ولو باع المأذون جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام فأخذ المولى الجارية فباعها أو وطئها أو قبلها بشهوة أو فقأ عينها بغير محضر من المشتري وذلك بعد ما أخذها فإن كان المأذون لا دين عليه فهذا نقض للبيع والجارية للمولى وقد خرجت من تجارة العبد لأنها بالبيع بشرط الخيار تخرج من أن تكون كسب العبد والمولى مالك لكسبه إذا لم يكن عليه دين فيتمكن من أخذها منه وأحداث هذه التصرفات منه يوجب تقرير ملكه ومن ضرورته فسخ ذلك البيع.(25/341)
ص -168- ... ولهذا لو كان البائع حرا مالكا فتصرف فيه هذه التصرفات بغير محضر من المشتري انفسخ العقد به حكما فكذلك المولى إذا فعله انفسخ العقد حكما ولا يكون هذا من المولى حجرا خاصا في إذن عام
وكذلك لو قبضها المولى ثم قال قد نقضت البيع بمحضر من المشتري فالبيع منتقض لأنه بالقبض أخرجها من أن تكون كسبا للعبد فنقضه البيع فيها لا يكون حجرا خاصا في إذن عام لأن الإذن العام له في التصرف في كسبه وقد أخرجه من أن يكون كسبا له ولو قبضها ولم ينقض البيع حتى مضت الأيام الثلاثة جاز البيع والثمن للعبد على المشتري لأن بمجرد أخذها لا يكون فسخا للبيع فالأخذ قد يكون للحفظ والنظر فيها هل تصلح له أم لا؟
وإذا لم يفسخ البيع بالأخذ تم البيع بمضي الأيام وتملكها المشتري من وقت العقد فيكون الثمن للعبد على المشتري وإن كان على العبد دين في جميع ما وصفنا فنقض المولى البيع وأخذه الجارية باطل والبيع والخيار فيها على حاله لأن المولى ممنوع من أخذها لمكان الدين على العبد فلا يخرج بأخذه إياها من أن تكون كسبا للعبد فيكون نقضه البيع فيها حجرا خاصا في إذن عام.(25/342)
ولو اشترى المأذون جارية واشترط الخيار لمولاه ثلاثة أيام فإن نقض البيع المولى أو العبد فهو نقض لأن اشتراط الخيار لمولاه اشتراط منه لنفسه فإنه يجعل المولى نائبا عنه في التصرف بحكم الخيار وقد بيناه في البيوع فيما إذا اشترط الخيار لأجنبي فكذلك لمولاه وكذلك إن أجاز العقد أحدهما فهو جائز فإن نقض المولى البيع بمحضر من البائع وأجازه العبد فالسابق منهما أولى نقضا كان أو إجازة لأن بإجازة أحدهما أو لا يتم البيع فلا ينفرد الآخر بفسخه بعد ذلك وبنقض أحدهما أو لا ينفسخ البيع والمفسوخ لا تلحقه الإجازة وإن كان ذلك منهما معا فالنقض أولى من الإجازة لأن النقض يرد على الإجازة فالبيع التام يمكن نقضه والإجازة لا ترد على النقض فالبيع المنقوض لا تمكن إجازته وعند المعارضة الوارد يترجح على المورود عليه.
قال ألا ترى أن رجلا لو اشترى جارية بعبد على أنه بالخيار ثلاثة أيام في الجارية وتقابضا ثم أعتق المشتري الجارية عتقت وجاز البيع لأن خياره فيها خيار المشتري وذلك لا يمنعه من التصرف فيها لأنه لما كان يملك تنفيذ العتق في كل واحد منهما على الانفراد نفذ عتقه فيها وإن لم يعتقها ولكنه أعتق العبد عتق وهو فسخ منه للبيع لأن خياره فيه خيار البائع وذلك لا يمنع من التصرف فيما باع ومن ضرورة نفوذ تصرفه انفساخ البيع ولو أعتقها جاز عتقه فيها أيضا وينتقض البيع باعتبار نفوذ عتقه فيما باع وعليه قيمة الجارية لأنه تعذر ردها لما نفذ عتقه فيها وقد انتقض البيع فعليه رد قيمتها ومقصوده من هذا الاستشهاد بيان أن النقض أولى من الإجازة وقد بينا ما في هذه المسألة من الاختلاف في البيوع وكذلك لو باع المأذون جارية واشترط الخيار لمولاه ثلاثة أيام فنقضه العبد وأجازه المولى معا فالنقض أولى لما بينا.(25/343)
ص -169- ... ولو اشترى المأذون جارية وقد رآها مولاه ولم يرها العبد وعليه دين أو لا دين عليه فللعبد الخيار إذا رآها لأنه هو المشتري والشرع إنما أثبت خيار الرؤية للمشتري والعبد في أصل التسبب مباشر لنفسه كالحر وخيار الرؤية ينبني على السبب ثم رؤية المولى لا تكون دليل الرضا منه بها لأنه ما كان يعلم أن عبده يشتريها وإن كان العبد رآها قبل الشراء ولم يرها المولى لم يكن للمولى أن يردها كان على العبد دين أو لم يكن لأن العبد في الشراء متصرف لنفسه ورؤيته قبل العقد دليل الرضا منه بها والفسخ من المولى يكون حجرا خاصا في إذن عام ولو لم يرها واحد منهما قبل الشراء ثم رأياها فالخيار للعبد لأن خيار الرؤية يثبت باعتبار السبب والعبد في أصل السبب متصرف لنفسه فإن رضيها المولى جازت على العبد إن لم يكن عليه دين لأن الرضا تقرير بحكم السبب والعبد فيما يرجع إلى الحكم نائب عن المولى إذا لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين فرضا المولى باطل لأنه في الحكم أجنبي ما بقي من الدين شيء على العبد وإن نقض المولى البيع بمحضر من البائع فنقضه باطل كان على العبد دين أو لم يكن لأن النقض منه حجر خاص في إذن عام ولو رضيها المولى وردها العبد معا كان رد العبد أولى لما بينا أن النقض يرد على الإجازة والإجازة لا ترد على النقض.
وكذلك لو وجد بها عيبا قبل أن يقبضها فالعبد بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء تركها لأن خيار العيب قبل القبض بمنزلة خيار الرؤية.
ألا ترى أن الراد ينفرد به من غير قضاء ولا رضا وأنه لا يملك رد أحد العبدين به دون الآخر فإن رضيها المولى وعلى العبد دين فرضاه باطل وإن لم يكن عليه دين سوى ثمنها جاز رضا المولى عليه كما في خيار الرؤية وإن نقض المولى البيع فنقضه باطل كان عليه دين أو لم يكن لأنه خاص.(25/344)
قال ألا ترى أن رجلا لو اشترى لرجل جارية بأمره فلم يقبضها الوكيل حتى وجد بها عيبا فرضيها الآمر جاز وإن نقض الآمر البيع لم يجز نقضه وهذا إشارة إلى الحرف الذي بينا أن الرضا تصرف في الحكم وحكم تصرف الوكيل للموكل والنقض تصرف في السبب والوكيل أصل في السبب بمنزلة العاقد لنفسه فلم يجز نقض الموكل فيه فكذلك في المأذون مع مولاه.
ولو اشترى المأذون جاريتين بألف درهم فلم يقبضهما حتى قتلت إحداهما صاحبتها فالعبد بالخيار إن شاء أخذ الباقية بجميع الثمن وإن شاء نقض البيع ولو ماتت إحداهما موتا أخذ الباقية بحصتها من الثمن بخلاف الدابتين فهناك سواء قتلت أختهما صاحبتها أو ماتت أخذ الباقية بحصتها من الثمن وقد بينا هذا الفرق في كتاب الرهن أن فعل البهيمة هدر شرعا فالتي هلكت فاتت ولم تخلف بدلا فسقطت حصتها من الثمن وفعل الآدمي معتبر شرعا فإذا اختار المشتري أخذ الباقية انفسخ البيع في التي هلكت وتبين أن ملكه جنى على ملك البائع(25/345)
ص -170- ... فوجب اعتباره ودفع القاتل بالمقتول فتبين أنه فات وأخلف بدلا فيبقي العبد ببقاء البدل فلهذا أخذ الباقية بجميع الثمن وثبوت الخيار له لتفرق الصفقة قبل التمام.
ولو اشترى المأذون جارية واشترط الخيار في الثمن فذلك اشتراط منه للخيار في الجارية سواء كان الثمن عينا أو دينا دفع الثمن أو لم يدفع لأن الخيار إنما يشترط لفسخ العقد أو لا لتنعدم صفة اللزوم به وهذا لا يختص بأحد العوضين فاشتراط الخيار في أحد العوضين يكون اشتراطا في الآخر ضرورة وتقرير كلامه كأنه قال إن رضيت أسلم لك الثمن فيما بيني وبين ثلاثة أيام سلمت وإن شئت أخذت الثمن ولم أسلمه لك ولو صرح بهذا كان ذلك منه شرطا للخيار في العوضين.
ولو اشترى ثوبين كل ثوب بعشرة على أن يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر فهلك أحدهما عند البائع فالمشتري على خياره في الباقي لأن الخيار كان ثابتا للمشتري فيهما والذي هلك عند البائع انفسخ البيع فيه لفوات القبض المستحق بالعقد فيبقي هو على خياره في الباقي ولو هلك أحدهما عند المشتري لزمه البيع فيه لأنه لما أشرف على الهلاك فقد عجز عن رده حكما كما قبضه فيتعين البيع فيه ثم يهلك على ملكه ومن ضرورته تعين الرد في الآخر.(25/346)
ولو حدث بأحدهما عيب عند المشتري لزمه الذي حدث به العيب لأنه عجز عن رده كما قبضه بخلاف ما إذا حدث بأحدهما عيب عند البائع أو بهما فالمشتري على خياره لما بينا ولو باع المأذون من رجل ثوبين على أن البائع بالخيار يلزمه أيهما شاء بعشرة ويرد الآخر فهذا وخيار المشتري سواء والقياس فيها أن البيع باطل وفي الاستحسان هو جائز على ما اشترطا وقد بينا ذلك في البيوع فإن قبضها المشتري فهلك أحدهما عنده فهو أمين فيما هلك والبائع بالخيار إن شاء لزمه الباقي بعشرة لأنه قبض أحدهما على جهة البيع والآخر لا على جهة البيع فكان أمينا فيما قبضه بإذن المالك لا على جهة البيع والبيع ها هنا في الهالك لم يتعين بل تعين في الباقي ضرورة.
ألا ترى أن البائع ليس له أن يلزمه الهالك لأن تعيين البيع فيه كإنشاء البيع وإنشاء البيع في الهالك لا يتحقق فكذلك تعين البيع فيه وإذا ثبت أن البيع متعين في الباقي فالبائع فيه بالخيار ثبت بعين الأمانة في الهالك ولو لم يهلك واحد منهما ولكن حدث بأحدهما عيب عند المشتري كان البائع على خياره لأنه لا تأثير للعيب الحادث عند المشتري في إسقاط خيار البائع فالمعيب محل ابتداء العقد كالتسليم بخلاف الهالك فلهذا كان البائع على خياره يلزمه أيهما شاء فإن نقض البيع فيهما أخذهما ونصف قيمة المعيب في القياس لأن المعيب كان متردد الحال بين أن يكون مضمونا باعتبار تعين العقد وبين أن يكون أمانة باعتبار تعين البيع في الآخر وبحدوث العيب فات جزء منه فيتنصف ضمان ذلك الجزء باعتبار التردد فيه.
ألا ترى أن البائع لو ألزم المشتري الصفقة فيه كان فوات ذلك الجزء على المشتري؟ فلو لزمه في الآخر كان فوات ذلك الجزء على البائع فإذا نقض البيع فيهما كان على المشتري(25/347)
ص -171- ... نصف قيمة المعيب ولكن في الاستحسان لا يأخذ من قيمة المعيب شيئا لأن فوات الجزء معتبر بفوات الكل.
ولو هلك أحدهما في يد المشتري لم يضمن من قيمته شيئا للبائع وإن فسخ البائع العقد في الآخر فكذلك إذا تعيب في يده ولو هلك أحد الثوبين عند البائع كان له أن يوجب البيع في الباقي وإن شاء نقضه لأن الهالك خرج من العقد فيبقي خيار البائع في الباقي كما كان ولو لم يهلك وحدث بأحدهما عيب عند البائع فهو على خياره فإن اختار إلزام المشتري الثوب المعيب كان المشتري بالخيار لأن البائع لما عين العقد فيه التحق بما لو كان البيع متعينا فيه في الابتداء وقد تعيب عند البائع فيتخير المشتري بين أن يأخذه أو يتركه وإذا رده فليس للبائع أن يلزمه الآخر لأن تعيينه العيب في المبيع يوجب انتفاء العقد عن الآخر ضرورة فكيف يلزمه العقد في الآخر بعد ما انتفى العقد عنه والله أعلم.
تم الجزء الخامس والعشرون، ويليه: الجزء السادس والعشرون
وأوله: باب البيع على أنه إن لم ينقد الثمن، الخ.(25/348)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء السادس والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(26/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
باب البيع على أنه إن لم ينقد الثمن فلا بيع بينهما
قال رحمه الله: وإذا اشترى المأذون جارية بألف درهم على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز منه بمنزلة اشتراط الخيار ثلاثة أيام كما يجوز من الحر وقد بيناه في كتاب البيوع وبينا أنه لو كان الشرط إن لم ينقد الثمن إلى أربعة أيام فلا بيع بينهما كان البيع فاسدا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وفي قول محمد رحمه الله هو جائز على ما اشترطا ووقع في بعض النسخ وقال أبو يوسف هو جائز على ما اشترطا وهو غلط والصحيح أن أبا يوسف فرق بين هذا وبين اشتراط الخيار أربعة أيام وبينا ذلك في البيوع وكذلك لو اشتراها وقبضها ونقد الثمن علي أن البائع إن رد الثمن على المشتري ما بينه وبين ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز على ما اشترطا وهو بمنزلة اشتراط الخيار للبائع.
ولو اشتراها علي أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فقبضها وباعها نفذ بيعه لأن خيار المشتري لا يمنعه من التصرف فيها والبيع تام لازم من جانب البائع فإن مضت الأيام الثلاثة قبل أن ينقده الثمن فلا سبيل للبائع على الجارية ولكنه يتبع المشتري بالثمن لأن من ضرورة نفوذ بيعه فيها سقوط خياره ولأن امتناعه من إيفاء الثمن في آخر جزء من الأيام الثلاثة بمنزلة فسخ البيع منه وفسخه للبيع فيها بعد ما باعها باطل فإذا جاز البيع والجارية ملك المشتري الثاني علمنا أنه لا سبيل للبائع عليها ولكنه يتبع المشتري منه بالثمن.(26/2)
وكذلك لو قتلها المشتري أو ماتت في يده أو قتلها أجنبي آخر حتى غرم قيمتها في الأيام الثلاثة لأن حدوث هذه المعاني في يد المشتري في مدة خياره يكون مسقطا خياره لما فيه من فوات محل الفسخ وهذا في الموت ظاهر وكذلك في قتل الأجنبي لأن القيمة الواجبة على القاتل لأجل ملك المشتري والعقد فيها فلا ينتهي بالقبض فلا يتحول العقد إلى ملك القيمة.
ألا ترى أنه يجوز الفسخ بالتحالف والرد بالعيب باعتبار القيمة الواجبة على القاتل بعد قبض المشتري فكذلك الفسخ بخيار الشرط فإن كان المشتري وطئها وهي بكر أو ثيب في الأيام الثلاثة أو جنى عليها جناية أو أصابها عيب من غير فعل أحد ثم مضت الأيام الثلاثة قبل أن ينقد الثمن فالبائع بالخيار إن شاء أخذها ولا شيء له غيرها وإن شاء سلمها للمشتري لأن امتناع المشتري من نقض الثمن حتى مضت الأيام الثلاثة فسخ منه للبيع ولو فسخ البيع(26/3)
ص -4- ... قصدا تخير البائع لحدوث ما حدث فيها عند المشتري فكذلك إذا لم ينقد الثمن حتى مضت الأيام.
ولو كان الواطئ أو الجاني أجنبيا فوجب العقر أو الأرش لم يكن للبائع على الجارية سبيل لحدوث الزيادة المنفصلة المتولدة في يد المشتري فإن ذلك يمنع الفسخ بعد تمام البيع في جانب البائع حق للشرع وإنما له الثمن على المشتري ولو كان حدث فيها عيب من فعل الجاني الأجنبي بعد مضي الأيام الثلاثة فالبائع بالخيار إن شاء أخذ الجارية واتبع الجاني بموجب ما أحدثه فيها من وطء أو جناية وإن شاء سلمها للمشتري بالثمن فإن سلمها للمشتري بالثمن كان للمشتري أن يتبع الأجنبي بذلك لأن بمضي الأيام الثلاثة قبل نقد الثمن انفسخ البيع فبقيت الجارية في يد المشتري مضمونة بعد الفسخ فيكون بمنزلة الجارية التي في يد البائع قبل التسليم إذا حدث فيها بفعل الأجنبي شيء من ذلك وهناك يتخير المشتري بين أن يأخذها بالزيادة وبين أن ينقض البيع فيها فكذلك بعد الفسخ يتخير البائع وهذا إذا كان الأجنبي وطئها وهي بكر حتى تمكن نقصان في ماليتها بالوطء فإن كانت ثيبا لم ينقصها الوطء أخذها البائع وأخذ عقرها من الأجنبي ولا خيار له في تركها لأن ثبوت الخيار باعتبار النقصان في المالية في ضمان المشتري ولم يوجد وقد طعن عيسى رحمه الله في هذا الجواب وقال للبائع أن لا يقبلها لأن الوطء كالجناية والمستوفى بالوطء في حكم جزء من العين وقيل في تخريجه أن قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أن المشتري لو كان هو الواطئ بعد مضي الأيام لم يلزمه شيء ولم يتخير البائع فإذا كان الواطئ أجنبيا فوجب العقر وتمكن البائع من أخذها مع العقد أولى أن لا يثبت له الخيار وأصل المسألة في المبيعة إذا وطئها البائع قبل التسليم وهي ثيب لم يتخير المشتري عند أبي حنيفة وكذلك إن وطئها أجنبي أخذها المشتري مع عقرها ولم يتخير فكذلك البائع في هذا الفصل.(26/4)
ولو كان المشتري هو الذي قطع يد الجارية أو افتضها وهي بكر بعد مضي الأيام الثلاثة فالبائع بالخيار إن شاء سلمها للمشتري بالثمن وإن شاء أخذها ونصف ثمنها في القطع لتغير الجارية في ضمان المشتري بعد الفسخ والأوصاف تضمن بالتناول مقصودة فيتقرر على المشتري حصة اليد من الثمن وكذلك كل جناية جنى عليها أخذ نقصانها من الثمن إذا اختار البائع أخذها وإن كان اقتضها لم ينظر إلى عقرها ولكن ينظر إلى ما نقصها الوطء من قيمتها فيكون على المشتري حصة ذلك من ثمنها في قول أبي حنيفة وعندهما ينظر إلى الأكثر من عقرها ومما نقص الوطء من قيمتها فيكون على المشتري حصة ذلك من ثمنها وإن كان لم ينقصها الوطء شيئا أخذها البائع ولا شيء على المشتري في الوطء في قول أبي حنيفة وعندهما يقسم الثمن على قيمتها وعلى عقرها فيأخذها البائع وحصة العقر من ثمنها وأصل المسألة في البائع إذا وطى ء الجارية المبيعة قبل القبض وقد بينا ذلك في البيوع فحال المشتري ها هنا بعد الفسخ كحال البائع قبل التسليم هناك لأنها في ضمان ملكه حتى لو هلكت(26/5)
ص -5- ... قبل الرد كان هلاكها على ملكه كما في المبيعة قبل القبض فيستوي تخريج الفصلين على الاختلاف الذي بينا.
ولو كانت ولدت ولدا في الأيام الثلاثة ثم مضت الأيام وهما حيان ولم ينقد الثمن فالجارية وولدها للمشتري بالثمن ولا خيار للبائع في ذلك لأجل الزيادة المنفصلة المتولدة في يده قبل الفسخ ولو لم تلد ولكنها قد ازدادت في يده كان للبائع أن يأخذها بزيادتها لأن الزيادة المتصلة لا معتبر بها في البيع ولا يمنع الفسخ لأجلها كما في الفسخ بسبب العيب
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة الزيادة المتصلة هنا كالزيادة المنفصلة وهو نظير ما بينا من اعتبار الزيادة المتصلة في المنع من الفسخ بسبب التحالف وفي المنع من التصرف في الصداق بالطلاق.
ولو كانت ولدت بعد مضي الأيام ونقصتها الولادة فالبائع بالخيار للنقصان الحادث فيها من يد المشتري كما لو تعيبت بعيب آخر وهذا لأن الزيادة المنفصلة بعد الفسخ لا تمنع من استردادها وتأثير نقصان الولادة في إثبات الخيار للبائع لا في تعذر الرد به ولو ماتت بعد مضي الأيام الثلاثة ولم تلد فعلى المشتري الثمن لأن العقد وإن انفسخ فقد تعيب في ضمان المشتري فإذا هلكت بطل ذلك الفسخ كما إذا هلكت المبيعة قبل القبض بطل البيع.(26/6)
ولو كانت ولدت بعد مضي الأيام الثلاثة ثم ماتت وبقي ولدها فالبائع بالخيار إن شاء سلم الولد للمشتري وأخذ منه جميع الثمن وإن شاء أخذ الولد ورجع على المشتري بحصة الأم من الثمن وهو لأن الولد لما صار مقصودا بالاسترداد كان له حصة من الثمن وهو بمنزلة المبيعة إذا ولدت قبل القبض ثم ماتت الأم وبقي الولد فكما يتخير المشتري هناك يتخير البائع هنا ولو كان اشترى الجارية بعرض بعينه على أنه إن لم يعط البائع ذلك إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز بمنزلة شرط الخيار فإن حدث بالجارية عيب في يد المشتري أو فقأ عينها أو وطئها وهي بكر أو ثيب أو فعل ذلك أجنبي ثم مضت الأيام قبل أن يعطيه البائع فهذا وما وصفنا من الدراهم سواء لاستوائهما في المعنى.
ولو مضت الأيام قبل أن يعطي المشتري البائع ما شرطه ثم هلكت الجارية في يد المشتري أو قتلها كان للبائع على المشتري قيمتها ولا سبيل له على ثمنها لأن بمضي الأيام الثلاثة انفسخ البيع وهلاك أحد العوضين في المقابضة بعد الفسخ لا يمنع بقاء الفسخ لبقاء العرض الآخر وإذا بقي الفسخ تعذر على المشتري رد عينها فيرد قيمتها بخلاف البيع بالدراهم. ولو ذهبت عينها أو فقأها المشتري أخذ البائع الجارية ونصف قيمتها ولا سبيل له على الثمن لأن العين من الآدمي نصفه ففوات نصفها بعد الفسخ معتبر بفوات كلها ولو كان أجنبي فقأ عينها أو قتلها كان البائع بالخيار إن شاء أخذ قيمتها في القتل من مال المشتري حالا وإن شاء رجع بها على عاقلة القاتل في ثلاث سنين فإن أخذها من المشتري رجع بها على عاقلة القاتل لأنها بعد الفسخ مملوكة للبائع مضمونة في يد المشتري بنفسها كالمغصوبة.(26/7)
ص -6- ... وأما في فقء العين فإن البائع يأخذ الجارية ويتبع بإرش العين المشتري أو الجاني أيهما شاء حالا كما في المغصوبة إذا فقأ إنسان عينها في يد الغاصب فإن أخذه من المشتري رجع به المشتري على الجاني ولا سبيل للبائع في شيء من هذه الوجوه على الثمن لأنه لا يتمكن من أخذ ذلك إلا بفسخ ذلك العقد وبقاء أحد العوضين يمنعه من ذلك بخلاف ما إذا كان حدوث هذه المعاني قبل مضي الثلاثة لأن هناك العقد قائم بينهما حين حدث ما حدث ومضي الأيام الثلاثة بمنزلة الفسخ من المشتري قصدا وفسخه بعد ما تعيب في يده لا يكون ملزما للبائع فمن هذا الوجه وقع الفرق.
ولو باع المأذون أو الحر جارية بألف درهم فتقابضا على أن البائع إن رد الثمن على المشتري إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما ثم أن المشتري وطى ء الجارية أو فقأ عينها في الأيام الثلاثة فإن رد البائع الثمن على المشتري كان له أن يأخذ جاريته ويضمن المشتري بالوطء عقرها وفي الفقء نصف قيمتها لأن هذا الشرط بمنزلة خيار البائع والمبيعة قائمة على ملك البائع في يده على خياره فإذا تقرر ملكه بفسخ البيع ظهر أن جناية المشتري ووطأه حصلا في ملك الغير فعليه العقر والأرش وإن مضت الأيام الثلاثة قبل أن يرد الثمن تم البيع ولا شيء على المشتري من العقر والأرش لأن خيار البائع إذا سقط ملكها المشتري من وقت العقد بزيادتها فلا يلزمه العقر والأرش لأن فعله حصل في ملكه حكما.
ولو كان أجنبي فعل ذلك ثم رد البائع الثمن في الأيام الثلاثة أخذ جاريته ونصف قيمتها ففي فقء العين إن شاء من المشتري ويرجع به المشتري على الفاقئ وإن شاء من الفاقئ لأنها كانت مملوكة للبائع مضمونة بنفسها في يد المشتري كالمغصوبة وفي الوطء إن كانت بكرا فكذلك الجواب لأن الوطء ينقص ماليتها وهي مضمونة في يد المشتري بنفسها(26/8)
وإن كانت ثيبا لم ينقصها الوطء أخذها البائع واتبع الواطئ بعقرها ولا سبيل له على المشتري لأن المضمون على المشتري ماليتها ولم يتمكن نقصان في ماليتها بهذا الوطء وهي كالمغصوبة إذا وطئها أجنبي في يد الغاصب وهي ثيب ولو لم يرد البائع الثمن حتى مضت الأيام الثلاثة تم البيع واتبع المشتري الفاقئ أو الواطئ بالأرش والعقر لأنه عند سقوط الخيار للبائع ملكها من وقت العقد بزوائدها المنفصلة.
ولو كان البائع هو الذي وطئها وفقأ عينها فقد انتقض البيع رد الثمن بعد ذلك أو لم يرد ويأخذ جاريته لأن فعله ذلك تقرير لملكه حين عجز نفسه عن تسليمها كما باعها ولو فعل ذلك بعد مضي الثلاث ولم يرد الثمن فعليه الأرش والعقر للمشتري لأن بمضي الثلاث تم البيع وتأكد ملك المشتري بكونها في يده ففعل البائع فيها كفعل أجنبي آخر فيلزمه عقرها وأرشها للمشتري والله أعلم.
باب الشفعة في بيع المأذون وشرائه
قال رحمه الله: ولا شفعة للمولى فيما باع عبده المأذون أو اشتراه إذا لم يكن عليه دين لأنه يبيع ملك المولي له ولا شفعة في البيع لمن وقع البيع له ولا فائدة في أخذ ما اشتراه(26/9)
ص -7- ... بالشفعة لأنه متمكن من أخذه لا بطريق الشفعة فإنه مالك لكسبه إذا لم يكن عليه دين والأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وشراؤه كسب عبده إذا لم يكن عليه دين باطل وكذلك لا شفعة للعبد فيما باع مولاه أو اشتراه لأنه إذا لم يكن عليه دين فإنما يأخذ ما باعه المولى بالشفعة له ولا شفعة للبائع ولا يفيد أخذه بما اشتراه المولى بالشفعة لأن المولى متمكن من استرداد ما في يده منه فيكون متمكنا من منعه من إثبات اليد عليه أيضا فإن كان على العبد دين فالشفعة واجبة لكل واحد منهما في جميع هذه الوجوه لأن كسبه حق غرمائه والمولى كالأجنبي منه فيكون أخذ كل واحد منهما من صاحبه في هذه الحالة مفيدا بمنزلة شرائه ابتداءا لا في وجه واحد وهو ما إذا باع العبد دارا بأقل من قيمتها بما يتغابن الناس أو بغير ذلك لم يكن للمولى فيها الشفعة لأنه لو وجبت له الشفعة أخذها من العبد قبل التسليم إلى المشتري فيكون متملكا عليه الدار بأقل من قيمتها.(26/10)
ولو باع العبد منه بالغبن لم يجز لحق غرمائه ويستوي في حقهم الغبن اليسير والفاحش كما في تصرف المريض في حق غرمائه ولا يمكن الأخذ بمثل القيمة لأن ما لم يكن ثمنا في حق المشتري لا يثبت ثمنا في حق الشفيع ولو باع العبد من مولاه دارا ولا دين عليه والأجنبي شفيعها فلا شفعة له لأن ما جرى بينهما ليس ببيع حقيقة فالبيع والثمن كلاهما خالص ملك المولى ومبادلة ملكه بملكه لا تجوز وقد كان متمكنا من أخذها بدون هذا البيع فلا يكون هذا البيع مفيدا والأسباب الشرعية تلغو إذا كانت خالية عن فائدة فإذا كان عليه دين وكان البيع بمثل القيمة أو أكثر فله الشفعة لأن هذا بيع صحيح بينهما فالدار كانت حقا لغرمائه وكان المولى ممنوعا من أخذه قبل الشراء وبالشراء يصير هو أحق بها وباعتبار البيع الصحيح تجب الشفعة للشفيع وإن باعها بأقل من قيمتها فلا شفعة للشفيع فيها في قول أبي حنيفة لأن عنده بيع المأذون من مولاه بأقل من قيمته باطل كبيع المريض من وارثه وهذا لأن المولي يخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث فتتمكن التهمة بينهما في حق الغرماء والشفعة لا تستحق بالبيع الباطل وعندهما للشفيع أن يأخذها بقيمتها أو يتركها لأن من أصلهما أن المحاباة لا تسلم للمولى ولكن لا يبطل أصل البيع بسبب المحاباة بل يتخير المولى بين أن يزيل المحاباة فيأخذها بقيمتها وبين أن يتركها فكذلك الشفيع يتخير في ذلك وهذا لأن الاستحقاق بحكم هذا البيع ثابت للمولى بمثل القيمة إذا رضي به فيثبت ذلك للشفيع لأن الشرع قدم الشفيع على المشتري في الاستحقاق الثابت بالبيع فإن تركها الشفيع أخذها المولى بتمام القيمة إن شاء.(26/11)
وإن كان المولى هو البائع من غيره بمثل قيمته ولا دين عليه فلا شفعة فيها لأن ما جرى بينهما ليس ببيع مفيد وإن كان عليه دين كان البيع صحيحا لكونه مفيدا والشفعة واجبة للشفيع وإن باعها منه بأكثر من قيمتها فعند أبي حنيفة البيع باطل لأجل الزيادة وكون العبد متهما في حق مولاه.(26/12)
ص -8- ... ألا ترى أن إقراره لمولاه لا يجوز بشيء إذا كان عليه دين فكذلك المحاباة والزيادة منه لمولاه وإذا بطل البيع لم تجب الشفعة للشفيع وعندهما المولى بالخيار إن شاء سلم الدار للعبد بقدر القيمة وإن شاء استردها لأن التزام العبد الزيادة لمولاه لم تصح.
وأما أصل البيع بمثل القيمة فصحيح فثبوت الخيار للمولى لانعدام الرضا منه بذلك فإن سلمها له بالقيمة أخذها الشفيع بذلك لأن الاستحقاق ثابت بالقيمة عند رضاه بها وإن أبى كان للشفيع أن يأخذها من المولى بجميع الثمن إن شاء لأن رهنا المولى قد تم بالبيع بجميع الثمن وذلك يكفي لوجوب الشفعة كما لو أقر ببيعها وأنكر المشتري ثم عهدة الشفيع على المولى لأنه تملكها عليه بالأخذ من يده فهو بمنزلة ما لو اشتراها منه ابتداء.
وإذا سلم المأذون شفعته وجبت له وعليه دين أو لا دين عليه فتسليمه جائز لأنه يملك الأخذ بالشفعة فيملك تسليمها لأن كل واحد منهما من صنيع التجار كما أن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء فتسليمها بمنزلة ترك الشراء والإقالة بعد ذلك والمأذون مالك كذلك
وإن سلمها مولاه جاز تسليمها إن لم يكن عليه دين بمنزلة الإقالة فيما اشتراه العبد لأنه لو باعها ابتداء من هذا الرجل أو من غيره بعد ما أخذها العبد جاز فكذلك إذا سلم شفيعها له.(26/13)
وإن كان على العبد دين فتسليم المولى باطل بمنزلة إقالته وبيعه ابتداء وهذا لأن كسبه حق غرمائه والمولى جعل كالأجنبي بالتصرف فيه فكذلك في إسقاط حقه فإن لم يأخذه العبد حتى استوفى الغرماء دينهم أو أبرأوا العبد من دينهم سلمت الدار للمشتري بتسليم المولى الشفعة لأن تسليم المولى الشفعة بمنزلة سائر تصرفاته في كسب العبد المديون وذلك كله ينفذ بسقوط حق الغرماء التبرعات والمعاوضات فيه سواء ولو حجر المولى عليه بعد وجوب الشفعة له وفي يده مال وعليه دين أو لا دين عليه لم يكن له أن يأخذها بالشفعة كما لا يكون له أن يشتريها ابتداء بما في يده من المال بعد الحجر عليه وإن لم يحجر عليه وأراد المولى الأخذ بالشفعة فله ذلك إذا لم يكن على العبد دين لأن العبد إنما يأخذ للمولى ولأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وللمولى أن يشتري بكسب عبده إذا لم يكن عليه دين كما يكون ذلك للعبد فكذلك حكم الأخذ بالشفعة.
وإن كان عليه دين لم يكن له ذلك إلا أن يقضي الغرماء دينهم فإن قضاهم ديونهم كان له أن يأخذ بالشفعة لزوال المانع وإن كان عليه دين فأراد الغرماء أن يأخذوا بالشفعة لم يكن لهم ذلك لأن حق الأخذ بالشفعة باعتبار الجواز وذلك ينبني على ملك العين والغرماء من ملك عين الدار التي هي كسب العبد كالأجانب حتى لا يكون للغرماء استخلاصها لهم وأما حقهم في ماليتها فبمنزلة حق المرتهن ولا يستحقون الشفعة بخلاف المولى فإنه مالك للعين إذا لم يكن على العبد دين فيكون له أن يأخذها بالشفعة لتقرر السبب في حقهم.
ولو حجر عليه بعد وجوب الشفعة ثم أراد المولى أن يأخذها بالشفعة ولا دين على العبد فله أن يأخذها إن سلم العبد بعد الحجر أو لم يسلم لأن التسليم إنما يصح ممن يملك(26/14)
ص -9- ... الأخذ والعبد بعد الأخذ لا يملك الأخذ بالشفعة إلا أن يقضي الغرماء دينهم فإن فعل ذلك كان له أن يأخذها بالشفعة لزوال المانع سواء سلم العبد الشفعة بعد الحجر أو لم يسلم وهذا على أصل أبي حنيفة ومحمد ظاهر لأن عندهما المولى مالك لكسبه مع قيام الدين عليه وإن كان هو ممنوعا منه وعند أبي حنيفة وإن لم يكن مالكا فهو أحق بكسبه إذا قضى الدين والشفعة تستحق عليه كالتركة المستغرقة بالدين إذا بيعت دار بجنب منها كان للوارث أن يأخذها بالشفعة بعد ما قضي الدين.
وإذا اشترى المأذون دارا ولها شفيع يريد أخذها فوكل الشفيع مولى العبد يأخذها له وبالخصومة فيها وعلى العبد دين أو لا دين عليه فالوكالة باطلة لأنه لو صح التوكيل ملك الوكيل التسليم في مجلس الحكم وفي ذلك منفعة للمولى وهذا لا يصلح أن يكون وكيلا في استيفاء حق الغير من عبده فلهذا النوع من المنفعة له في ذلك كما لو وكله غريم العبد باستيفاء دينه من العبد فإن كان عليه دين فسلمها العبد للمولى بالشفعة صارت الدار للشفيع ولا يجوز قبض المولى الدار من العبد على الشفيع حتى يقبضها الشفيع من المولى والعهدة فيما بين العبد والشفيع ولا عهدة فيما بين المولى وعبده لأن الوكالة لما لم تصح صار المولى بمنزلة الرسول للشفيع فإذا سلمها العبد إليه ملكها الشفيع بمنزلة ما لو أخذها الشفيع بنفسه وهو نظير ما لو وكله بقبض دين له على العبد فإنه لا يبرأ العبد بقبض المولى حتى يدفع ذلك إلى الغريم فإذا دفعها إليه بريء العبد بمنزلة ما لو قبضها الغريم بنفسه وكذلك لو كان الوكيل بعض غرمائه لأن منفعة الغريم في ذلك أظهر من منفعة المولى فإن حقه في كسب العبد مقدم على حق المولى.(26/15)
ولو كان العبد هو الشفيع فوكل مولاه أن يأخذه بالشفعة له أو بعض غرمائه جازت الوكالة كان عليه دين أو لم يكن بمنزلة ما لو وكله العبد بقبض دين له على أجنبي وهذا لأن في تسليمه وإقراره إضرارا بالمولى والغريم ولا منفعة لهما فيه فإن سلم المولى الشفعة للمشتري عند القاضي جاز تسليمه وإن سلمها عند غير القاضي جاز إن لم يكن على العبد دين وإن كان على العبد دين فتسليمه باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله وليس له أن يأخذ بالشفعة ولكن العبد هو الذي يأخذها وفي قول أبي يوسف الآخر تسليمه جائز عند القاضي وعند غير القاضي وعند محمد تسليمه باطل عند القاضي وعند غير القاضي إذا كان على العبد دين وأصل المسألة ما بينا في الشفعة أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف من ملك الأخذ بالشفعة ملك تسليمها وإن كان نائبا كالأب والوصي وعند محمد لا يملك ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إقرار الوكيل على موكله يجوز في مجلس القاضي ولا يجوز في غير مجلسه فكذلك تسليمه وفي قول أبي يوسف الآخر كما يجوز إقراره عليه في غير مجلس القاضي فكذلك يجوز تسليمه.
فإذا عرفنا هذا فنقول: عند أبي حنيفة إذا سلمها في مجلس القاضي جاز لأنه مالك(26/16)
ص -10- ... للأخذ وإذا سلمها في غير مجلس القاضي فإن لم يكن عليه دين جاز باعتبار أن الحق واجب له لا باعتبار الوكالة وإن كان عليه دين لا يجوز تسليمه في حق العبد والغرماء ولكن يخرج من الخصومة بمنزلة ما لو أقر على موكله في غير مجلس القاضي وإذا خرج من الخصومة كان العبد على حقه يأخذها بالشفعة إن شاء وفي قول أبي يوسف الآخر يصح تسليمه على كل حال لأنه بنفس التوكيل قام مقام الموكل في الأخذ فكذلك التسليم
وعند محمد هو قائم مقام الموكل في الأخذ بالشفعة والتسليم إسقاط وهو ضد ما وكله به فلا يصح منه إلا إذا لم يكن عليه دين فحينئذ يصح باعتبار ملكه.
ولو كان وكيل العبد بالأخذ بعض غرمائه فتسليمه في مجلس القاضي جائز في قول أبي حنيفة وكذلك في غير مجلس القاضي عند أبي يوسف وفي قول محمد هو باطل وإن أقر عند القاضي أن العبد قد سلمها قبل أن يتقدم إليه فإقراره في مجلس القاضي جائز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله إقراره بذلك جائز في مجلس القاضي وفي غير مجلس القاضي بمنزلة إقرار وكيل المدعى عليه بوجوب الدين وإقرار وكيل المدعي بأنه مبطل في دعواه وأنه قد أبرأه عن الدين.
رجل مات وعليه دين فباع الوصي دارا للميت لها شفيع فوكل الشفيع بعض غرماء الميت أن يأخذ له لم يكن وكيلا في ذلك لأن الدار إنما بيعت له وكما أن من بيعت له لا يأخذها لنفسه فكذلك لا يأخذها لغيره بوكالته وبهذا الطريق قلنا: فيما باعه العبد أن المولى أو الغريم لا يكون وكيلا للشفيع في الأخذ لأن تصرفه لغرمائه من وجه ولمولاه من وجه.(26/17)
ولو كان الميت اشترى في حياته دارا وقبضها ثم مات وعليه دين وطلب الشفيع شفعته ووكل في الخصومة فيها بعض غرماء الميت لم يكن وكيلا لأنه لو صح التوكيل ملك التسليم والإقرار على موكله بالتسليم في مجلس الحاكم وفيه منفعة له فإن سلمها الوصي بغير خصومة كانت للشفيع ولم يكن للغريم أن يقبضها ولكن الشفيع هو الذي يقبضها وتكون العهدة فيما بينه وبين الوصي لأن الوكالة لما بطلت صار هو بمنزلة الرسول للشفيع وكذلك لو وكل وارثا بذلك فإن في التسليم أو الإقرار به على الموكل منفعة الوارث بعد سقوط حق الغريم.
ولو باع المأذون دارا وسلمها ولها شفيع فوكل الشفيع بخصومة المشتري مولى العبد وعليه دين أو لا دين عليه أو وكل بعض غرماء العبد فالوكالة باطلة لأن العبد بائع للدار لغرمائه من وجه فإن ماليتها حقهم وللمولى من وجه فإن كسبه ملك مولاه إذا فرغ من الدين ومن بيع له لا يأخذ بالشفعة لغيره كما لا يأخذ لنفسه.
ألا ترى أن الوكيل إذا باع دار الرجل بأمره فوكل الشفيع الآمر بخصومة المشتري في ذلك لم يكن وكيلا لأنها بيعت له وكذلك المضارب إذا باع دارا من المضاربة فوكل شفيعها رب المال بالخصومة والأخذ بالشفعة لم يكن وكيلا في ذلك فإن سلمها المشتري له بغير خصومة جاز والشفيع هو الذي قبضها والعهدة بينه وبين المشتري لأن رب المال بمنزلة(26/18)
ص -11- ... الرسول له حين يطلب الوكالة وعبارة الرسول كعبارة المرسل فكان للشفيع أخذها بنفسه والله أعلم.
باب بيع المأذون المكيل أو الموزون من صنفين
قال رحمه الله: وإذا باع المأذون من رجل عشرة أقفزة حنطة وعشرة أقفزة شعير فقال أبيعك هذه العشرة الأقفزة حنطة وهذه العشرة الأقفزة شعير كل قفيز بدرهم فالبيع جائز لأن جملة المبيع معلوم والثمن معلوم وكل متى أضيفت إلى ما يعلم منتهاه تتناول الجميع فإن تقابضا ثم وجد بالحنطة عيبا ردها بنصف الثمن على حساب كل قفيز بدرهم لأنه كذلك اشترى وعند الرد بالعيب إنما يرد المعيب بالثمن المسمى بمقابلته فإذا كان المسمى بمقابلة كل قفيز من الحنطة درهما ردها بذلك أيضا وكذلك لو قال القفيز بدرهم لأن الألف واللام للجنس إذا لم يكن هناك معهود فيتناول كل قفيز من الحنطة وكل قفيز من الشعير بمنزلة قوله كل قفيز ولو قال كل قفيز منهما بدرهم وتقابضا ثم وجد بالحنطة عيبا فإنه يردها على حساب كل قفيز منهما النصف من الحنطة والنصف من الشعير بدرهم وذلك بأن يقسم جميع الثمن عشرين درهما على قيمة الحنطة وقيمة الشعير فإن كانت قيمة الحنطة عشرين درهما وقيمة الشعير عشرة رد الحنطة بثلثي الثمن لأنه أضاف القفيز الذي جعل الدرهم بمقابلته إليهما بقوله منهما ومطلق هذه الإضافة يقتضي التسوية بينهما فيكون نصف كل قفيز بمقابلة الدرهم من الحنطة ونصف من الشعير فلهذا يقسم جملة الثمن على قيمتهما بخلاف الأول فهناك ذكر القفيز مطلقا وإطلاقه يقتضي أن يكون بمقابلة كل قفيز من الحنطة درهم وبمقابلة كل قفيز من الشعير درهم وكذلك لو قال القفيز منهما بدرهم فهذا وقوله كل قفيز منهما بدرهم سواء كما بينا.(26/19)
ولو قال: أبيعك هذه الحنطة وهذا الشعير ولم يسم كيلهما كل قفيز بدرهم فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن من أصله أنه إذا لم تكن الجملة معلومة فإن ما يتناول هذا اللفظ قفيزا واحدا وقد بينا له هذا الأصل في البيوع ولا يعلم إن ذلك القفيز من الحنطة أو من الشعير ففسد البيع في ذلك أيضا للجهالة حتى يعلم الكيل كله فإن علمه فهو بالخيار إن شاء أخذ كل قفيز حنطة بدرهم وكل قفيز شعير بدرهم وإن شاء ترك وهكذا يكشف الحال عنده إذا صارت جملة الثمن معلومة له الآن فيتخير بين الأخذ والترك وعندهما البيع جائز كل قفيز من الحنطة بدرهم وكل قفيز من الشعير بدرهم لأن جهالة الجملة لا تفضي إلى تمكن المنازعة.
ولو قال: كل قفيز منهما بدرهم كان البيع واقعا في قول أبي حنيفة رحمه الله على قفيز واحد نصفه من الحنطة ونصفه من الشعير بدرهم لأن هذا معلوم وثمنه معلوم وفيما زاد على القفيز الواحد إذا علم بكيل ذلك فهو بالخيار إن شاء أخذ كل قفيز منهما بدرهم وإن شاء ترك وفي قول أبي يوسف ومحمد البيع لازم له في جميع ذلك كل قفيز منهما بدرهم نصفه من الحنطة ونصفه من الشعير.(26/20)
ص -12- ... ولو قال: أبيعك هذه الحنطة على أنها أقل من كر فاشتراها على ذلك فوجدها أقل من كر فالبيع جائز لأن المعقود عليه صار معلوما بالإشارة إليه ووجده على شرطه الذي سماه في العقد والثمن معلوم بالتسمية فيجوز العقد.
وإن وجدها كرا أو أكثر من كر فالبيع فاسد لأن العقد إنما يتناول بعض الموجود وهو أقل من كر كما سمى وذلك مجهول لأنه لا يدري أن المشترى أقل من الكر بقفيز وقفيزين وهذه الجهالة تقتضي المنازعة.
وكذلك لو قال على أنها أكثر من كر فإن وجدها أكثر من كر بقليل أو كثير فالبيع جائز لأنه وجدها على شرطه والبيع يتناول جميعها وإن وجدها أقل من كر أو كرا فالبيع فاسد لأنه لا يدري ما حصة ما نقص منها مما شرط له فإنه لا بد من إسقاط حصة النقصان من الثمن وذلك مجهول جهالة تفضي إلى المنازعة ولو قال على أنها كرا وأقل منه فإن وجدها كرا أو أقل منه فهو جائز لأنه وجدها على شرطه وإن وجدها أكثر من كر لزم المشتري من ذلك كرا وليس للبائع أن ينقصه من ذلك شيئا لأنه لو وجدها كرا كان الكل مستحقا للمشتري فإن وجدها أكثر أولى أن يكون مقدار الكر مستحقا للمشتري والزيادة على الكر للبائع لأن البيع لا يتناولها.
ولو قال: على أنها كر أو أكثر فوجدها كذلك جاز البيع وإن وجدها أقل فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن إذا قسم على كر وإن شاء ترك لأن استحقاقه إنما يثبت في مقدار الكر بدليل أنه لو وجدها كرا لزمه جميع الثمن ولا خيار له فإذا كان أنقص من كر فقدر النقصان معلوم وحصته من الثمن معلومة فيسقط ذلك عن المشتري ويتخير لتفرق الصفقة عليه.(26/21)
والحاصل أن حرف أو للتخيير فإنما يثبت الاستحقاق عند ذكر حرف أو في المقدار المعلوم في نفسه سواء ردد الكلام بين ما هو معلوم في نفسه والزيادة عليه أو النقصان عنه إلا أن في ذكر النقصان للبائع فائدة وهو أن لا يخاصمه إن وجده أقل فهو بمنزلة البراءة من العيب وفي ذكر الزيادة للمشتري فائدة وهو أن لا يلزمه رد شيء إذا وجده أكثر.
ولو قال: أبيعك هذه الدار على أنها أقل من ألف ذراع فوجدها أقل من ذلك أو ألفا أو أكثر فالبيع جائز لأن الذرعان في الدار صفة والثمن بمقابلة العين لا بمقابلة الوصف فإن وجدها أزيد مما قال وصفا لا يتغير حكم البيع ولو قال على أنها أكثر من ألف ذراع فإن وجدها أكثر من ألف بقليل أو كثير فالبيع لازم لأنه وجدها على شرطه وإن وجدها ألف ذراع أو أقل كان المشتري بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء ترك لأنه وجدها أنقص مما سمى البائع له من الوصف فيتخير لذلك فإذا اختار الأخذ لزمه جميع الثمن لأن الثمن بمقابلة العين دون الوصف.
ولو اشترى ثوبا من رجل بعشرة دراهم على أنه عشرة أذرع فوجده ثمانية فقال البائع:(26/22)
ص -13- ... بعتك على أنه ثمانية فالقول قول البائع مع يمينه لأن المشتري يدعي زيادة وصف شرطه ليثبت له الخيار لنفسه عند فوته فإن الذرعان في الثوب صفة والبائع منكر لذلك والقول قوله مع يمينه وعلى المشتري البينة على ما ادعاه من الشرط كما لو قال اشتريت العبد على أنه كاتب أو خباز.
ولو قال المشتري: اشتريته بعشرة على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فوجده ثمانية أذرع فقال البائع بعتك على أنه ثمانية أذرع بعشرة دراهم ولم أشترط كل ذراع بدرهم تحالفا وترادا لأن الاختلاف ها هنا بينهما في مقدار الثمن فإنه إذا لم يقل كل ذراع بدرهم كان الثمن عشرة دراهم سواء كان ذرعان الثوب عشرة أو ثمانية فإذا كان كل ذراع بدرهم فالثمن ثمانية إذا كان ذرعان الثوب ثمانية فعرفنا أن الاختلاف بينهما في مقدار الثمن والحكم فيه التحالف والتراد فأما في الأول فلم يختلفا في مقدار الثمن وإنما ادعى المشتري إثبات الخيار لنفسه لفوت وصف شرطه فهو بمنزلة ما لو ادعى أنه شرطه كاتبا أو ادعى شرط الخيار لنفسه ولا تحالف في ذلك بل يكون القول قول المنكر للشرط والله أعلم.
باب عتق المولى عبده المأذون ورقيقه(26/23)
قال رحمه الله: وإذا أعتق المولى عبده المأذون وعليه دين أكثر من قيمته وهو يعلم أو لا يعلم فعتقه نافذ لبقاء ملكه في رقبته بعد ما لحقه الدين والمولى ضامن لقيمته بالغة ما بلغت وإن كانت قيمته عشرين ألفا أو أكثر لأنه أتلف المالية بالإعتاق وهذه المالية حق الغرماء فيضمنها لهم بالغة ما بلغت كالراهن إذا أعتق المرهون والدين مؤجل ولم يكن عليه دين ولكنه قتل حرا أو عبدا خطأ فأعتقه المولى فإن كان يعلم بالجناية فهو مختار للفداء والفداء الدية إن كان المقتول حرا وقيمة المقتول إن كان عبدا إلا أن يزيد على عشرة آلاف درهم فينقص منها عشرة لأن بدل نفس المملوك بالقتل لا يزيد على عشرة آلاف إلا عشرة وإن لم يعلم بالجناية غرم قيمة عبده إلا أن تبلغ قيمته عشرة آلاف فينقص منها عشرة لأن المستحق بالجناية نفس العبد بطريق الجزاء والمولى مخير بين الدفع والفداء فإذا أعتقه مع العلم بالجناية صار مختارا للفداء بمنع الدفع وإن كان لا يعلم بالجناية فهو غير مختار للفداء ولكنه مستهلك للعبد الذي استحقه جزاء على الجناية فيغرم قيمته ولا يزاد قيمته على عشرة آلاف إلا عشرة لأن هذه قيمة لزمته باعتبار الجناية من المملوك فيقاس بقيمة تلزمه بالجناية على المملوك فإذا كان لا يزاد على عشرة آلاف إلا عشرة فكذلك القيمة التي تلزمه بالجناية من المملوك وهذا يخالف فضل الدين من وجهين:
أحدهما: أن هناك علم المولى وعدم علمه سواء لأن المستحق مالية الرقبة تبعا في الدين وإعتاق المولى إتلاف لذلك فيلزمه قيمته سواء كان عالما به أو غير عالم به بمنزلة إتلاف مال الغير وفي الجناية المستحق في حق المولى أحد شيئين وهو مخير بينهما وفي حكم الاختيار يختلف العلم وعدم العلم.(26/24)
ص -14- ... والثاني: أن هناك يغرم قيمته بالغة ما بلغت لأن استحقاق تلك القيمة عليه باعتبار سبب يستحق به المالية من غصب وشراء فيتقدر بقدر القيمة وها هنا وجوب القيمة باعتبار الجناية وقيمة العبد بالجناية لا تزيد على عشرة آلاف إلا عشرة.
وإن كان المقتول عبد أغرم المولى الأقل من قيمة عبده ومن قيمة المقتول إلا أن يبلغ عشرة آلاف فينقص منها عشره لأن الأقل هو المتيقن به فلا يلزم المولى أكثر منه ولا يزاد الواجب على عشرة آلاف إلا عشرة لأن الواجب باعتبار الجناية على المملوك فإن أعتقه وعليه دين وجنايات أكثر من قيمته وهو لا يعلم بالجناية غرم لأصحاب الدين قيمته بالغة ما بلغت لإتلاف المالية التي هي حقهم.
ألا ترى أن قبل العتق كان يدفع بالجنايات ثم يباع بالدين فيسلم المالية للغرماء بكمالها ويغرم لأصحاب الجنايات الأقل من قيمته ومن عشرة آلاف إلا عشرة لأن المستحق نفسه بالجنايات حر ألا ترى أن قبل العتق كان يتخلص المولى من جناياته بدفعه فإذا تعذر الدفع بإعتاقه لم يصر مختارا كان عليه قيمته وقيمته بسبب الجناية لا تزيد على عشرة آلاف إلا عشرة ولا شركة بين الغرماء ولا بين أصحاب الجنايات لانعدام المشاركة بينهما في سبب وجوب حقهما وفي المحل الذي ثبت فيه حق كل واحد منهما.
ألا ترى أن قبل العتق لم يكن بينهما شركة ولكنه كان يدفع بالجنايات كلها أو لا ثم يباع للغرماء في ديونهم وإن أعتقه وهو يعلم بالجنايات صار مختارا للفداء في الجنايات فيضمنها كلها وصار ضامنا القيمة للغرماء بإتلاف المالية ولا شركة لبعضهم مع البعض في ذلك ولو كان المأذون مدبرا أو أم ولد فأعتقه المولى وعليه دين كبير لم يغرم للمولى شيئا لأن حق الغرماء ها هنا ما تعلق بمالية الرقبة بل بالكسب وبالإعتاق لم يثبت شيء من كل حقهم فلا يغرم المولى لهم شيئا لأنه ما أفسد عليهم شيئا بخلاف القن.(26/25)
وإن كان على المأذون دين كثير أو قليل فأعتق المولى أمة من رقيقه فعتقه باطل في قول أبي حنيفة الأول وفي قوله الآخر نافذ إلا أن يكون الدين محيطا برقبته وبجميع ما في يده فحينئذ عتقه باطل ما لم يسقط الدين وفي قولهما عتقه نافذ على كل حال كما ينفذ في رقبته وهذا بناء على اختلافهم في ملك المولى كسب عبده المديون وقد بيناه فيما سبق فإن كان في رقبته وكسبه فضل على دينه حتى جاز عتق المولى لأمته فالمولي ضامن قيمة الأمة للغرماء لأن الدين يشغل كل جزء من أجزاء الكسب والمولى يفسد عليهم مالية المعتقة فيضمن قيمتها لهم فإن كان معسرا كانت القيمة دينا على الجارية المعتقة لأن المالية التي هي حق الغرماء سلمت لها واحتبست عندها بالعتق فعليها السعاية في قيمتها ويرجع بذلك على المولى لأن(26/26)
ص -15- ... السبب الموجب للضمان وجد من المولي وكان الضمان دينا في ذمة المولى وإنما أخرت هي على قضاء دين المولى ويرجع عليه بذلك كما لو أعتق الراهن المرهون وهو معسر والتدبير في ذلك بمنزلة الإعتاق.
وذكر في المأذون الصغير أن المولى إذا أعتق جارية العبد المأذون بعد موت المأذون فهو كإعتاقه إياها في حياته وهذا ظاهر في قول أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف ومحمد عتقه وتدبيره جائز وإن كان الدين محيطا والمولى ضامن قيمة الأمة بإتلاف ماليتها على الغرماء فإن كان معسرا فللغرماء أن يضمنوها القيمة ويرجع بذلك على المولى كما هو مذهب أبي حنيفة إذا لم يكن الدين محيطا وكذلك الوارث إذا أعتق جارية من التركة وفيها دين غير مستغرق لها فإن الوارث مالك للتركة ها هنا فينفذ عتقه ويكون التحريج في حكم الضمان على نحو ما بينا في إعتاق المولى كسب عبده المأذون.
ولو وطىء المولى أمة المأذون فجاءت بولد فادعى نسبه ثبت نسبه منه عندهم جميعا وصارت الأمة أم ولد له ويضمن قيمتها ولا يضمن عقرها لأن حق المولى في كسب عبده المديون أقوى من الأب في جارية ابنه.
ألا ترى أن المولى يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر والأب لا يملك ذلك في جارية ابنه ثم هناك استيلاده صحيح ويجب عليه ضمان قيمتها دون العقر فكذلك ها هنا وبهذا فرق أبو حنيفة بين الاستيلاد والإعتاق والتدبير.
وذكر في المأذون الصغير أن صحة دعوته استحسان يعني على قول أبي حنيفة وفي القياس لا يصح لأنه لا يملك كسب عبده المديون إذا كان الدين محيطا كما لا يملك كسب مكاتبه ثم دعواه ولد أمة مكاتبه لا تصح إلا بتصديق المكاتب فكذلك دعواه ولد أمة عبده المديون ولكنه استحسن فقال هناك لا يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فيعتبر بالاستيلاد كأنه استخلصها لنفسه بالتزام قيمتها.(26/27)
ولا إشكال على قول أبي حنيفة في انتفاء العقر عنه لأنه ما كان يملكها ما دامت مشغولة بحق الغرماء فيقدم تمليكها منه بضمان القيمة وإسقاط حق الغرماء عنها على الاستيلاد ليصح الاستيلاد كما يفعل ذلك في استيلاد جارية الابن وعلى قولهما إنما لا يجب العقر لأنه يملكها حقيقة والوطء في ملك نفسه لا يلزمه العقر وإنما يكون ضامنا لحق الغرماء وحق الغرماء في المالية وقد ضمن لهم جميع قيمة المالية والمستوفى بالوطء ليس بمال ولا حق للغرماء فيه فلهذا لا يغرم عقرها.
وكذلك لو كان الوطء بعد موت المأذون وإن أعتق المولي جارية المأذون وعليه دين يحيط بقيمته وما في يده ثم قضى الغرماء الدين أو أبرأه الغرماء أو بعضهم حتى صار في قيمته وفيما في يده فضل على الدين جاز عتق المولى الجارية لأنه حين أعتقها كان سبب الملك له(26/28)
ص -16- ... فيها تاما وحق الغرماء كان مانعا فإذا زال المانع بعد العتق كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة المستغرقة بالدين ثم سقط الدين نفذ العتق لهذا المعنى.
ولو أعتق المولى جارية المأذون وعليه دين محيط فبطل العتق في قول أبي حنيفة ثم وطئها المولى بعد ذلك فجاءت بولد فادعاه فدعواه جائزة وهو ضامن قيمتها للغرماء لما بينا في الاستيلاد لأمته إذا كان قبل الإعتاق ثم الجارية حرة لسقوط حق الغرماء عنها والاستيلاد. ألا ترى أنه لو سقط حقهم عنها بالإبراء من الدين كانت حرة بإعتاق المولى إياها فكذلك ها هنا وعلى المولى العقر للجارية لأن الإعتاق من المولى كان سابقا على الوطء إلا أن قيام الدين كان مانعا من نفوذ ذلك العتق فإذا سقط حق الغرماء عنها زال المانع عنها بعد العتق من ذلك الوقت فتبين أنه وطئها بالشبهة وهي حرة فيلزمه العقر لها لأن الوطء في غير الملك لا يخلو عن حد أو عقر وقد سقط الحد للشبهة فيجب العقر.(26/29)
فإذا ادعى المولى بعض رقيق المأذون أنه ولده ولم يكن ولد في ملك المأذون فدعواه باطلة في قول أبي حنيفة وهي جائزة في قول صاحبيه ويضمن قيمته للغرماء فإن كان معسرا ضمن الولد ورجع به على أبيه لأن دعوته دعوة التحرير فإن أصل العلوق لم يكن في ملكه ودعوة التحرير كالإعتاق وقد بينا هذا الحكم في الإعتاق وقال بن زياد إذا أعتق المولى أمة من كسب عبده المديون ثم سقط الدين لم ينفذ ذلك العتق وكذلك الوارث في التركة المستغرقة بالدين لأن ملكه حدث بعد الإعتاق وهو بمنزلة المضارب إذا أعتق عبد المضاربة ولا فضل فيه على رأس المال ثم ظهر الفضل فيه لا ينفذ ذلك العتق وكذلك المولى إذا أعتق كسب مكاتبه ثم عجز المكاتب لا ينفذ ذلك العتق ولكنا نقول هناك إنما أعتق قبل تمام السبب وهو الملك لأن مال المضاربة مملوك لرب المال وإنما بملك المضارب حصة من الربح والمكاتب بمنزلة الحر من وجه فيمنع ذلك تمام سبب الملك للمولى في كسبه فأما سبب الملك فتام للوارث في التركة بعد موت المورث وللمولى في كسب العبد فيتوقف عتقه على أن يتم بتمام الملك.
ألا ترى أنه لو مات نصراني وترك ابنين نصرانيين وعليه دين مستغرق فأسلم أحد الابنين ثم سقط الدين كان الميراث للابنين جميعا ولو كان تمام سبب الملك عند سقوط الدين كان الميراث كله للابن النصراني لأن المسلم لا يرث الكافر فبهذا الحرف يظهر الفرق والله أعلم.
باب جناية المأذون على عبده والجناية عليه(26/30)
قال رحمه الله: وإذا جنى المأذون على حر أو عبد جناية خطأ وعليه دين قيل لمولاه ادفعه بالجناية أو افده لأنه على ملك مولاه بعد ما لحقه الدين وفي البداءة بالدفع بالجناية مراعاة الحقين وفي البداءة بالبيع بالدين إبطال حق الجناية فيجب المصير إلى ما فيه مراعاة الحقين وإذا اختار الفداء فقد طهر العبد من الجناية فيبقي حق الغرماء فيه فيباع في دينهم وإن دفعه بالجناية اتبعه الغرماء في أيدي أصحاب الجناية فباعوه في دينهم إلا أن يفديه أولياء الجناية لأن أولياء الجناية إنما يستحقون ملك المولى فيه بطريق الجزاء إلا أن يثبت لهم فيه(26/31)
ص -17- ... سبب متجدد فهم بمنزلة الوارث يخلفونه في ملكه والعبد المديون إذا مات مولاه اتبعه الغرماء في ملك الوارث فباعوه في دينهم إلا أن يقضي الوارث دينهم فكذلك يتبعونه في يد صاحب الجناية فيباع في دينهم إلا أن يقضي صاحب الجناية ديونهم.
وإن كان للمأذون جارية من تجارته فقتل قتيلا خطأ فإن شاء المأذون دفعها وإن شاء فداها إن كان عليه دين أو لم يكن لأن التدبير في كسبه إليه وهو في التصرف بمنزلة الحر في التصرف في ملكه فيخاطب بالدفع أو الفداء بخلاف جنايته بنفسه فالتدبير في رقبته ليس إليه.
ألا ترى أنه لا يملك بيع رقبته ويملك بيع كسبه فإن كانت الجناية نفسا وقيمة الجارية ألف درهم ففداه المأذون بعشرة آلاف فهو جائز في قياس قول أبي حنيفة ولا يجوز في قولهما لأن من أصلهما أن المأذون لا يملك الشراء بما لا يتغابن الناس في مثله وعند أبي حنيفة يملك ذلك فيطهرها من الجناية باختيار الفداء بمنزلة شرائها بما يفديها به على القولين أو بمنزلة ما لو دفعها إلى أولياء الجناية ثم اشتراها منهم بمقدار الفداء وإن كانت الجناية عمدا فوجب القصاص عليها فصالح المأذون عنها جاز وإن كان المأذون هو القاتل فصالح عن نفسه وعليه دين أو ليس عليه دين لم يجز الصلح لما بينا أنه في التدبير في كسبه بمنزلة الحر في ملكه وفي التدبير في نفسه هو بمنزلة المحجور عليه فلا يجوز صلحه في حق المولى لأنه يلتزم المال بما ليس بمال وهو غير منفك الحجر عنه في ذلك ولكن التزامه في حق نفسه صحيح فيسقط القود بهذا الصلح ويجب المال في ذمته ويؤاخذ به بعد العتق بمنزلة مال التزمه بالكفالة أو بالنكاح.(26/32)
ولو كان للمأذون دار من تجارته فوجد فيها قتيل وعليه دين أو لا دين عليه فالدية على عاقلة المولى في قول أبي يوسف ومحمد لأنه مالك لهذه الدار وإن كان على عبده دين ودية المقتول الموجود في الملك على عاقلة صاحب الملك باعتبار أنه بمنزلة القاتل له بيده وعند أبي حنيفة رحمه الله إن لم يكن على العبد دين محيط فكذلك وإن كان على العبد دين محيط ففي القياس لا شيء على عاقلة المولى لأنه غير مالك للدار عنده ولكن يخاطب بدفع العبد أو الفداء لأن حق العبد في كسبه في حكم الجناية كملك المالك في ملكه فبهذا الطريق يجعل كأن العبد قتله بيده ولكنه استحسن وجعل الدية على عاقلة المولى لأن العبد ليس من أهل الملك والمولى أحق الناس بملك هذه الدار على معنى أنه يملكها إذا سقط الدين ويملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فيكون بمنزلة القاتل بيده باعتبار إقامة سبب الملك التام له فيها مقام الملك ونظيره التركة المستغرقة بالدين إذا وجد في دار منها قتيل كانت الدية على عاقلة الوارث وهذا لأن المانع من الملك بعد تمام السبب حق الغرماء وفي حكم الجناية الغرماء كالأجانب ويجعل في القتيل الموجود فيها كأن المولى مالك لها لما تعذر اعتبار جانب الغرماء في ذلك.
وعلى هذا لو شهد على المأذون في حائط من هذه الدار مائل فلم ينقضه حتى وقع على(26/33)
ص -18- ... إنسان فقتله فالدية على عاقلة المولى وقالا هذا بمنزلة القتيل يوجد في هذه الدار ولم يذكر فيه قول أبي حنيفة وقيل هو كذلك على جواب الاستحسان عند أبي حنيفة لما قلنا: وهو بخلاف ما إذا وقع على دابة فقتلها فإن قيمتها في عنق العبد يباع فيها أو يفديه لأن حق صاحب الدين يتعلق بالمالية والمولى من ماليته أجنبي لحق غرمائه فلهذا كان ذلك في عنق العبد بمنزلة جنايته على المال بيده وأما حق أولياء الجناية فلا يثبت في المالية التي هي حق الغرماء ولهذا كان موجب جنايته بيده على مولاه يخاطب بالدفع أو الفداء ففي جناية يترك هدم الحائط المائل أو يترك صيانة داره حتى وجد فيها قتيل يستحق موجبه على المولى أيضا وإذا كان موجب الجناية على المولى صار المولى فيه كالمالك للدار وكان الإشهاد وجد عليه بطريق أن جناية مملوكه كجنايته فتكون الدية على عاقلة المولى.
ولو كان على المأذون دين فجنى جناية فباعه المولى من أصحاب الدين بدينهم ولا يعلم بالجناية فعليه قيمته لأصحاب الجناية لأن حق أولياء الجناية لا يمنع المولى من بيع الجاني فإذا نفذ بيعه كان مفوتا على أولياء الجناية حقهم فإن كان عالما بالجناية فعليه الأرش وإن لم يكن عالما فعليه قيمته كما لو أعتقه.
ولو لم يبعه من الغرماء ولم يحضروا ولكن حضر أصحاب الجناية فدفعه إليهم بغير قضاء قاض فالقياس فيه أن يضمن قيمته للغرماء لأنه صار متلفا على الغرماء محل حقهم بإخراجه عن ملكه باختياره فيكون بمنزلة ما لو أعتقه وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأن حق أولياء الجناية ثابت في عنقه والمولى فعل بدون قضاء القاضي غير ما يأمر به القاضي أن لو رفع الأمر إليه فيستوى فيه القضاء وغير القضاء بمنزلة الرجوع في الهبة ثم هو ما فوت على الغرماء محل حقهم فإن العبد محل للبيع في الدين في ملك أولياء الجناية كما لو كان الدفع إليهم بقضاء قاض وإنما يضمن القيمة باعتبار تفويت محل حقهم.(26/34)
فإن جعلنا هذا تسليما لما هو المستحق بالجناية لا يفوت به محل حقهم وإن جعلناه تمليكا مبتدأ لا يفوت به محل حقهم أيضا لأنهم يتمكنون من بيعه كما لو باعه أو وهبه ثم لا فائدة في هذا القبض لأن بعد القبض يجب دفعه إليهم بالجناية ثم بيعه في الدين فلهذا لم يضمن المولى شيئا بخلاف ما سبق من بيعه إياه في الدين ففيه تفويت محل حق أولياء الجناية على معنى أن البيع تمليك مبتدأ ولا سبيل لأولياء الجناية على نقض ذلك.
ولو لم يدفع بالجناية حتى طالبه الغرماء بدينهم ولم يحضر صاحب الجناية وقد أقر به المولى والغرماء عند القاضي لم يبعه في الدين حتى يحضر صاحب الجناية فيدفعه إليه المولى أو يفديه ثم يبيعه الغرماء لأن في بيعه في الدين من القاضي إبطال حق أولياء الجناية أصلا فإنه يفوت به محل حقهم ولا يكون المولى ضامنا شيئا إذا كان القاضي هو الذي يبيعه وفي التأخير إلى أن يحضر صاحب الجناية إضرار بالغرماء من حيث تأخر حقهم للانتظار وضرر التأخير دون ضرر الانتظار فلهذا يصير إلى الانتظار.(26/35)
ص -19- ... وإن قضى القاضي أن يباع لهم وصاحب الجناية غائب فالبيع جائز لأن حق الغريم ثابت في ماليته وهو طالب بحقه ولا يدري أن صاحب الجناية هل يحضر فيطلب حقه أو لا يحضر فلا يمتنع نفوذ قضاء القاضي ببيعه لهذا ثم لا شيء لأصحاب الجناية أيضا أما على المولى فلان القاضي هو الذي باعه وببيع القاضي لا يصير المولى مفوتا محل حق صاحب الجناية والقاضي فيما يقضي مجتهد فلا يكون ضامنا شيئا والعبد بعد العتق ليس عليه من موجب جنايته شيء فإن باعه القاضي من أصحاب الدين أو من غيرهم بأكثر من الدين كان الفضل عن الدين لصاحب الجناية لأن الثمن بدل العبد وكان حقهم ثابتا في العبد فيثبت في بدله.
ألا ترى أن العبد الجاني إذا قتل ثبت حق أولياء الجناية في قيمته فكذلك يثبت حقهم في الثمن إلا أنه لا فائدة في استرداد مقدار الدين من الغرماء لحقهم فيجعل الفضل على ذلك لهم وإن كان ذلك الفضل أكثر من قيمة العبد إلا أن يكون أكثر من أرش الجناية فحينئذ حق أولياء الجناية في مقدار الأرش وما فضل عن أرش الجناية فهو للمولى لأنه بدل ملكه وقد فرغ عن حق الغير.(26/36)
وكذلك إن باعه المولى بأمر القاضي فهذا وبيع القاضي سواء وإن باعه بغير أمر القاضي بخمسة آلاف درهم وهو لا يعلم بالجناية وقيمته ألف درهم ودينه ألف وجنايته قتل رجل خطأ فإنه يدفع من الثمن إلى صاحب الدين مقدار دينه وهو ألف وإلى صاحب الجناية مقدار قيمته وهو ألف درهم والباقي للمولى لأنه قد أوفى صاحب الدين كمال حقه ولم يلتزم لصاحب الجناية إلا قيمة العبد ليفوت محل حقه ببيعه بنفسه اختيارا فإذا دفع إليه مقدار قيمته كان الباقي للمولى فإذا قتل المأذون عمدا وعليه دين أو لا دين عليه فعلى قاتله القصاص للمولى لأنه باق على ملكه بعد ما لحقه الدين ووجوب القصاص له باعتبار ملكه ولا شيء للغرماء لأن حقهم في ماليته وقد فات ولم يخلف بدلا فالقصاص ليس ببدل عن المالية وحقهم في محل تمكن إيفاء الدين منه وإيفاء الدين من القصاص غير ممكن.
فإن صالح المولى القاتل من دمه على مال قليل أو كثير جاز وأخذه الغرماء بدينهم إن كان من جنسه وإن كان من غير جنسه بيع لهم لأن القصاص بدل العبد وقد كانوا أحق به وذلك يوجب كونهم أحق ببدله إلا أنه لم يكن البدل محلا صالحا لإيفاء حقهم منه فإذا وقع الصلح عنه على مال صار محلا صالحا لذلك فيثبت حقهم فيه بمنزلة الموصى له بالثلث والغريم لا يثبت حقه في القصاص فإن وقع الصلح عنه على مال ثبت حقه فيه ونفذ الصلح من المولى على أي قدر من البدل كان لأنه لا ضرر فيه على الغرماء بل فيه توفير المنفعة عليهم بتحصيل محل هو صالح لإيفاء حقهم منه.
ولو لم يقتل المأذون ولكن قتل عبدا له ولا دين على المأذون فعلى القاتل القصاص للمولى دون المأذون لأن كسبه خالص ملك المولى وولاية استيفاء القصاص باعتبار الملك،(26/37)
ص -20- ... ولأنه خرج بالقتل من أن يكون كسبا للعبد لأن كسبه مما يتمكن هو من التجارة فيه وذلك لا يتحقق في العبد المقتول ولا في القصاص الواجب فكان المولى أخذه منه فيكون القصاص للمولى.
وإن كان على المأذون دين كثير أو قليل فلا قصاص على القاتل وإن اجتمع على ذلك المولى والغرماء لأن المولى ممنوع من استيفاء شيء من كسبه ما بقي الدين عليه قل الدين أو كثر فلا يتمكن هو من استيفاء القصاص بدلا عن كسبه والغرماء لا يتمكنون من ذلك لأن حقهم في المالية والقصاص ليس بمال فلانعدام المستوفى لا يجب القصاص.
وإذا لم يجب القصاص بأصل القتل لا يجب وإن اجتمعا على استيفائه وهو نظير عبد المضاربة إذا قتل وفي قيمته فضل على رأس المال لا يجب القصاص وإن اجتمع المضارب ورب المال على استيفائه لهذا المعنى وعلى القاتل قيمة المقتول في ماله في ثلاث سنين لأن القصاص لما لم يجب لاشتباه المستوفى وجب المال ووجوبه بنفس القتل فيكون مؤجلا في ثلاث سنين ولكنه في مال الجاني لأنه وجب بعمد محض فلا تعقله العاقلة إلا أن تبلغ القيمة عشرة آلاف فحينئذ ينقص منها عشرة لأن بدل نفس المملوك بالجناية لا يزيد على عشرة آلاف إلا عشرة ويكون ذلك لغرماء العبد لأنه بدل المقتول وهو محل صالح لإيفاء حقهم منه.
وإذا جنى عبد لرجل جناية خطأ فأذن له في التجارة وهو يعلم بالجناية أو لا يعلم فلحقه دين لم يصر المولى مختارا ويقال له ادفعه أو افده لأن بالإذن له في التجارة ولحوق الدين إياه لا يمنع دفعه بالجناية.(26/38)
ألا ترى أنه لو أقر أن ذلك بالجناية لم يمنع دفعه بها فكذلك إذا اعترض وإنما يصير المولى مختارا للفداء باكتساب سبب يعجزه عن الدفع بالجناية بعد العلم بها ولم يوجد فإن دفعه بالجناية اتبعه الغرماء فبيع لهم إلا أن يفديه صاحب الجناية بالدين لأن ماليته صارت حقا للغرماء فإن فداه صاحب الجناية بالدين أو بيع في الدين رجع صاحب الجناية على المولى بقيمة العبد فسلمت له لأنهم استحقوا بجنايتهم عبدا فارغا وإنما دفع إليهم عبدا هو مستحق المالية بالدين.
فإذا استحق من دينهم بذلك السبب كان لهم حق الرجوع على المولى بقيمته بخلاف ما إذا كانت الجناية من العبد بعد ما لحقه الدين فإن هناك ما استحقوا العبد إلا وهو مشغول بالدين مستحق المالية وقد دفعه إليهم كذلك وهو نظير من اغتصب عبدا مديونا ثم رده على المولى فبيع في الدين لم يرجع على الغاصب ولو غصبه فارغا فلحقه دين عند الغاصب بأن أفسد متاعا ثم رده فبيع في الدين رجع المولى على الغاصب بقيمته.
يوضحه: أن استحقاق المالية بالدين كان بسبب باشره المولى بعد تعلق حق أولياء الجناية به وهو الإذن له في التجارة فصار كأنه أتلف عليهم ذلك ولا يقال حق أولياء الجناية في نفس العقد لا في ماليته فكيف يغرم المولى لهم باعتبار اكتساب سبب استحقاق المالية وهذا لأن استحقاق نفس العبد بالجناية لا يكون إلا باعتبار ماليته.(26/39)
ص -21- ... ألا ترى أن الجاني الذي ليس بمال لا يستحق نفسه باعتبار المالية وكذلك إذا كان مدبرا أو أم ولد وإنما يستحق نفس القن الذي هو محتمل للتمليك باعتبار المالية وكذلك إن كان المولى أذن له في التجارة فلم يلحقه دين حتى جنى جناية ثم لحقه الدين لأن استدامة الإذن بعد الجناية من المولى بمنزلة إنشائه وكذلك لو رآه يشتري ويبيع بعد الجناية فلم ينهه فسكوته عن النهي بمنزلة التصريح بالإذن له في التجارة.
وكذلك لو كان الدين لحقه قبل الجناية لم يرجع ولى الجناية على المولى بالقيمة لأنه ما استحقه بالجناية إلا وهو مشغول بالدين وإن كان لحقه ألف درهم قبل الجناية على المولى بالقيمة لأنه ما استحقه بالجناية إلا وهو مشغول بالدين وإن كان لحقه ألف درهم قبل الجناية وألف درهم بعد الجناية وقيمته ألف درهم ثم دفع العبد بالجناية بيع في الدينين جميعا فإن بيع أو فداه أصحاب الجناية بالدينين فإنهم يرجعون على المولى بنصف القيمة وهو حصة أصحاب الدين على الآخر اعتبارا لكل واحد من الدينين بما لو كان هو وحده وهذا لأن نصف الثمن الذي أخذه صاحب الدين الآخر إنما أخذه باستدامة الإذن من المولى بعد الجناية لأنه كان متمكنا من الحجر عليه ولو حجر عليه لم يلحقه الدين الآخر في حال رقه فلهذا صار المولى ضامنا لما وصل إلى صاحب الدين الآخر من مالية العبد.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا ولو لم يلحقه الدين الآخر لم يسلم لأولياء الجناية شيء من ماليته أيضا لأن الدين الأول محيط بماليته فينبغي أن لا يضمن المولى لهم شيئا قلنا: نعم ولكن ما أخذه أصحاب الدين الآخر لا يسلم لهم إلا بعد سقوط حق صاحب الدين الأول عن ذلك وباعتبار سقوط حقه عنه هو سالم لصاحب الجناية لولا استدامة المولي الإذن له حتى لحقه الدين الآخر فلهذا ضمن المولى ذلك لصاحب الجناية.(26/40)
وإذا قتل العبد المأذون أو المحجور رجلا خطأ ثم أقر عليه المولى بدين يستغرق رقبته فليس هذا باختيار منه لأن إقرار المولى عليه لا يمنعه من الدفع بالجناية فإن هذا الدين لا يكون أقوى من الدين الذي يلحقه بتصرفه فإن دفعه بيع في الدين إلا أن يفديه ولي الجناية لأن الدين ثبت عليه بإقرار المولى فاشتغلت ماليته بالدين كما لو رهن عبده الجاني ثم يرجع ولي الجناية على المولى بقيمته لما بينا أنه أتلف عليه ماليته باكتسابه سبب اشتغاله بحق المقر له بعد ما ثبت فيه حق ولي الجناية.
ولو كان المولى أقر عليه بقتل رجل خطأ ثم أقر عليه بقتل رجل خطأ وكذبه في ذلك أولياء الجناية الأولى فإنه يدفعه بالجنايتين أو يفديه لأن إقراره عليه بالجناية بمنزلة التصرف منه فيه وحق ولي الجناية فيه لا يمنع نفوذ تصرف المولى فما ثبت بإقراره من الجناية بمنزلة الثابت بالبينة أو بالمعاينة في حقه فيدفعه بالجنايتين.
فإن دفعه إليهما نصفين رجع أولياء الجناية الأولى على المولى بنصف قيمته لأنهم كانوا استحقوا جميع العبد بالجناية حين أقر لهم المولى بذلك ثم صار المولى متلفا عليهم نصف(26/41)
ص -22- ... الرقبة بإقراره بالجناية الأخرى وقد تم ذلك الإتلاف بدفع النصف إلى المقر له فلهذا يغرم له نصف قيمته ولا يغرم للمقر له الثاني شيئا لأنه ما ثبت حقه إلا في النصف فإنه حين أقر له بالجناية كانت الجناية الأولى ثابتة وهي مزاحمة للأخرى فيمنع ثبوت حق المقر له الثاني فيما زاد على النصف وقد سلم نصف العبد وإن كان عليه دين يستغرق رقبته فأقر لمولى عليه بجناية لم يجز إقراره لأن استغراق رقبته بالدين يمنع المولى من التصرف فيه والإقرار عليه بالجناية تصرف فلا يصح إلا أن يفديه من الدين فيزول المانع به ويصير كالمحدود لإقراره بعد ما سقط الدين فيؤمر بأن يدفعه بالجناية أو يفديه.
ولو قتل العبد رجلا عمدا وعليه دين فصالح المولى صاحب الجناية منها على رقبة العبد فإن صلحه لا ينفذ على صاحب الدين لأنه يملك رقبته عوضا عما لا يتعلق به حق صاحب الدين ولو ملكه عوضا عما يتعلق به حقهم لم ينفذ عليهم كالبيع فهذا أولى ولكن ليس لصاحب الدم أن يقتله بعد ذلك لأن صلحه كعفوه وأكثر ما فيه أن البدل مستحق لصاحب الدين ولكن استحقاق البدل في الصلح من دم العمد لا يمنع سقوط القود ثم يباع العبد في دينه فإن بقي من ثمنه شيء بعد الدين كان لأصحاب الجناية لأن حكم البدل حكم المبدل وهم قد استحقوا نفس العبد بالصلح متى سقط صاحب الدين عنه.
ألا ترى أنه لو أبرأه عن الدين كان العبد سالما لأصحاب الجناية فلذلك لم يسلم لهم ما يفرغ من بدله من حق صاحب الدين فإن لم يبق من ثمنه شيء فلا شيء لصاحب الجناية على المولى ولا على العبد في حال رقه ولا بعد العتق لأن المولى ما التزم لصاحب الجناية شيئا في ذمته بالصلح وإنما سلم للعبد القصاص بالعقد وهو لا يضمن بالمال عند الإتلاف فكذلك لا يضمنه العبد باحتباسه عنده أو سلامته له.(26/42)
ولو لم يصالح ولكن عفا أحد أولياء الدم فإن المولى يدفع نصفه إلى الآخر أو يفديه لأن حق الذي أسقط لم يظهر في حق الذي لم يعف فهذا وما لو كانت الجناية خطأ في الابتداء سواء فيدفع المولى إليه نصيبه أو يفديه ثم يباع جميع العبد في الدين لأن حق الغريم لا يسقط عن مالية العبد بدفع جميعه بالجناية فكذلك بدفع نصفه.
ولو أقر العبد أنه قتل رجلا عمدا وعليه دين كان مصدقا في ذلك صدقه المولى أو كذبه لأن موجب إقراره استحقاقه دمه ودمه خالص حقه فإن العبد يبقى فيه على أصل الحرية ثم حق الغريم في ماليته لا يكون أقوى من ملك مولاه وملك المولى لا يمنع استحقاق دمه بإقراره على نفسه بالقود فكذلك حق الغريم.
وإن عفا أحد أولياء الجناية بطلت الجناية كلها لأن نصيب العافي قد سقط بالعقر ولو بقي نصيب الذي لم يعف لكان موجبة الدفع بمنزلة جناية الخطأ وإقرار العبد بالجناية خطأ باطل إذا كذبه المولى فيه فيباع في الدين إلا أن يفديه المولى بجميع الدين فإن فداه وقد صدق العبد بالجناية قيل له ادفع النصف إلى الذي لم يعف وإن كان كذبه في ذلك كله(26/43)
ص -23- ... فالعبد كله للمولى إذا فداه بالدين لأن حق الذي لم يعف غير ثابت في حق المولى إذا كذب العبد فيه.
وإذا وجد المأذون في دار مولاه قتيلا ولا دين عليه فدمه هدر وإن كان عليه دين كان على المولى في ماله حالا الأقل من قيمته ومن دينه بمنزلة ما لو قتل المولى القتيل بيده.
ألا ترى أنه لو وجد عند الغير قتيلا في داره جعل كأنه قتله بيده فكذلك إذا وجد عنده قتيلا فيه.
ولو قتله بيده عمدا أو خطأ كان عليه الأقل من قيمته ومن الدين في ماله حالا لأن وجوب الضمان عليه باعتبار حق الغريم في المالية ولو وجد عبدا من عبيد المأذون قتيلا في دار المولى ولا دين على المأذون فدمه هدر لأنه مملوك للمولى بمنزلة رقبة المأذون ولأنه كالقاتل له بيده وإن كان على المأذون دين محيط بقيمته وكسبه فعلى المولى قيمته في ماله في ثلاث سنين في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما عليه قيمته حالا وإن كان الدين لا يحيط بجميع ذلك كانت القيمة حالة في قولهم جميعا بمنزلة ما لو قتله المولى بيده وهذا بناء على ما تقدم أن الدين إذا لم يكن محيطا فالمولى مالك لكسبه كما هو مالك لرقبته فيكون الضمان عليه لحق الغريم في ماليته.(26/44)
وإن كان الدين محيطا فكذلك عندهما وعند أبي حنيفة هو لا يملك كسبه في هذه الحالة فقتله إياه بمنزلة قتله عند الأجنبي فتكون القيمة مؤجلة في ثلاث سنين لأن وجوبها باعتبار القتل ولكنها عليه في ماله لأنه من وجه كالمالك على معنى أنه يتمكن من استخلاصه لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فلا تعقله العاقلة لذلك وإن قتل المولى مكاتبه أو عبد مكاتبه عمدا أو خطأ أو وجد المكاتب قتيلا في دار مولاه يجب على المولى قيمة القتيل في ماله في ثلاث سنين لأن وجوب القيمة ها هنا باعتبار القتل فإن كسب المكاتب غير مملوك للمولى رقبته من وجه كالزائلة عن ملك المولى على ما عرف أن المكاتب صار بمنزلة الحر يدا فتجب على المولى القيمة بنفس القتل فتكون مؤجلة ولكنها تجب في ماله لأن رقبته مملوكة له من وجه أن له في كسبه حق الملك على معنى أنه يملكه حقيقة عند عجز المكاتب فلا تعقله العاقلة كذلك وهذا إذا كان في القيمة وفي تركته وفاء لمكاتبة لأنه حينئذ يبقى عقد الكتابة ويؤدى البدل من كسبه وبدل نفسه فيحكم بحريته فإن لم يكن وفاء فيهما فلا شيء على المولى في قتل مكاتبه لأن الكتابة انفسخت بموته عاجزا فتبين أنه قتل عبده ولا دين عليه.
ولو وجد المولى قتيلا في دار العبد المأذون كانت دية المولى على عاقلته في ثلاث سنين لورثته في قياس قول أبي حنيفة وفي قولهما دمه هدر لأن هذه الدار في حكم القتيل الموجود فيها بمنزلة دار أخرى للمولى حتى لو وجد فيها أجنبي قتيلا كانت ديته على عاقلة المولى فإذا وجد المولى قتيلا فيها فهذا رجل وجد قتيلا في دار نفسه وهذا الخلاف معروف فيما إذا وجد قتيلا في دار نفسه وسنبينه في كتاب الديات.(26/45)
ص -24- ... ولو وجد العبد قتيلا في دار نفسه ولا دين عليه فدمه هدر لأن داره مملوكة للمولى فكأنه وجد قتيلا في دار المولى وإن كان عليه دين فعلى المولى الأقل من قيمته ومن ديته حالا في ماله بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار أخرى للمولى لأن دار العبد في حكم القتيل الموجود فيها بمنزلة دار المولى فكذلك إذا وجد العبد فيها قتيلا وذكر في المأذون الصغير أن هذا استحسان سواء كان عليه دين أو لم يكن.
ولو وجد الغريم الذي له الدين قتيلا في دار العبد المأذون كانت ديته على عاقلة مولاه في ثلاث سنين لأنه في ملك داره كغيره من الأجانب وإنما حقه في دين ذمته متعلق بمالية كسبه وبذلك لا يختلف حكم جنايته عليه ثم لا يبطل دينه على العبد بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار أخرى للمولى وكذلك لو كان القتيل عبدا للغريم كانت قيمته على عاقلة المولى في ثلاث سنين عبده في ذلك كعبد غيره.
وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة فوجد في دار المأذون قتيل وعليه دين أو لا دين عليه فعلى المكاتب قيمة رقبته لأولياء القتيل في ماله حالة بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار أخرى من كسب المكاتب لأن المكاتب في كسبه بمنزلة الحر في ملكه فيصير كالجاني بيده وجناية المكاتب توجب الأقل من قيمته ومن أرش الجناية فهذا مثله.
ولو كان الذي وجد قتيلا في دار العبد هو المكاتب كان دمه هدرا كما لو وجد قتيلا في دار أخرى له وهذا لأنه يصير كالجاني على نفسه وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بين المكاتب والحر في ذلك لأن موجب جناية الحر على العاقلة وموجب جناية المكاتب على نفسه فلا يستقيم أن يجب له على نفسه وسنقرر هذا الفرق في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.(26/46)
ولو كان المأذون هو الذي وجد قتيلا في داره كان على المكاتب الأقل من قيمته ومن قيمة المأذون في ماله حالا لغير المأذون لأن هذه الدار في حكم القتيل الموجود فيها كدار أخرى للمكاتب ولو وجد العبد قتيلا في دار أخرى للمكاتب كان المكاتب كالجاني عليه بيده فيلزمه أقل القيمتين في ماله حالا لغرمائه فكذلك إذا وجد في هذه الدار قتيلا والله أعلم بالصواب.
باب ما يجوز للمأذون أن يفعله وما لا يجوز
قال رحمه الله: وليس للمأذون أن يكاتب عبده لأنه منفك الحجر عنه في التجارة والكتابة ليست بتجارة ولكنها عقد إرقاق يقصد بها الإعتاق والمأذون فيما ليس بتجارة كالمحجور كالتزويج ثم الفك بالكتابة فوق الفك الثابت بالإذن ولا يستفاد بالشيء ما هو فوقه في محل فيه حق الغير فإنه كاتبه وأجاز مولاه الكتابة جاز إذا لم يكن عليه دين لأن هذا عقد له منجز حال وقوعه فيتوقف على الإجازة فتكون الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وبيانه أن كسب المأذون خالص ملك المولى يملك فيه مباشرة الكتابة فيملك فيه الإجازة ثم لا سبيل للعبد على قبض البدل بل كل ذلك إلى المولى لأن العبد نائب عنه كالوكيل والكتابة من العقود التي يكون العاقد فيها معتبرا فيكون قبض البدل إلى من نفذ العقد من جهته.(26/47)
ص -25- ... وإن دفعها المكاتب إلى العبد لم يبرأ إلا أن يوكله المولى بقبضها لأن العبد في حكم قبض بدل الكتابة كأجنبي آخر وكذلك إن لحقه دين بعد إجازة المولى الكتابة لأن بإجازته صار المملوك مكاتبا له وخرج من أن يكون كسبا لعبده فالدين الذي يلحق العبد فيه ذلك لا يتعلق برقبته ولا بكسبه كما لو أخذه المولى من يده وكاتبه أو لم يكاتبه.
ولو كان عليه دين كثير أو قليل فمكاتبته باطلة وإن أجازه المولى لأن المولى بالإجازة يخرج المكاتب من أن يكون كسبا للعبد وقيام الدين عليه يمنع المولى من ذلك قل الدين أو كثر كما لو أخذه من يده وعليه دين فإن لم يرد الكتابة حتى أداها فإن كان المولى لم يجزها لم يعتق ورد رقيقا للمأذون فبيع في دينه وصرف ما أخذه منه من المكاتبة في دينه لأن الكتابة بدون إجازة المولى لغو وهو موقوف على إجازته فأداء بدل الكتابة في حال توقف العتق لا يوجب العتق له والعبد حين قبض البدل منه يصير كالمعتق له وإعتاقه لغو والمقبوض من إكسابه يصرف إلى دين المأذون مع رقبته بطريق البيع فيه.
وإن كان المولى أجاز المكاتبة وأمر العبد بقبضها وعلى العبد دين يحيط برقبته وبما في يده فأدى المكاتب المكاتبة فهذا والأول سواء في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المولى لا يملك كسبه حتى لا ينفذ منه مباشرة الكتابة والإعتاق فيه فلا يعمل إجازته أيضا ولا يعتق بقبض البدل منه كما لو أعتقه قصدا وفي قولهما هو حر لأن المولي يملك كسبه.
وإن كان دينه محيطا حتى لو أعتقه ينفذ عتقه فكذلك إذا أجاز مكاتبته وقبض البدل هو أو العبد بأمره يجعل كالمعتق له فيكون حرا والمولى ضامن لقيمته للغرماء لأن ماليته كانت حقا لهم وقد أتلفها المولى عليهم وكذلك المكاتبة التي قبضها المولى تؤخذ منه فتصرف إلى الغرماء لأنه أدى المكاتبة من كسبه والغرماء أحق بكسبه من المولى فلا يسلم ذلك للمولى ما بقي من دينهم.(26/48)
ولو كان دين المأذون لا يحيط به وبما له عتق عندهم جميعا لأن إجازة المولى الكتابة كمباشرته ولو كاتبه وقبض البدل عتق فإن الدين إذا لم يكن محيطا لا يمنع ملكه ولا إعتاقه ثم يضمن قيمته للغرماء ويأخذ الغرماء المكاتبة التي قبضها المولى أو المأذون من دينهم لأن حقهم في كسبه ومالية رقبته مقدمة على حق المولى وقد أتلف المولى مالية رقبته بالإعتاق وليس للمأذون أن يكفل بنفس ولا مال لأن الكفالة من عقود التبرعات باعتبار أصل الوضع والتبرع ضد التجارة وانفكاك الحجر عنه في التجارة خاصة وهذا بخلاف التوكيل في الحجر بالشراء لأنه ليس بتبرع باعتبار أصل الوضع بل هو من عمل التجارة.
ألا ترى: أن التجار لا يتحرزون عن ذلك ويتحرزون عن الكفالة غاية التحرز وكذلك لا يهب ولا يتصدق بالدرهم والثوب وما أشبه ذلك ولا يعوض ما وهب له بغير شرط لأن هذا كله تبرع باعتبار أصل الوضع ولا يقرض لأنه تبرع قال عليه السلام: "قرض مرتين صدقة مرة" فإن أجاز المولى هذه التبرعات منه فإن لم يكن عليه دين فلا بأس به وإن كان عليه دين لم(26/49)
ص -26- ... يجز شيء من ذلك لأن كسبه إذا لم يكن عليه دين فمالية رقبته ومنافعه كلها لمولاه فإجازته كمباشرته وإن كان عليه دين فحق الغرماء في ذلك مقدم على حق المولى فلهذا لا يجوز شيء من ذلك وإذا أهدى العبد المأذون هدية أو دعا رجلا إلى منزله فغذاه أو أعاره دابة يركبها أو ثوبا يلبسه فلا بأس به ولا ضمان فيه على الرجل إن هلك شيء من ذلك عنده كان على العبد دين أو لم يكن وفي القياس هذا كله باطل لأنه تبرع والعبد ليس من أهله ولكنه استحسن فقال وهذا مما يصنعه التجار ولا يجدون منه بدا في التجارة فإنهم يحتاجون إلى استجلاب قلوب المهاجرين إلى أنفسهم وإعارة موضع الجلوس والوسادة ممن يأتيهم ليعاملهم فلو لم نجوز ذلك من المأذون لأدى إلى الحرج والحرج مدفوع وأيد هذا الاستحسان ما روينا أن النبي عليه السلام: "كان يجيب دعوة المملوك" وأن سلمان رضي الله عنه أهدى إلى النبي عليه السلام وهو مملوك فقبله وأكل أصحابه رضي الله عنهم وأتاه بصدقة فأمر أصحابه بأكلها ولم يأكل منها.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن العبد يتصدق بشيء فقال بالرغيف ونحوه وبه نأخذ فنقول يتصدق المأذون بالطعام ولا يتصدق بالدراهم والكسوة ونحو ذلك لأن أمر الطعام مبني على التوسع ولهذا جاز للمرأة أن تتصدق بمثل ذلك من مال الزوج بدون استطلاع رأي الزوج فإن الناس لا يمتنعون من ذلك عادة والمكاتب في جميع ذلك كالعبد لأن الرق الحاجز له عن التبرعات قائم فيه إلا أن في حق المكاتب لا يجوز ذلك إلا بإذن المولى بخلاف المأذون إذا لم يكن عليه دين لأن كسب المأذون خالص ملك المولى والمولى ممنوع من كسب المأذون سواء كان عليه دين أو لم يكن.(26/50)
ولو أعتق المأذون أمته على مال لم يجز لأن هذا التصرف ليس بتجارة فإن أجازه المولى جاز إن لم يكن عليه دين كما لو باشره بنفسه والمال دين للمولى عليها ولا يجوز قبض المأذون له منها لأنه في العقد كان معبرا عن المولى فهو في قبض البدل كأجنبي آخر وإن لحقه دين بعد إجازة المولى لم يكن للغريم في ذلك المال حق لأنه كسب حر فلا يتعلق به حق غرماء المأذون.
وإن كان على المأذون دين لا يحيط برقبته وبما في يده جاز العتق بإجازة المولى أيضا لكونه مالكا فيها وعليه قيمتها للغرماء لأن حقهم في ماليتها وقد أتلفها المولى بالإجازة ثم المال عليها للمولى لا حق لغرماء المأذون في ذلك بخلاف ما تقدم من الكتابة لأن الأمة ها هنا تعتق بنفس القبول وما تكتسب بعد ذلك خالص ملكها فإنما يؤدي بدل الكتابة من كسب اكتسبه في حال رقه وحق الغرماء فيه مقدم على حق المولى وإن كان الدين يحيط بالمأذون وبما في يده فكذلك في قولهما وفي قول أبي حنيفة لا تعتق لأنه لا حق للمولى في كسب المأذون في هذه الحالة.
ولو تزوج المأذون امرأة حرة بغير إذن مولاه ودخل بها يفرق بينهما لأن النكاح ليس(26/51)
ص -27- ... بتجارة فالمأذون فيه كالمحجور ولكن يلزمه المهر بالدخول بشبهة العقد إلا أنه لا يؤاخذ بالمهر حتى يعتق لأن هذا دين لزمه بسبب عقد هو غير مأذون فيه من جهة المولى فيؤخر إلى ما بعد العتق كدين الكفالة وقد بينا في النكاح أن المأذون لا يزوج عبده وأن في تزويجه أمته خلافا وللمأذون أن يدفع المال مضاربة بالنصف لأن له أن يستأجر أجيرا يعمل في ماله بأجر مضمون في ذمته والاستئجار للعمل ببعض الربح يكون أنفع له وهو من صنيع التجار وكذلك يأخذ مالا مضاربة بالنصف لأنه يشترى بثمن في ذمته ولا يرجع به على غيره ليستفيد الربح فلان يملك الشراء على وجه يرجع فيه بالعهدة على غيره ويحصل الربح لنفسه كان أولى.
وإذا اشترك العبد أن المأذون لهما في التجارة شركة عنان على أن يشتريا بالنقد والنسيئة بينهما لم يجز من ذلك النسيئة وجاز النقد لأن في النسيئة معنى الكفالة عن صاحبه والمأذون لا يملك الكفالة فهو بمنزلة ما لو اشتركا شركة مفاوضة فإن الشركة بينهما تكون عنانا لا مفاوضة لما فيها من معنى الكفالة فإن أذن لهما الموليان في الشركة على الشراء بالنقد والنسيئة ولا دين عليهما فهو جائز كما لو أذن لكل واحد منهما مولاه بالكفالة أو التوكل بالشراء بالنسيئة.
وإذا اشترى المأذون وعليه دين أو لا دين عليه ثوبا بعشرة وباعه من مولاه بخمسة عشر لم يبعه المولى مرابحة إلا على عشرة لتمكن تهمة المسامحة في المعاملة بينه وبين المولى ولو كان المولى اشتراه بعشرة ثم باعه من العبد بخمسة عشر أو باعه من أمة لعبد مأذون لها في التجارة فتهمة المسامحة بينهما متمكنة وكذلك لو كان المأذون اشتراه ثم باعه من مكاتب للمولى أو عبد آخر له أو من عبد لمكاتب المولى أو من مضارب للمولى أو من مضارب المكاتب لم يبعه مرابحة إلا على أقل الثمنين.(26/52)
ولو باعه من بن المولى أو أبيه أو امرأته فكذلك في قول أبي حنيفة لتمكن التهمة بينه وبين من لا تجوز شهادته له وفي قولهما يبيعه مرابحة على خمسة عشر لأنه ليس للمولى في مال هؤلاء ملك ولا حق ملك وقد بينا هذا في البيوع والله أعلم.
باب الغرور في العبد المأذون له
قال رحمه الله: وإذا جاء الرجل بالعبد إلى السوق فقال هذا عبدي فبايعوه فقد أذنت له في التجارة فبايعوه وبايعه أيضا من لم يحضر هذا القول ولم يعلم فلحقه دين ثم علم أنه كان حرا أو استحقه رجل فعلى الذي أمرهم بمبايعته إلاقل من قيمته ومن الدين للذين أمرهم بمبايعته ولسائرهم لأنه بما صنع صار غارا لهم فإن أمره إياهم بالمبايعة معه يكون تنصيصا على أنه يصرف ماليته إلى ديونهم إذا لحقه دين ويصير الآمر بمنزلة الكفيل لهم بذلك.
ألا ترى: أن العبد لو كان مملوكا له كما قاله كان حقهم ثابتا في ماليته وكان المولى كالكفيل لهم عن عبده بقدر مالية الرقبة فإذا تحقق معنى الغرور ثبت لهم حق الرجوع عليه بما وجد فيه الغرور أو الكفالة وهو الأقل من قيمته ومن ديونه.
ومن خاطبه بكلامه ولم يحضر مقالته ولم يعلم به في ذلك سواء لأن هذا حكم ينبني(26/53)
ص -28- ... على ثبوت الإذن والإذن إذا كان عاما منتشرا يكون ثابتا في حق من علم به وفي حق من لا يعلم فكذلك الإذن وما ينبني عليه من الغرور والكفالة ويستوي إن كان قال فقد أذنت له في التجارة أو لم يقل لأنه لما قال هذا عبدي فبايعوه فالغرور والكفالة تثبت بإضافته إلى نفسه وأمره إياهم بمبايعته فمن ضرورة ذلك الإذن له في التجارة ولا يضمن لهم شيئا من مكسوبه لأن الكسب لم يكن موجودا عند مقالة المولى ولا يدري أيحصل أم لا يحصل فلا يثبت فيه حكم الكفالة والغرور وإن شاؤوا رجعوا بدينهم على الذي ولي مبايعتهم إن كان حرا لأنه باشر سبب التزام الدين وهو من أهله وإن كان عبدا لم يرجعوا عليه بشيء حتى يعتق لأن مولاه لم يرض بتصرفه وتعلق الدين بماليته.
وإن اختاروا ضمان المولى ثم توى ما عليه اتبعوا العبد بجميع دينهم إذا عتق لأن التزامه في ذمته صحيح والمولى كان كفيلا عنه بقدر مالية الرقبة فإذا لم يصل إليهم من جهة الكفيل كان لهم أن يرجعوا على الأصيل بجميع دينهم إذا عتق ولو لم يكن هذا ولكن العبد أقام البينة أن مولاه الذي أذن له كان دبره قبل أن يأذن أو كاتب أمه فإن قامت البينة أنها أم ولد له فهذا بمنزلة المستحق لأنه تعذر عليهم استيفاء ديونهم من مالية الرقبة لثبوت حق عتقه لهم عند مقالة المولى فنزل ذلك منزلة حق المستحق أو حقيقة الحرية إذا قامت البينة على حريتهم.
وإذا اختاروا أن يضمنوا المولى قيمة المدبر وأم الولد فلا سبيل لهم عليهما فيما بقي من دينهم حتى يعتقا لأن كسبهما ملك المولى وقد غرم المولى لهم مالية الرقبة فلا يبقى لهم سبيل على كسب هو مملوك له ولو جاء به إلى السوق فقال عبدي هذا وقد أذنت له في التجارة ولم يقل بايعوه والمسألة بحالها لم يكن هذا غرورا ولم يلزم هذا الآذن ضمان شيء لأنه أخبرهم بخبر وما أمرهم بمباشرة عقد الضمان معه وحكم الغرور والكفالة لا يثبت بمجر الخبر.(26/54)
ألا ترى: أنه لو أخبر إنسانا بحرية امرأة فتزوجها فاستولدها ثم استحقت لم يرجع المغرور على المخبر بشيء ولو زوجها منه على أنها حرة ثم استحقت رجع على المزوج بما غرم من قيمة أولادها فالأمر بالمبايعة ها هنا في حكم الغرور نظير التزويج هناك والإخبار بالملك والإذن ها هنا نظير الإخبار بالحرية هناك.
وإن قال: هذا عبدي فبايعوه في البز فإن قال قد أذنت له في التجارة فبايعوه في غير البز والمسألة بحالها كان الآمر ضامنا للغرماء الأقل من دينهم ومن قيمة العبد لأن التقييد بالبز في الأمر بالمبايعة لغو على ما بينا أن فك الحجر لا يقبل التخصيص بنوع من التجارة فكان هذا والأمر بالمبايعة مطلقا سواء بخلاف ما إذا قال لحر ما بايعت به من البز فلانا فهو علي فبايعه غيره في البز لا يجب على الكفيل منه شيء لأن الكفالة تقبل التخصيص وفك الحجر الثابت بالأمر بالمبايعة مع العبد لا يقبل التخصيص فلهذا كان ضامنا.
أرأيت: لو بايعوه في البز فاستقرض ثمن البز من رجل فقضى به الذين بايعوه أما كان للمقرض أن يرجع بدينه على الذي أمره بالمبايعة وهو مغرور في ذلك بمنزلة الذين بايعوه في البز؟(26/55)
ص -29- ... أرأيت: لو اشترى بزا على أن يضمن الثمن عنه رجل فأدى الكفيل الذين بايعوه في البز أما كان للكفيل أن يرجع عليه بذلك وإذا أذن لعبده في التجارة ولم يأمر بمبايعته ثم أن المولى أمر رجلا بعينه أو قوما بأعيانهم بمبايعته فبايعوه مرة أخرى وقد علموا بأمر المولى فلحقه دين ثم استحق أو وجد حرا أو مدبرا فللذين أمرهم المولى عليه بمبايعته الأقل من حصتهم من قيمة العبد ومن دينهم وأما الآخرون فلا شيء لهم على المولى من ذلك لأن الغرور ثبت باعتبار الأمر بالمبايعة دون الإذن في التجارة والأمر بالمبايعة كان لخاص فلا يتعدى حكمه إلى غيره بخلاف الأول فالأمر بالمبايعة هناك عام منتشر وهذا نظير الحجر بعد الإذن العام فإنه إذا نهى واحدا أو اثنين عن مبايعته لا يثبت حكم ذلك النهي في حق سائر الناس.
وإذا كان النهى عاما منتشرا يثبت حكمه في حق كل من علم به وفي حق كل من لم يعلم به إذا ثبت هذا فنقول إنما يغرم الذين أمرهم بمبايعته مقدار ما كان يسلم لهم لو كان ما أخبر به حقا وذلك الأقل من حصتهم من القيمة ومن ديونهم فإنما يتحقق الغرور في حقهم في ذلك القدر ولو كان أمر قوما بأعيانهم بمبايعته في البز فبايعوه في غيره وفيه فهو سواء والضمان واجب لهم على الغار لأن التقييد في حقهم في البز لغو فإن الأمر بالمبايعة في حقهم بمنزلة الأمر العام في حق الجماعة وقد بينا أن هناك لا يعتبر التقييد بالبز فهذا مثله. وإن أتى به إلى السوق فقال بايعوه ولم يقل هو عبدي فلحقه دين ثم استحق أو وجد حرا أو مدبرا لم يكن على الآمر شيء لأن هذه مشورة أشاره بها عليهم فلا يثبت بها الغرور وهذا لأنه لم يضفه إلى نفسه بالملك والغرور والكفالة تنبنى على ذلك فإنه بالأمر بالمبايعة إنما يصير ضامنا لهم مالية مملوكة لهم وإنما يكون مطمعا لهم في سلامة مالية مملوكة له وذلك لا يتحقق إلا بإضافته إلى نفسه بالملكية.(26/56)
ولو كان أتى به إلى السوق وقال هذا عبدي فبايعوه ثم دبره ثم لحقه دين لم يضمن المولى شيئا لأنه لم يغرهم في شيء فإنه كان عبدا له قنا كما أخبرهم به وبمجرد الإذن لا يتعلق حق أحد بمالية رقبته ما لم يجب عليه دين فيكون هو بالتدبير متصرفا في خالص ملكه لا حق لغيره فيه فلا يضمن شيئا ولكن الغلام يسعى في الدين وكذلك لو كان أعتقه بعد الإذن ثم لحقه الدين لأن إعتاقه لاقى خالص ملكه ولا حق لأحد فيه.
ولو باعه بعد الإذن ثم بايعوه فلحقه دين لم يكن على الآمر منه شيء لأنه لم يغرهم في شيء ولكن ما أخبر به كان حقا فلا يضمن لأجل الغرور ولا يضمن للتصرف لأنه حين تصرف لم يكن حقهم متعلقا بماليته ولو جاء به إلى السوق فقال هذا عبدي فبايعوه وقد أذنت له في التجارة فبايعوه ثم استحق أو وجد حرا والذي أمرهم بمبايعته عبد مأذون أو مكاتب أو صبي مأذون له في التجارة فلا ضمان على الآمر في ذلك علم الذين بايعوه بحال الآمر أو لم يعلموا لأن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة وهو في هذا الموضع أمين فالآمر يصير كالكفيل للغرماء عنه بقدر مالية الرقبة وكفالة الصبي المأذون له في التجارة لا(26/57)
ص -30- ... يلزمه شيء بحال علم المكفول له بحاله أو لم يعلم وكفالة العبد والمكاتب لا تلزمهما شيئا حتى يعتقا فإذا عتقا رجع عليهما غرماء العبد بالأقل من دينهم ومن قيمة الذي بايعهم لأن التزامهما بالكفالة صحيح في حقهما.
قال: ألا ترى أن الذي اشترى المغرور منه لو كان فيه ربح لم يكن للآمر من ذلك قليل ولا كثير وهذا إشارة إلى أنه بمنزلة الكفالة في حقه لا بمنزلة الوكالة بالشراء فإن كان الآمر مكاتبا جاء بأمته إلى السوق فقال هذه أمتي فبايعوها فقد أذنت لها في التجارة فلحقها دين ثم علم أنها قد ولدت في مكاتبته قبل أن يأذن لها فللغرماء أن يضمنوا المكاتب إلا قل من قيمتها أمة ومن دينهم لأنه صار غارا لهم بما أخبرهم به فصار ضامنا لهم عنها بمقدار مالية رقبتها وضمان المكاتب عن أم ولده مالا يكون صحيحا لأن كسبها للمكاتب فيجوز ضمانه عنها بخلاف ما إذا استحقت أو وجدت حرة لأن المكاتب لا يكون مالكا لكسبها ولا يجوز ضمانه عنها وقد بينا أن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة.
وإذا أتى الرجل بالعبد إلى السوق فقال هذا عبدي فبايعوه فقد أذنت له في التجارة فبايعوه فلحقه دين ثم استحقه رجل وقد كان المستحق أذن له في التجارة قبل أن يأتي به الآخر إلى السوق فإنه يباع في الدين ولا ضمان على الذي أمرهم بمبايعته لأن بما ظهر من الاستحقاق لم يمتنع سلامة شيء مما ضمن سلامته لهم فإنه إنما ضمن لهم سلامة مالية لرقبة وذلك سالم لهم سواء كان مأذونا له في التجارة من جهة المستحق أو من جهة الآمر.
ولو كان مدبرا للمستحق مأذونا له في التجارة ضمن له الغار وإلا قل من قيمته غير مدبر ومن دينهم لأنه لم يسلم لهم ما ضمن الآمر سلامته لهم وهو مالية الرقبة.(26/58)
ألا ترى: أنه لو ظهر أنه كان مدبرا للآمر يضمن لهم الأقل من قيمته غير مدبر ومن دينهم فإذا ظهر أنه كان مدبرا لغيره أولي ولو كان عبدا محجورا عليه لغيره فأتى به هذا إلى السوق وقال هذا عبدي فبايعوه ثم أذن له مولاه في التجارة فلحقه دين بعد ذلك لم يكن على الغار ضمان لأن مالية الرقبة سلمت لهم بالإذن الصادر من المالك بعد الأمر بالمبايعة كما سلم لهم بالإذن الموجود منه وقت الأمر بالمبايعة.
ولو كان لحقه دين ألف درهم قبل إذن مولاه في التجارة وألف درهم بعد إذنه فإن على الغار إلاقل من الدين الأول ومن نصف قيمة العبد لأن صاحب الدين الأول لا يسلم له شيء من مالية الرقبة بالإذن الصادر من المولى بعد وجوب دينه ولو كان ما أخبر به الغار حقا كان سلم له نصف مالية الرقبة فلهذا كان على الغار له الأقل من دينه ومن نصف قيمة العبد فإذا أتى الرجل بعبد إلى السوق فقال هذا عبد فلان قد وكلني بأن آذن له في التجارة وأن آمركم بمبايعته وقد أذنت له في التجارة فبايعوه فاشترى وباع فلحقه دين ثم حضر مولاه وأنكر التوكيل فالوكيل ضامن الأقل من الدين ومن القيمة لأن الغرور تحقق منه بما أخبرهم به فإن في معنى الغرور عبده وعبد غيره سواء لأن ما أخبرهم به لو كان حقا كان يسلم لهم مالية الرقبة(26/59)
ص -31- ... فيصير هو بالإخبار ضامنا لهم سلامة مالية الرقبة ولم يسلم حين أنكر المولى التوكيل وحلف وكان لهم أن يضمنوا المخبر قيمته.
ألا ترى أن مشتري الأرض إذا بنى فيها ثم استحقت رجع على البائع بقيمة البناء للغرور سواء باعه لنفسه أو لغيره بوكالته إذا أنكر المالك التوكيل ولو وجد العبد حرا أو استحقه رجل أو كان مدبرا لمولاه فالوكيل ضامن أيضا لأنه ضمن لهم سلامة ماليته ولم تسلم ويرجع به على الموكل إن كان أقر بالتوكيل الذي ادعاه لأنه كان عاملا للموكل فيما باشره فيرجع عليه بما لحقه من العهدة وإن أنكر التوكيل لم يرجع عليه بشيء إلا أن يثبتها بالبينة.
وإن قال: هذا عبد ابني وهو صغير في عيالي فبايعوه فلحقه دين ثم استحق أو وجد حرا ضمن الأب الأقل من قيمة العبد ومن الدين لأنه بما أخبرهم به صار ضامنا لهم سلامة ماليته.
ألا ترى أن ما أخبر به لو كان حقا كان يسلم لهم مالية الرقبة باعتبار كلامه وكذلك وصى الأب والجد فأما الأم والأخ وما أشبههما فإن فعلوا شيئا من ذلك لم يكن غرورا ولم يلحقه ضمان لأن ما أخبر به لو كان حقا لم تسلم لهم مالية الرقبة باعتبار كلامه فإن هؤلاء لا يملكون الإذن لعبد اليتيم فكذلك هو بالإخبار لا يصير ضامنا لهم شيئا وإذا أتى الرجل بصبي إلى السوق فقال هذا بن ابني فبايعوه فلحقه دين ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الدين يبطل عن الصبي أبدا لأنه تبين أنه كان صبيا محجورا عليه فلا يلزمه دين بالمبايعة أبدا وترجع الغرماء على الذي غرهم بجميع الدين لأن ما أخبرهم به لو كان حقا كان لهم حق مطالبة الصبي بجميع دينهم في الحال أو بعد البلوغ وكان على الصبي أن يقضي ذلك من ملكه فيصير الآمر بمبايعته ضامنا لهم سلامة ديونهم وإن أخبرهم بحريته فإذا لم يسلموا رجعوا عليه بذلك كما لو زوج رجلا امرأة على أنها حرة وكذلك وصي الأب والجد أب الأب وهذا إذا لم يكن أب ولا وصي أب.(26/60)
ولو أتى بعبده إلى السوق فقال هذا عبدي وهو مدبر فبايعوه فلحقه دين ثم أقام رجل البينة أنه مدبر له بطل عن المدبر الدين حتى يعتق لأنه ظهر أنه كان محجورا عليه ولا ضمان على الغار من قيمة رقبته ولا من كسبه لأنه ما ضمن لهم سلامة مالية الرقبة حين أخبرهم أنه مدبر والغرور لا يتحقق في الكسب لأنه لم يكن موجودا حين أخبرهم به ولم يدر أيحصل أو لا يحصل؟.
ولو قتل المدبر في يد الذي استحقه ضمن الغار قيمته مدبرا للغرماء لأنه بإضافته إلى نفسه بالملكية ضمن لهم سلامة بدل نفسه مدبرا إذا قتل.
ألا ترى أن ما أخبرهم به لو كان حقا كان يسلم لهم ذلك وحكم البدل حكم الأصل فوجود الأصل عند الآمر بالمبايعة كوجود البدل فلهذا يثبت حكم الغرور فيه بخلاف الكسب.
ولو أتى بجارية إلى السوق فقال هذه أمتي فبايعوها فلحقها دين يحيط برقبتها ثم ولدت(26/61)
ص -32- ... ولدا فاستحقها رجل وأخذها وولدها ضمن الغار قيمتها وقيمة ولدها لأن الولد جزء متولد من عينها وهو يسلم للغرماء لو كان ما أخبر به حقا كنفسها وهذا بخلاف الكسب فإن الكسب غير متولد من عينها فلا يجعل وجودها كوجود الكسب عند الآمر بالمبايعة كوجود ما يتولد منها في ثبوت حكم الغرور في ذلك فأما الولد فمتولد من عينها فوجودها عند الآمر بالمبايعة كوجود ما يتولد منها في ثبوت حكم الغرور في ذلك.
ألا ترى أنها لو كانت مدبرة كان ولدها كنفسها لأنه لا يتعلق حق الغرماء بماليته بخلاف كسبها فإن كانت قيمتها يوم استحقت أكثر من قيمتها يوم أمرهم بمبايعتها أو أقل ضمن قيمتها يوم استحقت لأنه إنما امتنع سلامة المالية لهم حين استحقت وقد صار الغار بالأمر بالمبايعة ضامنا لهم سلامة ذلك.
ولو أقام الغار البينة على أنه قد أذن لها في التجارة قبل أن يغرهم أو بعد ما غرهم قبل أن يلحقه دين بريء من الضمان لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم.
ألا ترى أن مالية الرقبة تسلم للغرماء في الوجهين فكذلك الضمان ينفي عن الغار في الوجهين والله أعلم.
باب الشهادة على المأذون
قال رحمه الله: وشهادة الشهود على العبد والصبي والمعتوه المأذون بغصب أو ببضاعة مستهلكة أو بإقراره بذلك أو ببيع أو شراء جائز وإن كان مولاه غائبا ويقضي القاضي عليه بذلك لأنه بالإذن صار منفك الحجر عنه في التجارة وتوابعها فالتحق في ذلك بالحر العاقل البالغ فيكون الخصم فيما يدعي أو يدعى قبله هو ولا حاجة إلى حضور مولاه إلى القضاء بذلك استدلالا بالمكاتب.
ولو شهدوا على العبد المحجور عليه بغصب أو وديعة مستهلكة والمولى غائب لم يقض على العبد بذلك حتى يحضر المولى لأن المستحق به مالية رقبته والمولى هو الخصم في استحقاق مالية الرقبة عليه فلا يقضى ما لم يكن حاضرا في الأول.(26/62)
وإن كان المستحق مالية رقبته أيضا ولكن المولى بالإذن قد صار راضيا بكونه خصما في استحقاق مالية رقبته بجهة التجارة.
ألا ترى: أنه مستحق بإقراره وبمباشرته التجارة وإن كان المولى غائبا فكذلك يستحق بينة تقوم عليه بالدين بخلاف ما نحن فيه وكما يشترط حضرة المولى ها هنا يشترط حضرة العبد لأن المدعي قبله والمستحق به دين في ذمته وكان يتعلق بمالية رقبته فلا بد من حضوره فإذا حضر قضى على العبد بالقيمة فيباع فيه لأن الحجر لا يؤثر في الأفعال الموجبة للضمان وأما الوديعة وما أشبهها فلا يقضى عليه بها حتى يعتق وهذا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما(26/63)
ص -33- ... الله وقال أبو يوسف يقضى عليه بما استهلك من الأمانات في الحال فإن كانوا شهدوا عليه بإقراره بذلك ومولاه حاضر أو غائب لم يقض على العبد بشيء من ذلك حتى يعتق فإذا عتق لزمه ما شهدوا به عليه لأنه محجور عن التزام الدين بالقول لحق مولاه والإقرار الثابت عليه بالبينة كالثابت بالمعاينة فلا نلزمه شيئا ما لم يسقط حق المولى عنه بقبضه.
ولو شهدوا عليه بقتل رجل عمدا أو قذف أو شرب خمر لم يقم عليه حد حتى يحضر مولاه في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضى عليه بذلك وإن لم يحضر مولاه وكذلك لو شهدوا عليه بإقراره بذلك ومولاه غائب ففيما يعمل فيه الرجوع عن الإقرار لا تقبل هذه الشهادة وفيما لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار كالقصاص وحد القذف فهو على الخلاف الذي بينا ولا خلاف أنه لو أقر به قضى القاضي به عليه فأبو يوسف يقول المستحق بهذه الأسباب هو خالص حقه وهو دمه فإن وجوب العقوبات عليه باعتبار معنى النفسية دون المالية وهو في حكم النفسية مبقى على أصل الحرية ولهذا تقام عليه هذه العقوبات بإقراره وإن كان المولى غائبا أو مكذبا له ولا يقبل إقرار المولى بشيء من ذلك فلا يشترط حضور المولى لقبول البينة عليه بذلك وهما يقولان في القضاء بهذه البينة مع غيبة المولي إبطال حقه من أوجه:
أحدها: أنه يستوفي هذه العقوبة فتفوت به مالية المولى أو تنتقص.
والثاني: أنه يخرج من يد المولى إذا حضر مجلس الحكم لإقامة الحد عليه بذلك واليد مستحقة للمولى.
والثالث: أن له حق الطعن في الشهود لو كان حاضرا فبالقضاء عليه قبل حضوره يبطل حق الطعن الثابت له وإبطال حقه بالقضاء حال غيبته لا يجوز بخلاف الإقرار فإن الإقرار موجب للحق بنفسه وليس للمولى حق الطعن في إقراره فلا تفوت به يده ولا حقه في الطعن ثم لا تهمة في إقراره على نفسه لأن ما يلحقه بالضرر بذلك فوق ما يلحق مولاه وقد بينا هذه المعاني في كتاب الآبق.(26/64)
وأما الصبي والمعتوه المأذون لهما فلا يلزمهما شيء من ذلك في الإقرار ولا في الشهادة على الفعل لأنهما غير مخاطبين والأهلية للعقوبة تنبني على كون المباشر مخاطبا إلا في القتل خاصة إذا كان أب الصبي أو المعتوه أو وصيهم حاضرا فإنه يقضى بالدية على عاقلتهما وفي حالة غيبة الولي لا يقضى بذلك.
ولو شهدوا عليهما بالإقرار بالقتل فالشهادة باطلة لأن القتل ليس من التجارة وفيما ليس من التجارة المأذون والمحجور سواء ولا قول له في ذلك والخصم في إثبات البينة عليه الولي فبدون حضرة المولى لا يقضى بشيء وبعد حضوره الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وأنه مما يوجب الدية على العاقلة.
ولو شهدوا على العبد المأذون بسرقة عشرة دراهم أو أكثر فإن كان مولاه حاضرا قطع وإن كان غائبا فكذلك عند أبي يوسف وفي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقطع(26/65)
ص -34- ... ولكن يضمن السرقة لأن المسروق منه يدعي المال ولكنه متى ثبت السبب الموجب للعقوبة عند القاضي استوفى العقوبة في حال غيبة المولى ولا يثبت السبب الموجب للعقوبة عليه بالبينة فتبقى دعوى المال والعبد خصم فيما يدعي قبله من المال كما لو كانت الدعوى بسبب الغصب وشهدوا عليه ولو شهدوا عليه بسرقة أقل من عشرة ضمن السرقة لأن فيما دون النصاب الأخذ بجهة السرقة كالأخذ بجهة الغصب.
ولو شهدوا على صبي أو معتوه مأذون لهما بسرقة عشرة دراهم أو أكثر قضي عليه بالضمان وإن كان وليه غائبا لأن جهة السرقة كجهة الغصب في حقهما إذ لا عقوبة عليهما بسبب السرقة وقد بينا أن المأذون خصم فيما يتهم بذلك عليه من الأخذ الموجب للضمان وإن كان وليه غائبا وإن شهدوا على إقرار واحد منهم بذلك قضى القاضي عليه بالضمان حضر مولاه أو وليه أو لم يحضر لأن الرجوع عامل في حق العقوبة فإذا كان هو جاحدا والشهود يشهدون على إقراره بذلك كانت هذه شهادة على ما يوجب ضمان المال.
ولو شهدوا على عبد محجور بسرقة عشرة أو أكثر ومولاه غائب لم يقض عليه بشيء حتى يحضر المولى لأن دعوى السرقة عليه كدعوى الغصب وقد بينا أنه يشترط حضرة المولى فيما يدعي على المحجور من الغصب فكذلك فيما يدعي قبله من السبب الموجب للعقوبة فإن كان مولاه حاضرا قطعت يده لأن السبب الموجب للعقوبة ظهر بشهادته وهو مخاطب وإن شهدوا على إقرار العبد بذلك وهو يجحد فالشهادة باطلة لأن إقرار المحجور عليه في حق المال باطل حتى يعتق وفي حق القطع الإقرار يبطل بالرجوع عنه.(26/66)
ثم قد بينا أن إقرار المحجور بسرقة مال مستهلك أو قائم بعينه في يده وما في ذلك من الاختلاف بينه أصحابنا في كتاب السرقة قال وإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فاشترى خمرا أو خنزيرا فهو جائز كان عليه دين أو لم يكن لأنه يتصرف لنفسه بفك الحجر عنه فيراعى حاله في ذلك ثم المولى إنما يتملكه عليه بطريق الخلافة كما يتملك الوارث مال مورثه والمسلم من أهل أن يتملك الخمر بالميراث.
ولو اشترى ميتة أو دما أو بايع كافرا بربا فهو باطل لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالعتق وتصرف الحر الكافر في الميتة والدم باطل وهو في جميع بياعاته بمنزلة المسلم إلا في الخمر والخنزير فكذلك العبد المأذون ولو شهد عليه كافران بغصب أو وديعة مستهلكة أو بيع أو إجارة أو شهدوا على إقراره بذلك وهو ومولاه ينكران ذلك فشهادتهما جائزة استحسانا ذكره في كتاب المأذون الصغير وفي القياس لا تقبل هذه الشهادة لأن المسلم يتضرر بها فإن الكسب ومالية الرقبة إنما يستحق على المولى بهذه الشهادة والمولى مسلم وشهادة الكافر فيما يتضرر به المسلم لا تكون حجة.
وجه الاستحسان: أن المولى فك الحجر عنه بالإذن فيجعل ذلك في إقامة الحجة عليه(26/67)
ص -35- ... بمنزلة فك الحجر عنه بالعتق والمولى وإن كان يتضرر به ولكنه قد صار راضيا بالتزام هذا الضرر حين أذن له في التجارة مع علمه أن شهادة الكفار حجة على الكافر.
ألا ترى: أن العبد الكافر لو أقر بذلك صح إقراره وإن كان المولى يتضرر لوجود الرضا منه بذلك فكذلك إذا شهد الشهود عليه بذلك وكذلك الصبي الكافر يأذن له وصيه المسلم أو جده أب أبيه في التجارة لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالبلوغ فشهادة الكافر تكون حجة عليه.
وإن كان العبد المأذون مسلما ومولاه كافرا لم تجز شهادة الكافرين على العبد بشيء من ذلك وإن لم يكن عليه دين لأن العبد هو الخصم فيما يشهد به الشهود عليه وهو مسلم جاحد لذلك فلا تقبل شهادة الكفار عليه.
وإن شهد الكافران على العبد المحجور الكافر بغصب ومولاه مسلم فشهادتهما باطلة لأن الخصم فيما يدعي على العبد المحجور مولاه.
ألا ترى: أن الشهادة عليه لا تقبل إلا بمحضر من مولاه فإذا كان المولى مسلما لم تكن شهادة الكفار حجة عليه بخلاف المأذون فإن كان مولاه كافرا فشهادتهما جائزة.
قال: وإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران بجناية خطأ أو بقتل عمدا أو بشرب خمر أو بقذف أو شهد عليه أربعة من الكفار بالزنى وهو ومولاه منكران لذلك فالشهادة باطلة لأن الخصم ها هنا المولى.
ألا ترى: أن البينة لا تقبل على العبد بشيء من ذلك إلا بمحضر من المولى أما في جناية الخطأ فغير مشكل وفي الأسباب الموجبة للعقوبة كذلك عند أبي حنيفة ومحمد وفي قول أبي يوسف المولى يتضرر بذلك ولم يوجد منه الرضا بالتزام هذا الضرر بالإذن له في التجارة فلهذا لا تقبل شهادتهم عليه وكذلك لو كان العبد مسلما ومولاه كافرا لأن الثابت بهذه البينة فعل العبد وشهادة الكفار لا تكون حجة في إثبات فعل المسلمين.(26/68)
وإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران بسرقة عشرة دراهم أو أقل قضي عليه بضمان السرقة وإن كان المولى حاضرا أو غائبا لم يقطع لأن هذه البينة لا تكون حجة في إثبات العقوبة لإسلام المولى فكانت شهادتهما عليه بالأخذ بجهة السرقة بمنزلة الشهادة بجهة الغصب.
ولو كان العبد مسلما والمولى كافرا كانت شهادتهما باطلة لأنها تقوم لإثبات فعل المسلم فإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران لكافر أو لمسلم بدين ألف درهم والعبد يجحد وعليه ألف درهم دين لمسلم أو كافر فشهادتهما عليه جائزة وإن كان صاحب الدين الأول مسلما لأن هذه البينة تقوم لإثبات الدين في ذمة الكافر وقد بينا أن انفكاك الحجر عنه بالإذن كهو بالعتق والحر الكافر يثبت عليه الدين بشهادة الكافر وإن كان له عبد مسلم فهذا مثله فإن كان صاحب الدين الأول كافرا بيع في الدينين وإن كان مسلما بيع(26/69)
ص -36- ... العبد وما في يده في الدين الأول حتى يستوفى جميع دينه فإن فضل فهو للذي شهد له الكافران الآن لأن الأول استحق كسبه ومالية رقبته فلو قبلنا شهادة الكافر في إثبات المزاحمة للثاني معه تضرر المسلم بشهادة الكافر وذلك لا يجوز فإن قيل: حق الغريم المسلم في رقبته وكسبه لا يكون أقوى من حق المولى المسلم وقد بينا أن شهادة الكفار عليه مقبولة في حق مولى المسلم فكذلك في حق الغريم المسلم.
قلنا: المولى المسلم رضي بالتزام هذا الضرر حين أذن له في التجارة فأما الغريم المسلم فلم يوجد منه الرضا بالتزام هذا الضرر وفي إثبات هذه المزاحمة عليه ضرر.
ولو ادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألف درهم فشهد لأحدهما مسلمان وشهد للآخر بدينه كافران فإن القاضي يقضي بالدين كله عليه فيبدأ بالذي شهد له المسلمان فيقضي دينه فإن بقي شيء كان للذي شهد له الكافران لأن الذي شهد له المسلمان أثبت دينه بما هو حجة على العبد خاصة وثبوت الحق بحسب السبب فكان دين الذي شهد له المسلمان ثابتا في حق الذي شهد له الكافران ودين الذي شهد له الكافران غير ثابت في حق الذي شهد له المسلمان فلهذا يبدأ من كسبه وثمنه بقضاء دينه الذي شهد له المسلمان فإن بقي شيء فهو للذي شهد له الكافران.
ولو صدق العبد الذي شهد له الكافران اشتركا في كسبه وثمن رقبته لأن دينه ثبت بإقرار العبد والثابت بإقرار المأذون من الدين كالثابت بالبينة فيظهر وجوبه في حق الغريم الذي شهد له المسلمان ويتحاصان فيه ولو كان الذي شهد له الكافران مسلما والذي شهد له المسلمان كافرا والعبد يجحد ذلك كله بيع العبد واقتسما ثمنه نصفين لأن كل واحد منهما أثبت دينه بما هو حجة على العبد وعلى خصمه فاستوى الدينان في القوة.(26/70)
ولو كان الغرماء ثلاثة كل واحد منهم يدعي ألف درهم أحدهم مسلم شهد له كافران والثاني مسلم شهد له مسلمان فإنه يقضى عليه بجميع الدين ويباع فيه لأن البينات كلها حجة عليه ثم يقسم ثمنه بين المسلم الذي شهد له المسلمان والكافر الذي شهد له المسلمان نصفين لأن كل واحد منهما أثبت دينه بما هو حجة على العبد وعلى الخصمين الآخرين فأما الثالث الذي شهد له كافران فقد أثبت دينه بما ليس بحجة على المسلم الذي شهد له المسلمان فلا يستحق المزاحمة معه في ثمنه وإذا لم تثبت المزاحمة صار كالمعدوم واستوى دين الآخرين في القوة فالثمن بينهما نصفان سلم للمسلم نصفه والنصف الذي صار للكافر بينه وبين المسلم الذي شهد له الكافران نصفين لأنه أثبت دينه بما هو حجة على هذا الكافر وإنما كان محجورا لحق المسلم ولم يبق في هذا النصف للمسلم حق وبينهما مساواة في قوة دين كل واحد منهما في حق صاحبه فيقسم هذا النصف بينهما نصفين ثم لا يكون للمسلم أن يأخذ من يد هذا الذي شهد له الكافران ما يأخذه من صاحبه لأن ذلك لا يفيد شيئا إذا أخذ ذلك أتاه الكافر الذي شهد له المسلمان فاسترد ذلك منه لأنه يساويه في الثمن فلهذا لا يشغل بذلك.(26/71)
ص -37- ... ولو كان أحد الغرماء مسلما شهد كافران والآخران كافران شهد لكل واحد منهما كافران بدئ بالمسلم لأن دينه ثبت بما هو حجة على خصمه ودينهما ثبت بما ليس بحجة عليه فإن بقي بعد دينه كان بين الكافرين لاستوائهما في ثبوت دين كل واحد منهما في حق صاحبه ولو كان العبد مسلما والمولى كافرا والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد له كافران والآخر كافر شهد له مسلمان والعبد يجحد ذلك فإن القاضي يبطل دعوى المسلم الذي شهد له كافران ويباع العبد الآخر في دينه فيوفيه حقه فإن بقي شيء من ثمنه فهو للمولى لأن المسلم إنما أقام شهودا كفارا على دينه وشهادة الكفار لا تكون حجة على العبد المسلم فما لم يثبت دينه على العبد لا يستحق شيئا من ثمنه فلا يكون لهذا المسلم أن يزاحم الغريم الكافر فيما يأخذه ولا أن يأخذ من المولى شيئا مما بقي من ثمنه في يده بخلاف ما سبق فهناك الديون كلها تثبت على العبد وكذلك لو كان العبد محجورا عليه في هذا الفصل لأن أصل الدين لا يثبت عليه بشهادة الكفار وإن كان محجورا عليه وما لم يثبت عليه أصل الدين في ذمته لا يتعلق بمالية رقبته.
ولو كان العبد كافرا محجورا ومولاه مسلما والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد له كافران والآخر كافرا شهد له مسلمان بأنه غصب منه ألف درهم فإنه يقضى عليه بدين الكافر ولا يقضى عليه بدين المسلم حتى يعتق لأن مولاه مسلم وقد بينا أن شهادة الكفار على العبد الكافر المحجور عليه بالغصب لا تكون حجة في حق المسلم فما لم يسقط حقه بالعتق لا يقضى عليه بدين المسلم وليكن إذا أخذ الكافر دينه من ثمنه شاركه المسلم لأن أصل دين المسلم ثابت على العبد بشهادة الكفار ها هنا.
ألا ترى أنه يؤخذ به بعد العتق وإنما لا يظهر ذلك في حق المولى وقد سقط حق المولى عما أخذه الكافر من ثمن العبد وإنما بقي المعتبر فيه حق الكافر ودين المسلم ثابت بما هو حجة على الكافر وعلى العبد كدين الكافر ولهذا شاركه فيما أخذه.(26/72)
وإذا أذن المسلم لعبده الكافر فشهد عليه كافران بدين ألف درهم لمسلم أو كافر بإقرار أو غصب وقضى القاضي بذلك فباع العبد بألف درهم فقضاها الغريم ثم ادعى على العبد دينا ألف درهم كانت عليه قبل أن يباع فإن أقام على ذلك شاهدين مسلمين فإن القاضي يأخذ الألف من الغريم الذي شهد له الكافران فيدفعها إلى هذا الغريم الذي شهد له المسلمان ولو كان الثاني كافرا أخذ منه نصف ما أخذه الأول لأنه أثبت دينه بتاريخ سابق على البيع فيلتحق بالدين الظاهر عليه بشهادة المسلمين قبل أن يباع ولو قامت البينة قبل البيع كان الحكم فيه ما ذكرنا فكذلك ها هنا.
قال ولو كان الأول كافرا وشاهداه مسلمين والثاني مسلما أو كافرا وشاهداه كافرين فإنه يأخذ من الأول نصف ما أخذه لأن دين الثاني ثبت بما هو حجة على العبد وعلى الغريم الأول ودين الأول كذلك فلاستوائهما في القوة يجعل ثمنه بينهما نصفين.(26/73)
ص -38- ... ألا ترى أن الكافر لو هلك وترك ألف درهم فأسلم وارثه وأقام كافر شاهدين مسلمين على الميت بألف درهم فقضى له القاضي ثم إن مسلما أو كافرا أقام على الميت شاهدين كافرين بدين ألف أنه يأخذ من الأول نصف ما أخذ للمعنى الذي بينا واستحقاق تركة الميت بدينه كاستحقاق كسب العبد وثمن رقبته بدينه.
قال: وإذا أذن الرجل لعبد الكافر في التجارة فباع واشترى ثم أسلم فادعى عليه رجلان دينا فجاء أحدهما بشاهدين كافرين عليه بألف درهم دينا كانت عليه في حالة كفره وجاء الآخر بشاهدين مسلمين عليه بمثل ذلك والمدعيان مسلمان أو كافران والمولى مسلم أو كافر فشهادة المسلمين جائزة ولا شيء للذي شهد له الكافران لأن العبد مسلم حين قامت البينة عليه وشهادة الكافر على المسلم لا تقبل سواء أطلق الشهادة أو أرخ بتاريخ سابق على إسلامه.
ولو كان العبد مسلما ومولاه كافرا أو مسلما فارتد العبد عن الإسلام والعياذ بالله فشهد عليه مسلمان لكافر أو لمسلم بمال وشهد عليه كافران لمسلم أو كافر بمال فشهادة المسلمين جائزة وشهادة الكافرين باطلة لأن المرتد مجبر على العود إلى الإسلام وحكم الإسلام باق في حقه ولهذا لا ينفذ تصرفه في الخمر والخنزير فشهادة الكافر لا تكون حجة أصلا.(26/74)
وإذا أذن الرجل لعبده الكافر في التجارة ومولاه مسلم أو ذمي فشهد عليه مسلمان لمسلم بدين وشهد عليه ذميان لمسلم بدين وشهد عليه مستأمنان لمسلم بدين فإن القاضي يبطل شهادة المستأمنين لأن العبد ذمي وشهادة المستأمن لا تكون حجة على الذمي باعتبار أن الذمي من أهل دارنا ويقضي بشهادة الذميين والمسلمين لأنها حجة عليه ثم يبيع العبد فيبدأ بدين الذي شهد له المسلمان لأنه أثبت دينه بما هو حجة على العبد وعلى خصمه الآخر إنما أثبت دينه بما هو حجة على العبد لا على خصمه فإذا أخذ المسلم حقه وبقي شيء كان للذي شهد له الذميان لأن دينه كان ثابتا على العبد ولكن كان محجورا لحق المسلم وقد زال الحجر حين استوفى المسلم حقه فإن بقي شيء بعد دينه كان للمولى لأن دين الذي شهد له المستأمنان غير ثابت في حق العبد وكذلك لو كان المولى حربيا لأن الدين بشهادة الحربيين لا يثبت على العبد الذمي وما لم يثبت الدين على العبد لا يتعلق بماليته التي هي حق مولاه.
فلو كان المولى وعبده حربيين والمسألة بحالها قضي بالدين كله على العبد وبيع فيه فيبدأ بالذي شهد له المسلمان ثم بالذي شهد له الذميان لما قلنا: ثم ما فضل يكون للذي شهد له الحربيان لأن دينه ثابت في حق العبد ها هنا وإنما كان محجورا بحق الآخرين فإذا زال الحجر كان الباقي له فان كان أصحاب الدين كلهم أهل الذمة والمسألة بحالها يحاص في ثمنه الذي شهد له المسلمان والذي شهد له الذميان لأن دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على العبد وعلى الخصمين الآخرين ودين الثالث إنما ثبت بما هو حجة على العبد خاصة فلا يزاحمهما في ثمنه ولكن يقدمان عليه ويتحاصان للمساواة بينهما في القوة فإن فضل شيء فهو للذي شهد له الحربيان.(26/75)
ص -39- ... ولو كان أصحاب الدين كلهم مستأمنين تحاصوا جميعا في دينهم لأن دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على العبد وعلى الخصمين الآخرين ولو كان المولى مسلما أو ذميا والعبد حربيا دخل بأمان فاشتراه هذا المولى وأذن له في التجارة والمسألة بحالها لم تجز شهادة الحربيين عليه بشيء لأن العبد قد صار ذميا حين دخل في ملك مسلم أو ذمي فلا تكون شهادة أهل الحرب بالدين عليه حجة.
وإذا دخل الحربي دارنا بأمان ومعه عبد له فأذن له في التجارة جازت شهادة المستأمنين عليه بالدين كما تجوز على مولاه لأنه حربي مستأمن.
ألا ترى أن لمولاه أن يعيده إلى دار الحرب ولو كان الغرماء ثلاثة مسلم شهد له حربيان بدين ألف درهم وذمي شهد له ذميان بدين ألف درهم وحربي شهد له مسلمان بدين ألف درهم ثم بيع العبد بألف درهم فإنه يقسم الألف بين الذمي الذي شهد له الذميان والحربي الذي شهد له المسلمان نصفين لأن دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على العبد وعلى صاحبه فأما المسلم فإنما يثبت دينه بما ليس بحجة على الذمي وهو شهادة الحربيين فلهذا لا يزاحمهما.(26/76)
وإذا اقتسما ثمنه نصفين أخذ المسلم من الحربي نصف ما صار له لأن دينه ثابت بما هو حجة في حق الحربي وإنما كان ممنوعا لحق الذمي وقد سقط حق الذمي عن هذا النصف فكان بينهما نصفين وقال عيسى بن أبان رحمه الله هذا خطأ وينبغي أن يكون الألف بينهم أثلاثا لأن المسلم الذي شهد له الحربيان والذمي الذي شهد له الذميان استويا من حيث إن دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على العبد دون صاحبه فليس جعل المسلم محجوبا عن المزاحمة لأجل الذمي بأولى من جعل الذمي محجوبا عن المزاحمة لأجل المسلم وقد ثبت دين كل واحد منهما بما هو حجة على الحربي ودين الحربي بما هو حجة عليهما فينبغي أن يكون بينهم أثلاثا وهذا ذكره الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله وقيل في تصحيح جواب الكتاب أنه وإن كان كذلك فشهادة الذمي أقوى من شهادة الحربي لأن شهادة أهل الحرب إنما تقبل بعقد الأمان والأمان يثبت للحربي بهذا المسلم أو من يقوم مقامه من المسلمين أما عقد الذمة فليس يثبت من جهة الذمي فكانت شهادة أهل الذمة للذمي أقوى وأبعد عن التهمة من شهادة المستأمنين للمسلم فترجح جانبه لهذا.
ولو كانت شهود الذمي حربيين وشهود المسلم ذميين والمسألة بحالها كان الثمن بين المسلم والحربي نصفين لأن الذمي إنما أثبت دينه بما ليس بحجة على المسلم والمسلم أثبت دينه بما هو حجة على المسلم فكان الذمي محجوبا به بقي المسلم والحربي وقد أثبت كل واحد منهما دينه بما هو حجة على العبد وعلى صاحبه فكان الثمن بينهما نصفين ثم يأخذ الذمي نصف ما أصاب الحربي لأن بينته حجة عليه وإنما كان محجوبا عن المسلم وقد سقط حق المسلم عن هذا النصف.(26/77)
ص -40- ... ولو كان الذي شهد له المسلمان ذميا والذي شهد له الذميان حربيا والذي شهد له الحربيان مسلما فإن الثمن بين الحربي والذمي نصفين لأن دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على صاحبه ودين المسلم ثبت بما ليس بحجة على الذمى فكان هو محجوبا وليس في هذا الفصل طعن فإن الدين ثبت بما هو حجة على المسلم لأن شهود الذمي مسلمون فلهذا كان الثمن بين الحربي والذمي نصفين ثم يأخذ المسلم نصف ما أخذ الحربي لما بينا أنه كان محجوبا بالذمي وقد زالت مزاحمته.
قال: فإذا لحق العبد دين فقال مولاه هو محجور عليه وقال الغرماء هو مأذون له فالقول قول المولى لأنه متمسك بالأصل وهو الحجر بسبب الرق ولأن الغرماء يدعون عليه بسبب استحقاق كسبه ومالية رقبته والمولى ينكر ذلك فعليهم إثبات هذا السبب بالبينة فإن جاؤوا بشاهدين على الإذن فشهد أحدهما أن مولاه أذن له في شراء البز وشهد آخر أنه أذن له في شراء الطعام فشهادتهما جائزة وإن كان الدين من غير هذين الصنفين لأن المشهود به إنما هو أصل الإذن فأما هذا التقيد بالبز والطعام فلغو لأن الإذن في التجارة لا يقبل التخصيص وقد اتفقا على ما هو المقصود والمشهود به فإن شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البز وشهد آخر أنه رآه يشتري البز فلم ينهه فشهادتهما باطلة لأنهما اختلفا في المشهود به فإن أحدهما شهد بمعاينة فعل والآخر شهد بقول.
ولو شهد أحدهما أنه رآه يشتري البز فلم ينهه وشهد الآخر أنه رآه يشتري الطعام فلم ينهه فشهادتهما باطلة لأن كل واحد منهما شهد بمعاينة فعل غير الفعل الذي شهد الآخر بمعاينته فلم يثبت بما شهد بمعاينة كل فعل إلا شاهد واحد.(26/78)
ولو شهد أنه رآه يشتري البز فلم ينهه كان الشراء جائزا وكان العبد مأذونا له في التجارة لأنهما اتفقا على الشهادة بمعاينة فعل واحد والثابت بشهادة شاهدين كالثابت بالمعاينة ولو عاينا المولى رآه يبيع البز فلم ينهه كان مأذونا له في التجارة في الأشياء كلها فكذلك إذا شهد عليه الشاهدان بذلك والله أعلم.
باب الاختلاف بين المأذون ومولاه
قال رحمه الله: وإذا كان العبد المأذون في يده مال وعليه دين فقال هو مالي وقال مولاه بل هو مالي فالقول قول العبد لأن يده في كسبه معتبرة لحق الغرماء والمولى ممنوع من أخذ ما في يده لحقهم فيكون المال في يده ككونه في يد غرمائه لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالعتق أو بالكتابة إلا أن يده قبل أن يلحقه الدين ما كانت لازمة وبلحوق الدين إياه صارت لازمة فالمنازعة بينه وبين المولى فيما في يده كالمنازعة بين المولى ومكاتبه فيما في يده.
وإن كان المال في يد المولى وفي يد العبد فهو بينهما نصفان لأن المولى من كسب عبده في هذه الحالة كأجنبي آخر وقد استويا في دعوى اليد والعين ظهرت في يديهما فكان بينهما(26/79)
ص -41- ... نصفين فإن كان في يد المولى ويد العبد ويد أجنبي فادعاه كل واحد منهم فهو بينهم أثلاثا لأن يد العبد فيه كيد غريمه فتكون معارضة ليد المولى ويد الأجنبي في المزاحمة.
وإن كان العبد لا دين عليه فالمال بين المولى والأجنبي نصفان ولا شيء للعبد فيه لأن ما في يد العبد ويد مولاه واحد إذا لم يكن عليه دين فإن كسبه خالص ملك مولاه ويده فيه كيد مولاه وفي حق الأجنبي لأن الحق لا يعدوهما فهو بمنزلة ما لو تنازع اثنان في شيء وأحدهما ممسك له بيديه والآخر بيد واحدة فإنه يقضي بذلك نصفان هذا ولو كان ثوب في يد حر وعبد مأذون وكل واحد منهما يدعيه ومعظمه في يد أحدهما والآخر متعلق بطرفه فهو بينهما نصفان لأن الاستحقاق باعتبار اليد ويده على جزء من الثوب كيده على جميعه.
ألا ترى أنه لو كان في يده طرف من الثوب وليس في يد الآخر منه شيء فتنازعا فيه كان ذو اليد أولى بجميعه سواء كان الطرف الذي في يده معظم الثوب أو شيئا يسيرا منه فإن كان أحدهما متزرا به أو مرتديا أو لابسا والآخر متعلقا به أو كانت دابة أحدهما راكب عليها والآخر متمسك باللجام فهي للراكب واللابس لأنه مستعمل للعين واليد بالاستعمال تثبت حقيقة دون التعلق به.
ألا ترى أنه لا يتمكن من الركوب واللبس في العادة إلا صاحب اليد ويتمكن الخارج من التعلق به لأن الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب لأن قيامه به وكانت يده فيما هو تبع له من وجه أقوي من يد المتعلق به والضعيف لا يظهر في مقابلة القوى ولو لم يكن هذا راكبها وكان الآخر متعلقا بها لا يستحق الترجيح بتعلقه بها ولو كان هذا راكبها ولم يكن الآخر متعلقا بها كان الراكب أولى فإذا كان لأحدهما سبب يستحق به عند الانفراد وليس للآخر مثله كان هو أولى.(26/80)
ولو أن حرا أو مأذونا أجر نفسه من رجل يبيع معه البز أو يخيط معه ثم اختلفا في ثوب في يد الأجير فإن كان في حانوت الذي استأجره فهو للمستأجر لأن الآخر مع ما في يده في يد المستأجر فإن حانوت المستأجر ويده ثابتة عليه فما في الحانوت يكون في يده فالظاهر شاهد للمستأجر فإن الأجير لا ينقل أمتعته إلى حانوت المستأجر عادة خصوصا ما ليس من أداة عمله وإن كان في السكة أو في منزل الأجير فهو للأجير لأنه لا يد للمستأجر على هذا الموضع حقيقة ولا حكما ويد الأجير ثابتة على الثوب حقيقة وبعقد الإجارة لا يخرج من أن يكون له يد معتبرة في أمتعته والصغير والكبير في هذا سواء لأن كل واحد منهما له يد معتبرة دافعة لاستحقاق الغير.
ولو أن عبدا محجورا عليه أجره مولاه لرجل وكان مع العبد ثوب فقال المستأجر هو لي وقال مولاه هو لي كان للمستأجر سواء كان في السكة أو في السوق أو في حانوت المستأجر أو كانت المنازعة في دابة والعبد راكبها لأن مولاه حين آجره فقد حول يده فيه إلى المستأجر وصار المستأجر بمنزلة المالك في ثبوت يده وعلى ما معه لأنه صار أحق بالانتفاع به فيكون القول في جميع ما في يده قوله بخلاف الحر فإن المستأجر وإن صار أحق بمنافعه فقد بقيت له يد معتبرة في أمتعته لأنه مالك للأمتعة بعد الإجارة كما كان قبله(26/81)
ص -42- ... والعبد المحجور عليه مملوك ليست له يد معتبرة فكان هو وما في يده لمولاه قبل الإجارة وقد حوله بالإجارة إلى يد المستأجر.
ولو كان على العبد قميص أو قباء فقال المستأجر هو لي وقال المولى هو لعبدي فالقول قول المولى لأن الظاهر يشهد له لأن الظاهر أن العبد لا ينقل إلى يد المستأجر عريانا.
ألا ترى أنه لو باعه من إنسان دخل في البيع ما عليه من لباسه وإن لم يذكر باعتبار الظاهر والعادة ولا يدخل في البيع متاع آخر في يده إلا ما يذكر فلا ينظر إلى قول العبد في شيء من ذلك لأنه محجور عليه وليس للمحجور عليه قول ولا يد معتبرة فيما معه.
ولو كان العبد في منزل المولى وفي يده ثوب فقال المستأجر هو لي وقال المولى هو لي فهو للمولى لأن المنزل في يد المولى فما فيه يكون في يده أيضا لأنه ليس للعبد يد معتبرة في معارضة يد المولى والمستأجر إذا كانت يده لا تظهر في منزل المولى كان المتاع للمولى ولو كان العبد مأذونا له وعليه دين وهو في منزل المولى وفي يده ثوب فقال المولى هو لي وقال العبد هو لي فإن كان الثوب من تجارة العبد فهو له لأن ما يكون من تجارته فهو كسبه والحق في كسبه لغرمائه فيده فيه كيد الغريم وإن لم يكن من تجارته فهو للمولى لأنه في ملك المولى ويده ثابتة على ما في ملكه وحق الغرماء لا يثبت في شيء من ذلك ما لم يثبت كونه كسبا للعبد.
ولو كان العبد راكبا على دابة أو لابسا ثوبا فقال العبد هو لي وقال المولى هو لي فهو للعبد يقضي به دينه كان ذلك من تجارته أو لم يكن لأن الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب وحق الغرماء يتعلق بمالية رقبته فيكون متعلقا بما هو تبع له والله أعلم.
باب المأذون يأسره العدو أو يرتد(26/82)
قال رحمه الله: قد بينا في السير أن العبد إذا أسره العدو فأحرزوه بدارهم ثم عاد إلى قديم ملك المولى فإنه يعود ما كان فيه من الدين والجناية وإن لم يعد إلى قديم ملك المولى فإن لم يأخذه من يد من وقع في سهمه أو من يد المشتري أو أسلم أهل الحرب عليه فإن الدين يعود عليه كما كان والجناية لا تعود لأن المستحق بالجناية الملك القائم وقت الجناية.
ألا ترى أن المولى لو أعتقه بعد الجناية لا يبقى حق ولي الجناية فكذلك إذا زال ذلك الملك ولم يعد إليه بخلاف الدين فإنه ثابت في ذمته.
ألا ترى أنه يبقى عليه بعد العتق فسواء عاد ذلك الملك أو لم يعد بقي الدين في ذمته كما كان والدين في ذمة العبد لا يجب إلا شاغلا مالية رقبته فلهذا بيع في الدين في ملك من كان.
وإن ارتد المأذون وعليه دين أو جناية خطأ ولحق بدار الحرب ثم أسره المسلمون فمولاه أحق به قبل القسمة وبعدها بغير شيء في قول أبي حنيفة لأنه لم يحرزه المشركون إنما هو(26/83)
ص -43- ... أبق إليه فإذا بقي على ملك مولاه بقي الدين والجناية عليه بحالهما يدفع بالجناية ثم يباع في الدين قال وإذا أدان المسلم دينا ثم ارتد ولحق بدار الحرب ثم أسر فإن أبى أن يسلم فقتل بطل الدين إلا أن يؤخذ ماله في دار الإسلام فيقضى به دينه لأن ماله الذي خلفه في دار الإسلام مصروف إلى حاجته وهو خلف عن ذمته في وجوب قضاء الدين كما بعد موته وإن لم يكن له مال في دار الإسلام فقد فات محل الدين حين قتل فبطل دينه وليس هذا بأول مديون بملك مفلسا ولو كانت مرتدة فسبيت وأسلمت فهي أمة للذي استولدها وقد بطل الدين عنها لأن نفسها تبدلت بالأسر فصارت كالهالكة لا إلى خلف فإن الحرية حياة والرق تلف وهذا لأن حكم الدين تغير بحدوث الرق فيها لأنه حين وجب الدين كان في ذمتها ولا تعلق له بمحل آخر وبعد ما صارت أمة فالدين عليها يكون شاغلا مالية رقبتها أن لو بقي وهذه مالية حادثة لا يمكن شغلها بالدين والدين لا يجب على المملوك إلا شاغلا مالية رقبته فيسقط بهذه المنافاة.
وكذلك كل حد وقصاص كان عليها فيما دون النفس قبل الردة لتغيير حكمه برقها فالرق ينصف الحدود وينافي وجوب القصاص فيما دون النفس فأما القصاص في النفس فهو على حاله عليها لأن ذلك لا يتغير بالرق والأمة والحرة فيه سواء وكذلك الرجل الذمي أو المرأة الذمية ينقض العهد ويلتحق بدار الحرب وعليه دين يوم يؤسر فهو رقيق وقد بطل الدين وكل حد أو قصاص دون النفس كان عليه يتغير حكمه برقه ويؤخذ بالقصاص في النفس لأن الحر والرقيق فيه سواء.
وإذا استدان الحر المستأمن في دار الإسلام ثم رجع إلى بلاده ثم عاد إلينا مسلما أو ذميا أو مستأمنا أخذ بذلك الدين لبقاء دينه على رجوعه إلى بلاده وبعد عوده إلينا ولم يصر محجورا متمكنا لما في ذمته لأن الإحراز في الدين لا يتحقق ولو لم يرجع إلينا حتى أسر فصار عبدا بطل الدين لتبدل نفسه بالرق.(26/84)
ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدان حربيا ثم أسر المسلمون الحربي فصار عبدا بطل الدين عنه لأن نفسه تبدلت بما حدث فيه من الرق وخرج من أن يكون أهلا للمالكية والأسر لم يخلفه في ملك الدين فسقط عمن عليه لانعدام المطالبة والمستوفى له فإن الدين ليس إلا مجرد المطالبة هذا إذا كان الدين له على المسلم وإن كان للمسلم عليه فقد سقط بفوات محله بتبدل نفسه بالرق فإن جاء مستأمنا لم يؤخذ به إن كان الدين عليه ولم يؤخذ به المسلم إن كان الدين على المسلم لأن هذه المعاملة جرت بينهما في دار الحرب وهو بالخروج إلينا بأمان لم يصر من أهل دار الإسلام فلا تسمع الخصومة في ذلك الدين بينهما إلا أن يسلم أو يصير ذميا فحينئذ يؤخذ بذلك كل واحد منهما لأنه التزم أحكام الإسلام وصار منا دارا ودينا والدين ببقاء ذمته على حاله وبقاء الطلب أهلا للمالكية فيؤخذ كل واحد منهما به وقد بينا ما في هذه الفصول من الخلاف في كتاب الصلح والله أعلم.(26/85)
ص -44- ... باب إقرار المأذون في مرض مولاه
قال رحمه الله: وإذا أقر المأذون في مرض مولاه بدين أو غصب أو وديعة قائمة أو مستهلكة أو غير ذلك من ديون التجارات فإن كان المولى لا دين عليه ومات من مرضه ذلك فإقرار العبد جائز بمنزلة إقرار المولى به لأن الدين على العبد يشغل كسبه ومالية رقبته وذلك حق مولاه وصحة إقراره اعتبار إذن المولى به واستدامة الإذن بعد مرضه بمنزلة إنشائه وإذا كان صحة إقراره بسبب يضاف إلى المولى صار إقراره كإقرار المولى وإقرار المولى في مرضه بدين أو عين للأجنبي صحيح إذا لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين في صحته بدئ بدين الصحة من تركته ومن رقبة العبد وكسبه فإن فضل من رقبته وكسبه شيء فهو للذي أقر به العبد لأن كسبه ورقبته ملك مولاه فإقراره فيه كإقرار المولى.
ولو أقر المولى بذلك كان دين الصحة مقدما عليه وكان الباقي بعد قضاء دين الصحة مصروفا إليه فهذا مثله وإن كان مال المولى غائبا فقضى القاضي دين المولي من ثمن العبد وما في يده ثم حضر مال المولى فإن القاضي يأخذ منه ثمن العبد وما كان في يده فيقضي به دين العبد وما أقر به لأن حق غريم العبد كان متعلقا به وقد قضي به دين المولى فيقوم غريم العبد مقام غريم المولى في الرجوع به في تركته إذا ظهر ماله ليأخذه قضاء من دينه وإن كان دين العبد أكثر من ذلك فما زاد على ثمن العبد ومالية كسبه من تركة المولى لوارثه لا حق فيه لغريم العبد لأن دينه ما كان ثابتا في ذمة المولى وإنما كان في كسب العبد ومالية رقبته.(26/86)
وإن كان على المولى دين الصحة وعلى العبد دين الصحة وأقر العبد في مرض المولى كما وصفنا بدئ من كسب العبد ومالية رقبته بدين العبد الذي كان في صحة المولى لأن ذلك أسبق تعلقا به في حق غريم المولى وإنما يثبت فيه من جهة المولى وقد كان حق غريم العبد فيه مقدما على حق المولى فكذلك يكون مقدما على حق غريم المولى ثم يقضى منه دين المولى الذي كان في الصحة لأن ذلك أسبق تعلقا به مما أقر العبد به في مرض المولى لما بينا أن إقرار العبد فيه كإقرار المولى فإن فضل شيء فهو للذي أقر له العبد في مرض مولاه ولا يكون للذي أقر له العبد في مرض المولى مزاحمة غريم العبد في صحة المولى فيما يستوفيه لأن حقه يتأخر عن حق غريم المولى وغريم العبد في صحة المولى حقه مقدم على حق غريم المولى فكيف يزاحمه من كان حقه متأخرا عن حق غريم المولى وهذا لأنه لو زاحمه فاستوفى منه شيئا لم يسلم له ذلك بل يأخذه غريم المولى منه لكونه مقدما عليه في ذلك ثم يأخذ ذلك منه غريم العبد في صحة المولى لأن حقه مقدم على حقه فلخلوه عن الفائدة لا يشتغل به.
ولو لم يكن على المولى دين يحاص غرماء العبد الأولين والآخرين فيما في يده لأن صحة إقرار العبد في حق غرمائه بكونه مأذونا له في التجارة وقد جمع الإقرارين حالة واحدة وهي حالة الإذن فيجعل كل واحد منهما مزاحما لصاحبه في كسب العبد ورقبته بمنزلة ما لو(26/87)
ص -45- ... أقر لهما بالدين معا إلا أن يكون أقر بشيء بعينه لإنسان فإنه يبدأ فيسلم للمقر له لأن إقراره بذلك صحيح ما دام مأذونا له في التجارة وتبين بإقراره أن تلك العين ليست من كسبه وإنما يتعلق حق غرمائه بكسبه.
والحاصل: أنه إذا لم يكن على المولى دين فحال مرضه في أقارير العبد كحال صحته ولو لم يقر العبد بذلك في مرض مولاه ولكنه التزمه بسبب عاينه الشهود لزمه ذلك مثل ما يلزمه في صحة مولاه لأنه مأذون على حاله ولا تهمة في السبب الذي وجب به الدين.
ألا ترى أن المولى لو باشر هذا الدين كان الدين الواجب به مساويا لدين الصحة فكذلك إذا باشره العبد ودين العبد في كسبه ومالية رقبته مقدم على دين المولى فما لم يقض ديونه لا يسلم لغريم المولى شيء من ذلك.
ولو مرض المولى ولا دين على واحد منهما وقيمة العبد ألف درهم فأقر المولى على نفسه بدين ألف درهم ثم مات المولى فإن العبد يباع فيتحاص الغريمان في ثمنه لأن ما أقر به العبد على نفسه بمنزلة ما لو أقر به المولى على نفسه ولو أقر المولى في مرضه بدين ثم بدين يحاص الغريمان فيه لأن الإقرارين جميعهما حالة واحدة فهذا مثله.(26/88)
ولو كان إقرار العبد أولا بدىء به لأن حق المقر له بنفس الإقرار تعلق بمالية رقبته فكان في حق المولى بمنزلة الإقرار بالعين ولو أقر المولى في مرضه بعين ثم بدين كان المقر له أولى بالعين بخلاف ما إذا أقر بدين ثم بعين يتحاصان فيه فإقرار العبد مع إقرار المولى بمنزلة ذلك في المعنى وهذا لأنه إذا سبق إقرار المولى فقد تعلق حق المقر له بمال المولى فلا يصدق العبد على إبطال حق غريم المولى عنه بعد ذلك لأن صحة إقراره نادر فكما لا يبطل حق غريم المولى بإقرار المولى برقبته لإنسان فكذلك لا يبطل بإقرار العبد بخلاف ما إذا سبق إقرار العبد لأنه حين أقر لم يكن لأحد حق في مالية رقبته وثبت فيه حق المقر له فلا يصدق المولى بعد ذلك في إثبات المزاحمة لمن يقر له مع غريم العبد.
ولو بدأ المولى فأقر بدين ألف ثم بألف إقرارا متصلا أو منقطعا ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فإن الغرماء الثلاثة يتحاصون في ثمنه فيكون الثمن بينهم أثلاثا لأن إقرار المولى لما جمعهما حالة واحدة جعلا كأنهما واحد معا ولا حق لغريم العبد حين وجد الإقرار من المولى ثم أقر العبد بعد ذلك وهو مأذون فيكون إقراره كإقرار المولى بألف قدر ماليته فيتحاصون في ثمنه فكذلك لو كان العبد أقر بألف ثم بألف إقرارا متصلا أو منقطعا ضربوا بجميع ذلك مع غرماء المولى لأن أقارير العبد حصلت وهو مأذون له فجعل في الحكم كأقارير المولي وقد جمع الكل حالة واحدة.
ولو أقر المولى بدين ألف درهم ثم أقر العبد بدين ألف ثم أقر المولى بدين ألف يتحاصون جميعا لأن إقرار المولى لما سبق كان مانعا من سلامة مالية الرقبة للذي أقر له العبد فنزل إقراره بعد إقرار المولى بمنزلة إقرار المولى وقد جمع الأقارير حالة واحدة فيتحاصون في ثمنه ولو(26/89)
ص -46- ... كان العبد أقر بدين ألف قبل إقرار المولى ثم أقر المولى على نفسه بدين ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فإن ثمن العبد لغريمه دون غريم المولى لأن حق الغريم الأول للعبد لما تعلق بمالية رقبته كان ذلك مانعا صحة إقرار المولى في حق مالية الرقبة بعد ذلك لأنه لا فضل في قيمته على ما أقر به العبد أولا فكان إقرار المولى في حق مالية الرقبة وجوده كعدمه وإنما بقي الإقرار من العبد وقد جمعهما حالة واحدة فكان ثمن العبد بينهما.
ولو كانت قيمته ألفي درهم فأقر العبد بدين ألف درهم ثم أقر المولى بدين ألف درهم ثم مات فإنه يباع فيوفى غريم العبد حقه وغريم المولى حقه لأن في الثمن المقبوض وفاء بالدين وإن نقصت قيمته فبيع بألف درهم فهي لغريم العبد خاصة لأن حقه في ماليته مقدم على حق غريم المولى لتقدم إقراره وإنما ثبت حق غريم المولى في الفضل ولم يفضل شيء وإن بيع بألف وخمسمائة كانت ألف منها لغريم العبد والباقي لغريم المولى لأن حقه في الفاضل وصار هذا نظير حق رب المال مع حق المضارب فإن حق رب المال في رأس المال أصل وحق المضارب في الربح تبع فإنما يثبت في الفضل فإذا لم يظهر الفضل فلا شيء له فإن قل الفضل كان حقه بقدر ذلك.(26/90)
ولو كان أقر بدين ألف وقيمته ألفان ثم أقر المولى بدين ألف ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فبيع العبد بالدين اقتسمه الغرماء أثلاثا لأنه كان في مالية الرقبة عند إقرار المولى فضلا عن دين العبد بقدر ألف فيثبت حق الغريم فيه ثم الإقرار من العبد صحيح لبقاء الإذن وإن اشتغل جميع ماليته بالدين فإذا كانت الديون كلها ثابتة عليه اقتسم الغرماء ثمنه أثلاثا وإن بيع بألف وخمسمائة اقتسموه أخماسا لأن حق غريم المولى إنما ثبت فيه بقدر الفضل وقد ظهر أن الفضل كان بقدر خمسمائة حين أقر المولى بألف درهم فإنما يثبت من دين غريمه في حق مزاحمة غريمي العبد مقدار خمسمائة فإذا ضرب هو بخمسمائة وكل واحد من غريمي العبد بألف كان الثمن بينهم أخماسا لأنك تجعل كل خمسمائة سهما وإن بيع بألف كانت لغريمي العبد خاصة لأن حق غريم المولى ثبت باعتبار الفاضل ولم يفضل من ماليته شيء على الدين الأول الذي أقر به العبد حين بيع بألف وخمسمائة.
ولو بدأ المولى فأقر عليه بدين ألف درهم وقيمة العبد ألفان ثم أقر العبد بدين ألف ثم أقر المولى بدين ألف فإن الثمن يقسم بين الغرماء بالحصص أثلاثا لأن حق غريم المولى الأول ثبت في ماليته وكذلك حق غريم العبد لأن إقراره بعد إقرار المولى كإقرار المولى وكذلك حق الذي أقر له المولى آخرا قد ثبت فيه لأن الإقرارين جميعا من المولى جميعهما حالة واحدة فيتحاصون في ثمنه.
ولو بدأ العبد فأقر بدين ألف درهم ثم أقر المولى بدين ألف ثم بألف ثم بألف إقرارا متصلا أو منقطعا ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فبيع بألفي درهم ضرب فيه غرماء العبد كل واحد منهما بجميع دينه وضرب فيه غرماء المولى كلهم بألف فقط لأن مقدار(26/91)
ص -47- ... الألف من ماليته قد اشتغل بدين الذي أقر له العبد أولا ثم الإقراران من المولى جمعهما حالة واحدة فكأنهما وجدا معا والفاضل من المالية عند إقرار المولى مقدار ألف فيثبت حق غرماء المولى في ذلك المقدار خاصة فلهذا ضرب غرماء المولى بألف درهم وكل واحد من غريمي العبد بجميع دينه.
ولو بيع بألف وخمسمائة ضرب فيه غرماء العبد بجميع دينهم وغرماء المولى كلهم بخمسمائة لأن الفاضل عن أقارير المولى بقدر خمسمائة فيكون الثمن مقسوما بينهم أخماسا لكل واحد من غريمي العبد خمساه ستمائة ولغريم المولى خمسه ثلاثمائة فإن اقتسموه على ذلك ثم خرج بعد ذلك دين كان للسيد على الناس فخرج منه ألف أو ألفان وخمسمائة فغرماء المولى أحق بذلك لأنه قد بقي من دينهم ذلك القدر وزيادة ولا حق لغرماء العبد في تركة المولى وهم ما ضربوا مع غرماء العبد في ثمنه بقدر ألفين وخمسمائة فلهذا كانوا أحق بجميع ما خرج منه فإن خرج منه ثلاثة آلاف أخذ غرماء المولى من ذلك ألفين وسبعمائة وأخذ غرماء العبد من ذلك ثلاثمائة لأنه بقي من حق غرماء المولي ألفان وسبعمائة فيأخذون ذلك وقد كان يقضى بقدر ثلاثمائة من ثمن العبد دين المولى فيكون ذلك دينا لغرماء العبد في تركة المولى فيأخذون هذه الثلثمائة بحساب ذلك فإن كان الذي خرج من ذلك ألفان وستمائة يأخذ غرماء المولى من ذلك ألفين وخمسمائة وخمسين وأخذ غرماء العبد من ذلك خمسين لأن ما تأخر خروجه من دين المولى معتبر بما لو تقدم خروجه على قسمة ثمن العبد ولو تقدم خروج هذا المقدار كان كله لغرماء السيد ثم بقي من دينهم أربعمائة ودين غريمي العبد ألفي درهم فيضرب كل واحد منهم في ثمن العبد وهو ألف وخمسمائة بمقدار دينه.(26/92)
وإذا ضرب غرماء العبد بألفين وغرماء المولى بما بقي من دينهم وهو أربعمائة كان السبيل أن يجعل كل أربعمائة سهما فيصير حق غريمي العبد خمسة وحق غرماء المولى سهما فتبين أن الذي سلم لهم سدس ثمن العبد وذلك مائتان وخمسون وقد استوفوا ثلاثمائة فعليهم رد ما أخذوه زيادة على حقهم وذلك خمسون درهما ولو كان العبد لم يقر بالدين الأول والمسألة بحالها أخذ غرماء السيد ما خرج من دين السيد وهو ألفان وستمائة ثم يباع العبد فإن بيع بألف ضرب فيه غرماء المولى بما بقي لهم وغريم العبد بجميع دينه وهو ألف فكان الثمن بينهم أسباعا خمسة أسباعه لغريم العبد وسبعاه لغرماء المولى.
ولو كانت قيمة العبد ألفي درهم فأقر العبد في مرض المولى بدين ألف درهم ثم أقر المولى بدين ألف ثم اشترى العبد عبدا يساوي ألفا بألف وقبضه بمعاينة الشهود فمات في يديه ثم مات السيد ولا مال له غير العبد فبيع بألفي درهم اقتسمه غرماء العبد بينهم ولا شيء فيه لغريم المولى لأن الذي وجب على العبد بمعاينة الشهود بمنزلة دين الصحة وصاحبه أحق بمالية العبد ممن أقر له المولى في مرضه وقد أقر له العبد أولا بدين ألف فظهر أنه لا فضل في ثمنه على دين المعاينة وعلى الذي أقر به العبد أولا وصحة إقرار المولى باعتبار الفضل،(26/93)
ص -48- ... فإذا لم يظهر بطل دين المولى فصار كالمعدوم وكان ثمن العبد بين غرمائه ولو لم يشتر العبد المأذون ولكن المولى هو الذي اشترى عبدا يساوي ألفا وقبضه بمعاينة الشهود فمات في يده ثم مات المولى من مرضه والمسألة بحالها وبيع العبد بألف فإنه يبدأ بدين البائع لأن ما وجب على المولى بمعاينة الشهود في مرضه بمنزلة دين الصحة وقد بينا أن دين الصحة على المولي مقدم على ما أقر به العبد في مرض مولاه لأن صحة إقرار العبد باستدامة المولى الإذن له فلهذا بدئ بدين البائع وما بقي بعد ذلك فهو بين غرماء العبد ويستوي إن كان الإذن في صحة المولى أو في مرضه لأن استدامة الإذن بعد المرض كاكتسابه.
ألا ترى أنه لو أذن له في التجارة في صحته ثم مرض فأقر العبد لبعض ورثة المولى بدين ثم مات المولى أن إقراره باطل سواء كان على المولى دين محيط أو لم يكن لإقرار العبد بقدر ما أذن له في مرضه واستدامة إذنه في مرضه بمنزلة إقرار المولى به ثم إقرار المريض لوارثه باطل ولو مات المولى فصار العبد المأذون محجورا عليه بموته ثم أقر بدين لم يجز إقراره لأن الملك فيه انتقل إلى الوارث فهو بمنزلة ما لو انتقل الملك فيه إلى غيره في حياته ببيع أو هبة فإن أذن له الوارث في التجارة جاز إذنه لأنه على ملكه فإن أقر العبد بعد إذنه بدين جاز إقراره وشارك المقر له أصحاب الدين الأولين لأن ملك الوارث خلف عن ملك المورث فيجعل بمنزلة ملك المورث في حياته.
ولو حجر عليه بعد ما لحقه ديون ثم أذن له فأقر بدين آخر شارك المقر له أصحاب الدين الأولين لأن الإقرار له حصل في حال انفكاك الحجر عنه بخلاف من أقر له في حالة الحجر فهذا مثله ولو كان على المولى الميت دين لم يجز إذن الوارث له في التجارة ولا إقرار العبد بالدين لأن دين المولى يمنع ملك الوارث وتصرفه.(26/94)
فإن قيل: في هذا الموضع مالية العبد مستحقة لغرماء العبد ولا حق فيه لغرماء المولى فيجعل دين المولى كالمعدوم ودين العبد لا يمنع ملك الوارث فينبغي أن يصح إذنه في التجارة.
قلنا: دين المولى لا يظهر في مزاحمة غرماء العبد فأما في حق وارث المولى فهذا ظاهر.
ألا ترى أنه لو سقط دين العبد كان مالية العبد لغرماء المولى دون ورثته فلهذا لا يصح تصرف الوارث بالإذن في التجارة في هذه الحالة والله أعلم.
باب بيع المأذون وشرائه وإقراره في مرض المولى
قال رحمه الله: وإذا أذن المولى لعبده في التجارة ثم مرض المولى فباع العبد بعض ما كان في يده من تجارته واشترى شيئا فحابى في ذلك ثم مات المولى ولا مال له غير العبد وما في يده فجميع ما فعل من ذلك مما يتغابن الناس فيه أو ما لا يتغابن الناس فيه فهو جائز في قول أبي حنيفة من ثلث مال المولى لأن العبد بانفكاك الحجر عنه بالإذن صار مالكا للمحاباة مطلقا في قول أبي حنيفة حتى لو باشره في صحة المولى كان ذلك صحيحا منه والمولى حين استدام الإذن بعد مرضه جعل تصرف العبد بإذنه كتصرفه بنفسه.(26/95)
ص -49- ... ولو باع المولى بنفسه وحابى يعتبر من ثلث ماله المحاباة اليسيرة والفاحشة في ذلك سواء فكذلك إذا باشره العبد وفي قول أبي يوسف ومحمد محاباته بما يتغابن الناس فيه كذلك فأما محاباته بما لا يتغابن الناس فيه فباطلة وإن كان يخرج من ثلث المولى لأن العبد عندهما لا يملك هذه المحاباة في الإذن في التجارة حتى لو باشره في صحة المولى كان باطلا وكذلك إن كان على العبد دين لا يحيط برقبته وبجميع ما في يده كان قولهم في إمضاء محاباة العبد بعد الدين من ثلث مال المولى على ما بينا لأن قيام الدين على العبد لا يغير حكم انفكاك الحجر عنه بالإذن وإن كان على المولى دين محيط برقبة العبد وبما في يده ولا مال له غيره لم يجز محاباة العبد بشيء لأن مباشرته كمباشرة المولى وقيل للمشتري إن شئت فانقض البيع وإن شئت فأد المحاباة كلها لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض هو بالتزامها فيتخير لذلك.
وإن لم يكن على المولى دين وكان على العبد دين يحيط برقبته وبجميع ما في يده فمحاباة العبد جائزة على غرمائه من ثلث مال المولى لأن حكم الإذن لم يتغير بلحوق الدين إياه والمحاباة وإن جازت على الغرماء فإنما هي من مال المولى ولو كان الذي حاباه العبد بعض ورثة المولى كانت المحاباة باطلة في جميع هذه الوجوه لأن مباشرة العبد كمباشرة المولى والمريض لا يملك المحاباة في شيء مع وارثه.(26/96)
ولو أن رجلا دفع إلى هذا العبد جارية يبيعها له في مرض المولى فباعها من وارث المولى وحاباه فيها جاز ذلك لأن هذه المحاباة ليست من مال المولى ولا شيء على ورثة المولى وهذا التصرف من العبد لم يكن نفوذه بإذن المولى بل هو ثابت عن الموكل وإنما ينفذ بوكالته وكأنه باشره بنفسه ولو باع العبد في مرض مولاه شيئا ولم يحاب فيه ولا دين على واحد منهما أو اشترى ولم يحاب فيه ثم أقر بقبض ما اشترى أو بقبض ثمن ما باع ثم مات المولى فإقراره جائز بمنزلة ما لو كان المولى هو الذي باشر هذا التصرف وأقر بقبض الثمن وكذلك إن كان على العبد دين كبير.
ولو كان على المولى دين كثير يحيط برقبته وما في يده لم يصدق على القبض إلا بالبينة لأن إقراره بالقبض في المعنى إقرار بالدين فإنه يقول وجوبه علي بالقبض مثل ما كان لي عليه ثم صار قصاصا ودين العبد يمنع صحة إقراره على نفسه بالدين في مرضه فكذلك يمنع صحة إقراره بالقبض وأما دين المولى في صحته فيمنع إقرار العبد على نفسه بالدين في مرضه فكذلك يمنع صحة إقراره بالقبض ويقال للمشتري إن شئت فأد الثمن مرة أخرى وإن شئت فانقض البيع لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها وإقرار العبد في إثبات الخيار للمشتري زيادة في الثمن صحيح وإن لم يكن صحيحا في وصول الثمن إليه لتمكنه من إقالة العقد معه ولو كان الذي بايعه بعض ورثة المولى لم يجز إقرار العبد بالقبض منه كان عليه أو على المولى دين أو لم يكن كما لا يجوز إقراره له بالدين وكما لا يجوز إقرار المولى بالقبض منه في مرضه لو كان هو الذي عامله والله أعلم.(26/97)
ص -50- ... باب إقرار العبد في مرضه
قال رحمه الله: وإذا مرض العبد فأقر بوديعة أو بدين أو بشراء شيء أو غيره من وجوه التجارات ثم مات من مرضه ولا دين عليه في الصحة فإقراره جائز وهو بمنزلة الحر في ذلك لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالعتق والمرض لا ينافيه وإن كان عليه دين الصحة بدئ بدين الصحة لأنه لا يكون انفكاك الحجر عنه بالإذن فوق انفكاك الحجر عنه بالعتق وفي حق الحر دين الصحة مقدم على ما أقر به في مرضه من دين أو عين فكذلك في حق العبد.
