في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا شهد شاهد أنه قال لعبده: أنت حر وشهد آخر أنه قال له: توزاداي تقبل قال: لأنه ليس وجه عتق وذكر فصل الطلاق ثمة للقضاء، وقال: إذا اختلف شاهدا الطلاق وشهد أحدهما بالنبطية أو بالفارسية أو بلسان آخر، وشهد الآخر أنه طلقها بالعربية لم تجز شهادتها، ولو كان هذا في الإحراز بمال آخر به قال: وليس الطلاق كذلك؛ لأني أنويه في الطلاق في وجوه كثيرة. وفي «الأصل»: وإذا اختلفا في الشرط الذي علق به العتق بأن شهد أحدهما أنه قال له: إن دخلت الدار فأنت حر وشهد الآخر أنه قال له: إن كلمت فلاناً فأنت حر وأشباه ذلك لم تجز الشهادة؛ لأنهما شهدا بيمينين مختلفين؛ لأن الثاني لا يصلح تكرارً للأول، فهما مختلفان وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد، بخلاف ما لو شهدا بعتق منجز في يومين؛ لأن هناك يمكن أن يجعل الثاني تكراراً للأول فيجعل اتفاقهما على شيء واحد.
وفي «المنتقى»: إذا قال الرجل لعبده: إن كلمت فلاناً فأنت حر فشهد عليه شاهد أنه كلمه اليوم، وشهد الآخر أنه كلمه أمس لا تقبل الشهادة، وذكر ثمة أيضاً أنه إذا قال لامرأته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فشهد عليه شاهد أنه كلمه غدوة والآخر عشية أنه تقبل الشهادة.(4/396)
-----
وعن إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: إذا شهد رجل على رجل أنه أعتق أمته هذه وتزوجها وشاهد آخر على إقراره أنه أعتقه وتزوجها قال: تعتق ولا يثبت النكاح.
وفي «الأصل»: إذا شهد شاهدان على رجل أنه قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، وقال المولى: إنما قلت له إن كلمت فلاناً فأنت حر فأيهما ما فعل فهو حر، وقد ثبت اليمينان إحداهما بالشهادة، والأخرى بالإقرار. ولو شهد أحدهما أنه أعتقه (على) جعل وشهد الآخر أنه أعتقه بغير جعل لا تقبل الشهادة؛ لأن أحدهما شهد بعتق معلق بالقبول والآخر شهد بعتق منجز، وهما متاغيران فلا يمكن أن يجعل الثاني تكرار الأول.
ولو اتفقا على العتق بجعل واختلفا في مقدار الجعل بأن شهد أحدهما أنه أعتقه بألف، وشهد الآخر أنه أعتقه بألف وخمسمائة فهذه المسألة على وجهين: أما إن كان العبد يدعي العتق والمولى يجحد، وفي هذا الوجه لا تقبل شهادتهما سواء كان العبد يدعي العتق بأقل المالين أو بأكثر المالين..... حاجة العبد إلى إثبات العتق إذا كان المولى منكراً له والعتق بألف غير العتق بألف وخمسمائة، وأما إن كان المولى يدعي العتق والعبد (331ب1) ينكر، وفي هذا الوجه: إن كان المولى يدعي العتق بألف وخمسمائة تقبل الشهادة على الألف، وإن كان يدعيه (بألف) لا تقبل الشهادة أصلاً؛ لأن العتق ثبت بإقرار المولى لا حاجة لإثباته بالشهادة وإنما الحاجة إلى إثبات المال فكأن الدعوى وقعت في مطلق المال وشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة وهو يدعي الألف والخمسمائة، وهناك تقبل الشهادة على الألف ولو كان يدعي الألف لا تقبل الشهادة أصلاً.(4/397)
-----
وإذا ادعى العبد أن المولى أعتقه بألف وأقام عليه شاهدين، وادعى المولى أنه أعتقه بألفين وأقام عليه شاهدين فالبينة بينة المولى؛ لأن العمل بالبينتين متعذر لتعذر إثبات العتق بالمالين؛ لأن المولى متى أعتقه على ألف وقبل لا يمكنه أن يعتقه على ألفين بعد ذلك فلا بد من العمل بإحدى البينتين فكان العمل ببينة المولى أولى؛ لأن بينة المولى تثبت لزيادة وتثبت الحق لصاحبها، والعبد بينته تثبت الحق لغيره فكان المولى أشبه بالمدعيتين.
وهذا، بخلاف ما إذا أقام العبد بينة أن المولى قال له: إذا أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فأقام المولى بينة أنه قال له: إن أديت إلىّ ألفين فأنت حر، فإذا (أدى) العبد إليه ألف درهم فإنه يعتق ولا شيء عليه؛ لأن هناك العمل بالبينتين في إثبات اليمينين ممكن لجواب أن المولى قال له: إن أديت إليّ ألفين فأنت حر فقبل، ثم قال له: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فقبل وهناك لو أدى إليه ألف درهم عتق ولا شيء عليه كذا ها هنا.
ولو شهد شاهدان أنه باع نفس العبد منه بألف درهم، وشهد آخران أنه باع نفس العبد منه بألفي درهم، هذا وما (إذا) شهدا أنه أعتقه على ألف وعلى ألفين سواء فإذا شهد أنه أعتق عبداً قد سماه لنا إلا أنا نسيناه والمولى يجحد ذلك لا تقبل شهادتهما.
وكذلك إذا شهدا على رجلين أن أحدهما أعتق عبده، ولا ندري أيهما كان لا تقبل شهادتهما لمكان العقل والنسيان.
وإذا شهد أحدهما أنه أعتق عبده هذا، وشهد الآخر أنه وهب نفسه منه فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما اختلفا لفظاً ومعنى؛ لأن العتق موضوع للإسقاط ليس فيه معنى التمليك، والهبة تمليك وليس فيها معنى الإسقاط بوجه.(4/398)
-----
ولو شهدا جميعاً أنه وهب نفس العبد منه وجب القضاء بالعتق؛ لأنهما اتفقا على لفظة الهبة فتثبت لفظة الهبة بشهادتهما، وصار كالثابت عياناً. ولو عاينا أنه وهب نفس العبد من العبد فإن العبد يعتق، فكذا إذا ثبت ذلك بالبينة. وإن قال المولى: لم أنوِ العتق لا يصدق قضاءً ويصدق فيها بينه وبين ربه.
ولو شهدا أنه أوصى بنفس العبد للعبد وجب القضاء بالعتق؛ لأن الوصية عقد تمليك كالهبة، فإنهما شهدا أنه وهب نفس العبد منه إلا أنه كان قال أضيف لك بنفسك للحال، فإنه يعتق للحال وإن أطلق الوصية إطلاقاً يعتق بعد الموت على قياس ما روي عن محمّد رحمه الله في النكاح.
إذا قال الرجل لغيره: أوصيت لك ببضع ابنتي للحال ثبت النكاح للحال، فإذا أطلق ينصرف إلى ما بعد الموت فلا يصح النكاح فكذا ها هنا.
وإذا قال الرجل لعبدين له: أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر، فأكلاه جميعاً لا يعتق واحد منهما. أطلق محمّد رحمه الله المسألة في «الأصل» إطلاقاً. من مشايخنا من قال: هذا إذا كان الرغيف بحال يمكن ذلك لواحد منهما أكل جميعه، أما إذا كان بحال لا يمكن لواحد منهما أكل جميعه ينبغي أن يعتقان، ومنهم من قال: لا يعتقان على كل حال وهو الأصح. وإطلاق محمّد رحمه الله في «الأصل» يدل عليه، والرغيف في هذا يخالف مسألة الخشبة إذا علق العتق بحملها وقد بينا ذلك في الفصل الثالث من هذا الكتاب. فإن أقام أحد العبدين بينة أنه أكل الرغيف وحده وقضى القاضي بعتقه ثم أقام الآخر بعد ذلك بينة أنه هو الذي أكل الرغيف وحده فالقاضي لا يقضي بعتقه ولا ينقض قضاءه الأول. فرق بين هذا وبينما إذا جاء الغلامان معاً، وأقام كل واحد منهما البينة أنه أكل الرغيف كله فالقاضي لا يقضي لكل واحد منهما.
(4/399)
-----
والفرق: أن إحدى البينتين كاذبة بيقين وكل واحدة يجوز أن تكون هي الكاذبة، وعلى هذا التقدير لا يجوز القضاء بها، فإذا جاءا معاً وكل واحدة يجوز أن تكون هي الكاذبة فقد وقع الشك في جواب القضاء بكل واحدة منهما ولا يجوز القضاء بالشك، فأما إذا أقام أحدهما بينة أولاً نفذ بعد القضاء ظاهراً وليس هناك ظاهر يمنع نفاذ القضاء وهو قيام دليل الكذب في البينة الأولى، فإذا أقام الآخر بعد ذلك البينة فقد وقع الشك في نقض القضاء، إن كانت الكاذبة هي الأولى ينقض القضاء للأول، وإن كانت الكاذبة هي الثانية لا ينقض القضاء للأول، والقضاء لا ينقض بالشك كما لا ينقض بالشك.
فرع على ما إذا جاء الغلامان معاً وأقام كل واحد منهما بينة أنه هو الذي أكل الرغيف فقال: إذا لم يقبل القاضي بينة الغلامين وردهما فأتت بينة أحدهما، ثم أعاد الغلام الآخر بينة على القاضي على ما شهدت له به أولاً فإن القاضي لا يقبل شهادتهم؛ لأنه رد شهادتهم مرة لتهمة الكذب، ولو لم تمت واحدة من البنتين حتى مات أحد الغلامين..... بشهادين آخرين يشهدان له بما شهدت به الشهود الأول، وجاء الغلام بالشهود الذين شهدوا أول مرة حتى يشهدوا له بمثل ما شهدوا له به أول مرة فإن القاضي يقضي للغلام الذي جاء بشاهدين آخرين. بخلاف ما إذا جاء الغلام الآخر بشاهدين آخرين فإن القاضي لا يقضي لواحد منها والفرق: أنه إذا أقام كل واحد منهما بينة أخرى فليست إحدهما أن تجعل كاذبة بأولى من الأخرى فيتهاتران جميعاً لمكان التعارض، أما ها هنا البينة ردها القاضي لتهمة الكذب بقيت كاذبة بقضاء القاضي، ولم تبق معارضة للأخرى فيمت القضاء بالأخرى.(4/400)
-----
وإذا كان العبد مشتركاً بين رجلين، فشهد أحدهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه لا تقبل شهادته موسراً كان المشهود عليه أو معسراً، إن كان موسراً فلأنه يثبت لنفسه بهذه الشهادة حق تضمين صاحبه، ولأنه شهد بعبده فإنه يملك بعضه، وإن كان معسراً فللمعتق الثاني، وإذا لم يقبل شهادته بقي معسراً أن صاحبه أعتق نصيبه. وأحد الشريكين إذا أقر على صاحبه أنه أعتق نصيبه وصاحبه يجحد فالعبد لا يترك رقيقاً بل يعتق ويسعى في جميع قيمته بينهما نصفان عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كانا موسرين أو كانا معسرين أو كان أحدهما موسراً والآخر معسراً، وعندهما يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته إن كان المشهود عليه معسراً، ولا يسعى له في شيء إن كان المشهود عليه موسراً.
فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله، فقال: إذا وجبت السعاية لهما لو شهد أحدهما على صاحبه أنه استوفى السعاية من العبد لا تقبل شهادته؛ لأنه يشهد لنفسه لأنه يثبت لنفسه حق المشاركة مع صاحبه فيما استوفاه من السعاية، لأن ما من حر يستوفيه أحدهما من هذه السعاية إلا وللآخر حق المشاركة معه.
وكذلك إذا استوفى أحدهما نصيبه من السعاية، ثم شهد على صاحبه باستيفاء نصيبه لا تقبل لأنه يشهد لنفسه، فالمقبوض يسليم له إذا قبض صاحبه نصيبه بعد ذلك.(4/401)
-----
وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر، شهد اثنان منهم على صاحبه أنه أعتق نصيبه، وأنكر المشهود عليه فالعبد يسعى بينهم أثلاثاً، وإذا استوفى أحدهم شيئاً من السعاية، كان (332أ1) للآخرين أن يأخذا منه ثلثي ما أخذ، وإذا شهد اثنان منهم على الآخر أنه يستوفي نصيبه من السعاية لا يقبل. والجواب في هذه المسألة والجواب في المسألة الأولى سواء إلا أن هناك الاختيار.....؛ لأن الشريك اثنان وها هنا الحساب بالمثالثة، لأن الشريك ثلاثه. وإذا كان العبد بين ثلاثة غاب أحدهم فشهد الحاضران على الغائب أنه أعتق نصيبه من هذا العبد فإنه يحال بين العبد وبين الحاضرين؛ فإذا حضر الغائب فقال للعبد: أعد البينة فأعاد البينة عليه فقضى عليه يعتق نصيبه وهو قول أبي حنيفة، وعلى قولهما القاضي يقبل هذه الشهادة في الحال ويقضي بعتقه، وإذا حضر الغائب لا يؤمر العبد إعادة البينة عليه.
والحاصل: أن هذه الشهادة على العتق مقبولة على الغائب عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، وعند أبي حنيفة رحمه الله هذه الشهادة لا تقبل على العتق على الغائب، أما تقبل في حق قصر الحاضرين وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة رحمه الله الإعتاق يتجزىء، فإنهما شهدا بعتق نصيب الغائب لا غير، فالشهادة على العتق قامت على غائب ليس عنه خصم حاضر فلا تقبل، فأما في حق قصر يد الحاضرين قامت على الحاضر فقبلت، وعندهما الإعتاق لا يتجزىء، فالشهادة على العتق قامت على الحاضر كما قامت على الغائب فقبلت على العتق، وصار الحاضر في إنكار العتق خصماً عن الغائب. وإذا شهد أحد الشركاء في العبد على أحد شريكيه أنه أعتق نصيبه وشهد الشريك الآخر على الشاهد الأول أنه أعتق نصيبه فالقاضي لا يقضي على واحد منهما بالعتق؛ لأنه لم يشهد على كل واحد منهما إلا شاهد واحد.
وإذا كان العبد بين مسلم ونصراني شهد نصرانيان على المسلم أنه أعتق نصيبه لا يقبل.(4/402)
-----
ولو شهد نصرانيان على النصراني أنه أعتق نصيبه قبلت بينته، فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل شهادتهما على النصراني؛ لأن شهادتهما كما قامت على النصراني بالعتق قامت على المسلم بقصر اليد، قلنا: شهادتهما قامت على النصراني مقصوداً وما يثبت من قصر يد المسلم فذاك يثبت حكماً ومثل هذا جائز.
ألا ترى أن المسلم إذا كان له عبد نصراني مأذون في التجارة شهد نصرانيان على العبد بالدين فإنه يقبل شهادتهما وطريقه ما قلنا.
فإن شهد نصرانيان على شهادة مسلمين أن النصراني أعتق العبد لا تقبل شهادتها؛ لأنهما يثبتان فعلاً على المسلم، وشهادة النصراني على ذلك لا تقبل.
ألا ترى أنه لو شهد نصرانيان أن قاضياً من قضاة المسلمين قضى لهذا النصراني على هذا النصراني فكذا فالقاضي لا يقبل شهادتهما، وإن كانا يشهدان للكافر على الكافر؛ لأنهما يثبتان فعلاً على المسلم أولاً وهو القاضي.
وإذا شهد أبناء العبد أن المولى أعتقه على مال أو بغير مال والمولى يجحد، والعبد يدعي لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، ولو كان المولى يدعي العتق بالمال والعبد يجحد فشهد أبناء العبد تقبل شهادتهما؛ لأن العتق يثبت بإقرار المولى فلا حاجة إلى إثباته بالشهادة، وإنما الحاجة إلى إثبات المال، والشهادة بالمال شهادة على الأب، وإذا شهد أبناء العبد على المولى أنه قال: يوم يدخل أبوكما الدار فهو حر، وشهد آخران بالدخول لا تقبل شهادة الاثنين؛ لأن العتق يجب بالحلف فصارا شاهدين للأب بالعتق.
ولو شهد الأجنبيان باليمين وشهد أبناء العبد بالشرط لا تقبل شهادتهما أيضاً استحساناً؛ لأن العتق إن كان لا يثبت بالشرط يثبت عنده، فصارا في هذا الوجه كالشاهدين للأب.(4/403)
-----
وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر ادعى أحدهم أنه أعتق نصيبه على كذا، فقال العبد: أعتقتني بغير شيء، فشهد الشريكان أنه أعتقه على كذا فشهادتهما جائزة؛ لأن العتق قد ثبت بإقرار المولى المنازعة في المال وفيما يرجع إلى المال..... هذه شهادة منهما على عبدهما، وكذلك إن شهد آباء الشريكين أو أبناؤهما بذلك؛ لأنهما يشهدان على عبد أبويهما أو على عبد ابنيهما وكل ذلك جائز.
وإذا أعتق بعض الشركاء العبد وفي يد العبد أموال اكتسبها ولا يدرى متى اكتسبها، واختلف فيه الشركاء، والعبد قال: اكتسبته بعد العتق فالقول قوله؛ لأن الكسب حادث فيحال بحدوثهما على أقرب ما ظهر، وإنما ظهر الكسب للحال فيجعل القول قول من يدعي حدوثه في الحال، وهو العبد، ولأن العبد بعتق البعض صار مكاتباً حكماً عند أبي حنيفة رحمه الله فيعتبر بما لو كان مكاتباً حقيقة، والمكاتب الحقيقي فيما في هذه بمنزلة الحر والقول قول الحر فيما في يده أنه له عند منازعة غيره إياه كذا ها هنا.
وإذا كان العبد بين رجلين، شهد شاهدان على أحدهما أنه أقر أنه أعتقه وهو موسر فالقاضي يقضي بعتقه، وكان لشريكه أن يضمنه وكان ولاء العبد له، وإن جحد ذلك إلا أن القاضي لما قضى عليه بالعتق فقد كذبه في جحوده، فالتحق جحوده بالعدم. ولو شهدوا عليه أنه أقر أنه حر الأصل فالقاضي يقضي بحريته ولا ولاء له عليه وليس لشريكه أن يضمنه، بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أنا نعتبر إقراره الثابت بالبينة بالثابت معاينة، ولو عاينا إقراره بالإعتاق كان ولاؤه له وكان لشريكه أن يضمن لأنه أقر بسبب الضمان وليس الولاء، ولو عاينا إقراره أنه حر الأصل لم يكن له عليه ولاء، ولم يكن لصاحبه حق التضمين؛ لأنه ما أقر..... لأن سببها على اليقين إعتاقه إياه وهو لم يقر بذلك.(4/404)
-----
ولو شهدا على إقراره أن الذي باعه قد كان أعتقه قبل أن يبيعه عتق من مال المشهود عليه؛ لأنا لو عاينا إقراره بذلك لكان يعتق عليه العبد؛ لأنه يجب إقراره بثبات فساد البيع وبطلان حق البائع في الثمن، وهذا إقرار على الغير وحرية العبد وفساد ملكه، وهذا إقرار منه على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، فكذا إذا ثبت إقراره بالبينة.n
وإن شهدا على إقراره أن الذي باعه قد كان دبره قبل أن يبيعه أو كانت أمة شهدوا على إقراره أنها ولدت من البائع قبل البيع، فإنه يحال بين المشتري وبينهما؛ لأنه لو ثبت إقراره بذلك معاينة كان الجواب كما قلنا؛ لأنه أقر على نفسه بقصر يده عنها وبحرية استرقاقه إياها وهذا من غلته، فيصح إقراره بذلك، فكذا إذا ثبت إقراره بالبينة، ولا يعتق واحد منهما حتى يموت البائع فإذا مات عتقا؛ لأنه لو عتق بإقرار المشتري والمشتري ما أقر بالعتق إلا بعد موت البائع، ولا تسعى لواحد منهما لأن السعاية بدل الملك وكل واحد منهما يتبرأ عن ملكهما، فيكون متبرئاً عن سعايته.
ذكر البقالي في «فتاويه» عن أبي يوسف فيمن شهد عليه رجل أنه قال سنة ست كل مملوك لي حر بعد موتي، وشهد آخر أنه قال بذلك سنة سبع، وشهد آخر أنه قال ذلك سنة ثمان ومات فيها، يعني: في سنة ثمان، وقالوا: لا ندري رقيقه، قال: من أقام من رقيقه بينة أنه كان له سنة ست عتق بشهادة الآخرين يعني الأوسط، هكذا ذكر، ومعناه أن شهود هذا الرقيق شهدوا أنه كان له سنة ست مطلقاً ولم يقولوا كان له سنة ست وقت مقالته ذلك، أما لو قالوا: إنه كان له سنة ست وقت مقالته ذلك بشهادة الأوسط، والآخر لم يعتق، ولا يعتق من كان له سنة ثمان قال ثمة، قال ذلك أيام.......(4/405)
-----
وفي آخر عتاق (332ب1) «الأصل»: إذا قال الرجل لعبده: إن دخلت دار فلان، فأنت حر فشهد فلان وآخر أنه دخل الدار تقبل شهادتهما. فرق بين هذا وبينما إذا قال له: إن كلمت فلاناً فأنت حر، فشهد فلان وآخر أنه كلمه لا تقبل شهادتهما، والفرق أن الذي شهد أنه كلمه شاهد على فعل نفسه؛ لأن كلام العبد معه لا يتحقق إلا بحضرته وسماعه، وذلك فعل. وشهادة الإنسان على فعل نفسه لا تقبل، فخرج هو من البين فلم يبق إلا شاهد واحد، فأما صاحب (الدار) ما شهد على فعل نفسه إنما شهد على فعل العبد لا غير، لأنه لا يحتاج في دخول العبد داره إلى فعل من جهته، فكان شاهداً على فعل الغير من كل وجه ولهذا افترقا.
إن شهد ابنا فلان أن العبد قد كلم أباهما، فإن كان الأب يدعي ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن كان يجحد فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تقبل شهادتهما، وعلى قول محمّد تقبل، والأصل أن شهادة الابن على فعل أبيه إذا كان للأب فيه منفعة لا تقبل بلا خلاف، وإذا لم يكن للأب فيه منفعة فهو على الخلاف، وستأتي المسألة مع أجناسها في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى، والله أعلم.(4/406)
الفصل الثامن في تفويض العتق إلى غيره
-----
إذا (قال) لأمته: أمرك بيدك ينوي العتق، فهذا على المجلس، وكذلك إذا قال لأجنبي: أمر أمتي فلانة بيدك ينوي العتق، فهذا على المجلس. ولو قال لأمته: أعتقي نفسك، فهو على المجلس ولو قال لأجنبي: أعتق أمتي فلانة فهذا على المجلس وما بعده، والجواب في العتاق في هذا نظير الجواب في الطلاق، وكذلك إذا قال لأمته: أنتِ حرة إن شئت، تعتبر مشيئتها في المجلس حتى لو شاءت بعدما قامت عن المجلس لا يعتق، ولو قال لأمة من أمائة: أنتِ حرة وفلانة إن شئت، فقالت قد شئت نفسي لا تعتق؛ لأن قوله: إن شئت، كلام لا يستقل بنفسه فينصرف إلى ما سبق ذكره، والسابق ذكره عتقها، فصار شرط وقوع العتق مشيئتها عتقهما كأنه قال لها: إن شئت عتقك وعتق فلانة فأنتما حران، فإذا شاءت عتقت نفسها فقد أتت ببعض الشرط فلا ينزل شيء من الجزاء.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: إذا قال الرجل لغيره: من شئت عتقه من عبيدي فأعتقه، فشاء المخاطب عتقهم جميعاً معاً عتقوا جميعاً إلا واحداً منهم عند أبي حنيفة رحمه الله، والخيار إلى المولى، وعندهما يعتقون جميعاً، هكذا ذكر المسألة في رواية أبي سليمان. وذكر محمّد في رواية أبي حفص: فأعتقهم المأمور جميعاً معاً عتقوا إلا واحد منهم عند أبي حنيفة رحمه الله، والصحيح رواية أبي حفص؛ لأن المعلق بمشيئة المأمور الإعتاق دون العتق، وعلى هذا الاختلاف إذا قال: من شئت عتقه من عبيدي فهو حر، فأعتقهم جميعاً عتقوا عندهما.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: يعتق الكل إلا واحد منهم، وأجمعوا على أنه لو قال: من شاء عتقه من عبيدي فأعتقه، فأعتقهم جميعاً، عتقوا جميعاً، والخلاف فيما إذا كانت المشيئة مضافة إلى المخاطب لا إلى العبيد.(4/407)
-----
وجه قولهما: أن كلمة من كلمة عامة وهي محكمة في إفادة العموم، وكلمة من كما تحتمل التبعيض تحتمل الجنس، قال الله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) ويقال: باب من حديد والمراد هو الجنس فنعمل بالمحكم ونرد المحتمل عليه، ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه وجد ههنا ما يوجب العموم وهو كلمة من وما يوجب الخصوص وهو كلمة من فإن كلمة من للتبعيض لغة، والعمل هنا ممكن بأن يدخل جميع العبيد تحت الأمر إلا واحداً منهم، وإنما اكتفينا بالواحد منهم في حق العمل بكلمة من؛ لأن كلمة من ههنا مذكورة لإخراج بعض العبيد عن الجملة لأن من تتناول الكل، فكانت من لإخراج بعض ما دخل تحت الأمر، والواحد متيقن، وما زاد عليه مشكوك، فلا يخرج بالشك والاحتمال، وفي قوله: من شاء عتقه من عبيدي فأعتقه بما يوجب الخصوص غير ممكن؛ لأنا لو عملنا بما يوجب الخصوص ابتداء وجعلنا الداخل تحت الأمر بعض العبيد يلزمنا العمل بما يوجب العموم انتهاء؛ لأن البعض الداخل تحت الأمر يصير عاماً لأنه موصوف بصفة عامة، وهي المشيئة فتعم فقلنا بالعموم ابتداء قصراً للمسافة.
أما في مسألتنا: العمل بما يوجب الخصوص في الابتداء لا يوجب العمل في الانتهاء؛ لأن الداخل تحت الأمر مطلق عن الصفة، والخارج كذلك، فلا يعم في الانتهاء فعملنا بها لهذا.
ولو قال لأمتين له: أنتما حران إن شئتما، فشاءت إحداهما فهو باطل؛ لأن معنى كلامه: إن شئتما حريتكما، فلا يتم الشرط بمشيئة إحديهما. ولو قال لهما: أيتكما شاءت العتق فهي حرة، فشاءتا جميعاً عتقا؛ لأن كلمة أي تتناول كل واحدة على الانفراد، ولو شاءت إحداهما عتقت التي شاءت، ولو شاءتا فقال المولى: أردت أحديهما صدق ديانة لا قضاء والجواب في العتق نظير الجواب في الطلاق.
وفي «المنتقى»: بشرعن أبي يوسف: إذا قال لأحد: أعتق أي عبيدي شئت، فأعتق المامور كلهم جاز.(4/408)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لغيره: أعتق أي عبيدي شئت، فليس له أن يعتق أكثر من واحد، ولو أعتق أكثر من واحد منهم لم يقع إلا على واحد منهم.
ولو قال: كل أي هذا الطعام شئت، فله أن يأكل كله. وفرق بين العبيد والطعام على رواية ابن سماعة. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: الذين يشاؤون العتق منهم فهم أحرار فشاء واحد لا يعتق، وإن شاء اثنان فصاعداً عتقوا، كأنه قال: إن شاء عبدان من عبيدي العتق فهم أحرار، وكذلك لو قال: إن دخل عبيد من عبيدي الدار فهم أحرار فدخل واحد لا يعتق، وإن دخل اثنان فصاعداً عتقوا...
وفي «الأصل» عن محمّد: رجل قال لغيره: جعلت عتق عبدي إليك فليس له أن ينهاه، وهو إليه في المجلس كذلك لو قال: أعتق أي عبدي هذين شئت، وكذلك العتاق مما يجعل.
ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في رجل قال لعبده: افعل في نفسك ما شئت، قال: إن أعتق نفسه قبل أن يقوم من مجلسه عتق وإن قام قبل أن يعتق نفسه لم يكن له أن يعتق نفسه بعد ذلك، وله أن يبيع نفسه وأن يهب نفسه، وأن يتصدق بنفسه على ما شاء.
هشام قال: سمعت محمّداً يقول في رجل عاينته امرأته في جاريته، فقال لها: هو بيدك فأعتقتها المرأة، قال: إن نوى المولى العتق عتقت وإلا فلا فإن هذا على البيع، فإن قال: أمرك فيها جائز، فهذا على العتق وغيره، وفي وكالة «الأصل» الوكيل بالإعتاق بمال لا يملك أن يقبض المال إذا أعتق.(4/409)
-----
وفيه أيضاً: الوكيل بالإعتاق المطلق لا يملك التدبير والكتابة والإعتاق وعلى مال، وكذا لا يملك التعليق بالشروط والإضافة إلى الأوقات. وإذا قال لعبد: أعتق نفسك بما شئت، فأعتقه على دراهم فهو جائز إذا رضي المولى، وعلى هذا الخلع والطلاق، وهذا لأن الواحد لا يصلح وكيلاً من الجانبين في هذه العقود ما لم يكن ببدل مسمى، فصار وجود هذا التوكيل والعدم بمنزلة، ولو عدم التوكيل فقال العبد: أعتقت نفسي على كذا، أو قالت المرأة: خلعت بكذا طلقت نفسي بكذا إذا رضي به الزوج والمولى جاز وإلا فلا، كذا ها هنا، ولو كان البدل مسمى في هذه العقود، فقال العبد: أعتقت نفسي على كذا، فقالت المرأة خلعت نفسي على كذا جاز، ولا يشترط رضا المولى بعد ذلك، هكذا ذكر في «ظاهر الرواية»، فعلى ظاهر الرواية جوز توكيل الواحد من الجانبين إذا كان البدل مسمى، ولم يجوز ذلك (333أ1) إذا لم يكن البدل مسمى.
وروى ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في «نوادره»: أنه جوز توكيل الواحد من الجانبين (في) هذه العقود وإن لم يكن البدل مسمى، وبعض مشايخنا رجحوا رواية ابن سماعة عن محمّد رحمه الله.
وفي «الأصل»: إذا قال لعبده: أنت حر فيما شئت، أو إذا شئت، أو كلما شئت، فقال العبد: لا أشاء ثم باعه ثم اشتراه شاء العتق، فهو حر. والجواب في العتق نظير الجواب في الطلاق. ولو قال: أنت حر حيث شئت، فقام من ذلك المجلس بطل العتق؛ لأن حيث لتعميم المكان لا لتعميم الزمان فبقيت المشيئة مطلقة عن الوقت، والمشيئة المطلقة عن الوقت تقتصر على المجلس، ولو قال له: أنت حر كيف شئت، فعلى قول أبي حنيفة يعتق من غير مشيئة، وعلى قولهما لا يعتق من غير مشيئة، والجواب في العتاق في هذا نظير الجواب في الطلاق، والله أعلم بالصواب.(4/410)
الفصل التاسع في التدبير
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع في بيان صورته وصفته وحكمه
-----
فنقول: التدير نوعان مطلق ومقيد، أما المطلق فصورته: أن يقول المولى لعبده: إذا مت فأنت حر ويقول..... فأنت حراً ويقول أنت حر بعد موتي أو يقول دبرتك أو يقول أنت مدبر، والحاصل أن المدبر المطلق من تعلق عتقه بمطلق موت المولى، ومن حكمه أنه لا يجوز بيعه عند علمائنا رحمهم الله، وإنما لا نجوز بيعه؛ لأن التدبير المطلق انعقد سبباً للحرية للمال وإن تراخى حكمه إلى ما بعد الموت.
وبيان ذلك: أن العتق يثبت عند الموت، والمعتق لا بد له من الإعتاق لو لم يجعله إعتاقاً للحال يحتاج إلى جعله إعتاقاً بعد الموت، والإعتاق فعل والميت ليس من أهل الفعل، فمست الضرورة إلى جعله إعتاقاً للحال، وذلك لا يمكن إلا بجعل الشرط دليلاً على حكم السبب، ومتى جعل ذلك يبقى قوله: أنت حر بلا شرط، فينعقد سبباً للحرية وإن تراخى حكمه.
إذا ثبت هذا فنقول: انعقاد سبب الحرية حق الدبر، فلو جاز بيعه لبطل هذا الحق، وإنه لا يحوز. ولو قضى قاضٍ بجواز بيعه ينفذ؛ لأن المسألة مختلفة، والموضع موضع الاشتباه.
وأما التدبير المقيد فصورته: أن يقول الرجل لعبده: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، أو يقول: إن مت من مرض كذا أو يقول: إن مت من..... كذا، فأنت حر، وله صور كثيرة تأتي بعد هذا.
والحاصل: أن المدبر المقيد من لا يكون عتقه معلقاً بمطلق موت المولى، وهذا التدبير لا يمنع جواز بيعه، ولكن إذ لم (يكن) يبعه ووجد الشرط يعتق.
وإذا قال لعبده أنت حر يوم أموت؛ إن لم ينو النهار دون الليل كان مدبراً مطلقاً، لأن اليوم إذا كان مضافاً إلى ما لا يتقيد بالنهار يكون عبارة عن مطلق الوقت، فكأنه قال: أنت حر وقت ما أموت. وإن نوى النهار دون الليل كان مدبراً مقيداً؛ لأن موته بالنهار قد يوجب وقد لا يوجد فكان بمنزلة ما لو قال: إن مت من مرضي هذا.(4/412)
-----
ولو قال لها: أنت حر بعد موتي وموت فلان، أو قال بعد موت فلان وموتي فهذا لا يكون مدبراً في الحال، لأن المدبر المطلق من تعلق عتقه بمطلق موت المولى وعتق هذا العبد ما تعلق بمطلق موت المولى، إنما تعلق بموته وموت فلان، فإن مات فلان أولاً والغلام في ملك المولى إلى أن يصير مدبراً مطلقاً؛ لأن بعد موت فلان يصير عتقه مطلقاً بمطلق موت المولى، فإن مات المولى قبل موت فلان لا يصير مدبراً، وكان للورثة أن يبيعوه؛ لأن بعد موت المولى يصير عتقه معلقاً بموت الأجنبي، فيعتبر بما لو علق عتقه بموت الأجنبي ابتداء، وهناك لا يصير مدبراً. وإذا مات المولى قبل الأجنبي يصير..... لورثته، كذا ها هنا..
ولو قال: إذا كلمت فلاناً فأنت حر بعد موتي فكلم فلاناً يصير مدبراً بناءً على ما قلنا.
وفي «المنتقى»: قال محمّد رحمه الله: عبد بين رجلين قال أحدها للعبد: إن مت أنا وفلان يعني شريكه * فأنت حر لم يكن مدبراً، وكذلك لو قال الآخر مثل ذلك فمات أحدهما صار العبد مدبراً من الآخر.(4/413)
-----
وفي «الأصل»: إذا قال له أنت حر بعد موتي إن شئت، فإن المولى ينوي في ذلك؛ لأن قوله: إن شئت يجوز أن يكون المراد منه المشيئة في الحال، ويجوز أن يكون المراد منه المشيئة بعد الموت، فإن كان المراد منه الساعة صحت نيته؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه. وإذا قال العبد ساعتئذ شئت يصير مدبراً، ويصير تقدير المسألة: أنت حر بعد موتي إن شئت الساعة، وهناك إذا شاء الساعة يصير مدبراً؛ لأن بعد المشيئة يصير عتقه معلقاً بمطلق موت المولى، وإن كان أراد مشيئته بعد الموت صحت نيته أيضاً، وتكون له المشيئة بعد الموت، وكذا إذا لم يكن له نية. ويكون له المشيئة بعد الموت، لأنه لم يذكر للموت وقتاً من حيث التصرف ولا للمشيئة من وقت، فكأنه جعل وقتها بعد الموت؛ وأيهما ذكرت بعد الموت أولى. وإذا كان له المشيئة بعد الموت في هذين الفصلين ذكر أنه لا يكون مدبراً؛ لأنه ما تعلق عتقه بمطلق موت المولى بل بموته وبمشيئة العبد ذلك بعد ذلك، والمدبر من تعلق عتقه بمطلق موت المولى، بل بموته وبمشيئة العبد بعد ذلك، والمدبر من تعلق عتقه بمطلق موت المولى أو نقول المدبر من تعلق عتقه بمطلق موت المولى، وها هنا المتعلق بموت المولى الإيصاء بالعتق لا وقوع العتق، وهذا اللفظ يشير إلى أن هذا العبد لا يعتق، وإن شاء العتق بعد موت المولى ما لم يعتقه الوصي، وهو اختيار الفقيه أبي بكر الرازي، هكذا ذكر شيخ الإسلام المعروف بخوهر زاده رحمه الله.(4/414)
-----
وجه ذلك أنه تعذر: تعليق وقوع العتق بمشيئة توجد بعد الموت؛ لأن العتق لو وقع بمشيئة توجد بعد موت المولى إما أن يقع بحكم التدبير ولا وجه إليه؛ لأن العتق في التدبير يقع بمجرد موت المولى، وأما أن يقع بحكم اليمين ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن العتق حينئذٍ يكون مضافاً إلى حال زوال المعلق وإنه لا يصح، وإذا تعذر تصحيح التدبير واليمين جعلناه إيصاء بالعتق إن شاء العبد؛ لأن في التدبير وصية بالعتق. فصار كأنه قال: أعتقوا عبيدي بعد موتي إن شاء، ولو صرح به يصح، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أنه إذا مات المولى فشاء العبد عتقه فهو حر من ثلثه لوجود الشرط لا بالتدبير، وهذا تنصيص على أن المعلق بمشيئة العبد بعد موت العتق لا الإيصاء بالعتق.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمّد رحمه الله: إذا قال لعبده: إذا مت فأنت حر إن شئت، فالمشيئة بعد الموت، وقال أبو حنيفة رحمه الله: المشيئة على المجلس الساعة. قال محمّد رحمه الله: وكذلك إذا قال: إن شئت فأنت حر بعد موتي، فالمشيئة بعد الموت، قال: ألا ترى أنه لو قال: إذا جاء غدٍ، فأنت حر إن شئت اكتسب المشيئة إليه بعد طلوع الفجر من الغد فكذا في الموت، وسوى بين تقديم المشيئة وتأخيرها.
وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمهما الله في «الإملاء» رجل قال لعبده: أنت حر بعد موتي إن شئت، أو قال: إن شئت فأنت بعد موتي فالمشيئة للعبد فيهما جميعاً بعد الموت في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قدم المشيئة فالمشيئة للعبد الساعة، وإذا أخر فالمشيئة له بعد الموت.
وفي «المنتقى» أيضاً عن محمّد رحمه الله إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي إن شئت ذلك بعد موتي، فقام عن مجلسه الذي علم بموت المولى فيه لم يبطل ما جعله إليه حتى يقول قد أبطلت الوصية والمشيئة في ذلك، وإن نهاه عن ذلك في حياته بطل.(4/415)
-----
وفي «الأصل»: لو قال له: أنت حر بعد موتي إن دخلت الدار، لا يصلح هذا التصرف عندنا أصلاً، بخلاف ما إذا قال: أنت حر بعد موتي إن شئت. والفرق أن في فصل المشيئة صححنا تصرفه بطريق الوصية، وتعليق الوصية (333ب1) بالمشيئة صحيح، وتعذر تصحيح هذا التصرف بطريق الوصية لأن تعلق الوصية بدخول الموصى له الدار باطل.
وإذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي بيوم أو قال: شهر فهذا لا يكون مدبراً، وهذا التصرف إيصاء بالعتق، حتى لا يعتق بعد موت المولى بمضي يوم أو مضي شهر ما لم يعتقه الوصي، وإذا قال: أنت حر إن مت إلى مئتي سنة فهذا مدبر مقيد يجوز بيعه؛ لأنه يتصور أن لا يموت إلى مئتي سنة.
ولو قال لعبده: أنت مدبر على ألف درهم فقبل، فهو مدبر والمال ساقط. أما هو مدبر؛ لأن التدبير على المال شرط لزومه قبول المال كالعتق على المال شرط لزومه قبول المال، وأما المال ساقط؛ لأنه لو وجبت وجبت على المدبر، ولا يجب للمولى على المدبر شيء لأن المدبر ملكه بخلاف الإعتاق على المال لأن هناك المال يجب على المعتق.(4/416)
-----
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رجل قال لعبده: أنت مدبر على الألف درهم، قال أبو حنيفة رحمه الله: القبول إليه بعد الموت، وللمولى أن يبيعه قبل الساعة، أوْ لم يقبل. فإذا مات وهو في ملكه.....، فإن قال قد قبلت أداء الألف، وعتق كأنه قال: أنت حر بعد موتي بالألف، وقال أبو يوسف: إن لم يقبل الساعة فليس له أن يقبل بعد ذلك، وإن قبل الساعة كان مدبراً وعليه ألف درهم إذا مات سيده، وإن لم يكن له مال غيره سعى في الأكثر من الألف ومن ثلثي القيمة وعتق المدبر يعتبر من ثلث المال مطلقاً كان أو مقيداً، وهو مذهب عليّ وسعيد بن المسيب وشريح والحسن وابن سيرين، وقد صح برواية ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام جعل المدبر من الثلث، وقوله: وعتق المدبر يعتبر من ثلث المال أراد به بعد الدين، حتى إذا كان على الميت دين مستغرق لماله أو قيمة المدبر فالمدبر يسعى في جميع قيمته للعرف؛ لأن عتقه بطريق الوصيه والوصية..... فيجب رد عتقه، وذلك بإيجاب السعاية عليه، وإن لم يكن على الميت دين فهو حر من ثلث ماله، حتى إذا لم يكن له مال آخر سوى المدبر يسعى في ثلثي قيمته مدبراً للورثة، فمعرفة قيمة المدبر يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا (قال) لعبده: إن مت فلا سبيل لأحد عليك يصير مدبراً، وإذا قال لعبده أوصيت لك برقبتك، فقال: لا أقبل فهو مدبر، ورده ليس بشيء، رواه ابن رستم عن محمّد رحمه الله.
نوع آخر من هذا الفصل(4/417)
-----
قال محمّد رحمه الله في «الأصل»: إذا قال الرجل: (كل) مملوك لي حر بعد موتي، أو قال: مملوك أملكه، فهو حر بعد موتي، قال: ما كان في ملكه يوم قال هذه المقالة فهو مدبر لا يجوز بيعه وما يملكه بعد ذلك لا يصير مدبراً، ويجوز بيعه، ولكن إذا بقي في ملكه إلى وقت الموت يعتق من ثلث ماله مع المدبرين، وقال أبو يوسف رحمه الله: ما يملكه بعد هذه المقالة لا يعتق بموته، ووجهه ظاهر. إن قوله كل مملوك لي للحال بحكم الموضع، وقوله أملكه للحال بحكم العرف، فقد أضاف عتق ما يملكه في المال إلى ما بعد الموت، فإنما يعتق ما يملكه في الحال لا ما يملكه بعد ذلك، ألا ترى أنه لو نجز فقال: كل مملوك لي حر، أو قال: كل مملوك أملكه، فهو حر، فإنما يعتق ما هو في ملكه في الحال، ولا يعتق ما يملكه بعد ذلك، ومحمّد رحمه الله يقول: باب التدبير ما صح من حيث إنه عتق مضاف إلى وقت في المستقبل؛ لأن الإضافة حصلت إلى حال زوال الملك، وإنما صحت بطريق الوصية؛ لأن إضافة الوصية إلى حال زوال الملك جائزة شرعاً نظراً للعباد، وإذا كان جواز هذا التصرف بطريق الوصية يجب اعتبارها بالوصية.
ومن قال..... لفلان بكل مملوك لي، أو قال: بكل مملوك أملكه، ولم ينص على الحال يتناول ذلك ما يملكه للحال وما يملكه بعد ذلك كذا ها هنا، إلا أن ما يملكه في الحال يصير مدبراً؛ لأن السبب في حقه وهو الوصية انعقد للحال، وما يملكه بعد ذلك لا يصير مدبراً؛ لأن السبب هو الوصية لا ينعقد في حقه للحال، وإنما ينعقد عند الموت كما في المدبر المقيد.H(4/418)
-----
وعن أبي يوسف برواية ابن سماعة أن الحالف لو قال: نويت كل مملوك لي يومئذٍ يدخل فيه ما يستفيده، ولم يصدق على ما في يده وهم مدبرون، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف الأصل، وإذا قال: كل مملوك لي حر بعد موتي لا يدخل تحته كل مملوك بينه وبين غيره؛ لأن هذا التصرف إما أن يعتبر بالعتق المنجز أو بالوصية، وبأي ذلك اعتبرنا لا يدخل تحته عبد بينه وبين غيره؛ لأن اسم المملوك لا ينطلق (على)......
نوع آخر (من) هذا الفصل
وتدبير الصبي عنده لا يصح؛ لأنه مما يضره، ويستوي فيه التنجيز والتعليق ببلوغه حتى إذا قال للصبي بقيده: إذا أدركت فأنت حر بعد موتي لا يصح، وكذلك المجنون والمعتوه الغالب لا يصح تدبيرهما، ويصح تدبير السكران، وكذا المكره على التدبير إذا دبر يصح تدبيره، وإنما يصح باعتبار العتق لا من حيث إنه وصية، فإن الوصية من المكره لا تصح، والمكاتب إذا دبر مملوكاً من كسبه لا يصح، وكذا العبد المأذون له في التجارة إذا دبر لا يصح تدبيره.
وإذا قال لغيره: دبر عبدي، فأعتقه المأمور لا يصح، لأنه أمره بعتق معلق وقد أتى بعتق منجز، وهما مختلفان.
وإذا جعل الرجل أمر عبده إلى صبي، فقال: دبره إن شئت فدبره، فهو جائز سواء كان الصبي يعقل أو لا يعقل، إن كان يعقل فظاهر، وإن كان لا يعقل فطريقه: أن يجعل كلام الصبي شرطاً لوقوع التدبير، كأنه قال لصبي لا يعقل: إن قلت إنك مدبر فهو مدبر، وقول الصبي يصلح لشرط وقوع التدبير كما يصلح شرط وقوع الحرية، وإذا جعل أمر عبده في التدبير إلى رجلين فدبره أحدهما لا يصح.(4/419)
-----
وإذا دبر عبده، ثم ذهب عقله ومات فالتدبير على حاله وإن كان فيه معنى الوصية، بخلاف ما إذا أوصى برقبته لإنسان ثم جن، ثم مات حيث تبطل الوصية. والفرق أن الوصية بالرقبة لا تقع لازمة حتى يملك الوصي فسخها قصداً بالرجوع، وحكماً بالبيع، فيكون لولد..... حكم للابتداء مما يمنع ابتداء الوصية يمنع بقاؤها. أما التدبير يجب له ذمةً حتى لا يملك المولى فسخه، فلا يكون لدوامه حكم الابتداء حتى يقال ما يمنع ابتداؤه يمنع بقاه.
ولو قال: يوم أدخل الدار فعبدي هذا حر بعد موتي، فذهب عقله ثم دخل الدار كان مدبراً، وكان ينبغي أن لا يصير مدبراً؛ لأن المعلق بالشرط عند الشرط كالمرسل، وعند الشرط هو معتق، قلنا: المعلق بالشرط كالمرسل عند الشرط، ولكن على الوجه الذي تعلق بالشرط، وقد تعلق بالشرط تدبير صحيح، فينزل عند الشرط تدبيراً صحيحاً أيضاً.
وفي اختلاف زفر ويعقوب إذا قال لعبده: إن مت أو قتلت فأنت حر، فعل قول زفر هو مدبر؛ لأن عتقه تعلق بمطلق موت المولى حتى يعتق إذا مات على أي وجه مات، وعلى قول أبي يوسف: لا يكون مدبراً؛ لأنه علق عتقه بأحد شيئين، فالقتل إن كان موتاً فالموت ليس بقتل، والتعليق بأحد الشيئين يمنع أن يكون..... في أحدهما خاصة، فلا يصير مدبراً حتى يجوز بيعه، والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل
كل تصرف يقع في الحر بحال الإجارة والاستخدام والتزويج لا يمتنع في المدبر حتى أن المولى يملك إجارة المدبر والمدبرة، واستخدامهما وتزويجهما، وكل تصرف لا يقع لحر نحو البيع والإمهار يمتنع في المدبر حتى إن المولى لا يملك بيعهما وإمهارها، وهذا لأن المدبر باق على حكم ملك المولى إلا أنه انعقد سبب الحرية في حقه، وكل (نفس) تصرف يبطل هذا السبب فالتدبير يمنع المولى عنه صيانة لحق المدبر عن البطلان، وكل تصرف لا يبطل هذا السبب فالمولى يكون مطلقاً فيه بحكم ملك الرقبة.(4/420)
-----
إذا بثت هذا فنقول: الإجارة والنكاح والاستخدام لا يبطل هذا السبب، فلا يمنع على المولى بحكم التدبير، ويجوز كتابته أيضاً؛ لأن بالكتابة لا يبطل (334أ1) السبب المنعقد حقاً للمدبر، بل بالكتابة يتعجل عند أداء بدل الكتابة ما كان مؤخراً إلى يوم الموت ويجوز رهنه؛ لأن موجب الرهن هو..... بدار استيفاء، واستيفاء الدين من مالية المدبر غير ممكن، لأن استيفاء الدين من المالية يكون بطريق البيع، وبيع المدبر لا يجوز، وإذا تعذر حقيقة الاستيفاء من مالية المدبر لا يثبت به الاستيفاء واكتساب المدبر والمدبرة للمولى، وكذلك إن بيعهما ومهرهما للمولى؛ لأنهما بقيا على حكم ملك المولى كالأمة، وولاؤهما للذي دبر لا ينتقل عنه حتى إن المدبر إذا كان بين اثنين أعتقه أحدهما وهو موسر وضمن قيمته (في) نصيب شريكه عتق المدبر، ولم يتغير المولى؛ لأن العتق ها هنا ثبت من جهة المدبر في الحقيقة لا من جهة الذي أعتقه؛ لأن المعتق بأداء الضمان لا يملك نصيب الشريك ها هنا؛ لأن المدبر لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك، وإنما وجب الضمان لإيثار الحيلولة بين المدبر والمولى إبراء أن يقال بأن المعتق يتملك نصيب صاحبه من المدبر ولاء، ولما كان الطريق هذا كان العتق في نصيب المدبر من جهته لا من جهة المعتق، فيكون الولاء للمدبر بهذا، والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل(4/421)
-----
عبد بين رجلين دبره أحدهما، فعلى قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله: يصير الكل مدبراً؛ لأن التدبير عندها لا يتجزأ، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقتصر التدبير على نصيب المدبر؛ لأن التدبير عنده متجزىء، والشريك الساكت في نصيبه خيارات خمسة، فعند أبي حنيفة: إن كان المدبر موسراً إن شاء دبر نصيبه، وإن شاء أعتق، وإن شاء استسعاه ليعتق، وإن شاء تركه كذلك، وإن شاء ضمن المدبر قيمة نصيبه. وخيارات أربعة إن كان المدبر معسراً: ليس له حق تضمين المدبر في هذه الصورة، كذا ذكر المسألة في عتاق «الأصل»، وذكر هذه المسألة في «الجامع الكبير»، ولم يذكر خيار العتق.
حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يقول: في المسألة روايتان: على رواية «الجامع» ليس للساكت أن يعتق نصيبه، وكان يأخذ بهذه الرواية ويقول بأن الساكت بإعتاق نصيبه يضر بالمدبر بتفويت منفعة الحرمة من غير حاجة إليه، ولا يجوز للإنسان أن يضر بغيره من غير حاجة، بخلاف ما لو عتق الأول نصيبه، فإن للساكت أن يعتق إذ ليس في تلك الصورة في إعتاق نصيبه إبطال حق الحرمة على صاحبه؛ إذ ليس لصاحبه حق الخدمة بعد ما أعتق نصيبه، فالخلاف ما إذا أراد الساكت أن يدبر نصيبه؛ لأنه لا يفوت على صاحبه منفعة الخدمة، بل يبقى حق الخدمة كما كان، وبخلاف ما إذا أراد استسعاء العبد فإن له ذلك، وإن كان يعتق نصيبه ويفوت حق صاحبه في الخدمة؛ لأن الاستسعاء محتاج إليه ليصل إلى بدل ملكه، فإنه تعذر عليه الوصول إلى بدل ملكه بالبيع، فكان محتاجاً إلى الاستسعاء، وإنما احتاج إليه من جهة المدبر فكأن المدبر أعتق نصيبه.(4/422)
-----
وجه رواية كتاب العتاق: أنا لو منعناه عن الإعتاق فقد أبطلنا عليه ملكه من غير عوض، فمتى أطلقنا له الإعتاق إن كان يبطل حق صاحبه في الخدمة لكن بعوض، ولا شك أن الإبطال بعوض أولى من الإبطال بغير عوض، فإن اختار الساكت التدبير في نصيبه صارت الجارية مدبرة بينهما، وكان لكل واحد منهما أن يستسعيها، وأن يستخدمها بجهة الرق.
وإن أعتق نصيبه كان للمدبر خيارات ثلاثة في نصيبه إذا (كان) المعتق موسراً إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه مدبراً، وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه مدبراً.
وإن اختار الساكت استسعاء العبد، واستسعاه في قيمة نصيبه عتق نصيبه بأداء السعاية، و(إن كان المعتق معسراً) فللمدبر في نصيبه خيارات (إن) شاء (الله) أعتق نصيبه وإن شاء استسعى العبد في نصيبه، وليس له أن يضمن المعتق نصيبه.
وإن كان موسراً فرق بين الاستسعاء وبين الإعتاق، فإن الساكت إذا أعتق نصيبه كان للمدبر أن يضمنه قيمة نصيبه إذا كان موسراً، وفي الفصلين جميعاً عتق نصيبه من جهته، وإن اختار الساكت أن يترك نصيبه على حاله فله ذلك؛ لأنه استيفاء ملك، وليس فيه إبطال حق على أحد، وإن اختار الساكت تضمين المدبر وضمنه قيمة نصيبه صار نصيبَ الساكت فهو كالمدبر، ويكون نصف العبد رقيقاً ونصفه مدبراً وكان للمدبر في النصف الذي ملكه من جهة صاحبه خيارات أربعة إن (شاء) أعتقه، وإن شاء استسعاه وإن شاء تركه على حاله؛ لأنه استفاد الملك فيه من جهة الساكت فيكون فيه مثل ما كان للساكت، والله أعلم.
قد ذكرنا أن الساكت إذا أعتق نصيبه فللمدبر أن يضمنه قيمة نصيبه مدبراً فلا بد من معرفة قيمة المدبر، وتكلم المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينظر بكم تستخدم هذه مدة عمره؛ لأن الباقي بعد التدبير ملك الخدمة لا غير، وبعضهم قالوا: يقوّم فائت المنافع التي تقوم بالتدبير، قالوا: وإلى هذا أشار محمّد رحمه الله في بعض الكتب.(4/423)
-----
وبعضهم قالوا: يعتبر نصف قيمته لو كان قناً؛ لأن الانتفاع بالمملوك نوعان: انتفاع بعينه وانتفاع ببدله وهو الثمن، والانتفاع بالعين قائم وبالبدل وهو الثمن لا، فكان الباقي نصف قيمة القن، وإلى هذا مال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وبعضهم قالوا: يعتبر ثلثا قيمته لو كان قناً؛ لأن المملوك ثلث منافع الاستخدام والاسترباح بواسطة البيع، وقضاء الدين بعد موت المولى وبالتدبير يفوت الاسترباح، أما لا يفوت الاستخدام، ولا قضاء الدين بعد موت المولى لأن المدبر يسعى بعد موت السيد. وبعضهم قالوا: يسأل عن..... أن العلماء لو اتفقوا على جواز بيع المدبر بكم تشتري هذا على أن المشتري أحق بمتابعته، دون رقبته وعلى أن يعتق بموته، قالوا بمئة يجب ذلك القدر.
وإذا كانت الأمة بين رجلين قالا لها جميعاً: أنت حرة بعد موتنا، فإن هذه لا تكون مدبرة؛ لأن كل واحد منهما بما علق عتق نصيبه بموته وموت صاحبه، فيعتبر في حق كل واحد منهما، إنما لو كان الكل له وقد علق عتقه بموته وموت الأجنبي فهناك لا يصير مدبراً للحال كذا ها هنا.
