-----
وأما على قول من يقول بأن شرط صحة النذر كون المنذور به عبادة، وأن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب؛ فلأن للاعتكاف شبهاً بالصلاة من حيث إنه لبث وقرار في مكان الصلاة لانتظار الصلاة، والمنتظر للصلاة كأنه في الصلاة إيجاب، أو يقول: النذر بالاعتكاف نذر بالصوم؛ لأن الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، والتزام الشيء التزام لشرائطه، ولله تعالى من جنس الصوم إيجاب.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً، فهذه المسألة على وجهين:
إن نوى شهراً، فهو كما نوى.
وإن لم ينوِ شهراً بعينه، فله أن يعتكف أي شهر شاء، ولا يتعين الشهر الذي يليه، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، ولم ينوِ شهراً بعينه كان له أن يصوم في أي شهر شاء، وإن بين مسألة الاعتكاف، وبين مسألة الصوم فرقان.
مسألة الاعتكاف إذا عين شهراً، وشرع في الاعتكاف يجب التتابع نص على التتابع أو لم ينص، وفي مسألة الصوم لا يجب التتابع إلا إذا نص على التتابع، وإن قال: نويت أن أعتكف بالنهار دون الليل لم تصح نيته لا قضاء، ولا فيما بينه وبين الله.
إذا أصبح الرجل صائماً متطوعاً، ثم قال في بعض النهار: لله تعالى عليّ أن أعتكف هذا اليوم، فلا اعتكاف عليه في قياس قول أبي حنيفة؛ لأن الاعتكاف الواجب لا يصح إلا بالصوم، فلو وجب الاعتكاف وجب الصوم، والصوم في أول اليوم انعقد تطوعاً، فلا يمكن جعله واجباً بعد ذلك،(2/677)
-----
وقال أبو يوسف: إن قال ذلك بعد الزوال، فلا اعتكاف، وإن كان قبل الزوال، فعليه الاعتكاف، وكذلك قال أبو يوسف في رجل أصبح مفطراً، ثم قال: لله عليّ أن أعتكف هذا اليوم وكان ذلك قبل انتصاف النهار فإنه يلزمه ويعتكفه بصومه وإن لم يفعل، فعليه القضاء، ولو نذر اعتكاف ليلة لا يلزمه شيء، وإن نوى اليوم معها لم تصح نيته، وعن أبي يوسف أنه يلزمه، ويصير تقدير المسألة كأنه قال: لله عليّ أن أعتكف ليلة بيومها، ولو نذر اعتكاف يومين أو ليلتين أو أكثر من ذلك صح نذره، ودخل فيه الأيام والليالي.
يجب أن يعلم أن ذكر الأيام يستتبع ما بإزائها من الليالي، (166أ1).
وكذا ذكر الليالي يستتبع ما بإزائها من الأيام باتفاق الروايات، وكذا ذكر اليومين والليلتين يستتبع ما بإزائهما من الليلتين واليومين في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه لا يستتبع ما بإزائهما، على هذه الرواية نفي النذر باعتكاف يومين وباعتكاف ليلتين، والنذر باعتكاف اليومين صحيح، وتدخل الليلة المتوسطة تحت النذر، والنذر باعتكاف الليلتين غير صحيح، فلا يلزمه شيء، ولو نذر باعتكاف ثلاثين يوماً وقال: عنيت به النهار خاصة، فهو كما نوى وإن يفرقه، ولو قال: أردت بالليل خاصة لم يصدق، وإن قال: ثلاثين ليلة، ونوى بالليل خاصة لم يلزمه شيء.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً بغير صوم، فعليه أن يعتكف شهراً، ويصوم فيه،
إذا أوجب الاعتكاف في وقت معين، ولم يعتكف قضى؛ لأن الاعتكاف قد لزمه في ذلك الوقت، فلا يخرج عن العهدة إلا بالأداء في الوقت أو بالقضاء خارج وقت كما في الصوم.(2/678)
-----
إذا نذر اعتكاف يوم دخل المسجد قبل طلوع الفجر، وأقام فيه إلى أن تغرب الشمس، ولو نذر اعتكاف يومين دخل المسجد قبل غروب الشمس، وأقام الليلة ويومها وليلته الأخرى ويومها، وعن أبي يوسف: أنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر، وهذا بناءً على ما روينا عن أبي يوسف أن من نذر الاعتكاف يومين تدخل فيه الليلة المتوسطة، ولا تدخل الليلة الأولى، وحكى أبو يوسف برواية بشر عن أبي حنيفة مثل قوله، ولو أوجب الاعتكاف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس؛ لأن الشهر اسم له من الهلال إلى الهلال والبداية بالليل.
إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رمضان صح نذره كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً أو ما أشبهه.
فإن قيل: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى وقت يقع صومه بجهة الاعتكاف، فكان المنذور به اعتكافاً بصومه هذا معنى ههنا معدوم.
قلنا: إذا نذر اعتكاف رجب إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى محل يقبل الصوم؛ لأنها محل تقبل الصوم بجهة الاعتكاف؛ لأن من شرط صحة الاعتكاف ذات الصوم لا الصوم بجهة الاعتكاف. قال عليه السلام: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ولم يقل لا اعتكاف إلا بالصوم بجهة الاعتكاف، فلو أنه صام رمضان، ولم يعتكف كان عليه أن يقضي اعتكافه يعتكف شهراً آخر مكانه متتابعاً، ويصوم فيه،
وعن أبي يوسف برواية بشر: أنه يبطل نذره، ولا يلزمه القضاء، وإن لم يعتكف حتى دخل رمضان آخر، فصامه واعتكف قضاء عن الاعتكاف في شهر الأول لا يجوز؛ لأن تفويت رمضان.
كما وجب الاعتكاف ديناً في الذمة وجب الصوم لأجل الاعتكاف ديناً، وكل صوم وجب ديناً في الذمة لا يتأدى بصوم رمضان، فلو أفطر في رمضان الأول من عذر، ووجب عليه قضاؤه باعتكاف متتابع؛ لأن الأول إذا كان واجباً عليه بهذه الصفة؛ فإن قضى صوم رمضان، واعتكف فيه متتابعاً أجزأه كما لو صام رمضان واعتكف فيه؛ لأن القضاء يقوم مقام الأداء.(2/679)
-----
إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، ولم يعتكف حتى مات يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة؛ لأنه لزمه صوم بهذا النذر، وقد عجز عن الأداء بالموت، فينقل إلى الفداء، وإن كان مريضاً وقت الإيجاب، فلم يبرأ حتى مات، فلا شيء عليه اعتباراً لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وإن كان صحيحاً حين أوجب، وعاش عشرة أيام أطعم عنه لجميع الشهر.
قيل: هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد: يطعم عنه بقدر ما كان صحيحاً، والله أعلم بالصواب.
الفصل الثالث عشر في صدقة الفطر
اختلفت الروايات في صفة صدقة الفطر ذكر في «الأصل»: وتجب صدقة الفطر عن نفسه وعبيده،
وذكر في «المجرد»: عن أبي حنيفة: أن صدقة الفطر سنة لا ينبغي تركها، والمذهب أنها واجبة؛ لأنه ورد الأثر بها، قال عليه السلام: «أدوا عمن تمونون»، وقال عليه السلام: «أدوا عن كل حر وعبد» والأمر للوجوب، ومعنى قول أبي حنيفة في «المجرد» أنها سنة: أن وجوبها ثابت بالسنة،
ووقت وجوبها من حين يطلع الفجر الثاني من يوم الفطر حتى إن مات قبل ذلك، فلا وجوب،
ومن ولد أو أسلم قبله وجب، وأفضل لو قال: الأداء قبل خروجه إلى الصلاة.
ومن حكمها أنها لا تسقط بالتأخير، وإن طالت المدة، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» وأن يجوز تعجيلها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين في رواية الكرخي، وعن أبي حنيفة لسنة أو سنتين، وعند بعض المشايخ يجوز التعجيل في شهر رمضان، ولا يجوز قبله، وذكر الصدر الشهيد في شرح كتاب الصوم أن ذكر اليوم والسنة في رواية الكرخي، ورواية أبي حنيفة وقع اتفاقاً، لا لتقييد الجواز به.(2/680)
-----
ولا تجب هذه الصدقة إلا على حر مسلم غني، والغني أن يملك نصاباً أو ما قيمته نصاب فاضلاً عن مسكنه وأثاثه وثيابه على نحو ما يعتبر في حرمة الصدقة، وما تأدى به هذه الصدقة في المشهور من الأخبار ثلاثة أشياء الحنطة والشعير والتمر، ومقدارها من الحنطة نصف صاع، ومن الشعير والتمر صاع، وأما الزبيب فهو مروي في بعض الأخبار، ومقداره نصف صاع عند أبي حنيفة على رواية «الجامع الصغير»، وروى الحسن عنه أنه صاع والزبيب جوازه باعتبار..... العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة ودقيق الشعير وسويقة كالشعير عندنا، والجواز باعتبار العين؛ لأن الدقيق منصوص عليه في بعض الروايات، والخبر يجوز باعتبار العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، وهو أصح، وفي سائر الحبوب الجواز باعتبار القيمة، وإذا أراد أن يعطي قيمة الحنطة أو الشعير أو التمر يؤدي قيمة (166ب1) أي ثلث شاء عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي قيمة الحنطة.
ذكره الصدر الشهيد في شرح الصوم، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: أداء الحنطة أفضل، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: أداء القيمة في ديارنا أفضل، وعن أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه قال: الدقيق أحب إليّ من الحنطة، والدراهم أحب إليّ من الدقيق،
ويؤدي نصف صاع تمر، أو شعير، ومد حنطة لا يجوز، وجوزه في الكفارة، ولو أدى نصف صاع تمر تساوي نصف صاع حنطة لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما منصوص عليه، والمقصود من الكل واحد، ولو أدى الحنطة رديئة جاز، وإن كان عفناً، أو به عيب أدى لنقصان، وقد اعتبر الحسن في رواية قيمة الوسط في الجواز، وأما إذا كان قيمته دون قيمة الوسط لا يجوز.(2/681)
-----
فقد ذكر في كتاب الزكاة لو أخرج قيمة نصف صاع حنطة لم يجز إلا إن أخرج قدر نصف صاع وسط، فإن كان ما أخرج لا يساوي نصف الصاع حنطة وسط، ولكن يساوي قيمة صاع من شعير وسط، أو صاع تمر وسط، ففي هذه الصورة نوع اضطراب ذكر في بعض نسخ الحسن أنه يجوز، وذكر في بعض نسخه أنه لا يجوز، قال البلخي في «كتابه» في حياته: والصحيح عندي جوازه.
وفي «المنتقى»: إذا أعطى قيمة نصف صاع رديئة لم يجزه، وعليه أن يعطي قيمة نصف صاع حنطة وسط، وإن أعطى قيمة صاع دقيق أو سويق جيد، وذلك لا يساوي نصف صاع حنطة وسط لا يجزئه، وكان عليه تمام قيمة نصف صاع حنطة وسط، والصاع الذي تقدر الحنطة بنصفه والشعير والتمر بكله، قال الطحاوي: ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه قبل معناه إن سوى بالعديس والماش، وإن أعطى بالوزن سويق من الحنطة عند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز، وقال محمد: لا يجوز إلا كيلاً.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: ويجب على الرجل الحر المسلم الغني أن يؤدي صدقة الفطر عن نفسه، ورقيقه كفاراً كانوا أو مسلمين إذا لم يكونوا للتجارة، وكذا عن مدبريه وأمهات أولاده ولا يخرج عن مكاتبه، ولا عن رقيق مكاتبه، ولا يجب على المكاتب أيضاً، والمعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب، وعندهما بمنزلة حر عليه دين، فإن كان الفاضل عن دين السلعة ما يساوي مائتي درهم سوى ما يحتاج إليه في الحال تجب عليه صدقة الفطر.(2/682)
-----
ويخرج عن عبده الذي في يدي غيره بإجارة أو عارية أو وديعة وكالعبد المرهون، ففي ظاهر الرواية تجب صدقة الفطر على الراهن إذا كان عبده وفى له بالدين وفضل مائتي درهم، وإن كان فضل مائتي درهم في المرهون فهما سواء، ولا يخرج عن الآبق والمغصوب المجحود، ويخرج صدقة الفطر عن عبده المأذون المديون، وأما مماليك هذا العبد فإن كانوا للتجارة، فلا يخرج عنهم سواء كان على المأذون دين أو لم يكن، وأما إذا كان اشتراهم المأذون للخدمة بإذن المولى، فإن لم يكن على المأذون دين يجب على المولى صدقة فطرهم، وإن كان على المأذون دين لا يجب على المولى صدقة فطرهم عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وإذا كان العبد بين رجلين فلا صدقة على واحد منها عندنا، وهذا بناءً على أن عندنا الوجوب على المولى بسبب الملك، والملك لم يكتمل، وإذا كان عدد من العبيد بين رجلين، فلا صدقة على واحد منهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: تجب على كل واحد منهما ما يحصه بالقسمة من العدد، لو قسم بناءً على أنه عند أبي حنيفة الرقيق لا يقسم قسمة واحدة، فلم يملك كل واحد منهما ملكاً تاماً، ومحمد رحمه الله يرى قسمة الرقيق، وكذلك أبو يوسف؛ لأن أبا يوسف رحمه الله لم يوجب ههنا لعدم الولاية،
وإذا كانت الجارية مشتركة بين رجلين، فجاءت بولد، فادعياه، فلا صدقة على واحد منهما في الأم، فأما الولد، فقال أبو يوسف: على كل واحد منهما صدقة تامة، وقال محمد: عليهما صدقة واحدة، وإن كان أحدهما فقيراً والآخر موسراً، أو كان أحدهما ميتاً، فعلى الآخر صدقة تامة عندهما.(2/683)
-----
ولا يجب على الرجل صدقة الفطر عن أولاده الكبار سواء كان لهم مال، أو لم يكن، وسواء كانوا أصحاء أو زمنين في ظاهر رواية أصحابنا، وأما الأولاد الصغار، فإن كان لهم مال، فإنه يؤدي من مالهم صدقة فطرهم وصدقة فطر مماليكهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد رحمه الله، وكذلك الوصي على هذا الخلاف،
وإن لم يكن للصغير مال، فإنه يجب على الأب صدقته دون صدقة فطر مماليكه،
وفي «البقالي»: والقاضي كالولي في الأداء من مال الصغير، والمعتوه والمجنون بمنزلة الصغير، سواء كان الجنون أصلياً بأن بلغ مجنوناً، أو كان الجنون عارضاً، هو الظاهر من المذهب، ولا يخرج عن سائر قرابته، وإن كانوا في عياله، وكذا لا يخرج عن نوافله في ظاهر الرواية، وكذا لا يخرج أحد الزوجين عن صاحبه.
ويجوز أن يعطي ما يجب عن جماعة مسكيناً واحداً، وإن أعطى ما يجب عن واحد مسكينين يجوز عند الكرخي، ولا يجوز عند غيره.
عن أبي يوسف: يعطي الرجل صدقة الفطر عن نفسه، ويكتب إلى أهله، فيعطون حيث هم، وإن أعطى عن نفسه، وعنهم حيث هو، أو كتب إليهم حتى يعطوا عن أنفسهم وعنه يجوز.
وعنه أيضاً: لو أعطى صدقة الفطر عن زوجته وأولاده الكبار الذين هم في عياله أجزأه وإن لم يأمروه بذلك، ولا يجوز أن يعطي عن غير عياله إلا بأمره، ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو، وفي زكاة المال، وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع، وقال: يؤدي عن العبد حيث العبد،
وروي عن أبي يوسف: أن العبد إذا كان حياً يعتبر مكان العبد، وإن كان ميتاً يعتبر مكان المولى،
فلا تجب هذه الصدقة عن الحمل، وتجب عن عبد الجناية عمداً أو خطأً، وأما عبد الموصى برقبته لرجل وبخدمته لآخر صدقة فطره على مالك (167أ1) الرقبة،(2/684)
-----
وإذا اشترى عبداً شراءً صحيحاً، ومر يوم الفطر قبل قبضه لزمه صدقة الفطر إن قبضه وقيل: هو قولهما، وإن مات قبل القبض، فلا صدقة، وإن رده قبل القبض، فعلى البائع، وإن كان بعده، فعلى المشتري، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر في المتفرقات
إذا كان عليه قضاء يوم الخميس مثلاً، وظن أنه يوم الجمعة، فصامه ينوي قضاء الجمعة لم يجز،
ولو نوى قضاء اليوم الذي عليه غير أنه ظن أنه يوم الجمعة أجزأه في «الجامع» للكرخي.
ابن سماعة عن محمد: صائم جن وشرب في حال جنونه، فعليه القضاء.
إذا نذر صوم رجب، فدخل رجب، وهو مريض لا يستطيع الصوم ولا.... أفطر وقضى، لو مات الناذر قبل دخول الوقت فلا قضاء عليه، وكذلك إن أدرك الوقت، وهو مريض، ثم مات قبل أن يبرأ، فإن برأ فعليه القضاء.
الحسن عن أبي حنيفة في المجنون إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً فلم يزل مجنوناً، ثم مضى رجب ثم أفاق، فعليه قضاؤه هذه المسألة بناءً على أن النذر المضاف إلى وقت معين بسبب المحال، والمسألة معروفة.
بشر عن أبي يوسف: أصبح يوم النحر ينوي الصوم، ثم أفطر فعليه قضاؤه، وروى الحسن في اختلاف مثله، وهذه المسألة على روايتين في رواية جعل الشروع بمنزلة النذر، والجواب في النذر كما ذكرنا، وفي رواية فرق بين الشروع وبين النذر.
لا بأس للمعتكف أن يبيع ويشتري في المسجد، وعن أبي يوسف أنه قال: هذا إذا لم يحضر السلعة في المسجد، فأما إذا أحضر، فهو مكروه.
وقيل: إذا كان يبيع ويشتري للتجارة، فهو مكروه، وللمعتكف أن يلبس ما شاء، ويأكل ويدهن، ويعصب بما شاء.(2/685)
-----
في «الأصل»: وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن الزوج، وكذلك ليس للعبد والأمة أن يعتكف بغير إذن المولى، وإن نذرت المرأة بالاعتكاف، فللزوج أن يمنعها عن ذلك، وكذلك العبد والأمة إذا نذر بالاعتكاف، فللمولى أن يمنعه عن ذلك، وإن أذن الزوج للمرأة بالاعتكاف، ثم أراد أن يمنعها ليس له ذلك، وإن أذن المولى للمملوك بالاعتكاف، فله أن يمنعه لكن يكره له المنع،
ولا تصوم المرأة تطوعاً بغير إذن زوجها، فإن كان صيامها لا يضر به بأن كان صائماً أو مريضاً، فلها أن تصوم وليس له منعها، وهذا بخلاف العبد والأمة، فإنه ليس لهما أن يتطوعا بغير إذن المولى، وإن لم يضر ذلك بالمولى، وللزوج والمولى أن ينقضه إذا كان الشروع بغير رضا، وتقضي المرأة إذا أذن لها زوجها أو بانت منه، ويقضي العبد إذا أذن له المولى أو عتق، والأجير الذي استأجره للخدمة لا يصوم تطوعاً إلا بإذن المستأجر إذا كان الصوم يضر به في الخدمة، وإن كان لا يضر، فله أن يصوم بغير إذنه.
إذا أفطر المريض والمسافر في رمضان لا تسقط عنه صدقة الفطر.
في «فتاوى أبي الليث»: إذا قال لعبده الذي هو للخدمة: إذا جاء يوم الفطر فأنت حر، فجاء يوم الفطر عتق، وعلى المولى صدقة الفطر لوجود السبب، وهو رأس يمونه وقت الوجوب، وهو وقت طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر؛ لأن العتق ثبت بعده في هذا الموضع.
أيضاً: زوج ابنته الصغيرة من رجل وسلمها إليه، ثم جاء يوم الفطر لا يجب على الأب صدقة الفطر. في فتاوى «خوارزم».
وفي «البقالي»: إذا تزوج امرأة على عبد في يوم الفطر، والعبد في يد الزوج بعد، فلا صدقة، وأيضاً: إذا أجاز المالك البيع الموقوف بعد الفطر، فعليه الصدقة.
وفي «القدوري»: من افتقر بعد يوم الفطر لم تسقط عنه الصدقة، والله أعلم بالصواب.(2/686)
كتاب المناسك
هذا الكتاب يشتمل على عشرين فصلاً.
1 * في بيان شرائط الوجوب.
-----
2 * في بيان ركن الحج، وكيفية وجوبه.
3 * في تعليم أعمال الحج.
4 * في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها بغير إحرام.
5 * فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه، وما لا يحرم وهو أنواع:
منها في الصيود والدلالة على الصيد، ومنها في المحرم يضطر إلى الصيد، ومنها في المحرم شاركة غيره في فعل المفسد، ومنها لبس المخيط، ومنها في الجماع، ومنها في حلق الشعر والأظفار، ومنها في الدهن والطيب والخضاب.
6 * في صيد الحرم وشجره وحشيشه، وحكم أهل مكة.
7 * في بيان وقت الحج والعمرة.
8 * في الطواف والسعي.
9 * في القارن.
10 * في التمتع.
11 * في الإحصار.
12 * في معرفة فائت الحج، وبيان أحكامه.
13 * في الجمع بين إحرامين.
14 * في الحلق والتقصير.
15 * في الرجل يحج عن آخر.
16 * في الوصية بالحج.
17 * في إحرام المرأة والمماليك.
18 * في التزام الحج والتزام الهدي والبدن، وما يتصل بذلك.
19 * في الخطأ في الوقوف بعرفة، والشهادة فيه.
20 * في المتفرقات.(2/687)
الفصل الأول: في بيان شرائط الوجوب
شرائط وجوب الحج: العقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وتكلموا في تفسير الاستطاعة.
قال أبو حنيفة رحمه الله في «ظاهر الرواية»: تفسيرها ملائمة البدن وملك الزاد والراحلة، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
-----
وقال أبو يوسف ومحمد في «ظاهر الرواية»: تفسيرها ملك الزاد والراحلة لا غير، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، حتى إن في «ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله: لا يجب الحج على الزّمِن، والمفلوج، والمقطوع الرجلين، وإن ملكوا الزاد والراحلة وهو رواية عنهما، وفي ظاهر روايتهما يجب الحج على هؤلاء، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة إذا كان ملكه من الزاد والراحلة قدر ما يحج به، ويحج معه من يرفعه ويقوده إلى المناسك وإلى حاجته، وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا ملك هؤلاء الزاد والراحلة، ففي ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجب عليهم الإحجاج بمالهم؛ لأن الإحجاج بالمال بدل عن الحج بالبدن ولم يجب (167ب1) عليهم الحج بالبدن لمكان العجز فكيف يجب عليهم البدل؟ وفي ظاهر روايتهما يجب؛ لأنه لزمهم الأصل وهو الحج بالبدن في الذمة، وقد عجزوا عنه فيلزمهم البدل.
ولو ملك الزاد والراحلة وهو صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمناً أو مفلوجاً، لزمه الإحجاج بالمال بلا خلاف؛ لأن الحج قد لزمه في الذمة بلا خلاف لوجود الشرط، وهو الاستطاعة، وقد وقع العجز عن الأداء بنفسه فيلزمه البدل.
وأما الأعمى إذا وجد الزاد والراحلة ولم يجد قائداً يقوده، أجمعوا على أنه لا يلزمه الأداء بنفسه.
وهل يلزمه الإحجاج بالمال؟ فهو على الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي «المنتقى»: عن أبي عاصم قال: سمعت أبا عصمة الكبير قال: سمعت إبراهيم بن رستم وأبا سليمان في المرأة والأعمى لهما مال ليس لهما من يخرجهما إلى الحج قال أحدهما عن محمد: الحج واجب عليهما ويستأجر الأعمى من يخرجه ويقود المرأة المحرم حتى يخرجها، وقال الآخر: ليس عليها حج، وإذا وجد الأعمى قائداً يقوده إلى الحج ووجد مؤنة القائد فعلى قول أبي حنيفة في المشهور لا يلزمه على قياس الجمعة،(2/688)
-----
وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنه يلزم الحج عنده، فأما على قولهما فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن على قياس قولهما في الجمعة يلزمه، وهكذا ذكره ابن سماعة في «نوادره» عن محمد، قال محمد في رواية ابن سماعة: ولا يشبه الأعمى عندي المقعد والذي يفسده الريح حتى لا يستطيع القيام؛ لأن الأعمى هو الذي يقوم ويقعد ويمشي، وإنما هو بمنزلة رجل لا: يعرف الطريق، فيحتاج إلى مرشد يدله عليه.
قال: والحاصل من قول محمد في حق أهل الآفات إنَّ كل من كان من أهل آفة يعمل مع ذلك الآفة إلا أنه يحتاج إلى معونة لو وجد تلك المعونة، فعليه الجمعة والجماعة والحج، وكل من كان من أهل آفة لا يقدر أن يجد تلك ويقوم ويمشي وإن أُعِين على ذلك حتى يحمل ويوضع، فليس عليه جمعة ولا جماعة ولا حج.
وذكر القدوري في «شرحه»: أن في وجوب الحج عليهما في هذه الصورة روايتان: فعلى إحدى الروايتين يحتاجان إلى الفرق بين الجمعة والحج، والفرق: أن القدرة على أداء الحج بالغير نادر، فلم يعتبر، والقدرة على أداء الجمعة بالغير ليس بنادر، فجاز أن يعتبر.
وإن كان صحيح البدن إلا أنه لا يملك الزاد والراحلة لكن بذل له غيره الزاد والراحلة في طريق الحج، ومعناه أنه أباح له ذلك غيره لا تثبت الاستطاعة به عندنا، وكان الكرخي يقول: إنما تشترط الراحلة في حق من بَعُد عن مكة، فأما أهل مكة ومن حولها لا تشترط الراحلة في حقهم، ثم المراد من الاستطاعة بملك الزاد والراحلة أن يكون عنده مال فاضل عن حوائجه الأصلية قدر ما يشتري أو يكري به شقّ محمل أو راحلة، وقدر نفقته ونفقة عياله مدة ذهابه ومجيئه من غير سرف ولا تقتير، وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني يقول: وأن يكون عنده قدر نفقة يوم بعدما رجع إلى وطنه؛ لأنه بعدما رجع إلى وطنه لا يمكنه أن يشتغل بالكسب لنفقة يومه، وعن أبي يوسف أنه شرط نفقة شهر بعد رجوعه.(2/689)
-----
وفي «الأصل»: إذا كان له دار يسكنها، وعبد يستخدمه وثياب يلبسها، ومتاع يحتاج إليه، لا تثبت به الاستطاعة، وذكر القدوري في «شرحه»: إذا كان له دار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه، فعليه أن يبيعه ويحج به، وكل ذلك يشير إلى اعتبار الفراغ عن الحاجة الأصلية.
وفي «القدوري» أيضاً: إذا كان له منزل يسكنه، ويمكنه أن يبيع ويشتري بثمنه منزلاً دون منه، ويحج بالفضل لم يلزمه ذلك، لأنه محتاج إلى منزله للسكنى، ولا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه، ألا ترى أنه لا يلزمه بيع المنزل والاقتصار على السكنى؟
وفي «المنتقى» بشر بن الوليد عن أبي يوسف في «الأمالي» إذ كان له مسكن وخادم، وكفاف من ملبس ومتاع لنفسه وعياله فوق شهر أو سنة، وأي ذلك باع كان فيه جهاز للحج، فليس عليه حج إلا أن يكون في شيء من ذلك فضل على الكفاف ويبلغه إلى الحج، ولو لم يكن له مسكن ولا شيء من ذلك، وعنده دراهم تبلغه الحج، وتبلغه من مسكن وخادم وطعام وقوت كان عليه أن يحج، وإن جعلها في غير الحج أثم، فإن كان ذلك قبل شهر الحج وقبل أن يخرج أهل بلده إلى الحج، فهو في سعة من صرفها إلى أي الأصناف التي سمّينا إن شاء.
قالوا في كتب الفقه: إذا كانت لفقيه وهو يحتاج إلى استعمالها أنه لا تثبت بها الاستطاعة، وإن كان لجاهل تثبت الاستطاعة وإذا كان كتب الطب والنجوم، ثبتت له الاستطاعة سواء كان يحتاج إلى استعماله والنظر فيه، أو لا يحتاج.
وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه كان يقول: اختلف الناس في وجوب الحج على الرجل إذا كان عنده طعام، قال بعضهم: إذا كان عنده طعام سنة فهو فقير، ولا يلزمه الحج؛ لأن هذا القدر من الطعام مباح له إمساكه، وإن كان أكثر فهو من المحتكرين، وعليه الحج، وقال بعضهم: إذا كان عنده قوت شهر، فهو فقير لا يلزمه الحج، وإن كان أكثر من ذلك فهو غني، ويلزمه الحج.(2/690)
-----
وأما أمن الطريق، فقد روى أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه من جملة الاستطاعة لا يثبت الوجوب بدونه كالزاد والراحلة، ومن أصحابنا من جعله شرط الأداء، وثمرة الخلاف إنما تظهر في حق وجوب الوصية بالحج، فمن جعله شرط الوجوب قال: لا تجب عليه الوصية، ومن جعله شرط الأداء يقول: تجب عليه الوصية.
وجه من جعله شرط الوجوب ظاهر أنه لا وصول إلى الحج إلا بأمن الطريق، كما لا وصول إليه إلا بالزاد والراحلة، ومن جعله شرط الأداء، وهو الفرق بين الزاد والراحلة أن بالزاد والراحلة (168أ1) يثبت التمكن من الأداء، فلا تثبت الاسطتاعة بدونهما، فأما خوف الطريق مبني بعجزهما عن الأداء، فهو في معنى المعارض والمانع، فلا تنعدم به الاستطاعة يعتبر هذا بالمحسوسات، فإن المقيد الممنوع عن المشي لا يكون نظير المريض الذي لا يقدر.
والمحرم في حق المرأة شرط، شابة كانت أو عجوزاً إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام، واختلفوا في كون المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء حسب اختلافهم في أمن الطريق، والمحرم: الزوج، ومن لا يجوز له مناكحتها على التأبيد برضاع أو صهريه؛ لأن المقصود من المحرم الحفظ؛ لأن النساء عرضة للفتنة، والزوج يحفظها، وكذا سائر محارمها يحفظونها، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد، والحر والعبد والمسلم والذمي سواء؛ لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد.
قال القدوري في «شرحه»: إلا أن يكون مجوسياً يعتقد إباحة المناكحة، فلا تسافر معه؛ لأنه لا ينقطع طمعه عنها، ولهذا لا يجوز لها أن تخلو به، فكذا لا يجوز لها أن تسافر معه؛(2/691)
قال القدوري أيضاً: وكذا المسلم إذا لم يكن مأموناً لا تسافر معه؛ لأن ما هو الغرض من المحرم لا يحصل به، والصبي الذي لم يحتلم لا غيرة له، وكذا المجنون الذي لا يفيق؛ لأن ما هو المقصود من المحرم وهو الحفظ لا يحصل بهما، ولا يجب عليها أن تتزوج إذا لم يكن لها زوج.(2/692)
-----
وإذا وجدت محرماً، ولا يأذن لها زوجها أن تخرج، فلها أن تخرج بغير إذنه في حجة الإسلام دون التطوع؛ لأن حق الزوج لا يظهر في العبادات المفروضة.
حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في المرأة القادرة على نفقة نفسها ونفقة المحرم أن الحج يفرض عليها، واضطربت الروايات عن محمد في هذا، وأكثر المتأخرين على أنها إن وجدت محرماً لا يكون عليها نفقته يفترض عليه الحج، وإلا فلا.
الفصل الثاني: في بيان ركن الحج وكيفية وجوبه
فنقول: ركن الحج شيئان: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة إلا أن الوقوف بعرفة في الركنية فوق طواف الزيارة؛ لأن الوقوف يؤدى في حال قيام الإحرام من كل وجه، والطواف يؤدى حال قيام الإحرام من وجه؛ لأنه يؤدى بعد الحلق، وقد حصل التحلل بالحلق عن جميع المحظورات إلا النساء، ولأجل ذلك قلنا: إذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه القضاء، ولو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة لا يفسد حجه، ولا قضاء عليه.
وأما كيفية وجوبه، فنقول: ذكر الحسن الكرخي رحمه الله أنه يجب على الفور ولا يجوز التأخير عن أول أوقات الإمكان، وهذا قول أبي يوسف روى عنه بشر والمعلى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أصح الروايتين.
وقال محمد: يجب على التراخي، وهو قول الشافعي.
محمد احتج بتأخير رسول الله عليه السلام الحج من غير عذر، بيانه: فيما روي أن فرضية الحج نزلت في سنة ثلاث من الهجرة ورسول الله حج سنة عشر، وما كان به عذر. وأبو يوسف يحمل ذلك على العذر التأخير بعذر جائز.(2/693)
الفصل الثالث: في تعليم أعمال الحج
-----
في «المنتقى» روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة فإذا قضى نسكه أتى المدينة، قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذ أراد الرجل الإحرام ينبغي له أن ينوي بقلبه الحج والعمرة أيَّ ذلك أراد الإحرام له، ويلبي ولا يصير داخلاً في الحرام بمجرد النية، ولم يضم إليها التلبية، أو يسوق هدياً.
واعلم بأن الروايات قد اختلفت في هذا الفصل في رواية ابن سماعة بمجرد النية، لا يصير محرماً إلا أن يلبي أو يكبر أو يذكر الله، يريد به الإحرام.
وفي رواية أخرى عنه: أنَّ بتقليد الهدي والسوق والتوجه معه يصير محرماً كما يصير محرماً بالتلبية وبذكر الله تعالى، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف أن من نوى الدخول في الإحرام، فهو محرم.
وذكر هذه الروايات في الباب الرابع من حج «المنتقى»، وفي باب الخامس من حج «المنتقى» داود بن رشيد عن محمد رجل خرج يريد الحج، فأحرم لا ينوي شيئاً، فهو حج بناءً على أن العبادات لصيرورته سابقة عليها جائز، وهذه المسألة دليل على أن التلبية والذكر ليس بشرط لصيرورته محرماً.
وفي هذا الباب أيضاً الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل أتى الحج، وهو يريد العمرة وأتى بالعمرة وهو يريد الحج فهو كان ما نواه، وإن قال: لبيك بحجة وهو ينوي الحج والعمرة كان قارناً، وفي المسألة إشكال من وجهين:
أحدهما: أنه اعتبر النية، ولم يعتبر اللفظ. والثاني: أن الحج في قوله: لبيك بحجة يكره في موضع الإثبات، فكيف جعله قارناً إذا نوى الحج والعمرة جميعاً؟ الجواب.
أما الأول: قلنا: الحج اسم لزيارة أماكن مخصوصة قصد الزائر تعظيمها، والعمرة كذلك، فإنها تسمى حجة صغرى، فالمنوي من محتملات اللفظ، فيكون هذا اعتبار اللفظ فيما يحتمله اللفظ لاعتبار النية بانفرادها.(2/694)
-----
وأما الثاني قلنا: القارن حاج كما أن المفرد حاج لكن القارن حاج بأبلغ جهات الحج، ففي الحقيقة هذا يرجع إلى صيغة الملتزم، ولا يرجع إلى العموم، والإحرام (168ب1) عندنا شرط جواز الحج حتى جاز تقديمه على أشهر الحج؛ لأن تقديم شرط العبادات على أوقاتها جائز، كتقديم الطهارة على وقت الصلاة، والمحرمون أنواع أربعة:
مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وقارن، ومتمتع.
فالمفرد بالحج: أن يحرم بالحج من الميقات، أو قبل الميقات في أشهر الحج، أو غير أشهر الحج، ويذكر الحج بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، ويقول: لبيك بحجة، أو ينوي الحج بقلبه، ولا يذكر بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الوقوف بعرفة من وقت الزوال يوم عرفة، وطواف الزيارة يوم النحر، وواجباته أربعة: الوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف الصدر.
وأما المفرد بالعمرة، فإنه يحرم للعمرة من الميقات أو قبل الميقات في أشهر الحج، ويذكر العمرة بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بعمرة، أو يقصد العمرة بقلبه ولا يذكرها بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الطواف، وواجبه السعي بين الصفا والمروة.
وأما القارن أن يحرم بالحج والعمرة معاً، ويذكرهما بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بحجة وعمرة، أو يقصدهما بالقلب، ولا يذكرهما بلسانه، والذكر باللسان أفضل، فإذا لبى على هذا الوجه يصير محرماً بإحرامين، فيعتمر في أشهر الحج، أو قبله ويحج من عامه ذلك.
أما المتمتع: فهو أن يحرم بالعمرة من الميقات، أو قبله في أشهر الحج، أو قبله ويعتمر، ويحرم للحج، ويحج من عامه ذلك من غير أن يلم بأهله إلماماً صحيحاً، وسيأتي بيان المواقيت بعد هذا إن شاء الله تعالى.(2/695)
-----
ويستحب لمن أراد الإحرام أن يقص شاربه وأظفاره، ثم يغتسل أو يتوضأ، والغسل أفضل، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام اغتسل» وهذا الاغتسال للنظافة، وليس بواجب، ويلبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزار ورداء؛ لأنه منهي عن لبس المخيط، ولا بد من ستر العورة مما يحصل به دفع الحر والبرد،
وإذا لبس إزار ورداء، فقد حصل ستر العورة ودفع الحر والبرد، وقد صح برواية جابر وأبي بريدة رضي الله عنهما «أن رسول الله عليه السلام أحرم ولبس إزاراً ورداء»، غير أن الجديد أفضل لقوله عليه السلام لأبي ذر «تزين لعبادة ربك» وبالإزار يحصل ستر العورة، ويدهن شاربه؛ لأن الغالب من أحوال أهل الحجاز الحرارة والنتونة والدهن يزيل ذلك، ويتطيب بأي طيب شاء في المشهور، وروي عن محمد أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الإحرام بأن يلطخ رأسه أو جبهته بالغالية أو المسك،
والصحيح ما ذكر في المشهور لحديث عائشة رضي الله عنها، فإنها قالت: «كنت أطيب رسول الله عليه السلام؛ لإحرامه قبل أن يحرم» لأن الحج أمر مهم، ومن قصد أمراً مهماً يطلب التيسير من الله تعالى، ثم يلبي في دبر صلاته، وإن شاء بعدما يستوي بعيره، والأفضل أن يلبي بعد صلاته، ثم يصلي ركعتين، ويقرأ فيها بما شاء، وإن قرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و «قل يا أيها الكافرون»، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و «قل هو الله أحد» تبركاً بفعل رسول الله عليه السلام، فهو أفضل.
ثم إذا فرغ من صلاته يطلب من الله التيسير، فيدعو: «اللهم، إني أريد الحج، فيسره لي وتقبله مني» من قبل أن يزور بالبيت ذكرت الطيب مطلقاً من غير فصل.(2/696)
-----
وصفة التلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وروي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «النبي لبى كذلك»، وقوله إن الحمد والنعمة لك مروي بفتح الألف حتى روي أنه كان ينشد في حرمه شعر وبين يائسين سام.... إن تصديق الطير قل... فقلى له أثر....ى وأنت محرم فقال إنما أ.... النساء مروي بفتح الألف وبكسرها، وبالكسر أصح لأنه ابتداء الذكر قال الكرخي: يأتي بها ولا ينقص؛ لأن التعيين وجد.... إن لم يوجد.... إن لم يوجد قضاء؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة للتنقل إذا كان عليه حجة الإسلام والتعين النهاية قضاء سواء على ما عرف ههنا؛ لأن النبي عليه السلام أتى بها وإن زاد عليها فهو حسن، فإذا لبى ونوى بقلبه يصير محرماً.
قال القدوري في «شرحه»: ويصير داخلاً في الإحرام بكل ذكر يحصل به التعظيم سواء كان بالعربية أو بالفارسية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يصير داخلاً في الإحرام إلا بالتلبية، فقد فرّق محمد رحمه الله بين الصلاة والإحرام، فقيد بالعربية ثمة، ولم يقيد بالعربية ههنا؛ لأن باب الحج أوسع.
ألا يرى أن غير الذكر، وتقليد الهدي يقام مقام الذكر، فكذا غير العربية يقام مقام العربية بخلاف الصلاة؟ وإذا أتى ينوي الإحرام، ولم تحضره نية في حج أو عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت، فإذا طاف بالبيت شوطاً واحداً كان إحرامه إحرام عمرة؛ لأن طواف العمرة ركن، وطواف التحية في الحج ليس بركن، ولا معارضة بين الركن وغير الركن.
ومن كان عليه حجة الإسلام، فأحرم بحجة لا ينويها فريضة ولا تطوعاً، فهي عن حجة الإسلام استحساناً، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) .(2/697)
-----
ثم إذا صار محرماً يتقي ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال في قوله: {فلا رفث ولا فسوق لا جدال في الحج} (البقرة: 197) واختلفوا في تفسير الرفث المذكور ههنا، بعضهم قالوا: إنه الجماع، وبعضهم قالوا: الكلام الفاحش، وهو الذي فيه الكلام عن الجماع. غير أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: «الكلام الفاحش رفث بحضرة النساء» (من عيتهن للصلاة، لتكبير التشريق، فقلنا: الأفضل أن يلبي بعد صلاته؛ لأن التلبية ذكر فيسن له أوقاتها وما أتى بها إلا في مصلاه وأخذ بالرواية ابن عباس ذلك قوم آخرون، فظنوا (169أ1) أنه أول تلبيته فتتلوا، وأيم الله وظنوا أنه أول تلبيته فيقبلوها، ثم أتى حين علا البيداء، فسمع ذلك القوم في دبر صلاته، فسمع قوم من أصحابه فيقبلوا، وكان القوم الله عليهم وأخذه، فقال لبى رسول الله عليه السلام اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله عليه السلام ورسول البيداء)، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس كيف لبى «حين استوت به راحلته» وعن جابر «أنه لبى حين علا»، وروى ابن عباس أنه لبى بعدما صلى، وعن عمر رضي الله عنه، وروى ابن عباس، واختلفت الرواية في وقت التلبية من رسول الله صلى الله عليه وسلّم
والفسوق المعاصي وإنه منهي عنه في الإحرام وغيره إلا أن الحرمة في الإحرام أشد.
فأما الجدال فقد قيل: المراد منه المخاصمة مع رفيقه بسبب كأنه السفر وضيق الصدر، وقيل: المراد المجادلة مع المشركين في تحرمة العباد في التقديم والتأخير في أشهر الحج، وذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحجون في ذي الحجة إذا فرغوا، وإذا لم يفرغوا أخّروه وحجوا عاماً في صفر وعاماً في شهر ربيع الأول، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) ، فلما حج رسول الله عليه السلام في شهر ذي الحجة استقر الوقت وحرم المجادلة فيه، وههنا أشياء أخر يأتي بيانها في الفصل الذي يلي هذا الفصل.h(2/698)
-----
ويكثر من التلبية ما استطاع في أدبار الصلوات، وكلما لقي ركباً علا شرفاً أو هبط وادياً وبالأسحار وحين يستيقظ من منامه، ثم يتوجه نحو مكة.
وإذا ركب البعير يقول: باسم الله وبالله الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
وإذا دخل الحرم يقول: اللهم هذا البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، فوفقني لما تحب وترضى، وإذا وقع بصره على البيت يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام جئنا يا ربنا بالسلام اللهم زد بيتك تعظيماً وتشريفاً ومهابة، وزد من عظمه ممن حج واعتمر تعظيماً ومهابة، ويبدأ بالحجر الأسود، فيستلمه، والاستلام أن يضع كفيه على الحجر ويقبله، يفعل ذلك إن أمكنه من غير أن يؤذي أحداً، ويقول عند الاستلام: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اغفر لي ذنوبي، وطهر لي قلبي، واشرح لي صدري ويسر لي أمري، وعافني فيمن عافيته. وإن لم يقدر على الاستلام والتقبيل من غير إيذاء أحد لا يستلمه، ولا يقبله بل يستقبله، ويشير إليه بباطن كفه، ويكبر ويهلل، فيقول: الله أكبر الله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنّتك وسنّة نبيك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، آمنت بالله، وكفرت بالجبت والطاغوت.
وإن أمكنه الاستلام من غير إيذاء أحد، ولكن لم يمكنه التقبيل من غير ذلك لا يقبله، بل يستلمه، ويقبل يديه، ثم يأخذ من يمينه على باب الكعبة، ويطوف بالبيت سبعة أشواط كل شوط من الحجر إلى الحجر، فهذا الطواف يسمى طواف التحية، وله أسامي أخرى يأتي بعدها إن شاء الله تعالى، ويرمل في هذا الطواف في الثلاث الأول ويمشي على هينته في الأربع.(2/699)
-----
وفسّر الرمل بأن يسرع في المشي ويتبختر كهيئة مشية المبارز يتبختر بين الصفين، ويكون الرمل من الحجر إلى الحجر، وكلما انتهى إلى الحجر الأسود استلمه، وينبغي أن يكون طوافه من وراء الحطيم؛ لأن الواجب هو الطواف حول البيت والحطيم من البيت وجعلت له بابين باباً شرقياً للبيت (والعنت القبعة بالباب الله عليه، وأوصلت الحطيم في وأظهرت قواعد الخليل صلوات ببناء الكعبة البيت، ولو لأحد ثان عمد قومك قد لهم وأخرجوه من وقال صلي؟ فإن الحطيم من البيت)، إلا أن أخذ رسول الله عليه السلام يدها وأدخلها الحطيم ركعتي إن فتح الله تعالى مكة على رسوله، فبعد الفتح بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها «نذرت أن تصلي في البيت» وإن زحمه الناس في الرمل قام جانباً، فإن وجد فرجة رمل.
ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» استلام الركن اليماني في الطواف، وذكر الكرخي في «مختصره»، ويستلم الركن اليماني.
وذكر هشام في «نوادره» عن محمد: أن الركن اليماني في الاستلام والتقبيل كالحجر الأسود، وعن أبي حنيفة رحمه الله في «المجرد» أن استلامه حسن وتركه لا يضره، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» أنه يفتح الطواف من غيره وباباً غربياً هل يجزئه؟
وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئه، وهكذا ذكر في «الرقيات» والمذكور في «الرقيات»: لو افتتح الطواف من الركن اليماني، وختم به لا يجوز، وعامة المشايخ على أنه يجوز؛ لأن المأمور به هو الطواف بالبيت، وقد طاف بالبيت ذكر في بعض المواضع أن الطائف يقول في طوافه: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل، وموقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
في «المنتقى» روى الفهر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يقرأ في طوافه، ولا بأس بذكر الله تعالى،(2/700)
-----
فإذا فرغ من الطواف أتى مقام إبراهيم، ويصلي ركعتين، وإن لم يقدر على الصلاة في المقام بسبب الزحمة يصلي حيث تيسر له عليه من المسجد، وهاتان ركعتان واجبتان عندنا قال عليه السلام: «ويصلي الطائف كل أسبوع ركعتين» ويقرأ في الركعة الأولى {قل يا أيها الكافرون}، وفي الركعة الثانية {قل هو ا أحد} تبركاً بفعل رسول الله فإذا فرغ من الصلاة يدعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم يقول: اللهم وفقني لما تحب وترضى، وجنبني ما تسخط وتكره وثبتني على ملة حبيبك وخليلك عليهما السلام، ثم يعود إلى الحجر بعد ركعتي الطواف.
أما كل طواف ليس بعده سعي، فلا عود (169ب1) فيه إلى استلام الحجر، ويدعو تحت الميزاب: اللهم أظلني تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك لا إله غيرك يا أرحم الراحمين، ثم يخرج إلى الصفا من أي باب شاء، ويصعده ويستقبل البيت، ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي عليه السلام، ويكبر ويهلل، ويدعو الله لخاصته ويلبي.
وقد روى جابر أن النبي عليه السلام لما صعد الصفا استقبل البيت، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»، ثم ينزل من الصفا ويتوجه نحو المروة ويقول: اللهم استعملني لسنّة نبيك وتوفني على ملة رسولك، وأعذني من معضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين، ويمشي على هينته حتى يصل إلى بطن الوادي، فإذا وصل إليه سعى بين الميلين الأخضرين، ويقول في سعيه: «رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اهدني للتي هي أقوم، فإنك تعلم وأنا لا أعلم»، فإذا جاوز بطن الوادي يمشي على هينته حتى يأتي المروة ويصعدها، ويستقبل البيت ويقول مثل ما قال على الصفا، ثم ينزل من المروة، ويتوجه إلى الصفا.(2/701)
-----
يطوف هكذا بينهما سبعة أشواط يسعى بين الميلين الأخضرين كل شوط، اتفق على هذا رواة نسك رسول الله، وإن لم يقف على الصفا والمروة يجزئه سعيه رواه عيسى بن أبان عن محمد.
وعنه أيضاً: لو ابتدأ السعي من الصفا، وسعى حتى إذا بقي بينه وبين المروة مقدار ثلاثة رجع إلى الصفا حتى سعى هكذا بين الصفا والمروة سبع مرات، ثم رجع إلى أهله لم يكن عليه دم، قال: لأنه طاف الأكثر، وعليه صدقة يتصدقها، والسعي بين الصفا والمروة عندنا واجب وليس بركن، حتى لو ترك يقوم الدم مقامه، ويتحلل عن جهة النساء بدونه لحديث جابر «أن النبي عليه السلام طاف بينهما سبعة أشواط، بدأ بالصفا، وختم بالمروة» أي بدأ بالشوط الأول بالصفا وختم بالمروة الشوط السابع بالمروة؛ لأنه ذكر بداية واحدة وختماً واحداً لجميع السبعة، ولم يقل: بدأ بالصفا وختم بالمروة في كل مرة، وإنما يستقيم ذكر بداية واحدة، وختم واحد لجميع السبعة إذا اعتبرنا بالذهاب من الصفا إلى المروة شوطاً، والرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً.
ثم لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط محسوب من أشواط السبعة، أما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في «الكتاب» نصاً، ولكن أشار إلى أنه شوط آخر.
وقال الطحاوي: لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً آخر، والصحيح ما أشار إليه في «الكتاب»، ثم إذا فرغ من ذلك يقيم بمكة حراماً حتى يجيء يوم التروية يطوف بالبيت كلما بدا له، ويصلي لكل أسبوع ركعتين، ولكن لا يسعى عقيب سائر الأطواف في هذه المدة، ثم إذا جاء يوم التروية خرج من مكة بعدما طلعت الشمس.(2/702)
-----
روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا صلى الصلاة بمنى غدا إلى عرفة، ونزل به في أي موضع شاء، إلا أنه لا ينزل على الطريق كيلا يضر بالمارة، وينتظر زوال الشمس، فإذا زالت الشمس يصعد الإمام المنبر، ويجلس ويؤذن، ويخطب الإمام خطبتين بينهما جلسة خفيفة، فإذا فرغ من الخطبة يقيم المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر ركعتين إن كان مسافراً، ثم يقوم المؤذن، ويقيم ثانياً، ويصلي الإمام بهم العصر في وقت الظهر من غير أن يشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعني غير سنّة الظهر، وإنما قدمنا الخطبة على الصلاة ههنا؛ لأن المقصود من الخطبة ههنا تعليم الناس المناسك.
ومن جملة المناسك الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وإذا اشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعيد الأذان للعصر، إلا رواية شاذة عن محمد.
وإن لم يدرك الجمع مع الإمام الأكبر، فأراد أن يصلي وحده في رحله أو بجماعة بدون الإمام الأكبر صلى كل صلاة في وقتها عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: كما فعل مع الإمام الأكبر، فالحاصل أن عند أبي حنيفة شَرْط جواز الجمع بين صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر يوم عرفة إحرام الحج، والإمام الأكبر، وعندها إحرام الحج لا غير.
وههنا فصل لا بد من معرفته أن إمام مكة إمام الحاج في صلاة الظهر والعصر، فإن كان مقيماً يصلي بهم صلاة المقيمين، ويصلي العصر في وقت الظهر، والإمام عند أبي حنيفة رحمه الله شرط جواز الجمع، أما القصر ليس بشرط جواز الجمع، وإن كان مسافراً يصلي صلاة المسافرين، ويقول لأهل مكة: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، ولا يجوز للإمام بمكة أن يقصر الصلاة؛ إذا لم يكن مسافراً، ولا للحجاج أن يقتدوا به إذا كان يقصر الصلاة لأنه إذا لم يكن مسافراً كانت صلاته أربعاً، والمسافر إذا اقتدى بالمقيم يصير فرضه أربعاً، فإذا قصروا لا تجوز صلاتهم.(2/703)
-----
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: العجب من أهل الموقف أنهم يتابعون إمام مكة في قصر الظهر والعصر بعرفات، وبينهم وبين مكة فرسخات، ثم يقفون للدعاء فأنى يستجاب لهم، وأنى يرجى لهم الخير وصلاتهم غير جائزة، قال شمس الأئمة هذا: كنت مع أهل الموقف، فاعتزلت وصليت كل صلاة في وقتها كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأوصيت بذلك أصحابي وإخواني والجهال كانوا يقصرون معه، وقد سمعت أن إمام مكة يتكلف كذلك، ويخرج مسيرة السفر، ثم يأتي عرفات ويقصر بهم، لو كان هكذا كان القصر جائزاً، ولو كان بخلافه لا يجوز، فيجب الاحتياط فيه.
ثم إذا فرغ من العصر راح إلى موقف، ويقف في أي مكان شاء إلا بطن عرنة لقوله عليه السلام «عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة» (170أ1). والأفضل أن يقف الإمام، ويقف بأي صفة شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف بمستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «قال رسول الله عليه السلام واقفاً بعرفات يدعو رافعاً يديه» الحديث، كالمستطعم المسكين، وليكن عامة دعائه بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، لا نعبد إلا إياه، ولا نعرف ما سواه، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم هذا مقام المستجير العائذ من النار أجرني من النار بعفوك، وأدخلني الجنة برحمتك، اللهم إذا هديتني للإسلام، فلا تنزعه عني حتى تقبضني وأنا عليه.(2/704)
-----
ويلبي في هذا الموقف عندنا، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه «أنه لبى في هذا الموقف، فقيل له: ليس هذا موضع التلبية، فقال: أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك، حججت مع رسول الله عليه السلام، فما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة» والأفضل أن يقف بقرب الإمام، ويقف بأيّ صفةٍ شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف مستقبل القبلة ويحمد اللَّه تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، ويكون الوقوف إلى غروب الشمس، ولم يرد به بيان امتداد وقت الوقوف يمد إلى طلوع الفجر من يوم النحر، حتى إن من لم يقف عرفة، ووقف ليلة النحر، فقد تم حجه، وإنما أراد به بيان امتداد نفس الوقوف، يعني: إذا وقف بعد الزوال ينبغي أن يقف إلى وقت غروب الشمس، فإذا غربت الشمس مشى على هينته حتى يأتي المزدلفة، فإن خاف الزحام، فتعجل في الذهاب قبل غروب الشمس، فلا بأس به إذا لم يخرج من حدود عرفات قبل غروب الشمس، فإذا خرج من حد عرفة قبل غروب الشمس، فعليه عندنا دم.
فإن عاد إلى عرفة قبل أن يرفع الإمام سقط عنه الدم، وإن عاد بعدما رفع الإمام لا يسقط عنه الدم في رواية «الأصل»، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة أنه يسقط.(2/705)
-----
ولا يصلي المغرب في طريق المزدلفة قال عليه السلام «مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر»، ثم إذا أتى المزدلفة ينزل حيث شاء مع القوم إلا في وادي محسر، ولا ينزل على الطريق أيضاً كيلا يضر بالمارة، ثم يؤذن المؤذن، ويقيم، ويصلي الإمام المغرب بالناس، ثم يتبعها العشاء ولا يعيد الأذان والإقامة للعشاء، بخلاف القصر بعرفات، والفرق أن العصر بعرفات مقدمة على وقتها، فلا بد من تجديد الإقامة لها إعلاماً للناس، أما العشاء ههنا مؤداة في وقتها، فلا يحتاج إلى تجديد الإقامة لها، ولا يتطوع بين المغرب والعشاء، فإن تطوع بينهما أعاد الإقامة للعشاء، وإن صلى المغرب والعشاء وحده جاز بلا خلاف. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الجمع بعرفات،
الفرق أن أداء المغرب ههنا يقع بعد وقته، وهذا غير مقيد بشيء، وهناك أداء العصر يقع قبل وقته، وإنه تقيد بالجماعة مع الإمام الأكبر.
وإذا فرغ من العشاء يبيت ثمة، فإذا انشق الفجر من الغد صلى الفجر بغلس لحديث ابن مسعود، ويقف حيث شاء من المزدلفة يحمد الله تعالى في وقوفه ويهلل، ويصلي على النبي عليه السلام يدعو الله تعالى لحاجته رافعاً يديه إلى السماء، وليكن عامة دعائه بالمزدلفة مثل دعائه بعرفات، ويقول: اللهم حرّم شعري ولحمي ودمي وعظمي، وجوارحي على النار يا أرحم الراحمين، وهذا الوقوف من الواجبات عندنا، وليس بركن حتى لو تركها أصلاً يلزمه الدم، ولكن يجزئه الحج بخلاف الوقوف بعرفة، فإذا أسفر جداً ذهب قبل أن تطلع الشمس حتى نزل منى، وروي عن محمد رحمه الله أنه حد الإسفار فقال: إذا أسفر النهار بحيث لم يبق إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي ركعتين يذهب.
ثم إذا أتى منى يرمي الجمرة بسبع حصيات مثل حصى الخذف.
والكلام في الرمي في مواضع:(2/706)
-----
أحدها: في وقته، فنقول: اتفق العلماء على أن وقت الرمي يوم النحر وثلاثة أيام بعدها غير أن عند علمائنا رحمهم الله أول وقته من حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر،
وعند سفيان الثوري أول وقته من حين تطلع الشمس من يوم النحر، وبكل ذلك ورد الأثر، فأصحابنا عملوا بالآثار كلها، وقالوا: يجوز الرمي بعد طلوع الفجر، والأولى تأخيره إلى وقت طلوع الشمس، قال الحسن في «مناسكه» من حين تطلع الشمس من يوم النحر هو الوقت المستحب للرمي، ومن حين زالت الشمس إلى ما قبل طلوع الفجر الثاني من غده هو وقت جمار الرمي مع الكراهة والإساءة، هذا هو الكلام في اليوم الثاني والثالث، فوقت الرمي ما بعد الزوال ولو رمى قبل الزوال لا يجزئه هكذا ذكر في «الأصل» و «المجرد»، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» قال محمد رحمه الله: كان أبو حنيفة يقول: أحب إليّ أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، وإن رمى قبل ذلك أجزأه، فصار في اليوم الثاني والثالث روايتان.
وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة لو أراد أن ينفر في اليوم الثالث، فله أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز الرمي قبل الزوال لمن لا يريد النفر فيه، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه لا يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن أراد أن ينفر فيه، وأما في اليوم الرابع فلا رمي فيه إلا بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال أجزأه في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بعد الزوال.
الثاني: فيما يرمي به، فنقول: يرمي بكل ما كان من جنس الأرض (170ب1) كالحديد والعنبر، وما أشبهه.
والثالث: في مقدار ما يرمي، فنقول: يرمي بالصغار مثل حصى الخذف، قال عليه السلام «عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضاً»، قال الحسن في «مناسكه»: حصى الخذف تكون مثل النواة وأقصر، ولو رمى بحصاً أكبر من حصى الخذف يجزئه، ولكن لا يستحب ذلك.(2/707)
-----
والرابع: في بيان صفة الرمي، فنقول: ينبغي أن تكون الحصاة مغسولة، وينبغي أن تكون مأخوذة من قوارع الطريق لا من موضع الرمي، فقد جاء في الأثر «أن ما بقي من الحصى في موضع الرمي حصى من لم يقبل حجه»، فلا يأخذ من موضع الرمي تعافياً.
والخامس: في كيفية الرمي، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يأخذ الحصى على إبهامه، ويضع إبهامه على طرف سبابته كأنه عاقد، ويرميها، وقال بعضهم: يرمي رمية الخلف المعروفة، واختار مشايخ بخارى أنه كيفما رمى فهو جائز؛ لأن المنصوص عليه في الأحاديث الرمي، فبأي طريق أتى بالرمي، فقد أتى بالمنصوص، فيجوز.
قالوا: وينبغي أن يكون بينه وبين وقوع الحصى خمسة أذرع فصاعداً؛ لأن ما يكون دونه يكون وضعاً أو طرحاً، والسنة جاءت بالرمي، وذكر في «الأصل»: لو قام عند الجمرة ووضع الحصى عندها وضعاً لا يجزئه، ولو طرحها طرحاً أجزأه؛ لأن الطرح رمي لكنه مسيء لمخالفة فعل رسول الله.
والسادس: في صفة الرامي راكباً وماشياً، وله أن يختار أيهما شاء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: كل رمي بعده وقوف، فالرمي ماشياً أفضل، وكل رمي لا وقوف بعده، فالرامي راكباً أفضل؛ وهذا لأن كل رمي لا وقوف بعده، والمستحق على الرامي الوقوف بعد الرمي، والماشي أمكن للوقوف من الراكب فمكان الرمي ماشياً أفضل. وفي «مناسك الحسن»: ويستحب له أن يمشي إلى الجمار إذا أراد أن يرميها، وإن ركب فلا بأس، والمشي أفضل.
والسابع: في محل الرمي فنقول: محل الرمي الجمار الثلاث أولها التي تلي مسجد الخيف والوسطى والأخيرة، وهي جمرة العقبة.
والثامن: أنه في أي موضع يرمي فنقول: الرمي من بطن الوادي يعني من أسفله إلى أعلاه به ورد الأثر، وإذا وقف للرمي جعل منى عن يمينه والكعبة على يساره ويرمي حيث يرى موضع الحصى.(2/708)
-----
والتاسع: في موضع وقوع الحصاة فنقول: ينبغي أن تقع الحصاة عند الجمرة أو قريباً منها حتى لو وقعت بعيداً منها لم يجزه؛ لأنا إنما عرفنا الرمي قربة بالشرع بخلاف القياس في مكان مخصوص إلا أن قريب الشيء حكمه حكم ذلك الشيء، فيعمل بالبعيد عن الجمرة بقضية القياس.
في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذ رمى الجمرة، فوقعت الحصاة على ظهر رجل، أو على محمل وثبتت عليه كان عليه أن يعيدها، وإذا سقط عن المحمل أو عن ظهر الرجل في المرمى ذلك أجزأه، وهكذا روى إبراهيم بن رستم عن محمد.
والعاشر: في عدد الحصاة فنقول: يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جملة لا يجزئه؛ لأن المنصوص عليه تفريق الأفعال.
والحادي عشر: أن يكبر عند كل حصاة فيقول: بسم الله والله أكبر رغماً للشيطان وحزبه اللهم اجعل حجي مبروراً وسعي مشكوراً وذنبي مغفوراً.
والثاني عشر: أنه في اليوم الأول يرمي جمرة العقبة لا غير، وفي بقية الأيام يرمي الجمار كلها يبدأ بالأولى، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، وإذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها، هكذا روي عن رسول الله، وإذا لم يرم حتى حلق، فقد انقطعت التلبية، وهذا بلا خلاف؛ لأن التلبية إنما شرعت في الإحرام، وبالحلق حصل التحلل، فيقطع التلبية ضرورة، وكذلك إذا لم يحلق حتى زالت الشمس، فقد انقطعت التلبية أيضاً عند أبي يوسف.
وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة إلى أن تغيب الشمس، فحينئذٍ (يقطع) التلبية، وهو رواية عن محمد، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة جمرة العقبة لا يفوت وقتها إلا بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس وفات وقتها وكأنها سقطت بالفعل، وعند أبي يوسف جمرة العقبة يفوت وقتها بزوال الشمس.(2/709)
-----
وإن طاف قبل الرمي والذبح والحلق قطع التلبية في قول أبي حنيفة، روي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول (171أ1) الشمس يوم النحر، ثم إذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول لا يقف عندها، يعني لا يقف للدعاء عند جمرة العقبة التي رماها في اليوم الأول، بل يأتي منزله، فبعد ذلك ينظر إن كان مفرداً بالحج يحلق أو يقصر؛ لأنه جاء أوان التحلل، والتحلل بالحلق والتقصير، وإن كان قارناً أو متمتعاً يذبح، ثم يحلق أو يقصر، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «إن أول نسكنا بمنى أن نرمي، ثم نذبح، ثم نحلق» ورسول الله عليه السلام كان قارناً، والحلق أفضل، وإذا حلق أو قصر حل كل شيء له إلا النساء.h
ثم يدخل مكة من يومه ذلك إن استطاع، ويطوف طواف الزيارة، أو من الغد أو بعد الغد، ولا يؤخر إلى ما بعد الغد، فيطوف بالبيت أسبوعاً ويصلي ركعتين، وهذا الطواف هو الحج الأكبر المذكور في قوله تعالى: {وأذان من ا ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} (التوبة: 3) ووقته أيام النحر أفضلها أولها، ولا سعي بعد هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية إذ ليس على الحاج إلا سعي واحد، وإن لم يكن سعى بعد طواف التحية يسعى بعد هذا الطواف، وكذلك لا رمل في هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية، وكل طواف ليس بعده سعي، فلا رمل فيه.(2/710)
-----
وإذا طاف بالبيت على نحو ما بينا حل له النساء أيضاً، ثم لا يبيت بمكة، بل يعود إلى منى ويبيت ثمة، فإذا كان من الغد، وهو اليوم الثاني من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات على نحو ما بيّنا، ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس، فيقوم يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله بحاجته، يريد بقوله: يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس أعلى الوادي؛ لأن الرمي كان من بطن الوادي، فيعود إلى أعلاه، ويقف للدعاء، ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات على نحو ما بينا، ثم يقوم حيث يقوم فيه الناس، فيصنع في قيامه مثل ما صنع عند الأولى، ويرفع يديه بالدعاء في قيامه، ثم يرمي جمرة العقبة، ويرميها بسبع حصيات، ولا يقف عندها للدعاء أي الجمرة، وعن أبي يوسف: في الرجل يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني، فيأتيهن غداً جاز ولا يعيد شيئاً، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يرمي التي عند المسجد، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، فإذا كان من الغد وهو اليوم الثالث من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث أيضاً على نحو ما بينا، ثم يرجع في يومه إن أحب، وإن أقام من الغد، وهو اليوم الرابع رمى الجمار الثلاث أيضاً بعد زوال الشمس على نحو ما بينا.
قال في «الجامع الصغير»: ولو رمى الجمرة الوسطى والأخيرة في اليوم الثاني، ولم يرم الجمرة الأولى، واستغنى في يومه ذلك، فإن رمى الأولى، ثم أعاد على الوسطى، ثم على الأخيرة، فحسن ليصير آتياً بالترتيب المسنون، وإن رمى الأولى فحسب أجزأه؛ لأنه هو المتروك.
وفي «الأصل»: إذا بدأ في اليوم الأول بجمرة العقبة ثم بالوسطى، ثم بالأولى وقد ذكر ذلك في يومه يؤمر بأن يعيد على الوسطى، ثم على جمرة العقبة ليأتي بها اليوم الثاني مسنوناً مرتباً، ولا يعيد على الأولى؛ لأنه قد رماها لكن لا مرتباً وبالإعادة على الأولى والوسطى يحصل الترتيب، فلا حاجة إلى الإعادة على الأولى.(2/711)
-----
وفي «الأصل» أيضاً: إذا رمى من كل جمرة ثلاث حصيات، ثم ذكره بعد ذلك، فإنه يبدأ من الأولى بأربع حصيات، فيتمها، ثم يعيد على الوسطى سبع حصيات وكذلك على جمرة العقبة، ولا يعيد جماراً في الوسطى وجمرة العقبة؛ لأنه أتى بهما قبل ما يأتي بأكثر رمي عند الجمرة الأولى، فكأنه لم يرم من الأولى شيئاً، حتى لو رمى من كل جمرة أربع حصيات، فإنه يرمي لكل واحدة بثلاث حصيات؛ لأنه أتى بأكثر الرمي عند كل جمرة بثلاث، وإن استقبل رميها، فهو أفضل.
وفي «مناسك الحسن»: إذا رمى الجمرة الأولى بحصاة، ثم رمى الجمرة الوسطى بحصاة، ثم رمى الجمرة الأخيرة بحصاة، ثم رجع فرماهن بحصاة حصاة حتى رمى كل واحدة منهن على ما وصفت لك، فقد تم رميه على الجمرة الأولى، ورمى أربع حصيات على الجمرة الوسطى فعليه أن يتمها برمي ثلاث حصيات، ورمى جمرة العقبة بحصاة فيها، فرمى ست حصيات.
وإن نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة أخذاً بالاحتياط، وإن لم يرم يوم النحر جمرة العقبة حتى جاء الليل رماها ولا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من الغد رماها، وعليه للتأخير دم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن ترك منها حصاة أو حصاتين إلى الغد يرمي ما تركه ويتصدق لكل حصاة بنصف صاع إلا أن يبلغ دماً، فيتصدق بما شاء.
وفي «المجرد» قال أبو حنيفة رحمه الله: لو ترك رمي جمرة الوسطى والأولى فعليه دم، ولو ترك رمي جمرة العقبة أطعم لكل حصاة نصف صاع حنطة.(2/712)
-----
وفي «الأصل»: لو ترك رمي الجمار كلها في سائر الأيام إلى اليوم الرابع قضاها على التأليف في اليوم الرابع؛ لأن وقت الرمي والحبس واحد، وإن لم يرم حتى غابت الشمس من اليوم الرابع سقط عنه الرمي لفوات الوقت وعليه دم واحد بالإجماع؛ لأن الرمي كله نسك واحد، ثم إذا فرغ من الرمي أتى الأبطح، وينزل به ساعة، والأبطح اسم موضع نزل به رسول الله عليه السلام حين انصرف من منى إلى مكة ويطوف طواف الصدر إن أراد الرجوع، ويسمى هذا طواف واجب عندنا، حتى لو تركه يلزمه الدم.
قال مشايخنا: يستحب للحاج إذا أراد الرجوع أن يأتي باب الكعبة، فيقبل العتبة، ويأتي الملتزم، فيلزمه ساعة ويبكي، ويتشبث بأستار الكعبة، ويلصق خده بالجدار إن تمكن، ثم يأتي زمزم (171ب1) ويشرب من مائه، ويصب على جسده، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً واسعاً وعلماً نافعاً وشفاءً من كل داء يا أرحم الراحمين، ثم ينصرف ويمشي وراءه، ووجهه إلى البيت متبكياً متحسراً على فراق البيت، ويقول عند رجوعه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا، ولا تجعله آخر العهد منا، وارزقنا العود إليه حتى ترضى برحمتك يا أرحم الراحمين.
فهذا هو بيان عام للحج الذي أراده رسول الله عليه السلام في قوله «من حج هذا البيت فلم يرفث فيه ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ثم يأتي المدينة، ويقوم قريباً من قبر النبي عليه السلام، ويقول: اللهم رب البلد الحرام والركن والمقام ورب المشعر الحرام بلغ روح محمد منا في هذا اليوم التحية والسلام، اللهم أعط محمد الدرجة والوسيلة والرفيعة والفضيلة، اللهم أوردنا حوضه واسقنا بكأسه، واجعلنا من رفقائه، ثم يدعوا بما أحب، والله الموفق.(2/713)
الفصل الرابع: في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها من غير إحرام
-----
إنّ رسول الله عليه السلام جعل للحج والعمرة مواقيت منها يحرم العبد، وهي خمسة في حديث عائشة رضي الله عنها: ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق. وقال: «هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة» وهذا الحديث ورد في حق أهل الآفاق.
والناس أصناف ثلاثة: أهل الآفاق، ومن كان أهله في الآفاق، ومن كان أهله في الميقات أو دخل الميقات إلا أنه في الحل دون الحرم. وأهل الحرم وهم أهل مكة.
وأما أهل الآفاق، فالأفضل لهم الإحرام من دويرة أهلهم جاء في التفسير قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} (البقرة: 196) إتمامها أن يحرم بها الرجل من دويرة أهله، وذكر هشام عن محمد إذا كان الرجل أول ما يحج، فالأفضل أن يحرم من أهله، وإن أخّر حتى أحرم من ميقات مصره، فهو حسن، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إن أحرم الرجل من مصره، فهو أفضل بعد أن يملك نفسه في الإحرام أن لا يقع في المحظورات.
وإذا لم يحرم الآفاقي من دويرة أهله حتى بلغ الميقات، فعليه أن يحرم من الميقات.
وأما من كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات إلى الحرم، فميقاتهم للحج والعمرة الحل الذي بين المواقيت والحرم حتى لو أخّر الإحرام إلى الحرم جاز؛ لأنه جاز لهم الإحرام من دويرة أهلهم وميقاتهم للعمرة الحل فيخرج الذي يريد العمرة إلى الحل من أي جانب شاء، وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها.(2/714)
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا أراد الآفاقي دخول مكة ينبغي له أن يحرم من الميقات بحجة أو عمرة سواء دخل مكة مريداً النسك، أو دخلها لحاجة من الحوائج، ومن كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات جاز له دخول مكة بغير إحرام لحاجة من الحوائج، وكذا من كان من أهل مكة وخرج منها لحاجة من الحوائج، وكذا من دخل مكة منها لحاجة له إلى ذلك نحو الاحتطاب، وما أشبهه جاز له أن يدخلها بغير الإحرام.
والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في خطبته عام فتح مكة: «ألا إن مكة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة»، وأراد بقوله: «لا تحل لأحد من بعدي» حلّ الدخول بغير إحرام، لأن قوله: «لا تحل لأحد بعدي» الصرف إلى ما انصرف إليه المراد من قوله: «أحلت لي ساعة من نهار» حلّ الدخول بغير إحرام، فإنه دخلها بغير إحرام؛ لأجل القتال في الحرم؛ لأن القتال مع أهل الحرب في الحرم حلال على كل حال، فهذا الحديث لا يوجب الفصل بين الآفاقي، وبين أهل مكة، ومن كان أهله داخل الميقات لكن دخل عنه أهل الميقات وأهله بمكة لمكان الحرج، فإنه يتكرر دخول أهل الميقات، ومن كان داخل الميقات بمكة لإقامة الحرج بمكة، وكذا يتكرر دخولهم؛ لأنه مكرر خروجهم لإقامة المصالح خارج مكة، فلو أوجبت الإحرام عند كل دخول لوقعوا في الحرج، فأما أهل الآفاق فلا يتكرر دخولهم مكة، فإيجاب الإحرام عليهم عند الدخول لا يوقعهم في الحرج، ويبقى أهل الآفاق داخلين تحت الحديث.(2/715)
-----
ثم إذا دخل الآفاقي مكة بإحرام، وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فعليه الدخول مكة إما حجة أو عمرة لزمه الإحرام إذا بلغ الميقات على قصد دخول مكة، والإحرام إنما يكون بحجة أو عمرة، فلزمه الإحرام بأحدهما، وما وجب على الإنسان لا يسقط إلا بأدائه، فإن أحرم بالحج أو العمرة من غير أن يرجع إلى الميقات، فعليه دم لترك حق الميقات، وإن عاد إلى الميقات، وأحرم فهذا على وجهين:
إن أحرم بحجة أو عمرة عما لزمه خرج عن العهدة، وإن أحرم بحجة الإسلام، أو عمن كاتب عليه إن كان ذلك في عامه أجزأه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام استحساناً، وإن تحولت السنة وباقي المسألة بحالها لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام، وهذا لأن حق الوقت ينادي بإحرام حجة الإسلام جاز فيما بقي وقت لإحرام حجة الإسلام، فوقت ما يجب بسبب الوقت باقي فلا يصير ديناً في ذمته، فإن عاد إلى الميقات، وأحرم بحجة الإسلام فقد أدى حق الوقت، فأما إذا تحولت السنة، فقد فات وقت الإحرام بحجة الإسلام، وفات (172أ1) وقت ما يجب بسبب الوقت، فيصير ذلك ديناً عليه مقصوداً، فلزمه الأداء بإحرام آخر له مقصوداً، وإن جاوز الآفاقي الميقات بغير إحرام، وهو يريد الحج والعمرة، فإن عاد إلى الميقات وأحرم سقط عنه الدم، وإن أحرم من مكانه ذلك، وعاد إلى الميقات محرماً، فإن لبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب وجاوز الميقات، واشتغل بأعمال ما عقد الإحرام له لا يسقط عنه الدم.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا عاد إلى الميقات سقط عنه الدم لبى أو لم يلب، فوجه قولهما: أن حق الميقات في كونه محرماً فيه لا في أشياء الإحرام منه لا يرى أنه لو أحرم من دويرة أهله، وجاوز الميقات محرماً ولبى بالميقات أو لم يلب لا يلزمه شيء، فإذا عاد إلى الميقات محرماً، فقد يدرك حقه، وإن لم يلب فيه لا يلزمه شيء.(2/716)
-----
ولأبي حنيفة رحمه الله إن ميقات الآفاقي بطريق العزيمة دويرة أهله حتى كان الإحرام من دويرة أهله أفضل، وله التأخير بطريق الترخيص إلى الميقات، فمن أحرم وراء الميقات فحق الميقات عليه المرور فيه محرماً، ومن أخر الإحرام إلى الميقات عليه إنشاء الإحرام فيه، والإنسان لا يكون (محرماً) إلا بالتلبية إلا أن نفس الإنشاء لا يعقل له زيادة حرية، فلا يستحق الميقات صفة الإنشاء، بل يستحق الإحرام، ووجود التلبية فيه لكون التلبية من شعائر الإحرام، فإذا عاد محرماً ملبياً، فقد قضى حقه المستحق، فصار متداركاً للفائت فيسقط، وأما إذا لم يلب فما قضى حقه المستحق، ولم يصر مدركاً للفائت، فلا يسقط عنه الدم، فلو أن هذا الرجل حين أحرم لم يعد إلى الميقات، واشتغل بأعمال ما عقد الإحرام له، ثم عاد إلى الميقات ولبى أو لم يلب يسقط عنه الدم؛ لأنه ما لبى به وقع مفيداً، فلا يصير متداركاً الفائت بالعود إلى الميقات.
قال في «الجامع الصغير»: مكي خرج من الحرم يريد الحج وأحرم ولم يعد إلى الحرم حتى وقف بعرفة، فعليه شاة وهذا لما ذكرنا أن ميقات المكي دويرة أهله، فإذا خرج من الحرم حلالاً، فقد جاوز الميقات بغير إحرام، فإذا اشتغل بأعمال الحج، فعليه الدم عاد إلى الحرم أو لم يعد، وإن لم يشتغل بأعمال الحج حتى عاد إلى الحرم إن عاد ملبياً سقط عنه الدم بلا خلاف،
وإن عاد غير ملبٍ لا يسقط عنه الدم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وصار الكلام فيه نظير الكلام في الآفاقي إذا جاوز الميقات بغير إحرام.(2/717)
-----
وفيه أيضاً: رجل دخل بستان بني عامر لحاجة له، فله أن يدخل مكة بغير إحرام، وهو وصاحب المنزل سواء، وبستان بني عامر موضع هو داخل الميقات إلا أنه خارج الحرم، ومعنى المسألة: الآفاقي إذا جاوز الميقات لا يريد دخول مكة، وإنما أراد موضعاً آخر وراء الميقات خارج الحرم نحو بستان بني عامر، وما أشبه ذلك، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة، فله أن يدخلها بغير إحرام، وهذا هو الحيلة لمن أراد دخول مكة بغير إحرام أن لا يقصد دخول مكة، وإنما يقصد مكاناً آخر وراء الميقات خارج الحرم لحاجة له، ثم إذا وصل إلى ذلك المكان يدخل مكة بغير إحرام، وهذا لأن الذي لا يقصد دخول مكة، وإنما يقصد مكاناً آخر لا يلزمه الإحرام لا يلزمه لحق الميقات نفسه، بل تعظيماً للبيت، حتى لا يكون القدوم عليه لقصد الزيارة وكأنه تمام التعظيم بالقصد للزيارة مر في البيت وحريمه وهو المواقيت، فإذا لم يرد دخول مكة لو لزمه الإحرام لزمه لحق المواقيت نفسه، وهو لا يلزم لحق المواقيت نفسه، وبعدما وصل إلى ذلك المكان التحق بأهل ذلك المكان، ولأهل ذلك المكان دخول مكة بغير إحرام، فكذلك لهذا الرجل الذي التحق بهم.
وعن أبي يوسف أنه شرط نية الإقامة بذلك المكان خمسة عشر يوماً؛ لأن نية الإقامة خمسة عشر يوماً يصير متوطناً به، فيلتحق بأهله، فأما إذا نوى الإقامة أقل من خمسة عشر يوماً فهو ماض على سفره، فلا يلتحق بأهل ذلك المكان؛ فلا يدخل مكة بغير إحرام.
وفيه أيضاً: إذا جاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم بعمرة وأفسدها قضى فيها؛ لأن الإحرام عقد لازم لا يخرج المرء عنه إلا بأداء الأفعال، وقضائها بعد ذلك؛ لأنه التزمها بوصف الصحة، ولم يؤدها ولا دم عليه لترك الوقت إذا نقضها من الوقت كله، والقضاء يقوم مقام الأداء، فكأنه لم يفسد العمرة.(2/718)
الفصل الخامس: فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه وما لا يحرم
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
-----
نوع منه في الصيود. قال الكرخي في كتابه في بيان حد الصيد: أن الصيد هو الحيوان المتوحش بأصل الخلقة، وهو المذكور في كتاب اللغة، قال محمد رحمه الله: صيد البحر حلال للمحرم قال الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} (المائدة: 96) وأما صيد البر، فجنسه حرام على المحرم إلا ما استثناه رسول الله عليه السلام، قال الكرخي في «كتابه»: صيد البرّ ما يكون مثواه وتوالده في البرّ، وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في البحر، والمعتبر هو التوالد دون الكينونة؛ لأن الأصل هو التوالد، والكينونة تكون بعارض، فيعتبر الأصل، فيتناول جنسه مأكول اللحم.
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: أن كلّ حيوان يعيش في الماء، فهو صيد البحر، وكل حيوان يعيش في البرّ إذا أخرج من الماء، فهو صيد البر، وينطوي في صيد البرّ مأكول اللحم وغير مأكول اللحم؛ لأن الله ذكر الصيد في آية التحريم بلام التعريف حيث قال: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: 95) فتناول جنسه، واسم الصيد فما يتناول مأكول اللحم ويتناول غير مأكول اللحم لما ذكرنا من حد الصيد إلا أن البعض صار مستثنى عن التحريم ببيان رسول الله عليه السلام، حيث قال: «خمس من الفواسق يقتلن في الحرم الفأرة والحية والعقرب والحدأة والكلب (172ب1) العقور»، وفي بعض الروايات «الغراب» مكان الحية، وفي بعض الروايات مكان الكلب العقور، فإذا صارت هذه الأشياء مستثناة عن التحريم صارت مستثناة عن وجوب الجزاء بقتلها؛ لأن المحرم بقتل هذه الأشياء لا يصير جانياً على إحرامه بارتكابه شيئاً من محظورات إحرامه،(2/719)
-----
بعد هذا قال الشافعي رحمه الله: استثناءً لما عداها من السباع نحو الفهد، والأسد، والبازي، والصقر، وابن آوى، لأن استثناء الخمس؛ لأنهن مؤذيات طبعاً، وقد وجد الإيذاء طبعاً في هذه الأشياء، وإنا نقول: استثناء الخمس لوجود الأذى منهن عادة؛ لأن سكنى الخمس فيما بيننا إما مزارعاً، أو مساكناً كالفأرة والحية والعقرب والكلب العقور أو مزارعاً لا مساكناً كالحدأة، والغراب، والذئب، ومن طبعهن الأذى فيوجد الأذى عادة، فأما الفهد والبازي والصقر وأشباهها من السباع بعيد منا مساكناً ومزارعاً؛ لأن من عادتهن التباعد من الناس، ولا يوجد الأذى منهن، فاستثناء الخمس لا يدل على استثناء سائر السباع مستثناة عندما تجب الحماية بقتلها ولا يجاور به الدم عند علمائنا البيت، والأصل فيه قوله عليه السلام «الضبع صيد»، وفيه شاة إذا قتله المحرم،
هذا إذا قتل المحرم السبع ابتداء من غير أذى من جهته، فأما إذا قتله بناءً على أذى من جهته فلا جزاء، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قتل ضبعاً فأدى جزاءه، وقال: إنا ابتدأناها.... بالابتداء منه يدل على أن الابتداء إذا كان من السبع أنه لا يلزمه الجزاء،
والمعنى أن حالة الأذى تصير من جملة الفواسق؛ لأن الفسق اسم مشتق من الخروج، وقد خرج علينا، وعلى حقوقنا، فإنما قتل صيد هو ليس بمحرم أصلاً، فلا يلزمه الجزاء.
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: محرم أصاب بازياً أو عقاباً كَفَّر ابتداء بالإيذاء أو لم يبتدي وكذا الطير إذا ذبحه المحرم، فعليه الكفارة، وإن ابتدأنا لأذى في طعام أو ما أشبهه إلا أن يكون طعاماً له ثمن، وابتدأه بالأذى، فحينئذٍ لا كفارة.
قال الكرخي رحمه الله في «كتابه»: وليس في هوام الأرض كالقنفذ والخنافس شيء على المحرم؛ لأنه ليس بصيد، وفي اليربوع والسنور الكفارة إذا لم يبتدىء بالأذى؛ لأنه صيد، وكذلك الذئب والثعلب والفيل، وكذلك الخنزير والقرد.(2/720)
-----
قال: والفيل إذا كان وحشياً، ففيه الجزاء، وإن كان أهلياً، فلا جزاء؛ لأنه ليس بصيد، وذكر في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: الفيل مطلقاً وأوجب فيه الجزاء إذا لم يبتدى بالأذى قال: إلا أنه لا يجاوز فيه شاة، وعن أبي حنيفة لا شيء في السنور الأهلية والوحشية، والكلب العقور؛ لأن الجنس واحد.
وروى هشام عن محمد الكفارة في السنور الوحشي، وفي الضب الجزاء، وكذلك في الأرنب؛ لأن كل واحدة منهما صيد، ولا يوجد منه الأذى عادة وفي العقعق الجزاء؛ لأنه صيد ولا يوجد منه الأذى عادة.
قال: وفي «المنتقى» هشام عن محمد: إنما أمر بقتل الغراب في الحرم؛ لأنه يقع على ذنب، وقال أبو حنيفة: الغراب الزرعي لا ينبغي أن يقتله المحرم، وروى مثله ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله.
وذكر في «المنتقى» بعد هذه المسائل لو قتل غراباً، وقد ابتدأه بالأذى، أو لم يبتدىء، فلا كفارة إن كان أبقع، أو من السود التي تأكل الجيف،
فإن كان صغير لا يأكل الجيف، ويأكل الزرع الذي يسمى الزاغ فعليه كفارة، وإن كان أمامه غراب يخلط يأكل الزرع ويأكل الجيف فلا كفارة. قال الكرخي في «كتابه»: ولا يقوم المحرم في الجزاء إلا قيمته لحماً.
ومعنى المسألة: أن المحرم إذا قتل بازياً صيوداً لا يقوم عليه في الجزاء معلماً؛ لأن المعتبر في وجوب الجزاء معنى الصيدية، وكونه معلماً ليس من الصيدية في شيء.
قال في «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله: ولا يجاوز بقيمته شاة، وأشار أبو يوسف إلى العلة، فقال: لأنه ذو مخلب، فليس فيه وفيما أشبهه، ولا في شيء من السباع أكثر من الشاة، قال أبو يوسف رحمه الله: وما لم يكن نحو البازي من النعام والحمام وحمام الوحش، فعليه قيمته بالغة ما بلغت.j
وكذلك لو قتل حمامة تجيء من بعيد لا تعتبر تلك في إيجاب الجزاء، بل تقوم الحمامة على اللحم أو على القيمة بقيمة الزارع الذي يؤكل.(2/721)
-----
قال في «المنتقى»: وكذلك ما يتخذ في البيوت من أصناف الصيود لصاحبه، وغير ذلك، وفيه أيضاً لو قتل ظبية حاملاً يقوم في الفداء حاملاً.
وفيه أيضاً: محرم أصاب ظبياً في مدينة السلام، وقيمته قيمة أكثره، قال أبو يوسف: يقوم عليه في الكفارة قيمة ظبي الحرم وفي الضمان لصاحبه قيمته التي يشترى بها أي: بمدينة السلام.
وفي «الجامع الصغير»: محرم ذبح بطَّة من بطّ الناس أو دجاجة، فلا جزاء عليه أما الدجاجة، فلأنها ليست بصيد، وأما البط قال مشايخنا: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» محمول على البط الذي يكون في المنازل والخاص؛ لأنه يستأنس بجنسه، فأما البط الذي يطير، فهو صيد يجب على المحرم الجزاء بذبحه.
وإن ذبح حماماً مسرولاً فعليه جزاؤه؛ لأنه صيد بجنسه، فإن جنس الحمام متوحش بأصل الخلقة وأراد بالمسرول الذي على قوائمه الريش سمي بذلك؛ لأن الريش بمنزلة السراويل له.
وفي «الجامع الصغير» أيضاً: محرم قتل برغوثاً أو قملة أو بقة، فلا شيء عليه، وإن قتل قملة على يديه أطعم شيئاً، أما إذا قتل قملة على يديه قائماً أطعم شيئاً؛ لا لأنها صيد، ولكن لأنها ما دامت على البدن، فقتلها من قضاء التفث؛ لأنها متولدة من البدن، ويتأذى بها ويرتفق بإزالتها، وقضاء التفث حرام على المحرم، فإذا قتلها مقدار مكثه محرماً، فيؤاخذ به؛ حتى لو كانت القملة ساقطة على الأرض فقتلها، فلا شيء عليه؛ لأن قتلها في هذه الصورة ليس من قضاء التفث بخلاف البرغوث (173أ1) والنملة وأشباهها؛ لأن هذه الأشياء ليست بصيد، وقتلها ليس من جملة قضاء التفث أيضاً لأنها لا تنمو من البدن، ثم إن محمداً رحمه الله قال في «الجامع الصغير»: في قملة أطعم شيئاً، وفي «الأصل» قال: تصدق بشيء، وفي «القدوري»: أوجب فيها الصدقة بكف من طعام.(2/722)
-----
وفي «عيون المسألة»: محرم أخذ قملة من رأسه وقتلها، أو ألقاها أطعم بها كسرة خبز، وإن كانتا اثنتين أو ثلاثاً أطعم قبضة من طعام وإن كان كثيراً أطعم بنصف صاع، وما ذكر في «الجامع الصغير» و «العيون» يشير إلى أنه لا يشترط التمليك، ويكتفى بالإباحة، وهو الصح.
وفي «الفتاوى»: محرم وقع في ثيابه قمل كثير، فألقى ثيابه في الشمس ليقتل القمل من الشمس، فمات القمل، فعليه الجزاء نصف صاع من حنطة إذا كان القمل كثيراً، ولو ألقى ثوبه ولم يقصد أن يقتل القمل من حر الشمس، فلا شيء عليه؛ لأنه في الوجه الأول سبب، وفي الوجه الثاني لا إنما قصد إلقاء الثوب لا غير.... أنه لو غسل ثيابه، فمات القمل لم يكن عليه جزاء.
وفي «المنتقى»: عن محمد: محرم دفع ثوبه إلى حلال لغسيله قال: إذا علم أنه قتل قملاً، فعليه الكفارة.
وفي «الفتاوى»: إذا دفع المحرم ثوبه إلى حلال ليقتل ما فيه من القمل، فقتله كان على الآمر جزاء، وكذلك لو أشار إلى قملة، فقتلها المشار إليه كان على المشير الجزاء.
وفي «المنتقى» إذا قال المحرم لحلال: ارفع هذا القمل عني، ففعل فعليه الكفارة.
وإذا قتل المحرم بعوضاً أو ذباباً أو حَلَماً فلا شيء عليه لما قلنا في البرغوث قد ذكرنا أن ما لا يؤكل من صيود البر لا يجاور في جزاءه الدم.
وأما ما يؤكل من صيود البر يجب في جزائه قيمتها بالغة ما بلغت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويستوي أن يكون المقتول صيداً له مثل من النعم خلقة أولا مثل له من النعم خلقة.
وقال محمد والشافعي: ماله مثل من النعم خلقة وصورة يجب في جزائه المثل خلقة، فيجب في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وكذلك قالا فيما لا يؤكل ماله مثل من النعم يجب في جزائه المثل خلقه حتى قالا: يجب في الضبع شاة، وفيما لا مثل له من النعم خلقة وصورة وتجب القيمة،(2/723)
-----
والمنصوص عليه في كتاب الله المثل بعد هذا قال محمد والشافعي رحمهما الله: المثل حقيقة هو المثل صورة ومعنى، والقيمة مثل معنى الصورة، فيكون مجازاً، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر العمل بالحقيقة،
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: المثل معنى وهو القيمة، أريد بهذا النص فيما لا مثل له خلقة وصورة، فلا يبقى المثل صورة مراداً كيلا يؤدي إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما روي عن الصحابة في هذا الباب أنهم أوجبوا بالمثل صورة، فتأويله أنهم أوجبوا ذلك باعتبار القيمة لا باعتبار الصورة والأعيان، وإذا وجب المثل معنى، وهو القيمة عند أبي حنيفة وأبي يوسف مطلقاً، وعندهما فيما لا مثيل له صورة، فعلى رواية «الجامع الصغير» يعتبر مكان القتل في اعتبار قيمة الصيد لا غير، فيُقوِّم الحَكَمان الصيد المقتول في المكان الذي قتله إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك المكان، وإن كان لا يباع ولا يشترى في ذلك المكان ففي أقرب الأماكن من ذلك المكان مما يباع فيه الصيد ويشترى والواحد يكفي للتقويم على قصد القياس، لكن اعتبرنا بالمثنى اتباعاً للنص.
وعلى رواية «الأصل» اعتبر المكان والزمان في اختيار قيمة الصيد، وهو الأصح؛ لأن قيمة الصيد كما تختلف باختلاف المكان تختلف باختلاف الزمان، ثم إذا ظهرت قيمة الصيد ينظر إن بلغت ثمن هدي كان القاتل بالخيار إن شاء أهدى، وإن شاء اشترى بها طعاماً، وأطعم كل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعاً من تمر أو شعير، وإن شاء نظر كم يؤخذ بها من الطعام؟ فيصوم عن كل نصف صاع من حنطة يوماً، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: الخيار إلى الحكمين، فأي نوع عيناه لزمه ذلك، والأصح قولهما؛ لأن الاختيار إنما يثبت نظراً لمن عليه، ونظره في أن يكون التعيين معوضاً إليه، ويجوز اختيار الصوم مع القدرة على الهدي والإطعام؛ لأن الله تعالى ذكر بكلمة «أو» وإنها للتخيير.(2/724)
-----
ثم إن اختار الهدي ذبح بمكة، قال الله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} (المائدة: 95) وإن ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام ولم يجزىء عن الهدي، معنى قوله: أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه بقية الطعام؛ لأن جواز الهدي يختص بمكة، وإن اختار الطعام أو الصيام يجوز في غير مكة، وإذا اختار الهدي يهدي بما يجوز به، وهو الجذع من الضأن إذا كان عظيماً، والشيء من غيره،
وإن اختار الهدي، وفضل عنه شيء نحو إن قتل شيئاً تزيد قيمته على قيمة شاة، ولا تبلغ قيمته قيمة بدنه أو بقرة، والزيادة على قيمة الشاة لا تبلغ قيمة شاة أخرى، فهو في الزيادة مخير إن شاء صرفها إلى الطعام، وإن شاء صرفها إلى الصوم؛ لأن تلك الزيادة إذا لم تبلغ هدياً، فهي في الحكم كالصيد الصغير الذي يبلغ هدياً، وثمة الجواب هكذا، وإن اختار الصوم قُوِّم المقتول طعاماً، وصام عن كل نصف صاع حنطة يوماً، وإن فضل عن الطعام أقل من نصف صاع كان مخيراً إن شاء صام عنه، وإن شاء أخرج طعاماً؛ لأن الصوم لا يكون أقل من يوم.
قال في «الأصل»: والعامد والخاطىء في قتل الصيد سواء؛ لأن الله تعالى حرم على المحرم قتل الصيد مطلقاً، والتقييد بالعمد في قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً} (المائدة: 95) ليس لأجل بل للوعيد المذكور في آخر الآية المستفاد بقوله: {ليذوق وبال أمره} (المائدة: 95) قال: (173ب1) والمملوك والمباح في ذلك سواء؛ لأن اسم الصدقة يتناول الكل، ولا يحل أكل الصيد الذي ذبحه المحرم؛ لأن الصيد لا يحل وقتل الصيد غير مشروع، فلا يفيد إباحة التناول، فإن أتى المحرم الجزاء، ثم أكل منه ضمن قيمة ما أكل منه عند أبي حنيفة، وعندهما لا يلزمه سوى الاستغفار شيء، وأجمعوا على أنه لو أكل منه محرم آخر، وأكل منه حلال أنه لا يلزمه شيء سوى الاستغفار.(2/725)
-----
ولو أصاب الحلال صيداً في الحل وذبحه، لا بأس للمحرم أن يأكله به ورد «الأثر عن رسول الله عليه السلام»، هذا بيان حكم قتل الصيد.
جئنا إلى بيان حكم الجراحة، قال محمد في «الأصل»: المحرم إذا جرح صيداً إن علم بموته بعد الجراحة، وهذا ظاهر، وإن علم أنه برأ من الجراحة، فهو على وجهين:
إن لم يبق للجراحة أثر، فلا شيء عليه هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه»، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه»: أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف يلزمه صدقة باعتبار ما أوصل من الألم إلى الصيد، وهذا اختلاف نظير اختلافهم في الصيد المملوك إذا جرحه إنسان، وبرأ من الجراحة على وجه لا يبقى لها أثر.
وأما إذا بقي لها أثر ضمن النقصان عندنا، وإذا غاب عنه، ولم يعلم أنه مات بعد الجراحة أو برأ، فالقياس لا يلزمه النقصان، وفي الاستحسان يلزمه النقصان لا غير كما في الصيد المملوك؛ لأنه وقع الشك فيما زاد على النقصان، وفي الاستحسان يلزمه جميع قيمة الصيد؛ لأن ضمان الصيد يسلك مسلك العبادة حتى وجب على المعذور، والعبادة إذا وجبت من وجه دون وجه ترجح جانب الوجوب احتياطاً، بخلاف الصيد المملوك؛ لأن الواجب هناك في حق العبد، وحق العبد لا يجب مع الشك.
في «المنتقى»: بشر بن الوليد عن أبي يوسف: محرم ضرب على عين صيد، فانتصب ثم ذهب البياض، أو نتف صيد لم ينبت ريشه، فعليه طعام يتصدق به.
في «الجامع الصغير»: محرم شوى بيض صيد، فعليه الجزاء لابتدائه بالشيء، وهو أصل الصيد، فيعطى حكم الصيد احتياطاً، فيلزمه قيمته صيداً، قالوا: هذا إذا لم يكن البيض إذا كان قدر، فهو ليس بأصل الصيد، وكذلك لو كسرها، فعليه الجزاء ذكر مسألة الكسر في «الأصل»، فإن كان فيها فرج ميتاً إن علم أنه كان ميتاً قبل الكسر فلا شيء عليه، وإن علم أنه كان حياً قبل الكسر، فعليه قيمته؛ لأنه أتلف ما هو صيد، وإن لم يعلم أنه كان حياً أو ميتاً فعليه قيمته استحساناً احتياطاً.(2/726)
-----
قال في «الأصل»: وكذا إذا ضرب بطن ظبية، وطرحت ظبياً ميتاً، ثم ماتت، فعليه جزاء، وهما جميعاً أخذ فيه بالثقة؛ لأن الضرب سبب صالح لموتهما، وقد ظهر عقيبه، فيحال به عليه، وإنما أراد بقوله: أخذ فيه بالثقة إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الضمان الواجب حقاً للعباد، فإن من ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً، وماتت كما وجب هناك ضمان الأم لا يجب ضمان الجنين، لأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم من وجه، وفي حكم النفس من وجه، وجزء الصيد مبني على الاحتياط، فرجحنا جانب النفسية وأما..... الجنين احتياطاً، فأما الضمان الواجب لحق العباد فغير مبني على الاحتياط، فلم يترجح جانب النفسية في الجنين، فلم يوجب ضمانه.
وفي «الجامع الصغير»: إذا حلب لبن صيد يلزمه الجزاء قيمته؛ لأن اللبن سبب لتربية الصيد فيعطى حكم الصيد، وإذا شوى جرادة، فعليه الجزاء.
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف: إذا حلب عيراً من الظباء، فعليه ما نقص العير قيمته، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال «ثمره خير أده»، وإذا أدى قيمة البيضة والجراد ملكه إذ المضمون يملك عند أداء الضمان كما في ضمان الأموال، فلو أنه باع هذه الأشياء بعد ذلك جاز ولكن يكره، أما الجواز، فرق بين هذه الأشياء وبين الصيد إذا ذبحه المحرم وأدى قيمته، ثم باع اللحم حيث لا يجوز.(2/727)
-----
والفرق أن الصيد محل الذبح، وقد تعلق حله بذبح شرعي، ولم يوجد فصار ميتة وبيع الميتة لا يجوز، أما هذه الأشياء لم يتعلق حلها بذبح شرعي، فلا تصير ميتة، وقد ملكها بالجزاء فَثَمَّ رافع، وأما الكراهة، فلأنه لو أطلق في بيعها يتطرق الناس إلى مثله وذلك قبيح، ولا بأس للمشتري أن ينتفع به من حيث التناول، بخلاف البائع، فإنه لا يحل له؛ لأن الحل في حق البائع إنما لم يثبت لا لأنها ميتة بل لئلا يطرق الناس إلى مثله، وهذا المعنى لا يتأتى في حق المشتري، ولو كان القاتل للصيد قارناً، فعليه جزاءان؛ لأن القارن محرم بإحرامين، فبقتل الصيد يصير جانياً عليهما، فيلزمه جزاءان لهذا.
نوع آخرهو في معنى قتل الصيد، وهو الدلالة على الصيد
فنقول: كما يحرم على المحرم قتل الصيد يحرم عليه الدلالة على الصيد؛ لأن الدلالة تفويت للأمن عن الصيد؛ لأن الصيد يأمن عند القدرة و....... حتفه وعند العجز، والبوم باختفائه عن أعين الناس، وبالدلالة يزول الاختفاء، فيزول ما به الأمن، فصار الدلالة نظير الأخذ والقتل، وإذا ثبت أن الدلالة في معنى قتل يتعلق بها من الجزاء ما يتعلق بالقتل، ولأجل هذا المعنى يتعلق بها حرمة الصيد حتى حرم الصيد الذي دل المحرم عليه كما حرم الصيد الذي قتله المحرم، هكذا ذكر في «الأصل»، وإليه أشار عليه السلام في «قصة أصحاب أبي قتادة».
وفي «المنتقى»: المحرم إذا دلّ حلالاً على صيد، وقتله الحلال، فلا ينبغي للدال أن يأكل منه، وإن حل من إحرامه، وكذلك غيره من المحرمين، ولا بأس للحلال أن يأكله بأربع شرائط:
أحدها: أن يتصل بها القتل؛ لأن كونها مفوتة للأمن على شرف الزوال بترك المدلول أخذه، وقراره عن ذلك المكان، فكان كالمغصوب قبل الهلاك.
والثاني: بأن لا يكون المدلول عالماً بمكان الصيد؛ لأنه إذا كان عالماً به ففوات الأمن لا يكون مضافاً إلى الدلالة.(2/728)
-----
الثالث: أن يصدقه (174أ1) المدلول في دلالته، ويتبع أثره، أما إذا كذبه في دلالته وإن تبع أثره حتى دله آخر، فصدقه واتبع أثره، فقتله، فلا جزاء على الدال الأول؛ لأن فوات أمن الصيد لا يكون مضافاً إلى دلالته إذا كذبه في دلالته.
الرابعة: أن يأخذ المدلول الصيد، والدال محرم، فأما إذا حل الدال من إحرامه قبل أن يأخذه المدلول، فلا جزاء على الدال؛ لأن الدلالة إنما تتم جناية عند فوات الأمن عن الصيد بإثبات الآخذ يده عليه، فإذا لم يكن الدال محرماً وقت الأخذ لا يتم فعله جناية.
ومسائل الدلالة أقسام:
أحدها: محرم دل محرماً على صيد، فقتله المدلول، فعلى كل واحد منهما جزاء كامل، ذكره في «الأصل».
والثاني: محرم دل حلالاً على الصيد، فقتله المدلول، فعلى الدال قيمته، ولا شيء على الحلال ذكره في «الأصل» أيضاً.
والثالث: حلال دل محرماً على صيد، والحلال في الحرم فقتل المحرم الصيد، فليس على الدال الجزاء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقولهما ذكر في «الجامع الكبير»، وهكذا ذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة، وفي «الهارونيات» قال: على الحلال نصف قيمته.
محرم رأى صيداً في موضع لا يقدر عليه، فدله محرم آخر على الطريق إليه، فذهب فقتله كان على الدال الجزاء؛ لأن دلالته على الطريق كدلالته على الصيد.
وكذلك لو أن محرماً رأى صيداً دخل غاراً، فأقبل رجل يطلبه، فدله المحرم على باب الغار فأخذه وقتله، فعلى المحرم جزاؤه، وكذلك لو رأى محرم صيداً في موضع لا يقدر عليه بوجه من الوجوه إلا أن يرميه بشيء، فدله محرم آخر على قوس، ونشاب ودفع ذلك إليه فرماه وقتله، فعلى كل واحد منهما الجزاء.
محرم استعار من محرم سكيناً ليذبح صيداً له، فأعاره فذبح به الصيد، فلا جزاء على صاحب السكين،(2/729)
-----
وفي «السير»: إن عليه الجزاء، قال الشيخ أبو العباس الناطفي رحمه الله: ما ذكر في «الأصل» محمول على ما إذا كان المستعير يقدر على ذبحه بغيره، أما إذا لم يقدر على ذبحه بغيره يضمن كما ذكر في «السير».
وفي «الأصل»: ولو أمر المحرم محرماً بقتل صيد ودله عليه، فأمر الثاني ثالثاً بقتله فقتله، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل قيمته.
ولو أخبر محرم محرماً بصيد، فلم يره حتى أخبره محرم آخر، فلم يصدق الأول، فلم يكذبه، ثم طلب الصيد وقتله كان على كل واحد الجزاء. ولو أرسل محرم محرماً إلى محرم فقال: قل له: إن فلاناً يقول لك: في هذا الموضع صيد فذهب فقتله، فعلى الرسول والمرسل والقاتل على كل واحد قيمة الصيد، وإن كان المرسل إليه يراه، ويعلم به فلا شيء على أحد إلا القاتل، فإن عليه الجزاء.
ولو أن محرماً أشار إلى صيد، وقال لرجل: خذ ذلك الصيد من وكره، وهو يرى صيداً واحد في (المشار إليه)، فانطلق ذلك الرجل، وأخذ ذلك الصيد، وصيد آخر كان في الوكر، فإن على الآمر جزاء الذي أمر به، ولا شيء عليه في الآخر ذكره هشام عن أبي يوسف، وذكر هشام أيضاً عن محمد في محرم أشار إلى جراد، ولم يكونوا رأوها إلا من دلالته، فأخذوها، فعلى الدال لكل جرادة تمرة، إلا أن يبلغ ذلك دماً، فعليه دم.
نوع منه فى المحرم يضطر إلى الصيد
روى الحسن بن زياد: اضطر إلى ميتة وإلى صيد ذبحه قال أبو يوسف رحمه الله: يذبح الصيد ويكفر، وبه أخذ الراوي.
وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر: يأكل الميتة ويذبح الصيد؛ لأن في أكل الصيد ارتكاب محظورين الذبح وارتكاب أكل الميتة الحسن؛ لأنه ميتة حكماً وإن اضطر إلى ميتة، وإلى صيد ذبحه محرم، فعلى قول أبي حنيفة، وهو قول محمد أكل الصيد ولم يأكل الميتة، وإن وجد صيداً حياً ولحم كلب أكل لحم الكلب وترك الصيد؛ لأن في أكل الصيد ارتكاب محظورين.(2/730)
-----
وإن كان وجد صيداً، ومال مسلم ذبح الصيد، ولا يأخذ مال المسلم؛ لأن الصيد حرام حقاً لله تعالى، ومال المسلم حرام حقاً للعبد وكان الترجيح لحق العبد لحاجته، وإن وجد لحم إنسان وصيداً يذبح الصيد، ولا يأكل لحم الإنسان استحساناً؛ لأن الصيد حرام حقاً لله تعالى، ولحم الإنسان حرم حقاً لله تعالى والإنسان، فما استويا في الحرمة.
نوعفي المحرم شاركه غيره في قتل الصيد
إذا أشرك محرماً في قتل صيد، فعلى كل واحد منهما قيمة كاملة؛ لأن الواجب على المحرم جزاء وكفارة، والكفارة لا تتجزأ، وإن كان الصيد مملوكاً للآدمي، فكذلك الجواب فيما يعود إلى حق الله تعالى، ويصرف إلى..... ويغرمان قيمة واحدة للمالك بدل المحل والمتلف في حقه محل واحد، وهو نظير رجلين قتلا عبداً لرجل خطأ، فعلى كل واحد منهما كفارة على حدة وقيمة واحدة للمالك عليهما، ولهذا قلنا: ما لزم المحرمين لله يسقط بالصوم، وهذا كفارة كونه كفارة.
محرم أخذ صيداً، وقتله محرم آخر في يده، فعلى كل واحد منهما الجزاء أما الآخذ؛ فلأنه جان على الصيد بإزالة الأمن، فإنه أثبت يده عليه، وأخذه وهو يخاف منه، وأما القاتل؛ فلأنه بالقتل قرر فوات الأمن؛ لأن فوات الأمن بالآخر كان يوحي الزوال بانفلات الصيد أو بإرسال الأخذ، وبالقتل يتقرر ذلك الفوات، وللتقرير حكم الإنشاء على ما عرف، ثم الآخذ يرجع على القاتل بما ضمن؛ لأن سبب ملك الصيد في حق الأخذ قد وجد، وهو الأخذ لكن لم يثبت له الملك المانع، وهو إحرام الصيد، وهذا المانع خص الصيد، فلا يصير الامتناع في حق بدله، كان الأصل صار مملوكاً له.
نوع منه فى لبس المخيط(2/731)
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: لا يلبس المحرم قميصاً ولا قباء ولا سراويلاً ولا قلنسوة ولا خفين به ورد «الأثر (174ب1) عن رسول الله عليه السلام» رواه ابن عمر رضي الله عنهما، وما ذكر من الجواب في الفتيا محمول على ما إذا وضعه على منكبه وأدخل يديه في كميه وزره أو لم يزره، فأما إذا وضع على منكبيه ولم يدخل يديه في كميه، ولم يزره فلا بأس به عندنا؛ لأنه بمعنى التردي.
والأصل أن المحرم ممنوع عن لبس المخيط على وجه المعتاد حتى لو اتزر بالسراويل وارتدى بالقميص إذا فسخ به فلا بأس به؛ لأن المنع عن لبس المخيط في حق المحرم لما فيه من معنى الترفيه، وذلك في اللبس المعتاد لا في غيره؛ لأن غير المعتاد يحتاج إلى تكلف حفظه عند استعماله كما يحتاج إلى تكلف حفظ الأزرار، ويكره له أن يزر ليس أن يعقده على إزاره بحبل أو نحوه؛ لأنه لا يحتاج في حفظه إلى تكلف، فيشبه المخيط مع هذا لو فعل لا شيء عليه لأن المحرم عليه لبس المخيط ولم يوجد، ولا يلبس الجوربين كما لا يلبس الخفين وإذا لم يجد نعلين، وله خفان قطعهما أسفل الكعبين، وتعتبر الكعب هنا العظم المربع في وسط القدم عند معقد الشراك، وإنما أمر بذلك ليصيرا في معنى النعلين، وإذا لبس المحرم المخيط على وجه المعتاد يوماً إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة، وفسر الكرخي الصدقة ههنا فقال: نصف صاع من بر، قال: وكذلك كل صدقة في الإحرام غير مقدرة فيفسرها بهذا إلا في قتل القمل والجراد.d(2/732)
-----
وفي «المنتقى»: إذا لبس قميصاً أكثر اليوم، فعليه دم في قول أبي حنيفة الأول ثم رجع، وقال: حتى يكون يوماً كاملاً وهو قول محمد، وعن محمد إذا لبس بعض اليوم، فإني أرى أن أحكم عليه من الدم مقدار لبسه، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا لبس قميصاً أكثر من نصف يوم أو أكثر من نصف ليلة فعليه دم، وإن لبس ما لا يحل لبسه من المخيط يوماً أو أكثر بضرورة، فعليه أي الكفارات شاء وذلك إما النسك أو الصوم أو الصدقة، فإن اختار النسك أو الصوم أو الصدقة، فإن اختار النسك ذبح في الحرم، وإن اختار الصوم صام ثلاثة أيام في أي مكان شاء، وإن اختار الصدقة تصدق بثلاثة أصوع حنطة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والأفضل أن يتصدق على فقراء مكة، ولو تصدق على غير فقراء مكة جاز، وإن أطعم طعام الإباحة جاز عند أبي يوسف، وعند محمد لا يجوز قيل: قول أبي حنيفة كقول محمد رحمهم الله، ووجه ذلك أن هنا حق مالي شرع بلفظ الصدقة، فلا يتأدى بالتمليك قياساً على الزكاة.(2/733)
-----
وإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق كذلك دماً، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وإن اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين، فعليه كفارة الضرورة؛ لأن الزيادة في موضع الضرورة، فلا تصير جناية مبتدأة، وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الزيادة في موضع الضرورة لا تعتبر جناية مبتدأة، بل يجعل الكل للضرورة لا ينصب له الميزان، ويختلف الناس باختلاف أبدانهم وباختلاف الهواء في ذلك الوقت، والزيادة في غير موضع الضرورة تعتبر جناية مبتدأة حتى إنه إذا اضطر إلى لبسه قميصاً، فلبس قميصاً، ولبس معه عمامة أو قلنسوة، فعليه دم في لبس القلنسوة، وفي لبس القميص يخير في الكفارات يختار أي ذلك شاء؛ لأنهما مختاران، فيعتبر لكل لبس الحكم اللائق به، وإذا اضطر إلى لبس قميص، فلبسه فلما مضى اليوم ذهبت الضرورة، فتركه عليه حتى مضى يوم أو يوماً، فما دام في شك من الضرورة، فذلك ضرورة، وليس عليه إلا كفارة الضرورة، وإذا جاء اليقين أن الضرورة قد ذهبت عنه من قبل... فلبس بعد ذلك، فعليه كفارتان كفارة الضرورة على قدر ما لبس، والكفارة الأخرى على قدر ما لبس.
ذكر هذه الجملة عيسى بن أبان عن محمد المحرم إذا لبس قميصاً أو جبة بالنهار، ونزعه بالليل لليوم ولبس من الغدو لم يعزم على ترك اللباس إنما نزعه لأجل اليوم، فعليه كفارة واحدة.(2/734)
-----
والحاصل أن لبس شيء واحد ما لم يتركه، ويعزم على الترك، فإذا تركه وعزم على الترك ثم لبسه، فهو لبس آخر أما بدون العزم على الترك، فهو لبس واحد، ومن هذا الجنس إذا لبس مخيطاً للضرورة أياماً، وكان ينزع بالليل للاستغناء من ذلك، فهذا كله جناية واحدة، بخلاف ما إذا نزع لزوال الضرورة، ثم اضطر إليه بعد ذلك ولبس، فإنه تلزمه كفارة أخرى؛ لأن حكم الضرورة الأولى قد انتهى بالرد، وكان اللبس الثاني جناية مبتدأة، بخلاف ما نحن فيه، وهو نظير ما لو داوى جرحه بدواء فيه طيب مراراً كان عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ، وإذا برأ، ثم جرحت له جراحة أخرى، فداواها بالطيب كان عليه كفارة أخرى.
في «المنتقى»: إذا كان كان المحرم يحمُّ يوماً، وتتركه الحمى يوماً، قد عرف ذلك، وكان يلبس في يوم الحمى ويترك اللبس في اليوم الآخر، فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب ذلك الحمى، وتأتيه حمى أخرى، وكذلك المحرم إذا عرض له عدو، واحتاج إلى لبس السلاح والدرع وما أشبه ذلك لمقاتلتهم، ثم تفرقوا ونزع ما عليه من السلاح، ثم عادوا فلبس ثانياً وثالثاً، فعليه في ذلك كفارة واحدة حتى يذهب العدو، ويأتيه عدو آخر، ولو لبس قميصاً يوماً أو أكثر من غير ضرورة وأراق كذلك دماً، ثم ترك القميص عليه بعد ما كفر أياماً كثيرة، فعليه كفارة أخرى.
ولو أحرم، وعليه مخيط، وتركه على نفسه يوماً أو أكثر عليه الكفارة؛ لأنه لبس مستدام، فيكون لدوامه حكم الابتداء.(2/735)
-----
ولا يغطي المحرم رأسه ولا وجهه، والمحرمة لا تغطي وجهها، وإن فعل ذلك إن كان يوماً (175أ1) إلى الليل، فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة، وكذلك لو غطى ربع رأسه، فصاعداً يوماً، فعليه دم وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة، هكذا ذكر في المشهور، وعن محمد رحمه الله أنه قال: لا يجب الدم حتى يغطي الأكثر من الرأس، والصحيح ما ذكر في المشهور؛ لأن ما يتعلق بالرأس من الجناية، فللربع حكم الكل لما تيسر بعد هذا.
ولو حمل المحرم شيئاً على رأسه، فإن كان شيئاً من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست، والإجانة وعدل بر ونحوها، فلا شيء عليه، وإن كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب، فعليه الجزاء؛ لأن ما لا يغطى به الرأس، فالمحرم يكون حاملاً له لا مستعملاً ألا ترى أن الأمين لو فعل ذلك لا يصير ضامناً؟
قال في «الأصل»: وإن استظل المحرم بفسطاط فلا بأس به، وكذلك إذا دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه والستر لا يصيب رأسه لا وجهه لا بأس به، لأن التغطية إنما تحصل بماس بدنه، وإن كان يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لمكان التغطية، وإن كان المحرم نائماً، فغطى رجل رأسه ووجهه بثوب يوماً كاملاً، فعليه دم؛ لأن فعل غيره كفعله بنفسه في حق حصول الارتفاق.
نوع منه في الجماع(2/736)
-----
حرام على المحرم بالنص قال الله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة: 197) والرفث هو الجماع عند بعض المفسرين، وإن جامع وكان مفرداً بالحج إن كان جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه دم، تكفيه الشاة، وعليه المضي في فاسده يفعل جميع ما يفعله في الحج الصحيح، وعليه الحج من قابل، وإن كان جامع ثانياً قبل الوقوف بعرفة، فعليه شاة أخرى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الثاني من محظورات الإحرام، وقال محمد رحمه الله: يكفيه كفارة واحدة، إلا أن يكون كفر عن الأولى، فيلزمه كفارة أخرى؛ لأن الجناية من جنس واحد، والمجني عليه واحد، فيثبت الاتحاد في الواجب كما في كفارة الصوم، فإن جامع في مجلس واحد مرتين تكفيه كفارة واحدة بلا خلاف.
وإن جامع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد حجة، وعليه جزور، فإن جامع جماعاً آخر، فعليه شاة مع الجزور؛ لأن الجناية الثانية تقاصرت عن الجناية الأولى لتمكن النقصان لوجود الجناية الأولى، فتكفيه الشاة، فإن كان الجماع الثاني على وجه الرفض فلا دم عليه للثاني.
ذكر القدوري في «شرحه»: وإن جامع وكان مفرداً بالعمرة إن جامع قبل الطواف فسدت عمرته ومضى في فاسده، وعليه عمرة مكانها، وعليه دم تجزؤه الشاة، وإن جامع بعد الطواف لا تفسد عمرته فعليه دم تجزؤه الشاة، وكذلك إذا جامع بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط لا تفسد عمرته؛ لأنه أتى أكثر الطواف، وللأكثر حكم الكل.(2/737)
-----
وإن كان قارناً، وجامع قبل أن يطوف لعمرته فسدت عمرته وحجه ويمضي فيها، وعليه دمان، وعليه حجة وعمرة من قابل، وسقط عنه دم القران؛ لأن دم القران وجب شكراً على ما اتفق له من نسكين صحيحين في سفرة واحدة، ولم يتفق له نسكان صحيحان، وإن جامع بعدما طاف لعمرته قبل الوقوف فسد حجه، ولم تفسد عمرته، وعليه دمان، وعليه قضاء الحج من قابل، وسقط عنه دم القران، وكذلك إذا جامع بعدما طاف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه ولم تفسد عمرته، وإن كان جامع بعدما وقف بعرفة لا تفسد عمرته ولا حجته، وعليه جزور لحجته وشاة لعمرته، ولزمه دم القران؛ لأنه اتفق له نسكان صحيحان في سفر واحد.
وإن كان متمتعاً، فإن لم يسق الهدي مع نفسه، فالجواب في المفرد بالعمرة، وإن ساق الهدي مع نفسه، فهو والقارن سواء، هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، لم يرد بهذه التسوية في حق جميع الأحكام.
ألا ترى أن القارن إذا جامع قبل أن يطوف لعمرته فسد عمرته وحجه، لأنه في إحرام الحج والعمرة جميعاً، والمتمتع قبل أن يطوف لعمرته تفسد عمرته لا غير؛ لأنه لم يصر شارعاً في إحرام الحج؟ وإنما أراد به التسوية في حق بعض الأحكام، وهو سقوط دم المتعة متى جامع قبل الطواف لعمرته، أو قبل الوقوف بعرفة، ولزوم بعده الدمين متى جامع قبل الوقوف بعرفة. فإن ساق الهدي مع نفسه لمتعة من التحلل بمتعة من التحلل بين النسكين، على ما تبين، فيبقى في إحرام العمرة كما كان، فإذا شرع في إحرام الحج، وجامع قائماً جنى على إحرامين.
والوطء في الدبر لا يفسد الحج ولا العمرة في إحدى الروايين عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن معنى الوطء متقاصر، ولهذا لم يجب الحد عنده، وفي رواية أخرى يفسد؛ لأنه كامل من حيث إنه ارتفاق.(2/738)
-----
وإذا أتى بهيمة لا يفسد حجة ولا عمرته أنزل، أو لم ينزل، غير أنه إن أنزل فعليه الدم، وإن لم ينزل فلا شيء عليه، وإذا جامع فيما دون الفرج وأنزل أو لم ينزل، أو قبل بشهوة أو لمس بشهوة وأنزل، أو لم ينزل لا يفسد حجة؛ لأن القياس أن لا يفسد الحج بالجماع وبدواعيه كما لا يفسد بسائر المحظورات لكن عرفنا الفساد بالجماع بالنص، والنص الوارد بالجماع لا يكون وارداً في هذه الأشياء؛ لأن الاستمتاع والارتفاق بالجماع أكمل وعليه دم أنزل أو لم ينزل لوجود أصل الاستمتاع.
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف: محرم قَبَّل امرأة بشهوة فعليه دم، وإن اشتهت هي فعليها دم أيضاً، وإن لم تشته هي فلا شيء عليها، ولو قبلها بغير شهوة فلا شيء عليه، ولو نظر إلى فرج (175ب1). امرأته بشهوة، قلت: ذكر في «الجامع الصغير»: أنه لا شيء عليه، وذكر في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا نظر إلى فرج امرأته بشهوة، فعليه دم، وإن جومعت المرأة مكرهة أو نائمة، أو كان جامع صبياً أو مجنوناً، فعليها الدم لحصول معنى الارتفاق لها.
نوع منه فى حلق الشعر وقلم الأظافير
يجب أن يعلم بأن حلق الشعر وقلم الأظافر حرام على المحرم؛ لأنه من جملة قضاء التفث وأوان قضاء التفث أوان التحليل، وهو ما بعد الرمي في اليوم الأول من أيام النحر وبعد الذبح والحلق.(2/739)
-----
قال محمد رحمة الله عليه في «الجامع الصغير»: محرم حلق موضع المحاجم، فعليه دم، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه صدقة، فهما يقولان إن موضع المحاجم لا يحلق لقضاء التفث ولا يقصد به ذلك، وإنما يقصد به الحجامة فمن حيث إنه حصل به قضاء التفث حقيقة أوجبنا الصدقة، ومن حيث إنه لا يقصد به قضاء التفث لم يوجب الدم، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: حلق هذا الموضع قضاء التفث حقيقة، وإنه مقصود لمن يقصد الحجامة، وقضاء التفث حقيقة (من) محظورات الإحرام، وإنما يسقط اعتباره إذا لم يكن مقصوداً أصلاً، وإنه ليس بهذه الصفة، فلا يسقط اعتباره.
ولو حلق الإبطين، أو حلق أحدهما فعليه دم، وكذلك إذا نتفه أو طلى بنورة؛ لأن حلق كل واحد منهما مقصود لمعنى الراحة، وإن حلق الرقبة كلها، فعليه دم؛ لأنه حلق مقصود للراحة.
قال في «الجامع الصغير»: إذا حلق من رأسه أو لحيته ثلثاً أو ربعاً، فعليه دم، وقال في «الأصل»: إذا أخذ ثلث لحيته أو رأسه فعليه دم، وذكر في «الأصل» لفظة الأخذ، وإنها تتناول الحلق والتقصير، وذكر حكم الثلث ولم يذكر حكم ما دونه، وفي «الجامع الصغير» ذكر لفظة الحلق، وإنها لا تتناول التقصير، وذكر حكم ما دون الثلث، وهو الربع، وإنما أوجب الدم بحلق الربع؛ لأنه يعمل عمل حلق الكل في المعنى الموجب للدم، وهو الارتفاق الكامل و(هو) المقصود.
أما في الرأس؛ فلأن عامة العرب يحلقون النواصي ويتركون الباقي، والأتراك يحلقون وسط الرأس قدر الربع، وبه يقع رفقهم عادة.
وأما في اللحية؛ فلأن اللحية إذا طالت قد يؤخذ منها الربع والثلث حتى لا يبقى إلا قدر قبضة، وإنه مطلوب للزينة، وهو عادة أهل العراق فيكون رفقاً كاملاً.(2/740)
-----
وإن أخذ من شاربه، فعليه حكومة عدل هكذا ذكر في «الجامع الصغير»، ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية؟ فيجب عليه الصدقة بقدر ذلك، حتى إنه إذا كان قدر ربع اللحية يلزمه ربع قيمة الشاة يتصدق به، هكذا ذكر في «الجامع الصغير»، وذكر في «الأصل» عن هذه المسألة، وقال: عليه الصدقة يحتمل أن يكون المراد الصدقة على التفسير الذي قلنا، ولو حلق الشارب كله يلزمه الدم، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه أخذ بعض أصحابنا.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يلزم الدم؛ لأنه طرف من أطراف اللحية، وهو تبع اللحية فالعضو واحد، وإنه دون ربع الكل، وما دون الربع ليس له حكم الكل، فلا يجب به الدم بل يكفيه الصدقة.
قال في «الجامع الصغير» عقيب هذه المسائل: وإذا حلق عضواً كاملاً فعليه الدم، وإن حلق بعضه فعليه الصدقة، وأراد به الفخذ والساق والإبط دون الرأس واللحية، وقد ذكرنا أن بحلق ربع الرأس واللحية يجب الدم، وهذا لأن الربع في الساق والفخذ والإبط لا يعمل عمل الكل في العادة؛ إذ العادة في هذه الأعضاء ليس هو الاقتصار على الربع، ولا كذلك الرأس واللحية على ما بينا.
وفي «المنتقى»: إذا نتف المحرم من إبطيه وهو كثير الشعر قدر ثلث أو ربع فعليه دم، وإن كان إبطه قليل الشعر، فنتف الأكثر فيه فعليه دم، فإن نتف الأقل منه أطعم كذلك نصف صاع. وفي كل موضع قلنا بوجوب الصدقة لا ينقص عن طعام مسكين واحد نصف صاع من حنطة، وقد مر هذا.(2/741)
-----
ولو حلق رأس حلال أو من شارب حلال شيئاً أطعم ما شاء عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، وعلى هذا الخلاف إذا حلق رأس محرم، أو أخذ من شارب محرم يجب على المحلوق رأسه إذا كان محرماً الجزاء بالإجماع؛ لأن ما هو المقصود من الحلق، وهو الراحة قد حصل له. وإذا ألبس المحرم محرماً أو حلالاً مخيطاً أو طيبه بطيب، فلا شيء عليه بالإجماع، وكذلك إذا قتل قملة على غيره لا يلزمه شيء.
في «الأصل»: حلق المحرم رأسه بغير عذر أراق دماً، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وإن فعل ذلك بعذر يخير بين الكفارات الثلاث على ما مر.
في «المنتقى» هشام عن محمد: إذا سقط من شعر رأس المحرم أو لحيته عند وضوئه ثلاث شعرات، فعليه كف من طعام، قال: وإن كان قدر جزء، فعليه دم، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: ما قدر الجزء؟ قال: قدر العشر من شعر اللحية أو الرأس، عنه أيضاً: إذا خبز العبد المحرم، فاحترق بعض شعر بدنه في التنور، فعليه الدم إذا عتق.
فيه أيضاً: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل جهل، وهو حاج فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمر، فلا شيء عليه.
فيه أيضاً: إذا حلق رأسه وأخذ من لحيته ثلثاً أو ربعاً فإن فعل ذلك في مقام واحد فعليه دم واحد، وإن فعل كل شيء من ذلك في مقام، فعليه في كل شيء من ذلك دم واحد وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: المقام والمقامات عندي على السواء، وإن حلق رأسه وأراق لذلك دماً وهو بعد في مقام واحد، ثم حلق لحيته أو شاربه فعليه دم آخر بلا خلاف (176أ1).
الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف»، فيمن أخر الحلق حتى مضى أيام النحر، فعليه دم، وكذلك القارن أو المتمتع إذا أخر الذبح حتى مضت أيام النحر.(2/742)
-----
إذا قلم المحرم جميع أظافيره، فعليه دم واحد هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإن قلم أظافير كف، فعليه دم؛ لأنه ربع الجملة، وهو رفق كامل وزينة تامة، وإن قلم أقل من كف فعليه صدقة؛ لأنه دون الربع قلم من كل كف أربعاً، فعليه الطعام إلا أن يبلغ دماً، فيطعم ما شاء معناه، فينقص من الدم ما شاء، وقال محمد رحمه الله: إذا قلم خمسة أظافير من يد واحد أو يدين أو يد ورجل، فعليه دم؛ لأنها ربع الجملة، وإذا قلم الأظافير كلها في مجالس متفرقة بأن قلم أظافير يد واحدة، ثم قلم أظافير اليد الأخرى في مجلس آخر، ثم قلم أظافير إحدى الرجلين في مجلس آخر، فإن كان حين قلم أظافير إحدى اليدين كَفَّر، ثم قلم أظافير اليد الأخرى لزمه كفارة أخرى، وعلى هذا حكم الرجلين. وإن كان لم يكفر حتى قص الأظافير كلها فعليه دم واحد في قول محمد رحمه الله، وعندهما يلزمه لكل فعل دم؛ لأن الفعل الواحد في مجالس مختلفة ينزل منزلة أفعال مختلفة.
ولو قامت الأفعال حقيقة بأن جامع وتطيب ولبس المخيط أنه يلزمه لكل فعل دم، وإذا انكسر ظفراً محرم وانقطع منه شطره، فقلمه فلا شيء؛ لأن ما انقطع لا شيء سئموا فقلمه لا يكون جناية.
في «المنتقى»: الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة، إذا قلم أصبعاً واحد، فعليه طعام مسكين، وقال أبو يوسف: عليه في ذلك قبضة من طعام، المحرم إذا قلم أظافر حلال أو محرم أطعم ما شاء عندنا، وعلى المقلوم أظافيره الدم إذا كان محرماً لما ذكرنا في الحلق، والله أعلم.
نوع منه فى الدهن والطيب والخضاب
يجب أن يعلم بأن المحرم ممنوع عن استعمال الدهن والطيب، قال عليه السلام في صفة الحاج «الحاج الشعث التفل»، وقال عليه السلام «يأتون شعثاً غبراً من كل فج عميق» واستعمال الدهن والطيب لهذا، فإذا استعمل الطيب، فإن كان كثيراً فاحشاً، فعليه الدم، وإن كان قليلاً فعليه الصدقة.(2/743)
-----
واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القليل والكثير، وإنما اختلفوا لاختلاف عبارات محمد رحمه الله، ففي بعض المواضع جعل حد الكثرة عضواً كثيراً، فقال: إذا خضب الرجل لحيته أو رأسه بالحناء، أو خضبت المرأة يدها أو رأسها بالحناء ففيه الدم، وفي بعض المواضع جعل حد الكثرة الكثيرة في نفس الطيب فقال: إذا اكتحل المحرم كحلاً فيه الطيب يكفيه الصدقة ما لم يفعل ذلك مراراً، فإذا فعل ذلك مراراً فعليه الدم، وقال في المحرم: إذا مس الطيب أو استلم الحجر فأصاب يده خلوق، إن كان ما أصابه كثير فعليه الدم، فبعض مشايخنا اعتبروا الكثرة بالعضو الكبير نحو الفخذ والساق، فقالوا: إذا طيب الساق أو الفخذ بكماله يلزمه الدم، وبعضهم اعتبروا الكثرة بربع العضو الكثير فقالوا: إذا طيب رب الساق، والفخذ يلزمه الدم، وإن كان أقل من ذلك يلزمه الصدقة.
والفقيه أبو جعفر رحمه الله اعتبر القلة والكثرة في نفس الطيب، فقال: إن كان الطيب في نفسه بحيث يستكثره بكفيه الناس، لكفين من ماء الورد، والكف من المسك أو الغالية، فهو كثير وما لا فلا، قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إن كان الطيب في نفسه قليلاً، إلا أنه طيب عضواً كاملاً، فإنه يكون كثيراً، أو تكون العبرة في هذه الحالة للعضو، وإن كان الطيب في نفسه كثيراً لا يعتبر العضو مكانه سلك فيه طريق الاحتياط، وإن مس طيباً إن لم يلزق بيده شيء منه، فلا شيء عليه، وإن لزق بيده منه إن كان كثيراً يلزمه الدم، وإن كان قليلاً لا يلزمه الدم، ويكفيه الصدقة.
وفي «المنتقى»: عن محمد رحمه الله: إذا أصاب المحرم طيباً فعليه دم، فقلت: ما فرق بين القميص والطيب فإن يلبس القميص لا يجب الدم حتى يكون أكثر اليوم؟ قال: لأن الطيب تعلق به، فقلت: وإن اغتسل من ساعته؟ قال: وإن.(2/744)
-----
وفيه: هشام عن محمد رحمه الله: خلوف الفرد إذا أصاب ثوب المحرم غسله، ولا شيء عليه فإن كان كثيراً أو أصاب جسده منه كثير، فعليه دم.
قال في «الأصل»: الوسمة ليست بطيب.... والحناء طيب لأن لها....، وذكر في «المنتقى» هشام عن محمد رحمه الله: إذا خضب رأسه بالوسمة يطعم نصف صاع مسكيناً.
وفيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا طيب المحرم شاربه كله، فعليه دم، وكذلك مثل موضع الشارب من اللحية والرأس، وأما الجسد فإن أصابه شيء كثير فعليه دم، وإن كان يسيراً فعليه طعام، ولم يوقت في الجسد شيئاً.
وفيه أيضاً: هشام عن محمد إذا مس طيباً كثيراً يجب عليه فيه الدم، فأراق لذلك دماً ولو ترك الطيب على حاله يجب عليه لأجل ترك الطيب دم آخر، ولا يشبه هذا الذي تطيب قبل أن يحرم، ثم أحرم وترك الطيب عليه بعد إحرامه، فإنه لا يكون عليه شيء.
وفيه أيضاً: الحسن عن أبي حنيفة إذا أحرم في إزار أو رداء، وفيه طيب أو دهن، ووجد فيه ريح، فإن كان كثيراً فاحشاً قدر شبر في شبر، فمكث عليه ساعة أطعم كذلك مسكيناً نصف صاع.
ويكره للمحرم أن يشم الريحان والطيب والثمار الطيبة، كذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولكن لا يلزمه بالشم شيء، ولو أكل زعفران من غير أن يكون في الطعام إن كان كثيراً، فعليه دم، وإن جعل الزعفران في طعام وطبخ، فأكل فلا شيء عليه، فإن (176ب1) جعل في طعام لم تمسه النار كالملح، فلا بأس به، إلا أن يكون الزعفران هو الغالب، فحينئذٍ يلزمه الدم اعتباراً للغالب.k(2/745)
-----
وإذا خضب الرجل رأسه ولحيته بالحناء، فعليه الدم هكذا ذكر في «الأصل»، وجمع بين الرأس واللحية في إيجاب الدم. وفي «الجامع الصغير» أفرد الرأس بالذكر وبإيجاب الدم وتبيين ما ذكر في «الجامع الصغير» أن كل واحد منهما مضمون بالدم المسألة على وجهين: إن خضب رأسه بالمائع حتى لم يصير ملبداً رأسه يلزم دم واحد لاستعمال الطيب، ولو خضب رأسه بغير المائع يلزمه دمان، دم لاستعمال الطيب، ودم لتغطية الرأس.
محرم دهن رأسه بزيت قبل أن يحلق أو يقصر، فإن كان الزيت قد ألقي فيه شيء من الطيب، ففيه الدم بالإجماع، وإن كان الزيت خالصاً لم يلزمه شيء من الطيب، ففيه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الصدقة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا إذا استكثر منه، فأما إذا قل، فعليه الصدقة بالإجماع، وجه قولهما: أن غير الطيب لا يساوي الطيب في الزينة، فكانت جناية قاصرة فلا يلزمه الدم، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الدهن أصل الطيب؛ لأن الروائح تلقى فيه، ويصير طيباً، فيلحق بحقيقة الطيب في حق وجوب الجزاء احتياطاً.
ولو داوى جرحه أو شقوق رجله بدهن ليس فيه طيب، فلا شيء عليه؛ لأن الدهن ليس بطيب حقيقة، لكن ألحق بالطيب من حيث إنه أصل الطيب؛ إذا استعمل استعمال الطيب بخلاف الكافور والمسك والزعفران؛ لأنه طيب حقيقة، فكيف ما استعمله يجب الدم به. ولو ادهن بشحم أو سمن، فلا شيء عليه؛ لأنه مأكول وليس بطيب، ولا أصل للطيب، ولو وجب الجزاء هنا لوجب باستعمال الطيب، ولو غسل رأسه ولحيته بالخطمي، فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما عليه الصدقة.(2/746)
-----
وفي «المنتقى» هشام عن محمد رحمه الله: إذا غسل المحرم يده بأشنان فيه طيب، فإن كان إذا نظروا إليه قالوا: هذا أشنان ففيه الصدقة، وإن قالوا: هو طيب فعليه الدم. وعنه أيضاً: لا بأس أن يأكل المحرم الزيت ودهن الشح، وأن يقطر في أذنه الزيت قال: لأن هذا طعام وطيب يعني الزيت طعام وطيب من حيث إنه أصل الطيب، فإذا لم يستعمله على وجه الطيب لا يظهر حكم الطيب بخلاف البنفسج، وأمثاله؛ لأنه طيب بنفسه.
الفصل السادس: في صيد الحرم وشجره وحشيشه وحكم أهل مكة
أما حكم الصيد فنقول: قتل صيد الحرم حرام إلا ما استثناه رسول الله عليه السلام في قوله «خمس من الفواسق»، هذا لأن الصيد يستفيد الأمن بسبب الحرم قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت: 67) وأثر ثبوت الأمن حرمة التعرض.
وقال عليه السلام في الحديث المعروف «ولا ينفر صيدها» وفي القتل تنفير الصيد، فيكون حراماً، فإن قتله حلال، فعليه جزاؤه؛ لأنه أتلف محلاً أمناً ويجوز فيه الإطعام، فإذا أراد القاتل إخراج الطعام عن قيمته قوَّمه، ثم أخرج إلى كل فقير نصف صاع من حنطة أو صاعاً من شعير، ولا يجوز الصوم عندنا، وهو مذهب عثمان رضي الله عنه؛ لأن ضمان صيد الحرم بدل محض؛ لأنه وجب باعتبار وصف في المحل، وهو الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم وصار الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم بمنزلة ملك الآدمي في المحل، ولا مدخل للصيام في إبدال المحل؛ لأن بدل المحل يجب أن يكون مثلاً، ولا مماثلة بين الصوم والمال بخلاف ما يجب على المحرم؛ لأن جزء العادة فيه معنى البدلية، والصوم إن لم يصلح بدلاً يصلح كفارة، وأما الهدي فقد ذكر القدوري أن فيه روايتين: في رواية لا يجوز، وفي رواية يجوز.(2/747)
-----
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن في ظاهر رواية أصحابنا يجوز، وفي غير رواية «الأصول» لا يجوز، فعلى ظاهر الرواية كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعلى إحدى الروايتين كما ذكره القدوري، سوى بينه وبين المحرم في حق الهدي، فيجوز الهدي فيهما، وعلى غير رواية «الأصول» كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وعلى إحدى الروايتين كما ذكره القدوري فرق بينه وبين المحرم والصحيح هو التسوية.
ووجه ذلك أن جواز الهدي في حق المحرم على موافقة القياس؛ لأن الجناية من المحرم من حيث إراقة الدم، وفي الهدي إراقة الدم فيمكن تجويزه في حق صيد الحرم قياساً عليه بخلاف الصوم؛ لأن جواز الصوم في حق المحرم كان على مخالفة القياس؛ لأن الجناية من المحرم بإراقة دم ما هو مال، ولا إراقة في الصوم، ولا مالية، فلا يمكن قياس صيد الحرم على المحرم؛ لأن الواجب على المحرم كفارة، والصوم شرع في الكفارات؛ لأن المماثلة بين الكفارات وشبهها ليس بشرط، والواجب في صيد الحرم بدل محض والمماثلة في الأبدال المحضة شرط.
وصورة الهدي في هذا الباب: أن يشتري بقيمة الصيد هدياً ويذبحها، ويتصدق بلحمها على الفقراء، وقد فسر الحسن بن زياد رحمه الله في «مناسكه»، فقال: ينظر إن كان في لحمه وفاء بقيمته حياً جاز، وإن لم يكن في لحمه وفاءٌ بقيمته حياً فعليه أن يتصدق بتمام القيمة، ويجزئه.(2/748)
-----(2/749)
المحيط البرهانى
قال الفقيه أبو العباس الناطفي رحمه الله: وذكر شيخنا أبو عبد الله الجرجاني رحمه الله في مسائل أصحابنا روي عن أبي حنيفة كما فسره الحسن، قال: وكان يقول في الدرس: إن كان قيمة الهدي عند الذبح قدر قيمة الصيد، ثم نقص بالذبح قيمته عن قيمة الصيد جاز، ولا شيء عليه بالنقصان في ظاهر رواية «الأصل»، وإن كان محرماً واختار الهدي إن كان الذبح قيمة الهدي حياً قدر قيمة الصيد المقتول ولا شيء عليه من النقصان، وإن كان أقل منها ذبحها، وعليه تمام القيمة، فما ذبح جازه بقدره (177أ1) والزيادة يتصدق بها على الفقراء دراهم أو طعام أو صيام بقدره، وإن اختار الهدي ذبحه في الحرم.
ولو ذبح حاج الهدي ذبحه في الحرم، ولو ذبح خارج الحرم يجزئه، إلا أنه إذا سرق لحمه بعد الذبح، وقد كان الذبح في الحرم، فليس عليه بدله، وإن كان الذبح خارج الحرم، فعليه بدله إذا سرق، هكذا ذكره الناطفي رحمه الله في «أجناسه»، وإذا قتل المحرم صيداً في الحرم لا يجب عليه لأجل الحرم شيء، ويجب عليه ما يجب على المحرم، وإذا اشترك حلالان في قتل الصيد بالحرم فعليهما جزاء واحد، وكذلك إذا اشتركا في قطع شجر الحرم.
ولو اشترك حلال ومحرم في قتل صيد الحرم، فعلى المحرم جزاء كامل، وهو جميع القيمة، وعلى الحلال النصف؛ لأن الواجب في حق المحرم ضمان الإحرام، وأنه لا يتجزأ، والواجب في حق الحلال بدل المحل وإنه متجزىء، وإذا أخذ حلال صيداً في الحرم، فقتله حلال آخر في يده، فعلى كل واحد منها جزاء كامل؛ لأن كل واحد منهما متلف للصيد أحدهما بالأخذ المفوت للأمن، والآخر بالقتل. وإذا رمى صيداً على غصن شجرة في الحرم أصلها في الحل أو في الحرام لم ينظر إلى أصلها، وإنما ينظر إلى موضع الصيد، فإن كان في الحل فلا جزاء عليه، وإن كان في الحرام، فعليه الجزاء.(3/1)
-----
ولو رمى صيداً بعضه في الحل وبعضه الحرم، فالعبرة لقوائمه؛ لأن قوامه بالقوائم، ولو كان بعض القوائم في الحل والبعض في الحرم يرجح جانب الحرمة احتياطاً، وهذا إذا لم يكن الصيد نائماً، فإن كان نائماً، وقوائمه في الحل ورأسه في الحرم، فهو صيد الحرم؛ لأن قوامه في حالة النوم بجميع البدن، فإذا كان جزءاً من بدنه في الحرم احتياطاً.
وإذا أرسل الحلال كلبه على صيد في الحل فاتبعه الكلب وأخذه في الحرم لم يكن على المرسل شيء لكن لا يؤكل الصيد، وهذا الحل يتعلق بالذكاة، والذكاة فعل الكلب غير أن فعل الكلب صار مضافاً إلى المرسل باعتبار الإرسال، فاعتبر في حق إيجاب الضمان حالة الإرسال، وفي حق الحل حالة الأكل عملاً بالشبهتين جميعاً.
ولو رمى الحلال إلى صيد في الحل، فدخل الصيد الحرم وأصابه السهم في الحرم لا يلزمه الجزاء؛ لأن أصل الرمي لم يكن جناية منه، ولكن لا يؤكل الصيد، وهذه المسألة هي المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة رحمه الله، فإن عنده العبرة في حق الحل لحالة الرامي، إلا في هذه المسألة اعتبر حالة الإصابة وكان فعل ذلك احتياطاً.(3/2)
-----
حلال أخرج عنزاً من الظباء من الحرم الذي مولد في يده أولاد، ثم ماتت هي وأولادها، فعليه جزاء الكل، وهذا لأن الإمام مستحق للإعادة إلى الحرم؛ لأن إخراجها وقع محظوراً من حيث إنه يتضمن تفويت ما استحق من الإعادة إلى الحرم لأن إخراجها وقع محظوراً من حيث إنه يتضمن تفويت ما استحق من الأمن بسبب الحرم... بالفعل المحظور مستحق، والإعادة إلى الحرم سبب لقود الأمان، فصار الأمان ثابتاً لها قصد للسبب، وهو إعادة الاستحقاق إلى الحرم، والأمان وصف شرعي، والأوصاف الشرعية تسري من الأم إلى ولدها، فيسري الأمان إلى ولدها ثبت اليد على الولد، ولم يرده إلى الحرم، فقد فوت الأمن على ولد مقصود، أفيجب ضمان الولد بسبب صادفه مقصوداً بخلاف ولد المغصوب في حقوق العباد؛ لأن ضمان الغصب فيما بين العباد لا يجب بإثبات اليد؛ لأن إثبات اليد يقع في حق المالك؛ لأن الأموال إنما تصان عن الهلاك بالأيدي.
وإنما وجوب ضمان الغصب لتفويت اليد، ولم يوجب تفويت الولد في حق الولد، فلم يجب ضمانه، فإن أدى جزاء الأم وولدت بعد ذلك لم يكن عليه ضمان الولد؛ لأن الواجب بمقابلة صيد الحرم بدل محض، والبدل يقوم مقام المبدل فيصير بأداء الأم يرد المبدل، ولهذا قلنا: بعد أداء الجزاء لا يجب إعادة الأم إلى الحرم، وإذا صارت... الأم فلم يبق الأمان صفة لهذه الصورة أصلاً، فلا يحدث الولد نصف الأمان، فلا يجب بإثبات اليد عليه شيء.
وأما حكم الشجر فنقول: قطع شجر الحرم حرام، قال عليه السلام في الحديث المعروف، «ولا يقطع شجرها» والمعنى: أن في تبقية أشجار الحرم عمارة البقعة، فقلعها يتضمن خرابها؛ ولأن صيد الحرم يأوي إلى أشجار الحرم، ويستظل بظلها، ويأخذ الوكر في أغصانها؛ ففي قلعها إيحاش صيد الحرم، واعلم بأن الشجر الحرام أنواع أربعة: ثلاث منها يحل قطعها والانتفاع بها من غير جزاء، وواحدة لا يحل قطعه منها ولا الانتفاع بها من غير جزاء، وإذا قطعها رجل فعليه الجزاء.(3/3)
-----
بيان الثلاث: كل شجر أنبته الناس، وهو من جنس ما ينبته الناس، وكل شجر أنبته الناس، وهو ليس من جنس ما ينبته الناس، وكل شجر نبت بنفسه، وهو من جنس ما ينبته الناس.
بيان الواحدة: كل شجر نبت بنفسه وهو ليس من جنس ما ينبته الناس، ويستوي في الواحدة أن تكون مملوكة لإنسان، أو لم تكن، حتى قالوا في رجل نبت في ملكه أم غيلان، فقطعه إنسان فعليه قيمة لما أهلكه، وعليه قيمة أخرى لحق الشرع بمنزلة ما لو قتل صيداً مملوكاً في الحرم، وبعد ما أدى جزاء الشجرة يكره للقاطع الانتفاع بها، وإنما كره كيلا يتطرق الناس إلى مثله، فلا يؤدي إلى استئصال شجر الحرم.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: لا بأس لغيره من محرم أو حلال أن ينتفع به قال: وما جف من شجر الحرم أو تكسّر، فلا بأس بالانتفاع به؛ لأنه ليس شجر الحرم حقيقة؛ لأنه لا نمو له بل هو حطب الحرم، ولا حرمة لحطب الحرم.
قال هشام: قلت لمحمد: ما تقول في شجرة يابسة في الحرم القلع؟ قال: إن كانت عروقها لا تسقها فلا بأس بأن تقطع يعني العروق اليابسة، قال: لأنها حطب معنى قلع شجرة في الحرم حتى وجب عليه قيمتها فغرس المقلوع... (177ب1) فلأن يقطع ويصنع به ما شاء من غير جزاء، والعبرة في هذا الباب لأصل الشجر لا للأغصان حتى أنه لو كان الأصل في الحرم وعلى قاطع أغصانها، وهذا لأن الأغصان تابعة؛ لأن قواها بأصل الشجرة والعبرة للأصل النفع، وإن كان بعض الأصل في الحل، والبعض في الحرم، فهي شجر الحرم، وعلى قطع الأغصان القيمة سواء كان الغصن من جانب الحل أو من جانب الحرم، ثم إذا وجبت القيمة في شجر الحرم يتصدق بها، ولا يجزىء فيه الهدي ولا الصوم، وعن أبي يوسف في «المنتقى»: وإن شاء اشترى به هدياً.(3/4)
-----
وأما حكم الحشيش قال محمد رحمه الله في «الأصل»: لا يختلى حشيش الحرم ولا يقطع إلا الإذخر بلا خلاف، فإنه بلغنا أن رسول الله عليه السلام رخص في الإذخر، فكان يحرم قطع الحشيش، وهو القطع بالمنجل، يحرم إرسال البهيمة على الحشيش في الرعي، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف: لا بأس بالرعي، ولا بأس بأخذ كمأة الحرم ليس من نبات الأرض بل هو مودع فيه، ولا بأس بإخراج حجارة الحرم؛ لأن الانتفاع به جائز في الحرم، وما جاز الانتفاع به في الحرم جاز إخراجه عن الحرم.
وفي «المنتقى»: هشام عن محمد رحمه الله: لا بأس بإخراج تراب الحرم إلى الحل، ألا ترى أنه يخرج القدور والأراك، وتراب البيت وماء زمزم يستسقي به؟ قيل: هذا إذا أخرج قدراً يسيراً لطلب التبرك بحيث لا يفوت به عمارة المكان، فأما إذا أراد أن ينقل ما هو خارج عن العادة ويعمق المكان، فذلك من باب التخريب لا من باب التبرك فليس له ذلك، وليس للمدينة حرمة الحرم في حق الصيود، والأشجار ونحوها إنا ذلك ملكة خاصة، ألا ترى أنه لم تظهر حرمتها في حق إحرام الداخلين حتى جاز الدخول فيها من غير إحرام؟ فكذا في حق الصيود والأشجار،
وأما حكم أهل مكة في «المنتقى» هشام عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، وأرخص فيها في غير أيام الموسم، وهكذا روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله، قال: وكان يقول يعني أبا حنيفة رحمه الله لهم: يعني للحاج أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان لهم فضل، وإذا لم يكن لهم فضل فلا.(3/5)
-----
قال هشام: وإنما قال لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَهُ لِلنَّاسِ سَوَآء الْعَكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) ، قال: وإنما فرق أبو حنيفة بين أيام الموسم وغيرها في كراهيته الإجارة والرخصة فيها؛ لأن في أيام الموسم يزدحم الخلق، وتقع الضرورة إلى النزول في مساكنهم، فأنزل منازلهم كالمملوكة للنازلين من وجه نظراً ورحمة لهم، وبعد أيام الموسم ترفع الضرورة، ثم هذه المسألة دليل على جواز إجارة البناء بدون الأرض؛ لأن الإجارة لا ترد على الأرض عند أبي حنيفة كالبيع، وإنما ترد على البناء ورخص فيها في غير أيام الموسم، قال هشام: وكان أبو حنيفة رحمه الله يكره الجوار بمكة؛ لأنها ليست بأرض هجرة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أكره الجوار بمكة والمقام بها، وكان يقول: هاجر رسول الله عليه السلام منها.
وفي «المنتقى» أيضاً: هشام عن محمد رحمه الله: ليس لهم أن يبنوا بمنى شيئاً؛ لأنه مباح، قال عليه السلام: «منى مباح من سبق» وقوله: مباح لبيان الانتفاع كأنه يقول في صفة منى إنما ينبغي أن تكون مباحاً للخلق؛ وبه يتبين أن منى كاسمه لإراقة الدماء وإراقة الدماء مظنة على الصراط، والبناء ينقص عليهم كونه مباحاً. والله أعلم بالصواب.(3/6)
الفصل السابع: في بيان وقت الحج والعمرة
-----
وقت الحج أشهر معلومات قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَبِ} (البقرة: 197) والمراد وقت الحج، والأشهر المعلومات شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي حجة، فإذا عمل شيئاً من أعمال الحج من طواف أو سعي قبل أشهر الحج لا يجوز، وإذا عمل في أشهر الحج يجوز.
ولو أحرم قبل أشهر الحج ينقض إحرامه، قد ذكرنا في صدر الفصل الثاني أن الإحرام عندنا شرط، وتقديم شرط العبادة على وقتها جائز ولكن يكره الإحرام قبل أشهر الحج؛ لأنه لا يؤمن الوقوع في محظورات الإحرام لو قدمه، فإن أمن ذلك لا يكره.
ووقت العمرة السنة كلها؛ لأنه لم يرد فيها توقيت، ولكن يكره في يوم عرفة، وأيام التشريق هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها؛ ولأن هذه الأيام وقت أداء الحج، فيجب تجريدها لأداء الحج، وعن أبي يوسف: أنه لا يكره إحرام للعمرة يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن ما قبل الزوال ليس وقت أداء أعمال الحج، فإن الوقوف بعد الزوال.
في «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف في «الأمالي»: رجل أهل بعمرة في أول العشر، ثم قدم في أيام التشريق، فأحب أن يؤخر الطواف حتى تمضي أيام التشريق، ثم يطوف، وليس عليه أن يرفض إحرامه، ولو طاف لها في تلك الأيام أجزأه ولا دم عليه، ولو أهل بعمرة في أيام التشريق، فإنه يؤمر بأن يرفضها، وإن لم يرفض، ولم يطف حتى مضت أيام التشريق، ثم طاف لها أجزأه، ولا دم عليه، وهذا بناءً على ما قلنا: أن العمرة في يوم عرفة وأيام التشريق مكروهة، وإذا لم يكن الإحرام بالعمرة في يوم عرفة، فالإحرام وجد في وقت لا كراهة فيه، وانعقد لا بصفة الكراهة، فلم يؤمر بالرفض، وأمر بتأخير الطواف لتجريد هذه الأيام للحج.(3/7)
-----
وأما إذا كان الإحرام بالعمرة في يوم عرفة، أو في أيام التشريق فالإحرام (178أ1) وجد في وقت مكروه، فانعقد بصفة الكراهة، فأمر برفضها إزالةً لهذه الصفة (وقال)، وفيه عمرو بن أبي عمرو في «الأمالي» بالرفض، وإذا طاف المعتمر بين الصفا والمروة راكباً وهو يقدر على المشي قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه الدم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليه لكل طواف طعام مساكين إلا أن يبلغ ذلك دماً، فينتقص منه شيء.
الفصل الثامن: في الطواف والسعي
وقد ذكرنا قبل هذا أنه ينبغي للطائف أن يفتتح الطواف عن يمينه إلى باب الكعبة، ولو أخذ عن يساره على باب الكعبة، وطاف كذلك سبعة أشواط يعيد طوافه في حكم التحلل عندنا، وعليه الإعادة ما دام بمكة. وإن رجع إلى أهله قبل الإعادة فعليه دم.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يعتد بطوافه، ولعل المسألة إذا طاف بالبيت معكوساً، وأما إذا سعى معكوساً بأن بدأ بالمروة، فمن أصحابنا رحمهم الله من قال: يعتد به ولكن يكره، والصحيح أنه لا يعتد بالشوط الأول لا لكونه معكوساً لكن؛ لأن الواجب هناك صعود الصفا أربع مرات، وصعود المروة ثلاث مرات، فإذا بدأ بالمروة، فإنما صعد الصفا ثلاث مرات، فعليه أن يصعده مرة أخرى فلا يمكنه ذلك إلا بإعادة شوط واحد بين الصفا والمروة، فأما ها هنا ما ترك شيئاً من أصل الواجب عليه، وقد دار حول البيت سبع مرات فلهذا كان طوافه معتداً به.(3/8)
-----
وينبغي أن يطوف بالبيت ماشياً، ولو طاف راكباً أو محمولاً، أو سعى بين الصفا والمروة راكباً أو محمولاً إن كان كذلك من عذر يجزئه، ولا يلزمه شيء، وإن كان من غير عذر، فما دام يمكنه، فإنه يعيد، وإذا رجع إلى أهله، فإنه يريق لذلك دماً عندنا، ولو كان الذي حمل هذا الشخص محرماً هل يجزئه بذلك عن طوافه؟ ذكر القاضي الإمام جلال الدين محمود بن مسعود النسفي أن عندنا يجزئه، وعلّل فقال: إن المقصود من الطواف حضور الطائف في جميع مكان الطواف ليصير زائراً لجميع البيت، وقد حضر في مختلفاته في جميع أماكن الطواف، فيسقط عنه الفرض كما في الوقوف بعرفات.
بعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز الحامل عن طوافه إذا نوى الطواف أما إذا لم ينوِ لا يجزئه، واستدل هذا القائل بما ذكر القدوري في «شرحه»: إذا طاف بالبيت طالباً الغريم، أو هارباً من عدو أو سبع، ولا ينوي الطواف لا يجزىء عن طوافه بخلاف الوقوف بعرفة، وبعضهم قالوا: وإن لم ينوِ الحامل الطواف جاز إن لم يرد به الحمل، ويستدل هذا القائل بما ذكر القدوري أيضاً.
وكل من وجب عليه طواف، فأتى به وفيه وقع عنه سواء نواه أو لم ينوه، أو نوى به طوافاً آخر، ومثاله المحرم بالحجة والعمرة إذا قدم مكة، وطاف، ولم ينوِ شيئاً أو نوى التطوع، فإن كان معتمراً وقع عن العمرة، ولو كان حاجاً وقع عن طواف القدوم، فالحاصل أن على قول هذا القائل نية الطواف ليست بشرط وقت الطواف، إنما الشرط أن لا يكون ناوياً شيئاً آخر، وخرج على هذا ما إذا طاف بالبيت طالباً الغريم؛ لأن هناك قصد شيئاً آخر سوى الطواف، وفي مسألتنا لو كان قصد الحامل ونيته حمل المحمول لا يجزئه عن الطواف أيضاً.
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: طاف المحرم بالحج يوم النحر طوافاً كان... لله على نفسه أجزأه من طواف الزيارة يوم النحر. أحد عينيه من حيث الزمان، فنزل من هذا الوجه منزلة صوم رمضان.(3/9)
-----
إذا طاف طواف الواجب في جوف الحجر فإن كان بمكة أعاد الطواف كله، هكذا ذكر في «الجامع الصغير»، وذكر في «الأصل»: يطوف ما ترك يعني ما يطوف بالحجر، ولا يعيد الطواف على البيت، وليس في المسألة اختلاف الروايتين فما ذكر في «الأصل» جواب الجواز، معناه لو طاف بالحجر وحده أجزأه؛ لأنه أتى بالمتروك، وذكر في «الجامع الصغير» جواب الاستحسان والأولية، يعني المستحب، والأولى أن يعيد الكل ليحصل الطواف على الولاء والترتيب، ثم طريق الطواف بالحجر أن يأخذ من يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخر الحجر، ثم يدخل في الحجر، ويخرج من الجانب الآخر، ثم يطوف وراء الحجر هكذا سبع مرات، ويتصور بطريق آخر من خارجه وهو أنه إذا انتهى إلى آخر الحجر يرجع إلى أوله، ثم يبتدىء لكن لا يعد الخروج إلى أوله شوطاً.
وإن لم يعد الطواف على الحطيم حتى يرجع إلى أهله أجزأه وعليه دم عندنا؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج، فيقوم الدم مقامه.
بيانه: أن كون الحطيم من البيت ثبت بالخبر الواحد، وإنه يوجب العمل، أمالا يوجب العلم، فجعلنا الطواف به واجباً لا ركناً وترك الواجب يجبر بالدم.
قال محمد في «الجامع الصغير»: إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء، وطاف طواف الصدر في آخر أيام التشريق بالوضوء، فعليه دم، ويجزئه الطواف، ولو كان طاف للزيارة جنباً، وطاف للصدر في آخر أيام التشريق على الطهارة، فعليه دمان عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله عليه دم واحد.(3/10)
-----
يجب أن يعلم بأن الطواف عندنا صحيح بدون الطهارة، فالطهارة ليست من شرائط الطواف عندنا، بل هي من واجباته، وترك الواجب لا يمنع الاعتداد، أما يوجب النقصان إلا أن في الجنب يجب الإعادة، ما دام بمكة، وفي المحدث صحت الإعادة ولا تجب؛ لأن النقصان المتمكن في الطواف (178ب1) بسبب الجنابة، وصار طواف الجنب كالمعدوم من وجه، ولم...... عن النقصان في الطواف بسبب الحدث، فلم يعتبر طواف بسبب الحدث فلم يعتبر طواف المحدث كالمعدوم من وجه، فاستحب الإعادة في طواف المحدث، ووجبت الإعادة في طواف الجنب، لهذا فإن أعاد طواف الزيارة، إن أعاده في وقته فلا شيء عليه.
ووقت طواف الزيارة أيام النحر أوله ما بعد طلوع الفجر من يوم النحر، فإذا أعاده في أيام النحر فلا شيء عليه؛ لأنه أيام النحر أداه في وقته، وكان المعتبر في حق المحدث الطواف الأول، والطواف الثاني جابر له اتفق عليه مشايخنا رحمهم الله.
واختلفوا في الجنب إذا أعاد طواف الزيارة أن المعتبر أيهما؟ في الكرخي كان يقول: المعتبر هو الأول والثاني جابر له، ويستدل بفصل المحدث وبفصل أقرانه لو طاف جنباً لعمرته في رمضان، ثم أعاد طوافه في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعاً.(3/11)
-----
ولو كان المعتبر هو الطواف الثاني لكان متمتعاً، وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: المعتبر هو الطواف الثاني، ويستدل بفصل ذكره محمد رحمه الله: أنه لو طاف للزيارة جنباً في أيام النحر، ثم أعاد طوافه بعد أيام التشريق، فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله لتأخير الطواف عن وقته، ولو كان المعتد به هو الأول، والثاني جابر لما لزمه التأخير؛ لأن الأول موجود في وقته، هذا إذا أعاد طواف الزيارة في أيام النحر، فإن أعادها بعد أيام النحر، فعلى الجنب الدم عند أبي حنيفة؛ لأنه أخر الطواف عن وقته، والتأخير عنده يوجب الدم وكذلك في الابتداء، لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر، فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا دم عليه في هذه الفصول.
فتأخير النسك عندهما لا يوجب الدم بحال، وأما المحدث إذا عاد طواف الزيارة بعد أيام النحر فلا ذكر له في «الأصل»، قال مشايخنا: وينبغي أن يكون بالصدقة كفاية على مدينه.
وفي «المنتقى»: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء، ثم قضاه بعد أيام النحر لم يكن عليه شيء، وروي عنه أن عليه صدقة؛ لأن طواف الزيارة مؤقت بأيام النحر، فقد أخره، وبالقضاء خفت جنايته، أما لم تسقط، فلهذا وجبت الصدقة.
فلو أنه لم يعد الطواف حتى رجع إلى أهله، فعليه إن كان جنباً بدنة، وإن كان محدثاً شاة.(3/12)
-----
إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى مخرج المسألة التي ذكرها في «الجامع الصغير» فنقول: فإذا طاف للصدر في آخر أيام التشريق طاهراً وقع طواف الصدر عن طواف الزيارة، وصار تاركاً طواف الصدر، فيجب عليه الدم لترك طواف الصدر، وهذا بلا خلاف، ويجب عليه دم آخر لتأخير طواف الزيارة عند أبي حنيفة، فإذا طاف للزيارة محدثاً، ثم طاف للصدر في آخر أيام التشريق طاهراً لم يقع طواف الصدر عن طواف الزيارة حتى يصير تاركاً طواف الزيارة، فيلزمه الدم بسبب ترك طواف الصدر إنما أخر طواف الزيارة له لا غير فيكفيه دم واحد، فقد فرق بين المحدث والجنب من حيث إنه أوقع طواف الصدر عن طواف الزيارة في حق الجنب، وما أوقعه عن طواف الزيارة في حق المحدث.
والفرق من وجهين: أحدهما: إن إعادة طواف الزيارة في حق المحدث مستحبة وليست بواجبة، وطواف الصدر واجب، ولا يقام الواجب مقام المستحب، أما إعادة طواف الزيارة في حق الجنب واجب، فجاز أن يقام طواف الصدر مقامه؛ ولأن إيقاع طواف الصدر عن طواف الزيارة في حق المحدث غير مفيد؛ لأنه يلزمه الشاة في الحالين، أما في حق الجنب يعيد؛ لأنه يلزمه الجزور لو لم يقع طواف الصدر عن طواف الزيارة، وإذا وقع يكفيه شاة، فلهذا افترقا.
هذا هو الكلام في طواف الزيارة.
طواف العمرة
جئنا إلى طواف العمرة، فنقول: إذا طاف للعمرة محدثاً أو جنباً، فما دام بمكة يعيد الطواف ركن في العمرة كطواف الزيارة في الحج، فإن رجع إلى أهله ولم يعد، ففي المحدث يلزمه البدنة، وفي الاستحسان يكفيه؛ لأنه لا مدخل للبدنة في العمرة إلا أن المعتمر لو جامع قبل الفراغ من العمرة لا يلزمه بدنه، بخلاف الحاج إذا جامع.
طواف الصدر(3/13)
-----
جئنا إلى طواف الصدر، فنقول: إذا طاف للصدر جنباً أو محدثاً، فما دام بمكة يعيده، وإن رجع إلى أهله، فعلى الجنب الشاة، وأما المحدث، فقد ذكر في رواية أبي سليمان أنه يكفيه الصدقة، حتى لا تقع التسوية بين الحدث والجنابة، وذكر في رواية أبي حفص أن عليه الدم؛ لأن الجنابة والحدث مما سوى طواف الزيارة على السواء، ألا ترى أنهما استويا في طواف العمرة؟ فكذا هنا.
وفي «المنتقى»: وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لكل شوط طعام مسكين إلا أن يبلغ دماً فينتقص عنه، ولو طاف طواف الزيارة وفي ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم أجزأه ولكن مع الكراهة، ولا يلزمه شيء، ولو طاف منكشف العورة قدر ما لا يجوز معه الصلاة أجزأه، وعليه دم، ذكره القدوري في «شرحه».
وفي «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا طاف طواف الزيارة في ثوب كله نجس، فهذا وما لو طاف عريان سواء، فيلزمه دم إن لم يعد، وإن كان من الثوب قدر يواريه طاهراً (179أ1) والباقي نجس جاز طوافه، ولا شيء عليه.
وليس على المكي، وأهل المواقيت، ومن دونهم طواف الصدر كما هو مشروع لتوديع البيت، فهو مشروع لحكم المناسك، وكذلك ليس على الحائض والنفساء طواف الصدر.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله في «الرقيات»: إذا طهرت الحائض والنفساء قبل أن تخرج من بيوت مكة، فعليها طواف الصدر، ولو جاوزت البيوت حتى تكون في وضع لو خرج المكي إليه يريد سفراً قصر الصلاة، وطهرت في ذلك الموضع فليس عليها الطواف الصدر.(3/14)
-----
وفي «الجامع الصغير»: طاف لعمرته، وسعى على غير الوضوء له حل بمكة أعاد الطواف ويسعى، وإنما أعاد السعي؛ لأن السعي وإن صح مع الحدث بوصف التمام؛ لأنه لا تعلق له بالبيت، إلا أن السعي تابع للطواف ومرتب عليه، ألا ترى أنه لا يعد قربة بدون الطواف، وقد أمر بإعادة السعي بطريق التبعية؟ وإن رجع إلى أهله، ولم يعد يصير حلالاً وعليه الدم لإدخال النقصان في طواف العمرة، وليس عليه للسعي شيء، وكان ينبغي أن يلزمه دم لأجل السعي كما لو عاد طواف العمرة طاهراً ولم يعد السعي.
والجواب: إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي إنما يلزمه الدم؛ لأن بالإعادة يرتفع المؤدى، ويصير كأن لم يكن بقي السعي قبل الطواف، فيلزمه الدم لترك السعي، بخلاف ما إذا لم يعد الطواف، ولكن أراق الدم؛ لأن بإراقة الدم لا يرتفع المؤدى، ولا يصير كأن لم يكن؛ لأنه ليس من جنسه بل يرتفع النقصان، فيبقى الطواف في محله والسعي بعده، فلا يلزمه شيء.
ومن طاف للصدر، ثم أقام بمكة لشغل، فليس عليه إذا انصرف أن يطوف، وتأويل قوله عليه السلام «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف» فليكن آخر مناسكه الطواف دون مقامه، وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا طاف للصدر، ثم أقام إلى العشاء، فأحب إليّ أن يطوف طوافاً آخر ليكون توديع البيت متصلاً بالخروج من غير فصل، وإذا رجع الحاج قبل طواف الصدر، فعليه أن يرجع قبل أن يجاوز الميقات، وإن جاوز الميقات لم يرجع.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يجمع بين أسبوعين لا يصلى بينهما، وإن فعل صح ويكره، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يكره إذا انصرف عن وتر القارن.(3/15)
-----
إذا طاف طوافين لعمرته وحجته، وسعى سعيين بعد ذلك لعمرته وحجته جاز، وقد أساء وإنما لزمته الإساءة لترك السنّة المتواترة والترتيب المشروع، فإن الترتيب المشروع في حق القارن أن يقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، فيطوف بالبيت سبعة أشواط لعمرته، ويسعى من الصفا والمروة سبع مرات لعمرته، ثم يطوف طواف التحية لحجته وعمرته، فقد ترك الترتيب المشروع، فيلزمه الإساءة لهذا، ولا شيء عليه؛ لأنه ما ترك واجباً، ولا أخر واجباً إنما ترك مجرد الترتيب وإنه سنّة، وترك السنّة يوجب الإساءة، أما لا يوجب الدم ولا الصدقة.
الفصل التاسع: في القارن
اعلم بأن القران في حق الآفاقي أفضل من التمتع والإفراد، والتمتع في حق الآفاقي أفضل من الإفراد، وهذا هو المذكور في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وذكر الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله أن القران أفضل من التمتع، والإفراد أفضل من التمتع، فصار في التمتع روايتان.
وفي حق المكي الإفراد أفضل من القران؛ لأنه لا يمكنه إحراز فضل القران لا يترك واجباً وهو الإحرام من الميقات، أما ميقات الحج إن أحرم بها من الحل؛ لأن ميقاته للحج من دويرة أهله، أو ميقات العمرة إن أحرم بها من فوق مكة؛ لأن ميقاته للعمرة من التنعيم والإحرام من الميقات واجب، وإحراز فضل القران مستحب، ولا شك أن مراعاة الواجب أولى.(3/16)
-----
والقارن هو الجامع بين الحج والعمرة سواء أحرم بهما معاً أو أحرم بالحجة، وأضاف إليها العمرة، أو أحرم بالعمرة، ثم أضاف إليها الحجة إلا أنه إذا أحرم بالحجة وأضاف إليها العمرة، فقد أساء فيما صنع، لأن الله تعالى جعل العمرة بداية، وجعل الحج نهاية، وعليه فمن أضاف العمرة إلى الحج، فقد جعل الحج بداية، وإنه مخالف ما في الكتاب، وعليه أن يقدم أعمال العمرة على أعمال الحج هذا هو دأب القارن، وعليه دم شكراً لما أنعم الله تعالى عليه من التوفيق للجمع بين العبادتين بسفره، ولهذا يحل له التناول ولغيره من الأغنياء؛ لأنه دم شكر، وإن لم يأت بأفعال العمرة حتى وقف بعرفات يصير رافضاً لعمرته؛ لأن بالوقوف تم حجة، فلو لم ترتفض عمرته يصير بانياً أفعال العمرة على أفعال الحج، وإنه غير مشروع، وكذلك لو طاف لعمرته شوطاً أو شوطين أو ثلاثة، ثم وقف بعرفة يصير رافضاً لعمرته؛ لأن المأتي به من أعمال العمرة أقل، فيجعل وجودها كعدمها، وإذا ارتفض عمرته لزمه دم لرفض العمرة، ولكن يسقط عنه دم القران.
وأما إذا توجه إلى عرفات، وأخذ في السير قبل أن يأتي بأفعال العمرة، هل يصير رافضاً لعمرته؟ ذكر في «الجامع الصغير» أنه لا يصير رافضاً، وذكر المسألة في «الأصل» في موضعين، وذكر في أحد الموضعين أنه يصير رافضاً لعمرته، وذكر في موضع آخر: القياس على قول أبي حنيفة أن يصير رافضاً، وفي الاستحسان لا يصير رافضاً، وهو لم (179ب1) يذكر القياس، والاستحسان في «الأصل» في أحد الموضعين أن ما ذكر في «الأصل» في الموضع الآخر أنه يصير رافضاً استحساناً.(3/17)
-----
وإنما تظهر فائدته فيما إذا توجه إلى عرفات، ثم بدا له، فرجع عن الطريق قبل الوقوف بعرفة، وطاف لعمرته، وسعى لها، ثم وقف بعرفة، هل يكون قارناً؟ على جواب الاستحسان يكون قارناً، وأراد بما ذكر في «الأصل» في آخر الموضعين من القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله القياس على مسألة معروفة في كتاب الصلاة: إن من صلى الظهر في منزله، ثم توجه إلى الجمعة هل ينتقض ظهره بمجرد التوجه؟
ولو أحرم بالعمرة، ثم طاف لحجة، وسعى لحجة يريد به طواف التحية، ولم يطف لعمرته حتى وقف بعرفة هل يصير رافضاً لعمرته؟ ذكر القاضي الإمام علاء الدين رحمه الله في «مختلفاته» أنه لا يصير رافضاً؛ لأن ما أتى به من الطواف وقع لعمرته، وإن نوى به الحجة؛ لأن الطواف الأول في حق القارن مستحق للعمرة، فيقع عن العمرة على ما مر قبل هذا، وإذا وقع عن العمرة تمت عمرته ولا رفض بعد التمام، وإن كان هذا الرجل أحرم بالحج، وطاف للحج طواف التحية، ثم أحرم بالعمرة لزمته، وعليه لجمعه بينهما دم؛ لأن طواف التحية سنّة وليس بركن، فلا يصير به مؤدياً شيئاً من الحج، فصار بمنزلة ما لو أحرم بالعمرة قبل هذا الطواف إلا أن في هذا الفصل يستحب له رفض العمرة، وفيما إذا لم يطف لحجته أصلاً عملان لا يستحب له رفض العمرة.
والفرق أن هذا لو مضى على عمرته يصير بانياً عمل العمرة على عمل الحج، ولكن عملاً هو مسنون لا عمل هو ركن، والمشروع ترتيب جميع أفعال الحج على أفعال العمرة، فإذا فات هذا الترتيب في عمل هو مسنون لا في عمل هو ركن يستحب له الرفض من حيث فوات الترتيب في عمل هو مسنون، ولم يؤمر من حيث إنه لم يفت الترتيب في عمل هو ركن، أما إذا لم يطف لحجته أصلاً فإن مضى عليها لا يكون بانياً أعمال العمرة على أعمال الحج أصلاً، وقد ذكر الاستحسان هذا، ولم يذكر ثمة لهذا.(3/18)
-----
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله: قارن طاف وسعى لعمرته، ثم حلق رأسه فعليه دمان، وهذا لأن العمرة في حق القارن تبع للحج، فما دام إحرامه للحج باقياً لا يتحلل عن إحرام العمرة، وإن أتى بأفعالها، وكان الحلق جناية على إحرامين، وبه فارق المتمتع؛ لأن العمرة في حق المتمتع أصل، فيقع التحلل عنها بإتيان أفعالها، فلا يصير بالحلق جانياً على إحرام العمرة، فلا يلزمه دم العمرة.
وفيه أيضاً: رجل جمع بين حجة وعمرة، ثم قدم مكة، وطاف لعمرته في شهر رمضان كان قارناً، ولكن لا هدي عليه؛ لأن الهدي إنما يجب على من طاف للعمرة في أشهر الحج؛ لأن الهدي إنما يجب على القارن شكراً لما أنعم لله عليه من تجوز الجمع بين الحجة الصغرى والكبرى في وقت الحجة الكبرى.
وفيه أيضاً: ابن أبان عن محمد رحمه الله: قارن طاف لعمرته، وسعى ينوي أن تكون لحجته كان سعيه عن العمرة؛ لأنه أولهما فصار السعي مستحقاً لها فيقع عنها، وإذا لم يجد القارن الهدي صام ثلاثة أيام، فإن صام ثلاثة أيام، ثم وجد الهدي قبل أن يحلق، فعليه أن يذبح.(3/19)
الفصل العاشر في التمتع
-----
قدمت في صدر الكتاب أن المتمتع: هو الذي اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه ذلك في سفر، ولم يُلمّ بأهله فيما بينهما إلماماً صحيحاً، والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) جعل الحج في حق المتمتع مفصلاً بالعمرة؛ لأنه بدأ بالعمرة إحراماً وسفراً، وقد يوصل بها سفراً لا إحراماً، فالأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويأتي بأكبر أفعال العمرة، ثم يحرم بالحج، ويأتي بباقي أفعال العمرة بتمامها، ثم يحرم بالحج في ذلك السفر، فيتحقق الوصل سفراً إن كان لا يتحقق إحراماً، وإنما يتحقق الوصل سفراً إذا كان السفر واحداً، وإنما يتخذ السفر إذا لم يلم بأهله فيما بينهما إلماماً صحيحاً حتى لا ينتهي حكم السفر الأول، وعن هذا قلنا: إنه لا يمنع لأهل مكة وأهل المواقيت ومن دونها إلى مكة، أما أهل مكة؛ فلأن من شرط المتمتع أن لا يلم بأهله فيما بين عمرته وحجته إلماماً صحيحاً، وذلك لا يتصور في حق أهل مكة؛ لأنه كلما فرغ من العمرة، فقد حصل ملماً بأهله إلماماً صحيحاً، وأما أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة؛ فلأنهم ألحقوا بأهل مكة، ولهذا جاز لهم دخول مكة بغير إحرام، فألحقوا بهم في حق هذا الحكم أيضاً.(3/20)
-----
ويفسر الإلمام الصحيح أن يرجع إلى أهله، ولا يكون العود إلى مكة مستحقاً عليه، والعمرة للجمع بين أفعال العمرة وبين إحرام الحج في أشهر الحج لا للجمع بين إحرامين.
ثم المتمتع نوعان:
متمتع ساق الهدي مع نفسه، ومتمتع لم يسق الهدي مع نفسه. فالذي لم يسق الهدي، أو فرغ من أعمال العمرة يتحلل بالحلق، والذي ساق الهدي مع نفسه لا يتحلل بالحلق، وإن فرغ من أفعال العمرة؛ لأن للسوق أثراً في ابتداء الإحرام، فيكون له أثر في استدامته من الطريق الأولى، وعلى المتمتع دم إذا وجد ذلك، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) سئل رسول الله عليه السلام عن ذلك فقال: «أدناه شاة».(3/21)
-----
وإنه دم شكر حتى جاز للغني التناول منه، وإن لم يجد (180أ1) فصيام ثلاثة أيام في الحج أي في وقت الحج، حتى لو صام بعدما أحرم بالعمرة في أشهر الحج جاز عندنا خلافاً للشافعي، والأفضل له أن يصوم ما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، وكان الأفضل له أن يؤخر الصوم إلى آخر الوقت الذي يفوته الصوم بمضي ذلك الوقت، وهذه الأيام الصوم، فإن مضت يعني هذه الأيام ولم يصم سقط الصوم، وعاد إلى الهدي عندنا، فإن لم يقدر على الهدي كان عليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي، وإنما سقط الصوم، وعاد حكم الهدي باعتبار أن كون الصوم بدلاً عن الهدي عرف عن الكتاب، والكتاب وقت كونه بدلاً بهذه الأيام. فإن المراد من قوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) في وقت الحج، فبعد فوات هذه الأيام يظهر حكم الأصل، وبنحوه ورد الأثر عن عمر وابن عباس.f(3/22)
-----
وأما صوم السبعة، فيجوز إذا فرغ من أفعال الحج وإن لم ينصرف إلى أهله، ولا يجوز قبل أفعال الحج؛ لأن صوم السبعة معلق بالرجوع بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) إلا أنا أقمنا سبب الرجوع، وهو الفراغ من أعمال الحج مقام الرجوع، فبقي ما وراءه على أصل التعليق.
ولو قدر على الهدي في خلال الصوم الثلاث أو بعدها قبل يوم النحر لزمه الهدي، وسقط حكمه؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل؛ لأن المقصود هو التحلل، ولم يحصل فسقط حكم البدل، كالمقيم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة، ولو وجد الهدي بعدما حلق قبل أن يصوم السبعة، فلا هدي عليه؛ لأن المقصود قد حصل بالحلق، وهو التحلل فيسقط حكم البدل.
