ص -94- ... فيرجع عليه بذلك بخلاف العمل فإنه لا قيمة للعمل إلا بتسمية العوض وتسليم تام إلى من يكون العمل له والشركة تمنع من ذلك وهو نظير عبد بين اثنين أمر أحدهما صاحبه بأن يشتري له نفقة فينفق عليه بنصف الثمن ولو استأجره ليحلق رأسه بأجر لم يستوجب الأجر على شريكه لهذا المعنى.
ثم ما يذكر من التلقيح في النخل أنواع معلومة عند أرباب النخيل منها ما يشتري فيدق ويذر على مواضع معلومة من النخيل ومنها ما يوجد من فحولة النخل مما يشبه الذكر من بني آدم ثم يشق النخلة التي تحمل فيغرز ذلك فيها على صورة الوطء بين الذكور والإناث ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من أهل المدينة فاستقبحه ونهاهم عن ذلك فأحشفت النخل في تلك السنة فقال عهدي بثمار نخيلكم على غير هذه الصفة قالوا نعم وإنما كانت تجيد الثمار بالتلقيح فانتهينا إذ منعتنا فأحشفت، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فاعملوا به وإذا أتيتكم بشيء من أمور دنياكم فأنتم أبصر بدنياكم".
وقيل أن النخيل على طبع الآدمي فإن النخلة خلقت من فضل طينة آدم عليه الصلاة والسلام على ما قال عليه الصلاة والسلام: "أكرموا النخلة فإنها عمتكم" ولهذا لا تثمر إلا بالتلقيح كما لا تحمل الأنثى من بنات آدم إلا بالوطء وإذا قطعت رأسها يبست من ساعتها كالآدمي إذا جز رأسه.
ولو اشترطا على أن يعملا جميعا فيه ويسقياه ويلقحاه بتلقيح من عندهما هذه السنة فما خرج من ذلك فلأحدهما بعينه الثلثان وللآخر الثلث فهذا فاسد لأن أحدهما شرط لنفسه جزءا من الخارج من نصيب صاحبه من غير أن يكون له فيه نخل ولا عمل أو استأجره صاحبه للعمل فيما هو شريك فيه إن كان عمله أكثر من عمل صاحبه.(23/192)
ولو دفع نخلا إلى رجلين يقومان عليه ويلقحانه بتلقيح من عندهما على أن لأحد العاملين بعينه نصف الخارج وللآخر سدسه ولرب النخل ثلثه فهو جائز لأن رب النخل استأجرهما للعمل في نخيله وفاوت بينهما في الأجر وذلك جائز كما لو استأجر أحدهما للعمل بمائة درهم وللآخر بمائة دينار وكذلك لو اشترطوا أن لأحد العاملين بعينه أجر مائة درهم على رب النخيل وللآخر ثلث الخارج ولرب النخيل ثلثاه أو على عكس ذلك كان جائزا لأنه استأجر أحدهما بعينه بأجر مسمى وللآخر بعينه بجزء من الخارج وكل واحد من هذين العقدين يصح عند الإنفراد بهذه الصفة فكذا إذا جمع بينهما ولو اشترطوا لصاحب النخل الثلث ولأحد العاقدين بعينه الثلثين وللآخر أجرا مائة درهم على العامل الذي شرط له الثلثين كان هذا فاسدا لأن هذا بمنزلة رجل دفع إلى رجل نخلا له معاملة هذه السنة على أن لصاحب النخل الثلث وللعامل الثلثين وعلى أن يستأجر العامل فلانا يعمل معه بمائة درهم فهذا شرط فاسد والمعاملة تفسد به لأنه اشترط إجارة في إجارة.
ألا ترى أنه لو استأجر رجلا هذه السنة بمائة درهم يقوم على العمل في نخيله على أن(23/193)
ص -95- ... يستأجر فلانا يعمل معه بخمسين درهما كان العقد فاسدا لأنه اشترط إجارة في إجارة واشتراط أحد العقدين في الآخر يكون مفسدا لهما.
ولو دفع إلى رجل أرضا سنته هذه يزرعها ببذره وبقره بالنصف على أن يستأجر فلانا يعمل معه بمائة درهم كان فاسدا ولو كان البذر من قبل صاحب الأرض والشرط كما وصفنا كان العقد فاسدا أيضا هكذا ذكرنا هنا وقد تقدم قبل هذا أنه إذا كان البذر من قبل المزارع وشرطا أن يعمل فلان معه بثلث الخارج أن العقد جائز بين رب الأرض والمزارع وهو فاسد بين المزارع وبين فلان ولو كان البذر من قبل رب الأرض جاز بينه وبين العاملين جميعا وهنا أجاب في الفصلين جميعا بفساد العقد فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع لأنه قال هناك ويعمل معه فلان بثلث الخارج وحرف الواو للعطف فيكون هذا عطف عقد فاسد على عقد جائز لاشتراط أحد العقدين في الآخر وهناك قال وعلى أن يستأجر فلانا يعمل معه بمائة درهم وحرف على للشرط فيكون أحد العقدين مشروطا في الآخر والأصح أن يقول هناك المشروط للآخر على صاحب البذر بثلث الخارج فيكون العقد شركة من حيث الصورة وإنما يأخذ حكم الإجارة إذا فسدت والشركة لا تفسد بالشروط الفاسدة فلما غلب هناك معنى الشركة صححنا العقد بين رب الأرض والمزارع وإن فسد العقد بين المزارع والعامل الآخر لاشتراط عمله معه في المزارعة وهنا إنما شرطا للعامل أجرا مائة درهم فيكون المغلب هنا معنى الإجارة والذي كان بين رب الأرض والعامل إجارة في الحقيقة لأنه إما أن يكون إجارة للأرض أو استئجارا للعامل فيكون ذلك إجارة مشروطة في إجارة وذلك مفسد للعقد كما في المعاملة فإن العقد إجارة على كل حال لأن رب النخيل استأجر العامل ولهذا يلزم العقد بنفسه من الجانبين فيفسد العقد بينهما باشتراط إجارة في إجارة ثم الخارج كله لصاحب البذر فإن كان هو صاحب الأرض فعليه أجر مثل الزارع وأجر مثل الذي عمل معه(23/194)
لأنه كان أجيرا له فعمله كعمل المزارع بنفسه وعلى الزارع أجر مثل الذي عمل معه فيما عمل لا يزاد على مائة درهم لأنه قد رضي بمقدار المائة وإن كان البذر من قبل الزارع فعليه أجر مثل الأرض بالغا ما بلغ وأجر مثل الذي عمل معه لا يزاد على مائة درهم وهذا يتأتى على قول محمد رحمه الله فأما على قول أبي يوسف رحمه الله فلا يزاد بأجر مثل الأرض على نصف الخارج على قياس شركة الاحتطاب وكذلك الشجر يدفعه الرجل إلى رجلين معاملة على هذه السنة على أن نصف الخارج لصاحبه والنصف الباقي لأحد العاملين بعينه وللعامل الثاني على شريكه أجر مائة درهم في عمله فهو فاسد لاشتراط إجارة في إجارة.
يوضح جميع ما قلنا أن اشتراط عمل قيمته مائة درهم على العامل في جميع هذه المسائل سوى عمله بمنزلة اشتراط مائة درهم عليه لرب الأرض والنخل والشجر وذلك مفسد للعقد.(23/195)
ص -96- ... ولو كان نخل بين رجلين فدفعاه إلى رجل سنة يقوم عليه فما خرج فنصفه للعامل ثلثا ذلك النصف من نصيب أحدهما بعينه وثلثه من نصيب الآخر والباقي بين صاحبي النخل ثلثاه للذي شرط الثلث من نصيبه للعامل وثلثه للآخر فهو على ما اشترطوا لأن كل واحد منهما استأجر العامل بجزء معلوم من نصيبه أحدهما بثلثي نصيبه والآخر بثلث نصيبه وذلك مستقيم كما لو استأجره كل واحد منهما بأجر مسمى وكان المشروط على أحدهما أكثر من المشروط على الآخر ثم ما شرط على كل واحد منهما لنفسه إلا قدر الباقي من نصيبه فلا يتمكن فساد في هذا الشرط.
ولو اشترطوا أن نصف الخارج لأحد صاحبي النخل بعينه نصيبه الذي هو له والنصف الآخر للعامل ثلثاه ولصاحب النخل ثلثه فهذه معاملة فاسدة لأنهما استأجراه للعمل على أن يكون الأجر على أحدهما بعينه خاصة ثم الخارج بينهما نصفان لا يتصدقان بشيء منه وعليهما أجر مثل العامل في عمله لهما ولا يقال ينبغي أن لا يجب الأجر على الذي شرط النصف لنفسه لأنه ما أوجب للعامل شيئا من نصيبه وهذا لأنه استأجره للعمل ولكن شرط أن يكون الأجر على غيره وبهذا الشرط لا يبقى أصل الإجارة فعليه أجر مثله فيما عمل له.(23/196)
ولو اشترطوا أن للعامل نصف الخارج ثلثه من نصيب أحدهما بعينه وثلثاه من نصيب الآخر وعلى أن النصف الباقي بين صاحبي النخل نصفين فهو فاسد لأن الذي شرط ثلثي نصيبه للعامل لا يبقى له من نصيبه إلا الثلث فاشتراط نصف ما بقي لنفسه يكون طمعا في غير مطمع وهو بهذا الشرط يصير كأنه جعل بعض ما جعله أجرة للعامل من نصيب صاحبه لأنه لا يتصور بقاء نصف النصف له مع استحقاق ثلثي النصف عليه فكأنه شرط للعامل ما زاد على نصف النصف أجرة له من نصيب صاحبه وقد ذكر قبل هذا في المزارعة نظير هذه المسألة وهو أن يكون الأرض والبذر منهما وقال اشتراط المناصفة في النصف الباقي باطل ويقسم النصف الباقي بينهما على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما وهنا أفسد العقد فأما أن يقال في الفصلين جميعا روايتان إذ لا فرق بينهما أو يقال هناك موضوع المسألة أن أصل البذر غير مشترك بينهما قبل الإلقاء في الأرض فالشرط الفاسد بينهما لا يفسد المزارعة بينهما وبين المزارع وهنا أصل النخل كان مشتركا بينهما قبل المعاملة وقد جعلا الشرط الفاسد بينهما مشروطا في المعاملة فيفسد به العقد.
ولو اشترطوا أن يقوم عليه العامل وأحد صاحبي النخل بعينه والخارج بينهم أثلاثا فهو فاسد لأنها معاملة تنعدم فيها التخلية والعامل من ربى النخيل استأجر العامل ببعض نصيبه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للعقد ولو اشترطوا للذي يعمل من صاحبي النخيل نصف الخارج والباقي بين الآخر والعامل نصفين كان جائزا لأن العامل من ربى النخيل عامل في نخيل نفسه إذ لا عقد بينه وبين العامل ولكن العامل أجر الآخر بنصف نصيبه ليعمل له وذلك جائز ولو اشترطوا أن يعملا جميعا مع العامل على أن الخارج بينهم أثلاث فهو فاسد،(23/197)
ص -97- ... لأن كل واحد منهما استأجر العامل ببعض نصيبه وشرط عمله معه فهذه معاملة لا يوجد فيها التخلية بين النخيل وبين العامل.
ولو كانا شرطا العمل على العامل وحده في سنة بعد هذه السنة أو بعد ثلاث سنين فهو جائز لأن المعاملة بمنزلة الإجارة وإضافة الإجارة إلى وقت معلوم في المستقبل جائز وعطف العقد الجائز على العقد الفاسد لا يفسد المعطوف لأنهما لا يجتمعان في وقت واحد وكذلك المزارعة على هذا من أيهما كان البذر لأن في المزارعة استئجار الأرض واستئجار العامل إن كان البذر من رب الأرض.
وإذا دفع الرجلان إلى الرجلين نخلا لهما معاملة هذه السنة على أن يقوما عليه فما خرج فللعاملين نصفه لواحد منهما بعينه ثلثا ذلك النصف وللآخر ثلثه والباقي بين صاحبي النخل نصفان فهو جائز على ما اشترطوا لأنهما استأجرا كل واحد منهما بجزء معلوم من نصيبهما وفاوتا بين العاملين في مقدار الأجر وذلك لا يمنع جواز العقد لأنهما يستحقانه بعملهما وقد يتفاوتان في العمل من حيث الحذاقة أو الكثرة ولو اشترطوا أن النصف بين العاملين نصفان وما بقي من صاحبي النخل ثلثه لأحدهما بعينه وثلثاه للآخر فالمعاملة فاسدة لأنه لم يبق لكل واحد منهما بعد ما اشترطا للعاملين إلا ربع الخارج فاشتراط أحدهما الزيادة على ذلك لنفسه من نصيب صاحبه طمع في غير مطمع إذ هو اشتراط أجرة بعض أجره عملها له على شريكه وذلك مفسد لعقد المعاملة ولو اشترطوا أن النصف للعاملين من نصيب أحدهما بعينه ثلثا ذلك النصف ومن نصيب الآخر ثلثه والباقي بين صاحبي النخيل ثلثاه للذي شرط الثلث وثلثه للذي شرط الثلثين فهو جائز على ما اشترطوا لأن كل واحد منهما استأجر العاملين للعمل في نصيبه بجزء معلوم من نصيبه وما شرط لنفسه إلا مقدار الباقي من نصيبه بعد ما شرط للعاملين وهذا ثابت بدون الشرط فلا يزيده الشرط إلا وكادة.(23/198)
ولو اشترطوا أن النصف الباقي بين صاحبي النخل ثلثاه للذي شرط الثلثين وثلثه للذي شرط الثلث كانت المعاملة فاسدة لأن أحدهما شرط لنفسه زيادة على الباقي من نصيبه وذلك منه طمع في غير مطمع وهو بالشرط الثاني كأنه جعل بعض ما استوجبه للعاملين أجرة مشروطة على صاحبه ولو اشترطوا ثلث الخارج لأحد العاملين بعينه وثلثاه لصاحبي النخل وللعامل الآخر أجر مائة درهم على صاحبي النخل جاز لأنهما استأجرا أحد العاملين بثلث الخارج وهي معاملة صحيحة واستأجر الخارج الآخر للعمل بأجر مسمى وهي إجارة صحيحة ولو كانوا اشترطوا المائة على أحد صاحبي النخل بعينه كانت المعاملة فاسدة لأن الذي استأجره أحدهما بالدراهم إن كان استأجره لنفسه فعمل أجيره كعمله بنفسه واشتراط عمله في المعاملة يفسدها وإن كان استأجره ليعمل لهما فاشتراط أجر أجيرهما على أحدهما خاصة يكون مفسدا للعقد وقد جعلا ذلك مشروطا في المعاملة فالخارج لصاحبي النخل وللعامل على الذي شرط له الثلث أجر مثله بالغا ما بلغ على صاحبي النخل لأنهما استوفيا(23/199)
ص -98- ... عمله بعقد فاسد وتسمية الثلث له بعد فساد العقد لا يكون معتبرا عند محمد رحمه الله فكان له أجر مثله بالغا ما بلغ وللعامل الآخر أجر مثله لا يجاوز به مائة درهم على الذي شرط له المائة لأنه هو الذي عاقده عقد الإجارة والتزم البدل له بالتسمية ثم يرجع هو على شريكه بنصف ما لزمه من ذلك لأنه عمل لهما جميعا بحكم عقد فاسد وهو في نصيب صاحبه بمنزلة النائب عنه في الاستئجار فيرجع عليه بما يلحقه من الغرم في نصيبه.
ولو كانوا اشترطوا أن المائة على العامل الذي شرطوا له الثلث كانت المعاملة فاسدة وقد بينا هذا فيما إذا كان العامل واحدا أنه يفسد العقد لاشتراط الإجارة في الإجارة فكذلك إذا كان العامل اثنين والخارج لصاحبي النخل وعليهما للذي شرط له الثلث أجر مثله وأجر مثل صاحبه بالغا ما بلغ لأن صاحبه أجره وعمل أجيره يقع له فيكون كعمله بنفسه ولصاحبه عليه أجر مثله لا يجاوز به مائة درهم لأنه استوفى عمله بعقد فاسد وقد صح رضاه بقدر المائة فلا يستحق الزيادة على ذلك.(23/200)
وإذا دفع رجل إلى رجلين أرضا له هذه السنة يزرعانها ببذرهما وعملهما فما أخرج الله تعالى منها فنصفه لأحد العاملين بعينه وثلثه للآخر والسدس لرب الأرض فهو فاسد لأنهما استأجرا الأرض وشرطا أن يكون جميع الأجر من نصيب أحدهما خاصة فإن الآخر شرط لنفسه جميع الخارج من بذره ولو اشترطوا لأحدهما أربعة أعشار الخارج وللآخر الثلث ولرب الأرض ما بقي فهو جائز لأن كل واحد منهما استأجر الأرض بجزء معلوم من نصيبه من الخارج أحدهما بخمسي نصيبه والآخر بثلث نصيبه وكما يجوز التفاوت في أجرة العاملين بالشرط فكذلك في إجارة الأرض منهما ولو اشترطوا أن نصف الخارج لأحدهما بعينه ولرب الأرض عليه مائة درهم وللآخر الثلث ولرب الأرض السدس جاز على ما اشترطوا لأن أحدهما استأجر نصف الأرض بأجر مسمى والآخر بجزء من الخارج وكل واحد منهما صحيح وبسبب اختلاف جنس الأجر أو منفعة العقد لا تتفرق الصفقة في حق صاحب الأرض ولا يتمكن الشيوع.
ولو اشترطوا على أن ما أخرجت الأرض بينهما أثلاث ولرب الأرض على أحدهما بعينه مائة درهم كان فاسدا لأن الذي التزم المائة جمع لصاحب الأرض من نصيبه بين أجر المسمى وبعض الخارج وذلك مفسد للعقد وكذلك لو اشترطوا المائة على رب الأرض لهما كان فاسدا لأن رب الأرض التزم لهما مع منفعة الأرض مائة درهم بمقابلة نصف الخارج ففيما يخص المائة من الخارج هو مشتري منهما وشراء المعدوم باطل ففسد العقد لذلك وإن اشترطا المائة على رب الأرض لأحدهما بعينه وقد اشترطوا أن الخارج بينهم أثلاث ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز المزارعة هذه مزارعة فاسدة والخارج لصاحبي البذر ولرب الأرض عليهما أجر مثل الأرض وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المزارعة بين رب الأرض والمزارع الذي لم يشرط عليه المال جائزة(23/201)
ص -99- ... فيأخذ هو الثلث ورب الأرض السدس ويكون نصف الخارج للمزارع الآخر وعليه لرب الأرض أجر مثل نصف أرضه لأن رب الأرض هنا إنما صار مشتريا بعض نصيب أحدهما بما شرط له من المائة فإنما تمكن المفسد فيما بينهما إلا أن من أصل أبي حنيفة رحمه الله أن الصفقة الواحدة إذا فسد بعضها فسد كلها ومن أصلهما أن الفساد يقتصر على ما وجدت فيه العلة المفسدة وقد بينا نظائره في البيوع وقيل بل هذا ينبني على إجارة المشاع فإن العقد لما فسد بين رب الأرض وبين الذي شرط عليه المائة فلو صح في حق العامل الآخر كان أجاره نصف الأرض مشاعا وذلك لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما والأول أصح لأن العقد مع الفساد منعقد عندنا فلا يتمكن بهذا المعنى الشيوع في أصل العقد والله أعلم.
باب مشاركة العامل مع آخر(23/202)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل لرجل نخلا له معاملة هذه السنة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما خرج منه فهو نصفان ولم يأمره أن يعمل في ذلك برأيه فدفعه العامل إلى رجل آخر معاملة على أن للآخر ثلث الخارج فعمل على ذلك فالخارج كله لصاحب النخل وللعامل الآخر على الأول أجر مثله ولا أجر للأول على رب النخل لأن العامل الأول خالف أمر رب النخل حين دفعه إلى غيره معاملة فإن رب النخيل إنما رضي بشركته في الخارج لا بشركة الثاني فهو حين أوجب الشركة في الخارج للعامل الثاني صار مخالفا لرب النخل فيما أمره به بمنزلة الغاصب فلا يستوجب عليه الأجر بعد ماصار غاصبا سواء أقام العمل بنفسه أو بنائبه ثم العامل الأول استأجر الثاني بثلث الخارج وقد حصل الخارج ولم يسلم له لاستحقاق رب النخل ذلك عليه فإنه متولد من نخله فلا يستوجب عليه بدون رضاه وهو ما رضى بأن يستحق الثاني شيئا من الخارج ففسد العقد بينهما لاستحقاق الأجرة فيرجع على العامل الأول بأجر مثله فإن هلك الثمر في يد العامل الآخر من غير عمله وهو في رؤوس النخل بآفة أصابته فلا ضمان عليه ولا على الأول لأنهما بمنزلة الغاصبين والزيادة المتولدة من عين المغصوب إذا تلفت من غير صنع أحد لا تكون مضمونة وإن هلك من عمل الأجير شيء فإن كان ذلك عملا خالف فيه ما أمره به العامل الأول فالضمان فيه لصاحب النخل على العامل الآخر دون الأول لأنه مباشر للإتلاف وإنما أتلفه بفعل أنشأه من عنده ولم يكن مأمورا به من جهة العامل الأول فيقتصر حكم ذلك الفعل عليه كولد المغصوبة إذا أتلفه متلف في يد الغاصب كان الضمان على المتلف دون الغاصب وإن هلك في يدي من عمل في شيء لم يخالف فيه ما أمره به الأول فلصاحب النخل أن يضمن أي العاملين شاء لأن الثاني وإن باشر الإتلاف ولكن كان عاملا ذلك العمل للأول حين استوجب بمعاملته الأجر عليه فيكون عمله كعمل الأول بنفسه فلصاحب العمل أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن الآخر(23/203)
رجع على الأول بما ضمن لأنه مغرور من جهته حين عمل له بأمره وإن ضمن الأول لم يرجع على الآخر لأنه حين ضمن صار كالمالك.(23/204)
ص -100- ... ولو كان رب النخل أمر الأول أن يعمل فيه برأيه والمسألة بحالها فدفعه إلى الآخر جاز لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم والإشراك والدفع إلى الغير معاملة من رأيه ثم نصف الخارج لرب النخل وثلثه للآخر كما أوجبه له الأول من نصيبه وبقي السدس للأول وهو طيب له لأنه استحق ذلك بالتزام العمل بالعقد ولو قال رب النخل للأول ما رزقك الله فيه من شيء فهو بيننا نصفان أو ما أخرج الله لك أو قال له اعمل فيه برأيك فدفعه إلى آخر معاملة بالثلث أو النصف كان جائزا والباقي بعد المشروط للآخر بين الأول وصاحب النخل نصفين كما شرطا لأن الذي رزق الله العامل الأول هو الباقي وقد شرطا المناصفة فيه.
ولو دفع إلى رجل أرضا وبذرا مزارعة على أن للمزارع من الخارج عشرين قفيزا ولرب الأرض ما بقي وقال له اعمل برأيك فيه أو لم يقل فدفع المزارع الأرض والبذر إلى رجل بالنصف مزارعة فعمل فالخارج لرب الأرض لأنه نماء بذره وقد كان العقد بينه وبين الأول فاسدا باشتراط مقدار معلوم له من الخارج بالعقدين فلا يصح منه إيجاب الشركة للثاني في الخارج سواء قال له اعمل فيه برأيك أو لم يقل لأنه أجيره لا شريكه في الخارج وإذا لم يصح منه إشراك الثاني في الخارج لم يصر مخالفا لصاحب الأرض والبذر فيما فعله فيكون الخارج كله لرب الأرض وللآخر على الأول أجر مثله لأنه استأجره بثلث الخارج وقد حصل الخارج ثم استحقه رب الأرض وللأول على رب الأرض أجر مثل ذلك العمل لأنه لما لم يصر مخالفا لرب الأرض كان عمل أجيره كعمله بنفسه وقد سلم ذلك لرب الأرض بعقد فاسد وكذلك إن لم تخرج الأرض شيئا لأن بفساد العقد الأول يفسد العقد الثاني فالثاني إنما أقام العمل بحكم إجارة فاسدة فيستوجب أجر المثل على من استأجره وإن لم تخرج الأرض شيئا كما لو استأجره رب الأرض إجارة فاسدة.(23/205)
ولو دفع إليه الأرض والبذر مزارعة بالنصف وقال اعمل فيه برأيك أو لم يقل فدفعها إلى آخر مزارعة على أن للآخر منه عشرين قفيزا فالمزارعة بين الأول والثاني فاسدة وللثاني على الأول أجر مثل عمله والخارج بين الأول ورب الأرض نصفان لأن العقد بينهما صحيح وعمل أجيره كعمله بنفسه والأول لا يصير مخالفا وإن لم يكن رب الأرض قال له اعمل فيه برأيك لأنه إنما يصير مخالفا بإيجاب الشركة للغير في الخارج ولم يوجد ذلك.
ولو دفع إليه أرضا على أن يزرعها ببذره وعمله بعشرين قفيزا من الخارج والباقي للمزارع أو كان شرط أقفزة للمزارع والباقي لرب الأرض فدفعها المزارع إلى آخر مزارعة بالنصف والبذر من عند الأول أو من عند الآخر فعمل فالخارج بين المزارعين نصفان لأن الأول مستأجر للأرض إجارة فاسدة فيصح منه استئجار العامل للعمل فيه أو إجارتها من غيره بالنصف إذا كان البذر من عند الآخر لأن الفاسد من العقد معتبر بالجائز في حكم التصرف فالخارج بين المزارعين نصفان ولرب الأرض أجر مثل أرضه على الأول ولو لم يعمل الآخر في الأرض بعد ما تعاقدا المزارعة حتى أراد رب الأرض أخذ الأرض وبعض ما(23/206)
ص -101- ... تعاقدا عليه كان له ذلك لأن العقد بينه وبين الأول إجارة فاسدة والإجارة تنقض بالعذر فإن كان البذر في العقد الثاني من عند الآخر ينقض العقد الثاني بينه وبين الآخر لاستحقاق نقض العقد الأول بسبب الفساد وإن كان البذر من عند الأول ينقض استئجار الأول للثاني لفساد العقد أيضا فإن كان الآخر قد زرع لم يكن لرب الأرض أخذ أرضه حتى يستحصد الزرع لأن المزارع الآخر محق في إلقاء البذر في الأرض وفي القلع إضرار به من حيث إبطال حقه فيتأخر ذلك إلى أن يستحصد.
ولو كان رب الأرض دفعها إلى الأول مزارعة بالنصف وقال له اعمل فيها برأيك أو لم يقل فدفعها الأول وبذرا معها إلى الثاني مزارعة بعشرين قفيزا من الخارج شرطاه للثاني أو للأول فالعقد الثاني فاسد وللآخر على الأول أجر عمله والخارج بين رب الأرض وبين الأول نصفان لأن إقامته العمل بأجيره كإقامته بنفسه واستئجار الأرض بنصف الخارج كان صحيحا بينهما ولو كان البذر من الآخر كان الخارج كله له لأن العقد بينه وبين الأول فاسد والخارج نماء بذره وعليه للأول أجر مثل الأرض لأن الأول أجر الأرض منه إجارة فاسدة وقد استوفى منافعها وعلى الأول لرب الأرض أجر مثل الأرض لأنه أجر الأرض بنصف الخارج وقد حصل الخارج ثم استحقه الآخر فيرجع رب الأرض على الأول بأجر مثل أرضه.
ولو دفع إلى رجل نخلا له معاملة بالنصف وقال له اعمل فيه برأيك أو لم يقل فدفعه العامل إلى آخر معاملة بعشرين قفيزا من الخارج فالخارج بين الأول وصاحب النخل نصفان وللآخر على الأول أجر مثله لفساد العقد الذي جرى بينه وبين الآخر ثم الأول هنا لم يصر مخالفا لرب النخل بالدفع إلى الثاني وإنما يصير مخالفا بإيجاب الشركة للغير في الخارج ولم يوجد حين وجد العقد الثاني وكان عمل أجيره كعمله بنفسه فلهذا كان الخارج بينه وبين صاحب النخل نصفين.(23/207)
ولو كان الشرط في المعاملة الأولى عشرين قفيزا لأحدهما بعينه وفي الثانية النصف فالخارج لصاحب النخل لأن العقد الأول فاسد فيفسد به العقد الثاني إذ الأول ليس بشريك في الخارج فلا يكون له أن يوجب الشركة لغيره في الخارج وإذا لم تجز الشركة للثاني لم يصر الأول مخالفا فيكون الخارج كله لصاحب النخل وللآخر على الأول أجر عمله وللأول على صاحب النخل أجر ما عمل الآخر ولا ضمان عليهما في ذلك لانعدام سبب الضمان وهو الخلاف والله أعلم.
باب مزارعة المرتد
قال رحمه الله: وإذا دفع المرتد أرضه وبذره إلى رجل مزارعة بالنصف فعمل على ذلك وخرج الزرع فإن أسلم فهو على ما اشترطا وإن قتل على ردته فالخارج للعامل وعليه ضمان البذر ونقصان الأرض للدافع في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز(23/208)
ص -102- ... المزارعة أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج وعلى قولهما هذه المزارعة صحيحة والخارج بينهما على الشرط وهو بناء على اختلافهم في تصرفات المرتد عندهما تنفذ تصرفاته كما تنفذ من المسلم وعند أبي حنيفة يوقف لحق ورثته فإن أسلم نفذ عقد المزارعة بينهما فكان الخارج على الشرط وإن قتل على ردته بطل العقد وبطل أيضا إذنه للعامل في إلقاء البذر في الأرض لأن الحق في ماله لورثته ولم يوجد منهم الرضا بذلك فيصير العامل بمنزلة الغاصب للأرض والبذر فيكون عليه ضمان البذر ونقصان الأرض أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج والخارج كله له لأنه ملك البذر بالضمان وإن كان البذر على العامل وقتل المرتد على ردته فإن كان في الأرض نقصان غرم العامل نقصان الأرض لأن إجارة الأرض بطلت حين قتل على ردته وكذلك الإذن الثابت في ضمنه فيكون صاحب الأرض كالغاصب للأرض والزرع كله له وإن لم يكن في الأرض نقصان فالقياس أن يكون الخارج له ولا شيء عليه لأنه بمنزلة الغاصب والغاصب للأرض لا يضمن شيئا إلا إذا لم يتمكن فيها نقصان.(23/209)
وفي الاستحسان: يكون الخارج على الشرط بين العامل وورثة المرتد لأن إبطال عقده كان لحق ورثته في ماله والنظر للورثة هنا في تنفيذ العقد لأنه إذا نفذ العقد سلم لهم نصف الخارج وإذا بطل العقد لم يكن لهم شيء فنفذ عقده استحسانا بخلاف الأول فهناك لو نفذ العقد لم يجب لهم نقصان الأرض وربما كان نقصان الأرض أنفع لهم من نصف الخارج وهو نظير العبد المحجور عليه إذا أجر نفسه للعمل فإن هلك في العمل كان المستأجر ضامنا قيمته ولا أجر عليه وإن سلم وجب الأجر استحسانا لأن ذلك أنفع للمولى وهذا القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة رحمه الله وأما عندهما فالمزارعة صحيحة فإن كان المرتد هو المزارع والبذر منه فالخارج له ولا شيء لرب الأرض من نقصان الأرض والبذر وغيره إذا قتل المرتد في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن رب الأرض سلطه على عمل الزراعة وهو تسليط صحيح وشرط لنفسه عليه عوضا بمقابلته وقد بطل التزامه للعوض حين قتل على ردته لحق ورثته فلهذا كان الخارج لورثة المرتد لأنه نماء بذر المرتد ولا شيء عليهم لرب الأرض وإن كان البذر من قبل الدافع فالخارج على الشرط في قولهم جميعا لأن صاحب الأرض مستأجر للمرتد بنصف الخارج وحق ورثته لا يتعلق بمنافعه.
ألا ترى أنه لو أعان غيره لم يكن لورثته عليه سبيل ولأن المنفعة للورثة في تصحيح العقد هنا فإنه لو لم تصح إجارته نفسه لم يكن لورثته من الخارج شيء والحجر بسبب الردة لا يكون فوق الحجر بسبب الرق.
ولو كانا جميعا مرتدين والبذر من الدافع فالخارج للعامل وعليه غرم البذر ونقصان الأرض لأن العامل صار كالغاصب للأرض والبذر حين لم يصح أمر الدافع إياه بالزراعة فيكون الخارج له وعليه غرم البذر ونقصان الأرض لورثة الدافع ولو أسلما أو أسلم صاحب البذر كان الخارج بينهما على الشرط كما لو كان مسلما عند العقد وهذا لأن العامل أجير(23/210)
ص -103- ... له فإسلام من استأجره يكفي لفساد العقد سواء أسلم هو أو لم يسلم وإن كان البذر من العامل وقد قتل على الردة كان الخارج له وعليه نقصان الأرض لأن إذن الدافع له في عمل الزراعة غير صحيح في حق ورثته فيغرم لهم نقصان الأرض وإن لم يكن فيها نقصان فلا شيء لورثة رب الأرض لأن استئجار العامل الأرض بنصف الخارج من بذره باطل لحق ورثته وكذلك إذا أسلم رب الأرض فهو بمنزلة ما لو كان مسلما في الابتداء.
وإن أسلما أو أسلم المزارع وقتل الآخر على الردة ضمن المزارع نقصان الأرض لورثة المقتول على الردة لأن أمره إياه بالمزارعة غير صحيح في حق الورثة وإن لم ينقصها شيئا فالقياس فيه أن الخارج للمزارع ولا شيء لرب الأرض ولا لورثته لبطلان العقد حين قتل رب الأرض على ردته وفي الاستحسان الخارج بينهما على الشرط لأن معنى النظر لورثة المقتول في تنفيذ العقد هنا كما بينا وعند أبي يوسف ومحمد الخارج بينهما على الشرط إن قتلا أو أسلما أو لحقا بدار الحرب أو ماتا وكذلك قول أبي حنيفة رحمه الله في مزارعة المرتدة ومعاملتها لأن تصرفها بعد الردة ينفذ كما ينفذ من المسلمة بخلاف المرتد وإذا دفع المرتد إلى مرتد أو مسلم نخيلا له معاملة بالنصف فعمل على ذلك ثم قتل صاحب النخيل على ردته فالخارج لورثته لأنه تولد من نخل هم أحق به ولا شيء للعامل لأن المرتد كان استأجره ببعض الخارج وقد بطل استئجاره حين قتل على ردته لحق ورثته.(23/211)
ولو كان صاحب النخيل مسلما والعامل مرتدا فقتل على ردته بعد ما عمل أو مات أو لحق بدار الحرب أو أسلم فهو سواء والخارج بينهما على الشرط لأن المرتد أجر نفسه ببعض الخارج ولا حق لورثته في منافعه وفي تنفيذ هذا العقد منفعة ورثته. ولو كانا عقدا المزارعة والمعاملة في جميع هذه الوجوه وهما مسلمان والبذر من الدافع أو العامل ثم ارتد أحدهما أيهما كان ثم عمل العامل وأدرك الزرع ثم قتل على الردة كان الخارج بينهما على الشرط عندهم جميعا لأن ردته إنما توجب التوقف في التصرفات التي ينشئها بعد الردة فأما ما نفذ من تصرفاته قبل الردة فلا يتغير حكمه بردته فوجود الردة في حكم تلك التصرفات كعدمها.
باب مزارعة الحربي
قال رحمه الله: وإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان فدفع إليه رجل أرضا له وبذرا مزارعة هذه السنة بالنصف فهو جائز والخارج بينهما على ما اشترطا لأنه التزم أحكامنا في المعاملات ما دام في ديارنا والمزارعة إجازة أو شركة وكل واحدة منهما معاملة تصح بين المسلم والحربي في هذه المدة لأن الحول كامل لاستيفاء الجزية والكافر لا يمكن من المقام في دارنا تمام مدة استيفاء الجزية بغير جزية فيتقدم إليه في الخروج فإن أقام سنة بعد ما تقدم إليه وضع عليه الخراج وجعله ذميا ولم يدعه يرجع إلى دار الحرب.
ولو اشترى الحربي المستأمن أرضا عشرية أو خراجية فدفعها إلى مسلم مزارعة جاز والخارج بينهما على ما اشترطا ويوضع عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله في أرضه(23/212)
ص -104- ... الخراج ولا يترك أن يخرج إلى دار الحرب بل يجعله ذميا لأن خراج الرءوس تبع لخراج الأراضي فإذا التزم خراج الأرض كان ملتزما خراج الرأس أيضا والاختلاف بينه وبين صاحبيه رحمهم الله فيما إذا كانت الأرض عشرية وقد تقدم بيانه في كتاب الزكاة فيما إذا كان المشتري ذميا فكذلك إذا كان المشتري مستأمنا ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فاشترى أرضا من أهل الحرب فدفعها إلى حربي مزارعة أو أخذ المسلم أرض الحربي مزارعة بالنصف جاز لأنه يعاملهم ما دام في دار الحرب بالشركة والإجارة والمزارعة لا يخرج منها.
ولو كان اشترط لأحدهما عشرون قفيزا من الخارج جاز في قول أبي حنيفة ومحمد يأخذها من سميت له من الخارج والباقي للآخر إن بقي شيء وفي قول أبي يوسف المزارعة فاسدة والخارج لصاحب البذر وللآخر الأجر إذا أسلم وخرج إلينا وهو بناء على أن العقود التي تفسد بين المسلمين كعقد الربا هل يجري بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد بيناه في كتاب الصرف والمزارعة بين المسلمين التاجرين في دار الحرب بمنزلتها في دار الإسلام لأنهما مخاطبان بأحكام الإسلام ومعنى الإحراز في مالهما قائم ومباشرتهما المزارعة في دار الحرب وفي دار الإسلام سواء فيما يصح ويفسد والمزارعة بين مسلم تاجر في دار الحرب وبين رجل أسلم هناك جائزة بالنصف وكذا بعشرين قفيزا من الخارج لأحدهما في قول أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف ومحمد بمنزلة عقد الربا بين التاجر في دار الحرب والذي أسلم هناك وبين اللذين أسلما ولم يهاجرا.
وإذا اشترى المسلم أو التاجر أرضا في دار الحرب فدفعها إلى حربي مزارعة بالنصف فلما استحصد الزرع ظهر المسلمون على تلك الدار فالزرع والأرض كلهما لمن افتتحها لأن الأرض وإن كانت مملوكة للمسلم فهي بقعة من بقاع دار الحرب فتصير غنيمة لظهور المسلمين على الدار والزرع قبل الحصاد تبع للأرض لاتصاله بها ولهذا يستحق بالشفعة.(23/213)
ولو كان الزرع حصد ولم يحمل من الأرض حتى ظهروا على الدار كانت الأرض ونصيب الحربي من الزرع فيئا للمسلم نصيبه من الزرع لأن التبعية زالت بالحصاد وصارت كسائر المنقولات فنصيب الحربي من ذلك يصير غنيمة كسائر أمواله ونصيب المسلم لا يصير غنيمة كسائر أمواله من المنقولات والدليل على زوال التبعية حكم الشفعة فإن الزرع المحصود لا يستحق بالشفعة وإن لم يحمل من الأرض ومن أيهما كان البذر فالجواب سواء وكذلك لو كان صاحب الأرض هو الحربي والزارع هو المسلم فإن كان الزرع لم يحصد فترك الإمام أهلها وتركه في أيديهم يؤدون الخراج كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل السواد كانت الأرض لصاحبها أيهما كان والزرع بينهما على ما اشترطا لأن الإمام قرر ملكهما فيه بالمن وإذا جاز ذلك في حصة الحربي ففي حصة المسلم أولى.
ولو دخل مسلمان دار الحرب بأمان فاشترى أحدهما أرضا فدفعها إلى صاحبه مزارعة بالنصف فاستحصد الزرع ولم يحصد حتى ظهر المسلمون على الدار فالأرض والزرع فيء لما(23/214)
ص -105- ... قلنا وإن ظهروا علينا بعد ما حصد الزرع فالأرض فيء والزرع بينهما على ما اشترطا لأنه منقول مشترك بين مسلمين في دار الحرب فلا يصير غنيمة بالظهور على الدار وإن دفعها المسلم إلى حربي مزارعة بالنصف والبذر من أحدهما بعينه والعمل عليهما جميعا فأخرجت الأرض الزرع ثم أسلم أهل الدار وقد استحصد الزرع أو لم يحصد جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله والخارج بينهما على الشرط وفي قول أبي يوسف رحمه الله الخراج لصاحب البذر وللآخر الأجر وهذا لأن اشتراط عمل صاحب الأرض مع المزارع في المزارعة إنما يفسد العقد في دار الإسلام فأما في دار الحرب بين المسلم والحربي فهو على الخلاف الذي بينا ولو لم يسلم أهل الدار ولكن ظهر المسلمون على الدار كانت الأرض وما فيها فيئا ولا شيء على صاحبه لأحدهما من أجر ولا غيره لأن هذه المعاملة كانت في دار الحرب فلا يطالب أحدهما صاحبه بشيء منه بعد ما ظهر المسلمون على الدار لأن الأرض إن كانت للحربي فقد صارت غنيمة وكذلك إن كانت للمسلم فلا يكون له أن يطالب صاحبه بأجرها ونفس الحربي تبدلت بالرق فلا تتوجه له المطالبة بالأجر على المسلم ولا للمسلم عليه.
وإن تركهم الإمام في أرضهم كما ترك عمر رضي الله عنه أهل السواد فهذا بمنزلة إسلامهم عليها لأنه يقرر ملكهم في أراضيهم وحريتهم في رقابهم بالمن كما يتقرر ذلك بالإسلام لو أسلموا والمعاملة كالمزارعة في جميع ما ذكرنا وإن كانت المزارعة في دار الحرب بين الحربيين بالنصف أو بأقفزة مسماة من الخارج فأسلم أهل الدار قبل أن يحصد الزرع وقد استحصد أو بعد ما حصد جاز على ما اشترطا لأنهما باشرا العقد حين لم يكونا ملتزمين لأحكام الإسلام وقد كان الخارج بينهما على ما اشترطا قبل إسلامهما فيتأكد ملكهما بالإسلام.(23/215)
ولو أسلم أهل الدار قبل أن يزرع ثم زرع كانت المزارعة فاسدة على شرط الأقفزة المسماة والخارج لصاحب البذر لأن العقد لا يتم من الجانبين قبل إلقاء البذر في الأرض فالإسلام الطارئ قبل تمام العقد كالمقترن بأصل العقد ولو كان زرع ثم أسلموا وهو بقل لم يسبل ثم عمل فيه بعد ذلك حتى استحصد كان فاسدا أيضا لأن المقصود هو الحب والإسلام حصل قبل حصول ما هو المقصود وهو الشركة بينهما في الحب الذي هو مقصود بخلاف ما إذا أسلموا بعد الاستحصاد وهذا لأن كل حال يجوز ابتداء عقد المزارعة فيها فإسلامهم في تلك الحالة يفسد المزارعة بشرط عشرين قفيزا وكل حالة لا يجوز ابتداء عقد المزارعة فيها فإسلامهم في تلك الحالة لا يؤثر في العقد اعتبارا لحالة البقاء بحالة الابتداء وما دام الزرع بقلا فابتداء المزارعة فيه يصح فإذا أسلموا وكان العقد بشرط عشرين قفيزا فسد بخلاف ما بعد الاستحصاد والله أعلم.
باب مزارعة الصبي والعبد
قال رحمه الله: والعبد المأذون له في التجارة بمنزلة الحر في المزارعة وكذلك الصبي الحر المأذون له في التجارة لأن عقد المزارعة من عقود التجارة فإنه استئجار للأرض أو(23/216)
ص -106- ... للعامل أو هو عقد شركة في الخارج والتجار يتعاملون به فالمأذون فيه كالحر البالغ فإن زارع العبد إنسانا فلم يزرع حتى حجر عليه مولاه فحيث كان للحر أن يمتنع عن المضي في المزارعة فلمولى العبد أن يمتنع منه ويحجر عليه وحيث لم يكن للمولى منع العبد منه ولا يبطل العقد بحجر المولى عليه لأن منع المولى إياه بالحجر كامتناعه بنفسه وله أن يمتنع إذا كان البذر من قبله وليس له أن يمتنع إذا كان البذر من قبل الآخر فكذلك منع المولى إياه بالحجر عليه وهذا لأن الحجر لا يبطل العقد اللازم في حالة الإذن ولا يمكن المولى من إبطاله وما لم يكن لازما فللمولى أن يمتنع من التزامه بعد الحجر إلا أنه إذا كان البذر والأرض من العبد فحجر المولى عليه قبل الزراعة فله أن يمنع الزارع من الزراعة.
وإذا أخذ العبد أرض الغير مزارعة ليزرعها ببذره ثم حجر المولى عليه فنفس الحجر منع منه للمزارعة وينفسخ العقد به لأن صاحب الأرض والبذر إذا كان هو العبد ففي إلقاء البذر في الأرض إتلاف له وللمولى أن لا يرضى بذلك فما لم يمتنع المزارع من إلقاء البذر في الأرض لا ينفسخ العقد وإذا كان العبد هو المزارع ببذره فبنفس الحجر فات المعقود عليه فإن العبد لا يملك البذر بعد ذلك بإلقائه في الأرض ولا في منافعه بإقامة عمل الزراعة بدون إذن المولى فلهذا جعل نفس الحجر عليه فسخا للزراعة وكذلك الصبي الحر يحجر عليه أبوه أو وصيه وكذلك المعاملة في الاستئجار إلا أن في المعاملة الحجر بعد العقد لا يبطل العقد أيهما كان العامل لأن المعاملة تلزم بنفسها من الجانبين ولو لم يحجر عليه ولكنه نهاه أو نهى مزارعه عن العمل بعد العقد أو نهاه عن العقد قبل أن يعقد كان نهيه باطلا وله أن يعقد ويعمل وكذلك الصبي لأن هذا حجر خاص في إذن عام وهو باطل.(23/217)
ألا ترى: أن عند ابتداء الإذن لو استثنى المزارعة لم يصح استثناؤه فكذلك بعد الإذن إذا نهاه عن العقد أو المضي عليه من غير أن يحجر عليه.
فإذا اشترى الصبي التاجر أرضا ثم حجر عليه أبوه فدفعها مزارعة إلى رجل بالنصف يزرعها ببذره وعمله فالخارج للعامل وعليه نقصان الأرض لأن إذن الصبي في زراعة الأرض بعد الحجر باطل فكان العامل بمنزلة الغاصب فعليه نقصان الأرض والخارج له وإن لم يتمكن في الأرض نقصان كان الخارج بينهما على الشرط استحسانا لأن منفعة الصبي في تصحيح العقد هنا فإنه لو بطل لم يسلم له شيء ولا يحجر الصبي عما يتمحض منفعته من العقود كقبول الهبة ولا يتصدق واحد منهما بشيء لأن العقد لما صح منه كان هو في ذلك كالبالغ أو المأذون.
ولو كان البذر من قبل الدافع كان الخارج للعامل وعليه غرم البذر في الوجهين جميعا أو نقصان الأرض إن كان فيها نقصان سواء أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن إذن الصبي في الزراعة وإلقاء بذره في الأرض باطل فيكون المزارع كالغاصب للأرض والبذر منه فعليه غرم البذر ونقصان الأرض والخارج له ويتصدق بالفضل لأنه حصل له بسبب حرام(23/218)
ص -107- ... شرعا وإذا دفع الحر إلى العبد المحجور عليه أرضا وبذرا مزارعة بالنصف سنته هذه فزرعها فحصل الخارج وسلم العامل فالخارج بينهما على الشرط لأنه استأجر العبد للعمل بالنصف الخارج وقد بينا أن العبد المحجور عليه إذا أجر نفسه وسلم من العمل وجب له الأجر استحسانا وإن مات في العمل فصاحب الأرض والبذر ضامن لقيمته لأنه غاصب له بالاستعمال والزرع كله له سواء مات قبل الاستحصاد أو بعده لأنه يملك العبد بالضمان من حين دخل في ضمانه فإنما أقام عمل الزراعة بعبد نفسه فالخارج كله له ويطيب له ذلك لأنه ربى زرعه في أرض نفسه ولكونه غاصبا للعبد لا يتمكن الخبث في الزرع.
وإن مات الصبي الحر من عمل الزراعة بعد ما استحصد الزرع فالزرع بينهما على ما اشترطا طيب لهما كما لو أسلم الصبي لأن باستحصاد الزرع تأكدت الشركة بينهما في الخارج والصبي لا يملك بالضمان فإن مات وجب على عاقلة صاحب الأرض دية الصبي لكونه سببا لإتلافه على وجه هو متعد فيه لا يتغير حكم الشركة بينهما في الخارج بخلاف العبد وكذلك الحكم في المعاملة في النخيل والأشجار.(23/219)
ولو كان البذر من العامل وهو حر كان الخارج كله للعامل لأنه نماء بذره اكتسبه بعمله والعبد في الاكتساب كالحر وإن كان محجورا فلا شيء لرب الأرض من نقصان ولا غيره ما لم يعتق لأنه شرط بعض الخارج لصاحب الأرض بعقده وذلك لا يصح من المحجور عليه حال رقه وإنما زرع الأرض بتسليط صاحب الأرض إياه على ذلك فلا يغرم نقصان الأرض ما لم يعتق العبد فإذا عتق رجع عليه رب الأرض بأجر مثل أرضه لأنه كان شرط له نصف الخارج بمقابلة منفعة الأرض وقد استوفى المنفعة وحصل الخارج ثم استحقه المولى فيكون عليه أجر مثل أرضه بعد العتق ولا يرجع على الصبي بشيء وإن كثر لأن التزامه بالعقد غير صحيح في حقه في الحال ولا بعد البلوغ وإن مات العبد أو الصبي في عمل الأرض لم يضمنه رب الأرض لأنهما عملا لأنفسهما فلا يكون صاحب الأرض مستعملا للعبد ولا متسببا لإتلاف الصبي وإن كانت الأرض لم تخرج شيئا فلا شيء على رب الأرض من ضمان بذرهما ولا غيره لأنهما عملا لأنفسهما في إلقاء البذر في الأرض ولم يكن من صاحب الأرض عمل في بذرهما تسببا ولا مباشرة.
وإذا حجر الرجل على عبده أو ابنه وفي يده نخل فدفعه إلى رجل معاملة بالنصف فالخارج كله لصاحب النخل ولا شيء للعامل لأنهما شرطا للعامل نصف الخارج بمقابلة عمله وذلك باطل من الصبي ومن العبد المحجور ما لم يعتق فإذا عتق العبد كان عليه أجر مثل العامل لأن التزام العبد في حق نفسه صحيح وقد استحق المولى الخارج بعد ما حصل الخارج وإذا دفع العبد المحجور عليه أرضا مما كان في يده أو أرضا أخذها من أراضي مولاه إلى رجل يزرعها ببذره وعمله هذه السنة بالنصف فزرعها العامل فأخرجت زرعا كثيرا ونقص الزرع الأرض فالخارج للعامل وعليه نقصان الأرض لرب الأرض لأنه في حق المولى بمنزلة(23/220)
ص -108- ... الغاصب للأرض فإن عقد المزارعة من المحجور عليه صحيح في حق المولى فإن عتق العبد رجع العامل عليه بما أدى إلى مولاه من نقصان الأرض لأنه صار مغرورا من جهة العبد بمباشرته عقد الضمان والعبد يؤاخذ بضمان الغرور بعد العتق بمنزلة الكفالة ثم يأخذ العبد من المزارع نصف ما أخرجت الأرض لأن العقد صح بينهما في حقهما فيكون الخارج بينهما على الشرط فإذا أخذ نصف الخارج باعه واستوفى من ثمنه ما غرمه للمزارع فإن كان فيه فضل كان لمولاه لأن ذلك كسب اكتسبه في حال رقه وما اكتسب العبد في حال رقه يقضي دينه منه فإن فضل منه شيء فهو للمولى.
وإن قال المولى قبل أن يعتق العبد أنا آخذ نصف ما أخرجت الأرض ولا أضمن العامل نقصان الأرض كان له ذلك إن عتق العبد أو لم يعتق لأن العقد كان صحيحا بين العبد والمزارع وإنما امتنع بعوده في حق المولى لدفع الضرر عنه أو لانعدام الرضا منه به فيكون رضاه به في الانتهاء بمنزلة الرضا به في الابتداء وإن كانت الأرض لم تنقصها الزراعة شيئا فالخارج بين المولى والمزارع نصفان لأن في تصحيح هذا العقد منفعة للمولى وهو سلامة نصف الخارج له وإنما كان يمتنع صحته في حقه لدفع الضرر ولا ضرر هنا.(23/221)
وإذا دفع العبد المحجور عليه إلى رجل أرضا من أرض مولاه وبذرا من بذر مولاه أو ما كان من تجارته قبل أن يحجر عليه مزارعة بالنصف فزرعها المزارع فأخرجت زرعا أو لم تخرج وقد نقص الأرض الزرع أو لم ينقصها فللمولى أن يضمن المزارع بذره ونقصانه أرضه لأن الزارع غاصب لذلك في حق المولى فإن أذن العبد المحجور عليه بإلقاء البذر في الأرض في حق المولى باطل فإن ضمنه ذلك ثم عتق العبد رجع عليه المزارع بما ضمن من ذلك لأجل الغرور وكان نصف الخارج للعبد يستوفي منه ما ضمن ويكون الفضل لمولاه وإن شاء المولى أخذ نصف الزرع فكان له ولم يضمن الزارع من البذر والنقصان شيئا لأن العقد صحيح فيما بين العبد والمزارع وإنما كان لا ينفذ في حق المولى لانعدام رضاه به فإذا رضى به تم العقد والله أعلم.
باب الكفالة في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا له يزرعها هذه السنة بالنصف وضمن له رجل الزراعة من الزارع فالضمان باطل لأن المزارع مستأجر للأرض عامل والمزارعة لنفسه إلا أن يكون العمل مستحقا لرب الأرض عليه وإنما يصح الضمان بما هو مستحق على الأصيل للمضمون له فإذا كان الضمان شرطا في المزارعة فالمزارعة فاسدة لأنها استئجار للأرض فتبطل بالشرط الفاسد وإن لم يجعلاه شرطا في المزارعة صحت المزارعة والضمان باطل وإن كان البذر من رب الأرض جاز الضمان والمزارعة في الوجهين جميعا لأن رب الأرض مستأجر للعامل وقد صارت إقامة العمل مستحقة عليه لرب الأرض وهو مما تجري فيه النيابة في تسليمه فيصح التزامه بالكفالة شرطا في العقد أو مقصودا بعد عقد المزارعة(23/222)
ص -109- ... بمنزلة الكفالة بالأجرة والثمن في البيع وإن تعنت الزارع أخذ الكفيل بالعمل لأنه التزم المطالبة بإيفاء ما كان على الأصيل وهو عمل الزراعة فإذا عمل وبلغ الزرع ثم ظهر المزارع كان الخارج بينهما على ما اشترطا لأن الكفيل كان نائبا عنه في إقامة العمل وللكفيل أجر مثل عمله إن كان كفل بأمره لأنه التزم العمل بأمره وأوفاه فيرجع عليه بمثله ومثله أجر المثل كالكفيل بالدين إذا أدى.
وإن كان الشرط على الزارع أن يعمل بنفسه لم يجز الضمان لأن ما التزمه العامل هنا لا تجري النيابة في إيفائه وهو عمل المزارع بنفسه إذ ليس في وسع الكفيل إبقاء ذلك فيبطل الضمان وتبطل المزارعة أيضا إن كان الضمان شرطا فيها والمعاملة في جميع ذلك بمنزلة المزارعة.(23/223)
ولو كان الكفيل كفل لرب الأرض بحصته مما تخرج الأرض والبذر من صاحب الأرض أو من العامل فالكفالة باطلة لأن نصيب رب الأرض من الزرع أمانة في يد المزارع سواء كان البذر من قبله أو من قبل رب الأرض حتى لا يضمن ما يهلك منه بغير صنعه والكفالة بالأمانة لا تصح بمنزلة الكفالة بالوديعة إنما تصح الكفالة بما هو مضمون التسليم على الأصل ثم تبطل المزارعة إن كانت الكفالة شرطا فيها والمعاملة في هذا كالمزارعة ولو كفل رجل لأحدهما عن صاحبه بحصته مما تخرج الأرض إن استهلكها صاحبها فإن كان ذلك شرطا في أصل المزارعة فالمزارعة فاسدة وإن لم يكن شرطا فيها فالمزارعة جائزة والكفالة جائزة لأنها أضيفت إلى سبب وجوب الضمان وهو الاستهلاك وإضافة الكفالة إلى سبب وجوب الضمان صحيحة إلا أن هذا دين يجب لأحدهما على صاحبه لا بسبب عقد المزارعة وعقد المزارعة بين اثنين بشرط أن يعطي أحدهما صاحبه كفيلا بدين آخر وجب له عليه يكون صحيحا كعقد البيع على هذا الشرط فإذا شرطا الكفالة في المزارعة فسدت المزارعة لهذا وإن لم يكن شرطا فيها جازت المزارعة والكفالة فإن استهلك المضمون منه شيئا ضمنه الكفيل ويأخذ به الطالب أيهما شاء.(23/224)
وإذا كانت المزارعة فاسدة والبذر من قبل العامل وضمن رجل لصاحب الأرض حصته مما تخرج الأرض فالضمان باطل لأنه مع فساد المزارعة لا يستحق صاحب الأرض شيئا من الخارج والكفالة بما ليس بمضمون على الأصل باطل ولا يؤخذ الكفيل بأجر مثل الأرض لأنه لم يضمنه وإنما ضمن الطعام وأجر مثل الأرض دراهم فلا يجوز أن يجب عليه بالكفالة غير ما التزمه وإذا كان الأجر للعامل أو لرب الأرض كر حنطة بعينها لم يكن لصاحبه أن يبيعه قبل القبض لأن الأجرة في الإجارة بمنزلة العوض في البيع وما كان بعينه من العروض المستحق بالمبيع لا يجوز بيعه قبل القبض فإن هلك بعد العمل أو استهلكه الذي في يديه كان عليه أجر المثل لأن بهلاكه قبل التسليم فات القبض المستحق بالعقد فيفسد العقد ولزمه رد ما استوفى في تحكمه من المنفعة وقد تعذر عليه رده فيلزمه أجر مثله.(23/225)
ص -110- ... وإذا كان الشرط بعض الخارج في المزارعة والمعاملة فاستحصد الزرع ولم يحصد أو بلغ التمر ولم يحرز ثم باع أحدهما حصته قبل أن يقبضها جاز بيعه لأن حصته أمانة في يد الآخر كالوديعة فينفذ تصرفه فيها قبل القبض وإن هلك فلا ضمان على واحد منهما لأن هلاك الأمانة في يد الأمين كهلاكها في يد صاحبها وإن استهلكها أحدهما ضمن نصيب صاحبه لأنه استهلك ملكا تاما مشتركا بينهما فيضمن نصيب صاحبه جبرانا لما أتلف من ملكه والله أعلم.
باب مزارعة المريض ومعاملته
قال رحمه الله: وإذا دفع المريض أرضه إلى رجل مزارعة يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما على كذا فزرعها فأخرجت زرعا كثيرا وأجر مثل الأرض أكثر من نصيب صاحبه أضعافا وعليه دين يحيط بماله وأجر الأرض ثم مات والمزارع أجنبي أو أحد ورثته ونقصان الأرض أكثر من أجر مثلها فالخارج بينهما على ما اشترطا ولا شيء للعامل من الأجر والنقصان لأن تصرف المريض حصل فيما لا حق فيه لغرمائه ولا لورثته وهي منفعة الأرض التي توجد في حياته فإن حق الورثة إنما يتعلق بما يتصور بقاؤه بعد موته وحق الغرماء إنما يتعلق بما يمكن إيفاء الدين منه.
ألا ترى: أنه لو أعار المريض من صاحب البذر أرضه ولم يشترط عليه عوضا بمقابلة منافعها لم يعتبر ذلك من ثلثه وكان ذلك منه في مرضه وفي صحته سواء فكذلك إذا دفعها مزارعة بجزء يسير من الخارج وفي تصرفه محض منفعة للغرماء والورثة وهو سلامة مقدار المشروط بمقابلة الأرض من الزرع لهم ولولا عقد المزارعة ما سلم لهم ذلك وإذا ثبت صحة تصرفه وكان عمل العامل في الأرض بإذن صحيح فلا يلزمه شيء من نقصان الأرض.(23/226)
ولو كان البذر من صاحب الأرض وسمى للعامل تسعة أعشار الخارج ولا دين على المريض ولا مال غير الأرض والطعام فإنه ينظر إلى الزرع يوم خرج من الأرض وصار له قيمة كم يساوي تسعة أعشاره فإن كان مثل أجر الأرض أو أقل منه فلما قام عليه وسقاه حتى استحصد صار أكثر من أجر مثله وأكثر من ثلث مال رب الأرض فللمزارع تسعة أعشار الخارج فإن كانت قيمة تسعة أعشاره حين خرج أكثر من أجر مثل المزارع فقام عليه وسقاه حتى استحصد صار أكثر من أجر مثله وأكثر من ثلث ما ترك الميت فأبى الورثة أن يجيزوا أخذ الزارع من حصته من الخارج أجر مثله وثلث ما ترك وصية له إن لم يكن من ورثته والباقي لورثة صاحب الأرض لأن صاحب الأرض استأجر العامل بما جعل له من الخارج وإنما يصير المزارع بإيجابه شريكا في الخارج حين ثبت الخارج فإذا كانت قيمة ما نبت مثل أجر مثله أو أقل لم تمكن في تصرفه محاباة فيقدر ثم ملك المزارع في نصيبه بعقد صحيح ثم الزيادة بعد ذلك إنما حدثت على ملك صحيح له فلا يعتبر ذلك من ثلث مال الميت فأما إذا كانت قيمته حين نبت أكثر من أجر مثله فالزيادة على مقدار أجر المثل محاباة له والمحاباة لا تسلم إلا من الثلث بعد الدين فبقي الثابت كله موقوفا على حق المريض فيثبت حقه في(23/227)
ص -111- ... الزيادة الحادثة فيه فلا يسلم للمزارع من جميع ذلك بعد ما استحصد الزرع إلا مقدار أجر مثله وما زاد على ذلك إلى تمام المشروط له يكون وصية فيعتبر من ثلث ماله فيحتاج هنا إلى معرفة شيئين:
أحدهما: أن عمل المزارع وإن لم يكن مالا متقوما فبالعقد يتقوم بمقدار أجر المثل ولا وصية في ذلك القدر من المشروط له كما لو استأجر المريض أجير العمل آخر له بل أولى لأن هناك استأجره بما كان حاصلا له لا بعمله وهنا استأجره بمال يحصل أو يزداد بعمله.
والثاني: أنه يعتبر قيمة حصته حين يصير للزرع قيمة لا حين نبت لأنه يكون مملكا منه نصيبه بعوض والتمليك إنما يجوز في الزرع بعد ما يصير متقوما كالتمليك بالبيع وهو وإن صار شريكا فيما نبت ولكنه يحتاج إلى قيمة نصيبه ليقابل ذلك بأجر مثله وما ليس بمتقوم لا يمكن معرفة قيمته فيعتبر أول أحوال إمكان التقوم فيه كأحد الشريكين في الجنين إذا أعتق نصيبه وهو موسر يضمن لصاحبه قيمة نصيبه معتبرا بما بعد الإنفصال قال وإنما هذا مثل رجل استأجر في مرضه رجلا ليخدمه سنته بجارية له بعينها لا مال له غيرها فدفعها إليه وخدمة الرجل السنة كلها وولدت الجارية وزادت في بدنها ثم صارت تساوي أكثر من أجر مثل الرجل ثم مات المريض فإن كانت قيمتها يوم وقعت الإجارة وقبضها الأجير مثل أجر مثله أو أقل كانت له بزيادتها لأنه لا محاباة فيها ولا وصية وإنما اعتبرت قيمتها وقت القبض لأن الأجرة قبل استيفاء المنفعة لا تملك بنفس العقد وإنما تملك بالقبض.(23/228)
وإن كانت قيمتها يومئذ أكثر من أجر مثله فإنه يعطي الآخر منها مقدار أجر مثله وثلث ما ترك الميت بعد ذلك من الجارية وولدها وصية له ويرد قيمة البقية على الورثة لأنه يمكن فيها معنى الوصية بطريق المحاباة فلا تكون سالمة للأجير وتبقى موقوفة على حق المريض فيثبت حقه في الزيادة متصلة كانت أو منفصلة فلا يسلم للأجير منها إلا مقدار أجر مثله وثلث التركة بعد ذلك منها ومن ولدها بطريق الوصية وفيما زاد على ذلك يلزمه رده إلا أنه تعذر الرد لمكان الزيادة الحاصلة في يده بعد ما يملكها فرد قيمة الزيادة.