فإن قيل: في حق الحر الحكم يتغير بمرضه من حيث تعلق حق الغرماء والورثة بماله وذلك لا يوجد في حق العبد فإن الدين الذي في صحته كان متعلقا بكسبه ومالية رقبته قبل مرضه والحق في كسبه ومالية رقبته بعد الدين لمولاه وهو المسلط له على الإقرار فينبغي أن يسوى بين ما أقر به في الصحة وبين ما أقر به في المرض.
قلنا: نعم ولكن انفكاك الحجر بالإذن فرع انفكاك الحجر عنه بالعتق والفرع يلتحق بالأصل في حكمه وإن لم توجد فيه علته لأنه منع ثبوت الحكم في البيع بثبوته في الأصل ثم لو أعتقه المولى بعد ما مرض ثم أقر بدين كان حق غرماء الصحة مقدما في ماله على ما أقر به في مرضه بعد العتق فلا يكون مقدما على ما أقر به في مرضه قبل العتق كان أولى.(26/98)
ولو كان الذي لحقه من الدين ببينة شاركوا أصحاب دين الصحة لانتفاء التهمة فيما ثبت عليه بالبينة وهو في ذلك بمنزلة الحر في العين والدين جميعا وكذلك في الإقرار بالدين والوديعة في تقديم أحدهما على الآخر وفيما يلحقه من ذلك ببينة وعليه دين الصحة هو كالحر وقد بينا هذه الفصول في الحر في كتاب الإقرار فكذلك في العبد وإذا لم يكن عليه دين في الصحة فأقر في مرضه على نفسه بدين ألف درهم وأقر باستيفاء ألف درهم ثمن مبيع وجب له في مرضه على رجل لم يصدق على قبضه ولكن يقسم ما كان عليه بينه وبين الغريم الآخر نصفين لأن إقراره بالقبض بمنزلة إقراره له بالدين وذلك صحيح منه إلا أنه قضاه ذلك الدين بماله في ذمته فكأنه قضاه ذلك بعين في يده والمريض المأذون لا يملك تخصيص أحد الغريمين بقضاء الدين وهو في ذلك بمنزلة الحر فلهذا كان ما على الغريم بينه وبين الآخر نصفين وإذا مرض المأذون وعليه دين الصحة فقضى بعض غرمائه دون بعض لم يجز لأنه لو قضى بعضهم في صحته لم يجز وكان للآخرين حق المشاركة معه لتعلق حق الكل بكسبه فإذا قضاه في مرضه أولى وهذا لأن في إيثاره بعض الغرماء بقضاء الدين إسقاط حق الباقين عن ذلك المال وهو لا يملك إسقاط حق الغرماء عن شيء من كسبه.
ولو اشترى في مرضه شيئا بمعاينة الشهود وقبضه ثم نقد ثمنه وهلك الشيء في يده ثم مات العبد لم يكن لغرمائه على البائع سبيل فيما قبض من الثمن لأنه في ذلك بمنزلة المولى وهذا التصرف من الحر صحيح مطلقا فمن العبد كذلك.(26/99)
ص -51- ... أرأيت لو استقرض منه ألف درهم ثم ردها عليه بعينها أكان للغرماء على ذلك سبيل فكذلك إذا رد مثلها وإذا ثبت هذا فيما إذا فعله العبد في مرضه فهو أولى فيما إذا فعله في صحته ولو كان هذا أجر أجيرا أو مهر امرأة في صحة أو مرض كان للغرماء أن يشاركوا المرأة والأجير فيما قبض وهذا فرق قد بيناه في الحر أنه إذا لم يدخل في ملك نفسه ظاهرا إما أن يكون مثلا لمال أخرجه من ملكه في حق الغرماء فلا يسلم للقابض ما قبض لتحقق معنى إيثار بعض الغرماء فيه بخلاف ما إذا دخل في ملكه مثل ما أخرج من ملكه فيما قبض يتعلق به حق الغرماء.
قال وإذا حابى العبد في مرضه ولا دين عليه ثم مات فالمحاباة جائزة لأن كسبه لمولاه والمولى راض بتصرفه وهو الذي سلطه على هذه المحاباة بخلاف الحر فإن ماله لورثته بعد موته ولم يوجد منهم الرضا بمحاباته وكان معتبرا من ثلث ماله وكذلك إن كان عليه دين فوفى ماله في الدين ولم يف ماله بالدين لم تجز المحاباة لأن كسبه حق غرمائه ولم يوجد منهم الرضا بتصرفه ومحاباته فهو في حقهم بمنزلة الحر المريض.
وإذا مرض المأذون فوجب له على رجل ألف درهم من ثمن بيع أو غيره فأقر باستيفائها له لزمته ولا دين على المأذون ولا مال له غير ذلك الدين ثم أقر بعد ذلك على نفسه بدين ألف ثم مات فإقراره بالاستيفاء جائز لأنه حين أقر بالاستيفاء لم يكن لأحد في تركته حق سوى مولاه والمولى هو المسلط له على هذا الإقرار فيصح إقراره في حقه وترك ذلك بمنزلة ما لو أقر بدين ثم قضاه وذلك صحيح منه وإن أقر بالدين بعد ذلك لأن ما قضاه يخرج من أن يكون كسبا له ودينه إنما يتعلق بكسبه ولو لم يقر بالدين ولكنه لحقه دين بمعاينة الشهود بطل إقراره بالاستيفاء لأن ما وجب عليه بالمعاينة بمنزلة الدين الظاهر عليه حين أقر بالاستيفاء إذ لا تهمة في شهادة الشهود فلهذا يبطل إقراره بالاستيفاء والله أعلم بالصواب.
ومن كتاب المأذون الصغير(26/100)
قال رحمه الله: ولو أن عبدين تاجرين كل واحد منهما لرجل اشترى كل واحد منهما صاحبه من مولاه فإن علم أيهما أول وليس عليه دين فشراء الأول لصاحبه جائز لأن المولى مالك لبيعه ولو باعه من أجنبي جاز بيعه فكذلك إذا باعه من عبد مأذون لغيره ثم قد صار هذا المشترى ملكا لمولى المشتري وصار محجورا عليه فشراؤه الثاني من مولاه باطل لكونه محجورا عليه ولأنه يشتري عبد مولاه من مولاه ولا دين عليه وهذا الشراء من المأذون لا يصح لكونه غير مفيد وإن لم يعلم أي البيعين أول فالبيع مردود كله بمنزلة ما لو حصلا معا ولأن الصحيح أحدهما وهو مجهول والبيع في المجهول لا يصح أبدا وإن كان على واحد منهما دين لم يجز شراء الأول إلا أن يجيز ذلك غرماؤه لأن بيع مولاه إياه من عبد مأذون كبيعه من حر وذلك لا يجوز بدون إجازة الغرماء لأن ماليته حقهم.
ولو اشترى المأذون أمة فوطئها فولدت له فادعى الولد وأنكر ذلك مولاه صحت دعواه(26/101)
ص -52- ... وثبت نسبه منه لأن الدعوى تصرف منه وهو في التصرف في كسبه بمنزلة الحر وليس من شرط صحة الدعوى وثبوت النسب كون الأمة حلالا له.
ألا ترى أن المكاتب لو ادعى نسب ولد جاريته ثبت النسب وكذلك الحر لو ادعى نسب ولد جاريته وهي ممن لا تحل له ثبت نسبه منه فكذلك العبد.
فإن كانت جارية لمولاه من غير تجارة العبد لم يثبت النسب منه بالدعوى لأنه لا حق له في التصرف فيها ودعواه تصرف منه وهو في سائر أموال المولى كأجنبي آخر فلا تصح دعواه ما لم يصدقه المولى فإن أقر أنه وطئها ولم تلد ثم استحقها رجل فلا مهر له على العبد حتى يعتق أما في جارية المولى فلأنه لم يأذن له في جماعها ففعله بها يكون زنا والزنا لا يوجب المهر وبالاستحقاق يتقرر معنى الزنى وأما في الجارية التي هي من كسبه فإقراره بوطئها صحيح وذلك ليس بزنا يوجب الحد حتى يتعلق به ثبوت النسب إذا ادعاه فإذا استحقت أخذه بالعقر في الحال بمنزلة ما لو باشر وطأها بمعاينة الشهود ولأن وجوب المهر ها هنا باعتبار سبب هو تجارة فيؤاخذ به في الحال وقد بينا الفرق بينه وبين النكاح.
وإذا أذن الراهن للعبد المرهون في التجارة فتصرف ولحقه دين فهو مرهون على حاله لأن قيام حق المرتهن يمنع المولى من اكتساب سبب يثبت الدين به عليه في مزاحمة المرتهن فكذلك إذا أذن له في التصرف فلحقه دين فإذا استوفى المرتهن ماله بيع في الدين لأن المانع حق المرتهن وقد سقط فإن فضل من دينه شيء فلا سبيل للغرماء حتى يعتق كما لو لم يكن العبد مرهونا وإن كان العبد تاجرا وله على رجل ألف درهم ثم إن مولى العبد وهب العبد للغريم وقبضه جازت الهبة والدين لازم عليه لمولى العبد على حاله لأنه وهب العبد دون المال والمال كسب العبد في ذمة المديون فهو نظير مال هو عين في يده فلا تتناوله الهبة ولكنه سالم لمولاه بعد إخراجه العبد من ملكه بالهبة.(26/102)
ولو كان على العبد المأذون دين خمسمائة وقيمته ألف فكفل لرجل عن رجل بألف درهم بإذن مولاه ثم استدان ألفا أخرى ثم كفل بألف أخرى ثم بيع العبد بألف فيقول أما الكفالة الأولى فيبطل نصفها ويضرب صاحبها بنصفها في ذمته لأن الفارغ عن ماليته عند الكفالة الأولى كان بقدر خمسمائة وكفالته بإذن المولى إنما تصح فيما هو فارغ عن ماليته عن حق غريمه وقت الكفالة فيثبت من دين المكفول له الأول مقدار خمسمائة درهم والكفالة الثانية باطلة لأنه حين كفل بها لم يكن شيء من ماليته فارغا فيضرب صاحب الدين الأول بخمسمائة وصاحب الدين الثاني بجميع دينه وهو ألف وصاحب الكفالة الأولى بخمسمائة فيصير ثمن العبد وهو ألف درهم بينهم أرباعا غير أنك تجعل كل خمسمائة سهما بقدر مائتين وخمسين يسلم لصاحب الدين الأول ومثله لصاحب الكفالة الأولى ومقدار خمسمائة لغريم العبد الآخر وعلى هذا جميع الأوجه وقياسه والله أعلم.(26/103)
ص -53- ... كتاب الديات
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله اعلم بأن القتل بغير حق من أعظم الجنايات بعد الإشراك بالله تعالى قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] وقال النبي عليه السلام: "ألا أن أعباء الناس ثلاثة رجل قتل غير قاتل أبيه ورجل قتل قبل أن يدخل الجاهلية ورجل قتل في الحرم" وقال في خطبته بعرفات "ألا إن دماءكم ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا".
ولما قتل محلم بن جنامة رجلا من أهل الجاهلية قال النبي عليه السلام: "لا يرحم" فدفن بعد موته فلفظته الأرض ثم دفن فلفظته الأرض فقال "أما أنها تقبل من هو أعظم جرما منه ولكن الله أراكم حرمة القتل" وفي قتل النفس إفساد العالم ونقض البنية ومثل هذا الفساد من أعظم الجنايات ومعلوم أن الجاني مأخوذ عن الجناية إلا أنه لو وقع الاقتصار على الزجر بالوعيد في الآخرة ما انزجر إلا أقل القليل فإن أكثر الناس إنما ينزجرون مخافة العاجلة بالعقوبة وذلك بما يكون متلفا للجاني أو مجحفا به فشرع الله القصاص والدية لتحقق معنى الزجر وهذا الكتاب لبيان ذلك وقد سماه محمد رحمه الله كتاب الديات لأن وجوب الدية بالقتل أعم من وجوب القصاص فإن الدية تجب في الخطأ وفي شبه العمد وفي العمد عند تمكن الشبهة.(26/104)
وكذلك الدية تتنوع أنواعا والقصاص لا يتنوع فلهذا رجح جانب الدية في نسبة الكتاب إليها واشتقاق الدية من الأداء لأنها مال مؤدى في مقابلة متلف ليس بمال وهو النفس والأرش الواجب في الجناية على ما دون النفس مؤدى أيضا وكذلك القيمة الواجبة في سائر المتلفات إلا أن الدية اسم خاص في بدل النفس لأن أهل اللغة لا يطردون الاشتقاق في جميع مواضعه لقصد التخصيص بالتعريف وسمى بدل النفس عقلا أيضا لأنهم كانوا اعتادوا ذلك من الإبل فكانوا يأتون بالإبل ليلا إلى فناء أولياء المقتول فيعقلونها فتصبح أولياء القتيل والإبل معقولة بفنائهم فلهذا سموه عقلا.
ثم بدأ الكتاب فقال قال أبو حنيفة رحمه الله القتل على ثلاثة أوجه عمد وخطأ وشبه العمد والمراد به بيان أنواع القتل بغير حق فيما يتعلق به من الأحكام كان أبو بكر الرازي يقول القتل على خمسة أوجه عمد وشبه عمد وخطأ وما أجري مجرى الخطأ وما ليس بعمد ولا خطأ ولا أجري مجرى الخطأ.(26/105)
ص -54- ... أما العمد: فهو ما تعمدت ضربه بسلاح لأن العمد هو القتل وقصد إزهاق الحياة وهي غير محسوسة لقصد أخذها فيكون القصد إلى إزهاق الحياة بالضرب بالسلاح الذي هو جارح عامل في الظاهر والباطن جميعا ثم المتعلق بهذا الفعل أحكام منها المأثم وذلك منصوص عليه في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [المائدة: 93] الآية
ومنها: القصاص وهو ثابت في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وما أخبر الله تعالى أنه كتبه على من قبلنا فهو مكتوب علينا ما لم يقم دليل النسخ فيه وقد نص على أنه مكتوب علينا فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ثم بين وجه الحكمة فيه بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] وفيه معنيان أحدهما أنه حياة بطريق الزجر لأن من قصد قتل عدوه فإذا تفكر في عاقبة أمره أنه إذا قتله قتل به انزجر عن قتله فكان حياة لهما والثاني أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك فإن القاتل بغير حق يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه منهم فهو يقصد إفناءهم لإزالة الخوف عن نفسه والشرع مكنهم من قتله قصاصا لدفع شره عن أنفسهم وإحياء الحي في دفع سبب الهلاك عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "العمد قود" أي موجبه القود فإن نفس العمد لا يكون قودا وقال صلوات الله عليه وسلامه: "كتاب الله القصاص" أي حكم الله والقصاص عبارة عن المساواة وفي حقيقة اللغة هو اتباع الأثر قال الله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] واتباع أثر الشيء في الإتيان بمثله فجعل عبارة عن المساواة لذلك ومن حكمه حرمان الميراث ثبت ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة" وفي رواية: "لا شيء للقاتل" أي من الميراث.(26/106)
ومن حكمه وجوب المال به عند التراضي أو عند تعذر إيجاب القصاص للشبهة ثبت ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أي فمن أعطى له من دم أخيه شيء لأن العفو بمعنى الفضل قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] والمراد به إذا رغب القاتل في أداء الدية فالمولى مندوب إلى مساعدته على ذلك وعلى القاتل أداؤه إليه بإحسان إذا ساعده الولي وهذه الدية تجب في مال القاتل إذا كان بطريق الصلح والتراضي فكأنه هو الذي التزمه بالعقد وأما إذا كان عند تعذر استيفاء القصاص فلأن في الدية الواجبة عليه معنى الزجر ومعنى الزجر إنما يتحقق فيما يكون أداؤه مجحفا به وهو الكثير من ماله ويختلفون في وجوب الدية بهذا الفصل عند وجوب القصاص به فالمذهب عندنا أنه لم تجب الدية بالعمد الموجب للقصاص إلا أن يصالح الولي القاتل على الدية.
وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان في أحد القولين موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية يتعين ذلك باختيار المولى وفي القول الآخر موجبه القصاص إلا أن للولي أن يختار(26/107)
ص -55- ... أخذ الدية من غير رضا القاتل واحتج في ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" فهذا تنصيص على أن كل واحد منهما موجب القتل وإن الولي مخير بينهما.
ولما أتى بالقاتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام للولي: "أتعفو؟" فقال: لا, فقال: "أتأخذ الدية؟" فقال: لا, فقال: "القتل؟" فقال: نعم.
ففي هذا بيان أن الولي يستبد بأخذ الدية كما يستبد بالعفو والقتل والمعنى فيه أن هذا إتلاف حيوان متقوم فيكون موجبا ضمان القيمة كإتلاف سائر الحيوانات وقيمة النفس الدية وهذا لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثال وإتلاف المقوم مما لا مثل له يوجب القيمة وقيمة النفس الدية بدليل حالة الخطأ فإن الدية إنما تجب بالإتلاف لا بصفة الخطأ لأنه عذر مسقط والمتلف في حالة العمد ما هو المتلف في حالة الخطأ إلا أن الشرع أوجب القصاص بمعنى الانتقام وشفاء الصدر للولي ودفع الغيظ عنه فكان ذلك بخلاف القياس لأنه إتلاف والإتلاف لا يكون واجبا بمقابلة الإتلاف وهو ليس بمثل.(26/108)
ألا ترى أن الجماعة يقتلون بالواحد ولا مماثلة بين العشرة والواحد فعرفنا أنه ممنوع بمعنى زيادة النظر للولي وذلك في أن لا يسقط حقه في الواجب الأصلي بل يكون متمكنا فيه كما لو قطع يد إنسان ويد القاطع شلاء أو ناقصة بإصبع فإن القصاص واجب ولصاحب الحق أن يأخذ الأرش بغير رضا الجاني لهذا المعنى ولأن النفس محترمة بحرمتين وفي إتلافها هتك الحرمتين جميعا حرمة حق الله تعالى وحرمة حق صاحب النفس وجزاء حرمة الله تعالى العقوبة زجرا وجزاء هتك حرمة العبد الغرامة جبرا ولكن تعذر الجمع بينهما ها هنا لأن كل واحد منهما يوجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث عنه ويسقط بإذنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير وقلنا: إن شاء مال إلى جانب هتك حرمة حق الله تعالى واستوفى العقوبة وإن شاء مال إلى جهة حرمة حق العباد فاستوفى الدية ولا خلاف أن أحد الشريكين في الدم إذا عفا أن للآخر أن يستوفي المال.
ولو لم يكن المال واجبا له بنفس القتل لما وجب بالعفو لأن العفو مسقط ولو وجب بالعفو لوجب على العافي وإن كان محسنا كضمان الإعتاق يجب على المعتق إذا كان موسرا ولما وجب المال للآخر على القتل عرفنا أنه كان واجبا بنفس القتل ولما ظهر ذلك عند العفو في حق من لم يعف فكذلك يظهر في حق العافي إذا عفا عن القصاص فقلنا: يتمكن من أخذ المال ولأن القاتل في الامتناع من أداء الدية بعد ما استحقت نفسه قصاصا ملق نفسه في التهلكة فيكون ممنوعا شرعا كالمضطر إذا وجد طعاما يشتريه ومعه ثمنه يفترض عليه شراؤه شرعا لهذا المعنى فكذا ها هنا.
وحجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "العمد قود" فقد أدخل الألف واللام في(26/109)
ص -56- ... العمد وذلك للمعهود فإن لم يكن فللجنس وليس ها هنا معهود فكان للجنس وفيه تنصيص على أن جنس العمد موجب للقود فمن جعل المال واجبا بالعمد مع القود فقد زاد على النص وإلى هذا أشار بن عباس رضي الله عنه في قوله: "العمد قود ولا مال له فيه" وعن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في دم عمد بين شريكين عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر مالا فتخصيصهما غير العافي بوجوب المال له دليل على أن العافي لا شيء له فأما ما روي من قوله: "فأهله بين خيرتين" فقد اختلفت الرواية فيه فإن في بعض الروايات: "إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فادوا" والمفاداة على ميزان المفاعلة يقتضي وجود القتل بين اثنين بالتراضي وذلك أخذ الدية بطريق الصلح وتأويل الرواية التي قال وإن أحبوا أخذوا الدية من جهتين إحداهما أنه إنما لم يذكر رضا القاتل لأن ذلك معلوم ببديهة العقل فإن من أشرف على الهلاك إذا تمكن من دفع الهلاك عن نفسه بأداء المال لا يمتنع من ذلك إلا من سفهت نفسه لأن امتناعه لإبقاء منفعة المال سفه ولا يتصور ذلك بعد ما تلفت نفسه وهو نظير قوله عليه الصلاة والسلام: "خذ سلمك أو رأس مالك" وهو في أخذ رأس المال يحتاج إلى رضا المسلم إليه ولم يذكره لا لأنه غير محتاج إليه بل لأنه معلوم بطريق الظاهر والثاني أن المراد أن لا يجبر الولي على أخذ الدية شاء أو أبى لا أن له أن يجبر غيره على أداء الدية بدليل قصة الحديث فإنه روي أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل يوم فتح مكة بعد ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عن القتل فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أما أنتم يا معاشر خزاعة فقد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلته" فوداه بمائة من الإبل من عند نفسه ثم قال: "فمن قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين" فقد أجبر الولي على أخذ الدية ثم تبين بهذا اللفظ أن الحكم قد انتسخ وأن الولي لا يجبر على أخذ الدية بعده وفي الحديث الآخر(26/110)
عرض الدية على الولي وهذا لا ينفى كون رضا القاتل مشروطا فيه ولكنه إما أن يكون قصد التبرع بأداء الدية من عنده ولم يعتبر رضا القاتل في هذه الحالة أو أراد أن يعلم رغبة المولى في أخذ الدية ثم يشتغل باسترضاء القاتل كمن سعى بالصلح بين اثنين يسترضي أحدهما فإذا تم له ذلك حينئذ استرضى الآخر.
والمعنى في المسألة أنه أتلف شيئا مضمونا فيتقدر ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال وتفويت حقوق الله تعالى من الصوم والصلاة والزكاة يكون الواجب فيها المثل إذا أمكن وهذا لأن ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن الزيادة على المثل ظلم على المتعدي وفي النقصان يحسن بالمتعدى عليه والشرع إنما يأمر بالعدل وذلك بالمثل إذا ثبت هذا فنقول الدية ليست بمال للمتلف والقصاص مثل أما بيان أن الدية ليست بمثل فلان المماثلة بين الشيئين تعرف صورة أو معنى ولا مماثلة بين المال والآدمي صورة ولا معنى والنفس مخلوقة لإماتة الله تعالى والاشتغال بطاعته ليكون خليفة في الأرض والمال مخلوق لإقامة مصالح الآدمي به ليكون(26/111)
ص -57- ... مبتذلا في حوائجه فأما القصاص من حيث الصورة فلأنه قتل بإزاء قتل وإزهاق حياة بإزهاق حياة ومن حيث المعنى فالمقصود بالقتل ليس إلا الانتقام والثاني في معنى الانتقام كالأول وبهذا سمي قصاصا ثم المثل واجب بطريق الجبر ولا يجعل جبران الحياة بالمال وإنما جبران الحياة بحياة مثلها وذلك في القصاص فإن الله تعالى نص على أن في القصاص حياة فعلينا أن نعتقد هذا المعنى في القصاص عقلناه أو لم نعقله ثم هو معقول من الوجه الذي ذكرنا أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك ولكن للولي الذي هو قائم مقام المقتول كما أن المال في الموضع الذي يجب إنما ينتفع به الذي هو قائم مقام المقتول ولا حاجة بنا إلى إثبات المماثلة في القصاص لأن ذلك واجب بالقصاص وهو محض حق العبد ولا حق للعبد إلا في المثل فأما أجزية الأفعال المحرمة فتجب حقا لله تعالى وإنما حاجتنا إلى أن يثبت أن المال ليس بمثل للنفس وقد أثبتنا ذلك فقلنا: لا يجب بمقابلة النفس المتلفة قتلا إلا في الموضع الذي يجب بتعذر إيجاب المثل فحينئذ يجب المال بالنص بخلاف القياس وهو في حالة الخطأ لأن المثل نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا والخاطئ معذور فتعذر إيجاب المثل عليه ونفس المقتول محرمة لا يسقط جزء منها بعذر الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة الخطأ لصيانة النفس المحرمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس به عن الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم.(26/112)
وإذا ثبت أن وجوب المال بهذا الطريق ففي الموضع الذي يتمكن فيه من استيفاء مثل حقه لا معنى لإيجاب المال وكما ثبت هذا المعنى في الخطأ قلنا: في كل موضع من مواضع العمد بتحقق هذا المعنى نوجب هذا المال أيضا لأن المخصوص من القياس بالنص يلحق به ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر إيجاب القصاص لحرمة الأبوة وإذا عفى أحد الشريكين يجب للآخر المال لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في القاتل وهو أنه حتى يقص نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر ولا يجب للعافي لأنه إنما تعذر استيفاء القصاص على العافي بإسقاطه من جهته لا بمعنى في القاتل ثم إقدام العافي على العفو يكون تعيينا منه لحقه في القصاص لأن العفو يعترف فيه بالإسقاط وذلك لا يكون إلا بعد تعيين حقه فيه ومع تعيين حقه في القصاص لا يجب له المال.
وإذا مات من عليه القصاص إنما لا نوجب المال لأن هذا ليس في معنى الخاطئ من كل وجه فإن تعذر إيجاب استيفاء القصاص بعد موته كان لفوات المحل فلو ألحقنا هذا بالخاطئ لمعنى التعذر كان قياسا والمخصوص من القياس لا يقاس عليه غيره وإذا كانت يد القاطع شلاء فالمجني عليه ها هنا عاجز عن استيفاء مثل حقه بصفته لا لفوات المحل بل لمعنى في الجاني فإن شاء تجوز بدون حقه وإن شاء مال إلى استيفاء الأرش بمنزلة من(26/113)
ص -58- ... أتلف على آخر كر حنطة ولم يجد عنده إلا كرا رديئا فإنه يتخير بين أن يتجوز بدون حقه وبين أن يطالب بالقيمة لتعذر استيفاء المثل بصفته بخلاف ما إذا قطعت يد القاطع ظلما لأن تعذر الاستيفاء ها هنا لفوات المحل فلم يكن في المعنى الأول وهو بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة أو قصاص فإنه يجب الأرش لأن المحل هناك في معنى القائم حكما حين قضي به حقا مستحقا عليه فيكون كالسالم له حكما فمن هذا الوجه هو في معنى الخطأ وما قال إن في النفس حرمتين فنقول في نفس القاتل حرمتان كما في نفس المقتول فإذا أوجبنا القصاص يحصل به مراعاة الحرمتين جميعا ثم القصاص لا يجب إلا باعتبار الحرمتين جميعا وإذا اعتبرناهما لإيجاب القصاص لا يبقى حرمة أخرى تعتبر لإيجاب المال ولو كان المعنى الذي قاله صحيحا لوجب أن يجمع بينهما استيفاء كمن قتل صيدا مملوكا في الحرم يجمع بين وجوب الكفالة لحرمة حق الله تعالى ووجوب الضمان لحق المالك وفيما قررنا جواب عما قال أن القصاص واجب بخلاف القياس فإنه لما كان المثل صورة ومعنى هو القصاص علم أنه هو الموجب الأصلى والذي قال إنه بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه في التهلكة ضعيف فإن إلقاء النفس في التهلكة إنما كان بالقبيل السابق فأما بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه لإيفاء حق مستحق عليه ويمتنع من أداء ما ليس عليه فلا يكون به ملقيا نفسه في التهلكة.(26/114)
وأما شبه العمد: فهو ما تعمدت ضربه بالعصا أو السوط أو الحجر أو اليد فإن في هذا الفعل معنيين العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب ومعنى الخطأ باعتبار انعدام القصد منه إلى القتل لأن الآلة التي استعملها آلة الضرب للتأديب دون القتل والعاقل إنما يقصد كل فعل بآلته فاستعماله آلة التأديب دليل على أنه غير قاصد إلى القتل فكان في ذلك خطأ لشبه العمد صورة من حيث أنه كان قاصدا إلى الضرب وإلى ارتكاب ما هو محرم عليه وكان مالك رحمه الله يقول لا أدري ما شبه العمد وإنما القتل نوعان عمد وخطأ وهذا فاسد فإن شبه العمد ورد الشرع به على ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا وفيه مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها" والصحابة اتفقوا على شبه العمد حيث أوجبوا الدية فيه مغلظة مع اختلافهم في صفة التغليظ على ما نبينه وقال علي رضي الله عنه شبه العمد الضربة بالعصا والعزقة بالحجر العظيم.
فأما بيان أحكام شبه العمد فنقول إنه لا قصاص فيه لتمكن الشبهة والخطأ من حيث انعدام القصد إلى القتل والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وهي تعمد المساواة ولا مساواة بين قتل مقصود وقتل غير مقصود ثم هذا القتل لما اجتمع فيه معنيان أحدهما يوجب القصاص والآخر يمنع ترجح المانع على الموجب لأن السعي في إبقاء النفس واجب ما أمكن فإن الإبقاء حياة حقيقة وفي القصاص حياة حكما فلهذا لا يوجب القود في شبه العمد وإذا تعذر إيجاب القود وجبت الدية وهي مغلظة كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:(26/115)
ص -59- ... "أربعون خلفة في بطونها أولادها" وهو مروي عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا الدية مغلظة في شبه العمد وهذا التغليظ إنما يظهر في أسنان الإبل إذا وجبت الدية منها لا في شيء آخر وهذه الدية على عاقلة القاتل بمنزلة الدية في الخطأ وهو قول عامة العلماء وكان أبو بكر الأصم يقول لا تجب الدية على العاقلة بحال لظاهر قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 15] ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حين دخل عليه مع ابنه: "أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" أي لا يؤخذ بجنايتك ولا تؤخذ بجنايته ولأن ضمان الاتلاف يجب على المتلف دون غيره بمنزلة غرامات الأموال وهذا أولى لأن جناية المتلف في إتلاف النفس أعظم من جنايته في إتلاف الأموال ولكنا نستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقل جناية كل بطن من الأنصار عليهم.
وفي حديث حمدان بن مالك بن نابغة قال كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما بطن صاحبتها بعمود فسطاط أو بمسطح خيمة فألقت جنينا ميتا فاختصم أولياؤها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: لأولياء الضاربة: "دوه" فقال أخوها عمران بن عويمر الأسلمي أيدي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل فقال عليه الصلاة والسلام: "أسجع كسجع الكهان" وفي رواية: "دعني وأراجيز العرب قوموا فدوه" الحديث ففيه تنصيص على إيجاب الدية على القاتل ثم هو معقول المعنى من أوجه:(26/116)
أحدها: أن مثل هذا الفعل إنما يقصده القاتل بزيادة قوة له وذلك إنما يكون بالتناصر الظاهر بين الناس ولهذا التناصر أسباب منها ما يكون بين أهل الديوان باجتماعهم في الديوان ومنها ما يكون بين العشائر وأهل المحال وأهل الحرف فإنما يكون تمكن الفاعل من مباشرتهم بنصرتهم فيوجب المال عليهم ليكون زجرا لهم عن غلبة سفهائهم وبعثا لهم على الأخذ على أيدي سفهائهم لكيلا تقع مثل هذه الحادثة هذا في شبه العمد وكذلك في الخطأ لأن مثل هذا الأمر العظيم قلما يبتلي به المرء من غير قصد إلا لضرب استهانة وقلة مبالاة تكون منه وذلك بنصره من ينصره ثم الدية مال عظيم وفي إيجاب الكل على القاتل إجحاف به فأوجب الشرع ذلك على العاقلة دفعا لضرر الإجحاف عن القاتل كما أوجب النفقة على الأقارب بطريق الصلة لدفع ضرر الحاجة ولهذا أوجب عليهم مؤجلا على وجه يقل ما يؤديه كل واحد منهم في كل نجم ليكون الاستيفاء في نهاية من التيسير عليهم ولأن كل واحد منهم يخاف على نفسه أن يبتلي بمثل ذلك فهذا يواسي ذلك إذا ابتلي به وذلك يواسي هذا فيدفع ضرر الإجحاف من كل واحد منهم ويحصل معنى صيانة دم المقتول عن الهدر ومعنى الإعسار لورثته بحسب الإمكان وبهذا يتبين أنا لا نجعل وزر أحد على غيره وإنما نوجب ما نوجبه على العاقلة بطريق الصلة في المواساة وبهذا لا نوجب ذلك إن كان المتلف مالا لأن الواجب قل ما يعظم هناك بل يتقدر بقدر المتلف فلا يؤدي إلى الإجحاف بالمتلف أن لو ضن به وهذا لا نوجب القليل من الأرش وهو ما دون إرش الموضحة على العاقلة.(26/117)
ص -60- ... ومن موجب شبه العمد أيضا حرمان الميراث لأنه جزاء أصل الفعل وهو ما لا يندرئ بالشبهات ومن موجبه الكفارة أيضا باعتبار هذا المعنى لأنه جزاء أصل الفعل وهو مما لا يندرئ بالشبهات وبهذا ثبت في الخطأ المحض ففي شبه العمد أولى.
وأما الخطأ: فهو ما أصبت مما كنت تعمدت غيره والخطأ نوعان أحدهما أن يقصد الرمي إلى صيد أو هدف أو كافر فيصيب مسلما فهذا خطأ من حيث أنه انعدم منه القصد إلى المحل الذي أصاب والثاني أن يرمي شخصا يظنه حربيا فإذا هو مسلم أو يظنه صيدا فإذا هو مسلم فهذا خطأ باعتبار ما في قصده وإن كان هو قاصدا إلى المحل الذي أصابه وحكم الخطأ أنه لا يجب فيه القصاص لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وقال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإذا تعذر إيجاب القصاص وجبت الدية بالنص قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وبينا المعنى فيه لصيانة دم المقتول عن الهدر فاستحقاق صيانة نفسه لا يسقط بعذر الخاطئ ومن موجبه الكفارة فإنها تثبت بهذا النص أيضا والمعنى فيه معقول فإن القتل أمر عظيم قلما يبتلي به المرء من غير قصد ما لم يكن به تهاون في التحرز وعلى كل أحد المبالغة في التحرز لكيلا يبتلى بمثل هذا الأمر العظيم فإذا ترك ذلك كان هو ملتزما بترك التحرز فنوجب عليه الكفارة جزاء على ذلك ولأن مثل هذا الأمر العظيم لا يبتلى به المرء إلا بنوع خذلان وهذا الخذلان لا يكون إلا عن ذنوب سبقت منه والحسنة تذهب السيئة قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فنوجب عليه الكفارة لتكون ماحية للذنوب السابقة(26/118)
فلا يبتلي بمثل هذا الأمر العظيم بعدها.
وفي سيئة العمد معنى إيجاب الكفارة أظهر لما يلحقه من المأثم بالقصد إلى أصل الفعل وفيه حديث واثلة بن الأسقع حيث قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب النار بالقتل فقال عليه السلام: "اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو عضوا منه من النار" وإيجاب النار لا يكون إلا بالإقدام على قتل محرم وقد قامت الدلالة على أن الكفارة لا تجب في العمد المحض فعرفنا أن المراد شبه العمد ثم قال الشافعي المعنى في وجوب الكفارة بالقتل أنه نقص من عدد المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمع والجماعات فعليه إقامة نفس مقام ما أتلف ولا يمكنه ذلك إحياء فعليه إقامة مقام النفس المتلفة تحريرا لأن الحرية حياة والرق تلف وبهذا أوجب الكفارة على العامد وقلنا: نحن إنما أوجب الكفارة عليه لأن الشرع سلم له نفسه شكرا لله حين أسقط عنه القود بعذر الخطأ مع تحقق إتلاف النفس منه فعليه إقامة نفس مقام نفسه شكرا لله وذلك في أن تحرر نفس منه لتشتغل بعبادة الله وإن عجز عن ذلك فعليه صوم شهرين متتابعين شكرا لله حيث سلم له نفسه وبهذا لا نوجب الكفارة على العامد لأن الشرع أوجب عليه القصاص ونوجبها في شبه العمد لأن الشرع سلم(26/119)
ص -61- ... له نفسه تخفيفا عليه وترجيح أحد المعنيين على الآخر يبين في مسألة كفارة العمد إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى وليس في هذه الكفارة إطعام عندنا.
وفي أحد قولي الشافعي: إذا عجز عن الصوم يطعم ستين مسكينا بالقياس على كفارة الظهار وهو بناء على أصله أن قياس المنصوص على المنصوص يجوز فإن المطلق والمقيد في حادثتين يحمل أحدهما على الآخر وذلك غير جائز عندنا وموضع بيانه أصول الفقه فأما ما أجري مجرى الخطأ على ما ذكره الرازي فهو النائم إذا انقلب على إنسان فقتله وهذا ليس بعمد ولا خطأ لأنه لا تصور للقصد من النائم حتى يتصور منه ترك القصد أو ترك التحرز ولكن الانقلاب الموجب لتلف ما انقلب عليه يتحقق من النائم فيجري هذا مجرى الخطأ حتى تجب الدية على عاقلته والكفارة ويثبت به حرمان الميراث ليوهم أن يكون متهاونا ولم يكن نائما قصدا منه إلى استعجال الميراث وأظهر من نفسه القصد إلى محل آخر فأما ما ليس بعمد ولا خطأ ولا أجري مجرى الخطأ فهو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق فليس بمباشر للقتل لأن مباشرة القتل بإيصال فعل من القاتل بالمقتول ولم يوجد وإنما اتصل فعله بالأرض فعرفنا أنه ليس بقاتل عمد ولا شبه عمد ولا خطأ ولا ما أجري مجرى الخطأ بل هو بسبب متعد فنوجب الدية على عاقلته للحاجة إلى صيانة النفس المتلفة عن الهدر ولا يجب عليه الكفارة ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه في بابه قال وفي النفس الدية معناه بسبب إتلاف النفس فإن حرف في للظرف حقيقة والنفس لا تكون ظرفا للدية بل قتلها سبب لوجوب الدية كما يقال في النكاح حل وفي الشراء ملك وهذا لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقال عليه السلام: "في النفس مائة من الإبل" وقال علي رضي الله عنه في النفس الدية وما لا يعرف بالرأي والمنقول عنه فيه كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وفي الأنف الدية" والحاصل أن ما لا ثاني له(26/120)
في البدن من أعضاء أو معان مقصودة فإتلافها كإتلاف النفس في أنه يجب بها كمال الدية والأعضاء التي هي أفراد ثلاثة الأنف واللسان والذكر وذلك مروي في حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قال: "في الأنف الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية" وهكذا روي عن علي بن أبي طالب ثم قطع الأنف تفويت جمال كامل ومنفعة كاملة وامتياز الآدمي من بين سائر الحيوانات فات بهما فتفويتهما في معنى تفويت النفس فكما تجب الدية بقطع جميع الأنف بحيث يقطع المارن لأن تفويت الجمال به يحصل وكذلك تفويت المنفعة لأن المنفعة في الأنف اجتماع الروائح في قصبة الأنف لنقله منها إلى الدماغ وذلك تفويت بقطع المارن والمارن ما دون قصبة الأنف وهو ما لأن منه.
وكذلك في اللسان الدية لأن الآدمي قد امتاز من بين سائر الحيوانات باللسان وقد من الله تعالى به على عباده فقال تعالى: {خَلَقَ الْإنْسَان عَلَّمَهُ الْبَيَانََ} [الرحمن: 3 -4] وذلك يفوت بقطع اللسان ففيه تفويت أعظم المقاصد في الآدمي وكذلك في قطع بعض اللسان إذا(26/121)
ص -62- ... منع الكلام وإن كان بحيث يمنع بعض الكلام دون البعض فالجواب الظاهر أن فيه حكومة عدل لأنه لم يتم تفويت المقصود بهذا القدر وإنما تمكن فيه نقصان فيجب باعتباره حكومة عدل وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله إن الدية تقسم على الحروف فحصة ما يمكنه أن يصححه من الحروف تسقط عنه وحصة ما لا يمكنه أن يصححه من الحروف تجب عليه ولكن على هذا القول لا يعتبر في القسمة إلا الحروف التي تكون باللسان فأما الهاء والحاء والعين لا عمل للسان فيها فلا يعتبر ذلك في القسمة وفي الكتاب روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في اللسان بالدية وفي الأنف بالدية قال وفي الذكر دية لأن في الذكر تفويت منفعة مقصودة من الآدمي وهي منفعة النسل ومنفعة استمساك البول والرمي به عند الحاجة وكذلك في الحشفة الدية كاملة لأن تفويت المقصود يحصل بقطع الحشفة كما يحصل بقطع جميع الذكر ووجوب الدية الكاملة باعتباره والمعاني التي هي أفراد في البدن العقل والسمع والبصر والذوق والشم ففي كل واحد منها دية كاملة هكذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى لرجل على رجل بأربع ديات بضربة واحدة كان ضرب على رأسه فأذهب عقله وسمعه وبصره ومنفعة ذكره وكان المعنى فيه أن العقل من أعظم ما يختص به الآدمي وبه ينتفع بنفسه في الدنيا والآخرة وبه يمتاز من البهائم فالمفوت له كالمبدل لنفسه الملحق له بالبهائم وكذلك منفعة السمع فإنها منفعة مقصودة بها ينتفع المرء بنفسه وكذلك منفعة البصر فإنها مقصودة.(26/122)
ألا ترى أن الناس يقولون للذي لا بصر له بمنزلة الميت الذي لم يدفن وكذلك منفعة الشم منفعة مقصودة في البدن ومنفعة الذوق كذلك فتفويتها من وجه استهلاك باعتبار أن فيه منفعة مقصودة فيوجب كمال الدية وكذلك في الصلب الدية كاملة إذا منع الجماع لما فيه من تفويت منفعة مقصودة وهي منفعة النسل وكذلك إذا حدث فإن فيه تفويت جمال كامل لأن الجمال للآدمي في كونه منتصب القامة قيل في معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] منتصب القامة وذلك يفوت إذا حدب والجمال للآدمي مطلوب كالمنفعة فتفويت الجمال الكامل يوجب دية كاملة فإن عاد إلى حاله ولم ينقصه ذلك شيئا إلا أن فيه أثر الضربة ففيه حكومة عدل لأنه نفى بعض الشيئين ببقاء أثر الضربة فيجب باعتباره حكم عدل ومن هذه الجملة الإفضاء في المرآة إذا كانت بحيث لا تستمسك البول فإنه يوجب كمال الدية لأن فيه تفويت منفعة كاملة لا ثاني لها في البدن وهي منفعة استمساك البول.
وذكر المبرد أن النبي عليه السلام قال: "في الصعر الدية" وفسر المبرد ذلك بتعويج الوجه وفيه تفويت جمال كامل وأما ما يكون زوجا في البدن ففي قطعهما كمال الدية وفي أحدهما نصف الدية وأصل ذلك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام قال: "في العينين الدية وفي إحداهما نصف الدية وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية" وهكذا روي عن علي رضي الله عنه قال الأعضاء التي هي أزواج في البدن العينان والأذنان الشاخصتان والحاجبان والشفتان واليدان وثديا المرأة والأنثيان والرجلان أما(26/123)
ص -63- ... في العينين إذا فقئا الدية كاملة بتفويت الجمال والمنفعة المقصودة وأما في الأذنين الشاخصتين فالدية كاملة لأن في قطعهما تفويت الجمال الكامل وتفويت المنفعة أيضا فإن الأصوات تجتمع فيها وتنفذ إلى الدماغ وبهما تقي الأذى عن الدماغ ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية وكذلك في الحاجبين إذا حلقهما على وجه أفسد المنبت أو نتفهما فأفسد المنبت لأن فيه تفويت جمال كامل فيجب فيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية عندنا خلافا للشافعي رضي الله عنه على ما نبينه في فصول الشعر إن شاء الله.
وفي الشفتين معنى الجمال الكامل والمنفعة الكاملة فبقطعهما تجب الدية كاملة وبقطع إحداهما نصف الدية والعليا والسفلى في ذلك سواء وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال في السفلى ثلثا دية وفي العليا ثلث الدية لأن في العليا جمالا فقط وفي السفلى جمالا ومنفعة وهي استمساك الريق بها.
وكذلك في اليدين فإن منفعة البطش في الآدمي منفعة مقصودة ففي قطعهما تفويت هذه المنفعة وفي قطع إحداهما تنقيصه وكذلك في ثديي المرأة منفعة مقصودة كاملة وهي منفعة رضاع الولد وكما تجب الدية بقطع ثدييها تجب بقطع حلمتيها لأن تفويت المنفعة يحصل بقطع الحلمة كما يحصل بقطع جميع الثدي فهو نظير ما ذكرنا في الحشفة مع الذكر والمارن مع الأنف وفي الأنثيين منفعة مقصودة وهي منفعة الأمناء والنسل ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية.(26/124)
وفي الرجلين منفعة مقصودة وهي منفعة المشي وانتفاع المرء بنفسه إنما يكون إذا تمكن المرء من المشي فقطع الرجلين بمنزلة استهلاكه حكما وأما ما يكون أرباعا في البدن فهو أشفار العينين يجب في كل شفر ربع الدية ويستوى إن نتف الأهداب فأفسد المنبت أو قطع الجفون كلها بالإشفار لأن تفويت الجمال يتم بذلك وكذلك تفويت المنفعة لأن الأهداب والجفون تقي الأذى عن العينين وتفويت ذلك بنقص من البصر ويكون آخره العمى فيجب فيها كمال الدية وهي أرباع في البدن فتوزع الدية عليها في كل واحدة منها ربع الدية فأما ما يكون أعشارا في البدن كالأصابع يعني أصابع اليدين أو الرجلين فإن قطع أصابع اليد يوجب كمال الدية لما فيها من تفويت منفعة البطش والبطش بدون الأصابع لا يتحقق وفي كل أصبع عشر الدية هكذا روي في حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قال: "وفي كل أصبع عشر من الإبل" وجميع ما ذكرنا مذكور فيما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم وفيها "وفي كل أصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من الإبل" وهكذا رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر رضي الله عنه في الابتداء يقول في الخنصر ست من الإبل وفي البنصر تسع من الإبل وفي الوسطى عشر وفي السبابة والإبهام خمس وعشرون ثم لما بلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى الحديث فقال الأصابع كلها سواء والذي تبيناه في أصابع اليد كذلك في أصابع الرجل لأن في قطعها تفويت منفعة(26/125)
ص -64- ... المشي ومنفعة المشي كمنفعة البطش والصغير والكبير في جميع ما ذكرنا سواء لأن في أعضائه عرضة لهذه المنافع ما لم يصبها آفة ففي تفويتها تفويت المنفعة كما في حق الكبير وأما ما يزيد على ذلك في البدن فهي الأسنان يجب في كل سن نصف عشر الدية لما روينا من الحديث ويستوي في ذلك الأنياب والنواجذ والضواحك والطواحين ومن الناس من فضل الطواحين على الضواحك لما فيها من زيادة المنفعة ولسنا نأخذ بذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في كل سن خمس من الإبل" من غير تفصيل ثم إن كان في بعضها زيادة منفعة ففي بعضها زيادة جمال والجمال في الآدمي كالمنفعة حتى قيل إذا قلع جميع أسنانه فعليه ستة عشر ألفا لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنا فإذا الواجب في كل نصف عشر الدية خمسمائة بلغت الجملة ستة عشر ألفا وليس في البدن جنس يجب بتفويته أكثر من مقدار الدية سوى الأسنان فإن قلع جميع أسنان الكوسج فعليه أربعة عشر ألفا لأن أسنانه ثمانية وعشرون هكذا حكي أن امرأة قالت لزوجها يا كوسج فقال إن كنت كوسجا فأنت طالق فسئل أبو حنيفة رحمه الله عن ذلك فقال تعد أسنانه فإن كانت اثنين وثلاثين فليس بكوسج وإن كانت ثمانية وعشرين فهو كوسج قال وبلغنا عن علي رضي الله عنه قال في الرأس إذا حلق ولم ينبت الدية كاملة وبهذا أخذ علماؤنا رحمهم الله وقال إذا حلق شعر رأس إنسان حتى أفسد المنبت فعليه كمال الدية الرجل والمرأة في ذلك سواء.(26/126)
وقال الشافعي في شعر الرأس حكومة عدل وكذلك في اللحية إذا حلقت فلم تنبت كمال الدية عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه حكومة عدل لأنه شعر مستمد من البدن بعد كمال الخلقة فلا يتعلق بحلقه كمال الدية كشعر الصدر والساق وهذا لأنه ليس في حلق الشعر تفويت منفعة كاملة إنما فيه فقط تفويت بعض الجمال فإنه يلحقه نوع شين على الوجه الذي لغير الكوسج بقلة شعره ووجوب كمال الدية يعتبر بتفويت منفعة كاملة والدليل عليه أن ما يوجب في الحر كمال الدية يوجب في العبد كمال القيمة وبالاتفاق لو حلق لحية عبد إنسان لا يلزمه كمال القيمة وإن أفسد المنبت وإنما يلزمه النقصان فكذلك في حق الحر.
وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه فإن ما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك لا يستدرك بالرأي والمعنى فيه أنه فوت عليه جمالا كاملا فيلزمه كمال الدية كما لو قطع الأذنين الشاخصتين وبيان ذلك أن في اللحية جمالا كاملا في أوانه وكذلك في شعر الرأس جمال كامل.
ألا ترى أن من عدم ذلك خلقة تكلف لستره وإخفائه ولا شك أن في شعر الرأس جمالا كاملا وبعض المنفعة أيضا فما يحصل لها بالجمال من المنفعة أعظم وجوه المنفعة وكذلك في اللحية والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تعالى ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالقرون والذوائب" ثم تفويت المنفعة يوجب كمال الدية كما إذا ضرب على ظهره حتى انقطع ماؤه فكذلك تفويت الجمال الكامل يوجب كمال الدية،(26/127)
ص -65- ... لأن الغرض للعقلاء في الجمال أكثر مما هو في المنفعة بخلاف شعر الصدر والساق فليس في حلقه تفويت جمال كامل فلهذا لم يؤثر ذلك في النقصان فلا يجب شيء فأما في لحية العبد فروايتان روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب كمال القيمة وفي ظاهر الرواية يجب نقصان القيمة وهو نظير الروايتين في قطع الأذنين الشاخصتين من العبد ففي رواية الحسن قال القيمة في العبد كالدية في الحر فما يجب بتفويته كمال الدية في الحر يجب بتفويته كمال القيمة في العبد وفي ظاهر الرواية قال الجمال غير مقصود للمولى من عبده وإنما المقصود منفعة الاستخدام وبحلق لحيته أو قطع الأذنين الشاخصتين منه لا يفوت هذا المقصود فلهذا لا يجب به كمال القيمة فأما الجمال فمقصود في الأحرار وبتفويته يجب كمال الدية.(26/128)
وتكلموا في حلق لحية الكوسج والأصح في ذلك ما فصله أبو جعفر الهندواني رحمه الله إن كان الثابت على ذقنه شعرات معدودة فليس في حلق ذلك شيء لأن وجود ذلك لا يزينه وربما يشينه وإن كان أكثر من ذلك فكان على الذقن والخد جميعا ولكنه غير متصل ففيه حكومة عدل لأن في هذا بعض الجمال ولكنه ليس بكامل فيجب بتفويته حكومة عدل وإن كان متصلا ففيه كمال الدية لأنه ليس بكوسج وفي لحيته معنى الجمال الكامل وهذا كله إذا فسد المنبت فإن نبت حتى استوى كما كان لا يجب فيه شيء لأنه لم يبق لفعل الجاني أثر فهو بمنزلة الضربة التي لا يبقى أثرها في البدن ولكنه يؤدب على ذلك لارتكاب ما لا يحل له وإن نبتت بيضاء فقد ذكر في النوادر أن عند أبي حنيفة لا يلزمه شيء لأن الجمال يزداد ببياض شعر اللحية وعندهما يجب حكومة عدل لأن بياض الشعر جمال في أوانه فأما في غير أوانه فيشينه فيجب حكومة العدل باعتباره وقد بينا أن في أحد العينين نصف الدية ويستوي الجواب إن انخسفت أو ذهب بصرها وهي قائمة أو ابيضت حتى ذهب البصر لأن المنفعة المقصودة من العين تفوت في هذا كله وقيل ذهاب البصر بمنزلة فوات العين فلا معتبر ببقائها بعد ما ذهب البصر.
ألا ترى أن من خنق إنسانا حتى مات عليه كمال الدية وإن كانت النفس باقية على حالها وكذلك اليد إذا شلت حتى لا ينتفع بها ففيها أرشها كاملا إما لأن الشلل دليل موتها أو لأن ما هو المقصود وهو منفعة البطش تحقق فواته بصفة الكمال فهو وما لو قطعت اليد سواء في إيجاب الأرش.(26/129)
قال: وفي الموضحة نصف عشر الدية والكلام في معرفة الشجاج أن يقول الشجاج الخارصة وهي التي تشق الجلد ومنه يقال حرص القصار الثوب ثم الدامغة وهي التي يخرج منها قدر الدمع من الدم ثم الدامية وهي التي يخرج منها قدر الدمع من الدم ثم الباضعة وهي التي تبضع بعض اللحم ثم المتلاحمة وهي التي تقطع أكثر اللحم وروي عن محمد رحمه الله أن المتلاحمة قبل الباضعة وهو اختلاف في مأخذ الكلم لا في الحكم فمحمد،(26/130)
ص -66- ... رحمه الله ذهب إلى أن المتلاحمة مأخوذة من قولك التحم الشيئان إذا اتصل أحدهما بالآخر والمتلاحمة ما تظهر اللحم ولا تقطعه والباضعة بعدها وفي ظاهر الرواية المتلاحمة ما تعمل في قطع أكثر اللحم فهي بعد الباضعة ثم السمحاق وهي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم فتلك الجلدة تسمى سمحاقا ومنه سمى العظم الرقيق سماحيق ثم الموضحة وهي التي توضح العظم حتى يبدو ثم الهاشمة وهي التي تكسر العظم ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظم أو تجعل العظم كالنقلة وهي كالحصى ثم الآمة وهي التي تظهر الجلد بين العظم والدماغ وتسمى تلك الجلدة أم الرأس ثم الدامغة وهي التي تجرح الدماغ إلا أن محمدا رحمه الله لم يذكر الدامغة لأن النفس لا تبقى بعدها عادة فيكون ذلك قتلا لا شجة ولم يذكر الحارصة والدامية لأن الظاهر أنه لا يبقى لهما أثر وبدون بقاء الأثر لا يجب شيء فأما بيان الأحكام فنقول أما في الموضحة فيجب نصف عشر الدية هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "في الموضحة خمس من الإبل" وهكذا روي في حديث عمرو بن حزم وفيما يرويه سعيد بن المسيب وهذا إذا كانت الموضحة خطأ فإن كانت عمدا ففيها القصاص لأن اعتبار المساواة فيها ممكن فإن عملها في اللحم دون العظم والجنايات فيما دون النفس توجب القصاص إذا أمكن اعتبار المساواة فيها فأما قبل الموضحة من الشجاج ففيها حكومة عدل إذا كانت خطأ.(26/131)
وكذلك إن كانت عمدا في رواية الحسن عن أبي حنيفة فإنه لا قصاص فيما دون الموضحة لأنه يتعذر اعتبار المساواة فيها من حيث المقدار فربما يبقى من أثر فعل الثاني فوق ما يبقى من أثر فعل الأول وفي ظاهر الرواية يقول فيها القصاص لأن عملها في الجلد أعظم والمساواة فيها ممكنة بأن يسبر غورها بالمسبار ثم يتخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع وإيجاب حكومة العدل في هذه الشجاج مروي عن إبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز رحمهما الله قالا ما دون الموضحة من الشجاج بمنزلة الخدوش ففيها حكومة عدل وقد جاء في الحديث أن عليا رضي الله عنه قضى في السمحاق بأربع من الإبل وإنما يحمل على أن ذلك كان مقدار حكومة عدل ثم اختلف المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله في معرفة حكومة العدل فقال الطحاوي السبيل في ذلك أن يقوم لو كان مملوكا بدون هذا الأثر ويقوم مع هذا الأثر ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين كم هو فإن كان بقدر نصف العشر يجب نصف عشر الدية وإن كان بقدر ربع العشر يجب ربع عشر الدية وكان الكرخي يقول هذا غير صحيح فربما يكون نقصان القيمة بالشجاج التي قبل الموضحة أكثر من نصف العشر فيؤدي هذا القول إلى أن يوجب في هذه الشجاج من الدية فوق ما أوجبه الشرع في الموضحة وذلك لا يجوز ولكن الصحيح أن ينظركم مقدار هذه الشجة من نصف عشر الدية لأن وجوب نصف فعشر الدية ثابت بالنص وما لا نص فيه يرد إلى المنصوص عليه باعتبار المعنى فيه فأما في الهاشمة عشر الدية وفي المنقلة عشر ونصف عشر الدية وفي(26/132)
ص -67- ... الآمة ثلث الدية وتسمى المأمومة أيضا وذلك فيما كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم قال: "في الهاشمة عشر من الإبل وفي المنقلة خمسة عشر وفي الآمة ثلث الدية" والجائفة كالآمة يجب فيها ثلث الدية لأن الجائفة واصلة إلى أحد الجوفين وهو جوف البطن فتكون كالواصلة إلى جوف الرأس وهي الدماغ وإن نفذت الجائفة ففيها ثلث الدية لأنها بمنزلة الجائفتين إحداهما من جانب البطن والأخرى من جانب الظهر فيجب في كل واحدة منهما ثلث الدية وفي كل مفصل من الأصابع ثلث دية الأصبع إذا كان فيها ثلاثة مفاصل وإن كان فيها مفصلان ففي كل مفصل نصف دية الأصبع لأن المفاصل للأصبع كالأصابع لليد فكما أن دية اليد تتوزع على الأصابع على التساوي فكذلك دية الأصبع تتوزع على المفاصل على التساوي فالأصبع إذا كانت ذات مفصلين كالإبهام فإنه يجب في كل مفصل نصف دية الأصبع وإذا كانت ذات ثلاث مفاصل ففي كل مفصل ثلث دية الأصبع وذلك مروي عن علي وابن عباس قالا لا يفضل شيء منها على شيء وابن مسعود قال في دية الخطأ أخماسا عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون بن مخاض والكلام ها هنا في فصول أحدها أنه لا خلاف أن الدية من الإبل مائة على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" واختلفوا في أن الدراهم والدنانير في الدية أصل أم باعتبار قيمة الإبل فالمذهب عندنا أنهما أصل وفي قول الشافعي يدخلان على وجه قيمة الإبل وتتفاوت بتفاوت قيمة الإبل.(26/133)
ويحكى عن أبي بكر الرازي أنه كان يقول أولا وجوبهما على سبيل قيمة الإبل ولكنهما قيمة مقدرة شرعا بالنص فلا يزاد عليها ولا ينقص عنها ثم رجع عن ذلك وقال هما أصلان في الدية واحتج الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل قيمة كل بعير أوقية ثم غلب الإبل فصارت قيمة كل بعير أوقية ونصفا ثم غلبت فصارت قيمة كل بعير أوقيتين فما زالت تعلو حتى جعلها عمر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام: "قضى في الدية بمائة من الإبل قيمتها أربعة آلاف درهم أو أربعمائة دينار" وحجتنا في ذلك حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قال "دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار" وذكر الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب لما دون الدواوين جعل الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وقضاؤه ذلك كان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع منهم والمعنى فيه أن للقاضي أن يقضي بالدية من الدراهم أو الدنانير مؤجلا في ثلاث سنين.
فلو كان الأصل في الدية الإبل وهي دين والدراهم والدنانير بدل عنها كان هذا دينا بدين ونسيئة بنسيئة وذلك حرام شرعا يوضحه أن الآدمي حيوان مضمون بالقيمة كسائر(26/134)
ص -68- ... الحيوانات والأصل في القيمة الدراهم والدنانير إلا أن القضاء بالإبل كان بطريق التيسير عليهم لأنهم كانوا أرباب الإبل وكانت النقود تتعسر منهم ولأنهم كانوا يستوفون الدية على أظهر الوجوه ليندفع بها بعض الشر عنهم وذلك في الإبل أظهر منه في النقود فكانت بخلاف القياس بهذا المعنى ولكن لا يسقط بها ما هو الأصل في قيمة المتلفات.
ثم لا خلاف أن الدية في الخطأ من الإبل تجب أخماسا كما ذكره بن مسعود والسن الخامس عندنا بن مخاض وعند الشافعي بن لبون فمذهبنا مروي عن عمر وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم واحتج الشافعي بما روي أن النبي عليه السلام قضى في الدية بمائة من إبل الصدقة يعني من الأسنان التي تؤخذ في الصدقة وابن مخاض لا مدخل له في الصدقة ولابن اللبون مدخل قال عليه السلام: "في خمس وعشرين بنت مخاض فإن لم يكن فابن لبون" وحجتنا في ذلك حديث حذيفة بن مالك الطائي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دية الخطأ أخماس عشرون جذعة وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض".
وقال عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" واسم الإبل مطلقا يتناول أدنى ما يكون منه وابن المخاض أدنى من ابن اللبون ولأن الشرع جعل ابن اللبون بمنزلة بنت المخاض في الزكاة فإيجاب ابن اللبون ها هنا في معنى إيجاب أربعين من بنت المخاض وذلك لا يجوز بالإجماع.
فأما الحديث الذي رواه فالمراد إعطاء الدية من إبل الصدقة على وجه التبرع عن عاقلة القاتل لحاجتهم لا أن يكون المراد من الأسنان التي توجد في الصدقة ثم بن المخاض يدخل في الصدقة عندنا على الوجه الذي يدخل بن اللبون لأن بن اللبون عندنا يستوفي باعتبار القيمة فكذلك ابن المخاض.(26/135)
وأما في شبه العمد فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف تجب مائة من الإبل أرباعا خمسة وعشرون ابنة مخاض وخمس وعشرون بنت بن لبون وخمسة وعشرون حقة وخمسة وعشرون جذعة وهو قول بن مسعود وقال الشافعي ومحمد تجب أثلاثا ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل وكلها خلفة والخلفة هي الحامل وهو قول عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وقال علي رضي الله عنه تجب أثلاثا ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة وقال عثمان رضي الله عنه تجب أثلاثا من هذه الأسنان من كل سن ثلاثة وثلاثون.
واحتج محمد والشافعي بحديث النعمان بن بشير أن النبي عليه السلام قال في خطبة عام حجة الوداع
"ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها" وعن عمر أنه قضى بذلك في شبه العمد وقضاؤه كان بمحضر من الصحابة وأبو حنيفة وأبو يوسف احتجا بحديث السائب بن يزيد: "أن النبي عليه السلام قضى في الدية(26/136)
ص -69- ... بمائة من الإبل أرباعا", ومعلوم أنه لم يرد به الخطأ لأنها في الخطأ تجب أخماسا فعرفنا أن المراد به شبه العمد.
وقال في النفس المؤمنة مائة من الإبل والمراد به أدنى ما يكون منه وما قلناه أدنى والمعنى فيه أنه إنما تجب الدية عوضا عن المقتول والحامل لا يجوز أن تستحق في شيء من المعاوضات فكذلك لا تستحق في الدية لوجهين أحدهما أن صفة الحمل لا يمكن الوقوف على حقيقتها والثاني أن الجنين من وجه كالمنفصل فيكون هذا في معنى إيجاب الزيادة على المائة عددا وبالاتفاق صفة التغليظ ليست من حيث العدد بل من حيث السينما.
ثم الديات تعتبر بالصدقات والشرع نهى عن أخذ الحوامل في الصدقات لأنها كرائم أموال الناس فكذلك في الديات وهذا لأن شبه العمد يجب على العاقلة بطريق الصلة منهم للقاتل بمنزلة الصدقات فأما الحديث الذي روي فلا يكاد يصح لأن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع كان بمحضر من جماعة من الصحابة ولم يرو هذا الحديث إلا النعمان بن بشير وهو في ذلك الوقت كان في عداد الصبيان وقد خفي الحديث على كبار الصحابة حتى اختلفوا بينهم على أقاويل كما بينا ولم تجر المحاجة بينهم بالحديث فلو كان صحيحا لما اختلفوا مع هذا النص ولا احتج به بعضهم على بعض.(26/137)
ومن أصل أبي حنيفة أن العام المتفق على قبوله أولى بالأخذ به من مثل هذا الخاص ولا خلاف أن صفة التغليظ في الدية لا تثبت إلا في أسنان الإبل وبه يستدل الشافعي على أن الأصل في الدية الإبل فقط ولكنا نقول ما عرفنا صفة التغليظ إلا بالنص فإن الدية بدل عن المتلف ولا يختلف التلف بالخطأ وشبه العمد وإنما نثبت صفة التغليظ بما ورد به الشرع خاصة قال وبلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جعل الدية على أهل الإبل مائة وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الحلل مائتي حلة والحلة اسم لثوبين وبه نأخذ فنقول الدية من الدراهم تتقدر بعشرة آلاف درهم مما تكون الفضة فيها غالبة على الغش وقد بينا ذلك في كتاب السرقة وقال مالك والشافعي من الدراهم اثنا عشر ألف درهم لحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: "من سبح في كل يوم وليلة مثل ديته اثني عشر ألف تسبيحة فكأنما حرر رقبة من ولد إسماعيل".
وفي كتاب عمرو بن حزم: "أن النبي عليه السلام جعل الدية من الدراهم اثني عشر ألفا" ولأنه لا خلاف أنها من الدنانير ألف دينار وكانت قيمة كل دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما بيانه في حديث السرقة فإنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم بعد ما قال: "القطع في ربع دينار" وإنما يكون ثلاثة دراهم ربع دينار إذا كانت قيمة كل درهم اثني عشر درهما وحجتنا في ذلك حديث دهثم أن رجلا قطع يد رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى عليه بنصف الدية خمسة آلاف درهم وقضى عمر رضي الله عنه في تقدير الدية بعشرة(26/138)
ص -70- ... آلاف وقد كان بمحضر من الصحابة ولم يحتج عليه أحد منهم بحديث بخلاف ذلك فلو كان فيه حديث صحيح خلاف ما قضى به عمر لما خفي عليهم ولما تركوا المحاجة به ثم المقادير لا تعرف بالرأي فما نقل عن عمر من التقدير بعشرة آلاف درهم ومساعدة الصحابة معه على ذلك بمنزلة اتفاق جماعتهم على رواية هذا المقدار عن صاحب الشرع عليه السلام ولأن الدية من الدنانير ألف دينار وقد كانت قيمة كل دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم بدليل النص المروي في نصاب السرقة حيث قال لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم.
وقال علي رضي الله عنه حين ضجر من أصحابه ليت لي بكل عشرة من أهل العراق واحدا من أهل الشام صرف الدنانير بالدراهم ونصاب الزكاة منهما على أن قيمة كل دينار كانت عشرة دراهم.
ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا بظاهر حديث عمر وقالا الدية من الأصناف الستة فإن عمر رضي الله عنه جعلها من هذه الأصناف وقدر كل صنف منه بمقدار ومعلوم أنه ما كان يتفق القضاء بذلك كله في وقت واحد فعرفنا أن المراد بيان المقدار من كل صنف وأبو حنيفة قال الدية من الإبل والدراهم والدنانير وقد اشتهرت الآثار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخذ عمر من البقر والغنم والحلل في الابتداء لأنها كانت أموالهم فكان الأداء منها أيسر عليهم وأخذها بطريق التيسير عليهم فظن الراوي أن ذلك كان منه على وجه بيان التقدير للدية في هذه الأصناف فلما صارت الدواوين والإعطاءات جل أموالهم الدراهم والدنانير والإبل فقضي بالدية منها ثم لا مدخل للبقر والغنم في قيمة المتلفات أصلا فهي بمنزلة الدور والعبيد والجواري وهكذا كان ينبغي أن لا تدخل الإبل إلا أن الآثار اشتهرت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركنا القياس بذلك في الإبل خاصة.(26/139)
وقد ذكرنا في كتاب المعاقل ما يدل على أن قول أبي حنيفة كقولهما فإنه قال صالح الولي من الدية علي أكثر من ألفي شاة أو علي أكثر من مائتي بقرة أو علي أكثر من مائتي حلة لا يجوز الصلح فهذا دليل على أن هذه الأصناف في الدية أصول مقدرة عنده كما هي عندهما قال وبلغنا عن علي أنه قال في دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وما دونها وبه نأخذ وقال بن مسعود هكذا إلا في أرش الموضحة وأرش السن فإنها تستوي في ذلك بالرجل وكان زيد بن ثابت يقول أنها تعادل الرجل إلى ثلث ديتها يعني إذا كان الأرش بقدر ثلث الدية أو دون ذلك فالرجل والمرأة فيه سواء فإن زاد على الثلث فحينئذ حالها فيه على النصف من حال الرجل وبيانه فيما حكى عن ربيعة قال قلت لسعيد بن المسيب ما تقول فيمن قطع أصبع امرأة قال عليه عشر من الإبل قلت فإن قطع أصبعين منها قال عليه عشرون من الإبل قلت فإن قطع ثلاثة أصابع قال عليه ثلاثون من الإبل قلت فإن قطع أربعة أصابع منها قال عليه عشرون من الإبل قلت سبحان الله لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها قال أأعرابي أنت فقلت لا بل جاهل مسترشد أو عاقل(26/140)
ص -71- ... مستفت فقال إنه السنة فبهذا أخذ الشافعي وقال السنة إذا أطلقت فالمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروون حديثا أن النبي عليه السلام قال: "تعادل المرأة الرجل إلى ثلث الدية" وحجتنا في ذلك ما ذكره ربيعة فإنه لو وجب بقطع ثلاثة أصابع منها ثلاثون من الإبل ما سقط بقطع الأصبع الرابع عشر من الواجب لأن تأثير القطع في إيجاب الأرش لا في إسقاطه فهذا معني يحيله العقل ثم بالإجماع بدل نصفها على النصف من بدل نفس الرجل والأطراف تابعة للنفس وإنما تكون تابعة إذا أخذنا حكمها من حكم النفس إلا إذا أفردناها بحكم آخر.
وقول سعيد: أنه السنة يعني سنة زيد وقد أفتى كبار الصحابة بخلافه والحديث الذي رووا نادر ومثل هذا الحكم الذي يحيله عقل كل عاقل لا يمكن إثباته بالشاذ النادر وأما بن مسعود فكان يقول في التسوية بينهما في أرش السن والموضحة استدلالا بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين فإنه قضى بغرة عبد أو أمة قيمتها خمسمائة ويسوى بين الذكر والأنثى في ذلك وبدل الجنين نصف عشر الدية فلهذا سوى بينهما في مقدار نصف عشر الدية وذلك أرش السن والموضحة ولكنا نقول في الجنين إنما قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يتعذر الوقوف على صفة الذكورة والأنوثة في الجنين خصوصا إذا لم يتم خلقه ولأن الوجوب هناك باعتبار قطع السر فقط والذكر والأنثى في ذلك سواء وها هنا الوجوب باعتبار صفة المالكية وحال الأنثى فيه على النصف من حال الذكر فالذكر أهل لمالكية النكاح والمال جميعا والأنثى أهل لمالكية المال دون النكاح على ما نبينه وفي هذا أرش الموضحة وما زاد على ذلك سواء.(26/141)
قال: وفي ذكر الخصي ولسان الأخرس واليد الشلاء والرجل العرجاء والعين القائمة العور والسن السوداء وذكر العنين حكم عدل بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لأن إيجاب كمال الأرش في هذه الأعضاء باعتبار تفويت المنفعة الكاملة وذلك لا يوجد لأن منافع هذه الأعضاء كانت فائتة قبل جنايته.
ألا ترى أن من ضرب على يد إنسان حتى شلت أو على عينه حتى ذهب بصره يجب عليه الأرش فلولا تفويت المنفعة لما حل بها لما لزمه كمال الأرش فلو أوجبنا بالقطع بعد ذلك أرشا كاملا مرة أخرى أدى إلى إيجاب أرشين كاملين عن عضو واحد وقال مالك رضي الله عنه يجب في هذه المواضع الأرش كاملا ونقول في قطعها تفويت الجمال الكامل والجمال مطلوب من الآدمي كالمنفعة بل الجمال يرغب فيه العقلاء فوق رغبتهم في المنفعة ولكنا نقول في الأعضاء التي يكون فيها المقصود المنفعة والجمال تبع فباعتباره لا تتكامل الجناية في الأرش ثم في العين القائمة العوراء جمال عند من لا يعرف حقيقة الحال فأما عند من يعرف ذلك فلا فعرفنا أن معنى الحال في هذه الأعضاء غير كاملة بعد فوات المنفعة فلوجود بعض الجمال فيها أوجبنا حكم عدل فلانعدام الكمال فيها لا يوجب كمال الأرش(26/142)
ص -72- ... وفي الضلع حكم عدل وفي الساعد إذا كسر أو كسر أحد الزندين حكم عدل وفي الساق إذا انكسرت حكم عدل وفي الترقوة حكم عدل على قدر الجراحة والحاصل أنه لا قصاص في شيء من العظام إذا كسرت إلا في السن خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قصاص في العظم" لأن القصاص ينبني على المساواة ولا تتحقق المساواة في كسر العظم لأنه لا ينكر من الموضع الذي يراد كسره وبدون اعتبار المماثلة لا يجب القصاص فإذا تعذر إيجاب القصاص وليس فيها أرش مقدر كان الواجب فيها حكم عدل فأما في السن فيجب القصاص وهو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قضى في القصاص في السن" وبين الأطباء كلام في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس فمنهم من ينكر كون السن عظما لأنه يحدث وينمو بعد تمام الخلقة ويلين بالحل فعلى هذا لا حاجة إلى الفرق بينه وبين سائر العظام متى ثبت أنه ليس بعظم.
ولئن قلنا: أنه عظم وفي سائر العظام لتعذر اعتبار المساواة لا يجب القصاص وذلك لا يوجد ها هنا لأنه يمكن أن يبرد بالمبرد بقدر ما كسر منه.
وكذلك إن كان قلع السن فإنه لا يقلع منه قصاصا لتعذر اعتبار المماثلة فيه فربما تفسد به لهاته ولكن يبرد بالمبرد إلى موضع أصل السن فأما إذا كان خطأ فالواجب فيه الأرش كما بينا وهو المعنى في الفرق بينه وبين سائر العظام لأنه ليس لسائر العظام أرش مقدر وإنما يجب القصاص فيما يكون له أرش مقدر شرعا ولهذا قلنا: في أصح الروايتين على ما ذكره الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لا قصاص فيما دون الموضحة لأنه ليس فيه أرش مقدر شرعا.(26/143)
ثم إن ضرب على سنه حتى اسودت أو احمرت أو اخضرت فعليه أرش السن كاملا لأن الجمال والمنفعة يفوت بذلك وقال السواد في السن دليل موتها فإذا اصفرت فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل وذكر هشام في نوادره عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل وفي الحر لا شيء وفي المملوك حكم عدل وعن محمد رحمه الله فيها حكم عدل وهو قول أبي يوسف لأن الجمال على الكمال في بياض السن فبالصفرة ينقص معنى الجمال فيها ولهذا يجب في المملوك حكم عدل فكذلك في الحر وأبو حنيفة رحمه الله يقول الصفرة من ألوان السن فلا يكون دليل موت السن والمطلوب بالسن في الأحراز المنفعة وهي قائمة بعد ما اصفرت فأما حق المولى في المملوك فالمالية وقد تنتقص باصفرار السن وعلى هذا لو قلع سن فنبتت صفراء أو نبتت كما كانت فلا شيء عليه في ظاهر الرواية لأن وجوب الأرش باعتبار فساد المنبت وحين نبتت كما كانت عرفنا أنه ما فسد المنبت ثم وجوب الأرش باعتبار بقاء الأثر ولم يبق أثر حين نبتت كما كانت.
وقد روي عن محمد في الجراحات التي تندمل على وجه لا يبقي لها أثر تجب حكومة بقدر ما لحقه من الألم وعن أبي يوسف رحمه الله يرجع على الجاني بقدر ما احتاج إليه(26/144)
ص -73- ... من ثمن الدواء وأجرة الأطباء حتى اندملت وأبو حنيفة رحمه الله قال لا يجب شيء لأنه لا قيمة لمجرد الألم.
ألا ترى أن من ضرب ضربة تألم بها ولم يؤثر فيه شيء لا يجب شيء أرأيت لو شتمه شتيمة أكان عليه أرش باعتبار إيلام حل فيه قال وفي اليد إذا قطعت من نصف الساعد دية اليد وحكم عدل فيما بين الكف إلى الساعد وإن كان من المرفق كان في الذراع بعد دية اليد حكم عدل أكثر من ذلك وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يجب فيه إلا أرش اليد إذا قطعها من نصف الساعد وكذلك روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيما إذا قطعها من المنكب أنه لا يجب إلا أرش اليد واحتج في ذلك بقوله عليه السلام: "وفي اليدين الدية وفي أحدهما نصف الدية" واليد اسم للجارحة من رؤوس الأصابع إلى الآباط وقد روينا في حديث عمران بن جارنة: "أن النبي عليه السلام قضى على قاطع اليد بنصف الدية خمسة ألاف" من غير تفصيل وقد روي في بعض الروايات أنه قطعها من نصف الساعد ولأن الساعد ليس له أرش مقدر فيكون تبعا لما له أرش مقدر كالكف فإن بالإجماع يجب نصف الدية بقطع الأصابع.
ثم لو قطع الكف مع الأصابع لا يلزمه إلا نصف الدية وتجعل الكف تبعا للأصابع لهذا المعنى فكذلك إذا قطع من نصف الساعد أو المرفق أو المنكب لأنه ليس من هذه الأعضاء بدل مقدر سوى الأصابع.(26/145)
ألا ترى أنه لو قطع المارن أو الحشفة يلزمه الدية ولو قطع جميع الأنف أو جميع الذكر لا يجب عليه أكثر من دية واحدة وأبو حنيفة ومحمد قالا ما زاد على الكف من الساعد إما أن يجعل تبعا للأصابع أو الكف ولم يمكن جعله تبعا للأصل لأن الكف حائل بينه وبين الأصابع والتابع ما يكون متصلا بالأصل ولا يمكن جعله تبعا للكف لأن الكف في نفسه تبع للأصابع ولا تبع للتبع فإذا تعذر جعله تبعا ولا يجوز إهداره عرفنا أنه أصل بنفسه وليس فيه أرش مقدر فيجب حكم عدل كما لو قطع يده من المفصل أولا فبرأت ثم عاد فقطع الساعد ولا حجة في الحديثين لأن اليد إذا ذكرت في موضع القطع فالمراد به من مفصل الزند بدليل آية السرقة والذي روى أن القطع كان من نصف الساعد شاذ لا يعتمد على مثله في الأحكام فإذا كسر الأنف ففيه حكم عدل لما أن كسر الأنف جناية ليس فيها أرش مقدر فيجب فيها حكم عدل ككسر الساعد والساق فإن قطع اليد وفيها ثلاثة أصابع فعليه ثلاثة أخماس دية اليد ويدخل أرش الكف في أرش الأصابع ها هنا بالاتفاق لأن أكثر الأصابع لما كانت قائمة جعل كقيام جميعها فيكون الكف تابعا لها وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع فأما إذا كان على الكف أصبعان أو أصبع فقطع الكف فعند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه أرش ما كان قائما من الأصابع ويدخل أرش الكف في ذلك.
وعند أبي يوسف ومحمد ينظر إلى أرش ما بقي من الأصابع وإلى أرش الكف وهو(26/146)
ص -74- ... حكومة عدل فأيهما كان أكثر يدخل الأقل فيه لأن أكثر الأصابع ها هنا فائتة فيجعل ذلك كفوات الكل.
ولو قطع الكف وليس عليها شيء من الأصابع كان عليه حكم عدل فهذا مثله وهذا لأن ببقاء أكثر الأصابع تبقى منفعة البطش وإن كان يتمكن فيها نقصان فيعتبر تفويت ذلك في إيجاب الأرش وأما ببقاء أصبع واحد فلا يبقى منفعة البطش ولا يمكن اعتبار ذلك في إيجاب الأرش فيجب حكم عدل إلا أنه لا بد من اعتبار أرش الأصبع المقطوعة بالنص ومن اعتبار حكومة العدل في الكف لما قلنا: ولا وجه إلى الجمع بينهما بالإتلاف فاعتبرنا الأكثر منهما فجعلنا الأقل تابعا للأكثر وهو أصل في الشرع في باب الأرش وأبو حنيفة يقول أرش الأصبع مقدر شرعا وليس للكف أرش مقدر شرعا وما ليس بمقدر شرعا يجعل تبعا لما هو مقدر شرعا ولهذا جعل الكف تبعا لجميع الأصابع وهذا لمعنيين أحدهما أن المقدر شرعا ثابت بالنص وما ليس فيه تقدير فهو ثابت بالرأي والرأي لا يعارض النص والمصير إلى الترجيح بالكثرة عند المساواة في القوة والثاني أن المصير إلى الرأي والتقويم لأجل الضرورة وهذه الضرورة لا تتحقق عند إمكان إيجاب الأرش المقدر بالنص.(26/147)
وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان إحداهما: أنه كان يقول أولا عليه أرش الأصبع وحكومة العدل في الكف يجمع بينهما لأن جعل الكف تبعا للأصابع باعتبار أن معنى البطش يكون بهما وذلك لا يوجد في الأصبع الواحد ولا يمكن جعل الأصبع تبعا للكف لأن للأصبع أرشا مقدرا شرعا فلا يجوز النقصان عن ذلك بالرأي فإذا لم يمكن اتباع أحدهما الآخر كان كل واحد منهما أصلا فيجب أرشهما وعنه في رواية أخرى أنه يلزمه أرش الأصبع القائمة وموضعها من الكف يكون تبعا له ويلزمه حكومة عدل فيما وراء ذلك من الكف لأن الأصابع لو كانت قائمة كان موضع كل أصبع من الكف تبعا لذلك الأصبع فعند قيام البعض يعتبر البعض بالكل ثم في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة وإن لم يبق إلا مفصل من أصبع فإنه يجب أرش ذلك المفصل ويجعل الكف تبعا له لأن أرش ذلك المفصل مقدر شرعا وما بقي شيء من الأصل فإن قل فلا حكم للتبع كما إذا بقي واحد من أصحاب الخطة من المحلة لا يعتبر السكان.
وروى الحسن عن أبي حنيفة قال إذا كان الباقي دون أصبع فإنه يعتبر فيه الأقل والأكثر فيدخل الأقل في الأكثر لأن أرش الأصبع منصوص عليه فأما أرش كل مفصل فغير منصوص عليه وإنما اعتبرنا ذلك بالمنصوص عليه بنوع رأي وكونه أصلا باعتبار النص فإذا لم يرد النص في أرش مفصل واحد اعتبرنا فيه الأقل والأكثر لما بينا ولكن الأول أصح.
قال: وفي ثدي الرجل حكم عدل ويسمى الثندوة أيضا لأنه ليس فيه منفعة مقصودة ولا جمال كامل فإنه مستور بالثياب عادة لكن فيه بعض الجمال وفيما يبقى من أثره بعد القطع بعض الشين فيجب بحكم عدل باعتباره وفي الأذن إذا يبست أو انخسفت وربما تقول(26/148)
ص -75- ... انخنست حكم عدل لأن المنفعة المقصودة لا تفوت به وهو إيصال الصوت إلى الصماخ وكذلك لا يفوت به الجمال كله بل يتمكن فيه النقصان لأجله يجب حكم عدل.
قال: وبلغنا عن إبراهيم أنه لا تعقل العاقلة إلا خمسمائة درهم فصاعدا وبه نأخذ وكل شيء من الخطأ يبلغ نصف عشر دية الرجل خمسمائة أو نصف عشر دية المرأة مائتين وخمسين فهذا على العاقلة في شبه العمد وما دون ذلك في مال الجاني حالا لحديث بن عباس موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة" ولأن ما دون أرش الموضحة في معنى ضمان المال فإنه لا يجب إلا باعتبار التقويم وهو غير مقدر شرعا وضمان الجناية إنما يفارق ضمان المتلفات في كونه مقدرا شرعا وأدنى ذلك أرش الموضحة فما دون ذلك بمنزلة ضمان المتلفات فيكون عليه حالا في ماله وأرش الموضحة فما زاد عليه إلى ثلث الدية يكون على العاقلة مؤجلا في سنة واحدة فإن زاد على ذلك أخذ الفضل في سنة أخرى إلى تمام الثلثين فإن زاد على الثلثين أخذ ذلك الفضل في السنة الثالثة إلى تمام الدية.
بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من فرض العطاء وجعل الدية في ثلاث سنين الثلث في سنة والنصف في سنتين والثلثين في سنتين وقد ثبت باتفاق العلماء التأجيل في جميع الدية إلى ثلاث سنين وأنه يستوفي كل ثلث في سنة ولما ثبت التأجيل في ثلث الدية سنة واحدة ثبت في أبعاض ذلك الثلث مما يكون في معناه اعتبارا للبعض بالكل وكذلك الثلث الثاني لما ثبت التأجيل في جميعه السنة الثانية فكذلك في أبعاضه.(26/149)
قال: ودية أهل الذمة من أهل الكتاب وغيرهم مثل دية المسلمين رجالهم كرجالهم ونساؤهم كنسائهم وكذلك جراحاتهم وجناياتهم بينهم وما دون النفس في ذلك سواء فإن كانت لهم معاقل يتعاقلون على عواقلهم وإن لم يكن لهم معاقل ففي مال الجاني وهذا لأنهم بعقد الذمة التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت فيما بينهم من الحكمة ما هو ثابت بين المسلمين وديتهم مثل دية أحرار المسلمين عندنا.
وقال مالك: دية الكتابي على النصف من دية المسلم وهو أحد قولي الشافعي وقال في قول آخر دية الكتابي على الثلث من دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم استدلالا بالآيات الدالة على نفي المساواة بين المسلمين والكفار لقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] ولقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وقال عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فدل أن دماء غيرهم لا تكافئ دماءهم وفي حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قضى في دية الكتابي بثلث دية المسلم وفي رواية بنصف دية المسلم.
وعن عمر أنه قضى في دية المجوسي بثمانمائة درهم ولأن نقصان الكفر فوق نقصان الأنوثة وإذا كانت الدية تنقص بصفة الأنوثة فبالكفر أولى وإنما انتقصت بصفة الأنوثة لنقصان(26/150)
ص -76- ... دين النساء كما وصفهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنهن ناقصات عقل ودين".
وتأثير عدم الدين فوق تأثير نقصان الدين يدل عليه أن بدل النفس ينتقص بالرق والرق أثر من آثار الكفر وأثر الشيء دون أصله فلأن ينتقص بأصل الكفر كان أولى ويتفاحش النقصان إذا انضم إلى كفره عدم الكتاب نسبة فتناهى النقصان نسبة حتى لا يوجب إلا ما قضى به عمر رضي الله عنه وهو ثمانمائة درهم.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] والمراد منه ما هو المراد من قوله في قتل المؤمن ودية مسلمة إلى أهله.
وفي حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكانا مستأمنين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرين مسلمين وقال عليه السلام: "دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار".(26/151)
وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا دية الذمي مثل دية الحر المسلم وقال علي رضي الله عنه إنما أعطيناهم الذمة وبذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا وما نقلوا فيه من الآثار بخلاف هذا لا يكاد يصح فقد روي عن معمر رضي الله عنه قال سألت الزهري عن دية الذمي فقال مثل دية المسلم فقلت إن سعيدا يروي بخلاف ذلك قال ارجع إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فهذا بيان أن الرواية الشاذة لا تقبل فيما يدل على نسخ الكتاب ثم تأويله أنه قضى بثلث الدية في سنة واحدة فظن الراوي أن ذلك جميع ما قضى به وعند تعارض الأخبار يترجح المثبت للزيادة وقوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" لا يدل على أن دماء غيرهم لا تكافئهم فتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه والمراد بالآثار نفي المساواة بينهما في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا فإنا نرى المساواة بيننا وبينهم في بعض أحكام الدنيا ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الله تعالى والكلام من حيث المعنى في المسألة من وجهين: أحدهما: أن أهل الذمة يستوون بالمسلمين في صفة المالكية فيستوون بهم في الدية كالفساق مع العدول وهذا لأن نقصان الدية باعتبار نقصان المالكية ولهذا تنصفت بالأنوثة لتنصف المالكية فإن المرأة أهل ملك المال دون ملك النكاح وانتقص عن ذلك بصفة الاجتنان في البطن لأنه ليس بأهل للمالكية في الحال وإن كان فيه عرضية أن يصير أهلا في الثاني وانتقص بنقصان الرق بخروجه من أن يكون أهلا لمالكية المال ومالكية النكاح بنفسه وهذا لأن وجوب الدية لإظهار خطر المحل وصيانته عن الهدر وهذا الخطر باعتبار صفة المالكية وبصفة المملوكية يصير متبدلا إذا ثبت هذا فنقول لا تأثير للكفر وعدم الكتاب في نقصان المالكية فتستوي دية الكافر بدية المسلم.(26/152)
والثاني: أن وجوب الدية باعتبار معنى الإحراز والإحراز يكون بالدار لا بالدين،(26/153)
ص -77- ... والإحراز بالدين من حيث اعتقاد الحرمة وإنما ظهر ذلك في حق من نعتقده دون ما لا نعتقد فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيظهر في حق أهل الكتاب وأهل الذمة ساووا المسلمين في الإحراز بالدار ولهذا يستوي بينهم وبين المسلمين في قيمة الأموال فكذلك في قيمة النفوس ولا يدخل عليه الإناث فإنهم في الإحراز يساوين الذكور ولكن تنصف الدية في حقهن باعتبار نقصان المالكية ولأنهن تباع في معنى الإحراز لأن النصرة لا تقوم بهن وقصدنا بالتسوية بين أهل الذمة والمسلمين وقد سوينا في حق الرجال والنساء جميعا وجنايات الصبي والمعتوه والمجنون عمدها وخطؤها كلها على العاقلة إذا بلغت خمسمائة فإن كانت أقل من خمسمائة ففي أموالهم لأن ما دون الخمسمائة في معنى ضمان المال والإتلاف الموجب للمال يتحقق من هؤلاء كما يتحقق من العقلاء البالغين فأما الخمسمائة فصاعدا فهي على عاقلتهم العمد والخطأ في ذلك سواء.
بلغنا أن مجنونا سعى على رجل بسيف فضربه فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فجعله على عاقلته وقال عمده وخطؤه سواء وهو على أحد قولي الشافعي وفي قوله الثاني قال عمده عمد حتى تجب الدية عليه في ماله لأن العمد لغة القصد لأنه ضد الخطأ فمن يتحقق منه الخطأ يتحقق منه العمد إلا أنه ينبني على هذا القصد حكمان أحدهما القود والآخر الدية في ماله حالا والصبي ليس من أهل أحد الحكمين وهو العقوبة لأن ذلك ينبني على الخطاب وهو غير مخاطب وهو من أهل الحكم الآخر وهو وجوب الضمان في ماله كما في غرامات الأموال فيلزمه ذلك بمنزلة فعل السرقة يتعلق به حكمان أحدهما عقوبة وهي القطع والصبي ليس بأهل له والآخر غرامة وهو الضمان والصبي أهل لذلك فيسوى بالبالغ.(26/154)
وحجتنا في ذلك أن العمد في باب القتل ما يكون محظورا محضا ولهذا علق الشرع به ما هو عقوبة محضة لقوله عليه السلام: "العمد قود", وفعل الصبي لا يوصف بذلك لأنه ينبني على الخطاب فلا يتحقق منه العمد شرعا في باب القتل والثاني أن العمد عبارة عن قصد معتبر في الأحكام شرعا فأصل القصد يتحقق من البهيمة ولا يوصف فعلها بالعمدية وقصد الصبي كذلك لأنه غير صالح لبناء أحكام الشرع عليه فاعتبار قصده شرعا فيما ينفعه لا فيما يضره ولهذا كان عمده بمنزلة الخطأ دون خطأ البالغ لأن البالغ انعدم منه القصد مع قيام الأهلية للقصد المعتبر شرعا.
وفي حق الصبي والمجنون انعدمت الأهلية لذلك ثم خطأ البالغ إنما كان على عاقلته لمعنى النظر والتخفيف على القاتل بعذر الخطأ والصبي في ذلك أقوى من صفة الخطأ ولكون فعل الصبي دون خطأ البالغ في الحكم قلنا: لا يلزمه الكفارة بالقتل ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه.
وإذا ضرب الرجل بطن المرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة عبد أو أمة يعدل ذلك بخمسمائة والغرة عند بعض أهل اللغة المملوك الأبيض ومنه غرة الفرس وهو البياض الذي(26/155)
ص -78- ... على جبينه ومنه قوله عليه السلام: "أمتي غر محجلون يوم القيامة" وعند بعضهم الغرة الجيد يقال هو غرة القبيلة أي كبير أهلها ثم القياس في الجنين أحد شيئين إما أن لا يجب فيه شيء لأنه لم تعرف حياته وفعل القتل لا يتحقق إلا في محل هو حي والضمان بالشك لا يجب ولا يقال الظاهر أنه حي أو معد للحياة لأن الظاهر حجة لدفع الاستحقاق دون الاستحقاق به وبهذا لا يجب في جنين البهيمة إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقصان وإن لم يتمكن لا يجب شيء والقياس أن يجب كمال الدية لأن الضارب منع حدوث منفعة الحياة فيه فيكون كالمزهق للحياة فيما يلزمه من البدل كولد المغرور فإنه حر بالقيمة لهذا المعنى وهو أنه منع حدوث الرق فيه ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة فيجعل كالحي في إيجاب الضمان بإتلافه كما يجعل بيض الصيد في حق المحرم كالصيد في إيجاب الجزاء عليه بكسره ولكنا تركنا القياس بالسنة وهو حديث حمل بن مالك كما روينا.
وروي أن عمر رضي الله عنه خوصم إليه في إملاص المرأة فقال أنشدكم بالله هل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا فقدم المغيرة بن شعبة وروى حديث الضرتين فقال عمر من يشهد معك فشهد معه محمد بن سلمة بمثل ذلك فقال عمر رضي الله عنه لقد كدنا أن نقضي ما رأينا فيما فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قضى بالغرة.
وعن عبد الرحمن بن فليح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة".(26/156)
ثم هذه الآثار دليل لنا على أن الدية تتقدر بعشرة آلاف لأن بدل الجنين بالاتفاق نصف عشر الدية وقد قدر ذلك بخمسمائة فعرفنا أن جميع الدية عشرة آلاف وفيه دليل على أن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة ثبوتا صحيحا بل باعتبار صفة المالية لأنه كما أوجب في الجنين عبدا أو أمة نص على مقدار المالية وهو خمسمائة وفيه دليل أن الواجب بدل نفس الجنين وأن الأصل في الإبدال المقدرة النفوس وإن ما يجب في بدل الجنين بمنزلة ما يجب في بدل المنفصل حيا لأنه قضى بذلك على العاقلة ولهذا قال عامة العلماء أن بدل الجنين يكون موروثا عنه لورثته إلا أن الضارب إن كان أباه لم يرث شيئا لأنه قاتل وقال الليث بن سعد يكون لأمه لأنه في حكم جزء من أجزائها والدليل عليه أنه يكون مؤجلا في سنة وبدل الطرف هو الذي يتأجل في سنة وأما بدل النفس فيكون في ثلاث سنين قل أو كثر كما لو اشترك عشرون رجلا في قتل رجل يجب على كل واحد منهم نصف عشر الدية في ثلاث سنين وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام: "دوه" أي أدوا ديته فقد جعله في حكم النفوس وسمي الواجب في بدله دية وهو اسم لبدل النفس والدليل عليه أن بدل الجزء لا يجب بدون بقاء النقصان حتى لو قلع سنا فنبت مكانه سن أخرى لم يجب شيء وها هنا يجب بدل الجنين وإن لم يكن في الأم نقصان دل أن وجوبه باعتبار معنى النفسية وبدل النفس يكون موروثا عن صاحبها وهي في الحقيقة نفس مودعة في الأم حتى تنفصل عنها حية فالجناية(26/157)
ص -79- ... عليها قبل الانفصال معتبرة بالجناية عليها بعد الانفصال إلا أنه من وجه نسبة الجزء فلا يثبت من التأجيل فيه إلا القدر المتيقن به وعلى هذا الأصل قلنا: لا تجب الكفارة على الضارب إلا أن يتبرع بها احتياطا هكذا نقل عن محمد رحمه الله وعند الشافعي تجب الكفارة لأنه في حكم النفوس وإتلاف النفس موجب الكفارة ولكنا نقول هو جزء من وجه واعتبار صفة الجزئية يمنع وجوب الكفارة ومع الشك لا تجب الكفارة ولكن اعتبار معنى الجزئية لا يمنع وجوب الضمان فأوجبنا الضمان وألحقناه في ذلك بالنفوس ثم وجوب الكفارة بطريق السكر حيث سلم الشرع نفسه له فلم يلزمه القود بعذر الخطأ كما بينا وذلك لا يوجد ها هنا فإتلاف الجنين لا يوجب القصاص بحال فلهذا لا يلزمه الكفارة ومذهب الشافعي لا يستقر على شيء في الجنين لأنه يجعله في حكم الكفارة كالنفوس ثم يقول البدل الواجب فيه معتبر بأمه لا بنفسه حتى يكون الواجب عشر بدل الأم وعندنا هو معتبر بنفسه وإنما تبين ذلك في جنين الأمة فالواجب عندنا نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كانت أنثى وعند الشافعي الواجب عشر قيمة الأم ذكرا كان أو أنثى قال لأنه إنما يجب البدل باعتبار معنى الجزئية دون النفسية.(26/158)
ألا ترى أنه يتنصف بالأنوثة؟ وهذا لأن اعتبار النفسية في الجنين ليس يبنى على سبب معلوم حقيقة فلا يجب المصير إليه عند الضرورة وذلك في حكم الكفارة لأنها لا تجب باعتبار معنى الجزئية فأما في حكم البدل لا ضرورة فإيجابه ممكن باعتبار الجزئية وهي معلومة حقيقة فكان الواجب عشر دية الأم إذا ثبت هذا في جنين الحرة فكذلك في جنين الأمة لأن القيمة في حق المماليك كالدية في حق الأحرار وفيما ذهبتم إليه تفضل الأنثى على الذكر في ضمان الجنايات ولكنا نقول الجنين في حكم البدل بمنزلة النفوس حتى يكون بدله موروثا عنه وذلك يختص ببدل النفس وبدل النفس يعتبر بحال صاحب النفس والدليل عليه أن جنين أم الولد من المولى يجب فيه الغرة.
ولو كان الوجوب باعتبار صفة الأم لم يجب لأنها مملوكة وكذلك النصرانية إذا كانت في بطنها جنين من زوج مسلم فيضرب إنسان بطنها يلزمه الغرة ولو كان المعتبر حالها لم يجب على أصله لأن دية النصرانية عنده على الثلث من دية المسلم وكذلك لو كانت مجوسية وما في بطنها مسلم بإسلام أبيه فثبت أن المعتبر حاله بنفسه إلا أنه يسوى بين الذكور والإناث لأنه يتعذر في الجنين التمييز بين الذكر والأنثى خصوصا قبل أن يتم خلقه فإن وجوب البدل لا يختص بما بعد تمام الخلقة وكما لا يجوز تفضل الأنثى على الذكر في ضمان الجنايات لا تجوز التسوية باعتبار الأصل ثم جازت التسوية ها هنا بالاتفاق فكذلك التفضيل وهذا لأن الوجوب قطع التسوية لا باعتبار صفة المالكية لأنه لا مالكية في الجنين والأنثى في معنى النشو يسوى بالذكر وربما يكون الأنثى أسرع نشوا كما بعد الانفصال فلهذا جوزنا تفضيل الأنثى على الذكر .(26/159)
ص -80- ... ثم وجوب البدل في جنين الأمة قول أبي حنيفة ومحمد وهو الظاهر من قول أبي يوسف وعنه في رواية أنه لا يجب إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقص وإن لم يتمكن لا يجب فيها شيء كما في جنين البهيمة ولكنا نقول وجوب بدل جنين الآدمية لتحقيق معنى الصيانة عن الهدر وجنين الأمة في ذلك كجنين الحرة وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على اختلافهم في ضمان الجناية على المماليك فإن عند أبي يوسف هو بمنزلة ضمان المال يجب بالغا ما بلغ وعند أبي حنيفة ومحمد هو بدل عن النفس ولهذا لا يزاد على مقدار الدية بحال على ما يأتيك بيانه.(26/160)
وإن خرج الجنين حيا بعد الضربة ثم مات ففيه الدية كاملة لأنه لما انفصل حيا كان نفسا من كل وجه وقتل النفس المؤمنة يوجب الدية والكفارة قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أهْلِهِ} [النساء: 92] ولو قتلت الأم ثم خرج الجنين بعد ذلك منها ميتا ففي الأم الدية ولا شيء في الجنين عندنا وعلى قول الشافعي تجب الغرة في الجنين لأن في إتلاف الجنين لا فرق بين أن ينفصل ميتا وهي حية أو وهي ميتة وقد تبين أن الضارب أتلف بفعله نفسين فيلزمه بدل كل واحد منهما ولكنا إنما أوجبنا البدل في الجنين بالنص بخلاف القياس وورود النص به فيما إذا انفصل منها وهي حية لأنه قال فألقت جنينا ميتا وإنما أضاف الإلقاء إليها إذا كانت حية فبقي ما إذا انفصل بعد موتها على أصل القياس ثم يتمكن الاشتباه في هلاكه إذا انفصل بعد موتها فربما كان ذلك بالضربة وربما كان بانحباس نفسه بهلاكها ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان بخلاف ما إذا كانت حية حين انفصل الجنين ميتا عنها ثم هذا على أصل أبي حنيفة ظاهر لأنه لا يجعل ذكاة الأم ذكاة الجنين فكذلك لا يجعل قتل الأم قتلا للجنين والشافعي جعل ذكاة الأم ذكاة الجنين فكذلك يجعل قتل الأم قتلا للجنين وأبو يوسف ومحمد قالا القياس ما قاله أبو حنيفة ولكنا تركنا ذلك في حكم الذكاة بالسنة ولأن الذكاة تنبني على الوسع فبقي القياس معتبرا في حكم القتل فلا يكون قتل الأم قتلا للجنين وإن كان في بطنها جنينان فخرج أحدهما قبل موتها وخرج الآخر بعد موتها وهما ميتان ففي الذي خرج قبل موتها خمسمائة درهم وليس في الذي خرج بعد موتها شيء اعتبارا لكل واحد منهما بما لو كان وحده وهذا لأنه لا سبب لموت الذي خرج قبل موتها سوى الضربة واشتبه السبب في الذي خرج بعد موتها ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان ثم الذي خرج قبل موتها ميتا لا يرث من دية أمه لأن شرط التوريث بقاء(26/161)
الوارث حيا بعد موت المورث ولها ميراثها منه لأنها كانت حية بعد ما وجب بدل هذا الجنين بانفصاله ميتا فلها ميراثها منه.
وإن كان الذي خرج بعد موتها خرج حيا ثم مات ففيه الدية أيضا لأن الاشتباه زال حين انفصل حيا وقد مات بالضربة بعد ما صار نفسا من كل وجه فتجب فيه الدية كاملة وله ميراثه من دية أمه ومما ورثت أمه من أخيه وإن لم يكن لأخيه أب حي فله ميراثه من أخيه(26/162)
ص -81- ... لأنه كان حيا بعد موتهما فيكون له الميراث منهما ولا قصاص على الأبوين والأجداد والجدات من قبل الآباء والأمهات عندنا.
وقال مالك: إن رمى الأب ولده بسيف أو سكين فقتله فلا قصاص عليه وإن أخذه فذبحه فعليه القصاص لأن وجوب القصاص باعتبار تغليظ الجناية ولهذا اختص بالعمد وجناية الأب أغلظ من جناية الأجنبي لأنه انضم إلى تعمده القتل بغير حق وارتكابه ما هو محظور مع قطيعة الرحم فإذا وجب القصاص على الأجنبي باعتبار تغليظ جنايته فعلى الأب أولى وهو نظير من زنا بابنته فإنه يلزمه من الحد ما يلزمه إذا زنا بالأجنبية لتغليظ جنايته ها هنا بكونها محرمة عليه على التأبيد إلا أن مع شبهة الخطأ لا يجب القود وعند الرمي يتمكن شبهة الخطأ فالظاهر أنه قصد تأديبه لا قتله لأن شفقة الأبوة تمنعه من ذلك بخلاف الأجنبي فليس هناك بينهما ما يدل على الشفقة فجعلنا الرمي من الأجنبي عمدا محضا فأما إذا أخذه فذبحه فليس ها هنا شبهة الخطأ بوجه والدليل عليه أن القصاص يجب على الابن بقتل أبيه فكذلك على الأب بقتل ابنه لأن في القصاص معنى المساواة ومن ضرورة كون أحدهما مساويا للآخر أن يكون الآخر مساويا له وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام: "لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده" وقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في من قتل ابنه عمدا بالدية في ماله ومنهم من استدل بقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" فظاهر هذه الإضافة يوجب كون الولد مملوكا لأبيه.(26/163)
ثم حقيقة الملك تمنع وجوب القصاص كالمولى إذا قتل عبده فكذلك شبهة الملك باعتبار الظاهر وكان ينبغي باعتبار هذا الظاهر أن لا يلزمه الحد إذا زنا بها ولكن تركنا القياس في حكم الحد لأن الحد محض حق الله تعالى وهو جزاء على ارتكاب ما هو حرام محض وبإضافة الولد إلى الوالد تزداد معنى الحرمة فلا يسقط الحد به ولهذا سقط الحد عنه إذا وطى ء جارية الابن لأن إضافة الجارية إليه بالملكية وحقيقة الملك فيها توجب الحل بظاهر الإضافة ويوجب شبهة أيضا فأما حقيقة الملك في محل الحرمة لا يورث الحل فالإضافة لا تورث الشبهة.
يوضحه: أن الملك كما يبيح الوطء يبيح الإقدام على القتل فإن ولي الدم لما ملك نفس من عليه في حكم القصاص كان له أن يستوفى فالإضافة إليه بالملكية توجب شبهة في الفصلين فأما الملك في محل الحرمة فلا يوجب حل الوطء فلا يصير شبهة في إسقاط الحد والمعنى في المسألة أن القصاص يجب للمقتول أو لوليه على سبيل الخلافة عنه والابن ليس من أهل أن يستوجب ذلك على أبيه وبدون الأهلية لا يثبت الحكم وبيان ذلك أنه ليس للابن أن يقتل أباه شرعا بحال ابتداء سواء كان مشركا أو مرتدا أو زانيا وهو محصن لأن الأب كان سبب إيجاد الولد فلا يجوز للولد أن يكتسب سبب إفنائه وفي وجوب القود عليه إتلاف حكما والمقصود منه الاستيفاء دون الوجوب بعينه وهذا لأنه مأمور شرعا بالإحسان(26/164)
ص -82- ... إليهما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] وعليه أن يصاحبهما بالمعروف وإن كانا مشركين لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] وليس القتل من الإحسان والمصاحبة بالمعروف في شيء فكل ذلك ثبت للوالد عليه شرعا ليعرف العاقل بحق الوالد عظيم حق الله تعالى فإن الوالدين كانا سببين لوجوده وتربيته والله تعالى هو الخالق الرازق على الحقيقة فيعرف العاقل بهذا أن مراعاة حق الله أوجب عليه.
وإذا ثبت أنه لا يجب القصاص على الوالد بقتل الولد ثبت أنه لا يجب على الوالدة لأن حقها أوجب فكذلك الأجداد والجدات من قبل الرجال والنساء لمعنى الولادة والحرية بينهم وبين المقتول فإن كان بواسطة فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فعملت الشبهة فيه عمل الحقيقة بخلاف الولد إذا قتل والده فالولد ما كان سببا لإيجاد والده والولد يقابل ما عليه من مراعاة حرمة الوالد بضده فعليه القصاص وهو بمنزلة العبد إذا قتل مولاه يلزمه القصاص والمولى إذا قتل عبده لا يلزمه القصاص وإن منع مالك هذا بغير الكلام فيه فنقول لو وجب القصاص إنما يجب له كما لو قتله غيره ولا يجوز أن يجب له على نفسه.
ألا ترى أنه لو قتل عبده خطأ لم يجب عليه ضمان لأنه لو قتله غيره كان الضمان للمولى فإذا قتله المولى لا يجوز أن يجب له على نفسه ثم على الآباء والأجداد الدية بقتل الابن عمدا في أموالهم في ثلاث سنين.
وقال الشافعي: تجب الدية حالة وإنما لا يعقله العاقلة لقوله عليه السلام: "لا تعقل العاقلة عمدا" يعني الواجب بالعمد ثم قال الشافعي الأصل أن ضمان المتلف يكون على المتلف في ماله حالا كسائر المتلفات إلا أن التأجيل في الدية عند الخطأ ثبت للتخفيف على الخاطئ وعلى عاقلته والعامد لا يستحق ذلك التخفيف فيكون الواجب عليه حالا.(26/165)
ألا ترى أن الوجوب على العاقلة لما كان للتخفيف على القاتل بخلاف القياس لم يثبت ذلك في العمد وهذا لأن وجوب الضمان بمعنى الجبران وحق صاحب النفس في نفسه كان ثابتا حالا فلا جبران في حقه إلا ببدل هو حال ولأن القود سقط شرعا إلى بدل فيكون ذلك البدل حالا كما لو سقط بالصلح على مال وهذا على أصله مستقيم فإنه يجعل فعل الأب موجبا للقود على ما نبينه.
وحجتنا في ذلك أن هذا ما وجب بنفس القتل فيكون مؤجلا كما لو وجب بقتل الخطأ وشبه العمد وهذا لأن المتلف ليس بمال وما ليس بمال لا يضمن بالمال أصلا وإنما عرفنا تقوم النفس بالمال شرعا والشرع إنما قوم النفس بدية مؤجلة في ثلاث سنين والمؤجل أنقص من الحال.
ألا ترى أن في العرف يشتري الشيء بالنسيئة بأكثر مما يشترى بالنقد فإيجاب المال حالا بالقتل يكون زيادة على ما أوجبه الشرع معنى وكما لا يجوز باعتبار صفة العمدية الزيادة في الدية على قدر الحال فكذلك لا يجوز إثبات الزيادة فيه وصفا وبهذا تبين أن التأجيل(26/166)
ص -83- ... ليس لمعنى التخفيف على الخاطئ بل لأن قيمة النفس شرعا دية مؤجلة بخلاف الإيجاب على العاقلة لأنه لا فرق في قيمة النفوس بين أن تكون مستوفاة من العاقلة أو من القاتل فكان الإيجاب على العاقلة لمعنى التخفيف على القاتل وهذا بخلاف المال الواجب بالصلح فإن ذلك يجب بالعقد ولهذا لا يتقدر بمقدار شرعا حتى لو وقع الصلح بأكثر من الدية قدرا جاز فكذلك إذا التزمه بمطلق العقد يكون ذلك حالا بمنزلة الأعواض في سائر العقود وإن كان الوالد قتل ولده خطأ فالدية على عاقلته وعليه الكفارة في الخطأ ولا كفارة عليه في العمد عندنا لأن فعله محظور محض كفعل الأجنبي والمحظور المحض لا يصلح سببا لإيجاب الكفارة عندنا على ما نبينه.
فإن قيل: فأين ذهب قولكم إن وجوب الكفارة بطريق السكر لما سلم الشرع له نفسه فأسقط القود عنه فقد وجد هذا المعنى ها هنا وقلتم بأنه لا تجب الكفارة؟.
قلنا: إسقاط القود عنه شرعا متى كان بطريق العذر له والتخفيف عليه كان موجبا للكفارة وها هنا امتناع وجوب القود عليه لانعدام الأهلية فيمن يجب له لا بطريق التخفيف والعذر للأب فبقي فعله حراما محضا لا شبهة فيه فلا يكون موجبا للكفارة وكذلك إن كان المولى قتل مملوكه عمدا وكذلك إن كان الولد مملوكا لإنسان فقتله أبوه عمدا فلا قصاص عليه لمولاه لأن وجوب القصاص للمولى بطريق الخلافة عن المقتول فإنه ينزل من المملوك منزلة وارث الحرمة.(26/167)
فإذا اشترك الرجلان في قتل رجل أحدهما بعصا والآخر بحديدة فلا قصاص على واحد منهما هكذا نقل عن إبراهيم وهذا لأن القتل بالعصا لا يصلح أن يكون موجبا للقصاص لأن القصد به التأديب والآلة آلة التأديب فهو بمنزلة فعل الخاطئ والخاطئ والعامد إذا اشتركا في القتل لم يجب القصاص عليهما لأنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فقد انزهقت الروح عقيب فعلين أحدهما ليس بسبب لوجوب العقوبة ولا يدرى أنه بأي الفعلين أزهق الروح فيمكن الشبهة من هذا الوجه فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وبعد سقوط القصاص يجب المال فيتوزع عليهما نصفان وليس أحدهما بإضافة القتل إليه بأولى من الآخر ولا يقال ينبغي أن يضاف القتل إلى فعل من استعمل السلاح فيه لأن السلاح آلة للقتل دون العصا وهذا لأن الإنسان قد يسلم من الجرح بالحديد ويتلف من الضرب بالعصا فهو بمنزلة ما لو جرحه رجلان أحدهما جراحة واحدة والآخر عشرة جراحات فإنه يجعل القتل مضافا إليهما على السواء لهذا المعنى ثم كل واحد منهما فيما لزمه من نصف الدية يجعل كالمنفرد به فنصف الدية على صاحب الحديدة في ماله ونصفها على صاحب العصا على عاقلته.
وكذلك لو قتلاه بسلاح وأحدهما صبي أو معتوه فلا قصاص عليهما عندنا وهو أحد قولي الشافعي وفي قوله الآخر يجب القود قياسا على العاقل البالغ بناء على قولين في عمد الصبي على ما بينا فأما الأب مع الأجنبي أو المولى مع الأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد(26/168)
ص -84- ... والمملوك فلا قصاص على واحد منهما عندنا وقال الشافعي يجب القصاص على الأجنبي لأنهما قاتلاه عمدا محضا مضمون فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به في حكم القصاص كالأجنبيين عفا عن أحدهما أو بسقوط القود عن أحدهما لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كالأجنبيين إذا عفا عن أحدهما وتفسير العمد من وجهين أحدهما أنه عبارة عن فعل يترتب على قصد صحيح إليه وبالأبوة والملك لا ينعدم القصد الصحيح إلى الفعل وهذا لأن ضد العمد الخطأ فإذا كان الخطأ ما يكون عن غير قصد من الفاعل إليه بعينه عرفنا أن العمد ما يكون عن قصد وعلى هذا نقول يجب القصاص على شريك الصبي والمجنون لأن للصبي والمجنون قصدا صحيحا فكان فعلهما عمدا وللعمد تفسير آخر في القتل شرعا وهو أنه محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة لأن المتعلق به شرعا العقوبة.
قال عليه السلام: "العمد قود" ولا تجب العقوبة إلا جزاء على فعل هو محظور محض وفعل الأب والمولى محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة لأن في حق الأب قد انضم إلى ارتكاب الفعل المحرم معنى قطيعة الرحم وفي حق المولى انضم إلى الفعل المحرم الإتيان بضد ما أمر به من الإحسان إلى المماليك والقتل لا يحل بملك المالكية بحال فلا يتمكن بسببه شبهة فيه بمنزلة من شرب خمر نفسه يلزمه الحد لأنه لا أثر للملك في إباحة شرب الخمر فلا يخرج الفعل باعتباره من أن يكون محظورا محضا وعلى هذا الطريق لا يجب القود على شريك الصبي والمعتوه لأن فعلهما لا يوصف بأنه محظور محض.(26/169)
وفي الحقيقة: الكلام ينبني على أن فعل الأب موجب للقود عنده ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الآخر لأن عند أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر والدليل على ذلك أن سبب القود شرعا هو العمد وثبوت الحكم بثبوت السبب فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع ثبوت الحكم أيضا وإنما لا يستوفى لكيلا يكون الولد سبب إفناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب إيجاده وهذا في حقيقة الاستيفاء دون الوجوب فيثبت الوجوب حكما للسبب ثم يتعذر الاستيفاء لهذا المعنى فيسقط شرعا والدليل عليه أن عندكم لا تجب الكفارة على الوالد ولو لم يكن الفعل موجبا للقود لوجبت الكفارة به وأن الأب لو قتل ابنه عمدا كان الولد شهيدا لا يغسل وإنما لا يغسل إذا كان القتل غير موجب للمال بنفسه وهذا بخلاف الخاطئ مع العامد لأن فعل الخاطئ غير موجب فاختلط الموجب بغير الموجب في المحل فيمكن الشبهة لاتحاد المحل يقرره أن الخطأ معنى في الفعل.
ألا ترى أنه يوصف الفعل به فيقال قتل خطأ وقد اجتمع الفعلان في محل واحد فأما الأبوة فمعنى في الفاعل.
ألا ترى أن الفاعل يوصف به فيقال أب قاتل فأحد الفاعلين متميز عن الآخر وحجتنا في ذلك أن هذا القتل ثم موجب للدية فلا يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا(26/170)
ص -85- ... اشتركا وبيان الوصف أن الواجب على الأب بهذا الفعل الدية لا غير فإنه هو الذي يستوفى منه وإنما يراد بالوجوب الاستيفاء فإذا كان لا يستوفى منه إلا الدية عرفنا أنه موجب للدية والدليل على أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص أن السبب لا ينعقد موجبا لحكمه إلا في محل صالح له وبعد صلاحية المحل لا يكون موجبا للحكم إلا باعتبار الأهلية فيمن يجب له وفيمن يجب عليه.
ألا ترى أن الإتلاف كما لا يكون موجبا للضمان بدون محل صالح له وهو المال المتقوم لا يكون موجبا بدون الأهلية فيمن يجب له وفيمن يجب عليه حتى أن المسلم إذا أتلف مال مسلم لا أمان له أو الحربي إذا أتلف مال المسلم لا يجب الضمان والبيع كما لا ينعقد شرعا إلا في محل صالح لا ينعقد إلا بعد وجوب الأهلية فيمن يباشره إذا عرفنا هذا فنقول العمد موجب للقود بشرط الأهلية فيمن يجب له وعليه وذلك لا يوجد في قتل الصبي والمجنون لانعدام الأهلية فيمن تجب عليه العقوبة ولا في قتل الأب لانعدام الأهلية فيمن تجب له على ما بينا أن الولد لا يكون من أهل أن يجب له القتل على والده لأن في الإيجاب استحقاق نفسه شرعا وإذا لم يكن هو أهلا لمباشرة إتلافه حقيقة بصفة الإباحة لا يكون أهلا لاستحقاق إتلافه شرعا فلا يكون فعله موجبا للقصاص لانعدام الأهلية ولهذا كان موجبا الدية المغلظة في ماله لأنه خرج من أن يكون موجبا للقود لانعدام الأهلية فيمن يجب له وذلك لا يوجد في الدية ولهذا لم يكن موجبا للكفارة لأن انعدام وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له الشبهة في أصل الفعل فلا يخرج من أن يكون محظورا وفي غسله روايتان في إحدى الروايتين عن أبي يوسف يغسل لأن الغسل موجب للمال وفي الرواية الأخرى لا يغسل لأن امتناع وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له وذلك لا يتعدى إلى حكم الغسل فإن قيل: هذا ممنوع فإن الولد يرث القصاص على أبيه حتى يسقط وبدون الأهلية لا يجب(26/171)
الحق للوارث.
قلنا: هذا فاسد لأنه إنما لم يكن أهلا لإيجاب القود على الأب لما فيه من إتلافه حكما وهذا لا يوجد في الوراثة لأن الإتلاف الحكمي كان ثابتا قبل أن يرثه الولد بل في ثبوت الإرث للولد إحياء للأب حقيقة وحكما فإنه يسقط القود إذا ورثه الابن ولا يسقط إذا لم يرثه وهو نظير الولد في أنه لا يسترق والده ثم يشتري والده المملوك فيعتق عليه والدليل عليه أن الأبوة لو طرت على قصاص موجب أسقطته وإذا اقترنت بالسبب دفعت الوجوب بطريق الأولى لأن تأثير الشيء في الحكم مقترنا بالسبب أقوى من تأثيره طارئا على السبب.
وإذا ثبت أن فعل الأب غير موجب عرفنا أنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فكان كالخاطئ مع العامد بخلاف ما إذا عفا عن أحد القاتلين وقوله الأبوة معنى في الفاعل لا معتبر به فإنه وإن كان في الفاعل فقد تعدى إلى الفعل حتى أخرجه من أن يكون موجبا فهو نظير الخطأ في الفاعل بأن رمى إلى إنسان يظنه كافرا وهو مسلم فإن الخطأ ها هنا(26/172)
ص -86- ... باعتبار معنى في الفاعل ولكن لما تعدى إلى الفعل صار ذلك شبهة في حق شريكه في الفعل فكذلك ها هنا.
والدليل عليه أن مسلمين لو رميا إلى صيد أحدهما بسهم والآخر ببندقة لم يحل تناول الصيد وكذلك لو رمى مسلم ومجوسي إلى الصيد وفي أحد الموضعين الحرمة باعتبار معنى في الفعل وفي الموضع الآخر باعتبار معنى في الفاعل وهو كونه مجوسيا لكن لما تعدى إلى الفعل التحق بالمعنى الذي هو في الفعل في إيجاب الحرمة فهذا مثله.
ولو اشترك عشرة رهط في قتل رجل خطأ كانت الدية على عاقلتهم في ثلاث سنين لأن وجوب الدية لصيانة المحل عن الهدر فالمحل واحد وبإيجاب دية واحدة عليهم يتم معنى الصيانة ثم الواجب على كل واحد منهم جزء مما هو مؤجل في ثلاث سنين وهو بدل النفس فهو بمنزلة ما لو اشترى عشرة نفر شيئا بثمن مؤجل إلى ثلاث سنين فإنه ثبت تمام الأجل في حق كل واحد منهم وهذا لأن كل ثلث من بدل النفس مؤجل في سنة والواجب على كل واحد منهم عشر كل ثلث إلا أن يكون الواجب على بعضهم من الثلث الذي هو مؤجل إلى سنة أو من الثلث الثاني خاصة.(26/173)
ولو أقر رجل بقتل خطأ أو شبه عمد كانت الدية عليه في ماله في ثلاث سنين لأن العاقلة لا تعقل ما يجب بالاعتراف لقوله عليه السلام: "ولا اعترافا" وهذا لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإنما يحمل على الصدق في حق المقر خاصة لانتفاء التهمة فأما في حق عاقلته فهو محمول على الكذب وله ولاية على نفسه في الالتزام قولا دون عاقلته وكل جناية عمد فيما دون النفس لا يستطاع فيها القصاص أو شبه عمد فالأرش في مال الجاني مغلظا أما في العمد فلا يشكل وأما في شبه العمد فلأن شبه العمد لا يتحقق فيما دون النفس وإنما يتحقق في النفس خاصة فإن ذلك حكم ثابت بالنص وإنما ورد النص به في أبو حنيفة رحمه الله لا يكفي لأن ذكر الصناعة ليس بشيء فقد يتحول الإنسان من صناعة إلى صناعة فإن كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وإن لم يعرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لأن المقصود إعلام عدالتهم للقاضي المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وإن حلاهم فحسن وإن ترك التحلية لم يضر لأن المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم والنسب إلا أنه إذا كان من رأي الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك ما لا يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فإن أراد الذي جاء به من المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لأن شهادة الشهود تثبت عنده بالكتاب فكأنه تثبت بسماعه منهم.
وكما جوزنا الكتاب من القاضي الأول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لأن الخصم قد يهرب إلى بلدة أخرى قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه وإذا سمع القاضي شهادة الشهود وكتب بها إلى قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه لم يحكم بذلك(26/174)
ص -87- ... عليه، لأن سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع إذا استقصى بعد ما شهد الأصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضي بذلك وهذا لأن جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لا بينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا يكون ذلك إلا بمحضر من الخصم بعد إنكاره أو سكوته القائم مقام إنكاره فإن أعاد المدعي تلك البينة بمحضر من الخصم فالآن يقضي له بها لأن شرط قبول البينة للقضاء إنكار الخصم وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الأداء وجوده كعدمه.
وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه إلا أن يكون من رأيه لأن الأول لم يحكم به وإنما نقل الشهادة بكتابه إلى مجلسه فلا يحكم به إلا إذا كان ذلك من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده على شهادة الأصول وهذا بخلاف ما إذا كان الأول قد قضى به وأعطى الخصم سجلا فالثاني ينفذ ذلك وإن لم يكن من رأيه لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ.
ألا ترى أنه ليس للأول أن يبطل قضاءه وإن تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب الأول ما قضى بشيء.
ألا ترى أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى الثاني وإن الخصم لو حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيء فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه إلا أن يكون ذلك من رأيه ولا يقبل كتاب القاضي في شيء من الحدود والقصاص لأن ذلك مما يندرئ بالشبهات الشرع ما أمرنا بالانتظار إضرارا بالمضروب فلو لم يقبل قوله فيما يظهر في ذلك المحل أنه حادث بتلك الضربة لرجع ذلك إلى الإضرار به.(26/175)
ولو شج رجلا موضحة فصارت منقلة فقال المضروب صارت منقلة من ذلك وقال الضارب حدثت فيها من غير فعل أحد فالقول قول الضارب بخلاف السن على طريقة الاستحسان لأن ها هنا فعل المضارب إنما عمل في اللحم دون العظم والمنقلة ما يكون عاملا في العظم فالضارب ينكر فعله في هذا المحل والظاهر يشهد له لأن الفعل في المحل لا يؤثر فعلا آخر إلا نادرا فأما في الأول فإنما اسودت السن التي حلت الضربة بها فالظاهر شاهد للمضروب هناك.
وإذا قلع الرجل سن رجل أو صبي ثم نبتت فلا شيء على القالع لأنه لم يبق لفعله أثر وعن أبي يوسف رحمه الله قال يلزمه حكومة عدل باعتبار الألم الذي لحقه وكذلك الظفر إذا قلعه فنبت فليس فيه حكومة عدل ولا أرش لأنه لم يبق فيه أثر وإن نبتت السن سوداء ففيها أرش كامل لأن الثابتة قائمة مقام المقلوعة فكأن الأولى باقية قد اسودت وإن نبت الظفر أغور ومتغيرا ففيه حكومة عدل بمنزلة الأول لو أغور بالضربة أو تغير وهذا لأنه ليس في الظفر منفعة مقصودة وإنما يكون فيه مجرد الجمال فإذا اسود أو تغير ينتقص معنى الجمال ولا يكون السواد في الظفر دليل موت الظفر.(26/176)
ص -88- ... ألا ترى أن في أنواع بني آدم من يكون ظفرهم أسود خلقة حتى قالوا إذا كان المضروب من ذلك النوع ينبغي أن لا يجب شيء لأنه لا ينتقص في حقه معنى الجمال قال وإذا قلع الرجل سن رجل خطأ فأخذ المقلوع سنه فأثبتها مكانها فثبتت فعلى القالع أرشها لأنها وإن ثبتت لا تصير كما كانت.
ألا ترى أنها لا تتصل بعروقها ولهذا جعل محمد رحمه الله تلك السن كالميتة حتى قال إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته معها وفرق أبو يوسف رحمه الله بين ما إذا أثبت في موضعها سن نفسه أو سن غيره في حكم جواز الصلاة وقال بينهما فرق ولا يحضرني وكذلك الإذن إذا أعادها إلى مكانها لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل وإن التصقت.
فأما إذا ابيضت العين من ضربة رجل ثم ذهب البياض منها فأبصر فليس على الضارب شيء لأنه عاد إلى ما كان عليه في الأصل ولم يبق إلا الألم الذي لحقه بالضربة وباعتبارها لا يجب شيء وإنما يجب باعتبار الأثر في المحل ولم يبق ولو شجه موضحة خطأ فسقط منها شعر رأسه كله فلم ينبت فعلى عاقلته الدية تامة لإفساد المنبت ويدخل أرش الشجة في ذلك عندنا وقال زفر رحمه الله لا يدخل لأن الشجة موجبة للضمان بنفسها وكذلك إفساد منبت الشعر جناية على حدة ولا تدخل في أرش الجنايات فيما دون النفس ولكنا نقول وجوب أرش الموضحة باعتبار ذهاب الشعر دليل أنه لو نبت الشعر على ذلك الموضع واستوى كما كان لا يجب شيء.(26/177)
وإذا وجب كمال بدل النفس باعتبار ذهاب الشعر لا يجب ما دونه باعتباره أيضا فإن كان ذهب من الشعر بعضه فعلى الجاني الأكثر من أرش الشعر ومن أرش الشجة ويدخل الأقل في ذلك لأن إيجاب الأكثر يتحقق باعتبار السبب معنى كما بينا وكذلك إن كان في الحاجب فإن الموضحة في الوجه والرأس سواء والآمة لا تكون إلا في الرأس أو الموضع الذي يتصل بالدماغ من الوجه والجائفة لا تكون إلا في الظهر والبطن والجنب أو في الموضع الذي يتصل بالجوف حتى لو جرحه بين ذكره ودبره جراحة واصلة إلى جوفه تكون جائفة فأما في الفخذ والعضد فلا تتحقق الجائفة وكذلك في العنق وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله قال إذا وصلت الجراحة إلى موضع يحصل الفطر للصائم بوصول المفطر إليه تكون جائفة وإن كان لا يحصل له الفطر بوصول المفطر إليه لا تكون جائفة ولو شجه فذهب من ذلك عقله فإنه يلزمه الدية باعتبار ذهاب العقل ويدخل فيه أرش الموضحة عندنا وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يدخل لاختلاف محل الجناية فإن محل الموضحة غير محل العقل بخلاف الشعر مع الموضحة ولكنا نقول ذهاب العقل في معنى تبديل النفس وإلحاقه بالبهائم فيكون بمنزلة الموت ولو شجه موضحة فمات من ذلك لزمه كمال الدية ودخل فيه أرش الشجة فأما إذا ذهب من الشجة سمعه أو بصره أو كلامه يلزمه الدية باعتبار هذه الأشياء ولا يدخل أرش(26/178)
ص -89- ... الشجة في ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال وفي السمع والكلام يدخل أرش الشجة في الدية وفي البصر لا يدخل لأن البصر ظاهر كالموضحة فقد يباين المحل حقيقة وحكما فأما السمع والكلام فمعنى باطن بمنزلة العقل فكما يدخل أرش الموضحة في الدية الواجبة بإذهاب العقل فكذلك فيما تجب بإذهاب السمع والكلام ولكنا نقول محل السمع غير محل الشجة وكذلك محل الكلام وبتفويتهما لا تتبدل النفس وإنما تجب الدية لتفويت منفعة مقصودة منهما فيكون بمنزلة ذهاب البصر بالشجة فإن ذهب بالشجة العقل والسمع والكلام والبصر فإنه يجب عليه أربع ديات.
وقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على رجل بأربع ديات والمجني عليه حي
فإن قيل: كيف يستقيم هذا ولو مات من الشجة لا يلزمه إلا دية واحدة وبموته فاتت هذه المنافع ثم لم يلزمه إلا دية واحدة فبفوات هذه قد ذكروا أكثر الحدود وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد إعلام الطول يصير معلوما أيضا وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفى بذكر الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لأن المشهود به بما ذكروا صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعى شراء شيء بثمن منقود فإن الشهادة على ذلك تقبل وإن سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن.(26/179)
ولو ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وإن لم يحدوها ونسبوها إلى اسم معروف لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن التعريف بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب في الآدمي ثم هناك الشهرة تغني عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فأما مقدار المشهود به لا يصير معلوما إلا بذكر الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا أن الدار المشهودة قد يزاد فيها وينتقص منها ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيه ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى إعلام أصله بالشهرة يصير معلوما.
ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان ابن فلان الفلاني كذا كذا أجرته لأن المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة تتعطل بالرق وإنما ينسب إلى مالكه ألا ترى أن الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الاسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك إن نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية فكذلك في العبد وإن جاء بالكتاب أن العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل.(26/180)
ص -90- ... قال: وقال محمد رحمه الله لا يجوز عندنا كتاب القضاة في شيء بعينه لا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فأما فيما سوى ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لأن الإشارة إلى عينه عند الدعوى والشهادة شرط ولهذا لا بد من إحضاره بمجلس القضاء.
وإذا أتى كتاب القاضي إلى القاضي وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه لأنه لو كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه وإنما يصير معلوما المحلان من نفس واحدة في معنى نفسين فكما أنه إذا قطع يد إنسان فأصاب السكين يد آخر فقطع يده يجب الأرش للثاني والقصاص للأول فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه جناية وسرايتها وقد تعذر إيجاب القصاص باعتبار سرايتها فلا يجب القصاص باعتبار أصلها كما لو قطع مفصلا فشلت الأصبع وهذا لأن السراية أثر الجناية وهو مع أصل الجناية في حكم فعل واحد فالدليل على أنه سرايتان أن فعله أثر في نفس واحدة والسراية عبارة عن آلام تتعاقب من الجناية على البدن وذلك يتحقق في نفس واحدة في موضعين منها كما يتحقق في الطرف مع أصل النفس إذا مات من الجناية بخلاف النفسين فإن الفعل في النفس الثانية مباشرة على حدة ليس بسراية الجناية الأولى إذ لا تتصور السراية من نفس إلى نفس فلا بد من أن يجعل ذلك في حكم فعل على حدة وهو خطأ ثم يعتبر حكم كل فعل بنفسه والدليل عليه أن منفعة كل أصبع تتصل بمنفعة الأخرى كما أن منفعة الأصابع تتصل بمنفعة الكف وكذلك هذا في اليدين من نفس واحدة بخلاف النفسين فلا اتصال لمنفعة إحداهما بالأخرى.(26/181)
وذكر في الجامع الصغير أنه لو شجه موضحة عمدا فذهب من ذلك بصره فلا قصاص عليه في الموضحة عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن عليه الأرش فيهما ونقل عن أبي يوسف ومحمد أن عليه القصاص في الموضحة والدية في البصر وهو نظير ما بينا وقد روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في هذا الفصل أنه يجب القصاص فيهما لأن إذهاب البصر عمدا يوجب القصاص وقد بينا أن سراية الفعل لا تخالف أصل الفعل في الصفة بخلاف الشلل فإن الشلل غير موجب للقصاص فعلى هذه الرواية عن محمد لو قطع أصبعا منه عمدا فقطعت أصبع أخرى يجب القصاص فيها أيضا بخلاف ما إذا شلت أخرى لأن في تفويت أصل الأصبعين عمدا القصاص والسراية بصفة أصل الفعل وليس في تفويت المنفعة بالشلل قصاص فمن هذا الوجه يقع الفرق.
ولو شجه موضحة فصارت منقلة أو كسر بعض سنه فاسود ما بقي أو قطع الكف فشل الساعد فلا قصاص في شيء من ذلك لأن محل السراية ها هنا متصل بمحل الجناية فكان الفعل واحدا حقيقة وحكما وباعتبار ماله يتعذر إيجاب القصاص إذ لا قصاص في كسر العظم وسواد السن والشلل وقيل يلزمه الأرش في جميع ذلك.(26/182)
ص -91- ... وإذا شجه منقلة عمدا وهو من أهل الإبل غلظ عليه في الأسنان فجعل عليه عشر من الإبل أرباعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وكذلك على هذا القياس في الآمة وغيرها اعتبارا للجزء بالكل فإن صفة التغليظ ثابتة في جميع الدية باعتبار صفة العمدية فثبت في أبعاضها وإن كان ذلك خطأ وجب الأرش أخماسا اعتبارا للبعض بالكل إلا أن في العمد تجب في ماله وفي الخطأ يجب على عاقلته إذا بلغ الواجب أرش الموضحة وكذلك ينبغي على طريقة القياس منها دون أرش الموضحة أن يكون على العاقلة وبالقياس أخذ الشافعي رضي الله عنه لأنه اعتبر الجزء بالكل واعتبر ضمان إتلاف النفس بضمان إتلاف المال فإنه لا فرق فيه بين القليل والكثير في حق من يجب عليه ولكنا استحسنا فجعلنا ما دون أرش الموضحة عليه في ماله لما روينا من الأثر فيه.
وإذا كان القاتل خطأ من أهل الإبل فصالح على أكثر من عشرة آلاف درهم أو أكثر من ألف دينار نقدا أو نسيئة لم يجز أن يعطى أكثر من الدية لأن مقدار الواجب من الدية ثابت بالنص فلا تجوز الزيادة عليه لما في الصلح على الزيادة من معنى الربا وبأن كان القاتل من أهل الإبل لا تخرج الدراهم والدنانير من أن تكون أصلا في الدية في حقه وعند الصلح على الدراهم يجعل كأنهما عينا الدراهم أولا ثم صالحه على أكثر من ذلك فيكون ربا وكذلك لو كان من أهل الورق فصالح على أكثر من ألف دينار أو أكثر من مائة من الإبل فالصلح باطل لأن عند الاتفاق على أحد الأصناف يتعين ذلك الصنف الواجب منه مقدر شرعا فالزيادة عليه تكون ربا.(26/183)
فأما في العمد الموجب للقود إذا أوقع الصلح على أكثر من الدية يجوز عندنا وفي أحد قولي الشافعي لا يجوز بناء على ما تقدم أن في أحد قوليه الواجب في العمد أحد شيئين يتعين ذلك باختيار الولي وإذا اختار الدية وهي مقدرة شرعا لا تجوز الزيادة عليها بطريق الصلح وعندنا الواجب هو القود لا غير فالمال الذي يلتزمه يكون عوضا عن القود ولا ربا بين ما ليس بمال وبين ما هو مال والدليل على جواز هذا الصلح ما روي أن فارسا من فرسان المسلمين قتل رجلا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فلما خرج ليقتل رأت الصحابة الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا وصالحوا أولياء القتيل على ديتين دية يعطيها القاتل ودية يتبرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدائها فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو صالحه في الخطأ أو العمد على خمسين من الإبل جاز أما في العمد فلا يشكل وفي الخطأ لأنه أسقط بعض الواجب ولو أسقط الكل بالعفو لجاز فكذلك إذا أسقط البعض.
وكذلك لو صالحه على خمسمائة دينار قبل أن يقضي عليه بالدراهم وقال إنما صالحتك عن الدية على ذلك فهو جائز بطريق الإسقاط كأنهما عينا الدنانير ثم أسقط عنه النصف ورضي بالنصف ويكون الباقي مؤجلا في ثلاث سنين سواء ذكر الأجل أو لم يذكره أما إذا لم(26/184)
ص -92- ... يذكر الأجل فلأن هذا الصلح إبراء عن البعض وليس فيه تعرض لما بقي فيبقى ما بقي على الوجه الذي كان عليه الكل في الابتداء وهو أنه مؤجل في ثلاث سنين وكذلك إن شرط الأجل فيما بقي من ثلاث سنين لأن هذا الشرط يقرر مقتضى مطلق العقد ولا يقال هذا في معنى نسيئة بنسيئة لأن ذلك عند تمكن المبادلة ولا مبادلة ها هنا إنما هو إسقاط نصف الواجب فقط فأما إذا كان من أهل الإبل فقضي عليه بالإبل فصالحه من ذلك على شيء من العروض أو الحيوان بعينه بعد أن لا يكون مما فرض عليه الدية كان جائزا وإن كان أكثر من الدية أضعافا ويأخذه حالا لأن هذا استبدال بدين لا يستحق قبضه في المجلس ولا هو في حكم المبيع فيكون ذلك صحيحا وبنفس الاستبدال يملكه عينا والأجل في العين لا يتحقق.
وكذلك لو كان من أهل الورق أو الذهب فقضى عليه بشيء من ذلك ثم صالحه على عين من جنس آخر جاز وإن جعل لما وقع عليه الصلح أجلا بأن صالحه على طعام موصوف في الذمة مؤجل لا يجوز لأنه بدل عما قضي عليه به من الدراهم أو الدنانير فيكون هذا شراء دين بدين وذلك حرام وكذلك إن قضى عليه بدراهم ثم صالحه على دنانير بعينها أكثر من ألف دينار أو أقل من ألف دينار يجوز بعد أن يقبض ذلك في المجلس وإن صالحه على دنانير مؤجلة لا يجوز لأنه صرف ولأنه دين بدين.
وإذا أقر الرجل أنه قتل رجلا خطأ وادعى وليه العمد فله الدية في ماله استحسانا وفي القياس لا شيء له وهو قول زفر رحمه الله وجه القياس أن الولي ادعى عليه القود وهو منكر وهو أقر له بالمال وقد كذبه الولي في ذلك فلا يجنب شيء.(26/185)
ألا ترى أنه لو أقر بالعمد وادعى الولي الخطأ لم يجب شيء فكذلك ها هنا وجه الاستحسان أن الولي يتمكن من أخذ المال الذي أقر له به القاتل مع إصراره على دعواه بأن يقول حقي في القصاص ولكنه طلب مني أن آخذ المال عوضا عن القصاص وذلك جائز فعرفنا أنه ما صار مكذبا له فيما أقر به فأما إذا ادعى الولي الخطأ وأقر القاتل بالعمد فإن الولي لا يمكنه أن يأخذ المال لأن القاتل يجحد موجب ذلك ولا يمكنه أن يأخذ القصاص مع إصراره على الدعوى لأن استيفاء القصاص عوض عن المال.
يوضح الفرق أن الولي حين ادعى العمد فقد ادعى أصل القتل والصفة والمقر بالخطأ صدقه فيما ادعى من أصل القتل وجحد ما ادعى من صفة العمدية فلا يعتبر تصديقه في أصل القتل بعد ما كذبه في الصفة لأن موجب الأصل الذي صدقه فيه يخالف موجب الأصل بالصفة التي كذبه فيها وكذلك هذا الحكم فيما دون النفس مما يجب في العمد منه القصاص.
وإذا قتل النائم إنسانا بأن سقط عليه أو كان بيده شيء فضربه وهو نائم فعلى عاقلته الدية وعليه الكفارة قال وهذا خطأ وقد بينا أنه في معنى الخطأ في الحكم دون الخطأ حقيقة فإن النائم ليس من أهل القصد أصلا إلا أنه أوجب عليه الكفارة وجعله محروما من الميراث لتوهم أن يكون تناوم ولم يكن نائما حقيقة وهذا معتبر في حرمان الإرث وأما الكفارة فلتركه(26/186)
ص -93- ... التحرز في موضع يتوهم أن يصير قاتلا لإنسان في نومه بهذه الطريق وقد بينا أن الكفارة في الخطأ إنما وجبت لترك التحرز والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الديات
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بالقتل خطأ وشهد الآخر على إقرار القاتل بذلك فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به فإن أحدهما شهد بفعل والآخر بقول والقول غير الفعل وواحد منهما لا يثبت عند القاضي إلا باتفاق الشاهدين عليه.
وكذلك لو شهدا على القتل واختلفا في الوقت أو المكان فإن الشهادة لا تقبل لأن الفعل لا يحتمل التكرار خصوصا القتل في محل واحد فكل واحد منهما يشهد بفعل غير ما يشهد به صاحبه وذلك يمنع قبول الشهادة كشهود الغصب إذا اختلفوا في المكان والزمان ثم ها هنا القاضي يوقن بكذب أحدهما لأنه بعد ما قبل في يوم وفي مكان لا يتصور أن يقبله في مكان آخر في يوم آخر وبعد ما تيقن القاضي بكذب الشاهد لا يجوز له أن يقضي بشهادته.
وكذلك لو اختلفا فيما قتله به فقال أحدهما كان بحجر وقال الآخر بعصا لأنهما اختلفا في المشهود به فالقتل بالحجر غير القتل بالعصا حقيقة وإن كان حكمهما واحدا وكذلك لو قال أحدهما قتله عمدا وقال الآخر قتله خطأ فقد اختلفا في المشهود به لأن الخطأ غير العمد وحكمهما مختلف.
وكذلك لو قال أحدهما: قتله بعصا وقال الآخر: لا أحفظ الذي كان به القتل لأن الذي قال لا أحفظ ضيع بعض شهادته ولأنه شاهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه.(26/187)
ألا ترى أنه يتمكن من أن يبين أنه قتله بالسلاح ولا يكون هذا البيان منه مخالفا لأول كلامه ولو قال الآخر مثل ذلك كان مناقضا في كلامه فعرفنا أنه شاهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه فلا تقبل الشهادة وإن قالا جميعا لا ندري بم قتله فهو مثل الأول في القياس لأنهما أقرا أنهما ضيعا شهادتهما ولأن شرط قبول الشهادة اتفاقهما على فعل واحد ولا يكون ذلك إلا بأن يتفقا على آلة واحدة لأن الفعل بدون الآلة لا يتحقق واتفاقهما على آلة واحدة لا يثبت بدون التنصيص فأما إذا قالا لا ندري فبهذا اللفظ لا يثبت الاتفاق على آلة واحدة لجواز أنهما إذا بين كل واحد منهما ولم يكن بيانه ذلك مخالفا لأول كلامه والمحتمل لا يثبت إلا بحجة ولكنا نستحسن أن نجيز شهادتهما ونوجب عليه الدية في ماله لأن الشرط اتفاقهما فيما صرحا به في شهادتيهما وذلك أصل القتل وقد ثبت بنص لا احتمال فيه وأصل القتل موجب للدية فاتفاقهما عليه يكون اتفاقا على هذا الموجب فأما القصاص فإنما يجب باعتبار صفة العمدية ولم يتعرض الشهود لذلك وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص فتوهم اختلاف الآلة إنما يعتبر في المنع من الحكم بالقصاص لا في المنع من الحكم بالمال(26/188)
ص -94- ... فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولكن الدية هنا في ماله لأن في تحمل العاقلة عنه معنى الشك والاحتمال فإنه إذا كان عمدا لا تتحملها العاقلة ومع الشك يتعذر إيجابها على العاقلة فكانت في ماله.
يوضحه: أن الظاهر أن الشاهدين عرفا الآلة وأن الفعل كان عمدا بسلاح لأنهما شهدا بقتل مطلق والفعل المطلق يكون بآلته وآلة القتل السلاح وكذلك الفعل المطلق يكون من العامد إلا أنهما سترا ذلك لدرء القود ويحمل الولي على أن يكتفي بالدية وقد ندبا إلى ذلك بالشرع فلا يكون مبطلا شهادتهما بل يقضي بالدية في مال القاتل كما هو موجب شهادتهما وشهادة امرأتين مع رجل جائزة في قتل الخطأ وفي كل ما ليس فيه قصاص ولا تجوز فيما فيه قصاص.
وكذلك الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي لأن القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وفي شهادة النساء ضرب شبهة لأن الضلالة والنسيان يغلب عليهن وكذلك في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي لأنهما بدل وفي البدل القائم مقام الأصل ضرب شبهة فلا يثبت به ما يندرئ بالشبهات ويثبت به ما لا يندرئ بالشبهات وهو المال ثم بهذه الشهادة إذا تعذر القضاء بالقصاص لا يقضي بالمال بخلاف مسألة الإقرار فإن القاتل إذا أقر بالخطأ بعد ما ادعى الولي العمد يقضى بالمال لأن ها هنا تعذر القضاء بالقود لمعنى من جهة الولي وهو اشتغاله بإقامة حجة فيها شبهة والولي لا ينفرد بأخذ المال بدون رضا القاتل وهناك تعذر القضاء بالقود لمعنى من جهة القاتل وهو إقراره بالخطأ فينزل ذلك منزلة الرضا منه بأخذ المال وللولى أن يأخذ المال مكان القصاص برضا القاتل.
يوضحه: أن الإقرار موجب للحق بنفسه من غير قضاء القاضي فيتمكن الولي من أخذ ما أقر به القاتل وهو المال فأما الشهادة فلا توجب شيئا بدون قضاء القاضي والقاضي إنما يقضي بما شهد به الشهود وقد تعذر عليه القضاء بذلك ها هنا لمكان الشبهة فلا يقضي بشيء.(26/189)
وإن شهد عليه رجلان بالعمد حبس حتى يسأل عنهما لأنه صار متهما بالدم والسبيل في المتهم أن يحبس لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في التهمة" وروى أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يعدو عليه ويقول أجرني يا أمير المؤمنين فقال من ماذا فقال من الدم فقال احبسوه الحديث.
وقد بينا في أول كتاب الحدود أن أخذ الكفيل في العقوبات غير ممكن لما في ذلك من معنى التوثق والاحتياط وأنه يصار فيه إلى الحبس فإن شهد عليه رجل واحد عدل حبسه أيضا أياما لأنه صار متهما بالدم فإن خبر الواحد وإن كان لا يتم بالحجة فتثبت به التهمة خصوصا إذا كان المخبر عدلا ولأن للشهادة شرطين العدد والعدالة وقد وجد أحد الشرطين ها هنا وهو العدالة فهو بمنزلة ما لو تم عدد الشهود ولم تظهر عدالتهم فكما يحبس هناك فكذلك يحبس(26/190)
ص -95- ... ها هنا فإن جاء شاهد آخر والا خلى سبيله والعمد في ذلك والخطأ وشبه العمد سواء وكان ينبغي في القياس أن لا يحبس في الخطأ وشبه العمد لأن الواجب فيهما المال وفي الديون التي هي غير المؤجلة لا يحبس ما لم تتم الحجة لظهور عدالة الشهود ففيما يكون مؤجلا إلى العاقلة أولى ولكنه ترك القياس لما ذكرنا أن المتهم بالدم يحبس فإن القتل أمر عظيم إلى أن يتبين موجبه لظهور عذر القاتل أو انتفاء عذره.
فإذا ادعى ولي القتل بينة حاضرة في المصر والقتل خطأ أخذ به من المدعى عليه كفيلا إلى ثلاثة أيام بخلاف ما إذا زعم أن بينته غيب لأن الدعوى دعوى الدين فالخطأ موجب الدية دينا وأخذ الكفيل بالنفس في دعوى الديون صحيح إذا ادعى بينة حاضرة في المصر فأما في العمد فلا يصار إلى أخذ الكفيل قبل إقامة البينة ولا بعدها ولكن قبل إقامة البينة يلازمه المدعي وبعد إقامة البينة يحبسه على سبيل التعزير فإن ظهرت عدالة الشهود كان القتل موجبا للقود وقضي عليه بالقود والله أعلم بالصواب.
باب القسامة(26/191)
قال رحمه الله: وإذا وجد الرجل قتيلا في محلة قوم فعليهم أن يقسم منهم خمسون رجلا بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم يغرمون الدية بلغنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا أحاديث مشهورة منها حديث سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة خرجوا في التجارة إلى خيبر وتفرقوا بحوائجهم فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر يتشحط في دمه فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه فأراد عبد الرحمن وهو أخو القتيل أن يتكلم فقال عليه الصلاة والسلام: "الكبر الكبر" فتكلم أحد عميه حويصة ومحيصة وهو الأكبر منهما وأخبره بذلك قال: "ومن قتله؟" قالوا ومن يقتله سوى اليهود قال: "تبركم اليهود بأيمانها" فقالوا لا نرضى بأيمان قوم كفار لا يبالون ما حلفوا عليه قال عليه السلام: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" فقالوا كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة.
وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب أن القسامة كانت من أحكام الجاهلية فقررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وجد في حي ليهود وذكر الحديث إلى أن قال فألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الدية والقسامة وفي رواية فكتب إليهم: "إما أن يدوه أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله".
وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خيبر: "أن هذا قتيل وجد بين أظهركم فما الذي يخرجه عنكم؟" فكتبوا إليه أن مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل فأنزل الله على موسى عليه السلام أمرا فإن كنت نبيا فاسأل الله مثل ذلك فكتب إليهم أن الله تعالى أراني أن أختار منكم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم يغرمون الدية قالوا لقد قضيت فينا بالناموس يعني بالوحي.(26/192)
ص -96- ... وروى حنيف عن زياد بن أبي مريم قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان فقال: "اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا" قال: وليس لي من أخي إلا هذا قال نعم ومائة من الإبل.
وفي الحديث: أن رجلا وجد بين وادعة وأرحب وكان إلى وادعة أقرب فقضى عليهم عمر رضي الله عنه بالقسامة والدية فقال حارث بن الأصبع الوادعي يا أمير المؤمنين لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا فقال حقنتم دماءكم بإيمانكم وأغرمكم الدية لوجود القتيل بين أظهركم فهذه الآثار تدل على ثبوت حكم القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة على أهلها ونوع من المعنى يدل عليه أيضا وهو أن الظاهر أن القاتل منهم لأن الإنسان قلما يأتي من محلة إلى محلة ليقتل مختارا فيها وإنما تمكن القاتل منهم من هذا الفعل بقوتهم ونصرتهم فكانوا كالعاقلة فأوجب الشرع الدية عليهم صيانة لدم المقتول عن الهدر وأوجب القسامة عليهم لرجاء أن يظهر القاتل بهذا الطريق فيتخلص غير الجاني إذا ظهر الجاني ولهذا يستحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم على أهل كل محلة حفظ محلهم عن مثل هذه الفتنة لأن التدبير في محلتهم إليهم فإنما وقعت هذه الحادثة لتفريط كان منهم في الحفظ حين تغافلوا عن الأخذ على أيدي السفهاء منهم أو من غيرهم فأوجب الشرع القسامة والدية عليهم لذلك ووجوب القسامة والدية على أهل المحلة مذهب علمائنا.(26/193)
وقال مالك رضي الله عنه: إذا كان بين أهل القتيل وأهل المحلة عداوة ظاهرة ولوث وتأثيره وكان العهد قريبا بدخوله في محلتهم إلى أن وجد قتيلا يؤمر الولي بأن يعين القاتل منهم باعتبار اللوث وتفسير اللوث أن يكون عليه علامة القاتلين أو يكون هو مشهورا بعداوته ثم يحلف الولي خمسين يمينا بالله أنه قتله فإذا حلف اقتص له من القاتل وهو قول الشافعي في القديم وقال في الجديد فإذا حلف قضي له بالدية في ماله.
وإذا انعدمت هذه المعاني أو أبى الولي أن يحلف فالحكم فيه ما هو الحكم في سائر الدعاوى واحتج مالك رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن أبي حثمة: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وفي رواية: "تحلفون وتستحقون" وهذا تنصيص على أن اليمين على الولي وأنه يستحق القصاص.
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى بالقود في القسامة" وقضى به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وعن بعض الصحابة قال قتلنا قاتل ولينا في القسامة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا حجة سوى اللوث وفي الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة" ففي هذا الاستثناء تنصيص على أن في القسامة اليمين على المدعي فإذا حلف ترجح معنى الصدق في جانبه فيستحق المدعى وهو القود ثم قال الشافعي رضي الله عنه نرجح جانبه ولكن بحجة فيها ضرب شبهة والقصاص عقوبة يندرئ بالشبهة فيجب المال وهذا لأن اليمين حجة من يشهد له الظاهر كما في سائر الدعاوى فإن(26/194)
ص -97- ... الظاهر يشهد للمدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته فأما في القسامة فالظاهر يشهد للمدعي عند قيام اللوث وقرب العهد فيكون اليمين حجة له.
وحجتنا ما روينا من الآثار المشهورة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أعطى الناس بدعواهم" الحديث.
وقد بينا في كتاب الدعوى أن اليمين ليست بحجة صالحة لاستحقاق فلس بها فكيف تكون حجة لاستحقاق نفس خصوصا في موضع يتيقن بأن الحالف مجازف يحلف على ما لم يعاينه بحال محتمل في نفسه وهو اللوث وإنما اليمين مشروعة لإبقاء ما كان على ما كان فلا يستحق بها ما لم يكن مستحقا فأما قوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" فلا تكاد تصح هذه الزيادة وقد قال جماعة من أهل الحديث أوهم سهل بن أبي حثمة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الإنكار عليهم لا على طريق الأمر لهم بذلك فإنه لو كان على سبيل الأمر لكان يقول أتحلفون فتستحقون دم صاحبكم فأما قوله: "أتحلفون وتستحقون" فعلى سبيل الإنكار كقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:165 -166] الآية وكذلك قوله: "تحلفون" معناه: "أتحلفون" كقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] معناه أتريدون وكان عليه الصلاة والسلام رأى منهم الرغبة في حكم الجاهلية حين أبوا أيمان اليهود وبقولهم لا نرضى بيمين قوم كفار فقال ذلك على سبيل الزجر فلما عرفوا كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك رغبوا عنه بقولهم كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى محلتهم فصاروا مدعى عليهم فلهذا عرض عليهم اليمين.(26/195)
والحديث الآخر لا يكاد يصح لما روي عن أيوب مولى أبي قلابة قال كنت عند عمر بن عبد العزيز وعنده رؤساء الناس فخوصم إليه في قتيل وجد في محلة وأبو قلابة جالس عند السرير أو خلف السرير فقال الناس قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقود في القسامة وأبو بكر وعمر والخلفاء بعدهم فنظر إلى أبي قلابة وهو ساكت فقال ما تقول قال عندك رؤساء الناس وأشراف العرب أرأيتم لو شهد ثم رجلان من أهل دمشق على رجل من أهل حمص أنه سرق ولم يرياه أكنت تقطعه فقال لا قال أرأيتم لو شهد أربعة من أهل حمص على رجل من أهل دمشق أنه زنى ولم يروه أكنت ترجمه فقال لا فقال والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسا بغير نفس إلا رجلا كفر بالله بعد إيمانه أو زنا بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة والدية على أهل خيبر في قتيل وجد بين أظهرهم فانقاد عمر بن عبد العزيز لذلك وهذا لأن أمراء بني أمية كانوا يقضون بالقود في القسامة على ما روي عن الزهري قال القود في القسامة من أمور الجاهلية أول من قضى به معاوية فلهذا بالغ أبو قلابة في إنكار ذلك وقوله أو عليه الصلاة والسلام: "إلا في القسامة" يعني الأيمان مكررة في(26/196)
ص -98- ... القسامة بخلاف سائر الدعاوى معناه لا تنقطع الخصومة باليمين في القسامة بل يقضي بالدية بعدها بخلاف سائر الدعاوى ثم إنما يقضي بالدية على عاقلة أهل المحلة في ثلاث سنين لأن حالهم هنا دون حال من باشر القتل خطأ وإذا كانت الدية هناك على عاقلته في ثلاث سنين فها هنا أولى فإن لم يكمل العدد خمسون رجلا كررت عليهم الأيمان حتى يكملوا خمسين يمينا لما روي أن الذين جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه من أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلا منهم فحلفهم ثم اختار منهم واحدا فكرر عليه اليمين وهذا لأن عدد اليمين في القسامة منصوص عليه ولا يجوز الإخلال بالعدد المنصوص عليه ويجوز تكرار اليمين من واحد كما في كلمات اللعان ولأولياء القتيل أن يختاروا في القسامة صالحي العشيرة من الذين وجد بين أظهرهم القتيل فيحلفونهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأخ القتيل: "اختر منهم خمسين رجلا" فدل أن الخيار إليه وهو حقه يستوفي بطلبه وإليه تعيين من يستوفي منه حقه وله أن يختار الشبان والفسقة منهم لأن تهمة القتيل عليهم أظهر وله أن يختار المشايخ والصلحاء منهم لأنهم يتحرزون عن اليمين الكاذبة أكثر مما يتحرز الفسقة فإذا علموا القاتل منهم أظهروه ولم يحلفوا.(26/197)
وفي ظاهر الرواية: القسامة على أهل المحلة والدية على عواقلهم وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول زفر القسامة والدية على عاقلة أهل المحلة قياسا لأحد الموجبين على الآخر وعلى قول أبي يوسف لا قسامة على العاقلة لأن التحمل يجري في الدية ولا يجري التحمل في اليمين ولو اختاروا في القسامة أعمى أو محدودا في قذف كان ذلك لهم لأنهم أسوة غيرهم في الأهلية لليمين والنكول والخيار فيه إليهم دون الإمام لأن الحق لهم وإنما أراد بهذا الفرق بين هذا وبين اللعان فإن اللعان شهادة والمحدود في القذف والأعمى ليس لهما شهادة الأداء فأما هذه فيمين محضة قال في الأصل وكل ما يلزم العاقلة يلزم أهل الديوان والمعاقلة من أهل الديوان ولا يلزم النساء والذرية من ذلك شيء ولا يؤخذ من الرجل في كل سنة إلا ثلاثة دراهم أو أربعة لما روي أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين وفرض الأعطيات جعل المعاقل عليهم في أعطياتهم على كل رجل في كل سنة ثلاثة دراهم أو أربعة وهذا عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه العاقلة هم العشيرة على ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألا ترى أنه قال في حديث الجنين لأولياء الضاربة: "قوموا فدوه" ولكنا نقول ما كانت الدواوين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يتناصرون بالقرابة بعد الدين فلما دون عمر رضي الله عنه الدواوين جعل التعاقل بالديوان لأنه باعتبار التناصر والتناصر بالديوان دون القبيلة فإن أهل الديوان وإن كانوا من قبائل شتى يقوم بعضهم بنصرة بعض وربما تظهر العداوة مع من هو من قبيلته من أهل ديوان آخر أكثر مما تظهر مع غيره على ما روي أنه في الجمل وصفين كان يقوم أهل كل قبيلة من أحد الصفين بمقاتلة تلك القبيلة من الصف الآخر ثم الأخذ من(26/198)
ص -99- ... العاقلة على وجه لا يؤدي إلى الإجحاف بهم وذلك في أن يؤخذ منهم في كل سنة القدر الذي سمي فإن لم يسع ديوان أولئك القوم ضم إليهم أقرب القبائل إليهم في النسب حتى لا يقع على كل واحد منهم إلا ثلاثة دراهم أو أربعة ولا يدخل في ذلك النساء والذراري لأنهم أتباع لا تقوم النصرة بهم وتمام بيان هذا الكلام في هذا الفصل في كتاب المعاقل والقبائل والذي حلف في القسامة والذي لم يقبل ولم يشهد في ذلك كل سواء الدية عليهم على أهل الديوان لأنها مأخوذة من أعطياتهم وقد استوى في الأعطيات من شهد منهم ومن غاب وكذلك في ظاهر الرواية من كان غائبا ومن كان حاضرا من أهل المحلة في القسامة سواء.
وعن أبي يوسف رحمه الله قال من علمت أنه كان غائبا حين وقعت هذه الحادثة لا أدخله في القسامة لأنه ليس عليه من تهمة القتل شيء ولم يكن قائما في حفظ المحلة والتدبير فيها حين وقعت هذه الحادثة ووجه ظاهر الرواية أن السبب كونه من أهل المحلة لا تهمة القتل فإن الفقهاء والمشايخ وصالحي أهل المحلة يحلفون وليس عليهم من تهمة القتل شيء وهذا السبب لا ينعدم بكونه غائبا عن المحلة.
وإذا وجد القتيل بين قريتين أو سكتين فإلى أيهما كان أقرب كان عليهم القسامة والدية لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن قتيلا وجد بين قريتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أن يمسح بينهما فوجد إلى إحدى القريتين أقرب بشبر فقضى عليهم بالقسامة والدية وعن عمر رضي الله عنه في القتيل الموجود بين وادعة وأرحب أمر بأن يقاس بين القبيلتين وكان إلى وادعة أقرب فجعلها عليهم ولأن من يقرب من موضع فهو أحق بحفظ ذلك الموضع والتدبير فيه ممن يكون أبعد من ذلك الموضع فإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه فإذا امتنع منه فإنه يحبس ليوفي كما كلمات اللعان.(26/199)
وإذا وجد القتيل في قرية أصلها لقوم شتى فيهم المسلم والكافر فالقسامة على أهل القرية المسلم منهم والكافر فيه سواء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة على أهل خيبر وكانوا من اليهود ثم يعرض عليهم الدية فما أصاب المسلمين من ذلك فعلى عواقلهم وما أصاب أهل الذمة فإن كانت لهم معاقل فعليهم وإلا ففي أموالهم كما لو باشروا بأيديهم القتل خطأ.
وإذا وجد القتيل في قبيلة بالكوفة وفيها سكان وفيها من قد اشترى من دورهم فالقسامة والدية على أهل الخطة دون السكان والمشترين وهذه فصول أحدها أنه ما بقي في المحلة أحد من أصحاب الخطة فليس على المشترين من ذلك شيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف وهو قول ابن أبي ليلى المشترون في ذلك كأصحاب الخطة لأنهم قاموا مقام البائع ولأنهم ملاك لبعض المحلة كأصحاب الخطة وفيما يجب باعتبار الملك لا يختلف باختلاف سبب الملك كاستحقاق الشفعة.
ألا ترى أن في القتيل الموجود في دار رجل لا فرق بين أن يكون صاحب الدار مشتريا(26/200)
ص -100- ... أو صاحب خطة فكذلك في القتيل الموجود في المحلة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا صاحب الخطة أخص بتدبير المحلة من المشترين.
ألا ترى أن المحلة تنسب إلى أصحاب الخطة دون المشتريين وأن المشتريين قل ما يزاحمون أهل الخطة في التدبير والقيام بحفظ المحلة فكان صاحب الخطة أخص بحكم القسامة والدية من المشتريين أيضا بمنزلة صاحب الدار في القتيل الموجود في داره مع أهل المحلة لما كان هو أخص بالتدبير في داره كان موجب ذلك عليه ثم المشترون اتباع لأصحاب الخطة وما بقي شيء من الأصل يكون الحكم له دون التبع وقيل إنما أجاب أبو حنيفة رحمه الله بهذا بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في زمانه أن أصحاب الخطة في كل محلة هم الذين يقومون بتدبير المحلة ولا يشاركهم المشترون في ذلك فأما إذا لم يبق من أصحاب الخطة أحد وفيها سكان ومشترون فهي عليهم وهو قول ابن أبي ليلى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها على أهل خيبر وقد كانوا سكانا.
ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أجلاهم منها إلى الشام وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن التدبير في أهل المحلة إلى أصحاب الملك دون السكان لأن السكان يتنقلون في كل وقت من محلة إلى محلة دون أصحاب الملك والدليل عليه أن ما ينبني من الغنم شرعا على القرب يختص به أصحاب الملك دون السكان وهو الشفعة فكذلك ما يكون من الغرم شرعا ولا حجة في حديث خيبر فإنهم كانوا ملاكا قد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه استثنى بقوله: "أقركم ما أقركم الله" فلهذا أجلاهم عمر رضي الله عنه وما وظف عليهم كان بطريق الخراج إلا أن يقال يملك عليهم الأراضي وقد بينا هذا في المزارعة.(26/201)
ومن فروع هذه المسألة إذا وجد قتيل في السجن فعند أبي حنيفة ومحمد على بيت المال وعند أبي يوسف رحمه الله على أهل السجن لأنهم بمنزلة السكان في ذلك الموضع وهم الذين يقومون بتدبير ذلك الموضع ما داموا فيه ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا أهل السجن مقهورون في المقام في ذلك الموضع وهم قل ما يقومون بحفظه والتدبير فيه إلا بقدر حاجتهم ثم ذلك الموضع معد لمنفعة المسلمين فدية القتيل الموجود فيه تكون على المسلمين في بيت مالهم.
ولو وجد القتيل في دار رجل قد اشتراها وهو من غير أهل الخطة فأهل الخطة برآء من ذلك والقسامة على صاحب الدار وعلى قومه الدية لأن التدبير في حفظ الملك الخاص إلى المالك دون أصحاب الخطة من أهل المحلة والقتيل الموجود في ملك خاص يجعل كأن صاحب الملك هو القاتل له في حكم القسامة والدية فلهذا كانت القسامة عليه والدية على عاقلته.
وإذا كانت الدار بين رجلين فوجد فيها قتيل وأحدهما أكثر نصيبا من الآخر فالدية على عواقلهما نصفين لأن القيام بحفظ المكان والتدبير فيه يكون باعتبار أصل الملك لا باعتبار قدر الملك وقد استويا في أصل الملك.(26/202)
ص -101- ... ألا ترى أنه في المغنم المستحق بسبب الملك يعتبر أصل الملك وهو الشفعة؟ فكذلك في الغرم.
وإذا وجد الرجل قتيلا في دار نفسه فعلى عاقلته الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليهم لأنه لو وجد غيره قتيلا في هذه الدار جعل هو كالمباشر لقتله في حكم الدية فإذا وجد هو قتيلا فيها يجعل كأنه باشر قتل نفسه ومن قتل نفسه كان دمه هدرا والدليل عليه أن المكاتب إذا وجد قتيلا في دار من كسبه لا يجب فيه شيء لهذا المعنى وكذا لو أن عبده وجد قتيلا فيه كان موجبه عليه فإذا وجد هو فيها قتيلا لا يجب له على نفسه شيء فكذلك في الحر ولا ينظر إلى كون الدار في الحال لورثته لأن الوجوب باعتبار أصل الجناية وعند الجناية كانت الدار مملوكة.(26/203)
ألا ترى أنه لا تجب القسامة ها هنا ولو كان المعتبر هو الحال لكانت الدية على عاقلة ورثته وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يترك في الإسلام مفرح" أي مهدر الدم والمعنى فيه أنه وجد قتيلا في موضع لو وجد غيره قتيلا في ذلك الموضع كانت الدية عليه وعلى عواقله فإذا وجد هو قتيلا فيه كانت الدية على عواقله كما لو وجد واحد من أهل المحلة قتيلا في المحلة تجب الدية والقسامة على أهل المحلة بهذا المعنى ولهذا لا تجب القسامة ها هنا لأنه لو وجد غيره فيه قتيلا لكانت القسامة عليه دون عاقلته فإذا وجد هو قتيلا فيه يتعذر إيجاب القسامة بخلاف الدية وحقيقة المعنى فيه أن السبب وجود القتيل في ذلك المكان كما نص عليه عمر رضي الله عنه وإنما أغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم وحين وجد هو قتيلا الدار مملوكة لورثته لا له لأنه ليس من أهل الملك فتكون الدية عليهم وإنما قال الدية على عاقلته بناء على الظاهر وهو أن عاقلة الوارث والمورث تتحد فإن كان في موضع تختلف العاقلة فينبغي على قياس هذه الطريقة أن تكون الدية على عاقلة الورثة وهو الأصح وعلى قياس الطريقة الأولى على عاقلة القتيل.
ثم إذا وجد غيره قتيلا في داره إنما يجعل الدية والقسامة عليه باعتبار الظاهر لأن الظاهر أن غيره لا يتمكن من ذلك في ملكه وهذا لا يوجد فيما إذا وجد هو قتيلا فيها فالظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فلهذا يجعل كأن غيره قتله وعند القتل كان التدبير في حفظ ذلك الموضع إليه فإذا فرط في ذلك وجبت الدية على عاقلته لورثته.
فإن قيل: إذا قلتم تجب الدية على عاقلة الورثة فكيف يستقيم أن تعقلوا عنهم؟.(26/204)
قلنا: لأن الدية تجب للمقتول حتى أنه يقضي منها ديونه وتنفذ وصاياه ثم يخلفه الوارث وهو نظير الصبي أو المعتوه إذا قتل أباه فإنه تجب الدية على عاقلته ويكون ميراثا له وهذا بخلاف المكاتب يوجد قتيلا في دار نفسه لأن هناك إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له باعتبار عقد الكتابة وعقد الكتابة باق بعد ما وجد هو فيه قتيلا فلهذا جعل كأنه قتل نفسه فأما ها هنا إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له لقيام ملكه في الدار حين وجد القتيل(26/205)
ص -102- ... وذلك غير موجود فيما إذا وجد هو قتيلا فيه فإن الملك منتقل إلى ورثته فلهذا افترقا والقتيل عندنا كل ميت به أثر فإن لم يكن به أثر فلا قسامة فيه ولا دية إنما هذا ميت لأن حكم القسامة ثبت شرعا في المقتول والمقتول إنما مات حتف أنفه بالأثر فمن لا أثر به فهو ميت فلا حاجة بنا إلى صيانة دمه عن الهدر بخلاف من به أثر وهو نظير من وجد في المعركة وبه أثر يكون شهيدا لا يغسل فإن لم يكن به أثر غسل. وكذلك إن كان الدم يخرج من موضع يخرج الدم منه عادة من غير جرح في الباطن كالأنف فلا قسامة فيه وإن كان لا يخرج الدم منه عادة إلا بجرح في الباطن كالأذن فهو قتل وقد بينا هذا في الشهيد.
وإن ادعى أهل القتيل على بعض أهل المحلة الذين وجد القتيل بين أظهرهم فقالوا قتله فلان عمدا أو خطأ لم يبطل هذا حقه وفيه القسامة والدية لأنهم ذكروا ما كان معلوما لنا بطريق الظاهر وهو أن القاتل واحد من أهل المحلة ولكنا لا نعلم ذلك حقيقة وكذلك بدعوى الأولياء على واحد منهم بعينه لا يصير معلوما لنا حقيقة أنه هو القاتل فإذا لم يستفد بهذه الدعوى شيئا لا يتغير به الحكم فتبقى القسامة والدية على أهل المحلة كما كان.(26/206)
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أسقط القسامة عن أهل المحلة لأن دعوى المولى على واحد منهم بعينه يكون إبراء لأهل المحلة عن القسامة في قتيل لا يعرف قاتله فإذا زعم الولي أنه يعرف القاتل منهم بعينه صار مبرئا لهم عن القسامة وذلك صحيح منه فإن أقام الولي شاهدين من غير أهل المحلة على ذلك الرجل فقد أثبت عليه القتل بالحجة فيقضى عليه بموجبه وإن أقام شاهدين من أهل المحلة عليه بذلك لا تقبل شهادتهما لأن أهل المحلة خصماء في هذه الحادثة ما بقيت القسامة والدية عليهم فكانوا متهمين في هذه الشهادة وكانوا بمعنى الشاهدين لأنفسهم وإذا لم تقبل شهادتهما قال أبو يوسف رحمه الله إن اختار الولي الشاهدين من جملة من يستحلفهم يحلفهما بالله ما قتلنا لأنهما زعما أنهما يعلمان القاتل فلا معنى لاستحلافهما على العلم وإنما يستحلفان على البتات بالله ما قتلنا وقال محمد رحمه الله يحلفان بالله ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا سوى فلان لأن ما هو المقصود يحصل بهذا الاستثناء فلا يجوز إسقاط اليمين على العلم في حقهما كما لا يجوز في حق غيرهما.
وإن ادعى الأولياء على غير أهل المحلة فقد أبرؤوا أهل المحلة من ذلك حتى لا تسمع دعواهم بعد ذلك على أهل المحلة للتناقض فإن أقاموا شاهدين بذلك على المدعى عليه من أهل المحلة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل شهادتهما وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل شهادتهما على القاتل بذلك.
وجه قولهما: أن أهل المحلة حين وجد القتيل بين أظهرهم بعرض أن يكونوا خصماء لو ادعى الولي عليهم فإذا ادعى على غيرهم فقد زالت هذه العرضية وتبين أنهم لم يكونوا(26/207)
ص -103- ... خصماء في هذه الحادثة أصلا فوجب قبول شهادتهم فيها كالشفيع إذا شهد بالبيع بعد ما سلم الشفعة فإنه تقبل شهادته.
والوكيل بالخصومة إذا عزل قبل أن يخاصم ثم شهد في تلك الحادثة تقبل شهادته لهذا المعنى ولأن البراءة قد وقعت لأهل المحلة بدعوى الولي على غيرهم على البتات بدليل أنهم لا يطالبون بشيء بسبب هذه الحادثة بعد هذا الحال فكانوا بمنزلة غيرهم في الشهادة فيها ولأنا إنما كنا نحلفهم على العلم ليظهروا القاتل إن علموا فيستحيل أن يظهروا ذلك حسبة بالشهادة ولا يكون مقبولا منهم بخلاف ما إذا كانت الدعوى على واحد منهم لأن هناك لا يظهرونه حسبة بالشهادة بل يسقطون به القسامة والدية عن أنفسهم فكانوا متهمين فيها وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول أهل المحلة صاروا خصماء في حادثة لا تقبل شهادتهم فيها وإن خرج من الخصومة كالوكيل إذا خاصم في المجلس يعني مجلس الحكم ثم عزل فشهد وإنما قلنا: ذلك لأن السبب الموجب للدية والقسامة عليهم وجود القتيل بين أظهرهم كما قال عمر رضي الله عنه وإنما أغرمكم الدية لوجود القتيل بين أظهركم وبدعوى الولي على غير أهل المحلة لا يتبين أن هذا السبب لم يكن ولكن خرجوا من الخصومة بعد أن كانوا خصماء لكون الولي مناقضا في الدعوى عليهم بعد ذلك وتأثيره أنه يحتمل أنهم قصدوا بالشهادة تأكيد تلك البراءة وأن الولي قصد بتلك البراءة تصحيح شهادتهم له وكذلك تتمكن تهمة المواضعة بينهم وبين الولي فتواضعهم على أن يدعي على غيرهم ليشهدوا له فلتمكن التهمة من هذا الرجل امتنع قبول الشهادة لأنها ترد بالتهمة.(26/208)
وإن ادعى أهل المحلة على رجل من عندهم أنه هو الذي قتله وأقاموا عليه بينة من غيرهم قبلت بينتهم لأنهم يسقطون بهذه البينة الخصومة عن أنفسهم ومن ادعى نفي الخصومة عن نفسه وأثبته بالبينة كان مقبولا منه كما لو أقام ذو اليد البينة أن العين وديعة في يده لفلان ثم ادعاه الأولياء على ذلك الرجل أخذوه بالدم وإن لم يدعوا عليه ذلك لم يكن عليه ولا على أهل المحلة شيء لأن أهل المحلة خصماء في إسقاط القسامة والدية عن أنفسهم لا في إثبات موجب القتل على غيرهم إنما الخصم في ذلك الولي فلا بد من دعواه ليقضى بموجب القتل على ذلك الرجل.
وإذا وجد بدن القتيل أو أكثر من نصف البدن أو نصف البدن ومعه الرأس في محلة فعلى أهلها القسامة والدية لأن هذا قتيل وجد في محلتهم وللأكثر حكم الكمال وإن وجد نصفه مشقوقا بالطول أو وجد أقل من النصف ومعه الرأس أو وجدت رجله أو يده أو رأسه فلا شيء عليهم فيه لأن الموجود ليس بقتيل إذ الأقل لا يجعل بمنزلة الكل ثم هذا يؤدي إلى تكرار القسامة والدية في قتيل واحد فإنا لو أوجبنا بوجود النصف في هذه المحلة القسامة والدية على أهلها لم نجد بدا من أن نوجب إذا وجدنا النصف الآخر في محلة أخرى القسامة والدية على أهلها وتكرار القسامة والدية في قتيل واحد غير مشروع وهذا نظير ما تقدم في حكم الصلاة عليه.(26/209)
ص -104- ... وإذا وجد العبد أو المكاتب أو المدبر أو أم الولد قتيلا في محلة وجبت القسامة والقيمة على عاقلتهم في ثلاث سنين لأن القيمة في المماليك بمنزلة الدية في الأحرار ولنفس المملوك من الحرمة ووجوب الصيانة عن الهدر ما لنفس الحر بدليل مباشرة القتل وأما الدواب والبهائم والعروض فلا قسامة فيها ولا قيمة لأنه مال مبتذل ليس له من الحرمة ما للنفس ولا تجب صيانته عن الإهدار لا محالة وفي الحكم الثابت شرعا بخلاف القياس إنما يلحق بالمنصوص ما يكون في معناه من كل وجه فأما ما ليس في معناه من كل وجه فلا يلحق به.
وإن وجد فيهم جنين أو سقط فليس عليهم شيء لأن هذا بمنزلة الجزء من وجه كاليد والرجل وإن كان تاما وبه أثر فهو قتيل وفيه القسامة والدية لأن لنفس الصغير من الحرمة ما لنفس الكبير فكان هذا في معنى المنصوص عليه من كل وجه.
ولو وجد الحر قتيلا في دار أبيه أو أمه أو المرأة في دار زوجها ففيه القسامة والدية على العاقلة ولا يحرم الميراث لأن حرمان الميراث جزاء مباشرة القتل بصفة الخطر وذلك لم يثبت على صاحب الدار لوجود القتيل في داره وإنما جعل وجود القتيل في داره بمنزلة مباشرته في حكم القسامة والدية خاصة للصيانة عن الهدر فهو نظير التسبب الذي قام مقام المباشرة في حكم الدية خاصة دون حرمان الميراث.
وإن وجد العبد قتيلا في دار مولاه فلا شيء فيه لأنه ماله فهو بمنزلة ما لو باشر قتله بيده إلا أن يكون عليه دين فحينئذ يجب على المولى قيمته حالة في ماله لغرمائه كما لو قتله بيده لأن ماليته حق الغرماء وإذا وجد المكاتب قتيلا في دار مولاه فالقيمة على مولاه في ماله كما لو باشر قتله بيده وهذا لأن المكاتب مملوك له فبدله من وجه مملوك له والعاقلة لا تتحمل عنه له فيكون في ماله ولكن تجب القيمة بالقتل فيكون مؤجلا في ثلاث سنين ثم يستوفى منه ما بقي من مكاتبه ويحكم بحريته وما بقي يكون ميراثا.(26/210)
وإذا وجد الرجل قتيلا على دابة يسوقها رجل أو يقودها أو هو راكبها فهو على الذي معه لأنه هو المختص بتدبير هذه الدابة وباليد عليها.
ألا ترى أنها لو وطأت إنسانا كان ذلك عليه وكذلك إذا وجد عليها قتيلا فإن لم يكن مع الدابة أحد فهو على أهل المحلة الذين وجد فيهم القتيل على الدابة لأن وجوده على الدابة كوجوده في الموضع الذي فيه الدابة موقوفة فإنهم أحق الناس بتدبير تلك البقعة وتدبير ما فيها مما لا يعرف في غيرهم وكذلك الرجل يحمل قتيلا فهو عليه لأن يده على نفسه أقوى من يده على داره وإذا وجد في داره قتيلا كانت القسامة والدية عليه فإذا وجد القتيل على ظهره أو على رأسه أولى.
وإذا وجد القتيل في سفينة فالقسامة على من في السفينة من الركاب وغيرهم من أهلها من الذين هم فيها والدية عليهم أما عند أبي يوسف رحمه الله فلا يشكل لأنه يجعل(26/211)
ص -105- ... السكان والملاك في القتيل الموجود في المحلة سواء فكذلك في القتيل الموجود في السفينة وأما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ففي المحلة السكان لا يشاركون الملاك لأن التدبير في المحلة إلى الملاك دون السكان وفي السفينة الظاهر أنهم في تدبيرها سواء إذا حزبهم أمر يوضحه أن السفينة تنقل فيكون المعتبر فيها اليد دون الملك فإنها مركب كالدابة فكما أن المعتبر في القتيل الموجود على الدابة هو اليد دون الملك فكذلك في القتيل الموجود في السفينة وهم في اليد عليها سواء.