فإن مات أحدهما بعد هذه المقالة، فإن نصيب الآخر يصير مدبراً؛ لأن عتق نصيب الآخر بقي متعلقاً بموته، وإذا صار نصيبه مدبراً كان لورثة الميت من الخيار عند أبي حنيفة رحمه الله ما كان له لو كان حياً؛ لأن نصيب الحي إنما يصير مدبراً بعدما يصير ملك الميت ميراثاً لورثته؛ لأن شرط عتقه لا يتم بموته.
مدبرة بين رجلين مات أحدهما عتق نصيبه منها، وسعت للآخر في قيمة نصيبه، ولا ضمان له في تركة الميت؛ لأن الميت لو ضمن لصاحبه إما أن يضمن بالموت ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن صاحبه..... به لما ساعده على التدبير، ولكن الجارية تسعى للحي من نصيبه؛ لأن نصيب الحي بقي مالاً متقوماً بعد التدبير، وقد ..... عند المدبر لما عتق نصيب الميت، والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل(4/424)
-----
وإذا دبر الرجل ما في بطن جاريته فهو جائز؛ لأنه لو أعتقه يجوز فكذا إذا دبره، فإن ولدت بعد ذلك ولداً لأقل من ستة أشهر فهو مدبر، وإن ولدت لأكثر (من) ستة أشهر لا يكون مدبراً؛ لأنا لم نتيقن بوجوده حين دبر، و(متى) وقع الشك لا يثبت التدبير ألا ترى لو أعتقه ثم ولدت بعد ذلك، لأقل من ستة أشهر كان حراً، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر لا يكون حراً، فكذا في فصل التدبير.
وإذا دبر الرجل ما في أمته فليس له أن يبيع الأمة بعد ذلك وأن يرهنها، وإن مَهَرَهَا ذكر في مسألة الهبة في بعض روايات كتاب العتاق، وسوّى بينهما وبين البيع، ولم يذكر مسألة الهبة في بعض روايات كتاب العتاق، وإنما ذكر البيع والإمهار والرهن، وذكر في كتاب الهبة (334أ1) إذا أعتق (ما) في بطن جارية ثم باع الجارية لا يجوز، ولو وهبها يجوز، وفرق في الإعتاق بين الهبة والبيع، فمن مشايخنا من قال: في المسألة روايتان، والأصح هو الفرق بين الإعتاق والتدبير، فنقول: بعدما دبر ما في بطن الجارية كما لا يجوز البيع لا يجوز الهبة، وبعد ما أعتق ما في بطن الجارية يجوز الهبة، ولا يجوز البيع. والفرق ظاهر أن بالتدبير لا يزول الولد عن ملك المولى قبل موت المولى، وإنه متصل بالأم، والموهوب إذا كان متصلاً بما ليس بموهوب من ملك الواهب اتصالاً يقبل الفضل يمنع جواز الهبة؛ لأنه يكون بمعنى هبة المشاع، فأمّا الإعتاق يزول الولد عن ملك المولى، فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب، فهو كما لو وهب دار ..... أن الواهب وسلمها إلى الموهوب له وهناك تتم الهبة في الدار كذا ها هنا.
فإن قيل: في فصل الإعتاق..... إن كان لا تفسد الهبة في الجارية من الوجه الذي قلتم لم لا تفسد من حيث إن الولد مستثنى شرعاً، قلنا: استثناء الولد شرعاً لا يمنع جواز الهبة، ألا ترى أنه لو استثناه شرطاً كانت الهبة جائزة في الأم.(4/425)
-----
ولو دبر ما في بطن أمته ثم كاتب الأمة يجوز؛ لأن الكتابة تعود للعتق، وثبوت حق العتق للولد لا يمنع عقد العتق في الأم، فإن وضعت بعد هذا القول ولداً لأقل من ستة أشهر فهو مدبر مقصود بالتدبير من جهة المولى، ومكاتب تبعاً للأم، فإن أدت الأمة بدل الكتابة إلى المولى عتقا بالكتابة، وإن لم تؤد حتى مات المولى عتق الولد بالتدبير، وتبقى الأم مكاتبة على حالها، وإن لم يمت المولى ولكن ماتت الأمة يبقى الولد فيما على الأم على نجوم الأم، فإن مات المولى بعد ذلك فإن كان الولد يخرج من ثلث ماله يعتق بحكم التدبير دبراً عن بدل الكتابة؛ لأنه مكاتب استفاد عتقاً من جهة المولى، فإن كان لا يخرج من ثلث ماله يعتق منه بقدر ما يخرج من ثلث ماله بغير سعاية بجهة التدبير، ويلزمه السعاية في الباقي من رقبته بجهة التدبير، بعد هذا يخير إن شاء مضى في الكتابة، وإن شاء مضى في السعاية بجهة التدبير، وإن كان بدل الكتابة أكثر إلا أنه نجم، والسعاية... التدبير حال، فقد..... له جهتا حرية، فيختار الأنفع في حقه. وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وإذا كانت الأمة بين اثنين دبر أحدهما ما في بطنها فهو جائز وإن ولدت بعد حمل لأقل من ستة أشهر صار نصيبه مدبراً عند أبي حنيفة، ويكون للساكت في نصيبه خيارات خمسة إن كان المدبر موسراً.
وإن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر لا يصير نصيبه مدبراً، والنصف في هذه المسألة نظير الكل فيما إذا كانت الجارية كلها له.(4/426)
-----
وإذا كانت الأمة بين اثنين قال أحدهما لها: ما في بطنك حر بعد موتي، وقال الآخر للأمة أنت حرة بعد موتي، فولدت بعد هذه المقالة لأقل من ستة أشهر، فالولد كله يصير مدبراً بينهما؛ لأنها اجتمعا على تدبيره الأول دبر نصيبه منه تدبير مقصود، والثاني دبر نصيبه منه مع تدبير الأم ولا ضمان لواحد منهما على صاحبه في الولد؛ لأن كل واحد منهما فعل في الولد مثل ما فعل صاحبه، وأما في الأم فللذي لم يدبر الأم في نصيبه خيارات خمسة، عند أبي حنيفة رحمه الله: إن كان المدبر موسراً، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت هذه المقالة فالولد مدبر للذي دبر الأم؛ لأن كلام الأول قد لغا؛ لأنها لم تتيقن بوجود الولد وقت تدبيره فكانت العبرة بكلام الثاني، وصار..... كأن أحدهما دبر الجارية، وهناك إذا جاءت بالولد كان الولد مدبراً، فبعد ذلك التدبير عندهما لا يتجزأ فصار كل الجارية مدبرة للذي دبرها، فصار جميع الولد مدبراً له أيضاً تبعاً للأم.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: التدبير يتجزىء فيصير نصف الجارية مدبر للذي دبرها، ويصير نصف الولد مدبراً له تبعاً للحال الجارية فإن اختار الساكت بعد ذلك، فيضمن المدبر قيمة نصيبه من الجارية فلا ضمان له على المدبر بسبب الولد؛ لأن المدبر يتملك نصف الساكت من الجارية من وقت التدبير، ولهذا يعتبر قيمتها يوم التدبير واليوم التدبير ولد.... كان جزءاً من أجزاء الجارية، فيملك المدبر نصيب صاحبه من الولد بضمان الجارية كما لو اشترى، وإن اختار الساكت استسعى الجارية في نصف قيمتها ليس له أن يستسعي الولد بعد ذلك، وإن صار نصف الولد مدبراً إلا أنه صار مدبراً تبعاً وإذا كان تبعاً في التدبير يكون تبعاً، في السعاية أيضاً والله أعلم.
نوع آخر من هذا الفصل(4/427)
-----
شهد شاهد على رجل أنه دبر هذا العبد، وشهد عليه آخر أنه أعتق هذا العبد لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أعتق بعد موته خاصة، وشهد الآخر أنه أعتقه بعد موته وموت فلان لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين؛ لأن أحدهما شهد بعتق معلق بشرطين، والآخر شهد بعتق معلق بشرط واحد، وكذلك لو شهد أحدهما أنه دبر أحد عبديه، وشهد الآخر أنه دبر هذا العبد بعينه لا يقبل.
ولو شهدا أنه دبر أحد عبديه بغير عينه إن كانت الشهود في حال حياة المولى لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يقبل. وإن شهدا بذلك بعد موت المولى، ينظر إن لم توجد المرافعة إلى القاضي في حال حياة المولى قبلت الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله استحساناً، والقياس أن لا يقبل، وإن وجدت المرافعة إلى القاضي في حال حياة المولى وأبطل القاضي شهادة الشهود ثم شهدا بذلك بعد موت المولى لا يقبل القاضي شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله قياساً واستحساناً؛ لأن القاضي إنما أبطل شهادتهما لتهمة الكذب لأنهما شهدا قبل الدعوى؛ لأن الدعوى من المجهول لا تتصور، والشهادة قبل الدعوى علامة الكذب في الشرع، وكل شهادة ردت بتهمة الكذب لا تقبل لهذا بعد ذلك أبداً.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه قال: هذا حر بعد موتي لا بل هذا قبلت الشهادة، وعتقا جميعاً من ثلثه إذا وجد الدعوى منهما بالإجماع؛ لأن الشهادة في حق كل واحد منهما قامت على إثبات الحق لمعلوم؛ لأنها قامت على تدبير الأول بعينه وقامت على تدبير الثاني بعينه، والرجوع عن الأول فهو قولنا: إن الشهادة في كل واحد منهما قامت على إثبات الحق لمعلوم، وكذلك لو شهدا أنه قال: هذا حر ألبتة، لا بل هذا مدبراً قبلت الشهادة في حق الأول والثاني لما قلنا.(4/428)
-----
ولو شهدا أنه قال: هو حر ألبتة، أو هذا مدبر فإنه لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها قامت للمجهول في العتق والتدبير ودعوى العتق، والتدبير شرط عنده، وإنه لا يتصور من المجهول.
ولو شهدا أنه قال: هذا مدبر وهذا وهذا، فشهادتهما للأول جائزة عندهم؛ لأنها وقعت للمعلوم وشهادتها للآخرين باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها وقعت للمجهول، فإن أقر المولى بذلك قيل له: بين التدبير في أي الآخرين ثبت؛ لأن جهالة الخصم لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الإقرار صحيح وغير دعوى.......
ولو شهدا أنه قال: أحد هذين العبدين مدبر لا بل هذا لأحدهما بعينه؛ فإن شهادتهما للذي عيناه مقبولة بالإجماع، وشهادتهما للأولين لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله، ولكن يحلف للآخر بالله ما أراد غيره بالكلام الأول؛ فإذا حلف كان عبداً له على حاله، وإن إقرار المولى بمقالته تلك صار للذي عينه مدبراً من غير بيان بالكلام الآخر، ويتعين العبد الآخر للكلام الأول إن عنى بالكلام الآخر تدبيراً مستقبلاً له ولم يكن له، وإن عنى بالكلام الآخر بيان ما ثبت الكلام الأول فإن العبد الآخر لا يصير مدبراً، والله أعلم.
الفصل العاشر في أمهات الأولاد
يجب أن يعلم بأن جواز بيع (أم) الولد كان مختلفاً في الصدر الأول، فعمر وعلي رضي الله عنهما كانا لا تجواز بيعها، ثم رجع علي رضي الله عنه عن قوله، وقال بجواز بيعها ثم أجمع (335أ1) المتأخرون على أنه لا يجوز بيعها، وترك قول علي رضي الله عنه آخراً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قضى بتعليق عتق أمهات الأولاد، وأن لا يبعن، والمعنى في ذلك: أنه ثبت لها بالاستيلاد حق أن تعتق بموت المولى، قال عليه السلام: «أيما أمة ولدت من سيدها، فهي معتقة عن دبر» فقد أثبت لها رسول الله عليه السلام الاستيلاد وحقَّ أن تعتق بموت سيدها، وفي البيع إبطال هذا الحق عليها.(4/429)
-----
أو تقول بالاستيلاد ثبت لها حق العتق في الحال، قال عليه السلام لمارية القبطية حين ولدت : إبراهيم «أعتقها» ولدها، وهذا يوجب حقيقة العتق للحال، فإن لم يثبت حقيقة العتق في المال، لا أقل من أن يثبت حق العتق، وفي البيع إبطال هذا الحق عليها، ولو قضى قاضى بجواز بيعها لا ينفذ قضاؤه بل يتوقف على قضاء قاضى آخر إمضاءً وإبطالاً، وهذا لأن العلماء اختلفوا في جواز بيع أمهات الأولاد هل هو على الخلاف، بعضهم قالوا: ليس مختلفاً فيه، وهذا لأن الصحابة وإن اختلفوا فيه ولكن أجمع من بعدهم على أنه لا يجوز بيعهن، والإجماع المستأخر يرفع الخلاف المتقدم، فلم تبق المسألة مختلفاً فيها.d
وبعضهم قالوا: بل هو مختلف فيه، وهذا القائل يقول: الإجماع المستأخر لا يرفع الخلاف المتقدم، فبقيت المسألة مختلفاً فيها، والعلماء إذا اختلفوا في جارية أنها على الخلاف أو على الوفاق يتوقف فيها القضاء على قضاء قاضى آخر إمضاءً وإبطالاً.(4/430)
-----
ثم اختلف مشايخنا بعد هذا الخلاف أن الإجماع المستأخر هل يرفع الخلاف المتقدم بزمن، قال بعضهم: بين علمائنا رحمهم الله (خلاف) على قول محمد رحمه الله يرفع الخلاف المتقدم، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يرفع، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وبعضهم قالوا: لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله بأن الإجماع المستأخر يرفع الخلاف المتقدم، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما ينفذ قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد بإمضاء قضاء قاضى آخر على قول هذا القائل على قول علماءنا رحمهم الله، لا لأن المسألة مختلفة بين علماءنا رحمهم الله، بل لأن بعض العلماء مخالف علمائنا رحمهم الله في انعقاد الإجماع من المتأخرين مع الاختلاف في الصدر الأول، فبعد الإمضاء لشبهة اختلاف غيرهم إياهم في انعقاد هذا الإجماع لا بمكان الاختلاف بين علمائنا رحمهم الله. وأم الولد لا يجوز بيعها (وكذلك) الجارية التي استولدها الرجل بملك اليمين، أو بملك النكاح أو بشبهة ثم يشتريها بعد ذلك أو يملكها بسبب آخر، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: إذا استولدها بحكم النكاح، ثم اشتراها لا تصير أم ولد.
وإذا استولدها بالزنا ثم تملكها فالقياس أن تصير أم ولد وهو قول زفر، وفي الاستحسان لا تصير أم ولد له، وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
كذلك لو قال: تزوجت بهذه الجارية وولدت مني ولا يعلم ذلك إلا بقوله، وأنكر ذلك المولى الذي هي له، فإذا ملكها الذي أقر بهذا فإنها تصير أم ولد عند علمائنا رحمهم الله.
وإذا أسقطت أمة الرجل سقطاً استبان خلقه أو بعض خلقه صارت أم ولد له، وإن لم يستبن شيء من خلقه لا تصير أم ولد، وهذا مذهبنا، وقال إبراهيم البلخي رحمه الله: تصير أم ولد في الفصلين جميعاً.(4/431)
-----
وفي «المنتقى»: قال أبو يوسف رحمه الله: وإذا أقر الرجل أن جاريته هذه قد أسقطت منه، فهذا إقرار أنها أم ولده، قال: إنما يقع اسم السقط على ما تبين خلقه، أما إذا لم يتبين خلقه فلا يسمى سقطاً؛ لأنه لا يدرى ما هو.
وإذا كان جارية الرجل حاملاً فأقر أن حملها منه فإنها تكون أم ولد له. وكذلك إذا قال الرجل: إن كانت أمتي حبلى فهو مني، ثم ولدت ولداً أو أسقطت سقطاً استبان خلقه، أو بعض خلقه وأقر به فإنها تصير أم ولد له إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر، وإن أنكر المولى الولادة وشهدت عليه امرأة جاز ذلك ويثبت النسب وتصير الجارية أم ولده لا بشهادة القابلة، بل بإقرار المولى.
وفي «المنتقى» بشر عن ابن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لأمته: قد حملت مني حملاً أو قد حبلت مني بحمل، فلا تصير أم ولد له ولا يصدق بعد ذلك أنه كان ريحاً وكذلك لو صدقته الأمة أنه كان ريحاً لم تبطل مقالته الأولى، وهي بمنزلة أم الولد، وهذا بمنزلة الرجل أعتق أمته ثم قال: لم أعتقها وصدقته الأمة لم يبطل عتقها.
وفيه أيضاً: رجل أقر أن ما في بطن جاريته منه، أو قال: الذي في بطنها مني ولم يتبين ذلك إلى حبل ولا إلى ولد، ثم قال بعد ذلك إنها كانت ريحاً وصدقته الجارية فهي أمة تباع، وإن كذبته في مقالته الأخيرة وادعت أن ذلك كان حبلاً، وأنها قد أسقطت سقطاً مستبين الخلق فالقول قولها وهي أم ولد له؛ لأن هذه المقالة على وجهين: أوجههما أنه على الحبل إذا ادعته، ألا ترى أنها لو جاءت بولد بعد مقالته بشهر وامرأة تشهد على ولادته ثبت نسبه لم يكن له أن يبيعه، ولو لم (تكن) المقالة الأولى إقراراً بالحبل كان له أن يبيعه.(4/432)
-----
رجل أقر أن أمته حبلى ثم جاءت بولد لأكثر من سنتين، وشهدت امرأة على الولادة، وقالت الأمة: هذا الولد من ذلك الحبل وجحد المولى أن يكون هذا (من) ذلك الحبل فالأمة أم ولد له، ولا يثبت نسب الولد منه وهو بمنزلة أمته، وإن أقر المولى أنه ذلك الحبل وأنه منه وقد جاءت به بعد ذلك بعشر سنين فهو ابنه، وقوله من ذلك الحبل باطل، ولو شهد عليه شاهدان في أمته، فشهد أحدهما أنه قال: قد ولدت مني، وشهد الآخر أنه قال: هي حبلى مني فهي أم ولد، فقد أجمعا عليه، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر أنها ولدت غلاماً وشهد الآخر أنه أقر أنها ولدت جارية.
وعتق أم الولد يعتبر من جميع المال، بخلاف عتق المدبر يعتبر من الثلث، وفي كل ذلك اتبعنا الأثر، والمعنى في ذلك أن التدبير إضافة العتق إلى ما بعد الموت بجزء إن جعلناه سبباً للحال لضرورة أنه لا يمكن اعتباره إعتاقاً بعد الموت، إلا أن المعتق تأخر إلى ما بعد الموت فكان المدبر مملوكاً للمولى من كل وجه وقت الموت، فيعتبر عتقه من الثلث بخلاف أم الولد؛ لأن الأصل في الاستيلاد أن يوجب العتق للحال لا نسيئة، وقد صح بلا تعليق فيه فما ينبغي أن يكون حكمه معلقاً إلا في حق ما انعقد الإجماع عليه، والإجماع انعقد على تعلق الحرية في حق الاستمتاع والاستخدام دون غيره من الأحكام فلا يظهر (كونها، فهو له وقت للمولى موت فيما) عدا الاستمتاع والاستخدام، فلا يعتبر عتقها من الثلث، وإذا أقر في صحته أن أمته قد ولدت منه فإنها تصير أم ولد له فيكون عتقها من جميع المال، سواء كان معها ولد أو لم (يكن) وإن أقر ذلك في مرضه إن كان معها ولد فكذلك الجواب تصير الجارية أم ولد له، وتعتق من جميع المال، وإن لم يكن معها ولد لم يصح الإقرار بالاستيلاد، بل تعتبر وصية حتى تعتق من ثلث المال.(4/433)
-----
وإذا استولد الرجل مدبرته صح الاستيلاد وبطل التدبير. ومعنى قوله: بطل التدبير أنه لا يظهر حكم التدبير بعد ذلك؛ لأن حكم التدبير أن يعتق من الثلث، وهذا يعتق من جميع المال، فكان في الاستيلاد ما في التدبير وزيادة، فلا يظهر حكم التدبير، وإذا لم يظهر حكم التدبير فكأنه بطل وإذا زوج أمة ولده من رجل جاز. يجب أن يعلم بأن المولى من الاستمتاع والتصرف في أم الولد ما يكون له في المدبرة؛ لأن الثابت لها في الحال حق الحرية والثابت للمدبرة سبب الحرية، فأما الملك في الحال فغير زائل، والملك مطلق في التصرف وصيانة حقهم واجب، فكل تصرف يؤدي إلى إبطال حقهما كالبيع والهبة وما أشبه ذلك يمنع منه وما لا فلا، والتزويج لا يبطل هذا الحق، فلا يمنع عنه، وما ولدت من الأولاد من الزوج يكون بمنزلتها يعتق بموت السيد بمنزلتها. وإذا (335ب1) استولد الرجل جارية بالنكاح، ثم فارقها فزوجها المولى من غيره فولدت من زوجها الثاني، ثم اشترى الزوج الأول الجارية مع ولدها من الزوج الثاني تصير الجارية أم ولد له حتى لا يجوز بيعها.
وفي بيع ولدها خلاف، على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: يبيعها، وعلى قول زفر: لا يبيعها، ولو ملك ولدها منه يعتق بلا خلاف. والوجه لعلمائنا الثلاثة رحمهم الله في ذلك: أن الملك شرط ثبوت حق الحرية لها، والسبب لا يفيد الحكم قبل وجود الشرط، فلم يثبت لها حق الحرية قبل أن يملكها وكل ولد ينفصل قبل يوم الحرية للأم لا يثبت له حق الحرية؛ لأن ثبوته في الحكم للولد بحكم السراية عن الأم، فلا يتصور ثبوته في الولد قبل ثبوته في الأم، بخلاف ما لو ملكها فولدت ولداً؛ لأن هناك الحق ثابت في الأم حال ولادتها من غيره فيسري إلى الولد، أما ها هنا بخلافه.
نوع آخر من هذا الفصل(4/434)
-----
أمة بين رجلين جاءت بولد، فادعاه أحدهما يثبت نسب الولد، وصارت الجارية كلها أم ولد له بلا خلاف، أما على قولهما: فلأن الاستيلاد عندهما لا يتجزأ، فإذا ثبت حكمه في نصيب المستولد يثبت في نصيب الآخر. وعند أبي حنيفة رحمه الله الاستيلاد متجزىء لأن حكمه ثبوت حق الحرية بالعتق للحال، وثبوت حقيقة العتق بعد الموت، فكان كالتدبير والتدبير عنده متجزىء، فكذا الاستيلاد فيصير نصيب المستولد أولاً أم ولد له، ثم يملك نصيب صاحبه بالضمان بعد الاستيلاد، فيصير نصيب صاحبه أم ولد له بعدما يملك عليه نصيبه لا بنفس الاستيلاد على ما مر قبل هذا: أن من ملك جارية ولد منها ولد ثابت النسب صارت الجارية أم ولد له، فيصير نصيب الساكت أم ولد له بهذا الطريق، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله في المدبرة بين رجلين استولدها أحدهما يبقى نصيب الساكت مدبراً كما كان، ونصيب المستولد يصير أم ولد حتى إذا مات المستولد يعتق نصيبه من جميع المال.
وإذا مات الساكت يعتق نصيبه من الثلث؛ لأن بعد ما صح الاستيلاد ولم يملك نصيب شريكه بالضمان، فبقي حكم الاستيلاد مقصوراً على نصيبه، إلا أنه فرّق بين الاستيلاد والتدبير والإعتاق بأن أحد الشريكين إذا أعتق الجارية أو دبر لا يملك نصيب الساكت إلا برضاه، فإن الساكت إذا لم يرض يتضمين المدبر، ولكن أراد أن يترك نصيبه في التدبير كذلك، أو يعتق فله ذلك، وإذا استولده أحد الشريكين الجارية يملك نصيب الساكت بعد ما صح الاستيلاد في نصيب المستولد رضي الساكت بذلك أو سخط.
وإذا كانت الجارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما وصارت الجارية أم ولد لهما تخدم كل واحد منهما يوماً كما كانت تفعل قبل، فإذا مات أحدهما عتقت، ولا ضمان للشريك في تركة الميت بالاتفاق، ولا سعاية عليها في نصيب الشريك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما تسعى في نصيب الشريك.(4/435)
-----
ولو أعتقها أحدهما في حياته عتقت، ولا ضمان على المعتق للشريك ولا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: ضمن نصف قيمتها أم ولد للشريك إن كان موسراً، وإن كان معسراً يسعى في نصف قيمتها أم ولد للشريك، وهذه المسألة في الحاصل بناء على أن أم الولد مال متقوم عندهما، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، وعن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: أم الولد لا تضمن بالغصب، وقالا: تضمن بالغصب؛ لأن ضمان الغصب يختص بمال متقوم بخلاف ضمان العقل، فإنه لا يختص بمال متقوم، ألا ترى أن........من بالقتل.
وعن محمد رحمه الله في «الرقيات» أن أم الولد تضمن بالغصب على نحو ما يضمن به الصبي الحر حتى لو مات حتف أنفه لم يضمن الغاصب شيئاً، ولو مر بها إلى مسبعة فافترسها سبع، فإن هذا يضمن؛ لأن هذا يضمن جناية لا ضمان الغصب، ألا ترى أن الصبي الحر يضمن بمثله.(4/436)
-----
ولا خلاف لأحد أن المدبر مال حتى يضمن بالغصب والإعتاق بلا خلاف، هما يقولان بأن التقوم حق الملك، والملك باقٍ بعد الاستيلاد، فتبقى حقيته وهو التقوم، ولأبي حنيفة رحمه الله أن المالية والتقوم يثبت بالإحراز، ألا ترى أن الصيد وسائر الأشياء المباحة لا تكون مالاً متقوماً قبل الإحراز، وبعد الإحراز تصير مالاً متقوماً.....، باعتبار الأصل ليس بمال، ولكن يعطى له حكم المال، والتقوم إذا صار............، ولأصل المالية فإذا حصنها واستولدها فقد أظهر أن إحرازه لها لملك المنفعة، لا لأصل المالية، وملك المتعة ينفك عن ملك المالية، ألا ترى أن للزوج على المنكوحة ملك المتعة لا ملك المالية، فصار في حق المالية والتقوم كأنه لا إحراز بخلاف فصل المدبر؛ لأن إحرازها للمالية إذا لم يظهر منه ما يدل على إحرازها بملك المتعة أو لمعنى آخر؛ ولأن الباقي للمولى على أم ولده ملك الحرمة والمنفعة، وكل ذلك لا يضمن بالغصب والإتلاف، والباقي له على مدبرته ملك المالية، فإنه يقضي دينه من ماليتها بعد موت المولى، فإنها تسعى والمال يضمن بالإتلاف.
ثم في هذا المقام يحتاج إلى معرفة قيمة أم الولد وقد اختلفوا فيه، بعض مشايخنا قالوا: نصف قيمتها فيه، وقال بعضهم: ثلث قيمتها فيه؛ لأنه فات في حقها من المنافع الثلثان منفعة الاسترباح، ومنفعة قضاء الدين بعد الموت، فإنها لا تسعى، وبقي منفعة واحدة وهي منفعة الاستفراش، وقال بعضهم: ينظر....... مدة عمرها على نحو ما ذكرنا في المدبرة.
وإذا كانت الأمة بين رجلين فقال أحدهما: إن كان في بطنها غلام فهو مني، وإن كانت جارية فليست مني، وقال الآخر: إن كان في بطنها جارية فهو (مني) وإن كان غلاماً فليس مني، فهذا على وجهين:(4/437)
-----
الأول: أن يخرج الكلامان منهما معاً، وفي هذا الوجه ما ولدت من ولد في ذلك البطن فهو لهما جميعاً سواء ولدت جارية أو غلاماً؛ لأن كليهما ادعيا الحبل، وليس إليهما تعيين صفة الحبل، وهذا لأن الدعوة إخبار عن نسب ثابت وليس بإثبات نسب مبتدأ؛ لأنه إخبار أن العلوق حصل من ..... فإنما يصح بقدر ما بهما من العلم، ولهما علم بأصل الحبل .... يدل عليه، أما لا علم لهما بصفة الحمل فيصح منهما الإخبار عن أصل الحمل، ولا يصح منهما تعيين صفته فكأنهما قالا: ما في بطن هذه الجارية مني ولو قالا هكذا وخرج الكلامات معاً ثبت نسب الولد منهما وصارت الجارية أم ولد لهما كذا ها هنا، بخلاف قوله: إن كان في بطنها غلام فهو حر وولدت جارية حيث لا يعتق؛ لأن قوله فهو حر إيقاع عتق مبتدأ، فإنما يقع حسب ما أوقعه أو إنما أوقعه هو على الغلام دون الجارية، هذا إذا خرج الكلامان منهما معاً.
وإن سبق أحدهما بمقالته ثم ولدت ولداً غلاماً أو جارية لأقل من ستة أشهر من وقت المقالتين جميعاً، فهو ولد الذي سبق بهذه المقالة غلاماً كان أو جارية؛ لأن..... كل واحد منهما صادفت حملاً موجوداً وإحداهما سابقة فتكون هي أولى كما بعد الانفصال.
وإن مات الولد لستة أشهر من وقت المقالة الأولى، ولأقل من ستة أشهر من وقت المقالة الثانية فهو ولد الثاني، وإن جاءت به لستة أشهر من وقت المقالتين لم يثبت نسبه من واحد منهما إلا أن يجدد الدعوى؛ لأن دعوة كل واحد منهما معلقه بالخطر، فإنها معلقة بحبل حادث، وتعليق الدعوة بالخطر باطلة.(4/438)
-----
وإذا كاتب الرجل أم ولده فجاءت بولد في مكاتبتها ثم مات (المولى) قبل أن يقر به، ينظر إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر (336أ1) منذ كاتبها ثبت نسبه من المولى، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً منذ كاتبها لا يثبت نسبه من المولى؛ لأن فراش المولى زال عنها بالكتابة لا إلى عدّة فإنه لم يجب عليها عدة بالكتابة، والفراش متى زال لا إلى عدة ثم جاءت بالولد إن جاءت لأقل من ستة أشهر منذ زال الفراش يثبت النسب من صاحب الفراش من غير دعوى، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً لا يثبت النسب من صاحب الفراش إلا بالدعوى، كما لو طلق امرأته قبل الدخول بها، والله أعلم.
الفصل الحادي عشر في المتفرقات
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا قال الرجل لأمته: أمرك بيدك ينوي به العتق يصير العتق في يدها، حتى لو أعتقت نفسها في المجلس عتقت، ولو قال لها: اختاري ينوي العتق لا يصير العتق في يدها فقد فرق بين الأمر باليد، وبين قوله اختاري في باب العتق وسوى بينهما في الطلاق.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا ادعى العبد أو الأمة العتق على مولاه، وليس لها بينة حاضرة فإنه يدفعه إلى مولاه، ولا يحال بينه وبين المولى حتى لا تزال يد المولى عنه لمجرد الدعوى، وإن أقام شاهداً واحداً، فإنه ينظر إن كان الشاهد، فالدعوى وإن أقام فاسقاً لا يحال بينهما العبد والأمة في ذلك على السواء وإن كان غلاماً، فكذلك لا يحال بينهما، هكذا ذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب».(4/439)
-----
قالوا: وهذا الجواب مستقيم في العبد غير مستقيم في الأمة، فقد ذكر محمّد رحمه الله أن المرأة إذا ادعت طلاقاً على زوجها، لأن ..... في الطلاق حق الله تعالى وهذا المعنى موجود في الأمة فيجب الحيلولة اعتباراً بحق الله تعالى، ولا يجب القضاء لأن فيه حق العبد كما في الطلاق، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهذا إذا دعت أن شاهدها الآخر الحاضر بخلاف العبد؛ لأن ..... في عتق العبد حق العباد ولا يجب الحيلولة كما لا يجب القضاء.
وإن أقام شاهدين، فإن كانا مستورين فهو على وجهين إن كان المولى فاسقاً مخوفاً عليه يحال بينهما في العبد والأمة جميعاً، فإن لم يكن المولى فاسقاً مخوفاً عليه ففي الأمة يحال، وفي العبد لا يحال. وإن كان الشاهدان فاسقين، مع الأمة يحال على كل حال، وأما في العبد اختلاف الروايتين، ذكر في رواية أنه لا يحال، وذكر في رواية أخرى أنه يحال إذا كان المولى مخوفاً على العبد. وفي «البقالي» إذا قال لعبده أنت حق إليه ومات قبل قبوله الهبة مات عبداً لأنه حقه.
وفي «الأصل»: إذا قال إن اشتريت عبداً أو قال: كل مملوك أملكه فهو حر فاشترى عبداً مع آخر، فإنه لا يعتق فإن اشترى نصيب صاحبه بعد ذلك عتق عليه، فإن اشترى نصف عبد وباعه ثم اشترى النصف الأخير هل يعتق النصف الآخر؟ ففيما إذا عقد يمينه بلفظة الملك بأن قال إن ملكت إن عنى العبد بأن قال: ملكت هذا العبد يعتق النصف الآخر، فإن لم يعتق بأن قال: إن ملكت عبداً إن ملكت مملوكاً القياس أن يعتق النصف بالآخر. وفي الاستحسان لا يعتق. وفيما إذا عقد يمينه بلفظة الشراء يعتق النصف الآخر سواء عين المملوك بأن قال: إن اشتريت هذا العبد إن اشتريت هذا المملوك، أو لم يعين بأن قال إن اشتريت عبداً إن اشتريت مملوكاً.
(4/440)
-----
وجه القياس في فصل الملك: أن الحالف جعل شرط الحنث مطلق ملك العبد لا ملكاً مقيداً بصفة الاجتماع، وقد ملك العبد وإن ملكه متفرقاً، لكن تعذر إنزال العتق في النصف الذي زال ملكه، فيجب إنزاله في النصف الذي هو على ملكه.
وجه الاستحسان: وهو الفرق بين الشراء والملك وبين المعين وغير المعين في الملك في العرف، ووجه ذلك أن قبل الاجتماع في فصل الملك إذا لم يكن المملوك معيناً ثابتاً، فالفرق أن الرجل يستجيز من نفسه أن يقول: ما ملكت مملوكاً ما ملكت عبداً، إذا لم يجتمع في ملكه مملوكاً، وإن ملك مملوكاً على التفاريق، وكذلك يستجيز من نفسه أن يقول: ما ملكت ألف درهم إذا لم يجتمع في ملكه ألف درهم، وإن ملك ألوفاً على التفاريق، ومثل هذا الفرق لم يوجد في المعين بل العرف في المعين بخلافه، فإن الإنسان لا يستجيز من نفسه أن يقول: ما ملكت هذا العبد إذا ملكه على التفاريق، وكذلك في فصل الشراء العرف بخلافه، فإن الإنسان لا يستجيز من نفسه أن يقول: فما اشتريت عبداً، ما اشتريت هذا العبد، إذا كان اشترى على سبيل التفاريق، وإذا انعدم العرف المقيد بقيد الاجتماع في فصل الملك عند التعيين وفي فصل الشراء على الإطلاق يحمل فيها بقضية القياس.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال إن اشتريت فلاناً فهو حر، فاشتراه شراءً فاسداً لم يعتق إذا كان العبد في يد البائع وقت الشراء، وهذا لأن الشراء الفاسد منعقد عندنا قبل القبض إلا أنه لا يفيد الملك قبل القبض فينحل اليمين بنفس الشراء وفي تلك الحالة لا يحنث، فلهذا لا يعتق.(4/441)
-----
ولو كان في يد المشترى وقت الشراء، فإن كان مضموناً عليه بضمان القيمة كالمغصوب ونحوه يعتق، ويصير قابضاً له بنفس الشراء، فإن مثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء فيصير مملوكاً له بنفس الشراء فيعتق، فأما إذا لم يكن مضموناً عليه أصلاً كالوديعة والعارية أو كان مضموناً عليه إلا أنه لم يكن مضموناً عليه بالقيمة، كالرهن لا يعتق؛ لأن مثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء فتنحل اليمين بالشراء ولا ملك في تلك الحال فلا يعتق.
وعن محمّد رحمه الله: إذا قال لعبده نسيت عتقك أو رضيت جاز قال ابن رستم يعتق، وروى بشر عن أبي يوسف قوله نسيب عتقك وشرط النية فيه لوقوع العتق.
وفي «البقالي» إذا قال لعبده أنت حر أمس وإنما يملكه اليوم فهو حر قضاء أو ديانة، إلا أن ينوي عتقاً من جهته فيدين، وكذلك قبل أن أشتريك بخلاف قوله أعتقتك قبل اشتريتك.
وفي طلاق «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا قال لعبده أنت حر أمس، وقد اشتراه اليوم إنه يعتق، قال: ولا يشبه هذا الطلاق قال فصار تقدير مسألة العتاق، كأنه قال: أنت حر الأصل.
وإذا قال: كل مملوك لي حر وله عبيد وأمهات أولاد، ومدبرون ومكاتبون عتقوا جميعاً (من) غير نية إلا المكاتبين فإنهم لا يعتقون إلا بالنية، أما لا يعتق المكاتبون من غير نية إما لأن في ملكهم قصوراً، فإنهم أحرار يداً أو لأن في نسبهم إلى المولى قصور.
ولو قال: كل مملوك لي حر فنوى الرجال دون النساء، أو نوى النساء دون الرجال صدق ديانة لا قضاء؛ لأنه أراد الخصوص من العموم، ومن نوى الخصوص من العموم لا يصدق قضاء؛ لأنه خلاف الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله، لأنه نوى ما يحتمله لفظه، فالعام يحتمل الخصوص.f(4/442)
-----
ولو قال: مماليكي كلهم أحرار فنوى الرجال دون النساء أو النساء دون الرجال لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب»، قالوا: ينبغي أن لا يصدق ديانة ها هنا، فإن نوى الخصوص من العموم، والأصل في هذا: أن كلمة كل إذا ذكر بعد اسم العام بنعت الخصوص كما في قوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} (الحجر: 30) وإذا ذكر قبل الاسم العام لا يمنع الخصوص، كما في قوله جلت قدرته {تدمر كل شيء بأمر ربها} (الاحقاف: 25) ، وكان قابلاً للتخصيص؛ لأنه لم يذكر كثيراً من الأشياء، فإنه لم يبدأ من السموات والأرض، والمعنى في ذلك أن بعد الاسم العام كلمة كل لا تذكر للتعميم، فإن التعميم ثابت بالاسم، وإنما يذكر للتأكيد ويمنع الخصوص، فأما قبل الاسم العام لا يذكر للتأكيد، لأن التأكيد صفة للاسم، ولا يتصور قبل ذكر الموصوف، فيكون اسماً عاماً كغيرها من الأسماء، فيكون قابلاً للتخصيص.
إذا ثبت هذا فنقول: في قوله مماليكي أحرار كلمة كل ذكرت بعد الاسم العام فمنعت الخصوص، فيكون ناوياً الخصوص في لفظ لا يحتمل الخصوص فلا يصدق ديانة كما لا يصدق قضاءً، بخلاف قوله كل مملوك لي حر؛ لأن هناك كلمة كل ذكرت قبل الاسم العام، فلا يمنع الخصوص فقد نوى الخصوص في لفظ يحتمله فيصدق ديانة.
ثم إن محمّداً رحمه الله يقول في هذه المسألة في عتاق «الأصل»: إذا نوى الرجال دون النساء أو نوى النساء دون الرجال صدق ديانة لا قضاء، وفي أيمان «الأصل» (336ب1) قال: إذا نوى الرجال دون النساء وأجاب بما أجاب في العتاق ولم يذكر ما إذا نوى النساء دون الرجال.
حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يجعل في المسألة روايتان، وكان يقول: إذا نوى النساء دون الرجال لا يصدق ديانة على رواية الأيمان وعلى رواية العتاق يصدق، وإذا نوى الرجال دون النساء يصدق ديانة على الروايات كلها.
(4/443)
-----
وجه ما ذكر في العتاق ظاهر: أنه نوى الخصوص من العموم فيصدق ديانة كما نوى الرجال دون النساء، وجه ما ذكر في الأيمان أن كلمة كل دخلت على المملوك، والمملوك اسم للذكر يقال للأنثى مملوكة إلا أن الأنثى تدخل في هذا الاسم تبعاً؛ إلا أنا لو صححنا نية النساء فقد جعلنا ما هو الثابت باللفظ تبعاً أصلاً، والتبع في الشيء لا يصير أصلاً في ذلك الشيء وبه فارق ما إذا قال: نويت الرجال دون النساء، والصحيح أن لا يجعل في المسألة روايتان، لكن أشبع محمّد رحمه الله الجواب في العتاق وأوجز في الإيمان، ووجه ذلك: ما ذكرنا أنه نوى الخصوص من العموم وما قال من المعنى فاسد؛ لأن المملوك مشتق من ملك يملك لا من الذكورة والأنوثة.(4/444)
-----
ألا ترى أن هذا الاسم يقع على الدار والخشب والثوب لوجود الملك، وإن كان لا يوجد الذكورة والأنوثة قلنا والملك لا يختلف بالذكورة والأنوثة، فكان كاسم الآدمي يقع على الذكر والأنثى، لأنه اسم مشتق من كونه ولد آدم والذكر والأنثى في هذا سواء، وعلى هذا لا يتأتى ما ذكر معنى الاستحالة، وإن قال أعني المدبرين ذكر في عتاق «الأصل» أنه لا يصدق قضاءً ولم يتعرض للديانة وذكر في أيمان «الأصل» الأصل أنه لا يصدق قضاءً وديانة، فمن مشايخنا من لم يجعل في المسألة روايتين، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله ومنهم من جعل في المسألة روايتين وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والأول أظهر ووجه ذلك: أنه نوى تخصيص ما ليس في لفظه؛ لأنه نوى تخصيص الوصف، فإن التدبير في المماليك حقه وبهذا يقال: مملوك مدبر ومملوك غير مدبر، وصفة المملوك غير ملفوظ بها وإنما يثبت اقتضاء، ضرورة أن المسمى لا ينفك عن الصفة فتكون نية التخصيص فيما ثبت اقتضاء، والمقتضى غير ملفوظ فهو معنى قولنا: إنه نوى تخصيص ما ليس في لفظه ونية التخصيص فيما ليس بملفوظ، فهو معنى غير صحيحة قضاءً وديانةً كان القياس أن لا يصح تخصيص الأنوثة والذكورة من هذا اللفظ؛ لأن الذكورة والأنوثة حق المماليك لا ذكر لها لفظاً وإنما يثبت اقتضاءً إلا أنا تركنا القياس ثمة لضرورة، وبيان الضرورة: أن العام قابل للخصوص ..... النية، ولا يمكن التخصيص إلا باعتبار الوصف فإن المخصوص لا يمتاز عن الاسم العام إلا باعتبار الوصف، فلو لم تصح نية التخصيص في الوصف أصلاً ما أمكن تخصيص عام أبداً وهو وضع قابل للتخصيص، فيعود إلى موضعه عنها بالنقض، وإنه لا يجوز، وهذه الضرورة تندفع متى صححنا نية التخصيص باعتبار الأوصاف الأصلية التي لا يخلو المسمى عنهافي أصل الخلقة، فبقي التخصيص باعتبار الأوصاف العارضية على أصل القياس.
(4/445)
-----
إذا ثبت هذا فنقول الذكورة والأنوثة من الصفات الأصلية وأما التدبير من الصفات العارضية وعلى قول ما ذكر ما يجب أن يصح فيه التخصيص في السواد والبياض لأن السواد والبياض من الأوصاف الأصلية التي لا يخلو المسمى عنها في أصل الخلقة وعلى قياس ما روي عن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أنه لا يصح نية التخصيص في السواد والبياض يجب أن لا تصح نية التخصيص في الذكورة والأنوثة فيصير في تصحيح نية التخصيص باعتبار الوصف الأصلي روايتان.
وإذا قال الرجل لعبيده: أنتم أحرار إلا فلان كان فلان عبداً وعتق من سواه؛ لأن الكلام المقيد بالاستثناء تكلم بما وراء الثنيا، وكذلك لو قال لعبدين له: أنتما حران إلا سالماً، واسم أحدهما سالم صح الاستثناء حتى كان سالم عبداً لما قلنا، ثم الأصل أن استثناء البعض من الكل صحيح واستثناء الكل من الكل باطل، وهذا لما ذكرنا: أن الكلام المقيد بالاستثناء تكلم بما وراء المستثنى لا بد وأن يبقى بعد الاستثناء شيء ليتحقق التكلم بما وراءه.
إذا ثبت هذا فنقول: خرجت المسألتان؛ لأنه استثناء البعض عن الجملة فيها وقال: سالم حر ومرزوق حر إلا سالماً عتقاد بطل الاستثناء؛ لأنه تكلم بكلامين كل واحد منها تام، ومستقل بنفسه حيث ذكر بكل كلام خبراً فلا يصير أحدهما مضموماً إلى الآخر بل يبقى كل واحد منفرداً، كأنه ليس معه غيره وكان قوله إلا سالماً متأولاً يجتمع ما تناوله أحد كلاميه، وكان باطلاً كأنه قال سالم حر إلا سالماً وهذا بخلاف قوله سالم ومرزوق حران إلا سالماً؛ لأن هناك الكلام الأول ناقص لأنه لم يذكر له خبراً فيصير مضموماً إلى الثاني ويصير الكل كلاماً واحداً، وكان قوله: إلا سالماً استثناء البعض من الجملة فصح.(4/446)
-----
وإذا دعى الرجل عبداً له يقال له سالم فأجابه عبد آخر له يقال له مرزوق فقال: أنت حر عتق مرزوق؛ لأنه أتبع الإيقاع الجواب فينصرف إلى المجيب فإن قال: عنيت سالماً عتق سالم بنيته؛ لأن المنوي من محتملات كلامه ولكنه لا يصدق في حرف العتاق وغير مرزوق قضاءً، ولو أشار إلى عبد له سالم فقال: يا سالم أنت حر فإذا هو مرزوق عبده إلا أنه لم يجبه مرزوق عتق سالم؛ لأنه أتبع الإيقاع النداء فيقع على المنادى ولو أشار إلى شخص ظن أنه سالم لما قلنا.
ولو أن رجلاً أعتق عبداً له أو جارية له ثم جحد العتق وأخذ من العبد غلته، أو استخدمه ووطىء الأمة ثم أقر بذلك العتق أو قامت عليه البينة، فإنه يرد على العبد ما أخذ من الغلة وضمن للجارية مهر مثلها ولا يضمن للعبد بسبب الخدمة شيئاً.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه»: ما ذكر من الجواب في الغلة، فذلك مستقيم فيما إذا كان العبد هو الذي أجر نفسه أو اكتسب (لأنه متى أنه كان حراً ما لكسبها) إما إذا كان المولى هو الذي أجره فما أخذ المولى من الأجرة يكون مملوكاً له؛ لأنه وجب بعقده ولا يلزمه الرد على العبد ولكن لا يطيب للمولى ذلك؛ لأنه حصل له بسسب كسب خبيث.
وإذا قال: أحد عبيدي حر وليس (له) إلا عبد واحد عتق ذلك العبد، وإذا قال الصبي: كل مملوك أملكه إذا احتمل، فهو حر لا يصح هذا اليمين أصلاً. فرق بين هذا وبين العبد إذا قال: كل مملوك أملكه إذا أعتقت فهو حر، فإنه يصح هذا اليمين إذا كان العبد بالغاً، ولا فرق بينهما من حيث الظاهر لأن كل واحد منهما لا يملك الإعتاق للحال ثم لم يصح اليمين بالعتق من الصبي، وصح من العبد.(4/447)
-----
والفرق: أن الإعتاق من العبد إذا كان بالغاً إنما لم يصح لعدم ملكه لا لفساد عبارته، فإذا أضافه إلى ما بعد العتق، فقد أضافه إلى الملك أما الإعتاق من الصبي إنما لا يصح لفساد عبارته فيما يتضرر به لا لعدم الملك وفيما يرجع إلى فساد العبارة العتق المنجز، والعتق المضاف على السواء.
وذكر في «عيون المسائل» إذا قال الرجل لعبيده: أنتم أحرار إلا فلاناً، وفلاناً وفلاناً سماهم جملة عبيده في الاستثناء، هل يعتقون؟ لم يذكر هذا الفصل في «العيون»، فعلى قياس ما ذكرنا في «الزيادات» إذا قال: كل جارية لي حرة إلا جارية هي ثيب ثم قال: هذه ثيب، وهذه ثيب لا يعتقن وإن قلن أبكار عتقن لا بقولهن ولكن بإيجاب العتق على طريق العموم عند عدم ثبوت الوصف المستثنى، وهو الثيابة فقد صح محمّد رحمه الله الاستثناء في هذه المسألة، وإن كان مستغرقاً للكل إنما فعل هكذا؛ لأن الاستثناء تصرف في اللفظ (337أ1) والصفة لا في الحكم وباعتبار النظر إلى الصيغة، هذا استثناء البعض من الكل فإن قوله: كل جارية لي كما يتناول الصيغة المستثاة من يتناول غيرهن أو كن في ملكه، فكان هذا استثناء البعض من الكل باعتبار النظر إلى الصيغة فصح.
ألا ترى أنه لو قال: نسائي طالق إلا نسائي لا يصح الاستثناء. وإذا قال نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة وليس له من النسوة سواهن، فإنه يصح الاستثناء وإن كان هذا استثناء الكل من الكل من حيث الكلم؛ لأن هذا استثناء البعض من الكل من حيث الصيغة. وكذلك إذا قال في وصيته: ثلث مالي لفلان إلا ثلث مالي لا يصح الاستثناء، ولو قال: ثلث مالي لفلان إلا ألف درهم وثلث ماله ألف درهم لا غير صح الاستثناء، وطريقه ما قلنا.
(4/448)
-----
وإذا قال الرجل في وصيته: أعتقوا عبدي الذي هو قديم الصحبة فقديم الصحبة تكلموا فيه، روي عن محمّد رحمه الله أنه قال من صحبته ثلاث سنين، واختار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله أن يكون صحبته سنة وهو قول بعض العلماء، وبه كان يفتي محمّد بن مقاتل.
مريض قال لورثته إن بيد كان مرابنده مما بنت فهذا وصية بالعتق معنى، فينبغي أن يعتقوهم. مريض قال لورثته: أعتقوا فلاناً بعد موتي إن شاء الله صح الإيصاء، وبطل الاستثناء ولو قال: هو حر بعد موتي إن شاء الله بطل الإيجاب، وهذا استحسان وبه أخذ محمّد رحمه الله والحاصل: أن الاستثناء في الأمور باطل إن من قال لغيره بع عبدي إن شاء الله كان الاستثناء باطلاً، وكان للمأمور أن يبيعه والاستثناء في الإيجاب صحيح، والفرق: أن الإيجاب يقع ملازماً من حيث لا يقدر على المطالبة بعد ذلك، فيحتاج إلى الاستثناء فيه حتى لا يلزمه حكم الإيجاب والأمر لا يقع؛ لأن ما فاته يقدر على إبطاله بعزل المأمور فلا يحتاج إلى الاستثناء فيه، وفي «القدوري»: وأما كلمه إن شاء الله إذا دخلت فالكلام رفع حكمه أي تصرف كان.
إذا قال لمولاه: أعتقني حتى أعطيك ما تريد، فأعتقه وجب على العبد قيمته لأن هذا سؤال العتق على بدل مجهول، وفي مثل هذا تجب قيمته العبد لأن المولى ....... فتعذر إيجاب البدل، فيجب رد العبد على العبد وتعذر رده صورة فيجب رده معنى بإيجاب قيمة العبد عليه.
رجل قال لغيره: جاريتي هذه لك على أن تعتق عني عبدك فلاناً فرضي بذلك ودفع الجارية إليه لا تكون الجارية له حتى يعتق العبد، كذا روى خلف بن أيوب عن محمّد رحمه الله؛ لأنه طلب منه تمليك العبد مقتضى طلب الإعتاق مقابلاً بتمليك الجارية فما لم يوجد إعتاق العبد لا يوجد تمليك العبد فلا يتملك الجارية، وفيه نظر، وينبغي أن يكتفي بمجرد القبول كما في قوله لامرأته: أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم وأجابته.(4/449)
-----
رجل اشترى من آخر عبداً شراءً فاسداً ثم إن المشتري أمر البائع بالعتق قبل القبض فأعتقه جاز، ولو أعتقه المشتري بنفسه لا يجوز لأنه لما أمر البائع بالعتق فقد طلب منه أن يسلطه على القبض فإذا أعتقه فقد سلطه على القبض فقبضناه سابقاً عليه وصار المشتري قابضاً أيضاً فقبضناه سابقاً عليه.
رجل قال في وصيته أعتقوا خير عبيدي أو قال: أفضل عبيدي أو قال: بيعوا أفضل عبيدي وتصدقوا بثمنه على المساكين أو خير فهذا على أفضلهم في القيمة، ولو قال: أوصيت لأفضل عبيدي فهو لأفضلهم في الدين.
في «مجموع النوازل» عن محمّد رحمه الله: في رجل قال مماليكي الخبازون أحرار وله خبازون وخبازات عتقوا. وفي «مجموع النوازل» إذا قال لعبده أنت حر الساعة بعد موتي، يعتق بعد الموت. ولو قال لعبده في صحته: أنت حر من ثلث مالي من جميع المال.
وفيه أيضاً: إذا قال لغيره أعتق مدبرك هذا عني على أن لك عليّ ألف درهم أو على أني ضامن لك ألف درهم، فأعتقه لا شيء عليه قال خلف بن أيوب: سألت محمّداً رحمه الله عن رجل قال لعبديه: أحدكما حر بعد موتي وله وصية مائة درهم ثم مات قال يعتقان جميعاً، والمائة بينهما نصفين لأن بالموت شاع العتق فيهما وتشيع الوصية أيضاً، قلت: فإن قال، ولكل واحد منهما مائة درهم قال تبطل مائة واحدة لأنها وقعت لعبد.
وسئل أبو بكر عمن قال لعبده بانتم أراد أو قال بانتم أزاد قال: يعتق كأنه قال له نصفك حر. العبد المأذون إذا اشترى جارية وأخبر المولى بذلك فقال له المولى اصنع ما شئت، فأعتقها العبد لا يجوز عتقه لأنه لا يراد بمثل هذا الكلام الإعتاق ولا يجوز عتقه ما لم يأمره بالإعتاق نصاً.(4/450)
-----
قال في أيمان «الجامع» إذا قال الرجل لامرأة حرة إذا ملكتك فأنت حرة أو قال: إذا اشتريتك فأنت حرة، ثم إنها ارتدت ولحقت بدار الحرب وسبيت فملكها الحالف عتقت عندهما، وعلى قياس قول أبي حنيفة لا تعتق فهما يجعلان الردة والحالف، والسبي مذكور في هذه المسألة تصحيحاً لإيجاب الحرية، وأبو حنيفة رحمه الله يقول غير المذكور إنما يجعل مذكوراً تصحيحاً للمذكور إذا لم يكن للمذكور صحة بدونه بحال، وللمذكور صحة بدون هذه الأشياء في الجملة بالصرف إلى ما يليق بظاهر حالها، وهو ملك النكاح والحرية عنه بالطلاق فلا ضرورة إلى جعل غير المذكور مذكوراً يوضحه: أنه أضاف الملك إلى الحرة، وأضاف الشراء إلى الحرة وملك الحرة ملك نكاح، وشراء الحرة نكاح، ولهذا لو اشترى الحرة منها كان نكاحاً فالنكاح ينعقد بلفظ الشراء والبيع على عرف، فما يصرف يمينه إليه فلا يدخل تحته الملك الحقيقي. ألا ترى أنه لو قال لمنكوحته نكاحاً فاسداً: إن طلقتك فعبدي حر ينصرف يمينه إلى طلاق مثلها، كذا ها هنا.