فإن قيل إنما يملكها بالقبض بحكم سبب فاسد فينبغي أن يرد عينها مع الزيادة.
قلنا لا كذلك بل كان السبب صحيحا يومئذ لأن تصرف المريض فيما يحتمل النقص بعد نفوذه يكون محكوما بصحته ثم ينقض بعد موته ما يتعذر تنفيذه والمقصود من هذا النقص دفع الضرر عن الورثة وذلك يحصل برد قيمة الزيادة عليهم ولو لم يكن في رد العين إلا ضرر التبعيض على الأجير لكان ذلك كافيا في تحول حقهم إلى القيمة.
وإن كان المزارع وارث المريض كان الجواب كذلك إلا أنه لا وصية له لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" فإن كانت قيمة نصيبه أجر مثل المزارع أو أقل حين نبت الزرع وصارت له قيمة فجميع المشروط سالم له وإن كان أكثر من أجر مثله فإنما يسلم له من الخارج مقدار أجر مثله حين استحصد الزرع والباقي كله ميراث عن الميت وإن كان المزارع(23/229)
ص -112- ... أجنبيا وعلى الميت دين يحيط بماله كان المزارع أسوة الغرماء فإنما يثبت له من الحصة في الزرع على ما تقدم ذكره حتى إذا لم يكن من قيمة حصته حين صار متقوما زيادة على أجر مثله فقد صح تسمية حصته له في الكل والزيادة الحادثة بعد ذلك تكون زيادة على ملكه إلا أن عين ذلك لا تسلم له لأن المريض لا يملك تخصيص بعض الغرماء بقضاء الدين إلا بائعا اشترى منه ما تكون ماليته مثل ما أعطاه من الثمن لأنه يدخل في ملكه ما يقوم مقام ما يخرجه في تعلق حق الغرماء به وذلك لا يوجد به فلهذا لا يختص العامل به ولكن لما ثبت حقه بسبب لا محاباة فيه ولا تهمة كان هو أسوة الغرماء في تركته وإن كانت حصته أكثر من أجر مثل عمله فإنما يضرب مع الغرماء في الخارج بمقدار أجر مثل عمله حين استحصد الزرع لأن ما زاد على ذلك كان وصية له ولا وصية مع الدين.
وكذلك مسألة الجارية هو أسوة الغرماء فيما ثبت له فيها على الوجه الذي بينا من الفرق بينما إذا كانت قيمتها حين قبضها مثل أجر مثله في خدمته أو أكثر من ذلك ولا تشبه المزارعة في هذا المضاربة فإن المريض لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن للمضارب تسعة أعشار الربح وربح عشرة آلاف ثم مات المريض وأجر مثل المضارب في عمله مائة درهم فإن الورثة يأخذون رأس المال والباقي بينهم وبين المضارب على الشرط ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله لأن هناك رأس المال قد رجع إلى ورثته والربح بمال لم يكن لرب المال ولا يتعلق به حق ورثته وغرمائه.
ألا ترى: أنه لو لم يشترط شيئامن الربح لنفسه بأن أقرض المال منه كان صحيحا ففي اشتراطه بعض الربح لنفسه منفعة غرمائه وورثته والبذر في المزارعة ليس يرجع إلى رب الأرض وإنما يكون جميع الخارج بينهما فيكون تصرف المريض فيما تعلق به حق غرمائه وورثته.
ولو كان يرجع إلى صاحب البذر رأس ماله ويكون ما بقي بينهما لكنا نجوز ذلك أيضا كما نجوزه في المضاربة.(23/230)
فإن قيل ينبغي أن ينظر إلى قيمة البذر ويقابل ذلك بأجر مثله ولا ينظر إلى قيمة الخارج.
قلنا إنما ينظر إلى قيمة ما يوجبه للمزارع بمقابلة عمله وهو لا يوجب له شيئا من البذر إنما يوجب له حصته من الخارج فلهذا ينظر إلى قيمة ما يوجبه له وإلى أجر مثله.
وإذا دفع الصحيح إلى مريض أرضا له على أن يزرعها هذه السنة ببذره فما خرج منها فهو بينهما نصفان فزرعها المريض ببذر من قبله ليس له مال غيره فأخرجت زرعا كثيرا ثم مات من مرضه فإنه ينظر إلى حصة رب الأرض مما أخرجت الأرض يوم صار الزرع متقوما كم قيمته لأن المريض استأجر الأرض هنا بما أوجب لصاحبها من الحصة فإن كانت حصته يومئذ مثل أجر مثل الأرض أو أقل فإن الخارج بينهما على الشرط لأنه لا وصية فيها ولا(23/231)
ص -113- ... محاباة وقد تم ملك رب الأرض في نصيبه ثم الزيادة حادثة بعد ذلك على ملكه وهذا لأنه قابض لنصيبه باتصاله بأرضه أو بكونه في يد أمينة لأن المزارع أمين في نصيب رب الأرض ولهذا لو أصاب الزرع آفة لم يغرم له شيئا وإن كانت حصته يومئذ أكثر من أجر مثل الأرض نظر إلى حصته يوم تقع القسمة لأنه تمكن معنى الوصية هنا بطريق المحاباة فيثبت حق المريض فيما يحدث من الزيادة فإنما يعطي رب الأرض منها مقدار أجر مثل أرضه وثلث تركة الميت مما بقي بطريق الوصية وكذلك إن كان رب الأرض أحد ورثته إلا أنه لا وصية له فلا يأخذ إلا قدر أجر مثله من الخارج يوم تقع القسمة في الموضع الذي تتمكن فيه الوصية ولو كان غير وارث وعلى الميت دين يحيط بماله كان الجواب كذلك إلا أنه أسوة الغرماء بما ثبت له من ذلك فإن المريض لم يدخل في ملكه ما يقوم مقام ما أوجبه له في تعلق حق الغرماء به فيبطل تخصيصه إياه بذلك ويكون هو أسوة الغرماء بما ثبت له.
ولو كان الذي عليه دين أقر في مرضه بدئ بحق رب الأرض لأن حقه ثبت بسبب لا تهمة فيه فيكون هو بمنزلة غريم الصحة يقدم حقه على المقر له في المرض إلا أنه لا وصية له ما لم يقض الدين لأن الدين مقدم على الوصية وإن كان واجبا بإقراره في المرض لكونه أقوى من الوصية.(23/232)
ألا ترى: أن الدين يعتبر من جميع المال والوصية من الثلث وإذا دفع المريض نخلا له معاملة بالنصف فقام عليه العامل ولقحه وسقاه حتى أثمر ثم مات رب النخيل ولا مال له غير النخيل وثمره فإنه ينظر إلى الثمر يوم طلع من النخل وصار كفري وصارت له قيمة فإن كان نصف قيمته مثل أجر العامل أو أقل فللعامل نصف الثمر وإن كان أكثر من أجر مثله نظر إلى مقدار أجر مثل العامل يوم تقع القسمة فيعطي العامل ذلك وثلث تركة الميت مما بقي من حصته وصية له إلا أن يكون وارثا فلا وصية له وهذا لأن المريض استأجر العامل بما شرط له من الثمر وإنما يصير شريكا في الثمر بعد طلوعه وإنما يمكن تقويمها حين تصير لها قيمة فلهذا يعتبر قيمة حصته عند ذلك.
وإذا كان على المريض دين يحيط بماله فإن كانت قيمة النصف من الكفرى حين طلعت مثل أجره ضرب مع الغرماء بنصف جميع التمر لأنه لا محاباة هنا ولا وصية فتكون الزيادة حادثة على ملك تام له إلا أن تخصيصه إياه بقضاء حقه يبطل فيكون هو أسوة الغرماء بنصف جميع التمر وإن كانت قيمة نصفه أكثر من أجر مثله ضرب معهم في التركة بمقدار أجر مثله لتمكن الوصية هنا بطريق المحاباة.
ولو دفع الصحيح إلى المريض نخلا له معاملة على أن للعامل جزءا من مائة جزء ومما يخرج منه فقام عليه المريض بأجرائه وأعوانه وسقاه ولقحه حتى صار تمرا ثم مات ولا مال له غيره وعليه دين ورب النخل من ورثته وأجر مثل ذلك العمل أكثر من حصته فليس له إلا ما شرط له لأن المريض إنما تصرف هنا فيما لا حق فيه لغرمائه ولورثته وهو منافع بدنه.(23/233)
ص -114- ... ألا ترى: أنه لو أعانه بهذه الأعمال ولم يشرط لنفسه شيئا من الخارج كان ذلك صحيحا منه ففي اشتراطه جزءا من الخارج بمقابلة عمله وإن قل منفعة غرمائه وورثته.
ولو دفع المريض إلى رجل زرعا له في أرض لم يستحصد أو كفري في رؤوس النخيل أو ثمرا في شجر حين طلع ولكنه أخضر ولم يبلغ بعد على أن يقوم عليه حتى يبلغ بالنصف فقام عليه العامل حتى بلغ ثم مات صاحب الشجر والزرع ولم يدع مالا غيره فإنه ينظر إلى حصة العامل يوم قام عليه فزاد في يده لأنه إنما يصير شريكا عند ذلك فإن المعاملة إيجاب الشركة فيما يحصل بعمله وأول أحوال ذلك حين تظهر زيادة من عمله فإن كانت قيمته أكثر من أجر مثله كان له من حصته مقدار أجر مثله وقت القسمة وثلث التركة بطريق الوصية وكذلك إن كان أحد ورثته إلا أنه لا وصية له وإن لم يكن من ورثته وكان على الميت دين يحيط بماله ضرب العامل بما ثبت له من ذلك على ما وصفنا مع الغرماء ولا وصية له وهذا في التخريج وما تقدم ذكره سواء.(23/234)
وإذا استأجر المريض رجلا يخدمه هذه السنة بجارية بعينها فلما وقعت الإجارة لم يخدمه حتى زادت الأمة وكانت قيمتها يوم وقعت الإجارة مثل أجر مثل الأجير فخدمه السنة كلها ودفع إليه الجارية فولدت عند الأجير ثم مات المريض ولا مال له غيرها فللأجير من الجارية وأولادها مقدار أجر مثله والثلث مما يبقى بطريق الوصية لأنه لم يملكها بنفس العقد قبل استيفاء المنفعة فما زاد يكون على ملك المريض وتجعل هذه الزيادة كالموجودة عند العقد فيتمكن معنى الوصية بهذا الطريق حين سلم الجارية إليه بعد استيفاء الخدمة وحدوث الزيادة فإنما السالم له منها ومن أولادها مقدار أجر مثله عوضا عن الخدمة والثلث مما يبقى بطريق الوصية أعطى وصية من الجارية فإن بقي شيء كان له من أولادها في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن في تنفيذ الوصية الجارية أصل والأولاد تبع على ما نبينه في الوصايا إن شاء الله تعالى ويقال له أد قيمة ما بقي دراهم أو دنانير ورد الجارية وولدها ويكون لك أجر مثلك في مال الميت لأنه يلحقه عيب التبعيض ولم يكن هو راضيا بذلك فيكون له أن يردها بالعيب ولكن إذا ردها بطلت الوصية بالمحاباة له لأن ذلك كان في ضمن العقد وقد بطل العقد بالرد وإن أبى أن يردها أعطى الورثة قيمة ما بقي لإزالة المحاباة ودفع الضرر عن الورثة وبرد القيمة يندفع الضرر عنهم وثبوت الخيار له في الرد لهذا المعنى أيضا وهو أنه يلزمه زيادة لم يرض بالتزامها فيكون له أن يردها لذلك.(23/235)
ولو كانت الجارية حين وقعت الإجارة دفعها المريض إلى الأجير فلم يخدم الأجير حتى زادت في يده وصارت قيمتها أكثر من أجر مثله ثم خدمه بعد ذلك حتى تمت السنة ومات المريض ولم يدع مالا غيرها وقد ولدت الجارية أولادا فالجارية وجميع أولادها للأجير لأنه بالقبض قد ملكها وليس فيها فضل فتم ملكه في جميعها لانعدام المحاباة ثم الزيادة حدثت على ملك تام له فيكون سالما له وكذلك إن كان الأجير أحد ورثته إلا أن يكون ولدا أو زوجة(23/236)
ص -115- ... فرد الجارية وولدها فيكون بينهم ميراثا لأن استئجار الولد والزوجة على الخدمة لا يجوز ولا يستوجبون الأجر بهذا العقد فتثبت هي في يد الأجير بسبب باطل فعليه أن يردها مع الزيادة بخلاف المزارعة والمعاملة لأن الولد والزوجة في ذلك العمل كسائر الورثة فإنه غير مستحق عليهما دينا بخلاف الخدمة وإن لم يكن من ورثته وكان على الميت دين يحيط بماله فإن كانت الجارية لا فضل فيها عن أجر مثله يوم قبضها الأجير قسمت هي وولدها بين الغرماء وبينه ويضرب في ذلك الأجير بقيمتها وقيمة ولدها لأنه لا محاباة في تصرفه هنا ولكن فيه تخصيص الأجير بقضاء حقه من ماله وذلك يرد لحق الغرماء إلا أن الولد حدث على ملك صحيح له فلهذا ضرب مع الغرماء بقيمتها وقيمة ولدها فما أصابه كان له في الجارية وما أصاب الغرماء قيل له أد قيمة ذلك إلى الغرماء دراهم أو دنانير لأن حقهم في المالية لا في العين وبأداء القيمة يصل إليهم كمال حقهم ويندفع عنه ضرر التبعيض فإن أبى ذلك بيعت الجارية وولدها فقسم الثمن بينه وبين الغرماء يضرب الغرماء بدينهم ويضرب الأجير بأجر مثله لأنه حين أبى ذلك تعذر ردها بسبب عيب التبعيض أو بما لحقه من زيادة مال لم يرض بالتزامه بعقد المعاوضة والأجرة إذا كانت بعينها فردت بالعيب ينفسخ العقد وتبقى المنفعة مستوفاة بحكم عقد قد انفسخ فيكون رجوعه بأجر مثله فلهذا يضرب بأجر مثله وفي هذا نوع إشكال فإن الزيادة المنفصلة المتولدة بعد تمام الملك تمنع الرد بالعيب فيبقى أن لا يكون له أن لا يردها ولكن يغرم للغرماء قيمة الزيادة دراهم أو دنانير ويمكن أن يقال الزيادة إنما تمنع الرد إذا لم يجب ردها مع الأصل فإنه لا يجوز أن يسلم بغير عوض بعد رد الأصل وهذا لا يوجد هنا فإن حق الغرماء ثابت في الزيادة كما هو ثابت في الأم لأنه إن لم يثبت حقهم فيه باعتبار صحة السبب وخلوه عن المحاباة فقد ثبت حقهم فيه ببطلان تخصيص الأجير بإيفاء حقه مراعاة(23/237)
لحقهم.
وإن كان في قيمة الجارية يوم قبضها الأجير فضل عن أجر مثله وكانت قيمتها يوم وقعت الإجارة مثل أجر الأجير إلا أن الأجير لم يخدم المريض حين قبض الجارية يضرب الأجير في الجارية وولدها بمقدار أجر مثله فما أصابه كان له في الجارية وولدها وقيل له أد قيمة ما أصاب الغرماء فأن أبى بيعت الجارية وولدها واقتسموا الثمن يضرب فيه الأجير بأجر مثله لأنه لم يملكها بنفس العقد وإنما يملكها بالقبض وعند القبض لما كانت قيمتها أكثر من أجر مثله بقيت موقوفة على حق المريض لتمكن الوصية فيها بطريق المحاباة فلهذا كان التخريج على ما قال.
وإذا استأجر الرجل في مرضه رجلا يخدمه بجارية قيمتها ثلاثمائة درهم وأجر مثل الأجير في خدمته مائة درهم فخدمه الأجير حتى أتم الخدمة وقبض الجارية ثم مات المريض ولا مال له غيرها فالأجير بالخيار إن شاء أخذ الجارية كلها وأعطى الورثة أربعة أتساع قيمتها وإن شاء نقض الإجارة وردها على الورثة لأن المريض حابى بقدر ثلثيها حين كان أجر مثله مثل(23/238)
ص -116- ... قيمة ثلثها والمحاباة وصية فلا تنفذ إلا في مقدار الثلث فاحتجنا إلى حساب لثلثيه ثلث وذلك تسعة فثلثها وهو ثلاثة يسلم له ومن الثلثين يسلم له الثلث بينهما وعليه إزالة المحاباة فيما وراء الثلث وذلك في أربعة أتساع قيمتها فإذا اختار ذلك فقد وصل إلى الورثة كمال حقهم وثبوت الخيار له في العقد لما لحقه من الزيادة وإن نقض الإجارة وردها كان له في مال الميت أجر مثله مائة درهم وتباع الجارية حتى يستوفي دينه والباقي للورثة وقد بطلت الوصية بالمحاباة حين اختار نقض العقد ولا يشبه هذا ما وصفت لك قبله من المزارعة والمعاملة إذا كان فيها محاباة فإن هناك إنما يسلم له مقدار أجر مثله والثلث مما يبقى بطريق الوصية ويرد الفضل وإذا قال أعطي قيمة الفضل لم يكن له ذلك لأن الخارج من الزرع والثمار يحتمل التبعيض فلا يتضرر هو برد الفضل على الورثة فلهذا لا يكون له أن ينقل حق الورثة من العين إلى القيمة.
ولو كان أجر مثل الأجير يوم وقعت الإجارة ثلاثمائة درهم فدفع إليه المريض الجارية وخدمة الأجير جميع السنة ثم مات المريض وقد زادت الجارية في بدنها أو في السعر أو ولدت في يد الأجير قبل موت المريض بعد ما كملت السنة أو قبل أن تكمل وعلى المريض دين كثير فإن الجارية بزيادتها وولدها بينهم يضرب الأجير في ذلك بقيمتها وقيمة ولدها يختصمون وتضرب الغرماء بدينهم لأنه لا محاباة هنا فكانت الجارية وولدها للأجير إلا أن تخصيص المريض إياه بقضاء حقه من ماله يرد بعد موته فلهذا ضرب هو بقيمتها وقيمة ولدها يوم يختصمون فما أصاب الأجير كان له من الجارية وولدها لأن حقه في عينها وما أصاب الغرماء قيل للأجير أد قيمته دراهم أو دنانير إلى الغرماء لأن حقهم في المالية فإن أبى أخذت الجارية وولدها وبيعا فضرب الأجير في الثمن بأجر مثله والغرماء بدينهم لأن العقد قد انفسخ حين أخذت من يده وانتقض قبضه فيها بسبب سابق على قبضه.(23/239)
ولو كانت الجارية لم تزد ولم تلد ولكنها نقصت في السعر عند الأجير حتى صارت تساوي مائة والمسألة بحالها فلا ضمان على الأجير في نقصانها لأن نقصان السعر فتور رغائب الناس فيها ولا معتبر بذلك في شيء من عقود المعاوضات ويضرب الغرماء في الجارية بدينهم والأجير بقيمتها وهي مائة درهم لأن تخصيصه الأجير بقضاء حقه مردود بعد موته ثم ما أصاب الأجير فهو له من عينها وما أصاب الغرماء قيل للأجير أعطهم قيمة ذلك لأن حقهم في المالية فإن أبى بيعت الجارية وضرب الأجير في ثمنها بأجر مثله ثلاثمائة درهم لأن العقد قد انفسخ بانتقاض قبضه فيها فإنما يضرب هو بأجر مثله والغرماء بدينهم بخلاف الأول فهناك لم ينتقض قبضه فيها فإنما يضرب بقيمتها لذلك وإن نقصت في البدن حتى صارت تساوي مائة درهم فإن قيمة الجارية يوم قبضها الأجير وهي ثلاثمائة بين الأجير وبين الغرماء فما أصاب الغرماء ضمنه لهم الأجير في ماله وتسلم له الجارية وليس له أن يردها لأنها دخلت في ضمانه يوم قبضها على وجه التملك بعقد المعاوضة وقد تعيبت في يده بالنقصان الحاصل(23/240)
ص -117- ... في بدنها فلا يملك أن يردها للعيب الحادث ولكن يغرم للغرماء حصتهم من ماليتها يوم دخلت في ضمانه.
ولو دفع المريض نخلا له معاملة إلى رجل بالنصف فأخرج النخل كفري يكون نصفه مثل أجر العامل أو أقل فقام عليه وسقاه حتى صار تمرا يساوي مالا عظيما ثم صار حشفا قيمته أقل من قيمة الكفري يوم خرج ثم مات المريض وعليه دين فإن ماله يقسم بين الغرماء والعامل يضرب فيه العامل بقيمة نصف الحشف فقط فما أصابه كان له في حصته من الحشف وما أصاب الغرماء بيع لهم في دينهم ولا ضمان على العامل بالنقصان هنا لأنه كان أمينا في الخارج فالزيادة إنما حصلت في عين هي أمانة بغير صنعه وتلفت بغير صنعه فلا يضمن شيئا منها لأحد بخلاف ما سبق وإنما هذا بمنزلة ولد الجارية في المسألة الأولى التي ولدت في يد الأجير أو مات أو حدث به عيب لم يضمنه الأجير لأن الزيادة حدثت من غير صنعه وهلكت كذلك فلا تكون مضمونة عليه وإن كان هو ضامنا للأصل.
ولو كان الميت لا دين عليه والمسألة بحالها كان للعامل نصف الحشف وللورثة نصفه ولا ضمان على العامل فيما صار من ذلك حشفا لأنه لو تلف الكل من غير صنع العامل لم يضمن لهم شيئا فإذا صار حشفا أولى أن لا يضمن لهم النقصان والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في المزارعة والمعاملة(23/241)
قال رحمه الله: وإذا وكل الرجل الرجل بأرض له على أن يدفعها مزارعة هذه السنة فدفعها مزارعة بالثلث أو أقل أو بأكثر فهو جائز لأن الموكل حين لم ينص على مقدار من الخارج فقد فوض الأمر فيه إلى رأيه فبأي مقدار دفعها مزارعة كان ممتثلا لأمره محصلا لمقصوده إلا أن يدفعها بشيء يعلم أنه حابى فيه بما لا يتغابن الناس في مثله فحينئذ لا يجوز ذلك في قول من يجيز المزارعة لأن مطلق التوكيل عندهم يتقيد بالمتعارف فإن زرعها المزارع فخرج الزرع فهو بين المزارع والوكيل على ما اشترطا لا شيء منه لرب الأرض لأنه صار غاصبا مخالفا وغاصب الأرض إذا دفعها مزارعة كان الزرع بينه وبين المدفوع إليه على الشرط ولرب الأرض أن يضمن نقصان الأرض في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله إن شاء الوكيل وإن شاء المزارع فإن ضمن المزارع رجع على الوكيل به لأنه مغرور من جهته وفي قول أبي يوسف الآخر يضمن المزارع خاصة لأنه هو المتلف فأما الوكيل فغاصب والعقار عنده لا يضمن بالغصب ثم يرجع المزارع على الوكيل للغرور فإن كان حابى فيه بما يتغابن الناس في مثله فالخارج بين المزارع ورب الأرض على الشرط والوكيل هو الذي قبض نصيب الموكل لأنه هو الذي أجر الأرض وإنما وجب نصيب رب الأرض بعقده فهو الذي يلي قبضه وليس لرب الأرض أن يقبضه إلا بوكالة من الوكيل.
فإن كان رب الأرض أمر الوكيل أن يدفعها مزارعة ولم يسم سنة ولا غيرها جاز للوكيل أن يدفعها مزارعة سنته الأولى فإن دفعها أكثر من ذلك أو بعد هذه السنة ولم يدفع هذه السنة(23/242)
ص -118- ... لم يجز في الاستحسان وفي القياس يجوز لأن التوكيل مطلق عن الوقت ففي أي سنة دفعها وفي أي مدة دفعها لم يكن فعله مخالفا لما أمره الموكل به فجاز كالوكيل بإجارة الدور والرقيق ولكنه استحسن وقال دفع الأرض مزارعة يكون في وقت مخصوص من السنة عادة والتقييد الثابت بالعرف في الوكالة كالثابت بالنص فإذا دخله التقييد من هذا الوجه يحمل على أخص الخصوص وهو وقت الزراعة من السنة الأولى كالوكيل يشتري الأضحية يتقيد بأيام الأضحية من السنة الأولى بخلاف إجارة الدور والرقيق فإنها لا تختص بوقت عرفا فراعى فيها مطلق الوكالة إنما المزارعة نظير التوكيل بإكراء الإبل إلى مكة للحج عليها فإنها تختص بأيام الموسم في السنة الأولى لأن هذا يكون في وقت مخصوص من كل سنة عرفا فيحمل على أخص الخصوص وهو وقت خروج القافلة من السنة الأولى خاصة.(23/243)
ولو كان البذر من رب الأرض كان هذا أيضا على أن يدفعه بما يتغابن الناس فيه لأن هذا توكيل بالاستئجار فإن صاحب الأرض يكون مستأجرا للعامل والتوكيل بالاستئجار كالتوكيل بالشراء فإنما ينفذ على الموكل إذا كان بغبن يسير ورب الأرض هو الذي يلي قبض حصته وليس للوكيل قبضها إلا بإذنه لأن رب الأرض هنا ما استحق نصيبه بعقد الوكيل بل بكونه نماء بذره فإن دفعه الوكيل بما لا يتغابن الناس فيه كان الخارج بين الوكيل والمزارع على الشرط لأنه بالخلاف صار غاصبا للأرض والبذر فيكون عليه ضمان مثل ذلك البذر للموكل فإن تمكن في الأرض نقصان بالزراعة فلرب الأرض أن يضمن النقصان أيهما شاء في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد لأن المزارع متلف والوكيل غاصب فإن ضمن المزارع رجع به على الوكيل للغرور ولا يتصدق الزارع بشيء مما صار له في هذه المسألة ولا في المسألة الأولى ولكن الوكيل يأخذ مثل ما غرم من نقصان الأرض وبذرا مثل الذي غرم ويتصدق بالفضل لأن الخبث تمكن في تصرف الوكيل حين صار كالغاصب فعليه أن يتصدق بالفضل وإنما يدفعها الوكيل مزارعة هنا أيضا في المسألة الأولى خاصة استحسانا فإن دفعها بعد مضي تلك السنة فهو مخالف غاصب للأرض والبذر والحكم فيه ما بينا في الفصل الأول وإذا وكل رجلا بأن يأخذ له هذه الأرض مزارعة هذه السنة على أن يكون له البذر من قبل الموكل فللوكيل أن يأخذها بما يتغابن الناس فيه وإن أخذها بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز على الموكل إلا أن يرضا به ويزرعها عليه لأنه وكيل بالاستئجار فهو بمنزلة الوكيل بالشراء فلا ينفذ تصرفه بالغبن الفاحش على الموكل إلا أن يرضا به.(23/244)
وزراعة الموكل بعد العلم بما صنع الوكيل دليل الرضا به فهو كصريح الرضا فإن زرعها الموكل فحصل الخارج كان الوكيل هو المأخوذ بحصة رب الأرض يستوفيه منه الموكل فيسلمه إليه لأن رب الأرض استحق ذلك بالشرط والوكيل هو الذي شرط له ذلك فإن أخذ ذلك رب الأرض من الموكل بغير محضر من الوكيل بريء الوكيل لوصول الحق إلى مستحقه وإن كان الوكيل أخذها بما لا يتغابن الناس فيه وهو لم يخبره بذلك حتى زرعها الموكل وقد أمره(23/245)
ص -119- ... الوكيل بزراعتها كان الخارج للمزارع على الوكيل ولرب الأرض أجر مثل أرضه مما أخرجت الأرض لأن الوكيل استأجرها بما سمى من الخارج وقد حصل الخارج ثم استحق الموكل فيكون لرب الأرض على الوكيل أجر مثل الأرض مما أخرجت الأرض لأن ذلك من ذوات الأمثال ولا شيء للوكيل على الموكل لأنه هو الذي أمره بزراعتها وقد كان استئجاره نافذا عليه فالتحقت هذه بأرض مملوكة له دفعها إلى غيره وأمره أن يزرعها من غير أن يشترط عليه شيئا وإن كان الوكيل دفع إليه الأرض ولم يأمره بزراعتها ولم يخبره بما أخذها به فالخارج للمزارع لأنه نماء بذره وتصرف الوكيل بما لا يتغابن الناس فيه لم ينفذ عليه ولا شيء لرب الأرض على الوكيل هنا لأن الزارع بمنزلة الغاصب حين زرعها بغير أمر الوكيل.
ومن استأجر أرضا فغصبها غاصب وزرعها لم يكن لرب الأرض على المستأجر أجرها بخلاف الأول فإن هناك الوكيل أمر الزارع بزرعها فيجعل بمنزلة ما لو زرعها بنفسه فيلزمه أجر مثلها لصاحبها ثم على الزارع هنا نقصان الأرض لرب الأرض لأنه زرعها بغير إذن صاحب الأرض على وجه الغصب ولا يرجع به على الوكيل لأن الوكيل لم يغره بل هو الذي اغتر حين لم يسأل الوكيل ولم يستكشف حقيقة الحال ويتصدق الزارع بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بسبب خبيث وإذا لم يبين الوقت للوكيل هنا فهو على أول سنة وأول زراعة استحسانا.(23/246)
ولو كان وكله بأن يأخذ له أرض فلان وبذرا مزارعة فإن أخذها بما يتغابن الناس فيه جاز ورب الأرض هو الذي يقبض نصيبه من الزرع لأنه يملك نصيبه بكونه نماء بذره لا بشرط الوكيل له ذلك بالعقد وإن أخذ بما يتغابن الناس فيه لم يجز على الموكل إلا أن يرضى به لأنه وكله بأن يؤاجره وذلك يتقيد بما يتغابن الناس فيه عند من يجيز المزارعة فإن عمل المزارع في جميع ما ذكرنا فحصل الخارج فهو بينهما على الشرط وإن كان الوكيل أخذه بما لا يتغابن الناس فيه من قلة حصة المزارع وأمر المزارع فعمل ولم يبين ذلك له فالمزارع متطوع في عمله في القياس والخارج كله لرب الأرض.
وفي الاستحسان الخارج بينهما على الشرط وجه القياس إن تصرف الوكيل بالغبن الفاحش لم ينفذ على الموكل معينا في إقامة العمل وجه الاستحسان أنه إنما لا ينفذ تصرف الوكيل على الموكل فبقي الموكل بالغبن لدفع الضرر عن الموكل والضرر هنا في امتناع نفوذ التصرف عليه لأنه إذا نفذ تصرفه عليه استحق ما شرط له من الخارج وإن قل ذلك وإذا لم ينفذ لم يستحق شيئا على أحد بمقابلة عمله وهو نظير القياس والاستحسان في العبد إذا أجر نفسه في عمل وسلم من ذلك العمل فإن كان الموكل لم يسم للوكيل الوقت فهو على أول سنة وزراعه استحسانا فإن مضت السنة قبل أن يأخذ ثم أخذ لم يجبر الموكل على العمل فإن رضي به وعمل كان بينهما على الشرط بمنزلة ما لو أخذ أرضا وبذرا ليزرعها.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل نخلا ووكله بأن يدفعها معامله هذه السنة أو لم يسم له وقتا فهذا على أول سنة للعرف فإن دفعه بما يتغابن الناس فيه جاز وصاحب النخل هو الذي يلي(23/247)
ص -120- ... قبض نصيبه لأنه يملك التمر بملكه النخل لا بالعقد الذي باشره الوكيل فإن دفعه بما لا يتغابن الناس فيه فالخارج لصاحب النخل لأنه وكله باستئجار العامل فلا ينفذ تصرفه بالغبن الفاحش على الموكل وللعامل أجر مثله على الوكيل لأنه استأجره ببعض الخارج وقد حصل الخارج واستحقه رب النخل فيستوجب الرجوع بأجر مثله.
ولو وكله بأن يأخذ نخلا بعينه فأخذه بما يتغابن الناس فيه جاز على الشرط وصاحب النخل هو الذي يلي قبض نصيبه لأنه يملكه بسبب تولده من نخله وإن أخذه بما لا يتغابن الناس فيه من قلة نصيب العامل لم يلزم العامل ذلك إلا أن يشاء فإن عمله وقد علم نصيبه منه أو لم يعلم كان له نصيبه الذي سمى له أما إذا علم به فلوجود دلالة الرضا منه بالإقدام على العمل بعد العلم بحقيقة الحال وأما إذا لم يعلم به فهو استحسان لما فيه من المنفعة للعامل فإنه لو لم ينفذ تصرفه عليه لم يستوجب شيئا وإذا أمره أن يأخذ له نخلا معاملة أو أرضا مزارعة أو أرضا وبذرا مزارعة ولم يعين شيئا من ذلك لم يجز لأن الوكيل عاجز عن تحصيل مقصود الموكل مع هذه الجهالة المستتمة فإن العمل يختلف باختلاف النخل والأراضي على وجه لا يمكن أن يوقف فيه على شيء معلوم.
وإذا أمره بأن يدفع أرضه مزارعة أو أن يدفع نخله معاملة إلى رجل ولم يعين الرجل جاز لأن دفع الأرض مزارعة بمنزلة إجارتها ومن وكل غيره بأن يؤاجر أرضه مدة معلومة جاز وإن لم يبين من يؤاجرها منه لأن المعقود عليه منفعة الأراضي وهي معلومة لا تختلف باختلاف المستوفى وكذلك في المعاملة مقدار العمل قد صار معلوما ببيان النخل على وجه لا يختلف باختلاف العامل.(23/248)
ولو أمره بأن يدفع أرضه هذه مزارعة فأعطاها رجلا وشرط عليه أن يزرعها حنطة أو شعيرا أو سمسما أو أرزا فهو جائز لأن دفع الأرض مزارعة لهذه الأشياء متعارف فمطلق التوكيل ينصرف إلى هذه الأشياء كلها والوكيل يكون ممتثلا أمره في جميع ذلك وكذلك لو وكله أن يأخذ له هذه الأرض وبذرا معها مزارعة فأخذها مع بذر حنطة أو شعيرا أو غير ذلك من الحبوب جاز ذلك على الموكل لأنه وكله ليؤاجره في عمل الزراعة وهو في جميع ذلك متعارف فمطلق التوكيل ينصرف إلى جميع ذلك.
ولو وكله أن يأخذ له هذه الأرض مزارعة فأخذها من صاحبها للموكل على أن يزرعها حنطة أو شرط عليه شعيرا أو غيره لم يكن له أن يزرع إلا ما شرط عليه رب الأرض لأن الوكيل إذا امتثل أمره كان عقده كعقد الموكل بنفسه وهو لو أخذ أرضا مزارعة ليزرعها حنطة لم يكن له أن يزرعها غير الحنطة لأن صاحب الأرض إنما رضى بأن يكون أجر أرضه الحنطة فلا يملك المستأجر أن يحولها إلى غيره.
ولو وكله بأن يدفع أرضا له مزارعة هذه السنة فأجرها ليزرع حنطة أو شعيرا بكر من حنطة وسط أو بكر من شعير وسط أو سمسم أو أرز أو غير ذلك مما تخرجه الأرض فذلك(23/249)
ص -121- ... جائز استحسانا وفي القياس هو مخالف لأن الموكل إنما رضى بالمزارعة ليكون شريكا في الخارج وقد أتى بغير ذلك حين أجرها بأجرة مسماة ولكنه استحسن فقال قد حصل مقصود الآمر على وجه يكون أنفع له لأنه لو دفعها مزارعة فلم يزرعها أو أصاب الزرع إن لم يكن لرب الأرض شيء وهنا تقرر حق رب الأرض دينا في ذمة المستأجر إذا تمكن من زراعتها وإن لم يزرع أو أصاب الأرض آفة ومتى أتى الوكيل بجنس ما أمر به وهو أنفع للآمر مما نص عليه لم يكن مخالفا وإذا لم يكن مخالفا كان عقده كعقد الموكل بنفسه فللمستأجر أن يزرع ما بدا له والتقييد بالحنطة أو الشعير غير مفيد هنا في حق رب الأرض فإنه لا شركة له في الخارج بخلاف الدفع مزارعة.
وإن أجرها بدراهم أو ثياب أو نحوها مما لا يزرع لم يجز ذلك على الموكل لأنه خالف في الجنس فرب الأرض نص على أن يدفعها مزارعة وذلك إجارة الأرض بشيء تخرجه الأرض فإذا أجرها الوكيل بشيء لا تخرجه الأرض كان مخالفا في جنس ما نص عليه الموكل فهو بمنزلة الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لا ينفذ على الموكل بخلاف ما إذا باعه بألفي درهم وكذلك إن أمره أن يدفعها هذه السنة مزارعة في الحنطة خاصة فأجرها بكر حنطة وسط جاز ويزرعها المزارع ما بدا له من الزراعات مما يكون ضرره على الأرض مثل ضرر الحنطة أو أقل منها لأن تسمية رب الأرض الحنطة معتبرة في معرفة مقدار الضرر على الأرض به وهو لم يخالفه في الجنس حين سمى الآخر كر حنطة وسط وإن أجر بغير الحنطة صار مخالفا للموكل في جنس ما سمى له من أجر الأرض فلا ينفذ تصرفه عليه.(23/250)
ولو وكله أن يدفعها مزارعة بالثلث فدفعها على أن لرب الأرض الثلث جاز لأن حرف الباء يصحب الأعواض ورب الأرض هو الذي يستحق الخارج عوضا عن منفعة أرضه فكان هذا بمنزلة التنصيص على اشتراط الثلث له فإن قال رب الأرض إنما عنيت أن للمزارع الثلث لم يصدق لأن ما يدعيه يخالف الظاهر إلا أن يكون البذر من قبله فيكون القول قوله حينئذ لأن المزارع هو الذي يستوجب الخارج عوضا عن عمله بالشرط.
ولو وكله أن يدفعها مزارعة بالثلث فأجرها من رجل بكر حنطة وسط مخالف لأن رب الأرض هنا نص على ما هو منافع أرض وهو ثلث الخارج وقد أجرها بغير ذلك ثم هنا نص على الشركة في الخارج والإجارة بكر من حنطة ليس فيها معنى الشركة فكان هذا مخالفة في الجنس في العقد الذي أمره به فإن زرعها المستأجر كان الخارج للمزارع وعليه كر حنطة وسط للمؤاجر لأن المؤاجر صار غاصبا للأرض ولرب الأرض أن يضمن نقصان الأرض إن شاء المزارع وإن شاء الوكيل في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله لأن الوكيل غاصب والمزارع متلف فإن ضمنها المزارع رجع بها على الوكيل لأجل الغرور ويأخذ المؤاجر من الكر الذي أخرجته الأرض ما ضمن ويتصدق بالفضل لأنه كسب خبيث.(23/251)
ص -122- ... وإن وكله بأن يؤجرها بكر حنطة وسط فدفعها مزارعة بالنصف على أن يزرعها حنطة فزرعها فهو مخالف لأن ما أتى به أضر على الموكل مما أمره به لأنه أمره بعقد يتقرر به حقه في الأجر إذا تمكن المستأجر من الانتفاع بها وإن لم ينتفع ولأنه نص على إجارة محضة وقد أتى بعقد الشركة فكان مخالفا وتفريع هذه كتفريع الأولى.
ولو وكله أن يأخذ هذه الأرض مزارعة فاستأجرها الوكيل بكر حنطة لم يجز على الآمر لأن ما أتى به أضر عليه لأنه ألزمه الكر دينا في ذمته عند تمكنه من الزراعة وإن لم يزرع وهو ما أمره بذلك فلا ينفذ تصرفه عليه إلا أن يرضى به ولو وكله بأن يأخذها له مزارعة بالثلث فأخذها الوكيل على أن يزرعها المزارع ويكون للمزارع ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثاه لم يجز هذا على المزارع لأن الكلام الذي قاله المزارع إنما يقع على أن لرب الأرض الثلث لما بينا أن رب الأرض هو الذي يستحق الخارج عوضا عن منفعة الأرض فما يصحبه حرف الباء يكون حصته من الخارج وقد أتى بضده ولو كان أمره أن يأخذ الأرض والبذر والمسألة بحالها جاز ذلك على المزارع لأن المعقود عليه هنا هو عمل العامل وهو الذي يستحق الخارج بمقابلة عمله فإذا شرط الثلث له كان ممتثلا أمره.(23/252)
ولو وكله أن يدفع نخله هذا معاملة بالثلث فدفعها على أن الثلثين للعامل لم يجز ذلك على رب النخيل لأن العامل هو الذي يستحق الخارج بالشرط فإنما ينصرف أمر رب النخل بهذا اللفظ إلى اشتراط الثلث له ولو وكله أن يأخذ له نخل فلان هذه السنة معاملة بالثلث فأخذه على أن الثلثين لرب النخل جاز عليه لما قلنا ولو وكله أن يأخذ هذه الأرض هذه السنة وبذرا معها مزارعة فأخذ الوكيل البذر والأرض على أن الخارج كله لرب الأرض وعليه للمزارع كر حنطة وسط فهذا جائز كان البذر من حنطة أو من غيرها لأن ما باشره من العقد أنفع للموكل فإنه يستوجب الأجر بتسليم النفس وإن لم يستعمله أو أصاب الزرع آفة وإن شرط الآخر دراهم أو متاعا بعينه لم يجز وإنما استحسن إذا شرط له شيئا مما تخرجه الأرض إن أجره لما بينا في الفصل الأول ولو أمره أن يأخذها له بالثلث والمسألة بحالها لم يجز في شيء من ذلك لأنه نص على عقد الشركة في الخارج هنا ولأنه لا يدري أن ثلث الخارج يكون مثل ما شرط له من الأجر أو أقل أو أكثر.
ولو وكله أن يأخذ هذا النخل معاملة فأخذه على أن الخارج لصاحب النخل وللعامل كر من تمر فارسي عليه جاز لأنه اشترط له أفضل ما يخرج من النخل وهذا العقد أنفع له من الوجه الذي قلنا وإن كان شرط له كرا من دقل جيد نظر في النخل فإن كان ذلك دقلا جاز وإن كان فارسيا لم يجز ذلك على العامل بمنزلة ما لو شرط له كرا من حنطة أو شعير أو درهما وذلك لا ينفذ عليه إلا أن يرضى به لأن تعيينه النخل في المعاملة يكون تنصيصا على أن يكون أجره من جنس ما يخرج ذلك النخل.
ولو وكله بأن يأخذ له نخل فلان معاملة بالثلث فأخذه بكر تمر فارسي جيد لم يلزم(23/253)
ص -123- ... العامل إلا أن يشاء لأنه لا يدري لعل الثلث أكثر مما شرط له فإن كان يعلم أن الثلث يكون أقل من ذلك فهو جائز لأنه متيقن بتحصيل مقصوده فإن قيل قد قلتم أنه أمر بعقد الشركة بهذا اللفظ وما أتى به من الإجارة غير الشركة قلنا نعم ولكن الأسباب غير مطلوبة بعينها بل بمقاصدها فإنما يعتبر اختلاف السبب إذا لم يعلم بأنه حصل مقصوده الذي نص عليه على وجه هو أنفع له فأما إذا علمنا ذلك يقينا فلا معنى لاعتبار الاختلاف في السبب فلهذا ينفذ تصرفه عليه والله أعلم.
باب الزيادة والحط في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: الأصل أن عقد المزارعة والمعاملة في حكم الزيادة في البدل والحط نظير البيع والأجارة وقد بينا أن الزيادة هناك تصح حال قيام المعقود عليه على وجه يبطل ابتداء العقد ولا يصح بعد هلاك المعقود عليه والحط صحيح بعد هلاك المعقود عليه لأن الحط إسقاط محض وفي الزيادة معنى التمليك فكذلك في المزارعة والمعاملة.(23/254)
وإذا تعاقد الرجلان مزارعة أو معاملة بالنصف وعمل فيها العامل حتى حصل الخارج ثم زاد أحدهما الآخر من نصيبه السدس وحصل له الثلثين ورضي بذلك الآخر فإن كان ذلك قبل استحصاد الزرع ولم يتناهى عظم البسر جاز لأن ابتداء العقد بينهما في هذه الحالة يصح ما دام المعقود عليه بحيث يزداد بعمل العامل فتصح الزيادة أيضا من أيهما كان لصاحبه وإن كان بعد استحصاد الزرع وتناهى عظم البسر فإن كان الزائد صاحب النخل وصاحب البذر في المعاملة فهو باطل لأن ابتداء العقد بينهما في هذه الحالة لا يصح فكان بمعنى الزيادة في الثمن بعد هلاك المعقود عليه وهذا لأن العقد قد انتهى فلا يمكن إسناد الزيادة على سبيل الالتحاق بأصل العقد وهي في الحال هبة غير مقسوم فلا يكون صحيحا وإن كان الآخر هو الزائد فهو جائز لأنه يستوجب بالشرط فيكون هذا منه حطا لا زيادة فإن كان شرط بمقابلة عمله نصف الخارج ثم حط ثلث هذا النصف واكتفى بثلث الخارج والحط بعد هلاك المعقود عليه صحيح وكذلك إن كان صاحب الأرض الذي لا بذر من قبله هو الذي زاد صاحب البذر لأنه يستوجب بالشرط بمقابلة منفعة أرضه فيكون هذا منه حطا لا زيادة.
وإذا اشترطا الخارج في المعاملة والزراعة نصفين واشترطا لأحدهما على صاحبه عشرين درهما فسدت المزارعة والمعاملة من أيهما كان البذر أو الشرط لتضمن هذا العقد شراء المعدوم أو الجمع بين الشركة في الخارج والأجرة دينا في الذمة بمقابلة عمل العامل أو منفعة الأرض ثم الخارج كله لصاحب البذر في المزارعة ولصاحب النخل في المعاملة هذا هو حكم فاسد المزارعة والمعاملة وكذلك لو زاد أحدهما صاحبه عشرين قفيزا إلا أن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الخارج مع حصول الخارج وهو مفسد للعقد والله أعلم.(23/255)
ص -124- ... باب النكاح والصلح من الجناية والخلع والعتق والمكاتبة في المزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا تزوج الرجل امرأة بمزارعة أرضه هذه السنة على أن يزرعها ببذرها وعملها فما خرج فهو بينهما نصفان فالنكاح جائز والمزارعة فاسدة لاشتراط أحد العقدين في الأجر والمزارعة كالبيع تبطل بالشروط الفاسدة والنكاح لا يبطل هكذا قال إبراهيم النكاح يهدم الشرط والشرط يهدم البيع وعلى قول أبي يوسف التسمية صحيحة وصداقها أجر مثل نصف الأرض وعلى قول محمد رحمه الله التسمية فاسدة ولها مهر مثلها إلا أن يجاوز ذلك بأجر مثل جميع الأرض فحينئذ لها أجر مثل جميع الأرض لأن التزوج بذل منفعة الأرض بمقابلة نصف الخارج وبمقابلة نصفها فإن المشروط لها على الزوج ملك النكاح ونصف الخارج لأن البذر من قبلها فإنما تتوزع منفعة الأرض عليهما باعتبار القيمة كما هو قضية المقابلة ونصف الخارج مجهول أصلا وجنسا وقدرا فكان ما يقابل البضع من منفعة الأرض مجهولا أيضا جهالة التسمية ومثل هذه الجهالة تمنع صحة التسمية فيكون لها مهر مثلها كما لو تزوجها بثوب إلا أن يتيقن بوجود الرضا منها يكون صداقها منفعة جميع الأرض لأنها لما رضيت به بمقابلة سنين كانت بمقابلة أحدهما أرضا فلهذا لا يجاوز بالصداق أجر مثل جميع الأرض وأبو يوسف يقول الانقسام بين البضع ونصف الخارج باعتبار التسمية لا باعتبار القيمة فيتوزع نصفين كما هو قضية المقاسمة بين المجهول والمعلوم بمنزلة ما لو أوصى بثلث ماله لفلان وللمساكين كان لفلان نصف الثلث فهنا أيضا يكون الصداق منفعة نصف الأرض والمنفعة مال متقوم في حكم الصداق فتصح التسمية ويلزم تسليم منفعة نصف الأرض إليها وقد عجز عن ذلك لفساد المزارعة فيكون لها أجر مثل نصف الأرض فإن طلقها قبل الدخول بها كان لها في قول أبي يوسف رحمه الله نصف المسمى وهو ربع أجر مثل الأرض وفي قول محمد رحمه الله لها المنفعة لفساد التسمية وإن زرعت المرأة(23/256)
زرعا فأخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج فجميع الخارج للمرأة لأنه نماء بذرها وعليها في قياس قول أبي يوسف نصف أجر مثل الأرض ولا صداق لها على الزواج لأنها استوفت منفعة جميع الأرض ونصف ذلك صداقها والنصف الآخر استوفته بحكم مزارعة فاسدة فعليها أجر مثل نصف الأرض وعند محمد رحمه الله عليها أجر مثل جميع الأرض فيتقاصان ويترادان فضلا إن كان وإن كان البذر من قبل الزوج فتزوجها على أن دفع أرضا وبذرا مزارعة بالنصف والمسألة بحالها فالنكاح صحيح والمزارعة فاسدة وللمرأة مهر مثلها بالغا ما بلغ عندهم جميعا لأن الزوج شرط لها نصف الخارج بمقابلة البضع وبمقابلة العمل والخارج مجهول الجنس والقدر ووجود أصله على خطر فلم يصح تسميته صداقا فكان لها مهر مثلها بالغا ما بلغ وهو الأصل في هذا الجنس أنه متى كان المشروط بمقابلة البضع بعض الخارج فالتسمية فاسدة عندهم جميعا ومتى كان المشروط منفعة الأرض أو(23/257)
ص -125- ... منفعة العامل بمقابلة البضع ففي صحة التسمية اختلاف كما بينا حتى لو تزوجها على أن يأخذ أرضها ليزرعها ببذره وعمله بالنصف فللمرأة مهر المثل بالاتفاق لأن الزوج شرط لها نصف الخارج بمقابلة بضعها ومنفعة الأرض.
ولو تزوجها على أن يأخذ أرضها وبذرا معها مزارعة بالنصف فالمسألة على الاختلاف لأنها شرطت عمل الزوج بمقابلة بضعها ونصف الخارج فيكون الصداق نصف عمل الزوج في قول أبي يوسف كما بينا ولو تزوجها على أن دفع إليها نخلا معاملة بالنصف فلها مهر مثلها لأن الزوج شرط لها نصف الخارج بمقابلة بضعها وعملها ولو تزوجها على أن دفعت إليه نخلا معاملة بالنصف فالمسألة على الخلاف لأن الزوج التزم العمل بمقابلة بضعها ونصف الخارج فهذه ست مسائل في النكاح وست أخرى في الخلع على هذه الصورة فالمرأة في الخلع بمنزلة الزوج في النكاح لأن بذل الخلع عليها له ففي كل موضع ذكرنا في النكاح أنه يكون لها صداق مثلها ففي الخلع يجب عليها رد المقبوض لأن البضع لا يتقوم عند خروجه من ملك الزوج وإنما يقوم باعتبار رد المقبوض وكذلك هذه المسائل الست في الصلح من جناية العهد إلا أن في كل موضع كان الواجب في النكاح صداق مثلها ففي الصلح من دم العمد الواجب الدية لأن بذل النفس هو الدية عند فساد التسمية في الصلح بمنزلة مهر المثل في النكاح.(23/258)
وأما كل جناية ليس فيها قصاص أو جناية خطأ وقعت على الصلح عنها عقدة مزارعة أو معاملة نحو ما وصفنا فإن العقد في جميع ذلك فاسد بالاتفاق وأرش الجناية واجب لأن هذا صلح عن مال على مال فيكون بمنزلة البيع يبطل بالشرط الفاسد كما تبطل المزارعة فاشتراط كل واحد من العقدين في الآخر يفسد كل واحد منهما فأما العتق على شرط المزارعة في جميع هذه الوجوه فعلى العبد فيه قيمة نفسه بالغا ما بلغت لأن المولى إنما يزيل عن ملكه في العتق مالا متقوما فعند فساد التسمية يكون رجوعه بقيمة العبد كما لو أعتق عبده على خمر ولا يدخل هنا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على قياس جعل العتق إذا كان شيئا بعينه فاستحق أو هلك قبل القبض لأن هناك التسمية كانت صحيحة وهنا أصل التسمية فاسد فيكون هذا نظير العتق على الخمر.
وأما الكتابة على نحو ذلك فالكتابة فاسدة مع المزارعة والمعاملة لأن الكتابة لا تصح إلا بتسمية البدل وهو عقد محتمل للفسخ بمنزلة البيع فاشتراط كل واحد من العقدين في الآخر يفسدهما جميعا فإن عملها المكاتب عتق إن خرج شيء أو لم يخرج إذا كان محله محل آخر بأن كان المولى صاحب النخل أو صاحب الأرض والبذر لأنه أوفى العمل المشروط عليه بمقابلة رقبته ومع فساد التسمية يترك العتق بإيفاء المشروط كما لو كاتبه على خمر فأدى الخمر ثم للمكاتب على مولاه أجر مثله وللمولى عليه رقبته فإن كانت قيمة رقبته أكثر من أجر المثل فعليه أن يؤدي الفضل وإن كان أجر مثله أكثر من قيمة رقبته لم يكن على(23/259)
ص -126- ... مولاه شيء لأنه نال العتق بمقابلة ما أوفى من العمل فلا يتمكن استرداد شيء منه واسترداد بدله كاسترداده ثم في الكتابة الفاسدة المولى أحق بمنافعه فلا يتقوم عليه منافعه إلا بقدر ما يحتاج إليه المكاتب وذلك مقدار قيمة رقبته.
وإذا كان محل المكاتب محل المستأجر بأن كان البذر من قبل المكاتب لم يعتق وإن زرع الأرض وحصل الخارج لأن الجعل هنا بعض الخارج وهو مجهول اللون والجنس والقدر ومثل هذه الجهالة تمنع العتق وإن أدى كما لو كاتبه على ثوب ثم الخارج كله في يد العبد هنا إلى أن يرده المولى رقيقا وإذا رده المولى رقيقا كان الخارج للمولى باعتبار أنه كسب عبده لا باعتبار أنه مشروط في الكتابة فلهذا لا يعتق العبد به والله أعلم.
باب عمل صاحب الأرض والنخل فيها بأمر العامل أو بغير أمره
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا وبذرا على أن يزرعها هذه السنة بالنصف فبذره العامل وسقاه فلما نبت قام عليه رب الأرض بنفسه وأجرائه وسقاه حتى استحصد بغير أمر المزارع فالخارج بينهما نصفان ورب الأرض متطوع فيما صنع لأن الشركة بينهما قد انعقدت في الخارج حين بذره العامل وسقاه وصار العقد بحيث لا يملك رب الأرض فسخه فإقامة العمل بعد ذلك كإقامة أجنبي آخر ولو عمل أجنبي آخر فيها كان متطوعا فيما صنع والخارج بين رب الأرض والمزارع على الشرط فكذلك إذا فعل رب الأرض ذلك فإن كان استأجر لذلك فعمل أجيره كعمله وأجر الأجير عليه لأنه هو الذي استأجره ثم رب الأرض إنما عمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر على غيره.(23/260)
ولو كان المزارع بذر البذر فلم ينبت ولم يسقه حتى سقاه رب الأرض بغير أمره فنبت فلم يزل يقوم عليه ويسقيه حتى استحصد فالخارج لرب الأرض والمزارع متطوع في عمله ولا أجر له وهو القياس ولكنا نستحسن أن يجعل بينهما على ما اشترطا ويجعل رب الأرض متطوعا فيما عمل وجه القياس أن رب الأرض استرد الأرض والبذر قبل انعقاد الشركة بينهما لأن الشركة بينهما في الخارج لا في البذر وبمجرد إلقاء البذر في الأرض وكونه في الجوالق سواء.
ولو أخذ رب الأرض البذر وزرع بنفسه كان الخارج كله إليه لأنه صار مستردا في حال هو يملك فسخ المزارعة في تلك الحالة فكذلك إذا استرده بعد الإلقاء في الأرض قبل السقي وجه الاستحسان أن سبب الشركة في الخارج إلقاء البذر فيقام هذا السبب مقام حقيقة الشركة ببيان الزرع.
ألا ترى: أنه يقام مقامه في لزوم العقد حتى لا يملك رب الأرض فسخه بعد ذلك قصدا ومنع المزارع من العمل فيكون هذا منه إعانة للمزارع أو عمله فيما هو شريك فيه فيكون الخارج بينهما على الشرط كما في الفصل الأول وهو نظير ما استشهد به لو أن رجلا بذر أرضا له فلم ينبت حتى سقاه رجل فنبت كان الزرع الذي سقاه في القياس بمنزلة من غصب بذرا وزرعه(23/261)
ص -127- ... وفي الاستحسان الزرع لصاحب الأرض والذي سقاه معين له وهذا لأنه بعد الزراعة يكون إذنا لكل واحد منهما في سقيه والقيام عليه مستعينا به دلالة فينزل ذلك منزلة أمره إياه بذلك نصا بخلاف ما قبل الزراعة فله تدبير في تقديم عمل الزراعة وتأخيره واختيار ما يزرعه في كل أرض فلا يكون هو آمرا للغاصب بأن يزرع بذره في أرضه فيكون الغاصب عاملا لنفسه فكذلك في مسألة المزارعة بعد ما بذره المزارع هو كالمستعين بصاحب الأرض في سقيه والقيام عليه فكأنه أمره بذلك نصا فيكون رب الأرض عاملا له لا لنفسه.
ولو بذره رب الأرض ولم يسقه ولم ينبت حتى سقاه المزارع وقام عليه حتى استحصد فالخارج بينهما على ما اشترطا أما إذا كان ذلك بأمر المزارع فهو غير مشكل لأنه لو بذره وسقاه كان معينا للمزارع فإذا بذره ولم يسقه أولى وأما إذا كان بغير أمره فلان بمجرد إلقاء البذر في الأرض لم يحصل الخارج وإنما حصل بالسقي والعمل بعد وقد باشره المزارع فيكون الخارج بينهماعلى الشرط وهذا الفعل من رب الأرض محتمل يجوز أن يكون على طريق الفسخ منه لعقد المزارعة ويجوز أن يكون على وجه النظر لنفسه وللعامل كيلا يفوت الوقت لاشتغال المزارع بعمل آخر أو لمرض حل به وبالاحتمال لا ينفسخ العقد فلهذا كان الخارج بينهما على الشرط.(23/262)
ولو أخذه رب الأرض فبذره في الأرض وسقاه فنبت ثم أن المزارع يقوم عليه ويسقيه حتى استحصد فالخارج لرب الأرض والمزارع متطوع في عمله ولا أجر له لأنه قد استحكم استرداد رب الأرض حين بذره وسقاه حتى نبت من حيث أن بالنبات تحصل الشركة في الخارج ولم يوجد من جهة المزارع ليكون شريكا في الخارج فإنما نبت الخارج كله على ملك رب الأرض وانفسخ به عقد المزارعة فصار كأن لم يكن ثم المزارع بالعمل بعد ذلك بغير أمره متطوع فلا يستوجب عليه الأجر وإن كان البذر من قبل المزارع فبذره ولم يسقه حتى سقاه رب الأرض وقام عليه حتى استحصد فالخارج بينهما على الشرط استحسانا وكذلك لو بذره رب الأرض ولم يسقه حتى سقاه المزارع وقام عليه حتى استحصد فالخارج بينهما على الشرط.
ولو بذره رب الأرض وسقاه حتى نبت ثم قام عليه المزارع وسقاه فالخارج كله لرب الأرض وهو ضامن لمثل ما أخذ من البذر والمزارع متطوع في عمله لأنه كان غاصبا لما أخذ من البذر وقد استحكم ذلك بنبات الخارج على ملكه فكانت زراعته في هذه الأرض وفي أرض له أخرى سواء فيكون الخارج كله له والمزارع متطوع لأنه عمل في زرع غيره بغير أمره وإذا دفع إلى رجل نخلا له معاملة بالنصف فقام عليه العامل وسقاه وحفظه فلما خرج طلعه أخذه صاحب النخل بغير أمر العامل وقام عليه وسقاه ولقحه حتى أدرك الخارج فهو بينهما على ما اشترطا لأن الشركة قد تأكدت بخروج الطلع فيكون رب النخل بعد ذلك معينا للعامل في النخل بمنزلة أجنبي آخر بعينه ولا أجر لصاحب النخل في تلقيحه وعمله لأنه متبرع فيه لم يأمره العامل به.(23/263)
ص -128- ... ولو كان العامل حين قبض النخل أخذه صاحبه بغير أمره فسقاه وقام عليه حتى طلع طلعه ثم قبض منه العامل فلقحه وسقاه وقام عليه حتى صار تمرا فجميع ما خرج لصاحب النخل ولا شيء للعامل منه لأن الشركة إنما تنعقد بينهما بخروج الطلع وحين خرج لم يكن وجد من العامل عمل فيه لا حقيقة ولا حكما فيكون الخارج كله على ملك صاحب النخل ثم لا يتغير ذلك بعمل العامل بل هو فيما عمل كأجنبي آخر.
ولو كان صاحب النخل قبضه وسقاه وقام عليه فلم يخرج طلعه حتى قبضه العامل بغير أمر صاحبه فسقاه وقام عليه حتى خرج طلعه ثم لقحه وقام عليه حتى صار تمرا فالخارج بينهما على الشرط لما بينا أن الشركة إنما تنعقد عند حصول الطلع وقد وجد العمل من العامل عند ذلك على الوجه الذي اقتضته المعاملة فيصير الخارج مشتركا بينهما كما في مسألة المزارعة بل أولى لأن هناك رب الأرض والبذر يملك فسخ العقد قصدا قبل إلقاء البذر في الأرض وهنا لا يملك ثم هناك لا يجعل رب الأرض مستردا فيما أقام من العمل ويجعل الخارج بينهما على الشرط فهنا أولى وفي جميع هذه المسائل لو كان رب الأرض والنخل فعل ما فعل بأمر العامل والمزارع كان الخارج بينهما على الشرط لأن المزارع استعان به في العمل وهو قصد إعانته لا إقامة العمل لنفسه فتكون الاستعانة به بمنزلة الاستعانة بغيره.(23/264)
ولو كان استأجر رب الأرض والبذر أو رب النخل على ذلك بأجر معلوم فالخارج بينهما على الشرط ولا أجر له على المزارع لأنه عمل فيما هو شريك فيه ولو أمره أن يستأجر لذلك أجراء ففعل فالخارج بينهما على الشرط وأجر الأجراء عليه ولو كانت المزارعة والمعاملة الأولى بالنصف ثم دفعها العامل إلى رب الأرض والنخل ليعمل على أن له الثلثان من الخارج والثلث للعامل فالخارج بينهما نصفان على المزارعة الأولى لأن العامل استأجر رب الأرض والنخل للعمل بجزء من نصيبه ولو استأجره بدراهم لم يستوجب الأجر فكذلك إذا استأجره بجزء من نصيبه ولا يجعل هذا حطا منه لبعض نصيبه من الخارج لأن هذا الحط في ضمن العقد الثاني لا مقصودا بنفسه وقد بطل العقد الثاني فيبطل ما في ضمنه والله أعلم.
باب اشتراط بعض العمل على العامل
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل نخلا له معاملة على أن يلقحه فما خرج منه فهو بينهما نصفان ولم يشترط صاحب النخل على العامل من السقي والحفظ والعمل شيئا غير التلقيح نظرت فيه فإن كان النخل يحتاج إلى الحفظ والسقي فالمعاملة فاسدة لأن العمل إنما يستحق على العامل بالشرط ولا يستحق عليه إلا المشروط.