وإذا وجد القتيل في نهر عظيم يجري الماء به فلا شيء فيه لأن مثل هذا النهر لا يد لأحد عليه فقهر الماء يمنع قهر غيره عليه فهو كالقتيل الموجود في المغارة في موضع لا حق لأحد فيه إلا أن يكون نهرا صغيرا لقوم معروفين فهو عليهم لأنه منسوب إليهم.
ألا ترى أن التدبير في كريه وإجراء الماء فيه إليهم وهم أحق الناس بالانتفاع بمائه سقيا لأراضيهم فكان بمنزلة المحلة والفرق بين النهر العظيم والصغير ما بينا في الشفعة فهو نهر عظيم مثل الفرات وجيحون فإن كان إلى جانب الشاطئ محبسا فهو على أقرب القرى إليه والأرضين فعليهم القسامة والدية لأن الحبس إلى جانب الشاطئ كالملقى على الشاطئ والذين هم بقرب ذلك الموضع أخص بالتدبير فيه لأنهم يسقون الماء منه ويسوقون دوابهم إلى ذلك الموضع للسقي وإذا كانوا بالقرب من ذلك الموضع بحيث يسمعون صوت من وقف على ذلك الموضع فإن كانوا لا يسمعون ذلك فلا شيء عليهم فيه هكذا فسره الكرخي.
وإن وجد قتيلا في فلاة فليس فيه شيء قال الكرخي رحمه الله وهذا إذا لم يكن ذلك الموضع قريبا من العمران فإن كان قريبا من العمران بحيث يبلغ أعلى صوته أهل العمران في ذلك الموضع فهو عليهم لأنه الموضع الذي ينتهي إليه صوته من العمران وهم أحق بالتدبير فيه لرعي مواشيهم.(26/212)
ألا ترى أنه ليس لأحد أن يبني في ذلك الموضع بغير رضاهم فأما ما وراء ذلك فهو من جملة الموات لا حق لأحد فيه فلا يجب فيه شيء وإن وجد في سوق المسلمين أو مسجد جماعتهم فهو على بيت المال والمراد سوق العامة والمسجد الجامع لأن ذلك لجماعة المسلمين وهم في التدبير في ذلك الموضع والقيام بحفظه سواء وما يجب على جماعة المسلمين يؤدى من بيت مالهم لأن مال بيت المال معد لذلك وليس فيه قسامة لأن المقصود بالقسامة نفي تهمة القتل وذلك لا يتحقق في جماعة من المسلمين فأما إذا كان في سوق خاص لأهل صنعة ينسب ذلك السوق إليهم فهو بمنزلة المحلة المنسوبة إلى قوم مخصوصين وكذلك إن كان في مسجد محلة فهو على أهل تلك المحلة لأنهم أحق الناس بالتدبير فيها من حيث فتح الباب وإغلاقه ونصب المؤذن والإمام فيه بمنزلة الموجود في محلتهم.
وإن كان في دار رجل خاص يملكها في السوق فعلى عاقلته القسامة والدية لأن المالك(26/213)
ص -106- ... هو المختص بتدبير ملكه وبالأمر بحفظ ملكه لكيلا يقع فيه مثل هذه الحادثة وفي هذا المعنى لا فرق بين أن يكون ملكه في السوق أو في المحلة.
وإذا جرح الرجل في محلة أو أصابه حجر لا يدري من رماه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعلى أهل تلك القبيلة القسامة والدية فإن كان صحيحا يجيء ويذهب فلا شيء فيه وعلى قول ابن أبي ليلى لا شيء عليهم في الوجهين وهو قول أبي يوسف الآخر لأن القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة والجريح غير القتيل ولو جعل موته محالا على تلك الجراحة لما افترق الحال بين ما إذا كان صاحب فراش أو كان يذهب ويجيء بعد تلك الجراحة كما لو كان الجارح معلوما وجه قولنا أنه إذا كان صاحب فراش فهو مريض والمرض إذا اتصل به الموت يجعل كالميت من أول سببه.
ألا ترى أن في حكم التصرفات جعلت هذه الحال كالحال بعد موته فكذلك في حكم القسامة والدية يجعل كأنه مات حين جرح في ذلك الموضع فأما إذا كان صحيحا يذهب ويجيء فهو في حكم التصرفات لم يجعل كالميت من حين جرح فكذلك في حكم القسامة والدية وعلى هذا الجريح إذا وجد على ظهر إنسان يحمله إلى بيته فمات بعد يوم أو يومين فإن كان صاحب فراش حتى مات فهو على الذي كان يحمله كما لو مات على ظهره وإن كان يذهب ويجيء فلا شيء على من حمله وفي قول ابن أبي ليلى لا شيء في الوجهين.(26/214)
وإذا وجد القتيل في العسكر والعسكر في أرض فلاة فهو على القبيلة التي وجد في رحالهم لأنهم سكان في ذلك الموضع ما داموا نازلين وأهل كل قبيلة ينزلون في موضع لا ينازعهم غيرهم في تدبير ذلك الموضع فكانوا كأهل المحلة والموضع الذي لا ملك لأحد فيه المعتبر هو اليد وأهل القبيلة الذين وجد القتيل في رحالهم هم المختصون باليد في ذلك الموضع فإن كان العسكر في ملك رجل فعلى عاقلة صاحب الأرض القسامة والدية لأن المالك هو المختص بالتدبير في ملكه وولاية حفظ ملكه إليه وقد بينا أن لا معتبر بالسكان مع الملاك وقيل في قياس قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن يكون على النازلين في ذلك الموضع لأن عنده السكان كالملاك وإن كان العسكر بفلاة من الأرض فوجد القتيل في فسطاط رجل فعليه القسامة وتكون عليه الأيمان وعلى عاقلته الدية لأنه مختص بحفظ الفسطاط والتدبير فيه بمنزلة صاحب الدار في داره ولم يذكر في الكتاب في القتيل الموجود في المحلة إذا كان فيها خمسون رجلا أو أكثر وأراد أن يعين واحدا منهم ليكون عليه اليمين خمسين مرة هل له ذلك أم لا؟.
وقد روي عن محمد رحمه الله أنه ليس له ذلك لأن تكرار اليمين على واحد ليس فيه فائدة وإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ها هنا وإنما الضرورة في القتيل الموجود في دار رجل أو فسطاطه.
وإن وجد القتيل بين قبيلين من العسكر فعليهما جميعا القسامة والدية إذا كان القتيل(26/215)
ص -107- ... إليهما سواء بمنزلة الموجود بين المحلتين إذا كان إليهما سواء وإن كان أهل العسكر قد لقوا عدوهم فلا قسامة في القتيل ولا دية لأن الظاهر أنه قتيل الأعداء عندما التقى الصفان للقتال والظاهر أن الإنسان بعد اللقاء إنما يقتل من يعاديه لا من يوازره وإنما كنا نوجب القسامة والدية على أهل المحلة باعتبار نوع من الظاهر وقد انعدم ها هنا فإن كان العسكر مختلطا فوجد في طائفة منهم قتيل فهو على أقرب أهل إلا خبية إليه على من في الخباء جميعا لأن تدبير ذلك الموضع إليهم وقد بينا أن القرب معتبر في حكم القسامة والدية.
وإذا وجد القتيل في قبيلة فإنه لا يقبل في القسامة النساء والصبيان والمماليك من المكاتبين وغيرهم ومعتق البعض في قول أبي حنيفة رحمه الله كالمكاتب لأن هؤلاء أتباع في السكنى والظاهر أنهم لا يزاحمون أهل القبيلة في التدبير في قتيلهم ولأنهم لا يقومون بحفظها دون الرجال البالغين ثم المعتبر في القسامة والدية النصرة والنصرة لا تقوم بالنساء والصبيان.
وإذا وجد القتيل في دار امرأة في مصر ليس فيه من عشيرتها أحد فإن الأيمان تتكرر على المرأة حتى تحلف خمسين يمينا ثم تفرض الدية على أقرب القبائل منها وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف ومحمد الأول ثم رجع أبو يوسف وقال يضم إليها أقرب القبائل منها فيقسمون ويعقلون وجه قوله الآخر أن المرأة في حكم القسامة كالصبي بدليل أن في القتيل الموجود في المحلة لا يدخل النساء والصبيان ثم إذا وجد القتيل في دار الصبي فالقسامة والدية على عاقلته فكذلك في دار المرأة وعاقلتها هم أقرب القبائل إليها لأنها ليست من أهل النصرة والديوإن ووجه قوله الأول أن وجوب القسامة في القتيل الموجود في الملك باعتبار الملك والمرأة في الملك كالرجل.(26/216)
ألا ترى أنها تختص بالتدبير في ملكها وأن الولاية في حفظ ملكها إليها فكانت كالرجل في حكم القسامة بخلاف الصبي لأنه لا تدبير له في ملك نفسه ولا يقوم بحفظ ملكه بنفسه ثم للمرأة قول ملزم في الجناية كالرجل حتى يصح منها الإقرار بالقتل وليس للصبي قول ملزم في الجناية والقسامة في معنى قول ملزم فيثبت ذلك في حق المرأة دون الصبي بخلاف القتيل الموجود في المحلة فالمرأة في المحلة مثل الصبي من حيث أنها لا تقوم بحفظ المحلة والدفع عنها والتدبير فيها.
ثم ظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه ليس عليها شيء من الدية وإنما الدية على أقرب القبائل منها وهو اختيار الطحاوي في مباشرة القتل أيضا فإنه يقول إذا كان القاتل من جملة العاقلة فعليه جزء من الدية فإن كان القاتل غيره فلا شيء عليه من الدية والمرأة تدخل في جملة العاقلة إذا كان القاتل غيرها ومن أصحابنا من يقول هي لا تدخل في جملة العاقلة لأن النصرة لا تقوم بها فأما إذا كانت هي المباشرة للقتل فعليها جزء من الدية لأن القاتل أحق من العواقل باعتبار مباشرته فإنه لما وجب على غير المباشر فعلى المباشر أولى أن(26/217)
ص -108- ... يجب جزء منها فكذلك ها هنا وجوب جزء على المالك باعتبار أن التدبير في ملكه إليه وفي هذا الرجل والمرأة سواء.
وكذلك إن كانت القرية لرجل من أهل الذمة فإنه تكرر عليه الأيمان وعليه الدية لأنه في تدبير ملكه كالمسلم.
ولو كان الذمي نازلا في قبيلة من القبائل فوجد فيها قتيلا لم يدخل الذمي في القسامة ولا في الغرامة لأن أهل الذمة لا يزاحمون المسلمين في التدبير في القبيلة والمحلة ولكنهم أتباع بمنزلة السكان مع الملاك أو بمنزلة النساء مع الرجال.
وإذا كانت مدينة ليس فيها قبائل معروفة وجد في بعضها قتيل فعلى أهل المحلة الذين وجد القتيل بين أظهرهم القسامة والدية لأنهم مختصون بتدبير المحلة والظاهر أن تناصرهم بالمجاورة ها هنا لما لم تجمعهم قبيلة معروفة ولا ديوان والمعتبر هو معنى النصرة فلهذا ألزمناهم الدية والقسامة وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والأيمان مقصودة ها هنا فيحبسون لإيفائها.
وإذا وجد القتيل في دار عبد مأذون له في التجارة فالقسامة والدية على عاقلة المولى أما إذا لم يكن على العبد دين فالدار مملوكة للمولى وإن كان عليه دين فالعبد إنما يقوم بالتدبير في هذه الدار باستدامة المولى الإذن له في التجارة والمولى أخص بهذه الدار من الغرماء فإن له أن يقضي دينهم من مواضع أخر ويستخلص الدار منهم لنفسه وهذا مستحسن قد بيناه في المأذون.
ولو وجد في دار المكاتب فعليه الأقل من قيمته ومن دية القتيل بمنزلة ما لو باشر القتل بيده وهذا لأن المكاتب في حكم الجناية كالحر من حيث إن له فيه قولا ملزما بخلاف المأذون فإنه ليس له قول ملزم في الجناية حتى لو أقر على نفسه بالجناية خطأ لم يعتبر إقراره وللمولى عليه قول ملزم في ذلك فيجعل القتيل الموجود في داره كالموجود في دار المولى.(26/218)
ولو وجد القتيل في قرية ليتامى صغار وليس في تلك البلاد من عشيرتهم أحد فليس على اليتامى قسامة ولا دية ولكن على عاقلتهم الدية والقسامة بمنزلة ما لو باشروا القتل بأيديهم فإن كان أحدهم مدركا فعليه القسامة تكرر عليه اليمين لأن له قولا ملزما في الجناية ثم على أقرب القبائل منهم الدية في الوجهين جميعا لأنهم عاقلة اليتامى فإن اليتامى ليسوا من أهل الديوان والتناصر بالديوان فحالهم في ذلك كحال النساء والله الموفق للصواب.
باب القصاص
قال رحمه الله: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قود إلا بالسيف" وهذا تنصيص على نفي وجوب القود واستيفاء القود بغير السيف والمراد بالسيف السلاح هكذا فهمت الصحابة رضي الله عنهم من هذا اللفظ حتى قال علي رضي الله عنه العمد السلاح وقال(26/219)
ص -109- ... أصحاب بن مسعود رضي الله عنه لا قود إلا بالسلاح وإنما كني بالسيف عن السلاح لأن المعد للقتال على الخصوص بين الأسلحة هو السيف فإنه لا يراد به شيء آخر سوى القتال وقد يراد بسائر الأسلحة منفعة أخرى سوى القتال وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة" يعني السلاح الذي هو آلة القتال فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله أن القود لا يجب إلا بالسلاح حتى إذا قتل إنسانا بحجر كبير أو خشبة عظيمة لم يلزمه القصاص في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يلزمه القصاص لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] والمراد بالسلطان استيفاء القود بدليل أنه عقبه بالنهي عن الإسراف في القتل فالتقييد بكون الآلة جارحة زيادة على النص وفي الحديث أن يهوديا رضخ رأس جارية على أوضاح فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرضخ رأسه بين حجرين والمعنى فيه أنه عمد محض لأنه قصد قتله بما لا يقصد به إلا القتل ولا يعرف محض العمد إلا بهذا والآلة الجارحة إذا حصل القتل بها كان عمدا لأن ذلك فعل مزهق للروح وما لا تلبث ولا تطيق النفس احتماله في كونه مزهقا للروح أبلغ من الفعل الجارح لأن هذا مزهق للروح بنفسه والفعل الجارح مزهق للروح بواسطة الجراحة والجرح وسيلة يتوسل بها إلى إزهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه يكون أبلغ مما يكون عاملا بواسطة وكذلك من حيث العرف في قصد الناس إلى قتل أعدائهم بإلقاء الأسطوانة أو رفع حجر الرحاء عليهم يكون أبلغ من القصد إلى ذلك بالجرح في بعض الأعضاء فإذا جعل ذلك موجبا للقصاص فهذا أولى ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ الدية".(26/220)
وفي حديث الحجاج بن أرطأة: أن رجلا قتل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة فقضى عليه بالدية والمعنى فيه أن هذه الآلة لا تجرح ولا تقطع فالقتل بها لا يكون موجبا للقصاص كالقتل بالعصا الصغيرة وتحقيقه من وجهين أحدهما أن وجوب القصاص يختص بقتل هو عمد محض وصفة التمحض أن يباشر القتل بآلته في محله وآلة القتل هي الآلة الجارحة لأن الجرح يعمل في نقض البينة ظاهرا وباطنا وما سواها يدق بنقض البينة باطنا لا ظاهرا وقوام البينة بالظاهر والباطن جميعا فالقتل الذي هو نقض البينة إذا كان مما يعمل في الظاهر والباطن يكون قتلا من كل وجه وإن كان مما يعمل في الباطن دون الظاهر يكون قتلا من وجه دون وجه والثابت من وجه دون وجه يكون قاصرا في نفسه فيصلح أن يجب به ما يثبت مع الشبهات ولا يصلح أن يجب به ما يندرئ بالشبهات وما ادعوا من أن الجرح وسيلة يتوسل به إلى إزهاق الروح غلط فإن إزهاق الروح بنقض البينة وكمال الجناية مما ينقض البينة من كل وجه ونقض البينة بجرح في الروح لا يتأنى لأنه لا يحس ويفعل في الجسم ما لا يكون كاملا فإنما الكامل منه ما يكون بفعل في النفس التي بها قوام الآدمي وذلك الفعل الجارح المؤثر في تسييل والدليل عليه حكم الذكاة فإن الحل بالذكاة إنما(26/221)
ص -110- ... يحصل بفعل جارح مسيل للدم بهذا المعنى ولا يحصل بما يعمل في الجسم فلا يكون ناقضا للبينة ظاهرا وهو الفعل الذي يدق ولا فرق بينهما لأن الحل مبني على الاحتياط فلا يثبت عند تمكن الشبهة كالقود ويخرج عليه النار فإنها تعمل في الظاهر والباطن جميعا وقيل في الذكاة أيضا إذا قرب النار من مذبح الشاة حتى انقطع بها الأوداج وسال الدم تحل وإن لم يسل لا تحل لأن ما هو المقصود بالذكاة وهو تمييز الطاهر من النجس لم يحصل.
والوجه الأخير أن آلة القتل الحديد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] والمراد القتل، وكذلك خزائن أسلحة الملوك تكون من الحديد فأما الخشب والأحجار فمعدة للأبنية والحديد هو المستعمل في القتال وإنما ينصب المنجنيق لتخريب الأبنية.
ألا ترى أن الحديد إذا حصل القتل به وجب القصاص صغيرا كان أو كبيرا حتى أنه لو غرزه بمسلة أو إبرة في مقتله يلزمه القصاص وما سوى الحديد الصغير منه لا يوجب القصاص.
وإن تحقق به القتل والفعل لا يتم إلا بآلته فبقصور في الآلة تتمكن شبهة النقصان في الفعل وذلك يمنع وجوب القصاص فعلى هذا الطريق يقول القتل بمثقل الحديد يوجب القصاص نحو ما إذا ضربه بعمود حديد أو بصنجات الميزان لأن الحديد في كونه آلة القتل منصوص عليه وفي المنصوص عليه يعتبر عين النص فأما في غير المنصوص عليه فالحكم يتعلق بالمعنى فيعتبر كونه محددا نحو سن العصا والمروة وليطة القصب ونحو ذلك وعلى الطريق الأول يقول لا يجب القصاص إلا بما هو محدد والحديد وغيره فيه سواء وهو رواية الطحاوي في كتاب الشروط.(26/222)
وتأويل الحديث أنه أمر بذلك على طريق السياسة لكونه ساعيا في الأرض بالفساد معروفا بذلك الفعل بيانه فيما روي أنهم أدركوها وبها رمق فقيل لها أقتلك فلان فأشارت برأسها لا حتى ذكروا اليهودي فأشارت برأسها أن نعم وإنما يعد في مثل تلك الحالة من يكون متهما بمثل ذلك الفعل معروفا به.
وعندنا إذا كان بهذه الصفة فللإمام أن يقتله بطريق السياسة فأما الدم العصا الصغيرة إذا والى بها في الضربات حتى مات لم يلزمه القصاص عندنا وعلى قول الشافعي رضي الله عنه يجب عليه القصاص وكذلك الخلاف فيما إذا ضربه جماعة كل واحد منهم بسوط أو عصا وهو يقول القصد بالعصا الصغيرة عند الموالاة القتل فيكون الفعل بها عمدا محضا بمنزلة القتل بالسيف بخلاف العصا الصغيرة إذا ضربه بها مرة أو مرتين لأن القصد هناك التأديب والغالب معه السلامة ولا يكون القتل بها إلا نادرا فيكون في معنى الخطأ فأما مع الموالاة فالقصد منه القتل.
ألا ترى أن التهديد بالضرب بالسوط مع الموالاة كالتهديد فالقتل في حكم الإكراه(26/223)
ص -111- ... بخلاف التهديد بضرب سوط واحد ويستوي في ذلك حصول الضربات من واحد أو من جماعة لأن شرط القتل كون النفس معمودة لا التيقن بكون فعل كل واحد منهم مزهقا للروح لأن ذلك لا طريق إلى معرفته.
والدليل على الفرق بين الضربة والضربات أن شرب القليل من المثلث لا يكون موجبا للحد فإن استكثر منه حتى سكر لزمه الحد باعتبار أن القليل منه ممرئ للطعام والكثير مسكر وإذا حصل السكر بالكثير منه لا يميز بعض الفعل عن البعض بل يجعل الكل كفعل واحد حتى يتعلق به ما يندرئ بالشبهات وهو الحد فهذا مثله.
وأصحابنا رحمهم الله استدلوا بحديث النعمان ابن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل" فيكون نصبا على التفسير وبالرفع قتيل السوط والعصا فيكون خبرا للابتداء وفي كليهما بيان أن قتيل السوط والعصا يكون قتيل خطأ العمد وأن الواجب فيه الدية والمعنى فيه أن القتل حصل بمجموع أفعال لو حصل بكل واحد منها على الانفراد لا يتعلق به القصاص فكذلك إذا حصل بمجموعها.(26/224)
كما لو جرح رجلا جراحات خطأ أو اشترك جماعة في قتل رجل خطأ وهذا لأن كل واحد من هذه الأفعال غير موجب للقصاص إذا انفرد فانضمام ما ليس بموجب إلى ما ليس بموجب كيف يكون واجبا لما يندرئ بالشبهات ولو انضم ما هو موجب إلى ما ليس بموجب كالخاطئ مع العامد لا يجب القصاص فإذا انضم ما هو موجب إلى ما ليس بموجب أولى بخلاف الإقداح فهناك لو حصل السكر بالقدح الأول يجب الحد وإنما لم يجب الحد إذا لم يسكر به لانعدام السبب الموجب وهنا لو حصل القتل بالضربة الأولى لا يجب القصاص فعرفنا أن هذا الفعل في نفسه غير موجب فلا يدخل على هذا شهادة الشاهدين بالقتل العمد فإنها توجب القصاص وكل واحد منهما بانفراده لا يوجب لأن شهادة الشاهدين حجة واحدة وشهادة كل واحد منهما شطر الحجة وشطر الحجة لا يثبت به شيء من الحكم فأما ها هنا فكل فعل صالح لكونه علة تامة وهو على أصله أظهر فإن عنده لو حصل من كل واحد من الجماعة ضربة واحدة يجب عليهم القصاص وما لم تتكامل العلة في حق كل واحد منهم لا يلزمه القصاص.
وقوله: بأن الضربة الواحدة يقصد بها التأديب قلنا: حقيقة القصد لا يمكن الوقوف عليها وإنما ينبني الحكم على السبب الظاهر.
ألا ترى أن قطع اليد لا يقصد به القتل أيضا ولهذا كان مشروعا في موضع كان القتل حراما وكذلك الجرح اليسير مشروع على قصد الاستشفاء كالقصد والحجامة ومع ذلك إذا حصل القتل به وجب القصاص لأن حقيقة القصد يتعذر الوقوف عليها فيعتبر السبب الظاهر فكذلك ها هنا كان ينبغي أن يجب القصاص إذا حصل القتل بالضربة والضربتين بالسوط وحيث لم يجب بأن كل فعل من هذه الأفعال بانفراده غير موجب وحقيقة الفقه فيه ما ذكرنا(26/225)
ص -112- ... في المسألة الأولى ويمكن الاستدلال بهذا الحرف أيضا فيقال العصا الكبير مجموع أجزاء لا يتعلق القصاص بكل جزء منها وإن حصل القتل فكذلك بمجموعها فأما بيان نفي استيفاء القود بغير السيف وبها يقول علماؤنا رحمهم الله فإن القصاص متى وجب فإنه يستوفى بطريق حز الرقبة بالسيف ولا ينظر إلى ما به حصل القتل.
وقال الشافعي رضي الله عنه: ينظر إلى القتل بماذا حصل فإن كان بطريق غير مشروع بأن سقاه الخمر حتى قتله أو لاط بصغير حتى قتله فكذلك الجواب يقتل بالسيف وإن كان بطريق مشروع يفعل به مثل ذلك الفعل ويمهل مثل تلك المدة فإن مات وإلا تحز رقبته نحو ما إذا قطع يد إنسان عمدا فمات من ذلك واستدل بما روينا أن النبي عليه الصلاة والسلام: "أمر برضخ رأس اليهودي بين حجرين" وكان ذلك بطريق القصاص.
ألا ترى أنه روي في بعض الروايات فاعترف اليهودي فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وأمر بأن يرضخ رأسه بين حجرين ولأن المعتبر في القصاص المساواة ولهذا سمي قصاصا مأخوذ من قول القائل التقى الدينان فتقاصا أي تساويا أصلا ووصفا وما قلناه: أقرب إلى المساواة لما فيه من اعتبار المساواة في الفعل والمقصود بالفعل يجب اعتباره إلا إذا تعذر وتعذره أن يكون صورة الفعل بخلاف المشروع بأن يكون حراما أو أن لا يحصل القتل به فحينئذ يجعل ما يكون متمما له فيما هو المقصود ويكون الثاني متمما للأول.
ألا ترى أن من قطع يد إنسان خطأ ثم قتله لم يلزمه إلا دية واحدة وجعل الفعل الثاني تتميما للأول.(26/226)
وحجتنا في ذلك ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قود إلا بالسيف" وهو تنصيص على نفي استيفاء القود بغير السيف والمعنى فيه أنه قتل مستحق شرعا فيستوفى بالسيف كقتل المرتد وهذا لأنه إنما يستوفى المستحق بالطريق الذي يتيقن أنه طريق له وحز الرقبة يتيقن بأنه طريق استيفاء القتل فأما قطع اليد فلا يكون طريقا لذلك إلا بشرط وهو السراية وذلك لضعف الطبيعة عن دفع أثر الجراحة ولا يعرف ذلك عند القتل وما يتعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل الشرط فقبل السراية هذا الفعل غير القتل فلا يكون مشروعا فضلا عن أن يكون مستحقا وصورة الفعل غير مقصودة وإنما المقصود إزهاق الروح عرفا لمعنى الانتقام واستحقاق القتل شرعا فيجب مراعاة ذلك المقصود ولا يقال لا يقمع الناس في الابتداء من أن يكون هذا الفعل مؤثرا في تحصيل المقصود ما لم يبرأ منه لأنه وإن كان لا يقمع الناس عن ذلك فإنه يؤدي إلى تأخير تحصيل المقصود وكما لا يجوز إبطال مقصود صاحب الحق لا يجوز تأخيره ثم هذا اعتبار معادلة توقعنا في الظلم في الانتهاء لأنه إذا تراخت يده تحز رقبته والفعل الثاني بعد البرء لا يكون إتماما للأول بدليل الخطأ فيؤدي إلى الزيادة على ما كان منه وإلى المثلة وذلك حرام.
فإن قيل: بأي طريق تسقط حرمة ذبح القاتل ولم يوجد منه فعل في مذبح المقتول؟.(26/227)
ص -113- ... قلنا: بالطريق الذي يسقط عندكم حرمة مذبحه إذا تراخت يده وهو استحقاق القتل عليه وذلك موجود قبل قطع اليد وتأويل الحديث ما بينا.
والذي روى أنه قضى بالقصاص شاذ لا يعتمد عليه أو قاله الراوي بناء على ما وقع عنده أنه كان بطريق القصاص وفي الحقيقة إنما كان ذلك بطريق السياسة وإن اجتمع رهط على قتل رجل بالسلاح فعليهم فيه القصاص بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قضي بذلك وهو استحسان والقياس أن لا يلزمهم القصاص وقد ذكر في كتاب الإقرار لأن المعتبر في القصاص المساواة لما في الزيادة من الظلم على المتعدي ولما في النقصان من البخس بحق المتعدى عليه ولا مساواة بين العشرة والواحد وهذا شيء يعلم ببداهة العقول فالواحد من العشرة يكون مثلا للواحد فكيف تكون العشرة مثلا للواحد وأيد هذا القياس قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس واحدة ولكنا تركنا هذا القياس لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ولأن شرع القصاص لحكمة الحياة وذلك بطريق الزجر كما قررنا ومعلوم أن القتل بغير حق في العادة لا يكون إلا بالتغالب والاجتماع لأن الواحد يقاوم الواحد فلو لم نوجب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لأدى إلى سد باب القصاص وإبطال الحكمة التي وقعت الإشارة إليها بالنص.
يوضحه: أنه لا مقصود في القتل سوى التشفي والانتقام وذلك حاصل لكل قاتل بكماله كأنه ليس معه غيره وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله الواحد إذا قتل جماعة فإنه يقتل بهم جميعا على سبيل الكفاءة.(26/228)
وقال الشافعي رضي الله عنه: إن قتلهم على التعاقب يقتل بأولهم ويقضى بالديات لمن بعد الأول في تركته وإن قتلهم معا يقرع بينهم ويقضى بالقود لمن خرجت قرعته وبالدية للباقين واستدل بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فقد جعل الله تعالى النفس بمقابلة النفس قصاصا فلا يجوز أن يجعل النفس بمقابلة النفوس قصاصا بالرأي ولأنا قد بينا أنه لا مساواة بينهما إلا أنا أوجبنا القصاص على العشرة بقتل الواحد لرد عليه القتل بغير حق وهذا لا يوجد في القتل قصاصا لأن ذلك يكون بقوة السلطان فلا تقع الحاجة فيه إلى التعاون والتغالب ولأن في إيجاب القصاص هناك تحقيق معنى الزجر وذلك لا يوجد هنا فإنه بعد ما قتل الواحد إذا علم أنه وإن قتل جميع أعدائه لا يلزمه القصاص أخذ يتجاسر على قتل الأعداء.
وإذا علم أنه يستوفى الديات من تركته يتحرز من ذلك لإبقاء العناء لورثته فكان معنى الزجر فيما قلنا: وحقيقة المعنى في الفرق أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قتل عشره فوجب عليه القصاص بقدر ما أتلف إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإسقاط ما بقي من حرمة نفسه فيسقط ذلك لضرورة الحاجة إلى استيفاء القصاص كما إذا غصب ساحة(26/229)
ص -114- ... وبنى عليها سقط حرمة بنائه لوجوب رد الساحة وكذلك عندي في الساحة فأما ها هنا فكل واحد من المقتولين قد استحق على القاتل نفسا كاملة وليس في نفسه وفاء بالنفوس فلا يمكن أن يقتل بهم جميعا ولكن يترجح أولهم بالسبق فإن حقه ثبت في محل فارغ وإذا قتلهم معا رجح بالقرعة كما هو مذهبي في نظائره والدليل على أن كل واحد من القاتلين يستوفى الجزاءات في الخطأ يجب على كل واحد منهم جزء من الدية وأنه لو كان بعض الفاعلين مخطئا لم يجب القصاص على واحد منهم بخلاف ما إذا قتل جماعة بعضهم عمدا وبعضهم خطأ فإنه يلزمه القصاص لمن قتله عمدا وإن كان واحدا وحجتنا في ذلك أن العشرة إذا قتلوا واحدا يقتلون به وكانوا مثلا له جزاء لدمه فكذلك إذا قتل واحدا يقتل بهم ويكون مثلا لهم لأن المثل اسم مشترك فمن ضرورة كون أحد الشيئين مثلا للآخر أن يكون الآخر مثلا له كاسم الأخ فإن من ضرورة كون أحد الشخصين أخا للآخر أن يكون الآخر أخا له فلا يجوز أن يقال يلزمهم القصاص لرد غلة القتل بغير حق من غير اعتبار المماثلة فإن الزيادة في القدر أبلغ من الزيادة في الوصف.
وإذا كان لا يقتل المسلم بالمستأمن وعلى قوله بالذمي والحر بالعبد لانعدام المماثلة مع الحاجة إلى رد القتل عليه بغير حق فلأن لا يقتل العشرة بالواحد أولى وكذلك في كل موضع يتعذر اعتبار المماثلة نحو كسر العظام لا يوجب القصاص والحاجة إن رد عليه الجناية ها هنا بغير حق يتحقق هنا ومع ذلك يوهم الزيادة بمنع القصاص فتحقق الزيادة لأن يمنع من ذلك كان أولى فعرفنا أنه إنما يقتل العشرة بالواحد بطريق المماثلة وبيان ذلك وهو أن القتل مما لا يتجزأ.(26/230)
وإذا اشترك الجماعة فيما لا يحتمل التجزي فأما أن ينعدم أصلا أو يتكامل في حق كل واحد منهم والدليل عليه أن كل واحد منهم لو حلف أن لا يقتله كان حانثا في يمينه بهذا الفعل ولا يجب إلا بوجوب كمال الشرط وفي الخطأ يجب على كل واحد منهم الكفارة كاملة ولا تجب الكفارة إلا بقتل كامل فأما الدية بمقابلة المحل فلصيانته عن الإهدار لا أن يكون ذلك جزاء الفعل والمحل واحد فلا يجب بمقابلته إلا دية واحدة والدليل عليه أن القتل يخرج ببعضه زهوق الروح لأن الروح لا يمكن أخذه حسا فطريق أثرها فيه قصدا هذا وقد تحقق من كل واحد منهم والحكم إذا حصل عقيب علل يضاف جميعه إلى كل علة فيجعل زهوق الروح محالا به على فعل كل واحد منهم فكان كل واحد منهم قاتلا على سبيل الكمال بمنزلة الأولياء في التزويج بتكامل الولاية لكل واحد منهم وفي هذا المعنى القتل الذي هو عدوان والقتل الذي هو جزاء سواء فإن الأولياء إذا اجتمعوا وقتلوا كان كل واحد منهم قاتلا بكماله والدليل عليه أن فيما هو المقصود بالقتل وهو التشفي والانتقام لا فرق بين الجزاء والعدوان وهو يتكامل لكل واحد من الأولياء كما يتكامل لكل واحد من العبدين فعرفنا أن كل واحد منهم مستوف حقه بكماله فلا حاجة إلى المصير إلى الدية وبه فارق(26/231)
ص -115- ... النكاح فإن المرأة لو زوجت نفسها من جماعة لا يثبت النكاح لكل واحد منهم على هذه المرأة لأن المقصود الفراش والنسل وذلك ينعدم بالاشتراك فلا يتكامل لكل واحد منهم.
ثم هناك لما لم يحتمل التجزي في المحل انعدم أصلا عند الاشتراك وها هنا لم ينعدم القتل فعرفنا أنه تكامل في حق كل واحد منهم وما قالبأن الواجب على كل منهم عشر القتيل كلام غير معقول لأن القصاص في نفس واحدة كما لا يحتمل التجزي استيفاء لا يحتمل التجزي وجوبا فلا يجوز أن يستحق بعض نفسه قصاصا وكيف يستقيم هذا؟.
ولو عفى أحد الأولياء حتى حي جزء من المقتول سقط القصاص كله فإذا كان القصاص الواجب يسقط إذا لم يبق مستحقا في بعض النفس بعد العفو فلان لا يجب ابتداء في بعض النفس دون البعض أولى وتبين بهذا التحقيق أنه لا طريق سوى ما قلنا: أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قاتل له على الكمال وكذلك الأولياء إذا اجتمعوا واستوفوا القصاص كان كل واحد منهم قاتلا له على الكمال مقدار حقه ليحيوه بدفع شر قاتل أبيه عن نفسه وكان ليس معه غيره فلا حاجة إلى القضاء بالدية ولا إلى الترجيح بالسبق أو إلى القرعة.
قال: وإذا قتل الحر المملوك عمدا فعليه القصاص عندنا وقال الشافعي لا قصاص عليه لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ومقابلة الحر بالحر يقتضي نفي مقابلة الحر بالعبد وهذا على وجه التفسير للقصاص المذكور في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فيكون بيان أن المساواة التي هي معتبرة إنما تكون عند مقابلة الحر بالحر لا عند مقابلة الحر بالعبد.
وعن ابن عمر وبن الزبير رضي الله تعالى عنهم قالا السنة أن لا يقتل لعبد بالحر والمعنى فيه أن هذا أحد نوعي القصاص فلا يجب على الحر بسبب المملوك كالقصاص في الأطراف بل أولى لأن حرمة الطرف دون حرمة النفس فالأطراف تابعة للنفس.(26/232)
وإذا كان طرف الحر لا يقطع بطرف العبد مع خفة حرمة الطرف فلأن لا يقتل الحر بالعبد مع عظم حرمة النفس كان ذلك أولى وتأثيره أن القصاص ينبني على المساواة ولا مساواة بين الأحرار والعبيد فإن العبد مملوك مالا والحر مالك والمالكية في نهاية من العز والكمال والمملوكية في نهاية من الذل والنقصان والدليل عليه أن المملوك قائم من وجه هالك من وجه فإن الحرية حياة والرق تلف ولهذا كان المعتق منسوبا بالولاء إلى المعتق لأنه أحياه بالإعتاق حكما ولا مساواة بين القائم من كل وجه وبين القائم من وجه والهالك من وجه والدليل عليه أن التفاوت ظاهر بينهما في بدل النفس وهو المال وبه تبين أن الرق أثر في النفسية ولهذا المعنى لا يجب القصاص على المولى بقتل عبده ولو لم يؤثر الرق في النفسية لكان المولى كالأجنبي في قتل العبد فيلزمه القصاص ولأن المقتول كان بعرض أن يصير من خول القاتل بأن يشتريه فيمنع ذلك القصاص المساواة بينهما في حكم القصاص كالمسلم مع المستأمن.(26/233)
ص -116- ... وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فهذا يقتضي وجوب القصاص بسبب كل قتل إلا ما قام عليه الدليل فأما قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] فهو ذكر بعض ما شمله العموم على موافقة حكمه فلا يجب تخصيص ما بقي.
ألا ترى أنه كما قابل العبد بالعبد قابل الأنثى بالأنثى ثم لا يمنع ذلك مقابلة الذكر بالأنثى وفي مقابلة الأنثى بالأنثى دليل على وجوب القصاص على الحرة بقتل الأمة وفائدة هذه المقابلة ما نقل عن بن عباس رضي الله عنه قال كانت المقابلة بين بني النضير وبين بني قريظة وكانت بنو النضير أشرف وكانوا يعدون بني قريظة على النصف منهم فتواضعوا على أن العبد من بني النضير بمقابلة الحر من بني قريظة والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم وبيانا أن الحر بمقابلة الحر والعبد بمقابلة العبد والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا.
وعن علي بن أبي طالب قال يقتل الحر بالعبد وما روي عن بن عمر وبن الزبير محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من كان يوجب القصاص ويستدل بقوله عليه السلام: "من قتل عبده قتلناه" فإنما قال ذلك ردا على من يقول منهم لا يقتل السيد بعبده والمعنى فيه أن دم العمد مضمون بالقصاص فيستوي أن يكون قاتله حرا أو عبدا كدم الحر وبيان الوصف أن العبد إذا قتل عبدا يلزمه القصاص والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيستدعي وجوبها انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة الحر والعبد فيه سواء وسنقرر هذا الكلام في مسألة قتل المسلم الذمي والذي يختص بهذه المسألة حرفان:(26/234)
أحدهما: أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الذمي وقد تحقق ذلك فالرق والمملوكية لا يؤثر في الدم لأن الرق إنما يؤثر فيما يتصور ورود القهر عليه وذلك أجزاء الجسم فأما الحياة فلا تدخل تحت القهر والدليل عليه أن العبد فيه يبقى على أصل الحرية حتى لا يملك المولى التصرف فيه إقرارا عليه به ولا استيفاء منه إلا أن المولى إذا قتله لا يلزمه القصاص لانعدام المستوفى لأنه لو كان القاتل غيره كان هو المستوفى بولاية الملك والقتل لا يحرمه ذلك ولا يكون هو مستوفيا العقوبة من نفسه ونقصان بدل الدم كنقصان صفة المملوكية في محله لا في غيره كنقصان بدل الدم بسبب الأنوثة إنما يكون للملوكية في محله فأما الحياة فلا تحلها الأنوثة.
والثاني: أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الإحراز والإحراز إنما يكون بالدار أو بالدين والمملوك في ذلك مساو للحر والحكمة في شرع القصاص الحياة وفي ذلك المعنى الحر والمملوك سواء.
وليست النفوس قياس الأطراف لأن وجوب القصاص هناك يعتمد المساواة في الجزء المبان ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء والرق ثابت في أجزاء الجسم فتنعدم بسببه المساواة(26/235)
ص -117- ... بينهما في الأطراف مع أن طرف العبد في حكم المال عندنا ولهذا لا يكون مضمونا بالقصاص على أحد عبدا كان أو حرا بخلاف النفس فالمعتبر فيه المساواة في الحياة ولهذا لا نقتل النفس الصحيحة بالنفس الزمنة وقد تحققت المساواة ها هنا وعلى هذا لو قتل رجل صبيا فعليه القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة وكذلك لو قتل رجل امرأة وروي عن علي رضي الله عنه يتخير أولياؤها بين أن يستوفوا ديتها وبين أن يعطوا القاتل نصف ديته ثم يقتلونه قصاصا وهذا بعيد لا يصح عن علي رضي الله عنه وقد كان أفقه من أن يقول القصاص لم يكن واجبا ثم يجب بإعطاء المال.
وعلى هذا لو قتل العبد الحر عمدا والمرأة الرجل فعليهما القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة والشافعي لا يخالفنا في هذا فإنه يرى استيفاء الأنقص بالأكمل قصاصا وإنما يأبى استيفاء الأكمل بالأنقص فإذا تبين هذا في حالة الانفراد فكذلك عند الاشتراك حتى إذا اشترك جماعة من الرجال في قتل حرة أو أمة فعليهم القصاص كما لو اشتركوا في قتل رجل حر.(26/236)
وكذلك لو قتل المسلم الذمي عمدا فعليه القصاص عندنا وعند الشافعي لا قصاص عليه وأما الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل فعليه القصاص بالاتفاق ويحكى أن أبا يوسف رحمه الله قضى بالقصاص على هاشمي بقتل ذمي فجعل أولياء القاتل يؤذونه بألسنتهم ويقولون يا جائر يا قاتل مؤمن بكافر فشكاهم إلى الخليفة فقال أرفق بهم فلما علم مراد الخليفة خرج وأمر بإعادتهم إليه ثم قال لأولياء القتيل هاتوا بينة من المسلمين أن صاحبكم كان يؤدي الجزية طوعا فإن هؤلاء يدعون أنه كان ممتنعا من أداء الجزية فلهذا قتله ولا قتل عليهم إلا ببينة من المسلمين فعجزوا عن ذلك فدرأ القود به ودخل على الخليفة فأخبره بذلك فضحك وقال من يقاومكم يا أصحاب أبي حنيفة واستدل الشافعي بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] فالقصاص يبنى على المساواة وبعد ما انتفت المساواة بينهما بالنصوص الظاهرة لا يجب عليه القصاص.
وقال عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فهذا دليل على أن دماء غيرهم لا يكافئ دماءهم ثم قال في آخر الحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" وبالإجماع ليس المراد نفي الاستيفاء فعرفنا أن المراد نفي الوجوب والمعنى فيه أن المقتول منقوص بنقص الكفر فلا يجب القصاص على المسلم بقتله كالمستأمن وهذا لأن الكفر من أعظم النقائص فالكافر كالميت من وجه قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أي كافرا فرزقناه الهدى فلا مساواة بين من هو ميت من وجه وبين من هو حي من كل وجه بخلاف الذمي إذا قتل ذميا فقد وجدت المساواة هناك فوجب القصاص ثم الإسلام بعد ذلك زيادة حصلت على حق الأولياء فلا يمنعهم من الاستيفاء كالمستأمن إذا قتل مستأمنا يلزمه القصاص منصوص عليه في السير الكبير في النفس والطرف جميعا.(26/237)
ص -118- ... ثم لو أسلم القاتل بعد ذلك لا يسقط عنه القصاص ولأن الكفر مهدر للدم مؤثر في الإباحة فإذا وجد ولم يبح يصير شبهة كالملك فإنه مبيح فإذا وجد في الأخت من الرضاعة ولم يبح فيصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات والدليل على أن الكفر مهدر للدم أن من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والذراري إذا قتلهم إنسان لا يغرم شيئا لوجود المهدر وما ذلك إلا الكفر والدليل عليه أنا أمرنا بقتل الكفار لكفرهم قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] يعني فتنة الكفر وقال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وهذا الكفر قائم بعد عقد الذمة إلا أنه غير عامل في إباحة الدم بمعنى الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه على ما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فبقي باعتباره شبهة ينتفي بها المساواة بينه وبين المسلم بمنزلة طهارة المستحاضة مع طهارة الأصحاء فإن سيلان الدم الذي هو ناقض للطهارة موجود مع طهارة المستحاضة ولكنه غير عامل في الوقت ومع هذا لا تكون طهارتها طهارة الأصحاء حتى لا تصلح لإمامة الأصحاء وهذا بخلاف المال فإنه يجب القطع بسرقة مال الذمي لأن المبيح وهو الكفر ليس في المال وإنما هو في النفس فهو نظير حقيقة الإباحة بسبب القضاء بالرجم فإنه لا يكون مؤثرا في المال حتى يجب القطع بسرقة ماله ولا يجب القصاص على أحد بقتله ولهذا أوجب القطع بسرقة مال المستأمن أيضا.
يوضحه: أن القطع في السرقة خالص حق الله تعالى فوجوبه يعتمد الجناية على حق الله تعالى دون المساواة ومعنى الجناية يتحقق في سرقة مال الذمى والمستأمن بثبوت إلا من لهما حقا لله تعالى فما كان القطع إلا نظير الكفارة والكفارة تجب بقتل الذمى والمستأمن كما تجب بقتل المسلم.(26/238)
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أقاد مسلما بذمي وقال "أنا أحق من وفى بذمته" وهذا التعليل تنصيص على وجوب القود على المسلم بقتل الذمي واستيفاء القود منه.
وفي بعض الروايات أن رجلا مسلما قتل ذميا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل رجل مسلم برجل من أهل الحيرة ذمي ثم بلغه أنه فارس من فرسان العرب فكتب فيه أن لا يقتل يعني يسترضوا الأولياء فيصالحوا على الدية. وأن عبيد الله بن عمر لما قتل هرمزان بتهمة دم أبيه استقر الأمر على عثمان فطلب منه علي رضي الله عنه أن يقتص من عبد الله وكان يدافع في ذلك أياما ثم قال هذا رجل قتل أبوه بالأمس فأنا أستحي أن أقتله اليوم وأن هرمزان رجل من أهل الأرض أنا وليه أعفو عنه وأؤدي الدية فهذا اتفاق منهما على وجوب القصاص وقضى علي رضي الله عنه بالقصاص على مسلم بقتل ذمي ثم رأى الولي بعد ذلك فقال ماذا صنعت قال إني رأيت أن أقتل أباه لا برد(26/239)
ص -119- ... أخي وقد أعطوني المال فقال فلعلهم خوفوك فقال لا فقال علي رضي الله عنه إنما أعطيناكم الدية وتبذلون الجزية لتكون دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا والمعنى فيه أن دم الذمي مضمون بالقصاص حتى إذا كان القاتل ذميا يلزمه القصاص به بالإجماع وذلك دليل على انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة يستوي أن يكون القاتل مسلما أو ذميا ولا يدخل عليه الأب إذا قتل ابنه لأن امتناع وجوب القود عليه عندنا ليس لقيام الشبهة في دم الابن بل لأن فضيلة الأبوة تخرج الولد من أن يكون مستوجبا القود على والده كما يمنعه من قتله شرعا وإن كان الأب مباح الدم بأن كان مرتدا أو حربيا أو زانيا وهو محصن والدليل على أن الأبوة إذا طرأت تمنع استيفاء القصاص والشبهة إنما تؤثر إذا اقترنت بالسبب الموجب.(26/240)
وحيث كان طريان الأبوة مانعا من الاستيفاء عرفنا أن المعنى فيه ما ذكرنا فأما المستأمن إذا قتل مستأمنا ففي وجوب القصاص على المسلم بقتل المستأمن قياس أو استحسان في القياس يلزمه القصاص ذكره في هذا الكتاب وهو رواية أحمد بن عمران أستاذ الطحاوي عن أصحابنا ورواه بن سماعة عن أبي يوسف فقالوا ما ذكره في السير بناء على جواب القياس أن الشبهة المبيحة عن الدم تنفى بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن والمسلم جميعا فأما على جواب الاستحسان فيقول بقيت الشبهة المبيحة في دمه وهو كونه حربيا لأنه ممكن من الرجوع إلى دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب فلا يجب القصاص بقتله على أحد سواء كان القاتل مستأمنا أو ذميا أو مسلما ولأن الذمي محقون الدم على التأبيد فيجب القصاص بقتله على المسلم كالمسلم وتحقيقه أن القصاص يعتمد المساواة في الحياة لأنه إزهاق الحياة وهو مشروع لحكمة الحياة وإنما تتحقق المساواة في ذلك شرعا لوجود التساوي في حقن الدم وقد وجد ذلك بين المسلم والذمي فإن حقن كل واحد منهما مؤبد بسبب مشروع وهو عقد الذمة خلف عن الإسلام في معنى الحقن والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل وهذا الحقن والتقوم إنما يثبت بالإحراز والإحراز يكون بالدار لا بالدين لأن الإحراز بالدين إنما يكون في حق من يعتقده فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيكون في حق الكل والذمي في الإحراز مساو للمسلم لأنه من أهل دارنا حقيقة وحكما والدليل عليه أن الإحراز يؤثر في المال والنفس جميعا ثم في المال إحراز الذمي كإحراز المسلم حتى يجب القطع بسرقة مال الذمي وحد السرقة أقرب إلى السقوط عند تمكن الشبهة من القصاص ولا يدخل عليه المقضي عليه بالرجم لأنا لا نقول يباح قتله لنقصان في إحراز كل جزء على جريمته فأما الإحراز فقائم في المال والنفس جميعا وها هنا إن سلم لنا أن الإحراز في حق المسلم والذي سواء يتضح الكلام فإنه لا يمكنه أن يدعي بعد(26/241)
ذلك بقاء الشبهة بسبب إصراره على الكفر لأن المبيح كان هو القتال دون الكفر كما قال الله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191].(26/242)
ص -120- ... ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال: "هاه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت؟". والقتال ينعدم بالإحراز في حق الذمي أصلا كما ينعدم في حق المسلم وقد قررنا هذا في السير وإذا ثبت انتفاء الشبهة والمساواة في الإحراز ثبتت المساواة بينهما في حكم القصاص فلا يجوز أن تكون فضيلة الإسلام في القاتل مانعا لأن طريان هذه الفضيلة لا تمنع الاستيفاء فلو كان اقترانها بالسبب يمنع الوجوب لكان طريانها يمنع الاستيفاء كفضيلة الأبوة وفضيلة الإسلام في المنكوحة فإنه لما كان يمنع ابتداء النكاح عليها للكافر يمنع الوطء إذا طرأ بعد النكاح فأما المسلم إذا قتل مستأمنا فلا قصاص عليه على طريق الاستحسان لانعدام المساواة في الإحراز فالمستأمن غير محرز نفسه بدار الإسلام على التأبيد ولهذا لا يوجب القطع بسرقة ماله لبقاء الشبهة المبيحة وهي المحاربة فإنه ممكن من أن يرجع إلى دار الحرب فيعود حربا للمسلمين وبهذا الطريق نقول لا يقتل الذمي بالمستأمن أيضا خلافا للشافعي لأن الذمي محرز نفسه بدارنا على التأبيد فلا تتحقق المساواة بينه وبين المستأمن فأما الآيات في نفي المساواة بين الكفار والمؤمنين فالمراد بها في أحكام الآخرة وذلك مبين في آخر كل آية.(26/243)
وأما قوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فمن أصلنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون هذا بيان أن دماء غير المسلمين لا تكافئ دماء المسلمين وأما قوله عليه السلام: "لا يقتل مؤمن بكافر" فهو غير مجري على ظاهره بالاتفاق لأن القاتل إذا أسلم يقتل قصاصا وفيه قتل مؤمن بكافر ثم المراد به الحربي يعني من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والصبيان فإنه لا يقتل المؤمنون بهم بدليل قوله: "ولا ذو عهد في عهده" أي ولا يقتل ذو العهد بالكافر وإنما لا يقتل ذو العهد بالكافر الحربي فإن قيل: هذا ابتداء أي لا يقتل ذو العهد في مدة عهده قلنا: ابتداء الواو حقيقة للعطف خصوصا فيما لا يكون مستقلا بنفسه فإن قيل: قد روي ولا بذي عهد فيفهم منه أن المؤمن لا يقتل بذي العهدة قلنا: إن ثبتت هذه الرواية فهي محمولة على المستأمن وبه نقول أن المسلم لا يقتل بالمستأمن.
وكذلك لو اجتمع نفر من المسلمين على قتل ذمي قتلوا به لأنهم في حكم القصاص كالمسلمين وكل قطع من مفصل ففيه القصاص في ذلك الموضع لأن المعتبر في القصاص المساواة وفي القطع من المفاصل يمكن اعتبار المساواة فيجب القصاص فأما كل قطع لا يكون من مفصل بل يكون بكسر العظم فإنه لا يجب القصاص فيه عندنا وفي أحد قولي الشافعي يجب القصاص لأن القصاص مشروع لمعنى الزجر والجناية بغير حق في الغالب إنما تكون بهذه الصفة وقل ما يكون من المفصل.
فلو قلنا: لا يجب القصاص في ذلك أدى إلى إبطال الحكمة ولكنا نستدل بقوله عليه السلام: "لا قصاص في العظم" ولأنه لا تتأتى مراعاة المساواة في العظام لأنه لا ينكسر في الموضع الذي بريء كسره وبدون اعتبار المساواة لا يجب القصاص ما خلا السن فالقصاص(26/244)
ص -121- ... يجب فيه وقد بيناه ولا تقطع اليسار باليمين ولا اليمين باليسار ولا اليد بالرجل ولا الإبهام بغيرها من الأصابع ولا أصبع من يد بأصبع من الرجل لانعدام المساواة بين هذه الأعضاء فإن فيما هو المقصود بها لا مساواة يعني مقصود منفعة البطش في اليد والعمل بها وبين اليمين واليسرى في ذلك تفاوت.
وكذلك في الخلقة والهيئة يظهر التفاوت بين الإبهام وغيرها من الأصابع وبين اليد والرجل وأصابع اليد وأصابع الرجل فيمتنع جريان القصاص بينهما ولا يقتص من عظم ما خلا السن والأصل في جريان القصاص في الأسنان قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].(26/245)
وروي أن الربيع عمة أنس بن مالك كسرت سن جارية فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقاله أنس بن النضر أو يكسر سن الربيع بسن جارية فرضوا بالأرش فقال عليه السلام: "إن لله عبادا لو أقسموا عليه لأبرهم منهم أنس بن النضر" والأصل في جريان القصاص فيما دون النفس اعتبار المماثلة في الفعل وفي المحل أما المأخوذ بالفعل فلأن المماثلة في ضمان العد وأن منصوص عليها فيجب اعتبارها في كل ما يتأتى والمتأتى اعتبار المماثلة في هذه الأشياء ويعنى بالمماثلة في المأخوذ بالفعل المساواة في المنفعة والمساواة في البدل لأن التفاوت في المنفعة المقصودة دليل اختلاف الجنس وإن اتحد الأصل فلأن تنعدم المماثلة أولى ولهذا لا تقطع اليمين باليسار والتفاوت في البدل دليل ظاهر على انعدام المساواة لأن البدل بمقابلة المبدل وهو قيمته فالتفاوت فيه دليل على التفاوت في المبدل وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله لا يجري القصاص بين الرجال والنساء في الأطراف وقال ابن أبي ليلى يجري وهو قول الشافعي ويسلكون في الباب طريقا سهلا وهو اعتبار الأطراف بالنفوس لأنها تابعة للنفس وثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل فكما يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفوس فكذلك في الأطراف ولكنا نقول لا مماثلة بين طرف الرجل وطرف المرأة في المنفعة ولا في البدل والمماثلة معتبرة في القصاص في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تستوفى بالشلاء للتفاوت بينهما في البدل والمنفعة ولا معنى لقولهم أن الشلاء ميتة لا روح فيها لأن استيفاءها في القصاص جائز وبقطعها يتألم صاحبها ويجب حكومة العدل لقطعها فعرفنا أن الحياة فيها باقية ولكن التفاوت في البدل فلا تقطع الصحيحة بها بخلاف النفوس فالمعتبر هناك المساواة في الفعل حتى تستوفى النفس الصحيحة بالزمنة.(26/246)
فإن قيل: التفاوت في البدل يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص ولا يمنع استيفاء الانقص بالأكمل حتى أن الشلاء تقطع بالصحيحة وعندكم في هذا الموضع لا تقطع يد المرأة بالرجل.
قلنا: نعم إذا كان التفاوت بسبب حسي كالشلل وفوات بعض الأصابع فهو كما قلنا: فأما إذا كان التفاوت بمعنى حكمي فإنه يمنع استيفاء كل واحد منهما لصاحبه كاليمين مع اليسار وهذا المعنى وهو أن في التفاوت إذا كأن ابنقصان حسي فمن له الحق إذا رضي بالاستيفاء(26/247)
ص -122- ... يجعل هو بالبعض حقه مستوفيا لما بقي وذلك جائز ولهذا لا يستوفى الأكمل بالأنقص وإن رضي به القاطع لأنه بالرضا يكون باذلا للزيادة ولا يجوز استيفاء الطرف بالبدل فأما إذا كان التفاوت لمعنى حكمي فلا وجه لتمكنه من الاستيفاء ها هنا بطريق إسقاط البعض ولا بطريق البدل وعلى هذا قال الشافعي تقطع يد العبد بيد الحر كما يقتل العبد بالحر وكذلك تقطع يد العبد بيد العبد كما يقتل أحدهما بالآخر قصاصا ولا تقطع يد الحر بيد العبد كما لا يقتل الحر بالعبد عنده وعندنا لا يجري القصاص بين العبيد والأحرار ولا بين العبيد فيما دون النفس لانعدام المساواة في البدل أما فيما بين العبيد والأحرار فظاهر وكذلك بين العبيد إذا اختلفت القيم فيهم وكذلك إذا استوت لأن طريق معرفة القيمة الحرز والمماثلة المشروطة شرعا لا تثبت بطريق الحرز كالمماثلة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها ولا يقال نصاب السرقة يعرف بالتقويم وإن كان يتعلق به ما يندرئ بالشبهات فكذلك المماثلة في القيمة ها هنا لأنا لا ننكر معرفة القيمة بالحرز والظن وإنما ننكر ثبوت المساواة بالحرز قطعا وفي باب السرقة الحاجة إلى معرفة القيمة لا إلى المساواة ولا يقال إذا كانت قيمة كل واحد من العبدين أكثر من عشرة آلاف فها هنا المساواة بينهما في البدل ثابتة شرعا ومع ذلك لا يجري القصاص بينهما في الأطراف لأن التقدير في بدل نفس العبد فأما بدل طرفه فلا يدخله التقدير شرعا ولكن تجب قيمته بالغة ما بلغت فيتحقق التفاوت بينهما فيه وبهذا تبين أن أطراف العبد يسلك بها مسلك الأموال ولا مدخل للقصاص في الأموال.(26/248)
وعلى هذا الأصل قلنا: يجري القصاص بين المسلم والذمي فيما دون النفس للمساواة بينهما في البدل وعند الشافعي يقطع طرف الذمي بطرف المسلم ولا يقطع طرف المسلم بطرف الذمي اعتبارا بالنفسية على قوله وعلى هذا الأصل لا يقطع يدان بيد واحدة عندنا للتفاوت في البدل والتفاوت في المقدار وتأثير التفاوت في المقدار فيما يعتبر فيه المماثلة أكثر من تأثير التفاوت في الصفة.
ألا ترى أن في الأموال الربوية التفاوت في المقدار يمنع جواز العقد والتفاوت في الصفة لا يمنع ثم التفاوت في الصفة ها هنا يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص كالصحيحة بالشلاء فالتفاوت في المقدار أولى وعند الشافعي يقطع يدان بيد واحدة إذا وضعا السكين من جانب واحدة اعتبارا للقصاص في الطرف بالقصاص في النفس إلا أن في الأطراف إذا وضع أحدهما السكين من جانب والآخر من جانب وأمرا حتى التقى السكينان يجب القصاص لأن القتل إزهاق للحياة وهو لا يحتمل الوصف بالتجزي بحال فباختلاف محل الفعل لا يثبت التجزؤ بل كل واحد منهما قاتل على الكمال كما لو اتحد محل فعلهما فأما القطع فإنه جزء محسوس وذلك يتنوع نوعين نوع منه يتجزأ وهو عند اختلاف محل الفعل لأنه لو لم يوجد من كل واحد منهما إمرار السلاح إلا على بعض العضو ونوع منه لا يحتمل الوصف بالتجزي وهو ما اتحد محل الفعل لأن كل واحد منهما أمر السلاح على جميع العضو.(26/249)
ص -123- ... ألا ترى أنه لا يمكن أن يشار إلى شيء من المحل فيقال القطع بفعل هذا دون فعل ذلك وعند اختلاف محل الفعل يقال هذا الجانب انقطع بفعل هذا والجانب الآخر انقطع بفعل الآخر فإذا كان غير متجزىء كان قياس النفس يجعل كل واحد منهما قاطعا بجميع اليد حكما فيلزمه القصاص لاعتبار معنى الزجر كما يعتبر ذلك في النفس.
والدليل على الفرق أن عند تميز محل الفعل يجب على كل واحد منهما حكومة العدل وعند اتحاد محل الفعل يجب على كل واحد منهما عندكم نصف دية اليد في ماله وكذلك قلتم لو أن محرمين قتلا صيدا بضربة واحدة فإن على كل واحد منهما قيمته صحيحا.
ولو جرحه كل واحد منهما في محل على حدة ضمن كل واحد منهما قيمته مجروحا بجراحة صاحبه فبه يتضح هذا الفرق ولكنا نقول كل واحد منهما قاطع بعض اليد سواء اختلف محل الفعل أو اتحد لأن القطع هو الفعل بين متصلين ولهذا يطلق هذا الاسم على الخشب والنبات والجبال ونحن نتيقن أن ما انقطع بفعل أحدهما لم ينقطع بفعل الآخر ولا معتبر بإمرار كل واحد منهما السلاح على جميع العضو لأن إمرار السلاح من غير حصول القطع به وجوده كعدمه وما انقطع بقوة أحدهما لم ينقطع بقوة الآخر هذا شيء يعرفه كل عاقل فعرفنا أن كل واحد منهما قاطع بعض اليد ولا يجوز أن يقطع جميع يده بقطعه بعض اليد لأن المساواة في الفعل معتبرة لا محالة والدليل عليه أن القطع في الجملة مما يحتمل الوصف بالتجزي وما يحتمل الوصف بالتجزي إذا اشترك فيه اثنان يضاف إلى كل واحد منهما بعضه وإن حصل على وجه غير متجزي.(26/250)
كما لو اشتركا في تمزيق ثوب أو في استهلاك درة أو في جمل حبسه يضاف نصفه إلى كل واحد منهما وإن حصل على وجه غير متجزئ فأما النفس فالقياس فيها هكذا ولكن تركنا القياس بالأثر وهو حديث عمر والمخصوص من القياس بالأثر لا يلحق به إلا أن يكون في معناه من كل وجه لأن الفعل في النفس لا يحتمل الوصف بالتجزي بحال والفعل في الطرف يحتمل الوصف بالتجزي.
ألا ترى أنه يتحقق أن يقطع بعض اليد ويترك ما بقي وفي النفس لا يتحقق إزهاق بعض الحياة دون البعض فلعدم احتمال التجزؤ هناك يجعل كاملا في حق كل واحد منهما ولاحتمال التجزؤ ها هنا يجعل كل واحد منهما قاطعا للبعض.
يوضح الفرق أن الفعل في النفس يكمل بسراية فعله فإنه لو جرح فسرى إلى النفس كان مباشرا قتله والفعل في الطرف لا يكمل بسراية الفعل وأنه لو قطع فسرى إلى ما بقي حتى سقط لا يلزمه القصاص وسراية فعله أقرب إلى فعله من فعل شريكه فإذا لم يجز تكميل فعله بسراية فعله في حكم القصاص فلأن لا يجوز تكميله بفعل شريكه أولى ولا معنى لاعتبار الزجر فإن معنى الزجر معتبر بعد وجود المماثلة بدليل أنه لا تقطع يد الحر بيد العبد ولا(26/251)
ص -124- ... الصحيحة بالشلاء لانعدام المماثلة وإن وقعت الحاجة إلى الزجر ولأن المشتركين في أدنى ما يتعلق به القطع لا يلزمهما القطع.
كما لو اشترك رجلان في سرقة نصاب واحد لا يقطع واحد منهما وإن كان المسروق درة لا تحتمل التجزؤ وبه فارق النفس فإن المشتركين في أدنى ما يوجب القتل حقا لله تعالى يلزمهما القتل نحو ما إذا اشتركا في قتل رجل في قطع الطريق فيعتبر حق العبد بحق الله تعالى في الفصلين جميعا وإذا ثبت أنه لا يجب القصاص عليهما قلنا: يجب على كل واحد منهما نصف دية اليد في ماله لأنا نتيقن أن كل واحد منهما قاطع للنصف والفعل عمد وكذلك إذا وضع كل واحد منهما السكين من جانب فإنا إن علمنا أن كل واحد منهما قطع نصف اليد يلزمه نصف الدية وإنما يصار إلى حكومة العدل إذا لم يعلم أن كل ما قطعه كل واحد منهما قدر النصف.
ولو قطع رجل يد رجل من نصف الساعد أو رجله من نصف الساق عمدا لم يكن عليه في ذلك قصاص لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة في الفعل والمحل فإن فعله كان في كسر العظم دون القطع من المفصل وفيما يلزمه من الدية وحكومة العدل اختلاف بين أصحابنا وقد تقدم بيانه.
ولو قطع رجل يدي رجل اليمنى واليسرى قطعت يداه بهما وكذلك إن قطعهما من واحد لأن المماثلة المشروطة في الفعل والمحل والمأخوذ بالفعل موجود فإن قيل: هو ما فوت على كل واحد منهما منفعة الجنس وإذا قطعنا يده كان فيه تفويت منفعة الجنس فلا يتحقق المماثلة قلنا: في حق كل واحد منهما يعتبر ما يستوفيه هو وليس في استيفائه منفعة الجنس ثم هذا المعنى إنما يعتبر في السرقة لأن تفويت منفعة الجنس استهلاك حكما والاستهلاك الحقيقي في حد السرقة غير مشروع فكذلك الحكمي فأما في القصاص فالاستهلاك الحقيقي مشروع إذا كانت المماثلة فيه فكذلك الاستهلاك الحكمي.(26/252)
ولو قطع رجل يميني رجلين قطعت يمينه بهما وغرم دية يد منهما عندنا سواء قطعهما معا أو على التعاقب وقال الشافعي إن قطعهما على التعاقب يقطع بالأولى منهما وللثاني الأرش وإن قطعهما معا يقرع بينهما ويكون القصاص لمن خرجت قرعته والأرش للآخر لأنه حين قطع يد أحدهما فقد صارت مشغولة بحقه مستحقة له قصاصا والمشغول لا يشغل كمن رهن عينا من إنسان وسلمها إليه ثم رهنها من آخر فإنه لا يصلح الثاني مع بقاء حق الأول وهنا حق الأول باق فمنع ذلك ثبوت حق الثاني في اليد بخلاف ما إذا عفى الأول لأن المانع قد زال إذ لم يبق له حق في المحل وكذلك إذا بادر الثاني واستوفى لأنه لم يبق للأول حق في المحل لفواته فكان الثاني مستوفيا حقه فإذا حضرا جميعا فحق الأول قائم فيترجح بالسبق والدليل عليه أنه ليس في عينه وفاء بحقهما بالاتفاق حتى أن عندكم يقضي بأرش يد بينهما وإن قطعا جميعا.(26/253)
ص -125- ... ولو كان في عينه وفاء بحقهما لم يجب لهما شيء آخر بعد استيفائه كما قلتم في النفس إذا ثبت أن في عينه وفاء بحق أحدهما لم يكن بد من ترجيح أحدهما على الآخر فرجحنا بالسبق أو بخروج القرعة إذا حصل الفعلان جميعا كما هو أصل ثم فيما قلتم جمع بين القصاص والأرش لكل واحد منهما بسبب فعل واحد وذلك لا يجوز على أصلكم.
وحجتنا في ذلك أن حق كل واحد منهما ثابت في جميع اليد لأن السبب تقرر في حق كل واحد منهما وهو القطع المحسوس وكونه مشغولا بحق الأول لما لم يمنع تقرر السبب في حق الثاني لا يمنع ثبوت حكمه.
ألا ترى أن ملك المولى في عبده لا يمنع وجوب القصاص عليه إذا تقرر سببه وهو القتل والحق دون الملك بخلاف الرهن فإن ثبوت السبب هناك بطرق الحكم واشتغال المحل بحق الأول يمنع ثبوت السبب في حق الثاني حكما والدليل عليه أنه لو عفى الأول كان للثاني أن يستوفي القصاص وتأثير العفو في الإسقاط فلو لم يجب له القصاص بأصل الفعل لم يجب بالعفو والدليل عليه أن الثاني لو بادر واستوفى كان مستوفيا للقصاص فعرفنا أن حق كل واحد منهما ثابت في جميع اليد والمساواة في سبب الاستحقاق توجب المساواة في الاستحقاق كالغريمين في التركة والشفيعين في الشقص المشفوع إلا أنه إذا قطعت يده بهما فقد صار كل واحد منهما مستوفيا نصف حقه لما بينا أن القطع يقع متجزئا فإن القطع الذي هو ظلم يقع من اثنين بصفة التجزي فكذلك القطع الذي هو جزء بخلاف النفس فإن ما هو ظلم هناك لا يقع متجزيا فكذلك ما هو جزء.(26/254)
وإذا صار كل واحد منهما مستوفيا نصف اليد فقد قضى بنصف طرفه حق كل واحد منهما ومن عليه القصاص في الطرف إذا قضي بطرفه حقا مستحقا عليه يقضى لمن له القصاص بالأرش كما لو قطعت يده في سرقة وبهذا تبين أن المعنى الذي يجب به نصف الأرش لكل واحد منهما غير ما يجب به القصاص فلا يكون هذا جمعا بين القصاص والأرش بسبب واحد وبه فارق النفس فإن هناك لو قضى بنفسه حقا مستحقا عليه بأن قتل رحما لا يقضى لمن له القصاص بشيء إذا عرفنا هذا فنقول لو عفى أحدهما عنه قبل القصاص اقتص منه للباقي ولا شيء للعافي لأن المزاحمة بينهما في القطع لثبوت حق كل واحد منهما في المحل وقد انعدم ذلك بعفو أحدهما فكان للآخر القصاص فقط.
ولو حضر أحدهما دون صاحبه لم ينتظر الغائب ويقتص لهذا الحاضر لأن حقه ثابت في جميع اليد ومزاحمة الآخر معه في الاستيفاء موهوم عسى يحضر وعسى لا يحضر فلا يؤخر استيفاء المعلوم لمكان الموهوم كأحد الشفيعين إذا حضر والآخر غائب يقضى له بجميع المبيع بالشفعة لهذا المعنى ثم إذا قدم الغائب كان له الدية لأنه قضي بجميع طرفه حقا مستحقا عليه فيقضى للآخر بالأرش بخلاف النفس فإن هناك لو حضر أحدهما واستوفى(26/255)
ص -126- ... القصاص ثم حضر الآخر لا يقضى له بشيء لأن هناك في نفسه وفاء بحقهما فإنما لم يستوف هذا المعنى من جهته وإن لم يحضر وليس في الطرف الواحد وفاء بحقهما فإنما تعذر على الثاني للاستيفاء بقضائه بطرفه حقا مستحقا عليه.
يوضحه: أن في النفس وإن قضى بها حقا مستحقا عليه فلا يمكن جعلها سالمة بعد موته ولا يمكنه تقوم نفسه عليه بعد ما مات فأما في الطرف فيمكن أن يجعل الطرف كالسالم له حين قضي به حقا مستحقا عليه وأن يتقوم عليه ذلك لأنه كالحابس لطرفه حكما فلهذا يقضى للثاني بالأرش وإن اجتمعا فقضي لهما بالقصاص والدية فأخذ الدية ثم عفى أحدهما عن القصاص جاز عفوه ولم يكن للآخر أن يستوفي القصاص وإنما له نصف الدية لأنهما ملكا الأرش بالقبض وبعد تمام ملك كل واحد منهما في نصف اليد يستحيل أن يبقى حق كل واحد منهما في جميع القصاص فعرفنا أن حق كل واحد منهما إنما بقي في نصف القصاص والقصاص المشترك بين اثنين إذا سقط نصيب أحدهما بعفوه انقلب نصيب الآخر مالا فأما إذا لم يستوفيا الدية حتى عفى أحدهما بعد ما قضى القاضي فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف للآخر أن يستوفي القصاص كما لو عفى أحدهما قبل قضاء القاضي وهو القياس وعند محمد وزفر ليس للآخر أن يستوفي القصاص استحسانا كما لو عفى أحدهما بعد استيفاء الأرش وذلك لأن قضاء القاضي بالقصاص وبالأرش بينهما قد نفذ ومن ضرورته ضرورة القصاص مشتركا بينهما فإذا أسقط أحدهما نصيبه يبقى حق الآخر في نصف القصاص ولا يتصور استيفاء نصف اليد قصاصا والدليل عليه أن الأرش بقضاء القاضي صار مملوكا بينهما فهو كما لو ملكا الأرش بالاستيفاء بخلاف ما قبل القضاء فإنهما لم يملكا الأرش بعد فيبقى حق كل واحد منهما في جميع القصاص.(26/256)
والدليل على الفرق بين ما قبل القصاص وبين ما بعده أن أحد الشفيعين لو سلم قبل أن يقضي القاضي لهما بالدار كان للآخر أن يأخذ جميع الدار بالشفعة ولو سلم أحدهما بعد قضاء القاضي لم يكن للآخر أن يأخذ إلا النصف.
وكذلك لو ادعى رجلان كل واحد منهما شراء عين من ذي اليد وأقاما البينة ثم أسقط أحدهما حقه قبل قضاء القاضي فإنه يقضى للآخر بالبيع في جميع العين وبعد ما قضى القاضي لهما لو رد أحدهما البيع في نصيبه لم يكن للآخر إلا النصف وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا القاضي إنما قضى بما كان على ما كان فنزل ذلك منزلة الفتوى ولو استفتيا فأفتى لهما القاضي أن القصاص بينكما أو أن الأرش بينكما ثم عفى أحدهما كان للآخر استيفاء القصاص فكذلك إذا قضى به القاضي وهو نظير من مات وترك ابنا وبنتا فقضى القاضي بينهما بالميراث أثلاثا كان هذا كفتوى المفتي.
ولو تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا فقضى القاضي لها بمهر المثل كان هذا كفتوى المفتي حتى لو طلقها قبل الدخول بها كان لها المتعة وفي تفسير هذا الوصف نوعان من الكلام.
أحدهما: أن حق كل واحد منهما كان في جميع القصاص على أن يستوفى كل واحد(26/257)
ص -127- ... منهما النصف إذا زاحمه الآخر وبقي كذلك بعد قضاء القاضي بدليل أنه لو حضر أحدهما واستوفي كان مستوفيا للقصاص ويكون الأرش للآخر بخلاف ما بعد استيفاء الأرش فإن هناك لو حضر أحدهما لا يتمكن من استيفاء القصاص ما لم يحضر الآخر وهذا لأن القضاء قول من القاضي والقصاص الذي هو غير المشترك لا يصير مشتركا بقول بحال كما لو جعل نصف القصاص لغيره وقضى القاضي بذلك كان ذلك لغوا بخلاف استيفاء الأرش فإنه فعل وبالفعل يصير القصاص مشتركا والقاضي وإن قضى بالأرش بينهما فالملك لكل واحد منهما لا يتم بالقضاء قبل الاستيفاء لأن الأرش في معنى الصلات فإنما يتم الملك فيها بالقبض لا بالقضاء كمنفعة الزوجة تصير بالقبض لا بنفس القضاء والدليل عليه أن السبب الموجب للأرش لكل واحد منهما قضاؤه بطرفه حقا مستحقا عليه وذلك لا يتم بالقضاء قبل استيفاء القصاص فأما إذا استوفيا الأرش فسبب الملك في المقبوض هو القبض وقد تم ذلك وبهذا فارق فصل الشفعة والبيع فالقاضي بقضائه هناك غير الآمر عما كان عليه لأنه فسخ بيع كل واحد منهما في النصف وأبطل حق كل واحد من الشفيعين في النصف الذي قضى به الآخر.
والوجه الآخر: أن القصاص وجب مشتركا بينهما والأرش كذلك أما إذا حصل الفعلان معا فهو ظاهر وكذلك إن حصلا على التعاقب لأنه يجعل في الحكم كأنهما كانا معا وهذا لأنا لو قلنا: أن حق كل واحد منهما في جميع القصاص لكان القاضي مسقطا حق كل واحد منهما عن نصف القصاص بولاية شرعية والقصاص لا يحتمل الوصف بالتجزي إسقاطا.
ألا ترى أن صاحب الحق لو عفا عن النصف سقط جميع حقه وها هنا لما نفذ قضاء القاضي بالقصاص بينهما عرفنا أن القصاص كان مشتركا بينهما بشرط مزاحمة كل واحد منهما مع صاحبه فتقرر ذلك بقضاء القاضي ثم بالعفو زالت مزاحمته فيكون حق الآخر في القصاص لانعدام شرط الشركة كما لو زالت مزاحمته بالعفو قبل قضاء القاضي والطريق الأول أصح.(26/258)
ولو لم يكونا أخذا المال وأخذا به كفيلا ثم عفا أحدهما فالمسألة على الخلاف أيضا لأن تأثير الكفالة في توجه المطالبة بالأرش على الكفيل وذلك لا يكون أقوى من توجه المطالبة لهما بالأرش على الأصيل بقضاء القاضي ثم هناك لو عفا أحدهما كان للآخر القصاص فهذا مثله.
ولو كانا أخذا بالمال رهنا كان هذا بمنزلة قبض المال إذا عفا أحدهما بعد ذلك لم يكن للآخر أن يستوفى القصاص وهذا استحسان وكان ينبغي في القياس أن لا يقع بينهما شركة أبدا ما لم يقبضا ولم يذكر غير هذا في رواية أبي حفص وفي رواية أبي سليمان قال كان ينبغي في القياس أن لا يقع بينهما شركة أبدا سواء قبضا المال أو لم يقبضا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وفي رواية أبي سليمان أشار إلى أن القياس والاستحسان في فصل استيفاء الأرش(26/259)
ص -128- ... والارتهان بالأرش جميعا وفي رواية أبي حفص أشار إلى أن القياس والاستحسان في فصل الارتهان بالأرش وهذا هو الأصح.
وجه القياس: أن الرهن وثيقة بالأرش كالكفالة فكما إن عفو أحدهما بعد كفالة الكفيل بالأرش لا يمنع الآخر من الاستيفاء أي استيفاء القصاص فكذلك بعد الرهن لأن بالارتهان لم يتم ملكهما في الأرش ولا في بدله وجه الاستحسان أن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء لهما.
ألا ترى أنه يتم استيفاؤهما بهلاك الرهن وأنه يعتبر قيمة الرهن وقت القبض فتقام يد الاستيفاء مقام حقيقة الاستيفاء في إيراث الشبهة بخلاف الكفالة فإن بالكفالة تزداد المطالبة ولا تثبت يد الاستيفاء فبقي كل حق واحد منهما بعد الكفالة في جميع القصاص كما كان قبله.
وإذا قطع الرجل أصبع رجل من المفصل من يمناه ثم قطع يمينا أخرى وبدأ باليد ثم قطع الأصبع ثم حضرا جميعا فإنه يقطع أصبعه أولا بأصبع الآخر ثم يخير صاحب اليد فإن شاء قطع ما بقي وإن شاء أخذ دية يده لأن في البداءة يحق صاحب اليد إيفاء الحقين فإنه لا يفوت به محل حق صاحب الأصبع فمهما أمكن إيفاء الحقين لا يجوز إبطال حق أحدهما ثم حق صاحب الأصبع في الأصبع مقصود وحق صاحب اليد في الأصبع تبع بدليل أنه لو أراد قطع الأصابع أو بعضها وترك الكف منع من ذلك ولا مساواة بين التبع والمقصود فهو نظير ما لو قطع يد إنسان وقتل آخر فإنه يبدأ بحق صاحب اليد فيقتص له أولا ثم يقتل بالآخر.(26/260)
وإذا قطع صاحب الأصبع أصبعه يخير صاحب اليد بمنزلة ما لو كانت يد القاطع ناقصة بأصبع ومن قطع يد إنسان ويد القاطع ناقصة بأصبع يتخير المقطوعة يده لعجزه عن استيفاء حقه بصفة الكمال فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء قطع ما بقي ولا شيء له سوى ذلك عندنا وعند الشافعي له أن يقطع ما بقي ويضمنه خمس دية اليد لأن كل أصبع خمس اليد بدليل أن أرش كل أصبع يكون خمس أرش اليد فهو إنما استوفى أربعة أخماس حقه فيقضى له بالأرش فيما بقي كمن أتلف على آخر خمسة أقفزة حنطة فوجد عنده أربعة أقفزة واستوفاها كان له أن يستوفي قيمة القفيز الخامس ولكنا نقول استوفى محل حقه بكماله فلا يرجع مع ذلك بشيء من الأرش كما لو قطع يدا صحيحة ويد القاطع شلاء فاستوفى القصاص وهذا لأن الأصابع صفة لليد.
ألا ترى أن المقصود باليد منفعة البطش وبفوات الأصبع ينتقص معنى البطش ولا ينعدم والدليل عليه أنه لو أراد صاحب اليد استيفاء بعض الأصابع لم يكن له بعد ذلك ولكن إما أن يقطع من مفصل اليد أو يترك فعرفنا أن الأصابع في حقه بمنزلة الوصف ومن تجوز بحقه مع نقصان الصفة لا يكون له أن يرجع بشيء آخر كما لو أتلف عليه كرا جيدا فوجد عنده كرا رديئا وقبضه بخلاف القفزان فإنه مقدار وليس بصفة.(26/261)
ص -129- ... ألا ترى أن له أن يبرئ عن بعض الأقفزة ويستوفي البعض وها هنا ليس له أن يعفو عن بعض الأصابع ويستوفي البعض فإن جاء صاحب اليد أولا قطعت له اليد لأن حقه ثابت معلوم فلا يتأخر استيفاؤه لمكان حق موهوم لغائب لا يدري أيطلب أو يعفو؟.
ثم إذا حضر الآخر قضى له بالأرش لأن من عليه الحق قضى بمحل حقه حقا مستحقا عليه فيكون له الأرش.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا مع قولكم أن الأصبع وصف وتبع؟.
قلنا: نعم ولكن باعتبار فوات هذا الوصف كان يتخير من له الحق وإنما لم يتخير ها هنا لبقاء الأصبع فكان هو من هذا الوجه قاضيا بالأصبع حقا مستحقا عليه بخلاف النفس فإن هناك لو حضر من له القصاص في النفس أولا واستوفى لم يكن لمن له القصاص في الطرف شيء لأن هناك ما قضى بالطرف حقا مستحقا عليه.
ألا ترى أن فوات الطرف لا يثبت الخيار لصاحب النفس ولو قطع من أصبع رجل مفصلا ومن أصبع رجل آخر مفصل ذلك الأصبع ومن رجل ثالث الأصبع كلها ثم اجتمعوا عند القاضي فإنه يقطع المفصل الأعلى لصاحب الأعلى لأنه ليس في بداءته بحقه تفويت محل حق الآخرين وبالبداءة بأخذ حق الآخرين تفويت محل حقه ولأن حقه في المفصل الأعلى مقصود وحق الآخرين فيه تبع.
وإذا قطع هذا المفصل تخير صاحب المفصلين فإن شاء قطع المفصل الأوسط بجميع حقه لأنه وجد محل حقه ولكنه مع النقصان وإن شاء أخذ ثلثي دية أصبعه من مال القاطع لعجزه عن استيفاء كمال حقه ثم يخير صاحب الأصبع فإن شاء أخذ ما بقي من أصبعه لوجود محل حقه وإن كان ناقصا وإن شاء أخذ دية أصبعه من مال القاطع لعجزه عن استيفاء كمال حقه.(26/262)
وكذلك لو قطع كف رجل من مفصل ثم قطع يد آخر من المرفق ثم اجتمعا فإن الكف يقطع لصاحب الكف لأنه ليس في البداءة بحقه تفويت محل حق الآخر ثم يخير صاحب المرفق فإن شاء قطع ما بقي بحقه لوجود محل حقه وإن شاء أخذ الأرش لعجزه عن استيفاء حقه بكماله وفي جميع هذه الوجوه لا يثبت للثاني الخيار قبل استيفاء الأول لأن صفة الكمال قائمة في طرفه ولا تنعدم بثبوت حق الأول فيه وإنما ينعدم ذلك باستيفائه فلهذا كان خياره بعد استيفاء الأول.
وإذا شج الرجل الرجل موضحة فأخذت ما بين قرني المشجوج وهي لا تأخذ ما بين قرني الشاج لكبر رأس الشاج فإن المشجوج يخير فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له يبدأ من أي الجانبين أحب حتى يبلغ مقدارها في طولها إلى حيث تبلغ ثم يكف وليس له أن يشجه شجة تأخذ ما بين قرنيه وذكر الطحاوي عن الرازي الكبير أن له ذلك ولا خيار له لأن في القصاص فيما دون النفس تعتبر المساواة في المحل ولا ينظر إلى الصغر والكبر.(26/263)
ص -130- ... ألا ترى أن من قطع يد إنسان ويد القاطع أكبر من يد المقطوع أنه يجب القصاص فهذا مثله ولكنا نقول الأصل في الشجاج أنه تعتبر المساواة في المساحة والسبر لأن البدل يختلف بحسب الاختلاف في ذلك والمساواة في البدل معتبرة في القصاص فيما دون النفس فها هنا لو شجه شجة تأخذ ما بين قرني الشاج كان في المساحة أكثر من الأول وكذلك في الألم.
ولو شجه مثل الأول وفي المساحة كان في السبر دون الأول لأن الشجة الأولى أخذت ما بين قرنيه وذلك القدر لا يأخذ ما بين قرني الشاج فقد عجز عن استيفاء حقه بكماله فثبت له الخيار إن شاء استوفى الأرش وإن شاء استوفى القصاص بقدر الأولى في المساحة وتجوز بدون حقه في السبر بخلاف اليد فإن المعتبر هناك منفعة البطش فلعل هذه المنفعة في اليد الصغيرة أكثر من اليد الكبيرة.(26/264)
ألا ترى أن أرش اليد لا يختلف باختلاف اليد في الصغر والكبر بحال فإن لم يأخذ ما بين قرني المشجوج لكبر رأسه وهي تأخذ ما بين قرني الشاج وتفضل فإنه يخير أيضا لأنه إن استوفى مثل حقه في المساحة كان هذا أزيد في السبر من الأول وإن اقتصر على ما يكون مثل الأول في السبر كان دون حقه في المساحة فيتخير فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له ما بين القرنين من الشاج لا يزاد على ذلك وإن كانت الشجة في طول رأس المشجوج وهي تأخذ من رأس الشاج من جبهته إلى قفاه فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له مقدار شجته إلى مثل موضعها من رأسه لا أزيد على ذلك لأنه لو شجه مثل شجته في الطول كان هذا في معنى السبر أزيد من الأول ولا سبيل له إلى استيفاء الزيادة وإن شجه إلى مثل ذلك الموضع من رأسه كان دون حقه في الطول فيخير لذلك وإن كانت أخذت من المشجوج ما بين جبهته إلى قفاه ولا تبلغ من رأس الشاج إلا إلى نصف ذلك فإن شاء أخذ الأرش وإن شاء اقتص له بمقدار شجته إلى حيث تبلغ ويبدأ من أي الجانبين أحب لما قلنا: وقدمنا فيما سبق حكم القصاص في الشجاج وما فيها من اختلاف الروايات أنه لا يقتص في شيء من ذلك حتى يبرأ ولا قصاص في الهاشمة والمنقلة والآمة والجائفة لأن هذه الجراحات في العظم فاعتبار المماثلة فيها غير ممكن.
وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا قصاص في عظم وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال ولا قصاص في آمة ولا جائفة ولا منقلة ولا عظم يخاف عليه تلف وكل عظم كسر من ساعد أو ساق أو ضلع أو ترقوة أو غير ذلك ففيه حكم عدل ولا قصاص فيه لتعذر اعتبار المساواة فيه وللتفاوت في الأرش فإن حكم العدل إنما يظهر بتقويم المقومين فلا يكون ذلك مقطوعا به.(26/265)
وإذا قطع رجل يد رجل عمدا ويد القاطع شلاء أو ناقصة أصبعا قيل له اقطع يده إن شئت وإلا فخذ الأرش لأنه وجد جنس حقه ولكنه ناقص في الصفة فيتخير لذلك فإن سقطت يده قبل أن يختار من له القصاص شيئا فلا شيء له عندنا وله الأرش عند الشافعي وكذلك(26/266)
ص -131- ... لو كانت يد القاطع صحيحة فسقطت لأكلة أو قطعت ظلما فلا شيء لمن له القصاص وعند الشافعي له الأرش.
وكذلك في النفس لو مات من عليه القصاص أو قتل فهو بناء على ما سبق أن عنده الواجب أحد شيئين إما القصاص أو الأرش وإذا تعذر استيفاء أحدهما لفوات محله تعين الآخر وعندنا الواجب هو القصاص لا غير وقد سقط لفوات محله حقيقة وحكما والحق الثابت في محل مقصور عليه لا يبقى بعد فواته بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة لأنه لما قضي بيده حقا مستحقا عليه كان ذلك كالسالم له حكما إذا ثبت هذا فيما إذا كانت يده صحيحة فكذلك إذا كانت يده شلاء لأن حقه كان في القصاص وقد فات محله حين سقطت يده.
فإن قيل: هو مخير بين استيفاء القصاص واستيفاء الأرش فإذا تعذر عليه استيفاء أحدهما تعين الآخر.
قلنا: لا كذلك بل كان حقه في القصاص لا غير إلا أنه كان له أن يستوفي الأرش لعجزه عن استيفاء كمال حقه بدليل أنه لو زال الشلل قبل أن يستوفى الأرش لم يكن له إلا القصاص وقد فات محل حقه فلم يبق له شيء.
ولو قطعت أصبع من أصابع القاطع لغير قصاص لم يكن للمقطوعة يده إلا أنه يقطع ما بقي ولا أرش له بخلاف ما إذا قطعت أصبع من أصابعه في قصاص لأن الأصبع جزء من اليد فيعتبر الجزء بالكل في الفصلين جميعا وإذا اقتص الرجل من الرجل في عضو أو شجة فمات المقتص منه من ذلك فديته على عاقلة المقتص له في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شيء عليه.(26/267)
والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم كان عمر وعلي يقولان الحق قبله ولا شيء على أحد وكأن ابن مسعود يقول يضمن دية النفس ويسقط من ذلك أرش العضو الذي هو حقه وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول عليه الدية وكان يروى في ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استقاد من إنسان فمات المستقاد منه وبرئ المستقيد ضمن المستقيد ديته" وجه قولهما: أن هذا قطع بحق أو قطع مستحق فالسراية المتولدة منه لا تكون مضمونة كالإمام إذا قطع يد السارق فمات من ذلك وتأثيره أن السراية أثر الفعل فلا تنفصل عن أصل الفعل ولما اتصل أصل الفعل بالخفية فكذلك أثره ثم نفس من عليه القصاص صارت في حكم نفسه على معنى أن الفعل في محل حقه يكون حقا مباحا وفيما وراء ذلك يكون عدوانا وأن محل حقه صار مملوكا له في حكم الاستيفاء وما وراء ذلك غير مملوك له والفعل في محل حقه جزاء وفيما سوى ذلك عدوان فإذا تميز أحد المحلين عن الآخر حكما يجعل كالتمييز حسا ولا تنوب السراية من بدن إلى بدن فباعتبار هذا المعنى يجعل عقيب القطع كأنه تم البرء فلا تعتبر السراية بعد ذلك ولأن هذا فعل مأذون فيه فالسراية المتولدة منه(26/268)
ص -132- ... لا تكون مضمونة كمن قال لغيره اقطع يدي أو قال من عليه القصاص لمن له القصاص اقطع يدي قصاصا فقطع وسرى فإنه لا يجب شيء وكذلك النزاع والفصاد والحجام والختان لا يضمن واحد منهم بالسراية شيئا لهذا المعنى ولأن هذا قطع لو اقتصر لم يكن مضمونا فلا تكون السراية مضمونة كقطع يد المرتد وهذا لأن الشرع أثبت له حق قطع اليد وليس في وسعه التحرز عن السراية فلا يجوز أن يكون مؤاخذا به والسراية إنما تكون لعجز الطبيعة عن دفع أثر الجراحة والبرء وبقوة الطبيعة عن دفع أثرها وشيء من ذلك ليس في وسع المستوفي لحقه.(26/269)
يوضحه: أن طرفه كان سالما بلا خطر فلا يتميز إلا بمثله وهو طرف يسلم له بالاستيفاء من غير خطر ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أن هذا قتل بغير حق فيكون مضمونا وبيانه أن القتل اسم لجرح يعقبه زهوق الروح وقد وجد ذلك ولا شك أن القطع غير القتل فالقطع اسم لفعل يكون مؤثرا في إباحة جزء من الجملة والقتل اسم لفعل يكون مؤثرا في إزهاق الروح وإنما يتعين ذلك باعتبار المآل ولهذا يعتبر في الجنايات مآلها حتى إذا قطع يد امرأة أو يد رجل من نصف الساعد لم يكن عليه القصاص فإن سرى إلى النفس يجب القصاص فبهذا يتبين أن عند السراية تبين أن أصل الفعل كان قتلا لا أن يقال كان قطعا فصار قتلا لأن الفعل لا يتصور أن يكون على صفة ثم يصير على صفة أخرى إذ لا بقاء له ولا يتبين أنه كان قتلا في الأصل وهو بمنزلة تحريك الخشبة إن لم يصب شيئا كان تحريكا وإن ألقاها على ما انكسر بها كان كسرا وإن ألقاها على حيوان فمات بها كان قتلا وها هنا لما انزهق الروح بهذا الفعل عرفنا أنه كان قتلا من الأصل ولا حق له في القتل فيكون هذا قتلا بغير حق بمنزلة ما لو حز رقبته ولهذا كان القياس أن يلزمه القصاص عند أبي حنيفة إلا أنه أوجب عليه الدية استحسانا بمنزلة الخطأ فإنه ما قصد قتله وإنما قصد استيفاء حقه بإقامة فعل هو حق فيكون بمنزلة ما لو رمى إلى صيد أو حربى فأصاب مسلما.
يوضحه: أن الفعل من حيث الصورة حقه وباعتبار المآل كان غير حقه والحكم وإن كان يبنى على ما يظهر في الحال فنسبة ذلك الفعل لصورته وصفة الحقية في صورته تكون شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وما ادعوا من تمييز أحد المحلين حكما كلام لا معنى له لأن هذا التمييز في حكم القطع الذي هو قصاص فقط فأما فيما وراء ذلك فنفس من عليه وأطرافه كشيء واحد وقد بينا أن هذا ليس باستيفاء لحقه.(26/270)
وكذلك الفعل إنما يكون جزاء إذا كان قطعا لا إذا كان قتلا وطرف من عليه غير مملوك لمن له القصاص حكما حتى إذا قطع كان البدل لمن عليه لا لمن له القصاص ولكن في حق المتمكن من استيفاء حقه جعل كأنه له واستيفاء حقه يكون بفعل هو قطع لا بفعل هو قتل قوله التحرز عن السراية ليس في وسعه قلنا: نعم ولكن العفو والترك في وسعه وهو مندوب إليه قال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وإنما يتقيد بالوسع ما(26/271)
ص -133- ... يكون مستحقا عليه فأما ما يكون مباحا له كالمشي في الطريق والرمي إلى الصيد وتعزير الزوج زوجته فمقيد بشرط السلامة وإن لم يكن في وسعه إيجاد ذلك لأن ذلك غير مستحق عليه ثم عجزه لا يجوز أن يكون مسقطا حرمة صاحب النفس في نفسه وأكثر ما في الباب أن يتقابل حقان حق هذا في طرف يسلم له بلا خطر وحق الآخر في نفس محترمة متقومة فتترجح حرمة النفس على حرمة الطرف أو يعتبر الحرمتان فلحقه في الطرف يتمكن من الاستيفاء ولمراعاة حق الآخر في النفس يتقيد عليه بشرط السلامة وهو بمنزلة ما لو قلع سن إنسان فاستؤني حولا فلم ينبت فإنه يمكن من استيفاء القصاص فإن استوفى القصاص ثم نبت السن المقلوع أولا وجب عليه أرش سن القالع لهذا المعنى وهذا بخلاف قطع الإمام يد السارق لأن ذلك مستحق عليه إقامته فيتقيد بما في وسعه.
يوضحه: أن المأمور به هناك قطع مطلق وفعله في الصورة قطع فيصير به ممتثلا للآمر ويخرج من عهدته فيصير كالمسلم إلى من له القصاص عامل لنفسه الحق فإذا مات من ذلك فإنما قتله من له الحق بعد ما خرج الإمام من عهدة فعله فأما هنا فمن له القصاص عامل لنفسه فلا يخرج من عهدته قبل البرء وإنما أذن له في قطع مقيد بكونه قصاصا والقصاص عبارة عن المساواة فإذا تبين أنه لم يكن قصاصا كان مضمونا عليه ولهذا قلنا: في قوله اقطع يدي فقطع فسرى لا يجب شيء لأنه أنابه مناب نفسه في قطع مطلق فكما أن به تحول فعله إلى الآمر وخرج القاطع من عهدته وكذلك النزاع والفصاد والحجام إنما أمروا بفعل مطلق وكما فرغوا من ذلك خرجوا من عهدتهم وصار مسلما إلى من أمرهم بذلك.(26/272)
فأما قول من عليه القصاص لمن له القصاص اقطع يدي قصاصا غير معتبر لأن من له القصاص عامل لنفسه بعد هذا القول وقبله كيف وقد قيد الأمر بقوله اقطع قصاصا فإذا سرى إلى النفس فهذا على الخلاف والحرف الآخر لأبي حنيفة أن هذه سراية تولدت من قطع مضمون فيكون مضمونا كما لو قطع يد إنسان ظلما وبيان ذلك أن القصاص محض حق العباد فيكون واجبا بطريق الجبران وما يستوفى جبرا يكون على المستوفي بما كان استوفي منه فإن معنى الجبران لا يتحقق إلا به كمن استهلك على إنسان مالا فاستوفي منه مثله كان المستوفى مضمونا على المستوفى وهذا مثله.
فإذا كان أصل الفعل مضمونا والسراية أثره فتكون مضمونة أيضا وعليه يخرج قطع يد السارق لأنه أقامه حدا فلا يكون مضمونا على الإمام.
ألا ترى أن ذلك قضاء منه وفيما يكون مضمونا عليه لا يكون نافذ القضاء وكذلك إذا قال لغيره اقطع يدي فإنه غير مضمون عليه لأنه عامل للآمر لأمره في محل مملوك له وكذلك قطع يد المرتد وأما فعل الفصاد والنزاع فإنه مضمون ضمان عقد ولكن لا يتولد ضمان الجناية من ضمان العقد وقد قررنا هذا في مسألة الأجير المشترك.
ولو لم يمت المقتص منه ومات المقتص له قتل به المقتص منه لأنه لما مات تبين أن(26/273)
ص -134- ... الواجب له القصاص في النفس ومن له القصاص في النفس إذا قطع يد من عليه القصاص لا يسقط به حقه في النفس فلهذا قتل به قصاصا.
ولو قتل رجل رجلا فدفع إلى وليه فقطع يده عمدا أو مثل به في غير ذلك الموضع لم يكن عليه في ذلك أرش لأنه كانت له نفس واليد من النفس.
ألا ترى أن استيفاء النفس باق على ذلك كله ولكن تعذر لما باشره من المثلة فإن المثلة حرام بنهي النبي عليه السلام عن المثلة وما كان يمنع من هذا الفعل فذاك لا يدل على أنه مضمون عليه كما لو حرقه بالنار فإنه لا يكون مضمونا عليه وإن كان هو ممنوعا منه والأطراف تابعة للنفس فإذا كان فعله في النفس على وجه يكون ممنوعا منه لا يوجب الضمان عليه فكذلك في الطرف.
ولو أن الولي بعد ما قطع يده عمدا أو خطأ عفا عنه كان عليه دية اليد في قول أبي حنيفة ولا شيء عليه في قول أبي يوسف ومحمد لأنه استوفى طرفا من نفس لو استوفاها لم يضمن فكذلك إذا استوفى جزءا منها لم يضمن كما لو قطع يد مرتد وهذا لأن الأطراف تابعة للنفس فمن ضرورة ثبوت حقه في النفس ثبوت حقه في الأطراف لأن الحق في التبع إنما يثبت بثبوته في الأصل ولهذا لم يكن استيفاء الطرف موجبا للضمان عليه قبل العفو فكذلك بعد العفو ولأن العفو إسقاط فإنما ينصرف إلى الباقي لا إلى المستوفى كمن قطع يد إنسان ثم قطع من له القصاص أصبعا من أصابعه ثم عفا عن اليد لم يضمن أرش الأصبع والأصابع للكف بمنزلة الأطراف للنفس والدليل عليه أنه لو أعقب القطع قتلا لم يضمن شيئا وكان ذلك باعتبار ثبوت حقه في الطرف فكذلك إذا أعقبه عفوا لأنه في العفو محسن وإحسانه لا يكون موجبا عليه الضمان.(26/274)
يوضحه: أنه بعد العفو لو سرى إلى النفس لم يضمن شيئا والقطع الساري أفحش من المقتصر وإذا كان لا يضمن بعد العفو إذا سرى شيئا فإذا اقتصر أولى أن لا يضمن وأبو حنيفة يقول استوفى طرفا لا حق له في استيفائه من نفس متقومة فيكون مضمونا عليه وبيانه أن نفس من عليه القصاص متقومة في حق سائر الناس فكذلك في حق من له القصاص إلا أن تقومها سقط في حق الاستيفاء بما سبق ولا حق لمن له القصاص في استيفاء الطرف لأن استيفاء الطرف قطع وقد بينا أن حقه في القتل والقطع غير القتل والدليل عليه أنه يمنع من الاستيفاء مع أن القطع طريق مشروع لاستيفاء القصاص في النفس فإنما يمنع هناك لأنه مخطئ في الطريق وها هنا غير مخطئ في الطريق ثم يمنع من الاستيفاء فعرفنا أنه لا حق له في الطرف وهذا لأن حقه في النفس والأطراف تابعة للنفس فإنما يثبت له الحق في استيفائها تبعا لا مقصودا فإذا استوفى الطرف مقصودا كان مستوفيا ما ليس بحق له إلا أنه قبل العفو متمكن من أن يجعله تبعا للنفس بأن يقتله فيكون كل واحد من الفعلين قتلا ويصير الطرف تبعا للنفس فلا يضمن شيئا فأما بعد العفو فقد سقط حقه في النفس وبقي(26/275)
ص -135- ... الطرف مقصودا بالاستيفاء ولا حق له فيه مقصودا فكان مضمونا عليه والدليل عليه أن من وجب له القصاص على امرأة فرمى بها يلزمه الحد والمستوفي بالوطء في حكم جزء من العين فلو ثبت من له الحق في أطرافها مقصودا لصار ذلك شبهة في إسقاط الحد ومن له القصاص على عبد إنسان إذا تصرف في ماليته كان هو في ذلك كأجنبي آخر وإن كان حقه ثبت في ماليته تبعا على معنى أن باستيفاء النفس يصير مستوفيا للمالية.
والدليل على أن من له القصاص في النفس لا حق له في الطرف أنه لو كان عليه قصاص في أطرافه لإنسان وفي نفسه لآخر فجاء من له القصاص في النفس فقطع طرفه لم يضمن من عليه شيئا لصاحب الطرف ولو كان حق من له القصاص في النفس ثابتا في الطرف لصار هو قاضيا بطرفه حقا مستحقا عليه فيغرم الأرش لصاحب الطرف وهو بخلاف الأصبع مع الكف فإن حق من له القصاص ثابت في الأصابع هناك بدليل أن فوات بعض الأصابع يثبت له الخيار وإن الكف تابعة للأصابع بدليل حكم الأرش فأما هنا ففوات الأطراف لا يثبت الخيار لصاحب النفس ولا ينقص بدل النفس بفوات الأطراف فعرفنا أن الأطراف تابعة للنفس وقد قيل إن تلك المسألة مذكورة في الزيادات والجواب قول محمد خاصة وهذا بخلاف ما لو سرى القطع إلى النفس بعد العفو لأن بالسراية يتبين أن أصل فعله كان قتلا وأنه كان مستوفيا حقه وإنما أسقط بعد الاستيفاء وهذا بخلاف ما إذا أعقب القطع قتلا لأن الفعل الثاني يكون متمما للمقصود بالفعل الأول فيتبين به أن كل واحد منهم قتل والقتل حقه فلا يكون مضمونا عليه.
ثم إذا قتله فقد تقرر حقه في النفس وذلك يمنع وجوب ضمان الطرف عليه بخلاف ما إذا عفا ولا معنى لقولهم إن عفوه ينصرف إلى ما بقي لأنه بقطع اليد ما صار مستوفيا شيئا من القتل حتى يقال ينصرف عفوه إلى ما بقي.(26/276)
قال: وفي العين القصاص وفي السن القصاص إذا قلعت أو كسر بعضها ولم يسود ما بقي وقد بينا حكم القصاص في السن وإنما بقي منه حرف وهو أنه إذا كسر بعض السن فاسود ما بقي لا يجب القصاص فإنه عاجز عن فعل مثل الفعل الأول فإنه لا يمكنه أن يكسر بعض السن على وجه يسود ما بقي فلهذا لا يلزمه القصاص.
يوضحه: أن الفعل كله في محل واحد وآخره موجب للأرش فيمنع ذلك وجوب القصاص في جميعه وفرق أبو يوسف ومحمد بين هذا وبين ما إذا قطع أصبع إنسان فشلت بجنبها أخرى وهذا لأن كل أصبع محل على حدة ووجوب الأرش بالفعل في أحد المحلين لا يمنع وجوب القصاص بالفعل في المحل الآخر وهنا المحل كله واحد فإذا خرج آخره من أن يكون موجبا للقصاص يخرج أوله من أن يكون موجبا فأما في العين إذا ذهب نورها بالضربة ولم تخسف فعليه القصاص وصورته أن تحمي له مرآة ثم تقرب منها حتى يذهب نورها ويربط على عينه الأخرى وعلى وجهه قطن هكذا روي عن علي رضي الله عنه فإن هذه(26/277)
ص -136- ... الحادثة وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه فشاور الصحابة في ذلك فلم يجد عندهم شيئا حتى قضى علي رضي الله عنه بالقصاص وبين طريق الاستيفاء بهذه الصفة فاتفقوا على قوله فأما إذا انخسفت أو قلعت الحدقة فلا قصاص فيها لأنه لا يتأنى اعتبار المماثلة في السن والمحل فهو بمنزلة كسر العظم وأنه لا يتعلق به القصاص.
وإذا أحرق رجل رجلا بالنار فعليه القصاص لأن النار تعمل عمل السلاح في تفريق الأجزاء والتأثير في الظاهر والباطن ثم يقتله المولى بالسيف عندنا وعند الشافعي يقتله بمثل ما قتله به والدليل على أنه لا يحرقه بالنار قوله عليه السلام: "لا يعذب بالنار إلا ربها" وقال: "لا تعذبوا بعذاب الله أحدا".
وإذا طعنه برمح لا سنان له فأجافه فمات فعليه القصاص لوجود الجرح في الظاهر والباطن وقد بينا أن غير الحديد إذا كان يعمل عمل الحديد في القطع والجرح فالفعل به يكون عمدا محضا وكذلك لو شق بطنه بعود أو ذبحه بقصبة فهو بمنزلة السلاح يجب القصاص به وفي مثقل الحديد والنحاس اختلاف الروايات كما بينا والكلام في القتل بالحجر والعصا قد تقدم.
وإذا غرق رجل رجلا في ماء فلا قصاص عليه وإن كان يعلم أنه لا ينقلب منه بلغنا ذلك عن عمر رضي الله عنه ومراده الحديث الذي روينا في كتاب الإكراه وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجب عليه القصاص إذا جاء من ذلك ما يعلم أنه لا يعيش من مثله بمنزلة القتل بالحجر الكبير على قولهم ويعتمدون فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه" ولكن أبو حنيفة قال هذا لا يثبت مرفوعا وإنما هذا كلام زياد ذكره في خطبه ألا ترى أنه قال فيه: "ومن قتل عبده قتلناه" وبالإجماع من قتل عبده لا يقتل ثم الماء ليس في معنى السلاح.
ألا ترى أنه لا يؤثر في تفريق الأجزاء في الظاهر فهو بمنزلة الحجر والعصا على قولهم يوضحه: أن الغريق يجتذب الماء بنفسه فيكون كالمعين على نفسه فيكون ذلك شبهة في إسقاط القود.(26/278)
ولو خنق رجلا فمات أو طرحه في بئر أو ألقاه على ظهر جبل أو سطح فمات لم يكن فيه قصاص عند أبي حنيفة وعندهما إذا كان شيء من ذلك يعلم أنه لا يعيش من مثله فهو عمد محض يجب به القصاص وإن كان خناقا معروفا قد خنق غير واحد فعليه القتل لأنه ساع في الأرض بالفساد والإمام يقتل الساعي في الأرض بالفساد حدا لا قصاصا.
وذكر في النوادر أنه لو حبسه في البيت فطبق عليه الباب حتى مات لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة ولكن يعزر على ما صنع وعندهما يضمن ديته لأنه مسبب لإتلافه على وجه متعد فيه فيكون بمنزلة حافر البئر في الطريق وأبو حنيفة يقول حبسه وتطبيق الباب عليه لا يوجب إتلافه وإنما يتلفه معنى آخر وهو الجوع الذي هاج من طبعه وبعد الطعام عنه ولا صنع للجاني في ذلك فلو ضمن إنما يضمن بجنايته عليه بتأخير حبسه والحر لا يضمن باليد.(26/279)
ص -137- ... ولو سقى رجلا سما أو أوجره إيجارا فقتله لم يكن عليه قصاص والدية على عاقلته وفي بعض النسخ قال سقاه سما أو أوجره إيجارا فقد صار متلفا له وهذا هو الأصح لأنه إذا دفعه إليه حتى شرب بنفسه لم يضمن شيئا لأن الشارب مختار به في شربه فيكون قاتلا نفسه ومن أعطاه غره حين لم يخبره بما فيه من السم ولكن بالغرور لا يجب عليه ضمان النفس والأصل فيه أن اليهودية حين أتت بالشاة المسمومة هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل من ذلك بشر بن البراء فمات ثم لم يضمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته لأن تناوله باختياره فأما إذا أوجره إيجارا فقد صار متلفا له فيكون ضامنا ديته وقيل هذا إذا كان سما قد يقتل وقد لا يقتل فيكون ذلك بمنزلة الخطأ فأما إذا كان سما ذعافا يعلم أنه يقتله لا محالة فإنه يجب عليه القصاص عند أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما تقدم من الفعل الذي لا يلبث.
وإذا جرح الرجل الرجل عمدا بالسيف فأشهد المجروح على نفسه أن فلانا لم يجرحه ثم مات المجروح من ذلك فلا شيء على فلان ولا تقبل البينة عليه بالجناية لأن قبول البينة يبنى على دعوى صحيحة والوارث في الدعوى قائم مقام المورث فكما لا تصح الدعوى من المورث بعد إقراره أنه لم يجرح فكذلك لا تصح من الوارث لأنه نفى أصل الجرح ومن ضرورته نفي القتل ولو لم يقر المجروح بذلك ولكنه عفى عن الجارح قبل موته ثم مات ففي القياس عفوه باطل لأن القصاص في النفس إنما يجب بعد موته ويكون للوارث لا للمورث فالوارث هو الذي ينتفع به دون المورث فيكون المورث بعفوه مسقطا حق الغير ومسقطا للحق قبل الوجوب وذلك باطل والدليل عليه أن عفو الوارث قبل موت المورث عن القصاص صحيح.(26/280)
ولو كان القصاص يجب للمورث لا يصح عفو الوارث كالإبراء عن الدين وجه الاستحسان أن الوراثة خلافة وإنما يجب القصاص على وجه الخلافة عن المورث لا ابتداء ولهذا لو انقلب مالا يقضى منه دين المورث وتنفذ وصاياه فأصل الحق كأنه ثابت للمورث فيصح بعد ما وجد سبب وجوب الحق وإن لم يجب بعد كما يجوز التكفير بعد الجرح قبل زهوق الروح ثم عفوه في الانتهاء كإذنه في الابتداء وإذنه في الابتداء مسقط للقود عن الجاني حتى إذا قال اقطع يدي فقطعه فسري لا يجب شيء كذلك عفوه في الانتهاء.
ولو عفا الولي قبل موت المجروح ففي القياس لا يصح عفوه أيضا لأنه لم يأن حقه بعد فإن ثبوت حقه بطريق الخلافة وذلك بعد موت المورث وإذا أسقط حقه قبل أو إنه كان باطلا كما إذا أبرأ عن دين واجب لمورثه في حياته وجه الاستحسان أن السبب يجعل قائما مقام حقيقة وجوب الحق في صحة العفو وهذا السبب انعقد موجبا للقصاص للوارث كان بطريق الخلافة عن المورث فيقام مقام حقيقة وجوب الحق في تصحيح عفوه(26/281)
ص -138- ... يوضحه: أن باعتبار أصل السبب الحق للمورث لأن السبب جناية على حقه وهو من أهل أن يجب له الحق بعد هذا السبب وباعتبار نفس الواجب الحق للوارث لأن القصاص في النفس لم يجب إلا بعد الموت وبعد الموت المورث ليس بأهل أن يجب له الحق فيجب للوارث وكل واحد من الجانبين مراعى فلمراعاة السبب صححنا عفو المورث استحسانا ولمراعاة الواجب بالسبب صححنا عفو الوارث استحسانا وهذا لأن العفو مندوب إليه قال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: من الآية237] وقال: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: من الآية45] فيجب تصحيحه ما أمكن والله أعلم.
باب العفو عن القصاص(26/282)
قال رحمه الله: العفو عن القطع والضربة والشجة والجراحة يكون عفوا عن السراية وبيانه أن من قطع يد إنسان أو شجه موضحة فقال المجني عليه عفوت عن القطع أو عن الشجة فإن اقتصر جاز العفو بالاتفاق وإن سرى إلى النفس فالعفو باطل في قول أبي حنيفة وفي القياس يلزمه النقصان وفي الاستحسان تلزمه الدية في ماله وقال أبو يوسف ومحمد العفو صحيح ولا شيء عليه وأما إذا قال عفوتك عن الجناية أو الشجة وما يحدث منها أو عن القطع وما يحدث منه صح العفو بالاتفاق وهما يقولان عفا عن حقه لأنا قد بينا أن بعد السراية الحق ثابت في الطرف فقبل السراية أولى والدليل عليه أن العفو في الانتهاء كالإذن في الابتداء بدليل أنه لو اقتصر فيهما جميعا لم يضمن شيئا ثم الإذن في الابتداء بهذه الألفاظ يسقط ضمان السراية فكذلك العفو في الانتهاء وهو بمنزلة ما لو كان العفو بلفظ الجناية والدليل عليه هو أن سبب ثبوت الحق الشجة ولولاه لما صح العفو عن الجناية أو عن الجراحة وما يحدث منها فإذا عفي عن الشجة صار أصل السبب هدرا فالسراية التي تنبني عليه تكون هدرا أيضا والدليل عليه أن معنى قوله عفوتك عن الشجة أي عن موجب هذه الشجة وموجبها القصاص في الشجة إذا اقتصر وفي النفس إذا سرى فيصرف العفو إليهما كما لو قال المغصوب منه للغاصب أبرأتك عن الغصب يكون ذلك إبراء عن الضمان الواجب بالغصب وهو رد العين عند قيامها ورد القيمة بعد هلاكها .
وكذلك المشتري إذا أبرأ البائع عن العيب يكون ذلك إبراء عن موجب العيب وهو الرد عند الإمكان والرجوع بالنقصان عند تعذر الرد والدليل عليه ما قال في الجامع الصغير لو أن عبدا قطع يد إنسان فصالح مولاه عن القطع على أن يدفع العبد إليه فأعتقه المجني عليه ثم مات قال العتق نافذ والعبد صلح بالجناية فإذا كان الصلح على القطع صلحا عن السراية فكذلك العفو.(26/283)
وقال في الزيادات: لو ادعى رجل شجة مع السراية وشهد له شاهدان أحدهما بالشجة والآخر بها وبالسراية تقبل شهادتهما على الشجة ولو لم تكن الشجة حقه بعد السراية لما قبلت الشهادة لاختلاف الشاهدين في المشهود به وأبو حنيفة يقول عفا عن غير حقه فلا(26/284)
ص -139- ... يصح لأن العفو إسقاط الحق فإذا صادف ما ليس بحقه كان باطلا وبيانه أنه عفا عن اليد وحقه في النفس لما بينا أن بالسراية يتبين أن أصل الفعل كان قتلا وموجب القتل القصاص في النفس دون اليد والدليل عليه أن المعتبر في الجنايات مآلها لا حالها .
ألا ترى أن أصل الفعل قد يكون موجبا للقصاص وبالسراية يتبين أنه كان غير موجب كما لو قطع يده من المفصل فسرى إلى نصف الساعد فباعتبار المال ها هنا يتبين أنه لم يكن حقه في اليد قصاصا ألا ترى أنه بعد السراية لو قال الولي عفوتك عن اليد لم يصح فكذلك قبل السراية .
ولو قال المجني عليه: عفوتك عن القتل ثم اقتصر لم يصح فكذلك إذا قال عفوتك عن اليد فسرى ولا معنى لما قال أنه عفا عن موجب اليد لأنه لما قال عفوتك عن القطع فمعناه عن قطع واجب مقابل هذا القطع لا عن هذا القطع الذي تحقق لأن العفو عنه لا يتحقق وقد تبين أنه لم يكن قطع واجب بمقابلة هذا القطع وقوله بأن هذا القطع سبب حقه قلنا: القطع سبب حقه في اليد لا سبب حقه في النفس بل حقه في النفس القتل لأن القطع الساري لا يقول أنه قطع ثم قتل أو قطع يصير قتلا بمنزلة قنص يصير صيدا ولكنه يتبين أنه كان قتلا في الأصل لأن القتل فعل مزهق للروح وإنما انزهق هذا الروح عقيب هذا الفعل فعرفنا أنه قتل ولهذا صح العفو بلفظ الجناية لأن اسم الجناية يتناول القتل وما دونه .(26/285)
ألا ترى أنه لو قال: لا جناية في قتل فلان ثم ادعى عليه النفس أو ما دون النفس لم تسمع بخلاف القطع فهو اسم حائز لما دون النفس حتى لو قال لا قطع لي قبل فلان ثم ادعى عليه النفس صحت الدعوى وكذلك إذا قال عفوتك عن القطع وما يحدث منه لأن ذلك عبارة عن النفس وقد تبين أن حقه كان في النفس فصح العفو وهذا بخلاف المأذون في الابتداء لأن الإذن صادف محلا هو حقه فيصير المأذون قائما مقام الإذن في إقامة الفعل فيه فكأنه فعل بنفسه وبخلاف ما لو اقتصر لأنه تبين هناك أن فعله كان قطعا وإن حقه في قطع واجب بمقابلة هذا القطع فأما إذا دفع العبد باليد فالصلح هناك باطل عند أبي حنيفة إذا سرى قبل أن يعتقه إلا أن عتقه إنما ينفذ لأنه مقبوض بحكم صلح فاسد فيصير مملوكا فينفذ فيه العتق ثم من حيث الظاهر إنما دفع العبد باليد ومن حيث المعنى قصد المولى دفعه بالجناية فإذا لم يتصل به ما لا يمكن فسخه وهو العتق اعتبرنا الظاهر وقلنا: إذا سرى فالصلح باطل وإذا اتصل به ما لا يمكن فسخه اعتبرنا المقصود وهو الدفع بالجناية فقلنا: العتق نافذ والعبد صلح بالجناية.
يوضحه: أن هناك نفذ العتق لكونه مملوكا له وإن كان بسبب فاسد ويضمن قيمته لمولاه ثم المجني عليه يستوجب القيمة على المولى أيضا لأنه دفعه على وجه لم يصر به مختارا فكان مستهلكا فيلزمه قيمته فتقع المقاصة بين القيمتين فلهذا قال العتق نافذ والعبد صلح بالجناية(26/286)
ص -140- ... وأما مسألة الجامع فقيل إنه قول محمد ثم إنما يتبين أن الحق في النفس إذا ثبتت السراية ولم تثبت لأن الشاهد بها واحد وبدون السراية الحق في الشجة وقد اتفق الشاهدان عليه ولا يقال المدعي يتبرأ من الشجة لأنه إنما يتبرأ منها إذا ثبت حقه في النفس ولم يثبت فهو بمنزلة ما لو ادعى بيع عين من إنسان بثمن وأنكر المشتري وحلف بنفي العين عن ملك المدعي لأنه إنما يتبرأ من ملك العين إذا ثبت حقه في اليمين ولم يثبت ثم في القياس يجب القصاص عند أبي حنيفة لأن العفو لما حصل من غير حقه كان وجوده كعدمه ولكن في الاستحسان قال حقه في الصورة عند العفو ما أضاف إليه العفو وإن تبين في الأخيرة أنه غيره وكذلك ما أضاف إليه العفو هو السبب لثبوت حقه في النفس ظاهرا ليصير ذلك شبهة في رد القود وقد قال في مسألة الجامع الصغير لو لم يعتق العبد حتى سرى فالصلح باطل والقصاص واجب عند أبي حنيفة قيل ما ذكر هذا حق بسبب القياس وقيل بل أبو حنيفة يفرق فيقول هناك الصلح مضاف إلى العبد والعبد ليس بسبب لثبوت حقه في النفس فيصير ذلك شبهة في إسقاط القود .(26/287)
ثم بنى على هذا الفصل مسألة التزويج على الجراحة بالجناية وقد تقدم بيانها في كتاب الصلح والعفو عن دم العمد جائز في المرض من جميع المال لأن دم العمد ليس بمال وبالمرض إنما يلحقه الحجر عن التصرف في ماله لحق ورثته ففيما ليس بمال المرض والصحة فيه سواء والقاتل وغير القاتل فيه سواء ألا ترى أنه لو أعان إنسانا بيديه لا يعتبر ذلك من ثلث ماله وإن كان ذلك الرجل قاتلا له وعلى قول الشافعي عفوه في القصاص صحيح ولكن في حق المال باطل لأن العمد عنده موجب للمال ولا وصية للقاتل والعفو عن أحد القاتلين لا يبطل القود عن الآخر وكذلك الصلح مع أحدهما لأن القصاص لزمهما بالقتل ثم سقط أحدهما بالعفو ودم أحدهما متميز عن دم الآخر فسقوطه عن أحدهما لا يورث شبهة في حق الآخر بخلاف ما لم إذا لم يجب القصاص على أحد القاتلين لأن هناك الفعلان اجتمعا في محل واحد وأحدهما موجب والآخر غير موجب ودم المقتول لا يتميز بعضه عن بعض.
قال: ولكل وارث في دم العمد نصيب بميراثه يجوز فيه عفوه وصلحه أما الدية إذا وجبت بالقتل فلكل وارث فيها نصيب عندنا وقال مالك لايرث الزوج الزوجة من الدية شيئا لأن وجوبها بعد الموت والزوجية تنقطع بالموت .
وحجتنا في ذلك حديث الضحاك بن سفيان الكلابي أنه أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم وقد كان عمر يقول لا ميراث للزوج والزوجة من الدية ثم رجع إلى هذا الحديث وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقسم الدية على من أحرز الميراث وعنه قال إذا أوصى الرجل بثلثه دخلت ديته في تلك الوصية ولأن بدل نفسه كسائر أمواله حتى يقضي منه دينه فيرث منه جميع ورثته كسائر الأموال وكذلك يثبت(26/288)
ص -141- ... حق الزوج والزوجة في القصاص عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى لا يثبت حقهما في القصاص لأن سبب استحقاقهما العقد والقصاص لا يستحق بالعقد .
ألا ترى أن حق الموصى له لا يثبت في القصاص وهذا لأتان المقصود في القصاص التشفي والانتقام وذلك يختص به الأقارب الذين ينصر بعضهم بعضا .
وحجتنا في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من ترك مالا أو حقا فلورثته" والقصاص حقه لأنه بدل نفسه فيكون ميراثا لجميع ورثته كالدية والدليل عليه أن استحقاق الإرث بالزوجية كاستحقاقه بالقرابة حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد وبه فارق الوصية وبهذا تبين أن الاستحقاق ليس بالعقد .
وإذا كان دم العمد بين رجلين فعفي أحدهما فلا قود على القاتل لما روي أن هذه الحادثة وقعت في زمن عمر رضي الله عنه فشاور فيها بن مسعود فقال أرى هذا قد أحيا بعض نفسه فليس للآخر أن يتلفه فأمضى عمر رضي الله عنه القضاء على رأيه وهو المعني فإن العافي أسقط حقه وهو من أهل الإسقاط فصح إسقاطه وبإسقاطه حق بعض نفس القاتل والآخر يعجز عن استيفاء حقه لأن القتل لا يحتمل التجزي في نفس واحدة استيفاء ثم القصاص في نفس واحدة كما لا يتجزأ وجوبا لا يتجزأ سقوطا .
وإذا ثبت أن الآخر تعذر عليه استيفاء حقه قلنا: إنما تعذر استيفاؤه لمعنى في القاتل وهو مراعاة الحرمة لبعض نفسه فكان في معنى الخطأ فيجب المال للآخر ولا يجب للعافي شيء لأن تعذر استيفاء القصاص في حقه كان بإسقاطه ثم للآخر نصف الدية في مال القاتل لأن سببه العمد المحض ويكون في ثلاث سنين عندنا وقال زفر في سنتين لأنه ما وجب للآخر إلا نصف الدية ونصف الدية يكون مؤجلا في سنتين كما لو قطع يد إنسان ولكنا نقول حقهما في بدل النفس وبدل النفس مؤجل في ثلاث سنين إذا وجب بالقتل كالأب إذا قتل ابنه عمدا والذي وجب للآخر جزء من بدل النفس فكل جزء منه كذلك .(26/289)
وإذا كان دم العمد بين اثنين فشهد أحدهما على الآخر أنه قد عفي فهذا على أربعة أوجه إن صدقه في ذلك القاتل والمشهود عليه فللشاهد نصف الدية لأن ثبوت العفو من الآخر بتصادقهما عليه كثبوته بالمعاينة وإن كذباه في ذلك فللمشهود عليه نصف الدية ولا شيء للشاهد لأنه تعذر على المشهود عليه استيفاء نصيبه من القود لا لمعنى من جهته بل بشهادة الشريك عليه بالعفو وهو فيما يشهد به عليه متهم فيكون كاذبا في حقه ويجعل ذلك بمنزلة إنشاء العفو من الشاهد فيسقط حق الشاهد ويجب نصف الدية للمشهود عليه وإن صدقه القاتل وكذبه المشهود عليه فلكل واحد منهما نصف الدية في مال القاتل أما المشهود عليه نصف الدية لما قلنا: فإن القاتل والشاهد لا يصدقان عليه في إسقاط حقه وأما الشاهد فقد زعم أن نصيبه انقلب مالا بعفو شريكه وصدقه القاتل بذلك وأما إذا كذبه القاتل وصدقه المشهود عليه ففي القياس لا شيء لواحد منهما على القاتل لأن حق الشاهد قد سقط بغير(26/290)
ص -142- ... عوض فإن شهادته بالعفو في حق من كذبه وهو القاتل بمنزلة إنشاء العفو وأما المشهود عليه فلأنه قد أقر بالعفو المسقط لحقه.
وفي الاستحسان: يجب نصف الدية للشاهد لأنه لما كذب القاتل الشاهد فقد وجب نصف الدية على القاتل للمشهود عليه بدليل أن المشهود عليه لو لم يصدق الشاهد كان له من المشهود عليه على القاتل نصف الدية فالمشهود عليه بهذا التصديق حول ذلك النصف إلى الشاهد وزعم أن نصف الدية للشاهد على القاتل لا له .
ومن أقر لإنسان بشيء فأقر المقر له لغيره به لا يصير رد الإقرار الأول ولكن يخول الحق إلى الثاني بإقراره أو كان شهد معه آخر لأن الشاهد من الوليين بشهادته على العفو متهم فإنه يقصد بشهادته أن يحول نصيبه إلى المال فلم يكن مقبول الشهادة وبشهادة الواحد لا يثبت العفو على الشريك .
ولو شهد كل واحد منهما على صاحبه أنه قد عفا والقاتل لا يدعي ذلك ولا ينكره فإن شهدا على التعاقب فالذي شهد أول مرة قد بطل حقه لأن شهادته بمنزلة عفوه ووجب لصاحبه نصف الدية فلا يبطل ذلك بشهادته بعد ذلك على شريكه بالعفو وإن شهدا معا فلا شيء لواحد منهما في هذا الفصل لأن كل واحد منهما بمنزلة العافي فيسقط حقهما منه بغير عوض وكذلك لو كذبهما القاتل. وإن صدق القاتل أحدهما وكذب الآخر أعطي الذي صدق نصف الدية وبطل حق الآخر لأن كل واحد منهما يدعي لنفسه نصف الدية عليه وقد صدق أحدهما فيلزمه نصف الدية له وكذب الآخر وهو قد صار في حقه كالعافي وإن صدقهما أنهما قد عفوا ينبغي في قياس هذا القول أن يضمن الدية لهما لأنه صار يقر لكل واحد منهما بنصف الدية على نفسه كما إذا صدق أحدهما ولكن في الاستحسان لا ضمان عليه لواحد منهما لأن في تصديقه إياهما تكذيبهما فكل واحد منهما يزعم أنه ما عفا وإنما عفا شريكه وهو إذا زعم أنهما عفوا فقد صار مكذبا لكل واحد منهما وقد يثبتان أنه لو كذبهما جميعا لم يكن لكل واحد منهما عليه شيء من الدية .(26/291)
ولو كان الدم بين ثلاثة نفر فشهد اثنان على الثالث أنه قد عفا فشهادتهما باطلة لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا بشهادتهما فإن نصيبهما من القصاص ينقلب مالا بها وقد سقط القود لإقرارهما بذلك فإن كذبهما القاتل أعطي المشهود عليه ثلث الدية ولم يكن للشاهدين شيء لما بين أن شهادتهما كإنشاء العفو منهما وإن صدقهما أعطاهما الدية أثلاثا لإقراره للشاهدين بما ادعيا عليه من ثلثي الدية وإن لم يصدق ولم يكذب فهو بمنزلة التكذيب والشهادة على الصلح بذلك كالشهادة على العفو فإن كان معهم شريك رابع لم يشهد ولم يشهد عليه فله حصته من الدية لأنه تعذر عليه استيفاء القود لا بمعنى من جهته مع بقاء المحل ثم العفو عن(26/292)
ص -143- ... القود مما يثبت مع الشهادة فيثبت بالإبذال مع الحجج كالمال وإن ادعى القاتل العفو على الورثة ولا بينة له حلف الوارث على ذلك لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه فإن حلف أحد بالقصاص لا يحلف بل بالقتل السابق ولكن يحلفه كما انتفى ما ادعاه من العفو وإن نكل عن اليمين بطل حقه لأن نكوله كإقراره ولشركائه حصتهم من الدية كما لو أقر الناكل العفو وإن شهد شاهدان للقاتل أنه صالح على الدية وإنهما كفلا عنه بعد ذلك في غير صلح والولي منكر لذلك لم تجز شهادتهما إن ذكرا أن الكفالة كانت في الصلح لأن الصلح المشروط فيه كفالة الكفيل بعينه لا يتم إلا بقبوله فإنما يشهدان على عقد تم بهما وهو الصلح الذي تم بكفالتهما فيكون هذا شهادة على فعل أنفسهما فلا تقبل.
وإن ذكرا أنها بعد الصلح فشهادتهما على الصلح جائزة لأنهما أجنبيان لا تهمة في شهادتهما ويؤخذان بالكفالة بإقرارهما على أنفسهما ولا يرجعان بذلك على الذي كفلا عنه إلا أن يكون أمرهما بذلك لأن الكفيل بغير الآمر متبرع فيما يلزم ويؤدى وإن ادعى الولي شهادتهما وجحد ذلك القاتل جازت شهادتهما على أنفسهما لأن القود قد سقط بدعوى الولي الصلح وقد أقر بوجوب المال عليهما وعلى القاتل ويلزمهما ما أقرا به على أنفسهما ولا يرجعان على القاتل بشيء لأن إقرارهما ليس بحجة عليه .(26/293)
وإذا شهد شاهدان على العفو وقضى القاضي ثم رجعا فلا ضمان عليهما لأن القود ليس بمال والشاهد عند الرجوع إنما يضمن ما أتلف من المال بشهادته فأما ما ليس بمال فيما هو مبتذل لا يكون مضمونا بالمال عند الإتلاف وقد بينا هذا في الرجوع عن الشهادات وإن لم يقض القاضي بشهادتهما حتى رجعا فالقصاص كما هو على حاله لأن الشهادة لا توجب شيئا ما لم يتصل بها القضاء فإذا لم يقض القاضي ها هنا لم يسقط القود فانعدم المانع من استيفاء القود واختلاف شهود العفو في الوقت والمكان لا يمنع قبول الشهادة لأن العفو قول يعاد ويكرر فيكون الثاني هو الأول. ولو شهدا على أحد الورثة بالعفو ولم يعرفوا أنه هو فشهادتهما باطلة لأن المشهود عليه مجهول وجهالته تمنع القاضي من القضاء بالشهادة فيبقى القصاص كما كان ولو شهد أحدهما أنه عفا على ألف درهم وشهد الآخر أنه عفا على غير جعل فالشهادة باطلة لاختلافهما في المشهود به وهو نظير الطلاق والعتاق إذا اختلف الشاهدان فيه بهذه الصفة وكذلك إن شهد أحدهما بالصلح بألف والآخر بخمسمائة لأن القاتل لا بد أن يدعي شهادة أحدهما وهو الذي شهد بخمسمائة فيكون مكذبا شهادة الآخر وهو شهادة من شهد بألف وإن لم يدعه القاتل وادعاه ولي الدم فقد جاز العفو بإقرار الولي بسقوط حقه في القود ثم لا يقضي بشيء من المال عند أبي حنيفة لما ذكرنا أن المدعي مكذب أحد الشاهدين وعندهما يقبل في الأقل لأن مدعي ألف مدع بخمسمائة ضرورة فهذا بمنزلة اختلافهم في دعوى المال مطلقا وكذلك إن شهد أحدهما بالصلح على عبد والآخر بالصلح على ألف درهم لأن كل واحد منهما شهد بعقد(26/294)
ص -144- ... آخر والمدعي لا بد أن يدعي أحد العقدين فيكون مكذبا شهادة الآخر وعفو الأب والوصي عن قصاص واجب للصغير باطل لأنه فوض إليهما استيفاء حقه شرعا لا إسقاطه وإسقاطه القصاص كإسقاطه دينا واجبا للصبي فأما استيفاء القصاص فيؤل للأب أن يستوفي القصاص الواجب للصغير في النفس وما دون النفس عندنا وقال الشافعي ليس له ذلك لأن من أصله أن الابن يتخير بين استيفاء القصاص واستيفاء الدية والأب بهذا الاستيفاء يقطع عليه خياره وذلك لا يصلح منه ثم المقصود من القصاص التشفي والانتقام وذلك لا يحصل للصغير باستيفاء أبيه والدليل عليه أن الصغير إذا بلغ ربما يميل إلى العفو فلو استوفاه الأب كان ذلك استيفاء مع شبهة العفو وأصحابنا رحمهم الله يقولون ولاية الأب على ولده الصغير في استيفاء حقوقه كولايته على نفسه.
ألا ترى أنه يجمع المال والنفس جميعا وإنما تثبت له هذه الولاية نظرا للصبي وفي استيفاء القود نظر له لأنه ربما يفوت بموت القاتل أو بهربه فالظاهر أنه إذا لم يستوف القصاص على فور القتل فعل ما لا يتمكن من استيفائه بعد ذلك ثم المقصود يحصل للصبي باستيفاء أبيه إذا بلغ لأنه إذا لم ير قاتل وليه بعد البلوغ وعلم أنه قتل قصاصا حصل التشفي نظير ما لو زوجه الأب فإنه يصح وإن كان المقصود يحصل له بعد البلوغ على أن المقصود أن يندفع عنه شر القتل وذلك يحصل باستيفاء أبيه في الحال وشبهة عفو بتوهم وجوده في الحال تمنع استيفاء القود فأما شبهة عفو بتوهم اعتراضه في الثاني فلا يمنع لأنه ما من ولي إلا ويتوهم أن يبدو له فيعفو ولا معنى لما قال أن فيه قطع خياره لأن للأب أن يبيع مال ولده ولو بلغ الصبي قبل البيع كان مخيرا بين استيفاء العين وبين إزالته بالبيع ثم لم يكن بيعه قطعا لخياره فهذا مثله.(26/295)
وليس للوصي أن يستوفي القصاص في النفس لأن تصرف الولي مقصور على المال والقصاص في النفس ليس بمال وفي استيفاء الوصي القصاص في الطرف روايتان أظهرهما أن له أن يستوفي لأن الطرف يسلك به مسلك الأموال بدليل أنه يعتبر فيه التساوي في البدل وفي الرواية الأخرى ليس له أن يستوفي لأن القصاص في الطرف ليس بمال كالقصاص في النفس فإن صالح الأب على ابنه جاز صلحه لأنه يملك الاستيفاء وهو في ذلك كالقصاص الواجب له فكذلك الصلح على الدية وإن حط من الدية لم يجز حطه واليسير والفاحش في ذلك سواء بخلاف البيع لأن البدل هناك غير مقدر شرعا وهنا مقدر وهو الدية فالنقصان عنه يكون إسقاطا فلا يصح منه قل أو كثر .
وصلح الوصي عن النقصان في النفس على الدية يجوز في رواية هذا الكتاب ولا يجوز في رواية الصلح وقد بينا الروايتين وإذا لم يكن للمقتول ولي سوى السلطان فقد بينا الكلام فيه في اللقيط وإن كان للدم وليان أحدهما غائب فادعى القاتل أن الغائب عفا عنه وأقام البينة على ذلك وأبى قتله وأجيز العفو من الغائب لأن الحاضر خصم عن الغائب فانتصب هنا(26/296)
ص -145- ... الحاضر خصما عن الغائب وإذا قضى بالعفو ثم حضر الغائب لم يعد عليه لأن القضاء اتصل بالبينة على من هو خصم ويكون للحاضر حصته من الدية .
وإذا ادعى عفو الغائب ولم يكن له بينة فأراد أن يستحلف فإنه يؤخر حتى يقدم الغائب فيحلف لأنه لو استحلف الحاضر على ذلك كان بطريق النيابة والنيابة لا تجري في الأيمان وليس للحاضر استيفاء القود ما لم يقدم الغائب قبل دعوى العفو فبعد دعوى العفو أولى فإذا قدم فحلف اقتص منه فإن ادعى بينة حاضرة على العفو أجله الحاكم ثلاثة أيام لأنه لا يتمكن من إقامة الحجة إلا بمهلة وإنما لم يحضر شهوده في المجلس الأول على ظن أن الخصم لا ينكر العفو فلا بد من إمهاله إلى المجلس الثاني وقد كان القاضي فيهم يجلس بنفسه في كل ثلاثة أيام إذ الثلاثة مدة حسنة لإيلاء الأعذار كما في شرط الخيار فإن مضت الثلاثة ولم يأت بهم وادعى بينة غائبة فهما سواء في القياس وينبغي في قياس قولنا أن يمضي القضاء عليه بالقصاص كما في المال إذا ادعى بينة غائبة على الإبراء وهذا لأن السبب المطلق لاستيفاء القصاص قد ظهر والمانع موهوم والموهوم لا يعارض المتحقق فليس كل غائب يؤوب .
قال: ولكني أستعظم ولا أعجل فيه بالقصاص حتى أثبت فيه وأستأني به ولا أعجله لأن استيفاء القصاص إذا وقع الغلط فيه لا يمكن التدارك والتلافى وعلى الإمام أن يتثبت في مثله ثم القصاص لا يستوفى مع الشبهة فباعتبار توهم حضور شهوده يتأنى فيه القاضي حتى لا يكون مستوفيا مع الشبهة بخلاف المال .(26/297)
وإذا شهد شاهدان على أحد الورثة بعينه بالعفو أو بأنه أقر أن فلانا لم يقتل فالشهادة جائزة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عايناه عفا أو أقر بذلك سقط القصاص سواء أقر بذلك في صحته أو مرضه لأن العفو عن القود ليس بمال وإذا كان الدم بين اثنين فعفا أحدهما ثم قتله الآخر عمدا فإن لم يعلم بعفو الشريك أو علم بذلك ولم يعلم أن يعفو أحدهما يسقط القود فعليه الدية كاملة في ماله عندنا وقال زفر عليه القصاص وإن كان فقيها يعلم أن القود يسقط بعفو أحد الشريكين فعليه القصاص أما زفر فيقول القود سقط بعفو أحدهما علم الآخر أو لم يعلم اشتبه عليه حاله أو لم يشتبه فإنما بقي مجرد الظن في حق الآخر والظن غير مانع من وجوب القصاص بعد ما تقرر سببه كما لو قتل رجلا على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا كان عليه القصاص .
وحجتنا في ذلك أنه قد علم وجوب القصاص وما علم ثبوته فالأصل بقاؤه ما لم يعرف المسقط فإذا لم يعلم العفو كان القصاص واجبا في حقه ظاهرا والظاهر يصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وكذلك إذا علم بالعفو ولم يعلم أن القود سقط به لأن الظاهر أن تصرف الغير في حقهم غير نافذ وسقوط القود عند عفو أحدهما باعتبار معنى خفي وهو أن القصاص لا يحتمل التجزي فإنما اشتبه عليه حكم قد يشتبه فيصير ذلك بمنزلة الظاهر في إيراث الشبهة بخلاف ما إذا علم بالعفو فإن هناك قد ظهر المسقط عنده وأقدم على القتل مع(26/298)
ص -146- ... العلم بالحرمة وقد يجوز أن يسقط القود باعتبار ظنه كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا فإذا هو مسلم وإذا سقط القود عنه بالشبهة لزمه الدية في ماله لأن فعله عمد ثم يحسب له منها نصف الدية لأن بعفو الشريك وجب له نصف الدية على هذا الذي قتله فيكون نصف الدية قصاصا بنصف الدية ويؤدى ما بقي .
وإذا وجب القصاص على رجل فقتله ولي الدم بسيف أو عصا أو وقع في بئر حفرها في الطريق أو عثر بحجر وضعه في الطريق لم يكن عليه في ذلك شيء لأن دم من عليه القصاص في حق من له القصاص كالمباح فإن الدم لا يملك وإنما يتمكن من استيفاء القصاص بطريق الإباحة وذلك يمنع وجوب الضمان عليه إذا صار قاتلا له بالمباشرة أو بالسبب يوضحه: أن هذا بمنزلة استيفاء القصاص منه وإن لم يكن بطريقه لأن استيفاء القصاص بفعل يتصل به زهوق الروح وقد وجد ذلك منه بطريق التسبب أو بطريق المباشرة فإن كان له وليان فعفا أحدهما ثم أصابه هذا الأحد بعد العفو فعلى عاقلته الدية في جميع ذلك إلا بالسيف فإنها في ماله لأن القود سقط بعفو أحدهما وصار في حكم القتل الموجب للمال عليه كان ما سبق لم يكن .
فإذا أخذ الدية أولياء القتيل خطأ رجع هذا القاتل خطأ بنصف الدية التي أخذها أولياء المقتول خطأ لأنه بعفو شريكه انقلب نصيبه مالا وكان ذلك في ذمة القاتل وبدل نفسه بمنزلة تركته فيستوفى منه ما كان واجبا له في ذمته ولا مقاصة ها هنا لاختلاف المحل فإن بدل نفسه على عاقلة ولي الدم الذي لم يعف ولو قتله غير الولي بغير أمر الولي عمدا أو خطأ بطل دم الأول ولا شيء لوليه ويكون على القاتل الآخر القصاص في العمد والدية على عاقلته في الخطأ لأن حرمة نفسه في حق غير الولي قائمة كما كانت وسقط حق المولى لفوات محله وقد بينا أن الثابت في حقه إباحة الاستيفاء أو الملك في حق الاستيفاء خاصة وذلك لا يتحول إلى البدل كملك الزوج في زوجته لا يثبت فيه البدل إذا وطئت بالشبهة .(26/299)
وإذا قتله فقال الولي أنا كنت أمرته فإن أقام بينة على هذا فلا شيء على القاتل الثاني لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فإن لم يكن له بينة فعليه القصاص في العمد والدية على عاقلته في الخطأ لأنه أقر بما لا يملك استيفاءه لأن حقه قد سقط لفوات المحل فهو فيما يدعي بعد ذلك كأجنبي آخر وبدل نفس المقتول الثاني واجب لورثته لا قول لولي الأول في إسقاط حقهم قصاصا كان أو مالا والله أعلم بالصواب.
باب العفو في الخطأ وغير ذلك
قال رحمه الله رجل قتل رجلا خطأ فالدية بين جميع الورثة والموصى له بالثلث كسائر التركة لأن الدية مال هو بدل نفسه فيكون تركة له بعد موته كسائر أمواله وقد بينا الاختلاف في الزوج والزوجة وقد كان في السلف من يقول لا شيء للأخوة للأم من الدية وإنما الدية للعصبات خاصة وقيل هو قول عمر رضي الله عنه الأول ولهذا ذكر في الأصل عن علي(26/300)
ص -147- ... رضي الله عنه أنه كان ينسب عمر رضي الله عنه إلى الظلم مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينما دار عمر فالحق معه" وفي رواية "أينما دار الحق فعمر معه" وقد صح رجوع عمر عن هذا حيث روى له الضحاك بن سفيان الكلابي الحديث كما روينا ولا حق للموصى له بالثلث في دم العمد لأن موجبه القصاص وليس بمال ولا يحتمل التمليك بالعقد وكما لا يثبت له حق الشركة في الاستيفاء فكذلك لا يعتبر عفوه فيه فإن صولح القاتل على مال دخل فيه الموصي له لأنه الواجب بدل نفسه فيكون تركة له يقضي منه ديونه وينفذ وصاياه بمنزلة الواجب في قتل الخطأ ثم هو شريك الورثة في التركة فيجوز عفوه بعد الصلح في نصيبه كما يجوز عفو الوارث.
وليس للغرماء عفو في عمد ولا خطأ أما العمد فلأن موجبه ليس بمال ولا حق للغرماء فيه وأما الخطأ فلأنه ليس في عفوهم عن الدية إسقاط شيء من ديتهم وإنما ولاية التصرف لهم في محل حقهم فإذا لم يلاق هذا التصرف منهم محل حقهم كان باطلا وإذا عفا الرجل عن دمه وهو خطأ ثلثه في مرضه الذي مات فيه جاز عفوه من ثلثه لأن الواجب الدية على عاقلته فيكون عفوه وصية منه للعاقلة وذلك صحيح من ثلثه وما فيه من الإشكال بيناه في الوصايا .
فإن كان أوصى مع ذلك بوصايا تحاص أهل الوصايا والعاقلة في ثلثه فسقط عن العاقلة حصتهم وما سوى ذلك من نصيب أصحاب الوصايا والورثة يكون مؤجلا على العاقلة في ثلاث سنين اعتبارا للبعض بالكل وهذا تبيان أن الواجب على العاقلة لأنه لو كان على القاتل لكان الأجل سقط بموته فإن أعتق عبدا بدئ به من الثلث لأن العتق أقوى سببا من سائر الوصايا ومن العفو فإنه إسقاط للرق بمنزلة الإبراء عن دين آخر وإن لم يعف الميت ولكن عفا بعض الورثة بطلت حصة العافي إلا أن يكون على الميت دين مستغرق وهو بمنزلة الإبراء عن دين آخر .(26/301)
إذا شهد شاهدان من الورثة على بعضهم أنه عفا عن حصته والقتل خطأ فشهادتهما جائزة لأنهما لا يجران إلى أنفسهما شيئا بشهادتهما بخلاف العمد فهناك ينقلان حقهما من القصاص إلى الدية بشهادتهما ولو كان الشاهدان أخذا طائفة من الدية ثم شهدا بذلك لم تجز شهادتهما لأنهما يدفعان حق الثالث عن أنفسهما وقد كان للوارث الآخر حق المشاركة معهما فيما أخذا وإنما يسقطان ذلك بشهادتهما لأنهما ولو لم يأخذا شيئا حتى شهدا على الثالث أنه أخذ مالا وصالح عليه لم تجز شهادتهما لأنها يجران بها إلى أنفسهما مغنما فإنه يثبت لهما حق المشاركة مع القابض في المقبوض وشهادة جار المغنم أو دافع المغرم لا تقبل .
وإن شهد وارثان على القتيل أنه عفا عند موته عن القاتل فشهادتهما جائزة والعفو من ثلثه فإنه لا تهمة في شهادتهما فإذا شهد شاهدان على عفو الورثة وهم كبار فأجازه القاضي وأبرأ القاتل ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الدية لأن الواجب كان هو المال للورثة وقد أتلفا ذلك عليهم بشهادتهما فيضمنان عند الرجوع كما لو شهدا بالإبراء عن دين آخر(26/302)
ص -148- ... ولو شهد شاهدان في دم العمد على أحد الورثة بعينه أنه أخر القاتل اليوم إلى الليل على ألف درهم لم يكن ذلك عفوا ولا مال له لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وليس في هذا التأخير إسقاط شيء من القود والقود الواجب له في حكم العين فالتأجيل فيه يكون باطلا ولا مال له لأن القاتل لم يستفد شيئا بهذا التأخير وإن شهدا أنه أخذ منه ألف درهم على أن يعفو عنه يوما إلى الليل فهذا عفو وهو صلح جائز لأن العفو إسقاط للقود وهو لا يقبل التوقيت فيلغو التوقيت منه ويصح العفو بالمال المسمى بمنزلة الطلاق .
وذكر عن زيد بن وهب قال وجد رجل مع امرأته رجلا فقتلهما بالسيف فاستحيا بعض أخوتها مما فعلت فعفا عنه فجعل عمر رضي الله عنه للذي لم يعف حصته من الدية .(26/303)
ولو أن رجلا أخذ السكين فوجأبه رأس إنسان فأوضحه ثم جر السكين قبل أن يرفعها حتى شجه أخرى فهذه موضحة واحدة وعليه فيها القصاص إن كانت عمدا وأرش موضحة واحدة إن كانت خطأ لأن الفعل واحد لاتحاد محله فالتوسع مبالغة منه في ذلك الفعل فلا يعطى له حكم فعل آخر ولو رفع السكين ثم وجأ إلى جهة أخرى اتصل أو لم يتصل فهذه موضحة أخرى اقتص منه في العمد وعليه أرش موضحتين في الخطأ لأنهما فعلان مختلفان باختلاف المحل واختلاف المباشرة فكأنهما حصلا من اثنين ثم اتصال إحداهما بالأخرى على وجهين فإن كان ذلك بفعله فلا شك أن عليه القصاص فيهما وإن كان ذلك بأن تأكل ما بينهما حتى اتصلت إحداهما بالأخرى فعلى قول أبي حنيفة لا قصاص فيهما وعلى قول محمد يجب القصاص وهو بناء على ما سبق فمن أصل أبي حنيفة أن باعتبار السراية فيما دون النفس يمتنع وجوب القصاص في محل واحد وفي مجلس لأن العمد المحض فيما دون النفس لا يتحقق بالسراية وعلى قول محمد إذا كانت السراية بحيث يمكن إيجاب القصاص فيها لم يمتنع استيفاء القصاص بسببها وقد بينا ذلك فيما إذا قطع أصبعا فشلت إلى جنبها أخرى أو سقطت وإذا فقأ الرجل عين الرجل وفي عين الفاقى ء فالمفقوءة عينه بالخيار لأن نقصان البصر في العين بمنزلة الشلل أو فوات الأصبع في اليد وقد بينا أن هناك إن كان النقصان في جانب الجاني فالمجني عليه بالخيار بين استيفاء القصاص وبين استيفاء الدية وإن كان النقصان في جانب المجني عليه لم يجب القصاص فهذا مثله.
وإذا لم يجب القصاص كان الواجب فيها حكم عدل لأن كمال الأرش باعتبار تفويت البصر الكامل ولم يوجد والقدر الباقي من البصر مع النقصان غير معلوم فيكون الواجب فيها حكم عدل كمن قطع يد أشلاء ولو قطع يد رجل وفيها ظفر مسود لو خرج لا ينقصها فعليه القصاص لأن ما حدث في يده لم ينقص من منفعة البطش شيئا ومثله لا يمكن نقصانا في بدله كالصغر وسواد اليد أصلا.(26/304)
وإذا ثبتت المساواة في الأرش ثبت وجوب القصاص وإذا قطع الرجل من كف الرجل أظفار يده ففيها حكم عدل لأن هذه الجناية لا تفوت منفعة البطش ولكن يتمكن فيها نقصان(26/305)
ص -149- ... فيجب باعتباره حكم عدل وإذا علم أن الواجب حكم العدل ظهر أنه لا قصاص فيها لأن القصاص ينبني على معرفة المساواة في البدل حقيقة.
ولو قطع من كف رجل أصبعا زائدة ففيها حكم عدل لأن الأصبع الزائدة نقصان معنى فتفويتها لا يمكن نقصانا في البطش وإنما يلحق به ألما وشينا في الظاهر باعتبار الأثر فيجب حكم عدل باعتباره ولا قصاص فيها وإن كان للقاطع مثل تلك الأصبع لانعدام المساواة في البدل فبدل اليد ينقسم على الأصابع الخمس أخماسا ولا ينقسم على الأصبع الزائدة وإنما الأصبع الزائدة كالثؤلول وإن قطع الكف كله فإن كانت تلك الأصبع توهي الكف وتنقصها فلا قصاص فيها وفيها حكم عدل لأن هذا نوع شلل من حيث أنه يمكن نقصانا في منفعة البطش وإن كان لا ينقصها ولا يوهيها ففيها القصاص وفي الخطأ الأرش كاملا لأن ما لا يمكن نقصانا في منفعة البطش فهو بمنزلة الصغر والضعف بسبب المرض .
وإذا قطع الرجل يد الرجل من المفصل وبرأت واقتص وبرأ المقتص منه ثم قطع أحدهما ذراع صاحبه من تلك اليد فلا قصاص فيه وإن كانا سواء إلا في رواية عن أبي يوسف قال إذا استويا يجب القصاص لأنه قطع من المفصل فيمكن اعتبار المساواة فيه ولكنا نقول الواجب في الذراع بعد قطع الكف حكم عدل فطريق معرفته التقويم فلا يعلم به حقيقة المساواة بينهما في البدل وبدون ذلك لا يجب القصاص والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في القصاص
قال رحمه الله: إذا شهد رجلان على رجل أنه ضرب رجلا بالسيف فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القصاص بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فقد ظهر بموته هذا السبب ولم يعارضه سبب آخر فيجب إضافة الحكم إليه والروح لا يمكن أخذه مشاهدة وإنما طريق الوصول إلى إزهاق الروح هذا وهو أن يجرحه فيموت قبل أن يبرأ.(26/306)
يوضحه: أنه لا طريق لنا إلى حقيقة معرفة كون الموت من الضربة وما لا طريق لنا إلى معرفته لا تبنى عليه الأحكام وإنما يبنى على الظاهر المعروف وهو أنه يضربه ويكون صاحب فراش بعده حتى يموت ولا ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود هل مات من ذلك أم لا لا في العمد ولا في الخطأ لأنه لا طريق لهم إلى معرفة ذلك .
ولو شهدوا بذلك كانوا قد شهدوا بما يعلم القاضي أنهم فيه كذبة فكيف يحملهم على الكذب بالسؤال عن ذلك ولكنهم إن شهدوا أنه مات من ذلك لم تبطل شهادتهم وجازت إن كانوا عدولا لأنهم اعتمدوا في ذلك دليلا شرعيا وهو الظاهر كما قررنا وإن كان بهذا الطريق يحصل علم القضاء للقاضي ويحصل له أيضا علم الشهادة إلا أنه لا حاجة بالقاضي أن يسألهم عن ذلك لأنه يعرف ذلك بدون شهادتهم فلا يسألهم عنه.
ولو شهدوا به لم يبطل شهادتهم لأن المشهود به الكلام الأول فهذه الزيادة لا تكون(26/307)
ص -150- ... قدحا فيها بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا ابنه ووارثه لا وارث له غيره وإذا شهدوا أنه ضربه بالسيف حتى مات ولم يزيدوا على ذلك فهذا عمد لأن كل فاعل يكون قاصدا إلى فعله في المحل الذي باشر الفعل فيه إلا أن القاضي إذا سألهما أتعمد ذلك فهو أوثق لأن صفة العمدية وإن ثبتت بأول كلامهما من حيث الظاهر ولكن لم ينقطع احتمال الخطأ.
ألا ترى أن الشهود لو بينوا أن ذلك كان خطأ كان ذلك بيانا موافقا لأول الكلام فسؤالهما عن العمدية لإزالة هذا الاحتمال يكون أوثق وهكذا يوثق فيما إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه والقاضي مندوب إليه.
وكذلك إن شهدا أنه طعنه برمح أو رماه بسهم أو نشابة فهذا كله عمد.
أرأيت لو شهدا أنه ذبحه أو شق بطنه بالسكين حتى مات أما كان ذلك عمدا فكذلك ما سبق لأن الأسلحة في كونها آلة القتل سواء.
وإن شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه طعنه برمح أو أنه ذبحه بالسكين أو شهد أحدهما أنه رماه بسهم والآخر أنه رماه بنشابة أو اختلفا في مكان القتل أو وقته أو موضع الجراحة من بدنه فالشهادة باطلة لأن الفعل يختلف باختلاف الآلة والمحل والوقت والمكان فإنه لا يحتمل التكرار ولم يوجد على كل فعل إلا شهادة شاهد واحد .
ولو شهد شاهدان أنه قطع يده عمدا من مفصله وشهد شاهد أنه قطع رجله من المفصل ثم شهدوا جميعا أنه لم يزل صاحب فراش حتى مات والولي يدعي ذلك كله عمدا فإني أقضي على القاتل بنصف الدية في ماله لأن قطع الرجل لم يثبت عند القاضي فإن الشاهد به واحد وقد ثبت قطع اليد من المفصل عند القاضي بشهادة الشاهدين ولكن قد أقر الولي أنه مات من ذلك الفعل ومن فعل آخر لم يعلم فاعله فيكون ذلك شبهه في إسقاط القود ويتوزع بدل النفس نصفين فيلزمه نصف الدية في ماله لأن فعله كان عمدا فلا يعقله العاقلة وإقرار الولي حجة عليه في حقه .(26/308)
وكذلك لو شهد على الرجل شاهدان فلم يزكيا لأن الحجة في الرجل لا تتم بدون عدالة الشهود فهما وما لو كان الشاهد به واحدا سواء ولو زكى أحد شاهدي اليد وأحد شاهدي الرجل لم يؤخذ القاتل بشيء لأن واحدا من الفعلين لم يثبت عند القاضي فإن العدل من الشهود بكل فعل واحد ولا يقال قد اتفق العدلان على الحكم وهو القصاص فينبغي أن يقضي به لأنه لا يمكن القضاء بالحكم إلا بعد القضاء بالسبب وقد تعذر القضاء بذلك.
ألا ترى أنه لو شهد عليه رجل أنه قطع أصبعا له وشهد الآخر أنه استهلك له ألف درهم لم يقض القاضي عليه بشيء فإن اتفقا على وجوب الألف له في ماله فإن نكلوا جميعا قضيت عليه بالقصاص لأن الفعلين ظهرا بالحجر عند القاضي فإن طلب الولي أن يقتص من اليد والرجل لم يكن له ذلك لأنه لما اتصلت بفعله السراية كان ذلك قتلا فيكون حقه في القصاص في النفس مقصودا دون الأطراف وقد بينا خلاف الشافعي في هذا(26/309)
ص -151- ... ولو شهد الشاهدان عليه أنه قطع يده من المفصل عمدا ثم قتله عمدا كان لوارثه أن يقتص من يده ثم يقتله فإن قال القاضي له اقتله ولا تقتص من يده فذلك حسن أيضا وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يأمره بقتله ولا يجعل له القصاص في يده لأن الجنايتين تواليا من واحد وهما من جنس واحد فيكونان كجناية واحدة.
ألا ترى أن في الخطأ لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب إلا دية واحدة لهذا المعنى وهذا لأن قبل البرء الجناية الأولى كانت موقوفة في حق الحكم على السراية فالفعل الثاني يكون إتماما لما يوقف عليه الجناية الأولى فيجعلان كجناية واحدة بخلاف ما إذا تخلل بين الجنايتين برء فإن هناك الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبرء فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين لأن الفعل من الأول ما توقف على أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص آخر فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول وبخلاف ما إذا كان أحد الفعلين عمدا والآخر خطأ لأن باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل.(26/310)
وإيضاح جميع ما ذكرنا في فصل الخطأ أنه لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب إلا دية واحدة كذا هنا وأبو حنيفة يقول أن القصاص يبنى على المساواة في الفعل والمقصود بالفعل في القتل والقطع جميعا مراعاة المساواة في صورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما إلى أن يقطع الإمام عليه هذا الخيار بأن يأمره باعتبار المقصود وهو القتل وإن يترك الاستيفاء بمراعاة الصورة وهذا منه اجتهاد في موضعه فعليه أمره به وبه فارق الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الإهدار لا صورة الفعل لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا ثم مبنى العمد على التغليظ والتشديد ولهذا يقتل العشرة بالواحد وفيه مراعاة صورة الفعل مع التغليظ أيضا فيجوز اعتبار ذلك في العمد بخلاف الخطأ فإنه مبني على التخفيف.
ألا ترى أن الدية لا تتعدد بتعدد القاتلين وفي العمد المقصود هو التشفي والانتقام وفي التمكن من القطع والقتل جميعا زيادة تحقيق في هذا المقصود.
وكما أن القتل بعد القطع يكون إتماما للفعل الأول من وجه فقد يكون قطعا لموجب الفعل الأول بمنزلة البرء من حيث أن المحل يفوت به ولا تصور للسراية بعد فوت المحل فيجعل كالبرء من هذا الوجه فللاحتمال أثبتنا الجناية للأول تغليظا لحكم العمد ولا يعتبر ذلك في الخطأ لأنه مبني على التخفيف.
ولو كانت إحدى الجنايتين خطأ والأخرى عمدا أخذ بهما جميعا فإن كانت الأولى خطأ فإنه يجب دية اليد على عاقلته ويقتل قصاصا وإن كانت الثانية خطأ فعليه القصاص في اليد والدية على عاقلته في النفس لأنه لا احتمال لجعل الثاني إتماما للأول عند اختلاف صفة الفعل وموجبه فيجعل بمنزلة ما لو تخلل بالجنايتين برء.
ولو كان لكل واحدة من الجنايتين جان على حدة وهما جميعا عمد أو خطأ أو إحداهما(26/311)
ص -152- ... عمد والأخرى خطأ أخذ كل واحد منهما بجنايته لما بينا أن الفعل الثاني من غير الفاعل الأول لا يمكن أن يجعل إتماما للأول فكأنه تخلل بين الفعلين برء فيؤخذ كل واحد منهما بجنايته ولو شهد شاهدان أن هذا قطع يده من مفصل الكف وشهد آخر على آخر أنه قطع تلك اليد من المرفق ثم مات من ذلك كله والقطع عمد فعلى قاطع الكف القصاص في اليد وعلى الآخر القصاص في النفس عندنا وقال زفر والشافعي القصاص في النفس عليهما جميعا لأنه صار مقتولا بفعلين كل واحد منهما عمد محض فيلزمهما القصاص كما لو قطع أحدهما يده عمدا والآخر رجله ومات من ذلك وهذا لأن بقطع يده حدث في البدن آلام وبقطع الآخر اليد من المرفق لا تنعدم تلك الآلام بل تزداد وإنما حصلت السراية لضعف الطبيعة عن دفع الآلام التي توالت عليه وفي هذا لا فرق بين أن يقطع الثاني تلك اليد أو يقطع عضوا آخر وأصحابنا قالوا فعل الثاني بمنزلة البرء في حق الأول تنقطع به سراية الفعل الأول فكأنه انقطع بالبرء وإنما قلنا: ذلك لأن السراية أثر الفعل ولا يتصور بقاؤها بدون بقاء محل الفعل إذ الأثر لا يقوم بنفسه وبفعل الثاني فات محل الفعل الأول وانقطاع السراية بفوات المحل أقوى من انقطاعها بالبرء لأن البرء يحتمل النقص وفوات المحل لا يحتمل النقص وبه فارق ما إذا كان فعل كل واحد منهما في محل آخر لأن الفعل من الثاني في محل آخر لا يفوت محل لفعل الأول فلا يمكن أن يجعل كالبرء في حق الأول.(26/312)
وكذلك لو كان الفعلان خطأ كانت دية اليد على الأول ودية النفس على الثاني عندنا والعمد والخطأ في هذا سواء بمنزلة البرء وكذلك على هذا الخلاف لو قطع أحدهما يده عمدا ثم حز الآخر رقبته بالسيف يجب القصاص في النفس على الثاني والقصاص في اليد على الأول وعند زفر والشافعي يجب عليهما القصاص في النفس لأن الروح انزهقت عقيب فعلهما فيكون مضافا إلى فعل كل واحد منهما ولا معتبر بالتفاوت في صفة الفعل ولا في مقداره.
كما لو قطع أحدهما أصبعا من أصابعه وجرحه الآخر عشر جراحات نحو قطع اليد والرجل وما أشبه ذلك فإنه يجب القصاص عليهما إذا مات من ذلك للمعنى الذي قلنا: وأصحابنا قالوا حز الرقبة قتل بيقين لأنه لا توهم للحياة معه فأما قطع اليد فقيل يشترط أن تتصل السراية به.
ألا ترى أن الغالب فيه السلامة؟ فإن القطع مشروع في موضع كان القتل حراما وهو القصاص والتعارض لا يقع بين فعلين بهذه الصفة فيجعل القتل مضافا إلى ما هو مشروع له بيقين وهو حز الرقبة ويكون هذا في حق اليد بمنزلة البرء لتفويت المحل به فلهذا كان القصاص في اليد على الأول والقصاص في النفس على الثاني وكذلك لو كان الأول خطأ والثاني عمدا كان على الأول دية اليد وعلى الثاني القصاص(26/313)
ص -153- ... ولو شهدا على رجلين أنهما قتلا رجلا أحدهما بسيف والآخر بعصا ولا يدريان أيهما صاحب العصا لم تجز شهادتهما لأنهما لم يثبتا بشهادتهما سببا يمكن القاضي من القضاء به.
ألا ترى أن على صاحب العصا نصف الدية على عاقلته وعلى صاحب السيف نصف الدية في ماله فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء على واحد منهما بعينه في ماله أو على عاقلته.
وكذلك لو شهدا على رجل واحد بقطع أصبع وعلى آخر بقطع أخرى من تلك اليد ولا يميز أن قاطع هذه الأصبع من قاطع الأخرى لأن القاضي لا يتمكن من القضاء بفعل معين على واحد منهما فإن ذلك لا يكون بدون تعيين محل فعله وكذلك لو شهدا عليهما بالخطأ لا يتمكن القاضي من القضاء بالحكم بدون السبب.
ولو شهدا على رجل أنه قطع إبهام هذا عمدا وشهدا على صاحب الإبهام أنه قطع كف القاطع ذلك عمدا ثم برأ فإنه يخير صاحب الكف فإن شاء قطع ما بقي من يد القاطع بيده وإن شاء أخذ دية يده وبطلت الأصبع أما بطلان الأصبع فلفوات محلها بالفعل الثاني وأما ثبوت الخيار للثاني فلأن مقطوع الإبهام قطع يده الصحيحة ويد المقطوعة الإبهام ناقصة بأصبع وفي هذا يثبت له الخيار للمقطوعة يده.
ولو شهدا على رجل أنه قطع يد رجل من المفصل وشهد آخران أنه جرحه سبع أو سبعان أو جرح نفسه أو جرحه عبد له أو عثر فانكسرت رجله فمات من ذلك كله فلا قصاص على قاطع اليد وعليه نصف دية اليد والأصل أن النفس تتوزع على عدد الجناة لا على عدد الجنايات لأن الإنسان قد يتلف بجراحة واحدة وقد يسلم من جراحات ثم ما اتحد حكمه من الجراحات في كونه هدرا يجعل في حكم فعل واحد لأن حكم الكل واحد وهو الإهدار.(26/314)
وإذا صار بعض النفس هدرا امتنع وجوب القصاص في شيء منه فيجب فيما هو معتبر حصته من الدية وعلى هذا يخرج ما ذكرنا من المسائل وكذلك لو قطع رجل يد رجل خطأ وجرحه سبع وجرحه عبد له وجرح نفسه فمات من ذلك فعلى قاطع اليد ربع دية اليد لأن النفس تلفت من أفعال أربعة مختلفة الحكم فإن جراحة السبع هدر غير معتبرة في حق الإثم والحكم جميعا وجرحه نفسه معتبر في حق الإثم غير معتبر في حق الحكم لأنه ليس بسبب الحكم وجرح عبده له معتبر في الإثم والحكم جميعا إذا كان عمدا حتى يجب القصاص فلهذا توزع بدل نفسه أرباعا فيكون ربعه على قاطع اليد خطأ.
ولو جرحه سبع وخرجت به قرحة ونهشته حية وقطع رجل يده وآخر رجله فمات من ذلك كله فعلى الرجلين ثلثا الدية لأن فعل السبع والحية وما خرج به من القرحة كشيء واحد فكل ذلك هدر في حق الإثم والحكم وإنما تتوزع النفس أثلاثا فيهدر الثلث من ذلك وعلى الرجلين ثلث الدية وكذلك لو أصابه حجر وضعه رجل أو حائط تقدم إلى أهله فيه مع(26/315)
ص -154- ... جراحة الرجل والسبع فعلى الرجل ثلث الدية وعلى صاحب الحجر ثلث الدية والثلث هدر لأن النفس تلفت بمعان ثلاثة جراحة الرجل وحكمه معتبر وإصابة الحجر أو الحائط وحكم ذلك معتبر أيضا وفعل السبع وهو هدر فيتوزع بدل النفس على ذلك أثلاثا والله أعلم.
باب الوكالة في الدم
قال رحمه الله: وتقبل الوكالة في إثبات دم العمد من جانب المدعي والمدعى عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف الآخر لا تقبل وقول محمد رحمه الله مضطرب فيه ذكره مع أبي يوسف رحمه الله ها هنا وفي بعض المواضع مع أبي حنيفة وجه قول أبي يوسف أن الوكيل نائب عن الموكل ولا مدخل للنايب في إثبات دم العمد حتى لا يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال والدليل عليه أن المقصود هو الاستيفاء ثم التوكيل بما هو المقصود لا يجوز هنا مع أنه يجزئ فيه النساء فكذلك لا يصح التوكيل إنما يتوصل به إلى المقصود وأبو حنيفة يقول هذا أحد بدلي النفس فيجوز التوكيل بإثباته كالدية وهذا لأن كل واحد منهما محض حق العباد والنساء تجزي بين العباد في حقوقهم لحاجة صاحب الحق إلى ذلك فقد يكون عاجزا عن إثبات حقه بنفسه والغلط متى وقع في الإثبات أمكن تداركه سواء كان الثابت القصاص أو المال وبه فارق الاستيفاء فإن هناك إذا وقع الغلط فيه لا يمكن تداركه وتلافيه ولهذا لم يجز التوكيل فيه حال غيبة الموكل فأما إذا وكل باستيفاء القود فليس للوكيل أن يستوفي إلا بمحضر من الموكل عندنا وقال الشافعي له أن يستوفي بغير محضر منه لأنه محض حقه ويدخله النيابة في الاستيفاء فيكون بمنزلة المال ولكنا نقول القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فلا يجوز استيفاؤها مع الشبهة ويجوز في استيفاء الوكيل مع غيبة الموكل وقد تتمكن شبهة العفو لجواز أن يكون الموكل عفا والوكيل لا يعلمه بذلك ومتى وقع الغلط في الاستيفاء لا يمكن تداركه فأما إذا كان الموكل حاضرا فشبهة العفو(26/316)
تنعدم بحضوره وقد تمس الحاجة إلى ذلك فمن الناس من لا يهتدي إلى القتل ومنهم من لا يتجاسر عليه فللحاجة جوزنا التوكيل بالاستيفاء عند حضرة الموكل والقصاص فيما دون النفس كالقصاص في النفس في ذلك.
وإذا أقر وكيل الطالب عند القاضي أن صاحبه يطلب باطلا أو أنه قد عفا صح إقراره بأنه قد عفا لأن الوكيل في مجلس الحكم قام مقام الموكل في الإقرار بعد صحة الوكالة وكذلك وكيل المطلوب لو أقر بوجوب القصاص على صاحبه ففي القياس يصح إقراره لقيامه مقام موكله في الإقرار في مجلس الحكم ولكنا نستحسن فلا نوجب القود على الموكل بإقرار الوكيل لأن الإقرار في الحقيقة ضد الخصومة ونحن وإن حملنا مطلق التوكيل على الجواب الذي هو خصومته مجازا فتبقى الحقيقة شبهة والقصاص يسقط به ففي إقرار وكيل الطالب إسقاط القود وذلك لا يندرئ بالشبهات وفي إقرار وكيل المطلوب إيجاب القود وذلك يندرئ بالشبهات(26/317)
ص -155- ... ولا ينبغي للقاضي أن يمضي القضاء بالقود إلا بحضرة الورثة كلهم إذا كانوا بالغين لتمكن شبهة العفو والصلح لمن هو غائب منهم فإن مات أحد الورثة والقاتل وارثه بطل القود عليه لأنه تحول إليه نصيب مورثه من القود فيسقط عنه إذ الإنسان كما لا يجب له القصاص على نفسه لا ينفي وعليه حصة سائر الورثة من الدية لأنه تعذر عليهم استيفاء حقهم لمعنى في القاتل وهو أنه حي بعض نفسه فهو كما لو عفا أحد الشركاء.
وإن كان ورثه بن القاتل بطل القود أيضا لأن الابن كما لا يستوجب القصاص على أبيه ابتداء لا يبقى له على أبيه قصاص لأنه لا يتمكن من استيفائه بحال ولكن عليه الدية لجميع الورثة فإن نصيب الابن ها هنا يتحول إلى الدية كنصيب سائر الورثة لأنه من أهل أن يستوجب المال على أبيه ويستوفيه والوكالة في دم الخطأ وفي العمد من الجراح التي لا قصاص فيها بمنزلة الوكالة بالمال لأن المستحق ها هنا هو المال وهو مما يثبت مع الشبهة وإذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه والأسباب مطلوبة لأحكامها وعند اعتبار الحكم هذا دين كسائر الديون فيجوز التوكيل بإثباته واستيفائه ويكون إقرار الوكيل به في مجلس الحكم نافذا على موكله.(26/318)
وإذا قتل الرجل عمدا وله ورثة صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا القاتل قصاصا في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال ابن أبي ليلى ليس لهم أن يقتلوه حتى يكبر الصغار وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وقول مالك كقول أبي حنيفة بناء على مذهبه وهو أن استيفاء القصاص باعتبار الولاية دون الوراثة والولاية للكبير دون الصغير ولهذا لم يجعل للزوج والزوجة والأخوة لأم حق استيفاء القصاص فأما عند أصحابنا فاستيفاء القصاص بطريق الخلافة إرثا ثم وجه قولهم أن القصاص أحد بدلي الدم فلا ينفرد الكبير باستيفائه كالدية بل أولى لأن المال يجري فيه من المساهلة في الإثبات والاستيفاء مالا يجري في العقوبات ولأن هذا قصاص مشترك بين الكبير والصغير ولا ولاية للكبير على الصغير فلا يملك استيفاءه كما لو قتل عبدا مشتركا بينهما والدليل عليه أنهما لو كانا كبيرين وأحدهما غائب لم يكن للحاضر أن ينفرد بالاستيفاء لانعدام ولايته على الغائب فكذلك إن كان أحدهما صغيرا وهذا لأن الواجب قصاص واحد فإن المقتول نفس واحدة فيجب بمقابلتها قصاص واحد ويكون ذلك واجبا للمقتول بمنزلة الدية ولهذا إذا انقلب مالا فإنه يقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه ثم الورثة يخلفونه في استيفاء ما وجب له فكل واحد منهم في ذلك بمنزلة الشطر للعلة أو كل واحد منهما إنما يرث جزءا منه لأن استحقاق الميراث سهام منصوص عليها يسقط كالنصف والثلث والربع وبملك بعض القصاص لا يتمكن من استيفاء الكل والدليل عليه أنه لو عفا أحدهم يسقط القصاص.
ولو كان الواجب لكل واحد منهم قصاصا كاملا لما تعذر الاستيفاء على أحدهم بعد عفو الآخر وبالعفو ينقلب نصيب الآخر مالا وهذا الكلام يصح فيما إذا كان القصاص واجبا(26/319)
ص -156- ... للمورث فمات وورثه جماعة والخلاف ثابت في الفصلين ولا إشكال أن ها هنا إنما يرث كل واحد بعض القصاص وأبو حنيفة استدل بما روي أن عبد الرحمن بن ملجم لما قتل عليا رضي الله عنه قتله الحسن رضي الله عنه به قصاصا وقد كان في أولاد علي صغار ولم ينتظر بلوغهم وإنما فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه على ما روي أنه لما بلغه أن ابن ملجم أخذ قال للحسن إن عشت رأيت فيه رأيي وإن مت فاقتله إن شئت وقال واضربه ضربة كما ضربني وفي رواية وإياك والمثلة فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولا يقال إنما قتله لأنه كان مريدا مستحلا لقتله إمام المسلمين على ما روي أنه قتله وهو يتلو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية207] لأنه وإن كان إمام المسلمين وكان قتله ذنبا عظيما فلا يصير به القاتل مرتدا إنما ذلك للأنبياء خاصة واستحلاله كان بالتأويل فإنه كان من جملة أهل البغي وهم يستحلون دماء أهل العدل وأموالهم.
ألا ترى أنه علقه عتبة فقال اقتله إن شئت وأخره إلى ما بعد موته ولو كان مرتدا لما أخر علي قتله ولا يقال قتله حد السعية في الأرض بالفساد حتى قتل إمام المسلمين لأن الساعي بالفساد بقتل الإمام لا يقتل قصاصا.(26/320)
ألا ترى أنه اعتبر المماثلة بقوله فاضربه ضربة كما ضربني؟ وقد ذكر المزني عن الشافعي قال قتل بن ملجم عليا متأولا فأقيد به فدل أنه قتل قصاصا ولا يقال قتله بغير رضا الكبار من ورثته فقد قال له الحسين لا تقتله بيننا فإنا لا نجعله سواء بيننا وبالاتفاق عند إباء بعض الكبار وليس للبعض حق الاستيفاء وروي أنه مثل به مع نهي علي إياه عن المثلة فبه تبين أنه ما قتله قصاصا وهذا لأن الحسين رضي الله عنه إنما قال ما قال على وجه الإهانة والاستخفاف به لا على وجه كراهة قتله قصاصا والمثلة ما كانت عن قصد من الحسن ولكنه لما رفع السيف ليضربه أبقاه بيده فأصاب السيف أصابعه وبهذا لا يخرج من أن يكون قتله إياه استيفاء للقصاص والمعنى فيه أن حق الكبير ثابت في استيفاء جميع القصاص وليس في استيفائه شبهة عفو متحقق فيتمكن منه كما لو كان الوارث واحدا وإنما قلنا: ذلك لأن القصاص يجب للورثة على سبيل الخلافة عن المورث فإن وجوبه بعد موت المقتول وقد خرج المقتول من أن يكون أهلا لوجوب الحق له بعد موته إلا أن ما يحصل فيه مقصوده من قضاء الدين وتنفيذ الوصية يجعل كالواجب له حكما وهو الدية فأما ما لم يحصل به مقصود المقتول فيجعل واجبا للوارث الذي هو قائم مقامه والمقصود بالقود تشفي الغيظ ودفع سبب الهلاك عن نفسه وذلك يحصل للوارث فعرفنا أنه يجب له ولكن على سبيل الخلافة لأن السبب انعقد على حق الميت وقد خرج عن ثبوت الحكم من أن يكون أهلا للوجوب له فيجب للولي القائم مقامه كما يثبت الملك للمولى في كسب العبد إثباتا على سبيل الخلافة عن العبد ولهذا قلنا: إذا انقلب مالا ثبت فيه حق الميت لأن قضاء حوائجه(26/321)
ص -157- ... يحصل به وهو بمنزلة الموصي له بالثلث لا حق له في القصاص فإذا انقلب مالا يثبت حقه فيه وأيد ما قلنا: قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الاسراء: من الآية33] بين أن القصاص للولي القائم مقام المقتول إذا ثبت هذا فنقول القصاص لا يحتمل التجزي وقد ثبت سبب لا يحتمل التجزي فأما أن يتكامل فيه حق كل واحد منهم أو ينعدم لأنه لا يمكن إثباته متجزئا ولم ينعدم باتفاق فعرفنا أنه تكامل فيه حق كل واحد منهم لا على أنه تعدد القصاص في المحل ولكن بطريق أنه يجعل كل واحد منهم كأنه ليس معه غيره بمنزلة الأولياء في النكاح ينفرد كل واحد منهم بالتزويج كأنه ليس معه غيره والدليل عليه أنه لو استوفي من أحدهم القصاص فإنه لم يضمن للباقين شيئا ولا للقاتل ولو لم يكن جميع القصاص واجبا له لكان ضامنا باستيفاء الكل وهذا بخلاف ما إذا عفا أحدهم لأن الواجب بعد العفو المال للباقين والمال يحتمل التجزؤ فيظهر حكم التجزؤ عند وجوب المال وهذا لأنا لو أثبتنا القصاص لأحدهما بعد عفو الآخر كان من ضرورته تعدد القصاص الواجب في المحل وهو غير متعدد في المحل فأما قبل العفو لو قلنا: كل واحد منهم يكون متمكنا من استيفائه لا يكون من ضرورته مقدر القصاص في المحل وهذا بخلاف ما إذا كان أحدهما غائبا لأن هناك جميع القصاص واجب للحاضر ولكن في استيفائه شبهة عفو موجود لجواز أن يكون الغائب عفا والحاضر لا يشعر به وعفو الغائب صحيح سواء علم بوجوبه أو لم يعلم ويحتمل أن يكون الغائب مات وورثه القاتل لسبب بينهما وإن كنا لا نعرفه فلأجل الشبهة يمتنع الاستيفاء وهذا المعنى لا يوجد عند صغر بعض الورثة لأن الصغير ليس من أهل العفو فإنما يتوهم عفوه بعد ما يبلغ وشبهة عفوه بتوهم اعتراضه لا تمنع استيفاء القصاص وهذا بخلاف ما إذا قتل عبدا مشتركا بين الصغير والكبير لأن السبب هناك الملك وهو غير متكامل لكل واحد منهما فإن ملك الرقبة يحتمل(26/322)
التجزؤ ولهذا لم يكن لأحد الموليين في الأمة ولاية تزويجها بانفراده بخلاف ما نحن فيه فالسبب هناك القرابة وهو مما لا يحتمل التجزيء. وكذلك هذا في قصاص كان واجبا للمورث لأن كل واحد استحق جزءا منه بعد موته بالنص وذكر الجزء فيما لا يحتمل الوصف بالتجزي كذكر الكل فيثبت لكل واحد منهم الكل باعتبار أن السبب لكل واحد منهم وهو القرابة كامل وهذا بخلاف المال فإنه لا يحتمل الوصف بالتجزي.