ولو قال لها: إذا ارتدتت ولحقت بدار الحرب وسبيت، فملكتك فأنت حرة كان كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً إلا أنه لما خرج بهذه الوسائط علم أنه لما أراد به ما يليق بظاهر حالها، وإنما أراد به الملك الحقيقي فانصرف يمينه إليه ثم هذه المسألة دليل على أن المعنى اليمين بالعتق ينعقد على الحرة، فأولى أن يبقى على الحرة فلا يبطل قول من قال ببطلان اليمين بالعتق لبطلان المحلية بثبوت الحرية إذا أعتق أحد عبديه لا بعينه، ثم أعتق أحدهما بعينه إن لم يكن له نية أو نوى عتقاً مستقبلاً، فإن الآخر يتعين بالكلام الأول وإن نوى بالكلام الثاني بيان ما ثبت بالإيجاب الأول، وحلف على ذلك لا يعتق الآخر، وصدق فيما ادعاه ذكره شيخ الإسلام في آخر باب المدبر. إذا قال لعبده يوم أملكك فأنت حر بعد موتي وهو يعني النهار دون الليل ثم ملكه ليلاً لم يبق مدبراً.(4/451)
(4/452)
-----
والجواب في التدبير نظير الجواب في العتق. إذا قال لعبده: يوم أملكك ملكاً غير هذا.. أو يوم أشتريتك بعد هذا الملك فأنت حر بعد موتي، ثم ملكه بسبب آخر وبعد هذا الملك صار مدبراً وإذا قال لأمتين لغيره إذا ملكتكما، فأنتما حران بعد موتي فملك إحداهما دون الأخرى لا تصير مدبرة ما لم يملكهما جميعاً.
وسئل الفقيه أبو بكر رحمه الله عن أمة قالت لمولاها أعتقني وقال لها بالفارسية ابدون كنيزكه أنا ذكر دم لا قال: لا يعتق، قال: وكذلك لو باع من امرأته تطليقة واحدة فقالت حر هذه كنز لا كون منها إجابة. وكذلك لو باع عبداً. وسئل أبو القاسم عمن قال لله عليّ أن أعتق عبداً، فأعتق عبداً آبقاً قال لا يجوز كما لا يجوز في الأعمى قال الفقيه: في قياس قول علمائنا رحمهم الله يجوز، ذكره في كتاب جعل الآبق إذا أعتق عبداً آبقاً عن كفارته لا يجوز إن كان حياً وقت الإعتاق.
وسئل إبراهيم بن يوسف عن عبد أجبر مولاه في موضع خال، وقال: إن أنت أعتقني وإلا قتلتك فأعتقه مخافة القتل قال يعتق، ويسعى (في) قيمته. إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك هذا بألف درهم، فأعتقه لا يجب على الآمر شيء؛ لأن هذا كلام محتمل يحتمل عن نفسك (337ب1). ويحتمل عني فلا يقع عن الأمر بالشك، وإذا لم يقع العتق عن الآمر لا يجب عليه المال.(4/453)
-----
ولو قال: أعتق عبدك عني بألف درهم فأعتق، فإنه يعتق عن الآمر ويلزمه المال عن الآمراستحساناً. ولو قال: كاتب عبدك عني بألف درهم، فكاتب لا تقع الكتابة عن الآمر، والوجه في ذلك أن العتق والكتابة يعتمدان الملك، وفي فصل العتق أمكن إثبات الملك مقتضياً الإعتاق تبعاً له لأن العتق أقوى من الملك، ألا ترى أن الملك من ثبوته يحتمل البعض والرفع، والعتق لا يحتمل ذلك، فأما الملك والكتابة مستويان من حيث إن كل واحد يقبل القبض، وللملك زيادة قوة من حيث إنه يملك بحقيقة الملك من التبرعات ما لا يملك بالكتابة، فكان الملك أقوى فلا يمكن إثباته تبعاً للكتابة.
ولو قال: أعتق عبدك على ألف علي فأعتق، يلزمه المال ويقع الملك العتق عنه، ويدرج قوله عني لأن قوله على ألف درهم علي يدل عليه، فإن المال لا يلزمه لو لم يقع العتق عنه.
ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك بألف علي فأعتق لا يلزمه المال؛ لأن العتقد ههنا لا يقع عن الأمر وبدونه لا يلزمه المال، والطلاق في هذا يخالف العتاق، فإن من قال لغيره: طلق امرأتك بألف عليّ فإنه يصح، وقوله طلق امرأتك بألف علي بمنزلة قوله: طلق عن نفسك، لأنه لا يتصور أن يكون الطلاق واقعاً عن الأمر، فإن من قال لغيره: طلق امرأتك عني فطلق، يقع الطلاق عن المأمور دون الآمر، ثم قال في الطلاق يلزمه المال، وفي العتاق قال: لا يلزمه المال.
وكذلك إذا قال أعتق عبدك على ألف درهم أضمنها لك ففعل، لم يكن العتق عن الآمر. إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك عن ولدي الصغير بألف درهم فأعتقه المأمور، فإن العتق يقع عن المأمور وتكون الولاية (له) لأن الآمر بالإعتاق عن الصغير من الأب لا يصح، فالتحق هذا الأمر بالعدم فصار صاحب العبد معتقاً عبده عن الصغير بغير أمر أحد فيقع عنه.(4/454)
-----
ولو كان للصبي عبد فقال رجل لأبيه: أعتق عبد ابنك هذا عني على ألف درهم فأعتقه الأب يقع العتق عن الآمر وعليه ألف درهم للصبي يقبضها الأب منه لأنه طلب من الأب يقع هذا العبد منه بألف درهم، والإعتاق عنه والأب يملك ذلك فإنه يملك بيع عبد ابنه الصغير من الأجنبي ويملك إعتاقه عن الأجنبي فيصح الأمر به، ويقع العتق عن الآمر وفي طلاق «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لعبده: أنت حر أمس، وقد اشتراه اليوم إنه يعتق. قال: ولا يشبه هذا الطلاق، قال: وصار تقدير مسألة العتاق كأنه قال: أنت حر الأصل، والله أعلم بالصواب وتم كتاب العتاق بعون الله وحسن توفيقه.
كتاب المكاتب
هذا الكتاب على ثمانية عشر فصلاً الأول في بيان:
1 * تفسير الكتابة وركنها.
2 * في بيان ما يصح في الكتابة وما لا يصح.
3 * في الشروط والخيار في الكتابة.
4 * في عجز المكاتب.
5 * فيما يملكه المكاتب وما لا يملكه.
6 * في كتابة الحر على عبد وكتابة العبد على نفسه وعلى عبد آخر وكتابة المملوك على نفسه وأولاده.
7 * في ملك المكاتب ولده أو بعض ذي رحم محرم أو امرأته وفي المكاتب يموت عنه وفاء في الأولاد.
8 * في دعوة المولى ولد أمة المكاتب وفي دعوته ولد مكاتبة المكاتب.
9 * في دعوى المكاتب الولد.
10 * في بيان المكاتبين إن كانت مكاتبتهما واحدة أو متفرقة.
11 * في العبد يكون بين رجلين فيكاتباه أو يكاتبه أحدهما.
12 * في الرجل يكاتب بشقص مملوكه.
13 * في الاختلاف الواقع بين المولى والمكاتب.
14 * في مكاتبة المريض وإقراره بقبض يدل الكتابة.
15 * في الكتابة الموقوفة.
16 * في مكاتبة الصغير.
17 * في عزور المكاتب وما يلزمه من العقد.
18 * في المتفرقات.(4/455)
الفصل الأول تفسير الكتابةوركنها وشرط جوازها وحكمها
-----
يجب أن يعلم بأن تفسير الكتابة لغة: الضم والجمع أي ضم كان وأي جمع كان، ومنه فعل الكتابة لما فيه من الجمع والضم بين الحروف، وسمى الجنس كتبته لانضمام البعض إلى البعض، إلا أن في عرف لسان الشرع إذا أطلق هذا الاسم مضافاً إلى المملوك يراد منه: جمع بخصوص وضم بخصوص وذلك لما ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، بأن العبد يصير حراً يداً للحال ثم ينضم إلى هذه الحرية الرقبة عند أداء بدل الكتابة.
وأما ضم المولى العبد إلى نفسه في إثبات صفة المالكية له يداً، فإن العبد بعقد الكتابة يصير مالكاً نفسه وكسبه يداً حتى يختص بالتصرف في نفسه وكسبه.
وركنها: الإيجاب والقبول، لأنها عقد معاوضة من الجانبين فيكون الركن فيها الإيجاب والقبول كما في سائر المعاوضات.
وشرط جوازها على الخصوص: قيام الرق في المحل، وكون المسمى معلوم القدر والجنس فأما كونها مؤجلاً منجماً فليس بشرط وهذا مذهبنا. ولقب المسألة أن الكتابة حالّة هل يجوز؟ فعند علمائنا رحمهم الله يجوز، والأصل فيه قبول الله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} (النور: 33) أمر بالكتابة مطلقاً من غير فصل بقراء تكون مؤجلة أو حالة، والمعنى في ذلك أن البدل في الكتابة معقود به وليس بمعقود عليه كالثمن في باب البيع، ولهذا أجاز الاستبدال قبل القبض ولو كان معقوداً عليه لما جاز الاستبدال به قبل القبض، قلنا: والمعقود به يثبت في الذمة حالاً ومؤجلاً.
جئنا إلى بيان حكمها، أما من جانب العبد فحكمها في الحال ثبوت حرية اليد حتى يصير العبد أمضى لمنافعه ورقبته ومكاسبه ينصرف إلى منافعه ومكاسبه ويذهب للتجارة حيث شاء، ولهذا لا يملك المولى منعه عن السفر، ولو شرط عليه أن لا يخرج من البلدة كان باطلاً.(4/456)
-----
وحكمها في الثاني: ثبوت حرية الرقبة أو بدل الكتابة، وأما من جانب المولى فحكمها في الثاني: حقيقة الملك في البدل إذا قبضه، ثم المكاتب يعتق عند أداء إذا بدل الكتابة: سواء قال له المولى في عقد الكتابة: على أنك إن أديت إلى ألفاً فأنت حر، أو لم يقل ذلك، واقتصر على قوله: كاتبتك على ألف درهم، وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا بد أن يقول على أنك إن أديت إلي كذا فأنت حر، وهذه المسألة في الحاصل بناء على معرفة معنى الكتابة، فيقول معنى الكتابة شرعاً ضم حرية اليد للحال إلى حرية الرقبة عند أداء بدل الكتابة فيجعل هذا كالمنصوص عليه عند العقد، ولو نص على هذا الشيء أنه يعتق عند الأداء فكذا إذا لم ينص عليه، وصار معناه هذا.
ثم الكتابة إن كانت حالة فللمولى أن يطالب المكاتب بالبدل كما فرغ من العقد، كما ذكرنا أن البدل في الكتابة معقود به كالثمن في باب البيع، ثم الثمن في باب البيع إذا كان حالاً كان للبائع مطالبة المشتري كما فرغ من العقد فكذا هاهنا، وإن كانت مؤجلة منجمة فإما يطالبه بحصة كل نجم بحل ذلك النجم.
ومما يتصل بهذا الفصلالألفاظ التي تقع بها الكتابة
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: رجل قال: لعبده قل جعلت عليك ألفاً تؤديها إلي نجوماً أول النجم كذا وآخر النجم كذا فإذا أديتها إلي فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق، فهو مكاتب لأنه إن لم يصرح بلفظة الكتابة فقد أتى بتفسير الكتابة ومعناها والعبرة في القعود لمعانيها لا لألفاظها.(4/457)
-----
وفي الوصايا إذا قال لعبده: أد إلي ألف درهم كل شهر مائة فأنت حر، قال هذا مكاتب وهو جائز. وفي «نوادر» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في «الإملاء»: إذا قال لعبده: إذا أديت إلي ألف درهم كل شهر مائة درهم فأنت حر أول النجم كذا أو آخره كذا فقبل ذلك، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه مكاتبة، قال هذا وقوله: إذا أديت إلي ألف درهم ولم يسم الشهور سواء ينبغي أن يكون مكاتبة كله، ولا تكون مكاتبة حتى يقوم اسم الكتابة يعني حتى يأتي بلفظ الكتابة، قال: ولكنه أخذ بالاستحسان والله أعلم.
الفصل الثاني في بيان ما يصح في الكتابة وما لا يصح
ما يجب اعتباره في هذا الفصل أن جهالة البدل متى كاتب * جهالة جنس * منعت صحة التسمية في العقود كلها سواء كان عقداً هو معاوضة مال بمال كالبيع والإجارة وأمثالها، أو عقداً هو معاوضة مال بمال كالكتابة والخلع وأشباههما، وجهالة البدل إذا كانت جهالة وصف منعت صحة التسمية في عقد هو معاوضة مال بمال ولا يمنع صحة التسمية في عقد هو معاوضة مال بما ليس بمال، فرق بين معاوضة المال بالمال، وبما بين معارضة المال بما ليس بمال، فيما إذا كان جهالة البدل جهالة وصف.
والفرق أن في معاوضة المال بما ليس بمال، نفس المال ليس بمقصود وباختلاف الوصف إنما تختلف المالية، فإذا لم تكن المالية مقصودة فهذا بالجهالة لا يخل بالمقصود، فصار وجودها والعدم بمنزلة، أما في معاوضة المال بالمال: المالية مقصودة، وباختلاف الوصف تختلف المالية فيخل بالمقصود، فيجب اعتبارها.(4/458)
-----
بيان هذا الأصل ما ذكر في «الزيادات»: رجل قال لعبده: كاتبتك على عبد فقبل، جازت الكتابة لأن الكتابة معاوضة المال بما ليس بمال وقد ذكرنا أن جهالة وصف البدل في مبادلة المال بما ليس بما لا يمنع (338أ) صحة التسمية، قال: ينصرف إلى العبد الوسط، لأنه إذا صحت التسمية وجب العبد ديناً في الذمة، والأصل في الحيوان المجهول إذا ثبت ديناً في الذمة، أنه ينصرف إلى الوصف كما في الزكاة والوصية والدية، والمعنى أن في صرفه إلى الوسط عمل بالوصفين، لأن الوسط بين الجيد والرديء نظر للجانين، والوسط عند أبي حنيفة رحمه الله قيمته أربعون ديناراً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على قدر غلاء السعر والرخص والمسألة معروفة. قال: ولا ينظر في قيمة الوسط إلى قيمة المكاتب، لأن عقد الكتابة عقد إرفاق، فالظاهر أن يكون البدل على أقل من قيمته فقد جعل العبد هاهنا جنساً واحداً.
وقد ذكر في كتاب الوكالة: فيما إذا وكل رجلاً بشراء عبد وجعله أجناساً مختلفة وكأنه عمل بالشبيهين فألحقه بالجنس الواحد إذا سمي في عقد هو معاوضة المال بما ليس بمال، والأجناس المختلفة إذا سمى في عقد هو معاوضة المال بالمال.
وكذلك لو كاتبه على حنطة أو شعيرة وسمى مقداراً معلوماً إن وصف ذلك بصفة بأن شرط الجيد أو الرديء أو الوسط لما ذكرنا في العبد. ولو كاتبه على ثوب ولم يبين هروياً أو مروياً كانت التسمية فاسدة، لأن الثياب أجناس مختلفة، ولهذا لو وكل رجلاً بأن يشتري له ثوباً لا يجوز.
ولو كاتبه على درهم فقبله العبد كانت التسمية فاسدة لأن المسمى مجهول القدر جهالة متفاحشة لاوسط القدر هاهنا حتى ينصرف إليه.(4/459)
-----
والصرف إلى الأقل والأكثر متعذر، لأن الإيجاب قيمة المبدل ممكن، لأن العبد متقوم في نفسه والأصل في الأشياء قيمتها وإنما يعدل عنها عند التسمية، ولم تصح التسمية، فبقي حكم الأصل فهو معنى قولنا يقدر الصرف إلى الأقل والأكثر فيبقى مجهول القدر جهالة متفاحشة، وجهالة القدر نظير جهالة الجنس وجهالة الجنس مانعة لصحت التسمية في العقود كلها.
قال في «الأصل» في مسألة الثوب وإذا حدث فسدت الكتابة فإذا أدى إلى المولى ثوباً لا يعتق، ولو كاتبه على قيمتها كانت الكتابة فاسدة، لأن البدل مجهول القدر، لأن القيمة إنما تعرف بالحزر والظن، فرب مقوم يقومه بألف، ورب مقوم يقومه بألف إلا عشرة، وإذا كانت القيمة تحتمله لهذه المقادير فإذا كاتبه على قيمته فكأنه كاتبه على آخر هذه المقادير، وهناك تعذرت الكتابة بجهالة البدل كذا هاهنا.
فرق بين هذا وبينما إذا كاتبه على عبد فإنه يجوز، وإذا كانت تجب بهذه التسمية قيمة عبد وسط، ولهذا لو أتى بقيمة العبد يجبر المولى على القبول وهي بجهالة القدر، والفرق أن القيمة بتسمية العبد تجب حكماً لا قصداً فإنه نص على تسميته العبد، وهاهنا قيمته القيمة تثبت قصداً، فإنه نص على تسمية القيمة فكانت مقصودة، وقد ثبت الشيء حكماً بغيره، وإن كان لا يثبت قصداً، فإذا أدى قيمته إلى المولى وقبل المولى يعتق.
فرق بين هذا وبينما إذا كاتبه على ثوب وإذا آتى المولى ثوباً حيث لا يعتق، وفي الموضعين جميعاً الكتابة قد فسدت.(4/460)
-----
والفرق أن في الكتابة مسميان: معاوضة وتعليق عتق، فإذاً العوض إما معاوضة فلوجوده العوض من الجانبين وإما تعليق عتق بأداء العوض فإن وجد التعليق أن يتعلق بنزول الحر الشرط يوجد في المستقبل وفي الكتابة تعليق وقوع العتق بأداء ما صار عوضاً، قلنا: والقيمة تصح عوضاً لأنها معلوم الجنس ويصير معلوم القدر عند الأداء، وإذا صلح عوضاً وهو ملفوظ به تعلق العتق بأدائه فأما الثوب لا يصح عوضاً لأنه مجهول الجنس والقدر، وما لا يصلح عوضاً في المعاوضات لا يتعلق العتق بأدائه في الكتابة، لأن عتق المكاتب معلق بأداء العوض فلا يعتق بأداء الثوب.
ثم فيما إذا كاتبه على قيمته ذكر أنه يعتق بأداء القيمة، ولم يذكر أن أداء القيمة..... يثبت، قالوا: أداء القيمة إنما يثبت بأحد أمرين إما أن يتصادقا على إيفاء أداء قيمته فيثبت كون المؤدى قيمته بتصادقهما لأن الحق فيما بينهما لا يعدوهما وصار كضمان الغصب البيع الفاسد.
وإن اختلفا يرجع إلى تقويم المقومين فإذا تفق اثنان على قدر يجعل ذلك قيمته له وإن اختلفا قوم أحداهما بألف والأخرى بألف وعشرة لا يعتق ما لم يؤد أقصى قيمته.
ثم في فصل الثوب فرق بين الكتابة وبينهما إذاقال: له إن أديت إلي ثوباً فأنت حر فأدى إليه ثوباً يعتق، وإذاكاتبه على ثوب فأدى إليه ثوباً لا يعتق والكتابة تعليق العتق بأداء المسمى كقوله: إذا أديت إلي، والفرق أن التعليق في الكتابة إنما يثبت بعقد المعاوضة فإنما يثبت التعليق بأداء ما يصلح عوضاً والثوب لا يصلح عوضاً لكونه مجهول الجنس والقدر فلم يتعلق العتق بأدائه.
فأما في قوله: إن أديت التعليق فانتقضا لأنها معاوضة فيتعلق بما سمى لأنها تصلح عوضاً وقد سمى ثوباً يتعلق العتق بأدائه، ولم يذكر محمد رحمه الله فيما إذا كاتبه على ثوب أنه أدّى قيمة نفسه هل يعتق أم (لا)؟(4/461)
-----
وذكر فيما إذا كاتبه على حكمه أو على حكم العبد أنه لا تجوز الكتابة وإذا أدى قيمته لا يعتق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله لا فرق بين المسألتين، لأن في المسألتين جميعاً ما سمي لا يصلح عوضاً لأنه مجهول القدر والجنس، ثم قال في تلك المسألة: أنه لا يعتق بأداء القيمة فكذلك في مسألة الثوب.
قال رحمه الله: وهذا الذي ذكر قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، فإن على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله متى كان المسمى لا يصلح عوضاً بجهالة القدر أو بجهالة الجنس، فإنه لا يعتق العبد بأداء القيمة ولا تنعقد هذه الكتابة أصلاً لا على المسمى ولا على القيمة، وكذلك لو قال له: كاتبتك وسكت عن ذكر البدل، لا تنعقد الكتابة أصلاً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وهذا لأن في الكتابة شأن معاوضة وتعليق عتق بأداء ما يصلح عوضاً واعتبار معنى المعاوضة إن كان يوجب انعقادها على القيمة، وإن لم تكن القيمة ملفوظاً بها كما في البيع الفاسد، فمعنى التعليق يمنع انعقادها على القيمة إذا لم تكن القيمة ملفوظاً بها لأن التعليق بالشرط لا يثبت في موضع ما مر غير لفظ فإن أدى حد الشرط أن يكون ملفوظاً بها فاعتبار أحد المعنيين يوجب الانعقاد والآخر يمنع، والانعقاد لم يكن ثابتاً فلا يثبت بالشك، بخلاف البيع لأن البيع معاوضة من كل وجه، والعوض مما يثبت في المعاوضات من غير شرط كما في الغصب، وكما لو أكل طعام غيره حالة المخمصة.(4/462)
-----
فأما شرط العتق في موضع لا يثبت من غير لفظ متى كان ليثبت التعليق واللفظ، ولا يقال على هذا بأن التعليق في باب الكتابة يثبت تبعاً للمعاوضة، ولهذا قبل الفسخ فلا يشترط لصحة شرائط التعليق، ولو كان التعليق يثبت نصاً، لأنا نقول: لا يسلم بأن التعليق في الكتابة بيع، وهذا لأن تعليق العتق بأداء ما يصلح عوضاً من حكم الكتابة لأن الحكم الكتابة للحال حرية اليد، وفي الثاني: تعلق عتقه بأداء العوض، وإذا كان تعلق العتق بأداء العوض من حكم الكتابة ثابتاً مقصوداً لا بيعاً، ألا ترى أن ملك المشتري لما كان حكماً للمشتري لأن الشراء موضع الملك المشترى كان ملك المشتري ثابتاً بالشراء مقصوداً، فكذلك الكتابة موضوعة لإثبات حرية اليد للحال ولتعلق حرية الرقبه بالأداء في الثاني فيكون التعليق ثابتاً بالكتابة مقصوداً لا بيعاً، ولهذا لم ينفك عقد الكتابة عن هذا الحكم كما لم ينفك عن إثبات حرية اليد.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب المكاتب»: أن المسمى في الكتابة إذا لم يكن مالاً متقوماً، لا تنعقد الكتابة أصلاً كما إذا كاتبهما على حكمه أو حكم العبد (338ب1).
فإن حكمه قد يكون بغير المال، أو كاتبها على ميتة لا تنعقد الكتابة أصلاً على المسمى ولا على القيمة فلا يعتق بأداء القيمة. وإذا كان المسمى في الكتابة مالاً متقوماً إلا أنه مجهول الجنس أو القدر ينعقد العقد على القيمة، ويعتق بأداء قيمته.
وفي «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا كانت عنده خمسة أثواب يهودية جاز، وله خمسة أثواب فيهما، وإن جاءت بقيمتها أجبر المولى على الآخذ، وإن كان قد سمى رفعها وجنسها وطولها وعرضها وأصلها لم يجبر على قبول القيمة؛ لأن بذكر الأخذ صار في معنى التسليم.(4/463)
-----
وفيه أيضاً: إذا كاتب عبداً له على وصف ولم يسمِّ له قيمة فهو جائز، ويؤخذ قيمة أعلى الوصف، أو أوسطها، أو أوكسها فيعطى له ثلث الجملة، ولو أدى الأعلى من الوصف أو الوسط قُبل منه ولو أدى الأوكس لا يجوز إلا أن يتجوز به المولى.
وفي «البقالي»: إذا كاتبه بكذا، فإن عجز فبكذا لم يجز، وقيل: معناه لا تجوز الثانية. إذا قال: فإن عجزت فقد كاتبتك بكذا، وإنما لا يجوز الكل إذا أشار في الثانية إلى الأولى فيقول: قال إن عجزت فبكذا، ولم يقل: فقد كاتبتك بكذا حتى يصير البدل مجهولاً.
وفيه أيضاً: إذا كاتبه على ألف على أن يؤدي منها كل شهر كذا أو ثوباً صفته كذا جاز. وفيه أيضاً: إذا كاتب بألف درهم على أن يرد المولى عليه وصفاً وسطاً لم يجزء.
وعن أبي يوسف: أنه يقسم الألف على قيمتها فيسقط حق الوصف، وعلى هذا الاختلاف مسألة ذكرها في «الجامع الصغير».
وصورتها: رجل كاتب عبداً له على مائة دينار على أن يردّ المولى عليه عبداً بغير عينه، فالمكاتبة فاسدة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقسم المائة دينار على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد وسط فيبطل حصة العبد، ويكون مكاتباً بما بقي، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الكتابة لو فسدت إنما تفسد لمكان اشتراط العبد، غير أن اشتراط العبد في الكتابة لا يفسدها، ألا ترى أنه لو كاتب عبده على عبد يجوز وينصرف إلى عبد وسط.
وجه قولهما: أن هذا عقداً يشتمل على بيع وكتابة؛ لأن ما كان من الدنانير بأن العبد الذي يرده المولى فهو بيع، وما كان منها بإزاء رقبة المكاتبة فهو كتابته، والبيع قد حصل بجهالة الثمن والمعقود عليه، فلو جازت الكتابة إنما تجوز بما يخصها من المائة دينار، والكتابة بما يخصها من البدل لا يجوز، فإنه لو كاتب عبداً له بما يخصه من الألف لو قسم الألف عليه وعلى عبد آخر له لا تجوز الكتابة فكذا ههنا.
(4/464)
-----
وإذا كاتبه على مالٍ معينٍ أقر المكاتب بأن كاتبه مثلاً على عبدٍ بعينه أو على عرض بعينه فهو بعين المكاتب فقد ذكر في «الجامع الصغير» مطلقاً أنه لا يجوز.
وفي الحاصل: المسألة على وجهين
إما إن لم يجز صاحب العين، أو أجازه.
إن لم يجزه لا تجوز الكتابة؛ لأن الكتابة من حيث أنها عقد يقال ويفسخ نظير البيع، ولو اشترى شيئاً بِعَرَضِ لغيره ولم يجزه صاحب العرض، فإن الشراء لا يصح وكل تلك الكتابة، وهذا بخلاف ما لو تزوج امرأة على عرض لغيره ولم يجزه صاحب العرض، فإن النكاح يجوز، وكان للمرأة أن ترجع على الزوج بقيمة العرض، والكتابة لا تجوز وذلك لأن النكاح مما لا ينفسخ بهلاك الصداق قبل القبض، فكذلك بالإلحاق لا ينفسخ.
وإذا لم ينفسخ النكاح بقي السبب الموجب لتسليم العرض والزوج عاجز عن ذلك، وكان عليه تسليم قيمته.
فأما الكتابة مما يحتمل الفسخ بالإقالة، فكان كأنه بيع. وفي باب البيع: إذا لم يجز صاحب العرض لا يجوز فكذا الكتابة، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» وأصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز، حتى أنه إن ملك وذلك العين فأداه إلى المولى عتق، وإن عجز عن أدائه رَدّهُ المولى في الرق؛ لأن المسمى مالٌ متقوم، وقدرته على التسليم بما يحدث له فيه من الملك موهوم فتصح التسمية كما في الصداق إذا سمى عبد غيره فإنه تصح التسمية بهذا الطريق.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا ملك ذلك العين فأدى لا يعتق إلا أن يكون المولى قال له: إذا أديت إليَّ فأنت حر، فحينئذ بحكم التعليق تعلّق؛ لأن ملك الغير لم يصر بدلاً في هذا العقد بتسميته لأنه غير مقدور التسليم به.
وإذا لم يُسَمِّ شيئاً آخر معه لم ينعقد العقد أصلاً، فلا يكون العتق بحكم العقد، وإنما يكون باعتبار التعليق بالشرط، فإذا لم يصرح بالتعليق.(4/465)
-----
قلنا: إنه لا يعتق كما لو كاتبه على ثوب أو ميتة، وأما إذا أجازه صاحب العرض؛ قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: يجب أن تكون المسألة على روايتين: في رواية يجوز وفي رواية لا يجوز؛ لأنه متى أجازه صاحب العرض صار صاحب العرض مقبوضاً من العبد كما في البيع فيصير العرض من كسبه، والمولى متى كاتب عبده على عين في يده وهو من كسبه بأن كان عبداً مأذوناً في التجارة في يده عين من كسبه هل تصح الكتابة أم لا؟ قالوا: فيه روايتان: في رواية يجوز وهو رواية كتاب الشرب، فقد ذكر في كتاب الشرب: إذا كاتب عبده على أرض في يده جازت الكتابة، وفي رواية: وأنه لا يجوز.
بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: وقفنا في رواية الجواز في كتاب الشرب ولم نقف على رواية الفساد وهي في آخر كتاب المكاتب في «الأصل» وقيل: أشار في نكاح «الأصل» إلى هذه الرواية وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله نصّاً أنه لا يجوز، فصار في المسألة روايتان، واتفقت الروايات: أنه لو كاتب على دراهم في يد العبد من كسبه أن الكتابة جائزة.
(4/466)
-----
وجه الرواية التي قال: لا يجوز وهو أنا متى جوزنا الكتابة على العين لا يخلو إما أن يجعل العبد أحق بهذه العين أولاً ثم يجعله بدل الكتابة بعدما صار أحق به أو لا يجعله أحق به، فإن لم يجعله أحق به لم نجز هذه الكتابة؛ لأنها لا تفيد شيئاً. قال: العين قبل الكتابة مملوك للمولى رقبة ويداً، فهو بقي كذلك بعد الكتابة فلم يصر العبد أحق به لم يستفد المولى، بهذه الكتابة شيئاً، لا ملك الرقبة، ولا ملك التصرف، فكان بمنزلة ما لو اشترى شيئاً من العبد المأذون ولا دين عليه، وإن جعلناه أحق به لا يجوز أيضاً. وإن كان لو جاز لأفاد أن المولى يستفيد به ملك التصرف، وذلك لأنا متى جوزنا الكتابة على العين بهذه الطريق لا يتحقق معنى الكتابة، وذلك لأن تغيير الكتابة شرعاً إيجاب حريتين على سبيل التعاقب والترادف، وهو إثبات حرية اليد ثم حرية الرقبة على ما بيّنا، ومتى جوزنا الكتابة على العين تثبت الحريتان معاً لا على سبيل التعاقب فيكون إعتاقاً على مال ولا يكون كتابة.
بيانه: أن العبد إذا صار أحق بالعرض أولاً يصير العرض مملوكاً للمولى على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه بعد الكتابة عرضاً يصير مملوكاً للمولى حقيقة بنفس الشراء، حتى لو اشترى امرأته من المكاتب فسد النكاح بنفس الشراء وإذا ملكه بنفس العقد يعتق العبد كما فرغا من العقد، فتثبت حرية اليد والرقبة معاً لا على سبيل الترادق فيكون إعتاقاً على مالٍ حينئذ لا كتابة.g(4/467)
-----
فإذا دُبِّرَ تجويز الكتابة على العين متعذر ما لو كاتب على الدراهم التي في يده لأنا لو جوزنا الكتابة على هذه الدراهم، وجعلنا العبد أحق به، فإن العقد لا يتعلق بعينه حتى يملك المولى حقيقة بنفس العقد، وإنما (339أ1) يتعلق العقد بمثله ديناً في الذمة؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات عندنا، وما ثبت ديناً في ذمة العبد للمولى، فإنما يملك المولى على الحقيقة بالقبض، ولهذا لم تصح الكفالة بها. وإذا توقفت حقيقة الملك في الدين على القبض يتحقق معنى الكتابة، فإنه يثبت حرية اليد للحال، وحرية الرقبة في الثاني إذا صار بدل الكتابة فهو كالمولى على الحقيقة، فأما إذا كان عيناً فإن المولى يملكه على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه.
ووجه الرواية التي قال بأنه تجوز الكتابة على دراهم في يد العبد يجوز، ويصير العبد أحق به، ومتى صار أحق به أفادت الكتابة فائدتها، فيجوز قوله، وإن صار أحق به لا تجوز الكتابة على العين؛ لأنه ثبتت الحريتان معاً، ويكون عتقاً على مال الكتابة.
(4/468)
-----
وجه الرواية التي قال: لا يجوز وهو أنا متى جوزنا الكتابة على العين لا يخلو إما أن يجعل العبد أحق بهذه العين أولاً ثم يجعله بدل الكتابة بعدما صار أحق به أو لا يجعله أحق به، فإن لم يجعله أحق به لم نجز هذه الكتابة؛ لأنها لا تفيد شيئاً. قال: العين قبل الكتابة مملوك للمولى رقبة ويداً، فهو بقي كذلك بعد الكتابة فلم يصر العبد أحق به لم يستفد المولى، بهذه الكتابة شيئاً، لا ملك الرقبة، ولا ملك التصرف، فكان بمنزلة ما لو اشترى شيئاً من العبد المأذون ولا دين عليه، وإن جعلناه أحق به لا يجوز أيضاً. وإن كان لو جاز لأفاد أن المولى يستفيد به ملك التصرف، وذلك لأنا متى جوزنا الكتابة على العين بهذه الطريق لا يتحقق معنى الكتابة، وذلك لأن تغيير الكتابة شرعاً إيجاب حريتين على سبيل التعاقب والترادف، وهو إثبات حرية اليد ثم حرية الرقبة على ما بيّنا، ومتى جوزنا الكتابة على العين تثبت الحريتان معاً لا على سبيل التعاقب فيكون إعتاقاً على مال ولا يكون كتابة.
بيانه: أن العبد إذا صار أحق بالعرض أولاً يصير العرض مملوكاً للمولى على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه بعد الكتابة عرضاً يصير مملوكاً للمولى حقيقة بنفس الشراء، حتى لو اشترى امرأته من المكاتب فسد النكاح بنفس الشراء وإذا ملكه بنفس العقد يعتق العبد كما فرغا من العقد، فتثبت حرية اليد والرقبة معاً لا على سبيل الترادق فيكون إعتاقاً على مالٍ حينئذ لا كتابة.g(4/469)
-----
فإذا دُبِّرَ تجويز الكتابة على العين متعذر ما لو كاتب على الدراهم التي في يده لأنا لو جوزنا الكتابة على هذه الدراهم، وجعلنا العبد أحق به، فإن العقد لا يتعلق بعينه حتى يملك المولى حقيقة بنفس العقد، وإنما (339أ1) يتعلق العقد بمثله ديناً في الذمة؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات عندنا، وما ثبت ديناً في ذمة العبد للمولى، فإنما يملك المولى على الحقيقة بالقبض، ولهذا لم تصح الكفالة بها. وإذا توقفت حقيقة الملك في الدين على القبض يتحقق معنى الكتابة، فإنه يثبت حرية اليد للحال، وحرية الرقبة في الثاني إذا صار بدل الكتابة فهو كالمولى على الحقيقة، فأما إذا كان عيناً فإن المولى يملكه على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه.
ووجه الرواية التي قال بأنه تجوز الكتابة على دراهم في يد العبد يجوز، ويصير العبد أحق به، ومتى صار أحق به أفادت الكتابة فائدتها، فيجوز قوله، وإن صار أحق به لا تجوز الكتابة على العين؛ لأنه ثبتت الحريتان معاً، ويكون عتقاً على مال الكتابة.
قلنا: هكذا أن لو جعلنا قبل الكتابة رقبة العَرَض فيقال: ثبت الملك للمولى في رقبة العرض بنفس العقد، كما لو اشترى فتثبت الحريتان معاً لا على سبيل التعاقب والترادف بحدَ لا يجعل الكتابة رقبة العرض بل يجعل بدل الكتابة ملك التصرف في العرض، فثبت للمولى بعقد الكتابة، فكل التصرف في العَرَض وملك الرقبة كما يصلح عوضاً في المعاوضات، فملك التصرف يصلح عوضاً، ألا ترى أنه إذا اشترى ربُّ المال من المضارب ولا ربح في مال المضاربة صح الشراء باعتبار ملك اليد والتصرف.(4/470)
-----
وإذا صلح ملك اليد والتصرف عوضاً كما يصلح ملك الرقبة عوضاً جعلنا بدل الكتابة ملك التصرف لا ملك الرقبة، بل تبقى الرقبة على ملك المولى. إنما جعلناه هكذا تصحيحاً للكتابة، وهذا لأنا متى جعلنا البدل ملك الرقبة لا تصلح الكتابة؛ لأنه يثبت الحريتان معاً لا على سبيل الترادف؛ لأن ملك التصرف إنما يصير للمولى بعد العتق فيثبت للمكاتب بحرية اليد بنفس العقد، وتثبت حرية الرقبة بعدما ثبت ملك الرقبة للمولى بالقبض، فتثبت الحريتان على سبيل الترادف، فجعلناه كذلك تصحيحاً للكتابة بقدر الممكن بخلاف البيع، وذلك لأنا إذا جعلنا هذا كملك الرقبة معقوداً عليه مع ملك التصرف لا يؤدي إلى الفساد فجعلنا كلا الأمرين معقوداً عليه، كما لو اشترى من الحرّ.
وكذلك لو قال: كاتبتك على كُرِّ فلان بعينه أو طعام فلان بعينه؛ لأن ما سوى الدراهم والدنانير من المكيلات والموزونات مما يتعين بالتعيين في المعاوضات. وإذا تعيّنا بالتعيين كان الجواب في المكيل والموزون كالجواب في العروض سواء.
فإن قال: كاتبتك على ألف فلان هذه فإن الكتابة تجوز، وذلك لأن الدراهم والدنانير مما لا يتعينان بالتعيين في عقود المعاوضات عندنا، حتى لا يتعلق العقد بعين ما أضيف إليه، وإنما يتعلق بمثله ديناً في الذمة، وإذا لم يتعينا بالتعيين. صار وجود هذا التعيين وعدمه بمنزلة.
ولو عُدم التعيين بأن قال: كاتبتك على ألف درهم جاز، فكذا إذا وجد ولم يكن لها غيره، فإن أدى إليه تلك الألف بعينها لا شك أنه يعتق، وإن أدى ألفاً غيرها فكذلك.
فرق بين هذا وبينما إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألف فلان هذه فأنت حر، فأدى غيرها فإنه لا يعتق وفي الكتابة تعليق عتق، كما في قوله: إن أديت إليَّ ألفاً فأنت حر، والفرق ما ذكرنا أن التعليق في باب الكتابة ثابت بالمعاوضة فيتعلق الأداء بما هو عوض، والتعيين هاهنا دخل على ما هو عوض.
(4/471)
-----
والتعيين متى دخل على العوض وهي الدراهم أو الدنانير كان التعيين لغواً كما في سائر المعاوضات، وإذا أُلغي صار هذا التعيين وعدمه بمنزلة، فأما التعليق بقوله: إن أديت إليّ ألفاً فأنت (....) في المعاوضة؛ لأن هذا ينعقد يميناً للحال، والتعيين دخل هاهنا على الشرط لا على العوض. والتعيين إذا دخل على الشرط يكون معتبراً.
قال: وإذا كاتب المسلم عبده على خمر أو خنزير فالكتابة فاسدة؛ لأن لخمر والخنزير كل واحد منهما ليس بمال متقوم في حق المسلم. وتسمية ما ليس بمال متقوم في عقد يحتاج فيه إلى التسليم يوجب فساد العقد كالبيع. فإن أدى ذلك قبل أن يترافعا إلى القاضي عتق، وعليه قيمة نفسه؛ لأن الكتابة قد فسدت، والمعقود عليه في العقود الفاسدة مضمون بالقيمة.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن عند زفر رحمه الله لا يتعلق إلا بأداء قيمة نفسه؛ لأن البدل في الكتابة الفاسدة هي القيمة، وإنما يعتق المكاتب بأداء البدل. وعند أبي يوسف رحمه الله أدى المشروط أو قيمة نفسه فإنه يعتق؛ لأن البدل صورةً هو المشروط، والعتق يتعلق بأدائه، ومن حيث المعنى البدل هو القيمة فإن هو أدى يعتق.
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الكتابة إذا كانت فاسدة بأن حصلت على ألف رطل من خمس أو على عبد لرجل أو ما أشبه ذلك. وأداء المكاتب إلى المولى ما شرط في عقد الكتابة عتق، ويسعى في تمام قيمته. قال: وقال أبو يوسف وأبي حنيفة رحمه الله أنه قال المولى في عقد الكتابة: إن أديت إليّ فأنت حر عتق عبده بالأداء، وعليه تمام قيمته.
وإذا لم يقل ذلك في عقد الكتابة لم يعتق. وقال أبو يوسف رحمه الله ينبغي أن في قول أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا قال: إن أديت إليّ فأنت حر أنه إذا أدى عتق ولا شيء عليه.(4/472)
-----
وإن كاتب الرجل عليه وهو خياط أو صباغ على عبد مثله يعمل عمل القياس أن لا تصح هذه الكتابة. وفي الاستحسان: يصح. وجه القياس: أنه جعل بدل الكتابة ما لا يمكنه التسليم؛ لأنه جعل بدل الكتابة عبداً موصوفاً بصفة، وقد يكون عبدان على تلك الصفة ويتفاوتان في القيمة تفاوتاً فاحشاً، فالمولى يطالبه بأكثرها قيمة، وهو سلّم أدناهما قيمة بخلاف ما لو ذكر العبد مطلقاً لأن المستحق بهذا عبد وسط، فأما هاهنا المستحق عبد على الصفة التي ذكره المولى وعلى هذه الصفة يتفاوتان.
وجه الاستحسان: أن العبدين على الصفة الذي وصفه المولى إن كانا يتفاوتان في القيمة إلا أن المولى يجبر على قبول أقلهما قيمة كما في الوسط، فإن القيمة بين وسط ووسط مما يتفاوت، ولم يمنع ذلك جواز الكتابة لأن المولى يجبر على قبول أقلهما قيمة فكذلك هذا.
وإذا كاتب الرجل إلى الحصاد أو إلى الدياس، القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز. وجه القياس أن الجهالة دخلت في قدر الأجل فيعتبر بجهالة دخلت في قدر الرجل والبدل، والجهالة في قدر البدل يوجب الفساد قلّ أو أكثر بأن كاتبه على قيمته، فكذلك في قدر الأجل.
ودليله: ما لو كاتبه بألف درهم إلى وقت هبوب الريح، بخلاف ما لو كاتبه على وصف أو إشاره لأن الجهالة في الوصف لا في القدر.
وفي الاستحسان يجوز؛ لأن الجهالة وإن دخلت في قدر الأجل إلا أن حال الأجل أضعف من حال البدل؛ لأن البدل دين في باب العقد لا يجوز العقد بدونه. والأجل شرط زائد يجوز العقد بدونه فكان حال الأجل دون حال البدل، فقيل بأن الجهالة في قدر البدل يمنع حجة العقد قلّ أو كثر ليظهر مؤنة حاله والجهالة في قدر الأجل إن كان قليلاً لا يوجب الفساد ويكون بمنزلة جهالة يتمكن في صفة البدل، وإن كانت فاحشة كما في هبوب الريح يوجب الفساد، ويُعتبر بجهالة قدر يتمكن في البدل ليظهر نقصان حال الأجل من حال البدل.(4/473)
-----
وإن كاتب الرجل عبده على ألف درهم، وفي يد العبد ألف درهم أو أقلّ أو أكثر كانت الكتابة جائزة وكانت ينبغي أن لا يجوز إذا كان في يده أكثر (339ب1) من ألف أو أقل لأنه ربا، ألا ترى أنه إذا اشترى منه ألفاً بألفين بعد الكتابة فإنه لا يجوز، وإنما لا يجوز لمكان الربا.
والفرق: أن حكم هذا الربا أخف من حكمه بعد الكتابة؛ لأن العقد هنا يوجد مع العبد فلا ربا بين المولى وبين العبد، وحكمه يقع هاهنا بعد الكتابة والربا يجري بين المولى ومكاتبه، فباعتبار العقد لا يكون هذا ربا، وباعتبار الحكم يكون ربا فكان ربا من وجه دون وجه، فيشبه هذا الوجه الاعتياض عن الأقل؛ لأن ذلك ربا عند بعض الفقهاء فليس بربا عند البعض فكان ربا من وجه دون وجه فجاز، فكذاكم بخلاف ما لو وجد هذا العقد بعد الكتابة لأنه ربا باعتبار العقد والحكم جميعاً، فكان ربا من وجه دون وجه ملحق بالعبد المأذون؛ لأن المكاتب بين الحر والعبد والله أعلم.
الفصل الثالث في الشروط والخيار في الكتابة
قال محمد رحمه الله: إذا كاتب الرجل عبده على أن يخدمه شهراً، القياس: أن لا يجوز، وفي الاستحسان: يجوز.
وجه القياس: أن الخدمة مجهولة الجنس قد تكون في البيت وإنها مختلفة قد تكون طبخاً وقد تكون كنساً وقد تكون خارج البيت وإنها مختلفة أيضاً، وقد تكون سعياً وقد يكون تكسير حطب وشراء شيء والتفاوت الكبير يوجب اختلاف الجنس وجهالة الجنس توجب فساد الكتابة.
قال مشايخنا رحمهم الله: ذِكْرُ القياس في الكتابة يكون ذكرَ في الإجارة فيقال فيما إذا استأجر رجلاً ليخدمه شهراً: أنه لا يجوز قياساً من طريق الأولى؛ لأن الكتابة أسرع جوازاً من الإجارة.(4/474)
-----
وجه الاستحسان: أن أعمال الخدمة معلومة فيما بين الناس عرفاً، والمعروف فيما بين الناس كالمشروط، وبهذا جازت الإجارة وإن لم يبين نوع الخدمة، وينصرف مطلق اسم الخدمة إلى ما يعتاد خدمة فيما بين الناس في البيت وخارج البيت فكذا هاهنا قيل أولى؛ لأن الكتابة أسرع جوازاً من الإجارة.
وكذلك إذا كاتبه على أن يخدم فلاناً شهراً صح استحساناً لا قياساً.
ولو كاتب عبده على ألف درهم على أن يؤديها المكاتب إلى غريم له كانت الكتابة جائزة، فرق بين الكتابة وبين البيع، فإنه إذا باع عبده بألف درهم على أن يؤدي المشتري إلى غريم البائع كان البيع فاسداً، وقد شرط في الموضعين شرطاً لا يقتضي العقد؛ لأن العقد في الموضعين لا يقتضي الأداء إلى غير العاقد، وللمولى والبائع في هذا الشرط فائدة، فإنه يسقط عن نفسه مؤنة القضاء إلى غريمه، والناس يتفاوتون في الاستيفاء أيضاً مع هذا حكم بفساد البيع ولم يحكم بفساد الكتابة.
والوجه في ذلك: أن البيع بمثل هذا الشرط إنما يفسد ليست بالربا لأنه شرط على المشتري لنفسه منفعة ليس بأدائها عوض، والربا ما ملك بالبيع وخلا عن العوض، والربا يفسد البيع، وفي الكتابة لا يصير ربا؛ لأنه خالٍ ما تشترط عليه هذه الزيادة المكاتب عبده؛ لأن العقد يجري بينهما وهو عبد، وحكمه ثبت وهو مكاتب فكان ربا من وجه باعتبار الحكم، ولو لم يكن ربا باعتبار العقد ومثل هذا لا يفسد الكتابة، كما لو كاتب عبداً له على نفسه مما في يده من المال بألف درهم، وفي يد العبد ثلاثة آلاف درهم.
وكذلك لو كاتبه على ألف درهم على أن يضمها لرجل على من سيده فالكتابة جائزة، ولو كان مكان الكتابة بيعاً بأن باع عبداً له من رجل بألف درهم على أن يضمن المشتري الثمن عنه لغريم البائع فالبيع فاسد والفرق ما ذكرنا. قال: والضمان جائز أيضاً، وهذا الاستحسان والقياس أن لا يجوز.
(4/475)
-----
قال: ولو قال العبد للمولى: كاتبني على ألف درهم على أن أعطيها من مال فلان فلا تجوز هذه الكتابة، وطريقه أنهما وإن شرطا في الكتابة شرطاً لا تقتضيه المكاتبة إلا أنه لا منفعة للمولى في هذا الشرط؛ لأن الألف من ماله ومن مال فلان في حق المولى على السواء، واشتراط ما لا يقتضيه العقد إذا لم يكن للمشروط فيه منفعة لا يوجب فساد العقد من ذلك في كتاب البيوع.
قال في «الجامع الصغير»: إذا شرط المولى على المكاتب أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه فهذا الشرط باطل والكتابة جائزة، وإنما كان الشرط باطلاً لأنه تخصيص لما دخل تحت الكتابة من حيث المكان؛ لأن إبطال الإطلاق إلى الأماكن كلها للتجارة دخلت تحت الكتابة؛ لأنه طريق التجارة واكتساب المال. قال الله تعالى: {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل ا} (الجمعة: 10) وما كان طريقاً للتجارة. واكتساب المال يجب أن يكون داخلاً تحت الكتابة وثباتاً على المصر قياساً على البيع والشراء والاحتطاب والاصطياد.
قلنا: وتخصيص ما دخل تحت الكتابة يوجب فساد الكتابة، كما لو خص عليه التصرف في نوع دون نوع، إلا أن فساد هذا الشرط لا يوجب فساد الكتابة؛ لأن الكتابة تشبه النكاح من حيث أن أصل مبادلة المال بما ليس بمال في الكتابة تقابل الرق، والرق ليس بمال، ولهذا أوجب الحيوان ديناً في الذمة بدلاً عن الرق ونسبة البيع من حيث أنها تقال وتفسخ فكانت بين البيع والنكاح فألحقناها بالنكاح فلم تفسد، هذا شرط لا يقتضيه إذا كان شرطاً يمكن الوفاء به وإن كان لأحدهما فيه منفعة وألحقناها بالبيع وأفسدناها بشرط لا يقتضيه إذا كاتب عاجزاً عن الوفاء به، ولأحدهما فيه منفعة عملاً بالشبهين جميعاً. إذا ثبت هذا فنقول: إن الشرط يخرج المكاتب إن كان شرطاً لا تقتضيه الكتابة وللمولى فيه منفعة حتى يمكنه المطالبة والمطالعة كل ساعة، ويمكن للمكاتب الوفاء به فألحقناها بالنكاح فلم يفسدها به.(4/476)
-----
وفي «نوادر» المعلا عن أبي يوسف: إذ كاتب عبده على أنه إن خرج من البلدة فهو عبد والكتابة فاسدة. ولو كاتب أمته على ألف درهم على أن يطأها ما دامت مكاتبة فالكتابة فاسدة؛ لأن شرط الوطء لا تقتضيه الكتابه، وللمولى فيه منفعة ولا يمكن للمكاتب الوفاء به. فلو أدت الألف عتقت؛ لأن الوطىء لا يصلح بدلاً، فصار البدل هو الألف لا غير.
وإذا عتقت فإن كان الألف مثل قيمتها لم يجب شيء آخر وإن كان أقلّ من قيمتها فعليها تمام قيمتها؛ لأنه إنما رضي بزوال ملكه عنها بأقل من قيمتها رغبة في الشرط، فإذا لم يسلم له المشروط كان عليها تمام القيمة، فإن وطئها قبل أداء الكتابة فعليه عقرها إذا أدت وعتقت، وهذا بخلاف ما لو باع جارية بيعاً فاسداً ووطئها البائع قبل التسليم ثم سلمها فإنه لا عقر على البائع لأن هناك الملك ثبت للمشتري بالقبض، فكان البائع واطئاً ملك نفسه، وهاهنا حكم الكتابة يثبت من وقت العقد. ولهذا لو وطئها غير المولى ضمن العقر لها القيمة إلا أن في الكتابة الفاسدة لا يجب العقر للحال لأنها يفسخ بحكم الفاسد، فإذا أدت وعتقت بغير حكم الكتابة، فيجب العقر، ويجوز من اشتراط الخيار في الكتابة ما يجوز في البيع؛ لأنها عقد يحتمل الفسخ والإقالة، فيحتمل الخيار كالبيع، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز اشتراط الخيار في الكتابة لا للمولى ولا للمكاتب.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز اشتراط الخيار للمولى ويجوز اشتراطه للمكاتب.
وفي «ظاهر الرواية»: يجوز على نحو ما بينا.
وإن شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله كما في البيع، فإن أجاز صاحب الخيار في الثلاث جاز، وإن لم يمضها حتى مضت الثلاث بطلت الكتابة عنده كما في البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام إذا لم يمض من له الخيار حتى مضت الثلاث فإنه يبطل البيع عند أبي حنيفة رحمه الله كذا ههنا.(4/477)
-----
ولو اشترط المولى بالخيار لنفسه ثلاثاً فاكتسب العبد كسباً أو كاتب جاز فوطئت بشبهة ووجب العقر أو ولدت ولداً أو قتل الولد وجبت القيمة (340أ1).
ثم أجاز المولى الكتابة فكذلك، ولو باع المولى الولد أو وهبه وسلم أو أعتقه جاز تصرفاته وبطلت الكتابة كما في البيع، فإن الجارية المبيعة بشرط الخيار للبائع إذا ولدت في هذا الخيار فأعتق البائع الولد أو ردّه وكان ذلك ردّ البيع.
والمعنى في الكلّ أن الولد حرّ ومنها ولو باشر هذه التصرفات منها كان رد الكتابة فكذا في حرف منها وإذا كاتب عبده على نفسه وأولاده صغار على أنه بالخيار ثلاثة أيام فمات بعض ولده ثم أجاز الكتابة لا يسقط شيء عنه من البدل كله عليه دون الولد إذ لا ولاية له على ولده في إلزامه إياه شيئاً وكذلك لو كاتب عيدين له كتابة واحدة على أنه بالخيار فمات أحدهما ثم أجاز الكتابة جاز ولا يسقط شيء من المكاتبة.
ولو كاتب (أمته) أنها بالخيار فأعتق السيد الولد فهي على خيارها لأن إعتاق السيد الولد بجامع بقاء الكتابة فيها، ألا ترى أن بعد لزوم الكتابة لو أعتق المولى ولدها تبقى الكتابة فيها على حالها كذا هاهنا.
فإن أجازت الكتابة بعدهن ولكن لا يسقط شيء من البدل لأن في هذا تحصيل بعض مقصودها. ألا ترى أنها لو ولدت بعد نفوذ الكتابة فأعتق المولى الولد لم يحط عنها شيء من البدل، فكذا إذا أعتق الولد قبل تمام النكاح للكتابة، بخلاف ما إذا كان الخيار للمولى فأعتق الولد لأن هناك ينفسخ العقد بإعتاق الولد، أما هاهنا بخلافه.(4/478)
-----
ولو كان الخيار للمولى فأعتق المولى لا يعتق معها، بخلاف ما إذاكان الخيار لها وأعتقها المولى، فإن هناك يعتق الولد معها. والفرق أن بإعتاق المولى إياها تنفسخ الكتابة فيها، ويثبت العتق فيها بالإعتاق لا بالكتابة، والولد منفصل عنها، فأما إذا كان الخيار لها وأعتقها المولى، فبإعتاقها في هذه الصورة لا تنفسخ الكتابة فيها، فكان العتق حاصلاً بجهة الكتابة فيبيعها الولد فيه.
ولو كان الخيار للمولى فولدت ثم ماتت في مدة الخيار لا تبطل الكتابة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وله أن يجيزها. وإذا جاز يسعى الولد على نجوم الأم، فإذا أدى عتقت الأم في آخر جزء من أجزاء حياتها. وعند محمد رحمه الله تبطل الكتابة ولا تصح إجازة المولى.