وفي «المنتقى»: رواية البشر عن أبي يوسف: إذا صام المتمتع ثلاثة أيام، ثم وجد هدياً قبل أن يحل انتقض صومه، وإن وجد الهدي بعدما حل جاز صومه، ولا هدي عليه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: كوفي قدم بعمرة في أشهر الحج، ففرغ منها، وحلق أو قصر، ثم أخذ مكة والبصرة داراً، ثم حج من عامه، فهو متمتع.
اعلم أن هذه المسألة على أربعة أوجه:(3/23)
-----
الأول: إذا أقام بمكة بعدما فرغ من العمرة وحلق، ثم حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه متمتع لما ذكرنا من صورة المتمتع.
الوجه الثاني: إذا خرج من مكة، ولكن لم يجاوز الميقات حتى حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه هو متمتع أيضاً؛ لأن لداخل الميقات حكمه جوف مكة، فكأنه لم يخرج من مكة.
الوجه الثالث: إذا خرج من المواقيت وعاد إلى أهله، ثم حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه ليس بمتمتع؛ لأنه ألم بأهله بين العمرة وبين الحج إلماماً صحيحاً؛ لأن العود إلى مكة غير مستحق عليه، فإن رجع إلى أهله بعدما حصل له التحلل بالحلق، حتى إن هذا الكوفي لو ساق مع نفسه هدياً، والباقي بحاله كان متمتعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الإلمام بأهله غير صحيح؛ لأن سوق الهدي يديم الإحرام، ولا يقع التحلل بالحلق، ولو أدام الإحرام كان العود مستحقاً لأجل الإحرام، فلا يصح الإلمام.
الوجه الرابع: إذا خرج من الميقات، فأتى البصرة واتخذها داراً، ثم حج من عامه ذلك؛ قال في «الكتاب»: هو متمتع، ولم يذكر فيه خلافاً، وروى الحاكم الشهيد عن أبي عصمة سعد بن معاذ أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما لا يكون متمتعاً، وهكذا ذكر الطحاوي في «كتابه»، وذكر الجصاص أنه لا يكون متمتعاً على قول الكل.
وجه أن لا يصير متمتعاً: أنه لما اتخذ البصرة داراً، فقد انتهى السفر الأول نهايته، واتخاذ السفر شرط التمتع.
وجه أن يصير متمتعاً: أن شبهة السفر الأول قائمة؛ لأنه حاصل في سفر واحد حقيقة؛ لأنه لم يعد إلى وطنه الذي أنشأ السفر منه، ودم المتمتع نسك، فيجب احتياطاً إلحاقاً للشبهة بالحقيقة.(3/24)
-----
قال القدوري: لو أحرم بعمرة وفرغ منها وتحلل، وأقام بمكة حتى دخل عليه أشهر الحج، فأحرم بعمرة أخرى لم يكن متمتعاً؛ لأنه بمنزله، ولا تمتع في حق أهل مكة، فإن خرج من مكة، ثم عاد محرماً بالعمرة لم يكن متمتعاً إلا إذا رجع إلى أهله في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا خرج إلى موضع لأهله التمتع والقران، وهو ما وراء الميقات فهو متمتع، وإذا خرج قبل دخول أشهر الحج إلى موضع لأهله التمتع والقران، فأحرم بالعمرة كان متمتعاً في قولهم.
إذا خرج المكي إلى الكوفة وقرن صح قرانه، ولو خرج بالكوفة وأهلّ بالعمرة واعتمر، ثم حج لم يكن متمتعاً؛ لأنه صار ملماً بأهله بين الحج والعمرة، ولو أن المكي خرج إلى الكوفة، وأحرم بعمرة، وساق الهدي لم يكن متمتعاً، وصح إلمامه مع سوق الهدي، بخلاف الكوفي؛ لأن العود مستحق على المكي، فلا يمنع صحة الإلمام.(3/25)
-----
مكي وكوفي مجاور بمكة أحرم بعمرة وطاف لها شوطاً، ثم أحرم بحجة، قال: يرفض الحجة، وعليه لرفضها دم، وإن مضى عليهما أجزأه، وكان عليه لجمعه بينهما دم، وهذا قول أبي حنيفة، وهذا بناءً على ما قلنا: إنه لا يمنع في حق أهل مكة، فلأنه من رفض أحدهما، فإذا لم يطف بعمرته رفض العمرة؛ لأنه لم يتصل الأداء بالعمرة، كما لم يتصل بالحجة، والعمرة أخف النسكين، فكان رفضها أولى، وإن طاف لعمرته رفض الحجة بلا خلاف، وكذلك إذا أتى بأكثر طواف العمرة رفض العمرة بلا خلاف، وإن طاف أقلها بأن طاف لها شوطاً أو شوطين أو ثلاثاً، قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنه يرفض العمرة، وقال أبو حنيفة: يرفض الحجة، ثم إذا رفض الحجة قال: عليه دم لرفضها، وعليه حجة وعمرة، الحجة بالدخول، والعمرة؛ لأنه لم يأت بأفعال الحج في السنة التي أحرم فيها، فصار كفائت الحج، فإن حج من عامه ذلك، فلا عمرة عليه، وإن لم يرفض (180ب1) ذلك، ومضى منها خرج عن العهد وعليه دم؛ لأجل الجمع، ولكن هذا دم جبر لارتكاب المنهي حتى لا بد له من تناول المعنى.(3/26)
الفصل الحادي عشر: في الإحصار
المحصر لغة: هو الممنوع عن الوصول إلى بيت الله تعالى بعد الإهلال بحجة أو عمرة، وحكمه في الشرع: أن يتحلل بشاة يبعث بها إلى الحرم، فتذبح هناك.
-----
قال أهل التفسير: معنى قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) فإن أحصرتم فلكم التحلل بالهدي، ولا خلاف لأحد أن المحصر بالعدو يتحلل بالهدي.
وأما المحصر بالمرض هل يتحلل بالهدي؟ عندنا يتحلل، وعند الشافعي لا يتحلل، والمرض الذي يثبت الإحصار عندنا أن يقعده عن الركوب إلا بزيادة مرض، وهذا لأن التحلل للحصر بالعدو إنما يثبت كيلا يلزمه الزيادة على موجب إحرامه؛ لأنه إن اختار المضي خاف على نفسه وماله، وإن اختار الترك يبقى في الإحرام زماناً مديداً، وهو بالإحرام التزم الكف إلى وقت معلوم، فإذا اختار الترك يزداد الكف على ذلك الوقت، فيشرع له التحلل، لتبقى لك الزيادة هذا المعنى موجود في المريض؛ لأنه متى لم يمض يزداد الكف عن المحظورات، ولو أمضى تلحقه زيادة مرض، فشرع له التحلل لتبقى الزيادة.(3/27)
-----
ولا يلزم الذي ضل الطريق؛ لأن التحلل في حق المحصر بالهدي ينحر عنه في الحرم، وهو لا يجد من يبعث بالهدي إلى الحرم، ولو وجد لا يبقى محصراً؛ لأنه وجد الطريق، حتى قال مشايخنا رحمهم الله: لو كان الذي وجده فارساً، وهو لا يقدر على الذهاب معه جاز له أن يبعث بالهدي على يديه ليتحلل، ولا يلزم المحبوس بالدين؛ لأن المديون إنما يحبس إذا كان مليئاً مماطلاً وإذا كان مليئاً مماطلاً، (وإذا كان بهذه الصفة)، فهو غير ممنوع؛ لأنه قادر على أن يقضي الدين ويخرج، حتى لو حبس ظلماً كان له أن يتحلل بالهدي كالممنوع بالعدو والمرض.
والمهِلَّة بالحج والعمرة إذا فقدت المحرم، وبينها وبين مكة مسيرة سفر تصير محصرة عندنا؛ لأنها صارت ممنوعة عن الذهاب شرعاً، وكذلك إذا أحرمت بحجة التطوع، ومنعها زوجها فهي محصرة؛ لأن حق المنع ثابت للزوج شرعاً وكان أولى بالاعتبار من المنع الباطل، وهو المنع من العدو، وله أن يحللها بما هو من محظورات الإحرام، وإذا حلله فعليها هدي وحجة وعمرة.
فرق بين حجة التطوع، وبين حجة الإسلام إذا صارت محصرة لانعدام زوجها معها لا يتحلل إلا بالهدي؛ لأن هناك المنع لحق الزوج، بل شرعا لعقد المحرم، فصار نظير المنع بسبب المرض، حتى لو كان لها زوج يحلها زوجها عن حجة الإسلام، وعليها دم.
وفسر القدوري في «كتابه» فقال: شاة أو بقرة أو بدنة أو شرك بقرة أو بدنة والبُدْن أفضل، ثم هذا الدم وجميع ما يجب من الدماء يختص جوار الهدي بها بالحرم باتفاق بين العلماء، وهل يختص جوازها بيوم النحر؟ ففي دم الإحصار اختلاف قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يختص، وقالا: يختص.(3/28)
-----
ودم المتعة والقران يختص جوازها بيوم النحر بلا خلاف، وما سواهما من الدماء لا يختص جوازه بيوم النحر بلا خلاف، ثم المحصر بالحج إذا بعث بالهدي يواعد صاحبه أن ينحر عنه في يوم كذا عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الإحصار عنده غير مؤقت بوقت، فاحتيج إلى المواعدة ليصير وقت الإحلال معلوماً له، فأما عندهما دم الإحصار في الحج مؤقت بيوم النحر، ولا حاجة إلى المواعدة عندهما في المحصر بالعمرة؛ لأن دم الإحصار فيها غير مؤقت بيوم النحر عندهما كدم الإحصار في الحج عند أبي حنيفة، فإذا بعث المحصر بالهدي وذبح عنه لا حلق عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الحلق شرع للتحلل، وفي حق المحصر التحلل بذبح الهدي، فسقط الحلق عنه.
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد: في المحرم يسرق بعضه أنه ليس بمحصر إذا كان يقدر على المشي يلبي ويسأل الناس، وإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر، وكذلك إذا كان يومه ذلك يقدر، ولكنه يخاف أن يعجز في نصف الطريق أو بعضه عن ذلك، ولا يقدر على المضي ولا على الرجوع، ولا يبق على نفسه بقوة على ذلك فهو محصر، ثم إذا تحلل المحصر بالهدي، وكان مفرداً بالحج، فعليه حجة وعمرة من القابل.
أما الحجة فظاهرة، وأما العمرة؛ فلأنه في معنى فائت الحج؛ لأنه كان خروجه عنها بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال، وعلى فائت الحج أعمال العمرة، ولم يأت بها، وإن مفرداً بالعمرة، فعليه عمرة مكانها، وإن كان قارناً، فإنما يتحلل بذبح هديين، وعليه عمرتان وحجة، حجة وعمرة أخرى بسبب فوات الحج، وإن كان المحصر معسراً لا يجد الهدي أقام حراماً حتى يطوف ويسعى، كما يفعله فائت الحج.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»: في محرم بالحج يقف بعرفة، ثم يخرج إلى الحل لحاجة له فيحصر، لا يكون محصراً حتى لا يتحلل بالهدي، وهو محرم عن النساء حتى يطوف طواف الزيارة، وإنما ليكون محصراً على التفسير الذي قلنا: لأن معظم أركان الحج الوقوف بعرفة.(3/29)
-----
ألا ترى أن الوقوف يؤتى به حال قيام الإحرام من كل وجه وطواف الزيارة يؤتى به في حال قيام الإحرام من وجه؟ إلا أنا لو شرعنا الهدي لإحلال لا يبقى الطواف معتبراً، وكان ذلك سعياً لإبطال (181أ1) ما هو الأصل لا من دونه، وإنه لا يجوز، ثم قال: وهو محرم في حق النساء (حتى النساء) حتى يطوف طواف الزيارة؛ لأنه في الحج بعد؛ لأن طواف الزيارة باقٍ عليه، وإنه ركن، وإن لم يكن أصلياً، فإذا ذهب أيام التشريق، ووجد سبيلاً إلى البدن بعد ذلك يطوف طواف الزيارة، ويطوف طواف الصدر؛ لأن هذا الإحصار لما لم يعتبر شرعاً صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم الإحصار حتى ذهب أيام التشريق كان عليه أن يطوف طواف الزيارة وطواف الصدر كذا هنا، ثم هل يحلق يوم النحر حيث أحصر أو يؤخر الحلق إلى أن يجد سبيلاً إلى البيت فيحلق في الحرم؟ أشار في «الجامع الصغير» إلى أنه يحلق يوم النحر حيث أحصر، وذكر في «الأصل» أنه يؤخر الحلق.
ولو أحرم بالحج، وأتى مكة قبل الوقوف بعرفة، فأحصر بها لا يكون محصراً بالإحصار بمكة، وفي الحرم ليس بإحصار عندنا، واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إنما لا يكون إحصاراً إذا منع من الوقوف بعرفة دون البيت، أو منع عن البيت دون الوقوف بعرفة؛ لأنه إذا منع عن أحدهما لا يزداد عليه موجب إحرامه، أو لم يتحلل بالهدي؛ لأنه لو منع عن البيت يقف بعرفة، ثم يحلق ويتحلل، وإن منع عن الوقوف يطوف بالبيت، ثم يحلق ويتحلل، فإن فائت الحج يتحلل بالطواف.(3/30)
-----
وإلى هذا أشار القدوري في «كتابه» حيث قال: ولا يكون محصراً في الحرم إذا أمكنه الطواف، فأما إذا منع عنها كان محصراً يتحلل بالهدي؛ لأنه لو لم يتحلل يزداد عليه موجب إحرامه. وبعضهم قالوا: لا يعتبر محصراً بأن منع عنها؛ لأن الإحصار بمكة عنها بعدما صارت مكة دار السلام نادر، والنادر لا عبرة له، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: سألت أبا حنيفة هل على أهل مكة إحصار؟ قال: لا، قلت: فإن رسول الله أحصر بالحديبية، قال: كانت مكة يومئذٍ في حكم أهل الحرب، واليوم هو في حكم أهل الإسلام؛ أشار إلى ما قلنا.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا كان بمكة حائل بينه وبين الدخول، كما حال المذكور بين رسول الله وبين دخول مكة يكون محصراً، والله أعلم بالصواب.
الفصل الثاني عشر: في معرفة فائت الحج وبيان أحكامه
الفائت الحج من فاته الوقوف بعرفة، ووقت الوقوف بعرفة من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر على ما مرَّ، إذا لم يقف في شيء من هذا الوقت، فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة عندنا، يطوف ويسعى ويحلق، قال عليه السلام: «فائت الحج يحل بالعمرة»، ولا دم عليه عندنا، بخلاف المحصر؛ لأن الدم في حق المحصر إنما يجب للتحلل، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، فلا حاجة له إلى الدم، هذا إذا كان فائت الحج مفرداً بالحج.
وإن كان قارناً طاف للعمرة وسعى لها أولاً؛ لأن العمرة لا تفوت، ثم يطوف طوافاً آخر، ويسعى لفوات الحج ويحلق، وإن كان فائت الحج متمتعاً قد ساق الهدي بطل تمتعه لما ذكرنا من صورة المتمتع قبل هذا، ويصنع بهديه ما شاء؛ لأن الدم في حق المتمتع للجمع، وقد انعدم الجمع.(3/31)
-----
فائت الحج إذا تحلل بأفعال العمرة هل ينقلب إحرامه إحرام عمرة؟ ذكر في غير رواية «الأصول» أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينقلب بل يبقى إحرام، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يرفضها بل يمضي فيها؛ لأنه محرم بعمرة أضاف إلى إحرامه حجة، وعند محمد رحمه الله لا يصح الثاني كما لو أحرم قبل الفوات.
وفي «نوادر»: بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله أنه يرفضها كما هو قول أبي حنيفة، وفي بعض المواضع في كتاب «المنتقى» يشير إلى أنه ينقلب إحرامه إحرام عمرة من غير ذكر خلاف، وثمرته تظهر فيما إذا أهلّ بعد فوت الحج بحجة أو عمرة رفضها، حتى لا يصير محرماً بعمرتين، وفي بعض المواضع يشير إلى أن إحرام الحج يبقى من وجه دون وجه من غير ذكر خلاف، وثمرته تظهر فيما إذا أهل بعد فوت الحج بحجة أو عمرة رفضها أياً ما كان، والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الحاجة إلى الخروج عن إحرام الحج بأفعال العمرة، ولو صار إحرامه إحرام عمرة لم يكن التحلل واقعاً عن إحرم الحج.
الفصل الثالث عشر: في الجمع بين الإحرامين
يجب أن يعلم بأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة، ولكن إذا جمع بينهما لزمتاه عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يلزمه أحدهما؛ لأن الإحرام ما شرع إلا للأداء فلا يتصور إلا وجه يتصور الأداء، وأداء حجتين أو عمرتين معاً لا يتصور، فلا يتصور الإحرام لها أيضاً كالتحريمة في باب الصلاة لما شرعت للأداء، لا تتصور التحريمة للصلاتين كما لا يتصور أداء الصلاتين معاً، وهما قالا: الإحرام بالحج التزام محض في الذمة بدلالة أنه يصح منفصلاً عن الأداء، والذمة متسع لحجج كثيرة، فصارت في هذا الوجه نظير النذر بخلاف التحريمة للصلاة؛ لأنها لا تصح إلا على وجه يتصل بهما الأداء، والأداء لا يتصور، فانعدم الإحرام لانعدام الاتصال، إلا أنه لا بد من رفض أحدهما تورعاً عن المنهي.(3/32)
-----
بعد هذا (181ب1) قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا توجه إلى أحدهما يصير رافضاً الأخرى، وقال أبو يوسف رحمه الله: كما فرغ عن الإحرامين يصير رافضاً لأحديهما.
وفائدة الاختلاف: تظهر فيما إذا قتل صيداً قبل أن يتوجه إلى أحدهما، قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه قيمتان، وقال أبو يوسف: قيمة واحدة، وكذلك إذا حصر في هذه الحالة، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحتاج إلى هديين للتحلل، وعلى قول أبي يوسف يكفيه هدي واحد، والصحيح ما قاله أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن الالتقاء لا يحتاج فيه إلى الدليل، وإنما هو لعدم الرفع، والرافع بعذر الجمع أداء، وذلك لا يكون قبل الأداء ما لم يأخذ في الأداء للرفض أحدهما، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في رواية: لا يصير رافضاً حتى يبتدىء الطواف؛ لأن الأداء عنده يتحقق، إلا أن في ظاهر الرواية جعل السير إلى أحدهما قائماً مقام الأداء، كما في مصلي الظهر إذا توجه إلى الجمعة، وكما أن الجمع بين إحرامي الحج، أو بين إحرامي العمرة بدعة، فكذلك بناء أعمال العمرة على أعمال الحج على إحرام العمرة، فليس ببدعة حتى إن من أحرم بحجة، وطاف لها شوطاً، ثم أهل بعمرة رفض العمرة؛ لأنه إذا طاف للحجة، فقد أتى بفعل من أفعال الحج، فلو مضى في العمرة يصير بانياً العمرة على الحج وإنه غير مشروع.
ولو أحرم بحجة، ثم أحرم بعمرة قبل أن يطوف لحجته شوطاً، فإنه لا يرفض العمرة؛ لأنه لم يأت بفعل من أفعال الحج؛ لأن الإحرم ليس من أفعال الحج، ولا يصير بانياً العمرة على الحج بل بنى إحرام العمرة على إحرام الحج، وإنه غير منهي عنه.
في «المنتقى» عن محمد: أحرم بشيء لا ينوي به حجاً ولا عمرة، أحرم بحجة، فالأول عمرة إن شاء وإن أبى، وإن أحرم بعمرة، فالأول حجة إن شاء وإن أبى، وإن كان الإحرام الثاني لا يريد به شيئاً أيضاً، فهو قارن، وإن كان الذي أحرم بها أولاً عمرة، فهذا حج.(3/33)
-----
ولو أحرم بشيئين، وأراد أن يكون مخيراً فيها إن شاء حجتين، وإن شاء عمرة وحجة قال: هذا عمرة وحجة إن شاء وإن أبى، وهذا على الصحة لا يكون على غير ذلك، وإن أحرم لا ينوي حجاً ولا عمرة، ثم أحرم بعد ذلك بإحرام آخر لا ينوي حجة لا عمرة، فهذا كلّه حجة وعمرة. ولو أحرم بإحرامين لا نية له فيهما، ثم أحرم بإحرامين لا نية له فيهما، قال محمد رحمه الله: الأوّلان حجة وعمرة والآخران باطل، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر: في الحلق والتقصير
الحلق والتقصير مشروعان في حق الرجل للتحلل عن الإحرام، والحلق أفضل من التقصير.
وأما المرأة فلا حلق عليها؛ لأن الحلق في حقها نوع مثلة، ولكنها تقصر، تأخذ شيئاً من أطراف الشعر مقدار أنملة هكذا قال ابن عمر، والأفضل أن تقصر من كل شعر مقدار أنملة؛ لأن التقصير في حقها قائم مقام الحلق في حق الرجل، والأفضل في حق الرجل حلق جميع الرأس، وكذا الأفضل في حقها الأخذ من كل شعر. وإن قصرت بعض رأسها وتركت البعض أجزأها إذا كان ما قصرت مقدار ربع الرأس فصاعداً، وإن كان أقل من ذلك لا يجزأها اعتباراً للتقصير في حقها بالحلق في حق الرجل.
وإذا جاء وقت الحلق، ولم يكن على رأسه شعر بأن كان حلق قبل ذلك، أو بسبب آخر، ذكر في «الأصل» أنه يجري الموس على رأسه؛ لأنه لو كان على رأسه شعر كان المأخوذ عليه إجراء الموس، وإزالة الشعر فما عجز عنه سقط وما لم يعجز عنه يلزمه، ثم اختلف المشايخ أن إجراء الموس مستحب أو واجب، والأصح أنه واجب لما ذكرنا، والحلق في حق الحاج يتوقت بالمكان، وهو الحرم، وبالزمان وهو يوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله، حتى لو أخرّه عن يوم النحر، أو عن الحرم يلزمه الدم، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يتوقت بالزمان، ولا بالمكان حتى لا يلزمه الدم أخرّه عن المكان أو عن الزمان، وعلى قول محمد رحمه الله يتوقت بالزمان حتى يلزمه الدم بالتأخير عن الزمن.(3/34)
-----
وفي حق المعتمر لا يختص بالمكان ولا بالزمان بلا خلاف.
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله: حاج أو معتمر برأسه قروح لا يستطيع معها إمرار الموس على رأسه، ولا يصل إلى تقصير شعره، وهذا مما يطمع في برئه قريباً أو مما لا يدري هل يبرأ أو لا يبرأ؟ قال: إذا لم يبق إلا الحلق، ولم يقدر عليه ولا أن يمر الموس على رأسه، فقد حل في العمرة والحج، بمنزلة ما لو حلق رأسه، فإن أخرّ الإحلال حتى يمر الموس على رأسه قبل مضي أيام النحر، فقد أحسن، وإن لم يؤخر فلا شيء عليه. هذا إذا عجز عن الحلق بقروح في رأسه، وإن عجز عن ذلك؛ لأنه لم يجد الموس، أو لم يجد من يحلقه، فهذا ليس بعذر، ولا يجوز له إلا الحلق أو التقصير، والله أعلم.
الفصل الخامس عشر: في الرجل يحج عن آخر
اختلفت عبارة المشايخ في المأمور بالحج عن الغير إذا حج، فعبارة الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده أن على قول أصحابنا رحمهم الله أصل الحج يقع عن المأمور، وللآخر ثواب النفقة إلا أن أصل الحج يقع عن الآمر، وهذا لأن أصل الحج لو وقع عن الآمر إنما يقع إذا صار المأمور نائباً عن الآمر في أصل الحج عبادة بدنية، والنيابة لا تجزىء في العبادات البدنية، والدليل عليه أنه يشترط أهلية المأمور، وهذا يدلّك أن الفعل ما وقع عن الآمر، ولكن (182أ1) للآمر ثواب النفقة، وصار إنفاق المأمور كإنفاق الآمر بنفسه، فأمكن القول به؛ لأن النيابة تجري في الإنفاق، ولكن يسقط أصل الحج عن الآمر؛ لأن الإنفاق أقيم مقام الأفعال في حق سقوط الأفعال حالة العجز عن الفعل، كما أقيم الفداء مقام الصوم في حق الشيخ الفاني في حق سقوط الصوم.(3/35)
-----
وعبارة الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: «أن أصل الحج يقع عن الآمر، وبنحوه ورد الأثر، فإن النبي عليه السلام قال للخثعمية «حجي عن أبيك» وأنه يدل على أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه، والدليل عليه أنه لا يسقط حجة الإسلام عن المأمور ولو وقع أصل الحج عن المأمور يسقط عنه حجة الإسلام، والدليل عليه أن المأمور، يحتاج إلى إسناد الإحرام إلى الآمر، والإحرام عقد على الأداء، فهذا يدلك أن الحج يقع عن المحجوج عنه بذلك الإحرام هذا هو في حجة الفرض» ا. ه.
جئنا إلى حجة التطوع، فنقول: من أمر غيره بحجة التطوع جاز، ويصير للآمر ثواب النفقة في طريق الحج من حيث أنه سبب إلى الحج بالإنفاق، أو يصير المأمور جاعلاً ثواب فعله للآمر، وهذا جائز عند أهل السنّة، ومن الناس من ينكر جعل الثواب لغيره عملاً بظاهر قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَنِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وأهل السنّة يحتجون بما روي أن النبي عليه السلام «ضحى بكبشين أملحين أحدهما: عن نفسه، والأخرى عن أمته» ولا حجة له في الآية؛ لأن العامل لما جعل سعيه لغيره صار ذلك الغير.
الجواب الذي ذكرنا في حجة التطوع صحيح على عبارة جميع المشايخ، أما على عبارة شيخ الإسلام رحمه الله فظاهر، وأما على عبارة شمس الأئمة؛ فلأن وقوع أصل الحج عن الآمر عرف بحديث الخثعمية، وحديث الخثعمية ورد في الفرض لا في النفل، ثم إنما تسقط حجة الفرض عن الإنسان بإحجاج غيره إذا كان الحج وقت الأداء عاجزاً عن الأداء بنفسه، ودام عجزه إلى أن مات، أما لو زال عجزه بعد ذلك، فلا يسقط عنه حجة الفرض؛ لأن الأصل في هذا الباب حديث الخثعمية، وإنه ورد في حق الشيخ الفاني، فيبقى غيره على أصل القياس، والقياس يأبى ذلك.(3/36)
-----
بيان هذا فيما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل»: رجل أحج رجلاً وهو مريض، فلم يزل مرضه حتى مات، فهو جائز عن حجة الإسلام، وإن صح لا يجزئه عن حجة الإسلام. وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن برأ من مرضه قبل فراغ المأمور عن الحج، فعليه الإعادة، وإن برأ بعد ما فرغ المأمور عن الحج فلا إعادة، وجعل هذا نظير المكفر بالصوم إذ قدر على التحرير، ونظير المصلي بالتيمم إذا قدر على الماء.
وإن أحج رجلاً، وهو صحيح أجزأه عن التطوع؛ لأن فرض الحج يتأدى بالإحجاج حالة العذر، وكل عبادة جاز أداء فرضها بجهة حالة العذر جاز أداء نفلها بتلك الجهة في غير حالة العذر كالصلاة قاعداً وراكباً. وكل من كان عاجزاً لا يرجى زواله ظاهراً وغالباً يجب عليه أن يحج رجلاً إذا قدر عليه.
ومن كان عاجزاً عجزاً يرجى زواله كالمرض والحبس لا يجب عليه ذلك؛ لأن العبرة للغالب والظاهر في حق الأحكام، فإذا كان عجزاً لا يرجى زواله غالباً وظاهراً الحق الإحجاج، وإذا كان عجز يرجى زواله غالباً وظاهراً الحق بالصحة في حق عدم وجوب الإحجاج عملاً بالغالب، والظاهر في الفصلين جميعاً، ومن كان عاجزاً، وأحج رجلاً إن كان عاجزاً لا يرجى زواله ظاهراً أو غالباً كان حكمة موقوفاً، فإن استمر به العجز إلى وقت الموت حكم بوقوعه موقع المرض.
والأفضل للإنسان إذا أراد أن يحج رجلاً عن نفسه أن يحج رجلاً قد حج عن نفسه؛ لأنه أهدى إلى إقامة الأعمال؛ ولأنه أبعد عن الخلاف، فإن الذي لم يحج عن حجة الإسلام عن نفسه لم تجز حجته عن غيره عند بعض الناس، ومع هذا لو أحج رجلاً لم يحج عن نفسه حجة الإسلام يجوز عندنا، وسقط الحج عن الآمر؛ لأن النبي عليه السلام حين أمر الخثعمية، قال الحج عن أبيها لم يستفسر أنها هل حجت عن نفسها أم لا؟ وإذا أمر غيره بالإفراد بحجة أو عمرة فقرن، فهو مخالف ضامن في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجزىء عن الآمر استحساناً.(3/37)
-----
وهذا الخلاف فيما إذا قرن عن الآمر ما لو نوى بأحدهما عن شخص آخر وعن نفسه، فهو مخالف ضامن بلا خلاف. لهما: لأنه أتى بالمأمور به وزيادة...، لأبي حنيفة رحمه الله أنه أمره بقطع جميع المسافة، وهو قطع بعض المسافة للعمرة، فيصير مخالفاً.
ولو أمره بالحج فاعتمر، ثم حج من مكة، فهو مخالف في قولهم؛ لأنه أمره بأن يؤدي بالسفر الحجة، وقد أدى الحجة من غير سفر. ولو أمره بالعمرة فاعتمر أولاً، ثم حج عن نفسه لم يكن مخالفاً، وإن كان حج أولاً، ثم اعتمر فهو مخالف، ولو أمره بالحج مطلقاً فحج المأمور ماشياً فهو مخالف؛ لأن مطلق الأمر بالحج فيما بين العباد ينصرف إلى فرض الله تعالى على عباده، وذلك الحج راكباً، ولو حج على حمار كره له ذلك، والجمل أفضل؛ لأن النفقة في ركوب الجمل أكثر.
ولو أقام بمكة بعد أداء الحج إن كانت إقامة معتادة، فالنفقة في مال الآمر، وإن كانت غير معتادة، فالنفقة في مال المأمور، والمعتبر في زماننا أن يقيم إلى وقت خروح الناس إذ لا يمكنه أن يستقيم في الخروج. ولو عزم أن يقيم بمكة زيادة على القدر المعتاد، ثم عزم على الخروج عادت نفقته في مال الآمر، إلا أن يكون قد اتخذ مكة داراً، فلا تعود النفقة بعد ذلك؛ لأن ذلك السفر قد انقطع باتخاذ مكة داراً، فلا يعود حكمه بعد ذلك. وكذلك إذا اتخذ موضعاً آخر وطناً له، ثم بدا له الانصراف لم يكن له أن ينفق من مال الآمر.(3/38)
-----
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: المأمور بالحج إذا حج عن الآمر، ثم أحرم بعمرة ينفق من مال نفسه ما دام معتمراً؛ لأنه في العمرة عامل لنفسه، فإذا انصرف أنفق من مال الآمر؛ لأنه مأمور بالانصراف، ولو عجل المأمور الإحرام، فوصل مكة محرماً في شهر رمضان أو بعده، فإنه محرم ينفق من مال نفسه إلى عيد الأضحى أو قبله بيوم أو يومين على اختلاف ما يدخل الناس مكة، وإن أحصر المأمور بالحج، فالهدي على الآمر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف على المأمور.
واعلم بأن الدماء ثلاثة: دم قربة، وهو دم الإحصار، وإنه على الخلاف، ودم نسك وهو دم المتعة والقران، وإنه على المأمور، ودم جبر وهو ما يجب بالجناية على الإحرام بارتكاب محظور (182ب1) من قتل صيد أو قَلْم أظافر، أو ما أشبه ذلك، أو يجب بنقصان تمكن في مناسك الحج بأن طاف بالبيت منكوساً أو محدثاً أو جنباً، وإنه على المأمور بلا خلاف.
وإذا أمر رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة، فأهل بحجة فهي عن الحاج النفقة وإن كان أنفق من مالهما، وإنما كان الحج عن الحاج، ويضمن الحاج؛ لأن كل واحد منهما أمره أن يخلص له الحجة والسفرة من غير إشراك، فإذا أحرم عنهما صار مخالفاً، فيقع فعله عنه، وأما ضمان النفقة؛ لأنه صرف مالهما إلى حج نفسه، وهما لم يأمراه بذلك، فإن عين بعد ذلك عن أحدهما لا يصح التعيين.(3/39)
-----
فرق بين هذا وبينما إذا أهل بحجة عن أبويه، فإنه يجوز أن يجعله عن أحدهما، هذا إذا أحرم عنهما، فإن أحرم عن أحد منهما فإن مضى ذلك صار مخالفاً، وإن عين لأحدهما قبل المضي أي قبل الطواف وقبل الوقوف صح التعيين استحساناً، وقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله...؛ لأن الإحرام عندنا ليس من الأركان مقصوداً، بل شرع وسيلة إلى أداء الأفعال، ولهذا صح تقديمه على وقت الأداء، وهو أشهر الحج، فكان بمنزلة الشرط، فإنما يشترط منه ما يقع التمكن به من الأداء، والمبهم الذي يحتمل التعيين يصلح للأداء بواسطة التعيين، فالنفي به شرطاً بخلاف ما إذا اشتغل بالأفعال؛ لأن الفعل مقصود، والفعل لا يصح مع الجهالة، وليس أحدهما لأن يقع الفعل عنه بأولى من الآخر، فتعين إحرامه عن نفسه، فلا يمكنه أن يجعله بعد ذلك لغيره.(3/40)
-----
ومما يتصل بهذا الفصل ما ذكر في «الجامع الصغير»: رجل توجه يريد حجة الإسلام، فأغمي (عليه) فأهل عنه أصحابه أجزأه، ويصير المغمى عليه محرماً حتى لو وقفوا به وطافوا به جاز، وسقط عنه حجة الإسلام، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، قال بعضهم: لا خلاف بين أصحابنا أن الإحرام يتأدى بالنائب، حتى أن من أمر أهل رفقته أن يحرموا عنه متى عجز عن الإحرام بنفسه، فأغمي عليه، وأحرم عنه واحد من أهل رفقته يجوز، ويصير المغمى عليه محرماً، وإنما وقع الخلاف في هذه المسألة لاختلافهم في أنه هل وجدت الإنابة من المغمى عليه في الإحرام عنه؟ فهما تمسكا بالحقيقة والصريح، وقالا: لم توجد الإنابة من حيث الحقيقة والصريح، وأبو حنيفة رحمه الله يتمسك بالدلالة، وقال الناس فيما بينهم: إنما يقصدون عقد الرفقة للإستعانة بعضهم ببعض فيما يحتاج إليه في سفره، هذا هو الكلام في الإحرام وأما سائر المناسك هل تتأدى بأهل رفقته، فمن المشايخ من قال: تتأدى، إلا أن الأولى أن يطوفوا به ويقفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقاً، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، فعلى هذا القول لا يقع الفرق بين سائر المناسك وبين الإحرام.
ومنهم من فرق بين الإحرام وسائر المناسك، والفرق أن الاستعانة تتحقق عند العجز، وفي أصل الإحرام تحقق العجز، فأما في الأعمال لم يتحقق العجز، فإنهم إذا حضروه المواقف كان هو الواقف والطائف بمنزلة ما لو طاف راكباً بعذر، ومن المشايخ من قال: لا خلاف بين العلماء أن عقد الرفقة استعانة من كل واحد منهم بأصحابه فيما يعجز عن الفعل بنفسه.(3/41)
-----
والخلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في أن الإحرام هل يتأدى بالنائب؟ على قول أبي حنيفة يتأدى، وعلى قولهما: لا يتأدى وهذا القائل يقول: لا رواية عنهما فيما إذا أمر أصحابه بالإحرام عنهما صريحاً، وإنما الرواية في بدنة بين سبعة نفر قلّدها واحد منهم بأمر أصحابه محرمين، فالرواية عنهما في التقليد، والرواية في التقليد لا تكون رواية في التلبية فيما يقولان بأن الإحرام فعل من أفعال الحج، فلا تجري فيه النيابة قياساً على الطواف وسائر الأفاعيل، والمعنى في الكل أن أفعال الحج عبادة بدنية، وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه بعد الشروع، وطافوا ووقفوا به؛ لأن ذلك إعانة وليس بنيابة؛ لأن المغمى عليه يصير طائفاً وواقفاً لكن بإعانتهم، والإعانة جائزة، وبخلاف النفل؛ لأنه فعل مأتيّ والنيابة تجري في نفله.
وأبو حنيفة يقول: الإحرام عنه ليس بمقصود تحريم المحظورات، وهذا المقصود يحصل بالنائب، فتصح النيابة كما في باب الزكاة بخلاف الوقوف والطواف؛ لأن المقصود من الطواف والوقوف تعظيم البيت وحصوله في ذلك المكان، هذا المقصود لا يحصل بفعل النائب وأما إذا أحرم عنه من ليس من رفقته، لا شك أن على قولهما لا يجوز، وأما على قول أبي حنيفة، اختلف المشايخ، بعضهم قالوا: يجوز لوجود الإذن دلالة؛ لأنه أنفق مالاً عظيماً حتى بلغ الميقات، فالظاهر أنه يكون مستعيناً بكل واحد من آحاد الناس بالإحرام عنه إذا لم يحرم عنه أهل رفقته.(3/42)
-----
في «المنتقى»: عيسى بن أبان عن محمد رحمهم الله: رجل أحرم بالحج، وهو صحيح ثم أصابه عته، فقضى به أصحابه المناسك ووقفوا به، فلبث كذلك سنين، ثم أفاق أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، قال: وكذلك الرجل إذا قدم مكة أو صحيح أو مريض، إلا أنه يعقل أغمي عليه بعد ذلك، فحمله أصحابه وهو مغمى عليه، وطافوا به فلما قضوا الطواف أو بعضه أفاق، وقد أغمي عليه ساعة من نهار لم يتم ذلك يوماً، أجزأه ذلك عن طوافه، قال: لأنه حين ما أغمي عليه فقد صار في حال من يجزئه أن يطاف به من غير تعيين منه، فهو بمنزلة ما لو أصابه وجع، ولعجزه عن القيام فصلى قاعداً، فلما فرغ منها قدر على القيام.
وفيه أيضاً: ولو أن مريضاً لا يستطيع الطواف إلا محمولاً، وهو يعقل نام من غير غشية، فحمله أصحابه وهو نائم فطافوا به، أو أمرهم أن يحملوه ويطوفوا به، فلم يفعلوا حتى نام، ثم احتملوه وهو نائم، فطافوا به أو حملوه حين أمرهم بحمله، وهو مستيقظ فدخلوا به الطواف حتى نام على رؤوسهم، فطافوا به على تلك (183أ1) الحالة، ثم استيقظ. روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا طافوا به من غير أن يأمرهم لا يجزئه، ولو أمرهم، ثم نام بعد ذلك، فطافوا به أجزأه، وكذلك إن دخلوا به الطواف أو توجهوا به نحوه فنام وطافوا به أجزأه.
ولو قال لبعض من عنده: استأجر لي من يحملني فيطوف بي، ثم غلبت عيناه ونام، ولم يحضر الذي أمره بذلك من فوره، بل لبث على تحين طويلاً، ثم استأجر أجراء فحملوه فأتوه، وهو نائم، فطافوا به، قال: استحسن إذا كان في فوره ذلك أنه يجوز، فأما إذا طال ذلك ونام، فأتوه واحتملوه، وهو نائم لا يجزئه عن الطواف، ولكن لا جرم لازم بالأمر قال: والقياس في هذه المسألة لا يجزئه حتى يدخل الطواف، وهو مستيقظ ينوي الدخول فيه، لكن يستحسن إذا أحضر كذلك فنام، وقد أمر بأن يحمل فيطاف به أن يجزئه؛ لأنه على تلك النية.(3/43)
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: والصبي الذي يحج به أبوه يقضي المناسك ويرمي الجمار وإنه على وجهين:
الأول: إذا كان صبياً لا يعقل الأداء بنفسه، وفي هذا الوجه إذا أحرم عنه أبوه جاز، والأصل فيه ما روي أن امرأة أخرجت صبياً من هودجها، وقالت يا رسول الله: ألهذا حج؟ فقال النبي عليه السلام: «نعم ولك أجره».
وإن كان يعقل الأداء بنفسه يقضي المناسك كلها يفعل مثل ما يفعله البالغ؛ لأن نوافل الصلاة مشروعة في حق الصبي نظراً له، حتى يثاب عليه لو أتى به، ولو تركه لا يعاقب عليه، ولو ترك هذا الصبي بعض أعمال الحج نحو الرمي وما أشبهه لم يكن عليه شيء؛ لأنه لو ترك الكل لا شيء عليه، فكذا إذا ترك البعض.
قال في «الكتاب»: وهو الأصل أيضاً، وكل جواب عرفته في الصبي يحرم عنه الأب، فهو الجواب في المجنون؛ لأن المجنون أشد حالاً من الصبي، ثم الأب إذا أحرم عن ابنه الصغير، وارتكب بعض محظورات الإحرام لم يلزمه بسبب إحرام الصغير شيء؛ لأنه في حق الإحرام جعل نائباً عن الصغير حكماً، ألا ترى أنه يقف بالصغير ليحرم بنفسه، لو أحرم الصغير بنفسه لا يلزم الأب شيء؟ فكذا ههنا.
الفصل السادس عشر: في الوصية بالحج
إذا أوصى بأن يحج عنه، وهو في منزله، إن بين مكاناً، يحج عنه من ذلك المكان بالإجماع، وإن لم يبين مكاناً بالحج عنه من وطنه عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن الوصية بالإحجاج أمر بإقامة غيره مقام نفسه في الحج، فإنما ينصرف مطلق هذا الأمر إلى ما كان واجباً على المنوب عنه، والواجب على المنوب عنه الحج من وطنه، حتى لا يجب عليه ما لم يملك من الزاد والراحلة قدر ما يحمله من وطنه إلى مكة ويرده إلى بلده، وهذا إذا كان ثلث ماله يكفي الحج من وطنه، فأما إذا كان لا يكفي كذلك، فإنه يحج عنه من حيث يمكن الإحجاج عنه؛ لأنه يقدر صرف مطلق الأمر ههنا إلى الإحجاج من وطنه، هكذا ذكر في «الجامع» وإليه أشار في «الأصل».(3/44)
-----
وذكر في «شرح القدوري» أن القياس أن تبطل الوصية في هذه الصورة، وفي الاستحسان أن لا تبطل ويحج عنه من حيث يبلغ، وليس هذا كما إذا كان له أوطان شتى؛ فإن في تلك الصورة يحج عنه من أقرب أوطانه إلى مكة؛ لأنه إذا حج من أقرب أوطانه إلى مكة كان النائب نائباً بجميع ما على المنوب عنه أن يحج من أي وطن شاء، ولا كذلك ما إذا كان له وطن واحد.
هشام عن محمد رحمه الله في «نوادره»: مكي قدم خراسان، ومات بها، وأوصى أن يحج عنه، قال: يحج عنه من مكة، وإذا خرج من بلده يريد الحج، فمات فأوصى بأن يحج عنه حجة، فإنه يحج عنه من حيث مات في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول أبي حنيفة يحج عنه من وطنه، هكذا ذكر المسألة في «الجامع الكبير» القياس أن يحج عنه من وطنه، وفي الاستحسان يحج عنه من حيث مات.
وذكر في وصايا «المبسوط» أنه يحج عنه من حيث أوصى ومات، ولم يذكر الخلاف والقياس والاستحسان، وبعض مشايخنا قالوا: يجعل ما ذكر في الجامعين تفسير لما أبهم في المبسوط، ويجعل بعض ما ذكر في «الجامع الصغير» تفسيراً لبعض ما ذكر في «الجامع الكبير»، وبعض ما ذكر في «الجامع الكبير» تفسيراً لبعض ما ذكر في «الجامع الصغير»، فصار حاصل الجواب على قول هذا القائل أنه يحج من وطنه قياساً، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ومن حيث مات وأوصى استحساناً وهو قولهما، وهذا إذا خرج من وطنه يريد الحج، فأدركه الموت في الطريق، وأوصى بأن يحج عنه حج عنه من وطنه لا من حيث إنه مات عندهم جميعاً.(3/45)
-----
وكذلك على هذا الخلاف إذا أحج الوصي عن الميت رجلاً، ومات النائب في بعض الطريق حتى وجب على الوصي أن يحج رجلاً آخر عن الميت، فعلى قول أبي حنيفة يحج آخر عنه من وطنه لا من حيث مات الأول، وعندهما من حيث مات الأول، وحاصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى أن ما أدي من السفر بنية الحج هل يبطل بالموت أم لا؟ عند أبي حنيفة يبطل، وهو القياس فلا يجوز البناء عليه، وعندهما لا يبطل وهو استحسان فيجوز البناء عليه.
وإذا أوصى أن يحج عنه، فأحجوا عنه رجلاً، فسرقت نفقته في بعض الطريق أو هلكت أو سرقت النفقة، أو هلكت بعدما دفع إليه قبل أن يسافر، فعلى قول أبي حنيفة عليهم أن يحجوا آخر من ثلث ما بقي في أيديهم من حيث أوصى الميت؛ لأن الأول لم يتم، ألا ترى أن الميت لو كان أوصى أن يعتق كان عليهم أن يعتق الآخر من ثلث ما بقي في أيديهم إلى أن يبقى من المال حقه؟
وقال محمد رحمه الله: إذا قاسم الوصي الورثة، ودفع حقوقهم (183ب1) وأخذ الوصية، ثم دفعها إلى النائب أو دفع الورثة النفقة إلى النائب، فسرقت أو هلكت في يد النائب لم يجب عليهم أن يحجوا عن الميت رجلاً آخر، وقال أبو يوسف رحمه الله: يحج الوصي رجلاً آخر إن بقي من الثلث الأول شيء، وإن لم يبق من الثلث الأول شيء فلا يحج آخر.(3/46)
-----
وصورة هذه المسألة إذ هلك الرجل وترك ثلاثة آلاف درهم، وقد كان أوصى أن يحج عنه، فدفع الوصي إلى رجل ألف درهم ليحج عنه فسرق ذلك من يده، فعلى قول أبي حنيفة حج عنه من ثلث ما بقي، وذلك ست مائة وستة وستون وثلثان، وعلى قول أبي يوسف ومحمد تبطل الوصية، ولا يحج عنه، ولو ترك أربعة آلاف درهم، فقاسم الوصي مع الورثة، وأخذ ألفاً ودفع ثلاثة آلاف إلى الورثة، ثم دفع الألف إلى رجل ليحج عن الميت، فهلكت الألف في يده أو سرقت، فإن على قول أبي حنيفة رحمه الله يحجون عنه من ثلث ما بقي، وذلك ألف درهم؛ لأن ما بقي ثلاثة آلاف درهم، وقال أبو يوسف: يحج عنه بما بقي من الثلث الأول، وذلك ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وعلى قول محمد رحمه الله بطلت الوصية، ولا يحج آخر عنه.
في «المنتقى»: بغدادي أوصى أن يحج عنه حجة الإسلام بثلث ماله يبلغ من بغداد، فأحج الوصي رجلاً من الكوفة، فالموصى ضامن، وإن أحج الوصي رجلاً من نهر صرصر، ونهر صرصر قريب من بغداد، فالقياس أن يصير الوصي مخالفاً، وفي الاستحسان: إذا كان أحج من موضع من مصره يمكن للرجل أن يذهب من ذلك الموضع، ويرجع إلى المصر عند الليل يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز؛ لأن المسافة إذا كانت بهذه الصفة، فهي ساقطة الاعتبار شرعاً، عرف ذلك في أحكام كثيرة أقربها المطلقة إذا أرادت التحول بالولد.
إذا أوصى أن يحجوا عنه وارثاً له، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يخيره الورثة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن هذه وصية الوارث؛ لأنه قصد إيصال يقع إليه من ماله بمجرد قوله، وهذا هو معنى الوصية للوارث، فالوصية للوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة. إذا أوصى أن يحج عنه بثلثه، وثلثه يبلغ حجاً، فهذا على وجهين:(3/47)
-----
أما إن قال: أحجوا عني بثلث مالي ولم يزد على هذا، وفي هذا الوجه على الوصي أن يحج عنه حجاً إلى أن لا يبقى من ثلث ماله شيء، وإن كان الأمر بالإحجاج أمر بالفعل، والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ما ثبت مقتضى الأمر بالفعل هنا، وإنما ثبت بدلالة الحال أو بدلالة العرف؛ لأن ثلث المال شيء كان كثيراً بحيث يبلغ حججاً يراد بالإيصاء بالحج به الإيصاء بالحجج إلى أن لا يبقى من الثلث شيء، ثم الوصي بالخيار في هذه الصورة إن شاء أحج عنه في سنة واحدة، بأن أتى برجال ودفع إليهم نفقتهم حتى يحجوا عنه في سنة واحدة، وإن شاء أحج عنه رجلاً في كل سنة مرة، والأول أفضل؛ لأن في التأخير توهم هلاك باقي المال، فإن أحج الوصي بالثلث حجاً، وبقي من الثلث شيء قليل لا يفي الحج من وطنه، ويفي الحج من أقرب المواقيت أو من مكة، أو ما أشبه ذلك يأتي بذلك، وإلا رد الباقي على الورثة.(3/48)
-----
وفي «المنتقى»: هشام عن محمد رحمه الله إذا قال: حجوا عني من ثلثي حج عنه من ثلثه حجة واحدة، والفضل للورثة، وأما إذا قال: أحجوا عني بثلث مالي حجة واحدة، وقال: حجة، ولم يقل: واحدة، فإن الوصي يحج عليه حجة واحدة؛ لأنا إنما أثبتنا التكرار في الفصل الأول بدلالة الحال، أو بحكم العرف، ولا عبرة لهما إذا جاء الصريح بخلافه، فلو أن الوصي في هذه الصورة دفع إلى رجل مالاً مقدراً لينفق المال على نفسه في الطريق ذاهباً وجائياً ومدة مقامه بمكة، فأنفق، وبقي من ذلك شيء، ينظر إن كان الباقي كثيراً بحيث يمكن للمأمور الاحتراز عنه يصير مخالفاً، ويضمن ما أنفق على نفسه قياساً واستحساناً؛ لأنه مأمور خالف إلى شر، لأنه أمر أن ينفق كل المال في طريق الحج ليكون أكبر الأجر، فهذا إذا ترك البعض، والمتروك كثير بحيث يمكن المأمور الاحتراز عنه اعتبر مخالفاً، فصار منفقاً ما أنفق على نفسه بغير أمر ضامناً، وإن كان الباقي قليلاً بحيث لا يمكن الاحتراز عنه عرفاً وعادة، فالقياس أن يصير ضامناً لما أنفق على... وفي الاستحسان لا يصير ضامناً؛ لأن هذا خلاف لا يمكن الاحتراز عنه للمأمور، فيكون عفواً، كالوكيل بالشراء إذا اشترى بغبن يسير، بيانه: أنه لا يمكنه أن ينفق الكل بحيث لا يبقى شيء يسير، ولا يفيض منه شيء يسير، بخلاف ما إذا كان الباقي شيئاً كثيراً؛ لأن التحرز عنه ممكن، فلا يجعل عفواً، كالغبن الفاحش إذا كان الباقي شيئاً قليلاً بحيث لا يمكن الاحتراز عنه حتى لا يصير مخالفاً، فالباقي لا يسلم للمأمور؛ لأن المستحق قدر النفقة مدة ذهابه ومجيئه ومقامه بمكة، فما زاد على ذلك لا يكون له فيرد على الورثة؛ لأنه مال الميت وقد خلا عن وصيته.
فإن كان الميت قال: ما بقي من النفقة فذلك يكون للمأمور، فهذا على وجهين:(3/49)
-----
إن لم يعين رجلاً ليحج عنه كانت الوصية بالباقي باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وجهالة الموصى له تمنع صحة القسمة للوصية، والحيلة في ذلك أن يقول الموصي للوصي: أعط ما بقي من النفقة من شئت فإذا أعطى الموصي الباقي من النفقة للمأمور كان جائزاً، كما لو أوصى أن يعطى ثلث ماله من شاء الوصي. وإن عين رجلاً ليحج عنه كانت الوصية بالباقي جائزة؛ لأن الموصى له معلوم.
في «المنتقى»: إذا أوصى أن يحج عنه، فأحج الوصي رجلاً، فأحرم الرجل بالحج عن الميت، ثم قدم وقد فاته الحج، قال محمد: يحج عن الميت من بلده إن بلغت النفقة، وإلا فمن حيث تبلغ، وعلى المحرم قضاء الحجة التي فاتت عن نفسه ولا ضمان عليه فيما أنفق، ولا نفقة له بعد الفوت. وفيه أيضاً إبراهيم عن محمد رحمه الله: دفع دراهم إلى رجل ليحج عن الميت مرض في الطريق، قال: ليس له أن يدفعها إلى غيره إلا يكون قال وقت الدفع: إصنع ما شئت، فحينئذٍ له أن يدفع إلى غيره ليحج عن الميت مرض أو لم يمرض، وفيه دفع إلى رجل دراهم، وأمره أن يحج عنه، فلما أحرم المأمور بدا للآمر أن يأخذ منه المال، وطلب منه المأمور نفقة الرجوع إلى أهله فله ذلك (184أ1) استحساناً.
وفي «فتاوى أبي الليث»: الوصي إذا دفع الدراهم إلى رجل ليحج بها عن الميت، ثم أراد أن يسترد المال منه كان له ذلك ما لم يحرم؛ لأن المال أمانة في يده، فإذا استرد وطلب المأمور نفقة الرجوع إلى بلده، قال: ينظر إن استرد المال منه بجناية ظهرت منه، فالنفقة في ماله خاصة. وإن استرد لضعف رأيه أو لجهله بأمور المناسك، فالنفقة في مال الميت؛ لأن منفعة الاسترداد راجعة إلى الميت، فتكون نفقة الرجوع في ماله، وإن استرد لا لجناية ولا لتهمة، فالنفقة في مال الوصي.(3/50)
-----
رجل دفع إليه في مدينة السلام مال ليحج عن الميت، فأخذه في طريق البصرة، وسلك طريق الكوفة: قال محمد رحمه الله: لا بأس بذلك؛ لأن الحاجَّ يسلكه من غير عذر، وكذلك إن دفع إليه في مصر له طريقان إلى مكة أحدهما أشد وأبعد فأخذ فيه، قال: إن كان الحاج يسلكه، فله ذلك.
دفع إلى رجل خمسمائة ليحج بها عن الميت، فأنفق منها مائة في أهله وحج بأربعمائة منها، جاز الحج عن الميت، ويضمن المائة التي أنفقها في أهله.
الحاج عن الميت إذا مرض، وأنفق المال كله، فليس على الوصي أن يبعث بالنفقة إليه ليرجعه.
إذا قال الوصي للحاج: إن فني المال، فاستقرض وعلي قضاء الدين، فهو جائز.
إذا استأجر المأمور بالحج خادماً ليخدمه، ينظر إن كان مثله لا يخدم نفسه، فهو في مال الميت؛ لأنه يكون مأذوناً فيه، وللمأمور بالحج أن يدخل الحمام، ويعطي أجر الحارس وغير ذلك ما يفعله الحاج؛ لأن ذلك معروف، وقدر المعروف كالمنصوص.
الحاج عن الميت إذا اشترى ببعض المال المدفوع إليه حماراً ركبه أجزأه، ولو اشترى بالدراهم المدفوع إليه متاعاً للتجارة، وحج بمثلها عن الميت، فإنه يرد المال، والحجة عن نفسه، قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في هذا الفصل: يتصدق بالفضل يعني بالربح، وأجزت الحجة عن الميت في قول أبي حنيفة، وفي قولهما إليه: يحج.
أوصى أن يحج عنه بثلثه، وثلثه لا يبلغ للحج من بلده إلا ماشياً، فقال رجل: أنا أحج من بلده ماشياً لم يجز ذلك، ويدفع إلى رجل يحج راكباً من حيث يبلغ.
أوصى أن يحج عنه فلان فمات فلان رد المال إلى ورثته.
هشام عن محمد رحمه الله أوصى أن يحج عنه بألف درهم، وذلك النقد لا يجوز في الحج، قال: يخرجه الوصي بقدر ما أوصى، ويصرفها بدراهم تجوز في الحج، وإن شاء دفع دنانير بقيمتها.(3/51)
-----
الحاج عن الميت إذا ضاعت نفقته في الطريق، فأنفق من عند نفسه حتى قضى حجة ينوي عن الميت. قال محمد رحمه الله: فهي للميت تطوع وعليهم (أن) يحجوا عن الميت من حيث فمات الموصى؛ لأن الشرع أقام السبب مقام الحج وذلك بالإنفاق في كل الطريق من مال الميت، وليس للذي أنفق من ماله أن يرجع بذلك على أحد، وأما من أنفق قبل ذلك، فقد ذهب من مال الميت. ولو كانت النفقة ضاعت بعد ما أحرم عن الميت جازت الحجة عن الميت، ولم يرجع بالنفقة على أحد.
المأمور بالحج لا بأس له بالثمر في الطريق، وتفسيره أن يخلط دراهم الآمر مع دراهم الرفقة أن ينفقوا جملة من المخلوط، سواء كان الآمر أمره بذلك أو لم يأمره لمكان العرف.
الوصي إذا أمر رجلاً أن يحج عن الميت في هذه السنة، فأخّر الحج عن وقته حتى مضت السنة، وحج من قابل جاز عن الميت، ولا يضمن النفقة، وذكر السنة في هذا للاستعجال لا ليفيد الآمر بها.
المأمور بالحج عن الميت إذا رجع عن الطريق، وقال: مُنِعْتُ، وقد أنفق من مال الميت في الرجوع لم يصدق، وهو ضامن جميع النفقة، إلا أن يكون أمراً ظاهر.
المأمور بالحج عن الميت إذا قال: حجه عن الميت وأنكر الورثة والوصي، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنهم أرادوا الرجوع عليه بالنفقة، وهو منكر، فيكون القول قوله مع يمينه، إلا أن يكون للميت على المأمور دين، فقال له: حج عني بهذا المال حجة، فحج عنه بعد موته، فعليه أن يقيم البينة أنه حج بها؛ لأنه يدعي الخروج عن عهدة ما عليه، والورثة منكرون.(3/52)
-----
في «المنتقى»: عن محمد رحمه الله: رجل دفع إلى رجل دراهم ليحج بها عن الميت، فادعى الدافع أنه لم يحج، وأقام البينة أنه كان يوم النحر بالكوفة، وقال المدفوع إليه: قد حججت، فالقول قوله، وليست تلك الشهادة بشيء، ألا ترى أنه لو كان عند رجل وديعة لرجل فقال المودع: دفعتها إليك بمكة، وأقام رب الوديعة أن المودع في اليوم الذي يدعي الدفع بمكة كان بالكوفة لم تجز هذه الشهادة؟ وإن أقاما جميعاً البينة في النائبين على إقرار المدفوع والمودع أنه كان بالكوفة، وأنه لم يدفع الوديعة ولم يحج قبلت.
أوصى أن يعطى بعيره هذا رجلاً يحج عنه، فدفع إلى رجل، فأكراه الرجل وأنفق الكراء لنفسه في الطريق، وحج ماشياً جاز عن الميت استحساناً، وإن خالف أمره، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار؛ لأنه لما ملك أن يملك رقبته بالبيع ويحج بالثمن ملك أن يملك منفعته بالإجارة، ويحج بالأجرة بطريق الأولى؛ إذ لو لم يملك ذلك على هذا التقدير يكون بالكراء عاصياً، فيكون الكراء له والحج له، فيتضرر، وكان نظير الميت فيما قلنا، ثم يرد البعير على الورثة؛ لأنه ملك الميت، وقد فرغ عن وصيته.
في مناسك «المنتقى»: ابن سماعة في «نوادره»: عن محمد رحمه الله إذا قال: أحجوا عشرة يعني عشر حجج فأحجوا عنه رجلاً عشر حجج جاز، وهو نظير ما لو قال: أطعموا عني عشرة مساكين، فأطعموا عنه مسكيناً واحداً عشرة أيام، وعلى هذا إذا قالوا: تصدقوا عني بهذه العشرة على عشرة مساكين، فتصدق على مسكين واحد أجزأه، وإن قال: على مسكينين، أو قال: على مسكين، فتصدقوا على عشرة أجزأه، وهذا وأجناسه على الأجر لا على العدد.
وأعاد هذه المسائل في وصايا «المنتقى» بعينها، وزاد عليها لو قال: تصدقوا بها على مساكين مكة، فتصدقوا بها على مساكين الكوفة ضمنوا، لأنه سمى لهم قوماً ووصفهم ولا يشبه هذا العدد.(3/53)
-----
في «الجامع الكبير» إذا قال: أوصيت بثلث مالي في الحج يحج عني كل سنة (184ب1) بمائة درهم أو قال: يحج من ثلثي كل سنة بمائة درهم، فإنه يحج عنه بالثلث كل سنة واحدة حتى يأتي على جميعه كل حجة بمائة درهم كما سمى، وكذلك إذا قال: أوصيت بثلث مالي في المساكين يتصدق منه كل سنة بمائة درهم، أو قال: أوصيت بأن يتصدق من ثلثي كل سنة بمائة درهم فإنهم يتصدقون بجميع الثلث في السنة الأولى، ولا يوزع على السنين، وكذلك إذا قال: أوصيت بثلثي يشترى منه كل سنة نسمة بمائة درهم فيعتق أو قال: أوصيت أن يشترى من ثلثي كل سنة نسمة، فإنه يشترى ذلك بكله في السنة الأولى ويعتق عنه ولا يوزع على السنين.
فَرْق بين هذه المسائل وبينما إذا أوصى أن يعطى لفلان كل سنة من ثلث ماله، فالثلث يوقف على فلان، ويعطى له كل سنة ما سمى، والفرق أنه إنما يراعى من الشروط ما يفيد لا ما لا يفيد، والأمر بإنفاق الثلث موزعاً على السنين يفيد؛ لأنه ربما يموت الموصى له قبل أن يستكمل الثلث، فيعود ما بقي من الثلث إلى ورثة الموصي، ونفع الوارث كنفع المورث، فأما في المسائل الثلاث الأمر بالتوزيع على السنين لا يفيد؛ لأنه لا يتوهم أن يفضل شيء من وصيته في المسائل، بل ثلث؛ لأن هذه جهات لا تنقطع إلى يوم القيامة، فلا يعود شيء إلى ورثته.
بقي من هذه الجنس مسألة لا بد من معرفتها: أن من مات، وعليه فرض الحج، ولم يوص به لم يلزم الوارث أن يحج عنه، وإن أحب أن يحج عنه حج، وأرجو أن يجزئه إن شاء الله، هكذا ذكر القدوري في «شرحه»؛ لأن رسول الله عليه السلام شبه ديون الله تعالى بديون العباد في الحج في حديث الخثعمية، ثم في ديون العباد من قضى دين غيره بغير أمره يجوز، ولكن موقوفاً على مشيئة رب الدين، فكذا في دين الله تعالى.(3/54)
-----
وذكر في «الزيادات»: فيمن مات وعليه صيام وأوصى أن يطعم عنه، فأطعم عنه الوارث، قال: يجزئه إن شاء الله، قرن الجواب بالمشيئة في باب الصوم، ولو حصل الإطعام بأمر من عليه، وفي باب الحج قصر الاستثناء على الحج بغير الأمر، والفرق: أن تشبيه دين الله تعالى بديون العباد في الحج منصوص عليه؛ لأن حديث الخثعمية ورد في الحج مجرى الحج يجري ديون العباد على النيّات إن كان بأمر من عليه، ومعلقاً بالمشيئة إن كان بغير أمر من يلي على ذلك، أما في باب الصوم لم يرد نص يوجب تشبيه دين الله بدين العبد، وإنما جوّز الإطعام بدلاً عن الصوم بقوله عليه السلام: «من مات وعليه صيام أطعم عنه وليه»، وهذا الخبر من جملة أخبار الآحاد، وخبر الواحد يوجب العمل دون العلم، فمن حيث إنه يوجب العمل قلنا بالجواز، ومن حيث إنه لا يوجب العلم قرن الجواز في الوجهين جميعاً، والله أعلم.
الفصل السابع عشر: في إحرام المرأة والمماليك
المرأة إذا أحرمت بحجة تطوع بغير إذن زوجها له أن يحللها في قول علمائنا رحمهم الله، والتحليل بارتكاب محظور والمحظور نوعان: إما حلق شعر أو تطييب عضو أو جماع، غير أن الأولى أن يكتفي بأقلها وأهونها حظراً، أو عليه الدم؛ لأجل التحلل، فإن أذن لها زوجها بعد ذلك، يعني: بعد ما حللها وكان ذلك قبل فوت الحج، وإن شاءت حجت من عامها ذلك، فطالما شرعت فيه، وإذا حجت من عامها ذلك فلا عمرة عليها لأن وجوب العمرة لأجل فوات الحج والدم عليها على حاله، وإن شاءت حجت في العام القابل وعليها العمرة، وكذلك إن كان ذلك بعد ما فات الحج، فعليها الحجة، والعمرة في العام القابل.(3/55)
-----
ابن سماعة عن محمد: في رجل أذن لامرأته في الحج، فأحرمت بالحج قبل أشهر الحج يحللها، وإن أحرمت في أشهر الحج، فليس له أن يحللها، وإن كانت في بلاد بعيدة يخرجون منها قبل أشهر الحج أو في أشهر الحج، فله أن يحللها ويكره له ذلك. وإحرام الأمة في حق هذا الحكم يفارق إحرام المنكوحة.
الرجل إذا أحرمت امرأته أو أمته بغير إذنه، فجامعها أو قبلها مع علمه بإحرامها فذلك تحليل، أراد به التحليل، أو لم يرد.
الحسن بن زياد ذكر في كتاب «الاختلاف»: امرأة أحرمت بحجة تطوعاً تزوجت، ولها ذو رحم محرم، فلزوجها أن يحللها، وأن يمنعها من الحج عند أبي يوسف خلافاً لزفر، وذكر عيسى بن أبان في «نوادره»: عن محمد: امرأة أحرمت بحج تطوعاً، ثم طلقها ولم يدخل بها، فزوجت رجلاً آخر في إحرامها، فليس له أن يحللها، قال: وليست هذه كالأمة إذا باعها المولى، وقد كانت أحرمت بإذن المولى، فإن للمشتري أن يحللها.
وفرق في حق الأمة بين المشتري والبائع، فإنه يكره للبائع أن يحللها إذا كانت أحرمت بإذنه، ولا يكره للمشتري أن يحللها، والفرق أن التحليل من البائع خلف في الميعاد بخلاف التحليل من المشتري، وقد اختلفت ألفاظ نسخ «الجامع الصغير» في مسألة الأمة في حق المشتري، وقع في بعضها، للمشتري أن يحللها ويجامعها، وقع في بعضها وللمشتري أن يحللها أو يجامعها.
وفي «الأصل» قال: للمشتري بأن يحللها، ولم يرد عليه، فإن كان الصحيح، فللمشتري أن يحللها ويجامعها، فمعناه يحللها بمس أو قص شعر، ويجامعها بعد ذلك، وإن كان الصحيح يحللها أو يجامعها، فمعناه يحللها بقص شعر أو مس أو جماع، واختلف المشايخ في تحليلها بالجماع فبعضهم كره ذلك كيلا يلاقي الجماع إحرامها، وبعضهم لم يكره ذلك؛ لأن المواقعة لا تخلو عن سابقة مس يقع به التحلل، فتقع المواقعة بعد التحلل، والله أعلم بالصواب.(3/56)
الفصل الثامن عشر: في التزام الهدي والبدنة وما يتصل بذلك
-----
إذا قال: عليّ المشي إلى بيت الله أو إلى مكة لزمه حجة أو عمرة استحساناً، ولو قال: عليّ المشي إلى الحرم وإلى المسجد الحرام، فعلى قول أبي حنيفة (185أ1) لا يصح النذر، ولا يلزمه شيء خلافاً لهما، ولو قال: عليّ المشي إلى زمزم أو إلى أسطوانة الكعبة، في غير رواية الأصول أنه على هذا الخلاف أيضاً، ولو قال: عليّ الذهاب إلى مكة، أو قال: عليّ السفر إلى مكة، أو قال: عليّ الركوب إلى مكة لا يلزمه شيء، بلا خلاف هذه الجملة في «الأصل».
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: رجل قال: لله عليّ المشي إلى بيت الله تعالى ثلاثين سنة، قال: عليه ثلاثون حجة أو ثلاثون عمرة، ولو قال: عليّ المشي إلى بيت الله ثلاثين شهراً، أو قال: أحد عشر شهراً، فإنما عليه عمرة واحدة. قال هشام: استحسن في السنتين؛ لأن عليه أيمان الناس، ولو قال: لله عليّ في هذه السنة حجتان، فعليه حجتان يعني في سنتين، ولو قال: لله عليّ عشر حجات في هذه السنة، فعليه عشر حجات في عشر سنين، فرق بينه وبين الصوم، فإنه إذا قال: لله عليّ صوم يومين في هذا اليوم لا يلزمه صوم يومين.
أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا قال الرجل بخراسان: إن كلمت فلاناً فعليّ المشي إلى بيت الله تعالى، فكلمه بالكوفة، فعليه أن يمشي من خراسان.
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: أنا محرم بحجة بل بعمرة إن فعلت كذا ففعل، فعليه حجة وعمرة. الحسن بن زياد: إذا نذر المشي إلى بيت الله، ثم قرن بين حجة الإسلام وبين عمرة نواها بالمشي الذي أوجبه، ومشى فيهما إلى مكة أجزأه، ولا يلزمه شيء.
ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل قال وهو في غير أشهر الحج: لله عليّ حجة في أشهر الحج، فمات قبل أن يجيء لم يجب عليه شيء، وإن قال: وهو في غير أشهر الحج، فالحجة واجبة عليه من قبل أنه أوجبها على نفسه الساعة، فإذا قال: في أشهر الحج، فكأنه قال: إذا جاء فلان.(3/57)
-----
«الجامع الصغير»: رجل جعل على نفسه أن يحج ماشياً، فإنه لا يركب حتى يطوف للزيارة، وفي «الأصل» يشير إلى خلافه وموضع ما ذكر في «الأصل»: إذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى، فعليه حجة أو عمرة استحساناً، فإن عنى حجة أو عمرة كان عليه أن يحج أو يعتمر ماشياً، ويصير تقدير كلامه عند تعيين أحدهما لله عليّ أن أحج ماشياً، أو لله عليّ أن أعتمر ماشياً، ولو نص على هذا لزمه كذلك، ولكن إن ركب يجزئه، ويريق لذلك دماء.
الأصل فيه حديث عقبة بن عامر الجهني حيث قال: «يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال عليه السلام: إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك، مُرها فلتركب ولترق دماً».
ثم إذا حج أو اعتمر ماشياً متى يبتدىء، ومتى يترك المشي؟
أما الترك: ففي الحج يترك المشي متى طاف الزيارة؛ لأن الحج ينتهي بطواف الزيارة، فينتهي المشي أيضاً بطواف الزيارة، وفي العمرة يترك المشي متى طاف وسعى.
وفي «البداية»: اختلف المشايخ، بعضهم قالوا: يمشي من حين يحرم؛ لأنه التزم الحج ماشياً، فإنما يلزمه المشي متى أخذ في أفعال الحج، وإنما يصير أخذ في أفعال الحج متى أحرم، ومنهم من قال: يمشي حين يخرج من بيته؛ لأن المشي من بيته من أفعال الحج؛ لأنه لا يتوصل إلى الأعمال إلا به.
في «العيون»: إذا قال: لله عليّ حجة الإسلام مرتين لا يلزمه شيء؛ لأنه التزم غير المشروع، وفي «فتاوى أبي الليث» إذا قال: أن أحج فلا شيء عليه، ولو قال: إذا دخلت الدار، فأنا أحج فدخلها لزمه الحج.
وفيه أيضاً: إذا قال: لله عليّ مئة حجة لزمها كلها، ويظهر الوجوب فيما زاد على عمره في حق وجوب الإيصاء، وفي الأيمان من «فتاوى أبي الليث» إذا قال: لله عليّ ثلاثين حجة لزمه بقدر عمره؛ لأن ما زاد على عمره إيجاب بعد الموت، والإيجاب بعد الموت لا يعمل.(3/58)
-----
في «فتاوى أبي الليث» أيضاً إذا قال: لله عليّ ثلاثين حجة ثلاثين نفساً في سنة واحدة إن مات قبل أن يجيء وقت الحج جاز الكلّ؛ لأنه لم يستطع بنفسه، فتبين أن شرط الإحجاج كان موجوداً، وإن (جاء) وقت الحج، وهو حي قادر على الحج بطلب حجة واحدة؛ لأنه استطاع، فتبين أن شرط الإحجاج وهو الناس لم يكن موجود، وكذلك كل سنة عليّ هذا.
إذا قال المريض: إن عافاني الله من مرضي هذا فعليّ حجة، فبرأ من مرضه، فعليه حجة، وإن لم يقل: فلله حجة، فبرأ وحج جاز ذلك عن حجة الإسلام؛ لأن الغالب من أمور الناس أنهم يريدون بهذا الكلام حجة الإسلام إذا لم يكن حج قبل ذلك، فإن نوى حجة غير حجة الإسلام أجزأه؛ لأنه نوى ما يحتمله.d
إذا قال: إن فعلت كذا فعليّ هدي، أو قال: فعليّ بدنه، فهذه المسألة لا بد لمعرفتها من أصل أن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الهدي، فنقول: اسم البدنة عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر، قال عليه السلام «البدن من الإبل والبقر» قال علي رضي الله عنه: الهدي من ثلاثة، فهي من الإبل والبقر والشاة، ولأن الهدي اسم لما تهدى إليها كالإبل والبقر تحدياً البدنة؛ لأن البدن مشتقة من الضخامة والضخامة للإبل والبقر دون الشاة.
إذا عرفنا هذا جئنا إلى تخريج المسألة؛ فنقول: إذا قال: لله عليّ هدي نوى شيئاً من الأنواع الثلاثة فهو على ما نوى، وإن لم ينو شيئاً ينصرف إلى الشاة لأنه أدنى الأنواع الثلاثة، وإن قال: لله عليّ بدنة، فإن نوى شيئاً من النوعين فهو على ما نوى، وإن لم ينو شيئاً فله أن يختار أي النوعين شاء.(3/59)
-----
ثم في البدن إن نوى أن ينحرها بمكة لزمه أن ينحرها بمكة، وإن لم ينو ذلك نحرها في أي مكان شاء، وقال أبو يوسف (185ب1) ومحمد: يلزمه أن ينحرها بمكة، وفي الهدي يلزمه النحر بمكة، وإن لم ينو النحر بمكة بلا خلاف، ولا يجزي في الهدايا والضحايا إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيماً والثني من غيره، والجذع من الضأن عند الفقهاء الذي أتى عليه أكثر الحول سبعة أشهر، فصاعداً، وعند أهل اللغة الذي أتى عليه ستة أشهر، والثني من الإبل الذي طعن في السنة السادسة، ومن البقر الذي طعن في السنة الثالثة ومن الغنم الذي طعن في السنة الثانية.
قال في «الأصل»: ويستحب للرجل أن يأكل من هدي المتعة والتطوع والقران، وكذلك يستحب له التصدق، وما أكثر من التصدق فهو أفضل، ولا يستحب له أن يتصدق بأقل من الثلث، وإذا بلغ هدي التطوع الحرم وعطب فيه قبل يوم النحر فإن كان قد تمكن منها نقصان يمنع أداء الواجب ذبحه وتصدق بلحمه، لأنه لما عينه للهدي فقد لزمه شيئان قربة الإراقة فيه والتصدق باللحم، فإذا تمكن فيه عيب يمنع قربة الإراقة إن عجز عن قربة الإراقة ما عجز عن التصدق باللحم، فيلزمه ما قدر عليه ولا يأكل منه لأن إباحة الأكل من الهدي، معلقة بقربة الإراقة كما في الأضحية وقربة الإراقة لا تتأدى بمثل هذا العيب كما لا تتأدى قربة الأضحية، فإذا لم توجد قربة الإراقة لا يحل الأكل، وإن كان النقصان المتمكن يسيراً بحيث لا يمنع أداء الواجب ذبحه ويتصدق بلحمه وأكله، لأن قربة الإراقة قد وجدت لأن ما لا يمنع أداء الواجب لا يمنع أداء التطوع، وهذا بخلاف هدي المتعة، فإنه لو عطب في الحرم قبل يوم النحر فذبحه لا يجزئه؛ لأن هدي المتعة مؤقت بيوم النحر فلا يجزئه الذبح قبل يوم النحر بخلاف هدي التطوع.(3/60)
-----
قال في «الأصل»: وإذا سرق هدي رجل فاشترى مكانها أخرى وقلدها وأوجبها، ثم وجد الأول فإن نحرها، فهو أفضل؛ لأنه أوجبها الأول على نفسه مطلقاً وأوجبها الثاني بنية إسقاط الواجب، وتبين أنه ليس عليه حين وجد الأول، فالأفضل في مثل هذا المعنى، كما إذا شرع في صوم أو صلاة على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه، فإن نحر الأول وباع الآخر أجزأه، وإن نحر الآخر وباع الأول، فإن كان قيمة الآخر مثل قيمة الأول وأكثر فلا شيء عليه، وإن كان أقل يتصدق بفضل ما بينهما.
قال في «الأصل»: عقيب هذه المسائل: وهدي المتعة والتطوع في هذا، قالوا: وما ذكر محمد رحمه الله يبطل قول من قال بأن من الفقير إذا اشترى شاة بنية الأضحية فضلت فاشترى بأخرى، ثم وجد الأولى، أنه يلزمه أن يضحي بهما لأن الشراء بنية الأضحية بمنزلة النذر فكأنه نذر أن يضحى بالأخرى ووجه الإبطال أن محمد رحمه الله نص هنا على أن له بيع الآخر، وإن كان هذا في التطوع في هذا الواجب سواء.
وفي «المنتقى»: قال عيسى بن أبان في «نوادره»: قلت لمحمد: رجل قلد بدنة تطوعاً فضلّت منه، ثم اشترى مكانها أخرى هي أفضل منها وقلدها وأوجبها، ثم وجد الأولى قال: إن نحر الأولى تصدق بفضل الثانية عليها، وكذلك في الأضحية قلت: لو قلد بدنة تطوعاً وأوجبها فضلت منه، ثم اشترى مكانها بدنتين كل واحدة منهما أفضل من الأولى فقلدهما جميعاً، ثم وجد الأولى، قال: أحب إليّ أن ينحرهن جميعاً، وإن لم يفعل ينحر الأولى وإحدى هاتين، وأمسك إحداهما، والله أعلم.(3/61)
الفصل التاسع عشر: في الخطأ في الوقوف
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله في الإمام يخطىء، ويقف بالناس بعرفة يوم التروية لم يجز للناس حجتهم.
-----
وفي «الجامع الصغير»: أهل عرفة وقفوا في يوم شهد قوم أنهم وقفوا في يوم النحر أجزأتهم حجتهم. وصورة المسألة: أن يشهد قوم برؤية هلال ذي الحجة في ليلة كان اليوم الذي وقفوا اليوم العاشر من ذي الحجة، وهذا لأن التحرز عن الخطأ غير ممكن، فإذا ظهر الخطأ، والتدارك غير ممكن، وجب أن يسقط التكليف صيانة لجميع المسلمين، ولأن هذه شهادة قامت على النفي، وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم والإلزام، ومثل هذه الشهادة لا تقبل.
وذكر الكرخي رحمه الله: إذا التبس على الناس هلال ذي الحجة، فأكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوماً، ووقفوا في اليوم التاسع من ذي الحجة ثم تبين أن اليوم الذي كان وقوفهم صحيحاً وحجهم تاماً استحساناً، والقياس: أن لا يجوز.
وفي «المنتقى»: عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله: إذا قيل الحجاج..... بريدون، فأبصر بعضهم هلال ذي الحجة، فرد الإمام شهادتهم، وعدّ الإمام ذا القعدة ثلاثين يوماً، ووقف يوم التاسع بعرفة وهو اليوم العاشر في شهادة الشهود، ووقف الشهود معه، فحجهم تام، هم وغيرهم في الحج سواء، وإن استيقنوا أن هذا اليوم يوم النحر. ولو أن هؤلاء الشهود بعدما رد الإمام شهادتهم وقفوا بعرفات على ما رأوا عليه الهلال قبل وقوف الإمام بيوم ولم يقفوا مع الإمام من الغد، فقد فاتهم الحج، وعليهم أن يحلوا بعمرة، وعليهم الحج من قابل.(3/62)
-----
وفيه أيضاً: ولو أن قوماً من الحجاج أو من غيرهم أتوا الإمام وشهدوا عنده في صبيحة يوم عرفة أنهم رأوا الهلال قبل عدد الثلاثين بيوم، وهذا اليوم يوم النحر وهم عدول لا تقبل شهادتهم، ووقف بالناس على عدده الذي عدّوا، ووقف معه هؤلاء الشهود أجزأهم؛ لأن الإمام لا ينبغي له أن يبطل الحج في سنة من السنين، حتى لا يكون فيها حج. وكذلك لو كانوا شهدوا بذلك في آخر ليلة عرفة في ساعة، إن طلب (186أ1) الإمام المسلمين أن يأتوا عرفة، فيقفوا بها لم يدركوها حتى يطلع الفجر لا تقبل هذه الشهادة، وإن شهد في أول الليل أو في عشي اليوم الذي هو يوم عرفة في شهادتهم، وكان الإمام والمسلمون يقدرون على أن يمضوا إلى عرفات حتى يقفوا بها قبل الإمام شهادتهم، قال: ولا ينبغي أن يقبل في هذا شهادة الواحد والاثنين ونحو ذلك في الاستحسان.
وأما في القياس فتقبل فيه شهادة العدلين، وأما الذي تقبل فيه شهادة العدلين قياساً واستحساناً إذا كان القوم يقدرون على الوقوف على ما أمروا به، معناه: أن الشهود إذا شهدوا في زمان يمكّنهم الوقوف بعرفة نهاراً تقبل شهادة عدلين، وإذا شهدوا في زمان لا يمكنهم الوقوف بعرفة نهاراً، ويحتاجون إلى الوقوف بها ليلاً لا تقبل فيه شهادة العدلين، لأن الوقوف يتحول بشهادته حتى يوقف بالليل مكان النهار، فلا يقبل فيه الأمر الظاهر.(3/63)
-----
وفيه أيضاً: لو شهدوا عند الإمام عدلان على رؤية الهلال في أول العشر من ذي الحجة أو شهود عدول، فرأى أن لا يقبل ذلك حتى يراه العامة، يعني حتى يشهد عنده جماعة كذلك، ومضى ما رأى ووقف في يوم هو يوم النحر في شهادة الشهود، ووقف الناس معه والشهود أجزأهم: قال: لأن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، وإن خالفه الشهود، ووقفوا قبله لا يجزئه، قال: إنما هذا بمنزلة الأحكام التي يختلف فيها المسلمون يريد بقوله: إن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، إن الفقهاء اختلفوا في هلال ذي الحجة، بعضهم جعلوه بمنزلة هلال رمضان، فتقبل فيه شهادة عدلين، وبعضهم جعلوه بمنزلة هلال شوال، فلا تقبل فيه إلا شهادة الجمع العظيم.
وفي «الرقيات»: ابن سماعة، قلت لمحمد رحمه الله: أرأيت لو غُمَّ على الناس هلال ذي الحجة بمكة قعدوا لأيام حتى إذا أصبحوا في اليوم الذي يرونهم يوم عرفة أتاهم تعين الخبر أن ذلك اليوم يوم النحر أيجزئهم أن يقفوا؟ أرأيت إن أتاهم الخبر وهم بمنى ليلة النحر في وقت إن أرادوا إتيان عرفة أصبحوا دونها، أو في وقت يلحق المسرع عرفة بمثل طلوع الفجر، فأما المشاة وأصحاب الثقل، فلا يلحقوا بها إلا بعد الفجر، قال محمد رحمه الله: لا ينبغي للإمام أن يقبل على هذا بينة، ولا يلتفت إلى شيء من ذلك إذا كان أمراً إن فعله كان القوم فاتهم الحج، فإن كان الإمام، ومن أسرع فيه يدركون الحج تقبل فيه شهادة الشهود، وإن فات بعضهم الحج.
وفي صورة أخرى من هذا الجنس يقول: إذا جاء الإمام، وذلك أمر مكشوف معروف، وهو يقدر على الذهاب إلى عرفة، ومن أسرع معه في المشي، فليذهب هو وليقف، ومن لم يقف معه فاته الحج، وإن كان لا يدري هو، ولا غيره، فلا ينبغي له أن يقبل شهادتهم على هذا وإن كثروا، ولا يقف إلا من الغد.(3/64)
-----
والحاصل أن في كل موضع لو قبلت الشهادة لفات الحج على الكل، فالإمام لا يقبل الشهادة، وإن كثر الشهود في كل موضع لو قبلت الشهادة لفات الحج على البعض دون البعض قبلت الشهادة.
الفصل العشرون: في المتفرقات
ذكر في «واقعات الناطفي» أن المرأة المحرمة ترخي على وجهها خرقة، وتجافي عن وجهها، ودلت هذه المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للرجال من غير ضرورة؛ لأنها منهية عن تغطية الوجه لحق نسك، لولا أن الأمر كذلك، وإلا لما عرف بهذا الإرخاء في النواهي.
البالغ إذا جن بعد الإحرام، ثم ارتكب شيئاً من المحظور، فإن عليه فيها الكفارة. فرق بينه وبين الصبي؛ لأن ابتداء إحرام المجنون قبل أن يجن كان صحيحاً لازماً؛ بخلاف إحرام الصبي. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أن المرأة إذا لم تجد محرماً لم تحج عن نفسها إلى أن تبلغ الوقت الذي تعجز، فلا تقدر على السير، فحينئذٍ تبعث من يحج عنها، وقبل ذلك لا يجوز لها ذلك لتوهم وجود المحرم، فإن بعثت رجلاً، فإن دام عدم المحرم إلى وقت الموت فذلك جائز، كالمريض إذا أحج عنه فدام به المرض.
ولو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في وقت لا يقدر على الحج ثم مات، ذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول أبي يوسف: يجب الحج، وعلى قول زفر: لا يجب، قال البلخي: وقد روي عن أبي يوسف أنه يجب قضاءً، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، قيل: وكان عن أبي حنيفة روايتان أيضاً.
وكذلك على هذا إذا أصاب مالاً، واستهلكه أو هلك المال في وقت لا يقدر على الحج. والفتوى: على أنه لا يجب عليه الحج وهو الأظهر. وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا أتى بالإحرام في الميقات يعني الحاج يقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبل مني عن فلان.(3/65)
-----
إذا حج الرجل مرة، ثم أراد أن يحج مرة، فالحج مرة أخرى أفضل له أم الصدقة، فالمختار أن الصدقة أفضل له؛ لأن نفع الصدقة يعود إلى الفقير، ونفع الحج يقتصر عليه.
في «العيون»: إذا أراد الرجل أن يخرج إلى الحج وأبوه كاره، فإن كان الأب مستغنياً عن خدمته لا بأس بذلك؛ وإن لم يكن مستغنياً لا يسعه الخروج.
وذكر في «السير الكبير» إذا كان لا يخاف عليه لذلك الضيْعة فلا بأس بالخروج، وكذلك إن كره خروجه زوجته وأولاده ومن سواهم ممن يلزمه نفقتهم، وهو لا يخاف الضيْعة عليهم، فلا بأس بأن يخرج، ومن لا يلزمه نفقته لو كان حاضراً، فلا بأس بالخروج مع كراهيته، وإن كان يخاف الضيعة عليه.
وذكر في «فتاوى أبي الليث»: إذا كان الابن أمرداً صبيح الوجه فلا بأس أن يمنعه عن الخروج حتى يلتحي، وإن لم يكن كذلك إلا أن أبواه يحتاجان إلى النفقة، ولا يمكنه أن يخلف لهما نفقة كاملة، أو يمكنه إلا أن الغالب هو الخوف في الطريق، فلا يخرج مع كراهيته، وإن كان الغالب هو السلامة، فلا بأس بالخروج.
في «فتاوى أبي الليث»: الخروج إلى الحج راكباً أفضل من الخروج ماشياً؛ لأن المشي يجهد الإنسان، ويسيء خلقه، فلا يأمن أن يأثم في إحرامه.
فيه أيضاً: رجل وجب عليه الحج، فحج من عامه فمات في الطريق، فليس عليه أن يوصي بالحج إلا أن يتطوع؛ لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب، شكَّ الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله عمن قال: اللهم نريد الإحرام هل يصير محرماً؟ قال: على قياس قول أبي حنيفة يجب أن يصير محرماً؛ لأنه يجوز الشروع في الصلاة بقوله: اللهم، فأولى أن يجعله محرماً به، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله قال: أقل ما يجب أن يكون بين الناس وبين الجماعة في حال ما بين من عشرة أذرع، والله أعلم بالصواب. ويتلوه كتاب النكاح (186ب1).(3/66)
-----
كتاب النكاح
هذا الكتاب يشتمل على خمسة وعشرين فصلاً:
1 * في الألفاظ التي ينعقد بها النكاح.
2 * في الألفاظ التي تكون إجارة أو إذناً في النكاح والتي تكون رداً وإبطالاً.
3 * فيما يكون إقراراً بالنكاح، وما لا يكون إقراراً به.
4 * في الشروط والخيار في النكاح.
5 * في تعريف المرأة والزوج في العقد بالتسمية أو الإشارة.
6 * في الكفارة.
7 * في الشهادة في النكاح.
8 * في الوكالة في النكاح.
9 * في معرفة الأولياء،
10 * في نكاح الصغار والصغائر وتسليمهن إلى الأزواج وتصرف الأولياء في المهر.
11 * في نكاح الأبكار.
12 * في النكاح بالكتاب والرسالة، وفي النكاح مع الغائب.
13 * في بيان أسباب التحريم.
14 * في بيان ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز.
15 * في الأنكحة التي لا تتوقف على الإجازة والتي تتوقف على الإجازة.
16 * في المهور.
17 * في النكاح الفاسد وأحكامه.
18 * في ثبوت النسب.
19 * في نكاح العبيد والإماء.
20 * في نكاح الكفار.
21 * في الخصومات الواقعة بين الزوجين.
22 * في بيان ما للزوج أن يفعل، وما ليس له أن يفعل، وفي بيان ما للمرأة أن تفعل وما ليس لها أن تفعل.
23 * في العنين والمجبوب.
24 * في بيان حكم الولد عند افتراق الزوجين.
25 * في المسائل المتعلقة بنكاح المحلل وما يتصل به ونكاح الفضولي وفي طلاق المضاف، والحيل في رفع اليمين في طلاق المضاف وقضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها.
26 * في المتفرقات.(3/67)
الفصل الأول: في الألفاظ التي ينعقد بها النكاح
قال القدوري رحمه الله في «كتابه»: عقد النكاح ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي نحو أن تقول المرأة: زوجت، ويقول الرجل: قبلت، قال: وينعقد أيضاً بلفظين أيضاً، يعبر بأحدهما عن المستقبل نحو أن يقول الرجل: زوجت.
-----
وفي نكاح «فتاوى أهل سمرقند»: إذا (قال) الرجل لغيره: دخرحوبش مراده، فقال: وادم، ينعقد النكاح، وإن لم يقل الخاطب: بدر فتم، ولو قال: دمتر حوبش مراد داي، فقال: دا دم، لا ينعقد النكاح ما لم يقل الخاطب: بدر فتم إلا إذا أراد أن يقول: دادي التحقيق دون السوام، فحينئذ يصح النكاح وإن لم يقل الخاطب: بدرفتم. ولو قال: حوبش بمن ذرى فقالت: دادم، فقال الزوج: لي بدرفتم، فها هنا لا يمكن حمل قوله: دادي على التحقيق؛ لأن معنى التحقيق لا يتضمن هذا الكلام، وقول الزوج: بدرفتم يعني خوبش بمن داري كه من بدرفتم، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه مع التصريح بعدم القبول بعد ذلك.
وفي «مجموع النوازل»: عن الشيخ الإمام الزاهد نجم النسفي رحمه الله: إن في قوله: دمتر حوبش مراده لا بد وأن يقول: برني، ويقول الآخر: برني دادم، أما بدون ذلك لا ينعقد النكاح عند بعض المشايخ، وعند بعضهم ينعقد، فلا بد من هذه الزيادة لتصير المسألة محققة، وفي قوله: برى دادي، قال: اختلف مشايخ بلخ، بعضهم جعلوا هذا استفهاماً، وبعضهم جعلوه بمنزلة الأمر: خوبش بمنى برني ده، قال الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر رحمه الله: ومعنى الأمر راجح، ألا ترى أن التعارف فيما بين الناس أنهم يقولون وقت العقد جوتشتن بفلان نولي دادي، ويريدون به الأمر.
وسئل نجم الدين عمن قال: لامرأة خوشتن بهزاردرم كبتن عن ترني دادي فقال: ما يسمع والطاعة قال: ينعقد النكاح. ولو قال: فساس دارم لا ينعقد؛ لأن الأول إجابة، والثاني عقد. وسئل هو أيضاً عمن قال: لأب امرأة: وجوحويشتن عقيد ركابين أصدر كردى مربن فلان راكضت كردم، وقيل للزوج بهذه اللفظة أيضاً، فقال: كردم، قال: لا ينعقد النكاح إن لم يسبق من غيرهما في حقهما عقد؛ لأن الإجازة الإمضاء لا الابتداء قيل للمرأة خويشتن بفلان ترني داري فقالت: دار. وقيل للزوج: بدرقتي، قال: بدرفتم ينعقد النكاح، وإن لم تقل المرأة: وادم ويدرفتم لمكان الفرق.(3/68)
-----
وعلى هذا البيع إذا قيل للبائع: فروخني، فقال: فروخت، وقيل للمشتري خريدي فقال: خريد ينعقد البيع وإن لم يقل: خريدم وفروختم، قيل لامرأة فلان رابا سيدي فقالت: يا شدم، قيل: لا ينعقد النكاح إلا إذا كان المخاطب قال لها: فلان رائرى ياشدي، فقال: يا شرم فحينئذ يكفي قولها جواباً، وانعقد النكاح بينهما، وقيل: ينعقد وهو الظاهر بحكم الفرق خويشتن دازن كر دانتدي، فقالت: كرد انيدم. وقال الزوج: بدرختم ينعقد النكاح في الأمر إذا قال لها: تزوجتك بكذا، فقالت: فعلت تم النكاح وإن لم تقل: قبلت.
وإذا قال لها: جئتك خاطباً، فقالت: فعلت، أو قالت زوجتك نفسي نكاحاً تاماً، وكذلك إذا قال لها: خطبتك إلى نفسك، فقالت: قد فعلت كان نكاحاً تاماً ذكرهما شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «الكافي».
وفي «نوادر المعلى» قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لرجل: جئتك خاطباً ابنتك، فقال الأب: زوجتك، فقد تم النكاح.
وينعقد النكاح بلفظ الهبة والصدقة والتمليك بأن قالت: وهبت نفسي منك، ملكت نفسي منك، تصدقت بنفسي عليك، ولا ينعقد بلفظ الإحلال والإباحة، وهل ينعقد بلفظة الإجارة؟ فعلى قول أبي بكر الرازي رحمه الله لا ينعقد، وعن الحسن الكرخي رحمه الله أنه ينعقد.
وإنما وقع الاختلاف في هذا لاختلاف روايات عن أصحابنا رحمهم الله روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن كل لفظ يملك به شيء ينعقد به النكاح، وهذه الرواية تدل على جواز النكاح بلفظ الإجارة.(3/69)
-----
في رواية ابن رستم عن أبي حنيفة رحمه الله: كل لفظ تملك به الرقاب ينعقد به النكاح، والأولى وهذه الرواية تدل على عدم جواز النكاح بلفظ الإجارة وفي العبارة بلفظ البيع والشراء بأن قالت المرأة: بعت نفسي منك، أو قال أبو البنت: بعت ابنتي منك بكذا، أو قال الرجل لامرأة: اشتريتك بكذا، وأجابت بنعم، اختلاف المشايخ. كان الفقيه أبو القاسم البلخي يقول بالعبارة، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الحدود، ورواية الحسن ورواية ابن رستم عن أبي حنيفة رحمه الله يدلان عليه وهو الصحيح.
وفي القرض والرهن اختلاف المشايخ كذلك وفي لفظ الإعارة اختلاف المشايخ. روي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن ينعقد، وكان يقول: الإعارة تفيد ملك المنفعة، ألا ترى أن إباحة استيفاء المنافع دون التمليك، ألا ترى أنه لا يملك الإجارة من غيره؟ فقال الفقيه أبو العباس الناطفي: وكان شيخنا أبو عبد الله رحمه الله يقول: النكاح.... أصلين مختلفين أحدهما الإباحة، فلا ينعقد بلفظة العارية بالشك، وأما لفظة الإقالة، فقد حكى الناطفي في «واقعاته» عن شيخه أبي عبد الله الجرجاني رحمه الله أنه لا ينعقد به النكاح؛ لأنها موضوعة لفسخ عقد سابق لا لعقد مبتدأ. قال: وعلى هذا لا ينعقد النكاح بلفظة الجامع، وكذلك لا ينعقد بلفظ الصلح؛ لأن موضعه الحطيطة ولإسقاط الحق.(3/70)
-----
وذكر شيخ الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصلح: الابتداء النكاح بلفظ الصلح العطية جائز، قال الناطقي رحمه الله: وكذلك لا ينعقد بلفظ الشركة، وإن كانت تفيد التمليك لمن قال لغيره: أشركتك في هذه الجارية، فإنه يفيد تمليكاً قال الناطقي رحمه الله: إنما كان كذلك؛ لأنها تفيد الملك في بعض رقبتها، لا في جميعها، فصار كمن قال لآخر: زوجتك نصف جاريتي، فإنه لا يصح النكاح؛ لأنه من حيث لم يزوج النصف الآخر، لا يستباح وطؤها، فاجتمع الحلال والحرام وكان الحكم الحرام، وفيه نظر، وقد ذكر في كثير من الكتب إذا أضاف النكاح إلى فضولي أضاف إليه الطلاق يقع الطلاق يصح النكاح أيضاً، وإن أضاف الطلاق إلى نصفها يقع الطلاق، فإذا أضاف النكاح إلى نصفها يصح النكاح أيضاً، وهذا لما عرف أن المرأة في حق محلية النكاح لا تتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ ذكر كله (187أ1).t
وفي «البقالي»: إذا تزوج نصفها، فقد ذكر بعضهم أنه يجوز، والنكرة غيره، وأما لفظ الرد هل ينعقد به النكاح ذكر في نكاح «إملاء بشر بن غياث» أن من طلق امرأته طلاقاً بائناً، فقالت: رددت نفسي عليك، فقال الرجل: قبلت كان نكاحاً هذا لفظ كتابه. قال أبو العباس الناطفي رحمه الله قال: وقد يكون في حكم الابتداء النفي.
في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله، لو مرض الموهوب له، فرد الموهوب على الواهب بغير قضاء جاز في قدر ثلثه، ولا يجوز في قدر ثلثيه، وأما لفظ المتعة فقد اختلفت الروايات فيها ذكر في «الأصل»، وفي «نوادر هشام» عن أبي حنيفة رحمه الله لو قال لها: أتزوجك بمتعة لا ينعقد به النكاح، وقال في «الهارونيات»: قال أبو حنيفة رحمه الله: ينعقد به النكاح، ويلغو قوله: متعة.(3/71)
-----
وفي «المنتقى»: هشام عن محمد رحمه الله إذا قال لامرأة: أتزوجك متعة، فالنكاح باطل، ولو قال لغيره: أبيعك هذه الدار تلجئة بألف درهم فالبيع جائز، وقال أبو يوسف: البيع والنكاح فاسدان، وفي «الأصل» إذا تزوج امرأة مدة معلومة، فالنكاح باطل، وهو المتعة.... إلى الآجال حتى سمى مائة وأبطل فيه العقد. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وكثير من مشايخنا قالوا: إذا سميا ما يعلم يقيناً أنهما لا يعيشان إليه كألف سنة ينعقد العقد ويبطل الشرط، كما لو تزوجها إلى قيام الساعة أو خروج الدجال، أو نزول عيسى عليه السلام، وهكذا روي عن الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، فأما بلفظة الوصية إن أطلق وقال: أوصيت لك ببضع أمتي بألف درهم وقبل الآخر، أو أضاف العقد إلى ما بعد الموت، بأن قال: أوصيت لك ببضع أمتي للحال بألف درهم وقبل الآخر ينعقد النكاح. ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وهكذا حكي عن الشيخ أبي عبد الله الجرجاني رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله مطلقاً أن النكاح لا ينعقد بلفظة الوصية.
وفي كتاب الصلح من «الأصل» أعطيك مائة درهم على أن تكوني امرأتي، فهو جائز إذا قبلت بمحضر من الشهود، فيكون ذلك نكاحاً مبتدأ، فالنكاح ابتداء ينعقد بلفظة الكون، ولهذا من قال لامرأة: كوني امرأتي بمائة فقبلت بمحضر الشهود صح، إذا قال لامرأة: ثبت حقي في منافع بضعك بألف فقالت: قبلت صح النكاح، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: لو قال الرجل لامرأة: كنت لي، أو صرت لي فقالت: نعم، أو صرت لك كان نكاحاً في كتاب الصلح في باب الصلح، وقد قيل بخلافه.(3/72)
-----
ادعى رجل قبل امرأة نكاحاً، فجحدت فصالحها على مائة إن هي بذلك أقرت فهذا الإقرار منها جائز، وهذا الإقرار منها بمنزلة إنشاء النكاح؛ لأن هذا إقرار مقرون بالعوض، فيكون عبارة عن تمليك مبتدأ للحال، كمن قال لغيره: أقر لي بهذا العبد على أن أعطيك مائة فكان بيعاً حتى لو قال: إلى الحصاد لم يجز.
وإذا جعل هذا الإقرار بمنزلة إنشاء النكاح، فإن كان بمحضر من الشهود صح النكاح، ووسعها المقام مع زوجها فيما بينهما وبين ربها، وإن لم يكن بمحضر من الشهود لا ينعقد النكاح، ولا يسعها المقام مع زوجها، وهو الصحيح، وهو نظير ما لو قضى القاضي بالنكاح بشهادة شهود زور ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويجعل ذلك بمنزلة إنشاء النكاح، وإن كان بمحضر من الشهود يصح النكاح، وما لا فلا، وهو الصحيح.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لامرأة بمحضر الشهود: راجعتك، فقالت المرأة: رضيت يكون نكاحاً، وفي «فتاوى القاضي»: لا يكون فقد نص في «الجامع» أن من قال للمطلقة بائناً أو ثلاثاً: إن راجعتك فعبدي حر، ينصرف إلى النكاح؛ لأن الرجعة قد يراد بها الرجعة المعروفة، وقد يراد بها النكاح فينظر إلى (المراد) وهذا المحل لا يقبل الرجعة المعروفة، فكان المراد منها النكاح.
وفي «أجناس» الناطفي رحمه الله، إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً أو ثلاثاً ثم قال لها: راجعتك على كذا، فرضيت المرأة بذلك، وكان بمحضر الشهود كان ذلك نكاحاً صحيحاً وإن لم يذكر المال، فإن أجمعا على أن الزوج أراد به النكاح كان نكاحاً، ومالا فلا، وتبين بما ذكر في «الأجناس» أن ما ذكر (في) «الفتاوى» محمول على ما إذا ذكر المال، أو أقر أن الزوج أراد به النكاح.(3/73)
-----
إذا قال لامرأة: هذه امرأتي، وقالت المرأة: هذا زوجي، وكانت بمحضر من الشهود لا يكون نكاحاً، وكذلك لو قال بالفارسية: رن وسوهم لا يكون ذلك نكاحاً. وفي «فتاوى النسفي» أن فيه اختلاف المشايخ، قال ثمة: ولو قضى قاضى بصحة هذا النكاح ينفذ القضاء ويصح النكاح، ودلت المسألة أن قضاء القاضي في مثل هذه المجتهدات صحيح. فإن قال لها الشهود: أجزتما أو رضيتما، فقالا: أجزنا، أو قالا: رضينا لا يكون نكاحاً مبتدأ، فالنكاح لا ينعقد بلفظة الإجازة والرضا، ولو قال لهما الشهود: جعلتما هذا نكاحاً، فقالا: نعم كان ذلك نكاحاً مبتدأ، فالنكاح ينعقد بلفظ الجعل، ولهذا إذا قالت المرأة: نفسي لك بكذا، وقال الرجل: قبلت كان نكاحاً تاماً.
طلب من امرأة زنا، فقالت المرأة للطالب: وهبت نفسي منك، وقبل الطالب لا يكون نكاحاً، بخلاف ما إذا وهبت نفسها منه على وجه النكاح، والفرق أن هبة نفسها من طالب الزنا يمكن..... وليست بهبة حقيقة لا يكون جواباً لما التمس، أما هبة نفسها على وجه النكاح هبة حقيقة، وبالهبة ينعقد النكاح، وهو نظير ما لو قال لآخر: وهبت لك ابنتي، وقال الآخر: قبلت كان نكاحاً إذا كان بمحضر من الشهود، ولو قال: وهبت ابنتي منك لتخدمك، (وقال) الآخر لا يكون نكاحاً.
قيل لرجل: دحترخوش دابه بسر من بادراني داستي، فقال: دا شم لا ينعقد النكاح بينهما؛ لأن هذا اللفظ لا ينبىء عن التمليك ولا يستعمل فيه.
في «فتاوى الفضلي»: إذا قال الرجل لغيره: زوج ابنتك مني بألف درهم، فقال والدها: ادفعها واذهب بها حيث شئت، وكان ذلك بمحضر (الشهود) لا ينعقد به النكاح، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال أب الصغير: اشهدوا أني قد زوجت ابنة فلان الصغيرة من ابني فلان بمهر كذا، فقيل لأب الصغيرة: أليس هكذا؟ فقال أب الصغيرة: هكذا، ولم يزد على ذلك، فالأولى أن يجدد النكاح وأن يجدد إجازته.(3/74)
الفصل الثاني: في الألفاظ التي تكون إجازة وإذناًفي النكاح والتي تكون رداً وإبطالا
-----
رجلٌ زوج رجلاً امرأة بغير أمره، فلما بلغه الخبر فقال: نعم ما صنعته بارك الله لنا فيها، أو قال: أحسنت، أو قال: أصبت، قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: إنه ليس بإجازة، وذكر الصدر الشهيد في أول نكاح «واقعاته»: أنه إجازة هو المختار، واختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله، إلا إذا علم بيقين أنه أراد به الاستهزاء، قال: وكذلك هذا في البيع والطلاق، قال: كذلك إذا هنأه قوم وقبل التهنئة كان إجازة.
وذكر (في) بيوع «المنتقى»: أن من باع عبد الغير (187ب1) بغير إذنه، فقال صاحب العبد: قد أحسنت وأصبت ووفقت، أو قال: كفيتني لمؤنة البيع وأحسنت، فجزاك الله خيراً إن ذلك ليس بإجازة، ولو قبض الثمن من المشتري فهو إجازة، وذكر هذه المسألة في موضع آخر من الكتاب وذكر أن قوله: أحسنت ووفقت إجازة.
في الباب الأول من نكاح «واقعات الصدر الشهيد» رحمه الله إذا قال لأجنبية: إني أريد أن أزوجك من فلان، فقالت بالفارسية: توبة داني، لا يكون إذناً منها، ولو قالت: ذلك إليك فهو إذن وتوكيل، وهكذا ذكر في «أجناس الناطفي» عن أبي يوسف رحمهما الله.
وفي «واقعات الناطفي» رحمه الله: العبد إذا طلب من المولى أن يأذن له في النكاح، فقال المولى: ذلك إليك فهو إذن، ولو قال: أنت أعلم، أو قال بالفارسية: توبة دان فذلك ليس بإذن، وبعض مشايخنا قالوا: قوله توداني وتوبة دان في عرفنا تفويض وتوكيل بمنزلة قوله: ذلك إليك. وهكذا حكي عن الفقيه أبي بكر الإسكاف رحمه الله أنه كان يقول: إن قوله: توية دان إذن، ووافقه في ذلك الفقيه أبو القاسم أحمد بن حمر.(3/75)
-----
رجل زوج امرأة من رجل بغير أمرها، فبلغها الخبر فقالت باك نيت فهذا إجازة، هكذا ذكر الفقيه أبو الليث، وهو قول الفقيه أبي جعفر رحمهما الله؛ لأن هذا الكلام يستعمل في الإجازة في متعارف الناس، ومن مشايخ زماننا من أبى ذلك، وقال: إن قوله: بالانيت غير صلبي عن الإجازة، وهكذا كان يقول محمد بن سلمة رحمه الله ولكن هذا غير صواب؛ لأنه إن لم يكن منبئاً عن الإجازة، فهو مستعمل فيها، والإنباء ليس بشرط لا محالة إنما الشرط الاستعمال وقد وجد، وهو معنى كلام الفقيه أبي جعفر رحمه الله في تعليل هذه المسألة، هذا الكلام يراد به الإذن، وليس فيه معنى الإذن، أراد به أنه مستعمل في الإذن، وأنه لا ينبىء عن الإذن.
رجل زوج وليته وهي بالغة، فلما بلغها الخبر قالت: أنا لا أريد الأزواج، أو قالت: رضيت بيت أبي، فهذا لا يكون رداً للنكاح، ولو قالت: لا أريد فلاناً فهو رد للنكاح، هكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد رحمه الله، وقيل: هو رد في الوجهين جميعاً، والأول أظهر وأقرب إلى الصواب.
وإذا استأمرها الولي في التزويج من رجل، فقالت: غيره أولى لم يكن ذلك إذناً في العقد، ولو أخبرها به بعد العقد، فقالت ذلك كان ذلك إجازة في «القدوري».
في «فتاوى الفضلي»: في عم قال لبنت أخيه: إني أريد أن أزوجك من فلان، فقالت: يصلح، ثم لما فارقها العم، فقالت: لا أرضى، فزوجها العم قبل أن يعلم قولها: لا أرضى ممن سمى لها، قال: صح النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العم كالوكيل لا ينعزل قبل العلم، وأما عند محمد رحمه الله ينبغي أن لا يصح نكاح العم؛ لأن عنده العم ليس بوكيل وإنما يزوجها بحق له في تزويجها، وحين زوجها بحق الولاية زوجها وهي غير راضية بذلك فلا يجوز.(3/76)
-----
في «المنتقى»: البنت إذا قبلت الهدية، فليست بإجازة للنكاح، وإذا قبلت المهر فهو إجازة؛ لأن المهر ثمن رقبتها، وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رحمهما الله: قال لامرأة: قد تزوجتك على ألف درهم، فقالت: ما زوجتك نفسي، ثم قالت بعد ذلك: قد زوجتك نفسي فهو جائز، وفيه أيضاً: المرأة إذا زوجت، فقالت: لا أرضى، لا أجيز له، .... أنا كارهة، فهذا كله فرقة، وليس لها أن ترضى بعد ذلك، وإن وصلت بقولها لا أرضى ولكني قد أجزت، أو وصلت بقولها: وأنا كارهة لكني قد أجزت، فهو في القياس باطل لكني قد أجيزه بالاستحسان.
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا زوج رجل امرأة من رجل بغير أمرها، فبلغها فقالت: لا أجيز فقال لها: افعلي، فقالت: قد أجزت لم يجز، وبطل النكاح حين ردت، ثم قال: إذا ردت ما قد وقع لم يكن لها أن تجيزه، وإذا كان لم يقع بعد مثل مخاطبة الزوج إياها، وردت كان لها أن تجيزه.
وعن هذا قال أبو يوسف رحمه الله: إذا قال لامرأة: زوجيني نفسك على ألف، فقالت: لا أفعل إلا بألفين، فقال: اتق الله وأجيبي، فقالت: قد فعلت كان جائزاً.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: المرأة إذا بلغها خبر النكاح أخذها السعال أو العطاس، فلم يمكنها الرد، فلما ذهب ذلك عنها فقالت: لا أرضى صح الرد، وكذلك إذا أخذها، فلم يمكنها الرد فلما تركت قالت: لا أرضى صح الرد، وإن تركت الرد حال ما بلغها الخبر؛ لأنها تركت بعذر.
وفيه: قالت المرأة لوليها: لا تزوجني من فلان فلاني لا أريده، فزوجها الولي من فلان، فبلغها الخبر، فرضيت جاز النكاح؛ لأن المنع عن الفعل في حال لا يمنع الرضا به في حال آخر، ولو قالت: كنت قلت: لا أريد فلاناً ولم تزد على هذا لم يجز النكاح؛ لأنها أخبرت عن إبائها الأول.
الأم إذا زوجت ابنتها الصغيرة حال غيبة أبيها، فلما حضر الأب قال لها: حر اكردى، أو قال: اين كتوكردي مصلحت، فهذا لا يكون رداً للنكاح.(3/77)
-----
الأم زوجت الصغيرة، ولها أب وسكتت الابنة نفسها بعد البلوغ، فهذا إجازة منها للنكاح.
سئل أبو نصر عن امرأة زوجها وليها، فبلغها، وردت النكاح، ثم عاد إليها وليها في مجلس، فقال: إن أقواماً يخطبونك فقالت: أنا راضية بما تفعله أنت، فزوجها الولي من الذي قد ردته، فأبت أيضاً أن تجيز هذا النكاح، قال: لها أن ترد؛ لأن قولها: أنا راضية بما تفعله ليس بتفويض عام، وإنما ينصرف ذلك إلى غير الأول من الرجال؛ لأن تقدير هذا الكلام كأن الولي، قال لها: إذا أبيت فلاناً قد خطبك قوم آخرون، فماذا تقولين؟ فقالت: قد رضيت بما تفعل، فيكون ذلك رضا بغير الأول بمنزلة من قال لغيره: إني كرهت صحبة امرأتي فلانة فطلقتها، فزوجني امرأة ترضاها لي فزوجه المطلقة لم يجز كذا ههنا.
وفي هذا الجواب نوع نظر عندي؛ لأن الإباء في حال لا يمنع الرضا في حال آخر كما في المسألة المتقدمة، فيمكن أن يجعل قولها: أنا راضية بما تفعله تفويضاً عاماً كما يقتضيه ظاهر اللفظ، فلا ضرورة إلى صرفه إلى غير الذي ردته.
سئل هو أيضاً عن رجل زوج وليته، فلما بلغها الخبر قالت: هو دميم لا أرضى به، أو قالت: هو دباغ لا أرضى لك منه الإباء، قال: هذا كلام واحد، فلا يضرها ما قدمت وبطل النكاح.
وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن بالغة وكلت رجلاً ليزوجها من فلان بألف درهم، فزوجها منه بخمسمائة درهم، فلما أخبرت بذلك قالت: لم يعجبني هذا لأجل الناس لنقصان المهر، فقيل لها: لا يكون لك منه إلا ما تريدين، فقالت: رضيت، قال: يجوز النكاح؛ لأن قولها لم (188أ1) يعجبني ليس برد، فالرضا يرد على النكاح الموقوف فصح.
ولو تزوج العبد امرأة بغير إذن مولاه، ثم قال له مولاه: طلقها لا يكون ذلك إجازة للنكاح، ولو قال له: طلقها تطليقة رجعية، أو قال: طلقها تطليقة تملك الرجعة، فهو إجازة للنكاح. في «الجامع الصغير».(3/78)
-----
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل زوج رجلاً امرأة بغير أمره، فبلغه الخبر فقال: هي طالق لم يكن إجازة، وكان رداً، وإن قال: فهي طالق، فهذا عند أبي حنيفة رحمه الله قبول، والطلاق واقع، وقال محمد رحمه الله: هو رد ولا يقع الطلاق، والله أعلم.
الفصل الثالث: فيما يكون إقراراً بالنكاح وما لا يكون إقراراً به
قال محمد رحمه الله في إقرار «الأصل»: إذا قالت المرأة لرجل: طلقني، فهذا إقرار منها بالنكاح؛ لأنها طلبت منه ما لا صحة له إلا بالنكاح، فتضمن ذلك إقراراً بالنكاح، فلأن الطلاق لرفع قيد النكاح، وقولها: طلقني بمنزلة قولها: ارفع عني قيد النكاح الذي لك عليّ، وكذلك إذا قالت: اخلعني بألف درهم وهذا أظهر من الأول؛ لأنها التزمت البدل، والبدل لا يلزمها إلا بزوال ملك الزوج عنها بالخلع، وكذلك لو قالت: طلقتني أمس بألف درهم، خلعتني أمس بألف درهم، أنت مني مظاهر، أنت مني مول لأنه لا صحة لشيء مما أخبرت إلا بعد صحة النكاح، فيتضمن ذلك إقراراً منها بصحة النكاح، فكذلك إذا قال الرجل لامرأة اختلعي مني بمال فهذا إقرار منه أنه زوجها، فكذلك إذا قالت: طلقني، فقال لها: اختاري أمرك بيدك في الطلاق فهذا منه إقرار بالنكاح.
ولو قال الرجل: والله لا أقربك فهذا لا يكون إقراراً منه بالنكاح بخلاف قوله: أنا منك مول، وهذا لأن قوله: والله لا أقربك محتمل يحتمل والله لا أقربك؛ لأنه لا ملك لي عليك، ويحتمل لا أقربك مع أن لي عليك ملك على قصد الإضرار والتعنت والمحتمل لا يصلح لبناء الحكم عليه.
وقوله: أنت عليّ حرام، أنت مني بائن أمرك بيدك، اختاري، اعتدي لا يكون إقراراً بالنكاح إلا إذا خرج جواباً لقولها طلقني؛ لأن هذه الألفاظ عند مذاكرة الطلاق متعينة للطلاق، ولهذا لا تحتاج إلى النية وإيقاع الطلاق إقرار بالنكاح.(3/79)
-----
ولو قال لها: أنت عليّ كظهر أمي فهذا لا يكون إقراراً بالنكاح؛ لأن هذا إخبار منه بحرمتها، وهو ضد موجب النكاح بخلاف قوله: ظاهرتك، أنا منك مظاهر، فإن هذا يكون إقراراً بالنكاح، ولو قال لها ألم أطلقك أمس؟ أما طلقتك أمس؟ فهذا إقرار بالنكاح؛ لأن في هذا الاستفهام معنى التقرير قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} (الأنعام: 130) أي: أتاكم وتقرير الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح، فكان إقراراً بالنكاح.
ولو قال لها: هل طلقتك أمس؟ فهذا إقرار منه بالنكاح، ولا يكون إقراراً بالطلاق؛ لأن مثل هذا الاستفهام للاستبيان لا للتقرير فلا يصير به مقراً للطلاق، ولكن استبيان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح، فكان إقراراً منه بالنكاح.
إذا قال لامرأة حرة: هذا ابني منك، فقالت: نعم، أو قالت حرة لرجل ذلك، فقال الرجل: نعم كان هذا إقراراً بالنكاح؛ لأن ثبوت النسب باعتبار الفراش والأصل فيه الفراش الصحيح؛ لأن الشرع إنما يرد بالصحيح دون الفاسد، ولا يثبت الفراش الصحيح على الحرة إلا بالنكاح فكان اتفاقهما على النسب اتفاقاً على سببه وهو النكاح، حتى لو كان مكان الحرة أمة لا يكون إقراراً بالنكاح، هذه الجملة من إقرار «الأصل». وفي «المنتقى»: إبراهيم عن محمد رحمه الله: امرأة قالت لرجل: أنا امرأتك فقال الرجل: أنت طالق فهذا إقرار منه بالنكاح.
قال في «الأجناس»: وهذا بخلاف ما لو قال لها ابتداء أنت طالق حيث لا يكون إقراراً بالنكاح، وأشار إلى الفرق فقال: الطلاق يفضي إلى ارتفاع الزوجية فلا زوجية بين الأجنبيين ولا كذلك على وجه الجواب؛ لأن من حكم الجواب أن يكون مقصوداً على السؤال وقد تقدم ذكر الزوجية منها، وقوله لها: أنت طالق تقديره عن الزوجية التي تزعمها، فيكون إقراراً بالزوجية.(3/80)
-----
في «الأجناس» أيضاً: لو قالت له: أنا امرأتك فقال: ما أنت امرأتي أنت طالق لا يكون إقراراً بالنكاح، وكذا لو قال لها: إن أنت امرأتي فأنت طالق فهنا لا يكون إقراراً بالنكاح. وفي «المنتقى»: امرأة قالت للقاضي: فرق بيني وبين هذا فهذا لا يكون إقراراً بالنكاح.
وفيه أيضاً عمرو بن أبي عمرو. وفي «الإملاء»: رجل قال لامرأة: إني أريد أن أشهد أني قد تزوجتك فيما مضى لأمر خفته، فأقري بذلك أيتها المرأة، فقالت: نعم. فأشهد بذلك وصدقته المرأة، ثم تصادقا على ما كانا قالا، فالقول قولهما ولا نكاح بينهما، وأما الطلاق والعتاق في المرأة والعبد والأمة فلا يصدقان في إبطالهما في القضاء، وفيما بينهم وبين الله تعالى فهي امرأته، والعبد والأمة رقيق المولى، وفي نكاح «الأصل»: إذا تزوج امرأة في عقدة وامرأتين في عقدة، وثلاثاً في عقدة ولا يعرف الزوج أيتهن الأول إلا أنه جامع امرأة منهن أو طلقها، أو ظاهر منها كان إقراراً منها بأنها هي الأول.
ومما يتصل بهذا الفصل ما ذكر في «المنتقى»، قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن أختين إحداهما فاطمة والأخرى خديجة، فقال رجل: قد تزوجت فاطمة بعد خديجة، فأخبرني أن أبا يوسف رحمه الله قال: فاطمة امرأته؛ لأنه تكلم بها أولاً، قال محمد رحمه الله: وهو كما قال الزوج؛ لأنه وصل بين كلاميه، فأجعل خديجة امرأته، وأفرق بينه وبين فاطمة.
وكذلك إن امرأة قالت: تزوجت أبا موسى بعد (ما) تزوجت أبا حفص، وادعى الرجلان تزوجها، فهي امرأة أبي موسى عند أبي يوسف رحمه الله، ولا تصدق عليه، وقال محمد رحمه الله: تصدق عليه، فإن سألها القاضي من تزوجك؟ فقالت: تزوجت أبا موسى بعد ما تزوجت أبا حفص، فهي امرأة أبي حفص إذا كان جواب المنطق استحساناً استحسن ذلك أبو يوسف رحمه الله ذكر هذا الاستحسان في «المنتقى» في مسألة أخرى هي من جنس هذه المسألة. قال ثمة: وكذلك إذا قال: بعت عبدي من هذا بعدما بعته منك، فهو مثل التزويج.(3/81)
-----
وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: امرأة قالت: تزوجت هذا الرجل أمس، ثم قالت: تزوجت هذا الرجل الآخر منذ سنة، فهي امرأة صاحب الأمس؛ لأنها أقرت له أول أمره، وإذا شهد الشهود على إقرارها لهما جميعاً، فإني أسأل الشهود بأيهما بدأت، ثم أنفذ الحكم عليه، ولو قالت: تزوجتهما جميعاً فهذا أمس وهذا مذ سنة كانت امرأة صاحب الأمس.
الفصل الرابع: في الشروط والخيار في النكاح
الخيارات التي تثبت في العقود أنواع أربعة:
خيار شرط، وخيار عيب، وخيار رؤية، وخيار إجازة.
فخيار الإجازة يثبت في النكاح كما يثبت في سائر العقود، وخيار الرؤية لا يثبت في النكاح، وخيار الشرط كذلك لا يثبت في النكاح، ولا يبطل به النكاح عندنا، وخيار العيب لا يثبت للزوج عندنا، وكذلك لا يثبت للمرأة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد رحمهم الله يثبت لها الخيار في العيوب الخمسة، إذا كان على صفة لا تطيق المقام معه، وإذا شرط أحدهما لصاحبه السلامة عن العمى والشلل والزمانة، فوجد بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار، وكذلك لو شرط أحدهما على صاحبه الجمال، أو شرط الزوج عليها صفة البكارة يأتي بعد هذا.r
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمهما الله إذا قال الرجل لغيره: زوجتك أمتي فلانة بكذا إن رضيت، وقبل ذلك الغير، فالنكاح جائز، والشرط باطل، ولو قال: بعت عبدي هذا إن رضي فلان، وسمى رجلاً أجنبياً، فالبيع جائز والشرط باطل، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: تأويله عندي إذا بين وقت الرضا.
وفيه أيضاً: هشام عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأة: قد تزوجتك بألف درهم إن رضي فلان اليوم، فإن كان فلان حاضراً فقال: قد رضيت جاز النكاح استحساناً، وإن كان غير حاضر لم يجز، وليس هذا كقوله: قد تزوجتك ولفلان الرضا لمعنى في هذه الصيغة، (هذا قول وزوجت وشرط خيار)، والأول لم يوجب وجعل الإيجاب مخاطرة.(3/82)
-----
ولو قال: تزوجتك اليوم على أن لك المشيئة اليوم إلى الليل، فالنكاح جائز والشرط باطل، وهو مثل شرط الخيار.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: تزوج امرأة على أن أباه بالخيار صح النكاح ولا خيار، ولو قال: تزوجتك إن رضي أبي لم يصح، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: لأنه علق النكاح بالخطر، ولا يعلق كذلك وفي الأول وقع في الحال.
وفي «مجموع النوازل»: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل خطب إلى رجل بنته الصغيرة لابنه الصغير، فقال المخطوب إليه: زوجتها من فلان قبل هذا، ولم يصدقه الخاطب فقال المخطوب إليه: إن لم أكن زوجتها من فلان فقد زوجتها من ابنك فلان، قال الآخر: قبلت، وذلك بحضرة الشهود، وظهر أنه لم يكن زوجها من فلان هل ينعقد هذا النكاح بهذه الكلمات؟ قال: نعم. قيل: أليس هذا تزويجاً معلقاً بالشرط؟ قال: هذا تعليق بما هو موجود للحال، ومثل هذا التعليق تحقيق.
في «شرح الزيادات»: إذا قال لأمته: تزوجتك على أن أعتقك، أو قالت الأمة: تزوجني على أن تعتقني، فقبل جاز العتق، ولا يجوز النكاح؛ لأن العتق متأخر عن النكاح، فيصير متزوجاً أمة نفسه، ولو قال لها: تزوجتك على عتقك، أعتقتك على تزوجك فقبلت، فقد اختلف المشايخ في هذه الفصول، عامتهم على أنه لا يصح النكاح؛ لأن النكاح مقارن للعتق هنا، لكونه بدلاً عن النكاح، ثم العتق تصدفها، وهي أمة فكذا النكاح، وكان القاضي الإمام أبو حازم رحمه الله يقول: يصح في هذه الفصول لأنهما تصرفان لا يصح أحدهما وهو النكاح إلا بتقديم الآخر وهو العتق وجب القول بتقديم العتق كما في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم.(3/83)
-----
والصحيح ما ذهب إليه عامة المشايخ، لأن النكاح مع العتق ذكرا (على) سبيل العوض والمعوض، والعوض يقترن ثبوته بالمعوض ولا يسبقه، فيصادفها النكاح وهي أمة، بخلاف قوله: أعتق عبدك عني بألف درهم؛ لأن البيع هناك يثبت شرطاً للعتق لا عوضاً عنه، والشرط أبداً يثبت سابقاً، فأمكن تقديمه على الإعتاق، وأما هنا بخلافه.
إذا تزوجها على أن يعتق أخاها، فقبلت جاز النكاح، ولا يعتق الأخ إلا بإعتاق مستأنف؛ لأن العتق هنا موعود، ولا يخبر الزوج على الإعتاق؛ لأن العتق كان موعوداً، فلا جبر في المواعيد.
بعد هذا المسألة على وجهين: أما إن عتق الزوج أخاها أو لم يعتق، فإن لم يعتق ينظر إن كان لم يسم لها مهراً، فلها مهر مثلها، وإن سمى لها مهراً، فإن كان المسمى مثل مهر مثلها، فلها ذلك ليس لها غيره، وإن كان المسمى أقل من مهر المثل، فلها تمام مهر مثلها، لأنها حطت عن مهر المثل لخلاص أخيها عن ذل الرق، ولم يحصل لها هذا المقصود.
وإن أعتق الزوج أخاها فإن كان الزوج سمى لها مهراً، فلها المسمى، وإن كان المسمى دون مهر مثلها؛ لأن مقصودها قد حصل هنا، وإن لم يسم له مهراً، فلها تمام مهر مثلها.
ولو تزوجها (على) أن يعتق أخاها عنها، فقبلت جاز النكاح، فصار رقبة الأخ ملكاً لها بنفس العقد، وعتق الأخ عليها بحكم القرابة أعتقه الزوج أو لم يعتقه؛ لأن المرأة طلبت منه أن يعتقه عنها، والعتق عنها لا يثبت إلا بعد تقدم الملك لها، فتقدم الملك، وثبت العتق عنها بجهة القرابة.(3/84)
-----
في هذا الفصل نوع إشكال؛ لأنه أثبت الملك بدون الإعتاق، والملك في مثل هذا لا يثبت بدون الإعتاق كما في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم، والجواب وهو الفرق بين الفصلين أن النكاح يقتضي ملك المهر، فملك العبد يصلح مقتضى النكاح، ويصلح مقتضى العتق فاستويا فاحتجنا إلى الترجيح، فنقول: جعله مقتضى النكاح أولى؛ لأنا إن جعلناه مقتضى العتق، فالعبد يكون مهراً أيضاً، والملك لها في العبد باعتبار أنه مهر بدليل أنه لو طلقها قبل الدخول يجب عليها رد نصف قيمة العبد، فكان الترجيح لجانب النكاح، فجعلناه مقتضى النكاح، فيثبت بمجرد النكاح، ولا كذلك في قوله: أعتق عبدك عني؛ لأن هناك الملك مقتضى العتق؛ لأنا لو لم نجعله مقتضى العتق يبطل كلامهما، فجعلها مقتضى العتق، فلا يثبت قبل ثبوت العتق.
ولو تزوجها على عتق أخيها، فقبلت جاز النكاح وعتق العبد عن المولى؛ لأنه جعل العتق عوضاً عن النكاح، ولها مهر مثلها؛ لأن عتق الأخ لا يصلح صداقاً، وإن كان سمى لها مع ذلك ما يصلح مهراً، فلها المسمى لا غير، وإن كان دون مهر مثلها. ولو تزوجها على عتق أخيها عنها فقبلت جاز النكاح، وعتق العبد عليها، وليس لها غير الأخ؛ لأن الزوج حصل على رقبة الأخ؛ لأن العتق عنها لا يكون إلا بعد تقديم للملك لها في رقبة الأخ، فصار اشتراط العتق اشتراطاً لتمليك الرقبة منها، ورقبة الأخ تصلح مهراً، فلا يجب شيء آخر لها.
ولو كان تزوجها على أن يعتق عبداً أجنبياً لا قرابة بينه وبينها جاز النكاح (189أ1) ولا يعتق العبد إلا بإعتاق الزوج، فيكون لها مهر مثلها إن لم يسم لها مهراً، وإن سمى لها ما يصلح مهراً، فلها المسمى لا غير وإن كان ذلك دون مهر مثلها؛ لأن الشرط هنا ليس بمرغوب بخلاف إعتاق الأخ.(3/85)
-----
ولو كان تزوجها على أن يعتق عنها عبداً من عبيده بعينه لا قرابة بينه وبينها جاز النكاح، وتصير رقبة العبد ملكاً لها مهراً، وصار الزوج وكيلاً عنها بالإعتاق فإن أعتقه قبل نهي المرأة صح إعتاقه، وإن نهته ثم أعتقه كان باطلاً؛ لأن تقدير هذا كأن المرأة قالت له: ملكني هذا العبد ثم كن وكيلي بالعتق، فكان لها أن تعزله عن الوكالة بخلاف قوله: على أن يعتق أخاها عنها؛ لأن الملك كما ثبت لها في رقبة الأخ عتق فلا تعزل الزوج عن الوكالة، ولو كان تزوجها على عتق عبد بعينه، لا قرابة بينه وبينها، فقبلت جاز النكاح وعتق العبد عن المولى حتى كان الولاء له، ولها مهر مثلها، وإن كان قد سمى لها مع ذلك (ما) يصلح مهراً، فلها المسمى لا غير، ولو كان تزوجها على عتقه عنها جاز النكاح، وعتق العبد من جهتها حتى كان الولاء لها، وهو مهرها ليس لها غيره. هذه الجملة من «الزيادات».
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: تزوج امرأة على أنها بكر، فدخل فوجدها (ثيباً) بالوثبة أو غير، فعليه المهر كلاً ويستوي إن زالت بكارتها بالوطء أو بطول التعنيس؛ لأن البكارة لا تصير مستحقة بالنكاح، وفيما إذا اشترى جارية على أنها بكر فوجدها زائل العذرة، وقال البائع: زالت عذرتها بالوثبة، قال بعض مشايخنا: إن صدقه المشتري في ذلك لا يكون له حق الرد وإن كذبه، وقال: لا بل زالت عذرتها بالوطء كان القول قوله، وله حق الرد، وأكثر المشايخ على أن له حق الرد على كل حال هو الصحيح؛ لأن الناس باشتراط البكارة يريدون صفة العذرة، فبأي طريق زالت العذرة، فقد فات الشرط، فيكون له حق الرد.(3/86)
-----
وفي «الفتاوى» للفقيه أبي الليث رحمه الله قال أبو نصر: قال البلخي: زوج رجل أمته من عبده على أن أمرها بيده يكون كذلك، وقال ابن سلمة: صح النكاح، ولا يكون الأمر بيده، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: لو بدأ العبد بقوله: زوجني على أن أمرها بيدك، فزوجها لا يكون الأمر بيده لوجود التفويض قبل النكاح، وإن بدأ المولى فقال: زوجتها منك على أن أمرها بيدي أطلقها كلما أريد، فقال العبد: قبلت صار الأمر بيده لوجود التفويض بعد النكاح.
بيانه: أن العبد لما قال: قبلت في هذه الصورة صار كأنه قال: قبلت على أن أمرها بيدك تطلقها كما تريد، فيكون التفويض بعد النكاح.
ونظير هذا: رجل قال لامرأة: تزوجتك على أنك طالق، أو على أن أمرك بيدك تطلق نفسها كما تريد، فقبلت لا يقع الطلاق، ولا يصير الأمر بيدها، ولو بدأت فقالت: زوجت نفسي منكَ على أني طالق، أو على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد، فقال الزوج: قبلت، وقع الطلاق، وصار الأمر بيدها، وتصير هذه المسألة حيلة للمطلقة ثلاثاً إذا خافت من المحلل أن يمسكها، ينبغي أن تبدأ هي، وتقول للزوج: زوجت نفسي منك على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد، ثم يقبل الزوج، فيصير الأمر بيدها تطلق نفسها كلما أرادت، ولو كان الزوج قال لها: تزوجتك على أنك طالق بعد ما أتزوجك، أو على أن أمرك بيدك بعد ما أتزوجك، تطلقي نفسك كلما تريدين، فقالت المرأة: قبلت تطلق، ويصير الأمر بيدها.
وفي «المنتقى»: الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا قال لها: أتزوجك على أن أمرك بيدك بعدما أتزوجك شهراً، فالنكاح جائز، وأمرها بيدها شهراً منذ تزوجها، فإن اختارت زوجها في يوم من الشهر لم يبطل خيارها في باقي الشهر، وروى الحسن عن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهم الله، أنه يبطل خيارها في باقي الشهر.
تزوج امرأة على أن يأتي بعبدها الآبق، فلها مهر مثلها، هكذا قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله.(3/87)
-----
وعنه أيضاً: تزوج امرأة على أنه مدني فإذا هو قروي لا خيار لها، وفي «الجامع الأصغر»؛ قال أبو الليث الكبير رحمه الله: تزوج أمة رجل على أن كل ولد تلده فهو حر، فالنكاح جائز، والشرط كذلك، وكل ولد تلده فهو حر.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة، ولم يسم لها مهراً على أن تدفع المرأة إلى الزوج هذا العبد قسم مهر مثلها على قيمة العبد، وعلى مهر مثلها؛ لأنها بذلت البضع والعبد بأداء مهر مثلها، والبدل ينقسم على وقدر قيمة المبدل، فما أصاب قيمة العبد فالبيع فيه باطل؛ لأنها باعت بشيء مجهول، ويصير الباقي مهراً لها.
في «واقعات الناطفي»: رجل قال لامرأة: أتزوجك على أن تعطيني عبدك هذا، فأجابته بالنكاح، فالنكاح جائز بمهر المثل، ولا شيء له من العبد، قوله: لا شيء له من العبد ظاهر؛ لأنه اشترى العبد شراءً باطلاً؛ لأنه اشتراه بثمن مجهول، وقوله: فالنكاح جائز بمهر المثل يفسره ما قلنا في المسألة المتقدمة: إن مهر مثلها يقسم على مهر مثلها وعلى قيمة العبد، فما أصاب مهر مثلها يصير مهراً لها.
الفصل الخامس: في تعريف المرأة والزوج في العقد بالتسمية أو الإشارة
امرأة وكلت رجلاً ليزوجها من نفسه، فذهب الوكيل، وقال لجماعة: اشهدوا أني قد تزوجت فلانة ولم يعرف الشهود فلانة لا يجوز النكاح ما لم يذكر اسمها واسم أبيها، واسم جدها، لأنها غائبة، والغائب لا يعرف إلا بهذه الأشياء، ألا ترى أنه لو قال بين يدي الشهود: تزوجت امرأة قد وكلتني بنكاحها لا يجوز؟ وإنما لا يجوز لما قلنا، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأول من «واقعاته»، وذكر الخصاف في «حيله» مسألة تدل على أن مثل هذا التعريف يكفي لجواز النكاح.(3/88)
-----
فصورة ما ذكر الخصاف: رجل خطب امرأة إلى نفسها، فأجابته إلى ذلك، وكرهت أن يعلم بذلك أولياؤها، فجعلت أمرها في تزويجها إليه، واتفقا على المهر، فكره الزوج أن يسميها عند الشهود إني خطبت امرأة إلى نفسها، وبذلت لها من الصداق كذا وكذا، فرضيت بذلك، وجعلت أمرها إليّ بأن أتزوجها، فاشهدوا أني قد تزوجت المرأة التي جعلت أمرها إليّ على صداق كذا وكذا، ينعقد النكاح بينهما إذا كان كفئاً لها، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الخصاف كبير في العلم، وهو من جملة من يصح الاقتداء به، قال رحمه الله: وذكر في «المنتقى» أيضاً (189ب1). أن مثل هذا التعريف يكفي فيتأمل عند الفتوى، هذا إذا كان الشهود لا يعرفون فُلانة.
فأما إذا كانوا يعرفونها وذكر الزوج اسمها لا غير جاز النكاح، وإن كانت غائبة إذا عرف الشهود أنه أراد به المرأة التي عرفوها لأن المقصود هو التعريف وقد حصل التعريف بمجرد ذكر الاسم.
وفي «البقالي»: إذا لم ينسبها الزوج ولم يعرفها الشهود وسِعَهُ فيما بينه وبين ربِّه. وفيه أيضاً: إذا قال: المرأة التي في هذا البيت جاز إن كانت وحدها وإن كانت المرأة حاضرة إلا أنها متنقبة لا يعرفها الشهود فقال الرجل: تزوجت هذه، وقالت المرأة زوجت جاز، هو المختار خلافاً لما يقوله نصر لأنها حاضرة والحاضر يعرف بالإشارة، والاحتياط أن يكشف وجهها أو يُذكر أبوها وجدها فيقع الأمن من أن يرفع الأمر إلى قاضٍ يميل إلى قول نصر فيبطل النكاح.
جارية لها اسم سُمّيت به في صغرها فلما كبرت سميت باسم آخر، تُزوج باسمها الآخر إن صارت معروفة بهذا الاسم. في نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجلٌ له ابنة واحدة اسمها فاطمة، قال لرجل: زوجت منك ابنتي عائشة ولم تقع الإشارة إلى شخصها، ذكر في «فتاوى الفضلي»: أنه لا ينعقد النكاح لأنه إذا لم تقع الإشارة إلى شخصها كان انعقاد النكاح بالتسمية وليست له ابنة بهذا الاسم.(3/89)
-----
ولو قال: زوجت ابنتي منك ولم يزد على هذا وله ابنة واحدة جاز؛ لأنه أمكن تصحيح النكاح بدون التسمية، وفي أول شرح عتاق «الأصل»: إذا قال لغيره: بعتك عبدي أو قال: عبداً لي، وليس له إلا عبد واحد هل يجوز البيع؟ اختلف فيه المشايخ، بعضهم قالوا: يجوز كما لو قال: بعتك عبداً لي في مكان كذا وليس له في ذلك المكان إلا عبد واحد وذلك جائز بلا خلاف، وبعضهم قالوا: لا يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في باب الشهادة على العتق، وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، فيجوز أن تكون مسألة النكاح على الاختلاف بين المشايخ كمسألة البيع.
في «فتاوى الفضلي» رحمه الله أيضاً: إذا كانت للرجل ابنتان كبرى اسمها عائشة وصغرى (اسمها) فاطمة فأراد أن يزوج الكبرى، وعقد النكاح باسم عائشة بأن قال: زوجت منك ابنتي عائشة ولم يُشِرْ إلى أحدهما، ولم يقل ابنتي الكبرى ينعقد النكاح على عائشة، ولو قال: زوجت منك ابنتي الكبرى فاطمة لم يذكر هذا الفصل ثمة، قال الصدر الشهيد في «واقعاته»: يجب أن لا ينعقد النكاح أصلاً لأنه ليست له ابنة كبرى بهذا الاسم.
إذا أراد أن يزوج أمته من إنسان فقال: زوجت منك أمتي قتلغ، أو قال تنفشة جاز إذا لم يكن له بهذا الاسم إلا أمة واحدة، وكذا لو أراد أن يزوج امرأة من عبده فقال: زوجتك من عبدي سنقر جاز إذا لم يكن له غلام آخر بهذا الاسم، ألا ترى لو أراد أن يزوج ابنته يقول: زوجت ابنتي فاطمة مثلاً، وإن أراد أن يزوج ابنه فقال: ابني أحمد مَثَلاً، ويجوز كذا هنا.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله:
رجل (أراد) أن يزوج ابنته الصغيرة من ابن صغير لغيره، فقال أب الصغيرة لأب الصغير: زوجت ابنتي الصغيرة فلانة من ابنك الصغير فلان، وقال أب الصغير قبلت جاز النكاح للابن؛ وإن لم يقل الأب قبلت الابن؛ لأن المزوج أوجب العقد للابن، وقبول المتزوج جواب، والجواب يتقيد بالإيجاب فكأنه قال: قبلت الابن.(3/90)
-----
وفي هذا الموضع أيضاً. رجل خطب لابنه الصغير امرأة، فلما اجتمعا للعقد قال أبُ المرأة لأب الصغير بالفارسية: دادم برابرني ابن دحتر بهزاردرم فقال أب الابن: بدرفتم يجوز النكاح للأب، وإن جرى بينهما مقدمات النكاح للابن، هو المختار؛ لأن الأب أضاف النكاح إلى نفسه، وهذا أمر يجب أن يحتاط فيه.
وفي «البقالي»: إذا خطب الرجل صغيرة لابنه الصغير فقال أب الصغيرة لأب الصغيرة وهنيئاً لك؛ فقال أب الصغير: قبلتها لابني جاز.
في «مجموع النوازل»: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل قال لآخر: زوجت ابنتي فلانة من ابنك فلان بكذا ولفلان ابنان فقال فلان: قبلت لابني ولو لم يقل فلان لا يجوز النكاح. ولو قال: قبلت ولم يقل لابني جاز النكاح للابن المسمى في التزويج؛ لأن في الفصل الثاني أمكن جعل قوله قبلت جواباً للإيجاب السابق؛ لأنه لم يزد على حرف الجواب فيتقيّد بالإيجاب، وصار كأنه قال: قبلت لابني فلان. وأما في الوجه الأول زاد على حرف الجواب وقصر عن الإتمام فلا يمكن أن يجعل جواباً فلا يتقيّد بالإيجاب فنفي القبول منهما فلا يصح. فالحاصل: أنه إذا كان للمزوج ابنة واحدة وللقابل ابن واحد فقال: زوجت ابنتي من ابنك يجوز على ما ذكره الفضلي.
وعلى قياس مسألة البيع المذكور في العتاق يكون فيه اختلاف المشايخ، وإن كان للمزوج ابنة واحدة وللقابل ابنان فسمى المزوج الابنة والابن باسمهما؛ إن سمى القابل الابن باسمه صح النكاح للابن المسمى، وكذلك إذا لم يسمه واقتصر على قوله قبلت يجوز النكاح للابن المسمى ويجعل قول القابل قبلت جواباً فيتقيّد بالإيجاب. ولو ذكر القابل الابن إلا أنه لم يسمه باسمه بأن يقول قبلت لابني لا يصح لأنه لا يمكن أن يجعل جواباً؛ لأنه زاد على حرف الجواب، فإنه كان يكفيه قبلت، بخلاف ما إذا سمى الابن باسمه لأنه إن زاد على حرف الجواب فما قصر عن الإتمام، وجنس هذا في «الجامع» في الأيمان والله أعلم.(3/91)
-----
الفصل السادس: في الكفاءة
الكفاءة معتبرة في باب النكاح، والأصل فيه قوله عليه السلام فيما رواه جابر عنه: «لا تنكح النساء إلا من الأكفاء» وقال عليه السلام: «ألا لا يُزوجُ النساءَ إلا الأولياءُ ولا يزوجن إلا من الأكفاء» والحكمة في اشتراطها: تحقيق ما هو المقصود من النكاح وهو السكنى والازدواج، إذ المرأة تتعير باستفراش من لا يكافئها، ثم اعتبارها من وجوه:
أحدها: النسب، واعلم بأن الناس طبقات ثلاث: قريش والعرب والموالي، فقريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، ولا يكون العرب أكفاء لقريش، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، ولا يكون الموالي أكفاء للعرب ولا لقريش.
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: الكفاءة فيما بين الموالي (190 ب1) تعتبر بالإسلام لا بالنسب لأن الموالي ضيّعوا أنسَابهم فلا يعتبر النسب في حقهم، وما قال محمد رحمه الله في «الكتاب»: بعضهم أكفاء بعض إلا أن يكون أمراً مشهوراً، وإنما قال ذلك تعظيماً لأمر الخلافة أو تسكيناً للفتنة والعالم يكون كفئاً للعلوية لأن للعالم شرف الكسب يعني به كسب العلم وللعلوية شرف النسب، وشرف الكسب أولى، وعن هذا قيل: إن عائشة أفضل من فاطمة رضي الله عنهما؛ (لأن لعائشة شرف كسب العلم، قال عليه السلام: «..... تأخذون ثلثي دينكم من عائشة». ولفاطمة شرف النسب).(3/92)
-----
الثاني: المال إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله رواها ابن زياد أن الكفاءة في المال غير معتبرة، وفي ظاهر الرواية معتبرة، والمعتبر فيه القدرة على المهر والنفقة، ولا تعتبر الزيادة على ذلك حتى إن من كان قادراً على المهر والنفقة كان كفئاً لها وإن كانت صاحبة أموال كثيرة وهو الصحيح من المذهب، وإن كان يقدر على نفقتها بالتكسُّب ولا يقدر على مهرها اختلف فيه المشايخ: عامتهم على أن لا يكون كفئاً لها، وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه إذا كان قادراً على العمل فهو كفء لها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو الصحيح، وعن أبي حنيفة رحمه الله فيه أنه كفء لها، هكذا روي عن محمد، وروي عن أبي يوسف روايتان ذكره البقالي في «فتاويه».
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: أنه إذا كان للرجل المهر والنفقة لستة أشهر فهو كفء، والقياس: نفقة شهر. وفيه أيضاً: إذا كان يجد نفقة المرأة ولا يجد نفقة نفسه فهو كفء.
ثم إنما تعتبر القدرة على النفقة إذا كانت المرأة كبيرة أو صغيرة تصلح للجماع، أما إذا كانت صغيرة لا تصلح للجماع لا تعتبر القدرة على النفقة لأنه لا نفقة لها في هذه الصورة، ويكتفى بالقدرة على المهر، إليه أشار ابن رستم في «نوادره».
في «المنتقى»: إذا تزوجها وهو فقير فتركت له المهر، وهذا ليس بكفء وينبغي أن يقدر على مهرها ونفقتها يوم تزوج.
في «فتاوى أهل سمرقند»: رجل زوج أخته وهي صغيرة وهو وليها من صبي ليس له طاقة المهر وقبل أبوه النكاح وهو غني جاز؛ لأن الصغير يُعَدُّ غنياً في حق المهر بغنى الأب؛ ولا يعد غنياً في حق النفقة بغنى الأب؛ لأن العادة أن الآباء يتحملون المهر عن الأبناء ولا يتحملون النفقة.u(3/93)
-----
وفي «فتاوى الفضلي» سئل عن العم إذا زوج الصغيرة من صبي صغير لا مال (له) ولأبيه مال كثير وللصغيرة مال كثير هل يكون هذا كفئاً لها؟ وهل يجوز النكاح؟ قال: اختلف المتأخرون فيه من علمائنا، منهم من لم يجعله كفئاً لها؛ ومنهم من جعله كفئاً لها لأنه يُعد غنياً بغنى أبيه، ولم يفصل بين المهر والنفقة قال رحمه الله: وقول من قال إنه كفء لها أعجب إليَّ.
في «فتاوى أهل سمرقند» أيضاً: رجل يملك ألف درهم... فهذا الرجل كفء لها، وإن كانت القدرة على المهر شرطاً فإن القدرة ثابتة هنا فإنه يقضي أي الدينين شاء بذلك المال.
والثالث: الحرية فالعبد لا يكون كفئاً للحرة وكذلك المعتق لا يكون كفئاً للحرة الأصلية، والمعتق أبوه أو جده لا يكون كفئاً للمرأة لها أبوان في الحرية عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله في الجد. ومن كان له أبوان في الحرية كان كفئاً لمن كان له ثلاثة آباء في الحرية أو أكثر في ذلك.
امرأة أمُّها حرة الأصل وأبوها معتق قوم فالمعتق لا يكون كفئاً لها لأن المعتق قد بقي فيه أثر من آثار الرق وهو الولاء، والمرأة إذا كانت أمها حرة الأصل كانت هي حرة الأصل فلا يكون المعتق كفئاً لهذه المرأة.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وفي «المنتقى»: قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله وفي رجل خطير زوج ابنته من مملوك نفسه، قال: إن كانت الابنة كبيرة ورضيت جاز، وإن كانت صغيرة لم يجز، فقلت: إن أبا يوسف رحمه الله أجازه ولم يقبل ذلك مني، وكذا إذا زوج ابنته من مكاتبه؛ إن كانت كبيرة ورضيت به جاز، وإن كانت صغيرة لا يجوز، وعلى قول أبي حنيفة رحمه اللَّه: يجوز في الفصلين جميعاً بناءً على مسألة الكفاءة على ما يأتي بيانها في آخر الفصل إن شاء الله تعالى.(3/94)
-----
والرابع: إسلام الأب في الموالي: من أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لامرأة لها أب في الإسلام، ومن له أب في الإسلام لا يكون كفئاً لامرأة لها أبوان في الإسلام عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله في الجد، ومن كان له أبوان في الإسلام كان كفئاً لامرأة لها ثلاثة آباء في الإسلام أو أكثر، والكلام في إسلام الجد وفي حرية الجد ينبني على أن التعريف هل يحصل بدون ذكر الجد؟ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يحصل، وعند أبي يوسف رحمه الله يحصل، هذا في حق الموالي، وأما في حق العرب، فإسلام الأب ليس بشرط.
في «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله من كان له أب واحد في الإسلام وله فضل ودين هل يكون كفئاً لمن له أبوانِ في الإسلام أم (لا)؟ قال: إذا استويا في المال على ما يرى الناس فربما يكون الذي له أب كفئاً لمن له أبوان، وكذلك هذا في الحرية، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: من أسلم على يد إنسان لا يكون كفئاً لموالي العتاقة، وذكر ابن سماعة عنه في الرجل يُسلم والمرأة معتق أنه كفء لها قال في «شرح الطحاوي»: ومولى الوضيع لا يكون كفئاً لمولاة أشرف القوم؛ لأن الولاء «لُحْمَةٌ كلحمة النسب» حتى إن معتق العربي لا يكون كفئاً لمعتقة الهاشمي، فكان لمعتقها حق.... ومعتقة أشرف القول تكون كفئاً للموالي لأن لمعتقة أشرف القوم شرف الولاء وللموالي شرف إسلام الآباء وحريتهم.(3/95)
-----
والخامس: التقوى والحسب حتى لا يكون الفاسق كفئاً للعدلة عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كان معلن الفسق أو لم يكن، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الصحيح عند أبي حنيفة رحمه الله أن الكفاءة في التقوى، والحسب غير معتبر في التقوى، وفسّر الحسب فقال: هو مكارم الأخلاق، حتى روي عنهُ أن الذي يشرب المسكر إن كان غير متهتك بسكره حين يسكر كان كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وإن كان يصير ضحكة حين يسكر ويُستهزأ منه ويعربد ويتهتك لا يكون كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله عن محمد رحمه الله أن الذي يسكر فيخرج ويستهزىء منه الصبيان لا يكون كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات.
وكذلك أعوان الظلمة من يستخف به منهم لا يكون كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وإن كان مهيباً معظماً في الناس فهو كفء لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: الذي يشرب المسكر إن كان يشرب ذلك ولا يخرج سكراناً كان كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وإن كان يعلن ذلك (190ب1) لا يكون كفئاً لها، فما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله من قول محمد رحمه الله يوافق ما ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله من قول أبي يوسف رحمه الله قيل وعليه الفتوى.(3/96)
-----
والسادس: الكفاءة في الحرف فقد اعتبرها أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس بعضهم أكفاء لبعض إلا حائك أو حجام، وفي رواية أو دباغ. قال مشايخنا: ورابعهم الكنّاس، فواحد من هؤلاء الأربعة لا يكون كفئاً للصيرفي والجوهري وعليه الفتوى. وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: وهنا خسيس خامس أخسّ من كلهم وهو الذي يخدم الظلمة، هو الذي يُدعى شاكرياً كان صاحب مروءة وقال وصنعة الظلم فيه خساسة لأنه يأكل من دماء الناس وأموالهم بعد هذا المروي عن أبي يوسف رحمه الله أن الحرف متى تفاوت لا يعتبر التفاوت وتثبت الكفاءة فالحايك يكون كفئاً للحجام والدباغ للكناس، والصغار يكون كفئاً للحداد، والعطار يكون كفئاً للبزاز. قال شمس الأئمة الحلواني وعليه الفتوى، وفي «الحاوي» أن القروي كفئاً للمدني.(3/97)
-----
والسابع: الكفاءة في العقل وإنها معتبرة عند بعض المتأخرين من المشايخ حتى إن الزوج إذا كان مجنوناً لا يكون كفءً للمرأة العاقلة وعند بعضهم غير معتبرة لأن الجنون بمنزلة المرض، ثم سائر الأمراض لا تسلب الكفاءة فكذا الجنون، ثم المرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء صح النكاح في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، وقول محمد رحمه الله آخراً أيضاً لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، حتى إن قبل التفريق يثبت فيه حكم الطلاق والظهار وله إيلاء والتوارث وغير ذلك، ولكن للأولياء حق الاعتراض؛ لأنها ألحقت الشين بالأولياء بنسبة من لا يكافئهم إليهم بالصمدية فكان لهم أن يدفعوا هذا الشين عن أنفسهم. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن النكاح لا ينعقد، وبه أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله. ولا يكون التفريق بذلك إلا عند القاضي، يريد به: أنه ينبغي للولي أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ القاضي العقد بينهما أما بدون فسخ القاضي لا ينفسخ النكاح بينهما وتكون هذه فرقة بغير طلاق، حتى لو لم يكن الزوج دخل بها فلا شيء لها من المهر، وإن كان قد دخل بها فلها ما سمى لها من المهر وعليها العدة، والذي يلي المرافعة إلى القاضي المحارم عند بعض المشايخ، وعند بعضهم المحارم وغير المحارم في ذلك على السواء حتى يثبت ولاية المرافعة لابن العم ومن أشبهه وهو الصحيح.
في «البقالي»: وإذا زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها لا يكون للآخرين حق الاعتراض إذا كانوا مثل المزوج أو دونه في الدرجة أمّا إذا كان أقرب من المزوج فله حق الاعتراض لأن المزوج لا يكون ولياً إذا كان لها ولي أقرب منه فكان هو وأجنبيٌ آخر سواء.
وسكوت الولي عن المطالبة بالتفريق لا يكون رضاً منه في النكاح من غير الكفء وإن طال ذلك حتى تلد منه.(3/98)
-----
وإذا زوجها الولي من غير كفء ثم فارقته ثم زوجت نفسها منه بغير ولي كان للولي حق التفريق فلا يكون رضاه بالنكاح الأول رضاً بالنكاح الثاني.
في نكاح «الأصل»: ولو طلقها طلاقاً رجعياً وراجعها بغير رضا الولي لا يكون للولي حق التفريق في «نظم الزندويستي» رحمه الله. وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة من رجل هو ليس بكفء لها جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما.
ولو زوجها غير الأب والجد من رجل هو ليس بكفء لها بأن زوجها ممن لا يقدر على مهرها أو نفقتها أو ما أشبه ذلك فلا رواية في هذا الفصل عن أصحابنا المتقدمين ولا عن أصحابنا المتأخرين رحمهم الله، وإنما الرواية عن المتأخرين فيما إذا زوجها غير الأب والجد وقصّر في مهرها إنه لا يجوز النكاح.
قال الفضلي رحمه الله: على قياس مسألة التقصير في المهر: ينبغي أن لا يجوز هذا النكاح بلا خلاف، قيل له: إن كان عقد النكاح على أن فلاناً ضامنٌ لها المهر والنفقة؟ قال: لا يجوز أيضاً، وإنما يجوز في هذا إذا كان الزوج صغيراً وأبوه غني فيكون غنياً بغنى الأب استحساناً.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة من رجل كان جده معتق قوم أو كان جده أسلم، وكان للصبية آباء أحرار مسلمون ثم أدركت فأجازت لم يجز؛ لأن هذا النكاح لم يكن موقوفاً؛ لأنه لم يكن له مجيز لأن نكاح هؤلاء من غير الكفء لا يجوز، وهذا ليس بكفء، وهذا إنما يتأتى على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما إسلام الجد وحريته شرط لضرورة (كون) الرجل كفئاً لامرأة لها آباء مسلمون وأحرار.(3/99)
-----
وإذا زوج الرجل ابنته الصغيرة من رجل على طراية مصلح لا يقرب الخمر أخبره الناس بذلك ثم وجده شريباً مدمناً؛ إن لم يعرف أب المرأة شرب الخمر وكان غلبة أهل بيته الصلاح فالنكاح باطل لأن الأب زوجها على طرائها كفء وهذه المسألة يجب أن يكون بالاتفاق، وإنما الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله فيما إذا زوجها من رجل عرفه غير كفء، فَعندَ أبي حنيفة رحمه الله يجوز؛ لأن الأب كامل الشفقة وافر الرأي فالظاهر أنه تأمل غاية التأمل ووجد غير الكفء أصلح من الكفء. أما إذا.... كفء فالظاهر قلة التأمل، وبناء الأمر على ظاهر الكفاءة، فلهذا افترقا.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أيضاً، وفي هذا الموضع: امرأة زوجت نفسها من غير الكفء فلها أن تمنع نفسها من الزوج ولا تمكنه عن وطئها، وهذا الجواب خلاف ظاهر الرواية، إنما هذا اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله، قال: لأن من حجة المرأة أن تقول: إنما تزوجت بك رجاء أن يجيز الولي، فإذا لم يجز فلي أن أمتنع منك. يوضحه أن للولي حق الخصومة فعسى يخاصم ويفرق القاضي بينهما، فيكون هذا وطئاً بشبهة، وكثير من مشايخ زماننا قالوا بجواز هذا النكاح. أفتوا بظاهر الرواية، وقالوا ليس لها أن تمنع نفسها من زوجها.
وإذا أكرهت المرأة أن تزوج نفسها من كفء بمهر المثل ثم زال الإكراه فلا خيار لها، وأما إذا أكرهت على تزويج نفسها من غير كفء بأقل من مهر المثل ثم زال الإكراه فلها الخيار.(3/100)
-----
وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء بغير رضا الولي؛ فقبض الولي مهرها، فهذا منه رضاً وتسليم. ولو قبضها ولم يجزها فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح: أنه يكون رضاً وتسليماً لأن العقد توقف على إجازة الولي، وقبض البدل ممن توقف العقد على إجازته يكون رضاً منه بالعقد دلالة كما في البيع الموقوف، فأما إذا لم يقبض ولكن خاصم زوجها في نفقتها وتقرير مهرها عليه (191ب1) بوكالة منها كان ذلك منه رضاً وتسليماً للعقد استحساناً؛ لأن طلب المهر لم يكن لإثبات عدم الكفاءة عند القاضي؛ لأن عدم الكفاءة ثابت عند القاضي لأنه وضع المسألة فيما إذا زوجت نفسها من غير كفء، فتعين أن يكون طلب المهر للاستيفاء وذلك دلالة الرضا من غير احتمال، حتى لو لم يكن عدم الكفاءة ثابتاً عند القاضي لا يكون ذلك رضاً بالنكاح قياساً واستحساناً.
في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله في امرأة تحت رجل هو ليس بكفء لها خاصمه أخوها في ذلك، وأبوها غائب غيبة منقطعة، أو خاصمه ولي آخر غيره أولى منه غائب غيبة منقطعة، وادعى الزوج أن الولي زوجه يوم إقامة البينة وإلا فرق بينهما، فإن أقام بينّة على ذلك قبلت بينته وأجزته على الأول يعني على الولي الذي هو أولى لأن هذا خصم.
في نكاح «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل زوج أمة له وهي صغيرة من رجل ثم ادعى أنها ابنته ثبت النسب والنكاح على حاله؛ إن كان الزوج كفئاً، وإن لم يكن كفئاً فهو في القياس لازم لأنه هو الذي زوج وهو ولي. ولو باعها من رجل ثم ادعى المشتري أنها ابنته فكذلك إذا كان الزوج كفئاً، وإن كان الزوج غير كفء فالقياس كذلك لأنه زوَّجها وليٌّ مالك، واستقبح في هذا الموضع أي في قصد المشتري وأفرّق بينهما.(3/101)
-----
وفي كتاب الطلاق من «المنتقى»: رجل تزوج امرأة مجهولة النسب ثم ادعاها رجل من قريش وأثبت القاضي نسبها منه وجعلها ابنة له وتزوجها حجام، فلهذا الأب أن يفرق بينها وبين زوجها. ولو لم يكن ذلك لكن أقرت بالرق لرجل، لم يكن بمولاها أن يبطل النكاح بينهما، وإذا تسمى رجل لامرأة بغير اسمه وانتسب لها إلى غير نسبه، فلما زوجت نفسها منه علمت بذلك، فهذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يكون النسب المكتوم أفضل مما أظهر لها، بأنْ أخبرها أنه عربي فإذا هو قرشي، وفي هذا الوجه لا خيار لها ولا لأوليائها لأنهم وجدوا خيراً مما شرط لهم، وعن أبي يوسف رحمه الله: أن لها الخيار، وكذا في «المجرد» وفي «المنتقى»: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمها الله: إذا تزوج امرأة على أنه مولى فإذا قرشي فلها الخيار.
الوجه الثاني: أن يكون النسب المكتوم أدون مما أظهر وإنه على قسمين: إن كان مع هذا النسب المكتوم كفئاً لها؛ بأن تزوج عربيّة على أنه قرشي فإذا هو عربي، وهذا القسم لا خيار للأولياء؛ لأن الحق للأولياء في الكفاءة لا غير، حتى لا ينتسب إليهم من لا يكافئهم بالصمدية، وهذا الحق قد صار مقاماً، ولها الخيار عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الاستفراش ذلّ من جانبها، وهي إنما رضيت بتحمل هذا الذل ممن هو فوقها لا ممن هو مثلها، فثبت لها الخيار لا يعدُّ له تمام الرضا. وذكر الكرخي في «جامعه»: أنه لا خيار لها.
القسم الثاني: إذا لم يكن مع هذا النسب المكتوم كفئاً لها بأن تزوج قرشيّة على أنه من قريش، فإذا تبين أنه عربي أو من الموالي؛ وفي هذا القسم لها الخيار، ولو رضيت به كان للأولياء حق المخاصمة وهذا ظاهر.
وإن كانت المرأة هي التي غرت الزوج وانتسبت إلى غير نسبها فلما غرت بزوجها علم بذلك فلا خيار هكذا ذكر في «الأصل» من غير ذكر خلاف، وهذا إشارة إلى أن الكفاءة غير مطلوبة من جانب النساء.(3/102)
-----
وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله إذا تزوج امرأة على أنها قرشية فإذا هي نبطية فله الخيار، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا خيار له، وفي آخر باب الوكالة من كتاب النكاح من «الجامع الصغير»....... أمر رجلاً أن يزوجه امرأة فزوجه أمة لغيره قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز وقالا: لا يجوز، وقال مشايخنا رحمهم الله: هذه المسألة دليل على أن الكفاءة في النساء للرجال معتبرة عندهما خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، وفي وكالة «الأصل» أن الكفاءة في النساء للرجال استحسان وليس بقياس.
وفي «المنتقى»: الحسن بن زياد: إذا تزوج امرأة على أنَّه فلان بن فلان فإذا هو أخوه أو عمه فلها الخيار.
وفي آخر باب نكاح العبيد من نكاح «الأصل» عبد تزوج امرأة بإذن مولاه ولم يخبر وقت العقد أنه عبدٌ أو حرّ، ولم تعلم المرأة أيضاً ولا أولياؤها أنه حر أو عبد، ثم ظهر أنه عبد فإن كانت المرأة هي التي باشرت عقد النكاح فلا خيار لها، ولكن للأولياء الخيار.
وإن كان الأولياء هم الذين باشروا عقد النكاح فلا خيار لها، ولكن للأولياء الخيار، وإن كان الأولياء هم الذين باشروا عقدا النكاح عليها برضاها وباقي المسألة بحالها فلا خيار لا للمرأة ولا للأولياء.
وبمثله لو أخبر الزوج أنه حر وباقي المسألة بحالها كان لهم الخيار، فهذه المسألة دليل على أن المرأة إذا زوجت نفسها من رجل ولم تشترط الكفاءة ولم تعلم أنه كفء أو غير كفء ثم علمت أنه غير كفء لا خيار لها ولكن للأولياء الخيار.
وإن كان الأولياء هم الذين باشروا عقد النكاح برضاها ولم يعلموا أنه كفء فلا خيار لواحدٍ منهم، أما إذا شرطوا الكفاءة أو أخبرهم بالكفاءة ثم ظهر أنه غير كفء كان لهم الخيار، سئل. شمس الإسلام رحمه الله عن مجهول النسب هل هو كفء لامرأة معروفة النسب قال: لا والله أعلم.(3/103)
الفصل السابع في الشهادة في النكاح
-----
ولا يجوز عقد النكاح بين مسلمين بشهادة الكفار والصبيان والمجانين والعبيد والمكاتبين والمدبرين والنائمين الذين لا يسمعون كلام المتعاقدين والأصمين. ذكر فصل النائم والأصم في «نظم الزندويستي»، وذكر القاضي الإمام الإسبيجاوي رحمه الله: أن النكاح ينعقد بشهادة الأصمين، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام عن السغدي رحمه الله في «شرح السير الكبير» في أبواب الأمان هكذا: أن النكاح ينعقد بشهادة الأصمين.
والمسألة في الحاصل بناءً على أن سماع الشهود كلام المتعاقدين هل هو شرط انعقاد النكاح؟ قد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: ليس بشرط وإنما الشرط حضرتهما، فهذا القائل يقول بانعقاد النكاح بشهادة الأصمين، وبعضهم قالوا: هو شرط، فهذا القائل يقول: لا ينعقد النكاح بشهادة الأصمين.
ونصّ القدوري رحمه الله في «كتابه» أنه لا بدّ من سماع الشهود كلام المتعاقدين، وسيأتي بعد هذا عن أبي يوسف رحمه الله ما يدل عليه إن شاء الله.
وأما (سماع) الشهود كلام المتعاقدين هل هو شرط؟ فقد ذكر «البقالي» في «فتاويه»: هل الاعتبار بسماع الشهود لفظ النكاح وإن لم يعرفوا تفسيره، قال: والظاهر خلافه، وفي «البقالي» أيضاً عن محمد رحمه الله فيمن زوج امرأة بحضرة هنديين لم يفهما فلا يمكنهما أن يعبرا ما سمعا لم يجز. وفي «النوازل» عن محمد رحمه الله في غير هذه المسألة: إن أمكنهما أن يعبّرا ما قالوا جاز النكاح.
في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة وسمع أحد الشاهدين كلامهما (192أ1) ولم يسمع الشاهد الآخر؛ ثم أعادا على الذي لم يسمع؛ إن كان المجلس واحداً جاز استحساناً، وإن كان متفرقاً لا يجوز، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وقد روي من وجه آخر عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز حتى يسمعا معاً، إذ لا يوجد عند كل واحد من النكاحين إلا شاهد واحد.(3/104)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في كتاب الشهادات: تزوج بمحضر رجلين أحدهما أصم، فسمع السميع ولم يسمع الأصم حتى صاح صاحبه في أذنه أو غيره لا يجوز النكاح حتى يكون السماع معاً. وفي «نظم الزندويستي»: إذا سمع أحد الشاهدين كلام المرأة وسمع الشاهد الآخر كلام الزوج ثم أعاد العقد؛ فالذي سمع كلام الزوج في العقد الأول سمع في هذا العقد كلام المرأة لا غير، والذي سمع كلام المرأة في العقد الأول سمع كلام الزوج في العقد الثاني لا غير، فإن كان العقدان في مجلسين متفرقين لا يجوز بالاتفاق، وإن كانا في مجلسٍ واحد قال عامة علمائنا لا ينعقد، وقال بعضهم مثل أبو سهل الكبير الشرعي: إنه ينعقد. قال «الزندويستي» رحمه الله: ولا نأخذ بقول أبي سهل. في «فتاوى الفضلي»: زوّج ابنته بحضرة السكارى وهم يعرفون أمر النكاح غير أنهم لا يذكرونه بعدما صحوا كما هو عادة السكارى؛ ينعقد النكاح لأن هذا نكاح بشهود.
تزوج امرأة بشهادة الله ورسوله لا يجوز؛ لأن هذا نكاح لم يحضره شهود، وعن أبي القاسم الصفار رحمه الله أنه قال: يكفر من فعل هذا؛ لأنه اعتقد أن رسول الله عليه السلام عالم الغيب.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قال لقوم: اشهدوا أني تزوجت هذه المرأة التي في هذا البيت فقالت المرأة: قبلت، فسمع الشهود مقالتها ولم يروا شخصها، فإن كانت في البيت وحدها جاز النكاح؛ لأنه لا جهالة، وإن كانت معها في البيت أخرى لم يجز؛ لأن الجهالة ممكنة، وكذلك لو وكّلت المرأة رجلاً فسمع الشهود قولها ولم يروا شخصها فهو على ما ذكرنا من الوجهين، وفي «شهادات الفتاوى»: رجلٌ زوج ابنته ورجل في بيت وقوم في بيت آخر يسمعون التزويج، ولم يشهدوهم، إن كان من هذا إلى ذلك البيت كوّة رأوا الأب منها تقبل شهادتهم، وإن لم يروا الأب لم تقبل شهادتهم.u(3/105)
-----
في «فتاوى أهل سمرقند» بعث الرجل أقواماً يخطبون امرأة، فقال الأب زوجت ابنتي فلانة من فلان، وقبل واحد من القوم تكلموا فيه قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن هذا نكاح بغير شهود لأن الكل خاطبون من تكلم منهم ومن لم يتكلم؛ لأن المتعارف هكذا أن يتكلم واحد من القوم ويسكت الباقون. والخاطب لا يصلح شاهداً، وبه أخذ بعض مشايخ زماننا، وقال بعضهم: يجوز لأنّه لا ضرورة إلى جعل الكل خاطباً، فيجعل المتكلم خاطباً والباقون شهود، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله.
وإذا تزوج الرجل المسلم امرأة مسلمة بحضرة عبدين أو أو صبيين أو كافرين ومعهما شاهدان مسلمان حُرّان بالغان جاز؛ لأن هذا نكاح بشهود، فإن أَدرك الصبيان أو أُعتق العبدان أو أسلم الكافران وشهدوا أنه تزوجها؛ ذكر في «الأصل» مطلقاً أنه تقبل شهادتهما، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أن المسألة على التفصيل: إن شهدا أنه تزوجها بحضرتنا وكان معنا شاهدان رجلان حران مسلمان جازت شهادتهما، وإن شهدا وقالا: لم يكن معنا غيرنا لا تقبل شهادتهما لأنهما شهدا بنكاح فاسد، والقاضي لا يقضي بنكاح فاسد.(3/106)
-----
وإذا شهد شاهد أنه تزوجها أمس، وشهد آخر أنه تزوجها اليوم فشهادتهما باطلة؛ لأنّ كل واحد منهما يشهد بعقد عقد بحضوره وحده، وذلك عندنا فاسد فكان امتناع القضاء بهذه الشهادة لكون المشهود به فاسداً لا لاختلاف الوقت؛ لأن الشهادة قامت على القول، والشهادة القائمة على القول لا يمنعها اختلاف الوقت كما في البيع، حتى قالوا: لو شهد كل واحد أنه كان معه رجل آخر قضى بشهادتهما؛ لأن كل واحد شهد بنكاح صحيح، لم يبق إلا اختلاف الوقت وإنه لا يمنع قبول الشهادة متى قامت على القول، هكذا ذكر شيخ الإسلام علّه هذه المسألة في «شرحه»، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله علة تقتضي عدم القبول على كل حال فقال: النكاح بمنزلة الأفعال، وهذا لأن النكاح... والصحيح: ما ذكر شمس الأئمة، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشهادات على نحو ما ذكره شمس الأئمة، وإن كان قولاً إنّه يتضمن فعلاً وهو إحضار الشهود، فصار النكاح ملحقاً بالفعل من هذا الوجه، واختلاف الشهود في المكان والزمان في الأفعال يمنع قبول الشهادة في حق هذا المعنى، لا فرق بينهما إذا شهد كل واحد منهما أنه كان معه رجل آخر ولم يشهد على هذا الوجه.
قال الزندويستي في «نظمه» وينعقد النكاح بشهادة الأخرسين إذا كانا سميعين، وإذا وقع التجاحد فلا شهادة لهما لأنه لا لفظ لهما. وكذلك ينعقد النكاح بشهادة الأعمى والمحدود في القذف والمحدود في الزنا، وكذلك ينعقد بشهادة ابنيه لا منها وبشهادة ابنيها لا منه وبشهادة ابنيه منها.(3/107)
-----
وإذا تزوج المسلم الذمية بشهادة الذميين جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن ملك النكاح ثبت للرجل على المرأة مضموناً بالمهر، وشهادتهما حجة من حيث إثبات الملك له عليها، وأما لا يعتبر من حيث إيجاب المهر لها عليه إلا أن المهر زائد في الباب، فوقوع الخلل في الشهادة فيما يرجع إلى المهر لا يمنع انعقاد العقد؛ لأن الخلل دون انعدام التسمية.
المرأة إذا زوجت ابنتها البالغة بحضرتها برضاها بحضرة رجل وامرأة جاز النكاح، وإن كانت الابنة غائبة لا يجوز؛ لأن الابنة إذا كانت حاضرة كانت هي المزوجة والأم معبرة عنها، وهي مع المرأة الأخرى والرجل شهود، فيكون هذا نكاحاً بحضرة رجل وامرأتين، فأما إذا كانت الابنة غائبة؛ لا يمكن أن تجعل الابنة هي المزوجة، فبقيت الأم مزوجة ووراءها رجل وامرأة، ولو كانت الابنة صغيرة وباقي المسألة بحالها لا يجوز النكاح سواء كانت الابنة حاضرة أو غائبة؛ لأنه لا يمكن أن تجعل الابنة مزوجة؛ لأن الصغيرة ليست من أهل التزويج.
ومن هذا الجنس ذكر خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الرهن وصورتها: وكّل رجلٌ رجلاً أن يزوج له امرأة، فزوجه الوكيل امرأة بحضرة شاهد واحد، إن كان الموكل حاضراً يجوز، وطريقه: أن الموكل يعتبر متزوجاً ويعتبر الوكيل مع الشاهد الآخر شاهدان، وإن كان الموكل غائباً لا يجوز، حاصل هذه المسائل مسألة ذكرها (192بأ) في آخر الباب الأول من نكاح «الجامع الصغير» وصورتها: رجل أمر رجلاً أن يزوج ابنة له وهي صغيرة فزوجها والأب حاضر جازت شهادة المزوج، وإن كان الأب غائباً لم تجز شهادة المزوج وطريقه ما قلنا.
ومن هذا الجنس مسألة ذكرت في «مجموع النوازل» سئل عنها الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله وصورتها: امرأة وكلت رجلاً أن يزوجها من رجل فزوجها بحضرة امرأتين والموكلة حاضرة، قال: يجوز النكاح وتصير الموكلة هي المزوجة.(3/108)
-----
قيل: فإن أنكر الزوج أوالمرأة الموكلة هذا العقد هل تقبل شهادة الوكيل والمرأتين على النكاح؟ قال: نعم إذا لم يقل الوكيل: أنا زوجتها منه بالوكالة؛ لأنه إذا قال ذلك تكون شهادة على قول نفسه ولا تقبل. قيل له: فهل يكفيه أن يقول: هذه امرأة هذا؟ قال: لا بد من إثبات العقد.
قال ولو قال قائل: إن الوكيل يشهد ويقول: هذه امرأة هذا بعقد صحيح قام بتزويج من له ولاية التزويج، وقبول من له ولاية القبول لا ينفذ ولكن لا أحفظ في هذا رواية، والصواب: أنه يشهد أن هذه امرأة هذا، ويقبل القاضي ذلك، ولا حاجة إلى إثبات العقد.
وإذا وكلّ الرجلُ رجلاً أن يزوج عبده امرأة فزوج الوكيل العبد امرأة بشهادة رجل واحد والعبد حاضر لا يجوز؛ لأنه لو جاز إنما يجوز بأن تنتقل عبارة الوكيل إلى العبد فيجعل العبد متزوجاً، ولا وجه إليه؛ لأن الوكيل ليس بمأذون من جهة العبد حتى تنتقل عبارته إلى العبد فبقي الوكيل مزوجاً لا شاهداً.
وإذا زوج الرجل ابنته البالغة وأنكرت الرضا فشهد عليها أبوها لا يقبل لأنه يريد تتميم ما باشره. ولو شهد عليها بالرضا أخواها قبلت شهادتهما. وإذا زوج الرجل ابنته بشهادة ابنيه ثم جحد الزوج النكاح وادعاه الأب والمرأة فشهد الابنان بذلك لم تقبل شهادتهما عند أبي يوسف، وعند محمد رحمهما الله تقبل شهادتهما، ولو كان الزوج هو المدعي والأب والمرأة يجحدان ذلك فشهادة الابنين مقبولة بلا خلاف.
والحاصل: أن شهادة الإنسان لأخيه أخته وعليهما مقبولة، وشهادته فيما يجحده الأب مقبولة، وإن كان للأب فيه منفعة بأن شهدا على أبيهما ببيع ما يساوي مائة ألف، وشهادته فيما يدعيه الأب إن كان للأب فيه منفعة لا تقبل بلا خلاف.(3/109)
-----
وإن لم يكن للأب فيه منفعة فكذلك عند أبي يوسف، وعند محمد رحمهما الله تقبل، حجّة محمد رحمه الله: أن شهادة الابن لأبيه إذا كان للأب فيه منفعة إنما لا تقبل لمكان التهمة، فإن الإنسان متهم بإيثار الأب على غيره في المنافع، وهذا المعنى لا يتأتى فيما لا منفعة للأب فيه، وأبو يوسف رحمه الله يقول: شهادة الابن لأبيه إنما لا تقبل بالنص، ولا فصل في النص، على أن المنفعة هنا متحققة وإن لم تكن مالية وهو ظهور صدقه عند الناس.(3/110)
-----
وإذا وقع الاختلاف بين الزوج والمرأة في أن النكاح كان بشهود أو بغير شهود فالقول قول من يدعي أنه كان بشهود؛ لأن الذي يدّعي النكاح بشهود يدّعي صحة العقد، والذي يدعي النكاح بغير شهود يدعي فساد النكاح. والأصل: أن الزوجان إذا اختلفا في صحة العقد وفساده كان القول قول من يدّعي الصحة، وإن ادعى أحدهما أن النكاح في حالة الصغر بمباشرته؛ كان القول قوله؛ لأنه أضاف العقد إلى عدم الأهلية وهو حالة الصغر، فيكون منكراً العقد معنًى فيكون القول قوله، وسيأتي في مسألة الاختلاف في الشهادة بعد هذا في فصل الخصومة الواقعة بين الزوجين. وإذا كان القول قول من يدعي النكاح في حالة الصغر بعد هذا نقول لا نكاح بينهما ولا مهر لها (إن) لم يكن دخل بها قبل الإدراك، وإن كان قد دخل بها قبل الإدراك، فلها الأقل من المسمى ومن مهر المثل، ولا يثبت الرضا بهذا الدخول أما لها الأقل فلأن الدخول حصل في نكاح موقوف؛ لأن العقد من الصغير يتوقف على إجازة المولى إذا كان الولي يملك مباشرة ذلك، والدخول في النكاح الموقوف يوجب الأقل بمنزلة الدخول في النكاح الفاسد، وأما لا يثبت الرضا لأن الدخول أو التمكين دليل الرضا وصريح الرضا في حالة الصغر لا تعتبر فكذا دليل الرضا وإن دخل بها بعد الإدراك كان هذا رضا وإجازة للنكاح الذي كان بينهما في حالة الصفر؛ لأن صريح الرضا بذلك النكاح بعد الإدراك معتبر، فكذلك دليل الرضا وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: إذا ادعى أحدهما أن النكاح كان في حالة الصغر بمباشرته فعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله يقول له القاضي: هل كان النكاح بإذن الولي؛ فإن قال: لا، يقول له هل أجازه الولي؟ فإن قال: لا، يقول له: هل أجريته بعد البلوغ؟ فإن قال: لا، يقول له: هل من رأيك أن تجيزه فإن قال: لا؛ فرق القاضي بينهما، وهذا إذا قال ذلك ولم يوجد بينهما دخول بعد الإدراك، فأما إذا وجد فهو دليل الرضا إذا وقع(3/111)
-----
الاختلاف بين الزوج ووكيله بالنكاح فقال الوكيل: أُشهدت على النكاح، وقال الموكل: لا بل لم تشهد فالقول قول الوكيل ويفرق بينهما وعليه نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وإن وقع هذا الاختلاف بين المرأة ووكيلها فالقول قول الوكيل وهي امرأته لا يفرق بينهما، وهذا لأن الوكيل مع الموكل اتفقا على أصل العقد فيكون اتفاقاً بينهما على شرائطه، فالذي ينكر الإشهاد يكون في معنى الراجع فلا يقبل قوله.
الفصل الثامن في الوكالة بالنكاح
إذا وكل رجلاً بأن يزوِّجه امرأة بعينها فزوجها إياه بأكثر من مهر مثلها، إن كان الزيادة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز بلا خلاف، وإن كانت الزيادة بحيث لا يتغابن الناس فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز.