ألا ترى أن الكبير هناك يملك استيفاء نصيبه خاصة وفي هذا الموضع لا يتمكن من استيفاء بعض القصاص ثم عندهما الإمام هو الولي في نصيب الصغير لأنه لا ولاية للأخ الكبير على الصغير في نصيبه من المال فكذلك في القصاص وإنما الولاية للإمام فإن شاء صالح على الدية وإن شاء انتظر وليس له أن يقتص وقد بينا هذا في وصي الأب فكذلك في حق القاضي.
ولو كان مكان الصغير معتوه أو مجنون فهو على الخلاف أيضا بخلاف ما إذا كان(26/323)
ص -158- ... مغمى عليه لأن المغمى عليه بمنزلة الغائب وهو من أهل العفو ولو كان الوصي وصى الأب كان له أن يأخذ في حق الصغير مع الكبار في القول الأول أراد به قول أبي حنيفة لأن عنده للكبير أن يقتص وإن لم يكن معه وصي فإن كان معه وصي فهو أولى أما على قولهما فليس للكبير ولاية استيفاء القصاص قبل بلوغ الصغير إذا لم يكن له وصي فكذلك مع الوصي لأنه ليس للوصي حق استيفاء القصاص في النفس.
وإن قطعت يد الصغير عمدا كان للوصي أن يقتص وأن يصالح على أرش اليد وليس له أن يعفو ولو كان القصاص في النفس ليس له أن يقتص في الروايات كلها ولا أن يعفو وفي الصلح روايتان وكذا لو قتل عبد الصغير لم يكن للوصي أن يقي وأما الأب فإن له أن يستوفي القصاص الثابت للصغير في النفس وفيما دون النفس وله أن يصالح وليس له أن يعفو.
ولو صالح على أقل من قيمته لم يجز وكان للصبي أن يرجع بتمام القيمة لأنه أمر بقربان ماله بالتي هي أحسن ولهذا لا يجوز بيع الأب ماله بأقل من قيمته لأن الأب استوفى بعض القيمة فكان له أن يستوفي تمام القيمة بعد البلوغ حتى يصل إليه تمام حقه وقد ذكرناه في كتاب الصلح.(26/324)
فإذا قتل الرجل عمدا فأقام أخوه البينة أنه وارثه لا وارث له غيره وأقام القاتل البينة أن له ابنا فإني لا أعجل بقتله حتى أنظر فيما جاء به القاتل وأبلو فيه عذرا لأعلم مصداقه لأن القصاص أمر مستعظم إذا نفذ لا يمكن تداركه فإن أقام القاتل البينة أن له ابنا وأنه صالحه على الدية وأنه قبضها منه درأت القصاص حتى أنظر فيما قال لأنه ادعى الصلح وأقام البينة فتقبل بينته في حق سقوط القصاص لأن الأخ بنى القصاص وأنكر أن له ابنا فيقبل في حق سقوط القصاص فإن جاء الابن وأنكر الصلح كلفت القاتل إقامة البينة على الصلح ولا أجبر البينة التي قامت على الأخ لأن الأخ ليس بخصم عن الابن في حق الصلح فلم تقبل في حق الصلح وقبلت في حق سقوط القصاص وبمثله لو كانا أخوين فأقام القاتل البينة على أحدهما أنه قد صالح أخاه الغائب على خمسمائة درهم أجزت ذلك ولا أكلفه إعادة البينة لأن كل واحد منهما خصم في إثبات القصاص فالبينة قامت على خصم حاضر فيتضمن النفاذ على الغائب وللغائب نصف الدية لأن الصلح لم يثبت في حقه أما الأخ فلأنه ليس بخصم مع قيام الابن.
وإذا ادعى بعض الورثة دم أبيه على رجل وأخوه غائب وأقام البينة أنه قتل أباه عمدا فإني أقبل ذلك وأحبس القاتل فإذا قدم أخوه كلفهم جميعا أن يعيدوا البينة في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد لا يكلفهم إعادة البينة ولو كان هذا في دم خطأ لم يكلفوا إعادة البينة في قولهم جميعا وأجمعوا أن الحاضر لا يستوفي القصاص لتوهم العفو منه لهما إذ كل واحد منهما من الورثة خصم عن نفسه وعن أصحابه فيما يدعي للميت ويدعى عليه كما في(26/325)
ص -159- ... الخطأ وغيره من الحقوق ولأن القصاص حق الميت بدليل أنه لو عفا عن الجارح صح وإنقلب مالا تقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه ويورث عنه ولهذا لو أقام القاتل البينة على صلح الغائب أو عفوه تقبل بينته ولو لم يكن الحق للميت لما قبلت لما فيه من القضاء على الغائب وإذا كان حق الميت فأقام الواحد مقام الجميع فكانت البينة قائمة على الخصم فلا يكلف إعادتها ولأبي حنيفة أن القصاص حق الميت من وجه وحق الورثة من وجه ولو كان كله حق الورثة يكلف إعادة البينة لأن بعض الورثة لا يقوم مقام الكل فيما هو من خالص حقهم.
ولو كان حق الميت من كل وجه لا يكلف إعادة البينة فلما كان لكل واحد منهما حق كان المصير إلى الاحتياط استعظاما لأمر الدم واجبا ولأن القصاص معدول به عن سائر الأحكام للاستقصاء.(26/326)
ألا ترى أن القاتل إذا ادعى العفو وقال لي بينة على ذلك وأجله القاضي أياما ولم يقدر على إقامتها فإنه لا يعجل بالقصاص ويتأنى بعد ذلك أياما هكذا ذكره محمد رحمه الله في الأصل بخلاف سائر الحقوق ولهذا لا يجوز إقرار وكيل القاتل على موكله بالقصاص بخلاف سائر المواضع والاحتياط أن يلحق هذا بالحقوق التي هي للورثة حتى أنه يؤمر بإقامة البينة فربما يعجز عن إقامتها فيسقط القصاص وإنما قلنا: أنه يشبه حق الميت لما ذكر وبيان أنه يشبه حق الورثة أنهم لو عفوا عن الجارح في حياة المورث جاز عفوهم ولو لم يكن لهم حق لا يجوز كما لو أبرى ء عن الدين في حياته بخلاف الصلح والعفو لأنه يثبت مع الشبهات والقصاص من وجه كالمورث لأن ثبوته للوارث على سبيل الخلافة ومن وجه هو ثابت للوارث ابتداء وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما ففيما يثبت مع الشبهات يجعله كالموروث وفيما يندرئ بالشبهات نجعله كالواجب لكل واحد منهما ابتداء فلا يكون أحد منهما خصما عن الآخر في إقامة البينة عليه وهذا بخلاف الخطأ فإن موجبه المال وهو موروث للورثة عن الميت بعد ما تفرغ عن حاجته فكان بمنزلة سائر الورثة ينتصب كل وارث خصما عن الميت وعن سائر الورثة في إثباته على أن الخطأ ليس مبناه على التغليظ بدليل قبول شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة.(26/327)
ولو حضر الورثة جميعا وأقاموا البينة بالقتل العمد على رجلين أحدهما غائب قبلت البينة على الحاضر وقضيت عليه بالقود فإذا حضر الغائب كلفهم إعادة البينة عليه لأن الحاضر ليس بخصم عن الغائب وليس من ضرورة ثبوت القتل عليه ثبوته على الغائب وإن امتنع القضاء به على الغائب فذلك لا يمنع استيفاء القود من الحاضر كما لو عفا الورثة عن أحد القاتلين أو صالحوه على مال كان لهم أن يقتلوا الحاضر وهذا لأن القاتلين يهربون عادة فقل ما يظفر بهم جميعا فلو قلنا: بأنه يمتنع استيفاء القصاص من واحد منهم بسبب غيبة من غاب أدى ذلك إلى سد باب القصاص والإضرار بصاحب الحق(26/328)
ص -160- ... أرأيت لو مات الغائب أو فقد فلم يوقف على أثره أكان يمتنع استيفاء القصاص من هذا الحاضر ولا يقال في هذا استيفاء مع الشبهة لجواز أن يكون للغائب حجة يدرأ بها القتل عن نفسه وعن صاحبه لأنه ما من حجة تقبل من الغائب إذا حضر إلا وهي مقبولة من الحاضر لو أقامها.
ولو أن أخوين أقاما شاهدين على رجل أنه قتل أباهما عمدا فقضى القاضي بذلك وقتلاه ثم إن أحدهما قال قد شهدت الشهود بالزور وأبونا حي غرمته نصف الدية وهذا عندنا وقال الشافعي عليه القصاص لأنهما أقرا أنهما تعمدا قتلا بغير حق وإقرارهما حجة عليهما فيلزمهما القصاص بذلك وكذلك إذا أقر به أحدهما لأن المقر يعامل في حقه كأنما أقر به حق وإن كان لا يصدق على غيره فلا يجوز أن يجعل قضاء القاضي شبهة في إسقاط القود عنهما لأن قضاء القاضي إنما يكون شبهة في حق من لا يعلم الأمر بخلاف ما قضي به فأما في حق من يعلم ذلك فلا يعتبر قضاء القاضي كما لو رجع أحد شهود الزنى بعد ما رجم المشهود عليه فإنه يلزمه حد القذف ولا يصير قضاء القاضي بالرجم شبهة في حقه لهذا المعنى وأصحابنا قالوا أنهما قتلاه بشبهة والقتل بشبهة يوجب المال دون القصاص وبيان ذلك أنهما قتلاه بناء على قضاء القاضي لهما بالقود وهذا قضاء لو كان حقا لكان مبيحا لهما القتل فظاهره يوجب شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات كالنكاح الفاسد يكون مسقطا للحد لأنه لو كان صحيحا كان مبيحا للوطىء فظاهره يورث شبهة وهذا الظاهر يورث شبهة في حق من يعلم حقيقة الأمر وفي حق من لا يعلم كما في النكاح الفاسد وهذا لأن القضاء لما كان حقيقة مبيحا فظاهره يمكن شبهة في المحل والشبهة في المحل تؤثر في حق من يعلم وفي حق من لا يعلم كمن وطىء جارية أبيه لا يلزمه الحد وإن كان يعلم حرمتها عليه وهذا بخلاف حد القذف فإن حقيقة القضاء بالزنى هناك لا تبيح شبهة من غير فائدة فكذلك ظاهره لا يورث شبهة.(26/329)
ثم الفرق ما بيناه في كتاب الصوم أن هناك إنما يلزمه الحد بسبب سابق على القضاء وهو الشهادة على الزنى لأنه نسبه إلى الزنى لما انتزع معنى الشهادة من كلامه برجوعه وقد كان ذلك سابقا على القضاء هناك فأما هنا فالسبب الموجب للقود مباشرة القتل وذلك وجد منهما بعد القضاء فيكون صورة القضاء شبهة ويتضح كلامنا فيما إذا أقر بذلك أحد الاثنين وجحد الآخر لأنهما باشرا القتل والجاحد منهما محق حتى لا يلزمه قصاص ولا دية فيكون هذا أقوى في التأثير من الخاطئ إذا شارك العامد في القتل وهناك لا يجب القود على واحد منهما فهنا أولى.
وإذا سقط القود وجب على الراجع منهما نصف الدية في ماله لإقراره بالقتل بغير حق وما يجب بالإقرار لا تتحمله العاقلة ولو كان أحد الأخوين قتل القاتل قبل القضاء لهما عليه بالقتل أو قبل أن تقوم لهما بينة على ذلك ثم أقر هو أنه قتله بغير حق وأن الأب حي فعليه(26/330)
ص -161- ... القصاص لأنه لم يقترن بالسبب الموجب للقصاص عليه شبهة قضاء مانع وإن لم يقل هو شيئا ولكن الآخر قال قد كنت عفوت أو كنت أريد أن أعفو أو كنت صالحت ولا بينة له على ذلك فإنه لا يصدق على أخيه لأن إقراره بذلك حينئذ متمثل بين الصدق والكذب فيجعل في حق غيره كذبا إذ لا ولاية له على غيره في أنه يلزمه شيئا بقول قاله ولا شيء على أخيه وإن كان أخذ غير حقه من قبل الشركة يعني أنه إذا كان هذا بعد ما قامت البينة لهما على القتل وقضى القاضي بذلك ثم هو ظاهر على أصل أبي حنيفة لأن عنده قد وجب حق كل واحد منهما في جميع القود كأنه ليس معه غيره فيكون مستوفيا حقه وعندهما الواجب لكل واحد منهما بعض القود إلا أنه لا يلزمه شيء لأجل الشركة وهو أنه لا يتمكن من استيفاء نصيبه إلا باستيفاء ما بقي وفعله في نصيبه استيفاء غير موجب للضمان عليه فإذا خرج بعض فعله من أن يكون واجبا موجبا للضمان عليه خرج جميعه من أن يكون موجبا للضمان عليه لأنه لا يحتمل الوصف بالتجزي وبعد ما لم يكن أصل فعله موجبا للضمان عليه لا يصير موجبا بإقرار أخيه.
فإن أقام ورثة المقتول بينة على هذا أنه قد كان صالح على كذا قبل أن يقتل الآخر أو كان عفا أجزت ذلك لأن الثابت بالبينة التي يقيمها من هو خصم كالثابت باتفاق الخصوم ثم القاتل يكون ضامنا للدية لأنه تبين أنه باشر القتل بغير الحق وقد سقط القود عنه للشبهة حين لم يكن عالما بصلح أخيه وعفوه ويجب له من ذلك نصف الدية لأن بعفو أخيه انقلب نصيبه مالا على القاتل وقد استوجب القاتل عليه كمال الدية في ماله أيضا فيكون النصف قصاصا فإن كان قتل بعد عفو أخيه أو صلحه وبعد ما علم بأن الدم قد حرم عليه فعليه القصاص لانتفاء الشبهة وله نصف الدية في مال القاتل لأن نصيبه كان انقلب مالا لو مات القاتل فيستوفى من تركته فكذلك إذا قتله والله أعلم.
باب رجوع الشهود عن القتل(26/331)
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل عمدا وقبلت شهادتهما ثم رجعا فعليهما الدية في مالهما في قول علمائنا رحمهم الله وقال الشافعي عليهما القصاص.
وكذلك إذا رجع أحدهما واحتج الشافعي بحديث علي رضي الله عنه حيث قال لشاهدي السرقة حين رجعا لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما والمعنى فيه أنهما باشرا قتلا بغير حق لأنهما ألجآ القاضي إلى القضاء بالقتل فإنه يخاف العقوبة إذا امتنع من ذلك والملجئ مباشر حكما في وجوب القود عليه كالمكره والدليل عليه أن الدية تجب مغلظة في مالهما عندكم وذلك لا يكون إلا بمباشرة القتل.
وحجتنا في ذلك أن الشاهد سبب للقتل والسبب لا يوجب القصاص كحفر البئر وهذا لأنه يعتبر في القصاص المساواة ولا مساواة بين السبب والمباشرة وبيان الوصف أن المباشر هو الولي وهو طائع مختار في هذه المباشرة فعرفنا أن الشاهد غير مباشر حقيقة ولا(26/332)
ص -162- ... حكما ولا معنى لما ذكره من الإلجاء لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة وبه لا يصير ملجأ إلى ذلك بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا نسلم أن الدية تجب مغلظة على الشهود فكل واحد يقيم الطاعة خوفا من العقوبة على تركها ولا يصير به مكرها.
ثم إن وجد هذا الإلجاء في حق القاضي فبمجرد القضاء ما صار المقضي عليه مقتولا وإنما صار مقتولا باستيفاء الولي وهو غير ملجأ إلى ذلك بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا يسلم أن الدية تجب مغلظة على الشهود بل إنما تجب مخففة بمنزلة الواجب على حافر البئر إلا أنها تجب على الحافر البئر في ماله لأنها وجبت بإقراره وإقراره غير مقبول في حق العاقلة ولم يثبت لهم أن الشاهد مباشر حكما فقد بينا أن المباشر حقيقة ها هنا لا يلزمه القصاص وهو الولي لشبهة قضاء القاضي فالمباشر حكما أولى أن لا يلزمه شيء من ذلك وإنما قال علي رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد فقد صح من مذهب على أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة وقد تقدم بيان هذا في كتاب الرجوع فإذا لم يجب القود عليهما كان عليهما الدية إن رجعا وإن رجع أحدهما فعليه نصف الدية لأن كل واحد منهما سبب لإتلاف نصف النفس فإن رجع الولي معهما أو جاء المشهود بقتله حيا فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشاهدين الدية وبين أن يضمن القاتل لأن القاتل متلف للنفس حقيقة والشهود متلفون له حكما والإتلاف الحكمي في حكم الضمان كالإتلاف الحقيقي فكان له أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن الولي الدية لم يرجع على الشاهدين بشيء لأنه يضمن بفعل باشره لنفسه باختياره وإن ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي أيضا في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا لأنهما ضمنا بشهادتهما وقد كانا عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان كما لو شهدا بالقتل الخطأ أو بالمال فقضى القاضي واستوفى المشهود له ثم رجعوا جميعا وضمن المشهود عليه(26/333)
الشاهدين كان لهما أن يرجعا على المشهود له ولا يقال هناك قد ملك المقبوض بالضمان وها هنا لم يملكاه لأن القصاص لا يملك بالضمان والمشهود به هو القصاص وهذا لأنهما وإن لم يملكا بعد فقد قام مقام من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه آخر منه ثم ضمن المالك الغاصب الأول فإنه يرجع بالضمان على الثاني وإن لم يملك المدبر بالضمان ولكنه قام مقام من ضمنه وهذا لأن القصاص مما يملك في الجملة وله بدل متقوم محتمل التمليك فيكون السبب معتبرا على أن يعمل في بدله عندنا لتعذر إعماله في الأصل كاليمين على أن تعمل في بلده حتى يرجع بالضمان من أن يكون متعقدا في إيجاب الكفارة التي هي خلف عن البر لما كان الأصل وهو البر متوهم الوجود في الجملة وعلى هذا غاصب المدبر فإن المدبر متقوم مملوك في الجملة فينعقد السبب للغاصب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى يرجع بالضمان على الغاصب الثاني.
وكذا شهود الكتابة إذا رجعوا وضمنهم الولي القيمة كان له أن يرجعوا على المكاتب(26/334)
ص -163- ... ببدل الكتابة ولم يملكوا رقبة المكاتب ولكن لما كان المكاتب مملوكا رقبة للمكاتب انعقد السبب في حقهم على أن يكون عاملا في بدل وهو بدل الكتابة بذلك وإن لم يملكوا رقبة المكاتب فهذا مثله وأبو حنيفة يقول الشهود ضمنوا لإتلافهم المشهود عليه حكما والمتلف لا يرجع بما يضمن بسببه على غيره كالولي وهذا لأنهم لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع مباشرة الإتلاف لأن مجرد السبب يسقط اعتباره في مقابلة المباشرة.
ألا ترى أنه لو وقع إنسان في بئر حفرها غيره في الطريق كان الضمان على الحافر ولو دفعه غيره حتى وقع فيه كان الضمان على الدافع دون الحافر وها هنا لما ضمن الشهود عرفنا أنهم جناة متلفون للنفس حكما وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء الولي فإن استيفاء الولي بمنزلة شرط بقدر جنايته ومن ضمن بجنايته على النفس لا يرجع على غيره فأما في الخطأ فإنما رجع لأنه ملك المقبوض وهو الدية وقد أتلفه المستوفى بصرفه إلى حاجته وهذا سبب آخر موجب للضمان عليه للشاهد وكذلك الشاهد بالمال قولهما إن في هذا الموضع يجعل هو قائما مقام من ضمنه قلنا: هذا أن لو بقي حق من ضمنه قبل الولي واختياره فتضمين الشاهد إبراء منه للولي فكيف يقوم الشاهد مقامه في الرجوع عليه وقوله بأنه ينعقد السبب موجبا للملك له أن يعمل في بدله قلنا: هذا أن لو كنا في الأصل نتوهم الملك في الضمان وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال فلا ينعقد السبب باعتبار الحلف كيمين الغموس ثم لو كان القصاص ملكا لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولى بالعفو وقتل من عليه القصاص إنسان آخر فليس له القصاص قبل الضمان وانعقاد السبب لا يكون أقوى من ثبوت الملك حقيقة.(26/335)
وإذا كان المتلف للقصاص لا يضمنه للمالك فكيف يضمنه لمن انعقد له السبب وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة فإن هناك لو كان مالكا حقيقة لم يضمنه المتلف عليه فكذلك إذا جعل كالمالك حكما باعتبار انعقاد السبب فيكون له أن يرجع بالبدل لذلك.
ولو رجع الشاهدان دون الولي فقال الولي أنا أجيء بشاهدين آخرين يشهدان على ذلك وقد قتل القاتل لم ألتفت إلى ذلك لأن الولي لا يثبت لنفسه شيئا بهذه البينة فإنه قد استوفى القصاص ولا سبيل لأحد عليه إذا كان مصرا على دعواه ولم يظهر القتيل فلو قبلت هذه البينة إنما تقبل لإسقاط ضمان الدية على الراجعين وهما لا يدعيان ذلك بل يكذبان الشاهدين ويقران على أنفسهما بالدية لنسبتهم للقتل بغير حق فلا فائدة في قبول هذه البينة.
ولو شهد أحد شاهدي الدم مع آخر على صاحبه أنه كان محدودا في قذف أو عبدا فشهادتهما باطلة لأن هذه الشهادة تقوم لإبطال قضاء القاضي لا لإثبات ملك أو حق لأحد بعينه والشهادة على إبطال قضاء القاضي لا تقبل ولا شيء على واحد منهما لأن الشاهد بهذا لا يصير راجعا فقد يكون هو محقا في شهادته وإن كان صاحبه عبدا أو محدودا في قذف وأما المشهود عليه فهو ثابت على شهادته منكر لما شهد به صاحبه عليه(26/336)
ص -164- ... ولو شهد أنه عبد لهذا المدعي فيصير به عبدا له لأن هذه البينة تقوم لإثبات الملك للمدعي فإذا قبلت تبين بطلان القضاء الأول وأن القاضي أخطأ في قضائه بغير حجة فيكون ضمان ذلك على من وقع الضمان له وهو الولي وتجب الدية على عاقلته لأنه ظهر أنه كان مخطئا في القتل وإنما ظهر بما هو حجة عليه وعلى عاقلته وبهذا الفصل تبين أنه إذا لم يرجع الشهود والولي ولكن جاء المشهود بقتله حيا فإن الدية تجب على عاقلة الولي والشهود ويتخير ولي القتيل في ذلك وهكذا ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وإنما تجب في مالهم إذا رجعوا لأن وجوب ذلك بالاعتراف.
وإذا قضى القاضي بالدم بشهادة الشاهدين فلم يقتل حتى رجعا استحسنت إن ادرأ القصاص عنه وهو قول أبي حنيفة الآخر وكان يقول أولا يستوفي القصاص وهو القياس لأن القصاص محض حق العبد فيتم القضاء بنفسه والرجوع بعد القضاء لا يمنع الاستيفاء كالمال والنكاح فإن القاضي إذا قضى بالنكاح ثم رجع الشهود لا يمنع استيفاء الوطء على الزوج وإن كان في القصاص يحتاط في الاستيفاء فكذلك في الوطء.
وجه قوله الآخر أن القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات والغلط فيه لا يمكن تداركه فيكون بمنزلة الحدود فكما أن في الحدود لا يتم القضاء بنفسه ويجعل رجوع الشهود مع القضاء قبل الاستيفاء بمنزلة الرجوع قبل القضاء فكذلك في القصاص بخلاف المال فإنه يثبت مع الشبهات وبخلاف النكاح لأن العقد هناك ينعقد بقضاء القاضي ظاهرا وباطنا وها هنا ما لم يكن واجبا من القصاص لا يصير واجبا بقضاء القاضي ولا بد من قيام الحجة عند الاستيفاء وأصل شهادة الشهود فإذا لم يبق حجة بعد رجوعهم يمتنع الاستيفاء وكل دية وجبت بغير صلح فهي في ثلاث سنين لأنها وجبت بالقتل وتقوم الدم بالمال ثابت شرعا بخلاف القياس وإنما قومه الشرع بمال مؤجل فكما لا يزاد في قدر ذلك بحال فكذلك لا يزاد في صفته بأن يجعل حالا.(26/337)
وإذا شهد شاهدان بالدم فاقتص من القاتل ثم قالا أخطأنا إنما القاتل هذا لم يصدقا على الثاني لأنهما شهدا على أنفسهما بالقتل وغرما الدية للأول لأنهما رجعا عن الشهادة عليه ونحو ذلك مروي عن علي بن إبراهيم يعني في السرقة ولو شهدا بدم على رجلين فقتلا بشهادتهما ثم رجع أحدهما في أحد الرجلين فعليه نصف دية هذا الرجل الواحد في ثلاث سنين ولا يضمن من دية الآخر شيئا لأنه لم يرجع عن شهادته فيه وقد بقي على الشهادة في حق الآخر من يقوم به نصف الحق فيجب على الراجع نصف ديته ولو لم يرجع وادعى عليه أولياء المقتص منه أنه رجع وسألوا يمينه على ذلك فليس عليه يمين لأنهم لو أقاموا البينة عليه بالرجوع لم تقبل فكيف يستحلف عليه وهذا لأن الرجوع في غير مجلس الحكم لا يتعلق به حكم فكانت هذه دعوى باطلة منهم.
وإن رجع الشاهد فلزمه نصف الدية في ماله في ثلاث سنين فمات أخذ ذلك من ماله(26/338)
ص -165- ... حالا لوقوع الاستغناء له عن الأجل بالموت وإن كان الرجوع منه في المرض وعليه دين في الصحة بين بدئ بدين الصحة لأن رجوعه إقرار على نفسه بالدية والمريض إذا أقر على نفسه وعليه دين في صحته بدئ بدين الصحة.
ولو شهد شاهد أن على دم عمد ولهما على المقتول دين أجزت شهادتهما لأنهما يثبتان القود بشهادتهما ولا منفعة لهما في ذلك الدم فإن رجعا عن شهادتهما بعد القتل ضمنا الدية ويقبضان دينهما من الثلث فإن كان على الميت دين سوى ذلك خاصهم فيه قال الحاكم رحمه اللهولا تصح هذه المسألة أن يحمل على أن الدين على المقتول قصاصا وهو كما قال فإن الدين إذا كان لهما على الأول والدية عند الرجوع تجب عليهما للمقتول قصاصا فكيف يستوفيان دينهما من هذه الدية وإن كان دينهما على المقتول قصاصا فبدل نفسه واجب عليهما عند الرجوع ودينه يقضى من بدل نفسه والله أعلم بالصواب.
باب جناية الصبي والمعتوه
قال رحمه الله: وإذا أمر الصبي الحر الصبي الحر أن يقتل إنسانا فقتله فالدية على عاقلة القاتل وليس على الآمر شيء لأن قول الصبي هدر فيما يلزمه الغرم فيكون وجوده كعدمه فبقي مباشرة القتل من الصبي القاتل.(26/339)
ولو أمر رجل صبيا فقتل رجلا كانت الدية على عاقلة الصبي كمباشرته القتل باختياره يرجعون بها على عاقلة الآمر لأن الآمر جان في استعماله الصبي وأمره إياه بالقتل وهو الذي تسبب لوجوب الضمان على عاقلة الصبي فثبت لهم حق الرجوع بها على عاقلته فإن قيل: أمره قول وما يجب على المرء بقوله من ضمان الجناية لا تعقله العاقلة قلت متمثلا نعم إذا كان ذلك القول خبرا محتملا الصدق والكذب ليكون محمولا على الكذب في حق العاقلة فأما إذا كان ذلك أمرا فلا تردد في كونه تسببا واستعمالا وإذا ثبت السبب في حق العاقلة ثبت الحكم وإذا أعطى الرجل صبيا عصا أو سلاحا يمسكه له ولم يأمره فيه بشيء فعطب الصبي بذلك بأن سقط من يده فوقع على رجله فمات فضمانه على عاقلة الرجل لأنه جان في استعمال الصبي في إمساك ما دفع إليه وهو سبب لهلاكه متعد في ذلك السبب وإن قتل الصبي نفسه بذلك أو قتل رجلا لم يضمن الدافع شيئا لأنه أمره بإمساكه لا باستعماله وإنما وجب الضمان على عاقلته لاستعماله وهو مختار في ذلك غير مأمور به من جهة الدافع فكذلك إذا قتل به نفسه فإنما تلف باستعماله لا بإمساكه بخلاف ما إذا وقع على رجله لأنه ثمة حصل الهلاك لا بمباشرته بل بإمساكه الذي هو حكم دفع الدافع وهو متعد في الدفع فيضمن بخلاف ما إذا حصل التلف بمباشرته وحدث من جهة الصبي باختياره لأنه طرأت المباشرة على التسبيب فينقطع حكم التسبيب وهذه المباشرة ليست حكم ذلك التسبيب فلا يثبت الرجوع بخلاف ما إذا أمره بالقتل حكما.
وإذا غصب الرجل الصبي الحر فذهب به فهو ضامن له إن قتل أو أصابه حجر أو أكله(26/340)
ص -166- ... سبع أو تردى من حائط عندنا استحسانا وفي القياس لا شيء عليه وهو قول زفر والشافعي وجه القياس أن ضمان الغصب يختص بما هو مال متقوم والصبي الحر ليس بمال متقوم فلا يضمن بالغصب كالميتة والدم والدليل عليه أنه لو مات حتف أنفه أو أصابته حمى فمات أو مرض فمات أو خرجت به قرحة فمات لم يضمن الغاصب شيئا بالاتفاق والدليل عليه أنه لو غصب مكاتبا صغيرا فمات في يده ببعض هذه الأسباب لم يضمن الغاصب شيئا فالحر أولى وكذلك لا يضمن أم الولد بالغصب وإن تلفت بهذه الأسباب لأنه لم يبق لرقها قيمة فلان لا يضمن الحر بهذه الأسباب كان أولى.
وحجتنا في ذلك أنه سبب لإتلافه بغير حق والمسبب إذا كان متعديا في سبب فهو ضامن والدية على عاقلته كحافر البئر وواضع الحجر في الطريق وبيان الوصف أنه أزال يد حافظه عنه في حال حاجته إلى الحفظ ولم يقم بحفظه بنفسه فكان مسببا لإتلافه وهو متعد في ذلك لأنه ممنوع شرعا من إزالة يد حافظه ومعنى قولنا أن لم يقم بحفظه بنفسه لأنه تلف بأمر يمكن التحرز عنه بخلاف ما إذا مات لأن ذلك لا يستطاع الامتناع عنه فلا يكون دليلا على تركه الحفظ أو على أنه كان سببا لإزالة حافظه عنه فأما التردي من الحائط ونهش الحية وإصابة الحجر فإنه يمكن التحرز عنه في الجملة وبهذا تبين أن هذا الضمان ضمان جناية لا ضمان غصب والحر يضمن بالجناية تسبيبا كان أو مباشرة وهذا بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه صغيرا كان أو كبيرا فهو بفعله ما حال بينه وبين نفسه وبخلاف أم الولد فإنها تقوم بحفظ نفسها فلا يكون هو جانيا بإزالة الحفظ عنها فلهذا لا يضمن نقصها.(26/341)
ولو قتل الصبي في يد الغاصب رجلا فليس على الغاصب في ذلك شيء لأنه لم يأمره بالقتل ولكنه أنشأ القتل باختياره فلو ثبت للعاقلة حق الرجوع على الغاصب كان ذلك باعتبار يده على الصبي والحر لا يضمن باليد وكذلك لو قتل الصبي نفسه في يد الغاصب فلا شيء على الغاصب كما لو قتل غيره وعلى قول أبي يوسف تجب ديته على عاقلة الغاصب لأنه تلف بسبب يمكن حفظه من ذلك السبب عادة فهو كما لو نهشته حية.
وإذا حمل الرجل الصبي الحر على دابة فقال له امسكها لي وليس بيده حبل فسقط عن الدابة فمات فالدية على عاقلة الرجل لأنه سبب لإتلافه حين حمله على الدابة فكان متعديا في تسبيبه فإذا تلف بذلك السبب كان ضامنا لديته ويستوي إن كان الصبي ممن يركب أو لا يركب.
فإن سار الصبي على الدابة فأوطأ إنسانا فقتله فإن كان هو ممن يستمسك عليها فديته على عاقلة الصبي لأنه متلف للرجل بدابته حين أوطأها إياه ولا شيء على عاقلة الذي حمله عليها لأنه أحدث السير باختياره فهو كما لو قتل رجلا في يد الغاصب باختياره وإن كان مما لا يسير على الدابة لصغره ولا يستمسك عليها فدم القتيل هدر لأن هذه الدابة بمنزلة المنفلتة فإنها سارت من غير أن يسيرها أحد والدابة المنفلتة إذا وطئت إنسانا فدمه هدر(26/342)
ص -167- ... وهذا الذي حمل الصبي على الدابة لم يسيرها فلا يكون هو قائدا للدابة ولا سائقا والصبي الذي لا يستمسك على الدابة بمنزلة متاع موضوع عليها فلا يكون هو مسيرا للدابة بخلاف ما إذا كان يستمسك عليها.
وإذا حمل الرجل معه الصبي على الدابة ومثله لا يصرفها ولا يستمسك عليها فوطئت الدابة إنسانا فقتلته فالدية على عاقلة الرجل خاصة لأنه هو المسير للدابة والصبي الذي لا يستمسك بمنزلة المتاع معه على الدابة فالدية على عاقلته وعليه الكفارة لأن الراكب يجعل متلفا لما أوطأ بدابته مباشرة فإنه إنما تلف بفعله والكفارة جزاء مباشرة القتل وسيأتي بيان هذا في الباب الذي يلي هذا.
ولو كان الصبي يصرف الدابة ويسير عليها فالدية على عاقلتهما جميعا لأن كل واحد منهما مسير للدابة ها هنا فكانا جانيين على الرجل فتجب الدية على عاقلتهما ولا ترجع عاقلة الصبي على عاقلة الرجل بشيء لأن هذا بمنزلة جناية الصبي بيده والرجل لم يأمره بذلك.
ولو سقط الصبي فمات فديته على عاقلة الرجل لأنه هو الذي حمله عليها وقد بينا أن حامل الصبي على الدابة ضامن لديته إذا سقط سواء كان سقوطه بعد ما سير الدابة أو قبل أن يسيرها وكان هو ممن يستمسك عليها أولا يستمسك عليها.(26/343)
وإذا حمل العبد صبيا حرا على دابة فوقع الصبي عنها فمات فديته في عنق العبد يدفع به أو يفدى لأنه صار مسببا لهلاكه والعبد يضمن بالجناية تسببا كان أو مباشرة وموجب جناية العبد الدفع أو الفداء وإن كان معه على الدابة فسارا عليها فوطئت إنسانا فمات فعلى عاقلة الصبي نصف الدية وفي عنق العبد نصفها يدفع به أو يفدى لأنهما جانيان على المقتول فعلى كل واحد منهما موجب جنايته ويجعل في ذلك الحكم كأنه تفرد به وإذا حمل الحر الكبير العبد الصغير على الدابة ومثله يصرفها ويستمسك عليها ثم أمره أن يسير عليها فأوطأ إنسانا فذلك في عنق العبد يدفعه به مولاه أو يفديه بمنزلة جنايته بيده ويرجع مولاه بالأقل من قيمته ومن الأرش على الغاصب لأنه حين حمله على دابته فقد صار غاصبا له ويبقى حكم غصبه ما بقي على الدابة والعبد المغصوب إذا جنى في يد الغاصب كان للمولى أن يرجع على الغاصب بالأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأنه غصبه فارغا ورده مشغولا بالجناية بخلاف ما تقدم فالمحمول على الدابة هناك حر والحر لا يضمن بالغصب ولو حمله عليها وهو لا يصرف الدابة ولا يستمسك عليهما فسارت الدابة فأوطأت إنسانا فدمه هدر لأن الذي حمله عليها ليس بقائد للدابة ولا سائق لها وإنما هذه دابة منفلتة وإن كانت واقفة حيث أوقفها ولم تسر حتى ضربت رجلا بيدها أو رجلها أو بذنبها أو كدمته فلا شيء على الصبي لأن الصبي بمنزلة المتاع حين كان لا يستمسك على الدابة وعلى الذي أوقفها الضمان على عاقلته لأنه متعد في هذا التسبب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة في الطريق إلا أن يكون أوقفها في(26/344)
ص -168- ... ملكه فحينئذ لا ضمان عليه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه والمتسبب إذا لم يكن متعديا في تسببه لا يضمن شيئا كمن حفر بئرا أو وضع حجرا في ملكه والله أعلم.
باب جناية الراكب
قال رحمه الله: وإذا سار الرجل على دابة أي الدواب كانت في طريق المسلمين فوطئت إنسانا بيد أو رجل وهي تسير فقتلته فديته على عاقلة الراكب والأصل في هذا أن السير على الدابة في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي فإن الحق في الطريق لجماعة المسلمين وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة لأن حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء ودفع الضرر عن الغير واجب عليه فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه لأن ما يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع ولأنا لو شرطنا عليه السلامة عما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه لأنه لا يمتنع من المشي والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صفة السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزمه به نوع احتياط في الاستيفاء إذا عرفنا هذا فنقول التحرز عن الوطء على شيء في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك فإذا لم يسلم كان جانيا وهذه جناية منه بطريق المباشرة لأن القتل إنما حصل بفعله حين كان هو على الدابة التي وطئت فتجب عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية وإن نفحته برجلها وهي تسير فلا ضمان على الراكب لقوله عليه السلام "الرجل جبار" أي هدر والمراد نفحة الدابة بالرجل وهي تسير وهذا لأنه ليس في وسعه التحرز من ذلك لأن وجه الراكب أمام الدابة لا خلفها وكذلك النفحة بالذنب ليس في وسعه التحرز عن ذلك.(26/345)
وقال ابن أبي ليلى: هو ضامن لجميع ذلك وقاس الذي يسير على الدابة بالذي أوقف دابته في الطريق فنفحت برجلها أو يدها فكما أن هناك يجب ضمان الدية على عاقلته فكذلك هنا ولكنا نقول في الفرق بينهما هو ممنوع من إيقاف الدابة على الطريق لأن ذلك مضر بالمارة ولأن الطريق ما أعد لإيقاف الدواب فيه فيكون هو في شغل الطريق بما لم يعد الطريق له متعديا والمتعدي في التسبب يكون ضامنا فلهذا يسوي فيه بين ما يمكن التحرز عنه وبين ما لا يمكن وهذا لأنه إن كان لا يمكن التحرز عن النفحة بالرجل والذنب فهو يمكنه التحرز عن إيقاف الدابة بخلاف الأول فإن السير على الدابة في الطريق مباح له لأن الطريق معد لذلك ولأنه لا يضر بغيره وهو محتاج إلى ذلك فربما لا يقدر على المشي فيستعين بالسير على الدابة وإذا لم يكن نفس السير جناية قلنا: لا يلزمه ضمان ما لا يستطاع الامتناع منه.
ألا ترى أن الماشي في الطريق لا يكون ضامنا لما ليس في وسعه الامتناع منه بخلاف الجالس والنائم في الطريق ولو كدمت أو صدمت أو خبطت أو ضربت بيدها إنسانا وهو يسير(26/346)
ص -169- ... عليها فذلك كله مما يمكن التحرز عنه فيكون موجبا للدية على عاقلته بمنزلة ما لو وطئت إلا أن هذه الأسباب لا تلزمه الكفارة عندنا لأن الكفارة جزاء مباشرة القتل فلا تجب بالتسبب على ما نبينه.
وإن ضربت بحافرها حصاة أو نواة أو حجرا أو شبه ذلك فأصاب إنسانا وهي تسير فلا ضمان عليه لأن هذا لا يمكن التحرز عنه فهو بمنزلة التراب والغبار المنبعث من سنابكها إذا فقأ عين إنسان إلا أن يكون حجرا كبيرا فيضمن لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه وإنما ينبعث الحجر الكبير بخرق منه في السير ولو راثت أو بالت في السير فعطب إنسان بذلك لم يكن عليه ضمان لأنه لا يمكنه التحرز عن ذلك قالوا وكذلك إذا وقفت لتبول أو لتروث لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك حتى يقف فهذا مما لا يستطاع الامتناع عنه وكذلك اللعاب يخرج من فيها.
ولو وقع سرجها أو لجامها أو شيء محمول عليها من أداتها أو متاع الرجل الذي معه يحمله فأصاب إنسانا في السير كان ضامنا لأن هذا مما يمكن التحرز عنه وإنما سقط لأنه لم يشد عليها أو لم يحكم ذلك فكأنه ألقاه بيده على الطريق وكذلك من عطب به بعد ما وقع على الأرض فإن عثر به أو تعقل فهو ضامن له بمنزلة ما لو وضعه بيده على الطريق والراكب والرديف والسائق والقائد في الضمان سواء لأن الدابة في أيديهم وهم يسيرونها ويصرفونها كيف شاؤوا وذلك مروي عن شريح رحمه الله إلا أنه لا كفارة على السائق والقائد فيما وطئت لأنهما مسببان للقتل والكفارة جزاء مباشرة القتل فأما الراكب والمرتدف فمباشر أن القتل بفعلهما فعليهما الكفارة كالنائم إذا انقلب على إنسان فقتله.(26/347)
وإذا أوقف دابته في طريق المسلمين أو في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فما أصابت بيد أو رجل أو ذنب أو كدمت أو سال من عرقها أو لعابها على الطريق فزلق به إنسان فضمان ذلك على عاقلته لأنه متعد في هذا التسبيب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة في ملك غيره بغير إذنه وكذلك في طريق المسلمين هو ممنوع من إيقاف الدابة خصوصا إذا كان يضر بالمار ولكن لا كفارة عليه لانعدام مباشرة القتل منه.
وإذا أرسل الرجل دابته في الطريق فما أصابت في وجهها فهو ضامن له كما يضمن الذي سار به ولا كفارة عليه لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن إرساله فإذا عدت يمينا أو شمالا فلا ضمان عليه لأنها تغيرت عن حالتها أنشأت سيرا آخر باختيارها فكانت كالمنفلتة إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أحدثت فيه فحينئذ يكون ضامنا على حاله لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنه أن يسير فيه وإنما سارت في ذلك الطريق فكان هو سائقا لها ووقفت ثم سارت فيه بريء الرجل من الضمان إذا لأنها لما وقفت فقد انقطع حكم إرساله ثم أنشأت بعد ذلك سيرا باختيارها فهي كالمنفلتة فإن ردها فالذي ردها ضامن لما أصابت في فورها ذلك لأنه سائق لها في الطريق الذي ردها فيه وإذا حل عنها وأوقفها ثم سارت هي فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انقطع بما أنشأت من السير باختيارها(26/348)
ص -170- ... قال: وإذا اصطدم الفارسان فوقعا جميعا فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه عندنا استحسانا وفي القياس على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه وهو قول زفر والشافعي وجه القياس أن كل واحد منهما إنما مات بفعله وفعل صاحبه لأن الاصطدام فعل منهما جميعا فإنما وقع كل واحد منهما بقوته وقوة صاحبه فيكون هذا بمنزلة ما لو جرح نفسه وجرحه غيره ولكنا استحسنا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل دية كل واحد من المصطدمين على عاقلة صاحبه والمعنى فيه أن كل واحد منهما موقع لصاحبه فكأنه أوقعه عن الدابة بيده وهذا لأن دفع صاحبه إياه علة معتبرة لإتلافه في الحكم فأما قوة المصطدم فلا تصلح أن تكون علة معارضة لدفع الصادم فهو بمنزلة من وقع في بئر حفرها رجل في الطريق يجب الضمان على الحافر وإن كان لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر وكذلك لو دفع إنسان غيره في بئر حفرها رجل في الطريق فالضمان على الدافع دون الحافر وإن كان لولا حفره لذلك الموضع لما أتلفه بدفعه.
وعلى هذا الأصل قالوا لو أن رجلين تجاذبا حبلا فانقطع الحبل فماتا جميعا فإن مات كل واحد منهما بفعل صاحبه بأن وقع على وجهه فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه لأنه إنما وقع على وجهه بجذب صاحبه إياه وإن وقع كل واحد منهما على قفاه فلا شيء على واحد منهما لأن سقوطه على قفاه بقوة نفسه لا بجذب صاحبه إياه وإن سقط واحد منهما على وجهه والآخر على قفاه فدية الساقط على وجهه على عاقلة صاحبه.
ولو قطع إنسان الحبل بينهما فسقط كل واحد منهما على قفاه ومات فديتهما على عاقلة القاطع للحبل لأنه كالدافع لكل واحد منهما.(26/349)
ولو كان الصبي في يد أبيه فجذبه رجل من يده فمات فديته على عاقلة الجاذب لأن الأب محق في إمساكه والجاذب متعد في تسبيبه وكذلك لو تجاذبا صبيا يدعي أحدهما أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فالدية على عاقلة الذي يدعي أنه عبده لأن الشرع جعل القول قول من يدعيه ابنه فيكون هو محقا في إمساكه والآخر متعديا في جذبه.
ولو جذب ثوبا من يد إنسان وهو يدعى أنه ملكه فتخرق الثوب من جذبهما ثم أقام المدعي البينة أنه كان له فله نصف قيمة الثوب على صاحبه لأنه كان يكفيه الإمساك باليد وما كان يحتاج إلى الجذب فيجعل التخريق محالا به على فعلهما جميعا.
ولو عض ذراع إنسان فنزع ذراعه من فيه فسقطت إنسان العاض فهو هدر ولو انقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك على العاض لأنه محتاج إلى جذب الذراع من فيه فإن العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر متعديا في العض ولو أخذ بيد إنسان فجذب صاحب اليد يده فعطبت يده فإن كان أخذ بيده ليصافحه فلا ضمان(26/350)
ص -171- ... على الذي أخذ لأن الجاذب ما كان يحتاج إلى ما صنع فيكون هو الجاني على يد نفسه وإن كان أخذ يده ليعصره فالضمان على الآخذ لأن الجاذب محتاج إلى الجذب لدفع الألم عن نفسه.
ولو جلس على ثوب إنسان فقام صاحبه فتخرق الثوب من جذبه فالضمان على الجالس عليه لأنه متعد في الجلوس على ذيل الغير بغير إذنه والذي بينا في اصطدام الفارسين فكذلك الجواب في اصطدام الماشيين فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فقيمة العبد على عاقلة الحر ثم يأخذها ورثة الحر لأن كل واحد منهما صار قاتلا لصاحبه فيجب على عاقلة الحر قيمة العبد ثم إن تلف العبد الجاني وأخلف بدلا فيكون بدله لورثة المجني عليه وهو الحر.
وإذا أوقف الرجل دابته في ملكه فما أصابت بيد أو رجل أو غير ذلك فلا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه وكذلك إن كان الملك له ولغيره لأن لكل واحد من الشريكين أن يوقف دابته في الملك المشترك ويستوي إن قل نصيبه فيها أو كثر.
أرأيت لو قعد في الملك المشترك أو توضأ فعطب إنسان بوضوئه أكنت أضمنه ذلك لا أضمنه شيئا من هذا.
وإذا سار الرجل على دابته فضربها أو كبحها باللجام فنفحت برجلها أو بذيلها لم يكن عليه شيء لأنه يحتاج إلى ضربها أو كبحها باللجام في تسييرها ولا يمكنه التحرز عن النفحة بالرجل والذنب ولو خبطت بيد أو رجل أو كدمت أو صدمت فقتلت إنسانا فالضمان على الراكب سواء كان يملكها أو لا يملكها لأن التحرز عن هذا كله ممكن ولو سقط عنها ثم ذهبت على وجهها فقتلت إنسانا لم يكن عليه شيء لأنها منفلتة فالذي سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العجماء جبار" وهي المنفلتة عندنا ذكره في الأصل والله أعلم.(26/351)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء السابع والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(27/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
باب الناخس
قال رحمه الله: وإذا سار الرجل على دابة في الطريق فنخسها رجل أو ضربها فنفحت برجلها رجلا فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب لأن نخسه جناية فما تولد منه كان مضمونا عليه وإنما تكون النفحة بالرجل جبارا إذا كان يسير في الطريق قال بلغنا ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا لأن ذلك تولد من نخسه فصار كأنه هو الذي جنى على نفسه.
ولو ألقت الراكب من تلك النخسة فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس لأنه تولد ذلك من نخسه وجنايته وكذلك لو وثبت من نخسه على رجل فقتلته أو وطئت رجلا فقتلته لأن ذلك تولد من جنايته والواقفة في ذلك والتي تسير سواء لأن ذلك تولد من نخسه فكان الضمان على عاقلته.
قال: ولو نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها ولا ضمان عليه في نفحتها وهي تسير لأن النفحة في حال السير هدر لقوله عليه الصلاة والسلام "الرجل جبار" ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها هذا بإذن الراكب كانت الدية عليهما جميعا إذا كان في فورها الذي نخسها فيه لأنه لما نخس بإذن الراكب صار بمنزلة السائق والراكب سائقا وراكبا كان الضمان عليهما نصفين وهذا إذا كان في ذلك الفور الذي نخسها فيه فأما إذا انقطع ذلك الفور كما إذا سارت ساعة وتركها من السوق فالضمان على الراكب خاصة لأن فعل الناخس قد انقطع وبقي فعل الراكب.
قال: وإذا نخس الرجل الدابة ولها سائق بغير إذن السائق فنفحت رجلا فقتلته فالضمان على الناخس وكذلك لو كان لها قائد لأن ذلك تولد من نخسه.
وإن نخس بإذن السائق أو بإذن القائد فنفحت رجلا فقتلته فلا ضمان عليه ولا عليهما لأن الناخس صار سائقا والنفحة بالرجل جبار في هذه الحالة.(27/2)
قال: وإذا قاد الرجل الدابة فنخسها رجل آخر فانفلتت من القائد ثم أصابت في فورها ذلك فضمان ذلك على الناخس لأن حكم قوده قد انقطع وصار الناخس جانيا فضمان ذلك عليه.(27/3)
ص -4- ... قال: وإن كان الناخس عبدا فجناية الدابة في رقبة العبد يدفع بها أو يفدي لأنه بمنزلة جنايته بيده وإن كان الناخس صبيا فهو كالرجل في أن ضمان الدية يجب على عاقلته وإن مرت الدابة بشيء نصب في ذلك الطريق فنخسها ذلك الشيء فنفحت إنسانا فقتلته فهو على الذي نصب ذلك لأنه متعد في نصب ذلك الشيء في الطريق فكان نخس ذلك الشيء للدابة بمنزلة نخس الذي نصبه وإن كان الرجل يسير في الطريق فأمر عبدا لغيره فنخس دابته فنفحت فلا ضمان على أحد منهما لأن فعل المأمور كفعل الآمر عبدا كان المأمور أو حرا فإن وطئت في فورها ذلك إنسانا فقتلته فعلى عاقلة الراكب نصف الدية وفي عنق العبد نصف الدية يدفعها مولاه أو يفديه بمنزلة السائق مع الراكب إلا أن المولى يرجع على الآمر بالأقل من قيمة العبد ومن نصف الدية لأنه صار للعبد غاصبا باستعماله إياه في نخس الدابة فإذا لحقه ضمان بذلك السبب كان للمولى أن يرجع به على المستعمل له وكذلك لو أمره بالسوق أو بقود الدابة.
ولو كان الراكب عبدا فأمر عبدا آخر فساق دابته فأوطأت إنسانا فقتلته فالدية في أعناقهما نصفين يدفعان بها أو يفديان بمنزلة السائق مع الراكب ولا شيء على الراكب لمولى العبد المأمور إذا كان الراكب محجورا عليه حتى يعتق لأن سبب وجوب هذا الضمان استعماله إياه بالقول والمحجور لا يؤاخذ بضمان القول حتى يعتق وإذا عتق كان عليه قيمة المأمور وإن كان تاجرا أو مكاتبا فهو دين في عنقه لأنه لا يؤاخذ بضمان القول فكذلك السائق في الحال.(27/4)
وإذا أقاد الرجل قطارا في طريق المسلمين فما وطى ء أول القطار وآخره فالقائد ضامن له وإن كان معه سائق فالضمان عليهما لأن القائد مقرب ما أصاب بالصدمة أو غير ذلك وكذلك السائق مقرب من ذلك ومشتركان في الضمان لاستوائهما في السبب وهذا لأن السوق والقود في الطريق مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة الركوب فكما أن الراكب يجعل ضامنا بما تلف بسبب يمكن التحرز عنه فكذلك السائق والقائد والمعنى في الكل أن الدابة في يده فعليه أن يتحرز عما يمكن التحرز عنه في صرف الدابة بسوقه أو بقوده وإن كان معها سائق للإبل وسط القطار فالضمان في جميع ذلك عليهم أثلاثا لأن الذي هو في وسط القطار سائق لما بين يديه فعليه أن يتحرز عما يمكن التحرز عنه من الإبل قائدا لما خلفه والسائق والقائد في حكم الضمان سواء وكذلك إن كان يكون أحيانا وسطها وأحيانا يتقدم وأحيانا يتأخر لأنه في جميع هذه الأحوال سائق للقطار أو قائد.
ولو كان الرجل راكبا وسط القطار على بعير ولا يسوق منها شيئا لم يضمن شيئا مما تصيب الإبل التي بين يديه لأنه ليس بسائق لما بين يديه فإن ثقل السوق في الزجر على الإبل والضرب ولم يوجد منه شيء من ذلك وهو معهم في الضمان فيما أصاب البعير الذي هو عليه وما خلفه أما ما في البعير الذي هو عليه فلأنه راكب والراكب شريك السائق والقائد في الضمان وأما ما خلفه فلأنه قائد لما خلفه لأن ما خلفه زمامه مربوط ببعيره ومشي البعير الذي هو عليه يضاف إلى الراكب فيجعل هو بهذا المعنى كالقائد لما خلفه وقال بعض(27/5)
ص -5- ... المتأخرين: هذا إذا كان زمام ما خلفه يقوده بيده وأما إذا كان هو نائما على بعيره أو قاعدا لا يفعل شيئا لا يكون به قائدا لما خلفه فلا ضمان عليه في ذلك وهو في حق ما خلفه بمنزلة المتاع الموضوع على بعيره.
وإذا أتى الرجل ببعير فربطه إلى القطار والقائد لا يعلم وليس معها سائق فأصاب ذلك البعير إنسانا ضمن القائد لأنه قائد لذلك البعير والقود سبب لوجوب الضمان ومع تحقق سبب الضمان لا يسقط الضمان لجهله ثم يرجع القائد على الذي ربط البعير بذلك الضمان لأنه هو الذي ألزمه ذلك الضمان حين ربط البعير بقطاره وهو متعد فيما صنع فيكون له أن يرجع عليه بما يلحقه من الضمان.
ولو كان البعير واقعا حين ربطه بالقطار ثم قاد فأصاب ذلك البعير شيئا فالضمان على القائد ولا يرجع على الذي ربط البعير بذلك الضمان لأنه هو الذي ربط البعير بقطاره كان هو السبب لما يلحقه من الضمان فيثبت له حق الرجوع به عليه وفي الوجهين جميعا إن علم صاحب القطار وقاد القطار على حاله لم يكن له أن يرجع على الرابط بشيء من الضمان لأنه بعد ما علم لما قاد القطار فقد صار ضامنا بفعله فيجعل كأنه ربط بأمره.
ولو سقط شيء مما يحمل الإبل على إنسان فقتله أو سقط بالطريق فعثر فمات كان الضمان في ذلك على الذي يقود الإبل وإن كان معه سائق فالضمان عليهما لأن هذا مما يمكن التحرز عنه بأن يشد الحمل على البعير على وجه لا يسقط وإنما يسقط لتقصير كان من القائد والسائق في الشد فكأنه أسقط ذلك بيده فيكون ضامنا لما تلف بسقوطه عليه ولمن يعثر به بعد ما سقط في الطريق لأنه شيء أحدثه في طريق المسلمين.(27/6)
وإذا سار الرجل على دابته في الطريق فعثر بحجر وضعه رجل أو بدكان قد بناه رجل أو بماء قد صبه رجل فوقعت على إنسان فمات فالضمان على الذي أحدث ذلك في الطريق لأنه ممنوع من إحداث شيء من ذلك في طريق المسلمين فإن الطريق معد لمرور الناس فيه فيما يضر بالمارة أو يحول بينهم وبين المرور فيه يكون هو ممنوعا من إحداث ذلك وبهذا الطريق يصير المحدث كالدافع للدابة على ما سقطت عليه فيكون الضمان عليه دون الراكب قالوا هذا إذا لم يعلم الراكب بما أحدث في الطريق فإن علم بذلك وسير الدابة على ذلك الموضع قصدا فالضمان عليه لأنه طرأ على فعل الذي أحدث فعل آخر ممن هو مختار فيفسخ به حكم فعل الأول ويكون الضمان على الثاني بمنزلة من وضع حجرا على الطريق فزحزحه رجل آخر إلى جانب آخر من الطريق ثم عثر به إنسان كان الضمان على الثاني دون الأول.
ولو سار على دابته في ملكه فأوطأت إنسانا بيد أو رجل فقتلته فعليه الدية والكفارة جميعا لأن الراكب مباشر للقتل فيما أوطأت دابته والمباشرة في ملكه وفي غير ملكه سواء في إيجاب الضمان عليه كالرمي فإن رمى في ملكه فأصاب إنسانا كان عليه ضمانه وإن كان سائقا أو قائدا فلا ضمان عليه في ذلك لأنه تسبب بتقريب الدابة من محل الجناية والمتسبب(27/7)
ص -6- ... إنما يكون ضامنا إذا كان متعديا بسببه وهو في ملك نفسه لا يكون متعديا في سوق الدابة ولا قودها فهو نظير القاعد في ملكه إذا تعثر به إنسان والدليل على الفرق أن السائق والقائد في الطريق لا تلزمه الكفارة لانعدام مباشرة القتل منه والراكب تلزمه الكفارة.
ولو أوقفها في ملكه فأصابت إنسانا من أهله أو أجنبيا دخل بإذنه أو بغير إذنه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه وكذلك الكلب العقور في دار مخلى عنه أو مربوطا لأن صاحب الكلب غير متعدي في إمساكه في ملكه.
ولو ربط دابته في الطريق فجالت في رباطها من غير أن يحلها أحد فما أصابت فهو على الذي ربطها لأنه متعد في ربطها في الطريق وفي أي موضع وقفت بعد أن تكون مربوطة فذلك يكون مضافا إلى من ربطها لأن الرابط يعلم حين ربطها أنه تحول في رباطها بهذا القدر فلا يكون تغييرها عن حالها مبطلا الضمان عنه بعد أن يكون الضمان بالرباط كما هي إلا أن يحل الرباط وتذهب فحينئذ تكون في معنى المنفلتة وكذلك كل بهيمة من سبع أو غيره إذا أوقفه رجل على الطريق فهو متعد في هذا التسبب حكما ضامن لما يتلف به ما لم يتغير عن حاله.
وكذلك لو طرح بعض الهوام على رجل فلدغه ذلك فهو ضامن له لأنه متعد في هذا التسبب ولا يقال قد طرأ على تسببه مباشرة وهو اللدغ من العقرب أو الحية لأن ذلك غير صالح لبناء الحكم عليه فلا يقطع به حكم التسبب الموجود ممن ألقاه عليه بمنزلة مشي الماشي وفعله في نفسه في مسألة حفر البئر فإنه لا يكون ناسخا للسبب الموجود من الحافر في حكم الضمان والله أعلم.
باب ما يحدث الرجل في الطريق(27/8)
قال رحمه الله: وإذا وضع الرجل في الطريق حجرا أو بنى فيه بناء أو أخرج من حائطه جذعا أو صخرة شاخصة في الطريق أو أشرع كنيفا أو حياضا أو ميزابا أو وضع في الطريق جذعا فهو ضامن لما أصاب من ذلك لأنه مسبب لهلاك ما تلف بما أحدثه وهو متعد في هذا التسبب فإنه أحدث في الطريق ما يتضرر به المارة أو يحول بينهم وبين المرور في الطريق الذي هو حقهم ووجوب الضمان لصيانة دم المتلف عن الهدر فإذا أمكن إيجابه على المسبب لكونه متعديا في تسبيبه نوجبه عليه وإن لم يكن قاتلا في الحقيقة حتى لا تلزمه الكفارة عندنا ولا يحرم الميراث.
وقال الشافعي لما جعل التسبب كالمباشرة في حكم الضمان فكذلك في حكم الكفارة وحرمان الميراث ولكنا نقول الكفارة وحرمان الميراث جزاء قتل محظور ولا يوجد ذلك في التسبب لأنه لا يتمكن أن يجعل قاتلا بإحداث ذلك ولا مقتولا عند إحداثه ولا يمكن أن يجعل قاتلا عند الإصابة فلعل المحدث ميت عند الإصابة وكيف يكون الميت قاتلا والدليل عليه أن القتل لا يكون إلا بفعل القاتل والقتل نوعان عمد وخطأ ففي كل ما يتصور العمد في جنسه بتصور الخطأ أيضا والقتل العمد بهذا الطريق لا يتحقق فكذلك الخطأ وحرمان(27/9)
ص -7- ... الميراث باعتبار توهم القصد إلى استعجال الميراث وذلك في العمد لا يشكل وفي الخطأ يحتمل أن يكون الخطأ أظهر من نفسه وهو قاصد إلى ذلك وهذا لا يتحقق في هذه المواضع.
وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله الكفارة وحرمان الميراث لا يثبت في حق الصبي والمجنون بالقتل لأنه جزاء قتل محظور وفعل الصبي لا يوصف بذلك فالخطأ شرعا يبنى على الخطاب وعند الشافعي يثبت الكفارة وحرمان الميراث في حقهما كما تثبت الدية وعلى هذا قلنا إذا قضى القاضي على مورثه بالقصاص لم يحرم الميراث وإن رجعوا لا تلزمهم الكفارة لأن ذلك جزاء فعل محظور والقاضي بقضائه لا يصير قاتلا وكذلك شهود القصاص لا يحرمون الميراث وإن رجعوا لا تلزمهم الكفارة لأن ذلك جزاء قتل محظور وهم بالشهادة ما صاروا قاتلين مباشرة فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فماتا فالضمان على الذي أحدثه في الطريق لأنه بمنزلة الدافع لمن يعثر بما أحدثه فكأنه دفعه بيده على غيره فلا ضمان على الذي عثر به لأنه مدفوع في هذه الحالة والمدفوع كالآلة.
وإذا نحى رجل شيئا من ذلك عن موضعه فعطب به آخر فالضمان على الذي نحاه وقد خرج الأول من الضمان لأن حكم فعله قد انفسخ بفراغ الموضع الذي شغله بما أحدث فيه وإنما شغل بفعل الثاني في موضع آخر فهو كالمحدث لذلك في ذلك الموضع وإلقاء التراب في الطريق واتخاذ الطين فيه بمنزلة إلقاء الحجر والخشبة.(27/10)
ولو أن رجلا كنس الطريق فعطب بموضع كنسه إنسان لم يضمن لأنه لم يحدث في الطريق شيئا إنما كنس الطريق لكيلا يتضرر به المارة ولا يؤذيهم التراب فلا يكون هذا متعديا في هذا السبب ولو رش الطريق أو توضأ في الطريق فعطب بذلك الموضع إنسان فهو ضامن لأن ما أحدث في الطريق من صب الماء يلحق الضرر بالمارة ويحول بينهم وبين المرور مخافة أن تزل أقدامهم وهذا كله في طريق هو للعامة فإن كان في سكة غير نافذة والذي فعل ذلك من أهل السكة لم يضمن لأن ذلك الموضع مشترك بينهم شركة خاصة وقد بينا أن أحد الشركاء إذا أحدث من ذلك في الملك المشترك لم يكن ضامنا.
وإذا أشرع الرجل جناحا إلى الطريق ثم باع الدار فأصاب الجناح رجلا فقتله فالضمان على البائع لأنه كان جانيا بوضع الجناح فإن سواء الطريق كرقية الطريق فمن أحدث فيه شيئا يكون جانيا وبالبيع لم ينسخ حكم فعله لأنه لم ينزع الموضع الذي شغله بما أحدثه فبقي ضامنا على حاله.
ألا ترى أنه لو وضع الجناح في غير ملكه كان ضامنا لما تلف به فلما كان عدم الملك لا يمنع انعقاد سبب الضمان فكذلك لا يمنع بقاءه ولا شيء على المشتري لأنه ما أحدث في الطريق شيئا وكذلك الميزاب فإن سقط الميزاب يصرفان فإن أصاب ما كان منه في الحائط رجلا فقتله فلا ضمان فيه على أحد لأنه إنما وضع ذلك الطرف من الميزاب في ملكه وإحداث شيء في ملكه لا يكون تعديا.(27/11)
ص -8- ... وإن أصابه ما كان خارجا منه من الحائط فالضمان على الذي وضعه لأنه متعد في ذلك الطرف فإنه شغل به هواء الطريق فإن لم يعلم أيهما أصابه ففي القياس لا شيء عليه لأنه إن كان أصابه الطرف الداخل لم يضمن شيئا وإن أصابه الطرف الخارج فهو ضامن والضمان بالشك لا يجب لأن فراغ ذمته ثابت يقينا وفي الإشغال شك وفي الاستحسان هو ضامن للنصف لأنه في حال هو ضامن للكل وفي حال لا شيء عليه فيتوزع الضمان على الأحوال ليتحقق به معنى النظر من الجانبين.
وإذا استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا فإن سقط من عملهم قبل أن يفرغوا منه فالضمان عليهم دون رب الدار لأنه إنما سقط لتقصيرهم في الإمساك فكأنهم ألقوا ذلك فيكونون قاتلين مباشرة فيلزمهم الدية والكفارة ويحرمون الميراث.
وإن سقط ذلك بعد فراغهم من العمل فالضمان فيه على رب الدار استحسانا وفي القياس هذا كالأول لأنهم باشروا إحداث ذلك في الطريق وصاحب الدار ممنوع من إحداثه وإنما يعتبر فيما أمره في ماله أن يفعله بنفسه ولكنه استحسن لحديث شريح فإنه قضى بالضمان على مثله على رب الدار والمعنى فيه أنهم يعملون له ولهذا يستوجبون الأجر عليه وقد صار عملهم مسلما إليه بالفراغ منه فكأنه عمل ذلك بنفسه بخلاف ما قبل الفراغ فإن عملهم لم يصر مسلما إليه بعد وهذا لأنه إنما يحدث ذلك في فنائه ويباح له فيما بينه وبين ربه إحداث مثل ذلك في فنائه إذا كان لا يتضرر به غيره ولكن لكون الفناء غير مملوك لم يتقيد بشرط السلامة فبهذا اعتبر أمره في ذلك وجعل هو كالقاتل لنفسه.(27/12)
ولو وضع ساجة في الطريق أو خشبة باعها من رجل وبرئ إليه منها فتركها المشتري حتى عطب بها إنسان فالضمان على الذي وضعها لأنه كان متعديا في وضعها فما بقيت في ذلك المكان بقي حكم فعله وكما أن انعدام ملكه في الخشبة لا يمنع وجوب الضمان عليه بوضعها في الطريق فكذلك زوال ملكه بالبيع وإن كان جميع ما ذكرنا في ملك قوم أشرعوه في ملكهم فلا ضمان في شيء من ذلك وإن كان أشرعه بعضهم دون بعض فعليه الضمان يرفع عنه بحصة ما ملكه من ذلك لأن أحد الشركاء لا يملك البناء في الملك المشترك بغير رضا شركائه فهو جان باعتبار إرضائهم غير جان باعتبار نصيبه فيتوزع الضمان على ذلك بمنزلة أحد الشركاء في الجارية إذا وطئها يلزمه العقر ويرفع عنه من ذلك حصته وذلك بخلاف ما لو توضأ فيه أو صب فيه ماء أو وضع متاعا لأن ذلك يتمكن من فعله كل واحد من الشركاء شرعا فيستحسن أن لا يجعله ضامنا به بخلاف البناء.
وإذا وضع في الطريق جمرا فأحرق شيئا فهو ضامن له لأنه متعد في إحداث النار في الطريق فإن حركته الريح فذهب به إلى موضع آخر ثم أحرق شيئا فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انتسخ بالتحول من ذلك الموضع إلى موضع آخر قال وهذا إذا لم يكن اليوم يوم.(27/13)
ص -9- ... ريح، فإن كان ريحا فهو ضامن لأنه كان عالما حين ألقاه أن الريح يذهب به من موضع إلى موضع فلا ينسخ حكم فعله بذلك بمنزلة الدابة التي جالت برباطها والله أعلم.
باب الحائط المائل
قال رحمه الله: وإذا مال حائط الرجل أو وهى فوقع على الطريق الأعظم فقتل إنسانا فلا ضمان على صاحبه لأنه لم يوجد منه صنع هو تعد فإنه وضع البناء في ملكه فلا يكون متعديا في الوضع ولا صنع له في مثل الحائط ولكن هذا إذا كان بناء الحائط مستويا فإن كان بناه في الأصل مائلا إلى الطريق فهو ضامن لمن يسقط عليه لأنه متعد في شغل هواء الطريق ببنائه وهواء الطريق كأصل الطريق حق المارة فمن أحدث فيه شيئا كان متعديا ضامنا فأما إذا بناه مستويا فإنما شغل ببنائه هواء ملكه وذلك لا يكون تعديا منه.
فلو أشهد عليه في هذا الحائط المائل فلم يهدمه حتى سقط وأصاب إنسانا ففي القياس لا ضمان عليه أيضا وهو قول الشافعي لأنه لم يوجد منه صنع هو تعد والإشهاد فعل غيره فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه لكن استحسن علماؤنا رحمهم الله إيجاب الضمان روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعن شريح والنخعي والشعبي وغيرهم من أئمة التابعين وهذا لأن هواء الطريق قد اشتغل بحائطه وحين قد أشهد عليه فقد طولب بالتفريغ والرد فإذا امتنع من ذلك بعد ما تمكن منه كان ضامنا بمنزلة ما لو هبت الريح بثوب ألقته في جحر فطالبه صاحبه بالرد عليه فلم يفعل حتى هلك بخلاف ما قبل الإشهاد ولانه لم يطالب بالتفريغ فهو نظير الثوب إذا هلك في جحره قبل أن يطالبه صاحبه بالرد ثم لا معتبر بالإشهاد وإنما المعتبر التقدم إليه في هدم الحائط فالمطالبة تتحقق وينعدم به معنى العذر في حقه وهو الجهل بميل الحائط إلا أنه ذكر الإشهاد احتياطا حتى إذا جحد صاحب الحائط التقدم إليه في ذلك أمكن إثباته عليه بالبينة بمنزلة الشفيع فالمعتبر في حقه طلب الشفعة ولكن يؤمر بالإشهاد على ذلك احتياطا لهذا المعنى.(27/14)
وهذا التقدم إليه يصح من كل واحد من الناس مسلما أو ذميا رجلا كان أو امرأة لأن الناس في المرور في الطريق شركاء والتقدم إليه صحيح عند السلطان وعند غير السلطان لأنه مطالبة بالتفريغ وغير مطالبة في الطريق ولكل أحد حق في الطريق فينفرد بالمطالبة بتفريغه وصورته أن يقول له إن حائطك هذا مائل فاهدمه.
وذكر عن الشعبي أنه كان يمشي ومعه رجل فقال الرجل إن هذا الحائط لمائل وهو لعامر ولا يعلموا الرجل أنه عامر فقال عامر ما أنت بالذي يفارقني حتى أنقضه فبعث إلى الفعلة فنقضه فعرفنا أن الإشهاد بهذا اللفظ يتم وبعد الإشهاد إن تلف بالحائط مال فالضمان في ماله وإن تلف به نفس فضمان ديته على عاقلته لأن هذا دون الخطأ ولا كفارة عليه فيه لانعدام مباشرة القتل منه ويستوي إن شهد عليه رجلان أو رجل وامرأتان في التقدم إليه لأن الثابت بهذا التقدم ما لا يندرئ بالشبهات وهو المال.(27/15)
ص -10- ... وإذا باع الحائط بعد ما أشهد عليه بريء من ضمانه لأنه إنما كان جانيا بترك الهدم مع تمكنه منه وبالبيع زال تمكنه من هدم الحائط فيخرج من أن يكون جانيا فيه بخلاف الجناح فهناك كان جانيا بأصل الوضع.
يوضحه: أن ابتداء الإشهاد عليه لا يصح إذا لم يكن هو مالكا للحائط فكذلك لا يبقى حكم الإشهاد بعد زوال ملكه بخلاف الجناح ولا ضمان على المشتري في الحائط لأنه لم يتقدم إليه في هدمه فحاله كحاله قبل أن يتقدم إليه فيه فإن شهد المشتري في الحائط فإنه لا يتقدم إليه في هدمه فحاله كحال البائع قبل أن يتقدم إليه فيه فإن أشهد على المشتري بعد شرائه فهو ضامن لتركه تفريغ الطريق بعد ما طولب به مع تمكنه من ذلك.
ولو كان الحائط رهنا فتقدم إلى المرتهن فيه لم يضمنه المرتهن ولا الراهن لأن المرتهن غير متمكن من هدمه فلا يصح التقدم فيه إليه ولم يتقدم إلى الراهن فيه وإن تقدم فيه إلى الراهن كان ضامنا لأنه متمكن من أن يقضي الدين ويسترد الحائط فهدمه فيصح التقدم إليه فيه وإن تقدم إلى ساكن الدار في بعض الحائط المائل فليس ذلك بشيء سواء كان ساكنا بأجر أو بغير أجر لأنه غير متمكن من النقض.
وإن تقدم إلى رب الدار فعليه الضمان لأنه متمكن من هدمه فإذا تقدم إلى أب الصبي أو الوصي في ذلك فلم ينقضه حتى سقط فأصاب شيئا فضمانه على الصبي لأن الأب والوصي يقومان مقامه ويملكان هدم الحائط فيصح التقدم إليهما فيه ويكون ذلك كالتقدم إلى الصبي بعد بلوغه ثم هما في ترك الهدم يعملان للصبي وينظران له فلهذا كان الضمان عليه دونهما.(27/16)
وإذا تقدم في الحائط إلى بعض الورثة فالقياس أن لا ضمان على أحد منهم لأن أحد الشركاء لا يتمكن من نقض الحائط كما لا يتمكن من بنائه ولم يوجد التقدم إلى الباقين فلا يصح هذا الإشهاد ولا يكون هو متعديا في تركه التفريغ بعد هذا ولكنا نستحسن فنضمن هذا الذي أشهد عليه بحصة نصيبه مما أصاب الحائط لأنه كان متمكنا من أن يطلب شركاءه ليجتمعوا على هدمه وهذا لأن الإشهاد على جماعته يتعذر عادة فلو لم يصح الإشهاد على بعضهم في نصيبه أدى إلى الضرر والضرر مدفوع والرجل والمرأة والمسلم والذمي والحر والمكاتب في هذا الإشهاد سواء لأنهم في التطرق في هذا الطريق سواء.
وإذا تقدم إلى العبد التاجر في الحائط فأصاب إنسانا وعليه دين أو لا دين عليه فهو على عاقلة مولاه لأن العبد متمكن من هدم الحائط فيصح التقدم إليه ثم الحائط ملك المولى إن لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين فالمولى أحق باستخلاصه لنفسه فيجعل في حكم الجناية كان المولى هو المالك على ما بينا فيما إذا وجد القتيل في دار العبد فلهذا كان ضمان الدية على عاقلة المولى.
وإن أصاب مالا فضمانه في عنق العبد يباع فيه. وينبغي في القياس أن يكون على المولى(27/17)
ص -11- ... كضمان النفس ولكنا استحسنا الفرق بينهما فقلنا العبد بالتزام ضمان المال كالحر فإنه منفك الحجر عنه في اكتساب سبب ذلك وفي التزام ضمان الجناية على النفس هو كالمحجور عليه لأن فك الحجر بالإذن لم يتناول ذلك فكان الضمان على عاقلة المولى.
وإذا وضع الرجل على حائطه شيئا فوقع ذلك الشيء فأصاب إنسانا فلا ضمان عليه فيه لأنه وضعه على ملكه فهو لا يكون متعديا فيما يحدثه في ملكه ويستوي إن كان الحائط مائلا أو غير مائل لأنه في الموضعين لا يكون ممنوعا من وضع متاعه على ملكه.
وإذا تقدم إلى رجل في حائط من داره في يده فلم يهدمه حتى سقط على رجل فقتله فأنكرت العاقلة أن تكون الدار له أو قالوا لا ندري هي له أو لغيره فلا شيء عليهم حتى تقوم البينة على أن الدار له لأن ثبوت الملك له باعتبار اليد من حيث الظاهر وذلك لا يصلح حجة لاستحقاق الدية على العاقلة فهو نظير المشتري للدار إذا أنكر أن يكون ما في يد الشفيع ملكه كان على الشفيع إثبات ملكه بالبينة ليتمكن من الأخذ بالشفعة.
والحاصل أنه يحتاج إلى أثبات ثلاثة أشياء بالبينة أحدها: أن تكون الدار له.
والثاني: أن يتقدم إليه في هدم الحائط.
والثالث: أن المقتول إنما مات بسقوط الحائط عليه.
فإذا ثبتت هذه الأشياء بالبينة فحينئذ يقضي بالدية على العاقلة فإن أقر ذو اليد أن الدار له لم يصدق على العاقلة ولا ضمان على المقر أيضا في القياس لأنه إنما أقر بوجوب الدية على العاقلة والمقر على الغير إذا صار مكذبا في إقراره لم يضمن شيئا ولكنا نستحسن أن نضمنه الدية لإقراره على نفسه بالتعدي وهو ترك هدم الحائط بعد ما تمكن منه وإنما هذا بمنزلة جناح أخرجه في دار في يده إلى الطريق فوقع على إنسان فقتله فقالت العاقلة ليست الدار له وإنما أخرج الجناح بأمر رب الدار وأقر ذو اليد أن الدار له فإنه يكون ضامنا الدية في ماله فهذا مثله.(27/18)
وإذا كان الرجل على حائط له مائل أو غير مائل سقط به الحائط فأصاب من غير عمله إنسانا فقتله فهو ضامن في الحائط المائل إذا كان قد تقدم إليه فيه ولا ضمان عليه فيما سواه لأنه مدفوع بالحائط حين سقط الحائط وسقوطه على إنسان بمنزلة سقوط الحائط عليه في حكم الضمان.
ولو كان هو سقط من الحائط من غير أن سقط الحائط فقتل إنسانا كان هو ضامنا لأنه غير مدفوع هنا بالحائط فإن الحائط على حاله لم يسقط ولكنه بمنزلة النائم انقلب على إنسان فقتله يكون ضامنا له ولو مات الساقط بطرق الأسفل فإن كان يمشي في الطريق فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في مشيه في الطريق ولا يمكنه أن يتحرز عن سقوط غيره عليه وإن كان واقفا في الطريق أو قاعدا أو نائما فهو ضامن لدية الساقط عليه لأنه متعد بالوقوف والقعود والنوم فيكون ضامنا لما يتلف به.(27/19)
ص -12- ... وإن كان الأسفل في ملكه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد في الوقوف في ملكه وعلى الأعلى ضمان الأسفل في هذه الحالات لأن الأعلى مباشر بقتل من سقط عليه وفي المباشرة الملك وغير الملك سواء وكذلك إن تعقل فسقط أو نام فانقلب فهو ضامن لما أصاب الأسفل لأنه تلف بثقله فكأنه قتله بيده وعليه الكفارة في ذلك.
وكذلك لو تردى من جبل إلى رجل فقتله فعليه ضمانه وملكه وغير ملكه في ذلك سواء وكذلك لو سقط في بئر احتفرها في ملكه وفيها إنسان فقتل ذلك الإنسان كان ضامنا للإنسان بمنزلة ما لو قتله بيده وإن كان البئر في الطريق كان الضمان على رب البئر فيما أصاب الساقط والمسقوط عليه لأن الحافر للبئر إذا كان متعديا فهو بمنزلة الدافع لمن سقط في البئر والساقط بمنزلة المدفوع.
وإذا شهد على رجل في حائط مائل شاهدان فأصاب الحائط أحد الشاهدين أو أباه أو عبدا له أو مكاتبا له ولا شاهد على رب الحائط غيرهما لم تجز شهادة هذا الذي يجر إلى نفسه أو إلى أحد ممن تجوز شهادته له نفعا لأن الموجب للضمان على صاحب الحائط التقدم إليه في الهدم وهو منكر لذلك فشهادة الشهود عليه بهذا السبب كشهادتهم عليه بوجوب الضمان بسبب آخر.
ولو شهد عبدان أو صبيان أو كافران ثم عتق العبد وأسلم الكافر وأدرك الصبيان ثم وقع الحائط فأصاب إنسانا فهو ضامن لذلك وكذلك إن كان السقوط قبل أن يعتقا أو يسلما أو يدركا ثم كان ذلك قبل أداء الشهادة لما بينا أن المعتبر هو التقدم إليه والإشهاد عند ذلك محض تحمل فيكون صحيحا من هؤلاء وهم أهل للشهادة عند الأداء فوجب قبول شهادتهم.(27/20)
وإذا شهد على اللقيط في حائطه ثم سقط فقتل رجلا فديته على بيت المال لأنه متمكن من هدم حائطه فإذا لم يفعل حتى سقط كان بمنزلة جنايته بيده فتكون على بيت المال إذا لم يوال أحدا وكذلك الكافر يسلم ولم يوال أحدا فهو كاللقيط يعقل عنهما جنايتهما بيت المال وميراثهما لبيت المال وإذا مال الحائط على دار قوم فأشهدوا عليه فهو ضامن لما أصاب عليه الحائط منهم أو من غيرهم لأنه بميل الحائط شغل هواء ملكهم فتكون المطالبة بالتفريغ إليهم فإذا تقدموا إليه أو أحدهم صح التقدم ويكون هو في تركه التفريغ بعد ذلك جانيا وكذلك العلو إذا وهى فتقدم أهل السفل فيه إلى أهل العلو وكذلك الحائط يكون أعلاه لرجل وأسفله لآخر والفرق بينهما إذا مال الحائط إلى ملك إنسان وبين ما إذا مال إلى الطريق في موضعين أحدهما التقدم إليه ها هنا لا يصح إلا من المالك لأنه أشغل بالحائط هواء ملكه بخلاف الأول والثاني أن صاحب الملك بعد ما تقدم إليه لو أخره أياما أو أبرأه من ذلك صح لأنه يتصرف في ملك نفسه بالإسقاط والتأخير.
وفي الطريق لو أخره الذي تقدم إليه فيه أو أبرأه هو أو غيره لم يصح ذلك لأن الواحد ينوب عن العامة في المطالبة بحقهم لا في إسقاط حقهم وقد صحت المطالبة منه فلا معتبر بإسقاطه بعد ذلك ولا بتأخيره.(27/21)
ص -13- ... وإذا مال الحائط المشترك بين اثنين إلى الطريق فتقدموا فيه إلى أحدهما ثم سقط فأصاب إنسانا فإنما يضمن الذي تقدم إليه النصف من ذلك إذا كان الحائط هو الذي أصابه كله وكذلك العلو والسفل إذا وهيا أو مالا إلى الطريق فتقدم إلى أحدهما فيه وهذا على القياس والاستحسان الذي ذكرنا في الورثة إذا مال حائط الرجل بعضه على الطريق وبعضه على دار قوم فتقدم إليه أهل الدار فيه فسقط ما في الطريق منه فهو ضامن له وكذلك لو تقدم أهل الطريق إليه فسقط المائل إلى الدار على أهل الدار فهو ضامن له لأنه حائط واحد فإذا أشهد على بعضه فقد أشهد على جميعه وإذا كان المتقدم إليه من أهل الدار فتقدمه إليه صحيح في جميع الحائط فيما مال إلى الدار باعتبار أنه المالك وفيما مال إلى الطريق باعتبار أنه واحد من الناس فإذا كان الذي تقدم إليه من غير أهل الدار فتقدمه صحيح فيما مال منه إلى الطريق فإذا صح في بعضه صح في كله.
وإذا وهى بعض الحائط وما بقي منه صحيح غير واه فتقدم إليه فيه فسقط ما وهى وما لم يه فقتل إنسانا فهو ضامن له لأنه حائط واحد فإذا وهى بعضه وهي كله إلا أن يكون حائطا طويلا بحيث لو وهى بعضه لم يه ما بقي منه وتفرق ذلك فحينئذ يضمن ما أصاب الواهي منه ولا يضمن ما أصاب الذي لم يه منه لأنه إذا كان بهذه الصفة فهو بمنزلة حائطين والتقدم إليه إنما يصح في الحائط المائل أو الواهي دون الحائط الصحيح فإذا أصاب الذي لم يه منه شيئا لم يكن به عليه ضمان لأنه لم تتوجه عليه المطالبة بالهدم فيه.(27/22)
قال: وإذا كان سفل الحائط لرجل وعلوه لآخر وقد وهى فتقدم فيه إليهما ثم سقط العلو فقتل إنسانا فالضمان على صاحب العلو لأن العلو غير مدفوع بالسفل ولكنه ساقط بنفسه وقد صح التقدم فيه إلى صاحبه فيجعل صاحبه كالمتلف لما سقط عليه العلو قال وإذا استأجر الرجل إجراء يهدمون له حائطا فقتل الهدم من فعلهم رجلا منهم أو من غيرهم فالضمان عليهم والكفارة دون رب الدار لأنهم مباشرون إتلاف من سقط عليه شيء من أيديهم في حالة العمل.
وإذا تقدم إلى المشتري للدار في حائط منها مائل وهو في خيار الشراء ثلاثة أيام ثم رد الدار بالخيار بطل الإشهاد لأنه أزال الملك بفسخ البيع فكأنه أزاله بالبيع ولو استوجب البيع لم يبطل الإشهاد لأن التقدم إليه حين تقدم صحيح أما لأنه مالك أو لأنه متمكن من هدم الحائط وقد تقرر ذلك بإسقاط الخيار.
ولو كان أشهد على البائع في تلك الحالة لم يضمن لأن البائع غير متمكن من هدم الحائط بعد ما أوجبنا البيع فيه مطلقا ولو كان الخيار للبائع فتقدم إليه فيه فإن نقض البيع فالإشهاد صحيح لأنه كان مالكا متمكنا من نقض الحائط وقد تقرر ذلك حين فسخ البيع وإن أوجبه بطل الإشهاد لأنه زال الحائط عن ملكه ولو تقدم إلى المشتري في تلك الحالة لم يصح التقدم لأنه ما كان متمكنا من هدم الحائط يومئذ حتى ان البائع وإن أوجب له البيع لم يكن على واحد منهما فيه ضمان.(27/23)
ص -14- ... ولو تقدم إلى رجل في حائط مائل له عليه جناح شارع قد أشرعه الذي باع الدار فسقط الحائط والجناح فإن كان الحائط هو الذي طرح الجناح كان صاحب الحائط ضامنا لما أصاب ذلك لأن الجناح مدفوع ها هنا والحائط بمنزلة الدافع له وقد صح التقدم في الحائط إلى صاحبه ولو كان الجناح هو الساقط وحده كان الضمان على البائع الذي أشرعه لأن البائع كان متعديا في وضع الجناح وشغل هواء الطريق به والجناح الآن هو الساقط مقصودا فكان ضمان ما تلف به على الذي وضع الجناح والله أعلم بالصواب.
باب البئر وما يحدث منها
قال رحمه الله: وإذا احتفر الرجل بئرا في طريق المسلمين في غير فنائه فوقع فيها حرا وعبد فمات فضمان ذلك على عاقلة الحافر لحديث شريح فإن عمرو بن الحارث حفر بئرا عند درب اسامة فوقعت فيها بغلة فضمنه شريح قيمتها وكان قضاؤه بمحضر من الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك ولأن الحافر بمنزلة الدافع للواقع في مهواة فإنه بفعله أزال المسكة عن الأرض والآدمي لا يستمسك إلا بمسكة فإزالة ما به كان مستمسكا إيجاد شرط الوقوع والحكم يضاف إلى الشرط مجازا عند تعذر إضافته إلى السبب والسبب ها هنا ثقل الماشي في نفسه ولا يمكن إضافة الحكم إليه إذ لا صنع لأحد من العباد فيه فيصير مضافا إلى الشرط ولأن الحافر سبب لوقوعه وهو متعد في هذا السبب لأنه أحدث في الطريق ما يتضرر به المارة ويخرج به ذلك الموضع من أن يكون ممرا لهم ثم الضمان على عاقلته لأنه دون المخطئ وفعل المخطئ اتصل بالمتلف وفعل الحافر اتصل بالأرض فما يجب على العاقلة من فعل المخطئ يجب على العاقلة ها هنا بطريق الأولى ولا كفارة عليه عندنا لما بينا أنه ليس بقاتل مباشرة وقد يكون الحافر مبنيا على وقوع الواقع في البئر فلا تلزمه الكفارة في ذلك وفي ظاهر الرواية أوجب الضمان على الحافر مطلقا.(27/24)
وقال في النوادر: هذا إذا مات من وقوعه في البئر فإن سلم من ذلك فمات جوعا أو غما فلا شيء على الحافر في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف إن مات جوعا فكذلك وإن مات غما فالحافر ضامن له وقال محمد هو ضامن في الوجوه كلها فأبو حنيفة يقول إنما يصير هلاكه مضافا إلى الحافر إذا هلك بسبب الوقوع فيجعل الحافر كالدافع له فأما إذا طرأ عليه سبب آخر لهلاكه كالجوع الذي هاج من طبعه أو الغم الذي أثر في قلبه فإنما يكون هلاكه مضافا إلى هذا السبب ولا صنع للحافر فيه وأبو يوسف لما سبب للغم سوى الوقوع في البئر فأما الجوع فله سبب آخر وهو بعد الطعام عنه واحتراق معدته حتى لم يبق فيها شيء من مواد الطعام ومحمد يقول كل ذلك إنما حدث بسبب الوقوع في البئر لولاه لكان الطعام قريبا منه والحافر متعد في ذلك السبب والحكم تارة يضاف إلى السبب بغير واسطة وتارة بواسطة فكذلك يضاف إلى الشرط تارة بواسطة وتارة بغير واسطة فإن كان استأجر عليها أجراء فحفروها له فذلك على المستأجر ولا شيء على الآجر إن لم يعلموا أنها في غير فنائه،(27/25)
ص -15- ... لأن عمرو بن الحارث كان من جملة الرؤساء ومعلوم أنه ما باشر الحفر بنفسه وإنما استأجر الأجراء لذلك ثم ضمنه شريح وهذا لأن الأجراء يعملون له ولهذا يستوجبون عليه الأجر وقد صاروا مغرورين من جهته حين لم يعلمهم أن ذلك الموضع ليس من فنائه وإنما حفروا اعتمادا على أمره وعلى أن ذلك من فنائه فلدفع ضرر الغرور انتقل فعلهم إلى الآمر فيصير كأنه حفر بنفسه وإن كانوا يعلمون أنها من غير فنائه فالضمان عليهم لأنهم جناة في الحفر وأمره إياهم بالحفر غير معتبر شرعا لأنه غير مالك للحفر بنفسه في هذا الموضع وإنما يعتبر أمره لإثبات صفة الحل به ولدفع الغرور عن الحافر به وقد انعدما جميعا في هذا الموضع فسقط اعتبار أمره فكان الضمان على الذين باشروا الحفر وإن كان في فنائه فهو على الآمر دون الأجراء علموا أو لم يعلموا لأن أمره في فنائه معتبر فإن عند أبي يوسف ومحمد له أن يحفر في فنائه إذا كان لا يضر بالمارة وليس لأحد أن يمنعه من ذلك وعند أبي حنيفة يحل له ذلك فيما بينه وبين ربه ما لم يمنعه مانع وهذا لأن الفناء اسم لموضع اختص صاحب الملك بالانتفاع به من حيث كسر الحطب وإيقاف الدواب وإلقاء الكناسة فيه فكان أمره معتبرا في الحل وانتقل فعل الآمر إليه بهذا الأمر فيصير كأنه فعل ذلك بنفسه.
وإن سقطت فيه دابة فعطبت فضمانه في ماله لأن العاقلة لا تعقل المال وإنما تعقل العاقلة النفوس من الأحرار والمماليك بدليل حالة الخطأ وإذا وقع فيها إنسان متعمدا للسقوط فيها فلا ضمان على الحافر لأنه أوقع نفسه فيها ولو أوقعه غيره لم يكن على الحافر شيء وهذا لأن وضعه القدم على ذلك الموضع مع علمه تعد منه ومباشرة فعل إلقاء النفس في المهلكة وإنما يضاف الحكم إلى الشرط إذا تعذر إضافته إلى السبب فأما مع إمكان الإضافة إلى السبب فلا يضاف إلى الشرط.(27/26)
قال: وإذا استأجر الرجل أربعة رهط يحفرون له بئرا فوقعت عليهم من حفرهم فقتلت واحدا منهم فعلى كل واحد من الثلاثة الباقين ربع ديته وسقط الربع وكذلك لو كانوا أعوانا له لأنه إنما سقط عليهم ما سقط بفعلهم فكانوا مباشرين لسبب الإتلاف والقتيل أحد المباشرين فتوزع الدية عليهم ويسقط منه حصة القتيل بجنايته على نفسه ويبقى حصة الثلاثة بجنايتهم عليه والأصل فيه ما روى أن عشرة نفر مدوا الحلة فسقطت على أحدهم فقتلته فقضى علي رضي الله عنه على كل واحد من التسعة بعشر الدية وأسقط العشر حصة المقتول.
وعن الشعبي أن عليا رضي الله عنه قضى في القارصة والواقصة والقامصة بالدية أثلاثا وتفسير ذلك أن ثلاث جوار كن يلعبن فركبت إحداهن صاحبتها فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت المركوبة ووقعت الراكبة فاندقت عنقها فقضى علي رضي الله عنه بثلث الدية على القارصة وبالثلث على الغامصة وأسقط الثلث حصة الواقصة وإن كان الذي يحفر بئرا في فنائه فضمان ما يقع فيها على الحافر ولو كان في غير فنائه فالضمان في رقبة العبد يدفع به أو يفدى ولم يفضل ها هنا بين أن يكون العبد عالما بذلك أو غير عالم بخلاف الحر، والفرق(27/27)
ص -16- ... هناك لمعنى الغرور ولا غرور بين العبد وسيده فإن قرار الضمان في الفصلين على السيد فلهذا جعل فعل عبده بأمره كفعله بنفسه.
وإذا حفر بئرا في الطريق ثم جاء آخر فحفر منها طائفة في أسفلها ثم وقع فيها إنسان فمات فإنه ينبغي في القياس أن يضمن الأول كأنه الدافع وبه يأخذ محمد لأن الأول بما حفر من وجه الأرض يصير كالدافع لمن سقط في القعر الذي حفره صاحبه ولم يبين جواب الاستحسان فيه والاستحسان الضمان عليهما لأن هلاكه كان بسبب فعلهما فإن الواقع في البئر إنما يهلك عند عمق البئر وإتمام ذلك بفعل الثاني وقد انضم فعله إلى فعل الأول في إتمام شرط الإتلاف فيكون الضمان عليهما ولكنه أخذ بالقياس لأن وجه القياس أقوى فإن التعدي في التسبيب من حين إزالة المسكة عن وجه الأرض وإخراج ذلك الموضع من أن يكون ممرا وإنما حصل ذلك بفعل الأول.
ولو وسع أحد رأسها فوقع فيها إنسان فمات كان الضمان عليهما نصفين وتأويل هذا أن الثاني وسع ورأسها قليلا على وجه يعلم أن الساقط إنما وضع قدمه في موضع بعضه من حفر الأول بعضه من فعل الثاني فإما إذا وسع رأسها كثيرا على وجه يعلم أنه إنما وضع قدمه في الموضع الذي حفره الثاني فالضمان على الثاني لأن الثاني كالدافع للواقع بما حفر في البئر الذي حفرها الأول والضمان على الدافع وإن علم أن الواقع إنما وضع قدمه فيما حفر الأول خاصة فالضمان على الأول لأنه هو الذي أوجد شرط وقوعه حين أزال المسكة عن الموضع الذي وضع فيه قدمه.(27/28)
ولو حفر بئرا في الطريق ثم سدها بطين أو تراب أو جص فجاء آخر فاحتفرها فوقع فيها إنسان فمات كان الضمان على الثاني لأن الأول نسخ فعله لأنه طمها بما تطم به الآبار فعاد ذلك الموضع أرضا كما كان وإنما الثاني هو الحافر للبئر في هذا الموضع ولو سد الأول رأسها واستوثق منها فجاء الآخر فنقض ذلك كان الضمان على الأول لأن فعل الأول ما انتسخ فإنها بئر وإن سد رأسها إلا أنه استتر بما فعل والثاني إنما أظهر فعل الأول فيبقى الضمان على الأول وهذا لأن ما فعله الثاني من فتح رأس البئر غير موجب لهلاكه لولا البئر في ذلك الموضع بخلاف الأول فما فعله الثاني هناك موجب هلاك الواقع في البئر وإن لم يوجد الفعل من الأول أصلا.
وكذلك إذا جعل فيها طعاما أو متاعا أو ما أشبه ذلك مما لا تسد به الآبار فجاء إنسان واحتمل ذلك ثم وقع فيها إنسان فالضمان على الأول لأن حكم فعله لم ينسخ بما صنع فإن ذلك الموضع بئر وإن جعل فيها الطعام وفعل الأول كان حفر البئر وما بقي اسم البئر في ذلك الموضع بقي حكم فعله فكان الضمان عليه.
ولو تعقل بحجر فسقط في البئر كان الضمان على واضع الحجر لأنه متعد في إحداث الحجر في الطريق فيصير به كالدافع لمن وقع في البئر بمنزلة ما لو دفعه بيده فإن لم يكن(27/29)
ص -17- ... وضع الحجر أحد فإن كان شيء آخر من شفير البئر أو جاء به سيل فالضمان على حافر البئر لأن التعقل بالحجر ها هنا غير صالح لإضافة الحكم إليه حين لم يكن بصنع أحد من العباد فبقي الحكم مضافا إلى البئر.
ولو وضع رجل في هذه البئر حجرا أو حديدا فوقع فيها إنسان فقتله الحجر أو الحديد كان الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع للواقع على الحجر أو الحديد وإنما يضاف الإتلاف إلى الدافع وإذا حفر إنسان بئرا في الطريق فوقع فيها رجل فقطعت يده ثم خرج منها فشجه رجلان فمرض من ذلك ثم مات فالدية عليهم أثلاثا لأن ما حصل من الجراحة بالوقوع في البئر مضاف إلى الحافر فكأنه فعل ذلك بيده والمعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات.
ألا ترى أنه لو قطع يديه رجلان وشجه رجل آخر فمات من ذلك كانت الدية عليهم أثلاثا وكذلك لو أن اللذين قطعا يديه شجه أحدهما شجة أخرى لأن المعتبر عدد الجناة فقد يتلف المرء من جراحة واحدة ويسلم من عشر جراحات ولو كان أحدهم جرحه جرحين أو ثلاثة وجرحه الآخر جراحة صغيرة كانت الدية على عدد الرجال ولا يكون على عظم الجراحة ولا على صغرها ولا على عدد جراحها لأن كل جراحة علة تامة للإتلاف وبكثرة العلل في حق الواحد لا يزداد معنى بإضافة الحكم إليها.(27/30)
وإذا وقع الرجل في بئر في الطريق فتعلق بآخر وتعلق الآخر بآخر فوقعوا جميعا فماتوا ولم يقع بعضهم على بعض فدية الأول على الذي حفر البئر ودية الثاني على الأول المتعلق به ودية الثالث على الثاني والحاصل: أن المسألة على وجهين: أحدهما: أن يعلم أنهم كيف ماتوا بأن خرجوا من البئر أحياء وأخبروا بذلك فنقول في هذا الوجه موت الأول على سبعة أوجه أحدها: أن يكون مات بوقوعه في البئر فديته على عاقلة الحافر لأنه كالدافع له في مهواة. والثاني: أن يموت من وقوع الثاني عليه فدمه هدر لأنه هو الذي جر الثاني على نفسه فيكون متلفا نفسه. والثالث: أن يموت من وقوع الثالث عليه فتكون ديته على الثاني لأنه هو الذي جر الثالث. والرابع: أن يموت من وقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه فيجب نصف ديته عليه ويهدر نصفها لأنه جنى على نفسه وجنى عليه الحافر. والخامس: أن يموت بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فتكون ديته على الحافر وعلى الثاني نصفين لأن الثاني جان عليه بجر الثالث والحافر جان بالحفر. والسادس: أن يموت من وقوع الثاني والثالث عليه فيهدر نصف دمه ويجب نصف ديته على الثاني لأنه جنى على نفسه وجنى عليه الثاني. والسابع: أن يموت من وقوعه في البئر ومن وقوع الثاني والثالث عليه فيجب ثلث ديته على الحافر وثلثها على الثاني بجر الثالث عليه ويهدر ثلثها لأنه بجنايته على نفسه بجره الثاني عليه.
وأما الثاني: فلموته وجوه ثلاثة: أحدها: أن يكون مات بسبب الوقوع فتكون ديته على عاقلة الأول لأنه هو الذي جره إلى مهواة فيكون بمنزلة الدافع له. والثاني: أن يموت من وقوع الثالث عليه فيكون دمه هدرا لأنه هو الذي جر الثالث على نفسه. والثالث: أن يموت من(27/31)
ص -18- ... الوقوع في البئر ووقوع الثالث عليه فيجب نصف ديته على الأول ويهدر نصف ديته بجنايته على نفسه.
وأما الثالث: فلموته سبب واحد وهو أن يموت بوقوعه في البئر فتكون ديته على عاقلة الثاني لأنه هو الذي جره في مهواة.
وأما الوجه الثاني: وهو أنه إذا ماتوا في البئر ولا يعلم كيف ماتوا فإن لم يقع بعضهم على بعض فدية الأول على الذي احتفر البئر لأنه لا سبب لموته سوى الوقوع في البئر والأول هو الذي أوقعه حين جره إلى مهواة وإن وجد بعضهم على بعض موتى ولا يعلم كيف كان حالهم فالقياس وهو قول محمد أن صاحب البئر يضمن الأول ويضمن الأول الثاني ويضمن الثاني الثالث على عواقلهم لأن وقوع الأول في البئر سبب لهلاكه وهو أسبق الأسباب وقد ظهر الحكم عقيبه فيكون مضافا إليه ولا يعتبر احتمال موته من وقوع الثاني أو الثالث عليه لأن هذا الاحتمال ترجح بالسبق والسابق وقوعه في البئر وكذلك في حق الثاني أسبق الأسباب الوقوع في البئر وهو مضاف إلى الأول وفي حق الثالث لا سبب لموته سوى الوقوع في البئر وهو مضاف إلى الأول فضمانه على الثاني.
وقال: وفيها قول آخر ولم يبين من قائل هذا القول وقيل هو قول أبي يوسف وقيل هو قول أبي حنيفة أيضا أن دية الأول أثلاث فثلثها على الحافر وثلثها على الثاني وثلثها هدر لأنه ظهر بموته أسباب ثلاثة وقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه وليست الإضافة إلى البعض بأولى من البعض فالترجيح في هذا لا يقع بالسبق كما في الجراحات فيكون ثلث ديته على الحافر وثلثه على الثاني لأنه جر الثالث إليه وثلثه هدر لأنه هو الذي جر الثاني عليه ودية الثاني نصفين نصفه هدر ونصفه على الأول لأنه ظهر لموته سببان فيضاف إليهما ودية الثالث على الثاني كلها لأنه لا سبب لموته سوى جر الثاني إياه إلى نفسه.(27/32)
قال: فإذا لم يعرف من أي ذلك ماتوا يبطل نصف ذلك ويؤخذ بالنصف قيل ليس مراده حقيقة المناصفة بل مراده التبعيض والانقسام في حق الأول أثلاثا فإن كان مراده المناصفة فإنما أراد به في حق الثاني خاصة لأنه لا شك أن جميع دية الثالث واجب على الثاني في الأحوال كلها قال في الزوائد وبهذا القول نأخذ.
وإذا دفع رجل رجلا في بئر في ملكه أو في الطريق فالضمان على الدافع لأنه مباشر لإتلافه ومباشرة القتل لا تختلف في الملك وغير الملك كالدم وإذا سقط الرجل في بئر في الطريق فقال الحافر ألقى نفسه فيها عمدا وقال ورثة الرجل كذب فالقول قول الحافر وهذا قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد وكان يقول أولا القول قول الورثة لأن الظاهر يشهد لهم فالإنسان لا يلقى نفسه في البئر عمدا في العادة فعند المنازعة القول قول من يشهد له الظاهر ثم رجع فقال الضمان بالشك لا يجب والظاهر إنما يكون حجة لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق وحاجة الورثة ها هنا إلى الإستحقاق وهو استحقاق الدية على(27/33)
ص -19- ... عاقلة الحافر فلا يكفيهم الظاهر لذلك بل يحتاجون إلى إقامة البينة على أنه وقع فيها بغير عمد وهذا الظاهر يقابله ظاهر آخر وهو أن الظاهر أن البصير يرى البئر أمامه في ممشاه فيتقابل الظاهران ويبقى الاحتمال في سبب وجوب الضمان فلا نوجبه بالشك.
وإذا أمر المولى عبده أن يحفر بئرا في الطريق ليس عند داره فحفرها كان ما وقع فيها في رقبة العبد يدفعه به المولى أو يفديه وقد بينا الفرق بين هذا وبين الحر من حيث أن الغرور لا يتمكن بين المولى وبين عبده.
ولو استأجر عبدا محجورا عليه وحرا ومكاتبا يحفرون له بئرا فحفروها فوقعت عليهم من حفرهم فماتوا فلا ضمان على المستأجر في الحر والمكاتب وهو ضامن لقيمة العبد المحجور عليه يؤديها إلى مولاه لأنه صار غاصبا للعبد بالاستعمال والعبد المحجور يضمن بالغصب بخلاف الحر والمكاتب فهو ضامن فإذا ماتوا في حالة ما كان مستعملا لهم كان عليه ضمان قيمة العبد ثم هذه القيمة بدل عن العبد والعبد الجاني إذا أخلف بدلا يتعلق حق أولياء الجناية بذلك البدل فنقول في بيان حكم الجناية أن موتهم حصل من فعلهم فكل واحد منهم يكون جانيا على نفسه وعلى صاحبه فينقسم فعل كل واحد منهم أثلاثا فالعبد المحجور أتلف ثلث الحر فيرجع وليه بثلث دية الحر في قيمة العبد وأتلف ثلث المكاتب فيرجع ولي المكاتب بثلث قيمة المكاتب في تلك القيمة فيقسمون القيمة التي أخذها مولاه على ذلك إلا أن تكون القيمة أكثر فيكون الفضل للمولى لأن كل واحد منهما استوفى كمال حقه ثم يرجع المولى على المستأجر بما أخذوا منه من القيمة لأنه كان غصب العبد فارغا وقد رد عليه القيمة مشغولا بجناية كانت من العبد في يده فإذا استحقت بذلك الشغل كان له أن يرجع بها مرة أخرى لتسلم له قيمة عبده فارغا.(27/34)
ثم المستأجر قد ملك العبد حين تقرر عليه ضمانه من وقت الغصب وقد تلف ثلث نفسه بجنايته على نفسه فيكون هدرا وثلثه بجناية الحر عليه فيرجع المستأجر على عاقلة الحر بثلث قيمة العبد وكذلك أولياء المكاتب يرجعون على عاقلة الحر بثلث قيمة المكاتب لأن ثلث نفسه تلف بجناية الحر فيجمع ما أخذ أولياء المكاتب إلى ما تركه فينظر قيمته من ذلك فيقرر فيخرج ويضرب فيها أولياء الحر بثلث دية الحر والمستأجر بثلث قيمة العبد لأن المكاتب جنى على ثلث الحر وعلى ثلث العبد ولكن جناية المكاتب توجب عليه الأقل من قيمة نفسه ومن الأرش فإذا كانت قيمة نفسه أقل كان المستوفى من تركته قيمته يضرب كل واحد منهما فيها بجميع حقه.
ولو استأجر حرا وعبدا يحفران له بئرا فوقعت عليهما فماتا وللعبد موليان قد أذن له أحدهما ولم يأذن له الآخر فلا ضمان على المستأجر في الحر ولا في نصيب الآذن من العبد وهو ضامن لنصف قيمة العبد نصيب الذي لم يأذن له لأن الغصب بالاستعمال إنما يتحقق في هذا النصف ثم يرجع فيه ورثة الحر بربع دية الحر لأن العبد كله متلف لنصف(27/35)
ص -20- ... الحر فإن موت كل واحد منهما حصل بفعلهما جميعا فهذا النصف من العبد إنما جنى على ربع الحر وقد مات وأخلف بدلا فترجع ورثة الحر في ذلك البدل بربع دية الحر ويرجع المولى الذي لم يأذن له بما أخذ منه من ذلك النصف على المستأجر لأنه أعطاه نصف القيمة مشغولا فإذا استحق بذلك بشغل صار كأنه لم يعطه شيئا فرجع به مرة أخرى ليسلم له نصف قيمة العبد فارغا ثم المستأجر قد ملك هذا النصف بالضمان وقد تلف نصف هذا النصف بجناية الحر فيرجع المستأجر على عاقلة الحر بربع قيمة العبد فيسلم له ذلك ويرجع الآذن للعبد على عاقلته الحر بربع قيمة العبد ثم هذا النصف من العبد كان جني على ربع الحر وقد فات وأخلف بدلا فيرجع ورثة الحر في ذلك الربع بربع دية الحر.
ولو كان العبد مأذونا له في التجارة كان على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن معنى الغصب ها هنا قد انعدم وإنما يبقى حكم الجناية وقد جنى كل واحد منهما على نصف صاحبه فيكون على عاقلة الحر نصف قيمة العبد ثم يرجع بذلك ورثة الحر على مولى العبد فيأخذونه بنصف الدية فإن العبد قد جنى على نصف الحر وقد فات وأخلف هذا البدل ولا شيء على المستأجر لأنه كان يضمن فيما سبق باعتبار الغصب وقد انعدم ذلك حين كان العبد مأذونا له.(27/36)
ولو استأجر عبدين أحدهما مأذون له والآخر محجور عليه فحفرا بئرا فوقعت عليهما فمات فإن المستأجر يضمن قيمة المحجور عليه لمواليه لأنه غاصب له باستعماله ثم يرجع مولى المأذون له بنصف قيمته في تلك القيمة لأن المحجور كان جنى على نصف المأذون وقد مات وأخلف قيمة فيرجع مولى المأذون في تلك القيمة بنصف قيمة المأذون ثم يضمن المستأجر لمولى المحجور عليه ما أخذ منه في ذلك لأن المأخوذ استحق بسبب الجناية التي كانت من العبد في يده ثم المستأجر ملك العبد المحجور عليه بالضمان وقد جنى المأذون على نصفه ثم مات المأذون وأخلف نصف القيمة فيرجع المستأجر عليه بنصف قيمة المحجور عليه فيما أخذه مولى المأذون حتى يسلم له نصف قيمة المحجور عليه وإذا احتفر الرجل بئرا في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فهو ضامن لما وقع فيها لأنه متعد بالحفر في ملك الغير كما هو متعد بالحفر في الطريق فإن أقر رب الدار أنه أمره بذلك لم يصدق في القياس لأن الضمان قد وجب على عاقلة الحر وهو بقوله يريد إسقاط ذلك الضمان ولا ولاية له على أولياء المقتول في إسقاط حقهم وفي الاستحسان القول قوله ولا ضمان على أحد لأن رب الدار أقر بما يملك إنشاءه فإنه لو أذن له بالحفر الآن في ملكه صح إذنه ومن أقر بما يملك إنشاءه يكون مصدقا في ذلك فكان الثابت من الإذن بإقراره كالثابت بالبينة والحافر يخرج به من أن يكون متعديا فإذا احتفر الرجل بئرا في طريق مكة أو في غير ذلك من الفيافي فلا ضمان عليه في ذلك لأنه غير متعد بالحفر في ذلك الموضع إذ لا يتضرر به أحد ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يملك بالحفر موضع بئره وما حوله من الحريم وعند(27/37)
ص -21- ... أبي حنيفة رحمه الله كذلك إذا كان حفر بإذن الإمام فعرفنا أنه غير متعد في هذا الحفر فهو كالحافر في ملكه.
ألا ترى أنه لو ضرب هناك فسطاطا أو اتخذ تنورا يخبز فيه أو ربط هناك دابته لم يضمن ما أصاب من ذلك بمنزلة ما لو فعله في ملكه وهذا إذا كان في غير المحجة فأما إذا احتفر في محجة الطريق فهو ضامن لما يقع فيه لأن الحق في ذلك الموضع للعامة فالتصرف فيه بمنزلة التصرف في الأمصار والله أعلم.
باب النهر
قال رحمه الله: وإذا احتفر الرجل نهرا في ملكه أو جعل عليه جسرا أو قنطرة في أرضه فعطب به إنسان فلا ضمان عليه لأنه غير متعد فيما أحدثه في ملكه والمسبب إذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا.
وإذا حفر البئر في أرض غيره فهو بمنزلة البئر فيكون ضامنا لكونه متعديا في السبب وكذلك لو جعل عليه جسرا أو قنطرة في غير ملكه والجسر اسم لما يوضع ويرفع فلا يرجع والقنطرة ما يحكم بناؤه وعن أبي يوسف أنه لا يكون ضامنا في هذا وإن أحدثه في غير ملكه إذا كان بحيث لا يتضرر به غيره لأنه محتسب فيما صنع فإن الناس ينتفعون بما أحدثه فلا يكون هو متعديا فيه ولكنا نقول إنما يكون محتسبا إذا جعله بإذن الإمام بمنزلة حفر البئر فإنه محتسب فيه أيضا في الموضع الذي يحتاج إليه الناس ومع ذلك إذا فعله بغير إذن الإمام كان ضامنا لما يعطب به.
فإن مشى على جسره إنسان متعمدا لذلك فانخسف به فلا ضمان عليه لأن هذا تعمد المشي عليه فيعتبر وقوعه مضافا إلى فعله لا إلى تسبب من اتخذ الجسر ولو حفر نهرا في غير ملكه فانشق من ذلك النهر ماء فغرق أرضا أو قرية كان ضامنا لذلك لأنه أسال الماء في غير ملكه فأما أن يقال هو متعد فيه أو يقال هو مباح له ولكنه مقيد بشرط السلامة والتلف بهذا مما يمكن التحرز عنه فكان ضامنا كالمشي والسير على الدابة في الطريق ولو كان في ملكه لم يضمن شيئا لأن ذلك مباح له مطلق.(27/38)
وكذلك لو سقى أرضه فخرج الماء منها إلى غيرها لم يضمن لأن سقي أرضه تصرف في ملكه وذلك مباح له مطلقا وكذلك لو أحرق حشيشا في أرضه أو حصائد أو أجمة فخرجت النار إلى أرض غيره وأحرقت شيئا فلا ضمان عليه لأن هذا التصرف في ملكه مباح له مطلقا قال بعض المتأخرين هذا إذا كانت الرياح ساكنة حين أوقد النار فأما إذا كان اليوم ريحا على وجه يعلم أن الريح يذهب بالنار إلى أرض جاره فهو ضامن استحسانا بمنزلة من صب الماء في ميزاب له وتحت الميزاب متاع لإنسان يفسد به قال هو ضامن فكذلك النار يوقدها الرجل في داره أو تنوره فلا ضمان عليه فيما احترق لأن هذا التصرف في ملكه مباح له مطلقا.(27/39)
ص -22- ... وكذلك لو حفر نهرا أو بئرا في داره فنزت من ذلك أرض جاره لم يضمن بهذا السبب شيئا ولا يؤمر بأن يحول ذلك عن موضعه لأنه أحدثه في ملكه إلا أنه بقي فيما بينه وبين ربه أن يكف عما يؤذي جاره
فأما الحكم فإنه لا يؤمر أن يحوله إلا أن يشاء.
ولو صب الماء في ملكه فخرج من صبه ذلك إلى ملك غيره فأفسده كان هذا والأول في القياس سواء إلا أن صب الماء في ملكه مباح له مطلقا غير أن الأخذ بالقياس ها هنا يقبح لأن الماء سيال بطبعه فإذا كان عند صب الماء يعلم أنه يسيل إلى ملك جاره يكون ضامنا لما يفسد به استحسانا.
ألا ترى أنه لو صبه في ميزاب له فأفسد متاعا له تحته يكون ضامنا ويعد ذلك من جنايته بمنزلة مباشرته بيده وكذلك الجواب فيما يشبهه والله أعلم.
باب ما يحدث في المسجد والسوق
وقال رحمه الله: وإذا احتفر أهل المسجد فيه بئرا لماء المطر أو وضعوا فيه حبا فصب فيه الماء أو طرحوا فيه بواري أو حصى أو ركبوا فيه بابا أو علقوا فيه قناديل أو ظللوه فلا ضمان عليهم فيما عطب بذلك لأن هذا النوع من التصرف مباح لأهل المسجد في مسجدهم مطلقا فإن حق التدبير في المسجد فيما يرجع إلى الإصلاح إليهم على الوجه الذي يكون للمالك في ملكه فكما أن المالك لا يكون جانيا بإحداث شيء من هذا في ملكه فكذلك أهل المسجد في مسجدهم وكذلك إن فعله غيرهم بإذنهم لا يكون فعل المأذون من جهتهم كفعلهم.(27/40)
وإن فعل بغير أمرهم فهو ضامن في قول أبي حنيفة وهو القياس وفي قول أبي يوسف ومحمد إذا كان مسجدا للعامة فلا ضمان عليه فيه استحسانا إلا البناء والحفر وجه قولهما أن هذا مما يرجع إلى إصلاح المسجد وعمارة المسجد مما ندب الله إليها كل مسلم قال الله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}[التوبة: من الآية18] الآية ثم بتعليق القنديل وبسط الحصر يتمكن الناس من إقامة الصلاة في المسجد وغير أهل المسجد سواء في إقامة الصلاة فيه فكذلك فيما يرجع إلى التمكن منه إلا أن أهل المسجد أخص بالتدبير فهم في ذلك كالملاك وغيرهم كالسكان نحو المستعير والمستأجر في الدار ثم المستعير لا يكون جانيا في وضع الأمتعة وصب الماء ونصب القنديل في الدار ويكون جانيا في البناء وحفر البئر بغير إذن صاحب الدار فكذلك غير أهل المسجد في المسجد وهذا لأن المسجد معد للصلاة فيه والبناء والحفر يخرج ذلك الموضع من أن يكون مصلى فيكون ذلك من باب التدبير لا من باب التمكين من إقامة الصلاة فيه فيختص به أهل المسجد دون غيرهم فيكون جانيا إذا فعله بغير أمرهم وإذنهم فأما بسط الحصير ونصب القنديل فمن باب التمكين من إقامة الصلاة فيه فغير أهل المسجد فيه كأهل المسجد وأبو حنيفة يقول اختص أهل المسجد بالتدبير في هذه البقعة فغيرهم إذا أراد شيئا من ذلك يباح له فعله ولكنه مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي(27/41)
ص -23- ... والسير على الدابة في الطريق والدليل على اختصاص أهل المسجد به أن التدبير في فتح الباب وإغلاقه ونصب الإمام والمؤذن والمتولي يكون إلى أهل المسجد دون غيرهم فإنه لو وجد في مسجدهم قتيل كان ذلك عليهم خاصة دون غيرهم والدليل عليه البناء والحفر فإن أهل المسجد هم المختصون بذلك.
وإذا فعله غيرهم وكان فيه إصلاح للمسجد كان مباحا لهم ولكنه مقيد بشرط السلامة ولا يبعد أن يكون المسلمون فيما هو المقصود وهو الصلاة فيه سواء ثم مع ذلك يختص أهله بالتدبير فيه كالكعبة فالناس فيما هو المقصود وهو الطواف سواء وقد اختص بنو شيبة بالتدبير فيها حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أخذ المفتاح منهم يوم الفتح نزل عليه الوحي يأمره بالرد قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء، من الآية:58] وإذا قعد الرجل في مسجد لحديث أو نام فيه في غير صلاة أو مر فيه فهو ضامن لما أصاب كما يضمن في الطريق الأعظم في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه فيه لأنه لو كان مصليا في هذه البقعة لم يضمن ما يعطب به فكذلك إذا كان جالسا فيه لغير الصلاة بمنزلة الجالس في ملكه وهذا لأن الاعتكاف في المسجد قربة كالصلاة والمعتكف يتحدث وينام في المسجد والجلوس لانتظار الصلاة مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام: "المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها" وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجلوس في المسجد بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وكذلك الجلوس في المسجد لتعليم العلم وتعلمه مندوب إليه فيكون ذلك مباحا مطلقا والمباح المطلق لا يكون سببا لوجوب الضمان على الحر وأبو حنيفة يقول المسجد معد للصلاة والقعود والنوم فيه لغير الصلاة مقيد بشرط السلامة كالطريق فإنه معد للمشي فيه فالجلوس أو النوم فيه وإن كان لا يضر بالمارة يتقيد بشرط السلامة.(27/42)
والدليل عليه أن من يجلس في المسجد للصلاة إذا احتاج من يصلي في ذلك الموضع إلى إزعاجه ليصلي كان له ذلك شرعا وليس لغير المصلي أن يزعج المصلي عن مكانه فعرفنا أنه معد للصلاة فيه فشغله بغير ذلك يتقيد بشرط السلامة وإن كان ذلك مباحا أو مندوبا إليه ولا يكون هذا أقوى من الرمي إلى الكافر أو العبد فإنه مباح أو مندوب إليه ومع ذلك إذا أصاب مسلما كان ضامنا له ولا خلاف انه إذا مشى في المسجد فأوطأ انسانا أو نام فيه فانقلب على انسان فهو ضامن له لإتلافه وبمثل هذا السبب يضمن في ملكه ففي المسجد أولى.
وإذا احتفر الرجل في سوق العامة بئرا أو بنى فيها دكانا بغير أمر السلطان فهو ضامن لما عطب به من شيء لأنه متعد في هذا السبب فالحق بالطريق العامة وما يكون حقا لعامة المسلمين فالتدبير فيه إلى الإمام فإذا أحدثه بغير إذن الإمام كان متعديا وإذا فعله بأمر السلطان لا يكون متعديا في هذا التسبب فلا يكون ضامنا بمنزلة ما لو قتله بملكه.
و إذا أوقف دابة في السوق فما أصابت دابته فهو ضامن له ولأنه متعد بإيقافها في الطريق(27/43)
ص -24- ... فإن ذلك يحول بين المارة والمرور في ذلك الموضع وإن كان موقفا تقف فيه الدواب للبيع وقد أذن له السلطان في ذلك فأوقف فيه الدابة لم يكن ضامنا فيما أصابت الدابة وإن لم يكن السلطان أذن فيه فهو ضامن لأن بإذن السلطان يصير ذلك الموضع معدا لإيقاف الدواب فيه فيكون إيقافها فيه بمنزلة إيقافها في ملكه فأما بدون إذن السلطان فهو ممر وليس بموضع لإيقاف الدابة فإذا أوقف فيه دابته أو أرسلها فيه كان ضامنا لما تلف به وإن لم يكن هو أوقفها ولا أرسلها فيه فلا ضمان عليه لأنها دابة منفلتة فجرحها هدر والقول في ذلك قوله مع يمينه مع أنه ينكر وجوب الضمان عليه في الموضع المعد لإيقاف الدواب إذا سار على دابته فيه لم يكن ضامنا للنفحة بالرجل والذنب لأن هذا جزء من الطريق كسائر أجزاء الطريق فالسير فيه يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن فإذا أنكر أن يكون أرسلها فهو ينكر وجوب الضمان عليه والمدعي يدعي ذلك فكان القول فيه قوله مع يمينه والله أعلم.
باب جناية العبد
قال رحمه الله: وإذا جنى العبد جناية خطأ فمولاه بالخيار إن شاء دفعه بها وإن شاء فداه بالإرش عندنا وعند الشافعي جنايته تكون دينا في رقبته يباع فيه إلا أن يقضي المولى دينه ومذهبنا مروي عن بن عباس رضي الله عنهما قال يخير المولى في خطأ عبده بين الدفع والفداء ومذهبه مروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما قالا عبيد الناس أموالهم وجنايتهم في قيمهم وإنما أراد بالقيمة الثمن وجه قوله أن هذا فعل موجب للضمان فإذا تحقق من العبد كان الضمان الواجب به دينا في رقبته يباع فيه بمنزلة استهلاك الأموال وهذا لأن العبد لا عاقلة له وضمان الجناية في حق من لا عاقلة له بمنزلة ضمان المال فيكون واجبا في ذمة العبد ويكون شاغلا لمالية رقبته فيباع فيه إلا أن يقضي المولى دينه.
و حجتنا في ذلك أن المستحق بالجناية على النفوس نفس الجاني إذا أمكن.(27/44)
ألا ترى أن في جناية العمد المستحق نفس الجاني قصاصا حرا أو عبدا فكذلك في الخطأ إلا أن استحقاق النفس نوعان أحدهما: بطريق الإتلاف عقوبة والآخر: بطريق التملك على وجه الجبران والحر من أهل أن يستحق فيه بطريق العقوبة لا بطريق التمليك والعبد من أهل أن يستحق نفسه بالطريقين جميعا فيكون العبد مساويا للحر في حالة العمد ويكون مفارقا له في حالة الخطأ لأن عذر الخطأ لا يمنع استحقاق نفسه تمليكا والسبب يوجب الحكم في محله.
وفي حق الحر لم يصادف محله وفي حق العبد السبب صادف محله فيكون مقيدا حكمه وهو أن نفسه صارت مستحقة للمجني عليه تمليكا ليتحقق معنى الصيانة عن الهدر إلا أن يختار المولى الفداء فيكون له ذلك لا مقصود المجني عليه يحصل به وبدل المتلف يصل إليه بكماله بخلاف إتلاف المال فالمستحق به بدل المتلف دينا في ذمة المتلف ولا يستحق به بدل المتلف دينا في ذمة المتلف ولا يستحق به نفس المتلف بحال.(27/45)
ص -25- ... والطريق الثاني: أن موجب جناية الخطأ يتباعد عن الجاني لكونه معذورا في ذلك ويكون الخطأ موضوعا شرعا ويتعلق بأقرب الناس لإظهار صيانة المحل المحترم والتخفيف على المخطئ.
ألا ترى أن في حق الحر تجب على عاقلته لهذا المعنى فكذلك في حق العبد إلا أن عاقلة العبد مولاه لأن الحر مستنصر بعاقلته ومزاد قوة وجرأة بهم كما أن المملوك يستنصر بمولاه فيجب ضمان جنايته على المولى إلا أن للمولى أن يقول إنما لحقني هذا البلاء بسبب ملكي فيه فلى أن أتخلص عنه بنقل ملكي فيه إلى المجني عليه فأدفعه بالجناية فإذا دفعه صار كان المجني عليه هو المالك فلا يجب شيء آخر عليه بالجناية.
وإذا لم يدفعه كان الرد عليه بخلاف ضمان المال فإنه يجب في ذمة المتلف ولا يخاطب غيره كما في حق الحر إذا عرفنا هذا فنقول لا شيء على المولى في ذلك حتى يظهر حال المجني عليه اعتبارا لجناية العبد بجناية الحر وقد بينا أن هذا يتأتى في جناية الحر لأن موجبها يختلف بالسراية وعدم السراية فلا يصير ذلك معلوما قبل الاستيفاء والقضاء بالمجهول غير ممكن ثم الواجب ها هنا الدفع أو الفداء والمولى يخير في ذلك واختلافه بالبرء والسراية والخطأ والعمد في ذلك سواء ما لم يبلغ النفس لما بينا أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فيكون موجب جنايته فيما دون النفس المال بكل حال فلهذا كان العمد والخطأ فيه سواء.
فإذا بلغ النفس وهو عمد ففيه القصاص ووجوب القصاص باعتبار أنه نفس مخاطبة والمملوك في ذلك كالحر والمستحق بالقصاص دمه والمملوك في حكم الدم مبقي على الحرية ولهذا استحق المولى عليه القصاص إذا تقرر سببه كما يستحق غيره والصغير من الجراحات في ذلك والكبير سواء على الحر والمملوك والذكر والأنثى بمنزلة الموجود من الحر فكما أن هناك لا يتلف موجب الجناية بهذه الأسباب فكذلك بجناية العبد.(27/46)
ولا تعقل العاقلة شيئا من جناية العبد والمدبر وأم الولد لأن المستحق بالجناية نفسه ونفسه غير مملوكة للعاقلة والمولى ولأن المولى في كونه مخاطبا بجناية العبد بمنزلة العاقلة ولا يتحمل غير العاقلة عواقلهم فكذلك لا يتحمل جناية العبد عاقلة مولاه بل سبب وجوب ذلك على المولى ملكه رقبته وكسبه وهو مختص بذلك دون عواقله ولهذا لم يكن على المولى موجب جناية المكاتب لأنه لا يملك كسبه بل المكاتب أحق بمكاسبه فيكون موجب جنايته عليه دون مولاه والمستسعى في بعض قيمته عند أبي حنيفة كالمكاتب فأما جناية العبد علي الحيوان والعروض فتكون دينا في عنقه تقضى من كسبه أو يباع فيها.
وكذلك لو وطئ امرأة مكرهة فذلك دين في عنقه يباع فيه لأن المستوفى بالوطء مما يملك بالعقد سواء كان في حكم المنفعة أو في حكم العين فيكون بمنزلة المال.
ألا ترى أنه لو كان الملتزم بذلك حرا كان عليه في ماله دون عواقله بأن وطئ امرأة(27/47)
ص -26- ... بشبهة أو مستكرهة وسقط الحد للشبهة فكذلك العبد اذا فعل ذلك يكون دينا في ذمته والدين عليه يكون شاغلا لمالية رقبته ولا تعقل العاقلة كما لو جنى على المماليك خطأ فيما دون النفس وان كان الجاني حرا لأن المملوك فيما دون النفس بمنزلة المال.
ألا ترى انه لا يتعلق به القصاص بحال لان فيما دون النفس المتلف جزء من الجسم والجسم يدخل تحت القهر والاستيلاء فيصير مملوكا مآلا فيكون اتلافه في حكم اتلاف المال فيجب فيه الضمان على المتلف بالغا ما بلغ ويكون ذلك حالا في ماله ولا تعقله العاقلة بمنزلة اتلاف سائر الاموال فإذا بلغ النفس عقلته العاقلة في ثلاث سنين كما هو أصله وقد اعتبره في حكم القصاص على ما بينا.
وقد روى عن أبي يوسف ومحمد ان العاقلة لا تعقل نفس العبد وهو قول بن أبي ليلى واستدل فيه بقوله عليه السلام "لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا" والمراد أن نفس العبد لا تعقلها العاقلة وهذا لان العبد يحل للتملك بالعقد فما يجب من الضمان باتلافه يكون على المتلف في ماله كسائر الاموال.
وحجتنا في ذلك القيمة الواجبة باتلاف نفس العبد بمنزلة الدية الواجبة باتلاف نفس الحر وذلك على العاقلة مؤجلا في ثلاث سنين فهذا مثله وهذا لأن معنى النفسية لا يدخل تحت القهر فلا يتناولها الملك بل العبد فيه بمنزلة الحر.(27/48)
ألا ترى انه يتعلق القصاص بقتله عمدا كما يتعلق بقتل الحر وكذلك الكفارة في الخطأ ولا مدخل للقصاص ولا كفارة في ضمان الاموال فعرفنا ان المال واجب ها هنا بالنص بخلاف القياس لأن المال لا يكون مثلا لما ليس بمال وما لا يكون مملوكا من الآدمي لا يكون مالا وإنما وجوب المال بقوله ودية مسلمة إلى أهله الا أن هذه الدية في حق العبد القيمة وفي حق الحر مائة من الابل كما بينه الشرع والدية تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين في حالة الخطأ وبهذا المعنى خالف النفس ما دون النفس لأن ما دون النفس لا مدخل فيه للكفارة والقصاص وتأويل الاحاديث أن العاقلة لا تعقل جناية العبد على نفس العبد وبه نقول.
ثم الواجب بالجناية على نفس المملوك قيمته قلت قيمته أو كثرت غير انها لا تزاد على دية الحر ولا تنقص عن عشرة آلاف الا عشرة دراهم اذا كان العبد كبير القيمة في قول علمائنا رحمهم الله وفي قول الشافعي تجب قيمته بالغة ما بلغت وهو قول أبي يوسف الذي رجع إليه.
وإن كان المقتول أمة فإنها لا تزاد قيمتها على خمسة آلاف وينقص من ذلك عشرة دراهم في الروايتين وفي بعض الروايات خمسة دراهم فأما في قطع طرف العبد فيجب نصف قيمته بالغة ما بلغت في الصحيح من الجواب إلا رواية عن محمد أنه يجب في قطع يد العبد خمسة آلاف إلا خمسة ذكره في بعض نسخ الوكالة. وجه قول الشافعي ما روي عن(27/49)
ص -27- ... عمر وعلي وبن عمر رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت ولأن المتلف مات فيجب ضمان قيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال وهذا لأن ضمان المال يجب بطريق الجبران وإنما يحصل الجبران بما يكون مثلا له في صفة المالية ولهذا يضمن المملوك عند الغصب بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال فكذلك عند القتل وإنما قلنا أنه مال لأن الضمان يجب للمولى وملكه في عبده ملك مال والضمان الواجب له يكون ضمان المال إذا أمكن ولا يدخل عليه القصاص في حالة العمد لأن على هذا الطريق يقول القصاص يكون بدلا عن المالية أيضا إلا أن المالية ترقب بهذا المحل فتصير مضمونة بالنقصان وإن لم يكن المال في غير هذا المحل مضمونا بالقصاص بمنزلة الصيد في الحرم يكون مضمونا باعتبار حرمة المحل بما لا يضمن به في غير هذا المحل وهذا لأن القصاص يعتمد العمد والتكافؤ وذلك تمكن مراعاته في هذا المال دون سائر الأموال فكان هذا المال مضمونا بالقصاص دون سائر الأموال والدليل عليه أنه يرجع إلى تقويم المقومين في الأسواق ليوجب به حين ينفد السوق وهذا يختص بضمان الأموال فأما في غير الأموال فإنما تجب الإبل ولا مدخل للإبل ها هنا والدليل عليه أنه باختلاف أوصاف المتلف في الجنس والجمال والمالية تختلف هذه الأوصاف فإنه ينقص عن الدية نقصانا غير معتبر فعرفنا أنه ضمان مال أو يكون المتلف عبد فتجب قيمته بالغة ما بلغت كما لو كان قليل القيمة وهذا لأن في العبد معنيين معنى النفسية والمالية فيكون الواجب بدلا عن المالية والدليل على ترجيح معنى المالية صيرورته محلا قابلا للتصرفات كسائر الأموال وخروجه من أن يكون أهلا للولايات التي اختصت بها النفوس المحترمة على أنا نعتبر كلا الوصفين فنقول متى كان الواجب بإتلافه ما ليس بمال وهو القصاص يترجح معنى النفسية ولهذا لا يختلف بقلة المالية وكثرة المالية وهذا لأن ضمان المال بالمال أصل وضمان ما ليس بمال(27/50)
يكون على خلاف الأصل ومهما أمكن إيجاب الضمان على موافقة القياس فلا معنى للمصير إلى إيجابه بخلاف القياس والدليل عليه أن المبيع قبل القبض إذا قبض فالبيع يبقى ببقاء القيمة وإنما يبقى البيع إذا فات المعقود عليه وأخلف فلو لم يكن الضمان بدل المالية لما بقي العقد باعتباره لأن البيع يتناول المالية.
والراهن إذا قتل المرهون يضمن قيمته بحق المرتهن ولا حق للمرتهن إلا في المالية ولهذا لا يجب عليه القصاص بحال لأن القصاص بدل عن النفسية فلو كانت القيمة كذلك لما وجب على الراهن أن يجمع بينهما في الاعتبار فنقول إذا كان العبد كبير القيمة يجب مقدار الدية لاعتبار معنى النفسية وما زاد على ذلك إلى تمام القيمة لاعتبار معنى المالية بمنزلة من قتل حرا ومزق عليه ثيابه وهذا مروي عن أبي يوسف.
فقد روى بن سماعة رحمه الله عنه أن مقدار الدية من قيمة العبد تتحمله العاقلة وما زاد على ذلك إلى تمام القيمة يكون في مال الجاني لهذا المعنى.(27/51)
ص -28- ... وحجتنا في ذلك قول بن مسعود رضي الله عنه لا تبلغ قيمة العبد دية الحر وينقص منه عشرة دراهم وهذا كالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المقادير لا تعرف بالقياس وإنما طريق معرفتها التوقيف والسماع من صاحب الوحي والمعنى فيه أن هذا ضمان وجب بقتل الآدمي فلا يزاد على الديات كما لو وجب بقتل الحر وهذا لأن زيادة البدل تكون بزيادة الفضيلة وما من فضل في العبيد إلا ويوجد ذلك في الأحرار وزيادة ثم الحر مع أنه مجمع القصاص لا يزاد بدله على أعلى الديات فالعبد أولى.
وإنما قلنا أن الضمان وجب بالقتل ها هنا لأن القتل سبب تضمن به النفس بالدية وهو حكم ثابت بالنص قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء، من الآية:92] ونفس العبد في هذا داخلة كنفس الحر.
ألا ترى أنها تضمن بالكفارة كنفس الحر فكذلك بالدية والدية بمقابلة النفس مقدرة بالنص لا تجوز الزيادة عليها بالرأي فلا يجوز إسقاطها بالرأي فهذا دليل واضح على أن الضمان يجب ها هنا باعتبار النفسية وأن الواجب الدية لأنا لو لم نجعله واجبا باعتبار النفسية كنا قد أسقطنا بالرأي ما هو ثابت بالنص والدليل عليه أن ضمان النفس بالدية لإظهار حرمة المحل وصيانته عن الإهدار ونفس العبد محترمة كنفس الحر فلا يجوز إهدارها ما أمكن.
والدليل عليه أن صفة المالية في هذا المحل تبع للنفسية لأن قوام المالية ببقاء النفسية وهذا هو علامة التبع مع المتبوع ولا يجوز إهدار الأصل بحال لمراعاة التبع لأن في اعتبار الأصل اعتبار التبع وليس في اعتبار التبع اعتبار الأصل.(27/52)
وإذا جعلنا الضمان واجبا باعتبار النفسية كنا اعتبرنا ما هو الأصل وباعتباره يحصل اعتبار التبع فكان ذلك أولى من أن يجعل بمقابلة المالية ويهدر معنى النفسية ولأن أكثر ما في الباب أن تثبت المساواة بين النفسية والمالية ولكن مع المساواة تترجح النفسية باعتبار السبب وهو القتل لأن القتل سبب لا يقصد به الأموال عادة وإنما يقصد به النفوس لمعنى التشفي والانتقام فأما الأموال فإنما تقصد بالغصب فلا جرم ضمان الغصب يكون ضمان مال يجب بالغة ما بلغت ولا يثبت في حق الأحرار وضمان القتل يكون باعتبار النفسية سواء بقتل الحر أو وجب بقتل العبد إلا أنه لا يجب على المولى بقتل عبده لخلوه عن الفائدة فإن ما يجب بمقابلة نفس العبد يكون لمولاه على سبيل الخلافة عنه والخلافة بسبب الملك لا تنعدم حكما بالقتل فلو وجب وجب له على نفسه والدليل على هذا فضل القصاص فإن القصاص يجب باعتبار معنى النفسية ثم لا يجب على المولى إذا قتل عبده لأنه غير مفيد فكذلك المال ومن يقول القصاص واجب باعتبار المالية فهو لغو من الكلام لأن المال لا يضمن بالقصاص بحال فكيف يضمن بالقصاص والمقصود بالمال التمول والادخار لوقت الحاجة وليس في القصاص شيء من ذلك.
ولهذا يتبين ترجيح معنى النفسية على معنى المالية لأن المتلف في حال الخطأ ما هو(27/53)
ص -29- ... المتلف في حالة العمد فإذا جعل المضمون منه في حالة العمد معنى النفسية فكذلك في حالة الخطأ ومن يقول يجمع بينهما فذلك فضل من الكلام لأنه لو كان ها هنا طريق إلى الجمع بينهما لكان ينبغي أن يضمن الدية مع كمال القيمة ويستوفى في حالة العمد القصاص باعتبار النفسية والقيمة باعتبار المالية وأحد لا يقول ذلك فعرفنا أنه لا وجه إلى الجمع بينهما لما بين الوصفين من المغايرة على سبيل التضاد
فأما النقصان فنقول بدل النفس قد ينقص عن أعلى الديات باعتبار معنى موجب للنقصان في المحل.
ألا ترى أنه ينقص بالأبوة وبالكفر عن أصل الخصم وبالاجتنان في البطن بالاتفاق فإن بدل الجنين دون بدل المنفصل وإن كان الوجوب باعتبار النفسية هناك إذ لا مالية في الجنين حرا كان أو مملوكا فكذلك يجوز أن ينقص عن أعلى الديات باعتبار صفة المملوكية وهذا لأن تكميل الدية باعتبار كمال صفة المالكية.(27/54)
ألا ترى أن بدل الأنثى على النصف من بدل الذكر لأن الذكر أهل لمالكية المال والنكاح والأنثى أهل لمالكية المال دون مالكية النكاح فإنها مملوكة نكاحا فيتنصف بدلها بذلك والجنين ليس بأهل للمالكية في الحال ولكن فيه عرضة الأهلية لذلك إذا انفصل حيا فباعتباره ينقص بدله غاية النقصان إذا عرفنا هذا فنقول بسبب الرق تنتقص صفة المالكية لأنه صار مملوكا مآلا ولم يبق مالكا للنكاح بنفسه إلا أن هذا النقصان عارض على شرف الزوال بأن يعتق فيجوز أن يزاد بدل الرقيق على بدل الأنثى لهذا ويجوز أن ينقص باعتبار الحال وهو أنه دون الأنثى في صفة المالكية ثم صفة المملوكية وإن كانت لا تختلف في الرقيق ولكن ينبني على هذا الوصف ما يختلف في نفسه وهو المالية فإن أمكن إظهار النقصان باعتبار صفة المالكية بأن كان قليل القيمة يعتبر ذلك لإظهار النقصان وإن لم يمكن بأن كان كثير القيمة فحينئذ يصار في النقصان إلى معنى شرعي وبهذا يتبين فساد قول من يقول أن النقصان إذا كان فباعتبار المالكية وإنما النقصان باعتبار المملوكية وذلك لا يزاد بزيادة المالية وإنما اعتبار المالية لإظهار مقدار النقصان إذا أمكن لا لثبوت أصل النقصان على أن بزيادة المالية يزداد النقصان وعند قلة المالية ينتقص الواجب عن الدية لا عن القيمة وعند كثرة المالية ينتقص الواجب عن القيمة وعن الدية جميعا وإنما قررنا النقصان بعشرة لحديث بن مسعود رضي الله عنه ولأن صفة المملوكية تظهر التفاوت بينهما فيما يتقدر بالعشرة وهو المستوفى بالوطء فإنه لا يحل استيفاء ذلك من الحر إلا بعقد يتقدر البدل فيه بعشرة ويجوز استيفاء ذلك من الأمة بعقد متعد عن البدل وهو الهبة فإن الجارية الموهوبة يباح وطؤها فإذا ظهر باعتبار صفة المملوكية التفاوت بينهما فيما هو مقدر بالعشرة نصا قدرنا النقصان بالعشرة لهذا ولهذا قلنا في أصح الروايتين سواء كان المقتول عبدا أو أمة فالنقصان عن الدية يتقدر بعشرة والرجوع(27/55)
إلى تقويم المقومين قد يكون فيما يجب بمقابلة النفسية كحكومة العدل والوجوب للمولى لأنه يخلفه خلاف الوارث المورث ولأنه مالك لمالكية قوامها باعتبار هذا(27/56)
ص -30- ... المحل، فما يجب بمقابلة المحل في حقه يجعل كالواجب بمقابلة المالية ولهذا قلنا البيع يبقى إذا قتل المبيع قبل القبض لأن صحة البيع باعتبار بقاء معنى المالية التي تملك بالبيع باعتبار هذا المحل فيجعل بدل المحل بمنزلة بدل المالية في بقاء البيع باعتباره ولهذا لو كان القتل عمدا حتى وجب القصاص بقي البيع أيضا عند أبي حنيفة وهذا بخلاف العبد المرهون إذا قتله الراهن فإن إيجاب الضمان هناك باعتبار معنى النفسية غير ممكن لما قررنا في المولى إذا قتل عبده فجعلنا الواجب باعتبار المالية ولهذا لا يتعلق به القصاص بحال فتجب فيه المالية بالغة ما بلغت فأما طرف المملوك فقد بينا أن المعتبر فيه المالية فقط.
ألا ترى أنه لا يضمن بالقصاص ولا بالكفارة فلهذا قال كان الواجب فيه القيمة بالغة ما بلغت إلا أن محمدا رحمه الله قال في بعض الروايات القول بهذا يؤدي إلى أن يجب بقطع طرف العبد فوق ما يجب بقتله بأن تكون قيمته بلغت ألفا فيجب بقطع طرفه خمسة عشر ألفا أو عشرة آلاف إلا عشرة وهذا قبيح جدا فلهذا قال لا يزاد على نصف بدل نفسه فيكون الواجب خمسة آلاف إلا خمسة.(27/57)
ولو قتل العبد قتيلا وله وليان فعفى أحدهما دفع المولى إلى الباقي نصفه أو فداه بنصف الدية لأن النصيب الذي لم يعف انقلب مالا عند عفو الشريك فيكون هذا في نصيبه كالجناية الموجبة للمال في الأصل وهو الخطأ ولو قتل قتيلا خطأ وفقأ عين آخر دفعه المولى إليهما أو فداه فإن اختار الفداء فداه بالإرش وذلك دية النفس عشرة آلاف وأرش العين خمسة آلاف وإذا اختار الدفع كان العبد بينهما أثلاثا لأن كل واحد منهما تصرف فيه بجميع حقه وحق ولي القتيل عشرة آلاف وحق المفقوء عينه خمسة آلاف فإن أعتقه المولى وهو يعلم بالجنايتين فهو مختار وعليه خمسة عشر ألفا في ماله لأنه فوت محل الدفع بالإعتاق وبعد العلم بالجناية كان هو مخيرا بين الدفع والفداء فتفويته محل الدفع يكون اختيار الفداء دلالة التصرف فهو كالتصريح بالاختيار.
وكذلك لو دبره أو باعه أو كاتبه فإنه يتعذر عليه دفعه بما أنشأ من التصرف فيتضمن الذي اختار الفداء منه وكذلك لو كانت أمة فاستولدها فإن جامعها ولم تلد فليس هذا باختيار وله أن يدفعها بعد ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف فإنه يقول الوطء دليل الاختيار بدليل أن البائع إذا كان بالخيار فوطئ المبيعة كان ذلك منه اختيارا للفسخ وهذا لأن الوطء دليل تقرير ملكه فيها ولأن الوطء في حكم الجناية.
ولو جنى عليها كان للفداء وجه وظاهر الرواية أن الوطء لا يمكن نقصانا في عينها إذا كانت ثيبا ولا يعجزه عن دفعها فيكون إقدامه عليه دليل الاختيار كالاستخدام وهذا بخلاف البيع بشرط الخيار لأن هناك لو لم يجعله فاسخا للعقد بالوطء لكان إذا أجاز العقد ملكها المشتري من وقت العقد ولهذا يستحق زوائدها فتبين به أن الوطء حصل في غير ملكه فللتحرز عن هذا جعلناه فاسخا وها هنا إذا دفعها بالجناية ملكها ولي الجناية من وقت الدفع،(27/58)
ص -31- ... ولهذا لا يسلم له شيء من زوائدها فلا يتبين به أن الوطء كان في غير ملكه والوطء وإن كان كالجناية لكن الجناية لا يبقى لها أثر في العين فلا يكون اختيارا وكذا الوطء بهذه الصفة.
وكذلك لو زوجها لأن التزويج كالاستخدام من حيث أنه لا يمكن نقصانا في عينها ولا يعجزه عن دفعها بالجناية وكذلك لو أجرها أو رهنها في ظاهر الرواية وفي بعض نسخ الديات يقول الإجارة والرهن يكون اختيارا منه بمنزلة الكتابة لأن البدل بهذين العقدين يصير مستحقا عليه وذلك يمنعه من دفعها بالجناية فيجعل اختيار الفداء كالكتابة وجه ظاهر الرواية أن الإجارة تنقض بالقدر فيكون قيام حق ولي الجناية فيها عذرا في نقض الإجارة والراهن يتمكن من قضاء الدين واسترداد الرهن متى شاء ولم يتحقق عجزه عن دفعها بهذين العقدين فلا يجعل ذلك اختيارا بخلاف الكتابة فإن بعقد الكتابة ثبت له استحقاق لا يملك الولي إبطاله وذلك يمنعه من دفعها.
وإن ضرب العبد ضربا لزمه منه عيب فاحش أو جرحه أو قتله وهو يعلم فمختار لأن حق ولي الجناية يثبت في كل جزء منه وقد فوت جزء فامتنع الدفع في ذلك الجزء وهو لا يتحمل التجزي في الدفع بالجناية فتفويت جزء منها كتفويت كله.
ولو دفع العبد في بئر حفرها المولى في الطريق أو أصابه جناح أشرعة المولى فليس هذا باختيار لأن المولى إن كان فعل هذا قبل جناية العبد ولم يوجد منه صنع بعد جنايته إذ لا صنع له في وقوع العبد في البئر وإن كان الحفر منه بعد جنايته فهو عند الحفر ما كان يعلم أن عبده يقع به ولا قصد ذلك بحفره وقد بينا أن حافر البئر يصير قاتلا ولهذا لا يجب عليه الكفارة والاختيار إنما يحصل بمباشرة فعل من المولى يكون مقويا له محل الدفع وكذلك كل ما لا يجب على المولى فيه الكفارة فليس ذلك باختيار منه ولكن على المولى القيمة إن مات العبد من ذلك بينهما أثلاثا لأن المولى سبب لهلاكه وهو متعد في ذلك التسبب.(27/59)
ولو أتلفه مباشرة على وجه لم يصر مختارا بأن لم يكن عالما بالجناية كان عليه قيمته فكذلك إذا أتلفه بطريق التسبيب ولو أوطأه المولى وهو يسير على دابته أو وقع عليه فقتله وهو يعلم بجناية العبد ولم يتعمد الوطء ولا الوقوع فهذا اختيار وعليه الأرش لأنه مباشر قتله بهذا الطريق ولهذا يلزمه الكفارة ومباشرة القتل بتفويت محل الدفع فإذا كان بعد العلم بالجناية يجعل اختيارا ولا معتبر بتعمده الوطء والوقوع عليه لأن ذلك من باطنه لا يمكن الوقوف عليه.
وإن أعتقه أو باعه أو وهبه أو كاتبه وهو لا يعلم بجنايته فعليه قيمته لأنه منع الدفع بما أحدث من التصرف ولكنه لم يصر مختارا للفداء حين لم يكن عالما بالجناية فيكون مستهلكا محل الدفع وذلك يوجب عليه القيمة لمولى ولي الجناية كالراهن إذا استهلك المرهون يغرم قيمته لحق المرتهن وإن كان علم بإحدى الجنايتين ولم يعلم بالأخرى فهو مختار للذي علم بها وعليه الأرش وللأخرى حصتها من قيمة العبد لأنه يجعل تصرفه في حق كل واحد من الجنايتين كأنه لا جناية سواها ففيما كان عالما بها يجعل مختارا لوجود دليل الاختيار، وفيما(27/60)
ص -32- ... لم يكن عالما بها مستهلكا محل الدفع فعليه حصتها من قيمة العبد وإذا جنى العبد جناية لم تبلغ النفس فأعتقه المولى وهو يعلم بها قبل البرء ثم انتقضت الجراحة فمات وهو مختار فعليه الدية لأن السبب الموجب لتخير المولى جناية العبد وإنما وجد الإعتاق بعد العلم بها فيكون ذلك منه اختيارا للأرش بمنزلة ما لو أعتقه بعد الموت.
ألا ترى أن أداء الكفارة بعد الجرح قبل زهوق الروح جائز بمنزلة أدائها بعد الموت وهذا لأنه لما أعتقه مع علمه أن الجناية قد برئت فقد صار مختارا لما يجب من الأرش برأت أو سرت ولو قال لعبده إن ضربت فلانا بالسيف أو بالعصا أو بسوط أو بيدك أو شججته أو جرحته فأنت حر ففعل به ذلك فمات منه عتق والمولى مختار للدية لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولأن المولى لما علق عتقه بشرط هو سبب لوجوب الأرش وتخيره بين الدفع والفداء فقد صار راضيا بالتزام الفداء بمنزلة الصحيح إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إذا مرضت فمرض ومات يصير فارا من ميراثها فإن كانت جناية العبد مما يتعلق بها القصاص فلا شيء على المولى لأن الواجب هو القصاص على العبد وذلك لا يختلف بالرق والحرية فلا يصير المولى بالعتق مفوتا حق ولي الجناية فلهذا لا يلزمه شيء.(27/61)
وإذا جرح العبد رجلا فخوصم فيه المولى فاختار العبد وأعطى الأرش ثم انتقضت الجراحة فمات المجروح فالقياس فيه أن يكون المولى مختارا للفداء وهو قول أبي يوسف الآخر وفي الاستحسان يخير المولى خيارا مستقبلا وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد ورجع أبو يوسف من الاستحسان إلى القياس وأخذ محمد رحمه الله بالاستحسان وقد بينا فيما تقدم أن بهذه الصورة في الكتب ثلاث مسائل هذه ومسألة تكرار تلاوة السجدة في الركعة الثانية وجه القياس أن المولى اختار الأرش بعد ما تقرر السبب فنزل ذلك منزلة اختياره بعد موت المجروح وهذا لأنه أقدم على الاختيار مع علمه أنه قد يبرأ وقد ينتقض فيسري إلى النفس.
يوضحه: أن الاختيار قد يكون منه حكما وقد يكون قصدا فقد صار مختارا لما يجب بها ثم الاختيار بطريق الحكم يسوي فيه بين ما قبل البرء وما بعده وهو الإعتاق باعتبار أنه اختيار لموجب الفعل فكذلك في الاختيار قصدا وجه الاستحسان أن المولى اختار الأرش على حسبان أن البرء قد تم وأن الواجب أرش الطرف فلا يكون ذلك منه دليل اختياره الدية فالإنسان قد يختار الشيء إذا كان قليلا ولا يختاره إذا كان كثيرا فإذا تبين أن الواجب كان هو الدية قلنا يخير خيارا مستقبلا بمنزلة الشفيع إذا أخبر بثمن قليل فطلب الشفعة وقضى له بها ثم تبين أن الثمن كان أكثر من ذلك كان على خياره.
ولو أخبر أن الثمن كثير فسلم الشفعة ثم تبين أنه كان أقل من ذلك كان هو على حقه بخلاف الإعتاق فإنه تفويت لمحل الدفع ولا يمكن إبقاء خياره بعده قائما وعند الاختيار قصد ألا يفوت محل الدفع فلهذا كان على خياره إلا أنه روي عن أبي يوسف أنه فرق بين ما إذا أعطى الأرش بغير قضاء وبين ما إذا أعطاه بقضاء(27/62)
ص -33- ... القاضي قال إذا أعطاه بقضاء القاضي فإن المجروح يخير خيارا مستقبلا بخلاف ما إذا أعطاه بغير قضاء القاضي فإن ذلك اختيار منه للدية طوعا بمنزلة من اشترى دارا بعبد فأخذها الشفيع بقيمة العبد ثم استحق العبد فإن أخذها بقضاء القاضي بطلت شفعته ووجب عليه ردها وإن أخذها بغير قضاء القاضي جعل ذلك كالشراء المبتدإ وعن زفر أنه قال في الوجهين جميعا يصير مختارا لأن القاضي إنما قضى بالإرش بناء على اختياره.
قال: وإذا جنى العبد جناية فاختار المولى إمساك عبده وليس عنده ما يؤدي وكان ذلك عند قاض أو عند غير قاض فالعبد عبده والإرش دين عليه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد إن أدى الدية مكانه وإلا دفع العبد إلا أن يرضى الأولياء أن يتبعوه بالدية على ما قال فإن رضوا بذلك لم يكن لهم بعد ذلك أن يرجعوا في العبد وجه قولهما أن نفس صاحب العبد صار حقا لمولى الجناية إلا أن المولى يتمكن من تحويل حقهم من العبد إلى الأرش باختياره الفداء فإذا أعطاهم الأرش كان هذا تحويلا لحقهم من محل إلى محل فيه وفاء بحقهم فيكون صحيحا منه.
وإذا كان مفلسا كان هذا منه إبطالا لحقهم لا تحويلا من محل إلى محل يعد له فيكون ذلك باطلا من المولى وهذا لأن ثبوت الخيار للمولى كان على وجه النظر من الشرع وإنما يثبت على وجه لا يتضرر به صاحب الحق فإذا آل الأمر إلى الضرر كان باطلا بمنزلة المحتال عليه إذا مات مفلسا فإن الدين يعود إلى ذمة المحيل لأنه حول حقه من ذمته إلى ذمة المحتال عليه بشرط أن يسلم له فإذا لم يسلم عاد كما كان.(27/63)
وفي بيع المعاوضة إذا هلك أحد العوضين قبل القبض بطل العقد في الآخر لأن صاحبه حول حقه إلى العوض الآخر بشرط أن يسلم له فإذا لم يسلم عاد كما كان وكذلك في البيع والآخر بالشفعة إن سلم الثمن كان له أن يأخذ الدار وإن عجز عن ذلك لم يكن له أن يأخذها إلا أن يرضي البائع والمشتري في فصل الشفعة بالتسليم فها هنا أيضا أن رضى الولي كان مسقطا حقه في العبد وإن أبى كان له أن يأخذ العبد وأبو حنيفة يقول بجناية العبد يخير المولى بين الدفع والفداء والمخير بين اثنين إذا اختار أحدهما تعين ذلك واجبا من الأصل كالمكفر إذا اختار أحد الأنواع الثلاثة فها هنا باختياره تبين أن الواجب هو الدية في ذمة المولى من الأصل وأن العبد فارغ من الجناية فلا يكون لأولياء الجناية عليه سبيل. يوضحه: أن من ثبت له الخيار شرعا يستبد بالخيار من غير أن يحتاج إلى رضا صاحبه ولو رضي الأولياء أن يتبعوا بالدية لم يبق لهم حق في العبد فكذلك إذا اختار المولى ذلك في حال ما ثبت له الخيار شرعا وقيل إن هذه المسألة في الحقيقة تبني على اختلافهم في التفليس وعند أبي حنيفة التفليس ليس بشيء والمال غاد ورائح وهذا التصرف من المولى يكون تحويلا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالا وعندهما التفليس معتبر والمال في ذمة المفلس يكون تاويا فيكون هذا الاختيار من المولى إبطالا لحق الأولياء.(27/64)
ص -34- ... وقد روى عن أبي يوسف أن اختيار المولى ها هنا معتبر حتى لا يكون لأولياء الجناية حق تملك العبد بالأخذ بعد هذا الاختيار ولكن يباع العبد فيه فيدفع ثمنه إلى الأولياء من حساب الدية التي على المولى وهو بناء على مذهب أبي يوسف في الحجر بسبب الدين فإنه يقول القاضي يحجر على المديون ويبيع عليه ماله وعند أبي حنيفة لا يفعل ذلك وقد بينا هذا في كتاب الحجر.
قال: وإذا جنى العبد جناية خطأ ثم أقر المجني عليه أنه حر قبل الدفع إليه فلا حق له في رقبة العبد ولا على المولي لأنه يزعم أنه حر وإن جنايته على عاقلته لا يستحق بها رقبته وزعمه معتبر في حقه فلا سبيل له على العبد بعد هذا الإقرار ولا شيء له على المولي لأنه لم يدع على المولي بعد الجناية حتى يصير به مختارا أو مستهلكا.
ولو كان إقرار المجني عليه بعد ما دفع إليه العبد فهو حر لأنه ملكه بالدفع وقد أقر بحريته فيعتق بإقراره ويكون موقوف الولاء بمنزلة من اشترى عبدا ثم أقر أن البائع كان أعتقه.
قال: وإذا جنت الأمة جناية ثم ولدت ولدا أو اكتسبت كسبا فإن مولاها يدفعها بالجناية ولا يدفع ولدها ولا كسبها لأن استحقاق نفسها بالجناية الخطأ كاستحقاق نفسها بالعمد قصاصا وذلك لا يسري إلى الكسب والولد وهذا لأن حق ولي الجناية غير متأكد في عينها.
ألا ترى أن المولى مخير بين أن يدفعها أو يفديها بالإرش وأنما يسري إلى الولد ما يكون متأكدا في الأصل حين انفصل الولد عنها. وأما الكسب فإنما يملك بملك الأصل وعند الاكتساب كان ملك الأصل للمولى دون المجني عليه فإن جنى عليها فأخذ المولى لذلك إرشا فإنه يدفع الإرش معها لأن الإرش عوض عن الجزء الفائت منها بالجناية وحق ولي الجناية كان ثابتا فيها بجميع أجزائها فيثبت في بدل جزء منها أيضا والجزء معتبر بالكل.(27/65)
ولو قتلت وأخذ المولى قيمتها كان عليه دفع تلك القيمة إلى ولي الجناية فكذلك إذا أخذ أرش جزء منها بخلاف الولد فإنه حر وهو زيادة حادثة بعد الجناية وحق الولي إنما يثبت في الأجزاء الموجودة عند الجناية وإن كان جنى عليها قبل جنايتها لم يدفع المولى ذلك الإرش معها لأن الجزء الفائت بتلك الجناية لم يكن موجودا عند جنايتها فلا يثبت حق ولي الجناية فيه ولا في بدله بخلاف الفائت بعد جنايتها وإن لم يعلم أن الجناية عليها كان قبل جنايتها أو بعده فالقول فيه قول المولى لأن الأرش المقبوض في يد المولى فأولياء الجناية يدعون استحقاق ذلك على المولى وهو ينكر ولأنهم يستحقونها بالجناية على المولى فالقول قول المولى في بيان صفتها حين ثبت الاستحقاق لهم.
وإن كان وجب الأرش بعد جنايتها فأمسكها المولى وفداها فله أن يستعين بذلك الأرش في الفداء لأنه ملكه كسائر أمواله وإن لم يختر الفداء حتى استهلك أو وهبه الجاني عليها لم يكن مختارا وله أن يدفعها لأن الأرش منفصل عنها فتصرفه في الأرش لا يكون تصرفا فيها ولا يتعذر دفعها فكان له أن يدفعها بمنزلة ما لو حدثت الجناية من أمتين فاستهلك إحداهما كان(27/66)
ص -35- ... له أن يدفع الأخرى بجنايتها ثم عليه أن يغرم مثل ما استهلك فيدفعه معها لأن حق ولي الجناية ثبت في ذلك الأرش وقد أتلفه المولى بتصرفه وهذا بخلاف ما إذا أتلف المولى جزأ منها بجنايته لأن هناك المولى تصرف فيه بالجناية والجزء الذي أتلفه بجنايته كان متصلا بها ولهذا صار المولى به مختارا وإن كان الجاني عليها عبدا فدفعه المولى كان عليه أن يدفعهما جميعا أو يفديهما بالدية لأن العبد المدفوع قائم مقام الجزء الفائت منها فإن أعتق العبد المدفوع إليه فهذا اختيار منه للأمة وعليه الدية.
وكذلك إن أعتق الأمة فإنه لا يستطيع أن يدفع واحدا منهما دون صاحبه لأن العبد قائم مقام الجزء الفائت وحكم الدفع فيها لا يتجزأ بل إذا تعذر دفع بعضها بتصرف المولى يتعذر دفع كلها فكذلك حال العبد المدفوع مكان الجزء الفائت منها وهذا بخلاف الأرش المستوفى من الجاني إذا كان جزأ لأن الأرش دراهم وفي الدراهم لا يثبت للمولى الخيار بين الدفع والفداء وإقدامه على التصرف إنما يكون دليل الاختيار إذا صادف محلا ثبت له فيه الخيار. فأما هنا فالخيار ثابت له في العبد والأمة لأن كل واحد منهما يفيد التخير فيه بين الدفع والفداء فإعتاقه أحدهما يكون تصرفا في المحل الذي ثبت له فيه الخيار فيجعل ذلك اختيارا وهذا الاختيار يثبت له فيهما باعتبار جناية واحدة فيكون اختياره أحدهما اختيارا لهما جميعا بخلاف الأمتين إذا جنت كل واحدة منهما لأن ثبوت الخيار له في كل واحدة منها باعتبار جناية على حدة فلا يكون اختياره إحدى الجنايتين دليل الاختيار منه في الأخرى فإن أعتق العبد وهو لا يعلم بالجناية ثم اختار دفع الأمة دفع معها قيمة العبد لأن العبد لو كان قائما بعينه كان عليه دفعه معها وقد صار مستهلكا له بالإعتاق حين لم يكن عالما بالجناية فكان عليه قيمته.(27/67)
ألا ترى أنه لو أعتق الأمة وهو لا يعلم بالجناية كان عليه قيمتها ولو كان هذا العبد فقأ عين الأمة فدفع بها وأخذت الجارية فإن العبد يصير مكانها يدفعه المولى أو يفديه بالدية لأنه قائم مقامها حين دفع بها وكذلك لو قتلها عبد فدفع بها.
ولو قتلها حر خطأ فأخذ المولى قيمتها لم يقل للمولى ادفعها أو افدها ولكنه يدفع قيمتها لأن القيمة دراهم أو دنانير والأرش كذلك ولا معنى للتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد وإنما يؤمر بدفع القيمة التي قبضها إلى ولي الجناية بخلاف ما تقدم فالمدفوع هناك عبد وللناس في الأعيان أغراض فتخييره بين دفع العبد وبين الفداء بالقيمة يكون مقيدا.
ولو أن عبدا قتل رجلا خطأ ثم قتلت جارية المولى العبد خطأ قيل للمولى ادفعها أو افدها بقيمة العبد لأن العبد الجاني صار مستحقا لولي الجناية فجناية جارية المولى عليه بمنزلة جنايتها على عبد مملوك لولي الجناية ولو قتلت عبدا أو مملوكا له كان على المولى أن يدفعها أو يفديها بقيمة العبد فكذلك ها هنا لا يجوز أن يلزمه أكثر من ذلك وهذا لأن إعطاءه قيمة العبد بمنزلة إعطائه العبدان لو كان قائما ولو أعطاهم العبد لم يلزمه شيء آخر فكذلك إذا أعطاهم قيمته بعد ما قتلته أمته.(27/68)
ص -36- ... قال: وإذا قتل العبد رجلا خطأ وقتلت الأمة رجلا وهما لرجل واحد ثم أن العبد قتل الأمة خطأ واختار المولى دفعه فإنه يقسم على قيمة الأمة ودية الحر لأن الأمة كانت مستحقة لأولياء جنايتها وقد جنى العبد عليها فثبت حق أولياء جنايتها في مقدار قيمتها وحق أولياء الحر في الدية ومولاه يتخير بين الدفع والفداء فإن اختار الدفع ضرب فيه أولياء الحر بدية الحر وأولياء الأمة بقيمتها فيقسم العبد بينهما على ذلك وإن اختار الفداء فداه بدية الحر وبقيمة الأمة لأولياء جنايتها.
قال: وإذا جنى العبد جناية ففداه المولى منها ثم جنى جناية أخرى قيل له ادفعه بها أو افده لأنه لما فداه من الأولى فقد طهره منها فكأنه ما وجد منه إلا الجناية الأخرى فيخاطب بالدفع أو الفداء فإن كان لم يقض من الأولى شيئا حتى جنى الثانية دفعه بهما أو فداه لأن الجنايتين اجتمعتا في رقبته وللمولى أن يتخلص بدفعه ويقول إنما لحقني هذا الشغل بسبب ملكي رقبة العبد وأنا أتخلص بدفعه فيدفعه بالجنايتين أو يفديه بإرشهما.
وإذا أعتق العبد ثم أقر أنه كان جنى في حال رقه جناية عمدا أو خطأ لم يلزمه شيء منها إلا القود في النفس لأنه لو أقر بها قبل العتق لم يصح إقراره إلا بالجناية الموجبة للقود فكذلك بعد العتق وهذا لأنه في الوجهين جميعا إنما يقر على غيره فإن جناية العبد فيما يوجب المال يكون على المولى لا شيء منه على العبد قبل عتقه ولا بعد عتقه وإقراره على غيره لا يكون حجة في الحالين فأما ما يكون موجبا للقود فإقراره يكون على نفسه.(27/69)
ولو جنت أمة جناية فقال المولى كنت أعتقتها قبل الجناية أو دبرتها أو كانت أم ولدي فإنه لا يصدق من أجل الجناية وهو مختار للفداء إن قال هذا بعد العلم بالجناية وإن قاله قبل العلم بالجناية فعليه القيمة لأنه متهم في حق أولياء الجناية فيجعل إقراره بمنزلة الإنشاء في حقهم وإن أنشأ العتق أو التدبير كان الحكم فيه ما بينا فكذلك إذا أقر مستندا إلى ما قبل الجناية لأن هذا الإسناد لا يثبت بقوله حين لم يصدقه أولياء الجناية فيه وإذا جنى العبد جناية فأخبر ولي الجناية ولي العبد فأعتقه فقال لم أصدقه فيما أخبر به فهو مختار للفداء لأن ولي الجناية في اختياره يطلب بحقه فعلى المولى أن ينظر في خبره.
ألا ترى أنه لو أخبر القاضي بذلك وطالبه بإحضار المولى وتكليفه الجواب أجابه القاضي إلى ذلك فكذلك إذا أخبر المولى بذلك كان عليه أن ينظر إلى خبره فإذا لم يفعل وأعتق العبد كان هذا بمنزلة الإعتاق بعد العلم بالجناية فيكون مختارا وكذلك إن أخبره رسول ولي الجناية فاسقا كان الرسول أو عدلا لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فأما إذا أخبره بذلك فضولي فإن صدقه فيما أخبره به ثم أعتق العبد فهو مختار للفداء أيضا وإن كذبه في ذلك أو لم يصدقه ولم يكذبه حتى أعتق العبد فإن كان المخبر عدلا فكذلك الجواب لأن خبر العدل مقبول فيما يكون ملزما وإن كان المخبر فاسقا فعلى قول أبي حنيفة لا يكون مختارا للفداء ولكن عليه قيمته باستهلاكه إياه وعند أبي يوسف ومحمد هو مختار للفداء وهذا من(27/70)
ص -37- ... الجنس الذي بيناه في المأذون أن عندهما خبر الواحد في المعاملات مقبول عدلا كان أو فاسقا.
وعند أبي حنيفة فيما يتعلق به اللزوم لا يعتبر خبر الفاسق وهذا خبر الملزم في حق المولى لأن الإعتاق بعد العلم بالجناية يلزمه الفداء فلا يعتبر فيه خبر الفاسق إذا كان فضوليا وإن أخبره به فاسق ففي إحدى الروايتين كذلك وفي الرواية الأخرى يكون مختارا للفداء لأنه تم إحدى شطري الحجة وهو العدد فيعتبر بما لو وجد الشطر الآخر وهو العدالة في حق المخبر الواحد.
ولو جنى عبده جناية فقال المولى كنت بعته من فلان قبل الجناية وصدقه فلان أو قال هو له لم يكن لي قط وصدقه فلان قيل لفلان ادفعه أو افده لأن المولى ما أتلف على ولي الجناية شيئا حين أخرجه إلى ملك رجل يخاطب بدفعه أو الفداء كما كان هو يخاطب به فإن كذبه فلان قيل للمولى ادفعه أنت أو افده لأن الملك ثابت له فيه باعتبار يده والإقرار بطل بتكذيب المقر له فصار كأنه لم يكن فيخاطب ذو اليد بالدفع أو الفداء.(27/71)
ولو أن عبدا في يد رجل جنى جناية فقال ولي الجناية: هو عبدك فقال الرجل هو وديعة عندي لفلان أو عارية أو إجارة أو رهن فإن أقام على ذلك بينة أخر الأمر فيه حتى يقدم الغائب فإن لم يقم بينة خوطب بالدفع أو الفداء وقال زفر هو مختار للفداء بمجرد قوله لأنه زعم أنه لا سبيل له على دفعه فيجعل به مقوما للدفع مختارا للفداء كما لو أعتقه ولكنا نقول هو بكلامه يزعم أنه ليس بخصم في هذه الجناية أصلا واختياره يبني على كونه خصما فإذا ثبت بالبينة أنه ليس بخصم فيه صار إثبات ذلك بالبينة كالإثبات بالمعاينة وإن لم يقم بينة على ذلك فهو الخصم باعتبار ظهور يده فيه وهو متمكن من دفعه فيخاطب بالدفع أو الفداء ولا معنى لجعله مختارا مع بقاء تمكنه من الدفع بالجناية فإن فداه ثم قدم الغائب أخذ عبده بغير شيء لأن ذا اليد أقر بالملك له وقد اتصل تصديقه بذلك الإقرار وقد كان ذو اليد متبرعا في هذا الفداء فإنه ما كان مجبرا عليه فلا يرجع بشيء منه على المقر له وإن كان دفعه فالغائب بالخيار إن شاء أمضى ذلك وإن شاء أخذ العبد ودفع الأرش لأن تصديقه اتصل بذلك الإقرار فيثبت الملك ويتبين أنه كان له الخيار فأن أمضى دفعه كان ذلك بمنزلة اختيار الدفع منه ابتداء وإن اختار الأرش فله أن يأخذ عبده وإن أنكر الغائب أن يكون العبد له فما صنع الأول فيه من شيء فهو جائز لأن الإقرار بطل بتكذيب المقر له.
وإذا كان عبد في يدي رجل وهو مقر بأنه عبده أو لم يقر ولم ينكر فأقر عليه بجناية خطأ ثم أقر أنه لرجل آخر وأنه لم يملكه قط وصدقه الرجل فالعبد له لأن الجناية الثابتة عليه بإقرار المولى لا تكون أقوى من الثابتة بالمعاينة وذلك لا يمنع المولى من التصرف فيه والإقرار بالملك لغيره ثم إن كذبه المقر له في الجناية فهو مختار للأرش لأن الجناية ثبتت على العبد بإقرار ذي اليد عليه بها ثم صار متلفا العبد بإقراره بالملك فيه لغيره فيجعل ذلك بمنزلة تمليكه(27/72)
ص -38- ... منه بالبيع وذلك اختيار منه للفداء فهذا مثله إذا كان ذو اليد أقر أنه عبده قبل إقراره بالجناية عليه أو بعد ذلك قبل إقراره لهذا الرجل وإن لم يكن ادعاه لنفسه قبل إقراره لهذا الرجل فلا شيء عليه ولا على العبد من الجناية لأن المقر ما أتلف شيئا على أحد وإنما أقر على ملك غيره بالجناية وإقراره على ملك الغير لا يلزمه شيئا وهذا بخلاف ما إذا ثبتت الجناية عليه ببينة لأن هناك ذو اليد قد صار مخاطبا بالدفع وثبتت الجناية على العبد بما هو حجة في حق الكل فإذا حوله بإقراره إلى المقر له خوطب بما كان يخاطب به المقر وها هنا بإقرار ذي اليد ما ثبتت به الجناية على العبد في حق المقر له فلهذا لا يخاطب بشيء.
قال: وإذا جنى العبد جناية ثم أصابه عيب سماوي فإن المولى يخاطب بدفعه أو الفداء ولا شيء عليه بسبب ذلك العيب لأنه ما كان مضمونا عليه.
ألا ترى أنه لو مات في يده لم يلزمه شيء فإذا فات جزء منه بغير صنعه أولى أن لا يلزمه شيء وكذلك لو بعثه المولى في حاجة فعطب فيها أو استخدمه فلا ضمان عليه فيما لحقه بذلك لأن للمولى حق الاستخدام في العبد ما لم يدفعه فلا يكون فعله ذلك تعديا فلو أذن له في التجارة بعد جنايته فاستغرق رقبته فهو ضامن قيمته لأهل الجناية تعديا ولو أذن له لأن الإذن له في التجارة لا يمنعه من الدفع في الجناية فلا يصير به مختارا ولكن استحقاق ماليته في الدين يثبت بذلك الإذن فيصير المتلف به كالمتلف للمالية على أهل الجناية لأنه تعذر الدفع إليهم بالجناية حين يباع في الدين لأن حقهم كان ثابتا في عبد غير مشغول المالية فلهذا لا يضمن المولى قيمته.(27/73)
قال: وإذا قتل العبد قتيلا خطأ ثم فقأ رجل عينه ثم قتل آخر خطأ ثم اختار المولى دفعه فإنه يدفع إرش العين إلى الأول لأنه جنى على الأول وعينه كانت صحيحة فيثبت فيها حق المجني عليه ثم فاتت وأخلفت بدلا فيكون البدل له ولا مزاحمة للثاني معه فيه لأنه جنى على الثاني وهو أعور فلم يثبت حق الثاني في هذه العين أصلا ثم يكون العبد بينهما يضرب فيه الأول بالدية إلا ما أخذ من أرش العين ويضرب فيه الآخر بالدية حتى إذا كانت قيمته ألف درهم وكان ارش العين خمسمائة فإن العبد يقسم بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأن الأول إنما بقي من حقه تسعة آلاف وخمسمائة فيضرب بذلك في العبد والثاني إنما يضرب بعشرة آلاف كمال الدية فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كان العبد بينهما على تسعة وثلاثين سهما وكذلك لو كان الذي فقأ عينه عبدا فدفع به كان ولي الأول أحق به ثم يضرب مع الآخر بالدية إلا قيمة العبد الذي أخذه لأنه وصل إليه ذلك القدر من حقه.
وإذا قتل العبد قتيلا خطأ وللمقتول وليان فدفعه المولى إلى أحدهما بقضاء قاض ثم قتل عنده آخر ثم جاء ولي الآخر والشريك في الجناية الأولى فإنه يقال للمدفوع إليه الأول ادفع نصفك إلى الأول أو افده بنصف الدية لأن نصف العبد صار مملوكا بالدفع إليه بقضاء القاضي فإنما جنى على ملكه فيخاطب بأن يدفع ذلك النصف أو يفديه بنصف الدية، فإن(27/74)
ص -39- ... منه بالبيع وذلك اختيار منه للفداء فهذا مثله إذا كان ذو اليد أقر أنه عبده قبل إقراره بالجناية عليه أو بعد ذلك قبل إقراره لهذا الرجل وإن لم يكن ادعاه لنفسه قبل إقراره لهذا الرجل فلا شيء عليه ولا على العبد من الجناية لأن المقر ما أتلف شيئا على أحد وإنما أقر على ملك غيره بالجناية وإقراره على ملك الغير لا يلزمه شيئا وهذا بخلاف ما إذا ثبتت الجناية عليه ببينة لأن هناك ذو اليد قد صار مخاطبا بالدفع وثبتت الجناية على العبد بما هو حجة في حق الكل فإذا حوله بإقراره إلى المقر له خوطب بما كان يخاطب به المقر وها هنا بإقرار ذي اليد ما ثبتت به الجناية على العبد في حق المقر له فلهذا لا يخاطب بشيء.
قال: وإذا جنى العبد جناية ثم أصابه عيب سماوي فإن المولى يخاطب بدفعه أو الفداء ولا شيء عليه بسبب ذلك العيب لأنه ما كان مضمونا عليه.
ألا ترى أنه لو مات في يده لم يلزمه شيء فإذا فات جزء منه بغير صنعه أولى أن لا يلزمه شيء وكذلك لو بعثه المولى في حاجة فعطب فيها أو استخدمه فلا ضمان عليه فيما لحقه بذلك لأن للمولى حق الاستخدام في العبد ما لم يدفعه فلا يكون فعله ذلك تعديا فلو أذن له في التجارة بعد جنايته فاستغرق رقبته فهو ضامن قيمته لأهل الجناية تعديا ولو أذن له لأن الإذن له في التجارة لا يمنعه من الدفع في الجناية فلا يصير به مختارا ولكن استحقاق ماليته في الدين يثبت بذلك الإذن فيصير المتلف به كالمتلف للمالية على أهل الجناية لأنه تعذر الدفع إليهم بالجناية حين يباع في الدين لأن حقهم كان ثابتا في عبد غير مشغول المالية فلهذا لا يضمن المولى قيمته.(27/75)
قال: وإذا قتل العبد قتيلا خطأ ثم فقأ رجل عينه ثم قتل آخر خطأ ثم اختار المولى دفعه فإنه يدفع إرش العين إلى الأول لأنه جنى على الأول وعينه كانت صحيحة فيثبت فيها حق المجني عليه ثم فاتت وأخلفت بدلا فيكون البدل له ولا مزاحمة للثاني معه فيه لأنه جنى على الثاني وهو أعور فلم يثبت حق الثاني في هذه العين أصلا ثم يكون العبد بينهما يضرب فيه الأول بالدية إلا ما أخذ من أرش العين ويضرب فيه الآخر بالدية حتى إذا كانت قيمته ألف درهم وكان ارش العين خمسمائة فإن العبد يقسم بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأن الأول إنما بقي من حقه تسعة آلاف وخمسمائة فيضرب بذلك في العبد والثاني إنما يضرب بعشرة آلاف كمال الدية فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كان العبد بينهما على تسعة وثلاثين سهما وكذلك لو كان الذي فقأ عينه عبدا فدفع به كان ولي الأول أحق به ثم يضرب مع الآخر بالدية إلا قيمة العبد الذي أخذه لأنه وصل إليه ذلك القدر من حقه.