وجه قول محمد رحمه الله: أن المعقود عليه مَات في مدة الخيار فيبطل العقد، كما لو باع أمةً على أن البائع بالخيار فولدت ثم ماتت. والمعنى في ذلك أن لزوم العقد عند سقوط الخيار فلا بد من بقاء من هو الأصل، والمعقود بالعقد عند ذلك. وجه قولهما: إن ألف لزم ومنها فيجعل قائماً مقامها في تنفيذ العقد عند الإجازة باعتبار حاجتها وحاجته إلى تحصيل العقد عند الأداء، ألا ترى أن بعد لزوم العقد لو مات يجعل الولد قائماً مقامها في السعاية على النجوم للمعنى الذي ذكرنا فكذا هاهنا.
وإذا كان الخيار للمولى فاشترت وباعت في مدة الخيار ثم رد المولى الكتابة فإذا لم تثبت الكتابة، لم يثبت الإذن فلا تنفذ تصرفاتها، إلا أن يراها تبيع وتشتري ويسكت فحينئذ يكون ذلك من المولى إجازة المكاتبة وتنفذ تصرفاتها وإن كان الخيار للمكاتب فتصرفه يكون إجازة للكتابة.
ولو كاتبها وشرط الخيار لنفسه فولدت ولداً ثم أسقط صاحب الخيار خياره فالولد مكاتب معها لأن حكم الكتابة عند سقوط الخيار تثبت من وقت العقد كما في البيع، فتبين أن هذا ولد المكاتبة فيصير مكاتباً والله أعلم.(4/479)
(4/480)
-----
الفصل الرابع في عجز المكاتب (و) فسخ الكتابة ليثبت عجزه
وإذا عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة، وأراد المولى أن يفسخ عقد الكتابة ويردّه في الرق إن رضي المكاتب بالفسخ لا شك أنه ينفسخ العقد بفسخهما؛ لأنه تم بهما، فينفسخ بفسخهما أيضاً كالبيع والإجازة وأشباههما، وإن لم يرض المكاتب بالفسخ ففسخ المولى العقد بنفسه ففيه روايتان: في رواية لا يصح فسخه، ويحتاج فيه إلى قضاء القاضي، وإنما كان للمولى حق فسخ الكتابة عند عجز المكاتب إما لأنه تمكن الخلل (في) مقصود المولى فتمكن الخلل في مقصود العاقد لعدم تمام الرضا، وعدم تمام الرضا في العقد المحتمل للفسخ يمنع لزومه، وكل عقد هو ليس باللزوم فللعاقد فسخه بشرائط، ولأن هذا بمنزلة العيب من حيث أنه يوجب تمكن الخلل في مقصود العاقد، وبالعيب يفسخ كل عقد يحتمل الفسخ فهذا أمر متفق عليه.
بعد هذا اختلفت الروايات في اشتراط قضاء القاضي لصحة هذا الفسخ. وجه الرواية التي قال القاضي: ليس بشرط أن هذا تمكن في أحد العوضين قبل تمام العقد لأن تمام الكتابة بالأداء؛ لأن تمام العقد لوقوع الفراغ عن استيفاء أحكامه، فيشبه من ذلك الوجه لو وجد المشتري بالمشترى عَيْبَاً قبل القبض، وهناك ينفرد المشتري بالفسخ ولا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي فهاهنا كذلك.
وجه الرواية الأخرى: أن هذا عيب تمكن في أحد العوضين بعد القبض؛ لأن المكاتب يعقد الكتابة فصار في يده، فأشبه من هذا الوجه ما لو وجد المشتري بالمشترى عيباً بعد القبض، وهناك المشتري لا ينفرد بالفسخ كذا هاهنا.f(4/481)
-----
وإن أراد المكاتب أن يعجز عن نفسه فقال المولى: لا أعجزك هل تنفسخ الكتابة؟ روي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه قال: سمعت أبا نصر محمد بن محمد بن سلمة عن ابنه محمد بن سلمه أنه قال: إذا رأى المولى أن يعجزه فله ذلك ولا تنفسخ الكتابة بتعجيزه، وكان يقول المولى يقول له: إذا أعجزتك على أن أستكسبك وأشغلك بالكسب فلي أن لا أعجزك واستكسبك فيكون الكسب لي، ولذلك قال الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: وإنه خلاف ما ذكر أصحابنا رحمهم الله في كتبهم فإنهم قالوا: للعبد أن يعجز نفسه، وذلك لأن النفقة بعد التعجيز وفسخ الكتابة تكون على المولى، وكذلك جنايته على المولى، وفي حالة الكتابة كل ذلك على العبد.
وللعبد أن يعجز نفسه ويفسخ الكتابة حتى يلزمه ذلك.
فالحاصل: أن الكتابة في جانب المكاتب على قول محمد بن سلمة لازمة، وعلى ما يقوله أصحابنا رحمهم الله في كتبهم غير لازمة وإن كانت الكتابة مؤجلة منجمة فكسب المكاتب نجماً واحداً قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يرد في الرق، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يردّ في الرق ما لم يكسب نجمين. فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن النجم الثاني جعل وقتاً لأداء ما وجب بالأول فلا يتم عجزه عن النجم الأول إلا بالثاني، ولهما ذكرنا من وجهين: أنه تمكن الخلل في المعقود عليه، وأن هذا معنى العيب، ومعنى آخر: أن النجم الأول لما مضى صار ذلك القدر حالاً فلا يوجد ثانياً بعد حلوله وفي التأخير إلى الثاني تأجيل له إلا أنه يوجد يومين أو ثلاثة إذا كان له مال حاضر أو غائب يرجى قدومه، ثم إذا كبر نجماً أو نجمين يرد في الرق وإن لم يشترط المولى ذلك العقد، لأن الفسخ والرد في الرق عند العجز من قضية عقد الكتابة شرعاً لما ذكرنا، وما يقتضيه العقد شرعاً يثبت من غير شرط.
(4/482)
-----
قال: رجل كاتب عبدين له مكاتبة واحدةً ثم إن أحدهما عجز ورده المولى أو قدمه إلى القاضي ورده القاضي ولا يعلم القاضي بمكاتبة الآخر معه فإنه يصح ردّه، وذلك لأن العبدين في حق المولى جعلا كعبد واحد على ما يأتي من حيث الحكم؛ لأن الانقسام في حقه غير ثابت كما في العبد الواحد على ما يأتي بيانه بعد هذا.
ولو كان العبد واحداً يفسخ المولى أو القاضي الكتابة في نصفه أو في كلّه حالة القدرة على الآن فإنه يكون الرد باطلاً؛ لأن شرط الرد إذا لم يوجد الرضا من العبد يفسخ الكتابة بالعجز عن أداء بدل الكتابة، ولا يتحقق عجز هذا (339ب1) ما دام الآخر قادراً لأنه يعتق بأدائه، ولهذا قلنا: لو مات أحدهما عاجزاً، فإن الكتابة لا تنفسخ؛ لأن القدرة على الأداء ثابته من جهة صاحبه، فكذلك هذا.
فإن عاد هذا الذي رد في العتق ليثبت عجزه، وجاء الآخر واستسعاه المولى في نجم أو نجمين منجز، فأراد أن يرده القاضي، فليس له ذلك، وذلك لأن رد الأول لم يصح، لأن عجزه لم يثبت من حيث الاعتبار، فبقي قادراً، وإذا بقي الأول قادراً لم يثبت عجزه؛ لأن قدرة الأول قدرة هذا، فما لم يعجزا معاً لا يثبت عجز.
ولو ان رجلين كاتبا عبداً مكاتبة واحد،ة فغاب أحدهما وقدم الشاهد العبد إلى القاضي وقد عجز لا يرده في الرق حتى يجتمع الموليان جميعاً، وهذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يشكل؛ لأن فسخ الكتابة في نصيب الشاهد دون نصيب الغائب غير ممكن على مذهبنا؛ لأن الكتابة عندهما لا تتجزأ ثبوتاً فكذا لا تتجزأ بقاء، وإذا لم يكن فسخ الكتابة في نصيبه إلا بعد الفسخ في نصيب صاحبه، والفسخ في نصيب الغائب متعذر حال غيبته لأن لا ولاية للحاضر على صاحبه تعذر الفسخ في نصيب الحاضر.(4/483)
-----
وإنما لا إشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الكتابة على قول أبي حنيفة رحمه الله تتجزأ ثبوتاً فتتجزأ بقاء، فيمكن فسخ الكتابة في نصيب الشاهد مع بقاء الكتابة في نصيب الغائب، فكان يجب أن يفسخ الكتابة في نصيبه، إذ ليس في هذا فسخ عقدعلى صاحبه وفسخ العقد في نصيبه مقيد، لأن ما اكتسب بعد هذا يكون النصف له، هذا قال: لا يصح لأن فسخ العقد في نصيب الشاهد فسخ عقد على الغائب من وجه، لأن كتابة الحاضر نصيبه ما يؤثر في نصيب الآخر حتى يمتنع بيعه، وإذا كان مؤثرأً في نصيبه وقد حصل ذلك التأثير برضاه جعل كالكاتب من جهته، وإذا صار كالثابت من جهة متى فسخ العقد في نصيبه صار فاسخاً على صاحبه قدر ما انعقد لصاحبه من وجه، كما لا يكون له فسخ عقد على صاخبه إذا اثبت العقد من جهة صاحبه من كل وجه، فكذا لك لا يجوز له فسخ عقد ثبت لصاحبه من وجه دون وجه.
وهذا بخلاف رجلين لكل واحد منهما عبد على حدة، كاتباهما كتابة واحدة ثم عجز أحدهما كان لمولاة أن يفسخ الكتابة فيه، وإن كان مولى الآخر غائباً قال: لا يفسخ، وذلك لأن الشاهد من مسألة العبدين لم يصر فاسخاً على صاحبه شئياً؛ لأن كتابة عبده لا يورث في عبد صاحبه حتى لا يمنع على صاحبه بيع عبده وإذا لم يؤثر في عبد صاحبه لم يصر فاسخاً على صاحبه شئياً، فآما هاهنا كتابة هذا الشاهد أثر في نصيب صاحبه، وقد حصل هذا الثابت بإذن صاحبه، فيصير منقولاَ إليه من وجه، فيصير ذلك القدر ثابتا من جهة صاحبه.
وإذ كان لرجل عبد وقد كاتبه فمات المولى وترك ورثة، فأراد بعضهم أن يرد المكاتبة قبل أن يجتمعوا جميعاً، قال: له ذلك.(4/484)
-----
فرق بين هذا وبين أحد الشريكين في كتابه العبد إذا أراد أن يفسخ الكتابة حالة غيبة صاحبه ليس له ذلك. والفرق أن الكتابة ههنا حصلت من الميت، وكل واحد من الورثة يقوم مقام الميت فيما يجب له وعليه، كأنه ليس معه غيره، إلا أنه إذا ادعى على الميت شيئاً، فأقام المدعي البينة على واحد من الورثة ثبت دينه في حق الكل كأنه قام على الميت.
وكذلك لو ادعى أحد الورثة ديناً للميت على إنسان وأقام البينة، فإنه يثبت الدين في حق الجميع، فدل أن كل واحد من الورثة يقوم مقام الميت فيما يجب له وعليه، وكأنه ليس معه غيره، وإذا قام مقام الميت صار خصومة الوارث الواحد بمنزلة خصومة الميت، ولو كان الميت حياً وخاصم كان يرد العبد في الرق، فكذلك هذا.
فأما أحد الشريكين لا يقوم مقام صاحبه فيما يجب له وعليه فلم (يكن) نائباً عن صاحبه في الفسخ، وفسخ الغير عقد الغير لا يصح وهو غائب إذا لم ينزعه نائب في الفسخ.
قال: فلا يرده الوارث إلا بقضاء القاضي؛ لان الميت لو كان حياً وأراد أن يرده في الرق كان لا يرده في الرق إلا بقضاء القاضي في إحدى الرواتيين، فكذلك الوارث.
فإن كان المكاتب هو الميت وترك ولدين، ولداً في المكاتبة لم يستطع المولى أن يرد واحداً منهما في الرق والآخر غائب، وذلك لأن المكاتب لما مات وجب عليهما بدل الكتابة معاً، وتعلق عتق كل واحد منهما بأداء جميع الكتابة، فصاربمنزلة عبدين كاتبهما المولى كتابة واحدة وهناك لا يرد أحدهما في الرق دون الآخر؛ لأن أحدهما لا يتحقق بدون الآخر، فكذا هذا، والله أعلم.
الفصل الخامس فيما يملكه المكاتب، وما لا يملكه
قال محمد رحمه الله: مكاتب كاتب عبداً له من أكسابه فهو جائز، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله، والقياس أن لا يجوز، وهو قول الشافعي رحمه الله.(4/485)
-----
القياس: أن الكتابة تعليق العتق بأداء المال في الحال، وإعتاق في الثاني متى أدى، وأي الأمرين ما اعتبرنا لا يملكه المكاتب، فإنه إذا قال لعبده: إذا أديب إليَّ ألفاً فأنت حر، أو أعتق عبده على مال لا يصح.
وجه الاستحسان: أن المكاتب بالكتابة استفاد حرية اليد للحال، ولهذا صار أحق بمكاتبه وحرية الرقبة في الثاني عند الأداء، فيملك إثباته لغيره، ألا ترى أن العبد المأذون يملك إذن عبده في التجارة، وألا ترى أن الحر يملك إيجاب الحرية لعبده؛ لأن حقيقة الحرية ثابتة له للحال بخلاف العتق على مال لأنه لإيجاب حقيقة العتق للحال، وهو غير ثابت للمكاتب للحال، فلا يملك إثباته لغيره.
وبخلاف مالو قال لعبده: إن أديت إليَّ ألفاً؛ لأنه تعليق عتق بالشرط مقصوداً، وهذا غير ثابت للمكاتب مقصوداً، وإنما يثبت له ضمناً لثبوت ملك الحجر عن الاكتساب بالكتابة، فلا يملك إيجابه مقصوداً لغيره لأنه غير ثابت له مقصوداً ويملك إيجابه تبعاً لأنه ثابت له، والإنسان إنما يملك إيجاب الشيء لغيره بقدر ما ثبت له.
ثم إذا أجاز كتابة المكاتب لو أدى المكاتب الثاني مكاتبته عتق لأن الكتابة عندنا صحت من المكاتب وما صحت من المكاتب كان المكاتب فيه .....، فإذا عتق الثاني الثاني بأداء مكاتبته ينظر إن كان الأول مكاتباً حال عتق الثاني فإن الولاء يثبت لمولى المكاتب الأعلى.(4/486)
-----
وإن كان حراً قالو: لا يثبت للمكاتب الأعلى إنما لمولاه، وهذا لأن المكاتب الأعلى كما صار مكاتباً للثاني فمولاه صار مكاتباً للثاني من وجه؛ لأن لكل واحد منهما حق الملك من كسب المكاتب فالكتابة داخلة تحت كتابة الأول، فتكون حاصلة بإذن المولى فينعدم ما للمولى من حق الملك من كسبه فيصير منقولا إلى المولى فيصير المولى مكاتباً له من وجه، وبقدر ما للمكاتب الأول يصير مكاتباً له إلا أن حق المكاتب في كسبه أرجح من حق المولى؛ لأن له حق ملك وحق التصرف، وللمولى حق الملك وليس له حق التصرف فإذا أمكن إثباته منهما بأن كان الأول من أهل الولاء حال عتق الثاني كان إثبات الولاء منه أولى لرجحان حقه على حق المولى، وإذا لم يكن الأول من أهل الولاء بأن كان مكاتباً أثبتناه من مولاه ثبت الولاء للمولى.
إذا أدى المكاتب الأول بعد ذلك وعتق لا يتحول الولاء إلى المكاتب الأول، وإن عجز الأول ورد في الرق ولم يرد الثاني مكاتبته بعدما بقي الثاني مكاتباً على حاله لأن كتابة القاضي قد صحت من المكاتب وكل تصرف صح من المكاتب لا يبطل بعجز المكاتب.
ونظيره العبد المأذون إذا أذن لعبده في التجارة ثم جحد المولى (340أ1).
على الأول يبقى الثاني مأذوناً.
وإذا بقي الثاني مكاتباً يصير مملوكاً للمولى على الحقيقة حتى أعتقه بعد عتقه على الحقيقة ولو أن الأول لم يعجز، ولكن مات قبل الأداء ولم يؤد الثاني مكاتبته أيضاً، فهذا على وجهين.
إما أن مات الأول وترك أموالاً كثيرةً سوى ما تركه على المكاتب الثاني من بدل الكتابة وبه وفاء ببدل كتابته، وفي هذا الوجه لا تفسخ كتابته على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فيؤدي مكاتبته ويحكم بحريته في أجزاء جزء من آخر حياته وما بقي يكون لورثته الأحرار، إن كان له ورثة أحرار، وإن لم يكن يكون لمولاه ويبقى الثاني مكاتباً على حاله يؤدي مكاتبته إلى وارث المكاتب الأول ويعتق.(4/487)
-----
وإذا أدى وعتق كان ولاءه للمكاتب الأعلى يرثه المذكور من ورثتة.
الوجه الثاني إذا مات الأول، وترك مالاً سوى ما ترك على المكاتب الثاني من بدل الكتابه وأنه لا يخلو إما أن كان مكاتبة الثاني أقل من مكاتبة الأول وفي هذا الوجه تنفسخ كتابة الأول فيكون عبداً ويبقى الثاني مكاتباً للمولى، يؤدي إليه مكاتبته ويعتق، وإن كان مكاتبة الثاني مثل مكاتبة الأول أو أكثر منه فلا يخلو إن حلت المكاتبة الثانية وقت موت الأول لا تفسخ كاتبة الأول فيؤدي الثاني إلى المولى قدر مكاتبة الأول فيحكم بحرية الثاني للحال وبحرية الأول في آخر جزء من أجزاء حياته، وما بقي من مكاتبة الثاني يكون لورثة المكاتب الأول الأحرار إن كان ورثة أحرار، ويكون ولاء الثاني للمكاتب الأول لا لمولى المكاتب الأول.
وإن لم تحل المكاتبه على الثاني بعد موت المكاتب الأول إن لم يطلب المولى الفسخ حتى حلت فالجواب فيه كالجواب فيما إذا مات الأول، وقد حل ما على الثاني وقت موته، وإن طلب من القاضي الفسخ فالقاضي يفسخ كأنه الأول لأن المكاتبه حلت على الأول وماله على الثاني مؤجل فيتعين، كما لو حل مكاتبة الأول حال حياته وله على الناس ديون مؤجلة، وهناك إذا طلب المولى من القاضي الفسخ يفسخ. كذا هاهنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في مكاتب كاتب عبداً له ثم مات الأعلى وقد ترك وقال: إنه دين على الناس فلم يخرج الدين حتى أدى الأسفل أي ابن الأعلى، فإنه يعتق وماله للمولى.
(4/488)
-----
فإن أخرج الدين بعد ذلك ونصيب الكتابة لم يحول الأسفل إلى الأعلى، إنما.... الولاء والميراث إلى يوم أداء المكاتبة ولو زوج له أب جاز لأنه اكتساب فيملك المكاتب كالكتابة وهو استحسان والقياس أن لا يجوز، ذكر القياس والاستحسان في الأصل، ولو كان وكيلاً يجوز أيضاً لأنه يملك المباشرة بنفسه فيملك التفويض إلى غيره، وإن زوج عبداً له فإنه لا يجوز لأن تزويج العبد ليس بتجارة ولا اكتساب.
قال: وإنما هو إتلاف مال من غير عوض يحصل له فإن رقبه العبد يصير مشغولاً بالمهر والنفقة من غير مال يحصل له ولا يتوقف هذا العقد أيضاً حتى لو عتق المكاتب وأجازه لا ينفذ لأنه لا يجوز له حال وقوعه، ولو وكل المكاتب بذلك رجلاً لا يجوز أيضاً لأنه لا يملك المباشرة بنفسه فلا يملك التفويض إلى غيره، فإن زوجه الوكيل قبل عتق المكاتب ولم يتوقف لم يجز وإن زوجه بعدما عتق المكاتب، فيتوقف على إجازة المكاتب لأن المكاتب يجوزه بعد العتق، فإن قال المكاتب للوكيل بعدما عتق. أجزت وكالتك رضيت بوكالتك جاز ويكون هذا توكيلاً، فالتوكيل ينفقد بلفظة الإجازة، كأن تزوج المكاتب امرأة بنفسه يتوقف على إجازة لمولاه.
وكذلك لو وكل وكيلاً بذلك فزوجه الوكيل يتوقف على إجازة المولى، فإن عتق المكاتب قبل إجازة المولى بعد ذلك النكاح على المكاتب فلا يحتاج إلى إجازته، وإن زوج أمته من عبد له فذلك لا يجوز.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه يجوز. وجه رواية أبي يوسف رحمه الله أن تزويج الأمة من عبده اكتساب مال من غير ضرر يلحقه فيكون جائزاً كتزويج الأمة.(4/489)
-----
وإنما قلنا أنه اكتساب مال لأنه اكتساب للولد من غير زيادة ضرر يلحقه وذلك لأن المهر لا يجب على المولى، ونفقتها كان عليه قبل النكاح فليس في هذا النكاح زيادة ضرر لم يكن، وفيه اكتساب مال فيجوز. ووجه ما ذكر في ظاهر الرواية وهو أن الداخل تحت الكتابة تجارة واكتساب مال، وتزويج العبد الأمة ليس تجارة ولا اكتساب مال للحال، إنما يصير اكتساب مال إذا حصل الولد، والولد قد يحصل وقد لا يحصل فليس فيه اكتساب مال للحال، وفيه نوع ضر وذلك لأنه إنما يبيع الأمة فلا يبطل النكاح فيجب على العبد نفقتها وهي أمة الغير، فإن قيل بيعهما جملة حتى لا يلحقه هذا الضرر، قلنا في بيعهما جملة زيادة ضرر يلحقه.
وإذا أذن لعبده في التجارة جاز؛ لأنه لو كاتبه جاز فإن استدان العبد ديناً يلزمه لأن الإذن صح من المكاتب وما صح من المكاتب فالمكاتب في ذلك بمنزلة الحر فإن خالف ما يطلقه العبد بالدين يباع بالدين إلا أن يؤدي عنه المولى؛ لأن ما صح من المكاتب فيه بمنزلة الحر فإن أدى المكاتب دينه حتى لا يباع العبد بدينه إن كان ما أدى مثل قيمته فإنه لا شك إنه يجوز عندهم جميعاً وذلك لأن العبد بعد لحوق الدين صار مستحقاً للغرماء فالمولى بالفداء صار كالمشتري منهم وشراء المكاتب بمثل قيمته جائز بلا خلاف فكذلك هنا.
(4/490)
-----
فأما إن كان ما فدى عن العبد أكثر من قيمته، إن كانت الزيادة على القيمة زيادة يتغابن الناس في مثلها جاز بلا خلاف. كما لو اشترى فأما إذا كانت الزيادة على قيمة العبد بحيث لا يتغابن الناس في مثلها أشار في «الأصل» إلى أنه يجوز، لأنه لم يفصل بين ما إذا كانت الزيادة على القيمة زيادة يتغابن الناس فيها أو لا يتغابن، فمن مشايخنا من قال ما ذكر في الكتاب قولهم جميعاً، وذلك لأن العبد صار كالمرهون يدين الغرماء ولو كان مرهوناً بدين المكاتب ثم إنه امتلك الرهن بقضاء الدين جاز، فإن كان ما أدى أكثر من قيمته فكذلك هذا. ومنهم من قال ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله.
فأما على قولهما لا يجوز لأنه صار كالمشتري لهذا العبد بقضاء الدين ولو اشترى بغبن فاحش كانت المسألة على الاختلاف على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فكذلك هذا بخلاف الرهن لأن الزيادة على القيمة كان واجباً على المكاتب لا يمكنه التخلص عنه إلا بالقضاء.
فأما هاهنا الدين ليس على المكاتب إنما الدين على العبد، ويمكنه التخلص عن الزيادة فيتبع هذا العبد فإذا التزم كان بمعنى الشراء يغبن فاحش لا بمعنى افتكاك الرهن، ولا يجوز هبة المكاتب وصدقته وكفارته؛ لأن هذه التصرفات لم تدخل تحت الكتابة فالحال فيه بعد الكتابة كالحال قبله، وشراؤه وبيعه حياته لأنه تجارة والتجارة داخلة تحت الكتابة، وما دخل تحت الكتابة كان المكاتب في ذلك بمنزلة الحر وإن حابى في ذلك محاباة، إن كانت يسيره بحيث يتعامل الناس في مثله جاز عندهم جميعاً؛ لأن هذا يجوز من المأذون، فمن المكاتب أولى، وإن كانت بحيث لا يتغابن الناس في مثله فكذلك يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز، والجواب فيه كالجواب في المأذون إذا باع واشترى بغبن فاحش يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز، والمسألة تذكر في المأذون إن شاء الله تعالى.(4/491)
-----
ولو حط عن الثمن بسبب عيب ادعى عليه كان جائزاً لأن الحط يثبت للعبد تجارة وما كانت تجارة (341ب1) كانت داخلة تحت الكتابة إلا أن الحط عن بعض الثمن لسبب العيب جائز من المأذون، فمن المكاتب أولى وإن حط عن بعض الثمن من غير عيب لا يجوز لأنه تبرع، ألا ترى أنه لا يجوز من المأذون فكذا من المكاتب.
وكل ما أقر به من دين فهو جائز لأنه من صنع التجار، فإن من اشترى شيئاً ولزمه الثمن لا بد له من الإقرار، ومتى لم يصح إقراره يتحد معه الناس فكان الإقرار من صنيع التجار، وإن لم يكن تجارة حقيقيه فيكون داخلاً تحت الإذن، ألا ترى أن الإقرار بالدين من المأذون صحيح فمن المكاتب أولى، وإن رهن أو أرهن فهو جائز لأن الرهن إبقاء، والارتهان استيفاء، وذلك داخل تحت الكتابة، ألا ترى أن المأذون يملك هذا؟ فالمكاتب أولى.
(4/492)
-----
وإن أجر أو استأجر فهو جائز لأن الإجارة تجارة، لأن التجارة مبادلة مال بمال والمنافع مال، ألا ترى أن الحيوان لا يثبت ديناً في الذمة بدلاً عن المنافع، وليس له أن يقرض لأن القرض تبرع والتبرع غير داخل تحت الكتابة، ولهذا لم يملكه الأب والوصي في مال اليتيم، وإنما جعل تبرعاً وإن يستوجب بدلاً لأن ما أقرض يخرج عن ملكه للحال ببدل يجب في ذمة المفلس، لأن الاستقراض لا يكون إلا من المفاليس وما يجب في ذمة المفاليس كالتأدي من وجه في الغالب وإن استقرض جاز لأنه تبرع عليه على المكاتب جائز ألا ترى أن استقراض المأذون جائز فلأن يجوز من المكاتب أولى، وإذا أعار جاز لأن الإعارة وإن لم تكن تجارة إلا أنه من صنيع التجار لا بد للتجار منه وما لا بد للتجار منه، يكون داخلاً تحت الإذن، ألا ترى أن المأذون يملك ذلك، فالمكاتب أولى وإنما قلنا لا بد للتجار منه لأنه إذا باع شيئاً في طرف رمياً لا يمكنه تسليم ما باع إلا بتسليم الطرف فيصير معتبراً للطرف وكذلك من اشترى منه شيئاً لا بد له من أن يحبس على دكانه أو على فسطاطه ويستعار السحاب فهذا مما لا بد للتجار منه.
وكذلك إذا أهدى هدية بالمطعوم، أو دعا إلى طعام فلا بأس به وهذا استحسان، والقياس أن لا يجوز لأنه تبرع، وللتجار منه في الجملة، ولكن جوز ذلك بالإنسان وهو مأذون أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل هدية بغلمان حال موته مكاتباً.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقبل هدية بريرة وهي مكاتبة، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يركب الحمار ويجيب دعوة المملوك.
وروي عن أبي سعيد مولى (.....) الاستدانة قال: عرست وأنا عبد فدعوت رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمورضي عنهم وفيهم أبو ذر. فلما حضر وقت الصلاة قدموني فصليت بهم فتركنا القياس بالاّثار، والآثار إنما ورد من المعطوف فيرد غير المعطوف من الدراهم والثبات إلى ما يقتضيه القياس.(4/493)
-----
والجواب في المأذون على هذا. وإذا باع بيعاً ما فأقال جاز لأن الإقالة تجارة، ألا ترى أنه يجوز من المأذون فمن المكاتب أولى، وله أن يدفع المال مضاربة لأنه من التجارة ولا استئجار للمضاف ببعض الربح، وله الاستئجار بأخذ المال مضاربة لأنه تجارة، ألا ترى أن المأذون يملك ذلك، ولأنه يؤاجر نفسه بما شرط من الربح، وله أن يؤاجر نفسه ويتصنع لأنه توكيل لغيره بالبيع والشراء، فله ذلك؛ لأنه من التجارة يستصنع، وإن كان إعانة للغير لأنه من صنع التجارة منه فيكون داخلاً تحت الإذن، ألا ترى أن المأذون يملك هذه الأشياء فالمكاتب أولى.Y
وإن أوصى بوصية فلا يخلو إما أن يوصي بعين من أعيان ماله أو بثلث ماله أضاف الوصية إلى حالة الحرية أو لم يضف، أدى حال حياته فيعتق، أو مات عن وفاء فأدي عنه بعد وفاته.
فإن أوصى بعين من أعيان ماله، فإن الوصية لا تصح على كل حال أضاف الوصية إلى الحرية أو لم يضف، أدى من حال حياته أم أدى عنه بعد وفاته.
وإن أوصى بثلث ماله إن أضاف إلى حال الحرية وأدى حال حياته فعتق جاز عندهم جميعاً، وإن أُدي عنه بعد وفاته فإنه لا يجوز عندهم جميعاً، وإن أوصى بثلث ماله ولم يضفه إلى حالة الحرية، إن مات عن وفاء ثم أديت كتابته فإنه لا يصح عندهم جميعاً، وإن أدى حال حياته، على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تصح هذه الوصية، وعلى قولهما تصح هذه الوصية فقد سوى بين الوصية بالعين وبين الوصية بثلث ماله، فيما إذا مات عن وفاء وأديت كتابته بعد الموت فقال: لا تصح الوصية عندهم لأن العتق في حق الوصية لا تستند، وإذا لم تستند صار في حق الوصية كأنه مات عبداً ووصية العبد لا تصح.(4/494)
-----
وفرق بين الوصية بالعين وبين الوصية بثلث ماله فيما إذا أضافه إلى حريته وأدى في حالة حياته فقال: إذا قال: إن مت وأنا حر فثلث مالي وصية لفلان، ثم أدى وعتق تصح الوصية لأنه أضاف الوصية إلى حال تجوز فيه الوصية فصحت الإضافة، كما إذا قال إن ملكت عبداً وأنا حر فهو حر تصح الإضافة لأنه أضاف العتق إلى حالة يصح منه العتق فتصح الإضافة.
ولو قال: إذا مت وأنا حر فهذه العين وصية لفلان لا تصح الوصية، والفرق أن الوصية بالعين لو صحت مضافة إلى حالة الحرية أدى إلى أن تصير الوصية مضافاً إلى وقت لا تصح إضافة الوصية إليه،
بيانه: أن الوصية بالعين إذا صحت إن انعقدت على العين كما عتق ولم يتأخر انعقادها إلى ما بعد الموت، كما لو أنشاء الوصية بعد الحرية، فإنما تنعقد للحال إذا جعلت الوصية بالعين وكان العين ملكه إليه وجبت الوصية حتى تبطل الوصية بهلاك المال.
وإذا لم تكن العين في ملكه وقت الوصية لا تصح الوصية، فكذلك إذا كانت الوصية مضافة إلى حال الحرية تنعقد الوصية كما عتق إذا كانت العين في ملكه، وإذا انعقدت الوصية كما عتق ولم يتأخر انعقادها إلى وقت الموت لم تصح هذه الوصية؛ لأن من شرط صحة الوصية أن ينعقد حالة الوصية أو حالة الموت، فأما إذا صارت مضافة إلى وقت هو بين الموت وبين التكلم بالوصية فإنه لا يصح، كما إذا قال: أوصيتك بهذا العين غداً فإنه لا يصح.
(4/495)
-----
فأما الوصية بثلث المال متى صحت لا تنعقد كما عتق، بل يتأخر الانعقاد إلى حالة الموت، ألا ترى لو أنشأ الوصية بعد الحرية وله أموال، فالوصية لا تتعلق بذلك المال، حتى لا تبطل بهلاك ذلك المال، وإنما تتعلق بمال موجود وقت الموت. وإذا تأخر انعقاد هذه الوصية إلى وقت الموت صحت الوصية، ثم في الموضع الذي لا تجوز وصية المكاتب إذا جاء ورثته ولم يسلم المال قبلهم (....) مع عن ذلك فرق بين هذا وبين الحر إذا أوصى بجميع ماله ثم إن الوارث أجاز لم يكن للوارث أن يرجع سلم المال أو لم يسلمه، وهاهنا ما لم يسلموا المال فإن لهم أن يرجعوا. ووجه الفرق بينهما وهو الحر مالك بجميع ما أوصى على الحقيقة حالة الوصية، وإنما للورثة حق غير لا والمالك متى تصرف فيما يملكه على الحقيقة ولم ينعقد بحق الغير إذا أجاز صاحب الحق ينفذ من جهة المالك، كالراهن إذا باع المرهون ثم أجاز المرتهن ينفذ البيع من جهة الراهن فكذلك هاهنا تنفذ الوصية من جهة الموصي. والوصية توجب الملك للموصى له بعد موت الموصي قبل التسليم، فأما المكاتب متى أوصى لم يكن له حقيقة ملك فيما أوصى به، وإنما كان حق الملك وحق الملك لا يكفي لصحة التبرع فصار (242أ1) وجود حق الملك في حق الوصية وعدمه بمنزلة، فكأنه أوصى بمال غيره ثم مات ثم أجاز صاحب المال، وهناك إن أجاز وسلم جاز وكان هبة من جهة، وإن أجاز ولم يسلم كان له ذلك لأن الهبة لا توجب الملك قيل التسليم. فكذلك هنا فإن أجاز وسلم. ذكر محمد بن الحسن رحمه الله في «الكتاب» قياساً واستحساناً، قال: القياس أن لا يصح وفي الاستحسان يصح، وجه القياس في ذلك وهو أن الوصية تبرع حصل من المكاتب مضافاً إلى ما بعد الموت فيعتبر بما لو تبرع بشيء من حاله حال حياته، ولو تبرع بشيء من ماله حال حياته ثم أجاز المولى وسلم قبل العجز فإنه لا يجوز.
فكذا إذا أجاز الوارث بعد وفاته وسلم وجب أن لا يجوز.(4/496)
-----
وجه الاستحسان في ذلك وهو أن الإجازة من الوارث إجازة حصلت من المالك لأن الوارث ملك كسب المكاتب بعد موته، فكانت إجازة من المالك حصلت بخلاف المولى لأنه لا يملك قبل العجز مالك المكاتب على الحقيقة وأنه له حق الملك وأنه لا يكفي بصحة الإجازة فلم تصح الإجازة من المولى قبل العجز والله أعلم.
الفصل السادس في كتابة الحر على عبد وكتابة العبد على نفسهوعلى عبد آخر وكتابة المملوك على نفسه وأولاده
قال في «الجامع الصغير» في حر مكاتب عن عبد لرجل على ألف درهم فإن أدى الحر عنه عتق، وإن بلغ العبد فقبل عنه مكاتب،
صورة هذه المسألة: أن يقول حر لمولى العبد: كاتبت عبدك على ألف درهم على أني إن أديت الألف فهو حر. فأجابه المولى إلى ذلك وكاتبه على هذا الوجه فأدى إليه الحر ألف درهم عتق العبد.
وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر فيها القياس والاستحسان.(4/497)
-----
القياس أن لا يعتق بأداء الحر، وفي الاستحسان يعتق، وكذلك لو قال عبد لمولاه: كاتبت عبدك الغائب فلاناً على ألف درهم على أني إن أديتها فهو حر فأجابه المولى إلى ذلك، وكانت على هذا ثم إن العبد المخاطب إذا أعطى الألف إلى المولى، القياس أن لا يعتق الغائب. وفي الاستحسان يعتق، والحاصل: أن على جواب القياس الكتابة في حق العبد في المسألة الأولى وفي حق الغائب في المسألة الثانية موقوفة على إجازته في حق جميع الأحكام فيما يجب له بعقد الكتابة وفيما يجب عليه، وعلى جواز الاستحسان الكتابة نافذة فيما يجب له بعقد الكتابة من حرية اليد للحال، ومن حرية الرقبة في الثاني، وهو عبد إذ المخاطب البدل لأنه يقع محض في حق العبد والمولى، والمخاطب يملكان إيقاعه، فأما فيما يجب عليه بعقد الكتابه وهو أداء المال فالكتابة موقوفة على إجازته، حتى لا يجب عليه أداء المال لأنه ضرر في حقه، والمولى والمخاطب لا يملكان الإضرار به إذا ثبت أن الكتابه على جواب الاستحسان نافذة في حق ما للعبد فتقول صحة أداء الفضولي حتى يعتق العبد بأدائه عن العبد فيعتبر الكتابه في حق هذا الحكم نافذة كما لو كان حاضراً وقبل، وإذا اعتبرت من نافذة في هذا الحكم يجب العتق عند الأداء. وذكر في «الجامع الكبير» أن الكتابة موقوفة على إجازة العبد الغائب قياساً واستحساناً قال ثمة: ولكن يعتق العبد بأداء الفضولي لأن في الكتابة شيئان تعليق العتق بالأداء، ومعنى المعاوضة فليس يوقف على الإجازة من حيث أنه معاوضة لم يتوقف من حيث أنه تعليق فتعلق العتق بالأداء فنزل عند الأداء وليس للمولى أن يرجع على العبد بشيء فيما أدى سواء ذكر المولى في الكتابة أنه ضامن أو لم يذكر، إن لم يذكر فلانه متبرع، وإن ذكر فلأن العبد لم يأمره بذلك وهل يرجع المؤدي على المولى بما أدى إليه؟ ذكر في «الجامع الصغير» وفي «الأصل»: إن كان المؤدي والمخاطب عند الآجر. القياس أن يرجع عليه لأنه بدل(4/498)
عتق وقع(4/499)
-----
عن المولى، وكان للمولى أن يرجع عليه، كما لو قال للمولى: اعتق عبدك عن نفسك على ألف درهم، فأعطاه إياه ثم أعتقه كان له أن يرجع عليه وطريقه ما قلنا.
ولكن في الاستحسان لا يرجع عليه وذلك لأنا جعلنا الكتابة نافذة في حق ما للعبد، وأن يصح أداء هذا الفضولي حتى يعتق بأدائه له لا عليه فتعتبر الكتابة نافذة في حق الفضولي، وإذا اعتبرناها نافذة في حق أداء الفضولي كان الفضولي واجباً بدل كتابه هي واجب عليه في صحة لقضاء من الفضولي فلا يكون له أن يرجع فيما أدى، كما لو كان حاضراً فقبل ثم جاء فضولي وأدى عنه بدل الكتابة، وهناك ما أدى يسلم للمولى وكذلك هذا. وذكر هذه المسألة في «الجامع الكبير» وقال: إن كان المؤدي أداه بناءً على ضمان ضمنه، بأن كان بشرط المؤدي في الكتابة أنه ضامن للمكاتبة يرجع لأن ما أدى إلى المولى من مكاتبة العبد إياه على ضمان فاسد، لأنه ضمن عن بدل الكتابة لم يجب، ولو ضمن عن بدل كتابة واجبة لا يصح، فهاهنا أولى، وإذا لم يكن الضمان صحيحاً كان كالبائع في البيع الفاسد إذا أسلم المبيع إلى المشتري كان له أن يرجع عليه، وإذا رجع المؤدي على المولى لا يرجع المولى على العبد بشيء؛ لأنه لا يجب للمولى على العبد دين ثبتت الكتابة قبل إجازة العبد ولم يوجد من العبد الإجازة فبقي مجاباً بغير شيء، أما إذا أداه من غير ضمان لم يرجع على المولى بشيء، وكان ينبغي أن يرجع لأنه متبرع بأداء المكاتبة عن العبد قبل الإجازة، فينبغي أن يرجع، كما لو تبرع بقضاء دين غيره ثم ظهر أنه لم يكن على المتبرع عليه دين كان للمتبرع أن يرجع بما يتبرع به.(4/500)
-----
والجواب أن المتبرع إذا حصل مقصوده من التبرع لا يكون له أن يرجع بما يتبرع به كما لو وهب لذي رحم محرماً ووهب الأجنبي فعوضه، وإذا لم يحصل مقصوده من التبرع كان له أن يرجع بما يتبرع به ففي مسألة قضاء الدين مقصود تفريغ ذمة من عليه، وهذا المقصود لم يحصل لأن تفريغ الفارغ محال فكان له أن يرجع، أما في مسئلتنا مقصوده تحصيل عتق العبد، وهذا المقصود قد حصل فلا يكون له أن يرجع. هذا لو أدى المؤدي قبل إجازة المكاتب جميع المكاتبة فإن أدى نصف المكاتبة أو ثلثه قبل إجازة العبد كان له أن يرجع بما أدى، سواء كان بضمان أو بغير ضمان، أما إذا أدى بضمان فلما قلنا، وأما إذا أدى بغير ضمان فلأنه متبرع لم يحصل مقصوده وهو العتق فكان له حق الرجوع بما أدى بخلاف ما لو أدى الكل على ما مر فإن لم يرجع على المولى بمال أدى حتى أجاز العبد الكتابة إن أداه بغير ضمان لا يكون له حق الرجوع بخلاف ما قبل الإجازة، والفرق بينها وهو أن العبد لما أجاز فقد استندت الإجازة إلى وقت العقد فظهر أن بدل الكتابة كان على العبد، وإن أدى بغير ضمان ظهر أن المؤدي تبرع تفضلاً على العبد من الدين فمن تبرع بقضاء دين غيره لا يكون له حق الرجوع لحصول المقصود وهو تفريغ ذمته عن هذا العدد من الدين بخلاف ما قبل الإجازة، وإن تبين أن بدل الكتابة كان واجباً إلا أن الضمان ببدل الكتابة باطل فهو إنما أدى على ضمان فاسد، فكان له حق الرجوع فكانت المكاتبه على العبد على حالها لأن المؤدي لما استرد من المولى انتقض قبض المولى فصار كأن (342ب1) المولى لم يقبض منه شيئاً حتى أجاز العبد الكتابة.
(4/501)
-----
ولو كان كذلك كان جمع المكاتبه على العبد على حالها، كذا هاهنا. وإذا كاتب الرجل عبده على نفسه وعلى عبد آخر له غائب بغير إذن الغائب وأدى عتقا أيضاً ولم يرجع واحد منهما على صاحبه إذا أدى شيئاً. كذا ذكر المسألة في «الجامعين» وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر فيها القياس والاستحسان، فقال: القياس أن تتوقف الكتابة في حق الغائب بما يخصه، وينفذ في حق الحاضر بما يخصه من بدل الكتابه.
وفي الاستحسان تنفذ الكتابة في حق الحاضر بجميع الألف ويتعلق عتق الغائب بأدائه كأن قال للغائب: كاتبتك على ألف درهم على أنك أديت إلى غائب حر وفلان الغائب معك. فيقول: لا بد لمعرفة هذه المسألة من مسألة أخرى لم يذكرها هنا، وهو ما إذا كان العبدان حاضران فكاتبهما المولى على ألف درهم فقبلا، القياس أن يصير كل واحد منهما مكاتباً بحصته يعتق إذا أدى حصته، وبالقياس أخذ زفر رحمه الله، وفي الاستحسان يصير كل واحد منهما مكاتباً بجميع الألف، ويتعلق عتق الآخر بأداءه ويصيران في حق المولى بمنزلة عبدٍ واحد.(4/502)
-----
وجه القياس في ذلك هو أن الكتابة معاوضه وتعليق إلا أن التعليق بيع المعاوضة، ولهذا بقي قابلاً للفسخ فإذا كان بيعاً كانت العبرة للمعاوضة لا للتعليق، فصار من حيث التدبير كأنه معاوضة في كل وجه، وفي المعاوضة المحضة إنما ينعقد العقد على كل واحد منهما بحصته، لا بجميع الألف، كمن باع عبداً من رجلين فإنه ينعقد البيع في حق كل واحد منهما بحصته حتى لم يكن للبائع أن يطالب أحدهما بجميع الألف إذا لم يكن الشرط كفالة كل واحد منهما عن صاحبه، فكذلك هذا، دليله ما لو نص فقال: كاتبتكما بألف درهم على أن يعتق كل واحد منهما بأداء خمسمئة، وجه الإستحسان في الكتابة شيئان معاوضة وتعليق العتق بأداء العوض، فاعتبار معنى المعاوضة إن كان يوجب الانقسام وتعلق عتق كل واحد منهما بأداء حصته، كما لو نص على التعليق فقال: إن أديتما ألفاً فأنتما حران لا يعتق واحد منهما بأداء حصته وباعتبار كلا الأمرين في حق المولى والعبدين متعدد، فيعتبر معنى التعليق في جانب المولى فلا يثبت الانقسام في حقه وتعتبر المعاوضة في جانبهما ونفيا الانقسام فيما بينهما اعتباراً للمعنيين بقدر الإمكان، وإذا لم يثبت الانقسام في حق المولى اعتباراً لجانب التعليق وتعلق عتق كل واحد منهما بأداء جميع الألف لا بأداء حصته، وصار العبدان حكماً بمنزلة عبد واحد في حق المولى، لما لم يثبت الانقسام في حقه وفي حق ما بينهما مكاتباً في ما بحصته، وإذا لم يثبت الانقسام في هذه المسألة في حق ما بينهما وبين المولى صار الجواب فيه كالجواب فيما إذا قال: على أنكما إن أديتما عتقتما، وإن عجزتما رددتما في الرق.
(4/503)
-----
ولو قال هكذا تعلق عتق كل واحد منهما بجميع الألف وجعلا كعبد واحد في حق المولى، ولو كان العبد واحداً لا يعتق شيئاً منه إلا بأداء جميع المكتابه فكذلك هاهنا، إلا أنه لم يذكر القياس والاستحسان فيما إذا زاد على مطلق الكتابه قوله: على أنكما إن أديتما عتقتما لأن التعليق هاهنا ثبت نصاً، لا بالمعاوضة فكان بمنزلة ما لو قال: إن أديتما إلي ألفاً فأنتما حران، وفي نص التعليق لا يعتق أحدهما بأداء حصته فكذلك هذا.
وأما إذا لم يذكر هذه الزيادة فالتعليق غير ثابت نصاً وإنما الثابث هي المعاوضة والتعليق حصل حكماً للمعاوضة، فكان القياس أن لا يعتبر التعليق ولكنه في الاستحسان اعتبر مقصوداً لأنه يثبت بسبب موضوع له، فإن الكتابة موضوع لإيجاب حرية اليد للحال، ولتعليق حرية الرقبة بأداء ما صار عوضاً.(4/504)
-----
فإذا عرفنا هذا رجعنا إلى مسألة الحاضر والغائب إذا كاتب عبده الحاضر والغائب على ألف درهم إلى وقت كذا، ولم يزد على هذا فقبل الحاضر، القياس أن ينعقد على الحاضر بحصته وتقف في حق الغائب على إجازته بحصة نصيبه لما ذكرنا. وفي الإستحسان تنعقد الكتابة في حق الحاضر بجميع الألف ويتعلق عتق الغائب بأدائه أما الكتابة في حق الحاضر بجميع الألف فلما ذكرنا أن الانقسام لم يثبت في حق مولاه، وأما تعلق عتق الغائب بأداء الحاضر فلأن الانقسام إذا لم يثبت من الحاضر يثبت العتق في حق المولى، فصارا في حق المولى بمنزلة عبدٍ واحد فعند وجود الاداء من الحاضر ثبت العتق فيهما. يوضح ما قلنا إذ المولى إنما رضي بالعتق بشرط وجود جميع البدل إليه، فلو نفذت الكتابة في حق الحاضر بحصته فبعد ذلك الطريق أحد الشيئين، إما أن يجعل كأن المولى كاتب الحاضر على ألف درهم، وعلق عتق الغائب به، والمولى يتفرد، فهذا التعليق عند وصول بعض البدل إلى المولى فيكون عتق الحاضر حاصلٌ من رضا المولى وذلك لا يجوز فيعذر بتقبل الكتابة في حق الحاضر بحصته، أو يجعل العقد منعقداً في حق الحاضر والغائب بقبول الحاضر في حق الحاضر يجعل العقد منعقداً مطلقاً فيما ينعقد وفيما يضره وفي حق الغائب يجعل العقد منعقداً فيما ينفعه لا فيما يضره على ما مر، وضرر الغائب في حق وجوب المال عليه فلا يظهر انعقاد العقد في حقه، فلا يكون للمولى أن يطالب الغائب بشيء. وإذا أدى الحاضر البدل لا يرجع على الغائب بشيء أما لاضرر الغائب في تعلق عتقه بأداء الحاضر بل له فيه يقع فيظهر انعقاد العقد في حق الغائب في حق هذا الحكم وإذا أدى الحاضر جميع البدل عتقا لهذا فإن مات الغائب لا يرفع عن الحاضر شيء من بدل الكتابة.
ولو أعتق الغائب يسقط عن الحاضر حصته لأن العبدين في حق المولى ولم يثبت الانقسام في حقه كعبدٍ واحدٍ من حيث الحكم.(4/505)
-----
ولو كان عبداً واحداً حقيقة وقد كاتبه وأعتق بعضه سقط ما بحصته من بدل الكتابة، وإذا مات عن وفاء لا يسقط شيء من بدل الكتابة، فكذلك هذا إذا مات الغائب، فأما إذا مات الحاضر وقد قدم الغائب فقال: لا أدري شيئاً فله ذلك ويكون رقيقاً، أما له ذلك لما ذكرنا أن الغائب في حقه لا يجب عليه بمنزلة المحلوف بعتقه كأن المولى علق عتقه بأداء الحاضر ألف درهم، ولو قال المولى هكذا فمات الحاضر فإنه لا يطالب بأداء ألف درهم فكذلك هذا. وأما يكون رقيقاً لأنه إذا لم يخبر الغائب على الأداء صار الحاضر مبتاعاً حراً فتنفسخ الكتابة في حقه، وإذا انفسخ في حقه ينفسخ في حق الغائب كما لو كانا حاضرين فقبلا ومات أحدهما ثم عجز الآخر، وإن حضر الغائب ورضي لا يكون للمولى عليه سبيل ولا يلزمه المال لما ذكرنا أن في حق ما عليه بمنزلة المحلوف بعتقه، وإن أدى الغائب المال يجبر المولى على القبول استحساناً، ويحكم بعتقهما كما ذكرنا أن الكتابة نافذة على الغائب فيما له وأن يخبر المولى على قبول المال منه حتى يحكم بعتقهما أمراً له، فلهذا يجبر على القبول، إلا أنه يقبل المال منه حالاً، ولا يمكن من السعاية على نحو الحاضر ولا يثبت الأجل في حقه، وإن كان الأجل له، لأن الأجل لتأخير المطالبة ولا مطالبة على الغائب فلا يثبت الأجل في حقه.
وإن كانا حيين وأراد المولى أن يبيع الغائب فليس له ذلك استحساناً لما ذكرنا أن الكتابة نافذة على الغائب فيما له وأن لا يجوز بيع الغائب (343أ1) بفساد الكتابة في حق الغائب في حق حرمة بيعه ولو لم يكن شيء من ذلك، واكتسب الغائب أكساباً، فأراد المولى أخذها لم يكن له ذلك استحساناً، وكذلك لو أراد الحاضر أخذها لم يكن له ذلك استحساناً، لأن على جواب الاستحسان على أحد الوجهين الكتابة نافذة في حق الغائب فيما ينفعه وأن لا يكون لآخر حق مكاتبة الغائب تقع في حق الغائب فتعتبر الكتابة نافذة في حق الغائب في حق هذا الحكم.(4/506)
-----
ولو قال الغائب: رددت الكتابة ولا أرضى بها ورضي المولى برده لم يلتفت إلى ذلك، لأن على أحد الوجهين الغائب بمنزلة المحلوف بعتقه والحلف لا يقبل الرد.
وإن وهب المولى المكاتبة للحاضر عتقا لأنه لا يملك ما في ذمته بالهبة فيعتبر بما لو ملك ما في ذمته بأداء مثله. وهناك الجواب كما قلنا، فهاهنا كذلك ويجعل الكتابة في حق الغائب في حق هذا الحكم بمنزلة تعليق عتق الغائب، بل جعلنا الكتابة نافذة في حق الغائب في حق هذا الحكم وهو حصول العتق بهبة بدل الكتابة للحاضر وجعل الغائب تبعاً للحاضر فيه.
وإن وهب المولى المكاتبة للغائب فهبته باطلة لأنه لا شيء على الغائب من المكاتبة وكان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين، وذلك لا يجوز وتعينت المكاتبة على الحاضر لأنه ما وهبها منه. وإن أعتق المولى العبد الحاضر عتق وبطل حصته من المكاتبة وأخذ الغائب بحصته من المكاتبة حالة. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» في أمة كوتبت على نفسها وعلى ابنين لها صغيرين فهو جائز ولهم إذا عتقوا ولم يرجع المولى على صاحبه بشيء، وفي «الأصل» يقول: إذا كاتب الرجل عبداً له على نفسه وولده الصغار بألف درهم مكاتبة واحدة وجعل النجوم واحدة، فإذا أداها عتقوا، وإن عجزوا وردوا في الرق جاز ذلك وتنعقد الكتابة على الأب بما بحصته وتقف في حق الصغيرين إن كان يعقل الكتابة ما بحصته على إجازته، لأن لها يجبر، وإن كان لا يعقل تبطل لأنه لا يجبر لها وهذا كله قياس، والاستحسان تنعقد الكتابة على الأب بجميع الألف ويتعلق عتق الأولاد بأدائه، كأنه قال للأب: كاتبتك على ألف درهم على أنك إن أديت عتقت وعتق أولادك معك. واعلم بأن الولد الصغير إذا كوتب مع الأب بمنزلة الغائب كوتب مع الحاضرين من كل وجه وبمنزلة الولد المولود في الكتابة من وجه دون وجه.(4/507)
-----
أما بمنزلة الغائب كوتب مع الحاضرين من كل وجه، وذلك لأن في الغائب مع الحاضر العقد أضيف إلى شخصين بألف درهم وليس للمولى ولا للحاضر ولاية إيجاب المال على الغائب هذا المعنى كله وجد في الوجه الولد الصغير كوتب مع الأب بألف درهم لأن العقد أضيف إلى شخصين بألف درهم، وليس للمولى ولا للأب ولاية إيجاب المال على الصغير، ولما وجد في الولد الصغير جميع معاني الغائب مع الحاضر كان الولد الصغير إذا كوتب مع الأب بألف درهم فقبل عنه الأب بمنزلة الغائب كوتب مع الحاضرين من كل وجه.l
وأما بمنزلة ولد المولود في الكتابة من وجه دون وجه وذلك لأن جميع معاني الولد المولود في الكتابة لم توجد في ولد الصغير الذي كوتب مع الأب من كل وجه، وإنما وجد من وجه دون وجه وذلك لأن معنى الولد المولود في الكتابة شيئان: الولادة حالة الكتابة، والتبعية للوالد والوالدة من كل وجه، وفي هذه الصغير الذي كوتب مع الأب لم توجد الولادة حالة الكتابة، ولكن وجدت التبعية حالة العقد، لأن الصغير تابع للأبوين، وإن كانا رقيقين من وجه فإنه يسلم بإسلامهما وبإسلام أحدهما، وكذلك في حق الحضانة والتربية يكون مانعاً لهما، وإن كانا رقيقين فالتبيعة (في) هذا الوجه ثابتة بين الصغير وبين الوالدين حالة العقد فقد وجد في الولد الصغير بعض معاني الولد للمولود في الكتابة من وجه ،ولم يوجد من وجه، وكان بمنزلة الولد المولود من وجه دون وجه وبمنزلة الغائب من كل وجه، والأصل في الشبهين العمل بهما ما أمكن، وإذا تعدد العمل يعمل بالراجح منهما، والراجح من الشبهين أن يعتبر الولد بالغائب لأن معنى الغائب في الولد الصغير ثابت من كل وجه، ومعنى الولد المولود في الكتابة ثابت من وجه دون وجه، والعمل بالثابت من كل وجه أولى من العمل بالثابت من وجه دون وجه.