وهذا بناء على أن المطلق من الألفاظ يجري على إطلاقه ما لم يوجد دليل القيد غير أنهما يقولان وجد دليل القيد هو العرف، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العرف مشترك، وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين الوكيل بالنكاح وبين الوكيل بالشراء أن الوكيل بالشراء إذا اشترى بما لا يتغابن الناس في مثله يصير مشترياً لنفسه، والفرق: أن في مسألة الشراء أصل العقد مضاف إلى الوكيل؛ لأن الوكيل بالشراء يستغني عن إضافة العقد إلى موكله، فتتمكن التهمة في تصرفاته قصد الشراء لنفسه (......) العين حوله إلى الآمر، وأما في مسألة النكاح: أصل العقد مضاف إلى الموكل؛ لأن الوكيل بالنكاح لا يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل فلا تتمكن التهم في تصرفه، فلهذا حرما.(3/112)
-----
وإذا وكل رجلاً بأن يزوج له امرأة بعينها ببدل سماه، فتزوجها الوكيل لنفسه بذلك البدل جاز النكاح للوكيل بخلاف الوكيل بشراء شيء بعينه، إذا اشترى ذلك الشيء لنفسه بذلك البدل حال غيبة الموكل حيث يصير مشترياً لموكل. إذا وكلّه أن يزوج امرأة ولم يسمها فزوجه امرأة هي ليست بكفؤ له؛ القياس أن يجوز على الموكل، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله عملاً بإطلاق التوكيل، وفي الاستحسان: لا يجوز على الموكل (193 أب) وبه أخذا فهما يقيدان اللفظ المطلق بالعرف، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العرف مشترك، وقد يتزوج الرجل من ليس بكفؤ. وعلى هذا الخلاف: إذا زوجه امرأة، أو مقطوعة اليدين، أو رتقاء، أو مفلوجة، أو مجنونة، أو معتوهة، ذكر الاختلاف في هذه الفصول، ورواية أبي سليمان وفي «المنتقى»: إبراهيم عن محمد رحمه الله إذا قال لغيره: زوجني فزوجه عمياء، أو مقطوعة اليدين، أو الرجلين لا يجوز، ولو زوجه عوراء، أو مقطوعة إحدى اليدين جاز، وفيه أيضاً: أمر رجلٌ رجلاً أن يزوجه فزوجه ابنته الصغيرة أو ابنة أخيه الصغير فهو وليها لا يجوز، وكذلك كل من يلي أمرها بغير أمرها، قال: وذلك بمنزلة رجل أمر امرأة أن تزوجه امرأة فزوجته نفسها. ولو زوجه ابنته الكبيرة برضاها ذكر في «الأصل» أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز إلا أن يَرضى به الزوج، وعلى قولهما يجوز، بناء على عند أبي حنيفة رحمه الله بمطلق الوكيل لا يملك التصرف مع ولده للتهمة، والتهمة دليل يقيد المطلق، وعندهما يملك، ولو زوجه أخته الكبيرة برضاها جاز بلا خلاف؛ لأنه لا تهمة في حق الأخت.(3/113)
-----
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في «الأصل»: رجل أمر رجلاً أن يزوج له امرأة فزوجه ابنته الصغيرة أو الكبيرة بأمرها لم يجز استحساناً. وكله أن يزوجه امرأة من قبيلة فزوجه من قبيلة أخرى لم يجز وهذا ظاهر. وكّله أن يزوجه امرأة سوداء فزوجه امرأة بيضاء أو على العكس لا يجوز، ولو وكلّه أن يزوجه امرأة عمياء فزوجه امرأة بصيرة يجوز، كذا ذكر في «المنتقى» قال ثمة: وليس هذا كالأول لأن الأول جنس، وكله أن يزوجه أَمَةً فزوجه حرة لا يجوز؛ لأنه خالف أمره نصّاً وله في ذلك منفعة، وهو أن لا يساوي هذه الحرة التي عنده في القسم، وإن زوجه مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد جاز. وكله أن يزوجه امرأة فزوجه صبية يجامع مثلها أولا يجامع (مثلها) جاز؛ لأن اسم المرأة اسم جنس يتناول الكبيرة والصغيرة جميعاً، قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله، وأما على قولهما لا يجوز إذا زوجه صبية لا يجامع مثلها، كما لو زوجه رتقاء أو قرناء ومثل هذا قول الكل بخلاف ما إذا زوجه رتقاء أو قرناء ولو وكله أن يزوجه امرأة فزوجه الوكيل امرأة جعلها الزوج طالقاً إن تزوجها فالنكاح جائز والطلاق واقع. قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله، أما على قولهما لا يجوز.
وكله أن يزوجه امرأة على ألف درهم فإن أتت فيما بين الألف والألفين فأبَت المرأة أن تزوج نفسها بألف فزوجها بألفين؛ ذكر في «الأصل» أن ذلك جائز لازم للزوج، من مشايخنا من قال: ما ذكر في الكتاب قولهما لأن عندهما الغاية الثانية تدخل كما في الإقرار والطلاق، فصار الوكيل بالتزويج إلى الألفين موكلاً بالتزويج بالألفين وقد زوجها بالألفين، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله يتوقف النكاح على إجازة الزوج لأن عنده الغاية الثانية لا تدخل فيعتبر وكيلاً بالتزويج بألف وتسع مائة وتسعة وتسعين، فإذا زوجها بالألفين فقد زوجها بأكثر من المسمى فيتوقف على الإجازة، ومنهم من قال: لا، بل هذا قول الكل.(3/114)
-----
وفرق هذا القائل بين هذه المسألة وبين مسألة الإقرار والطلاق، والفرق وهو أن الغاية إنما لا تدخل تحت المضروب له الغاية إذا لم يوجد دليل يدل على دخولها، أما إذا وجد دليل يدل على دخولها تدخل، ألا ترى أن الغاية الأولى كيف دخلت لما وجد الدليل، وهو أن الثانية لا تتصور بدون الأولى. إذا ثبت هذا فنقول: الدليل هنا على دخول الغاية الثانية وهو العرف بأن العرف فيما بين الناس أنهم يتزوجون بالكوامل من العدد لا بالكسور، بخلاف الطلاق؛ لأن هناك يوجد عرف يوجب إدخال الغاية، وإن الناس يوقعون الواحدة والثنتين، وكذلك في باقي الأمصار لم يوجد عرف يوجب إدخال الغاية الثانية، فإن الناس كما يقرون بالكوامل من العدد يقرون بالكسور، إذا وكله أن يزوجه امرأة بألف درهم فأبت أن تزوجه حتى زادها الوكيل ثوباً من ثياب نفسه فالنكاح موقوف على إجازة الزوج؛ لأنه زاد على المسمى، فهو بمنزلة ما لو وكّله أن يزوجه بألف درهم فزوجه بألف وخمسمائة. فإن قيل: إذا زوجه بألف وخمس مائة إنما يصير مخالفاً؛ لأن الزيادة لو صحت كانت الزيادة على الزوج؛ لأن الوكيل لم يضفها إلى ماله، أما هنا لو صحت الزيادة كانت الزيادة على الوكيل؛ لأن الوكيل أضاف الزيادة إلى ماله فلا ضرر على الموكل في الزيادة، قلنا: إن لم يتضرر الموكل في الحال يتضرر في الثاني بأن يهلك الثوب قبل التسليم أو يستحق من يده، متى صحت الزيادة تجب قيمة ذلك على الزوج فلا يجب على الوكيل؛ لأن الوكيل متبرع بالعين، فإذا هلك العين لا تجب عليه قيمة، فيجب على الزوج متى صحت الزيادة.(3/115)
-----
وكَّلَه أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه على عبد الزوج؛ فإن العبد لا يصير مهراً ما لم يرض الزوج به؛ لأن الزوج ما أمره بإزالة العبد عن ملكه نصّاً، وإزالة العبد عن ملكه ليس من ضرورات ما أمره به أيضاً. ثم القياس أن لا يجوز هذا النكاح؛ لأنه صار مخالفاً بتسمية ما لم يؤمر بتسميته، فكأنه أمر بالتزويج بألف فزوجه بألفين، وفي الاستحسان يجوز النكاح لأنه لم يخالف ما أمر به نصاً فإنه كما لم يؤمر بتسمية العبد لم يدعيه أيضاً، ولكن امتنع صحة التسمية في حق العين لما ذكرنا، وذلك لا يمنع جواز النكاح، كما لو تزوج امرأة على عبد الغير فإنه يصح العقد وإن لم تصح التسمية في حق العين حتى لا يجب التسليم للعين متى لم يرض به صاحب العين كذا هنا.
ذكر «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله في الوكيل بالنكاح من جانب الزوج إذا ضمن المهر للمرأة وكان الضمان بغير أمر الزوج، فإذا رجع بما أدى على الزوج فقد جعل الأمر بالنكاح على روايه «المنتقى» أمراً بضمان المهر، حتى أثبت للوكيل حق الرجوع على الزوج، وإن لم يأمره الزوج بالضمان صريحاً، وفي «الأصل» لم يجعل الأمر بالنكاح أمراً بضمان المهر، حتى قال: لا يرجع الوكيل على الزوج بما ضمن من المهر.(3/116)
-----
وفرق على رواية «الأصل» بين الأمر بالنكاح وبين الأمر بالخلع، وجعل الأمر بالخلع أمراً بالضمان حتى قال: المأمور إذا ضمن بدل الخلع يرجع بما ضمن وإن لم تأمره المرأة بالضمان، والفرق أن في باب الخلع الوكيل بعد الوكالة يملك مباشرة الخلع على وجه يوجب البدل على الموكل ابتداءً، بأن يرسل البدل ويملك المباشرة على وجه يوجب البدل على نفسه ابتداءً بأن يضيف البدل إلى نفسه؛ إما إضافة مُلك، أو إضافة ضمان وهو يملك، هذا النوع بدون الوكالة لما عرف أن الخلع ببدل على الأجنبي صحيح، فإذا ملك هذا النوع بدون الوكالة فقد دخل هذا النوع تحت التوكيل بحكم إطلاق اللفظ، كان فائدة دخوله تحت التوكيل الرجوع على الموكل بما أدى، أما الوكيل بالنكاح لا يملك المباشرة على وجه يلزمه البدل ابتداءً؛ لأن النكاح ببدل على الأجنبي لا يصح، فكان لزوم البدل للوكيل بطريق الكفالة، والكفيل إنما يرجع على المكفول عنه بما (193 ب1) أدى إذا كانت الكفالة بأمره فلهذا افترقا، وفي «الجامع الكبير»: لو أن رجلاً وكّل رجلاً بأن يزوجه امرأة فزوجه امرأة على عبد الوكيل أو عوض له صح التزويج ونفذ، وعلى الوكيل تسليمه، وإذا سلّم لا يرجع على المزوج بشيء، ولو كان مكان النكاح خلع يرجع على المرأة بقيمة ما أدى، والفرق ما ذكر ثم في باب النكاح؛ إذا لم يرجع على الزوج بشيء لا يظهر أن النكاح عُقد على غير الزوج بل البدل على الزوج، ولكن الوكيل متبرع عند الأداء، فإن لم تقبض المرأة العبد الذي هو مهر حتى هلك لا ضمان على الوكيل وترجع المرأة بقيمته على الزوج. فرّق بين هذا وبين الوكيل بالخلع. إذا خالع على عبد الوكيل وهلك العبد في يده قبل التسليم فإنه يضمن الوكيل قيمته.(3/117)
-----
والفرق: أن في باب النكاح يسلم المهر على الزوج بحكم العقد لا على الوكيل إلا أن الوكيل تبرع عنه بالأداء، فإذا عجز عن تسليمه بالهلاك بطل تبرعه، فكان تسليم قيمته على الزوج، وأما في باب الخلع تسليم العوض على الوكيل بحكم الخلع ابتداءً، وإنما الرجوع على المرأة بحكم الأمر، فإذا هلك فقد عجز عن تسليمه، والسبب الموجب للتسليم في حقه قائم فيصار إلى قيمته. ولو (زوجه) الوكيل امرأة بألف درهم من ماله بأن قال: زوجتك هذه المرأة بألف من مالي أو قال زوجتك هذه المرأة بألفي هذه جاز النكاح والمال على الزوج، فلا يطالب الوكيل بالألف المشار إليه، وكان ينبغي أن يطالب لأن الوكيل متبرع والدراهم والدنانير يتعينان في التبرعات والجواب: هذا تبرع في ضمن المعاوضة والدراهم والدنانير إذا كانا لا يتعينان في المعاوضات لا يتعينان فيما يثبت في ضمن المعاوضة، فلا يطالب الوكيل بالألف المشار إليه، لهذا لا يطالب بألف آخر لانعدام الضمان؛ لأنه يحتمل أن يكون ما قال ضماناً، ويحتمل أن يكون وعداً بأن يؤدي من مال نفسه فلا يثبت الضمان بالاحتمال.
وإذا وكلّه أن يزوجه امرأة فزوجه امرأة معتدة أو لها زوج ودخل بها الزوج ولم يعلم؛ فرق بينهما وعليه الأقل من مهر المثل ومن المسمى كما في سائر الأنكحة الفاسدة، ولا ضمان على الوكيل في ذلك؛ لأن ما لزم الزوج لزمه بفعله وهو الدخول لا بعقد الوكيل.
ولو وكّلَه أن يزوجه امرأة فزوجه امرأتين في عقد لم يلزم الزوج واحدة منهما، ولو وكّله أن يزوجه امرأة بعينها فزوجه تلك وأخرى معها لزمه تلك.Y
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله: إذا وكّله أن يزوجه امرأة بعينها بألف درهم، فزوجها إياه وأخرى معها بألفي درهم فإن كان الذي يصيبها إذا قسم ذلك ألف أو أقل جاز على الآمر، ولو زوجها إياه وحدها بغير مهر مسمى فإن كان مهر مثلها ألف أو أقل جاز في قول أبي يوسف رحمه الله، وإن كان أكثر لم يجز.(3/118)
-----
قال: وقياس قول أبي حنيفة رحمه الله في هذا أن لا يلزمه النكاح من قبل أن يعقد العقد على غير التسمية، وهذا خلاف ما أمره، وهذا إشارة إلى الجواز عند أبي حنيفة رحمه الله في الثنتين كما هو قول أبي يوسف رحمه الله، ولو وكّلَه أن يزوجه امرأتين في عقد فزوجه واحدة جاز، فكذا إذا وكّله أن يزوجه هاتين المرأتين في عقد فزوجه إحداهما، وتفريق العقد ليس بخلاف، ولو كان قال: لا تزوجني إلا باثنتين التي أمره بها في هذه، ويقع في الثنتين على التسمية، وهذا خلاف ما أمر في عقد واحد فزوجه امرأة لم يلزمه، وكذلك في المعينتين إذا ألحق بآخر كلامه ولا تزوجني واحدة منهما دون الأخرى فزوجه إحداهما لا يجوز.
وإذا أمر الرجل رجلاً أن يزوجه امرأة بعينها بمهر مسمى وذلك ألف درهم مثلاً فزوجه امرأة فزاد عليه في المهر؛ فالزوج بالخيار إن شاء أجاز النكاح بالمهر الذي سماه الوكيل، وإن شاء رده؛ لأنه أتى بخلاف ما أمره به، فكان هذا ابتداء عقد فيتوقف على إجازة الزوج، فإن لم يعلم الزوج بذلك حتى دخل بها فالزوج بالخيار أيضاً، فلا يكون دخوله بها رضاً بما خالف به الوكيل؛ لأن الرضا بالشيء لا يتحقق قبل العلم به، فكان على خياره إن شاء أقام معها وأجاز نكاحها على ما سمى لها الوكيل، وإن شاء فارقها، ومتى فارقها كان لها الأقل مما سمى لها الوكيل ومن مهر المثل؛ لأن الدخول حصل في نكاح موقوف، وإن كان المأمور ضمن لها المهر المسمى وأخبرها لأنه أمره بذلك ثم أنكر الزوج الأمر بالزيادة على الألف، وهذا قبل الدخول بها فنقول إنكار الأمر بالزيادة إنكار الأمر بهذا النكاح، ولو أنكر الأمر بالنكاح أصلاً كان النكاح باطلاً ولا مهر على الزوج ولها أن تطالب المأمور بالمهر؛ لأن في زعمهما أن النكاح صحيح وأن الضمان صحيح.(3/119)
-----
بعد هذا نقول في رواية كتاب النكاح وبعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب المأمور بنصف المهر، وفي بعض روايات كتاب الوكالة نقول: تطالبه بجميع المهر، واختلف المشايخ فيه. والصحيح أنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع موضوع، ما ذكر في كتاب النكاح أن القاضي فرق بينهما بطلبها بذلك حتى لا تبقى معلقة فيسقط نصف المهر عن الأصل بزعمهما لكون الفرقة جائية من قبل الزوج قبل الدخول فيسقط عن الضمين.
وموضوع ما ذكر في بعض روايات كتاب الوكالة أنها لم تطلب التفريق قالت: أصبر حتى يقر بالنكاح أو آخذ بيّنة على الأمر بالنكاح فبقي جميع المهر بزعمها على الأصل، فكذا على الوكيل لأنه كفيل الوكيل.
وكّلت المرأة رجلاً بأن يزوجها فتزوجها الوكيل بنفسه لم يجز، وكذلك لو وكلته أن يزوجها من رجل، وأما في الفصل الأول فلأنها وكلته بالتزويج مطلقاً، وتزويجها من نفسه إن كان تزويجاً باعتبار جانبها فهو تزوج باعتبار جانبه، فكان يروى من وجه دون وجه فكان ناقصاً والناقص لا يدخل تحت مطلق الاسم، وأما في الفصل الثاني فلهذا المعنى أيضاً ولمعنى آخر أنها امرته بالتزويج من رجل منكر، والوكيل صالر معرفاً بالخطاب، والمعرف لا يدخل تحت اسم النكرة، فلو وكلته أن يزوجها من نفسه فزوجها من نفسه يجوز وإنه يخرج عن المعنيين جميعاً.
وكّلته أن يزوجها فزوجها أباه أو ابنه لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله، وجاز عندهما إلا أن يكون الابن صغيراً فلا يجوز بلا خلاف، ولو زوجها أعمى، أو مقعداً، أو زمناً، أو عنيناً، أو خصياً جاز، قيل: هو قول أبي حنيفة رحمه الله،
لو وكلت رجلاً أن يزوجها فزوجها من كفء بمهر مثلها فالكلام فيه كالكلام فيما إذا زوجت نفسها، وأنه على الخلاف على ما يأتي بيانه في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكذا هذا.(3/120)
-----
وإن زوجها من غير كفء لها لم يجز عليها، هكذا ذكر في وكالة الأصل، من مشايخنا من قال: هذا الجواب قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أولاً، أو قياس رواية الحسن عند أبي حنيفة رحمه الله: أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها من غير كفءٍ، أما على ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله أن المرأة تملك أن تزوج نفسها من غير كفءٍ وينبغي أن يجوز. ومنهم من قال: هذا قول الكل، فهذا القائل يحتاج إلى الفرق على قول أبي حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية بين التوكيل من جانب الرجل وبين التوكيل (194أ1) من جانب المرأة، حيث لم يقيد التوكيل من جانب الرجل بالكفاءة وقيد التوكيل من جانب المرأة بالكفاءة. ولو وكّله بالتزويج ثم إن المرأة تزوجت بنفسها خرج الوكيل من الوكالة علم الوكيل بذلك أو لم يعلم، ولو أخرجها عن الوكالة أو لم يعلم بذلك لا يخرج عن الوكالة، وإذا زوجها جاز النكاح ولو كان وكيلاً من جانب الرجل.
تزوج امرأة بعينها ثم إن الزوج تزوج أمها أو ابنتها خرج الوكيل عن الوكالة وإذا وكلت المرأة رجلاً أن يزوجها وقالت له: ما صنعت من شيء فهو جائز حتى جاز للوكيل أن يوكل غيره ليزوجها، فحضر الوكيل المؤمَّن فأوصى إلى رجل بالتزويج فزوجها الوكيل الثاني بعد موت الأول يجوز، وكان ينبغي أن لا يجوز؛ لأن الأول أضاف الوكالة إلى ما بعد موته وبعد الموت لا يبقى وكيلاً فكيف يصح توكيله بعد الموت؟ والجواب: أن الأول رسول عن المرأة في التوكيل، وعبارة الرسول منقولة إلى المرسل فحينئذ مخيّر.
قال لغيره: أوصيت إليك بالتزويج وهو وكيل حال ما قال هو بالمقالة صار كلامه منقولاً إلى المرأة وكأن المرأة قالت: هو وكيل بتزويجي بعد موت الأول، ولو خرجت المرأة بهذا متى مات الوكيل الأول فزوّجها الوكيل الثاني كان جائزاً، كذا فهمنا، وصار الحاصل: أن الوكيل الثاني وكيل المرأة، وكذا هذا في سائر الوكالات.(3/121)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: وكل الرجل رجلاً أن يزوج له امرأة فزوجه امرأة بغير إذنها زوجها أبوها فلم يبلغها الخبر حتى نقض الوكيل النكاح بغير محضر منها وبغير محضر من أبيها فزوجها جاز؛ لأنه على وكالته بعد. بيانه: وهو أن الوكالة متى صحت فهي على حالها ما لم يوجد العزل أو انتهت بتحصيل ما وكل به ولم يوجد العزل هنا، والوكيل لم يحصل ما وكل به على التمام؛ لأنه وكله بالعقد التام وقد أتى بأصل العقد. إذا بقي على وكالته فنقول: تصرف الوكيل حال بقاء الوكالة كتصرف الموكل بنفسه، والموكل يقدر على إبطال هذا العقد فكذا الوكيل، وبهذا الطريق قلنا: إن الوكيل بالبيع مطلقاً يملك البيع بشرط الخيار لإطلاق اللفظ ويملك فسخع في مدة الخيار لبقاء الوكالة، ولكون تصرف الوكيل بمنزلة تصرف الموكل حال بقاء الوكالة فإن قيل تصرف (الوكالة) حال بقاء الوكالة كتصرف الموكل تصرفاً دخل تحت الوكالة، لا تصرفاً لم يدخل تحت الوكالة والداخل تحت الوكالة العقد لا نقضه قلنا: نعم الداخل تحت الوكالة العقد ولكن لحمكة النظر في حق الموكل، فربما يكون النظر في عقد آخر لا يمكنه تحصيل عقد آخر إلا بنقض هذا العقد، فكان نقض هذا العقد من ضرورات تحصيل المأمور به، فيكون هو قائماً مقامه في هذا النقض.(3/122)
-----
وإنما لم يشترط حضرة المرأة ولا حضرة أبيها؛ لأن حكم العقد لم يظهر في حقها أصلاً، ولو أن الوكيل لم ينقض هذا النكاح ولكن زوج الموكل أخت هذه المرأة بإذنها كان ذلك نقضاً للنكاح الأول؛ لأنه وكيل في العقد الثاني؛ لأن العزل لم يوجد ولم تنته الوكالة على أمر وبين النكاحين تنافي فيكون الإقدام على الثاني فسخاً للأول، وكذلك لو زوجه الثانية بغير إذنها كان نقضاً للنكاح الأول؛ لأن نكاح الثانية أيضاً موقوف؛ لأنه على وكالته بعد، والجمع بين الأختين ملكاً كما هو حرام فالجمع بينهما عقداً أيضاً حرام، فتضمن إقدامه على النكاح الثاني فسخاً للأول، ولو كان مكان الوكيل فضولي بأن زوج رجل رجلاً امرأة بغير أمره ثم فسخ المزوج العقد قبل أن يخبره الزوج كان فسخاً باطلاً، وعن أبي يوسف رحمه الله أن فسخه صحيح، فأبو يوسف رحمه الله قاس النكاح على البيع، فإن الفضولي إذا باع ثم فسخ قبل الإجازة صح فسخه، ومحمد رحمه الله فرق بينهما.
ووجهة الفرق أنه ثبت للزوج ولمن وقع البيع له حق الإجازة في هذا العقد، وفي النقض إبطاله، والإنسان لا يملك إبطال حق الغير إلا بطريق النيابة عن صاحب الحق أو ضرورة دفع الضرر عن نفسه والنيابة لم توجد، وليس في بعض النكاح دفع الضرر عن العاقد؛ لأن حقوق العقد لا ترجع إليه على تقدير النفاد، أما في بعض البيع دفع الضرر عن العاقد؛ لأن الحقوق ترجع إليه على تقدير النفاد. فرّع محمد رحمه الله في الجامع على أصله فقال: عاقد النكاح في الفسخ على أربعة أوجه: منها ما لا يملك الفسخ بالقول والفعل وهو (....) بالعقد الذي لم يؤمر به إذا فسخه لم يصح فسخه، ولو زوجه أمها كان الثاني موقوفاً ولم ينفسخ الأول.(3/123)
-----
والثاني: أن يملك الفسخ بالقول ولا يملك الفسخ بالفعل، نحو أن يوكله بأنه يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه، وخاطب من جانب المرأة أجنبي فإنه يملك الفسخ قبل أن يخبر المرأة بالقول ولا يملك الفسخ بالفعل حتى لو زوجه أختها كان الثاني موقوفاً أيضاً ولم ينفسخ الأول، وقد ذكرنا الوجه فيه.
والثالث: أنه يملك الفسخ بالقول، نحو أن يزوجه امرأة بغير أمره ثم إن الزوج وكله أن يزوجه امرأة فزوجه أختها فيفسخ العقد الأول؛ لأنه في العقد الثاني وليه وينزل قوله نزلة قول الموكل: لو أن الموكل تزوج أختها، انفسخ العقد الموقوف، فكذا إذا زوجه الوكيل أختها ولكن لو فسخ الوكيل ذلك العقد بالقول لا يصح فسخه، وقدمنا الوجه فيه.
والرابع: أنه يملك الفسخ بالقول والفعل جميعاً نحو: أن يوكله أن يزوجه امرأة بغير عينها، فزوجه امرأة وخاطب عنها فضولي ملك الفسخ بالقول، وكذا لو زوجه أختها انفسخ العقد الأول؛ لأنه وكيل في النكاح الثاني فانتقل فعله إلى الموكل، فصار كأن الموكل تزوج بنفسه.
وذكر في «العيون»: رجل وكل رجلاً أن يزوجه امرأة نكاحاً فاسداً فزوجه امرأة نكاحاً جائزاً لم يجز، فرّق بين الوكيل بالنكاح الفاسد وبين الوكيل بالبيع الفاسد فإن الوكيل بالبيع الفاسد، لو باع بيعاً صحيحاً يجوز. والفرق: أن الوكيل بالبيع الفاسد وكيل بالبيع؛ لأن البيع الفاسد بيع لأنه يفيد الملك، فإذاً صار وكيلاً بالبيع؛ فإذا باع بيعاً جائزاً فقد خالف إلى خير، وأما الوكيل بالنكاح الفاسد ليس بوكيل بالنكاح، فإن النكاح الفاسد ليس بنكاح؛ لأنه لا يفيد الملك، ولهذا لا يجوز طلاقها ولا ظهارها، وإذا لم يصر وكيلاً لم ينفذ تصرفه على الموكل.(3/124)
-----
في «فتاوى الفضلي» رحمه الله: أكره رجل ابنه على أن يوكله بتزويج ابنته لهذا الابن، وقال الابن للأب من ارسوما يررنرنترارم مرخه خواهى كن فذهب الأب فزوج ابنة الابن، لا يجوز النكاح؛ لأنه لا يراد بمثل هذا الكلام التحقيق.
في آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل وكل رجلاً أن يزوجه امرأة بألف درهم فزوجه بالزيادة إن كانت الزيادة مجهولة ينظر إلى مهر مثلها إن كان ألفاً أو أقل جاز النكاح ويجب لها ذلك، وإن كان أكثر لا يجوز ما لم يُجز الزوج؛ لأن الزيادة إذا كانت مجهولة كان الواجب مهر المثل، فإذا كان مهر المثل أكثر من الألف صار كأنه زوجها بالزيادة على ما (194 ب1) سمى له الموكل فيقف على الإجازة، وإن زاد شيئاً معلوماً لا يجوز ما لم يُجِزْ الزوج.
في «الأصل»: إذا وكلت المرأة رجلاً أن يزوجها فزوجها على مهر صحيح أو فاسد أو وهبها لرجل بشهود، أو تصدق بها على رجل وقبل ذلك الرجل جاز النكاح، أما إذا زوجها على مهر صحيح فظاهر، وكذلك إذا زوجها على مهر فاسد؛ لأن فساد التسمية لا أثر لها في إفساد عقد النكاح، وكذلك إذا وهبها أو تصدق؛ لأنه أتى بمعني التزويج إلا أنه ترك التسمية، ولكن ترك التسمية في هذا الباب ليس بضائر، كما لو باشرت بنفسها وتركت التسمية.
وإذا وكلته أن يزوجها من رجل ويكتب لها كتاب المهر؛ فزوجها ولكن لم يكتب لها كتاب المهر جاز؛ لأنه مأمور بشيئين بالنكاح وكتابة كتاب المهر، وقد أتى بأحدهما وترك الآخر وترك بعض المأمور به لا يوجب خللاً في المأتي به.(3/125)
-----
وكلت رجلاً بأن يزوجها من فلان يوم الجمعة فزوجها يوم الخميس لا يجوز، وكذلك لو وكّلته أن يزوجها منه اليوم بعد الظهر فزوجها قبل الظهر؛ لأن التفويض تناول زماناً مخصوصاً ولا يثبت قبله. إذا وكلته أن يزوجها من فلان بأربعمائة درهم فزوجها الوكيل فأقامت معه سنة ثم زعم الزوج أن الوكيل زوجها منه بدينار وصدقه الوكيل في ذلك، فإن كان الزوج مقراً أن المرأة لم توكله بدينار فالمرأة بالخيار إن شاءت أجازت النكاح بدينار وليس لها غير ذلك، وإن شاءت ردت ولها عليه مهر مثلها بالغاً ما بلغ، ولا نفقة لها في العدة؛ لأنها لما ردت النكاح تبين أن الدخول حصل في نكاح موقوف فيوجب مهر المثل ولا يوجب النفقة في العدة. وإن كان الزوج منكراً، أو وقع الاختلاف بينهما فكذلك الجواب أيضاً؛ لأن القول قولها مع يمينها.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: ومن هذا الجنس وكل الرجل رجلاً بأن يزوجه امرأة بثمانٍ، فزوجه امرأة بثمانٍ وخمسين حتى صار مخالفاً صار فضولياً في العقد وتوقف العقد على إجازة الزوج فإن أجازه وجب ثمان وخمسون، وإن رده وقد كان دخل بها وهو لا يعلم فعليه الأقل من المسمى ومن مهر المثل كما في النكاح الفاسد.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: رجل قال لغيره: زوِّج ابنتي هذه رجلاً ذا علم وعقل ودين بمشورة فلان وفلان، فزوجها من رجل بهذه الصفة من غير مشورة فلان وفلان جاز؛ لأن الأمر بالمشورة لتحقيق هذه الصفة. وقد وجد في هذا الموضع.
امرأة وكلت رجلاً أن يتصرف في أمورها فزوجها من نفسه فقالت المرأة: أردت البيع والأشرية لا يجوز النكاح؛ لأنها لو وكلته بالنكاح أو التزويج فزوجها من نفسه لا يجوز فههنا أولى.(3/126)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل وكل رجلاً أن يخطب له ابنة فلان الوكيل إلى أب المرأة فقال: هب ابنتك مني فقال الأب: وهبت، ثم ادعى الوكيل أني أردت النكاح لموكلي إن كان القول من المخاطب وهو الوكيل على وجه الخطبة، ومن الأب على وجه الإجازة على وجه العقد لا ينعقد النكاح بينهما أصلاً، وإن كان على وجه العقد ينعقد النكاح للوكيل لا للموكل، وكذلك إذا قال الوكيل بعد ذلك قبلت لفلان؛ لأن الوكيل لما قال: هَبْ ابنتك مني وقال الأب: وهبت تم العقد بينهما من غير أن يحتاج فيه إلى قبول الوكيل فكان قبول الوكيل بعد ذلك فَصْلاً.
فأما إذا قال الوكيل: هب ابنتك من فلان فقال الأب: وهبت لا ينعقد النكاح ما لم يقل الوكيل قبلت، وإذا قال قبلت فهو على وجهين إما إن قال: قبلت لفلان أو قبلت مطلقاً؛ ففي الوجهين جميعاً ينعقد النكاح للموكل.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» من نص: كَلَّ لسانه فقال له رجل: أكون وكيلاً عنك في تزويج ابنتك فقال: أرى أرى فذهب الوكيل فزوجها لا يجوز؛ لأن هذا لفظ مجمل، يحتمل: أرى وكيلي، ويحتمل أرى وكيل كيمت وفيه نظر، ينبغي أن يجوز النكاح؛ لأن قوله: أرى جواب فينعقد بالسؤال، والسؤال عن الوكالة الحالية والله أعلم.(3/127)
الفصل التاسع في معرفة الأولياء
-----
يجب أن يعلم بأن الولي من كان من (....) وهو عاقل بالغ حتى لا يثبت الولاء للصبي والمجنون، ولا يثبت الولاء للكافر على المسلم، ولا للمسلم على الكافر، ولأن كل واحد منهما يحتاج إلى معرفة (...) فنقول: أقرب الأولياء إلى المرأة الابن وإنه على الخلاف على ما يأتي بيانه بعد هذا، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد أب الأب وإن علا، ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم الابن الأخ لأب وإن سفلوا، ثم العم لأب وأم، ثم العم لأب، ثم ابن العم لأب وأم، ثم ابن العم لأب وإن سفلوا، ثم عم الأب لأ وأم، ثم عم الأب لأب، بنوهم على هذا الترتيب، ثم رجل هو أبعد العصبات إلى المرأة، وهو ابن عم بعيد لأن مرجع العشيرة إلى أب واحد وإن تباعدوا، ثم مولى العتاقة ثم عصبة مولى العتاقة، ثم الآمر ثم ذو الأرحام الأقرب فالأقرب، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وهو استحسان، وقال محمد رحمه الله لا ولاية للأم وقومها ولا لأحد من ذوي الأرحام وهو القياس وقول أبي يوسف رحمه الله (....).
ذكر القدوري مع محمد رحمه الله وذكر الطحاوي رحمه الله قوله مع أبي حنيفة رحمه الله، ثم مولى الموالاة، ثم سلطان القاضي، ومن نصبه القاضي لا يرث من صاحبه.
ولا تثبت الولاية للعبد؛ لأنه لا يرث من أحد بعد هذا. إذا شرط تزويج الصغار والصغائر في عهده وإذا لم يشترط فلا ولاية له، ثم إنما يحتاج إلى الولي في الصغير والصغيرة والمجنون والمجنونة. وإذا زال الصغر والجنون تزول الولاية عندنا.(3/128)
-----
وسئل إسماعيل بن حمّاد عن امرأة جاءت إلى القاضي وقالت إني أريد أن أتزوج وليس لي ولي ولا يعرفني أحد، قال القاضي يقول لها: إن لم تكوني قُرشية ولا عربية ولا ذات زوج ولا في عدة أحد فقد أذنت لك. وإذا اجتمع للمجنونة أب وابن فالابن أولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: الأب أولى، وعلى هذا الاختلاف الجد مع الابن، هكذا ذكر القدوري، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن عند أبي يوسف رحمه الله الابن أولى من الجد (في) رواية.
وفي نوادر هشام عن محمد رحمه الله: إذا كان الرجل بخيلاً وله ابن وأب فالتزويج إلى الابن عند أبي حنيفة رحمه الله والتبع للأب، وفي قولهما إلى الأب.
وإذا اجتمع الجد والأخ لأب وأم أو لأب فعند أبي حنيفة رحمه الله الجد أولى، وغيرهما يستويان كما في الميراث. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرحه: الأصح عندي أن الجد أولى في الإنكاح عند الكل؛ لأن في الولاية معنى الشفقة معتبرة، وشفقة الجد فوق شفقة الأخ، وإذا اجتمع الابن والأخ لأب وأم أو لابن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: الابن أولى وقال (195أ1) محمد رحمه الله: الأخ أولى.(3/129)
-----
وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: الأخ أولى، وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: إن كان للصغير ولد الأب الفاسد ابن فاسق أو جد لم يزوجهما القاضي، وإن كان الأب فاسداً أو الجد ينبغي للقاضي أن يزوجهما من الكفء. وإن زوج الصغير أو الصغيرة أبعد الأولياء؛ فإن كان الأقرب حاضراً أو هو من أهل الولاية توقف نكاح الأبعد على إجازته، وإن لم يكن من أهل الولاية بأن كان صغيراً أو كان كبيراً مجنوناً جاز، وإن كان الأقرب غائباً غيبة منقطعة جاز نكاح الأبعد، وتكلموا في حق الغيبة المنقطعة، وأَكثَرَ المشايخُ الكلام فيه، وكذلك اختلفت الروايات فيه. والأصح: أنه إذا كان في موضع لو انتظر حضوره أو استطلاع رأيه فات الكفء الذي حضر فالغيبة منقطعة، وإن كان لا يفوت فالغيبة ليست بمنقطعة، وإلى هذا أشار في الكتاب فقال: أرأيت لو كان في السواد وأتوه أما كان يستطلع رأيه؟ أشار إلى أن المعتبر استطلاع الرأي، فمن المشايخ من لم يتجاوز عن هذا المقام، ومنهم من يتجاوز عنه، وقال: الكفؤ لا ينتظر أياماً كثيرة وينتظر قليلاً، فلا بد من حد فاصل بينهما، فقدرنا ذلك بثلاثة أيام ولياليهما؛ لأنه لا نهاية لما زاد على الثلاث، وهو قول أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله ومحمد بن مقاتل الرازي رحمه الله، فصار حدّ الغيبة المنقطعة على قولهما ثلاثة أيام ولياليهما، وهكذا كان يفتي القاضي الإمام ركن الدين علي السعدي رحمه الله، فإنه سئل عن صغيرة زوجتها أمها ولها ولي بنسف وهذا السؤال كان ببخارى قال من بخارى إلى نسف مسيرة شهر فهو غيبة منقطعة.(3/130)
-----
قال القاضي الإمام رحمه الله: هذا إذا زوج الأبعد، ولا يعرف أن الولي الأقرب أين هو يجوز، وإن ظهر أنه في ذلك المصر، وإذا زوجها الأقرب من حيث هو؛ اختلف المشايخ فيه: في «المنتقى» عن محمد رحمه الله: المرأة إذا لم يكن لها ولي حاضر استحسن أن تولي رجلاً يزوجها، وهكذا جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، والرجل الذي يعول الصغير أو الصغيرة فلا له ولاية في إنكاحهما، وكذلك الوصي لا ولاية له في إنكاح الصغير والصغيرة سواء أوصى إليه الأب بالنكاح أو لم يوص، إلا إذا كان الوصي وليهما، فحينئذ يملك الإنكاح بحكم الولاية لا بحكم الوصاية.l
في «مجموع النوازل»: سئل شيخ الإسلام عن رجل غاب غيبة منقطعة وله بنت صغيرة فزوجتها أختها لأب أو لأم حاضرة، قال: إن لم يكن لها عصبة أولى من الأخت جاز النكاح، قيل: لا تكون الأم أولى من الأخت قال: لا لأن الأخت؟ لأب وأم أو لأب من قوم الأب، والنساء اللواتي من قوم الأب لهن ولاية التزويج عند عدم العصبات بإجماع بين أصحابنا رحمهم الله وهي الأخت والعم وبنت الأخ وبنت العم، فأما الأم والنساء اللواتي من قبل الأم فلهن ولاية عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله لا ولاية لهن.(3/131)
-----
وقد ذكرنا قبل هذا: إن ولاية ذوي الأرحام على الخلاف، فما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النساء اللواتي من قوم الأم لهن ولاية التزويج عند عدم العصبات بإجماعٍ بين أصحابنا مستقيم في الأخت لا في العمة وبنت الأخ وبنت العم؛ لأنهن من جملة ذوي الأرحام. وإذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الأب والجد ثم بلغا فلهما الخيار عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، والمسألة معروفة، ولو زوجتها أمها فبلغت فلها الخيار عند أبي حنيفة رحمه الله (على) أصح الروايتين، والقاضي إذا زوج الصغير أو الصغيرة فله الخيار في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة وهو قول محمد إذا كان الوصي ولياً وزوج الصغير أو الصغيرة وبلغ فله الخيار لأن نفاذ تصرفه ليس يكون وصيّاً فصار بكونه وصياً وغير وصي سواء.
في «العيون»: معتوهة زوجها عمها أو أخوها ثم عقلت فلها الخيار، وإن زوجها أبوها أو جدها فلا خيار لها؛ لأن المعتوهة بمنزلة الصغيرة وفي الصغيرة الحكم كذلك.
وإن زوج المعتوهة ابنها فلا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله فيه، ويجوز أن لا يكون لها الخيار؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله إذا اجتمع الابن والأب في البالغة المعتوهة فولاية الإنكاح للابن، وإذا كان الابن مقدماً على الأب عنده ولا خيار لها في تزويج الأب جاز أن لا يكون لها الخيار في تزويج الابن من طريق الأولى، وكما ثبت خيار البلوغ للأنثى ثبت للذكر لأن سبب ثبوت هذا الخيار صدور العقد عن شفقة قاصرة، وهذا المعنى يعم الذكر والانثى ولا تكون الفرقة فيه إلا بقضاء القاضي.(3/132)
-----
ويبطل هذا الخيار في جانبها بالسكوت إذا كانت بكراً ولا يمتد إلى آخر المجلس حتى سكتت كما لو بلغت وهي بكر بطل خيارها، وإن كانت ثيباً في الأصل أو كانت بكراً، إلا أن الزوج قد بنى بها ثم بلغت عند الزوج لا يبطل خيارها بالسكوت، ولا بقيامها عن المجلس؛ لأن سكوت البنت لم يجعل رضاً شرعاً، وإنما يبطل خيارها إذا رضيت بالنكاح صريحاً أو يوجد منها فعل يستدل به على الرضا، وذلك نحو التمكين من الجماع أو طلب النفقة أو ما ذلك.
أما لو أكلت من طعامه خدمته كما كانت فهي على خيارها، وفي جانبه لا يبطل هذا الخيار بالسكوت، وهذا لأنا نعتبر الإجازة بالإنشاء، وسكوت البنت والغلام لا يجعل رضاً بالإنشاء بعد البلوغ، فكذا لا يجعل إقراره للعقد الذي سبق البلوغ، وإنما يبطل خياره بتصريح الرضا أو بما يدل عليه من قربان المرأة وتجهيزها أو تسليم الصداق إليها، وهذا الخيار يبطل بالجهل؛ لأنه جهل في غير موضعه. وتفسير ذلك: إذا علمت بالعقد ساعة ما بلغت لكن جهلت ثبوت الخيار، أما إذا لم تعلم بالعقد ساعة ما بلغت كان لها الخيار إذا علمت.
وإذا بلغت وسألت عن اسم الزوج أو عن المهر المسمى، أو سلمت على الشهود بطل خيار البلوغ، وإذا وقعت الفرقة بخيار البلوغ (......) الزوج دخل بها ولا مهر لها؛ وقعت الفرقة باختيار الزوج فيما تختاره المرأة، وإن كانت قد دُخل بها فلها المهر كاملاً وقعت الفرقة باختيار الزوج أو باختيار المرأة.(3/133)
-----
إبراهيم عن محمد رحمهما الله ينبغي للصغيرة أن تختار نفسها مع رؤية الدم. قلت: فإن رأت الدم في جوف الليل؟ قال: ينبغي أن تقول بلسانها: قد فسخت النكاح، وتُشْهِد إذا أصبحت وتقول: رأيت الدم الآن لأنها لا تُصدق أن تقول: رأيت بالليل وفسخت والنكاح. قال إبراهيم: قلت لمحمد رحمه الله ويسعها ذلك؟ قال: نعم، قال هشام: سألت محمد رحمه الله عن الصغيرة التي زوجها عمها إذا حاضت؟ فقال: الحمدلله قد اخترت فهي على خيارها، وإن بعثت خادمها حيث حاضت تدعوا (195ب1) الشهود لشهدهم، فلم تقدر على الشهود وهي في موضع منقطع عن الناس، فمكثت أياماً لا تقدر على الشهود قال: التزمها النكاح ولم يجعل هذا عذراً.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا اختارت نفسها وأشهدت على ذلك ولم تتقدم إلى القاضي شهرين فهي على خيارها ما لم تمكنه من نفسها.
إذا زوج القاضي صغيرة لا ولي لها ولم يكن السلطان أذن للقاضي في تزويج الصغائر ثم أذن له في ذلك فأجاز ذلك النكاح لم يجز، وإن كان قد أذن له قبل التزويج فزوج جاز، هكذا ذكر في «فتاوى الفضلي» رحمه الله، وعلى قياس ما قال محمد رحمه الله في الجامع: العبد إذا تزوج امرأة بغير إذن المولى، ثم إن المولى أذن له في النكاح فأجاز ذلك النكاح أنه يجوز استحساناً.
والفضولي إذا زوج رجلاً امرأة ثم إن الزوج وكله أن يزوجه امرأة فاجاز ذلك النكاح. لم يجز استحساناً، ينبغي في هذه المسألة أن تجوز إجازته ذلك النكاح، تزوجها فزوجها القاضي بغير علم الأخ قال: لا يصح النكاح إلا إذا كان الأخ غائباً أو (......)، فحينئذ يجوز للأب أو الجد أو غيرهما.(3/134)
-----
إذا زوج الصغيرة ممن لا يكافئها، أو زوج الصغيرة امرأة ليست بكفء له فقد وجدت هذه المسألة في فصل الكفاءة، وإذا زوج الأبُ أو الجدُ الصغيرَ امرأة بأكثر من مهر مثلها؛ أو زوج الصغيرة بأقل من مهر مثلها إن كانت الزيادة أو النقصان بحيث يتغابن الناس في مثله يجوز بالاتفاق، وكذلك الجواب في غير الأب والجد من سائر الأولياء، وأما إذا كانت الزيادة أو النقصان فاحشاً بحيث لا يتغابن الناس في مثله قال أبو حنيفة رحمه الله: صح النكاح وصح الحطّ والزيادة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمها الله: لا يجوز، ولم يتبين بإذنه لا يجوز النكاح أو التسمية، فروى الحسن بن زياد رحمه الله: أن النكاح جائز والتسمية لا تجوز، وذكر هشام عن محمد رحمه الله أن النكاح جائز. وفي «الجامع الصغير» عنهما: أن النكاح لا يجوز وأجمعوا على أن غير الأب والجد لو زاد أو نقص بحيث لا يتغابن الناس في مثله أنه لا يجوز النكاح، حتى لو أجاز بعد البلوغ لا تعمل إجازته، وأجمعوا على أن الأب أو الجد لو زوزج أمة ابنه الصغير بأقل من مهر المثل أنه لا يجوز.
إذا كان الرجل يجن ويفيق هل تثبت له ولاية الغير عليه في حال جنونه؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أدب القاضي في باب شهادة: الأعمى أنه إذا كان يجن يوماً أو يومين فهو بمنزلة المغمى عليه، ولا تثبت للغير عليه ولاية في حال جنونه، وتقبل شهادته في حال إفاقته، وأما الجنون المطبق يوجب الولاية، وقدره في بعض المواضع بأكثر من السنة في قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله قدره أولاً بشهر، ثم رجع وقدره بالسنة.
وفي «واقعات الناطفي»: قدر المطبق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بالشهر، فالحاصل أن الصلوات في حق المطبق تقدر بست صلوات وفي حق الصوم بالشهور، وفي الزكاة وما سواها على الخلاف، وإذا عرفت حد الجنون المطبق فغير المطبق ما دونه وهو المراد في قوله في الكتاب يجن ويفيق.(3/135)
-----
في آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل زوج ابنه الكبير امرأة فلم يجز الابن حتى جُنّ الابن جنوناً مطبقاً فأجاز الأب ذلك النكاح جاز؛ لأنه لو استأنف النكاح عليه في هذه الحالة يجوز فكذا إذا أجازه، وإذا أقرّ الولي على ولده الصغير بالنكاح؛ فإن قال: كنت زوجت ابنتي الصغيرة أمس من فلان أو زوجت لابني الصغير فلانة أمس فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصدق الأب على ذلك وإن صدقته المرأة أوالزوج ما لم يشهد بذلك شاهدان أو يصدقان بعد الإدراك.
وإنما تبين هذا فيما إذا أقر الولي عليهما بالنكاح ثم أدركا فكذا هذا، أو أقام المدعي عليهما شاهدين بعد البلوغ بإقرار الولي عليهما بالنكاح في حالة الصغر، وكذلك على هذا الوكيل بالنكاح من جانب الرجل أو المرأة إذا أقر على موكله بالنكاح، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في آخر باب النكاح بغير شهود: أنّ على رواية كتاب الطلاق الخلاف في إقرار الولي بالنكاح على الصغير، فأما إقرار الوكيل فجائز على الموكل عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان الأمر مقراً بأن امرأة تعقله قال رحمه الله والأصح أن الخلاف في الكل، فإن قيل: على من تقام البينة في مسألة الصغير والصغيرة، والبينة لا تقبل إلا على منكر يعتبر إنكاره؟ وليس هنا منكر يعتبر إنكاره، قلنا: القاضي ينصب خصماً للصغير والصغيرة حتى ينكر فتقام عليه البينة فيثبت النكاح في حق الصغير والصغيرة.(3/136)
-----
ومما يتصل بهذا الفصل مسألة النكاح بغير ولي. الحرة البالغة العاقلة لوزوجت نفسها من رجل هو كفء لها أو ليس بكفء لها نفذ النكاح في ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، لا أن الزوج إذا لم يكن كفئاً فللأولياء حق الاعتراض، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن الزوج إذا لم يكن كفؤاً لا ينفذ النكاح وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: يتوقف النكاح إلى أن يجيزه الولي أو الحاكم، على كل حال وهو قول محمد رحمه الله، وصح رجوع محمد إلى قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله آخراً، ذكره في كتاب «الحيل» وإذا قصرت في مهر مثلها فللأولياء حق المخاصمة مع الزوج حتى تبلغ تمام مهر مثلها أو يفرق القاضي بينهما.
وإذا فرّق القاضي بينهما. لا يجب لها إلا المسمى في العقد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ليس للأولياء حق المخاصمة وجاز النكاح بما سمت، وقول محمد رحمه الله لا يأتي في هذه المسألة، وإنما يأتي في مسألة أخرى: أن السلطان إذا أكره رجلاً أن يزوج وليته من كفء بأقل من مهر مثلها فرضيت المرأة بذلك ثم زال الإكراه فللولي حق الخصومة مع الزوج حتى تبلغ مهر مثلها أو يفرق القاضي بينهما، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا حق للولي في ذلك وكذلك في مثله. إذا كانت المرأة مكرهة ثم زال الإكراه؛ على قول أبي حنيفة رحمه الله حق الخصومة للمرأة مع الولي، وعلى قولهما: حق الخصومة للولي لا غير، وهو بناء على أن الحق إلى تمام مهر مثلها عند أبي حنيفة رحمه الله للمرأة وللأولياء حق الكفاءة، وعندهما: الحق للمرأة لا غيرها، يقولان: المهر خالصُ حقهم حتى استندت بالتصرف فيه استيفاء وإسقاطاً.(3/137)
-----
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الأولياء يتغيرون بالتحسين عن مهر المثل كما يتغيرون بالوضع عند من لا يكافئهم، فإن أمرت رجلاً حتى زوجها فهو على هذا الخلاف؛ لأن تزويج المأمور إياها بأمرها بمنزلة مباشرتها بنفسها. وإن طلقها الزوج ثلاثاً قبل إجازة الولي أو الحاكم؛ فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: لا يحل له أن يتزوجها قبل التزويج بزوج آخر، وكذلك على قول محمد رحمه الله على القول المرجوع إليه، وعلى قوله الأول يكره له التزويج قبل التزوج بزوج آخر، لكن لا يحرم؛ لأن الطلاق لم ينفذ عنده على الحقيقة.
في «المنتقى»: إبراهيم عن محمد رحمه الله: صغيرة زوجتها (196م) أمها من رجل ثم طلقها الزوج قبل أن يدخل بها له أن يتزوج أمها؛ لأن ذلك ليس بنكاح، وهذا لأن الأم ليست بولية عند محمد رحمه الله، وإن كانت كبيرة فزوجت نفسها أو زوجتها أمها برضاها ثم طلقها قبل أن يخلو بها فليس له أن يتزوج بأمها قال: لأن الناس اختلفوا في النكاح بغير ولي، وكُرِهَ هنا لاختلاف الناس فيه.
وعنه أيضاً: رجل زوج أمها برضاها قال أبوهما: قد أبطلت النكاح، لا يكون إبطالاً حتى يطلبه القاضي، وقال: للولي أن يجيز النكاح وليس له أن ينقضه، أشار إلى أن في النكاح بغير ولي يحتاج إلى إبطال القاضي ولا يكفيه إبطال الولي. وفي «فتاوى الفضلي»: سئل عن امرأة زوجت نفسها بحضرة امرأتين وحضرة وليها من رجل، قال: النكاح جائز على مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ويصير الولي شاهداً مع المرأتين أكثر في الباب أن الولي إذا اعتبر شاهداً كان هذا نكاحاً بغير ولي إلا أن النكاح بغير ولي جائز عنده. في فوائد المشايخ المتقدمين ببخارى: أن القاضي إذا زوج الصغيرة من نفسه فهو نكاح بغير ولي؛ لأنه رعية في حق نفسه، وإنما الحق للذي هو فوقه وهو الوالي، والوالي في حق نفسه أيضاً رعية: وكذلك الخليفة في حق نفسه رعية والله أعلم.(3/138)
-----
الفصل العاشر في نكاح الصغار والصغائر وتسليمهنإلى الأزواج وتصرف الأولياء في المهر
قال محمد رحمه الله في «الأصل» بلغنا أن رسول الله عليه السلام «بنى بعائشة وهي ابنت تسع سنين» فيه دليل أن للزوج أن يدخل بامرأة صغيرة إذا بلغت تسع سنين، وإن لم تبلغ فإن بلوغها لم ينقل في الحديث، وبه أخذ المشايخ، ومن المشايخ من قال: ليس للزوج أن يدخل بها ما لم تبلغ، وأكثر المشايخ على أنه لا عبرة للسن في هذا الباب، وإنما العبرة للطاقة إن كانت صحة سمينة تطيق الرجال ولا يخاف عليها المرض من ذلك؛ كان للزوج أن يدخل بها وإن لم تبلغ تسع سنين. فإن كانت نحيفة مهزولة لا تطيق الجماع ويُخاف عليها المرض لا يحل للزوج أن يدخل بها، وإن كبر سنها وهو الصحيح.
وكذلك المشايخ اختلفوا على نحو هذا في ختان الصغيرة، بعضهم اعتبروا البلوغ وبعضهم اعتبروا تسع سنين وبعضهم عشر سنين، وبعضهم يعتبر أن الطاقة إن كان قوياً بحيث يطيق ألم الختان يختتن قبل سنة أو أكثر. وإذا نقد الزوج المهر فطلب من القاضي أن يأمر أبا المرأة بتسليم المرأة فقال أب المرأة: إنها صغيرة لا تصلح للرجال، ولا تطيق الجماع. وقال الزوج: لا بل هي تصلح للجماع وتطيق الرجال، قال ننظر؛ إن كانت ممن يخرج أخرجها القاضي وأحضرها ونظر إليها فإن صلحت للرجال أمر برفعها للزوج، وإن لم تصلح لم يأمر، وإن كانت ممن لا يخرج أمر من يثق بهن من النساء أن ينظرن إليها فإن قلن: إنها تطيق الرجال وتحتمل الجماع أمر الأب برفعها إلى الزوج، وإن قلن لا تحتمل الجماع لا يؤمر بتسليمها إلى الزوج.(3/139)
-----
في «أدب القاضي» للخصاف في باب المطالبة بالمهر: وإن ادعى الزوج أنها بلغت مبلغ النساء وقال الأب: هي صغيرة لم تبلغ ولا تحتمل الرجال وهي ممن يشك في بلوغها، إذا قلن إنها تحتمل الرجال دفعت إلى الزوج في هذا الباب، وإن للزوج بينة تشهد على سنها قد عرفت مولدها. فإن كانت قد أتى عليها خمس عشر سنة دفعت إلى الزوج؛ لأن الظاهر أن المرأة إذا بلغت هذا المبلغ تصلح للرجال فتدفع إليه إلاّ إذا تبين بخلافه، ألا ترى أن البالغة إذا كانت لا تحتمل لا يؤمر بدفعها إلى الزوج كذا هنا.
صغيرة لا يُستمتع بها زفها أبوها فللأب أن يطالب الزوج بمهرها بخلاف النفقة في هذا الباب، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أيضاً. والفرق: وهو أن النفقة بإزاء الاحتباس في حق الزوج وهي غير محبوسة لحق الزوج؛ لأن الزوج لا يستمتع بها بخلاف المهر؛ لأن المهر بإزاء الملك والملك ثابت، وفي «البقالي» قيل: ليس للأب أن يطالب الزوج بمهر ابنته الصغيرة إلى أن تصير بحال ينتفع بها (......) الزوج مهر ابنته البكر، وإن كانت كبيرة استحساناً إلا إذا نهته عن القبض فحينئذ ليس له علاقة بمطالبته، فليس لأحد من الأولياء ذلك إلا بوكالة منها، وإن كانت بنتاً كانت كبيرة فليس للأب المطالبة بالمهر.(3/140)
-----
وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله وبشر عن أبي يوسف رحمهم الله: إذا أقر الأب بقبض المهر والبنت بكر صُدّق وعنه أيضاً إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل تزوج امرأة بكراً ودفع المهر إلى الأب برىء وليس للأب أن يأخذ الزوج بالمهر إلا بوكالة منها، ولو قبض الهبة و هدية الزوج لم يكن قبضه قبضاً لها، وللزوج أن يأخذ ذلك من الأب معنى المسألة: إذا وهب الزوج لامرأته قبل أن يبني بها هبة وأهدى إليها بهدية فقبض الأب ذلك والمرأة بكر فقبض الأب لا يكون قبضاً لها حتى كان للزوج أن يأخذ ذلك من الأب بخلاف قبض الأب المهر، فإنه جعل قبضاً لها إذا كانت بكراً حتى برىء الزوج عنه.(3/141)
-----
وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: إذا زوج الرجل ابنته وهي بكر وكان الزوج مقراً بالنكاح والمهر، فللأب أن يخاصم بالنفقة والمهر وإن كان جاحداً للنكاح أو المهر فليس له أن يخاصم إلا بالوكالة، وفي «فتاوى الفضلي»: وللرجل أن يخاصم في مهر ابنته البكر البالغة بغير وكالة منها لما أن له أن يقبض المهر، ثم في حق البكر البالغة إنما تملك قبض مهرها المسمى حتى لو كان المسمى بيضاً لا تملك قبض السود وكذا على العكس، هكذا ذكر في «أدب القاضي» للخصاف في باب المطالبة بالمهر، وهذا تنصيص على أنه لا يملك قبض الصاع بدلاً عن الدراهم، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله الأب إذا قبض ضيعة بمهر ابنته البكر إن كان ذلك في بلد لم يَجْرِ التعارف بدفع الضيعة بالمهر لم يجز لأن هذا إسراف وليس بقبض للمهر، وليس للأب أن يشتري على ابنته البالغة. وإن كان في بلدة جرى التعارف بذلك جاز إذا كانت بكراً؛ لأن هذا قبض للمهر. وللأب قبض مهر ابنته البكر وإن كانت بالغة، وإن كانت صغيرة، وأخذ الأب ضياعاً بمهرها وإن كان يساوي المهر فهو جائز سواء كان في بلدة جرى التعارف بدفع الضيعة بالمهر، أو كان في بلدة لم يَجرِ التعارف بدفع الضيعة بالمهر لأن هذا إما أن يعتبر قبضاً للمهر أو شراء، وأيَّا ما كان فللأب ملك ذلك على ابنته الصغيرة. وإن كانت الضيعة لا تساوي المهر إن كان في بلدة جرى التعارف بدفع الضيعة بالمهر بأضعاف قيمتها جاز؛ لأن هذا قبض للمهر، وإن كان في بلد لم يَجْرِ بذلك التعارف لا يجوز؛ لأن هذا شراء وليس للأب ولاية الشراء على ابنته الصغيرة بأضعاف القيمة. وفي «البقالي»: وللقاضي أن يقبض (196ب1) مهر البكر البالغة كالأب والجد والوصي، رواه هشام عن محمد رحمه الله وأطلق الخصاف أنه لا يقبض إلا الأب يعني من غير وكالة منها. وفيه أيضاً: وأما الشراء بالمهر فالأشبه أنه لا يجوز، قال: وقد قيل أنه يعتبر فيه العادة، وفيه أيضاً: ولا يجوز إقرار(3/142)
الأب(3/143)
-----
بعد بلوغها بقبض المهر في صغرها، ولا يضمن للزوج؛ لأن الزوج قد صدقه إلا أن يقول وقت القبض أقبضه على أن أبرئك من ابنتي.
معنى المسألة: إذا زوج الرجل ابنته وهي صغيرة ثم أدركت وطالب زوجها بالمهر فقال الزوج: دفعت إلى أَبيْك وأنت صغيرة وصدقه الأب في ذلك؛ فإن إقرار الأب اليوم لا يجوز على ابنته، ولها أن ترجع بالمهر على الزوج، ولا يرجع به الزوج على الأب من قبل أنه مقر أنه دفعه إليه، ودفعه جائز.
وإن كان الأب قال: أخذت منك المهر على أن أبرئك من ابنتي وباقي المسألة بحالها كان للزوج أن يرجع على الأب؛ لأنه قبضه على أن يبرئه من صاحبه.
قال في «المنتقى»: والحكم (فيهما كالحكم) فيما بين الوكيل والمديون، وإن الدين في مثل هذا نظير الحكم فيما بين المرأة والأب. (والأب) إذا قبض مهر ابنته البالغة من الزوج ثم ادعى عليه الرد؛ فإن كانت البنت بكراً لم يصدق إلا ببينة لأن له حق القبض وليس له حق الرد فقد ادعى ما ليس حقه فلا يصدق، وإن كانت ثيباً يصدق؛ لأنه ليس له حق قبض مهر الثيب البالغة إلا بوكالة منها ولم توجد الوكالة فلا يقع قبضه للبنت وإنما يقع قبضه للزوج وكان المهر أمانة للزوج في يده، فإذا قال: رددت على الزوج فقد ادعى رد الأمانة على صاحبها فيصدق.
الأب إذا زوج ابنته من إنسان فطلبوا منه أن يقر بقبض بعض الصداق أو يهب شيئاً من الصداق فالإقرار بالقبض باطل؛ لأن أهل المجلس يعرفون أنه كذب حقيقة، وأما الهبة فإن كانت الابنة كبيرة فالأب يقول: أهب بإذن البنت كذا وكذا ثم يضمن للزوج عنها ويقول: إن أنكرت الإذن بالهبة ورجعت عليك فأنا ضامن لك عنها، ويكون هذا الضمان صحيحاً لكونه مضافاً إلى سبب الوجوب، وإن كانت البنت صغيرة فالحيلة أن يباشرا العقد على ما وراء... الملتمس هيئته، فلا يحتاجان إلى الهبة، أو يحيل الزوج بعض الصداق على أن الصغيرة فيفرغ ذمته إن كان أب الصغيرة أملى من الزوج.(3/144)
-----
إذا جعل الأب بعض المهر لابنته البالغة معجلاً أو البعض مؤجلاً والبعض هبة كما هو المعهود ثم قال الأب: إن لم تجز البنت الهبة فهي عليّ لا يلزم الأب بهذا شيء.
في شهادات «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، ذكر الخصاف في «أدب القاضي»: لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال إني زوجت هذا ابنتي على صداق كذا وكذا بأمرها وهي بكر....... فإن أمر الزوج بالتزويج والمهر وقال: لم أدخل بها أَمَرَهُ بدفع المهر إلى الأب، ولا يشترط إحضار المرأة للاستيفاء عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وقال زفر رحمه الله: يشترط إحضارها وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، هو يقول إنّ النكاح معاوضة فكان بمنزلة البيع، ثم البائع إنما يملك مطالبة المشتري بالثمن إذا أحضر المبيع مع نفسه ليسلمه عقيب قبض الثمن فكذا في النكاح، وإنا نقول بأن العادة جرت فيما بين الناس بتسليم الصداق أولاً وبتجهيز الولي المرأة بذلك وتسليمها إلى الزوج مع جهازها، فصار الزوج راضياً بتأخير تسليم المرأة فلا معنى لاشتراط إحضار المرأة ولا كذلك البيع.
وإذا قال الزوج للقاضي: من الأب فليقبض المهر مني ويُسلِّم الجارية إليّ، قال له القاضي: اقبض المهر وادفع الجارية إليه، فإن قال الأب: ليس عليّ دفعها فهو يطلبها حيث هي فالقاضي يقول: إن المهر الذي تريد أخذه ثمن بضعها، وعليها إذا كانت كبيرة وقبضت المهر أن تُسلّم نفسها إلى الزوج، فإذا قبضت أنت المهر لها كان عليك تسليمها إليه إن كانت في منزلك فإن قال الأب: ليست ابنتي في منزلي ولا أقدر عليها فأنا أقبض المهر، وهو يطلبها حيث هي، ليس له ذلك. وإن قال: هي في منزلي فأنا أقتصر المهر وأجهزها به أسلمها إليه فالقاضي يأمر الزوج بدفع المهر إليه.(3/145)
-----
فإن قال الزوج: هو يدافعني عنها ويريد أن يأخذ المهر ولا يسلمها إليّ فمُرْهُ فليوثق لي من المهر بكفيل، فالقاضي يأمر الأب أن يوثق من المهر للزوج بكفيل فيعطيه بالمهر، فيأمر الزوج بدفع المهر حتى إذا سلّم له البنت إليه برىء الكفيل، وإن عجز عن ذلك توصل الزوج إلى حقه بالكفيل فيعتدل النظر في الجانبين، وهكذا كان يقول أبو يوسف رحمه الله أولاً، ثم رجع وقال: القاضي يأمر إلا أن تجعل المرأة مهيأة للتسليم ويحضرها ويأمر الزوج بدفع المهر، وللأب بتسليم البنت فيكون دفع الزوج المهر عند تسليمها نفسها إلى الزوج؛ لأن النظر لا يحصل للزوج بالكفالة لأنه لا يصل إلى المرأة بإمهاله بالكفالة، وإنما النظر في تسليم المهر بحضرتها، وقال الخصاف: وهذا أحسن القولين.
وإن كان الأب إنما قدم الزوج إلى قاضي الكوفة والخصومة بينهما على ما وصفنا (قال) الأب: ابنتي بالبصرة وثمة كان عقدة النكاح؛ أو قال: كانت ابنتي بالكوفة إلا أنها انتقلت إلى البصرة فأنا أسلمها إليه بالبصرة فإن الأب لا يُجبر على حملها إلى الكوفة، ولكن يقال للزوج: ادفع المهر إلى الأب واخرج إلى البصرة مع الأب وخذ المرأة هناك من الأب، فقد ذكرنا قبل هذا أن إحضار المرأة ليس بشرط لتسليم المهر. فإن اتهم الزوج الأب بما قُلنا من قبل، فالقاضي يأمر الزوج أن يأخذ من الأب كفيلاً بالمهر على أنه إن سلم الأب البنت بالبصرة يرى الكفيل، فإذا أتى البصرة وسلم الأب البنت إليه يرى الكفيل والأب، وإن عجز عن تسليم البنت إليه يخاصم الكفيل ويستوفي حقه منه فيعتدل النظر من الجانبين.(3/146)
-----
وإن قال الزوج: لا يمكنني الخروج إلى البصرة ولكن أوجه وكيلاً يحولها إلى منزلي بالبصرة فذلك له، فإن قال الزوج يحملها وكيلي إليّ فإن كان الوكيل محرماً فله ذلك بناء على أن المرأة إذا استوفت صداقها كان للزوج أن ينقلها حيث أحب، وستأتي المسألة بعد هذا مع قول الفقيه أبي القاسم الصفار رحمه الله إن شاء الله، وإن لم يكن الوكيل محرماً لم يؤمن بالخروج معه وإن رضي الزوج بذلك، لأنه رضي بما لا يرضى به الشرع وهو خروج المرأة إلى السفر من غير محرم هذا هو الكلام في الأب.
جئنا إلى الوكيل بقبض المهر من جهة المرأة فنقول: إذا وكلت المرأة رجلاً بقبض مهرها من الزوج كان الأمر في اشتراط حضرة المرأة وأخذ الكفيل بالمهر من الوكيل عند التهمة، ورجوع أبي يوسف رحمه الله كالكلام في الأب، وهذه المسألة على هذا التفصيل استفيدت من جهة الخصاف رحمه الله. وإن كان الزوج قد دخل بامرأته فليس للأب أن يقبض مهرها إلا بوكالة منها (فيما) ذكرنا.
فإن طالب الأب الزوج بالمهر وقال: ابنتي بكر في منزلي، وقال الزوج (197أ1) دخلت بها فالقول في ذلك قول الأب لأنه متمسك بالأصل فينكر العارض، وإن قال الزوج للقاضي حلف الأب أنه لم يسلّم أني قد دخلتُ بها؛ ذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذه المسألة في «الواقعات» في الباب المعلّم بعلامة النون وقال: لم يذكر جواباً عن هذه المسألة في «الكتاب» ويحتمل أن يحلف؛ لأن الأب لو أقر بذلك صح إقراره في حق نفسه حتى لم يكن له أن يطالبه بالمهر، وكانت المطالبة إلى البنت فكان التحليف معتبراً.(3/147)
-----
ونص الخصاف في «أدب القاضي» في باب المطالبة بالمهر: لا يحلف إنما لا يحلف لوجهين: أحدهما: ما أشار إليه الخصاف فقال: لأنه لو أقرّ بالدخول لم يَجْرِ ذلك عليها؛ لأنه إقرار على الغير إلا أنه يبطل حقه في القبض ما لم يوجد التوكيل منها وكان بمنزلة الوكيل بقبض الدين. إذا ادعى المديون أن الموكل أبرأه أو استوفى الدين منه فإنه لا يحلف الوكيل، وإن كان الإبراء أو الاستيفاء من الموكل لو ثبت يبطل حق الوكيل.
والثاني: أن الزوج لا يدعي على الأب شيئاً، وإنما يدعي عليها معنى وهو الدخول، حتى لو ثبت ذلك يسقط حق الأب في قبض الصداق، فهذا بمنزلة ما لو اشترى جارية ثم ادعى أنها ذات زوج وطلب يمين البائع لا يمين (عليه) لأنه لا يدعي على البائع شيئاً، وإنما يدعي علبها معنى وهو النكاح، حتى إذا ثبت النكاح ثبت للمشتري حق الرد بالعيب، كذا هنا. فإن قال الزوج للقاضي: مُر الأب بإحضارها وسلها عما أقول من دخولي بها، فإن كانت المرأة ممن تخرج في حوائجها أَمَرَهُ بإحضارها ليسألها عن دعوى الزوج؛ لأن الزوج لو ادعى عليها شيئاً آخر وهي ممن يخرج في حوائجها فالقاضي يحضرها مجلسه كذا هنا.
وإن كانت ممن لا يخرج في جوانحها فالقاضي يبعث إليها أميناً من أمنائه، ويدخل عليها الأب رجلين عدلين ممن يعرفها مع الأمين والزوج، ويسألها الأمين عن دعوى الزوج، فإن أقرت بذلك شهد الشاهدان بذلك عند القاضي وأجبرها القاضي على المصير إلى منزل زوجها ويطالبه بمهرها.
ولو أنكرت الدخول فالقول قولها، فإن قال الزوج لأمين القاضي حلّفْها أني لم أدخل بها حلفها الأمين، إن كان القاضي أمر الأمين باستحلافها إن أنكرت.(3/148)
-----
وإن قال الزوج: دخلت بها برضاها وقالت هي: لم أرض بذلك ولكنه استكرهني على نفسي؛ فالقول قولها مع يمينها على ذلك أنه لم يدخل بها برضاها؛ لأن حق حبس النفس كان ثابتاً لها فالزوج يدعي سقوط ذلك أقرّ بالدخول بها برضاها وهي تنكر فكان القول قولها.
وهو نظير ما إذا قبض المشتري المبيع قبل نقد الثمن وادعى القبض برضا البائع وأنكر البائع ذلك كان القول قول البائع، وطريقة ما قلنا.
ولو قالت المرأة: قد خلا بي إلا أنه لم يقع علي ولم أمكنه (من) ذلك حتى أقبض مهري، فالقول قولها لما قلنا، وليس للزوج أن يحتجّ على القاضي ويقول: إن الخلوة أقيمت مقام الجماع، ولو كنت جامعتها أليس يلزمها الذهاب إلى منزلي ثم تطالبني بالمهر فهنا كذلك؛ لأن من حجة القاضي أن يقول: الخلوة ليست بجماع حقيقة وإنما أقيمت مقامه في حق بعض الأحكام دون البعض، ألا ترى أنه (إن) طلقها بغير الخلوة لا يملك مراجعتها في هذه العدة، وإن كان أهل الصغيرة دفعوها إلى الزوج أو كان أبوها قد دفعها إلى زوجها ثم رجعت إلى منزل أبيها فطلبها الزوج وقال: قد دخلت بها وقال أهلها: نعم قد دخلت بها إلا أنك قد عقرتها لما أنها لا تحتمل الرجال، وقال الزوج: إنها تحتمل الرجال إلا أنها نشزت عليّ فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: إنها تصلح للرجال دفعت إلى الزوج.
وإذا كان أبوها دفعها إليه وهي ممن لا تطيق الرجال ولا تحتمل الوطء فصارت في منزل زوجها، ثم إنها رجعت إلى منزل أبيها، وقال أبوها: لا أدفعها إلى أن تصير إلى الحالة التي تحتمل الرجال، وقال الزوج: قد كنتَ دفعتَها إليّ فصارت في منزلي فليس لك منعها عني بعد ذلك فللأب ذلك، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله، وأشار إلى المعنى وقال: لأن الزوج لا ينتفع بها في هذه الحالة.(3/149)
-----
سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن تزوج صبية ومضى على ذلك مدة هل لأب الصبية أن يطالب الزوج بدفع المهر والزفاف؟ قال: أما دفع المهر فنعم، وأما الزفاف فكذلك إن كانت تصلح للرجال، وإن كانت لا تصلح فلا. وإذا زوج ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن الزوج صح، بخلاف ما لو باع شيئاً من مالها وكفل الثمن عن المشتري حيث لا يصح، والفرق: أن المطالبة بالثمن مملوكة للأب؛ لأن حقوق العقد في باب البيع والشراء ترجع إلى العاقد عقدها، ولهذا لو بلغت الصغيرة كان حق القبض للأب؛ لأنها لو نهت الأب عن القبض لا يصح نهيها ولو صحت الكفالة لاستوجب الأب المطالبة على نفسه بنفسه وهذا لا يجوز.
أما المطالبة بالمهر غير مملوك الأب؛ لأن حقوق العقد في باب النكاح ترجع إلى من وقع له العقد لا إلى العاقد، ولهذا لو بلغت كانت المطالبة بالمهر لها (لأب ونهت) عن القبض يصح نهيها، وإذا لم تكن المطالبة مملوكة الأب صار الأب في هذه وأجنبي آخر سواء، وإذا صح الضمان عندما بلغت البنت كان لها الخيار إن شاءت طالبت الزوج بالمهر بحكم النكاح، وإن شاءت طالبت الأب بحكم الضمان، وإذا أدّى الأب لا يرجع على الزوج بشيء إن ضمن بغير أمر الزوج، وإن ضمن بأمره رجع عليه بما أدى.(3/150)
-----
في شرح «الكافي» وفي «أدب القاضي» للخصاف في باب في نكاح الصغيرة: وإن كان هذا الضمان من الأب في مرض موته كان باطلاً، وإذا زوج ابنه الصغير امرأة وضمن عنه المهر، وكان ذلك في صحته جاز، ومعناه: إذا قبلت المرأة الضمان، وإذا أدى الأب ذلك إن كان الأداء في حالة الصحة لا يرجع على الابن بما أدى استحساناً إلا إذا كان شرط الرجوع في أصل الضمان، وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا أشهد عند الأداء أنه يرجع به في مال أبيه فله أن يرجع، وإن لم يشهد على الرجوع حين ضمن. وذكر إبراهيم هذه المسألة في «نوادره» ووضَعَها فيما إذا كبر الابن وأدى الأب وأشهد عند الأداء، وذكر الجواب على نحو ما ذكرنا.
وفي «المنتقى» في موضع آخر: إذا لم يشهد عند العقد لا يرجع وإنما لا يرجع بدون الشرط بحكم العرف والعادة، فإن العادة أن الآباء يتحملون المهر عن الأبناء الصغار، وهو نظير ما لو أنفق على ابنه الصغير في طعامه وكسوته من مال نفسه؛ فإنه لا يرجع في مال الصغير بذلك إلا إذا اشترط الرجوع وقت الانفاق، وإنما لا يرجع بحكم العرف والعادة. هذا بخلاف ما لو اشترى لابنه الصغير شيئاً آخر سوى الطعام والكسوة ونقد الثمن من مال نفسه، فإنه يرجع على الصغير بذلك وإن لم يشترط الرجوع؛ لأنه لا عُرف؛ لأن الآباء يتحملون الثمن عن الأبناء ولو كان (197ب1) مكان الأب وصيٌ أو غيره من الأولياء وضمن المهر عن الصغير وأدى من ماله رجع في مال الصغير وإن لم يشترط الرجوع؛ لأنه لا عرف في الأوصياء والأباعد من الأولياء أنهم يتحملون المهور عن الصغار، هذا إذا كان الضمان والأداء من الأب في حالة الصحة.(3/151)
-----
وإن كان الضمان في حالة الصحة والأداء في حالة المرض؛ ذكر الخصاف في «أدب القاضي»: أنه لا يكون متبرعاً عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما، ويحتسب ذلك في ميراث الابن، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون متبرعاً حتى لا يرجع هو ولا ورثته بعد موته على الابن بشيء. هذا إذا أدى الأب ذلك في صحة أو مرض.
وأما إذا لم يؤد الأب ذلك حتى مات الأب فهذه صلة لم تتم للابن، ثم المرأة بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت أخذت من تركة الأب، فإن أخذت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله في شرح «الكافي» باب نكاح الصغير والصغيرة، وذكر الخصاف أن على قول أبي يوسف رحمه الله: سائر الورثة لا يرجعون بذلك في نصيب الابن ولا عليه إن كان قد قبض نصيبه. ووجه ذلك: أن هذا الضمان انعقد غير موجب للرجوع، ألا ترى أن الأب لو أدى ذلك في حياته وصحته لا يرجع بذلك في مال الابن فلا ينقلب موجباً للرجوع بعد ذلك، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: إذا جعلت الأداء في حالة الصحة، وهذا كله إذا حصل الضمان في حالة الصحة.
أما إذا حصل الضمان في مرض الموت؛ فباطل لأنه قصد بهذا الضمان إيصال النفع، والمريض محجور عن ذلك فلا يصح. وكذلك كل دين ضمن عن وارثه أو لوارثه في مرض موته فهو باطل لما قلنا، وفي «البقالي»: إذا قال الأب: اشهدوا أني زوجت ابنتي فلانة بألف من مالي لم تلزمه إلا أن يؤدي وتكون صلة قال: كأنه عن أبي يوسف رحمه الله.
امرأة زوجت ابنتها وهي صغيرة وقبضت صداقها ثم أدركت فإن كانت الأم وصيتها فللبنت أن تطالب أمها بالصداق دون الزوج، وإن لم تكن وصيتها فلها أن تطالب زوجها، والزوج يرجع على الأم؛ لأنها قبضت وليس لها حق القبض، وكذا هذا الجواب في سائر الأولياء سوى الأب والجد.(3/152)
-----
ذكر رحمه الله في الباب الأول من نكاح «واقعاته»: غير الأب والجد إذا زوج الصغير فالاحتياط أن يعقد مرتين؛ مرة بمهر مسمى ومرة بغير تسمية لأمرين: أحدهما أنه لو كان في التسمية نقصان لا يصح النكاح الأول ويصح النكاح الثاني بمهر المثل.
والثاني: أن الزوج لو كان حلف بطلاق امرأته يتزوجها بلفظ أي، أو بلفظ كل امرأة يتزوجها فينعقد النكاح الثاني ويحل وطؤها، وإن كان الأب والجد زوجها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمعنيين جميعاً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: للمعنى الثاني في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
وأما إذا لم يؤد الأب ذلك حتى مات الأب فهذه صلة لم تتم للابن، ثم المرأة بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت أخذت من تركة الأب، فإن أخذت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله في شرح «الكافي» باب نكاح الصغير والصغيرة، وذكر الخصاف أن على قول أبي يوسف رحمه الله: سائر الورثة لا يرجعون بذلك في نصيب الابن ولا عليه إن كان قد قبض نصيبه. ووجه ذلك: أن هذا الضمان انعقد غير موجب للرجوع، ألا ترى أن الأب لو أدى ذلك في حياته وصحته لا يرجع بذلك في مال الابن فلا ينقلب موجباً للرجوع بعد ذلك، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: إذا جعلت الأداء في حالة الصحة، وهذا كله إذا حصل الضمان في حالة الصحة.
أما إذا حصل الضمان في مرض الموت؛ فباطل لأنه قصد بهذا الضمان إيصال النفع، والمريض محجور عن ذلك فلا يصح. وكذلك كل دين ضمن عن وارثه أو لوارثه في مرض موته فهو باطل لما قلنا، وفي «البقالي»: إذا قال الأب: اشهدوا أني زوجت ابنتي فلانة بألف من مالي لم تلزمه إلا أن يؤدي وتكون صلة قال: كأنه عن أبي يوسف رحمه الله.(3/153)
-----
امرأة زوجت ابنتها وهي صغيرة وقبضت صداقها ثم أدركت فإن كانت الأم وصيتها فللبنت أن تطالب أمها بالصداق دون الزوج، وإن لم تكن وصيتها فلها أن تطالب زوجها، والزوج يرجع على الأم؛ لأنها قبضت وليس لها حق القبض، وكذا هذا الجواب في سائر الأولياء سوى الأب والجد.
ذكر رحمه الله في الباب الأول من نكاح «واقعاته»: غير الأب والجد إذا زوج الصغير فالاحتياط أن يعقد مرتين؛ مرة بمهر مسمى ومرة بغير تسمية لأمرين: أحدهما أنه لو كان في التسمية نقصان لا يصح النكاح الأول ويصح النكاح الثاني بمهر المثل.
والثاني: أن الزوج لو كان حلف بطلاق امرأته يتزوجها بلفظ أي، أو بلفظ كل امرأة يتزوجها فينعقد النكاح الثاني ويحل وطؤها، وإن كان الأب والجد زوجها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمعنيين جميعاً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: للمعنى الثاني في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.
الفصل الحادي عشر في نكاح الأبكار
اعلم بأن السكوت من البكر البالغة جعل رضاً بالنكاح سواء استأمرها الولي قبل النكاح أو زوجها الولي قبل الاستئمار، فبلغها الخبر فسكتت. والأصل فيه قوله عليه السلام: «البكر تستأمر في نفسها فسكوتها رضاها» والحكمة في ذلك صيانة مصلحة النكاح عن الفوات في حق الأبكار وهذا لأن النكاح لا ينفد على البكر البالغة من غير رضاها، إنما يعرف من جهتها وهي تستحيي عن الرضا صريحاً لما فيه من إظهار الرغبة في الحال لو لم يكتف بسكوتها لجواز النكاح فإن مصالح النكاح (تتعطل). وإنما جعل السكوت من البكر البالغة إذناً إذا كان المستأمر وليّاً، أو كان ولياً إلا أن هناك وليٌّ وآخر وهو أقرب إلى المرأة من هذا الولي المستأمر، فالسكوت لا يكون إذناً في حق الولي المستأمر إلا إذا كان الولي المستأمر رسول الولي.(3/154)
-----
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن المستأمر أو المخبر عن النكاح إذا لم يكن وليّاً ولم يكن رسول الولي فسكتت كان سكوتها رضا في ظاهر الرواية، وذكر الكرخي رحمه الله أنه لا يكون رضاً.
وفي «البقالي»: وأكثر المتأخرون على أن الرسول كالولي وقيل عن أبي حنيفة رحمه الله خلافه في «النوادر» وهو ظاهر قول الكرخي، وقيل في الرسول بعد النكاح إنه كالولي، و(في) «مجموع النوازل»: أن المخبر بالنكاح إذا كان أجنبياً فسكتت هل يكون رضاً؟ فيه اختلاف المشايخ؛ والمختار أنه رضا، وفي «فتاوى شمس الأئمة السرخسي» رحمه الله وشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنه لا يكون رضاً، وهذا إذا سمى الزوج عندها تسمية تقع لها المعرفة به فكان الزوج كفؤاً والمهر وأما إذا أبهم الزوج لم يكن السكوت رضاً، وكذلك إذا سمى الزوج وسمى المهر والزوج ليس بكفء والمهر ليس بوافر إن كان الزوج كفئاً والمهر ليس بوافر أو كان المهر وافراً إلا أن الزوج ليس بكفء فالسكوت لا يكون رضاً في حق جميع الأولياء إلا في حق الأب والجد عند أبي حنيفة رحمة الله عليه؛ لأنهما وليّان عنده، أجنبيان عندهما، والمسألة معروفة، وإن كان المخبر أجنبياً ليس بولي والرسول عنه فإن كان المخبر رجلين عدلين أو غير عدلين أو كان رجلاً واحداً عدلاً لا يثبت النكاح، حتى لو سكتت ولم ترد يلزمها النكاح.(3/155)
-----
وإن كان المخبر رجلاً واحداً غير عدل فإن صدقته (في) ذلك ثبت النكاح وإن كذبته لا يثبت وإن ظهر صدق الخبر عند أبي حنيفة، وعندهما يثبت النكاح إذا ظهر صدق الخبر، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: البكر البالغة إذا استأمرها أبوها في التزويج فسكتت فزوجها أبوها ثم قالت: لا أرضى ينظر إن كان الأب وقت الاستئمار لم يذكر ممن يزوجها ولم يذكر أنه بكم يُزوجها لا ينعقد النكاح ولها أن ترد. وإن كان الأب ذكر الزوج والمهر جميعاً بعد النكاح فلا يصلح الرد. وإن كان ذكر الزوج ولم يذكر المهر فإن وهبها بعد النكاح بمهر المثل، وإن زوجها بمهر مسمى لا ينعقد لأنه إذا وهبها فتمام العقد الزوج والمرأة عالمة بالزوج (وثم بالرضا) بهذا العقد.
وإذا زوجها بمهر مسمى فتمام العقد بالزوج، فيذكر البدل وهي غير عالمة بالبدل فلا يتم الرضا بهذا العقد، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب النكاح: إن اشتراط تسمية المهر عند الاستئمار قول المتأخرين من المشايخ لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق في القلة والكثرة. والكبيرة على ما عليه إشارات محمد رحمه الله في كتاب النكاح تسمية المهر عند الاستئمار ليس بشرط، إنما الشرط تسمية الزوج فعلى ما عليه إشارات محمد ينفذ نكاح الأب في هذا الوجه وإن كان بمهر مسمى. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه»: أنه إذا لم يسم لها الزوج أو المهر فسكتت، ففيه اختلاف المشايخ المتأخرين، فمنهم من رآه رضاً ومنهم من أبى مطلقاً من غير فصل بينما إذا وهبها أو زوجها بمهر مسمى، هذا إذا أخبرها بالنكاح (قبل) العقد. وأما إذا أخبرها به بعد العقد فسكتت ففيما إذا لم يذكر المهر أو الزوج.
قال الفقيه أبو نصر رحمه الله: ينفذ هو فرّق بين الماضي (واللاحق) (198أ1).(3/156)
-----
وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله لا ينفذ، قال الصدر الشهيد رحمه الله وهو الصحيح وعليه الفتوى، وفيما إذا ذكر الزوج والمهر ينفذ وفيما إذا ذكر الزوج، ولم يذكر المهر فالمسألة على التفصيل الذي ذكرنا، وهو اختيار الصدر الكبير برهان الأئمة تغمده الله بالرحمة والرضوان، قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله إن أصحابنا رحمهم الله جعلوا السكوت رضاً في مسائل معدودة:
أحدها: في البكر إذا استأمرها وليها في التزويج.
الثانية: إذا قبض الأب أو الجد مهر البكر البالغة فسكتت كان سكوتها رضاً حتى برىء الزوج.
ولو قبض المهر غير الأب والجد فسكتت أو قبض الأب أو الجد سائر..... فسكتت لا يكون سكوتها رضاً.
الثالثة: إذا سكت الشفيع بعدما علم بالبيع ساعة بطلت شفعته كما لو سلم الشفعة.
الرابعة: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئه ثم قال أحدهما علانية، بمحضر من صاحبه قد بدا لي أن أجعله بيعاً صحيحاً فسكت صاحبه ولم يقل شيئاً.... كان البيع جائزاً.
الخامسة: عبدٌ أسره المشركون فوقع بعد ذلك في غنيمة المسلمين وساقه في قسم واحد من الغانمين فباعه الذي وقع في سهمه ومولاه الأول حاضر عند البيع فسكت لا سبيل له على أخذ العبد بعد ذلك.
السادسة: إذا قبض المشتري البيع والبائع يراه فسكت ولم يمنعه من القبض بطل حقه في الحبس، ذكره الطحاوي رحمه الله في باب المأذون، وهو مخالف لما ذكر محمد رحمه الله في باب الإكراه.
السابعة: مجهول النسب إذا بيع وهو ساكت كان ذلك إقراراً منه بالرق ذُكر في كتاب الإقرار، زاد الطحاوي رحمه الله وقيل له بعد البيع قم مع مولاك فقام فذلك منه إقرار بالرّق.
الثامنة: إذا رأى المولى عبده يبيع ويشتري فسكت صار العبد مأذزوناً في التجارة.(3/157)
-----
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» في النكاح: وكذلك الولي إذا رأى الصبي المحجور يبيع ويشتري..... والتكثير فسكت جعل فكاً للحجر.
التاسعة: وهب لرجل جارية والجارية حاضرة فقبلها وقبضها في المجلس بمحضر من الواهب ولم يأذن له الواهب بالقبض، ولم ينهه عنه بل هو ساكت، فإنه يثبت له إذن بالقبض استحساناً ويثبت الملك للموهوب له.h
ولو قام الواهب عن المجلس قبل قبض الموهوب له لم يصح قبضه حتى يأمره بذلك.
العاشرة: إذا باع بيعاً فاسداً والمبيع حاضر عند العقد فقبضه المشتري بحضرة البائع ولم يمنعه من قبضه وسكت كان إذناً له بالقبض حتى يملكه المشتري، دفع الثمن أو لم يدفع.
الحادي عشر: إذا قال: والله (لا) أُسْكِنُ فلاناً في داري، أو قال: والله لا أتركه في داري وفلان في دار الحالف فسكت الحالف بعد اليمين ولم يقل: اخرج منها حنث. ولو قال اخرج منها فأبى (أن) يخرج فسكت عنه لا يحنث في يمينه.
الثاني عشر: إذا كان الخيار للمشتري فرأى عبده الذي اشتراه يبيع ويشتري فسكت فهو اختيار للبيع وإبطال لخياره، ولو كان الخيار للبائع لا يكون إبطالاً لخياره.
والثالث عشر: إذا سكت عن نفي الولد حتى مضى على ذلك زيادة على يومين لزمه الولد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا هنىء بالولد فسكت لزمه الولد، وزاد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله على هذه المسائل، ما إذا قال لغيره: بع عبدي فلم يقبل ولم يرد بل سكت ثم قام وباع جُعل بائعاً بتوكيل، وجعل السكوت منه قبولاً، وكذلك رآه غيره شق زقه فسكت حتى سال ما فيه لم يضمن الشاق ما سال منه واحتج على صاحب الزق بسكوته.(3/158)
-----
وهنا مسألة أخرى من هذا الجنس: إنّ غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة فبلغت وهي بكر فسكتت ساعةً بطل، وجعل سكوتها بمنزلة الرضا صريحاً، ولو ضحكت البكر عند الاستئمار أو بعدما بلغها الخبر فهو رضاً، هكذا ذكر القدوري وشيخ الإسلام رحمهما الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنها إذا ضحكت كالمستهزئة لمّا سمعت لا يكون رضاً، وإن ابتسمت فهو رضاً، هو الصحيح من المذهب، ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولو بكت ذكر هشام في «نوادره»: أنه يكون رضاً، وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يكون رضاً، وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»: أن عند أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان: في رواية لا يكون رضاً وهو قول محمد رحمه الله، ومن المشايخ من قال: إن كان النكاح عن سكوت وإقرار فهو رضاً، وإن كان عن صياح ولطمِ وجهٍ فهو ردّ، ومنهم من قال: إن كان الدمع حارّاً فهو رد، وإن كان بارداً فهو رضاً.
وإذا زوج البكر وليان كل واحد منهم رجل وهما في الدرجة على السواء، فبلغها العقدان فأجازتهما بطلا، ولو سكتت ذكر القدوري في «شرحه»: أن عند محمد رحمه الله في هذا روايتين: في رواية سكوتها بمنزلة رضاها بالعقدين فبطلا، وفي رواية: هو ليس برد ولا إجازة، والأمر موقوف.
وإذا زوج البالغة أبوها من رجل وأخوها بعد ذلك من رجل آخر وأجازت نكاح الأخ كان جائزاً، وبطل نكاح الأب؛ لأن النكاح لا ينعقد على البالغة بغير رضاها فتوقف النكاحان على إجازتها، فإذا أجازت نكاح الأخ وجد شرط النفاذ في هذا النكاح فينفذ، ومن ضرورته بطلان الآخر ويكون هذا نكاحاً بلا ولي؛ لأن الأخ مع الأب ليس بولي فيكون على الاختلاف على ما مرّ.(3/159)
-----
وفي «فتاوى الفضلي»: صغيرة زوجها عمها لأبيها ثم زوجها عمها لأبيها وأمها فبلغت فأجازت نكاح العم لأب قال: نكاح العم لأب باطل، ولا يبطل نكاح العم لأب وأم بردّها حتى يفرق القاضي بينهما؛ لأن نكاح العم لأب موقوف على إجازة العم لأب وأم (و) نكاح العم لأب وأم ثابت فقد نفذ، لكن لها حق فسخه، والفسخ لا يكون إلا عند القاضي ولم يوجد، والنافذ متى ورد على الموقوف أبطله.
البكر إذا بلغها الخبر فقالت: لا أرضى ثم قالت قد رضيت فلا نكاح بينهما؛ لأن النكاح قد بطل بردها، فالرضا صادَف عقداً مفسوخاً، وعن هذا استحسن المشايخ تجديد العقد عند الزفاف؛ لأن البكر في المرة الأولى تظهر الرد وغير ذلك لم.... منها لو لم يجدد العقد لكانت تزف إلى أجنبي.
في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل لابنته الكبيرة وهي بكر: فلان وفلان خطباك إليّ وأنا مزوجك، أو لم يقل: وأنا مزوجك فسكتت فله أن يزوجها أيهما شاء، وكذلك إذا قال لها: إن بني فلان يخطبونك وهم يحصون ويعرفون ولم يذكر قبيلة ولا فخذاً. وكذلك إذا قال: جيراني يخطبونك، وهم يحصون.
ولو قال: إن بني تميم يخطبونك وأصحاب فلان يخطبونك وهم لا يحصون لم يكن سكوتها عند هذا الذِّكر رضاً. قال الحاكم الشهيد أبو الفضل رحمه الله: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله في المسلمين جميعاً.
المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في بكر كبيرة استأذنها وليُّها أن يزوجها فسكتت ولم يخبرها ممن يزوجها ثم زوجها من نفسه فذلك جائز.
ابن سماعه عن محمد رحمه الله في رجل وكَّل رجلاً يزوّج ابنته الكبيرة فزوجها(198ب3) ولم يبلغها حتى زوجها الأب من آخر بلغها فلها أن تجيز نكاح أيهما شاءت.(3/160)
-----
رجل خطب امرأة من أبيها وهي بكر فقال الأب مراكد خدا بسر راست برجه واكررواست، فزوج الابن أخته من رجل فبلغها فسكتت، ثم زوجها أبوها من آخر، فبلغها فسكتت يجوز نكاح الأب ولا يجوز نكاح الأخ، ولم يجعل سكوتها عن نكاح الأخ إجازة؛ لأن السكوت إنما جعل إجازة لنكاح الولي لا لنكاح غير الولي، والأخ مع الأب ليس بولي. هكذا ذكر المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» وفيه نظر، ينبغي أن يجوز نكاح الأخ ولا يجوز نكاح الأب لأن الابن وكيل عن الأب في هذا العقد قائم مقام الأب فكأنّ الأب باشره بنفسه فيجعل سكوتها رضاً به.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا قالت البكر: لم أرض بالنكاح حين بلغني وادعى الزوج رضاها فالقول قولها عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنها تنكر تملك بضعها، وبمثله لو وقع الاختلاف في خيار البلوغ فقالت المرأة: اخترت نفسي ورددت النكاح لمّا بلغت وقال الزوج: لا بل سكت وسقط خيارك فالقول قول الزوج لأنه ينكر زوال ملكه عن بضعها، فإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر فهي امرأته وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: عليها اليمين، وإذا نكت يقضى عليها بالنكول. وإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر وأقامت هي بنية على الرد فبينتها أولى، قال «البقالي»: وقد روي أنه إذا كان بحضرتها قوم حين بلغها النكاح فلم يسمعوها تكلمت لم تُصدّق في دعوى الرد.
ولو كانت البكر قد دخل بها زوجها ثم قالت: لم أرض لم تصدق على ذلك وكان تمكينها إياه من الدخول بها رضاً منها إلا إذا دخل بها وهي مكرهة فحينئذ لا يثبت الرضا، فإن أقامت بنية على الرد في هذه الصورة ذكر في «فتاوى الفضلي» أنه تقبل بينتها، قيل: والصحيح أنه لا تقبل بينتها لأن التمكين منها في معنى الإقرار بالرضا. ولو أقرت بالرضا ثم ادعت الرد لا تصح دعواها ولا تقبل بينتها لمكان التناقض كذا هنا.(3/161)
-----
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب الشفعة: إذا زوج ابنته البكر البالغة ثم خاصمت مع الزوج فقال الزوج: بلغك الخبر وسكّت فقالت المرأة: بلغني الخبر ورددت فالقول قولها، ولو قالت بلغني الخبر يوم كذا ورددت أو قالت وقت كذا ورددت أو قالت: علمت يوم كذا ورددت، وقال الزوج: بل سكتّ فالقول قول الزوج.
وفي «المنتقى»: هشام سألت محمداً رحمه الله عن بكر زوجها وليُّها فقالت بعد سنة: قد كان بلغني النكاح يوم زوجني فلم أسكت قلت: لا أرضى وادعى الزوج أنها كانت رضيت فالقول قول المرأة وإنه خالف ما ذكر الخصاف.
ومن جنس هذه المسائل: روى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: امرأة خاصمت زوجها فزعمت أن أخاها زوجها وهي صغيرة وبنى بها أي: دخل بها وهي صغيرة كارهة له فجاءت تخاصمه وتريد فراقه وقالت...... وقال الزوج بنيت بها وهي كبيرة وقد أدركت فالقول قول الزوج.
وعنه أيضاً برواية ابن سماعة في رجل زوج ابنتاً له كبيرة بغير أمرها فمات زوجها فجاءت (تريد) الميراث وقالت: قد كنت أجزت النكاح لم تصدق إلا ببينة. وإن قالت: زوجني بأمري فالقول قولها. وعنه أيضاً برواية خالد بن صبيح: رجل زوج ابنة له.... وهو وليها قال الزوج للمرأة بعدذلك: أنت قد علمت وما رضيت، وقالت المرأة لا بل أجزت ورضيت، لا تكون هذه المقالة من الزوج فرقة وهي امرأته فالقول قولها وكذلك إذا قال الزوج: لم تعلمي، وقالت المرأة لا بل علمت وأجزت فالقول قولها، ولو مات الزوج قبل هذه المقالة فقالت الورثة وهم كبار: قد علمت وما رضيت وقالت المرأة: لا بل رضيت فالقول قولها، وهذه الرواية بخلاف رواية ابن سماعة، وبخلاف رواية «فتاوى أبي الليث» رحمه الله فالمذكور في «الفتاوى» في هذه الصورة: أن القول قول ورثة الزوج فلا مهر لها ولا ميراث.(3/162)
-----
وإن كانت الورثة قالوا للمرأة بعد موت الزوج: لم تعلمي...... حتى تقيم البينة على سكوتها بعد...... إن كانت بكراً أو على رضاها إن كانت ثيباً، هكذا رواه خالد.
وإن كانت المرأة لم تقل: بلغني النكاح وأجزت لكن قالت زوجني أخي بأمري.... الميراث والمهر وعليها العدة، ولو كانت هي الميتة وكان الطالب للميراث هو الزوج، والأخ المزوج هو الوارث فقال الأخ: لم تكن أمرتني ولم تعلم حتى ماتت وادعى الزوج رضاها بهذا الزوج أو أنها أمرته بذلك فعلى الزوج البينة على ذلك والله أعلم بالصواب.
الفصل الثاني عشر في النكاح بالكتاب والرسالة وفي النكاح مع الغائب
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا كتب إليها يخطبها فزوجت نفسها منه كان صحيحاً والأصل في ذلك أن الكتابة من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام كتب إلى النجاشي يخطب أم حبيبة فزوجها النجاشي له...... منه إلا أن الكتاب من الغائب مع الخطاب مع الحاضر يفترقان من وجه، فإن الحاضر إذا خطبها فلم تجبه في مجلس الخطاب وإنما أجابته في ملجس آخر لا يصح النكاح، وإذا بلغها الكتاب وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في ذلك المجلس وإنما زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمع الشهود كلامها وما في الكتاب يجوز النكاح وإذا بلغها الكتاب فقالت زوجت نفسي من فلان، فكان ذلك بمحضر من الشهود لا ينعقد النكاح وإن بلغه الخبر، وأجاز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن سماع الشهود كلامَ المتعاقدين شرط انعقاد النكاح والشهود إن سمعوا كلامها لم يسمعوا كلام الزوج.(3/163)
-----
ولو قرأت الكتاب على الشهود أو قالت: إن فلاناً كتب إلي يخطبني فاشهدوا أني قد زوجت نفسي منه صح النكاح؛ لأن الشهود سمعوا كلامها بإيجاب العقد، وسمعوا كلام الخاطب بإسماعها إياهم إما بقراءة الكتاب أو العبارة عنه، وإن جاء الزوج بالكتاب مختوماً وقال: هذا كتابي إلى فلانة فاشهدوا عليه لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يقرأ عليهم الكتاب، أو يعلمهم ما في الكتاب خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جحد الزوج الكتاب فشهدوا أن هذا كتابه إلى فلانة ولم يشهدوا بما في الكتاب لا تقبل الشهادة عندهما ولا يقضي بالنكاح.
وإذا أرسل إليها رسولاً فالحر والعبد والصغير والكبير والعدل والفاسق في ذلك على السواء؛ لأن الرسالة تبلغ عبارة المرسل إلى المرسل إليه، ولكل واحد من هؤلاء عبارة مفهومة فيصح تبليغ الرسالة منهم.
وإذا بلغ الرسالة وقال: إن فلاناً يسألك أن تزوجي نفسك منه، فأشهدت أنها قد زوجت كان ذلك جائزاً إذا أقرّ الزوج بالرسالة أو قامت عليه البينة؛ لأن الرسول بلغها عبارة المرسل فكأنّ المرسل حضر بنفسه، وعبّر عن نفسه بين يدي الشهود، وإن كان الرسول قد خطبها وضمن لها (199ب) المهر وقال: أمراني بذلك فزوجت نفسها ثم حضر الزوج وصدّق الرسول في الرسالة، والأمر بالضمان صح النكاح وصح الضمان إذا كان الرسول من أهل الضمان، فإذا أدّى الضامن رجع بذلك على الزوج، وإن كذبه في الأمر بالضمان وصدّقه في الرسالة صح النكاح، وصح الضمان فيما بين المرأة والرسول، لا في حق المرسل، حتى كان للمرأة أن ترجع على الرسول بالصداق فلا يرجع الرسول على الزوج بما أدى من ذلك، وإن كذبه في الرسالة والأمر بالضمان ولا بينّة له على ذلك، فالنكاح باطل والمهر على الزوج، ولها أن تطالب الرسول بالمهر؛ لأن في زعمها أن النكاح صحيح وأن الضمان صحيح.(3/164)
-----
بعد هذا اختلفت الروايات، ذكر في نكاح «الأصل» وفي بعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب الرسول بنصف الصداق، وذكر في بعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب الرسول بجميع المهر، فقيل: في المسألة روايتان، وقيل: اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وهو الصحيح، وقد ذكرناه في فصل الوكالة.
وإن قال الرسول: لم يأمرني فلان ولكني أزوجه وأضمن عليه المهر ففعل ثم أجاز الزوج النكاح جاز عليه ولزم الرسول الضمان، وإن أبى الزوج أن يجيز النكاح (لم) يكن على الرسول شيء من الضمان لأنه أصل السبب فلا يبقى الزوج النكاح فينتفي حكمه، وهو وجوب الصداق فبراءة الأصيل حقيقة توجب براءة الكفيل. وإذا عَقَدَ عَقْدَ النكاح واحد وهو وليّ من الجانبين بولاية أصلية نحو الملك أو القرابة أو بولاية عارضة نحو الوكالة صح العقد.
بيان الأول: إذا زوج ابنة أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير وليس لهما أقرب، أو زوّج ابنة عمه وهي صغيرة من نفسه (وليس) لها أقرب منه، أو كانت بنت العم كبيرة قال لها: إني أريد أن أزوجك من نفسي فسكتت وهي بكر فذهب وتزوجها.
بيان الثاني: إذا وكلّه رجل أن يزوجه فلانة ووكّلته فلانة أن يزوجها من ذلك الرجل، أووكلّت امرأةٌ رجلاً أن يزوجها من نفسه فتزوجها، ولا يتوقف شطر العقد على ما وراء المجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافاً لأبي (يوسف) رحمه الله، حتى إن فضولياً لو قال: زوجت فلانة من فلان وهما غائبان ولم يقبل عنه أحد، أو قالت امرأة زوجت نفسي من فلان الغائب ولم يقبل عنه أحد وقال رجل: تزوجت فلانة وهي غائبة ولم يجب عنها أحدٌ، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقف هذا على إجازة الغائب وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يقف، وكذلك إن كان فضولياً من أحد الجانبين، وكيلاً من الجانب الآخر، وفي توقف كلامه اختلاف.(3/165)
-----
ولو قال فضولي: زوجت فلانة من فلان، وقبل عن فلان فضولي آخر، وقال رجل: تزوجت فلانة فقال رجل فضولي: زوجتها منك أو قالت امرأة: زوجت نفسي من فلان، فقال فضولي قبلت عنه.
وفي هذه المسائل يتوقف العقد على الإجازة بالاتفاق، هذا هو الكلام في النكاح، واتفق علماؤنا رحمهم الله أن العقد في باب البيع لا يقف على ما وراء المجلس، حتى إن الرجل إذا قال لقوم: اشهدوا أني قد بعت عبدي فلاناً فبلغ ذلك فلاناً وقال: قد اشتريته لم يجز بالاتفاق، قال محمد رحمه الله: ولو كتب رجل إلى رجل: بعني عبدك بألف فقال: بعت كان جائزاً، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لا يكاد يصح لأن الحاضر لو قال لغيره: بعني عبدك بكذا فقال: بعت لا يتم البيع ما لم يقل قبلت فكذلك إذا كتب، فلا بُدّ من زيادة بعني وذلك بأن يكتب: قد اشتريت عبدك بكذا فبعه مني، فإذا قال الآخر بعت حينئذ يتم البيع بينهما كما لو كان حاضراً، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وجه تصحيح ما ذكر محمد رحمه الله أن قول الحاضر: بعني يكون استياماً عادة، ومن الغائب إذا كتب يكون أحد شطري العقد عادة، فإذا انضم إليه الشطر الثاني يتم البيع والله أعلم.(3/166)
الفصل الثالث عشر في بيان أسباب التحريم
فنقول: أسباب التحريم كثيرة، من جملة ذلك النسب، ومسائله معروفة، ومن جملة ذلك المصاهرة.
-----
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا وطىء الرجل امرأة بنكاح أو ملك أو فجور حرمت عليه أمُّها وابنتها، وهو محرم لهما؛ لأنه لا يجوز له نكاحهما، وحرمت هي على آبائه وأبنائه، وكما ثبتت هذه الحرمة بالوطء تثبت بالمسّ والتقبيل والنظر إلى الفرج بشهوة سواء كان بنكاح أو ملك أو فجور عندنا إذا كان المحل مشتهاه، ولا تثبت هذه الحرمة بالنظر إلى سائر الأعضاء وإن كان عن شهوة وحد، والشهوة: أن تنتشر آلته إليه بالنظر إلى الفرج أو المس إذا لم يكن منتشراً قبل هذا، وإذا كان منتشراً فإن كان يزداد قوة و..... بالنظر والمسّ كان ذلك عن شهوة وما (لا) فلا، وهذا إذا كان شاباً قادراً على الجماع، وإن كان شيخاً أو عنيناً فحدُّ الشهوة أن يتحرك قلبه بالاشتهاء إن لم يكن متحركاً قبل ذلك، ويزداد الاشتهاء إن كان متحركاً فهذا هو حدّ الشهوة التي حكاها.... عن أصحابنا رحمهم الله، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله.
وكثير من المشايخ لم يشترطوا الانتشار، وجعلوا حدّ الشهوة أن يميل قلبه إليها ويشتهي جماعها. وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله لا يعتبر تحرك القلب، وإنما يعتبر تحرك الآلة، وكان لا يفتي بثبوت الحرمة في الشيخ الكبير العنين والذي ماتت شهوته حتى لم يتحرك عضوه بالملامسة.
وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله: أنه إذا لمسها بشهوة فلم ينتشر عضوه أو كان منتشراً فلم يزدد انتشاره حتى تركها ثم ازداد انتشاره بعد لم تثبت به الحرمة، وإنما تثبت الحرمة إذا انتشر بالمس وهو بعدُ لامسها، أو يزداد انتشاره وهو لامسها بعد.(3/167)
-----
جئنا إلى حدّ المشتهاة: حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله: أنها إذا كانت بنت تسع سنين أو أكثر فهي مشتهاة من غير تفصيل، وإذا كانت بنت خمس سنين أو دونه لم تكن مشتهاة. وإن كانت بنت سبع سنين أو بنت ست سنين أو بنت ثماني ينظر إن كانت عبدة ضخمة كانت مشتهاة وما لا فلا.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله في «أيمان الفتاوى»: المشايخ سكتوا في الثمان والتسع والغالب أنها لا تشتهى ما لم تبلغ تسع سنين.
قال الصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب النفقات وعليه الفتوى، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر هذا رحمه الله أنه كان يقول: ينبغي للمفتي أن يفتي في السبع، والثمان أنها لا تحرم إلا إذا بالغ السائل أنها عبلة ضخمة وجسيمة فحينئذ يفتي بالحرمة.
وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله، في بنت ثمان أو تسع إذا كانت ضخمة سمينة أنه تثبت به الحرمة، وإن لم تكن بهذه الصفة فإلى ثنتي عشرة
وعن أبي يوسف رحمه الله: إذا كانت الصبيّة بنت خمس ويشتهى مثلها فهي مشتهاة فلا توقيت فيه، ورواه عن أبي حنيفة رحمه الله، وإذا جامعها ولم يُفْضِها فهي ممن يجامع مثلها، وإذا أفضاها لم تثبت به الحرمه خلاف أبي يوسف رحمه الله استحساناً. قال محمد رحمه الله وربما أفضت التي يفضى مثلها، وأطلق أبو يوسف رحمه الله في رواية ابن سماعة في بنت سبع وخمس أشهر وطئها فيما دون الفرج بشهوة ماتت ولا يُدرى هل كان يُشتهى مثلها في حسنها وجمالها، لم تحل له الأم.
وفي «الفتاوى»: سئل الفقيه أبو بكر عمن: قبّل امرأة ابنه وهي بنت خمس سنين أو ست سنين عن شهوة، قال: لا تحرم على ابنه؛ لأنها (199ب1) غير مشتهاة، وإن اشتهاها هذا فلا ينظر إلى ذلك. قيل له: فإن كبرت حتى خرجت عن حد الاشتهاء والمسألة بحالها؟ قال تخرج؛ لأن الكبيرة دخلت تحت الحرمة فلا تخرج وإن كبرت، ولا كذلك الصغيرة.(3/168)
-----
وسئل ابن سلمة عن امرأة أدخلت ذكر صبي في فرجها، والصبي ليس من أهل الجماع قال: تثبت به حرمة المصاهرة، وقال أصحابنا رحمهم الله: وتثبت الحرمة بالتقبيل والمس والنظر إلى الفرج بشهوة في جميع النساء؛ الدميمة وغيرها في ذلك سواء، بخلاف العقد ثم المسّ إنما يوجب حرمة المصاهرة إذا لم يكن بينهما ثوب، أما إذا كان بينهما ثوب فإن كان صفيقاً لا يجد حرارة الممسوس لا تثبت حرمة المصاهرة، وإن انتشرت آلته إليه بذلك، وإن كان رقيقاً بحيث تصل حرارة الممسوس إلى يده تثبت حرمة المصاهرة.
وفي طلاق «المنتقى»: الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا لمس الرجل شيئاً من جسد امرأة من فوق الثياب عن شهوة؛ فإن كان يجد مس جسدها حرمت عليه امرأته، وكذلك إذا مسّ رجلها فوق الخف أو ساق الخف أو أسفل الخف.
وفيه أيضاً: المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قبّل الرجل المرأة وبينهما ثوب، إن كان يجد برد إليها أو برد الشفه فهو تقبيل ومس.m
ويعتبر في النظر: النظر إلى داخل الفرج، وكذلك إنما يكون إذا كانت متكئة، أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت حرمة المصاهرة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: هو الصحيح. وقال أبو يوسف في رواية ابن سماعة: النظر إلى المدخل والركب سواء، وتحرم بذلك أمُّها إذا كان بشهوة، وروى إبراهيم عن محمد رحمه الله: أن النظر إلى موضع الجماع من الدبر في حرمة المصاهرة نظير النظر إلى الفرج، ثم رجع وقال: لا يحرمه إلا النظر إلى الفرج من الداخل.(3/169)
-----
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أن النظر إلى دبر المرأة لا يوجب حرمة المصاهرة، وكذلك ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» في باب: إتيان المرأة في غير الفرج، وإنما وقع الفرق بين النظر إلى موضع الجماع من الدبر وبين النظر إلى موضع الجماع من القبل؛ لأن النظر إلى القبل سبب يفضي إلى الوطء في القبل؛ الذي تحصل به الحرمة والتعصيب؛ إذ السبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في باب الحرمات، وأما النظر إلى الدبر يفضي إلى الجماع في الدبر، وبه لا تحصل الحرمة والتعصيب، ولا تثبت به الحرمة.
والجماع في الدبر لا يثبت حرمة المصاهرة، ذكره محمد رحمه الله في «الزيادات» في باب إتيان المرأة في غير الفرج، وبه أخذ بعض مشايخنا، وبعض مشايخنا قالوا: يوجب حرمة المصاهرة، وبه كان يفتي شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله.
ووجهه: أن الجماع في الدبر لا يخلو عن اللمس بشهوة، ومجرد اللمس بشهوة تثبت حرمة المصاهرة عندنا، فهذه الزيادة إن كانت لا توجب زيادة حرمة لا توجب خلافها، وما ذكر محمد رحمه الله أصح؛ لأن المس بشهوة إنما يوجب حرمة المصاهرة، لكونه سبباً مفضياً إلى الوطء في القبل، الذي تحصل به الحرمة، وبالإتيان في غير المأتى تبيّن أن ذلك المس لم يكن مفضياً إلى الوطء الذي تحصل به الحرمة، فلا تثبت به حرمة المصاهرة، وكذلك ألا ترى أن من مس امرأة بشهوة وأمنى لا تثبت حرمة المصاهرة؛ إذا نظر إلى فرج امرأة بشهوة وأمنى لا تثبت حرمة المصاهرة؛ لأن المس المجرد والنظر المجرد إنما يوجب حرمة المصاهرة، لكونه سبباً للوطء الذي هو سبب للحرمة، وباتصال الإنزال تبيّن أن ذلك المس لم يكن بهذه الصفة، فلا ثبتت به حرمة المصاهرة.(3/170)
-----
وكذلك إذا قبلها ثم قال: لم تكن عن شهوة، أو لمسها أو نظر إلى فرجها (وقال): لم يكن عن شهوة فقد ذكر الصدر الشهيد رحمة الله: أن في القبلة يفتى ثبوت الحرمة ما لم يتبين أنه قبّل بغير شهوة، وفي المس والنظر إلى الفرج لا يفتى بالحرمة، إلا إذا تبين أنه فعل بشهوة؛ لأن الأصل في التقبيل الشهوة، بخلاف المس والنظر.
الدليل عليه: أن محمداً رحمه الله في أي موضع ذكر التقبيل لم يقيده بشهوة، وفي أي موضع ذكر المس والنظر فيه قيدهما بالشهوة.
وفي بيوع «العيون» بخلاف هذا قال: إذا اشترى جارية على أنه بالخيار وقبلها أو نظر إلى فرجها ثم قال لم يكن شهوة وأراد ردّها، فالقول قوله، ولو كانت مباشرة، وقال لم يكن عن شهوة لم يصدق.
ومن المشايخ من فصّل في التقبيل بينما إذا كان على الفم وبينما إذا كان على الجبهة والرأس فقال: إن كانت القبلة على الفم يفتى بالحرمة ولا يصدق إن كان بغير شهوة، وإذا كان على الرأس أو على الذقن أو على الخد لا يفتى بالحرمة، إلا إذا ثبت أنه فعل بشهوة. ويصدق إن لم يكن بشهوة وهكذا ذكر في «مجموع النوازل».
وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يفتي بالحرمة في القبلة على الفم والذقن والخد والرأس وإن كان على المقنعة وكان يقول: لا يصدق في أنه لم يكن بشهوة، وظاهر ما أطلق في «بيوع العيون» يدل على أنه يصدق في القبلة سواء كانت على الفم أو على موضع آخر.
وفي «البقالي»: ويصدق إذا أنكر الشهوة، يعني في المس إلا أن يقوم منتشراً فيعانقها قال: له، وكذا قال في «المجرد»: وانتشاره دليل الشهوة وهذا إشارة إلى أن في المس لا يُفتى بالحرمة ما لم ينضم إليه دليل آخر يدل على الشهوة.(3/171)
-----
وإذا أخذ بدنها وقال كان ذلك عن غير شهوة ففيه كلام. وإذا ركبت على ظهره وعبر بها الماء ثم قال لم يكن عن شهوة صُدّق. ولو أخذت امرأة ذكر ختنها في الخصُومة وشدته وقالت: كان عن غير شهوة صدّقت، وفي «كراهة الحاوي»: أن مسّ شعر المرأة عن شهوة لا يوجب حرمة المصاهرة.
وفي «الأجناس»: إن مسّ شعر رأس المرأة عن شهوة يوجب حرمة المصاهرة والرجعة، وأنكر القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله ما ذكره في «الأجناس» قال: لأن الرأس تحت الشعر فيصير ماساً شعرها لا بدنها، فهو بمنزلة ما لو مسّ يدها من وراء الكم، وتقبل الشهادة على الإقرار باللمس بشهوة. وعلى الإقرار بالتقبيل بشهوة.
وهل تقبل الشهادة على نفس اللمس والتقبيل عن شهوة؟ اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: لا تقبل وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وهذا لأن الشهوة أمر باطن لا يوقف عليها عادة، وقال بعضهم تُقبل وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي رحمه الله، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «نكاح الجامع»؛ لأن الشهوة مما يوقف عليها في الجملة إما لتحرك العضو من الذي يتحرك عضوه أو آثار أخرى ممن لا يتحرك عضوه.
ابن سماعة في «نوادره»: عن أبي يوسف رحمه الله: رجل نظر إلى فرج ابنته (200أ1) من غير شهوة فتمنى أن تكون جارية: فوقعت له الشهوة مع وقوع نظره قال: إن كانت الشهوة منه على ابنته حرمت عليه امرأته، وإن كانت الشهوة وقعت على ما تمنى لم تحرم؛ لأن النظر إلى فرج ابنته حينئذ لا يكون عن شهوة.(3/172)
-----
في «واقعات الناطفي»: إذا قصد أن يقيم امرأته إلى فراشه أو يجامعها وهي نائمة ومعها ابنتها المشتهاة، فوصلت يده إلى الابنة فقرصها بإصبعه وظنّ أنها امرأته؛ إن كانت يده إلى الابنة وهو تشتهي لها، حرمت عليه امرأته وإن كان يحسبها امرأته؛ لأنه مسها بشهوة، وإن كان لا شهوة له في وقت ملامستها لا تحرم؛ لأنه لم يوجد مسها بشهوة، وإن اختلفا فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر ثبوت الحرمة فالقول قول المنكر.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: زوج جدة المرأة محرم لها؛ إن كان قد دخل بالجدة سواء كانت الجدة من قبل أبيها أو من قبل أمها، وزوج بنت البنت محرم للجدة دخل الزوج بها أو لم يدخل؛ لأن البنت لا تحرم بنفس نكاح الأم، فكذا بنفس نكاح الجدة والأم تحرم بنفس نكاح البنت، فكذا بنفس نكاح بنت البنت.
في «العيون»: نظر إلى فرج امرأة من خلف ستر أو زجاجة وتبيّن من خلفها فرجها وكان النظر بشهوة؛ حرمت عليه أمها وابنتها، بخلاف ما لو نظر في المرآة، والفرق: أن المرئي في المرآة عكس الفرج لا عين الفرج، ولا كذلك المرئي من خلف الستر والزجاجة.
أقر بحرمة المصاهرة يؤاخذ به ويفرق بينهما. وكذلك إذا أضاف ذلك إلى ما قبل النكاح بأن قال لامرأته: كنت جامعت أمك قبل نكاحك يؤاخذ به ويفرق بينهما، ولكن لا يصدق في حق المهر حتى يجب المسمّى دون العقر، ولكن إذا كان قبل الدخول بها يجب نصف المسمَّى، وإن كان بعد الدخول بها يجب كمال المسمى، والإقرار على الإقرار ليس بشرط في القضاء، حتى لو أقر بجماع أم امرأته أو مسها، ثم رجع عن ذلك وقال كذبت؛ فالقاضي لا يصدقه، ولكن فيما بينه وبين الله تعالى إن كان كاذباً فيما أقرّ لا تحرم عليه امرأته، والدوام على المس ليس بشرط لثبوت الحرمة، حتى قيل إذا مدّ يده إلى امرأته بشهوة فوقعت على كف ابنتها فازدادت شهوته حرمت عليه امرأته، وإن نزع من ساعته.(3/173)
-----
في نكاح «المنتقى» في باب ما يبطل المهر بعقد أحد الزوجين: إذا قبل امرأة ابنه بشهوة، أو قبل الأب امرأة ابنه بشهوة وهي مكرهة، وأنكر الزوج أن يكون ذلك عن شهوة فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر بطلان ملكه، وإن صدقه الزوج أنه كان عن شهوة وقعت الفرقة ويجب المهر على الزوج، ويرجع الزوج بذلك على الذي فعل ذلك إن تعمد الفاعل الفساد؛ لأنه وجب الحد بالوطء، والمال مع الحد لا يجتمعان.
قال: ولو كان جامعها بشبهة وهي مكرهة وبين وجه الشبهة فقال: بأنّ زوّجها أبوها منه بغير أمرها فلا حدّ عليه، ورجع الأب عليه بنصف المهر في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه الحدّ ولها على الأب نصف المهر ولا يرجع به على الابن من قبل الحد الذي لزمه، قال أبو يوسف رحمه الله فلا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله. وينبغي في قياس قوله أن لا يرجع الأب عليه بذلك من قبل المهر الذي وجب عليه بالدخول بناءً على شبهة النكاح، فلا يجب مهر آخر في هذا الباب أيضاً.
وفيه أيضاً: رجل تزوج بأمةِ رجل ثم إن الأمة قبّلت ابن زوجها قبل الدخول بها، فادعى الزوج أنها قبلته بشهوة، وكذبه المولى فإنها تبين من زوجها، لإقرار الزوج أنها قبّلت بشهوة، ويلزمه نصف الصداق؛ لتكذيب المولى إيّاه أنها قبّلت بشهوة، ولا يقبل قول الأمة في ذلك ولو قالت قَبَّلْتُه بشهوة. قيل لرجل: ما فعلت بأمِّ امرأتك؟ قال: جامعتها، قال: تثبت حرمة المصاهرة، قيل: إن السائل والمسؤول هازلان، قال: لا يتفاوت ولا يصدق أنه كذب. في أيمان «مجموع النوازل»: والشهوة من أحد الجانبين في فصل المس تكفي لثبوت هذه الحرمة.(3/174)
-----
ومن جملة أسباب التحريم: الرضاع، فالرضاع في إيجاب الحرمة كالنسب والصهرية. والأصل فيه: قوله عليه السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» والمعنى في ذلك: أن الماء أصل في التكوين، واللبن أصل في النشوء والزيادة، فجرى النشوء من أصل التكوين مجرى الوصف من الأصل مجرى الحق من الحقيقة، والحرمان يختلط في أنسابها، فالحق ألحق بالحقيقة والوصف بالأصل.
قال أصحابنا رحمهم الله: وما يتعلق به التحريم في النسب يتعلق في الرضاع إلا في مسألتين: أحدهما: أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز في الرضاع، وإنما كان كذلك؛ لأن أخت ابنه من النسب إن (كانت) منه فهي ابنته، وإن لم تكن منه فهي ربيبته، فإنما حرمت لهذا المعنى، وهذا المعنى لا يتأتى في الرضاع حتى إن في النسب لو لم يوجد أحد هذين المعينين فإن كانت جارية بين شريكين جاءت بولد فادعياه، حتى يثبت النسب منهما ولكل واحد منهما ابنة من امرأة أخرى جاز لكل واحد من الموليين أن يتزوج ابنة شريكه، وإن كل واحد من الموليين متزوجاً بأخت من النسب.
والمسألة الثانية: لا يجوز للزوج أن يتزوج بأم أخته من النسب ويجوز في الرضاع، وإنما كان كذلك؛ لأن في النسب إن كانا أخوين لأم؛ فأم الأخ أمه، وإن كانا أخوين لأب فأم الأخ امرأة أبيه، وهذا المعنى معدوم في الرضاع، وأما فيما عدا هاتين المسألتين حكم الرضاع وحكم النسب سواء.
والتحريم بالرضاع كما يثبت من جانب المرأة يثبت من جانب الرجل وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه ويسميه الفقهاء: لبن الفحل.
وبيانه: أن المرأة إذا أرضعت بلبن حدث من حمل رجل فذلك الرجل أب الرضيع، لا يحل لذلك الرجل نكاحها وإن كانت أنثى. وكذلك إذا كان الرجل امرأتان وحملتا منه، فأرضعت كل واحدة منهما صغيراً فقد صارا أخوين لأب، فإن كانت إحداهما أنثى لا يحل النكاح بينهما، وإن كانتا ابنتين لا يحل الجمع بينهما؛ لأنهما أختان لأب.(3/175)
-----
وإن كانت للرجل امرأة واحدة فحملت منه، وأرضعت صبيين صارا أخوين لأب وأم، وأخوات الزوج عمات المرضع ولا يحل له مناكحتهن، ويجوز له مناكحة أولادهن، وأم الزوج جدة المرضع تحرم عليه ولا يحل لهذا المرضع أن يتزوج امرأة وطئها الزوج، ولا للزوج أن يتزوج امرأة وطئها المرضع. فهذا تفسير «لبن الفحل» والدليل على ثبوت هذه الحرمة من جانب الرجل قوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم (200ب1) من النسب».
وقال عليه السلام: «إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة» وسألت عائشة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله: إن أفلح بن أبي العقيس يدخل عليّ وأنا في ثياب فضلٍ تقيني فقال عليه السلام: «ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل فقال عليه السلام: إنه عمك فليلج عليك».
والعم من الرضاعة يكون لا الأمر لبن الفحل.
وفي النكاح للحسن بن زياد رحمه الله: في امرأة ولدت من زوج وأرضعت ولدها ثم تيبس لبنها ثم درّ لها اللبن بعد ذلك، فأرضعت صبيّاً إن لهذا الصبي أن يتزوج بابنة هذا الرجل من غير هذه المرأة، قال: وليس هذا بلبن الفحل، وكذلك إذا تزوج امرأة ولم تلد منه قط ثم نزل لها اللبن فإن هذا اللبن من هذه المرأة دون زوجها حتى لو أرضعت صبية لا تحرم على ولد هذا الزوج من غير هذه المرأة.
ولو زنى بامرأة فولدت منه فأرضعت بهذا اللبن صبيّة لا يجوز لهذا الزاني أن يتزوج بهذه الصبّية ولا لأبيه ولا لآبائه ولا لأبناء أولاده لوجود التعصيب بين هؤلاء، وبين الزاني، فلما لم يجز للزاني أن يتزوجها فكذا لا يجوز لهؤلاء.
والرضاع الموجب للتحريم ما كان في حالة الصغر دون الكبر قال عليه السلام: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم» وقال عليه السلام: «لا رضاع بعد الفصال» ولأن الحرمة بالرضاع من حيث إنه سبب للنشوء والزيادة، وذلك في حالة الصغر؛ لأن الصغير لا يتربى بغيره بخلاف الكبير.(3/176)
-----
وقليل الرضاع وكثيره في إثبات التحريم سواء؛ لأن المنصوص عليه فعل الإرضاع دون العدد، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) ولمدة الرضاع ثلاثة أوقات: أدنى وأوسط وأقصى.
فالأدنى: حول ونصف، والأوسط: حولان، والأقصى: حولان ونصف، حتى لو نقص عن الحولين لا يكون شططاً، ولو زاد على الحولين لا يكون تعدياً. والوسط هو حولان فلو كان الولد يستغني عنها دون الحولين ففطمه في حول ونصف يحل ولا تأثم بالإجماع، ولو لم يستغن عنها بحولين فلها أن ترضعه بعد ذلك ولا تأثم عند عامة العلماء، خلافاً لخلف بن أيوب رحمه الله.
وإنما الكلام في ثبوت الحرمة: بالرضاع وفي استحقاق الأجر، فأما الكلام في ثبوت الحرمة، قال أبو حنيفة رحمه الله: يثبت بحكم الرضاع في الصغير إلى ثلاثين شهراً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلى سنتين.
حجتهما: قوله تعالى: {وَالْولِدتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) وقال عليه السلام: «لا رضاع بعد الحولين» ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 33) اعتبر التراضي والتشاور.
في الفصال بعد الحولين ورفع الجناح عن الفصال بعد الحولين بالتراضي والتشاور فهذا دليل على أن ما بعد الحولين مدة الرضاع، ولأن الرضاع يتعلق باللبن في حق الصغير؛ لأنه سبب للنشوء والزيادة وهو الغذاء الأصلي في حقّه، والغذاء لا يتغير إلا بعد زمان فلا بدّ من اعتبار مُدّة بعد ذلك حتى يتغير به الغذاء، فقدّر أبو حنيفة رحمه الله تلك المّدة بستة أشهر لأنها مدّة تغيّر الغذاء، فإن الولد يبقى في النظر ستة أشهر ويتغذى بغذاء الأم، ثم ينفصل ويصير أصلاً في الغذاء، فإنما قدّر المدّة بستة أشهر لهذا.(3/177)
-----
أما الكلام في استحقاق الأجر؛ قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هو على هذا الخلاف، حتى إن المطلقة تستحق أجرة رضاع الولد على الأب إلى تمام حولين ونصف عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله: تستحق إلى تمام حولين ولا تستحق فيما دون الحولين.
وكثير من المشايخ قالوا: إن مدة الرضاع في حق استحقاق الأجرة على الأب مقدرة بحولين عند الكل حتى لا تستحق المطلّقة أجرة الرضاع بعد الحولين بالإجماع، وتستحق في الحولين بالإجماع.
ولو فطم الرضيع في مدة الرضاع ثم سقي بعد ذلك في المدة فهو رضاع على قول من يرى الرضاع في تلك المدة؛ لوجود الإرضاع والظاهر من المذهب، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي بالطعام بعد الفطام، وأما إذا صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة بعد ذلك؛ لأنه إذا صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن يفسده بعده ذلك ولا يغذيّه ولا يحصل به النشوء، وهو المعنى المعوّل عليه في إثبات الحرمة بعد الرضاع. وفي «البقالي»: إذا فطم في الحولين واستغنى بالطعام فأرضع بعد ذلك؛ فعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله روايتان.
والبكر إذا نزل لها اللبن تعلق به الحرمة ما تتعلق بلبن الثيب. قال في «الأجناس»: وفائدته لو تزوجت بزوج فطلقها قبل أن يدخل بها له أن يتزوج بهذه الصبية؛ ولو دخل بها، والمسألة بحالها لا يجوز له أن يتزوج بهذه الصبية لأنها ربيبته المدخولة. ولبن الحية والميتة سواء في التحريم؛ لاستوائهما في المعنى الموجب للحرمة وهو حصول التسوية.
وتثبت حرمة الرضاع بالسعوط والوجور لأنه مما يغذي الصبي، فالسعوط يصل إلى الدماغ فيتقوى به، والوجور يصل إلى الجوف فيحصل به النشوء.(3/178)
-----
والإقطار في الأذن لا يثبت الحرمة؛ لأن الظاهر أنه لا يصل إلى الدماغ لضيق ذلك الثقب. وكذلك الإقطار في الإحليل؛ لأن أكثر ما فيه أن يصل إلى المثانة فلا يتغذى به الصبي عادة، وكذلك الحقنة في ظاهر الرواية لا يوجب الحرمة.
وإذا وُضِعَ لبن المرأة في طعام فأكله صبي، فإن كانت النار قد مسته وأنضج الطعام حتى يتغير لا تثبت الحرمة، سواء كان اللبن غالباً أو مغلوباً. وإن كانت النار لم تمسه فإن كان الطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة، وإن كان اللبن هو الغالب فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: تثبت الحرمة اعتباراً للغالب. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت.
وشرط القدوري رحمه الله على قول أبي حنيفة أن يكون الطعام مستبيناً معناه إذا كان بمنزلة الثريد، وهذا لأن الطعام إنما كان مستبيناً فهو الأصل، واللبن وإن كان غالباً فهو كالتَّبَعِ للطعام فيما هو المقصود، فإن اللبن يغلب الثريد، ويكون الأصل هو الثريد.
قيل إنما لا تثبت الحرمة على قول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان لا يتقاطر اللبن (201أ1) عند حمل اللقمة، وأما إذا كان يتقاطر تثبت به الحرمة وقيل لا تثبت به الحرمة، وقيل: لا تثبت الحرمة على قول أبي حنيفة رحمه الله على حال، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله، أن على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما لا تثبت الحرمة إذا أكل لقمةً لقمةً. أما إذا حَسَا حسواً تثبت الحرمة، وقيل: إذا وصل اللبن منفرداً فلا خلاف، وإذا تناول الثريد فلا خلاف. وفي كتاب الرضاع للخصاف: إذا ثردت له خبزاً في لبنها حتى نشف الخبز ذلك اللبن، أو بلّت به سويقاً أو شيئاً ثم أطعمته إيّاه؛ إن كان طعم اللبن يوجد فهو رضاع؛ وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهما الله، هكذا ذكر صاحب «الأجناس».(3/179)
-----
ولوخلط لبن المرأة بالماء أو بالدواء أو بلبن البهيمة فالعبرة للغالب. في «المنتقى»: فسّر الغلبة في رواية ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله فقال: إذا جعل في لبن المرأة دواء فغيّر اللون ولم يتغيّر الطعم أو على العكس فأوجرته صبيّاً حرم، وإن غيّر اللون والطعم فلم يوجد طعم اللبن وذهب لونه لم يحرم، وفسّر الغلبة في رواية ابن الوليد عن محمد رحمه الله فقال: إذا لم يتغير الدواء من أن يكون لبناً تثبت به الحرمة، وإن خُلط بلبن امرأة أخرى فكذلك عند أبي يوسف، وعند محمد رحمها الله: تثبت الحرمة بينهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
وإذا طلق الرجل امرأته ولها منه لبن فتزوجت بزوج آخر بعدما انقضت عدتها ووطئها الثاني؛ أجمعوا أنها إذا ولدت من الثاني، فاللبن من الثاني وينقطع عن الأول، وأجمعوا على أنها إذا لم تحبل من الثاني فاللبن من الأول. وأما إذا حبلت من الثاني ولكن لم تلد منه؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: اللبن يكون من الأول حتى تلد من الثاني، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن علم أن اللبن من الثاني بأمارة أو علامة فهو من الثاني، وإن علم أنه من الأول فهو من الأول، وإن لم يعلم أنه من الأول أو من الثاني فهو من الأول، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله: أن على قول أبي يوسف رحمه الله: اللبن من الثاني على كل حال.l
فروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: أن اللبن من الأول كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: اللبن منهما.
نوع منه ولا فرق في التحريم بين الرضاع الطارىء والمقدم
بيانه: إذ تزوج رضيعة فأرضعتها أمه، حرمت عليه؛ لأنها صارت أختاً له؛ وهذا لأن المحرمية إنما تمنع النكاح لعلة المنافاة، فإن بين الحل والحرمة تنافٍ، والمنافي كما يؤثر إذا اقترن بالسبب يؤثر إذ جرى عليه.(3/180)
-----
وكذلك: إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة معاً، أو واحدة بعد أخرى حرمتا عليه؛ لأنهما صارتا أختين من الرضاعة، ويجب لها نصف الصداق؛ لأن الفرقة ثبتت بفعل غيرهما، فإن الأخوة إنما ثبتت بينهما بواسطة الأمومة والأمومة، حصلت بفعل الكبيرة؛ والإضافة إلى فعلها أولى من الإضافة إلى فعل الصغيرة؛ لأن اختيارها معتبر، واختيار الصغيرة ساقط الاعتبار شرعاً، فيرجع الزوج على المرضعة بذلك إن تعمدت الفساد، ويعتبر القصد مع العلم بالحكم.
وإن أخطأت وأرادت الخير؛ بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع فلا يرجع عليها، وهذا لأن المرضعة مسببة إلى الفرقة وليست بمباشرة، والمسبب إنما يضمن إذا كان متعدياً في تسببه، فإذا تعمدت الفساد فهي متعدية، وإذا أخطأت أو أرادت الخير فهي ليست بمتعدية، وتصدق المرضعة أنها لم تتعمد الفساد إذا لم يظهر خلافه.
في «البقالي»: وعن محمد رحمه الله: أنه يرجع عليها بكل حال؛ لأن من أصله أن المسبب كالمباشر. أصله: مسألة فتح باب القفص والإصطبل وأشباه ذلك.
في «العيون»: رجل تزوج رضيعتين فجاءت امرأتان ولهما منه لبن، فأرضعت كل واحدة منهما إحدى الصبيتين معاً، وتعمدتا الفساد، لا ضمان على كل واحدة منهما؛ لأن كل واحدة منهما غير مفسدة بصنعها وبنفسها خاصةً هكذا وضع المسألة في «العيون».(3/181)
-----
وفي «المنتقى»: وضع المسألة فيما إذا جاءت امرأتان برجل أجنبي، لهما من ذلك الرجل الأجنبي لبنٌ، وأرضعت كل واحدةٍ منهما إحدى الصبيتين معاً وتعمدتا الفساد، وأجاب: أنه لا ضمان على واحدة منهما لأن كل واحدة منهما غير مفسدة بنفسهما وبصنعها خاصة، قال: هو بمنزلة مريض قال لامرأتين: إن دخلتما هذه الدار فأنتما طالقان، أو قال لهما: أنتما طالقان إن شئتما فشاءتا معاً، وما ذكر في «العيون» وقع سهواً؛ لأن الفساد في تلك الصغيرة بعلّة البنتية، فإن المرضعة تصير ابنةً للزوج، وبإرضاع كل واحدة من الكبيرتين صارت الصغيرة التي أرضعتها هذه الكبيرة ابنةً للزوج، من غير أن يتوقف ذلك على إرضاع الكبيرة الأخرى، فصارت كل واحدة من الكبيرتين مفسدة نكاح الصغيرة، التي أرضعتها بصنعتها خاصة.
أما موضوع «المنتقى» صحيح؛ لأن الفساد في تلك الصغيرة بعلّة الأجنبية، والأجنبية إنما يثبت بصنعتها فلم يصر لكل واحدة منهما مفسدة بصنعها خاصة.
وفي «المنتقى»: رجل تحته كبيرة ورضيعة، جاء رجل وأخذ من لبن الكبيرة وأوجر الصغيرة بانتا؛ لأنهما صارتا أمّاً وابنةً، وللصغيرة نصف المهر، وكذا الكبيرة إن لم يكن الزوج دخل بها، ويرجع الزوج بذلك على ذلك الرجل إن تعمّد الفساد.
وفي «العيون»: لو كانت عنده كبيرة مجنونة أو معتوهة وصغيرة، وأرضعت الكبيرة الصغيرة حتى بانتا، لا رجوع للزوج على الكبيرة؛ لأن فعل المجنونة والمعتوهة لا يوصف بالجناية.
وفي «المنتقى»: إذا كان تحت رجل صغيرتان جاءتا إلى امرأة نائمة وشربتا منها لبناً بانتا، ولكل واحدة نصف الصداق ولا يرجع الزوج على النائمة.
وفي «الأصل»: إذا تزوج الرجل صبية، ثم تزوج عمّتها وفرّق بينه وبين العمّة لا تحرم الصغيرة، فإن جاءت أم العمّة وأرضعت الصغيرة لا يفسد نكاح الصغيرة، وإن ثبتت الأختية بينها وبين العمة؛ لأن نكاح العمّة وقع باطلاً فلم يتحقق الجمع المحرم.(3/182)
-----
وفي «المنتقى»: إذا تزوج امرأة نكاحاً فاسداً ووطئها وفرّق بينهما، ثم تزوج صبية رضيعة فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة فسد نكاح الصغيرة، يريد به: إذا كان الإرضاع في عدة الكبيرة بدليل أنه علّل وقال: من قبل أنها صارت أخت الكبيرة، والكبيرة في العدة، فعلى هذا إذا كان الإرضاع بعد انقضاء عدّة الكبيرة لا تحرم الصغيرة.
تزوج رجل ثلاث صبيات فجاءت امرأة وأرضعتهن معاً بأن حلبت لبنها في قارورة وألقمت إحدى ثدييها إحداها والأخرى الأخرى وأوجرت الثالثة معاً بِنَّ جميعاً؛ لأنهن صِرْنَ أخوات معاً، وإن أرضعتهن واحدة بعد أخرى بانت (201ب1) الأوليتان والثالثة امرأته؛ لأنه لما أرضعت الثانية ثبتت الأختية بين الثانية وبين الأولى، فتقع الفرقة بينه وبينهما، فإذا أرضعت الثالثة صارت الثالثة أختاً لهما إلا أنه لم يبق الجمع فلا يفسد نكاح الثالثة لهذا.
ولو أرضعت الأولى ثم أرضعت الثنتين معاً حرمن عليه؛ لأن رضاع الأولى لم يتعلق به تحريم، فإذا أرضعت الثنتين صرن أخوات وقد تحقق الجمع فيهن فيحرمن، ولو كنّ أربع صبيات فأرضعتهن واحدة بعد أخرى حرمن عليه.
وطريقه: أن بإرضاع الثانية حرمت الأولى والثانية، وبإرضاع الرابعة حرمت الرابعة والثالثة، وكذلك لو أرضعت واحدة ثم أرضعت الثلاث معاً حرمن عليه جملة، وكذلك ولو أرضعت الثلاث منهن معاً ثم أرضعت الرابعة لا تحرم الرابعة.
ولو تزوج صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا، ولا مهر للكبيرة إن كان قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر، وله أن يتزوج بالصغيرة إن لم يكن دخل بالكبيرة، ولا يتزوج الكبيرة؛ لأن الصغيرة ربيبته من الرضاع ولم يدخل بها، والكبيرة أم امرأته.(3/183)
-----
ولو تزوج كبيرة وصغيرتين، وأرضعتهما الكبيرة واحدة بعد أخرى؛ فإن لم يكن دخل بالكبيرة حرمت الكبيرة والصغيرة الأولى؛ لأنه حين أرضعتها فقد صارتا أماً وابنة، فوقعت الفرقة بينهما، فحين أرضعت الثانية فليس في نكاح فبقي نكاحهما؛ لأن السابق مجرد العقد على الأم، ولا تحل له هذه الكبيرة أبداً، وتحل له الصبية إذا فارق التي عنده، وإن كان ذلك بعدما دخل بالكبيرة حرمن عليه جميعاً؛ لأنهما صارتا ابنتيها من الرضاعة، ولا تحل له واحدة منهن أبداً؛ لوجود الدخول بالأم، وصحة العقد ما لا يثبت.
ولو تزوج كبيرة وثلاثاً صفاراً فأرضعتهن واحدة بعد أخرى حرمن عليه، دخل بالكبيرة أو لم يدخل، أما حرمة الكبيرة والصغيرة الأولى؛ لأنهما صارتا أماً وبنتاً، وأما حرمة الصغيرة الثانية والثالثة إن لم يدخل بالكبيرة، فلثبوت الأختية بينهما، وإن دخل بالكبيرة؛ لأن كل واحدة منهما ربيبته وقد دخل بالأم.
ولو تزوج كبيرتين وصغيرتين، ولم يدخل بالكبيرتين بعد، حتى عمدت الكبيرتان إلى إحدى الصغيرتين وهي زينب، فأرضعتاها إحداهما بعد الأخرى، ثم أرضعتا الصغيرة الثانية وهي عمرة إحداهما بعد الأخرى، بانت الكبيرتان، والصغيرة الأولى وهي زينب، والصغيرة الثانية وهي عمرة امرأته؛ لأن إحدى الكبيرتين حين أرضعت زينب بانتا؛ لأنهما صارتا ابنةً وأماً، فحين أرضعت الكبيرة الأخرى زينب صارت أم امرأته فحرمت أيضاً، فإن أرضعتا عمرة صارت عمرة ربيبته ولم يدخل بأمها فلا يحرم.
ولو أنّ إحدى الكبيرتين أرضعت الصغيرتين واحدة بعد أخرى، ثم أرضعت الكبيرة الأخرى الصغيرتين واحدة بعد أخرى، فإن كانت الكبيرة الثانية بدأت بالتي بدأت بها الكبيرة الأولى وهي زينب بانت، الكبيرتان والصغيرة الأولى وهي زينب، والصغيرة الأخرى وهي عمرة امرأته، ولو بدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الأخرى حَرُمْنَ عليه جُملة.(3/184)
-----
ولو كانت تحته صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة بانتا؛ لأنهما صارتا أختين. وكذلك لو أرضعتهما أخت الكبيرة؛ لأن الصغيرة صارت بنت أخت الكبيرة، والجمع بين المرأة وابنة أختها لا يجوز، ولو أرضعتها عمة الكبيرة أو خالتها لم تبن واحدة منهما؛ لأن الجمع بين المرأة وابنة عمها أو ابنة عمتها أو ابنة خالها جائز.
وإذا كانت تحت الرجل كبيرة وصغيرة فطلّق الكبيرة، ثم إن أخت الكبيرة أرضعت الصغيرة والكبيرة في العدة بعد؛ بانت الصغيرة؛ لأن حرمة الجمع في حالة العدة كحرمتها حال قيام النكاح.
ولو زوج رجل ابنه الصغير امرأة لها لبن فارتدت وبانت من الصبي، ثم أسلمت فتزوجها رجل فحبلت منه، وأرضعت بلبنها ذلك الصبي الذي كان زوجها، حرمت عليه زوجها الثاني؛ لأن الصبي صار ابناً لزوجها، فكانت هذه امرأة الابن فحرمت عليه.
ولو زوج رجل أم ولده مملوكاً له وهو صغير فأرضعته بلبن السيد حرمت على زوجها وعلى مولاها؛ لأن المملوك صار ابناً لمولاه، فحرمت على المولى لأنها امرأة ابنه وحرمت على الزوج لأنها موطوءة ابنه.
ولو تزوج صغيرة وطلقها، ثم تزوج كبيرة فأرضعت هذه الكبيرة تلك الصغيرة بلبنها أو لبن غيرها حرمت عليه؛ لأنها أم امرأته.
نوع منه ولا تقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو شهادة رجل وامرأتين عدول(3/185)
-----
هكذا روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما. والمعنى: أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح، وإبطال الملك عن المحل لا يثبت إلا بشهادة شاهدين، وهذا بخلاف ما إذا اشترى لحماً فأخبره مسلم أنه ذبحه مجوسي، فإنه لا يحل تناوله؛ لأن حرمة التناول تقبل الفصل عن زوال الملك، فكان هذا من باب الدين، فقبل قول الواحد فيه، وإن كان المخبر واحداً و وقع في قلبه أنه صادق فالأولى أن يتنرّه ويأخذ بالثقة، وحط الإخبار قبل العقد أو بعده، ولا يجب عليه ذلك. وإذا شهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان وهم عدول لم يتسع لكل واحد منهما المقام مع صاحبه؛ لأن الحجة قد تمّت.
صبيّة أرضعها بعض أهل القرية فهو في سِعَةٍ من المقام معها في الحكم؛ لأنه لم يظهر المانع في «فتاوى أهل سمرقند». وفيه أيضاً: أدخلت المرأة حلمة ثديها فم رضيع ولم تدر أدخل اللبن في حلقه أم لا فإنه لا يحرم النكاح؛ لأن في المانع شك.
وفي آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة رضيعة ومضى على ذلك زمان فقالت أم الزوج أو أختها: إني قد أرضعتها، إن قالت قد أرضعتها قبل النكاح لا يحل للزوج أن يتزوج أختها ما لم تُطلّق الرضيعة؛ لأن إقدام الزوج على النكاح إقرار منه بصحة النكاح، وإقراره حجة في حقّه. وإن قالت: أرضعتها بعد النكاح جاز له أن يتزوج بأختها قبل أن يطلقها والله أعلم.
نوع منه
إذا قال الزوج: هذه المرأة أمي من الرضاعة أو قال: ابنتي أو قال: أختي، ثم أراد أن يتزوجها بعد ذلك وقال: أو همت أو أخطأت أو لبست، وصدقته المرأة فهما مصدقان في ذلك وله أن يتزوجها، وهذا استحسان وإن ثبت على قوله الأول وقال: هو حق كما قلت، ثم تزوجها فرّق بينهما قياساً واستحساناً.
وجه القياس: أن الرجوع عن الإقرار فيما هو على المقرّ غير عامل؛ لأن الإقرار ملوم بنفسه على ما عرف.(3/186)
-----
وجه الاستحسان: أن هذا أمر قد تسببه، وقد وقع عند الناس أن بينه وبين امرأة رضاع، فيخيّر بذلك ثم يتفحص عن حقيقة الحال فيتبيّن (202أ1) أنه غلط في ذلك، وفيما يقع فيه الاشتباه إذا أخبر بالغلط وليس هناك من يكذبه يجب قبول خبره، ولم يوجد المكذب هنا.
وإذا أقرت المرأة أن هذا أبي من الرضاعة أو أخي أو ابن أخي وأنكر الرجل، ثم كذبت المرأة نفسها فقالت أخطأت فتزوجها فالنكاح جائز، وكذلك لو لم يتزوجها قبل تكذيب نفسها.
ولو قالت المرأة بعد النكاح: قد كنت أقررت: أنك أخي وقد قلت: إن ما أقررت به حق حين أقررت بذلك وقد وقع النكاح فاسداً، فإنه لا يفرق بينهما، ولو كان هذا القول من الزوج يفرق بينهما.
وإذا أقرّ الرجل أن هذه المرأة أخته من الرضاعة، وثبت على ذلك وأشهد عليه شهوداً، ثم تزوجها ولم تعلم المرأة بذلك، ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح فرقت بينهما، ولو أقرّا بذلك جميعاً ثم أكذبا أنفسهما وقالا: أخطأنا، ثم تزوجها كان النكاح جائزاً، وكذلك هذا في النسب، ليس يلزم من ذلك إلا ما ثبتا عليه؛ لأن الغلط والاشتباه فيه مما يتحقق، ولو تزوج امرأة ثم قال بعد النكاح هي أختي من الرضاعة أو ما أشبه، ثم قالت المرأة: أُوهمت، ليس الأمر كما قلت لا يفرق بينهما استحساناً، ولو ثبت على هذا المنطق وقال: هو حق كما قلت، يفرق بينهما، ولو جحد بعد ذلك لا ينفعه جحوده.
والحاصل: أنّ مثل هذا الإقرار إنما يوجب الفرقة بشرط الثبات عليه، فإذا قال: أُوهمتُ فقد انعدم ما شرطه فلا يوجب الفرقة. وإذا قال بعد الإقرار: هو حق كما قلت: هذه أختي أو هذه ابنتي، وليس لها نسب معروف ثم قال: أُوهمت يصدق، وهذا بخلاف ما لو قال لعبده: هذا ابني، أو قال لأمته: هذه ابنتي ثم قال: أُوهمت، لا يصدق ويحكم بعتق العبد والأمة.(3/187)
-----
والفرق: أن الأشتباه لا يقع بين العبد وبين ابنه إلا نادراً لأن العبد في الغالب.... لابنه في المطعم والملبس والمجلس، والنادر لا عبرة له، فلا يُعتد بقوله: أوهمت، والاشتباه بين ابنته وبين زوجته ليس بنادر بل هو غالب، لتفارقهما في المطعم والملبس والمجلس، والغالب معتبر شرعاً، ولهذا تعلّل إذا قال: أوهمت فهو الفرق بين الصورتين.
ولو قال: هذه ابنتي من النسب، قال ذلك لامرأته وثبت عليه، ولها نسب معروف لم أفرق بينهما، وكذلك لو قال: هذه أمي والأم معروفة وثبت عليه، ذلك لا يفرق بينهما؛ لأنه مكذب شرعاً فيما قال.
ولو صار مكذباً من جهة نفسه بأن قال: أوهمت لم يفرق بينهما، فكذا إذا صار مكذباً شرعاً. ولو قال: هي ابنتي وليس لها نسب معروف ومثلها يولد لمثله، وثبت على ذلك يفرق بينهما، فبعد ذلك إن صدقته المرأة أنها ابنته ثبت النسب وما لا فلا، وإن كان مثلها لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه ولا يفرق بينهما؛ لأنه ثبت كذب إقراره حقيقةً، والله أعلم.
الفصل الرابع عشر في بيان ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز
قال أصحابنا رحمهم الله: لا يجوز للرجل أن يتزوج بأم امرأته دخل بها أو لم يدخل بها، وهذا لقوله تعالى: {وَأُمَّهَتُ نِسَآئِكُمْ} (النساء: 23) حرم أمهات النساء مطلقاً، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنه أم المرأة.... في القرآن أي: مطلقة.
ولا يجوز أن يتزوج بابنة امرأته إن كان قد دخل بها، وإن لم يدخل بها فلا بأس لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَآئِكُمُ اللَّتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23).(3/188)
-----
وإذا جمع بين امرأتين في النكاح فالأصل في جنس هذه المسائل: أن كل امرأتين لو صورنا إحداهما من هذا الجانب أو من ذلك الجانب ذكراً لم يجز النكاح بينهما، برضاع أو نسب لم يجز الجمع بينهما، ولو جاز لواحد منهما أن يتزوج بالأخرى، والجمع جائز كالجمع بين المرأة وابنة زوج كان لها من قبل، وإن كانت ابنة الزوج لو كان ذكراً لا يجوز النكاح بينهما، إلا أن امرأة الأب لو كانت ذكراً يجوز النكاح بينهما، وهذا لأن الأصل في هذا الباب ذواتي رَحِمٍ محّرم، وهناك الحرمة بائنة من الجانبين، لو صورنا إحداهما رجل أي جانب كان، وكل امرأتين هما في معناهما، ثبت هذا الحكم في حقهما وما لا فلا.
وكما لا يجوز للزوج أن يتزوج بأخت امرأته في عدة امرأته فكذا لا يجوز له أن يتزوج أحداً من ذوات محارمها في عدتهما؛ لأنهما في معنى الأجنبي في حرمة الجمع بينهما، فلا يجوز له أن يتزوج أمّه على الحرمة؛ الحرّ والعبد في ذلك سواء عندنا، بعموم قوله عليه السلام «لا تنكح الأمة على الحرة».
ولو جمعهما في عقد صحّ نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة؛ لأن الأمة ليست بمحلٍ حالة الضم إلى الحرة، وهذا لما عرف أن الرق في جانب النساء منقصٌ للحل كما في جانب الرجال، غير أن في جانب النساء لا يمكن إظهار النقصان في حق العدد، فأظهر بالنقصان في حق الأحوال، فجعلناها من المحللات قبل الحرة، ومن المحرمات بعد الحرة ومع الحرة، وهذا إذا كان يصح نكاح الحرة وحدها.
وأما إذا كانت الحرة لا يصح (نكاحها) وحدها فضمهما إلى الأمة لا يوجب بطلان نكاح الأمة، كما لو جمع بين حرة وأمة وللحرة زوج، فإنه لا يبطل نكاح الأمة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: أختان قالت كل واحدة منهما لرجل واحد قد زوجت نفسي منك بكذا، وخرج الكلامان معاً، فقبل الزوج نكاح إحداهما فهو جائز، لأن كلامهما منفصل في الأصل فلم يتحقق الجمع لا في حق الحكم ولا في حق النسب.(3/189)
-----
وفيه أيضاً: رجل له بنت كبيرة وأمة كبيرة فقال الرجل: قد زوجتهما كل واحدة منهما بكذا، فقبل الزوج نكاح الأمة كان باطلاً؛ لأن الموجب جمع بين والأمة والحرة في الإيجاب، وذلك يوجب بطلان نكاح الأمة، لكون نكاح الأمة دافعاً نكاح الحرة فإن قبل بعد ذلك نكاح الحرة جاز؛ لأن نكاحها توقف على قبوله ولم يرتد بقبول نكاح الأمة؛ لأن الإيجاب في حق الأمة باطل.
وفيه أيضاً: رجل وكّل رجلاً أن يزوجه امرأة، ووكّل رجلاً آخر يمثل ذلك، فزوجه كل واحد منهما امرأة بغير أمرها، وهما أختان من الرضاعة، وخرج الكلامان معاً فهما باطلان، وكذلك لو كان أحد النكاحين برضا المرأة أو كان كلاهما برضاهما لما ذكرنا.
وقال أبو حنيفة رحمة الله: عليه لا يتزوج الأمة في عدة الحرة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يتزوج في عدة المبتوتة.
هما يقولان: المحرم إدخال الأمة في نكاح الحرة لا الجمع، بدليل أن نكاح الأمة إذا كان سابقاً يجوز، ولا يتحقق الإدخال إذا كانت الحرة مبتوتة.
وأبو حنيفة يقول: بأن العدّة حق من حقوق النكاح... من... فيتحقق الإدخال (202ب1). على الحرة من وجه، فيعتبر بالإدخال من كل وجه احتياطاً لأمر الحرمة.
ولو تزوج أمة وحرّة والحرة في عدة من نكاح فاسد أو عن وطىء بشبهة ذكر الحسن أنه على هذا الخلاف وغيره. قال: يجوز نكاح الأمة هنا بالاتفاق، ويجوز له أن يتزوج أخت أمته التي وطئها، وأخت أم ولده، ولكن لا يطأ الزوجة حتى تحرم الأمة وأم الولد على نفسه، بنكاح أو ببيع الأمة، فلا يجوز له أن يتزوج أخت أم ولده في عدة أم الولد، بأن أعتق أم الولد ثم أراد أن يتزوج بأختها في عدتها فإنه لا يجوز، ويجوز له أن يتزوج أربعاً، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز نكاح الأخت والأربع؛ لأن العدة أثر ذلك الفراش، وذلك الفراش لم يكن مانعاً نكاح الأخت ولا نكاح الأربع فكذا أثره.(3/190)
-----
وأبو حنيفة رحمه الله يقول في الفرق: أن المقصود من النكاح الوطىء، وهذا الرجل باختيار عدة أم الولد غير ممنوع عن وطىء الأربع بالنكاح؛ بأن يعتقها وتحته أربع نسوة، فإن له أن يظاهر، فكذا لا يكون ممنوعاً من العقد على الأربع، وهو باعتبار عدتها ممنوع عن وطىء أختها بالنكاح، فيكون ممنوعاً من العقد عليها أيضاً، بمنزلة العدة من النكاح. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز أن يتزوج امرأة حاملاً من الزنا، ولا يطأها حتى تضع، وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله: لا يصح النكاح، والفتوى على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ وهذا لأن المنع من النكاح إذا كان الحمل من النكاح لأجل الحق المحترم لصاحب.... يدخل على فراشه غيره، وأما فيما يرجع إلى الحمل بنفسه فأثره في حق المنع من الوطىء؛ كيلا يصير ساقياً زرع غيره بمائة.
وفي «مجموع النوازل»: إذا تزوج امرأة قد زنى هو بها وظهر بها، حبل فالنكاح جائز عندالكل، وله أن يطأها عند الكل، ويستحق النفقة عند الكل.
في «المنتقى»: قال هشام سألت محمداً رحمه الله: رجل تزوج امرأة لم يكن لها زوج قبل ذلك وزنى بها فجاءت بولد لأم لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها، قال: النكاح فاسد في قولي وقول أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه تزوجها وهي حامل، وإن جاءت بسقط استبان خلقه أو بعض خلقه لأربعة أشهر منذ تزوجها أو أكثر، النكاح جائز، وإن جاءت به لأقل من ذلك فالنكاح فاسد، قال: لأنه بلغنا أنه يكون نطفة أربعين يوماً ثم علقة أربعين يوماً ثم مضغة أربعين يوماً، فإذا أسقطت لأربعة أشهر منذ تزوجها أو أكثر من ذلك فهو ابن الزوج والنكاح جائز، قال محمد رحمه الله: والأربعة الأشهر وجبت عندي في السقط الذي استبان خلقه مثل الستة الأشهر في الولد التام.e(3/191)
-----
قال: ولا نحفظ عن أبي حنيفة رحمه الله في السقط؛ الذي استبان (من) خلقه شيئاً. قال محمد رحمه الله: وإن نقص عدد الأربعة الأشهر من عشرين ومائة يعني في السقط لم أنظر فيه إلى الشهور يعني إلى الأهلّة، وإنما أنظر فيه على عدد الأيام على ما جاء في الحرمة والوقت فيه تمام مائة وعشرين يوماً، وأما الولد التام فعلى عدد الشهور.
فإن تزوجها على رأس عشرة أيام من شهر عددت لها عشرين يوماً من هذا الشهر. وخمسة أشهر بالأهلة، وعشرة أيام من الشهر السادس.
وقال أبو حنيفة رحمه الله في الحربية إذا هاجرت إلى دار الإسلام مسلمة جاز تزوجها ولا عدة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليها العدة لأن البنيونة إنما وقعت بعد دخول دار الإسلام فيلزمها حكم الإسلام، ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى في آية المهاجرات: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) ومتى حكمنا بوجوب العدة كان حكماً ببقاء العصمة.
والفقه فيه: أن العدة أثر النكاح. حكم الشرع به: إظهار الخطر، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه في نكاح الحربي الذي لا خطر لملكه، ألا ترى أنها لو سُبيت لا تجب العدة، حتى يحل للثاني وطئها بعد الاستبراء، فإن كانت حاملاً، فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان، روى أبو يوسف عنه: أنه يجوز النكاح فلا يطأها حتى تضع، وهو اختيار الكرخي رحمه الله، وروى محمد رحمه الله عنه: أنه لا يتزوجها؛ لأن النسب ثابت وظهر الفراش في حق النسب، فكذا في حق المنع عن النكاح.(3/192)
-----
ولا يجوز وطىء كافرة بنكاح ولا ملك يمين، إلا الكتابيات، فنكاح غير الكتابية لا يجوز للمسلم بحال، ونكاح الكتابية يجوز للمسلم سواء كانت حربية أو غير حربية، غير أنها إذا كانت حربية وتزوجها المسلم في دار الإسلام جاز نكاحها من غير كراهة، وإن تزوجها في دار الحرب يجوز نكاحها ويكره هذا، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده، وقال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده أن يطأها ثمة كما قال محمد رحمه الله المغازي: إذا دخل دار الحرب بأمته يكره أن يطأها ثمة، وقال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده أن يستولدها ثمة.
والمرتدة لا يجوز نكاحها على أحد، وكذا المرتد لا يجوز نكاحه مع أحد. وإذا تزوج الرجل بجارية من اكتساب مكاتبه لا يجوز. ولو تزوج بجارية ثم استبرأه المكاتب لا يفسد النكاح، وكذا المكاتب إذا تزوج بجارية من اكتسابه لا يجوز. ولو تزوج بجارية ثم اشتراها بنفسه لا يفسد النكاح.
والفرق: أن الثابت للمولى في اكتساب المكاتب حق الملك لا حقيقة الملك، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع بقاؤه؛ لأن حق الملك ليس إلا الملك الثابت من وجه دون وجه، فاعتبار شبه الوجود إن كان يبقى النكاح، فاعتبار شبه العدم لا يبقى، فلا يجوز نكاح لم يكن بالشك، ولا يبطل نكاح قد كان بالشك.
وإذا زوج الرجل ابنته وهي بالغة برضاها من مكاتبه أو من عبده يجوز، وقد مرّ هذا فيما تقدم. وإن مات المولى ولم يدع مالاً آخر سوى هذا المكاتب وترك ابنته هذه وعصبته لا يفسد النكاح؛ لأن المرأة لا تملك شيئاً من رقبة زوجها، ولو فسد النكاح في هذه الصورة لفسد من هذا الوجه.(3/193)
-----
بيانه: أن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك حقاً للمكاتب، فلا يملك بالإرث أيضاً، فإن طلقها المكاتب فإن كان الطلاق رجعياً كان له أن يراجعها، وإن كان الطلاق بائناً ليس له أن يتزوجها، وهذا لأنه ثبت للمرأة في رقبة المكاتب حق الملك، ولهذا لا يملك المكاتب التزوج إلا برضاها، والطلاق البائن يزيل النكاح، فهذا حال ابتداء النكاح، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح، وأما الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح، والرجعة في حكم استدامة الملك، وحق الملك لا ينافي استدامة ملك النكاح.
ولو لم يكن شيء من ذلك، ولكن مات المكاتب بعد موت المولى وترك ثلاثة آلاف درهم ومهرها على المكاتب ألف درهم، وبدل الكتابة ألف درهم ابتداء (203أ1) بالمهر ثم يستوفي بدل الكتابة ويحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، فيكون ذلك ميراثاً عن مولى المكاتب، النصف للبنت والنصف للعصبة.
بقي هنا ألف آخر يكون ميراثاً عن المكاتب لورثته فيكون المثبت الرابع بحكم الزوجية والباقي للعصبة، وإن لم تكن الابنة في نكاح فلا شيء لها من هذه الألف وهي لعصبة المولى، وعليها عدة الوفاة ولو لم... المكاتب، ولكن عجز فسد النكاح؛ لأنها ملكت نصف رقبة زوجها.
بيانه: أن بالعجز ينفسخ عقد الكتابة وهو المانع من الإرث، وسقط كل الصداق وإن لم يدخل بها لوقوع الفرقة بمعنى من قبلها وهو يملكها شيئاً من رقبة زوجها قبل الدخول بها والله أعلم.(3/194)
الفصل الخامس عشر: في الأنكحة التي لا تتوقف على الإجازة
والتي تتوقف على الإجازة ثم تنفذ بدون الإجازة وما يحتاج فيه إلى الإجازة.
-----
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: عبد أو مكاتب تزوج امرأة بغير إذن المولى يوقف ذلك؛ لأن له مجيز حال وقوعه وهو المولى، فإن عتق قبل إجازة المولى ينفذ ذلك العقد عليه من غير إجازة. والصبي إذا تزوج امرأة ثم بلغ إن أجاز ذلك العقد نفذ عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإن لم يجز لا يجوز. والفرق: أن امتناع النفاذ في حق العبد والمكاتب مع كمال أهليتهما لحقّ المولى، وحق المولى قد زال بالعتق.
وأما امتناع النفاذ في حق الصبي لقصور أهليته فلا بُدّ من الخبر........ الولي (أو) القاضي أو إجازته بعد البلوغ، فلا ينفد إلا بإجازة الولي والقاضي قبل البلوغ أوإجازته بعد لبلوغ.
مكاتب زوج عبده امرأة لم يجز ولم يتوقف؛ لأنه لا مجيز له حال وقوعه. أما المكاتب لأن تزويج العبد ليس بتجارة ولا كسب، بل هو تغييب وتنقيص للمالية، والداخل تحت ولاية المكاتب التجارة والكسب. وأما المولى؛ فلأنه اغتنى عن اكتساب مكاتبه.
ولو وكَّل المكاتب بذلك وكيلاً كان التوكيل باطلاً؛ لأن المكاتب لا يملك المباشرة بنفسه فلا يملك التعويض إلى غيره، فلو زوجه الوكيل قبل عتق المكاتب لم يجز ولم يتوقف، ولو زوجه بعد عتق المكاتب يوقف على إجازته؛ لأن الوكالة لما بطلت كان هذا فضولياً، زوج عبد الغير وذلك الغير من أهل الإجازة وقت المباشرة فيتوقف على إجازته، ولو تزوج عبد المكاتب بنفسه بغير أم المكاتب لم يتوقف حتى لو عتق المكاتب وأجاز ذلك لا يجوز لأنه لا مجيز له. ولو تزوج بعدما عتق المكاتب جاز.
وإذا وكّل الصبي رجلاً أن يزوجه امرأة فزوجه الوكيل قبل البلوغ؛ يتوقف على إجازة الولي أو القاضي قبل البلوغ أو إجازته بعد البلوغ.
وإن زوّجَهُ الوكيل امرأة بعد البلوغ يتوقف النكاح على الإجازة أيضاً، ولكن على إجازة الصبي لا غير، وهذا لأن الوكالة حصلت عن رأي.... فلا تكون لازمة، فصار الوكيل كالفضولي فيتوقف نفاد تصرفه على الإجازة.(3/195)
-----
قال في «الجامع» عبد زوجه رجل امرأتين في عقد بغير إذنه وإذن مولاه، ثم زوجه أيضاً امرأتين في عقد كذلك، ولم يبلغه حتى عتق، فأي العقدين أجازه نفذ. وكذلك لو أجاز إحدى الأوليين ونكاح إحدى الأخريين جاز أيضاً، وهذا لأن نكاح كل واحدة وقع موقوفاً، ألا ترى أن المولى لو أجاز نكاح واحدة منهن قبل العتق جاز، وكذلك إذا أجاز العبد، إلا أن إجازة العبد كانت لا تعمل قبل العتق بحق المولى، وحق المولى قد أسقط بالاعتبار، ولو أجاز نكاحهن جملة بطل الكل؛ لأن العقد ينفد، إلا موقوفاً على إجازة اثنين، فلا يصح إجازة الكل ويصير بإجازة الكل معرضاً عن العقد فيبطل العقدان لعدم الفائدة في اتفاقهما.
ولو أجاز نكاح الثلاث منهن بأعيانهن بطل نكاحهن، وإن أجاز نكاح الواحدة الباقية بعد ذلك صح لأن عقدها بقي موقوفاً فلا يكون إجازة نكاح الثلاث فسخاً لنكاحها؛ لأن الإجازة إنما تعمل في إبطال النكاح الموقوف بعد صحة الإجازة، وإجازة الثلاث لم تصح فبقي نكاح الرابعة موقوفاً على الإجازة فتنفذ بالإجازة.
وفيه أيضاً: حرُّ تحته امرأة زوجه رجل أربع نسوة بعقد بغير أمره، فبلغه الخبر فأجاز نكاح بعضهن لم يجز؛ لأن أصل الخطاب وقع فاسداً، أو زوجه أربع نسوة في عقود متفرقة فأجاز نكاح بعضهن جاز لأن هناك الخطاب ما وقع فاسداً، وإن أجاز نكاحهن في هذه الصورة لم يجز وبطل نكاح الكل، حتى لو أجاز بعد ذلك نكاح بعضهن لا يجوز، ولو بانت امرأته قبل الإجازة في العقد الواحد وفي العقود المتفرقة، ثم أجاز نكاح الكل لم يجز. أما في العقد الواحد فظاهر، وأما في العقود المتفرقة؛ فلأن الموقوف على الإجازة نكاح الثلاثة لا غير.(3/196)
-----
وفي نكاح «الأصل» رجل تزوج أمة بغير إذن المولى، ثم تزوج حرّة ثم أجاز مولى الأمة نكاحها لم يجز؛ لأن الإجازة لاقت عقداً مفسوخاً؛ لأن نكاح الأمة واقع بعد نكاح الحرة باعتبار النظر إلى ما هو المقصود من العقد وهو الملك والمحل، فانفسخ بنكاح الحرة، أو لأنه أعترض بعد عقد الأمة قبل الإجازة ما يمنع ابتداء عقد الأمة، فمنع الإجازة أيضاً، ألا ترى أنه لو تزوج امرأة نكاحها موقوفاً ثم تزوج أختها، ثم إن الأولى أجازت لم يجز، أرأيت إذا تزوج أم هذه الأمة أو ابنتها، وهي حرة قبل إجازة مولاها، ثم أجاز مولاها أكان يجوز؟ لا شك أنه لا يجوز.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: عبد تزوج أمة ثم تزوج حرة ثم تزوج أمة ثم أجاز المولى، نكاحهن جاز نكاح الأمة الآخرة، ولو كان دخل بكل واحدة منهن لم يجز نكاح شيء منهن.
وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله: عبد تزوج أمة ثم حرة بغير إذن المولى، فبلغ المولى فأجاز النكاحين، فنكاح الحرة جائز ونكاح الأمة باطل.
ولو كان تزوج حرة ثم أمة بغير إذن المولى، فأجاز المولى، فنكاح الحرة جائز ونكاح الأمة باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: نكاح الأمة جائز ونكاح الحرة باطل؛ لأن محمداً رحمه الله يقول: نكاح الأمة في عدة الحرة جائز.
ومما يتصل بهذا الفصل: انتقال الإجازة إلى غير من توقف العقد عليه. يجب أن يعلم أن العقد قد يتوقف على إجازة الغير ثم تنتقل الإجازة إلى غيره وتصح بإجازته وقد لا يصح انتقال الإجازة إلى غيره.(3/197)
-----
بيان الأول: إذا زوج رجل ابنة أخيه من ابنه وهما صغيران.... أخيه، إن مات الأب قبل إجازة النكاح وأجاز العم هذا النكاح قبل بلوغها صحت الإجازة ونفد النكاح، وكذلك إذا زوج الرجل ابنه البالغ بغير إذن الابن فلم يبلغه حتى صار معتوهاً فأجاز الأب ذلك النكاح جاز، وكذلك العبد إذا تزوج بغير إذن المولى ثم خرج عن ملكه إلى ملك غيره فأجاز الثاني النكاح صحت إجازته ونفذ العقد.
وكذلك به: أمة زوجت نفسها بغير إذن المولى، ثم خرجت عن ملكه إلى ملك غير البيع أو بالهبة أو بالإرث، فإن لم يحل فزوجها للمالك الثاني بأن ورثها جماعة أو... أبيه وكان الميت قد وطئها أو باعها أو وهبها (203ب1). من جماعة أو من أبيه وكان الأب قد وطئها فللوارث الإجازة.
وبيان الثاني: إذا كانت الجارية تحل للثاني في هذه الصورة بأن وهبها من أجنبي، أو باعها من أجنبي، أو وهبها من أجنبي، أو من أبيه ولم يكن الأب قد وطئها، أو ورثها ابنه ولم يكن الأب وطئها، فإنه لا تصح الإجازة من الثاني، ولا يصح النكاح بإجازة الثاني.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن الإجازة إنما لا يصح انتقالها إلى غير من توقف العقد عليه؛ إذا ثبت الحل لذلك الغير، وهو يعني ما نقل عن مشايخنا: أن الحل الثابت إذا طرأ على الحل الموقوف أبطله، أما إذا لم يثبت الحل لذلك الغير صح الانتقال إلى غير من وقع عليه، وعن هذا قلنا: إن الجارية إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى، ووطئها الزوج ثم باعها الولي من رجل صحّت الإجازة من الثاني؛ لأن وطىء الزوج يمنع ثبوت الحل للمشتري فلم يرتفع الحل الموقوف والله أعلم.(3/198)
الفصل السادس عشر في المهور
-----
وهذا الفصل يشتمل على أنواع، منه في بيان ما يصح مهراً، وفي بيان مقداره وكميتّه. قال الكرخي رحمه الله في كتابه: المهر لا يكون إلا ما هو مال أو ما هو يوجب تسليم المال، فإن سمى في العقد مالاً كان المملوك في العقد مضموماً بالمسمى، وإن لم يسمّ كان مضموماً مهر المثل حتى لو مات عنها قبل الدخول بها وجب مهر المثل عندنا، بناء على أن النكاح لم يشرع إلا معاوضة البيع بالمال عندنا.
والأصل فيه قوله (تعالى): {تَبْتَغُواْ بِأَمْولِكُمْ} (النساء: 24) أحلّ ما وراء المحرمات بشرط الابتغاء بالمال، فإذا سمى في العقد ما هو مَعْدوم في الحال بأن تزوجها على ما تثمر أو على ما تخرج أرضه العام، أو على ما يكتسب غلامه العام لا تصح التسمية وكان لها مهر المثل؛ لأن المعدوم لا يوصف بالمالية، ولا يصح ذكره مهراً، وكذا إذا سمى ما ليس بمال للحال من كل وجه بأن تزوجها على ما في بطون غنمها، وعلى ما في بطن جاريته لا تصح التسمية، وكان لها مهر المثل، وكذا لو تزوجها على طلاق امرأة أخرى، أو عفو عن قصاص فلها مهر مثلها؛ لأن المسمى ليس بمال.
وإذا تزوجها على أن لا مهر لها صح النكاح ووجب لها مهر المثل. والنساء التي يعتبر مهرها بمهور من قوم أتها أخواتها لأبيها وأمها، أو لأبيها وعماتها وبنات عماتها، ولا يعتبر مهرها بمهر أمها وقوم أمها، إلا أن تكون أمها من قوم أبيها بأن كانت ابنة عم أبيها فحينئذ يعتبر مهرها؛ لا لأنها أمها؛ بل لأنها ابنت عم أبيها، وإنما يعتبر من.... من هي مثلها في الحسن والجمال والسّن والمال والبكارة، وكذلك يعتبر أن تكون تلك المرأة من بلدتها؛ لأن المهر يختلف باختلاف البلدان.(3/199)
-----
ومن المشايخ من قال: لا يعتبر الجمال في المرأة إذا كانت من أهل بيت الحسب والشرف والنسب. فإن لم توجد من قوم أبيها امرأة بهذه الصفة؛ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في أول باب المهر أنه يعتبر مهرها بمهر مثلها من الأجانب في بلدها ولا تعتبر بمهر مثلها من قوم أمها.
وذكر هو أيضاً في مسألة اختلاف الزوجين في هذا الباب: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تقدير مهرها بأقرانها من الأجانب، فكان المذكور في أول باب قولهما، وإذا تزوجها ولم يُسمِّ لها مهراً ثم سمى لها مهراً، أو فرض لها مهراً، أو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهراً جاز ويكون ذلك تقديراً لمهر المثل.
وفي «الفتاوى»: سئل أبو القاسم عن امرأة زوجت نفسها بغير مهر، وليس لها مثل في قبيلة أبيها في المال والجمال؛ قال: ننظر إلى قبيلة أخرى مثل قبيلة أبيها فيقضي لها مهر مثلها من نساء تلك القبيلة، وإنما يعتبر حالها في السن والجمال حالة التزوج.
وفي المهر حقوق ثلاثة:
حق الشرع: وهو أن لا يكون حق من عمر.
وحق الأولياء: وهو أن لا يكون أول من مهر مثلها. وحق المرأة: وهو كونه ملكاً لها، غير أن حق الشرع وحق الأولياء يعتبر وقت العقد لا في حالة البقاء، حتى لو زوجت نفسها من رجل بعشرة ثم أراد أنه عن كلها أو عن بعضها جاز، وكذلك إذا زوجت نفسها من رجل بمقدار مهر مثلها، ثم أراد أنه عن كلها أو بعضها، لا يكون للأولياء حق الاعتراض. وعن هذا قلنا: إذا تزوجها على ثوب قيمته ثمانية فلم يقبضه حتى صارت قيمته عشرة فلها الثوب ودرهمان.
ولو كانت قيمة الثوب عشرة فلم يقبضه حتى صارت قيمته ثمانية فلها الثوب لا غير؛ لأن في الوجه الثاني حق الشرع صار.... إذ قيمة الثوب وقت العقد كانت عشرة، فالانتقاص بعد ذلك لا يصير بخلاف الوجه الأول؛ لأن حق الشرع لم يصر.... لأن قيمة الثوب يوم العقد ثمانية.(3/200)
-----
وقد ذكرنا أن حق الشرع إنما تداعى وقت العقد، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن في الثوب وما ليس من ذوات الأمثال تعتبر القيمة يوم التسليم، وفي المكيل والموزون تعتبر القيمة يوم العقد، وهذه الرواية إنما يتضح وجهها؛ إذا لم يكن الثوب معيباً في العقد، ووجه ذلك: أن القيمة أصل في التسليم ألا ترى أنه لو أجبرت على القبول، فتعتبر القيمة يوم التسليم، وأما المكيل والموزون فقد استحكم الوجوب في الذمة، وذكرها الدراهم سواء، فتعتبر القيمة يوم الوجوب.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذ تزوج امرأة على قطعة فضة.... عشرة ولا تساوي عشرة مضروبة، جاز ولا يلزمه فضل ما بينهما.
ولو شرط تعليم القرآن مهراً لا يصح؛ لأنه ليس بمال. ولو تزوجها على أن يخدمها سنة لم يجز.
ولو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل. وروى ابن سماعة أنه يجوز في الرعي، وقد اختلف أصحابنا رحمهم الله في هذا؛ فمنهم من يقول: بأن المنفعة صلحت مهراً؛ لأنها متقومة بالعقد، إلا أن الزوج يمنع عن الخدمة لما فيه من الاستهانه ولا استهانة في رعي الغنم فيجوز شرطه.
ومنهم من قال بأن منفعة الحر لا تصلح مهراً، وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا تزوجها على خدمته سنة فلها مهر المثل. وقال محمد رحمه الله: لها قيمة خدمته، فمحمد رحمه الله يقول: بأنّ المنفعة تصلح عوضاً في سائر العقود فتصلح عوضاً في باب النكاح أيضاً، لا أنه منع من التسليم شرعاً لما فيه من الاستهانة به مع صلاحيته مهراً فيصار إلى قيمته، كما لو تزوجها على عبد الغير ولم يجز ذلك الغير...... بأن المنافع في الأصل ليست.... ولهذا لا يضمن بالغصب، وإنما يظهر لها حكم المالية والتقويم شرعاً بالعقد ضرورة الحاجة إليها، فإذا تمّ يجب التسليم بالعقد... لا تندفع له الحاجة فبقي حكم الأصل، فلم تظهر المالية والتقويم فيجب مهر المثل.(3/201)
-----
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على خدمت نفسه يجوز، ولو تزوجها على خدمة عبده سنة جاز بلا خلاف (204أ1).