وإذا قتل العبد قتيلا خطأ وللمقتول وليان فدفعه المولى إلى أحدهما بقضاء قاض ثم قتل عنده آخر ثم جاء ولي الآخر والشريك في الجناية الأولى فإنه يقال للمدفوع إليه الأول ادفع نصفك إلى الأول أو افده بنصف الدية لأن نصف العبد صار مملوكا بالدفع إليه بقضاء القاضي فإنما جنى على ملكه فيخاطب بأن يدفع ذلك النصف أو يفديه بنصف الدية، فإن(27/76)
ص -40- ... المولى إلى ولي القتيلين يضرب فيه الأول بعشرة آلاف والآخر بثلثي الدية لأنه قد وصل إليه ثلث حقه فيكون هذا مقسوما بينهما أخماسا ثلاثة أخماسه للأول وخمساه للآخر ثم يضمن المولى للأول ستة أجزاء وثلثي جزء من ستة عشرة جزأ وثلثي جزء من ثلثي قيمة العبد وذلك في الحاصل خمسا بدل ما سلم للآخر من هذا الثلثين إلا أنه إذا بنى الجواب على القسمة التي كانت بينهما فإن الأول ضرب فيه بعشرة آلاف والآخر بستة آلاف وثلثي ألف ولهذا قال ما قال.
وفي الحقيقة رجوعه على المولى بخمسي ثلثي قيمته لأن المولى أتلف ذلك عليه حين دفعه إلى صاحب العين بغير قضاء قاض واستحق بالجناية التي كانت عنده ثم يرجع به المولى على صاحب العين لما قلنا أن الاستحقاق بسبب جناية كانت في ضمانه.
قال: وإذا قتلت الأمة قتيلا خطأ ثم ولدت بنتا ثم قتلت البنت رجلا خطأ ثم أن البنت قتلت الأم فاختار المولى دفعها ضرب أولياء قتيل الأمة فيها بقيمة الأم وأولياء قتيل البنت بالدية لأن البنت في هذا الحكم كجارية أخرى للمولى فإن حق ولي جناية الأم لا يثبت في البنت ثم قد وجد من البنت جنايتان إحداهما على الحر والأخرى على الأم وهي مقدرة بحق أولياء جناية الأم فإن دفعها المولى ضرب كل واحد منهما فيها بمقدار حق أولياء الأم بقيمة الأم وولي الحر بالدية فتقسم البنت بينهما على ذلك وإن اختار المولى فداء البنت دفع قيمتها إلى وليها وقيمة الأم إلى ولي الأم لأنه إنما أقر بها بما يثبت فيها من الحق باعتبار جنايتها.
ولو كانت البنت فقأت عين الأم فهذه المسألة على أربعة أوجه:
إن اختار المولى دفعها دفع الأم بجنايتها ودفع البنت يضرب فيها أولياء قتيلها بالدية وأولياء قتيل الأم بنصف قيمة الأم لأنها على غير الأمة وقد ثبت فيها حق أولياء الأم والعين من الآدمي نصفه فلهذا ضربوا فيها بنصف قيمة الأم.(27/77)
وإن اختار الفداء فيهما فدى كل واحد منهما بعشرة آلاف أرش جنايتها وقد خلطن بحق فيهما للمولى ولا تعتبر جناية البنت على الأم.
وإن اختار الدفع في الأم والفداء في البنت دفع الأم إلى أولياء جنايتها وفدى البنت بالدية إلى أولياء قتيلها وبنصف قيمة الأم لأولياء قتيل الأم لأنها أتلفت نصف الأم بجنايتها وهي جناية معتبرة بحق أولياء جناية الأم.
وإن اختار الدفع في البنت والفداء في الأم فدى الأم بعشرة آلاف ودفع البنت إلى أولياء جنايتها لأنه حين فدى الأم صارت هي مخالفة له فجناية البنت عليها غير معتبرة لحق المولى فلهذا دفع البنت إلى أولياء جنايتها.
ولو فقأت الأم عين البنت بعد ما فقأت البنت عينها فاختار المولى دفعهما فإنه يدفع البنت وإنما يبدأ بها لأنها هي التي ابتدأت بالجناية على الأم فيضرب فيها أولياء قتيلها بالدية(27/78)
ص -41- ... وولي قتيل الأم بنصف قيمة الأم ثم يكون ذلك المقدار من البنت مع الأم ويدفع الأم وما أصابها بأرش عينها من البنت فيكون ما دفع بها من البنت لولي قتيل الأم خاصة لأن الأم حين ثبتت الجناية الأولى كانت عينها صحيحة فيثبت حق المولى في بدل تلك العين ولا مزاحمة فيه لأولياء جناية البنت وهي عوراء فلا يثبت حقهم في بدل عينها ثم يضرب ولي قتيل الأم في الأم بما بقي من الدية ويضرب فيها ولي جناية البنت بنصف قيمة البنت فتكون القسمة بينهما على ذلك وقد طعنوا في هذا الجواب فقالوا ينبغي أن يضرب أولياء قتيل البنت في البنت بالدية إلا مقدار ما يصل إليهم من الأم باعتبار جنايتها على نصف البنت لأن المعتبر هو المال وباعتبار المال سلم له هذا ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن عند دفع البنت لم يصل إلى أولياء قتيلها شيء بعد فيضربون بجميع الدية ولا معتبر بما يكون بعد ذلك.
ألا ترى أن رجلا لو مات وترك ألف درهم ولرجل عليه ألف درهم ولآخر عليه ألف درهم فاقتسما الألف بينهما أثلاثا ثم أن صاحب الألفين أبرأه عن الألف لا يتغير بهذا الإبراء حكم تلك القسمة لهذا المعنى وإن اختار الولي الفداء فيهما فداهما بديتين وأمسكهما جميعا لأنه يفدي كل واحدة منهما بدية قتيلها وقد خلصتا للمولى ولا يعتبر جناية كل واحدة منهما على صاحبتها.
قال: وإذا قتلت الأمة رجلا خطأ ثم ولدت بنتا ثم أن ابنتها قتلتها فإنه يقال لمولاها ادفعها أو افدها بقيمة الأم لأن البنت في هذا الحكم كجارية أخرى للمولى.(27/79)
ولو جنت الأمة وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يدفعها فالولد للمولى لأن الولد زيادة انفصلت عنها قبل تقرر حق ولي الجناية فيها وإذا ولدت آخر بعد الدفع فهو للمدفوع إليه لأنه ملكها بالدفع إليه والولد يتبع الأم في الملك ولو جنت الأمة جناية خطأ ثم ولدت ولدها فقطع الولد يدها فالمولى بالخيار إن شاء دفع الأم ونصف قيمتها إلى أهل الجناية وإن شاء دفعها وولدها وإن شاء أمسكها وأعطى الأرش لأن الولد بمنزلة مملوك آخر للمولى إذا لم يتعلق به حق أولياء جنايتها وقد أتلف الولد نصف الأم فتعتبر جنايته عليها بحق أولياء جنايتها فلهذا خير المولى على ما بينا سواء كان أرش الجناية أقل من نصف قيمتها أو مثل نصف قيمتها.
ولو جنى عليها عبد لغيره فأخذ الأرش أعطى من ذلك أرش جنايتها وأمسك الباقي لأن جناية عبد الغير عليها معتبرة لحق المولى فإذا قبض الأرش التحق ذلك بسائر أملاكه فيكون له أن يعطي من ذلك أرش جنايتها ويمسك ما بقي معها كما لو كان له أن يعطي أرش جنايتها من سائر أملاكه بخلاف ما سبق فجناية الولد عليها هناك غير معتبرة لحق الأم وإنما كانت معتبرة لحق ولي جنايتها وإذا اختلف المولى وولي جنايتها فقال الولي جنت وهي صحيحة ثم فقأ رجل عينها فالأرش لي وقال المولى جنت بعد الفقء فالقول قول المولى لما بينا أن الولي يدعي استحقاق مال في يد المولى ويدعي تاريخا في جنايته سابقا على وجوب الأرش بالجناية عليها فلا يصدق في ذلك إلا بحجة وكذلك لو كان الذي جنى عليها القتيل نفسه أو(27/80)
ص -42- ... وليه ثم اختلف فالقول في ذلك قول المولى لما بينا أنه ينكر سبق تاريخ يدعيه المولى فالقول قوله مع يمينه وعلى المولى إثبات ما يدعيه بالبينة والله أعلم.
باب جناية العبد في البئر
قال رحمه الله: وإذا حفر العبد بئرا في طريق بغير إذن مولاه ثم أعتقه مولاه ثم علم بما حفر ثم وقع فيها رجل فمات فعلى المولى قيمة العبد لأن الحافر عند الوقوع يصير جانيا بسبب الحفر السابق فإن ذلك الحفر كان تعديا منه إلا أنه اتصل بالمجني عليه عند الوقوع فيصير جانيا عليه بذلك الحفر كالمعلق للطلاق والعتاق بالشرط فعند وجود المشروط يصير مطلقا ومعتقا بالكلام السابق وذلك الفعل كان منه في ملك المولى وموجب جناية العبد واستحقاق نفسه على المولى وقد أتلفه المولى بالإعتاق على وجه لم يصر مختارا إما لأنه لم يكن عالما بالحفر أو لأنه لم يكن عالما بأن يقع فيها إنسان فكان مستهلكا للعبد فعليه قيمة العبد لولي الجناية فإن وقع فيها آخر اشتركا في تلك القيمة لأنه صار جانيا على الثاني بالسبب الذي به صار جانيا على الأول وهو الحفر فيستويان في الاستحقاق الثابت بذلك السبب والمولى بالإعتاق ما استهلك إلا رقبة واحدة فلا يلزمه أكثر من قيمة واحدة ولكن تلك القيمة بينهما نصفان فإن وقع فيها العبد فهو وارثه تركة في تلك القيمة أيضا لأن العبد بعد ما عتق فقد طهر من تلك الجناية والتحق هو بغيره من الأجانب.(27/81)
وروي عن محمد بن الحسن أن دمه هدر وأصل هذه المسألة فيما إذا حفر العبد بئرا في الطريق ثم أعتقه المولى ثم وقع العبد فيها فمات فدمه هدر في قول محمد لأنه كالجاني على نفسه بذلك الحفر السابق وفي ظاهر الرواية على المولى قيمته لورثته لأنه حين أعتق فقد خرج من أن يكون جانيا حكما ويصير كان الجاني بالحفر هو المولى حتى أن عند وقوع الواقع فيها يكون موجب الجناية على المولى ولا شيء فيه على المعتق فيكون وقوع المعتق فيها كوقوع أجنبي آخر فيغرم المولى قيمته لورثته.
ولو كان أعتقه المولى بعد ما وقع فيها رجل فإن كان المولى لا يعلم بوقوع الرجل فيها فعليه قيمة العبد لأنه صار بالإعتاق مستهلكا لا مختارا وإن علم بموت الرجل فيها فعليه الدية لأنه صار مختارا بالإعتاق فقد صار متخيرا بموت الرجل فيها وعلمه بذلك بخلاف ما إذا كان إعتاقه قبل أن يقع في البئر أحد لأنه ما صار متخيرا قبل وقوع الواقع فيها فلا يمكن أن يجعل إعتاقه اختيارا فإن وقع آخر فيها فمات فإنه يقاسم صاحب الدية فيضرب الآخر بقيمة العبد والأول بالدية في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على المولى نصف قيمة أخرى لولي القتيل الآخر ولا يشرك الأول في الدية لأن إعتاق المولى إياه اختيار الدية في حق الأول فكأنه لم يعتقه ولكنه أمسكه وأدى الدية ولو فعل ذلك ثم وقع في البئر آخر كان عليه أن يدفع نصفه إلى الآخر أو يفديه بالدية فكذلك ها هنا يصير هو(27/82)
ص -43- ... بالإعتاق في حق الثاني مستهلكا للعبد فيغرم له نصف قيمته وأبو حنيفة يقول دفعه الدية إلى الأول بسبب إعتاقه بعد العلم بالجناية بمنزلة دفعه القيمة إليه إذا لم يكن عالما بالجناية.
ثم هناك المولى لا يغرم شيئا آخر إذا وقع فيها إنسان آخر ولكن الثاني شارك الأول فيما قبض فكذلك ها هنا وهذا لأن المولى قد غرم جميع موجب جناية العبد فلا يلزمه شيء آخر بعد ذلك لأنه لا يثبت بوقوع الثاني فيه في حق المولى تجدد الجناية فإنه حر حين وقع فيه الثاني وبه فارق ما إذا أمسكه وأدى الدية لأن العبد عند وقوع الثاني فيه صار جانيا باعتبار الحفر السابق وهذا على ملك المولى في هذه الحالة فيخاطب المولى بموجب هذه الجناية فيدفع إليه النصف أو يفديه.
وإذا ثبت أن المولى لا يغرم شيئا آخر قلنا ولي الثاني يضرب مع الأول فيما قبضه بقيمة العبد لأنه صار جانيا عليه لا بالحفر السابق والمولى في حقه يصير مختارا فيكون حقه في قيمة العبد وحق الأول في الدية فقد صار المولى مختارا في حقه فيضرب كل واحد منهما في المقبوض بمقدار حقهز
ولو وقع فيها رجل فمات ثم وقع فيها آخر فذهبت عينه والعبد قائم دفعه المولى إليهما فيكون بينهما أثلاثا على مقدار حقيهما وإن اختار الفداء فداه بخمسة عشر ألفا عشرة آلاف لصاحب النفس وخمسة آلاف لصاحب العين وإن أعتقه قبل أن يعلم بهما فعليه قيمتهما بينهما أثلاثا لأنه صار مستهلكا للعبد عليهما بالإعتاق وإن كان يعلم بالقتل ولا يعلم بالعين فعليه عشرة آلاف لولي القتيل لأنه مختار لذلك وعليه ثلث قيمته لصاحب العين لأنه صار مستهلكا في حقه حين لم يكن عالما بالجناية فيغرم له حصته من القيمة وهو الثلث.(27/83)
ولو باع العبد قبل أن يقع فيها أحد ثم وقع فيها إنسان فمات فعلى البائع قيمته لأن إزالته العبد عن ملكه بالبيع بمنزلة إزالته بالعتق وكذلك لو وقع فيها العبد في ظاهر الرواية على البائع قيمته للمشتري وفي رواية محمد دمه هدر كما بينا في العتق.
قال: وإذا حفر العبد بئرا في طريق المسلمين فوقع فيها رجل فقال المولى أنا كنت أمرته بذلك لم يضمن عاقلته ولم يصدق على ذلك إلا ببينة لأن الجناية باعتبار الظاهر تعلقت برقبة العبد وصار المولى مخاطبا بالدفع أو الفداء فلا يقبل قوله في إيجاب موجب الجناية على العاقلة إلا بالبينة ولا في تفريغ العبد عن موجب هذه الجناية إذا كذبه ولي الجناية وإن صدقه ولي الجناية بريء العبد من الجناية بتصادقهما على ذلك والحق لا يعدوهما فتكون الدية في مال المولى لأن إقراره بالحفر كان من العبد بأمره بمنزلة إقراره بأنه حفر بنفسه.
ولو وقع إنسان في بئر في الطريق فأقر رجل بأنه هو الذي حفر البئر كان مصدقا على نفسه دون عواقله وتكون الدية في ماله في ثلاث سنين وإذا استأجر الرجل عبدا محجورا عليه وحرا يحفران له بئرا فوقعت عليهما فماتا فعلى المستأجر قيمة العبد للمولى لأنه صار غاصبا العبد باستعماله وقد تلف في عمله ثم تلك القيمة تكون لورثة الحر إن كان أقل من(27/84)
ص -44- ... نصف الدية، لأن العبد صار جانيا على نصف الحر وقد فات وأخلف بدلا فيستوفي وليه ذلك البدل بحقه ثم يرجع بها المولى على المستأجر لأن المقبوض استحق من يده بجناية كانت من العبد وفي ضمانه ثم المستأجر قد ملك العبد بالضمان وقد صار الحر جانيا على نصفه فيكون على عاقلة الحر نصف قيمة العبد المستأجر.
ولو كان العبد مأذونا له في العمل لم يكن على المستأجر شيء لأنه ليس بغاصب له وكان على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن الحر صار جانيا على نصف العبد ثم يكون ذلك لورثة الحر باعتبار جناية العبد على نصف الحر وإذا حفر العبد بئرا في الطريق بغير إذن مولاه ثم قتل قتيلا خطأ فدفعه مولاه إلى ولي القتيل ثم وقع في البئر إنسان فمات فإن ولي القتيل بالخيار إن شاء دفع نصفه وإن شاء فداه بالدية لأن العبد صار جانيا على الواقع في البئر بالحفر السابق وباعتبار تلك الجناية يكون نصف قيمة حق ولي الواقع في البئر.(27/85)
ألا ترى أنه لو كان وقوع الواقع في البئر قبل أن يدفع بجنايته كان العبد بينهما نصفين ولأن المدفوع إليه بالجناية قد ملك جميعه لأنه حين دفعه إليه العبد ما كان لأحد سواه حق في العبد وبوقوع الواقع في البئر لا يتبين أن حق وليه كان تاما يومئذ وإنما يثبت مقصورا على الحال ولكن بذلك السبب فلا يبطل به ملك المدفوع إليه العبد بذلك في شيء من العبد ولكنه في الخيار يقوم مقام المولى باعتبار ملكه فإن شاء دفع إليه نصفه وإن شاء فداه بالدية ولو وقع في البئر أولا إنسان فمات فدفعه ثم قتل قتيلا خطأ فدفعه المدفوع إليه ثم وقع في البئر آخر فإن ولي القتيل يدفع ثلثه إلى الواقع في البئر آخرا أو يفديه بالدية لأن العبد في الحاصل قاتل ثلاثة نفر إثنان في البئر وواحد بيده وقد صار حصة صاحب البئر الأول للذي قتله بيده مع حصته وذلك ثلثان من العبد والثلث منه حق ولي الواقع في البئر آخرا وقد قام المدفوع إليه مقام المالك فيه فيتخير بين أن يدفع الثلث أو يفديه بالدية.
وإذا حفر المدبر أو أم الولد بئرا في الطريق وقيمته ألف درهم فوقع فيها إنسان فمات فعلى المولى قيمته لأن جنايته بالحفر عند اتصال الوقوع به كجنايته بيده وجناية المدبر وأم الولد توجب القيمة على المولى به قضى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حين كان أميرا بالشام وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد وهذا لأن المولى بالتدبير السابق صار مانعا دفع الرقبة بالجناية على وجه لم يصر مختارا فيكون ضامنا قيمته لو فعل ذلك بعد الجناية وهو لا يعلم بها فإن وقع فيها واحد بعد واحد فماتوا وقد تغيرت قيمته فيما بين ذلك إلى زيادة أو نقصان لم يكن على المولى إلا قيمة ألف درهم يوم حفر بينهم جميعا بالسوية لأنه ما منع إلا رقبة واحدة فلا يغرم إلا قيمة واحدة والجناية من المدبر سببها كان هو الحفر فيعتبر قيمته عند ذلك.(27/86)
ألا ترى أن في الجناية بيده يعتبر قيمته حين جنى وكذلك لو مات المدبر قبل أن يقع فيها إنسان أو أعتقه أو كاتبه أو فعل شيئا من ذلك بعد ما وقع فيها بعضهم ثم وقع فيها إنسان(27/87)
ص -45- ... فمات فعلى المولى قيمته لأن جناية المدبر لا تتعلق برقبته فإنه ليس بمحل الدفع وإنما تجب القيمة على المولى ابتداء فموت المدبر وحياته وعتقه في ذلك سواء.
وكذلك لو جنى جناية بيده شارك أهلها في تلك القيمة لأن المولى ما منع إلا رقبة واحدة إلا أنه إذا كانت قيمته يوم جنى بيده ألفين فعلى المولى ألف درهم لهذا خاصة لأن على المولى قيمته وقت جنايته فإنه عند ذلك صار مانعا دفعه بالتدبير السابق وهذه الجناية الثانية وجدت منه الآن فعليه لصاحبها قيمته ألفان وقد غرم مرة ألفا فيغرم لهذا ألفا أخرى ثم يضرب هو في القيمة الأولى مع أهلها بتسعة آلاف لأنه وصل إليه مقدار ألف فينتقص من حقه ذلك القدر ويضرب كل واحد من أصحاب البئر بعشرة آلاف فتكون القيمة بينهم على ذلك.
قال: وإذا استأجر أربعة رهط مدبرا ومكاتبا وعبدا وحرا يحفرون له بئرا فوقعت عليهم من حفرهم فماتوا ولم يؤذن للمدبر ولا للعبد في العمل فيقول كل واحد منهم تلف بفعله وفعل أصحابه فيهدر ربع نفسه وتعتبر جناية أصحابه عليه في ثلاثة أرباع نفسه ثم على المستأجر قيمة العبد والمدبر لمولاه لأنه صار غاصبا لها بالاستعمال والمدبر يضمن بالغصب كالقن ثم لورثة الحر ربع دية الحر في رقبة كل إنسان منهم ولولي المكاتب ربع قيمة المكاتب في رقبة كل منهما فيضرب في هاتين القيمتين ودية الحر بنصف دية الحر وورثة المكاتب بنصف المكاتب فيقسمان ذلك على هذا ثم يرجع مولاهما بذلك على المستأجر لأن المقبوض استحق بجناية قيمة كانت منهما في يد المستأجر فيثبت لهما حق الرجوع عليه في رقبة العبد.(27/88)
ثم للمستأجر على عاقلة الحر ربع قيمة كل واحد منهما لأنه ملك العبد بالضمان وقد صار بمنزلة المالك للمدبر باستحقاق بدل نفسه بعد ما ضمن قيمته فلهذا رجع على عاقلة الحر بربع قيمة كل واحد منهما وله في رقبة المكاتب ربع قيمة كل واحد منهما وقد كان للمكاتب في رقبة كل واحد منهما ربع قيمته من القيمة التي أخلفها كل واحد منهما فيكون بعضه قصاصا من بعض ويترادان الفضل ولو مع قيمة المكاتب على عاقلة الحر لأن الحر أتلف ربع المكاتب ثم يأخذ ذلك ورثة الحر باعتبار جناية المكاتب على ربع الحر إلا أن يكون لهم أكثر من ربع الدية فيأخذون ربع الدية ويردون الفضل على مولى المكاتب ولكن هذا إنما يستقيم على قول من يقول قيمة المملوك في الجناية بالغة ما بلغت ولكل واحد من العبدين يعني المدبر والعبد ربع قيمته في قيمة الآخر ولكن ذلك على المستأجر له فلا يفيد اعتباره فإن كان العبدان مأذونا لهما في العمل فلا ضمان على المستأجر لانعدام الغصب وربع قيمة كل واحد منهما على عاقلة الحر وكذلك ربع قيمة المكاتب على عاقلة الحر وثلاثة أرباع دية الحر في أعناقهم في عنق كل واحد منهم ربع فإذا عقلت عاقلة الحر ربع قيمة كل واحد منهما وأخذ ذلك كل واحد منهم قلنا يؤخذ من مولى المدبر قيمة كاملة لأنه صار مانعا(27/89)
ص -46- ... بالتدبير السابق فيكون موجب جنايات المدبر القيمة عليه بعد أن يكون القيمة مثل ما عليه من ذلك أو أقل فيقسم ذلك بينهم بضرب فيه ورثة الحر بربع الدية ومولى العبد بربع القيمة ومولى المكاتب بربع القيمة.
وإن كان المكاتب ترك وفاء أخذ من تركته تمام قيمته إن كانت قيمته أقل مما عليه من ذلك لأن جنايات المكاتب إذا اجتمعت لا توجب إلا قيمة واحدة في كسبه ثم يضرب فيها ولي الحر بربع الدية ومولى العبد بربع القيمة ومولى العبد بربع القيمة ومولى المدبر بربع القيمة ثم يؤخذ من مولى العبد جميع ما أخذ من ذلك لأن المأخوذ بدل عبده وأولياء جناية العبد أحق بذلك من مولاه فيضرب في ذلك ورثة الحر بربع دية الحر ومولى المدبر بربع قيمة المدبر ومولى المكاتب بربع قيمة المكاتب لأن العبد كان جنى على ربع كل واحد منهم فلهذا كانت قيمة بدله بينهم.
باب الجنايات بالكنيف والميزاب
قال رحمه الله: وإذا أخرج الرجل كنيفا شارعا من داره على الطريق أو ميزابا أو مصبا أو صلاية من حائط فما أصاب من ذلك إنسانا فقتله فعلى عاقلة الذي أخرجه ديته لأنه متعد في تسببه حتى شغل طريق المسلمين بما أحدثه فيه أما في رقبة الطريق أو في هواه فكل واحد منهما يحول بين المارة وبين المرور في الطريق وفي الميزاب إذا أصاب الذي في الحائط لا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في وضع هذا الطرف في ملكه وقد بينا تفصيل هذه المسألة.
ولو وضع خشبة على الطريق فتعقل به رجل فهو ضامن له لأنه شغل رقبة الطريق بالخشبة التي وضعها فيه فهو بمنزلة ما لو بني في الطريق دكانا أو جلس فيه بنفسه أو وضع ظله على الطريق فإن وطى ء المار على الخشبة ووقع فمات كان ضامنا له بعد أن لا يتعمد الزلق.(27/90)
قال: وهذا إذا كانت الخشبة كبيرة يوطأ على مثلها فإن كانت صغيرة لا يوطأ على مثلها فلا ضمان على الذي وضعها لأن وطأه على مثل هذه الخشبة بمنزلة تعمد الزلق أو بمنزلة التعقل بالحجر الموضوع على الطريق عمدا وذلك لا يوجب الضمان على واضع الحجر فطريان المباشرة على التسبيب بمنزلة ما لو حفر بئرا في الطريق فألقى إنسان نفسه فيها عمدا فإن قال واضع الحجر ذلك أنه تعمد التعقل به وكذبه الولي فهو على الخلاف الذي بيناه في البئر وفي قول أبي يوسف الأول القول قول الولي وفي قوله الآخر وهو قول محمد القول قول الواضع وهذا بخلاف واضع الجارح إذا ادعى أن المجروح مات بسبب آخر لأن الجرح علة موجبة للضمان فبعد وجود العلة لا تقبل دعوى العارض المسقط وها هنا الواضع والحافر يدعي صلاحية العلة لإضافة الحكم إليه فإنما يضاف الحكم إلى الشرط عند عدم صلاحية العلة لذلك والأصل هو الصلاحية فكان هو متمسكا بالأصل معنى منكر السبب الضمان فلهذا كان القول قوله.(27/91)
ص -47- ... وإذا تعقل الرجل بحجر فوقع على حجر ومات فإن الضمان على واضع الحجر الأول لأنه دافع له بحجره على الحجر الثاني فكأنه دفعه بيده وإن لم يكن له واضع فهو على واضع الحجر لأن وضع الحجر الثاني سبب وهو التعدي وإذا تعذر إضافة القتل إلى ما دفعه عليه يجعل مضافا إلى الحجر الثاني وأحد من هؤلاء يلزمه الكفارة ولا يحرم الميراث لأنه سبب الكفارة وحرمان الميراث مباشرة قتل محظور.
باب الغصب في الرقيق مع الجناية
قال رحمه الله: وإذا غصب الرجل من رجل عبدا فقتل العبد عنده قتيلا خطأ ثم اختصموا فإن العبد يرد إلى مولاه لأن الغصب حرام مستحق الفسخ وفسخه بالرد على مولاه ولأن موجب الجناية تخيير المالك بين الدفع والفداء والمالك هو المغصوب منه فهو المتمكن من دفعه بها دون الغاصب فيردها إليه ثم يقال له ادفعه أو افده أي ذلك فعل يرجع على الغاصب بالأقل من قيمته ومما فداه به لأن الرد لم يسلم له حين استحق من يده بجناية عند الغاصب فكأنه هلك في يد الغاصب ولأن فسخ فعل الغاصب إنما يحصل برده كما قبضه ولم يوجد لأنه قبضه فارغا ورده مشغولا بالجناية فإذا لم ينفسخ حكم فعله كان ضامنا قيمته لمولاه إلا أنه يعتبر الأقل لأن المولى يتخلص بالأقل منهما فهو في التزام الزيادة مختار فحق الرجوع إنما يثبت له بما تتحقق فيه الضرورة دون ما هو مختار له وذلك في مقدار الأقل.(27/92)
وإذا كانت قيمة العبد أقل فإنما يرجع بقيمته يوم غصبه حتى إن كان زاد عنده خيرا فليس عليه من الزيادة شيء لأن الرد لما لم يسلم له جعل كالهالك في يد الغاصب فإنما يضمن قيمته يوم غصبه وإن حدث فيه عيب قبل الجناية فهو ضامن ذلك للمولى لأنه فات جزء منه وحق ولي الجناية في العبد على ما هو عليه عند الجناية فما وجب من الضمان على الغاصب قبل الجناية يسلم للمولى لفراغه عن حق ولي الجناية وإن كانت عينه ذهبت عند الغاصب بعد الجناية واختار دفعه بالجناية فدفعه رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه ويدفع نصفها إلى ولي الجناية لأن حق ولي الجناية كان في العين الذي ذهبت عند الغاصب والعين من الآدمي نصفه فلهذا دفع إليه نصف القيمة والنصف الآخر للمولى ويرجع المولى على الغاصب بالنصف الذي دفعه إلى ولي الجناية لأن ذلك استحق من يده بالجناية التي كانت عند الغاصب وإن كان أعور قبل الجناية كان نصف القيمة للمولى لأن حق ولي الجناية لم يثبت في هذه العين ويرجع المولى على الغاصب بقيمته أعور لأنه دفع العبد بالجناية التي كانت عند الغاصب وهو أعور فيرجع بتلك القيمة على الغاصب.
وإذا غصب الرجل عبدا فهو ضامن له ولما جنى عبده من جناية أو لحقه من دين ما بينه وبين قيمته ولا يضمن أكثر من ذلك لأن نفسه وماليته استحقت بما حدث عند الغاصب ولكن هذا الاستحقاق إنما يتقدر في مقدار قيمته ولأن المولى كان يمنعه من هذه الأسباب لو كان العبد في يده قائما يمكن منه بأن لم يمنعه الغاصب من ذلك فلهذا كان الضمان على الغاصب.(27/93)
ص -48- ... وإذا غصب عبدا فقتل عنده قتيلا ثم مات العبد فعلى الغاصب قيمته لأنه تعذر رد عينه بالهلاك في يده ثم يدفع المولى هذه القيمة إلى ولي الجناية لأن بنيته كانت مستحقة لولي الجناية وقد فاتت وأخلفت هذا البدل وحكم البدل حكم الأصل ثم يرجع المولى بقيمة أخرى على الغاصب لأن القيمة الأولى استحقت بجناية كانت عند الغاصب.
ولو استحق عين العبد من يده بتلك الجناية رجع على الغاصب بقيمته فكذلك إذا استحقت القيمة يرجع على الغاصب بقيمة أخرى حتى تخلص له قيمته قائمة مقام عبده ولو لم يمت العبد ولكن ذهبت عينه فدفعه إلى المولى أعور فقتل عنده قتيلا آخر ثم اجتمعوا فدفعه المولى بجنايته فإنه يأخذ نصف قيمته من الغاصب باعتبار عينه التي فاتت عنده فيدفعها إلى الأول لأن حق الأول كان ثبت في حق العين لقيامها عند جنايته وحق الثاني ما ثبت في تلك العين فإذا سلم نصف القيمة للأول ضرب هو في العبد المدفوع بالدية إلا ما أخذ لأن القدر المأخوذ سالم له فلا يضرب به وإنما يضرب بما بقي من حقه ويضرب الآخر بالدية ثم يرجع المولى على الغاصب بنصف القيمة التي أخذت منه لأن ذلك استحق من يده بجناية كانت عند الغاصب ويرجع عليه أيضا بما أصاب الأول من قيمة العبد أعور لأن استحقاق ذلك القدر من العبد بجناية كانت عند الغاصب ولا يرجع عليه بقيمة ما أصاب الباقي لأن الجناية الثانية من العبد كانت عند المولى ثم يرجع أولياء الأول فيما أخذ المولى من ذلك بتمام قيمة العبد إلى ما في يده لأن حقه ثبت في عبد صحيح فارغ فما لم يسلم له كمال حقه لا يسلم شيء من بدل العبد للمولى وهذا ينبغي أن يكون على قول أبي حنيفة وأبي يوسف خاصة على ما نبينه في المسألة الثانية ثم يرجع المولى على الغاصب بمثل ما أخذ منه لأن الذي أخذه منه الأول استحقه بجناية كانت عند الغاصب فيكون قرار ذلك على الغاصب.(27/94)
ولو غصب عبدا فقتل عنده قتيلا خطأ بأمره أو بغير أمره ثم رده إلى المولى فقتل عنده آخر خطأ فاختار المولى دفعه بهما فإنه يكون بينهما نصفين لاستواء حقهما في رقبته ثم أخذ الولى من الغاصب نصف قيمة العبد استحق قبل الجناية الأولى بجناية كانت من العبد عند الغاصب ثم يدفع هذا النصف إلى ولي قتيل الأول ويرجع بمثله أيضا على الغاصب فيكون للمولى وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد وزفر يأخذ المولى نصف القيمة من الغاصب فيسلم له ولا يدفعه إلى الأول والقياس هذا لأنه إنما يرجع على الغاصب بقيمة نصف المدفوع إلى ولي الجناية الأولى فلو أمر بدفع ذلك النصف إليه اجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد وذلك لا يجوز هذا ولأن المصير إلى القيمة عند عدم سلامة العين لتقوم القيمة مقام العين وذلك النصف سالم لولي الجناية الأولى فلا حق له في بدلها والنصف الذي أخذه ولي الجناية الثانية فات ولم يخلف بدلا لأن استحقاق ذلك النصف بجناية كانت عند الولي فلا يكون لولي الجناية الأولى أن يرجع على المولى بشيء وأبو حنيفة وأبو(27/95)
ص -49- ... يوسف قالا حق ولي الجناية الأولى ثبت في جميع العبد فارغا وإنما سلم له نصف العبد فلا يجوز أن يسلم للمولى شيء من قيمة العبد مع بقاء نصف حق ولي الجناية الأولى ولكن يدفع إليه هذا النصف من القيمة حتى يسلم له كمال حقه نصف العبد ونصف قيمته بمنزلة ما لو كانت الجناية الأولى عند المولى والجناية الثانية عند الغاصب فدفعه المولى بهما فإنه يرجع بنصف القيمة على الغاصب فيدفعه إلى ولي الجناية الأولى بالاتفاق إلا أن محمدا رحمه الله يفرق بما ذكرنا أن رجوع الولي هناك بقسمة نصف المدفوع إلى ولي الجناية الثانية لأن تلك الجناية كانت عند الغاصب وقد كان حق ولي الجناية الأولى ثابتا فيه وها هنا رجوعه بقيمة النصف المدفوع إلى ولي الجناية الأولى ولكنهما يقولان هذا في ما بين الغاصب والمولى بدل عن النصف المدفوع إلى ولي الجناية الأولى فأما في حق ولي الجناية الأولى فلا يكون بدلا عن ذلك ولكنه يجعل بدلا عن النصف المدفوع إلى ولي الجناية الثانية لأن ذلك لم يسلم له بعد ما ثبت حقه فيه أو ما يأخذه ولي الجناية الأولى من القيمة لا يستحقه باعتبار أنه بدل عن النصف الأول أو عن النصف الثاني وإنما يستحقه باعتبار الجناية الحاصلة من العبد على وليه حال فراغه عن كل حق وصيرورته مقدما على المولى في استحقاق جميع العبد به وهو بمنزلة الذمي يبيع خمرا يقضي بالثمن دين المسلم فإن المقبوض يطيب للمسلم لأنه في حق البائع المقبوض ثمن الخمر وفي حق المسلم إنما يأخذ ما يأخذه باعتبار دينه لا باعتبار أنه بدل الخمر فيطيب له ذلك.(27/96)
ثم ذكر في الفصل الثاني أن العبد لو كان جنى الجناية الأولى عند المولى والثانية عند الغاصب فدفعه المولى بهما فإنهما يقتسمان العبد نصفين ثم يرجع المولى على الغاصب بنصف القيمة وهو بدل ما استحقه ولي الجناية الثانية فيدفعه إلى الأول ثم لا يرجع المولى بشيء من ذلك على الغاصب لأن استحقاق هذا النصف من القيمة كان بجناية من العبد عند المولى والغاصب غصب العبد مشغولا بالجناية الأولى ثم رد نصف القيمة كذلك مشغولا بالجناية.
ولو رد جميع القيمة فاستحقها ولي الجناية الأولى بعد ما هلك العبد عنده لم يرجع المولى عليه بشيء وكذلك إذا رد نصف القيمة فاستحقه ولي الجناية الأولى ثم بنى المسائل إلى آخر الباب بعد هذا على فصل مختلف فيه وهو أن جناية العبد المغصوب على المغصوب منه أو على ماله معتبرة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول صاحبيه هدر.
وأما جنايته على الغاصب أو على مال الغاصب فهدر في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما معتبر وجه قولهما أن العبد بعد الغصب باق على ملك المغصوب منه والغاصب منه كالأجنبي بدليل أن التصرفات المختصة بالملك تنفذ فيه من المولى دون الغاصب وكذلك في حكم الجناية حتى لو جنى على أجنبي كان المولى هو المخاطب بالدفع أو الفداء دون الغاصب ثم رجوع المولى على الغاصب يكون بسبب الغصب لا بسبب الجناية وذلك أنه يقرر ملك المولى إذا ثبت هذا فنقول جناية المملوك على مال مالكه أو على نفسه فيما(27/97)
ص -50- ... يكون خطأ هدرا ما لأن المستحق بهذه الجناية من مملوك له على نفسه في نفسه أو ماليته والمالك لا يستحق ملكه لنفسه على نفسه أو لأن جناية المملوك فيما يكون موجبا للمال كجناية المالك وجنايته على نفسه وعلى مال نفسه هدر فكذلك جناية مملوكه عليه يدل عليه أن بسبب الملك تهدر جناية المولى على مملوكه وجناية المملوك على مولاه فيما يكون موجبا للمال ثم في أحد الحكمين المغصوب كغيره حتى أن المغصوب منه إذا قتل العبد المغصوب كان ذلك هدرا وإذا قتله الغاصب كان معتبرا فكذلك في الحكم الآخر قلنا تهدر جناية العبد على المغصوب منه فتعتبر جنايته على الغاصب لأن الغاصب من ملك الرقبة كأجنبي فلهذا تعتبر جنايته على العبد وكذلك تعتبر جناية العبد عليه بمنزلة ما لو كان العبد في جنايته وديعة أو عارية وبأن كان مغصوبا على الغاصب فكذلك لا يدل اعتبار جنايته على مولاه كالعبد المرهون إذا جنى على الراهن لا تعتبر جنايته وإن كان مضمونا على المرتهن بالقبض.
يوضحه: أن في اعتبار جنايته على الغاصب فائدة وهو أن يتملك الغاصب رقبته على المولى بسبب الجناية وما ثبت له هذا الحق بسبب الغصب بل كان عليه رد العين وللإنسان في ملك الغير غرض فينبغي أن تعتبر جنايته عليه ليتملك به العبد وإن كان المولى يرجع عليه بقيمته إذا دفعه إليه بالجناية وأبو حنيفة رحمه الله يقول الغاصب في حكم جناية المغصوب كالمالك باعتبار المال والمغصوب منه بمنزلة الأجنبي.
الدليل عليه: أنه لو جنى على أجنبي آخر كان قرار ضمان الجناية على الغاصب واستحقاق ضمان جناية العبد على مالكه فلما كان قرار ضمان جنايته على الغاصب ها هنا عرفنا أنه صار كالمالك في حكم ضمان الجناية والمولى كالأجنبي.
يوضحه: أن إهدار جناية المملوك على المالك ليس لعين الملك بل لأن اعتبارها غير مفيد.(27/98)
ألا ترى أنه لو قتل مولاه عمدا فإنه تعتبر جنايته عليه في حكم القصاص لأنه مفيد فإذا عرفنا هذا فنقول ها هنا لو اعتبرنا جنايته على مولاه أو على مال مولاه كان مفيدا لأنه ثبت للمولى حق الرجوع على الغاصب باعتباره بعد ما أخذ العبد كما لو جنى على غيره فلكونه مفيدا وجب اعتباره بمنزلة جناية المولى على عبده المديون فإنه يكون معتبرا لحق الغرماء لأن ذلك مفيد لا فائدة في اعتبار جنايته على مال الغاصب لأنه يستحق به ماليته ثم يرجع المولى بتلك المالية فأي فائدة تكون في اعتبار هذه الجناية في جنايته على نفس الغاصب؟.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله في قول أبي حنيفة رحمه الله لاستحقاق ملك العبد بها على قياس مسألة أطلق جوابها في آخر الباب كما بيناه والأصح أن الخلاف فيهما جميعا وهذا لأن المجني عليه لا يستحق رقبة العبد إلا باختيار المولى الدفع إليه والمولى مخير بين الدفع وبين الفداء فإنما يكون المستحق به المالية فقط.(27/99)
ص -51- ... ولهذا لو أعتقه المولى قبل العلم بالجناية نفذ عتقه ولم يغرم إلا قيمته فهو من هذا الوجه بمنزلة الجناية على ماله وقد بينا الفرق بين هذا وبين جناية المرهون على الراهن في كتاب الرهن أن اعتبار جناية المرهون لحق المرتهن ولا فائدة للمرتهن في اعتبار جنايته على الراهن.
يوضح الفرق أن ضمان الرهن ليس بضمان مال فإنه وإن تقرر لا يوجب الملك للمرتهن.
فلو اعتبرنا جنايته وجعلنا قرار ذلك المرتهن لا يتبين به أن العبد مملوك للمرتهن وها هنا ضمان الغصب إذا تقرر أوجب الملك للغاصب من وقت الغصب فيتبين أن جنايته على المغصوب منه جناية على غير المالك فلهذا اعتبرنا ذلك وأن جنايته على العبد المغصوب جناية على المالك فلهذا لا يعتبر.
فوضح كلام أبي حنيفة بما استشهد به في الكتاب أن العبد المغصوب لو قتل نفسه جعل الغاصب ضامنا لقيمته وكذلك إذا قتل عبدا آخر للمغصوب منه بل أولى فإن جنايته على غيره أقرب إلى الاعتبار من جنايته على نفسه ثم لما اعتبرنا جنايته على نفسه ها هنا وجب الضمان على الغاصب وإن كان هو ملكا للمغصوب منه فكذلك جنايته على عبد آخر للمغصوب منه.
فإن قيل: نحن لا نعتبر جنايته على نفسه ولكنا نجعل قتله نفسه كموته في يد الغاصب فكذلك قتله عبدا آخر للمغصوب منه يجعل كموت ذلك العبد.
قلنا لا كذلك فإنا لو لم نعتبر جنايته في إيجاب الضمان على الغاصب لزمنا جعل جنايته كجناية مالكه على ما قالا أن جناية المملوك في حكم الضمان كجناية المالك.
فلو قتله المغصوب منه لم يجب شيء فكان ينبغي إذا قتل المغصوب نفسه أن لا يجب شيء على الغاصب أيضا واستدلالهما بهذا الفصل ساقط لأن المغصوب منه بقتل العبد يصير مستردا له فينعدم به الضمان الذي باعتباره كان هو كالأجنبي والغاصب كالمالك وذلك لا ينعدم بجناية المغصوب على أحدهما فلهذا افترقا.(27/100)
قال الشيخ الإمام: إذا عرفنا هذا احتجنا إلى بيان المسائل فنقول لو غصب عبدا وجارية فقتل كل واحد منهما عنده قتيلا ثم قتل العبد الجارية ثم رده الغاصب إلى المولى فاختار دفعه فإنه يضرب فيه أولياء قتيله بالدية وأولياء قتيلها بقيمتها لأنه جنى عليها وهي مشغولة بحق أولياء قتيلها فكذلك يعتبر جنايته عليهم ثم يرجع المولى على الغاصب بقيمة العبد وقيمة الجارية لأن الجارية كانت مضمونة عليه ولم يوجد الرد فيها أصلا والرد في العبد لم يسلم حين استحق بجنايته عند الغاصب.
فإذا استوفى قيمته من قيمة الجارية إلى أولياء قتيلها لأنها ماتت وأخلفت عوضا وقد كانت نفسها مستحقة لأولياء قتيلها فيكون لهم أن يأخذوا ما بقي من حقهم من قيمتها ثم(27/101)
ص -52- ... يرجع به المولى على الغاصب لأن ذلك استحق من يده بجناية كانت جنتها عند الغاصب ويأخذ أولياء قتيل العبد من قيمة العبد تمام قيمة العبد لأن حقهم كان قد ثبت في جميع العبد فارغا ولم يسلم لهم إلا البعض وقد أخلف العبد عوضا فيستوفي ما بقي لهم من قيمة العبد ويرجع بذلك المولى على الغاصب.
ولو اختار المولى الفداء وأدى دية قتيل العبد وأدى قيمة الجارية إلى ولي قتيل الجارية لأن فداء العبد إنما يكون بأرش جنايته وجنايته كانت على الحر وعلى الجارية ثم يرجع على الغاصب بقيمة العبد والجارية لانعدام الرد في الجارية وانعدام سلامة الرد في العبد بدون الأرش.
وتأويل ما ذكر في هذه المسألة فيما إذا كان الغاصب بعيدا أو كان غائبا فإذا كان حاضرا وتمكن المولى أخذها منه فتخرج المسألة على وجه آخر كما ذكره بعد هذا وهذه المسألة إنما ذكرها في نسخ أبي حفص رحمه الله فأما في نسخ أبي سليمان رحمه الله فإنما ذكر المسألة الطويلة وبين التقسيم في الجواب فقال إذا اغتصب عبدا وجارية وقيمة كل واحد منهما ألف فقتل كل واحد منهما عنده قتيلا ثم قتل العبد الجارية ثم رده على المولى فإنه يرد معه قيمة الجارية لتعذر ردها بالهلاك ثم يدفع المولى هذه القيمة إلى ولي قتيل الجارية لأنها كانت مستحقة له وقد ماتت وأخلفت قيمة فهو أحق بقيمتها ثم يرجع بها على الغاصب لأن استحقاق قيمتها من يده بجنايتها عند الغاصب كاستحقاق عينها فيرجع بقيمتها مرة أخرى لتقوم مقام الجارية للمولى فارغة كما غصبها ثم يخير المولى في العبد بين الدفع والفداء فإن اختار الفداء أفداه بالدية ورجع بقيمته على الغاصب وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قولهما إن اختار الفداء أفداه بالدية لولي قتيل الغلام ولا يرجع بقيمته على الغاصب.(27/102)
وإن اختار الدفع دفعه إلى ولي قتيل الغلام وإلى الغاصب على أحد عشر سهما لأن قيمة الجارية لما تقررت على الغاصب فقد ملكها بالضمان فظهر أن العبد المغصوب جنى على أمة الغاصب وهو هدر في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو معتبر.
فإذا اختار الفداء وفداء العبد بالدية فقد استوجب هو الرجوع بقيمة العبد على الغاصب واستوجب الغاصب الرجوع عليه بقيمة الأمة لاختياره الفداء أو اعتباره جناية العبد على الأمة فيقع المقاصة لاستواء القيمتين فلهذا لا يرجع على الغاصب بشيء.
وإن اختار الدفع فقد اجتمع في العبد جنايتان معتبرتان جناية على الحر فيضرب ولي الحر فيه بالدية وجناية على الأمة فيضرب الغاصب فيه بقيمتها وهو ألف درهم فإذا جعلت كل ألف سهما كان العبد بينهما على أحد عشر سهما عشرة لولي قتيل الغلام وجزء للغاصب ثم يرجع المولى على الغاصب بقيمة الغلام لأن الغلام استحق من يده بجنايته عند الغاصب فيدفع منها جزأ من أحد عشر جزأ إلى ولي قتيل الغلام لأن حقه كان يثبت في جميع العبد(27/103)
ص -53- ... فارغا عشرة وإنما سلم منه جزاء وقد فات الجزء الواحد وأخلف بدلا فإذا دفع ذلك إليه رجع به على الغاصب أيضا لأنه استحق بجنايته عند الغاصب فإذا رجع به صار في يد المولى قيمة الغلام تامة وقيمة الجارية صار في يد ولي قتيل الغلام عشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من العبد وجزء من أحد عشر من قيمته وصار في يد الغاصب من الغلام جزء من أحد عشر جزءا وصار في يد ولي قتيل الجارية قيمة الجارية فإن كان الغاصب معسرا ولم يقدر عليه ليؤخذ منه قيمة الجارية واختار المولى الدفع فإن قال ولي قتيل الجارية لا أضرب بقيمة الجارية في الغلام ولكني أنظر فإن خرجت قيمة الجارية أخذتها كان له ذلك لأن لحقه محلين فله أن يختار أيهما ثم في قياس قول أبي حنيفة يدفع الغلام كله إلى ولي قتيل الغلام لأن جنايته على الأم غير معتبرة عنده كما بينا فإنها باعتبار المآل للغاصب فإذا دفعه إلى ولي قتيله رجع على الغاصب بقيمته وبقيمة الجارية فيدفع قيمة الجارية إلى ولي قتيلها ثم يرجع به عليه فيصير في يده قيمتان.
فأما في قياس قول أبي يوسف ومحمد يدفع من العبد عشرة أجزاء من أحد عشر جزءا إلى ولي قتيل الغلام ويترك الجزء في يديه لأن جنايته على الأمة جناية معتبرة.(27/104)
وهذا الجزء الفائت في حقه ولكنه ما لم يؤد قيمتها لا يتمكن من قبض هذا الجزء فيترك في يد المولى حتى إذا خرجت قيمة الجارية أخذها المولى فيدفعها إلى ولي قتيلها ثم يرجع بها على الغاصب ثم يقال للمولى ادفع هذا الجزء إلى الغاصب أو افده بقيمة الجارية فإن دفعه رجع عليه بقيمة الغلام فيدفع منها إلى ولي قتيل الغلام جزءا من أحد عشر جزءا بدل ما لم يسلم له من العبد ويرجع به على الغاصب وإن فداه فإنما يفديه بقيمة الجارية ولكنه يرجع بقيمة الغلام على الغاصب والقيمتان سواء فيكون أحدهما قصاصا بالأخرى ويدفع مكان ذلك الجزء إلى ولي قتيل الغلام جزءا من أحد عشر جزءا من قيمته لأنه بطريق المقاصة صار مستوفيا لقيمته كأنه استوفاه حقيقة ثم يرجع بقيمته على الغاصب لأن استحقاق ذلك من يده كان بجناية العبد عند الغاصب.
وإن قال ولي قتيل الجارية: أنا أضرب في الغلام بقيمتها دفع إليهما فيضرب فيه ولي قتيل الجارية بقيمتها وولي قتيل الغلام بالدية فيكون بينهما على أحد عشر كما بينا فإن قدر الغاصب أو أيسر أدى إلى المولى قيمة الغلام وقيمة الجارية لانعدام الرد في الجارية أصلا ولانعدام سلامة الرد في الغلام فيدفع من قيمة الغلام إلى ولي قتيل الغلام جزأ من أحد عشر جزءا من قيمته بدل ما لم يسلم له من العبد ويرجع به على الغاصب.
وقال: وليس لولي قتيل الجارية إلا ما أصابه من الغلام ولا يعطى من قيمة الجارية شيء وقد ذكر قبل هذا في المسألة القصيرة أنه يعطي من قيمة الجارية إلى أولياء قتيلها تمام قيمتها ففي هذا الجواب روايتان وقد بينا وجه تلك الرواية أن حقهم كان ثابتا في جميعها فيعطون من بدلها كمال حقهم وجه هذه الرواية أن ما استوفى ولي قتيل الجارية من العبد(27/105)
ص -54- ... كان بمقابلة الجارية فيكون استيفاؤه ذلك الجزء بمنزلة استيفائه جميع قيمتها فلا يكون له أن يرجع بشيء آخر بعد ذلك وهذا لأنه كان مخيرا بين شيئين فإذا اختار أحدهما يعين ذلك له ولا يبقى له في المحل الآخر حق كالمغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب الأول أو الثاني وإن اختار المولى الفداء فداه بعشرة آلاف وبقيمة الجارية ثم يرجع على الغاصب بقيمة الغلام وبقيمتين في الجارية قيمة مكان القيمة التي أداها إلى أولياء جنايتها وقيمة أخرى بالغصب ليسلم له مكان الجارية وهذا قول أبي حنيفة.
فأما على قياس قولهما: إذا أدى الغاصب قيمة الغلام وقيمة الجارية صار كأن الجارية كانت له لتقرر ضمانها عليه فيقال للمولى ادفع جزأ من أحد عشر جزأ من العبد إليه أو افده بقيمة الجارية وأي ذلك فعل لم يرجع على الغاصب بشيء لما بينا من حكم المقاصة فيما يرجع كل واحد منهما على صاحبه هذا تمام بيان هذه المسألة.
قال: ولو غصب عبدا ثم أمره أن يقتل رجلا فقتله ثم رده إلى مولاه فقتل عنده آخر ثم عفا ولي قتيل الأول عن الدية كان على المولى أن يدفع نصفه إلى ولي قتيل الآخر أو يفديه بالدية لأن حقه ما ثبت في العبد ألا وهو مشغول بالجناية الأولى فلم يستحق من العبد إلا نصفه ثم بعفو الأول لا يزداد حق الثاني وسواء دفعه أو فداه لم يرجع على الغاصب بشيء لأن الرد قد سلم في حق الغاصب فإن لم يستحق شيء من العبد بالجناية التي كانت عند الغاصب أو قد فرغ من تلك الجناية فهو كما كان مريضا فرده ثم برأ.
ولو دفعه إليهما قبل العفو ثم عفا الأول عما بقي له رجع المولى على الغاصب بنصف قيمته وهو بدل ما أخذه ولي الجناية الأولى لأنه استحق ذلك بجنايته عند الغاصب والعفو إنما ينصرف إلى ما بقي لا إلى ما استوفى فإذا أخذ نصف القيمة لم يدفعه إلى ولي الجناية الأولى لأنه أسقط ما بقي من حقه بالعفو وإذا سلم ذلك للمولى لم يرجع به على الغاصب مرة أخرى.(27/106)
قال: وإذا اغتصب الرجل عبدا واستودع مولى العبد الغاصب أمة فقتل العبد قتيلا عند الغاصب ثم قتل الأمة فإنه يكون على الغاصب قيمة العبد لهلاكه عند الغاصب فإذا أخذها المولى دفعها إلى أولياء القتيل لأن العبد قد مات وأخلف القيمة وقد كانت نفسه مستحقة لأولياء القتيل ثم يدفع الغاصب قيمة أخرى إلى المولى ليسلم له مكان العبد ثم يقال للمولى ادفع مثل الوديعة إلى الغاصب أو افدها بقيمة العبد لأن العبد بالضمان صار مملوكا للغاصب وجناية الأمة الوديعة على عبد المودع معتبرة فيخير مولاها بين الدفع أو الفداء.
ولو كان العبد هو الذي قتل الأمة مع قتله الحر فاختار المولى الدفع قسم العبد على دية القتيل وقيمة الأمة في قول أبي حنيفة فيأخذ أولياء القتيل من ذلك ما أصاب الدية ويأخذ المولى ما أصاب قيمة الأمة ويضمن له الغائب تمام قيمة الأمة ويرجع المولى على الغاصب من قيمة العبد بمثل ما أخذ أولياء القتيل لأن العبد المغصوب جنى على أمة المغصوب منه،(27/107)
ص -55- ... ومن أصل أبي حنيفة أن جنايته على المغصوب منه وعلى ماله معتبرة فأما على قول أبي يوسف ومحمد لا يضرب المولى بشيء من قيمة أمته في العبد لأن عندهما جناية المغصوب على مال المغصوب منه هدر وكون الأمة أمانة للمغصوب منه في يد الغاصب ككونها في يد المغصوب منه فإنما يدفع المولى العبد كله إلى أولياء الجناية ويرجع بقيمته على الغاصب.
قال: ولو غصب فإنما يدفع المولى العبد كله إلى أولياء الحر ثم يرجع بها على الغاصب فيكون له ثم يقول ادفع الولد إلى الغاصب أو افده بقيمة الأمة لأن الولد كان أمانة للمغصوب منه في يده وقد ملك الأمة بالضمان وقد بينا أن جناية الأمانة على مال الأمين معتبرة فيخير المولى بين الدفع أو الفداء لذلك.
قال: ولو غصب رجلان عبدا فقتل في يدهما قتيلا ثم قتل أحدهما قيل للمولى ادفعه إلى أولياء القتيلين نصفين فمن قال من أصحابنا رحمهم الله أن على قول أبي حنيفة رحمه الله جناية المغصوب على الغاصب معتبرة وإنما لا يعتبر جنايته على مال الغاصب بما يستدل به في هذه المسألة فإنه جعل جنايته على أحد الغاصبين كجنايته على الأجنبي حيث قال العبد بينهما نصفان ومن يقول جنايته على الغاصب هدر عنده يقول هذا الجواب قولهما فأما في قياس قول أبي حنيفة ينبغي أن يسلم ثلاثة أرباع العبد للأجنبي وربعه لولي الغاصب المقتول لأن الجناية عليه إنما تعتبر من النصف الذي هو غير مضمون عليه أما من النصف الذي هو مضمون عليه لا تعتبر عنده لأن ضمان الغصب بمنزلة الملك فهو كجناية العبد المشترك على أحد الشريكين خطأ.(27/108)
ثم إذا دفع العبد إلى أولياء القتيلين رجع على الغاصبين بقيمته لأن الرد لم يسلم فيدفع نصفها إلى ولي قتيل الأول لأنه استحق جميع العبد فارغا ولم يسلم له إلا النصف وقد فات النصف الآخر وأخلف بدلا ثم يرجع به على الغاصب الأول يعني الحي منهما وفي مال الغاصب المقتول لأن ذلك استحق بيده بجناية كانت عندهما فيكون ذلك له ولا يرجع فيها واحد من الغاصبين بشيء لأن حق الغاصب المقتول ما يثبت إلا في النصف العبد فإنه جنى عليه وهو مشغول بالجناية الأولى وقد سلموا له نصفه والله أعلم.
باب جناية المكاتب
قال رحمه الله: وإذا جنى المكاتب جناية خطأ فعليه أن يسعى في الأقل من إرشها ومن قيمتها يوم جنى لأن المكاتب أحق بمكاسبه بمنزلة الحر ولا عاقلة له وهذا بخلاف المدبر وأم الولد فإن بجنايتهما تجب القيمة على المولى لأن الحق في كسبهما للمولى هناك يوضح الفرق أن المولى صار مانعا دفع الرقبة هناك بالتدبير السابق وها هنا المكاتب صار مانعا دفع رقبته بقبول عقد الكتابة فيكون عليه موجب الجناية فإن قيل لا بل المولى صار مانعا دفع رقبته بإيجاب الكتابة قلنا لا كذلك فإنه لا يتعذر دفع الرقبة بإيجابه ها هنا وإنما يتعذر بقبول المكاتب ثم لا يتعذر الدفع بمجرد عقد الكتابة بل باستبراء أمته لأنه بعد الفسخ يمكن(27/109)
ص -56- ... دفعه بالجناية واستبراء أمة لمكاتب دون المولى فإن للمكاتب أن يعجز نفسه فيفسخ العقد وليس للمولى ذلك فلهذا كان موجب الجناية على المكاتب.
ثم إن كان الأرش أقل فبأدائه قد وصل إلى المستحق كمال حقه وإن كانت قيمته أقل فهو ما منع إلا رقبته فلا يلزمه أكثر من قيمته يوم جنى لأنه لو كان بمحل الدفع استحق ولي القتيل نفسه حين جنى فإذا كان الدفع متعذرا يعتبر قيمته يوم جنى ثم الأصل عندنا أن جناية المكاتب تتعلق برقبته وعند زفر موجب جنايته القيمة دينا في ذمته ابتداء وإنما يتيسر هذا في فصول.(27/110)
أحدها: إذا عجز قبل قضاء القاضي يسعى عندنا ويدفع بالجناية أو يفدى وعند زفر يباع في قيمته كما يباع في دين آخر لو كان عليه لأن دفعه بالجناية ممتنع عند الجناية لحقه فيكون موجب الجناية القيمة ابتداء كما في المدبر وأم الولد وعندنا الدفع وإن كان متعذرا في الحال ولكن لم يقع اليأس عنه بعد العجز فلتوهم الدفع تعلقت الجناية برقبته فإذا عجز تقررت الجناية في رقبته فيدفع بها أو يفدى بخلاف المدبر وأم الولد وفي الحقيقة إنما تنبني هذه المسألة على أن مجرد الكتابة هل يوجب حق العتق للمكاتب عند زفر يوجب ولهذا لا يجوز إعتاقه عن الكفارة وعندنا لا يوجب ولهذا جوزنا إعتاقه عن الكفارة فتتعلق الجناية برقبته وإنما يتحول إلى القيمة عندنا بإحدى معان ثلاثة أما قضاء القاضي بالقيمة لأن بقضائه يتحقق معنى تعذر الدفع فيتحول الحق إلى القيمة كما إذا قضى القاضي بالقيمة في المغصوب الآبق أو بعتق المكاتب لأنه يتحقق اليأس عن الدفع بالعين أو بموته عن وفاء لأنه يؤدي كتابته ويحكم بعتقه في حال حياته فيتحقق اليأس عن الدفع ويتقرر حق ولي الجناية في القيمة فإذا عرفنا هذا فنقول إذا جنى المكاتب ثم جنى فإن كان القاضي قضى للأول بالقيمة قبل الجناية الثانية فعليه أن يسعى لولي الجناية الثانية في الأقل من إرشها ومن قيمتها لأن بقضاء القاضي تحول حق الأول إلى القيمة دينا في ذمته وفرغت الرقبة منه فيثبت فيها حق ولي الجناية الثانية وكذلك في كل جنايته يجنيها بعد القضاء بما قبلها وإن لم يكن القاضي قضى في الأول بشيء فعليه الأقل من قيمته ومن أرش الجنايتين عندنا لأن حق الوليين في الرقبة معتبر حتى لو عجز دفع إليهما فلا يلزمه إلا قيمة واحدة بجميع الرقبة وعند زفر هذا وما بعد القضاء سواء لأن حق كل واحد منهما ثبت في القيمة في ذمته ابتداء وفي الذمة سعة فإن كانت الجناية نفسا وقيمته أكثر من عشرة آلاف سعى في عشرة إلا عشرة دراهم لأن قيمة المملوك بسبب(27/111)
الجناية لا تزيد على هذا المقدار فكذلك في الجناية منه لأن في الموضعين وجوب القيمة بسبب الجناية.
فإن قتل المكاتب رجلا خطأ وقيمته ألف درهم ثم قتل آخر خطأ وقيمته ألفان فإنه يقضي عليه أن يسعى في ألفين ألف منها للآخر خاصة لأن المعتبر قيمته حين جنى وقد جنى على الأول وقيمته ألف وجنى على الثاني وقيمته ألفان فالألف الثانية يختص بها ولي الجناية(27/112)
ص -57- ... الثانية إذ لا حق فيها لولي الجناية الأولى وفي مقدار ألف يثبت حقهما فيقسم بينهما على تسعة عشر سهما.
قال: وإذا قتل المكاتب قتيلين خطأ فقضي عليه بنصف الدية لأحدهما والآخر غائب ثم قتل آخر ثم عجز فاختار المولى الدفع فإنه يدفع نصفه إلى الثالث ويتبعه الأول بنصف القيمة فيباع ذلك النصف فيه لأن في النصف تحولت الجناية بقضاء القاضي إلى القيمة دينا في ذمته ثم جنى الجناية الثالثة يتعلق حق وليها بهذا النصف وقد اجتمع في هذا النصف جناية ودين فيدفع بالجناية أولا ثم يباع في الدين لإبقاء الحقين ويدفع النصف الآخر إلى الثالث والأوسط لأن حقهما جميعا يتعلق بذلك النصف فإذا دفع إليهما ضرب فيه الأوسط بعشرة آلاف لأنه ما استوفى شيئا من حقه وضرب فيه الثالث بخمسة آلاف لأن باستيفائه نصف العبد قد صار مستوفيا نصف حقه وإنما بقي من حقه النصف فإذا ضرب بخمسة آلاف كان هذا النصف بينهما أثلاثا.
قال: وإذا جنى المكاتب جناية ثم مات ولم يترك إلا مائة درهم ومكاتبته أكثر من ذلك ولم يقض عليه بالجناية فالمائة لمولاه لأنه مات عاجزا وقد انفسخت الكتابة وكانت الجناية في رقبته فيبطل حق ولي الجناية بموته لفوات محل حقه والمائة كسبه فهي لمولاه وهي على قول زفر المائة لولي الجناية لأن جنايته كانت دينا والدين يقضى من كسبه بعد وفاته ولو ترك وفاء بالجناية والمكاتبة كان عليه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن عقد الكتابة يبقى ها هنا فيستوفى المولى المكاتبة ويحكم بحريته بحياته فتصير جنايته دينا في ذمته بخلاف الأول ولو كان عليه دين مع ذلك بدئ بالدين لأن الدين أقوى فإنه مطلوب به قبل العجز وبعده مستوفيا من تركته سواء مات عن وفاء أو عن عجز بخلاف الجناية وعند الاجتماع يبدأ بالأقوى.(27/113)
وروي عن قتادة أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب أخطأ شريح وإن كان قاضيا وإنما القضاء ما قضى به ويبدأ به في تركة المكاتب بدينه قال نعم فإذا قضى الدين بقيت الجناية وبدل الكتابة وفيما بقي وفاؤهما فيكون الحكم ما بينا في الفصل الأول وإن كانت الجناية قد قضى بها خاص وليها صاحب الدين بالتركة لأنه صار دينا متأكدا بقضاء القاضي كسائر الديون فالحاصل أن الدين أقوى الحقوق والكتابة أضعف الحقوق عليه من حيث أنه لا يحبس به في حال حياته والجناية تتوسط بينهما من حيث أنه يقضى بها عليه في حياته ويحبس لأجلها ولا تقضى من تركته بعد موته فلهذا بدأنا بالدين ثم بالجناية ثم بالكتابة إلا أن تتأكد الجناية بقضاء القاضي فحينئذ هي كالدين وهذا بخلاف حال حياة المكاتب فإنه إذا قضى بكسبه بدل الكتابة كان ذلك سالما للمولى لأن الحقوق في ذمته وذمته تتقوى بعتقه فكان التدبير إليه في تقديم ما بينا من ذلك فأما بعد الموت الحقوق في ماله فيبدأ بالأقوى لهذا.
ولو مات المكاتب وترك ولدا قد ولد له في مكاتبته من أمته وعليه دين وجناية قد قضى(27/114)
ص -58- ... بها أو لم يقض بها سعى الولد في الدين والجناية والمكاتبة لأن عقد الكتابة يبقى ببقاء من يؤدي وما يبقى ببقاء ما يؤدي به يصير الجناية مالا ثم لا يجبر على أن يبدأ من ذلك بشيء لأنه خلف عن أبيه فكان بقاؤه كبقاء الأب وللأب في حال حياته أن يبدأ بأي ذلك شاء لأنه بالبداءة بالكتابة يحصل العين لنفسه وتتقوى ذمته وهذا المعنى موجود في حق الولد بخلاف المال فهناك القاضي هو الذي يؤدي الحقوق من تركته فعليه أن يبدأ بالأقوى لهذا إذا عجز الولد ورد في الرق بعد ما قضى عليه بالجناية بيع وكان ثمنه بين الغرماء وأصحاب الجناية بالحصص وإن عجز قبل القضاء بالجناية بطلت الجناية لأن الولد قائم مقام أبيه وانفساخ الكتابة بعجزه كانفساخها بعجز الأب في حياته إلا أن هناك الجناية متعلقة قبل القضاء فيدفع بها ثم يباع في الدين وها هنا الجناية غير متعلقة برقبة الولد ولكن فات محل الجناية بموت الجاني حين ظهر العجز فلهذا بيع الولد في الدين خاصة.(27/115)
فإن كانت أم الولد حية حين مات المكاتب ولا دين على المكاتب وقد قضى عليه بالجناية أو لم يقض فإن على الأم والولد السعاية في الأقل من قيمة المكاتب ومن إرش الجناية مع بدل الكتابة لأنهما يستفيدان العتق بالأداء فيقومان مقامه بالسعاية فيما عليه فإن قضى عليهما بها أو لم يقض حتى قتل أحدهما قتيلا خطأ قضى عليه بقيمته لولي القتيل لأن كل واحد منهما بمنزلة المكاتب حين كان يسعى في بدل الكتابة ليعتق فيقضي عليه بقيمته في جنايته وهذا لا يشكل إن كان قضى عليهما بجناية المكاتب وكذلك إن لم يقض عليهما لأن حق ولي الجناية المكاتب لا يتعلق برقبتهما حتى لو عجزا لم يدفع واحد منهما بتلك الجناية فلهذا قضى على الجاني منهما بقيمته لولي القتيل سوى ما عليهما لولي جناية المكاتب فإن عجز بعد ذلك بيع كل واحد منهما في جنايته خاصة فإن فضل من ثمنه شيء فالفضل لولي جناية المكاتب لأن دين نفسه في تعلقه بماليته أقوى من دين الغير فلهذا كانت البداءة بما وجب على كل واحد منهما بسبب جنايته.
فلو ماتت المكاتبة وتركت مائة درهم وابنا ولدته في مكاتبتها وعليها دين وقد قتلت قتيلا خطأ فقضى بها أو لم يقض فإنه يقضي على الابن أن يسعى في المكاتبة والدين والجناية ثم تلك المائة بين أهل الجناية والدين بالحصص لأن المكاتبة غير عاجزة ما دام لها بن يسعى في المكاتبة فتكون جنايتها دينا في هذه الحالة يقضى من كسبها كسائر الديون.(27/116)
وإن استدان الابن دينا وجنى جناية فقضى عليه بذلك مع ما قضى عليه من دين أمه وجنايتها فعليه أن يسعى في ذلك كله لأنه بمنزلة المكاتب فإن عجز بيع في دينه وجنايته خاصة فإن فضل من ثمنه شيء كان في دين أمه وجنايتها بالحصص لأن دين نفسه في ثمنه مقدم على دين أمه وإن كان إنما عجز قبل أن يقضى عليه بجنايته دفعه مولاه بها أو فداه لأن حق ولي جنايته في رقبته فيخير المولى بعد عجزه وإذا دفعه تبعه دينه خاصة فبيع فيه دون دين أمه وجنايتها فإن فضل من ثمنه شيء لم يكن لصاحب دين الأم وجنايتها عليه سبيل لأنه ما(27/117)
ص -59- ... تبعها شيء من ذلك في ملك المدفوع إليه بالجناية فإن جنايته مقدمة في رقبته على الدين الذي لحقه من قبل أمه بخلاف دين نفسه فإنه يتبعه في ملك المدفوع إليه لأن حق ولي الجناية في ماليته غير مقدم على حق غريمه
ولو فداه المولى فقد ظهر بالفداء من جنايته فيباع في دينه فإن فضل من ثمنه شيء كان في دين أمه وجنايتها لأن هذا الفضل باق على ملك المولى وفي ملك المولى دين الأم وجنايتها يقضي من مالية الولد.
وإذا جنى المكاتب ثم مات قبل أن يقضى عليه بها وقد ترك وفاء بالمكاتبة فقد بينا في المكاتبة أن الجناية في هذه الحالة تصير مالا فيستوفي صاحب الجناية من تركته حقه قبل الكتابة ثم يؤدي بدل الكتابة مما بقي منه.
وإن مات المكاتب وعليه دين وترك عبدا تاجرا عليه دين آخر بيع العبد في دينه خاصة لأن دين نفسه في ماليته مقدم فإن حق غريمه أسبق تعلقا بماليته من حق غريم المكاتب فإن بقي من ثمنه شيء كان في دين المكاتب لأنه في كسبه وإن لم يكن على العبد دين ولكنه كان جنى جناية وليس للمكاتب مال غيره فإنه يخير المولى فإن شاء دفعه هو وجميع الغرماء بالجناية ولا حق للغرماء فيه لما بينا أن حق ولي جنايته في نفسه مقدم على حق غرماء المكاتب.(27/118)
فإذا دفع الجناية برضاهم لم يبق لهم عليه سبيل وإن شاؤوا فدوه بالدية ثم يباع في دين الغرماء لأنه ظهر من الجناية إلى الفداء فإن كان عليه دين أيضا فإنه يخير مولاه فإن شاء دفعه وأتبعه دينه فبيع فيه ولا شيء لغرماء المكاتب وإن شاء فداه ثم بيع في دينه خاصة فإن فضل شيء كان لغرماء المكاتب لأن المولى متطوع في الفداء وقد ظهر العبد به من الجناية فكأنه لم يكن في رقبته جناية ثم في الفصل الأول شرط في الدفع رضاء غرماء المكاتب وفي الفصل الثاني لم يشترط رضاءهم لأن في هذا الفصل بامتناع الدفع لا يظهر حق غرماء المكاتب في ماليته لأنه إنما يباع في دين نفسه فلهذا لا يشترط رضاؤهم وفي الفصل الأول بامتناع الدفع يظهر حق غرماء المكاتب في ماليته لأنه يباع في دينهم إذ لا دين على العبد فلهذا المعنى اعتبر رضاؤهم في الدفع والله أعلم.
باب جناية المكاتب بين اثنين
قال رحمه الله: وإذا كان العبد بين اثنين فكاتب أحدهما نصيبه بغير أمر صاحبه ثم جنى جناية ثم أدى يعتق فالمسألة تشتمل على حكمين حكم الكتابة وحكم الجناية أما بيان حكم الكتابة في هذا الجنس قد تقدم حكمه في كتاب العتاق والمكاتب وإنما نبين حكم الجناية فنقول يقضي على المكاتب بالأقل من نصف قيمته ونصف أرش الجناية لأن النصف منه مكاتب حين جنى والبعض معتبر بالكل وقد تأكد حكم الكتابة بالأداء والعتق بالجناية وجناية المكاتب تلزمه بعد العتق الأقل من قيمته ومن أرش الجناية فكذلك في هذا النصف(27/119)
ص -60- ... والذي لم يكاتب أن اختار تضمين الشريك واستسعاه في قيمة نصيبه وقبض هو ضامن للأول من نصف قيمة المكاتب ومن نصف أرش الجناية لأن الجناية في نصيبه كانت متعلقة بالرقبة وقد فاتت وأخلف بدلا وهو ما قبض من نصف القيمة فيلزمه دفع ذلك إلى ولي الجناية إلا أن يكون نصف الأرش أقل منه وكذلك إن أعتقه لأنه صار متلفا بالإعتاق إلا أنه لم يصر مختارا لأن الدفع كان متعذرا بما يفديه من العتق فكان ضامنا للأقل من نصف قيمته ومن نصف أرش الجناية وكذلك لو كاتبه بإذن الشريك فهذا والأول في حكم الجناية سواء وإنما يفترقان في حكم الضمان وإثبات حق الفسخ وذلك من حكم الكتابة دون الجناية.
ولو خوصم المكاتب في الجناية قبل أن يعتق وقضى القاضي عليه بالأقل من نصف قيمته ونصف الأرش ثم عجز عن المكاتبة فإنه يباع نصيب المكاتب منه فيما قضى به عليه لأنه صار دينا في ذمته بقضاء القاضي ويقال للآخر ادفع نصيبك بنصف الجناية أو افده بنصف أرشها لأن الجناية في نصيبه متعلقة بالرقبة فإن القاضي لم يقض فيها بشيء فيخير المولى بين الدفع والفداء.(27/120)
وإذا كاتب أحدهما نصيبه ثم اشترى المكاتب عبدا فجنى جناية ثم أدى المكاتبة فعتق فإنه يخير المكاتب والذي لم يكاتب فإن شاءا دفعا وإن شاءا أفدياه بالدية لأن العبد مشترك بين الذي لم يكاتب وبين المكاتب نصفين باعتبار ما يكاتب منه وقد تقرر ملك المكاتب في نصيبه بالعتق وجناية العبد المشترك توجب للموليين الخيار بين الدفع والفداء فإن كان هذا العبد الجاني بن المكاتب وولد عنده من أمة له كان عليه أن يسعى في الأقل من نصف قيمته ومن أرش الجناية لأن النصف منه كان مكاتبا مع ابنه وقد عتق بأداء الأب فيلزمه في هذا النصف ما كان يلزم الأب لو جنى بنفسه وليس على الذي لم يكاتب شيء حتى يعتق أو يستسعى ثم يضمن الأقل من نصف قيمته ومن أرش الجناية لأنه إن أعتق نصيبه فقد صار مستهلكا على وجه ثم يصير مختارا وإن استسعاه فقد استوفى بدل نصيبه وحق ولي الجناية في نصيبه كان مقدما على حقه.
ولو كان هذا الابن جنى على أبيه ثم أدى الأب فعتق فعلى الابن نصف قيمة نفسه فيسعى فيه للذي لم يكاتب ولا ضمان على المكاتب في ذلك بخلاف الأم فالمكاتب ضامن لنصف قيمتها للذي لم يكاتب لأنه صار متملكا نصيب الذي لم يكاتب منها حين صارت أم ولد له فيلزمه نصف قيمتها ولا سعاية على أم الولد بحال وهو لم يصر متملكا نصيب الذي لم يكاتب من الولد وإنما احتبس نصيبه عند الولد فللذي لم يكاتب الخيار بين أن يعتق نصيبه منه أو يستسعيه في قيمة نصيبه.
وأما جناية الابن على الأب فقد جنى حين جنى ونصفه مكاتب مع أبيه ونصفه رقيق والأب كذلك فما كان في الأب من حصة الذي لم يكاتب فهو في عنق الابن يأخذه المولى من الابن يعني النصف الذي هو مكاتب من الابن حيث جنى على نصيب الذي لم يكاتب،(27/121)
ص -61- ... وما كان من جناية نصيب الذي لم يكاتب من الابن على النصف الذي هو مكاتب يوجب على الذي لم يكاتب الأقل من نصف قيمته ومن ربع قيمة المكاتب فقد وجب لكل واحد منهم على صاحبه مثل ما لصاحبه عليه فيكون قصاصا ولا يكون لأحد على أحد شيء.
وإذا كانت أمة بين رجلين كاتب أحدهما حصته منها ثم ولدت ولدا ثم ازدادت خيرا أو انتقصت بعيب ثم أدت فعتقت فاختار الشريك تضمين المكاتب ضمنه نصف قيمتها يوم عتقت لأن ملكه إنما تلف بالعتق.
ألا ترى أن قبل الأداء كان متمكنا من فسخ الكتابة واستيفاء حقه وإن لم يضف ما اكتسب قبل أن يعتق ونصف أرش ما جنى عليهاز
ولو كان الضمان وجب بنفس الكتابة لم يكن له من ذلك شيء وللذي لم يكاتب أن يستسعى الابن في قيمة نصيبه لأنه لما عتق نصيب المكاتب من الابن فقد احتبس نصيب الشريك عند الولد فيستسعيه في قيمة نصيبه منها.
ولو كاتب أحدهما نصيبه منها ثم ولدت ولدا فكاتب الآخر نصيبه من الولد ثم جنى الولد على الأمة أو جنت عليه جناية لا تبلغ النفس ثم أديا فعتق والموليان موسران فللذي كاتب الولدان يضمن الذي كاتب الأم نصف قيمتها إن شاء استسعاها وإن شاء أعتقها لأنه أفسد نصيب الشريك منها بما صنع ولم يوجد من الشريك دلالة الرضاء في ذلك لأن كتابة الولد لا تكون رضى منه بكتابة الأم ولا ضمان عليه للذي كاتب الأم على شريكه في الولد لأن نصيب الذي كاتب الأم من الولد ما أفسد على شريكه نصيبه من الولد وجناية كل واحد منهما على صاحبه على ما وصفت لك في العبد وأبيه من حكم المقاصة لأن الجناية على نصف الولد الذي كاتبه المولى لا يبطل منها شيء بالكتابة فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا كان قصاصا ولا شيء لواحد منهما على صاحبه.(27/122)
قال: وإذا كان العبد بين اثنين ففقأ عين أحدهما وقيمته ألف ثم أن الذي فقئت عينه كاتب نصيبه منه ثم جرحه جرحا آخر ثم أدى فعتق ثم مات المولى بالجنايتين فنقول في بيان حكم الجناية أن على الحي منهما أن يدفع نصف قيمة العبد إلى ورثة الميت بجنايته سواء استوفى الضمان من شركة شريكه أو استسعى العبد أو أعتقه لأن نصيبه جنى عليه جنايتين أحدهما قبل الكتابة والآخر بعده وحكمهما سواء في حقه وهو أنه صار مستهلكا لنصيبه على وجه لم يصر مختارا فيلزمه نصف قيمته وعلى العبد أن يسعى في الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية لورثة الميت لأن النصف الذي هو نصيب المجني عليه جنى جنايتين إحداهما قبل الكتابة وهي هدر والأخرى بعدها وهي توجب موجبها على المكاتب بمنزلة جنايته على أجنبي آخر فلهذا كان عليه الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية لورثة الميت من قبل الجناية.
قال: وإذا كان العبد بين رجلين فجنى على أحدهما ففقأ عينه أو قطع يده ثم أن الآخر(27/123)
ص -62- ... باع نصف نصيبه من شريكه وهو يعلم بالجناية ثم جنى عليه العبد أيضا جناية أخرى ثم أن الذي باع ربعه اشترى ذلك الربع ثم كاتبه المجني عليه على نصيبه منه ثم جنى عليه جناية أخرى ثم أدى فعتق ثم مات المولى من الجنايات فعلى المكاتب الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية لأن النصف الذي هو مكاتب منه جنى على مولاه ثلاث جنايات جنايتين قبل الكتابة وحكمهما سواء في أنه هدر وجناية بعد الكتابة وهي معتبرة ولهذا كان عليه الأقل من نصف قيمته ومن ربع الدية وعلى الذي لم يكاتب سدس وربع سدس دية صاحبه والأقل من نصف قيمة العبد ومن سدس وربع سدس الدية ولا يؤدي هذا النصف حتى يعتق أو يستسعى أو يضمن وقد بطل نصف سدس لأنه قد جرى في نصف نصيبه البيع والشراء ولم يجر في النصف الأخير فلا بد من اعتبار ذلك فنقول أما نصف نصيبه الذي جرى فيه البيع والشراء فقد أتلف ربع النفس بثلاث جنايات جناية قبل البيع وقد صار المولى مختارا لذلك البيع وجناية بعد البيع وذلك هدر لأن جناية المملوك على المالك وجناية بعد الشراء وهي معتبرة فمن هذا الوجه يبطل ثلث الربع وهو نصف سدس الدية وأما النصف الذي لم يجر فيه البيع والشراء جنى على ربع النفس أيضا ثلاث جنايات إحداهما قبل البيع وقد صار مختارا بذلك لأن بيع البعض باختيار الفداء كبيع الكل ويتبين بعد البيع وحكمهما سواء في حق التعلق بالرقبة فيتوزع هذا نصفان فلهذا قال على الذي لم يكاتب سدس الدية وربع سدس الدية مقدار ما صار مختارا له ببيع نصف نصيبه ومثل ذلك متعلق بنصيبه وقد تعذر الدفع بكتابة شريكه على على وجه لم يصر مختارا فيلزمه الأقل من نصف قيمة العبد ومن سدس وربع سدس الدية ولكن هذا الاستهلاك إنما يتحقق إذا أعتق أو استسعى أو ضمن فلهذا لا يلزمه هذا النصف ما لم يوجد أحد هذه المعاني.(27/124)
قال: وإذا كان العبد بين اثنين فقطع يد رجل ثم باعه أحدهما من صاحبه وهو يعلم ثم اشتراه منه فقطع يد آخر وفقأ عين الأول ثم ماتا من ذلك قيل لشريك المشتري ادفع نصفك إلى أولياء القتيلين نصفين أو افده بعشرة آلاف لأن الجنايتين تعلقتا بنصيبه الذي كان له في الأصل ولم يوجد في ذلك النصف ما يكون دليل اختيار فيخير بين دفعه إليهما وبين أن يفدي كل واحد منهما بنصف الدية ويقال للبائع ادفع ألفين وخمسمائة إلى ولي قتيل الأول لأن نصيبه جنى على القتيل الأول جنايتين إحداهما قبل البيع والأخرى بعد الشراء فيصير مختارا لما كان قبل البيع حين باعه وهو يعلم بجنايته فلهذا يلزمه أن يدفع إليه ألفين وخمسمائة ثم يخير بعد ذلك بين أن يدفع نصيبه إليهما أو يفديهما لولي القتيل الآخر بخمسة آلاف ولولي القتيل الأول ألفين وخمسمائة باعتبار جنايته عليهما بعد الشراء فإذا اختار الدفع كان هذا النصف مقسوما بينهما أثلاثا ثلاثة لولي قتيل الأول وثلثاه لولي قتيل الآخر على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما.
قال: وإذا كان العبد بين رجلين فجرح رجلا جرحا خطأ فكاتبه أحد الشريكين وهو يعلم(27/125)
ص -63- ... بذلك ثم جرحه أيضا ثم مات الرجل من ذلك كله فعلى الذي كاتب أولا ربع الدية لأن نصيبه من العبد حين جنى ثلاث جنايات على نصف النفس إحداها قبل الكتابة واثنان بعد الكتابة وحكمهما سواء فانقسم هذا النصف نصفين وذلك قد صار مختارا له بالكتابة فعليه ربع الدية ونصف ذلك يكون على المكاتب.
وأما الذي كاتب آخر فنصيبه أيضا حين جنى ثلاث جنايات جنايتين قبل الكتابة وحكمهما سواء في حقه وجناية بعد الكتابة فيوزع أيضا هذا النصف نصفين نصفه على الذي كاتب آخرا فيلزمه الأقل من نصف القيمة ومن ربع الدية لأن بكتابة نصيبه صار مستهلكا لا مختارا فقد كان الدفع متعذرا قبل هذا بكتابة شريكه فلهذا لزمه الأقل من نصف القيمة ومن ربع الدية وعلى المكاتب الأقل من قيمته ومن نصف الدية لأن كل نصف منه جنى بعد الكتابة وموجب ذلك عليه وإنما تلف نصف النفس بالجنايات الموجودة منه بعد الكتابة فلهذا كان عليه الأقل من قيمته ومن نصف الدية وهذا كله قياس قول أبي حنيفة بناء على أن الكتابة تتجزأ والله أعلم.
باب جناية المدبر(27/126)
قال رحمه الله: قد بينا أن جناية المدبر لا تتعلق برقبته ولا تكون على عاقلة مولاه لأنه مملوك وإنما توجب على المولى قيمته يوم جنى المدبر لأنه بالتدبير السابق صار مانعا دفع الرقبة عند الجناية ولم يصر مختارا بذلك التدبير لأنه عند التدبير ما كان يعلم أنه جنى فيكون مستهلكا ضامنا للقيمة ولا يلزمه إلا قيمة واحدة وإن كثرت الجناية من المدبر لأنه ما منع إلا رقبة واحدة ولكن تلك القيمة مشتركة بين أولياء الجنايتين سواء قربت المدة فيما بينهما أو بعدت لأنها قائمة مقام الرقبة في تعلق حق أولياء الجنايات بها فإن قتل المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر فعلى مولاه قيمته لأصحاب الجنايتين أثلاثا لأنه لو كان محل الدفع كان يدفع إليهما أثلاثا فكذلك القيمة في المدبر والمعنى أن كل واحد منهما يضرب بجميع حقه وحق ولي القتيل في الدية وحق الآخر في أرش العين فإن اكتسب كسبا أو وهب له هبة لم يكن لأهل الجناية من ذلك شيء لأن حقهم في القيمة دينا في الذمة فكما لا يكون لهم حق في كسب المولى فكذلك في كسب المدبر.
ولو قتل المدبر رجلا خطأ وقيمته ألف درهم ثم ذهبت عينه فعلى المولى قيمته يوم جنى لأن بذهاب العين فات نصفه ولو مات بعد الجناية لم يسقط شيء من قيمته عن المولى فكذلك إذا ذهبت عينه وكذلك لو ازدادت قيمته لأن حق أولياء الجناية لا يثبت في تلك الزيادة فإن الجناية ما تعلقت برقبته أصلا فإن دفع المولى قيمته إلى ولي الجناية ولم يحدث به عيب ثم قتل رجلا آخر خطأ فإن كان دفع إلى الأول بقضاء قاض فلا سبيل للثاني على المولى لأنه ما ألزمه أكثر من قيمة واحدة بجناياته ودفعها إلى الأول بقضاء قاض كدفع القاضي بنفسه فلا سبيل للثاني على المولى ولكنه يتبع الأول فيأخذ منه نصف القيمة وإن قد(27/127)
ص -64- ... كان دفعها بغير قضاء قاض على قول أبي يوسف ومحمد الجواب كذلك وعند أبي حنيفة للثاني الخيار إن شاء أتبع الأول بنصف القيمة وإن شاء أتبع المولى بذلك فإذا أخذه منه رجع المولى به على الأول وجه قولهما في المسألة أن المولى حين دفع القيمة إلى الأول فقد فعل بنفسه غير ما يأمره القاضي به لو رفع الأمر إليه فيكون القضاء وغير القضاء سواء كما في الرجوع بالهبة وأخذ الدار بالشفعة بعد وجوبها وهذا لأنه حين دفع ما كان لأحد في القيمة حق سوى الأول لأن السبب الموجب لحق الثاني وهو الجناية لم يوجد بعد والحكم لا يسبق السبب فلا يكون بهذا الدفع جانيا في حق الثاني فلا يضمن له شيئا وكيف يكون جانيا في حقه.
ولو أراد أن يمنع بعض القيمة من الأول لمكان حق الثاني ما كان يتمكن من ذلك وأبو حنيفة يقول القيمة إنما تجب على المولى باعتبار منع الرقبة وإنما منعها بالتدبير السابق وذلك في حق أولياء الجنايتين جميعا سواء فيجعل في حق أولياء الجنايتين كان دفع القيمة من المولى كان بعد وجوب الجنايتين جميعا وهناك إن دفع إلى أحدهما جميع القيمة بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا وإن دفع بغير قضاء القاضي كان للثاني الخيار فهذا مثله.(27/128)
والدليل على أن المعتبر هذا أن للثاني حق المشاركة مع الأول في تلك القيمة ولا يكون ذلك إلا باعتبار ما بينا وهو أن يجعل كأنه جنى عليهما في حالة واحدة يوضحه أن بذلك التدبير انعقد سبب ثبوت حق ولي الجناية في القيمة دينا في ذمة المولى عند جنايته فهو يدفع القيمة نحو ذلك الحق من ذمته إلى المدفوع فإن كان ذلك بقضاء القاضي تم التحويل لأن للقاضي هذه الولاية وإن كان بدون قضاء القاضي لم يتم التحويل لأنه ليس للمولى هذه الولاية فيبقى الخيار لولي الجناية الثانية إن شاء رضى بهذا التحويل وأتبع الأول بنصف القيمة وإن شاء لم يرض بهذا وأتبع المولى بنصف القيمة في ذمته ثم يرجع المولى على الأول لأنه تبين أنه استوفى منه زيادة على مقدار حقه وهو نظير الوصي إذا قضى دين أحد الغريمين من التركة ولم يعلم بالدين الآخر أو قضى دين الغريم ثم أحدث آخر بسبب كأن وجد من الميت في حياته فإن كان دفعه بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا ولكن الثاني يتبع الأول بنصيبه.
وإن كان الدفع بغير قضاء قاض كان للثاني الخيار بين أن يتبع الأول بنصيبه وبين أن يضمن الوصي ثم يرجع الوصي به على الأول وأم الولد بمنزلة المدبر في جميع ما ذكرنا لأن دفعها بالجناية تعذر بسبب لا يحتمل الفسخ فتكون كالمدبر في حكم الجناية لأن المولى أحق بكسبهما.
قال: وإذا قتل المدبر رجلا خطأ وقيمته ألف درهم ثم ازدادت قيمته إلى ألفين ثم قتل آخر خطأ ثم أصابه عيب فرجعت قيمته إلى خمسمائة ثم قتل آخر خطأ فعلى مولاه ألفا درهم لأنه جنى على الثاني وقيمته ألفان ولو لم يكن منه إلا تلك الجناية لكان المولى ضامنا قيمته(27/129)
ص -65- ... ألفين ثم ألف من هذا لولي القتيل الأوسط خاصة لأن ولي الأول إنما ثبت حقه في قيمته يوم جنى على وليه وهو ألف درهم فلا حق له في الألف الثاني فيسلم ذلك المولى قتيل الأوسط وخمسمائة منها بين ولي القتيل الأول وبين الأوسط لأنه لا حق في هذه الخمسمائة لولي قتيل الثالث وإنما حقه في قيمته يوم جنى على وليه فيقسم هذه الخمسمائة بين الأوسط والأول يضرب فيه الأول بعشرة آلاف والأوسط بتسعة آلاف لأنه وصل إليه من حقه شيء ويضرب فيه الأول بعشرة آلاف إلا ما أخذ لأنه وصل إليه من حقه مقدار المأخوذ فلا يضرب به وكذلك الأوسط لا يضرب بما أخذ في المرتين وإنما يضرب بما بقي من حقه فيقسم الخمسمائة بينهم على ذلك.
قال: ولو قتل المدبر رجلا خطأ وقيمته ألف درهم فدفعه المولى بقضاء قاض ثم رجعت قيمته إلى خمسمائة ثم قتل آخر فإن خمسمائة مما أخذ الأول للأول خاصة لأن حق الثاني إنما يثبت في قيمته عند الجناية على وليه وهي خمسمائة فبقيت الخمسمائة الأخرى سالمة للأول بلا منازعة والخمسمائة الباقية بينهما يضرب فيها الأول بعشرة آلاف إلا خمسمائة والآخر بعشرة آلاف فتكون ذلك مقسومة بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأنه يجعل كل خمسمائة منها سهما.
قال: وإذا اجتمع مدبر وأم ولد وعبد ومكاتب فقتلوا رجلا فكل واحد منهم أتلف ربع النفس فيقال لمولى العبد ادفعه أو أفده بربع الدية ويسعى المكاتب في الأقل من قيمته ومن ربع الدية وعلى مولى المدبر الأقل من قيمته ومن ربع الدية وعلى مولى أم الولد الأقل من قيمتها ومن ربع الدية اعتبارا بما لو انفرد كل واحد منهم بجنايته.(27/130)
ولو قتل المدبر قتيلا خطأ واستهلك مالا فعلى المولى قيمته لأولياء القتيل وعلى المدبر أن يسعى فيما استهلك من المال لأن ما يستهلكه المدبر من المال يكون دينا في ذمته يقضي من كسبه ولا يكون المولى ضامنا بسببه شيئا من قبل أن يحل قضاء الدين وذلك لا يتغير بالتدبير ومحل موجب الجناية الرقبة وبالتدبير يتعذر دفعها فيجب على المولى القيمة لذلك.
ألا ترى أن المملوك يدفع بالجناية أو يفدى وأنه يباع في الدين إذا لم يكن له كسب فبه يظهر الفرق ثم لا يشارك أحد الفريقين الآخر فيما يأخذ لأن حقهما ما اجتمع في محل واحد فإن حق أولياء القتيل في ذمة المولى وحق أصحاب الدين في كسب المدبر فمن أي وجه تثبت الشركة بينهما فإن مات المولى قبل أن يقضي شيئا من ذلك ولا مال للمولى غيره فإن المدبر يسعى في قيمته فيكون أصحاب ديته أحق بها لأن أصل الجناية كان دينا في ذمة المولى وذلك يمنع سلامة شيء من الرقبة للمدبر لأن التدبير وصية والوصية بعد الدين فيلزمه السعاية في قيمته لرد الوصية ثم أصحاب ديته أحق بهذه القيمة من أصحاب جنايته لأن دينهم في ذمته والسعاية بدل ماليته وحق غرمائه في ماليته مقدم على حق المولى وعلى حق غرماء المولى لأن حق غرماء المولى إنما يثبت في هذه المالية من جهة المولى فإذا(27/131)
ص -66- ... استغرق دينه هذه المالية لم يكن للمولى فيها حق فكذلك لا يكون لغريم المولى فيها حق وإن كان دينه أكثر من قيمته فعليه السعاية في الفضل أيضا لأن بالعتق يتقرر ما بقي من الدين في ذمته وإن كان الدين عليه أقل من قيمته فالفضل من القيمة على مقدار دينه يكون لأصحاب الجناية باعتبار أن ذلك الفضل حق المولى فيقضى به منه دين المولى ولا شيء لهم عليه أكثر من ذلك لأن حقهم إنما يثبت من جهة المولى.
وكذلك لو كان القاضي قضى على المولى بالقيمة لأولياء الجناية وعلى المدبر بالسعاية في الدين قبل موت المولى فهذا تقرير منه للحكم الذي كان نابتا فلا يتقرر به الجواب. وأما أم الولد فلا تسعى لإيجاب الجناية في شيء لأن عتقها ليس بوصية ولا يمتنع لمكان دين المولى وجناية المدبر وأم الولد على المولى في نفس أو ما دونها خطأ وعلى مماليكه هدر لأنه لا فائدة في اعتبارها فإنها لو اعتبرت أوجبت على المولى القيمة له إلا أن المدبر يسعى في قيمته إذا قتل مولاه لأنه لا وصية له فإنه قاتل والقاتل عن الوصية والميراث محروم فعليه رد رقبته وقد تعذر ردها فلزمه السعاية في قيمته.(27/132)
قال: ولو قتل المدبر مولاه عمدا فعليه أن يسعى في قيمته لرد الوصية وعليه القصاص للقتل العمد وللورثة الخيار إن شاؤوا قتلوا قصاصا في الحال وقد قوي حقهم في السعاية إلا أنهم رضوا بذلك وإن شاؤوا استسعوه في القيمة أولا فإذا استوفوا ذلك منه قتلوه قصاصا لأن كل واحد منهم خالص حق الورثة فالتدبير في التقديم والتأخير في الاستسعاء إليهم وإن كان له ابنان فعفا أحدهما عنه فعلى المدبر أن يسعى في نصف قيمته للذي لم يعف لأنه لزمه السعاية في جميع قيمته لرد الوصية فيكون بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة وعندهما هو حر عليه دين وعند عفو أحدهما إنما ينقلب نصيب الآخر مالا في الحال وهو في الحال مكاتب أو حر من أهل أن يجب عليه المال لمولاه ولمن يخلفه من الورثة إلا أن الوجوب بسبب جناية كانت منه في حال الرق فيكون الواجب من القيمة دون الدية فلهذا يسعى في نصف قيمته للذي لم يعف مع السعاية في جميع القيمة لهما باعتبار رد الوصية فإن كان على المولى دين بدئ بالدين من جميع ذلك لأن ما وجب للمولى باعتبار أنه بدل نفسه أو بدل ملكه فيقضي دينه من جميع ذلك والباقي بين الوارثين أثلاثا لأن الباقي يقسم بينهما على ما كان يقسم عليه الكل لولا الدين ولولا الدين لكان للذي لم يعف قيمة كاملة وللآخر نصف القيمة فكذلك ما بقي يقسم بينهما على ذلك أثلاثا.
ولو قتلت أم الولد مولاها عمدا ولا ولد لها منه فعليها القصاص ولا سعاية عليها لأن عتقها ليس بوصية فلا يمنع سبب القتل وإن كان لها منه ولد فلا قصاص عليها لأن الولد ورث جزأ من القصاص على أبيه وذلك مسقط للقصاص عليها وعليها أن تسعى في القيمة من قبل الجناية لأن القصاص كان وجب فإنه ما لم يجب لا يصير ميراثا لولدها وما لم يصر ميراثا لولدها لا يسقط فإنما تعذر استيفاء القصاص باعتبار الولادة وهي حرة حين سقط(27/133)
ص -67- ... القصاص فيجب أن يلحق المال لمولاها ولمن يخلف مولاها إلا أن وجوب المال بسبب جنايتها في حالة الرق فلهذا يلزمها القيمة دون الدية وكما أن نصيب سائر الورثة انقلب مالا فكذلك نصيب الولد لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لا بمعنى من جهته مع بقاء المحل.
قال: وإذا قتل العبد مولاه عمدا فعليه القصاص لأن العبد في حكم الدم مبقي على الحرية والمولى من دمه كأجنبي آخر فيستحق دمه بالقصاص لما لم يكن مستحقا له بالمال فإن كان له وليان فعفا أحدهما عنه بطل الدم كله وهو عندهما وهو قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: على الذي عفا أن يدفع نصيبه إلى الذي لم يعف أو يفديه بربع الدية لأنه صار مشتركا بينهما بالإرث نصفين وبعفو أحدهما ينقلب نصيب الآخر مالا عند العفو وعند العفو نصفه للعافي ونصفه للذي لم يعف ويجوز أن يستحق الذي لم يعف نصيب صاحبه بالجناية ولا يجوز أن يستحق نصيب نفسه فحين انقلب مالا كان نصف ذلك في نصيبه فيهدر ونصفه في نصيب صاحبه فيثبت ويخاطب بالدفع أو الفداء كما بينا في المدبر وأم الولد إذا انقلب القصاص الذي عليهما مالا بعد موت المولى وهما يقولان العبد بعد الموت مبقي على حكم ملك الميت ولهذا يقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه.(27/134)
ولو انقلب نصيب الآخر مالا بعد عفو أحدهما كان ذلك للميت أيضا حتى يقضي منه ديونه فإنما يكون هذا إيجاب المال للميت بالجناية في ملكه وذلك لا يجوز كما لو قتل العبد مولاه خطأ فإن هناك لا يجب شيء وإن كان لو وجب إنما يجب بعد الموت وبعد الموت الملك للوارث ولكن قيل هو كالباقي على ملك الميت حكما لأنه يبقى للوارث الملك الذي كان ثابتا للمورث أو الوارث قائم مقام المورث فكما لا يجوز أن يجب للمورث بسبب هذه الجناية مال على العبد لا يجوز أن يجب للوارث بخلاف المدبر وأم الولد فقد عتقا بالموت وصار الكسب لهما على الخلوص فلو أوجبنا المال عند تعذر استيفاء القصاص لا يكون ذلك واجبا للمالك في حكم ملكه وإنما يكون واجبا له على معتقه وذلك مستقيم.
ولو قتل المدبر مولاه عمدا وله وليان أحدهما بن المدبر فعلى المدبر أن يسعى في قيمتين قيمة لرد الوصية وقيمة بالجناية لأن ابنه قد ورث بعض القصاص عليه فتعذر استيفاؤه وينقلب كله مالا وهو في هذه الحالة حرا أو مكاتبا وقد بينا نظيره في أم الولد ولو حفر المدبر بئرا في الطريق فوقع فيها المولى فمات فلا شيء على المدبر لأن هذا لا يكون أعلى مما إذا قتله خطأ وهناك لا يجب على المدبر بالجناية شيء فها هنا لا يحرم الوصية لأنه مسبب وكما لا يحرم المسبب الميراث فكذلك لا يحرم الوصية فلهذا أعتق من الثلث.
قال: وإذا قتل المدبر رجلا وقيمته ألف درهم ثم فقأ رجل عين المدبر يغرم خمسمائة درهم ثم قتل المدبر رجلا آخر فإن الخمسمائة أرش العين للمولى لا حق لأولياء الجناية فيه لأن الجناية لم تتعلق برقبته وعلى المولى ألف درهم قيمته يوم جنى على الأول(27/135)
ص -68- ... خمسمائة منها للأول خاصة لأن حق الثاني إنما يثبت في قيمته يوم جنى على وليه وقد كانت قيمته خمسمائة فلهذا أسلمت الخمسمائة للأول والخمسمائة الباقية يضرب فيها الثاني بالدية والأول بالدية إلا الخمسمائة لأنه قد استوفى ذلك.
ولو كان الباقي عبدا فدفع به كان للمولى أيضا لأن حق ولي الجناية إنما يثبت في رقبته فلا يثبت فيما يكون بدل جزء منه.
ألا ترى أن المولى لو لم يأخذ العبد في الجناية أصلا أو أخذه وباعه أو وهبه لم يضمن لأصحاب الجناية بذلك شيئا وكان عليه قيمة المدبر صحيحا.
ولو استهلك المدبر لرجل ألف درهم فأعتقه مولاه لم يضمن لصاحب الدين شيئا لأن حق صاحب الدين في كسبه وسعايته ولم يتعين ذلك بإعتاقه إياه في ابائه ولو لم يعتقه ولكن رجلا قتل المدبر فغرم قيمته وقد جنى المدبر ثم مات المولى ولا مال له غير ذلك فصاحب الدين أحق بالقيمة من صاحب الجناية لأن بدل رقبته بمنزلة كسبه في وجوب صرفه إلى الدين ولأن دين نفسه مقدم على دين مولاه في مالية رقبته وحق صاحب الجناية على مولاه فلهذا كان صاحب الدين أحق بالقيمة من صاحب الجناية سواء كان المولى حيا أو ميتا.
قال: وإذا قتل المدبر رجلين أحدهما عمدا والآخر خطأ فعليه القصاص وعلى المولى قيمته لأصحاب الخطأ فإن عفا أحد وليي العمد فالقيمة بين الذي لم يعف وبين ولي الخطأ يقسم على طريق العول أثلاثا في قول أبي حنيفة وفي قولهما على طريق المنازعة أرباعا.
وكذلك لو كان القاتل قنا دفعه المولى وقد بينا نظير هذه المسألة في المأذون وجميعها وأضدادها ونظيرها في كتاب الدعوى فهما يقولان حق الذي لم يعف ثابت في النصف دون النصف فيسلم لولي الخطأ النصف الذي هو حصة العافي لفراغ ذلك النصف عن حق الذي لم يعف والنصف الآخر حقهما فيه سواء فيكون بينهما نصفان.(27/136)
وهذا بخلاف ما إذا قتل العبد أو المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر لأن هناك حق صاحب العين ثابت في الكل بدليل أنه لو انفرد كان المولى مخاطبا بدفع جميع العبد إليه أو الفداء.
وكذلك في الدين يدفع إليه جميع القيمة إلا أن يكون الأرش أقل من ذلك وها هنا حق الذي لم يعف في النصف دون النصف بدليل حالة الإنفراد وأبو حنيفة يقول أصل كل واحد منهما في الأرش وحق ولي الخطأ عشرة آلاف وحق الذي لم يعف من ولي الدم خمسة آلاف وإنما وجب قسم ألفين بينهما بسبب حق الدين في الذمة فيضرب كل واحد منهما بحقه بمنزلة الغرماء في التركة وبمنزلة صاحب النفس من صاحب العين.
وعلى هذا الخلاف لو قتل المدبر رجلا عمدا وله وليان فعفا أحدهما ثم قتل آخر خطأ فعلى المولى القيمة وقسمتها بينهما على الخلاف الذي بينا وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله أن لولي القتيل نصف القيمة وللذي لم يعف من ولي العمد ربع القيمة ويسقط ربع القيمة عن المولى بعفو العافي وهو قول زفر وهو القياس وقد بينا(27/137)
ص -69- ... الخلاف فيما إذا جنى العبد المغصوب عند الغاصب وعند مولاه ففي المدبر الحكم على ذلك التفصيل أيضا لأن القيمة في جناية المدبر بمنزلة الرقبة في جناية القن.
يقول: فإن غصب رجل مدبرا فقتل عنده قتيلا واستهلك لرجل مالا ثم رده على المولى فقتل عنده رجلين خطأ فعلى المولى قيمته بين أصحاب الجنايات أثلاثا ثم يرجع المولى على الغاصب بثلث القيمة وهو ما استحقه ولي القتيل الأول بجنايته عند الغاصب فيدفع ذلك إلى الأول ثم يرجع بثلث القيمة أيضا فيدفعه إلى الأول حتى يسلم له قيمة تامة كما استحقه ثم يرجع بمثله على الغاصب فيدفع نصفه إلى الثاني لأن حق الثاني ثبت في نصف القيمة وقد سلم له الثلث فيدفع إليه نصف الثلث ولا يرجع به على الغاصب لأن هذا استحق بجنايته عند المولى وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بثلث القيمة فيسلم له ويسعى المدبر لصاحب الدين في دينه فإذا قضاه يرجع المولى بالأقل من قيمته ومن الدين على الغاصب لأنه إنما قضى الدين من كسب مملوك للمولى وكان استحقاق ذلك كان منه عند الغاصب فيرجع المولى به على الغاصب إلا أن تكون قيمته أقل من ذلك فحينئذ لا يرجع إلا بقدر القيمة لأن الغاصب إنما يصير ضامنا باعتبار أن الرد لم يسلم فيجعل كالهالك في يده.(27/138)
قال: وإذا قتل المدبر رجلا خطأ ثم غصبه رجل فقتل عنده رجلا عمدا ثم رده إلى المولى فإنه يقتل قصاصا وعلى المولى قيمته لصاحب الخطأ بالجناية التي كانت منه عند المولى ويرجع على الغاصب بقيمته لأنه قتل بجناية كانت منه عند الغاصب فلم يسلم الرد للمولى فإن عفا أحد وليي العمد كانت القيمة بينهم أرباعا في قول أبي يوسف ومحمد وأثلاثا في قول أبي حنيفة ثم يرجع على الغاصب بما أخذه صاحب العمد منه لأن ذلك القدر استحق بجنايته عند الغاصب ثم يدفع ذلك إلى صاحب الخطأ لأن حقه كان يثبت في جميع القيمة فلا يسلم للمولى شيء من قيمته ما لم يصل إليه كمال حقه.
ولو قتل عند الغاصب أولا رجلا عمدا ثم رده إلى المولى فقتل عنده رجلا خطأ بعد ما عفا أحد وليي الدم فعلى المولى قيمته كما بينا ثم يرجع على الغاصب بما أخذه الذي لم يعف من ولي العمد فيدفعه إلى صاحب العمد الذي لم يعف إلى تمام نصف القيمة لأن حقه لما ثبت في نصف القيمة فعليه أن يدفع إليه ما يأخذه من قيمته حتى يصل إليه كمال حقه في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف ثم يرجع بمثله على الغاصب لأن قبضه ينتقض فيما يستحق من يده بجنايته عند المولى أو عند الغاصب.
وإذا غصب رجل مدبرا فأقر عنده بقتل رجل عمدا وزعم أن ذلك كان عند المولى أو عند الغاصب فهو سواء وإذا قتل بذلك بعد الرد فعلى الغاصب قيمته لأنه مصدق في الإقرار غير مصدق في الإسناد وإنما استحق نفسه بسبب كان منه عند الغاصب وهو الإقرار فيظهر به أن الرد لم يسلم للمولى.(27/139)
ص -70- ... ولو عفا أحد الوليين فلا شيء للآخر لأن الآخر لو استحق المال إنما يستحقه بإقراره وإقرار المدبر والقن في الجناية التي توجب الإرش باطل لأن ذلك إقرار منه على مولاه ولو كان أقر عند الغاصب بسرقة أو ارتد عن الإسلام ثم إنه رده فقتل في الردة فعلى الغاصب قيمته أو قطع في السرقة فعلى الغاصب نصف قيمته لأن استحقاق ذلك بإقرار كان منه عند الغاصب بمنزلة استحقاقه بمباشرة سببه عند الغاصب.
قال: وقياس هذا عندي البيع لو باع عبدا مرتدا فقتل عند المشتري يرجع بجميع الثمن وكذلك لو باعه وقد أقر بقتل عمدا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد في البيع خاصة يقوم مرتدا أو غير مرتد وسارقا أو غير سارق فيرجع بحصة ذلك من الثمن وقد بينا الفرق لهما بين الغصب والبيع في كتاب البيوع ولو قتل المدبر عند الغاصب رجلا خطأ أو أفسد متاعا ثم قتله رجل خطأ فعلى عاقلة القاتل قيمته لصاحب الدين لأن بدل رقبته إذا قتل بمنزلة كسبه وعلى المولى قيمته لولي القتيل بسبب جنايته ويرجع بذلك كله على الغاصب لأن استحقاق كل واحدة من الجنايتين بسبب كان منه عند الغاصب.
قال: ولو غصب عبدا أو مدبرا فاستهلك عنده مالا ثم رده على المولى فمات عنده فلا شيء لأصحاب الدين لفوات محل حقهم من ذلك الكسب أو مالية الرقبة ولا للمولى على الغاصب لأن الرد قد سلم للمولى حين لم يستحق من يده بسبب كان عند الغاصب وإنما هلك بسبب حادث عنده.
ولو مات عند الغاصب قبل أن يرده فعلى الغاصب قيمته لأنه تعذر عليه رد عينه فإذا أخذها المولى دفعها إلى الغرماء لأنه فات وأخلف بدلا ثم يرجع المولى على الغاصب بمثل ذلك لاستحقاق المقبوض من يده بسبب كان منه عند الغاصب ولو كان قتل عند المولى خطأ فقيمته لأصحاب الدين على عاقلة القاتل يقبضها المولى ويدفعها إليهم ثم يرجع بها على الغاصب لأنها استحقت من يده بسبب كان من المدبر في ضمان الغاصب.(27/140)
ولو استهلك المدبر مالا عند المولى ثم غصبه رجل فحفر عنده بئرا في الطريق ثم رده إلى المولى فقتله رجل خطأ فغرم قيمته للمولى وأخذها أصحاب الدين ثم وقع في البئر دابة فعطبت شارك صاحبها أصحاب الدين الذين أخذوا القيمة في تلك القيمة بالحصة لأن عند وقوع الدابة فيها صار متلفا لها بالحفر السابق وصارت قيمتها دينا في ذمته بمنزلة الدين الآخر فتكون قيمة نفسه بين غرمائه بالحصص ثم يرجع المولى بذلك على الغاصب فيدفعه إلى صاحب الدين الأول لأن حقه كان ثابتا في جميع القيمة فإن وقع في البئر إنسان آخر فمات فعلى المولى قيمة المدبر لأنه صار جانيا عليه بالحفر السابق وجناية المدبر على النفوس توجب القيمة على المولى سواء كان بطريق السبب أو المباشرة ثم يرجع بها على المولى ثم يرجع بها على الغاصب لأن هذه القيمة لزمته لسبب كان في ضمان الغاصب والله أعلم.(27/141)
ص -71- ... باب جناية المدبر بين اثنين
قال رحمه الله: وإذا كان المدبر بين رجلين فقتل أحد مولييه ورجلا خطأ بدئ بالرجل قبل المولى فعلى المولى الباقي نصف قيمته وفي مال المقتول نصف قيمته ثم يكون لولي المقتول ربع القيمة وللآخر ثلاثة أرباعها وهذا ظاهر عندهما وكذلك عند أبي حنيفة لأن مولى القتيل لا حق له فيما ضمن فإن جناية المدبر على مولاه خطأ هدر فكذلك النصف من القيمة يسلم لولي الأجنبي ولصاحبه في النصف الآخر فيضرب هو فيه بخمسة آلاف والآخر بخمسة آلاف فكان ذلك النصف بينهما نصفان وعلى المدبر أن يسعى في قيمته نصفها لورثة المقتول لأنه قاتل ولا وصية له ونصفها للمولى الحي لأنه لما عتق بسبب المقتول كان حق المولى الحي باستسعائه في نصف قيمته.
ولو كان قتل المولى عمدا والمسألة بحالها فعلى المولى الباقي وفي مال المقتول قيمته تامة لولي الخطأ لأن حق ولي العمد في القود فلا مزاحمة له مع ولي الخطأ في القيمة ويسعى المدبر في قيمته بين الموليين لما قلنا ويقتل بالعمد فإن عفا أحد وليي العمد سعى المدبر للذي لم يعف في نصف قيمته لأنه حين انقلب نصيب الآخر مالا كان بمنزلة المكاتب والحر فإنما يجب له نصف القيمة عليه فيستسعيه في ذلك ولا مزاحمة له في ولي الخطأ في القيمة الأولى.(27/142)
قال: وإذا قتل المدبر رجلا عمدا وله وليان فعفا أحدهما ثم قتل أحد مولييه خطأ فعلى المولى الباقي نصف قيمته فيكون نصف ذلك النصف لولي القتيل والنصف الباقي من ذلك النصف بينه وبين الذي لم يعف من أصحاب العمد نصفين وفي مال القتيل ربع قيمة المدبر للذي لم يعف لأن نصيب الذي لم يعف انقلب مالا وذلك نصف القيمة على الموليين فلهذا كان في مال الميت ربع القيمة للذي لم يعف وقد وجب للمولى الحي نصف قيمته بالجنايتين إلا أنه لا حق للذي لم يعف في نصف ذلك النصف فيسلم لولي مولى القتيل وحقهما في النصف سواء فكان بينهما نصفين ويسعى المدبر في قيمته تامة للحي ولورثة الميت لما قلنا.
قال: وإذا قتل المدبر مولييه معا خطأ سعى في قيمتهما لورثتهما لرد الوصية ولا شيء لواحد منهما على صاحبه لأن جنايته على كل واحد منهما في نصفه هدر وفي نصف صاحبه موجب بنصف القيمة عليه ولكن نصف القيمة قصاص.
ولو غصب المدبر أحد مولييه فقتل عنده قتيلا خطأ ثم رده فقتل رجلا عمدا له وليان فعفا أحدهما فعليهما قيمة تامة لصاحب الخطأ ثلاثة أرباعها وللذي لم يعف من ولي الدم ربعها وهذا على نحو ما بينا ثم يرجع المولى للذي لم يعف على الغاصب بثلاثة أرباع نصف قيمة المدبر وهو مقدار ما غرم هو لولي الخطأ لأنه إنما غرم ذلك بجناية كانت عند المدبر في حال كون الشريك غاصبا له ضامنا ثم يرد على صاحب الخطأ من ذلك من قيمة العبد لأن(27/143)
ص -72- ... صاحب الخطأ استحق عليه نصف قيمته فارغا وإنما سلم له من جهته ثلاثة أرباع ذلك النصف وقد أخلف نصيبه عوضا فيرجع في العوض بما بقي من حقه وذلك من الجميع وهو ربع نصف القيمة ثم يرجع هو بذلك على الغاصب لأنه استحق من يده بجناية كانت عند الغاصب.
قال: وإذا قطع رجل يد المدبر وقيمته ألف درهم فبرئ وزاد حتى صارت قيمته ألفين ثم فقأ عينه آخر ثم انتقض البرء فمات منهما والمدبر بين اثنين فعفا أحدهما عن اليد وما حدث منها وعفى الآخر عن العين وما حدث منها فللذي عفا عن اليد على صاحب العين ستمائة وخمسون درهما على عاقلته إن كان خطأ وفي ماله إن كان عمدا وللذي عفا عن العين على صاحب اليد ثلاثمائة واثنا عشر ونصف في ماله إن كان عمدا وعلى عاقلته إن كان خطأ لأن القاطع قطع يده وقيمته ألف فكان عليه نصف قيمته خمسمائة ثم فقأ الآخر عينه وقيمته ألفان فكان عليه نصف قيمته ألف فلما مات منهما صار صاحب اليد ضامنا لمائة وخمسة وعشرين من قيمته مع الخمسمائة التي عليه لأنه لا معتبر بالزيادة في حقه فكان ألفا في فقء عينه وقيمته خمسمائة فصار به متلفا نصف ما بقي وإنما الباقي مائتان وخمسون وقد تلف بالجنايتين فنصفه وهو مائة وخمسة وعشرون تلف بفعل صاحبه فلهذا صار هو ضامنا ستمائة وخمسة وعشرين ونصف ذلك للعافي فيسقط ونصفه للذي لم يعف وهو ثلاثمائة واثنا عشر ونصف وأما العافي صار ضامنا بجنايته ألف وبسراية جنايته نصف ما بقي وذلك خمسمائة بين الموليين نصفين وقد سقط حق أحدهما بالعفو إذ للذي لم يعف منهما عليه نصيبه سبعمائة وخمسون وأم الولد في حكم الجناية بمنزلة المدبر على ما ذكرنا.(27/144)
قال: ولو قتلت أم الولد مولاها عمدا ولا ولد لها فعفا أحد ابني المولى عنها سعت للآخر في نصف قيمتها لأنها حرة حين انقلب نصيب الآخر مالا إلا أن أصل الجناية كان منها في حالة الرق فعليها نصف القيمة للآخر وكذلك عبد قتل رجلا عمدا فأعتقه المولى ثم عفا أحد وليي الدم وهذا لأن المولى بالإعتاق لا يصير ضامنا شيئا لأن حقهما كان في القصاص ولا يختلف ذلك بالرق والحرية.
قال: وإذا كاتب الرجل أم ولده أو مدبره ثم قتلت مولاها خطأ سعت في قيمتها من قبل الجناية لأنها جنت وهي مكاتبة وجناية المكاتبة على مولاها كجنايتها على غيره لا موجب جنايتها في كسبها وهي أحق بكسبها ثم قد بطلت عنها الكتابة لأنها عتقت بموت المولى فإن عتق أم الولد ليس بوصية فلا يمتنع بسبب القتل.
قال: ألا ترى أنها لو استقرضت منه مالا ثم مات المولى بطلت عنها الكتابة ولزمها الدين وإنما استشهد بهذا السبب أنه وإن ألزمها القيمة بسبب الجناية فإن ذلك دين عليها كسائر الديون فلا يمتنع بطلان الكتابة عنها بسبب العتق وأما المدبرة فعليها أن تسعى في قيمتها من قبل الجناية وتسعى في قيمة أخرى لرد الوصية فإن كانت مكاتبتها أقل من قيمتها سعت في(27/145)
ص -73- ... مكاتبتها بمنزلة ما لو كانت مدبرته ثم مات وعليه دين يحيط بماله فإنها تسعى في الأقل من مكاتبتها ومن قيمتها لأن حق المولى في الأقل.
وإذا أسلمت أم ولد النصراني فاستسعاها في قيمتها فقتلته خطأ وهي تسعى فعليها قيمتها من قبل الجناية لأنها بمنزلة المكاتبة ويبطل عنها سراية الرق ولأنها عتقت بموت المولى فإن كان القتل عمدا فعليها القصاص وإن كان لها منه ولد صغير فلا شيء لولدها من ذلك لأن الولد مسلم مع أبيه والمسلم لا يرث الكافر ولهذا كان عليها القصاص لورثة الأب.
وإذا قتلت أم الولد مولاها عمدا وهي حبلى منه ولا ولد لها فلا قصاص عليها من قبل أن ما في بطنها من جملة ورثته ومن قبل أن الحبلى لا تقتل بالقصاص حتى تضع فإن ولدته حيا وجبت القيمة عليها لجميع الورثة لأن جزأ من القصاص صار ميراثا لولدها وإن ولدته ميتا كان عليها القصاص لورثة الأب لأن الذي ينفصل ميتا ليس من جملة الورثة فإن ضرب إنسان بطنها وألقته ميتا ففيه غرة لأن الجنين الذي في بطنها كان حرا والواجب في الجنين الحر الغرة ولها ميراثها من تلك الغرة لأنها عتقت بموت المولى فهي وارثة حين وجبت الغرة بالضربة وتقتل هي بالمولى لأن الجنين انفصل ميتا فلا تكون من جملة الورثة سواء كان انفصاله بالضربة أو بغير الضربة وإيجاب الغرة لا يكون حكما بكون الجنين حيا في ذلك الوقت فإن وجوبها بسبب قطع السر ولهذا يستوي فيه الذكر والأنثى ثم نصيبها من الغرة ميراث لبني مولاها لأنهم عتقا ولا يحرمون الميراث لأنهم قتلوها بحق والله أعلم.
باب جناية المكاتب في الخطأ(27/146)
قال رحمه الله: وإذا قتل المكاتب رجلا خطأ وله وارثان فقضى عليه القاضي لأحدهما بنصف القيمة ولم يقض للآخر بشيء ثم قتل الآخر فجاء الآخر فخاصم إلى القاضي وهو مكاتب بعد وفائه فإنه يقضي له بثلاثة أرباع القيمة لأن النصف المقضي فيه للأول قد فرغ من الجناية الأولى فيتعلق به حق الآخر فيقضي له عليه بنصف القيمة لذلك والنصف الباقي يقضي له بنصفه لأنه اجتمع فيه حقه وحق الذي لم يقض له من ولي الجناية الأولى فإن عجز المكاتب وجاء الأوسط فإنه يدفع إليه ربع العبد أو يفديه مولاه بنصف الدية لأن حقه في نصف الدية والجناية في حقه باقية في ربع الرقبة لانعدام المحول إلى القيمة وهو قضاء القاضي فلهذا يدفع إليه ربع العبد بعد العجز ويفديه مولاه بنصف الدية.
قال: فلو قتل المكاتب رجلا خطأ ثم اعور ثم قتل آخر فعليه قيمته صحيحا للأول نصفها لأن حق الثاني إنما يثبت في قيمته عند الجناية عليه وهو أعور في هذه الحالة فلهذا كان نصف قيمته صحيحا للأول خاصة والنصف الآخر يضرب فيه الأول بالدية إلا ما أخذ والآخر بكمال الدية فيكون بينهما على ذلك وكذلك لو فقأ عينه إنسان أو نقصت قيمته من سعر أو عيب لأن المعتبر في حق كل واحد منهما قيمته حين جنى عليه.
قال: ولو قتل رجلا خطأ وحفر بئرا في الطريق فوقع فيها إنسان فمات أو أحدث في(27/147)
ص -74- ... الطريق شيئا فقضى عليه بالقيمة للذي وقع في البئر ولولي القتيل وسعى فيها بينهما ثم عطب مما أحدث في الطريق إنسان فمات فإنه يشاركهم في تلك القيمة للذي وقع في البئر ولولي القتيل وسعى فيها لأنه أحدثه في الطريق قبل أن يقضي عليه بالقيمة وإنما صار جانيا بذلك التسبب وجنايات التسبب والمباشرة لا تلزمه إلا قيمة واحدة ما لم يقض عليه بها وكذلك لو وقع في البئر إنسان آخر فمات.
ولو حفر بئرا أخرى في الطريق بعد ما قضى عليه بالقيمة فوقع فيها إنسان فمات قضى القاضي بقيمة أخرى لأن جنايته بالتسبيب ابتداء بعد القضاء بالقيمة في الجناية الأولى بمنزلة جنايته بالمباشرة فيلزمه باعتبارها قيمة أخرى لأن الرقبة قد فرغت من قبل قضاء القاضي بالقيمة فيشغل بالجناية المبتدأة بعد ذلك فيلزمه القيمة لأجلها.
ولو وقع في البئر الأول فرس فعطب كان عليه قيمته دينا يسعى فيه بالغا ما بلغ ولا يشاركه أهل الجناية ولا يشاركونه لأن الواجب لصاحب الفرس ضمان مال وقد بينا أنه لا مشاركة بين ضمان المال وضمان النفس ولا مشابهة بينهما في الحكم.
ألا ترى أنه لو قتل إنسانا خطأ فاستهلك مالا قضى عليه بالقيمة في القتل وبالمال بالغا ما بلغ وكل من يكاتب على المكاتب فهو في حكم الجناية بمنزلة المكاتب فيما يلزمه من السعاية وكذلك أم ولده التي ولدت منه في المكاتبة لأن دفعها بالجناية متعذر بسبب الكتابة فهي بمنزلة المكاتبة فيما يلزمها بالجناية.
ولو جنى عبده خوطب المكاتب فيه بالدفع أو الفداء وهو بمنزلة الحر فالتدبير في كسبه ولهذا لو كان القتل من العبد عمدا فصالح المكاتب على مال جاز صلحه لأنه قصد به تخليص ملكه.(27/148)
قال: وإذا أقر المكاتب بقتل عمدا ثم أنه عفا أحد الوليين عنه قضى عليه بنصف القيمة للآخر فإن عجز قبل أن يؤدى بطل ذلك عنه في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد إذا قضى عليه قبل أن يعجز صار دينا عليه يباع فيه وكذلك لو قتل المكاتب رجلا عمدا ثم صالح عن نفسه على مال فهو جائز ويلزمه المال ما لم يعجز فإذا عجز قبل أداء المال بطل عنه المال في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد هو لازم يباع فيه لأن هذا دين لزمه في حال الكتابة فيكون بمنزلة سائر ديونه يباع فيه بعد العجز إلا أن يقضي المولى عنه وأبو حنيفة يقول لا تأثير لعقد الكتابة في إطلاق الحجر عنه في الجناية والصلح عن دم العمد فكان هو في حق المولى بمنزلة العبد المحجور عليه إلا أن في حال قيامه بالكتابة المال إنما يؤدى من كسبه وهو أحق بكسبه فكان إقراره معتبرا في حقه.
وكذلك قبوله بسبب الصلح فإذا عجز صار الحق لمولاه وإقراره في حق المولى باطل وكذلك قبوله المال بالصلح عن دم العمد لأنه ملتزم مالا لا بإزاء مال وذلك غير صحيح في(27/149)
ص -75- ... حق المولى فلا يطلب بشيء منه ولا يباع فيه بخلاف سائر الديون فإن ذلك لزمه بسبب صار هو بعقد الكتابة منفك الحجر فكذلك السبب في حق المولى.
قال: وإذا قتل المكاتب رجلا عمدا وله وليان فعفا أحدهما يسعى للآخر في نصف القيمة فإن وقع رجل في بئر حفرها المكاتب في الطريق قبل القتل فعليه نصف قيمة أخرى لصاحب البئر لأنه قد غرم نصف القيمة وجناياته لا تلزمه إلا قيمة واحدة فكان عليه نصف قيمة أخرى لصاحب البئر وشاول صاحب البئر صاحب القتيل فيأخذ منه نصف ما أخذ في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة قسمت القيمة بينهما أثلاثا كما بينا.
وإذا قتل بن المكاتب رجلا خطأ ثم أن المكاتب قتل ابنه وهو عبد وقتل آخر خطأ فعليه القيمة يضرب فيها أولياء القتيل الآخر بالدية وأولياء قتيل الابن بقيمة الابن لأن الجنايتين إذا حصلتا من المكاتب قبل قضاء القاضي لا يلزمه إلا قيمة واحدة وإنما يضرب كل واحد منهما في تلك القيمة بمقدار حقه وحق أولياء الحر في الدية وحق أولياء قتيل الابن كان في الدية ولكن بجناية الابن فأما بجناية المكاتب فلا حق لهم قبله إلا في قيمة الابن لأن المكاتب ما جنى على وليهم إنما جنى على الابن الذي كان مستحقا لهم بجنايته فلهذا ضربوا في قيمته بقيمة الدين.(27/150)
قال: وإذا جنى المكاتب جناية ثم اختلف المكاتب وولي الجناية في قيمة المكاتب وقد علم أنها ازدادت أو نقصت فالقول في القيمة قول المكاتب لإنكاره الزيادة وعلى المولى إثبات الزيادة بالبينة وإنما شرط العلم بأنها زادت أو نقصت لأنه إذا لم يعلم ذلك ففي قول أبي يوسف الأول يحكم بقيمته في الحال على قياس المدبر كما بينه في أول الجنايات وكذلك لو فقئت عين المكاتب فقال المكاتب جنيت بعد ما فقئت عيني فالقول قوله لأن المولى يدعي سبق تاريخ في جنايته إلى ما قبل فقء العين وهو منكر ولأن الولي يدعي ثبوت حقه في العين المفقوءة والمكاتب منكر لذلك والقول قول المنكر مع يمينه وعلى المولى إثبات ما يدعيه بالبينة والله أعلم بالصواب.(27/151)
ص -76- ... كتاب الجنايات
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد رحمه الله ورضي عنه وعن أسلافه: اعلم بأن الجناية اسم لفعل محرم شرعا سواء حل بمال أو نفس ولكن في لسان الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية الفعل في النفوس والأطراف فإنهم خصوا الفعل في المال باسم وهو الغصب والعرف غيره في سائر الأسامي ثم الجناية على النفوس نهايتها ما يكون عمدا محضا فإنها من أعظم المحرمات بعد الإشراك بالله تعالى. قال الله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة، من الآية32] فقد جعل قتل نفس واحدة كتخريب العالم إن لو كان ذلك في وسع البشر وإنما جعله كذلك لأن الواحد يقوم مقام الجماعة في الدعاء إلى الدين وفي الإعانة لكل من استعان به فإن التعاون بين الناس ظاهر فالذي يقتل الواحد يكون قاطعا لهذه المنفعة وأيد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لزوال الدنيا أهون على الله تعالى من قتل امرئ مسلم" وقال عليه السلام: "سباب المؤمن فسق وقتاله كفر" وهذا وإن كان تأويله قتاله لإيمانه فظاهره يدل على عظم الجناية في قتل المسلم ولهذا كان بن عباس رضي الله عنه لا يرى التوبة القاتل العمد ولم يؤخذ بقوله حتى روي أن رجلا سأله فقال: ما تقول في من يقتل مؤمنا متعمدا؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، فقال:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه،82]. فقال: وأنى يكون له الهدى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بقاتل العمد يوم القيامة عند عرش الرحمن والمقتول متعلق به ويقول: يا رب سل هذا فيم قتلني" وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء،(27/152)
من الآية:93] وما نسخها شيء بعد نبيكم ولعظم الجناية في قتل العمد لم ير علماؤنا الكفارة على قاتل العمد لأن الوعيد المنصوص عليه لا يرتفع بالكفارة والذنب فيه أعظم من أن ترفعه الكفارة ويستوي فيه إن كان عمدا يجب فيه القصاص أو لا يجب كالأب إذا قتل ابنه عمدا والرجل إذا قتل من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا عمدا والشافعي يوجب الكفارة باعتبار القتل ولكن لا يقول أن ما يلحقه من المآثم يرتفع بالكفارة وكيف يقول ذلك والوعيد منصوص عنده عليه واستدل لإيجاب الكفارة بالقتل بقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء، من الآية:92] والمراد إيجاب الكفارة بالقتل لا بصفة الخطأ لأنه عذر مسقط وربما يقول المراد بالخطأ ما يضاد الصواب قال الله تعالى:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الاسراء، من الآية:31] أي ضد الصواب ويقال فلان أخطأ في مسألة كذا إذا لم يصب والعمد ضد الصواب فتتناوله الآية والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ(27/153)
ص -77- ... قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء، من الآية:92] الآية وإنما يقتل المرء عدوه عمدا فعرفنا أن المراد إيجاب الكفارة بقتل العمد وفي حديث واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا أوجب القتل بالنار فقال عليه السلام: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار" وإيجاب النار إنما يكون بقتل العمد والمعنى فيه أنه قتل آدمي مضمون فيكون موجبا للكفارة كالخطأ وشبه العمد وهذا على أصله صحيح لأن إثبات الكفارة بالقياس جائز والزيادة على النص بالقياس جائزة عنده وقياس المنصوص على المنصوص مستقيم عنده وشيء من ذلك لا يجوز عندنا صحيح علينا نفصل الخطأ على طريق الاستدلال وهو أن الكفارة إنما وجبت على الخاطئ لأنه نقص بفعله من عدد المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمعة والجماعات فعليه إقامة نفس مقامها وليس في وسعه ذلك بطريق الإحياء فألزمه الشرع ذلك بطريق التحرير لأن الحرية حياة والرق تلف في حق أحكام الدنيا وفي هذا المعنى العامد والمخطئ سواء وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء، من الآية:93] فهذا يقتضي أن يكون المذكور في الآية جميع أجزائه.
ولو أوجبنا عليه الكفارة لكان المذكور بعض جزئه فيكون فسخا لهذا الحكم ولا وجه لحمل الآية على المستحل لأن المذكور في الآية جزاء قتل العمد.(27/154)
وإذا حمل على المستحل كان المذكور جزأ لرده وتبين بهذه الآية أن المراد بقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} [النساء، من الآية:92] الخطأ الذي هو ضد القصد لأنه عطف عليه العمد ولا يعطف الشيء على نفسه ولأنه قابله بالعمد ومتى قوبل الخطأ بالعمد فالمراد ما يضاد القصد قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب، من الآية:5] ولأنه استثنى الخطأ من التحريم بقوله إلا خطأ والاستثناء من التحريم إباحة فلو حمل هذا على ضد الصواب أدى إلى أن يكون القتل الصواب هو المحرم وهذا محال فعرفنا أن المراد الخطأ الذي هو ضد القصد فإن أصل ذلك الفعل غير محرم لكونه رمى إلى قصد الصيد أو الحربي لكنه باتصاله بالمحل المحترم يصير محرما ولكن لا يلحقه إثم نفس الفعل لكونه موضوعا عنه كما قال تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب، من الآية:5] وإنما يلحقه به نوع مأثم بسبب ترك التحرز والكفارة تلزمه لمحو ذلك الإثم والإثم في حق قاتل العمد ليس من ذلك الجنس حتى تمحوه الكفارة ثم أن الله تعالى ذكر أنواع قتل الخطأ ما يكون منه بين المسلمين وما يكون في دار الحرب لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء، من الآية92] أي في قوم عدو لكم وما يكون في حق أهل الذمة لقوله:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: من الآية92] ونص على إيجاب الكفارة في كل نوع ففيه إشارة إلا أنه لا مدخل للقياس فيه إذ لو كان للقياس مدخل لنص على الكفارة في نوع من الخطأ ليقاس عليه سائر الأنواع.(27/155)
ص -78- ... وقال عليه السلام: "خمس من الكبائر لا كفارة فيهن" ومن جملتها قتل نفس بغير حق والمشهور من حديث واثلة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب النار فيحتمل أن ذلك بسبب آخر غير القتل ولأن صح قوله بالقتل فهو محمول على القتل بالحجر والعصا الكبير ثم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التطوع بالإعتاق عنه.
ألا ترى أنه خاطب به غير القاتل والكفارة لا تجب على غير القاتل والمعنى فيه أن هذا محظور محض فلا يكون سببا لإيجاب الكفارة كالزنا والسرقة وتفسير الوصف أنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة وتأثيره أن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة فسببهما ما يكون دائرا بين الحظر والإباحة فكما أن المباح المحض وهو القتل بحق لا يصلح سببا للكفارة فكذلك المحظور المحض وإنما السبب القتل الخطأ لأنه باعتبار أصل الفعل مباح وباعتبار المحل الذي أصابه محظور فكان جائزا وشبه العمد كذلك فإن القصد به التأديب والتأديب مباح والقتل بالحجر الكبير عند أبي حنيفة ليس بمحظور محض أيضا من حيث أن الآلة باعتبار جنسها ليس بآلة القتل فتتمكن فيه الشبهة ولهذا لم يجعله موجبا للقود ولا يدخل على هذا قتل الاب ابنه عمدا فإنه محظور محض وإنما لم يكن موجبا للقصاص لانعدام الأهلية فيمن يجب عليه وكذلك قتل المسلم الذي لم يهاجر إلينا محظور محض وإنما لا يكون موجبا للضمان لانعدام الأحراز بالدار وبه لا تخرج الفعل من أن يكون محظورا محضا وكذلك المسلم يقتل المستأمن عمدا فإن الفعل محظور محض وإنما لم يجب القصاص به لانعدام تمام الإحراز.(27/156)
ثم قد بينا أنه لا مدخل للقياس في هذه المسألة عندنا من الوجوه الذي بيناها وكلامه على طريق الاستدلال ممنوع فإن الكفارة وجبت عندنا بطريق الشكر لأن الشرع لما عذره بالخطأ وسلم له نفسه فلم يلزمه القصاص مع تحقق الفعل منه كان عليه أن يقيم نفسا مقام نفسه شكرا لله تعالى وذلك في أن يحرر شبحا ليتفرغ لعبادة الله تعالى فإذا عجز عن ذلك شغل نفسه بعبادة الله فصام شهرين متتابعين وهذا المعنى لا يوجب في حق العامد فإن الشرع ألزمه القصاص وما سلم له نفسه والدليل على أن المعنى ليس ما قلتم أنه لو قتل مستأمنا أو ذميا خطأ يلزمه الكفارة أيضا وما نقص بفعله من عدد المسلمين أحدهم يوضحه أن في نفس المقتول حرمتان والمال في الخطأ وجب باعتبار حرمة صاحب النفس فقط فتجب الكفارة باعتبار حرمة حق الله تعالى فأما في العمد الواجب هو العقوبة ولا تجب العقوبة إلا باعتبار الحرمتين جميعا لأن الفعل ما لم يكن موجبا للعقوبة إنما يكون حراما لعينه لمجموع الحرمتين فلا يمكن إثبات الكفارة مع ذلك في أحكام الدنيا إذا عرفنا هذا فنقول جناية القتل أنواع ثلاثة عمد وخطأ وشبه عمد وقد يكون ذلك من الأحرار وقد يكون من المماليك وكذلك يكون على الأحرار تارة وعلى المماليك تارة وقد ذكرنا في كتاب الديات عامة أحكام هذه الأنواع إلا أنه ذكر في هذا الكتاب بعض ما لم يذكر هناك من الأحكام وفرع على بعض ما ذكرنا من الأصول هناك فبدأ الكتاب بجناية المدبر.(27/157)
ص -79- ... وروي عن معاذ بن جبل أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما جعل جناية المدبر على سيده وعن عمر بن عبد العزيز أنه جعل جناية المدبر على مولاه وعن إبراهيم وعن عامر رضي الله عنهما قالا جناية المدبر على مولاه والمراد به ما يكون موجبا للمال من جنايته كالخطأ والعمد فيما دون النفس فأما ما يكون موجبا للقصاص فعلى الجاني خاصة ليس على المولى منه شيء والمراد بإيجاب القيمة على المولى بجناية المدبر لا بإيجاب الدية على المدبر لأن المدبر مملوك والمستحق بجناية المملوك نفسه يدفع بها إلا أنه بالتدبير السابق منع دفعه على وجه لم يصر مختارا لأنه ما كان يعلم أنه يجني ولو منعه بالتدبير بعد الجناية على وجه لم يصر مختارا بأن لم يكن عالما بالجناية كان عليه قيمته فكذلك إن منعه بتدبير قبل الجناية وهذه القيمة في مال المولى لا تعقله العاقلة لأن وجوبها بجناية مملوكه ووصلة الملك بين المملوك والمالك وهذه القيمة في ذمة المولى لا في ذمة المدبر لأن جناية القن لا تتعلق بذمته فكذلك جناية المدبر.(27/158)
وعند كثرة قيمة المدبر لا يجب على المولى أكثر من عشرة آلاف إلا عشرة لأن قيمته بعد الجناية عليه لا تزيد على هذا المقدار فكذلك قيمته عند الجناية منه ويستوي جنايته على النفس وما دونها لأن فيما دون النفس الواجب على المولى الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأنه لو كان ما كان الواجب دفعه أو فداه بأرش الجناية فالقيمة هنا بمنزلة الدفع هناك إلا أن التخيير بين القليل والكثير في الجنسين مستقيم وفي جنس واحد لا يستقيم عليه لخلوه عن الفائدة فأوجبنا الأقل لهذا فإن مات المدبر بعد الجناية فعلى المولى قيمته في ماله لأن جنايته ما تعلقت بنفسه ولا بذمته وإنما أوجبت القيمة دينا على المولى فبقاء المدبر وموته في ذلك سواء وإن اختلفوا في مقدار قيمته بعد موته فالقول قول المولى لإنكاره الزيادة وعلى ولي الجناية إثبات ما يدعيه بالبينة وإذا اختلفوا في قيمته وقت جنايته وهو حي وقيمته ألف فقال المولى لم تزل هذه قيمته منذ جنى وقال المولى كانت قيمته يوم الجناية أقل من هذه ولا يعلم متى كانت الجناية لم يصدق واحد منهما وأخذ بالقيمة على ما وجد عليه اليوم على قول أبي يوسف الأول.(27/159)
وقال محمد: إذا أقر المجني عليه أن الجناية وقعت قبل اليوم في وقت لا يدري كم كانت قيمته فيه فالقول قول السيد وهو قول أبي يوسف الآخر ولو لم يعلم وقت الجناية عليه تجب قيمته للحال إضافة للحادث إلى أقرب الأوقات ولو علم وقت الجناية وعلم أنها كانت سابقة فعلى قول أبي يوسف الأول يحكم بقيمته في الحال ولا يصدق المولى في النقصان ولا في قيمته وفي قوله الآخر وهو قول محمد إذا أقر المجني عليه أن الجناية كانت قبل اليوم في وقت لا يدري كم كانت قيمته يومئذ فالقول قول المولى وجه قول الأول أن قيمته للحال معلوم وفيما مضى مسببه فيرد المسبب إلى المعلوم ويجعل في الحال شاهدا على ما مضى باعتبار الظاهر فيكون القول قول من شهد له الظاهر كما إذا اختلف رب الماء مع المستأجر في انقطاع الماء في المدة فإنه يحكم الحال فيه.(27/160)
ص -80- ... ألا ترى أنه لو كان عجل الدفع كان مدفوعا بالجناية في الحال فكذلك إذا لم يكن عجل الدفع كان الواجب على المولى قيمته في الحال إلا أن يعلم أن قيمته وقت الجناية كانت دون هذا.
وجه قوله الآخر: أن جنايته لا تتعلق برقبته وإنما يقوم في الحال ليتبين به حكم متعلق برقبته ولكن موجب جنايته قيمته في ذمة المولى وقت الجناية وقيمته في الحال لا يكون دليلا على قيمته وقت الجناية إذ القيمة تزداد تارة وتنقص الأخرى فإن بقي بينهم الدعوى والإنكار فالمولى يدعي الزيادة فيما هو دين له في ذمة المولى والمولى ينكر ذلك فكان القول قول المولى كما في سائر الدعاوى ثم ذكر في الأصل في الدعاوى الجناية على طرف العبد وقد بينا هذا في الزيادات فزاد ها هنا رواية عن أبي يوسف إذا قطع يد عبد كثير القيمة فصالح على عشرة آلاف فإني أرد من الصلح أحد عشر درهما وقال محمد لا يزاد بدل يد العبد على خمسة آلاف إلا خمسة وكان أبو يوسف يقول لما تعذر بدل نفسه بعشرة آلاف إلا عشرة فلا بد من أن ينقص بدل طرفه عن بدل نفسه ولا نص في مقدار هذا النقصان فقدره بدرهم واحد اعتبارا للآدمي ومحمد جعل بدل طرفه النصف من بدل نفسه كما في الحر وسوى هذا رواية عن محمد أن الواجب في بدل طرف المملوك نقصان القيمة فقط وهو رواية عن أبي يوسف أيضا وعلى قول أبي حنيفة بدل طرف المملوك يتقدر بنصف بدل نفسه إذا لم يتجاوز الدية إلا أن في رواية الحسن عن أبي حنيفة عم جميع الأطراف في ذلك وفي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة استثنى الأذن والشعر كالحاجب وشعر الرأس واللحية فقال أستقبح اعتبار المملوك بالحر في هذا وأوجب نقصان القيمة وجه قول محمد أن طرف الملوك في حكم المال بدليل أنه لا يجري فيه القصاص بحال ويتحمله العاقلة بالجناية عليه بمنزلة الجناية على سائر الأموال في أنها توجب نقصان المالية بدلا مقدرا.(27/161)
وجه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن الأطراف تابعة للنفس المملوك والحر في ذلك سواء فكما أن موجب الجناية على طرف الحر نصف بدل نفسه فكذلك موجب الجناية على طرف العبد وجه رواية أبي يوسف أن البدل المقدر في الحر تارة يجب لتفويت الزينة وتارة يجب لتفويت المنفعة ومعنى الزينة في المملوك غير المطلوب وإنما المطلوب المنفعة ففي كل طرف يجب بدله باعتبار تفويت المنفعة كان العبد فيه كالحر وفي كل ما يجب في الحر باعتبار تفويت الزينة والجمال كالشعر وقطع الأذن المملوك فيه لا يلحق بالحر ولكن يلحق بالمال فيجب النقصان وهذا لأن المملوك يشبه الحر من وجه والمال من وجه والسبيل فيما يردد بين أصلين أن يوفر عليه حظهما وإذا حفر المدبر بئرا في الطريق فوقع فيها رجل فمات فعلى المولى قيمته لأنه بالحفر السابق جان على من وقع في البئر بطريق التسبب فإن دفع المولى قيمته إلى وليه بقضاء قاض فوهب الولي نصف القيمة للمولى ثم وقع فيها آخر قال يدفع الولي النصف الذي في يده كله إلى الآخر لأنه تبين أن القيمة(27/162)
ص -81- ... المقبوضة كانت مشتركة بينهما نصفين فهبة المولى النصف ينصرف إلى نصيبه خاصة دون نصيب شريكه فما بقي في يده كله نصيب شريكه ولأنه صار مستهلكا كالقائم من القيمة إذ لا فرق بين أن يهب ذلك من المولى وبين أن يهب من أجنبي آخر وما استهلكه كالقائم في يده حكما فعليه أن يدفع نصف قيمته إلى شريكه فإن وقع فيها ثالث وقد غرم الواهب نصف القيمة للثاني بأمر القاضي فعلى الواهب لولي الثالث سدس القيمة لأنه تبين أن القيمة الواجبة كانت بينهم أثلاثا وأن حق الثالث في ثلث القيمة إلا أن نصف ذلك في النصف الذي هو في يد الثاني ولا ضمان على الأول فيه لأنه دفعه بقضاء قاض فيرجع به على الثاني ويأخذ منه ثلث ما في يده ونصف حقه وهو سدس القيمة كان في النصف الذي وهبه الأول وهو مستهلك لذلك فلهذا يغرم له سدس القيمة ولا سبيل له على المولى لأن المولى قد أدى ما عليه من القيمة وإنما يملك الموهوب بتملك صحيح من الواهب ولا سبيل لأحد عليه.
وإن حفر المدبر بئرا في الطريق فوقع فيها رجل فمات ثم كاتب المولى المدبر ثم وقع فيها رجل آخر فعلى المولى قيمته بينهما نصفان ولا شيء على المكاتب لأنه إنما صار جانيا بالحفر السابق وقد كانت تلك الجناية قبل الكتابة فلهذا لا يجب على المكاتب شيء.
ألا ترى أنه لو أعتقه مولاه أو أدى بدل الكتابة فعتق ثم وقع فيها رجل كان على المولى قيمته ولا شيء على المعتق ولا على عاقلته وعلى هذا يعتبر قيمته يوم الحفر لأنه صار جانيا بذلك الحفر.
ألا ترى أن عند الوقوع قد يكون المدبر ميتا ولا تتحقق الجناية من الميت وعلى هذا لو أعتقه المولى بعد الحفر ثم وقع المولى في البئر فمات كان دمه هدرا لأنه صار جانيا بالحفر وهو كان مملوكا للمولى عند ذلك وجناية المملوك على المالك فيما يوجب المال هدر.(27/163)
وكذلك لو وقع فيها عبد للمولى عند ذلك والمولى وارثه أو ابنه أو بعض من لا يرثه إلا المولى فدمه هدر لأنه لو اعتبر كان موجبا للمولى على نفسه إلا المكاتب فإن على المولى الأقل من قيمة المكاتب يوم وقع فيها ومن قيمة المدبر يوم حفر البئر يؤدي من ذلك مكاتبته وما بقي فهو ميراث لأن المكاتب إذا ترك وفاء فهو في حكم الأجنبي عن المولى فتعتبر الجناية عليه في إيجاب الأقل من قيمته يوم وقع في البئر ومن قيمة المدبر يوم حفر ليؤدي منه المكاتبة فتحصل له الحرية ثم ما بقي ميراث فإن كان للمكاتب ولد حر فهو ميراث له وإلا فهو للمولى بالولاء ويستوي إن كان حفر المدبر البئر قبل أن يكاتب المولى هذا العبد أو بعده لأن جنايته فيما اتصلت به حين وقع في البئر وهو مكاتب في هذه الحالة وإن كان الواقع فيها بن المولى وله وارث غير المولى فهو ضامن حصة من يرث معه من قيمة العبد ويسقط حصته بمنزلة دين آخر واجب للابن على الأب ثم مات الابن فإنه يسقط حصته من ذلك ويؤدي حصة الابن الآخر.
ولو حفر المدبر البئر ثم أعتقه المولى ثم مات المولى ثم وقع في البئر إنسان فمات كانت.(27/164)
ص -82- ... قيمة المدبر في مال المولى لأن الحفر كان جناية منه في حال كونه مملوكا للمولى وكان موجبه القيمة على المولى إذا اتصل الوقوع به فيكون هذا نظير ما لو حفر المولى بنفسه ثم وقع فيها دابة بعد موته فكما أن هناك قيمة الدابة تكون في تركة المولى فيها هنا قيمة المدبر كذلك وإن لم يترك المولى شيئا فلا شيء على ورثته ولا على المعتق لما بينا أن موجب هذه الجناية الدين في ذمة المولى وليس على الوارث قضاء دين المورث من مال نفسه ولا على المعتق شيء من دين المعتق مدبر قتل دابة رجل وأحرق ثوب آخر فعليه السعاية في قيمة ذلك كله لأن جنايته على المال توجب الضمان دينا في ذمته يقضي من كسبه وسعايته ولكن يصير بهذا مأذونا له في التجارة حتى لا ينفذ سائر تصرفاته لأن انفكاك الحجر منه يتعمد الرضا له من المولى به صريحا أو دلالة ولم يوجد وحاله ها هنا كحال العبد المحجور عليه يلزمه دين بالاستهلاك فلا يصير به مأذونا ولكنه لو اكتسب كسبا أو وهبت له هبة فذلك كله مصروف إلى دينه فإن قضى به دين أحدهما كان للآخر أن يشارك فيه لأن القاضي لما قضى لهما موجبا الدين في ذمته فقد تعلق حقهما بكسبه فلا يملك تخصيص أحدهما بقضاء دينه وإبطال حق الآخر بمنزلة العبد المحجور عليه يخص بعض غرمائه بقضاء الدين من كسبه وهناك حق الباقين حق المشاركة معه.
ولو أن رجلا أعتق عبدا في مرضه ولا مال له غيره أو له مال غيره يخرج العبد من ثلثه ثم أن العبد قتل سيده خطأ فعليه أن يسعى في قيمتين في قول أبي حنيفة إحداهما رد الوصية فإن العتق في المرض وصية ولا وصية للقاتل والأخرى لأجل الجناية لأن المستسعى في قيمة عبده مكاتب وجناية المكاتب على مولاه خطأ كجناية الأجنبي فيلزمه قيمته كذلك وعند أبي يوسف ومحمد عليه قيمة واحدة لرد الوصية والدية على عاقلته لأن المستسعى عندهما حر عليه دين فجنايته خطأ تكون على عاقلته.(27/165)
ولو أن عبدا جرح مولاه فأعتقه مولاه ثم مات من تلك الجراحة فإن كان المولى صاحب فراش سعى العبد في قيمته لورثته وإن كان المولى يجيء ويذهب فالعبد حر لا سبيل عليه لأنه إذا كان صاحب فراش فهو مريض والإعتاق منه بمنزلة الوصية ولا وصية لقاتل وإذا كان يذهب ويجيء فهو بمنزلة الصحيح ينفذ إعتاقه لا بطريق الوصية.
ألا ترى أن رجلا لو جرح رجلا جراحة وأقر له بدين وهو يجيء ويذهب جاز وإن كان صاحب فراش لم يجز وحصل ذلك بمنزلة الوصية منه للقاتل.
ولو أن مدبرة قتلت مولاها خطأ وهي حبلى ثم ولدت بعد موته فلا سعاية على ولدها في شيء من قيمته لأنه وجب عليها السعاية في قيمتها لرد الوصية فكانت كالمكاتبة عند أبي حنيفة والمكاتبة إذا ولدت ولدا فالولد يدخل في كتابتها ويعتق بعتقها وليس عليه شيء من بدل الكتابة وعندهما هي حرة والولد ينفصل عنها حرا ولو جرحت مولاها ثم ولدت ثم مات المولى من تلك الجراحة فعليها السعاية في قيمتها لرد الوصية ويعتق الولد من الثلث لأن الولد انفصل(27/166)
ص -83- ... عنها وهي مدبرة فإن المولى حي حين ولدت وهي إنما تعتق بموت المولى وولد المدبرة مدبر ولم يوجد من الولد ما يحرمه من الوصية فكان هذا من الثلث مدبر تاجر عليه دين قتل مولاه خطأ فعليه أن يسعى في قيمة رقبته لغرمائه وما بقي من الدين عليه على حاله أما وجوب السعاية عليه في قيمة رقبته فلرد الوصية حين قتل مولاه ثم غرماؤه أحق بهذه القيمة من المولى لأن المولى صار ضامنا لهم شيئا فإن حقهم كان في كسبه.
ألا ترى أن المولى لو أعتقه في حياته لم يغرم لهم شيئا فكذلك إذا أعتق بموته ولكن هذه القيمة بدل ماليته وغرماؤه أحق بمكاتبته من مولاه.
ألا ترى أنه لو قتل في حياة مولاه كانت قيمته لغرمائه دون مولاه وأما وجوب ما بقي من الدين عليه فلأن في حال حياة المولى كان الدين واجبا بمعاملته فبقي بعد موت المولى على حاله وكذلك لو كان عبدا مأذونا عليه دين جرح مولاه ثم أعتقه المولى وهو صاحب فراش ثم مات من جراحه ولا مال له غيره لأنه أعتقه وهو مريض فيكون ذلك بمنزلة الوصية ولا وصية لقاتل وإن أعتقه وهو يجيء ويذهب فإن كان ترك مالا فغرماء العبد بالخيار إن شاؤوا أخذوا قيمة العبد من تركته لأن المولى أتلف عليهم مالية رقبته بالإعتاق ويأخذون قيمته من تركته ويتبعون العبد ببقية دينهم وإن شاؤوا باعوا العبد بجميع دينهم لكن الدين واجب بمعاملته في ذمته ولا سعاية على العبد لورثة المولى لأن المولى أعتقه في صحته مدبر ضرب مولاه ورجلا أجنبيا خطأ بدئ بأحدهما قبل الآخر إلا إن كان الأجنبي مات قبل المولى فلورثة الأجنبي قيمة المدبر في مال المولى لأنه صار قاتلا له وهو مدبر فيجب قيمته دينا في ذمة المولى ويستوفي من تركته بعد موته ويسعى المدبر في قيمته لورثته لأنه صار قاتلا لمولاه فصار محروما من الوصية فعليه رد قيمته للورثة لبطلان الوصية.(27/167)
وكذلك لو مات المولى قبل الأجنبي لأن المدبر إنما صار قاتلا للأجنبي بالضربة وقد وجدت منه في حال حياة المولى فيكون موجبها القيمة على المولى.
ألا ترى أن مدبرا لو جرح رجلا ثم مات المولى بعد ذلك كانت القيمة في مال المولى وكذلك إن لم يعلم أنهما ماتا أولا لا إن قد علمنا أن الجناية من المدبر لأن قيمته كانت دينا لهم على المولى وما يسعى فيه المدبر ملك المولى وحق غرمائه في ملكه مقدم على حق ورثته.
وإن كان لرجلين مدبران لكل واحد منهما مدبر فقطع كل واحد منهما يد صاحبه فيرثا جميعا فإن سيد كل واحد منهما يضمن نصف قيمة مدبر صاحبه يوم جنى عليه مدبره إلا أن يكون قيمة مدبره أقل من ذلك لأن موجب جناية المدبر الأقل من قيمته مدبرا ومن أرش الجناية فإن ماتا جميعا ضمن كل واحد منهم قيمة مدبره إلا أن يكون قيمة مدبر صاحبه أقل فحينئذ يلزمه ذلك لأن كل منهما صار قاتلا لصاحبه بفعل كان منه في حياته فموته بعد ذلك لا بمنع وجوب القيمة على المولى وإن مات أحدهما دون الآخر فعلى مولى الباقي الأقل من(27/168)
ص -84- ... قيمة مدبره ومن قيمة المقتول وعلى مولى المقتول الأقل من قيمة الميت ومن نصف قيمة الحي لأن أرش الجناية عليه هذا المقدار.
وإن أعتقهما مولاهما بعد الجناية كان على كل واحد منهما الأقل من قيمة مدبره وأرش جنايته على صاحبه إلى يوم أعتق الآخر سيده ولا يضمن الفضل الذي حدث في الجناية بعد العتق لأن إعتاق المجني عليه بمنزلة البرء في انقطاع السراية به لمعنى يبدل المستحق وقد بيناه في الديات مدبر بين رجلين أثلاثا جنا جناية فعليهما قيمته على قدر حصتهما فيه لأن وجوب القيمة على المولى لمنعه دفع الرقبة بالتدبير السابق وإنما منع كل واحد منهم بقدر ملكه فيلزمه من القيمة بقدر ذلك.
وكذلك لو كان أحدهما دبر نصيبه منه واختار الآخر تركه على حاله في قول أبي حنيفة لأن التدبير عنده يتجزأ إلا أن الآخر لا يخاطب بالدفع أو الفداء في نصيبه لأن مدبر البعض لا يحتمل التمليك كمعتق البعض فيتعذر عليه دفع نصيبه كما يتعذر عليه نصيبه مدبر بين رجلين على أحدهما جناية فعلى الآخر نصف قيمته له لأن قيمته نصيب المجني عليه فما يكون موجبا للمال عليه هدر وجناية نصيب صاحبه عليه معتبرة.(27/169)
ألا ترى أنه لو كان محل الدفع كان يخاطب صاحبه بدفع نصيبه إليه فكذلك يخاطب بدفع نصف القيمة إليه إذا كان نصيبه مدبرا فإن أعطى ذلك بأمر القاضي ثم جنى المدبر على أجنبي فعلى المولى المجني عليه نصف قيمة المدبر للأجنبي لأن الجناية الأولى لم تثبت في نصيبه فكأنه لم يوجد من نصيبه إلا هذه الجناية على الأجنبي فيغرم نصف قيمته له فيكون النصف الباقي فيما أخذه المولى المجني عليه من صاحبه يقتسمانه على مقدار أنصاف جنايتهما لأنه اجتمع في ذلك النصف جنايتان والمولى لا يغرم بجنايات المدبر وإن كثرت إلا قيمة واحدة وقد غرم قيمة نصيبه للمجني عليه مرة فلا يغرم شيئا آخر ولكن ما غرم يكون مشتركا بينهما لأن الأجنبي قد وصل إليه نصف حقه فإن ما بقي نصف حقه والمولى المجني عليه ما تثبت من الجناية عليه إلا نصفه فكان هذا النصف بينهما نصفان فإن جنى المدبر بعد ذلك جناية مالية لم يكن على الموليين بسبب هذه الجناية شيء آخر لأن كل واحد منهما غرم قيمة نصيبه مرة ولكن الآخر يتبع المولى المجني عليه الأول فيكون ما أخذه المولى والأول بينهما وبين هذا الآخر يضرب فيه كل واحد منهم بنصف حقه ويكون ما أخذ الأول أيضا من المولى المجني عليه بينه وبين هذا الآخر يضرب كل واحد منهما فيه بنصف الجناية لاستواء حقهما فيه.
وكذلك إن جنى بعد ذلك جناية أخرى فهو على هذا القياس والمعنى الذي بينا يعم الفصول كلها وإذا جنى المدبر على أحد مولييه جناية تزيد على قيمته فغرم شريكه له نصف قيمته بأمر القاضي ثم جنى المدبر على الآخر فغرم شريكه له نصف قيمته بأمر القاضي ثم جنى على أجنبي جناية فإنه يضرب مع كل واحد من الموليين فيما في يده بنصف الجناية لأن(27/170)
ص -85- ... كل واحد من الموليين غرم قيمة نصيبه بجناية المدبر مرة فلا يغرم شيئا آخر ثم حق الآخر استوى بحق كل واحد من الموليين في النصف الذي وصل إليه من القيمة فكذلك يقسم كل نصف بينه وبين من في يده نصفان رجل مات وترك مدبرا لا مال له غيره فجنى المدبر جناية فعليه أن يسعى في الأقل من قيمته ومن أرش الجناية ويسعى المدبر في ثلثي قيمته في قول أبي حنيفة لأن بموت المولى عتق ثلثه بالتدبير ولزمه السعاية في ثلثي قيمته والمستسعى بمنزلة المكاتب عنده وجناية المكاتب توجب عليه في كسبه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية وعلى قولهما حر عليه دين فجنايته تكون على عاقلته وعاقلته عاقلة مولاه.(27/171)
ثم عند أبي حنيفة حكمه في الجناية كحكم المكاتب حتى إذا جنى جنايتين قبل أن يقضي القاضي عليه بشيء فليس عليه إلا قيمة واحدة إلا أن يكون القاضي قضى عليه للأول بالقيمة ثم جنى جناية أخرى فحينئذ تلزمه القيمة للثاني وعلى قول زفر لا فرق بين ما قبل القضاء وبين ما بعده وهو قول أبي يوسف الأول وقد بينا هذا في الديات وفيه إشكال ها هنا فإن في المكاتب جعلنا جنايته في رقبته لتوهم دفعه بالجناية بعد العجز وهذا لا يتحقق في معتق البعض فكان ينبغي أن يكون موجب جنايته القيمة في ذمته ابتداء سواء قضى بها القاضي أو لم يقض ولكنا نقول الدفع ها هنا متوهم أيضا فإن من العلماء من يقول معتق البعض يستدام فيه الرق فيما بقي منه ويكون محتملا للتمليك والتملك فإن اجتهد القاضي هذا القول حكم به عند عجزه عن الأداء بعد حكمه فلهذا تتعلق جنايته برقبته كما تتعلق بجناية المكاتب إلا أنهما يفترقان في فصل وهو أن هذا المدبر لو مات بعد جنايته قبل أن يسعى في ثلثي قيمته للورثة وعليه دين فإن ما تركه بين أصحاب الجناية وأصحاب الدين الذين لهم عليه بالحصص بخلاف المكاتب فقد بينا أن هناك إذا لم يقض القاضي بالجناية على المكاتب حتى مات وعليه دين كان صاحب الدين مقدما على صاحب الجناية لأن هناك بموته عاجزا تنفسخ الكتابة ويبطل حق ولي الجناية فكان صاحب الدين أقوى من هذا الوجه وهذا المعنى لا يوجد هنا فإن بموته لا ينفسخ السبب الموجب للسعاية عليه ولكن يتحول حق ولي الجناية إلى القيمة باعتبار الناس عن الدفع سواء كان قضى القاضي بالدفع أو لم يقض فلهذا كان مساويا لصاحب الدين.(27/172)
ولو ترك ولدا له من ابنه ولم يترك مالا يسعى الولد فيما على أبيه لأنه بمنزلة ولد المكاتبة وقد بينا أن الولد هناك بعد موت أبيه يسعى في بدل الكتابة وفيما كان على ابنه لأصحاب الدين والجناية فإن كان المدبر قد سعى فيما قد كان للورثة ولم يقض القاضي عليه بالجناية حتى مات الأب يسعى في ثلثي قيمة أبيه لأن هذا بمنزلة بدل الكتابة وفيما على أبيه لأصحاب الدين والجناية فإن كان المدبر قد سعى فيما قد كان للورثة ولم يقض القاضي عليه بالجناية حتى مات الإب لم يسع الابن في شيء لأن الأب عتق بأداء ثلثي قيمته إلى ورثته والولد عتق بعتقه وإنما كان يجب عليه السعاية لتنفيذ العتق بالأداء فإذا عتق بالأول في حياته(27/173)
ص -86- ... لم يطالب بشيء من دين أبيه كما لا يطالب به سائر ورثة أبيه رجل أوصى بعتق عبد له يخرج من ثلثه ثم مات الموصي فجنى العبد جناية بعد موته قال يدفعه إلى الورثة وتبطل الوصية أو يفدونه متطوعين من أموالهم ويعتقونه عن الميت لأن الوصية بالعتق لا تصير منفذة بدون التنفيذ فجنى بعد موت المولى قبل أن يعتق كان هو بمحل الدفع وهو مبقي على محل ملك المولى فيخاطب من يخلف المولى بالدفع وإذا دفعه بطلت الوصية لفوات محلها فإذا اختار فداه فهو متطوع في ذلك في غير محله عليه فهو كما لو تبرع أجنبي بالفداء عنه وإذا ظهر عن الجناية يعتق عن الميت كما كان يعتق قبل الجناية فإن لم يكن له مال غيره وفدوه أعتق واستسعى في ثلثي قيمته لأن الوصية بالعتق إنما تنفذ من ثلثه وجناية المدبر الذمي بمنزلة جناية مدبر المسلم لأنه مانع دفع الرقبة بالتدبير السابق كالمسلم فإن الذمي ملزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فليس له أن يتبع مدبره كما ليس له أن يتبع أم ولده وسواء ما جنى قبل إسلامه وما جنى بعد إسلامه ما لم يقض عليه بالسعاية لمولاه الذمي من أجل إسلام المدبر لأن نفس الإسلام لا يضر ما لم يقض عليه بالسعاية.
ألا ترى أن مولاه لو أسلم بقي مدبرا له على حاله فيكون موجب جنايته على مولاه فإن قضى القاضي عليه بالسعاية في قيمته ثم جنى كان عليه في كسبه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأنه صار بمنزلة المكاتب بقضاء القاضي.(27/174)
ألا ترى أن مولاه لو أسلم بعد هذا بقي هو في حكم المكاتب يعتق بأداء القيمة إلا أن يعجز عنها فيكون هو في جنايته كالمكاتب وهذا بالإجماع أما عند أبي حنيفة فلأن المستسعى بمنزلة المكاتب بقضاء القاضي وأما عندهما فلأنه إنما يسعى ليعتق بخلاف معتق البعض وأما مدبر العبد الحربي المستأمن فإن كان دبره في دار الحرب ثم جنى العبد في دار الإسلام قيل للحربي ادفعه أو افده لأن التدبير في دار الحرب باطل بمنزلة الإعتاق فإن الحربي إذا أعتق عبده في دار الحرب كان عتقه باطلا وإذا أخرجه إلى دار الإسلام كان له أن يتبعه فكذا إذا دبره في دار الحرب كان له أن يتبعه في دار الإسلام وإن كان بمحل التبع يخاطب مولاه في جنايته بالدفع أو الفداء وإن كان دبره في دار الإسلام فهو بمنزلة مدبر الذمي لأن تدبيره في دار الإسلام صحيح كإعتاقه فيتعذر به دفع الرقبة ويلزمه القيمة بجنايته دينا عليه فإن دبره في دار الإسلام ثم لحق الحربي بدار الحرب والعبد في دار الإسلام ثم جنى جناية لم يكن على العبد منها شيء لأن موجب جناية المدبر القيمة دينا في ذمة مولاه والدين في ذمة الحربي لا تعلق له بمدبره فإن رجع الحربي بأمان أو مسلما أو أسلم أهل داره أخذه بقيمته كما يؤخذ بسائر الديون الواجبة عليه فإن سبى الحربي فالمدبر حر لأن نفسه تبدلت بالسبي من صفة المالكية إلى صفة المملوكية وذلك كموته حكما فيعتق به مدبره لأن الحرية حياة والرق تلف ولأنه بالرق خرج من أن يكون أهلا للملك فلا يبقى المدبر على ملكه ولا يحتمل النقل إلى غيره فيعتق لهذا والجناية تبطل لأنها كانت دينا عليه والحربي إذا سبي عليه دين(27/175)
ص -87- ... يبطل وقد بينا هذا في المأذون وإن قتل المولى ولم يسب أو مات فالمدبر حر وليس عليه شيء من السعاية للمسلمين ولا لورثة الحربي لأن حكم الأمان باق في هذا المدبر ولا حرمة لحق ورثته من أهل الحرب فلا يجب على المدبر السعاية لحقهم ولكنه مدبر مات مولاه لا وارث له فيعتق كله من غير سعاية.
وإذا فقأ الحر عين مدبر أو أم ولد أو مكاتب أو قطع يديه أو أذنيه أو رجليه كانعليه نقصان ذلك لأن إيجاب جميع القيمة على الجاني غير ممكن ها هنا فإن شرط وجوب جميع قيمة الدية دفع الجثة بدليل أنه لو كان قنا فغرم الجاني جميع القيمة بهذه الجناية سلمت له الجثة واتخاذ هذا الشرط متعذر في هؤلاء فيكون الواجب نقصان المالية بمنزلة ما لو جنى على المملوك جناية ليس لها أرش مقدر فإنه يجب نقصان ولو فعل ذلك بعبد بأن فقأ عينه أو قطع يديه كان عليه قيمته كاملة فإذا أخذها المولى دفع إليه الجثة عندنا وقال الشافعي: ليس عليه دفع الجثة إلى الجاني ولكن يأخذ منه القيمة ويسلم له الجثة لأن القيمة بدل عن الفائت خاصة فإن الجناية على المماليك بمنزلة الجناية على الأحرار ولهذا يقدر بدل طرفه بكمال بدل نفسه كما في الحريم الواجب في حق الحر يكون بدلا عن الفائت دون القائم فكذا منه في حق العبد.(27/176)
وهذا على أصله مستقيم فإنه يجعل طرف العبد مضمونا بالقصاص بطرف الحر ولا أجمعنا على أنه لو قطع إحدى اليدين من العبد يغرم نصف القيمة ولا يملك به شيئا من الجثة بل يكون ذلك بدلا عن الفائت خاصة فكذلك إذا قطع اليدين اعتبارا للكل بالبعض وأصحابنا يقولون يوفر على المولى كمال بدل ملكه وملكه محتمل للنقل فلا يحتمل للبدل على نفسه على ملكه كالغاصب إذا أخذ منه المغصوب القيمة بطريق الصلح بالاتفاق أو بقضاء القاضي عندنا وهذا لأن البدل والمبدل لا يجتمعان في ملك رجل والضمان إنما يجب جبرا للفائت فمع بقاء أصل ملكه في العين لا يملك إيجاب الضمان بطريق الجبران ثم الدليل على أن الواجب ها هنا بدل عن جميع العبد لأن الواجب يقدر بمالية العبد وأن العبد صار في حكم المستهلك لفوات منفعة الجنس منه.
ولو كان مستهلكا حقيقة كان الواجب من القيمة بدلا عنه فكذلك إذا صار مستهلكا حكما وإذا ثبت أن الواجب بدل عن الكل فيملك به ما يحتمل التمليك دون ما لا يحتمله والجثة وإن كانت مستهلكة حكما فهي محل التمليك بخلاف ما إذا كانت مستهلكة حقيقة فأما في الحر لا يمكن أن يجعل بمقابلة الجثة إذ لا قيمة للحربي الحر لأن جعل القيمة بمقابلة الجثة إنما يجعل ليتملك والحر لا يحتمل ذلك فلو جعلنا الدية بمقابلة الجثة إنما يجعل ليتمكن من إتلافه الجثة وهذا لا وجه له فأما إذا قطع إحدى اليدين من العبد فهناك الجثة قائمة حقيقة وحكما لبقاء منفعتها فيجعل الواجب بمقابلة المتلف خاصة وهذا لأن الواجب جزء من مالية المعتق والفائت جزء من العين فيمكن جعل الجزء بمقابلة الجزء وها هنا الواجب(27/177)
ص -88- ... جميع مالية العين والفائت جزء من العين حقيقة وجميع المالية لا يمكن أن تجعل بمقابلة الجزء فلهذا جعلنا القيمة بمقابلة الكل يوضحه أنه إذا غرم نصف القيمة بقطع إحدى اليدين فأما إن ملك نصفا معينا من جانب اليد المقطوعة ولحيوان لا يحتمل ذلك أو نصفا شائعا من جميع العبد فيكون ذلك ثلاثة أرباعه معنى لأن اليد من الآدمي نصفه وقد فات النصف وملك نصف ما بقي فذلك ثلاثة أرباع.
ولا يجوز أن يسلم ثلاثة أرباعه بضمان نصف القيمة فأما ها هنا الواجب جميع مالية العين ولا يسلم له إلا جميع مالية العين تمليكا وإتلافا فإن أبى المولى أن يدفع الجثة لم يكن له أن يرجع بشيء على الجاني في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يرجع بنقصان المالية وفي ظاهر المذهب عندنا الخيار ثبت للمولى بين أن يدفع الجثة ويأخذ القيمة وبين أن يمسك ويأخذ النقصان وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول الخيار للجاني بين أن يأخذ الجثة ويغرم القيمة وبين أن يغرم النقصان ولا يأخذ الجثة لأن الضمان عليه فالخيار في مقدار ما يلزمه من الضمان إليه والأصح هو الأول ووجه قولهما أن العبد في حكم الجناية على أطرافه بمنزلة المال حتى لا يتعلق القصاص بالجناية على أطرافه بحال ولا تتحمله العاقلة وتجب بالغة ما بلغت فعرفنا أنه بمنزلة المال وفي الجناية على الأموال يثبت الخيار للمالك بمنزلة ما لو خرق ثوب إنسان خرقا فاحشا أو قطع بعض قوائم دابة الغير كان لصاحبها الخيار بين أن يضمنه جميع القيمة ويسلم العين إليه وبين أن يضمنه النقصان فهذا مثله وهذا بخلاف الجناية على الحر لأنه لا يمكن النقصان في بدل نفسه بالجناية على طرفه وها هنا يمكن النقصان من بدل نفسه بالجناية على طرفه فيعتبر النقصان ها هنا.(27/178)
ألا ترى أن في الجناية على المدبر يعتبر نقصان المالية لتعذر الدفع فكذلك في الجناية على القن فإذا امتنع دفع الرقبة التحق بما لو كان الدفع متعذرا والدليل عليه أن البائع لو قطع يدي المبيع قبل القبض واختار المشتري إمضاء العقد فإنه يسقط عنه من الثمن حصة نقصان المالية لهذا المعنى أن يقطع اليدين النقصان في بدل نفسه فيعتبر ذلك النقصان من قيمة الثمن فكذلك ها هنا وأبو حنيفة يقول الجناية على بني آدم إن أوجبت كمال بدل النفس لا يكون موجب النقصان كما في الجناية على الأحرار وهذا لأن كمال بدل النفس وجوبه بالنص والنقصان إنما يكون بطريق الاجتهاد والحذر والاجتهاد في غير موضع النص فمع وجود النص لا معنى لاعتبار النقصان وبه فارق المدبر لأن ما وجب هناك جميع بدل النفس بالجناية على أطرافه.
ألا ترى أنه ليس للمولى أن يأخذ القيمة فوجب اعتبار النقصان بطريق المصير إلى الاجتهاد في غير موضع النص وكذلك في جناية البائع لأن مع إمضاء المشتري العقد لا يجب جميع بدل النفس بجناية البائع فاعتبرنا منها النقصان لذلك وحقيقة المعنى فيه وهو أن(27/179)
ص -89- ... الجناية على أطراف المماليك من وجه بمنزلة الجناية على الأموال ومن وجه بمنزلة الجناية على الأحرار.
ألا ترى أنه يجب جميع بدل النفس بقطع الطرف وأن الأطراف تابعة للنفس فإذا كان معنى النفسية معتبرا في الجناية على نفس المملوك فكذلك في الجناية على أطرافه وما تردد بين أصلين توفر حظه عليهما فلشبهه بالجناية على الأموال قلنا إذا لم يكن محل الدفع يجب النقصان ولشبهه بجناية الأحرار قلنا إذا وجب كمال بدل النفس لا يعتبر النقصان فإذا ثبت أن الواجب ها هنا هو القيمة دون النقصان عن شرط استيفاء جميع القيمة تسلم الجثة فإذا منع المولى هذا الشرط باختياره لم يكن له أن يرجع بشيء كما لو كسر قلب فضة لإنسان فإن لصاحب القلب أن يضمنه قيمة القلب مصوغا من الذهب ويسلم إليه المكسور وإذا أمسك المكسور لم يكن له أن يرجع عليه بشيء لأنه منع إيجاد شرط سلامة القيمة له فيكون كالمبريء له عن ضمان القيمة فكذلك ها هنا رجل غصب مدبر رجل فقتل عنده قتيلا خطأ ثم رده على المولي فعلى المولى قيمته ويرجع به على الغاصب لأن ذلك لزمه بجناية كانت عنده.(27/180)
ألا ترى أن المغصوب لو كان عبدا فدفعه المولى بالجناية رجع بقيمته على الغاصب وكذلك لو كانت جنايته على نفس عمدا فقتله عند المولى رجع على الغاصب بقيمته قنا كان أو مدبرا لأنه تلف بسبب كان عنده فإن غصب المدبر رجل آخر فقتل عنده قتيلا آخر خطأ فليس على المولى شيء لأنه غرم القيمة بسبب جنايته مرة ولكن ولي الجناية الثانية يتبع ولي الجناية الأولى فيأخذ منه نصف تلك القيمة ثم يرجع المولى على الغاصب الآخر بنصف القيمة وهو ما أخذه ولي الجناية الثانية فيدفعه إلى ولي الجناية الأولى لأن الأول استحق جميع القيمة فارغا ولأن الثاني إنما يستحق نصف الجناية على الأول بجناية المدبر عند الغاصب الثاني إلا أن الرجوع بسبب الغصب وقد كان بين المولى والغاصب الثاني فهو الذي يرجع بنصف القيمة ويدفعه إلى ولي الجناية الأولى.
ولو غصب مدبرا فقتل المدبر الغاصب أو عبده أو رجلا هو وارثه لم يكن على المولى المدبر من ذلك شيء في قول أبي حنيفة لأن المدبر يضمن بالغصب وقد بينا في كتاب الديات أن جناية العبد المغصوب على الغاصب وعلى ماله هدر عند أبي حنيفة لأن اعتبارها لا يفيد شيئا فقرار الضمان يكون على الغاصب فكذلك المدبر.
ولو جنى المدبر عند الغاصب على مولاه جناية ففي قول أبي حنيفة يعتبر جنايته فيجب الضمان على الغاصب وفي قول أبي يوسف ومحمد جنايته على مولاه وعلى مال مولاه هدر وقد بينا ذلك في الديات في العبد فكذلك في المدبر وكلامهما فيه أوضح فالمدبر بالضمان لا يصير مملوكا للغاصب وأم الولد في جناياتها والجناية عليها بمنزلة المدبر لأنه يتعذر دفعها بالجناية بسبب لم يصر المولى به مختارا وفي وجوب ضمان أم الولد بالغصب(27/181)
ص -90- ... اختلاف معروف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله وكذلك في وجوب السعاية عليها بعد ما عتق نصيب أحد الشريكين منها.
ولو أن أمة بين رجلين دبرها أحدهما ثم وطئها الآخر فجاءت بولد فادعاه الواطى ء ثبت نسبه منه في قول أبي حنيفة لأن التدبير عنده يتجزأ فنصيب المستولد باق على ملكه وذلك كاف لثبوت نسب الولد منه بالدعوة وعليه نصف قيمة الولد ونصف قيمة عقر الأم لأنه وطئها وهي مشتركة ولم يتملك نصيب شريكه منها لأجل التدبير فيصير الولد مقصودا بالإتلاف ولهذا يضمن نصف قيمة الولد مع نصف العقر لشريكه وجنايتها عليهما أو على غيرهما بمنزلة جناية مدبر هو بين اثنين في الحكم فإن مات الواطى ء منهما عتق نصيبه منها ويسعى للآخر في نصف قيمتها مدبرة لأن الاستيلاد لم يثبت في نصيب الشريك فإن مات المدبر منهما عتق نصيبه إذا كان يخرج من ثلثه ولا سعاية عليها للمستولد لأن نصيبه أم ولد ولا سعاية على أم الولد لمولاها عنده وفي قول أبي يوسف ومحمد هي مدبرة كلها للأول لأن التدبير عندهما لا يتجزأ وعليه نصف قيمتها للواطى ء لأنه يملك نصيبها منه بالتدبير وجنايتها عليه وولدها له لم يثبت نسبه من الواطى ء لأنه إنما استولد مدبرة الغير إلا أن الحد يسقط عنه للشبهة فيلزمه العقر للمدبر ولا يثبت نسب الولد من الواطئ.