وإذا كان الثمن لا يحصل بالعمل المشروط عليه فما سواه من الأعمال يكون على رب النخل ولو شرط عليه ذلك فسد العقد لأن موجب المعاملة التخلية بين العامل وبين النخيل فاشتراط بعض العمل على رب النخل بعدم التخلية يفسد به العقد فكذلك استحقاق ذلك عليه وإنما قلنا أن ذلك استحق عليه لأن المقصود هو على الشركة في الخارج فلا بد من(23/265)
ص -129- ... إقامة العمل الذي به يحصل الخارج ولا يمكن إيجاب ذلك على العامل من غير شرط فيكون على رب النخل ذلك ليتمكن من تسليم نصيب العامل من الخارج إليه كما شرطه له فإن لقحه العامل فله أجر مثله فيما عمل وقيمة ما لقحه به لأنه صرف عين ماله ومنافعه إلى إصلاح ملك الغير بعقد فاسد فيستحق عليه أجر مثله بإزاء منافعه وقيمة ما لقحه به بإزاء العين الذي صرفه إلى ملك الغير فإن ابتغى العوض عن جميع ذلك ولم ينل حين كان الخارج كله لصاحب النخل فكان له أجر مثله وقيمة ما لقحه به وإن كان لا يحتاج إلى حفظ ولا إلى سقي ولا عمل غير التلقيح فالمعاملة جائزة لأن العمل الذي يحصل به الخارج مستحق على العامل بالشرط وما وراء ذلك غير محتاج إليه فلا يكون مستحقا على رب النخل ما لا يحتاج إليه فذكره والسكوت عنه سواء وإن كان لا يحتاج إلى سقي ولكن لو سقى كان أجود لثمرته إلا أن تركه لا يضره فالمعاملة جائزة لأن المستحق بعقد المعاوضة صفة السلامة في العوض فأما صفة الجودة لا تستحق بمطلق العقد فلا يكون على رب النخل شيء من العمل هنا وإن كان ترك السقي يضره ويفسد بعضه إلا أنه لا يفسد كله فالمعاملة فاسدة لأن بمطلق المعاوضة يستحق صفة السلامة عن العيب وذلك لا يحصل بالعمل المشروط على العامل فلا بد من القول باستحقاق بعض العمل على رب النخل وهو ما يحصل به صفة السلامة وذلك مفسد للعقد وإن كان ترك اشتراط التلقيح عليه وقد اشترط ما سواه لم يجز لأن ترك التلقيح يضره على ما بينا أن النخيل إذا لم يلقح أحشفت التمر فقد بقي بعض العمل على صاحب النخل وهو ما يحصل به صفة السلامة وكذلك كل عمل لا يصلح النخل إلا به ولم يشترطه على العامل.(23/266)
ولو كان النخل نخلا لا يحتاج إلى التلقيح وكان بحيث يحصل ثمره بغير تلقيح إلا أن التلقيح أجود له فالمعاملة جائزة لأن بمطلق العقد يستحق صفة السلامة لا صفة الجودة ولو دفع إليه النخل ملقحا واشترط عليه الحفظ والسقي جاز لأن التخلية بين النخل والعامل إنما تشترط بعد العقد وقد وجد بخلاف ما إذا دفع إليه غير ملقح واشترط التلقيح على رب النخل فإن ذلك لا يجوز لأن التخلية تنعدم عقيب العقد وما يلقحه صاحب النخل والمعاملة يلزم بنفسها من الجانبين فاشتراط ما يفوت موجبه يفسد العقد وفي الأول التلقيح من رب النخل كان قبل العقد فما هو موجب العقد وهو التخلية بين العامل والنخل عقيب العقد موجود.
وإن اشترطا أن يلقحه صاحبه ثم يحفظه العامل ويسقيه لم يجز لأن العقد انعقد بينهما في الحال فالشرط مفوت موجب العقد وإن كان مضافا إلى ما بعد فراغ صاحب النخل من التلقيح فذلك مجهول لا يدري يعجله صاحب النخل أو يؤخره والجهالة في ابتداء مدة المعاملة مفسدة للمعاملة إلا أن يشترط أن يلقحه في هذا الشهر صاحب النخل على أن يحفظه العامل ويسقيه من غرة الشهر الداخل فيجوز لأن ابتداء مدة المعاملة هنا في غرة الشهر الداخل وهو معلوم والمعاملة عقد إجارة فتجوز إضافتها إلى وقت في المستقبل.(23/267)
ص -130- ... ولو دفعه إليه واشترط التلقيح والسقي على العامل والحفظ على رب النخل لم يجز لأن هذا الشرط يعدم التخلية في جميع مدة المعاملة فالحفظ محتاج إليها الآن لدرك الثمار إلا أن يكون في موضع لا يحتاج إلى الحفظ فتجوز المعاملة والشرط باطل لأنه إنما يعتبر من الشروط ما يكون مفيدا فأما ما لا يفيد فالذكر والسكوت عنه سواء ولو اشترط التلقيح والحفظ على العامل والسقي على رب النخل لم يجز أيضا لأن هذا الشرط يعدم التخلية فإن كان قد يصلح بغير سقي إلا أن السقي أفضل له لم يجز أيضا لأن صفة الجودة تستحق بالشرط فإذا كانت هذه تحصل بما شرط على رب النخل لم يكن بد من اعتباره وإن كان السقي لا يزيد فيه شيئا ولا يضره تركه فالمعاملة جائزة والشرط باطل لأنه ليس في هذا الشرط فائدة فذكره والسكوت عنه سواء.
ولو دفع إلى رجل أرضا وبذرا على أن يزرعها هذه السنة فما خرج منه فهو بينهما نصفان ولم يشترط عليه سقيا ولا حفظا فإن كانت أرضا يسقيها السماء لا يحتاج فيها إلى سقي ولا حفظ مثل أرض الجزيرة ونحوها فالمزارعة جائزة على شرطهما لأن ما يحصل به الخارج قد شرط على المزارع وما سواه من العمل غير محتاج إليه فلا يكون مستحقا على واحد وإن كان لا يستغني عن الحفظ والسقي فالمزارعة فاسدة لأنه لا يستحق على العامل إلا العمل المشروط فما وراء ذلك مما يحصل به الخارج يكون على رب الأرض فكأنه شرط ذلك عليه وهو مفسد للعقد لانعدام التخلية.(23/268)
وإن كان الزرع لا يحتاج إلى سقي ولكنه لو سقى كان أجود له فهو جائز على شرطهما لأن بمطلق العقد يستحق صفة السلامة لا نهاية الجودة بخلاف ما إذا شرط ذلك على رب الأرض في هذه الصورة لأن صفة الجودة تستحق بالشرط وإن كان إذا ترك السقي هلك بعضه وخرج بعضه حيا عامرا عطشانا فالمزارعة فاسدة لأن بمطلق العقد يستحق صفة السلامة وذلك لا يكون إلا بما لم يشترط على العامل فيكون ذلك مستحقا على رب الأرض ولو اشترط جميع العمل على العامل لا الحفظ فإنه اشترطه على رب الأرض فالمزارعة فاسدة لأن بهذا الشرط تنعدم التخلية وكذلك لو اشترط السقي على رب الأرض ولو اشترط على رب الأرض أن يبذره كان هذا فاسدا لأن العقد ينعقد بينهما في الحال فالتخلية تنعدم إلى أن يفرع رب الأرض من البذر فإن كان اشترط على رب الأرض السقي والسقي لو ترك لم يضره ولكنه أجود للزرع إن سقى فالمزارعة فاسدة لأن صفة الجودة تستحق بالشرط وإن كان السقي لا يزيده خيرا فالمزارعة جائزة والشرط باطل لأنه غير مفيد وإن كان المطر ربما قل فزاد الزرع وربما كثر فلم يزده السقي خيرا لم تجز المزارعة لأن هذا الشرط معتبر مقيد من وجه والأصل في الشرائط في العقد أنه يجب اعتبارها إلا عند التيقن بخلوها عن الفائدة ويبقى هنا موجب اعتبار الشرط وباعتباره يفسد العقد لانعدام التخلية.
وإذا بذر الرجل فلم ينبت شيء حتى دفعها إلى رجل على أن يسقيه ويحفظه فما خرج(23/269)
ص -131- ... منه فهو بينهما نصفان فهو جائز لوجود التخلية بين الأرض والمزارع عقيب العقد ولو دفعها إليه قبل أن يبذرها على أن يبذرها رب الأرض ويسقيها المزارع ويحفظها فهذا فاسد لأن العقد انعقد بينهما في الحال والتخلية تنعدم إلى أن يبذرها رب الأرض وإن كان رب الأرض اشترط له أن يبذر على أن يحفظ الزرع بعد ذلك ويسقيه لم يجز أيضا لما بينا أنهما أضافا العقد إلى وقت فراغ رب الأرض من البذر وذلك غير معلوم فقد يعجل رب الأرض البذر وقد يؤخر ذلك وجهالة مدة المزارعة تفسد العقد إلا أن يشترط أن يزرع في هذا الشهر على أن يحفظه العامل ويسقيه من غرة الشهر الداخل فيجوز حينئذ لأنهما أضافا العقد إلى وقت معلوم فإنما ينعقد العقد بعد مجيء ذلك الوقت والتخلية توجد عقيب انعقاد العقد.
ولو أن البذر من المزارع على أن الذي يلي طرح البذر في الأرض رب الأرض واشترطا لذلك وقتا يكون السقي والحفظ بعده أو لم يشترطا فالمزارعة فاسدة لأن رب الأرض مؤاجر لأرضه والعقد يلزم من جانبه بنفسه فيلزمه تسليم الأرض فإذا شرط عليه طرح البذر في الأرض فهذا شرط يعدم التخلية بخلاف الأول فهناك إنما يلزم العقد من جهة صاحب البذر بعد إلقاء البذر في الأرض فيكون إضافة المزارعة إلى وقت معلوم ولكن يدخل على هذا الحرف المعاملة فإنها تلزم بنفسها وقد بينا أن الجواب فيها وفي المزارعة إذا كان البذر من قبل رب الأرض سواء فالوجه أن يقول اشتراط طرح البذر على رب الأرض بمنزلة اشتراط البقر عليه إذا كان البذر من قبله غير مفسد للعقد.(23/270)
وإذا كان البذر من العامل مفسدا للعقد فكذلك إذا اشترطا طرح البذر في الأرض عليه وكذلك لو اشترط الحفظ والسقي على رب الأرض فهذا شرط يعدم التخلية ولو لم يشترط الحفظ والسقي على واحد منهما ودفعها إليه على أن يزرعها بالنصف جاز وكان السقي والحفظ على المزارع لأن رب الأرض إنما أجر أرضه وليس عليه من العمل قليل ولا كثير وإنما العمل الذي يحصل به الخارج على المزارع فالسكوت عنه بمنزلة الاشتراط على المزارع وذلك غير مفسد للعقد.
وإذا دفع إلى رجل أرضا على أن يزرعها ببذره وعمله بالنصف فزرعها فلما صار الزرع بقلا باع رب الأرض الأرض بما فيها من الزرع أو لم يسم زرعها فالبيع موقوف لأن المزارع مستأجر للأرض ومع المؤاجر العين المستأجرة في مدة الإجارة تتوقف على إجارة المستأجر لأن في نفوذ العقد ضرر عليه لأن المؤاجر لا يقدر على التسليم إلا بإجارة المستأجر فيتوقف البيع على إجارته كالراهن إذا باع المرهون فإن أجازه المزارع جاز لأن إجازته في الانتهاء كالإذن في الابتداء والمانع من نفوذ العقد حقه وقد زال بإجازته ثم للشفيع أن يأخذ الأرض بما فيها من الزرع أو يدع إذا كان باعها بزرعها لأن الزرع تبع الأرض ما دام متصلا بها فيثبت للشفيع حق الشفعة فيه.
ولو أراد أخذ الأرض دون الزرع أو الزرع دون الأرض أو أخذ الأرض وحصة رب(23/271)
ص -132- ... الأرض من الزرع دون حصة المزارع لم يكن له ذلك لأنه تمكن من أخذ الكل فليس له أن يأخذ البعض لما فيه من تفريق الصفقة على المشتري ثم يقسم الثمن على قيمة الأرض والزرع فحصة الأرض لرب الأرض وحصة الزرع بينهما نصفان لأن الملك في الزرع بينهما نصفان وكذلك لو كان البذر من رب الأرض لأن بعد إلقاء البذر في الأرض العقد لازم من جهته فلا ينفذ بيعه إلا بإجازة المزارع وإن لم يجزه حتى استحصد الزرع ومضت السنة وقد باعها مع الزرع فللمشتري أن يأخذ الأرض ونصف الزرع بحصته من الثمن إذا قسم على قيمة الأرض وقيمة الزرع يوم وقع البيع لأن المزارعة قد انتهت باستحصاد الزرع فزال المانع من التسليم فيتم العقد فيما هو ملك البائع.
ألا ترى أنه لو كان ابتداء البيع منه بعد استحصاد الزرع كان جائزا في الأرض وحصته من الزرع فهذا مثله وهو بمنزلة ما لو باع الراهن المرهون ثم أفتكه الراهن قبل أن يفسخ البيع.
ثم للشفيع أن يأخذ ما تم فيه العقد وهو الأرض وحصة رب الأرض من الزرع ما لم يحصد وليس له أن يأخذ بعض ذلك دون بعض والجواب في المعاملة قياس الجواب في المزارعة في جميع ما ذكرنا أن البيع قبل الإدراك لا يجوز إلا بإجازة العامل وبعد الإدراك يجوز في حصة رب النخل في التمر مع النخل وفي حصة العامل لا يجوز إلا بإجازته فإن جد النخل وحصد الزرع في هذه المسائل قبل أن يأخذ الشفيع ذلك لم يكن للشفيع على الزرع ولا على التمر سبيل لزوال الاتصال ولكنه يأخذ الأرض والنخل بحصتهما من الثمن ولو لم يذكر البائع التمر والزرع في البيع لم يدخل شيء من ذلك فيه سواء ذكر في البيع كل حق هو لها أو مرافقها أو لم يذكر إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول بذكر الحقوق والمرافق يدخل التمر والزرع وإن قال بكل قليل أو كثير هو فيها أو منها دخل الزرع والتمر إلا أن يكون قال من حقوقها وقد بينا هذا في كتاب الشفعة.(23/272)
ولو اختصم البائع والمشتري في ذلك قبل أن يستحصد الزرع وتكمل السنة وأراد أحدهما نقض البيع وقد أبى المزارع أن يجيز البيع فالأمر في نقض البيع إلى المشتري لأن البائع عاجز عن التسليم إليه لما أبى المزارع الإجازة وفيه ضرر على المشتري فيكون له أن يفسخ البيع إلا أن يسلم له البائع ما باعه وإن كان البائع هو الذي أراد نقض البيع فليس له ذلك لأن البيع نافذ من جهته لمصادفته ملكه ولا ضرر عليه في إبقائه فليس له أن ينقضه وهكذا في المرهون إذا أبى المرتهن أن يسلم فإن أراد المشتري فسخ العقد فله ذلك وإن أراد البائع ذلك ليس له ذلك إذا أبى المشتري ولم يذكر أن المزارع أو المرتهن إذا أراد نقض البيع هل له ذلك أم لا والصحيح أنه ليس له ذلك لأنه لا ضرر عليه في بقاء العقد بينهما إنما الضرر عليه في الإخراج من يده وله أن يستديم اليد إلى أن تنتهي المدة وذلك لا ينافي بقاء العقد فلهذا لا يكون لواحد منهما فسخ العقد فإن لم يرد واحد منهما نقض البيع وحضر الشفيع فأراد أخذ ذلك بالشفعة فله ذلك لأن وجوب الشفعة يعتمد لزوم العقد وتمامه من جهة البائع وقد(23/273)
ص -133- ... وجد ذلك ثم يكون هو بمنزلة المشتري إن سلم له المبيع وإلا نقضه فإن قال البائع والمشتري لا يسلم لك البيع حتى يسلم للمشتري لم يكن لهما ذلك لأن حق الشفيع سابق على ملك المشتري شرعا ولكن الأمر فيه إلى الشفيع وهو بمنزلة المشتري في جميع ذلك حين قدمه الشرع عليه بعد ما طلب الشفعة وإن علم الشفيع بهذا الشراء فلم يطلبه بطلت شفعته وإن سلم الشراء بعد ذلك للمشتري فأراد الشفيع أن يطلب الشفعة فليس له ذلك لأن سبب وجوب حقه قد تقرر فتركه الطلب بعد تقرر السبب يبطل شفعته وإن لم يكن متمكنا من أخذه وإن طلب الشفعة حين علم فقال له البائع هات الثمن وخذها بالشفعة وإلا فلا شفعة لك فإن سلم البائع الأرض للشفيع فعليه أن يعطيه الثمن وإن لم يسلم الأرض فللشفيع أن يمنع الثمن حتى يعطيه الأرض لأنه قام مقام المشتري في ذلك ولا حق للبائع في استيفاء الثمن ما لم يتمكن من تسليم المعقود عليه ولا يبطل ذلك شفعته لأنه قد طلبها حين علم وكذلك لو كان البذر من رب الأرض وكذلك هذا في معاملة النخيل في جميع ما ذكرنا والله أعلم.
باب موت المزارع ولا يدري ما صنع في الزرع واختلافهما في البذر والشرط(23/274)
قال رحمه الله: وإذا مات المزارع بعد ما استحصد الزرع ولم يوجد في الأرض زرع ولا يدري ما فعل فضمان حصة رب الأرض في مال المزارع من أيهما كان البذر لأن نصيب رب الأرض كان أمانة في يد المزارع فإذا مات مجهلا له كان دينا في تركته كالوديعة يصير دينا بموت المودع في تركته إذا كان لا يعلم ما صنع بها وكذلك إذا مات العامل بعد ما طلع التمر فبلغ أو لم يبلغ فلم يوجد في النخيل شيء لأن نصيب رب النخل كان أمانة في يد العامل وإذا مات رب الأرض أو المزارع أو ماتا جميعا فاختلف ورثتهما أو اختلف الحي منهما مع ورثة الميت في شرط الأنصباء فالقول قول صاحب البذر أو ورثته مع اليمين لأن الأجر يستحق عليه بالشرط فإذا ادعى عليه زيادة في المشروط أنكره هو كان القول قوله مع يمينه إن كان حيا وإن كان ميتا فورثته يخلفونه فالقول قولهم مع أيمانهم بالله على علمهم والبينة بينة الآجر لأنه يثبت الزيادة ببينته فإن اختلفوا في صاحب البذر أيضا كان القول قول المزارع مع يمينه على الثبات إن كان حيا وإن كان ميتا فالقول قول ورثته مع أيمانهم على العلم لأن الخارج في يد المزارع أو في يد ورثته فالقول قول ذي اليد عند عدم البينة والبينة بينة رب الأرض لأنه خارج محتاج إلى الإثبات بالبينة.
ولو كانا حيين فاختلفا فأقام صاحب الأرض البينة أنه صاحب البذر وأنه شرط للمزارع الثلث وأقام المزارع البينة أنه صاحب البذر وأنه شرط لرب الأرض الثلث فالبينة بينة رب الأرض لأنه هو الخارج المحتاج إلى الإثبات بالبينة. وإن علم أن البذر من قبل رب الأرض وأقاما البينة على الثلث والثلثين فالبينة بينة المزارع لأنه يثبت الزيادة ببينته وإذا مرض رجل وفي يده أرض لرجل قد أخذها مزارعة وعليه دين في الصحة والبذر من قبله فأقر أنه شرط لصاحب الأرض الثلثين ثم مات وأنكر ذلك الغرماء فإن كان أقر بعد ما استحصد الزرع بدئ(23/275)
ص -134- ... بدين الغرماء لأن هذا بمنزلة الإقرار بالعين والمريض إذا أقر بدين أو عين لم يصدق في حق غرماء الصحة فيبدأ بدينهم فيقضى فإن بقي شيء كان لصاحب الأرض مقدار أجر مثلها من الثلثين الذي أقر له به ولأن في مقدار أجر المثل أقر بسبب موجب للاستحقاق وهو يملك مباشرة ذلك السبب في حق ورثته فيصح إقراره بذلك القدر من جميع ماله فإن بقي من الثلثين بعد ذلك شيء كان له من الثلث لأن الزيادة على مقدار أجر المثل محاباة منه والمريض لو أنشأ المحاباة في مرض موته اعتبرت من ثلثه فكذلك إذا أقر به وإن كان أقر بذلك حين طلع الزرع وفي ثلثي الزرع فضل عن أجر المثل يوم أقر بذلك فلم يثبت حتى استحصد الزرع ثم مات فإن صاحب الأرض يضرب مع غرماء الصحة بمقدار أجر مثل الأرض من الثلثين فيتحاصون في ذلك لأنه أقر بما يملك إنشاءه فإن ابتداء عقد المزارعة قبل إدراك الزرع صحيح فتنفى التهمة عن إقراره في مقدار أجر المثل ويجعل كما لو أنشأ العقد ابتداء فتثبت المزاحمة بين غرماء الصحة وبين صاحب الأرض في ذلك بخلاف الأول فإن بعد استحصاد الزرع لا يجوز ابتداء عقد المزارعة بينهما فيتمكن في إقراره تهمة في حق غرماء الصحة.
وإن كان الدين عليه بإقراره في المرض ففي الفصل الأول يتحاصون في ذلك لأنه أقر بدين ثم تعين وقد جمع بين الإقرارين حالة المرض فكأنهما وجدا معا وفي الفصل الثاني بدى ء بأجر المثل لأنه لا تهمة في إقراره في حال يتمكن من إنشاء العقد ولهذا كان مزاحما لغرماء الصحة ومن يزاحم غرماء الصحة يكون مقدما على المقرله في المرض ولو كان البذر من قبل رب الأرض كان المريض مصدقا فيما أقرله به لأن القول قول رب البذر هنا في مقدار ما شرط له ولو أن المريض أقر أنه كان معينا له كان القول قوله في ذلك فإذا أقر أنه كان مزارعة بجزء يسير أولى أن يقبل قوله في ذلك وإن كان عليه دين الصحة لأن إقراره هنا تصرف منه في منافعه ولا حق للغرماء والورثة في ذلك.(23/276)
ولو كان المريض رب الأرض وعليه دين الصحة فأقر في مرضه بعد ما استحصد الزرع أنه شرط للمزارع الثلثين ثم مات بدى ء بدين الصحة لأن هذا إقرار منه بالعين في مرضه فإن بقي شيء كان للمزارع مقدار أجر مثله من ثلثي الزرع لأن إقراره بذلك القدر صحيح في حق الورثة فإنه يقر بالعين بسبب لا محاباة فيه ولو أقر بالدين بعد إقراره في حق الورثة ثم الباقي من الثلثين وصية له من الثلث لأن الباقي محاباة فيكون وصية تعتبر من الثلث أقر بها أو أنشأها وإن كان أقر بذلك حين زرع المزارع وفي ثلثي الزرع يومئذ فضل عن أجر مثله ثم مات بعد ما استحصد الزرع يحاص المزارع غرماء الصحة بمقدار أجر مثله من ثلثي ما أخرجت الأرض بمنزلة ما لو أنشأ العقد لأن وجوب هذا القدر بسبب لا تهمة فيه ثم الباقي وصية له.
وإن كان الدين على المريض بإقراره في مرضه ففي الوجه الأول يتحاصون وفي الوجه الثاني بدى ء بأجر مثل المزارع وحال رب الأرض في هذه المسألة كحال المزارع في المسألة(23/277)
ص -135- ... الأولى وكذلك الحكم في المعاملة إذا مرض صاحب النخل وأقر بشيء من ذلك فهو نظير الفصل الأول فيما ذكرنا من التخريج وإن كان المريض هو العامل فقال شرط لي صاحب النخل السدس فالقول قوله إذا صدقه صاحب النخل لأن الذي من جهته مجرد العمل ولو قال كنت معينا له كان القول قوله فهنا أولى ولا يقبل بينة غرماء العامل وورثته على دعوى الزيادة لأنه مكذب لهم في ذلك والشهود إنما يثبتون الحق له فبعد ما أكذبهم لا تقبل شهادتهم له والورثة يقومون مقامه.
ولو ادعى هو ذلك قبل موته وأقام البينة لا تقبل بينته فكذلك غرماؤه وورثته بعد موته ولا يمين على رب النخل أيضا لأن اليمين ينبني على دعوى صحيحة وإن كان المريض صاحب النخل والعامل أحد ورثته فأقر له بشرط النصف بعد ما بلغ التمر فإقراره باطل لأنه أقر بالعين له وإقرار المريض لوارثه بالعين باطل وإن كان أقر حين بدأ بالعمل وطلع الكفري ثم مات بعد مابلغ التمر أخذ العامل مقدار أجر مثله من نصف التمر لأن إقراره هنا بمنزلة إنشاء العقد فلا تتمكن فيه التهمة بقدر أجر المثل ويحاص أصحاب دين الصحة به ويبدأ به قبل الدين الذي أقر به في مرضه ولا حق له في الزيادة على ذلك لأن الزيادة على ذلك وصية للوارث ولا وصية لوارث.(23/278)
وإن أراد الوارث العامل أن يستحلف بقية الورثة على ما بقي له مما أقر له به المريض بعد ما أخذ أجر مثله فإن إقرار المعاملة كان في المرض فلا يمين عليهم لأنهم لو أقروا بما ادعى لم يلزمهم شيء وإن ادعى أنها كانت في الصحة وأنه أقر له بها في المرض استحلفوا على عملهم لأنهم لو أقروا بما ادعى لزمهم فإن أنكروا استحلفوا على عملهم لرجاء نكولهم وإن كان المريض هو العامل ورب النخل من ورثته صدق فيما أقر به من قلة نصيبه كما لو زعم أنه كان معينا له وهذا لأن تصرفه في منافعه وللمريض أن يتبرع بمنافعه على وارثه إلا أن بينة غرمائه وورثته على الزيادة مقبولة في هذا الوجه ولهم أن يستحلفوه إن لم يكن لهم بينة لأن إقرار المريض فيما يكون فيه منفعة للورثة باطل ولو لم يقر بذلك كانت البينة منهم على دعوى الزيادة مقبولة ويستحلف الخصم إذا أنكر فكذلك إذا طلب إقراره بما أقر به والله أعلم.
باب المزارعة والمعاملة في الرهن
قال رحمه الله: رجل رهن عند رجل أرضا ونخلا بدين عليه له فلما قبضه المرتهن قال له الراهن احفظه واسقه ولقحه على أن الخارج بيننا نصفان ففعل ذلك فالخارج والأرض والنخيل كله رهن والمعاملة فاسدة لأن حفظ المرهون مستحق على المرتهن فلا يجوز أن يستوجب شيئا بمقابلته على الراهن.
ألا ترى: أنه لو استأجر على الحفظ لم يجز الاستئجار فكان هذا بمنزلة ما لو شرط عليه ما سوى الحفظ من الأعمال فتكون المعاملة فاسدة والخارج كله لرب النخل إلا أنه مرهون,(23/279)
ص -136- ... لأنه تولد من عين رهن وللمرتهن أجر مثله في التلقيح والسقي دون الحفظ لأن الحفظ مستحق عليه بحكم الرهن فأما التلقيح والسقي فقد أوفاه بعقد فاسد ولا يقال ينبغي أن يبطل عقد الرهن بعقد المعاملة لأن المرهون هو النخل والأرض وعقد المعاملة يتناول منفعة العامل والعقد في محل لا يرفع عقدا آخر في محل آخر وكذلك لو كان الرهن أرضا مزروعة وقد صار الزرع فيها بقلا.
ولو كان الرهن أرضا بيضاء فزارعه الراهن عليها بالنصف والبذر من المرتهن جاز والخارج على الشرط لأن صاحب البذر مستأجر للأرض والمرتهن إذا استأجر المرهون من الراهن يبطل عقد الرهن لأن الإجارة ألزم من الرهن وقد طرأ العقدان في محل واحد فكان الثاني رافعا للأول فلهذا كان الخارج على الشرط وليس للمرتهن أن يعيدها رهنا وإن مات الراهن وعليه دين لم يكن المرتهن أحق بها من غرمائه لبطلان عقد الرهن وإن كان البذر من الراهن كانت المزارعة جائزة وللمرتهن أن يعيد الأرض في الرهن بعد الفراغ من الزرع لأن العقد هنا يرد على عمل المزارع فلا يبطل به عقد الرهن إلا أن المرتهن صار كالمعير للأرض من رب الأرض.
ألا ترى: أنه لو دفعها إلى غيره مزارعة برضا المرتهن والبذر من قبل الراهن كان المرتهن كالمعير للأرض لأنه رضي بأن ينتفع هو بالأرض وذلك بإعارة فيخرج به من ضمان الرهن ولكن لا يبطل به عقد الرهن لأن الإعارة أضعف من الرهن فيكون له أن يعيد الأرض في الرهن.(23/280)
وإن كان الرهن أرضا بيضاء وفيها محل فأمره الراهن بأن يزرع الأرض ببذره وعمله بالنصف ويقوم على النخل ويسقيه ويلقحه ويحفظه بالنصف أيضا ففعل ذلك كله فقد خرجت الأرض من الرهن وليس للمرتهن أن يعيدها فيه والخارج بينهما على الشرط لأن المرتهن صار مستأجرا للأرض وأما النخل والتمر فلا تصح المعاملة فيها لأن العقد في النخل يرد على منفعة العامل فلا يبطل به عقد الرهن وببقاء عقد الرهن الحفظ مستحق عليه ثم النخل والتمر لا يفتكهما إلا بأداء جميع الدين وإن هلك النخل والتمر هلك بحصة قيمة النخل من الدين مع قيمة الأرض لأنه صار مضمونا بذلك القدر حين رهنه والتمر الذي هلك صار كأن لم يكن وللعامل أجر مثل عمله في النخل لا في الحفظ وكذلك إن كان البذر من رب الأرض إلا أن الأرض تعود رهنا هنا إذا انقضت المزارعة لأن المرتهن هنا في معنى المعير لها من الراهن فإن مات الراهن كان المرتهن أحق بها من غرمائه سواء مات بعد ما انقضت المزارعة أو قبلها لبقاء عقد الرهن واختصاص المرتهن بالمرهون بحكم عقد الرهن وإن نقصها الزرع شيئا ذهب من مال الراهن لما بينا أنه من ضمان الرهن حين كان المرتهن معيرا من الراهن والله أعلم.(23/281)
ص -137- ... باب الشروط الفاسدة التي تبطل وتجوز المزارعة
قال رحمه الله: وإذا شرط المزارع على رب الأرض مع حصته من الزرع دراهم معلومة أو شيئا من العمل فسدت المزارعة لأن باشتراط شيء من العمل عليه تنعدم التخلية وباشتراط الدراهم عليه يجتمع الإجارة مع الشركة في الخارج وذلك مفسد للمزارعة فإن قال أبطل الشرط لتجوز المزارعة لم يجز ولم يبطل بإبطاله لأن هذا شرط تمكن فيما هو من صلب العقد ومن موجباته فبإسقاطه لا ينقلب العقد صحيحا كاشتراط الخمر مع الألف في ثمن المبيع وكذلك لو اشترط أحدهما على صاحبه الحصاد أو الدياس أو التنقية وقد بينا فساد العقد في هذا الشرط وما فيه من اختلاف الروايات ثم هذا الشرط من صلب العقد فلا ينقلب العقد صحيحا إذا أسقطه من شرط له.(23/282)
ولو اشترطا لأحدهما خيارا معلوما في المزارعة جاز على ما اشترطا لأن عقد المزارعة يتعلق به اللزوم فيجوز اشتراط الخيار فيه مدة معلومة كالبيع والإجارة وإن كان خيارا غير مؤقت أو إلى وقت مجهول فالمزارعة فاسدة فإن أبطل صاحب الخيار خياره وأجاز المزارعة جازت كما في البيع والإجارة وهذا لأن هذا الشرط زائد على ما تم به العقد فهو غير متمكن فيما هو موجب العقد والمعاملة قياس المزارعة في ذلك وإن اشترط أحدهما على صاحبه أن ما صار له لم يبعه ولم يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل لأنه لا منفعة فيه لواحد منهما والشرط الذي لا منفعة فيه ليس له مطالب فيلغوا ويبقى العقد صحيحا وذكر في بعض نسخ الأصل أن على قول أبي يوسف الآخر تبطل المزارعة بهذا الشرط لأن فيه ضررا على أحدهما والشرط الذي فيه الضرر كالشرط الذي فيه المنفعة لأحدهما فكما أن ذلك مفسد للعقد فكذا هذا قال لو شرط عليه أن يبيع نصيبه فيه بمائة درهم فسدت المزارعة لأن في هذا الشرط منفعة ولكن الفرق بينهما بما ذكرنا أن الشرط الذي فيه منفعة يطالب به المنتفع والشرط الذي فيه الضرر لا تتوجه المطالبة من أحد فإن أبطل صاحب الشرط شرطه في الفصل الثاني لم تجز المزارعة أيضا لأن في البيع منفعة لكل واحد منهما فلا يبطل الشرط بإبطال أحدهما إلا أن يجتمعا على إبطاله فحينئذ يجوز العقد وإن كان اشترط عليه أن يهب له نصيبه فسدت المزارعة للمنفعة في هذا الشرط لأحدهما فإن أبطله صاحبه جازت المزارعة لأن المنفعة في هذا الشرط للموهوب له خاصة فتسقط بإسقاطه وهو شرط وراء ما تم به العقد فإذا سقط صار كأن لم يكن فبقي العقد صحيحا والله أعلم.(23/283)
ص -138- ... كتاب الشرب
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن الشرب هو النصيب من الماء للأراضي كانت أو لغيرها قال الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وقال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28] وقسمة الماء بين الشركاء جائزة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يفعلون ذلك فأقرهم عليه والناس تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر وهو قسمة تجري باعتبار الحق دون الملك إذ الماء في النهر غير مملوك لأحد والقسمة تجري تارة باعتبار الملك كقسمة الميراث والمشتري وتارة باعتبار الحق كقسمة الغنيمة بين الغانمين.(23/284)
ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن الحسن البصري رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر بئرا فله ما حوله أربعين ذراعا عطنا لما شقه" والمراد الحفر في الموات من الأرض عند أبي حنيفة رحمه الله بإذن الإمام وعندهما لا يشترط إذن الإمام على ما نبينه وظاهر الحديث يشهد لهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحفر فقط ومثل هذا في لسان صاحب الشرع لبيان السبب لقوله عليه الصلاة والسلام: "من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر" ولكن أبو الحسن رحمه الله يقول اتفقنا على أن الاستحقاق لا يثبت بنفس الحفر ما لم يكن ذلك في الموات من الأرض وهذا اللفظ لا يمكن العمل بظاهره إلا بزيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يقوى الاستدلال بها ثم فيه دليل على أن البئر لها حريم مستحق من قبل أن حافر البئر لا يتمكن من الانتفاع ببئره إلا بما حوله فإنه يحتاج أن يقف على شفير البئر يسقي الماء وإلى أن يبنى على شفير البئر ما يركب عليه البكرة وإلى أن ينبني حوضا يجمع فيه الماء وإلى موضع تقف فيه مواشيه عند الشرب وربما يحتاج أيضا إلى موضع تنام فيه مواشيه بعد الشرب فاستحق الحريم لذلك وقدر الشرع ذلك بأربعين ذراعا.
وطريق معرفة المقادير النص دون الرأي إلا أن من العلماء رحمهم الله من يقول أربعين ذراعا من الجوانب الأربعة من كل جانب عشرة أذرع لأن ظاهر اللفظ يجمع الجوانب الأربع والأصح أن المراد التقدير بأربعين ذراعا من كل جانب لأن المقصود دفع الضرر عن صاحب البئر الأول لكيلا يحفر أحد في حريمه بئرا أخرى فيتحول إليها ما ببئره وهذا الضرر ربما لا يندفع بعشرة أذرع من كل جانب فإن الأراضي تختلف بالصلابة والرخاوة وفي مقدار أربعين ذراعا من كل جانب يتيقن بدفع هذا الضرر ويستوي في مقدار الحريم بئر العطن وبئر الناضح عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما حريم بئر العطن أربعون ذراعا وحريم بئر(23/285)
ص -139- ... الناضح سبعون ذراعا واستدلا بحديث الزهري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "حريم العين خمسمائة ذراع وحريم بئر العطن أربعون ذراعا وحريم بئر الناضح ستون ذراعا" ولأن استحقاق الحريم باعتبار الحاجة وحاجة صاحب البئر الناضح إلى الحريم أكثر لأنه يحتاج إلى موضع يسير فيه الناضح ليستقي فيه الماء من البئر بذلك وفي بئر العطن إنما يستقى بيده فلا يحتاج إلى هذا الموضع واستحقاق الحريم بقدر الحاجة.
ألا ترى: أن صاحب العين يستحق من الحريم أكثر مما يستحق صاحب البئر لأن ماء العين يفيض على الأرض ويحتاج صاحبه إلى اتخاذ المزارع حول ذلك لينتفع بما يفيض من الماء وإلى أن ينبني غديرا يجتمع فيه الماء فاستحق لذلك زيادة الحريم.(23/286)
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بالحديث الأول فإنه عليه الصلاة والسلام قال: "من حفر بئرا فله ما حولها أربعون ذراعا" وليس فيه فصل بين بئر العطن والناضح ومن أصله أن العام المتفق على قبوله والعمل به يترجح على الخاص المختلف في قبوله والعمل به ولهذا رجح قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أخرجت الأرض ففيه العشر" على قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وعلى قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس في الخضراوات صدقة" ورجح اصحابنا رحمهم الله قوله عليه الصلاة والسلام: "التمر بالتمر مثلا بمثل" على خبر العرايا ولأن استحقاق الحريم حكم ثبت بالنص بخلاف القياس لأن الاستحقاق باعتبار عمله وعمله في موضع البئر خاصة فكان ينبغي أن لا يستحق شيئا من الحريم ولكنا تركنا القياس بالنص فبقدر ما اتفق عليه الآثار ثبت الاستحقاق وما زاد على ذلك مما اختلف فيه الأثر لا يثبت استحقاقه بالشك هذا أصل أبي حنيفة رحمه الله في مسائل الحريم ولهذا لم يجعل للنهر حريما وكذلك في غير هذا الموضع فإنه قال لا يستحق الغازي لفرسه إلا سهما واحدا لأن استحقاقه ثبت بخلاف القياس بالنص فلا يثبت إلا القدر المتيقن به فأما حريم العين خمسمائة ذراع كما ورد به الحديث لأن الآثار اتفقت عليه ولكن عند بعضهم الخمسمائة في الجوانب الأربعة من كل جانب مائة وخمسة وعشرون ذراعا والأصح أن له خمسمائة ذراع من كل جانب وقد ذكر أبو يوسف في الأمالي هذا مفسرا في بئر الناضح قال يتقدر حريمه بستين ذراعا من كل جانب إلا أن يكون الرشا أطول من ذلك فهذا دليل على أن المذهب التقدير من كل جانب بما سمى من الذرعان ثم الاستحقاق من كل جانب في الموات من الأرض بما لا حق لأحد فيه أما فيما هو حق الغير فلا حتى لو حفر إنسان بئرا فجاء آخر وحفر على منتهى حد حريمه بئرا فإنه لا يستحق الحريم من الجانب الذي هو حريم صاحب البئر الأول وإنما يستحقه من الجوانب الأخر فيما لاحق فيه لأن في(23/287)
ذلك الجانب الأول قد سبق إليه وقد ثبت استحقاقه كما قال عليه الصلاة والسلام: "منا مباح من سبق" فلا يكون لأحد أن يبطل عليه حقه ويشاركه فيه.
وعن بن مسعود رضي الله عنه قال أسفل النهر آمر على أهل أعلاه حتى يرووا. وفيه(23/288)
ص -140- ... دليل أنه ليس لأهل الأعلى أن يسكروا النهر ويحبسوا الماء عن أهل الأسفل لأن حقهم جميعا ثابت فلا يكون لبعضهم أن يمنع حق الباقين ويختص بذلك وفيه دليل على أنه إذا كان الماء في النهر بحيث لا يجري في أرض كل واحد منهم إلا بالسكر فإنه يبدأ بأهل الأسفل حتى يرووا ثم بعد ذلك لأهل الأعلى أن يسكروا ليرتفع الماء إلى أراضيهم وهذا لأن في السكر إحداث شيء في وسط النهر المشترك ولا يجوز ذلك مع حق جميع الشركاء وحق أهل الأسفل ثابت ما لم يرووا فكان لهم أن يمنعوا أهل الأعلى من السكر ولهذا سماهم آمرا لأن لهم أن يمنعوا أهل الأعلى من السكر وعليهم طاعتهم في ذلك ومن تلزمك طاعته فهو أميرك بيانه في قوله عليه الصلاة والسلام:
"صاحب الدابة العطوف أمير على الراكب لأنه يأمرهم بانتظاره وعليهم طاعته بحق الصحبة في السفر".
وفيه حكاية أبي يوسف رحمه الله حين ركب مع الخليفة يوما فتقدمه الخليفة لجوده ابنه فناداه أيها القاضي الحق بي فقال أبو يوسف إن دابتك إذا حركت طارت وإن دابتي إذا حركت قطعت وإذا تركت وقفت فانتظرني فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "صاحب الدابة العطوف أمير على الراكب" فأمر بأن يحمل أبو يوسف رحمه الله على جنبة له وقال احمل أباك على هذا أهون من تأميرك علي.(23/289)
وعن محمد بن إسحاق يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ الوادي الكعبين لم يكن لأهل الأعلى أن يحبسوه عن الأسفل" والمراد به الماء في الوادي والوادي اسم لموضع في أسفل الجبل ينحدر الماء من كل جانب من الجبل فيجتمع فيه ويجري إلى الموضع الذي ينتفع به الناس فقوله إذا بلغ الوادي الكعبين ليس بتقدير لازم بالكعبين بل الإشارة إلى كثرة الماء لأن في موضع الوادي سعة فإذا بلغ الماء فيه هذا المقدار فهو كثير يتوصل كل واحد منهم إلى الانتفاع به بقدر حاجته عادة فإذا أراد أهل الأعلى أن يحبسوه عن أهل الأسفل فإنما قصدوا بذلك الإضرار بأهل الأسفل فكانوا متعنتين في ذلك لا منتفعين بالماء وإذا كان الماء دون ذلك فربما لا يفضل عن حاجة أهل الأعلى فهم منتفعون بهذا الحبس والماء الذي ينحدر من الجبل إلى الوادي على أصل الإباحة فمن يسبق إليه فهو أحق بالانتفاع به بمنزلة النزول في الموضع المباح كل من سبق إلى موضع فهو أحق به ولكن ليس له أن يتعنت ويقصد الإضرار بالغير في منعه عما وراء موضع الحاجة فعند قلة الماء بدى ء أهل الأعلى أسبق إلى الماء فلهم أن يحبسوه عن أهل الأسفل به قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام رضي الله عنه في حادثة معروفة وعند كثرة الماء يتم انتفاع صاحب الأعلى من غير حبس فليس له أن يتعنت بحبسه عن أهل الأسفل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار" وفي الروايات: "الناس شركاء في ثلاث" وهذا أعم من الأول ففيه إثبات الشركة للناس كافة المسلمين والكفار في هذه الأشياء الثلاثة وهو كذلك.
وتفسير هذه الشركة في المياه التي تجري في الأودية والأنهار العظام كجيحون وسيحون(23/290)
ص -141- ... وفرات ودجلة ونيل فإن الانتفاع بها بمنزلة الانتفاع بالشمس والهواء ويستوي في ذلك المسلمون وغيرهم وليس لأحد أن يمنع أحدا من ذلك وهو بمنزلة الانتفاع بالطرق العامة من حيث التطرق فيها ومرادهم من لفظة الشركة بين الناس بيان أصل الإباحة والمساواة بين الناس في الانتفاع لا أنه مملوك لهم فالماء في هذه الأودية ليس بملك لأحد فأما ما يجري في نهر خاص لأهل قرية ففيه نوع شركة لغيرهم وهو حق السعة من حيث الشرب وسقي الدواب فإنهم لا يمنعون أحدا من ذلك ولكن هذه الشركة أخص من الأول فليس لغير أهل القرية أن يسقوا نخيلهم وزروعهم من هذا النهر وكذلك الماء في البئر فيه لغير صاحب البئر شركة لهذا القدر وهو السعة وكذلك الحوض فإن من جمع الماء في حوضه وكرمه فهو أخص بذلك الماء مع بقاء حق السقي فيه للناس حتى إذا أخذ إنسان من حوضه ماء للشرب فليس له أن يسترده منه وإذا أتى إلى باب كرمه ليأخذ الماء من حوضه للشرب فله أن يمنعه من أن يدخل كرمه لأن هذا ملك خاص له ولكن إن كان يجد الماء قريبا من ذلك الموضع في غير ملك أحد يقول له اذهب إلى ذلك الموضع وخذ حاجتك من الماء لأنه لا يتضرر بذلك وإن كان لا يجد ذلك فأما أن يخرج الماء إليه أو يمكنه من أن يدخل فيأخذ بقدر حاجته لأن له حق السعة في الماء الذي في حوضه عند الحاجة فأما إذا أحرز الماء في جب أو جرة أو قربة فهو مملوك له حتى يجوز بيعه فيه وليس لأحد أن يأخذ شيئا منه إلا برضاه ولكن فيه شبهة الشركة من وجه ولهذا لا يجب القطع لسرقته.(23/291)
وعلى هذا حكم الشركة في الكلأ في المواضع التي لا حق لأحد فيها بين الناس فيه شركة عامة فلا يكون لأحد أن يمنع أحدا من الانتفاع به فأما ما نبت من الكلأ في أرضه مما لم ينبته أحد فهو مشترك بين الناس أيضا حتى إذا أخذه إنسان فليس لصاحب الأرض أن يسترده منه وإذا أراد أن يدخل أرضه ليأخذ ذلك فلصاحب الأرض أن يمنعه من الدخول في أرضه ولكن إن كان يجد ذلك في موضع آخر يأمره بالذهاب إلى ذلك الموضع وإن كان لا يجد وكان بحيث يخاف على ظهره فأما أن يخرج إليه مقدار حاجته أو يمكنه من أن يدخل أرضه فيأخذ مقدار حاجته فأما ما أنبته صاحب الأرض بأن سقى أرضه وكربها لنبت الحشيش فيها لدوابه فهو أحق بذلك وليس لأحد أن ينتفع بشيء منه إلا برضاه لأنه حصل بكسبه والكسب للمكتسب وهذا الجواب فيما لم ينبته صاحب الأرض من الحشيش دون الأشجار فأما في الأشجار فهو أحق بالأشجار النابتة في أرضه من غيره لأن الأشجار تحرز عادة وقد صار محرزا له من يده الثابتة على أرضه فأما الحشيش فلا يحرز عادة وتفسير الحشيش ما تيسر على الأرض مما ليس له ساق والشجر ما ينبت على ساق وبيان ذلك في قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] والنجم ما ينجم فتيسر على الأرض والشجر ما له ساق.
وبيان الشركة في النار أن من أوقد نارا في صخر لا حق لأحد فيه فلكل واحد أن ينتفع بناره من حيث الاصطلاء بها وتجفيف الثياب والعمل بضوءها فأما إذا أراد أن يأخذ من(23/292)
ص -142- ... ذلك الجمر فليس له ذلك إذا منعه صاحب النار لأن ذلك حطب أو فحم قد أحرزه الذي أوقد النار وإنما الشركة التي أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار والنار جوهر الحر دون الحطب والفحم فإن أخذ شيئا يسيرا من ذلك الجمر نظر فإن كان ذلك ما له قيمة إذا جعله صاحبه فحما كان له أن يسترده منه وإن كان يسيرا لا قيمة له فليس له أن يسترده منه وله منه أن يأخذه من غير استئذان لأن الناس لا يمنعون هذا القدر عادة والمانع يكون متعنتا لا منتفعا وقد بينا أن المتعنت ممنوع من التعنت شرعا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع بقع الماء يعني المستنقع في الحوض وبه نأخذ فإن البيع تمليك فيستدعي محلا مملوكا والماء في الحوض ليس بمملوك لصاحب الحوض فلا يجوز بيعه فلظاهر الحديث لا يجوز بيع الشرب وحده لأن ما يجري في النهر الخاص ليس بمملوك للشركاء والبيع لا يسبق الملك وإنما الثابت للشركاء في النهر الخاص حق الاختصاص بالماء من حيث سقي النخيل والزرع ولصاحب المستنقع مثل ذلك وبيع الحق لا يجوز.(23/293)
وعن الهيثم أن قوما وردوا ماء فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فأبوا فسألوهم أن يعطوهم دلوا فأبوا أن يعطوهم فقالوا لهم إن أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت تقطع فأبوا أن يعطوهم فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه فقال لهم عمر فهلا وضعتم فيهم السلاح وفيه دليل أنهم إذا منعوهم ليستقوا الماء من البئر فلهم أن يقاتلوهم بالسلاح فإذا خافوا على أنفسهم أو على ظهورهم من العطش كان لهم في البئر حق السعة فإذا منعوا حقهم وقصدوا إتلافهم كان لهم أن يقاتلوهم عن أنفسهم وعن ظهورهم كما لو قصدوا قتلهم بالسلاح فأما إذا كان الماء محرزا في إناء فليس للذي يخاف الهلاك من العطش أن يقاتل صاحب الماء بالسلاح على المنع ولكن يأخذ منه فيقاتله على ذلك بغير سلاح وكذلك في الطعام لأنه ملك محرز لصاحبه ولهذا كان الآخذ ضامنا له فإذا جاز له أخذه لحاجته فالمانع يكون دافعا عن ماله.
وقال عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد" فكيف يقاتل من إذا قتله كان شهيدا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما البئر مباح غير مملوك لصاحب البئر فلا يكون هو في المنع دافعا عن ملكه ولكنه مانع عن المضطر حقه فكان له أن يقاتله بالسلاح وللأول أن يقاتل بما دون السلاح لأن صاحب الماء مأمور بأن يدفع إليه بقدر ما يدفع به الضرورة عنه فهو في المنع مرتكب ما لا يحل فيؤدبه على ذلك بغير سلاح وليس مراد عمر رضي الله عنه المقاتلة بالسلاح على منع الدلو فإن الدلو كان ملكا لهم ولو كان المراد ذلك فتأويل قوله فهلا وضعتم فيهم السلاح أي برهنتم عندهم ما معكم من السلاح ليطمئنوا إليكم فيعطونكم الدلو لا أن يكون المراد الأمر بالقتال.
وعن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرف ظالم حق" وفيه دليل على أن الموات من الأراضي يملك بالإحياء وأصح ما قيل في حد الموات أن(23/294)
ص -143- ... يقف الرجل في طرف العمران فينادي بأعلى صوته فإلى أي موضع ينتهي صوته يكون من فناء العمران لأن سكان ذلك الموضع يحتاجون إلى ذلك لرعي المواشي وما أشبه ذلك وما وراء ذلك من الموات ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إنما يملكها بالإحياء بعد إذن الإمام وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا حاجة فيه إلى إذن الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك وملكها ممن أحياها أو لأنه لا حق لأحد فيها فكل من سبقت يده إليها وتم إحرازه لها فهو أحق بها كمن أخذ صيدا أو حطبا أو حشيشا أو وجد معدنا أو ركازا في موضع لا حق لأحد فيه.
وأبو حنيفة استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه" وهذا وإن كان عاما فمن أصله أن العام المتفق عليى قبوله يترجح على الخاص وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن عادى الأرض هي لله ورسوله ثم هي لكم من بعد" فما كان مضافا إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم فالتدبير فيه إلى الإمام فلا يستبد أحد به بغير إذن الإمام كخمس الغنيمة فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أشار إلى أن هذه الأراضي كانت في يد المشركين ثم صارت في يد المسلمين بإيجاف الخيل فكان ذلك لهم من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وما كان بهذه الصفة لم يختص أحد بشيء منه دون إذن الإمام كالغنائم.(23/295)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة" لبيان السبب وبه نقول أن سبب الملك بعد إذن الإمام هو الإحياء ولكن إذن الإمام شرط وليس في هذا اللفظ ما ينفي هذا الشرط بل في قوله عليه الصلاة والسلام: "وليس لعرف ظالم حق" إشارة إلى هذا الشرط فالإنسان على رأي الإمام والأخذ بطريق التغالب في معنى عرق ظالم وقيل معنى قوله عليه الصلاة والسلام وليس لعرق ظالم حق أن الرجل إذا غرس أشجارا في ملكه فخرجت عروقها إلى أرض جاره أو خرجت أغصانها إلى أرض جاره فإنه لا يستحق ذلك الموضع من أرض جاره بتلك الأغصان والعروق الظالمة فالظلم عبارة عن تحصيل الشيء في غير موضعه قيل المراد بعرق الظالم أن يتعدى في الإحياء ما وراء أحد الموات فيدخل في حق الغير ولا يستحق بذلك شيئا من حق الغير.
وعن عمر رضي الله عنه قال من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس بعد ثلاث سنين حق والمراد بالمحجر المعلم بعلامة في موضع واشتقاق الكلمة من الحجر وهو المنع فإن من أعلم في موضع من الموات علامة فكأنه منع الغير من إحياء ذلك الموضع فسمى فعله تحجيرا وبيان ذلك أن الرجل إذا مر بموضع من الموات فقصد إحياء ذلك الموضع فوضع حول ذلك الموضع أحجارا أو حصد ما فيها من الحشيش والشوك وجعلها حول ذلك فمنع الداخل من الدخول فيها فهذا تحجير ولا يكون إحياء إنما الإحياء أن يجعلها صالحة للزراعة بأن كربها أو ضرب عليها المسناة أو شق لها نهرا ثم بعد التحجير له من المدة ثلاث سنين كما أشار إليه عمر رضي الله عنه لأنه يحتاج إلى أن يرجع إلى وطنه ويهيئ أسبابه ثم يرجع إلى ذلك الموضع فيحييه فيجعل له من المدة للرجوع إلى وطنه سنة وإصلاح أموره في وطنه(23/296)
ص -144- ... سنة والرجوع إلى ذلك الموضع سنة فإلى ثلاثة سنين لا ينبغي أن يشتغل بإحياء ذلك الموضع غيره ولكن ينتظره ليرجع وبعد مضي هذه المدة الظاهر أنه قد بدا له وأنه لا يريد الرجوع إليها فيجوز لغيره إحياؤها هذا من طريق الديانة فأما في الحكم إذا أحياها إنسان بإذن الإمام فهي له لأن بالتحجير لم تصر مملوكة للأول فسبب الملك هو الإحياء دون التحجير.
وعن طاوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عادي الأرض لله ورسوله فمن أحيا أرضا ميتة فهي له" والمراد الموات من الأراضي سماه عاديا على معنى أن ما خربت على عهد عاد وفي العادات الظاهرة ما يوصف بطوله مضي الزمان عليه ينسب إلى عاد فمعناه ما تقدم خرابه مما يعلم أنه لا حق لأحد فيه وعن أبي معسر عن أشياخه رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قضى في السراج من ماء المطر إذا بلغ الماء الكعبين أن لا يحبسه إلا على جاره" قال أبو معسر السراج السواقي وهي الجداول التي عند سفح الجبل يجتمع ماء السيل فيها ثم ينحدر منها إلى الوادي وقد بينا أن مراده من هذا اللفظ العبارة عن كثرة الماء.(23/297)
وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبرا من أرض بغير حق طوقه الله من سبع أرضين" قيل معناه من تطوق في أرض الغير فالموضع الذي يضع عليه القدم بمنزلة شبر من الأرض وقيل معناه من نقص من المسنات في جانب أرضه بأن حول ذلك إلى أرض جاره فذلك قدر شبر من الأرض أخذه أو كان أرضه بجنب الطريق فجعل المسناة على الطريق لتتسع به أرضه فهو في معنى شبر من الأرض أخذه بغير حق وهو معنى الحديث الذي روي: "لعن الله من غير منار الطريق" يعني العلامة بين الأرضين وقيل إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشبر على طريق التمثيل للمبالغة في المنع من غصب الأراضي وليس المراد به التحقيق ثم في الحديث بيان عظم الماء ثم في غصب الأراضي وهو دليل أبي حنيفة رحمه الله في أنه لا ضمان على غاصب الأراضي في الدنيا لأن النبي عليه الصلاة والسلام بين جزاء الآخذ بالوعيد الذي ذكره في القيامة.
ولو كان حكم الضمان ثابتا لكان الأولى أن يبينه لأن الحاجة إلى معرفته أمس ثم جعل المذكور من الوعيد جميع جزائه فلو أوجبنا الضمان مع ذلك لم يكن الوعد جميع جزائه وللفقهاء في معنى مثل هذه الألفاظ طريقين.
أحدهما: الحمل على حقيقته أنه يطوق ذلك الموضع في القيامة ليعرف به ما فعله ويكون ذلك عقوبة له كما قال عليه الصلاة والسلام: "لكل غادر لواء يوم القيامة" يركز عند باب استه تعرف به غدرته والمراد به بيان شدة العقوبة لا حقيقة ما ذكر من أنه يطوق ذلك الموضع من الأرض يوم القيامة فقد قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [ابراهيم: 48] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا الماء مخافة الكلأ" يريد به أن صاحب البئر إذا كان له مرعى حول بئره فلا ينبغي له أن يمنع من يستقي الماء من بئره لنفسه أو لظهوره مخافة أن يصيب ظهره من ذلك الكلأ لأن له في حق الشقة في ماء(23/298)
ص -145- ... البئر فلا يمنعه حقه ولكن يحفظ جانب أرضه وما فيه من الكلأ حتى لا يدخل دابة المستقي في ذلك الموضع وإن شق عليه ذلك أخرج إليه من الماء مقدار حاجته وحاجة ظهره وعن نافع رفع حديثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا أحدا ماء ولا كلأ ولا نارا فإنه متاع للمقوين وقوة للمستعينين" والمقوي هو الذي فنى زاده والمستعين هو المضطر المحتاج وقد بينا أن صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام أثبت بين الناس في هذه الأشياء الثلاثة شركة عامة بطريق الإباحة فلا ينبغي لأحد أن يمنع أحدا مما جعله الشرع حقا له.(23/299)
وإذا كان لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع بن السبيل أن يسقي منها فيشرب ويسقي دابته وبعيره وشياهه فإن ذلك من الشقة والشقة عندنا الشرب لبني آدم والبهائم وهذا لأن الحاجة إلى الماء تتجدد في كل وقت ومن سافر لا يمكنه أن يستحصب الماء من وطنه لذهابه ورجوعه فيحتاج إلى أخذ الماء من الآبار والأنهار التي تكون على طريقه وفي المنع من ذلك حرج وكما يحتاج إلى ذلك لنفسه فكذلك يحتاج إليه لظهره لأنه في العادة يعجز عن السفر بغير مركب وكذلك يحتاج إلى ذلك للطبخ والخبز وغسل الثياب وأحد لا يمنع أحدا من ذلك فإن كان له جدول يجري فيه الماء إلى أرضه وبجنب ذلك الموضع صاحب ماشية إذا شربت الماشية منها انقطع الماء لكثرة المواشي وقلة ماء الجدول فقد اختلف المتأخرون رحمهم الله في هذا الفصل منهم من يقول هذا من الشقة وليس لصاحب الجدول أن يمنع ذلك وأكثرهم على أن له أن يمنع في مثل هذه الصورة لأن الشقة ما لا يضر بصاحب النهر والبئر فأما ما يضر به ويقطع حقه فله أن يمنع ذلك اعتبارا بسقي الأراضي والنخيل والشجر والزرع فله أن يمنع من يريد سقي نخله وشجره وزرعه من نهره أو قناته أو بئره أو عينه وليس لأحد أن يفعل ذلك إلا بإذنه إما لأنه يريد أنيسوي نفسه بصاحب الحق فيما هو المقصود فالنهر والقناة إنما يشق لهذا المقصود وليس لغير المستحق أن يسوي نفسه بالمستحق فيما هو المقصود بخلاف الشقة فذلك بيع غير مقصود لأن النهر والقناة لا يشق في العادة لأجله أو لأنه يحتاج إلى أن يحفر نهرا من هذا النهر إلى أرضه فيكسر به ضفة النهر وليس له أن يكسر ضفة نهر الغير وكذلك في البئر يحتاج إلى أن يشق نهرا من رأس البئر إلى أرضه وما حول البئر حق صاحب البئر حريما له فليس لغيره أن يحدث فيه شيئا من ذلك بغير إذنه وكذلك إن كان يريد أن يجري ماءه في هذا النهر مع صاحب النهر ليسقي به أرضه لأن النهر ملك خاص لأهل النهر فلا يجوز له أن ينتفع بملك الغير إلا(23/300)
بإذنه.
فإن كان قد اتخذ شجره أو خضره في داره فأراد أن يسقي ذلك الموضع بحمل الماء إليه بالجرة فقد استقضى فيه بعض المتأخرين من أئمة بلخ رحمهم الله وقالوا ليس له ذلك إلا بإذن صاحب النهر والأصح أنه لا يمنع من هذا المقدار لأن الناس يتوسعون فيه والمنع منه يعد من الدناءه قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها" فإن أذن له صاحب النهر في سقي أرضه أو عادة ذلك الموضع فلا بأس بذلك لأن المنع كان(23/301)
ص -146- ... لمراعاة حقه فإذا رضي به فقد زال المانع وإن باعه شرب يوم أو أقل من ذلك أو أكثر لم يجز لأن ذلك الماء في النهر غير مملوك إنما هو حق صاحب النهر وبيع الحق لا يجوز لأنه مجهول لا يدري مقدار ما يسلم له من الماء في المدة المذكورة وبيع المجهول لا يجوز وهو غرر فلا تدري أن الماء يجري في ذلك الوقت في النهر أو لا يجري.
وإذا انقطع الماء فليس للبائع تمكن إجرائه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وكذلك لو استأجره لأنه يلتزم تسليم ما لا يقدر على تسليمه أو تسليم ما لا يعرف مقداره ثم المقصود من هذا الاستئجار الماء وهو عين والاستئجار المقصود لاستهلاك العين لا يجوز كاستئجار المرعى للرعي واستئجار البقرة لمنفعة اللبن بخلاف استئجار الظئر فإن لبن الآدمية في حكم المنفعة لأن منفعة كل عضو بحسب ما يليق به فمنفعة الثدي اللبن ولهذا لا يجوز بيع لبن الآدمية ولأن العقد هناك يرد على منفعة التربية واللبن آلة في ذلك بمنزلة الاستئجار على غسل الثياب فالحرض والصابون آلة في ذلك والاستئجار لعمل الصناعة فإن الصنع بمنزلة الآلة في ذلك فأما هنا لا مقصود في هذا الاستئجار سوى الماء وهو عين وكذلك لو شرط في إجارته أو شرابه شرب هذه الأرض وهذا الشجر وهذا الزرع أو قال حتى يكتفي فهذا كله باطل لمعنى الجهالة والغرر.
وإذا اشترى الرجل شرب ماء ومعه أرض فهو جائز لأن الأرض عين مملوكة مقدورة التسليم فالعقد يرد عليها والشرب يستحق بيعا وقد يدخل في البيع بيع ما لا يجوز إفراده بالبيع كالأطراف من الحيوانات لا يجوز إفرادها بالبيع ثم يدخل بيعا في بيع الأصل وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أفتى أن يبيع الشرب وإن لم يكن معه أرض للعادة الظاهرة فيه في بعض البلدان وهذه عادة معروفة بنسف قالوا المأجور الاستصناع للتعامل وإن كان القياس يأباه فكذلك بيع الشرب بدون الأرض.(23/302)
وإذا استأجر أرضا مع شربها جاز كما يجوز الشراء وهذا لأن المقصود الانتفاع بالأرض من حيث الزراعة والغراسة وإنما يحصل هذا المقصود بالشرب فذكر الشرب مع الأرض في الاستئجار التحقيق ما هو المقصود بالاستئجار فلا يفسد به العقد وإذا اشترى الرجل أرضا لم يكن له شربها ولا مسك ما بها لأن العقد يتناول عين الأرض بذكر حدودها فما يكون خارجا من حدودها لا يدخل تحت العقد إلا بالتسمية والشرب والمسيل خارج من الحدود المذكورة فإن اشترط شربها فله الشرب وليس له المسيل لأن الشرب غير المسيل فالمسيل الموضع الذي يسيل فيه الماء والشرب الماء الذي يسيل في المسيل فباشتراط أحدهما لا يثبت له استحقاق الأجر وإنما يستحق المشروط خاصة ويجعل فيما لم يذكر كأنه لم يشترط شيئا.