وإذا تزوجها على هذا العبد وهو ملك الغير، أو على هذه الدار (التي) هي ملك الغير، فالنكاح جائز والتسمية صحيحة، فتسمية مال الغير صداقاً صحيح؛ لأن المسمى مال معدوم، فبعد ذلك ينظر؛ إن أجاز صاحب الدار فصاحب العبد ذلك فلها غير المسمى، وصار الجواب في النكاح مع... المستحق التسمية نظير الجواب في البيع.
وإن.... المستحق لا يبطل النكاح ولا التسمية، حتى لا يجب مهر المثل، وإنما تجب قيمة المسمى بخلاف البيع، فإن في باب البيع متى لم يجز المستحق التسمية ينفسخ البيع من كل وجه حتى لا تجب قيمة المسمى.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على عبد لها فلها مهر مثلها، ولم يجعل هذا بمنزلة من تزوج امرأة على عبد غيره؛ لأن الذي له العبد لو أجاز كان جائزاً وليس كذلك المرأة.
وفيه أيضاً: إذا تزوج امرأة على عبد ورفعه إليها ووهبته للزوج، ثم استحق فالمرأة ترجع على الزوج بقيمة العبد.
وفي «الأصل»: إذا تزوجها على شيء بعينه، وهلك قبل التسليم أو استحق؛ فإن كان ذلك من ذوات الأمثال رجعت على الزوج بالمثل وإلا بالقيمة، وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ترُدّ ألفاً عليه فلها مهر المثل لأن الألف المشروط بمقابلة الألف المسمى حتى لا تؤدي إلى..... فيبقى النكاح بلا تسمية، حتى تزوجها على ألف درهم على أن تردّ عليه مائة دينار بقيمة الألف على المائة دينار وعلى مهر مثلها؛ فما أصاب الدنانير كان صرفاً يشترط فيه التقابض في المجلس، وما يخص مهر المثل يكون صداقاً وكذلك إذا تزوجها على ألف درهم على أن ردت عليه عبداً بعينه فهو جائز، وتقسم الألف على قيمة العبد ومهر مثلها، فما أصاب قيمة العبد يكون شراءً........ العبد قبل التسليم أو وجد الزوج به عيباً بطل ذلك القدر، وما أصاب مهر مثلها فهو صداقها.(3/202)
-----
نوع منه: فيما إذا سمى لهامالاً وضمّ إليه ما ليس بمال
وفي «الأصل»: إذا تزوجها على ألف وعلى أرطال معلومة من خمر فليس لها الألف؛ لأن ذكر الخمر جعل كالعدم، فكأنه تزوجها على ألف، ولو تزوجها على......... وأرطال من خمر معلومة؛ بأن تزوجها قبلاً على خمسة أو ستة وأرطال معلومة من خمر فلها تمام عشرة دراهم؛ لأن ذكر الخمر يعد كالعدم فكأنه تزوجها على خمسة.
ولو تزوجها على هذا الدّن من الخمر وقيمة الطرف عشرة؛ فعن محمد رحمه الله في ذلك روايتان: إحداهما أنه يجب لها الدّن لا غير لأنه جمع بينهما.d
... يصلح مهراً وبينهما لا يصلح مهراً فهو كما لو جمع بين الخل والخمر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله. وفي رواية أخرى عنه: أنه يجب مهر المثل؛ لأن الطرف لا يقصد بالعقد وإنما يقصد ما فيه، وقد لغت تسمية ما في الطرف فبلغوا تسمية الطرف بطريق التبعية.
فإذا تزوجها على ألف وعلى طلاق فلانة وقع الطلاق على فلانة؛ بنفس العقد، بخلاف ما إذا تزوجها على ألف وعلى أن يطلق فلانة؛ لأن في الفصل الأوّل أوجب الطلاق عوضاً بالعقد، والعوض ثبت بنفس العقد، وفي القصد ما أوجب الطلاق عوضاً، إنما شرط التطليق فلا يقع الطلاق ما لم تطلق. ثم إذا شرط التطليق ولم يطلق فلانة كان لها....... مهر مثلها؛ لأنها إنما رضيت بالنقصان عن مهر المثل ليحصل لها منفعة طلاق الضرة، فإذا لم يسلم لها ذلك كان لها تمام مهر مثلها كما لو تزوجها على ألف درهم وعلى كرامتها، أو تزوجها على ألف درهم وعلى أن هذي لها هدية فلم يف بالشرط والمعنى ما ذكرنا، وكذلك في كل شرط لها فيه منفعة، إذا لم يف الزوج بالشرط.
ولو تزوجها على ألف درهم وعلى طلاق ضرتها فلانة على إن ردت عليه عبداً وقع الطلاق بنفس العقد، وانقسم الألف والطلاق على بعضها وعلى العبد، وهذا لأن الزوج بذل شيئاً: الألف والطلاق. والمرأة بذلت شيئين أيضاً: البضع والعبد(3/203)
-----
فانقسم الطلاق والألف على البضع وقيمة العبد، فإذا كانت قيمة العبد وقيمة البضع سواء كان نصف الألف ونصف الطلاق عوضاً عن العبد، ونصف الألف ونصف الطلاق عن البضع صداقها، وانقسم البضع والعبد على الطلاق والألف أيضاً، وصار بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع، ويكون طلاق فلانة في هذه الصورة بائناً؛ لأن بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع فيكون طلاقاً يحصل.
ثم إنما جعلنا نصف العبد ونصف البضع بمقابلة الطلاق؛ لأن المجهول إذا لم يضم إلى المعلوم فالانقسام باعتبار الذات دون القيمة، وجعل الطلاق الذي ليس بمتقوم ولا مقدر متقوماً ومقدراً بانضمام ما هو متقوم ومقدر إليه.
فإن استحق العبد أو هلك قبل التسليم رجع بخمس مائة حصة العبد، ورجع بنصف قيمة العبد أيضاً؛ لأن نصف العبد بمقابلة نصف الطلاق. واستحقاق الجعل وهلاكه قبل التسليم يوجب قيمته على من كان...... تسليمه.
وإن كان تزوجها على ألف وعلى أن يطلق ضرتها فلانة على إن ردت عليه عبداً.... لا يقع الطلاق على الضرّة ما لم يطلقها فصار نصف الألف صداقاً لها، والنصف ثمن العبد إذا كان قيمة البضع، وقيمة العبد على السواء، فبعد ذلك ينظر؛ إن وفّى لها بالشرط بأن يطلق فلانة فلها الخمسمائة لا غير، فإن لم يطلق فلانة فلها تمام مهر مثلها لأنها، إنما نقصت عن مهر المثل رغبة في طلاق ضرتها.... عدم حصول المرغوب كان لها تمام مهر مثلها والله أعلم.
نوع منه: في المهر يدخل الجهالة
الأصل: أن جهالة المسمى إذا كانت جهالة جنس تمنع صحة التمسية ويجب مهر المثل. وإن كانت جهالة وصف لا يمنع صحة التسمية وللمرأة الوسط من ذلك.(3/204)
-----
بيان الأول: إذا تزوج امرأة على دابة أو ثوب فلها مهر مثلها بالغاً ما بلغ. وكذلك إذا تزوجها على دار، لأن المسمى مجهول الجنس.... أجناس مختلفة، لاختلاف أصولها من القطن والكتاب والإبريسم والخز. وكذلك الدابة؛ لأن اسم الدابة يقع على الخيل والبغال والحمير، وأنها أجناس، وكذلك الدار؛ لأنها في معنى الأجناس المختلفة، فإنها تختلف باختلاف البلدان والمحالّ، وباختلاف الضيق والسعة وكثرة المرافق وقلتها.
بيان الثاني: إذا تزوج امرأة على عبد أو ثوب هروي ولم يصف، فالتسمية صحيحة ولها الوسط من ذلك نظراً للجانبين، والزوج بالخيار إن شاء أعطاها الوسط؛ وإن شاء أعطاها القيمة لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة، فتسليم الغير تسليم ما هو المستحق بالعقد فصارت القيمة أصلاً في التسليم والسوط من.... في زماننا أدنى التركي وأرفع الهندي، وتعتبر قيمة الوسط في الوسط على قدر غلاء السعر والرخص عندهما وهو الصحيح، وهذا (204ب1) إذا ذكر العبد والثور مطلقاً غير مضاف إلى نفسه، أما إذا ذكره مضافاً إلى نفسه فإن قال: تزوجتك على عبدي، أو قال.... ليس له أن يعطي القيمة؛ لأن الإضافة من أسباب التعريف كالإشارة، ولو كان العبد والثوب مشار إليه في العقد ليس له أن يعطيها القيمة فكذا هنا، والمسألة مذكورة في «السير» في أبواب الإمام.
ولو تزوجها على ثوب موصوف فكذلك الجواب في ظاهر الرواية للزوج الخيار إن شاء أعطاها غير الثوب، وإن شاء أعطاها القيمة، فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجبر على تسليم عين الثوب، وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن الثوب بذكر الصفة يلتحق بذوات الأمثال، ألا ترى أن يجوز السلم فيه، وعن أبي يوسف رحمه الله: إن ذكر الأجل مع ذلك يجبر على التسليم، وإن لم يذكر الأجل كان للزوج الخيار؛ لأنه إذا ذكر الأجل صار نظير السلم فيجبر على التسليم كما في السلم.
وذكر «البقالي»: إن في الثياب الموصوفة روايتان.(3/205)
-----
ولو تزوجها على كر حنطة ولم يصف، فإن شاء أعطى كراً وسطاً، وإن شاء أعطى القيمة، فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجبر على تسليم الكر، وهو قول زفر رحمه الله بخلاف العبد على هذه الرواية، فإن هناك لا يجبر على تسليم العبد مع أن الواجب في الصورتين جميعاً الوسط؛ لأن العبد من ذوات الأمثال، فطريق معرفة الوسط فيه القيمة فكانت القيمة أصلاً في التسليم فلا كذلك الحنطة؛ لأنها من ذوات الأمثال، فيمكن معرفة الوسط منها بدون القيمة فلم تكن القيمة أصلاً في التسليم ثمة.
والجواب في سائر المكيلات والموزونات نظير الجواب في الحنطة. وإذا تزوجها على شيء مما يكال أو يوزن فسمى منه كيلاً أو وزناً معلوماً من صنف معلوم فلما ما سمى من ذلك،وإن جاء بقيمته دراهم أو دنانير لم تجبر المرأة على القبول بخلاف الحيوان والثوب الهروي، هكذا ذكر الشيخ الإسلام رحمه الله في «النوادر».
إذا تزوجها على مكيل ووصفه بحيث يكفي مثله في السلم لا يجبر على قبول القيمة، وإن قصر في الوصف وترك شيئاً مما يشترط في السلم أجبرت على قبول القيمة، وهو قول زفر رحمه الله.
ولو تزوجها على بيت فاسم البيت في عرفنا ينصرف إلى المبني من المدر، فإنه لا يصلح صداقاً إذا لم يكن تعينه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على ألف رطل خل فإن كان الغالب في ذلك البلد خل التمر فهو عليه، إن كان الغالب خل الخمر فهو عليه، وكذلك لو تزوجها على كذا رطل لبن فهو على الغالب من ذلك، فإن لم يكن واحد منهما غالباً فلما مهر المثل، لأن هذا من جنسين، ألا ترى أنه لو اشتراه على أنه خل خمر، فإذا هو خل تمر كان البيع فاسداً.
ولو تزوجها على كر تمر فلها كر تمر وسط، قال: لأن هذا جنس واحد.(3/206)
-----
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله، قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا تزوج امرأة على ما له من الحق من هذه الدار، قال: أفرض لها مهر المثل لا أجاوزنه قيمة الدار، وفي قولنا: لها ما كان من الحق في الدار لا غير، إذا بلغ ذلك عشرة.
وفي «المنتقى»: أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا تزوجها بنصيبه من هذه الدار، فلها الخيار إن شاءت أخذت النصيب، وإن شاءت أخذت مهر المثل لا يجاوزنه قيمة الدار.
وفيه أيضاً: إذا تزوجها على دراهم ولم يسم كم هي فلها مهر مثلها، قال: لا يشبه هذا الخلع، ولو قال: تزوجتك على ثوب يساوي خمسين درهماً فلها مهر المثل، وقال أبو حنيفة: إذا تزوجها على قيمة هذا الثوب فلها مهر المثل عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على ألف فهذا على أقربهما على مهر مثلها من الدراهم والدنانير، وإذا تزوجها على ألف دينار ولم يسم نيسابورياً أو تجارياً أو ملكنا فقد قيل: يجب مهر المثل لأن اسم الدينار يقع على جميع هذه الأنواع، وكان المسمى مجهولاً، وقيل لها الوسط، وهو التجاري؛ لأن هذه جهالة نوع، فلا تمنع صحة التسمية وينصرف إلى الوسط، كما في العبد والثوب الهروي.
وفي «الجامع الأصغر»: إذا تزوجها على دراهم وفي البلد نقود مختلفة ينصرف إلى الغالب، وإن لم يكن نظر إلى مهر مثلها وإلى تلك النقود ما بها وافق مهر المثل حكم لما به.
وإذا تزوجها على ناقة من إبله هذه فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يعطيها ما شاء من تلك الإبل.
روى بشر في «نوادره»: وكذا لو تزوجها على ملأ هذا البيت أو هذا الجوالق أو هذا الرطل حنطة، فلها مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لها المسمى فإن أو الجوالق صدق في مقداره.(3/207)
-----
قال في «البقالي»: عقب ذكر مسألة... وكذلك إذا تزوجها بوزن هذا الحجر، أو بقية هذا العبد، أو بجميع ما يملك أو على مهر فلانة ولو تزوجها على حكمها أو حكم أجنبي أو حكمه فالتسمية فاسدة، فبعد ذلك ينظر، إن شرط حكمه وحكم مهر المثل أو أكثر فلما ذلك، وإن حكم بالأول فلها مهر المثل إلا أن ترضى المرأة، وإن شرط حكمها وحكمت بمهر المثل، أو أقل فلها ذلك، وإن حكمت باأكثر فلها مهر المثل إلا أن يرضى الزوج. وإن شرط حكم أجنبي، فإن حكم بأقل من مهر المثل لم يجز إلا برضى المرأة، وإن حكم بأكثر من مهر المثل لم يجب إلا برضى الزوج، وإن حكم بمهر المثل جاز حكمه ولا يتوقف على الرضى والله أعلم.
نوع منه في الرجل يتزوج امرأة على مهر فهو حد على خلاف ما سمى
قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا تزوج امرأة على عبد معين، أو دن من خل معين، أو شاة ذكية معينة، فوجد العبد حراً أو الخل خمراً أو الشاة ميتة، فلها مهر المثل في جميع ذلك.
وقال أبو يوسف رحمه الله: لها مهر مثل ذلك العبد عندنا ومثل ذلك الدن من خل وسط، ومثل تلك الشاة ذكية.
وقال محمد رحمه الله: في الميتة كما قال أبو حنيفة. في الخمر الخمر كما قال أبو يوسف رحمه الله.(3/208)
-----
هذه المسألة في الحاصل، بناء على أصل معروف في البيوع: أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعوا والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، فالعبرة للتسمية. وإن كان المشار إليه من جنس المسمى إلا أنهما يختلفان وصفاً فالعبرة للإشارة بعد هذا. قال أبو يوسف رحمه الله: الحر مع العبد والخل مع الخمر جنسان مختلفان؛ لأن أحدهما مال يصلح صداقاً، والآخر ليس بمال لا يصلح صداقاً، يتعلق الحكم بالتسمية والمسمى حال، فاعتبرت الإشارة لبيان وصف المسمى، كأنه قال: علي مثل هذا العبد في الوصف فكذا في الخل والشاة. محمد رحمه الله يقول: الخل من الخمر جنسان مختلفان؛ لأن المطلوب من كل واحد منهما غير المطلوب من الآخر، وأما الحر مع العبد جنس واحد؛ لأن منفعة الحر مع العبد تحصل على نمط واحد، فكانت العبرة للإشارة. والمشار إليه لا يصلح مهراً، فصار كأنه قال: تزوجتك على هذا، أو سكت.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: اختلاف الجنس باختلاف الصورة والمعنى؛ لأن قيام الشيىء (205أ1) بالصورة والمعنى، وصورة الخل والخمر تنفي معنى المجانسة من وجه، فلم يسقط حكم الإشارة فيجب مهر المثل.
ولو سمى حراماً وأشار إلى حلال بأن قال: تزوجتك على هذا الخمر، وأشار إلى الخل.
وتزوجتك على هذا الحر وأشار إلى العبد، فلها المشار إليه في ظاهر قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله اعتبار الإشارة.
عن محمد عن أبي حنيفة رحمها الله: أن يجب مهر المثل لأنه .... التسمية مسقط حكم التسمية أصلاً، وعن محمد رحمه الله: أن لها المشار إليه، وفي رواية أخرى عنه أن لها مهر المثل.
ولو جمع بين حر وعبد وخل وخمر فقد روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إن لها الحلال المشار إليه لا غير، إذا بلغ عشرة وإلا....، وفي رواية مهر المثل أخرى عنه إذا كان الحلال أقل من مهر المثل، فإنه يبلغ.(3/209)
-----
وقال أبو يوسف رحمه الله: لها العبد، وقيمة الحر لو كان عبداً، وقال محمد رحمه الله: لها الحلال المسمى لا غير.
في «نوادر ابن سماعة»: رجل تزوج امرأة على شيء، وأشار إلى شيء بعينه وسمى شيئاً سواه وكانا جميعاً حلال فلها مثل الذي سمى، وإن كان أحدهما حراماً، إما الذي سمى، وإما الذي أشار إليه فلها مهر المثل، قال: لا يشبه: إذا كانا حلالين، إذا كان أحدهما حراماً، معنى قوله في ابتداء المسألة: أشار إليه بعينه وسمى شيئاً سواه، وسمى نوعاً آخر. الحاصل: في النوعين يعتبر المسمى على ما ذكرنا فإذا كانا حلالين يجب مثل المسمى، وإذا كان أحدهما حراماً يجب مهر المثل.
بيانه: إذا تزوجها على هذا الثوب الهروي، فذا هو مروي فلها ثوب هروي مثل جودة التي رأته، وكذلك إذا تزوجها على هذا الدن الخل، فإذا هو طلاء فلها خل مثل كيل الطلي.
وإن قال: على هذا الدن من الخمر فإذا هو خل فلها مهر المثلها، قال.... جعلنا على التسمية .... نوعان وهما إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله على ما ذكرنا.
ولو تزوجها على هذه الشاة الميتة فإذا هي ذكية أو هي حية، قال: هذا نوع واحد فيقع العقد على المشار إليه ولا تعتبر فيه التسمية، وكان المشار إليه ميتة فلها مهر مثلها، وإن كان قد سمى ذكية، وإن المشار إليه ذكية أو حية فلها ذلك، وإن كان قد سمى ميتة.
وذكر الحسن عن أبي يوسف رحمه الله في «كتاب الأختلاف»: إذا تزوج امرأة على عبد وهو لا يعلم حاله، فإذا هو حر فلها قيمته، وإن كانت تعلم أنه حر فلها مهر مثلها، وإن كان مدبراً أو مكاتباً أو أم ولد وهي تعلم بذلك، أو لم تعلم وكان مشكلاً وقت العقد فلها قيمته.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: إذا تزوج امرأة على هذه الشاة، فإذا هي خنزير فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله.
وقولنا عليه قيمة شاة وسط.(3/210)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة»: عن محمد رحمه الله: إن عليه شاة وسط.
وقال محمد رحمه الله في «الإملاء»: إذا تزوجها على هذه الشاة فإذا هي خنزيراً، أو على هذا الخنزير، فإذا هي شاة وهي تعلم حالة المشار إليه، فالنكاح على المشار إليه، ولا تعتبر فيه التسمية فبعد ذلك ينظر إن كانت المشار إليه حلالاً فلها ذلك مهراً وليس لها غير ذلك، وإن كان حراماً فلها مهر مثلها.
قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال لآخر: ابتعتك هذا الخنزير بألف، وأشار إلى الشاة وهما يعلمان أنها شاة، فالبيع جائز وكذلك إذا قال لغيره: ابتعتك هذا الخنزير بألف وأشار إلى عبد وهما يعلمان أنه عبد فالبيع جائز، وإن كان مشكلاً فالبيع باطل في قولهم، وهذه المسألة مع أجناسها بناء على أصل أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعنا والمشار إليه خلاف جنس المسمى، إنما يتعلق العقد بالمسمى: إذا لم يعلم المتعاقدان حال المشار إليه، أما إذا علم المتعاقدان حال المشار إليه فالعقد يتعلق بالمشار إليه، وسائل هذا الأصل مذكورة في «الزيادات» في باب الوكالة بالشيء يكون على غير ما أمرته.
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا تزوج امرأة على أرض وحددها على أن فيها نخلاً فيها عشرة،أجرته ببعضها المرأة فإذا تبينت أجرته وكان ذلك مثل أن يزرعها فلها الخيار؛ إن شاءت أخذت الأرض ولا شيء لها غيرها، وإن شاءت ردت الأرض وأخذت أو وهبتها وسلمتها ثم علمت أنها سنة أجرتها فلا شيء لها غير الأرض؛ لأن الزوج يقول لها: ردي الأرض وخذي قيمة عشرة أجرته، وكذلك اللؤلؤة إذا انتقصت من وزنها، والثياب إذا انتقصت من ذراعها، ولو لم يكن باعها فلا.... ولكن غلب عليها دجلة أو نحوها من الأنهار مجرى فيها فصارت مستهلكة ثم ملحت لها سنة أجرته رجعت على الزوج بتمام قيمة الأرض.(3/211)
-----
وكذلك إذا تزوجها على عشر أثواب هروية... على أن كل ثوب منها عشاري فوجد كلها.... فهي بالخيار إن شاءت أخذتها وإن شاءت ردتها وأخذت قيمتها لو كانت عشارية على مثل حالة التي هي عليه، فإن وجدت كلها عشارية إلا واحدة منها فإنها.... فهي بالخيار، إن شاءت أخذت الثياب العشارية وردت الثوب الذي وجدته ساعيا وأخذت قيمته لو كانت عشارية على مثل جودته ورفعته.
وإذا تزوج امرأة على الأرض على أن فيها ألف نخلة وحددها، أو تزوجها على دار وحددها على أنها مبنية بالآجر والجص والساج، فإذا الأرض لا يخيل منها، والدار لا بناء فيها، فهي بالخيار، إن شاءت أخذت الدار والأرض ولا شيء غير، وإن شاءت أخذ مهر مثلها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها لم يكن لها إلا نصف الأرض ونصف الدار على وحدتها عليه إلا أن تكون متعتها أكثر من ذلك فيكون الخيار للمرأة، إن شاءت أخذت نصف الأرض ونصف الدار لا شيء غير ذلك، وإن شاءت أخذت المتعة والله أعلم.
نوع منه في الشروط ف يالمهر
إذا تزوج امرأة على ألف درهم أو على ألفي درهم فالنكاح جائز ويحكم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله، فإن كان مهر مثلها ألف أو أقل فلها ألف، وإن كان ألفان أو أكثر فلها الألفان، وإن كان أكثر من ألف أو أقل من ألفي فلها مهر مثلها.
فالحاصل: أن عنده لا ينقص عن الأقل، ولا يزاد على الأكثر، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لها الألف في الوجوه كلها، وهذه المسألة بناء على أن الموجب الأصل في باب النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله مهر المثل، وإنما يصار إلى المسمى عند صحة التسمية من كل وجه، وعندهما الموجب الأصلي المسمى، وإنما يصار إلى مهر المثل عند فساد التسمية من كل وجه وعلى هذا الأصل مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» وصورتها:(3/212)
-----
إذا تزوج امرأة على ألف حالة أو على ألف إلى سنة فعلء قول أبي حنيفة رحمه الله: يحكم مهر المثل، وإن كان مهر مثلها ألف درهم أو أكثر فلها ألف حالة، وإن كان أقل من ألف فلها إلى سنة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لها ألف إلى سنة على حال، وهذا لأن تأخير الأجل في نقصان المالية، ولهذا التجار يشترون بالنقد بأقل مما يشترون بالنسيئه ولما كان هكذا كان الزوج على ألف حالّة أو ألف نسيئة بمنزلة... الزوج على ألف أو على ألفين.
وهناك الجواب على الاختلاف كذا هنا، فلو كان تزوجها على ألف حالة أو على ألفين إلى سنة، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان مهر مثلها ألفي درهم أو أكثر كانت المرأة بالخيار؛ إن شاءت أخذت ألفي درهم إلى سنة وإن شاءت أخذت ألفاً حالة؛ لأن المرأة رضيت عن نقصان مهرها على كل حال.
بعد هذا نقول: الألف أزيد وصفاً وأنقص قدراً، والألفان أزيد قدراً أو أنقص وصفاً لما من أن المؤجل أنقص من المال والإنسان مدة يختار هذا لتعجله، ومدة يختار داراً لكبرته. وإن كان مهر مثلها أول من الألف فالخيار إلى الزوج يعطيها أي المال شاء لأنه..... إحدى الزيادتين، فكان الخيار كما في جانب المرأة.
وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف، أو أقل من ألفين فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا: أنه إنما يعدل عن مهر المثل عنده عند استقرار التسمية، وعندهما الخيار إلى الزوج في الوجوه كلها؛ لأنه لا يلزمه للأول، والأول مما يختاره الزوج.
فرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الخلع على ألف أو ألفين، والإعتاق على ألف أو ألفين، فإن هناك جوابه كجوابهما.(3/213)
-----
والفرق أنه ليس للخلع موجب أصلي يُصار إليه فيجب المتيقن من المسمّي، فالنكاح موجب أصلي، وهو مهر المثل لا يعدل عنه إلا بعد استقرار التسمية. إذا تزوجها على ألف إن لم يخرجها من البلدة، وعلى ألفين إن أخرجها فالنكاح جائز، والمعتبر في المهر الشرط. فإن وفّى به الأول فلها المسمى على ذلك الشرط، وإن لم يف فلها مهر المثل لا ينقص عن الأول، ولا يزاد على الأكثر، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الشرطان جائزان.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا تزوج امرأة على ألف إن كانت قبيحة وعلى ألفين، إن كانت جميلة. فإن كانت جميلة؛ فلها الألفان. وإن كانت قبيحة فلها الألف، وهذا بلا خلاف، وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين ما إذا تزوج على ألف وبينما إذا تزوجها على ألفين إن أخرجها من القرية، وعلى ألفين إن لم يخرجها فإن الشرط الأول جائز عنده، والشرط الثاني فاسد. والفرق أن في مسألة الإخراج دخلت المخاطرة في التسمية فإنه لا يدري أن الزوج يخرجها أو لا يخرجها.
وفي مسألة القبح والجمال والمخاطرة أصلاً، فإن المرأة على صفة واحدة قبيحة كانت أو جميلة، لكن الزوج لا يعرف وجهالته لا توجب الخطر. وذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في شرح «الشافي»: أن من تزوج امرأة على ألف إن كانت أعجمية وعلى ألفين إن كانت عربية وجعلها بمنزلة شرط الإخراج من البلدة. وما ذكر من الفرق يشكل بهذه المسألة.
وإذا تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد بحكم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله فإن كان مهر مثلها مثل ذويها قيمة فلها الأدون إلا أن يرضى الزوج بالأرفع، فإن كان مثل أرفعها قيمة فلها الأرفع إلا أن ترضى المرأة بالأدون، وإن كان فيما بين ذلك فلها مهر المثل.
وفي «المنتقى»: إذا قال لامرأة: أتزوجك على ألف على أن تزوجيني فلانة بمهر من عندك يعطها إيّاه وتزوجها على ذلك كان النكاح بحصتها من الألف إذا قسم على مهرها فليس (لها) أن تزوجه فلانة.(3/214)
-----
ولو قال: أتزوجك على أن تزوجيني فلانة بألف، فقبلت ذلك وتزوجت، فهذه امرأة قد تزوجت بغير مهر مسمى فلها مثل نسائها. كرجل تزوج امرأة على ألف على أن تردّ عليه ألف درهم، ولو أن المرأة التي شرط نكاحها ووجب....... بخمس مائة جاز، ونكاح الأولى على ما وضعت لك بغير مهر مسمى.
وفيه أيضاً: لو تزوج امرأة على أن يهب لأبيها ألف درهم، فهذا الألف لا يكون مهراً ولا يجبر على أن يهب، ولها مهر مثلها، وإن سلّم الألف فهو للواهب وله أن يرجع فيها إن شاء.
ولو قال له: على أن أهب له عنك ألف درهم فالألف مهر إن طلقها قبل الدخول، وقد وقع الهبة.... عليها بنصف ذلك وهي الواهبة.
وفيه أيضاً: لو تزوجها على أن يعطيها عبد فلان، فالنكاح جائز والشرط باطل.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل تزوج امرأة على ألفين، ألفاً لها وألفاً لأبيها، أو قالت المرأة زوجت نفسي منك على ألفين ألفاً لي وألفاً لأبي فذلك جائز والألفين لها.
وعنه أيضاً: رجل تزوج ابنة من رجل على ألفي درهم وأشهد على نفسه أنه زوج فلانة من فلان بألفي درهم على أن عليّ ألف درهم من مالي، وعلى فلان ألف درهم، فقبل الزوج بالمهر فالمهر كله على الزوج والأب ضامنٌ عنه من ألف درهم. فإن أخذت المرأة ذلك من أبيها أو ميراثها كان للأب أو لورثته أن يرجع بذلك على الزوج؛ لأن قول الأب على أنّ ألف درهم عليّ من مالي بمنزلة الضمان لذلك، والزوج لما قبل العقد بالمهر فقد أجاز ذلك الضمان فصار كأنه أمره به.
وفي «نوادر ابن هشام» عن محمد رحمه الله: أولياء المرأة إذا قالوا للذي يريد أن يتزوجها: زوجناك على ألف درهم على أن مائة منها لك فهو جائز، والمهر تسعمائة ولو قالوا: زوجناك على ألف درهم على أن لنا خمسين ديناراً فالدراهم والدنانير كلها للمرأة.(3/215)
-----
وعنه أيضاً: رجل تزوج امرأة على خادم على أن يخدم الخادم الزوج ما عاش، قال: إن كان مهر... المرأة مثل قيمة الخادم فلها مهر مثلها إلا أن يشاء...... الزوج لها الخادم بغير خدمة.
فروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على جارية على أن له خدمتها ما عاش أو في بطنها، قال: الجارية وما في بطنها وخدمتها كلّه للمرأة وكذلك الغنم، ولو قال: على أن أصوافها لي فالصوف له استحساناً.
الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» عن أبي يوسف رحمه الله. رجل (قال) لامرأته أتزوجك على ألف على أن أهب لك عبدي فداء، فتزوجها على ذلك قال: إن دفع الذي سمى فهو مهرها، وإن أبى (أن) يزيد لا يجبر عليه، فكان عليه مهر مثلها لا يجاوز بذلك الألف، ولا قيمة العبد، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: امرأة زوجت نفسها من رجل على أن أبرأ فلاناً ممّا له عليه من (الدين) بدين:... فلان منه، ولها على الزوج مهر مثلها، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي»: إذا زوج ابنته على أن يبرئه من الدين الذي له عليه أو زوجت المرأة نفسها على أن يبرئها من الدين الذي له عليها وهو كذا فالبراءة جائزة ولها مهر مثلها.
نوع منه في الزيادة في المهر وما في معنى الزيادة
الزيادة في المهر صحيحة، قال: قيام النكاح عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر رحمه الله والخلاف فيه نظير الخلاف في الزيادة في الثمن. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرحه.
وفي «المنتقى» ذكر أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة في المهر جائزة (206أم) عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز.(3/216)
-----
وفي «فتاوى» أبي الليث رحمه الله: أن الزيادة في المهر بعد الفرقة باطلة، وهكذا روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله، وصورة ما روى بشر: إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل الدخول بها أو بعده، ثم رادّها في المهر لم يصح، وكذلك إذ انقضت عدة المطلقة طلاقاً رجعياً ثم رادّها في المهر بعد ذلك لم تصح الزيادة.
وفي القدوري: أن الزيادة في المهر بعد موت المرأة جائزة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز.
وفي «فتاوى» أبي الليث إذا وهب المرأة مهرها من زوجها، ثم إن الزوج بعد ذلك أشهد أن عليه لها كذا من المهر تكلموا فيه. واختار الفقيه أبو الليث رحمه الله: أنه يجوز إقراره لأنه أمكن تجويز إقراره بأن يجعل الزوج زائداً لها في مهرها فينقضي هذا الإقرار وأمكن جعله زائداً لها، فإن الزيادة في المهر بعد هبة المهر صحيحة.
وإذا تزوجها بألف درهم، ثم جدّد العقد بألفي درهم، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تثبت الزيادة، فيكون مهرها ألف درهم. وعلى قول محمد رحمه الله: تثبت الزيادة ويكون مهرها ألفا درهم. هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح النكاح، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرحه: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تثبت زيادة المهر، وعلى قولهما لا تثبت الزيادة. وفي شرح «مختصر الطحاوي»: أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تثبت الزيادة، وعلى قول: لا تثبت الزيادة. وفي «إقرار المختصر»: أنه لا تثبت الزيادة من غير خلاف.
وإذا تزوج امرأة على صداق في السّر وسمع في العلانية بأكثر، من ذلك فالمسألة على وجهين:(3/217)
-----
الأول: أن يتواضعا في السر على مهر ثم يتعاقدا في العلانية بأكثر فيقول: إن كان ما تعاقدا عليه في العلانية من.... عليه في السر، إلا أنه أكثر مما تواضعا عليه في السر، فإن اتفقا على المواضعة وأشهد الرجل عليها أو على وليها أن المهر هو المسمى في السر والزيادة سمعه والمهر ما تواضعا عليه في السر. وإن اختلفا وادعى الزوج المواضعة في السر على ألف وأنكرت المرأة المواضعة على ذلك فالمهر هو المسمى في العقد ويكون القول قول المرأة إلا أن يقوم الزوج ببينة.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا أشهد الزوج على نفسه في السّر أن المهر (الذي) يريد أن يتزوج عليه ألف، ثم أشهد على نفسه من الغد بألفين قال أبو حنيفة رحمه الله: المهر ألفان.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا أشهدت الشهود أنه قد أشهدها في السّر أن المهر ألف وأنه يسمع بألفين فالمهر ألف، قالوا: هذا خلاف ما حكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الأصل، وإن كان ما تعاقدا عليه في العلانية من خلاف جنس ما تواضعا عليه؛ فإن لم يتفقا على المواضعة فالمهر (هو) المهر المسمى في العقد، وإن اتفقا على المواضعة ينعقد النكاح (على) مهر المثل.
الوجه الثاني: أن يتعاقدا في السر ثم أقرّ في العلانية بأكثر من ذلك فإن اتفقا على.... في السر أو أشهد أن الزيادة في العلانية سمعه والمهر هو المذكور عند العقد في السر.
وأما إذا لم يشهد أن الزيادة في العلانية سمعه. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن على قول أبي حنيفة: المهر مهر العلانية فيكون هذا منه زيادة لها في المهر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو الأول.(3/218)
-----
وفي «شرح مختصر الطحاوي»: أن على قول أبي يوسف رحمه الله المهر هو الأول، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: المهر مهر العلانية، فيكون زيادة على المهر الأول سواء كان من جنسه أو من خلاف جنسه، غير أنه كان من خلاف جنسه فجميعه يكون زيادة على المهر الأول. وإن كان من جنسه فتقدر الزيادة على المهر الأول تكون زيادة.
فروى ابن سماعة في «نوادره»: وإنما تتأكد الزيادة إما بالدخول بها أو بالخلوة الصحيحة أو بموت أحدهما، حتى لو وقعت الفرقة بينهما قبل وجود واحد من هذه الأشياء بطلت الزيادة وينتصف الأصل دون الزيادة.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنهما إذا تعاقدا في السر بألف وأظهرا في العلانية خلاف ذلك ثم اختلفا فقال الزوج: ما أوردت به في العلانية هزل. وقالت المرأة: لا بل جد، فالقول قول المرأة، والمهر هو المذكور في العلانية إلا أن يقوم الزوج ببيّنة على ما ادعى.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: قالت لِرَجلٍ: زوجتك نفسي على ألف فقال الزوج قبلت النكاح بألفين، فالنكاح جائز على الفين كأنه زادها ألفاً.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل زوج أمته من رجل على مهر معلوم ثم أعتقها ثم زادها الزوج في المهر شيئاً معلوماً؛ فالزيادة للمولى؛ لأن الزيادة في أصل النكاح. فروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة لها، ولا أجبر الزوج على دفع الزيادة............
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا طلّق امرأته ثم راجعها فقال لها: زدت في مهرك لا يصلح لمكان الجهالة ولو قال لها: راجعتك بمهر ألف درهم فإن قبلت المرأة ذلك وإلا فلا؛ لأن هذه زيادة في المهر فيتوقف على قبولها.(3/219)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: عبد تزوج أمة بغير إذن مولاها على مائة درهم فقال الزوج للمولى: أخِّر النكاح فقال المولى: أخرته على أن تزيد في الصداق خمسين درهماً، فإن رضي الزوج فذلك صح وتثبت الزيادة، وإن لم يرض به لم تثبت الإجازة. الأصل في جنس هذه المسائل: أن تعليق الإجازة في النكاح الموقوف بقبول الزوج زيادة مال على المسمى صحيح، وكذلك بقبول مال آخر سوى المسمى، وتعليقه بسائر الشروط لا يصح، وهذا لأن الإجازة لها حكم ابتداء العقد على ما عرف في مواضع كثيرة، وتعليق أصل العقد بقبول الزوج المال صحيح، ولا يصح تعليق سائر الشروط فكذا تعليق الإجازة.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: المولى أثبت الإجازة معلقة بشرط رضا الزوج بزيادة خمسين درهماً؛ لأن كلمة «على» كلمة شرط، وقد صحّ التعليق لما ذكرنا.
فإن رضي الزوج بالزيادة ثبتت الإجازة لوجود شرطها. قال: ولا يكون كلام المولى ردّاً للعقد بمائة حتى لو أجاز النكاح بمائة قبل رضا الزوج بالزيادة صح، ولو ردّه ينفسخ؛ لأن هذا التماس الزيادة في الصداق، وذلك يقتضي تقدير الأصل لا ردّه.
وكذلك الجواب فيما إذا قال المولى: لا أجيز النكاح إلا بزيادة خمسين درهماً أو قال: لا أجيز النكاح حتى تزيدني خمسين درهماً. ولو قال: لا أجيز النكاح ولكن زدني خمسين درهماً أو قال: لا أجيزه إن زدتني خمسين درهماً كان هذا من المولى نقضاً للنكاح حتى لو أجاز بعد ذلك بالمائة لا يجوز، وكل جواب عرفته في المولى مع الأمة فهو الجواب في الولي يزوج البالغة بغير أمرها فيبلغها فتجيز في جميع ما بيّنا.(3/220)
-----
وفي «الجامع» أيضاً: (206ب1): أمة منكوحة أعتقت حتى ثبت لها الخيار على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى فقال لها زوجها: زدتك في صداقك خمسين درهماً على أن تختاريني ففعلت، صح الاختيار وثبتت الزيادة وتكون الزيارة للمولى، وبمثله لو قال لها:... على خمسين درهماً على أن تختاريني ففعلت فلا شيء لها وبطل خيارها؛ لأن في الوجه الأول جعل الخمسين بإزاء بضعها، فإنه جعله زيادة في الصداق، ولكن علل هذا الجمل باختيارها زوجها، فإذا وجد الاختيار (صارت) الزيادة عوضاً عن منافع بضعها لا للحاقها بأصل العقد ولا كذلك الوجه الثاني لأن في الوجه الثاني؛ ما جعل الخمسين بإزاء البضع، إنما جعله بإزاء اختيارها زوجها، وإنه غير مستقيم؛ لأن اختيارها زوجها ليس بمال والتزام المال بمقابلة ما ليس بمال غير مستقيم.
وفي نكاح «المنتقى»: رجل ادعى نكاح امرأة وهي تجحد، ثم إن الزوج مع المرأة اصطلحا على أن أعطاها ألف درهم على أن أجازت له النكاح الذي ادعى فهو جائز. وكذلك إذا قال لها: أزيدك مائة على أن تقرِّي بالنكاح ففعلت. وإن وجد بينة على أصل النكاح الأول لم يكن له أن يرجع في المائة لأنها بمنزلة زيادة في المهر. والبيع نظير النكاح؛ لأن الزيادة في الثمن صحيحة كالزيادة في المهر.
ولو كان هذا منه في الطلاق بأن ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها بألف درهم وأنها نقدته المال، فجحد الزوج فصالحته على مائة أخرى على أن يقرّ بالطلاق بالجعل الأول ففعل، ثم إنها وجدت بينة على الطلاق بالجعل الأول فلها أن ترجع بالمائة لأن الزيادة في جعل الطلاق بعد وقوعه لا يصلح، والصلح في القصاص في العتاق كالصلح في الطلاق. والكتابة كالبيع يعني: إذا ادعى المملوك الكتابة والله أعلم:
نوع منه(3/221)
-----
في المرأة نفسها بمهرها.... جعل في المهر ومايتصل به. قال الكرخي رحمه الله: وللمرأة أن تمنع الزوج عن الدخول بها حتى يوفيها جميع المهر، قال: وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها حتى يوفيها المهر.
وإن كان المهر مؤجلاً لم يكن لها أن تمنع نفسها منه وله أن يمنعها من السفر وزيارة بعض أهلها بغير إذنه، قال أبو يوسف رحمه الله: القياس كذلك، كما في البيع، لكن استحسنا وقلنا: لها أن تمنع نفسها منه، وليس له أن يمنعها من السفر وزيارة بعض أهلها حتى يوفيها المهر. قال: وليس هذا كالبيع، وهذا آخر قوله.
قال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان بعض المهر حالاً وبعضه مؤجلاً فله أن يدخل بها إذا أعطاها الحال. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان المهر مؤجلاً فإن دخل بها الزوج حتى تحل الأجل فمنعت نفسها عن الزوج حتى يوفيها المهر فليس لها ذلك من قبل أن أصله لم يكن حالاً.
ثم لا خلاف لأحد أن تأجيل المهر إذا كان إلى غاية معلومة نحو شهر أو سنة إنه صحيح، وإن كان لا إلى غاية معلومة فقد اختلف المشايخ (فيه). بعضهم قالوا: لا يصح، وبعضهم قالوا: يصح وهو الصحيح، وهذا لأن الغاية معلومة في نفسها وهو الطلاق أو الموت، ألا ترى أن تأجيل البعض صحيح وإن لم يتفقا على غاية معلومة نحو الشهر أو السنة، وإنما يصح بالطريق الذي قلنا. قال مشايخنا رحمهم الله: وفي عرف ديارنا ليس للمرأة أن تمنع نفسها من زوجها حتى تستوفي جميع المهر؛ لأن في عرفنا؛ البعض مؤجل والبعض معجّل والمعجل يسمى دست بيمان والمؤجل يسمى كابين برني والمعروف كالمشروط، فإن بينا مقدار المعجل ومقدار المؤجل فهو على ما بينا، وإن لم يبينا شيئاً ننظر إلى المسمى وإلى المرأة إن مثل هذه المرأة كم يكون لها من مثل هذا المسمى معجلاً، وكم يكون لها مؤجلاً في العرف فنقضي بالعرف.(3/222)
-----
وما ذكر في «مجموع النوازل» أنه يقضي لها نصف المهر معجلاً فإنما ذلك بناء على عرف أهل سمرقند أنهم يعجلون النصف من المسمى، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله إلا أن ذلك يختلف باختلاف البلاد، والصحيح ما ذكرنا. وإن شرطا تعجيل الكل في العقد فهو كما شرطا، ووجب تعجيل الكل، إذ لا تعتبر دلالة العرف إذا جاء الصريح بخلافها. ولو دخل الزوج بها خلا بها برضاها فلها أن تمنع نفسها منه وتمنعه عن السفر بها حتى تستوفي جميع المهر على جواب «الكتاب» والمعجل في عرف ديارنا في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمهما الله: ليس لها ذلك وأجمعوا على أنه لو دخل بها كارهة أو دخل بها وهي صغيرة أو مجنونة إنه لا يبطل حقها في المنع والحبس.
ووجه قولهما: أن المقصود عليه صار مُسَلَّماً بالوطأة الواحدة، ألا ترى أن المهر كله يتأكد الوطآة و احدة، فلو ثبت لها حق المنع تصير مستردة، والثابت لها حق المنع عن التسليم لا حق الاسترداد بعد التسليم، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن المستوفى بالوطء وإن كثر فهو مستحق بعقد فلا يجوز اخلاؤه عن العوض إبانةً لخطره لأن في حق تأكد المهر أقيم وطأه واحدة مقَامَ جميع الوطآت لأنه لا يمكن تأكيده بقدره؛ لأنه لا يعرف مقدار عدده لكن إذا وجد وطآت أُخر فالبدل مقابل الكل فكانت ممتنعة عن تسليم ما قابله البدل لا مستردة.
وكان الشيخ الفقيه أبو القاسم الصّفار رحمه الله، يُفتي في السفر بقول أبي حنيفة رحمه الله وفي منع النفس بقولهما، واستحسن بعض مشايخنا اختياره.
في «العيون»: تزوج امرأة على ألف درهم إلى سنة فأراد الزوج الدخول بها قبل السنة قبل أن يعطيها شيئاً، وإن كان شرط الزوج في العقد أن يدخل بها قبل السنة فله ذلك وليس لها أن تمنع نفسها منه بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك، فله ذلك عند محمد رحمه الله وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله ليس له ذلك استحساناً وقد مَرَّ هذا.(3/223)
-----
قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبهذا يفتى وإنه حسن، قال رحمه الله ففي ديارنا إذا ادعى المعجّل ولم يؤدّ المؤجل فله أن يبني بلا خلاف؛ لأن الدخول عند أداء المعجل مشروط عرفاً فصار كما لو كان مشروطاً نصاً.
فأما إذا كان الكل مؤجلاً فالدخول غير مشروط لا عرفاً ولا نصاً فلم يكن له أن يبني على (قول) أبي يوسف رحمه الله استحساناً. قال القدور في «كتابه»: قال أبو يوسف رحمه الله: لو كان المهر حالاً فأخرته مدة فأراد الدخول بها قبل مضي المدة فليس له ذلك، ولها أن تمنع نفسها منه، وهذا مستقيم على قول أبي يوسف آخراً، وهو استحسان؛ لأن الأصل لو كان مقارناً للعقد كان لها أن تمنع نفسها منه على قوله استحساناً، فكذا إذا كان طارئاً.
وذكر في «المنتقى»: أن الزوج إذا كان شرط الدخول قبل مضي المدة فله ذلك، وإن لم يشترطا لدخول قبل مضي المدة فليس له ذلك إلا برضاها وهذا مستقيم على قول (207أ) أبي يوسف رحمه الله استحساناً.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا كان المهر حالاً فأحالت عليه غريماً لها بالمهر فلها أن تمنع نفسها منه حتى يأخذ غريمها بمنزلة وكيلها، ولو أن الزوج أحالها بالمال على غريم له على أن أبرأته منه ففي القياس له أن يدخل بها، وفي الاستحسان: لا يدخل حتى تأخذ المهر، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان.
روى الحسن بن زياد رحمهما الله عنه: أن له أن يدخل بها قبل ذلك، فروى الحسن ابن أبي مالك عنه: أنه ليس له ذلك.
ولو باعها بالمهر متاعاً فلها أن تمنع نفسها منه حتى تقبض المتاع، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قبضت المهر فإذا هو زيوف أو دراهم لا تنفق فلها أن تمنع نفسها منه حتى يبدلها.(3/224)
-----
ولو كان دخل بها برضاها ثم وجدت المهر المقبوض زيوفاً أو ما أشبه ذلك أو كان متاعاً اشترت منه وقبضته فاستُحق بعدما دخل بها فليس لها أن تمنع نفسها منه؛ لأن من أصله أنها لو سلمت نفسها من غير قبض ليس لها حق المنع والحبس فهنا أولى.
وفي «واقعات الناطفي»: إذا زوج ابنته البالغة فأراد أبوها التحول إلى بلد آخر بعياله فله أن يحملها معه وإن كره الزوج ذلك إذا لم يكن أعطاها المهر، وإن كان قد أعطاها المهر فليس له ذلك إلا برضا الزوج.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: بأن صغيرة زوجت وذهبت إلى بيت زوجها بدون أخذ تمام مهرها كان لمن كان (له) حق بإمساكها قبل التزوج أن يمنعها حتى تأخذ جميع المهر ويأخذ من له حق الأخذ؛ لأن هذا الحق ثابت للصغيرة. ولو بطل بطل برضاها وهي ليست من أهل الرضا.
ولو زوج العم بنت أخيه وهي صغيرة بصداق مسمى وسلمها إلى الزوج قبل قبض جميع الصداق فالتسليم فاسد، وترد إلى بيتها لأنه ليس للعم ولاية إبطال حقها.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا أراد الزوج (أن) يخرج المرأة من بلد إلى بلد وقد أوفاها مهرها فجواب «الكتاب»: أن له ذلك، اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله على أنه ليس لها ذلك. ولو أراد أن يخرجها من البلد إلى القرية أو من القرية إلى البلد فله ذلك.t
وفي «المنتقى»: إذا تزوجها على أن ينقدها عليه والباقي إلى .... قال: كله إلى سنة إلا أن يقيم بيّنة أنه.... عليه شيء منه أو كلّه فيأخذه.
طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم راجعها هل لها أن تطالب الزوج بالمهر المؤجل؟ فيه اختلاف المشايخ، فكذلك لو ارتدت والعياذ بالله ثم أسلمت وأجبرت على النكاح هل لها أن تطالبه ببقية المهر؟ فيه اختلاف المشايخ.
نوع منه في وجود العيب في المهر، وفي تغيره عن وصف(3/225)
-----
ويرد الصداق بالعيب الفاحش وهل يرد بالعيب اليسير إن لم يكن من ذوات الأمثال لا يرد، فإن كان من ذوات الأمثال يرد، والعيب اليسير ما يدخل تحت تقويم المقومين فهو أن يقومه مقوِّم وهو صحيح بألف. ويقومه مقوم آخر وبه هذا العيب بألف، وهذا لأن الرد بالعيب اليسير في غير ذوات الأمثال لا يفيد لأنها ترجع بقيمته. ولا فرق بين عين الشيء وبه عيب يسير وبين قيمته وبه فارق أما إذا كان من ذوات الأمثال؛ لأن هناك يرجع بمثله صحيحاً ويقيم الفرق بين شيئين: أحدهما صحيح والآخر معيب.
وإذا كان العيب يسيراً فالرد مفيد، وكذلك إذا كان العيب فاحشاً فالرد مفيد لأنه يرجع بقيمته صحيحاً فيقع الفرق بين عين الشيء وبه عيب فاحش وبين قيمته صحيحاً.
قال الكرخي رحمه الله في «كتابه»: إذا انتقص الصداق في يد الزوج بفعل أجنبي فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت وابتعت الجاني بالأرش، وإن شاءت أخذت من الزوج يوم العقد قيمته واتبع الزوج الجاني بالأرش؛ لأن الصداق قد تغيّر في ضمان الزوج لأنه كان عيناً والآن صار قيمةً، فيثبت لها الخيار كما يثبت الخيار للمشتري إذا تغيّر المبيع في ضمان البائع، وإن انتقص بآفة سماوية فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها وإن شاءت أخذت القيمة يوم العقد.
أما الخيار: فلما ذكرنا، وأما لا شيء لها إذا اختارت الأخذ لأن الصداق مضمون على الزوج بالعقد فلا تظهر في حق الأوصاف؛ لأن العقد لا يرد على الوصف، وهذا إذا كان العيب فاحشاً، وأما إذا كان يسيراً فلا خيار لها كما لو كان موجوداً حالة العقد. وإن كان النقصان بفعل الزوج فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته فضمنته النقصان وإن شاءت أخذت القيمة يوم العقد.
هذا هو المشهور من الرواية، مروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ضمان عليه في الأرش ولكنها بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها، وإن شاءت أخذت القيمة.(3/226)
-----
وسوّى بين هذا والبيع، فإن البائع إذا جنى على المبيع قبل القبض لم يكن عليه ضمان. وجه المشهور من الرواية: أن الوصف صار مقصوداً بالإتلاف فيجب ضمانه كما لو أتلفه أجنبي وإنما لم يجب الضمان على البائع؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن وضمان الثمن يمنع ضمان المهر؛ لأن المحل الواحد لا يصير مضموناً بضمانين، والصداق غير مضمون على الزوج بضمان آخر ينافي ذلك ضمان القيمة ألا ترى أنه لو أتلفه يضمن قيمته فكذا إذا تلف والبائع إذا أتلف المبيع لا يضمن قيمته بل ينفسخ البيع ويسقط الثمن.
وإن كان النقصان بفعل المهر بأن جنى المهر على نفسه ففيه روايتان: أحدهما: أنها كالآفة السماوية؛ لأن جناية الإنسان على نفسه هدر، والرواية الأخرى أنها في حكم جناية الزوج لأن المحل مضمون في يده فصار كالمغصوب إذا جنى على نفسه في يد الغاصب.
وإن كان النقصان بفعل المرأة صارت قابضة بالجناية ويدخل في ضمانها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا تزوج امرأة على ألف درهم من الدراهم التي من نقد البلد فكسدت قبل القبض فصار النقد غيرها كان على الزوج قيمتها يوم كسدت. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: هو المختار، وهذا قول محمد رحمه الله.
وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: على الزوج قيمتها يوم الخصومة. ولو كان مكان النكاح بيعٌ فسد البيع، والفرق: أن الكساد بمنزلة الهلاك، وهلاك البدل في باب البيع قبل القبض يوجب فساد البيع، أما هلاك البدل في باب النكاح لا يوجب فساد النكاح، فتجب قيمته كان مشايخ ما وراء النهر قبل هذا يقولون بجواه لكون عقد النكاح بما وراء النهر بالفطر يفي لا بالعدلي لأن العدلي يتغير والفطر يفي لا يتغير، وهذا إذا كان في الزمان الماضي. أما في زماننا يجب أن يكون العقد بالذهب أو بالفضة. والحكم في الانقطاع كالحكم في الكساد.(3/227)
-----
وإن غلت الدراهم بأن ازدادت قيمتها فلها تلك الدراهم ولا خيار للزوج، وإن رخصت بأن انتقصت قيمتها فقد اختلف فيه المتأخرون. (207ب1) بَعْضهم قالوا لها من تلك الدراهم وليس لها أن تطالبه بالتفاوت وإن فحش، وبعضهم قالوا: إن كان يوجد من تلك الدراهم بالعيار الذي ورد العقد عليه تطالبه بذلك، وإن كان لا يوجد تطالبه بقيمة ما ورد عليه العقد. وإن تزوجها بكذا من العدليان وهي كاسدة ماذا يجب لها؟ قالوا: يجب لها مهر المثل لأنها إذا كانت كاسدة وقت النكاح كان المهر مجهولاً لأنها إذا كانت كاسدة كانت سلعة وزنية، والسلعة الوزنية إنما تعرف بالإشارة أو بذي الوزن وهو ما ذكر الوزن إنما ذكر العدد.
ولو كانت رائجة وقت العقد وهي نوعان من الضرب أولاً وآخراً ينبغي بيان نوعه وقت العقد، ولو لم يبين ننظر إلى مهر مثلها فأي نوع من ذلك وافق مهر مثلها، يقضى لها بذلك النوع. وقد مرّ جنس هذا النوع.
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على أمة بعينها ودفعها إليها وماتت عندها، ثم علمت أنها كانت عمياء رجعت عليه بنقصان العمى وهذا ظاهر. ولو كان تزوجها على خادم بغير عينها وأعطاها جارية وسطاً وماتت عندها، ثم علمت أنها كانت عمياء فإنها تضمن قيمتها عمياء، ويضمن الرجل قيمة خادم وسط فيتقاصان إن صار كأن لم يكن بينهما فضل ويترادان الفضل والله أعلم.
نوع منه في اختلاف الزوجين في المهر
إذا ادعت المرأة أن المهر ألفان وادعى الزوج أنه ألف درهم، فأيهما أقام البيّنة قبلت بينته، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة؛ لأنها تثبت زيادة في المهر، وإن لم يكن لهما بينة فإنهما لا يتحالفان عندنا. هكذا ذكر في «الأصل». بعد هذا قال أبو يوسف رحمه الله: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدّاً ولذلك تفسيران:
أحدهما: أن يدعي أنه تزوجها بأقل من عشرة، وبه أخذ بعض المشايخ؛ لأن ما دون العشرة مستنكر شرعاً.(3/228)
-----
والثاني: أنه يدعي أنه تزوجها بما لا يتزوج مثل تلك المرأة بمثل ذلك المهر، وبه أخذ عامة المشايخ وهو الصحيح.
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله في المرأة يموت عنها زوجها فتدعي مهراً وهو مهر مثلها والورثة يقولون قد تزوجها على (شي) إلا أنا لا ندري ما هو قال: أجعل لها مهر مثلها، قال ابن سماعة: وقد كان قال قبل ذلك بخلاف هذا، قال: هذا في رجب سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحكم مهر مثلها فإن كان مهر مثلها، ما قال الزوج ألفاً أو أقل فلها ما قال الزوج مع يمينه بالله ما تزوجتها على ألفين على الغبن، فإن كان مثل ما قالت المرأة ألفين أو أكثر فلها ما قالت مع يمينها بالله ما زوجت نفسها منه بألف درهم، وإن كان مهر مثلها بين الدعوتين فإنهما يتحالفان ثم يقضى لها بمهر المثل، وهو نظير ما ذكر في كتاب الإجارات، إذا وقع الاختلاف بين رب الثوب وبين الصباغ في الأجرِ يحكم في ذلك قيمة الصبغ، فإن كانت قيمة الصبغ بين الدعوتين فإنهما يتحالفان كذا هنا.
وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه»: إذا لم يكن لهما بينّة فإنهما يتحالفان أولاً، فإذا حلفا حينئذ يحكم مهر المثل عندهما. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصلح ما ذكره الكرخي رحمه الله؛ لأن ظهور مهر المثل عند انعدام التسمية، وإنما تنعدم التسمية بالتحالف وإنما يدعي كل واحد منهما... بيمين صاحبه فيبقى نكاحاً بلا تسمية، فيكون موجبه مهر المثل، وغيره من المشايخ صححوا ما ذكر في «الأصل»؛ لأنه إنما يصار إلى التحالف إذا لم يكن ترجيح قول أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له وإذا كان مهر المثل يشهد لأحدهما فالظاهر شاهد له فلا يصار إلى التحالف.(3/229)
-----
وإن وقع الاختلاف بينهما على هذا الوجه بعد الطلاق. فإن كان قد دخل بها فهذا والأول سواء، فإن لم يدخل بها فقد ذكر في كتاب النكاح: أن القول قول الزوج وعليه نصف ما أقرّ به. وقد ذكر في «الجامع»: أن القول قول تشهد له المتعة، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر في النكاح قول أبي يوسف رحمه الله وما ذكر في «الجامع» قولهما ومنهم من قال: ما ذكر في النكاح قولهما، أيضاً، وإنما اختلف قولهما لاختلاف الموضوع موضوعَ المسألة في «الجامع» في الاختلاف في العشرة والمائة فالزوج يدعي الزواج بالعشرة فيكون مقراً لها بالخمسة وذلك لا يبلغ متعتها فأفاد تحكيم المتعة. موضوع المسألة في النكاح في الاختلاف في الألف والألفين فيكون الزوج مقراً لها بالخمس مائة وذلك يزيد على متعتها عادة فلا يفيد تحكيم المتعة.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وما ذكر في النكاح قول أبي يوسف رحمه الله، فصار في تحكيم المتعة في الطلاق قبل الدخول روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله على قول هذا القائل.
وحكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله أن ما ذكر في النكاح قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وما ذكر في «الجامع» قول محمد رحمه الله، فصار الحاصل على قول هذا القائل أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول الزوج قبل الطلاق وبعده إلا أن يأتي بشيء مستنكرٍ جداً، وعلى قول محمد رحمه الله يحكم مهر المثل قبل الطلاق والمتعة بعد الطلاق، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحكم مهر المثل قبل الطلاق ولا تحكم المتعة بعد الطلاق فيكون القول قول الزوج بعد الطلاق.(3/230)
-----
والفرق له: أن مهر المثل (واجب) لأن الزوج استوفى بدله حين دخل بها، فأما المتعة ليست ببدل على البضع؛ لأن الزوج (لم) يدخل بها فلا يجب اعتبار المعادلة فنصير فيه إلى الأصل، والأصل: أن من ادعى على آخر شيئاً وأنكر الآخر فالقول قول المنكر، والمنكر هنا الزوج.
ولو مات أحدهما ثم وقع الاختلاف بين ورثة الميت وبين الحي فهذا وما لو اختلفا وهما حيّان سواء. ولو ماتا فههنا فصلان.
أحدهما: أن يتفق الورثة أنه لم يكن في العقد تسمية، وفي هذا الفصل القياس أن يقضى لها مهر المثل وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أبطل المهر، وله في ذلك طريقان: أحدهما: يشير إلى أنه إنما يقول ببطلان مهر المثل إذا تقادم العهد وانقرض أهل ذلك العصر، حتى تعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل. أما إذا لم يتقادم العهد وأمكن للقاضي الوقوف على مقدار مهر المثل لا يبطل مهر المثل فيقضى لها بمهر المثل كما هو مذهبهما.
والثاني: يشير إلى أنه يقول ببطلان مهر المثل لموتهما على كل حال تقادم العهد أو لم يتقادم.
الفصل الثاني إذا وقع الاختلاف بين قولهما في مقدار المسمّى(3/231)
-----
فعلى قول محمد رحمه الله يحكم مهر المثل، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القول قول ورثة الزوج إلا (أن) يأتوا بما هو مستنكر جداً، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فهو المثل لا يبقى بعد موتهما على أحد الطريقين مطلقاً، وعلى أحد الطريقين إذا تقادم العهد فيكون القول (208أ1) قول ورثة الزوج إلا أن يقوم لورثة المرأة بينة على ما ادعوا. قال الكرخي رحمه الله في «مختصره»: لو ادعى الزوج أن المهر هذا العبد، وقالت المرأة: هذه الجارية فالكلام فيه كالكلام في الألف والألفين إلا في فَصلٍ واحد؛ أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر فلها قيمة الجارية، لأن بملك الجارية لا يكون إلا بالتراضي، وإذا لم يتفقا على ذلك فقد تعذر التسليم فوجبت القيمة.
وعلى هذا: إذا قال الزوج: تزوجتك على عبدي الأسود هذا وقيمته ألف، وقالت المرأة: تزوجتني على عبدك الأبيض هذا وقيمته ألفي درهم فهو نظير الاختلاف في الألف والألفين إلا في فصل واحد؛ أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الأبيض أو أكثر فلها قيمة الأبيض لما قلنا في فصل العبد والجارية.
ولو اختلفا في طعامٍ بعينه فقال الزوج: تزوجتك على هذا الطعام بشرط أنه كرّ، وقالت المرأة: لا بشرط أنه كرّين فهو مثل الاختلاف في الألف والألفين. والأصل في جنس هذه المسائل: أن الزوجان إذا اتفقا على تسمية شيء بعينه في النكاح واختلفا في مقداره أنه كان شيئاً لا يضره التبعيض كالمكيل والموزون يحكم فيه مهر المثل، فيتحالفان إذا كان مهر المثل بين الدعوتين.(3/232)
-----
بيانه في هذه المسألة: فيما إذا تزوجها على نُقرة فضة بعينها واختلفا فقال الزوج: تزوجتك على هذه النُقرة بشرط أنها مائتي درهم، وقالت المرأة: لا بشرط أنها ثلاثمائة وإن كان شيئاً يضرّه التبعيض كما لو تزوجها على ثوب خز بعينه ثم اختلفا فقال الزوج: تزوجتك على هذا الثوب على أنه عشرة أذرع، وقالت المرأة: لا بل على أنها تسعة أذرع؛ ففي هذه الصورة القول قول الزوج ولا يتحالفان.
وكما لو تزوجها على إبريق فضة بعينه ثم اختلفا في وزنه فالقول قول الزوج، فإذا وقع الاختلاف في الصفة في مسمى بعينه، كما لو قال الزوج: تزوجتك على هذا الكر على أنه رديء، وقالت المرأة: لا بل على أنه جيد فالقول قول الزوج ولا يتحالفان كما في....
فإن الاختلاف في الصفة في باب البيع لا يوجب التحالف، كما لو اختلفا في اشتراط صفة البكارة. وإن كان المهر ديناراً واختلفا في صفته أو جنسه أو نوعه بأنه يحكم مهر المثل ويتحالفان؛ لأن الدين إنما يعرف بالصفة، والأوصاف تختلف فكان الاختلاف في الوصف اختلافاً في أصل التسمية.
وإن اختلفا فيما يضرّه التبعيض في القدر والصفة جميعاً؛ ففي القدر بحكم مهر المثل، وفي الصفة قول الزوج مع يمينه اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد. هذا إذا اختلفا حال قيام النكاح فأما إذا اختلفا بعد الطلاق وكان الطلاق بعد الدخول فيمكن تحكيم مهر المثل. وإن كان الطلاق قبل الدخول بها إن اتفقا على مسمىً بعينه واختلفا في صفة ذلك أو في قيمته فالقول قول الزوج بالإجماع، ولا يحكم متعة مثلها؛ لأنهما اتفقا على ما يوجب سقوط المتعة؛ لأن مع تسمية شيء بعينه لا تجب المتعة بالطلاق قبل الدخول بها، فيقدر بحكم المتعة فوجب اعتبار الدعوى والإنكار.(3/233)
-----
وإن اختلفا في جنس المهر أو مقداره أو في صفته والمهر دين، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحكم متعة مثلها فالقول قول من تشهد له المتعة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكرٍ جداً.
ولو تزوجها على عبد بعينه وملك العبد في يد الزوج، واختلفا في قيمته فالقول قول الزوج ولا يحكم مهر المثل؛ لأنهما اتفقا على تسمية صحيحة وذلك يوجب العدول عن مهر المثل بعيب وهي مدعية الزيادة والزوج ينكر، فيكون القول قوله مع يمينه.
ولو قال: تزوجتك على عبدي الأسود وقيمته ألف، ومات في يدك فإنه يحكم مهر المثل ويتحالفان إن كان مهر المثل بين الدعوتين.
ولو تزوجها على كرّ بعينة وهلك واختلفا في مقداره أو في صفته، أو تزوجها على ثوب بعينه أو نقرة فضة بعينها أو إبريق فضة بعينه وهلك، واختلفا في الذرعان أو الوزن؛ ففي كل ما ذكرنا أن القول قول الزوج قبل الهلاك كان القول قوله بعد الهلاك أيضاً.
ولو ادعى على أحدهما ألف درهم والآخر مائة دينار فهو نظير الاختلاف في الألف والألفين. إذا بعث إلى امرأته دقيقاً أو عسلاً أو تمراً ثم قال: بعثت من المهر، وقالت المرأة: بعتث هدية فالقول قول الزوج لأنه هو المملّك، فيكون القول قوله في جهة التمليك إلا فيما صار مكذباً عرفاً وذلك في شيء يفسد ولا يبقى.(3/234)
-----
في «عيون المسائل» وإليه أشار محمد رحمه الله في «السير الكبير»، وفي «نوادر» ابن رستم عن محمد رحمه الله: إلا أن يكون الخبيص واللحم والشاة المذبوحة والثريد ونحو هذا من الطعام مما لا يبقى، فحينئذ القول قول المرأة استحساناً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: بعث إلى امرأته متاعاً وبعث أن المرأة.... متاعاً ثم ادعى الزوج أن الذي بعث كان صداقاً كان القول قوله مع يمينه؛ لأنه هو المملك، فإن حلف والمتاع قائم فللمرأة أن ترد وترجع بما بقي منه، إن كان هالكاً لم يكن على الزوج شيء، وإن كان قائماً وقد بعثه الأب من مال نفسه فله أن يرجع فيه؛ لأن الواهب في هذه الصورة.... وقد وهبت من زوجها.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله («وفتاوى) أهل سمرقند»: تزوج امرأة وبعث إليها عبداً وعوضته المرأة على ذلك عوضاً، ثم زفت إليه ثم فارقها وقال: إنما بعثت إليك عارية وأراد أن يسترد ذلك وأرادت المرأة أن تسترد العوض فالقول قوله في الحكم لأنه أنكر التمليك وإذا استردّ ذلك من المرأة كان للمرأة أن تسترد منه ما عوضته عليه.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: اشترى لامرأته أمتعة بأمرها بعدما بيّن لها، ودفع إليها دراهم حتى اشترت هي أيضاً، ثم اختلفا فقال الزوج: هو من المهر، وقالت المرأة: هدية. فالقول قول الزوج أنه من المهر إلا أن يكون شيئاً مأكولاً.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: المختار أن ننظر إن كان ذلك من متاع سوى ما يجب على الزوج فالقول قوله أنه من المهر، وإن كان ذلك يجب على الزوج من الخمار والدرع ومتاع الليل ليس له أن يحتسبه من المهر؛ لأن الظاهر يكذبه. والخف والملاءة لا تجب عليه؛ لأنه ليس عليه إن نهى لها أمر الخروج.(3/235)
-----
بعث إلى امرأة ابنه ثياباً ثم ادعى أنه بعث أمانة صُدِّق، وكذا لو ادعى بعد موت المرأة. وفي «مجموع النوازل»: بعث إلى امرأته أيام العيد دراهم وقال: إنها عيدي أو قال سم سكر فيصير متناقضاً في دعواه بعد ذلك أنه من المهر.
امرأة ادعت على زوجها بعد وفاته أن لها عليه ألف درهم من مهرها، تُصدق في الدعوى إلى تمام مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده يحكم مهر المثل فمن شهد له به بمهر المثل كان القول قوله مع يمينه.
في «المنتقى»: بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف الزوج..... فإن أمر بشيء مسمىً وحلف عليه فالقول....، وإن لم يقرّ بشيء وحلف على ما ادعت جعلت لها وكثير من مهر مثلها ومما ادعت، قال وكذلك.... وورثتهما بعد موتهما.
وفيه أيضاً: إذا قالت المرأة لزوجها: تزوجتني بغير شيء، وقال الزوج: تزوجتك على هذا العبد، فإن كان قيمة العبد مثل مهر مثلها أو أقل؛ مقدار ما يتغابن (208ب) الناس فيه فالمرأة بالخيار؛ إن شاءت أخذت عين العبد وإن شاءت أخذت قيمة العبد أقل من مهر مثلها مقداراً ما لا يتغابن الناس فيه فلها مهر مثلها.
وفيه أيضاً: قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل أقام بينّة أنه تزوج هذه المرأة وكان عقد النكاح على ألفين وقال: المهر ألف. قلت: ولِمَ وقد يكون أن تقع عدة النكاح على ألف ثم يزيد بها يقيم البينة على الزيادة، قال هشام:....... محمد رحمه الله بأن القاضي لو كان حضر العقد على ألف وجاءت المرأة بألفين قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله في «المنتقى» وفي هذا الجواب نظر، وذكر في «المنتقى»: بعد هذه المسألة نورد ما يشبه الخلاف.(3/236)
-----
قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن امرأة ادعت أن هذا الرجل تزوجها بالكوفة منذ سنة على ألفين، وأقامت على ذلك بينة، وأقام الزوج بينّة أنه تزوجها بالبصرة منذ سنتين على ألف، قال: البينة بينة المرأة، قلت وإن كان معها..... سنتين قال: وإن كان.
نوع في بيان ما يستحق به جميع المهر
المهر كما يتأكد بالدخول يتأكد بالخلوة الصحيحة عندنا؛ لأن البدل في عقود المعاوضات يُقدّر بتسليم من له البدل، لا بحقيقة استبقاء المبدل ألا ترى أن البائع إذا خلّى بين المبيع وبين المشتري، أو الآجر إذا اخلّى بين المستأجَر والمستأجر يتأكد البدل وإن لم يوجد القبض حقيقة، والمعنى فيه: أنا لو وقفنا بقدر البدل على استيفاء المبدل حقيقة؛ فمن عليه البدل يمنع عن الاستيفاء قاصداً الإضرار بمن له البدل، والضرر مدفوع شرعاً.
وتعتبر الخلوة الصحيحة لأن ثمة مانع يمنعها لا حقيقة ولا شرعاً حتى لو كان أحدهما مريضاً مرضاً يمنع الجماع لا تصح الخلوة، وإن كان مريضاً مرضاً لا يمنع الجماع تصح الخلوة. والحاصل: أن المرض من جانبها مسوّغ بلا خلاف، وأما المرض من جانبه فقد قيل: إنه مسوغ أيضاً، وقيل: إنه غير مسوغ وأنه غير ممنوع، وأنه يمنع صحة الخلوة على كل حال، جميع أنواعه في ذلك على السواء.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو الصحيح، وكذا لو كان أحدهما محرماً بحجة فرض أو نافلة أو كانت المرأة حائضاً لا تصح الخلوة. وكذا إذا كان أحدهما صائماً في رمضان لا تصح الخلوة، واختلفت الرواية في غير صوم رمضان.(3/237)
-----
قال القدوري رحمه الله: الصحيح أن الصوم للتطوع والقضاء والنذر لا يمنع، ولو كان معهما ثالث لا تصح الخلوة إلا أن يكون الثالث ممن لا يشعر بذلك، كصغير لا يعقل أو مغمى عليه، والمجنون كالصبي، وفي بعض المواضع: لو كان معهما مجنون أو مغمىً عليه لا تصح الخلوة ولو كان معهما أعمى أو نائم لا تصح الخلوة، ولو كانت ثمة أمته كان محمد رحمه الله أولاً يقول: تصح الخلوة، بخلاف ما إذا كانت ثمة أمتها، ثم رجع وقال: لا تصح الخلوة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ولو خلا بها ومعها امرأة أخرى لهذا الزوج فقد أفتى محمد رحمه الله بالرقة أنه خلوة ثم رجع عنه وقال: ليس بخلوة.
قال هشام: كان محمد رحمه الله يقول أولاً: للرجل أن يطأ امرأته بين يدي امرأة أخرى له، فجعل ذلك خلوة ثم رجع وقال: ليس له أن يطأها بين يدي امرأة أخرى له فلم يجعلها خلوة.
والمكان الذي تصح فيه الخلوة: أن يأمنا فيه اطلاع غيرهما بغير إذنهما كالبيت والدار وما يشبهه. ولهذا لا تصح الخلوة في المسجد، والطريق الأعظم، والحمام، وكان شداد رحمه الله يقول: في المسجد والحمام إنه خلوة إذا كان ظلمة لأن الظلمة كالسترة إذ لا يراهما أحد.
وفي «المنتقى»: إبراهيم عن (محمد) رحمه الله: رجل ذهب بامرأته إلى رستاق.... أو ما أشبه ذلك، وكان ذلك بالليل قال إن سار بها في طريق الجادة لا تكون خلوة، وإن عدل بها عن الطريق في موضع خالٍ كان خلوة.
ولو حج بها ونزل المفازة من غير خيمة فليس بخلوة، وكذلك لو خلا بها في جبل. ولو خلى بها في بيت غير مسقوف فهو خلوة، وكذلك الكوخ ولو خلى بها على سطح من الدار فهو خلوة، ذكر مسألة السطح في «المنتقى» مطلقاً. قالوا: إذا لم يكن على جوانب السطح سترة لا تكون خلوة، وعلى قياس ما قاله شداد في مسألة المسجد والحمام أنه يكون خلوة. إذا كان في ظلمة يجب أن تكون خلوة في مسألة السطح إذا كان في ظلمة أيضاً.(3/238)
-----
هشام عن محمد رحمه الله: إذا خلا بها في بستان ليس عليه باب يغلق فليس بخلوة، وإن كان لها باب وأغلق فهو خلوة. ولوخلا بها في محمل عليه قبة مضروبة ليلاً أو نهاراً، فإن كان يقدر أن يطأها فهو خلوة ولو خلا بها وبينها وبين النساء سترة من ثوب رقيق يرى منه؛ قال أبو يوسف رحمه الله: ليس هذا بخلوة، قال وكذلك لو كانت سترة قصيرة. قدرها لو قام إنسان رآهم، رواه بشر.
المرأة إذا دخلت على الزوج ولم يكن معه أحد ولم يعرفها الزوج لا يكون هذا خلوة ما لم يعرفها، هكذا اختارٍ الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأن الخلوة إنما تقام مقام الوطء إذا تحقق التسليم بالخلوة، وإذا لا يحصل بدون المعرفة، وقال الفقيه أبو بكر رحمه الله: تكون خلوة وكذلك إذا كانت نائمة. وإن عرفها الزوج ولم تعرفه فهو خلوة.
هذه الزيادة من «مجموع النوازل»، وفي «مجموع النوازل» أيضاً: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة فأدخلتها عليه أمها وخرجت وردت الباب إلا أنها لم تغلقه والبيت في خان يسكنها أناس كثيرة، ولهذا البيت طوائق مفتوحة، والناس قعود في ساحة الخان ينظرون من بعيد هل تصح هذه الخلوة؟ قال: إن كانوا ينظرون في الطوائق يترصدون لهما وهما يعلمان بذلك لا تصح الخلوة، وأما النظر من بعيد والعقود في الساحة فغير مانع من صحة الخلوة، فإنهما يقدران أن ينتقلا في هذا البيت إلى زواية لا تقع أنظارهم عليهما، فقد قيل: إن الزوجين إذا اجتمعوا في بيت بابه مفتوح، والبيت في دار لا يدخل عليهما أحد إلا بإذن؛ فالخلوة صحيحة وإلا فلا.(3/239)
-----
هذه جملة ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وعلى قياس ما روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله، في السترة القصيرة ينبغي أن يقال في هذ المسألة: إذا كان البيت والطوائق بحيث لو نظر فيهما إنسان رآهما لا تصح الخلوة، ولو كان معهما كلب معقور لا تصح الخلوة وقيل في الكلب: إذا لم يكن عقوراً؛ إن كان كلب المرأة يمنع صحة الخلوة، وإن كان كلب الزوج لا يمنع. ولو خلا بها ولم تمكنه من نفسها فقد اختلف المتأخرون فيه.
وفي طلاق «النوازل»: إذا قال لامرأته: إن خلوت بك فأنت طالق، فخلى بها يقع الطلاق وعليه نصف المهر؛ لأن الطلاق وقع عقيب الخلوة فلا فصل، فلم يكن متمكناً من الوطىء ليقام مقام الوطىء والخلوة بالرتقاء ليست بخلوة، وخلوة المجبوب خلوة صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليست بخلوة، هكذا ذكر الكرخي في مختصره.
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا توجب خلوة المجبوب بامرأته مهراً تاماً إلا أن تجيء بولد، فإن جاءت بولد لزمه وعليه المهر لأنهم زعموا أنه يحتمل.
وخلوة العنين والخصي خلوة صحيحة، ثم إن أصحابنا رحمهم الله أقاموا الخلوة مقام الوطىء في حق بعض الأحكام دون البعض.(3/240)
-----
أما الأحكام التي أقاموا الخلوة فيها مقام الوطىء تأكد جميع المسمى إن كان في العقد تسمية، وتأكد (209أ1) مهر المثل إن لم يكن في العقد تسمية، وثبوت النسب ووجوب العدة، ووجوب النفقة والسكنى في هذه العدة، وحرمة نكاح أختها ما دامت العدة قائمة، وحرمة نكاح أربع سواها، وحرمة نكاح الأمة عليها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله في حرمة نكاح الأمة على الحرة في العدة عن الطلاق البائن، ومراعاة وقت الطلاق في حقها. وأما الأحكام التي لا تقوم الخلوة فيها مقام الوطء: فالإحصان حتى لا يصير محصناً بالخلوة، وحرمة البنات والإحلال للزوج الأول، والرجعة، والميراث حتى لو طلقها ثم مات في العدة لا ترث. أما وقوع طلاق آخر في هذه العدة فقد قيل: لا يقع، وقيل: يقع وهو أقرب إلى الصواب؛ لأن الأحكام لمّا اختلفت في هذا الباب يجب القول بالوقوع احتياطاً. وكام يتأكد جميع المهر بالدخول، وبالخلوة الصحيحة يتأكد بموت أحدهما.
ولو فقلت الحرة نفسها فلها المهر عندنا، ولو كانت أمة فقتلها المولى فلا مهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجب المهر للمولى. ولو قتلت الأمة نفسها فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان: في رواية لا يجب، وفي رواية يجب، وهو قولهما. وإذا تأكد المهر لم يسقط وإن جاءت الفرقة من قبلها بأن.... أو طاوعت ابن زوجها بعدما دخل بها أو خلى بها وقبل ذلك يسقط جميع المهر لمجيء الفرقة من قبلها والله أعلم.
نوع منه في بيان حكم المهر وما يجب لها بالطلاق قبل الدخول(3/241)
-----
وللمطلقة قبل الدخول بها نصف المفروض لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237) وإن لم يكن في النكاح مفروضاً وفرض لها بعد العقد مهراً فرضيت به أو رفعت الأمر إلى القاضي ففرض لها مهراً ثم طلقها قبل الدخول بها؛ فعلى قول أبي يوسف الأول رحمه الله: لها نصف المفروض بعد العقد، وهذا أو المسمى في العقد سواء ثم رجع وقال: المتعة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الفرض لمهر المثل. وعلى اعتبار الطلاق قبل الدخول لا يجب مهر المثل فلا يجب نصف المفروض. وعلى هذا إذا سمى لها مهراً ثم زاد لها في مهرها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى مع نصف الزيادة. وعلى قوله الآخر وهو قول أبي حنيفة رحمه الله: ثم المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً. وكذلك في كل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول بها ولم يسم لها مهراً فإنها مستحقة لكل مطلقة، يريد به المطلقة بعد الدخول بها إذا لم يكن في النكاح تسمية أو كان فيه تسمية والمطلقة قبل الدخول بها إذا كان في النكاح تسمية. وفي القدوري: وكل فرقة جاءت من قبل المرأة فلا متعة فيها، وإن كان من قبل الزوج ففيها المتعة.
وفيه أيضاً: وكل فرقة من جهة الزوج بعد الدخول يُستحب فيها المتعة إلا أن ترتدّ أو تأبى عن الإسلام وفيه أيضاً: ولو خيّر المرأة فاختارت فهي فرقة من قبل الزوج، والمتعة ثلاث أثواب؛ قميص وملحفة ومقنعة وسطاً لا جيداً غاية الجودة فلا ولا رديء غاية الرداءة فيجب لها ذلك إلا (إذا) زاد ذلك على نصف مهر مثلها فلها الأثواب إلا أن تنقص قيمتها عن خمس دراهم.(3/242)
-----
والحاصل: أن لها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة إلا أن تكون قيمة المتعة أقل من خمس دراهم، فحينئذ لا تنقص عن خمسة، وهذا لأن مهر المثل هو للعوض الأصلي، ولكن تعذر بنصفه لجهالته، فيصير إلى المتعة خلفاً عنه فلا يجوز أن يزيد على نصف مهر المثل، فلا ينقص عن خمسة دراهم لأن المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم.
وإن كانت المتعة مثل نصف مهر المثل فلها المتعة، ويعتبر فيها حال الدخول لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} (البقرة: 236) أي: على قدره. وكان الكرخي رحمه الله يقول هكذا في المتعة المستحبة. وفي المتعة الواجبة يقول: يعتبر حالها؛ لأنها خلف عن مهر المثل، وفي مهر المثل المعتبر حالها فكذا في خلفه.
ولا متعة للمتوفى عنها زوجها سمى لها مهراً أو لم يسم، دخل بها زوجها أو لم يدخل، وكذلك كل نكاح فاسد فرق فيه بينهما قبل الدخول بها، وقبل الخلوة وبعد الخلوة، والزوج منكرٌ للدخول فلا متعة فيها؛ لأن المتعة خلف عن مهر المثل، وما هو الأصل لا يجب في النكاح الفاسد قبل الدخول، فكذلك ما هو خلف عنه، والعبد بمنزلة الحر في وجوب المتعة إذا كان النكاح بإذن المولى؛ لأنه مساوٍ الحر في سبب الوجوب وهو النكاح فيساويه في الموجب.
ولو شرط مع المسمى ما ليس بمال نحو طلاق الضرة أو على أن لا يخرجها من البلدة، ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وسقط الشرط، وكذا إذا شرط مع المسمى كرامتها، ولو تزوجها على أقل من عشرة ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف ما سمى وتمام خمسة دراهم، لأن العشرة في كونها مهراً لا تتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل فكأنه سمى عشرة، وكذا إذا تزوجها على ثوب يساوي خمسة دراهم وطلقها قبل الدخول فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف.(3/243)
-----
وإذا كان المهر في يدي الزوج وغنياً وطلقها قبل الدخول بها عاد الملك في النصف إلى الزوج بنفس الطلاق، حتى لو كانت أمة فأعتقها بعد العتق في النصف ولو كان مقبوضاً لم ينفسخ الملك بنفس الطلاق ولم يعد إلى ملك الزوج حتى يقضي القاضي عليها برد النصف أو تسلم هي النصف إلى الزوج، وذكر القدوري رحمه الله: لو كان الطلاق مقبوضاً لم ينفسخ الملك بنفس الطلاق حتى يفسخه الحاكم أو تسلمه المرأة أو يقول الزوج: قد فسخت، إلا رواية رويت عن أبي يوسف رحمه الله، فقد روي عنه في «النوادر»: أنه ينفسخ الملك في النصف بنفس الطلاق وإن كان الصداق مقبوضاً وهو قول زفر رحمه الله.
والفرق: أن سبب ملكها في النصف يفسد بالطلاق قبل الدخول فيفسخ من وجه دون وجه؛ لأن الطلاق قبل الدخول إن كان قطعاً صورة فهو فسخ معنىً؛ لأن المقصود عليه يعود إلى ملكها بكماله كما خرج، فجعل فسخاً من وجه دون وجه.
والأصل: أن العقد متى انفسخ من وجه دون وجه يعتبر فاسداً؛ لأنه لو انفسخ من كل وجه ارتفع أصل العقد وصفة الجواز جميعاً، ولو لم ينفسخ أصلاً بقي أصل العقد والجواز جميعاً، فإذا انفسخ من وجه دون وجه يرتفع الجواز ويبقى أصل العقد اعتباراً للمعنيين.
وإذا ثبت أن سبب ملكها يفسد بالطلاق قبل الدخول فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في البدل بعد القبض فأولى أن لا يمنع البقاء.(3/244)
-----
أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك في البدل فيمنع البقاء. وإنما ينتقض الملك بعد القبض بالقضاء أو بالرضا كما في المقبوض بحكم العقد الفاسد. وكذلك ينتقض بقول الزوج قد فسخت على (ما) ذكره القدوري رحمه الله لما ذكرنا أنه فسد سبب ملكها، ولكل واحد من المتعاقدين، فلأنه فسخ السبب الفاسد كما في البيع الفاسد، وبعدما وجد القضاء أو الرضا أو انتقض الملك يعتبر الانتقاض على حالة القضاء أو الرضا حتى لو كان المهر مملوكاً أو اكتُسِبَ اكتساباً بعد الطلاق فالكسب يكون للمرأة، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرحه وفي «الجامع» ما يدل عليه.
ولو كان المهر دراهم أو دنانير أو مكيلاً أو مقروناً في الذمة فقبضت وطلقها قبل الدخول (209ب1) بها، فعليها رد مثل نصف ما قبضت، وليس عليها رد عين المقبوض، لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقد النكاح فلا يتعينان في فسخه. ولو كان المهر عبداً في الذمة، أو إبلاً في الذمة، أو ثوباً في الذمة، ثم عيّنه ودفعه إليها ثم طلقها قبل الدخول فعليها رد نصف عين ما قبضت. من المشايخ من أبى ذلك وقال: إذا لم يكن العبد أو الإبل متعيناً وقت العقد فالمرأة لا تستحق عين العبد وعين الإبل، وإنما المستحق لها أحد الشيئين الوسط من المسمى أو قيمته، والخيار إلى الزوج، فعند فسخ النكاح بالطلاق قبل الدخول كيف يستحق الزوج عليها نصف العبد ونصف الإبل.(3/245)
-----
ومنهم من صحَّحَ ذلك وقال: العبد والإبل إن لم يكن معيّناً وقت العقد إلا أن ما بعد تعيينه التحق بالمعين وقت العقد، وجعل كأن العقد من الابتداء ورد على هذا المعين وإنما التحق بالمعين وقت العقد ضرورة أنه لو لم يلتحق وجب عليها بالطلاق قبل الدخول ما وجب على الزوج بالعقد فلا وجه إليه؛ لأنه يقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض؛ وبين نصف المقبوض لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثال وكذا يقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين قمته لأن القيمة إنما تعرف بالحزر والظن وعليها رد مثل نصف المقبوض بلا زيادة ولا نقصان والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب رد نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالعين وقت العقد، وألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن رده... حالة العقد غير متعين.
أما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض، فأمكن إيجاب نصفه احترازاً عن التفاوت، فأوجبنا ذلك، وهذا بخلاف الدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح. إذا وقعت الفرقة بين الزوجين بمعنى من قبل الزوج قبل الدخول بها إن وقعت بالطلاق لفظاً وحكماً أو حكماً لا لفظاً يوجب سقوط نصف الصداق. وإن وقعت بما هو فسخ من كل وجه بأن لم يوجد لفظ الطلاق ولا حكمه يوجب سقوط كل الصداق، وهذا لأن الفرقة من قبل الزوج قد تكون بماهو فسخ من كل وجه، ألا ترى أن غير الأب والجد إذا زوج الصغير امرأة ثم بلغ قبل الدخول واختار الفرقة وفسخ القاضي العقد بينهما كان ذلك فسخاً من كل وجه حتى يسقط الصداق، ففي كل موضع وجد الطلاق لفظاً أو ثبت حكمه كانت الفرقة بالطلاق قد سقط نصف الصداق.(3/246)
-----
وفي كل موضع لم يوجد الطلاق لفظاً أو لم يتثبت حكمه كانت الفرقة بحكم الفسخ فيوجب سقوط كل الصداق، وصارت الفرقة الواقعة من قبل الزوج بحكم الفسخ نظير الفرقة الجائية من قبل المرأة قبل الدخول بها، وإنها فسخ من كل وجه؛ لأنه تعذر أن تُجعل ذلك الفرقة بالطلاق؛ لأنها لا تملك الطلاق وتملك الفسخ؛ لأنها تفسخ النكاح بخيار البلوغ وعدم الكفاءة فاعتبر فسخاً من كل وجه فيوجب سقوط كل الصداق، وهذا لأن سقوط نصف المهر بالطلاق قبل الدخول عرف بخلاف القياس بالشرع، فإنه فسخ معنى لأن به يعود المعقود عليه إلى مُلك العاقد كما خرج عن ملكه من غير سبب جديد طلاقاً حقيقة وحكماً، وكل ما كان في معناه من كل وجه أو من وجه يلتحق به وما (لا) فلا.
ولهذا قلنا: إذا ارتد الزوج أو قبّل أم امرأته بشهوة قبل الدخول بها سقط نصف الصداق لأنه فسخ معنى وطلاق حكماً، فإن حكم الطلاق ثبوت الحرمة وقد ثبتت الحرمة والزوج يملك إثبات الحرمة بالطلاق فيعتبر طلاقاً في حق المرأة فيوجب سقوط النصف.
وإذا اشترى منكوحته قبل الدخول بها سقط كل الصداق، والفرقة جاءت من قبل الدخول بها، ومع هذا سقط الصداق كله؛ لأن الفرقة وقعت بما هو فسخ من كل وجه؛ لأنه لم يوجد الطلاق لا لفظاً ولا حكماً، فإن الحرمة لم تثبت هنا، هذه الجملة في «شرح الجامع».
وفي «المنتقى»: رجل وكل رجلاً بشراء امرأته فاشتراها الوكيل من المولى حتى فسد النكاح، فلا مهر للمولى.
ولو باعها المولى من رجل ثم إن الزوج اشتراها من المشتري فعليه نصف المهر للمولى الأول لأن في هذا الوجه لم يكن من قبله معونة على فساد النكاح.(3/247)
ولو وكل الرجل من يشتريها له ووكل المولى من يبيعها فاشتراها وكيل الزوج من وكيل المولى فقد بطل المهر. ولو باعها المولى من أجنبي وخرج المشتري بها إلى بلدة أخرى وعلى الزوج في السفر إليها مؤنة فلا مهر لها على الزوج حتى يؤتى بها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك في قول أبي يوسف رحمه الله.(3/248)
-----
نوع منه
في المهر يزيد أو ينقص في يد الزوج أو في يد المرأة فطلقها الزوج قبل الدخول بها أو أخذت الزيادة في يد الزوج في المهر، فإن كانت متصلة كالسمن والجَمَال فإنها تنصف مع الأصل بالطلاق قبل الدخول بالإجماع، وإن كانت منفصلة فإن كانت متولدة من العين كالولد أو كانت مستفادة بسبب العين كالعفو والأرش فإنها تنصف مع الأصل بالإجماع لأن هذه الزيادة صداق بمنزلة الزيادة المتولدة من مبيع المبيع على ما يأتي بيانه في تلك المسألة. وللقبض شبه بالعقد فكانت الزيادة الموجودة لدى العقد، وإن كانت الزيادة مستفادة بسبب المنافع كالكسب والغلّة. والأصل يتنصف بالطلاق قبل الدخول بالإجماع.
وأما الزيادة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تتصف بل تكون كلها للمرأة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تنصف الزيادة مع الأصل. قال القدوري رحمه الله في شرحه: ولو أخر الزوج المهر فالأجرة له ويتصدق بها، وهذا لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد عندنا، والعقد كان من الزوج غير أنه يتصدق بالأجرة لأنها حصلت عن محل مملوك للغير فدخل الخبث هذا إذا حدثت الزيادة في يد الزوج.
وإن حدثت الزيادة في يد المرأة ثم طلقها قبل الدخول فهذه الزيادة لا تنصف بلا خلاف وهل منع تنصف الأصل، فإن كانت الزيادة منفصلة وقد استفيدت بسبب المنافع كالكسب والغلة يمنع تنصف الصداق. وإن كانت الزيادة متولدة من العين كالولد أو كانت مستفادة سبب العين كالإرث يمنع تنصف الأصل، وعلى المرأة نصف قيمة الأصل يوم قبضت، فكذلك لو لم يطلقها الزوج في هذه الصورة، لكنها ارتدت أو قبّلت ابن زوجها فعليها رد جميع القيمة يوم القبض فصار أثر الردة في حق الكل بمنزلة أثر الطلاق في حق الطلاق.(3/249)
-----
فروي عن أبي يوسف رحمه الله في الردة والتقبيل أنه يجب عليها رد الأصل والزيادة. فرّق (210أ1) بين الزيادة والتقبيل وبين الطلاق، وإن كانت الزيادة الحادثة في يد المرأة متصلة؛ كالسمن والجمال فإنها تمنع تنصف الأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى المرأة نصف قيمة الأصل يوم القبض. وقال محمد رحمه الله لا يمنع تنصف الأصل. ولو هلكت هذه الزيادة ثم طلقها كان لها نصف الأصل لأن المانع من التنصيف قد ارتفع، ولو حدثت هذه الزيادة في يد المرأة بعد الطلاق أو الزيادة ثبت حق الزوج في الزيادة. هكذا ذكر القدوري رحمه الله؛ لأن الصداق في يدها في هذه الصورة بمنزلة المقبوض بحكم العقد الفاسد، فيجب عليها الرد بزوائدها المتصلة والمنفصلة جميعاً.
وفي «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل تزوج امرأة على نخيل صغار طول النخلة قدر شبر وسلمها إليها، فمكثت حتى صارت النخيل طول الرماح إلا أنها لم تحمل ثم طلقها قبل الدخول بها قال: له أن يأخذ بعضها بالعدد.
فقد أشار إلى الزيادة المتصلة في يد المرأة تنصف، وأنه يخالف رواية الأصل كما بيّنا.
قال هشام: قلت: فإن تزوجها على زرع حنطة بعل ودفعه إليها، وأعارها الأرض حتى بلغ الزرع وانعقد الحب قال: إن كان الحب قد استبدَ فلا سبيل للزوج على الزرع؛ لأنه قد خرج من الحالة التي تزوجها عليها. قلت: فإن تزوجها على عشرين شاة عجاف فأحسنت إليها حتى حملت ودرّ اللبن من ضروعها ثم طلقها قبل أن يدخل بها قال: يأخذ بعضها على حالها. هذا هوالكلام في الزيادة.
جئنا إلى النقصان فنقول: إذا انتقص المهر في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها فهذا على وجوه:(3/250)
-----
أحدها: أن يكون النقصان بآفة سماوية وأنه على وجهين: إن كان النقصان يسيراً كان لها نصف الخادم معيناً من غير ضمان النقصان، ليس لها غير ذلك، وإن كان النقصان فاحشاً فلها الخيار؛ إن شاءت تركت المهر على الزوج وضمنته نصف قيمته يوم العقد، وإن شاءت أخذت نصف الخادم معيناً من غير أن يضمن الزوج ضمان النقصان.
الوجه الثاني: أن يكون بفعل الزوج فإنه على وجهين أيضاً: إن كان النقصان يسيراً فإنها تأخذ نصف الخادم على الزوج وتضمنه قيمة الخادم، وإن كان النقصان فاحشاً إن شاءت أخذت نصف قيمة الخادم يوم العقد وتركت الخادم، وإن شاءت أخذت نصف الخادم وضمن الزوج نصف قيمة النقصان.
الوجه الثالث: أن يكون النقصان بفعل المرأة، وفي هذا الوجه لها نصف الخادم لا شيء لها غير ذلك، فلا خيار لها سواء كان النقصان يسيراً أو فاحشاً.
الوجه الرابع: أن يكون النقصان بفعل الصداق، ففي ظاهر الرواية كالنقصان بآفة سماية، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه بمنزلة تعييب الزوج.
الوجه الخامس: أن يكون النقصان بفعل الأجنبي وأنه على وجهين: إن كان يسيراً فإنها تأخذ نصف الخادم ويضمن الأجنبي نصف قيمة النقصان ليس لها غير ذلك. وإن كان فاحشاً إن شاءت أخذت نصف الخادم وأتبعت الأجنبي بنصف قيمة النقصان وإن شاءت تركت الخادم على الزوج وأخذت من الزوج نصف قيمة الخادم يوم العقد، ثم الزوج أتبع الجاني علة النقصان. هذا إذا حصل النقصان في يد الزوج.(3/251)
-----
فإن حصل النقصان في يد المرأة ثم طلقها قبل الدخول بها، فإن كان بآفة سماوية والنقصان يسيراً أخذ الزوج نصف المهر معيباً ليس له غير ذلك. وإن كان النقصان فاحشاً إن شاء أخذ النصف كذلك معيباً من غير ضمان النقصان، وإن شاء ترك ذلك على المرأة وضمنها نصف قيمته صحيحاً يوم القبض؛ لأن قبضها غير مضمون عليها؛ لأنها قبضت ملك نفسها، فما أخذت من النقصان لا يكون مضموناً عليها، لكن الزوج يتخير لأنه وجب عليها الرد كما قبضت وإن كان النقصان في يد المرأة بعد الطلاق ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله: أن هذا وما لو كان النقصان قبل الطلاق سواء، وعامة المشايخ على أن للزوج أن يأخذ بعضها مع نصف النقصان وهكذا ذكر القدوري رحمه الله في شرحه وهو الصحيح لما ذكرنا أن الصداق في يد المرأة بعد الطلاق بمنزلة المقبوض بحكم يقع فاسداً فيكون مضموناً بجميع أجزائه، وإن شاء أخذ نصف قيمته يوم قبضت.
وإن كان النقصان قبل الطلاق أو بعد الطلاق بفعل المرأة فهذا وما لو كان النقصان بآفة سماوية سواء. وإن كان النقصان بفعل المهر فكذلك الجواب أيضاً. وإن كان النقصان قبل الطلاق بفعل الأجنبي ينقطع الرجوع عن المهر وعليها نصف القيمة للزوج يوم قبضت؛ لأن الأجنبي قد ضمن الأرش فتصير هذه زيادة منفصلة إلا أن تكون هي أبرأت الزوج عن الجناية أو هلك الأرش في يدها قبل الطلاق، فحينئذ يتنصف المهر لزوال المانع. وإن كان النقصان بعد الطلاق: ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله: أن هذا وما لو حصل النقصان قبل الطلاق سواء، وذكر القدوري رحمه الله: في شرحه أن الزوج يأخذ نصف الأصل وهو بالخيار في الأرش، إن شاء أتبع الجاني وأخذ منه نصف الأرش، وإن شاء أخذ من المرأة لما ذكرنا أن الصداق في يدها بعد الطلاق بمنزلة المقبوض بحكم عقد فاسد فيكون مضموناً عليها.(3/252)
-----
وإن كان النقصان قبل الطلاق بفعل الزوج فهذا وما لو كان النقصان بفعل الأجنبي سواء؛ لأن الزوج ضمن الأرش كالأجنبي، فصار الجواب في حقه كالجواب في حق الأجنبي.
وإن هلك الصداق في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها فلها على الزوج نصف القيمة يوم العقد. وإن هلك في يد المرأة وطلقها قبل الدخول بها فله على المرأة نصف القيمة يوم القبض والله أعلم بالصواب.
نوع منه في المرأة تهب الصداق من زوجها ثم يطلقها الزوج قبل الدخول بها
الصداق لا يخلو أن يكون ديناً، كالدراهم والدنانير والمكيل والموزون في الذمة لها، فلا رجوع له عليها بشيء سواء وهبت قبل القبض أو بعد القبض؛ لأن عين ما وجب رده عاد إلى الزوج، وكذلك لو كان المهر حيواناً في الذمة أو عروضاً في الذمة فأعطاها حيواناً وسطاً أو عرضاً وسطاً ثم وهبته من الزوج لما مر أنه يلتحق بالمعين وقت العقد، ولو كان المهر ديناً فوهبته منه قبل القبض ثم طلقها قبل الدخول بها لا يرجع عليها بشيء عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.(3/253)
-----
ولو قبضت ذلك منه ثم وهبته منه رجع عليها بنصف المقبوض؛ لأن رد العين ليس بواجب، ألا ترى أن لها أن تمسك المقبوض وترد مثله، فصار كأنها وهبته مالاً آخر. ولو قبضت النصف ووهبت منه النصف الباقي ثم طلقها قبل الدخول بها؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرجع عليها بشيء. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرجع بنصف المقبوض، هكذا ذكر في «الأصل» وفي «القدوري»، ولم يذكر ما إذا وهبت النصف المقبوض. ذكر في «المنتقى» إبراهيم عن (210ب) محمد رحمها الله إذا تزوج امرأة على ألف ودفع إليها خمس مائة ثم إنها وهبت من الزوج الخمس مائة المقبوضة ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها فلا رجوع له عليها، ولو دفع إليها ست مائة ووهبتها منه ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بمائة. علل فقال: لأن ما وقع إليها بينهما نقصان: وما بقي بينهما نقصان بيانه: أن رد عين المقبوض ليس بواجب عيلها بل لها أن تمسك المقبوض وتردّ مثله مكانها، وهبت بالآخر وبقيت الستمائة المقبوضة مهراً في يدها على حالها، فتنصفت الستمائة بالطلاق قبل الدخول بها كما تنصفت الأربعمائة التي بقيت في الذمة، فمئتان بمائتين وبقيت له مائة. ولو كانت الستمائة التي دفعها إليها والأربعمائة الباقية رجع عليها بثلاث مائة وهو بناءً على ما قلنا.
وفيه أيضاً: لو دفع الألف كلها إليها ثم اختلعت منه بألف قبل أن يدخل بها رجع عليها في القياس بخمس مائة.
وفي الاستحسان: لا يرجع عليها بشيء. وفي الأصل: إذا وهبت الصداق من أجنبي وسلطته على قبضه فقبض ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصفه. ولو قبضت الصداق ووهبته من أجنبي ثم الأجنبي وهبه من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بالنصف الدين والعين فيه على السواء، وهذا لأن المستحق للزوج بالطلاق قبل الدخول سلامة نصف المهر من جهة المرأة من غير عوض ولم يوجد ذلك هنا.(3/254)
-----
وفي القدوري: لو باعته المهر ووهبته على عوض ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف القيمة، وتعتبر القيمة يوم البيع، ولو كانت قبضت ثم باعت اعتبرت القيمة يوم القبض.
نوع منه
في وجوب المهر بلا نكاح إذا وطىء جارية الابن مراراً فعليه مهر واحد، وإذا وطىء جارية الأب مراراً أو ادعى الشبهة فعليه بكل وطئة مهر، وهذا لأن الثابت في حق الأب شبهة ملك فكان الوطىء الثاني استيفاء بملكه. ومن استوفى منفعة ملكهِ مراراً لا يلزمه إلا بَدَلٌ واحدفي ابتداء.... والثابت في حق الابن بشبهة اشتباه فكان كل وطىء استيفاء ملك الغير فيجب بكل وطء مهر.
وعلى هذا إذا وطىء جارية امرأته مراراً يجب بكل وطىء مهر؛ لأن له شبهة اشتباه. ولو وطىء مكاتبته مراراً فعليه مهر واحد لأن له شبهة ملك. هذه الجملة في «واقعات» الناطفي وإذا وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة مراراً يجب بكل وطئة نصف مهر إذ ليس له في النصف الثاني شبهة ملك فصار بمنزلة جارية ووطئها مراراً ثم استحقت فعليه مهر واحد.
وإذا استحق نصفها فعليه نصف مهر. وفي «نوادر» هشام أيضاً عن محمد رحمه الله في صبي ابن أربع عشر سنة جامع امرأة ثيباً وهي نائمة لا تدري فلا مهر عليه. وإن كانت بكراً فأفضاها فعليه المهر. وكذلك المجنون.
وفي آخر حدود شيخ الإسلام رحمه الله: الصبي إذا زنى بصبيّةٍ فعليه المهر؛ لأنه مؤاخذ بأفعاله، فإن أُمر الصبي بذلك فلا مهر عليه.
وإذا زنى الصبي بامرأة حرة بالغة فأذهب عذريتها؛ إذا كانت مكرهة ضمن الصبي المهر، وإن كانت طائعة دعته إلى نفسها فلا مهر عليه. والصبية إذا دعت صبيّاً إلى نفسها فأذهب عذريتها فعليه المهر؛ لأن أمرها لم يصح في إسقاط حقها بخلاف البالغة. والأمة إذا دعت صبيّاً وزنى بها لزمه المهر؛ لأن أمرها لا يصح في حق المولى.(3/255)
-----
وفي «واقعات الناطفي»: إذا وطىء منكوحته مراراً ثم ظهر أنه كان حَلَفَ بطلاقها يلزمه مهر واحد؛ لأن له شبهة ملك.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل طلّق امرأته وهو يجامعها ثم تم على جماعه إياها حتى قضى حاجته منها فلا حدّ عليه ولا مهر، إلا أن يكون أخرجه بعد الطلاق ثم عاد إلى المخالطة فيكون ذلك جماعاً مستقبلاً؛ لأن الجماع ليس بجماع تام إلا بابتداء إدخاله ثم بإخراجه.
فإذا كان الجماع أوّله وآخره حلالاً فهذا ليس بجماع تام على الحرمة فدرأت عنه الحد ولم ألزمه، قال: وكذلك ثم تم على جماعه ثم طلقها فإني أدرأ عنه الحد وألزمه مهرين؛ مهر بابتداء الغشيان ومهر آخر بالتزوج لأن مكثه على الجماع لا يكون أولى من الخلوة في إيجاب المهر. ألا ترى أنها لو حملت من جماعه ذلك كان ابنه، ولا أجعل هذا منه إحصاناً. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل غصب امرأة وجامعها فيما دون الفرج وجاءت بولد، فإن كانت بكراً فعليه المهر، وإن كانت ثيبّاً فلا مهر عليه.
وعنه أيضاً: إذا وطىء الرجل امرأته أبيه من قبل أن يدخل بها الأب وإن كان علم أنها امرأة أبيه فعليه لها مهر بالدخول، ونصف المهر للأب بما أفسد عليه، فإن كان لا يعلم أنها امرأة أبيه فعليه لها مهر الدخول، وعلى الأب لها نصف المهر في قولي وفي قول أبي حنيفة رحمه الله.(3/256)
-----
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله. ذكر هذه المسألة بخلاف هذا في رواية بشر. وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو أن أخوين تزوج أحدهما بامرأة، والآخر بابنتها فأدخلت كل واحدة منهما على غير زوجها منهما ودخل بها فقد بانت منهما امرأتاهما، وعلى كل واحد منهما نصف المهر، وللتي وطئها مهر مثلها وليس لواحد منهما أن يتزوج بامرأته بعد ذلك، ولزوج الأم أن يتزوج بالابنة التي وطئها وإن كانت هي ربيبته إلا أنه لم يدخل بالأم. وليس لزوج الابنة أن يتزوج الأم التي وطئها لأنها أم امرأته، وكذلك لو لم يكن بين الزوجين قرابة.
وفي «المنتقى»: رجل وابنه تزوجا امرأتين أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها، فعلى كل واطىء مهر التي وطئها ولا شيء عليه لامرأته؛ لأن الوطء كان بمطاوعةٍ منها والآخر بابنتها فأدخلت امرأة الأب على الابن وأدخلت امرأة الابن على الأب فوطئاهما فإن على الواطىء الأوّل نصف مهر امرأته وجميع مهر الموطوءة فلا شيء على الواطىء الآخر من مهر امرأته فإن كان الوطء منهما معاً فلا شيء على واحد منهما لامرأته. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق حين أخلو بك أو قال: إذا خلوت بك، فخلى بها وجامعها فعليه مهر ونصف مهر بالدخول، ونصف مهر بالطلاق قبل الدخول، ولا أثر للخلوة في هذه الصورة في تأكيد المهر؛ لأن المهر إنما يتأكد بالخلوة إذا كانت فيها مُدّة يمكنه الدخول فيها. وإن لم يكن جامعها بعد الخلوة فعليه نصف المهر.
وفيه أيضاً: إذا قال لأجنبية: إذا تزوجتك وخلوت بك ساعة فأنت طالق فتزوجها وخلى بها وقع الطلاق عليها ولها مهران: مهر بالخلوة، ومهر بالدخول بعد الخلوة بساعة. وإن كان الدخول مع الخلوة لم يكن عليه إلا مهرٌ لأن الطلاق وقع بعد الدخول.(3/257)
-----
في «العيون»: إذا قال لامرأة: كلما تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها في يوم واحد ثلاث مرات ودخل بها في كل مرّة (211أ1) فهي امرأته وعليه مهران ونصف وقد وقعت تطليقتان على قياس قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه لما تزوجها أولاً وقعت تطليقة ووجب نصف مهر، فلما دخل بها وجب مهر كامل؛ لأن هذا وطىء عن شبهة في المحل ووجبت العدة، فإذا تزوجها ثانياً وقع طلاق آخر. وهذا الطلاق بعد الدخول معنى، فإن من تزوج المعتدة وطلقها قبل الدخول بها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يكون هذا الطلاق بعد الدخول معنى فيجب مهر كامل فصار مهران ونصف.
فإذا دخل بها فقد دخل بها وهي معتدة عن طلاق رجعي فصار مراجعاً، ولا يجب بالوطىء شيء، فإذا تزوجها ثالثاً لا يصح النكاح؛ لأنه تزوجها وهي منكوحة. ولو قال: كلما تزوجتك فأنت طالق بائن والمسألة بحالها بانت بثلاث وعليه خمس مهور ونصف مهر في قياس قولهما يخرج على الأصل الذي بينّا.
ذكر نجم الدين النسفي رحمه الله تفسير العقر الواجب بالوطء في بعض المواضع حاكياً عن القاضي الإمام الإسبيجابي رحمه الله: أن ينظر بكم يستأجر هذه المرأة بالوطء لو كان الاستئجار بالوطء حلالاً.
وفي «واقعات الناطفي» في آخر كتاب البيوع أن تفسيره عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينظر بكم يتزوج به مثلها وأحاله إلى اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله.(3/258)
الفصل السادس عشر في النكاح الفاسد وأحكامه
-----
إذا وقع النكاح فاسداً وفرق القاضي بين الزوج وبين المرأة فإن لم يكن دخل بها فلا مهر لها ولا عدة، وإن كان قد دخل بها فلها الأول (إن) لم يكن دخل مما سمى لها ومن مهر المثل إن كان ثمة مسمى، وإن لم يكن ثمة مسمى فلها مهر المثل بالغاً ما بلغ وتجب العدة. ويعتبر الجماع في القبل حتى يصير مستوفياً المعقود عليه، وتعتبر العدة من حين يفرق بينهما عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ولكل واحد من الزوجين فسخ هذا النكاح بغير محضر من صاحبه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم إن لم يدخل بها فكذلك الجواب.
وإن دخل بها فليس لواحد منهما حق الفسخ إلا بمحضر من صاحبه، كما في البيع الفاسد لكل واحد من المتعاقدين حق الفسخ بغير محضر من صاحبه قبل القبض فليس له ذلك بعد القبض.
وإن فرّق القاضي بين الزوج وامرأته بحكم فساد النكاح وكان ذلك بعد الدخول بها وجبت عليها العدة، ثم تزوجها في العدة نكاحاً صحيحاً، ثم طلقها قبل الدخول بها فلها المهر الثاني كاملاً وعليها العدة مستقبلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله: يجب نصف المهر الثاني وتلزمها بقية العدة الأولى.(3/259)
-----
وكذلك لو كان النكاح الأول صحيحاً وطلقها تطليقة بائنة بعد ما دخل بها، ثم تزوجها في العدة ثم طلقها في النكاح الثاني قبل الدخول بها فلها المهر الثاني كاملاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. فالحاصل: أن في الدخول في النكاح الأول دخول في النكاح الثاني إذا حصل النكاح الثاني في العدة، وأجمعوا على النكاح الثاني لو كان فاسداً وفرق بينهما قبل الدخول بها في النكاح الثاني أنه لا يجب المهر الثاني؛ لأن الدخول في النكاح الأول إنما اعتبر دخولاً في النكاح لتمكنه من الدخول شرعاً، وذلك بالعقد الفاسد لا يكون. وبهذا الطريق قلنا: إن الخلوة في العقد الفاسد لا توجب المهر والعدة، هذه الجملة في نكاح «الأصل» في باب الأكفاء. ذُكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة نكاحاً فاسداً وجاءت بولد أتى بستة أشهر ثبت النسب، فالنكاح الفاسد بعد الدخول في حق النسب بمنزلة النكاح الصحيح ويعتبر أقله وذلك ستة أشهر من وقت النكاح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله من وقت الدخول.
قال الفقيه أبو الليث: والفتوى على قول محمد رحمه الله؛ لأن النكاح الصحيح إنما يقام مقام الوطء؛ لأنه داعٍ إليه شرعاً، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ فلا يقام مقام الوطء.
وذكر في كتاب الدعوى في «الأصل»: إذا تزوجت الأمة بغير إذن مولاها ودخل الزوج ثم ولدت لستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه المولى والزوج فهو ابن الزوج؛ لأن النكاح الفاسد عند اتصال الدخول به في حق النسب ملحق بالنكاح الصحيح، والجواب في النكاح الصحيح ما قلنا فكذا هنا، فقد اعتبر المدة من وقت النكاح فإنه وضع المسألة فيما إذا ولدت لستة أشهر منذ تزوجها، ولم يحك خلافاً.(3/260)
-----
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة دليل على أن الفراش ينعقد بنفس العقد في النكاح الفاسد، خلافاً لما يقوله بعض مشايخنا لا ينعقد إلا بالدخول. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: أن الفراش لا ينعقد بالنكاح الفاسد إلا بالدخول.
وتأويل هذه المسألة على (ما) ذكره شيخ الإسلام: أن الدخول كان عقيب النكاح بلا فصل، فتكون المدة في وقت النكاح وفي وقت الدخول سواء. إذا تزوجها نكاحاً فاسداً وخلا بها وجاءت بولد وأنكر الزوج الدخول فعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، في رواية قال: يثبت النسب ووجب المهر والعدة، وفي رواية قال: لا يثبت النسب ولا يجب المهر ولا تجب العدة وهو (قول) زفر رحمه الله، وإن لم يخل بها لا يلزمه الولد.
في «مجموع النوازل» الطلاق في النكاح الفاسد ليس بطلاق على الحقيقة بل هو متاركة، حتى لا ينتقص من عدد الطلاق، والمتاركة في النكاح الفاسد لا تتحقق بعدم مجيء كل واحد منهما إلى صاحبه، وإنما تتحقق بالقول بأن يقول الزوج مثلاً: تركتك، تركتها خليت سبيلك، خليت سبيلها والله أعلم بالصواب.
الفصل السابع عشر في ثبوت النسب
قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: إذا تزوج الزوج جارية وجاءت بولد فقال الزوج: تزوجتك منذ شهر، وقالت المرأة: لا بل منذ سنة فإن الولد ثابت النسب، وإن كانا تصادقا أنه تزوجها منذ شهر لم يثبت نسب الولد منه. وإن قامت البيّنة بعدما تصادقا أنه تزوجها منذ سنة قبلت. أما إذا كان الولد كبيراً وقد أقام البينة بنفسه فهذا الجواب ظاهر؛ لأن هذه بينة قامت من خصم على خصم.
وأما إذا كان الولد صغيراً فقد تكلّم المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: القاضي ينتصب خصماً عن الصغير لأن النسب حق الصغير، فينتصب عنه خصماً لتكون البينة قائمة ممن هو خصم، ثم الخصم إنما يقيم البينة على الزوج هنا؛ لأن النسب ثابت منهما على كل حال.(3/261)
-----
وبعضهم قالوا: يسمع البينة من غير أن ينتصب عنه خصماً بناء على أن الشهادة على النسب هل (211ي1) يقبل جنسه من غير دعوى، وقد اختلف مشايخنا فيه منهم من قال يقبل. وزعم أن هذه المسألة تدل عليه، وإذا كان الصبي في يدي امرأة فقال رجل للمرأة: هذا ابني من نكاح وقالت المرأة: هو ابنك من زنى لم يثبت نسبه، لإنكارها ما ادعاه من الفراش. وإن قالت بعد ذلك: هو ابنك من نكاح ثبت نسبه منهما؛ لأنها أقرّت له بالنكاح بعدما أنكرت، والإقرار بعد الانكار صحيح، فثبت النكاح بينهما، فمن ضرورته ثبوت نسب للولد منهما.
وإذا كان الولد في يد رجل وامرأته فقال الزوج: هذا الولد من زوج كان لك قبلي، وقالت المرأة: بل هو منك فهو منه؛ لأن السبب بينهما ظاهر وهو الفراش، وما ادعاه الرجل غير معلوم.
رجل تحته امرأة وفي يدي المرأة ولد والولد ليس في يد الزوج فقالت المرأة: تزوجتني بعدما ولدت هذا الولد من زوج قبلك، وقال الزوج: لا بل ولدته في ملكي فهو ابن الزوج لما بيّنا أن السبب ظاهر بينهما.
ولو كان الولد في يد الزوج دون المرأة فقال: هو ابني من غيرك، فقالت هو ابني منك فالقول قول الزوج، ولا تصدق المرأة، بخلاف ما سبق. والفرق أن قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشاً آخر على غيرها إما بنكاحٍ أو ملك.
فإذا كان الولد في يده كان بيان نسبته إليه في أي فراش حصل. أما ثبوت الفراش له عليها يمنع فراشاً لغيره عليها فكان هذا الفراش في حقها متعيناً، وباعتباره ثبت النسب من هذا الزوج.d
قال أصحابنا رحمهم الله: لثبوت النسب مراتب ثلاثة
أحدها: النكاح الصحيح وما هو من معناه في الزواج الفاسد، والحكم فيه أنه يثبت النسب من غير دعوى، ولا ينتفي بمجرد النفي وإنما ينتفي باللعان، فإن كانا ممن لا لعان بينهما لا ينتفي نسب الولد.
والثاني: الولد والحكم فيه أن نسب ولدها ثبت بدون الدعوى ولكن ينتفي لمجرد النفي.(3/262)
-----
الثالث: الأمة والحكم فيه أن نسب ولدها لا يثبت بدون الدعوى، قالوا وإنما يثبت نسب ولد أم الولد بدون الدعوى إذا كانت بحال يحل للمولى وطئها، وأما إذا كانت بحال لا يحل للمولى وطئها لا يثبت النسب بدون الدعوى حتى أن المولى إذا كانت أم ولده فجاءت بولد بعد ذلك لا يثبت نسبه بدون الدعوى. وكذلك الجارية إذا كانت بين رجلين جاءت بولد.... حتى يثبت النسب منهما ثم جاءت بولد آخر لا يثبت نسب هذا الولد بدون الدعوى.
وفي «الواقعات» إذا غاب عن امرأته وهي بكر أو بنت عشر سنين فتزوجت وجاءت بالأولاد فالأولاد من الزوج الأول عند أبي حنيفة رحمه الله، ووضع المسألة في «الأصل» فيما إذا نُعِيَ إلى المرأة زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت من الزوج الثاني ثم جاء الزوج الأول حيّا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الولد للزوج الأول على كل حال؛ لأنه صاحب الفراش الصحيح؛ لأنه بغيبته لا يفسد فراشه. وفراش الزوج الثاني فاسد، ولا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجه... الفاسد مدفوع بالصحيح. وروى عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة رحمه الله أن النسب من الزوج الثاني وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله.
وكان أبو يوسف رحمه الله يقول: إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فالأولاد للزوج الأول. وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً منذ تزوجها فالأولاد للزوج الثاني وقال محمد رحمه الله: إن جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني فالأولاد للأول. وإن جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني فالأولاد للثاني وكذلك لو ادعت الطلاق فاعتدت وتزوجت والزوج الأول جاحد لذلك فهو على الخلاف الذي قلنا.(3/263)
-----
هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله شرح في كتاب «الدعوى». وفي نكاح «المنتقى»: رجل له زوجة تزوجت وهو حاضر فجاءت بولد، فإن الولد للأول في هذا الموضع. قال ثمة: بهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله في فصل الغيبة قال وقول أبي يوسف رحمه الله كقول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان الزوج حاضراً أو غائباً غيبة منتهية، وإن كان غائباً غيبة منقطعة معروفة فالولد للآخر.
ذكر الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله في مجبوب تزوج امرأة وبقيت عنده زماناً ثم جاءت بولد قال: لزمه الولد وأجعل ذلك إحصاناً، ويحلها ذلك لزوج كان قبله، وبهذا طلاقه.
وفي نوادر هشام قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله في رجل اشترى أمة فولدت منه، ثم أقام رجل البينة أنها امرأته زوجها مولاها منه قال: أجعلها وأجعل الولد ولد الزوج لأنه صاحب الفراش، وأعتق الولد بدعوة المولى يعني: لو ادعاه بحكم يعتقه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل زوج ابنه وهو صغير لا يجامع مثله ولا تحمل المرأة (منه) فجاءت امرأته (بولد) لا يلزمه الولد ولا ترد المرأة ما أنفق أب الزوج عليها عن ابنه لأنها إن زنت وحملت فلها النفقة وهي على ذلك؛ لأنه لا يعرف أبوه، يعني أب الولد، وإن أقرّت أنها تزوجت ردت على الزوج نفقه ستة أشهر مقدار مدة الحمل، وإن كان زوّجه أمة فجاءت بولد فادعاه السيد فهو ابنه؛ لأنه عبده لا يعرف له نسب فيجوز دعوته فيه.
رجل زنى بامرأة فحملت منه فلما استبان حملها تزوجها الذي زنى بها فالنكاح جائز، فإن جاءت بالولد بعد النكاح لستة أشهر فصاعداً يثبت النسب منه وترث منه، لأنها جاءت به في مدة حمل بأنه عقيب نكاح صحيح، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لا يثبت النسب ولا ترث منه إلا أن يقول: هذا الولد مني ولم يقل من الزنى.(3/264)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وفيه أيضاً: رجل له جارية يطأها يعزل عنها فجاءت بولد، فإن كانت الجارية غير محصنة تخرج وتدخل وأكثر ظن الرجل أن الولد ليس منه فهو في سعة من نفيه وإن كانت محصنة لا يسعه نفيه ولا يعتمد العزل؛ لأنه قد يعزل في الفرج الخارج ويظن أنه لا يدخل ويدخل ومتى عزل وعاد وجامع (من غير) أن يبول تحبل لأنه يبقى الماء في ذكره فالعزل مما لا يعتمد عليه. وهذا أيضاً في كتاب العتاق.
جارية هربت من مولاها يوماً ثم وجدها، ويطأها ويعزل عنها وظهر بها حبل وولدت بعد ستة أشهر منذ هربت ومات الولد فإن كانت الجارية قد ذهبت إلى متهم بها (212أ1) فالمولى في سعة من بيعها إلا أن الغالب أن الولد كان من فجور، وإن كانت الجارية عفيفة لم يظهر منها فجور لا ينبغي له أن يبيعها، وينبغي أن يشهد أنها أم ولده حتى لا تباع بعد موته، هذا حق لازم ديانةً لأن الغالب أنه منه، فالعزل مما لا يعتمد عليه على ما ذكرنا.
وإذا طلق امرأته طلاقاً بائناً وجاءت بولد ما بينهما وبين سنتين ثبت النسب منه. وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت. وأما المطلقة الرجعية فيثبت نسب ولدها بينها وبين سنتين ولم يصر الزوج مراجعاً. وإن جاءت به لأكثر من سنتين ثبت النسب وصار مراجعاً، وهذا كله إذا لم تقر بانقضاء العدة، فأما إذا أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الإقرار لم يثبت نسبه من الزوج في الفصول كلها. وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار؛ ففي فصل الموت والطلاق البائن يثبت النسب إلى سنتين من وقت الموت والطلاق.
وفي الطلاق الرجعي يثبت النسب من الزوج وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت الطلاق.
وإذا طلق الرجل امرأته الصغيرة تطليقة بائنة أو مات عنها زوجها فعلى هذا ثلاثة أوجه: الأول: أن تدعي حملاً بعد الموت والبينونة في هذه العدة، وفي هذا الوجه الحكم فيها والحكم في الكسوة سواء.(3/265)
-----
الوجه الثاني: أن تقر بانقضاء العدة عند مضي ثلاثة أشهر من البينونة أو عند مضي أربعة أشهر وعشراً من الموت، ثم جاءت بولد، إن جاءت بالولد لتمام ستة أشهر من وقت الإقرار لا يثبت النسب، وإن جاءت به لأقل من ذلك يثبت، وإن كانت لم تدع الحبل ولم تقر بانقضاء العدة فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إن جاءت بالولد لأقل من تسعة أشهر من وقت الطلاق أو لأقل من عشرة أشهر وعشراً من وقت الموت يثبت النسب. وإن كان لتسعة أشهر فصاعداً من وقت الطلاق ولعشرةِ أشهر وعشراً من وقت الموت لا تثبت. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يثبت النسب إذا جاءت به لأقل من سنتين، وإن كان الطلاق رجعياً ثبت النسب إذا جاءت بالولد لأقل من سبعة وعشرين شهراً لا بالحكم؛ لأن العلوق كان في مدة العدة فصار به مراجعاً، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت كبيرة فيثبت نسب ولدها إلى سنتين.
الفصل الثامن عشر في نكاح العبيد والإماء
لا يتزوج العبد أكثر من ثنتين، الحرتان والأمتان في ذلك على السواء، ولا يتزوج أمة على حرّة عندنا، والمكاتب والمدبر وابن أم الولد بمنزلة العبد، فكما لا يجوز للعبد أن يتزوج بغير إذن المولى فكذا لا يجوز للمكاتب والمدبر وابن أم (الولد)، وكذلك معتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك الأمة والمكاتبة وأم الولد والمدبرة لا يصح نكاحهن بغير إذن المولى، ولا يجوز للمولى أن يزوج المكاتبة والمكاتب بغير رضاهما، ويجوز نكاحه على الأمة بغير رضاها، وكذا على العبد إلا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله فيجوز للمكاتب والمكاتبة أن يزوجا ابنيهما من غير رضى المولى وتزوجهما أمتهما يخالف تزوجهما أنفسهما.(3/266)
-----
وإذا تزوج العبد أو المكاتب أو المدبر وابن أم الولد بغير إذن المولى ثم طلقها ثلاثاً قيل إجازة المولى فهذا الطلاق مشارك للنكاح وليس بطلاق حقيقةً، حتى لا ينتقص من عدد الطلاق ولكن لو وطئها بعد الطلاق يلزمه الحدّ، فإن أجاز المولى هذا النكاح بعد ذلك لا تعمل إجازته؛ لأنه قد ارتفع بالطلاق.
وإن أذن له أن يتزوجها بعد هذا الطلاق كرهت له أن يتزوجها، ولم أفرق بينهما إن فعل. وقال أبو يوسف رحمه الله لا أكرهه، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الخلاف على هذا الوجه في شرحه.
وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أمة تزوجت بغير إذن مولاها وطلقها الزوج ثلاثاً كان فرقة لا طلاقاً، غير أني أكره أن يتزوجها حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا أذن له سيده في النكاح مطلقاً فتزوج امرأتين في عقدة لم تجز واحدة منهما عليه، وهذا بناء على أن الإذن بالنكاح مطلقاً ينصرف إلى امرأةٍ واحدة إلا إذا اقترن به ما يدل على التعميم بأن قال: تزوج ما شئت من النساء أو ما أشبهه فحينئذ يتعمم ويتزوج ثنتين. وإن قال المولى: عنيت به امرأتين جاز نكاحهما عليه؛ لأنه نوى ما عمله لفظه، لأنه نوى كل الفعل في حقه، ونية الكل في اسم الجنس صحيحة، وكل مهر وجب للأمة بعقد أو دخول فهو للمولى. أما المكاتبة ومعتقة البعض فالمهر لهما لأن ما لزم من مهر العبد بإذن الولي يباع فيه لأنه ظهر وجوبه في حق المولى.
وأما المكاتب والمدبر فيستبقيان فيه؛ لأنه تعذر الاستيفاء من غير الرقبة فيستوفى من الكسب، وما لزمهم بغير إذن المولى اتبعوا به بعد العتق؛ لأنه لم يظهر الوجوب في حق المولى فصار بمنزلة الدين الثابت بالإقرار.(3/267)
-----
وإذا أذن لعبده في النكاح مطلقاً فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها لزمه المهر في الحال على قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يتأخر إلى ما بعد العتق، وهذا بناء على أن الإذن بالنكاح مطلقاً ينصرف إلى الجائز والفاسد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إلى الجائز وحده.
وثمرة الخلاف إنما تظهر في مسألتين إحداهما: هذه المسألة
الثانية: لو أن العبد بعدما تزوج هذه المرأة نكاحاً فاسداً أَوَلَهُ أن يتزوج هذه أو أخرى بعد ذلك نكاحاً صحيحاً؟ لا يملك عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الإذن انتهى، وعندهما يملك.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: عبد تزوج امرأة بغير إذن المولى ثم إن المولى أذن له في النكاح فأجاز ذلك النكاح، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: القياس أن لا يجوز لكني استحسن أن أُجيره، وإنما أضاف جواب القياس إلى أبي يوسف رحمه الله؛ لأن أبا يوسف يقول بالقياس في هذه المسألة ثم رجع وقال بالاستحسان. ومحمد رحمه الله كان يقول بالاستحسان من الابتداء، ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لم يحفظ عنه لا لأن قوله بخلاف قولهما.(3/268)
-----
وجه الاستحسان أن الإجازة إتمام لذلك العقد، والإذن بالشيء إذن به ومما هو من تمامه، ألا ترى أن الوكيل بالشراء يملك القبض؛ لأن القبض من تمامه، وألا ترى أن الوكيل بالقبض يملك إسقاط خيار الفرق، به بخلاف ما إذا أذن له بنكاح امرأة بعينها فتزوج امرأة أخرى (212ب1) لا يجوز؛ لأن نكاح غيرها غير ذلك ليس من تمام نكاحها، وبخلاف العبد المحجور إذا باع شيئاً من كسبه ثم أذن له المولى في التجارة فأجاز ذلك البيع حيث لا يجوز؛ لأن الإجازة هناك ليست من تمام ما تحت الإذن لأن بيع مال المولى ليس بداخل تحت الإذن في التجارة وكسب العبد ودخل المحجور الخالص مال المولى، ألا ترى أنه لو باع هذا المال بعد الإذن في التجارة لا يجوز وإذا لم يكن بيع هذا المال داخلاً تحت الإذن لم يكن إدخال إجازة ذلك البيع تحت الإذن من حيث إنها إتمام لذلك البيع. أما الإجازة في النكاح إتمام لذلك النكاح؛ لأن نكاح أية امرأة شاء العبد داخل تحت الإذن، ألا ترى أن العقد يملك التزوج بعد إذن المولى فيملك من إتمامه. ومن المشايخ من قال: القياس ما كان. ووجد استحسان في هذه المسألة من وجه آخر. القياس: أنه يبطل النكاح الموقوف بإذن المولى عنده في النكاح فلا تعمل إجازة العبد، وفي الاستحسان لا يبطل فتعمل إجازته. ثم على جواب الاستحسان لا ينفذ هذا العقد من غير إجازة، بخلاف ما إذا أعتق العبد حيث ينفذ ذلك النكاح عليه من غير إجازة.
وفيه أيضاً: إذا أذن الرجل لعبده أن يتزوج على رقبته فتزوج على رقبته أمة أو مدبرة أو أم ولد بإذن مولاهن جاز النكاح، فصار رقبة العبد لمواليهن وأنه أجاز النكاح؛ لأنه لو لم يجز إنما لم يجز من حيث أنه يقارن نكاحها.... في نكاحها وهو ملكها رقبة زوجها من حيث أن الملك في المهر يثبت للأمة أولاً، ثم ينتقل إلى المولى وليس كذلك، بل الملك في المهر يثبت للمولى ابتداءً؛ لأن المملوك ليس كذلك من أهل الملك.(3/269)
-----
ولو قلنا: إن الملك يثبت لها ابتداءً إلا أن هذا ملك لاقرار له فلا يكفي لقيان النكاح حرة على رقبته لا يجوز؛ لأنها تملك رقبة زوجها، لو جاز النكاح مقارناً للنكاح؛ لأن الملك في البدلين في المعاوضات يقع معاً، وهذا ملك له قرار يمنع صحة النكاح، ألا ترى أنه لو طرأ على النكاح أبطله، فإذا فارقه منع ثبوته، وكذلك لو تزوج مكاتبة على رقبته كان النكاح باطلاً؛ لأنه لو جاز هذا النكاح ثبت له حق الملك في رقبة زوجها إذنٌ؛ لأن المكاتبة في الكتابة حق الملك هذا إذا أذن له أن يتزوج على رقبته امرأة.
أما إذا (أذن) له أن يتزوج امرأة ولم يقل على رقبتك، فتزوج امرأة حرة أو مكاتبة أومدبرة أو أم ولد على رقبته جاز النكاح بقيمته استحساناً، بخلاف ما إذا أذن له أن يتزوج على رقبته فتزوج حرة أو مكاتبة أو على رقبته فإنه لا يجوز.
وإذا (أذن) لمكاتبه أو مدبره أن يتزوج على رقبته فتزوج على رقبته أمة أو مدبرة أو أم ولد جاز وهذا ظاهر أنه يجوز مثل هذا من العبد مع أن العبد، يقبل النقل من ملك إلى ملك وكذا إذا تزوج حرة أو مكاتبة، لأن المرأة لا تملك شيئاً من رقبة الزوج هنا؛ لأن المكاتب والمدبر لا يقبلان النقل من ملك إلى ملك بخلاف العبد.
وإذا صح النكاح يجب على المكاتب والمدبر قيمتهما ويسيعيان في ذلك، وهذا لأنه إن يقدر تصحيح النكاح هنا تعين المسمى أمكن تصحيحه بقيمة المسمى، لأن المسمى مال معلوم إلا أنه معجوز التسليم لحقٍ مستحق شرعاً لا لفساد العقد، وفي مثل هذا يجوز النكاح بالقيمة، كما لو تزوج امرأةً على عبد الغير ولم يجز ذلك الغير.
وفي «الجامع» أيضاً: عبد تزوج حرةً أو أمةً أو مكاتبةً أو أم ولدٍ أو مدبرةٍ على رقبته وبغير إذن المولى فبلغ المولى ذلك فأجازه، فإن كان تزوج أمة أو مدبرة أو أم ولدٍ عملت إجازته وصح النكاح.(3/270)
-----
وإن كان تزوج حرة أو مكاتبة لا تعمل إجازته، فإن كان قد تزوج على رقبته حرة وقد دخل بها لزمه الأقل من قيمته ومن مهر المثل بعد ذلك، ينظر إن دخل بها بعدما دخل بها بعدما أجاز المولى النكاح يكون ذلك ديناً في رقبته يباع فيه إلا إن يفديه المولى.
وإن دخل بها قبل إجازة المولى النكاح يؤاخذ مما لزمه بعد العتق، وهذا لأن هذا النكاح فاسد والمهر في النكاح الفاسد لا يجب بمجرد العقد، وإنما يجب بالعقد والدخول والدخول آخرهما فيضاف الوجوب إليه.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا دخل بعد إجازة المولى والإجازة في الانتهاء كإذنٍ في الابتداء كان النكاح والدخول حاصلاً بإذن المولى؛ لأن إذن المولى له بالعقد إذن بالدخول. والإذن بالدخول يوجد في المستقبل معتبر، فكان هذا ديناً لزمه بسبب هو مأذون فيه، فيؤاخذ به للحال. أما إذا دخل بها قبل إجازة المولى فالإذن في حق العقد إن عمل؛ لأنه قائم بمن ينفسخ بعد. ففي حق الدخول لم يعمل؛ لأنه مضى وانقضى حقيقة، فبقي الدخول بغير إذن فكان هذا ديناً لزمه هو بسبب ليس بمأذون فيه فيؤاخذ به بعد العتق.
وإن كان تزوج على رقبته أمةً أو مدبرةً أو أم ولدٍ وقد دخل بها، إن دخل بها بعد إجازة المولى النكاح لا يجب إلا المسمى، وهو رقبة العبد لمواليهن؛ لأن الدخول حصل في نكاح نافذ. وإن دخل بها قبل إجازة المولى النكاح فكذلك الجواب لا يجب إلا المسمى، وهو رقبة العبد للمولى. بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر جواب الاستحسان. والقياس: أن يجب مهر المثل بالدخول والمسمى بالعقد، وقاسوا هذه المسألة على مسألة ذكرها في «الأصل» وصورتها:
عبد تزوج امرأة بغير إذن مولاه بألف درهم ودخل بها قبل اجازة المولى النكاح ثم أجاز المولى النكاح، ذكر أن القياس: أن يلزمه مهر المثل بالدخول والمسمى بالنكاح؛ لأنه بالدخول قبل الإجازة لزمه مهر المثل؛ لأنه دخل بها عن شبهة، وبالإجازة نفذ النكاح فلزمه المسمى في النكاح.(3/271)
-----
وفي الاستحسان يجب المسمى لا غير؛ لأن مهر المثل في مثل هذه الصورة لو وجب بالدخول وجب باعتبار العقد، فإنه لولا العقد كان الواجب هو الحد، والمسمى واجبٌ بالعقد أيضاً. والعقد الواحد لا يوجب مهرين.
وبعض مشايخنا.... ذكر من القياس ثمة لا يبالي هنا؛ لأن مولى الأمة ملك رقبة العبد عند الإجازة، فسقط مهر المثل الواجب بالدخول عن شبهة، إذاً المولى لا يستوجب على عبده شيئاً. وإذا سقط ذلك في مسألتنا لم يجتمع المسمى ومهر المثل على طريق القياس ولا كذلك مسألة الأصل.
وإذا زوج أمته من عبده لا مهر لهاعليه، واختلف المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: لا يجب المهر أصلاً؛ لأنه لا فائدة (213أ1) في إيجاب وقال بعضهم: يجب ثم يسقط، وإذا أعتقت الأمة فلها الخيار؛ لأن بالعتق يزداد الملك عليها؛ لأن الملك قبل العتق يزول بتطليقتين، وبعد العتق لا يزول إلا بثلاث تطليقات، فكان لها أن ترفع زيادة الملك عن نفسها، وذلك برد أصل النكاح، فيثبت لها رد أصل النكاح، وكما ثبت لها الخيار بالعتق حال قيام النكاح يثبت لها الخيار بالعتق في العدة عن طلاق رجعي، هكذا ذكر في «المنتقى».
ويستوي أن تكون الأمة صغيرة أو كبيرة، إلا أنها إذا كانت صغيرة لا ينصرف بحكم هذا الخيار فسخاً، فلا إجازة ما لم يبلغ فسخاً بأن تختار نفسها، وأجازه بأن تختار وزوجها لتردده بين الضرر النفع، والصغير لم يؤهل لمثل هذا التصرف، فلا يملك وليها التصرف بحكم هذا الخيار أيضاً؛ لأن وليها قائم مقامها فلما بلغت خيرها القاضي خيار العتق فلا يخيرها خيار البلوغ.
وقوله: ولا يخيرها خيار البلوغ يحتمل فلا يخيرها خيار البلوغ؛ لأنه ليس لها خيار البلوغ فلا يخيرها خيار البلوغ مع أن خيار البلوغ ثابت لأنه ثبت لها خيار العتق وخيار العتق ينتظم خيار البلوغ؛ لأنه أعم من خيار البلوغ.(3/272)
-----
واختلف المشايخ فيه، منهم من قال بالأول وهو الأصح، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» في فصل العبد على ما يأتي بيانه بعد هذا. وهذا لأن العقد صدر ممن هو كامل الولاية؛ لأن ولاية المولى على مملوكه نسبت الملك، ولا نقصان في الملك فكانت الولاية كاملة فلا يثبت خيار البلوغ كما في الأب والجد، ثم الكلام في خيار العتق في فصول:
أحدها: أن خيار العتق يثبت للأنثى دون الذكر. الثاني: أن خيار العتق لا يبطل بالسكوت فيبطل بقول أو فعل يدل على اختيارها النكاح، وقد ذكر الكرخي عن محمد رحمه الله أن المعتقة إذا قالت: رضيت بالنكاح بطل خيارها. والثالث: أنه يبطل بالقيام عن المجلس. الرابع: أن الجهل بخيار العتق عذر حتى لو علمت بالعتق ولم تعلم بالخيار لا يبطل خيارها وإن قامت عن المجلس على ما عليه إشارات في «الجامع» وهو قول الكرخي رحمه الله وجماعة مشايخ بخارى خلافاً لما قاله القاضي الإمام أبو طاهر الدباس وأحمد ابن... رحمهما الله. والخامس: أن الفرقة بخيار العتق فرقة بغير طلاق؛ لأن خيار العتق إنما يثبت للأنثى دون الذكر والفرقة من جانب المرأة لا تكون طلاقاً.
قال في «المنتقى» وخيار العتق نظير خيار الطلاق، سوّى بين الخيارين مطلقاً. وفي الكتب الظاهرة بينهما فرق في حق بعض الأحكام، فإن الفرقة ثمة طلاق والجهل ثمة ليس بعذر إلى غير ذلك من الأحكام.(3/273)
-----
قال: إذا زوج الرجل عبده الصغير امرأةً حرةً، ثم إن المولى أعتق العبد ثم بلغ فليس له خيار البلوغ ولا خيار العتق. وبهذه المسألة ينبني أن الصحيح في فصل الأمة قول من يقول بأن خيار البلوغ غير ثابت لها لا أنه ثابت لكن ينتظمه خيار العتق، ألا ترى أن في حق العبد خيار العتق غير ثابت ولم يثبت له خيار البلوغ، والمعنى: ما ذكر أن له إنكاح صدر ممن له ولايةٍ كاملة، ولأن إنكاح المملوك حق المولى باعتبار ملكه، ولم يكن حقاً للعبد عليه بطريق النظر حتى يجب التخيير بطريق النظر بخلاف ما إذا أثبتنا النكاح بعد العتق وهو صغير؛ لأنه حق على المولى بطريق النظر فكان هو بمنزلة اليتيم فيجب التخيير بطريق النظر.t
رجل كانت جاريته وهي بنت عشر سنين ولم تبلغ وقبلت المكاتبة والمكاتبة جائزة؛ لأن المكاتبة منفعة محضة؛ لأنها تعتق بأداء كسب يكون ملكاً للمولى من غير عتق، والصبي العاقل من أهل مثل هذا التصرف. فإن زوجها المولى بعد ذلك بغير إذنها يوقف النكاح على إجازتها؛ لأن الكتابة لما صحت من الصغيرة العاقلة حَسُنت صحتها من البالغة وكانت الصغيرة بالمكاتبة فيما يُبنى على الكتابة بمنزلة البالغة، ولو كانت المكاتبة بالغة فزوجها المولى بغير رضاها تتوقف على إجازتها كذا هنا، وإن لم ترد النكاح حتى أدّت فعتقت بقي النكاح موقوفاً على الإجازة ولكن على إجازة المولى لا على إجازتها، حتى يجوز بإجازة المولى، فرق بين هذا وبين المكاتبة إذا زوجت نفسها من رجل بغير إذن المولى ثم إنها أدت فعتقت بعد النكاح عليها من غير إجازة وإنما كانت كذلك لأنها إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى فالنكاح إنما يوقف بحق المولى لا لحقها وحق المولى زال بالعتق فزال التوقف.(3/274)
-----
كالراهن إذا باع الرهن ثم قضى الدين، فأما إذا زوج المولى المكاتبة بغير رضا المكاتبة، والتوقف لحق المكاتبة صارت حرة يداً وحرية اليد التي كان يوقف النكاح من المولى لأجلها تأكدت. وازدادت بالعتق فبقي الموجب للتوقف فبقي التوقف فكان العبد إذا تزوج بغير إذن المولى ثم أذن له المولى في التزوج فإنه لا ينفذ ذلك النكاح من غير إجازة العبد أو المولى وإن صار للعبد ولاية التزوج بالإذن لأن التوقف كان لحق المولى لقيام ملكه في رقبته وبعد الإذن ملك المولى باقٍ، فكان الموجب للتوقف باقياً، فبقي التوقف إلا أنه لا تعمل إجازتها بعدما عتقت قبل أن تبلغ بحكم الصغير، وتعمل إجازة المولى؛ لأن الولاية تحولت إلى المولى بحكم الولاية؛ لأنه عصبتها إذا لم يكن لها ولي أقرب منه.
قال مشايخنا رحمهم الله: هذه المسألة من..... المسائل وأعجبها، فإنهم صححوا إجازة المكاتبة الصغيرة نكاحها قبل العتق، وقبل العتق هي حرة يداً لا رقبةً ولم يصححوا إجازته قبل العتق الذي هو حال قيام الملك حقيقة.
وأما الأول فلأن قبل العتق هي مكاتبة والمكاتبة وإن كانت صغيرة فهي ملحقة بالبالغة حكماً في حق الأحكام التي على الكتابة.(3/275)
-----
ولو كانت بالغة حقيقة صحت إجازتها، فكذا إذا كانت ملحقة بالبالغة، حكماً. وأما بعد العتق لم تبق مكاتبة وبطل التحاقها بالبالغة فعادت القضية الأصلية والصغيرة يقضية الأصل ليست من أهل الإجازة كما أنها ليست من أهل ابتداء النكاح. وأما الثاني فلأن أصل العتق هي ملحقة بالبالغة، ولو كانت بالغة حقيقة لا تعمل إجازة المولى عليها، فكذا إذا ألحقت بالبالغة، وبعد العتق بطل إلحاقها بالبالغة فهذه حرة صغيرة والمولى وليها إذا لم يكن لها (213ب1) ولي أقرب منه فيملك إجازة النكاح عليها كما يملك الإنشاء عليها، ثم إذا أجاز المولى نكاحها وعمل إجازته ونفذ النكاح عليها كان لها الخيار إذا بلغت عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الإجازة بمنزلة نكاح مبتدأ فكأنه زوجها بعد العتق، ولو كان كذلك كان لها خيار البلوغ؛ لأنه زوجها بأثر الملك وهو الولاية فكان ناقض الولاية، فكان كالأخ والعم.
ولو أن هذه المكاتبة الصغيرة حين زوجها المولى رضيت بالنكاح وهي صغيرة نفذ، حتى صح رضاها ونفذ النكاح، ثم أدت فعتقت لا خيار لها حتى تبلغ، كالأمة الصغيرة إذا أعتقت فإن بلغت فلها خيار العتق عند علمائنا رحمهم الله لما ذكرنا وليس لها خيار البلوغ وكان ينبغي أن يكون لها خيار البلوغ؛ لأن المولى بحكم الملك وبعد الكتابة ملكه ناقص والتزويج صدر ممن هو ناقص الولاية. والجواب:
إنما لم يثبت لها خيار البلوغ لوجهين: أحدهما: أنه يثبت لها خيار العتق وأنه أعم، فلا يقيد إثبات خيار البلوغ معه.(3/276)
-----
الثاني: أن صدور العقد ممن له ولاية ناقصة، إنما يثبت الخيار إذا لم يوجد الرضا من المولى عليه بعد البلوغ اعتباراً على (ما) ذكرنا قال: ولو أن هذه المكاتبة لم ترض بالنكاح ولم تنقضه حتى عجزت وردت في الرق بطل النكاح حتى لو أجازه المولى لا تعمل إجازته؛ لأن بالعجز حلت للمولى فطرأ للمولى على الحل الموقوف حل بات فأوجب بطلان الموقوف حتى لو كان مكان المكاتبة مكاتب صغير أو قد زوجه المولى امرأة بغير رضاها ثم عجز ورد رقيقاً لم يبطل نكاحه بل يبقى موقوفاً على إجازة المولى؛ لأنه لم يطرأ حل بات على حل موقوف، وكان ينبغي أن ينفذ نكاح المكاتب من غير إجازة المولى، إنما رضي بهذا النكاح ليكون المهر والنفقة في كسب هو غير مملوك للمولى، فإن كسب المكاتب حال قيام الكتابة غير مملوك للمولى، وبعد العجز يصير كسبه مملوكاً للمولى وهو لم يرضَ بكون المهر والنفقة في مثل هذا الكسب فلهذا توقف على إجازته.
فرع على مسألة المكاتب فقال: لو لم يعجز المكاتب ولكن أدى وعتق بقي النكاح موقوفاً على إجازة المولى أيضاً لما قلنا في فصل المكاتبة، ففي حق المكاتب لا يختلف الجواب بين العجز والعتق، إنما يختلف ذلك في حق المكاتبة.
ولو طرأ الرق على النكاح فهو كالمقارن في حق ثبوت خيار العتق عند أبي يوسف رحمه الله، وذلك نحو الحربية إذا تزوجت ثم سبيت وأعتقت. والمسألة: إذا تزوجت ثم ارتدت مع زوجها ثم سبيا ثم أعتقت فلها الخيار في قول أبي يوسف رحمه الله وعن محمد رحمه الله، أنه لا يثبت لها الخيار، هكذا ذكره القدوري رحمه الله.(3/277)
-----
قال «البقالي»: والصحيح أن الخلاف على العكس، هكذا قال القدوري. قال أبو يوسف رحمهما الله: يجوز أن يثبت خيارالعتق مرة أخرى نحو أن تعتق فتختار زوجها ثم ترتد مع الزوج ثم تسبى فتعتق فتختار نفسها، وقال محمد رحمه الله: يثبت خيار واحد إذا اختارت المعتقة نفسها قبل الدخول بها ولا مهر لها أصلاً، وإن اختارت بعد الدخول بها وجب لسيدها، ولو اختارت زوجها كان المسمى لسيدها دخل بها أو لم يدخل بها. إذا زوجت الأمة نفسها بغير إذن المولى ثم أعتقها المولى بعد العتق لما قلنا في جانب العبد. ولا خيار للأمة، ويجب مهر واحد إن لم يكن الزوج دخل بها قبل العتق فيكون لها؛ لأنه ملك بضعها وهي حرّة؛ لأن نفاذ النكاح بعدالعتق، فصار كما لو عقد العقد عليها وهي حرة ولأجل ذلك قال: لا خيار لها.
وإن كان الزوج قد دخل بها قبل العتق فالقياس أن يجب مهران: مهر للمولى بالدخول بشبهة النكاح قبل العتق، ومهر لها بنفوذ العقد عليها بعد العتق. وفي الاستحسان: لا يجب إلا مهر واحد ويكون للمولى؛ لأن وجوب المهر بالدخول في هذه لا يكون إلا بالعقد، ألا ترى أنه لو لم يسبق العقد لا يجب المهر بل يجب العقد، والعقد الواحد لا يوجب إلا مهر لواحد. فإذا وجب به مهر واحد للمولى لا يجب مهر آخر لها. وأما المدبرة إذا زوجت نفسها من غير إذن مولاها وعتقت (...) النكاح عليها كما في الأمة، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي «المنتقى» إذا خرجت المدبرة من الثلث جازالنكاح، وإن لم تخرج لم يجز من قول أبي حنيفة رحمه الله حتى..... ويجوز في قول أبي يوسف رحمة الله عليه، وأما أم الولد إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى ثم مات المولى حتى عتقت هل ينفذ النكاح عليها؟ لم يذكر محمد رحمة الله عليه هذا الفصل في «الأصل»، ومشايخنا فصّلوا الجواب فيها تفصيلاً فقالوا:(3/278)
-----
إن كان الزوج قد دخل بها قبل موت المولى ثم مات المولى نفذ النكاح عليها، وإن لم يدخل بها الزوج حتى مات المولى بطل النكاح، قيل: وهذا الجواب إنما يستقيم على رواية ابن سماعة، فإن على روايته: أم الولد إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى ودخل بها الزوج قبل الإجازة ثم مات المولى لا تجب العدة عن المولى فينفذ النكاح.
أما على «ظاهر الرواية» تجب العدة عن المولى فلا ينفذ النكاح، وإن لم يدخل بها الزوج حتى مات المولى لا ينفذ النكاح، وإن لم لأجل العدة التي لزمتها للمولى، ولو لم يمت المولى ولكن أعتقها فهو على هذا التفصيل أيضاً، إن أعتقها قبل أن يدخل بها الزوج بطل النكاح إلى آخر ما ذكرنا في فصل الموت.
وإذا زوج أحد الشريكين الجارية المشتركة بدون رضا صاحبه ودخل بها الزوج ثم رد الآخر النكاح، فللمزوج الأول من نصف مهر المثل ومن نصف المسمى؛ لأنه راضٍ بالمسمى، ورضاه معتبر في حقه. وإن لم يدخل بها الزوج حتى رد الآخر النكاح فلا مهر لواحد منهما خلا بها الزوج أو لم يخل بها.
وهذا لأن الخلوة إنما تعتبر في النكاح الصحيح، وهذا النكاح لم يصح. قال «البقالي» في فتاويه: ومهر مثل الأمة على قدر الرغبة، وعن الأوزاعي رحمه الله ثلث قيمتها. وفي «البقالي»: إذا زوج أمته ثم أعتقها ثم (213أ1) زاد الزوج في مهرها فالزيادة للمولى. رواه ابن رستم عن محمد رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة لها، وكذلك لو باعها ثم زاده فالزيادة للمشتري. في «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله في أمة تزوجت بغير إذن المولى ثم وطئها المولى لم يكن ذلك نقضاً للنكاح. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفسخ النكاح.(3/279)
-----
ولو باعها على أنه بالخيار فهو نقض للنكاح من قبل أن البيع ينفذ إذا سكت عن نقضه حتى تمضي مدة الخيار. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أمة تزوجت بغير إذن المولى ثم إن المولى أوصى بها لرجل، فإن قبلها صاحب الوصية انفسخ النكاح، وإن لم يقبل لا ينفسخ، ولو وهبها لم ينفسخ النكاح، ولو مات المولى وتركها ميراثاً فهذا في القياس ملك حادث فيكون فسخاً للنكاح.
وفي الاستحسان: لا ينفسخ؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث في تركته. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله عبد تزوج حرة أذن مولاهما ودخل بها ثم تزوج أمة لم يكن تَزَوُّجُهُ الأمة في عدة الحرة رداً لنكاح الحرة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: هو ردّ بناء على أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يتزوج الأمة في عدة الحرة خلافاً لهما، ولو تزوج حرة ودخل بها ثم تزوج أختها ودخل بها لم يكن ذلك رداً النكاح الأول.
وفي «نوادر بشر» بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: عبد تزوج بغير إذن مولاه أمة رجل بإذنه ثم قال: لا حاجة لي في نكاحها فهذا رد، ولو لم يقل ذلك حتى دخل بها ثم تزوج بعض من لا يصلح له نكاحها في عدتها لم يكن ذلك نقضاً للنكاح. في «المنتقى»: تزوج العبد حرة بإذن المولى على غير مهر، ثم جعل المولى العبد لامرأته بمهرها وقبلت ذلك انتقض النكاح حين ملكته وعليها أن ترد نكاح العبد إن لم يكن دخل بها.(3/280)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل زوج أمته برضاها من رجل بغير أمر الزوج والزوج بالغ عاقل خاطب عنه أبوه أو أجنبي بغير أمره حتى توقف النكاح على إجازة الزوج فأعتق المولى الأمة قبل أن يجيز الزوج النكاح بقي النكاح كذلك موقوفاً على إجازة الزوج، وأيهما نقض هذا النكاح يعني الأمة أو الزوج قبل إجازة الزوج صح نقضه، أما إذا نقض الزوج فظاهر، وأما إذا نقضت الأمة فلأن حكم العقد يلزمها عند الإجازة، فكان لها النقض دفعاً لحكم العقد عن نفسه، ثم نقضها صحيح وإن لم يعلم به الزوج؛ لأن المولى فضولي في النكاح في حق الزوج وتصرّف الفضولي غير منعقد في حق الحكم، فصار عقد المولى في حق الزوج بمنزلة غير المنعقد فكان النقض في حق الزوج امتناعاً عن العقد لا إلزاماً على الزوج فيص3ح من غير علم الزوج بخلاف مسألة البيع بشرط الخيار إذا منعه من له الخيار بغير علم صاحبه حيث لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن البيع بشرط الخيار منعقد وإنما الحكم معلق، فصار الفسخ إلزاماً على خصمه فيتوقف على علمه.
ولو أراد المولى أن ينقض هذا العقد بعد العتق قبل إجازة الزوج لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب»، وقد اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه ليس له ذلك.
وإن أجاز الزوج النكاح بعدما عتقت حتى نفذ النكاح لم يكن لها خيار العتق؛ لأن الإجازة بمنزلة نكاح مبتدأ في حق الحكم، فكأنه تزوجها بعد العتق برضاها، وهناك لا يثبت لها خيار العتق كذا هنا ويكون المهر للمعتقة. ولو كان المولى زوجها بغير رضاها وباقي المسألة بحالها ثم إن الأمة بعدما أعتقت نقضت النكاح قبل إجازة الزوج أو بعد إجازة الزوج فإنه يعمل نقضها في الحالين، فرق بين هذا وبينما إذا زوجها برضاها ثم نقضت الأمة النكاح بعد (ما) أعتقت وقد أجاز الزوج النكاح، حتى لا يعمل نقضها.(3/281)
-----
والفرق: أن في الفصلين جميعاً تعتبر الإجازة كابتداء العقد، فإذا كان النكاح عليها برضاها يجعل المولى كالمستأنف للعقد عليها برضاها بعد العتق، ولو استأنف العقد عليها برضاها بعد العتق وأجاز الزوج النكاح لا يصح نقضها بعد ذلك، وإن كان النكاح عليها بغير رضاها يجعل المولى كالمستأنف للعقد بغير رضاها بعد العتق، وإن استأنف العقد عليها بعد العتق بغير رضاها كان لها أن تنقضه بعد إجازة الزوج وقبلها.
قال في «الأصل»: وإذا زوج الرجل أمته أو مدبرته أو أم ولده وبوّأ لها بيتاً مع زوجها ثم بدا له أن يستخدمها ويردها إلى منزله فله ذلك؛ لأن للمولى حق استخدامها بحكم الملك، والملك قائم في المحل فلا يسقط بالتبوء به، ألا ترى أنه لا يسقط بالإنكاح، وكذلك لو كانت شرطت ذلك للزوج كان الشرط باطلاً يمنعه ذلك من استخدامها؛ لأن المستحق للزوج بالنكاح ملك البضع، ومنافع سائر الأعضاء باقية على ملك المولى فيصير المولى معتبراً منافع سائر الأعضاء التي بقيت على ملكه، والإجازة شرعت غير لازمة فليس إلى العباد تغيير المشروط في المزوج فيلغو هذا الشرط.
رجل زوج أمته من عبد رجل فولد بينهما أولاد فالأولاد لمولى الأمة؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، ألا ترى الولد يتبع الأم في الرق والحرية.(3/282)
-----
تزوج الرجل امرأة على أنها حرة أخبرت عن حرية نفسها ثم ظهر بعد ذلك أنها أمة قد أذن لها المولى في النكاح، وقد ولدت ولداً فالولد حر بالقيمة لمكان الغرور يضمن الأب ذلك لمولى الأمة وتعتبر القيمة يوم الخصومة. ولو مات الولد قبل الخصومة فلا ضمان على الأب فيه ويرجع الزوج بقيمة الولد عليها إذا عتقت؛ لأنها لما زوجت نفسها منه على أنها حرة فقد ضمنت له سلامة الأولاد في ضمن عقد المعاوضة فكان بمنزلة الكفالة والمملوك يؤاخذ بضمان الكفالة بعد العتق، وإن ظهر أنها مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد فكذلك الجواب في ظاهر الرواية، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إذا ظهر أنها أم ولد فلا شيء على الأب لأن ولد أم الولد لا قيمة له عند أبي حنيفة رحمه الله كما لا قيمة لأم الولد، ألا ترى أنه لا يضمن بالغصب عنده كما لا يضمن أم الولد، فروى الحسن عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه إذا ظهر بها مكاتبة فلا شيء على الأب لأنه لو ضمن، ضمن لها وهي تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها، ففي حرية ولدها تحصيل بعض مقصود، وكيف يجب الضمان به ويرجع الزوج بقيمة (214ب1) الأولاد عليهم بعد العتق لما قلنا، هذا كله إذا اشترطت الأمة الحرية للزوج بغير إذن المولى، أما إذا اشترطت ذلك بإذن المولى تجب عليها قيمة الولد للزوج في الحال إلا في المكاتبة فإن المكاتبة لا تؤاخذ بقيمة الأولاد للحال، وإن أذن له المولى باشتراط الحرية لما ذكرنا أن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة، والمكاتب لا يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال وإن أذن له المولى.(3/283)
-----
ولو مات الولد في هذه الصورة وترك مالاً فالمال لأبيه بحكم الإرث ولا ضمان على الأب فيه يريد به: لو مات الولد قبل الخصومة، وهذا لأن الضمان على المقدور بالمنع بعد الطلب فإذا مات قبل الخصومة لم يوجد المنع بعد الطلب فلم يوجد سبب الضمان. ولو قتل الولد وأخذ الأب قيمته كان عليه قيمة الولد لمولى الأمة؛ لأنه سلم له بدل نفسه، وحكم البدل حكم للمبدل فيتحقق المنع بعد الطلب ولو مات الأب في هذه الصورة ونفى الولد أخذ المولى قيمته من تركة الأب، فلا يرجع بها بقية الورثة في حصة الولد، وإن لم يترك الأب شيئاً لم يؤخذ الولد بشيء كما لا يؤخذ بسائر ديون الأب.
فإن كان المخبر عن حرية الجارية رجل خنثى إلا أن الرجل المخبر لم يزوجها إيّاه بل الزوج تزوج بنفسه على أنها حرة فالزوج لا يرجع على الرجل المخبر بقيمة الولد لأنه لم يضمن له سلامة الولد نصاً، ولا في ضمن عقد المعاوضة؛ لأنه ما زوجها منه، ولكن يرجع بقيمة الولد على الجارية إذا أعتقت لما ذكرنا. وإن كان الرجل المخبر زوجها منه على أنها حرة فالزوج يرجع بقيمة الولد على المخبر للحال. أما الرجوع لأنه ضَمِنَ له سلامة الولد في ضمن عقد المعاوضة، وأما في الحال فلأن الحر يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال.
قال في «المنتقى»: قال إبراهيم: سألت محمداً رحمه الله عن امرأة قالت للقاضي: زوجني فإني حرة فزوجها وولدت أولاداً ثم استحقت قال: أخذها المستحق وعقرها وقيمة ولدها، ولا يرجع على القاضي بشيء ولكن يرجع عليها. وإن تزوج وأخذت هؤلاء امرأة بإذن المولى على أنها حرّة ثم ظهر أنها أمة لا يكون مقذوراً حتى لا يكون الولد حراً بالقيمة، بل يكون رقيقاً، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله آخراً، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: الولد حر بقيمته تجب على الأب بعد العتق وهو قول محمد رحمه الله.(3/284)
-----
اشترى جارية وزوجها قبل القبض إن تم البيع جاز النكاح، وإن انتقض البيع بطل النكاح عند أبي يوسف خلافاً لمحمد رحمهما الله. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن البيع إذا انتقض قبل القبض ينتقض من الأصل ويصير كأن لم يكن، فيكون النكاح باطلاً.
عبد طلب من مولاه أن يزوجه معتقة فأبى ثم تشفع العبد أن يأذن له في التزويج، فأذن له فذهب وتزوج المعتقة جاز؛ لأن الإذن حصل مطلقاً...
في «مجموع النوازل» في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا أذن الوارث لكاتب موروثة في النكاح جاز لأنهم لم يملكوا رقبته فالولاء لهم. وفيه أيضاً: عبدٌ تزوج امرأةً ثم امرأةً ثم امرأةً فبلع المولى فأجاز الكل، فإن لم يكن دخل بهن جاز نكاح الثالثة؛ لأن الإقدام على نكاح الثالثة ردٌ لنكاح الأولى والثانية، بقي الموقوف نكاح الثالثة.
وإن كان دخل بهن فَسَدَ نكاحهن؛ لأن الإقدام على نكاح الثالثة لا يمكن أن يجعل رداً لعدة الأولى والثانية، ونكاح الثالثة في عدة الأولى، فكذا الحر إذا تزوج عشر نسوة بغير إذنهن فبلغهن فأجزن جميعاً جاز نكاح التاسعة والعاشرة لأن الخامسة ردٌ لنكاح الأربع اللاتي قبلها، ونكاح التاسعة رد لنكاح الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة وكان الموقوف نكاح التاسعة والعاشرة.
وفي «الأصل»: الأب يملك تزويج أمة ولده الصغير وكذا الوصي، ولا يملكان تزويج عبد الصغير، وهل يملكان تزويج أمة الصغيرة من عبده سيأتي ذلك في كتاب الوصايا والمكاتب يملك تزويج أمته والشريك شركة معاوضة، وأما العبد المأذون، والصبي المأذون، والشريك شركة عنان والمضارب، لا يملكون تزويج الأمة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يملكون والله أعلم بالصواب.(3/285)
الفصل التاسع عشر: في نكاح الكفار
-----
هذا الفصل يشتمل على أنواع، نوع منه في نكاح أهل الذمة، وكل نكاح جائز بين المسلمين فهو جائز بين أهل الذمة، وأما (ما) لا يجوز بين المسلمين فهو أنواع منها: النكاح بغير شهود قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الذمي ذميةً بغير شهودٍ وهم يدينون ذلك فهو جائز حتى لو أسلما يقر على أن ذلك عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وكذلك إذا لم يسلما، ولكن طلبا من القاضي حكم الإسلام أو طلب أحدهما ذلك فالقاضي لا يفرق بينهما.
ومنها نكاح معتدة الغير، قال محمد رحمه الله إذا تزوج الذمي معتدة الغير وجبت العدة من مسلم كان النكاح فاسداً بالإجماع، ويتعرض لهم في ذلك قبل الإسلام وإن كانوا يدينون جوازالنكاح في حالة العدة، وإن وجبت العدة من كافر وهم يدينون جواز النكاح في حالة العدة فما داموا على الكفر لا يتعرض لهم بالإجماع. وإن أسلما أو أسلم أحدهما فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يفرق بينهما، وكذلك إذا لم يسلما ولكن ترافعا إلى القاضي وطلبا حكم الإسلام أو رافع أحدهما، وأما على قول أبي حنيفة: القاضي لا يفرق بينهما أسلما أو أسلم أحدهما ترافعا أو رافع أحدهما.d
واختلف المشايخ في تخريج قوله، وأكثرهم على أن العدة لا تجب عنده على الذمية من الذمي؛ لأن خطاب العدة لم يعمل في حقهم، ألا ترى أنهم لو لم يدينوا وجرت العدة، لم يتعرض لهم في ذلك، وهذا لأن العدة إما أن تجب عليها حقاً للشرع ولا وجه إليه؛ لأنهم لا يخاطبون بحقوق الشرع، وإما أن تجب لحق الزوج ولا وجه إليه إذا كان الزوج لا يدين ذلك، بخلاف ما إذا كانت العدة من المسلم؛ لأن خطاب العدة إذا كانت العدة من المسلم يعلم في حقهم، ألا ترى أنهم لو لم يدينوا وجرت العدة من المسلم يتعرض لهم في ذلك، وهذا لأنه أمكن إيجاب العدة من المسلم لحقه إن لم يكن إيجابه لحق الشرع. وإذا لم تجب العدة على الذمية من الذمي كان النكاح مصادفاً محلاً فارغاً فصح.(3/286)
-----
ومنها نكاح المحارم والجمع بين الخمس والجمع بين الأختين:
قال محمد رحمه الله: إذا تزوج ذمي بمحارمه أو تزوج خمس (215أ1) نسوة (أو) بأختين فما داموا على الكفر ولم يترافعُوا إلينا لا نتعرض لهم بالاتفاق إذا كانوا يدينون ذلك، غير أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: هذا النكاح يقع فاسداً حالة الكفر حتى لو طلبت من قاضي المسلمين النفقة فالقاضي لا يقضي بذلك ولا يجري الإرث بينهما، وإذا دخل بها يسقط إحصانه لو أسلم بعد ذلك وقذفه قاذف لا يحد. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ، قال مشايخ العراق: يقع فاسداً، وقال مشايخنا: يقع جائزاً، واتفقوا على (قول) أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجري الإرث بينهما ويقضى بالنفقة ولا يسقط إحصانه متى دخل بها، واتفقوا على قوله أيضاً أنه لو تزوج أختين في عقدة واحدة ثم فارق إحداهما قبل الإسلام ثم أسلم إن الباقية نكاحها على الصحة، حتى يُقرّان على النكاح، والباقي عين الثابت، وإنه دليل جواز هذا النكاح فإن (أسلما) أو أسلم أحدهما يفرق بينهما بالإجماع وكذلك إذا لم يسلما ولكن رفعا الأمر إلى القاضي، وإن رفع أحدهما الأمر إلى القاضي فالقاضي يفرق بينهما. قال القدوري رحمه الله في «كتابه»: وقال أبو يوسف رحمه الله: يفرق القاضي بينهما إذا علم بذلك سواء ترافعا إلينا أو لم يترافعا.(3/287)
-----
وإذا طلّق الذمي امرأته ثلاثاً أو خالعها ثم أقام عليها، فرافعته إلى السلطان، فالقاضي يفرق بينهما بالاتفاق بخلاف نكاح المحارم على قول أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يفرق بينهما بمرافعةِ أحدهما وأما إذا تزوجها بعد الطلاقات الثلاث برضا قبل التزوج بزوج آخر، الآن هذا ونكاح المحارم في جميع التفريعات على السواء، هكذا ذكر في «الأصل». وفي «القدوري»: إذا طلق امرأته ثلاثاً أو خالعها ثم أقام عليها فإنه يفرق بينهما، وإن لم يترافعا يحتمل ترك المرافعة بينهما، ويحتمل ترك المرافعة من أحدهما.
وإذا تزوج الذمي ذمية على أن لا مهر لها صح ذلك ولا شيء لها، وإن أسلمت في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لها مهر مثلها فلو تزوجها وسكتا عن المهر فلها مهر المثل في ظاهر رواية «الأصل».
قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: قياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن لا فرق بين حالة السكوت وحالة النفي، ولا يجب المهر إلا إذا سمى. ولو تزوجها على ميتة أو دم وذلك في دينهم جائز فلها مهر المثل في رواية «الأصل». وذكر في «الجامع الصغير»: أنه لا يجب شيء. قيل: ما ذكر في «الجامع» قوله، أما على قولهما لها مهر المثل إذا مات عنها أو دخل بها، فإن كان المذكور في «الجامع» قول أبي حنيفة كان المذكور في «الأصل» وفي «مختصر الكرخي» قولهما، وإن كان ما ذكر في «الجامع الصغير» قول الكل كان في المسألة روايتان.
ولو تزوجها على خمر أو على خنزير فهو جائز فلها المسمى، فإن أسلما أو أسلم أحدهما فإن كان الخمر أو الخنزير عيناً في العقد فلها ذلك وليس لها غيره في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجب الخمر أو الخنزير بعد إسلام أحدهما، وأجمعوا على أنه إذا سمى الخمر أو الخنزير دَيْنَاً في الذمة لم يجب لها غير ذلك ولم يكن لها أن تقبض.(3/288)
-----
بعد هذا قال أبو حنيفة رحمه الله يجب لها في الخمر القيمة وفي الخنزير مهر المثل سواء كان بعينه أو بغير عينه، وقال محمد رحمه الله لها القيمة، في ذلك كله، وإن كان مهرها مقبوضاً قبل الإسلام فلا شيء لها. وتجوز المناكحة بين أهل الذمة وإن اختلفت مراتبهم، والمولود بين الكتابي والمجوسي تابع للكتابي تحل مناكحته للمسلمين، وتحل ذبيحته عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله.
قال: الأصل إذا زوجت صبية من صبي وهما من أهل الذمة فأدركا، فإن كان المزوج أباً فلا خِيَارَ لهما؛ لأن الشفقة لا تتفاوت. وإن كان المزوج غير الأب والجد فلهما الخيار عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وإذا تزوجت الذمية ذمياً فقال الولي: هو ليس بكفء لا يلتفت إلى قوله لأنهم أكفاء بعضهم لبعض؛ لأن ذل الشرك وصغار الجزية لجمعهم، فلا يَظهر مع ذلك نقصان النسب. ألا ترى أنهم لو استرقوا كانوا أكفاء، ولو أعتقوا كذلك، ولو أسلموا كذلك فلا يكون للمولى أن يخاصم، قال: إلا أن يكون أمراً مشهوراً يعني كانت بنت ملك خدعها حَائك أو سائس وهنا يفرق بينهما لا لانعدام الكفاءة بل لتسكين الفقيه والقاضي مأمور بن سكين الثمنية فيما هو بينهم كما هو مأمور به فيما بين المسلمين والله أعلم.
نوع منه في نكاح أهل الحرب
الحربي إذا تزوج حربية على أن لا مهر لها، فلا يجب المهر بلا خلاف بخلاف الذميين على قولهما. وإذا تزوج الحربي خمس نسوة أو بأختين ثم أسلم وأسلمن معه، فإن تزوجهن في عقدة واحدة بطل نكاحهن، وإن تزوجهن في عقد منفرد صح نكاح الأربع الأُوَل وبطل نكاح الخامسة.(3/289)
-----
وكذلك الحكم في الأختين إن تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما، وإن تزوجهما في عقدتين متفرقتين صح نكاح الأولى وبطل نكاح الثانية، هذا قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: يختار من الخمس أربعاً، ومن الأختين واحدة سواء تزوجها أو تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقود متفرقة.
وجه قول محمد: أن الأنكحة وقعت صحيحة في الأصل لأن حرمة الجمع بخطاب الشرع وخطاب الشرع قاصر عنهم، ألا ترى لو ماتت واحدة من الخطاب الخمس أو من الأختين أو فارقها قبل الإسلام ثم أسلم كان نكاح الباقية على الصحة والباقي غير الثابت، وإنما تثبت من الإجماع في العقد حرمة الجمع في حقّه في حالة الإسلام فيجب الإعراض عما وجد في الابتداء من الاجتماع في العقد والتفريق، ويجب اعتبار حالة الإسلام فيرفع ما يتحقق به الجمع وهو نكاح إحداهما في الأختين ونكاح إحداهن في الخمس.
قال محمد رحمه الله في «السير الكبير»: ولو كانت هذه العقود فيما بين أهل الذمة كان الجواب على ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله لأن الخطاب بحكم الشيوع في دار الإسلام يجعل ثابتاً في حق أهل الذمّة وإن كنا لا نتعرض لهم ما لم يسلموا، وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا: خطاب التحريم بسبب الجمع كان موجوداً حالة الكفر، ولكن امتنع عمله لمكان الكفر، فإذا زال الكفر يعمل الخطاب عمله على وجه لولا المانع فكان عاملاً فيثبت الحكم. إلا أن على وفاق ما يقتضيه السبب في الابتداء ولولا الكفر حرم نكاح الكل إن كان النكاح واحداً لأن الجمع حصل بالكل وحرم نكاح الخامسة والأخت الثانية إن كان النكاح متفرقاً لأن الجمع حصل بهما كذا هنا.(3/290)
-----
وعلى هذا (215ب1) لو أسلم وتحته أم وابنة وأسلما معه، فان كان تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما ثم ينظر إن لم يكن دخل بهما فله أن يتزوج الابنة دون الأم، وإن كان دخل بهما، لم يكن له أن يتزوج بواحدة منهما، وكذلك إن كان دخل بالأم وحدها، وإن كان دخل بالابنة وحدها فله أن يتزوج الابنة دون الأم، وإن كان تزوجهما في عقدين، فنكاح الأولى جائز ونكاح الثانية فاسد، وهذا إذا دخل بهما أو دخل بالأولى، فإن كان دخل بالثانية فإن كانت الأولى ابنة فسد نكاحهما، وإن كانت الأولى أماً فنكاح الابنة صحيح، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى قول محمد رحمه الله، فسواء تزوجهما في عقدةٍ واحدةٍ أو في عقدتين، فنكاح الابنة صحيح لأن العقد على الابنة يُحرِّم الأم والعقد على الأم لا يحرم الابنة إلا أن يكون دخل بالأم فحينئذ يفرق بينه وبينهما، وهذا إذا كان دخوله بالأم بعدما تزوج الابنة، وإن كان قبل أن يتزوج الابنة، فنكاح الأم صحيح لأن نكاح الأم لو بطل بطل بحكم نكاح الابنة إلا أن نكاح الابنة هنا لم يصح؛ لأنها حرمت بالدخول بالأم، وإذا لم يصح نكاح الابنة كيف يبطل نكاح الأم؟ إلا أن يكون دخل بالبنت أيضاً، فحينئذ تقع الفرقة بينه وبينهما بالمصاهرة وليس له أن يتزوج بواحدة منهما.
وإذا أسلم الحربي وامرأته وقد كان طلقها ثلاثاً ثم تزوج قبل أن تنكح زوجاً غيره فرّق بينهما لأن الطلقات الثلاث تقع في دار الحرب حسب وقوعها في دار الإسلام؛ لأنهم يعتقدون ذلك، وإنها تثبت حرمة المحل إلى وقت إصابة التزوج، وكذلك لو كان جامع أمّها أو ابنتها أو قبل واحدة منهما بشهوة؛ لأنها الحرمة بسبب المصاهرة نظير الحرمة بسبب الرضاع، وذلك يتحقق في دار الحرب كما تتحقق في دار الاسلام وهذا مثله.(3/291)
-----
وإذا خرج أحد الزوجين من دار الحرب إلى دار الإسلام وترك الآخر كافراً في دار الحرب وقعت الفرقة بينهما عندنا، فبعد ذلك ينظر إن كان الخارج إلى (دار الإسلام) الزوج فلا عدة على المرأة بلا خلاف. وإن كان الخارج هي المرأة فلا عدة لها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما وقدّم مسألة المرأة قبل هذا في فصل ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز. ولو كذلك خرج أحدهما ذميّاً وقعت الفرقة بينهما، ولو خرج إلينا بأمان لم تقع الفرقة بينهما.
ولو سُبي حربي مع أربع نسوة له بطل نكاح الكل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقود متفرقة، بخلاف ما إذا أسلم مع خمس نسوة تحته أو مع أختين لأن في هذه الصورة حال وقوع النكاح لم يكن سبب التحريم قائماً؛ لأنه كان حرّاً وكان نكاح الأربع مشروعاً فوجب اعتبار حالة البقاء واعتبار حالة البقاء توجب بطلان الكل؛ لأن الجمع يقوم بالكل بخلاف مسألة الإسلام على ما ذكرنا.
نوع منه في نكاح المرتد
إذا ارتدّ أحد الزوجين وقعت الفرقة بينهما في الحال، هذا هو جواب ظاهر الرواية وبعض مشايخ بلخ وبعض مشايخ سمرقند رحمهم الله كانوا يفتون بعدم الفرقة بارتداد المرأة حسماً لباب المعصية، وعامتهم على أنه تقع الفرقة إلا أنها تجبر على الإسلام، والنكاح مع زوجها الأول لأن الحسم يحصل بالجبر على النكاح الأول، ومشايخ بخارى رحمهم الله، كانوا على هذا.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله برواية ابن سماعة: إذا تكلمت بالكفر وقلبها مطمئن بانت وهي مشركة، ثم إن كانت المرأة هي المرتدة ولم يكن الزوج دخل بها فلا مهر، وهذه فرقة بغير طلاق بلا خلاف، وإن كان الزوج هو المرتد ولم يكن دخل بها فلها نصف المهر، وتكون هذه فرقة بغير طلاق عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله تكون فرقة بطلاق.(3/292)
-----
ولو ارتد الزوجان معاً لم تقع الفرقة استحساناً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، فإن أسلما فهما على نكاحهما، وإن أسلم أحدهما وقعت الفرقة ويجعل إصرار صاحبه على الردة بعد إسلامه كإنشاء الردة منه.
مسلمٌ تحته نصرانية ثم تمجسّا معاً فهما على النكاح، قال: لأن هذا منهما ردة فصار كما لو ارتدا معاً، قال: ولو تهودا بانت منه قال: لأن هذا منها ليس بردة فصار كأنه ارتد الزوج وحده، روى المسألة مع هذا التعليل ابن رستم عن محمد، وعن محمد رحمهما الله رواية أخرى في التهود أنها لا تبين كما لو تمجسا فحصل عن محمد فيما إذا تهودا روايتان، وعن أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا تهودا روايتان أيضاً، فيما إذا تمجسا رواية واحدة أنهما على النكاح، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في الفصلين جميعاً.
وفي «الأصل»: إذا أسلم النصراني وتحته نصرانية فتحولت إلى اليهودية، فهي امرأته كما لو كانت يهودية في الابتداء، أو إن أسلم النصراني وتحته مجوسية ثم ارتد عن الاسلام بانت منه لأن النكاح بعد إسلامه باقٍ ما لم يفرق القاضي بينهما، وتفرُّدُ أحد الزوجين بالردة يوجب الفرقة، وكذلك لو أسلمت المجوسية ثم ارتد بانت منه، وإن لم يرتد الزوج ولم يسلم حتى مات الزوج فلها المهر كاملاً دخل بها أو لم يدخل بها.(3/293)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: مسلم تزوج صبية مسلمة زوجها أبوها منه ثم ارتد أبواها عن الإسلام ولحقا بدار الحرب أو لم يلحقا، فإنها لا تبين من زوجها ما دامت في دار الإسلام؛ لأنها بقيت مسلمة ما بقيت في دار الإسلام، بيانه: وهو أن الصغيرة قبل ارتداد الأبوين كانت مسلمة تبعاً للأبوين ولدار الإسلام؛ لأن لدار الإسلام أثراً في الاستتباع كما للأبوين، ألا ترى أن من سُبي صغيراً أو صغيرة وأدخله دار الإسلام يحكم بإسلامه كما دخل دار الاسلام تبعاً للدار حتى لو مات يصلي عليه، وإذا كان لدار الإسلام أثر في الاستتباع كما للأبوين كان إسلام الصغيرة حكم بسبب التبعية مضافاً إليهما وأحدهما قائم بعد ردتهما، فبقي إسلامها.