(4/508)
-----
وإذا أمكن العمل بالشبهين يعمل بها، ولا يصار إلى الترجيح، فإن أدى الأب من المكاتبة قيمة نفسه، أي: إن حصة نفسه من المكاتبة فإنه لا يعتق لما ذكرنا أن الولد الصغير في هذه الصورة بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود من وجه، وبأي ذلك اعتبرنا لم يعتق الأب بأداء حصته، فإن عجز الأب ورد في الرق يرد معه ولده، لأن الولد الصغير بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود من وجه وبأي ذلك اعتبرنا يصير رقيقاً يرد الأب في الرق كالغائب حقيقة وكالمولود حقيقة فإن الحاضر إذا عجز ورد في الرق تبطل كتابة الغائب وذلك لأن الغائب فيما عليه محلوف بعتقه، وفيما له مكاتب والتعليق يبطل متى رد الحاضر في الرق لفوات شرط العتق في حق الغائب، وإذا فات التعليق تبطل الكتابة فيما له، لأن القول تبعاً للكتابة فيما له بدون تعليق العتق بالأداء غير ممكن وعتقه لم يبق متعلقاً لا بأدائه ولا بأداء الحاضر بعد فسخ الكتابة على الحاضر.(4/509)
-----
أما بأداء الحاضر لأن الكتابة قد انفسخت في حقه، وأما بأدائه لأن التعليق بأدائه ما ثبت مقصوداً وإنما ثبت تبعاً على أداء الحاضر وإن أدرك أولاده وقالوا: نحن نسعى في الكتابة قال: لا يلتفت إليهم ولا يجبر المولى على القبول لأنه بمنزلة الغائب من وجه وبمنزلة المولود من وجه وبأيهما اعتبرناه لم يلتفت إلى سعايته بعد فسخ الكتابة على الأصل، فإن مات الأب فالأولاد يسعون في المكاتبة على نجوم أبيهم إن كانوا قادرين على السعاية بخلاف الغائب مع الحاضر، فيؤدي المال حالاً بعد موت الحاضر، ولا يرد في الرق وإنما كان كذلك لما ذكرنا أن الولد الصغير بمنزلة الغائب من كل وجه، وبمنزلة الولد المولود من وجه والعمل بالشبيهين ممكن لأن من حكم الغائب أن يجبر المولى على القبول إذا أتى الغائب ببدل الكتاب حالا بعد موت الحاضر، ومن حكم المولود أن يطلب بما على الأب، ويسعى على نجومه ويجبر المولى على القبول فعملنا بالشبيهين جميعاً، فقلنا:
يجبر المولى على القبول بشبه الغائب، وله مطالبته بنجوم الأب عملاً بشبه الولد المولود في الكتابة من وجه بخلاف الغائب لأنه ليس للغائب شبه الولد المولود في الكتابة بوجه ما، فلا يتوجه عليه المطالبة ببدل الكتابة بعد موت الحاضر، ولا يكون له السعاية على الحاضر.
وهذا لما ذكرنا أن الغائب مكاتب فيما له، محلوف بعتقه فيما عليه، والمطالبة عليه فلا يكون مكاتباً في حق المكاتبة، وبدون وجود المطالبة لا يتصور ثبوت الأجل، فإن كانوا صغاراً لا يقدرون على أن يسعوا ردوا في الرق، لأنهم بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود من وجه وبأي ذلك (343ب1) ما اعتبرنا إذ عجز عن السعاية يرد في الرق، فإن كانوا يقدرون على السعاية، فسعى بعضهم في جميع الكتابة، وأداها إلى المولى لا يرجع على إخوته بشيء لما بينّا أنه بمنزلة الغائب من كل وجه، وبمنزلة ولد المولود من وجه.
(4/510)
-----
والغائب إذا أدى لا يرجع على أخيه لأنه لم يؤد عن الأخ شيئاً، إنما أدى عن أبيه ومن قضى ديناً عن إنسان لا يرجع بذلك على غير من قضى عنه، ولا يرجع على الأب أيضاً، حتى إذا ظهر للأب مال، فإنه لا يرجع بما أدى في كسب الأب، وإن كان مضطراً في الأداء؛ لأنه لا يعتق ما لم يؤد؛ لأنه بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود في الكتابة من وجه.
وباعتبار الغائب لا يرجع؛ لأن الغائب في حق صاحبه متبرع؛ لأن المال على صاحبه وليس عليه، وفي حق عتق نفسه يؤدي عن نفسه؛ لأن الكتابة في حق ماله نافلة فيجعل مؤدياً عن نفسه متى اعتاد الأداء، فلا يكون له أن يرجع على غيره، وهذا بخلاف ورثة الحر إذا قضى أحدهم دين أبيه كان له أن يرجع في كسب أبيه لأنه أدى من خالص ماله وهو مضطر في الأداء؛ لأنه لا يصل إلى قبض نصيبه من التركة إلا بالأداء.
فأما هاهنا من وجه بمنزلة الولد المولود في الكتابة، فيكون مؤدياً بهذا الاعتبار من الأب فيكون له الرجوع كما لو كان مولوداً في الكتابة حقيقة وباعتبار أنه غائب لا يكون له الرجوع فلا يكون له الرجوع بالشك.
فإن مات بعضهم لا يرجع بشيءٍ من المكاتبة لما ذكرنا أنه بمنزلة الغائب من كل وجه، وبمنزلة الولد المولود من وجه وبأي ذلك ما اعتبرنا لا يسقط بموته شيء من المكاتبة، وإن كانوا أحياء وقد مات الأب يكون للسيد أن يأخذ أيهم شاء بجميع المكاتبة بخلاف الغائب لما ذكرنا أن الولد بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود في الكتابة من وجه وقد أمكننا العمل بشبهين فنقول: لشبهه بالغائب يجبر المولى على القبول متى إحراز الأداء كما في الغائب. ولشبه الولد المولود في الكتابة للسيد أن يطالبه ببدل الكتابة عملاً بالشبهين والله أعلم.
(4/511)
الفصل السابع في ملك المكاتب ولده أو بعض ذي رحمٍ محرم،أو امرأته وفي المكاتب يموت عن وفاءٍ في الأولاد
-----
المكاتب إذا اشترى ابنه صح شراؤه ويصير مكاتباً بمثل حاله سواء اشتراه بإذن المولى أو بغير إذنه وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يصح شراؤه ولا يصير مكاتباً.
وكذلك على هذا إذا اشترى والده أو والدته وأما إذا اشترى أخاه أو أخته أو عمه أو ذا رحم محرم منه سوى الوالدين والمولودين، فالقياس: أن يصيروا مثل حاله مكاتبين حتى كان له بيعهم.
كما لو اشترى ابن عمه وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
وجه القياس في ذلك: وهو أنه ملك ذا رحم محرم منه فيصير بمثل حاله كالأب والابن وقياساً على ما لو كان المشتري لهؤلاء حراً فإنهم يصيرون بمثل حاله حراً فكذلك في المكاتب.
وأما أبو حنيفة رحمه الله ذهب في ذلك إلى أن علة صيرورة المملوك بمثل حال المالك شيئان: قرابة محرمية النكاح وحقيقة الملك على ما قال صلى الله عليه وسلّم «من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر» فقد جعل العلة شيئين القرابة المحرمية للنكاح وحقيقة الملك، وهذه العلة قد وجدت في حق الحر سواء ملك أخاه أو أباه أو ابنه لأن الحر ملك حقيقة وقد وجدت القرابة المحرمية للنكاح وإذا ثبتت علة العتق من الحر في حق هؤلاء يثبت العتق في حقهم.
فأما في المكاتب وجد علة العتق إذا كان المشتري ولداً أو والداً؛ لأنه وجد قرابة محرمية النكاح.(4/512)
-----
من وجد حقيقة الملك من حيث الحكم والاعتبار إن لم يوجد من حيث الحقيقة؛ لأنه انضم إلى حق الملك الولاد وللولاد زيادة أثر في إيجاب الصلة ليس ذلك بمجرد القرابة المحرمة للنكاح حتى إن الأب يستحق النفقة وإن كان كبيراً ويستحق النفقة اختلف الدين أم اتحد فانضم إلى حق الملك ماله أثر في إيجاب زيادة الصلة فالتحق الحق بالحقيقة، ومن حكم حقيقة الملك أن يعتبر (........) ذا رحم محرم وكذلك هذا إذا كان أخاً، فالقرابة المحرمة للنكاح إن وجدت لم توجد حقيقة الملك لا حقيقة ولا اعتباراً حقيقة فلا إشكال ولا اعتباراً (....) ماله زيادة أثر في إيجاب الصلات، وهو الولاد حتى يلتحق الحق بالحقيقة فبقي مجرد الحق لا غير مع القرابة المحرمة للنكاح، فالعلة بصيرورة حال المملوك بمثل حال المالك لم تثبت، فلم يثبت الحكم لنقصان العلة.
قال: وإذا اشترى المكاتب امرأته إن لم يكن ولدت منه كان له بيعها؛ لأن الحر إذا اشترى امرأته ولم يكن ولدت منه كان له بيعها، فلأن يكون ذلك للمكاتب أولى، فأما إذا ولدت إن ملكها مع الولد أجمعوا على أنه يمنع من بيعها، فأما إذا ملكها وحدها اختلفوا فيه.
قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يمنع من بيعها، وقال أبو يوسف ومحمد رحمه الله: يمنع من بيعها.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: وكان اشترى امرأة،فدخل بها وولدت ولداً بعد الشراء ثم مات المكاتب عن غير وفاء، فالولد يسعى فيما على أبيه من بدل الكتاتبة ويسعى في مهر أمه أيضاً، لأنه دين على الأب ووالد المولود في الكتابة يسعى في ديون الأب على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.(4/513)
-----
قال محمد رحمه الله: وإذا مات المكاتب عن وفاء، فعلى قول علمائنا رحمهم الله يؤدي مكاتبته ويحكم بعتقه في أخر جزء من آخر حياته ويعتق معه أولاده ويرثه ورثته الأحرار، وهو قول علي (بن) أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الشافعي رحمه الله: تنفسخ الكتابة وما تركه يأخذه المولى كله، لأنه كسب عبده، وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه، والمسألة معروفة.
وإذا اشترى المكاتب ابنه حتى تكاتب عليه لما ذكرنا، ثم مات المكاتب وترك وفاءً يؤدى منه بدل الكتابة، ويحكم بحريته في آخر جزء من أجراء حياته ويرثه ابنه؛ لأنه كما يحكم بحرية المكاتب في أخر جزء من آخر حياته يحكم بحرية ولده في ذلك الوقت أيضاً؛ لأن ولد المكاتب يعتق بعتق المكاتب.
ألا ترى أن المكاتب لو أدى بدل الكاتبة في حياته، وحكم بعتقه عتق الولد أيضاً كذا هاهنا.
وإذا اعتق الولد في آخر جزء من آخر حياة المكاتب تبين أن هذا حرٌ مات عن وفاء ابن حر فورثه هذا الذي ذكرنا كله. إذا مات المكاتب وترك وفاءً، فأما إذا مات المكاتب وترك ولداً مولوداً في الكتابة فإنه يسعى على نجوم أبيه، وهذا عند علمائنا رحمهم الله.
فأما إذا مات وترك ولداً مشترى أو أباً أو أماً، فكذلك الجواب على قولهما يسعى كل واحد منهما فيما عليه على نجومه ولداً كان أو والداً، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان والداً لا يقبل منه بدل الكتابة ولكن يباع كسائر أكسابه، وإن كان ولداً فإنه يقال له إما أن تؤدي بدل الكتابة للحال أو ترد في الرق استحساناً ولا يمكن من السعاية على نجومه.(4/514)
-----
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ذهبا في ذلك إلى أن الولد المشتري والد مساوٍ للولد المولود حال حياة المكاتب (حتى من تبعه حال حياة المكاتب كما جزء من بيع الولد المولود) فكذلك بعد موت مكاتب وجب أن يتساويا بالولد المولود في الكتابة والولد المولود في الكتابة يسعى على نجوم الأب، فكذلك الولد المشتري والد والدة والله أعلم بالصواب (344أ1).
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: إن الكتابة في هؤلاء إنما تثبت بسبب التبعية للمكاتب الأصلي لا مقصوداً؛ لأنه لم يوجد فيهم كتابة مقصودة فيثبت فيهم حكم الكتابة بقدر التبعية؛ لأن الحكم أبداً يثبت بقدر ثبوت السبب والتبعية للوالد المولود أكثر من التبعية للولد المشترى وللولد المشترى أكثر من الأب المشترى فيثبت حكم الكتابة للولد المولود أكثر مما يثبت للولد المشترى أكثر مما يثبت للأب وللأم.(4/515)
-----
وإنما قلنا: بأن التبعية للولد المولود في الكتابة أكثر وذلك أن التبعية للولد المولود في الكتابة ثابت بالملك، وبالبعضية الثابتة حقيقة وقت ثبوت العقد، ووقت ثبوت حكم الكتابة، أما بالملك؛ فلأن الولد المولود في الكتابة كالمملوك للأم حتى كان لها استكتاب الولد كما لو كان مشترى والمملوك تابع للمالك حتى يصير مسافراً بسفره ومقيماً بإقامته والكتابة بالبعضية الثابتة بيهما حقيقة وحكماً، فإن الولد ينفصل من الأم والأم مكاتبة وتبعية الولد المشترى دون تبعية الولد المولود؛ لأن تبعية المشترى ثابتة بالملك وبالبعضية الثابتة بينهما من حيث الحكم والاعتبار لا من حيث الحقيقة، لأن بعد الانفصال لا بعضية بينهما من حيث الحقيقة، وإنما يثبت حكماً تبعاً لسبب حرمة المناكحة، فإنها حكم البعضية، فالتبعية من المشترى ثابت بالملك وبالبعضية الثابتة من حيث الحكم والاعتبار لا من حيث الحقيقة فكانت تبعية المشترى دون تبعية الولد المولود في الكتابة وتبعية الأم والأب دون تبعية الولد المشترى لأب الأم والأب صارا تابعين لهما لسبب الملك لا لسبب البعضية، فإن الأب ليس ببعض من الابن وكذلك الأم فدل أن تبعية الأم والأب للمكاتب الأصلي دون تبعية الولد المشترى وتبعية الولد المشترى دون الولد المولود في الكتابة ولما كانت تبعية الولد المولود أكثر وحكم الكتابة ثابت لسبب التبعية ثبت فيه جميع أحكام كتابة الأصلي.(4/516)
-----
فقلنا: بحرمة حال حياته وقبول بدل الكتابة منه على نجوم الأم ولما كان الولد المشترى دونه في التبعية ولكن فوق الأب في التبعية. قلنا: يحرم بيعه حال حياة المكاتب وقبل منه بدل المكاتبة بعد موته حالاً، ولم يمكن من السعاية على نجوم الأم حتى يظهر نقصان حاله عن حال المولود في التبعية، ولما كان الأب دون الولد المشترى في التبعية. قلنا: يحرم بيعه حال حياته ولم تقبل منه بدل الكتابة بعد موته لا حالة ولا مؤجلة ليظهر بنقصان...... في التبعية عن الولد المشترك، وعن الولد المولود في الكتابة قد ذكرنا أن الولد المولود في حال الكتابة يدخل في كتابة الوالد تبعاً والأم تدخل في كتابة الوالد تبعاً له، فأما إذا مات المكاتب عن وفاء وأديت مكاتبته وحكم بحرية المكاتب في آخر جزء من أجزاء حياته يحكم (بحرية) الولد والوالدة في ذلك الوقت أيضاً.
وإذا مات لاعن وفاء وسعى إلا ولد والده والوالدة في ذلك الوقت أيضاً.
وأداء الأم في بدل الكتابة على نجوم يحكم بحرية الولد والأم، ويحكم بحرية المكاتب مقصوراً على الحال.
فالحاصل: أن في الوفاء يستند العتق إلى آخر جزء من أجزاء حياة المكاتب وفي سعاية الولد مع الأم وأدائهما لا يستند العتق إلى آخر جزء من أجزاء حياة المكاتب بل يقتصر على وقت الأداء، فإنما جاء الفرق باعتبار، أما إذا مات عن وفاء فقد مات لاعن خلف؛ لأن المال لا يصلح خلفاً عنه، والولد لا يصلح خلفاً حال بقاء المال.
ولهذا لا تبقى النجوم بل تنحل الكتابة فلا يعطى للميت حكم الحياة وقت الأداء..... بالضرورة إلى الاستناد، فأما إذا مات لاعن وفاء فقد مات عن خلف؛ لأن الولد يصلح خلفاً عنه حال انعدام المال.
ولهذا بقي البدل منجماً، فأعطى للميت حكم الحياة إلى حين الأداء فعتق للحال تبعاً للحي، ولو أعتق المولى ولدها المولود في الكتابة والمشترى، فإنه ينفذ عتقه استحساناً.(4/517)
-----
والقياس: أن لا ينفذ، وجه القياس في ذلك أن ولدها بمنزلة عبد من كسبها بدليل أن لها استكتاب ولدها كما لها استكتاب عبد من أكسابها، فوجب أن لا ينفذ عتقه من ولدها كيلا يبطل عليها حق الاستكتاب كما لا ينفذ عتقه في عبد هو من كسبها.
وجه الاستحسان: إن ولدت مملوكاً للمولى رقبة من كل وجه؛ لأنه بعض منها ورقبتها مملوكة للمولى من كل وجه حتى نفذ عتقه في الأم فكذا ولدها يكون فهو كالمولى رقبة من كل وجه، إنما لها الانتفاع بالولد من حيث الاستكتاب، وقيام حق الغير في المنفعة لا يمنع بفساد عتق الملك كما في المستأجر.
وهذا بخلاف عبد آخر من كسبها وذلك لأن كسبها غير مملوك للمولى رقبة من كل وجه إنما له حق ملك كما للمكاتب وحق الملك لا يكفي لفساد العتق كما في المكاتب فامتنع العتق في كسبها في المولى لعدم الملك في رقبته حقيقة لا من حيث إن لها الملك في منفعة هذا الكسب فأما هنا للمولى حقيقة ملك رقبة الولد.
ولهذا صار مكاتباً بعقده، فاشترى الأم من هذا الوجه.
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في مكاتب ورجل أجنبي اشتركا في شراء ابن المكاتب قال في قولنا: المكاتب يضمن نصف قيمته.
وأما في قول أبي حنيفة رحمه الله: نصفه لشريك المكاتب والنصف الآخر في مال أبيه على حاله، ولا يحرم واحداً منهما.
وإنما هو بمنزلة عبد بين رجلين كاتب أحدهما نصيبه بإذن صاحبه فلا يحرم واحداً منهما، ولكن ما اكتسب من مال يكون بينهما.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: مكاتب ولد له أولاد من أمته ثم مات عن وفاء فلم تؤدَ مكاتبته حتى مات بعض أولاده من الأمة وترك ميراثاً (فإنه يؤد، إما على المال أنت من تركة فيكون ما بقي ميراثاً فلا يرث الابن الميت بعده منه شيئاً وما تركه الابن الميت، فهو ميراث لأمه....، وكذلك لو كان الولد معه في عقد الكتابة، ثم مات بعد ابنه ثم أديت المكاتبة لم يرث أباه).(4/518)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: مكاتب مات وترك ابنا ولد له في الكتابة فترك ألفي درهم ديناً على رجل وبدل الكتابة ألف درهم فاكتسب الابن ألف درهم وأداها في مكاتبة أبيه ثم خرج ابن الأب وله ابن آخر، فإن الألفين ميراثاً بينهما نصفين ولا يرجع الابن الذي أدى المكاتبة في الألفين بما أدى إلا أن المكاتبة عليه يؤخذ بها كما كان يؤخذ الأب به.
وكذلك إن أداها من كسبه بعد خروج الألفين، وإن لم يؤد الابن ذلك من كسبه كان له أن يؤدي من مال الأب، وما اكتسبه بعد موت أبيه يكون له.
وكذلك لو كان المكاتب ترك ألف درهم وصية، وبدل الكتابة ألف درهم عليه وأداها ابنه من مال اكتسبه بعد موت الأب كانت الوصية بينه وبين الأخ ميراثاً.
وفي «المنتقى»: مكاتب مات وترك ديناً على الناس وله ابن مولود في حالة الكتابة يسعى في كتابته، وله ابنان حران أيضاً ثم أحد الابنين (334ب1) الحرين أخرج ما للمكاتب على الناس فأديت من ذلك مكاتبته فالفاضل يصير ميراثاً بين الابن الحر وبين الولد المولود في الكتابة ويرث الابن الحر من أخيه الذي مات بعد موت الأب.
وفي «الأصل»: إذا مات المكاتب عن وفاء وعليه ديون لأجنبي ولمولاه سوى بدل الكتابة وله وصايا من تدبير وغير ذلك يبدأ من تركته بدين الأجنبي أقوى أجنبي يسعى عليه بعد العجز ثم بدين المولى ثم ببدل الكتابة فإن بقي بعد ذلك شيء يقسم بين ورثته وبطلت وصاياه وقد ذكرنا مسألة الوصية من قبل، فإن لم تف فالباقي بعد قضاء دين الأجنبي وبدين المولى وببدل الكتابة يبدأ ببدل الكتابة ولا يبدأ بالدين لوجهين:
أحدهما: أن في البداية بالدين ابتداء إبطاله انتهاءً؛ لأنه إذا بدأ بالدين والباقي لا يفي ببدل الكتابة بموت عبد أو يبطل دين المولى إذا المولى لا يستوجب على عبده ديناً وليس في البداءة ببدل الكتابة ابتداء إبطاله انتهاء وكانت البداية ببدل الكتابة وأدى.(4/519)
-----
والثاني: أنه (يصل) إذا قبض بجهة الدين لا يصل العبد إلى شرف الحرية وإذا قبض بجهة الكتابة إلى شرف الحرية فكان هذا الوجه أولى، وإن لم يترك مالاً إلا ديناً على إنسان فاستسعى الولد المولود في الكتابة فعجز فقد أيس من الدين أن يخرج، فإن الولد يرد في الرق؛ لأن الدين المأيوس كالتاوي فلا يثبت باعتبار القدرة على الأداء وبدونه قد يتحقق العجز، فإذا خرج الدين بعد ذلك..... كذلك للمولى؛ لأنه كسب عبده، وإذا مات المكاتب عن وفاء وترك ولداً ولد في كتابته فأديت مكاتبة وردت الولد منه.
وكذلك إذا مات عن وفاء وترك ولداً كوتب معه كتابة واحدة فأديت مكاتبته ورث الولد منه، وإذا كان الولد منفرداً بكتابته وآداء مكاتبته بعد موت الأب قبل أداء مكاتبة الأب أو بعده لا يرثه؛ لأن عتق هذا الولد يقتصر على وقت أدائه فكان عبداً وقت موت الأب فلا يرثه.
وإذا مات الرجل عن مكاتب وله ورثة ذكور وإناث ثم مات المكاتب عن وفاء، فإنه تؤدى من ذلك مكاتبه فيكون ذلك بين جميع ورثة المولى وما فضل منها فهو للذكور من ورثة المولى دون الإناث وإن لم يكن للمكاتب وارث سوى ورثة المولى دون الإناث لأن الفاضل تركة المكاتب وقد صار المولى معتقاً إياه فتكون تركته لورثة المولى بحكم الولاء، والولاء يختص بالعصبات، وكذلك لو لم يمت المكاتب حتى أدى إليهم المكاتبة أو أعتقوه ثم مات فميراثه للذكور من ورثة المولى والله أعلم.h
الفصل الثامن في دعوة المولى ولد أمة المكاتب وفي دعوته ولد مكاتبة المكاتب
قال محمد رحمه الله: في «الزيادات»: مكاتب اشترى أمة فحبلت في ملكه وولدت فادعى المولى ولدها لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب، وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه تصح دعوته من غير تصديق المكاتب وفاته وعلى دعوة الأب ولد جارية ابنه، فإنه يصح من غير تصديق الابن.(4/520)
-----
ووجهه: أن للمولى في اكتساب مكاتبته حق الملك وهذا الحق أقوى من حق الأب في مال الابن حتى أن المولى لو تزوج بجارية من اكتساب المكاتب لا يجوز والأب إذا تزوج بجارية ابنه يجوز ثم الأب إذا أدعى ولد جارية ابنه تصح دعوته من غير تصديق الابن؛ فلأن تصح دعوة المولى من غير تصديق المكاتب أولى.
وجه ظاهر الرواية، وهو الفرق بين دعوة الأب وبين دعوة المولى أن صحة دعوة الأب ما كانت باعتبار حق الملك، فإنه ليس للأب في مال الابن حق الملك عندنا.
ولهذا لو تزوج بجارية ابنه يجوز وإنما كان باعتبار للأب ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، وقد مست الحاجة إلى التملك هاهنا صيانة لمائه فيثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته، فتبين أنه استولد ملك نفسه، فلا تتوقف صحة دعوى على تصديق الابن.
أما المولى فليس له تملك شيء من اكتساب المكاتب للحاضر لتصير الجارية ملكاً له مقتضى الاستيلاد فتبين أنه استولد ملك نفسه.
آلا ترى أنه لو أراد أن يأخذ شيئاً من اكتسابه لحاجة المأكول والحلوى لا يقدر عليه فبقيت الجارية مملوكة للمكاتب كما لو كانت صحت دعوته إنما صحت باعتبار ماله فيها من حق الملك، ولا وجه إليه أيضاً لأن حقه لا يظهر لمقابلة حق المكاتب، لأن حق المكاتب راجح؛ لأن له حق الملك وحق التصرف وللمولى حق الملك لا غير فلا يظهر حقه إلا بتصديق المكاتب والله أعلم.
وفرق بين هذه المسألة وبين البائع، فإن دعوته تصح من تصديق أحد.
والفرق: أن دعوته لأقل من ستة أشهر بعد البيع، فإن دعوته، إذا ادعى ولد الجارية المبيعة وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر بعد البيع، فإن دعوته تصح من تصديق أحد.(4/521)
-----
والفرق: أن دعوة البائع إنما صحت لحصول العلوق في ملكه حتى لو توهم أن العلوق لم يكن في ملكه بأن جاءت به لستة أشهر فصاعداً من وقت البيع لا تصح دعوته على هذا التقدير، يظهر أنها أم ولده، فإنه باع أم الولد، ولم يصح بيعه فبقيت على ملكه فكان مدعياً، ولد جاريته، فلم يحتج إلى تصديق آخر، أما هاهنا العلوق لم يكن في ملك المولى لتصح دعوته بناءً على ذلك؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا اشترى المكاتب أمة وحبلت في ملكه حتى لو كان العلوق في ملك المولى بأن كاتب الجارية من كسب العبد قبل الكتابة كاتبه المولى على رقبته واكتسابه، فجاءت في الولد لأقل من ستة أشهر من وقت الكتابة فادعاه المولى صحت دعوته من غير تصديق أحد فيثبت أنه لا يمكن تصحيح دعوته بناء على كون العلوق في ملكه لو صحت دعوته إنما تصح باعتبار ما له فيها من حق الملك لكن حقه بدون تصديق المكاتب على ما مر، بشرط تصديقه لهذا، فأصدقه المكاتب ثبت النسب منه؛ لأن الحق لها لا يعدوهما فإذا تصادقا على ثبات النسب منه يثبت ما تصادقا عليه فيما بينهما بهذا الطريق.
قلنا: إذا ادعى نسب هذا الولد أجنبي وصدق المكاتب الأجنبي على ذلك يثبت النسب من الأجنبي؛ ولأنه كما صدق المولى في ذلك فقد ثبت الوطء من المولى بتصادقهما، وبعدما ثبت الوطء بتصادقهما تصح الدعوى من المولى ويثبت النسب منه؛ لأنه صار مغروراً لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وولد المغرور ثابت النسب منه وعن هذا قال بعض أصحابنا رحمهم الله. إذا كان الوطء ظاهراً من المولى جازت دعوته صدقه المكاتب في ذلك أو كذبه وكان الولد حراً بالقيمة يغرم المولى قيمة الولد للمكاتب ويغرم عقرها للمكاتب أيضاً.(4/522)
-----
فرق بينه وبين الأب إذا ادعى نسب ولد جارية، فإنه لا يغرم قيمته الولد ولا يغرم العقر إلا رواية رواها ابن سماعة أن أخر ما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الأب يضمن قيمة الولد ويضمن العقر كما في المكاتب لمعنى جامع وهو الغرور؛ فإن الأب صار مغروراً في هذا الاستيلاد لاعتماده ذلك دليل الملك وهو ظاهر قوله عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» كما أن المولى صار مغروراً لاعتماده دليل الملك في المكاتب وهو ملك الرقبة.
وحكم المغرور ما ذكرنا أصله: إذا اشترى جارية واستولدها (345أ1) فاستحقت من يده، ووجه الفرق على ظاهر الرواية: وهو أنه ليس للأب في جارية الابن ما يكفي إثبات..... من حقيقة الملك أو حق الملك أو وكيل الملك..... أي دليل الملك إنما الثابت مجرد تأويل باعتبار ظاهر الإضافة وإنه يكفي لإسقاط الحد، أما لا يكفي لإثبات النسب فلا بد من إثبات الملك في الجارية ليثبت النسب ولا ملك بدون التملك فيثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته فتبين أنه وطىء ملك نفسه ففي وطء ملك نفسه فالولد تعلق حر الأصل من غير قيمته ولا يلزمه عقر الجارية فأما المولى، فإنه في جارية المكاتب ما يكفي إثبات النسب وهو حق الملك وقد ظهر ذلك الحق بتصدق المكاتب فلا حاجة إلى إثبات التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه بل بقيت الجارية على ملك المكاتب فكان واطئاً ملك المكاتب معتمداً على وجود نسبة الملك ظاناً أنها ملكه، وحكم المغرور ما ذكرنا وتصير الجارية أم ولد للمولى في الحال إلا رواية رواها ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله، بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه، فإنها تصير أم ولد له.(4/523)
-----
والفرق على ظاهر الرواية ما ذكرنا أن الأب يملك الجارية بمقتضى الاستيلاد سابقاً عليه فتبين أنه استولد ملك نفسه فتصير أم ولد له، ولا كذلك المولى، فإنه لا يملك الجارية بل بقيت على ملك المكاتب فلهذا لا تصير أم ولد له للحال وليس من ضرورة ثبات النسب ثبوت أمية الولد للحال.
ألا ترى أن النسب يثبت في فصل الغرور والشبهة والنكاح ولا يثبت أمية الولد للحال. قال: ويعتبر قيمة الولد يوم الولادة، فرق بينه وبين ولد المغرور تعتبر القيمة يوم الخصومة.
والفرق: وهو أن في مسألتنا لما صدق المكاتب المولى في دعواه الاستيلاد فقد زعم أن الحرية ثبتت من وقت العلوق؛ لأن للمولى حق الملك في اكتساب المكاتب يظهر ذلك عند تصديق المكاتب وحق الملك كحقيقة الملك في دعوى الاستيلاد فصار المولى متلفاً الولد على المكاتب من وقت العلوق ولكن لا يمكن اعتبار قيمته قبل الولادة أو لا قيمة للولد قبل الولادة فتعتبر قيمته في أول أوقات الإمكان، وذلك وقت الولادة؛ لأنه أول وقت يظهر له قيمة، فأما المستحق لم يصدق المشتري في الدعوى فالولد علق رقيقاً في حق المستحق إلا أن الشرع أثبت للمشتري ولاية المنع بالقيمة فكان وقت المنع وقت تعذر السبب، ووقت المنع وقت الخصومة.
وفرق بين ممسألتنا هذه وبين مسألة المغرور من وجه آخر، فإن هناك لو علم المشتري بحال البائع أنه غاضب لا يثبت الغرور لزوال سبب الغرور وهو بفساد الشراء بزعمه.(4/524)
-----
وهاهنا لو علم المولى بحال الجارية أنها لا تحل له يثبت الغرور أيضاً لبقاء سبب الغرور وهو قيام الملك للمولى في رقبة المكاتب هذا الذي ذكرنا إذا جاءت الأمة بالولد لستة أشهر منذ اشتراها المكاتب حتى كان العلوق في ملك المكاتب، فأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها المكاتب حتى لم يكن العلوق في ملك المكاتب فادعاه المولى لا تصح دعوته ولا يثبت النسب بدون تصديق المكاتب، وإذا صدقه المكاتب حتى يثبت النسب كان عبداً على حاله.
وكذلك إذا اشترى المكاتب غلاماً في السوق وادعى نسب هذا الغلام لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب وإذا صدقه وثبت النسب كان عبداً للمكاتب على حاله.
فرق بين هذا وبين الوجه الأول وهو ما إذا كان العلوق في ملك المكاتب ما كان لأجل ثبوت النسب من المولى؛ لأن العتق بالقرابة كالعتق بالإعتاق.
ولو أعتق المولى عبداً من اكتساب مكاتبه لا يعتق فكذا لا يعتق بالقرابة بهذا الطريق قلنا: المكاتب إذا اشترى ابن مولاه وهو معروف النسب منه إنه لا يعتق ولكن حرية الولد باعتبار الغرور، فإنه بنى الاستيلاد على سبب ألحق في الجارية وهو ملك الرقبة في المكاتب وولد المغرور حر بالقيمة أما إذا لم يكن العلوق في ملك المكاتب فالمولى لا يصير مغروراً؛ لأنه ما بنى الاستيلاد على سبب ألحق في الجارية فلهذا لم يعتق الولد.
(4/525)
-----
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: رجل اشترى عبداً وكاتبه ثم إن المكاتب كاتب أمة له ثم ولدت المكاتبة ولداً فادعاه مولى المكاتب فالمسألة على وجوه: أما إن كانا صدقاه في ذلك يعني المكاتب والمكاتبة أو كذباه في ذلك أو صدقه أحدهما وكذبه الآخر، وأما إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت أو لأكثر، فإن صدقاه في ذلك أو صدقه المكاتب يثبت النسب منه وإن كذباه في ذلك أو كذبته المكاتبة لا يثبت النسب إنما العبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة لا لتصديق المكاتب دون أمة المكاتب.
والفرق: أن ولد المكاتبة من كسبها وقد صارت هي أخص بنفسها وكسبها وصار المكاتب كالأجنبي عنها فصارت العبرة لتصديقها فأما أمة المكاتب ما صارت أخص بنفسها ومكاتبتها بل المولى أخص بها فكانت العبرة لتصديق المولى لهذا، فإذا صدقته في ذلك يثبت النسب؛ لأن المولى المكاتب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي.
ولو ادعى أجنبي نسب هذا الولد وصدقته المكاتبة ثبت النسب منه فيها هذا أولى؛ ولأن المكاتبة قادرة على اكتساب سبب يثبت النسب بأن تزوج نفسها منه فيثبت به النسب، وإن كان النكاح فاسداً أو كان تصديقها إياه اكتساب سبب يثبت به النسب وهي قادرة على ذلك فيثبت به النسب فيجب العقر لها إن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت مكاتبتها، وإن ولدت لأقل من ستة أشهر فالعقر للمكاتب بحصول العلوق في ملكه ثم هذا الولد يكون مكاتباً مع أمه ولا يكون حراً بخلاف ولد أمة المكاتب.(4/526)
-----
والفرق أن حرية ولد أمة المكاتب إنما كانت أصل الغرور ولا غرور هاهنا؛ وهذا لأن رقبة المكاتب وإن كانت مملوكة للمولى في الفصلين إلا أن ملك الرقبة إنما يكون سبباً لملك الكسب إذا كان اكتسب محلاً للملك والأمة محل للملك، فإذا صح النسب في محله وامتنع الحكم لمانع ثبت الغرور، فأما المكاتبة فليس بمحل للملك فبطل النسب هاهنا لوقوعه في غير محله فلا يثبت الغرور ولو ثبت الغرور هاهنا، إلا أنه لا يمكن القول بحرية الولد هاهنا. بخلاف ولد أمة المكاتب.
بيانه: وهو أن حرية ولد المغرور يثبت بالقيمة بإجماع الصحابة وبعد إيجاب القيمة هاهنا؛ لأنها لو وجبت إما أن تجب للمكاتب أو للمكاتبة ولا وجه إلى الأول؛ لأن المكاتب صار كالأجنبي عن اكتساب مكاتبته وولدها من كسبها.
ألا ترى أنه لو قتل هذا الولد فالقاتل يصرف القيمة للمكاتبة لا للمكاتب، ولا وجه إلى الثاني؛ لأنه لو وجبت القيمة بها وجبت لأجل العتق فيجب بها ضمان العتق في أولادها والمكاتب لا يجب له ضمان العتق في أولادها؛ لأن المكاتب بعقد الكتابة يسعى لتحصل الحرية لنفسها وولدها فبتحصل الحرية لولدها تحصل مقصودها فكيف (345ب1) يستوجب القيمة لأجلها بخلاف ولد أمة المكاتب؛ لأن هناك لو أوجبنا القيمة للمكاتب لعتق ولد أمته والمكاتب لا يسعى ليحصل العتق لولد أمته.
فإن قيل: لا بل إيجاب القيمة للمكاتب ممكن مع تحصيل مقصودها في حرية الولد. ألا ترى أن المكاتبة إذا غرت رجلاً فزوجت نفسها منه على أنها حرة فولدت ولداً كان الولد حراً بالقيمة فكانت القيمة بها.
قلنا: هناك ليس في حرية الولد تحصل مقصودها؛ لأن قصدها أن تعتق هي وولدها على وجه تصير هي وولدها مولى لمولاها وهناك إذا وجبت القيمة وحكم بحرية الولد يحكم بحريته في الأصل من غير ولاء فلا يكون الولد مولى لمولاها، فلا يكون فيه تحصيل مقصودها فيمكن إيجاب القيمة لها.(4/527)
-----
فإن قيل: هذا المعنى ليس بصحيح، فإنا إذا أوجبنا القيمة في مسألتنا وحكمنا بحرية الولد حكمنا بحريته من الأصل من غير ولاء فلا يكون فيه تحصيل مقصودها أيضاً.
قلنا: لا بل هو صحيح؛ لأن مولاها هاهنا المكاتب والمكاتب ليس من أهل الولاء فلم تكن هي قاصدة أن يكون ولدها مولى لمولاها بل تقصد عتق الولد لا غير، وإنه حاصل فقد حصل مقصودها فيتعذر إيجاب القيمة بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك مولى المكاتبة من أهل الولاء فكانت قاصدة عتق ولدها على وجه تصير هي وولدها مولى لمولاها وهذا المقصود هناك مما لا يحصل.
أما هاهنا فبخلافه، إذا ثبت أن الولد يكون مكاتباً مع الأم فالمسألة بعد ذلك على وجهين: إن أدت الأم بدل الكتابة عتقت وعتق الولد بعتقها تبعاً لها، وإذا عجزت وردت في الرق أخذ المولى ابنه بالقيمة؛ لأنها لما عجزت صارت أمة للمكاتب ودعوى المولى قائمة فيكون مدعياً ولد أمة المكاتب والمكاتب من أهل أن يستحق فيه ولد أمته فتجب القيمة وتثبت الحرية لما مر.
غير أن هاهنا لا يحتاج إلى تصديق المكاتب وإن ثبت الحق له لوجود التصديق يوم الدعوة ضمن إليه التصديق وتعتبر قيمة الولد هاهنا يوم عجز المكاتبة؛ لأن قيمة الولد إنما تجب بمنع الولد واستهلاكه وذلك بثبوت الحرية في الولد في (وقت ثبوت الحرية في الولد) وقت عجز المكاتب فيعتبر قيمته يوم عجز المكاتبة.(4/528)
-----
لهذا قال: ولو كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب لما بينا أن العبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة ولم توجد ويكون الولد مكاتباً مع أمه إن أدت بدل الكتابة عتقا، وإن عجزت وردت في الرق صارت أمة للمكاتب وقد وجد التصديق من المكاتبة وظهر أن ولاية التصديق والتكذيب له لانفساخ الكتابة من الأصل وكان الولد حراً بالقيمة؛ لأنه لما انفسخت الكتابة من الأصل ظهر تأويل الملك للمولى في إيجاب به وقت العلوق فصار أنه مغروراً غير أنه إن ولدت لأقل من ستة أشهر منذ كوتب تعتبر قيمة الولد يوم الولادة وإن جاز له سابقاً على حق المكاتبة لأن حقها يثبت بالكتابة والعلوق كان قبل الكتابة فبعد ثبوت النسب يصير المولى مستهلك الولد على المكاتب من ذلك الوقت لا أنه لا يمكنه اعتبار قمية الولد حال كونه جنيناً فاعتبرناه في أول أوقات الإمكان وهو بعد الولادة.
فأما في الوجه الثاني: حصل العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة وبعدما صار المكاتب كالأجنبي عنها فلم يصر المولى مستهلكاً الولد على المكاتب من ذلك الوقت أو لا حق للمكاتب في ذلك الوقت وإنما يصير مستهلكاً عليه وقت ثبتوت حقه، وهو وقت العجز فاعتبر قيمته يوم العجز بهذا وضح الفرق: أن في الوجه الأول لما كان العلوق سابقاً على حق المكاتب كان العلوق في زمان المكاتب غير محجور عن التصرف معها فبعد زوال حق المكاتبة بالعجز يمكن إسناد التصديق إلى وقت العلوق فيثبت النسب وتثبت الحرية من وقت العلوق فصار مستهلكاً الولد من ذلك الوقت.(4/529)
-----
أما في الوجه الثاني لما كان العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة كان العلوق في زمان المكاتب محجوراً من التصرف فيها فلا يمكن إسناد التصديق إلى ذلك الوقت بل بقي مقصوراً على وقت ثبوت حق المكاتب وهو وقت العجز فاعتبرت يوم العجز بهذا، هذا إذا صدق أحدهما دون الآخر وإن كذباه لا يثبت نسب الولد؛ لأن في تكذيبهما تكذيب المكاتبة وزيادة وقد ذكرنا أن المكاتبة لو كذبته بانفرادها لا يثبت النسب منه فهاهنا أولى ويكون الولد مع الأم مكاتبين للمكاتب إن أدت بدل الكتابة عتقا، وإن عجزت صارا للمكاتب ولا يثبت النسب؛ لأنها لما عجزت صارا مملوكين للمكاتب فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، فلا يثبت النسب إلا بتصديق المكاتب ولم يوجد هاهنا تصديق من المكاتب أصلاً.
وأما إذا صدقاه جميعاً يثبت النسب من المولى؛ لأن في تصديقها إياه تصديق المكاتبة وزيادة، ولو صدقة المكاتب بانفرادها قد ذكرنا أنه يثبت النسب منه فهاهنا أولى بعد هذا ينظر إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كاتبها المكاتب حتى كان العلوق في ملك المكاتب كان الولد حراً بالقيمة؛ لأنهم تصادقوا على أن الولد علق حراً بحكم الغرور وتكون قيمة الولد للمكاتب لوجوبها بسبب كان قبل الكتابة الثانية ويعتبر قيمته يوم الولادة لما قلنا: قبل هذا.
وإن جاءت لستة أشهر منذ كاتبها المكاتب فالولد مكاتب معها لما مر أنه لا يمكن إثبات الحرية في ولد مكاتبة المكاتبة ما دامت مكاتبة لم تعجز بعد، فإن عجزت حينئذٍ يأخذ المولى الولد بالقيمة وتعتبر القيمة يوم العجز على ما مر.
(4/530)
-----
قال في «الزيادات» أيضاً: المكاتب إذا كاتب أمته ثم أدى المكاتب بدل الكتابة وعتق ثم ولدت المكاتبة ولداً فادعاه المولى، فإن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت العتق أو لأكثر من ستة أشهر منذ كوتبت فهذا، وما لو ولدت قبل عتق المكاتب سواء؛ لأنا تيقنا أن العلوق حصل قبل عتق المكاتب، والعبرة لحالة العلوق فصار هذا وما لو ولدت قبل عتق المكاتب سواء، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت العلوق فادعاه المولى، ينظر إن زعم المولى أنه وطئها بعد العتق فصدقاه أو صدقه أحدهما لا يثبت نسب الولد من المولى أصلاً؛ لأنه استولدها وليس لها فيه حق الملك ولا تأويل الملك؛ إذ ليس للإنسان في مكاتبة معتقه حق الملك ولا تأويل الملك وكان هذا الولد حاصلاً منه، وبالزنا لا يثبت النسب، وإن زعم المولى أنه تزوجها بعد عتق المكاتب فولدت منه على فراشه، فإن صدقاه جميعاً أو صدقته المكاتبة وكذبه المكاتب يثبت النسب، أما إذا صدقاه جميعاً؛ فلأنهما يملكان إثبات الفراش عليها فكان تصديقهما إياه بمنزلة اكتساب سبب الفراش..... عليه فيثبت به النسب، أما إذا صدقته المكاتبة فإنها تملك إثبات الفراش على نفسها بأن تزوج نفسها فيثبت به النسب وإن كان فاسداً فصار تصديقها بمنزلة اكتساب سبب الفراش وهي قادرة عليه فيثبت به النسب ولا يعتق الولد؛ لأنه استولد مكاتبة معتقه بحكم النكاح ومن استولد مكاتبة معتقه بحكم النكاح لا يعتق الولد بل يكون مكاتباً تبعاً للأم، فإن أدت بدل الكتابة عتقت وعتق ولدها معها، وإن عجزت كانت (346أ1) أمة للمكاتب وولدها عبد المكاتب لا يأخذه المولى بالقيمة كما لو كان النكاح ظاهراً وعجزت المكاتبة، وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب؛ لأنه لا يملك إثبات الفراش عليها أصلاً فلا يعتبر تصديقه، وإن عجزت المكاتبة بعد ذلك وردت في الدين صارت أمة للمكاتب المعتق فينفذ إقراره عليها بالنكاح، لأنه يملك النكاح عليها ويثبت النسب ولكن لا(4/531)
يعتق(4/532)
-----
الولد كما لو كان النكاح ظاهراً.
وإن زعم المولى أن هذا الولد ابنه بوطىء كان منه قبل عتق المكاتب، فإن صدقاه جميعاً يثبت النسب من المولى فيكون مكاتباً مع أمه؛ لأنهم تصادقوا أن العلوق كان، والمكاتب مكاتب على حاله فالدعوى حصلت في ولد مكاتبة المكاتب واتصل بها التصديق من المكاتب ففي ادعاء ولد مكاتبة المكاتب يثبت النسب فكان الولد مكاتباً مع أمه كذا هاهنا، فإن عجزت بعد ذلك وردت في الرق أخذ المولى الولد بقيمته يوم عجزت؛ لأنها لما عجزت وردت في الرق انفسخت الكتابة من الأصل، وتبين أن الدعوى من ولد أمة المكاتب وقد اتصل بها التصديق من المكاتب وإن صدقه المكاتب ثبت النسب؛ لأن الحق في التصديق لها وقد وجد والولد رقيقاً لما مر.
فإن عجزت وردت في الرق كان الولد مع أمه مملوكين للمكاتب؛ لأن المكاتب ذكر كون العلوق سابقاً على عتقه فيكون منكراً كون المولى مغروراً أو بعد العجز صار الملك له في الجارية والولد، فكانت الجارية المكاتبة بتصديق المولى فيما ادعاه مريدة إبطال ملك استحقه المكاتب في الولد وهي لا تملك ذلك وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب ثبت النسب لما مر.
فإن عجزت المكاتبة وردت في الرق أخذ المولى الولد بالقيمة لأن المكاتب مصدق في حق نفسه وبعد العجز خلص الحق له فيعمل تصديقه فيأخذ المولى الولد بالقيمة وتعتبر قيمته يوم العجز لما مر.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: مكاتب كاتب أمة له ثم اشترت المكاتبة أمة فولدت الأمة ولداً ثم ادعى مولى المكاتب الولد لا يثبت النسب بدون التصديق والمعتبر تصديق المكاتب؛ لأن للجارية مع ولدها اكتساب المكاتبة ولقد صارت هي أحق بنفسها واكتسابها فكانت العبرة لتصديقها، فإذا صدقته في ذلك ثبت النسب منه لما ذكرنا ولا يعتق الولد؛ لأن ولد أمة المكاتبة أبعد عن المولى من ولد المكاتبة ثم الحرية لا تثبت في ولدها قبل العجز على ما مر.x(4/533)
-----
ففي ولد أمتها أولى، وإذا لم يعتق الولد كان عبداً للمكاتبة ولا يكون مكاتباً بخلاف ولد المكاتبة.
والفرق: أن ولد المكاتبة إنما كان مكاتباً بسراية كتابتها إلى الولد وكتابتها لا تسري إلى ولد الأمة، فإن عجزت المكاتبة بعد ذلك صارت هي وأمتها مملوكتين فصار المولى مدعياً ولد أمته المكاتب.
فإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها المكاتب أخذ المولى بالقيمة، لأن بالعجز انفسخت الكتابة من الأصل فصار العلوق في التقدير في أمة المكاتبة فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، وقد صح تصديقها قبل العجز وصار كتصديق المكاتب بعد العجز.
وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ أشتراها المكاتبة فالولد لا يكون حراً؛ لأن العلوق ما كان في ملك المكاتب متعين فانعدم الغرور فلو أن المكاتب لم يعجز حتى أدى المكاتبة بدل الكتابة وعتق ثم عجزت المكاتبة وردت في الرق أو مات المكاتب عن وفاء ثم عجزت المكاتبة. فالجواب ما ذكرنا فيما إذا لم تعتق أنها إن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ ملكها المكاتب عتق الولد وما لا فلا لما ذكرنا أن الاعتبار للعلوق حالة قيام تأويل الملك ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن عجز المكاتب أو مات عاجزاً فقد صار عبداً قناً للمولى وصارت المكاتبة للمولى مكاتبة للمولى وتبين أن المولى ادعى ولد مكاتبته وصدقته المكاتبة وقد مر الكلام فيه والله أعلم.
(4/534)
الفصل التاسع في دعوى المكاتب الولد
-----
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: مكاتبان بينهما جارية جاءت بولد فادعياه ثبت نسبه منهما، أما ثبوت النسب؛ فلأن للمكاتب في كسبه حق الملك، وإنه يكفي لإثبات النسب كحقيقة الملك، وأما ثبوته منهما لتساويهما في سبب استحقاق النسب ويصير الولد مكاتباً معهما داخلاً في كتابتهما؛ لأنه ولد في حالة الكتابة والولد المولود في حالة الكتابة يكون مكاتباً تبعاً وتصير الجارية بمنزلة أم الولد وليس معناه أنها تستحق الحرية كأم ولد الحر؛ لأن للمكاتب لا يملك إيجاب حق الحرية في أكسابه ولكن معناه أنه يمتنع بيعها كما يمتنع بيع أم الولد الحر، وهذا لأن حق الأم في الاستيلاد تبع لحق الولد وقد تثبت حرمة البيع في حق الولد وسرى ذلك إلى الأم.
فإن أدى أحدهما بدل الكتابة عتق لوجود شرط العتق في حقه وهو الأداء وعتق نصيبه من الولد تبعاً له؛ لأنه داخل في كتابته وبقي نصيب الآخر مكاتباً مع الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله الإعتاق متجزىء ولا ضمان في الولد، أما على المكاتب المعتق؛ لأن العتق عند الأداء يقع من جهة المولى لا من جهة المكاتب، وبهذا كان الولاء للمولى، فلا يمكن إيجاب الضمان على المكاتب بسبب عتق يثبت من جهة المولى، وأما على المولى؛ لأن العتق من جهة المولى عند الأداء يثبت بإعتاق حكمي والضمان لا يجب بإعتاق حكمي. كما لو ورث ورثته ولو وجد من المولى بالإعتاق الحقيقي بأن أعتق ولد المكاتب حقيقة لا يجب الضمان أيضاً؛ لأنه لو وجب (وجب) للمكاتب وتعذر إيجابه للمكاتب، لأن المكاتب بعقد الكتابة يبتغي حرية الولد؛ لأنه عقد الكتابة كما يعقد الحرية المكاتب يقصد الحرية ولده فكيف يجب الضمان على المولى للمكاتب بما المكاتبة.(4/535)
-----
وأما على الولد فلهذه العلة وأما الجارية فنصيب الذي عتق منها أم ولده للذي عتق بمنزلة أم ولد الحر؛ لأنه تحقق ملكه فيها فتحققت أميه الولد في نصيبه منها ونصيب الأخر بقي على حاله بمنزلة أم ولد المكاتب عند أبي حنيفة رحمه الله، وكان ينبغي أن تصير الجارية كلها أم ولد للذي عتق بمنزلة ولد الحر؛ لأن الأصل في الاستيلاد التكميل.
والجواب هكذا إذا كان المحل فائدة للنقل من ملك إلى ملك أما إذا لم يكن فلا ألا ترى أن المدبرة إذا كانت بين اثنين استولدها أحدهما، فإنه لا يتكامل الاستيلاد بالإجماع، والمكاتبة إذا كانت بين اثنين استولدها أحدهما لا يتكامل الاستيلاد عند أبي حنيفة رحمه الله.
إذا ثبت هذا فنقول بأن نصيب الآخر ليس بقابل للنقل من ملك إلى ملك.
ألا ترى أنه امتنع بيعه فامتنع القول بتكميل الاستيلاد لهذه الضرورة ولا ضمان على الذي عتق في نصيب صاحبه من الجارية عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لم يتعين نصيب صاحبه ولم يتملكه المعتق هذا كله قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.(4/536)
-----
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أدى أحدهما حتى عتق نصيبه من الولد عتق الباقي من الولد أيضاً؛ لأن الإعتاق لا يتجزىء عندهما ولا ضمان ولا سعاية عليه لما مر وصارت الجارية كلها أم ولد للذي عتق؛ لأن امتناع النقل في نصيب صاحبه من الجارية إنما كان تبعاً لامتناع النقل من الولد وامتناع النقل في الولد إنما كان لأجل الكتابة، فإن الولد المولود في حالة الكتابة مكاتب (346ب1) فصار امتناع النقل في نصيب صاحبه من الجارية بهذا الوسط مضافاً إلى الكاتبة فكان نصيب الشريك من الجارية مكاتب وقيام الكتابة في نصيب الشريك لا يمنع تكامل الاستيلاد عندهما؛ لأن الكتابة في نصيب الشريك قابلة للفسخ وما يقولان يتكامل الاستيلاد فيما يقبل الفسخ فانفسخت الكتابة في نصيب صاحبه ويثبت تكامل الاستيلاد وعليه قيمة نصيب صاحبه موسراً كان أو معسراً لأنه ضمان التمليك ولا يختلف باليسار والعسار ولو أنه حين أدى أحدهما عجز الآخر بعد ذلك.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عتق نصيب المؤدى من الولد وصار نصيب الآخر عبداً تبعاً له لما مر. وصارت الجارية كلها أم ولد للمولى لزوال المانع من تكميل الاستيلاد وضمن المؤدي نصف قيمة الجارية لمولى العاجز موسراً كان أو معسراً لأنه يملك نصيبه بالاستيلاد ولا ضمان عليه في الولد لما ذكرنا أن العتق ما ثبت من جهته ولكن سعى الولد في نصف قيمته لمولى العاجز؛ لأنه إلى الأيام بها كان لا يسعى؛ لأنه لو سعى سعى لابنه فتعذر إيجاب السعاية للأب لما مر.
أما هاهنا لوسعى سعى لمولى الأب ومولى الأب يستحق السعاية عليه وقد احتبس عنده ملكه لأن بانفساخ كتابة الأب انفسخت الكتابة في حقه تبعاً فكان هذا النصف حق المولى بعد العجز وقد احتبس عند الولد حكماً يعتق نصيب المؤدي وتضمين المؤدي متعذر فتجب السعاية على الولد رعاية لحق المولى وصيانة لملكه.(4/537)
-----
فرق بين هذا وبينما لو كانت جارية بين رجلين حرين فولدت ولداً فادعاه أحدهما صارت الجارية كلها أم ولد له وضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه ولم يسع الولد في شيء لشريكه وإن (كان) معسراً.