ولو اشترط مسيل الماء مع الشرب يستحق ذلك كله بالشرط ولو اشتراها بكل حق هو لها كان له المسيل والشرب لأنهما من حقوقها فالمقصود بالأراضي الانتفاع بها وإنما يتأتى ذلك بالمسيل والشرب فكانت من حقوقها كالطريق للدار وكذلك لو اشترط مرافقها لأن(23/303)
ص -147- ... المرافق ما يترفق به فإنما يتأتى الترفق بالأرض بالشرب والمسيل وكذلك لو اشترط كل قليل وكثير هو فيها أو منها كان له الشرب والمسيل لأنه من القليل والكثير ثم المراد بقوله منها أي من حقوقها ولكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ومثل هذا الحذف عرف أهل اللسان.
وإذا استأجر أرضا فليس له مسيل ماء ولا شرب في القياس إذا أطلق العقد كما في الشراء فالمستأجر يستحق بالعقد بذكر الحدود كالمشتري فكما أن الشرب والمسيل الذي هو خارج عن الحدود المذكورة لا يستحق بالشراء فكذلك بالاستئجار ولكنه استحسن فجعل للمستأجر مسيل الماء والشرب هنا بخلاف الشراء لأن جواز الاستئجار باعتبار التمكن من الانتفاع.
ألا ترى: أن ما لا ينتفع به لا يجوز استئجاره كالمهر الصغير والأرض السبخة والانتفاع بالأرض لا يتأتى إلا بالشرب والمسيل فلو لم يدخلهما يفسخ العقد والمتعاقدان قصدا تصحيح العقد فكان هنا ذكر الشرب والمسيل بخلاف الشراء فموجبه ملك العين.
ألا ترى: أن شراء ما لا يملك الانتفاع به جائز نحو الأرض السبخة والمهر الصغير فلا يدخل في الشراء ما وراء المسمى بذكر الحدود وفي الكتاب ذكر حرفا آخر فقال لأن الأرض لم تخرج من يد صاحبها يعني أن بعقد الإجارة لا يتملك المستأجر شيئا من العين وإنما يملك الانتفاع به في المدة المذكورة.
فلو أدخلنا الشرب والمسيل لم يتضرر صاحب الأرض بإزالة ملكه عنها وفي إدخالهما تصحيح العقد فأما البيع يزيل ملك العين عن البائع ففي إدخال الشرب والمسيل في البيع إزالة ملكه عما لم يظهر رضاه به وذلك لا يجوز وهذا نظير ما تقدم أن الثمار والزرع يدخل في رهن الأشجار والأرض من غير ذكر ولا يدخل في الهبة وإذا ثبت أن بدون الشرط يدخل الشرب والمسيل في الأشجار فمع الشرط أولى وكذلك إن شرط كل حق هو لها أو مرافقها أو كل قليل وكثير هو فيها أو منها فعند ذكر هذه الألفاظ يدخل الشرب والمسيل في الشراء ففي الإجارة أولى.(23/304)
وإذا كان نهر بين قوم لهم عليه أرضون ولا يعرف كيف كان أصله بينهم فاختلفوا فيه واختصموا في الشرب فإن الشرب بينهم على قدر أراضيهم لأن المقصود بالشرب سقي الأراضي والحاجة إلى ذلك تختلف بقلة الأراضي وكثرتها فالظاهر أن حق كل واحد منهم من الشرب بقدر أرضه وقدر حاجته والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه.
فإن قيل فقد استووا في إثبات اليد على المال في النهر والمساواة في اليد توجب المساواة في الاستحقاق عند الاشتباه.
قلنا لا كذلك فاليد لا تثبت على الماء في النهر لأحد حقيقة وإنما ذلك الانتفاع بالماء والظاهر أن انتفاع من له عشر قطاع لا يكون مثل انتفاع من له قطعة واحدة ثم الماء لا(23/305)
ص -148- ... يمكن إحرازه بإثبات اليد عليه وإنما إحرازه بسقي الأراضي فإنما ثبت اليد عليه بحسب ذلك وهذا بخلاف الطريق إذا اختصم فيه الشركاء فإنهم يستوون في ملك رقبة الطريق ولا يعتبر في ذلك سعة الدار وضيقها لأن الطريق عين تثبت اليد عليه والمقصود التطرق فيه والتطرق فيه إلى الدار الواسعة وإلى الدار الضيقة بصفة واحدة بخلاف الشرب على ما ذكرنا فإن كان الأعلى لا يشرب حتى يسكر النهر على الأسفل ولكنه يشرب بحصته لأن في السكر قطع منفعة الماء عن أهل الأسفل في بعض المدة وليس لبعض الشركاء هذه الولاية في نصيب شركائه يوضحه أن في السكر. إحداث شيء في وسط النهر ورقبة النهر مشتركة بينهم فليس لبعض الشركاء أن يحدث فيها شيئا بدون إذن الشركاء وربما ينكسر النهر بما يحدث فيها عند السكر.
فإن فإن تراضوا على أن الأعلى يسكر النهر حتى تشرب حصته أجزت ذلك بينهم لأن المانع حقهم وقد انعدم بتراضيهم فإن اصطلحوا على أن يسكر كل واحد منهم في يومه أجزته أيضا فإن قسمة الماء في النهر تكون بالأجر تارة وبالأيام أخرى فإن تراضوا على القسمة بالأيام جاز لهم ذلك وهذا لحاجتهم إلى ذلك فقد يقل الماء في النهر بحيث لا يتمكن كل واحد منهم أن ينتفع بحصته من ذلك إلا بالسكر ولكنه إن تمكن من أن يسكر بلوح أو باب فليس له أن يسكر بالطين والتراب لأن به ينكسر النهر عادة وفيه إضرار بالشركاء إلا أن يظهروا التراضي على ذلك فإن اختلفوا لم يكن لأحد منهم أن يسكره على صاحبه وإن أراد أحد منهم أن يكتري منه نهرا لم يكن له ذلك إلا برضاء من أصحابه لأن في كري النهر كسر ضفة النهر المشترك بقدر فوهة النهر الذي يكريه وفي الملك المشترك ليس لبعض الشركاء أن يفعل ذلك إلا برضاء أصحابه كما لو أراد هدم الحائط المشترك أو إحداث باب فيه.(23/306)
وكذلك إن أراد أن ينصب عليه رحا لم يكن له ذلك إلا برضا من أصحابه لأن ما ينصب من الرحا إنما يضعه في ملك مشترك إلا أن تكون رحا لا تضر بالنهر ولا بالماء ويكون موضعها في أرض خاص له فإن كان هكذا فهو جائز يعني إذا لم يكن يغير الماء عن سنته ولا يمنع جريان الماء بسبب الرحا بل يجري كما كان يجري قبل ذلك وإنما يضع الرحا في ملك خاص له فإذا كان بهذه الصفة فله أن يفعل ذلك بغير رضا الشركاء لأنه إنما يحدث ما يحدثه من الأبنية في خالص ملكه وبسبب الرحا لا ينتقص الماء بل ينتفع صاحب الرحا بالماء مع بقاء الماء على حاله فمن يمنعه عن ذلك يكون متعنتا قاصدا إلى الإضرار به لا دافعا الضرر عن نفسه فلا يلتفت إلى تعنته وإن أراد أن ينصب عليها دالية أو سانية وكان ذلك لا يضر بالنهر ولا بالشرب وكان بناء ذلك في ملكه خاصة كان له أن يفعل لما بينا أنه يتصرف في خالص ملكه ولا يلحق الضرر بغيره.
وإن أراد هؤلاء القوم أن يكروا هذا النهر فإن أبا حنيفة رحمه الله قال عليهم مؤنة الكراء من أعلاه فإذا جاوز أرض رجل دفع عنه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الكراء عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأراضي وبيان ذلك أن الشركاء في(23/307)
ص -149- ... النهر إذا كانوا عشرة فمؤنة الكراء من أول النهر على كل واحد منهم عشرة إلى أن يجاوز أرض أحدهم فحينئذ تكون مؤنة الكراء على الباقين اتساعا إلى أن يجاوز أرضا أخرى ثم يكون على الباقين أثمان على هذا التفصيل إلى آخر النهر وعندهما المؤنة عليهم اعتبارا من أول النهر إلى آخره لأن لصاحب الأعلى حقا في أسفل النهر وهو تسييل الفاضل عن حاجته من الماء فيه فإذا سد ذلك فاض الماء على أرضه فأفسد زرعه فبهذا تبين أن كل واحد منهم ينتفع بالنهر من أوله إلى آخر والدليل عليه أنه يستحق الشفعة بمثل هذا النهر وحق أهل الأعلى وأهل الأسفل في ذلك سواء فإذا استووا في الغنم يستوون في الغرم أيضا وهو مؤنة الكراء وأبو حنيفة رحمها لله يقول مؤنة الكراء على من ينتفع بالنهر بسقي الأرض منه.
ألا ترى: أنه ليس على أصحاب الشقة من مؤنة الكراء شيء وإذا جاوز الكراء أرض رجل فليس له في كراء ما بقي منفعة سقي الأرض فلا يلزمه شيء من مؤنة الكراء ثم منفعته في أسفل النهر من حيث إجراء فضل الماء فيه وصاحب المسيل لا يلزمه شيء من عمارة ذلك الموضع باعتبار تسييل الماء فيه.
ألا ترى: أن من له حق تسييل ماء سطحه على سطح جاره لا يلزمه شيء من عمارة سطح جاره بهذا الحق ثم هو يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بدون كري أسفل النهر بأن يسد فوهة النهر من أعلاه إذا استغنى عن الماء فعرفنا أن الحاجة المعتبرة في التزام مؤنة الكراء الحاجة إلى سقي الأرض.(23/308)
فرع بعض مشايخنا رحمهم الله أن الكراء إذا انتهى إلى فوهة أرضه من النهر فليس عليه شيء من المؤنة بعد ذلك والأصح أن عليه مؤنة الكراء إلى أن يجاوز حد أرضه كما أشار إليه في الكتاب لأن له رأيا في اتحاد فوهة الأرض من أعلاها وأسفلها فهو منتفع بالكراء منفعة سقي الأرض ما لم يجاوز أرضه ويختلفون فيما إذا جاوز الكراء أرض رجل فسقط عنه مؤنة الكراء هل له أن يفتح الماء لسقي أرضه منهم من يقول له ذلك لأن الكراء قد انتهى في حقه حين سقطت مؤنته ومنهم من يقول ليس له ذلك ما لم يفرغ شركاؤه من الكري كما ليس له أن يسكر على شركائه فيختص بالانتفاع بالمأذون شركاؤه ولأجل التحرز عن هذا الخلاف جرى الرسم بأن يوجد في الكراء من أسفل النهر أو يترك بعض النهر من أعلاه حتى يفرغ من أسفله قال وقال أبو حنيفة رحمه الله فيما أعلم ليس على أهل الشقة من الكراء شيء لأنهم لا يحصون فمؤنة الكراء لا تستحق على قوم لا يحصون ولأنهم لا يستحقون الشفعة لحق الشفعة ولأنهم أتباع والمؤنة على الأصول دون الأتباع.
ألا ترى: أن الدية في القتيل الموجود في المحلة على عاقلة أصحاب الحطة دون المشتريين والسكان قال والمسلمون جميعا شركاء في الفرات وفي كل نهر عظيم أو واد يستقون منه ويسقون منه الشقة والخف والحافر ليس لأحد أن يمنع أحدا من ذلك لأن الانتفاع بمثل هذه الأنهار كالانتفاع بالطرق العامة فكما لا يمنع أحد أحدا من التطرق في الطريق(23/309)
ص -150- ... العام فكذلك لا يمنعه من الانتفاع بهذا النهر العظيم وهذا لأن الماء في هذه الأنهار على أصل الإباحة ليس لأحد فيه حق على الخصوص فإن ذلك الموضع لا يدخل تحت قهر أحد لأن قهر الماء يمنع قهر غيره فالانتفاع به كالانتفاع بالشمس ولكل قوم شرب أرضهم ونخلهم وشجرهم لا يحبس عن أحد دون أحد.
وإن أراد رجل أن يكري منه نهرا في أرضه فإن كان ذلك يضر بالنهر الأعظم لم يكن له ذلك وإن كان لا يضر به فله ذلك بمنزلة من أراد الجلوس في الطريق فإن كان لم يضر بالمارة لم يمنع من ذلك وإن كان يضر بهم في المنع من التطرق يمنع من ذلك لكل واحد منعه من ذلك الإمام وغيره في ذلك سواء فكذلك في النهر الأعظم فإن كسر ضفة النهر الأعظم ربما يضر بالناس ضررا عاما من حيث أن الماء يفيض عليهم وقال عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" في الإسلام وعند خوف الضرر يمنع من ذلك لدفع الضرر وعلى السلطان كراء هذا النهر الأعظم إن احتاج إلى الكراء لأن ذلك من حاجة عامة المسلمين ومال بيت المال معد لذلك فإنه مال المسلمين أعد للصرف إلى مصالحهم.
ألا ترى: أن مال القناطر والجسور والرباطات على الإمام من مال بيت المال فكذا كراء هذا النهر الأعظم وكذلك إصلاح مسناته إن خاف منه غرقا.
فإن لم يكن في بيت المال مال فله أن يجبر المسلمين على ذلك ويحرجهم لأن المنفعة فيه للعامة ففي تركه ضرر عام والإمام نصب ناظرا فيثبت له ولاية الإجبار فيما كان الضرر فيه عاما لأن العامة قل ماينفقون على ذلك من غير إجبار وفي نظيره قال عمر رضي الله عنه لو تركتم لبعتم أولادكم.
وليس هذا النهر خاص لقوم ليس لأحد أن يدخل عليهم فيه ولهم أن يمنعوا من أراد أن يسقي من نهرهم أرضه وشجره وزرعه لأن ذلك شركة خاصة.
ألا ترى: أنهم يستحقون به الشفعة بخلاف الشركة في الوادي والأنهار العظام فإنه لا تستحق به الشفعة ثم في الشركة الخاصة التدبير في الكراء إليهم ومؤنة الكراء عليهم في مالهم.(23/310)
وإن طلب بعض الشركاء فللإمام أن يجبر الباقين على ذلك لدفع الضرر فأما إذا اتفقوا على ترك الكراء ففي ظاهر الرواية لا يجبرهم الإمام على ذلك كما لو امتنعوا من عمارة أراضيهم ودورهم وقال بعض المتأخرين من أصحابنا رحمهم الله يجبرهم على ذلك لحق أصحاب الشقة في النهر قال أبو يوسف وسألت أبا حنيفة رحمه الله عن الرجل استأجر النهر يصيد فيه السمك أو استأجر جهة يصيد فيها السمك قال لا يجوز لأن المقصود بهذا الاستئجار ما هو عين وهو السمك ولأن السمك في النهر والأجمة على أصل الإباحة لا اختصاص به لصاحب النهر والأجمة فلا يكون له أن يأخذ العوض عنهم بطريق الإجارة والبيع ثم استئجار النهر لصيد السمك كاستئجار المقابض للاصطياد فيها وذلك كله من باب الغرر.(23/311)
ص -151- ... ولو اشترى عشر نهر أو عشر قناة أو بئر أو عين ماء بأرضه جاز لأن الأرض أصلها مملوكة فقد اشترى جزءا مملوكا معلوما من عين مملوكة مقدور التسليم بخلاف ما لو اشترى الشرب بغير أرضه وهو بمنزلة ما لو باع عشر الطريق يجوز بخلاف ما لو باع حق التطرق فيه ولو استأجر حوضا أو بركة أو بئرا يستقي منه الماء كل شهر بأجر مسمى لم يجز لأن المقصود الماء وهو عين لا يستحق إتلافه بالإجارة.
نهر جار لرجل في أرض رجل فادعى كل واحد منهما المسناة ولا يعرف في يد من هي قال أبو حنيفة رحمه الله هي لرب الأرض يغرس فيها ما بدا له وليس له أن يهدمها وقال أبو يوسف ومحمد المسناة لصاحب النهر وأصل المسألة أن من حفر نهرا بإذن الإمام في موضع لا حق لأحد فيه عند أبي حنيفة لا يستحق له حريما وعندهما يستحق له حريما من الجانبين لملقى طينه والمشي عليه لإجراء الماء في النهر وحريم النهر عندهما بقدر عرض النهر حتى إذا كان قدر عرض النهر بقدر ثلاثة أذرع فله من الحريم بقدر ثلاثة أذرع من الجانبين جميعا وفي اختيار الطحاوي رحمه الله من كل جانب ذراع ونصف وفيما نقل عن الكرخي رحمه الله أنه يستحق من كل جانب بقدر عرض النهر عندهما فاستحقاق الحريم لأجل الحاجة وصاحب النهر محتاج إلى ذلك كصاحب البئر والعين ومتى كان المعنى في المنصوص عليه معلوما تعدى الحكم بذلك المعنى إلى الفرع وحاجة صاحب النهر إلى المشي على حافتي النهر ليجري الماء في النهر إذا احتبس بشيء وقع في النهر فإنه لا يمكنه أن يمشي في وسط النهر وكذلك يحتاج إلى موضع يلقي فيه الطين من الجانبين عند الكراء لما في النقل إلى أسفله من الحرج ما لا يخفى وأبو حنيفة رحمه الله يقول استحقاق الحريم ثابت بالنص بخلاف القياس فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه والنهر ليس في معنى البئر والعين لأن الحاجة إلى الحريم هناك متحققة في الحال وهنا الحاجة موهومة باعتبار الكراء وقد يحتاج إلى ذلك وقد لا(23/312)
يحتاج ثم هناك الانتفاع لا يتأتى بالبئر بدون الحريم وهنا يتأتى إلا في أن يلحقه ذلك بعض الحرج في نقل الطين أو المشي في وسط النهر فإذا لم يكن هذا في معنى المنصوص يؤخذ فيه بأصل القياس.
ألا ترى: أن من بني قصرا في مغارة لا يستحق لذلك حريما وإن كان قد يحتاج إلى ذلك لإلقاء الكناسة فيه وهذا لأن استحقاق الحريم لا يكون بدون التقدير فيه ونصب المقادير بالرأي لا يكون فإذا ثبت أن من أصلهما أن صاحب النهر يستحق الحريم قلنا عند المنازعة الظاهر شاهد له وعند أبي حنيفة لما كان لا يستحق للنهر حريما فالظاهر شاهد لصاحب الأرض.
وعلى سبيل الابتداء في هذه المسألة هما يقولان عند المنازعة القول قول ذي اليد وصاحب النهر مستعمل لحريم النهر لاستمساك الماء في النهر وإلقاء الطين عليه والاستعمال يدفعها فباعتبار أنه في يده جعل القول قوله كما لو اختصما في ثوب وأحدهما لابسه وأبو(23/313)
ص -152- ... حنيفة يقول الحريم من جنس الأرض صالح لما تصلح له الأرض وليس من جنس النهر ومن حيث الانتفاع كما أن صاحب النهر يمسك الماء بالحريم في نهره فصاحب الأرض يدفع الماء بالحريم عن أرضه فقد استويا في استعمال الحريم ويترجح جانب صاحب الأرض من الوجه الذي قررنا فكان الظاهر شاهدا له فله أن يغرس فيه ما بدا له من الأشجار ولكن ليس له أن يهدمه لأن لصاحب النهر حق استمساك الماء في نهره فلا يكون لصاحب الأرض أن يبطل حقه بهدمه بمنزلة حائط لرجل ولآخر عليه جذوع لا يكون لصاحب الحائط أن يهدم الحائط وإن كان مملوكا له لمراعاة حق صاحب الجذوع.
وإذا قال الرجل لرجل اسقني يوما من نهرك على أن أسقيك يوما من نهري الذي في مكان كذا لم يجز لأن معاوضة الماء بالماء لا تجوز وإن كان البدل معلوما لجهالة الشرب ومعنى الغرر فلأن لا تجوز معاوضة الشرب بالشرب ومعنى الغرر والجهالة فيه أظهر وأولى وكذا لو قال اسقني يوما نخدمك عبدي هذا شهرا أو برقبته أو بركوب دابتي هذه شهرا أو بركوبها كذا كذا يوما وما أشبه ذلك فهو كله باطل لمعنى الغرر والجهالة وعلى الذي أخذ العبد رده إن كان قائما بعينه وقيمته إن كان مستهلكا وإن كان شرط خدمته شهرا وقد استوفاها فعليه أجر المثل لأن خدمة العبد ورقبته محل للعقد فإذا استوفاه بحكم عقد فاسد كان عليه عوضه وليس له بما أخذ الآخر من شربه قيمة ولا عوض لأن الشرب ليس بمحل للعقد فلا يتناوله العقد فاسدا ولا جائزا وكل عقد لا جواز له بحال فهو كالإذن فكما أنه لو سقى أرضه بإذنه لم يكن عليه من عوض الماضي فكذا بحكم العقد الباطل فيه لا يتقوم فلا يلزمه شيء.(23/314)
وسئل أبو يوسف عن نهر مرو وهو نهر عظيم قريب من الفرات إذا دخل مرو كان ماؤه قسمة بين أهله بالحصص لكل قوم كوى معروفة فأخذ رجل أرضا كانت مواتا ولم يكن لها من ذلك النهر شرب ثم كرى لها نهرا من فوق مرو في موضع لا يملكه أحد فساق الماء إليها من ذلك النهر العظيم قال إن كان هذا النهر يضر بأهل مرو ضررا بينا في مائهم فليس له ذلك ويمنعه السلطان منه وإن كان لا يضر بهم فله ذلك ولم يكن لهم أن يمنعوه لأن الماء في هذا الوادي على أصل الإباحة ولكل واحد من المسلمين حق الانتفاع به إذا كان لا يضر بغيره وهذا لأنه ما لم يدخل في المقاسم لا يصير الحق فيه خالصا للشركاء ولهذا وضع المسألة فيما إذا كرى نهرا من فوق مرو فإذا كان لا يضر بهم فبصرفه لا يمس حقوقهم ولا يلحق الضرر بهم فلا يمنعوه من ذلك وإذا كان يضر بهم فكل أحد ممنوع من أن يلحق الضرر بغيره فكيف لا يمنع من إلحاق الضرر بالعامة والسلطان نائب عنهم في النظر لهم فيمنعه من ذلك لا بطريق أنه يختص به بل لأنه إلى تسكين الفتنة أقرب فأما لكل أحد أن يمنعه من ذلك والضرر يتوهم من وجهين أحدهما من حيث كسر ضفة الوادي والثاني أنه يكثر دخول الماء في هذا النهر وربما يتحول أكثر الماء إلى هذا الماء ليضر بأهل مرو.
وقيل له فإن كان رجل له كوى معروفة أله أن يزيد فيها قال إن كانت الكوى في(23/315)
ص -153- ... النهر الأعظم فزاد في ملكه كوة أو كوتين ولا يضر ذلك بأهل النهر فله ذلك لأن الماء في النهر الأعظم لم يقع في المقاسم بعد فهو على أصل الإباحة كما كان قبل أن يدخل مرو فزيادة كوة أو كوتين في خالص ملكه لا يكون أقوى من سبق نهر ابتداء من هذا النهر الأعظم وهو غير ممنوع من ذلك كما بينا فهذا مثله.
فإن كان نهر خاص لقوم فأخذ من هذا النهر الأعظم لكل رجل منهم في هذا النهر كوى مسماة لشربه لم يكن لأحد منهم أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهل النهر الخاص لأن الماء في هذا النهر الخاص قد وقع في المقاسمة والشركة في هذا النهر شركة خاصة حتى يستحق فيها الشفعة وليس لبعض الشركاء أن يزيد فيما يستوفي على مقدار حقه سواء أضر ذلك بالشركاء أو لم يضر فزيادة كوة في فوهة أرضه يكون ليزداد فيه دخول الماء على مقدار حقه وهو كالشركاء في الطريق ليس لأحدهم أن يحدث فيه طريقا لدار لم يكن لها طريقا في هذه السكة الخاصة بفتح باب حادث.
فإن قيل كيف يمنع من إحداث الكوة في لوح هو خالص ملكه.
قلنا لأن الكوى منهم سبب لبيان مقدار كل واحد منهم فلو لم يمنع من ذلك لكان إذا تقادم العهد ادعى لنفسه زيادة حق واستدل بالكوى إن كان الماء يدخل في هذه الكوى في الحال فسبب المنع ظاهر فإن ما يدخل في هذه الكوى زيادة على حقه في النهر وكان هذه المسائل سأل عنها إبراهيم بن رستم وأبو عصمة سعد بن معاذ المرويان أبا يوسف أو بن المبارك رضي الله عنهم.(23/316)
ثم فرع محمد رحمه الله على ذلك فقال فسألته هل لأحد من أهل هذا النهر الخاص أن يتخذ عليه رحا ماء يكري لها نهرا منه في أرضه يسيل فيه ماء النهر ثم يعيده إليه وذلك لا يضر بأهل الشرب قال ليس له ذلك لأنه من أعلاه إلى أسفله مشترك بينهم فليس لأحد منهم أن يحدث فيه حدثا ولا يتخذ عليه جسرا ولا قنطرة إلا برضاهم بمنزلة طريق خاص بين قوم والجسر اسم لما يوضع ويرفع مما يتخذ من الخشب والألواح والقنطرة ما يتخذ من الآجر والحجر ويكون موضوعا ولا يرفع وكل ذلك يحدثه من يتخذه في ملك مشترك فلا يملكه إلا برضاهم سواء كان منهم أو من غيرهم ثم من يتخذه إذا كرى له نهرا منه ففيه كسر ضفة النهر وتغيير الماء عن سننه فلا بد أن ينتقص الماء منه فإنه إذا كان يجري على سننه لا يتبين فيه نقصان وإذا انفرج يتبين فيه النقصان وإن عاد إلى النهر وكذلك العين أو البركة يكون بين قوم فالشركة فيهما خاصة كما بينا.
وسألته عن نهر بين رجلين له خمس كوى من هذا النهر الأعظم وأحد الرجلين أرضه في أعلى هذا النهر والآخر أرضه في أسفل هذا النهر فقال صاحب الأعلى إني أريد أن أشد بعض هذه الكوى لأن ماء النهر يكثر فيفيض في أرضي وأتأذى منه ولا يبلغك حتى يقل فيأتيك منه ما ينفعه قال ليس له ذلك لأنه يقصد الإضرار بشريكه ثم ضرر النزلاء يلحق(23/317)
ص -154- ... صاحب الأعلى بفعل صاحب الأسفل بل تكون أرضه في أعلى النهر وبمقابلة هذا الضرر منفعة إذا قل الماء ولو سد بعض الكوى يلحق صاحب الأسفل ضرر لنقصان صاحب الأعلى وهو ممنوع من ذلك كما لو أراد أن يسكر النهر وكذلك لو قال اجعل لي نصف هذا النهر ولك نصفه فإذا كان في حصة سددت منها ما بدا لي وأنت في حصتك تفتحها كلها فليس له ذلك لأن القسمة قد تمت بينهما مرة بالكوى فلا يكون لأحد أن يطالب بقسمة أخرى وفي القسمة الأولى الانتفاع بالماء لكل واحد منهما مستدام وفيما يطالب هذا به يكون انتفاع كل واحد منهما بالماء في بعض المدة وربما يضر ذلك بصاحب الأسفل فإن تراضيا على ذلك فلهما ما تراضيا عليه فإن أقاما على هذا التراضي زمانا ثم بدا لصاحب الأسفل أن ينقض فله ذلك لأن كل واحد منهما معير لصاحبه نصيبه من الشرب في نوبته من الشهر وللمعير أن يرجع متى شاء وكذلك لورثته بعد موته لأنهم خلفاؤه في ذلك وهذا لأنه لا يمكن أن يجعل ما تراضيا عليه مبادلة فإن بيع الشرب بالشرب وإجارة الشرب بالشرب باطل.
وسألته عن نهر بين رجلين لهما أربع كوى فأضاف إليها رجل أجنبي كوتين في نهرهما برضاهما حتى إذا انتهى إلى أسفل النهر كرى منه نهرا إلى أرضه ثم بدا لأحدهما أن ينقضه بعد زمان أو بدا لورثته أو لبعضهم بعد موته نقضه فله ذلك لأنهم أعاروا الأجنبي النهر ليجري ماءه فيه إلى نهره خاصة فلهم أن يستردوا العارية متى شاؤوا لكل واحد منهم ذلك في نصيبه.
ألا ترى: أن لأحدهم أن يأبى ذلك في الابتداء فله أن ينقضه أيضا في الانتهاء وهذا لأن رضا بعض الشركاء معتبر في حقه لا في حق بقية الشركاء.
ألا ترى: أن من أراد أن يتطرق في طريق مشترك شركة خاصة فيرضى به بعض الشركاء دون البعض لم يكن له أن يتطرق فيه وهذا لأنه لا يتصور انتفاعه بنصيب التراضي على الخصوص بل يكون انتفاعه بنصيب جميع الشركاء فليس له أن ينتفع بنصيب المانع إلا برضاه.(23/318)
وسألته عن نهر خاص من النهر الأعظم بين قوم لكل واحد منهم نهر منه فمنهم من يكون له كوتان ومنهم من يكون له ثلاث فقال صاحب الأسفل لصاحب الأعلى إنكم تأخذون أكثر من نصيبكم لأن دفقة الماء وكثرته وفي رواية لأن دفعة الماء وكثرته من أعلى النهر فدخل في كواكم شيء كثير ولا ماء هنا إلا وهو قليل غائر فنحن نريد أن ننقصكم بقدر ذلك ونجعل لكم أياما معلومة ونسد فيها كوانا ولنا أياما معلومة تسدون فيها كواكم قال ليس لهم ذلك ويترك على حاله كما كان قبل اليوم لأنها قسمت مرة فلا يكون لبعضهم أن يطالب بقسمة أخرى ثم الأصل أن ما وجد قديما فإنه يترك على حاله ولا يغير إلا بحجة وقد ذكرنا هذا في أول الوكالة في حديث عثمان رضي الله عنه حيث قال أرأيت هذا الضفير أكان على عهد عمر رضي الله عنه ولو كان جور الماء تركه عمر رضي الله عنه وكذلك إن قال أهل الأسفل نحن نريد أن نوسع رأس النهر ونزيد في كواه وقال أهل الأعلى إن فعلتم ذلك كثر الماء حتى يفيض في أرضنا وينز لم يكن لأهل الأسفل أن يحدثوا فيه شيئا لم يكن,(23/319)
ص -155- ... لأنهم يتصرفون فيما هو مشترك على وجه يضر ببعض الشركاء فيمنعون من ذلك وإن باع رجل منهم كوة له فيه كل يوم بشيء معلوم أو أجرة لم يجز لأنه غرر لا يعرف وهو ليس بملك وبيع مجرد الحق باطل.
وسألته عن هذا النهر إذا خافوا أن ينبثق وأرادوا أن يحصنوه فامتنع بعضهم من الدخول معهم قال إن كان فيه ضرر عام أجبرتهم جميعا على تحصينه بالحصص لأن في ترك الإجبار هنا تهييج الفتنة وتسكين الفتنة لازم شرعا فلأجل التسكين يجبرهم الإمام على تحصينه بالحصص فإن لم يكن فيه ضرر عام لم أجبرهم عليه وأمرت كل إنسان أن يحصن نصيب نفسه يعني بطريق الفتوى لأن التدبير في الملك يكون إلى المالك فإذا لم يكن فيه ضرر عام كان له رأي في ذلك من التعجيل والتأجيل وربما لا يتمكن منه في كل وقت ولا يتفرغ لذلك بخلاف الكري فإن بعض الشركاء في هذا النهر الخاص إذا امتنع من الكري أجبر عليه إذا طلبه بعض الشركاء لأن ذلك شيء قد التزموه عادة فحاجة النهر إلى الكري في كل وقت معلوم بطريق العادة فالذي يأبى الكري يريد قطع منفعة الماء عن نفسه وشركائه وليس له ذلك فلهذا أجبر عليه فأما البثق فموهوم غير معلوم الوقوع عادة فإذا لم يكن فيه ضرر عام لا يجبر الممتنع من ذلك لحق موهوم لشريكه.
وسألته عن رجل اتخذ في أرض له رحا ماء على هذا النهر الأعظم الذي للعامة مفتحة في أرضه ومصبه في أرضه لا يضر بأحد فأراد بعض جيرانه أن يمنعوه من ذلك قال ليس له أن يمنعه لأن تصرفه في خالص ملكه وشق نهر من هذا النهر الأعظم لمنفعة الرحا كشق نهر من هذا النهر الأعظم ليسقي به أرضا أحياها وقد بينا أنه لا يمنع من ذلك لأنه لم يدخل الماء في المقاسم بعد فهذا مثله.(23/320)
قال وسألته عن هذا النهر الأعظم إذا كانت عليه أرض لرجل خدها الماء فنقص الماء وجرز عن أرض فاتخذها هذا الرجل وجرها إلى أرضه قال ليس له ذلك لأن الأرض جرز عنها الماء من النهر الأعظم وهو حق العامة قد يحتاجون إليه إذا كثر الماء في النهر الأعظم أو تحول إلى هذا الجانب فليس له أن يجعلها لنفسه بأن يضمها إلى أرضه إذا كان ذلك يضر بالنهر ومنهم من يروي جرز وهو صحيح قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27]وسألته فقلت بلغني أن الفرات بأرض الجزيرة يجرز عن أرض عظيمة فيتخذها الرجل مزرعة وهي في حد أرضه قال ليس له ذلك إذا كان يضر بالفرات لأن هذا حق عامة المسلمين وإن كان لا يضر بالفرات فله ذلك عندهما بغير إذن الإمام وعند أبي حنيفة رحمه الله إذن الإمام بمنزلة إحياء الموات قال وإذا حصنها من الماء فقد أحياها لأن هذه الأرض صالحة للزراعة وإن كان لا يتمكن من زراعتها لأجل الماء فإذا حصنها منه فقد أحياها فأما سائر الأراضي فبمجرد التحصين لا يتم الإحياء بل ذلك تحجر فإنها إنما تصير صالحة للزراعة إذا أحرق الحصائد فيها وبقي الحشيش منها وكربها فبذلك يتم إحياؤها(23/321)
ص -156- ... وسألته عن نهر بين قوم يأخذ من هذا النهر الأعظم له فيه كوى مسماة ولكل رجل منهم نهر من هذا النهر الخاص فأراد رجل أن يسد كوة له ويفتح كوة أعلى من تلك في ذلك النهر قال ليس له ذلك لأنه يكسر ضفة النهر المشترك ويريد أن يزيد في حقه لأن دخول الماء في أعلى النهر من كوة يكون أكثر من دخوله في أسفل النهر في مثل تلك الكوة وهذا بخلاف الطريق فمن يكون طريقه في أعلى السكة الخاصة إذا أراد أن يجعله في أسفل السكة لا يمنع منه لأن هناك هو بتصرفه لا يزيد في حقه فهو الذي يتطرق في ذلك الطريق سواء كان باب داره في أعلى السكة أو في أسفلها ثم هناك إنما يتصرف في حائط هو ملكه بفتح باب في أسفله.
ألا ترى: أنه لو أراد أن يفتح بابين أو ثلاثة أو يرفع جميع الحائط لم يمنعه أحد من ذلك بخلاف الكوى فإنه إن أراد أن يزيد كوة أخرى منع من ذلك فكذلك إذا أراد أن يحولها من جانب إلى جانب.
وسألته عن هذه الكوى لو أراد صاحبها أن يكريها فيسفلها عن موضعها ليكون أكثر لأخذها من الماء قال له ذلك لأنه بالكري يتصرف في خالص ملكه.
ألا ترى: أن له أن يكري جميع النهرفكذلك له أن يكري هذا الموضع.
قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول هذا إذا علم أنها في الأصل كانت مسفلة فارتفعت بانكباس ذلك الموضع من الماء فإنه بالكري يعيدها إلى الحالة الأولى وذلك حقه فأما إذا علم أنها كانت بهذه الصفة فأراد أن يسفلها منع من ذلك لأنه يريد أن يزيد على مقدار حقه من الماء وكذلك إن أراد أن يرفع الكوى وكانت متسفلة ليكون أقل للماء في أرضه فله ذلك وعلى ما قال شيخنا الإمام رحمه الله هذا إذا كان هو بالرفع يعيدها إلى ما كانت عليه في الأصل فأما إذا أراد أن يغيرها عما كانت عليه في الأصل فيمنع عنه.(23/322)
"قال الشيخ الإمام رحمه الله" والأصح عندي أنه لا يمنع على كل حال لأن القسمة في الأصل باعتبار سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار السفل والترفع هو العادة بين أهل مرو فإنما يمنع من يوسع الكوة ويضيقها ولا يمنع من أن يسفلها أو يرفعها لأنه ليس فيه تغيير ما وقعت القسمة عليه.
وسألته عن نهر خاص لرجل من هذا النهر الخاص أراد أن يقنطر فيه ويستوثق منه قال له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه وإن كان مقنطرا أو مستوثقا منه فأراد أن ينقص ذلك لعلة أو غير علة فإن كان ذلك لا يزيد في أخذ الماء فله ذلك لأنه يرفع بناء هو خالص ملكه وإن كان يزيد في أخذه الماء منع منه لحق الشركاء فإن أراد أن يوسع فم النهر منع من ذلك لأنه بهذا التوسع يرفع ضفة النهر المشترك من الجانبين وهو ممنوع من ذلك ثم يزيد على هذا مقدار حصة في أصل الماء أما في الموضع الذي لا تكون القسمة بالكوى فغير مشكل أو في الموضع الذي تكون القسمة بالكوى إذا وسع فم النهر احتبس الماء في ذلك الموضع فيدخل(23/323)
ص -157- ... في كواه أكثر مما يدخل إذا لم يوسع فم النهر وكذلك إذا أراد أن يؤخر الكوى عن فم النهر فجعلها في أربعة أذرع من فم النهر إلى أسفله فليس له ذلك لأن الماء يحتبس في ذلك الموضع فيدخل في كواه أكثر مما يدخل إذا كانت الكوى في فم النهر.
وسألته عن رجل مات ممن له هذا الشرب قال الشرب ميراث بين ورثته لأنهم خلفاؤه يقومون مقامه في أملاكه وحقوقه وقد تملك بالميراث ما لا يملك بسائر أسباب الملك كالقصاص والدين والخمر يملك بالإرث فكذلك الشرب وإن أوصى فيه بوصية جاز لأن الوصية أخت الميراث ثم ما امتنع البيع والهبة والصدقة في الشرب للغرور والجهالة أو لعدم الملك فيه في الحال والوصية بهذه الأسباب لا تبطل.
ألا ترى: أن الوصية بما يثمر نخيله العام يصح فكذلك الوصية بالشرب وسألته عن أمير خراسان إذا جعل لرجل شربا في هذا النهر الأعظم وذلك الشرب لم يكن فيما مضى أو كان له شرب كوتين فزاد مثل ذلك وأقطعه إياه وجعل مفتحه في أرض يملكها الرجل أو في أرض لا يملكها قال إن كان ذلك يضر بالعامة لم يجز فإن كان لا يضر بهم فهو جائز إذا كان ذلك في غير ملك أحد لأن للسلطان ولاية النظر دون الإضرار بالعامة ففيما لا يضر بالعامة يكون هذا الإقطاع منه نظرا لمن أقطعه إياه وفيما يضر بهم يكون هذا الإقطاع إضرارا بالعامة وليس له ذلك يوضحه أن فيما يضر بهم لكل واحد منهم أن يمنع من ذلك فالإمام في الإقطاع يكون مبطلا حقه وله ولاية استيفاء حق العامة لا ولاية الإبطال وفيما لا يضر بهم قد كان له أن يحدث ذلك بغير إقطاع من الإمام فبعد الإقطاع أولى.(23/324)
وإذا أصفى أمير خراسان شرب رجل وأرضه وأقطعها لرجل آخر لم يجز ويرد إلى صاحبها الأول وإلى ورثته والمراد بالإصفاء الغصب ولكن حفظ لسانه ولم يذكر لفظ الغصب في أفعال السلاطين لما فيه من بعض الوحشة واختار لفظ الإصفاء ليكون أقرب إلى توقير السلطان وكان أبو حنيفة رحمه الله يوصي أصحابه بذلك فينبغي للمرء أن يكون مقبلا على شأنه حافظا للسانه موقرا لسلطانه ثم في هذا الفعل السلطان كغيره شرعا قال النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" وتمليك ملك غيره من غير المالك يكون لغوا فيجب رد ذلك على صاحبه إن كان حيا وعلى ورثته بعد موته وهكذا فيما حازه لنفسه من أملاك الناس.
ألا ترى: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما استخلف أمر برد أموال بيت المال على أربابها لأن من كان قبله من بني أمية كانوا أخذوها ظلما.
وإذا تزوج الرجل المرأة على شرب بغير أرض فالنكاح جائز وليس لها من الشرب شيء لأن الشرب بدون الأرض لا يحتمل التمليك بعقد المعاوضة ولأنه ليس بمال متقوم ولهذا لا يضمن بالإتلاف بعقد ولا بغيره ثم هو مجهول جهالة متفاحشة فلا يصح تسميته ولكن(23/325)
ص -158- ... بطلان التسمية لا يمنع جواز النكاح بمنزلة ترك التسمية فيكون لها مهر مثلها إن دخل بها والمتعة إن طلقها قبل الدخول بها.
ولو أن امرأة اختلعت من زوجها على شرب بغير أرض كان باطلا ولا يكون له من الشرب شيء ولكن الخلع صحيح وعليها أن ترد المهر الذي أخذت لأنها أطمعت الزوج بهذه التسمية فيما هو مرغوب فيه فتكون غارة له بهذه التسمية والغرور في الخلع يلزمها رد ما قبضت كما لو اختلعت بما في بيتها من المتاع فإذا ليس في بيتها شيء والصلح في الدعوى على الشرب باطل لأن المصالح عليه مما لا يملك بشيء من المعقود وقد بينا أن ما لا يستحق بشيء من المعقود فالصلح عليه باطل وصاحب الدعوى على دعواه وحقه فإن كان قد شرب من ذلك الشرب مدة طويلة فلا ضمان عليه فيه لأن الشرب ليس بمحل للعقد أصلا فكان العقد فيه كالإذن المطلق فإن كان الصلح عليه من قصاص في نفس أو فيما دونه فالصلح باطل وجاز العفو وعلى القاطع الدية وأرش الجراحة لأن الصلح من القود على شرب نظير الخلع على معنى أن جهالة البدل وإن تفاحشت في كل واحد منهما فالخلع والصلح صحيح باعتبار أنه إسقاط ليس فيه تمليك إلا أن في الصلح عن القود إذا لم يثبت المسمى وتمكن في التسمية معنى الغرور يجب رد الدية وفي الخلع يجب رد المقبوض لأن النفس تتقوم بالدية والبضع عند خروجه من ملك الزوج لا يتقوم فيجب رد المقبوض لدفع الضرر والغرور.(23/326)
ولو مات صاحب الشرب وعليه ديون لم يبع في دينه إلا أن يكون معه أرض فيباع مع أرضه لأن في حال حياته كان لا يجوز منه بيع الشرب بدون الأرض فكذا بعد موته وقد تكلم مشايخنا رحمهم الله في أن الإمام ماذا يصنع بهذا الشرب فمنهم من يقول يتخذ حوضا ويجمع فيه ذلك الماء في كل يومه ثم يبيع الماء الذي جمعه في الحوض بثمن معلوم فيقضي به الدين. "قال الشيخ الإمام الأجل" رحمه الله والأصح عندي أنه ينظر صاحب أرض ليس له شرب فيضم ذلك الشرب إلى أرضه ويبيعهما برضاه ثم ينظر إلى قيمة الأرض بدون الشرب ومع الشرب فيجعل تفاوت ما بينهما من الثمن مصروفا إلى قضاء دين الميت وما وراء ذلك لصاحب الأرض وإن لم يجد ذلك اشترى على تركة هذا الميت أرضا بغير شرب ثم ضم هذا الشرب إليها وباعها فيصرف الثمن إلى قضاء ثمن الأرض المشتراة وما يفضل من ذلك للغرماء وكذلك لو أوصى أن يباع من هذا الرجل أو يوهب له أو يتصدق عليه كان ذلك باطلا لأنه لو باعه بنفسه في حياته لم يجز فكذلك إذا أوصى أن يباع منه بعد موته قال إلا أن يكون معه أرض فيجوز من ثلثه يريد الهبة أو الصدقة أو المحاباة في البيع فإن ذلك يجوز من ثلثه قال وإن أوصى أن يسقي أرض فلان يوما أو شهرا أو سنة من شربه أجزت ذلك من ثلثه لما بينا أن الوصية بالشرب كالوصية بالغلة المجهولة وذلك ينفذ من ثلثه وإن مات الذي له الوصية بطلت وصيته في الشرب قال وهي بمنزلة الخدمة يعني إذا أوصي بخدمة عبده(23/327)
ص -159- ... لإنسان فمات الموصى له بطلت الوصية وهذا لأن الشرب كالمنفعة إلا أنها مجهولة جهالة لا تقبل الإعلام والخدمة تقبل الإعلام ببيان المدة فيجوز استحقاقها بالإجارة إذا كانت معلومة فيجوز استحقاقها بالوصية من الثلث وإن لم يكن معلوما ببيان المدة فكذلك استحقاق الشرب بالوصية يجوز وإن كانت مجهولة ولكن الاستحقاق للموصى له باعتبار حاجته فيبطل بموته لأن الورثة يخلفونه فيما كان ملكا أو حقا متأكدا له وذلك غير موجود في الشرب كما في الخدمة.
فإن أوصى أن يتصدق بشربه على المساكين فهذا باطل لأن حاجة المساكين إلى الطعام دون الماء وإنما يحتاج إلى الشرب من له أرض وليس للمساكين ذلك ولا بدل للشرب حتى يصرف بدله إلى المساكين فإنه لا يحتمل البيع والإجارة فكان باطلا وكذلك لو قال في حياته هو صدقة في المساكين إن فعلت كذا ففعله لم يلزمه شيء لأنه لا طريق لتنفيذ هذه الوصية في عين الشرب ولا في بدله إلا أن يكون معه أرض فحينئذ تصح وصيته ونذره فتنعقد يمينه فإذا حنث يجب تنفيذه في التصدق بعينه أو بقيمته بعد البيع.
ولو أوصى بأن يسقي مسكينا بعينه في حياته فذلك جائز فيه باعتبار عينه كما لو أوصى له بعين بخلاف ما أوصى به في المساكين فتصحيح تلك الوصية باعتبار التقرب إلى الله تعالى يجعل شيء من ماله خالصا لله تعالى ليكون مصروفا إلى سد خلة المحتاجين وذلك لا يتأتى في الشرب بدون الأرض.(23/328)
ولو باع الشرب بعبد وقبض العبد وأعتقه جاز عتقه ويضمن قيمته لأن العقد في العبد فاسد فإن شراء العبد من غير تسمية الثمن يكون فاسدا فكذلك عند تسمية الشرب والمشتري شراء فاسدا يملك بالقبض فينفذ العتق فيه وعلى المشتري ضمان القيمة وكذلك لو كانت أمة فوطئها فولدت منه كانت أم ولد وعليه قيمتها وعقرها وذكر هذه المسألة في موضع آخر من هذا الكتاب ولم يذكر العقد وهو الأصح وقد قال في البيوع في المشتراة شراء فاسدا وليس عليه عقر في وطئها وقد بينا في البيوع وجه الروايتين والتوفيق بينهما وكذلك لو أجره بعبد فأعتقه لأن البدل في الإجارة إذا كان عينا فهو كالمبيع فيصير مملوكا بالقبض وينفذ العتق فيه ويجب رد قيمته.
ولو ادعى شربا في يدي رجل أنه بغير أرض فإنه ينبغي في القياس أن لا يقبل منه ذلك لأن شرط صحة الدعوى إعلام المدعى في الدعوى والشهادة والشرب مجهول جهالة لا تقبل الإعلام ولأنه يطلب من القاضي أن يقضي له بالملك في المدعي إذا أثبت دعواه بالبينة والشرب لا يحتمل التمليك بغير أرض فلا يسمع القاضي فيه الدعوى والخصومة كالخمر في حق المسلمين ولكن في الاستحسان يقبل ببينة ويقضي له به لأن الشرب مرغوب فيه ومنتفع به وقد يكون الاستحقاق فيه للإنسان منفردا عن الأرض بالميراث والوصية وقد يبيع الأرض بدون الشرب فيبقى له الشرب وحده فإذا استولى عليه غيره كان له أن يدفع الظلم عن نفسه(23/329)
ص -160- ... بإثبات حقه بالبينة ثم القاضي لا يملكه بالقضاء شيئا ابتداء ولهذا لا ينفذ قضاؤه باطنا في الأملاك المرسلة وإنما يظفر بقضاء حقه أو ملكه والشرب يحتمل ذلك.
ألا ترى: أنه يقضي له بالدين بالحجة والدين في ذمة الغير لا يحتمل التمليك ابتداء؟
وإذا كانت لرجل أرض ولرجل فيها نهر يجري فأراد رب الأرض أن لا يجري النهر في أرضه لم يكن له ذلك بل يترك على حاله لأنه وجد كذلك لأن موضع النهر في يد صاحب النهر لأنه مستعمل له بإجراء مائه فيه فعند الاختلاف القول قوله في أنه ملكه فإن لم يكن في يده ولم يكن جاريا سألته البينة على أن هذا النهر له فإن جاء ببينة قضيت به له لإثباته حق نفسه بالحجة وإن لم يكن له بينة على أصل النهر وجاء ببينة أنه كان مجراه في هذا النهر يسوقه إلى أرضه حتى يسقيها منه أجزت ذلك لأنهم شهدوا له بحق مستحق في النهر وهو المجري وقد بينا نظائر هذا في الطريق والمسيل وبينا أن الجهالة هناك لا تمنع قبول الشهادة فكذا المجرى هنا وكذلك المصب إذا كان نهره ذلك يصب في أرض أخرى فمنعه صاحب الأرض السفلى المجري وأقام بينة على أصل النهر أنه له وأقام البينة على أن له فيه مصبا أجزت ذلك لأن المصب كالمسيل ولو أقام البينة أن له مسيل ماء على سطح جاره كانت البينة مقبولة فهذا مثله.
ولو سقى الرجل أرضه أو شجرها أو ملأها ماء فسال من مائها في أرض رجل فغرقها لم يكن عليه ضمانها لأنه في هذا التسبيب غير متعد بل هو متصرف في ملك نفسه وللإنسان أن يتصرف في ملك نفسه مطلقا والمتسبب إذا لم يكن متعديا في تسببه لا يكون ضامنا كحافر البئر وواضع الحجر في ملكه وهو نظير ما لو أوقد النار في أرضه فوقع الحريق بسبب ذلك فإنه لا يكون ضامنا لكونه متصرفا في خالص ملكه وكذلك لو نزت أرض جاره من هذا الماء.(23/330)
ولو اجتمع في هذا الماء سمك فصاده رجل كان للصياد لقوله عليه الصلاة والسلام: "الصيد لمن أخذه" وهو نظير ما لو اصطاد من أرض رجل ظبيا فإنه يكون له دون صاحب الأرض وإن كان لصاحب الأرض أن يمنعه من الدخول في أرضه.
وإذا كانت لرجل أرض فيها مراعي فأجر مراعيها أو باعها كل سنة بشيء مسمى ترعى فيها غنم مسماة فإن ذلك لا يجوز لأن المقصود هو الكلأ وهو على أصل شركة الإباحة لا اختصاص لصاحب المرعى به ثم هذا استئجار المقصود به استهلاك العين وشراء ما هو مجهول لا يعرف فيكون باطلا كبيع الشرب وإجارته.
ولو أخذ صاحب الأرض شيئا من هذا فأحرزه ثم باعه كان جائزا بمنزلة الماء الذي أحرزه في الأواني وهذا لأن ملكه بالإحراز فيه قد تم وهو متقوم لكونه منتفعا به ولو كان زرع رجل قصيلا في أرضه ثم أجره من رجل يرعى فيه غنمه كان باطلا لأن المقصود بهذا الاستئجار استهلاك العين ولأنه إنما يستحق بالإجارة ما لا يجوز بيعه والقصيل عين يجوز(23/331)
ص -161- ... بيعه فلا يستحق بالإجارة على المستأجر قيمة ما رعت غنمه من ذلك لأنه صار مستوفيا مستهلكا له بحكم عقد فاسد وهذا بخلاف الكلأ في المرعى فقد نبت ذاك من غير إنبات أحد فكان على أصل الإباحة المشتري والبائع في الانتفاع به سواء وهذا مما استنبته صاحب الأرض فيكون مملوكا له حتى لو باعه جاز بيعه وإنما لم تجز إجارته لما قلنا ولمعنى الغرر فيه فإذا أتلف ملكا متقوما لغيره بسبب عقد فاسد كان مضمونا عليه بقيمته.
ولو استأجر مرعى لعبد بعينه فرعاه في تلك السنة لم يضمن ما رعى ويأخذ عبده لأن العقد كان فاسدا فيسترد عبده بحكم العقد الفاسد فإن كان المؤاجر قد أعتقه أو باعه جاز ذلك ويضمن قيمته لأنه ملكه بالقبض بحكم عقد فاسد فينفذ عتقه فيه وهذا لأن البيع محل للملك فينفذ العقد مقيدا بحكمه وهو نظير ما إذا اشترى عبدا بشرب بخلاف العبد بالربح فهناك وإن قبض المشتري لا يملكه ولا ينفذ عتقه فيه بمنزلة البيع بالميتة والدم لأن الربح لا يتقوم بالعبد بحال ولا يدخل في العقد أصلا فبتسميته يخرج السبب من أن يكون تمليك مال بمال فأما الشرب والكلأ فمما يجوز أن يستحق بالعقد تبعا للأرض وهو منتفع به شرعا.
ألا ترى: أنه يتصور فيه الإحراز الموجب للملك وبعد الإحراز يكون مالا متقوما فقبل الإحراز ينعقد العقد بتسميته على ما هو محل للتمليك بالعقد فينفذ عتقه فيه بعد القبض.
ولو تزوج امرأة على أن يرعى غنمها في أرضه سنة كان لها مهر مثلها لأن شرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالا متقوما في نفسه أو يستحق بذكره تسليم مال والكلأ والشرب قبل الإحراز ليس بمال فلا تصح تسميته في النكاح ولو أوصى بكلأ في أرضه سنين أو وهبه أو صالح عليه من قصاص أو مال كان القول فيه كالقول في الشرب لاستوائهما في المعنى فكل واحد منهما مبقي على شركة الإباحة قبل الإحراز.(23/332)
ولو أحرق كلأ أو حصائد في أرضه فذهبت النار يمينا وشمالا وأحرقت شيئا لغيره لم يضمنه لأنه غير متعد في هذا التسبب فإن له أن يوقد النار في ملك نفسه مطلقا وتصرف المالك في ملكه لا يتقيد بشرط السلامة قال بعض مشايخنا رحمهم الله وهذا إذا كانت الرياح هادية حين أوقد النار فأما إذا أوقد النار في يوم ريح على وجه يعلم أن الريح يذهب بالنار إلى ملك غيره فإنه يكون ضامنا بمنزلة ما لو أوقد النار في ملك غيره.
ألا ترى: أن من صب في ميزاب مائعا وهو يعلم أن ما تحت الميزاب إنسان جالس فأفسد ذلك المائع ثيابه كان الذي صبه ضامنا وإن كان صبه في ملك نفسه؟
ولو أن رجلا أتى طائفة من البطيحة مما ليس لأحد فيه ملك مما قد غلب عليه الماء فضرب عليه المسناة واستخرجه وأحياه وقطع ما فيه من القصب رأيتها له بمنزلة أرض الميتة وكذلك ما عالج من أجمة أو جزيرة في بحر بعد أن لا يكون لأحد فيه ملك لأن هذا كله من جملة الموات وقد بينا حد الموات فأعاد ذلك هنا وذكر أن كل أرض من السواد والجبال التي لا يبلغها الماء من أرض العرب مما لم يكن لأحد فيها ملك فهو كله من الموات ومراده ما(23/333)
ص -162- ... كان من فناء العمران وقد بينا أن ذلك من حق السكان في العمران ولو أحياه وكان له مالك قبل ذلك رددته إلى مالكه الأول ولم أجعل للثاني فيه حقا ولكنه ضامن لما قطع من قضبها لأن ملك الغير محترم لحرمة المالك فلا يكون له أن يتملك عليه بالإحياء بغير رضاه ولكنه أتلف ما قطع من قضبها وكانت مملوكة لصاحبها فعليه ضمانها وإن كان الثاني قد زرعها فالزرع له وهو ضامن لما نقص من الأرض بمنزلة من غصب أرضا فزرعها.
وإن احتفر الرجل بئرا في مفازة بإذن الإمام فجاء رجل آخر واحتفر في حريمها المذكورة بئرا كان للأول أن يسد ما احتفره الثاني لأن حريم البئر صار مملوكا لصاحب البئر إذا حفر بإذن الإمام والثاني متعد في تصرفه في ملكه فلا يستحق بهذا التصرف شيئا ولأنه ضامن للنقصان وللأول أن يأخذه بسد ما احتفر وهو عرق ظالم ولا حق له بظاهر الحديث وكذلك لو بنى أو زرع أو أحدث فيه شيئا للأول أن يمنعه من ذلك لملكه ذلك الموضع وما عطب في بئر الأول فلا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في حفره وما عطب في بئر الثاني فهو مضمون على الثاني لأنه متعد في تسببه ولو أن الثاني حفر بئرا بأمر الإمام في غير حريم الأول وهي قريبة منه فذهب ماء البئر الأول وعرف أن ذهاب ذلك من حفر الثاني فلا شيء له عليه لأنه غير متعد فيما صنع بل هو محق في الحفر في غير حريم الأول والماء تحت الأرض غير مملوك لأحد فليس له أن يخاصمه في تحويل ماء بئره إلى بئر الثاني كالتاجر إذا كان له حانوت فاتخذ آخر بجنبه حانوتا لمثل تلك التجارة فكسدت تجارة الأول بذلك لم يكن له أن يخاصم الثاني.(23/334)
ولو احتفر قناة بغير إذن الإمام في مفازة ثم ساق الماء حتى أتى به أرضا فأحياها فإنه يجعل لقناته ومخرج مائه حريما على قدر ما يصلحه وهذا بناء على قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله إذا فعل ذلك بإذن الإمام يستحق الحريم للموضع الذي يقع الماء فيه على وجه الأرض فأما إذا كان بغير إذن الإمام فلا وهذا بمنزلة ما لو أخرج عينا إلا أنه تحرز عن بيان المقدار فيه بالرأي ولم يجد في القناة نصا بعينه فقال حريمه بقدر ما يصلحه فأما في الموضع الذي لا يقع ماؤه على الأرض من القناة فبمنزلة النهر إلا أنه يجري تحت الأرض وقد بينا الكلام في الحريم للنهر فكذلك القناة وإذا كانت القناة على هذا الوجه بين رجلين والأرض بينهما ثم استحيا أحدهما أرضا أخرى فأراد أن يسقيها لم يكن له ذلك بمنزلة نهر مشترك بين رجلين وهذا لأنه يريد أن يستوفي أكثر من حقه ويثبت لهذه الأرض الأخرى شربا من هذه القناة فلا يملك ذلك إلا برضا شريكه.
ولو كان نهر بين قوم لهم عليه أرضون لكل رجل منهم أرض معلومة فأراد بعضهم أن يسوق شربه إلى أرض أخرى لم يكن لها في ذلك النهر شرب فيما مضى فليس له ذلك لأنه يستوجب بذلك في النهر غير ما لم يكن له قبل ذلك أما إذا كان يسقي أرضه التي لها شرب من هذا النهر مع ذلك فهو يستوفي أكثر من حقه وإن كان يريد أن يسوق شربه الأول إلى هذه(23/335)
ص -163- ... الأرض الأخرى لم يكن له ذلك أيضا لأنه إذا فعل ذلك وتقادم العهد ادعى للأرض شربا من هذا النهر مع الأول واستدل على ذلك بالنهر المعد لإجراء الماء فيه من ذلك النهر إلى هذه الأرض فهذا معنى قوله يستوجب بذلك في النهر شربا لم يكن له قبل ذلك وكذلك لو أراد أن يسوق شربه في أرضه الأولى حتى ينتهى إلى هذه الأخرى فليس له ذلك لأنه يستوفي فوق حقه فالأرض تنشف بعض الماء قبل أن ينتهي إلى هذه الأرض الأخرى.
ثم هذا بمنزلة طريق بين قوم إذا أراد أحدهم أن يفتح فيه طريقا من دار أخرى وساكن تلك الدار غير ساكن هذه الدار فهو ممنوع من ذلك وقد بينا الفرق في كتاب القسمة بين هذا وبين ما إذا كان ساكن الدارين واحدا وإذا أراد هذا الرجل أن يسقي من هذا النهر نخيلا في أرض أخرى ليس لها في هذا النهر شرب فليس له ذلك كما لو أراد أن يسقي زرعا من هذه الأرض الأخرى.
وإذا استأجر أصحاب النهر رجلا يقسم بينهم الشرب كل شهر بشيء معلوم ويقوم على نهرهم فذلك جائز لأن العقد يتناول منافعه التي توجد في المدة وهي معلومة ببيان المدة والبدل الذي بمقابلتها معلوم وإن استأجروه بشرب من النهر مكان الآخر لم يجز لأن الأجرة إذا كانت معينة فهي كالمبيع والشرب لا يجوز أن يكون مبيعا مقصودا ويكون له أجر مثله لأنه أوفاه منافعه بعقد فاسد ولو أعطوه كفيلا بذلك لم يجز ولو لم يكن على الكفيل شيء لأن الكفيل إنما التزم المطالبة بما هو مستحق على الأصيل وليس على الأصيل من تسليم الشرب شيء فكذلك لا يجب على الكفيل.(23/336)
وإذا احتفر القوم بينهم نهرا على أن يكون بينهم على مساحة أراضيهم وتكون نفقته بينهم على قدر ذلك ووضعوا على رجل منهم أكثر مما عليه غلطا رجع بذلك عليهم لأنهم استوفوا ذلك منه بغير حق فعليهم رده ولو وضعوا عليه أقل من نصيبه رجعوا عليه بالفضل لأنه تبين أنه ما أوفاهم بعض ما كان مستحقا عليه ولم يوجد منهم إسقاط شيء من حقهم عنه فيكون لهم أن يرجعوا عليه بالفضل.
وإذا كان نهر بين قوم فاصطلحوا على أن يسموا لكل رجل منهم شربا مسمى وفيهم الغائب والشاهد فقدم الغائب فله أن ينقض لأن قسمتهم لم تكن بحضرته ولا بحضرة نائبه ولا ولاية لهم عليه في تمييز نصيبه بالقسمة فيكون له أن يبطلها ليستوفي حقه فإن كانوا أوفوه حقه وحازوه وقسموه وأبانوه فليس له أن ينقض لأنه لو نقض احتاج إلى إعادته من ساعته ولا يمكن من النقض لدفع الضرر عن نفسه ولا ضرر عليه في هذا الموضع فكان في النقض متعنتا ولا تجوز الكفالة بثمن الشرب ولا بالأجرة بمقابلة الشرب لأن ذلك ليس بمستحق على المطلوب فلا يصح التزام المطالبة بالكفالة فإن نقد الكفيل الثمن رجع به على البائع الذي نقده إن شاء لأنه استوفى منه ما لم يكن مستحقا له وإن شاء رجع به على(23/337)
ص -164- ... المشتري لأنه أدى عنه بأمره ثم يرجع به المشتري على البائع لأنه ملك المؤدي بالضمان فكان بمنزلة ما لو أداه بنفسه.
وإذا وكل رجل وكيلا بشربه يسوقه إلى أرضه ويقوم عليه فهو جائز لأن جهة الانتفاع بالشرب تتعين وقد أناب الوكيل فيه مناب نفسه فلا يحتاج بيانه لصحة التوكيل لأن الحاجة إلى البيان لتمكن الوكيل من تحصيل مقصود الموكل وذلك فيما لا تكون الجهة متعينة فيه وليس له أن يبيع شرب أرضه كما ليس لصاحب الشرب أن يبيعه بنفسه ولا أن يسقي أرض غيره لأن ذلك تبرع وبمطلق التوكيل لا يملك التبرع كمن وكل غيره بماله ملك الحفظ بهذا اللفظ دون التبرع.
وإذا اتخذ الرجل مشرعة على شاطى ء الفرات ليستقي منها السقاءون ويأخذ منهم الأجر لم يجز ذلك لأنه لم يبتعهم شيئا ولم يؤاجرهم أرضا معناه أنهم يأخذون الماء من الفرات في أوانيهم والماء في الفرات غير مملوك لصاحب المشرعة ثم الموضع الذي اتخذ فيه المشرعة من الأرض غير مملوك له ولو كان مملوكا فهو لم يؤاجرهم ذلك الموضع.