فإن قيل: دار الاسلام إنما توجب إسلام الصغير حال فقد الأبوين كما في الصغير إذا سبي وحده، فأما حال وجود الأبوين فلا، ألا ترى أن الولد الحادث بين النصرانيين في دار الإسلام وبين اليهوديين يكون نصرانياً ويهودياً تبعاً للأبوين فلا يكون مسلماً تبعاً للدار؛ وهذا لأن سبب الاستتباع في جانبها بالجزئية والتعصبية، وفي الدار بالمجاورة والاتصال وأبداً يحال بالحكم على الأقوى، فجعلناها (216أ1) مسلمة تبعاً للأبوين وبارتدادهما زالت التبعية فيحكم بكفرها وتبين من زوجها.(3/294)
-----
قلنا: إنما يحال بالحكم على أقوى السببين إذا كان الأقوى من السبب يوجب من الحكم خلاف ما يوجبه الأضعف؛ لأنه حينئذ يتعذر العمل بهما لما بينهما من التنافي في الحكم، فيجب العمل بالراجح لما في المسألة التي أوردها إذ الشخص الواحد لا يتصور أن يكون مسلماً وكافراً، أما إذا كان الحكم واحداً يضاف بالحكم إليهما ألا ترى أنه لو كان في حادثة نصّ الكتاب وخبر الواحد والقياس وموجب الكل حكم واحد كان ذلك الحكم مضافاً إلى الكل، فيقال هذا حكم ثبت بالكتاب والسنة والقياس، وهنا الحكم واحد وهو إسلامها وأضفناه إليهما والتقريب ما ذكرنا حتى لو ألحقاها بدار الحرب بانت من زوجها لأن تبعية الدار قد زالت كما زالت تبعية الأبوين فحكمنا بردتها فبانت وبطل مهرها.
ولو ماتت أمها مسلمة في دار الإسلام أو بعدما ارتدت ولحق بالصبية أبوها مرتداً بدار الحرب لم تبن من زوجها، بخلاف ما إذا كانا حيين ولحقا بالصبية بدار الحرب مرتدين. فإنها تبين من زوجها.(3/295)
-----
مسلم تزوج صبية نصرانية زوجها أبوها وأبواها نصرانيان ثم تمجس أحد أبويها وبقي الآخر على النصرانية، فهذه البنت لا تبين من زوجها؛ لأن الولد يتبع خير الأبوين ديناً، وخيرهما ديناً النصراني قال: النصراني أقرب إلى الإسلام من المجوسي حتى تحل ذبيحته، ويحل للمسلم نكاح النصرانية فبقيت نصرانية تبعاً لوالدها النصراني، ولو كان الأبوان تمجسا والجارية صبية على حالها بانت من زوجها. وإن لم يكن أدخلاها دار الحرب فرق بين هذه المسألة وبين الصغيرة المسلمة إذا ارتد أبواها لا تبين من زوجها ما لم يدخلاها دار الحرب، والفرق أن في تلك المسألة الصغيرة بقيت مسلمة بعد ارتداد الأبوين تبعاً لدار الإسلام، وههنا لا يمكن إبقاؤها نصرانية تبعاً للدار إذ الدار ليست داراً للتنصر، واستشهد في «الكتاب» لحال بعد النكاح بحال ابتداء النكاح فقال: ألا ترى أن بعد تمجس الأبوين ليس للقاضي ولا لأحد أن يزوج الصغيرة من مسلم، وبعد ردّة الأبوين جاز للقاضي أن يزوج الصبية من مسلم، فكذا في حالة البقاء، قال وليس لها من المهر قليل ولا كثير، علل فقال: لأن الفرقة جاءت من قبلها.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا التعليل، فإنه لم يوجد منه صنيع أصلاً إنما الصنيع للأبوين في التمجس، قلنا: ما قاله محمد رحمه الله مستقيم؛ لأنه لم يقل: الفرقة جاءت بصنعها حقيقة، إنما قال الفرقة جاءت من قبلها أي من عندها والفرقة جاءت من عندها لأن الفرقة وقعت بردتها تبعاً للأبوين، وتبعيتها بسبب الصغر، وصغرها من قبلها لأنه وصفها، وكذلك الجواب فيما إذا بلغت معتوهة؛ لأنها إذا بلغت معتوهة بقيت تابعة للأبوين وللدار في الدين لأنه ليس للمعتوهة إسلام نفسها حقيقة فكانت بمنزلة الصغيرة من هذا الوجه.(3/296)
-----
امرأة مسلمة بالغة صارت معتوهة ولها أبوان مسلمان زوجها أبوها وهي معتوهة حتى جاز النكاح ثم ارتد الأبوان والعياذ بالله ولحقا بها بدار الحرب لم تبن من زوجها. فرّق بين هذه وبين الصغيرة. المسلمة إذا ارتد أبواها ولحقا بها بدار الحرب إنها تبين من زوجها والفرق إنها إذا بلغت عاقلة فقد زالت تبعية الأبوين، وإذا وصفت الإسلام صارت مسلمة بإسلامها مقصوداً وبعد صفة العته إسلامها باق حقيقة؛ لأن العته لا يُنافي الإسلام فأما الصغيرة فهي مسلمة تبعاً للأبوين لا بإسلام نفسها وبعدما ارتد الأبوان لا يمكن إبقاؤها مسلمة تبعاً للأبوين وليس لها إسلام نفسها فلهذا بانت من زوجها، والصغيرة إذا عقلت الإسلام ووصفت ثم صارت معتوهة كانت بمنزلة هذه؛ لأنها لما عقلت الإسلام ووصفت صارت مسلمة بطريق الأصالة كالبالغة.
مسلم تزوج نصرانية صغيرة، ولها أبوان نصرانيان، فكبرت وهي لا تعتد ديناً من الأديان ولا تصفه وهي غير معتوهة، فإنها تبين من زوجها، معنى قوله لا تعتد ديناً من الأديان لا تعْرف ديناً من الأديان بقلبها ومعنى قوله: لا تصفه لا تعرفه باللسان لأنه له هو لها دين الأبوين لزوال التبعية ولم تظهر لها جهة الأصالة، فكانت جاهلة ليس لها ملّة معنية والملّة المعينة شرط النكاح ابتداءً وبقاءً.(3/297)
-----
وكذلك الصغيرة المسلمة إذا بلغت عاقلة وهي لا تعتقد الإسلام ولا تصفه وهي غير معتوهة بانت من زوجها لما ذكرنا، ومحمد رحمه الله سمى هذه في «الكتاب» مرتدة؛ لأنا حكمنا بإسلامها بطريق التبعية، والآن بكفرها، فكانت مرتدة. ولم يذكر في «الكتاب» إذا بلغت فعرفت الإسلام بأن قالت أنا أعقل الإسلام وأعرفه وأقدر على وصفه إلا أني لا أصفه أنها هل تبين من زوجها؟ قيل: يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ على قول من يشترط الإقرار باللسان لصيروته مسلماً تبين من زوجها؛ لأنها تركت ما هو الركن بلا عذر وكذلك لم يذكر ما إذا قالت أنا أعقل الإسلام، ولكن لا أقدر على الوصف هل تبين من زوجها قيل يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ على نحو ما بينّا، على قول من يشترط الإقرار باللسان تبين من زوجها لأنها تركت ركناً بغير عذر لأن العجز إنما جاء من ناحية الجهل لانعدام الآلة، والجهل في دار الإسلام ليس بعذر، ولو كانت هاتان اللتان بلغتا قد عقلتا الإسلام أو النصرانية قبل أن تبلغا ولكن لم تصفا ذلك ولا غيره لم تبن واحدة منهما من زوجها، فهذا دليل على أن من صَدق بقلبة كان مسلماً وإن لم يقرّ لسانه. وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في كتاب العالم والمتعلم، وبه أخذ الشيخ الإمام الزاهد أبو منصور الماتريدي رحمه الله وهو مذهب أبي الحسن الأشعري، وعامة مشايخنا قالوا لا بل الإقرار باللسان شرط لصيرورته مسلماً، فتأويل هذه المسألة على قول عامة المشايخ أنهما عقلتا الإسلام قبل البلوغ ولم يصفا ذلك ولا غيره وأنهما لا تبينان من زوجيهما ما دامتا صغيرتين لأنهما ما دامتا صغيرتين؛ كانت تبعية الأبوين باقية، فكانت المسلمة مسلمة والنصرانية نصرانية تبعاً. وأما بعد البلوغ فلا. فإن وصفت المجوسية ودانت بانت من زوجها (216ب1) عند أبي حنيفة رحمه الله هذا بمنزلة الردة، وردة الصبي العاقل صحيحة عندهما وعند أبي يوسف رحمه الله: إن تمجست وكانت مسلمة لا تبين من(3/298)
زوجها؛(3/299)
-----
لأن ردة الصبي المسلم عنده غير صحيحة، وإن تمجست وكانت نصرانية فقد اختلف المشايخ فيه على قول بعضهم قالوا: تبين من زوجها بخلاف ما إذا كانت مسلمة؛ لأن التمجس هناك إنما لم يصح لما فيه من ضرر زوال الإسلام، وإنه لا يتأتى هنا لأنها انقلبت من كفر إلى كفر، فصح التمجس منها فتبين من زوجها.r
وبعضهم قالوا: لا تبين من زوجها؛ لأنه إن لم يمكن في التمجس ضرر زوال الإسلام، ففيه ضرر ببنيونتها عن الزوج، والصبي محجور عما هو ضرر في حقّه، فلم يصح التمجس منها فلهذا لا تبين من زوجها والله أعلم.
نوع منه في إسلام أحد الزوجين
إذا أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام، فإن كان الذي أسلم هي المرأة يعرض الإسلام على الزوج، فإن أسلم بقيا على النكاح وإلا فرّق بينهما، ويحتاج في هذه الفرقة إلى القضاء فتكون هذه فرقة بطلاق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا كان الزوج من أهل الطلاق، وإن لم يكن الزوج من أهل الطلاق بأن كان صبيّاً عقل الإسلام حتى اعتبر إباؤه فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هي فرقة بغير طلاق؛ لأن الصبي ليس من أهل الطلاق، وقال بعضهم: هي فرقة بطلاق والطلاق هو المعتبر للفرقة شرعاً، فإذا استحقت الفرقة لم تستحق إلا بما وضع له شرعاً، فيكون لها نصف المهر إن كان إباء الزوج قبل الدخول بها ونفقة العدة إن كان بعد الدخول بها.
وإن كان الذي أسلم هو الزوج فإن كانت المرأة كتابية أقرّا على النكاح، وإن كانت مجوسية أو وثنية عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت وإلا فرّق بينهما وتكون هذه فرقة بغير طلاق بلا خلاف ولا مهر لها إن كان الإباء قبل الدخول بها، وإن كان بعد الدخول بها فليس لها نفقة العدة.(3/300)
-----
وإن أسلم أحد الزوجين في دار الحرب، فإن الفرقة توقف على مضي ثلاث حِيَضٍ، فإذا مضت وقعت الفرقة، وهذا لأنه تعذر اعتبار التفريق من جهة القاضي لانتزاع ولايته من دار الحرب، ولانقضاء ثلاث حيض أثّر في وقوع الفرقة بالطلاق فأقمنا مضي ثلاث حيض مقام التفريق عند تعذر اعتبار التفريق.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: وإذا عقد النكاح على صبيين من أهل الذمة ثم أسلم أحدهما وهو يعقل الإسلام حتى صح إسلامه عندنا استحساناً عرض على الآخر الإسلام إن كان يعقل الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، فإن أبى أن يسلم، فإن كان الزوج هو المسلم، والمرأة كتابية أقرّا على النكاح، وإن كانت مجوسية أو وثنية ففي القياس لا يفرّق بينهما. وفي الاستحسان يفرق بينهما، ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها، وهذا هو وضع المسألة في «الأصل»، وفي «الجامع» وضع المسألة في مجوسي تزوّج جارية مجوسية بنت عشر سنين تعقل الإسلام، زوجها أبوها فأسلم الزوج عرض على الجارية الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته وإن أبت فرّق بينهما ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها، وهذا استحسان والقياس أن لا يفرق بينهما.(3/301)
-----
ومن مشايخنا من قال: هذا ليس بقياس واستحسان مبتدأ في هذه المسألة إنما هو القياس. والاستحسان الذي يذكر في الصبي العاقل إذا أسلم، فالقياس أن لا يصح إسلامه، وفي الاستحسان: يصح ومنهم من قال: هذا قياس واستحسان آخر في هذه المسألة وجه: القياس في ذلك: أن في عرض الإسلام عليها وهي صغيرة خطاب لها بالإسلام، والإجماع أن خطاب العقل ساقط عن الصغير ما لم يبلغ، إذ اختلفوا أنه إذا أسلم هل يصلح إسلامه. وجه الاستحسان: أن الصبي العاقل والصبية العاقلة إنما لا يخاطبان بالعقل قبل البلوغ لحق الله، وهاهنا لا تخاطب الصغيرة بالإسلام لحق الله وإنما تخاطب به لحق الزوج حتى يبقيان على النكاح، والصغيرة يجوز أن تخاطب بأداء حقوق العباد، فإن أسلمت بقيا على النكاح، فإن أبت فُرّق بينهما، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن على قولهما ردتهما عن الإسلام صحيحة وإنها إنكار بعد الإقرار، فأولى أن يصح إباؤها، وإنه امتناع عن قبول الإسلام، وأما على قول أبي يوسف رحمه الله اختلف المشايخ منهم من لم يصحح إباءها على قوله وسوى بينه وبين الردة، ومنهم من صحح إباءها وفرق بين الإباء والردة. واختلفت عباراتهم في ذلك بعضهم قالوا: إن أبا يوسف رحمه الله إنما أبطل الردة شرعاً رحمة على الصبي، وههنا وُجد الإباء بناء على العرض حقاً على العبد وإنه تقتضي صحته، وبعضهم قالوا: الردة تبدليل الاعتقاد ولا اعتقاد للصغير ولا ردة فأما الإباء مداومة على ما كان قبل ذلك، فلا حاجة فيه إلى اعتقاد بعدما تيقنابإبائه وحكمنا به، ولم يقع مثله في الردة ولم يحكم به.(3/302)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: نصراني زوج ابنه النصراني وهو صغير لا يعقل امرأةً كبيرة نصرانية، فأسلمت المرأة وطلبت من القاضي التفريق، فالقاضي لا يفرق بينهما حتى يبلغ الصغير أو يعقل الإسلام، وإذا عَقَلَهُ عرض عليه الإسلام فإن أبى فرق بينهما ولا يجعل إباءً لأن قبل بلوغه بمنزلة إبائه بعد البلوغ. فرق بين هذا وبينما إذا كان الزوج نصرانياً معتوهاً مطبقاً لا ترجى صحته، وأبواه نصرانيان زوّجه أبوه امرأة نصرانية فأسلمت وأرادت التفريق فإن القاضي يُحضر والده إن كان حيّاً، ووالدته إن كان الوالد ميتاً، ويقول له: إما أن تسلم فيصير ابنك مسلماً بإسلامك وإلا فأفرق بينهما والقاضي عاجز عن عرض الإسلام على الزوج في الموضعين، وكل واحد منهما يصير مسلماً بإسلام الأب، والفرق بينهما: أن التفريق بعد إسلام المرأة معلق بإباء الزوج الإسلام من كل وجه، وكذلك بأن يوجد الإباء من الزوج حقيقة وحكماً، وبقاؤهما على النكاح معلّق بإسلام الزوج من كل وجه، وذلك بأن يوجد الإسلام من الزوج حقيقة وحكماً، وهذا مرجو متى عقل الصغير أو بلغ ولبلوغه غاية معلومة فتأخر الأمر إلى أن يوجد من الزوج الإسلام من كل وجه أو الإباء من كل وجه ولا يكون هذا إبطالاً لحق المرأة في التفريق فوجب التأخير ولم يجز إقامة إسلام ناقص وإباء ناقص مقام الكامل من غير ضرورة، وأما في مسألة المعتوه متى أخرنا الأمر إلى أن يزول العته (217أ1) وليس لزواله غاية معلومة أدى إلى إبطال حقها في التفريق وإنه لا يجوز، فلهذه الضرورة أقمنا إباء ناقصاً وإسلاماً ناقصاً مقام الكامل.(3/303)
-----
فإن قيل: هذا القول يُشْكل بما لو كان الزوج غائباً وهو صبي، فإنه لا يعرض الإسلام على أبيه وليس لإبائه وإسلامه من حيث الحقيقة والحكم وقت معلوم. قلنا: الغائب من يعرف مكانه، ومتى عرف مكانه عُرض الإسلام عليه من حيث الحقيقة، إما بإحضاره أو بأن توكل المرأة وكيلاً حتى تخاصم معه حيث هو..... عقل، فيعرض الإسلام عليه حتى لو كان مفقوداً لا يُعرف مكانه نقول: يعرض الإسلام على أبيه.
ثم إن محمداً رحمه الله قال في مسألة المعتوه: يعرض الإسلام على والده، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في تعليقه على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله: ليس هذا على طريق الحكم لكن إنما قال ذلك لأن للوالدين شفقة على ولدهما كما أن لهما شفقة على أنفسهما، فيجوز أن تحملهما شفقة الولاد على الإسلام، فيصير المعتوه مسلماً بإسلامه، كما أن شفقته على نفسه تحمله على أن يسلم فلا يفرق بينهما، فإنما قال: يعرض الإسلام عليه لهذا الأمر طريق الحكم. وفي مسألة الصبي صحح عرض الإسلام عليه وإن كان لا يخاطب الصبي بالإسلام عندنا؛ لأن ذلك وضع عنه، وقبل منه إذا أدّاه في حق الرحمة عليه، وههنا وجب العرض لحقوقها، وحقوق العباد لا تسقط بعذر الصغر فيوجه الخطاب بالعرض لحق العبد لا لحق الله تعالى، واستشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن امرأة النصراني إذا أسلمت فرفعت الأمر إلى القاضي، فوكل الزوج رجلاً بالخصومة وغاب الزوج، فالقاضي لا يفرق بينهما حتى يحضر الزوج فيفرق بينهما إذا أبى الإسلام؛ لأنه يمكن اعتبار إباء الزوج حقيقة وحكماً، فلا ضرورة إلى إقامة إباء الوكيل مقام إباء الزوج كذا مسألتنا.
ثم فرّع على مسألة المعتوه فقال: إن كان الأبوان قد ماتا، فالقاضي ينصب خصماً عنه ويفرق بينهما؛ لأنه تعذر عرض الإسلام عليه وعلى غيره، فغلب الإمساكَ بالمعروف التسريحُ بالإحسان.(3/304)
-----
فإن قيل: لما تعذر اعتبار الإسلام والإباء حقيقة ينبغي أن تقام ثلاث حيض مقام الفرقة إقامة للشرط مقام (العلة) كما لو أسلم أحد الزوجين في دارالحرب، قلنا: في تلك المسألة: إنما أقمتم ثلاث حيض مقام الفرقة إقامة للشرط مقام العلة لتكون الحِيَض شرط الفرقة، وههنا أمكن اعتبار العلة حقيقة وهو تفريق القاضي بأن ينصب عنه وكيلاً، فلا ضرورة إلى إقامة الشرط مقام العلة، والله أعلم بالصواب.
الفصل العشرون: في الخصومات الواقعة بين الزوجين
وما يتصل بها هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: نوع منه في دعوى النكاح وإقامة البينة عليه.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: رجل ادى على امرأة نكاحاً، وأقام على ذلك بيّنة وأقامت أخت المرأة على هذا الرجل بينة أنها امرأته، وأنه تزوجها، فالبينة بينة الزوج، لأن الزوج ببنيته يثبت لنفسه ملك المتعة التي هي أصل في باب النكاح، والأخت ببنيتها تُثبت لنفسها ملك المهر الذي هو تبع في باب النكاح، إنما ملك المتعة يثبت عليها لعبرة ولا شك أن الأصل أقوى من التبع فكانت بيّنة الزوج أكثر إثباتاً فكانت أولى بالقبول، وإذا قضى ببينة الزوج بطل نكاح الأخرى ولا يقضي للأخرى بالمهر إن لم يكن الزوج دخل بها، وهذا كله إذا لم تؤرخ البينتان أو أرخ وتاريخهما على السواء، أما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق يجب القضاء ببينة من كان أسبق تاريخاً، ويفسد نكاح الأخرى اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة. وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: لو وقتت بينة المرأة ولم توقت بيّنة الرجل، فدعوى الرجل جائزة، ويثبت نكاح المرأة التي ادعاها فيبطل نكاح المدعية.(3/305)
-----
قال في «الأصل»: وإن شهد شهود الزوج أنه تزوج إحداهما ولا تعرف بعينها غير أن الزوج يقول: هي هذه، فإن صدقته المرأة فهي امرأته ويحكم بصداقها، وإن جحدت فلا نكاح بينه وبين واحدة منهما؛ لأن الشهود لم يشهدوا على نكاح امرأة بعينها إنما شهدوا على نكاح إحداهما، ونكاح إحداهما مجهول، والشهادة بالمجهول لا تكون حجة فبقي دعوى الزوج، وبمجرد دعوى الزوج لا يَثبت النكاح، ولا يمين للزوج على التي يدعى عليها النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله، والمسألة معروفة فلا مهر عليه إن لم يكن دخل.
وكذلك لو شهد شهود امرأة أنه تزوجها أحد هذين الرجلين ولا يعرف بعينه غير أن المرأة تقول: هو هذا، فإن صدقه ذلك الرجل فهي امرأته وإن كذبه فلا نكاح بينهما وبين واحد منهما، ولا مهر على واحد منهما ولا يمين لها عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن كانت ادعت أنه طلقها قبل الدخول بها وأن لها عليه نصف (المهر) يستحلف على نصف المهر.
وكذلك لو ادعت أنه طلقها بعد الدخول بها، وأن لها عليه جميع المهر يستحلف على جميع المهر؛ لأن الدعوى الآن وتقع في المال، وإذا نكل قضي بالمهر ولا يقضى بالنكاح؛ لأن عند النكول إنما يقضى بما وقع فيه الاستحلاف، والاستحلاف وقع في المال، ألا ترى أن في دعوى السرقة إذا استحلف ونكل يقضى بالمال دون القطع كذا ها هنا.
وإذا ادعت أختان على رجل بعينه كل واحدة تدعي أنه تزوجها أولاً وأقامت كل واحدة بيّنة على حسب ما ادعت كان ذلك إلى الزوج، فأيتهما قال الأولى فهي الأولى وهي امرأته، ويفرق بينه وبين الأخرى ولا مهر عليه للأخرى إن لم يكن دخل بها.(3/306)
-----
قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وبهذه المسألة تبين أنه إذا وجد التصادق بعد إقامة البينة، فالنكاح يعتبر ثابتاً بالبينة، إذ لو اعتبر ثابتاً بالتصادق يجب أن تُقبل بينّة الأخت في هذه المسألة وقد أقامت البينة أنه تزوجها أولاً وإن جحد الزوج ذلك كله وقال: (لم) أتزوج واحدة منهما أو قال تزوجتهما ولا يدري أيتهما أولى فهو سواء، ويفرق بينه وبينهما وعليه نصف المهر بينهما إن لم يكن دخل بهما.
من مشايخنا من قال: هذا الجواب لا يستقيم فيما إذا أنكر الزوج نكاحهما أصلاً؛ لأنه لما أنكر نكاحهما فقد أنكر وجوب (217ب1) المهر على نفسه وتعذر القضاء بالبينتين لمكان التعارض فكيف يجب نصف المهر لهما عليه؟ قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: لا بل هذا الجواب مستقيم في الفصلين لأن التعارض لا بين البينتين في حكم الحل دون المهر، ألا ترى أن البينتين لو قامتا بعد موت الزوج عمل بهما في حق المهر والميراث، وإذا لم يكن بينهما تعارض في حكم المهر وجب نصف المهر على الزوج، وليست إحداهما أولى من الأخرى فيكون بينهما.
وعن أبي يوسف رحمه الله في ا «لإملاء» أنه لا شيء عليه؛ لأن المقضي له مجهول وعن محمد رحمه الله أنه يقضى عليه بجميع المهر؛ لأن النكاح لم يرتفع بجحوده فوجب القضاء بجميع المهر للتي صح نكاحها، وإن كان دخل بإحداهما كان لها المهر المسمى وهي امرأته؛ لأنه صار مهراً بأولية ملك نكاح الموطوءة حكماً للإقدام على الوطء.
وإن قال: هي الآخرة وتلك الأولى فرق بينها وبينه ولزم المهر المسمى للتي دخل بها لا ينقص عنه وإن كان المسمى أكثر من مهر المثل.(3/307)
-----
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل ادعى نكاح امرأة والمرأة أنكرت ذلك، وأقام المدعي بيّنة أنها امرأته وأقامت المرأة بينة أنه كان تزوج أختها قبل الوقت الذي ادعى فيه نكاحها، وأنها اليوم امرأته على حاله والزوج ينكر أجمعوا على أن القاضي لا يقضي بنكاح الغائبة، وهل يقضي بنكاح الحاضرة القياس أن يقضي وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان لا يقضي بل يوقف الأمر إلى أن تحضر الغائبة، فإن حضرت وأقامت البينة على ما ادعت لها الحاضرة يقضى بأنها امرأته ويفرق بين الزوج وبين الحاضرة، وإن أنكرت ذلك يقضى بنكاح الحاضرة ببينة الزوج ولا يلتفت إلى بيّنة الحاضرة، وبه أخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. الأصل في هذه المسألة وأجناسها أن القضاء بالبينة على الغائب أو للغائب لا يجوز إلا إذا كان عنه خصم حاضر، إمّا قصدي وذلك بتوكيل الغائب إياه، وإما حكمي وذلك أن يكون المدعى على الغائب سبباً لثبوت المدعى على الحاضرة لا محالة لو شرطا له على ما ذكر فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله، وعند عامة المشايخ أن يكون المدعى على الغائب سبباً لثبوت المدعى على الحاضرة لا محالة وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» في مواضع، ثم سوى شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله بينما إذا كان المدعى على الغائب والحاضر شيئان وبينما إذا كان المدعى شيء واحد بشرط السببية لانتصاب الحاضر خصماً عن الغائب في الفصلين جميعاً وذكر القاضي الإمام الكبير أبو زيد في كشف المشكل وعامة المشايخ في شروحهم أن السببية تشترط فيما إذا كان المدعى شيئين، وهو الأشبه والأقرب إلى الفقه.(3/308)
-----
بيان هذا الأصل فيما إذا كان المدعى عليهما واحداً: إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان الغائب وهو يملكها وقد غصبها ذو اليد منّي، وقال ذو اليد: الدار داري فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت بينته ويكون ذلك قضاء على الحاضرة والغائب، وينصب الحاضر خصماً عن الغائب.
وأما على ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله فلأن المدعى على الغائب والحاضر شيء واحد، والمدعى على الغائب سبب لثبوت المدعى على الحاضر لا محالة، وهذا ما ذكره عامة المشايخ، ولأن المدعى على الحاضر والغائب شيء واحد.
بيان هذا الأصل فيما إذا كان المدعى عليهما شيئان: إذا شهد شاهدا الرجل على رجل بحق من الحقوق، فقال المشهود عليه: هما عبدان لفلان الغائب، وأقام المشهود له بينة أن فلاناً الغائب أعتقهما وهو يملكهما فإنه تقبل هذه الشهادة ويثبت العتق في حق الحاضر والغائب جميعاً، والمدعى شيئان: المال على الحاضر، والعتق على الغائب إلا أن المدعى على الغائب سبب لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة لأن العتق لا ينفك عن ثبوت ولاية الشهادة بحال، فصار كشي واحد من حيث المعنى، فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب ويقضى بالعتق في حق الحاضر والغائب جميعاً.
وإذا كان المدعى عليهما شيئين إلا أن المدعى على الغائب ليس سبباً لثبوت المدعى على الحاضر لا محالة، بل قد يكون سبباً وقد لا يكون سبباً لا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، وهذا لأن الغائب ما جعل الحاضر خصماً عن نفسه لكن جعلناه خصماً عنه في موضع لا ينفك المدعى على الغائب عن المدعى على الحاضر ضرورة ولا ضرورة فيما إذا كان ينفك عنه فيعمل فيه بالحقيقة.(3/309)
-----
بيان هذا الأصل في رجل قال لامرأةِ رجلٍ غائب: إن زوجك فلان الغائب وكلني أن أحملك إليه، فقالت المرأة: إنه قد كان طلقني ثلاثاً، وأقامت على ذلك بينة قبلت بينتها في حق المرأة أنه قد كان (طلقها في حق) قصر يد الوكيل عنها لا في إثبات الطلاق على الغائب، حتى لو حضر الغائب وأنكر الطلاق فالمرأة تحتاج إلى إعادة البينة؛ لأن المدعى على الغائب وهو الطلاق ليس بسبب لثبوت المدعى على الحاضر وهو قصّر يده لا محالة، فلأن الطلاق متى تحقق قد لا يوجب قصر يد الوكيل بأن لم يكن وكيلاً بالحمل قبل الطلاق، وقد يوجب بأن كان وكيلاً بالحمل قبل الطلاق، فكان المدعى على الغائب سبباً لثبوت المدعى على الحاضر من وجه دون وجه، فمن حيث إنه سبب يقضي به في حق قصر يد الوكيل، ومن حيث إنه ليس بسبب لا يقضي به في حق إزالة ملك الغائب عملاً بهما.
وإذا كان المدعى عليهما شيئان والمدعى على الغائب سبب للمدعى على الحاضر باعتبار البقاء لا ينتصب فالقاضي لا يلتفت إلى دعوى المدعى، ولا يقضي ببينته لا على الحاضر ولا على الغائب.
بيان هذا رجل اشترى من آخر جارية، ثم إن المشتري ادعى أن البائع قد كان زوجها من فلان الغائب قبل أن أشتريها وقد اشتريتها ولم أعلم بذلك، وأنكر البائع دعواه، فأقام على ذلك بيّنة يريد رد الجارية لا تقبل هذه البينة لا على الحاضر ولا على الغائب لأن المدعى شيئان النكاح على الغائب والرد على الحاضر، والمدعى على الغائب من النكاح نفسه ليس بسبب لما يدعيه على الحاضر من غير اعتبار البقاء، فإن البائع لو زوجها ثم الزوج طلقها لا يكون للمشتري الرد، وإنما السبب بقاء النكاح إلى حالة الرد؛ ولم يقم البينة على البقاء، ولو أقام البينة على البقاء لا تقبل أيضاً ولا يقضي بالرد لأن البقاء تبع الابتداء (218أ1) فإذا لم يمكن أن يجعل خصماً في نفس النكاح لم يمكن أن يجعل خصماً في إثبات البقاء.(3/310)
-----
وبعد الوقوف على هذه الجملة جئنا إلى تخريج المسألة، فوجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن المدعى على الحاضر والغائب شيئان، ونفس ما تدعي الحاضر على أختها الغائبة من النكاح من غير اعتبار البقاء لا يكون سبباً لما يدعي على الزوج من فساد نكاح نفسها، لأنه إذا كان طلّق الغائبة قبل نكاح الحاضرة يصح نكاح الحاضرة فلا تقبل بينة الحاضرة أصلاً، فإذا لم تُقبل بينة الحاضرة لم يثبت نكاح الغائبة، وحجة القضاء للزوج على الحاضرة موجودة وإنما يمتنع عملها لمانع مخصوص وهو نكاح الغائبة، فإذا لم يثبت نكاح الغائبة لم يمتنع عملها.
فإن قيل: أليس إن محمداً رحمه الله وضع المسألة فيما إذا شهدوا أنه زوجها قبل ذلك، وأنها اليوم امرأته وشهادتهم أنها اليوم امرأته ينافي نكاح الأخرى.
قلنا هذه الزيادة بناء على علمهم بابتداء النكاح، فصار وجود ذلك والعدم بمنزلة ولأنها إذا لم تصلح خصماً في إثبات أصل نكاح الغائبة لا تصلح خصماً في إثبات بقائه.
وجه قولهما ان القياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله، إلا أنا تركنا القياس هنا لنوع ضرورة؛ لأن الباب باب الفروج، فإن الحاضرة ادعت حرمة فرجها على الزوج بسبب فساد نكاحها، وقد يترك القياس في باب الفرج احتياطاً ما لا يترك لغيرها.
ثم في «الكتاب» يقول: إذا حضرت الغائبة وأقامت البينة على ما ادعت لها الحاضرة قضي بنكاحها بشرط إعادة البينة من الغائبة للقضاء بنكاحها، بعض مشايخنا قالوا: إذا حضرت الغائبة وصدقت شهود الحاضرة فيما شهدوا من نكاحها تثبت نكاحها ولا يحتاج إلى إعادة البينة، وقد حكي عن بعض مشايخنا أنه كان يقول: لا خلاف في هذه المسألة حقيقة؛ لأن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله إنما قالا: لا يُقضى بنكاح الحاضرة بطريق الاحتياط؛ لأن الغائبة إذا حضرت إنما تصدق شهود الحاضرة أو تعيد البينة على نكاحها فيفسد نكاح الحاضرة، ويجب التفريق بين الحاضرة والزوج، وما يكون بطريق الاحتياط لا يكون فرضاً.(3/311)
-----
وكذلك لو أقامت الحاضرة بينة على إقرار الزوج بنكاح الغائبة، فهذا والأول سواء لا تقبل بينة الحاضرة عند أبي حنيفة رحمه الله، وإنما لم تقبل لا لأنها قامت على غير خصم بل قامت على خصم؛ لأنها قامت على إقرار الزوج، والزوج خصم حاضر إلا أن من شرط قبول البينة أن يكون المشهود به حقاً يلزمه المشهود عليه، والمشهود به ههنا إقرار الزوج بنكاح الغائبة قبل نكاح الحاضرة حتى يثبت مكان فساد نكاح الحاضرة؛ فبهذا القدر من الإقرار لا يلزم الزوج فساد نكاح الحاضرة لأن للزوج أن يقول: كنت تزوجت الغائبة قبل نكاح الحاضرة إلا أني طلقتها قبل نكاح الحاضرة.
قال: ولو أقرّ الزوج عند القاضي أن الغائبة كانت امرأته، فالقاضي يسأله هل كان بينه وبينها فرقة؟ فإن قال: لا، فالقاضي يفرق بينه وبين الحاضرة، ولكن لا يثبت نكاح الغائبة إلا بتصديق الغائبة أو ببينة يقيمها عليها؛ لأن الزوج أقرّ بفساد نكاح الحاضرة، وهذا أمر عليه، وبنكاح الغائبة وإنه أمر له، فيُصدق فيما عليه ولا يصدق فيما له.(3/312)
-----
وإن قال الزوج: قد كنت طلقتها قبل أن أدخل بها أو بعدما دخلت بها، وأخبرتني عن انقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة، وكذبته الحاضرة في الطلاق، وقد أقام هو البينة على نكاح الحاضرة يقضى له بنكاح الحاضرة؛ لأن الزوج بما قال ادعى سقوط حق الغائب في النفقة والسكنى فتزول حرمة نكاح الحاضرة فلئن كان لا يصدق في سقوط حق الغائبة لأنه ضمين يدعي سقوط ما عليه من الضمان يصدق في زوال الحرمة؛ لأنه أمين في ذلك لأن الحرمة خالص حق الله تعالى والعبد في حقوق الله تعالى أمين والأمين فيما أخبر مصدق إذا احتمل خبره الصدق وقد احتمل خبره الصدق إذا كان في مدة تنقضي في مثلها العدة وصار كالمطلقة ثلاثاً إذا تزوجت بزوج آخر وفارقها قبل خلوة ظاهرة فقال الزوج؛ فارقتها قبل الخلوة والإصابة، وقالت المرأة: فارقني بعد الإصابة صدقت المرأة في حق زوال الحرمة على الزوج الأول؛ لأنه من حقوق الله تعالى وإن لم تصدق في استحقاق كمال المهر على الزوج الثاني كذا ههنا هذا إذا لم تحضر الغائبة.
فإن حضرت الغائبة وكذبت الزوج في الطلاق وادعت أنها امرأته، فإن الطلاق واقع عليها بإقرار الزوج وعليها العدة منذ أقر الزوج بالطلاق إن كان قد دخل بها، والحاضرة امرأته لأن نكاح الغائبة ثبت بتصادق الزوج والغائبة إلا أن الزوج يدّعي الطلاق في زمان ما مضى وأخبر عن إخبارها بانقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة، وفي مثل هذا يعتبر قول الزوج في حق جواز نكاح أختها وأربع سواها كما لو كان نكاح الغائبة ثابتاً معاينة. هذا إذا أقامت الحاضرة بينّة أن هذا الزوج المدعي تزوج أختها قبل الوقت (الذي فيه) ادعى نكاحها.(3/313)
-----
فأما إذا أقامت بيّنة أنه تزوج أمها أو ابنتها قبل الوقت الذي ادعى نكاحها فيه فهذه المسألة والمسألة الأولى سواء على قول أبي حنيفة رحمه الله يقضي بنكاح الحاضرة ولا يلتفت إلى بينتها. وعلى قولهما يوقف الأمران على حضور الغائبة.
وهذا الجواب من أبي حنيفة رحمه الله لا يشكل فيما إذا ادعت الحاضرة أنه تزوج أمها؛ لأن ما ادعته الحاضرة من نكاح الأم ليس بسبب لثبوت ما تدعي على الزوج من فساد نكاح نفسها لا محالة لجواز أنه تزوج الأم قبل الابنة ثم طلقها قبل الدخول بها؛ لأن مجرد نكاح الأم لا يوجب حرمة الابنة، إنما يشكل فيما إذا أقامت البينة أنه تزوج ابنتها؛ لأن نكاح الابنة سبب لفساد نكاح (الأم) (أثبت) نكاح الأم لا محالة، وفي هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب فينبغي أن تقبل البينة على نكاح البنت.
والجواب: أن أصل نكاح الابنة ليس بسبب لفساد نكاح الحاضرة لا محالة؛ لأن نكاح الابنة إذا كان فاسداً ولم يدخل بها لم تحرم الأم، وإنما سبب فساد نكاح الحاضرة نكاح الابنة بوصف الصحة، وإذا لم يكن أصل نكاح الابنة سبباً لفساد نكاح الحاضرة لا تنتصب الحاضرة خصماً عن الغائبة في إثبات أصل نكاحها، ولا تنتصب خصماً في إثبات وصف الصحة وإن كان ذلك سبباً للفساد؛ لأن الوصف تبع للأصل.
ولو أقامت الحاضرة بينة على إقرار الزوج بذلك إن أقامت (219ب1) بينة على إقرار الزوج بنكاح الأم لا تقبل بينتها؛ لأن هذه البينة لا تلزم المشهود عليه حقّاً لأنه يمكنه أن يقول: نكحها ثم فارقتها قبل الدخول بها، حتى لو أقامت بينة على إقرار الزوج أنه تزوج أمهّا وأنها امرأته للحال تُقبل بينتها؛ لأنها تلزم المشهود عليه حقاً. وإن قامت البينة على إقرار الزوج بنكاح الابنة تقبل بينتها؛ لأنها قامت على خصم حاضر، وإنها تلزم على المشهود عليه حقاً؛ لأن مطلق إقرار الزوج بالنكاح ينصرف إلى نكاح صحيح. ونكاح الابنة متى صحّ كان سبباً لفساد نكاح الأم.(3/314)
-----
فرّق بين هذا وبينما إذا أقامت البينة على نفس نكاح الابنة حيث لا تقبل بينتها ولم يصرف مطلق الشهادة إلى النكاح الصحيح كما صرف مطلق الإقرار إلى النكاح الصحيح، والظاهر في الفصلين هو الصحة إلا أنه يحتمل الفساد، فتتمكن الشبهة، والشهادة لا تثبت مع الشبهة، والإقرار لا يبطل بالشبهة هذا إذا أقامت الحاضرة بينة أن الزوج تزوج أمها أوابنتها أو على إقرار الزوج بذلك ولم تتعرض للجماع.
أما إذا تعرضت لذلك وأقامت البينة أن الزوج تزوج بأمها (أو) ابنتها وجامعها، أو أقامت بينة على إقرار الزوج بذلك فرّقنا بينه وبين الحاضرة ولم يثبت نكاح الغائبة وقبلت هذه البينّة على جماع الغائبة لا على نكاح الغائبة، وهذا لأن دعوى نكاح الغائبة غير محتاج إليه عند دعوى الجماع فيما هو المقصود، وهو إثبات فساد نكاح الحاضرة؛ لأن جماع الأب يوجب حرمة الابنة سواء كان بصفة الحال أو بخلافه، فصار دعوى النكاح عند دعوى الجماع والعدم بمنزلته. وصار كأنها أقامت البينة على الجماع لا غير، وهناك لا تقبل بينتها لأن البينة على الجماع قامت على خصم وهو الزوج؛ لأن الجماع يتم بالزوج وحده من غير أن يوجد من المرأة فعل؛ لأن الزوج يجامعهما وهي نائمة، فكان الزوج خصماً في دعوى جماع الغائبة عليه، وجماع الغائبة سبب لما تدّعي الحاضرة من فساد نكاحها، بخلاف ما لو أقامت الحاضرة البينة على مجرد النكاح؛ لأن النكاح لا يتم بالزوج وحده وإنما يتم به وبقبولها، وقدر ما يوجد من الزوج وإن كان الزوج فيه خصماً إلا أنه يكفي لما ادعى الحاضرة من فساد نكاحها، وما يوجد من قبول الغائبة والزوج فيه ليس بخصم، فتلك البينة قامت على غير الخصم أماها هنا بخلافه.(3/315)
-----
ثم إذا قضى القاضي بجماع الغائبة هل يقضى لها بالمهر، حتى إذا حضرت أخذت الزوج بذلك من غير إعادة البنية؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب»، وإنما أشار إلى أنه يقضي، وعليه عامة المشايخ.
وكذلك إذا أقامت الحاضرة البينة على أن الزوج تزوج أمها أو ابنتها أو قبّلها بشهوة، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أقامت البينة أنه تزوجها وجامعها، وكذلك لو أقامت البينة على إقرار الزوج أنه قبّلها أو لمسها بشهوة ثم هذه المسألة دليل على أن الشهادة على التقبيل واللمس بشهوة مقبولة، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ، وبعضهم قالوا: لا تقبل، وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله.
ومعنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» شهدوا أنه قبلها أو لمسها بشهوة على قول هؤلاء: شهدوا على إقرار الزوج بذلك بعضهم قالوا: تقبل، وإليه مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله. وهذه المسألة دليل على قول هؤلاء، ولا يمكن حمل المسألة على الشهادة على إقرار الزوج؛ لأن محمداً رحمه الله ذكر فصل الشهادة على اللمس والتقبيل بشهوة أولاً، وعطف عليه فصل الشهادة على إقرار الزوج بذلك.
وفي «المنتقى»: إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل أقام بينّة على امرأة أنها امرأته، وأقامت المرأة بينة على رجل آخر أنها امرأته وهو يجحد فالبيّنة بيّنة الزوج. علل فقال: لأن شهود الزوج شهدوا عليها بالنكاح وبه يثبت إقرارها بنكاح هذا الرجل فإقرارها على نفسها أصدق من بينتها، قال: ألا ترى أنه لو أقام رجل على رجل البينة أني اشتريت منك ثوبك هذا وأقام صاحب الثوب بيّنة على آخر أني بعتك هذا الثوب وهو يجحد، والبينة بينة المدعي على صاحب الثوب، وطريقه ما قلنا.(3/316)
-----
قال: ولو كانت المرأة حين أقامت البينة على ذلك الرجل إذا ادعى الرجل نكاحها كانت البينة بينة المرأة. وهو كامرأة أقام عليها رجلان البينة على النكاح ولمن. لم يؤقتا فأيهما صدّقته المرأة فهو زوجها، هذا هو لفظ «المنتقى».
قال في «الأصل»: إذا تبايع رجلان في امرأة كل واحد يدعي أنها امرأته، وأقام البينة، وإن كانت في بيت أحدهما أو كان دخل بها أحدهما فهي امرأته لأنه تمكنه من الدخول بها أو من نقلها إلى بيته دليل سبق عقده فيقضى له بالمرأة إلا إذا أقام الآخر بيّنة أنه تزوجها قبله فحينئذ يسقط اعتبار دليل السبق عند التصريح بالسبق وإن لم تكن في بيت واحد منهما ولا دخل بها أحدهما، فإن وقّتا فالوقت الأول أولى، فإن لم يوقتا أو وقتا وقتاً واحداً، فالذي زكيت بينته فهو أولى، وإن زكيت البينتان تسأل المرأة عن ذلك، وإن لم تقر المرأة بنكاح أحدهما فرّق بينها وبينهما.(3/317)
-----
وإن أقرت لأحدهما أنه تزوجها قبل الآخر أو أنه تزوجها دون الآخر، فهي امرأته إلا إذا أقام الآخر بينة أنه تزوجها قبل هذا، وهذا لأن العمل بالبينتين متعذر فيسقط اعتبارهما، فبقي تصادق أحد الرجلين مع المرأة فثبت النكاح بينهما بتصادقهما. إذا لم تقر المرأة لأحدهما حتى فرّق بينها وبينهما إن لم يكن دخلا بها فلا مهر لها. وإن كان قد دخلا بها ولا يدرى أيهما أول فعلى كل واحد منهما الأقل ممّا سمى له ومن مهر المثل وإن جاءت بولد فهو ابنهما يرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل ويرثانه ميراث أب واحد. وإن ماتت في هذه الصورة وهو ما إذا لم تقرّ بنكاح أحدهما كان على كل واحد منهما نصف ما سمى لها من المهر وكان ميراث الزوج من تركتها بينهما نصفان. وإن (لم) تمت هي ولكن مات أحد الرحلين، فإن قالت المرأة: هذا الميت هو الأول فهي للأول، ولها في ماله المهر والميراث؛ لأن تصديقها بعد موت الزوج كتصديقها في حال حياته، فثبت نكاح هذا (219ب1) بتصادقهما وانتهى بالموت.
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمه الله في عشرة ادعوا نكاح امرأة قال: إن كان دخل بها أحدهم فهي امرأته، وإن ادعت هي واحد منهم فهو زوجها. وإن واحد دخل بها ولا يعرف هو ولم تدع هي واحداً منهم، فلها على كل واحد منهم نصف مهر، وإن ماتوا كان لها عشر مهر كل واحد منهم ولها عشر ميراث امرأة من كل واحد منهم. وإن ماتت هي كان على كل واحد منهم عشر مهر ولهم ميراث زوج بينهم إذا تصادقوا أنهم لا يعلمون.(3/318)
-----
رجلان ادعيا نكاح امرأة وهي ليست في يد أحدهما، فأقرت لأحدهما فهي للمقر له، فإن أقام الآخر بعد ذلك بينة على النكاح فصاحب البينة أولى. ولو أقاما البينة بعدما أقرّت لأحدهما فإن وقّتا فالوقت الأول أولى، وإن لم يوقتا فالذي زكيت بينته أولى، فإن زكيت بينتهما، فعند بعض المشايخ يقضى للذي أقرت له بالنكاح سابقاً وهو الأقيس، وعند بعض المشايخ لا لواحد منهما، وإليه أشار في «أدب القاضي» للخصاف في باب الشهادة على النكاح.
ذكر القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله في «شرح المبسوط»: إذا تنازع اثنان في امرأة، وكل واحد يقيم البينة أنها امرأته، وإن أرّخا وتاريخهما سواء ولا يد لواحد منهما عليها أو لكل واحد منهما يد عليها ولم يؤرخا، فإنه لا تقبل بينتهما، وكذا إذا أرّخا على السواء ولأحدهما يد عليها يقضى له وتترجح بينته بحكم اليد، وكذا إذا أرّخا على السواء فأقرت لأحدهما يقضى للمقر له لأن الإقرار بمنزلة اليد، وإن أرخا على السواء ولا يد لواحد منهما ولم تقر هي لأحدهما فرّق بينهما وبينها، فإن كان قبل الدخول لا يقضى لها بشيء من المهر على أحدهما. وإن تنازعا بعد موتها فهذا أيضاً على وجوه، ولا يعتبر فيه الإقرار واليد. فإن سبق تاريخ أحدهما قضي له بالميراث، وإن كان تاريخهما على السواء أو لم يؤرخا يرثان ميراث زوج واحد ويكون بينهما وعلى كل واحد نصف المهر.
وذكر هو في موضع آخر إذا ادعى كل واحد منهما أنه تزوجها أولاً وأقاما البينة، فإن القاضي لا يقبل واحدة من البينتين يترجح على صاحبها بإحدى معان ثلاثة:
إما بإقرارها أو بكونها في بيت أحدهما أو بكونها مدخولة لأحدهما ولم يفصل بينما إذا أقرّت لأحدهما قبل إقامة البينة أو بعدها إلى هذا من حاشيته.(3/319)
-----
ادعيا نكاح امرأة وهي تجحد وليست في يد أحدهما، فأقام أحدهما البينة على النكاح وأقام الآخر البينة على النكاح وعلى إقرار المرأة له بالنكاح لا تترجح بينة من يدعي إقرارها بالنكاح؛ لأن الآخر ببينته أثبت نكاحها وبه يثبت إقرارها بالنكاح للآخر فاستوت البينتان في إثبات الإقرار معنى، وقيل: تترجح بينة من يدعي إقرارها؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً، من يدعي إقرارها لأحدهما بعدما أقاما البينة كان المقر له أولى. وما يقول بأن الآخر أثبت إقرار المرأة، قلنا: نعم ولكن في ضمن إثبات النكاح، وهذا أثبتَ إقرارها قصداً، ولا شك أن اعتبار القصدي أولى من اعتبار الضمني.
ادعيا نكاح امرأة وهي ليست في يد أحدهما وأقاما البينة من غير تأريخ، وسئلت المرأة عن ذلك ولم تقر لأحدهما حتى تهاترت البينتان، ثم أقام أحدهما البينة على إقرارها له بالنكاح قضي له بالنكاح كما لو أقرت لأحدهما بالنكاح بعدما أقاما البينة عياناً.
ادعى رجل نكاح امرأة وهي ليست في يد أحد، وأقام بينة على دعواه قضيتُ له بالمرأة، فإن جاء رجل آخر وأقام بينة على مثل ذلك لم أحكم له بها إلا إذا شهد شهود الثاني أنه تزوجها قبل الأول؛ لأن دعوى النكاح بمنزلة دعوى الشراء، ومن ادعى الشراء في عين من رجل وقضي له بها ثم ادعى آخر الشراء في ذلك العين من ذلك الرجل لا يقضى للثاني كذا هنا.(3/320)
-----
ادعى نكاح امرأة وهي في يد رجل، فأقام المدعي البينة على ذلك وقضى القاضي له بالنكاح ثم أقام صاحب اليد بعد ذلك بينة على النكاح من غير ذكر تاريخ يقضى لصاحب اليد عند بعض المشايخ؛ لأن يده دليل على سبق نكاحه، فصار كما لو أقام بينته على النكاح بتاريخ سابق صريحاً، وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن لا تسمع بينة صاحب اليد في هذه الصورة. وإليه مال الصدر الشهيد والدي تغمده الله بالرحمة والرضوان، وعلى قول من يقول: تسمع بينة صاحب اليد لو أقام الخارج بعد ذلك بينة على أنه تزوجها قبل صاحب اليد يقضى للخارج، وفي «الحاوي»: إذا شهد الشهود بعد الدعوى والإنكار أنها امرأته وحلاله، ولم يقولوا: إنه تزوجها قبل لا تقبل الشهادة ما لم يشهدوا على العقد.
قال: وفي كتاب الحدود إشارة إلى أنها تقبل، فإن محمداً رحمه الله قال: إذا قال المشهود عليه بالزنا: إني قد تزوجتها أو قال: هي امرأتي درىء الحد سوّى بين الأمرين فدلّ أنهما واحد فتقبل.(3/321)
-----
ادعى رجل نكاح امرأة وهي في يد آخر وأقرّت المرأة للمدعي ثم أقاما البينة بدون التاريخ. بعض مشايخنا قالوا: يُقضى للخارج بحكم الإقرار، وقال بعضهم: يقضى لصاحب اليد، فلو أنها ما أقرت للخارج حتى أقام الخارج البينة على النكاح وأرّخ شهوده وأقام ذو اليد بينة على النكاح مطلقاً من غير ذكر تاريخ إن أقام ذو اليد بينة على أنها امرأته ومنكوحته كانت بينة الخارج أولى كما في دعوى الملك. وإن أقام بينة على أنه تزوجها كانت بينة ذي اليد أولى، فإن لم يؤرخ فكأن يده دليل سبق نكاحه، هكذا حكي عن بعض مشايخنا وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن تكون بينة ذي اليد أولى على كل حال؛ لأن السبب متعين في باب النكاح فيصير مذكوراً لا محالة، ولأجل هذا المعنى قلنا: إن من ادعى على امرأة أنها امرأته بسبب النكاح وشهد الشهود مطلقاً أنها امرأته تقبل الشهادة؛ لأن السبب لما كان متعيناً في باب النكاح صار هو مذكوراً في الشهادة.
ولو أقام الخارج بينة على النكاح وأرّخ شهوده وأقام بينة على إقرار ذي اليد أن نكاح (ذي) اليد كان في وقت كذا، ولكن وقّتا بعد تاريخ بينة الخارج كانت بينة الخارج أولى، فتندفع به بينة ذي اليد إلا إذا وقت ذو اليد فقال تزوجتها قبل تزوج الخارج ثم جددنا العقد بعد ذلك التاريخ، فحينئذ (219ب1) لا تدفع بيّنة ذي اليد بينة الخارج، فكانت بينة الخارج أولى.
رجل ادعى امرأة في يد رجل أنها امرأته، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه بينة أنها امرأته، قال بعض مشايخنا: إن ادعى كل واحد أنها امرأته مطلقاً ولم يذكر أنه تزوجها لا يقضى لذي اليد بل يقضى للخارج إن ذكر كل واحد منهما أنه تزوجها والشهود شهدوا كذلك يقضى لصاحب اليد، وهذا القائل قاس هذا على دعوى الملك، فإن الخارج مع ذي اليد إذا ادعيا مُلك عين ملكاً مطلقاً وأقاما البينة على ذلك يقضى للخارج.(3/322)
-----
ولو ادعيا الشراء من رجل واحد وأقاما البينة يقضى لصاحب اليد، ومنهم من قال يقضى لصاحب اليد على كل حال؛ لأن السبب متعين في دعوى المرأة وهو التزوج، فصار ذلك مذكوراً في الدعوى، ولا كذلك ملك العين.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. سئل ابن سلمة عن امرأة ادعت على رجلٍ أنه تزوجها فأنكر، قال: قال أبو يوسف رحمه الله: يحلف بالله ما هي بزوجة له وإن هي زوجة له فهي طالق بائن، أما الاستحلاف على النكاح فهو مذهبهما وهو المختار، اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله رفقاً بالناس، وأما ضمّ الحلف بالطلاق إلى الحلف على النكاح، فلأنه يجوز أن يكون كاذباً في الحلف على النكاح، وبجحوده لا يقع الطلاق فتبقى معلقة، فيضم إليه الحلف بالطلاق حتى لا تبقى معلقه لو كان كاذباً في الحلف على النكاح.
وفي «الجامع الأصغر» قال: حَلَفَ متى حلف ولا بينة لها فالقاضي يقول: فرقت بينكما وما لم يقل ذلك لا تقع الفرقة.
ولو ادعى رجل على امرأة نكاحاً والمرأة في نكاح الغير ولا بينة للمدعي يستحلف الزوج والمرأة، فيبدأ بيمين الزوج فيحلف بالله ما يعلم أنها امرأة هذا المدعي. وإن حلف انقطع دعوى المدعي، وإن نكل تحلف المرأة على الثبات بالله ليست امرأة لهذا المدعي فإن نكلت قُضي عليها بالنكاح.
وفي دعوى «الفتاوى» عن محمد رحمه الله فيمن تزوج امرأة وابنتها في عقدتين ثم قال: لا أدري السابق منهما إذا ادعيا السبق يحلف بكل واحدة منهما أنه تزوجها قبل صاحبتها، بأيهما شاء بدأ وإن شاء أقرع، فإن حلف لإحداهما ثبت نكاح الأخرى وإن نكل لزمه وبطل نكاح الأخرى.
وسئل نصر عن رجلين ادعيا نكاح امرأة فأقرت هي لأحدهما، قال: ليس للآخر أن يحلفها ما لم يحلف الذي أقرت هي له به، فإن حلف برىء، وإن نكل عن اليمين يفرق بينهما ثم حلف المرأة، فإن حلفت برئت وإن نكلت عن اليمين صارت زوجة له.(3/323)
-----
بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: إذا تزوج العبد حرة ثم ادعى أن المولى لم يأذن له في النكاح، وقالت المرأة قد أذن له فإني أفرق بينهما لإقراره بفساد النكاح، قال: ولا أصدقه في إبطال المهر وألزمه الساعة إن كان دخل بها ولها النفقة ما دامت في العدة وإن لم يدخل بها جعلت لها نصف المهر. وكذلك لو قال: لا أدري أذن لي أم لم يأذن.
قال: محمد رحمه الله في «الجامع»: رجل تزوج امرأة ثم أقرّ بعدما تزوجها أن فلاناً كان تزوجها قبلي إلا أنه طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجتها بعد ذلك، وقالت المرأة: إن فلاناً تزوجني قبلك وهو زوجي في الحال ولا نكاح بيني وبينك وفلان المقر له غائب، فالقاضي لا يفرق بين المرأة وبين الزوج الثاني في الحال، فإن حضر الغائب وأقرّ بالنكاح وأنكر الطلاق قضي بالمرأة للذي حضر؛ لأن نكاح الذي حضر ثبت بتصادق الكل ولم يثبت طلاقه لما أنكر الطلاق، فظهر أن الثاني تزوجها وهي منكوحة الأول، فلم يصح نكاح الثاني فيفرق بين الثاني وبين المرأة ويقضى بالمرأة للأول.(3/324)
-----
ثم ننظر إن كان الثاني لم يدخل بها كان للأول أن يقربها للحال؛ لأنها امرأته ولم تجب عليها العدة عن الغير، وإن كان الثاني قد دخل بها فليس للأول أن يدخل بها للحال؛ لأنه وجب عليها العدة من الثاني؛ لأنه وطئها بشبهة النكاح ولا يجوز وطء معتدة الغير كما لا يجوز وطء منكوحة الغير. ونكاح الأول على حاله وإن صارت معتدة عن الثاني؛ لأن العدة تمنع ابتداء النكاح أما لا تمنع بقاءه وإن أقرّ الذي حضر بالطلاق وانقضاء العدة كما قاله الزوج الثاني، وأنكرت المرأة الطلاق وانقضاء العدة فإن الطلاق يقع عليها من الأول حين أقر بالطلاق، وتجب عليها العدة منذ يوم أقر للأول بطلاقها، ويفرق بينها وبين الزوج الثاني؛ لأن الذي حضر أقرّ بالطلاق وأسند الطلاق إلى وقتٍ ما مضى، فيصدّق في حق الطلاق ولا يصدق في الإسناد عند تكذيب المرأة إياه في الإسناد لما في الإسناد من إبطال حقها في النفقة والسكنى ويقع الطلاق في الحال وتجب العدة في الحال.g
فإن قيل: وجد من المرأة التصديق في هذا الإسناد لما أقدمت على تزويجها من الزوج الثاني. قلنا: هذا التصديق لم يقع معتبراً؛ لأنه وجد في غير أوانه؛ لأنه وجد قبل إقرار الأول بالطلاق؛ لأن التصديق منها يقتضي إقدامها على النكاح الثاني، وذلك قبل إقرار الأول بالطلاق، وما وجد في غير أوانه فوجوده وعدمه سواء، ثم إذا لم يعتبر الإسناد في هذه المسألة ووقع الطلاق للحال ظهر أن الثاني تزوجها وهي امرأة الأول، فيفرق بينهما وإن صدقت المرأة الزوج الذي حضر في الطلاق، وانقضاء العدة لم يفرق بينها وبين الثاني؛ لأنا إنما لا نصدق الذي حضر في الإسناد، لحق المرأة فإذا وجد التصديق منها ثبت الإسناد وظهر أن الزوج الثاني تزوجها بعدما طلقها وانقضت عدتها.(3/325)
-----
فإن قيل: ينبغي أن لا يصدقا لحق الله تعالى؛ لأن في العدة حق الله. قلنا: نعم إلا أن المعتدة في حقوق الله تعالى أمنية والأمين إذا أخبر عما اوئتمن فيه وهو محتمل الصدق فإنه يصدق.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يفتي في الزوجين يتصادقان على الطلاق وانقضاء العدة أنهما لا يصدقان على إبطال العدة، وعليها أن تعتد من وقت الإقرار وإن كان جواب هذا الكتاب والإقرار أنهما يصدقان، وكان يحتاط بهذا الجواب دفعاً للحيل الباطلة ورداً للعادة القبيحة. وإن أنكرت المرأة نكاح الغائب أصلاً والمسألة (220أ1) بحالها فهي امرأة الثاني.
ولو أن هذا الزوج قال: كان لها زوج قبلي ولم يسمه بل أبهمه إبهاماً طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجها وقالت المرأة: نعم كان لي زوج قبلك إلا أنه لم يطلقني، فالقاضي لا يفرق بينها وبين الزوج الثاني، فإن جاء رجل وادعى نكاحها وأقرت المرأة به وقالا: يعني المرأة والذي حضر: هذا هو الذي أقرّ به الزوج الثاني، وأنكر الثاني ذلك فالقول قول الزوج الثاني، لأنه أقر بمجهول والإقرار للمجهول لا يصح، فإذا جاء رجل وادعى كان هذا بمنزلة ابتداء الدعوى من غير تقدم الإقرار، فيكون القول في إنكار نكاحه قول الزوج الثاني.
قال: ولا يمين على الزوج الثاني في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قياس قولهما يستحلف، فإن حلف فهي امرأة الثاني، وإن نكل فرق بين المرأة والزوج الثاني وقضى بها للذي حضر. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن يستحلف الزوج الثاني ههنا بلا خلاف؛ لأن الدعوى ههنا في التفرقة. ألا ترى لو نكل الزوج الثاني يفرق بينه وبين المرأة، والاستحلاف يجري في دعوى الفرقة بلا خلاف فإن المرأة إذا ادعت الطلاق على الزوج وأنكر الزوج الطلاق يستحلف بلا خلاف.(3/326)
-----
فإن قيل: وجد من المرأة التصديق في هذا الإسناد لما أقدمت على تزويجها من الزوج الثاني. قلنا: هذا التصديق لم يقع معتبراً؛ لأنه وجد في غير أوانه؛ لأنه وجد قبل إقرار الأول بالطلاق؛ لأن التصديق منها يقتضي إقدامها على النكاح الثاني، وذلك قبل إقرار الأول بالطلاق، وما وجد في غير أوانه فوجوده وعدمه سواء، ثم إذا لم يعتبر الإسناد في هذه المسألة ووقع الطلاق للحال ظهر أن الثاني تزوجها وهي امرأة الأول، فيفرق بينهما وإن صدقت المرأة الزوج الذي حضر في الطلاق، وانقضاء العدة لم يفرق بينها وبين الثاني؛ لأنا إنما لا نصدق الذي حضر في الإسناد، لحق المرأة فإذا وجد التصديق منها ثبت الإسناد وظهر أن الزوج الثاني تزوجها بعدما طلقها وانقضت عدتها.
فإن قيل: ينبغي أن لا يصدقا لحق الله تعالى؛ لأن في العدة حق الله. قلنا: نعم إلا أن المعتدة في حقوق الله تعالى أمنية والأمين إذا أخبر عما اوئتمن فيه وهو محتمل الصدق فإنه يصدق.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يفتي في الزوجين يتصادقان على الطلاق وانقضاء العدة أنهما لا يصدقان على إبطال العدة، وعليها أن تعتد من وقت الإقرار وإن كان جواب هذا الكتاب والإقرار أنهما يصدقان، وكان يحتاط بهذا الجواب دفعاً للحيل الباطلة ورداً للعادة القبيحة. وإن أنكرت المرأة نكاح الغائب أصلاً والمسألة (220أ1) بحالها فهي امرأة الثاني.(3/327)
-----
ولو أن هذا الزوج قال: كان لها زوج قبلي ولم يسمه بل أبهمه إبهاماً طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجها وقالت المرأة: نعم كان لي زوج قبلك إلا أنه لم يطلقني، فالقاضي لا يفرق بينها وبين الزوج الثاني، فإن جاء رجل وادعى نكاحها وأقرت المرأة به وقالا: يعني المرأة والذي حضر: هذا هو الذي أقرّ به الزوج الثاني، وأنكر الثاني ذلك فالقول قول الزوج الثاني، لأنه أقر بمجهول والإقرار للمجهول لا يصح، فإذا جاء رجل وادعى كان هذا بمنزلة ابتداء الدعوى من غير تقدم الإقرار، فيكون القول في إنكار نكاحه قول الزوج الثاني.
قال: ولا يمين على الزوج الثاني في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قياس قولهما يستحلف، فإن حلف فهي امرأة الثاني، وإن نكل فرق بين المرأة والزوج الثاني وقضى بها للذي حضر. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن يستحلف الزوج الثاني ههنا بلا خلاف؛ لأن الدعوى ههنا في التفرقة. ألا ترى لو نكل الزوج الثاني يفرق بينه وبين المرأة، والاستحلاف يجري في دعوى الفرقة بلا خلاف فإن المرأة إذا ادعت الطلاق على الزوج وأنكر الزوج الطلاق يستحلف بلا خلاف.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: هذا هو الصحيح أن الزوج الثاني يحلف بالإجماع؛ لأنه استحلاف على الفرقة، وأبو حنيفة رحمه الله يرى ذلك ومحمد رحمه الله في «الكتاب» يقول في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يقل في قول أبي حنيفة رحمه الله فيكون هذا تخريجاً على قول أبي حنيفة رحمه الله، ويجوز أن محمداً أخطأ في هذا التخريج فلا يسلم هذا التخريج على قول أبي حنيفة رحمه الله.(3/328)
-----
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الأول أصح؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله إنما يرى التحليف على الفرقة إذا وقع الدعوى في الفرقة مقصوداً كما في المسألة التي ذكرها، والدعوى ههنا ما وقع في الفرقة مقصوداً إنما وقع في النكاح؛ لأن الذي حَضَرَ لا يدعي الفرقة على الثاني إنما يدعي نكاح نضعه إلا أنه متى نكل الثاني وثبت نكاح الذي حضر يجب التفريق بين المرأة وبين الزوج الثاني حكماً لثبوت نكاح الذي حضر لا أصلاً ومقصوداً.
والأصل في هذا الباب دعوى النكاح، ودعوى الفرقة تبع، والتبع ليس له حكم نفسه إنما له حكم الأصل فإذا لم يجزىء الاستحلاف فيما هو الأصل وهو النكاح لا يجزىء فيما هو التبع له وهو الفرقة، ولو أن المدعي في ابتداء الدعوى أقام البينة على طلاق الغائب، فالقاضي يقبل بينته ويقضي بالمرأة للمدعي ويتعدى القضاء إلى الغائب حتى لو حضر (و) أنكر الطلاق لا يحتاج إلى إعادة البينة.(3/329)
-----
ولو شهد شاهدان أنه مات وهي امرأته ووارثته وقضى القاضي لها بالميراث، ثم شهد آخر أن الميت كان طلقها ثلاثاً في صحته هل تقبل بينة الطلاق؟ أشار في «السير الكبير» أنها تقبل. والمذكور في «السير»: رجل مات فجاءت امرأة وادعت أنها امرأة الميت ووارثته فأنكر ولد الميت نكاحها فأقامت بينة أنه مات وهي امرأته ووارثته ولا وارث له من النساء غيرها وقضى القاضي لها بالميراث واستهلكته. ثم أقام الولد بينة أن الميت قد كان طلقها ثلاثاً في صحته، فإن الضمان فيه على المرأة، فلا يجب على الشاهدين ولولا أن بينة الطلاق مقبولة وإلا لما وجب الضمان على المرأة. وهذه المسألة قبلت بينة الطلاق تؤيد قول القاضي الإمام في المسألة المتقدمة لأن في هذه المسألة قبلت بينة الطلاق مع أن شهود النكاح شهدوا بالنكاح يوم الموت، فلأن تكون بينة الطلاق أولى في تلك المسألة، وشهود النكاح لم يشهدوا بالنكاح يوم الموت كان أولى في تلك المسألة، ثم إنما قبلت بينة الطلاق في مسألة «السير» لأن قول شهود النكاح: مات وهي امرأته غير محتاج إليها للقضاء بالميراث، فإنهم لو قالوا: كانت امرأته فالقاضي يقضي لها بالميراث، وما لا يحتاج إليه في الشهادة وجوده وعدمه بمنزلة، ولو لم يقولوا: وهي امرأته كان تقبل بينة الطلاق دون بينة النكاح كذا ههنا.
وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله سئل عن (رجل) مات فشهد شاهدان أن هذه المرأة كانت امرأته، وشهد آخران أنه كان طلقها قبل الموت قال: بينة النكاح أولى لأنه..... كأنه طلقها ثم تزوجها، وقال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله بينة الطلاق أولى؛ لأنها ثبتت زيادة أمر وهو الطلاق بعد النكاح، وفي «مجموع النوازل»: إذا شهد أحد الشاهدين أنها زوجت نفسها منه، وشهد الآخر أن وليها زوجها برضاها لا تفيد لاختلافها لفظاً ومعنى.(3/330)
-----
ولو ادعى هذا المدعي بعد هذه الدعوى أنها زوجت نفسها منه ثم شهد بذلك شاهدان تقبل ولا يتحقق التناقض؛ لأنه يمكنه أن يقول: تزوجها مدة بتزويج الولي إياها منّي وتزوجتها مرة أخرى بتزويجها نفسها منّي.
وفيه أيضاً: إذا أقامت المرأة بينة على الطلقات الثلاث، وأقام الزوج بينة في دفع دعواها عليها أنها أقرّت أنها اعتدت بعد طلقاته الثلاث، فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم طلقها وانقضت عدتها، ثم تزوجته وهي حلال له هل يصح دعواه عليها على هذا الوجه؟ قال: لا لأن أكثر ما فيه أنه ثبت بهذه البينة أنها مبطلة في دعواها إلا أن دعواها ليس بشرط لسماع البينة القائمة على الحرمة وصحتها. قال: هو نظير ما لو أقامت البينة أنه طلقها ثلاثاً وادعى في دفع دعواها أنها أقرت أنها استأجرت هؤلاء الشهود ليشهدوا لها بذلك زوراً، لا يبطل ما أقامت من البينة على الطلقات الثلاث لأنه وإن ثبت ببينة الزوج بطلان دعواها وإقرارها بكذب الشهود إلا أن دعواها ليس بشرط لسماع البينة على الحرمة.
ادعى على امرأة نكاحاً، فشهد الشهود بهذا اللفظ باهر دور أذن وشوى داتست أيم، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم؛ لأن هذا بمنزلة ما لو قالوا: نشهد فيما نعلم، وذلك غير مقبول عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك لو شهدوا فقالوا: إنسان جنان ناشيده ايدكي رنان وشوبان باشند لا تقبل شهادتهم.
إذا ادعى على امرأة نكاحاً وأقام على ذلك بينة ثم إن المرأة ادعت عليه على وجه الدفع أنك أقررت في حال جواز إقرارك طائعاً أنك خالعتني ووقعت الفرقة بيننا (220ب1) بالخلع ولم يبق بيننا نكاح وأقامت على ذلك بينة، فهذا دفع صحيح ويجعل كأن المدعي تزوجها ثم خالعها، فهذا من باب العمل بالبينتين وسواء كان هذا الدفع قبل القضاء بالنكاح أو بعده؛ لأن إقامة البينة على الخلع يقرر النكاح السابق.(3/331)
-----
رجل ادعى النكاح على امرأة وهي تنكر وحلفت على دعواه لا يحل للرجل أن يتزوج بأختها وأربع سواها، لأن في زعم الرجل أن النكاح ثابت وأن المرأة كاذبة في إنكارها، وزعمه معتبر في حقّه، وكذلك لو ادعت امرأة النكاح على رجل وحلف الرجل لا يحل لها أن تتزوج بزوج آخر؛ لأن في زعم المرأة أن الرجل كاذب وأني منكوحته.
رجل ادعى على امرأة النكاح والمرأة تجحد نكاحه وتقر بالنكاح لرجل آخر فأقام المدعي بينة على دعواه فلم تظهر عدالة الشهود، فالقاضي يسلّم المرأة إلى المقر له، وهذا إذا قال المدعي: لا بينة لي سوى هذه البينة. وأما إذا قال: لي بينة أخرى فالقاضي لا يسلمها إلى المقر له بل يحول بينها وبين المقر له إلى أن يظهر عجز المدعي عن إقامة البينة.
امرأة ادعت على رجل النكاح والرجل يجحد فأقامت المرأة شاهدين شهد أحدهما أن هذا الرجل أقرّ أن هذه المرأة امرأتي وشهد الآخر أنه أقرّ أنها كانت امرأتي تقبل هذه الشهادة. وكذلك إذا شهد أحدهما أنها كانت امرأته وشهد الآخر أنها امرأته وشهد أحدهما بالفارسية ابن زن وى است وشهد الآخر اين زن وى تودست تقبل لأن الذي شهد أنها كانت امرأته شاهد أنها امرأته للحال، ألا ترى أن في دعوى ملك الأعيان، لو شهد أحد الشاهدين أن هذه العين كان ملك هذا المدعي وشهد الآخر أنه ملكه تقبل شهادتهما، ولو كان الزوج يدعي أنها كانت امرأته وشهد الشهود أنها امرأته ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة كما في دعوى ملك العين، فإن من ادعى عيناً في يد إنسان أنه ملكه وشهد الشهود أنها ملكه أو ادعى أنه كان له وشهد الشهود أنه له لا تقبل هذه الشهادة عند أكثر المشايخ وهو الأصح.
رجل ادعى النكاح على امرأة وهي تجحد وتقول: إن لي زوجاً في بلد كذا وسمت ذلك الزوج أو لم تسمِّ، فأقام الرجل بينة على دعواه، فالقاضي يقضي بالنكاح عليها، ولا يكون إقرارها بالنكاح لغير هذا المدعي مانعاً من القضاء ببينة المدعي.(3/332)
-----
تزوج امرأة بشهادة شاهدين ثم أنكرت المرأة النكاح وتزوجت بآخر وقد مات شهود الأول ليس للزوج الأول أن يخاصم المرأة، لأن المخاصمة للتحليف والمقصود من التحليف النكول الذي هو إقرار، ولو أقرت صريحاً بنكاح الأول بعدما تزوجت بالثاني لا يصح إقرارها ولكن الزوج الأول يخاصم الزوج الثاني ويحلفه، فإن نكل حتى صار مقرّاً ببطلان نكاحه الآن يخاصم المرأة ويحلفها، وقد ذكرنا تمام المسألة قبل هذا.
في «واقعات الناطفي»: لو أقام رجل بينة على امرأة، أن أباها زوجها منه قبل بلوغها وأقامت المرأة بينة أنه زوجها منه بعد البلوغ بغير رضاها، فبينتها أولى لأن البلوغ معنى خاف يثبت ببينتها فكانت بينتها أكثر إثباتاً ثم يثبت فساد النكاح ضرورة.
وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: تزوج الرجل امرأة ودخل بها ثم ادعت بعد الدخول أنها قد ردت النكاح حين زوجها الأب وأقام على ذلك بينة تقبل بينته. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: الصحيح أن لا تقبل بينته لأن التمكين قائم مقام الإقرار. ولو ادعت الرد بعد الإقرار لا تسمع دعواها الرد ولا تقبل بينتها على ذلك كذا ههنا.
وفي هذا الموضع أيضاً إذا زوج الرجل وليّته فردت النكاح، فادعى الزوج أنها صغيرة وادعت هي أنها بالغة، فالقول قولها إذا كانت مراهقة لأنها إذا كانت مراهقة، فقد أخبرت عما هو محتمل للثبوت فيقبل قولها لأنها تنكر معنىً. وإن كانت مدعية صغيرة؛ لأنها تنكر وقوع الملك عليها.(3/333)
-----
والشهادة على النكاح بالشهرة والتسامع جائز. وفي «المنتقى»: الشهادة على المهر بالتسامع يجوز. وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله أن الشهادة على المهر بالتسامع لا تجوز. وأما الشهادة على الدخول بالشهرة والتسامع فقيل: لا يجوز، وإذا أرادت المرأة إثبات تأكد المهر ينبغي أن تثبت الخلوة الصحيحة بالبينة، وقد قيل: يجوز الشهادة بالشهرة والتسامع، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي».
ادعى النكاح على امرأة فشهد الشهود بهذا اللفظ كواهي ميد هم كه جوف بدروي يزني دأدر وإذا شت نكاح بدربا، قال بعض مشايخنا: لا تقبل الشهادة لأنهم شهدوا على الرضا بالنكاح، وهذا سهو ينبغي أن تقبل الشهادة لأنهم شهدوا على النكاح وعلى رضاها بالنكاح وحيث قالوا: جون بدررا بزني دأد رواداشت نكاح بدررا ادعى النكاح بمحضر من الشهود لا بد وأن يذكر سماع الشهود كلام المتعاقدين؛ لأن بين العلماء اختلافاً في أن سماع الشهود كلام المتعاقدين هل هو شرط، والأصح أنه شرط فلا بد من ذكره لتصحّ الدعوى.
شهدا أنه زوج ابنته فلانة من فلان إلا أنهما قالا: نحن لانعرفها بوجهها، فإن لم يكن له إلا ابنة واحدة، أو كانت له ابنتان أو ثلاثة إلا أنه ليس له بهذا الاسم إلا واحدة فالشهادة جائزة، وإن كانت له ابنتان كبرى وصغرى فشهد شاهدان أنه تزوج ابنته الكبرى من هذا وقالا: نحن لا نعرف الكبرى بوجهها فالشهادة جائزة. ويقضي القاضي بالنكاح، وإذا أحضر المدعي بعد ذلك امرأة ويدعي أنها هي الكبرى، فالقاضي يأمره بإقامة البينة على أنها هي الكبرى.(3/334)
-----
وفي إقرار «المنتقى»: امرأة ادعت على رجل أنه تزوجها، وقال الرجل: ما فعلت ثم قال: بلى فعلت فهو جائز، وكذلك ادعى الرجل النكاح وجحدت المرأة ثم أقرت، ولو كانت المرأة بدأت بالدعوى فقالت: زوجني إياك أبي، فقال قد فعلت إلا أني قد رددت النكاح ثم قال بعد ذلك قد كنت أجزته فلا نكاح بينهما إلا أن تعود المرأة إلى تصديقه فيجوز حينئذ، قال: وليس إنكاره النكاح كادعائه الفسخ، ألا ترى أنه لو أقامت بيّنة على رجل أن أباها زوجها إيّاه وقد رضي بالنكاح، فقال الرجل: زوجني إياها إلا أني قد فسخت النكاح ولم أقبل، فإني أفرّق بينهما وألزمه نصف المهر.ولو بدأ (221أ1) الزوج فقال قد زوجني إياك أبوك، فقالت قد فعل إلا أني قد رددت أو قالت لم يفعل ثم قالت قد فعل ورضيت لزمها في الوجهين. وفي كتاب الدعوى من «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في رجل مع امرأة لها منه أولاد وهي معه في منزله يطؤها وتلد له سنيناً ثم أنكرت أن تكون امرأته، قال: إذا أقرت أن هذا الولد ولده منها فهي امرأته، وإن لم يكن بينهما ولد وإنما كانت معه على هذا الحال فالقول قولها.
وفيه أيضاً: ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها ثم أنكرت ثم مات الرجل، فجاءت تدعي ميراثه فلها الميراث، وكذلك لو كانت المرأة ادعت النكاح وأنكر الزوج ثم ماتت المرأة فجاء الرجل لطلب ميراثها وزعم أنه تزوجها فله الميراث.
وفي إقرار «الأصل»: إذا أقرّ رجل أنه تزوج فلانة بألف وصدقته المرأة بعدما مات عمل تصديقها حتى كان لها المهر والميراث. ولو أقرّت المرأة أنها تزوجت فلاناً بألف درهم فصدقها الزوج بعد موتها عمل تصديقه عندهما حتى يرث منها. وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يعمل تصديقه حتى لا يرث منها.(3/335)
-----
ادعى أنها امرأته وشهد الشهود أنه تزوجها في شهر كذا تقبل، وعلى العكس لا تقبل. شهد أحد الشاهدين أنه تزوجها وشهد الآخر أنها وهبت نفسها منه تقبل الشهادة؛ لأن لفظ الهبة صارت كناية عن التزويج مجازاً، ولو شهد أحدهما أنه نكحها وشهد الآخر أنه تزوجها تقبل الشهادة، وقيل: لا تقبل شهادتهما؛ لأن النكاح يستعمل في الوطء، وهذا القائل يقول: لو شهدا أنه نكحها لا تقبل شهادتها، وعلى القول الأول: تقبل شهادتها وهو الصحيح.
ولو شهد أحدهما أنه نكحها وشهد الآخر بالفارسية ورا بزني خواشت لا تقبل هذه الشهادة، هكذا قيل، وقيل تقبل، وهكذا ذكر «البقالي»، في «فتاويه»، وإذا اختلفا في الزمان فقد ذكرنا هذا الفصل في أول الكتاب في فصل الشهادة. وإذا اختلفا في المكان لا تقبل الشهادة، وكذا إذا اختلفا في الإنشاء والإقرار لا تقبل الشهادة.
وإذا ادعى النكاح وشهد الشهود على إقرارها تقبل الشهادة. وإذا ادعى أنه تزوجها على ألف وخمس مائة، وشهد أحد الشاهدين بذلك، وشهد الآخر بألف قضى بالنكاح بألف لأن المقصود والمتبقي من جانب الزوج ملك البضع وقد اتفقا عليه، ولو كان الدعوى من جانب المرأة، فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يقضى بالنكاح، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الإملاء» مثل قول أبي حنيفة رحمه الله.
ولو شهد أحدهما أنه تزوجها على هذا العبد وقيمته ألف، وشهد الآخر أنه تزوجها على ألف، فإن كان الدعوى من جانب الزوج قضى بالنكاح، وإن كان من جانب المرأة يجب أن تكون على الخلاف أقام رجل (امرأة) على امرأة أنها منكوحته وقضى القاضي ببينته وجاء آخر وأقام البينة على تلك المرأة بالنكاح، فالقاضي لا يلتفت إلى دعوى الثاني وبينته كما في دعوى الشراء إذا (أقام) المدعي بينة على الشراء من رجل بعينه. وقضى القاضي له ببينته ثم جاء آخر وادعى شراء تلك العين من ذلك الرجل بعينه فالقاضي لا يلتفت إلى الثاني وبينته كذا ههنا.(3/336)
-----
نوع منه في اختلافهما في متاع البيت
إذا اختلف الزوجان في متاع البيت حال قيام النكاح أو بعد الفرقة بالطلاق وما أشبهه، قال أبو حنيفة رحمه الله: ما يصلح للرجل، فهو للرجل وذلك نحو السيف والقوس وأشباه ذلك إلا أن تقيم المرأة البينة، وما يصلح للنساء فهو للمرأة وذلك نحو الدرع والخمار والمغزل وأشباه ذلك إلا أن يقيم هو البينة، وإن أقاما فبينتها أولى. وما يصلح لهما نحو الدار والخادم والغنم السائمة فهو للرجل إلا أن يقيم الزوج البينة، وإن أقاما البينة في ذلك فالبينة بينة الزوج. وقال أبو يوسف رحمه الله: للمرأة جهاز مثلها والباقي للرجل، وهذا الذي ذكرنا إذا اختلفا بعد الفرقة في متاع كان في أيديهما حال قيام النكاح أما لو اختلفا بعد وقوع الفرقة في متاع أحدهما بعد الفرقة فهو بينهما؛ أي شيء كان.(3/337)
-----
وإذا مات أحدهما ثم وقع الاختلاف بين الباقي وورثة الميت، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعطى المرأة جهاز مثلها إن كانت حيّة ولورثتها إن كانت ميتة، والباقي للزوج إن كان حيّاً ولورثته إن كان ميتاً، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد: ما يصلح للرجال فهو للرجل إن كان حيّاً ولورثته إن كان ميتاً، وما يصلح للنساء، فعلى هذا. وما يصلح لهما فعلى قول محمد رحمه الله هو للرجل إن كان حيّاً ولورثته إن كان ميتاً. قال أبو حنيفة رحمه الله: المشكل للباقي منهما، وما كان من متاع التجارة والرجل معروف بتلك التجارة فهو للرجل، وإن كان أحدهما حرّاً والآخر مملوكاً؛ فإن كان المملوك محجوراً فالمتاع للحر منهما أيهما كان. وإن كان أحدهما مأذوناً أو مكاتباً عند أبي حنيفة رحمه الله هذا وما لو كان أحدهما محجوراً سواء. وعندهما هذا وما لو كانا حُرَّين سواء. وإن كانت له نسوة ووقع الاختلاف بينه وبينهن في المتاع؛ فإن كن في بيت واحد، فمتاع النسوة بينهن على السواء، وإن كانت كل واحدة في بيت على حدة فما كان في بيت (على) امرأة فهو بينها وبين زوجها على ما وصفنا لا تشارك بعضهن بعضاً.
وإن أقرت المرأة بمتاع أن الرجل اشتراه فهو للرجل اعتباراً للثابت بإقرارها بالثابت عياناً. وإذا كان المنزل ملكاً للزوج، فالقول في المتاع على ما وصفنا. وإن كان أحد الزوجين غير مدرك إلا أنه يجامع مثله فالقول في المتاع على ما وصفنا، وإن كانا مملوكين أو مكاتبين، فالقول في المتاع على ما وصفنا؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.(3/338)
-----
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل له بنون زوجهم إلا أنه لم يبوئهم بيوتاً بل مع أبيهم في داره وفي عياله، قال البنون: المتاع متاعنا فإن المتاع للأب إلا الثياب اللاتي عليهم. وإذا كان الأبوان في عيال ابن كبير في منزله فالمتاع متاع الابن؛ لأنه رب الدار وصاحب النفقة. وقال أبو يوسف رحمه الله ما كان على الأمة مما يلبس النساء من الثياب والحلي فهو لها، وكذلك ما كان على العبد من لباس (221ب1) يلبسه الرجال قال: ولا أحفظ في هذا عن أبي حنيفة رحمه الله، ولكني أحفظ عنه في رجل أجر عبده من رجل ليعمل عنده فما كان في يد العبد فهو لأستاذه، وما كان العبد لابسه فهو للعبد، فهذا على ذلك.
أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف الزوجان في دار في أيديهما فهي للزوج في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة، وإن اختلف في متاع من متاع النساء وأقاما البينة قضى به للزوج.t
نوع منه فى اختلافهما في المتاع وفي النكاح
قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل وامرأة في دار ادعت المرأة أن الدار دارها وأن الرجل عبدها وأقامت على ذلك بيّنة، وادعى الرجل أن الدار داره وأن المرأة امرأته قال: أقبل بينة المرأة على الدار لأني أجعل الدار في يد الرجل، فالدار دارها وأجعل البينة بينة الزوج في التزويج وأجعلها امرأته وتزويجها نفسها منه إقرار منها بأنه ليس بمملوك لها.(3/339)
-----
وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل وامرأة في أيديهما دار أقامت المرأة بينة أن الدار لها والرجل عبدها، وأقام الرجل بينة أن الدار له وأن المرأة زوجته تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها ولم يقم بينة أنه حرّ، فإنه يقضي بالدار للمرأة ويقضي بالرجل عبداً لها، ولو أقام بينة أنه حرّ الأصل، والمسألة بحالها كانت المرأة امرأته ويقضي بأنه حر ويقضي بالدار للمرأة من قبل أن الدار والمرأة في يدي الرجل حيث جعلها امرأته، فالمرأة هي المدعية للدار كزوجين في أيديهما دار أقام كل واحد منهما بينة أن الدار داره وهناك يقضي بالدار للمرأة، قال: وهكذا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، قال: ولو لم يكن بينهما بيّنة كانت الدار للزوج.
نوع منه فى اختلافهما في صحة العقد وفساده
امرأة قالت لزوجها تزوجتني بغير شهود وقال الزوج: لا بل تزوجتك بشهود، فالقول قول الزوج. ولو قالت المرأة: تزوجتني وأنا صبية، وقال الزوج: تزوجتك وأنت بالغة فالقول قولها.
الأصل في جنس هذه المسائل ما مر قبل هذا في فصل الشهادة في النكاح أن الزوجين إذا اختلفا في صحة العقد وفساده، فالقول قول من يدعي الصحة لشهادة الظاهر له فبعد ذلك إن كان المدعي للصحة المرأة يفرّق بينهما، يجعل كأن الزوج أمر بثبوت حرمة حالية كأنه قال لها: أنت عليّ حرام للحال، فيفرق بينهما ولها عليه نصف المهر إن لم يدخل بها، وجميع المهر إن دخل بها وعليها العدة. وإذا اختلفا في وجود أصل النكاح فالقول (قول) من ينكر الوجود.(3/340)
-----
إذا ثبت هذا فنقول: في الفصل الأول: اختلفا في صحة العقد وفساده لا في وجود أصله: لأن الشهادة شرط صحة العقد لا شرط وجوده. وفي الفصل الثاني: اختلفا في وجود أصل العقد لأن النكاح في حالة الصغر قبل إجازة الولي ليس بنكاح معنى لأن النكاح متردد بين الضرر والنفع، وعبارة الصبي في مثل هذا التصرف ملحق بالعدم، فكانت منكرة وجود العقد، فكان القول قولها. وإذا جعلنا القول قول الزوج في المسألة الأولى وقضى القاضي بالنكاح بينهما ذكر أن في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف الأول وسعها أن تدعه يجامعها، وإن مات الزوج حل لها أخذ الميراث، وإن كانت صادقة فيما قالت لا يسعها المقام معه ولا يسعها أن تدعه يجامعها ولا يأخذ ميراثها إلا أن يرجع عن هذا القول قبل موت الزوج، وهذه المسألة فرع مسألة قضاء القاضي بشهادة الزور.
وكذلك إذا قالت المرأة لزوجها: تزوجتني وأنا معتدة فلان، وقال الزوج: تزوجتك بعد انقضاء العدة، فالقول قول الزوج ويقضى بالنكاح بينهما لأن الاختلاف وقع في صحة العقد، فالزوج يدعي صحته، فيكون القول قوله. وهل يسعها المقام معه وأن تدعه يجامعها؟ إن علمت وقت القضاء أنها كانت منقضية العدة يسعها ذلك في (قول) أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله الأول؛ لأن بالقضاء ثبت لهما نكاح مبتدأ، وهي في هذا الوقت كانت خالية عن العدة محلاً للنكاح، وإن علمت أن وقت القضاء كانت في العدة لا يسعها ذلك بالاتفاق؛ لأن بالقضاء إنما يثبت النكاح في محلّه، ومعتدة الغير ليست بمحل أصلاً.(3/341)
-----
وفصل أخذ الميراث على هذا إن علمت أن وقت القضاء كانت منقضية العدة حل لها أخذ الميراث، وإن علمت أن وقت القضاء كانت في العدة لم يحلّ لها أخذ الميراث؛ فإن عادت المرأة إلى تصديق الزوج إن كان ذلك قبل موت الزوج ثم مات الزوج كان لها الميراث، وإن كان ذلك بعد موت الزوج لم يكن لها الميراث لأنها في التصديق بعد الموت متهمة لكون ما بعد الموت وقت الميراث ولا كذلك حالة الحياة.
وكذلك لو أن مجوسية أسلمت فادعى عليها رجل النكاح بعد الإسلام فقالت المرأة: تزوجتني قبل الإسلام فالقول قول الزوج ويقضى بالنكاح بينهما، وهل يسعها المقام معه فهو على ما ذكرنا.
وكذلك لو أن امرأة قالت لزوجها: إني أختك من الرضاعة وقال الزوج: لا بل أنت أجنبية، فالقول قول الزوج ويقضي القاضي عليها بالنكاح وهل يسعها المقام معه وأخذ ميراثه؟ فهو على ما ذكرنا هذه الجملة في شهادة الجامع قبيل باب الشهادة في الحائط المائل.
وفي باب الإحصان من نكاح «الأصل»: إذا أقرت المطلقة الثلاثة بعدما تزوجت بآخر وطلقها أن الزوج الثاني قد دخل بها حل للزوج الأول أن يتزوجها؛ لأنها أخبرت بزوال الحرمة التي هي حق الشرع والعبد مصدق فيما هو حق الله تعالى. ولم يشترط في «الكتاب» أن تكون ثقة، وكذلك لو أخبر عنها بذلك ثقة، يريد به أنها أرسلت رسولاً بذلك، كان الجواب كما قلنا، فقد شرط العدالة في الرسول، ولم يشترط ذلك في المرأة. وذكر هذه المسألة في تجريد «القدوري»، وذكر أنه يجوز له أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة.
وإن كان الزوج الثاني هو الذي أقرّ بالدخول، والمرأة ما أقرت بذلك لم يحل للزوج الأول أن يتزوجها، ولا يصدق الزوج الثاني عليها وإن كان قد خلا بها ولو أنكرت (222أ1) الدخول بعدما تزوجها الأول بإقرارها لم تصدق في ذلك لكونها متناقضة فيه.(3/342)
-----
وإن كان الزوج الأول بعدما تزوجها أنكر أن يكون الزوج الثاني دخل بها وادعت هي الدخول كان القول قولها؛ لأن إقدام الزوج الأول على النكاح بعد النكاح الثاني إقرار منه بالدخول دلالة، ولو أقر بذلك صريحاً ثم أنكر لا يلتفت إلى إنكاره كذا ههنا.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله المطلقة ثلاثاً إذا طلقها الزوج الثاني واعتدت منه، وعادت إلى الأول بنكاح جديد ثم ادعت أن الثاني لم يكن دخل بها فإن كانت عالمة بشرائط الحل الأول لا تصدق، وله أن يمسكها، وإن كانت عالمة بالشرائط صدقت؛ لأن إقدامها على النكاح مع العلم بشرائط الحل إقرار بوجود تلك الشرائط، فأما الإقدام مع الجهل بالشرائط لا يكون اقراراً بوجود الشرائط.
وفي نكاح «المنتقى»: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل طلق امرأته بعد الدخول بها ثم تزوجت بزوج آخر بعد الطلاق بيوم فقال الزوج: تزوجتك ولم تنقض عدتك وقالت: قد كنت أسقطت بعد الطلاق، فالقول قول الزوج ولو بدأت هي قبل أن تزوج نفسها من هذا الرجل أو بعد ذلك، وقالت قد كنت أسقطت وانقضت عدتي وتزوجت قبل قولها وإن قال الزوج بعد ذلك كنت في العدة حين تزوجتك فسخ النكاح بينهما وقضيت لها بنصف المهر على الزوج.
وفي طلاق «المنتقى»: أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله رجل طلق امرأته ثلاثاً فمكثت شهرين ثم تزوجها رجل، فقالت بعد النكاح: لم تكن عدتي انقضت لم تصدق المرأة وله أن يمسكها في قول أبي حنيفة رحمه الله وقولهما، وتزويجها نفسها إقرار بانقضاء العدة، ولو كان التزويج بعد الطلاق في وقت لا تنقضي في مثله العدة قبل قولها فلو تزوجها الزوج الأول بعد سنين من وقت الطلاق، فقالت بعد ذلك: لم أتزوج غيرك، فالقول قولها قال: وليس هذا كالعدة.
نوع منه(3/343)
-----
امرأة غزلت قطن زوجها ثم وقع بينهما فرقة أو لم تقع واختلفا في الغزل، فقال كل واحد منهما: الغزل لي فإن كان الزوج بياع القطن فالغزل لها وعليها مثل قطن الزوج؛ لأن الظاهر أنه اشترى القطن للتجارة لا لغزل المرأة، فتصير المرأة بالغزل غاصبة، وإن لم يكن الزوج بياع القطن، فالغزل له؛ لأن الظاهر أنه إنما حمل القطن إلى البيت لغزل المرأة، والظاهر أن المرأة تغزل للزوج، وكذلك هذا الجواب فيما إذا طبخت المرأة القديد من اللحم الذي جاء به الزوج.
ولو قال لها الزوج حين جاء بالقطن: اغزلي ليكون لك ولي منه الثوب والمتاع فالغزل للزوج ولها أجر مثلها؛ لأنه استأجرها ببعض ما يحصل من عملها، فإن اختلفا فقالت المرأة: غزلت بأجْرٍ وقال الزوج: بغير أجْرٍ كان القول قول الزوج؛ لأن هذا الشرط وهو شرط الأجر يستفاد من مثله فيكون القول له مع يمينه هذه الجملة في «فتاوى أهل سمرقند».
وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: امرأة غزلت قطن زوجها بإذنه وكانا يبيعان من ذلك للكرباس ويشتريان بالثمن أمتعة لحاجة بينهما واتخذا ببعض الكرباس ثياب البيت فجيمع ذلك من الكرباس وما اشترى به للرجل؛ لأن المرأة تعمل للرجل عادة، فيكون ذلك للرجل إلا شيئاً اشترى لها أو علم عادة أنه اشترى لها فيكون لها.
وفي بيوع «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل كان يدفع إلى امرأته ما تحتاج إليه وكان يدفع إليها أحياناً دراهم ويقول: اشتري بها قطناً واغزلي، فكانت تشتري وتغزل ثم تبيع وتشتري بثمنها أمتعة البيت كانت الأمتعة لها لأنها اشترت من غير توكيل الزوج إياها بالشراء فتكون مشترية لنفسها.
ولو اشترى الزوج قطناً فغزلته المرأة بإذنه أو بغير إذنه كان ذلك للزوج؛ لأن هذا من جملة خدمة البيت، فكانت عاملة للزوج.(3/344)
-----
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمه الله في رجل اشترى قطناً و (أمر) امرأته أن تغزله فغزلته، قال تغزله فإن وضعه في البيت فغزلته فهو لها دونه ولا شيء عليها هو بمنزلة الطعام وضعه في بيته فأكلته. وفيه: رجل جاء بقطن لتغزله امرأته ولم يقل لها اغزليه أو قال لها اغزليه أو تركه عندها نفقة لها كلّها وتنتفع بها ولم يفرض لها كل شهر نفقة واشترت منه قطناً وغزلته فهو للزوج في جميع هذه الوجوه.
وإن فرض لها كل شهر نفقة واشترت منها قطناً وغزلته فهو لها. وإن كان له في بيته قطن فغزلته بغير أمره فهو لها.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: رجل اشترى قطناً فغزلته امرأته، فقال لها الرجل: غزلته بغير أمري، فالقول له قال: لأن القطن له.
ومما يتصل بهذا الفصل(3/345)
-----
رجل زوج ابنته وجهزها فماتت الابنة، فزعم أبوها أن الذي دفع إليها من الجهاز ماله وأنه لم يهبه منها، وإنما أعاره منها، فالقول للزوج وعلى الأب البينة؛ لأن الظاهر شاهد للزوج لأن الظاهر أن الأب إذا جهز ابنته يدفع ذلك إليها بطريق الملك، والبينة الصحيحة أن يشهد عند التسليم إلى البنت أني إنما سلمت هذه الأشياء إلى البنت بطريق العارية أو يكتب نسخة معلومة، ويشهد الأب على إقرارها أن جميع ما في هذه النسخة ملك والدي عارية في يدي منه لكن هذا يصلح للقضاء لا للاحتياط لجواز أنه اشترى لها بعض هذه الأشياء في حالة الصغر، فهذا الإقرار لا يصير للأب فيما بينه وبين الله تعالى، فالاحتياط أن يشتري منها ما في هذه النسخة بثمن معلوم. ثم إن البنت تبرئة عن الثمن، وحكي عن القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أن القول قول الأب؛ لأن اليد استفيدت من جهته، فيكون القول قوله أنه يأتي إلى جهة أبيها، وبه أخذ بعض مشايخ زماننا. وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب السير» في باب العصبة بالمال، فقال: العارية تبرع، والهبة تبرع، والعارية أدناهما، فحمل على الأدنى.
وقال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: المختار للفتوى أن العرف إذا كان مستمراً أن الأب يدفع ذلك جهازاً لا عارية كما في ديارنا فالقول قول الزوج. وإن كان العرف مشتركاً فالقول قول الأب.(3/346)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله (222ب1) امرأة ماتت واتخذت والدتها مأتماً فبعث زوج الميتة إليها بقرة فذبحتها وأنفقتها أيام المأتم، فطلب الزوج قيمة البقرة، فإن اتفقا أنه بعث إليها وأمرها أن تذبح وتطعم من اجتمع عندها ولم يذكر القيمة ليس له أن يرجع عليها لأنها فعلت ما فعلت بإذن الزوج من غير شرط القيمة. وإن اتفقا على أنه بعث إليها لتذبح وتطعم من اجتمع عندها ليرجع بالقيمة عليها كان له أن يطالبها بالقيمة لاتفاقهما على شرط القيمة، وإن اختلفا في ذلك فالقول قول أم الميتة لأن حاصل اختلافهما في شرط الضمان وأم الميتة تنكر ذلك والله أعلم.
الفصل الثاني والعشرون: في بيان ما للزوج أن يفعل: وما ليس له أن يفعل، وفي بيان ما للمرأة أن تفعل، وما ليس لها أن تفعل
ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب نفقة المرأة وفي كتاب النفقات: إذا مَنَع الرجل أم المرأة أو أباها أو «أحداً من أهلها من الدخول عليها في منزله فله ذلك، ولكن لا يمنعهم من النظر إليها وتعاهدها والتكلم معها، فيقوموا على باب الدار والمرأة داخل الدار. هذا في حق (أهلها) وكل ذي رحم محرم ومن لا يتهمه الزوج، أما إذا لم يكن محرماً ويتهمه الزوج كان له أن يمنعه من النظر إليها، وكذلك إن كان لها ولد من غيره ليس له أن يمنع بعضهم من أن ينظر إلى البعض، فروي عن أبي يوسف رحمه الله أن الزوج لا يملك أن يمنع الأبوين عن الدخول عليها للزيارة في كل شهر مرتين وأما يمنعهما من الكينونة.(3/347)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله عن الفقيه أبي بكر الإسكاف رحمه الله أن الزوج لا يملك أن يمنع الأبوين عن الدخول عليها عن الزيارة في كل جمعة وأما يمنعهما عن الكينونى وعليه الفتوى. وأما غير الأبوين من المحارم، فقد ذكر الخصاف أيضاً في هذين الموضعين أنه يمنعهم عن الزيارة في كل سنة وعليه الفتوى. وأما إذا أرادت المرأة أن تخرج إلى زيارة المحارم نحو الخالة أو العمة أو إلى زيارة الأبوين فهو على هذا يعني لا يمنعها عن زيارة الأبوين في كل جمعة وعن زيارة سائر المحارم في كل سنة. وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: لا تخرج إلى زيارة الأبوين ولكن الأبوان يحضران منزلها بحضرة الزوج في كل شهر أوشهرين مرة.
وفي «نوادر فضل بن غانم» عن أبي يوسف رحمه الله أنها لا تخرج إلى زيارة المحارم والأبوين إذا كانا يقدران على إتيانها، وإن كانا لا يقدران على إتيانها أذن لها في زيارتهما في شهرين بنحوه مرة، وذكر هذه المسألة في «النوادر» في موضع آخر، وقال: تذهب إلى الأبوين للعيادة إن مرضا أو مرض أحدهما ولا يمنعها الزوج عن العيادة، أما غير هذا فلا.
ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أن للزوج أن يضرب امرأته على أربع خصال وما هو في معنى الأربع: أحدهما على ترك الزينة لزوجها، والزوج يريدها. والثانية: على ترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه. والثالثة: على ترك الصلاة وعلى ترك الغسل. الرابعة: على الخروج من المنزل.
وفي كتاب العلل: ليس للزوج أن يضرب امرأته على ترك الصلاة، وليس للأب أن يَضرب ولده على ترك الصلاة في رواية وفي رواية له ذلك. ضرب الزوج زوجته لترك مطاوعته في الفراش فهلكت ضمن، وكذا الأب إذا ضرب ولده للتأديب.(3/348)
-----
وفي كتاب «الخراج» لأبي يوسف رحمه الله: وللرجل أن يأمر جاريته الكتابية بالغسل عن الجنابة ويجبرها على ذلك، والمرأة الكتابية تكون تحت مسلم على هذا القياس. قيل: و... الزوج في معنى الأربع.
إذا أراد أن يطلق امرأته بغير ذنب منها يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يعطيها مهرها ونفقة عدتها ويطلقها لما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنّه كان كثير النكاح كثير الطلاق، فقيل له في ذلك فقال: إني أَحبُّ الغنى، والله تعالى جمع الغنى في هذين قال الله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 32)، وقال الله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} (النساء: 130).
في «العيون»: رجل له امرأة لا تصلي، فطلقها حتى لا يصحب امرأة لا تصلي فإن لم يكن له ما يعطي مهرها فالأولى أن يطلقها. قال أبو حفص الكبير البخاري رحمه الله: إن لقي الله ومهرها في عنقه أحب إلي من أن يطأ امرأة لا تصلي. وذكر الشيخ الإمام أبو حفص السفكردري رحمه الله في «فوائده»: أنه لا ينبغي للرجل الحنفي أن يزوج ابنته من شفعوي المذهب، وعن بعض مشايخنا أنه يجوز لنا أن نتزوج بناتهم، ولا يجوز لنا أن نزوج بناتنا منهم. وعن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله إنه يكفر في الحال، فعلى هذا القياس لا يجوز المناكحة بيننا وبينهم أصلاً.
إذا عزل عن امرأته بغير إذنها لما يخاف من سوء هذا الزمان، فظاهر جواب «الكتاب» لا يسعه ذلك، وفي «فتاوى أهل سمرقند» أن له ذلك. وفيه أيضاً: إذا منع الرجل امرأته عن الغزل فله ذلك.
وفي «مجموع النوازل» وللرجل أن يأذن لامرأته بالخروج إلى سبعة مواطن:(3/349)
-----
أحدها: إلى زيارة الأبوين وعيادتهما أو أحدهما وتعزيتهما أو تعزية أحدهما. والثانية: زيارة الأقرباء. والثالثة: إذا كانت قابلة. والرابعة: إذا كانت غسالة. والخامسة: إذا كان لها على آخر حقّاً. والسادسة: إذا كان لآخر عليها، وفي هذه الصورة يجوز لها أن تخرج بغير إذن. والسابعة: للحج، فلا يجوز له أن يأذن لها فيما عدا ذلك من زيارة الأجانب وعيادتهم والوليمة وأشباهها. ولو أذِنَ وخرجت كانا عاصيين. وإذا أرادت أن تخرج إلى مجلس العلم لنازلة وقعت لها، فإن كان الزوج يسأل عن العالم ويخبرها بذلك، فليس لها أن تخرج. وإذا امتنع من السؤال، فلها أن تخرج وإن لم تقع لها نازلة، فأرادت أن تخرج إلى مجلس العلم لتتعلم بعض مسائل الصلاة والوضوء، فإن كان الزوج يحفظ المسائل ويذكر عندها له أن يمنعها من الخروج، وإن كان لا يحفظ ولا يذكر عندها، فالأولى أن يأذن لها بالخروج أحياناً، وإن لم يأذن فلا شيء عليه، ولا يسعها أن تخرج ما لم تقع لها نازلة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وفي هذا الموضع أيضاً: امرأة لها أب زمن ليس له من يقوم عليه غير البنت، ويمنعها الزوج عن تعاهده جاز لها أن تعصي زوجها وتطيع أباها مؤمناً كان الأب أو كافراً؛ لأن القيام عليه فرض عليها في هذه الحالة (223أ1) وحق الزوج لا يظهر مع الفرائض.
المنكوحة والمعتدة إذا امتنعت من الطبخ والخبز إن كان بها علّة لا تقدر على الطبخ أو الخبز، عن إبراهيم (عن يحتمل) للمرأة أن لا تخبز لزوجها ولا تطبخ ولا تخدمه ولا تعمل شيئاً وفيه: إن كانت من بنات الأشراف لا تجبر عليه، وعلى الزوج أن يأتيها بمن يطبخ ويخبز. وإن كانت ممن يقدر على ذلك، وهي من جملة (من) يخدم نفسها تجبر عليهما؛ لأنها متعنتة، فإن النبي عليه السلام جعل خدمة داخلِ البيت على فاطمة وخدمة خارج البيت على علي رضي الله عنهما.(3/350)
-----
وذكر شمس الأئمة السرخسي أنها لا تجبر أصلاً، ولكن لا يُعطى لها الإدام حينئذ وهو الصحة.
وفي «المنتقى» عن عيسى عن محمد رحمهم الله: ليس للزوج أن يستخدم امرأته الحرة. وفيه عن أبي حنيفة رحمه الله: للمرأة أن لا تخبز لزوجها ولا تطبخ له والزوج بالخيار إن شاء أعطاها خبزاً وإن شاء أعطاها دقيقاً. إذا كان للرجل والدة أو أخت أو ولد من امرأة أخرى أو إنسان ذو رحم محرم من الزوج، وكانت المرأة نازلة له معهم في...... واحد فقالت المرأة للزوج: أنا لا أنزل مع أحد من هؤلاء، فصيرني في منزل على حدة فالمسألة على وجهين: إن كان في الدار بيوت فأعطاها بيتاً تغلق عليه وتفتح لم يكن لها أن تطالبه بمنزل آخر، وإن لم يكن في الدار إلا بيت واحد، فلها أن تطالبه بمنزل آخر لوجهين:
أحدهما: أنها تخاف على أمتعتها والثاني: أنه يكره المجامعة ومعها في البيت غيرهما ذكر الخصاف المسألة في «أدب القاضي» في باب نفقة المرأة.
وإن كانت للرجل أمة فقالت المرأة: أنا لا أسكن مع أمتك وأريد بيتاً على حدة قيل: ليس لها ذلك؛ لأن جارية الرجل بمنزلة متاعه، وإنه مشكل على المعنيين جميعاً. أما على المعنى الأول فظاهر. وأما على المعنى الثاني، فلأنه تكره المجامعة بين يدي أمة الرجل، هذا هو قول محمد رحمه الله آخراً، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
إذا اشتكت المرأة عند القاضي أن الزوج يضربها وطلبت من القاضي أن يأمره أن يسكنها بين قوم صالحين، فإن علم القاضي أن الأمر كما قالت زجره عن ذلك ومنعه من التعدي عليها، وإن لم يعلم فإن كان جيران هذه الدار قوماً صالحين أقرها هنا وسأل عنهم، فإن ذكروا منه مثل ما ذكرت زجره عن ذلك ومنعه من التعدي عليها، وإن ذكر بأنه لا يؤذيها تركها، وإن لم يكن في جواره من يوثق به أو كانوا يميلون إليه؛ أمره أن يسكنها بين قوم صالحين ويسأل عنهم وبيّن الأمر على جبرهم في هذا الباب أيضاً والله أعلم.(3/351)
-----
الفصل الثالث والعشرون: في العنين والمجبوب والخصي
إذا وجدت المرأة زوجها عنيناً، فلها الخيار إن شاءت أقامت معه كذلك، وإن شاءت خاصمته عند القاضي وطلبت الفرقة، فإن خاصمته فالقاضي يؤجله سنة وتعتبر السنة عند أكثر المشايخ بالأيام، وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وعليه الفتوى، ولا يكون التأجيل إلا عند سلطان يجوز قضاؤه. وابتداء التأجيل من وقت المخاصمة. فإذا مضت سنة من وقت التأجيل وادعى الرجل أنه وصل إليها فإن كانت ثيباً فالقول قول الزوج مع يمينه، فإن كانت بكراً أراها القاضي النساء، والواحدة تكفي، والمثنى أحوط، فإن قلن ثيب ثبت ثيابتها وصوله إليها، فيكون القول في ذلك قول الزوج مع يمينه، وإن قلن: هي بكر فالقول قولها في عدم الوصول إليها، فإن شهد البعض بالبكارة والبعض بالثيابة يريها غيرهن، فإن قلن: هي بكر يخيرها القاضي، وإن اختارت زوجها أو قامت من مجلسها أو أقامها أعوان القاضي أو قام القاضي قبل أن تختار شيئاً بطل خيارها. وإن اختارت الفرقة أمر القاضي زوجها أن يطلقها، وإن أبى فرّق القاضي بينهما، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل».
وذكر في «المنتقى»: هشام عن محمد رحمه الله في العنين إذا مضى سنة خيّر القاضي امرأته، وصار كأن الزوج خيرها، فإذا اختارت نفسها بانت منه، فعلى هذه الرواية لم يشترط قضاء القاضي لوقوع الفرقة وإنها تخالف رواية «الأصل» أيضاً.(3/352)
-----
بشر عن أبي يوسف رحمه الله: خيار امرأة العنين إذا تم الأجل وخيرها القاضي بمنزلة خيار الزوج ذكره مطلقاً ولم يفسّره قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: تأويله عندي في القيام عن المجلس قبل أن تختار شيئاً ثم رضاها بالمقام عند السلطان أو غيره يسقط حقها، واختيارها نفسها لا يكون إلا عند السلطان. ثم إذا فرّق القاضي بينهما على ما هو المذكور في «الأصل» كانت هذه تطليقة بائنة؛ لأن حكم الرجعة تختص بعدّةٍ واجبة بعد الدخول حقيقة، ولها المهر كاملاً وعليها العدة. ولو خاصمته وهو محرم أُجل سنة بعد الإحرام، ولو خاصمته وهو مظاهر فإن كان يقدر على العتق أجله سنة من حين الخصومة. وإن كان لا يقدر على العتق أمهله شهرين لأجل التكفير ويؤجله سنة بعد الشهرين.
ولو ظاهر بعدما أجّل لم يزد على المدة شيئاً؛ لأنه كان متمكناً من أن لا يظاهر منها بخلاف ما إذا خاصمته وهو مظاهر. وإن كان يصل إلى غيرها من نسائه وجواريه يؤجل في حق هذا، وإذا وصل إليها مرة بطل خيارها وسقط حقها في التفريق وإذا وجدت زوجها عنيناً وأخرت المرافعة إلى القاضي لا يسقط حقها ما لم تقل: رضيت بالمقام معه (فيسقط) حقها. وكذلك إذا أخرت الخصومة بعد مضي الأجل لا يبطل حقها في الخصومة ما لم تقل رضيت.(3/353)
-----
وإذا أجل العنين؛ فأيام الحيض وشهر رمضان يحتسب عليه ولا يجعل له بدل، ولو مرض أحدهما مرضاً لا يستطيع الجماع معه وإن كان أقل من نصف شهر احتسب عليه فلا يجعل له بدل. وإن كان أكثر من نصف عن محمد لا يحتسب، شهر وما دونه يحتسب، وهذا أصح الأقاويل، شهر لا يحتسب عليه ويجعل له بدل، هكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله. وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، في رواية كما قال محمد رحمه الله، وفي رواية ما لم يمرض سنة لا يعوض مكانه. وفي «المنتقى» جعل غيبة أحدهما وحبسه بمنزلة المرض، ولو حجت لا يحتسب على الرجل مدة خروجها، ولوحج هو احتسب عليه هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله.
ولو تزوجها ووصل إليها ثم عُنَّ وفارقته ثم تزوجها ولم يصل إليها فلها الخيار ولو (223ب1) كانت المرأة رتقاء والزوج عنين فلا خيار لها هذا إذا وجدت زوجها عنيناً، فإن وجدت زوجها مجبوباً، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا وجدت زوجها عنيناً إلا في مسألة: أن المجبوب لا يؤجل؛ لأنه لا فائدة منه بخلاف العنين.
قال محمد رحمه الله في «الجامع»: امرأة الصبي إذا وجدت الصبي مجبوباً، فالقاضي يفرق بينهما بخصومتها في الحال ولا ينتظر بلوغ الصبي بخلاف ما إذا وجدت امرأة الصبيِّ الصبيَّ عنيناً لا يصل إليها، فإن القاضي لا يفرق بخصومتهما في الحال بل ينتظر بلوغ الصبي. والفرق أن الصبي إذا كان عنيناً لم يتعين سبب الفرقة؛ لأن الصبي يفقد الشهوة، فلعلَّ عجز الصبي عن الوطء بسبب الصبا لا بسبب العنة فلم يتيقن بسبب التفريق وهو العنّة.
وإذا كان مجبوباً فقد تيقنا سبب الفرقة وهو الجب وهو نظير المريض إذا تزوج فوجدته المرأة لا يقدر على جماعها فرافعته (إلى) القاضي، فالقاضي لا يفرق بينهما للحال بل ينتظر برءه وبمثله لو وجدته مجبوباً يفرق بينهما للحال.(3/354)
-----
فإن قيل: يجب أن ينتظر بلوغ الصبي في الجب لأن الفرقة بالجبّ فرقة بطلاق كالفرقة بسبب العنّة، والصبي ليس من أهل الطلاق، قلنا: الفرقة بالجب إذا كان الزوج من أهل الطلاق فرقة بطلاق، وإذا لم يكن الزوج من أهل الطلاق بأن كان صبيّاً فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: هي فرقة بغير طلاق نظير الفرقة بخيار البلوغ، وهذا لأن هذه الفرقة لحق المرأة، وحق المرأة في نفس الفرقة لا في الطلاق، وبعضهم قالوا: هي فرقة بطلاق لا بسبب فرقة قد تحققت وهو الجب، والطلاق هو المتعين للفرقة شرعاً، وإذا استحقت الفرقة قد استحقت ما تعيّن لها شرعاً ولا حاجة في الإيقاع إلى عبارة الصبي؛ لأن القاضي هو الذي يوقعه، فصار الصبي في هذا كالبالغ فصار كالصبي إذا مَلَكَ قريبه يعتق عليه، وإن لم يكن الصبي من أهل العتق؛ لأنه تحقق سببه وهو ملك القريب، ولا يحتاج فيه إلى عبارة الصبي، فصار هو في حق عتق القريب كالبالغ كذا هنا إلا أن القاضي لا يفرق بين الصبي وامرأته ما لم يكن عنه خصم حاضر لأن القضاء على الغائب لا يجوز، والصغير وإن كان حاضراً حقيقة فهو غائب حكماً لكونه عاجزاً عن الخصومة بنفسه.
وإن كان للصغير أب أو وصي أب كان خصماً عن الصغير في ذلك كما كان خصماً في جميع ما كان للصغير وعليه، وإن لم يكن الأب ولا وصيه، فالجد أو وصيه خصمه فيه، فإن لم يكن له جد ولا وصيه فالقاضي ينصب عنه خصماً فإذا جاء الخصم بحجة يبطل الحاكم حق المرأة من بيّنة يقيمها على رضاها بهذا العيب أو علمها بهذا العيب لم يفرق بينهما، وإن لم يكن للخصم بينة على ذلك وطلبَ يمين المرأة تحلف المرأة، لأنه يدعي عليها معنى لو أقرّت به يلزمها فإن نكلت لم يفرق بينهما فإن حلفت فرق بينهما.(3/355)
-----
ولو كانت المرأة صغيرة زوجها أبوها، فوجدت زوجها مجبوباً لا يفرّق بينهما بخصومة الأب حتى تبلغ، علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأني (لا) أدري لعلها سترضى بزوجها إذا بلغت، وفرّق بين هذه المسألة وبينما إذا ورث الصغير عبداً قد اشتراه مورثه، واطلع الولي على عيب (بالعنين) قد كان عند بائع مورثه كان للولي أن يخاصم البائع في العيب، ولا ينتظر بلوغه. وكذلك إذا كان للصغير قصاص أو شجة فللولي أن يستوفيه ولا ينتظر بلوغه.(3/356)
-----
ولو كانت المرأة البالغة والمسألة بحالها فوكلت المرأة رجلاً بالخصومة مع زوجها وجاءت هل يفرق بينهما بخصومة الوكيل؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب». وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يفرق بل ينتظر حضورها ألا ترى أنه لا يفرق بخصومة الأب إذا كانت البنت صغيرة، وبعضهم قالوا: يفرق بينهما. وفرق بين الصورتين والفرق أن المرأة إذا كانت بالغة غائبة فلو أخرنا التفريق إلى أن يحضر، وليس بحضرتها من الغيبة وقت معلوم كان في هذا التأخير إبطالٌ لحقها في التفريق، فيفرق بخصومة الوكيل لصيانة حقها، فأما إذا كانت صغيرة فليس في تأخير الفرقة إلى أن تبلغ إبطال حقها في التفريق لأن لبلوغها غاية معلومة والرضا بعد البلوغ موهوم فوجب التأخير، وإذا وجب التأخير لم يكن إقامة الأب مقامها في استيفاء هذا الحق قبل البلوغ كما لو كان لها دين مؤجل على إنسان لا يقوم الأب مقامها في استيفاء ذلك قبل الأجل، وإن كان استيفاء الدين مما يجري فيه النيابة، وإن وجدت زوجها خصياً، فإن كان بحال تنتشر آلته ويصل إلى المرأة لا خيار لها، وإن كان لا تنتشر آلته ولا يصل إلى المرأة فالجواب فيه كالجواب في العنين. ولو تزوجت وهي تعلم بحاله فلا خيار لها. ومن المشايخ من قال في المجبوب لا خيار لها، وفي الخصي والعنين لها الخيار؛ لأنها طمعت حالة العقد أن يزول العذر وتصل إلى حقها. وقال مشايخ العراق: إن كان عنيناً قضى القاضي بعيبه مرة لا خيار لها. وإذا فرّق بين العنين وبين المرأة فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه الولد، لأن النسب يثبت حقاً للصبي. فإن ادعى الزوج الوصول إليها فقال: كنت وصلت إليها أبطل الحاكم الفرقة، كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله لأن بيان النسب دليل على الدخول؛ لأنه الموضوع له بقضية الأصل. ولو شهد شاهدان على الدخول أليس إن يبطل الفرقة كذا ههنا. ولو كان الزوج مجبوباً ففرق القاضي بينهما فجاءت بولد لأقلّ من ستة(3/357)
أشهر من(3/358)
-----
وقت الفرقة لزمه الولد خلا بها أو لم يخل بها، وهذا عند أبي يوسف رحمه الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله يلزمه إلى سنتين إذا خلا بها، والفرقة ماضية بلا خلاف، وإن كان الزوج مجبوباً وهي لم تعلم بحاله فجاءت بولد فادعاه وأثبت القاضي نسبه ثم علمت بحاله وطلبت الفرقة فلها ذلك، قال: لأن الولد لزمه بغير جماع.
ولو أقام الرجل بينة قبل الفرقة على إقرارها أنه وصل إليها بطلت الفرقة، ولو أقرت هي بعد الفرقة أقرت بالوصول بعد الفرقة (224أ1) أنه قد كان وصل إليها قبل الفرقة لا تبطل الفرقة، وإذا كان زوج الأمة عنيناً فالخيار إلى المولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فقال محمد وزفر رحمهما الله: الخيار لها، وقال محمد رحمه الله: وللمرأة الخيار في الجنون والجذام وكل عيب لا يملكها المقام معه إلا بضرر، ألا ترى أنه لها ثبت الخيار في الجبّ والعنة وإنما ثبت دفعاً للضرر عنها، وفرّق بين جانب الرجل وبين جانب المرأة من حيث إنّ الرجل متمكن من دفع الضرر عن نفسه بالطلاق؛ لأن الطلاق في يده بخلاف المرأة وهما سويا بين جانب المرأة وبين جانب الرجل فيما سوى الجب والعنة والله أعلم.
الفصل الرابع والعشرون: في بيان حكم الولد عند افتراق الزوجين
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا كان للرجل ولد صغير وقد فارق أمّه، فالأم أحق بالولد من الأب إلى أن يستغني عنها، فإذا استغنى عنها فالأب أحق به.
وحدّ الاستغناء في الغلام أن يأكل وحده ويشرب وحده. وفي غير رواية الأصول ويتوضأ وحده يريد به الاستنجاء، ولم يقدر محمد رحمه الله في ذلك تقديراً من حيث السنة. وذكر الخصاف في كتاب النفقات أن الأم أحقّ بالغلام ما لم يبلغ تسع سنين أو ثمان. وذكر الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله: أن الأم أحق به إلى تسع سنين.(3/359)
-----
وأما في الجارية، فحدّ الاستغناء أن تحيض أو تبلغ مبلغ النساء بالسن، وبعد ذلك الأب أولى. وروى هشام عن محمد رحمه الله أن الأم أولى بها إلى مبلغ حدّ الشهوة. فإن وقع الاختلاف بين الأم وبين الأب فقالت الأم: هذا ابن ست سنين وأنا أحق بإمساكه. وقال الأب: هو ابن سبع سنين وأنا أحق به، ينظر إلى الصبي إن استغنى بأن كان يأكل ويشرب ويلبس ويستنجي وحده دفع إلى الأب وإلا فلا؛ لأنا إنما اعتبرنا سبع سنين بطريق القيام مقام الاستغناء فإذا وقع الاختلاف في السن يجب بحكم الاستغناء.
فإن تركت الأم الولد على الأب هل تُجبر الأم على حضانته وتربيته؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل»، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنها لا تجبر إلا أن لا يكون للولد ذو رحم محرم سوى الأم، فحينئذ تجبر كيلا يفوت حق الولد، وذكر البقالي في «فتاويه» مطلقاً أنها لا تجبر، قال: وقد قيل خلافه. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله سئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله عن حالة الصغيرتين لا زوج لهما قالت: لا آخذهما ولا أمنعهما عن الكون معي في منزلي فلها ذلك، فإن قالت: لا أدعهما حتى يكونا في منزلي، فإنها تجبر على أن يكونا معها في المنزل حتى يستغنيا.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: عليها أن تتعاهدهما كما لو كانت تقدر على النفقة وهما محتاجان إلى النفقة تجبر على نفقتهما، فكذا إذا كانا محتاجين إلى التعاهد. وإن ماتت الأم فأُمُّ الأم أولى بحضانة الولد، وبعدها أم الأب أولى، وذكر البقالي عن أبي يوسف رحمه الله أن أم الأب أولى من أم الأم وبعد أم الأب الحضانة إلى الإخوان: أولهن الأخت لأب وأم، وبعدها الأخت الأم، وبعدها قال شيخ الإسلام: اختلفت الروايات ذكر في بعضها بنت الأخت لأب وأم، ثم بنت الأخت لأم ثم الخالة ثم بنات الخالة ثم الأخت لأب، وذكر في بعضها الأخت لأب بعد الأخت لأم ثم بنات الأخوات. ثم الخالات ثم العمات.(3/360)
-----
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن بعد الأخت لأم اختلاف الروايات في تقديم الخالات على الأخت لأب. قال في كتاب النكاح: الأخت لأب أولى، وقال في كتاب الطلاق: الخالة أولى، فعلى رواية كتاب النكاح اعتبر القرب، والأخت لأب أقرب، وعلى رواية كتاب الطلاق اعتبر المدلى به، فقال: الأخت لأب تدلي بالأب، والخالة تدلي بالأم، والأم في الحضانة مقدمة على الأب، فمن يدلي بالأم يكون أولى ممن يدلي بالأب.
قال شمس الأئمة رحمه الله وبعد الأخوات بناتهن وبعدهن الخالات وبعدهن بنات الأخ وبعدهن العمات، والتي لأم في هذه القرابات أولى من التي لأب والخالة لأب أولى من العمة. وأما بنات العم والخال والعمة والخالة فلا حق لهن في الحضانة، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، وذكر البقالي في «الفتاوى» روى أن أولاد العمات والخالات بمنزلتهن والظاهر خلافه، قال: ويستوي في حق الحضانة المسلمة والكتابية. قال الفقيه أبو بكر الرازي: إذا كانت الأم كافرة فعقل الولد فإنه يؤخذ منها جارية كانت أو غلاماً لأنه مسلم بإسلام الأب وإنما تعلمها الكفر فلا يؤمن من الفتنة إذا ترك عندها. ومن تزوج من هؤلاء بزوج فإن كان الزوج أجنبياً يسقط حقها في الحضانة، وإن كان ذو رحم محرم من الصغير لم يسقط حقها في الحضانة كالأم إذا تزوجت بعم الصغير، وكالجدّة إذا تزوجت بجد الصغير، ومن تزوجت بأجنبي ثم بانت من زوجها عاد حقها في الحضانة وتصدق المرأة أنها لم تتزوج أو أنها بانت إذا لم تقر بزوج بعينه. وإذا اجتمع النساء ولهن أزواج أجانب يضعها القاضي حيث شاء. ولا حقّ للأمة ولأم الولد في حضانة الولد الحر.... إذا طلقها فكذلك المكاتبة إذا طلقها زوجها ويكون الولد عند مولى الأم، ولكن لا يفرق بين الولد وبين الأم على ما عرف في موضعه.(3/361)
-----
وإذا أعتق الرجل أُمّ ولده أو مات عنها فهي كالحرة في حق الحضانة ولا حق للمرتدة في الولد وليس لمن سِوَى الجدتين والأم حق في الولد إذا أكل وشرب ولبس وحده جارية كانت أو غلاماً.
وإذا بلغ الولد عند واحدةٍ منهن هذا المبلغ أو بلغ عند الأم والجدتين ما قلنا فالأب أحق بالولد ثم بعده الجد أب الأب يعتبر الأقرب فالأقرب من العصبات، ولا حقّ لابن العم في حضانة الجارية؛ لأنه ليس بمحرم منها ويحل له نكاحها، فلا يؤتمن عليه وكذلك كل ذي رحم محرم منها إذا كان لا يؤتمن عليها لفسقه ومجانته فلا حقّ له فيها، وإن لم يكن للجارية من عصبات إلا ابن العم اختار لها القاضي أفضل المواضع؛ لأن الولاية إليه. هكذا ذكر القدوري رحمه الله، وذكر في «الأصل» إذا لم يكن للجارية(224ب1) والد، وأخوها أو عمها مخوف عليه فالقاضي لم يفصل بينه وبينها ولكن يجعل معهما امرأة ثقة قال محمد: وإنما يثبت الحق للعصبات في هذه الصغيرة إذا كان على دين الولد، قال محمد رحمة الله عليه: في كل ذكر من قبل النساء كالأخ من الأم والخال لأب ولأم، فلا حقّ لهم في الولد، وعنه أيضاً. إنه يثبت الحق حتى قال: إذا كان لها ابن عم وخال، فالخال أولى وأب الأم أولى من الخال والأخ لأم.
وإذا اجتمع إخوة في درجة واحدة بأن كان الكل لأب وأم، أو لأب فأبينهم صلاحاً أولى، فإن استووا في الصلاح فأكبرهم سناً أولى.(3/362)
-----
نوع منه: إذا بلغ الغلام رشيداً فله أن ينفرد بالسكنى، وليس للأب أن يضمه إلى نفسه إلا أن يكون مفسداً مخوفاً، وأما الجارية إذا بلغت فإن كانت ثيباً فليس للأولياء حق الضم إلى أنفسهم، ولها أن تنزل حيث شاءت إلا أن يخاف عليها الفساد، فحينئذ للأولياء حق الضم إلى أنفسهم، وإن كانت بكراً فللأولياء حق الضم، وإن كان لا يخاف عليها الفساد إذا كانت حديثة، فأما إذا دخلت في السن واجتمع لها رأيها وعقلها فليس للأولياء حق الضم، ولها أن تنزل حيث أحبّت حيث لا يتخوف عليها، وإذا بلغت الجارية وهي ممن يخاف عليها الفساد وليس لها والد، وأخوها أو عمها مخوف عليها فالقاضي لم يحل بينه وبينهما بل يضع عندها امرأة ثقة والله أعلم.
نوع منه: إذا وقعت الفرقة بين الرجل وبين امرأته، فأرادت أن تخرج بالولد عند انقضاء عدتها إلى مصرها، فإن كان النكاح وقع في غير مصرها فلها ذلك، وإن كان وقع النكاح في مصرها فليس لها ذلك إلا أن يكون بين موضع الفرقة وبين مصرها قرب بحيث لو خرج الأب لمطالعة الولد يمكنه الرَّوح إلى منزله قبل الليل، فحينئذ هما بمنزلة محالّ مختلفة في مصر ولها أن تحوّل من مَحِلَّةٍ إلى محلة. وذكر في «البرامكة» أن لها أن يخرج بالولد إلى بلدها من غير تفصيل، وهكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه».
ولو أرادت أن أن تنقله إلى حيث وقع النكاح وليس ذلك ببلدها، فليس لها ذلك في رواية «الأصل».(3/363)
-----
وذكر في «الجامع الصغير» أن المعتبر، ولو أرادت أن تنقله إلى بلد ليس بلدها ولم يقع فيه النكاح، فليس لها ذلك إلا إن كان بين البلدتين قرب على التفسير الذي قلنا، وإن كان النكاح في رستاق لها قرى متفرقة، فأرادت أن تنقله إلى قريتها، فإن كان النكاح في قريتها فلها ذلك، وإن لم يكن النكاح في قريتها فليس لها ذلك إلا أن تكون القرى قريبة بعضها من بعض على التفسير الذي قلنا، وعلى رواية «البرامكة» على قياس البلدتين يجب أن يكون لها ذلك من غير تفصيل.
ولو أرادت أن تنقله من قرية إلى مصر جامع وليس ذلك مصرها ولا وقع النكاح فيها، فليس لها ذلك، إلا أن يكون المصر قريباً من القرية على التفسير الذي قلنا.
ولو أرادت أن تنقله من مصر جامع إلى قرية فليس لها ذلك. وإن كانت القرية قريبة إلا أن تكون قريتها وقد وقع أصل النكاح فيها، فحينئذ لها ذلك، وذكر البقالي: ولا تخرجه من المصر إلى القرية بحال، فإن كانت القرية بعيدة لا ذكر لها في الكتب، ويجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل الذي (قلنا). وليس لها (أن) تنقله إلى دار الحرب، وإن كان النكاح وقع ثمة ذكر البقالي في «فتاويه»: ولها أن تنقله إلى بعض نواحي المصر.
وإن كان الأب لا يمكنه الرجوع من زيارته في يومه إلى وطنه قبل الليل، وكذلك إذا كان له جانبان. وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأته بالبصرة وولدت له ولداً ثم إن هذا الرجل أخرج ولده الصغير إلى الكوفة وطلقها فخاصمته في ولدها فأرادت رده عليها، قال: إن كان الزوج أخرجه بأمرها، فليس عليه أن يردّه ويقال لها: اذهبي فخذيه.
وإن كان أخرجه بغير أمرها فعليه أن يجيء به إليها، فروي عنه أن الرجل إذا خرج مع المرأة وولدها في البصرة إلى الكوفة ثم ردّ المرأة إلى البصرة ثم طلقها إن عليه إن يرد الولد ويؤخذ بذلك لها والله أعلم.(3/364)
-----
الفصل الخامس والعشرون: في المسائل المتعلقة بنكاح المحلل وما يتصل به ونكاح الفضولي في طلاق المضاف والحيل في رفع اليمين في طلاق المضاف وقضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها
وأما المسائل المتعلقة بالمحلل وفي «مجموع النوازل»: المطلقة ثلاثاً إذا زوجت نفسها من غير كفء ودخل بها حلّت للزوج الأول عند زفر رحمه الله، وهذا الجواب عن أبي حنيفة رحمه الله مستقيم على ظاهر الرواية، وأما على رواية الحسن عنه لا يستقيم؛ لأن على رواية الحسن عنه: إذا زوجت نفسها من غير كفء لا يجوز النكاح، ولا بُدّ من صحة نكاح الزوج الثاني لتحل على الزوج الأول وجماع الصبي الذي يجامع مثله والمجنون يحل للزوج الأول.k(3/365)
-----
وإن كانت المطلقة ثلاثاً صغيرة تُجامَع، فتزوجها رجل ودخل بها حلّت للزوج الأول، ولو كان الزوج الثاني عبداً أو مدبراً أو مكاتباً تزوجوا بإذن المولى ودخل بها حلّت للزوج الأول؛ لأنه وُجد الدخول في نكاح صحيح. وكذلك لو كان مشلولاً فجامع. ولو كان مجبوباً لم تحل للزوج الأول، فإن حبلت وولدت حلّت للأول عند أبي يوسف رحمه الله، وقال زفر رحمه الله والحسن: لا تحل للأول وإن كانت النصرانية تحت مسلم طلقها ثلاثاً فتزوجت بنصراني ودخل بها حلّت للمسلم الذي طلقها ثلاثاً؛ لأنه دخول في نكاح صحيح وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً، فتزوجت بزوج آخر وطلقها الزوج الثاني ثلاثاً قبل الدخول ثم تزوجت الثالث ودخل بها حلّت للزوجين الأولين. ولو وطئها الزوج الثاني في حيض أو نفاس أو إحرام حلّت للزوج الأول لإطلاق قوله عليه السلام «ويذوق من عسيلتك». وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله سئل عن الزوج المحلل إذا كان عبداً صغيراً لإنسان زوجت نفسها منه وقَبِلَ عنه مولاه ومثله يجامع فدخل بها فوهبه (225أ1) مولاه منها حتى فسد النكاح واعتدت هل تحل للزوج الأول بالنكاح قال: نعم، والأولى أن يكون حراً بالغاً، فالجواب في الجواز عن أصحابنا رحمهم الله منصوص عليه، وأما الأولية أما في اشتراط البلوغ فلأن مالكاً يشترط الإنزال، وأما في اشتراط الحرية، فلأنه روي عن أبي يوسف رحمه الله أن الحرة إذا زوجت نفسها من عبد لا يجوز لعدم الكفاءة فيتحرز عن خلافهما، وقد ذكرنا في أول هذا الفصل أيضاً أن على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لو زوجت نفسها من غير كفء لا تحل للزوج الأول، فيتحرز عن هذه الرواية أيضاً. وفي «القدوري»: إذا زوجت المطلقة ثلاثاً بزوج، فكان من قصدهما التحليل إلا أنهما لم يشترطا ذلك يقول: حلّت للزوج الأول، ولو شرطا الإحلال بالقول فإن تزوجها لذلك، فالنكاح صحيح في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وتحل للأول ولكن يكره ذلك للأول والثاني،(3/366)
وقال أبو(3/367)
-----
يوسف رحمه الله: النكاح الثاني فاسد ولا تحل للأول.
وقال محمد رحمه الله: النكاح الثاني صحيح فلا تحل للأول، وفي «الجامع الأصغر» وقال بعض أشياخنا: إذا تزوجها ليحللها للأول فهذا الثاني مأجور في ذلك؛ لأنه نوى أن يصل الأول إلى الحلال بما هو مباح، وليس فيه إبطال حق على أحد فلا إضرار بالغير والمراد من قوله «لعن الله المحلل والمحلل له» أن يقول لغيره: أحللت لك ابنتي بكذا وما أشبهه. والحكم في الأمة المنكوحة بعد الثنتين نظير الحكم في الحرة بعد الثلاث لا تحل لزوجها ما لم تتزوج بزوج آخر ويدخل بها الثاني ووطء المالك لا يحلها للزوج الأول، ولو اشتراها الزوج لم تحل له بملك اليمين. وقد ذكرنا بعض هذه المسائل في النوع الرابع من الفصل العشرين.
ومما يتصل بهذه المسائل: سئل نجم الدين النسفي رحمه الله عمن حلف بثلاث تطليقات وظنّ أنه لم يحنث فاستفتيت المرأة فأفتيت بوقوع الثلاث، وعلمت أنها لو أخبرت الزوج بذلك أنكر اليمين، هل لها أن يحللها بعدما فارقها زوجها بسفر أو غيره وتنقضي عنها فتعتد من الزوج الثاني ثم تأمر الأول بعد الإياب بتجديد النكاح لشيء دخل قلبها من شبهة
قال: فأما في القضاء فلا لإنكار الزوج وقوع الثلاث ولا بيّنة لها، وأما فيما بينها وبين الله تعالى فهي في سعة من ذلك، قال: وقد وقعت هذه الحادثة في زمن السيد الإمام أبي شجاع، فسألته عن ذلك بالفتوى وكَتَب أنه يجوز ثم سألته بعد ذلك بمدّة فقال لا يجوز ولا نطلق لها ذلك، فلعله إنما أجاب بذلك في حق التي لا يوثق بقولها، فلا يؤمن من أن تكذب تطرقاً في مخالطة من تريده سفاحاً فتصور ذلك نكاحاً.(3/368)
-----
وسئل أبو القاسم عن امرأة سمعت من زوجها أنه طلقها ثلاثاً، ولا تقدر أن تمنع نفسها منه هل يسعها أن تقتله؟ قال: لها أن تقتله في الوقت الذي يريد أن يقربها ولا تقدر على منعه إلا بالقتل، قال نجم الدين النسفي رحمه الله في «فتاويه»: وهكذا كان فتوى شيخ الإسلام أبي الحسن عطاء بن حمزة، والسيد الإمام الأجل أبي شجاع رحمهما الله فكان القاضي الإمام الإسبيجابي رحمه الله يقول: ليس لها أن تقتله، وكان يستدل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الإكراه أن السلطان إذا أكره امرأة على الزنا، فمكنت لا تأثم بخلاف الرجل إذا كان مكرهاً على الزنا حيث يأثم، وإذا لم تأثم أن توطأ وهي مكرهة لم تكن مضطرة إلى قتل الزوج. قال نجم الدين رحمه الله فحكي له أن السيد الإمام أبا شجاع رحمه الله يقول: لها (أن) تقتله فقال: إنه رجل كبير وله مشايخ أكابر لا يقول ما يقول إلا عن صحة فالاعتماد على قوله.
وفي «فتاوى محمد بن الوليد السمرقندي» رحمه الله في باب مناقب أبي حنيفة رحمه الله عن عبدالله بن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله أن من طلق امرأته ثلاثاً ثم قصدها، فإنها ترده عن نفسها ولها أن تقتله. وفي آخر باب الاستحسان: إذا شهد شاهدان عدلان أن زوجها طلقها ثلاثاً وهو يجحد ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضي لم يسعها أن تقيم معه وأن تدعه يقربها. فإن حلف الزوج على ذلك والشهود قد ماتوا فردها القاضي عليه لا يسعها المقام معه، وينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه وإن لم تقدر على ذلك قتلته متى علمت أنه يقربها، لكن ينبغي أن تقتله بالدواء، وليس لها أن تقتل نفسها، وإذا هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الاستحسان: هذا جواب الحُكم. فأما فيما بينها وبين الله تعالى إذا هربت فلها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر والله أعلم.(3/369)
-----
(نكاح الفضولي في النكاح المضاف)
وأما المسائل التي تتعلق بنكاح الفضولي في الطلاق المضاف: إذا حلف الرجل بطلاق امرأة بعينها إن تزوجها، فزوجه رجل تلك المرأة بغير أمره وأجاز هو قولاً أو فعلاً. أو حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، فزوجه رجل امرأة بغير أمره فأجاز هو قولاً أو فعلاً، قال بعض مشايخنا: إن أجاب بالقول يحنث وإن أجاز بالفعل؛ لا يحنث. وقال بعضهم: يحنث أجاز بالقول أو بالفعل، لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن (في) الابتداء من حيث إن العاقد بالإجازة يصير نائباً عن المجيز من ذلك الوقت، وفعل النائب كفعل المنوب عنه، فيصير متزوجاً من ذلك الوقت، وقال بعضهم لا يحنث أجاز بالقول أو بالفعل وإليه أشار في «الزيادات» وهو الأشبه. ووجه ذلك أنّا لو جعلناه حانثاً بالإجازة لجعلناه متزوجاً إياها عند الإجازة لأن شرط الحنث التزوج، ولو صار متزوجاً إياها لصار متزوجاً من وقت مباشرة العقد فيقع الطلاق من ذلك الوقت. وإذا وقع من ذلك الوقت تبين أن الإجازة كانت باطلة إذ تبين أن الإجازة بعد وقوع الطلاق وارتفاع النكاح والإجازة بعد ارتفاع النكاح لا تعمل.(3/370)
-----
وإذا تبين بطلان الإجازة تبين أنه لم يصر متزوجاً (225ب1) إياها وبدونه لا يقع الطلاق، فتبيّن بطلان الطلاق ففي إيقاع الطلاق ابتداء إبطاله انتهاءً، ولا يقع الطلاق ابتداءً ويجعل في حق الطلاق كأن الإجازة لم توجد، قال نجم الدين رحمه الله: فكلُّ جواب عرفته في قوله أتزوجها فهو الجواب في قوله كل امرأة تدخل في نكاحي؛ لأن دخولها في نكاحه لا يكون إلا بالتزوج، فكان ذكر الدخول في نكاحه بمنزلة ذكر التزوج، فصار كأنه قال: كل امرأة أتزوجها. وبتزويج الفضولي لا يصير متزوجاً. وهذا بخلاف ما لو قال: كل عبد يَدخل في ملكي فهو حرٌّ، فإنه يعتق بعقد الفضولي إذا أجازه؛ لأن ملك اليمين لا يختص بالشراء، بل له أسباب، فلا يكون ذكره ذكراً للشراء أما ههنا بخلافه؛ وإذا قال: كل امرأة تصير حلالاً لي فهذا وما لو قال: كل امرأة تدخل في نكاحي سواء.
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه قال: وقال بعض الفقهاء الحيلة في هذه الصورة أن يزوجه فضولي امرأة بغير أمره وبغير أمرها ثم يجيز هو النكاح ثم تجيز النكاح فيقع الحنث قبل إجازة المرأة بإجازة الزوج، فإجازتها لا تعمل فيجددان النكاح بعد ذلك، فيكون هذا نكاحاً جائزاً لأن اليمين انعقدت على زوج واحد، ثم الفعل الذي تقع به الإجازة في نكاح الفضولي فعل هو يختص بالنكاح، وهو بعث شيء من المهر وإن قل، وأما بعث الهدية والعطية لا يكون إجازة؛ لأنه لا يختص بالنكاح بل قد يكون بطراً أو أجراً فلا يكون ذلك إجازة للنكاح، هكذا حكي عن نجم الدين رحمه الله، فعلى هذا القياس لو بعث إليها شيئاً من النفقة لا تكون إجازة؛ لأن النفقة لا تختص بالنكاح.(3/371)
-----
وسئل نجم الدين رحمه الله عمن قال: كل امرأة أتزوجها أو يتزوجها غيري لأجلي، فهي طالق ثلاثاً فما الوجه فيه؟ قال إن تزوج الفضولي لأجله فيقع الطلقات الثلاث ولكن لا يحرمه عليه؛ لأنها تطلق قبل دخولها في ملك الزوج فلا تحرم عليه، ألا ترى أن بعد عقد الفضولي لو طلقها الزوج ثلاثاً لا تحرم عليه وإنما لا تحرم؛ لأن الطلاق إنما يقع قبل دخولها في ملك الزوج فكذا ههنا؛ إلا أنه لا تقبل الإجازة؛ لأنه صار مردوداً فيعقد الفضولي ثانياً لأجله ويجيز هو بالفعل على ما ذكرنا، هكذا حكي عن نجم الدين رحمه الله، وعندي: أن في الكرّة الثانية لا حاجة إلى عقد الفضولي بل إذا تزوج بنفسه لا تطلق؛ لأن اليمين في حق هذه المرأة انجلت بتزوج الفضولي له. ألا ترى أن من قال: إن تزوجت فلانة أو أمرت إنساناً أن يزوجها فهي طالق فأمر إنساناً ليزوجها منه فزوجها لم تطلق؛ لأن اليمين انحلت بالأمر لا إلى جزاء وكذلك إذا قال: إن خطبت فلانة أو تزوجتها فهي طالق فتزوجها لم تطلق لأن اليمين انحلت بالخطبة لا إلى جزاء وسئل هو أيضاً عمن إذا قال لامرأة: أتزوجها أو تزوجها غيري لأجلي وأجيزه فهي طالق ثلاثاً، قال: لا وجه لجوازه، لأنه شدد على نفسه.
إذا قال الحالف لغيره راسوكند ست براين وجه وبعقد فضولي حاجب است ولم يأمره بالعقد فعقد وأجاز الحالف بالفعل لا يحنث. ولو قال: ارتهرمن عقد فضولي إن فهذا توكيل فيحنث الحالف، وإذا حلف لا تطلق امرأته وطلقها فضولي، وأجاز النكاح الزوج ذلك قولاً أو فعلاً، فالجواب فيه نظير الجواب في النكاح، والله أعلم.
(الحيل في رفع اليمين في الطلاق المضاف)(3/372)
-----
وأما المسائل التي تتعلق برفع اليمين في الطلاق المضاف الحنفي إذا عقد اليمين على جميع النسوة بأن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو عقد اليمين على امرأة واحدة بأن قال لامرأة: إن أتزوجك فأنت طالق فتزوج امرأة في الفصل الأول أو تزوج تلك المرأة بعينها في الفصل الثاني ثم إنهما رفعا الأمر إلى حاكم يعتقد مذهب الشافعي رحمه الله وقضى بجواز النكاح وبطلان اليمين المضاف نفذ قضاؤه وصارت المرأة حلالاً له بلا خلاف إن كان الحالف عاميّاً، وإن كان فقيهاً فكذلك في قول محمد رحمه الله. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تصير حلالاً، هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ وإن كان فقيهاً فكذلك في ظاهر الرواية فروي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصل» لا تصير حلالاً.(3/373)
-----
واعلم بأن المبتلى بالحادثة سواء وقع الحكم له أو عليه، وإن كان فقيهاً له رأي إن وقع الحكم عليه بأن كان هو يعتقد الحِل فقضى القاضي بالحرمة فعليه أن يتبع قضاء القاضي، وإن حصل الحكم له بأن كان يعتقد الحرمة وقضى القاضي بالحل فعليه أن يتبع حكم القاضي في قول محمد رحمه الله وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يترك رأي نفسه، ولا يلتفت إلى إباحة القاضي فيما يعتقده حراماً، هكذا وقع في بعض النسخ، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في هذه الصورة أن عليه أن يتبع حكم القاضي في ظاهر الرواية، وذكر في غير رواية الأصول أن على قول أبي يوسف رحمه الله لا يلتفت إلى إباحة القاضي فيما يعتقده حراماً. وإذا كتب القاضي الحنفي إلى القاضي الشافعي في تقليده في هذه الصورة وأمثالها إن كان التقليد للحكم ببطلان اليمين كان جائزاً في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما بناء على مسألة معروفة أن القاضي إذا قضى في فصل مختلف بخلاف رأيه على قول أبي حنيفة رحمه الله ينفذ قضاؤه، وعلى قولهما لا ينفذ. وإذا كان من مذهبهما أن قضاءه بخلاف رأي نفسه لا ينفذ، فكذا لا يجوز التقليد بخلاف رأيه عندهما أيضاً.
وإن كان التقليد للحكم بما يراه ويقتضيه الشرع كان التقليد صحيحاً عند الكل وفي «الجامع الأصغر» قال أبو نصر الدبوسي رحمه الله: في الحاكم المحكم إذا حكم بجواز النكاح بعد الطلاق المضاف وهو يرى ذلك نفذ حكمه وجاز النكاح فلا يقع الطلاق، وقال كثير من مشايخ بلخ: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف رحمه الله أن حكم الحاكم المحكم إذا حكم فيما عدا الحدود والقصاص من المجتهَدَات، نحو الكنايات والطلاق المضاف جائز هو الظاهر من مذهب أصحابنا، وهو الصحيح، لكن مشايخنا امتنعوا عن هذه الفتوى، وقالوا: يحتاج إلى حكم الحاكم المقلد كما في الحدود والقصاص كيلا يتجاسر العوام فيه.(3/374)
-----
وسئل الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله عن هذا فقال (226أ1) أقول: لا يحل لأحد أن يعتقد هذا، ولا أزيد على هذا. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد روي عن أصحابنا ما هو أوسع من هذا، وهو أن صاحب الحادثة إذا استفتى فقيهاً عدلاً من أهل الفقه والفتوى، فأفتاه ببطلان اليمين وسعه اتباع فتواه، وإمساك المرأة المحلوف بطلاقها، قال: وقد روي عنهم ما هو أوسع من هذا أن صاحب الحادثة إذا استفتى فقيهاً وأفتاه ببطلان اليمين وسعه إمساك المرأة، فإن تزوج امرأة أخرى فكان حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، فاستفتى فقيهاً آخر فأفتاه بصحة اليمين يفارق الأخرى ويمسك الأولى عملاً بفتواهما جميعاً.(3/375)
-----
وإذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة وفسخ اليمين عليها وقال لامرأة بعينها: إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها وفسخ اليمين عليها بطريقة إلى عقد جديد والعقد الأول يكفي، هكذا حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، عن أستاذه القاضي الإمام علي النسفي رحمه الله وهذا لأن القاضي بالفسخ لا يرفع الطلاق الواقع إذ لا سبيل إليه ولكن يبطل اليمين السابق بقضائه وتبيّن أن الطلاق لم يكن واقعاً. وعن هذا قلنا: لو كان الزوج وطئها قبل الفسخ ثم فسخ القاضي اليمين كان ذلك الوطء حلالاً؛ لأن بقضاء القاضي بالفسخ تبين أن اليمين لم تكن منعقدة وأن الطلاق لم يقع، فتبين أن الوطء كان حلالاً. وإذا عقد على جميع النسوة يميناً واحدة بأن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة وفسخ اليمين عليها ثم تزوج امرأة أخرى هل يحتاج إلى الفسخ على المرأة الأخرى على قول محمد رحمه الله لا يحتاج، والفسخ على امرأة واحدة فسخ على جميع النسوة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله، يحتاج إلى الفسخ على المرأة الأخرى، والصدر الشهيد الأكبر برهان الأئمة، والقاضي الإمام الأجل جمال الدين جدّي، والقاضي الإمام عماد الدين والصدر الشهيد حسام الله رحمهم الله، كانوا يفتون بقول محمد رحمه الله وأصل المسألة في كتاب «المنتقى»: إذا قال الرجل: كل عبد اشتريته إلى سنة فهو حرّ، فاشترى عبداً وخاصمه إلى القاضي وأقام البينة على هذه اليمين، وقضى القاضي بعتقه ثم اشترى عبداً آخر وخاصمه، قال محمد رحمه الله: أقضي بعتقه ولا أكلفه بإعادة البينة قال: من قبل أني قضيت على الحالف بذلك اليمين، فالبينة لهما جميعاً، وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله.
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أن القاضي لا يقضي بعتقه حتى يعيد البيّنة، وهو رواية ابن سماعة عن أبي حنيفة رحمه الله.(3/376)
-----
وإذا عقد على جماعة من النسوة على كل امرأة يميناً على حدة، وفسخ القاضي اليمين على امرأة واحدة لا ينفسخ اليمين في حق امرأة أخرى بالاتفاق.
وإذا عقد أيماناً على امرأة واحدة بأن قال لها: إن تزوجتك فأنت طالق، قال ذلك مراراً ثم تزوجها وقضى القاضي بصحة نكاحها ترتفع الأيمان كلها.
وإذا عقد على امرأة واحدة بكلمة كلّما بأن قال لها: كلما تزوجتك، أو عقد على كل امرأة بكلمة: كلما، بأن قال: كلما تزوجت امرأة فهي طالق، فتزوج تلك المرأة في الفصل الأول وفسخ القاضي اليمين عليها ثم طلقها ثلاثاً أو تزوج امرأة في القضاء الثاني وفسخ القاضي اليمين عليها ثم طلقها وتزوجها ثانياً هل يحتاج إلى الفسخ في حقها مرة أخرى يجب أن تكون المسألة على روايتين بناء على مسألة أخرى أن الثابت من كلمة كلما في الحال يمين واحدة، ويتحدد انعقادها على حسب الحنث، أو أيمان متفرقة والمسألة معروفة في «الجامع».
وإذا قال: إن تزوجت فلانة، فهي طالق ثم قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثم تزوج امرأة وفسخ اليمين عليها، ثم تزوج فلانة طلقت فلانة لأن بالفسخ على تلك المرأة انفسخ في حق فلانة اليمين العامة دون اليمين الخاصة. ثم على قول من يعتبر الفسخ على امرأة واحدة فسخاً على النسوة كما يظهر الفسخ في حق التي يتزوجها بعد التي فسخ النكاح عليها يظهر الفسخ في حق التي سبقها حتى إذا تزوج امرأة ووقع عليها ثلاث تطليقات ثم تزوج امرأة ثانية وفسخ اليمين على الثانية تصير المرأة الأولى حلالاً له وكذلك إذا سبقها بثنتين أو ثلاث، وإن سبقها أربع لا يظهر الفسخ في حقهن إذ لو ظهر الفسخ في حقهن لظهر أن القضاء يُحلّ هذه وبفسخ اليمين على هذه كان باطلاً؛ لأنه يظهر أن هذه خامسة، وإذا بطل في حق هذه بطل في حق الأربع أيضاً، فيبطل من حيث يصح.(3/377)
-----
وكذلك لو كانت الثانية أخت الأولى لا يظهر الفسخ في حق الأولى، هكذا حكي عن الصدر الشهيد رحمه الله، ورأيت مكتوباً بخط بعض المشايخ أن القاضي لا يفسخ اليمين على المرأة التي سبقها أربع؛ لأنه لو فسخها عليها يظهر الفسخ في حق الأربع التي سبقن فيظهر أن نكاح الأربع وقع صحيحاً، فظهر بطلان نكاح الخامسة فلأن يكون الفسخ معتداً في حق الخامسة، وكذلك لا يفسخ اليمين على الأخت الثانية على قول هذا القائل.
وإذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة ووقع الثلاث عليها ثم إن هذه المرأة تزوجت بزوج آخر، ولم يعلم به الزوج الأول ثم إن الزوج الأول، طلب من المرأة أن يرفعا الأمر إلى قاض يعتقد مذهب الشافعي حتى يفسخ تلك اليمين ويقضي بصحة نكاحهما ففعلا ذلك فقضى القاضي بفسخ تلك اليمين ويقضي بصحة نكاحهما هل يصح قضاؤه؟ ذكر نجم الدين رحمه الله في «فتاويه» أنه لا يصح، قال: قيام النكاح بين المرأة والزوج الثاني يمنع صحة القضاء بالنكاح للزوج الأول.
وسمعت عن الشيخ الإمام ظهير الدين الحسن بن علي رحمه الله أن هذه المسألة على وجهين: إن كان الزوج الثاني غائباً لا يصح قضاؤه؛ لأن هذا حكم بفساد نكاح الزوج الثاني والقضاء على الغائب لا يجوز. وإن كان الزوج الثاني؛ حاضراً يصح قضاؤه وبطل نكاح الثاني لأنه لما قضى ببطلان تلك اليمين ظهر أن الطلقات الثلاث لم تقع وأن الثاني تزوج بها وهي منكوحة الأول.(3/378)
-----
وإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق ثلاثاً، فتزوج امرأة وطلقها ثلاثاً، ثم ترافعا إلى قاض يعتقد مذهب الشافعي، فحكم ببطلان تلك اليمين هل يصح حكمه؟ فاعلم بأن هذه المسألة اختلف المشايخ فيها، أكثرهم على أن الزوج إن لم يكن دخل بها حتى طلقها ثلاثاً لا يصح حكمه لانعدام (226ب1) دعوى صحيحة؛ لأنه لا يمكن دعوى حقوق النكاح بعد انقطاعه، وههنا انقطع النكاح بلا خلاف عندنا بالطلاق المعلق، وعند الشافعي رحمه الله بالطلاق المرسل وبدون الدعوى لا يصح الحكم.
وإن كان الزوج قد دخل بها بعد النكاح ثم طلقها ثلاثاً وادعت هي نفقة العدة الواجبة بالطلقات المرسلة بعد الدخول والزوج ينكر ذلك بناء على اعتقاده وقوع الطلاق المعلق عقيب النكاح لاعتقاده صحة اليمين. فإذا قضى ببطلان تلك اليمين ووقوع الطلاق المرسل ونفقة العدة عليها ينفذ قضاؤه؛ لأن قضاءه حصل في فصل مجتهد فيه وقد تقدمه دعوى صحيحة.
وفي «فتاوى النسفي» سئل عن حنفي قال: إن تزوجت امرأة فهي طالق ثلاثاً، فتزوج امرأة ثم ترافعا إلى قاض حنفي فبعثها إلى عالم شفعوي المذهب ليسمع خصومتهما ويقضي بينهما، فأمره بذلك فقضى ذلك العالم الشفعوي ببطلان اليمين وصحة النكاح هل يجوز؟ قال للسائل: هل أخذ القاضي الأول على هذه الحادثة شيئاً، قال: نعم، قال: إذا قضى الثاني باطل؛ لأن القاضي إذا أخذ على القضاء مالاً، فقد عمل لنفسه فلم يكن قضاء فلم ينفذ.r
قيل: إن أخذ القاضي من صاحب الحادثة أجر مثل الكتابة هل يصح الحكم من المكتوب إليه، قال: نعم، وإن لم يأخذ القاضي هذا القدر من الأجر كان أفضل. قيل: وهل يحتاج لصحة ذلك إلى إجازة القاضي الأول، قال: العرف على هذا أنه يرفع إليه، ولكن في الحكم لا حاجة إلى ذلك لأنه فعل بأمره.(3/379)
-----
وفي «مجموع النوازل»: سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عطاء بن حمزة رحمه الله عن رجل غاب عن امرأته غيبة منقطعة وقد كان النكاح بينهما بشهادة الفسقة هل يجوز إلى القاضي أن يبعث للقاضي الشفعوي ليبطل هذا النكاح بهذا السبب. قال نعم، وللقاضي الحنفي أن يفعل ذلك نفسه أخذاً بهذا المذهب، وإن لم يكن هذا مذهبه، فقد ذكر في «الكتاب» القاضي إذا قضى بشيء ثم ظهر أنه قضاء بخلاف مذهبه إنه ينفذ قضاؤه، وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل. قال فروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه صلى بالناس للجمعة ثم أخبر بوجود الفأرة في بئر الحمام وقد كان اغتسل فيه وكان ذلك بعد تفرق الناس فقال نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة أن الماء إذا بلغ قلتين لا يحمل خبثاً ولم يكن مذهبه.
وفيه أيضاً: وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة بغير ولي وطلقها ثلاثاً بعدما وطئها ثم تزوجها ثانياً بتزويج الولي وارتفعا إلى القاضي وقضى القاضي بأن النكاح الأول لم يقع صحيحاً لعدم الولي وأن الطلقات الثلاث لم تقع، وأن النكاح الثاني بتزويج الولي الأول قد صح هل يصح قضاء القاضي على هذا الوجه، قال: لا أرى ذلك؛ لأن محمداً رحمه الله هو الذي يشترط الولي ثم هو يقول في الكتاب: لو طلقها ثلاثاً ثم أراد أن يتزوجها، فإني أكره له ذلك، وفيه نظر، لأن الشافعي فيه مخالف فإنه بانعقاد النكاح بدون الولي، فيكون قضاء القاضي، في مُجتَهَدٍ فيه، ولكن على خلاف رأي القاضي، وإنه صحيح على قول أبي حنيفة رحمه الله على ما مر، قيل له: فإن كتب الحنفي بذلك إلى عالم شفعوي لا يرى انعقاد النكاح بدون الولي حتى يعقد فيما بينهما ثم يقضي القاضي بذلك قال: إن أخذ القاضي المكاتب.... المكتوب إليه مالاً من المقضي له لا يصح ذلك، وقد مثّل هذا، قيل له: إن لم يأخذ بذلك شيئاً وقضى المكتوب إليه بذلك هل يصح قضاؤه؟ قال نعم.(3/380)
-----
قيل له: وهل يظهر له بذلك القضاء أن الوطء في النكاح الأول كان ضداناً أو فيه شبهة، وإن كان بينهما ولد هل يكون فيه خبث قال لا لأنهما حنفيّان يعتقدان صحة ذلك النكاح، وقضاء هذا القاضي كان لما في حق إبطال الطلقات الثلاث، فلا يتعدى عنهما إلى حكم آخر.
(قضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها)
وفيه أيضاً: وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن غاب عن زوجته غيبة منقطعة ولم يخلف نفقتها فرفع الأمر إلى القاضي فكتب القاضي إلى عالم يرى التفريق بالعجز عن النفقة ففرّق بينهما هل يصح؟ قال: نعم إذا تحقق العجز، قيل فإن كان للزوج ههنا عتاد ومتاع وأملاك هل يتحقق العجز؟ قال: نعم إذا لم يكن جنس النفقة؛ لأن بيع هذه الأشياء للنفقة لا يجوز؛ لأنه قضاء على الغائب هكذا نقل عنه وفيه نظر، والصحيح: أنه لا يصح قضاؤه إذ العجز لا يعرف حالة الغيبة لجواز أن يكون في يديه مال وهو يقدر على أن يبعث إليها بنفقتها، فلا يبعث فيكون هذا ترك الإنفاق لا العجز عن الانفاق وترك الإنفاق، من الحاضر لا يوجب التفريق بالاتفاق فمن الغائب أولى فلم يكن قضاؤه في المجتهد فلا ينفذ.
فإن رفع قضاءه إلى قاض حنفي فأجاز قضاءه هل ينفذ ذلك القضاء؟ والصحيح: أنه لا ينفذ؛ لأن هذا الفصل ليس بمجتهد لما ذكرنا أن العجز لم يثبت.
الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات
في «المنتقى» عن محمد رحمه الله ليس للرجل أن يزوج أمة ابنه الصغير من عبد ابنه الصغير. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: الوصي يزوج أمة اليتيم من عبد اليتيم وكذلك الأب؛ ابن سماعة عن محمد: تزوج امرأة على الألف التي له على فلان فالنكاح جائز فإن مات أخذ الزوج بالألف، وإن شاءت أخذت فلان، ويأخذ الزوج حتى يوكلها بقبضها منه.(3/381)
-----
وعنه أيضاً: إذا قال لامرأته: تزوجتك على الألف التي لي على فلان أتى ببينة ورضيت بذلك، فإذا أخذت زوجها بالألف أخذته إلى بينة.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره: زوجتك أمتي هذه وبعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال هذا الغير: قبلت البيع ولا أقبل النكاح فهو باطل.
رجل جاء إلى معتدة الغير وقال: أنفق عليك ما دمت في العدة على أن تزوجي نفسك مني إذا انقضت عدتك، فرضيت به المرأة فأنفق عليها، حتى انقضت عدتها كان له أن يرجع عليها بما أنفق زوجت نفسها أو لم تزوج. وفي «فتاوى الفضلي» لأنها رشوة معنًى، والسبيل في الرشوة (الرد، تزوج) أو لم يزوج في «فتاوى الردة»، وحكي عن بعض المشايخ أن الزوج إنما يرجع إذا شرط الرجوع عند الإنفاق بأن قال: أنفق عليك بشرط أن تزوجيني نفسك مني، فإن لم تفعلي أرجع عليك بما أنفقْ أما بدون شرط الرجوع لا يكون له حق الرجوع والأول أصح (227أ1) هذا إذا أنفق عليها بشرط التزوج، فأما إذا أنفق عليها من غير هذا الشرط ولكن عُلِمَ عُرفاً أنه ينفق بشرط أن تزوج نفسها منه اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: يرجع على قياس ما ذكره الفضلي؛ لأن المعروف كالمشروط وهو عندنا. قال الصدر الشهيد رحمه الله: الصحيح أنه لا يرجع؛ لأنه أنفق على طمع التزوج لا على شرط التزوج فلا يكون في معنى الرشوة.
ومن هذا الجنس: إذا قال الرجل: اعمل معي في كرمي هذه السنة حتى أزوجك ابنتي، فعمل معه السنة كلها، ثم بدا للرجل أن يزوج ابنته منه هل يجب للعامل عليه مثل أجر عمله؟ وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا يجب، وبعضهم قالوا: يجب، وهو الأشبه، وكذلك اختلفوا فيما عمل العامل ابتداءً من غير.... البنت إيّاه بالعمل بشرط التزوج، ولكن علم أنه إنما يعمل معه طمعاً في التزويج. وعلى هذا إذا قال الرجل: اعمل معي في كرمي حتى أقفل في جعل كذا وكذا ثم أبى أن يفعل.(3/382)
-----
إذا تزوج امرأتين على ألف درهم وإحداهما لا تحل له بأن كانت ذات زوج، أو معتدة من زوج، أو محرّمة عليه برضاع أو مصاهرة، فعند أبي حنيفة رحمه الله: الألف كلها مهر التي تحل له، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: تُقسم الألف على مهرهما، فمهر التي تحل لها حصتها من ذلك، فهما احتجا على أبي حنيفة رحمه الله بفصلين أحدهما: أنا أجمعنا على أنه لو دخل بالتي لا تحل له يلزمها مهر مثلها لا يجاوز به حصتها من الألف. والمسألة مذكورة في «الزيادات»، وهذا بذلك على اختيار انقسام المهر. الثاني: أنه لا يلزمه الحد بوطء التي لا تحل له مع العلم، وهذا يدل على دخولها تحت العقد، ومن ضرورة دخولها تحت العقد انقسام البدل المسمى.
فأبو حنيفة رحمه الله يقول انقسام المهر من حكم المعاوضة والمساواة في الدخول في العقد؛ والمحرمة لم تدخل تحت العقد؛ لأنها ليست بمحل لعقد النكاح، بيانه أن النكاح يختص لمحل الحل لأن موجبه ملك الحل، وبين الحل والحرمة تناف وأما إذا دخل بالتي لا تحل له ذكر في نكاح «الأصل» لها مهر مثلها مطلقاً، وهو الأصح على قول أبي حنيفة رحمه الله، وما ذكر في «الزيادات» قولهما، وبعد التسليم بقول المنع من المجاورة لمجرد التسمية ورضاها بالعدد المسمى لا بانعقاد العقد، وذلك موجود في حق التي لا تحل له فأما الانقسام باعتبار المعاوضة في الدخول تحت العقد، والتي تحل له من المحصنة بالدخول تحت العقد، وأما فصل سقوط الحد قلنا سقوط الحد عند أبي حنيفة رحمه الله لا تحل صورة العقد لا لأجل انعقاده، وقد وجد صورة العقد في حق التي لا تحل له، فأما انقسام البدل من حكم انعقاد العقد. في «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل زوج امرأة على خمسة دراهم وصالحته من الخمسة على بحر يساوي خمسين درهماً ثم طلقها قبل الدخول فهي بالخيار إن شاءت أمسكت الكر ولا شيء لها غير ذلك، وإن شاءت ردت نصفه ورجعت عليه درهمين ونصف.(3/383)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل زوج ابنته الصغيرة من ابن كبير لرجل بغير إذنه خاطب عنه أبوه ثم مات أب الصغير قبل أن يخير الابن النكاح؛ بطل النكاح لأن لأب الصغير أن يفسخ هذا النكاح، لأنه في هذا النكاح قائم مقام الصغيرة، والصغيرة لو كانت كبيرة فزوجت نفسها من ابن كبير لرجل بغير إذنه خاطب عنه أبوه كان لها أن تفسخ النكاح قبل إجازة الابن فكذا الأب الذي هو قائم مقامها، وإذا كان للأب ولاية الفسخ جعل موته بمنزلة رجوع.، ولو كان مكان الصغيرة كبيرة زوجها بغير إذنها وباقي المسألة بحالها لا يبطل النكاح بموت الأب، لأن الأب لو أراد أن ينقض نكاحها لا يملك لأنه بمنزلة الفضولي، وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله في رجل زوج ابنة له صغيرة من رجل غائب ثم مات الأب وبلغ الزوج النكاح، فأجاز ذلك فهو جائز في قولي، وهذا نص أن بموت الأب لا يبطل نكاح الصغيرة، فهذه الرواية مخالفة لما ذكر أبو الليث رحمه الله في «فتاويه»، ثم فصل الكبيرة دليل على أن بقاء الفضولي في باب النكاح ليس بشرط لصحة الإجازة، والبيع في هذا بخلاف النكاح ألا ترى أن العاقد الفضولي لو قال: رجعت قبل قبول الآخر عمل رجوعه في البيع، ولا يعمل رجوعه في النكاح وهذا لأن حقوق العقد في البيع ترجع إلى العاقد، وفي النكاح لا يرجع إليه.(3/384)
-----
سئل نصير عن امرأة قالت لرجل: زوجتك نفسي على ألف درهم، فقال الزوج: قبلت النكاح على ألفين، قال: يجوز النكاح في قول محمد رحمه الله، فإن قالت المرأة قبل أن يتفرقا قبلت له ألفين فعلى الزوج ألفان، وإن تفرقا من غير قبول جاز على ألف ولا يلزمه الزيادة، وقال شداد: لا يثبت النكاح وبه قال زفر رحمه الله، ولو قال رجل لامرأة تزوجتك على ألف فقالت المرأة: قبلت النكاح على خمسمائة قال محمد رحمه الله: جاز النكاح ولها خمسمائة، لأنها حطت الفضل عن الزوج، وقال شداد: لا يثبت، وبه قال زفر رحمه الله، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وهذا مثل ما قالوا: في رجل وكل رجلاً بأن يبيع عبده بألف درهم، فباعه بألفين يجوز في قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وفي قول زفر رحمه الله لا يجوز.
ذكر في الشراء وسئل نصير عن رجل قال لآخر زوجتك ابنتي على مهر ألف درهم فقال الرجل: قبلت النكاح ولا أقبل المهر فالنكاح باطل وإن قبل النكاح وسكت عن المهر فالنكاح جائز على ما سمى من المهر، وفي شهادات «فتاوى الفضلي» في الوكيل بالنكاح من جهة امرأة إذا زوجها من رجل، أو الأب إذا زوج ابنته البكر الكبيرة أو الصغيرة من رجل بمهر مسمى ثم أبرأ الوكيل أو الأب الزوج على كل المسمى أو البعض عن مهرها على شرط الضمان قال: إذا لم تجز المنكوحة الهبة أو البراءة لم يلزمها الضمان؛ لأن الضمان للزوج انما يكون فيما له على غيره، وهذا إنما ضمن له أن يدفع إليه مثل ما وهب له من ماله، وهذا لا يجوز كمن قال لغيره: ضمنت لك أن أدفع إليك من مالي لم يلزمه بهذا الضمان شيء كذا هاهنا.(3/385)
-----
قال محمد رحمه الله في «الزيادات»: رجل تزوج بأمة الغير ثم تزوج امرأة حرة على هذه الأمة بإذن مولاها أو بغير إذن مولاها لكن بلغه الخبر، وأجاز ذلك أو أمر الزوج المولى أن يزوجه حرة على رقبة أمته هذه، ففعل فإن نكاح (227ب1) الحرة صحيح في هذه الوجوه كلها، ولا يفسد نكاح الأمة؛ لأنه لو فسد إنما يفسد لعلة أن (في) النكاح الزوج ملك رقبتها ولم يملك. بيانه: ان تسمية مال الغير مهر صحيح، ووجب على الزوج العين أو القيمة وصار المولى بالإجازة قاضياً ديناً على الزوج بأمره، ومن قضى دين غيره بأمره يخرج المقضي به عن ملك القاضي إلى ملك المقضي له من غير أن يدخل في ملك المقضي عنه، ولأن الزوج لو ملكها ملكها بالاستقراض، لأنه لما جعل رقبتها مهرها فقد طلب من المولى أن يقرضها، والمولى بالإجازة أقرضها فلا وجه إليه، لأن القرض لا يفيد الملك قبل القبض ولم يوجد القبض من الزوج وقبض المرأة لا يقع للزوج؛ لأنها قابضة غير حقها، وملكها لا يتوقف على القبض بل يثبت بمجرد العقد، والإنسان في قبض حقه لا يصلح نائباً على الغير فانقلبت الجارية من ملك المولى إلى ملك المرأة من غير أن تدخل في ملك الزوج، وعلى الزوج قيمتها للمولى، إما لأن المولى قضى دين الزوج بأمره من مال نفسه فيستوجب بدله، والحيوان ليست من ذوات الأمثال، فيستوجب القيمة، وإما لأن الزوج صار مستقرضاً الجارية من المولى حيث جعلها مهرها، والمستقرض مضمون.(3/386)
-----
وإن قبضتها الحرة من الزوج ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها حتى وجب عليها رد نصف الأمة على الزوج لا يفسد نكاح الأمة ما دامت في يد الحرة بناء على ما قلنا: إن الصداق إذا كان مقبوضاً لا ينفسخ الملك في نصفه بنفس الطلاق قبل الدخول بل يحتاج فيه إلى القضاء وإلى رد المرأة فإن ردت النصف على الزوج بقضاء أو بغير قضاء فسد نكاح الأمة، وكان ينبغي أن لا يفسد؛ لأن الجارية خرجت عن ملك المولى إلى ملك الحرة من غير أن تدخل في ملك الزوج، فعند ارتفاع السبب يجب أن تعود إلى ملك المولى من غير أن يدخل في ملك الزوج، والجواب قضية الأصل ما قلتم، ولكن تركنا هذا الأصل لضرورة؛ لأن المولى استحق البدل على الزوج لو عاد نصف الجارية إلى ملك المولى يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد، وإنه لا يجوز على أنا نقول: سبب الملك للزوج في الجارية موجود ههنا، وهو الاستقراض لكن لم يثبت الملك للزوج فيها لمانع وهو ملك الحرة فيها مهر، فإذا زال ملك الحرة يملكها الزوج بهذا السبب والعود إلى ملك من خرج إنما يكون في موضع لم يوجد في حق غيره سبب ملك قائم.
بعد هذا ينظر إن كان القاضي قضى للمولى بقيمة الجارية، فلا سبيل له على الجارية. وإن لم يقض كان للمولى الخيار إن شاء استرد النصف من الزوج وضمنه النصف، وإن شاء ترك النصف على الزوج وضمنه جميع القيمة، وإنما كان للزوج حق استرداد الجارية مع أن الزوج يملكه بالاستقراض؛ لأنه ملك فاسد بسبب قبض فاسد، فإن استقراض الحيوان فاسد في نفسه، إلا أنه ما دام تبعاً للعقد لم يثبت فيه حكم الفساد؛ فإذا انفصل بالطلاق ظهر حكم الفساد، والفاسد يستحق الرد شرعاً.(3/387)
-----
ولو أن زوج الأمة قال لمولاها: زوجتي حرة ولم يقل بهذه الأمة صح النكاح، فصارت أمته مهراً للحرة ولا قيمة لمولاها على الزوج؛ لأنه متبرع في جعلها مهراً؛ لأن العدة في باب النكاح ترجع إلى الزوج لا إلى المأمور، والزوج لم يأمره بإمهارها ومن قضى دين غيره بغير أمره لا يستحق عليه البدل. ألا ترى لو زوجها إياه على ألف درهم وقضاها الألف من ماله كان متبرعاً فكذا ههنا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الزوج بالإمهار صار مستقرضاً الجارية منه فيلزمه قيمتها عند الصرف إلى قضاء دين نفسه، وبخلاف الوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه، فإنه يرجع على الموكل وإن لم يأمره الموكل بالنقد من مال نفسه؛ لأن العهدة في باب الشراء ترجع إلى المأمور، فلم يصر بالقضاء متبرعاً فإن قبضت الحرة الأمة ثم طلقها قبل الدخول بها لا يفسد نكاح الأمة؛ لأنها تعود إلى ملك المولى ههنا لا إلى ملك الزوج؛ لأن المولى قضى دين الزوج متبرعاً، ومن قضى دين غيره متبرعاً في عقود المعاوضات ثم انفسخ ذلك العقد بوجه من الوجوه عاد المقضي به إلى ملك القاضي بخلاف ما تقدم لأن هناك قضاء الدين حصل بأمر الزوج، ألا ترى أن من قضى الثمن عن الغير متطوعاً ثم انفسخ البيع يعود الثمن إلى ملك القاضي. ولو قضى بأمر المشتري يعود إلى ملك المشتري كذا ههنا.
في «مجموع النوازل»: امرأة أرضعت رضيعين أحدهما كافر والآخر مسلم فاشتبها عليها وعلى الوالدين، ولا يعرف الكافر من المسلم، فهما مسلمان ولا يرثان من أبويهما، أما هما مسلمان لأن الغلبة للإسلام، وأما لا يرثان من أبويهما فلمكان الشك.(3/388)
-----
فيه أيضاً: سئل عن السكران إذا زوج ابنته بأقل من مهر مثلها قال: لا يجوز بلا خلاف، بخلاف الصاحي على قول أبي حنيفة رحمه الله، والعرف أن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوز ذلك من الصاحي؛ لأنه ذو شفقة كاملة ورأي كامل، فالظاهر أنه تأمل غاية التأمل، فرأى في نقصان مهرها منفعة تربو عليه، هذا لا يتأتى في السكران إذ ليس له رأي كامل يقف به على المنافع والمضار.
سئل الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن الرشيفعي رحمه الله عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال قال: لا يجوز؛ لأنهم عندنا كفار؛ لأن من مذهبهم أن من يعتقد غير مذهب الإعتزال فهو ليس بمسلم.
امرأة زوجت نفسها بمهر مثل أمها، والزوج لا يعلم قدر مهر أمها فالنكاح جائز بمقدار مهر أمها. ولو طلقها الزوج قبل الدخول بها، فلها نصف ذلك، وللزوج الخيار إذا علم مقدار مهرها، كما لو اشترى شيئاً بوزن هذا الحجر ثم علم بوزنه، ولا خيار للمرأة، والبيع نظير النكاح لو باع بما باع فلان جاز؛ لأن الوقوف على ما باع فلان ممكن بخلاف ما لو باع كما يبيع الناس؛ لأن الوقوف عليه غير ممكن.(3/389)
-----
في «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام رحمه الله: في رجل يدعي على امرأة أنها منكوحته وحلاله وهي تقول: كنت امرأته وقد طلقني وانقضت عدتي (228أ1) وتزوجت بهذا الرجل الثاني والثاني يدعي ولم يقم المدعي بينة على دعواه فتوسط المتوسطون بين المدعي وبين هذه المرأة حتى اختلعت من المدعي بمال واعتدت هل يحل لهذا الرجل الثاني من غير تجديد العقد قال لا حاجة إلى الاعتداد وإلى تجديد العقد ولا صحة لهذا الخلع، لأن نكاح المدعي لم يثبت فكيف يصح الخلع منه، وإقدام المرأة على الإختلاع وأن جعل إقراراً منها لنكاح المدعي دلالةً إلا أن إقرارها بالنكاح في حق الزوج الثاني غير عامل لو أقرت صريحاً، فكيف إذا أقرت دلالة؟ فلم يثبت نكاح المدعي، ولم يصح الخلع منه ولم يجب اعتداد، وبقي نكاح الثاني صحيحاً كما كان. ادعى زيد وعمرو نكاح امرأة فأقرت المرأة لزيد فقضى القاضي بالمرأة لزيد بحكم إقرارها فقال القاضي بعد ذلك للمرأة: كان زوجك القديم عمرو ولك منه أولاد ثم أقررت بالنكاح لزيد وكيف الحال فقالت: بلى كان زوجي القديم عمرو، إلا أنه طلقني وانقضت عدتي وتزوجت بزيد بعد انقضاء عدتي، وأنكر عمرو أنه طلقها، فإن كان للقاضي علماً أن هذه المرأة كانت امرأة عمرو لها منه أولاد سلمها إلى زيد، وكذلك لو أن القاضي سألهما حين ادعيا نكاحها بهذا السؤال قبل إقرارها بالنكاح لزيد، فأجابت على نحو ما بينا وأقرت بالنكاح لزيد فالقاضي لا يقضي بالنكاح لزيد ما لم يثبت زيد طلاق عمرو.