وإذا جنى المكاتب جنايات ثم أعتقه سيده فعلى المكاتب الأقل من قيمته ومن أرش الجناية دينا في ذمته لأن جناياته كانت متعلقة برقبته وقد تحولت إلى ذمته لوقوع الناس عن دفعه بسبب العتق إلا أن المولى لا يصير ضامنا شيئا لأنه ما أتلف على أولياء الجناية شيئا فإنهم قبل العتق كانوا يطالبون المكاتب بالأقل من قيمته ومن أرش الجناية في كسبه وذلك باق لهم بعد العتق فإن قضى عليه بذلك فرضى بعضهم جاز ما فعل ولم يشركهم الآخرون في ذلك لأن دين كل واحد منهم في ذمته وهو حر والحر يملك تخصيص الغرماء بقضاء دينه وهو كدين آخر على المكاتب لاناس.(27/182)
وكذلك لو فعل ذلك وهو مكاتب لأن حق كل واحد منهم في ذمته وهو قضاء ديونه من اكسابه بمنزلة الحر ولو لم يقض عليه بالجناية حتى عجز فأعتقه المولى وهو يعلم بها كان مختارا لأنه بعد العجز كان مخيرا بين الدفع والفداء فإذا منع أحدهما صار مختارا للآخر إذا كان عالما بها وإن لم يكن عالما فقد صار مستهلكا للرقبة فعليه قيمته.
وكذلك لو جنى وهو مكاتب ثم عجز قبل القضاء فجنى جناية أخرى فهما سواء فيه لأن جنايته متعلقة برقبته فيخلص المولى يدفع الرقبة إليهما قبل الإعتاق ويدفع القيمة بعد الإعتاق إن كان لا يعلم بالجناية وإن كان يعلم بها فهو مختار للأرش فيها مكاتبة جنت جناية ثم جنى عليها بعد ذلك ثم عجزت قبل أن يقضي عليها وليها فالمولى بالخيار إن شاء دفعها وإن شاء فداها فإن فداها فقد ظهرها عن الجناية فيتبع الجاني عليهما بالإرش إن كان ذلك لم يأت على جميع قيمتها وإن أتى على جميع قيمتها من نحو فقء العينين أو قطع اليدين أو جدع(27/183)
ص -91- ... الأنف وقد برأت من ذلك فالمولى بالخيار إن شاء دفعها إلى الجاني وأخذ منه قيمتها وإن شاء أمسكها ولا شيء عليه في قول أبي حنيفة وفي قولهما يرجع عليه بنقصان قيمتها وقد بينا هذا.
وإن اختار دفعها إلى المجني عليه قام المجني عليه في الجناية عليها مقام المالك فيتبع الجاني بإرش الجناية إن كان لا يأتي على جميع قيمتها وإن كان يأتي على جميع ذلك فهو بالخيار إن شاء دفعها إليه وإن شاء أخذ قيمتها وإن شاء أمسكها ولا شيء له بمنزلة عبد جنى على رجل جناية ثم جنى عليه جناية ثم دفعه المولى بجنايته كانت الجناية على العبد المدفوع إليه العبد فكذلك في المكاتب والأرش مخالف للولد فإن المكاتبة لو ولدت بعد الجناية ثم عجزت فدفعها المولى كان الولد للمولى وأرش الجناية يكون للمجني عليه لأن الأرش بدل جزء وكان تعلق حق المجني عليه به وحكم البدل حكم المبدل والولد ليس ببدل عن شيء تعلق به حق المجني عليه ولكنه زيادة تولدت على ملك المولى فيكون سالما للمولى.
وإذا جنى المكاتب جناية فقضى عليه بها ثم جنى أخرى فلم يقض عليه بها حتى عجز أو جناها بعد العجز وعليه دين فإن المولى يدفعه بهذه الجناية ويتبعه صاحب الدين والجناية المقضي بها فيباع فيهما لأن جنايته متعلقة برقبته ما لم يتصل به القضاء وقد صارت الأولى دينا في ذمته بالقضاء فقد اجتمع بعد العجز دين وجناية فيبدأ بالدفع بالجناية ثم يباع في الدين لمراعاة الحقين وجناية المكاتب على مولاه وعلى الأجنبي سواء ما لم يعجز لأن موجب جنايته في كسبه والمولى في كسبه كأجنبي آخر قبل العجز فإذا عجز بطلت جنايته على المولى لأن المولى صار أحق بكسبه فلا يجوز أن يجب له الحق في كسبه بسبب الجناية.(27/184)
ألا ترى أنه لو جنى عليه بعد العجز كان هدرا فكذلك إذا جنى قبل العجز ثم عجز فإن كان قد قضى عليه بجناية المولى والأجنبي وهما سواء ثم عجز بيع نصفه في جناية الأجنبي العبد لأن حق كل واحد منهما كان في نصف القيمة دينا عليه وبالعجز يسقط نصيب المولى لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا ولكن لا يزداد به حق الأجنبي فيباع نصفه في دين الأجنبي لهذا لا أن يقضي المولى عنه نصف القيمة وإن كان قضى بجناية المولى عليه ثم جنى على الأجنبي فقضى بها أيضا ثم عجز بيعت رقبته كلها في جناية الأجنبي لأن كل واحد منهما استوجب جميع القيمة دينا في ذمته وبالعجز يسقط دين المولى ويبقى دين الأجنبي فيباع فيه إلا أن يقضي المولى عنه رجل قطع يد مكاتبه فقضى عليه بذلك والمكاتبة إلى أجل ثم جنى المكاتب جناية على رجل فقضى عليه بها ثم عجز فرد في الرق قال لا تبطل جناية المولى على المكاتب ويباع المكاتب في جناية الأجنبي فإن لم يف ثمنه أو قطع بها رجع فيما على المولى لأن نصف القيمة كان دينا له على المولى بمنزلة كسبه وكسبه بعد العجز لا يسلم للمولى ما بقي عليه دين والقيمة لولي جنايته دين عليه فيباع فيه فإذا لم يف ثمنه بالقيمة رجع بما بقي على على المولى وهو بمنزلة مكاتب استهلك له مولاه ألف درهم وعليه دين(27/185)
ص -92- ... أو ليس عليه دين ثم استدان بعد ذلك دينا ومكاتبته إلى أجل ثم عجز أو مات اتبع المولى بذلك فكان بين سائر غرمائه بالحصص لأن كسبه لا يسلم لمولاه ما لم يفرغ من دينه.
فإن كان المكاتب جنى على أجنبي وقضى عليه بذلك ثم جنى عليه المولى جناية فقضى عليه بها ثم عجز بيع العبد في دين الأجنبي فإن وفي وإلا نظر إلى ما نقص من قيمة العبد يوم جنى المكاتب فيضمن المولى للأجنبي الأقل منه ومن أرش جنايته لأن المولى بجنايته أتلف جزءا قد تعلق به حق ولي الجناية وبقضاء القاضي صارت القيمة دينا في ذمته لولي الجناية فيقضي من ثمنه وكسبه وما وجب على المولى بمنزلة كسبه فإذا لم يف ثمنه بدينه ضمن المولى ذلك لولي الجناية.
ألا ترى أن عبدا لو جنى جناية ثم جنى عليه المولى وهو لا يعلم بجنايته ثم اختار دفعه ضمن ما جنى عليه واستوضح هذا كله بمكاتب عليه دين ألف درهم واستهلك له مولاه ألف درهم ثم استدان بعد ذلك القائم مات ولم يترك مالا غير الدين الذي على مولاه أتبع الغرماء جميعا الأولون والآخرون المولى بتلك الألف حتى يأخذونها فيقسمونها ولو كان الدين يبطل فيما سبق عن المولى لم يكن على المولى في هذه الفصول شيئا إلا للغرماء الأولين فهذا يوضح لك جميع ما سبق رجل جنى على مكاتبه جناية ثم مات المكاتب وترك ولدا ولد في المكاتبة ولم يدع شيئا فإنه يرجع على الابن من المكاتبة بقدر أرش الجناية لأن ذلك كان دينا على المولى للمكاتب وقد بقيت الكتابة لما خلف ولدا فيصير المولى مستوفيا ذلك القدر من بدل الكتابة بطريق المقاصة لأن في حال حياة المكاتب إنما كان لا تقع المقاصة لمكان الأجل في بدل الكتابة وبموته سقط الأجل في المال الذي خلفه كما لو ترك وفاء.(27/186)
وإذا صار المولى مستوفيا ذلك كان على الولد أن يسعى فيما بقي من بدل الكتابة فإن كان على المكاتب دين يقضي على المولى بالإرش فيؤخذ منه ويؤدى إلى غريم المكاتب لأن ما على المولى بمنزلة كسب المكاتب والدين في كسبه مقدم على بدل الكتابة بعد موته فيمنع ذلك وقوع المقاصة ولكن يأخذه الغريم من المولى ويسعى الولد فيما بقي من الدين والمكاتبة لأنه قائم مقام أبيه فيما كان واجبا على أبيه.
ولو جنى المكاتب على مولاه جناية فقضى عليه بقيمته والجناية أكثر من القيمة ثم أعتق المولى نصفه فهذا وما لو أعتق كله سواء ولو أعتق كله بعد القضاء عليه بالجناية بقي ذلك دينا عليه يسعى فيه لمولاه لأنه قبل العتق كان يسعى فيه فلا يزيده العتق إلا وكادة فكذلك إذا أعتق نصفه ويسعى في قول أبي حنيفة مع ذلك في الأقل من نصف القيمة ومن نصف المكاتبة لأن العتق عنده يتجزأ فيجب إخراج الباقي إلى الحرية بالسعاية وإنما يلزمه الأقل لأنه هو المتيقن به.
وإذا قتل العبد رجلا خطأ ثم كاتبه المولى فالكتابة جائزة إن علم المولى بالجناية أو لم يعلم لأنه باق على ملكه بعد الجناية والمولى متمكن من التصرف فيه.(27/187)
ص -93- ... ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه بعد ذلك منه لم تكن الجناية بعضها فكذلك إذا كاتبه فإن كان المكاتب يعلم بالجناية فهو ضامن للأرش لأنه منع بالكتابة دفع الرقبة فيصير به مختارا للأرش ويستوي إن عجز المكاتب أو لم يعجز.
وعن أبي يوسف قال: إن لم يخاصم في الأرش حتى عجز كان للمولى أن يدفعه بالجناية بخلاف ما إذا خوصم وقضى القاضي بالأرش لأن الكتابة لا تزيل ملك المولى وهو يعرض الفسخ ففيه لا يكون اختيارا للأرش وإنما يتم به الاختيار إذا تأكد بقضاء القاضي لأن المنع من دفع الرقبة إنما يتحقق بعد المطالبة فإذا عجز قبل القضاء صارت الكتابة كأن لم تكن والكتابة كانت تمنعه من دفعه بالجناية وإقدامه عليه مع علمه بالجناية يكون اختيارا للفداء لبيعه رقبته من إنسان فإنه وإن فسخ البيع بقضاء القاضي لم يسقط الأرش عن المولى وإن كان كاتبه وهو لا يعلم بجنايته فعجز قبل الخصومة في الجناية خير المولى بين الدفع والفداء لأن المولى ما صار مختارا شيئا ها هنا وإنما يغرم القيمة لاستهلاك الرقبة فإذا ارتفع المانع من الدفع قبل قضاء القاضي فقد انقدم الاستهلاك فيخير بين الدفع والفداء بمنزلة ما لو باعه وهو لا يعلم بالجناية ثم فسخ البيع بسبب هو فسخ من كل وجه قبل أن يخاصم في الجناية فإنه يخير بين الدفع والفداء وإن كاتبه بعد ما قضى به لأصحاب الجناية قبل أن يقبضوه كان باطلا لأن بقضاء القاضي تحول إلى ملك ولي الجناية فإنما كاتب ما لا يملك.
ألا ترى أنه لو أعتقه أو باعه في هذه الحالة كان باطلا فكذلك إذا كاتبه ولو كاتبه وهو لا يعلم بالجناية فلم يقض بها حتى مات المكاتب ولم يدع شيئا فلا ضمان على المولى لأنه لما أشرف على الموت تحقق عجزه عن أداء بدل الكتابة فانفسخت الكتابة فزال المانع من الدفع فخرج المولى من أن يكون مستهلكا وصار بمنزلة ما لو عجز في حال حياته ثم مات بعد ذلك فيبطل حق ولي الجناية لفوات محل حقه.(27/188)
ولو مات عن وفاء كانت عليه القيمة لأن عقد الكتابة يبقى بعد موته فيتحقق من المولى استحقاق الرقبة بعقد الكتابة فيلزمه القيمة لهذا وكذلك إن ترك ولدا يسعى في الكتابة لأن عقد الكتابة يبقى ببقاء الولد كما يبقى باعتبار مال خلفه فإن عجز فرد في الرق لم تبطل القيمة عن السيد قال لأني ألزمتها إياه ومراده إذا عجز بعد ما قضى القاضي بالقيمة على الولد فأما إذا عجز قبل قضاء القاضي بالقيمة فقد بطلت الجناية لأن الولد قائم مقام أبيه وقد بينا أن الأب لو مات عاجزا قبل قضاء القاضي بالقيمة يبطل حق ولي الجناية بخلاف ما إذا مات بعد القضاء فكذلك إذا عجز الولد وليس في عنق الولد شيء من حق ولي الجناية لما بينا أن حق ولي الجناية لا يسري إلى الولد.
وإذا كان العبد بين رجلين فجنى جناية فكاتبه أحدهما بغير إذن شريكه فأدى إليه المكاتبة ثم جاء أصحاب الجناية فإن كان علم بالجناية فهو ضامن لنصف الأرش ولو لم يعلم فهو ضامن نصف قيمة العبد لأنه في نصيبه كان مخيرا بين الدفع والفداء وكتابته في نصيبه تنفذ في(27/189)
ص -94- ... حق ولي الجناية ويتأكد بأداء البدل فهو وما لو كان العبد كله سواء وأما الذي لم يكاتب فلا شيء عليه لأنه ما أحدث بعد جنايته شيئا يصير به مختارا ولكنه يرجع على شريكه بنصف ما قبض من بدل الكتابة لأنه كسب عبد مشترك بينهما ويضمنه قيمة نصيبه أيضا إن كان موسرا ويسعى العبد فيه إن كان معسرا ثم يدفع ذلك إلى أصحاب الجناية لأن نصيبه من العبد فات وأخلف بدلا فيدفع إلى ولي الجناية إلا أن يكون الأرش أقل من ذلك وإن أعتق نصيبه ضمن نصف القيمة لأصحاب الجناية لأنه صار ذلك متلفا عليهم بإعتاقه ولا سبيل لأصحاب الجناية على ما أخذه من المكاتب من نصف ما قبض من بدل الكتابة لأن ذلك كسب نصيبه وليس لولي الجناية على كسب الجاني سبيل وإن كاتب كل واحد منهما وهما يعلمان بالجناية أو كاتبه أحدهما بإذن شريكه وهما يعلمان بالجناية فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد لأن الكتابة عندهما لا تتجزأ وعند أبي حنيفة المكاتب يصير مختارا لنصيبه فأما الآذن لا يصير مختارا لأن الكتابة عنده تتجزأ في نصيبه فكان هذا في حكم الجناية وما لو كاتبه بغير إذن شريكه سواء رجل كاتب عبدا وقد جنى جناية ولم يعلم بها ثم جنى جناية أخرى فقضى عليه بها ثم عجز ثم حضر أصحاب الجناية الأولى قال يدفعه المولى إليهم ويبيعه صاحب الجناية الثانية المقضي بها فيباع له فيها لأن الجناية الأولى باقية في رقبته بعد عقد الكتابة فإن المولى لم يكن عالما بها.
ألا ترى أنه لو عجز قبل القضاء دفع بها فكان وجود تلك الجناية قبل الكتابة وبعده سواء وقد تحول حق ولي الجناية الثانية لأن القيمة بقضاء القاضي فحين عجز كان عبدا قد اجتمع في رقبته دين وجناية فيدفع بالجناية أولا ثم يباع في الدين لمراعاة الحقين وإن لم يقض القاضي بشيء حتى عجز خير المولى بين أن يدفعه بالجنايتين أو يفديه بالأرش منهما.(27/190)
وإذا قتل المكاتب رجلا خطأ ثم قتل رجلا آخر خطأ ثم جاء ولي أحدهما فقضى له بقيمة العبد ولم يعلم بالجناية الأخرى ثم عجز المكاتب فإن نصف قيمة العبد دين للمقضي له في نصف العبد وجميع الجناية الأخرى في النصف الباقي فإن شاء مولاه فداه وإن شاء دفعه لأن الجنايتين اجتمعتا عليه في حالة الكتابة فيكون حق كل واحد منهما في نصف القيمة وإنما قضى القاضي للأول بجميع القيمة لجهله بالجناية الثانية فحين علم بها تبين أن قضاءه فيما زاد على النصف للمقضي له كان باطلا فكأنه ما قضى له إلا بنصف القيمة فإذا عجز كان نصف القيمة دينا له في نصف العبد يباع فيه وحق ولي الجناية الثانية في النصف الثاني لانعدام المحول إلى القيمة وهو قضاء القاضي فيخير المولى فيه بين الدفع والفداء ولو لم يعجز وأخذ المقضي له فيه جميع القيمة ثم حضر الآخر فإنه يقضي للآخر على المكاتب بنصف القيمة ويرجع المكاتب على الأول بنصف القيمة لأنه تبين أنه استوفى منه فوق حقه فإن حقه كان في نصف القيمة والنصف الآخر للثاني بخلاف ما إذا كانت إحدى الجنايتين قبل الكتابة وقد غرم المكاتب ما كان منه قبل الكتابة لأن هناك موجب الجناية الأولى على مولاه،(27/191)
ص -95- ... وموجب الجناية الثانية على المكاتب فلم يجتمعا في حق المكاتب ولهذا كان قضاء القاضي للثاني بجميع القيمة صحيحا وها هنا موجب الجنايتين على المكاتب والمكاتب لا يلزمه بجناياته إلا الأقل من قيمته ومن أرش الجناية.
مكاتب قتل رجلا خطأ ثم قتل رجلا آخر خطأ فقضى عليه بإحدى الجنايتين ثم قتل آخر خطأ فإنه يكون للمقضي له نصف القيمة التي قضى له بها لأن عند القضاء كان الموجود منه جنايتين فحق كل واحد من الموليين في نصف القيمة وقد تحول حق المقضي له إلى نصف القيمة بقضاء القاضي ثم قضى للثالث بنصف قيمة العبد خاصة لأن نصف القيمة فرع من الجناية بتحويل القاضي حق الثاني إلى نصف القيمة فيتعلق حق ولي الجناية الثانية بذلك النصف فلهذا يقضي له بنصف القيمة ويقضي أيضا بنصف القيمة للذي لم يقض له بشيء بينه وبين الثالث أثلاثا ثلثاه للأوسط وثلثه للثالث لأن في هذا النصف اجتمع حق الأوسط وحق الثالث فإن المحول لم يوجد وفي حق كل واحد منهما جنى إلا أن يقضي لهما بنصف القيمة إلا أن الثالث قد وصل إليه نصف حقه فلا يضرب في هذا النصف إلا بما بقي له والأوسط ما وصل إليه شيء من حقه فهو يضرب بجميع حقه في هذا النصف فلهذا كان النصف بينهما أثلاثا.
ولو عجز قبل القضاء بالجناية الثالثة فاختار دفعه كان نصفه بين الثالث والأوسط أثلاثا ثلثاه للأوسط وثلثه للثالث ويكون النصف الباقي للثالث خاصة ويكون حق المقضي له دينا في هذا النصف لأن حق الأول تحول إلى ذمته في هذا النصف فتعلق به حق الثالث فعند العجز اجتمع في هذا النصف دين وجناية فيدفع بالجناية ثم يباع بالدين في النصف الآخر فقد اجتمع في هذا نصف وحق الأوسط فيدفع إليهما ويضرب فيه الأوسط بجميع حقه والثالث بنصف حقه لأنه قد وصل إليه نصف حقه فلهذا كان النصف بينهما أثلاثا.(27/192)
مكاتب قتل رجلا خطأ ثم فقأ عين رجل فقضى للمفقوءة عينه بثلث القيمة عليه ثم عجز قال يباع الثلث في دين المفقوءة عينه ويدفعه المولى إلى ولي النفس أو يفديه بجميع الدية لأن حقهما كان تعلق به أثلاثا فإن حق المفقوءة عينه في خمسة آلاف وحق ولي النفس في عشرة آلاف.
ألا ترى أنه لو كان بمحل الدفع كان يدفع إليهما أثلاثا فكذلك القيمة في المكاتب يكون بينهما أثلاثا ثم المحول وهو القضاء وجد في حق المفقوءة عينه فيصير ثلث القيمة دينا له في مالية ثلث الرقبة يباع فيه بعد العجز والثلثان حق مولى النفس ولم يوجد المحول فيه حتى عجز فيخاطب المولى بأن يدفع إليه ثلثيه أو يفديه بجميع الدية فإن لم يعجز حتى قتل رجلا خطأ ثم عجز فاختار دفعه فأما المقضي له فله ثلث القيمة دينا في ثلث العبد وقد تعلق حق ولي الثالث بذلك الثلث فاجتمع في ذلك الثلث دين وجناية فيدفع في الجناية ثم يباع في الدين وأما الثلثان فقد اجتمع فيهما حق ولي الأول وحق ولي الآخر ولم يوجد المحول في(27/193)
ص -96- ... حق واحد منهما فيدفع إليهما ثم يضرب فيه الأول بالدية والآخر بثلثي الدية لأنه قد وصل إليه ثلث حقه فإنما يقسم ثلثا الرقبة بينهما أخماسا على قدر حقهما.
ولو جنى المكاتب جنايتين فقضى لأحدهما بنصف القيمة فأداها إليه المكاتب ثم قضى للآخر وسلم ما استوفى لا شركة للثاني مع الأول فيما قبض لأن حق أحدهما تميز عن حق الآخر.
ألا ترى أنه تحول حق القيمة إلى القيمة وحق الآخر في نصف العبد حتى لو عجز قبل القضاء يدفع إليه نصفه فلا يكون له حق مشاركة المستوفى فيما استوفى سواء مات المكاتب أو لم يمت عجز أو لم يعجز.
مكاتبة قتلت رجلا خطأ ثم فقأت عين آخر ثم ولدت ولدا فقضى عليها للمفقوءة عينه بثلث قيمتها ثم عجزت فإن حق ولي النفس في ثلثي رقبة الأم يدفع أو يفدى لأن المحول وهو القضاء لم يوجد في حقه ويباع الثلث في دين المقضي له فإن لم يف الثلث بحقه بيع ثلث الولد فيه أيضا لأن حق الغريم حق قوي في الأم فيسري إلى الولد.
ألا ترى إن أمة مديونة لو ولدت بيع ولدها معها في الدين بخلاف حق ولي الجناية وحق المفقوءة عينه صار دينا بقضاء القاضي في الثلث فيثبت في ثلث الولد أيضا فهو نظير مكاتبة عجزت وعليها دين وقد ولدت في مكاتبتها فبيعت في دينها فلم يف ثمنها به بيع ولدها فيه أيضا بخلاف حق ولي النفس.
والذي يوضح الفرق أن حق صاحب الدين يثبت في الكسب فكذلك يثبت في الولد بخلاف حق ولي الجناية وإن كان إنما قضى لولي المقتول على المكاتبة بالسعاية في ثلثي قيمتها ثم عجزت وقد ولدت في مكاتبتها فحق المفقوءة عينه في ثلث رقبتها إن شاء دفعه وإن شاء فداه ولا سبيل له على شيء من ولدها ويباع ثلثها للمقضى له فإن وفى وإلا بيع ثلثا الولد لأن حق صاحب الولد صار دينا بقضاء القاضي والدين يسري إلى الولد وحق صاحب العين في الجناية لم يصر دينا بعد فلا يسري إلى الولد.(27/194)
مكاتب قتل رجلا خطأ فقضى عليه بها ثم جنى جنايتين فقضي عليه بإحداهما ثم عجز والجنايات مستوية وكل واحدة منها تأتي على قيمته فإن القيمة للمقضي له دين في جميع الرقبة لأنه حين تحول حق الأول إلى القيمة بقضاء القاضي لم يكن في رقبته جناية سواها فيثبت حقه في جميع القيمة دينا في جميع الرقبة ثم لا يتغير ذلك الحكم بما يكون له من الجناية ونصف القيمة للمقضي له الآخر دين في نصف الرقبة لأن الجنايتين الأخريين تعلقتا برقبته فيكون حق كل واحد من الموليين في النصف وقد تحول حق المقضي له إلى نصف القيمة بقضاء القاضي وبقي حق الآخر في نصف العبد فيخاطب المولى بدفعه إلى من لم يقض له أو الفداء فإن فداه طهر هذا النصف عن حق الثالث وإنما بقي فيه حق الأول في نصف قيمته فيباع هذا النصف له خاصة وأما النصف الآخر فقد وجب فيه دينان: دين(27/195)
ص -97- ... المقضي له الأول ودين المقضي له الثاني فيباع هذا النصف ويقسم لثمن بين الأول والثاني أثلاثا لأن الأول يضرب فيه بخمسة آلاف فقد وصل إليه نصف حقه والثاني يضرب فيه بعشرة آلاف فإنه لم يصل إليه شيء هكذا ذكره الحاكم رحمه الله في المختصر قال والأوضح عندي أن هذا النصف بينهما نصفان لأن حق كل واحد منهما بقضاء القاضي حول إلى نصف القيمة في هذا النصف فكانا مستويين في ذلك فيكون ثمن هذا النصف بينهما نصفين.
وإن دفع المولى نصفه بالجناية بيع النصف المدفوع في دين الأول خاصة لأنه اجتمع في هذا النصف دين وجناية فيدفع أولا بالجناية ثم يباع في الدين وبيع النصف الباقي للآخرين نصفين لما بينا أن حقهما في هذا النصف تحول إلى القيمة وهما مستويان فيه وبهذا تبين أن ما ذكره الحاكم في الفصل الأول من القيمة بينهما أثلاثا غلط.
و لو كان قضى للآخرين أيضا بقيمة العبد ثم عجز بيع العبد فكان نصفه ثمنه للأول ونصفه للآخرين لأن حق الأول ثبت في جميع القيمة وحق الآخرين بقضاء القاضي إنما ثبت في قيمة واحدة أيضا.
مكاتب قتل ثلاثة أنفس خطأ فقضى لأحدهم بثلث قيمته ثم أن أحد الآخرين وهب جنايته للمكاتب ثم عجز المكاتب قال يباع ثلثه في دين المقضي له لأن حقه بقضاء القاضي تحول إلى ثلث القيمة دينا في ثلث المالية ثم يباع الثلث في دينه بعد العجز ويدفع المولى ثلثه إلى الثالث ويبقى ثلثه للمولى لا حق لهما فيه لأن القاضي حين قضى لأحدهم بثلث القيمة فقد قضى بالقيمة بينهم أثلاثا إلا أن حق الثاني لم يتحول إلى القيمة بعد فإن عجز دفع المولى إليه من العبد بمقدار حقه وهو الثلث والثلث منه كان حق الواهب وقد أسقطه بالهبة فيبقى للمولى.(27/196)
ألا ترى أن عبدا لو جنى جنايتين فعفا أحدهما عن جنايته كان نصفه للسيد لهذا المعنى إذ حق كل واحد منهما في نصفه فحصة العافي تسلم للمولى وفي حصة الآخر يخاطب المولى بالدفع أو الفداء وكذلك إن كان المكاتب جنى جنايتين فعفا أحدهما عنه وقضى للآخر بحقه ثم عجز بيع للآخر نصفه في دينه منه ويبقى العبد سالما للمولى وهو حصة العافي.
وكذلك إن كان في يد المكاتب مال يفي بدين المقضي له قضى دينه ويبقى سالما للمولى إن كان الآخر قد عفا وإن لم يكن عفا خوطب المولى بدفع نصيبه إليه أو الفداء وإن كان ما في يده لا يفي بحق المقضي له بذلك ثم بيع بقدر نصيبه ثلثا كان أو نصفا فيما بقي له من الدين فإن كان عليه دين سوى ذلك تحاصا في هذا المال لاستواء حقهما فيه ثم يباع ما بقي من العبد في دين صاحب الدين لأن دينه تعلق بجميع الرقبة فلا يسلم شيء من الرقبة للمولى ما لم يصل إلى الغريم كمال حقه.(27/197)
ص -98- ... و إذا ولد للمكاتب في كتابته من أمة له ولد فقتله رجل خطأ كانت قيمته للمكاتب لأن من دخل في كتابته صار تبعا له.
ألا ترى أنه أحق بكسبه يأخذه فيقضي به من دين الكتابة فكذلك هو أحق ببدل رقبته وإذا كان للمكاتبة ولد ولدته في المكاتبة فجنى الولد جناية قضى عليه بالجناية ولم يلحق الأم منها شيء لأن الولد لما دخل في كتابتها صار مكاتبا للمولى لأنه لو أعتقه ينفذ عتقه فيه وجناية المكاتب توجب عليه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية ولا يقال إن الأم أحق بكسبه فينبغي أن يكون موجب جنايته عليها لأنها إنما كانت أحق بكسبه لتؤدي منه بدل الكتابة فتجعل العتق لنفسها وله حتى أن ما وراء ذلك من الكسب يكون للولد بمنزلة مكاتب آخر للمولى وضمان المكاتبة دينا على المكاتب باطل في رقها فإن عتقت جاز ذلك الضمان بمنزلة العبد إذا ضمن مالا عن إنسان ثم عتق أخذ بذلك الضمان وكذلك إن ضمنت دينا آخر على الولد منه لم يصح ضمانها في حال رقها فإن عتقت كان ضمانها صحيحا لزوال المانع وهو الرق.
وإذا كان العبد وامرأته مكاتبين كتابة واحدة فولدت ولدا ثم قتله الأب فعليه قيمته للأم لأن الولد دخل في كتابتها فإنه جزء منها يتبعها في الرق والحرية فكذلك بدل الرقبة وكذلك في الكتابة وجناية الأب على الولد كجناية أجنبي آخر ولو قتله أجنبي آخر كان عليه قيمته للأم لأن بدل الرقبة بمنزلة الكسب وكسب الولد للأم دون الأب فكذلك بدل الرقبة وكذلك لو أديا فعتقا فإنه لا يسقط عنه شيء من ذلك لأنه واجب عليه لها وبالعتق يتأكد حقها قبله.
وكذلك لو قتل الابن أباه كان الضمان في قيمته لأنه صار مكاتبا للمولى تبعا لأمه فجنايته على أبيه كجناية مكاتب آخر فيلزمه السعاية في قيمته وليس على الأم من ذلك شيء وليس عليه من بدل الكتابة شيء لأنه تبع للأم في الكتابة فإن أدت الأم عتقوا جميعا وكانت القيمة الواجبة عليه ميراثا عن الأب بمنزلة سائر أكسابه.(27/198)
ولو لم يقتل الولد الأب ولكن الأم قتلت الولد لم يلزمها شيء لأن الولد جزء منها ولو قتله غيرها كانت القيمة واجبة لها فإذا كانت هي الذي قتلته لو وجبت القيمة وجبت لنفسها على نفسها وذلك لا يجوز وكذلك لو قتل الولد الأم فليس عليه بسبب الجناية شيء لأنه جزء منها فجنايته عليها كجنايته على نفسه إلا أنه يلزمه الكتابة بمنزلة ما لو كانت الأم باقية ولأنه قائم مقامها فإن الكتابة تبقى بموتها حتى يؤدي البدل فعليه أن يسعى فيما كانت الأم تسعى فيه وإن قتل الأب الولد كان عليه الأقل من قيمته ومن قيمة أبيه بسبب جنايته وليس عليه من بدل الكتابة شيء لأنه ما كان داخلا في كتابة أبيه فلا يقوم مقامه بعد موته والأم حية تسعى في الكتابة فلا حاجة للولد إلى السعاية فيما على أبيه فإن أدت الأم جميع الكتابة عتقا جميعا والسعاية الواجبة على الولد بجنايته على الأب تكون ميراثا عنه تأخذ الأم حصتها فما أدت عنه(27/199)
ص -99- ... بمنزلة كسب آخر يخلفه الأب وما بقي هو ميراث لورثة الأب ليس لهذا الولد منه شيء لأنه قاتل إلا أن يكون صغيرا فحينئذ لا يحرم الميراث بقتله عندنا وقد بينا هذا في الديات وأن حرمان الميراث بسبب القتل إنما يثبت في حق من ينسب إلى تقصير في التحرز وذلك لا يتحقق في حق الصبي والمجنون ولأن حرمان الميراث جزاء الفعل المحظور وذلك ينبني على الخطاب فلا يثبت في حق الصبي وعند الشافعي الصبي بمنزلة البالغ في حرمان الميراث بسبب القتل كما هو بمنزلة البالغ في الكفارة على مذهبه.
ولو أن رجلا كاتب عبدين مكاتبة واحدة فولد لأحدهما ولد من أمته ثم جنى الأب على ولده أو جنى عليه فالجناية باطلة لأنه دخل في كتابة أبيه فكان مانعا له فجناية كل واحد منهما على صاحبه بمنزلة جنايته على نفسه لأنهما كشخص واحد في حكم الكتابة فلو اعتبرنا جناية أحدهما على صاحبه بمنزلة جنايته على آخر كانت القيمة واجبة على واحد منهما وذلك لا يجوز ولو جنى المكاتب الآخر على الولد لزمته الجناية للأب لأن المكاتب الآخر من هذا الولد كأجنبي آخر ولأن المكاتب الآخر لو جنى على الأب كانت جنايته معتبرة فكذلك إن جنى على الولد الذي لم يبع له في الكتابة.(27/200)
وإذا ولدت المكاتبة ولدا ثم أقرت عليه بجناية أو دين لم تصدق عليه لأن الولد صار بمنزلة المكاتب للمولى حين دخل في كتابتها وإقرارها على مكاتب المولى بالدين والجناية باطل وكذلك إن أدت فعتقت لأن الولد ازداد بعدا عنها فإن مات الولد قبل أن تؤدي من ماله أخذت بإقرارها من ذلك المال لأنها أحق بالمال الذي خلفه الولد وقد أقرت أن ذلك المال مشغول بحق صاحب الدين والجناية وإن حقهما مقدم على حقها فتؤاخذ بإقرارها وتجعل كأنها جددت الإقرار بدين بعد موت الولد كمن أقر على مورثه بدين في حياته ثم مات فصار المال ميراثا له وكذلك لو قتل الولد فأخذت قيمته لأن قيمة نفسه بمنزلة كسبه في أنه يسلم لها إذا فرغ من دينه وجنايته فيكون إقرارها صحيحا فيه إذا خلص الحق لها.
ألا ترى أن الدين لو كان ثابتا على الولد بالبينة كان الغريم أحق بكسبه وقيمته إذا قتل.
ولو أقر الولد على الأم بجناية أو دين لم يصدق لأنه لو جاز كان على الأم دونه ولا ولاية له على أمه في أنه يلزمها دينا فإن ماتت الأم عن مال بدئ بالكتابة فقضيت لأن إقرار الأم كما لا يصح في حق الولد لا يصح في حق المولى وحق استيفاء بدل الكتابة من تركتها بعد موتها فإذا قضت الكتابة وحكم بعتقها كان الباقي ميراثا منها للابن فيؤاخذ بإقراره فيما ورثه كما لو جدد الإقرار عليها بذلك بعد ما صار المال ميراثا له وإن لم تدع الأم شيئا فقضى على الولد أن يسعى فيما على أمه من الكتابة وهو مقر اليوم بالجناية التي كان أقر بها على الأم فإنه يقضي عليها بالسعاية فيها أيضا لأن المقر يعامل في حق نفسه كأن ما أقر به حق والثابت بالإقرار في حق المقر كالثابت بالمعاينة ولو ثبت في الكسب القائم في يده.
ولو ثبتت الجناية بالبينة كان على الولد السعاية بعد موتها في الأقل من قيمتها ومن أرش(27/201)
ص -100- ... الجناية مع بدل الكتابة فإن عجز وقد أدى بعض الكتابة لم يسترد ما أدى ويبطل ما بقى لأن بالعجز صار كسبه ورقبته حقا للمولى وإقراره في حق المولى غير صحيح إلا أنه لا يسترد من القابض ما أدى لأن حق المولى عند عجزه إنما ثبت في الكسب القائم في يده وذلك خرج من ملكه إلى ملك القابض بسبب صحيح فلا يثبت فيه حق المولى.
ولو أقرت المكاتبة على ولدها بدين وعلى الولد دين ببينة وفي يده مال قد اكتسبه فصاحب البينة أحق بماله لأن دينه ثابت بحجة هي حجة في حق الكل ودين الآخر إنما ثبت بإقرار المكاتبة وإقرارها ليس بحجة على غيرها فإن قضى صاحب البينة وفضل شيء كان للذي أقرت له الأم لأن الولد بمنزلة عبدها من حيث أنها أحق بكسبه إذا فرغ من دينه وقد أقرت بأن حق المقر له فيه مقدم على حقها فإن عجزت أو عتقت لم يلزم رقبة الولد من إقرارها شيء لأن بالعجز صار الولد عبدا للسيد فلا يجوز إقرارها عليه وبالعتق صار الولد حرا ولم يبق لها حق في كسبه فلا يجوز إقرارها عليه في ذمته ولا في كسبه.
ولو قتل الولد وهي مكاتبة وأخذت قيمته صرفت في الدين بمنزلة كسب خلفه الولد لأنها أحق بجميع ذلك فإن صرفت في الدين ثم عجزت لم يسترد من ذلك شيء من المقر له لما بينا أن حق المولى إنما ثبت بعد عجزها فيما بقي في يدها فأما المصروف إلى الدين فقد خرج من ملكها إلى ملك المقر له فلا يثبت حق المولى في شيء منه.(27/202)
ولو غصب المكاتب عبدا فهلك عنده ضمن قيمته بالغة ما بلغت وكذلك سائر الأموال لأن ضمان الغصب بمنزلة ضمان العقد من حيث أنه يوجب الملك في المضمون والمكاتب في ذلك بمنزلة الحر بخلاف ضمان الجناية فإنه لا يجب على المكاتب بسبب الجناية إلا الأقل من قيمته ومن أرش الجناية اعتبارا للمكاتب بالقن وضمان المال بسبب الغصب والاستهلاك يجب على القن في ذمته بالغا ما بلغ وضمان الجناية لا يوجب على المولى إلا دفع الرقبة بها فكذلك في حق المكاتب فإن غصب المكاتب عبدا قيمته ألف درهم فصارت قيمته في يده ألفين ثم قتله وقتل آخر خطأ فمولى العبد بالخيار لأنه وجد من المكاتب في عبده سببان موجبان للضمان الغصب والقتل فكان له أن يضمنه بأي السببين شاء فإن اختار تضمينه بالقتل قضى على المكاتب بقيمته واقتسم المولى العبد المغصوب وولي الحر يضرب فيه المولى بألفي درهم قيمته وقت القتل وولي الحر بالدية لأنه لما اختار تضمينه بالقتل فقد أبرأه عن ضمان الغصب فيجعل كما لو قتله في يد مولاه.
وإن أراد المولى أن يضمنه بالغصب ضمنه قيمته يوم غصبه ألف درهم وقضى عليه لولي الحر بقيمة المكاتب بسبب جنايته على الحر ولا يشتركان في ذلك لأن ما وجب بسبب الغصب يكون دينا في ذمته وما وجب بسبب القتل يكون في رقبته فلا تتحقق المشاركة بينهما فيه بخلاف الأول فهناك الواجب عليه لهما بسبب الجناية فيشتركان في القيمة الواجبة على المكاتبة بقدر حقهما.(27/203)
ص -101- ... وكذلك لو كانت قيمته يوم غصب أكثر القيمتين فهذا والأول في التخريج سواء.
رجل كاتب نصف عبد له فاستهلك العبد مالا لرجل فذلك دين في عنقه يسعى فيه ولا يباع شيء منه في الدين لأن عندهما صار الكل مكاتبا وعند أبي حنيفة رحمه الله النصف منه مكاتب ومكاتب النصف لا يحتمل البيع كمكاتب الجميع فيكون عليه.
ولو أن مكاتبا قتل عمدا وله وارث في كسبه غير المولى أو ليس له وارث غيره ولم يترك وفاء في قيمته ولا وفاء بالمكاتبة فلا قصاص فيه لأن في إيجاب القصاص ضررا على المكاتب وفي إيجاب القيمة توفر المنفعة عليه لأنه يؤدي عنه كتابته فيحكم بحريته وحق المقتول في بدل نفسه مقدم على حق غيره فإيجاب ما ينتفع به المقتول أولى من إيجاب القصاص الذي لا منفعة فيه للمقتول ولا لمن له القصاص بسببه إذا ترك وارثا غير المولى واشتباه من له القصاص يمنع وجوب القصاص وإن ترك وفاء وله ولد حر فلا قصاص فيه أيضا وإن اجتمع في طلبه الولي والولد لاشتباه المستوفي كان على قول علي وبن مسعود رضي الله عنه يؤدي كتابته فيحكم بحريته والقصاص لولده وعلى قول زيد بن ثابت رضي الله عنه يموت عبدا فيكون القصاص لمولاه واختلاف الصحابة يورث الشبهة ولأن المولى يأخذ بدل الكتابة من تركته فيحكم بحريته فباعتبار ابتداء القتل القصاص للمولى لأنه جناية على ملكه وباعتبار المآل القصاص للوارث لأنه يحكم بموته حرا فلاشتباه المستوفى كذلك.(27/204)
وكذلك إن اجتمعا على استيفاء القصاص لأن أصل الفعل لم يكن موجبا للقصاص فباجتماعهما لا يصير موجبا وإن لم يدع المكاتب شيئا فلا قصاص في هذا الوجه للمولى ومراده من هذا الفصل إذا لم يكن في قيمته وفاء بالكتابة أما إذا كان في قيمته وفاء بها فقد ذكر قبل هذا أنه لا يجب القصاص أيضا وإن ترك وفاء ولا وارث له غير المولى فللمولى القصاص في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأنه متعين للاستيفاء مات حرا أو عبدا وفي قول محمد رحمه الله لا قصاص فيه لاشتباه السبب وقد بينا المسألة في كتاب المكاتب.
رجل قطع يد مكاتب ثم جنى المكاتب على القاطع جناية ثم عجز فعلى الحر أرش الجناية للمولى ويدفع المولى عبده مقطوعا أو يفديه لأن ما وجب على الحر بجنايته بمنزلة كسب المكاتب وكسبه للمولى بعد العجز ثم حق المجني عليه تعلق بالعبد مقطوعا لأن الجناية وجدت منه وهو أقطع اليد فيخاطب مولاه بالدفع لذلك بعد العجز أو الفداء وإن كانت جناية المكاتب على الحر قبل جنايته عليه قيل للمولى ادفعه أو افده فإن دفعه بطلت جناية الحر عليه لأنه جنى على الحر ويده صحيحة فيتعلق حق ولي الجناية بيده ثم يحول إلى بدله بالجناية عليه فإذا اختار المولى دفعه كان عليه أن يدفع أرش اليد معه لو كان الجاني أجنبيا آخر فإذا كان هو المجني عليه فقد ملك ما عليه من أرش اليد فيسقط ذلك عنه وإن(27/205)
ص -102- ... فداه أخذ المولى من الحر أرش جنايته على العبد لأنه وصل إلى المجني عليه كمال حقه وطهر العبد من الجناية فيكون أرش يده خالص حق المولى.
رجل كاتب نصف عبده ثم قطع رجل يديه فعليه ضمان النقصان لأن مكاتب النصف مكاتب الكل في أنه يتعذر تسليم الجثة إلى الجاني وقد بينا في الديات أن ذلك يمنع وجوب ضمان جميع القيمة على الجاني فإنما يلزمه ضمان النقصان ثم نصف ذلك للمولى ونصفه للمكاتب لأن النصف منه مكاتب والنصف مملوك للمولى غير مكاتب في قول أبي حنيفة وضمان النقصان بمنزلة كسب اكتسبه المكاتب فيكون نصفه لمولاه ونصفه للمكاتب.
وإذا قتل عبد المكاتب رجلا خطأ فاختار المكاتب فداءه بالدية وقضى عليه بها فهو دين في عنق المكاتب لأن المكاتب في عبده بمنزلة الحر وفي اختيار الفداء منفعة له وهو استخلاص عبده عن الجناية فيكون هو فيه كالحر وتكون الدية عليه دينا بقضاء القاضي بمنزلة سائر ديونه ويطالبه به في حال الكتابة وإن عجز بيع فيه إلا أن يؤديه المولى عنه وعلى هذا لو أقر المكاتب على عبده بجناية جاز إقراره عليه ويخير المكاتب فيه بين الدفع والفداء بمنزلة الحر يقر على عبده بذلك وكذلك لو صالح عن جناية على عبده فهو في ذلك بمنزلة الحر وقد بينا حكم هذا فيما إذا عجز وأدى في الديات.(27/206)
رجل كاتب نصف عبده ثم جنى المكاتب جناية ضمن المولى نصفها وسعى المكاتب في نصفها لأن المكاتب أحق بنصف كسبه فيكون موجب الجناية عليه في ذلك النصف والمولى أحق بنصف كسبه باعتبار ملكه فيكون موجب الجناية عليه في ذلك النصف وإنما يلزمه الأقل من نصف القيمة ومن نصف الأرش لأنه صار مانعا دفع هذا النصف بالكتابة السابقة ولم يصر مختارا بذلك فيكون مستهلكا ضامنا للقيمة كما في جناية المدبر وأم الولد فإن قضى بذلك عليهما ثم عجز بيع نصفه في النصف الذي قضى به عليه وكان النصف الآخر دينا على المولى لأن الحق بقضاء القاضي تحول من نصف نفسه إلى نصف القيمة دينا في ذمته فيباع ذلك النصف فيه بعد عجزه فأما النصف الآخر فإنما قضى به دينا في ذمة المولى فلا يتغير ذلك بعجزه لأنه حين قضى به كان السبب القضاء وهو تعذر الدفع قائما فإن لم يعجز ولكن قتل آخر خطأ فإنه يقضي على المكاتب بنصف قيمة أخرى لأنه في النصف هو مكاتب فيه وقد تحول حق الأول إلى القيمة بالقضاء فيتعلق حق الثاني بهذا النصف فيقضي عليه بنصف قيمة لهذا ويدخل الثاني مع الأول في نصف القيمة الذي قضى به على المولى لأن المولى ما منع بالكتابة السابقة إلا نصف الرقبة فلا يغرم باعتباره إلا نصف القيمة وقد أدى ذلك النصف إلى الأول فليس عليه شيء آخر ولكن الثاني يشارك الأول فيما قبض من المولى من نصف القيمة وإن عجز قبل أن يقضى للثاني قيل للمولى ادفعه إلى الثاني أو افده لأن الجناية الثانية تعلقت برقبته باعتبار توهم الدفع بعد العجز فإن دفعه تبعه الأول بنصف القيمة دينا في ذمته لأن حق الأول تحول إلى نصف القيمة بقضاء القاضي فاجتمع في ذلك النصف(27/207)
ص -103- ... دين وجناية فيدفع بالجناية ثم يباع في الدين ويكون للأول على المولى نصف القيمة لقضاء القاضي له بذلك.
رجل كاتب نصف أمته ثم ولدت ولدا فجنى الولد جناية فإنه يسعى في نصف جنايته ويكون نصفها على المولى لأن الولد بمنزلة الأم نصفه مكاتب ونصفه مملوك للمولى ففي النصف الذي هو مكاتب موجب جنايته عليه وفي النصف الآخر موجب جنايته على المولى إلا أن الدفع للمولى متعذر بسبب الكتابة السابقة فعليه نصف قيمته فإن أعتق السيد الأم بعد ما جنى الولد عتق نصف الولد وسعى في نصف قيمته للمولى لأن نصف الولد كان مكاتبا تبعا لأمه فيعتق بعتقها والنصف الآخر كان مملوكا للمولى وقد تعذر استيفاء الملك له بسبب عتق النصف فعليه السعاية في نصف القيمة للمولى ونصف الجناية على الولد باعتبار أن نصفه كان مكاتبا وقد تأكد ذلك بالعتق.
وكذلك حكم الجناية إذا أعتق المولى الولد إلا أن هناك لا سعاية على الولد لأنه إنما عتق بإعتاق المولى إياه وفي الأول إنما عتق بحكم السعاية في الكتابة وذلك كان في النصف منه دون النصف.
ولو لم يعتق أحد منهما ولم يجنيا على الأجنبي ولكن جنى أحدهما على الآخر لزم كل واحد منهما من جنايته الأقل من قيمته ومن نصف الجناية باعتبار الكتابة في النصف ثم نصف ذلك على المولى باعتبار أن النصف مملوك له وهو مستهلك بالكتابة السابقة ونصفه على الجاني للمولى باعتبار أن المجني عليه نصفه مملوك للمولى غير مكاتب فيصير بعضه بالبعض قصاصا لأنه وجب لكل واحد منهما على صاحبه مثل ما لصاحبه.(27/208)
ولو جنت الأم ثم ماتت قبل أن يقضى عليها ولم تدع شيئا فولدها بمنزلتها يسعى في نصف الجناية والكتابة لأن نصف الولد مكاتب معها ولو كان الكل تبعا لها كان يقوم مقامها في السعاية فيما عليها من بدل الكتابة وموجب الجناية فكذلك إذا كان دينا في ذمة المولى ابتداء فلا يسقط ذلك بموتها كجناية المدبر ويستوي إن كان قضى عليها بالجناية أو لم يقض أما في النصف الذي هو على المولى فغير مشكل وفي النصف الذي هو عليها فلأن الكتابة بقيت ببقاء من يؤدي البدل وتصير جنايتها دينا بموتها عمن يؤدي كما تصير دينا بموتها عمن يؤدي له بدل الكتابة فكان القضاء وغير القضاء فيه سواء فإن جنى الولد بعد ذلك جناية ثم عجز وقد كان قضى عليه بجناية أمه فإن الذي قضى به عليه من جناية أمه دين في نفسه غير أن للمولى أن يدفعه بجنايته لأن حق ولي جنايته تعلق برقبته وزال المانع من دفعه بعجزه قبل القضاء فيكون للمولى أن يدفعه بجنايته وإن شاء فداه فإن فداه بيع نصفه في الدين الذي على أمه وإن دفعه لم يتبعه في هذا الدين لأنه دين أمه وحق ولي جنايته مقدم على حق صاحب دين أمه فلهذا لم يتبعه المقضي له بنصف القيمة في ملك المدفوع إليه.(27/209)
ص -104- ... رجل كاتب نصف عبده فجنى جناية ثم كاتب النصف الباقي فجنى جناية أخرى ولم يكن قضي للأول فإن على الأول نصف الجناية الأول ويقضي على المكاتب بقيمته لأنه حين جنى على الأول كان النصف منه مملوكا للمولى غير مكاتب فكان الدفع منه متعذرا فوجب على المولى نصف قيمته لولي تلك الجناية دينا ذمته ثم جنى على الثاني وهو مكاتب كله فيقضى عليه بقيمته وتكون نصف هذه القيمة لولي الجناية الثانية خاصة لأن الذي كوتب منه آخرا ما ثبت فيه إلا حق ولي الجناية الثانية فقيمة هذا النصف عند قضاء القاضي تكون له خاصة والنصف الآخر وهو الذي كوتب منه أولا قد تعلق به الجنايتان جميعا فقيمة ذلك النصف إذا قضى به القاضي يكون بينهما نصفين لاستواء حقهما فيه فقد وصل إلى كل واحد منهما نصف حقه وإنما بقي له نصف حقه فإن عجز قبل قضاء القاضي دفعه إليهما أو فداه فإن كان قضى عليه بالجناية الأولى قبل أن يجني الثانية ثم عجز فإن للمقضي له نصف ما قضى له على المولى ونصفه دين في نصف العبد ويدفع العبد إلى الثاني أو يفديه لأنه حين جنى على الثاني كانت الرقبة فارغة عن الجناية الأولى فيتعلق حق ولي الجناية الثانية به فيدفع إليه بعد العجز أو يفدى بالدية فإن دفعه تبعه الأول فيباع له في نصف قيمته لما قلنا أن نصف القيمة صار دينا في ذمته بقضاء القاضي فيتبعه ذلك في ملك المدفوع إليه ويباع فيه إلا أن يقضيه عنه.(27/210)
ولو كاتب نصف عبده فجنى جناية ثم كاتب النصف الباقي فجنى جناية ثم عجز عن المكاتبة الأولى يرد ذلك النصف إلى الرق لأن كل نصف بمنزلة شخص على حدة فالعجز في النصف الأول لا يوجب العجز في النصف الثاني وإنما تنفسخ الكتابة فيما تقرر فيه سببه ثم يقضى على المولى للأول خاصة بنصف جنايته ونصفها بينه وبين الثاني يضرب كل واحد منهما فيه بنصف جنايته لأن الجناية الأولى كان قد أوجب على المولى نصف القيمة لأنه حين جنى تلك الجناية كان النصف منه للمولى ملكا فلا يتغير ذلك الحكم لعجزه وفي النصف الآخر كانت الجناية على الأول متعلقة بنصف الرقبة وقد تعلق أيضا جنايته على الثاني بذلك النصف وكان على المولى دفع ذلك النصف بالجنايتين بعد عجزه عن المكاتبة الأولى لولا الكتابة الثانية وهو بالكتابة الثانية صار مانعا دفع ذلك النصف على وجه لم يصر مختارا فعليه نصف القيمة بين ولي الجنايتين نصفين وعلى المكاتب نصف القيمة أيضا لولي الجناية الثانية لأنه جنى عليه والنصف الباقي مكاتب فموجب جنايته عليه في هذا النصف ما بقيت الكتابة وهي باقية وإن عجز عن المكاتبة الثانية خاصة ولم يعجز عن الأولى فعلى المولى هنا الأقل من نصف قيمته ونصف الجناية الأولى وهو للأول خاصة ونصف الجناية الأخيرة فيضرب كل واحد منهما بنصف جنايته ويقضي على المكاتب في النصف الذي كوتب أخيرا بالأقل من نصف قيمته ومن انصاف جنايتهما وهذا كله على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما إذا كاتب الرجل نصف عبده فهو مكاتب كله والحكم في جنايته كالحكم في جناية المكاتب على ما سبق.(27/211)
ص -105- ... رجل كاتب عبدين له مكاتبة واحدة ثم جنى أحدهما جناية سعى في الأقل من قيمته ومن أرش الجناية ولم يلزم صاحبه منها شيء إن عاش هذا أو مات لأن كل واحد منهما مقصود بعقد الكتابة بمقابلة بعض البدل فاتحاد العقد واختلاف العقد فيما يلزم كل واحد منهما بالجناية والدين سواء.
ولو كوتب كل واحد منهما بعقد على حدة لم يلزم أحدهما شيء مماعلى صاحبه من جناية أو دين فكذلك إذا كوتبا بعقد واحد وإنما صار كل واحد منهما مطالبا بجميع بدل الكتابة لأجل الضمان ولأنه لا يتوصل إلى العتق إلا بأداء جميع البدل وهذا المعنى غير موجود في الدين والجناية وعلى هذا لو قتل أحدهما صاحبه خطأ وقيمتهما سواء فعليه قيمة المقتول بمنزلة ما لو كانا مكاتبين في عقدين ثم الحي منهما يسعى في جميع الكتابة وتبقى الكتابة في حق الميت لأنه مات عمن يؤدي البدل ولأن العقد واحد فلا يمكن فسخه في حق الميت مع إبقائه في حق الحي ولا بد من إبقاء العقد في حق الحي وهذا لا يتوصل إلى الحرية إلا بأداء جميع البدل وإذا أداها عتق واستوجب الرجوع على صاحبه بما يؤدي عنه من حصته فيصير ذلك قصاصا بما لصاحبه عليه من القيمة ويؤدي فضلا إن بقي عليه ويرجع بفضل إن كان بقي له.(27/212)
ولو كاتب أمتين له مكاتبة واحدة فولدت إحداهما ولدا ثم جنى الولد على الأخرى فأدت أمه المكاتبة عتقوا فإن الأم ترجع على صاحبتها بحصتها من المكاتبة لأنها أدت ذلك عنها بحكم صحيح بأمرها ويسعى الولد في الجناية لأن الولد كان مكاتبا وجناية المكاتب تلزمه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية ويتقرر ذلك عليه بالعتق لوقوع الناس عن الدفع به فإن كان في يد الولد مال حين عتق كان ذلك للأم إن لم يكن قضى بالجناية على الولد لأن جناية المكاتب قبل العتق لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي لتوهم الدفع بعد العجز وكسب الولد المولود في الكتابة سالم لها بشرط الفراغ عن دينه لما قلنا أن في حكم الكسب ولدها بمنزلة عبدها والجناية إنما صارت دينا عليه بعد العتق فلا يكون ذلك مانعا من سلامة الكسب لها إلا أن يكون قضى عليه بها قبل العتق فحينئذ موجب الجناية من قيمة أو أرش بمنزلة دين آخر على الولد ودينه في كسبه مقدم على حق أمه بمنزلة دين العبد فيؤخذ الدين أولا من ذلك المال فإن فضل شيء فهو للأم.
ولو كانت الأخرى جنت على الولد كان أرش ذلك عليها للأم لأن أرش الجناية عليها بمنزلة كسبه والمعنى فيهما أن الولد إنما يجعل ملكا للمولى ضرورة التبعية في الكتابة كما يكون خارجا من حكم الكتابة لا تتحقق فيه هذه الضرورة فجعل ذلك لها وأرش طرفه خارج من الكتابة وكذلك كسبه فيسلم ذلك كله للأم بمنزلة كسبها وأرش طرفها فإن أدت في الكتابة صار ما أدت عن صاحبتها قصاصا بالأرش ويتراجعان بالفضل لأنه استوجب الرجوع على صاحبتها بأرش الجناية وصاحبتها استوجبت الرجوع عليها بما أدت عنها من بدل الكتابة فتقع المقاصة.(27/213)
ص -106- ... كذلك عبد بين رجلين جنى جناية فكاتبه أحدهما وهو لا يعلم والآخر يعلم فبلغ المولى الذي لم يكاتب كتابة صاحبه فأجازها لم يكن مختارا بالإجازة وهو لا يعلم بالجناية فلا يصير به مختارا وأما المجيز فقد كان الدفع متعذرا في نصيبه قبل الإجازة لما بينا أن عقد الكتابة في النصف كعقد الكتابة في الكل في المنع عن الدفع بالجناية.
فإن قيل: لا كذلك فالمجيز قبل الإجازة كان متمكنا من فسخ الكتابة ودفع نصيبه بالجناية وإنما يتعذر ذلك بإجازته الكتابة فينبغي أن يصير ذلك مختارا للأرش.
قلنا: هو بالإجازة أسقط حقه في الفسخ فلا يتصرف في المحل المستحق بالجناية والاختيار إنما يحصل بتصرفه في المحل المستحق بالجناية على معنى أنه مخير بين شيئين فإذا فوت أحدهما تعين الآخر وهذا غير موجود هنا فإنه ما تصرف في نصيب نفسه بشيء وإنما أسقط حقه في فسخ كتابة صاحبه في نصيبه وما كان دفع نصيب صاحبه مستحقا عليه فلهذا لا يجعل بهذه الإجازة مختارا للفداء ولكن يكون عليهما الأقل من قيمته ومن أرش الجناية بمنزلة ما لو كاتباه وهما لا يعلمان بالجناية.(27/214)
عبد جنى على حر بقطع يده ثم قطع يد العبد رجل حر ولا يعلم أي الجنايتين قبل فقال الحر كانت جناية العبد علي قبل الجناية عليه وقال المولى بل كان ذلك بعد الجناية عليه فالقول قول المولى في ذلك لأن سبب استحقاق المولى أرش يد العبد ظاهر وهو ملكه رقبته والمجني عليه يدعي استحقاق ذلك عليه بدعواه سبق جناية العبد عليه فعليه إثبات ما يدعي بالبينة وإن لم يكن له بينة فعلى المولى اليمين لأن الحر يدعي تاريخا سابقا في جناية العبد عليه وهذا التاريخ لا يثبت إلا ببينة فإذا لم يكن له بينة وحلف المولى خير فإن شاء دفع العبد إلى المجني عليه وإنشاء فداه بجميع الأرش. قال: ألا ترى أن عبدا لو قطع يد حر وجرح المولى عبده فقال المولى فعلت ذلك قبل جناية عبدي عليه وقال المجني عليه بل فعلته بعد ذلك كان القول قول المولى لأن المجني عليه يدعي اختيار الفداء والمولى منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه فكذلك ما سبق.
وإن التقى عبد وحر ومع كل واحد منهما عصا فشج كل واحد منهما صاحبه موضحة فبرئا جميعا ولا يدري أيهما بدأ بالضربة فقال المولى للحر أنت بدأت بالضربة وقال الحر بل العبد بدأ بها فالقول قول المولى لما بينا من المعنيين أن الحر يدعي سبق تاريخ في جناية العبد عليه ويدعي استحقاق أرش الجناية على العبد فإذا حلف المولى كان على الحر نصف عشر قيمة العبد للمولى أرش الموضحة ويدفع المولى عبده بجنايته أو يفديه.
وكذلك إن كان مع العبد سيف فمات العبد وبرأ الحر لأنه لا قصاص على العبد ها هنا فإنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس والحر إنما جنى على العبد بالقصاص فلا يجب عليه القصاص فإن مات العبد من ذلك فكان الواجب الأرش كما في المسألة الأولى وإذا ثبت أن القول قول المولى في إنكار التاريخ كان على عاقلة الحر جميع قيمة العبد(27/215)
ص -107- ... لأن نفس العبد تحمله العاقلة فيكون مقدار ما تقتضيه ضربة الحر في قيمته إلى الوقت الذي ضرب العبد الحر وهو الوقت الذي يفديه المولى ذلك يكون للمولى ويكون في الباقي أرش جنايته على الحر لأن الحر استحق نفسه بجنايته عليه وقد مات وأخلف بدلا فيقوم البدل مقامه ويؤمر المولى بدفع ذلك القدر إلى الحر إلا أن يكون أرش جنايته عليه أقل من ذلك فحينئذ يدفع إليه مقدار أرش جنايته والباقي للمولى وإن كان السيف مع الحر والعصا مع العبد وقد مات العبد وأرش جراحة الحر أكثر من قيمة العبد فقال المولى أنت بدأت فضربت عبدي وقال الحر بل العبد بدأ فضربني فالقول قول المولى لأنه منكر سبق التاريخ في جناية عبده عن الحر يكون له أن يقتل الحر قصاصا لأنه قتل عبده بالسيف وبطلحق الحر لأن المستحق له بجناية العبد نفس العبد وقد مات ولم يخلف بدلا يمكن استيفاء حقه منه لأنه إنما أخلف القصاص وإبقاء موجب جناية العبد على الحر فيما دون النفس من القصاص غير ممكن.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يجب القصاص على الحر لأنه إن كان الحر جنى على العبد أولا فقد استحق نفسه بجنايته ثم أقدم على قتل نفس هي مستحقة له بالجناية فصير ذلك شبهة في إسقاط القود عنه في الوجهين.
قلنا: لا كذلك فإن عبدا لو جنى على الحر ثم جنى الحر عليه وقتله يجب عليه القصاص لأن موجب جناية العبد على مولاه على ما بينا أن جناية الخطأ تتباعد عن الجاني وتتعلق بأقرب الناس إليه وأقرب الناس إلى العبد مولاه ولهذا خير المولى بين الدفع وبين الفداء وحق المجني عليه في العبد حق ضعيف حتى لا يمنع بقود شيء من تصرفات المولى فيه ومثل هذا الحق الضعيف لا يعتبر شبهة في إسقاط القود فإن أقام الحر البينة على العبد أنه بدأ فضربه فهذا مثل الأول لما بينا أن حقه في العبد بسبب جنايته حق ضعيف فلا يمنع ذلك وجوب القصاص عليه بقتله إياه وقد فات محل حق الحر فبطل حقه.(27/216)
ولو التقى عبد وحر ومع كل واحد منهما عصا فاضطربا فشج كل واحد منهما صاحبه موضحة فبرآ منها واتفق المولى والحر أنهما لا يدريان أيهما بدأ فإن المولى يدفع المولي أو يفديه لأن جناية العبد على الحر معلومة وهي تثبت الخيار للمولى فإن دفعه رجع على الحر بنصف أرش جناية الحر عليه لأن جناية الحر عليه إن سبقت فللمولى الأرش وإن تأخرت فليس للمولى عليه شيء لأن الأرش مدفوع مع العبد بجنايته فلاعتبار الأحوال قلنا يرجع على الحر بنصف أرش جنايته على العبد وإن فداه رجع على الحر بجميع أرش جنايته على العبد لأنه بالفداء طهره عن جنايته وأرش جناية الحر عليه سالم له بعد الفداء وإن تقدمت جناية العبد على الحر.
ولو كانا عبدين فشج كل واحد منهما صاحبه معا وبرآ خير مولى كل واحد منهما فإن شاء دفعه وإن شاء فداه بجناية مملوكه على مملوك صاحبه فإن اختار الدفع صار عبد كل(27/217)
ص -108- ... واحد منهما للآخر فلا يتراجعان بشيء سوى ذلك لأن كل واحد منهما وصل إلى ما كان مستحقا له وإن اختار الفداء أدى كل واحد منهما أرش جناية الآخر تاما وإن سبق أحدهما بالضربة قيل لمولى البادي بالضربة ادفعه أو افده لأن عبده سبق بالجناية فيخير هو أولا فإن دفعه صار العبد للمدفوع إليه ولا يرجع الدافع عليه بشيء لأنه لو رجع بشيء لزمه دفع ذلك إليه مع عبده عن الجناية فتبقى جناية عبد الآخر عليه معتبرة فإن مات البادي من الضربة وبرى ء الآخر وقيمة كل واحد منهما خمسة آلاف فإن قيمة الميت في عنق الحي يدفع بها أو يفدي فإن فداه بقيمة الميت رجع في تلك القيمة بأرش جناية عبده لأن حقه كان ثابتا في رقبة الميت باعتبار جنايته على ملكه وقد مات وأخلف بدلا فيكون له أن يرجع في ذلك البدل بأرش جراحة عبده وإن دفعه رجع بأرش شجة عبده في عنقه ويخير المدفوع إليه بين الدفع والفداء لأن الجناية من عبده كانت بعد الشجة فلا يتعلق حق مولى المجني عليه بأرش تلك الشجة وقد كان قبل جنايته مولى المجني عليه مخيرا بين الدفع والفداء فكذلك بعد جنايته.
ألا ترى أن عبدا لو شج عبدا موضحة ثم جاء عبد آخر فقتل الشاج خطأ خير مولاه بين الدفع والفداء فإن فداه كان أرش جراحة المشجوج في ذلك الفداء وإن دفعه خير مولى العبد الميت فإن شاء دفعه على ما سبق وقد أعاد جواب هذا السؤال بعد هذا بأسطر وقال مولى الميت بالخيار إن شاء دفع أرش جناية الحي مكان قيمة عبده في عنق الباقي ويخير مولاه فإن شاء دفعه وإن شاء فداه وإن أبى أن يدفع المولى أرش جناية الحي فلا شيء له في عنق الحي لأن عبده هو البادي بالجناية فلا يكون له في عنق الحي شيء حتى يؤدي أرش جنايته.(27/218)
ألا ترى أن عبده لو كان حيا بدئ به فقيل له ادفعه أو افده فكذلك إذا كان ميتا ولو برأ الأول ومات الآخر من الجناية خير مولى الأول بين الدفع والفداء لأن عنده هو الذي بدأ بالجناية فإن فدى عبده كان أرش جناية عبده في الفداء بعد ما يدفع منه أرش موضحة العبد الآخر لأن العبد الآخر جنى على عبده وهو مشجوج فلا يتعلق به حقه بأرش الشجة وإنما كان حقه في العبد مشجوجا وقد مات وأخلف عوضا وإن دفع عبده فلا شيء له عليه لأن حقه بالدفع يسقط عن أرش جناية العبد الآخر على عبده فإذا استوفى ذلك لزمه دفعه مع عبده فلا يكون استيفاؤه مفيدا شيئان ولو تضارب العبد بالعصا فشج كل واحد منهما صاحبه موضحة فبرآ والبادئ معروف ثم إن عبد الرجل قتل البادئ منهما خطأ قيل لمولاه ادفعه أو افده فإن فداه بقيمته أدى مولاه من تلك القيمة أرش جراحة العبد الباقي والفضل له من قبل أن مولى البادي هو المخاطب أولا وحكم جناية مملوكه إنما يتبين باختيار مولى العبد الثالث الدفع أو الفداء فلهذا بدئ به ولما اختار الفداء فقد اختلف البادي قيمته فلمولى العبد الباقي في تلك القيمة أرش الجناية على عبده والفضل لمولى البادى ثم يرجع مولى البادي بأرش(27/219)
ص -109- ... جراحة عبده في عتق العبد الباقي فيدفع بها أو يفدي لأنه قد وصل إلى مولى العبد الباقي كمال حقه.
وإن دفع مولى القاتل عبده قام المدفوع مقام المقتول وقد بينا أن المقتول لو كان الباقي كان يخير مولاه أولا فإن دفعه لم يكن له على المولى المدفوع إليه من أرش جراحة عبده شيء وإن فداه رجع في عنق صاحبه بأرش جراحة عبده فكذا هنا.
ولو كان العبد الثالث قتل الآخر منهما فدفعه مولاه قام المدفوع مقام المقتول فإن فداه بقيمته خير مولى البادي بين الدفع والفداء فإن دفعه إليه شيء له على مولى المقتول ولا في قيمته لأن عند اختياره الدفع يكون حق مولى المقتول ثابتا في أرش الجناية على العبد البادي فلا يفيد رجوع مولاه عليه شيئا لأن ما قبضه منه يلزمه رده عليه وإن فداه فقد طهر عبده من الجناية وقد فات المقتول وأخلف قيمة فيرجع في تلك القيمة بأرش جراحة عبده وإن مات العبد القاتل خير مولى العبد البادئ فإن شاء دفع أرش شجة المقتول وإن شاء دفع نفسه وأيهما فعل فقد بطل حقه لأن حقه كان في المقتول مشجوجا وقد فات ولم يخلف عوضا لأن عوضه كان العبد القاتل وقد فات وصار كأن لم يكن.
ولو مات البادئ بالضربة من شيء آخر وبقي الآخر فإن مولى البادئ بالخيار إن شاء دفع إلى مولى الثاني أرش جناية عبده ويتبع عبده بأرش جناية عبده لأن بالفداء طهر عبده عن الجناية وقد جنى العبد الآخر على عبده فيتبعه بأرش ذلك ويخير مولى العبد بين أن يدفع عبده بذلك أو يفديه وإن أبى أن يدفع الأرش فلا شيء له في عنق العبد الحي لما بينا أنه كان هو المخاطب ابتداء لبداءة عبده بالجناية وشرط وجوب الجناية بوجه الخطاب له على مولى الباقي أن يدفع أرش جناية عبده عليه فإذا انعدم هذا الشرط بإبائه لم يكن له أن يرجع عليه بشيء كما قال أبو حنيفة رحمه الله في مولى المفقوءة عيناه إذا دفع الشجة لم يكن له أن يرجع على الباقي بشيء.(27/220)
ولو أن عبدين التقيا ومع كل واحد منهما عصا فشج كل واحد منهما صاحبه موضحة وأحدهما بدأ بالضربة وهو معلوم فمات الضارب الأول منهما من ضربة صاحبه وبرأ الآخر فمولى العبد الميت بالخيار إن شاء دفع أرش جناية الحي فكانت قيمة عبده في عنق الحي وخير مولاه بين أن يدفعه أو يفديه لأنه بالفداء طهر عبده وإن شاء قتل العبد الباقي ويخير مولاه بين الدفع والفداء ولا يتعلق حقه بذلك لأن العبد الباقي إنما قتل الضارب الأول وهو مشجوج وإن أبى مولى الميت أن يدفع أرش جناية الحي فلا شيء له في عنق الحي لتفويته شرطه كما بينا ولو كانا برئا من الموضحتين ثم أن البادي منهما قتل الآخر خطأ خير مولاه فإن شاء دفعه وإن شاء فداه بأرش الموضحة وبالقيمة لأنه تخلل بين الجنايتين برء فتكون جنايته الثانية على المجني عليه الأول بمنزلة جنايته على غيره فإذا فداه فلا شيء له لأن عند اختيار الدفع يلزمه أن يدفع أرش الجناية على عبده معه فلا يكون استيفاؤه مفيدا شيئا.(27/221)
ص -110- ... وإن فداه كان أرش شجة المقتول لمولاه خاصة ويكون أرش شجة الحي في هذه القيمة المقبوضة يأخذه مولاه منها لأن حقه كان ثابتا في المقتول وقد فات وأخلف قيمة فيثبت حقه في تلك القيمة وذلك بقدر أرش شجة الحي وإن كان الآخر هو الذي قتل البادي خطأ فإنه يخير مولى المقتول فإن شاء أبطل جنايته ولا شيء لواحد منهما على صاحبه وإن شاء فداه بأرش موضحة الحي ثم يخير مولى الحي بين أن يدفع عبده أو يفديه بقيمة المقتول وهذا نظير ما سبق على معنى أن مولى البادي هو المخاطب أولا وشرط ثبوت حق الرجوع له أن يفدي عبده بموضحة العبد الحي فإن وجد منه هذا الشرط يكون له أن يطالب مولى الحي بموجب جناية عبده على عبده فإن أبى إيجاد هذا الشرط كان مبطلا حقه فلا شيء لواحد منهما على صاحبه وإن اختار مولى العبد الآخر دفع عبده فدفعه فإن أرش الشجة التي شجها الأول في عنقه فإن شاء المدفوع إليه فداه وإن شاء دفعه المولى إلى المدفوع فهو قائم مقام المقتول وسواء دفعه أو فداه لم يكن للأول شيء لأن الجناية من الآخر على الأول كانت وهو مشجوج فلا يتعلق حق مولى الأول ببدل تلك الشجة.(27/222)
قال الحاكم رحمه الله: أراد أن الآخر يسبق إلى الدفع قبل أن يختار الأول شيئا فالحكم ما بينه أولا وإن كان لا يعرف البادئ من العبدين بالضربة ثم قتل أحدهما صاحبه بعد ما برئا فإنه يخير مولى القاتل فإن شاء دفع عبده وإن شاء فداه بقيمة المقتول المشجوج صحيحا لأنا تيقنا جناية القاتل على المقتول وكنا قد علمنا أن المقتول كان صحيحا واشتبه حاله وقت القتل فيجب التمسك بما كان معلوما فلهذا يفديه بقيمة صحيحا إن اختار الفداء فإن دفعه كان له نصف أرش شجته في عنقه باعتبار الأحوال كما بينا فإن شاء فداه المدفوع إليه بذلك وإن شاء دفع منه حصة قيمة العبد مشجوجا من العبد الذي دفعه أو يفديه فإن فداه بقيمته رجع عليه بأرش الشجة في الفداء الذي دفعه بعد ما يدفع العبد المقتول نصف أرش شجته لأن ذلك القدر لا يتعلق به حق الذي فدى عبده بقيمته باعتبار الأحوال فيه فيسلم ذلك لمولى العبد المقتول من الفداء أو يرجع فيما بقي منه بأرش شجة عبده.
ولو التقى عبدان وتضاربا فقطع كل واحد منهما يد صاحبه معا فبرئا فإنه يخير مولى كل واحد منهما فإن شاء دفع عبده وأخذ عبد صاحبه وإن شاء أمسك عبده ولا شيء له في قول أبي حنيفة وقد تقدم بيان هذه المسألة في الحر إذا كان هو القاطع ليد العبد فكذلك في العبدين.
ولو أن أمة قطعت يد رجل ثم ولدت ولدا فقتلها ولدها خطأ فإن المولى بالخيار إن شاء دفع الولد إلى المقطوعة يده وإن شاء فداه وأيهما فعل خير مولى المقطوعة يده بين دفع الأقل من دية العبد ومن قيمة الأم لأن حق المقطوعة يده كان ثابتا في الأم والولد ما انفصل عنها بمنزلة عبد آخر جنى عليها فتعتبر جنايته لحق صاحب اليد ويخير كما بينا.
ولو أن عبدا قتل رجلا خطأ ثم أن عبد الرجل قطع يد هذا العبد خطأ فبرآ فمولى القاطع(27/223)
ص -111- ... بالخيار إن شاء دفع عبده وإن شاء فداه وأيهما فعل خير مولى المقطوعة يده فإن شاء دفع عبده وما أخذ بجنايته معه وإن شاء فداه لأن عبده كان صحيحا حين قتل الرجل فحق وليه كان ثابتا في الجزء الفائت منه بقطع العبد يده إلى بدل فيثبت حقه في بدله أيضا فإذا اختار دفعه فعليه دفع بدل ذلك ولم يكن هذا اختيارا للآخر لأن نفس كل واحد منهما إنما استحقت بجنايته وأحدهما منفصل عن الآخر فكان هذا وما لو كانت جنايتهما على شخصين سواء فلا يكون إعتاقه أحدهما اختيارا في حق الآخر لأنه لا يتعذر دفع الآخر بجنايته بسبب هذا الإعتاق وهذا بخلاف ما سبق فإن المولى لو أعتق العبد المدفوع باليد المقطوعة كان ذلك منه اختيارا للفداء لأن دفعهما كان باعتبار جناية واحدة وفي الجناية الواحدة اختياره في البعض يكون اختيارا في الكل.
ولو أن رجلا قطع يد رجل فأعتقه مولاه قبل أن يبرأ وهو يعلم بذلك أو لا يعلم فلا شيء له في قول أبي حنيفة وله أن يرجع بنقصان قيمة عبده في قولهما وهذا بناء على ما سبق فإنه بالإعتاق فوت بتسليم الجثة ولو منع ذلك عند أبي حنيفة لم يرجع بشيء فكذلك إذا فوته وعندهما له أن يمتنع عن تسليم الجثة ويرجع بنقصان القيمة فكذلك إذا فوت ذلك بالعتق.(27/224)
أم ولد بين رجلين كاتباها فقتلت أحد الموليين خطأ فعليها الأقل من القيمة ومن الدية لأن جناية المكاتبة على مولاها كجنايتها على أجنبي آخر وقد جنت وهي مكاتبة فعليها الأقل من قيمتها ومن أرش الجناية فإن قتلت الآخر بعده فعلى عاقلتها الدية لأنها عتقت حين قتلت الأول منهما على اختلاف الأصلين لأن عندهما وإن لزمها السعاية في نصيب الآخر فالمستسعى حر وعند أبي حنيفة لا سعاية على أم الولد لمولاها فعرفنا أنها قتلت الآخر منهما وهي حرة فعليها الدية وعليها كفارتان لأن الكفارة بالقتل تجب على المملوكة كما تجب على الحر وإن قتلتهما معا فعليها قيمتها لأنها جنت على كل واحد وهي مكاتبة وإنما عتقت بعد ذلك ولو جنت على أجنبيين ثم عتقت كان عليها قيمتها لهما فكذلك إن جنت على مولييها.
وإذا قطع الرجل يد عبد قيمته ألف درهم فلم يبرأ حتى زادت قيمته فصارت ألفي درهم ثم قطع آخر رجله من خلاف ثم مات منهما جميعا قال على الأول ستمائة وخمسة وعشرون درهما وعلى الآخر سبعمائة وخمسون درهما قال الحاكم رحمه الله: وفي جواب هذه المسألة نظر وإنما قال ذلك لأنه أجاب في نظير هذه المسألة في كتاب الديات بخلاف هذا وقد بينا تمامه.
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهدي رحمه الله: وعندي ما ذكر ها هنا صحيح وتأويله أن قيمته صارت ألفي درهم صحيحا لا مقطوع اليد فعلى هذا التأويل الجواب ما ذكره في الكتاب من قبل أن الأول حين قطع يده وقيمته ألف لزمه بالقطع خمسمائة ثم الثاني بقطع الرجل أتلف نصف ما بقي فيلزمه أيضا خمسمائة لأنه إذا كان قيمته صحيحا ألفي درهم فقيمته مقطوع اليد ألف درهم وقد أتلف نصفه بقطع الرجل وهو مقطوع اليد فيلزمه خمسمائة(27/225)
ص -112- ... فحين مات منها فقد صار كل واحد منهما متلفا نصف ما بقي منه بسراية جنايته إلا أن في حق الأول لا معتبر بزيادة القيمة فيكون عليه نصف هذا من القيمة الأولى والقيمة الأولى كانت ألف درهم وربع تلك القيمة مائتان وخمسون فعليه بالسراية نصف ذلك الربع وهو مائة وخمسة وعشرون فإذا ضممت ذلك إلى خمسمائة يكون ستمائة وخمسة وعشرين وقد أوجب على الأول هذا المقدار والآخر منهما لزمه بالسراية قيمة ما تلف بسراية فعله وذلك معتبر من قيمته وقت جنايته ألفي درهم وربع تلك القيمة خمسمائة فنصف الربع مائتان وخمسون وقد وجب عليه بأصل الجناية خمسمائة وبالسراية مائتان وخمسون فذلك سبعمائة وخمسون درهما والله أعلم بالصواب.(27/226)
ص -113- ... كتاب المعاقل
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن سهل السرخسي رحمه الله إملاء يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وأربعمائة الأصل في أيجاب الدية على العاقلة في الخطأ وشبه العمد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي في حديث حمل بن مالك أن النبي عليه السلام قال لأولياء الضاربة: "قوموا فدوه" قال أخوها عمران بن عويمر الأسلمي أندى من لا عقل ولا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل فقال عليه السلام: "أسجع كسجع الكهان" أو قال: "دعني وأراجيز العرب قوموا فدوه" فقال إن لها بيتا هم سراة الحي وهم أحق بها مني فقال: "بل أنت أحق بها قم فده" وشيء من المعقول يدل عليه وهو أن الخاطئ معذور وعذره لا يعدم حرمة نفس المقتول ولكن يمنع وجوب العقوبة عليه فأوجب الشرع الدية صيانة لنفس المقتول عن الهدر وفي إيجاب الكل على القاتل إجحاف به واستئصال فيكون بمنزلة العقوبة وقد سقطت العقوبة عنه للعذر فضم الشرع إليه العاقلة لدفع معنى العقوبة عنه وكذلك في شبه العمد باعتبار أن الآلة آلة التأديب ولم يكن فعله محظورا محضا ولهذا لا يجب عليه القصاص فلا يكون جميع الدية عليه في ماله لدفع معنى العقوبة عنه ولكن الشرع أوجب الدية ها هنا مغلظة ليظهر تأثير معنى العمد وأوجبها على العاقلة لدفع منع العقوبة عن القاتل ثم هذا الفصل لا يحصل إلا بضرب استهانة وقلة مبالاة وتقصير في التحرز وإنما يكون ذلك بقوة يجدها المرء في نفسه وذلك بكثرة أعوانه وأنصاره وإنما ينصره عاقلته فضموا إليه في إيجاب الديه عليهم وإن لم يجب لهذا المعنى وكل أحد لا يأمن على نفسه أن يبتلي بمثله وعند ذلك يحتاج إلى إعانة غيره فينبغي أن يعين من ابتلى ليعينه غيره إذا ابتلي بمثله كما هو العادة بين الناس في التعاون والتوادد فهذا هو صورة أمة متناصرة وجبلة قوم {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}(27/227)
متعاونين على البر والتقوى وبه أمر الله تعالى الأمة هذه ثم كانت للعرب في الجاهلية أسباب للتناصر منها القرابة ومنها الولاء ومنها الحلف ومنها ممالحة العدو وقد بقي ذلك إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونوا حلفاء له كما كانوا حلفاء لجده عبد المطلب ودخل بنو بكر في عهد قريش ليكونوا حلفاء لهم الحديث فكانوا يضلون عن حليفهم وعديدهم ويعقل عنهم حليفهم وعديدهم ومولاهم باعتبار التناصر كما يعقلون عن أنفسهم باعتبار التناصر فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه ودون الدواوين صار التناصر بينهم بالديوان فكان أهل ديوان واحد ينصر بعضهم بعضا وإن كانوا من قبائل شتى فجعل عمر العاقلة أهل الديوان بيانه في الحديث الذي بدأ به الكتاب فقال بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض العقل على أهل الديوان(27/228)
ص -114- ... لأنه أول من وسع الديوان فجعل العقل فيه وكان قبل ذلك على عشيرة الرجل في أموالهم وبهذا أخذ علماؤنا رحمهم الله فقالوا العقل على أهل الديوان من العاقلة وأبى الشافعي ذلك فقال هو على العشيرة فقد كان عليهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نسخ بعد رسول الله ولكنا نقول قد قضى به عمر رضي الله عنه على أهل الديوان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه منكر فكان ذلك إجماعا منهم.
فإن قيل: كيف يظن بهم الإجماع على خلاف ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(27/229)
قلنا: هذا اجتماع على وفاق ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به على العشيرة باعتبار النصرة وكان قوة المرء ونصرته يومئذ بعشيرته ثم لما دون عمر رضي الله عنه الدواوين صارت القوة والنصرة بالديوان فقد كان المرء يقاتل قبيلته عن ديوانه على ما روي عن علي رضي الله عنه أن يوم الجمل وصفين جعل بإزاء كل قبيله من كان من أهل تلك القبيلة ليكونوا هم الذين يقاتلون قومهم فلهذا قضوا بالدية على أهل الديوان ثم الشافعي يقول إلزام الدية العاقلة بطريق الصلة والصلة المالية مستحقة بوصلة القرابة دون الديوان كالنفقة والميراث ونحن نقول الوجوب عليهم بطريق الصلة كما قال وإيجابه فيما هو صلة أولى وأهل ديوان واحد فيما يخرج من الصلة لهم بعين العطاء كنفس واحدة وإيجاب هذه الصلة فيما يصل إليهم بطريق الصلة أولى في إيجابه من أصول أموالهم ثم لا شك أن المعتبر النصرة ففي حق كل قاتل يعتبر ما به تتحقق النصرة وتناصر أهل الديوان يكون بالديوان فإن كان القاتل من قوم يتناصرون بالحلف فذلك هو المعتبر لأن المعنى متى عقل في الحكم الشرعي تعدى الحكم بذلك المعنى إلى الفروع ثم القاتل أحد العواقل يلزمه من الدية مثل ما يلزم أحد العاقلة عندنا وعند الشافعي ليس على القاتل شيء من الدية لأن الخطأ مرفوع قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: من الآية5] وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وإنما يتحقق ذلك إذا لم يكن عليه شيء من الدية ثم هذا الجزء كسائر الأجزاء فبالمعنى الذي نوجب سائر الأجزاء على العاقلة من نصرة أو صلة نوجب هذا الجزء عليهم أيضا ولكنا نقول الإيجاب على العاقلة لدفع الإجحاف والاستئصال عن القاتل والتخفيف عليه وذلك في الكل لا في الجزء ثم الوجوب عليهم باعتبار النصرة ولا شك أنه ينصر نفسه كما ينصر غيره وكما أنه معذور غير مؤاخذ(27/230)
شرعا فالعاقلة لا يؤاخذون بفعله أيضا.
قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: من الآية164] ومن لم يجن فهو أبعد من المؤاخذة من الجاني المعذور فإذا أوجبنا على كل واحد من العاقلة جزءا من الدية فلأن نوجب عليه مثل ذلك أولى وهذا لأن محل أداء الواجب العطاء الذي يخرج لهم بطريق الصلة وهم في ذلك كنفس واحدة فكما يخرج العطاء لغير القاتل يخرج للقاتل.
وذكر عن المعرور بن سويد قال: فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدية تؤخذ في ثلاث سنين فالنصف في سنتين وما دون الثلث في سنة وبه نأخذ فنقول جميع الدية متى(27/231)
ص -115- ... وجبت بنفس القتل كانت مؤجلة في ثلاث سنين سواء كانت على العاقلة أو في مال القاتل كالأب يقتل ابنه عمدا وقد بينا هذا في الديات.
وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منه في سنة ومتى كان الواجب بالقتل ثلث بدل النفس أو أقل من ذلك كان في سنة واحدة وما زاد على الثلث إلى تمام الثلثين في السنة الثانية وما زاد على ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة وهذا لأن تقوم النفس بالمال غير معقول وإنما عرف ذلك شرعا والشرع إنما ورد بإيجاب الدية مؤجلة في ثلاث سنين فعلينا اتباع ذلك واتباع الأجزاء بالجملة في مقدار ما يثبت فيها من الأجل والشافعي يجعل التأجيل لمعنى التخفيف كالإيجاب على العاقلة معنى التخفيف معقول فأما في التأجيل فمعنى نقصان المالية لأن المؤجل في المالية أنقص من الحال وبسبب صفة العمدية يخرج من أن يكون مستحقا للتخفيف ولكن ليس لهذه الصفة تأثير في إيجاب زيادة على قيمة المتلف ولو أوجبنا الدية عليه حالا كان ذلك زيادة.
فإن قيل: أليس في شبه العمد أن الدية تجب مغلظة وفيه إيجاب زيادة المالية باعتبار صفة العمد.
قلنا: نعم ولكنا إنما ننكر إيجاب الزيادة بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه وتلك الزيادة إنما أوجبناها بالنص كأصل المال بمقابلة النفس أوجبناه بالنص بخلاف القياس.(27/232)
وعن إبراهيم قال في دية الخطأ وشبه العمد في النفس على العاقلة على أهل الديوان في ثلاثة أعوام في كل عام الثلث وما كان من جراحات الخطأ فعلى العاقلة على أهل الديوان إذا بلغت الجراحة ثلثي الدية ففي عامين وإن كان النصف فكذلك وإن كان الثلث ففي سنة واحدة وذلك كله على أهل الديوان وبه نقول فإن الواجب من الأرش متى بلغ نصف عشر بدل النفس في حق الرجل أو في حق المرأة يكون ذلك على العاقلة وما دون ذلك بمنزلة ضمان المال يكون على الجاني والشافعي يسوي بين القليل والكثير والقياس فيه أحد السببين أما التسوية فكما ذهب إليه الشافعي في إيجاب الكل على العاقلة والتسوية في أن لا يوجب شيء على العاقلة كما في ضمان المال ولكنا تركنا القياس بالسنة وإنما جاءت السنة في أرش الجنين بالإيجاب على عاقلته وأرش الجنين نصف عشر بدل الرجل فيقضى بذلك على العاقلة وفيما دونه يؤخذ بالقياس.
وفي حديث بن عباس رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة" وأرش الموضحة نصف عشر بدل النفس ففيما دونه يؤخذ بالقياس وهذا لأن الإيجاب على العاقلة كان لمعنى دفع الإجحاف عن الجاني وذلك في الكثير دون القليل فلهذا أوجبنا الكثير على العاقلة دون القليل والفاضل بينهما يكون مقدرا وأدنى ذلك أرش الموضحة.
قال: وليس على النساء والذرية ممن كان له عطاء في الديوان عقل لأنه بلغنا عن عمر(27/233)
ص -116- ... رضي الله عنه قال لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة وإنما جعل الفضل فيما يؤدى والله أعلم على عشيرة الرجل ولم يجيئوا على وجه العون لصاحبهم لأنهم أهل يد واحدة ونصرة واحدة على غيرهم وهذه النصرة إنما تقوم بالرجال دون النساء فبنية المرأة لا تصلح لهذه النصرة وكذلك النصرة لا تقوم بالصبيان.
ألا ترى أن الشرع نهى عن قتل النساء والصبيان من أهل الحرب لأنهم يقاتلون لدفع من يقاتلهم وتناصرهم فيما بينهم وذلك لا يحصل بالنساء والصبيان وكذلك الجزية التي خلت عن النصرة لم توجب على النساء والصبيان فكذلك تحمل العقل.
وعلى هذا لو كانت المرأة هي القاتلة أو الصبي لم يكن عليهما شيء من الدية بخلاف الرجل لأن وجوب جزء على القاتل باعتبار أنه أحد العواقل وهو لا يوجد في النساء والصبيان ولا ينظر إلى ما لهم من فرض العطاء في الديوان لأن ذلك ليس باعتبار النصرة بل باعتبار المؤنة كما فرض عمر رضي الله عنه لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء في الديوان فكان يوصله لهن في كل سنة.(27/234)
وإذا قتل الرجل خطأ فلم يرفع إلى القاضي حتى مضت سنون ثم رفع إليه فإنه يقضي بالدية على عاقلته في ثلاث سنين من يوم يقضي لأن ثبوت الأجل يبنى على وجوب المال والمال إنما يجب بقضاء القاضي فأما قبل القضاء فالمال ليس بواجب لأن ضمان المتلفات يكون بالمثل بالنص ومثل النفس نفس إلا أنه إذا رفع إلى القاضي فيتحقق العجز عن استيفاء النفس لما فيه من معنى العقوبة وتحول الحق بقضائه إلى المال كما في ولد المغرور فإن قيمته إنما تجب على المغرور بقضاء القاضي وإن كان رد عينه متعذرا قبل القضاء ولكن في الحكم جعل الواجب رد العين إلى أن يحوله القاضي إلى القيمة بقضائه لتحقق العجز عن رد العين ولهذا لو هلك الولد قبل القضاء لم يضمن شيئا واعتبر قيمة الولد يوم القضاء لهذا وهو نظير الأجل في حق العين فإنه لا يعتبر ما مضى من المدة قبل الخصومة وإنما يكون ابتداء التأجيل من وقت قضاء القاضي فكذلك ها هنا ابتداء التأجيل يكون من وقت قضاء القاضي فإن كانوا أهل ديوان قضى بذلك في أعطياتهم فيجعل الثلث في أول عطاء يخرج لهم بعد قضائه وإن لم يكن بين القتل وقضائه وبين خروج أعطياتهم إلا شهر أو أقل من ذلك لأن التأجيل في حق العاقلة كان لمعنى تأخر خروج العطاء ومحل قضاء الدية منه العطاء فإنما يعتبر خروج العطاء بعد القضاء.
ألا ترى أنه لو لم يخرج سنين لم يطالبوا بشيء فكذلك إذا خرج بعد قضاء القاضي بشهر أو أقل يؤخذ منه ثلث الدية والثلث الثاني في العطاء الآخر إذا خرج إن أبطأ بعد الحول أو عجل قبل السنة وكذلك الثلث الثالث فإن عجل للقوم العطاء فخرجت لهم ثلاثة أعطية مرة وهي أعطية استحقوها بعد قضاء القاضي بالدية فإن الدية كلها تؤخذ من تلك الأعطية الثلاثة لوصول محل أداء الدية منه إلى يد العاقلة.(27/235)
ص -117- ... قال: ولا يقضي بالدية على القوم حتى يصيب الرجل في عطائه من الدية كلها أربعة دراهم أو ثلاثة أو أقل من ذلك عندنا وقال الشافعي ما يقضى به على كل واحد منهم لا يكون أقل من نصف دينار لأنها صلة واجبة شرعا فيعتبر بالزكاة وأدنى ما يجب في الزكاة نصف دينار أو خمسة دراهم فقد كان ذلك بمعنى نصف دينار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول الإيجاب عليهم للتخفيف على القاتل وإنما يجب على وجه لا يتعسر ذلك عليهم وذلك في إيجاب القليل دون الكثير ثم هذه صلة يؤمرون بأدائها على وجه التبرع فلا يبلغ مقدارها مقدار الواجب من الزكاة بل ينقص من ذلك.
ألا ترى أنه لا تجب هذه الصلة في أصول أموالهم وإنما تجب فيما هو صلة لهم وهو العطاء فعرفنا أنه مبني على التخفيف من كل وجه وقد ظن بعض أصحابنا رحمهم الله أن التقدير بثلاثة دراهم فيما يؤخذ منهم في كل سنة وذلك غلط فقد فسرها هنا فقال حتى يصيب الرجل في عطائه من الدية كلها أربعة دراهم أو ثلاثة دراهم فعرفنا أنه لا يؤخذ في كل سنة من كل واحد منهم إلا درهم أو درهم وثلث فإن قلت العاقلة فكان يصيب الرجل أكثر من ثلاثة دراهم أو أربعة ضم إليهم أقرب القبائل في النسب من أهل الديوان حتى يصيب الرجل في عطائه ما وصفنا وهذا لأن إيجاب الزيادة عليهم إجحاف بهم فلا يجوز فلذلك ضم إليهم أقرب القبائل كما ضممنا العاقلة إلى القبائل للتحرز عن الإجحاف بهم ولأنه متى حزبهم أمر ولا يتمكنون من دفع ذلك عنهم بأنفسهم فإنما يستعينون بأقرب القبائل إليهم فإذا كانوا في بعض الأحوال يستنصرون بهم عند الحاجة فكذلك يضمون إليهم في تحمل العقل عند الحاجة.(27/236)
قال: ولا يستحقون العطاء عندنا إلا بآخر السنة فلذلك قلنا إذا خرج العطاء بعد القضاء بشهر أو أقل أخذ منه ثلث الدية ومعنى هذا أن العطاء إنما يخرج لهم في العادة في كل سنة واستحقاق ذلك عند تمام السنة لأنهم يستحقون ذلك بطريق الصلة والتبرع إلى آخر المدة في حكم المعاوضات دون الصلات وإنما يكون استحقاق الصلة عند تمام المدة ولا يثبت الملك فيها إلا بالقبض بمنزلة الجزية ولهذا قلنا إن من مات من أهل الذمة أو أسلم لم يكن عليه شيء من الجزية وفي حق أهل الديوان إن من مات منهم قبل خروج العطاء وقبل تمام السنة لم يصر عطاؤه ميراثا لورثته فعرفنا أن وجوبه باعتبار آخر السنة فمتى كان يجيء ذلك الوقت بعد القضاء كان العطاء الواجب باعتبار ذلك الوقت محلا لأخذ الدية منه وإذا لم يقض عليهم بالدية حتى مضت سنون ثم قضى بها ولم يخرج للناس أعطياتهم الماضية لم يكن فيها من الدية شيء لأن وجوب هذه الأعطية باعتبار مدة مضت قبل قضاء القاضي وقد بينا أن وجوب الدية بقضاء القاضي فمحل الأداء الأعطيات التي تجب بعد القضاء فلهذا لا يستوفي من الأعطيات الماضية شيء من الدية ويستقبل بصاحب الدية الأعطية المستقبلة بعد القضاء.
ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب رزق يأخذونه في كل شهر قضى عليهم بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في كل سنة الثلث لأن الرزق في حقهم قائم مقام العطاء فإن العطاء(27/237)
ص -118- ... إنما كان محلا لقضاء الدية منه لأنه صلة يخرج لهم من بيت المال ولأجله اجتمعوا وأثبتوا إسماءهم في الديوان وهذا موجود في الرزق إذا كانوا أصحاب رزق ثم ينظر إن كانت أرزاقهم تخرج في كل سنة فكلما خرج رزق يؤخذ منه الثلث وإن كان يخرج في كل شهر فمقدار نصف سدس الثلث يؤخذ من كل رزق حتى يكون المستوفى في كل سنة مقدار الثلث يؤخذ من كل رزق وإن خرج الرزق بعد قضاء القاضي بيوم أو أكثر أخذ من رزق ذلك الشهر بحصة الشهر كما بينا فإن كانوا يأخذون الأرزاق في كل ستة أشهر فخرج لهم رزق ستة أشهر بعد القضاء أخذ منهم سدس الدية وإن كانت لهم أرزاق في كل شهر ولهم أعطية في كل سنة فرضت عليهم الدية في أعطياتهم دون أرزاقهم لأن الأرزاق إنما كانت خلفا عن الأعطيات ولا يعتبر الخلف مع وجود الأصل وهذا لأن الأرزاق لهم لكفاية الوقت فأخذ شيء من ذلك منهم يؤدي إلى إضرار بهم وبعيالاتهم فيشق ذلك عليهم عادة فأما الأعطيات فليست لكفاية الوقت ولكن لتألفهم حتى يكونوا مجتمعين في الديوان يقومون بالنصرة فلا يشق عليهم الأداء من الأعطيات فلهذا قلنا عند الإجتماع بفرض الدية من الأعطيات دون الأرزاق ومن جنى عليهم من أهل البادية وأهل الثمن الذين لا ديوان لهم فرضت الدية على عواقلهم في أموالهم في ثلاث سنين على الأقرب فالأقرب منهم يوم يقضي القاضي بالدية لأن تناصرهم بالقرب وإنما يعتبر ذلك عند القضاء بالدية كما في حق أهل الديوان ويضم إليه أقرب القبائل في النسب حتى يصيب الرجل من الدية في السنين الثلاثة ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لتحقق معنى التخفيف عليهم وهذا المعنى هنا أولى بالاعتبار منه في حق أهل الديوان لأن المأخوذ من أموالهم ها هنا والأداء من الأعطيات يكون أيسر من الأداء من أصول الأموال.(27/238)
ومن أقر بقتل خطأ ولم يرتفعوا إلى القاضي سنين ثم ارتفعوا قضى عليه بالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضي لأن ما يثبت بالاعتراف لا تتحمله العاقلة لقوله عليه السلام "ولا صلحا ولا اعترافا" وهذا لأن إقراره في حقه محمول على الصدق وفي حق عاقلته محمول على الكذب لكونه متهما في حقهم ثم موجب الجناية في الأصل على الجاني ثم تحمل العاقلة للتخفيف عليه فإذا لم يثبت التسبب في حق العاقلة ففي الواجب عليه باعتبار الأصل والتأجيل فيه من وقت القضاء لا من وقت الاقرار لأن الثابت بالاقرار من القتل لا يكون أقوى من الثابت بالمعاينة وفي القتل المعاين الدية إنما تجب بقضاء القاضي فيها أولا.
ولو أقر أنه قتل ولي هذا الرجل وأقر أنه خاصمه إلى قاضي بلد كذا فقامت بذلك البينة فقضي به القاضي على عاقلته من أهل ديوان الكوفة وصدقه ولي الجناية في ذلك وكذبه العاقلة فلا شيء على العاقلة لأن تصادقهما ليس بحجة على العاقلة ولم يكن عليه شيء في ماله لأنهما تصادقا على أن الواجب بقضاء القاضي تقرر على العاقلة وبعد تقرره على العاقلة لا يبقى عليه وتصادقهما حجة في حقهما بخلاف الأول فهناك السبب الموجب للدية على العاقلة هو قضاء القاضي ولم يوجد أصلا فيقضي بها في مال المقر.(27/239)
ص -119- ... قال: إلا أن يكون له عطاء معهم فتكون عليه حصته من ذلك لأنه في مقدار حصته يقر على نفسه وفي حصة عواقلهم يقر عليهم فيؤخذ بما أقر به على نفسه وهذا يبين أن القاتل إنما يكون أحد العواقل عندنا إذا كان له عطاء في الديوان فأما إذا لم يكن فليس عليه من الدية شيء لأن الدية تؤخذ من الأعطيات.
فإن قيل: لما كان أصل الوجوب عليه وقد تحول بزعمه إلى عاقلته بقضاء القاضي فإذا توى ذلك على العاقلة بجحودهم ينبغي أن يقضي بالكل عليهم كما إذا توى الدين على المحال عليه بجحوده عاد الدين إلى ذمة المحيل.
قلنا: هذا مستقيم فيما إذا كان أصله دينا لدفع التوى عن مال المسلم وهذا أيضا لم يكن دينا عليه وإنما كان بطريق الصلة لصيانة دم المقتول عن الهدر وبعد ما تقرر على العاقلة بقضاء القاضي لا يتحول إليه بحال سواء استوفى من العاقلة أو لم يستوف والعمد الذي لا قود فيه يقضي بالدية من مال القاتل في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي لقوله عليه السلام: "لا تعقل العاقلة عمدا" ولأن ذلك للتخفيف ودفع الإجحاف عن القاتل والعامد لا يستحق ذلك.
ولو قتل عشرة رجلا فعلى عاقلة كل واحد منهم عشر الدية في ثلاث سنين لأن ما يجب على كل واحد منهم بدل النفس وبدل النفس يكون مؤجلا في ثلاث سنين فيعتبر الجزء منه بالكل ولا يعقل أهل مصر عن أهل مصر آخر وإنما يريد به إذا كان لأهل مصر ديوان على حدة أو كان تناصرهم باعتبار القرب في السكنى وأهل مصر أقرب إليه من أهل مصر آخر ويعقل أهل كل مصر عن أهل سوقهم وقراهم لأنهم أتباع لأهل المصر فإذا حزبهم أمر استنصروا بهم فأهل مصر يعقلون عنهم باعتبار معنى القرب والنصرة ومن كان منزله بالبصرة وديوانها بالكوفة عقل عنه أهل الكوفة لأنه إنما استنصر بأهل ديوانه لا بجيرانه.(27/240)
ألا ترى أن القرب في السكنى لا يكون أقوى من قرب القرابة ولو أن أخوين لأب وأم ديوان أحدهما بالكوفة وديوان الآخر بالبصرة لم يعقل أحدهما عن صاحبه وإنما يعقل عن كل واحد منهما أهل ديوانه فكذلك ما سبق.
ولو أن قوما من أهل خراسان أهل ديوان واحد مختلفين في أنسابهم منهم من له ولاء ومنهم القربى ومنهم من لا ولاء له جنى بعضهم جناية عقل عنه أهل رايته وأهل فنائه وإن كان غيره أقرب إليه في النسب لأن استنصاره بأهل رايته أظهر ومن كان من أهل الديوان لا يرجع في استنصاره إلى عشيرته عادة ولأن عطاء أهل راية واحدة إنما يخرج من بيت المال جملة واحدة فهم في ذلك كنفس واحدة وإن كان عدد أهل رايته قليلا ضم إليهم الإمام من رأى من أهل الديوان حتى يجعلهم عاقلة واحدة لدفع الإجحاف عن أهل رايته وإنما يضم إليهم الإمام من يكون أقرب إليهم في معنى النصرة إذا حزبهم أمر في ذلك وإنما يعرف ذلك الإمام فجعل مفوضا إلى رأيه لهذا ومن لا ديوان له من أهل البادية ونحوهم تعاقلوا على الأنساب.(27/241)
ص -120- ... وإن تباعدت منازلهم واختلفت الباديتان لأن تناصرهم بالأنساب ولأن حالهم في معنى الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بينا أنه قضى بالعقل على الأقارب ولا يعقل أهل البادية عن أهل الأمصار الذين عواقلهم في العطاء لأن أهل الأمصار إنما يقوم بنصرتهم والذب عنهم أهل العطاء من أهل ديوانهم لا أهل أخوة البادية وهم إنما يتقوون بأهل العطاء وكذلك لا يعقل أهل العطاء عن أهل البادية لأنهم يتقوون بهم ولا ينصر بعضهم بعضا وإن كانوا أخوة لأب وأم وإنما ينصر كل واحد منهم أهل العطاء ومن جنى جناية على أهل المصر وليس في عطاء وأهل البادية أقرب إليه ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر لأنهم من الذين يقومون بنصرة أهل المصر والدفع عنهم ولا يخصون بذلك من كان له في المصر عطاء دون من لا عطاء له فلهذا كانوا عاقلة لجميع أهل المصر وكذلك لا يعقل عن صاحب العطاء أهل البادية وإن كان فيهم نازلا وأصحاب الأرزاق الذين لا أعطيات لهم بمنزلة أهل العطاء في جميع ذلك لكون الأرزاق خلفا عن الأعطيات في حقهم.(27/242)
وإن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها فقتل أحدهم قتيلا خطأ فديته على عواقلهم بمنزلة المسلم لأنهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات ومعنى التناصر الذي يبنى عليه العقل يوجد في حقهم كما يوجد في حق المسلمين وإن لم يكن لهم عاقلة معروفة يتعاقلون بها فالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى بها عليه لما بينا أن أصل الوجوب على القاتل وإنما يتحول عنه إلى العاقلة إذا وجدت فإذا لم توجد بقيت عليه بمنزلة مسلم في دار الحرب قتل مسلما خطأ وهما أجنبيان منها فإنه يقضى بالدية عليه في ماله لأن من يكون في دار الحرب فأهل دار الإسلام لا يعقلون عنه وتمكنه من هذا الفعل لم يكن بنصرتهم ولا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت ملتهم لأن التعاقل ينبني على الموالاة والتناصر وذلك ينعدم عند اختلاف الملة قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: من الآية73]وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال: من الآية72] فلما انقطعت الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة كان ذلك قطعا للموالاة بين الكفار والمسلمين وحكم الميراث والنفقة يؤيد ما ذكرنا.
ولو كان القاتل من أهل الكوفة وله بها عطاء فلم يقض بالدية على عاقلته حتى جعل ديوانه إلى البصرة فإنه يقضي بالدية على عاقلته من أهل البصرة وعلى قول زفر يقضي على عاقلته من أهل الكوفة وهو رواية عن أبي يوسف أيضا لأن الموجب للمال الجناية عند قضاء القاضي وقد تحققت منه وعاقلته أهل ديوان الكوفة وبعد ما تحول إلى ديوان البصرة لم يوجد منه جناية وإنما تعقل العاقلة عند جنايته.(27/243)
ألا ترى أن القاضي لو قضى بالبينة على عاقلته بالكوفة ثم تحول إلى ديوان البصرة قبل استيفاء شيء كانت الدية على عاقلته من أهل الكوفة فكذلك قبل قضاء القاضي لوجهين: أحدهما: أن وجوب الدية في القتل الخطأ ثابت بالنص فيستوي فيه القضاء وغير القضاء.(27/244)
ص -121- ... و الثاني: على أن الدية العاقلة بطريق الصلة والصلات لا تصير دينا بقضاء القاضي قبل الاستيفاء كنفقة الأقارب.
وجه قولنا: أن المال لا يجب بنفس القتل وإنما يجب بقضاء القاضي على ما قررنا أن العجز عن استيفاء المثل إنما يتقرر بقضاء القاضي ثم أصل الوجوب على القاتل وبعد ما وجب عليه تتحمل عنه عاقلته.
ألا ترى أنه لو أقر بقتل خطأ كانت الدية عليه خاصة ولو كان الوجوب على العاقلة ابتداء وجبت عليه بذلك عند الإقرار فإذا ثبت أن الوجوب عليه عند قضاء القاضي فإنما تتحمل عنه من يكون عاقلة له عند القضاء وهم أهل ديوان البصرة بخلاف ما إذا قضى بها على عاقلته بالكوفة لأن هناك قد تقرر الوجوب عليهم فلا يتحول إلى غيرهم بعد ذلك.
ثم إذا تحول بعد قضاء القاضي تؤخذ منه في عطائه بالبصرة حصته لأن في مقدار حصته محل الأداء وعطاؤه من ديوان البصرة عند الأداء فيؤخذ ذلك القدر منه وفيما زاد على ذلك محل الأداء عطاء أهل الكوفة لأن ذلك التقدير عليهم بقضاء القاضي.
ولو قلت العاقلة بعد القضاء عليهم وتعذر الأخذ منهم ضم إليهم أقرب القبائل في النسب حتى يعقلوا معهم لدفع الإجحاف عنهم ولا يشبه قلة العاقلة بعد القضاء تحول الرجل بعطائه من بلد إلى بلد لأن الذين يضافون إليهم عاقلة واحدة وهذه عاقلة مستقلة يعني أن الذين يضمون إليهم يكونون بمنزلة الأتباع لهم فلا تتبدل العاقلة باعتبارهم.
يوضحه: أن الضم لدفع الإجحاف عنهم وذلك عند الأداء فيصار فيه إلى وقت الأداء وأما القضاء على العاقلة ففي حكم وجوب الدية وذلك يثبت بقضاء القاضي فيعتبر فيه وقت القضاء.
ولو كان رجل مسكنه بالكوفة فقتل رجلا خطأ فلم يقض عليه حتى تحول عن الكوفة واستوطن البصرة فإنه يقضى بالدية على عاقلته بالبصرة ولو كان قضى بها بالبصرة على عاقلته بالكوفة ولم ينتقل عنهم لأن من لا عطاء له إذا كان يسكن مصرا فعاقلته أهل ديوان ذلك المصر بمنزلة من له عطاء.(27/245)
وكذلك البدوي إذا التحق بالديوان بعد القتل قبل قضاء القاضي فإنه يقضي بالدية على أهل الديوان وإن كان ذلك بعد القضاء على عاقلته بالبادية لم يتحول عنهم لأن الجناية لم تجنها العاقلة وإنما جناها الرجل فإنما يكون على عاقلته إذا قضى بها عليهم.
ألا ترى أن التأجيل في الدية يعتبر من وقت قضاء القاضي ولو قلنا تتحول بتحويله إلى ديوان آخر بعد القضاء لكان إذا تحول بعد مضي سنة يؤخذ الثلث من الديوان الذي انتقل إليهم حالا وذلك ممتنع وفي اعتبار الأجل من وقت قضاء القاضي دليل ظاهر على أن الجناية إنما توجب المال بقضاء القاضي.
ولو أن قوما من أهل البادية قضي عليهم بالدية في أموالهم في ثلاث سنين فأدوا الثلث أو(27/246)
ص -122- ... الثلثين أو لم يؤدوا أشياء حتى جعلهم الإمام في العطاء صارت الدية عليهم في أعطياتهم وإن كان قد قضى بها أول مرة في أموالهم، لأن العطاء من أموالهم فليس في أخذ ذلك من العطاء يعتبر القضاء الأول لأن العطاء محل الأداء فيكون المعتبر فيه وقت الأداء لا وقت القضاء والأخذ من العطاء بمعنى التيسير عليهم فهو بمنزلة أقرب من القبائل إليهم عند قلتهم فإنه يعتبر فيه وقت الأداء لا وقت قضاء القاضي ولكنه يقضى عليهم في أعطياتهم بما كان قضى عليهم بالبادية حتى إن كان قضى بالإبل لم يتحول عن ذلك لأن في القضاء بشيء آخر إبطال القضاء الأول وذلك لا يجوز وليس في القضاء به في أعطياتهم إبطال القضاء الأول.
وإذا قتل بن الملاعنة رجلا خطأ فعقلت عنه عاقلة الأم ثم ادعاه الأب وثبت نسبه منه فرجعت عاقلة الأم بما أدت على عاقلة الأب في ثلاث سنين من يوم قضى القاضي لعاقلة الأم على عاقلة الأب بها لأن النسب كان ثابتا منه بالفراش وقد انقطعت النسبة عنه بقضاء القاضي ولكن بقي أصل النسب موقوفا على حقه حتى إذا ادعاه غيره لم يثبت منه وإذا ادعاه هو ثبت النسب منه مع كونه مناقضا وإن كذبته الأم في ذلك وإنما يثبت النسب من وقت العلوق لا من وقت الدعوى فتبين أنه عقل جناية كانت على عاقلة أبيه وعاقلة الأم ما كانوا متبرعين فيما أدوا بل أجبروا عليه بقضاء القاضي فيثبت لهم حق الرجوع على عاقلة الأب ويصير حالهم مع عاقلة الأم كحال ولي الجناية وقد بينا أن ولي الجناية لو كان هو المقضي له بالدية عليهم كان التأجيل فيه معتبرا من وقت قضاء القاضي لا من وقت الجناية فكذلك إذا قضى به لعاقلة الأم عليهم يعتبر التأجيل فيه من وقت قضاء القاضي لا من وقت دعوى الأب وهذا لأن التأجيل لتأخر المطالبة وذلك بعد تقرر الوجوب عليهم وإنما يتقرر بقضاء القاضي.(27/247)
وكذلك إذا مات المكاتب عن ولد حر ووفاء فلم يؤد الكتابة حتى جنى ابنه وابنه من امرأة حرة مولاه لبني تميم والمكاتب لرجل من همدان فعقل عنه جنايته قوم أمه ثم أدى الكتابة فإن عاقلة الأم يرجعون بما أدوا على عاقلة الأب لأن عتق المكاتب عند أداء البدل يستند إلى حال حياته فتبين أنه كان للولد ولاء من جانب الأب حين جنى وإن موجب جنايته على موالي أبيه وموالي أمه ما كانوا متبرعين عنه في الأداء فيرجعون بالمؤدى على موالي الأب.
وكذلك رجل أمر صبيا أن يقتل رجلا فقتله فضمنت عاقلة الصبي الدية رجعت بها على عاقلة الآمر لأن الآمر متسبب متعد فإنه استعمل الصبي في أمر لحقه فيه تبعة فيثبت لعاقلته حق الرجوع بما أدوا على الآمر غير أنه إن كان الآمر يثبت الأمر بالبينة فرجوعهم على عاقلة الامر لأن التسبب في الجناية لا يكون فوق المباشرة وإن كان الآمر ثبت بإقراره فإنهم يرجعون عليه في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي على الآمر أو على عاقلته فإن إقراره ليس بحجة على العاقلة وإن كانوا اجتمعوا في أول الأمر وقضى القاضي بها لولي(27/248)
ص -123- ... الجناية على عاقلة الصبي ولعاقلة الصبي على عاقلة الآمر لأن القضاء باعتبار السبب والسبب هو الجناية وذلك قد وجد من الصبي فيقضى للمولى على عاقلة الصبي ثم الرجوع على عاقلة الآمر بسبب الأمر وذلك بين الآمر والصبي فيقضي لعاقلة الصبي على عاقلة الامر مثل ذلك فكلما أخذ ولي الجناية من عاقلة الصبي شيئا أخذت عاقلة الصبي من عاقلة الآمر بمثل ذلك لأن الرجوع لدفع الغرم عن عاقلة الصبي وإنما يتحقق الغرم بالأداء فيرجعون بقدر ما أدوا بمنزلة رجوع الكفيل على الأصيل إذا كان كفل عنه بأمره.
ولو أن بن الملاعنة قتل رجلا خطأ فقضى القاضي بالدية على عاقلة الأم فأدوا الثلث ثم ادعاه الأب وحضروا جميعا فإنه يقضى لعاقلة الأم بالثلث الذي أدوا على عاقلة الأب لأنهم ما كانوا متبرعين في أداء ذلك ويبدأ بهم في سنة مستقبلة قبل أهل الجناية ويبطل الفضل عن عاقلة الأم ويقضي بالثلثين الباقيين على عاقلة الأب في السنتين بعد السنة الأولى ولا يسترد من ولي الجناية ما أخذ من عاقلة الأم لأنه ملك ذلك بسبب صحيح فإن القاضي قضى بذلك على عاقلة الأم فكان قضاؤه ذلك حقا يومئذ وإنما يبطل الفضل عن عاقلة الأم لأنه تبين بالقضاء بثبوت نسبه من أبيه أن جنايته على عاقلة أبيه لا عاقلة أمه ولا فائدة في استيفاء ما بقي من عاقلة الأم ثم القضاء بالرجوع لهم على عاقلة الأب بل يستوفي ما بقي من عاقلة الأب بخلاف ما تقدم في مسألة الآمر مع الصبي فإن هناك السبب بين ولي الجناية وبين الامر وهنا السبب بين ولي الجناية وعاقلة الأب قد ظهر بدعوى السبب فلهذا قضي بالباقي عليهم ثم في السنة الأولى بعد القضاء ليس لولي الجناية أن يستوفي منهم شيئا لأنه قد ثبت لعاقلة الأم حق الرجوع عليهم بما أدوا في هذه السنة وحقهم مقدم فإنهم يرجعون بما استوفاه ولي الجناية.(27/249)
فلو قلنا: بأن ولي الجناية يستوفي منهم في هذه السنة أيضا شيئا أدى إلى أن يستوفي منهم ثلثي دية واحدة في سنة واحدة وفيه إجحاف بهم وعلى هذا بن المكاتب الذي وصفناه لأنه بمنزلة بن الملاعنة حين استندت حرية ابنه إلى حياة أبيه.
وإذا كانت المرأة حرة ومولاه لبني تميم تحت عبد لرجل من همدان فولدت غلاما فعاقلة الابن عاقلة أمه لأنه لا ولاء له من جهة أبيه فإنه عبد والولاء كالنسب فيتبع الولد فيه أمه إذا انعدم من قبل الأب كما في النسب فإن جنى جناية فلم يقض بها القاضي على عاقلة الأم حتى عتق الأب فإن القاضي يحول ولاءه إلى موالي أبيه لأنه ظهر له ولاء في جانب الأب وهو الأصل كما في النسب ثم يقضي القاضي بالجناية التي قد جناها على عاقلة أمه ولا يحولها عنهم.
وكذلك لو كان حفر بئرا قبل عتق أبيه ثم سقط فيها إنسان بعد عتق أبيه وما خاصم في ذلك حتى قضى بالدية على عاقلة الأم إن كان بالغا وإن كان صغيرا فأبوه لأن مباشرة السبب كانت منه فهو الخصم بالقضاء بالسبب عليه والحكم يبنى على السبب ثم إنما يقضى ها هنا(27/250)
ص -124- ... على عاقلة الأم بخلاف ما تقدم في بن الملاعنة وبن المكاتب لأن هذا ولاء حادث حدث بعد الجناية ولم يستند إلى وقت سابق فلم يتبين به أنه عند جنايته لم تكن على عاقلة موالي أمه وفي مسألة النسب لم يثبت من وقت الدعوى وإنما ثبت من وقت العلوق وكذلك عتق المكاتب الميت عند أداء بدل الكتابة لا يثبت مقصورا على حالة الأداء بل يستند إلى حال حياته فلهذا كان القضاء هناك على عاقلة أبيه وها هنا على عاقلة الأم وكذلك في مسألة حفر البئر لأن عند الوقوع إنما يصير جانيا بالحفر السابق وقد كانت عاقلته في الوقت قوم أمه.
ولو أن امرأة مسلمة مولاة لبني تميم جنت جناية أو حفرت بئرا فلم يقض بالجناية حتى ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبيت فأعتقها رجل من همدان ثم وقع في البئر رجل فمات قضى بتلك الجناية على بني تميم لأنه إنما حدث لها ولاء بسبب الإعتاق بعد الجناية أو الحفر فلا أثر لهذا الولاء في الجناية التي كانت منها قبل ذلك كما في المسألة المتقدمة وعلل في الكتاب فقال لأن الحالة الثانية غير الحالة الأولى يعني أن حالها تبدل بالسبي والعتق فكانت في حكم شخص آخر وإنما يقضى بالجناية الأولى على عاقلة الجانية وعاقلة الجانية بنو تميم فأما همدان فعاقلة امرأة أخرى في الحكم لأنها تبدل حالها حين صارت في حكم امرأة أخرى.(27/251)
حربي أسلم ووالى مسلما في دار الإسلام ثم جنى جناية عقلت عنه عاقلة الذي والاه فإن ولاء الموالاة عندنا بمنزلة ولاء العتق في حكم عقل الجناية وقد بينا هذا في كتاب الولاء ثم لا يكون له أن يتحول بولائه بعد الجناية لأنها تأكدت بفعل الجناية فإن عقلوا عنه أو لم يقض بها حتى أسر أبوه من دار الحرب فاشتراه رجل وأعتقه جر ولاء ابنه لأن ولاء العتق أقوى من ولاء الموالاة فبعد ما ظهر لأبيه ولاء عتق لا يبقى ولاء الموالاة في حقه بل يلغى حكما وتأكده لا يمنع من ذلك بمنزلة الولد الثابت ولاؤه لموالي أمه عليه ثم لا ترجع عاقلة الذي كان والاه على عاقلة موالي الأب بشيء فلا تزول تلك الجناية عنهم وإن لم يكن قضى بها عليهم لأن هذا ولاء حادث بسبب جديد وهو إعتاق الأب فلا يظهر أثره في الجناية الثانية وكذلك لو حفر بئرا قبل أن يؤسر أبوه ثم وقع فيها إنسان بعد عتق الأب فإن ذلك على عاقلة الذي والاه دون عاقلة أبيه والخصومة في سببه مع الجاني لأن مباشرة السبب كانت منه.
ذمي أسلم ولم يوال أحدا حتى قتل قتيلا خطأ فلم يقض به حتى والى رجلا من بني تميم ثم جنى جناية أخرى فإنه يقضى بالجنايتين على بيت المال ويجعل ولاؤه لجماعة المسلمين وتبطل موالاته مع الذي والاه لأن الذي أسلم ولم يوال أحدا فولاؤه لبيت المال حتى يكون ميراثه لو مات لبيت المال فإذا جنى جناية تعقل وجب على بيت المال وتأكد به حكم ذلك الولاء ولا يصح منه عقد الموالاة بعد ذلك مع أحد فلهذا كان موجب جنايته على بيت المال.(27/252)
ص -125- ... وكذلك لو رمى بسهم أو حجر خطأ قبل أن يوالي أحدا فلم تقع الرمية حتى والى رجلا ثم وقعت فقتلت رجلا كانت موالاته باطلة لأنه بالرمي جان.
ألا ترى أن المعتبر حالة الرمي حتى لو رمى إلى صيد وهو مسلم ثم ارتد فأصابه السهم حل تناوله وإذا كان بالرمي جانيا وذلك حصل منه قبل الموالاة تأكد به الولاء لبيت المال.
ولو حفر بئرا في الطريق فلم يقع فيها أحد حتى والي رجلا ثم وقع فيها رجل فمات فإن دية القتيل عليه في ماله وولاء الذي والاه صحيح ولا يشبه هذا ما مضى قبله من الرمية والجناية لأن مجرد الحفر ليس بجناية يجب بها أرش حتى يعطب فيها إنسان فقد والى وليس في عنقه جناية فصحت الموالاة والرمية كانت جناية منه فإنما والاه وفي عنقه جناية وبيان هذا الفرق أن الرامي مباشر ولا تتحقق المباشرة إلا باعتبار فعله.
ألا ترى أنه بالرمي ملتزم القود إذا كان عمدا والكفارة إذا كان خطأ فعرفنا أنه جان حين رمى وأما الحافر فليس بمباشر للقتل ولهذا لا تلزمه الكفارة ولا يحرم الميراث ولكنه متسبب وإنما يتم هذا السبب عند وقوع الواقع في البئر فقد والى وليس في عنقه جناية فصحت الموالاة ثم دية هذا الواقع في البئر لا تكون على من والاه لأنه عند الوقوع صار جانيا عليه بالحفر السابق وقد كان ذلك قبل الموالاة ومن والاه لم يتحمل عنه موجب أفعاله قبل الموالاة ولا يعقل عنه بيت المال لأنه إن جعل ذلك على بيت المال بطل ولاؤه ولا وجه لإبطال الولاء المحكوم بصحته قلنا إن وجب عليه دية القتيل في ماله بمنزلة من لا عاقلة له وكذلك الرجل يسلم ويوالي رجلا ثم يجني أو يرمي أو يحفر بئرا ثم ينتقل بولائه فهو بمنزلة ما تقدم لأن الأول في المعنى تحول بالولاء فإنه كان مولى لبيت المال فلا فرق بين أن يتحول بولاء كان ثابتا عليه لبيت المال وبين أن يتحول بولاء كان ثابتا عليه لإنسان بعقده.(27/253)
ألا ترى أن حافر البئر لو لم يقع في البئر أحد حتى تحول بولائه إلى رجل فوالاه وعاقده ثم جنى جنايات كثيرة كان عقلها على عاقلة المولى الآخر علم بالحفر أو لم يعلم لأنه لم يدر أنه يقع في البئر إنسان أو لا يقع فيكون ولاؤه مع الثاني صحيحا وعقل جنايته عليه فبعدما عقلوا إذا وقع في البئر رجل لو قلنا بأن ديته على عاقلة المولى الأول أو على بيت المال بطل هذا كله وذلك لا يستقيم ثم اشتغل في الكتاب بالكلام مع زفر رحمه الله فقال إن قال قائل فكيف لم يشتبه الولاء المنتقل بعتق الأب قبل القضاء للعاقلتين اللتين تكون إحداهما عاقلة ثم لا يتحول إلى العاقلة الأخرى وقد قلت إذا تحول من ديوان إلى ديوان قبل قضاء القاضي أنه يقضي بالدية على أهل الديوان الذي انتقل إليهم ثم أشار إلى الفرق فقال إذا انتقل من ولاء إلى ولاء صارت الحالة الثانية في حقه غير الحالة الأولى فيكون ذلك بمنزلة نفسه ونظيره ما بينا في المرأة الجانية إذا ارتدت فسبيت وأعتقت وصاحب العاقلتين لم يتحول حاله بل حاله واحدة وإن تحولت عاقلته بتحوله من ديوان إلى ديوان فلهذا كان المعتبر(27/254)
ص -126- ... عاقلته وقت القضاء وأستوضح هذا بما بينا أن نفس القتل الواجب عليه النفس فإنما يتحول إلى الدية بقضاء القاضي وعند القضاء العاقلة يتحملون عنه فمن ضرورته أن يكون الوجوب عليه أولا والدليل عليه ما ذكرنا من الإقرار بقتل الخطأ ثم استوضح هذا بمسألة مبتدأة فقال كان أبو حنيفة رحمه الله يقول لو أن رجلا قتل رجلا خطأ فلم يقض عليه بالدية حتى صالحة على عشرين ألف درهم أو على ألفي دينار أو على مائتي بعير أو ثلاثة آلاف شاة أو ثلاثمائة بقرة لم يجز ذلك ورد إلى الدية ولو قضى القاضي عليه بألف دينار فصالح على عشرين ألف درهم أو على مائتي بعير بأعيانها كان جائزا فبهذا يتبين أن النفس إنما تصير مالا بقضاء القاضي فالقضاء ما يقع عليه الصلح بدل النفس وبدل النفس شرعا مقدرة بعشرة آلاف درهم أو مائة من الإبل فالصلح على أكثر من ذلك باطل وبعد قضاء القاضي بالدنانير قد وجبت الدنانير فإنما يقع الصلح بعد ذلك من الدنانير على الدراهم أو الإبل.
ثم هذه المسألة لا يستقيم جوابها على أصل أبي حنيفة فإن عنده البقر والغنم ليسا بأصل في الدية ولا يدخلهما التقدير فينبغي أن يجوز الصلح عنده على أي مقدار كان منها وقيل بل هو مستقيم لأن عنده القاضي لو قضى في الدية بالبقر والغنم كان قضاؤه نافذا فيما يقضي بألفي شاة ومائتي بقرة لأن ذلك مجتهد فيه فينفذ قضاء القاضي به وكذلك إذا اصطلح الخصمان لأن صلحهما في حقهما كقضاء القاضي به.
ولو قضى القاضي في الدية بثلاثة آلاف شاة أو ثلاثمائة بقرة لم يجز قضاؤه فكذلك إذا اصطلح الخصمان على ذلك.(27/255)
ولو أقر رجل بقتل رجل خطأ عند القاضي وأقام ولي الجناية عليه البينة قضى بالدية على العاقلة لأن الولي محتاج إلى هذه البينة فوجب قبولها وبه يتبين أن المال لا يجب بدون القضاء لأن الإقرار موجب بنفسه فلو وجب المال به عليه لا يستقيم قبول البينة من الولي بعده والقضاء به على العاقلة فإن قال الولي بعد الإقرار به لا أعلم لي بينة فاقض لي بها عليه في ماله فقضي القاضي بها في مال المقر ثم وجد ولي الجناية بينة فأراد أن يحول ذلك إلى العاقلة لم يكن له ذلك لأن المال قد وجب عليه بقضاء القاضي فلا يكون للولي أن يبطل قضاءه ببينته فتحول ذلك إلى العاقلة ولو قال الولي لا تعجل بالقضاء في ماله لعلي أجد بينة فأخره القاضي ثم وجد بينة قضى له على العاقلة لما بينا.
ولو أن رجلا من أهل البادية حفر بئرا في الطريق ثم أن الإمام نقل أهل البادية إلى الأمصار فتفرقوا فيها وصاروا أصحاب أعطية ثم وقع في تلك البئر إنسان كانت الدية على عاقلته يوم وقع الرجل في البئر لأن عند الوقوع في البئر يصير جانيا بالحفر السابق وأورد هذا النوع لإيضاح ما سبق من الفرق بين هذا الحفر وغيره.
قال: وكذلك لو حفر وهو من أهل العطاء ثم أبطل الإمام عطاءهم وردهم إلى أنسابهم فتعاقلوا عليها زمانا طويلا ثم مات إنسان في البئر كان عليه اليوم الذي وجب المال فيه لما(27/256)
ص -127- ... بينا أن الرجل لم يخرج من نسبه وإن أثبت له في الديوان عطاء ولم يتحول إلى حالة أخرى وإنما انتقلت عاقلته فلا تتبدل به نفسه.
ولو أن أهل عطاء الكوفة جنى رجل منهم جناية وقضى بها على عاقلته ثم ألحق بقوم من قومه من أهل البادية أو من أهل المصر لم يكن لهم ديوان وجعلوا مع قومهم عقلوا معهم ودخلوا فيما قضى به من الجناية ولم يدخلوا فيما أدوا قبل ذلك وهذا بمنزلة ما لو قلت العاقلة حتى ضم الإمام إليهم أقرب القبائل في النسب والأصل في هذا كله أن حال الجاني إذا تبدل حكما وانتقل من ولاء إلى ولاء بسبب حادث لم تنتقل جنايته عن الأولى كان قضى بها أو لم يقض وإن ظهرت حالة حقيقية مثل دعوى الملاعنة حولت الجناية إلى الأخرى وقع القضاء بها أو لم يقع ولو لم تختلف حالة الجاني ولكن العاقلة تبدلت كان الاعتبار في ذلك الوقت بالقضاء فإن كان قضى على الأولى لم ينتقل إلى الثانية وإن لم يكن قضى بها على الأولى فإنه يقضي بها على الثانية وإذا كانت العاقلة واحدة فلحقها زيادة أو نقصان اشتركوا في حكم الجناية قبل القضاء وبعده إلا فيما سبق أداؤه.(27/257)
ولو أن رجلا من أهل البادية من أهل الإبل جنى جناية فلم يقض بها حتى نقله الإمام وقومه فجعلهم أهل عطاء وجعل عطاءهم الدنانير ثم رفع إلى القاضي قضى عليهم بالدنانير دون الإبل لأن وجوب المال بقضاء القاضي وعند قضاء القاضي مالهم عطاء فيقضي بالدية من جنس ذلك ولو كان قضى عليهم بمائة من الإبل ثم نقله الإمام وقومه إلى العطاء وجعل عطاءهم الدنانير أخذوا بالإبل أو بقيمتها وإن لم يكن لهم مال غير العطاء أخذت قيمة الإبل من أعطياتهم قلت القيمة أو كثرت لأن الإبل تعينت دية بقضاء القاضي والحيوان لا يثبت دينا في الذمة ثبوتا صحيحا بل يتردد بينه وبين القيمة فلا يتغير حكم ذلك القضاء بصيرورتهم من أهل العطاء ولكنهم يؤخذون بما قضى به عليهم في أموالهم فإن لم يكن لهم مال غير العطاء أخذت قيمة الإبل من أعطياتهم لأن ذلك مالهم وقد ذكر قبل هذا إذا قضى عليهم بالدية ثم جعلهم الإمام أهل العطاء صارت الدية عليهم في أعطياتهم ومن أصحابنا رحمهم الله من بين في هذه المسألة روايتين كلتاهما في هذا الكتاب ومنهم من وفق فقال هناك أبهم الجواب أنه يؤخذ من أعطياتهم للتيسير عليهم ولم يبين ماذا يؤخذ ثم فسر ذلك ها هنا فقال تؤخذ قيمة الإبل من أعطياتهم وتأويل ما ذكر هناك أنه قضى من جنس العطاء عليهم بالدية ولم يعين جنسا منها بقضائه حتى صاروا أهل عطاء وإنما يعين عليهم بعد ذلك ما هو من جنس العطاء ويأخذه من العطاء وها هنا عين الجنس عند قضائه وقضى عليهم بمائة من الإبل والعطاء ليس من جنس الإبل فيكون الرأي إليهم إن شاؤوا أدوا الإبل من أموالهم وإن شاؤوا القيمة فإذا لم يكن لهم مال غير العطاء تؤخذ القيمة من أعطياتهم.
ولو أن ذميا أسلم ووالى رجلا ثم جنى جناية خطأ فلم يقض بها القاضي على العاقلة(27/258)
ص -128- ... بشيء حتى أبرأ أولياء المجني عليه الجاني من الجناية فللجاني أن يتحول بولائه عن الذي والاه لأن بإبرائه سقط موجب الجناية ولم يجب شيء على الذي والاه لأن الوجوب عليه بقضاء القاضي.
ولو كان الإبراء بعد ما قضى القاضي على العاقلة بالدية لم يكن له أن يتحول بولائه لأن بقضاء القاضي وجبت الدية على العاقلة لتأكد الولاية ثم بسقوطه عن العاقلة بالإبراء وسقوطه بالاستيفاء سواء ومعنى هذا الفرق أن موجب الجناية قبل القضاء على الجاني فالإبراء يكون إسقاطا عن العاقلة وهذا بخلاف ما تقدم إذ لم يوجد الإبراء ولا القضاء حتى تحول بولائه إلى غيره لأن هناك موجب الجناية الأولى الباقية فإنما يقضي القاضي به على عاقلة الأولى فلا يمكن أن يتحول حتى لو كان أقر الجاني بالجناية كان له أن يتحول سواء قضى بها عليه في ماله أو لم يقض لأن موجب الجناية الثانية بإقراره يكون عليه لا على عاقلته فلم يوجد في حق العاقلة ما يتأكد به الولاء ولو لم يجن ولكنه التحق معهم في ديوانهم فجنى بعضهم فعقل عنه معهم لم يكن له أن يتحول بولائه عنهم لأن الذي والاه ليس له أن يحوله إذا عقل عنهم فكذلك لا يكون له أن يتحول عنهم.
ألا ترى أن المولى بعد ما عقل عنه لم يكن له أن يبرأ من ولائه كما ليس له أن يتحول بالولاء عنه وقد كان قبل العقل لكل واحد منهما ذلك فإذا لم يكن لأحدهما أن يتحول بعد عقل الجناية لم يكن للآخر أن يحوله أيضا ولو أخذ معهم العطاء ولم يعقل عنهم كان له أن يتحول عنهم لأن بأخذ العطاء لا يتأكد حكم الولاء بينه وبينهم إنما يتأكد ذلك بعقل الجناية اعتبارا لولاء الموالاة فإن ذلك إنما يتأكد بعقل الجناية حتى أن عقل عقل الجناية لكل واحد منهما أن يتحول بولائه وليس له ذلك بعد عقل الجناية من جانب واحد أو من جانبين والله أعلم بالصواب.(27/259)
ص -129- ... كتاب الوصايا
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمة الله عليه: اعلم بأن الوصية عقد مندوب إليه مرغوب فيه ليس بفرض ولا واجب عند جمهور العلماء وقال بعض الناس الوصية للوالدين والأقربين إذا كانوا ممن لا يرثونه فرض وعند بعضهم الوصية واجبة على أحد ممن لم يرثوه واستدلوا بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: من الآية180] والمكتوب علينا يكون فرضا وقال عليه السلام: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر إذا كان له مال يريد الوصية فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" وحجتنا في ذلك أن الوصية مشروعة لنا لا علينا قال عليه السلام: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم فضعوه حيث شئتم" أو قال: "حيث أحببتم".
والمشروع لنا ما لا يكون فرضا ولا واجبا علينا بل يكون مندوبا إليه بمنزلة النوافل من العبادات ثم التبرع بعد الوفاة معتبر بالتبرع في حالة الحياة وذلك إحسان مندوب إليه وكذلك التبرع بالوصية بعد الموت(27/260)
وأما الآية فقد اتفق أكثر أهل التفسير على أن ذلك كان في الابتداء قبل أن ينزل آية المواريث ثم انتسخ وتكلموا في ناسخه وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول إنما انتسخ بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: من الآية11] فإنه نص على الميراث بعد وصية منكرة فلو كانت الوصية للوالدين والأقربين ثابتة بعد نزول هذه الآية لذكر الإرث بعد الوصية المعرفة لأن تلك وصية معهودة وهذا قول الشافعي أيضا بناء على مذهبه أنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة والرازي كان لا يجوز نسخ الكتاب إلا بالخبر المتواتر وأكثر مشايخنا رحمهم الله يقولون إنما انتسخ هذا الحكم بقوله عليه السلام: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" وهذا حديث مشهور تلقته العلماء بالقبول والعمل به ونسخ الكتاب جائز بمثله عندنا لأن ما تلقته العلماء بالقبول والعمل به كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو سمعناه يقول لا تعملوا بهذه الآية فإن حكمها منسوخ لم يجز العمل بها ولأجل شهرة هذا الحديث بدأ الكتاب به ورواه عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا وصية لوارث" وفي بعض الرواية قال: "إلا أن يجيزه الورثة" وفي هذه الزيادة بيان أن المراد نفي الجواز لا نفي التحقيق ومن ضرورة نفي الجواز نفي الفرضية والوجوب والحديث مرسل بالطريق الذي رواه ولكن المراسيل حجة عندنا كالمسانيد أو أقوى من المسانيد لأن الراوي إذا سمع الحديث من واحد لا يشق عليه حفظ اسمه فيرويه مسندا وإذا سمعه من جماعة يشق عليه حفظ الرواية فيرسل الحديث فكان الإرسال من الراوي المعروف دليل شهرة(27/261)
ص -130- ... الحديث فأما الحديث الذي رواه فهو شاذ فيما تعم به البلوى والوجوب لا يثبت بمثله ثم هو محمول على ما كان ابتداء قبل نزول آية المواريث أو المراد أن ذلك لا يليق بطريق الاحتياط والأخذ بمكارم الأخلاق لقوله عليه السلام: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت شبعان وجاره طاو إلى جنبه" والمراد ما بينا ثم الوصية تتقدر بقدر الثلث من المال وهي مأخوذة من الدين لحديث علي رضي الله عنه قال إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ بالدين قبل الوصية وهكذا نقل عن بن عباس رضي الله عنهما فهذا منهما إشارة إلى معنى التقديم والتأخير في الآية ثم قضاء الدين من أصول حوائج المرء لأنه تفرغ به ذمته والوصية ليست من أصول حوائجه وحاجته مقدمة في تركته.(27/262)
ألا ترى أنه يقدم جهازه وكفنه لحاجته إلى ذلك فكذلك قضاء الدين ثم زعم بعض أصحابنا أن الوصية بعد الدين تقدم على الميراث لظاهر الآية وأكثرهم قالوا التقديم لا يظهر في الوصية بل الوارث يستحق الثلثين إرثا في الوقت الذي يستحق الموصى له الثلث بالوصية والمراد من الآية تقديم الوصية على الميراث في الثلث لأنه محل للارث إذا لم يوص فيه بشيء فإذا أقضى كانت الوصية في الثلث مقدمة على الميراث والدليل على أن محل الوصية النافذة شرعا ثلث المال ما رواه من حديث سعد بن مالك قال يا رسول الله أوصي بمالي كله فقال: "لا" قال: فبنصفه قال: "لا" قال: فبثلثه قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس" وفي رواية: "يتكفكفون" وأصل هذا الحديث ما روي أن سعدا رضي الله عنه مرض بمكة عام حجة الوداع فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فقال يا رسول الله أخلف عن دار الهجرة فأموت بمكة فقال: "إني لأرجو أن يبقيك الله ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون" لكن البائس سعد بن خولة يرثى له أن مات بمكة قيل هذا من النبي عليه السلام إشارة إلى ما جرى من الفتوح على يد سعد في زمن عمر رضي الله عنه ثم قال يا رسول الله إني لا يرثني إلا ابنة لي أفأوصى بمالي كله الحديث وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمرء أن يوصي بأكثر من ثلثه لأن النبي عليه السلام ذم المعتدين في الوصية والتعدي في الوصية مجاوزة حدها قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: من الآية229] وفي الحديث: "الحيف في الوصية أكبر الكبائر" والحيف: هو الظلم والميل وذلك بمجاوزة الحد المحدود شرعا بأن يوصي لبعض ورثته أو يوصي بأكثر من ثلث ماله على قصد الإضرار بورثته والدليل على أن محل الوصية الثلث ما روينا من قوله: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" ثم بين المعنى بقوله: "إنك إن تدع عيالك أغنياء" معناه(27/263)
ورثتك أقرب إليك من الأجانب فترك المال خير لك من الوصية فيه وفي هذا دليل أن التعليل في الوصية أفضل وذلك مروي عن أبي بكر وعمر وقال لأن يوصي بالخمس أحب إلينا من أن يوصي بالربع ولأن يوصي بالربع أحب إلينا من أن يوصي بالثلث.
و عن علي رضي الله عنه مثل ذلك وزاد وقال من أوصى بالثلث فلم يترك شيئا يعني(27/264)
ص -131- ... لم يترك شيئا مما جعل له الشرع حق الوصية فيه فعرفنا أن القليل في الوصية أفضل لأن ذلك أبعد عن وحشة الورثة فإنه إذا أوصى بجميع الثلث قال الوارث لا منة له علي فإنه ما ترك الوصية بما زاد على الثلث إلا لعجزه عن تنفيذه شرعا وحق الوارث ثبت في ماله شرعا.
قال عليه السلام: "إن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" حتى إذا بلغ هذا وأشار إلى التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا كان ذلك وإن لم يقل وإنما تحل الوصية بالثلث شرعا لمن يترك مالا كثيرا يستغنى ورثته بثلثيه أما لكثرة المال أو لقلة الورثة هكذا روي أن عليا استأذنه رجل في الوصية لمن يترك خيرا يريد قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: من الآية180] ثم يستدل بظاهر هذا الحديث من يقول بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فإن النبي عليه السلام قدم صفة الغنى لوارثة سعد فقال: "إنك إن تدع عيالك أغنياء" ولكنا نقول: قدم صفة الغنى لهم واختار الفقر لنفسه والأفضل ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، ثم إنما قدم الغني على الفقير الذي يسأل كما قال من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس أي يلحون في السؤال ونحن إنما نقدم الفقير الصابر دون الذي يسأل كما وصفهم الله بقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: من الآية273] وهذا لأن الفقر مع الصبر أسلم للمرء وأزين للمؤمن.(27/265)
قال عليه السلام: "الفقر أزين للمؤمن من العذار الجيد على جلد الفرس" فأما الغني فسبب للطغيان والفتنة قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] وروي أن حمزة بن عبد المطلب أوصى إلى زيد بن حارثة يوم أحد وأن عليا رضي الله عنه أوصى إلى الحسن رضي الله عنهم وفيه دليل أن للمرء أن يوصي إلى غيره في القيام بحوائجه بعد وفاته وهذا من نظر الشرع له أيضا فقد يفرط في بعض حوائجه في حياته أو تخترمه المنية فيحتاج إلى من يقوم مقامه في القيام بحوائجه بعد موته والإيصاء إلى الغير كان مشهورا بين الصحابة رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه استخلف عمر وأوصى إلى عائشة رضي الله عنها في حوائجه وعمر أوصى إلى حفصة وتكلم الناس في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أوصى إلى أحد والصحيح عندنا أنه لم يوص إلى أحد بشيء إنما أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وبه استدلوا على خلافته فقالوا ما اختاره لأمر ديننا إلا وهو يرضى به لأمر دنيانا وينبغي أن يوصي إلى من هو أقرب إليه إذا كان أهلا لذلك كما أوصى علي إلى ولده الحسن رضي الله عنه وأوصى حمزة إلى زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما حين قدم المدينة.
وذكر عن بن مسعود أنه سئل عن إنسان أوصى بسهم من ماله فقال هو السدس وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال مطلق لفظ السهم في الوصية والإقرار ينصرف إلى السدس وهو مروي عن جماعة من أهل اللغة منهم إياس بن معاوية قالوا السهم السدس وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا للموصى له سهم مثل أخس سهام الورثة وروي ذلك في الكتاب عن شريح لأن ماله يصير سهاما بين ورثته فذكر السهم ينصرف إلى ذلك وأخس السهام متيقن(27/266)
ص -132- ... فيه إلا أن يجاوز السهم فحينئذ لا تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث بدون إجازة الورثة وأبو حنيفة يقول هذا إن لو ذكر السهم معرفا وقد ذكره منكرا بقوله أوصيت لكم بسهم من مالي فينصرف إلى ما فسر أهل اللغة السهم به.
وبيان المسألة يأتي في موضعه وعن عمر رضي الله عنه قال إذا أوصى الرجل بوصيتين فالأخيرة منهما أملك وبظاهره أخذ الشافعي فقال الوصية الثانية بالثلث أو بالعتق للذي أوصى به لغيره يكون دليل الرجوع عن الوصية الأولى ولكنا نقول المراد وصيتان بينهما منافاة بأن يوصي ببيع عبده من إنسان ثم يوصي بعتقه أو على عكس ذلك فإن بين هاتين الوصيتين في محل واحد منافاة فالثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى فأما إذا أوصى إلى إنسان بعبد بعينه ثم أوصى لآخر بذلك العبد فلا منافاة بين الوصيتين في المحل ومراده أن يكون كله لأحدهما إن لم يقبل الآخر الوصية أو لم يبق إلى ما بعد موت الموصي وإن لم يكن مشتركا بينهما إن قبلا جميعا الوصية فلا تكون الثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى وإن لم يستحق الموصى له الأول الترجيح بالسبق فلا أقل من أن يزاحم الموصي له الثاني.
وعن إبراهيم في الرجل يموت ولم يحج قال إن أوصى أن يحج عنه فمن الثلث وإن لم يوص فلا شيء وبهذا نأخذ وقد بينا المسألة في كتاب المناسك فنقول فيما يجب حقا لله تعالى خالصا كالزكاة والحج لا يصير دينا في التركة بعد الموت مقدما على الميراث ولكنه ينفذ من الثلث إن أوصى به كما ينفذ بسائر التبرعات وإن لم يوص به فهو يسقط بالموت في أحكام الدنيا وإن كان مؤاخذا في الآخرة بالتفريط في الأداء بعد التمكن منه وعلى قول الشافعي يصير ذلك دينا في تركته مقدما على الميراث أوصى به أو لم يوص وقد بينا المسألة في كتاب المناسك والزكاة.(27/267)
وعن إبراهيم في الرجل يوصي بثلث ماله يحج به عنه أو يعتق به رقبة فلم تتم الحجة ولا الرقبة قال يتصدق عنه ولسنا نأخذ بهذا فأين تنفذ الوصية تجب على ما أوجبه الموصي بحسب الإمكان والتحرز عن التبديل واجب بالنص قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: من الآية181] الآية وإنما يحج بثلثه من حيث يبلغ وإن كان الثلث لقلته بحيث لا يمكن أن يحج به عنه فهو لورثته وكان إبراهيم ذهب في ذلك إلى أن مقصود الموصي التقرب إلى الله تعالى بثلث ماله ونيل الثواب في ذلك القدر من المال فيجب تحصيل مقصوده بحسب الإمكان وذلك في التصدق به ولكنا نقول اعتبار التعبير في ألفاظ الشرع يجب لأنها لا تخلو عن حكمة حميدة فأما في أوامر العباد فيعتبر اللفظ.
ألا ترى أنه لو أمر إنسانا بأن يطلق امرأته للسنة فطلقها بغير السنة لم يقع و الشرع أمر بإيقاع الطلاق للسنة ومن طلق امرأته لغير السنة كان طلاقه واقعا؟
وعن إبراهيم قال: لا بأس بأن يوصي المسلم للنصراني أو النصراني للمسلم فيما بينه وبين الثلث وهكذا عن شريح و به نأخذ فإن الوصية تبرع بعد الوفاة بعقد مباشرة فيعتبر(27/268)
ص -133- ... بالتبرع في حياته ولا بأس بعقد الهبة بين المسلم والذمي في حال الحياة والأصل فيه قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} إلى قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: من الآية8] وإن أراد بهذا بيان الفرق بين الوصية والميراث فإن الإرث لا يجري مع اختلاف الدين لأن الإرث طريقه طريق الولاية والخلافة على معنى أنه يبقى للوارث المال الذي كان للمورث واختلاف الدين يقطع الولاية فأما الوصية فتمليك بعقد مبتدأ ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي بخلاف الوارث.
وعن إبراهيم في الرجل يستأذن ورثته في الوصية فيأذنون له ثم يرجعون بعد موته قال لهم ذلك إن شاؤوا رجعوا وبه نأخذ فإن الإجازة من الورثة معتبرة في الوصية بما زاد على الثلث أو في الوصية للوارث وإنما تعتبر إجازتهم بعد موت الموصي فأما في حياته فلا تعتبر لأن الإجازة إما أن تكون بمنزلة التمليك منهم أو بمنزلة إسقاط الحق وإنما ثبت ذلك كله لهم بعد موت الموصى فتمليكهم قبل أن يملكوا أو إسقاطهم لحقهم قبل أن يتقرر وجوب الحق لهم يكون لغوا ثم إجازتهم في حالة الحياة لا تكون دليل الرضى منهم بهذا بل الظاهر أنهم كارهون له إلا أنهم احتشموا المورث فلم يجاهروه بالإباء فلو لزمهم حكم الإجازة في حالة الحياة تضرروا بخلاف ما بعد الموت فإجازتهم بعد الموت دليل الرضى منهم.
وعن إبراهيم في رجل أوصى لغير وارث بدين أو أقر به قال هو جائز ولو أحاط بماله ومراده الإقرار بالدين لا الوصية وإنما سماه وصية لذكره إياه فيما بين الوصايا وفي موضع الوصية وبهذا نأخذ فنقول الإقرار لغير الوارث بالدين صحيح وإن أحاط بماله وهو مروي عن بن عمر رضي الله عنه وقد روي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيناه في كتاب الإقرار.(27/269)
وعن الشعبي أنه سئل عن رجل له ثلاث بنين فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم قال له الربع وبه نأخذ لأن مثل الشيء غيره فهو جعل نصيب أحد البنين معيارا لما أوجب الوصية فيه وجعل وصيته بمثل ذلك
فأما أن يقال يصير الموصى له بالإيجاب كابن آخر له مع البنين الثلاثة فله الربع أويقال ينظر في نصيب أحد البنين فيزاد على أصل السهام مثل ذلك للموصى له والمال بين البنين الثلاثة على ثلاثة أسهم لكل واحد منهم سهم فإذا زدنا للموصى له سهما على الثلاثة كانت السهام أربعة ثم نعطيه ذلك السهم فيكون له الربع ولا يجوز له أن يعطى الثلث بهذا الإيجاب لأن ذلك حينئذ ينفذ الوصية له في نصيب أحد البنين لا في مثل نصيب أحدهم وهو إنما أوصى له بمثل نصيب أحدهم.
و عن إبراهيم والشعبي قالا في رجل أوصى لرجلين بالنصف والثلث فردوا إلى الثلث أن الثلث بينهم على خمسة أسهم لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان وهذا قول أبي يوسف ومحمد وبن أبي ليلى رحمهم الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فالثلث بينهما نصفان والأصل عند أبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة تبطل في حق الضرب بها في الثلث وبيانه إذا أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلث ماله فلم تجز الوصية(27/270)
ص -134- ... أو أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بنصف ماله فلم تجز الورثة فعند أبي حنيفة الثلث بينهما نصفان في الفصلين جميعا وعندهما في الفصل الأول يكون الثلث بينهما أرباعا على أن يضرب الموصى له بالجميع بالثلث في سهام جميع المال الثلاثة والموصى له بالثلث بسهم واحد وفي الفصل الثاني يكون الثلث بينهما أثلاثا على أن يضرب الموصى له بالجميع بسهمين والموصى له بالنصف بسهم فهما يقولان ما يوجبه الموصي بعد موته معتبر بما أوجبه الله تعالى من السهام للورثة بعد الموت والله تعالى أوجب للزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث فكان موجب استحقاق كل واحد منهما بما أوجب له عند الانفراد والضرب بجميع ما سمى له بالوصية في محل الميراث عند المزاحمة فكذلك فيما أوجب الموصي المقصود استحقاق كل واحد منهما لما أوجبه له عند الإنفراد وإجازة الورثة.
يوضحه: أن الموصي قصد سلامة ما سمى لكل واحد منهما بكماله وتفضيل أحدهما على الآخر ففي أحد الحكمين تعذر تحصيل مقصوده عند عدم إجازة الورثة وفي الحكم الآخر ما تعذر تحصيل مقصوده فيجب تحصيله كما لو قال أوصيت بهذه الألف لفلان منها بستمائة ولفلان منها بسبعمائة تعتبر تسميته لكل واحد منهما وفي القدر الذي سمى التفضيل بينهما وإن تعذر اعتباره في استحقاق جميع المسمى لكل واحد منهما لضيق المحل ثم وصيته بالنصف والثلث ينصرف كل واحد منهما إلى جزء شائع في جميع ماله وفيما ذهب إليه أبو حنيفة تنفذ وصية أحدهما بجميع الثلث الذي له أن يوصى به وجعل الزيادة فيما أوصى لأحدهما بثلث ماله للآخر خاصة حتى يبطل بعدم إجازة الورثة وذلك خلاف ما أوجبه الموصي.
ألا ترى أنه لو أوصى لأحدهما بثلث ماله ولآخر بسدس ماله ولأحدهما بالثلث وللآخر بالربع إن لكل واحد منهما أن يضرب بجميع ما أوصى به له في الثلث وكذلك لو أوصى لأحدهما بألف درهم وللآخر بألفين وثلث ماله ألف ضرب كل واحد منهما في الثلث بجميع ما سمى له.(27/271)
وكذلك لو أعتق في مرضه عبدا قيمته ألف وعبدا قيمته ألفان وثلث ماله ألف أو باع من إنسان عبدا وحاباه بألف وباع من أحد شيئا وحاباه بألفين ضرب كل واحد منهما في الثلث بجميع ما حاباه وإن كان أكثر من ثلث ماله فكذلك فيما سبق ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان:
أحدهما: أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة مفسوخة بتغيير الوصية المفسوخة كالمرجوع فلا يستحق الضرب بها كالوصية بمال الجار وإنما قلنا ذلك لأنها كانت موقوفة على إجازة الورثة فتنفسخ بردهم كالبيع الموقوف على إجازة المالك ينفسخ برده وتأثيره أن حق الضرب فيه بناء على صحة الإيجاب وقد بطل ذلك بالانفساخ فلا معنى للضرب به في مزاحمة وصية الإيجاب فيها صحيح ولهذا فارق المواريث فإن ما أوجبه الله(27/272)
ص -135- ... تعالى لكل وارث صحيح قطعا ويقينا فعرفنا أن المراد المضاربة بها عند ضيق المحل لعلمنا أن المال الواحد لا يكون له نصفان وثلث وبه فارق الوصية بالثلث والسدس لأن كل واحد منهما إيجاب صحيح لا ينفسخ برد الوارث فإن كل واحد منهما إيجاب بتسمية يوجد ذلك فيما هو محل الوصية وهو الثلث فأما هذا فإيجاب بتسمية لا توجد تلك التسمية إلا فيما هو حق الورثة فيبطل بردهم الإيجاب فيما يتناول حقهم وكذلك الوصية بالألف والألفين فإنها ما وقعت في حق الورثة بهذه التسمية لأن حق الورثة في أعيان التركة دون الألف المرسلة.
ألا ترى أنه يتصور تنفيذ جميع هذه الوصية على ما سمى الموصي من غير إجازة الورثة بأن يكثر مال المورث فكذلك في مسألة العتق فإن ذلك وصية بالبراءة عن السعاية والسعاية بمنزلة الألوف المرسلة.
ألا ترى أنه يتصور تنفيذ الوصية لكل واحد منهما بدون إجازة الورثة بأن يكثر مال الميت وكذلك في مسألة المحاباة فالوصية بالمحاباة تكون من الثمن وذلك بمنزلة المال المرسل حتى يتصور تنفيذه لكل واحد منهما بدون إجازة الورثة عند كثرة المال.
فإن قيل: هذا فاسد فإن الخلاف ثابت فيما إذا أوصى بعبد بعينه لإنسان قيمته ألف وبعبد آخر بعينه لإنسان قيمته ألفان ولا مال له سواهما وهنا يتصور تنفيذ الوصية لكل واحد منهما في جميع ما سمى له بغير إجازة الورثة بأن يكثر مال الميت فيخرج العبدان من الثلث.
قلنا: نعم ولكن وصيتهما بعين التركة حق الورثة فكانت تلك الوصية واقعة في حق الورثة.(27/273)
ألا ترى أنها لا تصح إلا بعد قيام ملكه في العين عند الوصية بخلاف الوصية بالألف المرسلة فإنها صحيحة إن لم يكن في ملكه مال عند الوصية والطريق الآخر لأبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث وصية ضعيفة حتى لا يجب تنفيذها إلا بإجازة الورثة والوصية بالإرث وصية قوية ولا مزاحمة بين الضعيف والقوي في الاستحقاق ولكن الضعيف في مقابلة القوي كالمعدوم بمنزلة الوصية للوارث مع الوصية للأجنبي فإنه لا تثبت المزاحمة بينهما والمضاربة عند عدم إجازة الورثة وبه فارق المواريث فقد استوت السهام في القوة وكذلك الوصايا في الثلث فقد استوت في القوة لمصادفة كل واحد منهما محل الوصية وكذلك التركة إذا كانت ألفا وفيها دين ألف ودين ألفان لأن الدينين استويا في القوة وكذلك الوصايا في الألوف المرسلة والعتق والمحاباة فإنها استوت في القوة حين لم تصح في حق الورثة على ما بينا وقول الموصي قصد تبين فلنا الفصيل بنا على صحة الإيجاب في حق الاستحقاق وقد بطل ذلك بالرد على الطريق الأول وهو ضعيف على الطريق الثاني فلا يزاحم القوي وبه فارق مسألة الألف لأن مطلق الإضافة إليهما بعقبه تفسير وهو ما سمى من الستمائة لأحدهما والسبعمائة للآخر فيكون الحكم لذلك التفسير استواء الإيجاب في القوة وما قالوا أن الإيجاب ينصرف إلى جزء شائع ها هنا فاسد فإنه إذا أوصى بثلث ماله لابنه(27/274)
ص -136- ... استحق الموصى له جميع الثلث ولو انصرف الإيجاب إلى ثلث شائع في جميع المال صار له ثلث الثلث لأن ذلك القدر صادف محل الوصية وحيث استحق جميع الثلث عرفنا أن تسمية الثلث مطلقا تنفيذ محل الوصية لتصحيح إيجابه في جميعه كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصفا مطلقا فإنه ينصرف البيع إلى نصيبه خاصة فهذا مثله.
وعن أبي عاصم الثقفي قال سألني إبراهيم عن رجل أوصى بنصف ماله وثلثه وربعه فأجازوا قلت لا علم لي بها قال لي خذ مالا له نصف وثلث وربع وذلك اثنا عشر فخذ نصفها ستة وثلثها أربعة وربعها ثلاثة فاقسم المال على ذلك وهذا قول أبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة رحمه الله بخلاف ذلك ولم يزد على ذلك حتى اختلفوا في تخريج المسألة على قول أبي حنيفة وهذه مسألة معروفة تدعى الثقفية وربما يمتحن من يدعي التحرز في المقدرات من أصحابنا فأما تخريج قولهما فظاهر لأن القسمة عندهما على طريق العول والمضاربة فالموصى له بالنصف يضرب بنصف المال ستة من اثني عشر والموصى له بالثلث يضرب بأربعة من اثنى عشر والموصى له بالربع يضرب بثلاثة فمبلغ هذه السهام ثلاثة عشر فحينئذ أجازه الورثة يقسم جميع المال بينهم على ذلك وعند عدم الإجازة يقسم الثلث بينهم على ذلك.(27/275)
وأما عند أبي حنيفة فقسمة المال بينهم عند إجازة الورثة على طريق المنازعة فخرج أبو يوسف رحمه الله قوله على طريق ومحمد رحمه الله على طريق آخر والحسن رحمه الله على طريق آخر وكل واحد منهما روى طريقه عنه وطريق الحسن أوجه فأما طريق أبي يوسف أن الموصى له بالنصف فضل الموصى له بالثلث بسهمين لأن تفاوت ما بين النصف والثلث سهمان ولا منازعة في هذين السهمين لصاحب الثلث والربع فيأخذهما صاحب النصف ثم لا منازعة لصاحب الربع فيما زاد على الربع إلى تمام الثلث وهو سهم وصاحب الثلث والنصف كل واحد منهما يدعي ذلك وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما سهما ففي ثمانية استوت منازعتهم فيها يكون بينهم أثلاثا فانكسر بالأثلاث فيضرب أصل المال اثنا عشر في ثلاثة فيكون ستة وثلاثين صاحب النصف أخذ مرة سهمين ومرة سهما وقد ضربنا ذلك في الثلاثة وهي تسعة وصاحب الثلث أخذ سهما وذلك ثلاثة والباقي أربعة وعشرون بينهم لكل واحد منهم ثمانية فحصل لصاحب الربع ثمانية من ستة وثلاثين ولصاحب الثلث أحد عشر ولصاحب النصف سبعة عشر.
وأما تخريج محمد لقول أبي حنيفة فقريب من هذا ولكنه قال لما أخذ صاحب النصف سهمين بلا منازعة تراجع حقه إلى الثلث فوصاياهم جميعا بعد ذلك اجتمعت في الثلث ومن أصل أبي حنيفة أن الوصايا متى وقعت في الثلث فالقسمة بين أربابها على طريق العول فيضرب صاحب النصف بما بقي من حقه وهو أربعة من اثني عشر وصاحب الثلث بأربعة أيضا وصاحب الربع بثلاثة فيكون بينهم على أحد عشر فالسبيل أن تضرب أصل المال اثنى عشر(27/276)
ص -137- ... في إحدى عشر فيكون مائة واثنين وثلاثين كان قد أخذ صاحب النصف سهمين وضربنا سهما في أحد عشر وذلك اثنان وعشرون بقي بعد ذلك مائة وعشرة لصاحب الربع من ذلك ثلاثون ولصاحب الثلث أربعون ولصاحب النصف كذلك فجملة ما حصل لصاحب النصف اثنان وستون ولصاحب الثلث أربعون ولصاحب الربع ثلاثون
فأما تخريج الحسن رحمه الله لقوله فهو أنه اجتمع ها هنا وصيتان وصية في الثلث ووصية فيما زاد على الثلث وأبو حنيفة يرى القسمة على طريق العول في الوصايا في الثلث والقسمة على طريق المنازعة في الوصايا فيما زاد على الثلث فيعتبر كل واحد منهما ويبدأ بقسمة الثلث لأن القسمة على طريق العول تكون عن موافقة فهو أقوى مما ينبني على المنازعة ولأن الوصية في محلها أقوى مما إذا جاوزت محلها فنقول يضرب صاحب النصف في الثلث بجميع الثلث وهي أربعة وصاحب الثلث بمثله وصاحب الربع بينهم فيضرب الثلث بينهم على أحد عشر فيكون جميع المال على ثلاثة وثلاثين ثم يأتي إلى القسمة بطريق المنازعة فنقول صاحب النصف حقه في النصف من جميع المال وذلك ستة عشر ونصف وقد وصل إليه أربعة بقي له من حقه اثنا عشر ونصف وصاحب الثلث كان حقه في أحد عشر وصل إليه أربعة بقي له سبعة فما زاد على سبعة إلى تمام اثنى عشر ونصف لا منازعة فيه لصاحب الثلث فيأخذه صاحب النصف وذلك خمسة ونصف ثم صاحب الربع كان حقه في الربع وذلك ثمانية وربع وصل إليه ثلاثة بقي له خمسة وربع فما زاد على خمسة وربع إلى تمام سبعة لا منازعة فيه لصاحب الربع فصاحب الثلث والنصف كل واحد منهما يدعيه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما سهما وثلاثة أرباع بلا منازعة فجملة ما أخذا من اثنين وعشرين وهو ثلثا المال تسعة مرة خمسة ونصف ومرتين سهم وثلاثة أرباع وذلك ثلاثة ونصف والباقي ثلاثة عشر استوت منازعتهم فيه فيكون بينهم أثلاثا فانكسر بالأثلاث وكان قد انكسر بالأنصاف والأرباع إلا أن الربع يجزئ عن النصف لأن النصف(27/277)
يخرج من مخرج الربع فالسبيل أن يضرب ثلاثة في أربعة فيكون اثني عشر ثم يضرب أصل المال وذلك ثلاثة وثلاثون في اثني عشر فيكون ثلاثمائة وستة وتسعين الثلث من ذلك مائة واثنان وثلاثون كان لصاحب النصف من ذلك أربعة مضروبة في اثنى عشر وذلك ثمانية وأربعون ولصاحب الثلث مثل ذلك ولصاحب الربع ثلاثة مضروبة في اثنى عشر وذلك ستة وثلاثون وكان ما أخذ صاحب النصف من الثلاثين بلا منازعة خمسة ونصف مضروبة في اثنى عشر فذلك ستة وستون وما أخذه صاحب النصف وصاحب الثلث ثلاثة ونصف مضروبة في اثنى عشر وذلك اثنان وأربعون بينهما نصفان لكل واحد منهما أحد وعشرون وكان الذي لا يستقيم بينهم ثلاثة عشر مضروبة في اثنى عشر فيكون ذلك مائة وستة وخمسين بينهم لكل واحد منهم اثنان وخمسون فصاحب الربع ما وصل إليه من الثلثين إلا اثنان وخمسون وصاحب الثلث أخذ مرة اثنين وخمسين ومرة أحدا وعشرين وذلك ثلاثة وسبعون وصاحب النصف أخذ مرة اثنين وخمسين ومرة أحدا وعشرين ومرة ستة وستين(27/278)
ص -138- ... فيكون ذلك مائة وتسعة وستين فإذا جمعت بين هذه السهام بلغت سهام ثلثي المال مائتين وأربعة وستين فإذا ضممته إلى الثلث الذي اقتسموه على طريق العول كانت الجملة ثلاثمائة وستة وتسعين فاستقام التخريج.
وعن إبراهيم رحمه الله قال: إذا أوصى الرجل وأعتق بدئ بالعتق وبه نأخذ وهو مروي عن بن عمر رضي الله عنه وهذا لأن العتق أقوى سببا من سائر الوصايا فإنه لا يحتمل الفسخ وهو إسقاط للرق والمسقط يكون متلاشيا وسائر الوصايا يتحمل الفسخ والرجوع عنها وثبوت الحكم بحسب السبب ولا مزاحمة للضعيف مع القوي ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا بظاهر هذا الحديث فقدما العتق على المحاباة المتقدمة وأبو حنيفة رحمه الله خص المحاباة من سائر الوصايا باعتبار أنها أقوى سببا فسببها عقد الضمان وعقد الضمان أقوى من التبرع وقوة العتق باعتبار حكم السبب فعند البداءة بالمحاباة يترجح بالسبق وبقوة السبب فقال يبدأ بها وعند البداءة بالعتق يستويان من حيث أن للعتق قوة السبق وقوة الحكم وللمحاباة قوة السبب والمعتبر أولا السبب فإن الحكم ينبني على السبب فيتحاصان وسيأتي بيان المسألة في موضعها.
وعن إبراهيم في رجل يوصي إلى رجل فيموت الموصى إليه فيوصي إلى رجل آخر فإن وصيتهما جميعا صحيحة وبه نأخذ فإن الوصي بعد موت الموصى قائم مقام الموصي في ولايته في المال وقد كانت ولايته في ماله ومال الموصي الأول فيخلفه وصيه في التصرف في المالين لأن بعد قبول الوصية التصرف في مال الموصي الأول من حوائج الوصي كالتصرف في مال نفسه وإنما يقيم الموصي مقامه فيما هو من حاجته.(27/279)
وعن إبراهيم في الرجل يوصي لأم ولده في حياته وصحته فيموت قال هو ميراث وإن أوصى عند موته لها بوصية فهو لها من الثلث والمراد بوصيته لها في صحته الإقرار والهبة لا الوصية المضافة إلى ما بعد الموت لأن حالة الصحة وحالة المرض في ذلك سواء وبه نأخذ فنقول الهبة لأم الولد والإقرار لها بالدين باطل من المولي لأنها باقية على ملكه وكسبها له بمنزلة القنة فأما وصيته لها مضافة إلى ما بعد الموت فصحيحة لأنها تعتق بالموت ووجوب الوصية يكون بعد الموت فالوصية لها بمنزلة الوصية لجارية أجنبية.
وعن بن عمر رضي الله عنه قال: إذا أقر الرجل عند موته بدين لوارث فإنه لا يجوز إلا ببينة وإن أقر لغير وارث بالدين جاز ولو أحاط بجميع ماله وبه نأخذ في الفصلين وقد روي في بعض الروايات مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك في الإقرار.
وعن إبراهيم في المرأة يضربها الطلق قال: هي بمنزلة المريض في الوصية والتبرع والطلق اسم لوجع الولادة ويسمى ذلك مخاضا أيضا قال الله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: من الآية23] ومتى أخذها وجع الولادة فهي بمنزلة المريض لأنها أشرفت على(27/280)
ص -139- ... الهلاك إلا أنه قد يأخذها الوجع ثم يسكن فباعتبار ذلك الوجع لا تصير في التبرعات كالمريضة بمنزلة مرض يعقبه برء وإنما تصير كالمريضة إذا أخذها الوجع الذي يكون آخره انفصال الولد عنها من سلامتها به أو موتها لأن المعتبر مرض الموت ومرض الموت ما يتصل به ومن أوصى بأكثر من ثلث ماله لم يجز في الفضل على الثلث إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار لأن حقهم تعلق بماله بمرضه ولكن الشرع جعل الثلث محلا لوصية الموصي ليتدارك به ما فرط في حياته فما زاد على ذلك إذا أوصى به فقد قصد الإضرار بورثته بإسقاط حقهم عما تعلق حقهم به وإيثار الأجنبي على من آثره الشرع وهو الوارث فللوارث أن يرد عليه قصده بأن يأبى الإجازة ولا معتبر بإجازته في حياة الموصي عندنا وقال بن أبي ليلى تصح إجازته في حياته وليس له أن يرجع بعد وفاته لأنه سقط حقه بالإجازة وبالمرض قد تعلق حقه بماله فيصح إسقاطه وفقه هذا أن حق الوارث إنما يثبت في ماله بالموت ولكن سبب موته المرض فلما أقيم هذا السبب مقام حقيقة الموت في منع المورث من التصرف المبطل لحق الوارث فكذلك قام مقامه في صحة إسقاط الحق من الوارث بالإجازة ولكنا نقول إسقاط الحق قبل وجود السبب لا يجوز ويعتبر المرض بسبب تعلق حقه بماله بل السبب مرض الموت ومرض الموت ما يتصل به الموت فقبل اتصال الموت لا يكون سببا وهذا الاتصال موهوم فيكون هذا إسقاط الحق قبل تقرر السبب ثم الإجازة من الوارث إنما تعمل لوجود دليل الرضى منه بتصرف المريض وإجازته في حياة الموصي لا تدل على ذلك بل الظاهر أنه احتشم المورث فلم يجاهره بالرد من غير أن يكون راضيا بوصيته بخلاف ما إذا أجازه بعد الموت وفي الإجازة بعد الموت إن لم يكن الوارث من أهله بأن كان صغيرا فهو باطل أيضا لأنه إسقاط الحق بطريق التبرع فأما إذا كان كبيرا فإجازته صحيحة ويسلم المال للموصى له بطريق الوصية من الموصي عندنا وعند الشافعي صحيحة بطريق(27/281)
التمليك من الوارث ابتداء منه حتى لا يتم إلا بالقبض على قوله وعندنا يتم من غير قبض الموصى له والشيوع لا يمنع صحة الإجازة وليس للوارث أن يرجع فيه وجه قوله أن بنفس الموت قد صار قدر الثلثين من المال ملكا للوارث لأن الميراث يثبت من غير قبول الوارث ولا يرتد بالرد فإجازته تكون إخراجا للمال عن ملكه بغير عوض وهذا فيه لا يتم إلا بالقبض كما لو أوصى بمال جاره فأجازه الجار بعد موته ولكنا نقول تصرف الموصي صادف ملكه وامتنع نفوذه بقيام حق الغير فيه إجازة من له الحق تكون إسقاطا كإجازة المرتهن بيع الراهن وكذلك إن أجازوا وصية الوارث.
ولو أوصى بألف درهم من مال رجل أو بعبد أو ثوب فأجاز ذلك الرجل قبل موته أو بعده فله أن يرجع عنه ما لم يدفعه إلى الموصى له فإذا دفعه إليه جاز لأن وصيته من مال غيره بمنزلة الهبة كأنه وهب مال غيره فلا يصح إلا بالتسليم والقبض كما لو وهب مال نفسه بخلاف الوصية من مال نفسه بأكثر من الثلث لأنه أوصى بمال نفسه إلا أنه لم ينفذ لحق(27/282)
ص -140- ... الورثة فإذا أجازوا فقد أبطلوا حقهم وجاز من قبل الوصي جواز الوصية فلم يكن التسليم من شرط صحتها وجوازها.
وإذا أوصى الرجل لرجل بعبد ولآخر بثوب ولآخر بدار والثلث يبلغ ألف درهم والوصية تبلغ ألفا وخمسمائة أصاب كل واحد منهم ثلثي وصيته وبطل الثلث لأنه لا بد من إبطال الفضل على الثلث وليس أحدهم بإبطالها أولى من الآخر وقد استووا في استحقاق الثلث فكذا في إبطاله فينقص من وصية كل واحد منهما ثلثها ووجه ذلك أن ينظر إلى مبلغ الوصايا وإلى ثلث ماله فإن كانت الزيادة مقدار الثلث ينقص من نصيب كل واحد منهما الثلث وإن كان نصفا النصف وتفسيره إذا أوصى لرجل بعبد قيمته ألف درهم ولآخر بثوب قيمته ثلاثمائة درهم ولآخر بدار قيمتها مائتان فذلك كله ألف وخمسمائة وثلث ماله ألف فالزيادة مقدار الثلث فينقص من وصية كل واحد منهم مقدار الثلث فلصاحب العبد ثلثا العبد ولصاحب الدار ثلثا الدراهم ولصاحب الثوب ثلثا الثوب فاستقام الثلث والثلثان وإذا أوصى لذوي قرابته بالثلث فإن ذوي قرابته كل ذي رحم محرم منه.(27/283)
قال رضي الله عنه: هنا خمسة ألفاظ أما أن يوصي لذوي قرابته أو لأقاربه أو لأنسابه أو لأرحامه أو لذوي أرحامه فأبو حنيفة يعتبر خمسة أشياء ذا رحم محرم واثنين فصاعدا ما سوى الوالد والولد ومن لا يرث والأقرب فالأقرب وفي قول أبي يوسف الأول يدخل فيها جميع ذوي رحم محرم منه الأقرب والأبعد في ذلك سواء ثم رجع فقال كل من يجمعه وأباه أقصى أب في الإسلام ويدخل في الوصية ذو الرحم وغير ذي الرحم المحرم كلهم سواء وهو قول محمد والاختلاف في موضعين: أحدهما: أنه يصرف إلى ذوي الرحم المحرم ولا يصرف إلى غيرهم عند أبي حنيفة وعندهما ذو الرحم المحرم وغيره سواء والثاني: أنه يصرف إلى الأقرب فالأقرب عنده وعندهما يستوي فيه الأقرب والأبعد واتفقوا أنه لا يدخل فيها الوصية لوارث لقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" وكذلك يعتبر الاثنان بالاتفاق لأن ذوي لفظ جمع وأقل الجمع اثنان في الميراث.
ألا ترى أن الأخوين ينقلان الأم من الثلث إلى السدس فكذلك في الوصية إذ هي أخت الميراث فلذلك لا يصرف إلى الولد لأنهما يسميان قرابة لقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: من الآية180] من بينهما فتبين أن الوالدين غير القرابة فإذا خرج الأب من أن يكون قريبا للابن خرج الابن من أن يكون قريبا للأب وهل يدخل فيها الجدود وولد الولد ففي الزيادات أنه يدخل ولم يذكر فيه خلافا.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الجد وولد الولد لا يدخلان في الوصية وكذا روي عن أبي يوسف لأن الجد بمنزلة الأب وولد الولد بمنزلة الولد وإنما اعتبر أبو حنيفة ذا الرحم المحرم لأن الموصي قصد بالوصية صلة الرحم لأنه مأمور بها قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: من الآية90] وقال جل وعلا: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(27/284)
ص -141- ... أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: من الآية22] فلما كان مأمورا بصلة القرابة وإنما تجب الصلة ممن كان ذا رحم محرم منه فانصرفت الوصية إليه دون غيره لأن القرابة المطلقة قرابة ذي الرحم المحرم لاختصاصها بأحكام مخصوصة من عدم جواز المناكحة والعتق عند الملك وعدم الرجوع في الهبة ووجوب النفقة عند العشرة فانصرفت الوصية إليه وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب لأن كل من كان أقرب إليه فهو أشبه بهذا اللفظ فكان أولى كما في العصبات وذوي الأرحام في الميراث والأقرب في الشفعة.
وجه قول أبي يوسف الأول أنه ينصرف إلى كل ذي رحم محرم منه الأقرب والأبعد منه سواء لأنهم في استحقاق الاسم سواء.
ألا ترى أنه لو أوصى لإخوته وله أخوة بعضهم لأب وأم وبعضهم لأب وبعضهم لأم أنهم في الوصية سواء ولا يعتبر الأقرب.
وجه قوله الآخر وهو قول محمد أنه يدخل فيه ذوو الرحم المحرم وغير ذي الرحم المحرم ويصرف إلى كل من يجمعه وأباه أقصى أب في الإسلام أن هذا اللفظ في الأبعدين أكثر استعمالا من الأقربين.
ألا ترى أنه لا يقال للأخ أو العم هذا قريبي فيدخلون كلهم في الوصية؟(27/285)
ألا ترى إلى ما روي في الخبر لما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرباءه سبعين نفسا وقال لهم: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وكان فيهم ذو رحم محرم وغيره فثبت أن كلهم في الوصية سواء إلا أنه لا يمكن أن يدخل فيه جميع أولاد آدم عليه السلام فيجعل الحد فيه من يجمعه وإياهم أقصى أب في الإسلام لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بأهل الإسلام وكان قبل ذلك يعرف بقبائل الجاهلية وهما إنما قالا ذلك في زمانهما لأن في ذلك الوقت ربما يبلغ إلى ثلاثة آباء أو أربعة آباء ولا يجاوز ذلك فتتبين أقرباؤه أما في زماننا فلا يمكن أن يعتبر ذلك لأن النسبة قد طالت فتقع الوصية لقوم مجهولين فإن ترك عمين وخالين وهم ليسوا بورثة فعند أبي حنيفة الوصية للعمين دون الخالين لأن العم أقرب من الخال لأنه من قبل الأب بدليل الولاية وعندهما الثلث بينهم بالسوية ولو كان له عم واحد وخالان كان للعم النصف والنصف للخالين عنده لأنه أوصى بلفظ الجمع وهو قوله ذوي وأقل الجمع في الوصية اثنان ويصرف النصف إلى الخالين لأنهما يستحقان اسم القرابة فإذا خرج العم من الوسط صار كأنه لم يترك إلا الخالين قال محمد رحمه الله إذا أوصى بثلث ماله لقبيلة دخل الموالي فيه لأنهم ينسبون إلى تلك القبيلة وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال مولى القوم منهم هذا إذا كانوا يحصون فإن كانوا لا يحصون فالوصية باطلة لأن المقصود من هذه الوصية الصلة.