ألا ترى: أنه في يده على حاله وشرط إجارة الأرض تسليمها إلى المستأجر ولأنهم لا ينتفعون بالأرض وإنما ينتفعون بالماء فما يعطونه من الماء لا يكون عوضا عن منفعة الأرض بل هو أكل مال الغير بالباطل.(23/338)
ولو تقبل هذه المشرعة كل شهر بشيء مسمى تقوم فيه الدواب أجزت ذلك لأنه التزم الأجر بمقابلة منفعة الأرض فإن إيقاف الدواب في موضع من الأرض انتفاع بها ويد المستأجر تثبت عليه بإيقاف الدواب فيها وهي معلومة ببيان المدة فصحت الإجارة لذلك وكذلك لو استأجر رجل قطعة منها يوما يقيم فيها بغير آلة جاز وهذا بخلاف الأول فإن السقائين ما استأجروا موضعا معلوما ولا بينوا لوقوفهم مدة معلومة فبطلت الإجارة هناك للغرر والجهالة وإن كانت هذه المشرعة لا يملكها الذي اتخذها فلا ينبغي له هذا ولا يصلح له بمنزلة من أراد أن يبني دكانا في الطريق ليؤاجره من الناس منع من ذلك وهذا لأن في الطريق حق عامة المسلمين فكذلك في موضع المشرعة من شط الفرات حق جميع المسلمين فلا ينبغي له أن يحول بينهم وبين حقهم باتخاذ المشرعة فيه ليؤاجره فيكتسب لنفسه ولو كانت في موضع لا حق فيه لأحد فاتخذ مشرعة في ذلك المكان كان للمسلمين أن يستقوا من ذلك المكان بغير أجر كما كان لهم ذلك قبل أن تتخذ فيه مشرعة وهذا لأن بتصرفه لا يملك إبطال حق المسلمين ولا أن يحول بينهم وبين حوائجهم وإنما أرخص له في ذلك إذا كانت الأرض له يملك رقبتها فحينئذ لا حق لأحد فيه خصوصا في غير وقت الضرورة.
ولو أراد المسلمون أن يمروا في تلك الأرض ليسقوا من ذلك الماء فمنعهم منه فإن لم يكن له طريق غيره لم يكن له أن يمنعهم وإن كان يملك رقبتها ولكنهم يمرون في أرضه ومشرعته بغير إذنه لأن الموضع موضع الحاجة والضرورة فالماء سبب لحياة العالم قال الله(23/339)
ص -165- ... تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الانبياء: 30] فإذا لم يجدوا طريقا آخر كان هذا الطريق متعينا لوصولهم منه إلى حاجتهم فليس له أن يمنعهم من ذلك فإن كان لهم طريق غير ذلك كان له أن يمنعهم من ذلك لأنه لا ضرورة إلى التطرق في ملكه وهو نظير من أصابته مخمصة يباح له أن يتناول من طعام الغير فإن كان عنده مثل ذلك الطعام لم يكن له أن يتناول من طعام الغير بغير إذنه إلا أن هناك عند الضرورة يجب الضمان لما في التناول من إتلاف مال متقوم على صاحبه وهنا ليس في المرور بين أرضه إتلاف شيء عليه.
وإذا كان لرجل نهر في أرض رجل فأراد أن يدخل في أرضه ليعالج من النهر شيئا فمنعه رب الأرض من ذلك فليس له أن يدخل أرضه إلا أن يمضي في بطن النهر وكذلك القناة والبئر والعين لأنه لا حق له في أرضه ولا نفع للحاجة إلى التطرق في أرضه لتمكنه من تحصيل مقصوده بأن يمضي في أرض النهر مع أن هذا فيه ضرر خاص وفي الأول ضرر عام وقد يتحمل عند الحاجة إلى دفع الضرر العام ما لا يتحمل عند الحاجة إلى دفع الضرر الخاص فإن كان له طريق في الأرض فله أن يمر في طريقه إلى النهر والعين والقناة لأنه يستوفي ما هو مستحق له.(23/340)
وإذا اصطلح الرجلان على أن يخرجا نفقة يحفران بها بئرا في أرض موات على أن يكون البئر لأحدهما والحريم للآخر لم يجز لأنهما قصدا التفرق بين شيئين ثبت الجمع بينهما شرعا وهو البئر والحريم ثم استحقاق الحريم على طريق التبع لتمكن الانتفاع به من البئر فلا يجوز أن يستحق بالشرط مقصودا منفصلا عن البئر ثم في هذا الشرط إضرار بصاحب الأرض لأنه لا يتمكن من الانتفاع ببئره من غير حريم واعتبار الشرط للمنفعة لا للضرر وسواء كانت المنفعة بينهما مختلفة أو متفقة وإن اشترطا أن يكون الحريم والبئر بينهما نصفين على أن ينفق أحدهما أكثر مما ينفق الآخر لم يجز لأن النفقة عليهما بقدر الملك فشرط المناصفة في الملك يوجب أن تكون النفقة بينهما نصفين شرعا فيكون اشتراط زيادة النفقة على أحدهما مخالفا لحكم الشرع فإن فعلا كذلك رجع صاحب الأكثر بنصف الفضل على صاحبه لأنه أنفق بأمر صاحبه فلا يكون متبرعا في حصة صاحبه.
وإذا كانت بئر في أرض بين رجلين فباع أحدهما نصيبه من البئر بطريقه في الأرض فإن ذلك لا يجوز لأنه يبيع طريقا بينه وبين آخر وأحد الشريكين في الأرض لا يملك أن يبيع طريقا فيها إلا برضا شريكه ولو باع نصف البئر بغير طريق جاز ولم يكن له طريق في الأرض لما بينا أن بتسمية البئر في البيع مطلقا لا يدخل الطريق الخاص في ملك الغير كما أن بتسمية الدار والبيت في البيع لا يدخل الطريق وإن باع نصيبه من الأرض مع البئر ونصيبه نصف الأرض جاز كله لأن البيع معلوم والمشتري يقوم مقام البائع في ملكه ولا ضرر على الشريك في صحة هذا البيع والله أعلم.(23/341)
ص -166- ... باب الشهادة في الشرب
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل نهر في أرض رجل فادعى رجل فيه شرب يوم في الشهر وأقام البينة على ذلك قضى له به وكذلك مسيل الماء لأن الثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصمين عليه وقد بينا أن الجهالة في الشرب والمسيل لا تمنع إثباته بالبينة.
ولو ادعى يومين في الشهر فجاء بشاهد على يوم في رقبة النهر وشاهد آخر على يومين ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بشيء وفي قولهما يقضي بيوم وهو نظير ما تقدم من اختلاف الشاهدين في التطليقة والتطليقتين والألف والألفين وإن كان المدعي يدعي شرب يوم في الشهر لم تقبل الشهادة لأنه كذب أحد شاهديه وإن شهدوا أن له شرب يوم ولم يسموا عددا ولم يشهدوا أن له في رقبة النهر شيئا لم تجز شهادتهم لأن المشهود به مجهول جهالة يتعذر على القاضي القضاء معها وإن ادعى عشر نهر أو قناة فشهد له أحدهما بالعشر والآخر بأقل من ذلك ففي قول أبي حنيفة رحمه الله الشهادة باطلة وإن شهدوا بالإقرار لاختلاف الشاهدين لفظا ومعنى وعلى قولهما تقبل على الأقل استحسانا وإن شهد أحدهما بالخمس بطلت الشهادة لأنه قد شهد له بأكثر مما ادعى.
وإذا ادعى رجل أرضا على نهر شربها منه فأقام شاهدين أنها له ولم يذكر الشرب سببا فإني أقضي له بها وبحصته من الشرب لأن الشرب تبع الأرض واستحقاق التبع باستحقاق الأصل وإن شهدوا له بالشرب دون الأرض لم نقض له من الأرض بشيء لأن المشهود به تبع ولا يستحق الأصل باستحقاق التبع.
ألا ترى: أنهم لو شهدوا له بالبناء لا يستحق موضعه من الأرض ولو شهدوا له بالأرض استحق البناء تبعا وكذلك الأشجار مع الثمار.(23/342)
وإذا ادعى أرضا في يد رجل فشهد له شاهد أنها له وشهد آخر على إقرار ذي اليد بذلك لم تقبل الشهادة لاختلافهما في المشهود به فإن أحدهما شهد بإقرار هو كلام محتمل للصدق والكذب والآخر شهد له بملك الأرض وهما متغايران ولو كاتب رجل عبده على شرب بغير أرض أو على أرض وشرب لم يجز أما الشرب بغير أرض فلا يستحق بالتسمية في شيء من عقود المعاوضات في الأرض مع الشرب إذا لم تكن بعينها فهي مما لا يستحق دينا بشيء من عقود المعاوضات وإن كانت أرضا بعينها لغيره لم يجز أيضا لأن عقد الكتابة يستدعي تسمية البدل فتسمية عين هو مملوك لغير العاقد لا يكون صحيحا كالبيع ولا يتصور أن يكون مملوكا لأن كسبه عند الكتابة مملوك للمولى فإنما يصير هو أحق بكسبه بعد الكتابة فيكون هذا من المولى مبادلة ملكه بملكه وقد بينا اختلاف الروايات في الكتابة على الأعيان في كتاب العتاق.
وإن شهد شاهد أن فلانا أوصى له بثلث أرضه وثلث شربه وشهد آخر بثلث شربه دون أرضه فإنه يقضى بثلث الشرب له لاتفاق الشاهدين عليه لفظا ومعنى وليس له في ثلث(23/343)
ص -167- ... الأرض إلا شاهد واحد ولو أوصى بثلث شربه بغير أرضه في سبيل الله تعالى أو في الحج أو الفقراء أو في الرقاب كان باطلا لأن صرف الموصى به إلى هذه الجهات يكون بتمليك العين أو بالبيع وصرف الثمن إليها والشرب لا يحتمل شيئا من ذلك فإن كان أوصى بثلث حقه في النهر في كل شيء من ذلك جاز لأنه أوصى معه بشيء من الأرض يعني أرض النهر وهو مما يحتمل التمليك مع الأرض.
وإذا كان لرجل أرض وشرب فادعى الرجل أنه اشترى ذلك منه بألف فشهد له شاهد أنه اشترى الشرب والأرض بألف وشهد الآخر أنه اشترى الأرض وحدها بغير شرب أو لم يذكر شربا فهذه الشهادة لا تجوز لأن المشتري يكذب أحد شاهديه ولأن القاضي لا يتمكن من القضاء بالشرب له لأن الشاهد على شراء الشرب مع الأرض واحد والمدعي غير راض بالتزام الألف بمقابلة الأرض بدون الشرب فإن كان هذا الثاني شهد أنه اشتراها بكل حق هو لها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير هو فيها أو منها جازت الشهادة لأن الشرب يدخل في شراء الأرض بذكر هذه الألفاظ وإنما اختلف الشاهدان في العبارة بعد اتفاقهما في المعنى وذلك لا يمنع العمل بشهادتهما كما لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالنحلة.(23/344)
ولو جحد المشتري البيع وادعى رب الأرض أنه باعها بألف بغير شرب فزاد أحد شاهديه الشرب أو الحقوق أو المرافق لم تجز الشهادة لأن البائع مكذب أحد شاهديه وإذا باع الرجل شربا بأمة وقبضها فوطئها فولدت منه فهي أم ولد له لأنه ملكها بالقبض بحكم عقد فاسد وهو ضامن لقيمتها ولم يذكر العقر هنا وقد بينا أن هذا هو الأصح خصوصا فيما إذا تعذر ردها بأن صارت أم ولد له ولو وطئها رجل بشبهة وأخذ بائع الشرب المهر أو قطع رجل يدها أو فقأ عينها فأخذ المشتري أرش ذلك ثم ماتت الجارية عنده ضمن قيمتها والأرش والمهر له لأنه إنما يضمن قيمتها من وقت القبض فيتقرر ملكه فيها من ذلك الوقت فكان الأرش والعقر حاصلا بعد ملكه فيكون له وهذا بخلاف الولد فإنها لو ولدت ثم ماتت فالمشتري ضامن لقيمتها وعليه رد الولد مع رد القيمة لأن الولد ليس بعوض عن جزء مضمون منها وإنما يتقرر له الملك بالضمان فيتقرر الملك في المضمون أو فيما هو عوض عن المضمون أو فيما هو تبع للمضمون لأن التبع يملك بملك الأصل والولد بعد الانفصال ليس بمضمون ولا هو عوض عن المضمون ولا هو تبع للمضمون فلا يسقط عنه وجوب رد الولد بتقرر الضمان عليه في الأم فأما الأرش فبدل جزء مضمون وقد سلم بدل هذا الجزء لمشترى الشرب حين ضمنه قيمتها صحيحة فلا يجوز أن يسلم له بدل آخر إذ لا يسلم للمرء بدلان عن شيء واحد وكذلك المهر فإنه عوض عن المستوفى بالوطء والمستوفى بالوطء في حكم جزء من العين وقد ضمن قيمة جميع العين فيسلم له ما كان بدل جزء من العين.
فإن قيل المستوفي بالوطء في حكم جزء ولكنه جزء غير مضمون.
ألا ترى: أنه إذا لم يتمكن بالوطء نقصان فيها وتعذر استيفاء العقر من الواطئ ردها(23/345)
ص -168- ... المشتري ولم يضمن شيئا؟ قلنا نعم المستوفي بالوطء جزء غير مضمون حقيقة ولكنه في حكم جزء من العين الذي هو مضمون ولهذا قلنا أن وطء المشتري يمنع الرد بالعيب أو بمنزلة جزء هو ثمره كالكسب فالكسب تبع للمضمون في حكم الملك فكذلك العقر المستوفى من الواطئ.
فإن قيل: فالولد أيضا خلف عن جزء هو مضمون وهو النقصان المتمكن بالولادة ولهذا ينجبر به.
قلنا الخلافة بحكم اتحاد السبب لا لأنه عوض عن ذلك الجزء وإنما يمتنع رد العوض لوصول مثله إلى بائع الجارية وذلك غير موجود في الولد ولو كانت حية فأخذ البائع الجارية تبعها الأرش والمهر لأنه لم يتقرر ملك المشتري فيها بل انعدم من الأصل بردها ولأنه كان يلزمه رد هذا الجزء حال قيامه فكذلك يلزمه رد بدله مع رد الأصل والله أعلم.
باب الخيار في الشرب
قال رحمه الله: وإذا اشترى أرضا بشربها وهو بالخيار ثلاثة أيام وفي الأرض زرع قد اشترطه معها ثم سقى الزرع من ذلك الشرب أو من غيره أو سقى بذلك الشرب زرعا في أرض أخرى أو نخلا أو شجرا فهذا رضا وقطع للخيار لأنه تصرف في المشتري تصرفا بصفة المالك وهو لا يملكه شرعا إلا باعتبار الملك ويقصد بمباشرته إصلاح الملك وإحرازه فكان دليل الرضا بتقرر ملكه ودليل الرضا في إسقاط الخيار كصريح الرضا.(23/346)
ولو كان الخيار للبائع وصنع شيئا من ذلك فهو قطع للخيار وفسخ للعقد لأنه مقرر لملكه بما باشر من التصرف فيه وكذلك لو كانت نخيلا فلقحها أو أرضا فكربها أو سرقنها فهو قطع للخيار وفسخ للعقد لأنه مقرر لملكه وكذلك لو جد النخيل أو قطف الكرم فهذا كله تصرف باعتبار الملك ويقصد به إحراز الملك وإصلاحه وإذا اشترى عشر نهر أو بئر على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم سقى أرضا له من ذلك فهذا قطع للخيار بخلاف ما لو سقى منه بقرا أو غنما له أو استقى للشقة من البئر أو للوضوء فهذا لا يكون رضا لأن سقي الأرض هو المقصود بالبئر والنهر ولا يملكه شرعا إلا باعتبار ملكه فإقدامه عليه يكون تقريرا لملكه وأما الاستقاء للشقة فغير مقصود بالنهر والبئر ولا يختص ذلك بالملك شرعا فإقدامه عليه لا يكون دليل الرضا بملكه.
يوضحه أن قبل البيع كان يملك الاستقاء من هذا البئر للشقة فكذلك بعد فسخ البيع يملكه فعرفنا أنه لا أثر للبيع فيه وأن إقدامه عليه لا يوجب تنفيذ البيع فأما سقي الأرض فما كان يملكه قبل البيع ولا بعد فسخ البيع بل إنما يمكن منه باعتبار البيع فإقدامه عليه تقرير للبيع وكذلك لو كان الخيار للبائع فالاستقاء للشقة لا يكون قطعا لخياره لأن تمكنه منه ليس باعتبار قيام ملكه شرعا.
ألا ترى: أنه يتمكن منه بعد تمام البيع بالإجارة بخلاف سقي الأرض منه؟
وإذا اشترى نهرا وهو بالخيار ثلاثة أيام فسقى أجنبي أرضا له من ذلك النهر والمشتري لا يعلم به فليس هذا بقطع للخيار لأنه لم يتمكن بفعل الأجنبي نقصان في العين ولا وجد من(23/347)
ص -169- ... المشتري دليل الرضا به بخلاف ما لو عيبه أجنبي في يد المشتري فإن خياره إنما يسقط هناك لتمكن النقصان في العين وعجزه عن رده كما قبض.
وإذا اشترى نهرا بقناه وأسقط الخيار ثلاثة أيام فإن سقى أرضه مما اشترى فهو إجازة للبيع وإن سقاها مما باع فهو نقض للبيع لأن خياره فيما باع خيار للبائع فسقيه للأرض مما باع دليل تقرر ملكه فيما باع وفيما اشترى دليل الرضا بتملكه ولو أن الآخر هو الذي سقى أرضه منهما أو من أحدهما لم يكن هذا نقضا للبيع ولا إجارة لأن البيع في جانبه لازم وهو غير متمكن من إسقاط خيار صاحبه وهو نظير ما لو اشترى عبدا لجاريته وشرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام فإن أعتق ما باع فهو نقض منه للبيع وإن أعتق ما اشترى فهو إجازة وإن فعل ذلك صاحبه لم يكن نقضا ولا إجازة لأن عتق صاحبه فيما باع لم ينفذ لزوال ملكه وفيما اشترى لا ينفذ لأنه لم يملكه فإن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه.
ولو اشترى بئرا وهو بالخيار ثلاثة أيام وقبضها فانخسفت أو انهدمت أو ذهب ماؤها أو نقص نقصانا فاحشا لزمه البيع لتغير المبيع في يد المشتري فإنه باختياره يملك الرد كما قبض ولا يملك إلحاق الضرر بالبائع بالرد عليه متغيرا وقد عجز عن رده كما قبض ولو كان الخيار للبائع فذهب ماؤها عند المشتري فالبائع على خياره إن شاء أمضى البيع وأخذ الثمن وإن شاء رد المبيع وأخذ قيمة النقصان لأنها تعيبت في ضمان المشتري وذلك لا يمنع البائع من التصرف بحكم خياره وإذا فسخ البيع بقيت مضمونة عند المشتري بالقبض والعقار يضمن بالقبض بجهة العقد فلهذا ضمنه النقصان ولو كان الخيار للمشتري فبناها وطواها حتى عادت كما كانت لم يكن له أن يردها لأن هذا تصرف بحكم الملك وهو مسقط للخيار فكيف يعود به خياره الذي سقط؟(23/348)
وإذا اشترى بئرا وحريمها بشرط الخيار وفي حريمها كلأ فأرعاها الغنم وأبانها في عطن البئر لم يكن هذا رضا بمنزلة ما لو سقى منها غنما له أو أبانها في العطن لأن تمكنه من الكلأ شرعا ليس باعتبار الملك فقد كان متمكنا منه قبل البيع وبعد فسخ البيع بخلاف ما لو حفر بئرا في حريمها أو بنى فيها فإن هذا التصرف لا يملكه إلا باعتبار ملكه فيكون إقدامه عليه دليل الرضا ولو كان فيه شجر مما تنبته الناس فأفسدته الغنم أو قلعته كان هذا ملزما له لأنه بمنزلة العيب الحادث في يد المشتري وذلك مسقط لخياره وكذلك لو فعل ذلك أجنبي.
ولو هدم البئر إنسان فضمنه المشتري قيمة الهدم كان ذلك منه قطعا للخيار لأن قبل التضمين سقط خياره للتعنيت والتضمين تصرف باعتبار الملك فلا يجوز أن يعود به ما سقط من الخيار وكرى النهر وكسر البئر رضا بالبيع لأن هذا التصرف لا يفعل إلا في الملك على قصد الإصلاح فهو كالبناء والحفر في القناة وإن وقع في البئر ما ينجسه من عذرة أو شاة أو عصفور أو فأرة فماتت فذلك يلزمه البيع سواء وجب نزح جميع الماء أو نزح بعض الدلاء لأن الماء قد تنجس بما وقع في البئر قبل النزح منه فالنجاسة في الماء عيب في العرف والتعيب في ضمان المشتري مسقط لخياره.(23/349)
ص -170- ... وإذا استعار من رجل نهرا ليسقي منه به أرضه ثم اشتراه على أنه بالخيار ثم سقى به أرضه فهذا قطع للخيار لأنه بعد الشراء إنما سقى به بحكم البيع لا بحكم الاستعارة فإن الإعارة تنقطع بزوال ملك البائع بالبيع الثابت في حقه فتقدم الاستعارة وجودا وعدما بمنزلة وكذلك لو باع المشتري الشرب بغير أرض أو ساوم به أو أجره إجارة صحيحة أو أجر الشرب إجارة فاسدة أو رهن واحدا منهما أو تزوج عليه أو أعاره واحدا منهما فزرع المستعير الأرض أو سقى بالشرب أو لم يفعل فهذا كله قطع للخيار لأن ما باشر من التصرف لا يفعله إلا المالك عادة فإقدامه عليه دليل الرضا بملكه.
ولو اشترى رحا ماء بنهرها والبيت الذي هو فيه ومتاعها على أنه بالخيار ثلاثا فإن طحن بها لم يكن رضا بها لأن الطحن للاختبار لا للاختيار فإن مقصوده من اشتراط الخيار أنه ينظر هل يتم مقصوده بها أو لا يتم ولا يعرف ذلك إلا بالطحن فهو نظير الاستخدام في المماليك وركوب الدابة للنظر إلى سيرها فإن نقصها الطحن أو انكسرت فهذا رضا منه بسبب التعيب في ضمانه لا بسبب الطحن.
ولو اشترى أرضا وشربا وقال لي الرضا إلى ثلاثة أيام إن رضيت أجزت وإن كرهت تركت أو قال لي الخيار ثلاثة أيام فهذا جائز لأن المقصود بهذه الألفاظ اشتراط الخيار لنفسه ثلاثة أيام وإنما يبني الحكم على ما هو المقصود.
وإذا باع أرضا وشربا بجارية واشترط الخيار ثلاثة أيام وكان مع الجارية مائة درهم فأنفقها لم يكن هذا رضا بخلاف ما إذا قبل الجارية أو جامعها أو عرضها على البيع لأن الجارية متعينة في العقد فإقدامه على تصرف فيها هو دليل الرضا بملكها ويكون إسقاطا للخيار فأما المائة التي قبضها فغير متعينة في العقد.
ألا ترى: أنه كان لمشتري الأرض أن يعطى غيرها وأنه بعد الفسخ لا يجب على البائع رد المقبوض من الدراهم بعينه فلا يكون تصرفه فيها دليل الرضا بحكم البيع فكان على خياره بعد إنفاقها.(23/350)
ولو اشترى أرضا وشربا وشرط الخيار في الأرض دون الشرب أو في الشرب دون الأرض فهذا بيع فاسد لأن الصفقة واحدة والثمن جملة والذي لم يشترط الخيار فيه يتم البيع فيه وثمنه مجهول بمنزلة ما لو اشترى ثوبين بثمن واحد على أنه بالخيار في أحدهما بعينه.
وإذا اشترى العبد التاجر أرضا وشربا بشرط الخيار ونقض مولاه البيع أو أجازه فنقضه باطل سواء كان على العبد دين أو لم يكن لأنه حجر خاص في إذن عام وإجازته تصح إن لم يكن عليه دين لأن كسبه ملكه.
ألا ترى: أنه يتمكن من التصرف فيه بالبيع والهبة ويسقط به خيار العبد لا محالة فكذلك يصح منه إسقاط خياره وإن كان عليه دين لم يجز لأنه أجنبي من كسبه لا يتمكن فيه من التصرف المسقط لخياره فكذلك لا يملك إسقاط خياره فيه قصدا.(23/351)
ص -171- ... وإن كان نهر بين قوم لهم عليه أرضون ولبعض أرضهم سواني في ذلك النهر ولبعضها دوالي وبعضها ليست لها ساقية ولا دالية وليس لها شرب معروف من هذا النهر ولا من غيره فاختصموا في هذا النهر وادعى صاحب الأرض أن لها فيه شربا وهي على شاطى ء النهر فإنه ينبغي في القياس أن يكون النهر بين أصحاب السواني والدوالي دون أهل الأرض لأن يد أصحاب السواني والدوالي ثابتة عليه بالاستعمال وليس لصاحب الأرض مثل ذلك اليد فهو نظير ما لو تنازع اثنان في ثوب وأحدهما لابسه والآخر متعلق بذيله أو تنازعا في دابة وأحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها ولكنه استحسن فقال النهر بينهم جميعا على قدر أراضيهم التي على شط النهر لأن المقصود بحفر النهر سقي الأراضي لا اتخاذ السواني والدوالي ففيما هو المقصود على حالهم على السواء في إثبات اليد فهو بمنزلة ما لو تنازعا في حائط ولأحدهما عليه جرادي أو بواري أو تنازعا في دابة ولأحدهما عليها مخلاة أو منديل فإنه لا يترجح بذلك لأنه تحمل ليس بمقصود فوجوده كعدمه فكذلك اتخاذ السواني والدوالي على النهر تبع غير مقصود فلا يترجح بذلك صاحبه فإن كان يعرف لهم شرب قبل ذلك فهو على ذلك المعروف وإلا فهو بينهم على قدر أراضيهم لأن الشرب لحاجة الأراضي فيتقدر بقدر الأرض وإن كان لهذا الأرض شرب معروف من غير هذا النهر فلها شربها من ذلك النهر وليس لها من هذا النهر شيء لأن الأرض الواحدة لا يجعل شربها من نهرين عادة فكون شرب معروف لها من نهر آخر دليل ظاهر على أنه لا شرب لها في هذا النهر وإن كانت على شطه ولأن صاحب هذه الأرض إنما كان يستحق لها شربا من هذا النهر لحاجة الأرض إلى الشرب وقد انعدم ذلك بالشرب المعروف لها من نهر آخر فإن لم يكن لها شرب من غيره قضيت لها فيه بشرب ولو كان لصاحبها أرض أخرى إلى جنبها ليس لها شرب معلوم فإني أستحسن أن أجعل لأراضيه كلها إن كانت متصلة الشرب من هذا النهر وفي القياس لا(23/352)
يستحق الشرب من هذا النهر للأرض الأخرى إلا بحجة لأن هذه الأخرى غير متصلة بالنهر بل الأرض الأولى حائلة بين النهر وبينها ولكنه استحسن فقال لا بد للأرض من شرب لأن الانتفاع بها لا يتأتى إلا بالشرب والظاهر عند اتصال أراضيه بعضها ببعض أن تشرب كلها من هذا النهر فيجب البناء على هذا الظاهر ما لم يتبين خلافه.
فإن قيل الظاهر يعتبر في دفع الاستحقاق لا في إثبات الاستحقاق والحاجة هنا إلى إثبات الاستحقاق.
قلنا نعم ولكن استحقاق المتنازعين له في هذا النهر غير ثابت إلا بمثل هذا الظاهر فيصلح هذا الظاهر له معارضا ومزاحما لخصمائه.
وإن كان إلى جانب أرضه أرض لآخر وأرض الأول بين النهر وبينها وليس لهذه الأرض شرب معروف ولا يدري من أين كان شربها فإني أجعل لها شربا من هذا النهر أيضا لأن ما قررنا من الظاهر لا يختلف باتحاد مالك الأرضين واختلاف المالك إلا أن يكون النهر معروفا(23/353)
ص -172- ... لقوم خاصا بهم فلا أجعل لغيرهم فيه شربا إلا ببينة لأن المنازعين هنا دليل لاستحقاق سوى الظاهر وهو إضافة النهر إليهم وهذه الإضافة إضافة ملك أو إضافة أحداث أنهم هم الذين حفروا هذا النهر وهو مملوك لهم فلا يستحق غيرهم فيه شيئا إلا ببينة فإن كان هذا النهر يصب في أجمة وعليه أرض لقوم مختلفين ولا يدري كيف كانت حاله ولا لمن كان أصله فتنازع أهل الأرض وأهل الأجمة فيه فإني أقضي به بين أصحاب الأرض بالحصص وليس لهم أن يقطعوه عن أهل الأجمة وليس لأهل الأجمة أن يمنعوه من المسيل في أجمتهم لأن النهر إنما يحفر لسقي الأراضي في العادة فالظاهر فيه شاهد لأصحاب الأراضي وهم المنتفعون بالنهر في سقي أراضيهم منه ولكن لأهل الأجمة نوع منفعة أيضا وهو فضل الماء الذي يقع في أجمتهم فلا يكون لأصحاب الأراضي قطع ذلك عنهم بالظاهر ولأصحاب الأراضي منفعة في مسيل فضل الماء في الأجمة فلا يكون لأصحاب الأجمة أن يمنعوهم ذلك بمنزلة حائط تنازع فيه رجلان ولأحدهما فيه اتصال تربيع ولآخر عليه جذوع فالحائط لصاحب الاتصال وليس له أن يكلف الآخر رفع جذوعه وهذا لأن ما وجد على صفة لا يغير عنها إلا بحجة ملزمة والظاهر لا يكفي لذلك.(23/354)
ولو أن رجلا بنى حائطا من حجارة في الفرات واتخذ عليه رحا يطحن بالماء لم يجز له ذلك في القضاء ومن خاصمه من الناس فيه هدمه لأن موضع الفرات حق العامة بمنزلة الطريق العام ولو بنى رجل في الطريق العام كان لكل واحد أن يخاصمه في ذلك ويهدمه فأما بينه وبين الله تعالى فإن كان هذا الحائط الذي بناه في الفرات يضر بمجرى السفن أو الماء بأن لم يسعه وهو فيه أثم وإن كان لا يضر بأحد فهو في سعة من الانتفاع بمنزلة الطريق العام إذا بنى فيه بناء فإن كان يضر بالمارة فهو آثم في ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وإن كان لا يضر بهم فهو في سعة من ذلك ومن خاصمه من مسلم أو ذمي قضى عليه بهدمه لأن الحق فيه للناس كافة فالمسلم والذمي في هذه الخصومة سواء.
ألا ترى: أن للذمي حق المرور في الطريق كما للمسلم فكان له في هذه الخصومة من المنفعة مثل ما للمسلم وكذلك النساء والمكاتبون وأما العبد فلا خصومة له في ذلك لأن العبد تبع لمولاه فلا حق له في الانتفاع بالطريق والفرات مقصود بنفسه بخلاف المكاتب والمرأة فهما في ذلك كالحر والصبي بمنزلة العبد تبع لا خصومة له في ذلك والمغلوب والمعتوه كذلك إلا أن يخاصم عنه أبوه أو وصيه, ولا فأئدة في هذا الجواب الذي قاله أنه يخاصم عن الصبي والمجنون أبوه أو وصيه لأنهما يخاصمان في ذلك عن أنفسهما, وإن كانا قد أسقطا حقهما, فهذا مما لا يسقط بالإسقاط, فلا معنى لخصومتهما على وجه النيابة, وهما يملكان ذلك عن أنفسهما.
وإن كان نهر بين رجلين لأحدهما ثلثه فاصطلحا على أن يسقي صاحب الثلث منه يوما وساحب الثلث يومين فهو جائز, لأنهما اقتسما ماء النهر بينهما على تراض,(23/355)
ص -173- ... والمناوبة بالأيام في هذا كالقسمة, قال اللله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر:28] وقال تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
وإذا كانت الأرض في يد المشتري وهو بالخيار ثلاثة أيام فهدم البائع بنائها أو أفسد نهرها أو بئرها لم يكن للمشتري أن يرد بخياره وقد لزمه البيع, ويضمن البائع قيمة ذلك لأنها تعينت في ضمان المشتري, والبائع صار كالأجنببي لأن البيع من جهته ثم بالتسليم. وكذلك لو كان المبيع عبدا فقتله البائع في يد المشتري كان البيع لازما للمشتري بالثمن, وعلى البائع قيمته, وكذلك لو اشترى ثوبا وقبضه ولم يره فحرقه البائع في يد المشتري لزم البيع للمشتري, وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد, وهو قول أبي يوسف الأول, ثم رجع فقال: لايسقط خيار المشتري بما أحدث البائع في المبيع, وليس البائع في ذلك كغيره من الأجانب, لأن تعذر الرد عند التعيب في ضمان المشتري لدفع الضررر عن البائع, وقد جاء منه الرضا بهذا الضرر حين عيبه, بخلاف ما إذا عيبه أجنبي, والصحيح أن هذا الخلاف في خيار الشرط, وخيار الرؤية, وخيار عيب السوء.
وقد بينا المسألة في كتاب البيوع: ثلاثة نفر بينهم حخرث حصدوه وجمعوه وفي يد أحدهم وضعوه ليحفظ لهم فزعم أنه قد دفع نصيب الرجلين إلى أحدهما والمدفوع إليه ينكر ذلك والآخر ينكر لأن يكون دفع إليه حقه لأو يقول: دفع إليه بغير أمري أو بقي الثلث في يد الثالث, وقال الدافع: دفعت إلى صاحبي ثلثه أو حقه ثم فال: دفعت إليه أيضا بعد ذلك ثلث صاحبه بأمره وهما ينكران ذلك قال: يقتسمون الثلث الذي بقي في يده بينهم أثلاثا ويضمن ثلث ما دفع فيكون للآخرين نصفين.(23/356)
وهذه المسألة تشمل على أحكام ثلاثة: حكم الإختصاص, وحكم أداء الأمانة, ووحكم الخلاف. فأما بيان حكم الإختصاص فنقول: جميع الزرع كان مشتركا بين ثلاثتهم, وكان الحافظ أمينا في نصيب الآخرين, ودعواه الدفع إلى أحدهما بأمر صاحبه بمنزلة دعواه دفع نصيب كل واحد منهما إليه, والقول قول الأمين في برائته عن الضمان, ولكن قوله في استحقاق شيء على صاحبه والثلث الذي بقي في يده. مشترك بين ثلاثتهم باعتبار الأصل لأنه جزء من ذلك المشترك فهو يدعي استحقاق نصيب الآخرين من هذا الثلث عليهما فلا يقبل قوله في ذلك ويقسم هذا الثلث بينهم أثلاثا باعتبار شركة الأصل.
ألا ترى: أن المكيل لو كان مشتركا بين اثنين فظهر نصفه في يد أحدهما وزعم أن صاحبه قد استوفى النصف الآخر وجحد صاحبه وحلف يجعل هذا النصف مشتركا بينهما والنصف الآخر كالتاوي فكذلك هنا إذا حلف الآخران على دعواه يجعل هذا الثلث بينهم أثلاثا وأما حكم الأمانة فقد زعم أنه دفع نصيب المدفوع إليه من الثلثين إليه فالقول فيه قوله مع اليمين لأنه أمين ادعى رد الأمانة على صاحبه ولكن بيمينه ثبتت براءته عن الضمان ولا يثبت الوصول إلى من زعم أنه دفع إليه كالمودع إذا ادعى رد الوديعة على الوصي فإن الوصي لا يكون ضامنا للصبي شيئا بيمين المودع وأما حكم الخلاف فقد زعم أنه قد دفع نصيب الآخر إلى(23/357)
ص -174- ... شريكه ودفع الأمين الأمانة إلى غير صاحبها موجب الضمان عليه إلا أن يكون الدفع بأمر صاحبها فقد أقر بالسبب الموجب للضمان في نصيبه وهو ثلث الثلثين وادعى المسقط وهو أمره إياه بالدفع إليه فلا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة وعلى المنكر اليمين فإذا حلف غرم له ثلث الثلثين ثم هذا الثلث بين الآخرين نصفان لأنهما متفقان على أنه لم يدفع إليه شيئا وأن هذا المقبوض جزء من المشترك بينهما أو بدل جزء مشترك فيكون بينهما نصفين باعتبار زعمهما.
رجل عمد إلى نهر المسلمين عامة أو نهر خاص عليه طريق العامة أو لقوم خاص فاتخذ عليه قنطرة واستوثق من العمل ولم يزل الناس والدواب يمرون عليه حتى انكسر أو وهى فوقع إنسان فيه أو دابة فمات أو عبر به إنسان وهو يراه متعمدا يريد المشي عليه فلا ضمان عليه في شيء من هذا لأن ما فعله حسبة وقد وجد الرضا من عامة المسلمين باتخاذهم ذلك الموضع ممرا فكأنه فعله بإذن الإمام فلهذا لا يضمن ما تلف بسببه وإن وضع عارضة أو بابا في طريق المسلمين فمشى عليه إنسان متعمدا لذلك فانكسر الباب وعطب الماشي فضمان الباب على الذي كسره ولا ضمان على واضع الباب الذي عطب به لأن الماشي متعمد المشي على الباب مباشر كسره.(23/358)
ألا ترى: أن من أوطأ إنسانا فقتله كان مباشرا لقتله حتى تلزمه الكفارة وواضع الباب وإن كان في تسببه متعديا ولكن الماشي تعمد المشي عليه ولا يعتبر التسبب إذا طرأت المباشرة عليه كمن حفر بئرا في الطريق فتعمد إنسان إلقاء نفسه في البئر أو ألقاه فيه غيره لا يكون على الحافر شيء وعلى هذا من رش الطريق فتعمد إنسان المشي في ذلك الموضع وزلقت رجله وعطب لم يكن على الذي رش ضمان بخلاف من مشى على ذلك الموضع وكان لا يبصره بأن كان أعمى أو كان ليلا فحينئذ يجب الضمان على الذي رش الطريق إذا عطب به الماشي وتمام بيان هذه الفصول في الديات وإصلاح النهر العام على بيت المال لأنه من تمام نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لذلك.
ولو أن الوالي أذن لرجل أن ينصب طاحونة على ماء لقوم خاصة في أرض لرجل ولا يضر أهل النهر شيء وأهل النهر يكرهون ذلك أو يضرهم والوالي يرى في ذلك صلاحا للعامة فإنه لا ينبغي أن يضع ذلك إلا بإذن صاحب الأرض وصاحب النهر لأنه ملك خاص وليس للإمام ولاية النظر في الملك الخاص لإنسان بتقديم غيره فيه عليه بل هو في ذلك كسائر الرعايا وإنما يثبت له حق الأخذ من المالك عند تحقق الضرورة وخوف الهلاك على المسلمين بشرط العوض كما يكون لصاحب المخمصة فلهذا لم يعتبر إذن الإمام هنا.
أهل مدينة بنوها بعد قسمة الوالي بينهم وترك فيها طريقا للعامة فرأى الوالي بعد ذلك أن يعطي بعض الطريق أحدا ينتفع به ولا يضر ذلك بأهل الطريق فإن كانت المدينة للوالي فهو جائز وإن كانت للمسلمين فلا ينبغي له أن يعطي منها شيئا ولا ينبغي للذي يعطي أن يأخذ من ذلك شيئا لأن الحق في ذلك الموضع ثابت للمسلمين وللإمام ولاية استيفاء حقهم دون الإسقاط وإيثار غيرهم عليهم في ذلك.(23/359)
ص -175- ... ألا ترى: أن الرجل لما جاء بكبة من شعر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخذتها من الفيء لأخيط بها برذعة بعير لي فقال عليه الصلاة والسلام: "أما نصيبي منها فهو لك" فلما تحرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بتلك الكبة دون سائر الغانمين عرفنا أن على كل والي أن يتحرز من مثل ذلك أيضا.
قوم اقتسموا أرضا لهم بينهم بالسوية ثم اختلفوا في مقدار الطريق فإن كانوا قد اختلفوا بعد تمام القسمة فالقول قول المدعي عليه لإنكاره حق الغير فيما في يده وإن كانوا لم يفرغوا من القسمة جعلوا الطريق بينهم على ما شاؤوا وقد بينا الكلام في الطريق في كتاب القسمة وأن الأثر المروي فيه بالتقدير بسبعة أذرع غير مأخوذ به وإلى ذلك أشار هنا فقال بلغنا في ذلك عن عكرمة أثر يرفعه: "إذا اشتجر القوم في الطريق جعل سبعة أذرع" ولا نأخذ به لأنا لا ندري أحق هذا الحديث أم لا ولو علمنا أنه حق أخذنا به ومعنى هذا أنه أثر شاذ فيما يحتاج الخاص والعام إلى معرفته وقد ظهر عمل الناس بخلافه فإن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا البلاد ولم ينقل عن أحد أنه أخذ بهذا الحديث في تقدير الطريق المنسوب إلى الناس بسبعة أذرع فعرفنا أن الحديث غير صحيح ولو علم أنه حق وجب الأخذ به لأن ما قدره صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام بتقدير يجب العمل به ولا يجوز الإعراض عنه بالرأي قولهم عشر بستات من ماء يجري لهم جميعا في نهر ومنهم من يرى عشر منتات وهو صحيح أيضا وكل واحد من اللفظين مستعمل في قسمة الماء وكل منت ست بستات وكل بست ست شعرات وهو معروف بين أهل مرو ومقصوده ما قال إذا أصفى منها من رجل منهم وقطع ذلك من نهرهم بحق الذي أصفى عنه من غير قسمة فهو شريكهم فيما بقي والذي أصفي من حقهم جميعا فالإصفاء هو الغصب فمعناه إذا غصب الوالي نصيب أحد الشركاء من الشرب وجعل ذلك لنفسه أو لغيره فهذا المغصوب يكون من حق الشركاء كلهم وما بقي مشترك بينهم على أصل(23/360)
حقهم لأن المغصوب كالمستهلك وما توى من المشترك يتوى على الشركة وما يبقى يبقى على الشركة فهذا مثله.
رجل له مجرى ماء يجري إلى بستانه أو يجري إلى دار قوم ميزاب له أو كان له ممشى في دار قوم قد كان يمشي فيه إلى منزله فاختلفوا في ذلك من أين يعلم أنه للمدعي قال إذا شهدوا أن له طريقا فيها أو مجرى ماء أو مسيل ماء قبلت الشهادة وقضى له بذلك لأنه يدعي لنفسه حقا في ملك الغير فلا تسمع دعواه إلا بحجة وما غاب عن القاضي علمه فالحجة فيه شهادة شاهدين ولا حاجة بالشاهدين إلى بيان صفة الطريق والمجرى والمسيل وإن كانوا لو بينوا ذلك كان أحسن وقد بينا هذا في كتاب الدعوى والله أعلم بالصواب.(23/361)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الرابع والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(24/1)
ص -3- ... كتاب الأشربة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم أن الخمر حرام بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى أن قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91] وسبب نزول هذه الآية سؤال عمر رضي الله عنه على ما روي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر مهلكة للمال مذهبة للعقل فادع الله تعالى يبينها لنا فجعل يقول: "اللهم بين لنا بيانا شافيا" فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219], فامتنع منها بعض الناس وقال بعضهم نصيب من منافعها وندع المأثم فقال عمر رضي الله عنه اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43], فامتنع بعضهم وقالوا لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة وقال بعضهم بل نصيب منها في غير وقت الصلاة فقال عمر اللهم زدنا في البيان فنزل قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] فقال عمر رضي الله عنه انتهينا ربنا.(24/2)
والخمر هو النيء من ماء العنب المشتد بعد ما غلى وقذف بالزبد اتفق العلماء رحمهم الله على هذا ودل عليه قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] أي عنبا يصير خمرا بعد العصر والميسر القمار والأنصاب ذبائحهم باسم آلهتهم في أعيادهم والأزلام القداح وأحدها زلم كقولك قلم وأقلام وهذا شيء كانوا يعتادونه في الجاهلية إذا أراد أحدهم أمرا أخذ سهمين مكتوب على أحدهما أمرني ربي والآخر نهاني ربي فجعلهما في وعاء ثم أخرج أحدهما فإن خرج الأمر وجب عليه مباشرة ذلك الأمر وإن خرج النهي حرم عليه مباشرته وبين الله تعالى أن كل ذلك رجس والرجس ما هو محرم العين وأنه من عمل الشيطان يعني أن من لا ينتهي عنه متابع للشيطان مجانب لما فيه رضا الرحمن وفي قوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] أمر بالاجتناب منه وهو نص في التحريم ثم بين المعنى فيه بقوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91], وكان هذا إشارة إلى الإثم الذي بينه الله تعالى في الآية الأولى بقوله عز وجل: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وفي قوله:(24/3)
ص -4- ... {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أبلغ ما يكون من الأمر بالاجتناب عنه وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} [لأعراف: من الآية33] والإثم من أسماء الخمر قال القائل:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقيل هذا إشارة إلى قوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
والسنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله في الخمر عشرا" الحديث وذلك دليل نهاية التحريم وقال عليه الصلاة والسلام: "شارب الخمر كعابد الوثن" وقال عليه الصلاة والسلام: "الخمر أم الخبائث" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا وضع الرجل قدحا في خمر على يده لعنته ملائكة السماوات والأرض فإن شربها لم تقبل صلاته أربعين ليلة وإن داوم عليها فهو كعابد الوثن", وكان جعفر الطيار رحمه الله يتحرز عن هذا في الجاهلية والإسلام ويقول العاقل يتكلف ليزيد في عقله فأنا لا أكتسب شيئا يزيل عقلي والأمة أجمعت على تحريمها وكفى بالإجماع حجة هذه حرمة قوية باتة حتى يكفر مستحلها ويفسق شاربها ويجب الحد بشرب القليل والكثير منها وهي نجسة نجاسة غليظة لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم منها, ولا يجوز بيعها بين المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها", وبعض المعتزلة يفصلون بين القليل والكثير منها في حكم الحرمة ويقولون المحرم ما هو سبب لوقوع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وذلك الكثير دون القليل وعند أهل السنة والجماعة القليل منها والكثير في الحرمة.(24/4)
وجميع ما ذكرنا من الأحكام سواء لقوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب" ثم في تناول القليل منها معنى العداوة والصد عن ذكر الله تعالى فالقليل يدعو إلى الكثير على ما قيل ما من طعام وشراب إلا ولذته في الابتداء تزيد على اللذة في الانتهاء إلا الخمر فإن اللذة لشاربها تزداد بالاستكثار منها ولهذا يزداد حرصه على شربها إذا أصاب منها شيئا فكان القليل منها داعيا إلى الكثير منها فيكون محرما كالكثير.
ألا ترى أن الربا لما حرم شرعا حرم دواعيه أيضا وإن المشي على قصد المعصية معصية وأما السكر فهو النيء من ماء التمر المشتد وهو حرام عندنا وقال شريك بن عبد الله هو حلال لقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] والرزق الحسن شرعا ما هو حلال وحكم المعطوف والمعطوف عليه سواء ولأن هذه الأشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على ما كان من قبل.
ألا ترى أن في الآيات بيان حكم الخمر وما كان يكثر وجود الخمر فيهم بالمدينة فإنها كانت تحمل من الشام وإنما كان شرابهم من التمر وفي ذلك ورد الحديث نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ منها شيء فلو كان تحريم سائر الأشربة مرادا بالآية لكان الأولى التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم لأن حاجتهم إلى معرفة ذلك.(24/5)
ص -5- ... وحجتنا في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخمر من هاتين الشجرتين الكرم النخل" ولم يرد به بيان الاسم لغة لأنه ما بعث مبينا لذلك وبين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتي من ماء العنب وواضع اللغة خص كل عين باسم هو حقيقة فيه وإن كان قد يسمى الغير به مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفلة الواضع والضرورة الداعية إلى ذلك وذلك غير متوهم هنا فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة ولما سئل بن مسعود رضي الله عنه عن شرب المسكر لأجل الصفر قال إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم فأما قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فقد قيل كان هذا قبل نزول آية التحريم وقيل في الآية إضمار وهو مذكور على سبيل التوبيخ أي تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا, فإن طبخ من العنب أدنى طبخه أو ذهب منه بالطبخ أقل من الثلثين ثم اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو حرام عندنا.(24/6)
وقال حماد بن أبي سليمان رحمه الله إذا طبخ حتى نضج حل شربه, وكان بشر المريسي يقول إذا طبخ أدنى طبخه فلا بأس بشربه, وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا إذا طبخ حتى ذهب منه النصف فلا بأس بشربه ثم رجع فقال ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله, وعن محمد رحمه الله أنه كره الثلث أيضا, وعنه أنه توقف فيه, وعنه أنه حرم ذلك كله إذا كان مسكرا وهو قول مالك والشافعي وطريق من توسع في هذه الأشربة ما ذكرنا أن قبل نزول التحريم كان الكل مباحا ثم نزل تحريم الخمر وما عرفنا هذه الحرمة إلا بالنص فبقي سائر الأشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله, ومن أثبت التحريم في الكل قال نص التحريم بصفة الخمرية والخمر ما خامر العقل وكل ما يكون مسكرا فهو مخامر للعقل فيكون النص متناولا له ولكنا نقول الاسم للتي من ماء العنب حقيقة ولسائر الأشربة مجازا ومتى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز وهبك أن الخمر يسمى لمعنى مخامرة العقل فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا.
ألا ترى أن الفرس الذي يكون أحد شقيه أبيض والآخر أسود يسمى أبلق ثم الثوب الذي يجتمع فيه لون السواد والبياض لا يسمى بهذا الاسم وكذلك النجم يسمى نجما لظهوره قالوا نجم أي ظهر ثم لا يدل ذلك على أن كل ما يظهر يسمى نجما.(24/7)
وأمامنا فيما ذكرناه من إباحة شرب المثلث عمر رضي الله عنه فقد روي عن جابر بن الحصين الأسدي رحمه الله أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أتاه بكتاب عمر رضي الله عنه يأمره أن يتخذ الشراب المثلث لاستمراء الطعام. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول لا أدع شربها بعد ما رأيت عمر رضي الله عنه يشربها ويسقيها الناس وقد كان عمر رضي الله عنه هو الذي سأل تحريم الخمر فلا يظن به أنه كان يشرب أو يسقي الناس ما تناوله نص التحريم بوجه ولا يجوز أن يقال إنما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد ذهب(24/8)
ص -6- ... بالطبخ نصيب الشيطان وربح جنونه وهذا لأنه إنما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام وإنما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو, وقد دل على هذه الجملة الآثار التي بدأ محمد رحمه الله بها الكتاب فمن ذلك حديث زياد قال سقاني بن عمر رضي الله عنه شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت عليه من الغد فأخبرته بذلك فقال ما زدناك على عجوة وزبيب وبن عمر رضي الله عنه كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يظن به أنه كان يسقي غيره ما لا يشربه ولا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم وقد ذكرنا أن ما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله وإنما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فإن ذلك لا يحل وفي قوله ما زدناك على عجوة وزبيب دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب والتمر وإن كان مشتدا وأنه لا بأس بشراب الخليطين بخلاف ما يقوله المتقشفة أنه لا يحل شراب الخليطين وإن كان حلوا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن شراب الخليطين", وتأويل ذلك عندنا أن ذلك كان في زمان الجدب كره للأغنياء الجمع بين النعمتين وفي الحديث زيادة فإنه قال: "وعن القران بين النعمتين وعن الجمع بين نعمتين".
والدليل على أنه لا بأس بذلك في غير زمان القحط حديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا فلم يستمرئه فأمرني فألقيت فيه زبيبا ولما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر والفانيد وعن بن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن المسكر فقال الخمر ليس لها كنية وفيه دليل تحريم السكر فإن مراده من هذا الجواب أن السكر في الحرمة كالخمر وإن كان اسمه غير اسم الخمر فكأنه أشار إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين".(24/9)
قال وسئل عن الفضيخ قال مراده بذلك الفضوح والفضيخ الشراب المتخذ من التمر بأن يفضخ التمر أي يشدخ ثم ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ثم يترك حتى يشتد وفيه دليل على أن التي من شراب التمر إذا اشتد فهو حرام سكرا كان أو فضيخا فإن السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا, وفي قوله بذلك الفضوح بيان أنه يفضح شاربه في الدنيا والآخرة لارتكابه ما هو محرم.
قال وسئل عن النبيذ والزبيب يعتق شهرا أو عشرا قال الخمر اخبتها وفي رواية اجتنبها أي هي في الحرمة كالخمر فاجتنبها فظاهر هذا اللفظ دليل لما روي عن أبي يوسف قال لا يحل ماء الزبيب ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان فإن قوله الخمر اجتنبها إشارة إلى ذلك أي الزبيب إذا نقع في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل أن يتزبب فكما أنه لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب منه الثلثان فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر ولكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر وماء التمر سواء إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه ومراد بن عمر رضي الله عنه تشبيهه النيء منه بالخمر في حكم الحرمة.(24/10)
ص -7- ... وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن قال: "انههم عن نبيذ السكر" والمراد النيء من ماء التمر المشتد وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عادة أهل اليمن في شرب ذلك فلهذا خصه بالأمر بالنهي عنه وسماه نبيذ الحمرة في لونه. وعن حصين بن عبد الرحمن قال كان لأبي عبيدة كرم بزبالة كان يبيعه عنبا وإذا أدرك العصير باعه عصيرا وفي هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير والعنب مطلقا ما دام حلوا كما لا بأس ببيع العنب وأخذ أبو حنيفة رحمه الله بظاهره فقال لا بأس ببيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا وهو قول إبراهيم رحمه الله لأنه لا فساد في قصد البائع فإن قصده التجارة بالتصرف فيما هو حلال لاكتساب الربح وإنما المحرم قصد المشتري اتخاذ الخمر منه وهو كبيع الجارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها في غير المأتي وكبيع الغلام ممن يصنع به ما لا يحل.(24/11)
وعن الضحاك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" معناه فهو من الظالمين المجاوزين لحدود الله تعالى قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وفيه دليل أنه لا يجوز أن يبلغ بالتعزير الحد الكامل لأن الحدود ثبتت شرعا جزاء على أفعال معلومة فتعديتها إلى غير تلك الأفعال يكون بالرأي ولا مدخل للرأي في الحدود لا في إثبات أصلها ولا في تعدية أحكامها عن مواضعها وعن إبراهيم رحمه الله قال لا بأس إذا كان للمسلم خمر أن يجعلها خلا وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا تخليل الخمر جائز خلافا لما قاله الشافعي رحمه الله وهذا لأن الآثار جاءت بإباحة خل الخمر على ما قال عليه الصلاة والسلام: "خير خلكم خل خمركم". وعن علي رضي الله عنه أنه كان يصطبغ الخبز بخل خمر ويأكله وإذا كان بالاتفاق يحل تناول خل الخمر فالتخليل بالعلاج يكون إصلاحا للجوهر الفاسد وذلك من الحكمة فلا يكون موجبا للحرمة ويأتي بيان المسألة في موضعه.(24/12)
وعن محمد بن الزبير رضي الله عنه قال استشار الناس عمر رضي الله عنه في شراب مرقق فقال رجل من النصارى إنا نصنع شرابا في صومنا فقال عمر رضي الله عنه إئتني بشيء منه قال فأتاه بشيء منه قال ما أشبه هذا بطلاء الإبل كيف تصنعونه قال نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فصب عليه عمر رضي الله عنه ماء وشرب منه ثم ناوله عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو عن يمينه فقال عبادة ما أرى النار تحل شيئا فقال عمر يا أحمق أليس يكون خمرا ثم يصير خلا فنأكله وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان مشتدا فإن عمر رضي الله عنه استشارهم في المشتد دون الحلو وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام وكان عمر رضي الله عنه حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين. وفيه دليل أنه لا بأس بإحضار بعض أهل الكتاب مجلس الشورى فإن النصراني الذي قال ما قاله. قد كان حضر مجلس عمر رضي الله عنه للشورى ولم ينكر عليه وفيه دليل أن خبر النصراني لا بأس بأن(24/13)
ص -8- ... يعتمد عليه في المعاملات إذا وقع في قلب السامع أنه صادق فيه وقد استوصفه عمر رضي الله عنه فوصفه له واعتمد خبره حتى شرب منه. وفيه دليل أن دلالة الإذن من حيث العرف كالتصريح بالإذن وأنه لا بأس بتناول طعامهم وشرابهم فإن عمر رضي الله عنه لم يستأذنه في الشرب منه وإنما كان أمره أن يأني به لينظروا إليه ثم جوز الشرب منه بناء على الظاهر ومن يستقصي في هذا الباب يقول تأويله أنه أخذه منه جزية لبيت المال ثم شرب منه وفيه دليل أن المثلث إن كان غليظا لا بأس بأن يرقق بالماء ثم يشرب منه كما فعله عمر رضي الله عنه والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى العباس في حجة الوداع فأتاه بشراب فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شربه وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا رابكم شيء من هذه الأشربة فاكسروا متونها بالماء".
وعن عمر رضي الله عنه أنه أتى بنبيذ الزبيب فدعا بماء وصبه عليه ثم شرب وقال إن لنبيذ زبيب الطائف غراما وفي مناولته عبادة بن الصامت وكان عن يمينه دليل على أن من يكون من الجانب الأيمن فهو أحق بالتقديم. والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعس من لبن فشرب بعضه وكان عن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه فقال للأعرابي أنت على يميني وهذا أبو بكر فقال الأعرابي ما أنا بالذي أوثر غيري على سؤرك فثله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأيمنون الأيمنون" ومنه قول القائل:
ثلاثة يمنة تدور ... الكأس والطست والبخور(24/14)
ثم أشكل على عبادة رضي الله عنه فقال ما أرى النار تحل شيئا يعني أن المشتد من هذا الشراب قبل أن يطبخ بالنار حرام فبعد الطبخ كذلك إذ النار لا تحل الحرام فقال له عمر رضي الله عنه يا أحمق أي يا قليل النظر والتأمل أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فنأكله يعني أن صفة الخمرية تزول بالتخليل فكذلك صفة الخمرية بالطبخ حتى يذهب منه الثلثان تزول. ومعنى هذا الكلام أن النار لا تحل ولكن بالطبخ تنعدم صفة الخمرية كالذبح في الشاة عينه لا يكون محللا ولكنه منهر للدم والمحرم هو الدم المسفوح فتسييل الدم المسفوح يكون محللا لانعدام ما لأجله كان محرما وبهذا أخذنا وقلنا يجوز التخليل لأنه إتلاف لصفة الخمرية وإتلاف صفة الخمرية لا يكون محرما.
وعن بن عباس رضي الله عنه قال كل نبيذ يفسد عند إبانه فهو نبيذ ولا بأس به وكل نبيذ يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وإنما أراد به النيء من ماء الزبيب أو التمر أنه ما دام حلوا ولم يصر معتقا فهو بحيث يفسد عند إبانه فلا بأس بشربه وإذا صار معتقا بأن غلا واشتد وقذف بالزبد فهو يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله في الابتداء في المطبوخ من ماء الزبيب والتمر أنه إذا صار معتقا لا يحل شربه وإن كان بحيث يفسد إذا ترك عشرة فلا بأس بشربه ثم رجع عن ذلك فقال قول بن عباس رضي الله عنه في النيء خاصة فهو النبيذ حقيقة مشتق من النبذ وهو الطرح أي ينبذ الزبيب والتمر في(24/15)
ص -9- ... الماء ليستخرج حلاوته فأما إذا طبخ فالطبخ يغيره عن حاله فلا يتناوله اسم النبيذ حقيقة وإن كان قد يسمى به مجازا.
وعن بن عباس رضي الله عنه قال حرمت الخمرة لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب وفيه دليل أن المحرم هو الأخير الذي يكون منه السكر كالمؤلم اسم لما يتولد الألم منه وأن الخمر حرام لعينها والقليل والكثير في الحكم سواء وفي المثلث والمطبوخ من الزبيب والتمر يفصل بين القليل والكثير فلا بأس بشرب القليل منه وإنما يحرم منه ما يتعقبه السكر وهو القدح الأخير قال بن عباس رضي الله عنه الكأس المسكرة هي الحرام. قال أبو يوسف رحمه الله وأما مثل ذلك دم في ثوب فلا بأس بالصلاة فيه إن كان قليلا فإذا كثر لم تحل الصلاة فيه ومثله رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا بأس بذلك فإذا أسرف في النفقة لم يصلح له ذلك ولا ينبغي وكذلك النبيذ لا بأس بأن يشربه على طعام ولا خير في المسكر منه لأنه إسراف فإذا جاء السكر فليدع الشرب.
ألا ترى أن اللبن وما أشبهه من الشراب حلال ولا ينبغي له إن كان يسكر أن يستكثر منه؟
ألا ترى أن البنج لا بأس بأن يتداوى به الإنسان فإذا كاد أن يذهب عقله منه فلا ينبغي أن يفعل ذلك وفي هذا كله بيان أن المحرم هو السكر إلا أن في الخمر القليل يدعو إلى الكثير كما قررنا فيحرم شرب القليل منها لأنها داعية إلى الكثير وذلك في المثلث لا يوجد فإنه غليظ لا يدعو قليله إلى كثيره بل بالقليل يستمرى ء طعامه ويتقوى على الطاعة والكثير يصدع رأسه.
ألا ترى أن الذين يعتادون شرب المسكر لا يرغبون في المثلث أصلا؟ ولا يقال: القدح الأخير مسكر بما تقدمه لأن المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه ويقوي بدنه حلال وما يتخمه وهو الأكل فوق الشبع حرام ثم المحرم منه المتخم وهو ما زاد على الشبع وإن كان هذا لا يكون متخما إلا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب.(24/16)
وعن بن مسعود رضي الله عنه أن إنسانا أتاه وفي بطنه صفراء فقال وصف لي السكر فقال عبد الله إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وبه نأخذ فنقول كل شراب محرم فلا يباح شربه للتداوي حتى روي عن محمد أن رجلا أتى يستأذنه في شرب الخمر للتداوي قال إن كان في بطنك صفراء فعليك بماء السكر وإن كان بك رطوبة فعليك بماء العسل فهو أنفع لك ففي هذا إشارة إلى أنه لا تتحقق الضرورة في الإصابة من الحرام فإنه يوجد من جنسه ما يكون حلالا والمقصود يحصل به وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يجعل في رجس شفاء" ولم يرد به نفي الشفاء أصلا فقد يشاهد ذلك ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشرع عليه الصلاة والسلام ولكن المراد أنه لم يعين رجسا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله أو يكون أقوى منه.(24/17)
ص -10- ... وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور فزوروها فقد أذن لمحمد في زيادة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فأمسكوه ما بدا لكم وتزودوا فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في كل ظرف فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا مسكرا" وفي رواية بن مسعود رضي الله عنه قال وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا وهذا اللفظ رواه أبو بردة بن نيار أيضا وفي الحديث دليل نسخ السنة بالسنة فقد أذن في هذه الأشياء الثلاثة بعد ما كان نهى عنها وبالإذن ينسخ حكم النهي وقيل المراد النهي عن زيارة قبور المشركين فإنهم ما منعوا عن زيارة قبور المسلمين قط.(24/18)
ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال: "قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه" وكانت قد ماتت مشركة وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه وقيل إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يندبون الموتى عند قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "ولا تقولوا هجرا" أي: لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع هو التكلم باللغو فذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا ومن العلماء من يقول الإذن للرجال دون النساء والنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روي أن فاطمة رضي الله عنها خرجت في تعزية لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك أتيت المقابر" قالت لا فقال عليه الصلاة والسلام: "لو أتيت ما فارقت جدتك يوم القيامة" أي: كنت معها في النار والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة في حق الرجال والنساء جميعا فقد روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأنشدت عند القبر قول القائل:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا(24/19)
والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام قد انتسخ بقوله عليه الصلاة والسلام: فأمسكوا ما بدا لكم وتزودوا فإن القربة تنادي بإراقة الدم والتدبير في اللحم بعد ذلك من الأكل والإمساك والإطعام إلى صاحبه إلا أنه للضيق والشدة في الابتداء نهاهم عن الإمساك على وجه النظر والشفقة ليتبع موسرهم على معسرهم ولما انعدم ذلك التضييق أذن لهم في الإمساك فأما النهي عن الشرب في الأواني فقد كان في الابتداء نهاهم عن الشرب في الأواني المتثلمة تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الروايا فلما تم(24/20)
ص -11- ... انزجارهم عن ذلك أذن لهم في الشرب في الأواني وبين لهم أن المحرم شرب المسكر وأن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه وقد بينا أن المسكر ما يتعقبه السكر وهو الكأس الأخير.