إذا زوج الرجل أخته ثم قال لها وقت الزفاف هل أجزت ما فعلت فقالت: أجزت، وقد كان الأخ باع أملاكها فقالت: ما علمت ببيع الأملاك، وما أراد به بقوله لي أجزت فالقول قولها وصرف قولها أجزت إلى ترتيب الزفاف.(3/390)
-----
زوج ابنة البالغ امرأة فذهب الابن إلى بيت الصهر وسكن معهم، وإذا سئل أين تسكن يقول في بيت صهري فهذا من أجازه للنكاح كذا حكى شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله. صبي عامل تزوج امرأة وغاب، وتزوجت المرأة تاجراً فحضر الصبي، وقد بلغ وأجاز النكاح الذي باشره في حال صغره، ينظر إنّ كانت المرأة قد تزوجت التاجر قبل بلوغ الصبي وإجازته، صح النكاح ويتضمن إقدامها على النكاح الثاني فسخاً للأول، وإن كانت قد تزوجت التاجر بعد إجازة الصبي وبلوغه؛ إن كان النكاح من الصبي بمهر النكاح أو بأكثر مقدار يتغابن الناس فيه لا يصح النكاح الثاني لأن نكاح الصبي في هذه الصورة قد انعقد وعمل إجازته بعد البلوغ، وصارت المرأة امرأة الصبي ولا يصح نكاحها مع الثاني، وإن كان نكاحها بأكثر من مهر المثل مقدار ما لا يتغابن الناس فيه، فإن كان للصغير أب أوجد، فكذلك لأن نكاحه قد انعقد لأن له مجيز وهو الأب أو الجد، لأنهما يملكان مباشرة هذا العقد على الصغير فيملكان إجازته وهذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله ما عرف، وإن لم يكن للصغير أب أو جد فنكاحها مع الثاني صحيح لأن نكاح الصبي في هذه الصورة لا ينعقد لأنه لا مجيز له فيجوز نكاحها مع الثاني.(3/391)
-----
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وفي «النوازل» امرأة وهبت مهرها لزوجها ثم ماتت بعد مدة وطلبت ورثتها مهرها من زوجها، وقالوا: كانت هبتها المهر في مرض موتها فلم تصح فقال الزوج: لابل كانت الهبة في الصحة، فالقول قول الزوج لأنهم يدعون عليه الدين وهو ينكر، وفي المسألة نوع إشكال لأن المهر كان ثابتاً فالزوج يدعي السقوط وهم ينكرون ذلك والجواب على المهر كان ثابتاً ولكن حقاً للمرأة لاحقاً للورثة فهم يدعون الاستحقاق لأنفسهم ولم يعرف هذا الاستحقاق لهم، والزوج ينكر فكان القول قوله، وفيه أيضاً تزوج امرأة على ألف درهم ومهر مثلها ألوف ولم يعلم الأولياء بذلك حتى ماتت المرأة ثم علموا بعد ذلك فليس لهم حق مطالبة الزوج بكمال المهر لأن للأولياء حال حياتها أن يقولوا للزوج إما أن يبلغ مهر مثلها أو يفسخ القاضي النكاح بينكما، أما ليس لهم حق المطالبة بتكميل المهر عيناً فلا يمكن إثبات حق المطالبة بتكميل المهر عيناً، بعد موتها.
رجل خطب امرأة إلى أبيها وقال الأب: إن تقرب المهر وذلك كذا وكذا إلى خمسة أشهر أزوجكها فذهب الخاطب واشتغل بالنقد فكان الخاطب يبعث إلى الأب بهدايا فمضى خمسة أشهر ولم يقدر على نقد المهر ولم يزوجه الأب ابنته هل له أن يسترد ما بعث، قال في «مجموع النوازل»: ما بعث على وجه المهر فله أن يسترده إن كان قائماً وقيمته أو مثله إن كان هالكاً، وما بعث على وجه الهدية فله أن يسترده إن كان قائماً وإن كان هالكاً فلا شيء له، ويجب أن تكون هذه المسألة على قياس مسألة الانفاق على معتدة الغير قيل لرجل مرا فلانة فقال ومرا نكاح في سان فهذا لغو من الكلام وله أن يتزوجها متى شاء.(3/392)
-----
ذكر في «مجموع النوازل»: رجلٌ قال لامرأته بمحضر من الشهود جزاك الله خيراً قد وهبت مهركِ أبرأت ذمتي فقالت: أرى فقال الشهود هل تشهدي على هبتك المهر قالت: أرى كراناست هل هي هبة قال في «مجموع النوازل»: هذا الكلام يحتمل الهبة والرد والشهود يقفون على هيأة كلامها بمحضر الكلام إن كان هيأة كلامها هيأة التعزير حمله عليه وإن كان هيأة كلامها هيأة لكلامه والامتناع عن الإجابة يحمل عليه أيضا. إذا قالت المرأة لأبيها فوضت إليك الأمر في المعجل فذهب الأب وأجل المعجل سنه لا يصح غير الأب والجد، ولا يملك قبض صداق الصغيرة وإنما يقبضه القاضي، سأل نجم الدين رحمه الله عن رجلٍ تزوج صغيرةً زوجها أبوها منه ثم غاب الزوج ومات الأب وكبرت الصغيرة وتزوجت بزوج آخر ثم حضر الزوج الأول وادعاها ولم يكن له بينة فلم يقض للأول وقضى بها للثاني فولدت من الثاني بنتاً ولزوج الأول ابن صغير من امرأة أخرى، فأراد الزوج الأول أن يزوج هذه البنت من ابنه الصغير لا يجوز لأن من زعم الزوج الأول أن أم البنت زوجته والابنة ولدت (228ب1) على فراشه فهي ابنته بزعمه فلا يجوز له أن يزوجها من ابنه وأما إذا كبر الابن وأراد ان يتزوج البنت بنفسه من غير تزويج الأب يجوز لأن زعم الأب لا يعتبر في حقه. والصحيح من الجواب أن الابن بعدما كبر أن يصدق الأب في دعواه له أن يتزوج البنت وإن لم يكن يصدقه فله أن يتزوج لأنه لما صدقه فقد زعم أن الابنة وزعم الأب إن كان لا يعتبر في حق الابن فزعم الابن يعتبر في حقه إذا لقنت المرأة بالعربية حتى قالت: زوجت نفسي من فلان وفلان حاضر فقبل وكان ذلك بمحضر من الشهود إلا أن المرأة لم تعرف أن هذا تزويج والشهود يعرفون أنه تزويج فقد قيل بأن النكاح ينعقد، وهذا القائل يقيس النكاح على الطلاق فإن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق وهو لا يعرف أن هذا تطليق، أو قال لعبده: أنت حر وهو لا يعلم أن هذا تحرير يقع الطلاق والعتاق، وقيل(3/393)
إنه لا(3/394)
-----
ينعقد لأن النكاح معاوضة وتمليك، وفي المعاوضة والتمليك يشترط على المتعاقدين بمعناه كما في البيع والإيجارة وغير ذلك.
زوج ابنه البالغ امرأة بغير إقراره، ومات الابن واختلف الأب والزوجة بعد ذلك، فقال الأب: مات الابن قبل أن يخير، وقالت المرأة: لا بل مات بعد الإجازة، فالقول قول الأب والبينة بينة المرأة. الولي ادام وجه وليه فردت النكاح فقال الزوج والولي إنها صغيرة فردها باطل، وقالت هي: أنا كبيرة فروي صحيح، فإن كانت مراهقة فالقول قولها، لأنها أخبرت عما يحتمل ثبوته.
إذا ادعى رجل على امرأة أن وليها زوجها منه في حال صغرها وأقام على ذلك بينة وأقامت المرأة بينة أن الولي زوجها منه بعد البلوغ بغير رضاها فالبينة بينة المرأة، لأنها تُثبت أمراً حادثاً وهو البلوغ، وان لم يكن لها بينة فالقول قول المرأة لأنها تنكر الملك، وقيل يجب أن يكون القول قول الزوج، لأن البلوغ حادث فيحال بحدوثه إذا أقرت له، أو مات وهو ما بعد النكاح ولكن الأول أصح لأن البلوغ كما هو حادث فالنكاح أيضاً حادث فيحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات وهو ما بعد البلوغ فتعارض الحادثان بقيت المرأة منكرة الملك فكان القول قولها، وكذلك البيع على هذا القياس إذا باع مال ولده ووقع الاختلاف بين الابن وبين المشتري وقال الابن: البيع كان بعد البلوغ وقال المشتري: لا بل كان قبل البلوغ، فالبينة بينة الابن والقول قول الابن أيضاً، لأنه ينكر التمليك عليه.(3/395)
-----
ادعى على امرأة نكاحاً وقال هذه امرأتي وفي يدي وأقام البينة على ذلك، فرجل آخر أقام البينة أنها امرأته وهي في يدي الثاني معاينة، قضى للثاني في المرأة لأن له يد معاين، والآخر مشهود بها والمعاينة أقوى من الخبر، ولو أقام الأول بينة على أنها امرأته وفي يديه وأنه تزوجها وأقام الثاني بينة أنها امرأته وفي يديه، ولا يدري أن المرأة في يد من (قبله) فالمرأة للأول لأن كل واحد منهما أثبت أنها امرأته، وأنها في يده وتفرد الأول بإثبات العقد وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا أن دعوى الرجل أن هذه امرأته دعوى النكاح، يجب أن البنتان لأنهما استويا في الاثبات وهو الانسب.
في «فتاوى النسفي»: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة نعي إليها زوجها ففعلت هي وأهل الميت ما يفعل أهل المصيبة من إقامة رسم التعرفة واعتدت، فتزوجت بزوج آخر، ثم جاء آخر وأخبرها أن زوجها حيّ، وأني رأيته في بلد كذا، كيف حال نكاحها مع الثاني؟ وهل يسعها أن تقيم معه؟(3/396)
-----
قال: إن صدقت المخبر الأول لا يمكنها تصديق المخبر الثاني، ولا يبطل نكاح الثاني ويسعها المقام معه، وقيل: إن كان المخبر الأول عدلاً أو كان أكثر رأيها أنه صادق بما أخبر لا يفرق بينها وبين الثاني، وفي «مجموع النوازل»: رجلٌ طلق امرأته ثلاثاً وانقضت عدتها وتزوجت بعبدٍ بغير إذن سيده ودخل بها، ثم أجاز السيد النكاح، فلم يطأها بعد ذلك حتى طلقها فإنه لا يحل النكاح للزوج الأول حتى يطئها بعد الإجازة، وفيه أيضاً: أمة زوجت نفسها من رجل بغير إذن مولاها على عشرة دراهم ومهر مثلها منه درهم، فوطئها الزوج، فإن أجاز المولى النكاح لم يكن له إلا عشرة دراهم وإن لم يُجِز أخذ مهراً لها وإن أجاز المولى النكاح ثم طلقها قبل أن يدخل بها بعد الإجازة فإن ذلك الوطىء كان بعد الإجازة وإن لم يجز النكاح ولكنه اعتق الأمة وهو يعلم بالنكاح أو لم يعلم جاز النكاح والمهر للمولى. وفيه أيضاً عبد تزوج امرأة على رقبته بغير إذن سيده فقال السيد: أجيز النكاح وأجيز على رقبته النكاح فلها الأول من مهر مثلها ومن قيمة العبد باع منه، وفيه أيضاً: رجل قال لآخر: زوجني امرأة على مائة درهم فزوجه امرأة على ألف درهم ودخل بها ومهر مثلها ألفي درهم فلها الألف لأنها رضيت بالألف، ولو أن امرأة قالت لرجل زوجني على ألف درهم فزوجها على مائة درهم ودخل بها ومهر مثلها ألفي درهم فلها ألفي درهم لأن الوكيل لم يزوجها على ما رضيت به.
ادعى على امرأة أن هذه امرأته تزوجها في غرة شهر كذا وأقام على ذلك بينة، وأقامت المرأة بينة أنه أقر بعد هذا التاريخ بثلاثة أشهر أنها حرام عليه وأنها ليست بامرأته إقراراً صحيحاً فهذا دفع صحيح حتى يحلف بالله ما أردت به الطلاق فإن نكل تندفع الخصومة عن المرأة والله أعلم.(3/397)
كتاب الطلاق
هذا الكتاب يشتمل على سبعة وعشرين فصلاً.
1 * في بيان أنواع الطلاق.
2 * في بيان شرط صحة الطلاق وبيان حكمه.
-----
3 * في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع طلاقه.
4 * فيما يرجع إلى صريح الطلاق.
5 * في الكنايات.
6 * في إيقاع الطلاق بالكتابات.
7 * في الشركة في الطلاق.
8 * في الطلاق الذي يكون من غير الزوج فيجزه الزوج.
9 * في الاستثناء في الطلاق.
10 * في إيقاع الطلاق على امرأة بعينها ثم الرجوع عنها بالإيقاع على أخرى.
11 * في إضافة الطلاق إلى الأوقات.
12 * في الرجل يوقع الطلاق ثم يقول: لي امرأة أخرى والمطلقة هي الأخرى.
13 * في طلاق الغاية والظرف.
14 * في الشك في إيقاع الطلاق وفي الشك في عدد ما وقع وفي الإيجاب المبهم.
15 * في إيقاع الطلاق بالمال.
16 * في الخلع.
17 * في الأيمان في الطلاق.
18 * في الطلاق الذي يقع بقوله: أول امرأة أتزوجها وبقوله: آخر امرأة أتزوجها.
19 * في الشهادة في الطلاق والدعوى والخصومة.
20 * في طلاق المريض.
21 * في التعليقات التي هي إيقاع في الحال.
22 * في مسائل الرجعة.
23 * في مسائل الظهار وكفارته.(3/398)
الفصل الأول: في بيان أنواع الطلاق
فنقول الطلاق نوعان: مسمى وبدعي والمسمى نوعان: مسمى من حيث العدد، ومسمى من حيث الوقت المسمى من حيث العدد نوعان: حسن وأحسن وأما الأحسن أن يطلقها واحدة في وقت السنة ويتركها حتى تنقضي عدتها لأنه أبعد عن العدم فيكون أحسن ضرورة، وأما الحسن أن يطلقها ثلاثاً في ثلاثة (229أ1) أطهار لأن الإنسان قد يحتاج إلى حسم باب النكاح حتى يتخلص عنها بالكلية.
-----
ولكن إنما يحتاج إلى ذلك إذا أخرت نفسها فوجدت نفسه بمال لا يتبعها إذا لم يجد إلى النكاح سبيلاً، فقدر الشرع زمان التجربة بثلاثة أطهار فصار إيقاع الثلاث في ثلاثة الأطهار محتاجاً إليها فكان حسناً، وأما المسمى من حيث الوقت أن يطلقها طاهراً من غير جماع، أو حاملاً قد استبان حملها، وهذا لأن الأصل في الطلاق الحظر والإباحة باعتبار الحاجة ودليل الحاجة الإقدام على الطلاق في زمان كمال الرغبة فيها، وزمان كمال رغبة الزوج فيها زمان الحبل يشفعه على الولد فزمان الطهر الذي لم يجامعها لأنه لم يحصل مقصود منها في هذا الطهر، أما زمان الحيض زمان تغربه عنها شرعاً وطبعاً، والطهر الذي جامعها فيه زمان فل رغبته فيها لتحصيل مقصوده فيها في هذا الطهر فكان الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه واقعاً عن حاجة فيكون سبباً، وفي الطهر الذي جامعها فيه وفي زمان الحيض واقعاً لا عن حاجة فيكون بدعياً ثم ظاهر ما يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» في هذه المسألة يدل على أنه يطلقها متى طهرت من الحيض.(3/399)
-----
فإنه قال: يطلقها إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، واختار بعض مشايخنا تأخير الإيقاع إلى أحسن الطهر ليكون أبعد من تطويل مدة العدة وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله، ثم الطهر الذي لم يجامعها فيه إنما يكون وقتاً للطلاق المسمى إذا لم يحتاج معها في الحيض الذي سبقه هذا الطهر، فإن الجماع في حالة الحيض، والطلاق في حالة الحيض يخرجان الطهر الذي عقبته من أن يكون محلاً للطلاق المسمى، نص عليه في «الزيادات» وهذا إذا لم يراجعها حين طلقها في حالة الحيض فإذا راجعها منذ ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت طلقها إن شاء وهذا إشارة إلى أن في المراجعة لا يعود الطهر الذي عقيب الحيض محلاً للطلاق المسمى، وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة وهذا إشارةً إلى أنه يعود محلاً للطلاق السني. قال أبو الحسن رحمه اللَّه ما ذكر الطحاوي قول أبي حنيفة رحمه الله، وما ذكر في الأصل قولهما، ولو طلقها في حالة الحيض ثم تزوجها ثم أراد أن يطلقها في الطهر الذي يلي هذه الحيضة فهذا الطلاق يكون سبباً بالاتفاق، وهذا كله إذا كانت المرأة مدخولاً بها وهي ممن تحيض، وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر طلقها متى شاء واحدة، وإن كان عقيب الجماع وكذلك الحامل، وقال زفر رحمه الله يفصل بين الطلاق والجماع في حق الآيسة والصغيرة بشهر.
والصحيح مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم اللَّه، لأن الطلاق في حق ذوات الأمر في الطهر الذي جامعها فيه إنما كان حراماً لأنه ربما يكون سبباً للندم بأن يظهر بها حبل فيندم على طلاقها وإنما يباح الإيقاع بشرط أن يأمن الندم، هذا المعنى لا يتأتى بحق الآيسة والصغيرة، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: فكان شيخنا رحمهما الله يقول: هذا إذا كانت صغيرة لا يرجى منها الحيض والحبل وأما إذا كانت صغيرة يرجى منها الحيض والحبل فالأفضل أن يفصل بين جماعها وطلاقها بشهر.(3/400)
-----
وأما البدعي فنوعان: بدعي لمعنى يعود إلى العدد، بدعي لمعنى يعود للوقت فالذي يعود إلى العدد أن يطلقها ثلاثاً في طهر واحد بكلمة واحدة أو بكلمات متفرقة، أو يجمع بين التطليقتين في طهر واحد بكلمة أو بكلمتين متفرقتين، وأما الذي يعود إلى الوقت أن يطلق المدخول بها وهي من ذوات الأقراء في حالة الحيض لم يكن مكروهاً، لأنه إيقاع بحاجة لأن جميع الأزمنة في حق غير المدخول بها زمان كمال الرغبة فيها لأنه لم يقض وطهره منها والمرء تواق بمعنى شواق إلى ما لم ينل وبه فارق المدخول بها، ولو طلق غير المدخول بها ثلاثاً يكون بدعياً ففي حق العدد سوى بين المدخول بها وغير المدخول بها وفي حق الوقت فرق بينهما فجعل الطلاق في حالة الحيض مكروهاً في حق المدخول بها، ولم يجعله مكروهاً في حق غير المدخول بها لأن الجميع إنما يكره لأنه بسبب يحسم باب النكاح وأنه لا يختلف، فأما الإيقاع في حق المدخول بها في زمان الحيض كره لأنه زمان التفرقة عنها فيكون إيقاعاً لا عن حاجة وجميع الأزمة في حق غير المدخول بها زمان كمال الرغبة فيها فكان الإيقاع عن حاجة فافترقا، والمرأة التي خلى بها زوجها في حق مراعاة وقت الطلاق بمنزلة المدخول؛ لأن الخلوة أقيمت مقام الدخول في بعض الأحكام فكذا في حق هذا الحكم احتياطاً، وطلاق الناس ليس بسني في ظاهر الرواية، وفي «الزيادات» أنه بسني والخلع سني كان في حالة الحيض أو في غير حالة الحيض.(3/401)
-----
وفي «المنتقى» ذكر مسألة الخلع بهذه الصورة ولا بأس بأن يخالعها في الحيض إذا رأى منها ما يكره وفيه أيضاً: فلا بأس بأن خير امرأته في حالة الحيض فلا بأس لها أن تختار نفسها في حق الحيض. وفيه أيضاً: أدركت واختارت نفسها فلا بأس للقاضي أن يفرق بينهما في حالة الحيض، وإذا قال لامرأته المدخول بها وهي من ذوات الأقراء أنت طالق للسنة وقعت تطليقة للحال إن كانت ظاهرة من غير جماع، وإن كانت حائضاً، أو كانت في طهرٍ جامعها، لم يقع للحال بِسُني حتى يأتي وقت السنة، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً لسُنة فهو على وجوه: إن نوى أن يقع عند كل طهرٍ تطليقه فهو على ما نوى، فكذلك إذا لم ينو شيئاً فهي طالق عند كل طهر تطليقة وإن نوى أن يقع الثلاث جملة للحال صحت نيته لأن وقوع الثلاثه جملة عرف بسنة رسول الله عليه السلام ولو نوى أن يقع عند رأس كل شهر تطليقة فهو على مانوى، لأن قوله محتمل يحتمل أن يكون للسنة كاملاً بأن يكون رأس الشهر زمان الطهر، فيكون سنة وقوعاً وإيقاعاً ويحتمَل أن يكون رأس الشهر زمان الحيض، فيكون سنة وقوعاً لا إيقاعاً.
ولو نوى ما هو بدعة حقيقة وهو الثلاث جملة في الحال يقع ثلاثاً. وإذا نوى (229ب1) ما تردد حاله بين السنة والبدعة أولى، ولو كانت آيسة أو صغيرة مدخولة فقال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة وقعت في الحال وطئها في الحال أو لم يطأها ويقع بعد شهر أخرى لأن الشهر في حق الأمة والصغيرة أقيم مقام الحيض في ذوات الأقراء فكما أن في حق ذوات الأقراء يقع أخرى إذا طهرت من الحيض فكذا في حق الآيسة والصغيرة إذا مضى شهر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله إذا قال لأمرأته: أنت طالق كل شهر للسنة كانت قد أيست من المحيض تعتد بالشهور فهي طالق ثلاثاً عند كل شهر واحدة، وإن كانت تعتد بالحيض فهي طالق واحدة إن نوى ثلاثاً فيكون ثلاثاً بمنزلة قوله كل يوم.(3/402)
-----
وفي «الأصل» إذا طلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه واحدة ثم راجعها في ذلك الطهر بالقول فله أن يطلقها ثانياً في ذلك الطهر، وكان سنة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يكون سنة، وعن محمد رحمه الله روايتان وعلى هذا الاختلاف إذا راجعها بالقبلة والملامسة فأبو يوسف رحمه الله يقول: الشرط للفصل بين طلاق السنة الحيضة الكاملة ولم يوجد ذلك ههنا. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الفصل بالحيضة إنما يعتبر إذا كانت الثانية تقع في العدة وبالمراجعة ارتفعت العدة فكانت الثانية بمنزلة ابتداء الإيقاع وقد حصل في طهر لا جماع فيه فيكون سنة.
ثم الفقه لأبي حنيفة رحمه الله في المسألة أن إيقاع الثانية حصل عن حاجة فيكون سنة كما لو كان مكان الرجعة نكاحاً. بيانه: أن الحاجة إلى إيقاع الثانية عليها حاجة الخلاص عنها عند عجزه عن الإمساك بالمعروف وقد تجددت هذه الحاجة بالمراجعة فإنه عاد حقها في القسم فيجب عليه الإمساك بالمعروف.
وذكر في «المنتقى» مسألة النكاح على الخلاف أيضاً، وصورة ما ذكر ثمة: إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: طالق للسنة وقعت واحدة ساعة ما تكلم، فإن تزوجها وقعت أخرى ساعة تزوجها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تقع حتى يمضي شهر كامل من الطلاق الأول، وكذا لو كانت حاملاً فقال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة حتى وقعت واحدة ساعة ما تكلم ولو وضعت حملها بعد ذلك بيوم وتزوجها تقع أخرى عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف.(3/403)
-----
وعلى هذا إذا لمسها بشهوة ثم قال لها في حالة الملامسة: أنت طلاق للسنة يقع عليها ثلاث تطليقات على التعاقب عند أبي حنيفة رحمه الله، ولو كان راجعها بالجماع فإن لم تحبل فليس له أن يطلقها أخرى بالإجماع وإن حبلت فله أن يطلقها أخرى عند أبي حنيفة رحمه الله فيكون سبباً، وقال أبو يوسف رحمه الله: ليس له أن يطلقها أخرى، فأبو يوسف رحمه الله مر على أصله أن الشرط للفصل بين طلاقي السنة الحيضة الكاملة، وأبو حنيفة رحمه الله فرق بينما إذا حبلت وبينما إذا لم تحبل. والفرق أنها إذا لم تحبل فهذا طهر جامعها فيه، والطلاق عقيب الجماع في الطهر لا يكون سبباً لاحتمال حدوث الندم على ذلك لاشتباه الأمر، وهذا المعنى لا يتأتى إذا كان الحبل ظاهراً.
وفي «المنتقى»: إذا طلق امرأته واحدة وهي طاهرة من غير جماع ثم جامعها نكاية صار رجعة ثم قال لها: أنت طالق للسنة لم يقع في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من قبل الجماع الذي كان في هذا الطهر وإنه محمول على ما إذا لم تحبل عند أبي حنيفة رحمه الله قال ثمة: ولو قال: كان طلاق سنتها بالشهر، وإن كان له أن يوقع الثانية بعد الجماع، لأن الجماع فيهما لا يمنع من طلاق السنة.
وفيه أيضاً: إذا طلق امرأته وهي حامل ثم راجعها فولدت واغتسلت من النفاس فله أن يطلقها للسنة في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله وإن لم يتم بين التطليقتين شهر ودم وفصل النفاس بين الطلاقين كالحيض، ولو طلقها وهي صغيرة ثم حاضت وطهرت قبل مضي الشهر فله أن يطلقها أخرى في قولهم جميعاً لأن الشهر إنما يعتبر للفصل بين الطلاقين في حق الآيسة والصغيرة بدلاً عن الحيض فإذا وجد الحيض سقط حكم البدل، ولو طلقها وهي من ذوات الأقراء ثم النسب فله أن يطلقها أخرى حين تيأس عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يطلقها حتى يمضي شهر.(3/404)
-----
وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف رحمه الله لا يطلقها حتى يمضي شهر وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لأمرأته وقد أيست من الحيض: أنت طالق ثلاثاً للسنة وقعت واحدة حين تكلم به، ثم إذا حاضت بعد ذلك وطهرت بطلت تلك التطليقة الأولى ولزمتها تطليقة عند الطهر من الحيض يريد به إذا كان جامعها بعد الإياس قبل هذه المقالة قال: وليست هذه كالصغيرة إذا حاضت، فإن في حق الصغيرة لا تبطل التطليقة الأولى قال: فإن أيست بعد هذه الحيضة من المحيض واستبان إياسها وقعت التطليقتان الباقيتان بالشهور، وإذا قال لأمرأته: أنت طالق هذا للسنة وهي ممن لا يقع عليها طلاق السنة في العدة لا يقع عليها الطلاق إلا في وقت السنة.
قال ابن سماعة في «نوادره» أبا ترى أنه إذا قال لها: أنت طالق غداً إذا دخلت الدار أنت طالق غداً بدخولك الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار كذا ههنا.
ذكر المعلى في «نوادره»: رجل طلق امرأته للسنة وهي طاهرة من غير جماع من الزوج إلا أن رجلاً آخر كان وطئها في طهرها هذا قال: إن كان وطئها بالزنا فالطلاق واقع عليها في طهرها هذا وإن كان وطئها لشبهة فالطلاق لا يقع عليها في هذا الطهر وعليها العدة من الذي وطئها ومن المشايخ من قال على العكس، ومن المشايخ من قال بالوقوع في الوجهين جميعاً.l
وفي «المنتقى»: إذا ظاهر من امرأته ثم طلقها طلاق السنة في وقته قبل أن يكفر عن الظهار وقع ولم يمنع حرمة الظهار وقوع الطلاق السني، وكذلك لو تزوج بأخت امرأته ودخل بها وفرق بينهما وطلق امرأته للسنة في عدة الأخت وكذلك لو طلق امرأته للسنة وهي حبلى من فجور.(3/405)
-----
امرأة نعي إليها زوجها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها هذا الزوج ثم قدم زوجها الأول ثم فرق بينها وبين الزوج الثاني حتى وجبت العدة من الثاني فطلقها الأول (230أ1) للسنة في عدتها من الثاني لم يقع في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله يقع. ولو كان الأول طلقها ثلاثاً للسنة قبل أن تتزوج بالثاني فحاضت وطهرت فلزمها تطليقة ثم تزوجت بالثاني ودخل بها الثاني وفرق بينهما لم يقع عليها ما بقي من طلاق السنة ما دامت تعتد من الثاني في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله يلزمها الطلاق.
نوع آخريتصل بهذا الفصل
ذكر في «المنتقى»: إذا قال: لها أنت طالق للسنة فقالت أنا طاهرة، وقال الزوج: أوقعت عليك في الحيض أو بعده فالقول قول المرأة، ولو قالت: أنا حامل فقال هو: ليست بحامل لم تصدق المرأة على ادعاء الحمل.
وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق واحدة للسنة، وقالت المرأة: قد كنت حضت وطهرت قبل هذا قبل أن تتكلم بهذا الكلام تكلمت به وأنا طاهرة لم يقربني، وقال الزوج: قد كنت قربتك بعد الطهر قبل هذا الكلام فالقول قول الزوج، ولو قال الزوج: قد كنت قربتك في الحيض وكذبته المرأة فالقول قول المرأة، وكذلك لو قالت: لم يكن دخلت بها قط، فالقول قولها
نوع آخريتصل بهذا الفصل أيضا(3/406)
-----
قال القدوري: رجل قال لامرأته وهي أمة أنت طالق للسنة وهي الساعة ممن لا يقع عليها طلاق السنة ثم اشتراها ثم جاء وقت السنة لم يقع عليها شيء؛ لأن الطلاق إنما يقع إذا بقي النكاح والعدة، وبعدما اشتراها لا نكاح ولا عدة، أما لا نكاح فظاهر لطريان ملك اليمين المنافي للنكاح، وأما لا عدة فلأنها تحل له بملك اليمين وإنها تنافي وجوب العدة فإن اعتقها ثم جاء وقت السنة يقع الطلاق لأن حكم العدة قد ظهر بعد العتاق فكانت محلاً للطلاق، ولو كان الزوج عبداً والمرأة حرة فقال لها: أنت طالق للسنة ثم اشترته وقع الطلاق إذا جاء وقت سنتها.
رجل قال لامرأته الأمة: أنت طالق ثلاثاً للسنة وهي طاهرة بطهر جامعها فيه ثم اشتراها ثم أعتقها مكانه فإنها تعتد بحيضتين، فإذا طهرت من الحيضة الأولى وقع بها تطليقة وتبين بالأخرى أي: بالحيضة الأخرى ولا يقع طلاق آخر ولو كانت حائضاً حينما قال لها هذه المقالة ثم اشتراها وأعتقها في تلك الحيضة ثم طهرت من تلك الحيضة لا يقع عليها الطلاق من قبل أنه قد وقعت الفرقة منها بفساد النكاح ولا يقع طلاق السنة بعد فرقة كانت بين الزوج وامرأته إلا بعد شهر أو بعد حيضة، وكذلك المعتقة إذا اختارت نفسها في حالة الحيض وقد كان الزوج قال لها: أنت طالق للسنة لم يقع عليها الطلاق إذا طهرت من هذه الحيضة.
إذا قال لامرأته الأمة: أنت طالق للسنة وهي في الحال من لا يقع عليها طلاق السنة فاشتراها ثم أعتقها في مدة العدة وتزوجها في مدة العدة يقع عليها الطلاق إذا كانت طاهرة من غير جماع ولو تزوجها بعد انقضاء العدة فهي حائض وقع الطلاق عليها كأنه قال لها: إذا تزوجتك فأنت طالق للسنة فتزوجها وهي حائض.
نوع آخريتصل بهذا الفصل أيضا(3/407)
-----
إذا قال لها: أنت طالق للبدعة ونوى ثلاثاً فهي ثلاث لأن إيقاع الثلاث جملة بدعة فقد نوى ما يحتمله لفظه ففتحت ثلاثة هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروى إبراهيم عنه أنها واحدة تملك الرجعة.
إذا قال لها: أنت طالق للشهور وهي لا تحيض فهي طالق عند كل شهر تطليقة، هكذا ذكر «القدوري» رحمه الله في «شرحه» فزاد في «المنتقى» ونوى ثلاثاً فهي طالق ثلاثاً عند كل شهر واحدة، ولو قال لها: أنت طالق للحيض وهي ممن لا تحيض لا يقع شيء ولم يفصل بين الآيسة والصغيرة قال بعض مشايخنا: وهذا الجواب ظاهر في حق الآيسة لأن الحيض في حقها ليس بموجود ولا يوجد غالباً مشكل في حق الصغيرة لأن الحيض في حقها يحتمل الوجود ويوجد غالباً، والإضافة إلى معدومة يحتمل الوجود صحيح، كما لو قال لها: أنت طالق بعد غد وهذا القائل يقول: بأن جواب «الكتاب» محمول على الآيسة، وفي حق الصغيرة يتوقف وقوع الطلاق على وجود الحيض وبعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب مشكل في حق الآيسة والصغيرة جميعاً؛ لأن الحيض الذي يضاف إليها الطلاق حيض العدة فكأنه قال لها: أنت طالق للعدة هذا إذا قال لها أنت طالق للحيض وهي ممن لا تحيض، وإن قال لها: أنت طالق للحيض وهي ممن تحيض قال: كانت طاهرة من غير جماع وقت هذه المقالة طلقت الساعة كأنه قال لها: أنت طالق للعدة، هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، إن قال لها ذلك وهي حائض فإن لم ينو شيئاً فهي واحدة رجعية تقع عند كل طهرها من الحيضة، وإن نوى ثلاثاً فهي طالق عند طهرها من كل حيضة حتى تطلق ثلاثاً، ذكر المسألة على هذا التفصيل ابن سماعة رحمه الله. وفي «القدوري» ذكر المسألة من غير تفصيل فقال: إذا قال لها أنت طالق للحيض وهي ممن تحيض وقع عند كل حيضة تطليقة.(3/408)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال لها أنت طالق بكتاب الله ينوي طلاق السنة فهو على ما نوى وإن لم ينو شيئاً فهي طالق ساعة ما تكلم به، ولو قال لها: أنت طالق على ما في كتاب الله تعالى، أو على قول القضاة، أو على قول الفقهاء، أو قال: بسنة رسول الله عليه السلام فهي طالق ساعة ما تكلم، إلا أن يقول عنيت للسنة فيكون على ما عنى.
نوع آخريتصل بهذا الفصل أيضا
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً للسنة مع كل واحدة واحدة للبدعة فهي طالق ثلاثاً الساعة للبدعة، وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لأمرأته: أنت طالق تطليقتين أولهما للسنة، فإن كانت طاهرة من غير جماع وقعت عليها التي هي للسنة أولاً، ثم تتبعها الأخرى، وإن كانت حائضاً تأخرت التطليقتان جميعاً حتى تطهر ثم تقعان التي للسنة قبل الأخرى، ولو قال لها: أنت طالق تبين إحداهما للسنة والأخرى للبدعة، أو قال: أنت طالق واحدة للسنة والأخرى للبدعة فإن كان الوقت وقت السنة تقعان جميعاً تقع السنة أولاً ثم تتبعها البدعة، وإن لم يكن الوقت وقت السنة تقع البدعية وتتأخر السنية وإن بدأ بالبدعة والوقت ليس وقت السنة (230ب1) يقع البدعة ويتأخر السنة والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل أيضا
أبو يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأته وقد دخل بها: أنت طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم وقبلت المرأة ذلك، وقال: عنيت أن تقع الثلاث جميعاً لزمها ثلاث تطليقات بقوله فلا يكون له إلا ثلث الألف إلا أن تصدقه المرأة في هذه الثلاثة، ولو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم إن شئت، أو قدم المشيئة على الطلاق، فإن كانت هذه المقالة في حالة الحيض فالمشيئة في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يكون حتى تطهر من الحيض، وإن كانت هذه المقالة في طهر جامعها فيه، فحتى تحيض حيضة أخرى وتطهر والله أعلم.(3/409)
-----
الفصل الثاني: في بيان شرط صحة الطلاق وبيان حكمه
فنقول شرط صحة الطلاق قيام العقد في المرأة نكاحاً كان أو عدة، وقيام حل جواز العقد، ولا يكفي أحدهما لصحة الطلاق، أما قيام العقد وحده فلأنها إذا حرمت بالمصاهرة بعد الدخول بها حتى وجبت العدة وطلقها في العدة لا يصح طلاقه وإن كان العقد قائماً لما لم يكن حل جواز العقد قائماً، وأما قيام حل جواز العقد وحده لأنه بعدما طلقها واحدة أو ثنتين وانقضت عدتها وطلقها لا يصح طلاقه، وإن كان حل جواز العقد قائماً لما لم يكن العقد قائماً.
وقيام ملك النكاح ليس بشرط لوقوع الطلاق وصحته حتى إن المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة، فإن لم يكن ملك النكاح قائماً وحكم الطلاق زوال ملك النكاح، وزوال حل العقد متى تم ثلاثاً، والطلاق يصح مفيداً (أحد حكمته)، فإنه إذا طلق امرأته واحدة وتركها حتى انقضت عدتها فهذا الطلاق صحيح، وإن كان لا يفيد إلا زوال ملك النكاح، وكذا إذا طلق المختلعة أو المبانة تطليقتين في حالة العدة يصح وهذا الطلاق لا يفيد إلا زوال حل العقد لأن ملك النكاح زال بالخلع والطلاق البائن.(3/410)
الفصل الثالث: في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع طلاقه
-----
طلاق الصبي غير واقع، وكذلك طلاق المجنون والمعتوه، وقيل في الحد الفاصل بين المعتوه والمجنون والعاقل أن العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله فيكون هذا غالباً، وذلك غالباً فيكون سواء، قيل أيضاً: المجنون من يفعل هذه الأفعال لا عن قصد والعاقل يفعل ما يفعله المجانين في الأحايين لكن لا عن قصد يعني يفعل على ظن الصلاح، والمعتوه من يفعل ما يفعله المجانين في الأحايين لكن عن قصد يعني يقصد فعله مع ظهور وجه الفساد، وكذلك طلاق النائم غير واقع، وإذا طلق النائم امرأته في حالة النوم ثم قال بعدما انتبه: أجزت ذلك الطلاق لا يقع شيء، ولو قال: أوقعت ذلك يقع تطليقه، ولو قال أوقعت ما تلفظت به في حالة النوم لا يقع شيء، ذكره شيخ الإسلام رحمه الله المعروف بخواهر زاده في آخر باب الطلاق.
على هذا الصبي إذا طلق امرأته ثم قال بعدما بلغ أجزت ذلك الطلاق لا يقع، ولو قال: أوقعت ذلك يقع، وكذلك لو أن رجلاً طلق امرأة الصبي فقال الصبي بعد بلوغه أوقعت الطلاق الذي أوقعه فلان يقع ولو قال أجزت ذلك لا يقع، ذكره رحمه الله في «شرح المأذون الكبير». قال القدوري رحمه الله في «كتابه»: وطلاق السكران واقع إذا سكر من الخمر والنبيذ، وهو مذهب أصحابنا، وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يختار أنه لا يقع وهو قول الطحاوي وأحد قولي الشافعي رحمهما الله.(3/411)
-----
ولو أكره على الشرب أو شرب الخمر عند الضرورة فذهب عقله وطلق امرأته فطلاقه واقع رواه هشام عن محمد رحمه الله وعلل فقال: لأن عقله إنما ذهب بلذة، ولو ذهب عقله من داليس وطلق امرأته لا تطلق، وكذلك لو شرب البنج وذهب عقله وطلق، وذكر عبد العزيز الترمذي رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة وسفيان الثوري رحمة الله عليهما عن رجل شرب البنج فارتفع إلى رأسه وطلق امرأته قال: إن كان حين يشرب يعلم أنه ما هو فهي طالق، وإن كان حين يشرب لم يعلم أنه ما هو لم تطلق، ولو شرب النبيذ ولم يذهب عقله منه ولكن لم يوافقه فصدع منه فزال عقله بالصداع دون الشرب لم يقع طلاقه، ولو شرب من الأشربة التي تتخذ من الحبوب أو من العسل أو من الشهد وسكر وطلق امرأته لا يقع طلاقه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خلافاً لمحمد رحمه الله.
وطلاق اللاعب والهازل به واقع، وكذلك الرجل يريد أن يتكلم بكلام فسبق لسانه بالطلاق فالطلاق واقع ذكر القدوري العتاق مثل الطلاق في جميع ذلك في المشهور.
وفي «المنتقى»: وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز الغلط في الطلاق ويجوز في العتاق حتى إن الرجل لو أراد أن يقول لامرأته اسقيني فسبقه اللسان فقال: أنت طالق قال: هي طالق، ولو كان ذلك في العتاق يدين فيما بينه وبين الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله: هما سواء ولا يجوز في واحد منهما وسوّى أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» بينهما على قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال على قول أبي حنيفة: لا يدين فيما بينه وبين الله تعالى فيهما.(3/412)
الفصل الرابع: فيما يرجع إلى صريح الطلاق
-----
إذا قال لامرأته: يا مطلقة وقع الطلاق عليها، ولو قال: أردت به الشتم دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء؛ لأنه وصفها بالطلاق. وإذا قال: أردت الشتم فقد نوى شيئاً ليس بوصف لها فيكون مدعياً خلاف الظاهر فلا يصدق في القضاء، ولو قال: أردت طلاق زوج كان لها قبل ذلك إن لم يكن لها زوج قبل ذلك لا يلتفت إلى قوله، وكذا إذا كا لها زوج قبل ذلك وقد مات عنها زوجها لا يلتفت إلى قوله، وإن كان قد طلقها صدق ديانة باتفاق الروايات ويدين في القضاء في رواية أبي سليمان لأنه وصفها بطلاق واقع والطلاق لا يختص بإيقاع زوج دون زوج فيصدق في ذلك، ولو قال لها: أنت مطْلقة بالتخفيف فذلك على النية.
وفي «الواقعات»: إذا طلق امرأته ثم قال لها: قد طلقتك أو قال بالفارسية: طلاق دادم تر ادادم ترا طلاق يقع تطليقة بائنة، ولو قال: قد كنت طلقتك أو قال بالفارسية طلاق داده اهم ترا لا يقع شيء.
وفي «الأصل» في باب الطلاق إذا قال لامرأته قد طلقتك أمس وهو كاذب كانت طالقاً في القضاء ولو قال لها: أنت طالق طالق أو قال: طلقتك (231أ1) طلقتك، أو قال: أنت طالق قد طلقتك، ثم قال عنيت الأولى دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء.(3/413)
ومن هذا الجنس ما ذكر في «الفتاوى» إذا قال لامرأته نبك طلاق دست بازدا سمت أو قال: دست بازدا سم نبك طلاق، فقالت امرأته: بازاوى تامرديان سنويد باز كيت اكرباء دوم حنين كفت دست بازدا سته أم باكد بردست باردا سنه كم بكت واحدا. وإن قال: دست بارداسمت نبك طلاق يقع إلا إذا قال: عنيت بالثاني الإخبار فيصدق ديانة، ولو قال لها: أنت طالق فقال له رجل: ما قلت فقال طلقتها قال: أو قلت هي طالق فهي واحدة في القضاء لأن قوله في المرأة الثانية خرج جواباً فيكون إخباراً عن الإيقاع الأول ليتحقق جواباً بخلاف المسألة المتقدمة لأن قوله في المرة الثانية خرج على سبيل الابتداء فكان إيقاعاً، هذه الجملة في «شرح القدوري».(3/414)
-----
ولو قال لها: أنت طالق ثم قال لها: يا مطلقة لا تقع أخرى لأنه صادق في مقالته، ولو قال لها: أنت طالق ونوى طلاقاً من وثاق لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولو صرح وقال: أنت طالق من وثاق لا يقع في القضاء شيء. ولو قال: أنت طالق من قبل أو من عل ذكر هذه المسألة: «المنتقى» في موضعين وأجاب في أحد الموضعين أنه لا يقع الطلاق في القضاء وأجاب في الموضع (الآخر) أنه يقع الطلاق في القضاء، فروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا قال لامرأته، أنت طالق من هذا القبل أو من هذا العل لم تطلق، ولو قال أنت طالق ثلاثاً من هذا القبل أو من هذا العل طلقت ثلاثاً ولم يدين في القضاء.
ولو قال لها: أنت طالق وأراد به أنها طالق من العمل لم يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما لا يحتمله لفظه لأن الطلاق لإزالة القيد وهي غير مقيدة بالعمل فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يدين لأن الإطلاق يذكر ويراد به التخليص عن العمل فكان ناوياً ما يحتمله لفظه.
ولو قال: أنت طالق من هذا العمل وقع الطلاق في القضاء ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن المرأة إذا لم تكن مقيدة بالعمل كان قوله من هذا العمل بياناً صورة لا حقيقة فلا يصدق قضاءً باعتبار الحقيقة فيدين فيما بينه وبين الله تعالى، لوجود البيان صورة.(3/415)
-----
ولو قال لها أنت طالق وقال: لم أعنِ الطلاق عن وثاق النكاح فإنه يقع الطلاق فيما بينه وبين الله تعالى كما يقع في القضاء، والوجه في ذلك أن الطلاق في حقيقة اللغة، وإن كان الإطلاق عن وثاق العبد، إلا أنه صار الإطلاق عن وثاق النكاح حقيقة، والإطلاق عن قيد الحقيقي مجازاً لأنه ثبت هذا الاسم للطلاق عن وثاق النكاح عرفاً وشرعاً والاسم متى ثبت لغير ما وضع له عرفاً وشرعاً يصير لذلك حقيقة ولما وضع له مجازاً والحقيقة من الكلام لا النية ندفع حكمها إلا بإرادة المجاز، أما بمجرد ترك نية الحقيقة من غير نية المجاز لا يندفع حكم الحقيقة لأن النية ليست بشرط لثبوت ما هو حقيقة اللفظ ولا لمنع ثبوت حكم الحقيقة بترك النية والحاصل أن الكلام أنواع أربعة حقيقة باعتبار الوضع، وحكمه لا يندفع ما لم ينوِ المجاز، ومجازٌ صار كالحقيقة وهو ما ثبت عرفاً وشرعاً، وحكمه لا يندفع أيضاً ما لم ينو المجاز، لأنه ألحق بالحقيقة، ومجازٌ متعارف ومطلق للفظ ينصرف إليه ولكن إذا نوى أن لا يثبت ذلك لا يثبت وإن لم ينو غيره. ومجازٌ غير متعارف، وإنه لا يثبت بمطلق الكلام إلا الهيئة.
رجل قال لامرأته: براشه طلاق يقع الثلاث لأن هذا بمنزلة قوله أعطيتك ثلاث تطليقات ألا ترى أنه لو قال لغيره لك هذا الثوب كان هبة وكان بمنزلة قوله أعطيتك هذا الثوب. هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب النون.
وفي هذا الباب أيضاً: إذا تشاجر الرجل مع امرأته فقال لها بالفارسية هرار طلاق برا ولم يزد على هذا تقع الثلاث لأن هذا فارسي قوله ألف تطليقة لك، ولو قال ألف تطليقة لك تقع الثلاث لأنه لو قال: لك ألف تطليقة تقع الثلاث، وكذلك إذا قدم المؤخر، هكذا ذكر رحمه الله تعليل المسألتين مع صورتهما.(3/416)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند» من طلاق برا دادم. قال: نوى الإيقاع وقع الطلاق وإن نوى التفويض لا يقع لأنه يحتمل التفويض، وإن لم يكن له نية يقع لأنه إيقاع ظاهراً فيصُرِفَ إليه ما لم ينو شيئاً آخر. وفي «فتاوى الفضلي» تر طلاق إيقاع طلاق ترا تفويض إن طلقت نفسها في المجلس يقع.
وفي «المنتقى» رجل قال لامرأته لك الطلاق قال أبو حنيفة رحمه الله: إن نوى الطلاق فهي طالق وإن لم يكن له نية فلا شيء عليه، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن نوى الطلاق فطلاق وإلا فالأمر بيدها، ولو قال عليك الطلاق فهي طالق إذا نوى.(3/417)
-----
وفيه أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله: إذ قال لامرأته لكم الطلاق إنها طالق في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى إن عنى غير ذلك، ولو قال: طلاقي عليك واجب وقع، وكذا إذا قال لها الطلاق عليك واجب ذكره البقالي في «فتاويه». ولو قال لها: طلاقك عليَّ لا يقع، ولو قال: طلاقك عليَّ واجب أو لازم أو فرض أو ثابت ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» خلافاً بين المتأخرين، منهم من قال يقع واحدة رجعية نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال لا يقع نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال في قوله واجب يقع بدون النية، وفي قوله لازم لا يقع وإن نوى والفارق العرف، وعلى هذا الخلاف إذا قال لها إن فعلت كذا فطلاقك عليَّ واجب، أو قال: لازم أو قال ثابت ففعلت. وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع في الكل، وعند أبي يوسف رحمه الله إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد رحمه الله أنه يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب و(هو) اختيار الصدر الشهيد رحمه الله، قال: الوقوع في الكل لأن نفس الطلاق لا يكون واجباً ولا لازماً وفرضاً إنما يكون حكمه واجباً وحكم الطلاق لا يجب إلا بعد الوقوع، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين الحسن بن علي المرغيناني رحمه الله يفتي بعدم الوقوع في الكل، وعن ابن سّلام فيمن قال إن فعلت كذا فثلاث تطليقات عليَّ أو قال عليَّ واجب فإنه يعتبر عادة أهل البلد هل غلب، (231ب1) ذلك في كلامهم.(3/418)
-----
ولو قال لامرأته: طلقك الله تطلق، وإن لم ينو لأنه لا يطلقها الله إلا وهي طالق، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث رحمه الله». وفي «المنتقى» وفي «العيون» شرط النية، والأول أصح، ولو قال لها: نسيه طلاق باش، أو قال بطلاق باش تحكم النية، فكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يفتي بالوقوع (في) هذه الصورة بل لنية إذا قال لامرأته أنت أطلق من امرأة فلان وهي مطلقة فذلك على نيته إلا أن يكون جواباً لمسألة الطلاق، هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» وصورة ذلك: أن المرأة إذا قالت لزوجها قد طلق فلان امرأته فطلقني، فقال الزوج: أنت أطلق منها فهي طالق ولا يدين، وكذلك لو قال: أنت أبين منها. وسأل نصر عن ذلك فقال: تقع ثم قال في اليوم الثاني، وجدت رواية عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقع، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله معناه: إن لم ينو وإذا نوى يقع كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي».
إذا قال: خذي طلاقك يقع، وكذا وإذا قال لها: أوجدت طلاقك يقع، وإذا قال لها شئت طلاقك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أنه يقع الطلاق، ولم يشترط نية الإيقاع، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» إذا قال: شئت طلاقك بنية الإيقاع يقع.
وذكر في «المنتقى» في باب اللفيف من كتاب الطلاق: قال لامرأته: شئت طلاقك وهو ينوي الطلاق طلقت، وذكر في باب الكنايات إذا قال لها: شاء الله طلاقك، قضى الله طلاقك، شئت طلاقك، أمضيت، قضيت لا تطلق إلا أن ينوي، ولو قال: نويت طلاقك أحببت طلاقك رضيت طلاقك أردت طلاقك لا تطلق وإن نوى.s
قال في «المنتقى»: والقياس في ذلك سواء غير أن شئت هو أشبه بالطلاق فاستحسنه وحده.(3/419)
-----
إذا قال لها وهبت طلاقك فهذا صريح حتى يقع الطلاق قضاء وإن لم ينو به الطلاق، وإذا قال: نويت أن يكون الطلاق في يدها لا يصدق قضاء ويصدق ديانة، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يصدق قضاء أيضاً، ولو قال لها: أعدتك طلاقك، روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يقع، وعن محمد أنه لا يقع، وذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وقال نصر: الطلاق في يدها بمنزلة ما لو قال لها: أمرك بيدك، ولو قال لها: أقرضتك طلاقك لا يقع، ولو قال لها: وهبتك طلاقك قال (في) مشايخنا ينبغي أن لا يقع، وإذا قال لرجل أخبر امرأتي بطلاقها فهي طالق ساعة ما تكلم أخبرها ذلك الرجل أو لم يخبرها فكذلك إذا قال شهرها بطلاقها، احمل إليها طلاقها، أخبرها أنها طالق قل لها إنها طالق بخلاف ما لو قال لها أنت طالق فإنه لا يقع الطلاق هناك ما لم يطلقها إذا قال لها برشه طلاق دادستند لا يقع لأنه ذكر الإيقاع دون الوقوع.(3/420)
-----
امرأة قالت لزوجها طلقني فضربها وقال: اينك طالق لا يقع لأنه لم يوجد الإضافة، ولو قال: ابيكت طلاق يقع كذا حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، «في مجموع النوازل» في «كتاب الأيمان» سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها عند المشاجرة: مرا طلاق ده مر دجوب برداشت ومي زدومي كفت دار طلاق قال: لا تطلق، وسئل الإمام أحمد الغلاييني رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها: طلقني فوكزها قال: اينك طالق ثم وكزها ثانياً وقال: اينك ذو طلاق ثم وكزها ثالثاً وقال: اينك ننته طلاق قال: تطلق ثلاثاً قال: ولو كان قال لها: اينك نكي، اينك دو، اينك ننته ولم يتلفظ بالطلاق لم تطلق، قال نجم الدين النسفي رحمه الله: جواب شيخ الإسلام في المسألة الأولى كجوابه في المسألة الثانية يعني لا تطلق، وجواب الغلاييني رحمه الله في المسألة الأولى كجوابه في المسألة الثانية يعني تطلق فشيخ الإسلام يقول: تسمى الضربة طلاقاً فبطل، والغلاييني يقول يلفظ الطلاق فيقع. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عمن قال لامرأته هذا وطلاق بدا منت اندر كردم قال: إن كان هذا في مذاكرة الطلاق فكذلك وإن لم يرد الطلاق فالقول قوله مع يمينه، إذا قال لها: طالق يرتحا دركوشه توبرشت قومي والبسي الملحفة لا يقع الطلاق عليها في الحال ولا بعد ما لبست الملحفة، وكذا لو قال لها طلاق توكو ارستان برتهادة است مريه هنل بخلاف ما ذكرنا في المسألتين جميعاً وهو الأظهر والأشبه لأن هذا يقتضي وجود الطلاق فرايت ديوى بجوارشان أراد به رف نجم الدين في قوله شبه طلاق تركزانه خادرت بريشتم إنه يقع الطلاق، قال ولها دار طلاق يتوى لعدم الإضافة إليها وقيل يقع من غير نية وهو الأشبه لأن قوله دار في العادة وقوله حد سواء ولو قال لها: خذي طلاقك يقع من غير نية كذا هاهنا.(3/421)
-----
سئل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها لو كان الطلاق بيدي لطلقت نفسي ألف تطليقة فقال الزوج من هزار هذا طلاق دارم ولم يقل دارم برا قال: يقع الطلاق لأن كلامه خرج جواباً.
امرأة قالت لزوجها طلقني ثلاثاً فقال الزوج: إنك هزار لا تطلق من غير نية لأن قوله إنك هزار كلام محتمل لو قال: بنية طلاق وليست امرأته في بيته وقت هذه المقالة تطلق امرأته إذ ليس المراد من البيت المذكور في هذه الصورة حقيقة البيت إنما المراد بيت النكاح فكأنه، قال: المرأة التي في نكاحي طالق، ولو قال: ابن طالق وليست امرأته في ذلك البيت وقت المقالة لا تطلق امرأته، لأن المراد من اسم البيت عند تعيين الزيادة على ما سمى أولاً وهو الطلاق فصار كأنه قال: دادش هزار طالق ذكر امرأة قالت لزوجها من طلاقه لم فقال الزوج شي أو قال: طلاقه تشي أو قال توكن بالبيت فيقع عليها ثلاث تطليقات.(3/422)
سئل الفقيه أبو بكر رحمه الله عمن قال لامرأته: هزار طلاق تو لكن قال يقع ثلاث تطليقات كأنه قال طلقتك الصادر وكذلك إذا قال: هزار طلاقي توكى ونوى الطلاق تطلق ثلاثاً لأنه يراد بمثل هذا الكلام الإيجاب وقيل في الصورة الأولى ينوي الزوج لأنه يحتمل هزار طالق توكى كردم فيكون هذا وعداً في الإيقاع (232أ1) فينوي لهذا وقيل: في الصورة الثانية لا تطلق وإن نوى لأن هذا وعد ولا يحتمل الايقاع في الحال. امرأة سألت من زوجها الطلاق فقال الزوج لها: أنت طالق خمس تطليقات فقالت المرأة: الثلاث تكفيني فقال الزوج: الثلاث لك والباقي لصواحبك فله سواها امرأة أو امرأتان يقع على المخاطبة ثلاث تطليقات ولا يقع على غيرها شيء لأن الزيادة على الثلاث لغو شرعاً فقد صرف إلى غير المخاطبة ما هو لغو شرعاً فلا يعمل، وإذا قال لها قولي إني طالق فإن قالت ذلك طلقت، وإن لم تقل لم تطلق بخلاف ما إذا قال لغيره: قل لامرأتي أنها طالق حيث تطلق قال ذلك الرجل لها ذلك أو لم يقل وقد مر نظير هذا.(3/423)
-----
نوع آخر في الإيقاع بطريق الإجازة وفي ترك الإضافة وما يشبهها
إذا قال: أنت ثلاث وأضمر الطلاق فاعلم أن هذا ثلاث فصول:
أحدها: أن يضم بالطلاق الثلاث وفي هذا الفصل لا يقع الطلاق.
والثاني: واحتياطاً إذا قال لامرأته توكى يوشه أو قال لها: تراكى قال الشيخ أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله لا يقع الطلاق قال: لأن العربية لها أجازات فأما الفارسية فليس لها اجازات قال الصدر الشهيد: المختار عندي أنه إذا نوى يقع الطلاق لأن هذا ليس من باب الإجاز بل هذا من باب تعيين أحد محتملي اللفظ لأن اسم الثلاث يقع على غير الطلاق وعلى الطلاق فإذا لم ينو الطلاق لا يتعين الطلاق مراداً فإذا نواه يتعين.
وفي «فتاوي شمس الأئمة الأوزجندي»: رحمه الله ذكر قبل هذا في التعليق فصورته الكرتومكا فأجاب بأنه لا يقع بدون النية، وفي «فتاوي النسفي»: رجل اتهمته امرأته بشيء وطلبت منه أن يحلف على ذلك بطلاقها فحلف بهذا اللفظ: اكرفلان وأجاب أنها لا تطلق.
في «فتاوي الفضلي»: إذا قال لها: أنت مني ثلاثاً إن نوى الطلاق طلقت لأنه نوى ما يحتمله وإن قال: لم أنو الطلاق لم يصدق إذا كان الحال حال مذاكرة الطلاق.
وفيه أيضاً: إذا قال لها: بوبيه ده ونوى الطلاق قال: يقع الطلاق لأنه أضمر الطلاق وهو نظير قوله أنت الثلاث ونوى الطلاق.
وفيه أيضاً اكرتوا فلان كاركني نويتك طلاق ففعلت وقع الطلاق من غير نية الزوج لأن المعنى كلامه نويتك طلاق هشتي، ولو قال لها: نوبيه ثارا بدون فكان ذلك في حالة الغضب فالقول قوله أنه لم يرد الطلاق لأن قوله الدون كما يحتمل الطلاق يحتمل اللعن وغيره ولا يتعين الطلاق مراداً إلا بالنية.(3/424)
-----
قالت لزوجها طلقني وأشار إليها ثلاث أصابع يريد بذلك ثلاث تطليقات لا تطلق ما لم يقل بلسانه لأنه لو وقع وقع بالضمر فالطلاق لا يقع بالضمر، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال لها.... طلاقي يقع عليها طلقة لأن معناه.... طالقي، وفي «نوادر أبي الليث» رحمه الله قالت لزوجها كيف لا تطلقني فقال لها بالفارسية توخودا سراز تاناني طلاق كردواي قال: تسأل الزوج عن مراده لأنه أخبر عن الطلاق فتسأل عن مراده. إذا قال لها في حالة الغضب: اكرتوزن مني بنية طلاق لا يقع شيء لأنه حذف الباء فلم يكن مضيفاً إليها فلا يكون موجباً، وعلى هذا فصل للتعليق.
إذا قال: هرزن طلاق فتزوج امرأة لا يقع الطلاق هو الصحيح وسئل أبو خضر عن سكران قال لأمرأته أتريدين أن أطلقك فقالت: نعم فقال بالفارسية: اكرتوزن طلاق ذو طلاق بنية طلاق قومي واخرجي من عندي وهو يزعم أنه لم يرد به الطلاق فالقول قوله، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأنه لم يضف الطلاق إلى المرأة. ولم يذكر الإيقاع.
إذا قالت لزوجها طلقني فقال الزوج طالق يردارور في إن نوى طلاقها يقع الطلاق، ولو قال بنية طلاق جود يقع الطلاق من غير نية. قال لامرأته: أنت طالق واحدة فقالت المرأة: هزار فقال الزوج هزار ينوي الزوج فإن لم يكن له نية لا يقع شيء في الحكم لأنه يحتمل وإن كان إلى الإيقاع أقرب.
رجل اتهم امرأته برجل ثم رأى ذلك الرجل في بيته فغضب فقال: زن دادم عدداً طلاق قيل يقع الطلاق إذا نوى وقيل بالوقوع من غير نية. رجل جمع أصدقاءه وأمر امرأته أن تتخذ لهم طعاماً فلم تفعل وذهبت من بيت الزوج فقال الزوج: زنى كردوست شمن مرا بنو داز من بينة طلاق ذكر في «مجموع النوازل» أنه تطلق امرأته.
رجل قال لخدمه وهم يذكرون امرأته بسوء جندان كرديت كه نسه طلاقه كردتبش أو قال: جندان كردتب كه ست طلاق كردتيش يقع الطلاق عليها.(3/425)
-----
رجل قال: طلقت امرأة أو قال: امرأة طالق، ثم قال: لم أعن امرأتي يصدق ولم يقل عمرة طالق وامرأته عمرة وقال: لم أعن امرأتي لم يصدق قضاءً لأن في الوجه الأول لم تعرف امرأته أصلاً وفي الوجه الثاني عرفها بالاسم ذكره في «فتاوى أهل سمرقند».
وفي «النوازل» رجل يريد الخروج إلى السفر وأخذته صهرته فقالت: لا أدعك تخرج حتى تطلق ابنتي فقال الزوج: دختر تراسه طالق ثم لم أنو امرأتي وإنما نويت بنتك التي ليست بامرأتى لا يصدق قضاء ويصدق ديانة.
سئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن رجل عادة إذا رأى صبياً أن يقول: ما درت طلاقه فسكن... فقال: أي ما دريت بنية طلاقه وهو لم يعرفه قال: تطلق امرأته ثلاثاً. إذا قال ابنته لأنها طالق نسب امرأته إلى أبيها ولم يسميها أو نسبها إلى أمها أو إلى أخيها أو ما أشبه ذلك ولم يذكر اسمها طلقت امرأته إذا كانت كذلك وعن أبي يوسف رحمه الله ممن قال: عمرة بنت صبيح طالق وامرأته عمرة بنت حفص ولا نية له لم تطلق امرأته وإن كان صبيح زوج أمها فكانت في حجره وكانت تنسب إليه وإنما أبوها حفص وهو يعلم نسبها أو لا يعلم فقال مثل ما قلنا ولا نية له لم يدين في القضاء ويقع الطلاق، وأما فيما بينه وبين الله تعالى: إن كان يعرف نسبها لا يقع الطلاق وإن كان لا يعرف يقع الطلاق وإن نوى في هذه الوجوه امرأته طلقت امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى: وإن كان يريد اسم امرأته وإنما يريد الاسم الذي (232ب1) سمي على النسب الذي أضافها إليه وهو يعرف نسبها لم تطلق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى.(3/426)
-----
ولو قال: امرأته الحبشية طالق ولا نية له في طلاق امرأة وامرأته ليست بحبشية لا يقع عليها، وعلى هذا امرأته الأسدية وغلامه السندي وعلى هذا إذا سماها بغير اسمها ولا نية له في طلاق امرأته، وإن نوى طلاق امرأته في هذه الوجوه طلقت امرأته، وإن سمى امرأته واسم أبيها بأن قال: امرأتي عمره بنت صبيح بن فلان أو قال: أم هذا الرجل التي في وجهها الخال طالق طلقت امرأته سواء كان في وجهها الخال أو لم يكن، لأنه وصفها باسمها ونسبتها قيمت المعرفة الشرعية فلا حاجة إلى ذكر بني آخر ويجعل كل شيء آخر كلامه.
وفي «المنتقى»: زوج رجل.... امرأته قالت: أنا أسماء بنت عبدالله القرشية والرجل لا يعرفها فقال الرجل بعدما تزوجها كل امرأة لي طالق غير اسماء بنت عبدالله القرشية واسم هذه المرأة كانت وبنت النبطية فهي طالق في القضاء ولا تطلق فيما بينه وبين الله تعالى، إذا قال: نساء أهل الدنيا طالق أو قال أهل راي. وهو من أهل راي، أو قال: نساء أهل بغداد وهو من بغداد لم تطلق امرأته عند أبي يوسف رحمه الله إلا أن ينويها قال لأن هذا أمر عام، وعن محمد رحمه الله روايتان: روى ابن سماعة عنه أنه تطلق امرأته من غير النية فروى هشام عنه أنه لا تطلق امرأته إلا أن ينويها، وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أن في قوله جميع نساء الدنيا طوالق أو قال جميع نساء أهل العالم طالق أنه تطلق امرأته من غير نية ولو قال: نساء أهل هذه السكة طالق وهو من أهل هذه السكة طلقت امرأته.
وكذلك لو قال نساء أهل هذه الدار طوالق وهو من غير أهل هذه الدار طلقت امرأته بلا خلاف، ولو قال: نساء أهل هذه القرية طالق فقد اختلف المشايخ فيه منهم من ألحقه بالبيت والسكة ومنهم من ألحقه بالمصير.(3/427)
-----
وجه عدم الوقوع في قوله نساء أهل الراي نساء أهل الدنيا أنه لو وقع الطلاق على امرأته إنما يقع إذا اعتبر هذا الكلام النساء في حق هذا القائل وإذا اعتبر نساء في حق هذا القائل يعتبر النساء في حق الكل وبعد اعتباره النساء في حق الكل لأنه إذا اعتبر النساء في حق الكل لا بد وأن يتوقف على إجازتهم وإجازة أهل الدنيا متعذر خرج على هذا فصل السكة والقرية على قول بعض المشايخ.
نوع آخريتصل بهذا الفصل بالإيقاع وبالإضافة إلى بعض المرأة
إذا قال لامرأته رأسك طالق فالأصل في جنس هذه المسائل أن كل (ما) يعبر به عن جميع البدن نحو الرأس والرقبة والفرج والوجه يصح إضافة الطلاق إليه وكل جزء لا يعتبر به عن جميع البدن إن كان جزءاً لا يستمتع به نحو الدمع والريق والدم لا يصح إضافة الطلاق إليه بالاتفاق، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرحه».
قال: شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولو نوى جميع ما في بدنها من الدم يتبع أن تطلق، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في أول باب الطلاق أنه إذا أضاف الطلاق إلى دمها ففيه روايتان: على رواية «كتاب العتاق» لا تطلق، وعلى رواية «كتاب الكفالة» تطلق، وإن كان جزءاً يستمتع به نحو اليد والرجل لا يصح إضافة الطلاق إليه عندنا.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا قال لها رأسك طالق وعنى اقتصار الطلاق على الرأس لا يبعد أن يقول لا تطلق، ولو قال لها يدك طالق وأراد به العبارة عن جميع البدن لا يبعد أن يقول بأنها تطلق.(3/428)
-----
وفي «البقالي»: أنه لا يقع الطلاق بالإضافة إلى اليد وإن نوى، وإذا قال لها: بضعك طالق. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن يقع وهكذا وقع في بعض النسخ، قال ظهرك طالق وبطنك طالق ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن الأصح أن لا يقع واستدل بمسألة ذكرها في «الأصل» إذا قال: ظهرك عليَّ كظهر أمي أو قال بطنك عليَّ كظهر أمي أنه لا يصير مظاهراً.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه»: أن الأشبه بمذهب أصحابنا أنه يقع الطلاق قال هو نظير ما قال مشايخنا فيما إذا أضاف عقد النكاح إلى ظهر المرأة أو إلى بطنها أن الأشبه لمذهب أصحابنا أن ينعقد النكاح، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه أن الأصح أن يقع، وإذا قال لها يدك طالق فالمحفوظ عن أصحابنا أنها لا تطلق بخلاف قوله مدحك طالق في الحكمة، وذكر في «المنتقى» أن قوله: استك طالق في الحكمة بمنزلة قوله مدحك طالق ولو قال لها نصفك الأعلى طالق واحدة ونصفك الأسفل طالق تبين فلا رواية في هذه المسألة عن المتقدمين وعن المتأخرين وقد صارت هذه المسألة موافقة ببخارى فأفتى بعض مشايخنا بوقوع الواحدة بالإضافة إلى النصف الأعلى لأن الرأس في النصف الأعلى فيصير مضيفاً الطلاق إلى رأسها وأفتى بعضهم بوقوع بالإضافتين لأن الرأس في النصف الأعلى والفرج في النصف الأسفل فيصير مضيفاً الطلاق إلى رأسها بالإضافة إلى النصف الأعلى وإلى فرجها بالاضافة إلى النصف الأسفل.
نوع آخر في تكرار الطلاق وإيقاع العدد في المدخولة وغير المدخولة(3/429)
-----
امرأة قالت لزوجها: طلقني وطلقني فقال الزوج: قد طلقتك طلقت ثلاثاً نوى الزوج أو لم ينو، ولو قال بغير حرف الواو طلقني طلقني طلقني فقال الزوج قد طلقتك فإن نوى الثلاث طلقت ثلاثاً، وإن نوى واحدة أو لم ينو شيئاً تقع واحدة لأن بدون حرف الواو يحتمل كل الأول ويحتمل الابتداء ذلك نوى الزوج صحت بنية، هكذا ذكر في «عيون المسائل».
وفي «المنتقى»: إذا قالت: طلقني طلقني طلقني بدون حرف الواو فقال: الزوج قد طلقتك أنه يقع ثلاث تطليقات ولم تشترط نية الزوج الثلاث.
امرأة قالت لزوجها: طلقني ثلاثاً فقال الزوج أنت طالق أو قال: فأنت طالق تقع واحدة هكذا رواه ابن سماعة، وهشام عن محمد رحمه الله علل محمد في رواية هشام رحمه الله فقال: لأن هذا ليس بجواب قال في رواية هشام: وإن عنى الجواب في قوله أنت طالق استحسن أن جعلها ثلاثاً، ولو كان قال: قد طلقتك تقع الثلاث فكذا لو قال: فعلت وقيل: ينبغي أن تقع الثلاث في الوجه الأول لأنه إخراج الكلام فخرج الجواب وأنه يصلح جواباً، وسيأتي في مسائل الخلع ما يدل على أن قوله أنت طالق جواب، وذكر في «البقالي» في «فتاويه» في الوجه الأول أنها (2331) تطلق واحدة إلا أن ينوي الثلاث فيصح استحساناً قال: ثمة فروى إنما تطلق واحدة يعني مع نية الثلاث.
وفي «المنتقى»: امرأة قالت لزوجها طلقني فقال الزوج: قد فعلت طلقت فإن قالت: ردني فقال: قد فعلت طلقت أيضاً.
إبراهيم عن محمد رحمه الله: في رجل قيل لرجل طلقت امرأتك ثلاثاً فقال: نعم واحدة قال: القياس أن يقع عليها ثلاث تطليقات ولكنا نستحسن فنجعلها واحدة.
في «المنتقى»: إذا قالت المرأة طلقني ثلاثاً فقال الزوج قد أبنتُك فهذا جواب وثلاث وكذا قوله: بائن.(3/430)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» سئل عن أبي يوسف رحمه الله عمن طلق امرأته قد حلت عليه أخت امرأته وعاينته وقالت: طلقت أختي فلأنه تطليقتين ولم يحفظ حق...... فقال الزوج: هذه ثالثة أو قال فهذه ثالثة لزمته الثلاث: وإن لم يذكر الطلاق في معاينتها وباقي المسألة بحالها فقوله هذه ثالثة ليس بشيء إذا لم ينو الطلاق.
إذا قال لها قبل الدخول بها أنت طالق ثلاث يقع الثلاث وكذلك إذا قال لها: ثنتين تقع ثنتان والوجه في ذلك أن في هذه الصورة أول الكلام يتوقف على آخره لأن في آخر الكلام ما يغير حكم أوله لأن قوله أنت طالق لا يحتمل العدد عندنا.
ولهذا لا تصح نية العدد فيه وإذا توقف أول الكلام على آخره كان الوقوع عنه آخر فيصادفها آخر الكلام وهي منكوحة بخلاف ما إذا كرر لفظ الطلاق بحرف العطف أو بغير حرف العطف فقال لها: أنت طالق وطالق أو قال وطالق أو وقال ثم طالق أو قال أنت طالق طالق، أو قال: ترايك طلاق ترايك طلاق حيث تقع واحدة لأن هناك ليس في آخر كلامه ما يغير حكم أوله فلم يتوقف أوله على آخره فطلقت بأول الكلام وبانت لا إلى عدة فيصادفها الكلام الثاني فهي مبانة .....(3/431)
-----
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا قال لها قبل الدخول بها اكرتوزن مني بيك طلاق وذو طلاق دست باردا شبه يقع ثلاث تطليقات، ولو لم يقل دست باز داسبيه تقع واحدة لأن في الوجه الأول النكاح إنما يتم عند قوله دست باز داسبيه لأنه صار يعتبر الأول فيتوقف فتقع الثلاث جملة وفي الثاني الأول كلام تام صاحب به لا إلى عدة قال لامرأته المدخول بها طلاق داديت طلاق داديت تقع عليها ثلاث تطليقات لأن هذا في الفارسية عطف بمنزلة قوله وتبين في العربية، ولو قال دويعبر حرف الواو وإن نوى العطف تقع الثلاث، وإن لم ينو العطف تقع واحدة، ولو قال لها: ترابك طلاق اكرم من لكن قال شيخ الإسلام أبو الحسن رحمه الله تقع الثلاث عند وجود الشرط قال الشيخ الإمام محمد بن علي.... رحمه الله: تقع واحدة.
إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق طالق إن دخلت الدار بانت بالأولى ولم تتعلق البائنة بالدخول، ولو كان معطوفاً فقال أنت فقال: طالق وطالق إن دخلت الدار أو طالق إن دخلت تعلقا جميعاً بالدخول لأنه كما ذكر بحرف الواو علم أن عرض الزوج من الأول التعليق والأول ناقصى في معنى التعليق فتوقف أول الكلام على آخره وتعلق الكل بالشرط دفعة واحدة فيما لم يذكر حرف العطف لم يظهر إن عرض المتكلم من أول التعليق فنفى الأول يتخير فبانت بالأولى لا إلى عدة وعلقت الثانية لأن تعليقها حصن في غير الملك.
إذا قال لها ولم يدخل بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فدخلت الدار تقع واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: تقع الثلاث ولو قدم الجزاء فقال: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار فدخلت الدار تقع الثلاث بلا خلاف والمسألة معروفة.(3/432)
-----
ولو قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فعند أبي حنيفة رحمه الله تقع عليها واحدة للحال، وثنتين بها ويبطل ما بعد ذلك من الكلام، وعندهما يتوقف الكل على وجود الشرط وإذا وجد الشرط تقع الثلاث هكذا ذكر المسألة في «النوازل» وذكر القدوري رحمه الله أن على قولهما إنما تقع الثلاث عند وجود الشرط بعدما دخل الزوج بها أما إذا وجد الشرط قبل أن يدخل الزوج بها تقع واحدة وهو الأشبه.g
وجه قولهما: أن كلمة ثم من حروف العطف كالواو والفاء إلا أنه يقتضي العطف على التراخي فلاقتضائه العطف قلنا تتعلق الكل بالشرط وباعتبار اقتضاء به التراخي قلنا تأخر البائنة، والبائنة عن الأول وقوعاً، ولأبي حنيفة رحمه الله أن خاصة هذه الكلمة التراخي وقد دخلت على اللفظ فيجب إظهار التراخي في نفس اللفظ وذلك فإن يتراخى تعليق الثاني عن الأول، وعلى هذا الاعتبار يقع الفصل بين الأول والثاني فصار كما لو فصل بينهما بالسكوت وهناك الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك.
والحاصل: أنهما يظهران التراخي في الوقوع دون التعليق وأبو حنيفة رحمه الله أظهر التراخي في التعليق دون الوقوع، ولو قدم الشرط فقال: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق تعلق الأول بالدخول ووقعت الثانية ولغُيت الثالثة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يتوقف الكل على وجود الشرط وإذا وجد الشرط تقع واحدة والكلام في هذا الفصل بناء على ما ذكرنا في الفصل المتقدم أنهما يظهران التراخي في الوقوع، وأبو حنيفة رحمه الله يظهر التراخي في التعليق.(3/433)
-----
وفي «نوادر»: هشام عن محمد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة حتى تبين بثلاث وهوينوي ثلاثاً طلقت ثلاثاً واحدة بعد واحدة بعد أخرى، ولو قال لها: أنت طالق حتى تبين بثلاث فهي ثلاث فيما أظن الشك من هشام، وفي باب اللفيف من «المنتقى» أنت طالق حتى تحرمي حتى تبين لكن تبين لثنتين أنها واحدة وإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنت طالق حتى تشكل ثلاث تطليقات فهي طالق ثلاثاً ولا تدين في القضاء على إبطال ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأته: أنت طالق وبائن أو قال لها: أنت طالق ثم بائن وقال: لم أنو بقول بائن شيئاً فهي طالق تطليقة رجعية، ولو ذكر بحرف الفاء وباقي المسألة بحالها فهي تطليقة ثانية.
وفي «المنتقى»: إذا طلق امرأته ولم يدخل بها ثنتين ثم قال:... طلقها واحدة قبل الثنتين فأنا لا أبطل عنه الثنتين وألزمه التي أقر بها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.(3/434)
-----
إذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت (233ب1). طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة طلقت واحدة، ولو قال قبلها واحدة أو مع واحدة أو معها واحدة أو بعد واحدة وقعت ثنتان، والأصل في تخريج هذه المسائل أن كلمة قبل إذا دخلت بين اسمين إن كانت مذكورة بحرف الهاء كانت القبلية صفة للمذكور آخراً، وإن كانت مذكورة بدون حرف الهاء كانت القبلية صفة للمذكور أولاً بقول الرجل: جاءني زيد قبله عمرو وكانت القبلية صفة لعمرو وتقول جاءني زيد قبل عمرو وكانت القبلية صفة لزيد وكلمة بعد مقتضاها على... مقتضى كلمة قبل وكلمة مع للقران ذكرت بالهاء أو بغير الهاء فتقول في كلمة مع يستوي الجواب بين أن يكون مذكورة بالهاء أو بغير الهاء لأن كلمة مع للقران فاقتضى وقوع التطليقتين معاً على غير المدخول بها، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال معها واحدة تقع واحدة، والصواب ما ذكرنا. وفي كلمة قبل وبعد يختلف الجواب بالذكر مع الهاء وبغيرالهاء، وإذا قال: لها أنت طالق واحدة قبل واحدة فالقبلية صفة المذكور أولاً فسبق الأول في الوقوع وبانت لا إلى غيره فلا تقع البائنة وإذا قال قبلها واحدة والقبلية صفة المذكور آخر وليس في وسعه تقديم الآخر على الأول إما في وسعه القران فيثبت من قصده قدر ما كان في وسعه وهو القران فتقعان معاً، وإذا قال لها: أنت طالق واحدة بعد واحدة فالتعدية صفة للمذكور أولاً فاقتضى وقوع الأول بعد الثاني وليس في وسعه ذلك أما في وسعه القران فتقعان معاً، وإذا قال: واحد بعدها واحدة فالتعدية صفة المذكور آخراً وهو كان موصوفاً بهذه الصفة من غير وصفه ولم يرد ذلك إلا بكل كذا وبعدما وقع الأول لا يتصور وقوع الثاني قبل الدخول.(3/435)
-----
وفي «المنتقى»: وقال أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأته ولم يدخل بها أنت واحدة بعدها واحدة إن دخلت الدار بانت بالأولى ولم يلزمها اليمين لأن هذا منقطع، ولو قال لها: أنت طالق واحد قبل واحدة إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل الدار، وإذا دخلت طلقت و احدة، ولو قال لها: أنت طالق واحدة أو معها أو مع واحدة أو معها واحدة إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل: وإذا دخلت تقع عليها ثنتان، ولو قال لها: أنت طالق واحدة وبعدها أخرى إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل وإذا دخلت وقع عليها ثنتان وهذا وقوله واحدة وواحدة سواء.
ولو قال لها ولم يدخل بها أنت طالق أحد وعشرون تقع الثلاث عند علمائنا رحمهم الله الثلاثة خلافاً لزفر رحمه الله، ولو قال أحد عشر تقع الثلاث في قولهم والوجه لعلمائنا الثلاثة أن قوله أحد وعشرون كلام واحد كقوله وأحد عشر فلا يحكم بأوله قبل آخره حتى يقال تبين بواحدة بأول الكلام فيصدقها العدد الآخر وهي مثابة.(3/436)
-----
وإنما قلنا: أنه كلام واحد فإن من أراد أن يعبر عن واحدة وعشرين لا يمكنه أن يعبر عنها بعبارة أوجز من هذا في عرف الاستعمال ويجعل كلاماً وأحد عشر وقت واحدة لأنه يمكنه أن يأتي باللفظ المعتاد وبعبارة أوجز من هذا وجعل العددين شيئاً واحداً يكون بطريق الضرورة والضرورة تندفع بالمعتاد فينبغي ما وراء المعتاد مردوداً إلى أصل القياس وهما عددان في الحقيقة، ولو قال: واحد ومائة وواحد وألف كانت واحدة في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله تقع الثلاث، ولو قال واحدة ونصفاً وقع عليها ثنتان، ولو قال نصفاً وواحدة وقعت واحدة عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمهما الله. ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله رجل وامرأتان لم يدخل بهما فقال امرأتي طالق امرأتي طالق قال: أردت واحدة منهما لا أصدقه وأبنتهما منه، وكذلك لو قال: امرأتي طالق وامرأتي طالق، ولو كان قد دخل بهما وما في المسألة بحالها منه أن يوقع الطلاقين على أحديهما والله أعلم.
نوع آخر في إيقاع الطلاق بعدد ما له عدد وما لا عدد له وفي البينةالواقع بما له عدد وما لا عدد له
إذا قال لها أنت طالق مثل عدد كذا لشيء لا عدد له كالشمس والقمر وما أشبه ذلك فهي واحدة بائنة لقول أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف رحمه الله: تقع واحدة رجعية لأنها لما شبهه بعدد ما لا عدد له لما ذكر العدد وبقي قوله: أنت طالق، والواقع واحدة رجعية ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وصف الطلاق بضرب من الزيادة فليس بعذر إظهار الزيادة من حيث العدد أمكن إظهارها من حيث وصف البينونة فيجب إظهارها.(3/437)
-----
فروي عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه تقع واحدة بائنة كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، ولو قال أنت طالق عدد شعر بطن كفي فهي طلقة واحدة لأنه لا شعر على بطن كفه فلا يكون بذكر هذا العدد موافق العدد، كذلك وإذا قال عدد ما في كفي من الدراهم وليس في يده شيء تقع طلقة واحدة.
وكذا إذا قال عدد ما في هذا الحوض من السمك وليس في الحوض سمك، وكذلك لو قال بعدد كل شعرة على جسد إبليس تقع واحدة حتي يُعلم على جسد إبليس شعر.
ولو قال: أنت طالق عدد شعر رأسي أو عدد شعر ظهر كفي وقد كان حلق ظهر كفه أو رأسه قبل هذه المقالة طلقت ثلاثاً لأنه شبه الواقع بعدد شعر الرأس وبعدد شعر الكف وشعر ظهر الكف وشعر الرأس ذو عدد في نفسه، وإن لم يكن موجوداً بالحال ويصير موقعاً للعدد بخلاف ما لو قال عدد ما على رأسي من الشعر أو عدد ما على ظهر كفي من الشعر لأن هناك شبهة الطلاق بالعدد الموجود حيث قال: عدد ما على ظهر كفي من الشعر وإذا لم يكن موجوداً لفي ذكر العدد.
ولو قال لها أنت طالق كعدد النجوم أو مثل عدد النجوم أو كالنجوم أو كالرمل فهي واحدة بائنة كذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه أنها واحدة رجعية.(3/438)
-----
ولو قال: عدد النجوم فهو ثلاث وفي «الجامع الصغير» إذا قال لها أنت طالق كألف فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً لأن الشيء قد شبه الألف لزيادة قوة كما في قوله رب واحد لعدل الألف زائدة وقوة الطلاق بالبينونة فهذا يقتضي وقوع واحدة بائنة وقد يشبه به لكثرته وهذا يقتضي وقوع الثلاث لأن الثلاث كثير لأن الواحدة أدنى وقيد الإطلاق يقع واحدة، وإذا نوى ثلاث صحت نيته، وفي «القدوري» إذا قال لها أنت طالق كألف وإن نوى ثلاثاً فثلاث وإن نوى واحدة أو لم يكن له بينة فهي واحدة بائنة لقول أبي حنيفة رحمه الله (234أ1) وأبي يوسف الآخر رحمه الله، وقال محمد رحمه الله هي ثلاث ولا تدين في الحكم وتبين بما ذكر القدوري رحمه الله أن المذكور في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وجه قول محمد رحمه الله: ما ذكره القدوري أن هذا يشتبه من حيث العدد لأن الألف عدد واقتضى التشبيه بعدده كما لو قال أنت طالق كعدد ألف بخلاف ما لو قال أنت طالق واحدة كألف لأنه صرح بالواحدة علماً أنه أرادا به التشبه في الشدة والقوة دون العدد وتقع واحدة لهذا ولا تقع الثلاث وإن نوى لأن الواحدة لا تحتمل العدد ومن نوى ما لا يحتمله لفظه لا يعمل بنية، ولو قال أنت طالق كعدد ألف أو ثلاث فهي ثلاث في القضاء.
ذكره في «القدوري» أيضاً: لأنه لما صرح بالتشبيه من حيث العدد لم يبق لاحتمال التشبيه من حيث القوة غيره، وإذا قال لها: أنت طالق مثل عظم رأس الإبرة أو قال مثل الجبل أو قال مثل حبة الخردل فلأصل عند أبي حنيفة رحمه الله في حبس هذه المسائل أنه إذا شبه الطلاق بشيء عظيم أو صغير يقع بائن أي شيء كان المشبه به سواءً ذكر العظيم أو لم يذكر والأصل عند زفر رحمه الله أنه متى شبه الطلاق بشيء عظيم يكون بائن ومتى شبهه بشيء صغير حقير يكون رجعياً ذكر العظم أو لم يذكر.(3/439)
-----
والأصل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه متى ذكر العظم باللفظ يكون بائناً وإن كان المشبه به صغيراً أو من لم يذكر العظم باللفظ وشبهه بشيء عظيم أو شيء صغير حقير إن كان له حدة يكون بائناً وإن لم يكن له حدة يكون رجعياً بناه في مسائل إذا قال لها أنت طالق عظم سمسم أو عظم الخردل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقع تطليقة بائنة إعتبار للعظم ذكراً. وعند زفر رحمه الله تقع واحدة رجعية في مسألتين اعتباراً لصغر المسمى ولو قال مثل رأس الإبرة تقع واحدة بائناً عندهما لأن له حدة ولو قال مِثْلاً لسمسم تقع واحدة رجعية إذ ليس له حدة وأنه صغير وعند زفر رحمه الله تقع واحدة رجعية في المسألتين جميعاً إعتباراً لصغر المسمى، ولو قال: مثل الأساطين أو التراب أو الجبال عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقع تطليقة رجعية.
وعند زفر رحمه الله تقع واحدة بائنة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تقع واحدة بائنة في هذه الفصول كلها للأصل الذي ذكره. ذكر بعض مشايخنا قول محمد رحمه الله مع أبي يوسف رحمه الله على نحو ما بينا وبعضهم قول محمد مع أبي حنيفة رحمهما الله، وإذا قال لها أنت طالق مثل سبحة دانق طلاق تقع واحدة لأنها سبحة واحدة فقد شبه الواقع بالواحدة فتقع واحدة، ولو قال مثل سبحة دانق ونصف وفارسية تقع ثنتان لأن سبحة دانق ونصف وفارسية دانكم سبيك تقع ثنتان لأن سبحة دانية ونصف سبحتان من حيث العدد فقد شبه الواقع بعددين فتقع ثنتان، ولو قال يتم درم سيك تقع واحدة لأن سبحة ونصف درهم في العرف واحدة، ولو قال صار دانك سنك تقع تطليقتان لأن له سبحتان في العرف، ولو قال جهاردانك ديتم سنك تقع ثلاث بثلث سبحات في العرف فقد يك شبه الواقع بالثلاث.
والحاصل: أن التعديل على عدد السبحات المتعارفة فيما بين الناس.(3/440)
-----
ولو قال لها أنت طالق هكذا وأشار بإصبع واحدة فهي واحدة وإن أشار بثنتين فهي ثنتان وإن أشار بالثلاثة فهي ثلاث لأن الإشارة بالأصابع بمنزلة التصريح بالعدد وإن أشار بثلاثة أصابع وقال: عنيت بهذه الإشارة التشبيه بالكف دون الأصابع لا يصدق قضاء لأنه خلافاً للظاهر لأن الظاهر فيما بين الناس أنهم يريدون بهذه الاشارة تنقض الأصابع والتشبيه بالأصابع دون الكف ومن المتأخرين من قال: إذا جعل ظهر الكف. إليها والأصابع إلى نفسه صدق قضاءٍ.
ولو قال: عنيت اثنتين بالأصبعين اللتين عقدتهما لا يصدق في القضاء وتقع ثلاث تطليقات لأنه نوى خلاف الظاهر فالظاهر فيما بين الناس أنهم يريدون الإشارة بالأصابع المنشورة دون المعقودة بعض مشايخ بلخ قالوا: إنما لا يصدق قضاء إذا كانت الأصابع كلها معقودة قبل الإشارة نضف ثلاثاً منها وقال: أنت طالق هكذا، وقال أعني بها الأصابع المعقودة أما إذا كانت الأصابع كلها منشورة عقد ثنتين منها وقال: أنت طالق هكذا وقال عنيت به الأصابع المعقودة يصدق قضاءً لأنه ادعى المعتاد لأن المعتاد فيما بين الناس أنهم يريدون الإشارة بما أخذ فوافقه الحركة فإذا كانت الأصابع كلها منشورة وعقد ثنتين منها، وإنما أخذت الحركة في المعقودة فكان مدعياً هو المعتاد فيصدق قضاء ولكن هذا الخلاف رواية محمد رحمه الله.
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا قال عنيت اثنتين بالاصبعين اللتين عقدت لا يصدقه القاضي وقوله عقدت يقتضي أنها كانت منصوبة من قبل وإن أشار بالأصابع كلها فقال أنت طالق ولم يقل هكذا تقع واحدة لأن الإشارة بالأصابع محتملة بين أن تكون نسبة الواقع بها وبين أن تكون للكناية عن المرأة تأكيداً لقوله أنت فيقع الشك في وقوع ما زاد على الواحدة بخلاف ما إذا قال: هكذا لأنه إذا قال هكذا؛ فقد نص على التشبيه والظاهر يشبه الطلاق بها دون المرأة لأن الطلاق يتعدد في نفسه دون المرأة.(3/441)
-----
ولو قال: لها أنت طالق من هنا إلى الشام فهي واحدة رجعية لأنه وضعها بالمصر لأن الطلاق إذا وقع يقع في جميع الدنيا فإذا قال إلى الشام فقد وصفه بالمصر ومصره يكون من حيث الحكم والمصر من حيث الحكم هو الرجعي.
إذا قال لها: أنت طالق طلاق ملىء الدار فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث وإن نوى واحدة أو ثنتين أو لم يكن له نية فهي واحدة بائنة لأن الطرف قد يمتلىء من الشيء بضخامته وقد يمثل به لكثرته ونفس الطلاق لا يوصف بالغلط فأما حكم يوصف بالغلط وهو البينونة فإذا لم ينو شيئاً تقع واحدة بائنة؛ لأنه أدنى، وإذا نوى الثلاث تصح نيته لأن اللفظ يحتمله.
وإذا قال لها: أنت طالق واحدة بملىء الدار فهي واحدة بائنة لأنه لما نص على الواحدة نص على الواحدة ووصفها بملىء الدار علماً أنه إذا أراد ملىء الدار من حيث الضخامة والغلظ، وإذا قال: لها أنت طالق لونين من الطلاق فهما تطليقتان تملك الرجعة ولو قال لها: ثلاثة ألوان فهي ثلاثة فكذلك إذا قال ألواناً من الطلاق فهي طلاقاً ثلاثاً وإن نوى ألوان الحمرة والصفرة فله (234ب1) بينة فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك إذا قال: ضروباً أو أنواعاً أو وجوهاً من الطلاق.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله أنت طالق واحدة يكون ثلاثاً أو يصير ثلاثاً أو يعود ثلاثاً فهو ثلاث، وكذلك إذا قال: يتم ثلاثاً، ولو قال لها أنت طالق كماهي ثلاثاً وثالث فهي ثلاثة، ولو قال لها: أنت طالق آخر ثلاث تطليقات فهي واحدة، ولو قال: أطلقك آخر ثلاث تطليقات طلقت ثلاثاً إذا قال لها: تراسيار طلاق ولا نية له تقع تطليقتان لأن الشيء إذا ضم إلى الشيء يصير كثيراً ويكثر أكثر فأكثر كثير الطلاق ثلاث الكثير ثنتان هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند».(3/442)
-----
وفي «البقالي»: إذا قال لها: أنت طالق قال؛ لأن الثلاث إذا نصف كان نصفه الأكثر ثنتان من القاضي فخر الدين رحمه الله عامة الطلاق أو قال: هل الطلاق منهما تطليقتان ولو قال أكثر الطلاق فهو ثلاث، ولو قال: كل الطلاق فهو واحدة ولو قال أكثر الطلاق فهو ثلاث. ولو قال: كل الطلاق فهو واحدة ولو قال أكثر الثلاث فهو ثلثان وأخرى فهي واحدة ولو قال: أنت طالق، ولو قال: أنت طالق طالق الطلاق كله فهو ثلاثة وكذلك إذا قال كل طلقة، ولو قال عدداً من الطلاق فهو ثنتان وكذلك إذا قال عدد الطلاق، ولو قال عدة الطلاق فهو ثلاث.
ولو قال أنت طالق واحدة وأخرى فهي ثنتان، ولو قال: أنت طالق غير واحدة فهي ثنتان ولو قال غير ثنتين فهي ثلاث.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في قوله أنت طالق غير واحدة أنها واحدة إلا أن ينوي، ولو قال لها: أنت طالق لا قليل فلا كثير. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه تقع واحدة قال؛ لأن الطلاق لا يوصف بالقلة والكثرة فلما ذكر القلة أو الكثرة ففي قوله أنت طالق وهكذا حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله، واختيار الصدر الشهيد رحمه الله على أنه تقع الثلاث لأنه لما قال أولاً لا قليل فقد قصد إيقاع الثلاث لأن الثلاث هو الكثير فلا يعمل بعد ذلك قوله فلا كثير، فعلى هذا لو قال لا كثير ولا قليل تقع واحدة.
وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه يقع ثنتان وهو الأشبه؛ لأن الثنتان كثير على ما ذكرنا فإذا قال لا قليل بعد قصد إيقاع الثنتين فلا يعمل بعد ذلك قوله ولا كثير.
نوع آخر في إلحاق العدد بالإيقاع وفي نية العدد
إذا قال لها: أنت طالق فسكت ثم قال ثلاثاً فإن كان سكوته لانقطاع النفس وقع الثلاث لأن الفصل هنا غير معتبر وإن كان سكوته ليس لانقطاع النفس لا تقع إلا واحدة لأن الفصل هنا معتبر هكذا ذكر في «النوازل».(3/443)
-----
ولو قال لها: أنت طالق فقيل له بعدما سكت ثم قال ثلاثاً قال أبو يوسف رحمه الله: كانت طالقاً ثلاثاً هكذا ذكر في «العيون» فيحتمل أن يكون هذا قول أبي يوسف رحمه الله خاصة بناءً على ما روى عنه أن من قال لامرأته: أنت طالق ونوى الثلاث أنه يصح ويحتمل أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله أيضاً على أن من طلق امرأته واحدة ثم قال جعلها ثلاثاً قال الصدر الشهيد رحمه الله وهو الظاهر.
رجل قال لامرأته: ترا طلاق أو قال دامت طلاق ونوى الثلاث يصح وتقع الثلاث بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق ونوى الثلاث؛ لأن قوله طالق نعت فرد ونعت الفرد لا يحتمل العدد وأما الطلاق مصدر والمصادر أسماء الأجناس واسم الجنس يتناول الأدنى ويحتمل الكل فعند انعدام البينة تنصرف إلى الواحدة وإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله لفضله.
وفي «الأصل»: إذا قال لها: أنت طالق لا يقع إلا واحدة وإن نوى الثلاث، ولو قال أنت الطلاق ونوى الثلاث تقع الثلاث ولو قال: أنت طالق الطلاق كله تقع الثلاث وإن لم ينوِ الثلاث ومن المشايخ من يشترط نية الثلاث لوقوع الثلاث وهو قول عيسى بن أبان. وإذا قال لها: طلقي نفسك ونوى الثلاث صحت نيته حتى لو طلقت نفسها ثلاثاً تقع الثلاث لأن معنى كلامه افعلي فعل الطلاق أوقعي الطلاق على نفسك كما أن معنى قوله اضرب افعل فعل الضرب والطلاق مصدر والتقريب ما ذكرنا.
ولو قال لها: أنت طالق طلاقاً ولا نية لم تقع واحدة ولو نوى الثلاث صحت نيته ولو نوى الثنتين لا تصح لأن المصدر يحتمل الكل ظظاما لا يحتمل العدد والثنتان عدد فلم تصح نية الثنتين في الطلاق وصحة نية الثلاث فيه أجدى ولو نوى بقوله أنت طالق واحدة وبقوله طلاقاً أخرى تصح نيته وتقع ثنتان هكذا ذكر القدوري في كتابه يصير تقدير المسألة أنت طالق أنت طالق طلاقاً.
نوع آخر في إيقاع بعض التطليقة(3/444)
-----
إذا قال لامرأته: طالق ثلاثة أيضاً تطليقتين يقع عليه ثلاث تطليقات هكذا ذكر في «الجامع الصغير» فاعلم بأن من هذا الجنس مسائل:
أحدها: إذا قال لها أنت طالق نصفي تطليقة تقع تطليقة واحدة لأن نصفي تطليقه تكون تطليقة واحدة كنصفي درهم يكون درهماً واحداً.
الثانية: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثة أيضاً وتطليقة تقع تطليقتان لأن ثلاثة أنصاف تطليقة، تطليقة ونصف فكأنه قال لها: أنت طالق تطليقة ونصف.
الثالثة: أن يقول: أنت طالق أربعة أنصاف تطليقة تقع تطليقتان لأن أربعة أنصاف تطليقة تطليقتان كما أن أربعة أنصاف درهم درهمان فصار كأنه قال: أنت طالق تطليقتين.
الرابعة: أن يقول: أنت طالق نصف تطليقتين فهي واحدة لأن نصف تطليقتين طلقة فكأنه قال لها: أنت طالق تطليقة.
الخامسة: أن يقول: لها أنت طالق تطليقتان. السادسة: إذا قال لها أنت طالق ثلاث أنصاف تطليقتين نصفي تطليقتين تقع تطليقتان لأن نصفي تطليقة طلقة فيكون نصفي تطليقتين تطليقتان وكأنه قال لها: أنت طالق تطليقتان.f
السادسة: إذا قال لها: أنت طالق ثلاث أنصاف تطليقتين تطليقتين وهي مسألة «الجامع الصغير» والجواب فهذا ما ذكرنا أنه يقع ثلاث تطليقات لأن التطليقتين نصف وهو يكون ثلاث تطليقات ضرورة.
السابعة: إذا قال لها أنت طالق نصف ثلاث تطليقات تقع تطليقتان لأن نصف الثلاث تطليقة ونصف فكأنه قال لها: أنت طالق تطليقة ونصف.
الثامنة: إذا قال لها: أنت طالق نصفي تطليقات طلقت ثلاثاً؛ لأن لثلاث تطليقات نصف (235أ1) وذلك طلقة ونصف وطلقة ونصف مرتين يكون ثلاث تطليقات.(3/445)
-----
وإذا قال لها: أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة والسدس تطليقة تقع ثلاث تطليقات لأن... إذا كررت كانت البائنة غير الأول فيكون موقعاً ثلث، تطليقة أخرى وسدس تطليقة أخرى، ولو قال نصف تطليقة وثلثها وسدسها تقع واحدة؛ لأنه أضاف الثلث وسدس والنصف إلى الموقعة والواحدة الموقعة تقع لجميع أجزائها فلا يتصور إيقاع شيء بها مرة أخرى هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه»: وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله.
وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: إذا قال لها: أنت طالق نصف تطليقة ونصف تطليقة ووقع تطليقة تقع ثنتان هو المختار؛ لأنه متى جمع هذه الأخرى تزداد على الواحد فعلى قياس ما ذكر الصدر الشهيد رحمه الله ينبغي في قوله أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة وسدس تطليقة أن تقع تطليقة واحدة لأنه متى جمع بين هذه الأخرى لا تزداد على الواحدة ولو قال نصف تطليقة وثلثها وربعها وقعت ثنتان هكذا ذكر الحسن بن زياد رحمه الله لأنه زاد على آخر الواحدة لا بد وأن تكون الزيادة من طلقة أخرى، وبعض مشايخنا قالوا: تقع واحدة وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ولو قال لها: أنت طالق واحدة ونصف أو قال واحدة وربع أو ما أشبه ذلك تقع ثنتان، ولو قال واحدة ونصفها أو قال واحدة وربعها تقع واحدة.
والفرق أن في المسألة الأولى ذكر نصفاً مطلقاً وربما مطلقاً فاقتضى ذلك تطليقة بائنة، وفي المسألة الثانية ذكر النصف والربع مضافاً إلى الواحدة الموقعة لكون الهاء كناية عن المذكور أولاً وقد وقعت الأولى تحملها فلا يتصور إيقاعها بائناً.
ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» إذا قال الرجل لأربع نسوة له بينكن تطليقة طلقت كل واحدة واحدة لأن كلمة بين كلمة تقسيم وتشريك فتصير التطليقة مقسومة بينهن فيصيب كل واحد منهن ربع تطليقة وإيقاع بعض التطليقات إيقاع الكل.(3/446)
-----
وكذا إذا قال بينكن تطليقتان أو ثلاثة أو أربعاً، فروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله، لو قال لامرأتين له جعلت بينكما تطليقتين أو قسمت بينكما تطليقتين تطلق كل واحدة ثنتين وكأنه قال: إن كل تطليقة تقسم بينهن على حدة وعلى قياس هذا ينبغي أن تقع على كل واحدة ثلاث تطليقات في قوله ثلاثاً أو أربعاً وهو قول زفر رحمه الله.
ولكن نقول الأصل في العددي المتفاوت قسمت الجملة والطلاق من جملة الاعداد المتقارب ولو قال بينكن خمس تطليقات طلقت كل واحدة ثنتين لأن الخمس إذا قسم بين الأربع نصيب كل واحدة تطليقة وربع فيه كامل الربع فتصير تطليقتان وكذا الجواب فيما زاد على الخمس إلى الثمانية وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله: تقع على كل واحدة ثلاث تطليقات لأن نصيب كل واحدة طلقتان وربع والله أعلم.
نوع منه
في قوله: أنت علي حرام وما يتصل به إذا قال لامرأته: أنت علي حرام فإنه يسأل عن بينته قال نوى الطلاق يسأل كم نوى ثلاثاً قبلت وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة أيضاً وهذا لأن الحرمة نوعان:
حقيقة: وهي التي تثبت بالواحدة البائنة.
وغليظة: وهي التي تثبت بالثلاث فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله لفظه هذا المعنى معدوم في البينتين فنفى هدايته العدد وهذا اللفظ لا يحتمل العدد حتى لو كانت المرأة أمة تصح نية الثنتين لا يلزم على هذا ما إذا طلق امرأته الحرة واحدة ثم قال لها: أنت علي حرام ينوى ثنتين حيث لا يصح هذه النصيحة لأن هناك الحرمة المغلظة لا يحصل بهما بل يحصل بهما وبما تقدم هي هذا مجرد نية العدد حتى لو قال لها بعدما طلقها واحدة أنت علي حرام ونوى الثلاث تصح نيته وتقع تطليقتان آخر بأن نص على هذا محمد رحمه الله في آخر بأن ما تقع به الفرقة مما يشبه الطلاق.(3/447)
الفصل الخامس: في الكنايات هذا الفصل يشتمل على أنواع
-----
وإن نوى الطلاق في قوله: أنت علي حرام ولم ينو العدد فهي واحدة وإن لم ينو الطلاق فهو يمين نوى اليمين أو لم ينو لأن تحريم الحلال يمين غير أن اليمين في الزوجات إيلاء فإن قربها كان عليها الكفارة وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء فلا وكذلك هذا الحكم في جانب المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي حرام أو قالت أنا عليك حرام كان يميناً وإن لم ينو كما في جانب الزوج حتى لو مكنت زوجها الإيلاء حنثت في يمينها ولزمها الكفارة محفوظ عن أصحابنا رحمهم الله في «النوادر» وإن قال الرجل أردت بهذا الكلام الإيك فهو وما لو قال أردت اليمين سواء وإن قال: نويت الظهار فعلى قول محمد رحمه الله لا يكون ظهاراً وعندهما يكون ظهاراً وإن قال نويت بهذا الكلام الكذب فهو كذب فلا حكم له ويصدقه القاضي لأنه فسر لفظه بما يقتضيه ظاهره وهو نظير ما لو قال لامرأته: أنت حرة فقال أردت نفيها بالحرية لا الطلاق، يدين في القضاء هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قالوا: لا تصدق في القضاء.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها أنت علي حرام ثم قال: عنيت به الكذب لم يصدق في إبطال الإيلاء قضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولوقال كل حل علي حرام فإنه يسأل عنه النية فإن نوى اليمين أو لم ينو شيئاً بعينه كان يميناً وتنصرف إلى الطعام والشراب ولا تدخل فيه امرأته به إلا بالنية استحساناً هكذا قال محمد رحمه الله في «الكتاب»، وحكي عن مشايخ بلخ أنه تدخل فيه امرأته أيضاً وإن لم ينوها لأن العرف قد مشى فيما بينهم أنهم يريدون بهذه اللفظة النساء، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله حتى لو فشى هذا العرف فيما بينا أيضاً دخلت امرأته في اليمين من غير الله وبعض مشايخ زماننا.(3/448)
-----
وفي قوله حلال بر من حرام هرجه حلال است مرا بر من حرام أنه ينصرف إلى الطلاق من غير نية لأنه علة استعمال هذا في النساء ثم على ما هو جواب محمد رحمه الله إذا نوى امرأته حتى دخلت فيه امرأته لا يخرج الطعام والشراب من اليمين فيحنث إذا أكل أو شرب أو قرب امرأته وتلزمه الكفارة ويصير تقدير المسألة كأنه قال والله تناول النساء والطعام والشراب، وإذا تناول شيئاً من الطعام والشراب حنث في يمينه وانقضى حكم يمينه حتى لو قرب امرأته بعد ذلك لا يحنث في يمنه أن يتناول شيئاً (235ب1) قليلاً أو كثيراً من الطعام والشراب بخلاف ما إذا قال والله لا آكل هذا الطعام أو الشراب وذلك مما يستوفيه واحد، فإن هناك لا يحنث في يمينه ما لم يستوف جميع ذلك.
والفرق: أن هناك الحنث بحكم الشرط، والحرمة تثبت ضرورة كون الأكل والشرب شرطاً والحالف جعل أكل كل الطعام وشرطا، والمعلق بالشرط لا ينزل عند وجود بعضها وأما ههنا الحرمة لموجب التحريم وضرورته شرطاً كان ضرورة تنوب الحرمة، والحرمة إذاً ثبتت للمعنى صار كل جزء جواباً، فصار الحلال اليمين وجوب الكفارة معلقاً يناول جزءاً منه فكذلك لا يدخل في هذا اليمين اللباس إلا بالنية وإذا نوى اللباس حتى دخل اللباس تحت اليمين لا يخرج الطعام والشراب عن اليمين فإنه ليس شيئاً من الملبوسات حنث في بيمنيه فتلزمه الكفارة وينقضي حكم اليمين.
والحاصل: أنه إذا لم ينو في هذه اليمين شيئاً بعينه من الحلال فيمينه على الطعام والشراب خاصة، وإن كان اللفظ عاماً صالحاً يناول جميع الحلال به لأنه مقصود الحالف من اليمين البر دون الحنث، ولا تصور للبر إذا حمل على العموم، لأنه حينئذٍ يصير مرتكباً هو شرط الحنث عقب اليمين؛ لأن التنفيس وفتح العين والقعود والقيام بها أشبه ذلك من الأشياء التي لا يخلو الإنسان عنها تدخل تحت التحريم.(3/449)
-----
وإذا تعذر اعتبار معنى العموم فدخل على المتعارف وهو الطعام والشراب الذي بهما قوام النفس فلا يدخل تحت التحريم سواهما إلا بالنية، ولو نوى الطعام خاصة أو الشراب خاصة، أو اللباس خاصة، فهو على ما نوى فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء، أما فيما بينه وبين الله تعالى فإنه نوى ما يحتمله لفظه، وأما في القضاء فلأن عدم التصديق في القضاء لو كان إنما يكون لمراعاة العموم، وقد سقط اعتبار العموم على ما بينا، ولو نوى المرأة خاصة، ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» أن نيته لا تعمل، ويكون يمينه على الطعام والشراب والنساء، وعن أبي حنيفة رحمه الله في فصل التعليق إذا قال الرجل: كل حل حرامٌ إذا دخلت الدار فدخلها، إن هذا على الطعام والشراب خاصة دون ما سواه، وإن نوى، امرأته دون ما سواها فهو كما نوى فليس على الطعام ولا على الشراب، فذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يصدَّق ويعمل بنيتهُ، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه»، وإن قال نويت بهذا الطلاق في امرأتي فإن نيته تعمل في طلاق امرأته، فيخرج الطعام والشراب من أن يكون مراداً حتى لو أكل أو شرب بعد ذلك لا يحنث من يمينه، لأن اللفظ واحد، واللفظ الواحد لا يجتمع فيه معنيان مختلفان، ومعنى الطلاق غير معنى اليمين أصلاً، فروى إبراهيم عن محمد رحمه الله وإذا قال: كل حلِّ عليَّ حرام ونوى الطلاق في لسانه واليمين في نعم الله تعالى فهو طلاق ويمين.
وفي «نوادر ابن سماعة»: عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأتين له: أنتما عليّ حرام ينوي الطلاق في إحديهما واليمين أي الإيلاء في الأخرى فهما طالقتان فهكذا روي عن محمد رحمه الله أيضاً.(3/450)
-----
ووجه ذلك: أن اللفظ واحد فلا يحتمل معنيين مختلين فحمله على الأغلظ وهو الطلاق عند عدم إمكان اعتبارهما، وكذلك إذا نوى في إحديها ثلاث تطليقات وفي الأخرى واحدة فهما طالقتان ثلاثاً لأن الحرمة بالثلاث. نوع آخر غير الذي يثبت بالواحدة فلا يجتمعان في لفظ واحد، فحمل على الأغلظ.
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الأمر كما نوى يقع على إحديهما ثلاث تطليقات وعلى الأخرى واحدة، لأن هذا اللفظ للثلاث حقيقة، والواحدة كالمجاز، لأن الحرمة المطلقة تثبت بالثلاث فصار نظير لفظة النذر، إذا نوى به النذر واليمين، وهناك يكون يميناً ونذراً عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله كذا ههنا.
ولو قال هذه عليَّ حرام وهذه وهو ينوي الطلاق في إحديهما فالإيلاء في الأخرى، فهما طالقتان لأنه كلام واحد حنث، قال وهذه، ولم يقل وهذه علي حرام، والكلام الواحد لا ينتظم معنيين مختلفين فحمل على الأغلظ وهو الطلاق.
ولو قال هذه عليَّ حرام ونوى الطلاق، وهذه عليّ حرام ينوي الإيلاء، فهو كما ينوي، لأنهما لفظان وكلامان، فجاز أن يراد بكل واحد منهما معنى على حدة، ولو قال لأمرأته وأم ولده أنتما علي حرام، ينوي في الحرة اليمين وفي أم الولد الطلاق فهو يمين فيهما.(3/451)
-----
وعن اسماعيل بن حماد عن أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأته وجاريته أعتقتكما ينوي طلاق المرأة وعتاق الأمة قال: تعتق الأمة ولا تطلق المرأة، قال: لأن العتق أغلب لأنه لا يحتاج فيه إلى نية، ولو قال لثلاث نسوة أنتنّ علي حرام ينوي لأحداهن طلاقاً، واليمين في الأخرى، والكذب في الثالثة طلقن جميعاً، هكذا ذكر في «النوازل»، قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»، وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله يجب أن تكون كما نوى قياساً على المسألة المتقدمة. ولو قال لها: أنت علي حرام، قال ذلك مرتين ونوى بالمرة الأولى الطلاق وبالمرة الثانية اليمين فهو على ما نوى بالإجماع لأن اللفظ مختلف.
وقد مرَّ جنس هذا، إذا قال حلال الله علي حرام أو قال حلال حرام أو قال: حلال هذا بر من حرام إن فعلت كذا، أو قال حلال المسلمين فهذا كله طلاق بائن، لأن الناس في بلادنا تعارفوا هذا طلاقاً، فصار حكم العرف، كالصريح في هذا الباب فلا يحتاج فيه إلى النية، أو يقال فلا يصدق في ترك النية فبعد ذلك ينظر إن كانت له امرأة وقت الحلف طلقت واحدة بائنة، وإن لم يكن له امرأة وقت الحلف كان يميناً لأنه تعذر صرفه إلى المرأة فتحق المسألة لأن تحريم الحلال يمين حتى إن من قال لغيره حرام است بوستخن كفتن كان يميناً حتى لو كلمة تلزمه الكفارة، فكذا ههنا يكون يميناً، وتلزمه الكفارة إذا حنث، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»، وبه كان يفتي القاضي الإمام شمس الأئمة الأوزخندي رحمه الله، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول إذا لم يكن له امرأة وقت اليمين، فتزوج امرأة تطلق، ويصير تقدير كلامه كل امرأة أتزوجها فهي طلاق.(3/452)
-----
وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يقول إذا لم يكن له امرأة وقت اليمين يبطل الكلام ولا يحمل هذا يميناً، لأن هذا الكلام لما تعين للطلاق بحكم العرف صار تقدير كلامه: كل امرأة لي طالق إن فعلت كذا، وليس له امرأة، وهناك لا ينعقد اليمين على قول من يقول إنه لا يكون يميناً إذا لم يكن له امرأة وقت هذه المقالة إذا عنى التعليق حتى يصير تقدير (236أ1) كلامه: إن تزوجت فهي طالق إن فعلت كذا، هل تصدق في ذلك وهل تصح عنايته، قالوا: ينبغي أن.... وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام فسيأتي شيء من هذا الجنس في فصل المتفرقات، ولو قال: حلال الله علي حرام وكذلك في أجناسه، وله أربع نسوة وقعت على كل واحدة تطليقة، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي، وحكي عن الإمام أبي الحسن الرستفغني رحمه الله، أنه كان يقول فيمن قال: حلّ المسلمين علي حرام، ونوى الطلاق وله امرأتان، أنه يقع على كل واحدة تطليقة.(3/453)
-----
وفي «فتاوى» أئمة بخارى فيمن قال: حلال الله علي حرام وله امرأتان، قال محمد بن الفضل رحمه الله: إن لم يكن له نية طلقتا جميعاً، وإن نوى أن تطلق إحداهما ثنتين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء وحكى فتوى القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، والشيخ الإمام الخطيب مسعود بن الحسين الكُشاني رحمه الله أنه يقع الطلاق على واحدة منهن وإليه البيان وهو الأظهر والأشبه، وهذا لأن قوله حلال الله علي حرام بمنزلة قوله امرأتي طالق عرفاً ولهذا وقع الطلاق به من غير نية، وفي قوله: امرأتي طالق يقع الطلاق على واحدة منهن والبيان إليه كذا ههنا إذا قال: هرجه بدست راست كيرم يرمن حرام فهذا طلاق بائن بحكم العرف وقوله هرجه بدست راست كرفته أم نظير قوله هرجه بدست راست كيرم وسيأتي في فصل المتفرقات بخلافه ولو قال: هرجة بدست كيرم أو قال كرفته أم لا يكون طلاقاً لانعدام العرف ولو قال هرجة بدست كيرم فقد قيل: يجب أن يكون طلاقاً لأن اليد اسم جنس. وقيل: لا يكون طلاقاً لانعدام العرف.
سئل نجم الدين رحمه الله عن رجل خلع امرأته ثم تزوجها بعد ذلك، ثم قال لها: بعد ذلك توبي من حرامي بأن خلع قال: يحرم لأنه أخبر أنها حرام عليه الآن بذلك الخلع وإنما يكون حراماً عليه بذلك الخلع إذا كان ذلك الخلع طلاقاً ثلاثاً حتى لا يصح هذا النكاح، فيكون مقراً على نفسه بالطلقات الثلاث، وإقراره على نفسه صحيح قيل: له.... يجب لها بحكم هذا النكاح، المسمى في هذا النكاح أو مهر المثل قال المسمى في هذا النكاح لأنه لم يصدق عليها في حق فساد النكاح، وفساد التسمية لأن ذلك حق المرأة فصحت التسمية في نفسها، وحرمت عليه بإقراره الآن بالحرمة. إذا قال لآمرأته: أنت علي حرام ألف مرة تقع واحدة، لأن معنى كلامه مرة بعد مرة.(3/454)
-----
سئل نجم الدين رحمه الله أيضاً: عن امرأة قالت لزوجها حلال جيراي بدنو حرام قال يروي حرام شودبيك طلاق قال شود لأن قوله لدي يتضمن إعادة كلامها فصار كأن الزوج قال: حلال خذاي من حرام وهو تطليق في عرفنا تغير نية ثم في قوله: حلال خداي. واختار نية إذا وقع الطلاق بغير نية كان الواقع بها ثانياً اشتراط النية بحكم العرف فبقي فيما ورائه غير صريح، فيجوز أن يكون اللفظ صريحاً في حق حكم كتابه في حق حكم آخر كقوله: اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة فقال هذه الألفاظ في حكم الصريح على معنى أن الواقع بها رجعي ولا يقع بها أكثر من واحدة، وهي في معنى الكنايات لافتقارها إلى النية أو دلالة الحال.
وحكي عن شيخ الإسلام علي الإسبيجابي رحمه الله أنه كان يقول في جنس هذه المسائل ينبغي للمعنى أن ينظر في سؤال السائل، إن كان سأل أن قد قلت كذا، هل يكون طلاقاً، تكتب في الجواب نعم إن نويت الطلاق، لأنه لما سأل عن كونه طلاقاً وغير طلاق فقد زعم كونه غير طلاق، وإن كانت تسأل أني قد قلت كذا كم يقع من الطلاق تكتب في الجواب أنه تقع واحدة ولا تتعرض للنية وإنه حسن.
وفي «واقعات الناطقي»: إذا قال لها: أنت معي في الحرام فهو كقوله لها أنت علي حرام لأنها إذا حرمت عليه يحرم هو عليها فتكون معه في الحرام، إذا قال لها أنت علي حرام والحرام عنده طلاق لكن لم ينو الطلاق، فهي طالق على قول من يشترط نية الطلاق في هذا اللفظ، لما كان الحرام عنده الطلاق كان ذكره وذكر الطلاق سواء، وكما يصح إضافة التحريم إلى المرأة يصح إضافة الرجل بأن يقول الرجل أنا عليك حرام حرمت نفسي عليك غير أن إضافة التحريم إلى المرأة صحيح من غير ذكر الزوج حتى لو قال لها: حرمتك ونوى الطلاق، يقع الطلاق وإن لم يقل حرمتك على نفسي، وإضافة التحريم إلى الزوج لا يصح من غير ذلك المرأة، حتى لو قال: حرمت نفسي أو قال: أنا حرام، ولم يقل عليك نوى الطلاق لا يقع.(3/455)
-----
وكذلك يصح إضافة البينونة إلى الرجل كما يصح أضافتها إلى المرأة غير إضافة البينونة إلى المرأة صحيحة، من غير ذكر الرجل حتى إن الرجل إذا قال للمرأة أنت بائن، ولم يقل مني، يقع الطلاق إن نوى، ولو قال: أنا بائن ولم يقل منك، لا يقع الطلاق وإن نوى.
والفرق: إن وصله المرأة يختص بهذا الزوج لأن المرأة لا يحل لها الأزواج واحد، فإذا قال: لها أنت بائن، علمنا أنه أراد قطع الوصلة التي بينها وبينه فقد وضع البينونة في محلها فتقع وأما وصلة الزوج لا تختص بها المرأة لأن الرجل يحل له أربع نسوة فإذا قال: أنا بائن لا يعلم أنه أراد به قطع الوصلة التي بينه وبين هذه أو بينه وبين امرأة أخرى، ولهذا لا تقع ما لم يقل أنا منك بائن، وإذا قال أنت علي كمتاع فلان ينوي الطلاق الإيلاء فهذا ليس بشيء.
وإذا قال لها: أنت علي كالخمر والخنزير فهذا وما لو قال لها: أنت علي حرام سواء على التفاصيل التي قلنا.
فالحاصل: أن بالتشبيه إذا حصل بما هو محرم العين كالعين والخنزير والميتة فالحكم فيه كالحكم في قوله: أنت علي حرام إلا أن في قوله أنت علي حرام إذا لم ينو شيئاً كان يميناً بلا خلاف بين المشايخ ههنا إذا لم ينو شيئاً فقد اختلف المشايخ فيه أنه هل يكون يميناً.
امرأة قالت لزوجها: أنا حرام عليك أو حلال لك فقال أنت علي مثل ما أنت على جميع أهل المصر، أو قال بالفارسية: ير أحياني كي ينمة سهررا أو قال بائن حياتي كباسمة سهر فهي طالق إذا نوى الطلاق.
وسئل نجم الدين عمر قال: إن فعلت كذا فحلال واحد من حلال الله علي حرام، وقال: عنيت به لحم الإبل قال: طلقت امرأته.
نوع آخر(3/456)
-----
في قوله أنت خلية أو ما أشبهها إذا قال لها أنت خلية أو قال برية، أو قال بتة أو قال بائنة، وقال لم أنو به الطلاق فالأصل في جميع ألفاظ الكنايات أنه لا يقع الطلاق إلا بالنية، وإذا قال الزوج (236ب1) لم أنو به الطلاق فالمسألة على وجوه: أما إن قال ذلك في حالة الرضا، أو في حالة الغضب أو في حال مذاكرة الطلاق بأن سألت طلاقها أو سأل غيرها طلاقها، ففي حال الرضا يصدق الزوج في قوله لم أنو به الطلاق في الألفاظ كلها قضاء، وديانة وفي حال مذاكرة الطلاق لا يصدق الزوج في قوله لم أنو به الطلاق في كل لفظة يصلح جواباً ولا يصلح رداً قضاء ويصدق الزوج ديانة وذلك نحو قوله الرحله أنت بحرية نية بائن حرام لأن هذه الألفاظ لما خرجت عقيب سؤال الطلاق وأنها صالحة للجواب، فالظاهر أنه يريد الجواب فإذا قال: لم أنو به الجواب فقد ادعى أمراً بخلاف الظاهر فلا يصدق القاضي بيان أنها صالحة للجواب، لأن الصالح للجواب عن سؤال الطلاق كل لفظة منه إيجاب نفس الطلاق إذ إيجاب حكمه، لأنها تطلب بالطلاق حكمه.
إذا ثبت هذا فنقول في هذه الألفاظ إيجاب حكم الطلاق لأن حكم الطلاق ما يثبت بالطلاق من غير فعل فاعل مختار، والبينونة والحرمة والخلو عن النكاح والمرأة عن النكاح يثبت بنفس الطلاق من غير فعل فاعل مختار فكانت هذه الألفاظ صالحة للجواب من هذا الوجه.
بخلاف قوله: اغربي اذهبي، اخرجي، تقنعي، استتري، تخمري لأنه ليس في هذه الألفاظ تنصيصاً على حكم الطلاق، لأن الذهاب والتقنع والتستر والتغرب كلها أفعال اختيارية لا أحكام شرعية ولم توجد الإجابة لا في عين الطلاق ولا في حكمه.(3/457)
-----
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه ألحق قوله خليت سبيلك لا سبيل لي عليك، لا ملك لي عليك، الحقي بأهلك، فارعتك، سرحتك بقوله خلية، برية وأشباهها فقال لا يصدّق الزوج في القضاء، إذا قال الزوج لم أنوبها الطلاق في حال مذاكرة الطلاق، لأنها صالحة للجواب فيجعل جواباً بدلالة الحال ولها في حالة الغضب كل ما لا يصلح للشتم ويصلح للطلاق الذي يدل عليه الغضب يجعل طلاقاً فلا يصدق الزوج في قوله: أنوي به الطلاق، وما يصلح رداً فيصلح جواباً، نحو قوله: اعدلي اخرجي، لا يجعل طلاقاً وصلاحية هذه الألفاظ للرد أن يرد الزوج بقوله: اخرجي، اتركي سؤال الطلاق، ولما احتمل هذا الرد والإجابة تثبت الأولى.... أو الرد أدنى والإجابة أعلى، ولا تثبيت الإجابة بالشك وما يصلح أن يكون جواباً، ويصلح تسميه بحق قوله: خلية، برية، بتة، بائن حرام لا يجعل طلاقاً إذا قال: لم أنو به الطلاق وصلاحية هذه الألفاظ التسمية إن يريد الزوج بقوله: خلية الخلية من الخيرات، ويريد بقوله برية البرية عن الطاعات، والمحامد، ويريد بالبته والبائن أبتة والبائن عن كل ...، فإذا احتمل الشتم والطلاق، وحالة المقايضة كما تدل على الطلاق تدل على الشتم يثبت أدناهما وهو ....، وإن نوى في الخلية والبرية وألبتة والبائن والحرام ثلاثاً أو واحدة بائنة، فهو على ما نوى، أما في البائن والحرام، لأن البينونة به نوعان غليظة لا تحتمل الفصل، وخفيفة تحتمل الوصل، وكذا الحرمة ولكل نوع مقتضى، فتقتضي الخفيفة طلقة واحدة ومقتضى الغليظ الثلاث، فعند عدم النية تثبت الخفيفة وهو الخفيفة، وإذا نوى الغليظة تثبت الغليظة، لأنه نوى أحد نوعي الحرمة واحد نوعي البينونة، وكذا في الخلية والبرية وألبتة لأن هذه الألفاظ تبنى عن البينونة، والبينونة على ما مر.(3/458)
-----
وأما قوله: اعتدي لا يكون إلا واحدة تملك الرجعة، لأنه أمر بالاعتداد وليس فيه ما يبنى في الطلاق لأن الأمر بالاعتداد لما كان لا يصلح إلاّ بعد سابقة للطلاق اقتضى طلاقاً سابقاً ليصح الأمر بالاعتداد، والمقتضى بائن بطريق الضرورة، يرتفع بأصله فلا يظهر سبق الطلاق في حق صحة بنية الثلاث فيه في قوله: اخرجي، اذهبي، اغربي، تقنعي، استتري، تخمري، تصح نية الثلاث، لأن هذه الألفاظ يبنى عن البينونة، وأنها نوعان على ما مر، وإذا قال لها وهبتك لأهلك فهو من جملة الكنايات لا يقع الطلاق به إلا بالنية، وإنما وقع الطلاق بالنية لأنه نوى ما يحتمله لفظه، لأن الهبة تقتضي زوال الملك، ويتسوى إن قبلتها أو لم تقبلها، لأن القبول في الهبة إنما يحتاج إليه لدخول الموهوب في ملك الموهوب له والبائن ههنا: إزالة الملك، فلا يحتاج إلى القبول.(3/459)
-----
وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا قال لها: وهبتك لأهلك، أو لأبيك، أو لأمك أو للأزواج فهو طلاق، إذا نوى لأن المرأة ترد على هؤلاء فلا يكون بالطلاق، ويملكها الزوج بعد الطلاق فكانت من مدلولات هذه الألفاظ، ولو قال وهبتك لأخيك، أو لأختك أو ما أشبه ذلك، فليس بطلاق، وإن نوى لأن المرأة بالطلاق لا ترد على هؤلاء فلا يكون الطلاق من مدلولات هذا، وإذا قال لها وهبت نفسك منك، فهو من جملة الكنايات إن نوى به الطلاق يقع وإلا فلا، ولو قال لها: ألحقك لا تقع وإن نوى، ولو قال لها: جهارداه برتوكشادم دست لا يقع الطلاق، وإن نوى ما لم يقل خذي إنها سبب عند أكثر المشايخ، وأنه منقول عن محمد رحمه الله، ولو قال جهارداه برتوكشادم يقع الطلاق إذا نوى، وإن لم يقل خذي أيها شئت لأن في الوجه الأول أخبر عن كون الطلاق مفتوحة عليها فهي كذلك، فإذا قال خذي في أيها شئت فكأنه قال: اذهبي، ونوى الطلاق، وفي الوجه الثاني أخبر عن فتح الطريق عليها وذلك قد يكون بالإذن، وقد يكون برفع النكاح بالطلاق، فإذا نوى رفع النكاح فقد عين الطلاق، ولو قال لها: اذهبي فتزوجي لا يقع الطلاق إلا بالنية، وإن نوى فهي واحدة بالله وإن نوى الثلاث فهي ثلاث، وإذا قالت لزوجها طلقني فقال: لا أفعل فقالت إن لم تطلقني أذهب فأتزوج فقال الزوج: سوى كن خوانتي بكلي خواهي دوخواهي نية لا يقع الطلاق في «واقعات الصدر الشهيد» رحمه الله، ولو قال: اذهبي البسي الثوب أو قال: اذهبي فتقنعني أو ما أشبه ذلك فأراد بقوله: اذهبي الطلاق لا تطلق.
وفي «مجموع النوازل»: دستاز من بدار فقال لها: اذهبي إلى جهنم ونوى الطلاق يقع.
نوع آخر
في قوله: نهشم وما يتصل به. الأصل في هذا النوع من الألفاظ أن يقال كل لفظ في الفارسية يستعمل في الطلاق، ولا يستعمل في غيره، فهو كصريح الطلاق بالعربية، وإن كانت اللفظة مستعملة في الطلاق وغيره فهو بمنزلة كنايات العربية.(3/460)
-----
إذا ثبت هنا فنقول (237أ1) إذا قال الرجل لامرأته بهشتم ترا أرزتي فاعلم بأن هذا لفظ استعمله أهل خراسان وأهل العراق في الطلاق، وإنه صريح عند أبي يوسف رحمه الله، حتى كان الواقع به رجعياً ويقع بدون النية لأن الناس تعارفوا إيقاع الطلاق بالفارسية بهذا اللفظ فالمستحق تصريح الطلاق بالعربية فكان الواقع به رجعياً لهذا، أو أما إذا قال: بهشتم ترا ولم يصل أرزتي، فإن كان في حال غضب أو مذاكرة الطلاق فواحدة لملك الرجعة، إذ ليس لهذا اللفظ اختصاص بالنكاح، فلا يحمل عليه إلا بقرينة أو دلالة حال، أو نية، فإذا وجد شيء من ذلك لا يصدق في صرفه إلى غير الطلاق، وإن نوى بائناً أو ثلاثاً فهو كما نوى، وقول محمد رحمه الله في هذا كقول أبي يوسف رحمه الله، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، في رواية الحسن رحمه الله يقع الطلاق بلا نية ويكون رجعياً، وبه أخذ الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله، وفي رواية ابن رستم رحمه الله، لا يقع إلا بالنية ويكون بائناً وبه أخذ الفقيه أبو نصر أحمد بن سهل رحمه الله، لأن هذا تفسير قوله خليتك.
وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»: وقال أبو حنيفة رحمه الله في فارسي قال لامرأته: بهشتم ترا أو: بهشتم أرزتي إنه لا يكون طلاقاً إلا بالنية، وأنه يوافق رواية ابن رستم ثم قال: فإن نوى الطلاق ولم ينو البينونة ولا عدداً فهو واحد بملك الرجعة، وإن نوى ثلاثاً قبلت وإن نوى بائناً كان بائناً قال القدوري رحمه الله: فصارت هذه اللفظة ملحقة بكنايات العربية من حيث اعتبار أصل النية وصحت نية الثلاث، ولم يلحقه في حق صفة البينونة، إذا لم ينو البينونة وهذا لأن هذا اللفظ كما يحتمل غيره فلا بد من اعتبار النية، فإذا نوى الطلاق كان صريحاً فتقع واحدة رجعية، وإن نوى البينونة، أو الثلاث فقد جعل هذا اللفظ تفسير التخلية، ونية الثلاث والبينونة في التخلية صحيحة، فكذا في هذه اللفظة.(3/461)
-----
أما إذا لم ينو البينونة والثلاث لم يجعل هذا اللفظ تفسيراً للتخلية فبقيت صريحاً فتقع واحدة رجعية، أو يقال عند عدم نية البينونة والثلاث، يحتمل أنه جعله تفسير التخلية، ويحتمل أنه جعله تفسير التصريح، فلا تقع البينونة بالشك والاحتمال قال القدوري رحمه الله: وأثبتت المغايرة بين العربية والفارسية من وجه آخر.
فقال لو قال في حال مذاكرة الطلاق بالعربية خليتك أنه يكون طلاقاً، ويتعين بدلالة الحال، ولو قال بالفارسية في حال مذاكرة الطلاق أو حالة الغضب بهشتم لم يقع شيء حتى ينوي، لأن هذه اللفظة وإن أقيمت مقام لفظة التخلية إلا أنها تستعمل لا للتخلية فكانت أضعف من لفظة التخلية فلا تؤثر فيها دلالة الحال، ولو قال بله كردم يرافقه اختلاف الشيخين على نحو ما ذكرنا في قوله بهشتم ولو قال دست بازداشتم يرافقه اختلاف الشيخين ولكن على عكس ما ذكرنا في قوله بهشم ولو قال باي كشا دكردم كسرا يقع الطلاق بلا نية، ويكون رجعياً باتفاق الشيخين ولو قال حبك بازداشتم ترا فهو نظير قوله دست بازداشتم ترا، ومن المتأخرين من مشايخ بخارا من جعل الثلاث، الأول تفسيراً لقوله طلقت عرفاً حتى يقع بلا نية وجعل الرابع والخامس تفسيراً لقوله خليت سبيلك حتى لا يقع الطلاق إلا بالنية ويكون الواقع بائناً، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يفتي في قوله بهشتم بالوقوع بلا نية ويكون الواقع به رجعنا ويفتي فيما سواها في اشتراط النية ويكون الواقع بائناً.(3/462)
-----
وعن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، أنه كان يقول صريح الطلاق في ديارنا طلقتك طلاق دادم ترايا كشادة كردمت وفي بلاد العراق دهاكردم بيك طلاق إذا قال تيك طلاق بازداشتم فهي واحدة بائنة وكذلك إذا قال: طلاق فهو واحدة بائنة، ولو قال به تك صلاق دست بازداشتم أو قال رها كردم بيك طلاق فهي واحدة رجعية، وإذا قالت مرارهاكن فقال رهاكردم فهو بمنزلة قوله دهاكردمت في «فتاوى النسفي»، وإذا قالت بازداشتم مرا وقال بازداشتم فهذا بمنزلة ما لو قال: دست بازداشتم ترا لأن كلامه خرج جواباً فيتضمن إعادة ما في السؤال، وإذا قال مرادركارخداي كن فقال الزوج برادركارخداي كردم أو قالت براخداي إن نوى الطلاق يقع وإن لم ينو لا يقع استدلالاً بما لو قال تصده أبت .... أو خولتك الله فإن هناك إن نوى يقع العتق، وإن لم ينو لا يقع العتق ويصدق في أنه لم ينو الطلاق فيما بينه وبين الله تعالى، وفي القضاء سواء كان ذلك في حالة الرضا، أو في حال الغضب أو في جواب كلامها، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال الرجل لامرأته من نيردست بازداشتم أزتوان نوى الزوج فقالت المرأة بازداشتم بنية الطلاق فقال الزوج من بزدست بازداشتم ارتوان نوى الزوج واحدة أو ثلاثاً فهو كما نوى، لأنه محتمل لذلك، وإن لم ينو شيئاً لا يقع شيء، لأنه لو وقع وقع بقوله من نيرازتو وبهذا لا يقع إلا بالنية.
نوع آخر في قوله ليست لي بامرأة وما يتصل به
إذا قال: مراحيرى بيانتي وكذا هذا القول ونوى به الطلاق لا يقع الطلاق وكذا إذا قال لم يكن بيننا نكاح، أو قال لم أتزوجك ونوى به الطلاق لا يقع الطلاق، بالإجماع، ولو قال: لست لي امرأة، إذا ما تزوجتك ونوى الطلاق، وطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما.
وإذا سئل الرجل ألك امرأة فقال لا، ونوى الطلاق فهو على هذا الخلاف، فرق أبو حنيفة رحمه الله بين قوله ليست لي امرأة وبين قوله لم يكن بيننا نكاح، لم أتزوجك.(3/463)
-----
والفرق: أن قوله لم أتزوجك لم يكن مبيناً نكاح لا يحتمل النفي بالطلاق، ولهذا لو قال لم أتزوجك لم يكن بيننا نكاح لأني قد طلقتك لا يصح، فإن نوى الطلاق به فقد نوى ما لا يحتمله لفظه أما قوله ليست لي امرأة، ما أنا بزوجك كما يحتمل نفي النكاح من الأصل يحتمل للحال بالقطع أي ليست لي امرأة لأني قد طلقتك، ألا ترى أنه لو صرح به يصح، فإذا نوى به الطلاق فقد نوى ما يحتمله لفظه، ولو قال لا نكاح بيني وبينك.
ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»: إنه إذا نوى الطلاق يقع، ولم يُحْكَ خلافاً، قيل: وينبغي أن يكون هذا قول أبي حنيفة رحمه الله بناءً على ما إذا قال لست لي بامرأة ونوى به الطلاق وعلى هذا (237ب1) إذا قال: ليس بيني وبينك نكاح ونوى به الطلاق، ولو قال: لم يبق بيني وبينك شيء ونوى به الطلاق لا يقع، ولو قالت لزوجها لست لي بزوج فقال الزوج: صدقت، قال الفقيه أبو نصر رحمه الله: أخاف أن يقع عند أبي حنيفة رحمه الله كما في قولهما، أما تزوجتك ونوى الطلاق، ولو قال: والله ما أنت لي بامرأة أو قال علي حجة إن كانت لي امرأة، لم يكن طلاقاً بلا خلاف، وإن نوى، هكذا ذكر القدوري رحمه الله في كتابه، لأنه لما قرن به اليمين، واليمين لتأكيد الخبر، علمنا أنه أراد به الماضي، إذ الخبر إنما يقع عن الماضي، فإذا أراد به الماضي كان كذباً، فأما بدون اليمين يحتمل معنى الإنشاء فيقع به الطلاق إذا نوى عند أبي حنيفة رحمه الله ومن مشايخنا من قال:
هذه المسألة على الخلاف أيضاً: وذكر الناطفي في «طلاق الهداية»: إذا قال: ما لي امرأة ونوى الطلاق لا يكون طلاقاً عند أبي حنيفة رحمه الله.
ولو قال: لست لي بامرأة ولم يواجهها لا يقع به الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله وإن نوى في هذا الموضع أيضاً.
وفي هذا الموضع أيضاً: إذا قال لها: لست لي بامرأة إن دخلت الدار ونوى به الطلاق طلقت إذا دخلت في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.(3/464)
-----
ولو صرت غير أمرأتي ونوى به الطلاق يكون طلاقاً.
قال الناطفي رحمه الله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. ولو قال لها فسخت النكاح بيني وبينك ونوى الطلاق فهو طلاق، لأن الفسخ أوجب البينونة، فقد نوى ما يوجبه لفظه، وعن أبي حنيفة رحمه الله إذا قال: لا حاجة لي فيك فليس بطلاق وإن نوى؛ لأن نفي الحاجة لا ينفي الزوجية، ولا أحكامها لأن النكاح نكاح مع عدم الحاجة فإن الإنسان قد يتزوج بمن لا حاجة له فيها.
في «مجموع النوازل»: امرأة قالت لزوجها احرز بوم فقال الزوج مه تودمه رني تو لا يقع بها شيء.
وفيه أيضاً: رجل قال لامرأته: إنبكانة لا يقع الطلاق لأن كونها أجنبية لا ينافي النكاح فقد نوى ما لا يحتمله لفظه.
رجل قال لامرأته: برئت من طلاقك أَو قال: برئت إليك من طلاقك، إن لم ينو الطلاق لا يقع، وإن نوى فقد اختلف المشايخ، واختار الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله أنه لا يقع.
ولو قال: أنا بريء من نكاحك يقع الطلاق لأن البراءة عن الشيء إعراض عنه والإعراض عن الطلاق لا يكون طلاقاً، فأما الإعراض عن النكاح فطلاق وفي «مجموع النوازل»: امرأة قالت لزوجها: أنا بريء منك فقال الزوج: أنا بريء منك أيضاً، فقال: أنظر ماذا يقول، فقال الزوج: ما نويت الطلاق، قال: لا يقع الطلاق لعدم النيّة.
وفي «فتاوى شمس الإسلام» رحمه الله: إذا قال لها: أنا أبرأتك عن الزوجية يقع الطلاق من غير نية في حال الغضب وغيره.
نوع آخر في قوله طلاق زاده كير وما يتصل به
امرأة قالت لزوجها: مر إطلاق ده فقال الزوج داره كير أو قال دارده ماد ينوي، فإن نوى الإيقاع يقع الطلاق، وإن لم ينو الإيقاع لا يقع الطلاق لأنه يحتمل الإيقاع والوعد. فإذا نوى الإيقاع حتى وقع الطلاق يقع رجعياً.(3/465)
-----
ويجوز أن يشترط النية، ويكون الواقع رجعياً. وكذلك إذا قال: كرده كير أو كرده باد أو قال يقع الطلاق نوى أو لم ينوِ لأنه للتحقيق. ولو قال داده إنكار وكرده إنكار لا يقع الطلاق وإن نوى. ولو قالت: مر إطلاق فقال الزوج كفتة كير لا يقع الطلاق وإن نوى لأن قوله كفتة كير لا يحتمل الجواب بخلاف قوله داده كير ولو قالت: مرامدار فقال الزوج ما دست كير يقع الطلاق إذا نوى ويكون ثابتاً وكذلك إذا قال: دست أزمن بازدار فقال بازداشت كير يقع الطلاق إذا نوى فيكون ثابتاً.
ولو قالت من برتو بطلاقم فقال الزوج كحان كير فقد ذكر في «مجموع النوازل»: إنها تطلق وفيه اختلاف المشايخ.
ولو قال: حنان ولم يقل كير لا تطلق لأنه ليس بتام في الجواب والتام أن يقول: بحنان است كناني بحنان كير.
قالت لامرأته: أنت طالق، فقالت لا أكتفي بالواحدة فقال الزوج دوكير فإن نوى الطلاق الزوج بقوله دوكير إيقاع الطلاق تطلق ثلاثاً، ويكون قوله دوكير إيقاع الثنتين ابتداءً وقد سبقها طلقة وطلقت ثلاثاً لهذا. ولو قالت مرايله كن فقال الزوج بله كرده كير أو قال دما كيردده فهو على ما قلنا أنه إن نوى الإيقاع يقع.
ولو قالت خويشتن خريدم أزتو نفروش فقال الزوج: فزوجته فقد قيل: ينبغي أن يصح الخلع، وهذا إذا أراد به التحقيق.
ولو قال: سوكيدخوربر فقالخورده كير حكى، فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنه لا تطلق، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن تطلق إذا نوى التحقيق.
امرأة قالت لزوجها من بيك سو وتونيك سو فقال الزوج نجذبين كير لم تطلق لأن هذا ليس من ألفاظ الكنايات.
امرأة قالت لزوجها: برمن جرا امرءاي كرمن زن تونم ومالي ني كير فقال: لا تطلق.
رجل دعى امرأته إلى الفراش فأبت فقال: لها اخرجي من عندي فقالت: طلقني حتى أذهب فقال الزوج: إكرارزوني توجنين است حنين كبر ولم تقل شيئاً، قد قامت لا تطلق في أيمان «مجموع النوازل».(3/466)
-----
نوع آخر في بيان حكم الكنايات
فنقول: الكنايات التي هي بوائن، إذا نوى به الزوج الطلاق كان طلاقاً بائناً، وإن نوى اليمين كان يميناً، لأن هذه الألفاظ تحتمل إيجاب الحرمة فصارت هذه الألفاظ بمنزلة قوله: أنت علي حرام، وإن لم يكن نوى شيئاً، هل يكون يميناً؟ ففيه اختلاف المشايخ: من قال بأنها يمين قاس هذه الألفاظ على قوله: أنت عليّ حرام.
ومن قال: إنها ليست بيمين قال: بأن هذه الألفاظ ليس بصريح في باب اليمين، وما ليس بصريح في باب إنما يلحق بالصريح فيه إما بغلبة الاستعمال، أو بدلالة الحال، أو بالنية، ولم يوجد شيء من ذلك هنا، بخلاف قوله: أنت علي حرام لأن هناك وجد غلبة الاستعمال في اليمين فالتحق بالتصريح والله أعلم.
نوع آخر في تكرار ألفاظ الكنايات وما يتصل به
قال محمد رحمه الله في «الأصل»: إذا قال لها: اعتدي اعتدي اعتدي وقالت: نويت بالكل طلقة واحدة لا يُصدّق قضاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى: أما لا يصدق قضاء لأنه لما نوى بالكل طلقة واحدة، كأنه نوى بكل لفظ ثلث تطليقة والتطليقة مما لا يتجزّأ نية بعضها يكون نية كلها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لمكان الاحتمال لأنه نوى بالأول الإيقاع وبالثاني وبالثالث الأمر بعدة واجبة، أو لأنه نوى بالأول الإيقاع وبالثاني والثالث التكرار وإذا قال: عنيت بالأول طلاقاً وبالثاني والثالث الأمر بعدة واجبة يصدق في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه لما نوى بالأول الطلاق صار كأنه (238أ1) قال لها: أنت طالق ثم قال بعد ذلك: اعتدي اعتدي، ولو قال هكذا وقال: عنيت بقولي: اعتدي اعتدي الأمر بعدة واجبة كان كما نوى؛ لأنه نوى حقيقة واحدة لأن هناك نوى بكل لفظ ثلث تطليقة والتقريب فامر.(3/467)
-----
ولو قال: عنيت بالأولى طلاقاً ولم ينو بالثاني والثالث شيئاً تقع الثلاث عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الثاني والثالث واحد حال مذاكرة الطلاق لما نوى بالأول الطلاق وقوله اعتدي حال مذاكرة الطلاق طلاق.
وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال: أنت طالق فاعتدي، وقال: أنت طالق واعتدي، وأراد بقوله واعتدي فاعتدي الأمر بعدة واحدة صدق قضاءً. وإن أراد به تطليقة أخرى أولم ينوبه شيئاً فهي أخرى.
قال مشايخنا: وما ذكر محمد رحمه الله من الجواب أنه إذا لم ينو شيئاً فهما طلاقان فذلك مستقيم في قوله: أنت طالق واعتدي، غير مستقيم في قوله: فاعتدي، وينبغي أن تقع واحدة في هذه الصورة، وإليه أشار في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله وهو الصحيح.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: اعتدي يا مطلقة، ونوى بقوله اعتدي الطلاق فهي طالق تطليقتين أحدهما: بقوله اعتدي، والثانية: بقوله يا مطلقة فإن قال: نويت أنها مطلقة بما لزمها من الطلاق فاعتدي يدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولو قال: بيني فأنت طالق فهي طالق واحدة إذا لم ينو بقوله بيني طلاقاً (ولو بيني طلاقاً).
ولو قال: حرمت نفسي عليك فاستتري ونوى بها طلاقاً فهي واحدة بائنة؛ لأنه لا يقع بائن بائن، وكذلك إذا قال: نويت بقولي حرمت نفسي واحدة وبقولي استتري ثلاثاً فهي واحدة. ولو قال: لم أنو بقولي حرمت نفسي شيئاً، وأردت بقولي فاستتري واحدة أو ثلاثاً فهو كما نوى.
ولو قال لها: أنت طالق ألبتة، أو قال لها: أنت طالق بائن تقع تطليقة واحدة بقوله: أنت طالق نوى الطلاق أو لم ينو فبعد ذلك المسألة على خمسة أوجه.
وإن أراد بقوله ألبتة والبائن صيغة قوله: أنت طالق أو لم ينو شيئاً فالواقع واحدة بائنة.
وإن نوى بقوله: ألبتة أو البائن طلاقاً آخر كان كما نوى وطلقت تطليقتين سوى الأول طلقت تطليقتين:
g
أحدهما بالكلام الأول والثانية بالكلام الثاني.(3/468)
-----
ولو نوى بقوله ألبتة ثلاثاً تقع ثلاث تطليقات كما لو قال ابتداءً: أنت بائن أنت بتة.
وفي «المنتقى» لو قال: أنت طالق واحدة بائن ونوى ثلاثاً فهي اثنتان، واحدة بالطلاق وواحدة بالواحدة. ولو نوى بالبائن الثلاث فهي ثلاث.
نوع آخر في تفويض الطلاق إلى المرأة أو إلى الأجنبي بقوله: أمرك بيدك، طلقي نفسك، أمرها بيدك، طلقها، وبيان أحكامه وما يتصل به من المسائل
قال: إذا قال الرجل لامرأته: أمرك بيدك ينوي الطلاق فإن كانت تسمع فأمرها بيدها ما دامت في مجلسها، وإن لم تسمع فأمرها بيدها إذا علمت أو بلغها.
والأصل في هذا: أن الزوج يملك إيقاع الطلاق بنفسه فيملك التفويض إلى غيره فيتوقف عمله على العلم؛ لأن تفويض طلاقها إليها يتضمن معنى التمليك، لأنها فيما فوّض إليها من طلاقها عاملة لنفسها دون الزوج، والإنسان فيما يعمل لنفسه يكون مالكاً ولا يكون بائناً عن المرة وعمل التمليكات يقف على علم من يقع التمليك منه فلأجل ذلك اقتصر الجواب على المجلس كما في سائر التمليكات، إلا أن هذا التمليك مفارق سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس لأن هذا التمليك يضمن معنى التعليق فإن الإيقاع، وإن صدر من غير الزوج إلا أن الوقوع مضاف إلى معنى من قبل الزوج فلا بد من اعتبار معنى التعليق والتعليق لا يتوقف على المجلس فاعتبرنا معنى التعليق فقلنا ببقاء الإيجاب إلى ما وراء المجلس إذا كانت غائبة.
واعتبرنا معنى التمليك فقلنا بالاقتصار على مجلس العلم عملاً بالدليلين بقدر الإمكان. ولو لم يرد الزوج بالأمر باليد طلاقاً فليس بشيء إلا أن يكون في حالة الغضب أو في حالة مذاكرة الطلاق فلا يُديّن في الحكم وهذا لأن قوله: أمرك يحتمل وجوهاً شتى، ألا ترى أنه يحتمل أمرك بيدك في الخروج والانتقال، والمحتمل لوجوه شتى لا يتعين بعض وجوهه إلا بالنية أو دلالة حال تقوم مقام النية.(3/469)
-----
ولو ادعت المرأة منه الطلاق أو أنه كان في غضب أو مذاكرة طلاق فالقول قوله مع اليمين وتقبل بينة المرأة في إثبات حالة الغضب ومذاكرة الطلاق؛ لأنها قامت على معنًى بشهادة الشهود فلا تقبل شبهتها في نية الطلاق؛ لأنها قامت على ما لا يشاهده الشهود فلا يقبل إلا أن تقوم البنية على إقرار الزوج بذلك.
ثم الأمر باليد قد يكون مرسلاً وقد يكون معلقاً بالشرط بأن قال: إذا قدم فلان فأمر امرأتي بيدها أو قال: بيد فلان.
وإن كان مرسلاً فهو على وجهين:
إن كان مطلقاً غير مؤقت بوقت فحكمه ما ذكرنا أن المفوض إليه إن كان يسمع فالأمر بيده. ما داموا في ذلك المجلس وإن لم يسمع أو كان غائباً قائماً يصير الأمر بيده إذا علم أو بلغه الخبر، ويكون الأمر في يده ما دام في مجلس العلم.
والقبول في المجلس ليس بشرط ولكن إذا ردّ المفوض إليه ذلك يريد بردّه، وهذا لما ذكرنا أن الأمر باليد يتضمن معنى التمليك ومعنى التعليق والقبول في التعليقات ليس بشرط، فاعتبرنا معنى التعليق، ولم يشترط القبول في المفوض إليه، واعتبرنا معنى التمليك فقلنا: يريد بالرد عملاً بالمعنيين بقدر الإمكان.
وأما إذا كان مؤقتاً بوقت وإن علم المفوض إليه بالأمر مع بقاء شيء من الوقت فله الخيار في بقية الوقت ولا يبطل بالقيام عن المجلس. وإن مضى الوقت قبل علم المفوض إليه بذلك ينتهي الأمر؛ لأنه خصّ التفويض بزمان فلا يبقى بعد مضي ذلك الزمان.
وأما إذا كان الأمر معلقاً بالشرط فإنما يصير الأمر في يد المفوض إليه إذا جاء الشرط، وإذا جاء الشرط فإن كان الأمر مطلقاً غير موقت بوقت صار الأمر في يده في مجلس علمه.
والقبول في ذلك المجلس ليس بشرط، لكن يريد بالرد، وإن كان مؤقتاً فعلم المفوض إليه بالأمر، مع بقاء شيء من الوقت والأمر في يده ما دام ذلك الوقت باقياً.(3/470)
-----
وإذا مضى الوقت قبل العلم ينتهي الأمر، ثم إذا جعل الأمر بيدها فاختارت نفسها في مجلس علمها بانت بواحدة.
وإن كان الزوج أراد ثلاثاً فثلاث، وإن نوى ثنتين فواحدة أو لم تكن له نية في العدد فهي واحدة لأن قوله: أمرك بيدك من جملة الكنايات لافتقارها إلى النية أو دلالة الحال.
والواقع بالكنايات واحدة، إلا أن ينوي ثلاثاً ولا تقع به ثنتان وإن نوى على ما عرف.
وليس للزوج أن (238ب1) يرجع عن ذلك ولا أن ينتهي المفوض إليه عن الإيقاع لما ذكرنا أن هذا التصرف يتضمن معنى التعليق، والتعليق لا يقبل الرجوع، ولو قال لها: أمرك بيدك إلى عشرة أيام فالأمر في يدها من هذا الوقت إلى مضي عشرة أيام فتحفظ بالساعات، وهذا لأن الأمر باليد مما يحتمل التأقيت، ألا ترى أن من قال لامرأته: أمرك بيدك اليوم لا يبقى الأمر بيدها بعد اليوم فيعمل تحقيقه ويجعل الأمر بيدها من هذا الوقت إلى تمام عشرة أيام.
ولو أراد الزوج أن يكون الأمر بيدها بعد مضي عشرة أيام دُيّن فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر، وهذا بخلاف ما ذكرنا في الطلاق العصام.
إذا قال لامرأته: أنت طالق إلى سنة فإنها تطلق بعد مضي السنة إلا أن ينوي الوقوع للحال لأن الطلاق لا يحتمل التأقيت فيجعل هذا إيقاعاً بعد مضي السنة ولا كذلك الأمر باليد.
وإذا قال: أمرك بيدك في تطليقة رجعيّة لأنه جعل أمرها بيدها في تطليقة والتطليقة تعقبه الرجعة.
في «الكتاب» وفي «المنتقى»: إذا قال: أمرك بيدك في ثلاث تطليقات وطلقت نفسها واحدة أو ثنيتين فهي رجعية.
وإذا قال لها: أمري بيدك فاختارت نفسها تكلموا فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار أن يقع الطلاق؛ لأن هذا أبلغ في التفويض من أن يجعل أمرها بيدها.(3/471)
-----
وفي «البقالي»: عن محمد رحمه الله: أنه لا يقع الطلاق. وسئل الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله عمن قال لغيره إن غبت عن هذه البلدة ومضى على غيابي ستة أشهر فأمر امرأتي بيدك حتى يخلعها ببقية مهرها ونفقة عدتها، فغاب ولم يحضر حتى مضت هذه المدة قال هو: توكيل مطلق حتى لا يبطل بالقيام عن المجلس لأنه وإن ذكر الأمر باليد، لكن فسّره بما هو توكيل وهو أن يخلعها.
وغيره من مشايخ سمرقند وبخارى أفتوا، لأنه تمليك حتى يبطل بالقيام عن المجلس لأنه صريح بالأمر باليد. والصحيح إذا قال لها: أمرك ثلاث تطليقات بيدك إن أبرأتيني عن المهر فقالت: وكلني حتى أطلق نفسي فقال لها: أنت وكيلي حتى تطلقي نفسك، إن قامت عن المجلس خرج الأمر عن يدها حتى لو طلقت نفسها لا يقع وإن طلقت نفسها في المجلس إن أبرأته من المهر أولاً يقع الطلاق، وإن لم تبرئه لا يقع لأن التوكيل كان بشرط أن تبرئه عن المهر.
رجل جرى بينه وبين امرأته كلام فقالت المرأة: اللهم نجِّني منه، فقال الزوج: إن كنت تريدين النجاة فأمرك بيدك وهو ينوي طلقة واحدة فقالت المرأة: طلقت نفسي ألفاً فقال لها الزوج: نجوت لم يقع عليها شيء عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه فوض إليها الواحدة وهي أتت بالثلاث، ونظيره: إذا قال لغيره: خوا هي كناريت واطلاق كتم.
فقال ذلك الغير خواهم فقال دادمش منه طلاق لا تطلق شيء على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا: حتى أن في المسألة الأولى لو قالت المرأة: طلقت نفسي، وفي المسألة الثانية لوقال ذلك الرجل دادمش طلاق يقع طلقة واحدة عند الكل.
وعن هذا قلنا: إن من وكّل الرجل أن يطلق امرأته فطلقها الوكيل ثلاثاً إن كان الزوج نوى الثلاث تقع الثلاث، وإن لم يكن نوى الثلاث لا يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله.
وفي «المنتقى»: إذا قال لامرأته: إن غبت عنك ومكثت في غيبتي يوماً أو يومين فأمرك بيدك فمكث يوماً في غيبته يصير الأمر بيدها.(3/472)
-----
قال: وهذا على أول الكلام، ولك هذا الحكم في جنس هذه المسائل.
وفيه أيضاً: رجل جعل أمر امرأته بيد أبيها فقال أبوها: قد قَبِلْتُها طلقت.
وكذلك لو جعل أمر امرأته بيدها فقالت قبلت بشيء طلقت وإذا قال لامرأته: أمر نسائي بيدك، أو قال لها: طلقي أية نسائي شئت ليس لها أن تطلق نفسها، مذكور في «الأصل».
وفي «المنتقى» في باب الأمر باليد إذا قال لامرأته: أمر امرأة من نسائي في يدك يعني في الطلاق فطلقت نفسها أو غيرها طلقت. ولو قال لامرأةٍ له: طلقي أية نسائي شئت وطلقت نفسها لم تطلق.
وفي «المنتقى» في باب المنبتَّة: إذا قال لامرأةٍ له طلقي أية نسائي شئت فلها أن تطلق نفسها ومن شاءت من نسائه. وكذلك لو قال لعبد من عبيده أعتق أي عبدٍ شئت.
وفي «المنتقى»: في الذي يلي باب الأمر باليد: إذا قال لامرأةٍ له طلقي كل امرأة لي ليس لها أن تطلق نفسها.
وفي «المنتقى» في باب الأمر باليد إن طلقت امرأة من نسائي فهي طالق وطلقت نفسها لا تطلق، وكذلك لو قال: طلقي امرأة من نسائي أو قال لعبدٍ له بع عبداً من عبيدي وطلقت نفسها أو باع العبد نفسه لم يجز.
رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت للزوج: أنت عليّ حرام وأنت مِنّي بائن أو أنا عليك حرام أو أنا (بائن) منك فهذا كله طلاق.
ولو قالت: أنت حرام، ولم تقل علي أو قالت: أنت بائن ولم تقل مني فهو باطل. ولو قالت: أنا حرام ولم تقل عليك أو قالت: أنا بائن ولم تقل منك فهذا كله طلاق.
وفي «المنتقى»: إذا قال لامرأته: طلقي نفسك فقالت: أنا حرام أو خلية أو بريئة أو بائن فهذا كله طلاق.
والأصل في هذا كله: أن كل شيء يكون من الزوج طلاقاً فيما يقوله إذا سألته المرأة فأجابها، فإذا أوقعت المرأة مثل ذلك على نفسها بعدما صار الطلاق بيدها يقع الطلاق.(3/473)
-----
والمرأة لو قالت لزوجها: طلقني فقال الزوج: أنت حرام أو أنت بائن كان طلاقاً فإذا قالت المرأة مثل ذلك بعدما صار الطلاق في يدها يكون طلاقاً أيضاً.
ولو قالت لزوجها: طلقني فقال لها: الحقي بأهلك وقال لم أنو به الطلاق كان مصدقاً ولا يقع الطلاق، فإذا قالت المرأة مثل ذلك بعدما صار مفوضاً إليها ألحقتُ نفسي بأهلي لا تطلق.
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا جعل أمر امرأته بيدها فقالت المرأة: أعطني كذا إن طلقتني فقال الزوج: لا أدري ما هذا فقالت المرأة: إن جعلت أمري بيدي فقد طلقت نفسي لا تطلق لأنها لما تكلمت بكلام وهو قولها أعطني كذا إن طلقتني، وقولها إن جعلت أمري بيدي فقد قطعت الملجس.
وفيه أيضاً: رجل قال لامرأته: أمر ثلاث تطليقاتك بيدك فقالت له لم لا تطلقني بلسانك فقالت: طلقت نفسي، طلقت؛ لأن قولها لم لا تطلقني بلسانك ليس برد للتمليك فكان لها أن تطلق نفسها بعد ذلك، وفيه نوع نظر لأنه يتبدل المجلس به من حيث إنه كلام زائد إن كان لا يريد به التمليك.
وفي «واقعات الناطفي»: إذا قال لامرأته: أمرك بيدك وأمر امرأتي الأخرى هذه بيدك فقالت: قد طلقت فلانة ولم تطلق نفسها طلقت لأن بتطليق الأولى لم يتبدل المجلس ولم يوجد منها الرد.
وسئل الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله عن رجل جعل أمر امرأته بيدها على أنه إن غاب عنها شهرين فهي تطلّق نفسها (239أ1) متى شاءت فغاب شهرين إلا يوماً وحضر في اليوم الأخير وغيبت المرأة نفسها حتى مضى شهرين ثم طلقت نفسها، فأجاب: إنه يقع الطلاق. وفيه نظر يتأمل بعد هذا إن شاء الله تعالى.(3/474)
-----
إذا جعل أمر امرأته بيدها على أنه إن غاب عنها عن بخارى أو عن المكان الذي يسكنان فيه شهرين، فهي تطلق نفسها متى شاءت، فغاب عن بخارى شهرين، وكان ذلك قبل أن يبني بها وطلقت المرأة نفسها، فقد قيل: بأنها لا تطلق لأن الغيبة عنها قبل البناء لا يتحقق؛ لأن الغيبة إنما تتحقق من الحاضر. وقبل البناء بها هو غائب عنها فلا تتحقق الغيبة منها.
إذا قال لامرأته: إن دخلت دار فلان فأمرك بيدك فدخلت دار فلان فطلقت نفسها، أن تَزامل المكان الذي فيه سميت داخلة طلقت؛ لأنها طلقت والأمر في يدها. وإن مشت خطوتين ثم طلقت نفسها لا تطلق لأنها طلقت نفسها بعدما خرج الأمر عن يدها.
رجل جعل أمر امرأته بيدها، فقالت دست ازداستم ولم تقل خويستن الابين، ولو قالت: عنيت نفسي، إن كان المجلس قائماً صدقت لأنها تملك الإنشاء، وإن تبدل المجلس لا تصدق.
وإنما لم تبين في الصورة الأولى لأنها لم تضف الإبانة إلى نفسها فصار كما لو قال لها: اختاري فقالت اخترت. هكذا ذكر في «فتاوى الفضلي»، وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يقع استدلالاً بمسألة الخلع فإنه إذا قيل للمرأة خويشين خريدي فقالت خريدم، ثم قيل للزوج فزوجني فقال فزوجتم يتم الخلع، وإن لم توجد الإضافة إلى المرأة، ولا يستقيم الاستدلال بمسألة الخيار؛ لأنه ثمة لم توجد الإضافة إلى نفسها من الجانبين حتى لو قال لها: اختاري نفسك فقالت: اخترت يقع الطلاق، وههنا وجدت الإضافة إليها من جانب الرجل حتى جعل أمرها بيدها وذلك كافٍ لوقوع الطلاق، وستأتي مسألة الخيار وتفاصيلها بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولو قالت أمكندم تسأل نادي أمكندي إن قالت: الطلاق طلقت وما لا فلا، وإن قالت طلاق أمكندم تطلق نوى الطلاق أم لا، وكذلك إذا قالت أمراً مكندم تطلق نوي الطلاق أو لا؛ لأن هذا اللفظ بحكم العرف يعتبر لإيقاع الطلاق، يقال: زن فلان أمر أمكند ويفهم فيما بين الناس أنها طلقت نفسها.(3/475)
-----
رجل جعل أمر امرأته بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية فهي تطلق نفسها متى شاءت فخرجت من البيت بغير إذن الزوج فضربها هل يصير الأمر بيدها؟
قيل: لا يصير الأمر بيدها إن أوفى صداقها المعجل، وإن لم يوفها ذلك صار الأمر في يدها؛ لأنه إذا لم يوفها المعجل، فلها أن تذهب إلى بيت أبيها من غير إذنه وتمنع نفسها لاستيفاء المعجل فلا يكون الخروج جناية.
وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يفتي بأن الأمر لا يصير في يدها من غير تفصيل وكان يقول: خروجها من البيت جناية إذ ليس لها ولاية الخروج عن بيت الخروج بغير إذن الزوج لمنع نفسها منه لأجل أنها يمكنها منع نفسها عنه في بيته والأول أصح، فقد ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» في كتاب النكاح: وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله حتى يوفيها جميع المهر.
جعل أمرها بيدها على (أنه) متى ضربها بغير جناية فهي تطلق نفسها، ثم قال لها الزوج لعت بربوباد فقالت لعت خود بربوباد فضربها تكلموا فيه. وبعضهم قالوا: هذا ليس بجناية منها لأنها ثانية وليست ببادئه، وعامتهم على أن هذا جناية منها، وهو الأصح إذ ليس في هذا قصاص في الشرع حتى لا يكون الثاني جانياً.
وعلى هذا: إذا قال لها: مادرت سياهه فقالت المرأة ما درت أست سياهة فعلى قول الأولين هذا ليس بجناية لأنها بائنة، والعامة تكلموا فيما بينهم، قال بعضهم: إن كانت أم الزوج حيّة فهذا ليس بجناية منها في حقه. وإن كانت أمّهُ ميتة فهذا جناية منها في حقه.(3/476)
-----
وبعضهم قالوا: لا يصير الأمر بيدها سواء كانت أم الزوج حيّة أو ميتة؛ لأن الزوج ذكر الجناية مطلقة وما ذكر الجناية في حقّه، ألا ترى أنها لو تركت الصلاة في هذه الصورة فضربها لا يصير الأمر بيدها قلنا: وشتمها أمه جناية، سواء كانت أمه حية أو ميتة، وإن لم تكن جناية في حقه إذا كانت أمها حية إذا جعل أمرها بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية، فهي تطلق نفسها فلازمت الزوج لأجل الكسوة فضربها صار الأمر بيدها، فإن هذه ليست بجناية، فإن لصاحب الحق حق الملازمة. ولو كانت تعلقت به وأخذت لحيته فهذا منها جناية إذ ليس لها ذلك شرعاً. ولو قالت له: خذ أنت مرك دعاة فهذا جناية منها، وكذلك لو قالت له: أي خزاي، كاو فهذا جناية منها. ولو قالت: أي يدحو إن كان كذلك فهذا ليس بجناية، وإن لم يكن كذلك فهو جناية.
ولو قال لها: لا تفعلي هكذا، فقالت: حوش في ارم، إن كانت قالت في فعل هو معصية فهذا منها جناية، وإن كان قالت في فعل هو ليس بمعصية فهو ليس بجناية، ولو كشفت وجهها لغير محرم فقد قيل: هذه جناية، وقد قيل: هذه ليست بجناية، والتكلم ورفع الصوت مع غير المحرم جناية بلا خلاف.
إذا جعل أمر امرأته بيد امرأة له أخرى، ثم إنه طلق المفوض إليها طلاقاً بائناً أو رجعياً لا يخرج الأمر من يدها. ولو جعل أمرها بيدها ثم طلقها طلاقاً بائناً خرج الأمر من يدها. ولو طلقها واحدة رجعية بقي الأمر على حاله.
وفي «الأمالي»: إذا قال لها: أمرك بيدك إذا شئت، ثم طلقها واحدة بائنة، ثم تزوجها واختارت نفسها طلقت عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. ولو قال لها: إذا تزوجت عليك امرأة، فأمر تلك المرأة بيدك ثم خالعها أو طلقها بائناً أو ثلاثاً ثم تزوج امرأة أخرى لا يصير أمرها بيدها.(3/477)
-----
ولو قال: إذا تزوجت امرأة فأمر تلك المرأة بيدك ولم يقل: عليك ثم إنه طلقها بائناً أو ثلاثاً أو خالعها، ثم تزوج امرأة يصير أمرها بيدها؛ لأن في الفصل الأول الشرط التزوج عليها، وفي هذا الفصل الشرط التزوج مطلقاً.
وإذا قال لها: إن تزوجت عليك في هذا النكاح فأمرك بيدك، أو قال: فأمرها بيدك، ثم إنه طلقها واحدة بائنة ثم تزوجها ثم تزوج امرأة أخرى لا يصير الأمر بيدها، لأن الشرط التزوج عليها في ذلك النكاح، وهذا نكاح آخر.
وإذا قال لها: إن دخلت الدار فأمرك بيدك ثم طلقها واحدة ثم طلقها واحدة أو ثنتين لا يبطل الأمر حتى لو تزوجها ثم دخلت الدار صار الأمر بيدها سواء تزوجها وهي في العدة أو تزوجها بعدما انقضت العدة (239ب1). أو كانت غير مدخول بها قيل: الرواية في «المنتقى»: إذا قالت لزوجها: طلقني، فقال الزوج: من طلاق توبدست تونهادم، فقالت: من خوشين باطلاق دارم، فقال الزوج: من مرها داوم تقع طلقتان؛ لأن الواقع بكل إيقاع رجعي والرجعي. يلحق الرجعي، .... لآخر حتى مضى ذلك الوقت وقد تزوج امرأة، فليس لصاحب المال اكرستم من ندعي إلى وقت كذا أمر يدست من نهاوي طلاق زن فراتسني، فقال: تهادم فلم يعطه المال حتى مضى ذلك الوقت وقد تزوج امرأة، فليس لصاحب المال أن يطلقها.
ولو كان قال: اكر سيم من ندعي إلى وقت كذا أمر يدست من نهادى طلاق. راكي بخواعي وباقي المسألة بحالها، فله أن يطلقها؛ لأن قوله: زن خواستي ينطلق على امرأة يريد أن يتزوجها، فلا ينطلق على التي يتزوجها، وتفويض طلاق امرأة يريد أن يتزوجها لا يصح.
ونظير هذا اللفظ: است برنشتي، فإن هذا اللفظ في العرف ينطلق على فرست يريدان يركبها لا على مرتين يركبها لا محالة.(3/478)
-----
رجل جعل أمر امرأته بيدها على أنه إن لم يعطها كذا في وقت كذا، فهي تطلق نفسها متى شاءت، فمضى ذلك الوقت فطلقت نفسها، ثم اختلفا، فقال الزوج: أعطيتها ذلك في الوقت وأنكرت المرأة ذلك، فالقول قول الزوج في حق الطلاق حتى لا يحكم بوقوع الطلاق عليها؛ لأنه ينكر وقوع الطلاق، والقول قول المرأة في حق عدم وصول ذلك الشيء إليها؛ لأنها منكرة وصول ذلك الشيء إليها.
أصل المسألة مسألة ذكرها في «المنتقى»، وصورتها: رجل قال لأب امرأته: إن لم أتك إلى أربعين يوماً، فأمر امرأتي بيدك، فإذا مضى أربعون يوماً..... فإن قال الزوج: إنها من الساعة التي تكلم فيها فأمرها بيده ما دام في مجلسه، فإن قال الرجل بعد ذلك قد آتيتك، فقال أب المرأة: لم يأتني، فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر صيرورة الأمر بيده.
ونظير هذا مسألة «الجامع الصغير»: إذا قال الرجل لعبده: إن لم أحج العام (فأنت حر)، فمضى العام، فقال المولى: حججت. فقال العبد: لم حج، فالقول قول المولى؛ لأنه ينكر العتق، وعلى هذا إذا جعل أمرها بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية (فالقول)، فهي تطلق نفسها فضربها، ثم اختلفا، فقال الزوج: ضربتها بجناية، فالقول قوله لما ذكرنا.
(وفقد) محمد رحمه الله في كتاب الكفالة مسألة تدل على أن القول قول المرأة، صورتها: رجل قال لغيره: إن مات فلان قبل أن يعطيك الألف التي لك عليه فأنا كفيل بها، فوقع الاختلاف بين الكفيل وبين الطالب بعد موت المطلوب، فقال الطالب: لم يعطني، فصرت كفيلاً. وقال الكفيل: قد أعطاك ولم أصر كفيلاً إن القول قول الطالب. وهذا استحسان؛ لأنه ينكر الاستيفاء.
فإن قيل: إن كان ينكر الاستيفاء صورة يدعي الكفالة على الكفيل معنى، والكفيل ينكر الكفالة، فلِمَ كان اعتبار الصورة أولى من اعتبار المعنى؟(3/479)
-----
ألا ترى أن من قال لعبده: إن لم أدخل الدار اليوم فأنت حر، فمضى اليوم، فقال العبد: لم تدخل وعتقت. وقال المولى: لا بل دخلته ولم تعتق، فالقول قول المولى؛ لأنه يدعي الدخول وينكر ثبوت العتق فكان منكراً معنىً (إن) مدعياً صورة كذا هنا.
والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أنه متى أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة لا تعتبر المنازعة من حيث المعنى.
وفي مسألة الكفالة أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف من حيث الصورة؛ لأن الاختلاف من حيث الصورة وقع في إيفاء الدين والمنازعة في إيفاء الدين معتبر في الجملة، ويكون القول قول من ينكر الإيفاء، ألا ترى أنه لو لم يكن بالمال كفيل ووقع الاختلاف بين رب الدين وبين المديون في الإيفاء كان القول قول رب الدين.
فهو معنى قولنا أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف من حيث الصورة، فلا تعتبر المنازعة من حيث المعنى، وباعتبار الصورة الطالب منكر، وفي مسألة اليمين تعذر اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة، وهو الدخول وعدم الدخول.
ألا ترى أنه لو وقعت المنازعة في الدخول وعدم الدخول ابتداء من غير أن يكون فيه تعليق العتق لأن تعليق العتق لا يعتبر المنازعة أصلاً، فاعتبر بالمنازعة في المعنى، ومن حيث المعنى المولى ينكر العتق.
وخرج على هذا مسألة «الجامع الصغير»: لأن هناك تعذر اعتبار المنازعة، وفيما وقع فيه الاختلاف صورة والحج وعدم الحج، ألا ترى أنه لو وقع الاختلاف فيه ابتداء من غير أن يكون فيه تعليق العتق لا تعتبر المنازعة فيه أصلاً، فاعتبرنا المنازعة من حيث المعنى.(3/480)
-----
جئنا إلى مسألة الأمر باليد، فنقول: أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة، وهو إعطاء النفقة وعدم الإعطاء، ألا ترى أنه لو وقع الاختلاف فيه ابتداء بأن قال الزوج للمرأة: أعطيت نفقتك، وقالت المرأة: لم تعطني، كان القول قول المرأة، فقد أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة، وباعتبار الصورة المرأة منكرة، فيكون القول قولها.
امرأة قالت لزوجها: أريد أن أطلق نفسي، وقال الزوج: نعم. وقالت: طلقت نفسي. ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب... أنها تطلق من غير تفصيل.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله ذكر المسألة على التفصيل: إن نوى الزوج التفويض يقع، وإن نوى الرد يعني: طلقي إن استطعت لا تطلق.
وعلى قياس مسألة الأمان المذكورة في «السير» ينبغي أن يقال: إن غيّر الزوج النغمة في قوله: نعم، بحيث يعلم أنه أراد به الاستهزاء والرد لا تطلق. وذكر في طلاق «الجامع»: إذا قال الرجل لغيره: أمر امرأتي بيد الله وبيدك، وهو يريد الطلاق، فطلقها الرجل يقع الطلاق؛ لأن اسم الله في مثل هذا إنما يذكر للتبرك به عند افتتاح الكلام على هذا استعمال الناس، وقد تأيد ذلك بالكتاب، وهو قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41) مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف، فيكون هذا تفويضاً للطلاق إلى من خاطبه وحده، فإذا أوقع يقع.
وإذا قال: أمر امرأتي بيدي ويدك، أو قال: جعلت أمرها بيدي ويدك وطلقها المخاطب لم يجز طلاقه إلا أن يخير الزوج؛ لأنه ما جرت العادة بذكر المتصرف بنفسه ابتداء للتبرك، فلا بد وأن يحمل ذكر المتصرف بنفسه على وجه يخرج من أن يكون لغواً، وذلك بأن يحمل بأن مراده من هذا أن لا يتصرف المخاطب على وجه الاستبداد بخلاف الفصل الأول.(3/481)
-----
وفي «الجامع» أيضاً (240أ1): إذا قال الرجل: أمر امرأتي بيدك، وطلقها الوكيل قبل أن يقوم عن المجلس فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي الزوج ثلاثاً، فتكون ثلاثاً. ولو قام الرجل عن مجلسه قبل أن يطلقها بطل الأمر؛ لأن قول الزوج، وطلقها عقيب قوله: أمر امرأتي بيدك علم أنه أراد مما سبق جعل الأمر إليه في الطلاق، فكان هذا تفويض الطلاق إليه والتفويض مقصور على المجلس، وكذلك لو قال: طلقها وأمرها بيدك كان هذا وما تقدم سواء.
ولو قال له: طلق امرأتي قد جعلت ذلك إليك، أو قال: جعلت طلاق امرأتي إليك فطلِّقها، فهذا والفصل الأول سواء، يريد به أنه يقتصر على المجلس. وإذا طلقها في المجلس كان الواقع رجعياً، بخلاف الفصل الأول؛ لأن في الفصل الأول التفويض حصل بقوله: أمر امرأتي بيدك وإنه من جملة الكنايات، فيكون المفوض إليه تطليقة بائنة، والتفويض ههنا حصل بقوله: طلقها، وإنه صريح. وقوله: قد جعلت ذلك إليه إشارة إلى ما سبق ذِكْره. والذي سبق ذكره صريح الطلاق، فكأنه قال: جعلت إليك صريح الطلاق فطلِّقها. ولو نص على ذلك كان المفوض إليه طلقه رجعية، كذا ههنا.
وفي «المنتقى»: إذا قال لغيره: طلق امرأتي فقد جعلت أمرها بيدك فهذا وكيل يطلق في المجلس وغيره، والطلاق رجعي. ولو قال: جعلت أمرها بيدك فطلقها، فهذا على المجلس، والطلاق بائن.
ولو قال له: طلق امرأتي وقد جعلت امرأتي أمرها بيدك، وإن طلقها في المجلس طلقت تطليقتين لا يملك الرجعة بعد ذلك.
ولو قام عن مجلسه وطلقها تقع واحدة رجعية؛ لأن قوله طلق امرأتي توكيل بصريح الطلاق. وقوله: قد جعلت أمرها بيدك هذا تفويض آخر ليس بحكم الأول؛ لأن حرف الواو لا يحتمل ذلك، وقد صار الحال حالة مذاكرة الطلاق بما سبق ذكره، وهو قوله: طلق امرأتي، فكان هذا (الوكيل) بصريح الطلاق، وتفويضاً للطلاق إليه.(3/482)
-----
فإذا قال في المجلس: طلقها، صار جواباً لهما، فلا رجعة مع البينونة، ولهذا قال: وقعت تطليقتين لا يملك الرجعة.
وإذا قام عن المجلس بطل التفويض وبقي التوكيل بصريح الطلاق، فتقع به واحدة رجعية إلا إن نوى الزوج الثلاث فحينئذ تقع الثلاث، لأن هذا أمر بالطلاق وإنه يحتمل الثلاث.
وكذلك الجواب فيما إذا قال له: جعلت أمرها بيدك وطلقها، جعل قوله وطلقها في هذه الصورة تفويضاً مبتدأً حتى قال له: جعلت أمرها بيدك وطلقها إذا طلقها في المجلس. طلقت ثنتين.
وفيما إذا قال له: جعلت أمرها بيدك وطلقها لم يجعل قوله: وطلقها تفويضاً مبتدأً حتى قال: إذا طلقها في المجلس تطلق واحدة بائنة.
والفرق: أن حرف الفاء وجد للتعقيب والفصل، فإذا قال فطلقها جعل الثاني حكماً للأول وتفسيراً له، إذ حكم الشيء يعقب ذلك الشيء، وقوله فطلقها يصلح حكماً وتفسيراً لقوله: أمر امرأتي وقوله: أمر امرأتي بيدك يصلح علة للطلاق، ولهذا لو نص عليه يصح، وكما لو كان هكذا صار كأنها: طلق امرأتي لأني فوضت طلاقها إليك، ولو نص على هذا، لم يكن ذلك تفويضاً مبتدأً فههنا كذلك.(3/483)
-----
وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا ذكره بحرف الواو فبقي على حقيقته، وحقيقته تقتضي أن يكون تفويضاً مبتدأً. ولو قال له: طلق امرأتي فأبنها، فهذا على المجلس وغيره، لأن هذا (الوكيل) وليس بتمليك؛ إذ ليس فيه تفويض الأمر إليه، ولا جعل ذلك منوطاً بمشيئته ورأيه نصاً أو معنى، بل هو مطلق استثنائه وما هذا سبيله فهو توكيل، والوكيل بالإيقاع يملك الإيقاع في المجلس وبعده، فإن طلقها في المجلس أو بعده، كانت تطليقة بائنة، لأن الفاء للوصل والتعقيب وإنما تتصل الصيغة بالأصل، فكان معناه وأبنها بتلك التطليقة، فيكون توكيلاً بإيقاع طلقة بائنة، وكذلك الجواب فيما إذا قال: أنبها فطلقها، ولو قال: طلقها وأنبها، أو قال: أبنها وطلقها، فطلقها في المجلس أو بعد القيام عن المجلس، طلقت تطليقتين بائنتين، لأن العطف بحرف الواو لا يصلح لبيان الحكم والعلة على ما مر، فصارا جميعاً أمرين: أحدهما صريح ولا تمليك في واحد منهما، بل كل واحد منهما توكيل، فلم يقتصر على المجلس، فإذا طلقها صار جواباً لهما فيقع تطليقتان، ولا تظهر حق الرجعية مع وجود الإبانة، فلهذا قال: طلقت تطليقتين لا يملك الرجعة بعدهما.