والفرق: أن الدعوى في المسألتين دعوى استيلاد ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق وأمكن إسنادها إلى وقت العلوق في تلك المسألة؛ لأنه ليس في إسنادها إبطال لسبب أو عقد فصار ناقلاً لها إلى ملكه فصار مستولداً جارية نفسه ومن استولد جارية نفسه كان ولده حر الأصل حر العلوق ولم يكن عليه سعاية أما في مسألتنا بعد إسنادها إلى وقت العلوق؛ لأن في إسنادها إبطال النسب من العاجز ولا سبيل إلى إبطال النسب بعد ثبوته ودعوى الاستيلاد إذا لم تستند إلى وقت العلوق صارت دعوة تحرير فصار الولد كعبد بين اثنين أعتقه أحدهما وهو معسر فكان عليه أن يسعى.
هذا كما لو اشترى رجلان جارية ومعها ولدها فادعى أحدهما ذلك الولد وهو معسر ثبت النسب منه وصارت الجارية أم ولد وكان على الولد أن يسعى في نصف قيمته للساكت؛ لأن دعوته لم تستند إلى وقت العلوق لأن في إسنادها إبطال البيع فصارت دعوة تحرير فصار كعبدين اثنين أعتقه أحدهما وهو معسر، وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فالجواب ما ذكرنا قبل عجز الآخر إلا أن هنا الولد يسعى في نصف قيمته لمولى العاجز بخلاف ما قبل العجز. والفرق: ما قلنا لأبي حنيفة رحمه الله.
ولو لم يعجز الآخر بعد ما أدى أحدهما ولكن أدى وعتق لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب».
والجواب: أن على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: عتق الولد على المكاتبين لأن عنده الإعتاق متجزىء فحين أدى أحدهما أولاً عتق عليه نصيبه من الولد لا غير، فإذا أدى الآخر بعد ذلك عتق عليه نصيبه أيضاً وكانت الجارية أم ولد لهما.(4/538)
-----
وعلى قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: حين أدى أحدهما عتق كل الولد عليه لعدم تجزؤ الإعتاق، ومن غير ضمان ولا سعاية فصارت الجارية كلها أم ولد له فلا يتغير هذا الحكم بعتق الآخر ولو لم يرد واحد منهما شيئاً حتى عتق أحدهما، فإن الولد مكاتب مع الذي لم يعجز عندهما وهو ابنهما كما كان أما هو ابنهما، لأن النسب بعد ثبوته لا يقبل التحويل من موضع إلى موضع فبقي ثابتاً كما كان، وأما هو مكاتب مع الذي لم يعجز؛ لأنه لما عجز أحدهما انفسخت الكتابة في حقه فانفسخت في نصيبه من الولد ونصيب المكاتب من الولد مكاتب والكتابة عندهما غير متجزئة فيصير جميع الولد مكاتباً مع الذي لم يعجز ويضمن المكاتب الذي لم يعجز موسراًكان أو معسراً نصف قيمة الولد للمولى المكاتب الذي عجز؛ لأنه لما صار الولد كله مكاتباً مع الذي لم يعجز صار مستهكلاً نصيب الآخر وضمان التمليك لا يختلف باليسار والعسار ولم يذكر حكم الأم في هذا الفصل وينبغي على قياس قولهما: أن تصير أم ولد للذي لم يعجز أو لا مانع من تكميل الاستيلاد.
وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يكون نصف الولد مكاتباً مع الذي لم يعجز ونصفه يكون رقيقاً لمولى الذي عجز، لأن الكتابة عنده متجزئة.(4/539)
-----
وأما الجارية فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: على قياس قول أبي حنيفة: تصير الجارية كلها أم ولد للذي لم يعجز لزوال المانع من تكميل الاستيلاد على ما مر، وذكر علي الرازي في «مسائله» الكرخي: أن على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: يجب أن يكون نصفها أم ولد للمكاتب ونصفها يكون رقيقاً لمولى الذي عجز؛ لأن الأم تابعة للولد في مثل هذا فالولد نصفه مكاتب ونصفه رقيق لمولى الذي عجز فكذا الأم، ولو لم يرد واحد منهما ولم يعجز ولكن مات أحدهما وترك وفاء ببدل الكتابة وفضلاً، فإن مولى الميت يستوفي بدل الكتابة من تركته ويحكم بعتقه في أخر جزء من أجزاء حياته على ما عرف من أصلنا.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصف الولد تبعاً لأبيه والنصف الآخر يبقى مكاتباً ببقاء الأب الآخر؛ لأن العتق عنده متجزىء والكتابة كذلك، فإن أدى الآخر عتق وعتق الابن كله ولا يرث أباه الأول عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه معتق البعض حين مات الأب الأول، ومعتق البعض لا يرث شيئاً وإن لم يرد الآخر ولكن عجز فالابن يسعى في نصف قيمته لمولى العاجز ويحكم بحريته؛ لأنه معتق البعض، ومعتق البعض لا يترك كذلك بل يخرج إلى الحرية بالسعاية.
وأما الجارية فقد صار نصفها أم ولد للذي مات عن وفاء حال حياته وحريته وعتقت بموته حراً كما هو الحكم في أم ولد الحر ونصيب الآخر لا يترك رقيقاً فتسعى في نصف قيمتها للمكاتب ويحكم بحريتها.
فرق أبو حنيفة رحمه الله بينه وبين أم ولد الحرين يعتقهما أحدهما أو يموت أحدهما حتى عتق نصفها حيث لا تسعى في النصف الباقي.(4/540)
-----
والفرق: أن ثمة ثبتت أميه الولد حقيقة وثبت فيها حق الحرية حقيقة بحيث لا يتوهم عودهما إلى الرق فتسقط ماليتها وتقومها عند أبي حنيفة رحمه الله ولا ضمان ولا سعاية بدون (التقوم)، أما هاهنا لم تثبت أمية الولد حقيقة ولم يثبت فيها شبهة الحرية، وإنما امتنع بيعها بيعاً للولد ولهذا يتصور عودها إلى الرق بعجز المكاتبين وبدون حق الحرية لا يسقط تقومها وماليتها فكانت صفة المالية والتقوم لنصيب الحي باقية وقد احتبس عبدهما (347أ1) حكماً للعتق في النصف فسعت في نصف قيمتها لهذا، هذا كله قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.
وأما على قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا حكمنا الميت بحرية الولد في آخر جزء من أجزاء حياته حكمنا بحرية الولد كله؛ لأن العتق عندهما لا يتجزأ ولا ضمان في الولد ولا سعاية عليه لما قلنا قبل هذا إلا أن يعجز الآخر فحينئذٍ يسعى الولد في نصف قيمته للمولى العاجز لما مر، ولا يرث الابن من المكاتب الميت شيئاً؛ لأن نصفه عتق مع المكاتب الميت في آخر جزء من أجزاء حياته تبعاً له والنصف الآخر عتق بطريق السراية عن ذلك النصف فيقع عتق النصف الباقي مقارناً للموت أو بعده.
ومن شرط استحقاق الإرث أن يكون كله حراً وقت الموت.
فإن قيل: العتق عندهما لا يتجزأ فإذا ثبت في نصف الولد واستند إلى آخر جزء من أجزاء حياة الميت ثبت في الكل فهذا حر مات عن ولد حر فينبغي أن يرث.
والجواب عن هذا (أن) يقال بأن استناد العتق إنما كان بطريق التبعية وفي النصف هو بائع للمكاتب الميت فيستند العتق فيه ضرورة، فأما النصف الآخر ليس ببائع للمكاتب فلا يظهر استناد العتق فيه فكان عتق ذلك النصف مقارناً للموت أو بعده.(4/541)
-----
يوضحه: أن النصف الذي هو تابع للمكاتب الميت يعلق عتقه بكتابة الميت فوجب اعتباره بها ووجب إسناده إلى النسب السابق، فأما النصف الأخر لما لم يكن تابعاً له لم يستحق الحرية بذلك النسب، وإنما استحقه ضرورة عدم التجزؤء فيعتبر حال ما وجبت حريته وهو الآداء الذي يحصل بعد الموت فيكون رقيقاً وقت الموت لمكاتب الميت فلهذا لا يرث.
فأما الأم فإنها تصير أم ولد للميت فيعتق بموته ويجب في ماله نصف نصف قيمتها للمكاتب الحي يؤخذ ذلك من تركته بعد أداء بدل الكتابة.
ذكر بعد هذا في «الكتاب» سؤالاً فقال: كيف يسعى الولد بنصف قيمته للمولى العاجز عندهما وهما ينقضان العتق؟ ومعنى هذا السؤال أنهما لما كانا لا ينقضان العتق أثبت العتق في كل الولد قبل عجز الآخر وما لم يعجز للآخر لا يثبت حق المولى في ولده فحال ما عتق كل الولد لم يكن حق المولى ثابتاً فيه فلماذا يسعى للمولى العاجز؟ ذكر السؤال ولم يذكر الجواب.
ومشايخنا رحمهم الله أجابوا فقالوا بأن حق المولى كان ثابتاً في المكاتب وفي الولد؛ لأن ولد المكاتب يصير مكاتباً على مولى الأب تبعاً للأب، ومن ضرورته دخوله في ملكه إلا أن حق المكاتب كان مقدماً في الولد على حق المولى، فإذا زال حق المكاتب فوجبت السعاية للمولى لاحتباس ملك المولى عنده؛ لأن حق المولى يثبت في الولد.
قال: مكاتبة بين اثنين جاءت بولد فادعاه أحدهما صحت دعوته لقيام ملكه في نصفها وثبت نسبه منها وصار نصيبه من الجارية أم ولد له وبقي نصيب الآخر مكاتباً غير أم ولد عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الكتابة في نصيب الشريك مانعة تقبل نصيب الشريك إلى ملك المستولد عنده والاستيلاد متى وقع في محل لا يقبل النقل ينتقص.(4/542)
-----
كما في المدبرة بين اثنين استولدها أحدهما وعندهما صارت الجارية كلها أم للمستولد؛ لأن الكتابة في نصيب الشريك عندهما غير مانعة من تكميل الاستيلاد؛ لأن الاستيلاد أقوى الكتابة؛ لأنه لا يحتمل الفسخ والكتابة تحتمل الفسخ فيتكامل الاستيلاد وتنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، فإذاً إن انفسخت الكتابة في نصيب الشريك وتكامل الاستيلاد صار المستولد مستهلك نصيب الشريك وعادت الكتابة إلى نصيب الشريك وكملت لبقاء الكتابة في نصيب المستولد وهي غير متجزئة عندهما فتثبت في النصف الذي يملكه المستولد ضرورة عدم التجزؤ ثم يضمن المستولد لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً؛ لأنه يملك نصيب الشريك وضمان التملك لا يختلف.
ثم اختلف المشايخ رحمهم الله في كيفية الضمان، بعضهم قالوا: يضمن المستولد لشريكه نصف قيمتها فيه لانقسام الكتابة عندهما.
وبعضهم قالوا: يكاتبه؛ لأن هذا فسخ ضروري فلا يظهر في حق الضمان ثم لها الخيار؛ إن شاءت مضت على الكتابة وأدت بدل الكتابة وعتقت، وإن شاءت أعجزت نفسها وكانت أم ولد للمستولد تعتق بموته؛ لأنه تصدى لها سببا عتق كتابة معجلة ببدل، واستيلاد مؤجل بغير بدل ولها في كل نوع فائدة أخرى فكان لها الخيار لها لهذا، فإن اختارت المضي في الكتابة. ففي رواية هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله: تكون مكاتبة بجميع البدل وذكر الحاكم في «المنتقى»: أنها تكون مكاتبة بنصف البدل.
وجه ما ذكر في «المنتقى»: أن الكتابة قد انفسخت في نصيب الشريك ضرورة تكميل الاستيلاد، وإذا انفسخت الكتابة في نصيب الشريك سقط نصف البدل ثم ثبوت الكتابة القائمة في نصيب المستولد إذا فات، فإنما يتسرى بما بقي فيه من البدل.(4/543)
-----
وجه رواية هشام: أن التملك كالاستيلاد أمر حكمي والمكاتب يقبل النقل الحكمي على ما مر، فلا ضرورة إلى القول بانفساخ الكتابة في نصيب الشريك بل يدخل نصيب الشريك في ملك المستولد مكاتباً، وإذا لم تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك لم تسقط بشيء من البدل، والدليل على صحة ما قلنا: أنه لو انفسخت الكتابة في نصيب الشريك لانفسخت في نصيب المستولد؛ لأن الكتابة عندهما كما لا تتجزأ ثبوتاً لا تتجزأ انفساخاً فلا يعود بعد ذلك مكاتبة إلا بتجديد العقد وهي مكاتبة بالاتفاق فدل أنه لم تنفسخ الكتابة في شيء منها.
وكذلك لو لم مات بالولد ولكن أقر أحد الشريكين أنها أم ولد له فهذا والأول سواء؛ لأن الإقرار بالاستيلاد في الحكم بمنزلة إنشائه والله أعلم.
الفصل العاشر في بيان حكم المكاتبين إن كانت مكاتبتهما واحدة أو متفرقة
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: مكاتبان رجلين كل واحد منهما لرجل على حده وبينهما جارية جاءت بولد فادعياه فهو ابنهما، وقد مر هذا، فإن ماتا عن وفاء أو قتلا معاً أو أحدهما قبل الآخر فأديت مكاتبتهما معاً عتقا ويستند عتق كل واحد منهما إلى آخر جزء من أجزاء حياته وعتق الولد تبعاً للأبوين، لأن نصف الولد تابع لهذا الأب داخل في كتابته والنصف الآخر تابع للأب الآخر داخل في كتابته وكان مولى للمكاتبين؛ لأن عتق الولد ثبت من جهة المكاتبين، ولا يرث الابن من واحد من الأبوين؛ لأنه معتق البعض في حق كل واحد منهما وقت موته.
بيانه: ما ذكرنا أن نصف الولد تابع لهذا الأب والنصف الآخر تابع للأب الأخر فيستند عتق كل واحد نصف إلى عتق أصله لا إلى عتق الأصل الآخر لأن الاستيلاد من أحكام عقد الأصل، فإنها تظهر في مقدار ما هو تابع له (347ب1) في العقد لا فيما ليس بتابع له وجعل فيما ليس بتابع له كأن عتقه مقصور على الحال، فهو معنى قولنا: إنه معتق البعض في حق كل واحد منهما وقت موته.(4/544)
-----
وكذلك إذا كان المكاتبان لرجل واحد كاتب كل واحد منهما بكتابة على حدة؛ لأن تبعية الولد المكاتب تكون في العقد، فيكون اختلاف العقدين بمنزلة اختلاف المنزلتين فأما إذا كان الرجل واحداً وقد كاتبهما كتابة واحدة، وباقي المسألة بحالها ورث الابن من كل واحد منهما؛ لأن العقد إذا كان واحداً كان يعقد بعتق كل واحد من الأبوين معلقاً بعتق الآخر لا يتصور عتق أحدهما إلا ومعه عتق الآخر، فاستند عتق كل واحد من الأبوين إلى ما استند إليه عتق صاحبه، وإذا استند العتق في كل واحد من الأبوين إلى حال حياتهما وظهر الاستناد في حق صاحبه يظهر استناد العتق في كل الولد في حق كل واحد من الأبوين ضرورة، فلم يحصل عتق كل واحد من الأبوين، والولد حر كله بعتقه يرث ويرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل عندنا خلافاً لزفز، فالمسألة معروفة.
قال: ولو كانا لرجلين أو لرجل واحد وبينهما ولد، ولد في حال كتابتهما من جارية مشتركة بينهما إلا أن كتابتهما مختلفة فقتلا معاً أو ماتا معاً أو على التعاقب وترك كل واحد منهما وفاء فأديت مكاتبة أحدهما أولاً ثم أديت مكاتبة الآخر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عتق الولد تبعاً للمكاتبين وولاؤه لمولى المكاتبين كما لو أديت مكاتبتهما معاً. وهذا لأن العتق عنده متجزىء، فإنما يعتق كل واحد منهما يعتق نصف الولد الذي هو تابع له لا غير وكذلك الجارية بعتق من جهة المكاتبين، وولاؤها لمولى المكاتبين ولا يرث الابن من واحد من الأبوين لما مر قبل هذا.
(4/545)
-----
وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فالولد يعتق تبعاً للأب الذي أديت مكاتبته أولاً سواء كان هو الذي مات أولاً أو آخراً؛ لأن عندهما العتق لا يتجزأ، فإن أديت مكاتبة أحدهما أولاً وحكم بحريته وبحرية نصف الولد تبعاً له حكم بحرية النصف الآخر ضرورة عدم التجزأ فقد اعتبرنا حالة الأداء في هذه المسائل حتى قالا: إذا أديت كتابتهما معاً عتق الولد تبعاً للمكاتبين، وولاؤه لمولى المكاتبين ماتا معاً أو على التعاقب الولد تبعاً للمكاتبين، وإذا أديت كتابة أحدهما أولاً عتق الولد تبعاً للمكاتب الذي أديت كتابته أولاً، ماتا معاً أو على التعاقب وإنما فعلا هكذا؛ لأن العتق إنما يثبت عند الأداء لكونه معلقاً بالأداء فيجب النظر إلى حالة الأداء ولا يرث الابن واحداً من الأبوين لما ذكرنا أن استناد حرية كل نصف من الولد إنما يظهر في حق الأب الذي هو تابع له في ذلك النصف.h
أما في حق الأب الآخر: يجعل كأن حرية الولد مقصورة على الحال، ولا سعاية على الولد في نصيب الذي أديت كأنه آخر مرة؛ لأنه لو سعى سعى لأبيه وقد ذكرنا أن ابن المكاتب لا يسعى لأبيه بحال.
وأما أم الولد فقد صارت حرة من قبل المكاتب الذي كتابته أولاً؛ لأن نصفها عتق بموته يكون ذلك النصف أم ولد له، فيعتق النصف الثاني ضرورة عدم التجزؤ ويضمن لورثة المكاتب الذي أديت كتابته آخر مرة نصف قيمتها ويكون ديناً في تركته؛ لأن الاستيلاد تقرر في الكل وصار متملكاً نصيب صاحبه فيضمن نصف قيمتها لورثة المكاتب الذي أديت كتابته آخراً بهذا.(4/546)
-----
لو كاتب الأبوين مكاتبة واحداً فمات قبل صاحبه وترك كل واحد منهما وفاء فأديت المكاتبة من مال أحدهما عتقا وورث الابن منهما؛ لما ذكرنا أن عند اتحاد العقد يستند عتق كل واحد منهما من الأبوين إلى ما استند إليه عتق صاحبه، وعند ذلك يظهر استناد عتق الولد في حق كل واحد من الأبوين ثم يؤخذ من تركة الذي لم يؤد بدل الكتابة من ماله حصة من بدل الكتابة؛ لأن الأداء من تركة أحدهما بعد وفائه بمنزلة أدائه في حال حياته في حق ثبوت حق الرجوع على صاحبه بحصته إن كان حياً، وفي تركته إن كان ميتاً.
وقال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: مكاتب لرجلين أو لرجل واحد إلا أن كتابتهما مختلفة وبينهما ولد على تجوز ما ذكرنا، مات أحدهما عن وفاء، ثم قطعت يد الابن ثم أديت مكاتبته، فإن على القاطع أرش العبيد لأنه قطعت يده وهو عبد؛ لأن قبل أداء بدل الكتابة لا يثبت العتق وعند الأداء يثبت العتق مستنداً، ولكن الاستناد لا يظهر في حق المتلاشى والمستوى بالقطع بلا شيء فيكون نصف هذا الأرش بهذا الولد لا يدخل في كسب الميت، وإن كان ذلك للميت حال حياته، ونصفه للمكاتب الحي، أما نصفه للولد؛ لأنا إنما جعلنا ذلك للميت حال حياته لأجل التبعية؛ لأن نصف الولد الذي داخل في كتابته تابع له وقد صار ذلك النصف أصلاً بموته وبهذا يطالب بأداء حصة الميت من بدل الكتابة وقيل: هذا كان لا يطالب وهذا هو علامة الأصالة.
(4/547)
-----
وأما النصف الآخر الذي هو داخل في كتابة الحي بقي تبعاً للحي فلهذا كان نصف الأرش للولد والنصف للمكاتب الحي، وكذلك لو اكتسب الولد اكتساباً بعد موت أحدهما أي: أحد الأبوين قبل أداء بدل الكتابة كان نصف الكسب للولد يدخل في كسب الميت وإن كان ذلك الميت حال حياته ونصفه للمكاتب الحي لما قلنا في الأرش، وإن قطعت يده بعدما أديت مكاتبة الميت قدم القاطع أرش الأحرار عندهما؛ لأن العتق عندهما لا يتجزأ، فإذا عتق نصف الولد عند أداء مكاتبة الميت عتق النصف الآخر ضرورة عدم التجزؤ وكان الأرش للولد لكونه حراً وقت القطع.
وكذلك الكسب الذي اكتسبه الولد بعدما أديت مكاتبة الميت يكون كله له؛ لأنه اكتسبه وهو حر، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله يجب على القاطع أرش العبيد لأن معتق البعض عنده، ومعتق البعض بمنزلة المكاتب فيكون نصف هذا الأرش للولد ونصفه للمكاتب الحي الذي اكتسبه هذا الولد بعدما أديت مكاتبة الميت يكون نصفه للولد ونصفه للمكاتب الحي عند أبي حنيفة رحمه الله.
وكان ينبغي أن يكون كل الأرش والكسب للولد في هذا الفصل عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن معتق البعض عنده مكاتب مقصود في جميع الرقبة ومن كان مكاتباً مقصوداً يستحق جميع أرشه وجميع كسبه.
والجواب: أن معتق البعض على قول أبي حنيفة رحمه الله: إنما يكون مكاتباً مقصوداً إذا ثبتت الكتابة في الباقي حكماً بعتق البعض وكتابة الباقي ههنا ما ثبت حكماً لعتق البعض إنما يثبت بكتابة الحي فبقي مكاتباً تبعاً للحي فلهذا لا يستوجب كل الأرش وكل الكسب.(4/548)
-----
وإن قطعت يد الأم بعد موت أحدهما عن وفاء فإن كان قبل أداء مكاتبته على القاطع أرش الإماء، وهذا ظاهر ويكون نصف ذلك للمكاتب الميت والنصف للمكاتب الحي أما النصف للمكاتب الحي فظاهر؛ لأن نصفها مملوكة له وأما النصف للمكاتب الميت لأن نصيب الميت منها لم يصر مكاتباً مقصوداً لأن أم الولد لا يكاتب على المكاتب حتى يصير مقصود بموته ما يحرم بيعها لا غير.
ألا ترى أن بعد موت المولى لا يطالب بأداء البدل فبقي تبعاً للميت كما كان وكان أرشها بمنزلة المكاتب الميت فيلتحق بتركته (349أ1) ويؤدي مكاتبته من الجملة.
وكذلك الجواب في أكساب اكتسبتها قبل أداء بدل الكتابة لكون نصفها للمكاتب الحي والنصف للمكاتب الميت لما قلنا في الأرش، وإن قطعت يدها بعدما أدت مكاتبة الميت فأرشها أرش الأحرار عندهما حكماً بحرية الميت لحرية نصفها لكون ذلك النصف أم ولد له فحكم بحرية النصف الآخر منها ضرورة عدم التجزؤ فيكون ذلك لها.
وكذلك الجواب في كسب اكتسب بعد أداء بدل الكتابة لها عندهما؛ وهذا ظاهر.
وأما على قول أبي حنيفة: يجب أرش الإماء؛ لأنها معتقة البعض فيكون النصف لها؛ لأن نصفها قد عتق، والنصف للمكاتب الحي لأن نصفها بقيت مملوكة للمكاتب الحي.
وكذلك الجواب في كسب الكسب بعد الأداء النصف لها والنصف للمكاتب الحي لما قلنا، وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها معتق البعض، ومعتق البعض عنده مكاتب مقصوداً إذا ثبت كتابة الباقي حكماً لعتق البعض وههنا كتابة الباقي تثبت حكماً لعتق البعض فينبغي أن يكون كل الأرش وكل الكسب لها.
والجواب: أن معتق البعض على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يكون مكاتباً مقصوداً مستحقاً جميع الكسب والأرش مع أن كتابة الباقي تثبت حكماً لعتق البعض باعتبار أنه ملك اكتسب يثبت بملك الرقبة وفي معتق البعض ملك الساكت قابل للانتقال.(4/549)
-----
ألا ترى أنه ينتقل إلى الشريك بالضمان فجاز أن ينتقل العبد بالسعاية فتملك نفسها فيملك اكتساب ضرورة أما ملك أم الولد لا يقبل الانتقال.
ألا ترى أنه لا ينتقل إلى الشريك فلا ينتقل إليها فلا تملك نفسها ولا يملك الكسب إلا أنه يضرب عليها السعاية لتعذر إيفائها على حكم الرق لا لأنها تملك نفسها بالسعاية.
عبد وابنه بين رجلين كاتبهما أحدُهما على ألف درهم كتابة واحدة بغير إذن الشريك، فمات الأب وترك مالاً كثيراً، ثم اكتسب الابن بعد موته اكتساباً أو قطعت يده وأخذ الأرش ثم علم المولى الآخر بالكاتبة، فأراد أن ينقض الكتابة ليس له ذلك؛ لأن البعض إنما يصح إذا بقي العقد بعد موت المكاتب بخلاف القياس لضرورة صحة الأداء وإمكان استناد العتق إلى قبل الموت، فلا يظهر في حق بعض مقصوده ولكن يأخذ نصف ما ترك الأب ونصف ما اكتسب الابن؛ لأنه لو كان الأب حياً كان للمولى الآخر أن يأخذ نصف ذلك.
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله فظاهر؛ لأنه كسب عبد مشترك؛ لأن الكتابة عنده متجزئة.
وأما على قولهما: فلأن الكتابة عندهما وإن كانت لا تتجزأ فللساكت حق الفسخ فحصل نصف الكسب على حقه يعني على حق ملكه له أن يأخذ نصف ذلك.
إذا ثبت هذا الحكم حال حياة الأب بقي كذلك بعد موته عن وفاء، ثم ينظر إلى الباقي فيؤدي منها لمكاتبه ويحكم بعتق النصف بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله وبعتق الكل عندهما وعلى المكاتب نصف قيمته إن كان موسراً، وإن كان معسراً تجب السعاية عليهما في ذلك غير أن ما كان بحصة الميت يؤخذ من تركته لكونه عاجزاً عن السعاية وما كان بحصة الابن يجب عليه لكونه قادراً على السعاية، فلا يرث الابن أباه؛ لأنه معتق البعض عند موته.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: في رجل كاتب غلامين له كتابة واحدة فاستحق أحدهما لا يرجع على الثاني بشيء منهما وإن وجد أحدهما حراً بطلت الكتابة كلها.(4/550)
-----
وعن أبي يوسف: في رجل كاتب عبدين له على ألف درهم كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل ضامن لذلك فاستحق أحدهما، فالثاني بالخيار إن شاء أدى جميع بدل الكتابة فعتق، لا يعتق بدون ذلك، وإن شاء نقض الكتابة.
وفي «نوادر ابن سماعة»: عن أبي يوسف رحمه الله: إذا كاتب الرجل عبدين له مكاتبة واحدة على ألف درهم إن أديا عتقا، وإن عجزا ردا في الرق، فإن أدى أحدهما الكتابة رجع على صاحبه، وإن لم يضمن كل واحد منهما عن صاحبه.
وفي «المنتقى»: رجل كاتب عبدين له في صحته على ألف درهم كتابة واحدة ثم إن أحدهما زاده مائة درهم في الكتابة والألف على النجوم، وأبى الآخر الزيادة فإنه يلزم (صاحب) الزيادة نصف الزيادة ولا يلزم الآخر شيء منها ويعتقان بأداء الألف وتكون نصف الزيادة على الذي زادها ولا ويكون على النجوم وكذلك لو قبلها صاحبه كانت الزيادة عليهما حالاً.
وهذا بمنزلة رجل باع عبداً بألف درهم إلى سنة، ثم زاده مائة درهم فهذه حالة ولا يكون على الأصل ولا يأخذ المولى كل واحد منهما إلا بحصة الزيادة وإن أداها أحدهما لم يرجع بها على الآخر.
وقال محمد رحمه الله: إذا زاد أحدهما مئة وخمسمائة، فإنها كلها عليه يأخذه المولى بها.
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: إذا كاتب الرجل عبدين له على ألف درهم ولم يجعل كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه، فأدى أحداهما حصته من المكاتبة عتق.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا كاتب عبدين له على ألف درهم حالة ثم يرد على هذا أخذ كل واحد منهما بحصة من المكاتبة، ولم يكن له أن يأخذ واحداً منهما بما على الآخر، وإنما أدى حصته صار حراً.
وإن كاتبهما على الألف ونجمها عليهما وقال: إذا أديتما عتقتما أو لم يقل ذلك كان له أن يأخذ أيهما شاء بجميعهما، وكان ذلك بمنزلة ضمان كل واحد منهما عن صاحبه والله أعلم.
(4/551)
-----
الفصل الحادي عشر في العبد يكون بين رجلين فيكاتباه أو يكاتبه أحدهما
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وإذا كان العبد بين رجلين فكاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه، صحت الكتابة في نصيبه واقتصرت عليه عند أبي حنيفة؛ لأن في الكتابة معاوضة وتعليق عتق بالأداء، وأي ذلك ما اعتبر صح من أحدهما في نصيبه.
فإنه لو باع أحدهما نصيبه جاز، ولو علق عتق نصيبه بأداء المال أيضاً يجوز، وكان للشريك الساكت الخيار إن شاء فسخ هذه الكتابة وإن شاء ضربها عند علمائنا رحمهم الله خلافاً لابن أبي ليلى، وأجمعوا على أنه لو باع أحدهما نصيبه أو أعتق أو دبر، أو علق عتق نصيبه بأداء المال إنه ليس للساكت أن يفسخه.
والوجه في ذلك: أن المكاتب بكتابة نصيب نفسه وإن تصرف في خالص ملكه إلا أنه ألحق بغيره وهو الساكت ضرراً فإنه بسبب كتابته يبطل على الساكت حق البيع في نصيبه؛ لأن نصيب المكاتب بالكتابة صار حراً يداً للحال وحرية اليد مانعة جواز البيع كحرية الرقبة.
فهو معنى قولنا: أخر بالساكت والكتابة قابل للفسخ وكل تصرف صدر من المالك وقد وقع إضرار بالعين، وإنه يحل الفسخ كان لمن يوجه عليه الضرر فسخه.(4/552)
-----
ألا ترى أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء لها كان للأولياء حق الاعتراض وإن تصرفت في خالص ملكها؛ لأنها ألحقت بما تصرفت ضرراً بالأولياء فكذا ههنا بل أولى لأن الكتابة أقبل للفسخ من النكاح، فإن النكاح (349ب1) لا يفسخ إلا بقصور في ولاية العاقد، والكتابة تفسخ بتراجعها من غير قصور في ولاية العاقد وليس كما (لو) باع أحدهما نصيبه؛ لأنه ليس في بيع أحدهما نصيبه ضرر على صاحبه؛ لأن بسبب هذا البيع لا يبطل على صاحبه حق البيع في نصيبه حتى إن في (أي) موضع كان في بيع أحدهما نصيب ضرر لصاحبه كان لصاحبه حق فسخ بيعه، فإن الدار إذا كانت بين اثنين باع أحدهما نصف ثلث معلوم من رجل كان للآخر حق الفسخ حتى لا يتفرق نصيبه في الدار زيادة تفرق وليس كما لو أعتق أحدهما نصيبه أو دبره؛ لأن كل واحد منهما لا يقبل الفسخ وليس كما لو علق عتق نصيبه بأداء المال لأنه لا يحتمل الفسخ لأنه يمين.
ثم إن عامة المشايخ لم يشترطوا لصحة هذا الفسخ القضاء أو الرضا والشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله في «شرح الشافي»: شرط القضاء أو الرضا وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه تصرف في ملكه، فإن فسخ الساكت الكتابة عاد الأمر إلى ما كان قبل الكتابة وإن لم يفسخ حتى أداء العبد مكاتبته، فإنه يعتق نصيب المكاتب، واقتصر العتق على نصيبه عند أبي حنيفة رحمه الله، وللساكت خيارات ثلاثة إن كان المكاتب موسراً، وإن كان معسراً فله خيارات؛ لأن المكاتب صار معتقاً نصيبه عند الأداء، والحكم في عبد بين شريكين أعتق أحدهما نصيبه عند أبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا ثم يرجع الساكت على شريكه فيأخذ منه نصف ما أخذه من العبد، ويأخذ من العبد نصف ما بقي في يده من الكسب؛ لأن الكتابة لما اقتصرت على نصيب الساكت عند أبي حنيفة رحمه الله كان هذا كسب عند نصفه المكاتب ونصفه للساكت ثم يقع المكاتب عبداً على العبد بما أخذ منه الساكت.
(4/553)
-----
فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين ما إذا كاتب ورجع الساكت على المكاتب وأخذ منه نصف ذلك، لا يكون للمكاتب أن يرجع على العبد بشيء؛ لأن هناك جعل البدل المسمى بإزاء كل العبد فكان بإزاء النصف نصف المسمى وقد سلم له النصف المسمى بكماله، أما ههنا جعل البدل مقابلة نصيبه، وصح ذلك عند أبي حنيفة لاقتصار الكتابة على نصيب عبده فصار جميع المسمى بإزاء نصيبه لا غير، فإذا استحق شيء منه كان له حق الرجوع بذلك القدر فهذا هو الفرق له.
جئنا إلى بيان مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فنقول إذا أدى المكاتب بدل الكتابة عتق جميع العبد عندهما؛ لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ وكان للساكت حق تضمين المكاتب إن كان موسراً وحق استغناء العبد إن كان معسراً، ويرجع الساكت على المكاتب فيأخذ منه نصف ما أخذ من العبد ويأخذ أيضاً نصف ما بقي في يد العبد بعد أداء بدل الكتابة، وكان ينبغي أن لا يرجع على الساكت بشيء عندهما؛ لأن الكتابة عندهما لا تتجزأ فيصير الكل مكاتباً على المكاتب ويصير المكاتب مستهلكاً على الساكت نصيبه فيكون جميع المؤدى بسبب مكاتبته فينبغي أن يسلم له، ولكن الوجه في هذا أن يقال بأن نصيب الساكت لا يعتبر مملوكاً ومكاتباً للمكاتب في حق الساكت بل يعتبر مأذوناً له في التجارة.
أما في حق المكاتب يعتبر مملوكاً ومكاتباً للمكاتب، والكتابة تخالف العتق والتدبير والاستيلاد عندهما، فإن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه أو دبر أو استولد، يتملك نصيب صاحبه بالضمان ويظهر ذلك في حق الكل.
والوجه في ذلك: أن يقال بأن مال الغير لا يتملك إلا بضرورة، ولا تتحقق الضرورة في فصل الكتابة إلا بتملك نصيب الساكت.(4/554)
-----
أما في فصل الإعتاق والتدبير والاستيلاد ضرورة وبيان ذلك: أن في فصل الكتابة لو صار متملكاً نصيب الساكت إنما يصير متملكاً ضرورة أن الكتابة لما نفذت في نصيب المكاتب لا بد من إثبات حكمها فيه وهو حرية اليد في حق الاكتساب والتصرف، فلا يمكن إثبات حرية اليد في نصيب المكاتب إلا بإثبات الحرية في نصيب الساكت؛ لأنها لا تتجزأ ولا يمكن إثبات الحرية في نصيب الساكت إلا وقد تملك نصيب الساكت فيصير متملكاً نصيب الساكت بهذه الوسائط.
قلنا: من ضرورة حرية اليد في حق الاكتساب والتصرف في نصيب المكاتب، أما ليس من ضرورة حرية اليد في حق الاكتساب والتصرف في نصيب الساكت يملك نصيب الساكت وجعل نصيب الساكت مملوكاً للمكاتب في حق الساكت لأنه هو المقصود يحصل في نصيب الساكت إذا صار نصيبه مأذوناً في التجارة فجعلنا نصيب الساكت مأذوناً في التجارة في حق الساكت مكاتباً في حق المكاتب، وإذا بقي نصيب الساكت مأذوناً في التجارة في حق الساكت كان هذا كسب عبد مشترك، فكان للساكت أن يأخذ نصفه، أما في الإعتاق والتدبير والاستيلاد تحققت الضرورة إلى تملك نصيب الساكت لأن الإعتاق والتدبير والاستيلاد لما صح في نصيب المباشر لا بد من إثبات حكمها في نصيبه ولا يمكن إثبات حكمها في نصيبه إلا بثبات حكمها في نصيب صاحبه، لأنه لا يتجزأ ولا يمكن إثباته في نصيب الساكت لسبب آخر غير العتق؛ لأن حكم حقيقة العتق لا تثبت بسبب آخر غير العتق.
وكذلك حكم التدبير لا يثبت نسب آخر غير التدبير؛ لأنه لإثبات حق العتق للرقبة حتى لا يجوز عن كفارة يمينه، وحكم جعله لعتق لا يثبت لسبب آخر دون العتق، فكذا حكم حق العتق فأثبتنا حقيقة العتق وحكم حق العتق في نصيب الساكت بالعتق والتدبير والعتق والتدبير في نصيب الساكت لا يصح إلا بعد أن يصير مملوكاً له فصار متملكاً نصيب الساكت.(4/555)
-----
فأما الثابت بالكتابة للحال حرية اليد في حق التصرف، لا حقيقة الحرية، ولا حق الحرية وبهذا قبل الفسخ وصار صرفه إلى الكفارة وحرية اليد كما ثبتت بالكتابة تثبت بالإذن فيمكننا إثبات حرية اليد في نصيب الساكت يحصل نصيبه مأذوناً في التجارة.
ثم إذا أخذ الساكت من المكاتب نصف المكاتبة لا يرجع المكاتب على العبد بشيء عندهما؛ لأن إضافة الكتابة ألحق إلى البعض، والكتابة عندهما لا تتجزىء في حق المكاتب، بمنزلة الإضافة إلى الكل لو أضاف الكتابة إلى الكل فيعتبر نصيب الساكت مكاتباً في حق المكاتب لأنه أقر عليه حتى ينقسم البدل على النصيبين فلا يرجع على العبد إذا أخذ منه الساكت بشيء وفي حق الساكت يعتبر مأذوناً (في التجارة) لا مكاتباً كذا ههنا هذه جملة ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله.
طريقة أخرى لبيان أن الساكت يأخذ من المكاتب نصف ما أخذ من العبد ويأخذ من العبد نصف ما بقي في يده، وعلى هذه الطريقة يسلم أن نصيب الساكت صار مكاتباً كما هو أصلهما في عدم تجزىء الكتابة.
وجه ذلك: أن الكل وإن صار مكاتباً إلا أن للساكت قبل أداء بدل الكتابة أن يفسخ الكتابة ويأخذ نصف الرقبة ونصف الكسب، وبعد الأداء إن تعذر الفسخ في الرقبة ما تعذر في الكسب فيفسخ الساكت العقد في نصيب الاكتساب وعند ذلك يعود نصف الكسب (350أ1) إلى ملكه فيأخذه بطريق فسخ الكتابة، ثم لا يرجع المكاتب عبداً على العبد بشيء وليس للمكاتب أن يحاج العبد، ويقول قد استحق علي بعض ما أديت فإن أرجع عليك بذلك؛ لأن من حجة العبد أن يقول له: قد ضمنت لي سلامة جميع الكسب.
عندهما؛ لأن الكتابة لا تتجزىء عندهما، فإذا استحق عليك نصف ما أخذت لو رجعت له علي؛ كان لي أن أرجع عليك بما رجعت علي؛ لأن ذلك كسبي وقد ضمنت لي سلامة كسبي، ولم يسلم فكان لي حق الرجوع عليك بما رجعت علي فلا يعتد الرجوع هذا الذي ذكرنا، إذا كاتب نصيبه من العبد.(4/556)
-----
فأما إذا كاتب جميع العبد بغير إذن شريكه وقد أدى المكاتب جميع المسمى فالجواب فيه عند أبي حنيفة رحمه الله كالجواب فيما إذا كانت نصيبه لا غير إلا في فصل وهو أن الساكت إذا أخذ من المكاتب نصف المؤدى فإن المكاتب لا يرجع على العبد بما أخذ منه الساكت، فأما في عدا ذلك فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كاتب نصيبه وعلى قولهما. الجواب فيه كالجواب فيما إذا كاتب بعينه؛ لأن إضافة الكتابة إلى نصيبه إضافة إلى الكل.
وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف رحمه الله: عبد بين رجلين كاتبه أحدهما بغير إذن شريكه، فلم يرد ذلك الشريك حتى أدى المكاتب وعتق.
قال أبو يوسف رحمه الله: لا يرجع الذي لم يكاتب على الذي كاتب بشيء فيما قبض من المكاتبة؛ لأن المكاتبة قد تمت وصار الكسب للمكاتب يوم كاتبه فيما قبض الذي كاتب خالص المكاتب لاحق للذي لم يكاتب فيه فلا يرجع فيه، ولكن يضمن الذي لم يكاتب الذي كاتب نصف قيمته إن شاء، إنه خلاف المذكور في الأصل هذا الذي ذكرنا إذا كاتب نصيبه من العبد أو كله يصير أذن شريكه، فأما إذا كاتب نصيبه بإذن شريكه فهذا على وجهين.
إما أن أذن له بالكتابة في نصيبه، ولم يأذن له بقبض المكاتبة من العبد، أو أذن له بالكتابة في نصيبه، وأذن له بقبض المكاتبة، فإن أذن له بالكتابة، ولم يأذن له بالقبض، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: الجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يأذن له شريكه بكتابة نصيبه في جميع ما ذكرنا من الأحكام في فصلين:
أحدهما: أنه لا يكون للآذن أن يفسخ الكتابة في نصيب المكاتب؛ لأنه رضي بالكتابة في نصيبه، فلا يكون له حق الفسخ بعد ذلك.
كالمرأة إذا وضعت منها في غير كقول ورضي به الأولياء لا يبقى للأولياء حق الفسخ وحتى كاتب نصيبه بغير إذن شريكه كان له الفسخ؛ لأنه لم ينص بكتابة شريكه.g(4/557)
-----
والثاني أنه متى أدى المكاتب المكاتبة إلى المكاتب حتى عتق نصيب المكاتب لا يكون للآذن حق تضمين المكاتب؛ لأن المكاتب صار معتقاً له بالكتابة برضا صاحبه ولكنه يعتقه أو يستسعيه.
وأما على قولهما: فقد صار العبد مكاتباً بينهما؛ لأن الإذن من الساكت بكتابة نصيب الكاتبة إذن أَذنَ بكتابة الكل؛ لأنه لا يتجزىء، فكأنه قال: كاتب نصيبك ونصيبي فيصير الكل مكاتباً بينهما لا يعتق بأداء حصة أحدهما ما لم يؤد جميع المكاتبة كما لو كاتباه مكاتبة واحدة، ويكون المقبوض بينهما لأن كسب مكاتبتهما وما بقي من يد العبد يكون سالماً للعبد، فلا يكون لأحد على ذلك سبيل؛ لأنه كسب عبد كله مكاتب، هذا إذا أذن له بالكتابة ولم يأذن له بقبض نصيبه، فأما إذا أذن له بالكتابة في نصيبه وبقبض نصيبه فعلى قولهما: الجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن له بكتابة نصيبه لا غير، إلا في فصل واحد وهو أنه متى أدى جميع المكاتبة ههنا إلى المكاتب فإنه يعتق؛ لأن المكاتب صار وكيلاً بالقبض من جهة الآذن فيكون الأداء إليه كالأداء إليهما، فيعتق بالأداء إلى المكاتب، ثم للآذن أن يأخذ منه نصف المكاتبة؛ لأنه كسب مكاتبهما وفيما لم يأذن له بالقبض وصار مكاتباً بينهما إذا أدى إلى المكاتب جميع المكاتبة فإنه لا يعتق لأن الإذن بالكتابة لا يكون إذناً بالقبض، كالوكيل بالكتابة لا يكون وكيلاً بالقبض، فلا يصير المكاتب وكيلاً من جهة الآخر بقبض نصيبه فيكون أداء حصة الآخر إليه والأداء إلى الأجنبي سواء، فأما فيما عدا هذا الحكم فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن له بكتابة نصيبه ولم يأذن له بالقبض.
(4/558)
-----
وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن له بكتابة نصيبه، ولم يأذن له بالقبض إلا في فصل هو أن ما قبضه المكاتب من بدل الكتابة نصيبه، ولم يأذن له بالقبض إلا في فصل يكون سالماً له فلا يكون للآذن أن يأخذ منه نصف ما قبض، وذلك لأنه متى أذن بقبض المكاتبة، فكأنه أذن للمكاتب بأداء ما عليه من بدل الكتابة من ماله فيصير أداء المكاتب نصف المكاتبة من ماله بإذنه كأدائه لو شرع بأداء نصف المكاتبة على المكاتب، فإن ما أدى يكون سالماً للمكاتب فكذا هذا، بخلاف ما لو لم يأذن له بالقبض؛ لأنه لم يوجد منه الرضا بأداء المكاتبة من ماله وما قبض المكاتب من المكاتبة نصفه ملك المكاتب فيكون سالماً له ونصفه ملك للساكت فكان (له) أن يأخذ نصيبه.
فأما فيما عدا هذا الحكم فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن بكتابة نصيبه ولم يأذن له بالقبض.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وإذا كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه لم يكن لشريكه أن يتبع نصيبه على ما ذكرنا، فإن كاتب الساكت نصيبه بعد ذلك جاز وهذا عندهما جميعاً، على قول أبي حنيفة رحمه الله: فلا إشكال؛ لأن الكتابة تتجزأ عنده فلم يصر نصيب الساكت مكاتباً أصلاً، وإذا لم يصر نصيبه مكاتباً صار الحال في حق الساكت بعد كتابة المكاتب كالحال قبل الكتابة وقبل كتابة المكاتب الآخر (له) أن يكاتبه فكذلك هذا، وعلى قولهما: فلما ذكرنا أن نصيب الساكت لم يصر مكاتباً في حق الساكت بل اعتبر نصيبه مأذوناً له وإذا كان نصيب الساكت مأذوناً في حق الساكت لا مكاتباً كان له أن يكاتب نصيبه فيصير العبد مكاتباً بينها كل نصف منه صار مكاتباً بكتابة على حدة من أحدهما متى أدى إلى أحدهما حصته فإنه يعتق، ثم إذا كاتب الساكت نصيبه لا يكون للمكاتب الأول فسخ الكتابة في نصيبه، وذلك لأن الساكت بكتابة نصيبه جعل متصرفاً في خالص ملكه.(4/559)
-----
ولم يلحق بالمكاتب الأول ضرراً فإن ضرر الكتابة من أحد الشريكين امتناع البيع على الآخر، وكان هذا الضرر ثابتاً على الأول بكتابة نفسه، وتصرف الإنسان لا يكون لأحد حق الفسخ عليه فكان كتابة الساكت ولم يلحق لشريكه ضرراً بمنزلة البيع في هذه الحالة، وإن أذن لشريكه بالكتابة في نصيبه وبقبض المكاتبة فأدى العبد إلى المكاتب شيئاً ثم نهاه عن القبض كان له ذلك؛ فإن أذن له بأن يقضي ما عليه من بدل الكتابة من ماله فإن نصف كسبه له، فإذا بدا له أن يمنعه من القضاء كان له ذلك لمن قال لمودعه: اقض الدين الذي عليك من وديعتي فأدى من ذلك شيئاً ثم نهاه عن الباقي كان له ذلك؛ لأن الإذن بالقضاء (350ب1) تبرع وإنما يتم هذا التبرع بالقضاء قبيل القضاء هو غير تام وللمتبرع أن يرجع عما تبرع به قبل التمام، وإن كاتب أحدهما نصفه بغير إذن شريكه وشريكه لا يعلمه ثم إن المكاتب منهما أذن للآخر في كتابة نصيبه فكاتبه ثم علم الثاني بكتابة الأول فأراد الثاني أن يفسخ كتابة الأول ليس له ذلك؛ لأن حق الفسخ للثاني إنما يثبت دفعاً للضرر عن نفسه، والضرر ههنا لا ينبغي بالفسخ فلا يعتد الفسخ بموته، فلا يثبت له حق الفسخ، وإذا لم يثبت له حق الفسخ صار نصيب كل واحد منهما مكاتباً بكتابة على حدة؛ لأن كل واحد منهما كاتب نصيبه بكتابة على حدة.
(4/560)
-----
فإن أخذ أحدهما في العبد شيئاً لا يكون للآخر أن يشاركه إلا فيما دفع إلى الأول قبل كتابة الثاني؛ لأن ما دفع الأول قبل كتابة الثاني كسب عبد نصفه مكاتب ونصفه مأذون، فأما ما دفع بعد كتابة الثاني صار الكل مكاتباً فهذا كسب عبد هو مكاتب كله فلا يكون للآخر أن يشاركه بحكم أنه كسب عبده ولا بحكم الكتابة؛ لأن نصيب كل واحد منهما صار مكاتباً بكتابة على حدة، فيعتبر بما لو باع كل واحد منهما نصيبه ببيع على حدة وقبض الثمن، وهناك لا يكون للآخر أن يشاركه فكذلك هذا، وإذا أدى حصة أحدهما عتق نصيبه؛ لأنه معاوضة وتعليق، وأي ذلك ما اعتبر إذا حصل كتابة كل واحد منهما بعقد على حدة فإنه يعتق نصيبه بخلاف ما كاتباه جملة مكاتبة واحدة حيث لا يعتق نصيب أحدهما إذا أدى إليه حصته إن اعتبرنا معنى المعاوضة؛ لأن المكاتب بمنزلة المشتري والموليان بمنزلة البائعين، والواحد إذا اشترى عبداً من اثنين بألف درهم صفقة واحدة وأدى حصة أحدهما لا يسلم له شيء من المعقود عليه وإن اعتبرنا معنى التعليق؛ فلأن معنى قوله كاتبناك بألف درهم إذا أديت إلينا ألف درهم فأنت حر وهناك إذا أدى أحدهما خمسمائة لا يعتق نصيبه كذا ههنا.
قال: عبد بين رجلين كاتب أحدهما جميع العبد بغير إذن شريكه فاستسعى العبد وأدى إليه نصف المكاتبة فإنه لا يعتق؛ لأن الكتابة واحدة فكان شرط وقوع العتق إزاء جميع المكاتبة لا إزاء حصة كما لو كاتباه جملة، فإن وهب المكاتب العبد نصف المكاتبة لا يعتق حصة من العبد ولو وهب له جميع حصته عتق نصفه فقد جعل هبة النصف شائعاً من النصفين حتى قال: تقع البراءة عن جميع حصته، وجعل هبة حصته مصروفاً إلى نصيبه حاجة حتى قال: برأ عن جميع حصته فيعتق.(4/561)
-----
بعض مشايخنا رحمهم الله: يجب أن يكون الجواب فيهما سواء كان كما في سائر الديون، فإنه في الحالين بعد الغريم عن جميع حصته ويكون هبة النصف مصروفاً إلى حصته لا إلى النصيبين، فيجب أن يكون في الكتابة كذلك، ولو وهب حصته يعتق فكذلك إذا وهب نصفه، ومنهم من صح ما ذكرنا في الكتابة، وقال: بأن بدل الكتابة في مسألتنا هذه في حكم دين واحد من وجه وفي حكم دينين من وجه، وهذا لأن الموجب لهذا الدين واحد وهو المكاتبة لم يشاركه في إيجابه أحد فيكون واحداً باعتبار الإيجاب لا دينين.
ولكن باعتبار الواجب في حكم دينين؛ لأن الواجب بهذا الإيجاب مشترك بينهما، ولو كان في حكم دين واحد من كل وجه إيجاباً انصرفت هبة النصف إلى نصف شائع أو لم يتصور هبة الحصة منه لأنه لا حصة إذا كان الدين واحداً ولو كان في حكم دينين من كل وجه فإن وجب بإيجابهما انصرف هبة النصف إلى نصيب الواهب خاصة لهبة الحصة كما في سائر الديون المشتركة فإذا حار بين الدين الواحد والدينين عملنا بالدليلين فقلنا: لنسبة بالدين الواحد من وجه إيجاباً انصرف هبة النصف إلى نصف شائع ويشهد بالدينين تنصرف هبة الحصة إلى نصفه خاصة عملاً بالدليلين، وإنما أظهرها نسبه الدين الواحد في هبة النصف لأنا إذا أظهرنا نسبة الدينين في حق هبة النصف فصرفناه إلى نصيب الواجب خاصة وجب أظهر هذا لسنة في حق الحصة بطريق الأولى؛ لأن حصته لا تحتمل إلا نصيبه، وهبة النصف يحتمل النصف من النصيبين فحينئذٍ لا يمكننا العمل بالدليلين، فإن قيل: هذا مشكل بما لو باع أحد الشريكين جميع العبد ثم وهب نصف الثمن، فإنه ينصرف إلى نصيبه خاصة.
(4/562)
-----
والإيجاب إيجاب واحد والجواب عن هذا أن الإيجاب واحد إلا أن نصيب شريكه من الثمن لم يجب بهذا الإيجاب بدليل أنه لم يتعلق بسلامة حصة المشتري، بإزاء الكل وإذا لم يجب نصيب شريكه بهذا الإيجاب صار وجود هذا الإيجاب في نصيب شريكه وعدمه بمنزلة، فأما ههنا إيجاب جميع المسمى صح في حق هذا المكاتب، حتى تعلق عتق نصيبه بإزاء جميع الألف حتى لو أدى حصة المكاتب لم يسلم له نصيب المكاتب وإذا ثبت جميع الألف بإيجابه في حق حصة تعلق العتق به لزمنا أن نعتبر جانب الإيجاب والواجب جميعاً، فيصح إسقاط النصف شائعاً باعتبار الإيجاب كما لو أسقط الكل باعتبار الشركة في إسقاط نصيبه خاصة بثمن الحصة، وإذا أعتق نصيبه متى وهب حصته كان الشريك الآخر بين خيارات ثلاث عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان المكاتب موسراً وبين خيارين إن كان معسراً ويرجع الساكت على المكاتب فيأخذ منه نصف ما قبض ثم لا يرجع المكاتب على العبد بشيء عنده بخلاف ما لو كاتب نصيبه لا غير وعلى قولهما في الحالين لا يرجع على العبد بشيء والله أعلم.
الفصل الثاني عشر في الرجل يكاتب بشقص مملوكه
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا كاتب الرجل نصف عبده جاز، فإن أدى عتق نصفه وسعى في قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن اكتسب أموالاً قبل الأداء فنصفه له؛ لأن نصفه مكاتب ونصفه للمولى، لأن النصف الآخر ليس بمكاتب عنده بل هو مأذون له.(4/563)
-----
وعلى قولهما: إذا أدى عتق كله ولا شيء للمولى من كسب اكتسبه قبل الأداء، لأن كله مكاتب عندهما لأن الكتابة عندهما لا تتجزىء، وما اكتسبه بعد الأداء فكله له؛ لأنه حر عندهما، فيستسعى عند أبي حنيفة رحمه الله، والمستسعى بمنزلة المكاتب وكسب المكاتب له فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله في «الأصل» فقال: إذا كاتب نصفه ثم أراد أن يجعل بينه وبين العمل والطلب والكسب والسعاية في مكاتبته ليس له ذلك؛ لأن العبد بكتابة النصف استحق عتق النصف بإزاء بدل الكتابة، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب والطلب فمتى منعه عن الاكتساب والطلب فقد (أدان...) عليه ما أثبت له من حق العتق بالكتابة فلا يكون له ذلك كما لو كاتب كله ثم أراد أن يحول بينه وبين الكسب والعمل ليس له ذلك كيلا يبطل على العبد حق العتق.
فأما لو أراد هذا العبد أن يسافر فأراد المولى أن يمنعه فله (351أ1) ذلك قياساً في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان ليس له ذلك.
وجه القياس وهو أن المكاتب يشتري رقبته من المولى، فإذا كاتب نصفه فقد اشترى من المولى نصف رقبته فيعتبر بما لو اشترى غيره، ولو اشترى نصف رقبته غيره أو أراد المشتري أن يسافر بالعبد فمنعه البائع كان له ذلك فكذلك هذا.