وعن إبراهيم رحمه الله قال أتى عمر رضي الله عنه بأعرابي سكران معه إداوة من نبيذ مثلث فأراد عمر رضي الله عنه أن يجعل له مخرجا فما أعياه إلا ذهاب عقله فأمر به فحبس حتى صحا ثم ضربه الحد ودعا بإداوته وبها نبيذ فذاقه فقال أوه هذا فعل به هذا الفعل فصب منه في إناء ثم صب عليه الماء فشرب وسقى أصحابه وقال إذا رابكم شرابكم فاكسروه بالماء, وفيه دليل أنه ينبغي للإمام أن يحتال لإسقاط الحد بشبهة يظهرها كما قال عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وقد كانوا يفعلون ذلك في الحدود كلها.
وفي حديث الشرب على الخصوص لضعف في سببه على ما روي عن علي رضي الله عنه قال ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فآخذ في نفسي من ذلك شيئا إلا حد الخمر فإنه يثبت بآرائنا فلهذا طلب عمر رضي الله عنه مخرجا له وفيه دليل على أن السكران يحبس حتى يصحو ثم يقام عليه الحد لأن المقصود هو الزجر وذلك لا يتم بالإقامة عليه في حال سكره فإنه لاختلاط عقله ربما يتوهم أن الضارب يمازحه بما يضربه والمقصود إيصال الألم إليه ولا يتم ذلك ما لم يصح وتأخير إقامة الحد بعذر جائز كالمرأة إذا لزمها حد الزنى بالرجم وهي حبلى لا يقام عليها حتى تضع وفيه دليل أنه لا بأس بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا وإن كان مشتدا فإن عمر رضي الله عنه قد شرب منه بعد ما صب عليه الماء وسقى أصحابه ثم لم يبين أن الأعرابي أذن له في الشرب من إداوته ولكن الظاهر أنه شرب ذلك بإذنه حتى روي أنه قال أتضربني فيما شربته فقال عمر رضي الله عنه إنما حددتك لسكرك فهو دليل أنه إذا سكر من النبيذ الذي يجوز شرب القليل منه يلزمه الحد.(24/21)
وعن حماد رضي الله عنه قال دخلت على إبراهيم رحمه الله وهو يتغدى فدعا بنبيذ فشرب وسقاني فرأى في الكراهة فحدثني عن علقمة رحمه الله أنه كان يدخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيتغدى عنده ويشرب عنده النبيذ يعني نبيذ الجر. وقد روي أن بن مسعود رضي الله عنه كان يعتاد شربه حتى ذكر عن أبي عبيدة أنه أراهم الجر الأخضر الذي كان ينبذ فيه لابن مسعود رضي الله عنه وعن نعيم بن حماد رضي الله عنه قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان رحمه الله وكان يحدثنا بحرمة النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش رحمه الله فقال أسكت يا صبي حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة رحمه الله أنه شرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نبيذا مشتدا صلبا وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه نبيذا مشتدا كان يعتاد شربه. وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سقاني علي رضي الله عنه نبيذا فلما رأى ما بي من التغير بعث معي قنبرا يهديني. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه قال إن القوم ليجتمعون على الشراب وهو لهم حلال فلا يزالون يشربون حتى يحرم عليهم يعني إذا بلغوا حد السكر وكذلك عمر رضي الله عنه كان يشرب(24/22)
ص -12- ... المثلث ويأمر باتخاذه للناس حتى روي عن داود بن أبي هند قال قلت لسعيد بن المسيب الطلاء الذي يأمر عمر رضي الله عنه باتخاذه للناس ويسقيهم منه كيف كان قال كان يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه والمراد أنه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر رضي الله عنه قال إنا ننحر جزورا للمسلمين والعنق منها لآل عمر ثم يشرب عليه من هذا النبيذ فيقطعه في بطوننا.
ولكثرة ما روي من الآثار في إباحة شرب المثلث ذكر أبو حنيفة رحمه الله فيما عد من خصال مذهب أهل السنة. وأن لا يحرم نبيذ الجر. وعن بعض السلف قال لأن أخر من السماء فانقطع نصفين أحب إلي من أن أحرم نبيذ الجر وإنما قال ذلك لما في التحريم من رد الآثار المشهورة وإساءة القول في الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وذلك لا يحل فأما مع الإباحة فقد لا يعجب المرء الإصابة من بعض المباحات للاحتياط أو لأنه لا يوافق طبعه وهذه الرخصة تثبت بعد التحريم فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا روي عن بن مسعود رضي الله عنه قال شهدت تحريمه كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ذلك ونسيتم فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة.(24/23)
وعن إبراهيم رحمه الله قال إنما كره التمر والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم والتمر وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين فأما اليوم فلا بأس به وهذا منه بيان تأويل النهي عن شراب الخليطين وإنه لا بأس به اليوم وعن إبراهيم قال قول الناس ما أسكر كثيره فقليله حرام خطأ منهم إنما أراد السكر حرام فأخطئوا وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك فمر بقوم يزفتون فقال: "ما هؤلاء" فقيل أصابوا من شراب لهم: "فنهاهم أن يشربوا في الدباء والحنتم والمزفت" فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة فأذن لهم أن يشربوا منها ونهاهم عن المسكر وفيه دليل أن الرخصة كانت بعد النهي وأنه عليه الصلاة والسلام نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد أن لا يبلغوا حد المسكر والزبيب المعتق إذا لم يطبخ فلا بأس بشربه ما لم يغل فإذا غلا واشتد فلا خير فيه. والكلام هنا في فصول أحدها في الخمر وقد بيناه وإنما بقي الكلام فيه في فصل واحد وهو أن عند أبي حنيفة العصير وإن اشتد فلا بأس بشربه ما لم يغل ويقذف بالزبد فإذا غلا وقذف بالزبد فهو خمر حينئذ.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا اشتد فهو خمر لأن صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل وذلك باعتبار صفة الشدة فيه يوضحه أن حرمة الخمر لما في شربها من إيقاع العداوة والصد عن ذكر الله تعالى وذلك باعتبار اللذة المطربة والقوة المسكرة فيها فأما بالغليان والقذف بالزبد فيرق ويصفو ولا تأثير لذلك في إحداث السكر فبعد ما صار مشتدا فهو خمر سواء غلا وقذف بالزبد أو لم يغل. يوضحه أنه قد يحتال بإلقاء شيء عليه(24/24)
ص -13- ... ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ولا قذف بالزبد أصلا ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا فعرفنا أن المعتبر فيه الشدة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المسكر صفة العصير وهو أصل لما يعصر من العنب وما بقي أثر من آثار الأصل فالحكم له.
ألا ترى أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان ثم حكم الصحة والحد لا يمكن إثباته بالرأي ولكن طريق معرفته النص والنص إنما ورد بتحريم الخمر والخمر مغاير للعصير ولا تتم المغايرة مع بقاء شيء من آثار العصير وقد كان الحل ثابتا فيه وما عرف ثبوته بيقين لا يزال إلا بيقين مثله وذلك بعد الغليان والقذف بالزبد والأصل في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنى والسرقة لا يجب إلا بعد كمال الفعل اسما وصورة ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم والحدود تندرى ء بالشبهات فلهذا استقصى أبو حنيفة رحمه الله وقال لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشدة إلا بعد الغليان والقذف بالزبد فأما نبيذ التمر ونبيذ الزبيب, فإن لم يطبخ حتى غلا واشتد وقذف بالزبد فهو حرام لما روينا من الآثار فيه وبعد الطبخ يحل شربه وإن اشتد واتفقت الروايات في التمر أن المعتبر فيه أدنى الطبخ وهو أن ينضج وفي الزبيب المعتق كذلك وهو أن يكسر بشيء ثم تستخرج حلاوته بالماء كما في التمر وأما إذا نقع في الماء فقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يعتبر فيه الطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه كما في العصير. والوجه فيه ما حكي عن السلف رحمهم الله أن ما يكون منه العصير ابتداء إذا أعيد إلى ما كان عليه في الابتداء فحكم ما يعصر منه حكم العصير وما لا يكون منه العصير في الابتداء لا يثبت فيه حكم العصير في الانتهاء فما يسيل من الرطب في الابتداء يحل بأدنى الطبخ فكذلك في الانتهاء وما يسيل من العنب في الابتداء لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه فكذلك في الانتهاء, فأما في ظاهر(24/25)
المذهب فالزبيب والتمر سواء وإذا طبخ أدنى طبخه فإنه يحل شرب القليل منه وإن اشتد لأن العصير الذي كان في العنب قد ذهب حين زبب والزبيب عين آخر سوى العنب.
ألا ترى إن غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق المغصوب منه في الاسترداد فإذا تعتبر حاله على هذه الصفة وعلى هذه الصفة هو والتمر سواء في الحكم ثم التي من نبيذ التمر والزبيب وإن كان لا يحل شربه فهو ليس نظير الخمر في الحكم حتى يجوز بيعه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز بيعه ولا يجب الحد بالشرب منه ما لم يسكر.
وإذا أصاب الثوب منه أكثر من قدر الدرهم تجوز الصلاة فيه وكذلك المنصف وهو الذي ذهب بالطبخ نصفه إذا غلا واشتد لا يحل شربه ولكن يجوز بيعه عند أبي حنيفة ولا يجب الحد على من شرب منه ما لم يسكر وتجوز الصلاة فيه إذا أصاب الثوب منه ما لم يكن كثيرا فاحشا وفي النادق وهو ما طبخ أدنى طبخه وكان دون النصف فأظهر الروايتين عن أبي(24/26)
ص -14- ... حنيفة رحمه الله أنه بمنزلة المنصف في حكم البيع والحد وعنه في رواية أخرى أنه ألحق بالخمر في أنه لا يجوز بيعه وأما حكم النجاسة فيه فلأنه مختلف بين العلماء رحمهم الله في حرمته ويتحقق فيه معنى البلوى أيضا وباعتبار هذين المعنيين يخف حكم النجاسة كما في بول ما يؤكل لحمه وأما في حكم الحد فلأن العلماء رحمهم الله لما اختلفوا في حرمته فالاختلاف المعتبر يورث شبهة والحد مما يندرى ء بالشبهات وأما حكم البيع فهما يقولان أن عينه محرمة التناول فلا يجوز بيعه كالخمر وهذا لأن البيع باعتبار صفة المالية والتقوم باعتبار كونه منتفعا به شرعا ولا منفعة في هذا المشروب سوى الشرب وإذا كان محرم الشرب شرعا كان فاسدا لماليته والتقوم شرعا فلا يجوز بيعه كالخمر ولأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم سوى في الخمر بين البيع والشرب حين لعن بائعها ومشتريها كما لعن شاربها وهذا لأن البيع يكون تسليطا للمشتري على الشرب عادة فإذا كان الشرب حراما حرم البيع أيضا وهذا المعنى موجود في هذه الأشربة، وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا شراب مختلف في إباحة شربه بين العلماء رحمهم الله فيجوز بيعه كالمثلث وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع فإن الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه وكذلك بيع السرقين جائز وإن كان تناوله حراما والسرقين محرم العين ومع ذلك كان بيعه جائزا فكذلك المنصف وما أشبهه وبطلان بيع الخمر عرفناه بالنص الوارد فيه وما عرف بالنص لا يلحق به إلا ما يكون في معناه من كل وجه وهذه الأشربة ليست في معنى الخمر من كل وجه بدليل حكم الحد وحكم النجاسة فجاز بيعها باعتبار الأصل.(24/27)
فأما المثلث على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فلا بأس بشربه والمسكر منه حرام وهو رواية عن محمد رحمه الله أيضا وعنه أنه كره شربه. وعنه أنه حرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله احتجوا في ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام" وفي رواية قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وفي رواية: "ما أسكرت الجرعة منه فالجرعة منه حرام" وفي رواية: "فملء الكف منه حرام" ولأن المثلث بعد ما اشتد خمر لأن الخمر إنما يسمى بهذا الاسم لا لكونه ماء.
ألا ترى أن العصير الحلو لا يسمى خمرا وإنما تسميته بالخمر لمعنى مخامرته العقل وذلك موجود في سائر الأشربة المسكرة.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على إثبات هذا الاسم له فإذا سماه صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام به وهو أفصح العرب أولى. يوضحه أن الكثير من هذه الأشربة مساو للكثير من الخمر في حكم الحرمة ووجوب الحد فكذلك القليل, وبهذا تبين أن القليل في الحرمة كالكثير لأن شرب القليل منه لو كان مباحا لما وجب الحد وإن سكر منه لأن السكر إنما حصل بشرب الحلال والحرام جميعا فباعتبار جانب الحلال يمنع وجوب الحد عليه, وإذا(24/28)
ص -15- ... اجتمع الموجب للحد والمسقط له ترجح المسقط على الموجب. وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا بما روينا من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم وأقوى ما يستدل به قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها والمسكر من كل شراب" وبهذا تبين أن اسم الخمر لا يتناول سائر الأشربة حقيقة لأن عطف الشيء على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم وقد بينا أنه كان يسمى خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة وما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كل مسكر خمر" لا يكاد يصح فقد قال يحيى بن معين رحمه الله ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر في جملتها "كل مسكر خمر" ثم مراد النبي عليه الصلاة والسلام تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي ونحن نقول أن المسكر وهو القدح الأخير مشبه للخمر في أنه يجب الحد بشربه.(24/29)
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "استسقى يوم النحر عام حجة الوداع فأتى بنبيذ من السقاية فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ورده" قال العباس رضي الله عنه أحرام هذا يا رسول الله فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بماء وصب عليه ثم شرب وقال: إنه إذا استلبث عليكم شيء من الأشربة فاكسروا متونها بالماء فقد كان مشتدا" ولهذا قطب وجهه ورده ثم لما خاف أن يظن الناس أنه حرام أخذه وشربه فدل أن المشتد من المثلث لا بأس بشربه. ولا يقال إنما قطب وجهه لحموضته لأن شرب السقاية إنما كان يتخذ لشرب الحاج ولا يسقى الخل العطشان فعرفنا أنه قطب وجهه للشدة والمعنى فيه أن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعلم بالإصابة منه تلك اللذة فيتم الترغيب فيه وما هو مباح في الدنيا يصير كالأنموذج لما هو موعود في دار الآخرة.
ألا ترى أنه لما وعد الله المؤمنين الشرب في الكأس في الذهب والفضة في الآخرة أحل من جنسه في الدنيا وهو الشرب من الكأس المتخذ من الزجاج والبلور وغير ذلك لهذا المعنى ولهذا الماء وعد المؤمنين الحلية في الآخرة أحل لهم ما هو من جنس ذلك في ذلك.(24/30)
ونقرر هذا الحرف من وجه آخر فنقول إن الشرع حرم الخمر ولا شك أن هذه الحرمة لمعنى الابتلاء وإنما يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذة ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس وتعاطيها للأمر وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق والإصابة فلا بد من أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة فيتحقق معنى الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا وغيره إلا أن في الخمر القليل والكثير منه حرام لأن قليله يدعو إلى كثيره فأما هذه الأشربة ففيها من الغلظ والكثافة ما لا يدعو قليلها إلى كثيرها فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة والمسكر منها حرام.(24/31)
ص -16- ... وقد بينا أن المسكر هو الكأس الأخير وأنه مباين في الحكم لما ليس بمسكر منه وهو كمن شرب أقداحا من ماء ثم شرب قدحا من الخمر فالمحرم عليه هو الخمر وبها يلزمه الحد دون ما سبق من الأقداح فهذا مثله. فإن كان يسكر بشرب الكثير منه فذاك لا يدل على أنه يحرم تناول القليل منه كالبنج ولبن الفرس. وأما الحديث فنحن نقول به وكل مسكر عندنا حرام وذلك القدح الأخير وروي عن أبي يوسف أنه قال في تأويله إذا كان يشرب على قصد السكر فإن القليل والكثير على هذا القصد حرام فأما إذا كان يشرب لاستمراء الطعام فلا فهو نظير المشي على قصد الزنى يكون حراما وعلى قصد الطاعة يكون طاعة. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" هو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والقدح الأخير الذي هو مسكر قليله وكثيره حرام" ثم هذا عند التحقيق دليلنا فبهذا يتبين أن ما هو الكثير منه يكون مسكرا فالمحرم عليه قليل من ذلك الكثير وإنما يكون ذلك إذا جعلنا المحرم هو القدح الأخير فأما إذا جعلنا الكل محرما فلا يكون المحرم قليلا من ذلك الكثير كما اقتضاه ظاهر الحديث.(24/32)
ثم قد بينا أن هذا كان في الابتداء لتحقيق الزجر ثم جاءت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه ومهما أمكن الجمع بين الآثار فذلك أولى من الأخذ ببعضها والإعراض عن بعضها ولا بأس بنبيذ التمر والبسر جميعا أو أحدهما وحده إذا طبخ لأن البسر من نوع التمر فإنه يابس العصب. وقد بينا أن المطبوخ من نبيذ التمر شربه حلال والمسكر منه حرام وكذلك التمر والزبيب أو البسر والزبيب وهو شراب الخليطين وقد بينا الكلام فيه وبعد ما طبخ معتقه وغير معتقه سواء في إباحة الشرب يعني المشتد منه وغير المشتد منه والمحرم المسكر منه وذلك بغير المشتد لا يحصل ولو حصل كان محرما أيضا بمنزلة الأكل فوق الشبع ولا بأس بهذه الأنبذة كلها من العسل والذرة والحنطة والشعير والزبيب والتمر وكل شيء من ذلك أو غيره من النبيذ عتق أو لم يعتق خلط بعضها ببعض أو لم يخلط بعد أن يطبخ أما الكلام في نبيذ التمر والزبيب فقد بيناه وأما في سائر الأنبذة ففي ظاهر الجواب لا بأس بالشرب منه مطبوخا كان أو غير مطبوخ.
وفي النوادر روى هشام عن محمد رحمهما الله أن شرب النيء منه بعد ما اشتد لا يحل لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من خمسة من النخل والكرم والحنطة والشعير والذرة" وليس المراد به أنه خمر حقيقة وإنما المراد التشبيه بالخمر في أنه لا يحل شربه وقد ثبت بالدليل أن النيء من نقيع الزبيب والتمر إذا كان مشتدا لا يحل شربه فكذلك من سائر الأشربة لأن معنى الشدة يجمع الكل. وجه ظاهر الرواية أن العسل والذرة والشعير حلال التناول متغيرا كان أو غير متغير فكذلك ما يتخذ منها من الأشربة لأن هذا في معنى الطعام والتغير في الطعام لا يؤثر في الحرمة فكذلك نفس الشدة لا توجب الحرمة فقد يوجد ذلك في بعض الأدوية كالبنج وفي بعض الأشربة كاللبن والحديث فيه شاذ والشاذ فيما تعم به(24/33)
ص -17- ... البلوى لا يكون مقبولا وهو محمول على التحريم الذي كان قبل الرخصة لتحقق المبالغة في الزجر ولا حد على شارب ما يتخذ من العسل والحنطة والشعير والذرة. وكذلك ما يتخذ من الفانيد والتوت والكمثري وغير ذلك أسكر أو لم يسكر لأن النص ورد بالحد في الخمر وهذا ليس في معناه فلو أوجبنا فيه الحد كان بطريق القياس ثم الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه ودعاء الطبع إلى هذه الأشربة لا يكون كدعاء الطبع إلى المتخذ من الزبيب والعنب والتمر فلا يشرع فيه الزجر أيضا وإن اشتد عصير العنب وغلا وقذف بالزبد ثم طبخ بعد ذلك لم يحل بالطبخ لأن الطبخ لاقى عينا حراما فلا يفيد الحل فيه كطبخ لحم الخنزير وهذا لأنه ليس للنار تأثير في الحل ولا في تغيير طبع الجوهر بخلاف العصير الحلو إذا طبخ فالطبخ هناك حصل في عين حلال.
وللطبخ تأثير في منع ثبوت صفة الحرمة فيه كما بينا أن الخمر هي التي من ماء العنب إذا اشتد. فإذا طبخ العصير ثم اشتد فهو حين اشتد ما كان نيأ فلا يكون خمرا فأما الأول فحين اشتد كان نيأ وصار خمرا ثم الطبخ في الخمر لا يوجب تبديل عينه ولهذا يحد من شرب منه قليلا كان أو كثيرا. ولا بأس بنبيذ الفضيخ يعني إذا صب عليه الماء ثم طبخ وترك حتى اشتد فهذا لا بأس به لأن الطبخ لاقى عينا حلالا ولأنه إن رق فرقته باعتبار ما فيه من أجزاء الماء والماء حلال الشرب وحده والفضيخ كذلك فكذلك بعد الجمع بينهما. قلت فهل يرخص في شيء من المطبوخ على النصف أو أقل من ذلك وهو حلو. قال لا أرخص في شيء من ذلك إلا ما قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. قيل هذا غلط والصحيح وهو غير حلو فالحلو حلال وإن كان نيأ كيف لا يحل بعد الطبخ. وقيل المراد به أنه طبخ وهو حلو لم يتغير حين ذهب منه النصف أو أقل ثم ترك حتى اشتد فهذا هو المنصف والقاذف وقد بينا الكلام فيهما في حكم الشراء والبيع.(24/34)
وإذا وقعت قطرة من خمر أو مسكر أو نقيع زبيب قد اشتد في قدح من ماء أمرت بإراقته وكرهت شربه والتوضؤ به لأنه تنجس بما وقع فيه والتوضؤ بالماء النجس لا يجوز. وإذا شربه فلا بد أن يكون شاربا للقطرة الواقعة فيه وذلك حرام ولأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحل والموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة على الموجب للحل. فإن شرب رجل ماء فيه خمر فإن كان الماء غالبا بحيث لا يوجد فيه طعم الخمر ولا ريحه ولا لونه لم يحد لأن المغلوب مستهلك بالغالب والغالب ماء نجس ولأن الحد للزجر والطباع السليمة لا تدعو إلى شرب مثله على قصد التلهي فأما إذا كان الخمر غالبا حتى كان يوجد فيه طعمه وريحه وتبين لونه حددته لأن الحكم للغالب والغالب هو الخمر ولأن الطباع تميل إلى شرب مثله للتلهي وقد يؤثر المرء الممزوج على الصرف وقد يشرب بنفسه صرفا ويمزج لجلسائه وهو وإن مزجه بالماء لم يخرج من أن يكون خمرا اسما وحكما ومقصودا ولو لم يجد فيه ريحها ووجد طعمها حد لأن الرغبة في شربها لطعمها لا لريحها.(24/35)
ص -18- ... ألا ترى أنه يتكلف لإذهاب ريحها ولزيادة القوة في طبعها. ولو ملأ فاه خمرا ثم مجه ولم يدخل جوفه منها شيء فلا حد عليه لأنه ذاق الخمر وما شرب.
ألا ترى أنه لا يحنث في اليمين المعقودة على الشرب بهذه وأن الصائم لو فعله مع ذكره للصوم لا يفسد صومه. وكذلك الطبع لا يميل إلى هذا الفعل فلا يشرع فيه الزجر بخلاف شرب القليل فإنه من جنس الشرب والطبع مائل إلى شرب الخمر.
قلت والتمر المطبوخ يمرس فيه العنب فيغليان جميعا والعنب غير مطبوخ. قال أكره ذلك وأنهي عنه ولا أحد من شرب منه إلا أن يسكر والكلام في فصلين أحدهما في طبخ العنب قبل أن يعصر فإن الحسن روى عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه بمنزلة الزبيب والتمر يكفي أدنى الطبخ فيه. ولكن الحسن بن أبي مالك رحمه الله أنكر هذه الرواية وقال سمعت أبا يوسف عن أبي حنيفة يقول إنه لا يحل ما لم يذهب ثلثا ما فيه بالطبخ وهو الأصح لأن الذي في العنب هو العصير والعصر مميز له عن الثفل والقشر وكما لا يحل العصير بالطبخ ما لم يذهب منه ثلثاه فكذلك العنب فإن جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين الزبيب والتمر لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه بخلاف ما لو خلط عصير العنب بنقيع التمر والزبيب وهذا لأن العصر لا يحل بالطبخ ما لم يذهب ثلثاه إذا كان وحده فكذلك إذا كان مع غيره لأنه اجتمع فيه الموجب للحل والحرمة وفي مثله يغلب الموجب للحرمة احتياطا.(24/36)
وذكر المعلى في نوادره أن نقيع التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخه ثم نقع فيه تمر أو زبيب فإن كان ما نقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله فهو معتبر ولا بأس بشربه. وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل شربه ما لم يطبخ قبل أن يشتد لأنه في معنى نقيع مطبوخ. ولو صب في المطبوخ قدح من نقيع لم يحل شربه إذا اشتد ويغلب الموجب للحرمة على الموجب للحل فهذا مثله. ولا يحد في شرب شيء من ذلك ما لم يسكر إما لاختلاف العلماء رحمهم الله في إباحة شربه أو لأن ثبوت الحرمة للاحتياط وفي الحدود يحتال للدرء وللإسقاط فلا يجب به الحد ما لم يسكر.
وإن خلط الخمر بالنبيذ وشربه رجل ولم يسكر فإن كانت الخمر هي الغالبة حددته وإن كان النبيذ هو الغالب لم نحده لما بينا أن المغلوب يصير مستهلكا بالغالب ويكون الحكم للغالب وهذا في الجنسين مجمع عليه والنبيذ والخمر جنسان مختلفان فإن أحكامهما مختلفة فإن طبخ الزبيب وحده أو التمر ثم مرس العنب فيه فلا بأس به ما دام حلوا فإذا اشتد فلا خير فيه. وكذلك إن مرس العنب في نبيذ العسل فهو بمنزلة عصير خلط بنبيذ واشتد فإن طبخا جميعا حتى ذهب ثلثا العصير ثم اشتد فلا بأس به لأن ما هو الشرط في العصير وهو ذهاب الثلثين بالطبخ قد وجد والعنب الأبيض والأسود يعصران لا بأس بعصيرهما ما دام حلوا فإذا اشتد فهو خمر وإنما أورد هذا لأنه وقع عند بعض العوام أن الخمر من العنب(24/37)
ص -19- ... الأسود دون الأبيض هذا وإن كان لا يشكل على الفقهاء فلرد ما وقع عند العوام كما ذكر في الاصطياد بالكلب الكردي في كتاب الصيد وقد بيناه. وما طبخ من التمر والزبيب وعتق فلا بأس به.
وقال أبو يوسف رحمه الله أكره المعتق من الزبيب والتمر وأنهي عنه وهذا قوله الأول على ما بينا أنه كان يقول أولا كل نبيذ يزداد جودة عند إبانه فلا خيار فيه وقد رجع عن هذا إلى قول أبي حنيفة وقد ذكر رجوعه في روايات أبي حفص رحمه الله. وكذلك نبيذ التمر المعتق يجعل فيه الراذي وهو شيء يجعلونه في نبيذ التمر عند الطبخ لتقوى به شدته وينتقص من النفخ الذي هو فيه والشدة بعد الطبخ لا تمنع شربه فكذلك إذا جعل فيه ما تتقوى به الشدة فذلك يمنع شربه ويكره شرب دردي الخمر والانتفاع به لأن الدردي من كل شيء بمنزلة صافيه والانتفاع بالخمر حرام فكذلك بدرديه وهذا لأن في الدردي أجزاء الخمر.
ولو وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به فالدردي أولى. والذي روي أن سمرة بن جندب رضي الله عنه كان يتدلك بدردي الخمر في الحمام فقد أنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك حتى لعنه على المنبر لما بلغه ذلك عنه وليس لأحد أن يأخذ بذلك بعد ما أنكره عمر رضي الله عنه, ولو شرب منه ولم يسكر فلا حد عليه عندنا. وقال الشافعي رحمه الله يلزمه الحد لأن الحد يجب بشرب قطرة من الخمر وفي الدردي قطرات من الخمر. ولكنا نقول وجوب الحد للزجر وإنما يشرع الزجر فيما تميل إليه الطباع السليمة والطباع لا تميل إلى شرب الدردي بل من يعتاد شرب الخمر يعاف الدردي فيكون شربه كشرب الدم والبول ثم الغالب على الدردي أجزاء ثفل العنب من القشر وغيره ولو كان الغالب هو الماء لم يجب الحد بشربه كما بينا فكذلك إذا كان الغالب ثفل العنب ولا بأس بأن يجعل ذلك في خل لأنه يصير خلا فإن من طبع الخمر يصير خلا إذا ترك كذلك فإذا غلب عليه الخل أولى أن يصير خلا وخل الخمر حلال.(24/38)
وإذا طبخ في الخمر ريحان يقال له سوسن حتى يأخذ ريحها ثم يباع لا يحل لأحد أن يدهن أو يتطيب به لأنه عين الخمر وإن تكلفوا لإذهاب رائحته برائحة شيء آخر غلب عليها, والانتفاع بالخمر حرام قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله في الخمر عشرا" وقال في الجملة من ينتفع بها ولا تمتشط المرأة بالخمر في الحمام لأنها في خطاب تحريم الشرب كالرجل وكذلك في وجوب الحد عليها عند الشرب فكذلك في الانتفاع بها من حيث الامتشاط وذلك شيء يصنعه بعض النساء لأنه يزيد في ترنيق الشعر وقد صح عنعائشة رضي الله عنها أنها كانت تنهي النساء عن ذلك أشد النهي.
وكذلك لا يحل أن يسقى الصبيان الخمر للدواء وغير ذلك والإثم على من يسقيهم لأن الإثم ينبني على الخطاب والصبي غير مخاطب ولكن من يسقيه مخاطب فهو الآثم(24/39)
ص -20- ... والأصل فيه حديث بن مسعود رضي الله عنه قال إن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تداووهم بالخمر ولا تغذوهم بها فإن الله تعالى لم يجعل في رجس شفاء وإنما الإثم على من سقاهم.
ويكره للرجل أن يداوي بها جرحا في بدنه أو يداوي بها دابته لأنه نوع انتفاع بالخمر والانتفاع بالخمر محرم شرعا من كل وجه ثم الضرورة لا تتحقق لما بينا أنه لا بد أن يوجد غير ذلك من الحلال ما يعمل عمله في المداواة, وإن غسل الظرف الذي كان فيه الخمر فلا بأس بالانتفاع به ولا بأس أن يجعل فيه النبيذ والمربى لأن الظرف كان تنجس بما جعل فيه من الخمر فهو كما لو تنجس يجعل البول والدم فيه فيطهر بالغسل وإذا صار طاهرا بالغسل حل الانتفاع به والدليل على أنه يطهر بالغسل قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما يغسل الثوب من خمس" وذكر فيها الخمر فعرفنا أنه يطهر الثوب بعد ما يصيبه الخمر بالغسل فكذلك الظروف.(24/40)
والذي روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بكسر الدنان وشق الروايا قد بينا أنه كان في الابتداء للمبالغة في الزجر عن العادة المألوفة ثم قيل في تأويله المراد ما يشرب فيه الخمر حتى لا يمكن استخراجه بالغسل وتوجد رائحة الخمر من كل ما يجعل فيه فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فهو يطهر بالغسل فلا يحل كثيره لأنه عين منتفع به بطريق حلال شرعا قلت فالخمر يطرح فيها السمك والملح فيصنع مربى قال لا بأس بذلك إذا تحولت عن حال الخمر. وأصل المسألة أن تحليل الخمر بالعلاج جائز عندنا ويحل تناول الخل بعد التخليل. وعند الشافعي التخليل حرام بإلقاء شيء في الخمر من ملح أو خل ولا يحل ذلك الخل, قولا واحدا, والتخليل من غير إلقاء شيء فيه بالنقل من الظل إلى الشمس أو ايقاد النار بالقرب منه لا يحل عنده أيضا ولكن إذا تخلل فله قولان في إباحة تناول ذلك الخل, واحتج في ذلك بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن تخليل الخمر" وفي رواية: "نهى أن تتخذ الخمر خلا" وفي حديث أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان في حجره خمور ليتامى فلما نزل تحريم الخمر, قال ماذا أصنع بها يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: "أرقها" قال أفلا أخللها قال عليه الصلاة والسلام: "لا" فقد أمره بالإراقة. ولو كان التخلل جائزا لأرشده إلى ذلك لما فيه من الإصلاح في حق اليتامى فلما سأله عن التخلل نهاه عن ذلك فلو كان جائزا لكان الأولى أن يرخص فيه في خمور اليتامى.(24/41)
وإذا ثبت بهذه الأخبار أن التخليل حرام فالفعل المحرم شرعا لا يكون مؤثرا في الحل كذبح الشاة في غير مذبحها ولأن الخمر عين محرم الانتفاع بها من كل وجه والتخليل تصرف فيها على قصد التمول فيكون حراما كالبيع والشراء وكما لو ألقى في الخمر شيئا حلوا كالسكر والفانيد حتى صار حلوا وهذا لأن نجاسة العين توجب الاجتناب وفي التخليل اقتراب منه وذلك ضد المأمور به نصا في قوله عز وجل {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: من الآية90] بخلاف الخمر للإراقة فإنه مبالغة في الاجتناب عنه ثم ما يلقى في الخمر نجس بملاقاة الخمر إياه وما(24/42)
ص -21- ... يكون نجسا في نفسه لا يفيد الطهارة في غيره وعلى هذا الحرف تفصيل بين ما إذا ألقي فيه شيء وبين ما إذا لم يجعل فيه شيء وهذا بخلاف ما إذا تخلل بنفسه لأنه لم يوجد هناك تنجيس شيء بإلقائه فيه ولا مباشرة فعل حرام في الخمر فهو نظير الصيد إذا خرج من الحرم بنفسه حل اصطياده ولو أخرجه إنسان لم يحل ووجب رده إلى الحرم.
ومن قتل مورثه يحرم عن الميراث بمباشرته فعلا حراما بخلاف ما إذا مات بنفسه وحقيقة المعنى فيه أن من طبع الخمر أن يتخلل بمضي الزمان فإذا تخللت فقد تحولت بطبعها وصارت في حكم شيء آخر، فأما التخليل فليس بتقليب للعين لأنه ليس للعباد تقليب الطباع وإنما الذي إليهم إحداث المجاورة بين الأشياء فيكون هذا تنجيسا لما يلقى في الخمر لا تقليبا لطبع الخمر وهو نظير الشاب يصير شيخا بمضي الزمان وبتكليفه لا يصير شيخا فإذا لم يتبدل طبعه بهذا التخليل بقي صفة الخمرية فيه وإن كان لم يطهر كما إذا ألقي فيه شيئا من الحلاوة وهذا بخلاف جلد الميتة إذا دبغ فإن نجاسة الجلد بما اتصل به من الدسومات النجسة والدبغ إزالة لتلك الدسومة وإلى العباد الفصل والتمييز بين الأشياء فكان فعله إصلاحا من حيث إنه يميز به الطاهر من النجس فأما نجاسة الخمر فلعينها لا لغير اتصل بها وإنما تنعدم هذه الصفة بتحولها بطبعها ولا أثر للتخليل في ذلك.(24/43)
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر كالخمر يخلل فيحل" ولا يقال قد روي كالخمر تخلل فحل لأن الروايتين كالخبرين فيعمل بهما ثم ما رويناه أقرب إلى الصحة لأنه شبه دبغ الجلد به والدبغ يكون بصنع العباد لا بطبعه فعرفنا أن المراد التخليل الذي يكون بصنع العباد. والمعنى فيه أن هذا صلاح لجوهر فاسد فيكون من الحكمة والشرع أن لا ينهي عما هو حكمة وبيان الوصف أن الخمر جوهر فاسد فإصلاحه بإزالة صفة الخمرية عنه والتخليل إزالة لصفة الخمرية فعرفنا أنه اصلاح له وهو كدبغ الجلد فإن عين الجلد نجس ولهذا لا يجوز بيعه.
ولو كانت النجاسة بما اتصل به من الدسومات لجوز بيعه, كالدسومات النجسة ولكن الدبغ إصلاح له من حيث أنه يعصمه عن النتن والفساد فكان جائزا شرعا ولا معنى لما قال إن هذا إفساد في الحال لما يلقى فيه لأن هذا موجود في دبغ الجلد فإنه إفساد لما يجعل فيه من الشب والقرظ وهذا إصلاح باعتبار مآله والعبرة للمآل لا للحال فإن إلقاء البذر في الأرض يكون إتلافا للبذر في الحال ولكنه إصلاح باعتبار مآله وبهذا يتبين أن التخليل ليس بتصرف في الخمر على قصد تمول الخمر بل هو إتلاف لصفة الخمرية وبين تمول الخمر وإتلاف صفة الخمرية منافاة فما كان الاقتراب من العين لإتلاف صفة الخمرية إلا نظير الاقتراب منها لإراقة العين وذلك جائز شرعا ونحن نسلم أن تقليب الطباع ليس إلى العباد وإنما إليهم إحداث المجاورة ولكن إحداث المجاورة بين الخل والخمر بهذه الصفة يقوى على إتلاف صفة الخمرية بتحولها إلى طبع الحل في أسرع الأوقات فكان هذا أقرب إلى(24/44)
ص -22- ... الجواز من الإمساك وإذا جاز الإمساك إلى أن يتخلل فالتخليل أولى بالجواز وأما إذا ألقى فيه شيئا من الحلاوة فذلك ليس بإتلاف لصفة الخمرية لأنه ليس من طبع الخمر أن يصير حلوا فعرفنا أن معنى الشدة والمرارة قائم فيه وإن كان لا يظهر لغلبة الحلاوة عليه فأما من طبع الخمر أن يصير خلا فيكون التخليل إتلافا لصفة الخمرية كما بينا.
يوضحه أن من وجه فعليه إحداث المجاورة ومن وجه إتلاف لصفة الخمرية كما قلنا فيوفر حظه عليهما فيقول لاعتبار جانب إحداث المجاورة لا يحل بإلقاء شيء من الحلاوات فيه ولاعتبار جانب إتلاف صفة الخمرية يحل التخليل فأما ما روي من النهي عن التخليل فالمراد أن يستعمل الخمر استعمال الخل بأن يؤتدم به ويصطبغ به وهو نظير ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تحليل الحرام وتحريم الحلال وأن تتخذ الدواب كراسي والمراد الاستعمال ولما نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31], قال عدي بن حاتم رضي الله عنه ما عبدناهم قط قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس كانوا يأمرون وينهون فيطيعونهم" قال نعم فقال عليه الصلاة والسلام: "هو ذاك قد فسر الاتخاذ بالاستعمال" وفي حديث أبي طلحة ذكر بعض الرواة أفلا أخللها قال: "نعم" وإن صح ما روي فإنما نهى عن التخليل في الابتداء للزجر عن العادة المألوفة فقد كان يشق عليهم الانزجار عن العادة في شرب الخمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمور ونهى عن التخليل لذلك كما أمر بقتل الكلاب للمبالغة في الزجر عن العادة المألوفة في اقتناء الكلاب ثم كان لا يأمن عليهم أن يعفوا في خمور اليتامى إذ لم يبق بأيديهم شيء من الخمر فأمر في خمور اليتامى أيضا بالإراقة للزجر والواجب على الوصي المنع من إفساد مال اليتيم لا إصلاح ما فسد منه.(24/45)
ألا ترى أن شاة اليتيم إذا ماتت لا يجب على الوصي دبغ جلدها وإن كان لو فعله جاز فكذلك لا يجب عليه التخليل وإن كان لو فعله كان جائزا إذا ثبت جواز التخليل فكذلك جواز اتخاذ المربى من الخمر بإلقاء الملح والسمك فيه لأنه إتلاف لصفة الخمرية كما في التخليل والذي روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن ذلك يعارضه ما روي أن بن عباس رضي الله عنه سئل عن ذلك فقال لا بأس به ثم تأويل حديث عمر رضي الله عنه مثل ما بينا من تأويل الحديث المرفوع أنه نهى عن ذلك على طريق السياسة للزجر.
ولا يحل للمسلم بيع الخمر ولا أكل ثمنها لأن الله تعالى سماها رجسا فيقضي ذلك بنجاسة العين وفساد المالية والتقوم كما في الميتة والدم ولحم الخنزير وقد أمر بالاجتناب عنها فاقتضى ذلك أن لا يجوز للمسلم الاقتراب منها على جهة التمول بحال وفي الحديث أن أبا عامر كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر كل عام فأهدى له في العام التي حرمت فيه فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد حرم الخمر فلا حاجة لي في خمرك" قال خذها وبعها وانتفع بثمنها في حاجتك فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا عامر إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها".(24/46)
ص -23- ... وسئل بن عمر رضي الله عنه عن بيع الخمر وأكل ثمنها. فقال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها وإن الذي حرم الشرب حرم بيعها وأكل ثمنها وممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر بائعها ومشتريها. فإن صنع الخمر في مرقه ثم طبخ لم يحل أكله ولا يحل هذا الصنع لأن فيه استعمال الخمر كاستعمال الخل وقد بينا أن هذا منهى عنه ثم الطبخ في الخمر لا يحلها ولا يغير الحكم الثابت فيها كما لو طبخها لا في مرقه ولكن لا يحد من شرب تلك المرقة لأن الغالب عليها غير الخمر.
وقد بينا أن المعتبر هو الغالب في حكم الحد ولأن وجوب الحد بشرب الخمر والمرقة تؤكل مع الطعام والأكل غير الشرب ولهذا لا نوجب الحد في الدردي لأنه إلى الأكل أقرب منه إلى الشرب ويكره الاحتقان بالخمر والاقطار منها في الإحليل ولا حد في ذلك. أما الاستشفاء بعين الخمر فقد بينا أنه لا يحل عندنا. والشافعي يجوز ذلك إذا أخبره عدلان أن شفاءه في ذلك ولا حد عليه لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله في إباحة هذا الفعل ولحاجته إلى التداوي ثم ما يقطر في إحليله لا يصل إلى جوفه ولهذا لا يفطره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله والحقنة وإن كانت مفطرة فالحد لا يلزمه فيما يصل إلى جوفه من أسافل البدن لأن الحد للزجر والطبع لا يميل إلى ذلك والتمر يطبخ ويطبخ معه الكشوثا فنبذ فلا بأس به لأن ما يطبخ معه يزيد في شدته وقد بينا أن الشدة لا توجب الحرمة في المطبوخ من التمر.(24/47)
ولو عجن الدقيق بالخمر ثم خبز كرهت أكله لأن الدقيق تنجس بالخمر والعجين النجس لا يطهر بالخبز فلا يحل أكله. ولو صب الخمر في حنطة لم يؤكل حتى تغسل لأنها تنجست بالخمر فإن غسل الحنطة وطحنها ولم يوجد فيها طعم الخمر ولا ريحها فلا بأس بأكلها لأن النجاسة كانت على ظاهرها وقد زالت بالغسل بحيث لم يبق شيء من آثارها فهو وما لو تنجست ببول أو دم سواء. فإن تشربت الخمر في الحنطة فقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف تغسل ثلاث مرات وتجفف في كل مرة فتطهر. وعند محمد رحمه الله لا تطهر بحال لأن الغسل إنما يزيل ما على ظاهرها فأما ما تشرب فيها فلا يستخرج إلا بالعصر والعصر في الحنطة لا يتأتى وهو إلى القياس أقرب. وما قاله أبو يوسف أرفق بالناس لأجل البلوى والضرورة في جنس هذا فإن هذا الخلاف في فصول منها التروي إذا تشرب البول فيه واللوح والآجر والخزف الجديد والنعل في الحمام وما أشبه ذلك فإن للتجفيف أثرا في استخراج ما تشرب منه فيقام التجفيف في كل مرة مقام العصر فيما يتأتى فيه العصر فيحكم بطهارته. ويكره أن يسقى الدواب الخمر لأنه نوع انتفاع بالخمر واقتراب منها على قصد التمول ولذلك يكره للمسلم أن يسقيها أو المسكر الذمي كما لا يحل له أن يشربها وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر ساقيها كما لعن شاربها وإن كان لرجل دين على رجل فقضاه من ثمن خمر أو خنزير لم يحل له أن يأخذه إلا أن يكون الذي عليه الدين كافرا فلا بأس حينئذ(24/48)
ص -24- ... أن يأخذها منه لأنها مال متقوم في حق الكافر فيجوز بيعه ويستحق البائع ثمنه ثم المسلم يأخذ ملك مديونه بسبب صحيح وما يأخذه عوض عن دينه في حقه لا ثمن الخمر فأما بيع الخمر من المسلم فباطل والثمن غير مستحق له بل هو واجب الرد على من أخذ منه وصاحب الدين ليس يأخذ ملك مديونه بل ملك الغير الحاصل عنده بسبب فاسد شرعا فيكون هو بهذا الأخذ مقررا الحرمة والفساد وذلك لا يحل.
ولا بأس ببيع العصير ممن يجعله خمرا لأن العصير مشروب طاهر حلال فيجوز بيعه وأكل ثمنه ولا فساد في قصد البائع إنما الفساد في قصد المشتري: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام: 164].
ألا ترى أن بيع الكرم ممن يتخذ الخمر من عينه جائز لا بأس به وكذلك بيع الأرض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من عنبه الخمر وهذا قول أبي حنيفة وهو القياس, وكره ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله استحسانا لأن بيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا أعانة على المعصية وتمكين منها وذلك حرام.
وإذا امتنع البائع من البيع يتعذر على المشتري اتخاذ الخمر فكان في البيع منه تهييج الفتنة وفي الامتناع تسكينها ومن أهراق خمر مسلم فلا ضمان عليه لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وإتلاف ما ليس بمال متقوم لا يوجب الضمان كإتلاف الميتة وهذا لأن الضمان إنما يجب جبرا لما دخل على المتلف عليه من نقصان المالية. وإن كان سكر أو طلاء قد طبخ حتى ذهب ثلثه أو ربعه فأهراقه رجل فعليه قيمته عند أبي حنيفة ولا شيء عليه في قول أبي يوسف ومحمد وهذا بناء على اختلافهم في جواز البيع فإن أبا حنيفة لما جوز البيع في هذه الأشربة كانت المالية والتقوم فيها ثابتة فقال إنها مضمونة على المتلف ولكن بالقيمة لا بالمثل لأنه ممنوع من تمليك عينها وإن كان لو فعل ذلك جاز. وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشربة كما لا يجوز بيع الخمر فلا يجب الضمان على متلفها أيضا.(24/49)
وفي الكتاب قال قلت من أين اختلفا قال الخمر حرام وهذا ليس كالخمر إنما هو شيء نكرهه نحن ومعنى هذا أن حرمة الخمر ثبتت بالنص فتعمل في إسقاط المالية والتقوم وحرمة هذه الأشربة لم تكن بنص مقطوع به فلا تسقط المالية والتقوم فيه. فإن غصب من مسلم خمرا فصارت في يده خلا ثم وجدها صاحبها فهو أحق بها لأن العين كانت مملوكة له والعين باقية بعد التخلل والكلام في هذا وفي جلد الميتة إذا دبغه الغاصب قد بيناه في كتاب الغصب. ولا بأس بطعام المجوس وأهل الشرك ما خلا الذبائح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل ذبائح المشركين وكان يأكل ما سوى ذلك من طعامهم فإنه كان يجيب دعوة بعضهم تأليفا لهم على الإسلام فأما ذبائح أهل الكتاب فلا بأس بها لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5].
ولا بأس بالأكل في أواني المجوس ولكن غسلها أحب إلي وأنظف لما روي أن(24/50)
ص -25- ... النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن طبخ المرقة في أواني المشركين فقال عليه الصلاة والسلام: "اغسلوها ثم اطبخوا فيها" ولأن الآنية تتخذ مما هو طاهر والأصل فيها الطهارة إلا أن الظاهر أنهم يجعلون فيها ما يصنعونه من ذبائحهم فيستحب غسلها لذلك وإن ترك ذلك وتمسك بالأصل لم يضره وهو نظير الصلاة في سراويل المجوس وقد بيناه في كتاب الصلاة ولا بأس بالجبن وإن كان من صنعة المجوس لما روي أن غلاما لسلمان رضي الله عنه أتاه يوم القادسية بسلة فيها جبن وخبز وسكين فجعل يقطع من ذلك الجبن لأصحابه فيأكلونه ويخبرهم كيف يصنع الجبن ولأن الجبن بمنزلة اللبن ولا بأس بما يجلبه المجوس من اللبن إنما لا يحل ما يشترط فيه الذكاة إذا كان المباشر له مجوسيا أو مشركا والزكاة ليست بشرط لتناول اللبن والجبن فهو نظير سائر الأطعمة والأشربة بخلاف الذبائح وهذا لأن الذكاة إنما تشترط فيما فيه الحياة ولا حياة في اللبن وقد بينا ذلك في النكاح. وعلى هذا الأصل الشاة إذا ماتت وفي ضرعها لبن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يتنجس اللبن بموتها. وعلى قول الشافعي يتنجس لأن اللبن عنده حياة. وعند أبي يوسف ومحمد يتنجس بتنجس الوعاء بمنزلة لبن صب في قصعة نجسة وأبو حنيفة رحمه الله يقول لو كان اللبن يتنجس بالموت لتنجس بالحلب أيضا فإن ما أبين من الحي ميت فإذا جاز أن يحلب اللبن فيشرب عرفنا أنه لا حياة فيه فلا يتنجس بالموت ولا بنجاسة وعائه لأنه في معدنه ولا يعطى الشيء في معدنه حكم النجاسة.
ألا ترى أن في الأصل اللبن إنما يخرج من موضع النجاسة قال الله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].(24/51)
وعلى هذا أنفحة الميتة عند أبي حنيفة رحمه الله طاهرة مائعة كانت أو جامدة بمنزلة اللبن. وعند الشافعي نجسة العين. وعند أبي يوسف ومحمد إن كانت مائعة فهي نجسة بنجاسة الوعاء كاللبن وإن كانت جامدة فلا بأس بالانتفاع بها بعد الغسل لأن بنجاسة الوعاء لا يتنجس باطنها وما على ظاهرها يزول بالغسل وأشار لأبي حنيفة رحمه الله في الكتاب إلى حرف فقال لأنها لم تكن أنفحة ولا لبنا وهي ميتة ولا يضرها موت الشاة يعني أن اللبن والأنفحة تنفصل من الشاة بصفة واحدة حية. كانت الشاة أو ميتة ذبحت أو لم تذبح فلا يكون لموت الشاة تأثير في اللبن والأنفحة. وعلى هذا لو ماتت دجاجة فوجد في بطنها بيضة فلا بأس بأكل البيضة عندنا وعنده إن كانت صلبة فكذلك وإن كانت لينة لم يجز الانتفاع بها كاللبن والأنفحة على أصله.
ولو سقي شاة خمرا ثم ذبحت ساعتئذ فلا بأس بلحمها وكذلك لو حلب منها اللبن فلا بأس بشربه لأن الخمر صارت مستهلكة بالوصول إلى جوفها ولم تؤثر في لحمها ولا في لبنها وهي على صفة الخمرية بحالها فلهذا لا بأس بأكل لحمها وشرب لبنها ولو صب رجل خابية من خمر في نهر مثل الفرات أو أصغر منه ورجل أسفل منه فمرت به الخمر في الماء فلا بأس بأن يشرب من ذلك الماء إلا أن يكون يوجد فيه طعمها أو ريحها فلا يحل له حينئذ,(24/52)
ص -26- ... بخلاف ما لو وقعت قطرة من خمر في إناء فيه ماء لأن ماء الإناء قد تنجس فلا يحل شربه وإن كان لا يوجد فيه طعم الخمر وأما الفرات فلا يتنجس إذ لم يتغير طعمه ولا رائحته بما صب فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" والمراد الماء الجاري ثم ما صب في الفرات يصير مغلوبا مستهلكا بالماء فما يشربه الرجل ماء الفرات ولا بأس بشرب ماء الفرات إلا إذا كان يوجد فيه ريح الخمر أو طعمها فيستدل بذلك على وجود عين الخمر فيما شربه، والصحيح من المذهب في الجيفة الواقعة في نهر يجري فيه الماء أنه إن كان جميع الماء أو أكثره يجري على الجيفة فذلك الماء نجس وإن كان أكثره لا يجري على الجيفة فهو طاهر لأن الأقل يجعل تبعا للأكثر فيما تعم به البلوى. وإذا خاف المضطر الموت من العطش فلا بأس بأن يشرب من الخمر ما يرد عطشه عندنا. وقال الشافعي لا يحل شرب الخمر للعطش لأن الخمر لا ترد العطش بل تزيد في عطشه لما فيها من الحرارة. ولكنا نقول لا بأس بذلك لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فإن كانت في الميتة ففيها بيان أن موضع الضرورة مستثنى من الحرمة الثابتة بالشرع وحرمة الخمر ثابتة بالشرع كحرمة الميتة ولحم الخنزير ولا بأس بالإصابة منها عند تحقق الضرورة بقدر ما يدفع الهلاك به عن نفسه وشرب الخمر يرد عطشه في الحال لأن في الخمر رطوبة وحرارة فالرطوبة التي فيها ترد عطشه في الحال ثم بالحرارة التي فيها يزداد العطش في الثاني وإلى أن يهيج ذلك به ربما يصل إلى الماء فعرفنا أنه يدفع الهلاك به عن نفسه, ولا يحل له أن يشرب منها إلى السكر لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدر الضرورة. فإن سكر نظرنا فإن لم يزد على ما يسكن عطشه فلا حد عليه لأن شرب هذا المقدار حلال وهو وإن سكر من شرب الحلال لا يلزمه الحد كما لو سكر من اللبن أو البنج. وإن استكثر منه بعد ما سكن(24/53)
عطشه حتى سكر فعليه الحد لأن بعد ما سكن عطشه وهو غير مضطر فالقليل والكثير منها سواء في حكمه فمقدار ما شرب بعد تسكين العطش حرام عليه وذلك يكفي في إيجاب الحد عليه. وكذلك النبيذ إذا شرب منه فوق ما يجزئه حتى سكر لما بينا أن السكر من النبيذ موجب للحد كشرب الخمر ولا ضرورة له في شرب القدح المسكر فعليه الحد لذلك.
وإذا كان مع رقيق له ماء كثير فأبى أن يسقيه حل له أن يقاتله عليه بما دون السلاح لأن الماء محرز مملوك لصاحبه بمنزلة الطعام إلا أن الماء في الأصل كان مباحا مشتركا وذلك الأصل بقي معتبرا بعد الإحراز حتى لا يتعلق القطع بسرقته فلاعتبار إباحة الأصل قلنا يقاتله بما دون السلاح ولكونه مالا مملوكا له في الحال له أن يقاتله عليه بالسلاح لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد" فكيف يقاتل بالسلاح من إذا قتله كان شهيدا وفي الماء المباح إذا منعه منة قاتله بالسلاح وقد بينا ذلك في كتاب الشرب فأما في الطعام فلا يحل له أن يقاتله ولكنه يغصبه إياه إن استطاع فيأكله ثم يعطيه ثمنه بعد ذلك لأنه ما كان للمضطر حق في هذا الطعام قط ولكن الطعام ملك لصاحبه فهو يمنع الغير من ملكه وذلك مطلق له(24/54)
ص -27- ... شرعا فلا يجوز لأحد أن يقاتله على ذلك ولكن المضطر يخاف الهلاك على نفسه وذلك مبيح له التناول من طعام الغير بشرط الضمان وهو إنما يتأتى بفعل مقصور على الطعام غير متعد إلى صاحبه والمقصور على الطعام الأخذ فأما القتال فيكون مع صاحب الطعام لا مع الطعام فلهذا لا يقاتله بالسلاح ولا بغيره، فإن كان الرقيق الذي معه الماء يخاف على نفسه الموت إن لم يحرز ماءه فإنه يأخذ منه بعضه ويترك بعضه لأن الشرع ينظر للكل وإنما يحل للمضطر شرعا دفع الهلاك عن نفسه بطريق لا يكون فيه هلاك غيره وفي أخذ جميع الماء منه هلاك صاحب الماء لقلته بحيث لا يدفع الهلاك إلا عن أحدهما فليس له أن يأخذه من صاحب الماء لأن حقه في ملكه مقدم على حق غيره.
ثم ذكر بعد هذا مسائل قد بينا أكثرها في الحدود فقال يضرب الشارب الحد بالسوط في إزار وسراويل ليس عليه غيرها لأن جنايته مغلظة كجناية الزاني فينزع عنه ثيابه عند إقامة الحد عليه ليخلص الألم إلى بدنه والمرأة في حد الشرب كالرجل على قياس حد الزنى ويفرق الضرب على أعضائها كما في حق الرجل إلا أنها لا تجرد عن ثيابها لأن بدنها عورة وكشف العورة حرام ولكن ينزع عنها الحشو والفر ولكي يخلص الألم إلى بدنها. فإن لم يكن عليها غير جبة محشوة لم ينزع ذلك عنها لأن كشف العورة لا يحل بحال. وكذلك لا يطرح عنها خمارها وتضرب قاعدة ليكون أستر لها هكذا قال علي رضي الله عنه يضرب الرجال قياما والنساء قعودا.(24/55)
والأصل في حد الشرب ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر وعنده أربعون رجلا فأمرهم أن يضربوه فضربوه كل رجل منهم بنعليه فلما كان زمان عمر رضي الله عنه جعل ذلك ثمانين سوطا والخبر وإن كان من أخبار الآحاد فهو مشهور وقد تأكد باتفاق الصحابة رضي الله عنهم إنما العمل به في زمن عمر رضي الله عنه فإنه جعل حد الشرب ثمانين سوطا من هذا الحديث لأنه لما ضربه كل رجل منهم بنعليه كان الكل في معنى ثمانين جلدة والإجماع حجة موجبة للعلم فيجوز إثبات الحد به وفيما يجب عليه الحد بالسكر فحد السكر الذي يتعلق به الحد عند أبي حنيفة أن لا يعرف الأرض من السماء ولا الأنثى من الذكر ولا نفسه من حمار وعند أبي يوسف ومحمد أن يختلط كلامه فلا يستقر في خطاب ولا جواب واعتبرا العرف في ذلك فإن من اختلط كلامه بالشرب يسمى سكران في الناس وتأيد ذلك بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر النهاية فقال في الأسباب الموجبة للحد تعتبر النهاية كما في السرقة والزنا ونهاية السكر هذا أن يغلب السرور على عقله حتى لا يميز شيئا عن شيء. وإذا كان يميز بين الأشياء عرفنا أنه مستعمل لعقله مع ما به من السرور ولا يكون ذلك نهاية السكر وفي النقصان شبهة العدم والحدود تندرى ء بالشبهات ولهذا وافقهما في السكر الذي يحرم عنده الشرب إذ المعتبر اختلاط الكلام لأن اعتبار النهاية فيه يندرى ء بالشبهات والحل والحرمة(24/56)
ص -28- ... يؤخذ فيهما بالاحتياط وأيد هذا ما روي عن بن عباس رضي الله عنهما قال من بات سكران بات عروس الشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح وهذا إشارة إلى أن السكران من لا يحس بشيء مما يصنع به، وأكثر مشايخنا رحمهم الله على قولهما.
وحكي أن أئمة بلخ رحمهم الله اتفقوا على أنه يستقرأ سورة من القرآن فإن أمكنه أن يقرأها فليس بسكران حتى حكي أن أميرا ببلخ أتاه بعض الشرط بسكران فأمره الأمير أن يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1], فقال السكران للأمير اقرأ أنت سورة الفاتحة أولا فلما قال الأمير الحمد لله رب العالمين فقال قف فقد أخطأت من وجهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية وهي آية من الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي الذي جاء به ويقول له أمرتك أن تأتيني بسكران فجئتني بمقرى ء بلخ.
وإذا شهد عليه الشهود بالشرب وهو سكران حبسه حتى يصحو لأن ما هو المقصود لا يتم بإقامة الحد عليه في حال سكره وقد بينا هذا والمملوك فيما يلزمه من الحد بالشرب كالحر إلا أن على المملوك نصف ما على الحر لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ولا حد على الذمي في شيء من الشراب لأنه يعتقد إباحة الشرب واعتقاد الحرمة شرط في السبب الموجب للحد وهذا لأن الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه وبدون اعتقاد الحرمة لا يتحقق هذا ثم قد بينا أن حكم الخطاب قاصر عنهم في أحكام الدنيا لأنا أمرنا أن نتركهم وما يعتقدون ولهذا بقي الخمر مالا متقوما في حقهم. ولهذا قلنا المجوسي إذا تزوج أمه ودخل بها لم يلزمه الحد وإن كان يقام عليه الحد بالزنى ولا يحد المسلم بوجود ريح الخمر منه حتى يشهد الشهود عليه بشربها أو يقر لأن ريح الخمر شاهد زور فقد يوجد ريح الخمر من غير الخمر فإن من استكثر من أكل السفرجل يوجد منه ريح الخمر ومنه قول قول القائل:(24/57)
يقولون لي أنت شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وقد توجد رائحة الخمر ممن شربها مكرها أو مضطرا لدفع العطش فلا يجوز أن يعتمد ربحها في إقامة الحد عليه. ولو شهد عليه واحد أنه شربها وآخر أنه قاءها لم يحد لأن من شربها مكرها أو مضطرا قد يقى ء الخمر فسقط اعتبار شهادة الشاهد وإنما بقي على الشرب شاهد واحد وكذلك لو شهد على الشرب والريح منه موجود فاختلفا في الوقت لأن الشرب فعل فعند اختلافهما في الوقت يكون كل واحد منهما شاهدا بفعل آخر, وكذلك لو شهد أحدهما أنه شربها وشهد الآخر أنه أقر بشربها فإنه لا معتبر بالشهادة على الإقرار بالشرب لأنه لو أقر ثم رجع لا يقام عليه الحد ولأن الشهادة قد اختلفت فأحدهما يشهد بالفعل والآخر بالقول, وكذلك لو شهد أحدهما أنه سكران من الخمر وشهد الآخر أنه سكران من السكر فإنما شهد كل واحد منهما بفعل آخر. ولا يقال ينبغي أن يقام عليه الحد لما يرى من سكره لأنه قد يكون سكران من غير الشرب أو من الشرب بالإيجار أو الإكراه على الشرب, أو كان(24/58)
ص -29- ... شرب على قصد التداوي وقد بينا أن ذلك غير موجب للحد عليه ولا يحد بإقراره في حال سكره من الخمر لأن السكران لا يثبت على كلام واحد ولكنه يتكلم بالشيء وبضده والإصرار على الإقرار بالسبب لا بد منه لإيجاب حد الخمر.
ولو أقر عند القاضي أنه شرب أمس خمرا لم يحد أيضا وإنما يحد إذا أتاه ساعة شرب والريح يوجد منه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وفي قول محمد يؤخذ بإقراره متى جاء مثل حد الزنى وقد بينا هذه المسألة في كتاب الحدود بالبينة والإقرار جميعا, وإذا أكره على شرب الخمر لا يحد لأن الشرب في حال الإكراه مباح له على ما بينا أن موضع الضرورة مستثنى من الحرمة ولأن الحد مشروع للزجر وقد كان منزجرا حين لم يقدم على الشرب ما لم تتحقق الضرورة بالإكراه.