فإذا قال لها: أمرك بيدك يوماً أو شهراً أو سنة، فلها الأمر من تلك الساعة إلى استكمال المدة التي ذكر، ولا تسقط بالقيام عن المجلس، ولا بشيء آخر، وهذا لما ذكرنا أن في هذا التفويض معنى التعليق، والتوقيت يلائم التعليق، فصح التوقيت من حيث إنه يتضمن التعليق، وإذا صح التوقيت صار الطلاق بيدها في هذه المدة، ولو بطل الأمر بعد ذلك بقيامها عن المجلس، أو بشيء آخر لم يكن للتأقيت حينئذ فائدة، ويكون الشهر ههنا بالأيام؛ لأن التفويض حصل في بعض الشهر، فلا يمكن اعتبار الأهلية فيه، فيعتبر الأيام بالإجماع ولو عرف وقال: هذا اليوم، أو قال: هذا الشهر، أو قال: هذه السنة، كان لها الخيار في اليوم والشهر والسنة ويكون الشهر ههنا على الهلال.(3/484)
-----
فروي عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أمرك بيدك هذا اليوم، فهذا على اليوم كله، ولو قال: في هذا اليوم كان على مجلسها، لأن في الفصل الأول جعل كل اليوم وقتاً للأمرباليد فعم الوقت، وفي الفصل الثاني جعل الأمر بيدها في جزء من اليوم، لأنه جعل اليوم ظرفاً وذلك لا يقتضي التعميم، فإن المظروف قد يستعمل جزءاً من الظرف.
ألا ترى لو قال: لله تعالى علي صوم عمري، يلزمه صوم العمر، ولو قال في عمري يلزمه صوم يوم من العمر، فهذا يبين لك الفرق بين اللفظتين.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: إذا قال لها: أمرك بيدك رأس الشهر كان الأمر بيدها، الليلة التي يهل فيها الهلال، ومن الغد إلى الليل، ولو قال لها أمرك بيدك في رأس الشهر كان لها مجلسها حتى تغرب الشمس. قال: ألا ترى أنه لو قال لها أمرك بيدك غداً، كان لها الغد كله، ولو قال في غد، كان على المجلس حتى تغرب الشمس من الغد.
وذكر إبراهيم عن محمد رحمه الله ما يخالف هذا، فقد روي عنه: إذا قال لها: أمرك بيدك رمضان، أو قال في رمضان، فهما سواء، والأمر في يدها رمضان كله، وكذلك لو قال لها: أمرك بيدك غداً أو في غد، فهما سواء.
وفي القدوري روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا قال لها أمرك بيدك إلى رأس الشهر، فلها أن تطلق نفسها مرة واحدة في الشهر، وليس لها أن تطلق (مرة) أخرى في الشهر (240ب1) لأنه جعل الشهر وقتاً للطلاق، فإذا طلقت مرة واحدة، فقد استوفت ما جعل إليها فلا تملك إيقاع العدد، فلا يخرج الأمر من يدها بتبدل المجلس ليكون التأقيت مفيداً.
ولو قالت: اخترت زوجي بطل خيارها في اليوم فلها أن تختار نفسها من الغد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: خرج الأمر عن يدها في الشهر كله. ذكر القدوري رحمه الله الخلاف في هذه المسألة على هذا الوجه، وذكر الخلاف في مثل هذه المسألة على عكس هذا.(3/485)
-----
وصورتها: إذا قال لها: أمرك بيدك هذا الشهر فاختارت زوجها أو قالت: لا أختار الطلاق، خرج الأمر من يدها في جميع الشهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، قال أبو يوسف رحمه الله: لا يبطل خيارها في مجلس آخر.
وجه قول من قال: إن خيارها لا يبطل في مجلس آخر: إن ردها لقيامها عن المجلس فإذا لم يبطل قيامها اختيارها في المجلس الثاني كذا الرد.
وجه قول من يقول ببطلان الخيار في المجلس الثاني أن الأمر يتحد في نفسه وقد صادفه الرد صريحاً فبطل في نفسه بخلاف القيام عن المجلس لأنه ليس رداً صريحاً، وإنما هو امتناع عن الاتحاد فيبقى في نفسه إذ لو لم يبق في نفسه لم يكن التأقيت مفيداً.
ولو قال لها: أمرك بيدك اليوم وبعد غد. لم يدخل الليل في ذلك لو اختارت نفسها لا يقع وإن ردت الأمر في يومها، بطل أمر ذلك اليوم فكان لها الأمر بعد غد.
ولو قال لها: أمرك بيدك اليوم وغداً، دخلت الليلة تحت الأمر وإن ردت الأمر في يومها ذلك لم يكن لها الأمر في الغد، هكذا ذكر محمد رحمه الله المسألة في «الجامع الصغير»، وإن لم تدخل الليلة في الفصل الأول لأن كل واحد من اليومين ذكر منفرداً، واليوم المنفرد لا يستتبع ما بإزائه من الليل وإنما دخل الليل في الفصل الثاني لأنه جمع بين اليوم والغد في الفصل الثاني بحرف الجمع فينزل منزلة الجمع بلفظ الجمع، فكأنه قال: يومين وهناك تدخل الليلة لما عرف أن اسم اليومين يستتبع الليلة، وإنما كان لها الأمر بعد الغد في الفصل الأول، لأن في الفصل الأول الموجود أمران لأن بمجيء الغد ينقطع الأمر الأول لما لم يدخل الليل في الأمر، والأمر إذا انقطع لا يعود به إلا بتجديد الأمر، فاقتضى ذكر ما بعد الغد معطوفاً على اليوم أمراً آخراً حتى يصح العطف، فثبت أن الأمر متعدد فإبطال أحدهما لا يكون إبطالاً للآخر.(3/486)
-----
كما لو قال لها: أمرك بيدك اليوم، وأمرك بيدك بعد غد، بخلاف المسألة الأولى على قول من يقول ببطلان الخيار في جميع الشهر. إذا قالت: اخترت زوجي لأن هناك الأمر واحد، لأن الوقت واحد لم يتخلله وقت لا خيار فيه ولهذا دخلت الليالي فإذا كان الأمر واحد، فإذا بطل بالرد لا يبقى نفسه.
أما في الفصل الثاني الموجود أمر واحد؛ لأنه جمع بين الغد واليوم بحرف الجمع فصار كأنه جمع بينهما بلفظ الجمع، وهناك يكون الأمر واحد فههنا كذلك، وإذا أبطلته في اليوم بطل في نفسه.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: إذا قال لها: أمرك بيدك اليوم وغداً وبعد غد، فردت الأمر اليوم، بطل خيارها في اليوم فكان لها الخيار غداً، وكذلك إن ردت اليوم وغداً، فلها الخيار بعد الغد.
ثم رجع عن هذا فقال: إذا ردت الأمر اليوم: بطل الأمر كله، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أمرك بيدك هذه السنة، فاختارت نفسها ثم تزوجها، لم يكن لها خيار في باقي السنة لأن الأمر واحد، إلا أنه ممتد، فإذا استوفت مرة لا يبقى في نفسه، قال أبو يوسف رحمه الله: وقياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن يثبت لها خيار آخر، ولم يظهر لنا وجه القياس. ولو طلقها زوجها واحدة ولم يكن قد دخل بها، ثم تزوجها في تلك السنة، فلها الخيار في قول أبي حنيفة رحمه الله، لأنها لم تستوف موجب الخيار، وتطليقات ذلك الملك باق، فيبقى موجب التخيير.(3/487)
-----
وقال أبو يوسف رحمه الله: لا خيار لها لأن الزوج أزال بنفسه عما جعل، إليها إزالته، فيخرج الأمر من يدها كالموكل بالبيع إذا باع عين ما وكل ببيعه، غير أن هذا مشكل، لأن التخيير ينصرف إلى تطليقات هذا الملك فإذا بقي شيء من تطليقات هذا الملك يبقى موجب التخيير إذا قال لها: يوم يقدم فلان فأمرك بيدك، فقدم فلان نهاراً فلم يعلم به حتى جن الليل فلا خيار لها، ولو قال لأجنبية يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلاً يحنث في عينيه فجعل اليوم في مسألة الأمر عبارة عن بياض النهار وفي مسألة التزوج جعله عبارة عن مطلق الوقت.
والأصل في ذلك أن اليوم لغة يستعمل لمطلق الوقت فيحتمل الليل والنهار جميعاً، ويستعمل أيضاً في بياض النهار خاصة، والنهار لا يستعمل إلا في البياض، والليل لا يستعمل إلا في السواد، هذا هو المشهور من أهل اللغة، غير أن الناس تعارفوا استعمال اليوم لمطلق الوقت إذا قرن بفعل لا يمتد، وتعارفوا استعمال اليوم لبياض النهار إذا قرن بفعل يمتد، واستعمال الناس حجة يجب العمل بها منجماً ذكر اليوم على مطلق الوقت عند قرانه بفعل لا يمتد كما في مسألة النكاح، فإن التزوج لا يمتد ولهذا لا يضرب له مدة.
ويحمل ذكر اليوم على بياض النهار عند قرانه بفعل يمتد كما في الأمر باليد فإن الأمر باليد مما يمتد، ولهذا يضرب له مدة فيقال جعل فلان أمر امرأته بيدها شهراً أشباه ذلك.
وإذا حمل على بياض النهار صار الأمر مؤقتاً ببياض النهار فلا يبقى بعد ذهاب البياض، فإذا علمت به بعد ذهاب البياض فإنما علمت به بعد انتهائها، فلهذا لا يكون لها الخيار.(3/488)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال لها إذا هل الهلال فأمرك بيدك، فإن علمت أن الهلال قد أهل ولم تختر نفسها في ذلك المجلس خرج الأمر من يدها، وإن جاءت بعد الهلال بأيام، وقالت: لم أعلم به، فإن جاءت بأمر أرى أنها فيه صادقة حلفها على ذلك وقبل قولها والأمر بيدها، وإن جاءت بأمر أرى أنها كاذبة فيه لم أقبل قولها.
وفيه أيضاً: إذا قال لها أمرك بيدك على أن لا تأتيني البصرة أو على أن لا تخرجي من مصرك، أو ما أشبه ذلك هذا كله على القبول، فإذا قبلت ثم اختارت نفسها طلقت.
وكذلك لو قال: إن تؤدي (لي) ألف درهم، أو قال على أن تؤدي إلي كل يوم درهماً، أو قال على أن تعمل في حاجتي اشترط شيئاً مجهولاً، فهذا على القبول وإذا قبلت واختارت نفسها وقع الطلاق وردت مهرها الذي أخذت منه إلا في قوله ألف درهم، ولو قال: أمرك بيدك إن لم تخرجي اليوم من (241أ1) منزلك فهذا يمين مؤقت إلى القبول فيكون الأمر بيدها حتى تغرب الشمس إن لم تخرج من منزلها، فإذا غربت الشمس خرج الأمر من يدها.
إذا قال لها: أمرك بيدك كلما شئت فلها أن تختار نفسها كلما شاءت في ذلك المجلس وغيره حتى تبين بثلاث؛ لأن كلمة كلما تقتضي تكرار الأفعال فيتكرر التفويض بتكرر المشيئة إلا أنها لا تطلق نفسها أكثر من مرة في كل مجلس أكثر من واحدة؛ لأن كلمة كلما لما اقتضت التكرار صار كأنه قال لها في كل مجلس: أمرك بيدك، فإذا اختارت نفسها مرة الملك عند مشيئة استوفت موجب ذلك الأمر من التطليقة فإنما يتجدد لها الملك عند مشيئة مستقبلة، فإذا استوفت ثلاث تطليقات ثم عادت إليه بعد زوج فلا خيار لها؛ لأنها استوفت ذلك الملك بتمامه والمفوض إليها ذلك إذ هو المملوك للزوج.(3/489)
-----
ولو قال لها: أمرك بيدك إذا شئت أومتى شئت فلها أن تختار نفسها مرة واحدة في ذلك المجلس وغيره أما الاقتصار على المرة لأن إذا ومتى لا تقتضيان التكرار، وأما التعدي إلى ما بعد المجلس لأن كلمة إذا ومتى توجبان تعميم الوقت فقد جعل لها مشيئة عامة في الأوقات كلها كأنه قال لها: في أي وقت شئت، ولو اختارت زوجها خرج الأمر من يدها، لأنها ردت ما جعل إليها هذه الجملة من «القدوري».
ولو قال لامرأته: أمر فلانة بيدك لتطلقيها متى شئت، فهذه مشورة والأمر بيدها في ذلك المجلس، ذكره في «المنتقى».
ذكر في «الأصل»: إذا قال الرجل لغيره: قل لامرأتي أمرك بيدك، لا يصير الأمر بيدها ما لم يقل المأمور لها أمرك بيدك، وجعل هذا من الزوج أمراً بالتفويض لا أمراً بالإخبار عن كون الأمر في يدها؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا أمراً بالإخبار لأن الأمر بالإخبار يقتضي وجود المخبر عنه أولاً، وما أحدث الزوج لا يصلح لتفويض الأمر إليها ليجعل تفويضاً من الزوج أولاً ثم أمراً بالإخبار تفويضاً إلى الغائبة لا يثبت بقوله: أمرك بيدك، وإذا تعذر أن يجعل هذا أمراً بالإخبار جعلنا أمراً بالتفويض.
ولمثله لو قال لغيره قل لامرأتي إن أمرها بيدها، يصير الأمر بيدها قبل الإخبار وجعل ذلك أمراً بالإخبار عن كون الأمر بيدها لا أمراً بالتفويض إليها، لأنه أمكن أن يجعل ذلك أمراً بالإخبار، لأن (قول) الزوج إن أمرها بيدها يصلح لتفويض الأمر إلى الغائبة، فيجعل تفويضاً من الزوج أولاً ثم أمراً بالإخبار كما هو حقيقة اللفظ؛ لأن قوله: إن أمرها بيدها حقيقة الإخبار عن كون الأمر بيدها.
وفي «الأصل»: إذا قال لها: أمرك بيدك ثم قال لها: أمرك بيدك، بألف درهم فقالت: اخترت نفسي فهي بائن بتطليقتين والألف لازم لها.(3/490)
-----
وفيه أيضاً: إذا جعل أمرها بيد صبي أو مجنون فليس له أن يخرجه منه ويتقيد بالمجلس جعل أمرها بيد رجلين فطلقها أحدهما لم يجز؛ لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى الرأي وقد رضي برأيهما، والراضي برأي المثنى لا يكون راضياً برأي الواحد وهذا بخلاف ما لو قال لهما: طلقا امرأتي وطلقها أحدهما، فإنه يجوز لأن هذا أمر لا يحتاج فيه إلى الرأي.
وفي «المنتقى»: الحسن بن زياد رحمه الله: إذا قال لامرأتين له أمركما بيدكما لم تطلق واحدة منهما إلا باجتماعهما على طلاقهما. إذا جعل أمر امرأته بيدها إن غاب عنها أو شرب المسكر فوجد أحد الأمرين وطلقت المرأة نفسها ثم وجد الأمر الآخر ليس لها أن تطلق نفسها، لأن الأمر واحد، وإنه تعلق بأحد الشرطين لا أن يكون معلقاً بكل واحد من الشرطين.
وقعت واقعة في زماننا أن رجلاً جعل أمر امرأته بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية منها فهي تطلق نفسها متى شاءت، فخاصمته المرأة إلى القاضي وقالت: إنه ضربني بغير جناية وطلقت نفسي وطالبته ببقية المهر، فسأل القاضي الزوج: لماذا ضربتها، فقال الزوج: تقصدني زدم، فقالت المرأة للقاضي: إنه أقر بالضرب وأقر بشرط صحة إيقاع الطلاق فمره بتسليم بقية مهري إلي فجاء الزوج بعد ذلك عند القاضي وادعى أنه ضربها بجناية كانت منها وأقامت على ذلك بينة فاستفتوا عن صحة دعواه فاتفقت الأجوبة على فساده لمكان التناقض.h
ووجه ذلك: أن المرأة ادعت الضرب بغير جناية، والقاضي سأله عن ذلك لأن القاضي، إنما يسأل المدعى عليه عما يدعيه المدعي، فإذا أقر بالضرب فقد أقر بالضرب بعد جناية لأن كلامه خرج جواباً لسؤال القاضي والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فيصير بدعوى الضرب بالجناية بعد ذلك متناقضاً فلا تسمع دعواه.(3/491)
-----
ويمكن أن يقال: تسمع دعواه ولا تناقض فيه؛ لأنه ما أقر أولاً بالضرب بعد جناية؛ لأن القاضي لم يسأله عن الضرب لغير جناية نصاً بل سأله عن الضرب مطلقاً وسؤاله عقيب دعواها الضرب بغير جناية لا يدل على تقيد السؤال بالضرب بغير جناية؟ إذ يجوز أن يسأله عن أصل الضرب حتى إذا جحد الضرب أصلاً يأمرها بإقامة البينة على الضرب، ولو أقر بالضرب يسأله أكان الضرب بجناية أو كان بغير جناية، فلا يتقيد السؤال عن الضرب بغير جناية بالشك فلا يصير الزوج بما تكلم مقراً بالضرب بغير جناية، ولا يتحقق التناقض في دعواه الضرب بجناية بعد ذلك، ثم إذا صار الأمر بيدها كانت على خيارها ما دامت في المجلس وإن تطاول يوماً أو أكثر، لأن المجلس قد يطول وقد يقصر وهذا حكم يؤقت بالمجلس فلا يفترق الحال بين أن يطول الحال وبين أن يقصر.
ألا ترى أن حكم قبض بدل الصرف والسلم لما يؤقت بالمجلس لا يفترق الحال بين أن يطول الحال وبين أن يقصر. وإن قامت عن محلها بطل الخيار لأن هذا دليل الإعراض والأمر باليد يبطل بصريح الإعراض فكذا بدليل، فكذا إذا أحدث في عمل آخر يعلم أنه قطع لما كانت فيه بطل خيارها، وإن كانت قائمة فقعدت لا يبطل خيارها؛ لأن القعود دليل الإقبال لا دليل الإعراض، لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى الرأي والقعود أجمع للرأي بخلاف ما إذا كانت قاعدة فقامت ولو كانت قاعدة فاضطجعت ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن عن أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنها إذا وضعت وسادة واضطجعت ووضعت عليها رأسها فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال: لا يبطل خيارها ومنهم من قال: إذا هيأت الوسادة لما تفعل للنوم، فهذا منها تهاون بالأمر وإعراض عنه ويبطل خيارها. ولو كانت...... قاعدة (241ب1) لا يبطل خيارها.(3/492)
-----
ولو كانت قاعدة فاتكأت ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن فيه روايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله فيما إذا كانت قاعدة فاتكأت أن في ظاهر الرواية لا يبطل خيارها.
فروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يبطل وإن ركبت يبطل خيارها. وإن نزلت من الدابة لا يبطل خيارها وإن كانت محتبية فتربعت، أو كان على العكس لا يبطل خيارها.
وإذا كانت على دابة حين جعل الزوج أمرها بيدها فهذا على وجوه: إن كانت الدابة واقفة حين جعل أمرها بيدها فسارت أو كانت سائرة فسارت كذلك خرج الأمر من يدها، وإن كانت واقفة فأجابت ثم سارت أو كانت سائرة وكما سمعت التفويض أجابت في خطوتها ذلك وأسرعت في ذلك حتى سبق جوابها خطوتها بانت منه.
وكذلك الجواب إذا كانت تمشي وإن تسبق خطوتها جوابها لم تبن منه، وإن كانت الدابة سائرة فأوقفتها لا يبطل خيارها، ولو كانت في بيت فمشت في البيت من جانب إلى جانب فهي على خيارها.
والسفينة كالبيت لا كالدابة، وفي الحقيقة لا فرق بين السفينة وبين ظهر الدابة، فإن المجلس قد تبدل حقيقة، ولكن إنما فرقنا بينهما لأن سير السفينة لا يضاف إلى راكبها لأنها لا تساق لكنها تجري بالماء والريح، ليست في يد أحد بخلاف سير الدابة، فإنه يضاف إلى راكبها يقال في العرف: فلان سار اليوم كذا فرسخاً وإن كان سار على الدابة.(3/493)
-----
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وسواء كانا على دابتين أو على دابة واحدة، أو كانت هي على دابة وهو يمشي، أو كانا في سفينتين أو في سفينة واحدة، أو كانا في محلين أو في محل واحد حتى إنهما إذا كانا على عاتق رجل واحد فاختارت نفسها في خطوتها ذلك بانت منه، وإذا قال لها أمرك بيدك فقالت: ادع إلي أبي أستشيره، أو قالت ادع شهوداً أشهدهم فهي على خيارها لأن هذا من أسباب الامتثال، ودليل الإقبال دون الإعراض حتى إذا اختارت نفسها ووقعت الفرقة فالزوج لا ينكرها، وكذا إذا لبست ثياباً من غير قيامها عن المجلس لا يبطل خيارها، وإن لم تجد أحداً يدعو بالشهود فقامت بنفسها ولم تنتقل لتدعوا شهوداً هل يبطل خيارها؟ اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: لا يبطل خيارها؛ لأنه لم يوجد منها الإعراض لا نصاً ولا دلالة فإن هذا القيام ليس دليل الإعراض، وقال بعضهم: يبطل خيارها؛ لأنه تبدل المجلس إن لم يوجد منها الإعراض وتبدل المجلس يوجب بطلان الخيار سواء كانت معذورة أو غير معذورة.
ألا ترى أن الزوج إذا أخذ بيدها وأقامها من مجلس الخيار بطل الخيار وإنما بطل لتبدل المجلس لا لوجود الإعراض منها كذا ههنا.
وإذا بدأت الصلاة بعدما جعل أمرها بيدها يبطل الخيار، فلو كانت في صلاة الفريضة لا يبطل خيارها بإتمام الصلاة؛ لأنها ممنوعة عن القطع فلا تكون متمكنة من الاختيار قبل الإتمام، وإنما الإعراض بترك الاختيار بعد التمكن منه وإن كانت في تطوع لم يبطل خيارهما إن سلمت على رأس الركعتين، لأنه لا يحل لها قطع ذلك، وإن قامت إلى الشفع الآخر حينئذ يبطل خيارها؛ لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، فصار القيام إلى الشفع الآخر بمنزلة اشتغالها بابتداء الصلاة.(3/494)
-----
ثم إن محمداً رحمه الله في «الأصل»: لم يفصل بين تطوع وتطوع، فروى ابن سماعة في «نوادره» عنه أنها إذا كانت في الأربع قبل الظهر في الشفع الأول فقامت إلى الشفع الثاني، لا يبطل خيارها؛ لأن الأربع قبل الظهر شرعت بتحريمة واحدة لا يجوز أداؤها بتحريمتين فكانت هذه الأربعة كالركعتين في سائر التطوعات.
ولو كانت في الوتر في الشفع الأول فأتمتها لا يبطل خيارها. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن الوتر واجب بمنزلة المغرب وأما عندهما فلأنهما سنة مؤكدة شرعت بتحريمة واحدة فكانت كالأربع قبل الظهر، ألا ترى أن الوتر يقضى إذا فات عن وقته بخلاف الأربع قبل الظهر.
ولو دعت بطعام في مجلس الخيار وطعمت بطل خيارها قل ذلك أو كثر، ولو شربت ماءً لا يبطل خيارها.
والفرق: أن مجلس الخيار مجلس التدبير والناس لا يأكلون عادة في مجلس الرأي والتدبير، بل يفردون للأكل مجلساً فتصير بالأكل رافضة مجلس الرأي فكان ذلك دليل الأعراض، فأما شرب الماء في مجلس التدبير معتاد، فلا تصير بشرب الماء رافضة مجلس الرأي.
وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»: أن الأكل اليسير لا يبطل الخيار وإذا أكلت من غير أن تدعو بطعام، لأن الأكل اليسير لا يدل على الإعراض فأما إذا دعت بطعام أو تكلمت بكلام يكون تركاً للجواب بأن أمرت وكيلها ببيع أو شراء أو أمرت أجنبياً بذلك بطل خيارها، لأن هذه الأفعال دليل الإعراض، وإذا انبسطت أو اغتسلت أو مكنت من زوجها بطل خيارها، وإن... أو قرأت شيئاً قليلاً لا يبطل خيارها، ولو طال ذلك يبطل خيارها.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها أمرك بيدك فقالت: الحمد لله على عتق نسمة وهدي بدنة وحجة شكراً لما جعلت إلي وقد طلقت نفسي فهو جائز فلا يخرج الأمر من يدها بما قالت.
وإذا قال لغيره: طلق امرأتي واحدة رجعية فطلقها واحدة بائنة، أو قال: طلقها واحدة بائنة فطلقها واحدة رجعية تقع تطليقة واحدة على حسب ما أمره الزوج ذكره في «الأصل».(3/495)
-----
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة بائنة إن شئت، فطلقت نفسها واحدة تملك الرجعة ولم يقع عليها شيء في قول أبي يوسف وهو قياس قول حنيفة رحمهما الله.
ولو قال لها: طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة إن شئت وطلقت نفسها واحدة بائنة فإنه يقع عليها واحدة يملك الرجعة في قول أبي يوسف، ولا يقع شيء في قياس قول أبي حنيفة رحمهما الله.
إذا وكل رجلاً بأن يطلق امرأته للسنة وهي ممن تحيض وكان التوكيل في حالة الحيض أو في طهر جامعها فيه، وطلقها الوكيل في حالة الحيض أو في ذلك الطهر لا يقع الطلاق؛ لأنه ليس بتوكيل للحال بل وكالته مضافة إلى الطهر في الصورة الأولى، وإلى الحيض والطهر في الصورة الثانية.
وكذلك لو قال لها في هذه الحالة: أنت طالق للسنة أنت طالق إذا طهرت أنت طالق إذا حضت وطهرت لا يقع الطلاق، وإذا طهرت في الصورة الأولى أو حاضت وطهرت في الصورة الثانية وطلقها الوكيل بعد ذلك يقع الطلاق؛ لأنه صار وكيلاً الآن فالإيقاع حصل بحكم التوكيل فيصح.
وإذا وكل غيره بأن يطلق امرأته (242أ1) ثم طلقها الزوج بنفسه قبل طلاق الوكيل، فهذا لا يكون عزلاً للوكيل ويقع طلاق الوكيل عليها ما دامت في العدة وبعدما انقضت العدة لا يقع طلاق الوكيل عليها تزوجها الزوج أو لم يتزوج.
وكل رجلاً بطلاق امرأته والوكيل غائب لا يعلم فطلق الوكيل قبل العلم لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يصير وكيلاً قبل العلم. وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصير وكيلاً قبل العلم، قال أبو يوسف رحمه الله. ولا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله وإذا قال لغيره: طلق امرأتي ثلاثاً، فقال: فعلت صح، وإذا قال لرجلين طلقا امرأتي ثلاثاً وطلقها أحدهما واحدة والآخر ثنتين طلقت ثلاثاً.(3/496)
-----
في «البقالي»: وإذا قال لغيره: طلق امرأتي إن شاءت لا يعتبر وكيلاً ما لم تشأ ولها المشيئة في مجلس علمها، وإذا شاءت في مجلس علمها حتى صار وكيلاً لو طلقها الوكيل في ذلك المجلس يقع، ولو قام عن مجلسه بطل التوكيل ولا يقع طلاقه بعد ذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي أن يحفظ هذا وأن البلوى فيه تعم وأن عامة كتب الطلاق التي يكتبها الزوج من القرية يكون فيها: أيها الذي كتبت إليك هذا الكتاب سل امرأتي هل تشاء الطلاق، فإن شاءت فطلقها، ثم إن الوكلاء كثيراً ما يؤخرون الإيقاع عن مجلس مشيئتها فلا يدرون أن الطلاق لا يقع.
وإذا قال لغيره: أنت وكيلي في طلاقها على أني بالخيار أو على أنها بالخيار أو على أن فلاناً بالخيار، فالوكالة جائزة والخيار باطل.
قال لغيره: طلق إحدى نسائي فطلق واحدة منهن بعينها صح، وليس للزوج أن يصرف الطلاق إلى غيرها، وكذلك إذا طلق واحدة منهن لا بعينها صح فيكون الخيار للزوج، وهذا؛ لأن «إحدى» كما تطلق على واحدة نكرة تطلق على واحدة بعينها ألا ترى أنه يستقيم أن يقال هذه من إحدى نسائي وقد حصل التوكيل مطلقاً من غير تقييد الإحدى بالعينية ولا بالجهالة، فيجوز على إطلاقه ويصير تقدير المسألة كأنه قال: طلق واحدة من نسائي إن شئت بعينها وإن شئت لا بعينها، ولو نص على هذا كان الجواب كما قلنا فههنا كذلك الجملة (في) «الأصل».
وفي «الجامع»: إذا قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً للسنة، وقد كان دخل بها فقالت في زمان الحيض أو في طهر جامعها فيه: طلقت نفسي ثلاثاً للسنة لم يقع عليها شيء بهذا القول، أما في الحال فظاهر، وأما إذا جاء وقت السنة فلأنها تتصرف بحكم التفويض، والداخل تحت التفويض والتنجيز دون الإضافة والتعليق.(3/497)
-----
بخلاف ما إذا قال الزوج لها: أنت طالق للسنة في غير زمان السنة حيث يقع الطلاق إذا جاء وقت السنة لأن الزوج يتصرف بحكم المالكية، وهو كما يملك التنجيز يملك الإضافة والتعليق فإذا لم يصح هذا القول تنجيزاً صح إضافةً وتعليقاً صيانة للتصرف عن البطلان.
وإن كانت طاهرة من غير جماع حين قالت هذا القول وقعت للحال واحدة لوجود وقت السنة ثم لا يقع عليه بذلك اللفظ شيء في الطهر الثاني والثالث إلا إذا جددت الإيقاع عند كل طهر لما ذكرنا أن المفوض إليها أن تطلق نفسها عند كل طهر طلقة، ومن فوض إليه إيقاع الطلاق في المستقبل إذا أوقع في الحال لا يصح إيقاعه لأنه لا يمكن تصحيحه منجزاً وإنه ظاهر، ولا يمكن تصحيحه معلقاً لأن المفوض إليه التنجيز، فلهذا لا يقع عليها شيء بذلك اللفظ في الطهر الثاني والثالث إلا إذا جددت الإيقاع في الطهر الثاني والثالث، وينبغي أن تجدد الإيقاع في المجلس الذي طهرت فيه الطهر الثاني، وكذا في الطهر الثالث لما عرف.
فإن قيل: لو كان هذا تفويضاً عند كل طهر تطليقة ويجب أن لا يقع في الطهر الأول شيء عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنها طلقت نفسها ثلاثاً، والزوج إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثاً لا يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله.
قلنا: اختلف مشايخنا في الجواب عن هذا الإشكال بعضهم قالوا ما ذكر في «الكتاب» قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يقع في الطهر الأول شيء، وبعضهم قالوا: لا بل ما ذكر في «الكتاب» قول الكل، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله على قول هذا القائل بين هذه المسألة وبين تلك المسألة أن هناك خالفت أمر الزوج لفظاً ومعنى فلم يقع، وههنا وافقت أمره؛ لأنه أمرها أن تطلق نفسها ثلاثاً للسنة وقد طلقت كذلك، والأول أصح.(3/498)
-----
ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً للسنة بألف درهم، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً للسنة بألف درهم وهي طاهرة من غير جماع، وقعت واحدة للحال بثلث الألف، فإذا حاضت وطهرت لا يقع عليها شيء آخر بذلك القول إلا بتجدد الإيقاع لما قلنا وإن جددت الإيقاع بعدما طهرت في مجلس طهرها وقعت واحدة بغير شيء، وكذلك في الطهر الثالث. وإن قال الزوج: أنا رضيت بإيقاعها الثلاث بالألف، وقد أوقعت الثلاث بثلث الألف فصارت مخالفة لا يلتفت إلى قوله، ويقال له: إنها لم تخالف أمرك لفظاً ومعنى، لكن امتنع وجوب بعض البدل حكماً لانعدام شرط الوجوب بالثانية والثالثة، وهو زوال الملك لكون الملك زائلاً بالطلقة الأولى، ولكن الطلاق يجعل شرط وقوعه وجود القبول لا وجوب القبول، وقد تقدم قبول صحيح فوقعت الثانية والثالثة بغير شيء.
لهذا قلنا: وامتناع وجوب بعض البدل حكماً لانعدام شرط الوجوب لا يجعلها مخالفة ألا ترى أنه لو أبانها ثم قال لها: طلقي نفسك واحدة بألف، فقالت: طلقت نفسي بألف يقع الطلاق عليها مجاناً.
وألا ترى أنه إذا قال لغيره: طلق امرأتي بخمر أو خنزير وطلقها، يقع الطلاق بغير شيء.
وألا ترى أنه إذا قال لغيره: قل لامرأتي: أنت طالق ثلاثاً عند كل طهر واحدة بألف درهم، فقال الرجل لها ذلك وقبلت، وقع عليها في الطهر الأول واحدة بألف، ويقع الآخران بغير شيء.
والمعنى في الكل ما قلنا: إذا وقعت المشاجرة بين رجل وامرأته فقالا لرجل: أمرنا بيدك تصلح بيننا، وإن جرى مذاكرة طلاق فله أن يطلقها في «البقالي».(3/499)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أولياء المرأة إذا اجتمعوا وطلبوا من الزوج أن يطلقها فطال الكلام بينهم فقال الزوج لأبيها: ماذا تريد مني، اِفعلْ ما تريد وخرج ثم طلقها أبوها لم تطلق إن لم يرد به الزوج التفويض لأنه قد لا يراد به التفويض، وفي «فتاوى أهل سمرقند»، إذا قالت المرأة لزوجها في غضب: إن كان ما في يدك في يدي استنقذت نفسي، فقال الزوج: الذي في يدي في يدك فقالت المرأة: طلقت نفسي ثلاثاً فقال الزوج لها: قولي مرة أخرى فقالت طلقت نفسي ثلاثاً، ثم قال الزوج لم أرد بذلك طلاقاً طلقت ثلاثاً بقولها طلقت نفسي ثلاثاً بعد قوله: قولي مرة أخرى؛ لأن هذا بمنزلة قول الزوج لها قولي طلقت نفسي ثلاثاً تطلق ثلاثاً.
وفي (242ب1) «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قالت المرأة لزوجها على وجه وكيل هتم، فقال: هتى فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فقال الزوج بالفارسية تريد من حرام الشتى ما راجدا بايد شرن، ثم تفرقا ثم أراد الزوج أن يراجعها قال في «الكتاب» يسأل الزوج، قال: نوى بالتوكيل الطلاق، ولم ينو العدد طلقت واحدة رجعية، وإن نوى بالتوكيل المفارقة ولم ينو العدد فهي واحدة بائنة، ويمكن أن يقال: بأن قول الزوج توبر من حرام الشتى دليل إراده البينونة، فينبغي أن يسأل: هل نوى الثلاث، فإن كان نوى الثلاث يقع الثلاث، وإن لم ينو الثلاث تقع واحدة بائنة عندهما وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يقع شيء، لأنها مأمورة بإيقاع الواحدة، وقد أوقعت الثلاث.
إذا وكل رجلاً بأن يطلق امرأته وقال له: طلقها بين يدي أخي فلان، فذاك مشورة وليس بشرط حتى لو طلقها لابين يديه وقع كما لو قال له: طلقها بشهود، وطلقها بغير شهود.
في «فتاوى (أهل) سمرقند».(3/500)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال الرجل لغيره: لا أنهاك عن طلاق امرأتي، لا يصير وكيلاً بالطلاق، وهذا بخلاف ما لو قال لعبده لا أنهاك عن التجارة حيث يصير ماذوناً في التجارة لأن ترك النهي سكوت، وبالسكوت يثبت الإذن في التجارة، أما لا يثبت التوكيل بالطلاق.
وفي «مجموع النوازل» قالت لزوجها: يك سحن كويم رواد أشتى أو قالت يكي كاركتم رواد أشتى: فقال الزوج واشتم، فقالت المرأة: طلقت نفسي ثلاثاً، لا يقع شيء وقول الزوج أنه لم يرد الطلاق، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن قال لغيره: طلق امرأتك فقال ذلك الغير: الحكم لك فقال: الحكم والأمر لك فطلقها، قال: لا تطلق.
إذا وكل الرجل رجلاً أن يطلق امرأته وطلقها وهو سكران، ينظر إن وكله وهو سكران فطلق يقع، وإن وكله وهو صاح وطلقها بعدما صار سكراناً لا يقع، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قبل هذا إذا كان الطلاق على مال، أما في الطلاق بغير المال يقع الطلاق على كل حال؛ لأن المطلوب من الوكيل مجرد العبارة إذا كان الطلاق بغير مال، والسكران وغيره في مجرد العبارة على السواء.
نوع آخر في تفويض الطلاق إليها بقوله اختاري
إذا قال لها: اختاري وهو ينوي الطلاق فلها الخيار ما دامت في ذلك الملجس، وإن تطاول المجلس يوماً أو أكثر، وإن قال الزوج: لم أرد الطلاق بقوله: اختاري فذاك ليس بشيء، ويقبل قول الزوج في ذلك إلا أن يكون في حالة الغضب أو في حالة مذاكرة الطلاق أو يكون كرر لفظة الاختيار بأن قال: اختاري اختاري اختاري؛ لأن هذا الكلام لا يذكر على وجه التكرار إلا في حق الطلاق وإن قامت عن مجلسها قبل أن تختار شيئاً بطل خيارها، واعلم بأن الخيار بمنزلة الأمر باليد في جميع ما ذكرنا من الأحكام إلا في حكم واحد، وهو صحة نية الثلاث.(3/501)
-----
قال: الزوج إذا نوى بالأمر باليد الثلاث صحت نيته؛ وإذا نوى بالتخيير الثلاث لا تصح نيته؛ لأن قوله: أمرك بيدك تفويض الأمر، وأنه يحتمل العموم والخصوص، فأي ذلك نوى صحت نيته، أما قوله اختاري أمر بالفعل وأنه لا يحتمل العموم فلا تصح نية العموم، فإن اختارت زوجها فليس بشيء، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خيرنا رسول الله عليه السلام فاخترناه، ولم يكن طلاقاً، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة؛ لأن هذا من جملة ذكر نفس المرأة أو التطليقة أو الاختيارة بأن قال الكنايات ثم التخيير لا يخلو من ثلاثة أوجه:
إما أن يكون في كلامهما ذكر نفس المرأة أو التطليقة أو الاختيارة بأن قال لها: اختاري نفسك، أو قال لها: اختاري تطليقة أو قال: اختاري اختيارة، فقالت المرأة: اخترت نفسي أو قالت: اخترت تطليقة أو قالت: اخترت اختيارة، وفي هذا الوجه يقع الطلاق.
وإما أن يكون في كلام أحدهما ذكر شيء من ذلك إما في كلام المرأة، أو كلام الزوج بأن يقول الزوج: اختاري نفسك اختاري تطليقة أو اختاري اختيارة، فتقول المرأة: اخترت، أو يقول الزوج: اختاري، فتقول المرأة: اخترت نفسي أو تقول: اخترت تطليقة، وفي هذا الوجه يقع الطلاق أيضاً؛ لأنه إذا ثبت ذلك في كلام الزوج ثبت في كلامها لأن كلامها خرج جواباً والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال، فلم ينو الاحتمال لا في الخطاب ولا في الجواب.(3/502)
-----
وإذا ثبت ذلك في كلام المرأة يزول الاحتمال عن الخطاب بالنية، وعن الجواب بالتنصيص أما إذا خلا اللفظان عن ذكر شيء من ذلك لم يقع شيء؛ لأن اختيارها محتمل بين أن يكون لنفسها فيقع، وبين أن يكون لزوجها فلا يقع بالشك، ولا يصير مجمل كلامها مفسراً بنية الزوج، لأن نية الزوج؛ إنما تفسر ليصير الطلاق بيدها، فأما أن يصير المجمل من كلامها مفسراً بنية الزوج فلا (يقع) ولو قال: اختاري اختاري اختاري، ينوي الطلاق بهذا كله فاختارت نفسها فهي طالق ثلاثاً، قال مشايخنا: قول محمد رحمه الله في هذه المسألة وهو ينوي الطلاق بذلك كله يقع اتفاقاً؛ لأن عند تكرار هذه اللفظة لا يحتاج إلى النية على ما مر، وكذلك لو قالت قد طلقت نفسي، أو قالت: أنا طالق، فهو جواب للكل وتطلق ثلاثاً، ولو قال: اخترت تطليقة فهو تطليقة بائنة.h
هشام قال: سألت محمداً رحمه الله عمن قالت لزوجها: خيرني خيرني خيرني فقال: قد فعلت، فطلقت نفسها فهي واحدة بائنة، ولو قالت: خيرني وخيرني وخيرني: فقال: قد فعلت وطلقت نفسها فهي ثلاث.
الحسن بن زياد رحمه الله إذا قال لها (الزوج): اختاري اختاري اختاري، فقالت: قد الطلب واحدة بطل ذلك كله، رواه عن أبي حنيفة رحمه الله. ولو قال لها: اختاري ثم اختاري، ثم اختاري فاختارت نفسها، ذكر محمد رحمه الله أنها تطلق ثلاثاً واختلف المشايخ فيه: منهم من قال: إن المسألة مأولة.
تأويلها: أنه قال لها: اختاري وسكت ثم قال: اختاري وسكت، ثم قال اختاري وسكت، فقالت: اخترت نفسي وما من كلمة ثم فذلك لفظ محمد رحمه الله لا لفظ الزوج، حتى لو كان ذلك لفظ الزوج بأن قال: الزوج اختاري ثم اختاري ثم اختاري، فقالت: اخترت نفسي، لا تقع إلا الأولى، ويتوقف وقوع الثانية والثالثة على قولها: اخترت ثانياً وثالثاً.(3/503)
-----
وهو نظير ما لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فإنت طالق، إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة تطلق ثلاثاً، ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم إن دخلت الدار فأنت طالق ثم إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة تطلق واحدة ولا يقع الثلاث ما لم تدخل الدار ثلاث مرات كذا ههنا ومنهم من قال (243أ1) تقع الثلاث وإن ذكر الثانية والثالثة بكلمة ثم فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الدخول.
والفرق: أن قوله: اختاري تفويض وتمليك نصاً وتعليق اقتضاء، وإذا كان تمليكاً نصاً كانت العبرة للتمليك وجواب واحد يكفي لتمليكات كثيرة حصلت جملة أو مرتبة، فإنه لو قال: بعت هذا منك بكذا، ثم قال وهبتك هذا فقال قبلت كان جواباً للكل أما قوله إن دخلت الدار تعليق نصاً وليس فيه معنى التمليك وفي التعليقات تداعى صفة الشرط لوقوع الطلاق كما تداعى أصل الشرط وصفة الشرط لم يوجد في الثانية والثالثة.
إذا قال: لها اختاري اختاري وقال عقيب الأولى الطلاق وبالتالي إن أفهمها صدق ديانة لا قضاء. إذا قال لها: اختاري الأزواج أو قال: اختاري أهلك ونوى الطلاق فقالت: اخترت الأزواج أو قالت: اخترت أهلي، وقع الطلاق استحساناً.
ولو قال اختاري أختك أو أمك. أو أباك ونوى الطلاق فاختارت ما قال، ففيما إذا اختارت أمها أو أباها يقع الطلاق استحساناً، وفيما عداهما لا يقع.
وفي «الجامع» إذا قال لها: اختاري اختاري اختاري بألف درهم، فقالت: اخترت نفسي واحدة أو بواحدة، طلقت ثلاثاً وكان عليها الألف؛ لأن قولها: اخترت نفسي جواب تام لجميع ما قال الزوج لو اقتصرت عليه وكذا إذا أرادت قولها واحدة؛ لأن قولها: واحدة يَصلح جواباً عن الكل أيضاً، بأن يكون معناه اخترت نفسي باختيارة واحدة، لا يحتاج بعد هذا إلى اختيارة أخرى كما في قولهم: ضربته وجيعاً، أي ضرباً وجيعاً.(3/504)
-----
ولو كانت قالت: اخترت نفسي بالأولى أو بالوسطى أو بالأخيرة طلقت ثلاثاً وعليها الألف في قياس قول حنيفة رحمه الله، وفي قولهما: إن قالت بالأولى أو بالوسطى طلقت واحدة بائنة بغير شيء، وإن قالت بالأخيرة طلقت واحدة بألف درهم. ولو قال: اختاري تطليقة فهي تطليقة رجعية، وقد ذكرنا نظير هذا في الأمر باليد إذا قال لها: اختاري فقالت: لا أختارك أو قالت لا أريدك: أو لا أريدك أو لا حاجة لي فيك، وهذا كله باطل ولو قالت: لا أختار الطلاق فهذا رد للأمر، وإن قالت: هويت زوجي أو أجبته فهي على خيارها، فهي وإن قالت كرهت فراق زوجي فقد اختارته، وإن قالت: اخترت أن لا أكون امرأتك فقد برأت منه عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل لغيره: أخبر امرأتي أن أمرها بيدها، فاختارت من نفسها قبل أن يخبرها جاز وعن محمد رحمه الله بخلاف ذلك.
نوع آخر فيما يصلح جواباً في التفويض
قول المرأة: طلقت اخترت، يصلح جواباً لقول الزوج: أمرك بيدك، ولقوله: اختاري، وقولهما: اخترت لا يصلح جواباً لقوله طلقي نفسك حتى إنه إذا قال: طلقي نفسك فقالت اخترت نفسي لا يقع شيء، ولو قال لها: أمرك بيدك أو قال: اختاري فقالت: طلقت نفسي يقع.(3/505)
-----
والفرق: وهو أن قولها: اخترت ليس من ألفاظ الطلاق لا وصفاً ولا حكماً، ولهذا لو أراد الزوج أن يوقع الطلاق عليها بقوله اخترت لا يقدر، ولكن جعل جواباً بإجماع الصحابة متى انبنى على تخير من الزوج، فإذا لم يسبق من الزوج تخيير بقيت لفظة الاختيار وأما قولها: طلقت من ألفاظ الطلاق وضعاً وحكماً بل هو الأصل فيه، إلا أنها خالفت في الوصف متى سبق من الزوج التخيير فيلفوا الوصف ولكن الموافقة في الأصل كافية في الوقوع، فإذا جمع الزوج بين ألفاظ التفويض وهو قوله: أمرك بيدك اختاري طلقي، فإن ذكرها بغير حرف صلة لجعل كل واحداً كلاماً مبتدأً، ولو ذكرها بحرف الفاء فالمذكور بحرف الفاء يجعل تفسيراً إن صلح تفسيراً، وقال أبو يوسف رحمه الله إذا قال لها طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي، لم يقع على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.
وعندهما يقع تطليقة رجعية؛ لأن لفظ البينونة متضمنه طلاقاً فصار كما لو قالت: طلقت نفسي تطليقة بائنة فيصح الأصل ويلغوا الوصف لأبي حنيفة رحمه الله أن لفظة الإبانة جواباً تضمنت طلاقاً، وههنا لفظة الإبانة لا تصح جواباً؛ لأنه لم يفوض إليها الإبانة فصارت مبتدأة بهذا الكلام، فلم يتضمن هذا الكلام طلاقاً هكذا ذكر القدوري في «شرحه».
وذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة رحمه الله: إنه يقع، والوجه ما ذكرنا لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ولفظ الاختيار يصلح تفسيراً للأمر باليد؛ لأنه أخص من لفظة الأمر؛ لأن الأمر باليد قد يكون في الاختيار وغيره، وقد يكون بثلاث، وقد يكون بواحد، والخاص يصلح تفسيراً للعام، والأمر باليد لا يصلح تفسيراً للاختيار؛ لأن العالم لا يصلح تفسيراً للخاص، والطلاق يصلح تفسيراً للأمر، والاختيار؛ لأنه مفسر مصرح فيصلح تفسيراً لهما، والأمر لا يصلح تفسيراً للأمر.(3/506)
-----
وكذلك الاختيار لا يصلح تفسيراً للاختيار؛ لأن الشيء لا يصلح تفسيراً لنفسه، وإذا لم يصلح تفسيراً يجعل علة لما تقدم، وإن تعذر جعله علة يحمل على العطف. ولو ذكرها بحرف الواو فهو للعطف والمعطوف لا يصلح تفسيراً للمعطوف عليه؛ لأن العطف يقتضي المغايرة والتفسير مع المفسر كشيء واحد، وإذا عطف البعض على البعض والتفسير المذكور في آخرها يجعل تفسيراً للكل؛ لأن بحكم العطف صار الكل في معنى كلام واحد إذا قال: أمرك بيدك طلقي نفسك أو قال لها: اختاري نفسك، فقالت اخترت نفسي وقال الزوج: لم أرد الطلاق كان مصدقاً، ولا يقع عليها شيء؛ لأن قوله: طلقي نفسك لما ذكر بدون حرف الصلة لم يجعل جواباً وتفسيراً لأول الكلام بل اعتبر تفويضاً مبتدأً فبقي الأول منهما، فكان القول قوله في أنه لم يرد الطلاق، وقوله: طلقي وإن كان تفويضاً مفسراً إلا أن قولها اخترت لا يصلح جواباً له فلا يقع به شيء، حتى لو قالت طلقت نفسي تقع تطليقة رجعية في المسألتين جميعاً بقوله: طلقى نفسك؛ لأنه تفويض صريح مفسر وقولها طلقت يصلح جواباً له والواقع بالصريح رجعي.(3/507)
-----
ولو قال لها: أمرك بيدك وطلقي نفسك أو قال لها: اختاري وطلقي نفسك فاختارت نفسها، فقال الزوج: لم أرد الطلاق بالأمر باليد، وبالاختيار لم يقع شيء؛ لأن الكلام بقي منهما مجملاً؛ لأن قوله: وطلقي لم يصر تفسيراً لكونه معطوفاً عليه، فيقبل قول الزوج: إنه لم يرد الطلاق بالكلام الأول، وقوله: وطلقي وإن كان تفويضاً مفسراً إلا أن قولها اخترت نفسي لا يصلح جواباً له. ولو قال لها: أمرك بيدك فاختاري وطلقي نفسك، فقالت: قد اخترت نفسي، وقال الزوج: لم أرد بشيء من ذلك، فإنه لا يصدق على ذلك، وتقع تطليقة بائنة بقوله: أمرك بيدك مع يمينه بالله ما أراد به الثلاث؛ لأن الأمر (243 ب1) باليد؛ كلام مبهم، وقوله اختاري خرج جواباً وتفسيراً له لأنه ذكره بحرف الفاء وهو يصلح جواباً وتفسيراً للأمر باليد؛ لأن الأمر أشد إبهاماً من الاختيار ولأنه ينتظم الاختيار وغيره، فإذا فسره بالاختيار قبل الإبهام فيصلح تفسيراً له من هذا الوجه.
ويصير تقدير الكلام: أمرك بيدك لتختاري نفسك فلما قال بعد ذلك فطلقي نفسك وأنه يصلح تفسيراً للاختيار، صار الاختيار مفسراً بالطلاق فصار الاختيار المفسر تفسيراً للأمر باليد والوقوع بالمفسر لا بالتفسير والواقع بالأمر باليد طلاق بائن ولكن مع احتمال الثلاث، فلهذا قال: تقع تطليقة بائنة مع يمينه بالله ما أراد به الثلاث.
ولو قال لها: اختاري فاختاري فطلقي نفسك، فاختارت نفسها طلقت تطليقتين بائنتين؛ لأن قوله اختاري مبهم وقوله: فاختاري لا يصلح تفسيراً له فيجعل تفويضاً مبتدأً معطوفاً على الأول كأنه قال: اختاري واختاري لما عرف أن حروف الصلات يقام بعضها مقام البعض باعتبار الخاصية.(3/508)
-----
وصارت مسألتنا: اختاري واختاري وطلقي نفسك وهناك قوله فطلقي نفسك، يصير تفسيراً للتفويض بحكم العطف كذا ههنا، وإذا صار قوله: فطلقي نفسك تفسيراً لهما كان الواقع بهما وقولهما: اخترت يصلح جواباً لهما، والواقع بكل واحد منهما طلاق بائن فطلقت تطليقتين بائنتين.
لهذا ولو قال لها: اختاري فأمرك بيدك وطلقي نفسك فقالت: قد اخترت نفسي أو قالت طلقت نفسي فهي طالق تطليقة بائنة بقوله أمرك بيدك يجعل المقدم مؤخراً كأنه قال: أمرك بيدك فاختاري فطلقي نفسك وإنما كان كذلك، لأن الأمر باليد لا يصلح تفسيراً للاختيار والاختيار يصلح تفسيراً للأمر باليد فيجعل الاختيار تفسيراً للأمر باليد بالتقديم والتأخير، فإن التقديم والتأخير في كلام العرب جائز فصار كأنه قال: أمرك بيدك فاختاري وطلقي نفسك.
ولو قال هكذا تقع تطليقة بائنة بقوله أمرك بيدك وهي المسألة المتقدمة كذا ههنا، فلم يجعل الفاء ههنا بمنزلة الواو ليصير كأنه قال: اختاري وأمرك بيدك فطلقي نفسك، لأنا لو جعلنا هكذا تقع تطليقتان، ولو جعلنا المقدم مؤخراً على نحو ما ذكرنا تقع تطليقة واحدة وكلا الوجهين من الممكنات، فجعلنا المقدم مؤخراً كيلا تقع تطليقة أخرى بالشك والله أعلم.
نوع آخريتصل بهذا الفصل في تعليق الطلاق بالمشيئة وفي تعليق التفويض بالمشيئة
إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فذلك إليها ما دامت في مجلسها فإن شاءت في مجلسها وقع الطلاق؛ لأن هذا في معنى الخيار من حيث إن المشيئة عمل فلها كالاختيار فيكون الواقع رجعياً؛ لأن الوقوع بصريح الطلاق وهو قول الزوج: أنت طالق، وكذلك إذا قال: طلقي نفسك إن شئت أو لم يقل إن شئت فذلك إليها في مجلسها إلا أن ههنا لا تطلق ما لم تطلق نفسها؛ بخلاف المسألة الأولى، فإن هناك إذا شاءت طلاقها وإن لم تطلق نفسها لأن ههنا المعلق بالمشيئة التطليق وهناك المعلق بالمشيئة الطلاق.(3/509)
-----
ولو قال لأجنبي: طلق امرأتي إن شئت يقتصر على المجلس وبدون قوله: إن شئت لا يقتصر على المجلس؛ لأن بدون ذكر المشيئة توكيل ومع ذكر المشيئة تمليك.
وقوله: للمرأة طلقي نفسك مع المشيئة وبدون المشيئة تمليك، وقوله للمرأة: طلقي صاحبك نظير قوله للأجنبي: طلق امرأتي إن كان مع ذكر المشيئة فهو تمليك وإن كان بدون ذكر المشيئة فهو توكيل.
ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً ثلاثاً إن شئت فقالت: شئت في واحدة فهو باطل؛ لأن معنى قوله: إن شئت الثلاث فصار الطلاق معلقاً بمشيئتها الثلاث.
وعلى هذا إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت، فطلقت نفسها واحدة، لم يقع شيء؛ لأن معنى كلامه طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت الثلاث فإذا طلقت نفسها واحدة فقد شاءت واحدة دون الثلاث.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إن شئت فقالت: أنا طالق لا يقع إلا أن تقول: أنا طالق ثلاثاً، إذا قال لها: طلقي نفسك إن شئت، فقالت: قد طلقت نفسي يقع الطلاق؛ لأنها شاءت حيث طلقت نفسها إذا قال لها إذا جاء الغد فأنت طالق إن شئت، كان لها المشيئة في الغد؛ لأن في الفصل الأول علق الطلاق بمشيئتها ثم جعل المعلق بمشيئتها مضافاً إلى الغد فلا بد من اعتبار مشيئتها أولاً لتصح الإضافة إلى ما بعد الغد، وفي الفصل الثاني علق الطلاق بمجيء الغد وجعل المعلق بمجيء الغد معلقاً بمشيئتها فلا بد من مجيء الغد أولاً ليتعلق ذلك بمشيئتها ذكر المسألة في «الزيادات».
وذكر في «الأصل»: إذا قال لها: أنت طالق غداً إن شئت فلها المشيئة في الغد، ولو قال: إن شئت فأنت طالق غداً فلها المشيئة في الحال، ولم يذكر في المسألة خلافاً. قالوا وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله: أن لها المشيئة في الغد في المسألتين جميعاً.(3/510)
-----
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لها: أنت (طالق) غداً إن شئت، أو أنت طالق إن شئت غداً، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: لها المشيئة غداً، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن قدم المشيئة فلها المشيئة في الحال، وإن آخرها فهو على ما قال أبو حنيفة رحمه الله، وعلى هذا إذا قال لها: اختاري غداً إن شئت اختاري إن شئت غداً أمرك بيدك غداً إن شئت أمرك بيدك إن شئت غداً فالمشيئة في الغد في الحالين عند أبي حنيفة رحمه الله.
وعلى هذا إذا قال لها: طلقي نفسك غداً إن شئت طلقي نفسك إن شئت غداً إن شئت فطلقي نفسك غداً لم يكن لها أن تطلق نفسها حتى يجيء الغد في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن قدم المشيئة فلها أن تطلق نفسها في الحال فتقول في الحال: طلقت نفسي غداً.
وذكر هشام عن محمد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً، أو لم يقل غداً على ألف إن شئت فقالت في الحال شئت لا يقع الطلاق حتى يقول الزوج: قبلت؛ لأن الإيجاب من الزوج مضاف إلى الغد، فالمشيئة من المرأة قبل مجيء الغد يصير ابتداء، ولو ابتدأت مشيئة الطلاق على ألف تتعلق بقبول الزوج، فههنا كذلك.
ولو قال لها: إن شئت الساعة فأنت طالق غداً طالقاً وقع الطلاق في الغد، ولو قال شئت أو نوى ذلك ولم يقل الساعة فقالت شئت أن أكون غداً طالقاً وقع الطلاق في الغد، ولو قال: شئت أن يقع الطلاق في اليوم، فإنه لا يقع الطلاق في اليوم ويخرج الأمر (244 * أ1)، من يدها (وإن قال:) أنت طالق إذا شئت أو متى شئت فلها أن تشاء في المجلس وبعده ولكن مرة واحدة.
ولو قال لها: واحدة بعد واحدة حتى تطلق ثلاثاً.(3/511)
-----
(ولو قال لها:) أنت طالق كلما شئت فلها ذلك أبداً كلما شاءت في المجلس وغير واحدة بعد واحدة حتى تطلق ثلاثاً. أما في قوله «متى» فلأن متى للوقت فصار كأنه قال: في أي وقت شئت، وهناك لها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت، ولا يبطل بالقيام عن المجلس؛ لأن هذا إيقاع في وقت المشيئة فلا يعتبر له المجلس قبل وقت المشيئة وههنا، كذلك لو ردت الأمر لا يكون رداً لما ذكرنا أن هذا إيقاع في وقت المشيئة والإيقاع لا يحتمل الرد، ثم لها أن تشاء واحدة وليس لها أن تشاء أخرى؛ لأن كلمة متى تعم الزمان، أما (إذا) تعم الأفعال فتملك الإيقاع في أي وقت شاءت ولكن مرة واحدة.
أما في قوله إذا زادا ما، أما عندهما فإن إذا وإذا عندهما للوقت، وعنده يستعملان للشرط وللوقت فباعتبار الشرط يخرج الأمر عن يدها بالقيام عن الملجس، وباعتبار الوقت لا يخرج فلا يخرج بالشك.
وأما في قوله: كلما؛ فلأن كلمة كلما توجب التكرار فيتكرر الطلاق بتكرر المشيئة حتى تتم الثلاث. وإن عادت إليه بعد زوج فليس لها أن تشاء آخر بعد ذلك؛ لأن اليمين إنما يصح باعتبار الملك القائم للحال، فإذا وقعت الثلاث فقد ذهب ذلك الملك بتمامه فلم يبق اليمين وإذا تزوجها بعد ذلك وشاءت الطلاق فقد شاءت ولا يمين. ولو قال: أنت طالق حيث شئت أو إن شئت لم تطلق حتى تشاء، وإن قامت عن مجلسها فلا مشيئة لها بعد ذلك. ولو قال لها: كلما شئت فأنت طالق ثلاثاً فشاءت واحدة، فذلك باطل لأن معنى كلامه كلما شئت الثلاث لأنه لم يذكر للمشيئة خبراً وصار تأخر خبراً للمشيئة. إذا قال لامرأتين له: إذا شئتما فأنتما طالقتان فشاءت إحداهما دون الأخرى، أو شاءتا طلاق إحداهما لا يقع شيء، لأن معنى المسألة: إن شئتما طلاقكما فصار الشرط مشيئتهما طلاقهما.(3/512)
-----
وكذلك إذا قال لامرأتين له: طلقا أنفسكما ثلاثاً إن شئتما، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً في المجلس لم تطلق واحدة منهما، لأن معنى كلامه طلقا أنفسكما إن شئتما طلاكما؛ لأنه لم يذكر لمشيئتهما خبراً فيصرف إلى السابق ذكره وهو طلاقهما.
فإذا طلقت إحداهما نفسها وصاحبتها فإنما وجد نصف الشرط فبوجود نصف الشرط لا يترك الجزاء، فإن طلقت الأخرى نفسها وصاحبتها بعد ذلك ثلاثاً قبل القيام عن المجلس طلقتا ثلاثاً؛ لأنه يكمل الشرط فإن طلقتا إحداهما لم يقع الطلاق.
ولو قامتا عن المجلس ثم طلقت كل واحدة منهما؛ نفسها وصاحبتها ثلاثاً لم تطلق واحدة منهما لأن الأمر كله معلق بالمشيئة ههنا فكان كله تمليكاً فيبطل بالقيام عن المجلس.
ولو كان قال لهما: طلقا أنفسكما ثلاثاً فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها قلنا: طلقتا ثلاثاً، لأن التفويض هنا مطلق غير معلق بمشيئتهما وقد أمرنا بالإيقاع بغير بدل، فتنفرد إحداهما بالإيقاع. كما لو قال لرجلين طلقا امرأتي، فإذا قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فطلقت نفسها ثلاثاً لا يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الزوج علّق تمليك الواحدة بمشيئة الواحدة لأن معنى كلامه طلقي نفسك واحدة إن شئت الواحدة والثلاث غير الواحدة عنده، فكانت مشيئة الثلاث مشيئة غير الواحدة فكانت مبتدئة بهذه المشيئة لا بانية كلامها على كلام الزوج، ولا صحة لكلامها إلا على سبيل الجواب والبناء.
وعندهما: تقع واحدة لأن الواحدة من جملة الثلاث عندهما فكانت مشيئة الثلاث مشيئة الواحدة.
وعلى هذا الخلاف إذا قال لها: أنت طالق واحدة إن شئت فقالت: شئت ثلاثاً لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما.(3/513)
-----
وفي «المنتقى»: عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: طلقي نفسك عشراً إن شئت فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً لم تطلق، إذا قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت إن كان هكذا فهذا على وجهين: إما إن علّق مشيئتها بشيء ماض قد وجد، وفي هذا الوجه يقع الطلاق لأن التلعيق بشيء موجود كائن تخيّر وليس بتعليق حقيقة فكانت آتية بمشيئة منجزة كما فوض إليها الزوج فصحت، وأما إن علق مشيئتها بشيء لم يوجد بعد. وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق؛ لأن التعليق بشيء لم يوجد تعليق على الحقيقة والمفوض إليها مشيئة منجزة لا مشيئة معلقة فلا تعتبر هذه المشيئة في حق وقوع الطلاق ويخرج الأمر من يدها لأنها اشتغلت بما لم يفوض إليها صارت معرضة عما فوض إليها ومن هذا إذا قالت شئت إن شاء أبي، كان ذلك باطلاً، وكذلك إذا قالت: شئتُ إن شئتَ لا يقع، فإن قال الأب بعد ذلك: شئت أو قال الزوج: شئت لا يقع الطلاق أيضاً.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: أنت طالق إن هويت أو أردت أو أعجبك أو وافقك أو أحببت فقالت: شئت وقع.
وفيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة بائنة متى ما شئت ثم قال لها طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة حينما شئت، فقالت بعد أيام أنا طالق فهي طالق واحدة يملك الرجعة ويصير قولها جواباً بالكلام الآخر.
وفيه أيضاً: داود بن رشيد عن محمد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة إن شئت أنت طالق ثنتين إن شئت فقالت: قد شئت واحدة قد شئت ثنتين، قال: إن وصلت فهي طالق ثلاثاً إذا قال لأمرأته أنت طالق إن شئت وأبيت لا تطلق بهذا اليمين أبداً لأنه جعل المشيئة والإباء شرطاً واحداً فيشترط اجتماعهما في حالة واحدة وإنه لا يتصور، هكذا ذكر في «المنتقى» وفي «النوازل».
وفي «العيون»: أنها إذا شاءت تطلق وإن أبت فكذلك تطلق، والصحيح: ما ذكر في «المنتقى والنوازل»، وكذلك إذا قال: إن شئت وأبيتِ فأنت طالق.(3/514)
-----
وكذلك إذا قال إن شئت ولم تشائي، ولو قال: أنت طالق إن شئت وإن لم تشائي فإن شاءت في مجلسها طلقت بحكم المشيئة، وإن قامت من مجلسها طلقت أيضاً لأنها لم تشاء، وهذا لأنه جعل المشيئة وعدم المشيئة وكل واحدة منهما شرطاً على حدة لوقوع الطلاق فأيهما وجد يقع الطلاق، وكذلك الجواب فيما إذا قال لها: أنت طالق إن شئت أو لم تشائي، إن شاءت في المجلس، طلقت بحكم (244 * ب1) المشيئة وإن قامت عن مجلسها طلقت أيضاً لما قلنا.k
وأما إذا قال لها: إن شئت وإن لم تشائي فأنت طالق شئت كلاماً لا تطلق بهذه اليمين أبداً، لأنه لما أخر الطلاق لم يكن قوله إن شئت كلاماً تاماً فيوقف على ذكر الطلاق فإذا قال: وإن لم تشائي صارا شرطاً واحداً فيشترط اجتماعهما في حالة واحدة وأنه لا يتصور.
وإذا قال لها: أنت طالق إن شئت أو أبيت فهو على أحد الأمرين في مجلسها إن شاءت في المجلس طلقت، وإن قالت في المجلس: أبيت، طلقت أيضاً وإن قامت قبل أن تشاء أو تأبى لا تطلق ولا يكون الإباء إلا بكلام، وهذا كله إذا لم يكن للزوج نيّة. وإن نوى إيقاع الطلاق عليها على كل حال يريد به أنك طالق شئت أو أبيت، أنت طالق إن شئت وإن أبيت أنت طالق إن شئت وإن لم تشائي فهو على ما نوى، ويقع الطلاق عليها لا محالة.
بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، إلا أن تشائي واحدة، فقامت عن مجلسها قبل أن تشاء طلقت ثلاثاً، وإن شاءت واحدة قبل أن تقوم لزمها تطليقة واحدة، وكذلك لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا أن تريدي واحدة إلا أن تهوي واحدة إلا أن تحبي وكذلك لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء فلان واحدة وإلا أن يهوى وإلا أن يحب.
إذا قال لها: أنت طالق واحدة إن شئت، فشاءت نصف واحدة، أو إلا أن تريد واحدة فهو مثل ذلك، وإن لم يكن فلان حاضراً فله ذلك إذا علم به في المجلس الذي يعلم فيه.(3/515)
-----
إذا قال لها: أنت طالق واحدة إن شئت ثنتين، فإن شاءت ثنتين فهي طالق واحدة فقال: بعتك طلاقك بألف درهم فقبلت بطل الأمر، بخلاف ما لو لم يذكر المشيئة.
وفي «البقالي»: إذا قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق إن شئت، فلها مجلس العلم بعد النكاح والله أعلم.
نوع آخر في الرجوع عن التفويض
ذكر في طلاق «الجامع»: إذا قال لامرأته: طلقي نفسك بألف درهم أو قال: طلقتك بألف درهم قبل أن تتكلم المرأة بشيء إن رجع الزوج عن هذه المقالة، كان رجوعه باطلاً، حتى لو قبلت المرأة بعد ذلك، وهي في مجلسها صح ذلك منها وطلقت، وكذلك...... طالق بقيام الزوج عن المجلس، حتى أن بعد قيام الزوج لو قبلت وهي في المجلس طلقت، وكذا ثم رجع المولى لو قال لعبده بعتك عتقك بألف درهم، اعتقك بألف درهم ثم رجع المولى أو قام عن المجلس، قبل قبول العبد، لا يبطل ذلك حتى لو قبل العبد بعد ذلك وهو في المجلس صح.
ولو كانت البداية من المرأة والعبد، كان الجواب على عكس ما تقدم في الوجهين.
والفرق: أن الطلاق على مال والعتق على مال من جانب الزوج والمولى يمين؛ لأن الملتمس من الزوج والمولى الطلاق والعتق وهما مما يحلف بهما ويصح تعليقهما بالشروط والأخطار وينفرد الزوج والمولى بإيجاب ذلك، فإذا تعلق بالقبول صار في معنى اليمين فألحق له واليمين لا يقبل الرجوع فلا يبطل بقيام الحالف عن المجلس، والمتوقع من المرأة والعبد المال، والمال مما لا يحلف به ولا يصح تعليقه بالشروط والأخطار ولا تنفرد المرأة والعبد بإيجابه فكان كالبيع من جانبهما، والرجوع عن إيجاب البيع قبل قبول المشتري صحيح.
ولو قال: طلقي نفسك إن شئت، أو لم يقل: إن شئت، ثم أراد أن يرجع عن ذلك ليس له.
ولو قال لها: طلقي صاحبك أو قال لرجل أجنبي: طلّق امرأتي لمن قال إن شئت فليس له أن يرجع عن ذلك، وإن لم يقل إن شئت فله أن يرجع.(3/516)
-----
والحاصل: أن قول الزوج لامرأته طلقي نفسك تمليك الطلاق منها. وفيه معنى التعليق وكل ذلك لا يقبل الرجوع.
وقوله للأجنبي: طلق امرأتي، وقوله لامرأته: طلقي صاحبتك إن كان مقترناً بالمشيئة فهو تمليك؛ لأن المالك هو الذي يتصرف عن مشيئة. وهذا النوع من التمليك لا يقبل الرجوع وإن لم يكن مقروناً بالمشيئة فهو توكيل محض، والتوكيل يقبل الرجوع فلا يصح عزل التوكيل بالطلاق قبل علمه، لأن العزل خطاب الوكيل بالنهي عن الإيقاع وحكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب قبل العلم.
قال في كتاب الوكالة: إذا قال الرجل لامرأته انطلقي إلى فلان حتى يطلقك، ثم إنه نهاها عن الذهاب وقال: لا تذهبي إلى فلان ولا يطلقك، لا يكون هذا نهياً عن الطلاق ولا ينعزل فلان بنهي المرأة ما لم يعلم بالنهي.
يجب أن يعلم إن قال لامرأته: انطلقي إلى فلان حتى يطلقك فذهبت فطلقها فلان صح ويصير فلان وكيلاً بالتطليق، وإن لم يعلم وكالته.
وذكر في «الزيادات» ما يدل على أنه لا يصير وكيلاً قبل العلم قيل: في المسألتين روايتان وقيل: ما ذكر في «الزيادات» قياس، وما ذكر في «الأصل» استحسان، ثم على رواية «الأصل» وهو جواب الاستحسان إذا صار وكيلاً وإن لم يعلم لو أن الزوج نهى المرأة عن الانطلاق إلى فلان لا يصير فلان معزولاً بنهي المرأة قبل العلم بالنهي، لأن النهي في حق الغائب لم يصح لأنه لو صح إما أن يصح مقصوداً ولا وجه إليه لأن النهي مقصوداً قبل العلم لا يصح، وإما أن يصح؛ مقتضى نهي المرأة عن الانطلاق إلى فلان ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن نهي المرأة عن الانطلاق إلى فلان لا يصح؛ لأنه نهي عن فعل فيه طلاقها وهو الانطلاق ويعتبر بما لو فوض إليها طلاقها ثم نهاها عن الإيقاع، وذلك لا يصح فكذا هذا.(3/517)
-----
فصار الجواب فيه نظير الجواب فيمن وكل رجلاً أن يطلق امرأته ثم قال للمرأة نهيت فلاناً أن يطلقك فلأن فلاناً لا ينعزل ما لم يعلم بالنهي؛ لأنه لو انعزل انعزل بالنهي مقصوداً لانتفاء النهي للمرأة؛ لأنه ما نهي المرأة عن شيء وما فوض إليها شيئاً حتى يصح نهي الغائب بطريق التبعيّة وتعذر القول بانعزاله مقصوداً بالنهي قبل العلم فلهذا لا ينعزل قبل العلم، هذا إذا نهى المرأة قبل الانطلاق إلى ذلك الرجل.
أما إذا نهاها بعد الانطلاق إلى ذلك الرجل لا يصير فلان معزولاً، وإن علم بالعزل وقبل الانطلاق يصير معزولاً إذا علم بالعزل النهي وصار الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا قال لآخر: طلق امرأتي إن شاءت إذا عزل الوكيل قبل مشيئتها صح العزل إذا علم بالعزل وإذا لم يعلم لا يصح العزل وبعد مشيئتها لا يصح العزل. وإن علم الوكيل بالعزل، وذلك لأن المفوض إلى المرأة في المسألتين (245أ1) جميعاً ليس بطلاق حتى لا يصح نهي الزوج عن ذلك على كل حال، وإنما المفوض إليها ما هو سبب طلاقها وهو الانطلاق والمشيئة، فمن حيث إن المفوض إليها لم يكن طلاقاً صح نهي الزوج إذا علم الوكيل بذلك قبل الانطلاق والمشيئة، ومن حيث إن المفوض إليها هو سبب طلاقها لم يصح نهي الزوج بعد الانطلاق والمشيئة وإن علم الوكيل بذلك توفيراً على الأمرين حظهما بقدر الإمكان. وهذا بخلاف ما لو قال لأجنبي: انطلق إلى فلان وقل له حتى يطلق امرأتي، ثم نهاه بعد ذلك صح النهي.
ولو نهى المرأة عن الانطلاق لا يصح لأن المفوض إلى الأجنبي فعل فيه طلاق المرأة فيعتبر بما لو فوض إليه طلاقها بأن قال: له طلق امرأتي. ولو قال له ذلك صح نهيه فكذا ههنا، وههنا فوض إلى المرأة فعلاً فيه طلاقهما، فيعتبر بما لو فوض إليها طلاقها بأن قال لها: طلقي نفسك وهناك لا يصح نهيه إياها فهنا كذلك.(3/518)
-----
وهذا بخلاف ما لو قال لغيره: إن جاءتك امرأتي فطلقها، أو قال: إن خرجت إليك امرأتي فطلقها، ثم إنه نهى الوكيل عن الإيقاع بعد مجيء المرأة إليه، وبعد خروجها إليها يصح النهي إذا علم كما قبل المجيء والخروج.
وإذا قال لها: انطلقي إلى فلان حتى يطلقك ثم نهاها بعد الانطلاق إنه لا يصح وإن علم فلان بذلك؛ لأن في تلك المسألة لم يُفوض إلى المرأة شيئاً إنما علق الوكالة بالطلاق بمجيئها وخروجها فيعتبر بما (لو) علق الطلاق بمجيئها وخروجها، ولو علق الطلاق بمجيئها لا يصير مفوضاً إليها شيئاً وههنا كذلك.
أما في مسألة الانطلاق فوض إليها فعلاً فيه طلاقها فيعتبر بما لو فوض إليها طلاقها. وهناك لا يصح عزل الزوج كذا هنا.
وفي «الزيادات»: إذا قال لامرأته: إذا جاء الغد فطلقي نفسك بألف درهم ثم رجع قبل مجيء الغد لا يعمل رجوعه. ولو كانت المرأة قالت إذا جاء الغد فطلقني على ألف درهم، ثم رجعت قبل مجيء الغد يعمل رجوعها. وهذا بناء على ماتقدم ذكره أن الطلاق على مال من جانب الزوج يمين، ومن جانب المرأة بمنزلة البيع. والتقريب ما ذكرنا.
ومن هذا الجنس امرأة قالت لرجل: خلعت نفسي من زوجي بألف درهم فاذهب إلى زوجي وأخبره بذلك، فلما ذهب الرجل أشهدت المرأة أنها رجعت عن ذلك صح رجوعها حتى لو بلغ الرسول الرسالة بعد ذلك وقبل الزوج كان قبوله باطلاً حتى لا يقع الخلع علم الرسول بالرجوع أو لم يعلم.
وكذلك لو رجعت بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج، وكذلك العبد إذا أعتق نفسه على مال وأرسل بذلك إلى المولى رسولاً فلما ذهب الرسول رجع العبد صح رجوعه علم الرسول بذلك أو لم يعلم، فرق بين هذا وبينما إذا وكلت المرأة رجلاً بالخلع أو وكل العبد رجلاً أن يشتري له نفسه من مولاه بألف درهم ثم رجعا من غير علم الوكيل إنه لا يعمل رجوعهما.(3/519)
-----
والفرق: وهو أن التوكيل إثبات الحكم في حق الوكيل فإن للوكيل إطلاق التصرف، والعزل منع له عن التصرف، فلو صح من غير علمه كان ذلك غروراً في حقه والغرور حرام.
فأما الرسالة فليست بإثبات شيء للرسول، فإن الرسول ينقل عبارة المرسل كأن المرسل حضر بنفسه وكان ذلك، ولو صح الرجوع من غير علمه لا يكون ذلك غروراً في حقه، ألا ترى أن الرسول لا تلزمه العهدة أصلاً، والوكيل في بعض العقود تلزمه العهدة.
وكذلك لو رجعت بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج صح رجوعها أيضاً وإن لم يعلم الرسول بذلك، إليه أشار في «الكتاب».
ولو كانت المرأة قالت لزوجها: اخلعني على ألف درهم، أو قال العبد للمولى: أعتقني على ألف درهم ثم رجعا من غير علمهما لا يعمل رجوعهما لأن هذا توكيل منهما للولي والزوج، والتوكيل لا يقبل الرجوع من غير علم الوكيل.
ومما يتصل بهذا الفصلإيقاع الطلاق على المُبانة والمطلقة بصريح الطلاق
أجمع العلماء على أن الصريح يلحق بالصريح ما دامت في العدة، فكذلك البائن يلحق بالصريح، والصريح يلحق بالبائن ما دامت في العدة عندنا؛ لأن بعد الإبانة محلية الطلاق باقية ما دامت العدة باقية؛ لأن محلية الطلاق بقيام العقد وبعد الإبانة العقد باق ما بقيت العدة بدليل بقاء الأثر المختص به وهو المنع عن الخروج والتزين والتزوج بزوج آخر.
والبائن لا يلحق البائن إلا أن يتقدم سببه بأن قال لها: إن دخلت الدار، فأنت بائن ونوى بها الطلاق ثم أبانها ثم دخلت الدار وهي في العدة وقعت عليها تطليقة بالشرط عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر رحمه الله.
فوجه قول زفر رحمه الله: أن المعلق بالشرط عند الشرط كالمرسل، ولو أرسل الإبانة عند دخول الدار بعدما أبانها لا يصح فلا يترك بحكم التعليق.(3/520)
-----
والدليل عليه: أنه إذا علق بدخول الدار ظهاراً أو إيلاءً ثم أبانها ثم دخلت الدار لا يترك الظهار والإيلاء، وطريقه ما قلنا. ولنا: أن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل ولكن كما تعلق بالشرط، والمتعلق بالشرط طلاق بائن لا الإبانة، فنزل عند الشرط طلاق بائن لا مجرد الإبانة كأنه قال لها عند الشرط: أنت طالق بائن. ومن قال لمبانته وهي في العدة: أنت طالق بائن تطلق كذا هنا.
وإنما قلنا: إن المعلق بالشرط طلاق بائن بأن قوله: أنت بائن قد صح لمصادفته المنكوحة وإنه يصلح صفة للمرأة ويصلح صفة للطلاق، يقال: طلاق بائن وامرأة بائنة فيجعل صفة للطلاق ليثبت السبب أولاً لأن الأصل ثبوت السبب أولاً، فيثبت الحكم عقيبه، والصفة تقتضي ذكر الموصوف فيصير في التقدير كأنه قال: أنت طالق بائن فينزل عند الشرط أنت طالق بائن، والتقريب ما ذكرنا، وهذا بخلاف ما لو قال لمبانته: أنت بائن ابتداءً حيث لا يصح، ولا يجعل كأنه قال أنت طالق بائن لأنا إنما نجعل كذلك إذا صح قوله أنت طالق بائن. وقوله للمبانة: أنت بائن لم يصح لعدم مصادفته محلها؛ لأن محل الإبانة من قام به الاتصال؛ لأن الإبانة لقطع الوصلة والوصلة قد انقطعت بالإبانة السابقة. فهذا هو الفرق بين الصورتين.
وهكذا نقول في فصل الظهار إن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل إلا أنه لو أرسل الظهار البينونة لا يصح؛ لأن حكم الظهار ليس هو الطلاق بل حكمه حرمة المتعة لشبهة المحللة بالمحرمة، والحرمة تثبت بالبينونة ولا يثبت بالظهار.(3/521)
-----
وأما مسألة الإيلاء فغير مُسلّم لوآلى منها ثم طلقها واحدة بائنة ثم مضت مدة الإيلاء (245ب1) قبل أن تنقضي عدة الطلاق يقع عليها تطليقة أخرى بالإيلاء؛ لأن الإيلاء متى صح كان بمنزلة ما لو قال لها: إن لم أقربك أربعة أشهر فأنت طالق، فيكون المعلق بمضي أربعة أشهر (فإن) لم يقربها فيها (يقع) الطلاق لا البينونة ولا الحرمة. وعلى هذا إذا قال: أنت بائن الغد ونوى به الطلاق ثم أبانها اليوم ثم جاء الغد يقع عليها تطليقة بالشرط عندنا.
قال مشايخنا رحمهم الله: وينبغي على قياس هذه المسألة أنه إذا قال: إن دخلت هذه الدار فأنت بائن، ينوي به الطلاق ثم قال لها: إن كلمت فلاناً فأنت بائن ينوي به الطلاق ثم دخلت الدار ووقع عليها تطليقة واحدة ثم كلمت فلاناً بعد ذلك يقع عليها تطليقة أخرى.
وإذا قال لها: إذا جاء الغد فاختاري، ثم أبانها ثم جاء الغد فاختارت نفسها لا يقع الطلاق كما لو نجز التنجيز.
وكذلك إذا قال لها: اختاري، ولم يقل إذا جاء الغد ثم اختارت نفسها بعدما أبانها لم يقع عليها شيء؛ لأن قولها اخترت إيقاع مبتدأ منها، وليس بإيجاد لشرط وقوع الطلاق، والواقع بقولها: اخترت البينونة، فإنه من جملة الكنايات فصار كما لو قال لها: أنت بائن ابتداءً وهناك لا يقع به شيء فههنا كذلك.
وأما الدخول في مسألة التعليق إيجاد شرط وقوع الطلاق، والوقوع مضاف إلى التعليق السابق، ووقت التعليق كان النكاح قائماً فيصح قوله: أنت بائن وصار بمنزلة قوله: أنت طالق بائن، ولو قال للمختلعة اعتدي، ينوي الطلاق، أو قال لها: استبرئي رحمك ونوى بالطلاق، أو قال لها أنت واحدة يقع بها تطليقة أخرى.(3/522)
-----
وقال أبو يوسف رحمه الله؛ لا يقع بها شيء لأنها من جملة الكنايات، وبهذا يحتاج فيه إلى النية، فلا يقع بها شيء كسائر الكنايات. ولهما أن هذه الألفاظ في حكم الصريح على معنى أن الواقع بها رجعي، وإنما اعتبرت النية لأنه في الصريح يحتمل وجوهاً أُخَر. أما بعدما نوى كان الواقع صريحاً والصريح يلحق بالصريح بالإجماع. وإذا قال لمبانته أبنتك بتطليقة ولا يقع عليها شيء. ولا يلغو، قوله أبنتك، بخلاف ما لو قال لها: أنت طالق بائن، فإنه يقع عليها تطليقة، ويلغو قوله: أبنتك، لأن في قوله أنت طالق بائن لو ألغينا قوله بائن، يبقى قوله أنت طالقة وإنه كلام مبتدأ في الإيقاع فألغيناه تصحيحاً للإيقاع.
أما في قوله: أبنتك بتطليقة لو ألغينا قوله: أبنتك يبقى قوله بتطليقة، وإنه غير مفيد في الإيقاع. وعلى هذا إذا قالت المختلعة لزوجها خويشتن خريسدم أرقوا بكابين وتقع عدة، فقال الزوج لا يقع بشيء، فلا يلغو قوله: فروختم الأفللو ألغيناه يبقى قوله بيك طلاق، وإنه لا يفيد شيئاً، فكل فرقة توجب التحريم مؤبداً فإن الطلاق لا يلحق بالمرأة؛ لأنه لا يظهر له أثر، وكذلك إذا اشترى منكوحته لا يلحقها الطلاق.
وإذا ارتد الرجل ولحق بدار الحرب لم يقع على المرأة طلاقه؛ لأن تباين الدارين ينافي النكاح، فيكون منافياً للطلاق الذي هو من أحكام النكاح، فإن عاد إلى دار الإسلام وهي في العدة وقع عليها الطلاق؛ لأن المنافي وهو تباين الدارين قد ارتفع، ومحلية الطلاق بالعدة إنها قائمة فيقع الطلاق.(3/523)
-----
وإذا ارتدت المرأة ولحقت بدار الحرب لم يقع طلاق الزوج عليها، فإن عادت قبل الحيض لم يقع طلاق الزوج عليها عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العدة قد سقطت عليها عنده لفوات المحلية؛ لأن من كان في دار الحرب فهو كالميت في حقنا، وبقاء الشيء في غير محله مستحيل، والعدة متى سقطت لا تعود إلا بعود سببها بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك العدة باقية ببقاء محلها؛ لأنها في دار الإسلام إلا أن تباين الدارين كان مانعاً وقوع الطلاق، فإذا ارتفع المانع والعدة باقية وقع. وقال أبو يوسف رحمه الله: يقع الطلاق؛ لأن العدة باقية عنده إلا أنه لم يقع الطلاق لتباين الدارين، والتقريب ما ذكرنا والله أعلم.
الفصل السادس: في إيقاع الطلاق بالكتابات
يجب أن يعلم بأن الكتابة نوعان: مرسومة وغير مرسومة.
فالمرسومة: أن تكتب على صحيفة مصدراً ومعنوناً وإنها على وجهين:
الأول: أن تكتب هذا كتاب فلان بن فلان إلى فلانة أما بعد: فأنت طالق. وفي هذا الوجه يقع الطلاق عليها في الحال.
وإن قال: لم أعنِ به الطلاق لم يصدق في الحكم، وهذا لأن الكتابة المرسومة بمنزلة المقال.
ولو قال لها: يا فلانة أنت طالق ولم يذكر شرطاً يقع الطلاق عليها في الحال. وإذا قال لم أنو الطلاق لم يصدق في الحكم كذا ههنا. وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى؟ ذكر هذه المسألة في «المنتقى»: في موضعين، وذكر في أحد الموضعين أنه لا يدين، وذكر في الموضع الآخر أنه يدين.(3/524)
-----
الوجه الثاني: أن يكتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق. وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق إلا بعد مجيء الكتاب؛ لأنه علّق الطلاق بالشرط كتابة، ولو علقه بالشرط مقالة لا يقع الطلاق قبل وجود الشرط كذا ههنا. فإن كتب أول الكتاب أما بعد: إذا جاءك كتابي هذا أنت طالق، ثم كتب الحوائج، ثم بدا له مجيء الحوائج وترك قوله: إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق فوصل إليها هذا القدر يقع الطلاق. وإن محى قوله إذا جاء كتابي هذا فأنت طالق وترك الحوائج لا يقع الطلاق عليها وإن وصل إليها الكتاب، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن شرط وقوع الطلاق عليها أن يصل إليها ما كتب قبل قوله هذا ولم يصل لما محاه قبل الوصول.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا محى ذلك الطلاق من كتابه، وترك ما سوى ذكر وبعث بالكتاب إليها فهي طالق إذا وصل، وهكذا ذكر في «العيون»؛ لأن شرط وقوع الطلاق وصول كتابه إليها وقد وصل، ومجيء الطلاق بمنزلة الرجوع عن التعليق، وإن محى الخطوط كلها وبعث بالبياض إليها تطلق.
وفي «القدوري»: لو محى ذكر الطلاق عنه وأنفذ الكتاب وقع الطلاق إن بقي منه ما يسمى كتابة أو رسالة، وإن لم يبق منه كلام يكون رسالة لم يقع الطلاق، وإن وصل إليها لأن الشرط وصول الكتاب إليها فلا بد من أن يبقى بعد المحو ما يسمى كتاباً. وإن كتب الحوائج أولاً ثم كتب بعده: أما بعد إذا جاءك كتابي هذا، فأنت طالق، فبدا له محو الحوائج وترك قوله إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق لا يقع عليها الطلاق. وإن وصل إليها (246أ1) الكتاب.
وفي «الحاوي» أنها تطلق، وإذا محى قوله: إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق فجاءها الكتاب طلقت. ولو كتب وسط الكتاب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق وكتب قبله حوائج وبعده حوائج ثم بدا له فمحى الطلاق وترك ما قبله طلقت، وإن محى ما قبله أو أكثر وترك الطلاق وترك ما قبله لم تطلق.(3/525)
-----
وفي «الحاوي»: إذا كتب فصل الطلاق في وسط الكتاب ثم محى ذلك، قال أبو يوسف رحمه الله: إن كان ما قبل الطلاق أكثر طلقت، وإن كان الأكثر بعده لا تطلق.
وفي «المنتقى»: لو كتب رجل رسالة منه إلى امرأته وكتب: إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق، فمحى ذكر الطلاق وبعث بالكتاب إليها، فإن كان صدر الرسالة أكثرها على ما يكتب الناس على حاله فالطلاق لها لازم.
معنى المسألة: أنه إن بقي بعد محو الطلاق ما يسمى كتابة أو رسالة يقع الطلاق وما لا فلا، ألا ترى أنه ذكر بعده، قال: كأن كتب: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، فمحى أنت طالق وترك إذا أتاك كتابي هذا، وليس للكتاب صدر غير هذا الحرف لم يقع عليها الطلاق، وليس هذا كتابه إليها.
وفي «الحاوي»: لو محى بعض الكلمات وترك بعضه وترك فصل الطلاق أيضاً وهو في آخره فإن كان الممحو أكثر والمتروك أقل لا تطلق، وإن كان على العكس تطلق. وأما إذا كانت الكتابة مرسومة، فإن كانت غير مستبينة بأن كتب على وجه لا يمكن فهمها وقراءتها بأن كتب على الماء أو على الهواء، وفي هذا الوجه يقع الطلاق نوى أو لم ينو.r
وإن كانت مستبينة على وجه يمكن قراءتها وفهمها بأن كتب على الأرض أو الحجر إلا أنه غير مصدر ولا معنون وفي هذا الوجه إن نوى الطلاق يقع، وإن لم ينو لا يقع، فبعد ذلك إن (كان) ذلك صحيحاً يبين بنية بلسانه وإن كان أخرساً...... بالكتاب.
ولو كتب الصحيح أو الأخرس إلى امرأته كتاباً فيه طلاقها وكان الكتاب مرسوماً ثم جحد الكتاب وقامت عليه البينة أنه كتبه فرق بينهما قضاء، وأما ديانة فإن كان لم ينو به الطلاق فهي امرأته.(3/526)
-----
وفي «المنتقى»: لو كتب كتاباً في قرطاس فكان فيه: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق ثم نسخه في كتاب آخر أو أمر غيره أن ينسخه ولم يُمل هو، فأتاها الكتابات بأن طلقت تطليقتين في القضاء إذا أقرأتهما كتاباه أو قامت به بينة. وأما فيما بينه وبين الله تعالى فيقع عليها تطليقة واحدة بأيهما أتاها ويبطل الآخر لأنها نسخة واحدة.
وفيه أيضاً: رجل كتب من رجل آخر إلى امرأته كتاباً بطلاقه وقرأه على الزوج وأخذه الزوج وطول وختم وكتب في عنوانه وبعثه إلى امرأته، فأتاها الكتاب وأقرّ الزوج أنه كتابه فإن الطلاق يقع عليها، وكذلك لو قال لذلك الرجل: ابعث بهذا الكتاب إليها أو قال له: اكتب نسخة وابعث بها إليها، وإن لم تقم عليه بينة بالكتاب ولم يقر أنه كتابه ولكنه وصف الأمر على وجهه، فإنه لا يلزمه الطلاق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك كل كتاب لا يكتبه بخطه ولم يمله بنفسه لا يقع به الطلاق إذا لم يقر أنه كتابه.
وفي «المنتقى»: عن محمد رحمه الله: إذا كتب الرجل إلى امرأته: كل امرأة لي غيرك وغير فلانة فهي طالق، ثم محى ذكر غير فلانة، وبعث بالكتاب لا تطلق فلانة وهذه حيلة جيدة.
وفي «العيون»: إذا كتب إلى امرأته أما بعد أنت طالق إن شاء الله، فإن كان كتب إن شاء الله موصولاً بكتابته أما بعد فأنت طالق لا تطلق، وإن فتر فترة بعدما كتب أنت طالق ثم كتب إن شاء الله تطلق؛ لأن الكتاب من الغائب بمنزلة التلفظ من الحاضر.
وفي «النوازل»: إذا كتب إلى امرأته إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق، فوصل الكتاب إلى أبيها فمزق الكتاب ولم يدفعه إليها، فإن كان الأب هو المتصرف في جميع أمورها وقع الطلاق متى وصل الكتاب إلى أبيها في بلدها؛ لأن الوصول إلى أبيها وهو المتصرف في عموم أمرها بمنزلة الوصول إليها، وإن لم يكن الأب هو المتصرف في عموم أمورها لا يقع عليها الطلاق؛ لأن الوصول إليه حينئذ لا يكون كالوصول إليها.(3/527)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا أكره الرجل بالحبس والضرب على أن يكتب طلاق امرأته فكتب فلانة بنت فلان طالق لا تطلق لأن الكتاب من الغائب جعل بمنزلة الخطاب من الحاضر باعتبار الحاجة، ولا حاجة ههنا حيث احتيج إلى الضرب والله أعلم.
الفصل السابع: في الشركة في الطلاق
إذا طلق الرجل امرأته ثم قال لامرأة أخرى له: أشركتك معها في الطلاق وقع على الأخرى مثل ما وقع على الأولى ثلاثاً كانت أو أقل، وهذا لأن الشركة تقتضي المساواة، فإذا قال للأخرى: أشركتك معها في الطلاق، فقد أثبت المساواة بين الأولى وبين الأخرى، والمساواة بينهما في الطلاق إنما يتحقق إما بنقل نصف ما وقع على الأولى إلى (الأولى) كمن اشترى عبداً فقال لآخر أشركتك فيه يصير نصف العبد منقولاً منه إلى الذي أشركه أو بأن يقع على الأخرى مثل ما وقع على الأولى والأول متعذر لأن الطلاق الواقع مما لا يقبل الرفع والنقل فتعين الثاني، فصار قوله: أشركتك مع فلانة في الطلاق بمنزلة قوله أوقعت عليك مثل ما أوقعت على فلانة، ولو صرح بذلك يقع للأخرى مثل ما وقع على الأولى كذا ههنا.
وفي «البقالي»: لو طلق امرأته ثلاثاً ثم قال لامرأة له أخرى: جعلت لك في هذا الطلاق نصيباً، أنه ينوي، فإن نوى واحدة فواحدة وإن نوى نصيباً في كل واحدة من الثلاث قبلت.
وفي «المنتقى»: لو طلق امرأته واحدة ثم قال لامرأة له أخرى: قد اشركتك في طلاقها وقعت على الثانية واحدة، فإن قال لثالثة: قد أشركتك في طلاقهما وقعت عليها ثنتان، فإن قال لرابعة: قد أشركتك في طلاقهن وقع عليها ثلاث تطليقات.
في «البقالي»: لو طلق ثلاث نسوة له واحدة، واحدة ثم قال لرابعة: أشركتك في طلاقهن وقع عليها ثلاث تطليقات، ولو طلقهن على التفاوت بأن طلق واحدة منهن واحدة وطلق الأخرى ثنتين وطلق الأخرى ثلاثاً، ثم قال للرابعة: أشركتك في طلاق إحداهن فقد قيل: يخير.(3/528)
-----
فروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله في «الإملاء»: لو أن رجلاً طلق امرأته على جُعل ثم قال لامرأة أخرى له: قد أشركتك (246ب1) في طلاقها فقالت: لا أقبل يلزمها، الطلاق وليس عليها من الجعل شيء. ولو أن هذه المرأة التي طلقها الزوج أولاً أقامت البينة على ثلاث قبل الخلع ورجعت بالجعل الذي أعطته، فإن كان الزوج جاحداً للطلقات الثلاث، يعني قبل إقامة البينة وبعدها يقع الطلاق على الثانية بغير شيء. فإن كان مصدقاً لها فيه يعني بعد إقامة البينة لم يقع على الثانية شيء.
وفي «القدوري»: لو قال لامرأتين له: أشركت بينكما في تطليقتين فهو بمنزلة قوله: بينكما تطليقتان حتى يقع على كل واحدة واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقع على كل واحدة تطليقتان.
وفي «البقالي» وفي «المنتقى»: إذا طلق امرأة له ثم تزوجها، ثم قال لامرأة أخرى له قد أشركتك في طلاق فلانة طلقت. ولو قال أشركتك في طلاق فلانة ولم يكن طلقها أو كانت فلانة تحت زوج آخر قد طلقها أو لم يطلقها، ففي امرأة الغير لا يلزم امرأته طلاق إن كان طلقها أو لم يطلقها نوى الزوج طلاقاً أو لم ينو، وفي امرأة يملكها لا تطلق الثانية إذا لم يكن طلق تلك ولا يكون هذا إقرار بطلاق تلك.
رواه بشر عن أبي يوسف رحمهما الله وأبو سليمان عن محمد رحمهما الله مطلقاً، وزاد في «البقالي»: ولا يكون هذا إقراراً بطلاق تلك إلا أن يقول: أشركتك في طلاق فلانة التي طلقها، وفي «البقالي» أيضاً: أشركها في طلاق امرأة الغير لا يصح إلا أن يقول: أنا أوقع طلاقه الذي أوقع عليها على امرأتي: ولو قال لامرأة له: إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق، ثم قال لامرأة أخرى له: أشركتك في هذه التطليقة، فإذا دخلت الدار طلقتا.(3/529)
-----
وكذلك لو قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ثم قال لامرأة له أخرى: قد أشركتك في طلاق هذه، إذا تزوجها طلقتا. وإذا تزوج امرأة نكاحاً فاسداً ثم طلقها ثلاثاً ثم قال لأخرى قد أشركتك في طلاق هذه ولا نيّة له لم تطلق. ولو قال: قد أشركتك في الطلاق الذي تكلمت به طلقتا ثلاثاً.
وفي «المنتقى»: إذا قال لامرأته: إن طلقتك، فهذه مثلك لامرأة أخرى له، ولا نية له في الطلاق أو نوى الطلاق، ثم إنه طلق الأولى ثلاثاً تطلق هذه الأخيرة واحدة. وكذلك إذا قال لامرأته حيثما طلقتك، فهذه الأخرى مثلك ينوي الطلاق وطلق الأولى ثلاثاً طلقت الأخرى واحدة إلا أن ينوي ثلاثاً. وإن طلق الأولى واحدة طلقت الأخرى واحدة.
وفي «نوادر ابن سماعة» (عن محمد) رحمهما الله: إذا طلق الرجل امرأته ثم قال لامرأة له: أنت مثلها ينوي به الطلاق. إذا قال: أنت نظيرها ينوي بها الطلاق فهي طالق، وكذا لو قال رجل لآخر لامرأته.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله في أمة أعتقت واختارت نفسها، فقال زوجها لامرأة أخرى قد أشركتك في طلاق هذه لا يقع عليها طلاق، وكذلك كل فرقة بغير طلاق.
ولو قال: قد أشركتك في فرقة هذه، أو قال: قد أشركتك في بينونة ما بيني وبينها لزمها تطليقة بائنة، وإن نوى ثلاثاً قبلت. وإن قال: لم أنو الطلاق لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله، وروى أبو سليمان عن محمد رحمهما الله أنه لا يقع عليها شيء.
وفي «المنتقى»: إذا خلع امرأته على ألف ثم قال لامرأة أخرى له: قد أشركتك في خلع هذه فإن قبلت وقع عليها الخلع بخمس مائة.
وعلى قياس ما تقدم ينبغي أن يقع عليها الخلع بألف إذا قبلت؛ لأنه تعذر إثبات المساواة بينهما بنقل الخلع بنصف المال إلى الأخرى، فيتعين إثبات المساواة بإيقاع مثل ذلك إلى الأخرى، والله أعلم بالصواب.(3/530)
الفصل الثامن: في الطلاق الذي يكون من غير الزوج فيجيزه الزوج، فيقع أو لا يقع.
-----
إذا قالت المرأة لزوجها: قد طلقت نفسي فقال الزوج: قد أجزت ذلك فهذا جائز، ويقع عليها تطليقة رجعية؛ لأن هذا تصرف فضولي لم يجد نفاذاً عليها؛ لأن المرأة لا تملك إيقاع الطلاق على نفسها وله مجيز حال وقوعه وهو الزوج، فيتوقف على إجازته. وإذا أجاز ينفذ ويقع الطلاق رجعياً لأن الفضولي عند الإجازة كالتوكيل، وقول التوكيل ينتقل إلى الموكل فيما لا ترجع حقوقه إلى الوكيل، فإن قال الزوج لها: طلقتك وهناك يقع الطلاق رجعياً. ولا يشترط به الطلاق من الزوج عند قوله؛ أجزت لوقوع الطلاق.
ولو نوى الزوج الثلاث عند قوله: أجزت لا تصح نيته؛ لأن تقدير هذه المسألة كأن الزوج قال لها: طلقتك، وهناك لا يحتاج إلى نية الزوج، فلا تصح نية الثلاث منه كذا ههنا.
وكذلك إذا قالت: أبنت نفسي منك أو حرمت نفسي عليك فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق يقع الطلاق؛ لأن هذا تصرف فضولي لم يجد نفاذاً على الفضولي وله مجيز حال وقوعه وهو الزوج فيقف على إجازة الزوج، فإذا أجازه ينفذ، ويصير تقدير المسألة كأن الزوج قال: أبنتك حرمتك على نفسي، ولهذا يحتاج إلى نية الطلاق عند قوله أجزت، وتصح نية الثلاث عند عدم نية الثلاث وتقع تطليقة بائنة لأن هذه الألفاظ من جملة الكنايات، والواقع بالكنايات بائن وتصح نية الثلاث فيها.(3/531)
-----
ولو قالت: اخترت نفسي (منك، فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأنه لم يكن له) مجيزٌ حال وقوعه؛ لأن الزوج لا يملك إجازة ذلك؛ لأن ملك الإجازة يستفاد من ملك الإنشاء والزوج لا يملك إنشاء الإيقاع بهذا اللفظ فإنه لو قال: اخترتك اخترت نفسك ونوى الطلاق لا يقع لأنه نوى ما لا يحتمله لفظه ولو قالت المرأة: جعلت أمري بيدي، فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق صار أمرها بيدها؛ لأن الزوج يملك جعل أمرها بيدها بهذه اللفظة بأن يقول جعلت أمرك بيدك فكان لهذا التصرف مجيز حال وقوعه فيتوقف على إجازته وينفذ بإجازته وإن اختارت نفسها بعد ذلك في المجلس يقع الطلاق وما لا فلا، وكذلك لو قالت: جعلت الخيار إليّ فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق صار الخيار إليها.
ولو قالت: جعلت أمري بيدي واخترت نفسي فقال الزوج: أجزت ذلك صار الأمر بيدها، ولكن لا يقع الطلاق ما لم تختر نفسها بعد إجازة الزوج في مجلسها ذلك لأنها باشرت تصرفين ولأحدهما الزوج مجيز وهو جعل الأمر بيدها ولا مجيز للآخر، وهو الاختيار، فيتوقف الأمر باليد على الإجازة، ولا يتوقف الاختيار بل يبطل. فإذا أجازهما صار الأمر بيدها، فإذا اختارت نفسها بعد ذلك (247 أ1) في مجلسها ذلك طلقت وما لا فلا.
ولو قالت: قد كنت جعلت أمس أمري بيدي واخترت نفسي، فقال الزوج: صدقت وقد أجزت ذلك الساعة وهو يريد الطلاق بيدها، ولكنها، لا تطلق إلا إذا اختارت نفسها في ذلك المجلس. ولو كانت قالت: قد كنت قلت أمس: أمري بيدي اليوم كله واخترت نفسي، فقال الزوج: صدقت وقد أجزت ذلك الساعة كان ذلك باطلاً كما لو اختارت نفسها بعد إجازة الزوج لا يقع عليها الطلاق.(3/532)
-----
والفرق: أن في المسألة الأولى ذكرا الأولى ذكر أمس لبيان وقت التفويض على سبيل التاريخ لا لتأقيت التفويض بالأمس، كقوله بعت أمس، أجزت أمس، فبقي الأمر مرسلاً غير مؤقت بالأمس، فيكون قائماً وقت الإجازة، فالإجازة لاقت تفويضاً قائماً وقت الإجازة، فعملت.
أما ذكر أمس في المسألة الثانية لبيان تأقيت التفويض فيه لا لبيان تاريخ التفويض لأنه إن ذكر الأمس مطلقاً أو ذكر بعض الأمس يكفي في التاريخ، فلم يكن لقوله كله فائدة سوى التأقيت به، ألا ترى أن من قال لغيره: أجزت منك هذا العبد اليوم كله كان ذلك اليوم للتأقيت حتى يجوز العقد. وإذا قال: بعت منك هذا العبد اليوم كله، ذكر اليوم للتأقيت حتى يبطل العقد فكذا ههنا. ولما ذكر الأمس لتأقيت التفويض به لا يبقى التفويض بعد، فالإجازة تلاقي تفويضاً منتهياً، فلا تعمل. هذه الجملة من أيمان «الجامع».
وفي طلاق «الجامع»: رجل قال لامرأة رجل: جعلت أمرك بيدك، فقالت قد اخترت نفسي فبلغ الزوج الخبر، فقال: أجزت ذلك كله صار الأمر بيدها، ولكن لا يقع الطلاق ما لم تختر نفسها في مجلس علمها بإجازة الزوج. والمعنى ما ذكرنا في قول المرأة: جعلت أمري بيدي واخترت نفسي.
ولو قالت المرأة: جعلت أمري بيدي وطلقت نفسي بذلك، فأجاز الزوج ذلك طلقت واحدة رجعية، وصار الأمر بيدها حتى لو طلقت نفسها بحكم التفويض يقع طلاق آخر بائن؛ لأنها تصرفت تصرفين: الطلاق والتفويض، والزوج مجيز لهما، فيتوقفا على إجازته وينفذا بإجازته. وكان ينبغي أن لا يكون الواقع للحال رجعياً؛ لأنها أوقعت الطلاق بطريق الاختيار، حيث قالت: وطلقت نفسي بذلك، أي بذلك التخيير الذي جعلت في يدي والواقع بالتخيير يكون بائناً، والجواب أن إشارتها لا تصح لأنها؛ لا تملك التطليق قبل التفويض، وقبل الإجازة لم يوجد التفويض إليها، فلغت الإشارة وبقي أصل الطلاق....، كأنها قالت: جعلت أمري بيدي وطلقت نفسي.(3/533)
-----
ولو قالت المرأة لزوجها: قد اخترت نفسي منك كان باطلاً؛ لأن اختيارها نفسها لا يتوقف على الإجازة ولا ينفذ ذلك منها لاختيارها نفسها قبل صيرورة الأمر بيدها فيبطل ضرورة.
رجل قال لامرأة رجل: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فأجاز الزوج ذلك ثم دخلت الدار طلقت. ولو دخلت الدار قبل إجازة الزوج لا تطلق، فإن عادت بعد الإجازة فدخلت الدار طلقت؛ لأن تصرف الفضولي إنما يصير يميناً بإجازة الزوج والأيمان تقتضي شروطاً في المستقبل.
ولو أن رجلاً قال لرجل: بلغني أن امرأتي تخرج من منزلها وأنا غائب وأنا أريد أن أحذرها فاكتب في ذلك كتاباً، فكتب الرجل إليها: أما بعد فإن خرجت من منزلك فأنت طالق ثلاثاً، فخرجت المرأة من المنزل بعدما كتب الرجل الكتاب قبل أن يقرأه الكاتب على الزوج ثم قرأه على الزوج فأجازه وبعث بالكتاب إلى المرأة فليس يقع بالخروج الأول شيء، وإنما هذا على خروج يوجد بعد الإجازة؛ لأن قول الزوج للكاتب: اكتب بذلك كتاباً ليس فيه ما يدل على الطلاق، وإنما أمره أن يكتب كتاباً يمنعها عن الخروج بعظة يعظها، وقد يكون ذلك بالطلاق وقد يكون بغيره، فلم يثبت الأمر بكتابة اليمين بالطلاق، فكان فضولياً في كتابة اليمين بالطلاق وإنما ينعقد يميناً إذا أجاز الزوج ولا معتبر فالشروط قبل انعقاد اليمين.
وفي «المنتقى» عن ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمهما الله: يقول في رجل قال لامرأة رجل: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، فقال الزوج: نعم قد حلف الزوج بذلك كله، فإن دخلت بعد قوله نعم فهي طالق. فكذلك قال: ألزمتها ذلك ولو لم يقل الزوج شيئاً حتى دخلت الدار، فقال: قد أجزت هذا الطلاق عليها فهو جائز.(3/534)
-----
وفي أيمان «القدوري»: إذا قال الزوج: امرأة زيد طالق وعبده حر، وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن دخل هذه الدار، فقال زيد: نعم، وقد حلفت بذلك كله، ولو لم يقل نعم ولكن قال: أجزت ذلك، فهذا لم يحلف على شيء، وإنه يخالف مسألة «الجامع» التي تقدم ذكرها. ولو قال: أجزت ذلك عليها إن دخلت الدار، أو قال: ألزمته نفسي إن دخلت الدار لزمه.
وفيه أيضاً: لو قال امرأة زيد طالق، فقال زيد: أجزت أو رضيت أو ألزمته نفسي لزمه الطلاق.
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل: إن بعت هذا المملوك من زيد فهو حر، فقال زيد: نعم، ثم اشتراه زيد لا يعتق عليه. ولو قال: إن اشترى زيد مني هذا العبد فهو حر، فقال زيد: نعم، ثم اشتراه عتق عليه.
وفي «المنتقى»: إذا طلق الرجل امرأة رجل أو أعتق عبده أو باعه فقال الزوج أو المولى: رضيت بذلك أو قال: شئت ذلك، فهو إجازة. ولو قال: قد أحببت ذلك، أو قال: هويت، أو أردت، أو قال: أعجبني ذلك، أو قال وافقني ذلك فذلك ليس بإجازة.
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لامرأة رجل: اختاري، يعني الطلاق فاختارت نفسها أو قال لها: أمرك بيدك، ينوي الطلاق، فاختارت نفسها، أو قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، وقال الزوج: قد أجزت ذلك فهي طالق. ولو قال: أجزت قوله: أمرك بيدك وأجزت قوله: اختاري لم يلزمها الطلاق إلا أن تختار نفسها بعد إجازة الزوج في مجلس علمها بإجازة الزوج.
وفيه أيضاً: إذا قالت لنفسها: إذا ولدت ولداً، فأنا طالق فولدت ولداً فقال الزوج: قد أجزت ذلك فهي طالق. ولو قال ألزمت نفسي قولك إذا ولدت ولداً لا تطلق ما لم تلد ولداً آخر. ولو قالت: أنا طالق بألف درهم، فقال الزوج: نعم لزمها (247ب1) تطليقة بألف درهم.(3/535)
الفصل التاسع: في الاستثناء في الطلاق
-----
يجب أن يعلم بأن الاستثناء يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً. وشرطه أن يتكلم بالحروف سواء كان مسموعاً أو لم يكن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول: لا بد وأن يسمع نفسه، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» كلمة إن شاء الله إذا وصلت بالكلام ترفع حكمه، أي: يصرف (أياً) كان.
وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا قال الرجل: نويت أن أصوم غداً إن شاء الله كانت نيته صحيحة، لو صام غداً بهذه النية يجوز استحساناً. وتخرج المسألة من وجهتين:
إحداهما: أن كلمة إن شاء الله في هذه الصورة تستعمل لطلب التوفيق عادة، ولا تستعمل للتعليق، حتى لو استعملها للتعليق لا تصح نيته أيضاً.
الثاني: أن الاستثناء عمل اللسان ويرفع حكم كل تصرف يختص باللسان نحوالطلاق والعتاق والبيع، والنية عمل القلب لا تعلق له باللسان، فلا يرفع الاستثناء حكمه.
وذكر في «الفتاوى»: المريض إذا قال لورثته: اعتقوا فلاناً عني بعد موتي إن شاء الله صح الإيصاء حتى يجب عليهم الإعتاق.
وتخريجه: أن هناك الاستثناء دخل في الأمر، والاستثناء يعمل في الإيجاب لا في الأوامر لعلة أن الإيجاب يقع لازماً فيحتاج فيه إلى الاستثناء حتى لا يلزمه حكمه، وأما الأوامر لا تقع لازمة، فإنه يمكن الرجوع فيها، فلا تقع الحاجة فيها إلى الاستثناء، وصار الحاصل أن كلمة إن شاء الله إذا دخلت على ما يختص باللسان وهو إيجاب يرفع حكمه، وإذا دخلت على ما لا يختص باللسان أو هو أمر، فليس بإيجاب إذا دخلت على الأمر يرفع حكمه.
وإذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله، فهذا استثناء، وكذلك إذا قال: ما شاء الله فهو استثناء، وكذلك إذا قال: إلا إن شاء الله، ولو قدم الاستثناء فإن ذكر الطلاق بحرف الفاء بأن قال إن شاء الله فأنت طالق، فهذا استثناء صحيح.(3/536)
-----
وكذلك إذا قال: إن شاء الله قوله... لله لا أدخل الدار، فهذا استثناء صحيح، لو دخلت الدار لا يحنث في يمينه. ألا ترى أنه لو ذكر مكان: إن شاء الله شرطاً آخر بأن قال مثلاً: إن دخلت الدار فأنت طالق كان تطليقاً صحيحاً. وإن ذكر الطلاق بدون حرف الفاء قال: إن شاء الله أنت طالق فهذا استثناء صحيح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: هذا استثناء منقطع، والطلاق واقع في القضاء ويدين فيها بينه وبين الله تعالى، وإن كان إرادته الاستثناء ذكر الخلاف على هذا الوجه.
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: إن شاء الله وأنت طالق فهذا استثناء. وعنه أيضاً: إنه ليس باستثناء. وعنه أيضاً: إذا قال: أنت طالق وإن شاء الله، أو قال: أنت طالق فإن شاء الله، فهذا ليس باستثناء.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ما شاء الله إنها تطلق واحدة قال ثمة: وأجعل الاستثناء على الأكثر، وذكر بعد ذلك مسائل أنت طالق ثلاثاً إلا ما شاء الله أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء الله، وذكر أنه لا يقع الطلاق أصلاً. وإذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله ولا يدري أي شيء إن شاء الله لا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع بعلمه وجهله يكون فيه سواء.r(3/537)
-----
ألا ترى أن سكوت البكر لما جعل قضاء شرعاً استوى فيه الجهل والعلم حتى لو زوجها أبوها فسكتت وهي لا تعلم أن السكوت رضا يجوز النكاح، ولم يعتبر جهلهما ولو قال لها: أنت طالق فجرى على لسانه من غير قصد إن شاء الله، فكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد موصولاً مع الاستثناء لا يكون إيقاعاً فهو كما لو قال لها: أنت طالق فجرى على لسانه أو غير طالق، ولو ضم مع مشيئة الله تعالى مشيئة غيره كان استثناء. كأن قال: أنت طالق إن شاء الله و.... قال: أنت (طالق) إن شاء الله وشاء فلان. ولو شرط مشيئة من لا تعلم مشيئته نحو أن يقول إن شاء جبريل أو الملائكة أو الشياطين كان استثناء من الكلام وهذا وما لو شرط مشيئة الله تعالى سواء.
وفي «الجامع» لو قال لرجل: طلق امرأتي إن شاء الله وشئت وطلقها المخاطب لا يقع، وكذلك لو قال: طلق امرأتي ما شاء الله، وشئت، فطلقها المخاطب لا يقع؛ لأن معنى قوله ما شاء الله وشئت العدد الذي شاء الله وشئت ولا يدري إن شاء الله تعالى أي عدد أو شاء شيئاً أو لم يشأ أصلاً. وهذه المسألة ودليل على أن كلمة إن شاء الله إذا دخل على الأمر ترفع حكمه.
ولو قال له: طلق امرأتي بما شاء الله، وشئت أو قال: أعتق عبدي بما شاء الله وشئت فطلقها أو أعتقه على مال يجوز؛ لأن ههنا أدخل المشيئة على البدل، لا على الطلاق والعتاق فبطل ذكر البدل وبقي الأمر بالطلاق والعتاق مطلقاً، أما في قوله ما شاء الله أدخل المشيئة في عدد الطلاق ولا يدرى أي عدد شاء الله.(3/538)
-----
وفي «النوازل»: إذا قال لامرأته: أنت طالق اليوم واحدة إن شاء الله وإن لم يشأ فثنتين، فمضى اليوم ولم يطلقها وقع ثنتان؛ لأن الله تعالى لو شاء الواحدة من طلقها لطلقها قبل مضي اليوم، فلما لم يطلقها علم أنه لم يشأ الواحدة، وقد علق بعدم مشيئة الواحدة تطليقتان. ولهذا قال: إذا مضى اليوم ولم يطلقها طلقت تطليقتين وإن طلقها واحدة قبل مضي اليوم لا يقع عليها إلا تلك الواحدة؛ لأن وقوع ما زاد على الواحد متعلق بعدم مشيئة الله تعالى الواحدة اليوم، وقد شاء ذلك حتى طلقها الواحدة قبل مضي اليوم. ولو لم يقيده باليوم وقال لها: أنت طالق واحدة إن شاء الله، وأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله لا يقع شيء لأن قوله: أنت طالق إن شاء الله كلام صحيح فلا يقع به شيء؛ وقوله: فأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله إذا لم يقيده باليوم كان باطلاً، لأنه لو صح لبطل من حيث صح؛ لأنه لو وقع الطلاق ثبتت مشيئة الله تعالى، ووجود الأشياء كلها مشيئة الله تعالى تخالف ما إذا قيده باليوم وذكر هذه المسألة في «المنتقى» ووصفها في الثنتين والثلاث وقال لها: أنت طالق ثنيتين اليوم إن شاء الله وإن لم يشأ الله تعالى في اليوم، فأنت طالق (248أ1) ثلاثاً فمضى ولم يطلقها طلقت ثلاثاً وإن لم يؤقت في اليمينين جميعاً فهو إلى الموت، فإذا لم يطلقها طلقت قبل الموت، فصل هذه الزيادة في «المنتقى»، وإنه يخالف ما ذكر في «النوازل» وذكر في «المنتقى» أيضاً قبل هذه المسألة إذا قال لها أنت طالق إن لم يشأ الله طلاقك لا تطلق بهذا اليمين أبداً وإنه يوافق ما ذكر في «النوازل».
وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله إذا قال لها: أنت طالق أمس إن شاء الله إنه لا يقع الطلاق.
نوع آخر فيما يقع به الفعل من الإيجاز والاستثناء وفيما لا يقع(3/539)
-----
عن أبي يوسف رحمه الله فيمن حلف بالطلاق واستثنى وتنفس بين الاستثناء وبين الطلاق ووجد من النفس بداً أو لم يجد قال: إذا فصله فهو استثناء.
قال في «الجامع»: إذا قال لامرأته يا زانية أنت طالق إن شاء الله كان استثناؤه على الطلاق، ويصير قاذفاً للحال. ولو قال لها: أنت طالق يا زانية بنت الزانية إن شاء الله، فالاستثناء على الكل حتى لا يقع الطلاق ولا يَلزمه حد ولا لعان؛ لأن النسبة إنما تذكر لتعريف المنادى فيصير من جملة النداء، والنداء لا يصير فاصلاً، فكذا ما هو جملة النداء.
فإن قيل: التعريف يقع بالنسبة إلى الأب دون الأم، فلم يكن قوله بنت الزانية محتاجاً إليه لتعريف المنادى فيجب أن يصير فاصلاً، قلنا النسبة إلى الأب مما يقع به التعريف، إلا أن الأم لا تذكر في النسبة لا؛ لأن التعريف بها لا يقع لكن لأن الأنساب إلى الآباء، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق يا عمرة بنت فاطمة إن دخلت الدار؛ لا يكون قوله بنت فاطمة فاصلاً كما لو قال يا عمرة بنت عبدالله وطريقه ما قلنا. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا طالق إن شاء الله انصرف الاستثناء إلى الكل حتى لا يقع شيء من الطلاق، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقع ثلاث تطليقات ويصير قوله يا طالق فاصلاً بين الثلاث.
فعلى هذه الرواية فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبين ما إذا قال لها: أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار حيث قوله يا زانية لا يصير فاصلاً بين الطلاق والشرط حتى يتعلق الطلاق بالدخول، وههنا قال: يا طالق يصير فاصلاً.
والفرق: أن قوله: يا طالق إن كان نداء بصيغته فهو إيقاع بمعناه، ولهذا إذا قال يا طالق تطلق، كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، أنت طالق إن شاء الله. وإذا كان هذا إيقاعاً معنى صار كأنه قال لها: أنت طالق ثلاثاً أنت طالق إن شاء الله، ولو قال هكذا كان قوله أنت طالق فاصلاً بين الثلاث وبين الاستثناء كذا ههنا.(3/540)
-----
أما قوله: يا زانية إخبار عن صفة قائمة بها وليس بإيقاع فبقي نداء، والنداء لا يصير فاصلاً بين الشرط والجزاء والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية لأن قوله يا طالق نداء بصيغته وليس بإيقاع وإنما يثبت الوقوع بقوله يا طالق بطريق الضرورة لا بموجب الصيغة ليصير اللفظ نداء، بمعنى قائم بالمنادى، وههنا لا ضرورة إلى القول بالوقوع بطريق الاقتضاء ولا يمكن القول به لما كان الاستثناء متصلاً بقوله: يا طالق، فكان نداء بصورته كقوله يا فاطمة، يا عائشة، والنداء لا يصير فاصلاً.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا عمرة بنت عبدالله إن شاء الله لا تطلق. ولو قال أنت طالق ثلاثاً يا عَمرة بنت عبد الله بن عبد الرحمن إن شاء الله تطلق، فالنسبة إلى الأبوين، وأكثر من ذلك فاصل بين الإيقاع والاستثناء، والنسبة إلى أب واحد ليس بفاصل.
وفي «نوادر بشر بن الوليد»: عن أبي يوسف رحمه الله: قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا زانية إن شاء الله. فالاستثناء على الآخر وهو القذف ويقع الطلاق، وكذلك إذا قال لها أنت طالق يا طالق إن شاء الله، ولو قال لها: أنت طالق يا خبيثة إن شاء الله، فالاستثناء على الكل ولا يقع الطلاق كأنه قال يا فلانة، وذكر ثمة أصلاً فقال: المذكور في آخر الكلام إذا كان يقع به طلاق أو يجب به حد فالاستثناء عليه، نحو قوله: يا زانية ويا طالق، وإن كان يجب به حد ولا يقع به طلاق فإنه استثناء على الكل وذكر نحو قوله يا خبيثة.
وفي «الجامع»: إذا قال: امرأتي طالق إن دخلت الدار، وعبدي حر إن كلمت فلاناً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى اليمينين، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقتصر الاستثناء على اليمين الثانية.(3/541)
-----
حكي عن الكرخي رحمه الله كان يقول: حاصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى مسألة أخرى مختلفة، إن قوله إن شاء الله يستعمل لإبطال الكلام، أو يستعمل استعمال الشروط، للتعليق فعلى قول أبي يوسف رحمه الله يستعمل استعمال الشروط، وعلى قولهما يستعمل استعمال الإبطال حتى إن من قال لامرأته: إن شاء الله أنت طالق، فعلى قولهما: لا يقع الطلاق، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يقع، ولو قال يستعمل عندهما استعمال الشروط للتعليق لكان يقع الطلاق عندهما كما يقع عند أبي يوسف رحمه الله، ألا ترى أنه لو قال: لامرأته: إن دخلت الدار أنت طالق إن دخلت الدار، وأنت طالق يقع الطلاق في الحال عند الكل، لما كان قوله إن دخلت الدار يستعمل استعمال الشروط ذكر الكرخي رحمه الله الخلاف في مسألة المشيئة على هذا الوجه.
وقد حكينا عن القدوري الخلاف في مسألة المشيئة على عكس هذا فعلى (ما) ذكره الكرخي، وأبو يوسف رحمه الله يعتبر اللفظ ويقول: اللفظ لفظ شرط، وهما قالا: إنما يعتبر اللفظ عند الإمكان ولا إمكان ههنا؛ لأن معنى الشرط غير موجود ههنا؛ لأن الشرط ما ينتظر وجوده لا ما لا وجوده، ألا ترى أنه لو علق الطلاق بفعل في الماضي لا يكون ذلك شرطاً بالاتفاق لأنه لا يمكن انتظاره.(3/542)
-----
قلنا: وإنما ينتظر الشيء ليتوصل إلى معرفته، ومشيئة الله تعالى مما لا يتوصل إلى معرفته فلا يصح انتظاره. إذا ثبت أن من مذهب أبي يوسف رحمه الله أن هذا الكلام يستعمل استعمال الشروط يقتصر على الثاني كصريح الشرط، وعندهما لما كان يستعمل استعمال الإبطال ينصرف إليهما؛ لأنه كما مست الحاجة إلى الإبطال الثاني مست الحاجة إلى إبطال الأول، والكلام متصل، فينصرف الاستثناء إليهما بخلاف صريح الشرط؛ لأن اليمين الأول غير محتاج إلى شرط (248ب1) آخر بل هو بدون شرط آخر فانصرف هذا الشرط إلى الثاني لهذا. وغيره من المشايخ تكلموا في المسألة على سبيل الابتداء وإنه يبتني على أصل معروف أن حرف الواو إذا دخل بين جملتين، الأولى ناقصة والأخرى تامة يجعل حرف الواو للعطف حتى يصير خبر الجملة التامة خبراً للجملة الناقصة.
وإذا دخل حرف الواو بين جملتين تامتين يجعل حرف الواو للاستئناف لا للعطف، حتى لا يصير خبر إحدى الجملتين خبراً للجملة الأخرى.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن حرف الواو دخل ههنا بين جملتين تامتين لأنه دخل بين يمينين تامتين، فيجعل للاستئناف لا للعطف، بخلاف قوله: امرأته طالق، وعبده حر إن شاء الله حيث تنصرف المشيئة هناك إلى الجملة؛ لأن هناك حرف الواو دخل بين جملتين، الأولى منهما ناقصة من حيث التعليق؛ لأنه ذكر شرطاً واحداً، فانصرف الشرط إلى الكل بحكم العطف. وهما يقولان حرف الواو دخل بين جملتين، الأولى منها ناقصة.(3/543)
-----
بيانه: أن اليمين الأولى إن كانت تامة في حق التعليق بمطلق الشرط فهي ناقصة في حق التعليق بمشيئة الله تعالى الذي يخرج الكلام بها من أن يكون إيقاعاً حالاً، وما لا مكان للمشيئة المذكورة في الجملة الأخرى مذكورة في الجملة الأخرى مذكور في الجملة الأولى بحكم العطف، وكذلك الجواب فيما إذا علقه بمشيئة فلان انصرفت المشيئة إلى اليمينين ثم إذا انصرفت المشيئة إلى اليمينين إن كانت مشيئة الله تعالى بطل جميع الكلام، وإن كانت مشيئة فلان توقف الانعقاد على مشيئته، وإن شاء فلان ذلك في مجلس العقد أو تعلق كل جزاء بشرطه كأنه قال: عند مشيئة فلان امرأته طالق إن دخل الدار، وعبده حر إن كلم فلاناً، وإن قال: لا أشاء بطل اليمينان، وكذلك إن شاء إحدى اليمينين بطلا؛ لأن الحالف علق انعقاد اليمينين بمشيئة اليمينين ولم يوجد ذلك في المجلس، فصار ذلك كما لو قال: امرأته طالق، وعبده حر إن شاء فلان فشاء أحدهما لا يقع شيء، وطريقه ما قلنا.
وذكر في «المنتقى» إذا قال: عمرة طالق ثلاثاً إن دخلت الدار، وزينب طالق واحدة إن كلمت فلاناً فهما يمينان، فإن استثنى بعد آخرهما ينصرف الاستثناء إلى اليمين الأخيرة، ولو أراد في القضاء والاستثناء على اليمين الأخيرة في القضاء.(3/544)
-----
وفي أيمان «الأصل»: فإذا قال: والله لا أكلم فلاناً والله لا أكلم فلاناً آخر، إنه إن عنى بالاستثناء اليمينين فهو على ما نوى من غير فصل بين القضاء والديانة وإن لم يكن له نية ولاستثناء على اليمين الأخيرة، لأن الواو في اليمين الثانية واو القسم لا واو العطف. وقد ذكرنا في مسألة «الجامع» أن الاستثناء على اليمينين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فإن كان ما ذكر في «المنتقى» قول الكل، صار عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله روايتان في المسألة، وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال: عمرة طالق ثلاثاً إن دخلت الدار وزينب طالق إن دخلت الدار، فهما يمين واحد، وإذا دخلت الدار مرة واحدة وقع الطلاق عليهما، وإن ذكر بعده استثناء فلاستثناء عليهما.
وفيه أيضاً: لو قال: عمرة طالق إن شاءت وزينب طالق إن شاء الله، كان الاستثناء عليهما ولو قال: عمرة طالق إن شاءت، وزينب طالق إن شاءت فهما أمران مختلفان، فإذا ذكر عقيبهما استثناء ينصرف الاستثناء إلى آخرهما وإنه يخالف المذكور في «الجامع» على ما قلنا.
وفي «القدوري»: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إن شاء الله، وقع الثلاث ولغى الاستثناء في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما: الاستثناء جائز. وعلى هذا الاختلاف إذا قال لها أنت طلق ثلاثاً وواحدة إن شاء الله، ولو قال لها أنت طالق واحدة وثلاثاً إن شاء الله، فالاستثناء صحيح في قولهم جميعاً.
وجه قولهما أن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ولو جمع بلفظ الجمع، فقال: أنت طالق ستاً إن شاء الله أو قال: أنت طالق أربعاً إن شاء الله، كان الاستثناء صحيحاً في قولهم جميعاً. وكذا ههنا.(3/545)
-----
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن العدد الثاني حشو لا يتعلق به حكم، فإن الزوج لا يملك إيقاع أكثر من الثلاث واللغو حشو من الكلام فيصير كالسكوت؛ بخلاف قوله أنت طالق واحدة وثلاثاً إن شاء الله، لأن العدد الثاني تعلق به حكم فلا يصير لغواً، وفاصلاً بين الإيقاع والاستثناء وفي «النوازل»: رجل بلسانه ثقل لا يتم كلامه إلا بعد طول المدة: حلف بالطلاق وأراد الاستثناء التعليق فطال في تردده، إن عُرف أنه هكذا يتكلم يجوز ديانة وقضاء لأنه موصول معنى لمكان العذر.
وفي «النوازل»: إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً، فأراد أن يقول: إن دخلت الدار فأخذ غيره فمه وإن قال بعدما خلى فمه موصولاً: إن دخلت الدار، لا يقع؛ لأنه سكت لضرورة، فلا يعتبر فاصلاً، كما إذا اعترض له عطاس أو جشاء.
ولو قال: لله علي أن أتصدق بدرهم أكر، وهو يريد أن يقول أكر فلان كتم فأخذ إنسان فمه، فلم يتم الكلام، فلما رفع يده عن فمه قال: فلان كاركتم، فالأحوط أن يتصدق، والفرق أن الطلاق محظور فيتكلف لإعدامها وأمكن إعدامها بجعل هذا الانقطاع غير فاصل كما لو حصل الانقطاع بعطاس وأما الصدقة عبادة، فلا يتكلف لإعدامها.
وعلى قياس مسألة «النوازل» قالوا: إنما ذكر في الأيمان أن من حلف وأراد أن يقول في آخره: إن شاء الله فشد إنسان فمه إنه يكون استثناء، تأويله إذا ذكر الاستثناء بعد رفع اليد عن فمه متصلاً به. وقد وجدنا في «نوادر هشام» أنه قال سألت محمداً رحمه الله عمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، وهو يريد أن يستثني فأمسكت بفمه، وخلت بينه وبين الاستثناء قال: يلزمه الطلاق في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: أنت طالق أستغفر الله إن شاء الله، أو قال سبحان الله إن شاء الله كان استثناء ديانة، ولم يكن استثناء قضاء.(3/546)
-----
وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا أراد أن يستحلف رجلاً فخاف أن يستثني في السر، فالوجه في ذلك أن يأمره حتى يقول عقب اليمين كلاماً لا يصلح استثناء أو تعليقاً، لأنه إذا فعل ذلك يمتنع الاستثناء لوجود الفاصل.
نوع آخر في دعوى الزوج (249أ1) الاستثناء، وفي إخبار غير الزوج الزوج بالاستثناء
إذا ادعى الزوج التكلم بالاستثناء أو التكلم بالشرط في الخلع أوادعى التكلم بالاستثناء أو الشرط في الطلاق، فالقول قول الزوج، فإن شهد الشهود بخلع أو طلاق بغير استثناء لم يقبل قول الزوج بعد ذلك ويقضي القاضي بالطلاق وبالخلع.
وإن شهدوا بالخلع أو بالطلاق، وقالوا: لم نسمع منه غير كلمة الخلع والطلاق والزوج يدعي الاستثناء، فالقول قول الزوج ولا يقضى بالطلاق إلا إذا ظهر منه ما هو دليل صحة الخلع من غير قبض البدل أو ما أشبه ذلك، كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح السير» في باب ما يصدق فيه الرجل من الردة فلا تبين منه امرأته.
وفي باب الخلع من «الكافي»، «مختصرالقصار»: إذا خالع ثم قال: لم أعن به الطلاق إن كان أخذ جُعلاً على الخلع لم يصدق قضاءً. قال مشايخنا رحمهم الله: والمراد من أخذ الجعل ذكر الجعل لا حقيقة الأخذ. فعلى هذا إن ذكر البدل وقت الطلاق والخلع لا يصدق قضاءً في دعوى الاستثناء، وإن لم يذكر البدل يصدق قضاء في دعوى الاستثناء.
وذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في «فتاويه» عن شيخ الإسلام أبي الحسن رحمه الله أن مشايخنا استحسنوا في دعوى الاستثناء في الطلاق لا يصدق الزوج إلا ببينة؛ لأنه خلاف الظاهر وقد فسدت أحوال الناس فلا يؤمن التلبيس.(3/547)
-----
وحكي عن شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله بأنه كان يقول: إن عرف الطلاق بإقراره تسمع دعوى الاستثناء منه، وإن عرف بالبينة لا تسمع منه دعوى الاستثناء. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول: لو قال طلقت واستثنيت لا يصدق قضاء. ولو قال: قلت لها أنت طالق واستثنيت يصدق قضاءً.
وذكر محمد رحمه الله في كتاب الإقرار في باب الإقرار بالعتق: إذا قال لعبده: أعتقك أمس وقلت إن شاء الله صدق ولا يعتق العبد، وذكر في باب الإقرار بالنكاح: إذا قال الرجل لامرأة: تزوجتك أمس وقلت: إن شاء الله، وقالت المرأة: ما استثنيت، فالقول قوله. وكذلك العتق والطلاق والفتوى على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن دعوى الاستثناء في الطلاق صحيح، وكذا في الخلع إلا إذا ظهر منه ما هو دليل صحة الخلع. وقد وجدت الرواية في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لو قال: طلقتها، ولكن كنت نائماً ألزمته الطلاق، ولو قال: طلقتها ثم استثنيت لم يكن مستثنياً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وبهذه الرواية يتبين أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد رحمه الله: وإذا طلق الرجل امرأته فشهد عنده شاهدان أنك استثنيت موصولاً بالطلاق ولا يتذكر هو ذلك ينظر إن كان هو بحال إذا غضب تجرى على لسانه ما لا يحفظ بعده جاز له الاعتماد على قول الشاهدين بناء على الظاهر، وإن لم يكن بهذه الحالة لا يعتمد؛ لأنه بخلاف الظاهر والله أعلم.
نوع آخر في إيقاع عدد من الطلاق واستثناء بعضه(3/548)
-----
قال هشام: سألت محمداً رحمهما الله عمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة وواحدة، وواحدة قال وقع الثلاث وبطل الاستثناء في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قولنا: تطلق ثنتين. وعن أبي يوسف رحمه الله إنها تطلق واحدة. فالأصل: أن استثناء البعض من الكل صحيح قلّ المستثنى أو كثر، وإنما ينظر في هذا إلى اللفظ لا إلى الحكم، ألا ترى أنه لو قال لها: أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً صح الاستثناء، وإن كان هذا استثناء الكل من الكل من حيث الحكم؛ لأن ذكر الأربع ذكر للثلاث لأن الطلاق لا يزيد على الثلاث اعتباراً للفظ. وسيأتي شيء من هذا في آخر هذا النوع.
واستثناء الكل من الكل باطل بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله واختلفت ألفاظ المشايخ فيه: بعضهم قالوا: الاستثناء جارٍ مجرى التخصيص، والتخصيص لا يرد على الكل. وبعضهم قالوا: الاستثناء إذا دخل على الكلام يصير تكلماً بالباقي، ولا بُدّ وأن يكون تكلماً بالكل لا باقياً بعد الاستثناء بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الكلام يحمل على الصحة ما أمكن ذلك في مسألتنا في اقتصار الاستثناء على الأولى والثانية عند أبي يوسف رحمه الله، وعلى الأولى عند محمد رحمه الله. وعند ذلك لا يتحقق استثاء الكل من الكل.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أول الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يغير حكم أوله، وبذكر الثالثة يتغير الحكم الأولى والثانية؛ لأن الكل إذا اعتبر جملة يلغو الاستثناء لأنه يصير كأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً.
ولو قال لها: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثلاثاً بطل الاستثناء؛ لأنه استثنى الكل.(3/549)
-----
ولو قال لها: أنت طالق ثنتين وواحدة إلاّ ثنتين فهي ثلاث، وكذلك الجواب فيما إذا بدأ بالواحدة، فقال أنت طالق واحدة وثنتين إلا ثنتين فهي ثلاث، أما إذا بدأ بالواحدة لأن الأصل في الاستثناء أن ينصرف إلى ما يليه، فيصير مستثنياً لكل ما تكلم به نظراً إلى ما يلي الاستثناء فيلغو. وأما إذا بدأ بالثنتين؛ لأنه لا يمكن صرف الاستثناء إلى الثنتين المذكورتين في صدر الكلام إما لأنه يصير مستثنياً جميع ما تكلم به، وإما لأن الواحدة فاصلة ولا يمكن صرف الاستثناء إلى جملة الكلام لأنه يصير مستثنياً الواحدة المفردة بتمامها.f
فيصير مستثنياً جميع ما تكلم به نظراً إلى الواحدة المفردة.
ولو قال لها: أنت طالق واحدة وثنتين إلا واحدة تقع ثنتان ويصير مستثنياً الواحدة من الثنتين وإنه استثناء البعض من الكل فيصح.
ولو قال: أنت طالق ثنتين (واثنتين) إلا ثنتين صح الاستثناء (و) وقعت ثنتان في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ويجعل مستثنياً من كل ثنتين تطليقة تصحيحاً لكلام القائل بقدر الممكن.
هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»، وذكر شيخ الإسلام هذه المسألة في «شرحه»، وذكر أنه ينوي الزوج، فإن عنى استثناء إحدى الثنتين بكماله إما الأولى وإما الأخرى كان الاستثناء (249ب1). باطلاً، وإن نوى واحدة من الثنتين الأوليين وواحدة من الثنتين الأخريين الاستثناء صحيح وعندهما فروي عن محمّد رحمه الله، إذا قال لها: أنت طالق ثنتين واثنتين إلا ثلاثاً، قال: هي ثلاث والاستثناء باطل، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثنتين، وأربعاً إلا خمساً هكذا ذكر في «القدوري».
وفي «المنتقى» إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلا أربعاً فهي ثلاث في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا روي عن محمد رحمه الله ويصير قوله ثلاثاً ثانياً فاصلاً بين الأوّل وبين الاستثناء.(3/550)
-----
وقال أبو يوسف رحمه الله: إنّها تطلق ثنتين، وهو الظاهر من قول محمّد رحمه الله، ولا يصير قوله: وثلاثاً ثانياً فاصلاً، وإذا لم يصر الثاني فاصلاً عندهما. ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أنّه ينوي هذا الرجل إن قال عنيت الثنتين من الثلاث الأول والثنتين من الثلاث الأخر يصحّ الاستثناء، وما لا فلا. ولم يشترط هذه النية في «المنتقى»، وكذلك لم يشترط شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه النية على قولهما، فصار حاصل مذهبهما، كأنّه قال لها: أنت طالق ستاً إلا أربعاً، فروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته؛ أنت طالق ثنتين وثنتين وثنتين إلا أربعاً، فهي طالق ثنتين، من حيث المعنى هذه المسألة والمسألة المتقدمة سواء، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة أو ثنتين، لم تأت قبل أن يختار واحدة أو ثنتين، فهي واحدة، ويجعل الاستثناء على أكثر.
ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»: إذا أوقع أكثر من ثلاث، ثم استثنى كان الاستثناء من جملة الكلام، لا من جملة الثلاث التي يحكم بوقوعها نحو أن يقول: أنت طالق عشراً إلا تسعاً وقعت واحدة، ولو قال: إلا ثماناً وقعت ثنتان، ولو قال إلا سبعاً وقع الثلاث، فقد صحّ الاستثناء في هذه الصورة، وإن كان هذا استثناء الكل من الكلّ؛ لأنَّ هذا استثناء البعض من الكل لفظاً، وقد مر شيء من هذا قبل هذا.
ومن هذا الجنس. روي عن محمّد رحمه الله في «النوادر» إذا قال: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة ليس له من النسوة سواهن صح الاستثناء، ولو قال: نسائي طوالق إلا نسائي لا يصحّ، وما أقرها إلا باعتبار اللفظ.(3/551)
-----
وفي «البقالي»: إذا قال: كلّ امرأتي لي طالق إلا هذه، وليس له غيرها لم تطلق، ولو قال: نسائي طوالق فلانة وفلانة وفلانة إلا فلانة فالاستثناء جائز؛ لأن قوله: فلانة وفلانة وفلانة تفسير لقوله: نسائي طوالق، فيكون الحكم بقوله: نسائي طوالق. ولو قال نسائي طوالق إلا فلانة يصحّ الاستثناء كذا ها هنا، ولو قال: فلانة طالق وفلانة وفلانة إلا فلانة لا يصح الاستثناء، وكذلك إذا قال: هذه وهذه وهذه إلا هذه كان الاستثناء باطلاً.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة أو لا شيء، فهذا لم يستثن شيئاً وطلقت ثلاثاً، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا نصف تطليقة، فاعلم بأن الطلقة لا تتجزأ في طرف الإيقاع، وهل تتجزأ في طرف الاستثناء. فعلى قول أبي يوسف رحمه الله، لا تتجزأ وعن محمّد رحمه الله، روايتان: حتى إن في هذه المسألة تقع ثنتان عند أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن محمد رحمهما الله، ويصير كأنّه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، في رواية أخرى تتجزأ في طرف الاستثناء حتّى إن في هذه المسألة تقع الثلاث على هذه الرواية؛ لأنّه لما صح استثناء النصف، صار تقدير كلامه؛ أنت طالق تطليقتين ونصف فتكاملت التطليقة الثالثة، وعلى هذا إذا قال لها: أنت طالق واحدة ونصف، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تقع ثنتان، وعن محمّد رحمه الله روايتان، في رواية: تقع ثنتان كما هو قول أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية تقع واحدة.
نوع آخر
وكما يصح الاستثناء من أصل الكلام يصح الاستثناء من الاستثناء، قال الله تعالى: {إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} (الحجر: 59، 60) استثنى آل لوط من جملة الناس، واستثنى امرأة لوط من آله.(3/552)
-----
بيان هذا: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة يقع ثنتان، والأصل في جنس هذه المسائل أن المستثنى ثانياً يجعل مستثنياً من الاستثناء الأوّل، ثمِّ ينظر إلى ما بقي من هذا، فيعزل من: الاستثناء الأول فيجعل ذلك مستثنياً من أصل الكلام.
إذا ثبت هذا فنقول له: الاستثناء الثاني واحدة، فيجعل ذلك مستثنياً من أصل الكلام، وهو الثلاث يبقى من أصل الكلام ثنتان، فهي الواقع.
وعلى هذا إذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة تقع واحدة، ويجعل الواحدة مستثنياً من الاستثناء الثاني، وهو الثلاث يبقى من الاستثناء الثاني ثنتان يجعل ذلك مستثنياً من الاستثناء الثاني وهو الثلاث يبقى من الاستثناء الثاني ثنتان يجعل ذلك مستثنياً من الأصل، وهو الثلاث يبقى واحدة، فهي الواقع.
وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة وقعت واحدة، والوجه ما ذكرنا. ومن المشايخ من اعتبره بنوع تقريب، فقال: ينبغي أن تعقد العدد الأوّل بيمينك، والثاني بيسارك، والثالث بيمينك، والرابع بيسارك ثمَّ أسقط ما في يسارك مما في يمينك، فما بقي فهو الواقع.
نوع آخرمن الاستثناء
ينبني على أصلين:
أحدهما: أن المتكلم بكلام مقرون بالاستثناء إذا ذكر عقيبه وصفاً يليق بالمستثنى، ولا يليق بالمستثنى منه يجعل وصفاً للمستثنى حتى يبطل ببطلانه، وإذا ذكر (عقيبه وصفاً) يليق بالمستثنى منه، ولا يليق بالمستثنى فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجعل وصفاً للمستثنى منه حتى تثبت بينونة تصحيحاً له بقدر الإمكان، وبعضهم قالوا: يجعل وصفاً للكل تحقيقاً لدخوله على الكل، أو تحقيقاً للمجانسة بين المستثنى والمستثنى منه، فإنَّ المستثنى من جنس المستثنى منه في الظاهر.(3/553)
-----
وإذا ذكر وصفاً يليق بالمستثنى وبالمستثنى منه، فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه أيضاً. بعضهم قالوا: يجعل وصفاً للكل تحقيقاً لدخوله على الكل أو تحقيقاً للمجانسة، فيبطل المستثنى بوصفه ويبقى (250أ1) المستثنى منه بوصفه، وبعضهم قالوا: يجعل وصفاً للمستثنى منه لا غير، لأنه لو جعل وصفاً للمستثنى منه اعتبر، ولوجعل وصفاً للمستثنى بطل، والوصف إنما يذكر للاعتبار لا للإبطال، وهذا كلّه إذا ذكر وصفاً زائداً أمّا إذا ذكر وصفاً أصلياً لا يعتبر أصلاً، ويجعل ذكره ولا ذكر سواء.
الأصل الثاني: أن الوصف المذكور على سبيل التأكيد لا يصير فاصلاً بين الطلاق والاستثناء، ولا بين الطلاق والشرط، حتّى إنَّ من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً يا فلانة إلا واحدة يقع ثنتان، ولا يصيّر قوله يا فلانة فاصلاً لما كان لتعريف تأكيد المحل، وإذا قال لامرأته قبل الدخول بها: أنت طالق بائن إن دخلت الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار، ولا يصير قوله بائن فاصلاً بين الطلاق والشرط لما ذكره، لتأكيد تعريف الواقع.
جئنا إلى المسائل؛ قال محمّد رحمه الله في «الزيادات»: إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة للسنّة، كانت طالقاً ثنتين للسنّة عند كل طهر تطليقة؛ لأن وصف السنّة يليق بالمستثنى منه دون المستثنى؛ لأنّه صفة الواقع، والمستثنى منه واقع، وأمّا المستثنى فغير واقع، فجعلناه صفة للمستثنى منه، وصار كأنّه قال: أنت طالق ثنتين للسنّة أو يقول: يجعل وصفاً للكلّ، ويصير كأنّه قال: أنت طالق ثلاثاً للسنّة إلا واحدة، ألا ترى أنّه لو قال: عليَّ لفلان ألف إلا مائة درهم كانت التسعمائة من الدراهم.(3/554)
-----
فكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة إذا حضت وطهرت، أو إن كلمت فلاناً أو إن دخلت الدار كانت التطليقتان معلقتين بالحيض وبالطهر في المسألة الأولى، وبالكلام في المسألة الثانية، وبالدخول في المسألة الثالثة، وينصرف الشرط إلى المستثنى؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى الشرط فيما يقع والذي وقع منه دون المستثنى؛ لأنّه يليق بالمستثنى منه، ولا يليق بالمستثنى؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى الشرط فيما يقع، والذي يقع المستثنى منه دون المستثنى أو نقول: ينصرف الشرط إلى الكل، ويصير معلقاً الثلاث بالشرط مستثنياً واحدة منها.
ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً البتة إلا واحدة أو بائنة إلا واحدة كان طالقاً تطليقتين رجعيتين، ولا يصير قوله البتّة البائنة فاصلاً بين الاستثناء وبين الإيجاب؛ لأنّ كل واحدة منهما صفة أصلية للثلاث لا يوجد الثلاث إلا وأن يكون بتة بائنة، فصار ذكرهما ولا ذكر سواء. فكأنّه قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة بائنة أو إلا واحدة البتّة طلقت تطليقتين رجعيتين أيضاً.
وذكر هشام رحمه الله في «نوادره» عن محمّد رحمه الله أن من قال لامرأته: أنت بائن إلا واحدة ونوى بالبائن الثلاث، قال: هي طلاق واحد؛ لأن نيّة الثلاث إلا واحدة نيّة الثنتين.
ومن قال لامرأته: أنت بائن ينوي ثنتين تقع واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: أنت طالق واحدة البتة إلا واحدة، ونوى بالبتة الثلاث يقع تطليقتان بائنتان؛ لأنّه لما نوى بالبتة الثلاث علم أنّه ما جعلها صفة للواحدة؛ لأنَّ الواحدة لا تحتمل نيّة الثلاث، فلمّا ذكر الواحدة، صار كأنّه قال: أنت طالق البتّة إلا واحدة، وقد نوى بالبتّة الثلاث، وهناك الجواب كما قلنا وإنما ألقينا الواحدة؛ لأنا لو لم نلقها يبطل الاستثناء، وهو أصل، فكان إلقاء الواحدة وهي.... أولى.(3/555)
-----
قال في «الزيادات» أيضاً: إذا قال لها أنت طالق اثنتين البتّة إلا واحدة، فهي طالق واحدة بائنة؛ لأنَّ البتة تصلح صفة للثنتين؛ لأنَّ الثنتين لا تكون بتة بنفسها، فيصح وصفهما بالبتّة، وقد استثنى واحدة منهما، فتقع واحدة بتة. وكذلك إذا قال لها: أنت ثنتين إلا واحدة البتة، فهي طالق واحدة بائنة؛ لأنَّ البتة لا تصلح صفة للمستثنى؛ لأنّه لا يصح، فيجعل صفة للمستثنى منه أو يجعل صفة للكل، وصار كأنّه قال: أنت طالق ثنتين البتة إلا واحدة، وهي المسألة المتقدمة.
ولو قال لها: أنتِ طالق ثنتين إلا واحدة بائنة أو قال إلا واحدة أمّا بائناً، فهي طالق واحدة رجعية، لأن البائن لا تصلح صفة للمستثنى منه، فإنّه لا يقال: تطليقتان بائن، وإنّما يقال: تطليقتان بائنتان، وتصلح صفة للمستثنى، فتجعل صفة للمستثنى، فيبطل ببطلان المستثنى، بخلاف قوله البتّة؛ لأنّه يصلح صفة للتطليقتين، فإنّه يستقيم أن يقال تطليقتان البتّة، قال في «الكتاب»: إلا أن ينوي أن يكون البائن صفة للثنتين، فحينئذٍ واحدة بائنة؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه فالبتة قد تنعت بنعت الواحدة، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَهُمَا} (الأنبياء: 30) ولم يقل كانتا رتقين، والله أعلم بالصواب.
الفصل العاشر: في إيقاع الطلاق على امرأة بعينها ثمّ الرجوع عنها بالإيقاع على أخرى
يجب أن تعلم أنّ كلمة «بل» متى دخلت في الكلام الصادر على الإثبات كانت للرجوع عن الأوّل، ولإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط، يقال: جاءني زيد بل عمرو، وكان قوله بل عمرو رجوع عمّا أخبر عن مجيء زيد، وإقامة لمجيء عمرو مقام مجيء زيد على سبيل استدراك الغلط، كأنّه قال كان عزمي أن أخبر عن مجيء عمرو، فغلطت وأخبرت عن مجيء زيد، ثمَّ استدرك ذلك الغلط بقولي بل عمرو.(3/556)
-----
وفي كلام الله تعالى متى دخلت هذه الكلمة على الإثبات كانت لإبطال الأوّل ولإقامة الثاني مقام الأوّل، ولكن لا على سبيل استدراك الغلط؛ لأنَّ الغلط على الله لا يجوز والغلط على العباد يجوز، (.....) وكلمة: «لا بل» نظير كلمة بل، لأنهما يستعملان استعمالاً واحداً، وقوله: «لا» لتأكيد النفي المستفاد بقوله بل، وإذا كانت هذه الكلمة في الإثبات للرجوع عن الأوّل ولإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط ينظر:
إن كان الأوّل شيئاً يصح الرجوع عنه ينفى الأوّل، ويثبت الثاني مقام الأوّل.
وإن كان الأوّل شيئاً لا يصح الرجوع عنه لا ينتفي الأوّل، بل يبقى (250ب1) على حاله ويثبت للثاني إثباتاً لحكم الدليل بقدر الإمكان، إلا أنَّ المتكلم إذا لم يذكر للمذكور عقيب كلمة «لا بل» خبراً على هذه يجعل الخبر المذكور لما قبلها خبراً للمذكور عقيبها، صيانة له عن البطلان، ومتى ذكر للمذكور عقيب هذه الكلمة خبراً لا يجعل الخبر المذكور لما قبلها خبراً؛ لأنّه صحيح بدونه، فلا حاجة إلى جعله خبراً له، ومتى دخلت هذه الكلمة على النفي لا يوجب رجوعاً عن الكلام الأوّل، وإنّما يوجب نفي الفعل عن الاسم الأوّل بإثبات ذلك المنفي للثاني، أو بإثبات فعل آخر للأوّل.
نظير الأوّل قول الرجل: ما قام زيد لا بل عمرو، نفي الكلام لزيد وإثباته لعمرو. ومثال الثاني قول الرجل: ما قام زيد بل قعد، نفى القيام عن زيد وإثبات الوجود له، هذا هو الكلام في كلمة بل وحدها أو مع لا.
وأما جاء كلمة لا بدون بل متى دخلت على الإثبات كانت لتأكيد ما أثبته الأوّل بنفيه عن الثاني، ومتى دخلت على النفي، كانت لتأكيد ما نفاه عن الأوّل بإثبات ضدّه للثاني.
مثال الأوّل: جاءني زيد لا عمرو. كان قوله: لا عمرو لتأكيد إثبات المجيء لزيد بنفي المجيء عن عمرو.
ومثال الثاني: ما جاءني زيد لا عمرو كان قوله: لا عمرو لتأكيد نفي المجيء عن زيد بإثبات المجيء لعمرو.(3/557)
-----
جئنا إلى المسائل: قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: وإذا كان للرجل امرأتان، فقال لإحداهما أنت طالق إن دخلت الدّار لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى لا تطلق واحدة منهما ما لم تدخل الأولى الدّار لم تطلق. وإذا دخلت الأولى الدار طلقتا، وإن دخلت الأخرى الدار لم تطلق واحدة منهما، قال محمدّ رحمه الله: وقوله: لا بل هذه على الطلاق خاصّة والوجه لما ذكرنا في «الجامع» أنّه علق طلاق الأولى بدخولها الدّار، حيث قال لها: أنت طالق إن دخلت هذه الدّار، وبقوله: لا بل هذه رجع عن تعليق طلاق الأولى بدخولها، وعلق طلاق الأخرى بطريق استدراك الغلط، كأنّه قال: من عزمي أن أعلق طلاق الأخرى، إلا أنّي غلطت، فعلقت طلاق الأولى. إلا أنّه لا يملك الرجوع عن تعليق طلاق الأولى، ويملك تعليق طلاق الأخرى، فبقي طلاق الأولى معلقاً بدخولها الدار، وتعلق طلاق الثانية بالدخول، وإذا تعلق طلاق الثانية بالدخول، يتعلق طلاقهما بدخول الأولى؛ لأن كلمة «لا بل» لإبطال الأوّل، وإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط، يجب أن يكون المثبت في حق الثانية مثل المثبت في حق الأولى. وإنّما يكون كذلك إذا تعلق طلاق الثانية بدخول الأولى، كما تعلق طلاق الأولى بدخول الأولى. وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» قوله: «لا بل» هذه على الطلاق خاصّة، معناه أنه للرجوع عن الطلاق لا للرجوع عن الدخول.
وإن نوى الرجوع عن الشرط وهو الدخول دون الطلاق صحّت نيّته فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه إلا أنَّ القاضي لا يصدقه؛ لأنّه نوى أمراً بخلاف الظاهر، وفيه تخفيف عليه لأن الثانية لا تطلق بدخول الأولى الدار، فبعد ذلك إذا دخلت الأولى الدار طلقت الأولى في القضاء، وفيما بينه وبين ربّه وتطلق الثانية في القضاء، لا فيما بينه وبين ربّه وإن دخلت الثانية الدار طلقت الأولى في القضاء، وفيما بينه وبين ربه.(3/558)
-----
وكذلك لو قال لإحداهما: أنت طالق إن شئت لا بل هذه؛ لأنّ قوله لا بل هذه على الطلاق خاصة، لا على المشيئة كما في المسألة الأولى، إلا أنَّ فرق ما بين المسألتين أنَّ في هذه المسألة لو شاءت الأولى طلاق نفسها طلقت الأولى (بالنكاح) الأوّل دون الثانية. ولو شاءت الأولى طلاق الثانية طلقت الثانية بالكلام الثاني، دون الأولى. ولو شاءت الأولى طلاقها وطلاق الثانية طلقتا جميعاً. وفي مسألة أوّل الباب إذا دخلت الأولى الدار مرّة واحدة طلقت الأولى والثانية حميعاً.
والفرق أنَّ في المسألة الأولى علق طلاق كل واحدة بدخول الأولى الدار مطلقاً غير مقيّد بصفة، فإذا دخلت الأولى الدّار مرّة واحدة، فقد وجد شرط وقوع الطلاق عليها. وفي هذه المسألة ليس الشرط مشيئة مطلقة، فإنَّ الأولى بعد هذا التعليق لو شاءت الجاه أو المال لا تطلق، وإنّما الشرط مشيئة مقيّدة فالشرط في حقّ الأوّل مشيئة الأولى طلاق نفسها. والشرط في حقّ الثانية مشيئة الأولى طلاق الثانية.(3/559)
-----
وهذا لما ذكرنا أنَّ المسبب في مثل هذه الصورة في حقّ الثانية مثل المسبب في حقّ الأولى، والمسبب في حقّ الأولى تعليق طلاق الأولى بمشيئة الأولى طلاق الأولى، يجب أن يكون المسبب في حقّ الثانية تعلق طلاق الثانية بمشيئة الأولى طلاق الثانية، فإذا شاءت الأولى طلاقها وجد شرط وقوع الطلاق على الأولى دون الثانية وإذا شاءت الأولى طلاق الثانية وجد شرط وقوع الطلاق على الثانية دون الأولى. وإذا شاءت الأولى طلاقهما وجد شرط وقوع الطلاق عليهما. قول محمّد رحمه الله إذا شاءت الأولى طلاقها طلقت الأولى دون الثانية، وإذا شاءت طلاق الثانية طلقت الثانية دون الأولى، كلام محتمل يحتمل أن يكون المراد منه: أنَّ الأولى شاءت طلاق الثانية بعدما شاءت طلاق نفسها، فيكون هذا بياناً أنَّ الأولى إن شاءت طلاق الأخرى بعدما شاءت طلاق نفسها. ويحتمل أن يكون المراد منه: أن الأولى شاءت طلاق الأخرى ابتداءً، فلا يكون بياناً.
كذلك حكي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أنّه إذا شاءت الأولى طلاق نفسها أوّلاً ليس لها أن تشاء طلاق الأخرى بعد ذلك. وإذا شاءت طلاق الأخرى أوّلاً ليس لها أن تشاء طلاق نفسها بعد ذلك، لأن المشيئة واحدة، فإذا شاءت مرّة ووقع الطلاق ارتفع اليمين، فلا يعود بعد ذلك، حتّى لا يؤدي إلى التكرار، إذ ليس في اللفظ ما يوجب التكرار. وعامّة المشايخ على أنَّ لها أن تشاء طلاق الأخرى بعد ما شاءت طلاق نفسها. وأن تشاء طلاق نفسها بعدما شاءت طلاق الأخرى. وأن المشيئة متعدّدة لما ذكرنا أنَّ تقدير المسألة، كأنّه قال للأولى: أنت طالق إن شئت طلاقك لا بل هذه طالق إن شئت أيتها الأولى طلاقها.(3/560)
-----
وإن نوى الرجوع عن المشيئة، صحّت نيّته فيما بينه (251 أ1) وبين ربّه؛ لأنّه نوى ما يحتمله. ولهذا لو صرح به يصح، فإذا شاءت الأولى طلاقها طلقت الأولى فيما بينه وبين ربّه. وإن شاءت الأخرى طلاق الأولى طلقت الأولى بنيته، وإن شاءت الأولى طلاق الأخرى طلقت الأخرى في القضاء، لا فيما بينه وبين الله تعالى.
واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح مسألة المشيئة أنَّ قوله: لا بل هذه. على الطلاق خاصة، بما لو قال لها أنت طالق إن شاء الله لا بل هذه كان قوله: لا بل هذه على الطلاق خاصة، ويصير تقدير المسألة، كأنّه قال: أنتِ طالق، لا بل هذه إن شاء الله.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها أنتِ طالق إن كلمت فلاناً لا بل هذه لامرأة أخرى، كان قوله: لا بل هذه على الكلام دون الطلاق، وإذا قال أردت بلا بل الطلاق ألزمته ذلك، فإذا كلمته طلقتا، وهذا يخالف ما ذكر في «الجامع» قال ثمة: ولو قال لها إن كلمت فلاناً، فأنتِ طالق لا بل هذه كان قوله لا بل هذه على الطلاق دون الكلام؛ لأنّه أخّر.
فإن قال لم أرد بقولي: لا بل هذه، الطلاق دينته فيما بين الله تعالى وبينه، ولم أدين في القضاء.
وإذا قال لامرأته، أنتِ طالق إن دخلت الدار، لا بل فلانة طالق، قال ذلك لامرأة أخرى له طلقت الأخرى ساعة ما تكلم، وتعلّق طلاق الأولى بدخولها الدار، بخلاف ما لو قال: لا بل فلانة، ولم يقل طالق يتعلق طلاقهما بدخول الدّار؛ لأنّه إذا لم يقل لا بل فلانة طالق لم يذكر لفلانة خبراً فكان جملة ناقصة، فتصير خبر الجملة الأولى، وهو طلاق معلق بدخول الأولى خبر الجملة الثانية، أمّا إذا قال لا بل فلانة طالق، فقد ذكر لفلانة خبراً، فاكتفى به.d
وإنّه إرسال، ولهذا قال تطلق الثانية في الحال.(3/561)
-----
وعلى هذا إذا قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً لا بل هذه. قال ذلك لامرأة أخرى، طلقت كل واحدة منهما ثلاثاً، ولو قال لا بل هذه طالق طلقت الأولى ثلاثاً، والثانية واحدة لأن في الوجه الأوّل لم يذكر لهذه خبراً على حدة. وفي الوجه الثاني ذكر لهذه خبراً على حدة، والتقريب ما ذكرنا.
وفي «القدوري»: إذا قال لها إن دخلت الدّار فأنتِ طالق وطالق وطالق لا بل هذه، فدخلت الأولى الدار طلقتا ثلاثاً والتعليق في هذا يخالف التنجيز، فإنّه لو قال لها أنتِ طالق وطالق وطالق لا بل هذه وقع على الأخيرة واحدة، وعلى الأولى الثلاث. ولو قال لها إن دخلت هذه الدار، لا بل هذه الدار الأخرى، فأنتِ طالق تعلق طلاقهما بدخول الدار الأخرى لا غير؛ لأن قوله إن دخلت هذه الدار مجرد الشرط، والرجوع صحيح، وبقوله لا بل هذه رجع عنه وأقام الدّار الثانية مقام الدار الأولى، فلهذا تعلق طلاقهما بدخول الدّار الأخرى.
ولو قال لامرأته أنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً إن دخلت الدار طلقت واحدة للحال، ووقع طلاقان عند دخول الدار إن كانت المرأة مدخولاً بها؛ لأن بقوله لا بل ثلاثاً إن دخلت الدّار رجع عن إيقاع الواحدة، وأقام الحلف بما بقي من الثلاث مقام الواحدة قد صحت إذا كانت المرأة مدخولاً بها.(3/562)
-----
لو قال لها أنتِ طالق إن دخلت الدّار فأنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً، لم تطلق شيئاً حتّى تدخل الدّار. وإذا دخلت الدار طلقت ثلاثاً سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن. فرق بين هذا وبينما إذا قال لها: أنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً إن دخلت الدّار. وهي المسألة المتقدمة، والفرق أن في المسألة المتقدمة ذكر لقوله: لا بل خبراً على حدة، فلم يصر خبر الأوّل خبراً له، بل اعتبر لا بل مقطوعاً عنه، فوقعت الواحدة للحال وتعلق الباقي بالدخول، أمّا في المسألة الثانية لم يذكر لقوله: لا بل. خبراً على حدة، فجعل خبر الأول خبراً له، والأول تعليق، فكذا الثاني، فتعلق الكل بالدخول.
وفي «المنتقى»: إذا قال لها: أنتِ طالق لا بل طالق، فهي طالق ثنتين، وكذلك لو قال أنتِ طالق واحدة لا بل واحدة، وكذلك لو قال أنتِ طالق واحدة لا بل طالق واحدة.
وذكر فيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها أنتِ طالق لا بل أنتِ طالق، فهي طالق واحدة بالكلام الأول، فلا يلزمه بالكلام الثاني شيء إلا أن ينوي.
ولو قال أنتِ طالق لا بل أنتما لزم من الأولى تطليقتان والأخرى واحدة. وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لا بل عَبدي حرّ، ذكر هذه المسألة في «المنتقى» في موضعين، وقال في موضع: لا يعتق العبد إلا بعد التزوّج، وقال في موضع آخر العبد حرّ الساعة. وإن تزوج فلانة فهي طالق، وذكر عقيبه ما إذا قال إن اشتريت فلاناً فهو حرّ، لا بل فلان بمعنى عبد آخر له في ملكه، لم يعتق عنده حتّى يشتري العبد الذي حلف بعتقه. وأشار إلى المعنى، فقال: لأن هذا شيء واحد، وطلاق المرأة غير عتق العبد.
وفي «الأصل»: لو قال لها كنت طلقتك أمس واحدة، لا بل ثنتين وقعت ثنتان؛ لأن كلمة لا بل في الإخبارات تستعمل لتقرير الأقل وإلحاق الزيادة به يقول الرجل: حججت حجّة لا بل حجتين، ويصير كأنّه قال طلقتك ثنتين، ولا كذلك في الإثبات، والله أعلم.(3/563)
-----
الفصل الحادي عشر: في إضافة الطلاق إلى الأوقات
يجب أن تعلم: بأن الطلاق إذا أضيف إلى وقت ينصرف إلى وقت في المستقبل، حتّى إنّ من قال لامرأته: أنتِ طالق يوم الجمعة، ينصرف إلى الجمعة الآتية؛ لأن المقصود من الإضافة تأخير الحكم إلى وقت المضاف إليه، وإنّما يتأتى التأخير في المستقبل، لا في الماضي. فإذا وجد أصل الوقت في المستقبل لا في الماضي، وإذا وجد أصل الوقت ولم توجد الصفة التي ذكرها الحالف لا يقع الطلاق، وهذا ظاهر. وإذا وجد الوقت المضاف إليه الطلاق مع الصفة التي ذكرها الحالف، يجعل المضاف كالمرسل، إذا صحت الإضافة كما في المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط، كالمرسل.
فبعد ذلك إن كان المعلق، والمضاف طلاقاً صحيحاً، قابلاً للوقوع كان المرسل طلاقاً صحيحاً، فيقع. فإذا وقع الطلاق يترك عقيب الشرط، وعقيب الوقت المضاف؛ لأنّ الحكم (251أ1) يتأخر عن سببه، وإنّما يوجد السبب بعد الشرط، وبعد الوقت؛ لأن المعلق والمضاف كل واحد منهما ليس بسبب للحال، وإنّما يصير سبباً عند وجود الشرط والوقت، فإذا كانت السببية معلقة بوجود الشرط والوقت، كانت السببية متأخرة عن الشرط، والحكم يتأخر عن السبب، فيكون متأخراً عن الشرط والوقت ضرورة، وإذا أضيف الطلاق إلى وقت سابق على قول مسمى، ووجد الوقت بوصف أنّه سابق على الفعل المسمّى، فالطلاق وقوعه لا يتأخر عن ذلك الفعل ولا يسبقه بل يقارنه، إلا في الموت عند أبي حنيفة رحمه الله على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.(3/564)
-----
بيانه في مسألة ذكرها في «الزيادات»: إذا قال الرجل: إن تزوجت زينب قبل أن أتزوج عمرة بشهر فهما طالقان، فتزوج زينب ثمّ مضى شهر، ثمَّ تزوج عمرة طلقت زينب، ولا تطلق عمرة، وهذا لأنّ الفعل المذكور ليس بشرط لوقوع الطلاق؛ لأنّ الزوج ما جعله شرطاً بل هو موجه للشرط؛ لأن الطلاق مضاف إلى شهر موصوف بأنّه قبل الفعل المسمّى لا بدّ من وجود الفعل متصلاً بالوقت، ليعلم أن هذا وقت سابق على الفعل المسمّى، فكان الفعل موجداً صفة الفعلية للوقت المسمّى، فكان موجداً للشرط، وموجدُ الشرط ليس بشرط، من حيث إنّه موجود الشرط، فالوقوع لا يسبقه. ومن حيث إنّه ليس بشرط لا يتأخر عنه، فإذاً يقع مقارناً له إلا في الموت عند أبي حنيفة رحمه الله على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال في أيمان «الجامع»: إذا قال الرجل لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر، فمكث شهراً ثمَّ تزوجها لا تطلق.
يجب أن تعلم أن هذه المسألة على وجهين: إضافة من غير تعليق، وإضافة مع التعليق. والتعليق لا يخلو إمّا أن يكون بشرط سابق، أو بشرط لاحق وكل ذلك على وجهين: إمّا أن يكون مؤقتاً، أو غير مؤقت، صورة الإضافة من غير التعليق في المؤقت ما ذكرنا، وإنّما لا تطلق إمّا لأنّه أضاف الطلاق إلى وقت سابق على قول مسمّى، وهو التزوج فيكون الوقوع مقارناً للتزوج، والطلاق لا يقع مقارناً للتزوج، أو لأنّه وصفها بكونها طالقاً قبل التزوج، وهي كذلك؛ لأن الطلاق في الخالي عن القيد وهي خالية عن القيد قبل التزوج، فهو صاد في هذا الوقت، فلا حاجة إلى الإيقاع.(3/565)
-----
وصورة الإضافة من غير تعليق في المطلق، إذا قال لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق قبل (أن) أتزوجك، فتزوجها بعد ذلك لا تطلق أيضاً؛ لأنّ هذا إيقاع للحال، فالأصل أن الطلاق إذا أضيف إلى المرأة قبل الفعل المسمّى قبلية مطلقة، يكون إيقاعاً للحال، كما في قوله أنتِ طالق قبل قدوم فلان، فإنّ هناك يقع الطلاق عليها للحال قدم فلان، أو لم يقدم، ولمّا كان هذا إيقاعاً للحال يبطل لعدم الملك.
صورة الإضافة مع التعليق والشرط سابق في الموت إذا قال لها: إذا تزوجتك فأنتِ طالق قبل أن أتزوجتك بشهر، فتزوجها بعدما مضى شهر من وقت هذه المقالة طلقت، كذا ذكر في رواية أبي سليمان رحمه الله.
وذكر في رواية أبي حفص رحمه الله، وقال طلقت في قول أبي يوسف رحمه الله، فقد إلى الخلاف، ولكن لم ينصّ عليه.
وذكر في طلاق الجامع الإضافة مع التعليق في المطلق، وصورتها: إذا (أشاء) قال لامرأة لا يملكها: إن تزوجتك فأنتِ طالق قبل ذلك، ولم يوقّت بأن لم يقل قبل ذلك بشهر ثمَّ تزوجها، فعلى قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله لا تطلق، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تطلق، من مشايخنا من قال: الخلاف في المطلق، وأمّا في المؤقت تطلق بلا خلاف، كما ذكر في رواية أبي سليمان رحمه الله، وعامتهم على أنّ الخلاف في المطلق والمؤقت جميعاً، لأبي يوسف رحمه الله أنّه علق الطلاق بشرط التزوّج؛ لأن كلمة «إن» و«إذا» للشرط، ثمَّ أضافه إلى ما قبل الشرط مطلقاً أو موصوفاً بأنّه قبل الشرط بشهر، فيصحّ من الوقت لما في تصحيحه تصحيح هذا التعليق، ويلغو ما في تصحيحه إبطال هذا التعليق، قلنا: وفي تصحيح القبليّة في المطلقة والمؤقتة إبطال هذا التعليق؛ لأنّه متى تعلق الطلاق بالتزوج يقع الطلاق بعده، ولا يقع قبله، فبقي الإيقاع إبطال هذا التعليق، فأبطلنا ذكر القبلية في المطلقة والموقتة.(3/566)
-----
وليس في اعتبار الشهر في المؤقتة إبطال هذا التعليق، فاعتبرنا الشهّر في المؤقتة، ويصير تقدير المسألة في المطلقة: إذا تزوجتك فأنتِ طالق، وفي المؤقتة: إذا تزوجتك بعد شهر فأنتِ طالق، ولو نصّ على هذا يصحّ التعليق ويقع الطلاق بعدما وجد الشرط، وهو التزوّج في المطلقة في أيّ وقت وجد، والتزوج بعد الشهر في المؤقتة كذا ها هنا، بخلاف مسألة أوّل الباب؛ لأنّ هناك ما جعل التزوج بشرط، بل جعله موجداً للشرط فيكون وقوع الطلاق مقارناً للتزوج.
فلأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنَّ المعلق بالشرط والمضاف إلى وقت بعد وجود الشرط، والوقت بمنزلة المرسل، فيصير بعد التزوّج، كأنه قال: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر، وإنّه باطل لا وقوع له، فكذا إذا كان معلقاً وما قال من المعنى، فهو صحيح إذا صحّ التعليق حتّى يلغو ذكر القبلية ضرورة صحّة التعليق، والتعليق ها هنا لا يصح، فكيف يلغو ذكر القبلية.
هذا كلّه على قول عامة المشايخ: إنَّ الخلاف في المطلق والموقت خلاف واحد، وأما على قول بعض المشايخ إنّ الخلاف في المطلق وفي الموقت يقع الطلاق بلا خلاف، يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين المطلق والمؤقت، والفرق أنّ في المؤقت القبلية صفة الشهر لا صفة الطلاق، وهذا لأنّ الطلاق كما هو مذكور، والشهر أيضاً مذكور والقبلية كما يصلح صفة للطلاق، ومعناه: إذا تزوجتك فالمرأة طالق قبل النكاح بشهر يصلح صفة للشهر، ومعناه: إذا تزوجتك، وقد مضى شهر قبله من وقت هذه المقالة، فجعلناها صفة للشهر حتّى يصلح التعليق (251ب1) بخلاف المطلق؛ لأنّ القبلية صفة الطلاق هناك؛ لأنّ المذكور هناك الطلاق لا غير، وإذا صارت القبلية في المطلق صفة الطلاق بطل التعليق؛ لأنَّ المعلق باطل، وهذا هو الفرق لكن ما قاله عامّة المشايخ أصحّ؛ لأنَّ القبلية لمّا صلحت صفة الطلاق وصفة الشهر وقع الشك في صحّة التعليق، وفي وقوع الطلاق، فلا يصح ولا يقع بالشك.(3/567)
-----
صورة الإضافة مع التعليق والشرط لاحق في المطلق والمؤقت إذا قال لأجنبيّة: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر إذا تزوجتك، فتزوجها لا نص فيه عن محمّد رحمه الله، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا لا فرق بينما إذا كان الشرط لاحقاً، وبينما إذا كان سابقاً، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأنّ أوّل الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يقلب حكم أوّله، ويصير كأنّه تكلم بكلمة واحدة، وفي حق هذا المعنى تقديم الشرط، وتأخيره سواء، وبعضهم قالوا ها هنا يقع الطلاق بلا خلاف، وإليه مال فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله.
ووجهه أنّ قوله أنتِ طالق قبل أن أتزوجك موجبه وقوع الطلاق للحال، وقوله: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر موجبه وقوع الطلاق مقارناً للتزوج، فإذا أدخل عليه الشرط أوجب تأخيره، ومن ضرورته بطلان صفة القبلية، فيصير قائلاً عند التزوج أنتِ طالق.
فأمَّا إذا قدم الشرط فالشرط ما أوجب تأخير الجزاء، ولكن الجزاء يتأخر عن الشرط؛ لأنّ الحالف تكلّم به بعد الشرط، لا لأنَّ الشرط أوجب تأخيره، وإذا لم يكن تأخير الجزاء بحكم الشرط لم يكن من ضرورته بطلان صفة القبلية، فيصير قائلاً عند التزوج أنتِ طالق، قبل أن أتزوجك أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر وهناك لا يقع الطلاق، كذا ههنا.
هذا كلّه إذا حصل الإيجاب في غير الملك، وأما إذا حصل الإيجاب في الملك فله صور، من جملة ذلك ما ذكر في «المنتقى» إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ طالق قبل أن أتزوجك، فهي طالق إذا دخلت الدار، وكذلك إذا قال لها إذا جَاء غد فأنتِ طالق قبل أن أتزوجك، أو قال لها أنتِ طالق غداً قبل أن أتزوجك، فهي طالق غداً.(3/568)
-----
وقال في «الجامع الصغير»: إذا قال لامرأته: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك، أو قال لها طلقتك قبل أن أتزوجك لا يقع شيء. وفيه أيضاً: إذا قال لها أنتِ طالق أمس، وقد تزوجها اليوم لا يقع الطلاق، ولو تزوجها أوّل من أمس يقع الساعة واحدة.
وفي «الجامع الكبير» لو قال لامرأته: أنتِ طالق قبل دخولك الدّار بشهر، أو قال لها أنتِ طالق قبل قدوم فلان بشهر، فدخلت الدار أو قدم فلان قبل تمام الشهر من وقت اليمين لا تطلق؛ لأن الطلاق المضاف إلى وقت موصوف بصفه تنصرف إلى وقت في المستقبل، ولو دخلت الدار بعد تمام الشهر، أو قدم فلان (بعد) إتمام الشهر من وقت اليمين يقع الطلاق؛ لأنّه يصير قائِلاً عند تمام الشهر وعند قدوم فلان أنتِ طالق قبل هذا الشهر، ومن قال لامرأته أنتِ طالق قبل هذا بشهر في الحال تطلق في الحال.
ثمَّ عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله يقع الطلاق مقارناً للدخول، ويقتصر الوقوع على وقت القدوم والدخول حتى لو خالعها تطلق في وسط الشهر، ثمَّ دخلت الدار أو قدم فلان لتمام وهي في العدة، لا يظهر بطلان الخلع، خلافاً لزفر رحمه الله.
ولو قال لها: أنتِ طالق قبل موت فلان بشهر، فمات فلان لتمام الشهر، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقع الطلاق مقارناً للموت، ويقتصر على وقت الموت، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياته، ويستند إلى أول الشهر، وعلى قول زفر يقع الطلاق بعد الموت، ويستند إلى أول الشهر.(3/569)
-----
وثمرة الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله إنّما تظهر فيما إذا قال لها أنتِ طالق قبل موتي بشهر، أو قال قبل موتك بشهر، فعلى قولهما لا يقع؛ لأنّه لو وقع الطلاق بهذا اليمين وقع مقارناً لموت أحد الزوجين، ولا وجه إليه؛ لأنّه حال زوال الملك والطلاق لا يقع في حال زوال الملك، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق؛ لأنّ عنده الطلاق يقع في آخر جزء من آخر الحياة، وفي تلك الحال الملك قائم.