والمعنى في المسألة وهو الفرق بينما إذا منعه عن المسافرة وبينما إذا منعه من أجل الطلب والكسب، فإنه ليس له ذلك قياساً واستحساناً لأن في ذلك إبطال حق العبد في العتق بيقين، وليس في منعه من المسافرة إبطال حقه في العتق لا محالة لأنه يمكنه أداء بدل الكتابة باكتساب بدل الكتابة في المصر.(4/564)
-----
وجه الاستحسان: وهو أنه بالكتابة أثبت للعبد حق أن يعتق بإزاء بدل الكتابة، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب وربما لا يمكنه الاكتساب إلا بالمسافرة، فمتى أطلقنا له المنع من المسافرة وربما لا يمكنه أداء ما عليه في بدل الكتابة بدون المسافرة كان في ذلك إبطال حق على العبد عسى، وكما لا يكون للمولى إبطال ما ثبت له من الحق بالكتابة بيقين لا يكون له مباشرة ما يتوهم نسبة إبطال حق العبد عسى.
ثم إن محمداً رحمه الله ذكر القياس والاستحسان في المسألة في ثلاث مواضع:
أحدهما: في المسافرة.
والثاني: في الاستخدام إذا أراد المولى أن يستخدمه يوماً ويخليه للكسب يوماً والقياس: أن يكون له ذلك.
وفي الاستحسان لا يكون له ذلك.
والثالث: إذا أراد أن يستسعيه لنفسه يوماً ويخليه يوماً القياس أن يكون له ذلك.
وفي الاستحسان: لا يكون له ذلك.
وجه القياس في ذلك ما ذكرنا أن المكاتب في النصف بمنزلة المشتري نصف بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله، ولو اشترى نصف رقبته مشترٍ آخر يثبت للبائع حق التهايؤ مع المشتري فكذلك ههنا، وهذا لأنه ليس في التهايؤ إبطال حق على العبد لأنهما متى تهايأا احتاج المكاتب إلى كسب المسمى ومتى لم يتهايأا احتاج إلى كسب ضعف المسمى ولا فرق في حق العبد بين أن يأخذ المولى نصف منفعته وبين أن يأخذ نصف كسبه، في الاستحسان لا يكون له حق المهايأة؛ وذلك لأن القول بثبوت المهايأة للمولى قد يصير سبباً لفوات حق العبد في نصف المنفعة وجعلنا المكسوب بين العبد والمولى نصفين لا يصير ذلك سبباً لإبطال حق المولى بغير عوض في نصف منفعة العبد لأنه يأخذ نصف الكسب مكان نصف المنفعة وبالمهايأة قد يبطل حق العبد.(4/565)
-----
بيان ذلك: أن الأسواق تكون رائجة في بعض فصول السنة، وكاسدة في بعض الفصول على هذا عادة الأسواق في حق كل تجارة وصناعة، فمتى لم يثبت للمولى حق المهايأة أمكن للعبد كسب ضعف المسمى في جميع السنة، وقد لا يمكنه كسب مثل المسمى في نصف السنة ومتى لم يمكنه كسب المسمى في نصف السنة يرد في الرق، فيفوت حق العبد عن العتق أصلاً بالمهايأة وفي القول بترك المهايأة لا يتوهم بنفي فوات حق المولى عند المنفعة بغير عوض أصلاً فكان النصر في الجانبين في ترك المهايأة وفي قسمة المكسوب وليس كما لو اشترى نصف العبد غير العبد، وذلك لأنه ليس في المهايأة توهم فوات حق على أحد الشريكين، فوجب القول بقسمة المنفعة بالمهايأة فأما القول بقسمة المنفعة ههنا بالمهايأة قد تصير سبباً لفوات حق العبد، والقول بقسمة المكسوب لا يصير سبباً لفوات المولى بغير عوض أصلاً فكان القول بقسمة المكسوب أولى من القول بقسمة حقيقة المنفعة بالمهايأة.
ولو كانت نصف جارية فولدت ولداً فولدها بمنزلتها، ويكون نصف كسب الولد للمولى لأن نصف الولد مملوكه كنصف ونصفه كسبه للأم لأنه داخل في كتابة الأم فإن أذن عتق نصفها وعتق نصف الولد معها وسعى كل واحد من نصف قيمته؛ لأن كل واحد منهما معتق البعض، وكل واحد منهما مقصود في هذه السعاية وأما كسب الولد بعد ذلك فهو له دون أمه ومولاه، لأنه صار كالمكاتب بما لزمه من السعاية في نصف قيمته مقصوداً.
(4/566)
-----
وإن ماتت الأم قبل أن تؤدي شيئاً في مكاتبتها سعى الولد في المكاتبة؛ لأن نصفه تابع للأم في الكتابة فيقوم مقامها بعدها في السعاية في المكاتبة، فإذا أداها عتق نصف الأم في آخر جزء من أجزاء حياتها ونصف وعتق نصف الولد أيضاً كما لو أدت في حياتها، وسعى بعد ذلك في نصف قيمته ولا يسعى في نصف قيمة أمه لأن في السعاية في نصف قيمة كل واحد منهما مقصود فلا يجب عليه ما كان عليها في السعاية؛ لأن ذلك إنما يكون بحكم التبعية ولا تبعية بينهما في ذلك النصف.
وهو بمنزلة رجل أعتق نصف جاريته ونصف ولدها ثم ماتت الأم فلا سعاية على الولد من قبل الأم ولو كان أعتق نصف أمته وهي حبلى فولدت بعد ذلك أو حبلت بعد العتق فهذا الولد يسعى فيما على أمه إذا ماتت؛ لأن جميع الولد تبع لها إلا أنه ليس عليه شيء من السعاية مقصوداً فسعى فيما عليها بعد موتها.(4/567)
-----
وإن كاتب نصف أمة فولدت ولداً ثم ماتت الأم وترك أموالاً وعليها دين قضى الدين من جميع تركتها أولاً، ثم يكون للمولى نصف ما بقي؛ لأن نصفه باق عليه على ملكه عند أبي حنيفة رحمه الله وهو ذلك النصف بمنزلة المأذون له في التجارة بعد الفراغ من الدين للمولى، ونصف الكسب لها، ويؤدي من ذلك مكاتبتها، فإن بقي شيء أخذ المولى من ذلك نصف قيمتها لأنه كان يستسعيها في نصف القيمة بعد أداء المكاتبة لو كانت حية، فيأخذ ذلك من تركتها بعد موتها؛ لأنا حكمنا بموتها حرة ولا يرث هذا الولد، لأن إسناد الحرية في الولد إلى حال حياتها كان في النصف الذي هو تبع لها وفي النصف الباقي الولد مقصود فإن عليه أن يسعى في نصف قيمته ولا يعتق إلا بعد أداء سعايته، فكان بمنزلة المملوك عند موت أمه فإن لم تدع الأم شيئاً يسعى الولد في الدين كله؛ لأن في حكم الدين الولد قائم مقام الأم، كقوله المأذون وولد المكاتبة، ويسعى في الكتابة أيضاً لهذا المعنى ثم يسعى في نصف قيمة نفسه، لأنه معتق البعض بعد أداء الكتابة ولا يسعى في نصف قيمته لأم لأنه ليس بتبع لها في ذلك النصف، فإن أدى الكتابة قبل أن يؤدي دين الغرماء على المولى بما أخذ ولكنهم يتبعون الولد بالدين، لأنه قائم مقام الأم فأخذ المولى بدل الكتابة منه بمنزلة أخذه منها، ولو أخذ المولى بدل الكتابة من الأم كان المأخذ سالماً للمولى، والغرماء يتبعون المكاتبة بديونهم فكذا في الولد وإن اكتسب الولد أموالاً (351ب1) قبل أداء المكاتبة فنصف الكسب للمولى بعد الدين؛ لأن الولد بمنزلتها، وقد بينا أن نصف كسبها للمولى بعد الدين فكذا في الولد وإذا كاتب أمته فاستدانت سعت في جمعه لأن نصفها مكاتب ونصفها مأذون له والحكم في دين المكاتب والمأذون ما ذكرنا والله أعلم.
(4/568)
الفصل الثالث عشر في الاختلاف الواقع بين المولى والمكاتب
-----
وإذا كاتب الرجل عبده ثم اختلف المولى والعبد في بدل الكتابة فقال العبد: كاتبني على ألف درهم وقال المولى: كاتبتك على ألفين. أو اختلفا في جنس المال كان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: يتحالفان وهو قولهما؛ لأنهما اختلفا في بدل عقد فقال؛ ويفسخ فصار كالبيع والإجارة ثم رجع وقال: القول قول العبد مع يمينه، وعلى المولى البينة؛ لأن التحالف في باب البيع عرف بالنص، والكتابة ليست في معنى البيع فالنص الوارد في البيع لا يكون وارداً في الكتابة ثم إذا جعل القاضي القول قول المكاتب مع يمينه والذمة ألف درهم أقام المولى بعد ذلك بينة على أنه كاتبته على ألفين لزمه ألفان وسعى فيهما لأنه لا قوام لليمين إذا جاءت البينة بخلافها، وإن لم يقم المولى بينة على ذلك وأدى العبد ألف درهم وقضى القاضي بعتقه ثم أقام السيد البينة بعد ذلك على أنه كاتبه على ألفين فالقياس أن لا يعتق ما لم يؤد ألفين؛ لأنه ظهر بالحجة أن عتقه معلق بإزاء الألفين.
وفي الاستحسان هو حر وعليه ألف درهم أخرى؛ لأن قضاء القاضي يعد ظاهراً؛ لأنه صدر عن دليل شرعي وهو اليمين، وقد وقع الشك في نقضه؛ لأن شهود المولى شهدوا بكتابة العبد على ألفين لا غير، ومن الجائز أنه كاتبه على ألفين على أنه حر متى أدى ألفاً والألف الأخرى عليه بعد العتق، وعلى هذا الاعتبار لا يجوز بعد القضاء، ومن الجائز أنه لم يقل على أنه حر متى أدى ألف درهم، وعلى هذا الاعتبار يجوز نقض القضاء، ومطلق الشهادة بالكتابة يحتمل الأمرين فهو معنى قولنا: وقع الشك في نقض القضاء فلا ينقض بالشك بخلاف ما لو أقام البينة قبل قضاء القاضي بالعتق إن كاتبه على ألفين على أنه متى أدى ألفاً فهو حر والألف الأخرى عليه بعد العتق يجب القضاء بالعتق.(4/569)
-----
وإن لم يقل على أنه متى أدى ألف درهم فهو حر لا يجب القضاء بالعتق فلا يجب القضاء بالعتق بالشك والاحتمال ولو قال المولى: كاتبتك على ألفين، وأقام البينة على ذلك، وأقام العبد بينة على أنك كاتبتني على ألف درهم إن أديتها فأنا حر، فالقاضي يقضي على العبد بألف درهم، وإن أدى ألف درهم، فإنه يعتق وعليه ألف أخرى بعد العتق.
ولو أقام العبد بينة أن المولى كاتبه بألف درهم ولم يقل: إن أديتها فأنا حر وباقي المسألة بحالها وقضى القاضي على العبد بألفي درهم، فلم يقل بألف لا يعتق ما لم يؤد ألفي درهم، ويجب أن يعتق في الفصل الثاني بالأداء الألف أيضاً، لأنه لما كاتبه على ألف درهم فقد قال له إذا أديتها فأنا حر، لأن معنى الكتابة وحكمها هذا.
والجواب وهو الفرق بين المسألتين أن في المسألة بينة العبد ما قبلت على الكتابة بألف درهم، لأنا لو قبلناها على الكتابة بألف درهم احتجنا إلى إثبات عقدين كتابة بألف درهم ببينة العبد وكتابة بألف درهم ببينة المولى، ولا وجه إليه لأن الكتابة الثانية تفسخ الأولى لا محالة، وإذا تعذر القضاء بالعقدين وجب القضاء بأحدهما فقضينا بالعقد الذي ادعاه المولى ببينته لأن بينته أكثر إثباتاً، وأثبتنا ببينة العبد قول المولى: إذا أديت إلي ألفاً فأنت حر لا أصل العقد فجعلنا كأن المولى كاتبه على ألفي درهم وقال له: إن أديت ألف درهم فأنت حر، وعليك ألف أخرى بعد العتق.t
وفي المسألة الثانية لا يمكن إثبات قول المولى إذا أديت إلي ألفاً فأنت حر ببينة العبد؛ لأن شهود العبد لم يشهدوا بذلك صريحاً، لو ثبت ذلك إنما يثبت مقتضى ثبوت العقد بألف درهم ببينته، ولا وجه إليه لأن بينة العبد على أصل العقد مقبول على ما ذكرنا.(4/570)
-----
وإذا كاتب الرجل عبداً له واختلفا في المعقود عليه فقال العبد: المولى كاتبني على نفسي ومالي على ألف درهم، وقال السيد: بل كاتبتك على نفسك دون مالك فالقول قول السيد عندهم جميعاً، ولا يتحالفان ههنا بالإجماع لأنهما اختلفا في هذا أن المعقود عليه وللقضاء على البدل.
ولو اختلفا على هذا الوجه في باب البيع بأن قال البائع: بعت منك هذا العبد بألف درهم. وقال المشتري: لا بل اشتريت منك هذا العبد وهذا الحانة بألف درهم لا يتحالفان ويكون القول قول البائع مع يمينه، وعلى المشتري البينة فالبينة بينة المكاتب لأنها أكثر إثباتاً، ولو قال المولى: كاتبتك يوم كاتبتك وهذا المال في يدك وهو مالي وقال المكاتب: بل هو لي أصبته بعد ما كاتبتني، قال القول قول المكاتب لأنه صاحب يد فهو مستحقه ظاهراً، والمولى مدعيه فكان على المولى البينة، فإن أقام البينة فالبينة بينة المولى؛ لأن الدعوى في مطلق الملك والخارج، والمولى خارج حتى لو كان المال في يد المولى كانت بينة العبد أولى؛ لأن الخارج هو العبد في هذه الصورة ولو اختلفا في أصل الأجل فالقول قول المولى فرق بينه وبين السلم.
والفرق أن في السلم الأصل شرط جواز العقد فالذي يدعي الأصل يدعي حجة العقد والظاهر يشهد له، أما ههنا الأجل لشرط جواز العقد ليصير مدعي الأجل مدعياً جواز العقد وإنما يدعي شرطاً زائداً والمولى ينكره فالقول قول المنكر، ولو اختلفا في مقدار الأجل فالقول قول المولى لأنه ينكر زيادة الأجل، ولو اتفقا على أصل الأجل ومقداره ولكن اختلفا في المضي فالقول قول العبد لأن المولى يدعي على العبد أيضاً حقه بعدما أقر له بالحق والعبد ينكر الاستيفاء فيكون القول قول العبد.
(4/571)
-----
ولو ادعى المكاتب أنه كاتبه على ألف درهم ونجم عليه كل شهر مائه، وقال المولى: لا بل نجمت عليك كل شهر مائتان فالقول قول المولى لأن حاصل اختلافهما في مقدار الأجل، فالمولى يقول خمسة أشهر والعبد يقول له عشرة أشهر.
وإذا وقع الاختلاف بين المولى وبين المكاتبة في ولدها فقال المولى ولدت قبل أن كاتبتك وقالت المكاتبة: بل ولدته بعدما كاتبتني، قال كان الولد في يد المولى فالقول قول المولى، وإن كان الولد في يد المكاتبة ولا يعلم متى ولدت فالقول قولها اعتبار السيد في الفصلين جميعاً ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ما إذا كان الولد في أيديهما.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله أن القول قول المولى، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المكاتبة لأن في بنيتها زيادة إثبات حرية ليست في بينة المولى، وهي حرية الولد عند أداء بدل الكتابة، فهو نظير ما لو ادعت أمة على مولاها أنه أعتقها وولدها والمولى يقول أعتقتها وحدها. وأقاما البينة وهناك البينة بينة الجارية؛ لأن فيها زيادة إثبات عتق كذا ههنا والله أعلم بالصواب (352أ1).
الفصل الرابع عشر في مكاتبة المريض وإقراره بقبض بدل الكتابةوإقرار المكاتب بالدين لمولاه ولأجنبي ولولده
قال محمد رحمه الله: مريض كاتب عبده على ألف درهم نجوماً وقيمته ألف درهم وهو لا يخرخ من ثلثه فإن العبد يخير إن شاء عجل ما زاد من قيمته على ثلث مال الميت، وإن شاء رد في الرق، وهذا لأن المريض بالتأجيل أخر حق الورثة إلى مضي الأجل، وضرر التأجيل عليهم كضرر الإبطال من حيث إنه تقع الحيلولة بين الورثة وبين حقهم عقيب موت المورث، ولو أبطل حقهم عن بدل الكتابة بأن أبرأ المكاتب عن بدل الكتابة أليس أنه يعتبر من الثلث فكذا إذا أخر.(4/572)
-----
ألا ترى لو أجل المريض في دين له على أجنبي يعتبر ذلك من الثلث كما لو أبرأ فإن عجل ما زاد على الثلث حسب ذلك من كل نجم بحصته أو ليس بعض النجوم بأن يجعل المعجل عنه بأولى من الآخر.
وإن كاتبه على ألفين نجوماً وقيمته ألف لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي الألفين وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد رحمهما الله يقال له: عجل ثلثي قيمتك وهذا لأن من أصلهما أن مال المولى بدل الكتابة فلا يصح تأجيل إلا في قدر الثلث ومن «أصل» محمد رحمه الله أن ما زاد على ثلثي القيمة كان المريض متمكناً منه إذ لا يتملكه أصلاً، فإذا ملكه إلى أجل لا يثبت للورثة حق الاعتراض على الأجل فيه، وذكر في هذه المسألة في «المنتقى» عن غير ذكر خلاف، وذكر أنه يأمر أن يعجل ثلثي قيمته والباقي إلى الأجل من قبل أنه لم يخرج من ملك المولى بعد.
قال ثمة: ولو قال كان أعتقه على هذا المال أمر بتعجيل ثلثي المال لأنه خرج من ملك المولى ووجب المال للمولى، ولو كان كاتبه على ألف درهم وقيمته ألفا درهم لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي قيمتك وأنت حر وإلا رددناك في الرق، لأنه حاباه بنصف المال والمحاباة في مرض الميت وصية فلا تجوز إلا بقدر ثلث، فإذا استوجب للمحاباة الثلث لا يمكن تصحيح التأجيل في شيء، فلهذا يؤمر أن يعجل ثلثي قيمته أو يرد في الرق.(4/573)
-----
ولو كاتب عبده في صحته على ألف درهم وقيمته خمسمائة فلما حضره الموت أعتقه ثم مات ولم يقبض شيئاً، يسعى العبد في ثلثي قيمته وتبطل الكتابة، لأن مقدار قيمته مال المريض بيقين، فأما ما زاد عليه فغير متيقن أنه مال الميت، ألا ترى أنه يتمكن من أن يعجز نفسه فيعتبر الثلث والثلثان في القيمة، ولأن إعتاقه إياه إبطال للكتابة، لأن الإعتاق المبتدأ في حق المولى غير العتق بجهة الكتابة وإذا كان هذا إبطالاً للكتابة صار كأنه لم يكاتب جميع بدل الكتابة في مرضه، يسعى في ثلثي قيمته لما ذكرنا أن ماله بيقين قدر قيمته، فيعتبر الثلث والثلثان فيها.
الفصل الرابع عشر في مكاتبة المريض وإقراره بقبض بدل الكتابةوإقرار المكاتب بالدين لمولاه ولأجنبي ولولده
قال محمد رحمه الله: مريض كاتب عبده على ألف درهم نجوماً وقيمته ألف درهم وهو لا يخرخ من ثلثه فإن العبد يخير إن شاء عجل ما زاد من قيمته على ثلث مال الميت، وإن شاء رد في الرق، وهذا لأن المريض بالتأجيل أخر حق الورثة إلى مضي الأجل، وضرر التأجيل عليهم كضرر الإبطال من حيث إنه تقع الحيلولة بين الورثة وبين حقهم عقيب موت المورث، ولو أبطل حقهم عن بدل الكتابة بأن أبرأ المكاتب عن بدل الكتابة أليس أنه يعتبر من الثلث فكذا إذا أخر.
ألا ترى لو أجل المريض في دين له على أجنبي يعتبر ذلك من الثلث كما لو أبرأ فإن عجل ما زاد على الثلث حسب ذلك من كل نجم بحصته أو ليس بعض النجوم بأن يجعل المعجل عنه بأولى من الآخر.(4/574)
-----
وإن كاتبه على ألفين نجوماً وقيمته ألف لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي الألفين وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد رحمهما الله يقال له: عجل ثلثي قيمتك وهذا لأن من أصلهما أن مال المولى بدل الكتابة فلا يصح تأجيل إلا في قدر الثلث ومن «أصل» محمد رحمه الله أن ما زاد على ثلثي القيمة كان المريض متمكناً منه إذ لا يتملكه أصلاً، فإذا ملكه إلى أجل لا يثبت للورثة حق الاعتراض على الأجل فيه، وذكر في هذه المسألة في «المنتقى» عن غير ذكر خلاف، وذكر أنه يأمر أن يعجل ثلثي قيمته والباقي إلى الأجل من قبل أنه لم يخرج من ملك المولى بعد.
قال ثمة: ولو قال كان أعتقه على هذا المال أمر بتعجيل ثلثي المال لأنه خرج من ملك المولى ووجب المال للمولى، ولو كان كاتبه على ألف درهم وقيمته ألفا درهم لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي قيمتك وأنت حر وإلا رددناك في الرق، لأنه حاباه بنصف المال والمحاباة في مرض الميت وصية فلا تجوز إلا بقدر ثلث، فإذا استوجب للمحاباة الثلث لا يمكن تصحيح التأجيل في شيء، فلهذا يؤمر أن يعجل ثلثي قيمته أو يرد في الرق.
ولو كاتب عبده في صحته على ألف درهم وقيمته خمسمائة فلما حضره الموت أعتقه ثم مات ولم يقبض شيئاً، يسعى العبد في ثلثي قيمته وتبطل الكتابة، لأن مقدار قيمته مال المريض بيقين، فأما ما زاد عليه فغير متيقن أنه مال الميت، ألا ترى أنه يتمكن من أن يعجز نفسه فيعتبر الثلث والثلثان في القيمة، ولأن إعتاقه إياه إبطال للكتابة، لأن الإعتاق المبتدأ في حق المولى غير العتق بجهة الكتابة وإذا كان هذا إبطالاً للكتابة صار كأنه لم يكاتب جميع بدل الكتابة في مرضه، يسعى في ثلثي قيمته لما ذكرنا أن ماله بيقين قدر قيمته، فيعتبر الثلث والثلثان فيها.
(4/575)
-----
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كاتبه في صحته ثم أعتقه في مرضه فهو بالخيار، إن شاء سعى في ثلثي قيمته، وإن شاء سعى في ثلثي ما عليه من بدل الكتابة، وإن المولى قد قبض منه قبل ذلك خمسمائة ثم أعتقه في مرضه يسعى في ثلثي قيمته ولم يحسب شيء فما أدى بالإعتاق المبتدأ بطلب الكتابة في حق المولى، فما قبض فهو كسب عبده فلا يكون محسوباً مما يلزمه من السعاية بسبب الإعتاق وهذا عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله إذا اختار فسخ الكتابة والسعاية في ثلثي قيمته.
وإن كان العبد بين رجلين مرض أحدهما وكاتبه الصحيح بإذنه جاز ذلك وليس للوارث إبطاله، لأنه قائم مقام مورثه وليس للمورث إبطاله فكذلك لوارثه، وكذا إن أذن له في القبض فقبض بعض بدل الكتابة ثم مات المريض لم يكن للوارث أن يأخذ منه شيئاً.
وفي «المنتقى»: مريض كاتب عبده وقيمته ألف درهم على خمسمائة ولا مال له غير العبد ثم مات، يقال للمكاتب: عجل ستمائة وستة وثلاثين والا رددناك في الرق، فإذا أدى خمسمائة وقبضها الوارث على الكتابة عتق بها المكاتب وصار الفضل ديناً عليه يؤخذ منه، وإن شاء الوارث أن لا يقبل الخمسمائة إلا من جميع ما للوارث عليه وذلك ستمائة وستة وستون وثلثان فله ذلك، ولا يعتق العبد في هذا الوجه إلا بأداء الجميع؛ لأنه لا يصير موفياً الخمسمائة التي هي مكاتبة إلا بأداء الجميع إذا جعلنا ما أدى من المالين جميعاً والله أعلم.
وإذاكاتب الرجل عبده في مرض موته بألف درهم وقيمته ألف درهم ولا مال له غيره، ثم أقر في مرضه أنه استوفى بدل الكتابة جاز إقراره من الثلث ويعتق المكاتب ويسعى في ثلثي قيمته.
(4/576)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا باع المريض من أجنبي شيئاً وأقر باستيفاء ثمنه فإنه يجوز إقراره من جميع المال، والفرق أن الإقرار باستيفاء بدل الكتابة إقرار بما يقع ثمة العتق ولو أقر المريض بعتقه يعتبر من الثلث فكذا إذا أقر بما يقع به العتق، فأما الإقرار باستيفاء الثمن إقرار بما يؤكد الملك للأجنبي في الغير، ولو أقر بعتق في يده لأجنبي يصح إقراره من جميع المال فكذا إذا أقر باستيفاء ما يؤكد الملك للأجنبي من العتق، وفرق بين هذا أيضاً وبينما إذا كاتبه في صحته ثم أقر باستيفاء بدل الكتابة في مرضه فإنه يجوز من جميع المال، والفرق أن الكتابة إذا كاتب في حالة الصحة استحق المكاتب البراءة عن بدل الكتابة عند إقرار المولى باستيفاء بدل الكتابة لعدم تعلق حق الغير..... هذا تعلق حق الورثة بمال المريض استبق حق المكاتب فصار في حكم الصحيح في حق هذا الإقرار، فأما إذاكاتب الكتابة في حالة المريض فحق الورثة تعلق برقبة المكاتب في أول المرض، فأوجب ذلك تعلقه بالبدل ومنع ذلك ثبوت هذا الحق للمكاتب فاعتبر إقراره من الثلث لهذا، ولو لم يقر باستيفاء بدل الكتابة كأنه أقر في يده أنها وديعة لهذا المكاتب أودعها إياه بعد الكتابة والألف الوديعة من جنس بدل الكتابة ثم مات جاز إقراره من الثلث يريد به إذا كاتب الكتابة في المرض، لأن ذلك إقرار باستيفاء بدل الكتابة، فالإقرار من رب الدين بالوديعة للمديون إذا كاتب الوديعة من جنس الوديعة الدين إقرار باستيفاء الدين، فإن مال المديون متى وقع في يد صاحب الدين وديعة وهو مثل الدين يصير قصاصاً ويصير رب الدين مستوفياً دينه به، فكان هذا إقراراً بالاستيفاء من هذا الوجه فيعتبر من ثلث المال إذا كاتب الكتابة في حال المرض، وإن كاتب الكتابة في حالة الصحة وباقي المسألة بحالها يعتبر إقراره من جميع المال. ولو أقر بألف أجود من بدل الكتابة وكاتب الكتابة في حال الصحة يعتبر إقراره من جميع المال لأنه(4/577)
أقر(4/578)
-----
بوديعة ما هو مثل الدين وزيادة حقه، فصح الإقرار بما هو مثل الدين؛ لأنه يتعلق به الاستيفاء ولم يصح في حق الزيادة لأنه يتعلق به الاستيفاء، فإن قال المكاتب إليَّ أسترد الخيار وأعطي مثل حقي لم يكن له ذلك لعدم صحة الإقرار بالزيادة، ولو أقر بألف ذيوفاً في يده أنها وديعة لمكاتبه وبدل الكتابة ألف جياد، لم يصح إقراره إذا كان عليه دين الصحة ويقسم هذه الألف بين غرماء الصحة ويؤاخذ المكاتب بما عليه، لأن الإقرار بالوديعة من المريض إذا كان عليه دين الصحة إنما يصح إذا تضمن معنى الاستيفاء والخيار (352ب1) لا يحتمل الاستيفاء بالديون إذ الجودة صارت حقاً للغرماء وفي استيفاء الرديء مكان الجيد إبطال حقهم في الجودة وإنه لا يجوز، فلم يكن هذا الإقرار متضمناً معنى الاستيفاء. يبقى إقرار الوديعة قصداً وذلك من المريض باطل إذا كان عليه دين الصحة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: مكاتب أقر لمولاه بألف درهم في صحته، وقد كان المولى كاتبه على ألف درهم وأقر المكاتب لأجنبي بألف درهم ثم مرض المكاتب وفي يده ألف درهم فقضاها المولى من المكاتبة ثم مات من ذلك المرض وليس له مال غيرها فالألف تقسم بين المولى والأجنبي على ثلاثة أسهم سهمان للمولى وسهم للأجنبي لأنه حرّمان وعليه ثلاثة آلاف درهم دين ألفان للمولى وألف للأجنبي.(4/579)
-----
و(لو) ترك ألف درهم فيقسم بينهما على قدر حقوقهما لأسبق الديون في القوة. وإنما قلنا إنه حر لأن الحرية معلقة بأداء بدل الكتابة وقد تحقق لأداء، أكثر ما في الباب أن ذلك الأداء مستحق البعض لما أنه آثر بعض الغرماء على البعض، إلا أن الشرط وجود الأداء لا دوامه، ألا ترى أن المكاتب لو أدى مالاً مغعصوباً فإنه يصح الأداء ويثبت العتق مع أن ذلك ليس بكسبه فهاهنا لأن يصح الأداء والمؤدى كسب العبد كان أولى، فإذا صح الأداء ثبت العتق والعتق بعد تحققه لا يحتمل الانتقاض قضاء مال الكتابة ديناً مستحقاً، كذا على الحر لا يحتمل السقوط، وكذا الدين الآخر للمولى لا يحتمل السقوط وكذا دين الأجنبي فاستوت الديون في القوة، فلهذا يقسم الإرث بينهما على قدر حقوقهما أثلاثاً.
ولو أن المكاتب أدى الألف إلى المولى من الدين الذي أقر به المولى في صحته ثم مات، قال: الأجنبي أحق بهذه الألف وبطل دين المولى ومكاتبته لأن تعيين من عليه في الأداء صحيح، وإذا صح التعيين من ذلك الدين لم يقع المؤدى عن المكاتبة، فإذا مات مات عن غير وفاء فرد في الرق فمات على ملك المولى على عبده دين لا يبقى أيضاً، وبقي دين للأجنبي فكان الألف له، فكذلك لو لم يقضها للمولى ومات وتركها فهي للأجنبي لما تبين بعد هذا.
ولو ترك المكاتب ابناً ولد في كتابته فالأجنبي أحق بهذا الألف من المولى، لأنه ما لم يقبض المولى عن المكاتبة (لم) يعتق ولم يصر دين المولى مستأكداً، ودين الأجنبي متأكد لا يحتمل السقوط بحال فكان دين الأجنبي أقوى فيبدأ به ويبتع المولى ابن المكاتب بالمكاتبة والدين لقيامه مقام الأب.(4/580)
-----
ولو كان المكاتب قد قضاه المولى من المقر به قبل الموت ثم مات ترك ابناً مولوداً كتابته كان الأجنبي أحق بالألف أيضاً لأنه آثر بعض غرمائه بالقضاء في حالة المرض فوجب بعض الإيثار، ومتى وجب بعضه صار الأجنبي أحق بالألف لكون دينه أقوى، ويتبع المولى ابن المكاتب بالدين والمكاتبة استأمن الولد مقام الولد الأب في حق السعاية فيما على الأب، وإذا أدى الابن المكاتبة والدين الذي على الأب لا ينقض القضاء إلى الأجنبي، فإن صارت الديون مستوية في القوة لما حكم بعتق المكاتب بأداء ولده إلا أن الاستواء إنما يعتبر حالة الميت التي هي حالة المزاحمة وقد يعتقه في ذلك الوقت، ولأن الاستواء إنما يثبت باعتبار الحرية، والحرية هاهنا إنما تثبت بعد وصول الدينين إلى المولى وفي هذا الوقت لا فائدة في نقض القضاء إلى الأجنبي لأن فائدته ليس إلا وصول المولى إلى شيء من دينه ويعتقا وصل الدينان إلى المولى بإكمالهما لا يتصور هذا النوع من الفائدة.
(4/581)
-----
ولو أن رجلاً كاتب عبداً له على ألف درهم في صحة المكاتب، وأقرضه رجل أجنبي ألفاً في صحته ثم مرض المكاتب، فأقرضه المولى ألفاً بمعاينة الشهود فسرقت من المكاتب وفي يد المكاتب ألف أخرى فقضاها من الألف القرض ثم مات المكاتب من مرضه ذلك وليس له مال سوى الألف التي قضاها المولى فالمولى أحق بها من الأجنبي، لأن القرض إن كان معاوضة حقيقة من حيث إنه يعطي مالاً ويأخذ مثله إلا أنه اعتبر عارية حكماً، وبهذا لا يصح فيه التأجيل ولا يملكه المكاتب والعبد المأذون، ولا يشترط قبض بدله في المجلس إذا كان القبض دراهم أو دنانير، ولو اعتبر معاوضة حقيقة كان هذا صرفاً فيجب قبض بدله في المجلس، ولما لم يشترط علم أنه إعارة حكماً، فيعتبر هو بالعارية الحقيقية بأن أعارهُ المولى من المكاتبة عيناً لينتفع به بمعاينة الشهود، ثم استرده من مكاتبته في مرضه ثم مات عاجزاً وعليه دين الأجنبي، وهناك كان ما استرده المولى سالماً للمولى، وهناك كذلك.
بخلاف ما لو اشترى المكاتب في مرضه عبداً من المولى بألف وقيمة العبد ألف، ولرجل أجنبي على المكاتب ألف فهلك العبد في يد المكاتب، وفي يد المكاتب ألف درهم لا غير، فقضاها المولى من ثمن العبد ثم مات المكاتب من مرضه ذلك ولم يترك وفاء، فإن ما قبض المولى من ثمن العبد لا يسلم للمولى وإن كان البيع وقبض الثمن بمعاينة الشهود، لأن للبيع معاوضة حقيقة وحكماً فكان المأخوذ من المكاتب ديناً حقيقة وحكماً، ثم لما مات من غير وفاء وانفسخت الكتابة يسقط دين المولى فيسترد منه الألف ويدفع إلى الأجنبي. قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: ألا ترى أنه لو كان مكان المولى أجنبياً كان أحق بها من صاحب الدين في حالة الصحة؟ وقال: ألا ترى أنه لو قضى مولاه وهو صحيح ولم يدفع إلى الغرماء شيئاً ثم عجز بعد ذلك كان جائزاً؟ كذا هاهنا.(4/582)
-----
مكاتب له على مولاه دين في حالة الصحة فأقر في مرضه أنه قد استوفى ماله على مولاه وعليه دين الصحة ثم مات ولم يدع مالاً، لم يصدق على ذلك لأنه لما مات لا عن وفاء فقد مات عبداً، وصار المولى أقرب الناس إليه بمنزلة الوارث الحر من مورثه، وإقرار المريض باستيفاء الدين من وارثه باطل لتهمة الإيثار فها هنا كذلك.
رجل كاتب عبداً له على ألف درهم في صحته، ثم إن المكاتب أقر في مرضه لأجنبي بألف درهم ثم مات المكاتب ولم يترك الألف درهم، فالأجنبي أحق بالألف من المولى، فإن كان دين المولى دين الصحة ودين الأجنبي دين المرض بخلاف ما إذا كان دين الصحة لغير المولى حيث كان أولى بالقضاء من دين المرض. والفرق بينهما أن دين المولى في حالة الصحة لا يمنع ثبوت دين المرض على العبد ليست من الأسباب لأن المولى بعقد الكتابة يسلط المكاتب على ذلك، لأنه يسلطه على التصرفات، والإقرار بالدين من توابعه، فكان فيه إبطال حقه بتسليطه، ولما لم يمنع دين المولى في حالة الصحة دين المرض على (ما) صار هاهنا صار دين المولى ودين الأجنبي في حق المولى بمنزلة دين الصحة أو دين المرض ولو كانا في الصحة أو في المرض يبدأ بدين الأجنبي لكونه أقوى فهاهنا كذلك. أما دين الأجنبي في حالة الصحة يمنع ثبوت دين على العبد في حالة المرض بإقرار العبد لما فيه من إبطال حقه من غير تسليطه فلا يقدر العبد على ذلك فلهذا افترقا. وكذلك الجواب فيما إذا مات المكاتب وترك سبعمائة درهم بل هذا أولى؛ لأنه لا وفاء هنا ببدل الكتابة حقيقة وحكماً.
(4/583)
-----
رجل كاتب عبداً له على (353أ1) ألف درهم ثم مرض المكاتب فأقر لمولاه بقرض ألف درهم وأقر لرجل أجنبي بقرض ألف درهم بعد ذلك أو بدأ بالإقرار للأجنبي ثم للمولى ثم مات وترك ألفي درهم يبدأ بدين الأجنبي؛ لأن دينه أقوى على ما مر فواجد الأجنبي دينه والألف الآخر يعطى للمولى عن الكتابة دون الإقرار، لوجهين أحدهما: أن في صرفه إلى الكتابة احتيال لإثبات العتق والعتق ورثة يجب الاحتيال لإثباته ما أمكن، والثاني: أنا لو صرفناه إلى الإقرار ابتداء أبطلناه انتهاء.
وبيانه: أنه إذا صرف إلى الإقرار يظهر موت المكاتب عاجزاً فيظهر أنه مات عبداً فيبطل دين المولى عنه وبه يظهر أن الأداء كان باطلاً، فكان في الصرف إلى الإقرار ابتداء إبطاله انتهاء أما لو صرفناه إلى بدل الكتابة لا يبطل الأداء في الأجرة، فكان الصرف إلى بدل الكتابة أولى. فإن ترك المكاتب فضلاً على ألف درهم أخذ المولى الفضل على الألفين من الألف التي أقر المكاتب له بها إذا لم يكن المولى فإن كان للمكاتب ابن أو عصبة أما إذا كان المولى وارثاً كان المكاتب مقراً لبعض ورثته في مرضه وذلك باطل ولكن الفضل يكون ميراثاً بين المولى وبين ورثة المكاتب إن كان له ورثة، وإن لم يكن فالفضل كله للمولى بالعصوبة كما لو لم يقر للمولى.
وكذلك لو كان في يد المكاتب حين مرض مائة دينار فأقر بأنها وديعة عنده للمولى ثم أقر للأجنبي بدين ألف درهم ثم مات وترك ألف درهم والمائة دينار التي أقر بها لمولاه فإنه يبدأ بدين الأجنبي لما مر فينصرف الألف إليه والدنانير تباع فيقضي من ذلك أولاً بدل الكتابة لما مر فإن فضل شيء، كان الفضل للمولى بحكم الإقرار لأن بكون المولى من ورثة المولى المكاتب فحنيئذ يكون الفضل ميراثاً على ما مر.(4/584)
-----
رجل كاتب عبده على ألف درهم فأقرضه المولى ألف درهم وذلك في صحة المكاتب ثم مات وترك ألف درهم وله أولاد أحرار من امرأة، فإن القاضي يقضي بالألف للمولى من المكاتبة وليس للمولى أن يجعلها من الدين لما مر من الوجهين، فإن كان له أولاد من امرأة هي معتقه غيره، فالأب حر والأم لأولاد إلى مواليه لأن الولاء لحمة كلحمة النسب، فههنا أمكن إثباته من الأب لا يثبت من الأم، إلا أنه ما دام الأب عبداً كان إثبات الولاء إلى مواليه من الأب متعذراً، فإذا عتق الأم أمكن إثباته من الأب نحو الأب إلا ولاء إلى مواليه.
ولو ترك أكثر من ألف درهم أخذ المولى الفضل حتى يستوفي الألف التي قبضه لأنه لما مات حراً وترك أولاداً أحراراً وفيهم ذكر، ظهر أن المكاتب أقر للمولى بألف والمولى أجنبي منه، والإقرار للأجنبي صحيح، فإن بقي شيء بعد ذلك دين لمولى الأب يصرف إلى الورثة لأن الميراث هو حر عن الدين على ما عرف.
رجل كاتب عبده على ألف درهم وللمكاتب ابنان حران هما وارثاه، فمرض المكاتب وأقر لأحد الابنين بدين ألف درهم، وأقر للمولى بدين ألف درهم، ثم مات وترك ألف درهم فالمولى أحق بالألفين، يستوفي أحدهما من مكاتبه والآخر من دينه، وكان ينبغي أن يبدأ بدين الابن لأنه أقوى فإنه لا يسقط بعجزه كدين الأجنبي إلا أنا لولد بدين الابن يبقى من المولى ألف درهم يأخذها المولى من مكاتبته لا من دينه لما مر قبل هذا، وإذا أخذها المولى بجهة الكتابة يحكم بعتقه وصار الابن وارثاً له فتبين أنه حر أقر لوارثه في مرض موته فكان.(4/585)
-----
.... فكان في الصرف إلى الابن ابتداءً ابطاله انتهاءً أما لو صرف أولاً إلى بدل الكتابة يعتق، وتبين أنه مقر بالألف للمولى والمولى ليس وارثاً عنه فيصح إقراره له، ...... بدأنا بالصرف إلى المولى وإن ترك أقل من ألفين يبدأ بدين الابن لأن دين الابن أقوى والبداية بالأقوى أولى، إلا أن في الفصل الأول إنما يبدأ بدين الابن؛ لأن في البداية به ابتداءً إبطاله انتهاءً وهذا المعنى هاهنا معدوم، لأنه إذا صرف إلى الابن ألف يبقى الباقي أقل من بدل الكتابة، فيتحقق موته عاجزاً فلا يصير الابن وارثاً له فلا يتأتى ذلك المعنى، وما فضل من الألف يكون للمولى لأنه لما مات عاجزاً رُدَّ في الرق فكان هذا كسب عبده وقد فرغ عن حاجة العبد فيكون للمولى والله أعلم.
الفصل الخامس عشر في الكتابة الموقوفة
ذكر في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجل قال لغيره: كاتب عبدك على ألف درهم، فقال: قد فعلت، فالكتابة موقوفة، فإن بلغ العبد فقبل لزمه وإن (قال): لا أقبل بطلت، فإن أدى الرجل الألف إلى المولى قبل أن يبلغ الكتابة العبد عتق، فإن أدى الرجل الألف، وإن بلغه وقال لا أقبل ثم أداها الرجل عن العبد لا يعتق.
ولو قال: كاتب عبدك على ألف درهم وأنا ضامن لها، فقال: قد فعلت كانت الكتابة موقوفة على إجازة العبد، والضمان باطل، فإن أدى على ذلك الضمان عتق العبد وللرجل أن يرجع بذلك على المولى ولا سبيل للمولى على العبد وكذلك لو كان العبد قبل الكتابة ورضي بها ثم ضمن الرجل المال عنه وأداه على ذلك الضمان كان للرجل أن يرجع بذلك على العبد.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: رجل كاتب عبد الغير بغير أمر صاحب العبد على ألف درهم ثم حط عنه خمسمائة فبلغ المولي فأجاز، قال: فالكتابة بالألف.(4/586)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل كاتب عبد غيره بغير إذنه على ألف درهم فإن (أدى) العبد الألف إليه يعني إلى الذي كاتبه ثم بلغ المولى فأجاز الكتابة جازت الكتابة ولا يجوز دفع المكاتب إلى الذي كاتبه ولا يعتق بذلك الدفع فإن أجاز المولي الكتابة والدفع فذلك جائز في قول أبي يوسف ويعتق المكاتب بأدائه إليه.
ولا تجوز إجازه القبض في قول أبي حنيفة رحمه الله، قال لأن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول: لو كان لرجل على آخر دين فاقتضاه منه رجل بغير أمر صاحبه فأجاز رب الدين لم يجز وما اكتسبه بعد الكتابة قبل الإجازة فذلك للمولى للمكاتب على كل حال والله أعلم.
الفصل السادس عشر في مكاتبة الصغير
قال محمد رحمه الله: رجل كاتب عبداً صغيراً لا يعقل لا يجوز لأن الكتابة لا تنعقد بدون القبول والذي لا يعقل ليس من أهل القبول، فإن أدى عنه رجل لم يعتق لأن الكتابة لم تنعقد في حقه ويسترد ما أدى إلى المولى لأنه أخذ ما أخذ بغير حق وإن كان يعقل جاز لأنه من أهل القبول فإذا جازت الكتابة كان هو بمنزلة الكبير في حق جميع الأحكام.
وإذا كاتب عبدين صغيرين له كتابة واحدة وهما يعتقدان ذلك فهما في ذلك بمنزلة الكبيرين وقد مرت مسألة الكبيرين.
رجل كوتب عن عبد رضيع ورضي به المولى لا يجوز، ولكن إذا أدى الرجل بدل الكتابة يعتق العبد استحساناً، قال في «الكتاب» لوجه الاستحسان (353ب1) جعل هذا بمنزلة قول القائل إذا أديت إليَّ كذا فعبدي حر ولا يشبه هذا حال أخاطب صغيراً لا يعقل بالكتابة وأدى عنه رجل أجنبي حيث لا يعتق العبد، لأن ههنا خاطب الأجنبي بالعقد فيمكن أن يجعل معلقاً عتقه بأداء الأجنبي، وهناك ما خاطب الأجنبي فلا يمكن أن يجعل معلقاً عتقه بأداء الأجنبي والله أعلم.
الفصل السابع عشر في غرور المكاتب وما يلزمه من العقد(4/587)
-----
مكاتب أذن له مولاه في النكاح فأتته امرأة تزعم أنها حرة فتزوجها على أنها حرة فولدت الأولاد، ثم استحقها رجل بالبينة، وظهر أنها مملوكة، فأولاده مماليك لا يأخذهم المكاتب بالقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف، وعند محمد رحمه الله وزفرهم أحرار بالقيمة يؤديها المكاتب إذا عتق.
صحة محمد رحمه الله في ذلك ما روي أن الصحابة جعلوا أولاد المغرور أحراراً بالقيمة ولم يفصلوا بين الحر والمملوك فهو عليها ولا شك أن هذا ولد المغرور كان الغرور في حق الحر يثبت بالإجماع، وإنما يثبت الغرور في حق الحر باشتراط الحرية لا بحرية المستولد، ألا ترى أن بدون الشرط لا يثبت الغرور وقد وجد اشتراط الحرية في حق المكاتب حسب وجوده في حق الحر.
ولهما أن هذا ولد حدث بين أبوين رقيقين يجب أن يكون رقيقاً كما لو لم يوجد هذا الشرط، بيانه أن قصد القياس أن يكون ولد الأمة رقيقاً وإن كان المستولد إذا كان حراً فإنما يثبت الغرور في حقه بشرط الحرية كيلا يرق ماؤه من غير رضاه فيضرب به، وهذا المعنى لا يتأتى إذا كان المستولد رقيقاً لأنه لا يرق ماؤه بل يبقى على الحالة الأولى، وبقاؤه على الحالة الأولى لا يكون ضرراً في حقه فيعمل فيه بقضية القياس، ومن وجه آخر إن المستولد إذاكان حراً فإنما يثبت الغرور في حقه مع مراعاة حق المستحق في حال إيجاب القيمة له في الحال، وهاهنا لو أثبتنا الغرور تثبته من غير مراعاة حق المستحق للأجنبي وكان ضرر المستحق هاهنا فوق ضرر المستحق ثمة فترك القياس ثمة لا يدل على ترك القياس هاهنا، ولو كان المكاتب عالماً بحال المرأة لا يصير المكاتب مغروراً بالإجماع.
مكاتب وطىء أمة على وجه الملك بغير اليد، ثم استحقها رجل فعليه العقر يؤاخذ به للحال، يريد بقوله وطئها على وجه الملك أنه اشترى جارية فوطئها ثم استحقها رجل وبمثله لو تزوج امرأة بغير إذن المولى حتى فسد النكاح ثم وطئها حتى وجب عليه العقر يؤاخذ للحال.(4/588)
-----
والفرق أنه إذا وطئها بحكم الملك فما يلزمه من الضمان مسند إلى الشراء فإنه لولا الشراء لكان هذا الوطء موجباً للحد، وإنما وجب المال دون الحد نسبة للشراء من حيث إن الشراء سبب للملك فأورث شبهة بسبب الشراء فكان وجوب المال إلى الشراء والشراء داخل تحت الكتابة، فما يكون مسنداً إليه يكون داخلاً فيها بطريق التبعية أما إذا وطئها بحكم النكاح فما يلزمه من الضمان مستنداً إلى الضمان النكاح والنكاح ليس بداخل تحت الكتابة فلا يكون مسنداً فافترقا.
وكذلك إذا وطىء المكاتب أمة اشتراها شراء فاسداً ثم ردت على البائع أخذ المكاتب بعقورها في الحال هذه الجملة من «الجامع الصغير».
وفي «الأصل» إذا وقع المكاتب على امرأة فافتضها كان عليه الحد وهذا ظاهر، فإن ادعى شبهة بأن قال تزوجتها، أو كانت أمة فقال اشتريتها، وأنكرت المرأة والمولى ذلك، يدرأ عنه الحد، ألا ترى أن الحر لو ادعى مثل هذا يدرأ عنه الحدود، وإذا سقط الحد وجب المهر كما في الحر ثم مثل يؤاخذ بهذا المهر للحال، قال إن كاتب المرأة مكرهة على ذلك فإنه يؤاخذ بالمهر للحال ولا يتأخر إلى بعد العتق، لأن هذا ضمان بإتلاف لا ضمان عقد، لأن العقر لم يثبت لإنكارها.(4/589)
-----
والعبد المحجور يؤاخذ بالضمان بالإتلاف للحال وإن كان ضمان الإتلاف لما لم يثبت العقد لإنكارها، وذلك لأنه لو أخذ منه المهر كان للمولى أن يرجع عليها لأنها استعملت عبده بغير إذنه فالاستيفاء للحال لا يقبل ولا يشتغل به، ويظهر هذا ما قالوا في المجنون إذا وقع على امرأة فوطئها إن كانت مكرهة فإنه يجب عليه المهر لأنه ضمان إتلاف لأنه وطئها من غير عقد والمجنون يؤاخذ بضمان الإتلاف كما لو أتلف مال إنسان، وإن كانت مطاوعة لا يجب عليه المهر؛ لأنه لو وجب عليه المهر كان أولى المجنون إذا كانت مطاوعته وما يلحقه من الضمان بسبب هذا الاستعمال يكون قرار ذلك عليها فلم يكن الاستيفاء مفيداً ولم يشتغل به فكذلك هذا إذا ادعى نكاحاً وأنكرت المرأة ذلك فأما إذا صدقته فإنه لا يؤاخذ بالمهر للحال سواء كانت مكرهة أو مطاوعة لأن العقد يثبت في حقهما بتصادقهما وإذا ثبت العقد في حقهما بتصادقهما لأن الضمان ضمان عقد الضمان إتلاف والمحجور لا يؤاخذ بضمان العقد للحال وإنما (يؤاخذ) به بعد الإذن والله أعلم بالصواب.
(4/590)
الفصل الثامن عشر في المتفرقات
-----
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» مكاتب له ابن حر ولد من امرأة حرة، ماتت الحرة وورثها الابن عقاراً وضياعاً وصنوفاً من الأموال ثم مات المكاتب عن وفاء ولم يدع ولداً سوى هذا الولد، وقد كان أوصى إلى رجل حر، فإن الوصي يقضي مكاتبة المكاتب من تركته إن ترك عيناً يقضيهما من العين. وإن لم يترك عيناً يبيع عقاره وعروضه فيها؛ لأن الوصي قائم مقام المكاتب وقد كان المكاتب في حال حياته قضاء المكاتبة من العين ومن العروض والعقار فكذا لمن قام مقامه. وإذا قضى المكاتبة صار المكاتب حراً في آخر جزء من حياته وما بقي من مال المكاتب يكون ميراثاً لابنه، والوصي في ذلك بمنزلة وصي الحر على ابنه الكبير الغائب، وبمنزلة وصي الأم والأخ والعم يملك الحفظ، وما كان من باب الحفظ نحو بيع العروض والمنقول. وشراء الصغير ما لا بد له من الطعام والكسوة والمنقول ولا يكون له عليه ولاية ولا يملك ما كان من باب الولاية نحو بيع العقار وبيع الدراهم والدنانير وما أشبههما.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب القسمة: أن وصي المكاتب إذا قاسم الأولاد الكبار صحت قسمته، فقد أثبت لوصي المكاتب حق القسمة مطلقاً وبذلك يدل على حق البيع مطلقاً؛ لأن القسمة حكم البيع حتى إن من صح بيعه صحت قسمته، فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين، ولكن ما ذكر في كتاب القسمة محمول على قسمة العروض والمنقول، ولكن هذا ليس بصحيح بدليل أنه ذكر في كتاب القسمة عقيب جواب المسألة، وهو في ذلك بمنزلة وصي الحر على ابنه الصغير ووصي الحر على ابنه الصغير، يملك التصرف في الكل، وكذا هذا الوصي. ومنهم من قال: في المسألة روايتان.
وجه رواية كتاب القسمة أوان عمل الإيصاء ما بعد الموت، وهو في تلك الحالة حر لأن عند أداء بدل الكتابة حكم بحريته في أخر جزء من آخر حياته، فكان وصيه بمنزلة وصي الحر على ابنه الصغير من هذا الوجه.(4/591)
-----
وجه ما ذكر هاهنا أن الحرية معلقة بشرط (354أ1) الأداء والأداء وجد بعد الموت والحكم.......... على الشرط لا يكون أمراً أولياً وإنما يصار إليه بضرورة، ولا ضرورة في الإيصاء، ولا يظهر الحكم بحريته في أخر جزء من أجزاء حياته في حق الإيصاء، فلم يكن يلزمه وصي الحر ولو ظهر حرية المكاتب في حق الأصل أداءً إلا أن هذا حر لا ولاية له، وقد اختلفت عبارة المشايخ في ذلك، حكي عن الحاكم أبي نصر محمد بن مردويه رحمه الله أنه كان يقول: بأن للولاية حكم الحرية وحكم الشيء يثبت عقيبه والحرية تثبت في آخر جزء من أجزاء حياة المكاتب، فيكون أوان ثبوت الولاية ما بعدها وما بعدها زمان الموت وزمان الموت ليس زمان الولاية.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: بأن الحرية إنما تثبت في آخر جزء من أجزاء حياته في ساعة حياته لطيفة لا تسع للتصرفات فلا تتسع للولاية، لأن الولاية ليس هي إلا ملك التصرفات، فلا تثبت في زمان لا يتسع للتصرف، ولهذا قلنا لو قدمه قاذف لا يحد، لأن الحرية تثبت في وقت لا يتسع للقذف، بخلاف فساد النكاح؛ لأن ذلك حكم شيء عجب لا تشرط له القدرة فالساعة اليسيرة وإن قلت تكفي. وعبارة عامة المشايخ أن الحرية تثبت في آخر جزء من أجزاء حياته، وتلك الحالة حالة انقطاع الولاية، ولا يمكن القول بثبوت الولاية في حال انقطاع الولاية، وإذا لم تثبت الولاية للمكاتب لا تثبت لمن قام مقامه وهو الوصي، هذا وجه التقريب على العبارات كلها.(4/592)
-----
وإنما ملك الحفظ لأنه كان للمكاتب حق الحفظ في اكتسابه، فكذا لمن قام مقامه، وإذا ملك الحفظ ملك بيع العروض والمنقول من تركة المكاتب؛ لأن بيعهما من الحفظ إذا خشي عليهما التردي والتلف فأما العقار محصنة بنفسها، وكذا الدراهم والدنانير فلم يكن بيعها من الحفظ فتخص ولاية، ولم يكن للمكاتب على ولده الحر ولاية فكذا لوصيه، وفيما تركت أم هذا الصغير لا يملك الوصي شيئاً من التصرفات لما ذكرنا أن الوصي قائم مقام الموصي، والموصي حال حياته كان لا يملك شيئاً من التصرف في تركة أم هذا الصغير، العقار والعروض فيه سواء، فكذا من قام مقامه عند موته.