وإذا أسلم الحربي وجاء إلى دار الإسلام ثم شرب الخمر قبل أن يعلم أنها محرمة عليه لم يحد لأن الخطاب لم يبلغه فلا يثبت حكم الخطاب في حقه وهذا بخلاف المسلم المولود في دار الإسلام إذا شرب الخمر ثم قال لم أعلم أنها حرام لأن حرمة الخمر قد اشتهرت بين المسلمين في دار الإسلام فالظاهر يكذب المولود في دار الإسلام فيما يقول والظاهر لا يكذب الذي جاء من دار الحرب فيما يقول فيعذر بجهله ولا يقام عليه الحد بخلاف ما إذا زنى أو شرب أو سرق فإنه يقام عليه الحد. ولا يعذر بقوله لم أعلم لأن حرمة الزنى والسرقة في الأديان كلها فالظاهر يكذبه إذا قال لم أعلم بحرمتها ولأن حد السرقة والزنا مما تجوز إقامته على الكافر في حال كفره وهو الذمي فبعد الإسلام أولى أن يقام بخلاف حد الخمر ولأن حد الزنى والسرقة ثبت بنص يتلى وحد الخمر بخبر يروى فكان أقرب إلى الدرء من حد الزنى والسرقة، ويستوي في حد الزنى إن طاوعته المرأة على ذلك في دار الإسلام أو أكرهها لأن حرمة الزنى في حقهما جميعا قد اشتهرت.(24/59)
وإذا شرب قوم نبيذا فسكر بعضهم دون بعض حد من سكر لأن مشروب بعضهم غير مشروب البعض فيعتبر في حق كل واحد منهم حاله كأنه ليس معه غيره.
ألا ترى أن القوم إذا سقوا خمرا على مائدة فمن علم أنه خمر لزمه الحد ومن لم يعلم ذلك منهم لم يلزمه الحد والمحرم في حد الخمر كالحلال لأنه لا تأثير للمحرم والإحرام في إباحة الشرب ولا في المنع من إقامة هذا الحد.
وإذا قذف السكران رجلا حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ويحبس حتى يخف عنه الضرب ثم يحد للسكر لأن حد القذف في معنى حق العباد وسكره لا يمنع وجوب الحد عليه بقذفه لأنه مع سكره مخاطب.
ألا ترى أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذ حد الشرب من القذف على ما روي عن علي رضي الله عنه قال إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة.
وإذا شرب الخمر في نهار رمضان حد حد الخمر ثم يحبس حتى يخف عنه الضرب(24/60)
ص -30- ... ثم يعزر لإفطاره في شهر رمضان لأن شرب الخمر ملزم للحد ومهتك حرمة الشهر والصوم يستوجب التعزير ولكن الحد أقوى من التعزير فيبتدأ بإقامة الحد عليه ثم لا يوالي بينه وبين التعزير لكي يؤدي إلى الإتلاف والأصل فيه حديث علي رضي الله عنه أنه أتى بالنجاشي الحارثي قد شرب الخمر فحده ثم حبسه حتى إذا كان الغد أخرجه فضربه عشرين سوطا وقال هذا لجراءتك على الله وإفطارك في شهر رمضان.
رجل ارتد عن الإسلام ثم أتي به الإمام وقد شرب خمرا أو سكر من غير الخمر أو سرق أو زنا ثم تاب وأسلم فإنه يحد في جميع ذلك ما خلا الخمر والسكر فإنه لا يحد فيهما لأن المرتد كافر وحد الخمر والسكر لا يقام على أحد من الكفار لما بينا أنه يعتقد إباحة سببه فإذا كان ارتكابه سببه في حال يعتقد إباحته لا يقام ذلك عليه فأما حد الزنى والسرقة فيقام على الكافر لاعتقاده حرمة سببه فيقام على المرتد بعد إسلامه أيضا كالذمي إذا باشر ذلك ثم أسلم. وإن لم يتب فلا حد عليه في شيء من ذلك غير حد القذف لأن حد الزنى والسرقة خالص حق الله تعالى وقد صارت مستحقة لله تعالى فإنه يقتل على ردته ومتى اجتمع في حق الله تعالى النفس وما دونها يقتل ويلغي ما سوى ذلك. وأما حد السرقة ففيه معنى حق العبد فيقام عليه ويضمن السرقة لحق المسروق منه فإن شرب وهو مسلم فلما وقع في يد الإمام ارتد ثم تاب لم يحد. وإن كان زنا أو سرق أقيم عليه الحد لأن ما اعترض من الردة يمنع وجوب حد الخمر والسكر عليه فيمنع بقاؤه ولا يمنع وجوب حد الزنى والسرقة فكذلك لا يمنع البقاء. وقد قال في آخر الكتاب إذا ارتد عن الإسلام ثم سرق أو زنا أو شرب الخمر أو سكر من غير الخمر ثم تاب وأسلم لم يحد في شيء من ذلك إلا في القذف فإن لم يتب لم يقم عليه أيضا شيء من الحدود غير حد القذف ويقتل وإن أخذته وهو مسلم شاربا خمرا أو زانيا أو سارقا فلما وقع في يدك ارتد عن الإسلام فاستتبته فتاب أقيم عليه الحدود إلا(24/61)
حد الخمر وهذه الرواية تخالف الرواية الأولى في فصل واحد وهو أنه إذا زنا أو سرق في حال ردته لا يقام عليه الحد بعد توبته كما لا يقام قبل توبته لأن المرتد بمنزلة الحربي فإنه اعتقد محاربته لو تمكن منها والحربي إذا ارتكب شيئا من الأسباب الموجبة للحد ثم أسلم لا يقام عليه الحد فكذلك المرتد, وفرق على هذه الرواية بين هذا وبين ما إذا زنا أو سرق وهو مسلم ثم ارتد ثم أسلم فقال هناك حين ارتكب السبب ما كان حربيا للمسلمين فيكون مستوجبا للحد ولم يزل تمكن الإمام من إقامته عليه بنفس الردة إلا أنه كان لا يشتغل به قبل توبته لاستحقاق نفسه بالردةو وقد انعدم بالإسلام فلهذا يقام عليه وتزويج السكران ولده الصغير وهبته وما أشبه ذلك من تصرفاته قولا أو فعلا صحيح لأنه مخاطب كالصاحي وبالسكر لا ينعدم عقله إنما يغلب عليه السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يؤثر في تصرفه سواء كان شرب مكرها أو طائعا فأما إذا شرب البنج أو شيئا حلوا فذهب عقله لم يقع طلاقه في تلك الحالة لأنه بمنزلة المعتوه في التصرفات.(24/62)
ص -31- ... وإن شهد رجلان على شهادة سكران أو شهد السكران على شهادة رجلين لم يصح ذلك من قبل أنه رجل فاسق وأنه سكران لا يستقر على شيء واحد فيما يخبر به ولهذا لو ارتد في حال سكره لا تبين منه امرأته استحسانا. قال لا أظن سكرانا ينفلت من هذا وأشباهه وقد بينا هذا في السير. وإذا أتى الإمام برجل شرب خمرا وشهد به عليه شاهدان فقال إنما أكرهت عليها أو قال شربتها ولم أعرفها أقيم عليه الحد لأن السبب الموجب للحد قد ظهر وهو يدعي عذرا مسقطا فلا يصدق على ذلك ببينة إذ لو صدق عليه من غير بينة لانسد باب إقامة حد الخمر أصلا وهذا بخلاف الزاني إذا ادعى النكاح لأنه هناك ينكر السبب الموجب للحد فبالنكاح يخرج الفعل من أن يكون زنا محضا وهنا بعد الإكراه والجهل لا ينعدم السبب وهو حقيقة شرب الخمر إنما هذا عذر مسقط فلا يثبت إلا ببينة يقيمها على ذلك.
ويكره للرجل أن يأكل على مائدة يشرب عليها الخمر هكذا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يأكل المسلم على مائدة يشرب عليها الخمر ولأن في ذلك تكثير جمع الفسقة وإظهار الرضا بصنيعهم وذلك لا يحل للمسلم, في عشر دواريق عصير عنب في قدر ثم يطبخ فيغلي فيقذف بالزبد فجعل يأخذ ذلك الزبد حتى جمع قدر دورق فإنه يطبخ حتى يبقي ثلاثة دواريق ثلث الباقي لأن ما أخذه من الزبد انتقص من أصل العصير فيسقط اعتباره في الحساب فظهر أن الباقي من العصير تسعة دواريق فإنما يصير مثلثا إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثلاثة دواريق وإن نقص منه دورق آخر في ذلك الغليان فكذلك الجواب لأن ما نقص بالغليان في معنى الداخل فيما بقى فلا يصير ذلك كأن لم يكن وإنما يلزمه الطبخ إلى أن يذهب ثلثا العصير.(24/63)
ولو صب رجل في قدر عشرة دواريق عصير وعشرين دورقا ماء فإن كان الماء يذهب بالطبخ قبل العصير فإنه يطبخه حتى يذهب ثمانية اتساعه ويبقى التسع لأنه إذا ذهب ثلثاه بالغليان فالذاهب هو الماء فقط فعليه أن يطبخه بعد ذلك حتى يذهب ثلثا العصير ويبقى ثلثه وهو سبع الجملة وإن كانا يذهبان بالغليان معا طبخه حتى يذهب ثلثاه لأنه ذهب بالغليان ثلثا العصير وثلثا الماء والباقي ثلث العصير وثلث الماء فهو وما لو صب الماء في العصير بعد ما طبخه على الثلث والثلثين سواء وإذا طبخ عصير حتى ذهب ثلثه ثم صنع منه مليقا فإن كان ذلك قبل أن يتغير عن حاله فلا بأس به وإن صنعه بعد ما غلى فتغير عن حال العصير فلا خير فيه لأنه لما غلى واشتد صار محرما والمليق المتخذ من عين المحرم لا يكون حلالا كالمتخذ من الخمر فأما قبل أن يشتد فهو حلال الشرب فأما صنيع المليق من عصير فحلال.
وإذا طبخ الرجل عصيرا حتى ذهب ثلثه ثم تركه حتى برد ثم أعاد عليه الطبخ حتى ذهب نصف ما بقي فإن كان أعاد عليه الطبخ قبل أن يغلي أو يتغير عن حال العصير فلا بأس به لأن الطبخ في دفعتين إلى ذهاب الثلثين منه وفي دفعة سواء, وإن صنعه بعد ما غلى وتغير عن حال العصير فلا خير فيه لأن الطبخ في المرة الثانية لاقى شيئا محرما فهو بمنزلة خمر طبخ حتى ذهب ثلثاه به وإذا طبخ الرجل عصيرا حتى ذهب ثلاثة أخماسه ثم قطع عنه النار فلم(24/64)
ص -32- ... يزل حتى ذهب منه تمام الثلثين فلا بأس به لأنه صار مثلثا بقوة النار فإن الذي بقي منه من الحرارة بعد ما قطع عن النار أثر تلك النار فهو وما لو صار مثلثا والنار تحته سواء وهذا بخلاف ما لو برد قبل أن يصير مثلثا لأن الغليان بعد ما انقطع عنه أثر النار لا يكون إلا بعد الشدة وحين اشتد فقد صار محرما بنفسه ولأن الغليان بقوة لا ينقص منه شيئا بل يزيد في رقته بخلاف الغليان بقوة النار. فإن شرب الطلاء الذي قد طبخ حتى ذهب عشره فلا حد عليه إلا أن يسكر لما بينا أنه ذهب بالطبخ شيء فيخرج من أن يكون خمرا وفي غير الخمر من الأشربة لا يجب الحد إلا بالسكر.
وإذا استعط الرجل بالخمر أو اكتحل بها أو اقتطرها في أذنه أو داوى بها جائفة أو آمة فوصل إلى دماغه فلا حد عليه لأن وجوب الحد يعتمد شرب الخمر وهو بهذه الأفعال لا يصير شاربا وليس في طبعه ما يدعوه إلى هذه الأفعال لتقع الحاجة إلى شرع الزاجر عنه. ولو عجن دواء بخمر ولته أو جعلها أحد أخلاط الدواء, ثم شربها والدواء هو الغالب فلا حد عليه وإن كانت الخمر هي الغالبة فإنه يحد لأن المغلوب يصير مستهلكا بالغالب إذا كان من خلاف جنسه والحكم للغالب والله أعلم بالصواب.
باب التعزير(24/65)
قال رحمه الله ذكر عن الشعبي رحمه الله قال لا يبلغ بالتعزير أربعون سوطا وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا لأن الأربعين سوطا أدنى ما يكون من الحد وهو حد العبيد في القذف والشرب وقال عليه الصلاة والسلام: "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" وهذا قول أبي يوسف الأول, ثم رجع وقال يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا لأن أدنى الحد ثمانون سوطا وحد العبد نصف الحر وليس بحد كامل وهذا مروي عن محمد أيضا. وعن أبي يوسف أنه يجوز أن يبلغ بالتعزير تسعة وسبعين سوطا وهذا ظاهر على الأصل الذي بينا وأما تقدير النقصان بالخمسة على الرواية الأولى فهو بناء على ما كان من عادته أنه كان يجمع في إقامة الحد والتعزير بين خمسة أسواط ويضرب دفعة فإنما نقص في التعزير ضربة واحدة وذلك خمسة أسواط.
وإذا أخذ الرجل مع المرأة وقد أصاب منها كل محرم غير الجماع عزر بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا في كتاب الحدود أن كل من ارتكب محرما ليس فيه حد مقدر فإنه يعزر ثم الرأي في مقدار ذلك إلى الإمام ويبني ذلك على قدر جريمته وهذه جريمة متكاملة فلهذا قدر التعزير فيها بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا أن الضرب في التعزير أشد منه في الحدود لأنه دخله تخفيف من حيث نقصان العدد وأنه ينزع ثيابه عند الضرر ويضرب على ظهره ولا يفرق على أعضائه إنما ذلك في الحدود.
وإذا نقب السارق النقب وأخذ المتاع فأخذ في البيت أو أخذ وقد خرج بمتاع لا يساوي عشرة دراهم فإنه يعزر لارتكابه محرما والمرأة في التعزير كالرجل لأنها تشاركه في السبب(24/66)
ص -33- ... الموجب للتعزير وإذا كان الرجل فاسقا متهما بالشر كله فأخذ عزر لفسقه وحبس حتى يحدث توبة لأنه متهم وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في تهمة والذي يزني في شهر رمضان نهارا فيدعي شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه يعزر لإفطاره لأنه مرتكب للحرام بإفطاره وإن خرج من أن يكون زانيا بما ادعى من الشبهة ولا يحبس هنا لأن الحبس للتهمة فأما جزاء الفعل الذي باشره فالتعزير وقد أقيم عليه.
والمسلم الذي يأكل الربا أو يبيع الخمر ولا ينزع عن ذلك إذا رفع إلى الإمام يعزره. وكذلك المخنث والنائحة والمغنية فإن هؤلاء يعزرون بما ارتكبوا من المحرم ويحبسون حتى يحدثوا التوبة لأنهم بعد إقامة التعزير عليهم مصرون على سوء صنيعهم وذلك فوق التهمة في إيجاب حبسهم إلى أن يحدثوا التوبة. وإذا شتم المسلم امرأة ذمية أو قذفها بالزنى عزر لأن الذمية غير محصنة فلا يجب الحد على قاذفها ولكن قاذفها مرتكب ما هو محرم فيعزر. وكذلك إذا قذف مسلمة قد زنت أو مسلما قد زنا أو أمة مسلمة لأن المقذوف من هؤلاء غير محصن ولكن القاذف مرتكب ما هو حرام وهو إشاعة الفاحشة وهتك للستر على المسلم من غير حاجة وذلك موجب للتعزير عليه.
وإذا قطع اللصوص الطريق على قوم فلهم أن يقاتلوهم دفعا عن أنفسهم وأموالهم قال عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وإذا استعانوا بقوم من المسلمين لم يحل لهم أن يعينوهم ويقاتلوهم معهم وإن أتوا على أنفسهم لأن النهي عن المنكر فرض وبذلك وصف الله تعالى هذه الأمة بأنهم خير أمة فلا يحل لهم أن يتركوا ذلك إذا قدروا عليه.
قلت والرجل يخترط السيف على الرجل ويريد أن يضربه ولم يفعل أو شد عليه بسكين أو عصا ثم لم يضربه بشيء من ذلك هل يعزر قال نعم لأنه ارتكب ما لا يحل من تخويف المسلم والقصد إلى قتله.(24/67)
قلت والرجل يوجد في بيته الخمر بالكوفة وهو فاسق أو يوجد القوم مجتمعين عليها ولم يرهم أحد يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها هل يعزرون قال نعم لأن الظاهر أن الفاسق يستعد الخمر للشرب وإن القوم يجتمعون عليها لإرادة الشرب ولكن بمجرد الظاهر لا يتقرر السبب على وجه لا شبهة فيه فلا يمكن إقامة الحد عليهم والتعزير مما يثبت مع الشبهات فلهذا يعزرون.
وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من الخمر بالكوفة أو قال ركوة وقد كان بعض العلماء في عهد أبي حنيفة رحمه الله يقول يقام عليه الحد كما يقام على الشارب لأن الذي يسبق إلى وهم كل أحد أنه يشرب بعضها ويقصد الشرب فيما بقي معه منها إلا أنه حكي أن أبا حنيفة رحمه الله قال لهذا القائل لم تحده قال لأن معه آلة الشرب والفساد. قال رحمه الله فارجمه إذا فإن معه آلة الزنى فهذا بيان أنه لا يجوز إقامة الحد بمثل هذا الظاهر والتهمة والله أعلم.(24/68)
ص -34- ... باب من طبخ العصير
قال رحمه الله رجل طبخ عشرة أرطال عصير حتى ذهب منه رطل ثم اهراق ثلاثة أرطال منه ثم أراد أن يطبخ البقية حتى يذهب ثلثاها كم يطبخها قال يطبخها حتى يبقى منها رطلان وتسعا رطل لأن الرطل الذاهب بالغليان في المعنى داخل فيما بقي وكان الباقي قبل أن ينصب منه شيء تسعة أرطال فعرفنا أن كل رطل من ذلك في معنى رطل وتسع لأن الذاهب بالغليان اقتسم على ما بقي أتساعا فإن انصب منه ثلاثة أرطال وثلاثة أتساع رطل يكون الباقي ستة أرطال وستة اتساع رطل فيطبخه حتى يبقى منه الثلث وهو رطلان وتسعا رطل.
ولو كان ذهب بالغليان رطلان ثم اهراق منه رطلان قال يطبخه حتى يبقى منه رطلان ونصف لأنه لما ذهب بالغليان رطلان فالباقي ثمانية أرطال كل رطل في معنى رطل وربع فلما انصب منه رطلان فالذي انصب في المعنى رطلان ونصف والباقي من العصير سبعة أرطال ونصف وإن ذهب بالغليان خمسة أرطال ثم انصب رطل واحد منه أو أخذ رجل منه رطلا قال يطبخ الباقي حتى يبقى منه رطلان وثلثا رطل, لأنه لما ذهب بالغليان خمسة أرطال فما ذهب في المعنى داخل فيما بقي وصار كل رطل بمعنى رطلين فلما انصب من الباقي رطل كان الباقي بعده من العصير ثمانية أرطال فيطبخه إلى أن يبقى ثلث ثمانية أرطال وذلك رطلان وثلثا رطل.
وفي الكتاب أشار إلى طريق آخر في تخريج جنس هذه المسائل. فقال السبيل أن يأخذ ثلث الجميع فيضربه فيما بقي بعد ما انصب منه ثم يقسمه على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما خرج بالقسمة فهو حلال ما بقي منه.
وبيان هذا أما في المسألة الأولى فتأخذ ثلث العصير ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد ما انصب منه وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء وذلك تسعه وإذا قسمت عشرين على تسعة فكل جزء من ذلك اثنان وتسعان فعرفنا أن حلال ما بقي رطلان وتسعا رطل.(24/69)
وفي المسألة الثانية تأخذ أيضا ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد الانصباب وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم ذلك على ما بقي بعد الطبخ قبل الانصباب وهو ثمانية فكل قسم من ذلك اثنان ونصف فعرفنا أن حلال ما بقي منه رطلان ونصف.
وفي المسألة الثالثة تأخذ ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد الانصباب وهو أربعة فيكون ثلاثة عشر وثلثا ثم تقسمه على ما بقي قبل الانصباب بعد الطبخ وذلك خمسة فيكون كل قسم اثنين وثلثين فلهذا قلنا يطبخه حتى يبقى رطلان وثلثا رطل وفي الأصل. قال حتى يبقى رطلان وثلاثة أخماس وثلث خمس وذلك عبارة عن ثلثي رطل إذا تأملت وربما يتكلف بعض مشايخنا رحمهم الله لتخريج هذه المسائل على طريق الحساب من الجبر والمقابلة وغير ذلك ولكن ليس في الاشتغال بها كثير فائدة هنا والله أعلم.(24/70)
ص -35- ... كتاب الإكراه
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب لأن المكره مبتلي والابتلاء يقرر الخطاب ولا شك أنه مخاطب في غير ما أكره عليه وكذلك فيما أكره عليه حتى يتنوع الأمر عليه فتارة يلزمه الإقدام على ما طلب منه وتارة يباح له ذلك وتارة يرخص له في ذلك وتارة يحرم عليه ذلك فذلك آية الخطاب ولذلك لا ينعدم أصل القصد والاختيار بالإكراه كيف ينعدم ذلك وإنما طلب منه أن يختار أهون الأمرين عليه.(24/71)
وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن أثر الإكراه التام في الأفعال في نقل الفعل من المكره إلى المكره وهذا ليس بصحيح فإنه لا يتصور نقل الفعل الموجود من شخص إلى غيره والمسائل تشهد بخلاف هذا أيضا فإن البالغ إذا أكره صبيا على القتل يجب القود على المكره وهذا الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر. ولكن الأصح أن تأثير الإكراه في جعل المكره آلة للمكره فيصير الفعل منسوبا إلى المكره بهذا الطريق وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالإكراه ينعدم الاختيار منه أصلا ولكن لأنه يفسد اختياره به لتحقق الإلجاء فالمرء مجبول على حب حياته وذا يحمله على الإقدام على ما أكره عليه فيفسد به اختياره من هذا الوجه والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح منه والمكره يصير كالآلة للمكره لانعدام اختياره حكما في معارضة الاختيار الصحيح ولهذا اقتصر على ما يصلح أن يكون آلة له فيه دون ما لا يصلح كالتصرفات قولا فإنه لا يتصور تكلم المرء بلسان غيره وتأثير الإكراه في هذه التصرفات في انعدام الرضا من المكره بحكم الشبه، وشبهه بعض أصحابنا رحمهم الله بالهزل فإن الهزل عدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد والاختيار في نفس السبب فالإكراه كذلك إلا أن الهازل غير محمول على التكلم والمكره محمول على ذلك وبذلك لا ينعدم اختياره كما بينا وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فإن شرط الخيار يعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب.
ثم في الإكراه يعتبر معنى في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره به فالمعتبر في المكره تمكنه من إيقاع ما هدده به فإنه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان وفي المكره المعتبر أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا لأنه لا يصير ملجأ محمولا طبعا إلا بذلك وفيما أكره به بأن يكون متلفا أو(24/72)
ص -36- ... مزمنا أو متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الإكراه إما لحقه أو لحق آدمي آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الأحوال يختلف الحكم فالكتاب لتفصيل هذه الجملة. وقد ابتلى محمد رحمه الله بسبب تصنيف هذا الكتاب على ما حكي عن بن سماعة رحمه الله قال لما صنف محمد رحمه الله هذا الكتاب سعى به بعض حساده إلى الخليفة فقال إنه صنف كتابا سماك فيه لصا غاليا فاغتاظ لذلك وأمر بإحضاره وأتاه الشخص وأنا معه فأدخله على الوزير أولا في حجرته فجعل الوزير يعاتبه على ذلك فأنكره محمد أصلا فلما علمت السبب أسرعت الرجوع إلى داره وتسورت حائط بعض الجيران لأنهم كانوا سمروا على بابه فدخلت داره وفتشت الكتب حتى وجدت كتاب الإكراه فألقيته في جب في الدار لأن الشرط أحاطوا بالدار قبل خروجي منها فلم يمكني أن أخرج واختفيت في موضع حتى دخلوا وحملوا جميع كتبه إلى دار الخليفة بأمر الوزير وفتشوها فلم يجدوا شيئا مما ذكره الساعي لهم فندم الخليفة على ما صنع به واعتذر إليه ورده بجميل فلما كان بعد أيام أراد محمد رحمه الله أن يعيد تصنيف الكتاب فلم يجبه خاطره إلى مراده فجعل يتأسف على ما فاته من هذا الكتاب ثم أمر بعض وكلائه أن يأتي بعامل ينقي البئر لأن ماءها قد تغير فلما نزل العامل في البئر وجد الكتاب في آجرة أو حجر بناء من طي البئر لم يبتل فسر محمد رحمه الله بذلك وكان يخفي الكتاب زمانا ثم أظهره فعد هذا من مناقب محمد وما يستدل به على صحة تفريعه لمسائل هذا الكتاب. ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن إبراهيم رحمه الله قال في الرجل يجبره السلطان على الطلاق والعتاق فيطلق أو يعتق وهو كاره أنه جائز واقع ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا وهو يقع كيفما كان وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا أو غيره أكرهه بوعيد متلف أو غير متلف والخلاف في هذا(24/73)
الفصل كان مشهورا بين السلف من علماء التابعين رحمهم الله ولهذا استكثر من أقاويل السلف على موافقة قول إبراهيم وفي قوله ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا إشاره إلى ما ذكرنا من بقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه وأنه غير راض في ذلك ولكن عدم الرضا بحكم الطلاق لا يمنع الوقوع, ولهذا وقع مع اشتراط الخيار عند الإيقاع ومع الهزل من الموقع وإن كان معلوما وكأنه أخذ هذا اللفظ مما ذكره علي رضي الله عنه في امرأة المفقود أنها ابتليت فلتصبر ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه أجاز طلاق المكره وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه ذكر له أن رجلا ضرب غلامه حتى طلق امرأته فقال بئس ما صنع وإنما فهموا منه بهذا الفتوى بوقوع الطلاق حتى قال يحيى بن سعيد راوي الحديث أي هو جائر عليه في معنى قوله بئس ما صنع أي حين فرق بينه وبين امرأته بغير رضاه وإنما يكون ذلك إذا وقعت الفرقة ومن قال لا يقع طلاق المكره يقول مراد سعيد رضي الله عنه بئس ما صنع(24/74)
ص -37- ... في اكتسابه بالإكراه وتضييعه وقت نفسه وقد رد عليه الشرع قصده وجعل طلاق المكره لغوا ولكن الأول أظهر. وأصل هذا فيما إذا باع رجلا عينا من مال غيره بغير أمره ثم أخبر المالك به فقال بئس ما صنعت وهذا اللفظ في رواية هشام عن محمد لا يكون إجازة للبيع بخلاف قوله نعم ما صنعت أو أحسنت أو أصبت فإن في اللفظ الأول إظهار الكراهة لصنعه وفي اللفظ الثاني إظهار الرضا به.
وروى بن سماعة رحمه الله على عكس هذا أن قوله نعم ما صنعت يكون على سبيل الاستهزاء به في العادة فيكون ردا لا إجازة وقوله بئس ما صنعت يكون إجازة لأنه إظهار للتأسف على ما فاته وذلك إنما يتحقق إذا نفذ البيع وزال ملكه فجعلناه إجازة لذلك وعن صفوان بن عمرو الطائي أن رجلا كان مع امرأته نائما فأخذت سكينا وجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه وقالت لتطلقني ثلاثا ألبتة أو لأذبحنك فناشدها الله فأبت عليه فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا قيلولة في الطلاق" وفيه دليل وقوع طلاق المكره لأن لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا قيلولة في الطلاق" تأويلين أحدهما أنها بمعنى الإقالة والفسخ أي لا يحتمل الطلاق الفسخ بعد وقوعه وإنما لا يلزمه عند الإكراه ما يحتمل الإقالة أو يعتمد تمام الرضا والثاني أن المراد إنما ابتليت بهذا لأجل يوم القيلولة وذلك لا يمنع وقوع الطلاق.
وبطريق آخر يروي هذا الحديث أن رجلا خرج مع امرأته إلى الجبل ليمتار العسل فلما تدلى من الجبل بحبل وضعت السكين على الحبل فقالت لتطلقني ثلاثا أو لأقطعنه فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستفتي فقال عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق وأمضى طلاقه.(24/75)
وذكر نظير هذا عن عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه أن امرأة كانت مبغضة لزوجها فراودته على الطلاق فأبى فلما رأته نائما قامت إلى سيفه فأخذته ثم وضعته على بطنه ثم حركته برجلها فلما استيقظ قالت له والله لأنفذنك به أو لتطلقني ثلاثا فطلقها فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستغاث به فشتمها وقال ويحك ما حملك على ما صنعت فقالت بغضي إياه فأمضى طلاقه.
وهو دليل لنا على أن طلاق المكره واقع ولا يقال في هذا كله أن هذا الإكراه كان من غير السلطان لأن الإكراه بهذه الصفة يتحقق بالاتفاق فإنه صار خائفا على نفسه لما كانت متمكنة من إيقاع ما خوفته به وإن كان ذلك يعارض قوله فشتمها أي نسبها إلى سوء العشرة والصحبة وإلى الظلم كما يليق بفعلها لا أن يكون ذكر ما ليس بموجود فيها لأن ذلك بهتان لا يظن به.
وعن أبي قلابة قال طلاق المكره جائز وعن عمر رضي الله عنه قال أربع واجبات على من تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر يعني النذر المرسل إذ اليمين بالنذر(24/76)
ص -38- ... يمين وبه نأخذ فنقول هذا كله جائز لازم إن كان جادا فيه أو هازلا أكره عليه أو لم يكره لأنه لا يعتمد تمام الرضا ولا يحتمل الفسخ بعد وقوعه وعن علي رضي الله عنه قال ثلاث لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والصدقة يعني النذر بالصدقة ومراده أن الهزل والجد في هذه الثلاثة سواء فالهازل لاعب من حيث أنه يريد بالكلام غير ما وضع له الكلام. وذكر نظيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ثلاث لا لعب بهن واللعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق, وعن بن المسيب رضي الله عنه قال ثلاث ليس فيهن لعب الطلاق والنكاح والعتاق.
وأيد هذا كله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والرجعة والنكاح" وإنما أورد هذه الآثار ليستدل بها على صحة هذه التصرفات من المكره فللوقوع حكم الجد من الكلام والهزل ضد الجد ثم لما لم يمتنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد فلأن لا يمتنع الوقوع بسبب الإكراه أولى لأن الإكراه لا يضاد الجد فإنه أكره على الجد وأجاب إلى ذلك وإنما ضد الاكراه الرضا فيثبت بطريق البينة لزوم هذه التصرفات مع الاكراه لأنه لما لم يمتنع لزومها بما هو ضد الجد فلأن لا يمتنع لزومها مع جد أقدم عليه عن إكراه أولى.
وعن عمر رضي الله عنه أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رد يدي الطلاق والعتاق والنكاح والنذر. وقوله مبهمات أي واقعات على صفة واحدة في اللزوم مكرها كان الموقع أو طائعا يقال فرس بهيم إذا كان على لون واحد وقوله مقفلات أي لازمات لا تحتمل الرد بسب العذر وقد بين ذلك بقوله ليس فيهن رد يدي.(24/77)
وعن الشعبي رضي الله عنه قال إذا أجبر السلطان على الطلاق فهو جائز وإن كان لصا فلا شيء وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله قال الإكراه يتحقق من السلطان ولا يتحقق من غيره ثم ظاهر هذا اللفظ يدل على أنه كان من مذهب الشعبي. أن المكره على الطلاق إذا كان سلطانا يقع ولا يقع طلاق المكره إذا كان المكره لصا. ولكنا نقول مراده بيان الوقوع بطريق التشبيه يعني أن المكره على الطلاق وإن كان سلطانا فالطلاق واقع جائز فإذا كان لصا أولى أن يكون واقعا لأن إكراه اللص ليس بشيء.
وعن علي وبن عباس رضي الله عنهم قالا كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وإنما استدل بقولهما على وقوع طلاق المكره لأنهما حكما بلزوم كل طلاق إلا طلاق الصبي والمعتوه والمكره ليس بصبي ولا معتوه ولا هو في معناهما لبقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه.
وعن الزهري رحمه الله أن فتى أسود كان مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان يقرأ القرآن فبعث أبو بكر رضي الله عنه رجلا يسعى على الصدقة وقال له اذهب بهذا الغلام معك يرع غنمك ويعنك فتعطيه من سهمك فذهب بالفتى فرجع وقد قطعت يده فقال ويحك(24/78)
ص -39- ... مالك قال زعموا أني سرقت فريضة من فرائض الإبل فقطعني قال أبو بكر رضي الله عنه والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه قال فلبثوا ما لبثوا ثم أن متاعا لامرأة أبي بكر سرق وذلك الأسود قائم يصلي فرفع يده إلى السماء وقال اللهم أظهر على السارق اللهم أظهر على السارق فوجدوا ذلك المتاع عنده فقال أبو بكر رضي الله عنه ويحك ما أجهلك بالله ثم أمر به فقطعت رجله فكان أول من قطعت رجله وقد بينا فوائد هذا الحديث في كتاب السرقة واختلاف الروايات أنه ذكر هناك أن الفتى كان أقطع اليد والرجل فقطعت يده اليسرى وهنا ذكر أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر رضي الله عنه رجله وإنما أورد الحديث هنا لحرف وهو قوله والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه وبه نأخذ فنقول إذا بعث الخليفة عاملا فأمر رجلا بقطع يد غيره أو قتله بغير حق فعله أن القصاص على العامل الذي أمر به لأن أمر مثله إكراه فإن من عادة العمال أنهم يأمرون بشيء ثم يعاقبون من امتنع من ذلك بالقتل وغيره والفعل يصير منسوبا إليه بمثل هذا الأمر قال الله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] إنه كان من المفسدين واللعين ما كان يباشر حقيقته ولكنه كان مطاعا بأمره والأمر من مثله إكراه والكلام في الإكراه على القتل يأتي في موضعه.(24/79)
وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال أخذ المشركون عمار بن ياسر رضي الله عنه فلم يتركوه حتى سب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: "ما وراءك" قال شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال عليه الصلاة والسلام: "فكيف تجد قلبك" قال أجده مطمئنا بالإيمان قال عليه الصلاة والسلام: "إن عادوا فعد" ففيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الشرك على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان وأن ذلك لا يخرجه من الإيمان لأنه لم يترك اعتقاده بما أجراه على لسانه.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمار بن ياسر رضي الله عنه عن حال قلبه فلما أخبر أنه مطمئن بالإيمان لم يعاتبه على ما كان منه وبعض العلماء رحمهم الله يحملون قوله عليه الصلاة والسلام: "فإن عادوا فعد" على ظاهره يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير وهو غلط فإنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك ولكن مراده عليه الصلاة والسلام فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان وهذا لأن التكلم وإن كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل.
ألا ترى أن حبيب بن عدي رضي الله عنه لما امتنع حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء وقال هو رفيقي في الجنة؟
وقصته أن المشركين أخذوه وباعوه من أهل مكة فجعلوا يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يسب ألهتهم ويذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير فأجمعوا على قتله فلما أيقن أنهم قاتلوه سألهم أن يدعوه ليصلي ركعتين فأوجز صلاته ثم قال إنما أوجزت لكيلا(24/80)
ص -40- ... تظنوا أني أخاف القتل ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليكون هو ساجدا لله حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني لا أرى هنا إلا وجه عدو فأقرى ء رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام اللهم احص هؤلاء عددا واجعلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان لله مصرعي
فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئه سلام حبيب رضي الله عنه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقال: "هو أفضل الشهداء وهو رفيقي في الجنة" فبهذا تبين أن الامتناع أفضل.
وعن أبي عبيدة أيضا في قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] قال ذلك عمار بن ياسر رضي الله عنه: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] عبيد الله بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخذه المشركون وأكرهوه على ما أكرهوا عليه عمار بن ياسر رضي الله عنه أجابهم إلى ذلك معتقدا فأكرموه وكان معهم إلى أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فجاء به عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يبايعه وفيه قصة وهو المراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] فعرفنا أنه إذا بدل الاعتقاد يحكم بكفره مكرها كان أو طائعا وهذا لأنه لا ضرورة إلى تبديل الاعتقاد فإنه لا اطلاع لأحد من العباد على اعتقاده وهو المراد أيضا من قوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل: 106] فأما قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] فهو عمار بن ياسر رضي الله عنه وقد ذكرنا قصته.(24/81)
وعن جابر الجعفي أنه سأل الشعبي رحمه الله عن الرجل يأمر عبده أن يقتل رجلا قال فيها ثلاثة أقاويل قائل يقتل العبد وآخر قال يقتل المولى والعبد وآخر قال يقتل المولى والمراد بيان حكم القصاص عند القتل مكرها أنه على من يجب فإن أمر المولى عبده بمنزلة الإكراه لأنه يخاف على نفسه إن خالف أمره كأمر السلطان في حق رعيته ثم لم يذكر القول الرابع وهو الذي ذهب إليه أبو يوسف أنه لا يقتل واحد منهما وكأن هذا القول لم يكن في السلف وإنما سبق به أبو يوسف رحمه الله واستحسنه وبيان المسألة يأتي في موضعه.
وفي الحديث دليل أن المفتي لا يقطع الجواب على شيء ولكن يذكر أقاويل العلماء في الحادثة كما فعلها الشعبي رحمه الله ولكن هذا إذا كان المستفتي ممن يمكنه التمييز بين الأقاويل ويرجح بعضها على البعض فإن كان بحيث لا يمكنه ذلك فلا يحصل مقصوده ببيان أقاويل العلماء رحمهم الله فلا بد للمفتي من أن يبين له أصح الأقاويل عنده للأخذ به.
وعن الحسن البصري رحمه الله التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية وبه نأخذ والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنه من النفاق والصحيح أن ذلك جائز لقوله(24/82)
ص -41- ... تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية. وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيه لعمار بن ياسر رضي الله عنه إلا أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق وقد جوزه بعض الروافض لعنهم الله ولكن تجويز ذلك محال لأنه يؤدي إلى أن لا يقطع القول بما هو شريعة لاحتمال أن يكون قال ذلك أو فعله تقية والقول بهذا محال وقوله إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية يعني إذا أكره على قتل مسلم ليس له أن يقتله لما فيه من طاعة المخلوق في معصية الخالق وإيثار روحه على روح من هو مثله في الحرمة وذلك لا يجوز وبهذا يتبين عظم حرمة المؤمن لأن الشرك بالله أعظم الأشياء وزرا وأشدها تحريما قال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] إلى قوله عز وجل: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:91] 91 ثم يباح له إجراء كلمة الكفر في حالة الإكراه ولا يباح الإقدام على القتل في حالة الإكراه فيه يتبين عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى وهو مراد بن عباس رضي الله عنه إنما التقية باللسان ليس باليد يعني القتل والتقية باللسان هو إجراء كلمة الكفر مكرها.(24/83)
وعن حذيفة رضي الله عنه قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف قالوا له وكيف ذلك قال إن الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشب يعني الذي يراد صلبه يضرب بالسوط حتى يصعد السلم وإن كان يعلم ما يراد به إذا صعد وفيه دليل أن الإكراه كما يتحقق بالتهديد بالقتل يتحقق بالتهديد بالضرب الذي يخاف منه التلف والمراد بالفتنة العذاب قال الله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات: 14] وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] أي عذبوهم فمعناه عذاب السوط أشد من عذاب السيف لأن الألم في القتل بالسيف يكون في ساعته وتوالي الألم في الضرب بالسوط إلى أن يكون آخره الموت. وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلا فقيل له إنك منافق فقال لا ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وقد ابتلى ببعض ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أن المشركين أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله في غزوة فلما تخلص منهم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام: "أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم".
وذكر عن مسروق رحمه الله قال بعث معاوية رضي الله عنه بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها على مسروق رحمه الله قال والله لو أني أعلم أنه يقتلني لغرقتها ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني والله لا أدري أي الرجلين معاوية رجل قد زين له سوء عمله أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا وقيل هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة فأمر معاوية رضي الله عنه ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الأسلحة والكراع للغزاة فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في جواز بيع الصنم, والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس.(24/84)
ص -42- ... وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك ومسروق من علماء التابعين وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى وقد رجع بن عباس إلى قوله في مسألة النذر بذبح الولد ولكن مع هذا قول معاوية رضي الله عنه مقدم على قوله.
وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض كما قال علي رضي الله عنه من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد يعني بقول زيد رضي الله عنه. وإنما قلنا هذا لأنه لا يظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية رضي الله عنه ما قال عن اعتقاد وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملك بعده فقال له عليه السلام يوما إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم إلا أن نوبته كانت بعد انتهاء نوبة علي رضي الله عنه ومضي مدة الخلافة فكان هو مخطئا في مزاحمة علي رضي الله عنه تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا, ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل رحمه الله كان ينال منه في الابتداء فرأى في منامه كأن شعرة تدلت من لسانه إلى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك ويقطر الدم من لسانه فسأل المعبر عن ذلك فقال إنك تنال من واحد من كبار الصحابة رضي الله عنه فإياك ثم إياك(24/85)
وقد قيل في تأويل الحديث أيضا إن تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روي أنه وجد خاتم دانيال عليه السلام في زمن عمر رضي الله عنه كان عليه نقش رجل بين أسدين يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان فعرفنا أنه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك ولكن مسروقا رحمه الله كان يبالغ في الاحتياط فلا يجوز اتخاذ شيء من ذلك ولا بيعه ثم كان تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده وقد ترك ذلك مخافة على نفسه وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ومقصوده من إيراد الحديث أن يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الإكراه كما يتحقق في القتل لأنه قال لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني فيفتنني فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال لا جناح علي في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها وإنما أراد بيان جواز التقية في إجراء كلمة الكفر إذا أكرهه المشرك عليها فالظالم هو الكافر قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ولم يرد به طاعة الظالم في القتل لأن الإثم على المكره في القتل لا يندفع بعذر الإكراه بل إذا قدم على القتل كان آثما إثم القتل على ما بينه والله أعلم.
باب ما يكره عليه اللصوص غير المتأولين
قال رحمه الله ولو أن لصوصا من المسلمين غير المتأولين أو من أهل الذمة تجمعوا فغلبوا على مصر من أمصار المسلمين وأمروا عليهم أميرا فأخذوا رجلا فقالوا لنقتلنك أو(24/86)
ص -43- ... لتشربن هذا الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لحم هذا الخنزير ففعل شيئا من ذلك كان عندنا في سعة لأن حرمة هذه الأشياء ثابتة بالشرع وهي مفسدة بحالة الاختيار فإن الله تعالى استثنى حالة الضرورة من التحريم بقوله عز وجل: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فظهر أن التحريم مخصوص بحالة الاختيار وقد تحققت الضرورة هنا لخوف التلف على نفسه بسبب الإكراه فالتحقت هذه الأعيان في حالة الضرورة بسائر الأطعمة والأشربة فكان في سعة من التناول منها وإن لم يفعل ذلك حتى يقتل كان آثما.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يكون آثما وكذلك هذا فيمن أصابته مخمصة فلم يتناول من الميتة حتى مات فعلى ظاهر الرواية يكون آثما وعلى رواية أبي يوسف لا يكون آثما فالأصل عند أبي يوسف أن الإثم ينتفي عن المضطر ولا تنكشف الحرمة بالضرورة قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] وهذا لأن الحرمة بصفة أنها ميتة أو خمر وبالضرورة لا ينعدم ذلك فإذا امتنع كان امتناعه من الحرام فلا يكون آثما فيه وجه ظاهر الرواية أن الحرمة لا تتناول حالة الضرورة لأنها مستثناة بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فأما أن يقال يصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى وقد كان مباحا قبل التحريم فبقي على ما كان في حالة الضرورة أو يقال الاستثناء من التحريم إباحة.(24/87)
وإذا ثبتت الإباحة في حالة الضرورة فامتناعه من التناول حتى تلف كامتناعه من تناول الطعام الحلال حتى تلفت نفسه فيكون آثما في ذلك وصفة الخمرية توجب الحرمة لمعنى الرفق بالمتناول وهو أن يمنعه من استعمال عقله ويصده عن ذكر الله وعن الصلاة وكذلك لحم الخنزير لما في طبع الخنزير من الانتهاب وللغذاء أثر في الخلق والرفق هنا في الإباحة عند الضرورة لأن إتلاف البعض أهون من إتلاف الكل وفي الامتناع من التناول هلاك الكل فتثبت الإباحة في هذه الحالة لهذا المعنى وكذلك لو أوعد بقطع عضو أو بضرب مائة سوط, أو أقل منها مما يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس.
ألا ترى أن المضطر كما لا يباح له قتل الإنسان ليأكل من لحمه لا يباح له قطع عضو من أعضائه والضرب الذي يخاف منه التلف بمنزلة القتل على ما بينا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف والأعضاء في هذا سواء حتى لو أوعده بقطع أصبع أو أنملة يتحقق به الإلجاء فكل ذلك محرم باحترام النفس تبعا لها.
ولو أوعده بضرب سوط أو سوطين لم يسعه تناول ذلك لأنه لا يخاف على نفسه ولا على عضو من أعضائه بما هدده به إنما يغمه ذلك أو يؤلمه ألما يسيرا والإلجاء لا يتحقق به.
ألا ترى أن بالإكراه بالحبس والقيد لا يتحقق الإلجاء حتى لا يباح له تناول هذه الأشياء والغم الذي يصيبه بالحبس ربما يزيد على ما يصيبه بضرب سوط أو سوطين.(24/88)
ص -44- ... ألا ترى أن الجهال يتهازلون فيما بينهم بهذا المقدار وكذلك كل ضرب لا يخاف منه تلف نفس أو ذهاب عضو في أكثر الرأي وما يقع في القلب لأن غالب الرأي يقام مقام الحقيقة فيما لا طريق إلى معرفته حقيقة.
قال وقد وقت بعضهم في ذلك أدنى الحدود أربعين سوطا فإن هدد بأقل منها لم يسعه الإقدام على ذلك لأن ما دون الأربعين مشروع بطريق التعزير والتعزير يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا ولكنا نقول نصب المقدار بالرأي لا يكون ولا نص في التقدير هنا وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب وخلافه فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه فإن وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ وإن خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ وإن كان التهديد بعشرة أسواط وهكذا نقول في التعزير للإمام أن يبلغ بالتعزير تسعة وثلاثين سوطا إذا كان في أكثر رأيه أنه لا يتلف به نفسه ولا عضوا من أعضائه وكذلك إن تغلب هؤلاء اللصوص على بلد ولكنهم أخذوا رجلا في طريق أو مصر لا يقدر فيها على غوث لأن المعتبر خوفه التلف على نفسه وذلك بتمكنهم من إيقاع ما هددوه به قبل أن يحضر الغوث ولو توعدوه على شيء من ذلك بحبس سنة أو بقيد ذلك من غير أن يمنعوه طعاما ولا شرابا لم يسعه الإقدام على شيء من ذلك لأن الحبس والقيد يوجب الهم والحزن ولا يخاف منه على نفس ولا عضو ولدفع الحزن لا يسعه تناول الحرام.
ألا ترى أن شارب الخمر في العادة إنما يقصد بشربها دفع الهم والحزن عن نفسه ولو تحقق الإلجاء بالحبس لتحقق بحبس يوم أو نحوه وذلك بعيد. وإن قالوا لنجيعنك أو لتفعلن بعض ما ذكرنا لم ينبغ له أن يفعل ذلك حتى يجيء من الجوع ما يخاف منه التلف لأن الجوع شيء يهيج من طبعه وبادي الجوع لا يخاف منه التلف إنما يخاف التلف عند نهاية الجوع بأن تخلو المعدة عن مواد الطعام فتحترق وشيء منه لا يوجد عند أدنى الجوع.(24/89)
ألا ترى أن الإكراه في هذا معتبر بالضرورة والمضطر الذي يخاف على نفسه من العطش والجوع يباح له تناول الميتة وشرب الخمر ولا يباح له ذلك عند أدنى الجوع ما لم يخف التلف على نفسه وهذا بخلاف ما تقدم إذا هددوه بضرب سوط فإن هناك يباح له التناول ولا يلزمه أن يصبر إلى أن يبلغ الضرب حدا يخاف منه التلف على نفسه لأن الضرب فعل الغير به فينظر إلى ما هدده به فإذا كان يخاف منه التلف يباح الإقدام عليه باعتبار أن تمكنه من إيقاع ما هدده به يجعل كحقيقة الإيقاع والجوع هنا يهيج من طبعه وليس هو فعل الغير به فإنما يعتبر القدر الموجود منه وقد قيل إنما يعتبر إذا كان يعلم أن الجوع صار بحيث يخاف منه التلف وأراد أن يتناول مكنوه من ذلك فأما إذا كان يعلم أنه لو صبر إلى تلك الحالة ثم أراد أن يتناول لم يمكنوه من ذلك فليس له أن يتناول إلا إذا كان بحيث يلحقه الغوث إلى أن ينتهي حاله إلى ذلك فحينئذ لا يسعه الإقدام عليه بأدنى الجوع.(24/90)
ص -45- ... قال وكل شيء جاز له فيه تناول هذه المحرمات من الإكراه فكذلك يجوز عندنا الكفر بالله إذا أكره عليه وقلبه مطمئن بالإيمان وهذا يجوز في العبادة فإن حرمة الكفر حرمة ثابتة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن مراده أنه يجوز له إجراء كلمة الشرك على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان لأن الإلجاء قد تحقق والرخصة في إجراء كلمة الشرك ثابتة في حق الملجأ بشرط طمأنينة القلب بالإيمان إلا أن هنا إن امتنع كان مثابا على ذلك لأن الحرمة باقية فهو في الامتناع متمسك بالعزيمة والمتمسك بالعزيمة أفضل من المترخص بالرخصة.
قال وقد بلغنا عن بن مسعود رضي الله عنه قال ما من كلام أتكلم به يدرأ عني ضربتين بسوط غير ذي سلطان إلا كنت متكلما به وإنما نضع هذا على الرخصة فيما فيه الألم الشديد وإن كان من سوطين فإما أن نقول السوطان اللذان لا يخاف منهما تلف يوجبان الرخصة له في إجراء كلمة الشرك فهذا مما لا يجوز أن يظن بعبد الله رضي الله عنه وأما تصرف هذا اللفظ منه على سبيل المثل فلبيان الرخصة عند خوف التلف وقيل السوطان في حقه كان يخاف منهما التلف لضعف نفسه فقد كان بهذه الصفة على ما روي أنه صعد شجرة يوما فضحكت الصحابة رضي الله عنهم من دقة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تضحكوا فهما ثقيلان في الميزان".
ولو أن هؤلاء اللصوص قالوا شيئا من ذلك للرجل والرجل لا يرى أنهم يقدمون عليه لم يسعه الإقدام على المحرم لأن المعتبر خوف التلف ولا يصير خائفا التلف إذا كان يعلم أنهم لا يقدمون عليه وإن هددوه به وقد بينا أن ما لا طريق إلى معرفته حقيقة يعتبر فيه غالب الرأي فإن كان لا يخاف أن يقدموا عليه في أول مرة حتى يعاودوه لم ينبغ له أن يقدم على ذلك حتى يعاودوه وهذا على ما يقع في القلب.(24/91)
ألا ترى: أنك لو رأيت رجلا ينقب عليك دارك من خارج أو دخل عليك ليلا من الثقب بالسيف وخفت إن أنذرته يضربك وكان على أكثر رأيك ذلك وسعك أن تقتله قبل أن تعلمه إذا خفت أن يسبقك إن أعلمته وفي هذا إتلاف نفس ثم أجاز الاعتماد على غالب الرأي لتعذر الوقوع على حقيقته فكذلك فيما سبق.
ولو هددوه بقتل أو إتلاف عضو أو بحبس أو قيد ليقر لهذا الرجل بألف درهم فأقر له به فالإقرار باطل أما إذا هددوه بما يخاف منه التلف فهو ملجأ إلى الإقرار محمول عليه والإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب فإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق وذلك ينعدم بالإلجاء. وكذلك إن هددوه بحبس أو قيد لأن الرضا ينعدم بالحبس والقيد بما يلحقه من الهم والحزن به وانعدام الرضا يمنع ترجيح جانب الصدق في إقراره ثم قد بينا أن الإكراه نظير الهزل ومن هزل بإقراره لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه.
فإن قيل لماذا لم يجعل هذا بمنزلة شرط الخيار وشرط الخيار يمنع صحة الإقرار؟.(24/92)
ص -46- ... قلنا لا كذلك بل متى صح شرط الخيار مع الإقرار بالمال لا يجب المال حتى لو قال كفلت لفلان عن فلان بألف درهم على أني بالخيار لا يلزمه المال فأما إذا أطلق الإقرار بالمال وهو خبر عن الماضي فلا يصح معه شرط الخيار والإكراه هنا متحقق فإنما يعتبر بموضع يصح فيه اشتراط الخيار وهذا بخلاف ما تقدم من تناول الحرام لأن المؤثر هناك الإلجاء وذلك ما يخاف منه التلف وهنا المانع من وجوب المال انعدام الرضا بالالتزام وقد انعدم الرضا بالإكراه وإن كان بحبس أو قيد.
قال شريح رحمه الله القيد كره والوعيد كره والضرب كره والسجن كره. وقال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضربت أو بغت أو جوعت أي هو ليس بطائع عند خوف هذه الأشياء، وإذا لم يكن طائعا كان مكرها ولو توعدوه بضرب سوط واحد أو حبس يوم أو قيد يوم على الإقرار بألف فأقر به كان الإقرار جائزا لأنه لا يصير مكرها بهذا القدر من الحبس والقيد فالجهال قد يتهازلون به فيما بينهم فيحبس الرجل صاحبه يوما أو بعض يوم أو يقيده من غير أن يغمه ذلك وقد يفعل المرء ذلك بنفسه فيجعل القيد في رجله ثم يمشي تشبيها بالمقيد أرأيت لو قالوا له لنطرقنك طرقة أو لنسمنك أو لتقرن به أما كان إقراره جائزا والحد في الحبس الذي هو إكراه في هذا ما يجيء منه الاغتمام البين وفي الضرب الذي هو إكراه ما يجد منه الألم الشديد وليس في ذلك حد لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولكن ذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه فما رأى أنه إكراه أبطل الإقرار به لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس فالوجيه الذي يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس والقيد يوما في حقه فوق تأثير حبس شهر في حق غيره فلهذا لم نقدر فيه بشيء وجعلناه موكولا إلى رأي القاضي ليبني ذلك على حال من ابتلي به.(24/93)
ولو أكرهوه على أن يقر لرجل بألف درهم فأقر له بخمسمائة كان باطلا لأنهم حين أكرهوه على ألف فقد أكرهوه على أقل منها فالخمسمائة بعض الألف ومن ضرورة امتناع صحة الإقرار بالألف إذا كان مكرها امتناع صحة إقراره بما هو دونه ولأن هذا من عادات الظلمة أنهم يكرهون المرء على الإقرار وبدل الحط بألف ويقنعون منه ببعضه فبهذا الطريق جعل مكرها على ما دون الألف ولو أقر بألفين لزمه ألف درهم لأنه طائع في الإقرار في أحد الألفين وليس من عادات الظلمة أن يتحكموا على المرء بمال ومرادهم أكثر من ذلك. وفرق أبو حنيفة بين هذا وبين ما إذا شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألفين فإن هناك لا تقبل الشهادة على شيء وقال هناك لا يصح إقراره بقدر ألف وتصح الزيادة لأن في الشهادة تعتبر الموافقة من الشاهدين لفظا ومعنى وقد انعدمت الموافقة لفظا فالألف غير الألفين وهنا المكره مضار متعنت فإنما يعتبر في حقه المعنى دون اللفظ وقد قصد الإضرار به بإلزام الألف إياه بإقراه فيرد عليه قصده ولا يلزمه الألف بما أقر به ويلزمه ما زاد عليه.
ولو أقر بألف دينار لزمته لأن الدراهم والدنانير جنسان حقيقة فيكون هو طائعا في(24/94)
ص -47- ... جميع ما أقر به من الجنس الآخر ولا يقال الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد في الأحكام لأن هذا في الإنشاآت فأما في الإخبارات فهما جنسان كما في الدعوى والشهادة فإنه إذا ادعى الدراهم وشهد له الشهود بالدنانير لا تقبل والإقرار إخبار هنا فالدراهم والدنانير فيه جنسان. وكذلك إن أقر له بنصف غير ما أكرهوه عليه من المكيل أو الموزون فهو طائع متى أقر به.
ولو أكرهوه على أنه يقر له بألف فأقر له ولفلان الغائب بألف فالإقرار كله باطل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف سواء أقر الغائب بالشركة أو أنكرها. وقال محمد إن صدقه الغائب فيما أقر به بطل الإقرار كله وإن قال لي عليه نصف هذا المال ولا شركة بيني وبين هذا الذي أكرهوه على الإقرار له جاز الإقرار للغائب بنصف المال, وأصل المسألة ما بيناه في الإقرار أن المريض إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين عند أبي حنيفة وأبي يوسف الإقرار باطل على كل حال لأنه أقر بأن المال مشترك بينهما ولا وجه لإثبات الشركة للوارث فيبطل الإقرار كله وهنا أقر بالمال مشتركا بينهما ولا وجه لإثبات الشركة لمن أكره على الإقرار له فكان الإقرار باطلا. وكذلك عند محمد إن صدقه الأجنبي بالشركة وإن كذبه فله نصف المال لأنه أقر له بنصف المال وادعى عليه شركة الوارث معه وهنا أيضا أقر للغائب بنصف المال طائعا وادعى عليه شركة الحاضر معه فكان إقراره للغائب بنصف المال صحيحا ودعواه الشركة باطلة.(24/95)
ولو أكرهوه على هبة جاريته لعبد الله, فوهبها لعبد الله وزيد وقبضاها بأمره جازت في حصة زيد لأنه ملكه نصف الجارية طائعا والشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع صحة الهبة وبطلت في حصة عبد الله بالإكراه ثم الهبة إنشاء التصرف فبطلانه في نصيب من أكره عليه لا يمنع من صحته في نصيب الآخر كالوصية فإن من أوصى لوارثه ولأجنبي جازت الوصية في نصيب الأجنبي بخلاف الإقرار. ولو كان ذلك في ألف درهم بطلت الهبة كلها أما عند أبي حنيفة فلأنه لا يجوز هبة ما يحتمل القسمة من رجلين إذا كان طائعا في حقهما فإذا كان مكرها في حق أحدهما كان أولى. وأما عند أبي يوسف ومحمد فإنما لا يجوز هنا لأن الهبة بطلت في نصيب عبد الله من الأصل.
فلو صحت في نصيب زيد كانت في مشاع يحتمل القسمة وذلك يمنع صحة الهبة.
ألا ترى أنه لو وهب داره من رجل فاستحق نصفها بطلت الهبة في الثاني واستشهد لهذا بما لو اشترى دارا وهو شفيعها مع رجل غائب فقبضها ووهبها وسلمها ثم حضر الغائب فأخذ نصفها بالشفعة بطلت الهبة في النصف الآخر لأن في النصف المأخوذ بالشفعة الهبة تبطل من الأصل.
وكذلك لو وهب لرجل دارا على أن يعوضه من نصفها خمرا فالهبة تبطل في النصف الباقي لبطلانها في النصف الذي شرط فيه الخمر عوضا وهذا بخلاف المريض إذا وهب داره من إنسان ولا مال له غيرها ثم مات فإن الهبة تنتقض في الثلثين لحق الورثة وتبقى في الثلث صحيحة لأن الهبة في الكل صحيحة في الابتداء وإنما تنتقض في الثلثين لحق الورثة بعد(24/96)
ص -48- ... موت الواهب فكان الشيوع في الثلث طارئا وذلك لا يبطل الهبة كما لو وهب داره من إنسان ثم رجع في نصفها وفيما تقدم من المسائل المبطل للهبة في النصف مقترن بالسبب فبطلت الهبة في ذلك النصف من الأصل فالشيوع في النصف الباقي يكون مقارنا لا طارئا.
ولو أكرهوه على هبة جاريته لرجل ودفعها إليه فوهب ودفع فأعتقها الموهوب له جاز عتقه وغرم المعتق قيمتها أما قوله ولو دفعها إليه فهو فصل من الكلام فإن الإكراه على الهبة يكون إكراها على الدفع بخلاف الإكراه على البيع فإنه لا يكون إكراها على التسليم والفرق أن المكره مضار متعنت والهبة لا توجب الملك بنفسها ما لم يتصل بها القبض فإذا كان الضرر الذي قصده المكره وهو إزالة ملكه لا يحصل إلا بالقبض تعدي الإكراه إليه وإن لم ينص عليه فأما البيع فموجب الملك بنفسه والإضرار به يتحقق متى صح فلا يتعدى الإكراه عن البيع إلى شيء آخر وإذا سلم بعد ذلك بغير أمره كان طائعا في التسليم.(24/97)
يوضحه أن القبض في باب البيع يوجب ملك التصرف وذلك حكم آخر غير ما هو الموجب الأصلي بالبيع وهو ملك الغير فلا يتعدى الإكراه إليه بدون التنصيص عليه وأما القبض في باب الهبة فيوجب الملك الذي هو حكم الهبة وهو ملك الغير فلهذا كان الإكراه على الهبة إكراها على التسليم ثم بسبب الإكراه تفسد الهبة ولكن الهبة الفاسدة توجب الملك بعد القبض كالهبة الصحيحة بناء على أصلنا أن فساد السبب لا يمنع وقوع الملك بالقبض فإذا أعتقها أو دبرها أو استولدها فقد لاقى هذه التصرفات منه ملك نفسه فكانت نافذة وعليه ضمان قيمتها لأن رد العين كان مستحقا عليه وقد تعذر بنفوذ تصرفه فيه فعليه قيمتها كالمشتراة شراء فاسدا وإذا شاء المكره في هذا كله رجع على الذين أكرهوه بقيمتها لأنهم أتلفوا عليه ملكه فإن الإكراه بوعيد متلف يجعل المكره ملجأ وذلك يوجب كون المكره آلة للمكره ونسبة الفعل إليه فيما يصلح أن يكون آلة وهو في التسليم والإتلاف الحاصل به يصلح أن يكون آلة للمكره فإذا صار الإتلاف منسوبا إلى المكره كان ضامنا للقيمة فإن ضمنهم القيمة رجعوا بها على الموهوب له لأنهم قاموا في الرجوع عليه مقام من صحبهم ولأنهم ملكوها بالصحبة ولو كانت قائمة من هذا الموهوب له كان لهم أن يأخذوها منه وإذا أتلفوها بالإعتاق كان لهم أن يضمنوه قيمتها.
فإن قيل لماذا لا تنفذ الهبة من جهتهم؟.(24/98)
قلنا لأنهم ما وهبوها له وإنما قصدوا الإضرار بالمكره لا التبرع من جهتهم بخلاف الغاصب إذا وهب المغصوب ثم ضمن القيمة فإن هناك قصد تنفيذ الهبة من جهته فإذا ملكه بالضمان نفذت الهبة من جهته كما قصدها ولذلك لو أكرهوه على البيع والتسليم ففعل فأعتقه المشتري أو دبره أو كانت أمة فاستولدها نفذ ذلك كله عندنا. وقال زفر لا ينفذ شيء من ذلك, وأصل المسألة أن المشتري من المكره بالقبض يصير مالكا عندنا خلافا لزفر رحمه الله وحجته في ذلك أن بيع المكره دون البيع بشرط الخيار للبائع فالبائع هناك راض بأصل(24/99)
ص -49- ... السبب والبيع هناك يتم بموت البائع وهنا لا يتم ثم هناك المشتري لا يملكه بالقبض فهنا أولى إذ بيع المكره كبيع الهازل.
ولو تصادقا أنه كان البيع بينهما هزلا لم يملك المشتري المبيع بالقبض فكذلك إذا كان البائع مكرها وكلامه في الإكراه بالقتل أوضح لأن الفعل ينعدم في جانب المكره بالإلجاء فيصير كأن المكره باشر ذلك بنفسه فلا يملكه المشتري بالقبض وإن كان لو أجازه المالك طوعا صح.