والحاصل أنهما يقولان بمقارنة الوقوع القدومَ والدخول والموت وبالاقتصار في الأفعال كلها، وأبو حنيفة رحمه الله قال بمقارنة الوقوع الدخول والقدوم، وبالاقتصار فيهما ويسبق الوقوع الموت والاستثناء فيه، فهما يقولان: هذه الأفعال للشروط من وجه من حيث إنّها ملفوظة على خطر الوجود، ويقف وقوع الطلاق عليها معرفات من وجه حيث إنَّ الزوج ما ذكرها بحرف الشرط، ولكن أضاف الطلاق إلى زمان موصوف بأنّه قبل هذه الأفعال بشهر، فكانت هذه الأفعال معرّفة إيّانا أن الشهر السابق بهذه الصفة.(3/570)
-----
ولو كانت معرفة من كل وجه لوقع الطلاق من أوّل الشهر من كلّ وجه، كما لو قال لها أنتِ طالق قبل رمضان بشهر، فإنَّ هناك يقع الطلاق في أوّل شعبان من كل وجه، ولو كانت شروطاً من كل لوقع الطلاق بعدها مقصوراً عليها من كلّ وجه، كما لو ذكرها بحرف الشرط صريحاً بأن قال؛ إن قدم فلان، إن مات فلان، إن دخلت الدار، فأنتِ طالق قبل ذلك بشهر، فإذا كانت شروطاً من وجه معرفات من وجه، قلنا بالوقوع بعدها، عملاً بالشرطية. وقلنا بالاستناد عملاً بالمعرفية، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموت ليس بشرط لوقوع الطلاق؛ لأن الموت أمر لا يدخل تحت الأمر والنهي وما لا يدخل تحت الأمر والنهي لا يصلح شرطاً، لوقوع الطلاق؛ لأن المقصود من الأيمان النهي عن إيجاد شرط وقوع الطلاق، فبذكر ما لا يدخل تحت الأمر والنهي يعلم أنّه لم يقصد به النهي عنها، فلا يكون شرطاً. وذكرها لتعريف الوقت المضاف إليه الطلاق، والتعريف حاصل قبله بآخر أجزاء حياته؛ لأنّ آخر أجزاء حياته يتصل بموته بتقدير الله عزّ وجلّ لا يفصل عنه إلا أنّا لا نعرف آخر أجزاء حياته (252أ1) إلا بالموت، فبالموت عرفنا وجود ذلك الجزء قبله، فهو معنى قولنا: إنَّ التعريف حاصل قبل الموت بآخر جزء من أجزاء حياته، فيقع الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياته. ويستند إلى أوّل الشهر، بخلاف الدخول والقدوم وما شاكلهما؛ لأن هذه الأشياء تدخل تحت الأمر والنهي، فأمكن جعلها شرطاً، فيقع الطلاق عندها مقصوراً عليها على ما ذكرنا، فهذه النكتة منقولة عن القاضي الإمام الكبير أبي زيد رحمه الله.(3/571)
-----
ولو قال لها: أنتِ طالق قبل موت فلان وفلان بشهر فمات أحدهما قبل تمام الشهر لم تطلق بهذه اليمين أبداً، لانعدام الوقت المضاف إليه الطلاق وهو شهر بعد اليمين موصوف بأنّه قبل موتهما. وإن مضى شهر من وقت اليمين ثمَّ مات أحدهما طلقت، ولا ينتظر موت الآخر؛ لأن بموت أحدهما تيقنا بوجود الوقت المضاف إليه الطلاق، وهو شهر قبل موتهما يتصل بآخره موت أحدهما؛ لأن اتصالهما بآخر الشهر إنّما يكون بوقوعهما معاً، واقتران بالشهر موتهما ممتنع عادة، فيسقط اعتبار المقارنة وتعلّق وقوع الطلاق بوصف التقدّم على الموتين بشرط اتصال أحدهما به.
ولو قال لها أنتِ طالق قبل قدوم فلان وفلان بشهر، فقدم أحدهما لتمام الشهر من وقت اليمين، ثمَّ قدم الآخر بعد ذلك طلقت؛ لأنّ وجود القدومين معاً ممتنع عادة، فيسقط اعتباره، فبقي الطلاق مضافاً إلى شهر بعد اليمين يتصل به قدوم أحدهما، وقدوم الآخر يتصل بمطلق الوقت. وهو نظير ما لو قال لامرأته أنتِ طالق قبل مطلع يوم الأضحى والفطر بشهر، فإنها تطلق إذا أهلَّ هلال رمضان؛ لأن الفطر مع الأضحى لا يوجدان معاً، فتعلق وقوع الطلاق بصفة التقدم، واعتبر اتصال الشهر بأحدهما دون الآخر كذا ها هنا، فصار موتهما وقدومهما من حيث إنّه يكتفى فيهما باتصال الشهر بأحدهما سواء، إلا أنّ فرق ما بينهما أنّه إذا مات أحدهما لتمام الشهر يقع الطلاق، ولا يتوقف وقوعه على موت الآخر، وإذا قدم أحدهما بعد تمام الشهر لا يقع الطلاق، بل يتوقف وقوعه على قدوم الآخر.(3/572)
-----
قال في «الجامع» أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق قبل أن تحيضي حيضة بشهر، فمكثت بعد هذه المقالة شهراً، ثمَّ رأت الدم يوماً أو يومين في أيام حيضها، فإنّها لا تطلق ما لم يتمادى بها الدم ثلاثة أيام، وإذا تمادى يحكم بوقوع الطلاق من حين ما رأت الدم؛ لأنَّ بمادي الدم ثلاثة أيام تيقنا أنّ المرئي كان حيضاً من وقت الرؤية، فتيقنا بكون هذه الشهر شهراً قبل حيضها، ولا يتوقف وقوع الطلاق على الطهر. وإن ذكر الحيضة مع الهاء أنّها مع الهاء اسم للكامل منها؛ لأنّه ما جعل الحيضة شرطاً بل جعلها معرفة للوقت المضاف إليه الطلاق، وقد حصل التعريف بمضي ثلاثة أيام وإن لم تطهر، ثمَّ إذا وقع الطلاق عليها من حين ما رأت الدم، لا شكَّ أنَّ على قولهما يقتصر استدلالاً بنظائره من الميت والقدوم على ما مرّ.
وأمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله قد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يستند وألحقوه بالموت، وبعضهم قالوا لا يستند، وألحقوه بالقدوم من حيث إنّ الحيضة ملفوظ بها على خطر الوجود، كالقدوم بخلاف الموت.
قال في «الجامع»: وإذا (قال) لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً قبل موت فلان بشهر، ثمَّ إنّه خالعها على مال قبل تمام الشهر ثمَّ مات فلان لتمام الشهر، فالمسألة على وجهين: إن لم تكن المرأة في العدّة يوم مات فلان، بأن كانت غير مدخول بها أو كانت مدخولاً بها، إلا أنّه انقضت عدتها بوضع الحمل قبل تمام الشهر، لا يقع شيء عليها شيء من الطلقات المضاف.
أمّا عندهما فلأنّ الطلاق يقع عند الموت مقصوراً على حالة الموت، فيشترط قيام الملك عند الموت، ولم يوجد.(3/573)
-----
وعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق في آخر جزء من آخر الحياة ويستند، فلا بد من قيام الملك في آخر جزء من آخر الحياة حتّى يقع ثمّ يستند، وإن كانت في العدة يقع الطلاق غير أنَّ عندهما يقتصر الوقوع على وقت الموت، فلا يتبين بطلان الخلع، وعند أبي حنيفة رحمه الله يستند، فيتبيّن أنّه حين خالعها لم يكن له عليها ملك فيتبيّن بطلان الخلع فكان عليه أن يردّ ما أخذ منها؛ لأنّه تبيّن أنّه أخذ ما أخذ بغير حق، ولم يذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» أنَّ العدة تعتبر من أيِّ وقت ولا شكَّ أن على قولهما تعتبر العدة من وقت الموت؛ لأنَّ عندهما يقع الطلاق مقصوراً على وقت الموت، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله عند عامّة الشايخ يعتبر من وقت الموت.6
وعند علي الرازي رحمه الله يعتبر من أوّل الشهر، وهذا بناءً على أن عند علي الرازي الطريق في وقوع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة طريق الظهور من كلِّ وجه، ومعناه أنَّ بالموت يظهر أنَّ الطلاق كان واقعاً من أوّل الشهّر من كلِّ وجه، وكان يطعن على محمّد رحمه الله فيما ذكر من اشتراط قيام العدّة وقت الموت، لوقوع الثلاث؛ لأنّ عنده الطلاق يقع من أوّل الشهر من كلِّ وجه، فلا معنى لاشتراط قيام العدّة عند الموت، والدليل على أنَّ طريقه الظهور من كلِّ وجه عند أبي حنيفة أنَّ محمّداً رحمهما الله ذكر بطلان الخلع، على قوله: لو كانت العدة قائمة وقت الموت، ولو كان طريقه طريق الاستناد لما قال ببطلان الخلع؛ لأنَّ الخلع بعد وقوعه. ونفاذه لا يحتمل البطلان.(3/574)
-----
والدليل عليه: أنَّ أبا حنيفة رحمه الله قال: لو وطئها بعد اليمين، ثمَّ مات، فلان لتمام الشهر إنّه يلزمه العقد، ولو كان طريقه طريق الاستناد لما لزمه العقد، لأنَّ الاستناد لا يظهر في حقِّ المستوفى بالوطء، وما ذكرنا من نكتة القاضي الإمام الكبير أبي زيد رحمه الله، يشير إلى ما يقوله علي الرازي رحمه الله، فكأنه يميل إلى ما قاله علي الرازي رحمه الله. وعند عامة المشايخ الطريق عند أبي حنيفة رحمه الله طريق الاستناد، وهو الوقوع للحال من وجه، ومن أوّل الشهر من وجه، ولما كان الطريق عند عامة المشايخ الاستناد يعتبر العدّة من وقت الموت؛ لأنَّ باعتبار الوقوع في الحال يجب العدّة في الحال، وباعتبار الوقوع من أوّل الشهر تجب العدّة من أوّل الشهر (252ب1)، فتجب في الحال احتياطاً والصحيح ما عليه عامّة المشايخ.
وأمّا تخريج مسألة الخلع، فنقول: باعتبار الحال يصح ما مضى من الخلع، وباعتبار أوّل الشهر لا يصح فلا يصح بالشك والاحتمال وبهذا تبيّن أنّا لا نقول ببطلان الخلع بعد صحته ونفاذه، بل لا نقول بصحته.
وأمّا مسألة العقد قلنا: الأصل في ضمان منافع البضع العقد لكن يصير إلى المسمّى حال قيام الملك من كل وجه، فإذا ظهر زوال الملك من أوّل الشهر من وجه، بقي مضموناً بالضمان الأصلي.
وفي «المنتقى» عن محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق قبيل غد أو قبيل قدوم فلان، فهو قبيل ذلك بطرفة عين؛ لأنَّ قبيل وقت. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله. هذا الجواب في قوله قبيل قدوم فلان غير مستقيم، والصحيح أنّه يقع الطلاق إذا قدم فلان، والله أعلم.
نوع آخر في إضافة الطلاق إلى الوقتين وإلى أحدهما وفي تعليق الطلاق بالفعلين وبأحدهما وفي الجمع بين وقت وفعل(3/575)
-----
يجب أن تعلم بأنَّ الطلاق المضاف إلى أحد الوقتين يقع عند آخرهما، إمّا لأنَّ الزوج وصفها بالطلاق في أحد الوقتين، ولو وقع الطلاق في أولهما كانت موصوفة بالطلاق في الوقتين، أوْ لأنَّ الزوج أوقع الطلاق بأحد وصفين الأخف والأغلظ وهو التعجل والتأخّر فإنَّ المؤخّر أخف من المعجّل.
والأصل في مثل هذا أن يتعين للزوج الأخف؛ لأنّه متيقّن ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته أنتِ طالق بائن أو رجعي يقع طلاق رجعي، وكذلك قالوا فيمن قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً أو واحدة يقع واحدة، وطريقه ما قلنا.
بيان هذا «الأصل» فيما إذا قال لامرأته: أنتِ طالق غداً أو بعد غد، فإنّها تطلق بعد غد وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق غداً أو رأس الشّهر، فإنّه يقع الطلاق عند أحديهما إلا إذا نوى أن يقع بكل وقت تطليقة، فحينئذٍ تقع تطليقة غداً وتطليقة بعد غد؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه بإقامة حرف الواو مقام أو ويصير تقدير المسألة: أنتِ طالق غداً، وبعد غدٍ أو بإضمار كلمة في، ويصير تقدير المسألة أنتِ طالق في غدٍ وفي بعد غدٍ والمضاف إلى الوقتين يقع بأولهما؛ لأنّه وصفها بكونها طالقاً في الوقتين، وإنّما يكون مقصوداً بالطلاق في الوقتين إذا وقع الطلاق بأولهما، وإذا وقع الطلاق عند وجود أوّلهما لا يقع عند وجود آخرهما شيء إذا لم يكن أحد الوقتين كائناً، أو كان أحدهما كائناً وبدأ بالكائن، ففي الحالين جميعاً يقع طلاق واحد عند وجود أوّلهما.
بيان هذا «الأصل»: إذا لم يكن أحد الوقتين كائناً أن يقول لها اليوم: أنتِ طالق غداً، وبعد غد. وبيانه فيما إذا كان أحد الوقتين كائناً وبدأ بالكائن بأن يقول لها اليوم أنتِ طالق اليوم وغداً، فإنّه يقع الطلاق ساعة ما تكلّم، ولا يقع عليها في الغد شيء؛ لأنه وصفها بكونها طالقاً في الوقت الكائن والآتي، وهي الطلقة الواقعة في الوقت الكائن يتصف بالطلاق في الوقت الآتي.(3/576)
-----
وعلى هذا إذا قال لها في الليل أنتِ طالق في ليلك ونهارك يقع الطلاق عليها ساعة ما تكلم بهذه المقالة، ثمَّ لا يقع في النهار شيء، وهذا إذا لم يكن لها نية، فإن نوى أن يقع بكل وقت تطليقة كان كما نوى، لما قلنا.
وفي «مجموع النوازل»: إذا قال لها: أنتِ طالق اليوم وغداً، يقع واحدة اليوم، وأخرى غداً وأمّا إذا كان أحد الوقتين كائناً وبدأ بالآتي فإنه يقع بكل وقت تطليقة، بأن قال لها اليوم: أنتِ طالق غداً واليوم تقع واحدة ساعة ما تكلم به، وتقع أخرى غداً، وكذلك إذا قال في الليل أنتِ طالق في نهارك وليلك يقع واحدة ساعة ما قال هذه المقالة، ويقع أخرى إذا طلع الفجر؛ لأنّه وصفها بكونها طالقاً في الوقت الآتي ابتداء، وعطف عليه الوقت الكائن، وهي بالطلاق الواقع في الوقت الآتي لا تتصف بكونها طالقاً في الوقت الكائن.
ولو قال لها ليلاً أنتِ طالق في ليلك وفي نهارك، أو قال لها نهاراً أنتِ طالق في نهارك، وفي ليلك، طلقت في كلِّ وقت تطليقة؛ لأنّه جعل كلّ وقت ظرفاً على حدة فاستدعى مظروفاً على حدة، وفيما تقدّم جعل الوقتين ظرفاً واحداً، فاكتفى بمظروف واحد.
وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق ليلاً ونهاراً أو قال في الليل والنهار لم يقع إلا واحدة، ولو قال في الليل وفي النهار، يقع تطليقتان وعلى هذا إذا قال أنتِ طالق في أكلك وشربك، في قيامك وقعودك لم يقع ما لم يوجدا. ولو قال في أكلك وفي شربك، وفي قيامك وفي قعودك فأيهما وجد يقع؛ لأنّه جعل كلَّ فعل شرطاً على حدة فإن نوى طلقة واحدة في قوله في ليلك وفي نهارك ديّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه، وذلك بحذف كلمة في.(3/577)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق بالنهار، والليل إذا قال ذلك نهاراً طلقت واحدة، وإن قال ذلك ليلاً طلقت ثنتين، ولو قال لها ولم يدخل بها أنتِ طالق غداً واليوم طلقت الساعة واحدة، وإن تزوجها اليوم طلقت إذا جاء غد ولو لم يتزوجها اليوم حتى جاء غد ثم تزوجها لا تطلق.
وأمّا إذا كان أحد الوقتين كائناً والآخر ماضياً لم يذكر هذه المسألة في الأصول، وإنّما ذكرها في «النوادر»؛ ووضعها في غير المدخول بها، فقال: إذا قال لها أنتِ طالق أمس واليوم فهي واحدة لأنا لو أوقعنا أمس بها تطليقة ممّا سمى بعد ذلك يكون باطلاً، ولو قال أنتِ طالق اليوم وأمس كانت طالقاً ثنتين، كأنّه قال لها أنتِ طالق ثنتين.
وفي «مجموع النوازل»: إذا قال لامرأته أنتِ طالق اليوم فأمس فهي واحدة، هذا هو الكلام في المضاف.
جئنا إلى المعلّق، فنقول: المعلق بأحد الفعلين يقع بأولهما لأن الحالف جعل أحد الفعلين شرطاً، وإنّما يكون أحدهما شرطاً إذا وقع الطلاق بأولهما، بيان هذا الأصل: إذا قال لها أنتِ طالق إذا جاء رأس الشهر أو إذا قدم فلان، فأيهما وجد أولاً يقع الطلاق ثمَّ لا يقع عند الآخر شيء؛ لأنَّ المعلق (253أ1) طلاق واحد، إلا أن ينوي بكل فعل تطليقة، فيكون كما نوى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأنه يذكر بمعنى الواو، قال الله تعالى {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} (الإسراء: 90، 91) ومعناه وتكون لك ويصير تقدير المسألة أنتِ طالق إذا جاء رأس الشهر، وإذا قدم فلان.
وأمّا المعلق بالفعلين، فهو على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون الجزاء مقدماً على الفعلين، وإنّه على وجهين:(3/578)
-----
أمّا (إن) ذكر للثاني حرف الشرط، بأن قال لها: أنتِ طالق إذا قدم فلان وإذا قدم فلان آخر، وفي هذا الوجه أيّهما قدم أوّلاً يقع الطلاق ولا يقع بالثاني شيء إلا إذا نوى ذلك.
وأمّا إن لم يذكر للثاني حرف الشرط، بأن قال لها أنتِ طالق إذا قدم فلان وفلان، وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق ما لم يقدما، والفرق أنَّ قوله أنتِ طالق إذا قدم فلان وإذا قدم فلان يمين تامّه؛ لأنّه ذكر شرط وجزاء، فإذا ذكر للثاني حرف الشرط، فالثاني تامّ في معنى الشرطية، ناقص في معنى الجزائية، فصار جزاء الشرط الأوّل جزاء له بحكم العطف إذ العطف يقتضي المشاركة بين المعطوف وبين المعطوف عليه، فيما هو ناقص، ويصير تقدير المسألة؛ كأنّه قال أنتِ طالق إذا قدم فلان، وإذا قدم فلان آخر فأنتِ طالق تلك التطليقة ولو نصَّ على ذلك كان الجواب كما قلنا فها هنا كذلك.
وأمّا إذا لم يذكر للثاني حرف الشرط فالثاني ناقص في معنى الشرطية، كما هو ناقص في معنى الجزائية وقد عطفه على الأول بحرف الجمع، والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع، فصار كأنّه قال: أنتِ طالق إذا قدما.
الوجه الثاني: أن يكون الجزاء وسط الفعلين، بأن قال لها إذا قدم فلان، فأنتِ طالق، وإذا قدم فلان فالجواب فيه كالجواب فيما إذا قدّم الجزاء؛ لأنّ قوله إذا قدم فلان، فأنتِ طالق يمين تامّة، فإذا قال وإذا قدم فلان فقد ذكر حرف الشرط ولم يذكر له الجزاء، فصار جزاء الأوّل جزاءً للثاني بحكم العطف.(3/579)
-----
الوجه الثالث: أن يكون الجزاء مؤخراً عن الفعلين، بأن قال: إذا قدم فلان، وإذا قدم فلان فأنتِ طالق، فما لم يقدما لا يقع الطلاق لأنَّ قوله إذا قدم فلان ليس بكلام تامّ، بل هو شرط محض، وإذا قال: وإذا قدم فلان، فهذا أيضاً شرط محض، وقد جمع بينهما، فصار كالمجموع بلفظ الجمع فكأنّه قال: إذا قدما فأنتِ طالق، بخلاف ما إذا قدم الجزاء أو وسط؛ لأن هناك الكلام الأوّل يمين تامة على ما ذكرنا والكلام الثاني تام في معنى الشرطية ناقص في معنى الجزائية على ما مرّ.
وإذا جمع بين وقت وفعل وأضاف الطلاق إلى أحدهما، بأن قال لها: أنتِ طالق رأس الشهر أو إذا قدم فلان، فإن وجد الفعل أوّلاً بأن قدم فلان في هذه الصورة أوّلاً يقع الطلاق، ويجعل كأنَّ المضموم إليه فعل آخر، فكان هذا طلاقاً معلقاً بأحد الفعلين فيقع بأولهما، وإن جاء رأس الشهر أوّلاً لا يقع الطلاق ما لم يقدم فلان، ويجعل كأن المضموم إليه وقت آخر كأنّه قال: أنتِ طالق رأس الشهر أو وقت قدوم فلان، فكان الطلاق مضافاً إلى أحد الوقتين، فيقع بآخرهما.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان العلّة، فعبارة بعضهم: إنَّ الجمع بين قضيّة الفعل وبين قضيّة الوقت متعذر، لما بين الإضافة والتعليق من التضاد وجب القول بالترجيح، فرجحنا السابق؛ لأنّه لا (حكم) له فيعطى له حكمه ويجعل الآخر تبعاً له، فإن وجد الفعل أولاً جعل كأن المضموم إليه فعل آخر وإن وجد الوقت أوّلاً، جعل كأنَّ المضموم إليه وقت آخر.(3/580)
-----
وعبارة القاضي الإمام أبي سعيد البردعي رحمه الله أنَّ من أوقع أحد الطلاقين، إمّا الأخف وإمّا الأغلظ يقع الأخف، وقد أتى بالمضاف إلى الوقت أو بالمعلق بالفعل، والمعلق أخف من المضاف؛ لأن المضاف أقرب إلى المنجّز من المعلق، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: إن حلفت بعتق عبدي، فأنتِ طالق ثمَّ قال لعبده أنت حرّ غداً لا تطلق امرأته، كما لو قال أعتقت للحال. وكذا النذر المضاف إلى الغد يجوز تعجيله قبل مجيء الغد، بأن قال: لله تعالى عليَّ أن أصدّق بدرهم غداً، فتصدق اليوم والنذر المعلق بمجيء الغد لا يجوز تعجيله قبل مجيء الغد، فعلم أن المضاف قرب المنجز، فكان المعلّق أخف، فيعتبر الأخف ويلغوا الوقت، ولكن هذه العلّة إنّما تتأتى فيما إذا وجد الفعل أوّلاً، ولا تتأتى فيما إذا وجد الوقت أوّلاً، واستشهد محمّد رحمه الله لإيضاح هذه المسألة في «الزيادات» بمسألة أخرى، فقال: ألا ترى أنّه لو قال لها أنتِ طالق غداً، أو إن شئت، فشاءت الساعة أنه يقع الطلاق، ولا ينتظر مجيء الغدّ، ويجعل كأنَّ المضموم إلى المشيئة فعل آخر، فكان الطلاق معلقاً بأحد الفعلين، فكذا في مسألتنا إلا أنَّ بين مسألتنا، وبين مسألة الاستشهاد فرق، فإنَّ في مسألة الاستشهاد إذا قامت عن مجلسها قبل أن تشاء طلقت غداً، وفي مسألتنا هذه إذا جاء رأس الشهر قبل أن يقدم فلان لا تطلق ما لم يقدم فلان.
وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا قال لامرأته أنتِ طالق إن دخلت الدار، أو بعد غد، فدخلت الدار اليوم قال: لا تطلق حتّى يجيء بعد الغد، قال: وهذا بمنزلة وقتين.
وقال محمّد رحمه الله: إن دخلت الدار اليوم طلقت قبل مجيء بعد الغد، وهذه الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تخالف ما ذكر محّمد رحمه الله في «الزيادات».(3/581)
-----
وعن أبي يوسف رحمه الله أيضاً أنّه إذا علق الطلاق بوقت وفعل على الشك، فهو بمنزلة فعلين، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: يريد به أن الطلاق يقع بأيهما سبق، وهذه الرواية توافق ما ذكر محمّد رحمه الله في «الزيادات»، ومتى جمع بين الوقت والفعل وأضاف الطلاق إليهما بأن قال لها: أنتِ طالق غداً، وإذا قدم فلان فهاتان تطليقتان تطلق غداً واحدة، وإذا قدم فلان أخرى؛ لأنّه لا مجانسة بين الوقت وبين الفعل، حتّى يصير جزاء الأوّل جزاء الثاني بحكم العطف إذ المشاركة إنّما تثبت في جنس واحد، لا في جنسين. وقد ذكر للثاني (253ب1) حرف الشرط، ولم يذكر له جزاء، فاستدعى الثاني جزاء آخر، فصار تقدير المسألة كأنّه قال: أنت طالق غداً، وإذا قدم فلان فأنتِ طالق تطليقة أخرى، بخلاف ما إذا ذكر فعلين أو وقتين؛ لأنَّ هناك الثاني من جنس الأوّل، فصار جزاء الأوّل جزاءً للثاني بحكم العطف، فلم يستدعي الثاني جزاء آخر.
فروى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق السّاعة، وإذا جاء غد وإذا جاء بعد غد، فهي طالق السّاعة واحدة وإذا جاء غد أخرى: ولا تطلق بمجيء ما بعد الغد؛ لأنَّ قوله إذا جاء غد فعل وقوله، وإذا جاء بعد غد فعل آخر، فإنّما يقع بأوّل الفعلين ويسقط اليمين، قال: ألا ترى أنّه لو قال أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار فدخلت إحدى الدّارين طلقت، وسقطت اليمين حتّى لا تطلق بدخول الدّار الأخرى، كذا ها هنا.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله، فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق اليوم، وإن دخلت الدّار فهي طالق حين تكلم، وإن دخلت الدار أخرى وهذا وما لو قال لها أنتِ طالق غداً وإذا قدم فلان سواء.(3/582)
-----
وفي «الجامع الصغير» إذا قال لها أنتِ طالق غداً اليوم أو قال أنتِ طالق اليوم غداً، فهو بأوّل الوقتين تفوه، يريد به أنَّ في الصورة الأولى يقع الطلاق غداً، وفي الصورة الثانية يقع الطلاق اليوم؛ لأنّه أضاف الطلاق إلى وقتين ولم يذكر بينهما حرف العطف، وفي مثل هذا يقع الطلاق بأولهما لفظاً، ويصير الثاني حشواً ولغواً من الكلام. وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق الساعة غداً يقع الطلاق عليها في الحال، فإن قال عنيت بهذه الساعة الساعة من الغد فإنّه لا يصدّق في القضاء ويديّن فيما بينه وبين الله تعالى.
ولو قال: أنتِ طالق اليوم إذا جاء غد، فهي طالق غداً حين يطلع الفجر لأنَّ قوله أنتِ طالق اليوم إيقاع للحال وقوله إذا جاء غد تعليق، فقد أتى بالإيقاع والتعليق والجمع بينها متعذّر، فلا بدَّ من اعتبار أحدهما وترك الآخر فنقول: اعتبار التعليق أولى، لأنا متى اعتبرنا الإيقاع يلغو قوله إذا جاء غد، وإنها كلمات، ولو اعتبرنا التعليق يلغو قوله اليوم، وإنه كلمة واحدة، فكان اعتبار التعليق أولى، وإذا اعتبرنا التعليق بقي ذكر اليوم فصار كأنّه قال لها: أنتِ طالق إذا جاء غد وهناك لا يقع الطلاق ما لم يجيء الغد كذا ها هنا.
وفي «مجموع النوازل»: إذا قال لها أنتِ طالق تطليقة تقع عليك غداً، فإنّه لا تقع إلا غداً ولو قال تطليقة لا يقع عليك إلا غداً وقع السّاعة، قال لأنّه تأجيل في الواقع.(3/583)
-----
وفي «المنتقى» إذا قال لها أنتِ طالق رأس كلِّ شهر، فإنّها تطلق ثلاثاً في رأس كلِّ شهر واحدة، ولو قال لها أنتِ طالق كلّ شهر، فإنّها تطلق واحدة قال لأنَّ في الأوّل ثلثهما فصل في الوقوع، ولا كذلك في الباقي ولو قال لها أنتِ طالق كل جمعة، فإن كان نيته على كلّ يوم جمعة فهي طالق في كل يوم جمعة حتّى تبين بثلاث وإن كان نيته على كلّ جمعة تأتي بأيامها على الدهر فهي طالق واحدة، وإن لم يكن له نيّة طلقت واحدة. وفي «مجموع النوازل»: إذا قال لها أنتِ طالق يوم الجمعة، أو في الجمعة وهو في بعض اليوم، فإنّه يقع الطلاق، فلا يكون على الجمعة الثانية إلا أن ينوي.
وفيه يضاً: إذا قال لها أنتِ طالق قبل يوم قبله يوم الجمعة، أو قال بعد يوم بعده يوم الجمعة يقع الطلاق عليها يوم الجمعة في المسألتين جميعاً، ولو قال لها أنتِ طالق واحدة كل يوم، فهي طالق واحدة كلَّ يوم.
وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق كل يوم واحدة، ولو قال لها أنتِ طالق شهراً، غير هذا اليوم أو سوى هذا اليوم كان كما قال، فكانت طالقاً بعد مضي ذلك اليوم، ولا يشبه هذا قوله إلا هذا اليوم، فإنَّ هناك تطلق حين تكلم، وقوله هذا الشهر إلا هذا اليوم نظير قوله شهراً إلا هذا اليوم. والفرق بين قوله إلا هذا وبين قوله سوى هذا، وغير هذا أنَّ قوله غير هذا اليوم وسوى هذا اليوم قد يكون وقتاً، ألا ترى لو قال الرجل لغيره: والله لا أكلمك ثلاثة أيام غير هذا اليوم، أو سوى هذا اليوم كان حالفاً أن لا يكلمه ثلاثة أيام مستقبلات بعد هذا اليوم. ولو قال: والله لا أكلمك ثلاثة أيام إلا هذا اليوم كان حالفاً أن لا يكلمه يومين بعد يومه ذلك؛ لأنَّ بقوله هذا اليوم استثنى هذا اليوم من الثلاثة.(3/584)
-----
وروى بشر عن أبي يوسف رحمة الله عليهما: إذا قال لامرأته أنتِ طالق بعد أيام فإنّما يقع بعد سبعة أيام. وروى المعلّى عنه إذا قال لها: إذا كان ذو القعدة فأنتِ طالق، وقد مضى بعضه، قال: هي طالق ساعة تكلّم وإذا قال لها أنتِ طالق في مجيء يوم إن قال ذلك ليلاً طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثاني وإن قال ذلك في ضحوة من النهار طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثاني.
ولو قال لها أنتِ طالق في مضي يوم إن قال ذلك ليلاً طلقت إذا غربت الشمس من الغد، وإن قال ذلك في ضحوة من النهار طلقت إذا جاءت الساعة التي حلف فيها من اليوم الثاني، وكان ينبغي أن يشترط في المجيء مجيء يوم كامل، كما يشترط في المضي مضي يوم كامل، كأنّه أضاف المجيء إلى اليوم مطلقاً ولا يوجد مجيء اليوم مطلقاً على الحقيقة إلا المجيء كله.
والجواب أن القياس هذا، إلا أنَّا تركنا القياس في المجيء بنوع ضرورة لأنّا لو شرطنا في المجيء مجيء جميع اليوم، وذلك بغروب الشمس يفوت اسم المجيء فإنّه لا يقال بعدما غربت الشمس جاء اليوم، وإنّما يقال مضى اليوم أما في المضي لو شرطنا مضيّ حميع اليوم لا يفوت اسم المضي، فعملنا بالقياس في المضي وتركنا القياس في المجيء، واعتبرنا فيه مجيء أواخر من آخر اليوم، والعرف يشهد لما قلنا، فإنّه تعالى يوم الغد إذا طلع الفجر من يوم الجمعة وجاء شهر رمضان إذا أهلّ الهلال من شهر رمضان.
ولو قال لها: أنتِ طالق في مجيء ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلاً طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثالث لأنّه علق وقوع الطلاق بطلوع ثلاث فجرات، وكما طلع الفجر من اليوم الثالث، فقد تمَّ طلوع ثلاث فجرات. وإن قال ذلك في ضحوة من النهار (254أ1) طلقت إذا طلع الفجر من اليوم الرابع؛ لأنَّ هذا اليوم لم يعتبر داخلاً في اليمين، وإنما يعتبر طلوع ثلاث فجرات بعد هذا اليوم.(3/585)
-----
ولو قال لها أنتِ طالق في مضيّ ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلاً طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث؛ إذ به يتمّ الشرط، هكذا وقع في بعض نسخ «الجامع»، ووقع في بعضها: لا يطلق حتّى يجيء مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الليل الرابعة، وهكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه»؛ لأنَّ الأيام متى ذكرت باسم الجمع يستتبع ما بإزائها من الليالي فيجب تكميلها من الليلة الرابعة، بخلاف اليوم المفرد، والله أعلم بالصواب./
الفصل الثاني عشر: في الرجل يوقع الطلاق على امرأته ثم يقول: لي امرأة أخرى والمطلقة هي الأخرى
قال محمّد رحمه الله في «الجامع» إذا قال الرجل أوّل امرأة أتزوجها طالق، ثمَّ تزوّج امرأة بعد اليمين، وادعت هي الطلاق فقالت: أنا أوّل امرأة تزوجني بعد اليمين، وقال الزوج لا بل تزوجت فلانة بعد اليمين لا يُصدّق الزوج في صرف الطلاق عن المعروفة، ولو كان قال: إنّ كانت فلانة أول امرأة أتزوجها فهي طالق ثمَّ تزوجها، فادعت هي الطلاق، وقال الزوج؛ تزوجت امرأة قبلها، وهذه ليست بأولى، فالقول قول الزوج.(3/586)
-----
الأصل في جنس هذه المسائل: أن الزوج متى ما أنكر وجود ما هو شرط وقوع الطلاق، فالقول قوله؛ لأنّه ينكر وقوع الطلاق ومتّى أقرّ ما هو شرط وقوع الطلاق، وله امرأة معروفة، فادعت المعروفة أنّها طلقت، وادّعى الزوج أنَّ له امرأة أخرى سوى هذه المعروفة، وهي التي طلقت فالقول قول المعروفة؛ لأنَّ الزوج لما أقرّ بما هو شرط وقوع الطلاق، فقد أقرّ بالإيقاع؛ لأنَّ المعلق بالشرط يصير مرسلاً عند الشرط، فصار كأنّه قال عند إقراره بوجود الشرط: امرأتي طالق. ولو قال لها هكذا، وله امرأة معروفة ينصرف الإيقاع إليها؛ لأنَّ صحّة الإيقاع يعتمد محلا قائماً والمحل المنكوحة والمنكوحة الظاهرة المعروفة، فيصير الزوج مقراً بطلاقها من حيث الظاهر، فإذا ادّعى بعد ذلك الوقوع على امرأة أخرى، فقد ادّعى أمراً بخلاف الظاهر. وإذا ادعت المعروفة الوقوع عليها، فقد ادعت أمراً موافقاً للظاهر قبل فيما قد تمّ اعتبار الظاهر، لإيقاع الطلاق على المعروفة، ولاستحقاق المعروفة نفسها على زوجها، والظاهر يصلح للدفع دون الاستحقاق قلنا.... يعتبر الظاهر لدفع دعوى الزوج، ثمَّ يقع الطلاق على المعروفة بالإيقاع الثالث بإقرار الزوج، فلا يكون في هذا اعتباراً لظاهر حجّته في إيقاع الطلاق على المعروفة.(3/587)
-----
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة، فنقول: في المسألة الأولى الزوج أقر بما هو شرط وقوع الطلاق؛ لأنَّ على ما زعم وعلى ما ظهر الطلاق واقع، وله امرأة معروفة يدعي طلاق نفسها، فيكون القول قولها وفي المسألة الثانية الزوج منكر ما هو شرط وقوع الطلاق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق كون هذه المرأة موصوفة بصفة الأوّلية في التزوّج، والزوج ينكر ذلك، ألا ترى أنّه لو ثبت ما أقرّ به الزوج، لا يقع الطلاق أصلاً، فيكون القول قول الزوج، وإذا وقع الطلاق على المعروفة في المسألة الأولى ينظر إن كذبت المجهولة الزوج في النكاح لا يقع عليها شيء، وإن صدقته يقع عليها الطلاق بإقرار الزوج، والمعروفة مطلقة بحكم الظاهر.
فرّع على المسألة الأولى فقال: لو كان الزوج قال تزوجت هذه وفلانة معها، كان القول قول الزوج، فلا يقع (على) المعروفة؛ لأن الزوج أنكر شرط الوقوع ها هنا إذ الشرط تزوّج امرأة معروفة موصوفة بصفة الأوّلية في التزوج، والأوّل اسم لفرد سابق، فالزوج يدّعي المقارنة (و) ينكر الفردية فينكر الأوّلية فيكون منكر شرط الوقوع، ألا ترى أنّه لو ثبت ما أقرّ به الزوج لا يقع الطلاق أصلاً، فلهذا كان القول قول الزوج، ولا تطلق المجهولة ها هنا وإن صدقت الزوج في دعوى نكاحها، بخلاف المسألة الأولى لأنَّ في المسألة الأولى المجهولة إنّما تطلق بإقرار الزوج، والزوج ها هنا غير مقرّ بطلاق المجهولة.
ولو نظر إلى امرأتين، فقال أوّل امرأة أتزوجها منكما طالق فتزوّج إحداهما، وادعت هي الطلاق، فقالت: تزوجني أوّلاً، وقال الزوج تزوجت الأخرى أوّلاً، فالقول قول المعروفة؛ لأنَّ الزوج أقرّ بوجود شرط وقوع الطلاق ها هنا، وهو تزوّج إحداهما أوّلاً، فلا يصدّق في صرف الطلاق عن المعروفة، ولو كان الزوج قال: تزوجت الأخرى معها فالقول قول الزوج، فلا تطلق المعروفة؛ لأنَّ الزوج منكر شرط وقوع الطلاق عليها ها هنا.(3/588)
-----
وإذا قال الرجل كنت طلقت امرأة تزوجتها أو قال كانت لي امرأة فطلقتها، وادعت المعروفة أنّها هي وقال الزوج كانت لي امرأة أخرى غير المعروفة وإيّاها طلقت، فالقول قول الزوج لأنَّ الزوج لم يقرّ بالإيقاع في الحال في هذه الصورة، حتّى تتعيّن المعروفة لهذا الطلاق بحكم الظاهر، إنّما أقرَّ بالإيقاع فيما مضى في نكاح بما مضى؛ لأنَّ قوله كنت إخبار عن الماضي.
فإن قيل هذا التعليل لا يستقيم في قوله فطلقتها؛ لأنَّ قوله طلقتها إيقاع في الحال، فيستدعي محلاً قائماً في الحال وليس ذلك إلا المعروفة، قلنا: قوله: وطلقتها عطف على قوله كانت لي امرأة، وقوله: كانت لي امرأة إخبار عن نكاح ماض فيصير قوله فطلقتها إخباراً عن نكاح ماض بحكم العطف.
فإن قيل هذا الشكل بما لو قال كانت لي امرأة، فاشهدوا أنها طالق، فادعت المعروفة أنّها هي، فالقول قول المعروفة حتّى تطلق هي. وقوله إنّها طالق معطوف على نكاح ماض، ولم يجعل إخباراً عن طلاق ماض بحكم العطف قلنا: قوله: إنها طالق معطوف على قوله: فاشهدوا الإشهاد للحال، فقوله إنّما يكون إنشاء الطلاق للحال.
ولو قال طلقت امرأة لي فاشهدوا، أو قال امرأة من نسائي طالق، وباقي المسألة على حالها يقع الطلاق على المعروفة في الحكم؛ لأنَّ هذا الكلام، أو قال امرأة لي طالق إيقاع للحال فيستدعي محلا قائماً للحال، والمعروفة تعينت لذلك بحكم الظاهر.
وكذلك لو قال (254ب1) قد كنت طلقت امرأتي، قد كنت امرأة لي، قد كنت طلقت إحدى نسائي، وباقي المسألة بحالها يقع الطلاق على المعروفة في الحكم؛ لأنّه وإن أضاف الطلاق إلى الماضي إلا أنّه إنّما أضاف إلى الماضي طلاق امرأة مضافة إليه في الحال، والمرأة المضافة إليها في الحال من حيث الظاهر المعروفة.(3/589)
-----
وكذلك لو قال: طلقت أول امرأة قد كنت تزوّجتها، أو قال: طلقت امرأة كانت لي، وباقي المسألة على حالها تطلق المعروفة؛ لأنَّ قوله طلقت إيقاع في الحال ومحله في الحال المعروفة بحكم الظاهر، وكلّه من أيمان «الجامع».
وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما؛ إذا قال زينب امرأة طالق، فخاصمته زينب إلى القاضي في الطلاق، فقال: لي امرأة أخرى ببلدة كذا اسمها زينب وإياها عنيت، ولم يقم على ذلك بنيّة، فإنَّ القاضي يطلّق هذه المرأة، ويبينها منه إن كان الطلاق بائناً فإن أحضر .... واسمها زينب وعرفها القاضي بذلك، فإنه يوقع الطلاق عليها ويرد إليه الأولى ويبطل طلاقها وكذلك هذا في العتق. وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه يطلقهما جميعاً ويعتقهما جميعاً.
وروى هشام عن محمّد رحمة الله عليهما إذا قال الرجل امرأته طالق، فاستقدم عليه امرأته فقال لي امرأة أخرى غائبة وإيّاها عنيت. قال: إن أقام البيّنة أن له امرأة أخرى غائبة سواها وقفت الأمر، ولم أوقع الطلاق حتّى يقدم إليّ الغائب، وعن أبي يوسف رحمه الله، فيمن قال: امرأته طالق وله امرأة معروفة فقال لي امرأة أخرى، وجاءت امرأة أخرى وادّعت أنها امرأته وصدقها الزوج في ذلك، فقال: إيّاها عنيت أو قال: اخترت أن أوقع الطلاق على هذه فإن أقام بيّنة على التزوّج بالمجهولة قبل الطلاق صرف الطلاق عن المعروفة، وإن لم يقم له بيّنة على ذلك، وقضى القاضي ببطلان المعروفة، ثمَّ قامت له بيّنة على التزوّج بالمجهولة قبل الطلاق، أو قبل أن يقضي القاضي ببطلان المعروفة، وقال الزوج عنيت بالطلاق المجهولة، فالقاضي يبطل ما قضى به من طلاق المعروفة ويردها إليه، ويوقع الطلاق على المجهولة. وكذلك لو كانت المعروفة قد تزوجت.
وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال لامرأتي عليَّ ألف درهم، وله امرأة معروفة، ثمَّ قال لي امرأة أخرى والدّين لها، فالقول قوله.(3/590)
-----
ولو قال: امرأته طالق على ألف درهم، فالطلاق والمال على امرأته المعروفة، فلا يصدق في صرفها إلى غيرها.
ولو قال: امرأتي طالق، ثمَّ قال لامرأتي عليَّ ألف درهم، وله امرأة معروفة، فقال لي امرأة أخرى وإيّاها عنيت صدّق في حقّ المال، ولا يصدّق في حقّ الطلاق.
وفي طلاق «الأصل» في باب الشهادة في الطلاق: إذا قال فلانة بنت فلان طالق، سمّى امرأة ونسبها، ثمَّ قال عنيت بذلك امرأة أجنبيّة هي على هذا الاسم والنسب، لم يصدّق قضاء.
وإن قال هذه المرأة التي عنيتها امرأتي، وصدقته في ذلك وقع الطلاق عليها بإقراره، ولم يصدق في حقّ صرف الطلاق عن المعروفة إلا أن يشهد الشهود على نكاح هذه المرأة قبل الإيقاع، أو على إقرار الرجل، وهذه المرأة بالنكاح أو على إقرار المرأة المعروفة بذلك، فحينئذٍ يعين الزوج بالبيان أنّه أوقع الطلاق على أيّهما.
وفيه أيضاً: إذا تزوّج امرأتين إحداهما نكاحاً صحيحاً، والأخرى نكاحاً فاسداً أو اسمهما واحد، فقال: فلانة طالق ثمَّ (قال) عنيت التي نكاحها فاسداً لم يصدّق قضاء، وكذلك إذا قالك إحدى امرأتي طالق ثم قال: عنيت التي نكاحها فاسد لم يصدق قضاء؛ لأنَّ التي نكاحها فاسد لم تصر امرأة له فكأنّه قال: إحدى امرأتيّ طالق وليس له إلا امرأة واحدة، ولو قال إحداكما طالق ثمَّ تطلق التي صحّ نكاحها، إلا أن يعنيها. ولو قال في يده عبدان قد اشترى أحدهما شراءً صحيحاً، واشترى الآخر شراءً فاسداً فقال أحدكما حر أو قال أحد عبدي حرّ فهما سواء، فالقول في البيان قوله والله أعلم.(3/591)
الفصل الثالث عشر: في طلاق الغاية والظرف
-----
إذا قال لها أنتِ طالق من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين، فهي واحدة أو من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى الثلاث فهي ثنتان وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله إن قال من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين يقع ثنتان، وإن قال ما بين واحدة إلى ثلاث أو من واحدة إلى ثلاث فهي ثلاث، وقال زفر رحمه الله: (إن قال من واحدة إلى ما بين لا يقع شيء)، وإن قال من واحدة إلى ثلاث يقع واحدة.
والحاصل أنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله تدخل الغاية الأولى دون الثانية وعلى قولهما تدخل الغايتان، وعلى قول زفر رحمه الله لا تدخل الغايتان وهو القياس.
إلا أنَّ أبا حنيفة رحمه الله يقول في إدخال الغاية الأولى ضرورة؛ لأنَّ الثانية لا وجود لها بدون الأولى، وهذه الضرورة معدومة في الثالثة؛ لأنَّ الثانية لها وجود بدون الثالثة، فبقيت الثالثة على أصل القياس، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو نوى واحدة في قوله من واحدة من ثلاث ديّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه أخرج الغاية الأولى، فالكلام محتملة إلا أنَّه خلاف الظاهر.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنّه لو قال أنتِ طالق ما بين واحدة وثلاث، فهي واحدة؛ لأنّه لم يجعل الثلاث غاية لما أوقع ما بين العددين، وذلك واحدة.
ولو قال ما بين واحدة إلى أخرى أو من واحدة إلى واحدة، فهي واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقد اختلف المشايخ على قولهما، قال بعضهم: يقع ثنتان، وهكذا ذكر في «تجريد القدوري»؛ لأنَّ عندهما تدخل الغايتان، وقال بعضهم تقع واحدة؛ لأنّه يحتمل أن يكون معنى قوله: من واحدة إلى واحدة منها وإليها، فلا يقع أكثر من واحدة بالشّك وهكذا ذكر في «شرح القدوري» وهو الصحيح.(3/592)
-----
ولو قال: من واحدة إلى ثنتين وقعت واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يقع ثنتان هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» قال: وقياس مذهبهما أن يقع الثلاث؛ لأنّ عندهما تدخل الغايتان، ولكن الوجه فيه أنَّ قوله من واحدة إلى ثنتين مجمل يحتمل أنّه جعل تلك الواحدة من الثنتين، كأنّه قال من واحدة هي من الثنتين، ويحتمل أنّه جعل الواحدة (255أ1) غير الثنتين فلا تقع الزيادة على الثنتين بالشّك، وهذه المسألة تؤيّد قول من يقول في قوله من واحدة إلى واحدة إنّه تقع واحدة عندهما.
وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: إذا قال أنتِ طالق ثنتين إلى ثنتين إنّه تقع ثنتان لما قلنا إنّه مجمل يحتمل أنّه جعل الابتداء هو الغاية، كأنّه قال من ثنتين إليهما.
ولو قال أنتِ طالق واحدة في ثنتين، إن نوى واحدة وثنتين أو نوى واحدة مع ثنتين يقع الثلاث، وكذلك إذا قال أنتِ طالق واحدة في ثلاث ونوى واحدة وثلاثاً، أو نوى واحدة مع ثلاث تقع الثلاث، وكذلك إذا قال أنتِ طالق ثنتين في ثنتين، ونوى ثنتين وثنتين أو ثنتين مع ثنتين تقع الثلاث، وإن لم يكن له نيّة أو نوى الضرب والحساب، ففي قوله واحدة في ثنتين تقع واحدة، لا غير. وفي قوله واحدة في ثلاث كذلك، وفي قوله ثنتين في ثنتين تقع ثنتان لا غير.
والحاصل أنَّ الواقع في جنس هذا المعروف لا غير عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله وهذا لأنَّ بالضرب لا يكبر الشيء في ذاته بل يكبر أجزاؤه ضرورة، فواحدة في ثنتين واحدة لها جزء وواحدة في ثلاث واحدة لها ثلاثة أجزاء، وإذا لم يكثر ذات الطلاق بقيت طلقة واحدة، فتقع طلقة واحدة لهذا.(3/593)
-----
ولو قال لها أنتِ طالق إلى الليل، أو إلى أشهر أو قال إلى سنة، فهو على ثلاثة أوجه إمّا أن ينوي الوقوع للحال ويجعل الوقت للامتداد وفي هذا الوجه يقع الطلاق للحال، وإما أن ينوي الوقوع بعد الوقت المضاف إليه، وفي هذا الوجه يقع الطلاق بعد مضي الوقت المضاف إليه إن لم يكن له نيّة أصلاً لا يقع الطلاق إلا بعد مضي الوقت المضاف إليه، عندنا، خلافاً لزفر رحمه الله، فإنّه يقول بوقوع الطلاق للحال وببطلان الغاية وقاسه على ما إذا جعل الغاية مكاناً، بأن قال لها أنتِ طالق إلى مكة أو إلى بغداد، وإن هناك تبطل الغاية ويقع الطلاق للحال كذا ها هنا.
وإنا نقول كلام العاقل لا يلغى ما أمكن العمل به، وقد أمكن العمل ها هنا بمجاز مكة إلى بغداد بحقيقتها. بيانه: وهو أنَّ كلمة إلى كما تذكر ويراد به الغاية يذكر ويراد بها بَعْد كقول الرجل في العرف والعادة أنا خارج من هذا البلد إلى عشرة أيام، ويريد به أنّه خارج بعد عشرة أيام فجعلنا مجازاً عن بَعْد فصار تقدير المسألة، كأنّه قال لها أنتِ طالق بعد شهر أو قال سنة، ولو صرّح بذلك لا يقع الطلاق إلا بعد مضيّ شهر كذا ها هنا، بخلاف قوله: إلى مكان كذا، فإنَّ هناك كما تعذر العمل بحقيقة كلمة إلى تعذر العمل بمجازها بجعلها عبارة عن بعد، لأنّه لو نصّ على البعد ثمة، فإن قال أنتِ طالق بعد مكة، أو بعد بغداد يقع الطلاق في الحال، وفي قوله بعد شهر لا يقع الطلاق في الحال، ولو قال لها أنتِ طالق إلى الصيف أو قال إلى الشتاء، فهذا وما لو قال إلى الليل أو إلى الشهر سواء، وكذلك إذا قال: إلى الربيع أو إلى الخريف.(3/594)
-----
وتكلّموا في معرفة هذه الفصول: قال بعضهم متى اتصل الحرّ على الدوام كان صيفاً، وإذا انكسر الحرّ ولم يتصل البرد كان خريفاً، وإذا اتصل البرد كان شتاءً وإذا انكسر البرد ولم يتصل الحرّ كان ربيعاً. قال بعضهم: الشتاء ما يحتاج فيه إلى الوقود والثوب المحشو، والصيف ما لا يحتاج فيه إلى البيان، ولا يحتاج فيه إلى الوقود والثوب المحشو.
وقال بعضهم: الصيف ما يكون (فيه) على الأشجار الأوراق والثمار، والخريف ما يكون (فيه) على الأشجار الأوراق، ولا يكون عليها الثمار، والشتاء ما لا يكون (فيه) على الأشجار الثمار ولا الأوراق، والربيع ما يخرج (فيه) من الأشجار والأوراق.
إذا قال لها أنتِ طالق في الدار أو في مكة طلقت، وإن لم يكن في الدار، ولا في مكة، وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق في الشمس وهي في الظلّ كانت طالقاً للحال: لأنه جعل هذه الأشياء ظرفاً للطلاق وإنهاءً وجعل الموجود ظرفاً يوجب الوقوع للحال، كجعل الموجود شرطاً.
وكذا إذا قال لها أنتِ طالق في ثوب كذا، وعليها ثوب آخر، فهي طالق وطريقه ما قلنا، ولو قال لها أنتِ طالق في ذهابك إلى مكة أو في دخولك دار فلان، أو في لبسك ثوب كذا لم تطلق حتى تفعل ذلك الفعل؛ لأنّه جعل طرف الطلاق شيئاً معدوماً فيعتبر بما لو جعل شرط وقوع الطلاق شيئاً معدوماً وهناك لا يقع الطلاق ما لم يوجد الشرط، كذا ها هنا.(3/595)
-----
ولو قال عنيت بقولي أنتِ طالق في الدّار أو في مكّة إذا أتيت مكّة إذا دخلت الدّار صدّق ديانة لا قضاء، ولو قال لها أنتِ طالق في صلاتك لم تطلق حتّى تركع وتسجد وقيل حتّى ترفع رأسها من السجدة حتّى توجد القعدة، ولو قال: في حيضتك أو في طهرك، فإن كان موجوداً وقع وإلا يقف على وجوده، ولو قال لها: أنتِ طالق في الغد أو قال غداً، ولا نيّة له يقع الطلاق حتّى يطلع الفجر من الغد، وإن قال نويت به الوقوع في آخر الغد فإنّه يصدّق فيما بينه وبين الله تعالى في الفصلين؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه لأنّه ذكر الكلّ، وأراد به البعض وهل يصدّق قضاءً؟ أجمعوا على أنّه لا يصدّق في قوله غداً.
واختلفوا في قوله في الغد قال أبو حنيفة رحمه الله يصدّق وقالا: لا يصدق لأنّه نوى خلاف الظاهر لأنّ الغد اسم من أوّل النهار فنيّة آخر النهار تكون بخلاف، ولأبي حنيفة رحمه الله أنَّ قوله: أنتِ طالق في الغد إيقاع في الغد، والطلاق لا يقع في جميع أجزاء الغد، وإنّما يقع في جزء منه، ففي أيِّ جزء وقع كان الواقع في الغد، فنيّة الجزء الآخر، وهو صالح للوقوع فيه لا يكون نيّة، بخلاف الظاهر بخلاف قوله غداً؛ لأنَّ هناك جعلها طالقاً غداً والغد اسم من أوّل النهار إلى آخره، فما لم يقع الطلاق في الجزء الأوّل لا تكون طالقاً من أوّل النهار إلى آخره، فإذا نوى آخر النهار، فقد نوى خلاف الحقيقة، وخلاف الظاهر.
وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق رمضان أو قال في رمضان، وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق شهراً أو في الشهر، ولو قال لها أنتِ طالق في رمضان، وهو على أوّل رمضان يأتي، وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق في يوم الخميس، فهو على أوّل خميس يأتي، ولو قال عنينا الرمضان الثاني لا يصدّق في القضاء؛ لأنّه خلاف (255ب1) الظاهر ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى، والله أعلم بالصواب.(3/596)
-----
الفصل الرابع عشر: في الشك في إيقاع الطلاق وفي الشك في عدد ما وقع وفي الإيجاب المبهم
إذا قال لامرأته أنتِ طالق أو لا شيء، أو قال أنتِ طالق واحدة أو لا شيء أو قال: أو لا، يقع واحدة عند محمّد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أوّلاً، ثمَّ رجع أبو يوسف رحمه الله، فقال: لا يقع شيء، وأمّا إذا قال أنتِ طالق ولم يذكر عدداً ثمَّ قال أو لا أو قال لا شيء، فإنْ قال أو لا، لا يقع شيء باتفاق الروايات. وإن قال: أو لا شيء ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقع شيء من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي حفص رحمه الله أنّه على الاختلاف الذي تقدم، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «مختلفاته» ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الجملة في «شرحه» وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمهما الله: إذا شكَّ أنه طلّق واحدة أو ثلاثاً، فهي واحدة حتّى يستيقن، أو يكون أكثر ظنّه على خلافه. وإن قال الزوج عزمت على أنها ثلاث، أو هي عندي على أنّها ثلاث، أضع الأمر على أشدّه، (فأخبره غد وأحضروا) ذلك المجلس، وقالوا كانت واحدة قال إذا كانوا عدولاً صدقهم وأخذ بقولهم. وعن هشام رحمه الله قال: سألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته، ولا يدري بثلاث حلف أو بواحدة، قال: يتحرّى الصواب فإن: استوى ظنّه عمل بأشد ذلك عليه.
ذكر في «القدوري»: إذا ضمَّ على امرأته ما لا يقع عليه الطلاق مثل الحجر والبهيمة، وقال: إحداكما طالق أو قال هذه طالق، أو هذه طلقت امرأته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمّد رحمه الله: لا تطلق؛ لأنّ كلمة أو إذا دخلت بين الشيئين توجب الشكّ، فصار في حقّ المرأة كأنّه قال لها أنتِ طالق أو غير طالق.
ولهما: أن الشّك إنّما يقع بحكم كلمة أو إذا صحّ ضم غير المنكوحة إلى المنكوحة والضمّ لم يصح ها هنا، لانعدام المحليّة في حقّ المضموم أصلاً فصارت المنكوحة متعينة للإيقاع.(3/597)
-----
ولو جمع بين منكوحته وبين رجل، وقال: إحداكما طالق، أو قال هذه أو هذه يقع الطلاق على منكوحته في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع: لأنّ الرجل ليس بمحلَ للطلاق، فكان كالبهيمة، ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الرجل محلّ إضافة الطلاق إليه، ألا ترى أنّه لو أضاف الإبانة إلى نفسه بأن قال لامرأته أنا منك بائن، ونوى الطلاق صحّ، والإبانة طلاق.g
وكذلك حكم الطلاق وهو الحرية ثبت في حقّه. وإذا جاز وصف الرّجل بالطلاق لم يكن الضمّ لغواً من كلِّ وجه، ولو ضمّ إلى امرأته امرأة أجنبيّة وقال إحداكما طالق، أو قال هذه طالق أو هذه لم تطلق امرأته إلا بالثلاثة لأنّ الأجنبيّة محلّ لذلك خبراً إن لم تكن محلاً له إنشاء، وهذه الصيغة حقيقة إخبار، فإذا كانت الأجنبيّة محلاً لما وضعت هذه الصيغة له من طريق الحقيقة صح الضمّ، فوقع الشك ولو قال في هذه الصورة طلقت إحداكما طلقت امرأته من غير نيّة، ذكره في طلاق «الأصل».
وفي «المنتقى»: إذا خاطب الرّجل غيره: امرأتي طالق أو بع عبدي هذا، فباع عبده يسقط الطلاق عن امرأته. وفيه أيضاً؛ إذا قال لامرأته أنتِ طالق أو أنا لست برجل، أو أنا غير رجل، فهي طالق وهو كاذب، ولو قال أنتِ طالق أو أنا رجل فهو صدق ولا تطلق، وفي موضع آخر منه لو قال لها: أنتِ طالق أو ما أنا برجل فهي طالق، وهذا منه على التهديد ولو قال أو هذه الأسطوانة من ذهب، والأسطوانة من ساج، فهي طالق كأنّه قال إن لم تكن من ذهب.
وفيه أيضاً: رجل أمَّرَ امرأتين قال لإحداهما أمرك بيدك أو هذه طالق، فأشار إلى الأخرى. فإن اختارت المفوضة إليها الأمر نفسها قبل أن تقوم من مجلسها بطل الطلاق عن الأخرى وإن قامت قبل أن تختار نفسها وقع الطلاق على الأخرى ذكر في «الأصل» فيمن كان له ثلاث نسوة، قال: هذه طالق (و) هذه وهذه طلقت الثالثة في الحال، ويخيّر الزوج بين الأولى والثانية.(3/598)
-----
وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمة الله عليهما أنَّ الثالثة لا تطلق للحال، ويخيّر الزوج بين الإيقاع على الأولى وبين الإيقاع على الثانية، والثالثة.
وفي «نوادر ابن سماعة» أيضاً: رجل له أربع نسوة، فقال: هذه طالق أو هذه وهذه أو هذه وقع على إحدى الأوليين إحدى والأخريين. ولو قال: هذه طالق أو هذه وهذه وهذه طلقت الثالثة والرابعة، وإليه الخيار في الأوليين، ولو قال هذه طالق وهذه أو هذه وهذه طلقت الأولى والرابعة، وله الخيار في الثانية والثالثة. وذكر هشام في «نوادره» عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لامرأته ولأجنبيّة إحداكم طالق واحدة والأخرى ثلاثاً وقعت الواحدة على امرأته.
قال محمّد رحمه الله في «الزيادات»: رجل له امرأتان رضيعتان فقال: إحداكما طالق ثلاثاً طلقت إحداهما، والبيان إليه، الأصل في هذا أنَّ إيقاع الطلاق في المجهول صحيح ويتعلّق نفاذه ووقوعه بالبيان، والطلاق يقبل التعليق بسائر الشروط، فيقبل التعليق بالبيان ويقع الموقع بالبيان لأنّ التجهيل كان منه، ولو أنّه لم يبن الطلاق في إحداهما حتّى جاءت امرأته وأرضعتهما معاً أو على التعاقب بانتا جميعاً، وهذه المسألة دليل على أنَّ الطلاق المبهم غير نازل في المحل أصلاً، إذ لو كان نازلاً كانت الأجنبيّة طارئة بعد بينونة إحداهما، وإنّها لا توجب الحرمة.
وذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» ما يدلُّ على أنَّ الطلاق المبهم نازل في المحلّ، فإنّه ذكر أنَّ رجلاً تحته أربع نسوة من الكوفيات لم يدخل بهنّ، فقال إحداكن طالق ثم تزوج مكيّة جاز نكاحها ولو لم يكن الطلاق المبهم نازلاً في حقّ المحلّ كان هذا تزوجاً بالخامسة، والتزوّج بالخامسة حرام.(3/599)
-----
واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا في المسألة روايتان، ورواية «الأصل» الطلاق المبهم نازل في المحل وعلى رواية «الزيادات» غير نازل في المحل، فعلى قول هذا القائل على رواية «الأصل» لا تقع الفرقة في مسألة الرضاع، وعلى رواية «الزيادات» تقع، وفي مسألة النكاح على رواية «الزيادات»: لا يجوز التزوّج بالمكيّة، وعلى رواية «الأصل» يجوز (256أ1) وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر في «الزيادات» قول أبي حنيفة رحمه الله فإنَّ الطلاق المبهم عنده غير نازل في المحل أصلاً كالعتاق المبهم، وما ذكر في «الأصل» قولهما فإنَّ الطلاق المبهم عندهما نازل في المحلّ، كالعتاق المبهم وعلى قول هذا القائل لا يجوز التزوّج بالمكيّة على قول أبي حنيفة رحمة الله عليه ولا تقع الفرقة في مسألة الرضاع على قول محمّد رحمه الله. وبعض مشايخنا رحمهم الله: قالوا الطلاق المبهم والعتاق المبهم لا ينزلان أصلاً بالاتفاق إلا أنْ يوجد من الموقع فعلاً يصير به موقعاً في العين، كما في العبدين لو باع أحدهما أو وهب أو تصدّق بالاتفاق.
وكما في الجاريتين إذا وطىء إحداهما عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، فإنَّ في هذه الصورة يصير موقعاً العتق في المعين بصيغته
إذا أثبت هذا، فنقول في مسألة النكاح وجد من الزوج فعل يستدل به على إيقاع الطلاق في المعين، وهو إقدامه على نكاح المكيّة، فإنَّ الظاهر من حال العاقل أن يقصد صحّة النكاح، ولا صحّة لنكاح المكيّة إلا بعد إيقاع الطلاق في إحدى الكوفيات فيصير موقعاً في إحدى الكوفيات.(3/600)
-----
أمّا في مسألة الرضاع لم يوجد من الزوج بعد قوله: إحداكما طالق فعل يستدل به على إيقاع الطلاق في إحداهما، فكان النكاح بائناً فيهما من كلِّ وجه، وبعضهم قالوا الطلاق المبهم نازل في المحل في حقّ معنى يرجع إلى الموقع ويختص به، غير نازل في المحلّ في حقّ معنى يرجع إلى المحل ويختص به، والعتاق المبهم كذلك وهو الأصح، وهذا لأنّه لا تنكير من جانب الموقع، وإنّما التنكير من جانب المحل فكل حكم يختص بالموقع فالطلاق واقع فيه.
إذا ثبت هذا فنقول: حلّ التزوّج بالمكيّة حكم يختص وكل حكم يختص بالمحل فالطلاق غير واقع فيه إذا ثبت هذا فنقول حلّ التزوّج بالمكيّة حكم يختص بالموقع، فكان الطلاق المبهم نازلاً فيه، فهذا تزوّج بالرابعة لا بالخامسة، وأمّا جهة الأختين جمعاً حكم يختص بهما لأنّه إنّما حرم الجمع بين الأختين صيانة لهما عن قطيعة الرحم، والطلاق المبهم غير نازل في حقهما، فيصير جامعاً بين الأختين وعن (هذا) قلنا إن العدّة في الطلاق المبهم تعتبر من وقت البيان، حتّى إنّه إذا كانت له امرأتان دخل بهما أو أكثر من ذلك، فطلق إحداهما بغير عينها ثم إنه عين الطلاق في إحداهما فإنّه تعتبر العدّة من وقت التعيين؛ لأنَّ العدّة حكم يختص بالمحل، والطلاق المبهم غير نازل في حقّ حكم يختصّ بالمحل.
قال في «الزيادات»: رجل تحته حرّة وأمة قد دخل بهما، فقال إحداكما طالق ثنتين ثمّ عتقت الأمة، ثمَّ بيّن الزوج الطلاق والمعتقة قال تحرم حرمة غليظة، ولا يبطل ميراثها إذا كان الإعتاق في حالة الصحّة، والبيان في حالة المرض.
واعلم بأنَّ البيان في الإيجاب المبهم إنشاء من وجه إظهار من وجه إنشاء في حقّ حكم يرجع إلى المحلّ ويختص به؛ لأنَّ الإيجاب المبهم غير نازل في حقّ المحلّ أصلاً على أصح الأقوال، فكان البيان إظهاراً في حقّه.(3/601)
-----
إذا ثبت هذا، فنقول: الميراث حكم يختص بالمرأة، فاعتبر البيان فيه إنشاءً فصار الزوج فارّاً فأمّا حرمة الغليظة حكم يختصّ بالزوج، فاعتبر البيان فيه إظهار إمكان الطلاق واقعاً على الأمة، والأمة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين ثمَّ إذا قربت المعتقة كان لها ربع الميراث، وللحرة الأصلية ثلاثة أرباع الميراث لأنّ البيان من الزوج في حقّ الميراث لم يصح، فيحال كأنّه لم يكن، ولو عدم البيان كان الميراث ها هنا أرباعاً؛ لأنّه إن وقع الطلاق على الحرة الأصلية كان للحرة الأصلية نصف الميراث، لأنها لا تبين بالطلقتين فيكون نصف الميراث لها والنصف للمعتقة وإن وقع على المعتقة كان للحرّة الأصلية كلّ الميراث، فنصف الميراث ثابت لها بيقين، والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فينتصف، فصار للحرّة الأصلية ثلاثة أرباع الميراث لهذا، وعلى الحرّة الأصلية عدّة الوفاة لا يعتبر فيها الحيض، وعلى المعتقة أربعة أشهر وعشر يستحمل فيها ثلاث حيض، وهما عند أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله بناء على أنَّ امرأة الفار تعتد بأبعد الأجلين عندهما.
وأمّا عند أبي يوسف رحمه الله امرأة الفار تعتد بعدّة الطلاق لا غير فتجب على المعتدة عدّة الطلاق لا غير، فكان ينبغي أن لا يعتبر في حقّها ثلاث حيض؛ لأنَّ اعتبار شبه الإظهار عليها حيضتان؛ لأنَّ الطلاق كان في حالة الرّق، وباعتبار شبه الإنشاء عليها عدّة الوفاة، فثلاث حيض من أين تجب.
ولو كانتا أمتين فقال الزوج إحداكما طالق ثنتين، ثمَّ أعتقا جميعاً ثمَّ مرض، وبين الطلاق في إحداهما فإنها تحرم حرمة غليظة لما بيّنا، والميراث بينهما نصفان؛ لأنَّ البيان في حق الميراث كالمعدوم، ولو عدم البيان كان الميراث بينهما؛ لأنَّ إحداهما وارثة بيقين وهي التي ارتفع عليها الطلاق، والأخرى ليست وارثة بيقين، وهي التي وقع عليها الطلاق، وليست إحداهما أولى من الأخرى، فتكون بينهما.(3/602)
-----
وعلى المعتقة للطلاق أربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض احتياطاً، وعلى الأخرى أربعة أشهر لا حيض فيها؛ لأنَّ زوجها مات عنها، وهي منكوحة.
رجل تحته امتان لرجل، فقال المولى إحداكما حرة، ثمَّ قال الزوج التي أعتقها المولى طالق ثنتين كان البيان إلى المولى لا إلى الزوج؛ لأنَّ الأصل في هذا المولى؛ لأنَّ الزوج بيّن إيقاع الطلاق على إعتاق المولى، وإذا بين المولى العتق في إحداهما طلقت هي ثنتين ويملك الزوج مراجعتها؛ لأنَّ الطلاق إنّما يقع عليها بعد العتق؛ لأنَّ الزوج هكذا أوقع، فصادفها الطلاق هي حرّة والحرّة لا تحرم حرمة غليظة بتطليقتين.
ولو كان الزوج هو الذي بدأ، فقال إحداكما طالق ثنتين، ثمَّ قال المولى التي طلقها الزوج حرّة فها هنا خيار البيان إلى الزوج؛ لأنَّ الزوج صاحب أصل وإذا بين الزوج الطلاق في إحداهما عتقت وحرمت حرمة غليظة، لأنَّ الطلاق صادفها وهي أمة فتحرم حرمة غليظة، وتعتد بحيضتين.
رجل تحته أمتان لرجل قال المولى إحداكما حرّة، ثمَّ قال الزوج التي أعتقها المولى طالق ثم مات المولى قبل البيان عتق من كلِّ واحدة منهما نصفها؛ لأنَّ بيان العتق قد فات لموت المولى ويشيع العتق فيهما، ثمَّ يخير الزوج في الطلاق يوقعه على أيهما شاء وإن كان الزوج صاحب تبع؛ لأنَّ البيان في حقّ صاحب الأصل مات على وجه لا يرجى وجوده، ولا يمكن إلغاء الطلاق لصدوره من أهله في محلّه، ولا يمكن القول بشيوع الطلاق؛ لأنَّ الطلاق لا يقبل الشيوع، فمسّت (256ب1) الضرورة إلى جعل البيان إلى الزوج.(3/603)
-----
وهذا بخلاف ما لو غاب المولى فإنَّ هناك لا يؤمر الزوج بالبيان لأن هناك لا ضرورة؛ لأنّه لم يقع اليأس عن بيان صاحب الأصل، ولا كذلك فصل الموت، ولو كان الطلاق ثنتين هل يحرم حرمة غليظة؟ لم يذكر هذا الفصل محمّد رحمه الله في «الكتاب»، وقد اختلف المشايخ فيه، وحكى الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله؛ أنها لا تحرم؛ لأنَّ الطلاق صادفها وهي حرّة؛ لأنَّ العتق سار فيهما لموت المولى، وغيره من المشايخ قال على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يحرم حرمة غليظة خلافاً لهما؛ لأنَّ العتق وإن شاع فيهما إلا أنّه عتق من كلِّ واحدة منها نصفها والعتق عند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ؛ فكانت كلّ واحدة منهما معتق البعض ويعتق البعض في معنى المكاتب، فصادفها الطلاق وهي كاتبة، والمكاتبة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين.
قال محمّد رحمه الله في «الجامع»: إذا كان للرجل امرأتان دخل بهما، فقال لهما أنتما طالقان طلقت كل واحدة منهما تطليقة رجعية، فإن لم يراجع واحدة منهما حتّى (قال) لهما إحداكما طالق ثلاثاً كان له البيان، وإن لم يبين حتّى انقضت عدّة إحداهما تعيّنت الثانية للثلاث؛ لأنَّ التي انقضت عدّتها خرجت من أن تكون محلا للبيان؛ لأنَّ البيان إيقاع من وجه، وإظهار للواقع من وجه، وأيُّ الأمرين اعتبرنا يجب أن يشترط لصحّة البيان قصداً ما يشترط لصحة الإيقاع إن اعتبرناه إيقاعاً فظاهر، وإن اعتبرناه إظهاراً للواقع فلأنَّ ولاية الإظهار إنما تستفاد بولاية الإيقاع على ما عرف، والتي انقضت عدتها ليست بمحلّ للإيقاع ابتداء، فلا يكون محلاً للبيان، فتتعيّن الأخرى للثلاث، وإن انقضت عدتهما معاً لم تقع الثلاث على واحدة منها.(3/604)
-----
قالوا: أراد به أن لا تقع الثلاث على واحدة منهما بعينها، وإما يقع الثلاث على واحدة منهما لا بعينها، ثمَّ قال: وليس له أن يوقع الطلاق على واحدة منهما بعينها، قالوا أراد به ذلك أنّه ليس له أن يوقع على واحدة منهما بعينها مقصوداً بالبيان، أما له ذلك حكماً للنكاح بأن يتزوّج إحداهما بعد انقضاء العدّة، ولو انقضت عدتهما ثمَّ أراد أن يتزوّج بهما معاً لم يجز؛ لأنّ إحداهما مطلقة بالثلاث لا تحل له إلا بعد زوج آخر، وغير المطلقة غير معلوم والنكاح في المجهولة لا يجوز. ولو تزوّج بإحداهما جاز وتتعيّن الأخرى للطلقات الثلاث أمّا جواز نكاحها؛ لأنَّ المقتضي لحلّ المحليّة موجود في حقها وهو كونها أنثى من بنات آدم عليه السلام والمزيل، وهو الطلقات الثلاث لا ندري هل صادفت هذه أم لا. وإذا جاز نكاح هذه تعيّنت الأخرى للثلاث ضرورة؛ لأن من ضرورة صحة نكاح هذه انتفاء الثلاث عن هذه، ومن ضرورة انتفاء الثلاث عن هذه تتعيّن الأخرى للثلاث.
وقد ملك البيان ضرورة. وإن كان لا يملكه مقصوداً، ومثل هذا جائز ولو لم يتزوّج واحدة منهما حتّى تزوجت إحداهما زوجاً، ودخل بها ثمَّ فارقها أو مات عنها، وانقضت عدّتها ثمَّ نكحهما الأوّل جميعاً جاز؛ لأنَّ الزوج الثاني عرف محلّلاً بالكتاب، ويحتمل أنّه أصاب محلا ثبتت فيه الحرمة وقع الشك في بقاء ذلك التحريم، ودليل الحلّ موجود قطعاً، فلا يمتنع عمل دليل الحلّ الموجود قطعاً عند وقوع الشكّ في بقاء المانع، وكذلك لو انقضت عدّتها ثمّ ماتت إحداهما، فتزوّج الثانية جاز نكاحها؛ لأنّه لم يوجد في الميتة ما يوجب تعينها للواحدة حتّى تتعيّن الحيّة للثلاث؛ لأنَّ الموت كما يحل المطلقة بالواحدة يحلّ المطلقة بالثلاث، بخلاف ما إذا كانتا حيتين وتزوّج بإحداهما؛ لأن النكاح لا يصحّ إلا في المطلقة بواحدة فتعيّنت المتزوّجة للواحدة.(3/605)
-----
قال في «الزيادات»: رجل تحته أمتان لرجل لم يدخل بها، فقال: إحداكما طالق ثنتين ثمَّ اشترى إحداهما تتعيّن الأخرى للطلاق؛ لأن المشتراة خرجت من أن تكون محلاً لإنشاء الطلاق لزوال ملك النكاح عنها، لوجود ملك اليمين المنافي لملك النكاح فخرجت من أن تكون محلاً للبيان، فتتعيّن الأخرى للطلاق كما لو ماتت إحداهما. ولو اشتراهما معاً يبقى الطلاق منهما مجملاً، ولا يملك الزوج البيان في إحداهما؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تبق محلا للبيان، ولو وطىء إحداهما بملك اليمين تعينت الأخرى للطلاق؛ لأنَّ حمل أمره على الصلاح واجب، وذلك بحمل وطئه على الحلال وذلك بانتفاء الطلاق عنها لأنَّ الأمة المطلقة بتطليقتين كما لا تحل بملك النكاح لا تحل بملك اليمين، ومن ضرورة انتفاء الطلاق عنها تعيين الأخرى للطلاق، فقد ملك البيان ضرورة وإن لم يملك قصداً، وقدّم نظيره من مسألة «الجامع».
قال في «الزيادات» أيضاً: رجل قال لامرأتين له في صحّته وقد دخل بهما إحداكما طالق ثلاثاً، ثمَّ مرض مرض الموت وبين الطلاق في إحداهما، ثمَّ مات قبل انقضاء عدّة المطلقة، فإنّهما ترثان وهذا لما ذكرنا قبل هذا أنَّ البيان في حقّ حكم الميراث بمنزلة الإنشاء، فيصير الزوج به فارّاً كما لو أنشأ الطلاق في حالة المرض.(3/606)
-----
وإن كانت له امرأة أخرى غيرهما لم يقل لها شيئاً من ذلك كان نصف الميراث لتلك المرأة؛ لأنّه لا يزاحمها في الميراث من هاتين المرأتين إلا واحدة، والنصف الآخر بين هاتين بالسويّة لعدم الإقدامية، وإن لم يبيّن الزوج الطلاق في إحداهما حتّى ماتت إحداهما والزوج مريض، فإنّه تتعيّن الأخرى للطلاق ضرورة ولا ترث، وإن كان البيان إنشاء في حقّ المحلّ؛ لأنَّ البيان ها هنا حصل حكماً لا بصنع من جهة الزوج، فلا يصير الزوج فارّاً وإن كانت له امرأة أخرى كان لها كلُّ الميراث؛ لأنَّ الميتة صارت محرومة عن الميراث بالموت، والحيّة صارت محرومة بوقوع الطلاق عليها نحو ما قلنا فكان كلّ الميراث للأخرى إن كانت، وإن لم تمت واحدة منهما حتّى عيّن الزوج الطلاق في إحداهما في مرض موته، ثمَّ ماتت إحداها قبل موته ولا زوجة له غيرهما، فإن كانت التي ماتت هي التي أوقع عليها الطلاق كان الميراث كلّه للأخرى. وإن كانت التي ماتت هي الأخرى وتعيّنت التي عين الطلاق فيما كان للمعيّنة نصف الميراث، والفرق أنّ الزوجيّة التي هي (257أ1) سبب الإرث قد انقطعت في حقّ المعينة بحكم البيان، ولهذا حرّم الوطء، ولكن قامت العدّة مقام الزوجيّة في حقّ الميراث بخلاف القياس في القدر الذي كان لها، وذلك النصف أمّا في حقّ غير المعيّنة الزوجيّة قائمة من كلّ وجه، وإنها سبب لاستحقاق جميع الميراث إلا أن بحكم المزاحمة كان لها نصف الميراث، وقد زالت المزاحمة ها هنا فتستحق جميع الميراث، وإن كانت للزوج امرأة أخرى لم يقل لها شيئاً من هذه المقالة ففيما إذا ماتت المعيّنة للطلاق كان الميراث بين الباقيتين نصفين، وفيما إذا بقيت المعينة للطلاق كان للمعينة ربع الميراث، وللأخرى ثلاثة أرباع الميراث.(3/607)
-----
ولو قال لامرأتين له إحداكما طالق، وماتت إحداها قبل البيان حتّى تعيّنت الأخرى للطلاق، قال الزوج: عنيت الميتة بالطلاق لا يقبل قوله في حقّ صرف الطلاق عن الباقية، وقبل قوله في حقّ إبطال حقّه في ميراث الميتة.
وكذلك إذا ماتتا جميعاً إحداهما بعد الأخرى، ثمَّ قال عنيت التي ماتت أوّلاً لم يَرث منهما؛ لأنَّ ميراثه عن الثانية سقط لتعيّنها للطلاق حكماً بموت الأولى، وعن الأولى سقط باعترافه، ولو ماتتا معاً أو إحداهما قبل الأخرى ولا يعرف التي ماتت أوّلاً ورث عن كلِّ واحدة نصف ميراثه عنها باعترافه، ويَرث عن الأخرى نص ميراث زوج. ولو قال أردت إحداهما بعينها سقط ميراثه عنها باعترافه ويرث عن الأخرى نصف ميراث زوج.
ولو طلق الزوج واحدة بعينها، ثمَّ قال أردت بهذا الطلاق التعيين كان القول قوله لأنّ التعيين والإنشاء في الصيغة واحد، فكان اللفظ محتملاً لما ادعاه، فقبل قوله، ولو قال لامرأتين له، وقد دخل بهما: إحداكما طالق واحدة، والأخرى ثلاثاً، ولا نية له في واحدة منهما، وله أن يوقع الثلاث على أيّهما شاء ما دامتا في العدّة، وإذا انقضت عدتهما ليس له أن يوقع الثلاث في إحداهما بعينها، وإن انقضت عدّة إحداهما بانت هي بواحدة والأخرى طالق ثلاثاً؛ لأنه إنّما يحتاج إلى إثبات ولاية البيان في حقّ الثلاث دون الواحدة، لوقوع الواحدة على كلّ واحدة منهما، فإن المطلقة بالثلاث تكون مطلقة بالواحدة، أمّا المطلقة بالواحدة لا تكون مطلقة بالثلاث صحّ أن الحاجة إلى إثبات ولاية البيان في حقّ الثلاث دون الواحدة، وإذا انقطعت ولاية البيان في حقّ التي انقضت عدتها تعينت الأخرى للثلاث التي يحتاج إلى إثبات ولاية البيان فيها وإن لم يكن دخل بهما وباقي المسألة على حالها، فليس له أن يوقع الطلاق على إحداهما، فإن تزوّج بإحداهما في هذه الصورة جاز، وليس له أن يتزوّج بالأخرى.(3/608)
-----
قال أبو يوسف رحمه الله: إنّي علمت أنَّ الثلاث وقع على إحداهما، وليس له أن يجمعهما قال: ولا أقول إنَّ التي لم تتزوّج وقع عليها الثلاث.
ولو طلّق امرأة من نسائه بعينها ثلاثاً ثمَّ مسها لم يحل له وطء واحدة حتّى يعلم التي طلّق؛ لأنّ كلّ واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المحرمة، وكذلك لا يحمل لواحدة منهن التزوج بغيره لأنّ كلّ واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المنكوحة، ولو رافعنه إلى القاضي وطلبن منه النفقة، قضي بنفقتهن وحبسه حتى يبيّن التي طلقت منهن.
وفي «المنتقى»: القاضي يقول له: أوقع الطلاق على أيّهن شئت، واحتلف للباقيات إن ادعين ذلك، فإن قال: لا أدري ولم يوقع على واحدة حلّفه القاضي لكلّ واحدة منهن بالله ما هي المطلقة ثلاثاً إن ادعت كلّ واحدة منهن أنها هي المطلقة، وإن نكل لهن فرق بينه وبينهنّ بثلاث تطليقات وإن حلف لهنَّ بقي الأمر على ما كان قبل الدعوى؛ لأنّ القاضي يتقي بمجازفته في هذه الأيمان؛ لأنّه عرف وقوع الطلاق على واحدة منهن والطلاق متى وقع لا يرتفع باليمين.
وعن محمّد رحمه الله أنه إذا حلف للثلاث منهن تعيّنت الرابعة للثلاث، ولا يحلف لها. وعن محمّد فيما إذا كانتا امرأتين أنّه إذا حلف لإحداهما طلقت التي لم يحلف لها؛ لأنّ يمينه محمولة على الصدق، ومن ضرورة حمل يمينه على الصدق تعيّن الأخرى للثلاث.j(3/609)
-----
ولو لم يحلف للأولى طلقت واحدة منهن، وإن تشاحا على اليمين حلّفته لهما بالله ما طلقت واحدة منهما، وإنّما كانت لهما المشاحة في اليمين؛ لأنّ لهما في ذلك فائدة، فإنّه إذا نكل للأولى تتعيّن الأخرى للطلاق وصارا شيوعاً في السبب، وهو الدعوى فأمكن إبقاء حقّ كلّ واحدة منهما معاً بأن يحلف بالله ما طلق واحدة منهما، فكان لهما في المشاحة فائدة من هذا الوجه، فكان لهما أن يتشاحا على اليمين، وإن حلف لهما يوجب عنهما حتّى يبين لما مرّ، فلو أنّه وطىء إحداهما فيما إذا كانتا امرأتين قبل المرافعة إلى القاضي وقبل العلم بالمطلقة مع أنه ليس له ذلك تتعيّن الأخرى للطلاق.
وكذلك إذا وطىء الثلاث فيما إذا كانت له أربع نسوة قبل العلم بالمطلقة تتعين الرابعة للطلاق؛ لأنّ فعل المسلمين محمول على الصلاح وإنّما يكون وطؤه محمولاً على الصلاح إذا كانت الموطوءة منكوحة، ومن ضرورته تعيّن الأخرى للطلاق هذا كلّه بيان حكم القضاء.
وأمّا بيان الحكم فيما بينه وبين الله تعالى إنّه ينبغي له أن يطلّق كلّ واحدة منهنّ واحدة ويتركهن؛ لأنّ في إمساكهنّ إضرار بهنّ، لأنّه لا يجوز له قربانهنّ لأنّ إحداهن مطلقة ولو تركهنّ بغير طلاق لم يحل لها التزوّج بزوج آخر؛ لأن إحداهما في مسألة المرأتين والثلاث في مسألة الأربع ليست بمطلقة، وبعدما طلقهنّ لا ينبغي له أن يتزوّج واحدة منهنّ، حتّى تعلم المطلقة ثلاثاً، وإن تزوّج واحدة منهما في مسألة المرأتين أو الثلاث في مسألة الأربع تتعين الأخرى والرابعة للطلاق.
وإن تزوّج واحدة منهنّ فخاصمته إلى القاضي في الطلاق، أو لم تخاصمه حلّفه القاضي لها، فإن حلف أمسكها، وكذلك لو تزوّج ثنتين أو ثلاثاً، فلو أنّه بعد ما طلقهنّ تزوجن أزواجاً غيره، ودخل بهنّ أزواجهنّ ثمَّ فارقهن نكح أيّهن شاء. وإن تزوجت واحدة منهنّ زوجاً غيره ودخل بها الزوج وفارقها، فأراد الأوّل أن يتزوّج الكلّ له ذلك، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدّم.(3/610)
-----
الفصل الخامس عشر: في إيقاع الطلاق بالمال
قال محمّد رحمه الله في «الأصل»: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق بألفّ (257ب1) درهم، فقبلت طلقت وعليها ألف درهم لأنّ هذا خطاب مبادلة لأنّ حرف الباء يصحب الأبدال، فقد جعل الألف بدلاً عن الطلاق، وإنّه يصلح بدلاً والطلاق يصلح مبدلاً فهو معنى قولنا إنَّ هذا خطاب مبادلة والمبادلة تتمّ في حقّ وجوب العوضين بالإيجاب والقبول كما في البيع.
وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق على ألف درهم؛ لأنّ كلمة على تستعمل لإيجاب البدل في المعاوضات بمنزلة حرف الباء يقول الرجل لغيره: بعت منك هذا، وعليك ألف درهم أخذت منك هذا، وعليك درهم وكان معناه بألف درهم، وهذا بخلاف قوله إن أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، إن جئتني بألف درهم فأنتِ طالق، إن أديت إليّ ألف درهم فأنتِ طالق، إذا أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، متى أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، حيث لا يقع الطلاق ما لم يوجد الأداء؛ لأنّ هذا تعليق بالشرط صريحاً والتعليق بالشرط عدم قبل وجود الشرط، بخلاف قوله: على ألف درهم على ما مرّ.
وكذلك إذا قال أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم، فقبلت يقع الطلاق، بمنزلة ما لو قال أنتِ طالق على ألف درهم؛ لأنّ هذا إيجاب الطلاق بجعل، وليس بتعليق بشرط الإعطاء بمنزلة قوله بعت منك هذا العبد على أن تعطيني ألف درهم فيكتفى بقبولها لوقوع الطلاق، فعلى هذا إذا قال بالفارسيّة براطلاق بشرط أنّك فلان خير عن دهي، أو قال بان شرط كي فلان خير عن دهي، فقبلت يقع الطلاق.(3/611)
-----
ثمَّ في قوله: إن أعطيتني ألف درهم، إن جئتني بألف درهم، إنّما يقع الطلاق بالإعطاء إذا وجد الإعطاء في المجلس؛ لأنّ هذا الكلام تعليق صورة، ومعاوضة معنى، لأنّ الطلاق لا يقع إلا بمال، وهذا هو حدّ المعاوضة فاعتبرنا معنى التعليق، فقلنا لا يقع الطلاق إلا بعد وجود الإعطاء اعتبرنا معنى المعاوضة، فقصرنا بالإعطاء على المجلس. وفي قوله: متى أعطيتني يقع الطلاق إذا وجد الإعطاء في المجلس أو خارج المجلس.
وإذا قال لامرأته أنتِ طالق وعليك ألف درهم فقبلت أو قال لعبده أنت حر، وعليك ألف درهم فقبل عتق العبد، وطلقت المرأة، فلا شيء عليهما في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله على كلّ واحد منها ألف درهم؛ لأنّ قوله: وعليك ألف درهم يستعمل في معنى المعاوضة فقال: أحمل هذا المتاع إلى منزلك، وعليك ألف درهم، أخيط هذا الثوب لك، وعليك درهم بعتك هذا الثوب وعليك درهم فكان بمنزلة قوله بدرهم، فصار تقدير مسألتنا أنتِ طالق بألف درهم.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الواو قد تجيء بمعنى العطف وقد تجيء بمعنى الابتداء، فلو حملناه على العطف يجب المال، ولو حملنا على الابتداء لا (فلا) يجب بالشك، وفي البيع والإجارة حمل على العوض بدلالة العقد فإن كلّ واحد من العقدين معاوضة، فذكرهما يكون ذكر العوض. وقوله: وعليك ألف درهم يكون بياناً لذلك، وفي مسألة الحمّال والخيّاط حمل على العوض؛ لأنَّ مثل هذا العمل عرفاً لا يعمل إلا بعوض وأمّا الطلاق قد يوقع بعوض، وقد يوقع بغير عوض.(3/612)
-----
على هذا الخلاف إذا قالت المرأة للرجل طلقني ولك ألف درهم وطلقها، فلا شيء له في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما ولو قالت: طلقني ولك ألف درهم، فقال الزوج أنتِ طالق على ألف التي سمّيت فإن قبلت لزمها المال ووقع الطلاق، وإن لم تقبل لا يقع الطلاق، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما يقع الطلاق وتجب الألف قبلت أو لم تقبل، ولو قال لها: أنتِ طالق بألف درهم على أنّي بالخيار، أو على أنك بالخيار ثلاثة أيّام فقبلت، فالخيار باطل إذا كان للزوج، وهو جائز إذا كان للمرأة، فإن ردّت المال ارتد الطلاق. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: الخيار باطل في الوجهين جميعاً.
وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم، فطلقها واحدة وقعت واحدة بثلث الألف، ولو قالت طلقني ثلاثاً على ألف، فطلقها واحدة وقعت واحدة رجعيّة بغير شيء، وهذا قول أبي حنيفة رحمة الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمة الله عليهما تقع واحدة بائنة بثلث الألف، فأبو يوسف ومحمّد رحمهما الله قاسا كلمة على حرف الباء حيث إن كلّ واحد منهما يستعمل في المعاوضات استعمالاً واحداً يقول الرّجل لغيره: بعت منك بألف درهم وبعت منك على ألف درهم.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول كلمة على للشرط في وضع اللغة، وأمكن العمل بحقيقتها في باب الخلع؛ لأنَّ تعليق بدل الطلاق جائز نفياً للطلاق؛ لأنّ البدل يكون تبعاً للبدل في المبادلات، كالثمن تبع للمثمن فإذا صحّ تعليق بدل الخلع تبعاً للطلاق، جعلنا وجود الألف معلّقاً بإيقاع الثلاث فما لم يوجد إيقاع الثلاث، لا يوجد الشرط بكماله فلا ينزل شيء من الجزاء فأمّا في باب البيع والإجارة فالعمل بحقيقة الشرط غير ممكن؛ لأن كل واحد من البدلين في باب البيع والإجارة لا يقبل التعليق فجعل على مجازاً عن حرف الباء، والبدل ينقسم على المبدل إذا كان متعدّداً.(3/613)
-----
وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني وضرتي على ألف درهم فطلّق ضرتها أو طلقها تجب نصف الألف إذا كان مهر مثلهما على السواء، كما لو قالت طلقني وضرتي بألف درهم، وإن كان مهر مثلهما على التفاوت تجب حصّة المطلقة من الألف.
من مشايخنا من قال: هذا على قولهما أمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجب شيء، ومنهم من قال هذا قول الكل، والأوّل أصح.
وأمّا إذا قالت طلقني وضرتي على ألف عليّ فطلق إحداهما، فلا رواية في هذه الصورة ولقائل أن يقول: يلزمها حصّتها من الألف. ولقائل أن يقول: لا يلزمها شيء من الألف ما لم يطلقها على ألف درهم أو بألف، فطلق إحداهما جملة.
وإذا كانت للرجل امرأتان سألتاه أن تطلقهما على ألف درهم أو بألف، فطلّق إحداهما لزم المطلقة حصتها من الألف وإن طلّق الأخرى لزمها حصتها أيضاً إذا كان طلقها في المجلس، ثمَّ في قوله: طلقني ثلاثاً بألف درهم إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجلس واحدة القياس أن يقع تطليقة بثلث الألف والأخريان بغير شيء، وفي الاستحسان يقع ثلاث تطليقات (258أ1) بألف درهم، وحسب القياس أنّه لمّا طلقها واحدة وقعت واحدة بثلث الألف وبانت منه، فحين طلقها الثانية والثالثة طلقها وهي بائنة، فتقع الثانية والثالثة بغير (شيء) كما لو طلقها الثانية والثالثة بعدما تفرقا عن المجلس.
وجه الاستحسان أنَّ إيقاع الثلاث وجد في لفظة واحدة من حيث الحكم، لما عرف أنَّ المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة حكماً، فيعتبر بما لو حصل إيقاع الثلاث في لفظة واحدة من حيث الحقيقة، وهناك جميع الألف فها هنا كذلك.
من مشايخنا من قال: ما ذكر من جواب الاستحسان محمول على ما إذا وصل الطلقات بعضها ببعض، أمّا إذا فصل بين كلّ طلقة بسكوت لا تجب جميع الألف وإن حصل الإيقاع في مجلس واحد.(3/614)
-----
واستدل هذا القائل بما ذكر محمّد رحمه الله في باب المشيئة إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً إن شئت فقالت: شئت واحدة وواحدة وواحدة موصولاً يقع الثلاث، وتصير كأنها قالت شئت الثلاث، ولو قالت شئت واحدة وسكتت ثمَّ قالت وواحدة وسكتت ثمَّ قالت وواحدة وسكتت فإنه لا يقع وإن كان المجلس واحداً واعتبر مع اتحاد المجلس الوصل، فكذا ها هنا. ومنهم من يقول إذا كان المجلس واحداً لا يشترط الوصل.
واستدل هذا القائل بما ذكر محمّد رحمه الله بعد هذه المسألة. إذا قالت المرأة للزوج سألتك أن تطلقني ثلاثاً بألف درهم، فطلقتني واحدة فلك ثلث الألف، وقال الزوج لا بل طلقتك ثلاثاً ولي عليك جميع الألف، فالقول قول الزوج إذا كانا في المجلس يعني في مجلس السؤال فقد اعتبر باتحاد المجلس، ولم يعتبر الوصل في التطليقات وهذا القائل يفرق بين هذه المسألة وبين مسألة المشيئة، وهو الصحيح. ووجه ذلك قولها شئت واحداً إذا سكتت عقيبها لم يصلح جواباً لبعض ما فوّض إليها الزوج، ألا ترى أنّه لم يقع بها شيء، فجعل ذلك منها إعراضاً عمّا فوّض إليها الزوج، فبطل التفويض أصلاً.
أما قول الزوج طلقت واحدة في مسألتنا صلح جواباً لبعض ما طلبت منه، ولهذا وقع تطليقة بثلث الألف، ولم يكن ذلك من الزوج إعراضاً عمّا طلبت منه، فبقي طلب الثانية والثالثة على حاله فصحّت الثانية والثالثة إذا كان المجلس واحداً.
وفي قولها: طلقني ثلاثاً على ألف درهم. إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً إن طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجلس واحد، فالمسألة على قولهما على القياس والاستحسان كما في حرف الباء، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقع ثلاث تطليقات فما قياساً واستحساناً؛ لأنَّ عنده في هذه الصورة تقع الأولى، والثانية رجعيتان، فتقع الثالثة وهي منكوحة فتستوجب عليها الألف عند وقوع الثالثة قياساً واستحساناً، بخلاف حرف الباء لأنّ هناك تقع الأولى بثلث الألف وتبين منه.(3/615)
-----
فأمّا إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجالس مختلفة فعلى قولهما يجب ثلث الألف كما في حرف الباء، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يستوجب عليها شيئاً، وهذا لأنَّ أبا حنيفة رحمه الله وإن اعتبر كلمة على الشرط في هذه الصورة، حتّى لم يقل بوجوب شيء من الألف بدون إيقاع الثلاث إلا أنَّ معنى المعاوضة فيها ظاهر على ما مرّ، فيجب اعتباره، فاعتبرناه في اشتراط اتحاد المجلس بصحّة الإيجاب والقبول. والجواب في قولها طلقني ثلاثاً علي أنَّ لك على ألف درهم نظير الجواب في قولها طلقني ثلاثاً على ألف درهم.
وإذا طلقها واحدة على مال، وقبلت ثمَّ طلقها أخرى على مال إن قبلت يقع عليها أخرى بغير شيء؛ لأنّها لم تملك نفسها من جهة الزوج بهذا الطلاق، فلا يلزمها المال.
ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق عشراً بمائة دينار، فقبلت فهي طالق ثلاثاً بمائة دينار. وعنه أيضاً في رجل قالت له امرأته طلقني سبعين تطليقة بمائة دينار، فقال طلقت فهي طالق ثلاثاً بمائة دينار. وعن أبي يوسف رحمه الله في امرأة قالت لزوجها طلقني أربعاً بألف درهم، فطلقها ثلاثاً قال هي بألف درهم، ولو طلقها واحدة فهي بثلث الألف.
وفي «الأصل» في امرأة قد كان طلقها زوجها اثنتين، قالت لزوجها طلقني ثلاثاً على أنَّ لك ألف درهم فطلقها واحدة لزمها الألف كلها، والأصل في هذه المسائل وأجناسها إذا التزمت مالاً بمقابلة طلاق يقع، وبمقابلة طلاق لا يقع يجعل الكلّ بمقابلة طلاق يقع، كما لو قالت له: طلقني وهذا الحمار بألف درهم وطلقها، فإنّه يجب عليه جميع الألف.(3/616)
-----
وفي «القدوري»: إذا قالت المرأة لزوجها طلقني واحدة بألف، فقال لها: أنتِ طالق ثلاثاً ولم يقل بألف وقع الثلاث مجاناً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يجب جميع الألف، وهذا بناءً على أنَّ (عند) أبي حنيفة رحمه الله الثلاث لا يصحّ جواباً للواحدة، فكان مبتدئاً بالإيقاع، وعندهما: الزوج أدى ما سألته فيلزمها ما التزمت من الألف.
ولو قالت طلقني واحدة بألف فقال الزوج أنتِ طالق ثلاثاً بألف، وقفت على قبولها على قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن قبلت جاز وإلا بطل، وعندهما الثلاث واحدة بألف وثنتان بغير شيء بناءً على الأصل الذي تقدم.
وحكى أبو الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة. ووجه الرجوع: أنَّ الزوج جعل الألف بمقابلة ثلاث تطليقات، وهذا بخلاف ما سألته بخلاف المسألة المتقدّمة.
وفي «المنتقى»: ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما: إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال لها أنتِ طالق ثلاثاً بألف فإن قبلت فهي ثلاث بألف، وإلا لم يقع شيء، قال الحاكم أبو الفضل وكان محمّد رحمهما الله، يقول: أما في هذه الصورة إنّه يقع واحدة بثلث الألف، وإن لم تقبل المرأة ولا تقع الثنتان إلا إذا قبلت فإذا قبلت وقعتا بغير شيء، وكان يقول هذا بمنزلة رجل قالت له امرأته: طلقني واحدة بألف، ففعل، ثمَّ قال لها أنتِ طالق ثنتين بألف، فلا تقعان حتّى تقبل، وإذا قبلت وقعتا لغير شيء ثمَّ رجع وقال إن قبلت المرأة ما قال الزوج وقع الثلاث بألف، وإن لم تقبل لا يقع شيء كما هو رواية ابن سماعة، فبهذه الجملة ثبت رجوع محمّد رحمه الله إلى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أيضاً.
وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمة الله عليهما إذا قال لامرأته أنتِ طالق على ألف درهم إن دخلت الدّار (258ب1)، فالقول إليها بعد دخول الدّار تقبل ساعة تدخل.(3/617)
-----
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله إذا قال الرّجل لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق على مائة دينار إن تزوجتك يوماً من الدّهر، فقالت قد قبلت ثمَّ تزوّجها على قول أبي حنيفة رحمه الله، لا يقع الطلاق، ولا يلزمها المال، قال: وقال أبو يوسف رحمه الله الطلاق واقع والمال لازم، ولو أنّها قالت حين تزوّجها قبلت الطلاق الذي جعلتها لي بمائة دينار، لزمها الطلاق والمال في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.
قال أبو يوسف: ولا أحفظ في هذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، والذي أحفظ عنه من الرواية رجل قال لمملوكه أنت حرٌّ بعد موتي إن شئت، أو قال: إن شئت فأنت حر بعد موتي، قال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون مدبراً، إذ لا مشيئة للعبد حتّى يموت المولى، فإن مات المولى فإن شاء العبد فهو حرّ، وقال أبو يوسف رحمه الله إن قدّم المشيئة على العتق بأن قال إن شئت فأنت حرّ بعد موتي، فالمشيئة إليه في الحال وإن قدّم العتق على المشيئة، بأن قال: أنت حرّ إذا متُّ إن شئت أو قال: إن متُّ أو قال أنت حرّ بعد موتي إذا شئت، فله المشيئة بعد الموت.
ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما: إذا قال الرّجل لامرأته: طلقتك على ألف، فقالت: رضيت أو قالت أجزت فهو قبول، وإن قالت نعم فليس بقبول؛ لأنّ معناه سأقبل.
وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قالت لزوجها طلقني على حكمي فقال نعم فهذا معتاد، ولو قال: قد فعلت وقع، ولو قال لها: طلقتك على حكمك فقالت قبلت أو قالت نعم جاز، ولو قالت أنا طالق على حكمي، فقال الزوج نعم فهو مثل ذلك.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً بألف درهم أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار، فقالت قد قبلت فهو جواب عن الكلام الآخر.(3/618)
-----
وذكر ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله أنّه يلزمه المالان، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم طلقني ثلاثاً بمائة دينار فقال لها أنتِ طالق ثلاثاً بالجعل الأوّل، أو بالجعل الثاني فهو كما قال وأنت. وإن طلقها ثلاثاً ولم يتعرّض لأحد الجعلين فهو جواز الكلام الآخر، حتّى لو كان الكلام الآخر بغير جعل يقع الثلاث، ولا يلزمها شيء. ولو كان الكلام الأوّل بغير جعل، والثاني بجعل لزمها الجعل.
وعنه أيضاً: أنّه فرّق بين جانب الزوج وبين جانب المرأة، فقال: لو كان الإيجاب من جانب المرأة بأن قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم طلقني ثلاثاً بمائة دينار فقال طلقتك بالجعل الأوّل يتوقف على قبولها، ولو كان الإيجاب من جانب الزوج بأن قال لها أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار بألف درهم أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار، فقبلت بالجعل الأوّل أو بالجعل الثاني صحّ.
والفرق أنَّ الإيجاب إذا كان من جانب المرأة، فقول الزوج طلقتك بالجعل الأوّل ابتداء إيجاب من الزوج، فليس جواباٌ بيانه أنَّ الإيجاب الثاني رجوع عن الإيجاب الأوّل، وإقامة للثاني مقام الأوّل، وقد صحّ رجوعها؛ إذ الإيجاب من جانبها غير لازم؛ لأن الطلاق على مال من جانب المرأة معاوضة والرجوع في المعاوضات قبل قبول الآخر صحيح، بخلاف جانب الزوج لأنَّ الطلاق على مال في جانب الزوج تعليق، فالتعليق يقع لازماً على وجه لا يصحّ الرجوع عنه، فبقي الإيجاب الأوّل، وصحّ الإيجاب الثاني فأيّ ذلك اختارت، فقد اختارت إيجاباً قائماً يصح على هذه الرواية إذا قال لها طلقتك بالمالين يتوقّف على قبولها؛ لأنَّ هذا ابتداء إيجاب في حقّها على ما مرّ.(3/619)
-----
وفي الروايات: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً على ألف أو بألف، فقالت فقد قبلت الواحدة لا يقع شيء لأنّه لو وقع واحدة وقع بثلث الألف أو بغير شيء والزوج ما رضي بالوقوع بغير شيء، فلا تثبت الألف، وهذا لأنّه لو وقع واحدة تثلث الألف، وكذلك لو قالت وقع بائناً والزوج ما رضي بالبينونة تثلث الألف، وكذلك لو قالت قبلت الواحدة بألف لا يقع شيء، لأنّ الزوج ما أوجبها كذلك.
وذكر في وكالة «الأصل» أن من وكّل رجلاً أن يطلّق امرأته ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة بألف جاز، والعرف أن يصرف الوكيل نفاذه، وبطلانه يعتمد الموافقة والمخالفة والوكيل بهذا لا يصير مخالفاً؛ لأنّه خلاف إلى خير والخلاف إلى خير لا يعد خلافاً أما تصرف الزوج مع المرأة صحّته ونفاذه يعتمد المطابقة بين الإيجاب والقبول صورة ومعنى، ولم يوجد ذلك ها هنا.
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق واحدة بألف درهم، فقالت؛ قبلت هذه التطليقة طلقت واحدة بألف بلا خلاف، ولو قالت قبلت نصفها بخمسمائة كان باطلاً؛ لأنّ قبولها نصفها بخمسمائة كقبول كلّها بخمسمائة، وذلك باطل لأنّه لم يرض به.
ولو قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف درهم، فقال الزوج: أنتِ طالق نصف تطليقة طلقت تطليقة بألف درهم، ولو قال أنتِ طالق نصف تطليقة بخمسمائة طلقت واحدة بخمسمائة؛ لأن إيقاع النصف بخمس مائة إيقاع الكلّ بخمسمائة وذلك من الزوج صحيح؛ لأنّ المرأة التمست تطليقة بألف، فتكون راضية بها بخمسمائة من طريق الأولى.
إذا قال لامرأته وقد دخل بها: أنتِ طالق السّاعة على أنّك طالق أخرى غداً بألف درهم، فقبلت وقعت واحدة للحال بنصف الألف؛ لأنّ تقدير هذه المسألة أنتِ طالق السّاعة واحدة، وغداً أخرى بألف درهم.(3/620)
-----
بيانه: أنَّ كلمة «على» وإن كانت حقيقة للشرط، لكن يقدّر العمل بالشرط ها هنا لأنَّ الطلقة الواقعة في الحال لا يمكن تعليقها بتطليقة، تقع في الغدّ فيحمل على العطف لأنّ حروف الصلات يقام بعضها مقام البعض، فصار تقدير المسألة ما قلنا من هذا الوجه، وهناك تقع واحدة للحال بألف درهم فالأصل أنَّ الزوج متى عطف إحدى التطليقتين على الأخرى، وذكر عقيبها مالاً ولم يخصّ إحداهما بوصف ما في البدل ولا بوصف يلائم البدل، فالبدل ينصرف إليهما لاستوائهما (259أ1) وعدم الأوّليّة، ثمَّ إذا جاء غد يقع عليها تطليقة أخرى، وهل يلزمها المال؟ ينظر إن كان قد تزوّجها قبل مجيء الغد، يلزمها خمس مائة وإن لم يتزوّجها قبل مجيء الغد لا يلزمه شيء؛ لأنّ وجوب البدل يعتمد زوال الملك به، وهو نظير ما لو قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم يقع عليها واحدة للحال بثلث الألف إذا كان الزمان زمان السنة، ثمَّ إذا حاضت وطهرت يقع عليها أخرى، ثمَّ إذا حاضت وطهرت يقع عليها أخرى، ولا يلزمها المال بالطلاق الثاني والثالث إلا بواسطة سبق الزوج، كذا ها هنا.m
ولو قال لها أنتِ طالق الساعة واحدة أملك الرجعة على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم، فقبلت وقع عليها واحدة للحال بغير شيء؛ لأنّه قرن بالطلقة الأولى مانعاً في وجوب البدل به، وهو قول أملك الرجعة فإن الطلاق ببدل لا يكون رجعياً فانصرف البدل إلى الطلقة الأخرى، وهذا هو الأصل في كلّ طلاقين عطف أحدها على الآخر، وقرن بالأوّل وصف ينافي البدل، البدل ينصرف إلى الطلاق الثاني فإن جاء الغد يقع عليها تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ البدل مقابل بها وأمكن إيجاب البدل بها لزوال الملك لها لأنّ الملك لم يزل بالأولى؛ لكونها رجعيّة.(3/621)
-----
ولو قال لها: أنتِ طالق اليوم تطليقة بائنة على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم وقعت للحال واحدة بغير شيء؛ لأنّه قرن بالطلقة الأولى مانعاً في وجوب البدل بها وهو قوله بائنة؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى وصف الطلاق بصريح الإبانة إذا لم يكن بمقابلته شيء، ثمَّ إذا جاء الغد تقع عليها تطليقة أخرى بغير شيء؛ لأنّ الملك لا يزول بالطلقة البائنة، لزواله بالطلقة الأولى لكونها بائنة، وإن كان تزوّجها قبل مجيء الغد ثمَّ جاء الغد يقع عليها تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ الملك يزول بها في هذه الصورة، والألف مقابل بها.
ولو قال لها: أنتِ طالق اليوم تطليقة بغير شيء على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم وقع في الحال تطليقة رجعيّة؛ لأنه قرن بالأولى ما ينافي كون البدل بمقابلته، وهو قوله بغير شيء فصار كلّ الألف بمقابلة الطلقة الثانية فإذا جاء الغد تقع تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ الملك يزول بها لكون الأولى رجعيّة.
ولو قال لها: أنتِ طالق واحدة وأنتِ طالق أخرى بألف درهم فقبلت وقعت الطلقتان بألف درهم، وانصرف البدل إليهما. وكذلك لو قال: أنتِ طالق اليوم واحدة وغداً أخرى بألف درهم، فقبلت وقعت في اليوم واحدة بنصف الألف وغداً أخرى بنصف الألف إن تخلّل التزوّج؛ لأنَّ البدل انصرف إليهما.
ولو قال لها أنتِ طالق السّاعة واحدة أملك الرجعة وغداً أخرى أملك الرجعة بألف درهم، أو قال أنتِ طالق الساعة واحدة بائنة وغداً أخرى بائنة بألف درهم، أو قال أنتِ طالق الساعة واحدة بغير شيء وغداً أخرى بغير شيء صحّ بألف درهم، فالبدل ينصرف إليهما وتكون كلّ تطليقة بنصف الألف، فتقع واحدة في الحال بنصف الألف، وغداً أخرى مجاناً إلا أن يتزوّجها قبل مجيء الغد، ثمَّ جاء الغد فحينئذٍ تقع أخرى بنصف الألف وإنّما انصرف البدل إليهما في هذه الصورة؛ لأنّه قرن بكلّ تطليقة وصفاً ينافي البدل.(3/622)
-----
والأصل في كلّ طلاقين عطف أحدهما على الآخر، وقرن بكلَ منهما ما ينافي البدل أو قرن بالطلقة الثانية ما ينافي البدل، والبدل ينصرف إليهما جميعاً؛ لأنّه لا بدّ من إلغاء إحداهما، إمّا المنافي وإمّا البدل، وإلغاء المنافي أولى لأنّه ذكر المنافي أوّلاً، وذكر البدل آخراً وإبداء الآخر يكون ناسخاً للأوّل.
ولو قال لها: أنتِ طالق السّاعة واحدة أملك الرجعة أو قال بائنة أو قال بغير شيء وغداً أخرى بألف درهم، والبدل ينصرف إلى التطليقة الثانية.
ولو قال أنتِ طالق اليوم واحدة وغداً أخرى أملك الرجعة ينصرف البدل إليهما؛ لأنّه قرن بالطلقة الثانية ما ينافي وجوب البدل بها، وفي مثل هذا ينصرف البدل إلى الطلقتين، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.
وفي «المنتقى»: بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لآخر طلق امرأتك فلانة واحدة ولك ألف درهم، ففعل وقع الطلاق في الحال في قول أبي حنيفة رحمه الله بغير مال، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع حتّى تقبل المرأة، فإنّ قامت عن المجلس الذي يبلغها فيه الخبر قبل أن تقبل بطل الطلاق.
وذكر ابن سماعة عنه أيضاً: رجل قال لزوج ابنته الصغيرة: طلقها ولك ألف درهم فقال نعم فعلت، قال أبو حنيفة رحمه الله: هي طالق السّاعة بغير شيء، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع الطلاق ما لم تقبل الصغيرة، فإذا قبلت وقع الطلاق فلا يلزمها المال.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمة الله عليهما أيضاً: رجل جعل لرجل ألف درهم على طلاق امرأته، فقبل وطلّق فالطلاق بائن والذي جعل الألف ضامن للألف وهي عليه للزوج، ولو كان له دين على الزوج فقال له أنت بريء على أن تطلق امرأتك، فقبل وفعل فالطلاق جائز وهو بريء من المال.(3/623)
-----
قال: ولو كانت هاتين المسألتين في العتاق، فالعتق جائز والبراءة من الدّين جائزة، والجعل الذي جعل له باطل؛ لأنّه لو لزمه لزمه بغير عوض؛ لأنَّ العتاق من المولى، فالعتق لا يكون له، والمال لا يجب على الإنسان من غير عوض بقضيّة الأصل بخلاف البراءة؛ لأنَّ البراءة تجوز بغير عوض.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا أمر الرجل رجلاً أن يطلّق امرأتيه بألف درهم، وطلّق إحداهما بألف أو بأقلّ إلا أنّه إذا قسم الألف على مهرها كان ذلك حصتها، فهو جائز.
وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرجل لغيره طلّق إمرأتي بما شئت أو قال بما رأيت، أو قال على كم شئت أو قال على كم رأيت، فهو على المجلس وغيره، قال: لأنَّ المشيئة في الجعل ليس في الطلاق.
وفي «الأصل»: إذا قال الرجل لامرأته طلقتك أمس بألف درهم، فلم تقبل فقالت المرأة لا بل قبلت فالقول قول الزوج.
فرق بين هذا وبينما إذا قال لغيره بعتك أمس بكذا فلم يقبل، وقال الآخر لا بل قبلت، فالقول قول المشتري، وكذلك إذا قال (259ب1) لغيره أجرت منك أمس كذا بكذا فلم تقبل، فقال الآخر لا بل قبلت، والقول قول المتأخّر. والفرق أنَّ البيع معاوضة، والمعاوضة لا تتم إلا بالإيجاب والقبول فإذا أقر بالبيع والإتمام له لا بالقبول صار مقراً بالقبول دلالة راجعاً عنه بقوله، فلم تقبل، فلا يقبل ذلك منه، فأمّا الطلاق على مال كما هو معاوضة فهو تعليق أيضاً، والمعاوضة إن كانت لا تبنى إلا بالقبول فالتعليق بني بدون القبول، فبإقراره بالطلاق على المال إن صار مقراً بالقبول من حيث إنّه معاوضة لا يصير مقراً بالقبول من حيث إنّه تعليق، فلا يثبت الإقرار بالقبول بالشك بقيّت المرأة مدّعية والزوج منكر دعواها، فيكون القول قول الزوج.
وعلى هذا إذا قال لها قد كنت بعتك طلاقك أمس بألف، ولم تقبلني، وقالت المرأة لا بل قبلت فالقول قولها.(3/624)
-----
ولو قال: طلقتها ثلاثاً بألف درهم فقالت المرأة هذا منك إقرار ماض، وقد كنت قبلته منك، وقال الزوج كان هذا مني إقراراً مستقبلاً حين تكلمت فلم تقبلي، فالقول قول الزوج وإن أقاما البيّنة أخذت بيّنة المرأة، ذكره في «المنتقى».
وفي «البقالي»: أنتِ طالق غداً على عبدك هذا، فقبلت وباعت العبد ثم جاء الغد يقع الطلاق وعليها قيمة العبد، ولو طلقها ثلاثاً في يومه، ثمَّ جاء الغد فلا شيء له.
وفيه أيضاً إذا قال لها أنتِ طالق بعد غد على ألف درهم وغداً على ألف، واليوم على ألف، فقبلت اليوم بألف، والباقي بغير شيء هكذا ذكر وعلى قياس ما تقدم إذا تزوّجها قبل مجيء الغد، ثمَّ جاء الغد يقع طلاق آخر بألف، وإذا تزوّجها في الغد ثم جاء بعد الغد يقع طلاق آخر بألف.
وفيه أيضاً: إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف درهم، والأخرى بمائة دينار فقبلتا طلقتا بغير شيء. وفيه أيضاً؛ روى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله في العتاق: إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف، فقبلتا ومات فعلى كلّ واحد منهما خمسمائة وبانتا، ولا ميراث.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرّجل لامرأته أنتِ طالق على حكمك من الجعل فقبلت ثمَّ حكمت مالاً ولم يرض به الزوج فإن كان ما حكمت مثل مهرها الذي أخذت، أو أكثر من ذلك لم يكن للزوج إلا ذلك، وإن كان أوّل تممّنا له مهرها الذي أخذت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما.
وعلى هذا إذا قالت المرأة لزوجها اجعلني طالقاً على حكمك من الجعل، فطلقها على ذلك ثمّ حكم بحكم له فرضه، فإن حكم بمهرها أو أقل لزمها الطلاق على الفعل ثمَّ ينظر إلى الفعل فإن كان جعلاً، فهو على ما صيّرت ذلك فإن كان غير جعل، فقد مضى الطلاق.(3/625)
-----
بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا طلّق امرأته على أن تهب عنه لفلان ألف درهم أجبرتها على إنفاذ الألف، والزوج هو الواهب وإن لم يقل عنه لا تجبر على الهبة وعليهما أن ترد المهر والطلاق بائن، فإن وهبت فالهبة عنها والطلاق بائن ولا شيء عليها غير الهبة التي وهبت، ولا رجوع لأحد في هذه الهبة.
وعن محمّد رحمه الله في امرأة قالت لزوجها: طلقني على أن أهب مهري من ولدك ففعل، فأبت أن تهبه فالطلاق رجعي فلا شيء عليها.
أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا أبرأت المرأة زوجها عمّا لها عليه على أن يطلقها، فقد جاز ذلك و(حارت) المرأة فكان الطلاق بائناً وكذلك لو جعلت له مالاً على ذلك، ولو قالت لزوجها طلقني على أن أؤخّر مالي عليك وطلقها على ذلك، فإن كان للتأخير غاية معلومة صحّ التأخير، وإن لم يكن له غاية معلومة لا يصح التأخير، والطلاق رجعي على كلّ حال. وكذلك لو طلقها على أن تبرئه عن كفالة نفس فلان، فأبت أن تبرىء فالطلاق رجعي، ولو طلقها على أن تبرّئه عن الألف التي كفل بها لها عن فلان، فالطلاق بائن، والله أعلم.(3/626)
الفصل السادس عشر: في الخلع
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان صفته وكيفيته
-----
قال علماؤنا رحمهم الله: الخلع طلاق بائن ينتقص به من عدد الطلاق، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وقال الشافعي رحمه الله: هو فسخ لا ينتقص به من عدد الطلاق، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه، وتكلّم أصحابنا رحمهم الله فيما إذا قضى قاضٍ بكونه فسخاً، هل ينفذ قضاؤه؟ منهم من قال ينفذ، ومنهم من قال لا ينفذ، وتكلّم المشايخ في لفظة البيع والشراء هل لابن عباس رضي الله عنه فيه قول كما في الخلع، قال بعضهم ليس له فيه قول وهو طلاق بائن بالاتفاق، وقال بعضهم خلافه في كل موضع عدم فيه لفظة الطلاق، وإنّه من جملة الكنايات حتّى لا يقع به الطلاق بدون النيّة، وتصح نيّة الثلاث فيه، وإذا قال الزوج لم أنوِ به الطلاق، فإن لم يذكر بدلاً صدّق ديانة وقضاء وإن ذكر بدلاً بأن قال لها مثلاً، خالعتك على ألف درهم، ثمَّ قال لم أعن به الطلاق لا يصدّق وقدم هذا فيما تقدّم، ويعتبر من جانب الزوج يميناً وتعليقاً للطلاق بقبولها حتّى لو قال لها خالعتك على كذا، ثمَّ رجع قبل قبول المرأة لا يصح رجوعه، وكذلك لا يبطل بقيامه عن المجلس قبل قبول المرأة، وكذلك لا يتوقف على حضورها، بل يجوز إذا كانت غائبة، فإذا بلغها فلها خيار القبول في مجلسها، ويصحّ التعليق بالشرط والإضافة إلى الأوقات، نحو أن يقول: إذا جاء غد فقد خالعتك على ألف درهم، فإذا قدم فلان فقد خالعتك كان القبول إليها بعد مجيء الوقت وقدوم فلان.
ومن (جار) المرأة تعتبر بالإيجاب والقبول كما في باب البيع حتّى إنّه إذا كانت البداية من جانب الزوج، فقامت عن المجلس قبل القبول يبطل الإيجاب، وإن كانت البداية من جانب المرأة بأن قالت له اخلعني على كذا، صحّ رجوعها قبل قبوله ويبطل بقيامها عن المجلس وبقيامه ولا يتوقف حال غيبة الزوج، ولا يجوز التعليق منها بشرط، ولا إضافة إلى وقت وقدّم الفرق من الجانبين قبل هذا.(3/627)
-----
وينبني على هذا ما قال أبو حنيفة (260أ1) رحمه الله إذا خالعها وشرطت المرأة لنفسها الخيار جاز، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: لا يجوز ولو شرط الزوج الخيار لنفسه لا يجوز إجماعاً فهما قاسا جانبها بجانبه، وأبو حنيفة رحمه الله فرّق بينهما بما قلنا إنَّ الخلع من جانب الزوج يمين، واليمين غير قابلة للخيار، ومن جانب المرأة معاوضة، والمعاوضة قابلة للخيار.
وإذا قال لامرأته كلّ امرأة أتزوجها، فقد بعت طلاقها منك بكذا، ثمَّ تزوّج امرأة فالقبول إليها بعد التزوّج، فإن قالت بعد التزوّج قبلت أو قالت اشتريت طلاقها أو قالت طلّقها يقع الطلاق عليها، وإن قالت قبل التزوّج قبلت فهذا ليس بشيء؛ لأنَّ هذا الكلام من الزوج خلع بعد التزوّج، فإنّما يشترط القبول بعده.
نوع آخرمنه
ذكر في «فتاوى سمرقند» بأن صورة الخلع بالفارسيّة تقال: أن تقول المرأة لزوجها: «خوشتن رااز تونهر كاينن كرم أست وبهر هريبة عدة كي اجب مرابد توسيس طلاق أختم بيك طلاق فيقول الزوج» «اهتحيدم برااز خوشتن بائن شرطها» وإذا أمر الرجل امرأته بالخلع، فهو على أربعة أوجه:(3/628)
-----
إمّا أن يقول اخلعي نفسك بكذا من المال سمّى مالاً مقداراً معلوماً مثلاً ألف درهم. أو يقول؛ اخلعي نفسك بمال ولم يسمه ولم يقدّره، أو يقول: اخلعي نفسك بغير شيء. أو يقول: اخلعي نفسك ولم يزد على هذا، وأمّا إذا قال: اخلعي نفسك بألف درهم أو على ألف درهم، فخلعت نفسها على ذلك، ولم يقل الزوج بعد ذلك خلعت هل يتمّ الخلع فيه روايتان عن أصحابنا، والمختار أنّه يتمّ بناءً على أنّ الواحد هل يتولّى طرفي الخلع؟ إذا كان البدل مقدّراً معلوماً، وفي رواية يتولى وهو المختار وتصير المرأة وكيلة من جانب الزوج؛ لأنّه يمكنها الامتثال بما أمرت، وحقوق العقد لا ترجع إليها حتّى يقال تؤدّي إلى التضاد في حقّ الأحكام، أمّا إذا قال لها: اخلعي نفسك بمال، ولم يقدّر المال فقالت: خلعت نفسي على كذا في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج بعد ذلك خلعت. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله: أنه يتمّ وإن لم يقل الزوج بعد ذلك خلعت، وكثير من مشايخنا أخذوا برواية ابن سماعة.
ووجه ظاهر الرواية: أنّه لا بدَّ من التسمية في الخلع لأنَّ المال بدون التسمية لا يجب في الخلع، وإذا لم يكن البدل مقدراً لا تدري هي أي قدر تسمّي فعجزت عن الامتثال، فلا يصحّ الأمر فلا تصير وكيلة من جهة الزوج فلا يتمّ الخلع بمجرّد قولهما اختلعت، وأمّا إذا قال لها اخلعي نفسك بغير مال، فقالت: خلعت يتم الخلع بقولها؛ لأنَّ الخلع بغير مال والطلاق البائن سواء، فكأنّه قال لها: طلقي نفسك تطليقة بائنة فقالت طلقت.(3/629)
-----
وأمّا إذا قال لها اخلعي نفسك، ولم يزد على هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن يتمّ الخلع بقول المرأة اختلعت للمعنى الذي ذكرنا في قوله اخلعي نفسك بغير مال، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمّد بن الفضل البخاري رحمه الله أنّه كان يقول: روي عن محمّد رحمه الله أنّ هذا بمنزلة قوله: اخلعي نفسك بمال، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنّ هذا بمنزلة قوله اخلعي نفسك بغير شيء.
وإذا سألت المرأة من زوجها أن يخلعها، فهو على أربعة أوجه أيضاً: أما إن قالت له اخلعني على كذا سمّت ألف درهم مثلاً، وفي هذا الوجه إذا خلعها على ذلك يتمّ الخلع بقول الزوج ولا يحتاج إلى قول المرأة اختلعت قبلت في رواية، هو المختار.
وعلى هذا إذا وكّل الرّجل رجلاً أن يخلع امرأته على ألف درهم، ووكّلت المرأة ذلك الرجل أن يختلعها من زوجها على ألف درهم، فقال الوكيل: اختلعت فلانة من زوجها فلان بألف درهم يتم الخلع بقوله في رواية، وهو المختار، وأمّا إن قالت اخلعني على مال ولم يسمه، ولم يقدّره، فقال الزوج خلعتها على كذا، وفي هذا الوجه لا يتمّ الخلع بقول الزوج خلعت ما لم تقل المرأة قبلت، أو اختلعت في ظاهر رواية أصحابنا. وعلى رواية ابن سماعة يتمّ.
ومعنى قولنا لا يتمّ الخلع على ظاهر الرواية أنّه لا يجب عليها بدل الخلع، وهل يقع الطلاق؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يقع، به كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وبعضهم قالوا لا يقع، وهو الأظهر والأشبه.(3/630)
-----
وأمّا إن قالت اخلعني بغير مال، وفي هذا الوجه إذا قال الزوج خلعت يقع الطلاق؛ لأنّ تقدير المسألة كأنّ المرأة قالت طلقني طلاقاً بائناً، فقال الزوج طلقت، وأمّا إن قالت اخلعني ولم يزد على هذا، وفي هذا الوجه ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يقع الطلاق بقول الزوج خلعت، وعلى قياس ما حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله فيما إذا أمر الزوج المرأة بالخلع يجب أن يكون في المسألة روايتان.
وإذا قال لها: «خوشتن أزمن بحز» فقالت: «خريدم»، ولم يقل الزوج «فروحتم» لا تطلق، وهذا بخلاف ما لو قال لها اخلعي نفسك منّي، فقالت: اختلعت ولم يقل الزوج قبلت، وكذلك لو قال لها بالعربية اشتري نفسك منّي، فقالت الزوجة اشتريت، ولم يقل الزوج بعت لا يقع الطلاق، بخلاف قوله: اخلعي، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله.
والفرق أنَّ قوله: اخلعي نفسك أمر الطلاق بلفظ الخلع والزوج يملك أمرها بذلك ببدل وبغير بدل، فصحّ الأمر وإن لم يكن البدل مذكوراً، أمّا قوله: «خوشتن بحر» أو اشتري نفسك أمر بالمعاوضة، والأمر بالمعاوضة لا يصحّ إذا لم يكن البدل مقدّراً معلوماً، وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله، بخلاف ما ذكره الصدر الشهيد في قوله اشتر نفسك منّي، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
ولو قال: «خوشتن بخر بكذا» ذكر مالاً مقدّراً، أو قال بالعربية اشترِ نفسك بكذا، فقالت «خريدم» أو قالت؛ «اشتريت»، ولم يقل الزوج بعت أو «فروختم» يتمّ الخلع في رواية، وهو المختار على ما بيّنا، وكذا في هذه الصورة إذا قال الزوج من لي «فروختم» بعد قول المرأة «خريد» يتمّ الخلع على الرواية (260ب1) المختارة.(3/631)
-----
وعن هذا قيل: إذا قال لها: «خوشتن بخراز من بكايين ونفقة عدّة»، فقالت: فقال الزوج: «من يك طلاق دادم» يقع عليها طلاقان أحدهما بالخلع، والثاني بالتطليق وأمّا إذا قال لها: «خوشتن بخر عدى أزمن» أو قال: «بحامة» ذكر بدلاً مجهولاً، فقالت «خريدم على كذا» لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم»، ولا يقع طلاق أيضاً، وهذا يجب أن يكون على ظاهر الرواية، أمّا إذا قال لها «خوشتن بخر» بغير شيء أو قال: اشتر نفسك منّي بغير شيء لم يذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذا الفصل في «واقعاته».
ورأيت مكتوباً بخطّ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله عقب ذكر مسألة أمر الزوج المرأة بالخلع عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل، وكذلك لو تلفظ بلفظة البيع والشراء في الفصول كلّها فهو على ما وصفنا، وهذا إشارة إلى أنّ في هذا الفصل، يقع الطلاق بقولها «خريدم» كما في قوله: اخلعي نفسك بغير شيء وإشارة إلى أنَّ في قوله؛ اشترِ نفسك منّي روايتان: كما في قوله اخلعي نفسك وإذا قال لها «خوشتن خريدي أزمن» بمهرك، ونفقة عدتك، فقالت «خريدم» ولم يقل الزوج «فروحتم»، قال بعض مشايخنا يتمّ الخلع، وقال بعضهم لا يتمّ.
وقال الفقيه أبو جعفر نسأل الزوج أنّه أراد بقوله «خريدى» التحقيق أو السوم، فإن قال: أردت السوم لا يتمّ الخلع، وإن قال أردت التحقيق يتمّ، وعن الفقيه أبي الليث رحمه الله ما هو قريب عن هذا، فإنّه قال: لا يتمّ الخلع إلا إذا أراد بقوله «خريدي» التحقيق.
وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي عن شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله أنّه كان يقول: يتمّ الخلع وإن لم يقل الزوج «فروحتم»، وقد رأيت في «فتاويه» هكذا.(3/632)
-----
وصورة ما رأيت في «فتاويه» إذا قال لها: «خوشتن أزمن بهمّه حقّها خريدي»، أو قال: «بجندين درم خريدي» فقالت «خريدم» ولم يقل الزوج «فروحتم» إن الخلع تام، ولو قال «خريدي» ولم يقل «بهمه حقها» ولا قال «بجندين درم»، فقالت لا يتم الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم»، والمعنى في ذلك أنّ تقدير كلامه «خوشتن خريدي كي من فروختم» وإذا، قال لها: اشتريت منّي ثلاث تطليقات بمهرك ونفقة عدّتك فقالت اشتريت أو قال لها خلعت نفسك منّي بكذا، فقالت: خلعت، والجواب فيها كالجواب في قوله: «خريدي»، ولو قال لها «خوشين مي خريد بكذا» فقالت «خريدم» لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم»، وهذا باتفاق الأقول لأنَّ هذا للسوم خاصة ولا يحتمل التحقيق، وكذا إذا قالت: «خوشتن ميحزم» فقال الزوج «فروحتم» لا يتم الخلع.r
وفي «فتاوى الفضليّ»: امرأة قالت لزوجها اشتريت نفسي منك لما أعطيت، أو قالت: اشتر وأرادت الإيجاب دون العدّة، فقال الزوج أعاطيك كذا يقع الطلاق لأنَّ هذا يصلح جواباً ولو قالت بالفارسيّة، قالت: «إنَّ حرمي» وباقي المسألة بحالها تصح لا تنوي أنّها أرادت العدّة أو الإيجاب.
وإن قال حرم لا يصح ولا ينوي لأنَّ في الفارسيّة للإيجاب لفظاً، وهو قولها «حرمى» وللعدّة لفظ وهو قولها «حرم» ولا ينوي، فأمّا في العربية لفظهما واحد وهو قولها اشتري فينوي.
وفيها أيضاً إذا قالت: «خوشتن حرمي ان تو بمهري، ونفقة عدتي دأدى» فقال الزوج أرى وقعت الفرقة؛ لأنَّ قولها بالفارسية خرمي الإيجاب، وقول الزوج أرى جواب، فصار كأنّه قال «دادم» ولو قال أرى تتم لا تقع الفرقة.(3/633)
-----
وفي «فتاوى النسفي»: إنَّ قولها «خرمي» ليس بإيجاب حتّى إنّها لو قالت «خوشتن خرمى» فقال الزوج «فروحتم» لا يتمّ الخلع ذكر الجهل أو لم يذكر؛ لأنّه للاستفهام إذا قالت لزوجها: «مر حقي مرابد تواست خوشتن خريدم»، فقال الزوج «فروختم» لا يكون خلعاً بذلك المال، ولو قالت «به حقي» كان خلعاً ولو جرت العادة فيما بين النّاس أنّهم يريدون بقوله «صر حقي نهر حقي» يجب أن يصح الخلع والفتوى على أنه لا يصح إلا أن يكتب في الفتوى، كذا جرت العادة فحينئذٍ يفتى بالصحّة، وفي موضح آخر لو قالت «هر حقي» ك «مرااز تومى بايد خوشتن خريدم ازتو»، أو قالت: «ميروين خوشتن خريدم ازتوا» فقال الزوج «فروختم» يكون خلعاً، ويلغوا قولها «حر حقي كه مرا ازنومى يايد وتصير كأنها ابتدأت فقالت: خويشتن خريدم ازتوا» أو قالت «سمرين خوشتن خريدم ازتو».
وإذا قالت المرأة اختلعت نفسي بمهري ونفقة عدتي ولم تقل منك، فقال الزوج خلعت، ولم يقل خلعتك لا يكون هذا خلعاً صحيحاً كذلك إذا قال بالفارسيّة: «خوشتن خريدم»، فقال الزوج «فروختم» لا يكون خلعاً صحيحاً ولو قال «فروخمت» فهو خلع صحيح، هكذا ذكر في «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام السغدي رحمه الله. قال لا بدّ من ذكر الإضافة من أحد الزوجين، وقاسه على ما إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت لا يقع شيء، ولو قال اختاري، فقالت اخترت نفسي أو قال اختاري نفسك فقالت اخترت وقع الطلاق.(3/634)
-----
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا جرت مقدّمات الخلع بين الزوجين، فقالت المرأة بعد ذلك «خوشتن خريدم بعدت وكايين» فقالت الزوج «فروختم» تصح، وإن لم يقل منك، وعلى هذا البيع والنكاح، وحكي عن عمر النسفي أنّه قال: اتفق المشايخ في زماننا: أنَّ الخلع صحيح بغير الإضافة إلى أحدهما لكثرة الاستعمال من العامّة، وعدّهم هذا خلعاً صحيحاً فصار بمنزلة قولهم «مرجه بدست كيرم برمن حرام»، وبمنزلة البيع والشراء إذا قال البائع بعت هذا، وقال المشتري اشتريت هذا، فإنَّ هناك يتمّ البيع كذا ها هنا.
وذكر في «المنتقى»: عن محمّد رحمه الله: إذا قالت المرأة لزوجها خلعت نفسي منك بألف درهم قالت ذلك ثلاث مرّات، فقال الزوج قد رضيت وأجزت كان ثلاثاً بثلاثة آلاف درهم، ولو قال الزوج للمرأة قد خلعتك على ما لك عليَّ من المال، قال ذلك ثلاث مرّات ولم يسمّ شيئاً فقالت المرأة قبلت ورضيت طلقت ثلاثاً، قال لأنّه لم يقع شيء إلا بقبولها (261أ1).
وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته: أخلعك، فقالت قد فعلت فهذا باطل حتّى يقول الزوج: قبلت، قال ثمّة: والخلع في هذا من جانب الرجل لا يشبه التزوّيج، يريد به أن الرجل إذا قال لامرأة: أتزوجك على مائة درهم، فقالت: فعلت فإنه ينعقد النكاح بينهما وإن لم يقل الزوج بعد ذلك قبلت.(3/635)
-----
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: امرأة قالت لزوجها اخلعني، فقال قد خلعتك بألف درهم لم يقع الخلع حتّى قبلت المرأة قال ثمّة: النكاح والخلع سواء إلا في قول الرّجل لامرأة زوجيني نفسك، فقالت زوجتك نفسي ولم يذكرا مالاً، فهذا الجواز في النكاح ولا يجوز في الخلع؛ لأنَّ النكاح يجوز بلا تسمية مال، بخلاف الخلع إذا قالت «خوشتن خريدم بكيين» ونفقة عدّة، فقال الزوج «يدر فيم»، فقد قيل لا يقع الخلع لأنَّ كلام الزوج لا يصلح جواباً لكلامها، فكان ابتداء رجل قال لامرأته «من خوشتن بازتو بعدت وكايين خريدم» ونوى الطلاق فقالت المرأة «فروختم»، فقد قيل صحّ الخلع كمن قال لامرأته أنا منك بائن ونوى الطلاق إنَّ هناك تطلق المرأة، وأكثر المشايخ على أنّه لا يصح الخلع؛ لأنّه ليس للزوج مهر ولا نفقة حتّى يصحّ قوله «فريدم بكايين».
وهو نظير ما لو قال لعبده «خويشتن ازتو خريدم» فقال العبد «فروختم»، فإنّه لا يعتق العبد، هكذا قالوا والمعنى الصحيح لمن يقول بعدم الصحّة أنّه أضاف الشراء إلى غير محلّه؛ لأنَّ الشراء لإثبات الملك فإنّما تصح إضافته إلى محلّ لا ملك فيه للمشتري، والزوج مالك نفسه فكيف يصح منه شراء نفسه.
نوع آخرمنه
إذا قال لها خالعتك، ولم يذكر المال أصلاً قالت قبلت لا يسقط شيء من المهر هذا جواب ظاهر الرواية. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في أوّل إقرار «الكافي»؛ إذا قال لها خالعتك، فقالت قبلت يقع الطلاق وتقع البراءة للزوج عن المهر إن كان عليه مهر، وإن لم يكن عليه مهر يجب عليها ردّ ما ساق إليها من المهر؛ لأنَّ المال مذكور عرفاً بذكر الخلع.(3/636)
-----
وإذا قالت بالفارسيّة: «خويشتن خريدم ارتو»، فقال الزوج: «فروحتم» تقع تطليقة بائنة ولا ترد ما قبضت من المهر، وإن لم تقبض برىء الزوج من المهر لأنَّ الخلع أوجب البراءة، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته»، ورأيت في بعض الكتب أنَّ في براءة الزوج عن المهر إذا لم يذكر في الخلع شيئاً روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله، والأصح هو البراءة، وفي «شرح الكافي»: أنَّ الزوج يبرأ عن المهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن ما يذكر في الخلع شيئاً، ولا تسقط نفقة العدّة إلا بالذكر، وإذا قال لها خالعتك ونوى الطلاق يقع الطلاق، ولا يبرأ الزوج عن المهر بالاتفاق.
وإذا قال لها بالعربية: بعت لا يقع الطلاق ما لم يقل اشتريت، وإذا قالت اشتريت حتّى يقع الطلاق، فحكم المهر ما ذكرنا فيما إذا قال لها بالفارسية «مروحيمت» هذا إذا خالعها، ولم يذكر المال أصلاً.
وأمّا إذا خالعها على جميع مهرها والمهر مقبوض وذلك ألف درهم والمرأة مدخول بها كان عليها ردّ ما قبضت من المهر، أو ردّ مثله وإن كان غير مقبوض سقط عن الزوج جميع المهر؛ لأنّه وجب للزوج عليها ألف درهم لأنه خالعها على مهرها ومهرها ألف درهم، وكان للمرأة على الزوج مثل ذلك فيلتقيان قصاصاً، ولا يتبع أحدهما صاحبه بشيء من المهر بسبب الطلاق في الفصلين جميعاً، وإن لم يكن الزوج دخل بها فخالعها والمهر مقبوض، فالقياس أن يرجع الزوج عليها بألف وخمسمائة، ألف بدل الخلع وخمسمائة نصف المهر بالطلاق قبل الدخول، وفي الاستحسان يرجع عليها بألف درهم لا غير خمس مائة بدل الخلع وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول، وإن كان المهر غير مقبوض فالقياس أن يرجع الزوج عليها بخمسمائة.(3/637)
-----
وفي الاستحسان لا يرجع عليها بشيء ويبرأ عن جميع المهر، وبيان وجه الاستحسان أنّه أضاف الخلع إلى مهرها ومهرها ما يجب لها بالنكاح والواجب لها بالنكاح متى ورد الطلاق قبل الدخول نصف المهر، وذلك خمس مائة، فكأنّه خالعها على ذمّة الزوج خمس مائة بعد الطلاق قبل الدخول فالتقيا قصاصاً، وإن كان مقبوضاً يرجع الزوج عليها بألف لا غير خمس مائة بدل الخلع، وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول، كذا ها هنا هذا إذا خالعها على جميع مهرها.
وإن خالعها على بعض مهرها بأن خالعها على عشر مهرها مثلاً والمهر مقبوض، وذلك ألف درهم والمرأة مدخول بها فللزوج عليها من المهر مائة بدل الخلع، والباقي سالم لها وإن كان غير مقبوض سقط عن الزوج عشر الألف بدل الخلَع للاختلاف، وتسقط التسعة المائة الباقية بسبب أي المهر الخلع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنَّ الخلع عنده يوجب براءة كل واحد منها عن صاحبه عن حقوق النكاح، سمّى ذلك في الخلع أو لم يسمّ وعندهما لا يسقط والتسعمائة الباقية؛ لأنَّ عندهما لا تسقط بالخلع إلا ما سمّيا فيه وإن لم يكن الزوج دخل بها والمهر مقبوض، فالقياس أن يرجع الزوج عليها أنَّ الستمائة بدل الخلع وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول بها.
وفي الاستحسان: يرجع عليها بخمس مائة وخمسين درهماً؛ لأنّه أضاف الخلع إلى عشر مهرها وبالطلاق قبل الدخول تبيّن أنَّ مهرها خمس مائة، وأنَّ عشرها خمسون وكأنّه خالعها على خمسين، وإن كان المهر غير مقبوض فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله على حقّ أنَّ الاستحسان لا يرجع المرأة على الزوج بشيء وعلى قولهما على جواب الاستحسان، سقط عن الزوج خمسون درهماً بسبب الخلع ويرجع عليه بأربعمائة وخمسين بناءً على الأصل الذي مرّ، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل هذا إذا خالعها على جميع مهرها أو على بعض مهرها.(3/638)
-----
وإن بارأها على جميع مهرها، أو على بعض مهرها، فعند محمّد رحمه الله الجواب فيه، كالجواب في الخلع لا يسقط إلا ما سميّا فيها، وعندهما (261ب1) الجواب فيها، كالجواب في الخلع على قول أبي حنيفة رحمه الله حتّى برىء كل واحد منهما عن صاحبه عن جميع حقوق النكاح.
وأمّا إذا خالعها على مال مسمّى معروف سوى الصداق؛ فإن كانت المرأة مدخولاً بها والمهر مقبوض، فإنّها تسلم إلى الزوج بدل الخلع ولا يتبع أحدهما صاحبه بعد ذلك بشيء، وإن كان المهر غير مقبوض فالمرأة تسلّم إلى الزوج بدل الخلع، ولا ترجع على الزوج بشيء من المهر عند أبي حنيفة رحمه الله طلاقاً لهما على الأصل الذي قلنا، وأمّا إذا كانت المرأة غير مدخول بها والمهر مقبوض فإن الزوج يأخذ منها بدل الخلع، ولا يرجع عليها بنصف المهر بسبب الطلاق قبل الدخول عند أبي حنيفة رحمه الله، وبهذا الفصل تبيّن أنَّ ما ذكر من جواب الاستحسان فيما إذا خالعها على مهرها والمرأة غير مدخول بها والمهر مقبوض قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، وإن لم يكن المهر مقبوضاً يأخذ الزوج منها بدل الخلع، وهي لا ترجع على زوجها بنصف المهر عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
وأمّا إذا بارأها بمال معلوم سوى المهر فالجواب فيه عند محمّد كالجواب في الخلع عنده، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف الجواب فيه كالجواب في الخلع عند أبي حنيفة.
وأمّا نفقة العدّة ومؤنة السكنى إن شرط ذلك في الخلع فالمبارأة تقع البراءة عليهما للزوج بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك في الخلع فالمبارأة لا تقع للمرأة بالإجماع، أمّا على قولهما فلا مشكل، وأمّا على قول أبي حنيفة فلأنَّ الخلع عنده إنّما يوجب البراءة عن حقوق قائمة وقت الخلع ونفقة العدّة تجب شيئاً فشيئاً، والخلع لا يمنع ثبوت حقّ بعده، وإن شرطا البراءة عن السكنى في الخلع لا يصح؛ لأنَّ السكنى في بيت العدّة حقّ الله تعالى وإسقاطها لا يعمل في حقّ الله.(3/639)
-----
وأمّا نفقة الولد وهي مؤنة الرضاع فلا تقع البراءة عنها إن لم يشترط ذلك في الخلع والمبارأة بالإجماع، وإن شرطا إن وقتا لذلك وقتاً بأن قال: إلى سنة، أو ما أشبه ذلك جاز، وإن لم يوقتا لا يجوز ولا تقع البراءة عنها، وأمّا دين آخر سوى المهر فلا تقع البراءة عنها في الخلع، والمبارأة بدون الشرط في «ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه تقع البراءة عنه بدون الشرط.
وإذ قالت: «خويشتن خيدم بهر حقي كي مرا بد توايت» لا تقع البراءة عن نفقة العدّة؛ لأنَّ نفقة العدّة ليست لها عليها في الحال، وأمّا إذا طلقها بمال آخر سوى المهر فالجواب فيه عندهما كالجواب في الخلع، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فقد روى الحسن عنه أن كل واحد منهما يبرأ عن حقوق النكاح، وبه أخذ الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله. وفي «ظاهر الرواية» عنه لا يبرأ، وبه أخذ عامّة المشايخ. وأمّا إذا كان العقد بلفظة البيع بالعربية، أو الفارسيّة فعلى قولهما الجواب فيه كالجواب في الخلع.
وأمّا عند أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلفت المشايخ فيه، وإذا خالعها بما لها عليه من المهر وقع الطلاق، ظنّاً منه أنَّ لها عليه بقيّة المهر ثمَّ علم أنه لم يبق لها عليه من المهر وقع الطلاق على مهرها، فيجب عليها أن ترد المهر؛ لأنّه طلّقها بطمعٍ خالصٍ عليه، فلا يقع الخلع مجاناً.
ونظير هذا ما لو خالعها على عبدك الذي لك عبدي أو على متاعك الذي في يدي فإذا ليس في يديه شيء وقع الخلع على مهرها، إن لم تقبض المهر برىء الزوج عنه، وإن قبضت ردّت المهر عليه، فأمّا إذا علم الزوج أن لا مهر عليه وباقي المسألة بحالها يصح الخلع، ولا يرد على الزوج شيئاً، بمنزلة ما لو خالعها على ما في هذا البيت من المتاع والزوج يعلم أنّه لا متاع فيه، ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأوّل من «الواقعات».(3/640)
-----
وعلى هذا إذا قال لها: بعتك تطليقة بمهرك والزوج يعلم أنّه لم يبقَ لها عليه شيء من المهر، فاشترت هي يقع الطلاق رجعياً مجاناً، وإذا تزوّج امرأة على مهر مسمّى، ثمَّ طلقها بائناً ثمَّ تزوجها ثانياً على مهر آخر ثمَّ اختلعت من زوجها على مهرها يبرأ عن المهر الثاني دون الأوّل؛ لأنَّ الخلع وقع في هذا النكاح فينصرف إلى مهر هذا النكاح. وكذلك لو قالت بالفارسيّة: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ويهمه حقها كحرابرتواست» لا تبرأ عن المهر الأوّل، والله أعلم بالصواب.
تمَّ هذا الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في يوم الخميس في شهر ذي القعدة سنة أربعين وثمانمائة الهجرية على يد العبد الفقير الحقير، على ابن حمشيد بن حسن......... في مدينة الكرمان يتلوا في الدفتر الآخر.
نوع آخر منه
إذا اختلعت المرأة من زوجها على شيء آخر سوى المهر مهر بين ما فيه من كتاب الطلاق، .... الأوّل: في بيان أنواعه. الثاني: في بيان شرط صحّته وحكمه. الثالث: في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع. الرابع: فيما يرجع إلى صريح الطلاق. الخامس: في الكنايات والمشيئة والتفويض. ويتصل به إيقاع الطلاق على المبانة، وعلى المطلقة بصريح الطلاق. السادس: في الإيقاع بالكتاب، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين.
نوع آخر منه(3/641)
-----
إذا اختلعت المرأة من مهرها عن شيء آخر سوى المهر فهذا على وجوه: الأوّل: أن يسمّي في الخلع شيئاً لا قيمة له أصلاً نحو الخمر والخنزير والميتة والدّم، وفي هذا الوجه الخلع واقع، ولا شيء للزوج على المرأة؛ لأنّ الزائل بالخلع عن الزوج منافع البضع، ومنافع البضع غير متقوّمة في الأصل لعدم المماثلة، ولا تصير متقوّمة بنفس الخلع؛ لأنَّ الخلع بغير مال جائز، وإنّما تصير متقوّمة إذا سمّى في الخلع ما هو مال من كل وجه، والخمر وما أشبهها مال من وجه دون وجه؛ لأنّها إن كانت مالاً عند غيرنا فليس بمال عندنا، ولا يثبت التقوّم بتسميتها فوقع الخلع مجّاناً لهذا الوجه.
الوجه الثاني: أن يُسمّى في الخلع مالٌ احتمل أن يكون مالاً، وأن لا يكون (262أ1) مالاً بأن اختلعت على ما في بيتها، أو على ما في يدها من شيء، فإن اسم الشيء كما يتناول المال يتناول غير المال، وفي هذا الوجه ينظر إن كان في يدها أو في بيتها في تلك السّاعة شيء فذلك للزوج، وإن لم يكن في بيتها ولا في يدها شيء فلا شيء للزوج، وهذا لأنَّ البدل في العقود لا يثبت إلا بالتسمية أو بمقتضى العقد، أو بالإشارة، ولم يوجد ها هنا تسمية المال ...، وهذا ظاهر، ولا مقتضى العقد فإنَّ الخلع بغير مال صحيح، وكذلك لم توجد الإشارة إلى المال، فلم يثبت ذكر المال أصلاً، فلهذا يقع الخلع مجّاناً، وكذلك إذا اختلعت على ما في بطون غنمها أو جاريتها ولم ينصّ على الولد؛ فإن ما في البطن قد يكون مالاً، وقد لا يكون بأن تكون ريحاً.(3/642)
-----
الوجه الثالث: إذا سمّت في الخلع ما هو مال، إلا أنّه ليس بموجود في الحال، وإنّما توجد في الثاني بأن اختلعت على نمو نخيلها العام أو على ما تلد أغنامها العام، أو على ما تكسب العام، وفي هذا الوجه وجب عليها ردّ ما قبضت من المهر وجد ذلك أم لا؛ لأنَّ المعدوم لا يصح ذكره عوضاً في شيء من العقود فيبقى مجرّد تسمية ما هو مال متقوّم، وذلك يوجب ردّ ما قبضت من المهر على الزوج لما نُبَيِّن بعد هذا إن شاء الله.
الوجه الرّابع: إذا سمّت في الخلع ما هو مال لا يتعلق وجوده بالزمان إلا أنّه مجهول لا يقف على قدره، بأن اختلعت على ما في بيّتها أو يدها من المتاع، أو اختلعت على ما في نخيلها من الثمار، أو اختلعت على ما في بطون غنمها من ولد، أو على ما في ضرع غنمها من لبن، وفي هذا الوجه إن كان هناك ما سمّت في الخلع فللزوج ذلك، وإن لم يكن هناك شيء لزمها ردّ ما قبضت من المهر؛ لأنّه صار مغروراً من جهتها تسمية ما هو مال، ولا يمكن الرجوع إلى قيمة هذه الأشياء بجهالتها نفسها، ولا يمكن الرجوع إلى قيمة البضع عند الخروج عن ملك الزوج فوجب الرجوع إلى ما قام على الزوج، وذلك ما أعطاها من المهر.
الوجه الخامس: إذا سمّت في المتاع ما هو مال، وله مقدار معلوم بأن اختلعت على ما في يدها من دراهم، أو دنانير، أو فلوس، فإنَّ أوّل ما يطلق عليه اسم الدراهم ثلاثة، فإن كان مقداره معلوماً، وفي هذا الوجه ينظر إن كانت في يدها ثلاثة دراهم فصاعداً فللزوج ذلك، وإن لم يكن في يدها شيء من ذلك فله ثلاثة......... من الدراهم والدنانير وعدداً من الفلوس، وإنّما أوجبنا أوّل ما يطلق عليه اسم الدراهم والدنانير؛ لأنّها تلتزم بمقابلة ما ليس بمال ولا متقوّم، فكان هذا في حقّها .... الإقرار والوصيّة.(3/643)
-----
ومن أقرّ لغيره بدراهم أو أوصى له بدراهم، فإنّه يلزمه ثلاثة دراهم، وإن كان في يده درهمان يؤمر بإتمام ثلاثة دراهم؛ لأنها ذكرت ما التزمت باسم الجمع والمثنى إن كان فيه معنى الجمع فليس بجمع مطلق، فإنّ التثنية غير الجمع.
فإن قيل: قد ذكرت في كلامها كلمة (من) وإنّها للتبعيض والدرهمان بعض الجمع، ولا تلزمها الزيادة عليها.
قلنا: كلمة من إنها تذكر للتبعيض في كل موضع كان الكلام صحيحاً بدونها، أمّا في كلّ موضع كان الكلام مختلاً بدونها فكلمة من تكون صلة تصحيحاً للكلام، وها هنا الكلام يختلّ بدون كلمة من، فإنّها تصير قائلة: اخلعني على ما في يدي دراهم، وهذا كلام مختل فجعلناها صلة فبقي لفظ الجمع في الدراهم معتبراً.
جواب آخر: أنَّ كلمة من في مسألتنا عملت مرّة في التمييز؛ لأنّها دخلت على ما هو عام وهو قولها على ما بدىء فبقولها من الدراهم ميّزت الدراهم من غيرها، وإذا عملت في التمييز مرّة لا تعمل في التبعيض مرّة أخرى، وإذا لم تعمل هذه الكلمة في تبعيض الدراهم صار ذكرها في حقّ الدراهم ولا ذكر بمنزلة، ولو لم تذكر كلمة من وقالت: اخلعني على ما في الدارهم التي في يدي لزمها ثلاثة دراهم؛ لأنّه أقل ما يطلق عليه هذا الاسم.
الوجه السادس: إذا سمّت في الخلع ما هو مال، وأشارت إلى ما ليس بمال بأن اختلعت على هذا الدن من الخلّ فإذا هو خمر، وفي هذا الوجه: إن علم الزوج بكونه خمراً فلا شيء له، وإن لم يعلم رجع عليها بالمهر الذي أعطاها، وعندهما له مثل ذلك الدن من الخلّ، كما في الطلاق.
نوع آخر فيما يصلح جواباً، وما لا يصلح جواباً
رجل قالت له امرأته: اخلعني أو قالت: «خويشتن خريدم آزتو بعدت وكايين» وقال الرجل: أنتِ طالق، أو قال: طلقتك، يقع تطليقة بائنة؛ لأنَّ هذا خرج مخرج الجواب وإنّه يصلح جواباً فيجعل جواباً.(3/644)
-----
في «فتاوى أبي الليث»، وفي «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام أبي الحسن رحمه الله: أنّه تقع تطليقة رجعيّة، ولم يجعله جواباً والصحيح هو الأوّل، وهكذا كان يُفتي شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله، وكذلك إذا قال لها: بعت منك طلاقك بمهرك التي لك عليّ، فقالت: طلقت نفسي، يقع طلاق بائن بمهرها، بمنزلة قولها: اشتريت، لأنَّ هذا يصلح جواباً فيجعل جواباً.h
وفي «فتاوى النسفي» إذا قالت المرأة لزوجها: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدة»، وقال الزوج: «من دست كوتاه كردم» أنّه لا يكون جواباً، وقيل ينبغي أن يكون جواباً إذا نوى الجواب أو نوى الطلاق. قال لها: بعت منك تطليقة بمهرك ونفقة عدتك، فقالت المرأة: «بحان خريدم» يصحّ الخلع، ويقع الطلاق؛ لأنَّ هذا جواب على سبيل المبالغة، كقولها: «بارز وخريدم المتوسطون». إذا قالوا للمرأة «بهر حقّي كه ربان راد ركردن شوبان بود بيك طلاق خويشتن خريدي» فقالت: «خريدم»، فقال الزوج: «من يك طلاق نسيت داوم» والمرأة مدخولة بها يقع تطليقة رجعية؛ لأنّه لو وقع تطليقة بائنة لا يكون سنة، فيكون هذا ابتداء كلام من الزوج، لا جواب سؤالها.(3/645)
-----
هكذا ذكر في «فتاوى سمرقند»: ... إلا أنَّ هذا الجواب إنّما يستقيم على رواية «الأصل»؛ لأنَّ على رواية «الأصل»: الثاني ليس بشيء، وأمّا على رواية زيادات «الزيادات»: البائن شيء، ولا يستقيم هذا الجواب على تلك الرواية، إذا قال لامرأته «بهر حقي كه زنان رادر كردن شوعان بود خويشتن آزمن خريدي» فقالت: «خريدم»، فقال الزوج: (262ب1) «روا كنون» لا يقع الطلاق؛ لأنّ قوله «رواكنون» لا يحتمل الخلع؛ لأنّه يحتمل إظهار النفرة عنها لما علم بمقالتها، ولا يقع الطلاق إلا بالنيّة في هذا الموضع أيضاً، وهذا الجواب إنّما يستقيم على قول من يقول في قوله «خويشتن خريدي»، فقالت «خريدم» فإنّه لا يتمّ الخلع أيّضاً، وعلى قول من يقول يتمّ الخلع لا يستقيم هذا الجواب، وكذلك إذا قالت: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدة»، فقال الزوج: «رو» لا يقع الخلع ولا يكون قوله «رو» جواباً إلا بالنيّة.
امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم»، فقال الزوج بطريق الاستهزاء: «دارهان فرو حيت»، فقد قيل: الخلع صحيح. والجدّ والهزل والقصد وغير القصد فيه سواء. وإذا قالت لزوجها «هويشتن خريدم بعدت كايين»، فقال الزوج «فروختم بسه طلاق» فهذا ابتداء كلام من الزوج وليس بجواب فيتوقف على قبولها، فإن قبلت يقع الثلاث وإلا لا يقع شيء، إلا إذا كانت المرأة نوت الشراء بثلاث تطليقات، فحينئذٍ يصحّ الخلع، ويكون كلام الزوج جواباً فتقع الثلاث وكانت واقعة الفتوى.(3/646)
-----
امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم آزتو سكى حانادى»، فقال الزوج «زمن سكى كرده فروحتم» فقيل: إن كانت الكردة مثل الحانادي أو أصغر منه يكون جواباً، وإن كان أزيد منه لا يكون جواباً بل يكون ابتداءً، فيحتاج فيه إلى قبول المرأة، وإن كانت الكردات مختلفة يسأل الزوج: «كدام كرده خواشتي»، ويبق الحكم عليه، وإن قال: لم أرد نوعاً منها بعينه إن قيل: لا يجعل جواباً فله وجه، وإن قيل: يجعل جواباً يصرف كلامه إلى أصغر الأنواع فله وجه أيضاً، قال له: «خويشتن بخر بعدت وكايين» فقالت: «خريدم بكايين» لا يقع الخلع ما لم يقل الزوج بعت؛ لأنّ هذا الكلام من المرأة ليس بجواب؛ لأنّها زادت حرف الجواب، فإنّه يكفيها أن تقول: «خريدم» ولو قالت: «خريدم بعدت وكايين» يقع الخلع، فإن لم يقل الزوج بعت، فيجعل ذلك منها جواباً وإن زادت على حرف الجواب إلا أنّها ما قصدت على التمام بل أعادت جميع ما في السؤال، والزيادة على حرف الجواب إنّما يمنع الجواب إذاً، فيصير المجيب عن التمام بأن لم يعد جميع ما في السؤال، وأمّا إذا عاد جميع ما في السؤال لا يمنع الجواب، وهذا أصل معروف.
في «الجامع»: امرأة قالت لزوجها: «خو يشتن خريدم قروش»، فقال الزوج: فعلت، يكون خلعاً، ولو لم يقل: «قروش» لا يكون خلعاً، هكذا قيل وفيه نظر، وفي «فتاوى الأصل»: امرأة قالت لزوجها: اختلعت منك بكذا، وهو ينسج كرباس فجعل ينسج ويخاصم ثمَّ قال: خلعتك، إن لم يطل، فهذا جواب، وقيل: هو جواب وإن طال إذا كانت كلماتهم تتعلّق بالخلع، وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنّه سئل عن امرأة قالت لزوجها: اشتريت رأسي بكذا، فقال الزوج بعد اشتغال بكلمات: بعت، قال: إن كان كلامهم يتعلّق بالخلع، لا يتبدّل المجلس.(3/647)
-----
وفي «مجموع النوازل»: إذا قالت المرأة «خويشتن خريدم بعدت وكايين»، فقال الزوج «بيك آند» فهذا ليس بجواب، وفيه أيضاً: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدت»، فقال الزوج «فروختم باين وبسه عطريف ديكر»، فقالت المرأة: «آند»، فهذا خلع تام؛ لأنَّ كلامهما الأوّل وقع معتبراً، كلام الزوج جواب شرط الزيادة، وقوله: «آند» دليل الرضا بالزيادة، فلهذا تمّ الخلع، قالت: «خويشتن خيدم بمهري ونفقة عدتي»، فقال الزوج: «فروحتم بحكم خويشن» فهذا خلع تامّ. إذا قالت: «خويشتن خريدم بعدت وكايين»، وقال الزوج «فروحته كير»، فهذا خلع تام، وهذا إذا أراد به الزوج التحقيق، وقد مرّت المسألة من قبل.
امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم آزتو سكى حانادى»، فقال الزوج «زمن سكى كرده فروحتم» فقيل: إن كانت الكردة مثل الحانادي أو أصغر منه يكون جواباً، وإن كان أزيد منه لا يكون جواباً بل يكون ابتداءً، فيحتاج فيه إلى قبول المرأة، وإن كانت الكردات مختلفة يسأل الزوج: «كدام كرده خواشتي»، ويبق الحكم عليه، وإن قال: لم أرد نوعاً منها بعينه إن قيل: لا يجعل جواباً فله وجه، وإن قيل: يجعل جواباً يصرف كلامه إلى أصغر الأنواع فله وجه أيضاً، قال له: «خويشتن بخر بعدت وكايين» فقالت: «خريدم بكايين» لا يقع الخلع ما لم يقل الزوج بعت؛ لأنّ هذا الكلام من المرأة ليس بجواب؛ لأنّها زادت حرف الجواب، فإنّه يكفيها أن تقول: «خريدم» ولو قالت: «خريدم بعدت وكايين» يقع الخلع، فإن لم يقل الزوج بعت، فيجعل ذلك منها جواباً وإن زادت على حرف الجواب إلا أنّها ما قصدت على التمام بل أعادت جميع ما في السؤال، والزيادة على حرف الجواب إنّما يمنع الجواب إذاً، فيصير المجيب عن التمام بأن لم يعد جميع ما في السؤال، وأمّا إذا عاد جميع ما في السؤال لا يمنع الجواب، وهذا أصل معروف.(3/648)
-----
في «الجامع»: امرأة قالت لزوجها: «خو يشتن خريدم قروش»، فقال الزوج: فعلت، يكون خلعاً، ولو لم يقل: «قروش» لا يكون خلعاً، هكذا قيل وفيه نظر، وفي «فتاوى الأصل»: امرأة قالت لزوجها: اختلعت منك بكذا، وهو ينسج كرباس فجعل ينسج ويخاصم ثمَّ قال: خلعتك، إن لم يطل، فهذا جواب، وقيل: هو جواب وإن طال إذا كانت كلماتهم تتعلّق بالخلع، وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنّه سئل عن امرأة قالت لزوجها: اشتريت رأسي بكذا، فقال الزوج بعد اشتغال بكلمات: بعت، قال: إن كان كلامهم يتعلّق بالخلع، لا يتبدّل المجلس.
وفي «مجموع النوازل»: إذا قالت المرأة «خويشتن خريدم بعدت وكايين»، فقال الزوج «بيك آند» فهذا ليس بجواب، وفيه أيضاً: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدت»، فقال الزوج «فروختم باين وبسه عطريف ديكر»، فقالت المرأة: «آند»، فهذا خلع تام؛ لأنَّ كلامهما الأوّل وقع معتبراً، كلام الزوج جواب شرط الزيادة، وقوله: «آند» دليل الرضا بالزيادة، فلهذا تمّ الخلع، قالت: «خويشتن خيدم بمهري ونفقة عدتي»، فقال الزوج: «فروحتم بحكم خويشن» فهذا خلع تامّ. إذا قالت: «خويشتن خريدم بعدت وكايين»، وقال الزوج «فروحته كير»، فهذا خلع تام، وهذا إذا أراد به الزوج التحقيق، وقد مرّت المسألة من قبل.
نوع آخر
رجل قال لامرأته: كلّ شيء سألني الله تعالى من أجلك سبب المهر وغيره «ترفرو ختم بان طلاق كيه آن توست»، فقالت المرأة: اشتريت مرّة يقع الطلاق؛ لأنّه باع منها ما هو حقّها ولا يصحّ، كما لو قال لغيره: بعت منك خادمك هذا بعبدي هذا.
في «فتاوى أبي الليث»: ولو قالت: بعت منك مهري، ونفقة عدّتي اشتريت، فقال اشتريت «خيزورو» فقامت المرأة وذهبت فالظاهر أنّها لا تطلق؛ لأنّه ما باع نفسها ولا طلاقها منها، وإنّما اشترى مهرها، وهذا لا يكون طلاقاً في هذا الموضع أيضاً، وهذا إذا لم ينوِ الزوج بقوله «خيزورو» الطلاق.(3/649)
-----
إذا قال الرّجل لامرأته: بعت منك ثلاث تطليقات بمهرك ونفقة العدّة، فقالت المرأة مجيبة له: بعت، ولم تقل اشتريت، أو كان كأنّها بالفارسية فقال الزوج: «فروحتم سنه طلاق بكايين ونفقة عدّت تو» فقالت: «فروحتم» ولم تقل: «خريدم»، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: «أنت بهمه»، كأنّها قالت: بعت مهري ونفقة عدتي بهذه التطليقة، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله لا يقع؛ لأنّ كلامها لا يصح جواباً فكان ابتداء، وقول الفقيه أبي بكر أحب إلينا. إذا قال لها: بعت منك تطليقة، فقالت: اشتريت، تقع تطليقة رجعية مجّاناً، ولو قال: بعت منك نفسك، فقالت: اشتريت، تقع تطليقة بائنة؛ لأنَّ قوله بعت نفسك من كنايات الطلاق، وقوله بعتك تطليقة صريح. وإذا قالت: بعت منك مهري بتطليقة، فقال الزوج: اشتريت، تقع تطليقة بائنة. امرأة قالت لزوجها: «سيح روز ينست كه از خويشتن نمي حرم»، فقال الزوج: «من ينومي فروشم» لا يصحّ الخلع.
ولو قالت: «مردوز خويشتن في خرم» فقال الزوج «من ينومي فروشم» يصحّ الخلع، وقد قيل: لا يصح الخلع في الوجهين وهو الأصح. قالت لزوجها: «خويشتن خريدم آزتو ناوندي درهم فعلان سبه ناره جاه»، فقال الزوج: «فروختم تران كه ناده روزان حامها بمن وده روز كدشت ونداد» هل يصحّ الخلع؟ فقد قيل: لا يصحّ. وقال نجم الدين رحمه الله: الخلع صحيح تامّ؛ لأنَّ الشرط هو القبول دون الإعطاء منها وهو الصحيح، وقد مرّ جنس هذا في الفصل المتقدّم.(3/650)
-----
رجل قال لامرأته: «فروختي آين رزو سراي (263أ1) بدان طلاق كه ترا سوى منست»، فقالت: «فروختم»، فقال الزوج «خريدم» طلقت ثلاثاً، لأنَّ الطلاق الذي لها عنده الثلاث. قال: ألا يرى أنّه لو قال لها: مالك عندي من الوديعة دخل كل وديعة لها عنده؟ كذا ها هنا. هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» قالوا: إنّما يقع الثلاث إذا نوى الزوج والمرأة الثلاث، قال لها: بعت منك تطليقة بجميع مهرك، وبجميع ما في البيت غير ما عليك من القميص، فاشترت المرأة وكان عليها سوار وخلخال، فالخلع واقع، وما عليها من كسوتها وحليتها ما استثنى، وما لم يستثني فهو لها؛ لأنّ ما في البيت لا يراد به ما عليها.
إذا قال الرّجل لامرأته: اخلعي نفسك منّي بمهرك ونفقة عدّتك، ولغتها بالعربيّة حتّى قالت: اختلَعت منك بالمهر ونفقة العدّة وأبرأتك عن المهر ونفقة العدّة وهي لا تعلم بذلك. ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنّه إن قبل الزوج صحّ، وإن لم يقبل لا يصحّ؛ لأنَّ قوله اخلعي نفسك بالمهر ونفقة العدّة توكيل، والتوكيل لا يعمل بدون العلم من الوكيل، فإذا قالت اختلعت نفسي منك بالمهر ونفقة العدة كان هذا ابتداء إيجاب منه فيصحّ وإن لم يعلم بذلك، كمن طلّق أو أعتق أو دبّر وهو لا يعلم، وإذا صحّ الإيجاب يتوقف عمله على قبول الزوج، فإن قبل صحّ، ويبرأ عن المهر والنفقة فيما مضى بالإبراء صريحاً. وبعض مشايخنا على أنّه لا يصح الخلع، ولا يبرأ الزوج عن المهر إذا لم تعلم المرأة بذلك وهو الصحيح؛ لأنَّ الخلع معاوضة فصار بمنزلة البيع، والعوامّ لو قالوا: بعنا واشترينا ولا يعلمون ذلك لا يصح، بخلاف الطلاق والعتاق؛ لأن كل واحد منها إسقاط محض، والخلع ليس بإسقاط محض بل فيه معنى المعاوضة فكان .... البيع، ولا .... الطلاق والعتاق فلا يصحّ من غير علم لهذه.(3/651)
-----
رجل قال لامرأته: بعت منك تطليقة بثلاثة آلاف درهم، ثمَّ قال لها ثالثاً مثل ذلك، فقالت: اشتريت، والزوج يقول: أردت بذلك التكرار، لا يصدّق، ويقع ثلاث تطليقات، ولا يجب عليها إلا ثلاثة آلاف درهم، لأنَّ الأوّل وإن كان ثانياً أو الثاني والثالث صريح ولا يجب البدل بهما لانعدام شرط وجوب البدل بهما، وهو زوال الملك بهما لزواله بالطلاق الأوّل، وصريح الطلاق إذا لم يجب به المال يلحق الثاني بلا خلاف.
ولو قال لها: بعت منك هذا الثوب بمهرك ونفقة عدّتك، فقالت اشتريت ثمَّ طلقها، فبيع الثوب باطل بجهالة نفقة العدّة، ويقع الطلاق رجعيّاً؛ لأنَّه أتى بصريح الطلاق.
وفي «الأصل»: إذا قالت بعني طلاقي كلّه بألف درهم، فقال: بعت، وقع ثلاث تطليقات، وله ألف درهم سواء قبلت المرأة بعد ذلك أو لم تقبل وهو الصحيح؛ لأنَّ معنا قولها: بعني طلاقي كلّه بألف درهم، طلقني ثلاثاً بألف درهم، ولو قالت: طلقني ثلاثاً بألف درهم، فقال: طلقت، لا يحتاج إلى قبول المرأة بعد ذلك، كذا ها هنا، والله أعلم.
نوع آخر في العوارض بعد وقوع الخلع
ذكر في «فتاوى أبي الليث»: أنَّ من خلع امرأته على مال، ثمَّ زادت في بدل الخلع أنَّ الزيادة باطلة، لأنَّ هذه زيادة بعد هلاك المعقود عليه، وبهذا الطريق لم تصح الزيادة في بدل الصلح عن دم العمد. وفي «فتاوى النسفي»: سئل نجم الدين رحمه الله عمّن خلع امرأته ثمَّ قال في العدّة: «دادمت سه»، ولم يزد على هذا هل تطلق ثلاثاً؟ قال: إن نوى الطلقات الثلاث تطلق ثلاثاً، وإلا فلا. قال: لأنّه لم يتلفّظ بالطلاق فصار كأنّه قال لها: أنت واحدة، وهناك لا يقع الطلاق بغير نيّة فهنا كذلك، قيل: ينبغي أن لا يقع الطلاق مع النيّة؛ لأنَّ قوله «دادمت سه» ليس بصريح بل هو من جملة الكنايات، ولهذا شرطت النيّة، والكنايات لا تلحق المختلعة.(3/652)
-----
قال: الكنايات التي تقع بائناً لا تلحق المختلعة، وأمّا الكنايات التي تقع رجعيّاً، نحو قوله: اعتدي، اسبرئي رحمك وأنت واحدة لمجيئها، وهذا لأنَّ صحّة هذا اللفظ بالإضمار، فإنَّ معنى قوله: «دادمت سه» «دادمت سه» طلاق كأنّه صرّح بالطلاق، وصريح الطلاق يلحق البائن، والخلع قبل الواقع.
قوله «دادمت سه» مع النيّة الثلاث والثلاث تكون بائن، والمختلعة لا يلحقها البوائن، قال: المضمر صريح الطلاق، وصريح الطلاق لا يكون بائناً، وإنّما تثبت البينونة لا لأنَّ اللفظ للبينونة، لكن لأنَّ الواقع الثلاث .... إلا نوى أنّه لو طلقها مرتين ثمَّ قال لها أنتِ طالق صحّ، فإن كان يصير به ثلاثاً لما أنّه صريح كذا ها هنا. هكذا حكي عنه رحمه الله، وأظنُّ أنّه لا حاجة إلى هذا التكلّف، لأنّ الواقع بقوله «دادمت سه» مع نيّة الثلاث إذا سبقه الخلع تطليقتان، وأنهما لا تكونان بائنتان.
رجل خلع امرأته فقال لها بالفارسيّة «ديكر يده»، فقال الزوج.... قال أبو بكر رحمه الله: تقع الثلاث وصار كأنّه قال طلّق الباقي، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنّه يقع تطليقة أخرى لا غير؛ لأنَّ قوله «ديكر يده» بمنزلة قولها طلقها أخرى.
إذا باع من إمرأته تطليقة بمهرها ونفقة عدّتها واشترت هي كذلك، ثمَّ قال الزوج من ساعته «هرسه هرسه»، فخاف أن يقع عليه الثلاث. هكذا ذكر في «النوازل»؛ لأنَّ قوله «هرسه هرسه» ينصرف إلى الطلاق؛ لأنّه السابق ذكره فصار كأنّه قال: «أوقعت هرسه طلاق»، وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذ خلع إمرأته بتطليقة واحدة، فقال له رفقاؤه لِمَ فعلت هكذا؟ فقال بالفارسيّة «روسه باد» لا يقع بهذا الكلام شيء؛ لأنَّ هذا ليس بإيجاب.(3/653)
-----
وفي «فتاوى الفضلي»: إذا خالع إمرأته فقيل له: كم نويت؟ فقال شاءت، فإن لم يؤكد الزوج طلقت واحدة؛ لأنَّ تفويض المشيئة إليها ليس بشيء. وفي «فتاوى أهل سمرقند»: إذا قالت لزوجها اخلعني، وقالت بالفارسيّة «سه خوام»، فقال الزوج «سه باد»، ثمَّ خالعها بعد ذلك تطليقة تقع واحدة؛ لأنّه لم يقع بقول «سه باد» شيء، يعني الحكم للخلع وأنّه وقع بالواحدة، والله أعلم (263ب1).
نوع آخر منه
ذكر ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في امرأة اختلعت من زوجها بِمَالَها على الزوج من المهر والرضاع للولد التي هي حامل به إذا ولدته لسنتين، وذلك جائز، فإن ولدته فمات أو لم يكن في بطنها ولد منه، فإنّها تردّ قيمة الرضاع، قال بعد هذا ولو مات الولد أو ماتت بعد بيّنة، عليها قيمة رضاع ببيّنة، ولو شرطت أنّها إن ولدته ثمَّ مات قبل الحولين، فهي ترثه من قيمة الرضاع، فذلك جائز وهذا ممّا يجوز في الخلع.
قال بعد هذا: وكذلك لو قالت: على أن أحملك على دابتي هذه إلى مكّة، فإن بدا لك أن تخرج، ولا .... على فهو جائز.
وروى أبو سليمان عن محمّد عن أبي حنيفة رحمهم الله في المرأة تختلع من زوجها بنفقة ولد له منها ما عاشوا، فإنَّ عليها أن تردّ المهر الذي أخذت منه.
وروى هشام عن محمّد فيمن خلع امرأته على رضاع ابنه، ولم يسمّ لذلك وقتاً قال هو جائز وهو على سنتين.
ولو خلعها على رضاع ابنه سنتين، وعلى نفقة ابنه هذا عشر سنين يعني بعد الفطام. قال: فهو قبل السن هذا مجهول، قال: هذا يجوز في الطلاق.
وعلى هذا إذا خلعها على أن تمسك الولد سنتين وعلى أن تكسوه من مالها في هاتين السنتين، فالخلع جائز بهذا الشرط وإن كانت مجهولة لما ذكرنا، وإذا جاز الخلع بهذا الشرط فطلبت من الزوج كسوة الولد لم يكن لها ذلك، وإن لم تشترط ذلك في الخلع فلها أن تطالبه بكسوة الولد.(3/654)
-----
ولو خلعها على مهر وعلى أن ترضع الصبي في الحولين كلّ شهر بدرهم جاز، وتجبر المرأة على الرضاع يعني تجبر لأنّه لو لم تذكر للرضاع بدلاً معلوماً جاز، فهذا أولى.
وفي «النوازل»: اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدّتها، وعلى أن تمسك ولدها منه ستَّ سنين بنفقتها، فلما مضى عليها أيّام ردّت الولد على الزوج، أجبرت هي على إمساك الولد؛ لأنَّ الخلع بهذا الشرط قد صحّ فيجب عليها الوفاء بالشرط، وإن تركته على الزوج وتوارت وهربت فللزوج أن يأخذ قيمة النفقة منها؛ لأنها امتنعت عن إبقاء بدل الخلع، فيجب عليها قيمة البدل، كما لو اختلعت على عبد ومات العبد كان عليها قيمة العبد، كذا ها هنا.
وإذا طلّقها على أن تمسك ولده إلى وقت الإدراك ثمَّ إنّها أبت إمساك الولد أجبرت عليه، وإن أبت فعليها آخر مثل إمساكه إلى وقت الإدراك، وبعض مشايخنا قالوا: إذا وقع الخلع على إمساك الولد، وهو رضيع إن بيّن المدّة يصح وإن لم يبيّن المدّة لا يصح، وإنّه يخالف رواية هشام عن محمّد رحمهما الله على ما ذكرنا. وكذلك قالوا: إذا وقع الخلع على إمساك الولد وهو فطيم بنفقتها لا يجوز وإن بيّن المدّة، وإنّه يخالف رواية هشام عن محمّد، ويخالف المذكور في «مجموع النوازل».
وإذا اختلعت من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج، فالخلع جائز والشرط باطل في باب الولد عند من يكون في الفرقة.
نوع آخر(3/655)
-----
رجل خلع ابنته الصغيرة عن زوجها على مالها لم يجز؛ لأنَّ الخلع على مالها بمنزلة التبرّع بمالها؛ لأنّه يُقابل ما لها بما ليس بمتقوّم؛ لأنَّ منافع البضع لا قيمة لها عند الخروج على ملك الزوج، والأب لا يملك التبرّع بمال الصغير والصغيرة، ثمَّ قول محمّد رحمه الله في «الكتاب» إذا خالعها على مالها لا يجوز محتمل يحتمل أن لا يصحّ الخلع أصلاً، ولا يقع الطلاق، ويحتمل أن لا يصح جعل مالها بدلاً ويقع الطلاق، وقد اختلف المشايخ فيه، وقيل عن أصحابنا رحمهم الله: فيه روايتان: في رواية يقع الطلاق، وبه أخذ بعض المشايخ؛ لأنّه علّق الطلاق بقبول الأب، ولو علّق بشرط آخر هو فعل الأب كدخول الدار يقع الطلاق إذا وجد الشرط، كذا ها هنا. ولكن لا يجب المال؛ لأنَّ بدل الخلع تبرّع ومال الصغير لا يقبل التبرّع، ومنهم من قال لا يقع الطلاق إلا إذا قبلت الصغيرة عند الخلع؛ لأنَّ الأب إذا لم يضمن بدل الخلع كان هذا خلعاً مع ....، كأنّه خاطب الأثبت بذلك، فيتوقّف على قبولها والأوّل أصحّ، ولو خالعها على ألف وهي صغيرة على أنَّ الأب ضامن الألف، فالخلع واقع والألف واجب على الأب؛ لأن الأب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، واشتراط بدل الخلع على الأجنبي صحيح، فكذا على الأب من طريق الأولى.(3/656)
-----
ولو خالعها على ألف درهم وقبل الأب الخلع، ولكن لم يضمن بدل الخلع لا رواية في هذا الفصل عن محمّد، وقد اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يقع الطلاق ما لم تقبل الصغيرة، وقال بعضهم: يقع الطلاق بقبول الأب، ويجب المال على الأب؛ لأن عبارة الأب عنها في صغرها كعبارتها في كبرها، ولو قبلت بعدما كبرت وقع الطلاق ولزمها المال، فكذا إذا قبل الأب، وقال بعضهم: يقع الطلاق بقبول الأب، ولا يجب المال على الأب أصلاً لعدم الضمان وعلى الصغيرة؛ لأنَّ الصغيرة لا تحتمل التبرّع، وإذا خلعها الزوج على مهرها وهي صغيرة وقبل الأب وضمن ذلك يتمّ الخلع بقبول الأب، ويقع الطلاق ويجب بدل الخلع على الأب كما لو كانت بالغة، فبعد ذلك ينظر إن لم يدخل بها الزوج كان لها على الزوج نصف الصداق، تأخذ ذلك منه إذا بلغت ثمَّ يرجع الزوج على الأب بذلك، وإن دخل بها الزوج كان لها على الزوج جميع الصداق، ثمَّ يرجع الزوج على الأب، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أو يرجع الأثبت على الأب بنصف الصداق في الفصل الأوّل، وتملك الصداق في الفصل الثاني، ولا يرجع على الزوج.(3/657)