ألا ترى أنه يستوي فيه الغني والفقير فإذا كانوا لا يحصون صاروا مجهولين فبطلت وجه الإحصاء ذكرناه في الشرب والشفعة ولا خلاف في المسألة إلا أنه نص على قول محمد(27/286)
ص -142- ... وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أوصى لفقراء أهل بيته فلكل من ينسب إلى أقصى جد في الإسلام من قبل الرجال وكذا لمحتاجي أهل بيته أي إذا أوصى لأهل بيته فإن كان الموصي من أولاد العباس فكل من كان نسبه إلى العباس من قبل الأب دخل فيه سواء كان هو بنفسه ذكر أو أنثى بعد أن يكونا منسوبين إليه من قبل الآباء ومن كان نسبه إليه من قبل الأم لا يدخل فيه لأنه لا يسمى من أهل بيته وإنما يسمى من أهل بيت أخرين وكذلك الوصية لجنس فلان أو لمحتاجي جنسه لأن الجنس وأهل البيت سواء وسواء كانوا يحصون أو لا يحصون لأن هذا سبيل الصدقة لأنه حصر الفقراء والمحتاجين وجهالة المتصدق عليه لا تمنع الصحة فإن قابض الصدقة هو الله تعالى وهذا عندهم إلا أن عند أبي حنيفة يعتبر الأقرب فالأقرب ولا يعطى غير ذي الرحم المحرم وعندهما تصرف إلى الكل.
ولو أوصى بثلث ماله لأخوته وله ستة أخوة متفرقين وله ولد يحوز ميراثه فالثلث بين أخوته سواء لأن الاستحقاق بالاسم وهم في استحقاق الاسم سواء بخلاف ما لو أوصى لأقرباء فلان عند أبي حنيفة لأنه يصح أن يقال هذا أقرب من فلان ولا يصح أن يقال هذا أكثر أخوة من فلان بل كلهم في استحقاق الاسم سواء هذا إذا كان له ولد يحوز ميراثه فإن لم يكن فلا وصية للوارث وللأخوين لأب ثلث ذلك لأنهما لا يرثان.
فإن قيل: وجب أن يصرف جميع الثلث إليهما إذا لم تصح الوصية لهم كما لو أوصى لحي وميت.
قلنا: الإضافة كانت صحيحة إلى الأخوين لأب وأمين ولأخوين لأم.
ألا ترى أنه لو أجازت الورثة جازت إلا أنهم خرجوا بعد الدخول في الوصية فلا يزداد حق الأخ لأب.
ألا ترى أنه لو أوصى لثلاثة نفر فمات اثنان قبل موته كان للباقي ثلث الثلث لصحة الإضافة.
ألا ترى أنه لو قال الثلث الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لوارثه فإنه يكون رجوعا بخلاف ما لو قال لفلان وفلان وأحدهما ميت لأن الميت ليس بمحل بوجه فلا يدخل تحت اللفظ.(27/287)
ألا ترى أنه لو قال الثلث الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان الميت لا يكون رجوعا وإذا أوصى بثلثه لبني فلان فهذا لا يخلو إما أن يكون الأب هو قبيلة مثل تميم وكليب ووائل أو لا يكون قبيلة بل أب خاص فإن كانت قبيلة خاصة دخل فيه الذكور والإناث لأن المراد النسبة والمرأة تقول أنا من بني فلان كما يقول الرجل لأنه لا حقيقة لهذه النسبة وإنما ينسب إليها مجازا فيتناول جنس من ينسب إليها حقيقة كان أو مجازا.
ألا ترى أنه لو يدخل فيه الحليف والخليل وإذا كانوا يحصون فإن كانوا لا يحصون فهي باطلة لأن في القبيلة أغنياء وفقراء والوصية للأغنياء صلة والصلة للمجهول باطلة أما إذا كان فلان أب صلب فإن كانوا ذكورا دخلوا في الوصية لأن لفظ البنين للذكور حقيقة فينصرف إليه ما(27/288)
ص -143- ... أمكن وإن كن إناثا لا يدخل فيه ذكور واحدة منهن لأن اللفظ لا يتناولهن وإن كانوا ذكورا وإناثا فعند أبي حنيفة وأبي يوسف الوصية للذكور دون الإناث وعند محمد يدخل فيه الذكور والإناث وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رواه يوسف بن خالد السمين لأبي يوسف وأبي حنيفة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف أن البنين جمع لابن يقع على الذكور لأنه حقيقة.
ألا ترى أنهم لو كانوا كلهم إناثا لم يدخلوا في الوصية ومحمد يقول البنين إذا ذكروا مطلقا يقع على الذكور والإناث عند اشتراكهم قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: من الآية26] ولم يقصر اللفظ على الذكر خاصة لأن النسب إلى الجد بمنزلة النسب إلى الأب في الحقيقة لأن أكثر الناس ينسب إلى الجد ليعرف دون الأب.
ألا ترى أن بن أبي ليلى ينسب إلى جده وكذلك أبو نصر بن سلامة ينسب إلى جده لأن سلامة جده لا أبوه وإذا كان ينسب إلى الجد صار الحكم أن الصلب والجد سواء ولو أوصى بثلثه لولد فلان وله بنون وبنات كان الثلث بينهم سواء لأن الولد اسم لجنس المولود ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر.
ولو كانت له امرأة حامل دخل ما في بطنها في الوصية لأنه دخل تحت تسمية الولد.
ألا ترى أنه يرث فيدخل تحت الوصية أيضا فإن كانت له بنات وبنو بن فالوصية لبناته دون بني ابنه لأن لفظ الولد يتناول ابنه حقيقة ويتناول أولاد الابن مجازا فمهما أمكن صرفه إلى حقيقته لا يصرف إلى مجازه ولا يدخل أولاد البنات لأنهم من قوم آخرين وليسوا من أولاده لأن النسب للآباء ولو كان له ولد واحد ذكر أو أنثى فجميع الوصية له لأنه هو المستحق للاسم على الحقيقة فلا يصرف إلى مجازه والولد اسم جنس يتناول الواحد فصاعدا.(27/289)
وإذا أوصى لفخذ فلان أو لبطن فلان فالجواب فيه مثل الجواب في قوله لقبيلة فلان يدخل فيه البنون والبنات وهذا إذا كانوا يحصون فأما إذا كانوا لا يحصون فالوصية باطلة لأنه للمجهول إلا إذا قال لفقرائهم فحينئذ يجوز لأن المقصود به التقرب إلى الله تعالى فإن كانوا يحصون يدفع إلى جميعهم لأنه بمنزلة التسمية لهم وإن كانوا لا يحصون يجوز أن يدفع إلى بعضهم دون بعض غير أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجوز صرفه كله إلى فقير واحد وعند محمد لا يجوز إلا أن يصرف إلى اثنين لأن الوصية أخت الميراث والجمع في باب الميراث اثنان فصاعدا ولهما أن الفقر اسم جنس والجنس يتناول الواحد فصاعدا دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: من الآية60] الآية ولو دفع إلى فقير واحد جاز ولهذا لو قال إن تزوجت النساء فعبدي حر فتزوج امرأة واحدة يعتق.
ولو أوصى بثلثه لفلان وفلان أو بني فلان وفلان ثم مات الموصي فالمسألة على ثلاثة أوجه إما أن يموت أحدهما قبل موت الموصي أو بعد موته أو كان ميتا وقت الوصية أما إذا مات بعد موته فإنه يكون الثلث بين الحي والميت نصفين ولأن الموصي لما مات أولا فقد وجبت الوصية لهما فإذا مات أحدهما صار نصيبه لورثته وإن مات أحدهما قبل موته صار(27/290)
ص -144- ... نصف الثلث للحي ونصفه مردودا إلى ورثة الموصي لأنه مات قبل وجوب الوصية له لأن الوصية تملك بعد الموت وقد مات قبل الملك وإنما يكون للحي نصف الثلث لأن الإضافة إليهما كانت صحيحة وكان لكل واحد منهما نصف الثلث فلا يزاد حقه بموت الآخر فكان لورثة الموصى وأما إذا كان أحدهما ميتا وقت الوصية فإن كان الموصي قال بني فلان وفلان فللحي نصف الوصية ولا شيء لورثة الميت لأن كلمة بين كلمة تقسيم وتجزئة فصار كأنه أوصى لكل واحد منهما بنصف الثلث وإذا بطل نصيب الميت رجع إلى ورثة الموصي ولا يكون للحي إلا النصف ولو قال لفلان وفلان وأحدهما ميت فالوصية كلها للحي سواء علم بموته أو لم يعلم.
ويروى عن أبي يوسف أنه قال: إن كان الموصي علم بموته فالثلث كله للحي وإن لم يعلم فللحي نصفه لأنه إذا لم يعلم بموته كان قصده تمليك نصف الثلث لكل واحد منهما فلا يثبت إلا ذلك بخلاف ماإذا علم بموته لأنه قصد صلة الحي منهما وجه ظاهر الرواية أنه أضاف الوصية إلى اثنين أحدهما تصلح الإضافة إليه والآخر لا تصلح فبطلت الإضافة إلى من لا تصلح إليه الإضافة وتثبت إلى من تصلح الإضافة إليه.
ألا ترى أنه لو قال ثلث مالي لفلان ولهذه الاسراء ولهذه الأسطوانة كان الثلث كله لفلان ولو قال ثلث مالي لفلان ولعقبه فالثلث كله لفلان لأن الإضافة إلى العقب فاسدة لأن عقبه من يعقبه فإذا كان هو حيا لا يكون له عقب وإذا بطلت الإضافة إلى العقب ثبت ثلث المال إليه.
ولو قال: ثلث مالي لفلان وللمساكين كان نصفه لفلان ونصفه للمساكين عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد ثلثه لفلان وثلثاه للمساكين بناء على ما ذكرنا أن عنده المساكين اسم جمع فيتناول الاثنين وعندهما اسم جنس فيقع على الأدنى.
وكذا لو قال: ثلث مالي لفلان وللحج كان نصفه لفلان ونصفه للحج لأن الوصية للحج وصية لله تعالى فصار كأنه أوصى لاثنين.(27/291)
وإذا قال: حجوا عني حجة وأعتقوا عني نسمة ينفذ من الثلث لأن الوصية نفاذها من الثلث فإذا كان لا يسعها ينظر إن كانت الحجة حجة الإسلام بدئ بها وإن أخره الميت لأن حجة الإسلام أقوى من نسمة التطوع ويعلم أن إسقاط الفرض أهم إليه من غيره إلا أنه أخره ليقبل قلبه وإن كان حجه تطوعا وليس أحدهما بأولى من الآخر فيبدأ بما بدأ به الميت لأنه أهم عنده هذا إذا أوصى بعتق نسمة منه بغير عينها أما إذا كانت النسمة بعينها فإنهما يتحاصان في الثلث لأن الوصية بالعتق وصية للعبد إذا كان معينا والوصية بالحج وصية لله تعالى فصار بمنزلة وصيتين مختلفتين فيتحاصان بخلاف ما إذا كانت النسمة بغير عينها لأنهما وصيتان لله تعالى وإذا أوصى بالثلث لبني فلان وهم أربعة فمات منهم اثنان وولد للأب ولد(27/292)
ص -145- ... آخر ثم مات الموصي فالثلث لولده يوم يموت الموصي لأن الوصية تمليك بعد الموت فانصرف إلى الموجودين بعد الموت.
ألا ترى أنه يعتبر ماله يوم الموت لا يوم الوصية وكذا لو قال ثلث مالي لموالي فلان وفلان العربي ثم مات منهم ميت وأعتق فلان منهم عبدا ثم مات الموصي فالثلث لمواليه يوم مات لما ذكرنا.
ولو كان لفلان موالي أعتقهم وموالي أعتقوه فإن لم يكن من العرب ولم يبين لأي الفريقين أوصى فالوصية باطلة لأن الموصى له مجهول لأن المولي يذكر ويراد به المولي الأسفل ويذكر ويراد به الأعلى ولا يمكن الجمع بينهما لاختلاف المقصود لأن المقصود من الوصية للأسفل زيادة إنعام ومن الوصية للأعلى الشكر على النعمة وهما متضادان لا يمكن الجمع بينهما.
وروي عن أبي حنيفة أن الثلث للمولى الأسفل لأن قصده بالوصية البر والناس يقصدون بالبر المولى الأسفل دون الأعلى.
ألا ترى أنه لو وقف على مواليه كان للأسفل دون الأعلى كذلك هنا وروي عنه أيضا أن الثلث بين الفريقين نصفان لأن الاستحقاق بالاسم وهم في استحقاقه سواء.
ألا ترى أنه لو أوصى لأخوته وله أخ لأب وأم وأخ لأب وأخ لأم أن الثلث بينهم لاستحقاق الاسم كذلك ها هنا؟
ولو أوصى بثلث ماله لفلان وله مال فهلك ذلك المال أو لم يكن له مال ثم اكتسب مالا فله ثلث ماله يوم يموت لأن الوصية تمليك عند الموت ولأن الرجل لا يكون ماله أبدا على حالة واحدة فربما يستفيد وربما يهلك فلما أوصى بثلث ماله مرسلا ولم يقيده صار كأنه قال لفلان ثلث مالي الذي يكون وقت الموت.
ألا ترى أنه لو ربح في المال ربحا أو زاد في المال شيئا أن له ثلث جميع المال ولو أوصى له بثلث غنمه فهلكت الغنم قبل موته أو لم يكن له غنم من الأصل فالوصية باطلة وكذا العروض كلها لأن الوصية تعلقت به فالهلاك يبطلها وكذلك إن لم يكن موجودا فاستفاد لأنه علقة بالعين وأنها غير موجودة.(27/293)
وكذا لو قال: شاة من غنمي أو قفيز من حنطتي ثم مات وليس له غنم ولا حنطة فالوصية باطلة إذا لم يكن له في الأصل غنم ولا حنطة ومثله لو قال شاة من مالي أو قفيز حنطة من مالي أو ثوب من مالي فالوصية جائزة ويعطى له قيمة شاة لأنه أضافها إلى ماله فالمال اسم للجنس يتناول الدراهم والدنانير والعروض ونحوها والشاة ليست من أجزاء هذا المال فعلم أنه أراد قيمة شاة من ماله.
ولو أوصى له بشاة ولم يقل من غنمي ولا من مالي فمات وليس له غنم لم تذكر في هذا الكتاب وينبغي أن يعطى له شاة أو قيمة شاة وقد ذكر في السير الكبير مسألة تدل على هذه(27/294)
ص -146- ... الحالة قال: إذا قال الإمام: من قتل قتيلا فله جارية من السبي فإن كان في السبايا جارية فإنه يعطى له وإن لم يكن فإنه لا يعطى له ولو قال من قتل قتيلا فله جارية ولم يقل من السبي فإنه يعطى جارية على كل حال كذلك هنا.
ولو أوصى لرجل بثوب ثم قطعه وخاطه قميصا فهذا لا يخلو إما أن يغيره عن جنسه أو يزيد فيه أو ينقصه أما إذا غيره عن جنسه كان رجوعا كما إذا أوصى له بثوب ثم قطعه وخاطه قميصا أو أوصى له بقطن ثم غزله أو بغزل ثم نسجه أو بحديدة ثم صاغ منها إناء أو سيفا أو بفضة ثم صاغ منها خاتما أو غيره كان رجوعا لأنه لما غيره عن حاله استدل به أنه أراد الرجوع إذا لو كان من قصده البقاء على الوصية لما كان يغيره عن حاله فالذي أوصى به لم يوجد والذي وجد لم يوص به لأنه صار شيئا آخر وأما إذا زاد فيه فإن كانت زيادة لها قيمة مثل الثوب إذا صبغه والسويق إذا لته بالسمن أو أوصى له بدار وليس فيها بناء فبنى فيها كان ذلكرجوعا لأن الموصى له لا يتوصل إليه إلا ببذل وقد جعل وصيته بغير بذل فلما لم يتوصل إليه إلا ببذل يستدل به أنه أبطل الوصية.
وأما إذا زاد شيئا يتوصل به إليه بغير بذل كما إذا أوصى بدار ثم جصصها أو طينها فذلك لا يكون رجوعا لأن ذلك تحسين وتزيين ويتوصل إليه بغير بذل فلم يكن رجوعا وكان ذلك دليل البقاء على الوصية.
وكذلك لو أوصى له بثوب ثم غسله لم يكن رجوعا لأنه ليس بزيادة وإنما ذلك لإزالة الدرن والوسخ
وأما إذا نقصه فإن كان نقصانا يبقى الغير مع ذلك النقصان لا يكون رجوعا كما إذا أوصى له بثوب ثم قطعه ولم يخطه لأن الشيء لم يتغير عن حاله لكن انتقص وإن كان لا يبقى مع ذلك النقصان كان رجوعا كما إذا أوصى له بشاة ثم ذبحها لأن اللحم لا يبقى إلى وقت الموت والإنسان وإن مرض مرضا شديدا فإنه لا ينقضي أجله فلما كان عنده أن اللحم لا يبقى إلى وقت موته فقد قصد الرجوع عن الوصية.(27/295)
ولو أوصى له بقطن ثم حشا به قباء أو ببطانه ثم بطن بها أو بظهارة ثم ظهر بها ثوبا فذلك رجوع لأن هذا يعد استهلاكا من طريق الحكم.
ألا ترى أن الغاصب لو فعل هذا انقطع حق المالك؟ فالاستهلاك يدل على الرجوع.
ولو أوصى له بعبد أو بثوب ثم باعه ثم اشتراه فبيعه رجوع عن الوصية لأنه لما باعه صار بحال لو أوصى به في هذه الحالة لا يصح لأنه وصية بملك الغير فكان بيعه دليلا على الرجوع.
ولو أوصى لرجل بعبد لا يملكه أن يشتري له ثم تملكه الموصي بهبة أو ميراث أو وصية ثم مات فهو جائز من ثلثه لأنه أوصى بشراء ذلك العبد وبدفعه إلى فلان فإذا ملكه بوجه من أسباب الملك دفع بموته الشراء عن الورثة وليس هذا كما إذا قال أوصيت بهذا العبد لفلان والعبد لغيره ثم ملكه أنه لا تنفذ وصيته لأنه لو لم يشتر في تلك المسألة لا يجب على الورثة شراؤه فإن ذلك بمنزلة هبة عبد الغير إن أجاز صاحبه جاز وإلا فلا.(27/296)
ص -147- ... أما في مسألتنا فلو لم يشتر بنفسه يجب على الورثة شراؤه إن قدروا عليه ودفعه إليه فلما اشترى بنفسه أو ملكه بوجه آخر وجب عليهم نصفين لأنه أوصى لكل واحد منهما بجميع العبد إلا أنه لما تضايق عن حقهما يقضي بينهما لاستوائهما هذا كدار بيعت ولها شفيعان ثبت حق الشفعة لكل واحد منهما على الكمال إلا أنه يقضي بينهما لضيق المحل كذلك هنا.
قال في الأصل: أنه متى سمى الوصية الأولى وأوصى بها للثاني كان رجوعا عن الوصية الأولى ومتى سمى الوصية به ولم يسم الوصية الأولى لم يكن رجوعا وكان ذلك بينهما.
وبيانه: إذا أوصى بعبده لرجل ثم قال العبد الذي أوصيت به لفلان أوصيت به لفلان آخر كان رجوعا لأنه سمى الوصية الأولى واستأنف الوصية للثاني فكان رجوعا واستئنافا للوصية للثاني وكذلك لو قال العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان آخر وكذا لو قال العبد الذي أوصيت به لفلان قد أوصيت به لفلان آخر لأنه سمى الوصية الأولى واستأنف الوصية للثاني بحرف قد لأنه للإيقاع والإبلاغ في الاستئناف فكان رجوعا.
وكذا لو قال العبد الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان آخر ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان وقد أوصيت به لفلان كان بينهما نصفين ولم يكن رجوعا لأن الواو للعطف والجمع فقد جمع بينهما في الوصية ولم يستأنف الوصية للثاني أما إذا سمى الموصى به ولم يسم الوصية الأولى لم يكن رجوعا ولكن كان بينهما كما إذا أوصى بعبده لرجل ثم أوصى به لآخر لما ذكرنا ولو لم يوص به لأحد ولكنه جحد وصية الأول وقال لم أوص له فهذا رجوع هكذا ذكر هنا.(27/297)
وذكر في الجامع: إذا قال اشهدوا أني لم أوص له لا يكون رجوعا وهذه المسألة على قياس تلك المسألة ينبغي أن لا يكون رجوعا وبعضهم فرق لاختلاف الوضع أما من جعل في المسألة روايتين فوجه من قال إنه رجوع أن الوصية تحتمل الرد والنقص فكان الجحود رجوعا كما إذا جحد الموكل الوكالة كان حجرا على الوكيل والمتبايعين إذا جحدا البيع كان إقالة منهما.
ووجه الرواية التي لا تكون رجوعا أن الوصية وجوبها بالموت بدليل أنه يعتبر القبول والرد بعد الوفاة فإذا قال لم أوص له بشيء فهو صادق في مقالته على معنى أنه لم يوجب له الوصية بعد فلا يكون رجوعا ومن فرق لاختلاف الوضع قال هنا جحد الوصية فكان رجوعا وفي الجامع لم يجحد ولكن قال اشهدوا أني لم أوص له بشيء فقد أمر الشهود أن يكذبوا عليه فلا يكون رجوعا.
والأصح ما ذكره المعلى في نوادره أن على قول أبي يوسف الجحود يكون رجوعا عن الوصية وعلى قول محمد لا يكون رجوعا فما ذكر هنا قول أبي يوسف وما ذكر في الجامع قول محمد وجه قوله أن الرجوع فسخ ورفع للعقد الثابت وجحود أصل العقد لا يكون(27/298)
ص -148- ... تصرفا فيه بالرفع كما أن جحود النكاح من الزوج لا يكون رفعا له بالطلاق. وجه قول أبي يوسف أنه بالجحود يبقى العقد في الماضي ومن ضرورته نفي العقد في الحال والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص وهو يملك نفي العقد في الحال إن كان لا يملك نفيه في الماضي وبه فارق النكاح لأن نفي النكاح من الأصل يقتضي نفي وقوع الطلاق عن المحل إلا أنه يقتضي إيقاع الطلاق على المحل في الحال.
ولو أوصى له بثلث غنمه أو إبله أو طعامه أو شيء مما يكال أو يوزن من صنف واحد فاستحق الثلثان من ذلك أو هلك وبقي الثلث وله مال كثير يخرج الباقي من ثلثه فللموصي له جميع ما بقي وقال زفر في الاستحقاق كذلك وفي الهلاك للموصى له ثلث ما بقي لأنه بالاستحقاق تتبين أنه عند الوصية ما كان يملك إلا الثلث وأن تصرفه تناول ذلك الثلث لأن وصيته بالعين لا تصح إلا باعتبار ملكه في المحل
فأما بالهلاك فلا يتبين أن الهالك لم يكن على ملكه وقت الإيجاب وإنما وجب له الثلث شائعا فما هلك يهلك على الشركة وما لم يبق يبقى على الشركة ولكنا نقول إن تنفيذ الوصية بعد الموت وعند ذلك محل الوصية هو الباقي في الفصلين جميعا فيستحق جميع ما بقي وهذا لأن الموصي جعل حاجته في هذه العين مقدمة على حق ورثته بقدر ما سمى للموصي له فكان حق الورثة فيه كالتبع وإنما يجعل الهالك من التبع لا من الأصل وهذا بخلاف ما إذا أوصى له بثلث ثلاثة أجناس من المال فاستحق جنسان أو هلك جنسان قبل موت الموصي فإن للموصي له ثلث ما بقي لأن هناك الموصي له لا يستحق جميع ما بقي بما أوجبه له بحال.
ألا ترى أنه لو بقيت الأجناس لم يكن له أن يجبر الورثة على أن يقسم الكل قسمة واحدة فيعطونه أحد الأجناس وفي الجنس الواحد هو مستحق لجميع ما بقي بما أوجبه حتى إذا لم يهلك منه شيء كان له أن يجبر الورثة على القسمة ليأخذ الثلث والباقي هو الثلث.(27/299)
ولو أوصى له بثلث ثلاثة وبثلاثة من الرقيق واستحق البعض أو هلك لم يكن للموصى له إلا ثلث الباقي ومن أصحابنا من يقول هو عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا يرى قسمة الجبر في الدور والرقيق فهي عنده كالأجناس المختلفة فأما عندهما فينبغي أن يكون للموصى له جميع ما بقي لأنها بمنزلة جنس واحد عندهما في أنها تقسم قسمة واحدة والأصح قولهم جميعا لأنهما لا يقولان بقسمة الجبر في الدور إلا أن يرى القاضي المصلحة في ذلك فلا يكون الموصى له مستحقا للدار الباقية بما أوجب له الموصي وكذلك لا يريان قسمة الجبر في الرقيق إلا عند التساوي في المالية ولا يكون ذلك إلا نادرا فالتفاوت في بني آدم كثير في الظاهر فلهذا لا يكون للموصى له إلا ثلث ما بقي.
ولو أوصى لرجل بعبد قيمته خمسمائة ولآخر بثوب قيمته مائة ولآخر بسيف قيمته مائتان وله سوى ذلك ألف درهم أو عروض بقيمة ألف فإن الورثة إن لم يجيزوا فلكل واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته لأن مبلغ الوصايا ثمانمائة درهم وثلث مال الرجل ستمائة فكان الثلث(27/300)
ص -149- ... من مبلغ الوصايا بقدر ثلاثة أرباعه فعند عدم الإجازة يبطل من وصية كل واحد منهم الربع فيسلم لصاحب العبد ثلاثة أرباع العبد وقيمته ثلاثمائة وخمسة وسبعون ولصاحب الثوب ثلاثة أرباع الثوب وقيمته خمسة وسبعون ولصاحب السيف ثلاثة أرباع السيف وقيمته مائة وخمسون فجملة ما نفذت فيه الوصية ستمائة وحصل للورثة ألف درهم وربع العبد قيمته مائة وخمسة وعشرون وربع الثوب قيمته خمسون ذلك ألف ومائتان فاستقام الثلث والثلثان.
ولو أوصى لرجل بسيف قيمته مائة ولآخر بسدس ماله وله خمسمائة درهم سوى السيف كان لصاحب السيف أحد عشر سهما من اثنى عشر سهما من السيف في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه اجتمع في السيف وصيتان وصية بجميعه ووصية بسدسه والقسمة في هذا عند أبي حنيفة على طريق المنازعة فخمسة أسداس السيف تسلم لصاحب السيف بلا منازعة وقد استوت منازعتهما في السدس فكان بينهما نصفين وتبين أن سهام السيف صارت على اثنى عشر لحاجتنا إلى سدس ينقسم نصفين وقيمة السيف مائة فكل مائة من الخمسمائة يكون على اثنى عشر أيضا فذلك ستون سهما للموصي له بالسدس سدس ذلك لأنه أوصى له بسدس ماله فيستحق به السدس من كل مال وذلك عشرة فتبين أن للموصى له بالسدس أحد عشر سهما عشرة من الخمسمائة وسهم من السيف ولصاحب السيف أحد عشر فقد بلغت سهام الوصايا اثنين وعشرين وذلك دون الثلث لأن سهام المال اثنان وسبعون والسالم للورثة خمسون فكان التخريج مستقيما.(27/301)
وفي قول أبي حنيفة ومحمد قسمة السيف بين الموصى لهما على طريق العول فيضرب فيه صاحب السيف بستة وصاحب السدس بسهم فيكون السيف بينهما على سبعة أسهم والخمسمائة الأخرى تجعل كل مائة على سبعة أيضا فذلك خمسة وثلاثون للموصى له بالسدس سدس ذلك وذلك خمسة وخمسة أسداس سهم فقد نفذت الوصية له في هذا القدر من الخمسمائة وفي سهم من السيف وذلك ستة وخمسة أسداس ولصاحب السيف ستة من السيف كلها فذلك اثنا عشر وخمسة أسداس وجملة سهام المال اثنان وأربعون فكانت الوصية بأقل من الثلث فلا حاجة إلى إجازة الورثة.
ولو كان أوصى مع هذا أيضا بالثلث كان الثلث بينهم يضرب فيه صاحب السدس بسدس خمسمائة وثلث سدس السيف وصاحب السدس بثلث خمسمائة وخمسة أسداس سدس السيف وصاحب السيف بخمسة أسداس السيف إلا سدس سدس السيف فما أصاب صاحب السيف كان في السيف وما أصاب صاحب الثلث كان في الدراهم وفيما بقي من السيف وكذلك ما أصاب صاحب السدس في قياس قول أبي حنيفة وهذا لأنه اجتمع في السيف ثلاث وصايا وصية بجميعه ووصية بثلثه ووصية بسدسه فتكون القسمة على طريق المنازعة وفي الحاصل تصير سهام السيف على ستة وثلاثين لحاجتنا إلى سدس ينقسم أثلاثا فلصاحب الجميع ثلثاه بلا منازعة أربعة وعشرون وسدس وهو ستة لا منازعة فيه لصاحب(27/302)
ص -150- ... السدس فهو بين صاحب الثلث والجميع نصفان لكل واحد منهما ثلاثة وقد استوت منازعتهم في السدس فيكون بينهم ستين أثلاثا لكل واحد منهما سهمان فحصل للموصى له بالسيف بلا منازعة أربعة وعشرون وبالمنازعة خمسة فذلك تسعة وعشرون وهو خمسة أسداس السيف إلا سدس سدسه لأن كل سدس منه ستة وحصل لصاحب الثلث بالمنازعتين خمسة وذلك خمسة أسداس سدس السيف وحصل لصاحب السدس سهمان وهو ثلث سدس السيف كما قال في الكتاب ثم المال الآخر وهو خمسمائة تجعل كل مائة منه على ستة وثلاثين فيصير جملته مائة وثمانين للموصى له بالثلث ثلث ذلك وهو ستون وللموصى له بالسدس سدس ذلك ثلاثون فكان لهما تسعون وظهر أن مبلغ سهام الوصايا مائة وستة وعشرون وهو أكثر من الثلث فالسبيل فيه أن يجعل ثلث المال بينهم على هذه السهام والثلثان ضعف ذلك فجملة المال ثلاثمائة وثمانية وسبعون السيف من ذلك سدسه وذلك ثلاثة وستون يأخذ صاحب السيف من ذلك تسعة وعشرين مقدار حقه وصاحب الثلث خمسة وصاحب السدس سهمين ويبقى للورثة من السيف سبعة وعشرون ثم يأخذ صاحب الثلث من سهام الخمسمائة مقدار حقه ستين وصاحب السدس ثلاثين فجملة ما نفذت فيه الوصية لهم مائة وستة وعشرون وحصل للورثة ضعف ذلك مائتان واثنان وخمسون مائتان وخمسة وعشرون من الخمسمائة وسبعة وعشرون من سهام السيف فاستقام الثلث والثلثان ولم يذكر تخريج قولهما في الكتاب وعندهما القسمة على طريق العول فيضرب صاحب السيف في السيف بستة وصاحب الثلث بسهمين وصاحب السدس بسهم فكان السيف بينهم على تسعة وكل مائة من الخمسمائة الباقية تكون على تسعة أيضا فذلك خمسة وأربعون للموصى له بالثلث ثلث ذلك خمسة عشر وللموصى له بالسدس سدس ذلك سبعة ونصف فكان جملة سهام الوصايا أحد وثلاثون ونصف وذلك فوق الثلث فيجعل الثلث بينهم على أحد وثلاثين ونصف والثلثان ضعف ذلك فيكون جملته أربعة وتسعين ونصف السيف من ذلك السدس وذلك خمسة عشر وثلاثة أرباع(27/303)
للموصى له بالسيف ستة كله من السيف وللموصى له بالثلث سهمان وللموصى له بالسدس سهم وبقي للورثة من سهام السيف ستة وثلاثة أرباع يأخذ الموصى له بالثلث مما بقي خمسة عشر والموصى له بالسدس سبعة ونصف فإذا جمعت بين ذلك حصل تنفيذ الوصية لهم في أحد وثلاثين ونصف وحصل للورثة ضعف ذلك ثلاثة وستون فاستقام الثلث والثلثان فإذا أردت إزالة الكسر فلا طريق فيه سوى التضعيف.
قال رحمه الله: وقد خرج شيخنا الإمام الحلواني رحمه الله قولهما على طريق آخر وهو أن السيف لما صار بين الموصى لهم على تسعة باعتبار العول فكل مائة من الخمسمائة الباقية تكون على ستة لأنه لا عول في الخمسمائة الباقية فسهام الخمسمائة الباقية إذن ثلاثون للموصى له بالثلث عشرة وللموصى له بالسدس خمسة فذلك خمسة عشر فإذا ضممت ذلك إلى سهام السيف تسعة كان أربعة وعشرين فيجعل الثلث بينهم على أربعة وعشرين وجميع(27/304)
ص -151- ... المال اثنان وسبعون السيف من ذلك اثنا عشر لصاحب السيف ستة ولصاحب الثلث منه سهمان ولصاحب السدس منه سهم يبقى ثلاثة من تسعة للورثة وسهام الخمسمائة ستون للموصى له بالثلث عشرة وللموصى له بالسدس خمسة يبقى للورثة من ذلك خمسة وأربعون فجملة ما سلم للورثة من المال ثمانية وأربعون وقد نفذت الوصية في أربعة وعشرين فاستقام الثلث.
قلت: هذا واضح ولكنه غير مستقيم على طريق أهل الحساب لأن القسمة الواحدة مع تفاوت مقدار السهام لا تكون فإذا كان السيف وقيمته مائة على تسعة أسهم ثم تجعل كل مائة من الخمسمائة على ستة أسهم بين السهام تفاوت في المقدار فكيف تستقيم قسمة الكل بينهم بهذا الطريق قال هو كذلك ولكن صاحب المذهب نص على هذا الطريق وعليه خرج المسائل إلى آخر الباب تأمل في ذلك تأملته فوجدته كما قال.(27/305)
ومن تلك المسائل قال: لو أوصى لرجل بالثلث ولآخر بعبد قيمته ألف درهم وله ألفا درهم سوى ذلك فإن صاحب الثلث يضرب فيه بثلث الألفين وسدس العبد ويضرب صاحب العبد بخمسة أسداس العبد فما أصاب صاحب العبد فهو في العبد وهو النصف وما أصاب الثلث فهو فيما بقي من العبد والمال فيكون له خمس ما بقي من العبد وخمس المال في قول أبي حنيفة لأنه اجتمع في العبد وصيتان وصية بجميعه وبثلثه فيسلم ثلثاه لصاحب الجميع بلا منازعة والثلث بينهما نصفان لاستواء منازعتهما فيه وإذا صار العبد على ستة فكل ألف من الألفين كذلك فهما اثنا عشر للموصى له بالثلث أربعة فبلغت سهام الوصايا عشرة فيجعل ذلك ثلث المال وجميع المال ثلاثون العبد من ذلك عشرة هو للموصى له بالعبد خمسة وهي نصف العبد وللموصى له بالثلث خمسة أسهم سهم من العبد وهو خمس ما بقي منه وأربعة أسهم من سهام الألفين وذلك خمس العشرين وحصل للورثة من الألفين ستة عشر سهما ومن العبد أربعة أسهم فاستقام الثلث والثلثان وفي قول أبي حنيفة ومحمد يكون لصاحب الثلث ما بقي من العبد وهو سدس العبد وسدس الألفين وإنما يستقيم هذا الجواب عندهما على الطريق الثاني لأن الموصى له بالعبد يضرب في العبد بستة والموصى له بالثلث من ذلك بسهمين فسهام العبد ثمانية وكل واحد من الألفين على ستة باعتبار الأصل للموصى له بالثلث من ذلك أربعة فبلغت سهام الوصايا اثنى عشر وذلك الثلث وجميع المال ستة وثلاثون العبد منه اثنا عشر للموصى له بالعبد ستة نصف العبد وللموصى له بالثلث من العبد سهمان وهو ثلث ما بقي منه وسدس جميع العبد وله من الألفين أربعة من أربعة وعشرين وهو السدس فاستقام التخريج على هذا الطريق.(27/306)
ثم قال في الأصل: فأي هذين القولين؟ قلت فهو حسن وهو إشارة إلى أن بين الطريقين في المعنى تفاوتا وبهذا اللفظ يستدل من يزعم أن مذهب المتقدمين من أصحابنا أن كل مجتهد مصيب وليس كما زعموا لأنه أراد به أن كل واحد من الطريقين طريق حسن في(27/307)
ص -152- ... التخريج عند أهل الحساب لا أن يكون كل واحد من المجتهدين مصيبا للحكم باجتهاده حقيقة.
ولو أوصى بثلث ماله لرجل وبجميع المال لآخر فإن لم تجز الورثة فالثلث بينهما نصفان عند أبي حنيفة رحمه الله وقد بينا هذا وإن أجازوا فجميع المال بينهما أسداسا في قول أبي حنيفة على ما رواه أبو يوسف ومحمد باعتبار طريق المنازعة لأنه يسلم الثلثان لصاحب الجميع وقد استوت منازعتهما في الثلث فكان بينهما نصفين فحصل لصاحب الجميع خمسة أسداس المال ولصاحب الثلث سدس المال وعندهما القسمة بطريق العول فلصاحب الجميع ثلاثة أرباع المال ولصاحب الثلث ربع المال قال الحسن وهو الصحيح عند أبي حنيفة أيضا على طريق المنازعة لا كما روى أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه يبدأ بقسمة الثلث بينهما وقد استوت منازعتهما فيه فكان بينهما نصفين ثم يأتي إلى الثلاثين وقد بقي من حق صاحب الثلث السدس فما زاد على ذلك وهو نصف المال يسلم لصاحب الجميع وفي مقدار السدس استوت منازعتهما فكان بينهما نصفين فحصل لصاحب الثلث مرة السدس ومرة نصف السدس فذلك ربع المال والدليل على فساد ما ذهب إليه من تخريج قوله أنه يؤدي ذلك إلى أن يكون ما يسلم للموصى له بالثلث عند الاجازة وعدم الإجازة سواء والإجازة كما تؤثر في الزيادة في حق صاحب الجميع فكذلك في حق صاحب الثلث ويؤدي ذلك أيضا إلى أن يكون نصيب صاحب القليل عند عدم الإجازة فوق نصيبه عند الإجازة لأنه إذا أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بسدس ماله فعند عدم الإجازة الثلث يكون بينهما أثلاثا فيصيب صاحب الثلث تسع المال وعند وجود الإجازة يأخذ صاحب الجميع خمسة أسداس المال بلا منازعة ثم السدس بينهما نصفان فنصيبه نصف سدس المال وذلك دون تسع المال ومن المحال أن يسلم له عند عدم الإجازة أكثر مما يسلم له عند الإجازة فظهر أن تخريج الحسن لقول أبي حنيفة رحمه الله أصح.(27/308)
ولو أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بجميع ماله ولآخر بثلث ماله فأجاز ذلك الورثة فالنصف لصاحب الجميع وصاحب النصف نصفان والثلث بينهم أثلاثا في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد القسمة على طريق العول بينهم على أحد عشر سهما لصاحب الجميع ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان وهو قياس ما تقدم.
ولو كان له عبدان قيمتهما سواء ولا مال له غيرهما فأوصى لرجل بأحدهما بعينه ولآخر بثلث ماله فإن الثلث يقسم بينهما على سبعة أسهم لصاحب الثلث ثلاثة في العبدين جميعا اثنان في الذي لا وصية فيه للآخر وواحد في الذي فيه الوصية للآخر ولصاحب العبد أربعة أسهم في قول أبي حنيفة لأنه اجتمع في العبد الموصى بعينه وصيتان بجميعه وبثلثه فللموصى له بالجميع خمسة أسداس على طريق المنازعة وللموصى له بالثلث سدسه والعبد الآخر يصير على ستة أيضا للموصى له بالثلث منه سهمان فكان جملة سهام الوصايا ثمانية إلا أن(27/309)
ص -153- ... وصية الموصى له بالعبد زادت على الثلث لأن جميع المال اثنا عشر والثلث منه أربعة ووصيته خمسة فما زاد على الثلث تبطل وصيته فيه عند عدم الإجازة ضربا واستحقاقا كما هو أصل أبي حنيفة في الوصية بالعين فيبقى حقه في أربعة وحق صاحب الثلث في ثلاثة سهم منه في العبد الموصى بعينه وسهمان في العبد الآخر فلهذا قال يقسم الثلث بينهما على سبعة.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد: الثلث بينهما على خمسة أسهم وهذا إنما يستقيم على الطريقة الثانية لهما فإن العبد الموصى بعينه يضرب الموصى له بجميعه بثلاثة فيه والموصى له بالثلث بسهم فيكون بينهما على أربعة والعبد الآخر على ثلاثة أسهم لأنه لا عول فيه للموصى له بالثلث سهم فحصل له سهمان في العبدين ولصاحبه ثلاثة كلها في العبد الموصى بعينه فلهذا كان الثلث بينهما على خمسة أسهم.(27/310)
ولو أوصى لرجل بعبد وبثلث ماله لآخر وبعبده ذلك أيضا لآخر وبسدس ماله لآخر وقيمة العبد ألف درهم وله ألفان سوى ذلك فإن الثلث يقسم بينهم على اثنين وسبعين سهما يضرب فيه صاحبا العبد بأحد وثلاثين سهما وصاحب الثلث بسبعة وعشرين ونصف وصاحب الثلث بثلاثة عشر ونصف في قول أبي حنيفة لأنه اجتمع في العبد أربع وصايا والقسمة عنده على طريق المنازعة فيه فثلثا العبد بين صاحبي العبد نصفان وسدس بينهما وبين صاحب الثلث أثلاثا والسدس الباقي بينهما أرباعا فعند تصحيح هذه السهام ينتهي الحساب إلى اثنين وسبعين سهما لحاجتنا إلى حساب ينقسم سدسه أثلاثا وأرباعا فيسلم للموصى لهما بالعبد الثلثان ثمانية وأربعون والسدس وهو اثنا عشر بينهما وبين صاحب الثلث أثلاثا والسدس الآخر بينهم أرباعا لكل واحد منهم ثلاثة يحصل لكل واحد من صاحبي العبد أحد وثلاثون ولصاحب الثلث سبعة ولصاحب السدس ثلاثة ثم صار كل ألف من الألفين على اثنين وسبعين فالألفان مائة وأربعة وأربعون سهما لصاحب الثلث من ذلك الثلث ثمانية وأربعون ولصاحب السدس أربعة وعشرون فإذا جمعت ذلك كله بلغت سهام الوصايا مائة وأربعة وأربعين فهو ثلث المال والثلثان ضعف ذلك فجملة المال أربعمائة واثنان وثلاثون العبد من ذلك مائة وأربعة وأربعون لكل واحد من صاحبي العبد من ذلك مقدار حقه واحد وثلاثون كلها في العبد ولصاحب الثلث من العبد سبعة ومن الألفين ثمانية وأربعون فذلك خمسة وخمسون ولصاحب السدس من العبد ثلاثة ومن الألف أربعة وعشرون وذلك سبعة وعشرون.
وفي الكتاب خرجه على النصف من ذلك لأنه جوز الكسر بالأنصاف وجعل الثلث اثنين وسبعين وحصل لصاحبي العبد أحد وثلاثون لكل واحد منهما خمسة عشر ونصف ولصاحب الثلث سبعة وعشرون ونصف ولصاحب السدس ثلاثة عشر ونصف فاستقام التخريج على ما قلنا.(27/311)
ص -154- ... وفي قول أبي يوسف ومحمد: الثلث بينهم على أحد وعشرين سهما لأن العبد الموصى بعينه يضرب كل واحد منهما فيه بسهام جميعه ستة والموصى له بالثلث يضرب فيه بسهمين والموصى له بالسدس يضرب فيه بسهم فيكون بينهم على خمسة عشر وكل واحد من الألفين يكون على ستة باعتبار الأصل فللموصى له من الألفين الثلث أربعة من اثنى عشر وللموصى له بالسدس سهمان وإن ضمنها هذه الستة إلى سهام العبد خمسة عشر كان الكل أحدا وعشرين فلهذا كان الثلث بينهم على أحد وعشرين.
ولو أوصى لرجل بعبده ولآخر بنصفه ولآخر بثلث ماله والعبد يساوي ألفا وله ألفان سوى ذلك ولم يجيزوا قسم الثلث بينهم على ثلاثين سهما لصاحب العبد اثنا عشر ونصف في العبد ولصاحب النصف ثلاثة ونصف فيه ولصاحب الثلث أربعة عشر فيما بقي من العبد والمال في قول أبي حنيفة لأن نصف العبد يسلم لصاحب العبد بلا منازعة والسدس بينه وبين صاحب النصف نصفان والثلث بينهم أثلاثا فبلغت سهام العبد ستة وثلاثين للموصى له بالعبد مرة ثمانية عشر ومرة ثلاثة ومرة أربعة فذلك خمسة وعشرون وللموصى له بالنصف مرة ثلاثة ومرة أربعة فذلك سبعة وللموصى له بالثلث أربعة ثم كل ألف من الألفين يصير على ستة وثلاثين أيضا فسهام الألفين اثنان وسبعون ولصاحب الثلث ثلث ذلك وهو أربعة وعشرون فبلغت سهام الوصايا ستين فيجعل الثلث بينهم على ذلك والثلثان ضعف ذلك وجملة المال مائة وثمانون.
وفي الكتاب خرجه على النصف من ذلك فقال: يقسم الثلث بينهم على ثلاثين لصاحب العبد اثنا عشر ونصف ما أعطيناه وهو خمسة وعشرون ولصاحب النصف ثلاثة ونصف نصف ما جعلناه له وهو سبعة كلها في العبد ولصاحب الثلث أربعة عشر نصف ما أعطيناه وهو ثمانية وعشرون وهذه الأربعة عشر له فيما بقي من العبد والمال سدس ذلك في العبد والباقي في المال.(27/312)
قال عيسى رحمه الله: هذان الحرفان الأخيران خطأ وإنما ينبغي أن يجمع ما بقي من العبد والمال فيقسم ذلك بين الموصى له بالثلث والورثة على أربعة وسبعين سهما فما أصاب أربعة عشر ذلك فهو للموصى له بالثلث وما أصاب ستين سهما فهو للورثة لأن الموصى له بالثلث شريك الورثة في التركة فيضرب هوفيما بقي من التركة بسهام حقه والورثة بسهام حقهم وإن اعتبرنا الأصل فينبغي أن يكون للموصى له بالثلث مما بقي من العبد سبع حقه لا سدسه لأنه كان له من العبد سهمان ومن الألفين اثنا عشر فإذا جمعت الكل كان ماله من العبد سبع حقه.
ولو أوصى لرجل بعبد قيمته أكثر من الثلث ولآخر بعبد قيمته أقل من الثلث ضرب صاحب الأقل بقيمة عبده وضرب الآخر بمقدار الثلث من قيمة عبده في قول أبي حنيفة وفي قولهما يضرب كل واحد منهما بجميع قيمة عبده وهو بناء على اختلافهم في بطلان الوصية فيما زاد على الثلث عند عدم الإجازة في حق الضرب.(27/313)
ص -155- ... ولو أوصى لرجل بمائة درهم بعينها ثم وهبها لآخر وسلمها إليه ثم رجع فيها ومات فالوصية باطلة لأنها تعلقت بعين المائة وقد أخرجها عن ملكه بالهبة والتسليم فصار به راجعا والوصية متى بطلت بالرجوع لا تعود إلا بالتجديد ولو كان غصبها غاصب ثم رجعت إليه بعينها لم تبطل الوصية لأنها باقية على ملك الموصي وإن كانت في يد الغاصب واستهلكها الغاصب فقضي عليه بمثلها بطلت الوصية لأنها كانت مقصورة على العين فلا يجوز تنفيذها من محل آخر بخلاف ما إذا استهلكها مستهلك بعد موت الموصي لأن حق الموصى له تأكد فيها بالموت فيثبت في بدلها وما كان حقه متأكدا فيها قبل موته يبطل بفوات العين ولا يتحول إلى البدل كالموهوب قبل التسليم إذا أتلفه إنسان يبطل حق الموهوب له فيه بخلاف ما بعد التسليم.
ولو كان اشترى بها عبدا فاستحق العبد ورجعت إليه المالية بعينها فالوصية باطلة لأنها خرجت عن ملكه فإن بدل المستحق مملوك بالقبض فصارت المائة مملوكة لبائع العبد وإن استحق العبد ولهذا كان عينا بعد تصرفه فيه بعد الاستحقاق والوصية بعد ما بطلت لا تعود إلا بالتجديد والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الوصية في الحج
قال رحمه الله: وإذا أوصى الرجل أن يحج عنه بمائة درهم وثلثة أقل من مائة فإنه يحج عنه بالثلث من حيث يبلغ لأن محل الوصية الثلث وللموصى له الوارث المنفعة وهو قصد بهذه الوصية صرف المائة من ماله إلى هذا النوع من القربة فيجب تحصيل مقصوده بحسب الإمكان كما لو أوصى أن يتصدق بمائة من ماله وثلثه أقل من مائة يتصدق عنه بقدر الثلث.(27/314)
ولو أوصى أن يحج عنه حجة بمائة درهم وهي ثلثة فأحج الوصي بها فبقي من نفقة الحاج وكسوته وإطعامه شيء كان ذلك لورثة الميت لأن الحاج عن الغير له أن ينفق على نفسه من ماله في الذهاب والرجوع ولا حق له فيما يفضل من ذلك على ما بينا في المناسك أن الاستئجار على الحج لا يجوز فما يفضل بعد رجوعه فهو من مال الميت وقد فرغ عن وصيته فيكون لورثته فإن جامع ففسد حجه فعليه الكفارة ورد ما بقي من النفقة والكسوة ويضمن ما أنفق لأنه أذن له في الإنفاق بشرط أن يؤدي بسفره حجة صحيحة وقد فوت هذا الشرط بالأفساد فعليه رد ما بقي وهو ضامن لما أنفق لأنه تبين أنه أنفق بغير رضى الموصي ثم ذكر ما لو اعتمر قبل الحج أو قرن أو اعتمر عن آخر وقد تقدم بيان هذه الفصول في المناسك.
ولو استأجروا رجلا ليحج عنه فحج كان عليه أن يرد ما يفضل في يده من النفقة لأن الاستئجار لم يصادف محله فكان باطلا ومتى بطلت الإجارة بقي مجرد الإذن كما في استئجار النخيل لترك الثمار عليها إلى وقت الأدراك فعليه أن يرد ما فضل في يده وليس عليه شيء مما أنفق لأنه أنفق بإذن صحيح وإن عجزت النفقة عنه كان عليهم أن يكملوا له نفقة مثله(27/315)
ص -156- ... وما لا بد منه له وتجزي الحجة عن الميت بمنزلة ما لو أمروه بأن يحج عن الميت من غير استئجار.
وإذا أوصى أن يحج عنه فالأفضل أن يحج من قد حج لأنه أقدر على أداء الأفعال وأبصر بذلك وهو أبعد عن خلاف العلماء واشتباه الآثار وإن حج عنه ضرورة جاز عندنا خلافا للشافعي وقد بيناه في المناسك وإن أحجوا عنه امرأة فإنه يجزيهم ذلك لأن الخثعمية حين استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تحج عن أبيها أذن لها في ذلك واستحسن ذلك منها فدل على أنه يجوز إحجاج المرأة عن الرجل وقد أساءوا في ذلك لنقصان حال النساء في باب الإحرام حتى أن المرأة تلبس المخيط في إحرامها ولا ترفع صوتها بالتلبية ولا ترمل في الطواف ولا تسعى في بطن الوادي وتترك طواف الصدر بعذر الحيض ولا ضرورة لهم في إحجاجها عن الميت لأن فيمن يحج عن الرجال كثرة وإن كانت المرأة هي الموصية فأحجوا عنها رجلا أجزأها لأن الظاهر أن ذلك مجزئ كان مقصودها أو لم يكن مقصودها.
وإذا أوصى بالحج فإنه يحج عنه من بلده لأنه لو عزم على الخروج بنفسه للحج كان يخرج من بلده ويتجهز لسفر الحج من بلده فكذلك إذا أوصى به بعد موته فالظاهر أن مقصوده تجهيز من يحج عنه من بلده وإن مات في الطريق فإن كان خرج للتجارة فإنه يحج عنه من بلده أيضا وإن خرج هو يريد الحج فمات في الطريق يحج عنه من حيث مات وفي الجامع ذكر القياس والاستحسان في المسألة ففي القياس يحج عنه من بلده وفي الاستحسان وهو قولهما يحج عنه من حيث مات.(27/316)
وجه الاستحسان: أنه باشر بعض العمل بنفسه ولم ينقطع ذلك بموته فيبنى عليه كما إذا وصى بإتمامه وبيان هذا أن خروجه على قصد الحج قربة وطاعة قال الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: من الآية100] الآية ولم ينقطع ذلك بموته لما روي أن النبي عليه السلام قال: "من مات في طريق الحج كتب له حجة مبرورة في كل سنة" وهذا بخلاف ما إذا خرج للتجارة فإن سفره ذلك ليس لأداء الحج فلا يصير به مؤديا شيئا من الأعمال.
وبخلاف ما إذا مات بعد ما أحرم لأن إحرامه انقطع بالموت ولهذا يخمر وجهه ورأسه ولا يمكن البناء على المنقطع.
يوضحه: أن في اعتبار هذا الطريق تحصيل مقصوده وفي الأخذ بالقياس تفويت مقصوده لأن الذي يحج عنه من بلده ربما يموت فيحتاج إلى أن يحج آخر من بلده أيضا حتى يفنى في ذلك ماله قبل أن يحصل مقصوده.
وجه قول أبي حنيفة: أن عمله قد انقطع بموته ولا بناء على المنقطع كما لو أحرم ثم مات وأوصى أن يحج عنه وبيان هذا من وجهين أحدهما أن النبي عليه السلام قال "كل عمل بن آدم ينقطع بموته إلا ثلاثة" والخروج للحج ليس من هذه الثلاثة فينقطع بالموت ثم خروجه(27/317)
ص -157- ... إنما يكون قربة بطريق موصل إلى أداء الحج وقد تبين أن هذا الخروج ما كان يوصله إلى ذلك والدليل عليه أنه ظهر بموته أن سفره كان سفر الموت لا سفر الحج لما روي أن النبي عليه السلام قال: "إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة" فكان هذا في المعنى وخروجه للتجارة سواء ثم هناك يحج عنه من بلده فهنا كذلك وإن كان له أوطان مختلفة فمات وهو مسافر وأوصى بالحج عنه فإنه يحج عنه من أقرب الأوطان إلى مكة لأنه هو المتيقن به وبمطلق اللفظ لا يثبت إلا بالتيقن بما هو كامل في نفسه لأن الإطلاق يقتضي الكمال فإن لم يكن له وطن فمن حيث مات لأنه لو تجهز بنفسه للحج إنما يتجهز من حيث هو فكذلك إذا أوصى وهذا لأن من لا وطن له فوطنه حيث حل وإن أحجوا عنه من موضع آخر فإن كان أقرب إلى مكة فهم ضامنون وإن كان بعد فلا ضمان عليهم لأن في الأول لم يحصل مقصوده بصفة الكمال والإطلاق يقتضي ذلك وفي الثاني حصلوا مقصوده وزيادة.
وإن أوصى أن يحجوا عنه فأحجوا رجلا فسرقت نفقته في بعض الطريق فرجع عليهم أن يحجوا آخر من ثلث ما بقي في أيديهم من حيث أوصى الميت في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف إن بقي من ثلث ماله ما يمكن أن يحج به من حيث أوصى فكذلك الجواب في قول محمد إن لم يبق شيء من ثلث عزل للحج تبطل الوصية.(27/318)
و على هذا الخلاف لو قال: أعتقوا عني نسمة بمائة درهم فاشتروها فماتت قبل أن تعتق كان عليهم أن يعتقوا من ثلث ما بقي في أيديهم وفي قول محمد بطلت الوصية لأن الوصي قائم مقام الموصي والورثة كذلك يقومون مقام المورث في تنفيذ وصيته فكان تعيين الموصي والورثة بعض المال لوصيته كتعيين الموصي ولو عينه بنفسه فهلك ذلك المال بطلت الوصية فكذلك الوصي إذا عين ذلك المال لوصيته وقاسم الورثة ثم هلك بطلت الوصية والدليل عليه أن مقاسمة الوصي مع الموصى له على الورثة يصح فلأن تصح مقاسمته مع الورثة عن الموصى كان أولى لأن الموصي أقامه مقام نفسه باختياره والورثة ما أقاموه مقامهم باختيارهم وأبو يوسف يقول محل الوصية الثلث فمقاسمة الموصي مع الورثة في تمييز محل الميراث من محل الوصية تصح فأما مقاسمته في تمييز محل الوصية عن البعض لا يجوز فما بقي من الثلث شيء فقد بقي محل الوصية فيجب تنفيذ الوصية باعتبار ما بقي وهو نظير مقاسمة الوصي عن الصغير مع الكبير تصح ومقاسمته بين الصغار لتمييز نصيب بعضهم عن بعض لا تصح وأبو حنيفة يقول مقصود الموصي لم يكن المقاسمة وإنما كان لتحصيل القربة له بالعتق ويجعل الهالك على التركة كأن لم يكن فتنفذ الوصية في هذه القسمة من ثلث ما بقي وفيه جواب عما قاله محمد رحمه الله أن الوصي إنما يقوم مقام الموصي فيما فيه تحصيل مقصوده خاصة وهذا بخلاف مقاسمته مع الموصى له لأن فيه تحصيل مقصوده فإن مقصوده تنفيذ الوصية وفي هذه القسمة تنفيذ الوصية وهذه المسألة في(27/319)
ص -158- ... الحقيقة نظير الأولى في المعنى فإن السفر كان مقصوده فيدور مع ذلك المقصود جعل ذلك أبو حنيفة وجوده كعدمه وها هنا التعيين والقسمة لمقصود فإذا لم يحصل ذلك المقصود كان وجود القسمة كعدمها.
ولو كان الموصي له بالثلث غائبا فقاسم الموصي الورثة على الموصى له لم تجز قسمته عليه حتى إذا هلك في يده ما عزله للموصى له كان له أن يرجع على الورثة بثلث ما أخذوه بخلاف ما إذا قاسم على الورثة مع الموصى له لأن الورثة يخلفون المورث في العين يبقى لهم الملك الذي كان للمورث ولهذا يرد الوارث بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه مورثه والوصي قائم مقام الموصي فيكون قائما مقام من يخلفه في ملكه.
وأما الموصى له فيثبت الملك له بإيجاب مبتدأ حتى لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي فلا يقوم الموصي مقامه في تعيين محل حقه ولكن ما هلك مما عزله يهلك على الشركة وما بقي يبقى على الشركة والعزل إنما يصح بشرط أن يسلم المعزول للموصى له وإذا أوصى أن يحجوا عنه وارثا لم يجز إلا أن يجيزه الورثة لأن فيه إيثاره بشيء من ماله لنفقته على نفسه وكما أنه لا يجوز إيثاره بشيء من المال تمليكا منه بدون إجازة الورثة فكذلك إباحته له لنفقته على نفسه.(27/320)
ولو أوصى بأن يحج عنه بمائة درهم وأوصى بما بقي من ثلثه لفلان وأوصى بالثلث من ماله لآخر والثلث بمائة درهم فنصف الثلث للحج ونصفه لصاحب الثلث لاستواء الوصيتين في القوة والمقدار ولا شيء لصاحب ما بقي لأنه لم يبق من الثلث شيء والإيجاب بهذا اللفظ يتناول ما بقي وإذا لم يبق من الثلث شيء بطل الإيجاب لانعدام المحل وهو بمنزلة العصبة مع أصحاب الفرائض فإن للعصبة ما بقي بعد حق أصحاب الفرائض وإذا لم يبق شيء لم يكن له شيء بقول فإن مات الموصى له بالثلث قبل موت الموصي فما بقي من الثلث للموصى له بما بقي لأن وصية الموصى له بالثلث بطلت بموته قبل موت الموصي فكأنها لم تكن ولكن لا يصح هذا الجواب على ما وضعه عليه في الابتداء أن الثلث مائة درهم لأنه أوصى أن يحج عنه بمائة فيجب تنفيذ هذه الوصية أولا ثم لا يبقى من الثلث شيء لأن ذلك لا يكون له بما بقي إلا أن يكون الثلث أكثر من مائة فحينئذ يحج عنه بالمائة والفضل للموصى له بما بقي.
وإذا كانت الوصايا لله تعالى لا يسعها الثلث مثل الحجة والنسمة والبدنة بدئ بالذي بدأ به ما خلا حجة الإسلام أو الزكاة أو شيئا واجبا عليه فإنه يبدأ بالواجب وإن كان الميت أخره استحسن ذلك ودع القياس فيه وقد تقدم في ترتيب الوصايا من البيان ما هو كاف والله أعلم بالصواب.
باب الوصية للوارث والأجنبي والقاتل
قال رحمه الله: قد بينا أن الوصية للوارث لا تجوز بدون إجازة الورثة لقوله عليه السلام لا وصية لوارث إلى أن يجيزه الورثة فإن أوصى لبعض ورثته ولأجنبي جازت حصة الأجنبي(27/321)
ص -159- ... وبطلت حصة الوارث لأن الإيجاب تناولها بدليل أن عند إجازة الورثة ثم الاستحقاق لهما فبطلانه في حصة الوارث بعدم الإجازة لا يبطل حصة الأجنبي ولا يزيد في نصيبه بخلاف الوصية لحي وميت فالإيجاب في حق الميت غير صحيح أصلا وهذا بخلاف الإقرار لوارثه ولأجنبي لأن الإقرار إخبار عن واجب سابق وقد أقر بالمال مشتركا بينهما ولا يمكن إثباته بهذه الصفة لما فيه من منفعة الوارث والوصية إيجاب مبتدأ وإنما يتناول إيجابه نصف الثلث في حق كل واحد منهما فأمكن تصحيحه في نصيب الأجنبي كما أوجبه الموصى له وعلى هذا الوصية للقاتل وللأجنبي مع الإقرار لهما لأن صفة القتل في المنع عن الوصية والإقرار كصفة الوراثة على ما نبينه.
ولو أوصى له بشيء وهو وارث يوم أوصي ثم صار غير وارث أو كان غير وارث يوم الوصية ثم صار وارثا ومات الموصي إنما ينظر إلى يوم يموت الموصي فإن كان الموصى له وارثه لم تجز الوصية وإن لم يكن وارثه جازت الوصية لأن الوصية عقد مضاف إلى ما بعد الموت وإنما تحقق الوجوب له عند الموت ولأن المانع صفة الوراثة ولا يعرف ذلك إلا عند الموت لأن صفة الوراثة لا تكون إلا بعد بقاء الوارث حيا بعد موت المورث وكذلك الهبة في المرض والكفالة فإن ذلك في حكم الوصية حتى تعتبر من الثلث في حق الأجنبي ولا يصح للوارث أصلا وقد بينا الفرق بين هذا وبين الإقرار في كتاب الإقرار أن هناك إن صار وارثا بسبب تجدد الإقرار كان الإقرار صحيحا وإن ورثه بسبب كان قائما وقت الإقرار لم يصح الإقرار.
وإذا أوصى لمكاتب وارثه أو لعبد وارثه فهو باطل من أجل أن ذلك ينتفع به الوارث فإن المولى يملك كسب عبده وله حق الملك في كسب مكاتبه.
ولو أوصى لمكاتبه وقد كاتبه في مرضه أو في صحته جازت الوصية لأنه ليس في هذا منفعة لبعض الورثة دون البعض فإنه إن عتق فالوصية سالمة له وهو أجنبي وإن عجز فرقبته وكسبه يكون ميراثا بين جميع الورثة.(27/322)
قال: وبلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لم يجعل للقاتل ميراثا وعن عمر رضي الله عنه مثله وعن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال لا يورث قاتل بعد صاحب البقرة والوصية عندنا بمنزلة ذلك ولا وصية لقاتل.
أما الكلام في نفي الإرث للقاتل فقد بيناه في الديات وأما الوصية للقاتل فلا تصح عندنا سواء أوصى له قبل الجراحة أو بعدها وقال مالك تصح الوصية له في الوجهين وقال الشافعي إن أوصى له قبل أن يجرحه بطلت الوصية بقتله إياه وأن أوصى بعد ما جرحه صحت الوصية وجه قول مالك أن هذا تمليك المال بالعقد فالقتل لا يبطله كالتمليك بالبيع والهبة وبأن كان يبطل الإرث لا يستدل على أنه يبطل الوصية كالرق واختلاف الدين فإنه ينفي التوريث ولا يمنع الوصية والفرق للشافعي من وجهين.(27/323)
ص -160- ... أحدهما: أنه إن كان الجرح بعد الوصية فالظاهر أن الموصي نادم على وصيته راجع عنها وإذا كانت الوصية بعد الجرح فلم يوجد بعد الوصية ما يدل على الرجوع عنها بل الظاهر أنه قصد الانتداب إلى ما ندب إليه وهو مقابلة السيئة بالإحسان.
والثاني: أنه إذا جرحه بعد الوصية فالموصي له قصد الاستعجال بفعل محظور فيعاقب بالحرمان كالميراث فأما إذا أوصى له بعد الجراحة فلم يتوهم قصد الاستعجال في تلك الجراحة ولا بعد الوصية فبقيت الوصية على حالها وجه قولنا ظاهر قوله عليه السلام: "ليس لقاتل شيء" ويدخل الوصية والميراث جميعا في عموم هذا اللفظ وقال: "ولا وصية لقاتل" ولأن الملك بالوصية يثبت بعد الموت فيكون معتبرا بالملك الثابت بالميراث ولا فرق بينهما في المعنى لأن بطلان الوصية للوارث لدفع المغايظة عن سائر الورثة وبطلان الوصية للقاتل لهذا المعنى أيضا فإنه يغيظهم أن يقاسمهم قاتل أبيهم تركة أبيهم بسبب الإرث أو بسبب الوصية وفي هذا المعنى لا فرق بين أن تتقدم الوصية على الجرح أو تتأخر عنه وبه فارق الرق والكفر فإن الحرمان بهما لانعدام الأهلية للولاية لا لدفع المغايظة عن سائر الورثة ولا معتبر بالأهلية للولاية في الوصية وبخلاف سائر عقود التمليكات لأنها لا تشابه الإرث صورة ولا معنى.(27/324)
و كذلك لو كان القاتل وارثا فأوصى له لم تجز الوصية وهذا تجوز في العبارة فإن القاتل لا يكون وارثا وإن كان وارثا كالصبي والمعتوه والوصية لمثل هذا القاتل تصح ثم الوجه فيه أنه اجتمع فيه وصفان كل واحد منهما بانفراده يجزئ الوصية فاجتماعهما أولى فإن أجازت الورثة الوصية للقاتل جازت في قول أبي حنيفة ومحمد ولم تجز في قول أبي يوسف ذكر قوله في الزيادات لأن الوصية أخت الميراث ولا ميراث للقاتل وإن أوصى به الورثة فكذلك الوصية وهذا لأن الحرمان كان بطريق العقوبة حقا للشرع فلا يتغير ذلك بوجود الرضى من الورثة والدليل عليه أنه لو أوصى لحربي في دار الحرب لم تجز الوصية لتباين الدارين وإن أجازت الورثة وإنما امتنعت الوصية للحربي لكونه محاربا حكما والقاتل محارب له حقيقة فلأن لا تنفذ الوصية له بإجازة الورثة كان أولى وجه قولهما أن الوصية للقاتل أقرب إلى الجواز من الوصية للوارث لأن الأمر في نفس الوصية للوارث مشهور وفي نفي الوصية للقاتل مسبور والعلماء اتفقوا على أن لا وصية للوارث واختلفوا في جواز الوصية للقاتل ثم بإجازة الورثة تنفيذ الوصية للوارث فكذلك للقاتل والمعنى فيهما واحد وهو أن المغايظة تنعدم عند وجود الرضى من الوارث بالإجازة في الموضعين جميعا بخلاف ميراث القاتل فإن ثبوت الملك بالميراث بطريق الحكم حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد والإجازة إنما تعمل فيما يعتمد القبول ويرتد بالرد وبخلاف الوصية للحربي في دار الحرب لأن بطلانها لانعدام الأهلية في جانب الموصي له فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولهذا تنقطع العصمة بتباين الدارين حقيقة وحكما والميت لا(27/325)
ص -161- ... يكون أهلا للوصية له ولا تأثير للإجازة في إثبات الأهلية لمن ليس بأهل وكذلك الوصية لعبد القاتل أو لمكاتبة فإنها كالوصية للقاتل لما يثبت له من حقيقة الملك أو حق الملك في الموصى به.
وقال في الأصل: إذا كانت الوصية لمولاه أو لعبده أبطلناها وقال الحاكم تأويله عندنا إذا كان المولى هو القاتل فأوصى له أو لعبده فأما إذا كان العبد هو القاتل فالوصية لمولاه وصية صحيحة.
ألا ترى أن عبد الوارث إذا قتل المورث لا يحرم المولى ميراثه وهذا لأنه لا حق للعبد في ملك مولاه وليس في حق المولى ما يحرمه الإرث والوصية لابن القاتل وأبويه وغيرهم من قرابته جائزة.
وكذلك لمماليك هؤلاء من عبيدهم ومكاتبيهم ومدبريهم وأمهات أولادهم على قياس الإرث فإن بن القاتل وأبويه يرثون المقتول وإن لم يرثه القاتل وهذا لأنه ليس للقاتل في ملك هؤلاء حق الملك ولا حقيقة الملك.
وإذا أقر لقاتله بدين فإن كان مريضا صاحب فراش حتى مات لم يجز وإن كان يذهب ويجيء فهو جائز لأن الجرح وإن كان سبب الهلاك ولكن لا يصير به في حكم المريض ما لم يصر صاحب فراش فإن المريض إنما يباين الصحيح بهذا لأن الإنسان لا يخلو عن نوع مرض وإن كان صحيحا فإذا لم يصر صاحب فراش كان هو في حكم الصحيح وإذا كان صاحب فراش فهو مريض وإن تكلف لمشيه إلى بعض حوائجه وكذلك الهبة إذا قبضها للقاتل وهو مريض فإن تصرف المريض كالمضاف إلى ما بعد الموت فأما إذا كان يذهب ويجيء فهو صحيح ينفذ تصرفه في الحال مع القاتل كما ينفذ مع غيره وهكذا الجواب في الإقرار للوارث والهبة له.
وإذا ضربت المرأة الرجل بحديدة أو بغير حديدة فأوصى لها ثم تزوجها فلا ميراث لها ولا وصية وإنما لها مقدار صداق مثلها من المسمى وما زاد على ذلك في معنى الوصية فيبطل بالقتل ولو اشترك عشرة في قتل رجل أحدهم عبده وأوصى لبعضهم بعد الجناية وأعتق عبده فالوصية باطلة لأن كل واحد منهم قاتل له على الكمال.(27/326)
ألا ترى أنه يلزمهم القصاص إذا كان عمدا والكفارة إذا كان خطأ كما لو تفرد به وإن كل واحد منهم يحرم عن الميراث فكذلك الوصية إلا أن العتق بعد ما تعذر لا يمكن رده فيكون الرد بإيجاب السعاية عليه في قيمته والعفو على القاتل في دم العمد جائز لأن الواجب القصاص والقصاص ليس بمال.
ألا ترى أن متلفه بالشهادة باطلة والإكراه على العفو لا يكون ضامنا وأنه لا يعتبر من الثلث بحال فيكون صحيحا للقاتل وجعل العفو في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء أو أقوى منه ولو كان خطأ فعفا عنه كان هذا منه وصية لعاقلته فيجوز من الثلث لأن الواجب في(27/327)
ص -162- ... الخطأ الدية على العاقلة وهو مال قلنا أصل الوجوب على القاتل والعاقلة يتحملون عنه فتكون هذه وصية للقاتل قلنا باعتبار المال الوصية تكون للعاقلة وهم المنتفعون بهذه الوصية فإن قيل جزء من الدية على القاتل ففي ذلك الجزء الوصية منه تكون للقاتل قلنا نعم ولكن تتعذر الوصية في ذلك الجزء لأن كل جزء من بدل النفس يتقرر وجوبه على القاتل ففي ذلك الجزء الوصية تتحمله العاقلة كما لو اشترك ألف نفس في قتل رجل فالجزء الواجب على كل واحد منهم مع قلته يتحمله العاقلة وكذلك إن كان القاتل عبدا لأن الوصية بالعفو تقع لمولاه فإن موجب جناية العبد على المولى وهو الذي يخاطب بدفعه أو فدائه.(27/328)
ألا ترى أن بمد عتق العبد لا يطالب بشيء وإذا أوصى لعبده بثلث ماله صحت الوصية لأن رقبته من جملة ماله فيكون موصيا له بجزء منها فإن قتله العبد فوصيته باطلة غير أنه يعتق ويسعى في قيمته لأنه تعذر رد العتق فيكون الرد بإيجاب السعاية وعلى هذا المدبر إذا قتل مولاه عمدا أو خطأ فعليه أن يسعى في قيمته لرد الوصية وعليه في العمد القصاص فإن كان للمقتول وليان فعفى أحدهما عنه انقلب نصيب الآخر مالا فعليه أن يسعى في نصف قيمته للآخر لأنها إنما صارت مالا بعد ما عتق وصار أحق بمكاسبه إلا أن الواجب بسبب جناية كانت منه في حال رقه فيكون الوجوب عليه من القيمة دون الدية بخلاف ما إذا قتل مولاه خطأ لأنه حين وجب المال بسبب الجناية كان المولى أحق بكسبه وموجب جنايته على غيره يكون على المولى فلا يجب بجنايته على مولاه شيء من ذلك لأنه لو وجب وجب على نفسه وأم الولد إذا قتلت سيدها خطأ فليس عليها سعاية في شيء لأن عتقها ليس بوصية وموجب جنايتها على غير المولى يكون على المولى فلا يلزمه بالجناية على مولاها خطأ شيء وإن قتلته عمدا وليس لها منه ولد كان عليها القصاص فإن عفى أحد الوارثين سعت للآخر في نصف قيمتها لأن نصيب الآخر إنما انقلب مالا بعد ما عتقت وصارت أحق بكسبها وإن كان لها منه ولد بطل عنها القصاص لصيرورة جزء منه لولدها وعليها أن تسعى في قيمتها لأن القصاص إنما انقلب مالا بعد موت المولى حين ورث ولدها جزءا منه وإذا أوصى لقاتله بالثلث وأجاز ذلك الورثة بعد موته جاز وإن إجازته قبل موته فهو باطل بمنزلة الوصية للوارث وقد تقدم بيانه.(27/329)
ولو أوصى لرجل بوصية فقامت البينة عليه أنه قاتل وصدقهم بذلك بعض الورثة وكذبهم بعضهم فإنه يبرأ من حصة الذين كذبوا من الدية وتجوز وصيته في حصتهم من الثلث ويلزمه حصة الذين صدقوا من الدين وتبطل وصيته في حصتهم من الثلث لأن في حق كل فريق يجعل كأن الفريق الآخر في مثل حاله إذ لا ولاية لبعضهم على البعض.
وإذا قامت عليه بينة بالقتل وأبرأه الميت فإبراؤه عفو منه فيصح من الثلث إن كان القتل خطأ ولا وصية له بعد ذلك لأن القتل ثبت عليه بالبينة فإن في حق الذين كذبوهم حتى لو كذب الورثة الشهود جازت الوصية له بعد وإذا جرح الرجل في مرضه جراحة عمدا أو خطأ(27/330)
ص -163- ... فقال المجروح: لم يجرحني فلان ثم مات من ذلك كان القول قوله ولا سبيل للورثة على القاتل لأنهم يخلفونه وبعد ما قال لم يجرحني لا سبيل له عليه في دعوى القتل فكذلك لورثته وإن أقام ورثته البينة على القتل لم تقبل بينتهم لأن قبول البينة ينبني على صحة الدعوى منهم وبعد قول المجروح لم يجرحني فلان لا يصح كما لا يصح الدعوى منه قبل موته بخلاف ما إذا قال لا جراحة لي قبل فلان ثم ادعى عليه القتل وأثبته بالبينة جازت لأنه نفى موجب الجرح ودعواه موجب النفس لا تنافي ما أبقاه من موجب الجرح وفي الأول نفي أصل الجرح ومن ضرورته نفي القتل إذ القتل بدون الجرح لا تصور له أما ظاهرا أو باطنا.
وإذا أوصى الرجل لرجلين بوصية وأقام كل واحد من ورثته البينة على أحد الموصى لهما أنه قتل صاحبهما خطأ كان على كل واحد منهما خمسة آلاف للذي أقام عليه البينة ولا وصية له في حصة الذي أقام عليه البينة بالقتل وتجوز له الوصية في حصة الآخر بالحساب لأن كل واحد منهما يثبت الحق على المشهود عليه لنفسه ولصاحبه وصاحبه مكذب لشهوده فيخرج كل واحد منهما من أن يكون قاتلا في حق من كذب المشهود عليه ويبقى قاتلا في حق الآخر في حكم الدية والوصية جميعا.
وإذا أوصى الرجل لرجلين لكل واحد منهما بالثلث وأوصى لآخر بعبد فشهد الموصى لهما بالثلث على الموصى له بالعبد أنه قاتل فشهادتهما باطلة لأنهما يجزآن الثلث إلى أنفسهما ويسقطان مزاحمة الموصى له بالعبد معهما في الثلث ويلزمه الدية أيضا ولهما من ذلك الثلث فكانا شاهدين لأنفسهما والموصى له بالثلث شريك الوارث في التركة فهذه الشهادة لا تقبل من الورثة للتهمة فكذلك من الموصى له.(27/331)
وكذلك لو شهدا على وارث أو على أجنبي أنه قتله خطأ لأن المعنى في الكل سواء وإذا أعتق الرجل في مرضه صبيا صغيرا لا مال له غيره ثم قتل الصبي مولاه عمدا فعليه أن يسعى في قيمتين يدفع له من ذلك الثلث وصية له ويسعى فيما بقي لأن الصبي لا يحرم الإرث بسبب القتل فكذلك لا يحرم الوصية ومحل الوصية الثلث فيلزمه السعاية فيما زاد على الثلث والمعتق في المرض ما دام عليه شيء من السعاية فهو بمنزلة المكاتب فلهذا ألزمه السعاية في قيمته بسبب الجناية وفي قيمته بسبب العتق في المرض بعد أن يسلم له من ذلك الثلث.
ولو كان كبيرا فقتل مولاه خطأ سعى في قيمتين للورثة ولا وصية له لأنه قاتل وهذا أقوى وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما عليه السعاية في قيمته لرد الوصية والدية على العاقلة لأن المستسعى حر عندهما ولو قتل غير مولاه خطأ كانت الدية على عاقلته وكذلك إذا قتل مولاه وعند أبي حنيفة هو بمنزلة المكاتب فعليه السعاية في قيمته لأجل الجناية وكذلك قولهما في الصبي أن الدية تجب على عاقلته كما لو قتل غير مولاه(27/332)
ص -164- ... لأنه حرفان كان عليه السعاية لم يحسب له قيمته من الثلث بطريق الوصية لأن الصبي لا يحرم الوصية وإن كان قاتلا والله أعلم.
باب الوصية بالغلة والخدمة
قال رحمه الله: والوصية بخدمة العبد أو غلته أو سكنى الدار وغلتها تجوز عندنا وعلى قول بن أبي ليلى لا يجوز شيء من ذلك مؤقتا ولا غير مؤقت لأن الموصي يملك له بإيجابه وذلك لا يصح منه فيما ليس بمملوك له والمنفعة والغلة التي تحدث بعد موته ليست بمملوكة له وبإيجابه لا يتناول المنفعة والغلة التي تحدث في حال حياته فيبطل وصيته بها ولكنا نقول المنفعة تحتمل التمليك ببدل وبغير بدل في حال الحياة فيجعل التمليك بعد الموت أيضا وهذا لأن الموصي تبقى العين على ملكه حتى يجعله مشغولا بتصرفه موقوفا على حاجته فإنما يحدث المنفعة على ملكه فإذا ثبت هذا في المنفعة فكذلك في الغلة لأنها بدل المنفعة والوصية بخلاف الميراث فالإرث لا يجري في الخدمة بدون الرقبة لأن الوراثة خلافة وتفسيره أن يقوم الوارث مقام المورث فيما كان ملكا للمورث وهذا لا يتصور إلا فيما يبقى وقتين والمنفعة لا تبقى وقتين فأما الوصية إيجاب ملك بالعقد بمنزلة الإجارة والإعارة فيما أبقى فإن أوصى بخدمة عبده سنة وليس له مال غيره فإن العبد يخدم الورثة يومين والموصى له يوما حتى يستكمل الموصى له سنة لأن الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث وفي زمان الخدمة تكون يد الورثة مقصورة عن العبد فلا يمكن قصر يدهم عن جميع المال بسبب الوصية والعبد لا يحتمل القسمة في نفسه فتكون القسمة بطريق المهاياة في الخدمة وحق الورثة في سهمين وحق الموصى له في سهم فيخدمهم يومين والموصى له يوما حتى يستكمل الموصى له سنة وصارت الوصية بالخدمة ما لم يستوف الموصى له كمال حقه بمنزلة الوصية بالرقبة.(27/333)
ولو أوصى بسكنى دار سنة ولا مال له غيرها فإنه يسكن ثلثها سنة ويسكن الورثة الثلثين لأن الدار يمكن قسمتها بالأجزاء وهذا النوع من القسمة أقرب إلى المعادلة لأن كل واحد منهما يستوفي نصيبه من السكنى في الوقت الذي يستوفيه صاحبه بخلاف ما إذا تهايآ عن الزمان فإن هناك يسبق أحدهما بالاستيفاء فلا يصار إليه إلا عند تعذر قسمة السكنى بالأجزاء ولكن ليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي الدار إلا في رواية عن أبي يوسف يقول إن ذلك حقهم على الخلوص فينفذ بيعهم فيه ولكنا نقول حق الموصى له بالسكنى ثابت في سكنى جميعها بدليل أنه لو ظهر للميت مال آخر تخرج الدار من ثلثه كان هو أحق بسكنى جميعها.
ولو خرب ما في يده من الدار كان له أن يزاحم الورثة فيما في أيديهم وفي البيع إبطال حقه فكانوا ممنوعين من ذلك ولو أوصى له بغلة عبده سنة وليس له مال غيره كان له ثلث غلته تلك السنة لأن الغلة عين مال محتمل القسمة فإنما تنفذ الوصية في مقدار الثلث من(27/334)
ص -165- ... الغلة في سنة واحدة بخلاف الخدمة فإنها لا تحتمل القسمة بالأجزاء فللموصى له أن يستوفي الخدمة بطريق المهايأة إلى أن يكون ما يستوفيه خدمة سنة كاملة كما أوصى لزيد وكذلك إن أوصى له به وكذلك إن أوصى له بغلة داره فهذا وغلة العبد سواء لأن الغلة في الموضعين جميعا تحتمل القسمة فلا يسلم للموصى له إلا ثلث الغلة في سنة واحدة.
وإن أراد الموصى له قسمة الدار بينه وبين الورثة ليكون هو الذي يستغل ثلثها لم يكن له ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف فإنه يقول الموصي بمنزلة الشريك فيمايجب تنفيذ الوصية فيه فكما أن للشريك أن يطالب بالقسمة ليكون هو الذي يستغل نصيبه فكذلك الموصى له بالغلة ها هنا ولكنا نقول القسمة تبنى على ثبوت حق الموصى له فيما تلاقيه القسمة ولا حق له في عين الدار إنما حقه في الغلة وقسمة الدار لا تكون قسمة للغلة فلا يكون له أن يطالب بها وليس للموصى له بسكنى الدار وخدمة العبد أن يؤاجرهما عندنا وقال الشافعي له ذلك لأن تمليك المنفعة بعقد مضاف إلى ما بعد الموت كتمليك المنفعة في حال الحياة.
ولو تملك المنفعة بالاستئجار في حال الحياة ملك الإجارة من غيره فكذلك إذا تملك المنفعة بالوصية بعد الموت وهذا لأن المنفعة معتبرة بالعين والعين سواء تملكها ببدل أو بغير بدل تملك الاعتياض عنه مع غيره فكذلك المنفعة بخلاف المستعير فإنه لا يتملك المنفعة عندي ولكن الإعارة في حكم الإباحة ولهذا قلت المستعير لا يعير من غيره والدليل على الفرق أن الإعارة لا يتعلق بها اللزوم والوصية بالمنفعة يتعلق بها اللزوم كالوصية بالعين وحجتنا في ذلك أن الموصى له بملك المنفعة يتعلق بها اللزوم كالوصية بالعين وحجتنا في ذلك أن الموصى له ملك المنفعة بغير عوض فلا يملك تمليكها من الغير بعوض كالمستعير وهذا لأن المستعير مالك للمنفعة فإن التمليك في حال الحياة أقرب إلى الجواز منه بعد الموت.(27/335)
وإذا كانت المنفعة تحتمل التمليك بعد الموت بغير عوض فلأن تحتمل ذلك في حال الحياة أولى وتصح بلفظ التمليك حتى لو قال ملكتك منفعة هذه الدار كانت عارية صحيحة وإنما لا يتعلق بهذا اللفظ اللزوم لكونها متعرية عن البدل وكذلك الوصية إلا أن غير الموصي لا يتمكن من الرجوع بعد موت الموصى والموصى مات فلا يتصور رجوعه فيه وهذا لأن المنفعة ليست بمال وفي تمليكها بمال إحداث معنى المالية فيها فإنما تثبت هذه الولاية فيها لمن يملكها تبعا لملك الرقبة أو لمن يملكها بعقد المعاوضة حتى يكون مملكا لها بالصفة التي تملكها فأما إذا تملكها مقصودة بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكا أكثر مما يملك معنى وليس له أن يخرج العبد من الكوفة إلا أن يكون الموصى له وأهله في غير الكوفة فيخرجه إلى أهله للخدمة هنالك إذا كان يخرج من الثلث لأن الوصية تنفذ على ما يعرف من مقصود الموصي.
فإذا كان الموصي وأهله في موضع آخر عرفنا أن المقصود له أن يحمل العبد إلى أهله(27/336)
ص -166- ... ليخدمهم وإذا كانوا في بصرة فمقصوده إلى تمكنه من خدمة العبد من غير أن يلزمه مشقة السفر فلا يكون له أن يخرجه من بلدته وقد بينا هذه المسألة في كتاب الصلح وما فيها من اختلاف الروايات.
ولو أوصى له بخدمة عبده وللآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فالرقبة لصاحب الرقبة والخدمة كلها لصاحب الخدمة لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما وما أوجبه لكل واحد منهما يحتمل الوصية بانفراده فبعطف إحدى الوصيتين على الأخرى لا يتحقق بينهما مشاركة فيما أوجبه لكل واحد منهما ثم لما صحت الوصية لصاحب الخدمة فلو لم يوص في الرقبة بشيء لصارت الرقبة ميراثا للورثة مع كون الخدمة للموصى له فكذلك إذا أوصى بالرقبة لإنسان آخر لأن الوصية قياس الميراث من حيث أن الملك يثبت بها بعد الموت.
ألا ترى أنه لو أوصى بأمة لرجل وبما في بطنها لآخر وهو يخرج من الثلث كان ذلك كما أوصى ولا شيء لصاحب الأمة في الولد.
ولو أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصه كان كما أوصى ولا شيء لصاحب الخاتم من الفص ولو قال هذه القوصرة لفلان وما فيها من الثمر لفلان كان كما أوصى فأما إذا فصل أحد الإيجابين عن الآخر في هذه المسألة فعلى قول أبي يوسف الجواب كذلك وعلى قول محمد تكون الأمة للموصى له بها والولد بينهما نصفان وكذلك الخاتم والفص والقوصرة والثمر.(27/337)
وجه قول أبي يوسف: أن بإيجابه في الكلام الثاني يبين أن مراده من الكلام الأول إيجاب الأمة للموصى له بها دون الولد وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا لأن الوصية لا تلزمه شيئا في حال فيكون حالة البيان الموصول فيه والمفصول سواء كما في الوصية بالرقبة والخدمة فإن هناك المفصول والموصول سواء في الحكم ومحمد يقول اسم الخاتم يتناول الحلقة والفص جميعا فاسم الجارية يتناولها وما في بطنها وفي القوصرة كذلك ومن أصلنا أن العام موجبة ثبوت الحكم في كل ما يتناوله على سبيل الإحاطة بمنزلة الخاص فاجتمع في الفص الوصية لكل واحد منهما بإيجاب على حدة فيجعل الفص بينهما نصفين ولا يكون إيجاب الوصية للثاني فيه دليل الرجوع عن الأول كما لو أوصى بالخاتم للثاني بخلاف الخدمة مع الرقبة فاسم الرقبة لا يتناول الخدمة ولكن الموصى له بالرقبة إنما يستخدمها لأن المنفعة تحدث على ملكه ولا حق للغير فيه فإذا أوجب الخدمة لغيره لا يبقى للموصى له بالرقبة حق بخلاف ما إذا كان الكلام موصولا لأن ذلك بمنزلة دليل التخصيص أو الاستثناء فتبين أنه أوجب لصاحب الخاتم الحلقة خاصة دون الفص فإذا جنى العبد الموصى له بخدمته ورقبته جناية فالفداء على صاحب الخدمة لأن فيما هو المقصود بالعبد وهو الاستخدام هو المختص به كالمالك وبالفداء تسلم الخدمة له ولا يسلم لصاحب الرقبة شيء في الحال فإذا فداه خدمه على حاله لأنه طهره عن الجناية.(27/338)
ص -167- ... وإن مات صاحب الخدمة انتقضت الوصية لأن الحق للموصى له في الخدمة لا يحتمل التوريث لأنها لا تبقى وقتين فلا يتصور أن تكون مملوكة للمورث ثم للوارث فتبطل الوصية بموته عندنا خلافا للشافعي فإنه يرى توريث المنفعة وقد بينا هذا في الإجارات ثم يقال لصاحب الرقبة أد إلى ورثته ذلك الفداء لأنه ظهر أن صاحب الرقبة هو المنتفع بذلك الفداء فإن خدمة العبد تسلم له وقد كان الموصى له مضطرا إلى ذلك الفداء فلا يكون متبرعا فيه فإن أبى أن يرد الفداء على ورثته بيع فيه العبد وكان بمنزلة الدين في عتقه لأنه إنما جنى العبد بذلك الفداء ولولاه لكانت نفسه مستحقة بالجناية.
وإذا أبى صاحب الخدمة في أول الأمر أن يفدي لم يجز على ذلك لأنه لا يملك شيئا من الرقبة وقد رضي ببطلان حقه في الخدمة حين أبى أن يفدي ويقال لصاحب الرقبة ادفعه أو افده فأيهما صنع بطلت وصية صاحب الخدمة لأنه إن دفعه فقد فات محل وصيته وإن فداه فإنما يفديه بما أسلم له من خدمته والموصى له حين أبى أن يفديه فقد رضي بصيرورة العبد مستهلكا فيما لحقه من الجناية والغرم.
ولو قتل رجل العبد خطأ ولم يجن العبد فعلى عاقلة القاتل قيمته يشتري بهاعند عدم صاحب الخدمة لأن القيمة قائمة مقام الرقبة وقد كانت الرقبة للموصى له بها مشغولة بحق الموصى له بالخدمة فيها فكذلك ما يقوم مقامها ولا يقال حق الموصى له بالخدمة في المنفعة والمنفعة لا تتقوم بالإتلاف لأن الوصية بالخدمة وإن تعلقت بالمنفعة فالاستحقاق بها يتعدى إلى العين ولهذا يعتبر خروج العين من الثلث والقيمة بدل العين فيشتري بها ما يقوم مقام العين الأولى ويثبت فيه حق صاحب الخدمة كما كان ثابتا في الأولى.
وإن كان القتل عمدا فلا قصاص فيه إلا أن يجتمع على ذلك صاحب الرقبة وصاحب الخدمة(27/339)
أما صاحب الرقبة فلأنه هو المالك للعبد وولاية استيفاء القصاص تثبت بملك الرقبة وأما صاحب الخدمة فلأن في استيفاء القصاص إبطال حقه في الخدمة وهو حق لازم له فلا يجوز إبطاله بغير رضاه فإن اختلفا فيه تعذر استيفاء القصاص فوجب قيمته في مال القاتل يشتري بها عبدا فيخدمه مكانه لأن في استيفاء المال مراعاة الحقين.
ولو فقأ رجل عينيه أو قطع يده دفع العبد وأخذت قيمته صحيحا لأن هذه الجناية استهلاك له حكما فيعتبر باستهلاكه حقيقة فيوجب قيمته صحيحا من الجاني بعد تسليم الجثة إليه ويشتري بها عبدا مكانه ولو قطعت يده أو فقئت عينه أو شج موضحة فأدى القاتل أرش ذلك فإن كانت الجناية تنقص الخدمة اشترى بالأرش عبدا آخر يخدم صاحب الخدمة مع العبد الأول لأن الأرش بدل الفائت بالجناية وقد كان حق الموصى له بالخدمة ثابتا في ذلك الجزء ولما كان فواته ينقص الخدمة فيثبت في بدله أيضا أو يباع العبد فيضم ثمنه أيضا إلى ذلك الأرش ويشتري بهما عبد ليكون قائما مقام الأول ولكن هذا إذا اتفقا عليه فإن اختلفا في ذلك لم يبع العبد لأن رقبته لأحدهما وخدمته للآخر فلا يجوز بيعه إلا برضاهما ولكن(27/340)
ص -168- ... يشتري بالأرش عبد يخدمه معه فإن لم يوجد بالأرش عبد وقف الأرش حتى يصطلحا عليه فإن اصطلحا على أن يقتسماه نصفين أجزت ذلك بينهما لأن الحق لا يعدوهما فإذا تراضيا فيه على شيء كان لهما ذلك ولا يكون ما يستوفيه الموصى له بالخدمة من نصف الأرش بدلا عن نقصان الخدمة لأنه لا يملك إلا الاعتياض عن الخدمة ولكن يكون إسقاطا لحقه ذلك بالمال الذي يستوفيه بمنزلة ما لو كان العبد قائما على حاله فصالح الموصى له بالرقبة على مال يستوفيه منه ليسلم العبد إليه فإن كانت الجناية لا تنقص الخدمة فالأرش لصاحب الرقبة لأنه بدل جزء فات من ملكه وظهر أنه لم يكن لصاحب الخدمة حق في ذلك الجزء حين لم تنتقص الخدمة بفواته وكل مال وهب للعبد أو تصدق به عليه أو اكتسبه فهو لصاحب الرقبة لأن الكسب يملك بملك الرقبة وهو المختص بملك الرقبة.
ولو كان مكان العبد أمة كان ما ولدت من ولد لصاحب الرقبة لأنه تولد من عينها وعينها ملك صاحب الرقبة ونفقة العبد وكسوته على صاحب الخدمة لأنه إنما يتمكن من استخدامه إذا أنفق عليه فإن العبد لا يقوى على الخدمة إلا بذلك وهو أحق بخدمته فيلزمه نفقته كالمستعير فإنه ينفق على المستعار وينتفع به وإن أبى أن ينفق رده على صاحبه فيلزمه نفقته فهذا كذلك أيضا فإن كان أوصى بخدمة عبد صغير وبرقبته لآخر وهو يخرج من الثلث فنفقته على صاحب الرقبة حتى يدرك الخدمة فإذا خدم صارت نفقته على صاحب الخدمة لأن بالنفقة عليه في حالة الصغر تنمو العين والمنفعة في ذلك لصاحب الرقبة وإذا صار بحيث يخدم فهو بالنفقة يتقوى على الخدمة والمنفعة في ذلك لصاحب الخدمة فلهذا كانت النفقة عليه ثم نفقة المملوك على المالك باعتبار الأصل إلا أن يصير معدا لانتفاع الغير به فحينئذ تكون النفقة على المنتفع كالمولى إذا زوج أمته ولم يبؤها بيتا كانت نفقتها على المولى فإن بوأها مع الزوج بيتا كانت نفقتها على الزوج.(27/341)
ولو أوصى بدابة لرجل وبظهرها ومنفعتها لآخر كانت مثل العبد سواء لاستوائهما في المعنى وإذا كان لرجل ثلاثة أعبد فأوصى برقبة أحدهم لرجل وبخدمة آخر لرجل آخر ولا مال له غيرهم وقيمة الموصى بخدمته خمسمائة درهم وقيمة الموصى برقبته ثلاثمائة وقيمة الباقي ألف فالثلث بينهما على ثمانية أسهم خمسة لصاحب الخدمة في خدمة العبد الموصي بخدمته فيكون له من خدمته ثلاثة أيام وللورثة يوم ويكون للآخر من رقبة عبده مائتان وخمسة وعشرون لأن الوصية بالخدمة في الاعتبار من الثلث والمضاربة بها بمنزلة الوصية بالرقبة وجملة المال ألف وثمانمائة فوصية كل واحد منهما كانت بأقل من الثلث فيضرب كل واحد منهما بجميع وصيته وقيمة العبد الموصى بخدمته خمسمائة درهم فيضرب صاحبها في الثلث بذلك وصاحب الرقبة بثلث ماله فإذا جعلت كل مائة سهما كان الثلث بينهما على ثمانية ثم ثلث المال بقدر ثلاثة أرباع الوصيتين لأن ثلث المال ستمائة ومبلغ الوصيتين ثمانمائة ويقدر لكل واحد منهما ثلاثة أرباع وصيته في الحال فيجتمع في العبد الموصى بخدمته حق(27/342)
ص -169- ... الورثة وحق الموصى له بخدمته حقه في ثلاثة أرباعه وحق الورثة في الربع فلهذا قال يخدم الموصى له بخدمته ثلاثة أيام والورثة يوما ولصاحب الرقبة ثلاثة أرباع رقبة عبده وذلك مائتان وخمسة وعشرون فإذا مات صاحب الخدمة استكمل صاحب الرقبة عبده كله لأن الوصية بالخدمة قد بطلت وجميع العبد للآخر خارج من الثلث وزيادة وكذلك إن مات العبد الذي كان يخدم لأن بموته بطلت الوصية بالخدمة وصار الميت كأن لم يكن فيبقى السالم للورثة عند التساوي ألف درهم فيمكن تنفيذ الوصية في عبد يساوي ثلاثمائة درهم لأن ذلك دون الثلث.
ولو كانت قيمة العبد سواء كان لصاحب الخدمة نصف خدمة العبد ولصاحب الرقبة نصف رقبة الآخر لأن حقهما في الثلث سواء والثلث بقدر رقبة واحدة فينفذ لكل واحد منهما الوصية في نصف الثلث مما أوصى له.
ولو أوصى بالعبيد كلهم لصاحب الرقبة وبخدمة أحدهم لصاحب الخدمة لم يضرب صاحب الرقاب إلا بقيمة واحد منهم ويضرب الآخر بقيمة الآخر فيكون هذا كالباب الذي قبله وهوقول أبي حنيفة بناء على أن الوصية بالعين فيما زاد على الثلث عند عدم الإجازة من الورثة تبطل ضربا واستحقاقا.
ولو كانوا يخرجون من الثلث كان لصاحب الرقبة ما أوصي له به من الرقاب ولصاحب الخدمة ما أوصي له به لاتساع محل الوصية ويجتمع في العبد الواحد الوصية برقبته وبخدمته فإذا مات صاحب الخدمة رجع ذلك إلى صاحب الرقبة ولو لم يكن له مال غيرهم فأوصى بثلث كل عبد منهم لفلان وأوصى بخدمة أحدهم بعينه لفلان فإنه يقسم الثلث بينهما على خمسة لصاحب الخدمة ثلاثة أخماس الثلث في خدمة ذلك العبد وللآخر خمسا الثلث في العبدين الباقيين في كل واحد منهم خمس رقبة لأن حق الموصى له بالخدمة في العبد الموصي بخدمته تقدم على حق الآخر.(27/343)
ألا ترى: أنه لو كان العبد واحدا فأوصى بخدمته لرجل وبرقبته لآخر لا تثبت المزاحمة لصاحب الرقبة مع صاحب الخدمة فيه فكذلك ها هنا الموصى له بثلث كل عبد لا يزاحم الموصى له بالخدمة في الثلث بشيء من وصيته في هذا العبد وإنما يزاحمه وصيته في العبدين الآخرين وقد أوصى له بثلث كل واحد منهما فإذا جعلنا كل ثلث سهما كان حقه في سهمين وحق الموصى له بالخدمة في ثلاثة فلهذا كان الثلث بينهم على خمسة والثلث بقدر رقبة واحدة فللموصى له بالخدمة ثلاثة أخماس ذلك كله في العبد الموصى بخدمته واجتمع فيه حقه وحق الورثة وذلك في خمسة فلهذا كانت المهاباة في الخدمة على خمسة أيام يخدم الورثة يومين والموصى له ثلاثة أيام ويكون للآخر خمسا الثلث في العبدين الباقيين فيسلم له من كل واحد منهما خمس الرقبة.
ولو كان أوصى بثلث ماله لصاحب الرقاب وبخدمة أحدهم بعينه لصاحب الخدمة ولا(27/344)
ص -170- ... مال له غيرهم قسم الثلث بينهما نصفين لأن الموصى له بثلث مال يزاحم الموصى له بالخدمة في الثلث بوصيته في العبد الموصى بخدمته.
ألا ترى: أنه لو كان العبد واحدا فأوصى بخدمته لإنسان وبثلث ماله لآخر تثبت المزاحمة بينهما في العبد بوصيتهما وهذا لأن الخدمة تتناولها الوصية بثلث المال كما تتناول الرقبة لأن ذلك من ماله بخلاف الأول فإن الوصية بالرقبة لا تتناول الخدمة بحال لأن الخدمة غير الرقبة إذا ثبت هذا فنقول حقهم في الثلث على السواء فيقسم الثلث بينهما نصفين فما أصاب صاحب الخدمة فهو في العبد الموصي بخدمته وذلك نصفه وما صاب صاحب الثلث وهو نصف العبد كان له والعبيد الثلاثة في كل عبد ثلث ذلك الثلث فيكون دون الخدمة في العبد الموصى بخدمته في كل ستة أيام يخدم الموصى له بالخدمة ثلاثة والورثة يومين والموصى له بالثلث يوما حتى يموت صاحب الخدمة فإذا مات بطلت وصيته فزالت مزاحمته فيكون الموصى له بثلث المال جميع وصيته وهو ثلث كل عبد من العبيد الثلاثة.
وإذا أوصي بخدمة عبده لرجل وبغلته لآخر وهو يخرج من الثلث فإنه يخدم صاحب الخدمة شهرا ويغل على صاحب الغلة شهرا لاستواء حقهما فيه إلا أنه في الخدمة جعل المناوبة بالأيام لتيسر ذلك وفي الاستغلال جعل النوبة بالشهور لأن استغلال العبد لا يكون عادة فيما دون الشهر ويتعذر استغلاله في كل نوبة إذا جعلت بالأيام وفي كل شهر طعامه على من له منفعته لأن الغرم مقابل بالغنم وبالنفقة يتوصل إلى الخدمة والعمل وكسوته عليهما نصفان لاستواء حقهما فيه وتعذر تجديد الكسوة في كل نوبة وإن جنى العبد جناية قيل لهما أفدياه لأن تمليكهما من استيفاء حقهما يكون بالفداء فإن أبيا ففداه الوارث بطلت وصيتهما لأنهما حين أبيا الفداء فقد رضيا بدفعه وصار في حكم المستهلك في حقهما بمنزلة ما لو دفع بجنايته.(27/345)
و لو أوصى لرجل من غلة عبده كل شهر بدرهم وللآخر بثلث ماله ولا مال له غير العبد فثلث العبد بينهما نصفان في قول أبي حنيفة لأن الوصية بغلة العبد كالوصية برقبته في الاعتبار من الثلث فالموصى له بالغلة موصى له بجميع المال ومن أصل أبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم الإجازة تبطل في حق الضرب فلهذا قال الثلث بينهما نصفان فما أصاب صاحب الثلث فهو له وما أصاب صاحب الغلة استغل بحسب غلته وينفق عليه منها كل شهر درهم كما لو أوصى وإنما يحبس جميع تلك الغلة لجواز أن يمرض أو يتعطل فلا يعمل في بعض الشهور ويحتاج إلى الإنفاق عليه مما هو محبوس لحقه فإن مات وقد بقي منها شيء رد على صاحب الثلث ويرجع عليه أيضا مما يحبس على صاحب الغلة من رقبة العبد لأن وصيته بطلت بموته فإن حقه في بدل المنفعة وهي الغلة وقد بينا أن وارثه لا يخلفه فيما له من الحق في المنفعة فكذلك في بدلها وهذا لأنه لم يصر مملوكا له ولكن ثبت له حق يستحق أن لو بقي حيا ومثل هذا لا يورث.(27/346)
ص -171- ... وإذا بطلت وصيته وزالت مزاحمته سلم جميع الثلث لصاحب الثلث والمحبوس من الغلة بدل منفعة جزء من الثلث فيكون للموصى له بالثلث.
ولو أوصى لرجل بغلة داره ولا مال له غيرها فاحتاجت الورثة إلى سكناها قسمت الدار أثلاثا ويكون للورثة ثلثاها واستغل ثلثها صاحب الغلة لأن الدار تحتمل القسمة وثلثاها خالص حق الورثة فيجب تمكينهم من صرف نصيبهم إلى حاجتهم وهو السكنى وإنما يكون ذلك بالقسمة.
ولو أوصى لرجل بغلة داره ولآخر بعبد ولآخر بثوب فإن ثلث مال الميت يقسم بينهم يضرب فيه كل واحد بما سمي له فما أصاب صاحب الدار كان له غلة ذلك لأن الموصى أوجبه له فيصرف إليه إلى أن يموت صاحب الغلة فحينئذ تبطل وصيته ويقسم الثلث بينهم وبين من بقي من أهل الوصية لزوال مزاحمته إلا أن ها هنا إن كان حصل من الغلة شيء قبل موته فهو لورثته لأنه صار مالكا لما حصل من الغلة حتى يتمكن من استيفائها في الحال وهو عين فيخلفه وارثه فيها.
ولو أوصى بغلة داره وعبده في المساكين جاز ولا يجوز ذلك في السكنى والخدمة إلا لإنسان معلوم لأن الغلة عين مال يتصدق به وهذا وصية بالتصدق على المساكين فأما السكنى والخدمة لا يتصدق بهما بل تعار العين لأجلهما والإعارة لا تكون إلا من إنسان معلوم ثم المساكين محتاجون إلى ما يسد خلتهم ويحصل ذلك لهم بالغلة وقل ما يحتاجون إلى الخدمة والسكنى وقبل ينبغي أن يجوزا على قياس من يجيز الوقف فإن هذا في معنى وقف على المساكين.(27/347)
ومن أوصى بظهر دابته لإنسان معلوم يركبها في حاجته ما عاش فهو جائز لأنه وصية بالإعارة منه ولو أوصى بظهرها للمساكين أو في سبيل الله تعالى كان باطلا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد هو جائز وهذا لأن من أصل أبي حنيفة أن الوقف لا يتعلق به اللزوم وإن وقف المنقول لا يجوز وإن كان مضافا إلى ما بعد الموت وهو قول أبي يوسف فأما عند محمد وقف المنقول جائز فيما هو متعارف بين ذلك في السير الكبير وروي فيه أن بن عمر رضي الله عنه مات عن ثلاثمائة فرس ونيف ومائتي بعير مكتوب على أفخاذها حبس لله تعالى فجوز ذلك استحسانا ولو لم يوص به لإنسان بعينه وهما أبطلا ذلك إلا أن يوصي به لإنسان بعينه فيجوز حينئذ لحاجته.
ولو قال في صحته: غلة داري هذه أو عبدي هذا صدقة في المساكين فإن ردت بعد موتي فهي وصية من ثلثي تباع ويتصدق بثمنها جاز ذلك لأنا قد بينا أن بن أبي ليلى لا يجوز الوصية بالغلة أصلا فلا يأمن الموصي من أن يرفع ورثته إلى قاض يعتقد قوله فيبطل وصيته فيحرز عن ذلك بما ذكر من الوصية الثانية وعلقها برد الأولى والوصية تحتمل التعليق وهذا التعليق فيه فائدة إبقاء الأولى لأن الورثة لا يحتالون في إبطال الأولى إذا علموا أنهم لا(27/348)
ص -172- ... يستفيدون بذلك شيئا ثم المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فإذا ردت الأولى وجب تنفيذ الوصية الثانية فيباع إذا كان يخرج من ثلثه ويتصدق بثمنه.
ولو أوصى بداره أو بأرضه فجعلها حبسا على الآخر والآخر من ورثته لا يباع أبطلت ذلك وجعلتها ميراثا للحديث لا حبس عن فرائض الله تعالى ولأن هذا في معنى الوصية للوارث ولأنه إن جعل في معنى الوقف فالوقف على بعض ورثته بعد موته لا يجوز والتأييد من شرط الوقف ولم يوجد ذلك.
ولو أوصى بغلة داره لإنسان وبسكناها لآخر وبرقبتها لآخر وهي الثلث فهدمها رجل بعد موت الموصي غرم قيمة ما هدم من بنائها وتبنى مساكن كما كانت فتؤجر ويأخذ غلتها صاحب الغلة ويسكنها الآخر لأن حقه كان تعلق بالبناء الأول فيحول إلى البدل وهو القيمة وطريق إبقاء حقهما منه أن تبنى مساكن كما كانت ليكون الثاني قائما مقام الأول.
وكذلك البستان إذا أوصى بغلته فقطع رجل نخله أو شجره والحاصل أن الوصية بغلة البستان تتناول الثمار بغلة الدار والعبد يتناول الأجرة وكذلك بغلة الأرض تتناول الأجرة والحصة من الخارج إذا وقعت مزارعة وبغلة الأمة يتناول الأجرة دون الولد حتى إنها لو ولدت لا يكون الولد للموصى له بالغلة وإن ما تولد من عينها كالثمار ولكن يستحق بمطلق الاسم ما يطلق عليه اسم الغلة في كل شيء عادة واسم الغلة يطلق على الثمار ولا يطلق على أولادها.(27/349)
ولو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بغلة داره وقيمة الدار ألف وله ألفان سوى ذلك فلصاحب الغلة نصف غلة الدار لأنه موصى له بالثلث معنى كالموصى له الآخر بالثلث بينهما نصفان نصفه لصاحب الغلة كله في الدار فلهذا كان له نصف غلة الدار ولصاحب الثلث نصف الثلث فيما بقي من المال والدار إن شئت قلت خمس ذلك في الدار وأربعة أخماسة في المال لأنه شريك الورثة فيقاسم الورثة بحسب المال والمال المقسوم بينه وبين الورثة نصف الدار وقيمته خمسمائة وألفان فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كانت أخماسا وإن شئت قلت ثلثا ذلك في المال وثلثه في الدار لأن مزاحمة الموصى له بالغلة قد انعدمت في نصف الدار وحق الموصى له بالثلث في ثلث الدار بدليل أنه لولا وصية الآخر لكان يسلم له ثلث الدار فإذا فرغ من حق الآخر مقدار حقه وزيادة أخذ جميع حصته من الدار وهو الثلث مما يستوفيه فإذا مات صاحب الغلة فلصاحب الثلث ثلث الدار والمال لأن وصية صاحب الغلة قد بطلت فإن استحقت الدار بطلت وصية صاحب الغلة لأنها كانت وصية بالعين فلا تبقى بعد استحقاق العين وإن لم تستحق ولكنها انهدمت قيل لصاحب الغلة بن نصيبك منها ويبني صاحب الثلث نصيبه والورثة نصيبهم ليتمكن كل واحد منهم من الامتناع بنصيبهم وأيهم أبى أن يبني لم يجبر على ذلك ولم يمنع الآخر من أن يبني ما يصيبه من ذلك ويؤاجره ويسكنه(27/350)
ص -173- ... لأن الأبى منهما قصد الإضرار بنفسه وبغيره وله أن يلزم الضرر في حق نفسه وليس له أن يلزم الضرر غيره.
ولو أوصى لرجل بسكنى داره أو بغلتها فادعاها رجل وأقام البينة أنها له فشهد الموصى له بالغلة أو السكنى أنه أقر أنها للميت لم تجز شهادته لأنه يجر إلى نفسه بذلك نفعا وهو أنه يمهد محل حقه وكذلك لو شهد للميت بدين أو بمال أو بقتل خطأ فشهادته باطلة لأنه له في مال الميت نصيبا وهو متهم في هذه الشهادة فإن مال الميت كلما كثر كان خيرا له وفي وصيته.
ألا ترى أنه لو ظهر على الميت دين كان يقضى من المشهود به ويسلم له وصيته فلهذا لا تقبل شهادته والله أعلم بالصواب.(27/351)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثامن والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(28/1)
ص -3- ... باب الوصية بغلة الأرض والبستان
قال رحمه الله: وإذا أوصى لرجل بغلة بستانه ولآخر برقبته وهو ثلث ماله فالرقبة لصاحب الرقبة والغلة لصاحب الغلة ما بقي لأن الوصية بالغلة في البستان كالوصية بالخدمة في العبد والسكنى في الدار وقد بينا هناك أن يقدم حق صاحب الخدمة والسكنى على حق صاحب الرقبة وإن لكل واحد منهما ما أوصي له به فهذا مثله وكذلك إن قال ثمرته لفلان ثم مات ولا ثمرة فيه فالحاصل أن الوصية بالبغلة تنصرف إلى الموجود وإلى ما يحدث سواء قال أبدا أو لم يقل لأن اسم الغلة حقيقة للموجود والحادث جميعا فأما الثمرة اسم للموجود حقيقة ولا يتناول الحادث إلا مجازا فإذا أوصى له بثمرة بستانه ولم يقل أبدا فإن كان في البستان ثمرة حين يموت الموصى فإنما يستحق الموصي له تلك الثمرة ولا حق له فيما يحدث بعد ذلك لأن اللفظ إذا صار مستعملا في حقيقته ينتفي المجاز عنه وإذا لم يكن في البستان ثمرة عند موت الموصى فلم يستعمل اللفظ في حقيقته فيجب استعماله في المجاز ويكون له ما يحدث من الثمار ما عاش بمنزلة الغلة فإن كان قال أبدا فله الموجود والحادث أبدا جميعا في الفصلين لأنه في التنصيص على التأبيد عم الإيجاب الحادث والموجود والسقي والخراج وما يصلحه وعلاج ما يصلحه على صاحب الغلة لأنه هو المنتفع بالبستان.(28/2)
ولو أوصى له بصوف غنمه أو بألبانها أو بسمنها أو بأولادها أبدا لم يجز إلا ما على ظهورها من الصوف وما في ضروعها من اللبن ومن السمن الذي في اللبن الذي في الضرع ومن الولد الذي في البطن يوم يموت الموصى وما حدث بعد ذلك فلا وصية له فيه"وهذا والغلة والثمرة في القياس سواء ولكني ادعى القياس فيه واستحسن ذلك"قيل مراده أن القياس في الثمرة والغلة أن لا يستحق إلا الموجود فيه عند موته كما في الأولاد لأنه إنما يملك بالوصية ما هو مملوك للموصي والعين الحادث بعد موته لا تكون مملوكة له فلا يستحقها الموصي له ولكنه استحسن فقال الثمار التي تحدث يجوز أن تستحق بإيجابه بعقد من العقود كالمعاوضة على قول من يجيزها فكذلك يجوز استحقاقها بالوصية عند التنصيص على التأبيد لأن الوصية أوسع العقود جوازا بخلاف ما في البطن فإن ما يحدث مما ليس بموجود في الحال لا يجوز استحقاقه بشيء من العقود والوصية نوع من العقود وقيل بل مراده أن القياس في مسألة الصوف واللبن والولد أن يستحق الموجود والحادث عند التنصيص على(28/3)
ص -4- ... التأبيد لأن المحل الذي يحدث منه هذه الزوائد يجعل مبقى على ملك الميت حكما لاشتغاله بوصيته والوصية فيما يحدث منها تصير كالمضاف إلى حالة الحدوث فيصح ذلك كما في الثمار ولكنه استحسن فقال ما في بطون الحيوان ليس في وسع البشر إيجاد ما ليس بموجود منه فلا يصح إيجابه للغير بشيء من العقود بخلاف الثمار فإن لصنع العباد تأثيرا في إيجاده ولهذا جاز عقد المعاوضة وهو شركة في الخارج فيصح إيجاب الوصية فيما يحدث منه عند التنصيص على التأبيد والدليل على الفرق أنه لو أوصى بيد عبده لإنسان أو لرجل حياته لا تصح الوصية.
و لو أوصى بقوائم الخلاف أو سعف النخل صحت الوصية فكان الفرق هذا أن سعف النخل وإن كان وصفا للنخل فإنه يحتمل التمليك ببعض العقود بخلاف أطراف الحيوان فإذا ظهر هذا الفرق فيما هو موجود منهما فكذلك فيما يحدث وكذلك لو أوصى له بولد جاريته أبدا فإنه لا يستحق إلا الموجود في البطن عند موته حتى إذا ولدت لأقل من ستة أشهر بعد موته فهو له من الثلث وإذا ولدته لأكثر من ستة أشهر لم يكن للموصى له فيه حق ولا فيما تلد بعده لأنه لا يتيقن بوجوده عند الموت وفي الوصية بالثمرة إذا استحق الحادث ثم مات الموصى له فإن مات قبل أن تحدث الثمرة بطلت وصيته لأن الثابت له حق الاستحقاق وذلك لا يورث عنه وإن كان موته بعد ما أثمر البستان فتلك الثمرة لورثته لأن تلك العين صارت مملوكة له فيخلفه وارثه فيها.(28/4)
ألا ترى: أنه لو كان باعه في حياته وأخذ ثمنه جاز بيعه وكان الثمن لورثته بعد موته وإذا أوصى بغلة نخله أبدا لرجل ولآخر برقبتها ولم يدرك ولم تحمل فالنفقة في سقيها والقيام عليها على صاحب الرقبة لأن بهذه النفقة ينمو ملكه ولا ينتفع صاحب الغلة بذلك فليس عليه شيء من هذه النفقة فإذا أثمرت فالنفقة على صاحب الغلة لأن منفعة ذلك ترجع إليه فإن الثمرة به تحصل فإن حملت عاما ثم أحالت فلم تحمل شيئا فالنفقة على صاحب الغلة لأن منفعة ذلك لصاحب الغلة فالأشجار التي من عادتها أن تحمل في سنة ولا تحمل في سنة يكون ثمارها في السنة التي تحمل فيها وجود وأكثر منها إذا كانت تحمل في كل عام وهو نظير نفقة الموصى بخدمته فإنه على الموصى له بالخدمة بالليل والنهار جميعا وإن كان هو ينام بالليل ولا يخدم لأنه إذا استراح بالنوم بالليل كان أقوى على الخدمة بالنهار فإن لم يفعل وأنفق صاحب الرقبة عليها حتى تحمل فإنه يستوفى نفقته من ذلك لأنه كان محتاجا إلى الإنفاق لكيلا يتلف ملكه فلا يكون متبرعا فيه ولكنه يستوفي النفقة من الثمار وما يبقى من ذلك فهو لصاحب الغلة.
و لو أوصى لرجل بثلث غلة بستانه أبدا ولا مال له غيره فقاسمهم البستان فأغل أحد النصيبين ولم يغل الآخر فإنهم يشتركون فيما خرج من الغلة لأن القسمة في ذلك باطلة فإن الموصى له بالغلة لا يملك شيئا من رقبة البستان والقسمة لتمييز ملك أحدهما من ملك الآخر(28/5)
ص -5- ... و ذلك لا يتحقق ها هنا فتبطل القسمة وما حصل من الغلة يكون مشتركا بينهم بالحصة وللورثة أن يبيعوا ثلثي البستان لأنه لا حق للموصى له بثلث الغلة في ثلثي البستان فإذا نفذ بيعهم قام المشتري مقامهم فيكون شريك صاحب الغلة.
ولو أوصى بغلة بستانه الذي فيه لرجل وأوصى بغلته أبدا له أيضا ثم مات الموصي ولا مال له غيره وفي البستان غلة تساوي مائة والبستان يساوي ثلاثمائة فللموصي له ثلث الغلة التي فيه وثلث ما يخرج من الغلة فيما يستقبل أبدا لأن الوصية تنفذ من الثلث وطريق تنفيذها من الثلث هو أن يعطي ثلث الغلة الموجودة وثلثاها للورثة ثم يصير كأنه أوصي له بغلته وليس فيه غلة فيكون له ثلث ما يحدث من الغلة أبدا.
ولو أوصى بعشرين درهما من غلته كل سنة لرجل فأغل سنة قليلا وسنة كثيرا فله ثلث الغلة كل سنة يحبس وينفق عليه كل سنة من ذلك عشرون درهما ما عاش هكذا أوجبه الموصى وربما لا تحصل الغلة في بعض السنين فلهذا يحبس ثلث الغلة على حقه.
و كذا لو أوصى بأن ينفق عليه خمسة دراهم كل شهر من ماله فإنه يحبس جميع الثلث لينفق عليه منه كل شهر خمسة كما أوجبه الموصي وعن أبي يوسف أنه قال يحبس مقدار ما ينفق عليه في مدة يتوهم أن يعيش إليها في العادة فأما ما زاد على ذلك فلا يشتغل بحبسه لأن الظاهر أنه يموت قبل ذلك وشرط استحقاقه بقاؤه حيا فإنما يثبت هذا الشرط بطريق الظاهر لما تعذر الوقوف على حقيقته
فأما في ظاهر الرواية قال يتوهم أن تطول حياته إلى أن ينفق عليه جميع الثلث أو يهلك بعض الثلث قبل أن ينفق فيحتاج إلى ما بقى منه للإنفاق عليه فلهذا يحبس جميع الثلث و يستوى إن أمر بأن ينفق عليه في كل شهر منه درهما أو عشرة دراهم.
و لو أوصى أن ينفق عليه كل شهر أربعة من ماله وعلى آخر كل شهر خمسة من غلة البستان ولا مال له غير البستان فثلث البستان بينهما نصفان لاستواء حقهما فيه.(28/6)
ألا ترى: أن كل واحد منهما لو انفرد استحق جميع الثلث بوصيته ثم يباع سدس غلة البستان لكل واحد منهما فيوقف ثمنه على يد الموصي أو على يد ثقة إن لم يكن له وصى وينفق على كل واحد منهما من نصيبه ما سمى له في كل شهر فإن ماتا جميعا وقد بقي من ذلك شيء رد على ورثة الموصي لبطلان وصيته بالموت وكذلك لو قال ينفق على فلان أربعة وعلى فلان وفلان خمسة حبس السدس على المنفرد والسدس الآخر على المجموعين في النفقة لأنهما كشخص واحد فيما أوجب لهما.
و لو أوصى بغلة بستانه لرجل وبنصف غلته لآخر وهو جميع ماله قسم ثلث الغلة بينهما نصفان عند أبي حنيفة في كل سنة لأن وصية كل واحد منهما فيما زاد على الثلث تبطل ضربا واستحقاقا فإن كان البستان يخرج من ثلثه كان لصاحب الجميع ثلاثة أرباع غلته كل سنة وللآخر ربعها القسمة على طريق المنازعة كما هو مذهبه وعندهما القسمة على طريق العول(28/7)
ص -6- ... فإن لم يكن له مال سواه فثلثه بينهما أثلاثا وإن كان يخرج من ثلثه فالكل بينهما أثلاثا على أن يضرب صاحب الجميع بالجميع والآخر بالنصف.
ولو أوصى لرجل بغلة بستانه وقيمته ألف ولآخر بغلة عبده وقيمته خمسمائة وله سوى ذلك ثلاثمائة فالثلث بينهما على أحد عشر سهما في قول أبي حنيفة لأن جميع ماله ألف وثمانمائة فثلثه ستمائة والموصي له بغلة البستان تبطل وصيته فيما زاد علي الثلث ضربا واستحقاقا فإنما يضرب هو بستمائة والآخر بخمسمائة وقيمة العبد فإذا جعلت كل مائة سهما كان الثلث على أحد عشر سهما بينهما لصاحب العبد خمسة أسهم فالعبد ولصاحب البستان ستة في غلته.
ولو أوصى لرجل بغلة أرضه وليس فيها نخل ولا شجر ولا مال له غيرها فإنه تؤاجر فيكون له ثلث الغلة وإن كان فيه شجر أعطى ثلث ما يخرج منها لأنه يستحق بمطلق التسمية في كل موضع ما يتناوله الاسم عرفا وإذا أوصى أن تؤاجر أرضه من رجل سنين مسماة كل سنة بكذا ولا مال له غيرها فإن كان سمى أجرة مثلها جاز له وإن كان أقل منه حسب ذلك من الثلث لأن المحاباة في الأجرة بمنزلة المحاباة في الثمن فيكون من ثلثه وهذا لأن المنفعة تأخذ حكم المالية بالعقد بدليل أنه لو أجر أرضه ولم يسم الأجر كان له أجر مثل ما استوفى المستأجر من المنفعة كما في البيع إذا لم يذكر الثمن.(28/8)
ولو أوصى لرجل بغلة أرضه ولآخر برقبتها وهي تخرج من الثلث فباعها صاحب الرقبة وسلم صاحب الغلة البيع جاز وبطلت وصيته ولا حق له في الثمن لأن الملك لصاحب الرقبة وحق صاحب الغلة في المنفعة فإجازته البيع تكون إبطالا لحقه في المنفعة ويسلم الثمن لصاحب الرقبة كما لو باع الآخر العين المستأجرة ورضي به المستأجر ولو أوصى له بغلة بستانه فأغل البستان سنين قبل موت الموصي ثم مات الموصي لم يكن للموصى له من تلك الغلة شيء إلا ما يكون في البستان حين يموت أو ما يحدث بعد ذلك لأن وجوب الوصية بالموت وإنما يضاف إلى البستان من الغلة عند الموت ما يكون موجودا فيه أو ما يحدث بعد ذلك فإن اشترى الموصى له البستان من الورثة بعد موته جاز الشراء وبطلت وصيته كما لو باعوه من غيره برضاه.
و كذلك لو أعطوه شيئا على أن للقن من الغلة فكذلك جائز لأنه أسقط حقه بما استوفى منهم من العوض ولو أسقط حقه بغير عوض جاز فذلك بالعوض وكذلك في سكني الدار وخدمة العبد إذا صالحوه منه على شيء معلوم فهو جائز لأنه أسقط حقه بعوض وإسقاط الحق عن المنفعة يجوز بالعوض وغير العوض وإن كان لا يحتمل التمليك بعوض إذا ملكه أو بغير عوض على ما سبق بيانه والله أعلم.
باب الوصية في العتق
قال رحمه الله: "وإذا أوصى بعتق عبده بعد موته أو قال أعتقوه أو قال هو حر بعد(28/9)
ص -7- ... موتي بيوم وأوصى لإنسان بألف درهم تحاصا في الثلث وليس هذا من العتق الذي يبدأ به وإنما يبدأ به إذا قال هو حر بعد موتي عنهما أو أعتقه في مرضه ألبتة أو قال إن حدث لي حدث من مرضى هذا فهو حر فهذا يبدأ به قبل الوصية وكذلك كل عتق يقع بعد الموت بغير وقت فإنه يبدأ به قبل الوصية"بلغنا عن بن عمر وإبراهيم قالا إذا كان وصية وعتق فإنه يبدأ بالعتق وكان المعنى فيه أن العتق الذي يقع بنفس الموت سببه يلزم في حالة الحياة على وجه لا يحتمل الرجوع عنه بخلاف الوصية بالعتق فإنه يحتمل الرجوع عنه ولكن هذا لا يستقيم في قوله إن حدث لي حدث من مرضى هذا فإن هذا يحتمل الفسخ ببيع الرقبة.
و لو قال: هو حر بعد موتي بيوم فإن سببه لا يحتمل الفسخ بالرجوع عنه ومع ذلك لا يكون مقدما على سائر الوصايا ولكن الحرف الصحيح أن يقول ما يكون منفذا عقيب الموت من غير حاجة إلى التنفيذ فهو في المعنى أسبق مما يحتاج إلى تنفيذه بعد الموت لأن هذا بنفس الموت يتم والآخر لا يتم إلا بتنفيذ من الموصى بعد موت الموصي والترجيح يقع بالسبق.
يوضحه: أن العتق المنفذ بعد الموت مستحق استحقاق الديون فإن صاحب الحق ينفرد باستيفاء دينه إذا ظفر بحبس حقه وها هنا يصير مستوفيا حقه بنفس الموت والدين مقدم على الوصية فالعتق الذي هو في معنى الدين يقدم أيضا فأما ما يحتاج إلى تنفيذه بعد الموت فهو ليس في معنى الدين فيكون بمنزلة سائر الوصايا.
ولو أعتق أمته في مرضه فولدت بعد العتق قبل أن يموت الرجل أو بعد ما مات لم يدخل ولدها في الوصية لأنها ولدت وهي حرة وهذا التعليل مستقيم على أصلهما لأن المستسعاة عندهما حرة عليها دين والعتق في المرض نافذ عندهما كسائر التصرفات وكذلك عند أبي حنيفة إن كانت تخرج من ثلثه(28/10)
وإن كان الثلث أكثر من قيمتها فعليها السعاية فيما زاد على الثلث وتكون بمنزلة المكاتبة ما دامت تسعى وحق الغرماء والورثة لا يثبت في ولد المكاتبة لأن الثلث والثلثين لا يعتبر من رقبتها إنما يعتبر من بدل الكتابة فلا يثبت حق المولى في ولدها حتى يعتبر خروج الولد من الثلث فإن ماتت قبل أن تؤدي ما عليها من السعاية كان على ولدها أن يسعى فيما على أمه في قياس قول أبي حنيفة بمنزلة ولد المكاتبة وعندهما لا شيء على الولد لأنه حر فلا يلزمه السعاية في دين أمه بعد موتها.
ولو دبر عبدا له وقال إن حدث لي حدث من مرضى هذا فأنت حر ثم مات من مرضه تحاصا في الثلث لأنهما استويا في معنى الاستحقاق بعد الموت على معنى أن كل واحد منهما في مرض موته فيتحاصان في الثلث ولو أوصى لعبده بدراهم مسماة أو بشيء من ماله مسمى لم تجز كما لو وهب له في حال حياته وهذا لأن الكسب يملك الرقبة ففي حياته الملك له في الموصى به والموصى له بعد موته الملك لورثته في جميع ذلك فهذه الوصية لا تفيد شيئا والعقود الشرعية لا تنعقد خالية عن فائدة.
قال: "ولو أوصى له ببعض رقبته عتق ذلك المقدار وسعى في الباقي في قول أبي حنيفة(28/11)
ص -8- ... بمنزلة ما لو وهب له بعض رقبته في حياته"لأن العتق عند أبي حنيفة يتجزأ ولو أوصى له برقبته كلها عتق من الثلث وكذلك لو وهب له رقبته أو تصدق بها عليه في مرضه عتق من الثلث.
ولو أوصى له بثلث ما له جاز لأن هذه الوصية تتناول ثلث رقبته فإن رقبته من ماله فيعتق ذلك القدر منه بالموت ويصير عندهما حرا وعند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب فتصح الوصية له بالمال فإذا بقى له من الثلث شيء أكمل له ذلك من رقبته وأعطى ما فضل على ذلك إن كان في المال وإن كان في قيمته فضل على الثلث سعى فيه للورثة بعد موته.
و لو أوصى بعبده لرجل ثم أوصى بذلك العبد أن يعتق أو يدبر فهذا رجوع عن الوصية الأولى لأن بين الوصيتين في محل واحد منافاة يعنى التمليك والعتق بعد موته فالإقدام على الثانية منه دليل الرجوع عن الأولى ولأنه صرفه بالوصية الثانية إلى حاجته واستثنى ولاء لنفسه ولو صرفه إلى حاجته في حياته كان به راجعا عن الوصية الأولى أرأيت لو لم يكن راجعا فأعتق الوصي نصفه عن الميت كان يضمن للموصى له النصف الباقي من تركة الميت أو يستسعى الغلام فيه أو يكون شريكا في الغلام هذا كله مستبعد.(28/12)
قال: "ولو أوصى بعبده لرجل ثم أوصى أن يباع من آخر بثمن سمى حط عنه الثلث ولا مال له غيره فللموصى له بالبيع أن يشتري خمسة أسداس العبد بثلثي قيمته إن شاء أو يدع"لأن الوصية بالمحاباة بمنزلة سائر الوصايا وقد استوت الوصيتان من حيث استغراق كل واحد منهما الثلث بينهما نصفان لصاحب البيع نصفه وهو السدس وللآخر نصف الثلث وهو سدس الرقبة ولا يقال ينبغي أن يباع جميع العبد من الموصى له بالبيع بخمسة أسداس قيمته لأن الوصية بالرقبة وصية بالعين فلا يمكن تنفيذها من محل آخر بسوى العين وإن أبى الموصى له بالبيع أن يشتريها كان للموصى له بالعين ثلث الرقبة لأن الوصية بالمحاباة كانت في ضمن البيع وقد بطلت الوصية بالبيع حين ردها الموصي له فيسلم الثلث للموصى من ذلك له بالرقبة.
و لو أوصى بعتقه ثم أوصي له أن يباع وعلى عكس هذا قال آخر بالآخر لأن هاتين الوصيتين لا يجتمعان في محل واحد والثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى فهو كالتصريح بالرجوع وإذا أوصى بعبده أن يباع ولم يزد على ذلك أو أوصي بأن يباع بقيمته فهو باطل لأنه ليس في هذه الوصية معنى القربة فيجب تنفيذها بحق الموصي ولا حق فيها للعبد أيضا لأن صفة المملوكية فيه لا تختلف بالبيع إنما يتغير النسبة من حيث أنه ينسب إلى المشترى بالملك بعد ما كان منسوبا إلى البائع ولا يمكن تنفيذها لحق الموصى له وهو المشترى لأنه مجهول جهالة نسبة.
ولو أوصي أن يباع نسيئة صحت الوصية بنسبة البيع للعتق بأن يحسن العبد خدمة مولاه فيرغب في إعتاقه ولا يتمكن من ذلك لغلة ماله فيبيعه نسيئة ويحط من ثمنه ممن يعتقه.(28/13)
ص -9- ... ليحصل به ما هو مقصود وهو تخليص العبد عن ذل الرق وهو معنى قوله عليه السلام لبعض أصحابه: "فك الرقبة وأعتق النسمة" الحديث في تنفيذ هذه الوصية حق الموصي وحق العبد فيجب تنفيذها لذلك ثم يباع كما أوصى ويحط من ثمنه مقدار الثلث إن لم يجد من يزيدهم علي ذلك ولأن معدن الوصية الثلث وفي تنفيذ هذه الوصية حق الموصى فيجب تنفيذها من معدن هو خالص حقه وهو الثلث.
ولو أوصى أن يباع من رجل بعينه ولم يسم ثمنا فإنه يباع منه بقيمته لا ينقص منه شيء لأن تنفيذ هذه الوصية لحق المشتري وهو معلوم وإنما أوصى له بالعين بعوض يعد له فكان تنفيذ هذه الوصية ببيعه منه بمثل القيمة فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ولو أوصى بأن يعتق عبده وأبى العبد أن يقبل ذلك فإنه يعتق من الثلث لأن تنفيذ هذه الوصية لحق الموصى فإنه استثنى ولاءه لنفسه ولو أوجب العتق له لم يرتد برده مراعاة لحق المولى في الولاء فكذلك إذا أوصي بعتقه.(28/14)
ولو أوصى بعتق عبده وأوصي بأن يباع عبدا آخر من فلان بكذا وحط من قيمته مقدار الثلث فالثلث بينهما نصفان لأنهما استويا في القوة من حيث إن كل واحد منهما يحتمل الرجوع عنه ويحتال إلى تنفيذه بعد الموت فإن كان أعتق العبد بنفسه فأبى عتقه ثم باع العبد الآخر وحط عنه الثلث من جميع المال قيل للمشترى يحط عنك نصف الثلث وأد ما بقي إن شئت ويسعى المعتق في نصف قيمته وإن بدأ بالبيع ثم أعتق سلمت المحاباة للمشتري وعلى العبد السعاية في قيمته وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله فإنه يقول إذا بدأ بالمحاباة ثم بالعتق تقدم المحاباة وإذا بدأ بالعتق تحاصا وإن كانتا محاباتين أو عتقين تحاصا وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يبدأ بالعتق في الوجوه كلها ولا يحط شيء من القيمة عن المشتري إلا أن يفضل شيء من الثلث وفي قول زفر رحمه الله إن ما بدأ به منهما يبدأ به لأن لكل واحد منهما نوع قوة وقوة المحاباة من حيث إن سببه تجارة وهو غير محجور عن التجارة بسبب المرض وقوة العتق من حيث إنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه فلما استويا في القوة يبدأ بما بدأ به منهما بمنزلة واجبين أو تطوعين وأبو يوسف ومحمد قالا المحاباة بمنزلة الهبة حتى لا تصح ممن لا تصح منه الهبة كالأب والوصى والعتق مقدم على الهبة وإن أجره فكذلك المحاباة وهذا لأن المحاباة إما أن تكون تمليك العين بغير عوض أو إسقاطا للعوض فإن كان إسقاطا فهو كالإبراء عن الدين وإن كان تمليكا فهو كالهبة والعتق مقدم على كل واحد منهما لأن المعنى الذي لأجله قدمنا العتق على الهبة أن الاستحقاق به يثبت بنفسه وأنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه بخلاف الهبة وهذا المعنى موجود في المحاباة لأنه يحتمل الفسخ كالهبة يوضحه: أن الوصية بالمحاباة ثابتة بطريق البيع ولهذا لو فسخ البيع لا تبقى الوصية بالمحاباة وما يكون مقصودا بنفسه فهو أقوى مما يكون ثابتا تبعا وأبو حنيفة يقول المحاباة أقوى سببا من العتق لأن بسبب(28/15)
المحاباة التجارة فإن البيع(28/16)
ص -10- ... بالمحاباة عقد تجارة حتى يجب للشفيع الشفعة في الكل والشفعة تختص بالمعاوضات دون التبرعات ولهذا قلت إن البيع بالمحاباة يصح من العبد المأذون والصبي المأذون وبالمرض لا يلحقه الحجر عن التجارة فأما العتق تبرع محض وبالمرض يصير محجورا عن التبرعات فمن هذا الوجه المحاباة أقوى ومن حيث الحكم العتق أقوى لأنه لا يحتمل الفسخ غير أن السبب يسبق الحكم لأن الحكم يثبت بالسبب فلهذا بدأ بالمحاباة قلنا يبدأ بها لبداية الموصى ولقوة السبب فإذا بدأ بالعتق فالعتق يقدم سببه على المحاباة حسا وسبب المحاباة أقوى حكما فيقع التعارض بينهما في قوة السبب فقلنا بأنهما يتحاصان وإنما يبدأ بما بدأ به الموصي إذا كانا لمستحق واحد فأما إذا كانا لمستحقين فلا كما لو أوصى بثلثه لإنسان ثم أوصي بثلثه لآخر ولا يستدل عليهم إلا بما قالوا أن الوصية بالمحاباة بيع فإن ما يثبت ضمنا للشيء يعتبر حكمه بذلك الشيء كالبيع الذي يثبت ضمنا للعتق يجعل بمنزلة العتق حتى لا يتوقف على القبول وهذا لما ثبت ضمنا للتجارة يجعل بمنزلة التجارة وإنما لا يحتمل العتق الفسخ لفوات المحل فإن المسقط يكون مثلا شيئا وتعذر الفسخ عند فوات المحل ثابت في البيع والهبة أيضا يوضح ما قلنا أن المحاباة تستحق استحقاق الديون لأن استحقاقها بعقد ضمان فمن هذا الوجه هي كالديون ومن حيث إنه لا يقابله بدل مقصود كان بمنزلة التبرع فيوفر حظه عليهما فلشبهه بالتبرع يعتبر من الثلث ولشبهه بالديون يكون مقدما على ما هو تبرع محض إذا حصلت البداية بها فإن بدأ بالبيع وحابى بالثلث ثم أعتق عبدا وهو الثلث ثم باع وحابى بالثلث فللبائع الأول نصف الثلث ونصف الثلث بين المعتق والمشتري الآخر لأنه لا مزاحمة للعتق مع المحاباة الأولى فيجعل في حقها كالمعدوم ويقسم الثلث بين المحاباتين نصفين ثم النصف الذي يصيب المشترى الآخر يزاحمه فيه المعتق لأن المعتق مقدم عليه وإنما كان المعتق محجورا لحق(28/17)
صاحب المحاباة الأولى وقد خرج الوسط حين استوفى حقه ففيما بقي يعتبر حق صاحب العتق وصاحب المحاباة الأخرى فلهذا كان الباقي بينهما نصفين.
قال: "وإذا اشترى الرجل ابنه في مرضه بألف درهم وذلك قيمته وله ألف درهم سوى ذلك فإنه ابنه يعتق ولا سعاية عليه ويرثه في قول أبي حنيفة"وقال أبو يوسف ومحمد يسعى في جميع قيمته ويقاص بها من ميراثه لأن العتق في المرض وصية ولا وصية لوارث والابن وارث ها هنا بالاتفاق فيلزمه رد رقبته لبطلان الوصية له وقد تعذر رده فيلزمه السعاية في قيمته وهو بناء على أصلهما أن المستسعى حر عليه دين فبوجوب السعاية عليه لا يخرج من أن يكون وارثا وأبو حنيفة يقول لو أوجبنا عليه السعاية في قيمته كان مكاتبا لأن المستسعى في بدل رقبته عنده مكاتب والمكاتب لا يرث فيجب تنفيذ الوصية له وإذا أنفذنا الوصية له وأسقطنا عنه السعاية صار وارثا لا يزال يدور هكذا وقطع الدور واجب فيجمع له بين الميراث والوصية لضرورة الدور لأن ثبوت الوصية للوارث أسهل من إبطال ميراثه.
ألا ترى أن الميراث لا يرتد برد أحد فإنه واجب بإيجاب الله تعالى والوصية للوارث(28/18)
ص -11- ... تصح عند إجازة الورثة فلهذه الضرورة جمعنا له بين الوصية والميراث وهو نظير جواز تنفيذ الوصية فيما زاد على الثلث لضرورة الدور وقد بينا ذلك في كتاب الهبة أنه قد تنفذ الهبة في ثلث المال لضرورة الدور والوصية للوارث بمنزلة الوصية للأجنبي بما زاد على الثلث.
ولو اشترى ابنه بألف درهم وقيمته خمسمائة وأعتق عبدا له آخر يساوي خمسمائة ولا مال له غيرهما ففي قول أبي حنيفة المحاباة تقدم لأنه بدأ بها وقد استغرقت الثلث فيجب على كل واحد من العبدين السعاية في قيمته ولا يرث الابن شيئا لما عليه من السعاية وعندهما العتق مقدم إلا أن الابن وارث فلا وصية له ولكن يعتق العبد الآخر محاباة ويسعى الابن في قيمته ويطالب البائع بالرد فبما زاد على قيمته من الثمن فيكون ميراثا بينهم على فرائض الله تعالى ولو كان قيمة الابن ألفا فاشتراه بألف وأعتق عبدا آخر يساوي ألفا على قول أبي حنيفة يتحاصان في الثلث ويسعى الابن فيما زاد على حصته ولا ميراث له لأنه مستسعى في بعض قيمته فلا يكون وارثا وعند أبي يوسف ومحمد الابن وارث فعليه أن يسعى في جميع قيمته ويقاص بها من ميراثه.
قال: "وإذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها وهو مريض ثم دخل بها وقيمتها ألف درهم ومهر مثلها مائة فإن كانت قيمتها ومهر مثلها لا يخرج من الثلث جعلت لها الميراث والمهر وأجزت النكاح وإن كانت قيمتها ومهر مثلها لا يخرج من الثلث دفع لها مهر مثلها والثلث مما بقى بعد المهر ثم سعت فيما بقى من قيمتها ولا ميراث لها وهذا قول أبي حنيفة"وقد طعن عيسى رحمه الله في اشتراطه خروج القيمة ومهر المثل من الثلث.(28/19)
قال: كيف يستقيم هذا والمهر دين يعتبر من جميع المال والقيمة وصية تعتبر من الثلث ولكن يقول مراده من ذلك خروج القيمة من الثلث بعد دفع مهر المثل من المال لأن مهر المثل دين فيعتبر فيبدأ به ثم إذا كانت القيمة تخرج من ثلث ما بقي فقد عرفنا نفوذ العتق وصحة النكاح وثبوت الميراث لها ولكن يجمع على أصله لها بين الميراث والوصية لضرورة الدور وإن كانت قيمتها ومهر مثلها لا يخرج من الثلث فقد علمنا بوجوب السعاية عليها في بعض قيمتها وإنها كالمكاتبة والمولى إذا تزوج مكاتبته لا يصح النكاح ولكنه لما دخل بها يلزمه مهر مثلها للشبهة فيأخذ مهر مثلها أولا ثم لها الثلث مما بقى بطريق الوصية ويسعى فيما بقي من قيمتها وفي قول أبي يوسف ومحمد النكاح جائز على كل حال لأن المستسعاة عندهما حرة عليها دين فيكون لها مهر مثلها والميراث وعليها السعاية في قيمتها لأنها حين ورثت لم يكن لها وصية فيحاسب بالقيمة التي عليها من مهرها وميراثها لأنه لا فائدة في قبض ذلك منها حين وجب ردها عليها فإن بقي شيء أداه إلى الورثة وإن كان زادها شيئا على مهر مثلها بطلت الزيادة لأنها وارثة له.
و لو أعتق أمته وقيمتها ألف ثم استدان منها مائة درهم ثم تزوجها ثم مات ولم يدخل بها وترك ألفين سوى ذلك عندهما هذا والأول سواء والنكاح جائز وترث ولها مهرها لانتهاء(28/20)
ص -12- ... النكاح بالموت ولها دينها الذي استدان منها لكون ببينة معاينة وعليها السعاية في قيمتها لأنها لا وصية لها وعند أبي حنيفة النكاح باطل لأنها تستوفى دينها من المال ثم لها ثلث ما بقي بطريق الوصية وقيمتها ومهر مثلها يزيد على الثلث فلذلك بطل النكاح.
ولو أعتقها وليس له مال غيرها ثم تزوجها فاستدان منها مائتي درهم فأنفقها على نفسه وذلك في مرضه ثم مات فالنكاح باطل في قول أبي حنيفة ولا ميراث لها ولا مهر إذا لم يكن دخل بها وعليها السعاية في ثلث ما بقي بعد الدين ولو أعتقها في مرضه ثم تزوجها وليس له مال غيرها ثم اكتسب مالا تخرج هي ومهرها من ثلثه فإن النكاح جائز ولها المهر والميراث ولا سعاية عليها لأن المعتبر عند الموت فإن وجوبه الوصية يكون عند موته وعند ذلك رقبتها تخرج من الثلث بعد المهر فلا تسعى في شيء وتبين أن النكاح كان صحيحا بينهما بالموت فلها المهر والميراث ويجمع لها بين الميراث والوصية لضرورة الدور.
وإذا أشهد الرجل على وصيته في كتاب شهودا ولم يقرأها عليهم ولم يكتبها بين أيديهم فإن ذلك لا يجوز لأنهم لم يعرفوا ما في الكتاب والشهادة على ما قال في الكتاب لا على الكتاب وبدون علم الشاهد المشهود به لا يصح الإشهاد وإن قرأها عليهم فقالوا نشهد عليك بذلك فحرك رأسه بنعم ولم ينطق فهذا باطل لأنهم لم يسمعوا إقراره وتحريك الرأس من الناطق لا يكون إقرارا إذ هو محتمل في نفسه يجوز أن يكون لاستبعاد الشيء ويجوز أن يكون للرضي به وإن كتبها بين أيديهم وقال اشهدوا أنها وصية أو قرأها عليهم فقال اشهدوا أن هذا وصية فهو جائز لأنهم سمعوا إقراره وعلموا بما كتبه بين أيديهم أو قرأه عليهم.(28/21)
وكذلك لو قالوا: نشهد أن هذه وصيتك قال نعم فهو جائز لأنه أخرج كلامه مخرج الجواب فيصير ما تقدم كالمعاد فيه قال تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}[الأعراف: من الآية44] وإذا شهد الشاهدان أنه أعتق أحد عبديه في وصيته وقالا سماه لنا فنسيناه لم تجز شهادتهم لأنهم لم أثبتوا الشهادة وقد أقروا على أنفسهم بالغفلة وبأنهم ضيعوا الشهادة وإن شهدوا أنه أعتق أحد عبيده الأربعة بغير عينه فهذا والأول سواء في القياس ولكني استحسن هذا وأجيزه فيعتق من كل واحد منهم ربعه إن كانت قيمتهم سواء ويسعى كل واحد في ثلاثة أرباع قيمته وقد تقدم بيان هذا في العتاق فإن كانت قيمتهم مختلفة أخذ أقلهم قيمة وأكثرهم قيمة فجمعنا قيمتهما ثم أخذنا نصف ذلك وقسمناه بينهم على قدر قيمتهم حتى إذا كان قيمة أحدهم ألفا وقيمة الثاني ألفين وقيمة الثالث ثلاثة آلاف وقيمة الرابع أربعة آلاف فإنه يجمع بين أقلهم قيمة وأكثرهم قيمة وذلك خمسة آلاف ثم يؤخذ نصف ذلك وهو ألفان وخمسمائة فيضرب أحدهم فيه بألف والآخر بألفين والآخر بثلاثة آلاف والآخر بأربعة آلاف فإذا جعلت كل ألف سهما بلغت السهام عشرة فللأول عشر ألفين وخمسمائة وذلك مائتان وخمسون ربع قيمته وللثاني عشران وذلك خمسمائة ربع قيمته وللثالث ثلاثة أعشار وذلك سبعمائة وخمسون ربع قيمته فإن قيمته ثلاثة آلاف وللآخر أربعة أعشار وهو ألف درهم ربع(28/22)
ص -13- ... قيمته فإن كان له عبدان فشهد الشاهدان انه قال هذا حر وهذا فإنه يعتق من كل واحد منهما ثلثه إن لم يكن له مال غيرهما فإن كان له مال غيرهما يخرج من ثلثه عتق من كل واحد منهما نصفه وليس للورثة أن يعتقوا أحدهما ويمسكوا الآخر لان العتق بالموت يشيع فيهما وإنما ينفذ من ثلث ماله.
ولو شهدوا أنه قال: لفلان عبدي هذا أو عبدي هذا للآخر وصية وهما يخرجان من الثلث كان للورثة أن يعطوه أيهما شاؤوا لان المستحق واحد وهو الموصى له والاقل متيقن به فللورثة أن لا يعطوه الزيادة على ذلك بخلاف العتق وهناك العتق شاع فيهما بالموت لان المستحق مختلف وليس أحدهما بالتقديم بأولى من الآخر.
ولو شهدوا أنه أعتق عبده هذا وهو يخرج من الثلث ثم شهد آخران من الورثة أنه أعتق عبدا آخر سواه فشهادتهما جائزة ويتحاصان في الثلث لانه لا تهمة في شهادة الورثة فان فيه ابطال ملكهم عن العبد وتأخير حقهم إلى خروج السعاية فكانوا في هذه الشهادة كالأجانب وقد ثبت حق كل واحد منهما بمثل ما ثبت به حق الآخر فيتحاصان في الثلث.
ولو شهد الأجنبيان أنه أوصى لفلان بالثلث واجازه القاضي ثم شهد الوارثان انه أعتق عبده هذا في مرضه وهو الثلث جاز اعتاقه من الثلث وبطلت الوصية بالثلث لان ثبوتهما بالبينة كثبوتهما بالمعاينة والعتق المنفذ في الثلث مقدم على سائر الوصايا وذكر في الزيادات ان شهادة الوارثين لا تقبل ها هنا لان الموصى له بالثلث استحق الثلث عليهما بقضاء القاضي فهما بهذه الشهادة يبطلان استحقاقه وما قضى به القاضي عليهما بهذه الشهادة فلا يقبل ولكن يعتق العبد لاقرارهما بفساد رقه وعليه السعاية في قيمته لان العتق في المرض نفذ من الثلث وقد بينا ان الثلث كله مستحق للموصى له بقضاء القاضي.(28/23)
ولو شهد الاجنبيان أنه أوصى ان بعتق عبده سالم وهو الثلث وشهدا وارثان انه رجع عن ذلك وأوصى بعتق عبده زياد وهو الثلث جازت شهادتهما لانه لا منفعة في هذه الشهادة للورثة اذ لا فرق في حقهم بين أن يكون الاول هو المستحق للثلث عليهم أو الآخر ولانهما يشهدان للآخر على الاول فهو بمنزلة مالو أوصي لرجل بالثلث فشهد وارثان انه قد رجع عنه وجعله عنه وجعله لهذا الآخر أو انه اشركه معه فيه ولو كانت قيمة العبد الثاني أقل من الثلث أجزت شهادتهما للآخر فأعتقه ولا أصدقهما على الفصل الذي في الاول لانهما بشهادتهما على الرجوع عن وصيته يجران إلى أنفسهما منفعة ولا تقبل شهادتهما على ذلك ولكن يثبت عتق الآخر بشهادتهما لان أحد الحكمين ينفصل عن الآخر ولا تهمة في هذا فينفذ العتق للعبدين من الثلث بالحصص.
ولو شهد شاهدان انه أعتق عبديه هذين في مرضه وقيمة أحدهما ألف وقيمة الاخر خمسمائة ولا مال له غيرهما فالثلث بينهما اثلاثا لان الوصية لكل واحد منهما بالبراءه عن السعاية فيضرب بجميع ما أوصى له به في الثلث وان كان أكثر من الثلث ولو كان أوصي(28/24)
ص -14- ... بأحدهما لرجل وبالآخر لآخر فكذلك عند أبي يوسف ومحمد الجواب وعند أبي حنيفة الثلث بينهما نصفان لان الموصي له بالعين تبطل وصيته فيما زاد على الثلث عند عدم الاجازة ضربا واستحقاقا.
وإذا قال الرجل في مرضه لعبد له ومدبر أحد كما حر ثم مات ولا مال له غيرهما وقيمتهما سواء فللمدبر ثلثا الثلث وللآخر ثلثه لان قوله أحدكما حر يتخيرا العتق وهو معتبر في حق المدبر لحاجته إلى ذلك فيجب له حرية رقبته ويشيع فيهما بالموت قبل البيان فكان ألقن موصى له بنصف رقبته والمدبر موصى له بجميع رقبته لا يزاد على ذلك شيء بما أصابه من العتق في المرض لان العتق في المرض وصية كالتدبير فيضرب المدبر في الثلث بجميع رقبته والقن بنصف رقبته فكان الثلث بينهما اثلاثا ولو كان قال في الصحة سعى المدبر في سدس قيمته والآخر في نصف قيمته لان العتق في الصحة من جمع المال فإذا فات البيان بالموت عتق من كل واحد منهما نصفه من جميع المال وانما مال الميت رقبة واحدة والمدبر موصي له بالنصف الباقي من رقبته فتنفذ وصيته من الثلث فيسلم له بالعتق البات نصف الرقبة وبالتدبير ثلث الرقبة ويسعى في سدس القيمة وانما يسلم للقن نصف رقبته بالعتق البات فيسعى في قيمته.(28/25)
ولو شهد شاهدان انه دبر عبده فلانا ان قتل وانه قد قتل وشهد شاهدان انه مات موتا فأنى أجيز العتق من الثلث لان في احدى الشهادتين اثبات العتق والقتل وفي الاخرى نفيهما والمثبت من التينتين أولى وكذلك لو شهدا انه أعتقه ان حدث به حدث في مرضه أو سفره هذا وانه قد مات في ذلك السفر أو المرض وشهد آخران انه رجع من ذلك السفر ومات في أهله فأنى أجيز شهادة شهود العتق لان في شهادتهما اثبات العتق واثبات تاريخ سابق في موته وان شهد هذان الآخران انه قال ان رجعت من سفري هذا فمت في أهلي ففلان حر وانه قد رجع فمات في أهله وجاءوا جميعا إلى القاضي فانى لا أجيز شهادة اللذين شهدا على الرجوع وأجيز شهادة اللذين شهدا انه مات في أهله ذلك لانهما أثبتا موته بتاريخ سابق ولا بد من القضاء بموته في ذلك الوقت لانعدام المعارض ثم الموت لا يتكرر عادة فيبطل شهادة الاخرين جميعا ضرورة.
ألا ترى ان الرجل لو قال ان مت في جمادى الآخر ففلان حر وان مت في رجب ففلان حر لعبد آخر فشهد شاهدان انه مات في جمادى الآخر وشهد آخران انه مات في رجب أخذنا بقول الشاهدين على الموت الاول لهذا المعنى.
ولو شهدا انه قال: ان مت من مرضى هذا ففلان حر وقالا لا ندرى مات أم لا فقال الغلام مات منه وقالالوارث صح منه ثم مات فالقول قول الوارث مع يمينه لان الغلام يدعى شرط العتق والوارث منكر لذلك فالظاهر وان كان يشهد للغلام ولكن ثبوت الشرط ظاهر الا يكفي لثبوت الحرية لان الظاهر يدفع به الاستحقاق ولا يثبت به الاستحقاق وان أقاما جميعا البينة فالبينة بينة العبد لانه هو المثبت للشرط والعتق.(28/26)
ص -15- ... وان قال: ان مت من مرضي هذا ففلان حر وان برأت منه ففلان آخر حر فقال العبد قد مات منه وقال الوارث قد برأ فالقول قول الوارث لما بينا فإن أقام الآخر البينة على ما يدعى اعتقته أيضا لانه يثبت العتق ببينة لنفسه وان قامت البينتان لهما أخذت ببينة الذين شهدوا على الوقت الاول انه مات من مرضه وأبطلت الاخرى لانه لا يموت مرتين واذا أمته في الاول بطل الآخر ضرورة لان الميت لا يموت والله أعلم.
باب عتق النسمة عن الميت
قال رحمه الله: واذا اشترى الوصى نسمة ليعتقها عن الميت كتب هذا ما اشترى فلان بن فلان وصي فلان بن فلان بن فلان اشترى مملوكا يقال له فلان الفلاني وهو رجل قد اجتمع بكذا درهمانسمة كان فلان بن فلان أوصي أن يشتريه بها له فيعتقها عنه ثم يكتب التقابض وما بعده على الرسم والحاصل ان الصك حكاية ما جرى والمقصود التوثيق فينبغي أن يكتب على أحوط الوجوه فالنسمة هي الرقبة التي تشرى للعتق وينبغي للوصي اذا لم يعين الموصي رقبة أن يشتري رجلا مجتمعا لان معنى التقرب انما يتم باعتاق مثله فإن الصغير والمجنون عاجزان عن الكسب والانثى كذلك فيصير بعد العتق عيالا على غيره.
واذا كان رجلا قد اجتمع يتخلص من ذلك الرق ويتفرغ للعبادة والتكسب للانفاق على نفسه فإنما يتم معنى الرقبة في أعتاق مثله وقصد الموصى التقرب وصفة الاطلاق تقتضي الكمال.
واذا أوصى أن يعتق عنه نسمة بمائة درهم فلم يبلغ ثلث ماله مائة درهم لم يعتق عنه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يعتق عنه بالثلث رقبة ما بلغت لان وجوب تنفيذ هذه الوصية لحق الموصى وهو قصده التقرب ولهذا صحت وصيته من غير تعيين النسمة فيجب تنفيذ وصيته من محلها ويحصل مقصوده بقدر الامكان كما لو أوصي أن يحج عنه بمائة درهم فلم يبلغ الثلث الا خمسين درهما يحج عنه من حيث يبلغ بالثلث.(28/27)
وكذلك لو أوصى أن يصدق له من ماله بمائة وأبو حنيفة يقول تنفيذ الوصية لغير من أوجبها له الموصى لا يجوز وهو إنما أوجب الوصية بنسمة قيمتها مائة درهم والتي قيمتها خمسون غير التي قيمتها مائة فلو قلنا بأنه يشتري بثلث ما يوجد كان هذا تنفيذ الوصية لغير من أوجب له الموصى ثم للموصى في تقدير الثمن غرض صحيح وهو التحرز عن اعتاق الحديث والتقرب بإعتاق أفضل الرقاب على ماروى أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أفضل الرقاب فقال أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها والانسان قد يرغب في ولاء عبد كثير القيمة ويتحرز عن ولاء قليل القيمة ففي تنفيذ هذه الوصية من الثلث ابطال مقصود الموصى والزام ولألم يرض بالتزامه وبهذين الحرفين يتضح الفرق بين هذا وبين الصدقة والحج وانما نظير هذا من مسألة الحج لو أن صحيحا أمر رجلا أن يحج عنه رجلا بمائة درهم فأحج عنه رجلا بخمسين درهما وهناك يصير مخالفا ضامنا فكذلك ها هنا وعلى هذا الخلاف لو أوصى أن(28/28)
ص -16- ... يعتق نسمة بجميع ماله فلم يجز الورثة ذلك فالوصية تبطل في قول أبي حنيفة وفي قولهما يشترى له بالثلث نسمة فتعتق عنه واستكثر من الشواهد لهما في الاصل.
قال: أرأيت لو أوصي أن يعتق عنه نسمة بمائتي درهم مائة من ماله ومائة من مال فلان لرجل أجنبي أكنت أبطل وصيته من أجل انه سمى مال الاجنبي أرأيت لو أوصى أن يشترى له نسمة بمائة درهم أو بخمر أو خنزير أو بانسان حر أو يزاد مع هذه المائة شيء لا يصلح من ماله أكنت أبطل الوصية لا أبطلها وهي جائزة من ثلثه.
أرأيت لو أوصى أن يعتق عنه نسمة بمائة درهم بعينها فإذا فيها درهم ستوقة أو أكثر لا ينفق أما كنت آمره أن يشترى بما بقي أرأيت لو تجوز بهذا البائع أما كنت آمره أن يشترى بها أرأيت لو استحق منها درهم أو هلك منها درهم أكنا نبطل الوصية قيل هذا كله على الخلاف ومن عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لا يضاح الكلام وقيل بل أبو حنيفة رحمه الله يفرق بين هذه الفصول فيقول إذا أوصى أن يشترى نسمة بجميع ماله فلو أجازت الورثة لكان المشترى كله والعتق يكون من جهته وولاؤه له واذا لم يجيزوا لو قلنا يشترى بثلثه كنا نلزمه ولو لم يرض بالتزامه.
وأما في مسألة ماله ومال غيره لو أجاز الغير هناك لا يكون المشترى كله له ولا ينفذ العتق في جميعه من جهته فليس في تنفيذ وصيته في ماله الزام شيء لم يرض بالتزامه واذا أوصى أن يعتق عنه نسمة وأوصي لآخر بالثلث فثلث ماله يقسم على الثلث وعلى أدنى ما يكون من قيمة النسمة لان بمطلق التسمية لا يثبت الا الادنى فإنه هو المتيقن به وإنما يجب قسمة الثلث على مقدار ما يثبت من كل وصيته فما أصاب قيمة النسمة يعتق به النسمة وما أصاب الثلث فهو للموصى له بالثلث.(28/29)
ولو أوصى أن يشترى عبد فلان فيعتق عنه فإنه يشترى من ثلثه لان تنفيذ الوصية محلها الثلث واذا امتنع صاحبه من البيع بالثلث أوقف الثلث حتى يبيعه صاحبه لانه مشغول بالوصية فما دام فيه رجاء التنفيذ يجب أن يوقف الثلث عليه فإن مات العبد فقد انقطع رجاء تنفيذ هذه الوصية لفوات محلها فيرجع إلى الوارث ذلك ان كان سمى ما يشترى به من الثلث.
ولو أوصى إلى رجل أن يشترى له نسمة بهذه المائة بعينها فيعتقها من الثلث عنه فإن اشترى بها نسمة فأعتقها عنه ثم استحق رجل تلك المائة أو بعضها أو لحقه دين والمائة أكثر من ثلثه فالوصي ضامن لتلك المائة لانه هو المشترى فالثمن مضمون في ذمته حتى يسلمها للمشترى ثم بما ظهر تبين ان الوصي مخالف لانه اشترى باكثر من ثلث مال الميت ولا يمكن تنفيذ وصيته في أكثر من ثلثه فصار مخالفا مشتريا لنفسه فالثمن دين عليه وانما قضى بمال الميت دينا عليه فيضمن مثلها ويكون العتق عن نفسه لانه أعتق ملك نفسه فان خرج للميت مال لم يعلم به من دين أو عين يكون ثمن النسمة الثلث من ذلك بريء الوصى من الضمان(28/30)
ص -17- ... لان بما ظهر من المال تبين ان الوصى غير مخالف وانه نفذ الوصية في محلها فلا يلحقه عهد ولا ضمان.
وإذا أوصى أن يباع عبده ويشترى بثمنه نسمة فتعتق عنه فباع الوصي العبد واشترى بثمنه نسمة فأعتقها وهو الثلث ثم رد العبد من عيب بعد ذلك ضمن الوصي الثمن لانه هو المشترى فتتعلق حقوق العقد به وذلك رد الثمن عند رد المبيع عليه بالعيب ثم يقال بع العبد فان بلغ ذلك الثمن فالعتق جائز عن الميت كما كان لانه تبين انه غير مخالف في شراء النسمة والعتق عن الميت بل هو منفذ الوصية في محلها وان نقص عنه أو زاد عليه فالعتق عن الوصى لانه مخالف في الوجهين أما اذا نقص ثمن العبد عما اشترى به النسمة فظاهر وكذلك اذا زاد عليه لانه انما امره أن يعتق عنه نسمة يشتريها بثمن العبد وهذه نسمة اشتراها ببعض الثمن فكان غير ما تتناوله الوصية فلهذا كان مشتريا لنفسه في الوجهين والعتق عنه ويشترى بالثمن نسمة أخرى فيعتقها عن الميت ولو لم يرد العبد بالعيب ولكن استحق رجع المشتري على الوصى بالثمن لانه هو الذي قبض منه بحكم البيع الثمن فكان العتق عن الوصى نفسه لانه تبين بطلان الوصية.
وان اشترى الوصى النسمة لا يمكن تنفيذها عن الميت فكان مشتريا لنفسه على ما هو الاصل انه متى تعذر تنفيذ الشراء على ما اشترى له ينفذ على العاقد وكان العتق عن الوصى نفسه ولا يرجع على الورثة في نصيبهم بشيء من المال لان الميت لم يوص في ذلك المال بشيء فكيف يرجع الوصى به؟
أرأيت لو اشترى شيأ لليتيم من ميراثه أو باع له فلحقه غرم وليس لليتيم مال أكان يرجع في حصة غيره من الورثة؟(28/31)
ولو أوصى بأن يشترى من ثلثى ماله نسمة تعتق عنه وماله ثلاثمائة فاشترى الوصى بمائة نسمة فأعتقها وأعطى الورثة مائتين فاستحقت النسمة وردت في الرق وقبض الوصى المائة ليشترى بها نسمة أخرى فتلفت منه مائة يرجع على الورثة بثلث ما أخذوا ليشترى به في قول أبي حنيفة وما تقدم من المقاسمة باطل ما لم يحصل مقصود الموصى وفي قولهما مقاسمة الوصى الورثة جائزة ولا يرجع فيما أصاب الورثة بشيء وقد بطلت الوصية وهذا نظير ما تقدم بيانه في الحج.
ولو أوصى أن يشترى له نسمة بعينها فتعتق عنه فاشتراها الوصى ثم ماتت فقد بطلت الوصية لانها وقعت لشخص بعينه فلا يمكن تنفيذها لشخص آخر وقد فات محل الوصية فتبطل الوصية وكذلك لو جنت جناية قبل أن تعتق فدفعت بها بطلت الوصية لفوات محلها وهو ملك الموصى ولو فداها الورثة كانوا متطوعين في الفداء وتعتق عن الميت لانها طهرت عن الجناية وبقيت على ملكه محلا لوصيته والورثة ما كانوا مجبورين على الفداء فكانوا متبرعين فيه لان النسمة باقية على ملك الموصى حكما فكأنهم فدوها من الجناية في حياة الموصي.(28/32)
ص -18- ... ولو أوصي بعتق أمة له تخرج من ثلثه كان حالها كذلك فإن ولدت النسمة أو الامة قبل أن تعتق فالولد رقيق للورثة لان الوصية بالعتق لا تسرى إلى الولد فإن فيه الزام الميت الولاء وانما التزم الميت ولاء الامة لا ولاء ولدها والامة قبل أن تعتق مبقاة على حكم ملك الميت فيفصل منها الولد لذلك الا أن الورثة لا يملكونها لكونها مشغولة بوصية الميت وذلك غير موجود في الولد فكان الولد للورثة وان كانت النسمة والام ذات رحم محرم من الورثة لم تعتق بذلك حتى تعتق عن الميت لان اشتغالها بالوصية يمنع انتقالها إلى الوارث بل هي مبقاة على حكم ملك الميت ولهذا كان ولاؤها له اذا عتقت عنه.
ولو أعتقها بعض الورثة عن نفسه كان العتق عن الميت لان العتق في هذه العين مستحق عن الميت وما يكون مستحقا على المرء في عين بجهة فعلى أى وجه أتى به يقع عن الوجه المستحق وتصريحه بخلافه باطل وكذلك لو قال أنت حرة ان دخلت الدار أو قال بعد موتى لم تكن مدبرة ولكنها تعتق عن الميت ان دخلت الدار ومات القائل لان الوارث في حكم المالك لها بدليل أنه يملك بدلها وزوائدها وكسبها ألا أنه لا يجعل مالكا فيما فيه ابطال وصية الموصى فأما فيما فيه تنفيذ وصيته فيجعل الوارث كالمالك فيصح منه تعليق عتقها بموته أو بشرط آخر وعند وجود الشرط يجعل كالمنجز لعتقها فيعتق عن الميت وبه فارق الوصى فإنه إذا علق عتقها بالشرط لم يصح التعليق لان الوصي غير مالك لها وإنما يتصرف بحكم التفويض والمفوض إليه ينجز العتق والمأمور بالتنجيز اذا علق العتق بالشرط كان ذلك منه باطلا.(28/33)
ولو قال لها الوارث: أنت حرة علي ألف درهم ان قبلت فقبلت فهي حرة بغير شيء لأنها لا تعتق لوجود الشرط وإنما تعتق بجهة الوصية عن الميت وكان ذلك بغير جعل ولو أوصى أن تعتق نسمة عن شيء واجب عليه من ظهار أو غيره فإنها تعتق من ثلثه لانه لا يجب الاعتاق عنه بعد موته بغير وصية فإذا أوصى كان معتبرا من ثلثه كالتطوعات وكذلك الزكاة وحجة الاسلام وقد بينا هذا فيما سبق.
ولو أوصى بعتق نسمة فاشتريت له أو بعتق أمة له تخرج من الثلث فجنى عليها جناية فالارش للورثة لان الأرش بمنزلة الولد في كونه فارغا عن الوصية فالوارث بمنزلة المالك لها فيما هو فارغ عن وصية الميت فكان كسبها للورثة لهذا المعنى.
ولو زوجوها لم يجز لان ولاية التزويج تثبت لملك الرقبة وهم لا يملكون رقبتها لكونها مشغولة بالوصية فان دخل بها الزوج سقط الحد للشبهة ووجب المهر وكان ذلك بمنزلة ولد ولدته فيكون للورثة.
ولو أوصي إلى رجل ببيع عبده هذا ويتصدق بثمنه على المساكين فباعه الوصى وقبض الثمن فهلك عنده ثم استحق العبد كان أبو حنيفة مرة يقول يضمن الوصى ولا يرجع على أحد بشيء لان الوصية قد بطلت باستحقاق العبد والوصى هو الذي قبض الثمن فيضمن مثله.(28/34)
ص -19- ... للمشتري ولا يرجع على الورثة بشيء لان الميت ما أوصى بشيء مما وصل إلى الورثة ثم رجع وقال يرجع الوصى بما يضمن من الثمن في مال الميت وهو قولهما لان الوصي في هذا البيع كان عاملا للميت فما يلحقه من العهدة بسبب عمله يرجع به على الميت ويكون ذلك بمنزلة الدين له يستوفيه من جميع ماله.
وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله انه يرجع بقدر ثلث ماله مما يغرم لانه انما لحقه هذا الغرم باعتبار وصية الميت ومحل الوصية الثلث فلهذا يقتصر رجوعه على ثلث مال الميت والله أعلم.
باب الوصي والوصية
قال رحمه الله: ويكتب في كتاب وصيته تركته لان الكتاب للتوثق والرجوع إليه عند المنازعة وأكثر ما تقع فيه المنازعة التركة التي تصير في يد الموصى فينبغي أن يذكرها في الكتاب ان كتب فيه انه يعمل كذا ان مات من مرضه هذا أو في سفره هذا فرجع من ذلك السفر وبرأ من ذلك المرض بطلت تلك الوصية لانه علقها بشرط وقد فات والوصية إلى الغير اثبات الخلافة أو الاطلاق وهو يحتمل التعليق بالشرط كالوكالة أو هي اثبات الولاية بمنزلة تقليد القضاء فيحتمل التعليق بالشرط.
وإذا أوصى إلى رجلين فمات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا آخر والكلام ها هنا في فصول ثلاثة.(28/35)
أحدها: أن أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله الا في أشياء معدوده استحسانا وفي قول أبي يوسف ينفرد كل واحد منهما بالتصرف وجه قوله ان الوصايا تثبت الولاية للوصى في التصرف وكل واحد من الوليين يتصرف بانفراده كانه ليس معه غيره كالاخوين في النكاح والابوين وهذا لان الولاية لا تحتمل التجزى ء وبتكامل السبب في حق كل واحد منهما بانفراده يثبت الحكم بخلاف الوكيلين فإن الوكالة إنابة وإنما جعلهما نائبين عنه في التصرف فلا تثبت الإنابة لكل واحد منهما بانفراده وبيان أن ثبوت حق التصرف الفرق للموصي لا يكون إلا بعد زوال ولاية الموصى والإنابة تستدعى قيام ولاية المنوب عنه وتبطل سقوط ولايته كالوكالة.
و أما الولاية بطريق الخلافة فتستدعى سقوط ولاية من هو أصل ليصير الخلف قائما مقامه كالجد مع الأب وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا سبب هذه الولاية التفويض فلا بد من مراعاة سبب التفويض وإنما فوض إليهما حق التصرف وكل واحد منهما في هذا السبب بمنزلة شطر العلة وشطر العلة لا يثبت شيئا من الحكم بخلاف الأخوين فالسبب هناك الأخوة وهي متكاملة في حق كل واحد منهما.
يوضحه: أن ولاية التصرف للوصي بعد موت الموصي باعتبار اختيار الموصي ورضاه به وهو إنما رضي برأي المثني فرأى الواحد لا يكون كرأى المثنى ومقصوده توفير المنفعة(28/36)
ص -20- ... عليه وعلى ورثته وذلك عند اجتماع رأييهما أظهر فأشبهت من هذا الوجه الوكالة فأما الأشياء المعدودة فهو تجهيز الميت وشراء ما لا بد منه للصغير وقضاء الدين ورد الوديعة وتنفيذ الوصية في العين وقبول الهبة والخصومة والقياس في هذة الأشياء أن لا ينفرد أحدهما به لما قلنا ولكنا استحسنا لأن التجهيز لا يمكن تأخيره وربما يكون أحدهما غائبا ففي اشتراط اجتماعهما إلحاق الضرر لا توفير المنفعة عليه وكذلك شراء ما لا بد للصبي منه فإن ذلك لحاجته فلا يحتمل التأخير والظاهر أن الموصي رضي برأى كل واحد منهما على الانفراد فيه عند تحقق الحاجة وأما قضاء الدين فلأن صاحب الدين يستبد باستيفائه من غير حاجة فيه إلى فعل أو رأى من الوصي فرد الوديعة كذلك والوصية بالعين إذا كانت تخرج من الثلث كذلك فالوصي له أن يأخذه فكذلك لأحدهما أن يعينه على ذلك بالتسليم والخصومة مما لا يتحقق اجتماعهما عليه.
ألا ترى: أنهما وإن حضرا لم يتكلم إلا أحدهما لأنهما لو تكلما جميعا لم يفهم القاضي كلام كل واحد منهما ولهذا ملك أحد الوكيلين الخصومة والتفرد بها أما قبول الهبة والصدقة فإنه لا يستدعى الولاية.(28/37)
ألا ترى: أن الصبي يقبل بنفسه ومن يعوله وإن كان أجنبيا له أن يقبل الهبة له فأحد الوصيين بذلك أولى فأما اقتضاء الدين واسترداد الوديعة فهو على الخلاف لأن هذا يقبل التأخير ويتحقق اجتماعهما عليه وفيه توفير المنفعة لأن حفظ الواحد لا يكون كحفظ المثنى وإنما رضى الموصى بحفظهما ولم يذكر في الكتاب فأما إذا أوصي إلى كل واحد منهما على الانفراد وقد قال كثير من مشايخنا أن ها هنا ينفرد كل واحد منهما بالتصرف بمنزلة الوكيلين إذا وكل واحد منهما على الانفراد ولكن الأصح أن الخلاف في الفصلين لأن وجوب الوصية يكون عند الموت وعند الموت إنما نثبت الوصية لهما معا بخلاف الوكالة وهذا لأن بالإيصاء إلى الثاني يقصد إشراكه مع الأول وهو يملك الرجوع عن الوصية إلى الأول فيملك إشراك الثاني معه وقد يوصي الإنسان إلى غيره على ظن أنه يتمكن من إتمام مقصوده وحده ثم يتبين له عجزه عن ذاك فيضم له غيره فكان بمنزلة الوصية إليهما معا بخلاف الوكيلين فإن رأى الموكل قائم هناك وإذا عجز الوكيل يمكن الموكل من المباشرة بنفسه فلم يكن قصده ضم الثاني إلى الأول وإنما كان قصده إنابة كل واحد منهما منابه بانفراده فإن مات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا آخر أما عند أبي حنيفة ومحمد فلان الآخر عاجز عن التفرد بالتصرف والقاضي قائم مقام الميت في النظر فيعجزه بنفسه عن النظر فيضم إليه وصيا آخر وعند أبي يوسف الحي منهما وان كان يقدر على التصرف فإنما كان الموصى قصد أن يخلف متصرفين في حقوقه وتحصيل مقصوده بنصب وصى آخر ها هنا لان رأى الميت منهما باق حكما برأى من نصبه.
وروى الحسن عن أبي يوسف ان الحي لا ينفرد بالتصرف ها هنا لان الموصى ما رضى(28/38)
ص -21- ... برأيه وحده ولا يكون للوصى أن يرضى بما يعلم ان الموصى لم يرض به بخلاف ما إذا أوصي إلى غيره.
واذا مات وأوصى إلى آخر فهو وصية في تركته وتركة الميت الاول عندنا وقال الشافعي لا يكون وصيا في تركة الميت الاول بحال وقال بن أبي ليلى لا يكون وصيا في تركة الميت الاول الا أن يوصي إليه بوصية الاول وجه قول الشافعي ان الوصي بمنزلة الوكيل لانه مفوض إليه بوصية الاول التصرف بعد الموت بعقد فهو كالمفوض إليه التصرف في حالة الحياة بالعقد وهو الوكيل ثم الوكالة تنقطع بموت الموكل ولا يملك الوكيل أن يوكل به غيره فكذلك الوصي اذا مات ولا معنى للفرق لان حق التصرف للوصي انما يثبت بعد سقوط ولاية وصي لان حق التصرف انما يثبت له في الوقت الذي فوض إليه التصرف في الوجهين جميعا وانما تصح الوصية باعتبار قيام ولاية الموصى حكما كما تصح الوصية له بالمال بعد موته باعتبار قيام ملكه فيه حكما وفقه ما بينا أن الموصى رضى برأية والناس في الرأي يتفاوتون فلا يكون ذلك منه رضا برأي غيره ولهذا لا يوكل الوصي أيضا عندي وحجتنا في ذلك الوصى يتصرف بولاية منتقلة إليه فيملك الايصاء إلى الغير كالجد وتقريره ان الولاية التي كانت ثابتة للموصى تنتقل في المال إلى الوصى في النفس والى الجد في النفس ثم الجد فيما ينتقل إليه قائم مقام الاب فكذلك الوصي فيما انتقل إليه لانه خلف عن الاول وباعتبار هذه الخلافة يجعل الاول قائما حكما والخلف يعمل عمل الاصل عند عدم الاصل ومن شرط ثبوت الخلافة اعدام الاصل.(28/39)
يوضحه: ان مقصود الموصى ان يتدارك برأيه ما فرط فيه بنفسه ولما استعان به في ذلك مع علمه انه قد تخترمه المنية قبل تتميم مقصوده فقد صار راضيا بإيصائه إلى الغير في ذلك لما فيه من تحصيل مقصوده وبه فارق الوكيل لان الموكل هناك قائم يمكنه أن يحصل مقصوده بنفسه فلا يضمن لوكيله الرضا بوكيل غيره أو الايصاء إلى غيره عند موته فأما بن أبي ليلى فيقول هو بمطلق الايصاء يجعل الوصى خلفا عنه فيما هو من حوائجه وحقوقه التي فرط فيها وهذا مقصور على تركته فاما التصرف في تركة الموصى فليس من حوائجه في شيء فلا يملك الوصى ذلك الا بالتنصيص عليه ولكنا نقول بعد قبوله الوصية وموت الموصى صار التصرف في تركة الاول وأولاده الصغار من حوائجه فيما هو مستحق عليه بمنزلة التصرف في تركة نفسه.
يوضحه: أنه جعل الثاني خلفا عنه قائما مقامه في كل مكان يملكه بنفسه مما يقبل النقل إلى الغير بعد موته وقد كان ملك التصرف في التركتين جميعا في حال حياته فيخلفه الوصى الثاني فيهما جميعا بمطلق الايصاء.
وعن أبي يوسف رحمه الله كذلك إلى أن يخص تركته عند الايصاء إلى الثاني فحينئذ(28/40)
ص -22- ... يعمل تخصيصه لانه نظر لنفسه في في هذا التخصيص وهو انه لا يتحمل وبال التصرف في ملك الغير حيا وميتا.
واذا قبل الوصي الوصية في حياة الموصي ثم أراد الخروج منها بعد موته فليس له ذلك والوصية له لازمة لان المقصود توفير المنفعة على الموصي ودفع الضرر عنه وبعد ما قبل الوصي لو جاز له الرد بعد الموت تضرر به الموصى لانه ترك النظر والايصاء إلى الغير اعتمادا على قبوله ويصير هذا الوصي بالقبول كالغار له والغرور حرام والضرر مدفوع بخلاف الوصية بالمال فان هناك وان قبله في حياته فله أن يرده بعد موته لان المقصود هناك توفير المنفعة على الموصي له وليس في رده معنى الضرر والغرور حق الموصى لانه اذا رده لا يضيع المال بل يصير إلى وارثه وذلك خير للموصي شرعا فأما اذا لم يقبل الوصي حتى مات الموصي فهو بالخيار ان شاء قبله وان شاء رده لانه متبرع بالتصرف في حق الغير فلا يلزمه ذلك بدون قبوله كالوكالة وليس في رده هنا غرور من جهته وانما الموصى هو الذي اغتر حين لم يعرف عن حاله أنه يقبل الوصية أم لا فإن رده في وجه الموصى فقال الموصي ما كان ظني بك هذا فمن يقبل وصيتي اذا أمكث حتى مات الموصى ثم قبل لم تكن وصية لان برده في وجهه بطلت الوصاية فلا يمكن قبولها بعد ذلك.(28/41)
ولو أنه ردها في غير وجه الموصي ثم قبلها بأن سمع كلام الناس في ذلك فإنه لا يكون وصيا عندنا وقال زفر رحمه الله يكون وصيا لان رده في غير وجه الموصي انما يتم اذا بلغ الموصى فإذا لم يبلغه حتى قبل صار كأن الرد لم يوجد ولكنا نقول قبل القبول هو ينفرد بالرد في وجه الموصى وفي حال غيبته فيبطل العقد برده ولا يعتبر القبول بعد ذلك ولو قبلها بعد موته ولم يكن ردها في حياته فقد لزمته الوصية بمنزلة ما لو قبلها في وجهه بل أولى لأن أوان ولايته بعد الموت فالقبول في هذه الحالة يكون ألزم منه قبل أوانه ثم دليل القبول كصريح القبول حتى لو باع بعض تركة الميت أو اشترى للورثة بعض ما يحتاجون إليه أو اقتضى مالا أو قضاه لزمته الوصية لوجود دليل القبول والرضى به كالمشروط له الخيار إذا وجد منه ما يدل على الإجازة أو الفسخ كان ذلك بمنزلة التصريح بذلك والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لبريرة: "إن وطئك الزوج فلا خيار لك".