وكذلك لو ترك المكاتب ولداً ولد في مكاتبته أو ولد كوتب معه فقضى الوصي مكاتبته وحكم بحريته وبحرية ولده تبعاً له كان ما بقي من مال المكاتب ميراثاً لولده، ووصي المكاتب في ذلك بمنزلة وصي الحر على الابن الكبير الغائب على التفسير الذي قلنا يملك حفظ ماله، وما كان من باب الحفظ نحو بيع العروض وشراء ما لا بد للصغير منه ولا يكون له عليه ولاية ولا يمكن ما كان من باب الولاية نحو بيع العقار وما أشبهه، وهذا مشكل لما ذكرنا أن الوصي قائم مقام الموصي، وقد كان المكاتب يلي على ولده المولى في الكتابة والذي كوتب معه وينصرف في اكتسابهما ما شاء، العقار والعروض فيه سواء، فيجب أن يملك وصية ذلك أيضاً.(4/593)
-----
والجواب أن رقبة الولد المولود في كتابة المكاتب والذي كوتب مع المكاتب اعتبر ملكاً للمكاتب حكماً فلهذا عتقا بعتقه ومكاسبهما بمنزلة مكاتب المكاتب، التصرف فيما وفي مكاتبيهما بحكم الملك لا بملك الولاية، ألا ترى أن المكاتب لو زوج هذا الولد امرأة لا يجوز؟ ولو كان له عليه ولاية جاز كالحر إذا زوج ابنه الحر الصغير امرأة، وألا ترى أن المكاتب إذا أقر على هذا الولد بالدين صح وصرف كسبه إلى الدين الذي أقربه؟ ولو كان يصرفه عليه بحق الولاية لما صح إقراره بالدين عليه كإقرار الحر على ابنه الصغير صح أن يصرف المكاتب على هذا الولد بحكم الملك لا بحكم الولاية، وما لو صانه لا ينتقل الملك إلى الوصي إنما تنتقل الولاية فإذا لم يكن للمكاتب ولاية كيف تثبت لوصيته، وإن كان المكاتب أدى بدل الكتابة قبل أن يموت ثم مات وباقي المسألة بحالها: كان وصيته كامل الولاية على ولده كوصي الحر على ابنه الصغير الحر؛ لأن بالأداء عتق وكل حاله وثبتت ولايته لأنه لم يعتق عتقاً ضرورياً بل يثبت العتق بالأداء على الإطلاق، وإذا جاء الموت وهو حال عمل الإيصاء وحال نقل الولاية، وهو في هذه الحالة كامل الولاية ثبت لوصيه كذلك أيضاً، فقد اعتبر في حق الوصي حالة الموت لا حالة الإيصاء إذ لو كان المعتبر حالة الإيصاء لما ثبت الولاية لوصيه إذا لم يكن للمكاتب ولاية وقت الإيصاء.
واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب» لإيضاح ذلك بمسائل منها:
أن النصراني إذا أوصى إلى رجل مسلم وله ابن مسلم صغير فمات النصراني، فوصيه لا يكون وصياً لابنه المسلم، وبمثله لو أسلم ثم مات فوصيه يكون وصياً اعتباراً لحالة الموت.
ومنها العبد المحجور إذا أوصى إلى رجل وله ابن حر صغير فوهبه لا يكون وصياً لابنه، وبمثله لو أعتق العبد ثم مات كان وصيه وصياً.(4/594)
-----
ومنها أن من أوصى إلى رجل ثم أوصى إلى هذا الموصى رجل ثم مات الموصي الثاني ثم مات الموصي الأول فوصي الموصي الأول يملك التصرف في تركتين، وإن لم يكن للموصي الأول ولاية التصرف في تركة الموصي الثاني يوم الإيصاء لما كان له ولاية يوم الموت، فقد اعتبر حالة الموت في فائدة المسائل فكذا فيما تقدم.
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: رجل زوج ابنته البالغة برضاها من مكاتبه جاز لأنه لو زوجها من عبد يجوز فمن مكاتبه أولى والمعنى فيه أنه ليس بينهما قرابة محرمة للنكاح ولا محرمية ولا ملك ولا حق ملك فيجوز، وإن كانت البنت الصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز لعدم الكفاءة، والمسألة معروفة فإن مات المولى ولم يدع مالاً سوى هذا المكاتب وتركة ابنته هذه ومولاه الذي أعتقه يريد به معتق مولى المكاتب لم يفسد النكاح لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك حقاً للمكاتب، فكذا لأن لا يملك بالإرث فلم تملك المرأة شيئاً من رقبة زوجها إنما ملكت بدل الكتابة، حتى جعل إعتاق الوارث مجازاً عن الإبراء عن بدل الكتابة حتى كان الولاء للميت وثبت لها حق ملك الرقبة عند العجز وكل ذلك لا يمنع بقاء النكاح، فإن طلقها المكاتب فإن كان طلاقاً رجعياً، كان له أن يراجعها، لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح والرجعة في حكم استدامة الملك عندنا وحق الملك لا ينافي استدامة ملك النكاح، وإ كان الطلاق بائناً فأراد أن يتزوجها ليس له ذلك، لأنه ثبت لها في رقبة الزوج حق الملك ألا ترى أنه لا يملك المكاتب التزوج إلا برضاها، والطلاق البائن يزيل ملك النكاح، فهذا حال ابتداء النكاح، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح.(4/595)
-----
ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن مات المكاتب بعد موت المولى وتركته ثلاثة آلاف درهم ومهرها على المكاتب ألف درهم، وبدل الكتابة ألف درهم فإنه يبدأ بالمهر لأنه أقوى من بدل الكتابة، لأنه دين من كل وجه حقيقة وحكماً، وبدل الكتابة دين تسمية لا حكماً ولأن ثبوت دين المكاتبة للمولى مع المنافي وثبوت دين الطلاق بلا منافٍ لهذا جازت الكتابة بدين الصداق ولم يجز بيبدل (354ب1) الكتابة، ويعلم أن دين الصداق أقوى والبداية بالأقوى أولى ثم يستوفى بدل الكتابة لأنه دين، والدين وإن ضعف فهو مقدم على الميراث ويحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، ويكون ذلك الميراث من مولى المكاتب النصف للبنت والنصف لمعتق مولى المكاتب بحكم العصوبة لأنه مال الميت فيقسم بين بنيه وعصبته يعني هاهنا ألف أخرى يكون ميراثاً عن المكاتب لورثته كانا حكماً بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته، فيكون للبنت الربع بحكم الزوجية والباقي لمعتق مولى المكاتب بحكم العصوبة.
وإن لم تكن البنت في نكاحه فلا شيء لها من هذه الألف وهي لمعتق مولى المكاتب؛ لأنها لو ورثت (ورثت) بحكم الولاء، وليس للنساء منّ الولاء إلا من ما أعتقن أو أعتق من أعتقن، هكذا ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً دخل بها، أو لم يدخل بها لأنا حكمنا بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته فانتهى النكاح بينهما بالموت، فلهذا وجب عدة الوفاة.
ولو لم يمت المكاتب ولكنه عجز فسد النكاح، لأنها ملكت نصف رقبة زوجها، بيانه: وهو أن بالعجز يعود رقيقاً وينفسخ عقد الكتابة وهو المانع من الإرث، فصار نصفه للبنت بحكم عقد الكتابة بحكم الميراث ونصفه للعصبة فملكت نصف رقبة زوجها، فتوجب فساد النكاح ويسقط كل الصداق إن لم يكن دخل بها، لأن الفرقة جاءت لمعنى من قبلها قبل الدخول وهو تملكها شيئاً من رقبة زوجها، ومثل هذه الفرقة توجب سقوط الصداق.(4/596)
-----
فإن قيل: لا بل الفرقة جاءت من قبل الزوج لأن الفرقة إنما وقعت بحكم العجز والعجز معنى من جهة الزوج، قلنا: هذا فاسد لأن العجز لا يوجب الفرقة ألا ترى أن المولى لو كان حياً وعجز لا تقع الفرقة، ولكن عند العجز يرد في الرق، فتملك حينئذ شيئاً من رقبة زوجها فتقع الفرقة والتملك معاً في حقها.
وكذلك إن كان قد دخل بها ولم يكن معها وارث آخر سقط كل الصداق والفرقة الجائية من قبلها فإن الفرقة الجائية من قبلها بعد الدخول بها لا توجب سقوط شيء من الصداق لكن لأنها ملكت جميع رقبة زوجها والمولى لا يستوجب على عبده ديناً.
وإن كان معها وارث آخر مولى الأب يسقط نصف المهر لأن سقوط الصداق بعد الدخول بها باعتبار ملكها رقبة الزوج فإنما يسقط بقدر ما تملك وإذا كان معها مولى الأب فإنما تملك نصف الرقبة وسقط نصف المهر الذي هو في نصيبها ويبقى نصف الذي هو نصيب العصبة، ويقال للوارث الآخر: إما أن تبيع نصيبك بدينهما وهو نصف المهر وتقضي دينها وليس للوارث الآخر أن يحتج عليها ويقول: بأنك ملكت نصفاً فارغاً وأنا ملكت نصفاً مشغولاً فلا مساواة بيننا ولا معادلة؛ لأن من حقها أن تقول بأني ملكت النصف مشغولاً (فلا مساواة بيننا) كالوارث الآخر إلا أنه حال الشغل حكم بتمام ملكي وبهذا لا يتبين أن المعادلة والمساواة لم تكن وقت الدخول في ملكهما..... جواز القسمة المعادلة وللمساواة وقت الدخول في الملك لأن الفرقة وقعت بعد الدخول حال حياة الزوج فلم تصر فتوفى عنها زوجها.
وكذلك الجواب فيما إذا كان في يدي المكاتب أقل من بدل الكتابة، فهذا والأول سواء في حق تحقيق عجزه فتكون رقبته مع ما في يده بينهما وبين مولى الأب نصفين، وإن كان في يد المكاتب ألف درهم مثل بدل الكتابة أو أكثر لا يقضي بعجزه ويؤخذ المال فصار المكاتبة ويحكم بالعتق وتبيعه المرأة.f
.....(4/597)
-----
ولو لم يعجز المكاتب لكنه مات وترك ألف درهم فإن كان لم يدخل بها يصرف إنما يزول إلى بدل الكتابة سواء معها وارث آخر أو لا، وكذلك إن كان قد دخل بها وليس معها وارث آخر وإن كان هكذا لأن دين المهر أقوى والبداية بالأقوى أولى، إلا أن الفصل الأول والثاني بدأ بالأدنى وهو بدل الكتابة لأنا لو بدأنا بالأقوى وهو المهر، بطل كله بعد ذلك لأنه لم يظهر موته عاجزاً، وموته عاجزاً يوجب بطلان كل المهر لأنه يرد في الرق في آخر جزء من أجزاء حياته، ويجزأ فيه الإرث، فتملك البنت زوجها في الفصل الثاني، وكذلك في الفصل الأول على أحد الاعتبارين، وعلى الاعتبار الآخر تملك شيئاً من زوجها فيفسد النكاح ويسقط كل المهر، أما في الفصل الأول فإن الفرقة من قبلها قبل الدخول بها، وفي الفصل الثاني يملكها جميع رقبة زوجها فثبت أن في البداية بالمهر إبطال كله فبدأنا ببدل الكتابة للموت حراً فيتقدر المهر ويتأكد ويستوفى إن ظهر للمكاتب مال آخر، أما في الفصل الثالث لو بدأنا بالأقوى وهو المهر لا يبطل كله بعد ذلك لأنها لا تملك إلا نصف رقبة زوجها وسقوط الصداق بعد الدخول، فوجب تملكها رقبة للزوج فإذا لم تملك إلا النصف لا يسقط إلا نصف المهر، فإن بالبداية بالأقوى إبطال كله فبدأ بالمهر وظهر أنه مات عاجزاً وصار رقبته بينهما وبين مولى أبيها نصفين، كسبه كذلك فيسقط ما في هذا النصف من دين الصداق وهو نصفه، ويبقى النصف الآخر في نصيب الوارث الآخر فتأخذ هي نصف الألف ميراثاً من الدب والنصف الآخر نصيب مولى الأب إلا أنه مشغول بدينها لأن لها في نصيب مولى الأب نصف المهر خمسمائة والدين مقدم على الميراث فتأخذ النصف الآخر بمهرها، فيصير كل الألف لها، ونصف رقبة المكاتب لها والنصف لمولى الأب.(4/598)
-----
وإن كان المكاتب مات وترك أقل من ألف درهم وقد دخل بها أو لم يدخل بها ومعها وارث آخر مولى الأب أو لم يكن، فهاهنا سواء بدأنا ببدل الكتابة، أو بالمهر يظهر موته عبداً عاجزاً فبعد ذلك، إن لم يدخل بها يسقط كل الصداق سواء كان معها مولى الأب أو لم يكن لما مر، وما ترك فهو بينهما وبين مولى الأب نصفان ميراثاً عن الميت لأنه كسب عبده وإن كان قد دخل بها فإن لم يكن معها وارث آخر يسقط كل الصداق أيضاً لما قلنا، ويكون جميع ما ترك بالميراث لها، وإن كان معها وارث آخر يسقط نصف الصداق وتعقد بثلاث لما مر قبل هذا.
ولو كان المكاتب ترك ألفاً وزيادة ما بينها وبين ألفي درهم، فإن لم يدخل بها أو دخل بها ولكن ليس معها وارث آخر يبدأ ببدل الكتابة، ويحكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته لما مر ويأخذ ما بقي بصداقها وتعتد بثلاث حيض لما مر، وإن كان قد دخل بها ومعها وارث يبدأ بصداقها لما مر، ثم ليس فيما بقي وفاء ببدل الكتابة، فيظهر أنه مات عبداً عاجزاً، فكان ما بقي بينها وبين مولى الأب نصفين ميراثاً عن الأب، لأنه كسب عبده.
ولو كان المكاتب ترك ألفي درهم يبدأ بدين الصداق فتأخذ هي الصداق أولاً ثم يصرف الباقي إلى بدل الكتابة لأن به وفاء ببدل الكتابة ويحكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته ويكون ذلك بينهما وبين (355أ1) مولى أبيها نصفين ميراثاً عن الأم فعليها عدة الأب الولاء الوفاة، لأن النكاح بينهما قد انتهى بالموت حين حكمنا بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته فصارت متوفى عنها زوجها.(4/599)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أم ولد كاتبها مولاها صحت الكتابة، لأن الكتابة في حقها مفيدة لأنها بالكتابة تستفيد العتق في الحال، وبالاستيلاد لا تستفيد العتق في الحال إنما استفادت عتقاً مؤجلاً إلى ما بعد الموت فإن مات مولاها عتقت بالاستيلاد؛ لأنها أم ولد مات عنها مولاها، وبطلت الكتابة لأنها عقلت وسيلة إلى الحرية وقد حصلت الحرية بسبب آخر فتسقط الوسيلة فيسقط بدل الكتابة وفيه نوع إشكال فينبغي أن لا يسقط لأن هذا المعقود عليه عقد كتابة وصل إليها، ولهذا عتق أولادها معها وسلم لها أكسابها، فوجب أن يتأكد ما وجب عليها بالكتابة كما في سائر المعاوضات، والجواب أن الكتابة عقد معاوضة من وجه، وتعليق عتق بالأداء من وجه، فاعتبار معنى المعاوضة يوجب تأكد العمل لما وصل إليها ما هو المعقود عليه عقد الكتابة، واعتبار معنى التعليق بالشرط يوجب الانقسام متى وجد العتق قبل الأداء، إلا أن المعلق بالشرط متى وجد قبل الشرط ينفسخ التعليق، والعمل بالاعتبارين جميعاً في حقهما متعذر فاعتبر نابه المعاوضة في حق أم الولد حتى لا يبطل حقها في أولادها وأكسابها وأمرها من جهة المولى ونسبة التعليق في حق المولى، فقسمنا الكتابة بالإعتاق في حق المولى لأن الفسخ جاء من جهته ليكون عملاً بالشبهين بقدر الإمكان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» في مكاتب أدى إلى مولاه من الصدقات التي أخذها من الناس ثم عجز وصار ذلك للمولى فهو طيب للمولى، واختلفت عبارة المشايخ رحمهم الله في تخريج المسألة، بعضهم قالوا لأنه تبدل الملك فإن الصدقة كانت ملكاً للمكاتب يداً وتصرفاً ولم يكن ملك المولى ظاهراً فيه، وبالأداء صارت للمولى فيه يد الملك وبدل الملك بمنزلة تبدل العين فصار كعين آخر.(4/600)
-----
والأصل في ذلك ما روي أن بريرة كانت تهدي إلى الرسول صلى الله عليه وسلّموهي مكاتبة ما كان يتصدق به عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّميقبل هديتها ويأكل وكان يقول «لها هي صدقة ولنا هدية» فقد جعل تبدل الملك بمنزلة تبدل العين فعلى قول هذا التعليل إذا أباح الفقير..... غير ما أخذ من مال الزكاة من الطعام لا يحل له لأن الملك لم يتبدل حتى يجعل ذلك بمنزلة تبدل العين.
وبعضهم قالوا: لأن الصدقة حين وقعت لا..... فصحت، فصارت لله تعالى، لأن الصدقة إخراج المال إلى الله تعالى على ما عرف من موضعه ثم صارت ملكاً للفقير من الله تعالى قضاء لحقه بالرزق الموعود، وإذا صارت ملكاً للفقير من الله تعالى يرزقه تجدد للفقير سبب ملك بعد ما صارت صدقة، وصارت لله تعالى فأخص ذلك تبدل العين حكماً.
فعلى فرد هذا التعليل: الفقر إذا أباح للمعين عين ما أخذ من مال الزكاة من الطعام يحل؛ لأنه تبدل العين حكماً، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، هذا إذا عجز المكاتب بعد ما أدى ما أخذ من الصدقات إلى المولى.
وأما إذا عجز والصدقات قائمة في يد المكاتب لم يردها إلى المولى هل يحل للمولى؟ لم يذكر هذا الفصل هاهنا، وذكر في «الأصل»: أنه يحل، بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب لا يشكل على قول محمد رحمه الله لأن عنده تبدل الملك فإنها كانت ملكاً للمكاتب والآن صار لمولاه، ولهذا قال المكاتب إذا أجر أمته ظهيراً ثم عجز يطلب الإجارة، لأنه تبدل الملك فصار كأن المؤاجر مات وصار العتق المستأخر للورثة، فتبطل الإجارة، فإذا تبدل الملك عنده يحل له الصدقة، أما مشكل على قول أبي يوسف فإن عنده لم يتبدل الملك بالعجز، ولكن كسب المكاتب كان مشتملاً على قول المولى وحق المكاتب، فحق المولى يتقرر بالعجز، وحق المكاتب يتقرر بالعتق، فإذا عجز بقدر ما كان للمولى لا أنه تحول من المكاتب إليه.(4/601)
-----
ولهذا قال إذا أجر أمته ظهيراً ثم عجز لا تبطل الإجارة وإذا لم يتبدل الملك عنده يجب أن لا يحل له الصدقة لكونه عيناً.
والجواب أنه لا خبث في نفس الصدقة لتحرم عليه، وإنما لم يحل للغني وإنها شيء أخذ الزكاة لأن فيه نوع استدلال به لأن بأخذ الصدقة تسقط الذنوب عن المتصدق فيصير المتصدق عليه كالآلة للمتصدق في تطهيره عن الذنوب، فحرم على الهاشمي لطريق التعظيم، وأما الغني فليس له أن يذل نفسه إلا عند الحاجة والضرورة، ولا حاجة فحرم على الغني والهاشمي لهذا، وهذا المعنى معدوم هاهنا فيحل، ولهذا قلنا إن ابن السبيل إذا تصدق عليه ثم وصل إلى ماله وأهله والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة، وكذلك الفقير إذا تصدق عليه ثم استغنى والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من الصدقة لانعدام المعنى الذي ذكرنا.
وبعضهم قالوا المولى يخلف المكاتب في أكسابه خلافة الوارث للمورث في أملاكه، والفقير إذا مات والصدقة قائمة فورثها له غني حل له أكل ذلك، وإنما لم يملكها بسبب جديد فكذا هاهنا. والوجه ما ذكرنا أن الصدقة صارت للفقير بعدما صارت لله تعالى بجهة الرزق فيخلى للفقير سبب الملك على مامر وترك ذلك بمنزلة تبدل العتق فيحل له التناول بقي فقيراً أو غنياً ويحل لغيره التناول، ثبت للفقير فيها ملك بسبب جديد بأن اشتراها أو وهب له أو لم يثبت له بأن ورثه أو أباح له هذا الفقير، تم الكتاب والله أعلم.
(4/602)
كتاب الولاء
هذا الكتاب يشتمل على خمس فصول:
1 * في ولاء العتاقة.
2 * في ولاء المولاة.
3 * في الإقرار بالولاء.
4 * في دعوى الولاء والخصومة واليمين فيه.
5 * في المتفرقات.
الفصل الأول في ولاء العتاقة
-----
وإنه يسمى ولاء النعمة وإنما سمي هذا الاسم اقتداءً بكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم ا عليه وأنعمت عليه} (الأحزاب: 37) قوله أنعم الله عليه أي بالإسلام، وقوله أنعمت عليه بالعتق، نزلت الآية في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّموتكلموا في سبب هذا الولاء، بعض المشايخ رحمهم الله قالوا: سببه الإعتاق واستدلوا بقوله عليه السلام: «إنما الولاء لمن أعتق» وأكثرهم على أن سببه العتق على الملك وهو الصحيح ألا ترى أن من ورث قريبه حتى عتق على الملك فتقول: كل من حصل له العتق من جهة إنسان يثبت ولاء العتق منه سواء شرط الولاء أو لم يشترط أو برىء عنه، وسواء كان الإعتاق ببدل أو بغير بدل، وسواء حصل العتق بالإعتاق (355ب1) أو بالقرابة أو بالكتابة عند الأداء أو بالتدبير أو بالاستيلاد بعد الموت، وسواء كان العتق حاصلاً ابتداءً بجهة واجب ككفارة اليمين وما أشبهها لأن ظاهر قوله عليه السلام: «الولاء لمن أعتق» يتناول مطلق الإعتاق، وسواء كان المعتق رجلاً أو امرأة، لأن ظاهر قوله عليه السلام: «الولاء لمن أعتق» عام لأنه ذكر بكلمة «من» ويتعلق هذا الولاء أحكام من جملتها الإرث فنقول:(4/603)
-----
مولى العتاق من جملة الورثة عرف ذلك بالآثار والمعنى يدل عليه، ووجه ذلك أن المعتق بالإعتاق يحيي المعتق حكماً لأن الرقيق هالك حكماً ألا ترى أنه ليس بأصل الأحكام كثيرة تعلقت بالإحياء نحو القضاء والشهادة ووجوب الجمعة وأشباهها، وألا ترى أن الإمام في الكافر المقهور بالخيار إن شاء قتله وإن شاء استرقه، ولما كان الرقيق هالكاً حكماً كان الإعتاق إحياءً له حكماً، فكان المعتق بمنزلة الأم له حكماً فترث منه كما يرث الأب الحقيقي ولأجل هذا المعنى سوينا في ولاء العتاقة بين الرجل والمرأة لأن معنى الإحياء يعم الكل، وإنه مؤخر عن سائر العصبات، مقدم على ذوي الأرحام، والولاء لا يورث فيكون لأقرب الناس عصبة من المعتق، حتى لو مات مولى العتاقة وترك ابنة وابناً ثم مات المعتق فالميراث لابن المولى ولا يكون للابنة شيء. والأصل فيه قوله عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث».
وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: إذا مات مولى العتاقة وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابناً ثم مات المعتق فميراثه لابن المعتق لا لابن ابن المعتق، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا مات مولى العتاقة وترك ابناً وأباً ثم مات المعتق ميراثه لابن مولى العتاقة، لأنه أقرب العصبات إلى المعتق. والحاصل أن الولاء نفسه لا يورث بل هو للمعتق على حاله، ألا ترى أن المعتق هو الذي ينسب بالولاء إلى المعتق دون أولاده، فيكون استحقاق الإرث بالولاء لمن هو منسوب إليه حقيقة، ثم يخلفه فيه أقرب عصبة كما يخلفه في ماله.
فرع في الأصل على ما إذا مات المعتق عن ابنين، فقال: لو مات الابنان ولأحدهما ابن وللآخر ابنان ثم مات المعتق فميراث المعتق بينهم؛ لأن الولاء لم يصر ميراثاً بين ابن المعتق بل هو باق في المعتق على حاله، ثم يخلفه فيه أقرب عصبة على ما ذكرنا، وهؤلاء في القرب إليه على السواء.(4/604)
-----
وقد طول محمد رحمه الله هذا الكلام في «الأصل» وحاصله أن وارث المعتق من هو أقرب الناس عصبة لمولى العتاقة فينظر عند موت المعتق أن مولى العتاقة لو كان حياً في هذه الحالة ومات من يومه من عصابته؟ ومن هو أقرب الناس إليه عصبة؟ فيرث ذلك الشخص من المعتق.
وكما يثبت للمعتق ولاء معتقه، يثبت له ولاء معتق (معتقه) حتى إن من أعتق عبداً، ثم إن العبد المعتق أعتق أمة ثم مات العبد ثم ماتت الأمة فميراث الأمة لمعتق العبد. وكذلك لو مات معتق العبد وترك ابناً عن..... فميراث الأمة لابن معتق العبد، لأن ولاء الأمة قد ثبت لمعتق العبد، فيكون لأقرب الناس عصبة إليه بعد موته.
والمرأة في ذلك كالرجل، يريد به أنه كما ثبت للمرأة ولاء معتقها يثبت لها ولاء معتق من الولاء معتقها، قال عليه السلام: «ليس للنساء من الولاء إلا ما اعتقن أو أعتق من أعتقن» ولو أن امرأة اشترت أباها حتى أعتق عليها ثم مات الأب عن هذه الابنة المشترية وابنه أخرى له فالثلثان لهما بحكم الفرض والباقي للمشترية بحكم الولاء ولو كان الأب أعتق عبداً بعدما عتق هو على ابنتها ثم مات الأب ثم مات معتق الأب وبقيت الابنة المشترية كان الميراث للمشترية لأنها معتقة بعتق هذا المعتق، ويرث ابن المعتق من ولد المعتق لأنه عصبة معتق ابنه، فيرث منه كما يرث من ابنه المعتق، وإذا مات المعتق عن صاحب فرض وعن معتق أو عن عصبة المعتق، فإنه يعطى لصاحب الفرض أولاً فرضه ويكون الباقي للمعتق أو عصبته والله أعلم..
نوع آخرمن هذا الفصل
قال النبي صلى الله عليه وسلّم «ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن و أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن أو جررن ولاء معتقهن أو معتقن معتقهن» وبهذا كله أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى.(4/605)
-----
وصورة جر ولاء المعتق: امرأة اشترت عبداً فتزوج العبد بمعتقة قوم بإذن المرأة وحدث لهما أولاد فولاء الولد يكون لمولى الأم؛ لأنه تعذر إثباته لجانب الأب لكون الأب عبداً فشدته من جانب الأم، فلو أن هذه المرأة أعتقت هذا العبد جر العبد ولاء الولد إلى نفسه، وجرّت هي ذلك إلى نفسها وهذا لأن الأصل في ولاء الولد الأب لأن الولاء لحمة كلحمة النسب، وإنما ثبت الولاء للولد في هذه الصورة من موالي الأم لعجزنا عن إثباته من الأب لكونه عبداً، فإذا أعتق الأب ارتفع العجز فيجب إثباته من الأب، كما في حقيقة النسب إذا أكذب الملاعن نفسه.
وصورة جر ولاء معتق المعتق: رجل اشترى عبداً وأعتقه ثم إن هذا العبد المعتق اشترى عبداً ثانٍ، العبد الثاني تزوج بمعتقه قوم بإذن مولاه وحدث له منها أولاد، فإن ولاء ولده. ثم جر المعتق الأول ذلك إلى نفسه ثم جرت المرأة ذلك إلى نفسها فلأن يجر ولاء الولد بلا خلاف.
وأما الجد فهل يجر ولاء حافده ففي ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله تعالى لا يجر سواء كان الأب حياً أو ميتاً، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجر وصورة ذلك: عبد تزوج معتقة قوم وحدث له منها أولاد ولهذا العبد أب حي فأعتق الأب بعد ذلك وبقي العبد عبداً على حاله ثم مات العبد وهو أب هذا الولد ثم مات الولد ولم يترك وارثاً يجر ميراثه، كان ميراثه لموالي الأم ولو حتى كان عقله على موالي الأم عند علمائنا رحمهم الله، ولم يجر الجد ولاء حافده إلى مواليه، وإنما كان كذلك لأن تعذر إثبات الولاء من الجد لما ذكرنا أن الولاء ألحق بالنسب شرعاً، والنسب إنما يثبت من الجد إذا ثبت من الأب، ألا ترى أن نسب ولد الزنا إذا لم يثبت من الزاني لا يثبت من الجد؟ وهاهنا لا يثبت ولاء الولد من الأب لكونه عبداً فلا يثبت من الجد.(4/606)
-----
ثم الأب إذا أعتق إنما يجر ولاء الولد إلى نفسه إذا لم يجر على الولد عتق مقصود أما إذا جرى عليه عتق مقصود ولاء. ولهذه المسألة صور كثيرة منها. عبد تزوج بأمة قوم فحدث له منها ولد فأعتق الولد كان (356أ1)) ولاؤه لموالي الأم فإن أعتق الأب بعد ذلك فالأب لا يجر ولاء الولد إلى نفسه بل يكون الأم على حاله.
ومنها عبد تزوج بأمة رجل وولد له منها ولد ثم إن مولى الأمة أعتق الأمة والولد، ثم إن مولى العبد، أعتق العبد. ففيها: إذا كانت الأمة حبلى (حين أعتق مولى ثم إن مولى العبد الأمة الأمة والولد) ولم يكن بها حبل ظاهر ولكن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر حين أعتق المولى، وهذا لأن الجنين بإعتاقه يصير معتقاً مقصوداً، لأنه في حكم العتق كشخص على حدة فهو والمنفصل سواء. وإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر، فقد تيقنا بوجوده في البطن وقت الإعتاق، فهذا وما لوكان الحبل ظاهراً سواء، وهذا لأنه متى جرى، على الولد عتق مقصود فقد صار الولد أصلاً في الولاء، وبعدما صار أصلاً في الولاء لا يمكنها أن تجعله تابعاً لغيره في الولاء إلا بعد أن يفسخ ما نبدله من الولاء لأنه لا يتصور أصلاً وتبعاً في الولاء والفسخ متعذر لأن فسخه يفسخ سعيه وهو العتاق، وفسخ العتاق متعذر، لما تعذر فسخ ما ثبت له من الولاء تعذر جعله تابعاً لابنه في الولاء.
وهذا بخلاف ما لو لم يجر على الولد عتق مقصود حيث عتق الأب، فإنه يجر ولاء الولد إلى نفسه وقد ثبت ولاؤه من الأم بسبب حرية الأم والحرية لا تقبل الفسخ لأن هناك لم يثبت للولد ولاء نفسه بل كان تابعاً في الولاء للأم فاحتجنا إلى نقل ذلك الولاء إلى الأب، وبعد ما نقل ذلك الولاء إلى الأب يكون تابعاً في الولاء أيضاً أما إذا ثبت له ولاء نفسه مقصوداً لا يمكن إثباته لغيره إلا بعد فسخ ما ثبت له، وفسخ ما ثبت له متعذر، فلهذا افترقا.(4/607)
-----
فرع على ما إذا تزوج العبد بأمة الغير فقال إذا طلقها زوجها أو مات عنها ثم إن مولاها أعتقها ثم جاءت بولد مستبين ولم تقر هي بانقضاء العدة بل ادعت الحبل، ثم إن مولى العبد أعتق العبد فالولد مولى مولى الأم لأن هذا الولد صار معتقاً بإعتاق الأم مقصوداً، لأن وجوده في البطن وقت إعتاق الأم ثابت من حيث الحكم، لأن إعتاق الأم إتحاد وجد بعد الموت وبعد الطلاق الثاني وقد حكمنا بوجود هذا الولد قبل الموت وقبل الطلاق الثاني حتى حكمنا..... من نسبة هذا الولد؛ وهذا لأن الحبل ليس بقائم في العبد عن موت أو طلاق ثان فيحال بالعلوق إلى أبعد الأوقات، ليمكننا إثبات النسب، وذلك ما قبل الموت والطلاق فهو معنى قولنا إن وجود هذا الولد في البطن وقت إعتاق الأم ثابت من حيث الحكم، بخلاف ما إذا أعتق الأم حال قيام النكاح ثم جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً وباقي المسألة بحالها، فإن هناك نجعل الولد مولى لموالي الأب، وإن كان من الجائز أن يكون هذا الولد موجوداً قبل الإعتاق، لأن هناك لم يوجد دليل يدل على وجوده قبل الإعتاق، فلم يصر معتقاً بإعتاق نفسه مقصوداً أما هاهنا بخلافه.
وكذلك إن كانت معتدة عن طلاق رجعي، وقد جاءت بالولد إلى سنتين وباقي المسألة بحالها كان الولد مولى لمولى الأم، لأنا حكمنا بوجود هذا الولد قبل الطلاق، لأنا لو لم نجعل كذلك لا يمكننا إثبات النسب إلا بعد إثبات المراجعة، ولا يمكن إثبات المراجعة بالشك، فحكمنا بوجوده قبل الطلاق ليمكننا إثبات النسب من غير أن تثبت المراجعة بالشك، حتى لو جاءت بالولد في هذه الصورة لأكثر من سنتين كان الولد مولى لموالي الأب، وتثبت المراجعة لأنا تيقنا أن العلوق به حصل قبل الطلاق، وهذا الذي ذكرنا إذا لم تقر المرأة بانقضاء العدة.(4/608)
-----
وإن أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الإقرار بانقضاء العدة ولتمام سنتين منذ يوم طلق، فإن ولاء الولد لموالي الأم، لأن الإقرار بانقضاء العدة لم يصح لأنها أقرت به وهي حامل فصار وجود هذا الإقرار والعدم بمنزلة.
وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ يوم طلق كان ولاء الولد لموالي الأم لأنا لم نتيقن بوجوده في البطن يوم أعتقت، ولم يصر مقصوداً بالإعتاق مع الشك.
ولو أن عبداً تزوج بأمة رجل ثم إن مولى الأمة أعتق الأمة ثم ولدت بولد فإن ولاء الولد لموالي الأم، فإن أعتق هذا الولد أمه فولاء هذه الأمة لموالي الأم، لأنه ثبت ولاء تتخذه الأمة للولد، وما ثبت للولد يثبت لمواليه، وموالي الولد موالي الأم، فإن أعتق الأب بعد ذلك جر ولاء كلهم حتى يكونوا موالي لموالي الأب لأنه جرّ ولاء الولد فيجرّ ما يثبت للولد بطريق التبعية، لأنه بناء عليه.d
نوع آخر
إذا مات الرجل وترك مالاً ولا وارث له، فادعى رجل أنه وارثه بالولاء وشهد شاهدان أن الميت كان مولاه ووارثه، القاضي لا يقضي بشهادتهما حتى يفسر المولى لأن المولى اسم مشترك قد يجيء بمعنى الناصر قال الله تعالى: {وأن الكافرين لا مولى لهم} (محمد: 11) أي لا ناصر لهم، وقد يجيء بمعنى ابن العم قال الله تعالى: {وألحقت الموالي من ورائي} (مريم: 5) ، وقد يكون بالعتق، وقد يكون بالموالاة، فلا يثبت عند القاضي كون المدعي وارثاً.(4/609)
-----
وكذلك إذا شهد أن هذا مولاه مولى عتاقه، لأن اسم مولى العتاقة كما يتناول الأعلى يتناول الأسفل، والأسفل لا يرث من الأعلى إلا على مذهب الحسن بن زياد رحمه الله، وبعد الشاهدان اعتقدا مذهب الجر وشهدا لوارثه بناء على ذلك، فلا يثبت عند القاضي كونه معتقاً ووارثاه بهذه الشهادة وإن شهدا أن هذا الحي أعتق الميت وهو يملكه وأنه وارثه لا يعلمون له وارثاً غيره تقبل شهادتهما، وقضي بالميراث للمدعي لأنهما فسرا (ما) يثبت كون المدعي معتقاً ووارثاً، فقد شرط لقبول الشهادة أن يقولوا: أعتقه وهو يملكه، وإنه شرط لازم، لأن الإعتاق بدون الملك لا حكم له أصلاً، وشرط أن يقولوا وهو وارثه وإنه شرط لازم، لأن مولى العتاقة يصير محجوباً بعضه من جهة النسب.....، وشهادتهم أنه أعتقه لا يثبت عند القاضي كونه وارثاً.
وكذلك لو شهد أن الميت كان مقراً لهذا المدعي بالملك والمدعي أعتقه، لأنه لو ثبت إقرار الميت بالرق للمدعي عند القاضي وثبت إعتاق المدعي إياه عنده معاينة كان يقضي له بميراث الميت، فكذا إذا ثبت ذلك بالبينة.(4/610)
-----
ولو شهدا أن أب المدعي هذا أعتق أب الميت هذا وهو يملكه ثم مات المعتق وترك ابنه هذا، وهو المدعي ثم مات المعتق، وترك ابنه هذا الميت، وقد ولد من امرأة حرة قضى بالميراث للمدعي، لأن المعتق لو كان حياً ميراث ابن معتقه له، فإذا كان ميتاً كان ميراثه لأقرب العصبات إلى المعتق وهو ابنه المدعي هذا ويشترط في «الكتاب» أن يكون ابن المعتق من امرأة حرة لأنه لو كان من أمة، وقد أعتقه من مولى الأمة يكون ميراثاً لموالي الأمة، على ما مر قبل هذا، يشترط أن يكون من امرأة حرة ليكون ميراثه لموالي (356ب1) الأب ولو شهدا بهذا ولكن ولاء لم يدرك أب هذا المدعي المعتق ولكن قد علمنا ذلك فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة لأنهما شهدا على الولاء بالسامع، والشهادة على الولاء بالسامع لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله ولو مات رجل فادعا رجل ميراثه فأقام شاهدين شهدا أنه أعتق أم هذا الميت وأنها ولدته بعد ذلك بمدة من عبد فلان، وأن أباه مات عبداً وماتت أمه، ومات هو، ولا يعلم له وارث سوى معتق أمه هذا المدعي قبل القاضي شهادتهما وقضى له بالميراث، فإن جاء مولى الأب وأقام البنية أنه أعتق الأب قبل أن يموت هذا الولد وهو يملكه، وأنه وارثه لا يعلم له وارث غيره قضى القاضي بالميراث لمولى الأب لأن مولى الأب أثبت جر الولاء إليه بإعتاق الأب بعد إعتاق الأم وتبين أن القاضي أخطأ في القضاء بالميراث لوالي الأم.
(4/611)
-----
ولو مات رجل واختصم رجلان في ميراثه، وأقام كل واحد بينة أنه أعتق الميت، وهو يملكه وأنه وارثه لا وارث له غيره ولم توقت البينتان وقتاً قضى بالميراث بينهما لأنهما استويا في الدعوى والحجة ولم يتيقن القاضي بكذب إحدى البينتين لجواز أن كل واحد من الفريقين عاين سبباً مطلق به أو الشهادة وهو التصرف في العبد وإعتاق العبد بعد ذلك، والمشهود بهما يحتمل الاشتراك فيقضى بينهما نصفان كما في الأملاك، هذا إذا لم توقت البينتان فإن وقتا وقت إحداهما يسبق قضى لأسبقهما وقتاً اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت عياناً، ولوكان جاء أحد المدعيين أولاً وأقام البينة أنه أعتق الميت وهو يملكه وقضى القاضي ببينة ثم جاء المدعي الآخر وأقام البينة أنه أعتق الميت فالقاضي لا يقضي للثاني ولو جاءا معاً وادعيا وأقاما البينة على دعواهما قضى بالولاء بينهما، والفرق أنه إذا قضى بالعتق من أحدهما وبالولاء له، فلا ينفذ قضاؤه ظاهراً فلو قضى للثاني بعد ذلك يحتاج إلى فسخ العتق عن الأول في النصف، والعتق النافذ لا يحتمل الفسخ، وأما إذا جاءا معاً لا يحتاج إلى فسخ العتق في شيء لأنه لم يقض بالعتق بعد، وإنما يحتاج إلى القضاء بالعتق والولاء بينهما، وأنه متصور بأن يكون العبد بينهما أعتقاه.(4/612)
-----
وإذا ادعى رجل أن أباه كان أعتق هذا الميت وهو يملكه وأنه لا وارث لأبيه ولا لهذا الميت غيره وجاء بابني أخيه شهدا لا تقبل شهادتهما على ذلك، لأنهما يستفيدان بجديهما، لما بينا أن الولاء للمعتق على حاله وللرق له بطريق العصوبة على أن يخلفه فيه أقرب عصبة وشهادة النافلة للجد لا تقبل، وكذلك شهادة بني المعتق لا تقبل لأنهما يشهدان لأبيهما، وكذلك شهادة زوجة المعتق لا تقبل لأنها تشهد لزوجها، وإذا مات الرجل عن بنين وبنات فادعى رجل أن أباه أعتق هذا الميت وهو يملكه، وشهد ابنا الميت بذلك وادعى رجل آخر أن أباه أعتقه وهو يملك وأقرت ابنته بذلك فإنه يقضى بالولاء لصاحب الشهادة لأن في جانبه البينة وإنها حجة في حق الناس كافة وفي جانب الآخر إقرار الفرد والإقرار حجة في حق المقر دون غيره، وإن شهد للآخر ابن آخر للميت وابنان له قضى بالولاء بينهما نصفان لأن في جانب كل واحد منهما البينة.
ولو ادعى رجل من الموالي على رجل من العرب أنه مولى هذا العربي وأن أب هذا العربي أعتق أباه وجاء المدعي بأخويه لأبيه يشهدان بذلك والعربي ينكر، فإن شهادة الابنين لا تجوز لأنهما يشهدان لأبيهما ولأنفسهما لأن لهما في هذه الشهادة منفعة، فإنه متى ثبت ولاء أبيهم من العربي يثبت ولاؤهم من العربي أيضاً، وفي إثباتهم إلى العرب شرف لهم، فصارا شاهدين لأبيهما ولأنفسهما من هذا الوجه وإن شهد بذلك أجنبييان قبلت شهادتهما، لأنها شهادة أجنبي قامت على أجنبي، وللمشهود له في إثبات ما ادعاه فائدة لأن في الإثبات إلى العرب شرف بهم، ولو كان العربي يدعي الولاء في هذه الصورة والابن ينكر قبلت شهادة أخويه، لأن إنكار الابن كإنكار الأب لو كان حياً، ولو كان الآخر حياً وأنكر تقبل شهادة ابنيه بذلك؛ لأنهما يشهدان على أبيهما بالولاء للعربي ولا تهمة في هذه الشهادة فتقبل.
(4/613)
-----
وإذا مات رجل فأخذ رجل ماله وادعا أنه وارثه لا وارث له غيره، وأن لا آخذ المال من يده، ولا أضعه في بيت المال، وهذا لأن اليد للمدعي من حيث الظاهر إذا لم ينازعه أحد حين ما أخذ من الآخذ (.....) إلى نقضه واليد لا تنقض إلا بحجة ألا ترى لو كان الإمام أخذه أولاً ووضعه في بيت المال، ثم جاء غداً وادعى أنه وارثه لا يقضي له بالمال إلا بالبينة، لأن اليد لبيت المال من حيث الظاهر، وهذا المدعي يريد نقض يد بيت المال، فلا ينتقض إلا بحجة كذا هاهنا.(4/614)
-----
فإن جاء رجل آخر وادعى أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه لا وارث له غيره، وأقام على ذلك بينة وأقام الذي في يديه بينة لمثل ذلك قضى بالمال بينهما نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بالمال بينهما لأن أحدهما جاء ببينة في المال والآخر صاحب اليد، فإما أن يجعل هذا كبينة ذي اليد مع الخارج في الملك المطلق، فيقضي ببنية الخارج أو يجعل هذه كبينة ذي اليد مع الخارج في دعوى باقي الملك من الواحد فيقضي ببينة ذي اليد أما القضاء بينهما نصفان فلا وجه له، والجواب عن هذا أن يقال بأن كل واحد منهما ببينة يثبت الولاء لأنه هو المقصود في هذه الدعوى واستحقاق المال ينبني عليه، وهذا لأن الولاء حق مقصود يمكن إثباته بالبينة وإن لم يكن ثمة، قال: وإنما يثبتان الولاء على الميت وهما في إثبات ذلك على السواء، والولاء ليس شيئاً يرد على (من) عليه اليد لتغيير أحدهما خارجاً فيه، والآخر صاحب يد، بل هو كلاهما خارجاً فيه فيقضي به بينهما، ولئن سلمنا أن المال مقصود في هذه الدعوى إلا أنهما ادعيا تلقي الملك فيه، ومن جهة الواحد وهو الميت وهما في دعوى التلقي على السواء ولا رجحان لأحدهما على الآخر، بخلاف ما لو ادعى تلقي الملك من جهة واحدة بالشراء، وأحدهما صاحب اليد لأن هناك لصاحب اليد رحجاناً على الخارج، لأن يده تدل على سبق شرائه الذي هو السبب المتعين للملك أما هاهنا يد صاحب اليد لا تدل على إعتاقه فضلاً من سبقه وكان السبب هناك يتأكد بالقبض فذو اليد يثبت شراءاً متأكد بالقبض فكانت بينته أكثر إثباتاً، أما هاهنا السبب وهو الإعتاق ولا يتأكد ولا تأثير لليد على المال، في تأكيد الإعتاق فلم تكن بينة ذي اليد أكثر إثباتاً فلهذا قضي بينهما. (357أ1) وإذا مات رجل وترك مالاً ولا يُعلم له وارث، فادعى رجل من المسلمين أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه مات مسلماً وأنه وارثه لا وارث له غيره وأقام على ذلك شاهدين مسلمين، وادعى رجل من أهل الذمة أنه أعتق(4/615)
الميت وهو(4/616)
-----
يملكه، وأنه مات كافراً وأنه وارثه لا وارث له غيره، وأقام على ذلك شاهدين مسلمين، قضى القاضي بالولاء بينهما نصفين لأنهما استويا في الدعوى والحجة، فإن أقام كل واحد منهما من الشهود حجة على صاحبه فيجب القضاء بالولاء بينهما لكن نصف الميراث يكون للمسلم ونصفه يكون لأقرب الناس عصبة إلى الذمي، لأنا حكما بإسلامه ببينة المسلم، وهذا لأن بينه المسلم توجب إسلام الميت، وبينة الذمي توجب كفره، والعمل بهما متعذر فلا (بد) من العمل بإحداهما فكان العلم بما يوجب الإسلام أولى.
وإذا عملنا ببينة المسلم في إسلامه صار.... إسلامه وغائباً إعتاقهما، وهناك يقضى بالولاء بينهما، وإذا مات يكون نصف الميراث للمسلم، والنصف الآخر لأقرب الناس إلى الذمي عصبه لأن الإرث يجب بالنسب، ولكل واحد منهما نصف ولاية فيكون لكل واحد نصف ميراثه إلا أن الذمي لا يرث المسلم فيجعل كالميت فيكون نصيبه لأقرب الناس إليه عصبته.
وإن كان الشهود من الجانبين من أهل الذمة فإنه يقضي بولائه وميراثه للمسلم ويحكم بإسلامه لأن بينة الذمي ليس بحجة على المسلم، وبينة المسلم حجة على الذمي فكأن الذمي لم يقم البينة.
فإن قبل ينبغي أن لا يقضي ببينة المسلم أيضاً، لأن بينته من أهل الذمة، وقد قامت على المسلم وهو الميت باستحقاق الميراث وشهادة أهل الذمة على المسلم ليس بحجة. قلنا: الاستحقاق بشهادة المسلم يقع على الذمي المدعي لا على المسلم الميت، وذلك لأن الميت بالموت استغنى عن ماله وصار ماله بحيث يستحقه الذمي ببينته لولا بينة المسلم فيجعل المسلم، بهذه البينة مستحقاً على الذمي المدعي لا على المسلم الميت.(4/617)
-----
وإذا اختصم مسلم وذمي في ولاء رجل قد ادعى كل واحد منهما أنه أعتقه وهو يملكه وأيضاً تاريخ إحداهما أسبق، وأقاما على ذلك شهوداً من المسلمين، قضى لأسبقهما تاريخاً، لأنه أثبت عتقه في وقت لا منازع له فيه فلا بد من القضاء بالملك له، وبالعتق منه، في ذلك الوقت ولا يتصور ملك الآخر وعتقه بعد ذلك.
وإن كان شهود الذمي من أهل الذمة، والعبد المعتق كافر قضى ببينة المسلم وإن كان الذمي أسبقهما تاريخاً؛ لأن بينة الذمي ليست بحجة على المسلم فكأن الذمي لم يقم البينة أصلاً.
عبد في يد رجل من أهل الذمة أعتقه هذا الذمي فادعاه مسلم أنه عبده وأقام على ذلك بينة من المسلمين، أو أقام الذمي بينة من المسلمين أنه أعتقه وهو يملكه قضيت ببينة الذمي، لأن دعوى العتق بمعنى دعوى النتاج، لأن العتق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه كالنتاج، وذو اليد متى ادعى النتاج، والخارج يدعي الملك المطلق يقضي ببينة ذي اليد، كذا هاهنا.
ولو كان شهود الذمي قوماً من أهل الذمة وشهود المسلم اثنين مسلمين قضيت بكونه عبداً للمسلم وأبطلت العتق؛ لأن بينة الذمي ليست بحجة على المسلم فكأن الذمي لم يقم البينة أصلاً، وإن كان شهود المسلم من أهل الذمة والعبد مسلم، وشهود الذمي من أهل الذمة أيضاً فإنه يقضي بعتق العبد من جهة الذمي ولا يقضي بكونه عبداً للمسلم، لأن شهادة المسلم قامت على إثبات الملك والرق على العبد المسلم. وشهادة الذمي قامت على إثبات العتق للعبد المسلم فالعتق مما ينتفع به المسلم، والرق يتضرر به.
وشهادة أهل الذمة مقبولة فيما ينتفع به المسلم إنما لا يقبل فيما يتضرر به المسلم والله أعلم.
نوع آخر في وقف الولاء(4/618)
-----
رجل اشترى عبداً من رجل ثم إن المشتري شهد أن البائع كان أعتقه قبل أن يبيعه، فالعبد حر وولاؤه موقوف إذا كان البائع يجحد ذلك؛ لأن المشتري يقر بالولاء لبائعه وبائعه تبرأ منه، فإن صدق البائع المشتري بعد ذلك لزمه الولاء ورد الثمن على المشتري، وهذا ظاهر. وكذلك إن صدق المشتري ورثة البائع بعد موت البائع، فهذا وما لو صدق البائع المشتري ورثه البائع في حياته سواء. وهذا استحسان، والقياس أن لا يعتبر تصديقهم في الإقرار بالولاء، لأنهم يلزمون الميت ولاء ليس لهم من الولاية، وفي حق رد الثمن يعتبر تصديقهم لأن رد الثمن يجب من التركة، والتركة حقهم. ولكن استحسن واعتبر تصديقهم في جميع ذلك لأنهم قائمون مقام الموروث فكان تصديقهم كتصديق المورث.
وإن أقر المشتري أن البائع قد كان دبره فهو موقوف، فإن مات البائع بعد ذلك عتق العبد؛ لأن المشتري مالكه ظاهراً أو قد أقر أن عتقه معلق بموت البائع ويكون ولاؤه موقوفاً، فإن صدق ورثة البائع المشتري، يعتبر تصديقهم في حق لزوم الولاء للبائع، وفي حق رد الثمن استحساناً على نحو ما بينا في العتق.
عبد بين رجلين شهد كل واحد منهما على صاحبه بالعتق، فالعبد يخرج إلى الحرية بالسعادية ويسعى لها موسرين كانا أو معسرين، أو كان أحدهما معسراً والآخر موسراً أو يكون الولاء بينهما لأن العبد عتق عليهما فيكون الولاء بينهما، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما العبد حر وولاؤه موقوف بينهما؛ لأن كل واحد منهما يعد أن العبد كله عتق على صاحبه، وجميع الولاء له، وصاحبه ينكر.(4/619)
-----
أمة بين رجلين شهد كل واحد منهما أنها ولدت من صاحبه، وصاحبه ينكر فإن الجارية تكون أم ولد له موقوفة لأنهما تصادقا على كونها أم ولد، فإن في زعم كل واحد منهما أن نصيبه من الجارية صار لصاحبه وصارت أم ولد له وهذا أقر عليه، وزعم كل إثبات فيما عليه معتبر وتكون موقوفة لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه، وصاحبه يتبرأ عنها فتكون موقوفة إلى أن يموت أحدهما، فإذا مات أحدهما عتقت ويكون ولاؤها موقوفاً بلا خلاف.
وإذا كانت أمة لرجل معروفة أنها له فولدت عند غيره ولداً فقال رب الأمة للمستولد: بعتكها بألف درهم، وقال المستولد: لا بل زوجتنيها بمائة فإن الجارية تصير أم ولد موقوفة لأن المولى يقول: بعتها من المستولد والمستولد استولد ملك نفسه فيثبت لها حق العتق والمستولد يقول: ما اشتريتها وهي ملك المولى وقد أقر لها المولى بحق الحرية ونفذ إقراره فقد تصادقا على ثبوت حق الحرية لها فصارت بمنزلة أم الولد وتكون موقوفة لا يستخدمها أحد ولا يطؤها ولا يبيعها (357ب1) لأن أب الولد تبرأ عنها بإنكارها الشراء، والمولى تبرأ عنها بادعائه البيع على المستولد، والولد حر لأنهما اتفقا على حريته، فإن مات المستولد عتقت الجارية، لأن مولاها قد أقر بعتقها عند موت المستولد، والمستولد إن كان مقراً تبعاً وإقراره فقد تصادقا على عتقها عند موت المستولد وولاؤها موقوف لأب كل واحد منهما يبيعه عن نفسه ويأخذ البائع العقر من أب الولد قصاصاً بالثمن؛ لأنهما تصادقا على وجوب هذا المقدار.
(4/620)
-----
وإذا أقر الرجل أن أباه أعتق عبده في مرضه أو صحته ولا وارث له غيره فولاؤه موقوف في القياس ولا يصدق على الأب؛ لأن الولاء بمنزلة النسب، ثم النسب لا يثبت من الميت بإقرار أحد الورثة، فكذا الولاء، في الاستحسان الولاء يكون للابن فلا يكون موقوفاً لأنه لا يخلو، إما أن كان الابن صادقاً فيما قال، أو كان كاذباً، إن كان صادقاً كان الولاء له لأن ما كان له ابن تصير له بعد موت الأب، وإن كان كاذباً يعتبر هذا إنشاء عتق في حق العبد ويكون ولاؤه له فكيف مادله من.... يكون ولاؤه له، حتى لو مات العبد فإن الابن يرثه.
ولم يذكر محمد رحمه الله في كتاب الولاء أن عاقلة الأب هل تعقل عنه ومشايخنا رحمهم الله فصار الجواب فيه تفصيلاً فقالوا: إن كان عصبة الابن وعصبة الأب واحداً بأن أعتقها رجل واحد وقوفهما من حي واحد كان عقله على عاقلة ابنه لأنه يملك إلزام العقل عليهم بإنشاء العتق، فإنه لو أعتق عبداً كان عقل معتقه عليهم فيملك ذلك بالإقرار أيضاً، فأما إذا كان عصبة الابن غير عصبة الأب بأن أعتق الأب رجل وأعتق الابن رجل آخر لا يكون عقله على عاقلة الأب لأنه لا يملك إلزام الولاء عليهم بإنشاء العتق فلا يملك بالإقرار أيضاً فيكون العقل موقوفاً، فصار الجواب في حق العقل على التفصيل في الميراث لا يفصل بل الميراث للابن على كل حال هذا إذا لم يكن مع الابن مقر وارث آخر.(4/621)