وإذا اشتكى الورثة أو بعضهم الوصي إلى القاضي فإنه لا ينبغي له أن يعزله حتى تبدو له منه خيانة لأن الموصي اختاره ورضي به والشاكي قد يكون ظالما في شكواه فما لم يتبين خيانته لا يحتاج القاضي إلى النيابة عن الميت في النظر له والاستبدال به فإن علم منه خيانة عزله عن الوصية لأن الموصي اعتمد في اختياره أمانته والظاهر أنه لو علم بخيانته عزله والقاضي بعد موته قائم مقامه نظرا منه للميت وإن كان الوصي هو الذي شكا إلى القاضي عجزه عن التصرف فعلى القاضي أن ينظر في ذلك فإن علم عدالته وعجزه عن الاستبداد ضم إليه غيره لأنه لو لم يفعل ذلك فإما أن يتصرف الوصي بالعجز عن التصرف في حقوق(28/42)
ص -23- ... نفسه أو يترك التصرف في حوائج الموصي فيتمكن الخلل في مقصوده ويرتفع هذا الخلل بضم غيره إليه وإن ظهر عنده عجزه عن القيام بالوصية استبدل به لأنه مأمور بالنظر من الجانبين.
ولو ظهر عند الموصي في حياته عجزه استبدل به فكذلك من قام مقامه في النظر وهو القاضي وإذا أوصى إلى عبد غيره فالوصية باطلة وإن أجاز مولاه لأن الوصية ولاية والرق ينفي ولايته على نفسه فيمنع ولايته على غيره ولأنه عاجز عن تحصيل مقصود الموصي لأن منافعه لمولاه فالظاهر أنه يمنعه من التبرع به على غيره وكذلك بعد إجازته على غيره لأن هذا بمنزلة الإعارة منه للعبد فلا يتعلق به اللزوم فإذا رجع عنه كان عاجزا عن التصرف.
وكذلك إن أوصى إلى عبده والورثة كبار أو فيهم كبير فللكبير أن يمنعه من التصرف وله أن يبيع نصيبه منه فيمنعه المشتري من التصرف فإن كانت الورثة صغارا كلهم فالوصية إليه جائزة في قول أبي حنيفة ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد وهو القياس لأن الرق الذي ينفي الولاية قائم في عبده كما هو في عبد غيره ولأنه صار مملوكا للورثة وإثبات الولاية للمملوك على المالك من أبعد ما يكون كما لو كان فيهم كبير وأبو حنيفة يقول أوصى إلى مخاطب مطلع فيجوز كما لو أوصى إلى مكاتبه أو مكاتب غيره ومعنى قولنا مطلع أي مستند بالتصرف في حوائج الموصي على وجه لا يملك أحد منعه عن ذلك ولا اكتساب سبب يمنعه.
ولو كان الرق يمنع الإيصاء إليه لم تجز الوصية إلى المكاتب لقيام الرق فيه إلا أنهما يقولان المكاتب لا يصير مملوكا للوارث فلا يؤدي إلى إثبات الولاية للمملوك على المالك(28/43)
وأبو حنيفة يقول الصغار من الورثة وإن كانوا يملكون رقبة العبد فلا يملكون التصرف عليه فيحوز إثبات ولاية التصرف له في حقوقهم بخلاف ما إذا كان فيهم كبير وإنما استحسن أبو حنيفة هذا لما رأى فيه من توفر المنفعة على الميت وعلى ورثته فإن من ربى عبده وأحسن إليه فالظاهر أن شفقته على الصغار من أولاده بعد موته أكثر من شفقة الأجنبي ولهذا اختاره للوصية فلتوفير المنفعة عليه جوز الوصاية إليه استحسانا كالوصية إلى مكاتبه فإن عجز المكاتب عن المكاتبة عاد قنا فيكون الجواب فيه كالجواب في العبد.
وإذا أوصى المسلم إلى ذمي أو إلى حربي مستأمن أو غير مستأمن فهو باطل لأن في الوصية إثبات الولاية للوصى على سبيل الخلافة عنه ولا ولاية للذمى ولا للحربي على المسلم ثم الوصى يخلف الموصي في التصرف كما أن الوارث يخلف المورث في الملك بالتصرف ثم الكافر لا يرث المسلم فكذلك لا يكون وصيا للمسلم وكذلك إن أوصى الذمي إلى الحربي لم تجز لهذا المعنى.
و لو أوصى الذمي إلى الذمي فهو جائز لأنه يثبت لبعضهم على البعض ولاية بالقرابة فكذلك بالتفويض وأحدهما يرث صاحبه فيجوز أن يكون وصيا له أيضا.(28/44)
ص -24- ... ولو أوصى إلى رجل مسلم أو إلى امرأة أو أعمى أو محدود في قذف فهو جائز لأن هؤلاء من أهل الولاية والخلافة إرثا وتصرفا ولو أوصى إلى فاسق منهم متخوف على ماله فالوصية باطلة لأن الإيصاء إلى الغير إنما يجوز شرعا ليتم به نظر الموصى لنفسه ولأولاده وبالإيصاء إلى الفاسق لا يتم معنى النظر ولم يرد بقوله الوصية إليه باطلة أنه لا يصير وصيا بل يصير وصيا لكون الفاسق من أهل الولاية والخلافة إرثا وتصرفا حتى لو تصرف نفذ تصرفه ولكن القاضي يخرجه من الوصية ويجعل مكانه وصيا آخر لأنه لم يحصل نظر الموصي لنفسه وكان عليه أن يتدارك ذلك وإذا لم يفعل حتى عجز عن النظر لنفسه بالموت أناب القاضي منابه في نصب وصي آخر له بمنزلة ما لو أوصى مكانه وصيا آخر لهذا.
وإذا أوصى إلى رجل بماله فهو وصي في ماله وولده وسائر أسبابه عندنا وقال الشافعي لا يكون وصيا إلا فيما جعله وصيا فيه لأنه تفويض التصرف إلى الغير فيختص بما خصه به المفوض كالتوكيل ولئن سلمنا أن الوصي تثبت له الولاية فيثبت هذه الولاية إيجاب الموصي وقيل يقبل التخصيص كولاية القضاء لما كان سبب التقليد كان قابلا للتخصيص وهذا لأن الإيصاء إلى الغير مشروع بحاجة الموصي وهو أعلم بحاجته فربما يكون التفريط منه في نوع دون نوع فنجعله وصيا فيما فرط فيه وربما يؤتمن هذا الوصي على نوع دون نوع أو يعرف هدايته في نوع من التصرف دون نوع وربما يعرف شفقة الأم على الأولاد ولا يأتمنها على ما لهم فيجعل الغير وصيا على المال دون الأولاد للحاجة إلى ذلك فكان هذا تخصيصا مقيدا فيجب اعتباره ووجه قولنا أنه ينصرف بولاية منتقلة إليه فيكون كالجد وكما أن تصرف الجد لا يختص بنوع دون نوع لأنه قائم مقام الأب عند عدمه فكذلك تصرف الوصي فيما يقبل النقل إليه.(28/45)
ودليل صحة هذه القاعدة أن الإيصاء يتم بقوله أوصيت إليك مطلقا ولو كان طريقه طريق الإنابة لم يصح إلا بالتنصيص على ما هو المقصود كالتوكيل فإنه لو قال وكلتك بمالي لا يملك التصرف
وكذلك لو قال جعلتك حاكما لايملك تنفيذ القضاء ما لم يتبين له ذلك وها هنا لما صح الإيصاء إليه مطلقا عرفنا أنه إثبات للولاية بطريق الخلافة
والدليل عليه أن ولايته بعد زوال ولاية الموصي بخلاف التوكيل والتقليد في الحكومة ولئن سلمنا أن الإيصاء تفويض ولكن لما كان هذا التفويض إنما يعمل بعد زوال ولاية الموصي وعجزه عن النظر كان جوازه لحاجته والحاجة تتجدد في كل وقت فهو عند الإيصاء لا يعرف حقيقة ما يحتاجون فيه إلى النائب بعده فلو لم يثبت للوصي حق التصرف في جميع الأنواع تضرر به الموصي والظاهر أنه بهذا التخصيص لم يقصد تنفيذ ولايته بما سمى وإنما سمى نوعا لأن ذلك كان أهم عنده والإنسان في مثل هذا يذكر الأهم وهذا بخلاف الوكالة لأن رأى الموكل قائم عند تصرف الوكيل فإذا تجددت الحاجة أمكنه أن ينظر فيه بنفسه أو بتفويضه إليه.(28/46)
ص -25- ... أو إلى غيره وكذلك في التقليد فإن رأى المقلد قائم فيمكنه أن يفصل بنفسه أو يفوض ذلك إليه أو إلى غيره عند الحاجة.
ولو أوصى بماله المعين إلى رجل وبتقاضي الدين إلى آخر فهما وصيان في العين والدين جميعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله كل واحد منهما وصي فيما سمى له خاصة وهو رواية عن أبي يوسف أيضا وجه قوله أن الموصي أحسن النظر لنفسه ها هنا حين اختار التصرف في العين بمن يكون أمينا قادرا على التصرف فيه واختار لتقاضي الدين من يكون مهتديا إلى ذلك وفي الفصل الأول إنما قلنا تتعدى الوصاية من نوع إلى نوع لأن به تمام النظر للميت وتمام النظر ها هنا في أن يختص كل واحد منهما بما سمى له فإنما يختار ليتقاضي إلى الناس وللتصرف في العين أمين الناس.
يوضحه: أن هناك التصرف في بعض الأنواع للوصي منصوص عليه وفي البعض مسكوت عنه فيلحق بالمنصوص عليه وها هنا التصرف لكل واحد منهما فيما سمى له منصوص عليه فلا يلحق غير المنصوص بالمنصوص وفي إثبات الشركة بينهما قصر ولاية كل واحد منهما عما سمى له لأنه لا ينفرد بالتصرف عند أبي حنيفة إذا ثبتت الشركة بينهما وأبو حنيفة يقول الإيصاء إلى الغير مملوك للموصي شرعا والتقييد بنوع دون نوع غير مملوك له بدليل أنه لو قيد تصرفه بنوع ونهاه عن التصرف في سائر الأنواع ولكن لم يوص إلى غيره في ذلك كان له أن يتصرف في الكل عرفنا أن التقييد غير مملوك له فإنما يعتبر من كلامه ما يكون مملوكا له وذلك الإيصاء إليهما.(28/47)
يوضحه: أن في حق كل واحد منهما أحد النوعين منصوص عليه والآخر مسكوت عنه وقد بينا في الواحد إذا نص له على نوع تتعدى ولايته إلى سائر الأنواع فكذلك ها هنا والدليل عليه أنه لو ذكر لكل واحد منهما نوعا خاصا ولم يتعرض لسائر الأنواع يثبت لهما ولاية التصرف في سائر الأنواع على سبيل الشركة فكذلك في النوع الذي سمي لكل واحد منهما لأن الولاية بطريق الوصية لا تقبل التمييز في الأنواع على أن يكون نائبه في بعضها على وجه الاختصاص وفي بعضها على وجه الشركة.
ولو قال: فلان وصيي حتى يقدم فلان ثم الوصية إلى فلان فهو كما قال لأنه قد يحتاج إلى هذا لكون من يختاره لوصيته غائبا فيحتاج إلى نصب غيره لكيلا يضيع ماله إلى أني يقدم الغائب ثم إذا قدم فهو المختار للوصية وهذا لأن الوصية الخاصة إلى الوصي الأول قد انتهت بقدوم الثاني فهو كالمنتهي ببلوغ الولد وقد جعل الوصية للثاني معلقة بقدومه والوصية تقبل التعليق ثم بهذا الفصل يستدل محمد رحمه الله فيقول التقييد تارة يكون من حيث الزمان وتارة يكون من حيث النوع ثم لما صح النوع له أن يقيد بصرف كل واحد منهما بزمان فكذلك يصح تقييده بالنوع بخلاف ما إذا سمى نوعا ولم يذكر سائر الأنواع لأنه لو سمى جزءا من الزمان كالوصية إليه شهرا أو سنة كان وصيا بعد ذلك الوقت إلى أن(28/48)
ص -26- ... يدرك الولد ثم إذا نص لكل واحد منهما على جزء من الزمان كان الأمر على ما نص عليه
ولكن قد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال إذا قدم فلان فهما وصيان فعلى هذا يندفع السؤال لأن الوصية في حق الثاني تنضاف إلى ما بعد قدومه وفي حق الآخر مطلقة فيتصرف الأول إلى أن يقدم فلان لأن المضاف إلى وقت أو المعلق بالشرط لا يكون موجودا قبله فإذا وجد الشرط صارالثاني وصيا والأول وصي فيشتركان في التصرف ولو سلمناه فالفرق ما ذكرنا من حيث إن ها هنا لا تثبت الشركة بينهما بحال فإن العقد في حق أحدهما مطلق وفي الآخر معلق فأما ها هنا فتثبت الشركة بينهما فيما سوى النوعين اللذين نص عليهما والعقد في كل واحد منهما مطلق ولأن ثبوت الخلافة لهما واحد وهو عند موت الموصي فلهذا تثبت الوصية لكل واحد منهما في النوعين جميعا.
وكذلك لو أوصى ببعض ولده وميراثهم إلى رجل وببقية ولده وميراثهم إلى آخر فهما وصيان في جميع المال والولد استحسانا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأن ولاية الموصي كانت ثابتة في الكل وهي مما تقبل النقل إلى الغير بالإيصاء فيقومان مقامه بعد موته في جميع ذلك.(28/49)
و إذا اختلف الوصيان في المال عند من يكون فإنه يكون عند كل واحد منهما نصفه وإن اختلفا استودعاه رجلا وإن أحبا كان عندهما لأن حفظ المال إليهما ويتعذر اجتماعهما على حفظه آناء الليل والنهار لأنهما ينقطعان بذلك عن أشغالهما فيكون لكل واحد منهما أن يحفظ نصفه كالمودعين فيما يحتمل القسمة وإن أحبا استودعاه رجلا لأن الوصي لو كان واحدا كان له أن يودع المال من غيره لأنه قائم مقام الموصي فيما له من ولاية التصرف في المال والإيداع يدخل في هذا وقد يعجز الوصي عن الحفظ بنفسه لكثرة أشغاله فإذا جاز للوصي الواحد أن يودع المال جاز للوصيين ذلك وإن أحبا أن يكون عندهما جاز لأنهما لما جاز لهما أن يودعاه غيرهما فلأن يجوز لهما أن يودعاه أحدهما وهو أقرب إلى موافقة رأي الموصي كان أولى.
قال: "وللوصي أن يتجر بنفسه بمال اليتيم ويدفعه مضاربة ويشارك به لهم وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله ليس له أن يفعل شيئا من ذلك سوى التجارة في ماله بنفسه"لأن الموصى جعله قائما مقامه في التصرف في المال ليكون المال محفوظا عنده وإنما يحصل هذا المقصود إذا كان هو الذي يتصرف بنفسه فلا يملك دفعه إلى غيره للتصرف كالوكيل ولكنا نقول هو قائم مقام الموصي في ولايته في مال الولد وقد كان للموصي أن يفعل هذا كله في ماله فكذلك الوصي وهذا لأن المأمور به ما يكون أصلح لليتيم وأحسن قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام 152] وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: من الآية220] وقد يكون الأحسن في تفويض التصرف في ماله إلى غيره ببعض هذه الأسباب لعجزه عن مباشرة ذلك بنفسه إما لكثرة أشغاله أو لقلة هدايته.(28/50)
ص -27- ... و قال محمد: إذا لم يشهد الوصي على نفسه أنه يعمل بالمال مضاربة كان ما اشترى للورثة وهذا قولهم جميعا لأن الوصي في التصرف في مالهم قائم مقامهم ولو تصرفوا بأنفسهم كان الربح لهم لأنه نماء ملكهم فكذلك الوصي إذا تصرف ثم هو كتب أعمل فيه مضاربة يريد أن يتملك عليهم بعض الربح الحاصل وهو ليس بأمين في ذلك إلا أن يشهد قبل العمل أنه يعمل بالمال مضاربة لأنه بهذا الإشهاد لا يملك شيئا من مالهم عليهم بل يبقي بعض ما يحصل بعمله على ملكه ويجعل بعض ذلك لهم باعتبار مالهم فلا تتمكن التهمة في تصرفه فلهذا يجوز.
ولو أوصي بالثلث والورثة صغار فقاسم الوصي أهل الوصية فأعطاهم الثلث وأمسك الثلثين للورثة فهو جائز لأنه قائم مقام الورثة فإن الموصي أثبت له هذه الخلافة لحاجة ورثته إلى ذلك وليكون قائما مقامه في النظر لهم إلى أن يتمكنوا من النظر لأنفسهم فجازت مقاسمته مع أصحاب الوصية كما تجوز مقاسمة الورثة معهم أن لو كانوا بالغين فإن هلكت حصة الورثة في يد الوصي لم يرجعوا على أهل الوصية بشيء لأن الهلاك بعد تمام القسمة يكون على من وقع الهلاك في قسمه فإن كان الوارث كبيرا وصاحب الوصية صغيرا فأعطى الوصي الوارث الثلثين وأمسك الثلث لصاحب الوصية لم تصح هذه القسمة على الموصى له حتى إذا هلك الثلث في يد الوصي كان لصاحب الوصية أن يرجع على الوارث بثلث ما بقي في يده وهذا لأن الوصي لا ولاية له على الموصى له فلا يقوم مقامه في المقاسمة مع الورثة ثم الموصى له يتملك المال ابتداء بالعقد إلا أن يبقي له ما كان من الملك للميت في المقاسمة ولا ولاية للوصي في تميز الملك الثابت له بقبوله بعقد جديد فأما الوارث فيخلف الموروث في ملكه ويبقى له ما كان ثابتا للموروث ولهذا يرد بالعيب فيقوم الوصي مقامه في تمييز ذلك الملك باعتبار أنه خلف عن الميت وإذا ثبت أن القسمة لم تصح ها هنا فما هلك من المال يهلك على الشركة وما يبقي يبقى على الشركة.(28/51)
ولو كانت الورثة صغارا فقال الوصي أنفقت عليهم كذا درهما فإن كان ذلك نفقة مثلهم في تلك المدة أو زيادة شيء قليل فهو مصدق فيه وعليه اليمين إن اتهموه لأنه أمين فالقول قوله في المحتمل مع اليمين ثم هو مسلط على الإنفاق عليهم بالمعروف وبالقليل من الزيادة لا يخرج إنفاقه من أن يكون بالمعروف لأن التحرز عن ذلك القدر غير ممكن والمسلط على الشيء إذا أخبر فيما سلط عليه بما لا يكذبه الظاهر فيه يجب قبول قوله كالمودع يدعى رد الوديعة وإن اتهموه فعليه اليمين لدفع التهمة.
وإذا كان في الورثة صغير وكبير فقاسم الوصي الكبير وأعطاه حصته وأمسك حصة الصغير فهو جائز لأنه قائم مقام الصغير في التصرف في ماله والمقاسمة مع الكبير من التصرف في ماله لأنه تميز به ملكه عن ملك غيره فيكون فعله كفعل الصغير بعد بلوغه وإذا كانت الورثة صغارا فقال الوصي أنفقت على هذا كذا وعلى هذا كذا وكانت نفقة أحدهما(28/52)
ص -28- ... أكثر فهو مصدق فيما يعرف من ذلك لأن النفقة للحاجة وربما تكون حاجة أحدهما أكثر لأن كان أكبر سنا أو لأن الناس يتفاوتون في الأكل فباختياره مع التفاوت لا يزول احتمال الصدق في كلامه ولا يخرج الظاهر من أن يكون شاهدا له فيقبل قوله في ذلك.
وإذا قال الوصي للوارثين وهما كبيران قد أعطيتكما ألف درهم وهو الميراث فقال أحدهما صدقت وقال الآخر كذبت فإن الذي صدقه ضامن لمائتين وخمسين درهما يؤديها إلى شريكه بعد ما يحلف شريكه ما قبض الخمسمائة ولا ضمان على الوصي في ذلك لأنه أمين أخبر بأداء الأمانة وقد أقر الذي صدقه بقبض خمسمائة وأنكر الآخر أن يكون قبض وقول الوصي غير مقبول عليه في وصول الخمسمائة إليه وإن كان مقبولا في براءته عن الضمان وإنما بقي من التركة الخمسمائة التي أقر المصدق بقبضها فيلزمه أن يدفع نصفها إلى شريكه بعد أن يحلف شريكه ما قبض شيئا لأن المصدق يدعى الاختصاص بهذه الخمسمائة والوصي يشهد له بذلك ولا يثبت الاختصاص بقولهما وما زاد على هذه الخمسمائة من التركة كالبادي.
وإذا قسم الوصي التركة بين الورثة وهم صغار وعزل لكل إنسان نصيبه أو كانوا صغارا وكبارا وذلك منه بغير محضر من الكبار لم يجز وما هلك يهلك منهم جميعا لأن القسمة لتمييز الأنصباء والواحد لا ينفرد بذلك ثم الوصي لا ينفرد بالتصرف في مال اليتامي مع نفسه إلا لمنفعة ظاهرة تكون لهم وبالقسمة لا يحصل ذلك لكل واحد منهم فكانت قسمته باطلة وما هلك يهلك على الشركة وما بقى يبقى على الشركة.
وإذا قضي الوصي دينا على الميت بشهود فلا ضمان عليه وإن كان قضى ذلك بغير أمر القاضي لأنه قائم مقام الموصي في حوائجه وتفريغ الذمة بقضاء الدين من حوائجه وقد كان لصاحب الدين أن يأخذ دينه إذا ظفر بجنس حقه من التركة فللوصي أن يعطيه ذلك أيضا وإن لم يأمره به القاضي(28/53)
وإن لحق الميت دين بعد ذلك فهو ضامن لحصة الغريم الآخر لأنه خص بعض الغرماء بقضاء دينه وليس للوصي ذلك فإن حق الغرماء تعلق بالتركة وفي التخصيص إبطال حق بعضهم ولا ولاية للوصي على واحد منهم في إبطال حقه فيكون دفعه جناية في حق الغريم الآخر وإن كان أعطى الأول بأمر القاضي فلا ضمان عليه لأن دفعه بأمر القاضي كدفع القاضي ولكن الغريم يتبع القابض والقاضي بهذا لا يصير ضامنا شيئا فالمأمور من جهته بالدفع كذلك ولكن الغريم يتبع القابض بحصته لأنه ظهر أن المقبوض كان مشغولا بحقيهما ثم ليس في الدفع بأمر القاضي إبطال حق الآخر عن المدفوع لأنه إذا كان ذلك معلوما للقاضي فالقابض لا يتمكن من الجحود.
وأما إذا دفع بغير أمر القاضي فذلك منه إبطال لحق الآخر أو بغير نص كذلك لأن القابض ربما يجحد القبض فيكون القول قوله في ذلك فلا يتمكن الغريم الآخر من إتباعه.
قال: "ولو كان أوصى إلى رجلين فدفعا إلى رجل دينا وشهدا أنه له على الميت ثم لحق(28/54)
ص -29- ... الميت دين بعد ذلك بشهادة غيرهما فهما ضامنان لجميع ما دفعا"لأن شهادتهما بالدين على الميت غير مقبولة في هذه الحالة لتمكن التهمة فيها فقد صارا ضامنين لما دفعا إلى الطالب من غير حجة وإنما قصدا بشهادتهما إسقاط الضمان عن أنفسهما فإذا بطلت شهادتهما بذلك بقي دفعهما المال المدعي جناية في حق من أثبت دينه بشهادة غيرهما فكانا ضامنين لجميع ما دفعا ولو لم يكونا دفعا حتى شهدا عند القاضي فقضي القاضي بالدين الأول فهما في ذلك كغيرهما من الأجانب وإنما دفعا بعد ثبوت الدين بشهادتهما وأمرهما بالدفع ثم قامت بينة على دين بعد ذلك لم يكن عليهما ضمان لأنه لا تهمة في شهادتهما بالدين الأول فهما في ذلك كغيرهما من الأجانب وإنما دفعا بعد ثبوت الدين بأمر القاضي فلا ضمان عليهما ولكن الغريم يتبع المقضي حتى يأخذ منه حصته لأنه تبين أن المقبوض كان مشغولا بحقهما.
قال: "ولو شهد وارثان بدين على الميت جازت شهادتهما وهي كشهادة غيرهما"لأنه لا منفعة لهما في هذه الشهادة بل عليهما فيها ضرر والوصي مصدق في كفن الميت فيما يكفن به مثله لأنه مسلط على ذلك أمين منصوب له.
ولو اشترى الوصي الكفن من ماله ونقد له الثمن كان له أن يرجع في مال الميت لأنه كفن ومعنى هذا أن الكفن لا يمكن تأخيره وقد لا يكون مال الميت حاضرا يتيسر الأداء منه في الحال فيحتاج الوصي إلى أن يؤدي ذلك من مال نفسه ليرجع به من مال الميت وكذلك الوارث قد يحتاج إلى ذلك فلا يكون متبرعا فيما أداه من مال نفسه.
وكذلك لو قضى الوصي أو الوارث من ماله دينا كان على الميت بشهود فله أن يرجع به في مال الميت لأنه هو المأخوذ وهو الذي يخاصم في دين الميت معناه قد ثبت عليه الدين في حال لا يتيسر عليه أداؤه من مال الميت فيحتاج إلى الأداء من مال نفسه ليرجع به في مال الميت.(28/55)
ولا فرق في حق الميت بين أدائه من ماله وبين أدائه من مال نفسه ليرجع به في ماله وكذلك الوصي يشتري لليتيم الطعام والكسوة من ماله بشهادة الشهود أو يؤدي من مال نفسه خراجهم بشهود فله أن يرجع بذلك في مال الميت لأن شراء ما يحتاج إليه الصبي لا يقبل التأخير وفي الخراج بعد ما طولب بالأداء لا يتمكن من التأخير فيؤدي من مال نفسه لعدم تيسر الأداء من مال الميت في ذلك الوقت فلا يصدق على أداء الخراج ولا شراء شيء من ماله إلا بشهادة شهود على ذلك لأنه يدعي لنفسه دينا في مال الميت وهو لم يجعل أمينا في ذلك وإن كان للميت عنده مال فقال أديت منه وأنفقت منه عليه فهو مصدق على ذلك بالمعروف لأنه أمين فيما في يده من المال فهو ينفي الضمان عن نفسه بما يخبر به مما هو محتمل فيقبل قوله في ذلك وهو نظير المودع إذا أمره المودع بقضاء دينه من الوديعة فزعم أنه قد قضى صاحب الدين دينه كان القول قوله مع اليمين في براءة نفسه عن الضمان بخلاف ما إذا أمره بقضاء دينه من مال نفسه فقال قد قضيت لا يقبل قوله في إثبات حق الرجوع له عليه إلا ببينة.(28/56)
ص -30- ... وإذا قبض الوصي دينا كان للميت على إنسان كتب له البراءة بما قبض ولم يكتب البراءة من كل قليل أو كثير لأنه لا يدري لعل للميت مالا سوى ذلك فيكون بما يكتب عليه البراءة من كل قليل وكثير مبطلا لحق الميت ولأنه أمين فيما يقبضه فإنما يكتب له البراءة عما هو أمين فيه وهو ما وصلت إليه يده.
ولو أقر الوصي أن هذا جميع ماله عليه لم يصدق على الورثة لأنه مجازف في هذا الإقرار لا طريق له إلى معرفة كون المقبوض جميع ماله للميت عليه بخلاف ما إذا أقر الموصي بذلك لأنه عالم بما أقر به ولأنه مسقط لما وراء ذلك من جهته وهو يملك الإسقاط فأما الوصي فلا يملك إسقاط شيء من حق الورثة وإنما يملك الاستيفاء ثم هذا من الوصي إقرار على الغير ومن الموصي إقرار على نفسه وكذلك إبراء الوصي الغريم لا يجوز إلا أن يقول برئت الآن من المال الذي كان عليك فحينئذ هو إقرار بالقبض لأنه ببراءته بفعل من المطلوب متصل بالطالب وذلك إيفاء المال.
وفي قوله: برئت كذلك الجواب عند أبي يوسف وعند محمد هو لفظ إبراء كما بيناه في الكفالة
وإذا أخذ الصبي مال الورثة إلى رجل لم يجز عليهم وإن كانوا صغارا.
وكذلك إن حط شيئا عن الغريم لأن هذا إسقاط في الدين الواجب لا بعقد هو ثابت في الاستيفاء فيكون في الإسقاط كأجنبي آخر والتأخير إسقاط المطالبة إلى مدة فهو بمنزلة الإبراء فإذا احتال به على إنسان أملأ من الغريم فهو جائز لأنه ليس فيه إسقاط حقهم بل فيه تصرف على وجه النظر لهم لأن الدين في ذمة المليء يكون أقوى منه في ذمة المفلس فهو بمنزلة ما لو اشترى لهم عينا وإن كان الذي احتال عليه مفلسا والغريم مليأ فالحوالة باطلة والمال على الأول على حاله لأنه لا منفعة لهم في هذا التصرف بل فيه ضرر عليهم وهو مأمور بقربان مالهم على الأصلح والأحسن.(28/57)
وكذلك إذا صالح على حق اليتيم فإن كان الصلح خيرا له يوم صالح فهو جائز وإن كان شرا له لم يجز معناه إذا كان الدين لليتيم ولا حجة له على ذلك فصالح الوصي على مال يستوفيه لليتيم خير له من يمين المدعى عليه وإن كان لليتيم بينة فالصلح شر له لما فيه من إسقاط بعض حقه مع تمكنه من إثباته فإن مبنى الصلح على الحط والتجوز بدون الحق وكذلك إن ابتاع لنفسه من متاعهم شيئا فإن كان ذلك خيرا لهم فإن ابتاع بأكثر من ثمن مثله جاز وإن كان ثمن المثل أو دون ذلك لم يجز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قوله الأول وهو قول محمد وزفر رحمه الله لا يجوز بحال.
وكذلك الخلاف فيما إذا باع مال نفسه من مال اليتيم فإن كان بمثل قيمته أو أكثر لم يجز
وإن كان أقل من قيمته فهو على الخلاف فأما الأب إذا فعل هذا مع نفسه يجوز في قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله بمثل قيمته أو بغبن يسير وفي قول زفر لا يجوز لأن الواحد لا يتولى طرفي العقد من الجانبين في البيع والشراء كالوكيل وهذا لأنه يؤدي إلى تضاد الأحكام(28/58)
ص -31- ... لأنه يكون مستزيدا مستنقصا مسلما متسلما طالبا مطالبا ثم في حق نفسه هو متهم وليس للأب والوصي أن يتصرف في مال اليتيم على وجه يؤدي إلى التهمة.
ألا ترى: أنه لا يعامل الأجنبي بغبن فاحش لأجل التهمة فكذلك لا يعامل نفسه في ذلك وجه الاستحسان أن الأب غير متهم في حق ولده لأن له من الشفقة عليه ما يؤثره على نفسه ويكون تصرفه مع نفسه وتصرفه مع أجنبي آخر سواء في انتفاء التهمة ثم في هذا التصرف يكون نائبا محضا في جانب الصغير ولهذا لو بلغ الصغير كانت العهدة عليه لأن الأب يمكنه التزام سبب إلزام العهدة إياه بأن يأذن له في التجارة فإذا صار نائبا في جانبه لا يؤدي إلى تضاد الأحكام بخلاف الوكيل وأما وجه قول محمد في الوصيين إنما تركنا القياس في الأب لمعنى وفور شفقته وذلك لا يوجد في حق الوصي فيؤخذ فيه بالقياس.
ألا ترى: أنه لا يملك التصرف مع نفسه بمثل قيمته لهذا ولو كان هو مالكا للتصرف مع نفسه لملك مثل قيمته كما يملك ذلك مع الأجنبي وأبو حنيفة وأبو يوسف استحسنا إذا كان للصبي في تصرفه منفعة ظاهرة لأنه قد ظهر منه ما يدل على وفور الشفقة وإيثاره الصبي على نفسه فيما هو المقصود بالتصرف لأنه لا مقصود فيه سوى المالية فباعتبار هذا المعنى يلتحق بمن هو وافر الشفقة وهذا لأنه يمكن أن يجعل نائبا في جانب الصبي لأنه يملك أن يلزمه العهدة بالإذن له في التجارة كالأب بخلاف ما إذا كان تصرفه بمثل القيمة لأنه لم يظهر منه ما ينفي التهمة عنه ولا ما يكون جائزا لنقصان تفويت المقصود بالعين على الصبي.(28/59)
وإذا نفذ الوصي أمور الميت وسلم الباقي إلى الوارث وأراد أن يكتب على الوارث كتاب براءة للوصي من كل قليل أو كثير فللوارث أن يمتنع من ذلك لأنه لا يدري أن ما سلم إليه جميع حقه فلعله أخفى بعض ذلك أو أتلفه فإن الخيانة من الأوصياء ظاهرة وأداء الأمانة منهم نادر فلا يجب على الوارث أن يكتب له البراءة إلا بما أخذ منه بعينه فهذا هو العدل بينهما لأن علي طريقة القياس من استوفى حق نفسه لا يلزمه أن يكتب البراءة لغيره ولكن لأجل النظر للوصي يأمره أن يكتب له البراءة وإنما يكتب علي وجه لا يتصور هو به وذلك في أن يكتب البراءة مما أخذ منه بعينه.
قال: "وإذا أعطى الوصي أحد الورثة وهو كبير نصيبه مما وصل إليه من الميراث وهو ألف درهم ثم جحد وقال لم يكن عندي غير هذا فهو ضامن لألف أخرى حصة الصغير"لأنه قد تقدم منه الإقرار بوصول الألفين إليه لأن من ضرورة دفعه ألفا إلى أحدهما إقراره أن المدفوع نصيبه إقرار بأن عنده مثل ذلك للصغير فالثابت بضرورة النص كالثابت بالنص فكان في الجحود بعد ذلك مناقضا فلا يقبل قوله ويضمن للصغير ألفا أخرى وإذا كان في الورثة صغير كان للوصي أن يبيع العقار وسائر الميراث.(28/60)
ص -32- ... وكذلك لو كان على الميت دين أو أوصى بوصية وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ليس له أن يبيع حصة الكبار من العقار وإنما يبيع حصة الصغار خاصة وكذلك لا يبيع إلا بقدر الدين من العقار وهو قول بن أبي ليلى والقياس هذا لأن ولايته على نصيب الصغير دون نصيب الكبير اعتبارا لحالة الاختلاط بحالة الانفراد وكذلك ولايته باعتبار الدين فيتقدر بقدر الدين وفيما زاد على ذلك يجعل كأنه لا دين على الميت ولا صغير في ولايته فلا يكون له أن يبيع العقار وأبو حنيفة استحسن فقال لما ثبتت له الولاية في بيع البعض ثبتت في الكل لأن الولاية بسبب الوصاية لا تحتمل التجزئ وهذا لأن في بيع البعض إضرارا بالصغير والكبير جميعا لأنه يثبت به نصيب الكبير والأشقاص لا يشتري بما يشتري به الجل فكان في بيع الكل توفر المنفعة عليهم وللوصى ولاية في نصيب الكبير فيما يرجع إلى توفير المنفعة عليه.
ألا ترى: أنه يملك الحفظ وبيع المنقولات حال غيبته لما فيه من المنفعة له؟(28/61)
قال:"وإذا أوصى بالثلث في أشياء يشتري به ويتصدق بها والورثة كلهم كبار فللوصي أن يبيع العقار كله في قول أبي حنيفة لما فيه من توفير المنفعة على الورثة وعندهما ليس له أن يبيع من العقار غير الثلث"لأن ثبوت الولاية له بسبب الوصية فيقتصر على معدن الوصية وهو الثلث فإن كانت الورثة كبارا كلهم وليس عليه دين ولم يوص بشيء فإن كانت الكبار غيبا أو بعضهم كان للوصي أن يبيع الحيوان والعروض لأنه يملك حفظ التركة إلى أن يحضروا فيقتسموا وبيع الحيوان والعروض من الحفظ لأنه يخشي عليها التلف وحفظ الثمن أيسر وليس له ولاية بيع العقار لأنها مختصة بنفسها فبيعها ليس من الحفظ وإن كانوا حضورا لم يكن له أن يبيع شيئا من ذلك ولكن يسلم الكل إليهم لينظروا فيه لأنفسهم بالبيع أو القسمة بينهم لأنهم يتمكنون من النظر لأنفسهم إذا كانوا حضورا فلا حاجة إلى نظر الوصي لهم وإن كانوا غيبا فأجر الوصي عبدا أو دابة فهو جائز لأن هذا من باب النظر والحفظ فإن المنفعة أقرب إلى الهلاك من العين لأنها لا تبقي وقتين ففي استبدال ذلك بما يبقى لهم وهي الأجرة توفر المنفعة عليهم وما اشترى الوصى للرقيق من الكسوة فلا ضمان على الوصي فيه لأنه أمين حافظ لهم بحق فهلاكه في يده كهلاكه في أيديهم.
وإذا قسم الوصي المال بينهم وهم كبار فأعطى نصيب الحضور منهم وأمسك نصيب الغائب فهو جائز لأنه في العروض يملك البيع في نصيب الغائب فيملك القسمة أيضا وهذا لأن في قسمته معنى الحفظ في حق الغائب لأنه يتميز بالقسمة ملكه من ملك غيره.
وإذا قسم الوصيان مال الورثة وأخذ كل واحد منهما طائفة فقال أحدهما الذي عندي لفلان خاصة والذي عندك لفلان فقسمتهما باطلة لأن الوصيين في التصرف كوصي واحد والوصي الواحد لو قاسم نفسه لم تجز القسمة فكذلك الوصيان وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ظاهر لأن كل واحد منهما لا يستبد بالتصرف عندهما وأما عند أبي يوسف فيستبد كل واحد(28/62)
ص -33- ... منهما بالتصرف مع الأجنبي فإذا اجتمعا في تصرف كانا في ذلك كشخص واحد وقد اجتمعا في هذه القسمة فهما فيه كوصي واحد.
ولو غاب أحد الوصيين فقاسم الآخر الورثة وأعطى الكبار حصتهم وأمسك حصة الصغير فإن ذلك لا يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد حتى إذا ضاعت حصة الصغير كان له أن يرجع فيما قبض الكبار بحصته وفي قول أبي يوسف تجوز هذه القسمة وهذا بناء على ما سبق من بيع أحد الوصيين وشرائه لليتيم بدون رضا صاحبه وإذا كان للميت وديعة عند رجل فأمره الوصي أن يقرضها أو يهبها أو يسلفها فأمره باطل لأنه لا يملك مباشرة هذه التصرفات بنفسه فلا يعتبر أمره به ويكون الضمان على الذي فعل ذلك لأنه هو المستهلك للمال بدفعه إلى الغير على وجه التمليك منه وإن أمره أن يدفعها إلى رجل فدفعها إليه جاز وبرئ منها لأن الوصي بهذا يصير موكلا للقابض بالقبض وهو يملك القبض بنفسه فيملك أن يوكل غيره.
يوضحه: أنه لو قبض بنفسه ودفعه إلى هذا الرجل وديعة كان ذلك صحيحا منه فكذلك إذا أمر من في يده بأن يدفعه إليه ولو أمره الوصي بأن يعمل بالمال مضاربة أو يشتري به متاعا كان ذلك جائزا لأن هذا تصرف يملك الوصي مباشرته بنفسه فيعتبر أمره فيه ويكون بمنزلة شراء الصبي بعد بلوغه والله أعلم.
باب إقرار الوارث
قال رحمه الله:"وإذا أقر الوارث أن أباه أوصى بالثلث لفلان وشهدت الشهود أن أباه أوصى بالثلث لآخر فإنه يؤخذ بشهادة الشهود ولا شيء للذي أقر له الوارث"لأن الشهادة حجة في حق الكل والإقرار حجة في حق المقر خاصة فوصية المشهود له ثابتة في حق المقر له ووصية المقر له ليست بثابتة في حق المشهود له ومحل الوصية الثلث وإذا صار الثلث مستحقا للمشهود له بقضاء القاضي لم يبق للمقر له شيء لأن الوارث إنما أقر له بالثلث وصية والاستحقاق بالوصية لا يكون إلا في محلها.(28/63)
قال:"ولو أقر الوارث أن أباه أوصى بالثلث لفلان ثم قال بعد ذلك بل أوصى به لفلان أو قال أوصى به لفلان لا بل لفلان فهو للأول في الوجهين جميعا ولا شيء للآخر"لأن الأول استحق الثلث بإقرار الوارث له على وجه لا يملك الوارث إبطال استحقاقه بالرجوع عنه وقوله لا بل لاستدراك الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه ولم يصح رجوعه وما بقي الثلث مستحقا للأول لا يملك المقر إيجابه لغيره فإقراره للثاني صادف محلا هو مستحق لغيره فكان الأول أحق به.
قال:"ولو أقر إقرارا متصلا فقال أوصى بالثلث لفلان وأوصي به لفلان جعلت الثلث بينهما نصفين"لأنه أشرك الثاني مع الأول في الثلث والعطف للاشتراك وهو صحيح منه لأن الكلام المتصل بعضه ببعض إذا كان في آخره ما يغير موجب أوله يتوقف أوله على آخره(28/64)
ص -34- ... ويصير هذا بمنزلة ما لو أقر لهما معا بخلاف ما إذا لم يكن كلامه متصلا لأن البيان المغير له بمنزلة الاستثناء يصح موصولا لا مفصولا وقد بيناه في الإقرار.
قال:"وإذا أقر أنه أوصى به لفلان ودفعه إليه ثم قال لا بل لفلان فهو ضامن له حتى يدفع مثله إلى الثاني ولا يصدق على الأول"لأنه بالكلام الثاني أقر أن الثلث كان مستحقا للثاني دون الأول وقد دفعه إلى الأول باختياره فصار مستهلكا للمدفوع ويجعل ذلك كالقائم في حقه فيلزمه دفع مثله إلى الثاني ولا يقبل قوله في الرجوع عن الاستحقاق الذي أقر به للأول ولو كان دفعه إلى الأول بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا لأنه ما استهلك شيئا من المال فإن الدفع كان بقضاء القاضي ومحل الوصية تعين فيما قضى به القاضي للأول فيكون هو شاهدا للثاني على الأول والشاهد إذا ردت شهادته لم يغرم شيئا بخلاف الأول فهناك هو الذي دفع بنفسه فكان مستهلكا وتعيينه في حق الثاني غير صحيح فيجعل في حق الثاني كأن محل الوصية في يده على حاله.
ولو أقر لرجل بوصية ألف بعينها وهو الثلث ثم أقر لآخر بعد ذلك بالثلث ثم رفع إلى القاضي فإنه ينقد الألف للأول لأنه أقر له والمال فارغ عن حق الغير وبقضاء القاضي يتعين المدفوع إلى الأول محلا للوصية ولا يكون للثاني على الوارث شيء لأنه لم يبق شيء من محل الوصية في يده ويتبين أن الوارث في الكلام الثاني كان شاهدا للثاني على الأول لا مقرى له على نفسه وشهادة الورثة على الوصية جائزة كما تجوز شهادة غير الوارث لأنه لا منفعة له في هذه الشهادة بل عليه فيها ضرر.(28/65)
قال: "وإذا شهد وارثان أن الميت أوصى لفلان بالثلث فدفعا ذلك إليه ثم شهدا إنما كان أوصى به لآخر وقالا أخطأنا فإنهما لا يصدقان على الأول"لأنهما رجعا عن شهادتهما بعد تمام الاستحقاق للأول فلا يعمل رجوعهما في حقه وهما ضامنان للثلث يدفعانه إلى الآخر لأن إقرارهما على أنفسهما صحيح وقد أقرا أنهما استهلكا محل حق الثاني بالدفع إلى الأول فكانا ضامنين له ولو لم يكونا دفعا شيئا أجزت شهادتهما للآخر وأبطلت وصية الأول لأنهما يشهدان للأول على الآخر فإن محل الوصية ما ثبت مستحقا للأول وقد شهدا أن استحقاق ذلك المحل للثاني دون الأول فوجب قبول شهادتهما لانتفاء التهمة عنهما خلاف الأول فقد صارا ضامنين هناك لأنهما متهمان في حق الأول من حيث أنهما قصدا بشهادتهما للثاني إسقاط الضمان عن أنفسهما.
قال: وإذا كانت الورثة ثلاثة والمال ثلاثة آلاف فأخذ كل إنسان ألفا ثم أقر أحدهم أن أباه أوصى بالثلث لفلان وجحد الآخران ذلك فإنه يعطيه ثلث ما في يده استحسانا وفي القياس يعطيه في الفصل الثاني نصف ما في يده وفي الفصل الأول ثلاثة أخماس ما في يده وجه القياس أن المقر في حق نفسه كان ما أقر به حق ولا يصدق في حق غيره فإذا كانا اثنين فالمقر يزعم أن حقه في التركة وحق المقر له سواء لأنه يقول له الثلث وصية والثلثان بيني وبين(28/66)
ص -35- ... آخر نصفان وإذا كان يزعم أن حقهما سواء يقسم ما في يده بينهما نصفين كما لو أقرا بأخ آخر وهذا لأنهما يزعمان أن حق الجاحد في ثلث المال وقد أخذ نصف المال فما أخذه زيادة على حقه كالتاوي فلا يكون ضرر ذلك على أحدهما دون الآخر.
وكذلك في الفصل الأول المقر يزعم أن للمقر له الثلث والثلثان بيننا أثلاثا وحقه في ثلاثة من تسعة وحقي في سهمين فيجعل ما في يده بينهما أخماسا باعتبار زعمه وجه الاستحسان أن الجاحد مع ما أخذ يجعل كالمعدوم وكأن جميع التركة ما في يد المقر وهو الوارث فإنما يلزمه أن يدفع الثلث إلى المقر له بطريق الوصية.
يوضحه: أنا لو أخذنا بالقياس فأمرناه أن يدفع إليه نصف ما في يده ثم أقر الابن الآخر بالوصية بالثلث الآخر فإنه يدفع إليه نصف ما في يده أيضا فيؤدي إلى تنفيذ الوصية في نصف المال والوصية لا تنفذ في أكثر من ثلث المال فلهذا أخذنا بالقياس.
ولو كان المال ألفا عينا وألفا دينا على أحدهما فأقر الذي ليس عليه دين أن أباهما أوصي لهذا بالثلث أخذ من هذه الألف ثلثها وكان للمقر ثلثاها لأن في زعم المقر أن حق المقر له في ثلث كل ألف وكان منعه الابن المديون حقه في الدين لا يلزمه أن يدفع إليه من العين زيادة على حقه فلهذا يعطيه ثلث العين الذي في يده وفي القياس يعطيه نصف ذلك لإقراره أن حقهما في التركة سواء.
ولو كان المال كله عينا فأخذ كل واحد منهما ألفا ثم أقر كل واحد منهما على حياله الرجل غير الذي أقر له صاحبه أن الميت أوصى له بالثلث فإن كل واحد منهما يأخذ ثلث ما في يد الذي أقر به وهذا يدلك على أن ترك القياس أحسن من القياس وأن القياس في هذا فاحش قبيح يعنى أن القول به يؤدي إلى تنفيذ الوصية في نصف المال.(28/67)
ألا ترى: أن الميت لو ترك امرأة وابنا فأخذت المرأة الثمن ثم أقرت أن الميت أوصى لهذا بالثلث فإن المقر له يأخذ ثلث ما في يدها ولو أخذنا بالقياس لكان يأخذ أربعة أخماس ما في يدها لأنها تزعم أن حق الموصي له في أربعة من اثنى عشر وحقها في واحد وهو ثمن ما بقي فبهذا ونحوه تبين أن الأخذ بالقياس ها هنا قبيح.
قال: "ولو ترك اثنين وعشرين درهما فاقتسماها نصفين ثم غاب أحدهما فأقام رجل البينة على الحاضر بوصية بالثلث أخذ منه نصف ما في يده"لأنه أثبت بالبينة أن حقهما في التركة على السواء فأخذنا بالقياس ها هنا بخلاف مسألة الإقرار لأن ها هنا وصية المشهود له ثبتت في حق الحاضر والغائب حتى إذا رجع الغائب كان لهما أن يرجعا عليه بما أخذاه زيادة على حقه فلا يجعل هو مع ما في يده كالمعدوم بخلاف مسألة الإقرار.
يوضحه: أن ها هنا لو أقام آخر البينة على الوصية بالثلث أيضا على الغائب ثم اجتمعا لم يكن لهما إلا الثلث بينهما نصفين فلا يؤدي هذا إلى تنفيذ الوصية في أكثر من الثلث بخلاف الإقرار على ما بينا.(28/68)
ص -36- ... وإذا أقر الوارث بوصية لرجل تخرج من الثلث أو بعتق ثم أقر بدين بعد ذلك لم يصدق على إبطال الوصية والعتق وكان الدين عليه في نصيبه لأن محل الدين جميع التركة وقد بقي في يده جزء من التركة فيؤمر بقضاء الدين منه بإقراره وأصل هذا الفرق فيما إذا أقر أحد الابنين بدين على الميت فإنه يؤمر بقضاء جميع الدين من نصيبه بخلاف الوصية وقد أوضحنا هذا في كتاب الإقرار فإن أقر الوارث بدين ثم أقر بدين يبدأ بالأول لأن صحة إقراره على الميت بالدين باعتبار ما في يده من التركة وقد صار ذلك مستحقا للأول وهو فارغ حين الإقرار له وإنما أقر للثاني والمحل مشغول بحق غيره فلا يصح إقراره ما لم يفرغ المحل من حق الأول كالراهن إذا أقر بالمرهون لإنسان فإن أقر لهما في كلام متصل استويا لأن في آخر كلامه ما يغير موجب أوله.
وإذا قال الوارث لفلان كذا من الدين ولفلان كذا من الوديعة والوديعة بعينها وهو جميع ما ترك الميت فإنهما يتحاصان فيها لأنه حين أقر بالوديعة فقد أقر هناك بدين شاغل لما في يده من التركة فيكون هذا بمعنى إقراره بوديعة مستهلكة فكأنه استهلكها بتقديم الإقرار بالدين عليها والإقرار بوديعة مستهلكة إقرار بالدين وكأنه أقر بدينين في كلام موصول وإن بدأ بالوديعة ثم بالدين بدئ الوديعة لأنه أقر بها ولا دين هناك فصارت عينها مستحقة للمقر له ثم الإقرار بالدين إنما يصح في تركة الميت لا فيما تبين أنه ليس من تركته.(28/69)
إذا أقر بوديعة بعينها ثم بوديعة أخرى بكلام متصل بدئ بالأول لأن الأول استحق ذلك العين بنفسه بنفس الإقرار والإقرار الثاني لا يصح في المحل الذي استحقه الأول وهذا بخلاف الدينين لأن موجب ثبوت الدينين الشركة بينهما في التركة فكان في آخر كلامه ما يغير موجب أوله وها هنا ليس موجب ثبوت الوديعة بأعيانهما الشركة بين المقر لهما في شيء بل كل واحد منهما يستحق ما أقر له به بعينه فليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله فلهذا كان المتصل والمنقطع في هذا سواء حتى أنه إذا أقر بوديعتين بغير أعيانهما فهو والإقرار بدينين سواء.
قال: "وإذا أقر أحد الورثة بدين وأنكر ذلك بقيتهم لزمه في نصيبه جميع الدين عندنا بخلاف الوصية"وفي الحقيقة لا فرق فإنا نجعل في موضعين الجاحد مع ما في يده كالمعدوم وكان الوارث هو المقر والتركة ما في يده ولو كان كذلك لكان يؤمر بقضاء جميع الدين مما في يده إذا كان يفي بذلك ولا يؤمر بأن يدفع إليه بالوصية إلا الثلث وهذا لأن الموصى له شريك الوارث والدين مقدم على الميراث من حيث إنه لا ميراث له إلا بعد قضاء جميع الدين.
ولو كان الوارث واحدا فقال هذه الوديعة لفلان لا بل لفلان أو قال هي لفلان ثم قال بعد ما سكت ولفلان معه فإنها للأول دون الثاني لأن الأول استحقها على وجه لا يملك الوارث الرجوع عنه ولا الإشراك لغيره فيه ولو قال هي وديعة لفلان ودفعها إليه ثم أقر أنها(28/70)
ص -37- ... كانت لهذا الآخر وأنه قد أخطأ فهو ضامن للثاني مثلها لأنه قد استهلكها بالدفع إلى الأول بزعمه وإذا لم يدفع فهو غير مستهلك شيئا وإنما هو شاهد للثاني على الأول وعلى الميت وقد ردت شهادته فلا يكون ضامنا شيئا.
قال: "ولو قال أوصي إلى هذا بالثلث ولهذا على أبي دين ألف درهم في كلام متصل والدين يستغرق جميع المال أجزت الدين وأبطلت الوصية"لأن الدين مقدم على الوصية وفي آخر كلامه ما يغير موجب أوله لأن موجب أول كلامه استحقاق المقر له ثلث التركة في الوصية مطلقا وموجب آخر كلامه أن يكون استحقاق الوصية مؤخرا عن الدين والبيان معتبر صحيح إذا كان موصولا.
ألا ترى: أنه لو قال أوصي إلى فلان بالثلث وأعتق هذا العبد وهو الثلث صدقته في العتق وأبطلت الوصية لأنها بيان معتبر فالعتق المنفذ مقدم في الثلث على سائر الوصايا وإن فصل من الإقرارين أجزت الثلث الأول لأن البيان بمنزلة الاستثناء لا يصح مفصولا فيبقي محل الوصية مستحقا للأول وقد فسد رق العبد بإقراره فعليه أن يسعى في جميع قيمته لأن سقوط السعاية عنه باعتبار الوصية ولم يبق شيء من محل الوصية فعليه السعاية في قيمته.
ولو أقر الوارث أن أباه أوصى لفلان بأكثر من الثلث وأنه قد أجازه بعد موت أبيه ثم مات الوارث قبل أن يقضيه الموصى له وعليه دين فإن الوصية يبدأ بها من مال أبيه قبل دين الوارث لأن ما أقر به الوارث من الوصية والإجازة كالمعاينة فإنه غير متهم في ذلك حين أقر في صحته واستحقاق الموصى له عند إجازة الوارث يكون بطريق الوصية من جهة المورث فتم استحقاقه بنفس الإقرار به ثم إقراره بالدين إنما يشغل تركته لا ما كان مستحقا بعينه لغيره فإن كان الوارث قد استهلك مال أبيه فهو دين فيما ترك الوارث يحاص صاحبه صاحب دين الوارث لأن إقراره بذلك بعد ما استهلكه إقرار بالدين على نفسه ومن أقر بدين ثم بدين ثم مات تحاص الغرماء في تركته.(28/71)
قال: "وإذا شهد وارثان على الوصية جازت وشهادتهما على جميع الورثة"لأنه لا تهمة في شهادتهما فإن كانا غير عدلين أو أقرا ولم يشهدا بالحصة فشهادتهما في نصيبهما لأن إقرارهما ليس بحجة على غيرهما وكذلك شهادتهما بدون صفة العدالة لا تكون حجة على غيرهما وإنما هي حجة عليهما ولا يقال إذا شهدا في الابتداء وهما عدلان فهما متهمان في إخراج الكلام مخرج الشهادة لأنهما لو لم يذكرا لفظة الشهادة لزمهما في نصيبهما خاصة وهذا لأن في الوصية لا يتأتى هذا الإشكال فإنهما لو شهدا أو أقرا لم يلزمهما إلا مقدار حصتهما وإنما هذا الإشكال في الدين ومع هذا تقبل شهادتهما لأنه لم يلزمهما قبل الشهادة قضاء شيء من نصيبه لتمكن التهمة في إخراجهما الكلام مخرج الشهادة.
ولو شهدا وهما عدلان على الوصية وعلى بقية الورثة أنهم أجازوها بعد الموت جازت شهادتهما لأنهما لم يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما شيئا.(28/72)
ص -38- ... لو شهد شاهدان أنه أوصى بالثلث لهذا الرجل وشهد وارثان أنه رجع عن الوصية بالثلث لهذا وجعله لهذا الآخر جازت شهادتهما لأنهما يشهدان للثاني على الأول ولا يجران إلى أنفسهما شيئا.ولو لم يشهدا على الرجوع ولكن شهدا بالثلث للآخر تحاصا في الثلث لأنه لا تهمة في شهادتهما فإنه لا فرق في حقهما بين أن يكون المستحق للثلث عليهما واحدا أو مثنى.
ولو شهد شاهدان أنه أوصى لهذا الأجنبي وشهد وارثان أنه أوصى بالثلث لهذا الوارث وأجازت الورثة فالثلث للأجنبي لأن استحقاق الأجنبي الثلث سببه أقوى من حيث أنه غير محتاج إلى اجازة الورثة ولأنه لما ثبت استحقاق الثلث للأجنبي ثبت أنه لا حق للوارث فيه فشهادتهما على إجازة الورثة ليست بشيء وبدون الإجازة لا مزاحمة للوارث مع الأجنبي في محل الوصية.
قال: "ولو شهد وارثان أنه رجع عن وصيته للأجنبي وجعلها لهذا الوارث وأنهما مع جميع الورثة قد سلموا له ذلك بعد الموت كان ذلك جائزا في قول أبي يوسف رحمه الله الأول"وفي قوله الآخر لا تقبل شهادة الوارثين على ذلك وهو قول محمد رحمه الله وجه قوله الأول أن الورثة بالإجازة قد أخرجوا الثلث من حق أنفسهم فهذه شهادة بالاستحقاق للثاني على الأول فلا يتمكن فيه التهمة كما لو شهدا بذلك للأجنبي وجه قوله الآخر أن الأجنبي استحق الثلث عليهما فهما يبطلان ذلك الاستحقاق بشهادتهما على الرجوع فيتهمان في ذلك وهذا لأنهما يوجبان للثاني مع ذلك الاستحقاق حتى يكون تحويلا من الأول إلى الثاني لأن الاستحقاق للأول ثابت من غير إجازتهم والاستحقاق للثاني لا يثبت إلا بإجازتهم ولأن الاستحقاق للثاني مع إجازتهم مختلف فيه فمن العلماء من يقول لا وصية للوارث وإن أجازت الورثة ولو قضى القاضي بذلك معتمدا على ظاهر الخبر ينفذ قضاؤه فمن هذا الوجه يجران إلى أنفسهما شيئا بخلاف ما إذا شهدا بها لأجنبي آخر.
باب إقرار الوارث بالعتق(28/73)
قال رحمه الله: "وإذا مات رجل وترك وارثا واحدا وثلاثة أعبد قيمتهم سواء لا مال له غيرهم فقال ذلك الوارث أعتق أبي هذا في مرضه ثم قال بعد ذلك لا بل هذا ثم قال لا بل هذا فإنهم يعتقون جميعا"لأنه حين أقر للأول عتق كله إذ ليس في قيمته فضل على الثلث ثم بالكلام الثاني رجع عن الإقرار الأول وأقر للثاني ورجوعه باطل ولكنه زعم أنه استهلك الأول بإقراره فيجعل ذلك كالقائم في حقه فيعتق الثاني كله بإقراره وكذلك الثالث وإنما هذا بمنزلة إقراره بالثلث لفلان وصية ودفعه إليه ثم أقر به للأجنبي لأن العتق لا يحتاج فيه إلى التسليم فنفس الإقرار به بمنزلة التسليم في المال.
لو قال في كلام متصل: أعتق أبي هذا وهذا وهذا سعى كل واحد منهم في ثلثي قيمته لأن في آخر كلامه ما يغير موجب أوله فيتوقف أوله على آخر ويصير كأنه أقر لهم في كلام واحد فقال أعتقهم الميت فيعتق ثلث كل واحد منهم ويسعى في ثلثي قيمته.(28/74)
ص -39- ... ولو قال: أعتق أبي هذا ثم سكت ثم قال وهذا ثم سكت ثم قال وهذا عتق الأول كله ونصف الثاني وثلث الثالث لأنه أقر بالثلث للأول في الكلام الأول فيعتق كله ثم في الكلام الثاني أقر أن الثلث بينه وبين الأول نصفان فيكون إقراره للثاني بنصف الثلث صحيحا فيعتق نصفه وإبطاله استحقاق الأول في النصف غير صحيح بل يجعل هو في حق الثاني كالمستهلك لذلك النصف ثم أقر في الكلام للثالث أن الثلث بينهم أثلاث فيصح إيجاب الثلث للثالث ولا يصح رجوعه عن شيء عما أوجبه للأولين بل يجعل هو كالمستهلك لما زاد على مقدار حق الأولين في حق الثالث.
ولو أقر أن أباه أعتق هذا في مرضه وهو الثلث وشهد الشهود أنه أعتق هذا الآخر وهو الثلث فالذي أقام البينة حر ويسعى الذي أقر له الوارث في قيمته لأن الوارث إنما أقر له بطريق الوصية وقد صار محل الوصية كله للذي أقام البينة ولو أقر الوارث أن أباه دبر هذا العبد في مرضه ثم سكت ثم قال وأعتق هذا الآخر في مرضه فإن المدبر يعتق كله من الثلث ويعتق من الآخر نصف الثلث لأن إقراره بالتدبير له وإقراره بالعتق في مرضه سواء فإنه يعتق من الثلث بعد موته في الوجهين وقد بينا في كتاب العتق أن الأول يعتق كله وأنه يعتق من الثاني نصفه وكذلك لو شهد الشهود على إقرار الوارث في حياة أبيه أو بعد موته أن أباه أعتق عبده هذا وهو ينكر أخذ بذلك لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة.
ولو عاينا إقراره بذلك كان مؤاخذا به سواء أقر بذلك قبل موت أبيه أو بعده وكذلك لو شهد أحد الشاهدين أنه أقر بذلك قبل موت أبيه وشهد الآخر أنه أقر له بعد موت أبيه فالشهادة جائزة لأنه إقرار كله يعنى أن الإقرار قول والقول فيما يعاد ويكرر وحكم الإقرار قبل الموت وبعد الموت واحد في حقه فهو بمنزلة شاهدي الإقرار إذا اختلفا في المكان أو الزمان وذلك لا يمنع قبول الشهادة فهذا قياسه.
باب الوصية بالعتق على مال أو خدمة(28/75)
قال رحمه الله: "وإذا أوصى الرجل لعبده بأن يؤدي كذا وكذا ويعتق فهو جائز على ما قال إن كان الذي شرط عليه أداؤه أكثر من قيمتها أو مثلها أو دونها بمقدار ثلث ماله فإن كان النقصان عن القيمة أكثر من ثلث ماله حط عنه ثلث المال ويسعى فيما بقي اعتبارا لما أوصى به بمال نقده في مرضه"وهذا لأن هذا في معنى الوصية ببيعه من غيره.ولو أوصى ببيعه من معلوم بثمن مسمى وجب تنفيذ وصيته فإن حط شيئا من الثمن في قيمته يجعل ذلك من ثلث ماله وكذلك إذا أوصى بأن يباع من نفسه بل أولى لأن في هذه الوصية منفعة الموصى أيضا من حيث الولاء وإنما جعلنا هذا في معنى البيع لأنه شرط عليه أداء ما يقوم مقام مالية رقبة في توفر المنفعة على الورثة ودفع الضرر عنهم فإن حقهم في المالية وذلك يسلم لهم بهذا الطريق فإن أعتق مع هذا عبدا على غير جعل بدئ بالعتق من(28/76)
ص -40- ... غير جعل ثم أعتقنا هذا الآخر بما بقي من الثلث على ما بينا لأن ما نفذ من العتق في حال حياته مقدم على ما أوصى به بعد موته عتقا كان أو غيره فإن ما بعده صار بحيث لا يحتمل الفسخ ولا يحتاج فيه إلى التنفيذ وما أوصى به ليس بهذه الصفة فلهذا قدمنا العتق المنفذ في ثلثه.
وإذا أوصى أن يخدم عبده بعد موته ورثته سنة ثم يعتق لم يجز إلا أن يجيزه الورثة لأن الوصية بخدمة العبد لبعض ورثته بمنزلة الوصية بالرقبة وذلك باطل إلا أن يجيزه الورثة ثم الوصية بالعتق للعبد مرتبة على الوصية بالخدمة متأخرة عنها فإذا بطلت الأولى لعدم إجازة الورثة تبطل الثانية لفوات شرطها فإذا صحت الأولى بإجازة الورثة بعد الموت وهم كبار يجب تنفيذ الأخرى جزما على خدمة العبد سنة كما أوصى به.
ولو أوصى بأن يخدم جميع الورثة سنة ثم هو حر فهذا جائز لأنه ليس في هذه الوصية إيثار بعض الورثة ولكنه إيفاء ما كان من استخدام الورثة إياه سنة بعد موته ثم أوصى بعتقه بعد ذلك فيجب تنفيذ وصيته من الثلث فإن كره ذلك بعضهم أجبر عليه لأن سلامة خدمته لهم بطريق الإرث لا بطريق الوصية والإرث لا يرد لكراهة الورثة فإن قيل الخدمة لا تورث قلنا نعم مقصودا ولكنها تورث تبعا لملك الرقبة ولما لم يجب تنفيذ الوصية بالعتق في الحال صارت الرقبة مع الخدمة مملوكة لهم إرثا على أن يعاد إلى الميت حكما عند الإعتاق وهو بعد مضى السنة لتسليم الولاء له ثم مقصود من كره منهم إبطال الوصية بالعتق والوارث لا يملك ذلك في محل الوصية وهو الثلث فإن أوصى أن يخدم فلانا سنة ثم هو حر وفلان غير وارث فهو جائز من الثلث لأنه جمع بين وصيتين تصح كل واحدة منهما منفردة فيصح ترتب إحداهما على الأخرى أيضا فإن أبى أن يقبل الخدمة لم يجبر على ذلك لأن الخدمة ها هنا تسلم للموصى له بالوصية وللموصى له حق الرد في الموصى به على ما نبينه في الوصية بالرقبة بعد هذا.(28/77)
وإذا بطلت الوصية الأولى برده بطلت الثانية حكما لأنه أوجبها مرتبة على الأولى وقد فات شرطها حين رد الوصية بالخدمة وكذلك لو قتل ثم مات قبل سنة لأن الوصية بالخدمة تبطل بموت الموصى له فإن الإرث لا يجري في مجرد المنفعة فوارث الموصى له لا يخلفه في ذلك وكذلك لو قال إذا خدم فلانا سنة أو إن خدم سنة فهو حر فإن الشرط يفوت بموت فلان قبل مضي السنة فتبطل الوصية بالعتق لفوات الشرط فإن كان فلان غائبا فقدم بعد موته بسنة فالخدمة تكون له من يوم قدم لأن الموصي ذكر سنة منكرة ولا حاجة إلى تعيين السنة التي تعقب موته لأن الجهالة في الموصى به لا تمنع صحة الوصية.
ولو قال: يخدم فلانا هذه السنة ثم هو حر فلم يقدم حتى مضت السنة بطلت الوصية بالخدمة لفوات محلها فإنه عين الوصية للمنافع التي تحدث في السنة التي عينها وذلك يفوت بمضيها ويبطل العتق أيضا لفوات شرطه ولو قال يخدم فلانا سنة ثم هو حر ولا مال(28/78)
ص -41- ... له غيره فإنه يخدم فلانا يوما والورثة يومين فإذا مضت ثلاث سنين عتق لأن الوصية تنفذ من الثلث وفي تسليم العبد إلى الموصى له ليخدمه في جميع السنة قصر يد الوارث عن جميع التركة لمكان الوصية وذلك لا يجوز وحق الورثة ضعف حق الموصى له فقلنا يخدم الموصى له يوما والورثة يومين حتى يمضى ثلاث سنين فيصير مستوفيا كمال حقه في الوصية بالخدمة ويتم به شرط الوصية بالعتق فيعتق ثلثه وعليه السعاية في ثلثي قيمته للورثة.
ولو أوصى أن يخدم ورثته سنة ثم هو حر فصالحوه من الخدمة على دراهم وعجلوا عتقه جاز لأن الخدمة مستحقة لهم بالميراث فيجوز الاعتياض عنه بالمال ويجعل وصول البدل إليهم كوصول المبدل بأن يخدمهم سنة فيعتق منه ثلثه ثم هم أسقطوا حقهم عن الخدمة بعوض ولو أسقطوه بغير عوض وعجلوا العتق جاز لأن الميت صار راضيا بالتزام ولائه فكذلك إذا أسقطوه بعوض.
لو أوصى أن يعتق عنه هذه الجارية بعد موته بسنة فولدت ولدا وأغلت عليه قبل السنة أو بعدها فذلك للورثة وتعتق هي من الثلث وقد بينا فيما سبق أن الوصية بالعتق لا تسرى إلى الولد ولا إلى الكسب والغلة والورثة بمنزلة الملك لهما فيما هو فارغ عن الوصية لأن سبب الملك لهم فيها قد تقرر والباقي لملك الميت كذلك إلا أنا نجعلها كالباقية على ملك الميت حكما لضرورة الحاجة إلى تنفيذ وصيتها وفيما وراء ذلك هي مملوكة للورثة وإن جنت جناية فذلك إلى الوارث إن شاء دفعها بالجناية وأبطل العتق وإن شاء فداها بالأرش وأعتقها عن الميت لأنه بمنزلة المالك لها في حكم الجناية فإن اختار دفعها دفع به محل الوصية بالعتق وهو ملك الميت وإن اختار الفداء فقد طهرت عن الجناية وبقيت محلا للعتق عن الميت كما كانت والوارث متبرع في الفداء لأنه غير مجبور على ذلك.(28/79)
وإذا أعتقها أحد الورثة عن نفسه قبل مضي السنة فهو حر عن الميت لأن الوارث بمنزلة المالك فلا بد من تنفيذ عتقه ثم عتقها مستحق عن الميت وما استحق في عين بجهة فعلى أي وجه أتى به يقع عن المستحق عليه وعليه حصة من بقي من الورثة من قيمة الخدمة لاحتباس ذلك عنده حتى نفذ العتق فيه من بعض الورثة وذلك متقوم فيما هو بينه وبين الورثة على ما بينا.
وإذا كان أعتقه بعد مضي السنة فلا شيء على أحد إذا كان يخرج قيمتها من الثلث لأن هذا تنفيد للوصية وأحد الورثة بمنزلة جماعتهم في تنفيذ جميع وصية الموصى في العتق بعد موته وإن دبرها وارث عن نفسه ثم مات فهي حرة عن الميت بمنزلة ما لو علق عتقها بشرط آخر وقد يوجد الشرط وإن لم يمت فتدبيره باطل لأنه لا يملك إعتاقها عن نفسه فلا يملك تدبيرها عن نفسه أيضا وليس في التدبير تنفيذ وصية الميت.
كذلك لو قال الوصي لإنسان بعد مضي السنة أعتقها عن الميت فأعتقها أو احتضر الوصي فأوصى إلى آخر أن يعتقها عن الميت جاز ذلك بخلاف المأمور بالعتق في حالة الحياة(28/80)
ص -42- ... إذا أمر غيره به لأن المأمور نائب محض والآمر ما أنابه مناب نفسه في الوصية إلى الغير وللوصي ولاية تحصيل المقصود بنفسه وفي أمره غيره بذلك وإيصائه إليه بعد موته تحصيل مقصود الموصي فيصح ذلك من الوصي.
وإذا أوصى بعتق ما في بطن جاريته بعد موته بشهر فهو جائز لأن ما في البطن كالمنفصل في حكم مقصود المعتق فيه فإن أعتق الأم بعض الورثة فهي حرة عنه وما في بطنها حر عن الميت لأن الجنين تابع للأم في العتق الذي أوجبه المعتق فيها ولو أعتق الجنين أحدهما عتق عن الميت فكذلك إذا أعتق الأم أحدهم وقد صارت الأم مشتركة بينهم بالميراث لأنها فارغة عن الوصية فإذا أعتقها أحدهم يخير شركاؤه كما هو قول أبي حنيفة في عتق أحد الشركاء المملوك المشترك وإن دبرها قبل أن تلد فتدبيره جائز لأنه يملك نصيبه منها ومن ضرورة نفوذ التدبير منه في نصيبه منها نفوذه في نصيبه من الولد لأن الجنين لا ينفصل عنها في حكم التدبير كما لا ينفصل في حكم العتق فإنه بمنزلة جزء منها وتبطل وصية الميت في الجنين لفوات محله وهو أن يكون المملوك باقيا على ملك الموصي حكما ليعتق عنه فيكون ولاؤه له وينفذ التدبير من الذي دبر في بعض الجنين عن نفسه بتقرر ملكه ويستحق ولاءه ضرورة فيفوت به محل الوصية.(28/81)
ولو أوصى أن يعتق عنه جاريته فلانة بعد موته بسنة وهي الثلث فباعها الورثة فبيعهم باطل لأنها باقية على ملك الميت حكما مشغولة بحاجته فبيعهم إياها في هذه الحالة كبيعهم إياها قبل موت الموصي أو كبيع الورثة التركة المستغرقة بالدين وذلك باطل فهذا أيضا كذلك بل أولى لأن في البيع إبطال الوصية بالعتق أصلا فإن ولدت من المشتري فالولد ولده والمشتري مغرور من جهة الورثة حيث لم يعلم بالوصية حين اشتراها وولد المغرور حر بالقيمة إلا أن ها هنا لا قيمة لها لأنها لو وجبت وجبت للورثة وللمشتري أن يرجع بها عليهم لأجل الغرور فلا فائدة في إيجابها وعليه العقر لهم لأنه وطئها بشبهة وإيجاب العقر مقيد فإن المشتري لا يرجع بما يغرم من العقر على البائع بسبب الغرور ويردون عليه لبطلان البيع وتؤخذ الجارية وتعتق عن الميت بعد سنة كما أوصى.
ولو أوصى بعتق جاريته وقيمتها ألف وله ألفان فهلكت الألفان قبل أن يعتقها الوصي فإن الجارية يعتق ثلثها وتسعى في ثلثي قيمتها لأن ما هلك من المال قبل استيفاء الورثة صار كأن لم يكن وهو والهالك قبل موت الموصي سواء فلم يبق إلا الجارية فلا تنفذ الوصية في أكثر من الثلث فيعتق ثلثها وتسعى في ثلثي قيمتها والله أعلم.
باب الوصية إذا لم يقبلها الموصى له
قال رحمه الله: "قد بينا أنه لا حكم لقبول الموصى له ورده في حياة الموصي"لأن أوان وجوب الوصية ما بعد موته ولا معتبر بالقبول والرد قبل أوانه فإذا مات الموصي فإن قبل الموصى له الوصية فالملك له في الموصى به قبضه أو لم يقبضه لأن بمجرد القبول يلزم(28/82)
ص -43- ... العقد على وجه لا يملك أحد إبطاله فيثبت حكمه وهو الملك بخلاف الهبة بعد القبول قبل القبض
وإن رد الموصى له الوصية بطلت برده عندنا وفي قول الشافعي لا تبطل وهو إحدى الروايتين عن زفر لأن الملك بالوصية بمنزلة الملك بالإرث على معنى أنه عقب الموت ثم الإرث لا يرتد برد الوارث فكذلك الوصية وهذا لأن الملك ها هنا يثبت بطريق الخلافة وهو أن الموصى له صار خلفا عن الموصي في ملك الوصي به كالوارث في التركة وجه قول علمائنا رحمهم الله أن هذا تمليك المال بالعقد فلا يثبت إلا بالقبول أو مما يقوم مقامه كالتمليك لسائر العقود وهذا لأن الملك يثبت للموصى له ابتداء ولهذا لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي والملك المتجدد يستدعى شيئا مبتدأ وأحد لا يملك تتميم سبب الملك لغيره بغير رضاه بخلاف الميراث فإنه يبقى للوارث الملك الذي كان ثابتا للمورث حتى يرده بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه المورث والبقاء لا يستدعى سببا مبتدأ أو لأن أحدا لا يثبت له على غيره ولأنه إدخال الشيء في ملكه قصدا من غير اختياره وفي الميراث الملك ثبت من غير اختيار من المورث.
ألا ترى: أنه لو أراد أن يمنعه لا يتمكن من ذلك وللشرع هذه الولاية فأما ما هنا فإن الملك يثبت بإيجاب الموصي بدليل أنه له أن يمنعه من ذلك بالرجوع عن الوصية قبل موته ولا يثبت إلا بالقبول من الموصى له لأنعدام ولاية الموصي عليه ولأن تنفيذ الوصية لمنفعة الموصي له ولو أثبتنا الملك له قبل قبوله تضرر به فإنه لو أوصى به بعبد أعمى تجب عليه نفقته إذا أثبت الملك له.(28/83)
لو أوصى بدنان مسكرة أو بزبل اجتمعت في داره ولو ثبت الملك له بغير قبوله وجب عليه نقلها شاء أو أبى وفي هذه من الضرر عليه ما لا يخفي وكذلك لو أوصى له بآنية أو بمملوك له ذي رحم محرم منه أو مملوك قد حلف بعتقه إن ملكه لو دخل في ملكه من غير قبوله لكان يعتق عليه ويلزمه ولاؤه وليس لأحد أن يلزمه الولاء من غير اختياره ولو أوصى له بزوجته أو ملكها بدون قبوله نفذ نكاحه وليس للموصي ولاية إفساد نكاحه فلهذا قلنا بأنه لا يثبت له الملك ما لم يقبل وكذلك إن أوصى بأم ولده فما لم يقبلها لا تصير أم ولد له فإن لم يعلم الموصى له بالوصية بعد موت الموصي حتى مات ففي القياس ورثته بمنزلته لا يجبرون على القبول وهو إحدى الراويتين عن زفر رحمه الله لأن الورثة إنما يخلفونه بالقيام في الملك الذي كان ثابتا له في حياته وها هنا الملك ما كان ثابتا له في حياته قبل قبول الوصية وإنما كان الثابت له حق القبول وهو حق متأكد لا يملك غيره ابطاله فيقوم وارثه فيه مقامه فلا يثبت الملك ما لم يقبل الوارث وهذا لأن موت الموصى له مناف للوصية لا متمم لها.
ألا ترى: أنه لو مات في حياة الموصي بطلت الوصية وها هنا الوصية ما كانت تامة قبل موته ويستحيل أن يكون الموت الذي هو المنافي متمما للوصية ولكنا ندع القياس في هذا(28/84)
ص -44- ... ونجعلها من مال الموصى له استحسانا حتى إذا كانت أم ولده تعتق وإذا كانت غير أم ولده تصير مملوكة لورثته لأن سبب الملك قديم من جهة الموصي على وجه لا يتمكن هو ولا من يقوم مقامه من إبطاله وإنما بقي حق الرد للموصى له وذلك يبطل بموته كالمشتري إذا شرط الخيار لنفسه ثم مات في مدة الخيار تم الملك لأن الثابت له حق الرد ولم يبق بعد موته فيتم الملك فهذا مثله وهذا لأن حق الرد إنما كان ثابتا له لحاجته إلى دفع الضرر عن نفسه وقد انتهت حاجته بموته.
ولو كان الموصى له حيا لم يعلم بالوصية وكان يطؤها بالنكاح حتى ولدت له أولادا ثم علم بالوصية فهو بالخيار لأن إقدامه على وطئها قبل العلم بالوصية لا يكون دليل القبول والرضا منه بالوصية والنكاح كان قائما بينهما قبل القبول وحل الوطء ثابت له بحكم النكاح فلهذا نفى خياره في القبول إذا علم بالوصية فإن قبلها كانت أم ولد له لأنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب وأولاده أحرار إن كانوا يخرجون من الثلث لأنهم حدثوا بعد تمام الوصية من جهة الموصي وبعد تمام السبب الموجب للملك قبل ثبوت الملك فكانوا بمنزلة الولد الحادث في مدة الخيار إذا تم الملك للمشتري وإن رد الوصية فهي وأولادها للورثة والنكاح بينه وبينها قائم ونسب الأولاد منه ثابت.
ولو أوصى رجل لرجلين بثلثه فرد أحدهما الوصية بعد موته كان للآخر حصته من الوصية إذا قبل لأن في حق الرد منهما بطلت الوصية برده ولو بطلت بسبب آخر بأن كان وارثا جاز في حصة الآخر فكذلك إذا بطلت برده وهذا لأن الشيوع لا يمنع صحة الوصية بخلاف الهبة إن القسمة مشروطة في الهبة ليتم القبض والقبض ليس بشرط لوقوع الملك في الوصية.(28/85)
وإذا أوصى رجل بوصية فقبلها بعد موته ثم ردها على الورثة فرده جائز إذا قبلوا ذلك لأن الرد عليهم فسخ للوصية وهم قائمون مقام الميت ولو تصور منه الرد على الميت كان ذلك صحيحا إذا قبله فكذلك إذا ردها على الورثة الذين يقومون مقامه وهذا لأن فسخ العقد معتبر بالعقد فإذا كان أصل هذا العقد يتم بالإيجاب والقبول كذلك يجوز فسخه بالتراضي وبهذا فارق الصدقة والهبة فإن ذلك ابتداء التمليك والشيوع فيما يحتمل القسمة مع صحته وهذا فسخ الوصية والشيوع لا يؤثر في فسخ الوصية كما لا يؤثر في أصل الوصية وإن ردها على بعض الورثة دون البعض ففي القياس هذا باطل لأن هذا تمليك منه لمن ردها عليه فيكون التملك بلفظ الهبة والإعطاء ولكنا نستحسن فنجعل ذلك كالرد على جماعتهم وكان بينهم على فرائض الله تعالى لأن أصل العقد كان بينه وبين الموصي والرد فسخ لذلك العقد فيجوز بينه وبين الموصي أيضا وأحد الورثة يقوم مقام الورثة في حقوقهم كجماعتهم فكان الرد على أحدهم بمنزلة الرد عليهم أو هذا فسخ لقبوله وهو ينفرد بفسخ القبول في حق نفسه وإنما كان لا يثبت في حق الورثة إذا أبوا ذلك دفعا للضرر عنهم عن مورثهم فإذا(28/86)
ص -45- ... رضوا بذلك أو رضي به أحدهم وهو قائم مقامهم في فسخ القبول منهم وصار كأنه رده قبل أن يقبل فيكون ميراثا للورثة.
كذلك لو كان على الميت دين فوهبه الطالب للورثة أو لبعضهم فهو هبة لهم كلهم كأنه وهبه للميت لأن أصل المنفعة بهذه الهبة للميت وإنه يبرى ء ذمته لها وأحد الورثة يقوم مقامه فيما هو من حقه.
لو أوصى له بخادم ثم مات الموصي فوهب إنسان للخادم ألف درهم والخادم هي الثلث ثم قبل الموصى له الوصية فله الخادم وثلث الألف لأن السبب من جهة الموصي قديم لكن لم يثبت الملك للموصى له لانعدام القبول منه والكسب الحادث بعد تمام السبب يثبت فيه حكم السبب فإذا قبل فله الخادم وثلث الألف لأنه لو خرج جميع الألف من الثلث سلمت له فكذلك يسلم له ثلثها وكذلك لو ولدت ولدا فإن هلك بعض المال فله الخادم من الثلث فإن بقي شيء من الثلث فله ذلك من الولد والهبة في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد الثلث من الخادم وولدها وما وهب لها بالحصة لا يقدم شيء من ذلك على شيء لأن حدوث ذلك بعد تمام السبب وقبل تمام الملك بمنزلة المقترن بأصل السبب.(28/87)
ألا ترى: أن المبيعة قبل القبض إذا ولدت جعل الولد كالموجود عند العقد في اقتسام الثمن عند القبض؟ كذلك ها هنا ولو كان جميع ذلك موجودا عند العقد وأوصى بالكل كان يسلم للموصى له بالثلث من الكل بالحصة والدليل عليه أن التركة بعد الموت قبل القسمة مبقاة على حكم الميت وكذلك الموصى به بعد موته عتقا كان أو غيره فإن ما بعده صار بحيث لا يحتمل الفسخ ولا يحتاج فيه إلى التنفيذ وما أوصى به ليس بهذه الصفة فلهذا قدمنا العتق المنفذ في ثلثه وإذا أوصى أن يخدم عبده بعد موته ورثته سنة ثم يعتق لم يجز إلا أن يجيزه الورثة لأن الوصية بخدمة العبد لبعض ورثته بمنزلة الوصية بالرقبة وذلك باطل إلا أن يجيزه الورثة ثم الوصية بالعتق للعبد مرتبة على الوصية بالخدمة متأخرة عنها فإذا بطلت الأولى لعدم إجازة الورثة تبطل الثانية لفوات شرطها فإذا صحت الأولى بإجازة الورثة بعد الموت وقبل القبول ثبوت حكم الوصية في الولد والكسب ليس بطريق التبعية لأن حكم التبعية لا يبقي بعد الانفصال ولا تعتبر السراية لأن السراية إلى غير متولد من الأصل لا تكون والكسب غير متولد من الأصل فعرفنا أن ثبوت الحكم في الولد والكسب باعتبار أنه يجعل كالموجود ويصير كأن الوصية تناولته قصدا وأبو حنيفة يقول الجارية هي المقصودة بالوصية والكسب والولد تبع فإنما يبدأ من محل الوصية ما هو المقصود بالوصية لأن استقرار الحكم يكون في محله فيكون هو فيما هو المقصود
وبيان ذلك أن وجوب الوصية بالموت وعند الموت الموجود أم فقط والموجب إنما أوجب الوصية فيها ثم يثبت حكم الوصية فيما يحدث من الكسب والولد بعد ذلك بطريق التبعية والانفصال لا ينافي التبعية.(28/88)
ألا ترى: أن ولد المبيعة قبل القبض يكون مملوكا تبعا ولهذا لا يمنع رد الأصل بالعيب والدليل عليه أن حكم الوصية لا يثبت في الكسب والولد الحادث قبل موته لأن ثبوت الحكم بطريق التبعية لا يكون إلا بعد ثبوته في الأصل فإذا ثبت هذا فنقول الوصية فيمنا زاد على الثلث أضعف من الوصية بالثلث وما يثبت حكم الوصية فيه تبعا يكون أضعف مما يثبت حكم الوصية فيه مقصودا فيتعين للقوى محل أقوى وللضعيف محل يليق به.
يوضحه: أنا لو أخذنا بما قال أبو يوسف ومحمد أدى إلى أن تبطل الوصية في الأصل(28/89)
ص -46- ... لمكان البيع فإنه إذا كان الثلث بقدر قيمتها قبل أن تلد يجب تنفيذ الوصية في جميعها ثم إذا ولدت ولدا قيمته مثل قيمتها تنفذ الوصية في نصف الأم ونصف الولد أو في ثلثي الأم وثلثي الولد فيؤدي إلى أن تبطل الوصية في بعض الأصل لأجل تنفيذ الوصية في التبع ولا يجوز أن يكون التبع مبطلا للحكم الثابت في الأصل بحال والله أعلم.
باب الوصية بمثل نصيب أحدهم
قال رحمه الله: "وإذا كان للرجل خمس بنين فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم وثلث ما بقي من الثلث فالفريضة من أحد وخمسين سهما لصاحب النصيب ثمانية أسهم ولصاحب ثلث ما بقي ثلاثة ولكل بن ثمانية"فتخريج المسألة على طريق الكتاب أن نقول السبيل أن يأخذ كل واحد من الخمسة البنين ثمانية وتزيد على ذلك سهما بثمانية لأنه أوصى له بمثل نصيب أحدهم ومثل الشيء غيره ثم يضرب بعد ذلك في ثلاثة لأجل وصيته له بثلث ما بقي من الثلث فيكون ثمانية عشر ثم تطرح السهم الذي زدته بقي سبعة عشر فهو الثلث والثلثان ضعف ذلك فيكون جميع المال أحدا وخمسين وإنما طرحنا هذا السهم الزائد لتبيين مقدار الثلث والثلثين ولا وصية في الثلثين فلا يمكن اعتبار السهم الزائد فيه فلهذا طرحناه فإذا عرفت أن ثلث المال سبعة عشر فطريق معرفة النصيب من ذلك أن تأخذ النصيب وهو واحد وتضربه في ثلاثة ثم في ثلاثة فيكون تسعة ثم تطرح من ذلك سهما كما طرحت في الابتداء يبقى ثمانية فهو النصيب فإذا رفعت ذلك من سبعة عشر يبقي تسعة فللموصى له ثلث ما يبقى وثلث ذلك ثلاثة يبقي ستة نضيفها إلى ثلثي المال وذلك أربعة وثلاثون فيكون أربعين بين خمسة بنين لكل بن ثمانية مثل النصيب فاستقام والعامة يسمون هذا طريق الحشو على معنى أن محمدا رحمه الله حشا به كتبه والحساب يسمونه طريق اليتم واليتم هو الأصل ولكن كل ما يعتمدونه في كتب الحساب لكثرة ما يقع فيه من الاختلاف ويحتاج إلى تغيير بعض الشرط في كل نوع فزعموا أن الطريق الذي أحكم فيه شرط واحد(28/90)
يخرج عليه أنواع المسائل أولى بالتأمل وأرادوا بذلك الطريق الجبر
فأما المتقدمون من أصحابنا فاختاروا هذا الطريق لأنه أليق بكلام الفقهاء وطريق الدينار والدرهم يعتمده أهل الحساب وهو في المعنى مثل طريق الجبر ولكنه أقرب إلى فهم من يكون مبتدئا في علم الحساب وبيان تخريج المسألة عليه أن يجعل ثلث المال دينارا أو ثلاثة دراهم لحاجتك إلى الحساب إذا رفعت منه النصيب يكون لما بقى ثلث صحيح فيعطي بالوصية بالنصيب دينار وبالوصية بثلث ما يبقى درهما يبقى من الثلاثة درهمان يضم ذلك إلى ثلثي المال وهو دينار أو ستة دراهم فحصل في يدك ديناران وثلاثة دراهم وحاجتك إلى خمسة دنانير لأنك جعلت النصيب دينارا فينبغي أن يكون لكل بن دينار فتجعل الدنانير مثلهما قصاصا يبقى في يدك ثمانية دراهم تعدل بعدل ثلاثة دنانير فاقلب الفضة فاجعل آخر الدراهم آخر الدنانير وآخر الدنانير آخر الدراهم فصار كل دينار بمعنى ثمانية وكل درهم بمعنى ثلاثة ثم عد إلى الأصل وقل قد جعلت الثلث دينارا وذلك ثمانية وثلاثة(28/91)
ص -47- ... دراهم فجملته سبعة عشر أعطينا بالنصيب دينارا وهو ثمانية وثلث فثلث يبقي درهم وهو ثلاثة وحصل في يد الورثة ديناران كل دينار ثمانية فذلك ستة عشر وثمانية دراهم كل درهم بثلاثة فذلك أربعة وعشرون إذا جمعت بينهما يكون الكل أربعين بين خمسة بنين لكل بن ثمانية مثل النصيب.
وأما طريق الجبر والمقابلة وهو الذي يعتمده الحساب فهي أن تأخذ ثلث مال مجهول فتعطي بالوصية بالنصيب شيئا يبقى معك ثلث مال إلا شيء فتعطي بالوصية بثلث ما يبقى ثلث ذلك وذلك تسع مال إلا ثلث شيء يبقى من الثلث في يدك تسعا مال إلا ثلثا شيء يضم ذلك إلى ثلثي المال فيصير ثمانية أتساع مال إلا ثلثي شيء وذلك يعدل خمسة أشياء لأنا جعلنا النصيب شيئا فينبغي أن يكون لكل بن شيء فأجبر ثمانية أتساع مال بثلثي شيء وزد على ما يقابله وهو خمسة أشياء ثلثي شيء فصار معنا ثمانية أتساع مال يعدل خمسة أشياء وثلث شيء غير أن المال ناقص تسعة وهو ثمن ما معنا فزيد عليه مثل ثمنه ويزيد على خمسة أشياء وثلثي شيء مثل ثمنه أيضا وليس لذلك ثمن صحيح فانكسر بالأثمان فاضرب خمسة أشياء وثلثي شيء في ثمانية فيكون خمسة وأربعين وثلثا لأن خمسة في ثمانية بأربعين وثلثين في ثمانية بخمسة وثلث زد على ذلك مثل ثمنه وذلك خمسة وثلثان فيكون أحدا وخمسين فظهر أن المال الكامل أحد وخمسون فالثلث من ذلك سبعة عشر ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا وضربنا كل شيء في ثمانية فتبين أن النصيب ثمانية إذا رفعتها من سبعة عشر بقي تسعة للموصى له بثلث ما يبقي ثلاثة بقي ستة تضمها إلى ثلثي المال أربعة وثلاثين فيكون أربعين بين خمسة بنين لكل بن ثمانية مثل النصيب.(28/92)
فأما بيان طريق الخطائين وتسمى طريق التقدير أيضا أن يجعل الثلث أربعة اسم ويعطي بالوصية بالنصيب سهما وبالوصية بثلث ما يبقي سهما يبقي سهمان يضمهما إلى ثلثي المال ثمانية يكون عشرة وحاجة البنين إلى خمسة لأنا جعلنا النصيب سهما فظهر الخطأ بالزيادة خمسا فعد إلى الأصل واجعل الثلث خمسة أسهم ثم أعط بالنصيب سهمين وبثلث ما يبقي سهما يبقي من الثلث سهمان ضمهما إلى ثلثي المال عشرة كان اثنى عشر وحاجتنا إلى عشرة إلا أنا جعلنا النصيب سهمين فظهر الخطأ الثاني بزيادة سهمين وكان الخطأ الأول بالزيادة خمسا فلما زدنا سهما أذهب الخطأ بثلثه وبقي من الخطأ سهمان وقد علمنا أن كل سهم يؤثر في ثلثه فالسبيل أن يزيد ما يذهب الخطأ سهمين وذلك ثلثا سهم فيجعل الثلث خمسة وثلاثين يعطي بالنصيب سهمين وثلثين وثلث ما يبقي سهم ويضم السهمين الباقيين إلى ثلثي المال وهو أحد عشر وثلث فيصير ثلاثة عشر وثلث بين خمسة بنين لكل بن سهمان وثلثان مثل النصيب فإن أردت تصحيح الحساب قلت قد انكسر بالأثلاث والسبيل أن يضرب خمسة وثلاثين في ثلثه فيصير سبعة عشر فهو الثلث وقد كان النصيب سهمين وثلثين ضربت ذلك في ثلثه فهوثمانية وكان المقسوم بين البنين الخمسة ثلاثة عشر وثلثا ضربت ذلك في ثلاثة فيكون(28/93)
ص -48- ... أربعة بين خمسة بنين لكل بن ثمانية مثل النصيب وطريق الجامع الأصغر وهو من فروع الخطأين وهو أنه لما ظهر أن الخطأ الأول كان بزيادة خمسة والخطأ الثاني كان بزيادة سهمين فاضرب المال الأول وهو أربعة في الخطأ الثاني وهو سهمان فذلك ثمانية وأضرب المال الثاني وذلك خمسة في الخطأ الأول وهو خمسة فيكون خمسة وعشرين ثم أطرح الأقل من الأكثر فإذا طرحت ثمانية من خمسة وعشرين بقي سبعة عشر فهو ثلث المال.
ومعرفة النصيب أن يأخذ النصيب الأول وهو واحد ويضربه في الخطأ الثاني فيكون اثنين ويأخذ النصيب الثاني وذلك اثنان يضربهما في الخطأ الأول وهو خمسة يكون عشرة ثم أطرح الأقل من الأكثر يبقي ثمانية وهو النصيب والتخريج إلخ كما بينا.
وطريق الجامع الأكبر وهو من فروع الخطأين أيضا أنه لما ظهر أن الخطأ الأول كان بزيادة خمسة فالسبيل أن تضعف المال سوى النصيب فيكون الثلث سبعة أعط بالنصيب سهما يبقي ستة للموصى له بثلث ما يبقى ثلث ذلك سهمان يبقى أربعة يضم ذلك إلى ثلثي المال أربعة عشر فيكون ثمانية عشر وحاجتنا إلى خمسة لأنا جعلنا النصيب سهما فظهر الخطأ الثاني بزيادة ثلاثة عشر فيضرب المال الأول وهو الأربعة في الخطأ الثاني وهو ثلاثة عشر فيكون اثنين وخمسين فيضرب المال الثاني وهو سبعة في الخطأ الأول وخمسة فيكون خمسة وثلاثين ثم اطرح الأقل من الأكثر فإذا طرحت خمسة وثلاثين من اثنين وخمسين يبقي سبعة عشر فهو ثلث المال.
ومعرفة النصيب أن يطرح أقل الخطأين من أكثرهما بلا ضرب وأقل الخطأين خمسة وأكثرهما ثلاثة عشر فإذا طرحت خمسة من ثلاثة عشر بقي ثمانية فهو النصيب والتخريج إلى آخره كما ذكرنا.(28/94)
وطريق السطوح وهو برهان الجبر بعمل المهندسين أن تأخذ مربعا مستوى الأضلاع والزوايا فتخط في طوله خطين فيصير ثلاثة سطوح ثم في عرضه ثلاثة خطوط فيصير في كل سطح أربعة ثم تبدأ بالسطح الذي على يمينك وتدفع البيت الأول من النصيب وتتم ذلك وتدفع البيت الثاني منه بثلث ما يبقي وسم ذلك قطعة بقي من هذا السطح بيتان هما قطعتان وتجمعهما إلى السطحين الآخرين فيكون ذلك نصيبين وثمان قطاع وحاجتنا إلى خمسة أنصباء فيعطي نصيبين إلى اثنين ويبقي ثمان قطاع بين ثلاثة بنين لكل بن قطعتان وثلثا قطعة فظهر أن النصيب بمعنى قطعتين وثلثي قطعة وإنا حين أعطينا الموصي له النصيب بيتا كان ذلك بمعنى قطعتين وثلثي قطعة وإن الذي حصل في يد الورثة نصيبان كل نصيب قطعتان وثلثا قطعة فذلك خمسة قطاع مع ثمان قطاع فيكون ثلاثة عشر قطعة وثلث قطعة بين خمسة بنين لكل بن قطعتان وثلثا قطعة مثل ما أعطينا بالنصيب فاستقام وهذا صورته.(28/95)
ص -49- ... ثم الحاصل بعد هذا أن تخرجها على طريق الكتاب وعلى طريق الجبر وهو الأصل عند أهل الحساب وتدع ما سوى ذلك للتحرز عن التطول والاشتغال بما ليس فيه كبير فائدة.
نصيب ... نصيب ... نصيب
قطعة ... قطعة ... قطعة
قطعة ... قطعة ... قطعة
قطعة ... قطعة ... قطعة
ولو كان أوصى بمثل نصيب أحدهم وبربع ما يبقي من الثلث الآخر فالفريضة من تسعة وستين لصاحب النصيب أحد عشر ولصاحب ربع ما بقي ثلاثة ولكل بن أحد عشر وبيانه على طريق الكتاب أن تأخذ عدد البنين وهم خمسة فتزيد عليه سهما بالوصية بالنصيب ثم تضرب ذلك في أربعة لمكان الوصية بربع ما يبقى فيصير أربعة وعشرين ثم تطرح منه سهما يبقى ثلاثة وعشرون فهو الثلث والثلثان ضعف ذلك فتكون الجملة تسعة وستين فهو المال والثلث ثلاثة وعشرون.
ومعرفة النصيب أن تأخذ النصيب وهو واحد وتضربه في أربعة ثم في ثلاثة فيصير اثنى عشر ثم تطرح منه واحدا يبقى أحد عشر فهو النصيب فإذا رفعت من ثلاثة وعشرين أحد عشر بقي اثنا عشر للموصى له بربع ما يبقي ثلاثة يبقي تسعة تضم ذلك إلى ثلثي المال ستة عشر وأربعين فيكون خمسة وخمسين بين خمسة بنين لكل بن أحد عشر مثل النصيب.(28/96)
وطريق الجبر في ذلك أن تأخذ ثلث مال مجهول وتعطي بالوصية بالنصيب شيئا وبالوصية بربع ما يبقى ربع ما بقي وهو ربع الثلث إلا ربع شيء بقي معك ثلاثة أرباع الثلث إلا ثلاثة أرباع شيء فتضم ذلك إلى ثلثي المال فيصير أحد عشر جزءا من اثنى عشر جزءا من مال إلا ثلاثة أرباع شيء وذلك يعدل خمسة أشياء فاجبر بثلاثة أرباع شيء وزد على ما يقابله ثلاثة أرباع شيء فيصير أحد عشر جزءا من اثنى عشر جزءا من مال يعدل خمسة أشياء وثلاثة أرباع شيء فالمال ناقص فأكمله بأن تزيد عليه جزءا من أحد عشر وزد على ما يقابله مثل ذلك وليس لخمسة أشياء وثلاثة أرباع جزء من أحد عشر جزء صحيح فاضرب خمسة وثلاثة أرباع في أحد عشر فيكون ثلاثة وستين وربع فإن خمسة في أحد عشر خمسة وخمسون وثلاثة أرباع في أحد عشر ثمانية وربع ثم زد عليه مثل جزء من أحد عشر جزءا منه وذلك خمسة وثلاثة أرباع فيكون تسعة وستين وهو المال الكامل.
ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا وضربناه في أحد عشر فتبين أن النصيب أحد عشر والتخريج إلى آخره كما بينا.
ولو كان أوصى له بمثل نصيب أحدهم والآخر بخمس ما يبقى من الثلث فالفريضة من سبعة وثمانين لصاحب النصيب أربعة عشر وللآخر ثلاثة ولكل بن أربعة عشر فأما تخريجه على طريق الكتاب فأن تزيد على عدد البنين واحدا للوصية بالنصيب فيكون ستة ثم تضرب ذلك في خمسة لوصيته بخمس ما بقي فيكون ثلثين ثم تطرح ما زدت وهو واحد يبقي تسعة(28/97)
ص -50- ... وعشرون والثلثان ثمانية وخمسون فيكون جملة المال سبعة وثمانين ومعرفة النصيب أن تأخذ النصيب وذلك واحد وتضربه في خمسة ثم في ثلاثة فيكون خمسة عشر ثم تطرح منها واحدا يبقي أربعة عشر فهو النصيب فإذا رفعت ذلك من الثلث تسعة وعشرين يبقي خمسة عشر للموصى له بخمس ما بقي خمس ذلك ثلاثة يبقى اثنا عشر تضمه إلى ثلثي المال ثمانية وخمسين فيصير سبعين بين خمسة بنين لكل بن أربعة عشر مثل النصيب وطريق الجبر في ذلك أن يأخذ ثلث مال مجهول وتعطي بالوصية بالنصيب شيئا يبقي ثلث مال إلا شيء ويعطي بالوصية الأخرى خمس ذلك وهو خمس الثلث إلا خمس شيء بقي أربعة أخماس الثلث إلا أربعة أخماس شيء ويضم ذلك إلى ثلثي المال فتصير الجملة أربعة عشر جزءا من خمسة عشر جزءا من المال إلا أربعة أخماس شيء وذلك يعدل خمسة أشياء فاجبره بأربعة أخماس شيء وزد على ما يعدله مثله فيصير أربعة عشر جزءا من خمسة عشر جزءا ثم زد على ما يعدله مثل ذلك وليس لخمسة وأربعة أخماس جزء من أربعة جزء صحيح فتضرب خمسة وأربعة أخماس في أربعة عشر فيكون ذلك أحد وثمانين وخمسا لأن خمسة في أربعة عشر سبعون وأربعة أخماس في أربعة عشر أحد عشر وخمس ثم زد عليه جزءا من أربعة عشر جزء منه وذلك خمسة وأربعة أخماس فيكون سبعة وثمانين فهو المال الكامل الثلث منه تسعة وعشرون.
ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا وضربنا في كل شيء أربعة عشر فتبين أن النصيب أربعة عشر ثم التخريج إلى آخره كما بينا.
ولو أوصي بمثل نصيب أحدهم إلا ثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب فالفريضة من سبعة وخمسين النصيب عشرة والاستثناء ثلاثة ولكل بن عشرة.(28/98)
وتخريجه على طريق الكتاب أن تأخذ عدد البنين خمسة فتزيد عليها سهما بالوصية بالنصيب ثم تضرب ذلك في ثلاثة فيكون ثمانية عشر ثم تزيد عليها سهما مثل ما زدت أولا فيكون تسعة عشر فهو ثلث المال وثلثان ثمانية وثلاثون فالجملة سبعة وخمسون ومعرفة النصيب أن تأخذ النصيب وهو واحد وتضربه في ثلاثة فيكون تسعة ثم تزيد عليه سهما كما فعلته في أصل المال فيكون عشرة وهو النصيب الكامل إذا رفعته من تسعة عشر بقي تسعة استرجع بالاستثناء من النصيب مثل ثلث ما بقي وهو ثلاثة وضم ذلك إلى تسعة فيكون اثنى عشر ثم تضم ذلك إلى ثلثي المال ثمانية وثلاثين فيكون خمسين بين خمسة بنين لكل بن عشرة مثل كامل.
وطريق الجبر فيه أن تأخذ مثل ثلث مال مجهول فتعطي بالوصية بالنصيب شيئا ثم تسترجع بالاستثناء مثل ثلث ما بقي وذلك ثلث الثلث إلا ثلث شيء فيصير معك أربعة أتساع مال الأشياء وثلث شيء تضمه إلى ثلثي المال فيكون الجملة مالا وتسع مال إلا شيئا وثلث شيء وذلك يعدل خمسة أشياء فأجبره بشيء وثلث شيء وزد على ما يعدله مثله فصار مالا وتسع مال يعدل ستة أشياء وثلث شيء والمال زائد بعشرة فاطرح منه عشرا واطرح مما يعد له(28/99)
ص -51- ... العشر أيضا وليس لستة وثلث عشر صحيح فاضرب ستة وثلثا في عشرة فيكون ثلاثة وستين وثلث اطرح منه عشرة وهو ستة وثلث بقي سبعة وخمسون فظهر أن المال الكامل سبعة وخمسون ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا وضربنا كل شيء في عشرة فتبين أن النصيب الكامل عشرة والتخريج كما بينا ولو قال إلا ربع ما يبقى من الثلث بعد النصيب كانت الفريضة من خمسة وسبعين النصيب منها ثلاثة عشر والاستثناء بثلاثة.
وتخريجه على طريق الكتاب أن تزيد على عدد البنين سهما للموصي له بالنصيب ثم تضرب ذلك في أربعة الوصية بربع ما يبقى فيكون أربعة وعشرين ثم تزيد عليه سهما فذلك خمسة وعشرون وهو ثلث المال والثلثان خمسون فالمال كله خمسة وسبعون.(28/100)
ومعرفة النصيب أن تضرب النصيب وهو سهم من أربعة في ثلاثة فيكون اثنى عشر ثم تزيد عليه سهما فالنصيب الكامل ثلاثة عشر إذا رفعتها من خمسة وعشرين مع اثنى عشر فتسترجع بالاستثناء مثل ربع ما بقي وهو ثلاثة فتضم ذلك إلى اثنى عشر فيكون خمسة عشر ثم تضم ذلك ثلثي المال وهو خمسون فيكون خمسة وستين بين خمسة بنين لكل بن ثلاثة عشر مثل نصيب كامل وطريق الجبر فيه أن تأخذ ثلث المال وتعطي بالوصية بالنصيب شيئا ثم تسترجع بالاستثناء مثل ربع ما بقي فيصير معك خمسة أجزاء من اثني عشر جزءا من مال الأشياء وربع شيء تضمه إلى ثلثي المال فتكون الجملة مالا واثنى عشر جزءا من مال الأشياء وربع شيء وذلك يعدل خمسة أشياء فاجبره بشيء وربع شيء وزد على ما يعد له مثله فصار مالا وجزءا من اثنى عشر يعدل ستة أشياء وربع المال زائد فاطرح من الجملة جزءا من ثلاثة عشر لتبيين المال الكامل واطرح مما يعدله مثل ذلك وليس لستة وربع جزء من ثلاثة عشر صحيح فاضرب ستة وربعا في ثلاثة عشر فيكون ذلك أحدا وثمانين وربعا ثم اطرح منه جزءا من ثلاثة عشر وهو ستة وربع يبقى خمسة وسبعون فهو المال ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا فضربنا كل شيء في ثلاثة عشر فتبين أن النصيب الكامل ثلاثة عشر والتخريج كما بينا.(28/101)
وإذا مات الرجل وترك ابنتين وأما وامرأة وعصبة وأوصى بمثل نصيب إحدى ابنتيه وثلث ما بقي من الثلث فالفريضة من ستة وستين والنصيب ستة عشر وثلث ما بقي اثنان والسبيل في تخريج المسألة أن نصحح الفريضة الأولى بدون الوصية فنقول أصل الفريضة من ستة للابنتين الثلثان أربعة وللأم السدس سهم وللمرأة ثمن ثلاثة أرباع سهم والباقي للعصبة فتكون القسمة من أربعة وعشرين لمكان الكسر باعتبار نصيب المرأة إلا أن في معرفة حكم نصيب المرأة لا حاجة لنا في ذلك فيجعل أصل الفريضة من ستة ثم يزيد عليها مثل نصيب إحدى الابنتين وذلك سهمان لوصيته بالنصيب فيكون ثمانية ثم تضرب ذلك في ثلاثة فيكون أربعة وعشرين ثم تطرح ما زدت وذلك سهم بقي اثنان وعشرون فهو الثلث والثلثان أربعة وأربعون والمال ستة وستون ومعرفة النصيب أن تأخذ سهمين وتضرب ذلك في ثلاثة يكون ستة ثم في ثلاثة فيكون ثمانية عشر ثم تطرح منها سهمين يبقي ستة عشر فهو النصيب إذا رفعت ذلك من الثلث اثنين(28/102)
ص -52- ... وعشرين يبقي ستة للموصى له بثلث ما بقي ثلث ذلك اثنان بقي أربعة تضمها إلى ثلثي المال أربعة وأربعين فيكون ثمانية وأربعين للابنتين الثلثان اثنان وثلاثون لكل واحدة منهما ستة عشر مثل النصيب وللأم السدس ثمانية وللمرأة الثمن ستة والباقي وهو سهمان للعصبة.
وعلى طريق الجبر فالسبيل أن تأخذ ثلث مال وتعطي بالوصية بالنصيب شيئا وبالوصية بثلث ما يبقي ثلث المال الباقي يبقى معك تسعا مال إلا ثلثي شيء تضمه إلى ثلثي المال فيكون ثمانية أتساع مال إلا ثلثي شيء الباقي وذلك يعدل ثلاثة أشياء لأنا جعلنا النصيب شيئا ونصيب إحدى الابنتين ثلث المال فيظهر أن حاجتنا إلى ثلاثة أشياء فأجبر ثمانية أتساع مال بثلث شيء وزد على ما يعدله ثلاثة مثل ذلك وليس لثلاثة وثلاثة أشياء جزء صحيح والمال ناقص فزد عليه مثل ثمنه وزد عليه ما يعدله مثل ذلك وليس لثلاثة وثلاثين ثمن صحيح فاضرب ثلاثة أشياء وثلثي شيء في ثمانية فيصير تسعة وعشرين وثلثا ثم زد عليه مثل ثمنه وهو ثلاثة وثلثان فيكون ثلاثة وثلاثين فهو المال الكامل الثلث من ذلك أحد عشر.
ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا وضربنا كل شيء في ثمانية فتبين أن النصيب ثمانية إذا رفعته من أحد عشر يبقي ثلاثة للموصى له بثلث ما بقي سهم ثم يضم ما بقي وهو سهمان إلى ثلثي المال وهو اثنان وعشرون فيكون أربعة وعشرين بين الورثة للابنتين الثلثان ستة عشر لكل واحدة منهما ثمانية مثل النصيب وللأم السدس أربعة وللمرأة الثمن ثلاثة والباقي للعصبة فخرج على هذا الطريق مستقيما على النصف مما أخرجه محمد رحمه الله.(28/103)
لو أوصى بمثل نصيب إحدى الابنتين إلا ثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب فالفريضة من ستمائة وأربعة وعشرين والنصيب مائة وستون وثلث الباقي ستة عشر فقد طول محمد رحمه الله الحساب في هذه المسألة ليخرج ميراث المرأة مستقيما ولا حاجة بنا إلى ذلك في معرفة الوصية والمسئلة تخرج من دون هذا الأصل الذي ذكرنا أن الفريضة من ستة ثم تزيد للموصى له بالنصيب مثل نصيب إحدى الابنتين سهمين فيكون ثمانية ثم تضرب ذلك في ثلاثة فيكون أربعة وعشرين ثم تزيد عليه سهمين كما هو الأصل في مسائل الاستثناء فيكون ستة وعشرين فهو ثلث المال والثلثان ضعف ذلك اثنين وخمسين فيكون جملة المال ثمانية وسبعين ومعرفة النصيب أن تأخذ النصيب سهمين وتضرب ذلك في ثلاثة فيكون ستة ثم في ثلاثة فيكون ثمانية عشر ثم تزيد عليه سهمين فيكون عشرين فهو النصيب الكامل إذا رفعته من الثلث يبقي ستة فتسترجع بالاستثناء مثل ثلث ما يبقى وذلك سهمان فيصير معك من الثلث ثمانية تضمها إلى ثلثي المال اثنين وخمسين فيكون ذلك ستين بين الورثة للابنتين الثلثان أربعون لكل واحدة منهما عشرون مثل النصيب الكامل وللأم السدس عشرة وللمرأة الثمن إلا أنه ليس للستين ثمن صحيح فلهذا ضرب محمد رحمه الله أصل الحساب ثمانية وسبعين في ثمانية فيكون ستمائة وأربعة وعشرين وخرج المسألة من ذلك لأجلها.
وطريق الجبر فيه أن تأخذ ثلث مال فتعطي بالنصيب شيئا وتسترجع بالاستثناء مثل ثلث(28/104)
ص -53- ... ما يبقي من ذلك ثلث الثلث إلا ثلث شيء فيكون معك أربعة أتساع مال الأشياء وثلث شيء تضمه إلى ثلثي المال فتصير الجملة مالا وتسع مال الأشياء وثلث شيء وذلك ثلاثة أشياء لأنا جعلنا النصيب شيئا ونصيب إحدى الابنتين ثلث المال وجبره بشيء وثلث شيء وزد على ما يعد له مثله فكان مالا وتسع مال يعدل أربعة أشياء وثلث شيء والمال زائد فاطرح الزيادة وهو عشر الجملة واطرح ما يعد له مثل ذلك أيضا وليس لأربعة وثلاثة عشر صحيح فاضرب أربعة أشياء وثلثا في عشرة فيكون ذلك ثلاثة وأربعين وثلثا ثم اطرح منه عشرة وذلك أربعة وثلث يبقى تسعة وثلاثون فهو المال الكامل الثلث منه ثلاثة عشر.
ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا فضربنا كل شيء في عشرة فتبين أن النصيب الكامل عشرة إذا رفعتها من ثلاثة عشر يبقى ثلاثة فتسترجع بالاستثناء مثل ثلث ما بقي سهما فيصير معك من الثلث أربعة تضمها إلى ثلثي المال ستة وعشرين فيصير ذلك ثلاثين مقسومة بين الورثة للابنتين الثلثان عشرون لكل واحدة عشرة مثل النصيب الكامل وللأم السدس خمسة وللمرأة الثمن وذلك ثلاثة وثلاثة أرباع للعصبة فاستقام التخريج من نصف ما أخرجنا على طريق الكتاب.(28/105)
لو كان أوصى بمثل نصيب المرأة وثلث ما بقي من الثلث فالفريضة من مائتين وأربعة وثلاثين والنصيب أربعة وعشرون وثلث الباقي ثمانية عشر والتخريج على طريق الكتاب أن تصحيح الفريضة ها هنا من أربعة وعشرين لأنه أوصى بمثل نصيب المرأة فلا بد من معرفة نصيب المرأة مستقيما فتجعل الفريضة من أربعة وعشرين للابنتين الثلثان ستة عشر وللأم السدس أربعة وللمرأة الثمن ثلاثة والباقي وهو سهم للعصبة ثم تزيد على ذلك مثل نصيب المرأة ثلاثة لوصيته بمثل نصيبها فيكون سبعة وعشرين تضرب ذلك في ثلاثة لوصيته بثلث ما بقي فيكون إحدى وثمانين ثم تطرح ما زدنا وهو ثلاثة بقي ثمانية وسبعون فهو ثلث المال والثلثان ضعف ذلك مائة وستة وخمسون فيكون جملة المال مائتين وأربعة وثلاثين ومعرفة النصيب أن تأخذ النصيب وهو ثلاثة وتضربها في ثلاثة فيكون تسعة ثم في ثلاثة فيكون سبعة وعشرين ثم تطرح ثلاثة يبقى أربعة وعشرون فهو النصيب إذا رفعت ذلك من الثلث ثمانية وسبعين يبقي أربعة وخمسون للموصى له بثلث ما بقي ثلث ذلك وذلك ثمانية عشر يبقى ستة وثلاثون تضمها إلى ثلثي المال مائة وستة وخمسون فيكون جملته مائة واثنين وتسعين للمرأة ثمن ذلك وذلك أربعة وعشرون مثل ما أعطينا الموصى له بنصيبهما وقسمة الباقي بين الورثة معلومة كما بينا.
وطريق الجبر فيه أن تأخذ ثلث مال وتعطي بالوصية بالنصيب شيئا وبالوصية الأخرى ثلث ما بقي يبقى معك تسعا مال إلا ثلثي شيء تضمه إلى ثلثي المال فيكون ثمانية أتساع مال إلا ثلث شيء وذلك يعدل ثمانية أشياء لأنا جعلنا النصيب شيئا ونصيب المرأة الثمن فعرفنا أن حاجة الورثة إلى ثمانية أشياء فاجبر ثمانية أتساع مال بثلثي شيء وزد على ما يعدله مثله فيصير(28/106)
ص -54- ... ثمانية أتساع مال يعدل ثمانية أشياء وثلثي شيء والمال ناقص فزد عليه مثل ثمنه وزد على ما يعدله مثله وليس لثمانية وثلاثين ثمن صحيح فاضرب ثمانية أشياء وثلثي شيء في ثمانية فيكون سبعة وستين وثلثا ثم زد عليه مثل ثمنه وذلك ثمانية وثلاثون فيصير المال ثمانية وسبعين فهو المال الكامل الثلث من ذلك ستة وعشرون ومعرفة النصيب أنا جعلنا النصيب شيئا وضربنا كل شيء في ثمانية فعرفنا أن النصيب ثمانية إذا رفعتها من ستة وعشرين بقيت ثمانية عشر للموصى له بثلث ما بقي ذلك بقي اثنا عشر يضم ذلك إلى ثلثي المال اثنين وخمسين للمرأة الثمن ثمانية مثل النصيب والتخريج في الميراث كما بينا.
لو كان لرجل خمس بنين فأوصى لأحدهم بكمال الربع بنصيبه وبثلث ما بقي من الثلث لآخر فأجازوا فالفريضة من اثنى عشر النصيب اثنان ويكمله الربع واحد وثلث ما بقي من الثلث واحد.
وتخريج المسألة على طريق الكتاب أن نقول المال لولا الوصية بين البنين الخمسة على خمسة لكل واحد منهم سهم فإذا أوصى لأحدهم بكمال الربع بنصيبه فهذه وصية منه للوارث ولا يصح ذلك إلا بإجازة الورثة فإذا أجازوا فالسبيل أن يطرح نصيب الابن الموصى له وهو سهم يبقي أربعة ثم يضرب ذلك في ثلاثة لوصيته بثلث ما يبقى من الثلث فيكون اثنى عشر فهو المال الثلث من ذلك أربعة والربع ثلاثة.(28/107)
ومعرفة النصيب أن تأخذ النصيب وهو واحد فتضربه في ثلاثة فيكون ثلاثة ثم تطرح منه واحدا يبقي اثنان فهو النصيب فإذا دفعت إلى الابن الموصى له كمال الربع وهو ثلاثة واسترجعت منه مقدار النصف وذلك اثنان بقي واحد فعرفنا أن وصيته بتكملة الربع واحد فإذا رفعت ذلك السهم من ثلث المال أربعة بقي ثلاثة للموصى له بثلث ما يبقى ثلث ذلك وهو سهم يبقي سهمان يضمهما إلى ثلثي المال ثمانية فيكون عشرة بين خمسة بنين لكل بن سهمان مثل النصيب فإذا ضم الابن الموصى له هذين السهمين إلى السهم الذي أخذه بالوصية حصل له ثلاثة وذلك كمال ربع المال بنصيبه
وطريق الجبر في ذلك أن تأخذ ثلث مال فتعطي الابن الموصى له ثلاثة أرباعه لأنه أوصى له بكمال الربع بنصيبه ونحن نعلم أن الربع ثلاثة أرباع الثلث فلهذا تعطيه ثلاثة أرباع الثلث ثم تسترجع منه بالنصيب شيئا فتضمه إلى ما يبقى من الثلث وتعطي الموصى له الآخر ثلث ما يبقى وهو ثلث شيء وثلثي ربع الثلث بقي معنا ثلثا ربع الثلث وثلثا شيء فتضم ذلك إلى ثلثي المال فيصير ثمانية أجزاء وثلث جزء من اثنى عشر جزءا من مال وثلثي شيء وذلك يعدل خمسة أشياء لأنا جعلنا النصف شيئا فقلنا شيء قصاص بمثله يبقي ثمانية معنا أجزاء وثلثا جزء من اثنى عشر جزءا من مال يعدل ذلك أربعة أشياء وثلثا وأربعة وثلث مثل نصف ثمانية وثلاثين فيتبين أن كل جزء بمعنى شيء واحد وإنا في الابتداء أعطينا الابن ثلاثة أجزاء ثم استرجعنا منه بالنصيب شيئا وذلك بمعنى جزء يبقي له بالوصية بالتكملة جزء واحد فكان الباقي من الثلث ثلاثة أجزاء أعطينا الموصى له بثلث ما يبقى جزءا(28/108)
ص -55- ... واحدا يبقي جزء وإن ضممنا ذلك إلى ثلثي المال ثمانية أجزاء فيكون عشرة بين خمسة بنين لكل بن جزآن مثل النصيب الذي جعلناه مستثنى وهو الشيء والله أعلم.
باب العين بالدين
قال رحمه الله: "وإذا مات الرجل وترك ابنين له على أحدهما دين عشرة دراهم وترك عشرة عينا ولا مال له غير ذلك ولا وارث له غيرهما وأوصى بالثلث فإن الفريضة من ثلاثة الثلث واحد ولكل واحد من الابنين واحد فاطرح نصيب الذي عليه الدين واقسم العين على سهمين للموصى له خمسة وللابن خمسة"وفي تخريج المسألة طريقان أحدهما أن حق الموصى له بالثلث في سهم من ثلاثة وحق كل بن في سهم والابن المديون مستوف حقه مما عليه وزيادة فهو لا يزاحم الآخرين في قسمة العين ولكن العشرة العين بين الموصى له وبين الابن الذي لا دين عليه نصفان لاستواء حقيهما في التركة فإذا أخذ الابن الذي لا دين عليه خمسة تبين أن الابن المديون صار مستوفيا مثل ذلك مما عليه خمسة وأن المتعين من التركة خمسة عشر أعطينا الموصى له بالثلث ثلث ذلك خمسة فاستقام إلى أن يتيسر خروج ما بقي من الدين فإذا تيسر ذلك أمسك الابن المديون تمام نصيبه مما عليه وذلك ستة وثلثان وأدى ثلاثة وثلثا فكان ذلك بين الابن الذي لا دين عليه وبين الموصى له نصفين كما كانت العشرة العين فأخذ الموصى له مرة خمسة ومرة درهما وثلثين وذلك ستة وثلثان ثلث العشرين وسلم لكل بن ستة وثلثان.(28/109)
وطريق آخر: أن الدين في حكم التاوي ما لم يخرج فلا يعتبر في القسمة ولكن العشرة العين تقسم أثلاثا فيأخذ الموصى له ثلثها ثلاثة وثلثا والابن الذي لا دين عليه مثل ذلك ويبقي ثلاثة وثلث نصيب الابن المديون إلا أنه لا يعطي له ذلك فإن لهما عليه هذا المقدار وزيادة وصاحب الدين متى ظفر بجنس حقه من مال المديون يكون له أن يأخذه فهما يأخذان ذلك بهذا الطريق فيقتسمانه نصفين لاستواء حقيهما في ذمته فحصل لكل واحد منهما خمسة إلا أن يتيسر خروج ما بقي من الدين ثم القسمة كما بينا.
وطريق الجبر فيه أن جزءا من الدين قد تعين باعتبار أنه نصيب الابن المديون وحاجتنا إلى معرفة مقدار ذلك فالسبيل أن تجعل الخارج من الدين شيئا وتضمه إلى العشرة العين فتقسم ذلك أثلاثا للموصى له الثلث وذلك ثلاثة دراهم وثلث ثلث شيء ولكل واحد من الاثنين مثل ذلك وحاجتنا إلى شيئين لأنا جعلنا الخارج من الدين شيئا وهو نصيب أحد الاثنين فكان حاجتنا إلى ستين وثلثي شيء قصاص بمثله يبقي في يد الاثنين ستة وثلثان وذلك يعدل شيئا وثلث شيء وإذا كانت ستة وثلثين يعدل شيئا وثلث شيء عرفنا أن الذي يعدل الشيء من الدراهم خمسة وإنا حين جعلنا الخارج من الدين شيئا كان ذلك بمعنى خمسة دراهم ثم أعطينا الموصى له ثلث العشرة وثلث شيء وذلك خمسة دراهم ثم التخريج إلى آخره كما بينا.
وكذلك لو كانت الوصية بثلث العين والدين لأن المتعين من الدين قدر الثلث وزيادة(28/110)
ص -56- ... فيجب تنفيذ وصية الموصى له باعتبار ما تعين من الدين فكان هذا والوصية بثلث المال سواء
ولو لم يوص له بالثلث ولكنه أوصى له بربع ماله فالعين بين الموصى له وبين الابن الذي لا دين عليه على خمسة لأن أصل الفريضة من ثمانية لحاجتنا إلى الحساب إذا رفعنا منه الربع يقسم ما بقي نصفين وذلك ثمانية للموصى له سهمان ولكل بن ثلاثة ثم على أحد الطريقين تطرح سهام الابن المديون وتقسم العين بين الموصى له والابن الآخر على مقدار حقهما فيضرب الابن فيها بثلاثة والموصي له بسهمين فكانت القسمة على خمسة للموصى له خمسا العشرة وهو أربعة دراهم وللابن ثلاثة أخماسها ستة وظهر أن المتعين من الدين ستة باعتبار نصيب الابن المديون فيكون المتعين في الحاصل ستة عشر وقد نفذنا الوصية في ربعها أربعة إلى أن يتيسر خروج ما بقي فيمسك الابن المديون تمام نصيبه مما عليه وذلك سبعة ونصف ويؤدي درهمين ونصفا فيقسم ذلك بين الموصى له والابن الآخر على خمسة خمسها وهو درهم للموصى له فقد أخذ أربعة مرة ومرة درهما وذلك خمسة كمال ربع العشرين وحصل للابن الآخر مرة ستة ومرة درهم ونصف ذلك سبعة ونصف وسلم للابن المديون مما عليه مثل ذلك فاستقام.
وعلى الطريق الآخر: لا يعتبر الدين في القسمة وتقسم العين بينهم على ثمانية للموصى له ربعها وذلك درهمان ونصف وللابن الذي لا دين عليه ثلاثة أثمانها وثلاثة أرباعها وللابن المديون مثل ذلك إلا أنه لا يعطي له ذلك لأن عليه لهما فوق ذلك فيستوفيان ذلك من حقهما ويقتسمانه أخماسا على مقدار حقهما في ذمته خمسا ذلك وهو درهم ونصف للموصى له فحصل له أربعة وثلاثة أخماسه درهمان ونصف وربع للابن الذي لا دين عليه يحصل له ستة إلى أن يتيسر خروج بقية الدين ثم القسمة كما بينا.(28/111)
وعلى طريق الجبر: يجعل الخارج من الدين شيئا ويضم العشرة إلى العين فيقسم بينهم للموصى له ربعها درهمان ونصف وربع شيء وللابنين ما بقي وحاجة الابنين إلى شيئين لأنا جعلنا الخارج من الدين شيئا وفي يدهما ثلاثة أرباع شيء فيجعل ذلك قصاصا بمثله يبقى في يدهما سبعة دراهم ونصف يعدل شيئا وربع شيء فظهر أن الدين يعدل من الدراهم ستة وأنا حين جعلنا الخارج من الدين شيئا كل ذلك بمعنى ستة دراهم ثم التخريج كما بينا.
ولو كان أوصى له بالخمس كان له ثلث العين وللابن ثلثاه لأن أصل الفريضة من خمسة لحاجتنا إلى حساب له خمس صحيح وأقل ذلك خمسة للموصى له سهم والباقي وهو أربعة بين الاثنين نصفين
فعلى إحدى الطريقين يطرح نصيب الابن المديون ويقسم العين بين الموصى له والابن الآخر فيضرب الابن فيها بسهمين والموصى له بسهم فله ثلث العشرة العين وللابن ثلثاها فظهر أن المتعين من الدين ثلثاها أيضا ستة وثلثان وأن جملة العين ستة عشر وثلثان أخذ الموصى له خمس ذلك ثلاثة وثلثا إلى أن يتيسر خروج بقية الدين فيمسك الابن المديون حصته مما عليه وذلك ثمانية دراهم ويؤدي درهمين فيكون بين الآخرين على ثلاثة للموصى له الثلث وهو ثلثا درهم فقد أخذ مرة ثلاثة وثلثا ومرة ثلثي درهم فذلك أربعة خمس العشرين(28/112)
ص -57- ... والباقي وهو ستة عشر بين الاثنين نصفان لكل واحد منهما ثمانية وقد أخذ الابن مرة ستة وثلثين ومرة درهما وثلثا وذلك ثمانية كمال حقه وعلى الطريق الآخر الدين تاو فتقسم العين بينهما أخماسا يأخذ الموصى له خمسها درهمين والابن خمسها أربعة دراهم وذلك مثل نصيب الابن المديون إلا أنه لا يعطي ذلك ولكنهما يأخذ أنها قصاصا مما لهما عليه فيقتسمان ذلك أثلاثا على مقدار حقيهما فله ثلث ذلك وهو درهم وثلث للموصى له فقد أخذ مرة درهمين ومرة درهما وثلث وذلك ثلاثة وثلث وأخذ الابن مرة أربعة ومرة درهمين وثلثين وذلك ستة وثلثان ثم التخريج كما بينا.
وعلى طريق الجبر: يجعل الخارج من الدين شيئا فتضمه إلى العشرة العين وتعطي الموصى له خمس ذلك درهمين وخمس يبقى في يد الاثنين ثمانية دراهم وأربعة أخماس وحاجتنا إلى شيئين وأربعة أخماس شيء فيجعل أربعة أخماس شيء قصاصا بمثلها يبقى في يدهما ثمانية دراهم يعدل شيئا وخمس شيء فظهر أن الدين بعدل الشيء ستة وثلثان وإنا حين جعلنا للمتعين من الدين شيئا كان ذلك ستة وثلثين ثم التخريج كما ذكرنا.
ولو كان أوصى له بدرهم أو بأكثر إلى خمسة دراهم أخذ وصيته كلها من العين لأن الوصية بالدراهم المرسلة تنفذ من الثلث مقدما على حق الوارث وقد بينا أن ثلث ما تعين من المال خمسة لأن جميع المتعين خمسة عشر وإذا كانت الوصية بخمسة دراهم أو أقل أمكن تنفيذها في الحال من ثلث العين فكذلك وجب تنفيذها بخلاف الأول فالموصى له بالثلث شريك الوارث في التركة.(28/113)
ألا ترى: أن هناك يزداد حقه بزيادة التركة وينتقص بنقصانها فلهذا كانت القسمة كما بينا ولو أوصى بالثلث وبالربع كان للابن نصف العين ونصف العين بين صاحبي الوصية على سبعة لصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة لأن الوصيين حازا الثلث ولكن الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث المتعين من المال وقد بينا أن الثلث المتعين خمسة دراهم نصف العين فيعزل ذلك لتنفيذ الوصيتين ثم يضرب كل واحد منهما بجميع حقه فيحتاج إلى حساب له ثلث وربع وذلك اثنا عشر فثلثها أربعة وربعها ثلاثة فإذا ضرب كل واحد منهما بحقه كانت القسمة بينهما على سبعة أسهم لصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة.
ولو أوصى لرجل بثلث العين ولآخر بربع العين والدين كان نصف العين بين صاحبي الوصية يضرب فيها صاحب العين بثلاثة وثلث وصاحب ربع العين والدين بخمسة لأنه قد تعين من الدين مقدار خمسة فالموصى له بربع العين والدين يضرب في محل الوصية بجميع حقه وذلك خمسة دراهم والموصى له بثلث العين يضرب بجميع وصيته وذلك ثلاثة دراهم وثلث فيقسم محل الوصية وهو نصف العين بينهما على ثمانية وثلث ثم يحتسب الابن المديون نصيبه مما عليه ستة وثلثان ويؤدي ما بقي فيأخذ الابن نصفه وصاحب الوصية نصفه فيقتسمان ذلك بينهما على ثمانية وثلث كما فعلاه في القسمة الأولى.(28/114)
ص -58- ... ولو أوصى بربع العين لرجل وثلث العين والدين لآخر فإن لأهل الوصية نصف الدين يضرب فيها صاحب ربع العين بجميع وصيته درهمين ونصف وصاحب ثلث العين والدين بجميع وصيته ستة وثلاثين لأن المتعين من الدين فوق ثلثها فيكون محل الوصية بينهما على تسعة وسدس إلى أن يتيسر خروج ما بقي من الدين ثم التخريج كما بينا ولو لم يوص بهذا ولكنه أوصى بنصف المال كله الدين والعين وأجاز الابن المديون ولم يجز الآخر فإن العين بين الابن وصاحب الوصية نصفان لأنه لا معتبر بإجازة الابن المديون في قسمة العين والابن الآخر لم يجز الوصية فكان الموصى له بالنصف في المقاسمة معه كالموصى له بالثلث فلهذا يقتسمان العين نصفين إلى أن يتيسر خروج الدين فحينئذ يحتسب للابن المديون نصيبه مما عليه خمسة لأنه مجيز للوصية فيجعل في حقه كأنهما أجازا ولو أجازا كان للموصى له نصف المال عشرة وكل بن خمسة فلهذا يحتسب للابن المديون خمسة ويؤدي مما بقي وهو خمسة فيأخذ الابن منها درهما وثلثين لأنه لم يجز الوصية فيجعل في حقه كأنهما لم يجيزا وتمام حقه ستة وثلثان وقد وصل إليه خمسة فيأخذ الأب درهما وثلثين كمال حقه ويأخذ صاحب الوصية ثلاثة وثلثا فحصل للموصى له ثمانية وثلث سبعة وثلثان بلا منة أحد لأنه ثلث جميع المال ودرهم وثلثان حصة المجيز فضل ما بين الثلث والنصف لأن ذلك الفضل ثلاثة وثلث فحصة المجيز نصفها درهم وثلثان.(28/115)
ولو ترك ابنا وامرأة وعشرة دراهم عينا وعشرة على امرأته دينا وأوصى لرجل بدرهمين ولآخر بما بقي من الثلث ولآخر بالربع فأبوا أن يجيزوا فإن الفريضة من اثنى عشر الثلث أربعة وللمرأة الثمن بعد الثلث وذلك سهم فاطرح نصيبها لأن عليها فوقها واقسم العين على أحد عشر سهما سبعة للابن والأربعة لأهل الوصية فإذا تبين محل الوصية بهذه القسمة يضرب فيها صاحب الدين بدرهمين وصاحب الربع بما أصاب ثلاثة ولم يرد بقوله بضرب صاحب الربع ثم ما أصاب ثلاثة دراهم وإنما أراد به ثلاثة أسهم من سهام الفريضة فقد سمي له الربع وذلك ثلاثة أسهم من اثنى عشر وقد فسره في كتاب العين والدين كذلك إلى أن يتيسر خروج الدين فحينئذ المرأة يحسب نصيبها مما عليها وذلك درهم وخمسة أثمان وثلث لأن الوصايا قد استغرقت الثلث فإن ميراثها ثمن الثلثين وثلثا المال ثلاثة عشر وثلث وثمن ذلك درهم وخمسة أثمان وثلث ثمن أو ثمن ثلث درهم فهما سواء ويؤدي ما بقي فيكون بين الابن وصاحب الوصية بالربع وصاحب الوصية بالدرهمين مقسوما على نحو ما بينا في العشرة العين ولا شيء لصاحب الوصية مما بقي لأنه لم يبق من الثلث بعد الوصيتين شيء فثلث المال ستة وثلثان وإحدى الوصيتين درهمان والأخرى الربع خمسة فذلك سبعة فعرفنا أن الوصيتين جاوزتا الثلث فلا يكون لصاحب ما بقي شيء.
ولو ترك ابنين وعشرة عينا وعشرة على أحد ابنيه دينا وأوصى لرجل بثلث العين ولآخر بربع الدين فإن العين تقسم أثلاثا فيأخذ صاحب ثلث العين ثلثها والابن الذي لا دين عليه ثلثها(28/116)
ص -59- ... ويبقي ثلثها نصيب الابن المديون فلا يعطى ذلك بل يضرب فيها الابن بمابقي له وصاحب الوصية بالدين بربع الدين لأنه قد تعين من الدين ربعها وزيادة فيضرب هو بجميع وصيته ويقسم نصيب الابن المديون وذلك ثلاثة وثلث بينهما على هذا ولا شيء للموصى له بثلث العين من هذا لأنه قد استوفى كمال حقه فإذا تيسر خروج الدين أمسك الابن المديون نصيبه مما عليه وذلك سبعة وقيراط لأنه أوصى بثلث العين وهو ثلاثة وثلث وربع الدين وذلك درهمان ونصف فيكون خمسة وخمسة أسداس وذلك دون جميع المال فيعطي كل واحد منهما كمال حقه يبقى أربعة عشر درهما وسدس بين الابنين نصفين لكل واحد منهما سبعة وقيراط والقيراط نصف السدس فلهذا قال يمسك للابن المديون نصيبه مما عليه سبعة وقيراط ويؤدي ما بقي فيقتسمه صاحب ربع الدين والابن الذي لا دين عليه على ما بقي لكل واحد منهما كما كانا اقتسما ثلث العين بينهما على مقدار حق كل واحد منهما فقد خرج جواب هذه المسائل في كتاب العين والدين بخلاف هذا وما ذكرنا هناك أدق نبين ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
ولو ترك ابنين له على أحدهما عشرة دراهم دينا وترك عشرة عينا وترك رجلين غريمين على كل واحد منهما عشرة دراهم فأوصى لكل واحد من الغريمين بما على صاحبه وأوصى لآخر بثلث العين فجاء أحد الغريمين بما عليه فأداه والآخر لا شيء له فإن هذه العشرة العين والعشرة التي على الابن عين كلها تقسم على ستين سهما فيأخذ أهل الوصية ما أصاب ثلاثة عشر وثلثا ويأخذ الابنان ما أصابا ستة وأربعين وثلثين لكل بن ثلاثة وعشرون وثلث.(28/117)
والوجه في تخريج المسألة أن نقول: وصيته لكل واحد من الغريمين بما على صاحبه ووصيته لكل واحد منهما بما عليه سواء لأنه لا فائدة في أن يأخذ كل واحد منهما من صاحبه مثل ما يعطيه فلأن حق كل واحد منهما دين في ذمة صاحبه وقد ظفر كل واحد منهما بجنس حقه مما هو لصاحبه وهو ما في ذمته ولو كان في يده كان له أن يأخذه قضاء من حقه فإذا كان في ذمته يتملكه أيضا قضاء لحقه إذا عرفنا هذا فنقول حين أدى أحدهما ما عليه فقد صار المال العين عشرين فتبين أن جميع الدين الذي على الابن الآخر قد تعين لأن الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث وإذا ضممنا ما على الابن إلى العين كان ثلث الجملة عشرة ونحن نتيقن أن مقدار الثلث يسلم للابن المديون فلهذا تعين جميع ما عليه ثم حق الموصى له بثلث العين في ثلاثة وثلث حق كل واحد من الغريمين في عشرة وذلك ثلاثة وعشرون وثلث وإذا صار الثلث بين أصحاب الوصايا على ثلاثة وعشرين وثلث فالثلثان ستة وأربعون وثلثان فالجملة سبعون إلا أنه يطرح نصيب الغريم المفلس لأن عليه فوق حقه وزيادة فلهذا جعلت القسمة فيما بقي وهو ستة وأربعون وثلثان بين الابنين نصفين لكل واحد منهما ثلاثة وعشرون وثلث فيحسب للابن المديون مما عليه ويستوفي الفضل من العين ويحسب للغريم المقدم نصيبه مما عليه فيحصل تنفيذ الوصية في ثلاثة وعشرين وثلث
وللاختصار وجه بأن يجعل كل ثلاثة وثلث سهما فيكون حق أصحاب الوصايا سبعة أسهم والجملة على أحد وعشرين وثلثين ثم(28/118)
ص -60- ... يطرح نصيب المقدم ثلاثة ويقسم الثلثان على ثمانية عشر سهما فيكون كل سهم من ذلك درهما وثلثين فيحصل للموصى له ثلث العين درهم وثلثان وللموصى له المؤدي خمسة دراهم ولكل واحد من الابنين أحد عشر فيستوفي الابن الذي لا دين عليه أحد عشر وثلثين فيستوفي المديون درهما وثلثين فيسلم له ما عليه وهو عشرة ويحسب للموصى له المقدم كما عليه خمسة أيضا فيحصل تنفيذ الوصية في أحد عشر وثلثين ويسلم للابنين ضعف ذلك إلى أن يتيسر خروج ما بقي من الدين فحينئذ يقسم الكل على أحد وعشرين سهما فيمسك الغريم المديون نصيبه مما عليه ويؤدي ما بقي فيقتسمه أهل الوصية والورثة على ما اقتسموا عليه قبل ذلك.(28/119)
ولو ترك ابنين وعشرة دينا على أحدهما وعشرة عينا وأوصى لرجل بثلثي الدين فنصيب العين للابن الذي لا دين عليه والنصف الآخر هو نصيب الذي عليه الدين فكأنه خرج عليه مما عليه فيبدأ بصاحب الوصية ويأخذ الخمسة كلها لأن الوصية في محل غير مقدم في التنفيذ على حق الورثة إذا كان يخرج من الثلث وها هنا مقدار الخمسة يخرج من الثلث فباعتبار ما تعين من الدين وهو نصيب الابن المديون فيأخذ الموصى له ذلك إذ لا فائدة في أن يدفع ذلك إلى المديون ثم يسترده باعتبار دينه قبله فإذا تيسر خروج ما على المديون يحسب الذي عليه الدين نصيبه مما عليه ستة وثلاثين فيؤدي الفضل ثلاثة وثلثا ويقتسمانه نصفين كما اقتسما العشرة العين فيحصل للموصى له ستة وثلثان مقدار ثلثي الدين وهو ثلث جميع المال ويسلم لكل بن ستة وثلثان"ولو أوصى مع هذا بثلث العين لآخر فإن نصف العين بين صاحبي الوصية"لأن الوصية إنما تنفذ من الثلث وباعتبار ما تعين من الدين ثلث المال نصف العين ثم يضرب فيه صاحب ثلث العين بثلاثة وثلث وصاحب ثلثي المال بثلاثة وثلث فيقتسمانه نصفين ويجب للذي عليه الدين نصيبه مما عليه ستة وثلثان ويؤدي ثلاثة وثلثا فيأخذ الابن نصفها وصاحب الوصية نصفها بينهما نصفان قال الحاكم الجليل رحمه الله"وهذا الجواب على هذا السؤال غلط لأنه أوصى لأحدهما بثلثي الدين فإما أن يضرب بجميع وصيته ستة وثلاثين أو بما تعين من الدين خمسة فإما أن يضرب بثلاثة وثلث كما يضرب به صاحب ثلث العين فهذا لا معنى له"وقد أجاب بمثله في كتاب العين والدين وإذا كانت الوصية بثلث الدين وهو صواب لأن ثلث الدين وثلث العين سواء لكن مشايخنا رحمهم الله على تصويب الحاكم فيما ذكر.
قال رحمه الله:"ولما ذكره في الكتاب وجه صحيح أيضا فإن نصف الدين صار في حكم المتعين ولو تعين جميعه لكان الموصى له بثلثي الدين يضرب في محل الوصية بستة وثلاثين فإذا تعين نصفه فإنما يضرب بثلاثة وثلثين".(28/120)
يوضحه: أن المتعين من الدين في حق وصية صاحب الدين لا يزيد على ستة وثلث لأن وصية الموصى له بثلث العين في ثلث العين مقدم وإنما يبقي للابنين ثلثا العين بينهما نصفين(28/121)
ص -61- ... لكل واحد منهما ثلاثة وثلث والمتعين من الدين في حق الموصى له بالدين قدر نصيب الابن المديون من العين وذلك ثلاثة وثلث فلهذا قال يضرب بثلاثة وثلث في محل الوصية كما يضرب الموصى له بثلث العين ولكن هذا مستقيم قبل أن يخرج ما بقي من الدين فبعد خروج الدين لا وجه للقسمة بينهما مناصفة إلا أن تكون المسألة على ما ذكره في كتاب العين والدين.
أوصى لأحدهما بثلث الدين ولآخر بثلث العين ولو ترك مع هذا ثوبا قيمته خمسة دراهم فأوصى لرجل بثلث ماله وأوصى لآخر بالثوب فإن نصيب الثوب من الثوب أربعة غير ربع ونصيب صاحب الثلث أربعة غير ربع ويكون ثلث ذلك في الثوب وثلثاه في العشرة ويأخذ الابن الذي لا دين عليه سبعة ونصفا ويأخذ ما بقي من الثوب وتمام سبعة ونصف مما بقي من العشرة ويحسب للذي عليه الدين نصيبه ثمانية وثلثا إلى آخره.(28/122)
ووجه تخريج المسألة أن نقول: اجتمع في الثوب وصيتان وصية بجميعه وثلثه فتكون القسمة على طريق المنازعة عند أبي حنيفة رحمه الله ويكون الثوب بينهما على ستة خمسة للموصى له بالثوب وسهم للموصى له بالثلث ثم كل خمسة من العشرة العين تكون على ستة وذلك اثنا عشر للموصى له بالثلث من ذلك أربعة تبلغ سهام الوصايا عشرة وحق الورثة في ضعف ذلك عشرين إلا أنه يطرح سهام الابن المديون في الحال ويقسم العين وهو خمسة عشر درهما في الحاصل سبعة ونصف للابن الذي لا دين عليه والثوب مع درهمين ونصف بين الموصى لهما نصفان نصف ذلك وهو ثلاثة وثلث وثلاثة أرباع للموصى له بالثوب كله في الثوب ونصفه وهو ثلاثة وثلث وثلاثة أرباع للموصى له بثلث المال ثلث ذلك في الثوب وثلثاه في العشرة على حساب أصل حقه في الثوب والعشرة فيسلم له من العشرة درهمان ونصف ومن الثوب قدر درهم وربع إلى أن يتيسر خروج الدين هذا كله مستقيم إلا حرفا وقع فيه الغلط من جهة الكتاب وهو أنه قال يأخذ الابن الذي لا دين عليه ما بقي من الثوب وتمام سبعة ونصف مما بقي من العشرة ولم يبق من الثوب شيء لأن ثلاثة أرباع الثوب أخذه الموصى له بالثوب وربعه أخذه الموصى له بثلث المال على ما بينا من تخريج قول أبي حنيفة وكذلك عندهما لو قسمنا الثوب على طريق العول يكون الثوب بينهما هكذا فأي شيء بقي من الثوب حتى يأخذه الابن فعرفنا أن الصحيح أنه يأخذ سبعة ونصفا من العشرة العين فإذا تيسر خروج الدين فنقول جملة المال خمسة وعشرون وإنما تنفذ الوصية في ثلثها وذلك ثمانية وثلث ويكون نصيب كل بن ثمانية وثلثا أيضا فيحسب للابن المديون نصيبه مما عليه ويؤدي درهما وثلثين ثم يستقبل القسمة في الثلث وهو ثمانية وثلث بين صاحبي الوصية ويضرب معه فيها صاحب الثوب بخمسة أسداس الثوب وذلك أربعة دراهم وثلث ويضرب معه الآخر بسبعة ونصف وذلك ثلث العشرين ستة وثلثان وسدس الثوب خمسة أسداس الثوب فيكون سبعة ونصفا فما(28/123)
أصاب صاحب الثوب كان في الثوب وما أصاب الآخر كان في الثوب له من ذلك خمس ما بقي منه والباقي من نصيبه في الدراهم لأن حقه في الأصل كان في الثوب في(28/124)
ص -62- ... ثلاثة مقدار ذلك درهم وثلثان وفي المال ستة وثلثان فإذا جعلت كل درهم وثلثين سهما يكون ذلك أربعة فعرفنا أن أصل حقه في المحلين أربعة أخماس خمس نصيبه في الثوب وأربعة أخماسه في الدراهم
وإن شئت قلت يأخذ من الثوب مثل ثلث ما أصاب صاحب الثوب ويأخذ ما بقي من الدراهم وهذا والأول في المعنى سواء إذا تأملت وإن مثل ثلث ما أخذه صاحب الثوب خمس حق صاحب ثلث المال وإذا ترك ابنين ومائتي درهم عينا وثلاثمائة درهم على أحد ابنيه دينا وسيفا قيمته مائة فأوصي لرجل بالسيف ولآخر بثلث العين فلأهل الوصية نصف العين يضرب فيه صاحب السيف بخمسة أسداس السيف وصاحب الثلث بسدس السيف وثلث المائتين إلى آخره لأن قسمة السيف بينهما على طريق المنازعة عند أبي حنيفة وقيمة السيف على ستة خمسة أسداسه لصاحب السيف وسدسه لصاحب ثلث العين ثم صار كل مائة من العين على ستة أيضا فذلك اثنا عشر للموصى له بالثلث ثلث ذلك أربعة فتكون سهام الوصيتين عشرة وإذا صار الثلث عشرة فالثلثان عشرون ثم يطرح سهام الابن المديون لأن عليه فوق حقه وتقسم العين بين الابن الذي لا دين عليه وبين الموصى لهما نصفين للموصى لهما بالسيف وقدر الخمسين من المائتين وللابن الذي لا دين عليه قدر مائة وخمسين من العين ويحسب للمديون مثله مما عليه فيستقيم الثلث والثلثان ثم المعزول لتنفيذ الوصية بين الموصى لهما نصفان لاستواء حقهما نصف ذلك وذلك خمسة وسبعون للموصى لهما بالسيف كله في السيف وذلك ثلاثة أرباع السيف ونصف ذلك للموصى له بثلث العين ثلث ذلك في السيف وذلك خمسة وعشرون وثلثاه في المائتين وذلك خمسون على مقدار أصل حقه في المحلين إلى أن يتيسر خروج الدين فحينئذ يحسب للابن المديون نصيبه مما عليه مائتا درهم لأن جملة المال خمسمائة والسيف وقيمته مائة وذلك ستمائة تنفذ الوصية في ثلثها ويسلم لكل بن ثلثها وذلك مائتا درهم ويؤدي مائة فإذا أداها اقتسموا الثلث بينهم فيضرب فيه(28/125)
صاحب السيف بخمسة أسداس السيف وصاحب الثلث بسدس السيف وثلث خمسمائة فما أصاب صاحب السيف كان في السيف وما أصاب صاحب الثلث كان في السيف أو نقول الابن الآخر يأخذ من هذه المائة ما بقي من حقه وذلك خمسون درهما لأنه وصل إليه مائة وخمسون وحقه في مائتين لم يستقبل قسمة الثلث بين صاحبي الوصية على نحو ما ذكره.
قال الحاكم الجليل رحمه الله:"قوله يضرب بثلث خمسمائة خطأ بين لأنه إنما أوصى له بثلث العين فكيف يضرب بثلث العين والدين وقوله يضرب بسدس السيف أيضا غير سديد لأن الوصية بثلث العين لا تقع على العروض وإنما تقع على النقد خاصة"وقد ذكر نحو هذه المسألة في كتاب العين والدين فقال لو أوصى له بثلث العين وبثلث كذا وسمى تلك العروض وإذا حمل على ذلك وجب تنفيذ وصيتهما إذا خرج من الدين ثلاثة وثلاثون وثلث لأن وصيتهما تخرج الآن من ثلث ما يعين من المال أما طعنه في اللفظ الأول فهو على ما قاله وأما طعنه في اللفظ الثاني ففيه نظر لأن اسم العين فيما هو متعين بمنزلة اسم المال فيما(28/126)
ص -63- ... هو متمول واسم المال في الوصية يقع على كل ما يتمول مال الزكاة وغيره فيه سواء وإن كان في بعض المواضع يختص بمال الزكاة فكذلك اسم العين في الوصية يقع على كل متعين النقد والنسيئة فيه سواء وكأنه بالغ في البيان في كتاب العين والدين فسمى ذلك العروض لإزالة هذا الإبهام.
وأما قوله: إذا خرج من الدين ثلاثة وثلاثون وثلث فقد وجب تنفيذ وصيتهما فهو مستقيم وبيانه أن جملة العين من المال ثلاثمائة درهم وثلاثة وثلاثون وثلث وإنما يعزل ذلك لتنفيذ الوصيتين اللتين كانتا بالسيف وقيمته مائة وبثلث المائتين وذلك ستة وستون وثلثان فعرفنا أن بخروج ثلاثة وثلاثين وثلث من الدين يجب تنفيذ الوصيتين وأنه يتعين مما بقي من الدين مثل نصف العين بسبب الابن المديون.
ولو ترك ابنين وامرأة وعلى امرأته عشرة دينا وعلى أحد ابنيه دين عشرة وترك ثوبا يساوي خمسة وأوصى بالثوب لرجل فإن الثوب يقسم بين الموصى له والابن الذي لا دين عليه على خمسة عشر سهما لصاحب الوصية ثمانية وللابن سبعة لأن الفريضة إنما تستقيم من أربعة وعشرين للموصى له ثمانية وللمرأة ثمن ما بقي سهمان ولكل بن سبعة ثم تطرح سهام الابن وسهام المرأة لأن عليها فوق ذلك يبقى الثوب فيضرب فيه الابن الذي لا دين عليه بمقدار حقه وهو سبعة والموصى له بثمانية فيكون بينهما على خمسة عشر سهما ويحسب للابن المديون نصيبه مما عليه وكذلك للمرأة نصيبها مما عليها فتستقيم القسمة إلى تيسر خروج الدينين فحينئذ يسلم لصاحب الثوب جميع الثوب لأنه موصى له بالعين وقيمته دون الثلث فيكون حقه فيه مقدما على حق الوارث ويبقى المال عشرين درهما للمرأة الثمن درهمان ونصف يمسك ذلك مما عليها ويؤدي سبعة ونصفا ولكل بن ثمانية وثلاثة أرباع فيمسك الابن المديون مما عليه نصيبه ويؤدي درهما وربعا فيحصل في يد الابن الذي لا دين عليه ثمانية وثلاثة أرباع مثل ما حبسه المديون فاستقام.(28/127)
ولو مات وترك ابنين وامرأتين على إحداهما مائة درهم وعلى أحد ابنيه مائة درهم وترك خادما تساوي مائة درهم فأعتقها عند الموت فإن الخادم تسعى في نصف قيمتها لأن العتق في مرض الموت وصية فتنفذ من الثلث وثلث ماله نصف العين وهو نصف رقبتها فيسلم لها ذلك وتسعى في نصف قيمتها للمرأة من ذلك ثمنه وللابن سبعة أثمانه فتصير المرأة المديونة مستوفية مما عليها مثل ما وصل إلى المرأة الأخرى والابن المديون مستوف مما عليه مثل ما وصل إلى الابن الآخر فيستقيم الثلث والثلثان إلى أن يتيسر خروج الدينين فحينئذ يرد على الخادم ما أخذ منها من السعاية لأنه تبين أن جميع المال ثلاثمائة وقيمتها مائة فهي خارجة من الثلث فيرد عليها ما أخذ منها والمال المقسوم بين الورثة مائتا درهم ثمن ذلك للمرأتين وذلك خمسة وعشرون لكل واحدة منهما اثنا عشر ونصف فتمسك المديونة مما عليها مقدار حقها وتؤدي سبعة وثمانين ونصفا إلى الابن الذي لا دين عليه ويمسك الابن المديون نصيبه مما عليه سبعة(28/128)
ص -64- ... وثمانين ونصفا ويؤدي ما بقي اثنا عشر ونصف إلى المرأة التي لا دين عليها فقد وصل إلى كل واحد منهما كمال حقه.
قال: "وإذا ترك ابنين على كل واحد عشرة وترك رجلين على كل واحد منهما عشرة وأوصى لكل واحد من الرجلين بما على صاحبه وأوصى لآخر بالثلث ثم أدى أحد الرجلين فإن هذه العشرة والعشرين التي على الابنين يجمع كله فيقسم بين الورثة وبين صاحب الثلث والذي أدى العشرة على ثلاثة وأربعين سهما"لأن وصيته لكل واحد منهما بما على صاحبه ووصيته بما عليه سواء وبأداء أحدهما صار ما على الابنين في حكم المتعين أما من حيث الظاهر فلأن الوصية تنفذ من الثلث والثلثان يسلم لهما وذلك مقدار ما عليهما فمن حيث الحقيقة نصيب كل واحد منهما بالقسمة أكثر مما عليه
وبيان ذلك أن العشرة التي أدى أحد الغريمين صارت بين الموصى له بالثلث وبين المؤدي أسداسا فباعتبار القسمة على طريق المنازعة عند أبي حنيفة له السدس وللمؤدي خمسة وللآخر مما عليه مثل ذلك خمسة للموصى له بالثلث سهم وكذلك ما كان على كل بن يصير ستة فذلك اثنا عشر للموصى له بالسدس أربعة فجملة ما للموصى له بالثلث ستة ولكل واحد من الأخوين خمسة فذلك ستة عشر هذا مبلغ سهام الثلث والثلثان ضعف ذلك اثنان وثلاثون إلا أن نصيب الغريم الذي لم يؤد يطرح وذلك خمسة يبقى للأخوين أحد عشر سهما وللورثة اثنان وثلاثون وذلك ثلاثة وأربعون سهما أحد عشر من ذلك لأصحاب الوصيتين لصاحب الوصية بالثلث ستة ولصاحب العشرة خمسة وللورثة اثنان وثلاثون ونحن نعلم أن اثنين وثلاثين من ثلاثة وأربعين أكثر من ثلاثة فتبين أن نصيب كل واحد منهما فوق ما عليه فلهذا جعل ما عليهما كالمتعين في القسمة فإذا قدر الآخر على الأداء يحسب له نصيبه مما عليه وذلك أن يقسم المال أربعين درهما على ثمانية وأربعين سهما فيمسك نصيبه مما عليه خمسة ويؤدي ما بقي فيقسم بينهم على ثلاثة وأربعين سهما كما بينا في القسمة الأولى.(28/129)
ولو مات وترك ابنين وامرأة وخادما يساوي مائة درهم وترك على رجل مائة درهم وأوصى للرجل بما عليه وأوصى أن يعتق الخادم فإن الخادم يعتق منها خمسها وتسعى في أربعة أخماسها للورثة لأن الوصية بالعتق تقدم بالتنفيذ على سائر الوصايا فوصية الخادم مثل وصية الرجل الآخر لأن قيمتها مثل ما أوصى به للآخر فكان الثلث بينهما على سهمين والثلثان أربعة إلا أنه يطرح سهم المديون لأن عليه فوق نصيبه ويبقي الخادم فتضرب هي بسهم فيها والورثة بأربعة فلهذا يعتق خمسها وتسعى للورثة وتسعى في أربعة أخماس قيمتها فإذا أدى المديون ما عليه يحسب له نصيبه مما عليه وذلك في الحاصل ثلث ما عليه نصف ثلث جميع المال ويؤدي ما عليه ويدفع من ذلك إلى الخادم تمام الثلث من قيمتها ويأخذ الورثة الفضل فحصل للورثة من جهة كل واحد منهما ستة وثلاثون وثلثان ونفذ بالوصية لهما في ستة وستين وثلثين لكل واحد منهما وثلاثة وثلاثون وثلث هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما قول(28/130)
ص -65- ... أبي حنيفة رحمه الله فبخلاف هذا ذكره في كتاب العين والدين فقال إن الخادم يسعى في عشرة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا من قيمتها لأن من أصله أن الموصى له بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة لا يضرب بما زاد على الثلث من وصيته والموصى له بالعتق يضرب بجميع وصيته في الثلث وها هنا أوصى لكل واحد منهما بنصف المال والمديون إنما يضرب في الثلث بمقدار ثلث المال وذلك ستة وستون وثلثان والخادم تضرب بجميع قيمتها وهو مائة فإذا جعلت كل ثلاثة وثلاثين وثلث سهما صار ذلك خمسة أسهم للخادم ثلاثة وللمديون سهمان والثلثان عشرة ثم يطرح نصيب المديون ويضرب الورثة في الخادم بعشرة والخادم بثلاثة فلهذا قال تسعى في عشرة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا من قيمتها إلى أن يتيسر خروج الدين فحينئذ تكون القسمة بينهم على خمسة عشر فإذا قسمت الديون يصيبه مما عليه ستة وعشرون وثلثان لأن له سهمين من خمسة عشر فإذا قسمت المائتين على خمسة عشر كان كل سهم من ذلك ثلاثة عشر وثلثا فلهذا يمسك ستة وعشرين وثلثين ويؤدي ما بقي فإذا أداه رد على الخادم إلى تمام أربعين درهما لأن حقه في خمس المال في الحاصل وذلك ثلاثة من خمسة عشر وخمس المائتين أربعون فقد نفذنا الوصية لهما في ستة وستين وثلثين وأخذ الورثة من الخادم ستين درهما ومن المديون ثلاثة وسبعين وثلثا فذلك مائة وثلاثة عشر وثلث ضعف ما نفذنا فيه الوصية فاستقام.(28/131)
ولو ترك ابنين وألفين عينا وألفا دينا على رجل وأوصى لصاحب الدين بما عليه وأوصى لآخر بألف من العين فإنه يأخذ الموصى له بالعين أربعمائة لأن الثلث بينه وبين الموصى له المديون على سهمين فتكون الفريضة من ستة يطرح سهم المديون وتقسم العين بين الاثنين والموصى له بالعين على خمسة للموصي له بالعين خمسها وخمس العين أربعمائة فإذا خرج الدين فالموصى له المديون يحبس مما عليه مقدار حقه وذلك خمسمائة درهم نصف الثلث ويؤدي ما بقي فيقسم بينه وبين الورثة على خمسة له الخمس منه حتى يصير مستوفيا الخمسمائة كمال حقه ويحصل تنفيذ الوصية لهما في ألف ويسلم للورثة ألفان ولو كان أحد الألفين دينا على أحد الابنين كان لصاحب الوصية من الألف العين ثلثها لأن الابن المديون مستوف حقه مما عليه فيطرح نصيبه وذلك سهمان يبقى للابن الآخر سهمان وللموصى له بثلث العين سهم فكانت القسمة في الألف العين بينهما على ثلاثة ثلثها إلى أن يتيسر خروج الدينين فحينئذ يحسب للابن المديون نصيبه مما عليه وهو ثمانمائة درهم ويؤدي ما يبقى فيكون بينهما على ثلاثة فيأخذ الموصى له نصيبه من ذلك والموصى له الآخر يمسك نصيبه مما عليه خمسمائة ويؤدي ما بقي فيكون بينهم على خمسة للابنين أربعة وللموصى له بثلث العين واحد فيسلم في الحاصل لكل واحد من الابنين ألف درهم وقد نفذنا الوصية لهما في ألف لكل واحد منهما خمسمائة وإنما جعل نصيب الابن المديون مما عليه ثمانمائة قبل أداء الموصى له المديون لأن ما عليه يضم إلى الألف العين ثم يقسم بين الموصى له بالثلث وبين الابنين على خمسة(28/132)
ص -66- ... فللابن المديون خمسا ذلك وذلك ثمانمائة فلهذا قال يحسب له ثمانمائة ويؤدي مائتين والله أعلم بالصواب.
باب الدعوى من بعض الورثة للوارث
قال رحمه الله: "وإذا مات الرجل وترك ابنين فادعى أحدهما أختا يعنى بنتا للميت وكذبه الآخر فإن الأخت تأخذ من المقر بها ثلث ما في يده عندنا"وقال بن أبي ليلى خمس ما في يده لأنها إنما تأخذ منه الفاضل على نصيبه بزعمه بما في يده وأصل التركة بزعمه على خمسة لكل بن سهمان وللأخت سهم وفي يده نصف المال سهمان ونصف فالفاضل على نصيبه بزعمه نصف سهم من سهمين ونصف وذلك خمس ما في يده يوضحه أنه أقر لها بسهم من جميع التركة نصف ذلك السهم في يده ونصفه في يد أخيه والأخ يظلمها بالجحود فليس لها أن تأخذ شيئا مما لها في يد الجاحد وإنما تأخذ من المقر مقدار مالها من الحق في يده وذلك نصف سهم خمس ما في يده.(28/133)
وجه قولنا: أن الذي في يد المقر جزء من التركة وفي زعمها أن حقها في التركة في سهم وحق المقر في سهمين وزعمه معتبر في حقه فيضرب كل واحد منهما فيما في يده بحصته فيكون بينهما أثلاثا وهذا لأن الجاحد استوفى زيادة على حقه فيجعل ذلك في حقه بمنزلة ما لو غصبه غاصب فلا يكون ضررة على بعض الورثة دون البعض والحاصل أنه يجعل الجاحد مع ما في يده في حق المقر كالمعدوم فكأن جميع التركة ما في يد المقر وهو الوارث خاصة فيقسم ذلك بينه وبين أخته أثلاثا ولو لم يقر بأخت وأقر بزوجة لأبيه أعطاها سبعي ما في يده لأنه زعم أن الميت ترك ابنين وامرأة فتكون الفريضة من ستة عشر للمرأة سهمان ولكل بن سبعة فتضرب هي فيما في يده بسهمين وهو بسبعة فيعطيها سبعي ما في يده وعند بن أبي ليلى ما فضل نصيبه مما في يده وذلك نصف الثمن ولو كانت له امرأة معروفة سواها فإن المقر يعطي هذه التي أقر بها مما في يده لأن بزعمه الفريضة من ستة عشر لكل امرأة سهم ولكل بن سبعة فهو يضرب فيما هو في يده بسبعة والمقر لها بسهم فيعطيها ثمن ما في يده ولو ترك ابنا وبنتا وزوجة فادعت الابنة أختا لها أعطتها نصف ما في يدها لأنها تزعم أن حقهما في التركة سواء فإن كانت أقرت بأخ لها أعطت ثلثي ما في يدها لأنها تزعم أن حقه في التركة ضعف حقها(28/134)
ولو تركت زوجا وأما وأختا فادعت الأخت أخا وأقر بذلك الزوج وجحدت الأم فالفريضة من عشرين لأن الفريضة بزعم الأم تستقيم على ثمانية وأصلها من ستة للزوج النصف ثلاثة وللأم الثلث سهمان وللأخت النصف ثلاثة فتكون القسمة من ثمانية لها سهمان وهو الربع وعلى زعم الزوج والأخت الفريضة من ستة للزوج النصف ثلاثة وللأم السدس سهم والباقي بين الأخ والأخت أثلاثا لا يستقيم فانكسرت بالأثلاث فاضرب ستة في ثلاثة فتكون ثمانية عشر للأم ثلاثة وللزوج تسعة وللأخ أربعة وللأخت سهمان فإقرار الأخ والأخت لا يكون معتبرا في حق الأم وجحودهما لا يكون معتبرا في حقها فتجعل في حق المقرين(28/135)
ص -67- ... القسمة على الفريضة الثانية فحقها خمسة عشر وفي حق الأم تجعل القسمة على الفريضة الأولى وحقها ربع المال فالسبيل أن يضم إلى خمسة عشر مثل ثلاثة حتى لا يكون المضموم ربع المبلغ وهو نصيب الأم ومثل ثلاثة خمسة فإذا ضممت خمسة إلى خمسة عشر كان عشرين للأم خمسة فإذا أخذت نصيبها قسم ما بقي وهو خمسة عشر على ما اتفقوا عليه للزوج سبعة وللأخ أربعة وللأخت سهمان.
ولو تركت زوجا وأختا فأقر الزوج أن لها أخا وجحدت الأخت فإن الزوج يعطيه خمسي ما في يده لأن بزعمه الفريضة من ستة له ثلاثة وللأخ سهمان فيقسم ما في يده بينهما باعتبار زعمه فلهذا يأخذ خمسي ما في يده وكذلك لو أقر بأخت مثل الأخت المعروفة لأب وأم أو لأب فالفريضة من ستة للزوج ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة يعول بسهم وهو يزعم أن حقها في سهمين وحقه في ثلاثة فيعطيها خمس ما في يده.
ولو تركت زوجا وأختا لأب وأم فأقر الزوج بأخت لأب أعطاها ربع ما في يده لأنها خلفت بزعمه زوجا وأختا لأب وأم وأختا لأب فللزوج النصف ثلاثة وللأخت لأب وأم ثلاثة وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين سهم فهي تضرب فيما في يده بسهم وهو بثلاثة فلهذا يعطيها ربع ما في يده.
وكذلك لو أقر بأخ أو أخت لأم لأن نصيب المقر له سهم بزعمه وهو السدس وإن أقر بهما لأم أعطاها خمسي ما في يده لأنه يقول تركت زوجا وأختا لأب وأم وأخا وأختا لأم فيكون لهما الثلث سهمان من ستة ويعول بسهمين فحقهما بزعمه في سهمين وحقه في ثلاثة فلهذا يعطيهما خمسي ما في يده ولو تركت زوجا وأختا لأب فأقر الزوج بأم فإنه يعطيها خمسي ما في يده لأن حقهما بزعمه الثلث سهمان من ستة وحقه في ثلاثة.
ولو تركت زوجا وأختا لأب فأقر الزوج بأخت لأب وأم أعطاها نصف ما في يده لأنه يزعم أن حقها في التركة سواء لكل واحد منهما ثلاثة من سبعة.(28/136)
ولو ترك ابنين وامرأة فأقر أحد الابنين بامرأتين أعطاهما أربعة من خمسة وعشرين سهما مما في يده لأنه يزعم أنه خلف ثلاث نسوة وابنين فللنسوة الثمن بينهن أثلاثا لا يستقيم وللابن سبعة بينهما نصفان لا يستقيم فيضرب ثلاثة في اثنين فيكون ستة ثم يضرب ثمانية في ستة فيكون ثمانية وأربعين منه تصح القسمة لكل امرأة سهمان ولكل بن أحد وعشرون فهو يزعم أن حقها في أربعة أسهم يضربان بذلك فيما في يده وهو واحد وعشرون فلهذا أعطاهما أربعة من خمسة وعشرين مما في يده.
ولو ترك ابنين وأبوين فأقرت إحدى الابنتين بامرأة أعطتها ثلاثة من أحد عشر مما في يدها لأن الفريضة بزعمها من أربعة وعشرين للابنتين الثلثان ستة عشر وللأبوين السدسان ثمانية وللمرأة الثمن ثلاثة فتعول إلى سبعة وعشرين وهي المنبرية التي أجاب فيها علي رضي(28/137)
ص -68- ... الله عنه على المنبر على البديهة فقال انقلب ثمنها تسعا فإذا هي تزعم أن حق المرأة ثلاثة وحقها في ثمانية فيقسم ما في يدها بينهما على ذلك.
ولو ترك امرأة وابنة وأبوين فأقرت المرأة بامرأة أخرى أعطتها نصف ما في يدها لأن نصيب النساء من التركة في يدها وقد زعمت أن حقها في التركة في ذلك سواء فإن أقرت لها إحدى الابنتين أيضا فإنها تأخذ نصف ما في يد المرأة ولا تأخذ من الابنة شيئا لأن ميراث النساء الثمن واحدة كانت أو اثنتين وذلك الثمن في يد المرأة وهي مقرة للأخرى بنصيبها من ذلك فلا تأخذ من الابنة شيئا لذلك.
ولو ترك ابنتين وأبوين فأقرت إحدى الابنتين بامرأة وصدقتها الأم فالفريضة من تسعين سهما للابنتين ستون وللأبوين ثلاثون فخذ نصيب الأم خمسة عشر ونصيب الابنة ثلاثين وذلك نصف المال من الحاصل وأعط المرأة من ذلك تسعة وللابنة أربعة وعشرين وللأم اثنى عشر وقد طول هذه المسألة وهي تخرج من خمسة عشر لأنهما يزعمان أن المرأة لها ثلاثة وللابنة ثمانية وللأم أربعة مما في أيديهما وهو نصف المال يقسم بينهما على ذلك تضرب فيه المرأة بثلاثة والأم بأربعة والابنة بثمانية فتستقيم من خمسة عشر.
ولو جحدت الأم ولم تقر قسمت ما في يد الابنة على ثلاثة وثلاثين وهو تطويل غير محتاج إليه أيضا فقد بينا أن القسمة تستقيم من أحد عشر ولو لم تقر الابنة بالمرأة وأقرت الأم قسمنا ما في يدها على أحد وعشرين للأم اثنا عشر وللمرأة تسعة وهذا أيضا تطويل فإن القسمة تستقيم من سبعة لأنها تضرب فيما في يدها فحقها أربعة والمرأة ثلاثة فيكون بينهما على سبعة.(28/138)
ولو تركت زوجا وأخا فادعى الزوج ابنة كبيرة لها من غيره قاسمها ما في يده على أربعة ونصف للزوج سهم ونصف وللابنة ثلاثة لأنه يزعم أن حقه الربع سهم ونصف من ستة فيقسم ما في يده على اثني عشر وفي الحاصل تعطيه ثلثي ما في يدها لأنه يزعم أن حقه في ثمانية وحقها في أربعة فيعطيها ثلثي ما في يدها وإذا كان الورثة اثنين فأقر أحدهما على ابنة للابن بشركة أو بوديعة بعينها أو مجهولة وكذبه الآخر فإنه يستوفيه كله من نصيب المقر عندنا وقال بن أبي ليلى يأخذ منه بقدر حصته وهو قول الشافعي ومذهبنا مذهب علي رضي الله عنه وقد تقدم بيان المسألة في الإقرار.
قال: "ولو أقر بشركة كانت بينه وبين ابنه فإن كان أقر بشركة النصف أخذ من حصته الثلثين"لأنه يزعم أن المال على أربعة أسهم للمقر له سهمان ولكل بن سهم فهو يضرب فيما في يده بسهم والمقر له بسهمين فيعطي ثلثي ما في يده وإن كان أقر بالثلث أخذ منه النصف لأنه يزعم أن المال على ثلاثة أسهم للمقر له سهم ولكل بن سهم فحقه فيما في يده مثل حق المقر له بزعمه فلهذا أخذ منه نصف ما في يده.
قال: "وإذا كان للميت ابنان وعبدان لا مال له غيرهما قيمة كل واحد منهما ثلاثمائة فأقر(28/139)
ص -69- ... أحد الابنين أن أباهما أعتق هذا بعينه في مرضه وأقر الآخر أنه أعتق أحدهما لا يدري أيهما هو فإ ن الذي أقر له بعينه يعتق منه ثلثا نصيبه ويسعى له في الثلث الآخر في نصف قيمته ويعتق من نصيب الآخر الثلث منهما جميعا ويسعيان له في ثلثي نصيبه"لأن كل واحد من العبدين صار مشتركا بينهما نصفين والعتق في المرض وصية فالذي أقر بالعتق لأحدهما بعينه فقد أقر أنه عتق منه بقدر الثلث من مال الميت وذلك ثلثا رقبته وإقراره نافذ في نصيبه غير نافذ في نصيب شريكه فيعتق ثلثا نصيب ويسعى له في ثلث نصيبه والنصف من الآخر مملوك له وقد تعذر عليه استدامة الرق بإقرار شريكه فيسعى له الآخر في نصف قيمته وقد أقر الآخر بالثلث مبهما لأن العتق المبهم بالموت يشيع فيهما فينفد إقراره في نصيبه مبهما فيعتق ثلث نصيبه من كل واحد منهما ويسعى كل واحد منهما له في ثلثي نصيبه وإن أقر أحدهما أنه أعتق هذا بعينه وأقر الآخر أنه أعتق هذا بعينه سعى كل واحد منهما للذي أقر له في ثلث نصيبه منه وللذي أنكر عتقه في جميع نصيبه منه لأن إقراره حجة عليه دون صاحبه وقد تعذر استدامة الرق في نصيبه من الآخر بإقرار صاحبه.
ولو قال أحدهما أعتق أحدهما في مرضه ولا يدري أيهما هو وأنكر الآخر عتق من نصيب المقر من كل واحد منهما ثلث نصيبه لإقراره والثلث لهما ويسعى كل واحد منهما للآخر في نصيبه كاملا لإنكاره عتقهما جميعا.
ولو شهدا أنه أعتق هذا بعينه وقال أحدهما أعتق هذا الآخر أيضا عتق ثلثا الذي شهدا له ويسعى الآخر في جميع قيمته لهما لأن الذي شهدا له أولى بالثلث من الآخر فإن شهادتهما له حجة بمنزلة شهادة غيرهما.(28/140)
ولو شهد أجنبيان بالعتق لأحدهما كان هو أولى بالثلث من الذي أقر له الوارث لأن رق الآخر يفسد بإقرار أحدهما بعتقه ولم يبق من الثلث شيء فتلزمه السعاية في جميع قيمته لهما ولو شهد أحدهما أنه أعتق هذا بعينه في صحته وشهد الآخر أنه أعتق هذا الآخر في مرضه عتق نصيب الشاهد من الذي شهد له في الصحة لأن العتق في الصحة من جميع المال فهو مقر بحريته وإقراره حجة عليه في نصيبه ويسعى للآخر في نصف قيمته لأنكاره عتقه ويعتق ثلثا نصيب الذي شهد له في المرض من الذي شهد له ويسعى له في ثلث نصيبه ولأخيه في جميع نصيبه لأنه أقر بالثلث لهذا الآخر وإقراره في نصيبه صحيح وفي زعمه أن شريكه صار متلفا لنصيبه من الآخر فيكون ذلك محسوبا عليه وإن مال الميت رقبتان فالثلث منه ثلثا رقبة فلهذا يعتق ثلثا نصيبه والله أعلم بالصواب.
باب إقرار المريض وأفعاله
قال رحمه الله: "وإذا كان على المريض دين في الصحة فغصب في مرضه من إنسان شيئا ثم قضاه فهو جائز"لأنه لو رد عين المغصوب لم يكن لغرماء الصحة عليه سبيل فكذلك إذا رد عليه مثله أو قيمته لأن ذلك يحكي عينه وهذا بدل مال وصل إلى المريض فهو بمنزلة ما(28/141)
ص -70- ... لو اشترى شيئا بمثل قيمته ونقد ثمنه فلا يكون لغرماء الصحة على البائع سبيل لأن المريض ما أتلف عليهم شيئا حين وصل إليه ما تكون ماليته مثل مالية ما أدى وكذلك ما أخذه فأنفقه على نفسه في كسوته وطعامه ودوائه ثم قضاه فإنه قد وصل إليه ما تكون ماليته مثل مالية ما أدى ثم حاجته في ماله تقدم على حق غرمائه.
ولو استأجر أجيرا أو تزوج امرأة وأعطاهما ذلك لم يجز وكانا أسوة غرماء الصحة فيه لأنه لم يصل إليه مثل ما يكون ما أدى في صفة المالية فكان هذا إبطالا منه لحق غرماء الصحة عن ذلك المال وتخصيص بعض غرمائه بقضاء الدين والمريض ممنوع عن ذلك إلا أن الدين وجب لهما بسبب لا تهمة فيه فكان أسوة غرماء الصحة في ماله.
ولو أقر المريض أن دينه الذي على هذا الرجل لفلان فإن ذلك لا يجوز حتى يستوفي غرماء الصحة دينهم لأن إقراره في المرض بدين له على الغير كإقراره بعين له في يده أو في يد غيره وذلك غير صحيح منه في حق غرماء الصحة وهذا بخلاف ما إذا أقر باستيفاء الدين من غريمه وهو غير وارث وقد كان الدين في الصحة لأنه مسلط على الاستيفاء وقد ثبت للغريم حق براءة ذمته عند إقراره بالاستيفاء منه فلا يتغير ذلك بمرضه وهو غير مسلط على الإقرار بالدين الواجب له أو لغيره بل هو ممنوع من ذلك لحق غرماء الصحة كما هو ممنوع من تمليكه منه بالهبة وقد ذكرنا في كتاب الشفعة بيع المريض من الأجنبي بالمحاباة وغير المحاباة وما يجب فيه من الشفعة للوارث وغير الوارث وما ذلك من اختلاف الروايات وأن بيعه من وارثه غير صحيح أصلا عند أبي حنيفة وعندهما وبن أبي ليلى إذا باع بالقيمة أو بأكثر جاز.(28/142)
قال: "ولو أوصى رجل إلى رجل بثلثه يضعه حيث أحب أو يجعله حيث أحب فهما سواء وله أن يجعله لنفسه ولمن أحب من ولده"لأنه قائم مقام الموصى في الوضع والجعل والموصى له وضعه فيه أو في ولده أو جعله له جاز ذلك فكذلك الوصي إذا فعل ذلك لأن الوضع والجعل يتحقق منه في نفسه كما يتحقق في غيره وليس له أن يجعله لأحد من ورثة الميت لأنه قائم مقام الموصي فإن جعله لبعض ورثته فهو باطل ويرد على جميع الورثة وليس له أن يعطيه بعد ذلك أحدا لأنه ممتثل أمر الموصي فينتهى به ما فوض إليه ويصير فعله كفعل الموصي ولو فعله الموصي لبعض ورثته كان ذلك باطلا وكان مردودا على جميع الورثة فهذا مثله.
ولو أوصى بثلثه إليه أن يعطيه من شاء فليس له أن يعطيه نفسه لأنه مأمور بالإعطاء من جهة الموصى وهو لا يكون معطيا نفسه كما يكون جاعلا لها واضعا عندها ألا ترى أن من عليه الزكاة أوصدقة الفطر ليس له أن يضعه في نفسه لأنه مأمور بالإيتاء والأداء ولا يحصل ذلك بالصرف إلى نفسه ومن وجد ركازا له أن يضع الخمس في نفسه إذا كان مصرفا له لأن الواجب جعل الخمس لمصارف الخمس ووضعها فيهم وقد جعل ذلك.(28/143)