وحجتنا في ذلك أن بيع المكره فاسد والمشتري بالقبض بحكم البيع الفاسد يصير مالكا وبيان الوصف أن ما هو ركن العقد لم ينعدم بالإكراه وهو الإيجاب والقبول في محله وإنما انعدم ما هو شرط الجواز وهو الرضى قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وتأثير انعدام شرط الجواز في إفساد العقد كما هو في الربا فإن المساواة في أموال الربا شرط جواز العقد فإذا انعدمت المساواة كان العقد فاسدا وكان الملك ثابتا للمشتري بالقبض فهذا مثله بخلاف البيع بشرط الخيار فإن شرط الخيار يجعل العقد في حق حكمه كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وهذا لأن قوله على أنى بالخيار شرط ولكن لا يمكن إدخاله على أصل السبب لأن البيع لا يحتمل التعليق بالشرط فيكون داخلا على حكم السبب لأن الحكم يحتمل التأخر عن السبب وبهذا تبين أن البائع هناك غير راض بالسبب في الحال لأنه علقه بالشرط فلا يتم رضاه به قبل الشرط فكان أضعف من بيع المكره لأن المكره راض بالسبب لدفع الشر عن نفسه غير راض بحكم السبب والخيار الثابت للمكره من طريق الحكم فيكون نظير خيار الرؤية وخيار العيب وذلك لا يمنع انعقاد السبب في الحكم مقيدا لحكمه فكذلك بيع المكره, وكذلك الهازل فإنه غير راض بأصل البيع لأن البيع اسم للجد الذي له في الشرع حكم والهزل ضد الجد فإذا تصادقا على أنهما لم يباشرا ما هو سبب الملك لا ينعقد البيع بينهما موجبا للملك وهنا المكره دعي إلى(24/100)
الجد وقد أجاب إلى ذلك لأنه لو أتى بغيره كان طائعا فكان بيع المكره أقوى من بيع الهازل من هذا الوجه وإنما ينعدم الفعل في جانب المكره إذا صار منسوبا إلى المكره وذلك يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره وفي البيع لا يصلح أن يكون هو آلة للمكره لأن التكلم بلسان الغير لا يتحقق فيه المكره مباشرا للبيع.
فإن قيل هو في التسليم يصلح أن يكون آلة للمكره فينتقل ذلك إلى المكره ويصير كأنه سلم بنفسه فلا يملكه المشتري.
قلت هو في التسليم متمم للعقد فلا يصلح أن يكون آلة للمكره وإنما يصلح أن يكون آلة للمكره في تسليم ابتداء غصب وثبوت الملك في البيع الفاسد لا ينبني على ذلك وإنما ينبني على تسليم هو حكم العقد وذلك متصور على المكره أيضا يوضحه أنه لا تأثير للإكراه في تبديل محل الفعل(24/101)
ص -50- ... ولو أخرجنا هذا التسليم من أن يكون متمما للعقد جعلناه غصبا ابتداء بنسبته إلى المكره فيتبدل بسبب الإكراه ذات الفعل وإذا كان لا يجوز أن يتبدل محل الفعل بسبب الإكراه فكيف يجوز أن تتبدل ذاته, ومن أصحابنا رحمهم الله من علل لتنفيذ عتق المشتري من غير تعرض للملك, فنقول إيجاب البيع مطلقا تسليط للمشتري على العتق والإكراه لا يمنع صحة التسليط على العتق ونفوذ العتق بحكمه كما لا يمنع الإكراه صحة الإعتاق.
ألا ترى أنه لو أكره على أن يوكل في عتق عبده ففعل وأعتقه الوكيل نفذ عتقه فهذا مثله؟.
وإذا ثبت نفوذ العتق والتدبير والاستيلاد فقد تعذر على المشتري رد عينها فيضمن قيمتها للبائع فإن شاء البائع ضمن الذين أكرهوه لأن العقد وما يتممه وإن لم يصر مضافا إليهم فلإتلاف الحاصل به يصير مضافا إليهم في حق البائع لأن المكره يصلح أن يكون آلة لهم في الإتلاف فكان له أن يضمنهم قيمتها ثم يرجعون بها على المشتري لأنهم قاموا مقام البائع أو لأنهم ملكوها بالضمان ولا يمكن تنفيذ البيع من جهتهم فيرجعون على المشتري بقيمتها لأنه أتلفها عليهم طوعا بالإعتاق.
ولو أن المشتري أتلفها والموهوب له لم يفعل بها ذلك ولكنه باعها أو وهبها وسلمها أو كاتبها كان لمولاها المكره أن ينقض جميع ذلك لأن هذه التصرفات تحتمل النقض فينقض لحق المكره بخلاف العتق.
ألا ترى أن العتق لا ينتقض لحق المرتهن والبيع والهبة والكتابة تنقض لحقه؟.
فإن قيل فأين ذهب قولكم أن بيع المكره فاسد والمشتري شراء فاسدا لا ينقض منه هذه التصرفات بعد القبض لحق البائع؟
قلنا لأن هناك البائع سلم المبيع راضيا به فيصير بالتسليم مسلطا للمشتري على هذه التصرفات وهنا المكره غير راض بالتسليم ولو رضي بالتسليم تم البيع فوزانه المشتري شراء فاسدا إذا أكره البائع على التسليم فسلمه مكرها وهذا لأن الفاسد معتبر بالصحيح.(24/102)
وفي البيع الصحيح إذا قبضه المشتري بغير إذن البائع وتصرف فيه ينقض من تصرفاته ما يحتمل النقض لإبقاء حق البائع في الحبس دون ما لا يحتمل النقض. قال وليس في شيء يكره عليه الإنسان إلا وهو يرد إلا ما جرى فيه عتق أو تدبير أو ولادة أو طلاق أو نكاح أو نذر أو رجعة في العدة أو في الإيلاء ممن لا يقدر على الجماع فإن هذه الأشياء تجوز في الإكراه ولا ترد.
وأصل المسألة أن تصرفات المكره قولا منعقد عندنا إلا أن ما يحتمل الفسخ منه كالبيع والإجارة يفسخ وما لا يحتمل الفسخ منه كالطلاق والنكاح والعتاق وجميع ما سمينا فهو لازم. وقال الشافعي تصرفات المكره قولا يكون لغوا إذا كان الإكراه بغير حق بمنزلة تصرفات الصبي والمجنون ويستوي إن كان الإكراه بحبس أو قتل.
وحجته في ذلك قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والمراد نفي الحكم لما يكره عليه المرء في الدين قال عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما(24/103)
ص -51- ... استكرهوا عليه" فهذا يدل على أن ما يكره عليه يكون مرفوعا عنه حكمه وإثمه وعينه إلا بدليل والمعنى فيه أن هذا قول موجب للحرمة فالإكراه الباطل عليه يمنع حصول الفرقة كالردة وتأثيره أن انعقاد التصرفات شرعا بكلام يصدر عن قصد واختيار معتبر شرعا ولهذا لا ينعقد شيء من ذلك بكلام الصبي والمجنون والنائم وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعا فيما تكلم به بل هو مكره عليه والإكراه يضاد الاختيار فوجب اعتبار هذا الإكراه في انعدام اختياره به لكونه إكراها بالباطل ولكونه معذورا في ذلك فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعا التحق بالمجنون بخلاف العنين إذا أكرهه القاضي على الفرقة بعد مضي المدة أو المولى بعدها لأن ذلك إكراه بحق لانعدام اختياره شرعا.
ألا ترى أن المديون إذا أكرهه القاضي على بيع ماله نفذ بيعه والذمي إذا أسلم عبده فأجبر على بيعه نفذ بيعه بخلاف ما إذا أكرهه على البيع بغير حق. قال وعلى هذا قلت وإذا أكره الحربي على الإسلام صح إسلامه.
ولو أكره المستأمن أو الذمي على الإسلام لا يصح إسلامه لأنه إكراه بالباطل ولا يدخل فيه السكران فإنه غير معذور شرعا فهو في المعنى كالمكره بحق فيكون قصده واختياره معتبرا شرعا ولهذا نفذ منه جميع التصرفات ولهذا صح إقراره بالطلاق هناك ولا يصح هنا إقراره بالطلاق بالاتفاق فكذلك إنشاؤه وهذا بخلاف الهازل لأنه قاصدا لي التكلم بالطلاق مختار له فإن باب الهزل واسع فلما اختار عند الهزل التكلم بالطلاق من بين سائر الكلمات عرفنا أنه مختار للفظ وإن لم يكن مريدا لحكمه فأما المكره فغير مختار في التكلم بالطلاق هنا لأنه لا يحصل له النجاة إذا تكلم بشيء آخر وهذا بخلاف ما إذا أكره على أن يجامع امرأة وهي أم امرأته فإنها تحرم عليه لأنا ادعينا هذا في الأقوال التي يكون ثبوتها شرعا بناء على اختيار صحيح فأما الأفعال فتحققها بوجودها حسا.(24/104)
ألا ترى أنه إذا تحقق ذلك من المجنون كان موجبا للفرقة أيضا فكذلك من المكره بخلاف ما نحن فيه.
ولأن سبب الإكراه محافظة قدر الملك على المكره حتى قلتم في الإكراه على العتق المكره يضمن القيمة للمكره وكما تجب محافظة قدر ملكه عليه تجب محافظة عين ملكه عليه ولا طريق لذلك سوى أن يجعل الفعل عدما في جانب المكره ويجعل هو آلة للمكره وإذا صار آلة له امتنع وقوع الطلاق والعتاق, ولا معنى لقولكم أنه في التكلم لا يصلح آلة فإنكم جعلتموه آلة حيث أوجبتم ضمان القيمة على المكره في العتاق وضمان نصف الصداق على المكره في الطلاق قبل الدخول ثم إن لم يمكن أن يجعل آلة حتى يصير الفعل موجودا من المكره يجعل آلة حتى ينعدم الفعل في جانب المكره فيلغو طلاقه وعتاقه.
وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار في أول الكتاب والمعنى فيه أنه تصرف من أهله في محله فلا يلغى كما لو كان طائعا وبيانه أن هذا التصرف كلام والأهلية للكلام يكون مميزا(24/105)
ص -52- ... ومخاطبا وبالإكراه لا ينعدم ذلك وقد بينا أنه مخاطب في غير ما أكره عليه. وكذلك فيما أكره عليه حتى ينوع عليه الأمر. كما قررنا وهذا لأن الخطاب ينبني على اعتدال الحال وذلك لا يختلف فيه أحوال الناس فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام اعتدال الحال في توجه الخطاب واعتبار كلامه شرعا تيسيرا للأمر على الناس وبسبب الإكراه لا ينعدم هذا المعنى والسبب الظاهر متى قام مقام المعنى الخفي دار الحكم معه وجودا وعدما. وبيان المحلية أنه ملكه ولو لم يكن مكرها لكان تصرفه مصادفا محله وليس للطواعية تأثير في جعل ما ليس بمحل محلا فعرفنا أن التصرف صادف محله إلا أن بسبب الإكراه ينعدم الرضا منه بحكم السبب. ولا ينعدم أصل القصد والاختيار لأن المكره عرف الشرين فاختار أهونهما. وهذا دليل حسن اختياره فكيف يكون مفسدا لاختياره وهو قاصد إليه أيضا لأنه قصد دفع الشر عن نفسه ولا يتوصل إليه إلا بإيقاع الطلاق وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصودا فعرفنا أنه قاصد مختار ولكن لا لعينه بل لدفع الشر عنه فيكون بمنزلة الهازل من حيث إنه قاصد إلى التكلم مختار له لا لحكمه بل لغيره وهو الهزل ثم طلاق الهازل واقع فبه يتبين أن الرضا بالحكم بعد القصد إلى السبب والاختيار له غير معتبر وقد بينا أن حال المكره في اعتبار كلامه فوق حال الهازل لأن الحكم للجد من الكلام والهزل ضد الجد والمكره يتكلم بالجد لأنه يجيب إلى ما دعي إليه ولكنه غير راض بحكمه.(24/106)
وهذا بخلاف الردة فإنها تنبني على الاعتقاد وهو التكلم بخبر عن اعتقاده وقيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه غير معتقد وأنه في إخباره كاذب وكذلك الإقرار بالطلاق والإقرار متميل بين الصدق والكذب وإنما يصح من الطائع لترجح جانب الصدق فإن دينه وعقله يدعوانه إلى ذلك وفي حق المكره قيام السيف على رأسه دليل على أنه كذب والمخبر عنه إذا كان كاذبا فالإخبار به لا يصير صدقا فإن أقر به المقر باختياره لا يصير كائنا حقيقة وهذا بخلاف ما إذا هزل بالردة لأن هناك إنما يحكم بكفره لاستخفافه بالدين فإن الهازل مستخف لا محالة إذ الاستخفاف بالدين كفر.
فأما المكره فغير مستخف ولا معتقد لما يخبر به مكرها ثم إن وجب محافظة قدر الملك على المكره فذلك لا يدل على أنه يجب محافظة عين الملك عليه. كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو موسر فإنه يجب محافظة قدر الملك على الساكت بإيجاب الضمان له على المعتق ولا يجب محافظة عين ملكه بإبطال عتق المعتق وهذا لأنه مكره على شيئين التكلم بالعتاق والإتلاف وهو في التكلم لا يصلح آلة للمكره لأن تكلمه بلسان الغير لا يتحقق وفي الإتلاف يصلح آلة له فجعلنا الإتلاف مضافا إلى المكره فأوجبنا الضمان عليه وجعلنا التكلم بالطلاق والعتاق مقصورا على المكره فحكمنا بنفوذ قوله بأن المكره ينبغي أن يجعل آلة حتى ينعدم التكلم في جانبه حكما.
قلنا هذا شيء لا يمكن تحقيقه هنا فإن الخلاف في الإكراه بالقتل والإكراه بالحبس(24/107)
ص -53- ... سواء وعند الإكراه بالحبس لا ينعدم الفعل في جانب المكره بحال ثم نقول ليس للإكراه تأثير في الإهدار والإلغاء.
ألا ترى أن المكره على إتلاف المال لا يجعل فعله لغوا بمنزلة فعل التهمة ولكن يجعل موجبا للضمان على المكره فعرفنا أن تأثير الإكراه في تبديل النسبة حتى يكون الفعل منسوبا إلى المكره وهذا يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره آلة للمكره فلو اعتبرنا ذلك لاعدم الفعل في جانب المكره من غير أن يصير منسوبا إلى المكره كأن تأثير الإكراه في الإلغاء وذلك لا يجوز.
والمراد بالآية والحديث نفي الإثم لا رفع الحكم وبه نقول أن الإثم يرتفع بالإكراه حتى لو أكرهه على إيقاع الطلاق الثلاث أو الطلاق حالة الحيض لا يكون آثما إذا ثبت أن تصرفاته تنعقد شرعا فما لا يكون محتملا للفسخ بعد وقوعه يلزم من المكره وما لا يعتمد تمام الرضا يكون لازما منه والطلاق والعتاق لا يعتمد تمام الرضا حتى أن شرط الخيار لا يمنع وقوعهما وما يحتمل الفسخ ويعتمد لزومه تمام الرضا. قلنا لا يكون لازما إذا صدر من المكره إلا أن يرضى به بعد زوال الإكراه صريحا أو دلالة فحينئذ يلزم لوجود الرضا منه به. فإن باع المشتري من المكره العبد من غيره وأعتقه المشتري الآخر نفذ عتقه لأن المشتري من المكره ملك بالشراء وإن كان للمكره حق الفسخ كما كان المشتري منه مالكا بالشراء وإن كان له حق الفسخ إلا أن عتق المشتري من المكره قبل القبض لا ينفذ وعتق المشتري من المشتري من المكره نافذ قبضه أو لم يقبضه, لأن بيع المكره فاسد فالمشتري منه لا يصير مالكا إلا بالقبض. فأما بيع المشتري منه فصحيح وإن كان للمكره حق الفسخ كالمشتري إذا قبض المبيع بغير إذن البائع وباعه صح بيعه وإن كان للبائع حق الفسخ فإذا صح البيع ملكه بنفس العقد وينفذ عتقه فيه ويصير بالعتق قابضا له.(24/108)
يوضحه أن المشتري بإيجاب البيع لغيره يصير مسلطا له على العتق وهو لو أعتق بنفسه نفذ عتقه فينفذ عتق المشتري منه بتسليطه أيضا ثم كان للمولى الخيار إن شاء ضمن المكره قيمته إذا كان الوعيد بقتل لأن الإتلاف صار منسوبا إليه وإن شاء ضمن الذي أخذه منه لأنه قبضه بشراء فاسد وقد تعذر رده، وإن شاء ضمن الذي أعتقه لأنه أتلف المالية فيه بالإعتاق والعتق ينفذ من جهته حتى يثبت الولاء له فإن ضمن المكره رجع المكره بالقيمة إن شاء على المشتري الأول وإن شاء على المشتري الثاني لأنه قام مقام المكره بعد ما ضمن له ولأنه ملكه بالضمان وكل واحد منهما متعد في حقه فيضمن أيهما شاء، فإن ضمن المشتري الآخر المكره أو المكره رجع على المشتري الأول لأن استرداد قيمته منه كاسترداد عينه وذلك مبطل للبيعين جميعا فيرجع هو بالثمن على المشتري الأول ويرجع المشتري الأول بالثمن على مولاه, وإن ضمن المكره المشتري الأول أو ضمنه المكره نفذ البيع بين المشتري الأول والمشتري الآخر وكان الثمن له لأنه كان باع ملك نفسه وكان البيع صحيحا فيما بينهما إلا أنه كان للمكره حق الفسخ فإذا سقط حقه بوصول القيمة إليه وقد تقرر الملك للمشتري الأول(24/109)
ص -54- ... نفذ البيع بينه وبين المشتري الآخر, ولو كان الإكراه بقيد أو حبس أو قتل على أن يبيعها منه بألف درهم وقيمتها عشرة آلاف فباعها منه بأقل من ألف درهم. ففي القياس هذا البيع جائز لأنه أتى بعقد آخر سوى ما أكره عليه فالبيع بخمسمائة غير البيع بألف بدليل الدعوى والشهادة وإذا أتى بعقد آخر كان طائعا فيه كما لو أكره على البيع فوهب له. وفي الاستحسان البيع باطل لأنه إذا أكرهه على البيع بألف فقد أكرهه على البيع بأقل من ألف لأن قصد المكره الإضرار بالمكره وفي معنى الإضرار هذا البيع فوق البيع بألف فكان هو محصلا مقصود المكره فلهذا كان مكرها.
ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف إذا باع بألفين ينفذ على الموكل والوكيل بشراء عين بألف إذا اشتراها بخمسمائة ينفذ على الموكل لأن في هذا تحصيل مقصود الموكل فوق ما أمره به فلا يعد خلافا ولو باعه بأكثر من ألف كان البيع جائزا لأن هذا في معنى الإضرار دون ما أمره به المكره فلم يكن هو محصلا مقصود المكره فيما باشره وهذا لأن الممتنع من البيع بألف لا يكون ممتنعا من البيع بألفين والممتنع من البيع بألف يكون ممتنعا من البيع بخمسمائة, ولو أكرهوه على البيع فوهبه نفذ ذلك لأن الممتنع من البيع قد لا يكون ممتنعا من الهبة للقصد إلى الإنعام ثم هو مخالف للمكره في جنس ما أمره به فلا يكون محصلا مقصود المكره بل يكون طائعا مخالفا له كالوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار بخلاف البيع بخمسمائة فهناك ما خالف المكره في جنس ما أمره به وتحصيل مقصود المكره فيما باشره أتم فكان مكرها. وكذلك لو أكرهوه على أن يقر له بألف درهم فوهب له ألف درهم جاز لأن الهبة غير الإقرار الإقرار من التجارة والهبة تبرع والممتنع من الإقرار قد لا يكون ممتنعا من الهبة فكان هو في الهبة طائعا.(24/110)
ولو أكرهوه على بيع جاريته ولم يسموا أحدا فباعها من إنسان كان البيع باطلا لأن قصد المكره الإضرار بالمكره لا منفعة المشتري. وإن لم يبين المشتري لا يتمكن الخلل في مقصود المكره فكان هو مكرها في البيع ممن باعه.
ولو أخذوه بمال ليؤديه وذلك المال أصله باطل فأكرهوه على أدائه ولم يذكروا له بيع جاريته فباعها ليؤدي ذلك المال فالبيع جائز لأنه طائع في البيع وإنما أكره على أداء المال. ووجهه أن بيع الجارية غير متعين لأداء المال فقد يتحقق أداء المال بطريق الاستقراض والاستيهاب من غير بيع الجارية وهذا هو عادة الظلمة إذا أرادوا أن يصادروا رجلا يحكمون عليه بالمال ولا يذكرون له بيع شيء من ملكه حتى إذا باعه ينفذ بيعه, فالحيلة لمن ابتلى بذلك أن يقول من أين أؤدي ولا مال لي فإذا قال له الظالم بع جاريتك فالآن يصير مكرها على بيعها فلا ينفذ بيعها.
ولو أكرهوه على أن يبيع جاريته من فلان بألف درهم فباعها منه بقيمة ألف درهم دنانير جاز البيع في القياس لأن الدراهم والدنانير جنسان حقيقة, وهو في الاستحسان باطل لأنهما في(24/111)
ص -55- ... المعنى والمقصود جنس واحد وقد بينا فيما تقدم أن في الإنشاءات جعلا كجنس واحد كما في شراء ما باع بأقل مما باع وفي شراء المضارب بأحد النقدين ورأس المال من النقد الآخر وفي الإخبارات هما جنسان مختلفان وبهذا يتضح الفرق بين هذا وبين الإقرار الذي سبق فالإقرار إخبار والدراهم والدنانير في ذلك جنسان مختلفان وهنا إنما أكره على إنشاء البيع والدراهم والدنانير في ذلك جنس واحد فكان البيع باطلا.
ولو أكرهوه على أن يبيعها بألف درهم فباعها بعرض أو حنطة أو شعير جاز البيع بكل حال لأن البيع يختلف باختلاف العرض وهو آت بعقد آخر سوى ما أكره عليه حقيقة وحكما وقد يمتنع الإنسان من البيع بالنقد ولا يمتنع من البيع بالعرض لما له من الغرض في ذلك العرض وقد يمتنع من البيع بالعرض ولا يمتنع من البيع بالنقد فالمكره على أحد النوعين يكون طائعا في العقد الآخر إذا باشره والله أعلم بالصواب.
باب الإكراه على العتق والطلاق والنكاح(24/112)
قال رحمه الله ولو أن رجلا أكره بوعيد قتل على عتق عبده فأعتقه نفذ العتق عندنا لما بينا أنه في التكلم بالعتق لا يمكن أن يجعل آلة للمكره فيبقى تكلمه مقصورا عليه ويصير به معتقا لأن الإكراه وإن كان يفسد اختياره لكن لا يخرجه من أن يكون مخاطبا وفيما يمكن نسبته إلى المكره يجعل المكره آلة له فرجح الاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد وفيما لا يمكن نسبته إلى المكرة يبقى مضافا إلى المكره بما له من الاختيار الفاسد وعلى المكره ضمان قيمته لأن في حكم الإتلاف المكره يصلح آلة للمكره فيصير الإتلاف مضافا إلى المكره ترجيحا للاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد, ويستوي إن كان المكره موسرا أو معسرا لأن وجوب هذا الضمان باعتبار مباشرة الإتلاف فيكون جبرانا لحق المتلف عليه وذلك لا يختلف باليسارة والعسرة ولا سعاية على العبد لأنه نفذ العتق فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله بخلاف المريض يعتق عبده وعليه دين فهناك يجب السعاية لحق الغرماء, وكذلك إذا أعتق المرهون وهو معسر فإنه يجب السعاية على العبد لحق المرتهن.
والمحجور عليه للسفه إذا أعتق عبده تجب السعاية على العبد في قول محمد. وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله لأن بالحجر عليه صار هو في حكم التصرف ناقص الملك لوجوب النظر له شرعا وهنا بعذر الإكراه لم يصر ناقص الملك ومعنى النظر يتم بإيجاب الضمان على المكره ثم الولاء يكون للمكره لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق وثبوت الولاء له يبطل حقه في تضمين المكره كما لو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا بعد القضاء ضمنا قيمته. والولاء ثابت للمولى وهذا لأن الولاء كالنسب ليس بمال متقوم وليس للمكره أن يرجع على العبد بشيء لأنه قام مقام المولى ولا سبيل للمولى على العبد في الاستسعاء ولأن المكره لم يصر مالكا للعبد بالضمان.
ألا ترى أن الولاء للمكره فإن كان العبد بين رجلين فأكره أحدهما حتى أعتقه جاز(24/113)
ص -56- ... عتقه. ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله العتق لا يتجزأ فيعتق العبد كله والولاء للمعتق.
وعلى المكره إن كان موسرا ضمان جميع القيمة بينهما نصفين لأنه صار متلفا الملك عليهما. وإن كان معسرا ضمن نصيب المكره لأنه باشر إتلاف نصيبه ويستسعى العبد في قيمة نصيب الشريك الآخر لأنه لم يوجد من المكره إتلاف نصيب الشريك قصدا ولكنه تعدى إليه التلف حكما فيكون هو بمنزلة شريك المعتق, والمعتق إذا كان معسرا لا يجب عليه ضمان نصيب شريكه ولكن يجب على العبد السعاية في نصيب شريكه لأنه قد سلم له ذلك القدر من رقبته ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء أما على العبد فلأنه سعى في بدل ما سلم له وأما المكره فلأنه ضمن بمباشرة الإتلاف.
وأما في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فالمكره ضامن لنصيب المكره موسرا كان أو معسرا وفي نصيب الساكت إن كان المكره موسرا فالساكت بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعاه في نصيبه وإن شاء ضمن المكره قيمة نصيبه فإن ضمنه يرجع المكره بهذا النصف من القيمة على العبد فاستسعاه فيه لأنه قام مقام الساكت في ذلك وصار متملكا لنصيبه بأداء الضمان والولاء بين المكره والمكره نصفان، وإن كان المكره معسرا فللساكت حق الاستسعاء والإعتاق والولاء بينه وبين المكره نصفان لأنه عتق نصيب كل واحد منهما على ملكه.
ولو أكره بوعيد تلف على أن يطلق امرأته ثلاثا ففعل ولم يدخل بها بانت منه لما قلنا وعلى الزوج نصف الصداق إن كان سمى لها مهرا والمتعة إن لم يكن سمى لها مهرا ويرجع بذلك على المكره لأنه هو الذي ألزمه ذلك المال حكما فإن وقوع الفرقة قبل الدخول في حال الحياة مسقط لجميع الصداق إلا إذا كان بسبب مضاف إلى الزوج فحينئذ يجب نصف الصداق بالنص والمكره هو الذي جعل الفرقة مضافة إلى الزوج بإكراهه فكأنه ألزم الزوج ذلك المال أو فوت يده من ذلك المال فيلزمه ضمانه كالغاصب وبهذا الطريق يضمن شاهدا الطلاق قبل الدخول.(24/114)
ولو كان الزوج قد دخل بها لم يرجع على المكره بشيء لأن الصداق كله تقرر على الزوج بالدخول والمكره إنما أتلف عليه ملك النكاح وملك النكاح لا يتقوم بالإتلاف على الزوج عندنا ولهذا لا نوجب على شاهدي الطلاق بعد الدخول ضمانا عند الرجوع ولا على المرأة إن ارتدت بعد الدخول ولا على القاتل لمنكوحة الغير, خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يجعل البضع مضمونا بمهر المثل عند الإتلاف على الزوج كما هو مضمون بمهر المثل عند دخوله في ملك الزوج ولكنا نقول البضع ليس بمال متقوم فلا يجوز أن يكون مضمونا بالمال لأنه لا مماثلة بين ما هو مال وبين ما ليس بمال وتقومه عند النكاح لإظهار خطر المملوك وهذا الخطر للمملوك لا للملك الوارد عليه.(24/115)
ص -57- ... ألا ترى أن إزالة الملك بغير شهود وبغير ولي صحيح فلا حاجة إلى إظهار الخطر عند الإتلاف فلهذا لا يضمن المتلف شيئا.
ولو أن رجلا أكره امرأة أبيه فجامعها يريد به الفساد على أبيه ولم يدخل بها أبوه كان لها على الزوج نصف المهر لأن الفرقة وقعت بسبب مضاف إلى الأب وهو حرمة المصاهرة ويرجع بذلك على ابنه لأنه هو الذي ألزمه ذلك حكما. وإن كان الأب قد دخل بها لم يرجع على الابن بشيء لما قلنا وهذا الفصل أورده لإيضاح ما سبق وقوله بريد به الفساد أي يكون قصده إفساد النكاح فأما الزنى فلا يكون إفسادا.
ولو أكره بوعيد قتل أو حبس حتى تزوج امرأة على عشرة آلاف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز النكاح لما بينا أن الجد والهزل في النكاح والطلاق والعتاق سواء فكذلك الإكراه والطواعية وللمرأة مقدار مهر مثلها لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا ويختلف بالجد والهزل فيختلف أيضا بالإكراه والطوع فلا يصح من الزوج التزام المال مكرها إلا أن مقدار مهر المثل يجب لصحة النكاح لا محالة.
ألا ترى أن بدون التسمية يجب فعند قبول التسمية فيه مكرها أولى أن يجب وما زاد على ذلك يبطل لانعدام الرضا من الزوج بالتزامه.
ولو أن المرأة هي التي أكرهت ببعض ما ذكرنا على أن تزوج نفسها منه بألف ومهر مثلها عشرة ألاف فزوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا ضمان على المكره فيه لأن البضع ليس بمال متقوم وتقومه على المتملك باعتبار ثبوت الملك فيما هو مصون عن الابتذال وهذا المعنى لا يوجد في حق المكره ثم يقول القاضي للزوج إن شئت فأتمم لها مهر مثلها وهي امرأتك إن كان كفؤا لها فإن أبى فرق بينهما ولا شيء لها.(24/116)
والحاصل أن الزوج إن كان كفؤا لها ثبت لها الخيار لما يلحقها من الضرر بنقصان حقها عن صداق مثلها والزوج متمكن من إزالة هذا الضرر بأن يلتزم لها كمال مهر مثلها فإن التزم ذلك فالنكاح بينهما لازم وإن أبى فرق بينهما ولا شيء لها إن لم يكن دخل بها, وإن كان دخل بها مكرهة فلها تمام مهر مثلها لانعدام الرضا منها بالنقصان ولا خيار لها بعد ذلك لأن الضرر اندفع حين استحقت كمال مهر مثلها، وإن دخل بها وهي طائعة أو رضيت بما سمي لها فعند أبي حنيفة للأولياء حق الاعتراض, وعندهما ليس لهم ذلك وأصله فيما إذا زوجت المرأة نفسها من كفؤ بدون صداق مثلها وقد بيناه في كتاب النكاح, وإن لم يكن الزوج كفؤا لها فلها أن لا ترضى بالمقام معه سواء التزم الزوج لها كمال مهر المثل أو لم يلتزم دخل بها أو لم يدخل بها لما يلحقها من الضرر من استفراش من لا يكافئها فإن دخل بها وهي طائعة أو رضيت فللأولياء أن يفرقوا بينهما لأن للأولياء حق طلب الكفاءة.
ألا ترى أنها لو زوجت نفسها طائعة من غير كفؤ كان للأولياء حق الاعتراض فهنا أيضا(24/117)
ص -58- ... لم يوجد من الأولياء الرضا بسقوط حقهم في الكفاءة والزوج لا يتمكن من إزالة عدم الكفاءة فيكون للأولياء أن يفرقوا بينهما سواء رضي بأن يتم لها مهر مثلها أو لم يرض بذلك.
ولو أن رجلا وجب له على رجل قصاص في نفس أو فيما دونها فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى عفا فالعفو جائز لأن العفو عن القصاص نظير الطلاق في أن الهزل والجد فيه سواء فإنه إبطال ملك الاستيفاء وليس فيه من معنى الملك شيء ولا ضمان له على الجاني لأن الجاني لم يلتزم له عوضا ولم يتملك عليه شيئا وتقوم النفس بالمال عند الخطأ لصيانة النفس عن الإهدار وهذا لا يوجد عند الإسقاط بالعفو لأنه مندوب إليه في الشرع والبدل فيه صحيح ولا ضمان على المكره لأنه لم يستهلك عليه مالا متقوما فإن التمكن من استيفاء القصاص ليس بمال متقوم ولهذا لا يضمن شهود العفو إذا رجعوا ومن عليه القصاص إذا قتله إنسان لا يضمن لمن له القصاص شيئا وكذلك إذا مات من عليه القصاص لا يكون ضامنا لمن له القصاص شيئا فكذلك المكره.
ولو وجب لرجل على رجل حق من مال أو كفالة بنفس أو غير ذلك فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى أبرأ من ذلك الحق كان باطلا لأن صحة الإبراء تعتمد تمام الرضا وبسبب الاكراه ينعدم الرضا وهذا لأن الإبراء عن الدين وإن كان إسقاطا ولكن فيه معنى التمليك ولهذا يرتد برد المديون وإبراء الكفيل فرع لإبراء الأصيل والكفالة بالنفس من حقوق المال لأن صحتها باعتبار دعوى المال فلهذا لا تصح البراءة في هذه الفصول مع الإكراه كما لا تصح مع الهزل. وكذلك لو أكره على تسليم الشفعة بعد ما طلبها لأن تسليم الشفعة من باب التجارة كالأخذ بالشفعة ولهذا ملكه الأب والوصي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والتجارة تعتمد تمام الرضا وذلك يعتمد بالإكراه.(24/118)
ولو كان الشفيع حين علم بها أراد أن يتكلم بطلبها فأكره حتى سد فمه ولم يتركه ينطق يوما أو أكثر من ذلك كان على شفعته إذا خلى عنه فإن طلب عند ذلك وإلا بطلت شفعته لأن المسقط للشفعة ترك الطلب بعد التمكن منه.
ألا ترى أن ترك الطلب قبل العلم بالبيع لا يبطل الشفعة لانعدام تمكنه من الطلب وهو لم يكن متمكنا من الطلب هنا حين سد فمه أو قيل له لئن تكلمت بطلب شفعتك لنقتلنك أو لنحبسنك فهذا لا يبطل شفعته فأما بعد زوال الإكراه إذا لم يطلب بطلت شفعته لترك الطلب بعد التمكن.
فإن قيل أليس أن الإكراه بمنزلة الهزل والهازل بتسليم الشفعة تبطل شفعته فكذلك المكره على تسليم الشفعة.
قلنا: إذا هزل بتسليم الشفعة قبل الطلب بطلت شفعته لترك الطلب مع الإمكان لا بالهزل بالتسليم فأما إذا طلب الشفعة ثم سلمها هازلا واتفقا أنه كان هازلا في التسليم لم تبطل شفعته لما بينا أنه بمنزلة التجارة يعتمد تمام الرضا. فإن قال المشتري أنه لم يكف عن الطلب(24/119)
ص -59- ... للإكراه ولكنه لم يرد أخذها بالشفعة وقال الشفيع ما كففت إلا للإكراه فالقول قول الشفيع لأن قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه إنما كف عن الطلب للإكراه ولكنه يحلف بالله ما منعه من طلب الشفعة إلا الإكراه لأن المشتري ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكره استحلف عليه.
ولو أن رجلا أكرهه أهل الشرك على أن يكفر بالله وله امرأة مسلمة ففعل ثم خلى سبيله فقالت قد كفرت بالله تعالى وبنت منك وقال الرجل إنما أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان ففي القياس القول قولها ويفرق بينهما لأنه لا طريق لنا إلى معرفة سره فوجب بناء الحكم على ظاهر ما نسمعه منه وهذا لأن الشرع أقام الظاهر الذي يوقف عليه مقام الخفي الذي لا يمكن الوقوف عليه للتيسير على الناس فباعتبار الظاهر قد سمع منه كلمة الردة فتبين منه امرأته, ولكنه استحسن فقال القول قوله مع يمينه لأن النبي عليه الصلاة والسلام قبل قول عمار رضي الله عنه ولم يجدد النكاح بينه وبين امرأته ولأن الظاهر شاهد له فإن امتناعه من إجراء كلمة الشرك حتى تحقق الإكراه دليل على أنه مطمئن القلب بالإيمان وأنه ما قصد بالتكلم إلا دفع الشر عن نفسه وهذا بخلاف ما إذا أكره على الإسلام فإنه يحكم بإسلامه لأن الإسلام مما يجب اعتقاده فذلك دليل على أنه قال ما قال معتقدا وهو معارض للإكراه فعند تعارض الدليلين يصار إلى ظاهر ما سمع منه فأما الشرك مما لا يجوز اعتقاده والإكراه فدليل على أنه معتقد فلهذا لا يحكم بردته إذا أجرى كلمة الشرك مكرها والله أعلم.
باب ما يكره أن يفعله بنفسه أو ماله(24/120)
قال رحمه الله ولو أن رجلا أكرهه لص بالقتل على قطع يد نفسه فهو إن شاء الله في سعة من ذلك لأنه ابتلي ببليتين فله أن يختار أهونهما عليه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ثم حرمة الطرف تابعة لحرمة النفس والتابع لا يعارض الأصل ولكن يترجح جانب الأصل ففي إقدامه على قطع اليد مراعاة حرمة نفسه وفي امتناعه من ذلك تعريض النفس وتلف النفس يوجب تلف الأطراف لا محالة ولا شك أن إتلاف البعض لإبقاء الكل يكون أولى من إتلاف الكل.
ألا ترى أن من وقعت في يده أكلة يباح له أن يقطع يده ليدفع به الهلاك عن نفسه وقد فعله عروة بن الزبير رضي الله عنه فهذا المكره في معنى ذلك من وجه لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بقطع طرفه إلا أنه قيده بالمشيئة هنا لأن هذا ليس في معنى الأكلة من كل وجه وحرمة الطرف كحرمة النفس من وجه فلهذا تحرز عن الإثبات في الجواب وقال إن شاء الله في سعة من ذلك.
فإن قطع يد نفسه ثم خاصم المكره فيه قضى القاضي له على المكره بالقود لأن القطع صار منسوبا إلى المكره لما تحقق الإكراه على ما بينه في مسألة المكره على القتل فكأن المكره باشر قطع يده وهذا ظاهر على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنما الإشكال(24/121)
ص -60- ... على قول أبي يوسف رحمه الله فإنه لا يوجب القود على المكره, فقيل في هذا الفصل لا قود عليه عند أبي يوسف أيضا ولكن يلزمه أرش اليد في ماله. وقيل هنا يجب القود عنده لأنه إنما يجعل المكره آلة في قتل الغير لكونه آثما لا يحل له الإقدام على القتل وهنا يحل للمكره الإقدام على قطع يده فكان هو آلة بمنزلة المكره على إتلاف المال فيجب القود على المكره.
ولو أكرهه على أن يطرح نفسه في النار بوعيد قتل فهو إن شاء الله في سعة من ذلك أما إن كان يرجو النجاة من النار فإنه يلقي نفسه على قصد النجاة وإن كان لا يرجو النجاة فكذلك الجواب لأن من الناس من يختار ألم النار على ألم السيف ومنهم من يختار ألم السيف وربما يكون في النار بعض الراحة له وإن كان يأتي على نفسه. وقيل على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يسعه أن يلقي نفسه إذا كان لا يرجو النجاة فيه لأنه لو ألقى نفسه صار مقتولا بفعل نفسه ولو امتنع من ذلك صار مقتولا بفعل المكره وحيث يسعه الإلقاء فلوليه القود على المكره وهذا لا يشكل عند أبي حنيفة ومحمد وكذلك عند أبي يوسف في الصحيح من الجواب لأنه لما أبيح له الإقدام صار آلة للمكره. وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه من فوق بيت إلا أن في هذا الموضع عند أبي حنيفة لا يجب القود كما لو ألقاه المكره بنفسه وعندهما إذا كان ذلك مما يقتل غالبا فهو وإلقاء النفس في النار سواء.(24/122)
وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه في ماء وهنا القود لا يجب على المكره عند أبي حنيفة كما لو ألقاه بنفسه. وكذلك عندهما إذا كان يرجى النجاة منه وإن كان مما يقتل غالبا يجب القود على المكره واستدل بحديث زيد بن وهب قال استعمل عمر بن الخطاب رجلا على جيش فخرج نحو الجبل فانتهى إلى نهر ليس عليه جسر في يوم بارد فقال أمير ذلك الجيش لرجل أنزل فابغ لنا مخاضة نجوز فيها فقال الرجل إني أخاف أن دخلت الماء أن أموت قال فأكرهه فدخل الماء قال يا عمراه يا عمراه ثم لم يلبث أن هلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وهو في سوق المدينة قال يا ليتكاه يا ليتكاه فبعث إلى أمير ذلك الجيش فنزعه وقال لولا أن يكون سنة لأقدته منك ثم غرمه الدية وقال لا تعمل لي عملا أبدأ قال وإنما أمره الأمير بهذا على غير إرادة قتله بل ليدخل الماء فينظر لهم مخاضة الماء فضمنه عمر رضي الله عنه ديته فكيف بمن أمره وهو يريد قتله بذلك وفيه دليل على أنه يجب القود على المكره وأنه يجب بغير السلاح. ومعنى قوله أن يكون سنة يعني في حق من لا يقصد القتل ويكون مخطئا في ذلك فهو تنصيص على أنه إذا كان قاصدا إلى قتله بما لا يلجئه فإنه يستوجب القود. وأبو حنيفة يقول إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد وقد يهدد الإمام بما لا يتحقق ويتحرز فيه عن الكذب ببعض معاريض الكلام.
ولو قال لتقطعن يد نفسك أو لأقطعنها أنه لم يسعه قطعها لأنه ليس بمكره فالمكره من ينجو عما هدد به بالإقدام على ما طلب منه وهنا في الجانبين عليه ضرر قطع اليد, وإذا(24/123)
ص -61- ... امتنع صارت يده مقطوعة بفعل المكره وإذا أقدم عليه صارت مقطوعة بفعل نفسه وهو يتيقن بما يفعله بنفسه ولا يتيقن بما هدده به المكره فربما يخوفه بما لا يحققه فلهذا لا يسعه قطعها ولو قطعها لم يكن على الذي أكرهه شيء لأن نسبة الفعل إلى المكره عند تحقق الإكراه والإكراه أن يدفع عن نفسه ما هو أعظم مما يقدم عليه وذلك لا يوجد هنا فإذا لم يكن مكرها اقتصر حكم فعله عليه.
وكذلك لو قال له لتقتلن نفسك بهذا السيف أو لأقتلنك به لم يكن هذا إكراها لما قلنا. ولو قال له لنقتلنك بالسياط أو لتقتلن نفسك بهذا السيف أو ذكر له نوعا من القتل هو أشد عليه مما أمره أن يفعل بنفسه فقتل نفسه قتل به الذي أكرهه لأن الإكراه هنا تحقق فإنه قصد بالإقدام على ما طلب منه دفع ما هو أشد عليه فالقتل بالسياط أفحش وأشد على البدن من القتل بالسيف لأن القتل بالسيف يكون في لحظة وبالسياط يطول ويتوالى الألم وإليه أشار حذيفة رضي الله عنه حيث قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف. وكذلك ما دون النفس لو قيل له لتحرقن يدك بالنار أو لتقطعنها بهذا الحديد فقطعها قطعت يد الذي أكرهه إن كان واحدا لتحقق الإكراه منه وإن كان عددا لم يكن عليهم في يده قود وعليهم دية اليد في أموالهم بخلاف النفس. وأصل هذا الفرق في المباشرة حقيقة فإنه لو قطع جماعة يد رجل لم يلزمهم القود عندنا. ولو قتلوا رجلا كان عليهم القود ويأتي هذا الفرق في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.(24/124)
ولو أكره بوعيد قتل على أن يطرح ماله في البحر أو على أن يحرق ثيابه أو يكسر متاعه. ففعل ذلك فالمكره ضامن لذلك كله لأن إتلاف المال مما يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فعند تحقق الإلجاء يصير الفعل منسوبا للمكره فكأنه باشر الإتلاف بيده, والشافعي في هذا لا يخالفنا لأن المكره يباح له الإقدام على إتلاف المال سواء كان له أو لغيره وإذا صار الإقدام مباحا له كان هو آلة للمكره فالضمان على المكره خاصة, وأصحابه خرجوا له قولين سوى هذا أحدهما أن الضمان يجب على المكره لصاحب المال لأنه هو المتلف حقيقة ثم يرجع هو على المكره لأنه هو الذي أوقعه في هذه الورطة. والثاني أن الضمان عليهما نصفان لأن حقيقة الإتلاف وجد من المكره والقصد إلى الإضرار وجد من المكره فكانا بمنزلة الشريكين في الإتلاف ولكن الأول أصح لما قلنا. وإن أكرهه على ذلك بحبس أو قيد ففعله لم يكن على المكره ضمان ولا قود لأن المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الإلجاء وهو ما إذا خاف التلف على نفسه وليس في التهديد بالحبس والقيد معنى خوف التلف على نفسه فيبقى الفعل مقصورا على المكره فيؤاخذ بحكمه وهذا لأنه ليس في الحبس والقيد إلا هم يلحقه.
ومن يتلف مال الغير اختيارا فإنما يقصد بذلك دفع الغم الذي يلحقه بحسده إياه على ما آتاه الله تعالى من المال فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطا للضمان عنه.(24/125)
ص -62- ... ولو أكرهه بتلف على أن يأكل طعاما له أو يلبس ثوبا له فلبسه مكرها حتى تخرق لم يضمن المكره شيئا لأنه ليس بفساد بل أمره أن يصرف مال نفسه إلى حاجته وذلك لا يكون فسادا.
ألا ترى أن الأب والوصي يفعلان ذلك للصبي ولا يكون فسادا منهما ثم هذا من وجه أمر بالمعروف فإن التقتير وترك الإنفاق على نفسه بعد وجود السعة منهي عنه وفي الأمر بالمعروف دفع الفساد فعرفنا أن ما أمره به ليس بفساد فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المكره بخلاف إحراق المال بالنار أو طرحه في الماء فإن ذلك فساد لا انتفاع بالمال.
ولو أكرهه بوعيد قتل على أن يقتل عبده بالسيف أو على أن يقطع يده لم يسعه أن يفعل ذلك لأن العبد في حكم نفسه باق على أصل الحرية على ما بينا أن ذمته لا تدخل تحت القهر والملك فكما لا يسعه الإقدام على أن يفعل شيئا من ذلك بحر لو أكره عليه فكذلك العبد بخلاف سائر الأموال.
ألا ترى أن عند ضرورة المخمصة يجوز له أن يصرف ماله إلى حاجته وليس له أن يقتل عبده ليأكل من لحمه فإن فعله كان له أن يأخذ الذي أكرهه بقتله قودا بعبده إن كان مثله ويأخذ دية يده إن كان قطع يده بمنزلة, ما لو باشر المكره ذلك بنفسه بناء على أصلنا أن القود يجري بين الأحرار والمماليك في النفس ولا يجري فيما دون النفس.
وإن كان الإكراه بحبس لم يكن على المكره شيء وإنما عليه الأدب بالضرب والحبس والإلجاء لم يتحقق فكان فعل القتل مقصورا على المولى فلا يرجع على المكره بشيء وليس على المولى سوى الإثم لأن الحق في بدل نفس العبد للمولى ولا يستوجب هو على نفسه عقوبة ولا مالا فأما الإثم فهو حق الشرع فكما يصير آثما بالإقدام على قتل الحر مكرها لأنه يؤثر روحه على روح من هو مثله في الحرمة ويطيع المخلوق في معصية الخالق وقد نهاه الشرع عن ذلك فكذلك المولى يكون آثما بهذا الطريق.(24/126)
ولو أن قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب أو حبس أو قيد حتى يقر على نفسه بحد أو قصاص كان الإقرار باطلا لأن الإقرار متمثل بين الصدق والكذب وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب والتهديد بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمير إذا ضربت أو أوثقت ولم ينقل عن أحد من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد بالضرب والحبس في حق السارق وغيره إلا شيء.
روي عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن بعض الأمراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال فلما رأى المال موضوعا بين يدي الأمير قال ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا فإن خلى سبيله بعد ما أقر(24/127)
ص -63- ... مكرها ثم أخذ بعد ذلك فجيء به فأقر بما كان تهدد عليه بغير إكراه مستقل أخذ بذلك كله لأن إقراره الأول كان باطلا ولما خلى سبيله فقد انتهى حكم ذلك الأخذ والتهديد فصار كأن لم يوجد أصلا حتى أخذ الآن فأقر بغير إكراه. وإن كان لم يخل سبيله ولكنه قال له وهو في يده بعد ما أقر أني لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض لك فإن شئت فأقر وإن شئت فلا تقر وهو في يد القاضي على حاله لم يجز هذا الإقرار لأن كينونته في يده حبس منه له وإنما كان هدده بالحبس فما دام حابسا له كان أثر ذلك الإكراه باقيا وقوله لا أحبسك نوع غرور وخداع منه فلا ينعدم به أثر ذلك الإكراه ولأن الظاهر أنه إنما أقر لأجل إقراره المتقدم فإنه علم أنه لا ينفعه الإنكار وأنه إذا تناقض كلامه يزداد التشديد عليه بخلاف الأول فهناك قد خلى سبيله وصار بحيث يتمكن من الذهاب إن شاء فينقطع به أثر ذلك الإكراه . وإن خلى سبيله ولم يتوار عن بصر القاضي حتى بعث من أخذه ورده إليه فأقر بالذي أقر به أول مرة من غير إكراه جديد فإن هذا ليس بشيء لأنه ما لم يتوار عن بصره فهو متمكن من أخذه وحبسه فيجعل ذلك بمنزلة ما لو كان في يده على حاله. وإن كان حين رده أول مرة لم يحبسه ولكنه هدده فلما أقر قال إني لست أصنع بك شيئا فإن شئت فأقر وإن شئت فدع فأقر لم يأخذه بشيء من ذلك لأنه ما دام في يده فكأنه محبوس في سجنه فكان أثر التهديد الأول قائما أرأيت لو خلى سبيله ثم بعث معه من يحفظه ثم رده إليه بعد ذلك فأقر أكان يؤخذ بشيء من ذلك أو لا يؤخذ به لأن يد من يحفظه له كيده في ذلك؟.(24/128)
ولو أكرهه قاض بضرب أو حبس حتى يقر بسرقة أو زنا أو شرب خمر أو قتل فأقر بذلك فأقامه عليه فإن كان رجلا معروفا بما أقر له به إلا أنه لا بينة عليه فالقياس أن يقتص من المكره فيما أمكن القصاص فيه ويضمن من ماله ما لا يستطاع القصاص فيه لأن إقراره كان باطلا والإقرار الباطل وجوده كعدمه فبقي هو مباشرا للجناية بغير حق فيلزمه القصاص فيما يستطاع فيه القصاص ولكن يستحسن أن يلزمه ضمان جميع ذلك في ماله ويدرأ القصاص لأن الرجل إذا كان معروفا بما أقر به على نفسه فالذي يقع في قلب كل سامع أنه صادق في إقراره لما أقر به وذلك يورث شبهة والقصاص مما يندرى ء بالشبهات ولأن على قول أهل المدينة رحمهم الله للإمام أن يجبر المعروف بذلك الفعل على الإقرار بالضرب والحبس فإن مرتكب الكبيرة قل ما يقر على نفسه طائعا وإذا أقر به مكرها عندهم يصح إقراره وتقام عليه العقوبة فيصير اختلاف العلماء رحمهم الله شبهة والقاضي مجتهد في ما صنع فهذا اجتهاد في موضعه من وجه فيكون مسقطا للقود عنه ولكن يلزمه المال لأن المال مما يثبت مع الشبهات وبالإقرار الباطل لم تسقط حرمة نفسه وأطرافه فيصير ضامنا له مراعاة لحرمة نفسه وطرفة. وإن كان المكره غير معروف بشيء مما رمي به أخذت فيه بالقياس وأوجبت القصاص على القاضي في ما يستطاع فيه القصاص لأنه إذا كان معروفا بالصلاح فالذي يسبق إليه أوهام الناس أنه بريء الساحة مما رمي به وإنما أقر على نفسه كاذبا بسبب الإكراه, ونظير(24/129)
ص -64- ... هذا ما قيل فيمن دخل على إنسان بيته شاهرا سيفه مادا رمحه فقتله صاحب البيت ثم اختصم أولياؤه مع صاحب البيت فقال أولياؤه كان هاربا من اللصوص ملتجئا إليك وقال صاحب البيت بل كان لصا قصد قتلي فإن كان المقتول رجلا معروفا بالصلاح فالقول قول الأولياء. ويجب القصاص على صاحب البيت وإن كان متهما بالدعارة ففي القياس كذلك. وفي الاستحسان القول قول صاحب البيت ولا قصاص ولكن عليه الدية في ماله وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة لا شيء عليه لأن الظاهر شاهد عليه أنه كان دخل عليه مكابرا وأنه قد أهدر دمه عليه بذلك. ولكن في ظاهر الرواية يقول مجرد الظاهر لا يسقط حرمة النفوس المحترمة ولا يجوز إهدار الدماء المحقونة ولكن يصير الظاهر شبهة في إسقاط القود عنه فيجب عليه الدية في ماله صيانة لدم المقتول عن الهدر فكذلك ما سبق والله أعلم.
باب تعدي العامل(24/130)
قال رحمه الله وإذا بعث الخليفة عاملا على كورة فقال لرجل لتقتلن هذا الرجل عمدا بالسيف أو لأقتلنك فقتله المأمور فالقود على الآمر المكره في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا قود على المكره وقال زفر رحمه الله القود على المكره دون المكره. وقال الشافعي رحمه الله يجب القود على المكره قولا واحدا وله في إيجاب القود على المكره قولان. وقال أهل المدينة رحمهم الله عليهما القود وزادوا على هذا فأوجبوا القود على الممسك حتى إذا أمسك رجلا فقتله عدوه قالوا يجب القود على الممسك. وقال أبو يوسف أستحسن أن لا يجب القود على واحد منهما ولكن تجب الدية على المكره في ماله في ثلاث سنين. أما زفر رحمه الله فاستدل بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الاسراء: 33] والمراد سلطان استيفاء القود من القاتل والقاتل هو المكره حقيقة, والمعنى فيه أن من قتل من يكافئه لإحياء نفسه يعتمد بحق مضمون فيلزمه القود كما لو أصابته مخمصة فقتل إنسانا وأكل من لحمه، والدليل على أن القاتل هو المكره أن القتل فعل محسوس وهو يتحقق من المكره والطائع بصفة واحدة فيعرف به أنه قاتل حقيقة ومن حيث الحكم أنه يأثم إثم القتل وإثم القتل على من باشر القتل, والدليل عليه أن المقصود بالقتل إذا قدر على قتل المكره كان له أن يقتله كما لو كان طائعا وبه نعلل فنقول كل حكم يتعلق بالقتل فإنه لا يسقط عن المكره بالإكراه, كالإثم والتفسيق ورد الشهادة وإباحة قتله للمقصود بالقتل بل أولى لأن تأثير الضرورة في إسقاط الإثم دون الحكم حتى أن من أصابته مخمصة يباح له تناول مال الغير ويكون ضامنا ثم هنا لا يسقط إثم الفعل عن المكره فلأن لا يسقط عنه حكم القتل أولى ولما جعل هذا نظير الإكراه بالحبس في إثم الفعل فكذلك في حكمه, ولا يقال إنما يأثم إثم سوء الاختيار أو إثم جعل المخلوق في معصية الخالق لأنه مكره على هذا كله كما هو مكره(24/131)
على القتل والشافعي يستدل بهذا أيضا إلا أنه يوجب القود على المكره أيضا للسبب القوي لأن القصد إلى القتل بهذا الطريق ظاهر من المتخيرين.(24/132)
ص -65- ... والقصاص مشروع بطريق الزجر فيقام السبب القوي مقام المباشرة في حق المكره لتغليظ أمر الدم وتحقيق معنى الزجر كما قال في شهود القصاص يلزمهم القود. قال وعلى أصلكم حد قطاع الطريق يجب على الردى بالسبب القوي. والدليل عليه أن الجماعة يقتلون بالواحد قصاصا لتحقيق معنى الزجر ومن أوجب القود على الممسك يستدل بها أيضا, فنقول الممسك قاصد إلى قتله مسبب له فإذا كان التسبيب يقام مقام المباشرة في أخذ بدل الدم وهو الدية يعني حافر البئر في الطريق فكذلك في حكم القصاص إلا أن المتسبب إذا قصد شخصا بعينه يكون عامدا فيلزمه القود وإذا لم يقصد بتسببه شخصا بعينه فهو بمنزلة المخطى ء فتلزمه الدية, وللشافعي رحمه الله طريق آخر أن المكره مع المكره بمنزلة الشريكين في القتل لأن القصد وجد من المكره وما هو المقصود به وهو الانتقام يحصل له والمباشرة وجدت من المكره فكانا بمنزلة الشريكين ثم وجب القود على أحدهما وهو المكره فكذلك على الآخر. والدليل على أنهما كشريكين أنهما مشتركان في إثم الفعل وأن المقصود بالقتل أن يقتلهما جميعا. وحجة أبي حنيفة ومحمد أن المكره ملجأ إلى هذا الفعل والإلجاء بأبلغ الجهات يجعل الملجأ آلة للملجى ء فلا يصلح أن يكون آلة له كما في إتلاف المال فإن الضمان يجب على المكره ويصير المكره آلة له حتى لا يكون عليه شيء من حكم الإتلاف ومعلوم أن المباشر والمتسبب إذا اجتمعا في الإتلاف فالضمان على المباشر دون المتسبب.
ولما وجب ضمان المال على المكره علم أن الإتلاف منسوب إلى المكره ولا طريق للنسبة إليه سوى جعل المكره آلة للمكره فكذلك في القتل لأن المكره يصلح أن يكون آلة للمكره فيه بأن يأخذ بيده مع السكين فيقتل به غيره وتفسير الإلجاء أنه صار محمولا على ذلك الفعل بالتهديد بالقتل فالإنسان مجبول على حب الحياة ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالإقدام على القتل فيفسد اختياره بهذا الطريق ثم يصير محمولا على هذا الفعل.(24/133)
وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التي لا اختيار لها فيكون الفعل منسوبا إلى من فسد اختياره وحمله على هذا الفعل لا على الآلة فلا يكون على المكره شيء من حكم القتل من قصاص ولا دية ولا كفارة.
ألا ترى أن شيئا من المقصود لا يحصل للمكره فلعل المقتول من أخص أصدقائه فعرفنا أنه بمنزلة الآلة فأما الآثم فبقاء الإثم عليه لا يدل على بقاء الحكم كما إذا قال لغيره اقطع يدي فقطعها كان آثما ولا شيء عليه من حكم القطع بل في الحكم يجعل كأن الآمر فعله بنفسه وقد بينا أنه مع فساد الاختيار يبقى مخاطبا فلبقائه مخاطبا كان عليه إثم القتل ولفساد اختياره لم يكن عليه شيء من حكم القتل. ثم حقيقة المعنى في العذر عن فعل الإثم من وجهين:
أحدهما: أن تأثير الإلجاء في تبديل النسبة لا في تبديل محل الجناية ولو جعلنا المكره هو الفاعل في حكم الضمان لم يتبدل به محل الجناية ولو أخر جناية المكره من أن يكون(24/134)
ص -66- ... فاعلا في حق الآثم تبدل به محل الجناية لأن الإثم من حيث إنه جناية على حد الدين وإذا جعلنا المكره في هذا آلة كانت الجناية على حددين المكره دون المكره. وإذا قلنا المكره آثم ويكون الفعل منسوبا إليه في حق الآثم كانت جناية على دينه بارتكاب ما هو حرام محض وبسبب الإكراه لا يتبدل محل الجناية فأما في حق الضمان فمحل الجناية نفس المقتول سواء كان الفعل منسوبا إلى المكره أو إلى المكره وبهذا تبين أن في حق الإثم لا يصلح أن يكون آلة لأن الإنسان في الجناية على حد دين نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره.
والثاني: أنا لو جعلنا المكره آلة في حق الإثم كان ذلك إهدارا وليس تأثير الإلجاء في الإهدار.
ألا ترى أن في المال لا يجعل فعل المكره كفعل بهيمة ليس لها اختيار صحيح والمكره آثم بإكراهه فإذا لم يجعل المكره آثما كان هذا إهدارا للآثم في حقه أصلا ولا تأثير للإلجاء في ذلك بخلاف حكم الفعل فإنه إذا جعل المكره آلة فيه كان المكره مؤاخذا به إلا أن يكون هدرا, ولا يقال الحربي إذا أكره مسلما على قتل مسلم فإن الفعل يصير منسوبا إلى المكره عندكم وفي هذا إهدار لأنه ليس على المكره شيء من الضمان وهذا لأنه ليس بإهدار بل هو بمنزلة ما لو باشر الحربي قتله فيكون المقتول شهيدا ولا يكون قتل الحربي إياه هدرا.
وإن كان لا يؤاخذ بشيء من الضمان إذا أسلم وبه فارق المضطر لأنه غير ملجأ إلى ذلك الفعل من جهة غيره ليصير هو آلة للملجىء.
ألا ترى أن في المال الضمان واجب عليه فعرفنا به أن حكم الفعل مقصور عليه, والدليل على أن الفاعل هو المكره أن القصاص يلزمه عند الشافعي رحمه الله والقصاص عقوبة تندرى ء بالشبهات فيعتمد المساواة حتى أن بدون المساواة لا يجب القصاص كما بين المسلم والمستأمن وكما في كسر العظام ولا مساواة بين المباشرة والتسبب ولا طريق لجعل المكره شريكا إلا بنسبة بعض الفعل إليه.(24/135)
وإذا كان للإلجاء تأثير في نسبة بعض الفعل إلى الملجى ء فكذلك في نسبة جميع الفعل إليه ولا معنى لإيجاب القود على الممسك لأن القصاص جزاء مباشرة الفعل فإنه عقوبة تندرى ء بالشبهات وفي التسبب نقصان فيجوز أن يثبت به ما يثبت مع الشبهات وهو المال ولا يجوز أن يثبت ما يندرىء بالشبهات بخلاف حد قطاع الطريق فإن ذلك جزاء المحاربة والردء مباشر للمحاربة كالقاتل وقد بينا هذا في السرقة, والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "يصبر الصابر ويقتل القاتل" أي يحبس الممسك ويقتل القاتل. فأما أبو يوسف رحمه الله فقال أستحسن أن لا يجب القود على واحد منهما لأن بقاء الإثم في حق المكره دليل على أن الفعل كله لم يصر منسوبا إلى المكره والقصاص لا يجب إلا بمباشرة تامة وقد انعدم ذلك من المكره حقيقة وحكما فلا يلزمه القود وإن كان هو المؤاخذ بحكم القتل فيما يثبت مع الشبهات والدليل عليه أن وجوب القصاص يعتمد المساواة ولا مساواة بين(24/136)
ص -67- ... المباشرة والإكراه فلا يمكن إيجاب القود على المكره إلا بطريق المساواة, ولكنا نقول المكره مباشر شرعا بدليل أن سائر الأحكام سوى القصاص نحو حرمان الميراث والكفارة في الموضع الذي يجب والدية يختص بها المكره فكذلك القود والأصل فيه قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فقد نسب الله الفعل إلى المعين وهو ما كان يباشر صورة ولكنه كان مطاعا فأمر به وأمره إكراه. إذا عرفنا هذا فنقول سواء كان المكره بالغا عاقلا أو كان معتوها أو غلاما غير يافع فالقود على المكره لأن المكره صار كالآلة والبلوغ والعقل لا معتبر به في حق الآلة وإنما المعتبر تحقق الإلجاء لخوف التلف على نفسه.
وكذلك حكم حرمان الميراث فإنه يثبت في حق المكره دون المكره. وإن كان الآمر غير بالغ ولكنه مطاع بتحقق الإكراه منه أو كان رجلا مختلط العقل ولكن يتحقق الإكراه منه فإن الفعل يصير منسوبا إليه وذلك يكون بمنزلة جنايته بيده في أحكام القتل, واستدل بقول الحسن البصري رحمه الله في أربعة شهدوا على رجل بالزنى ورجمه الناس فقتلوه ثم رجع بعض الشهود أن على الراجع القتل وهذا شيء لا يؤاخذ به ولكن قصد بهذا الاستشهاد دفع النسبة عمن تمسك بالصورة ويقول كيف أوجبتم القتل على المكره ولم يباشر القتل حسا, واستدل عليه بقول أهل المدينة في الممسك ويقتل الرديء في قطع الطريق وإن لم يباشروا قتل أحد حسا.
وكذلك لو قال العامل له لتقطعن يده أو لأقتلنك لم ينبغ له أن يفعل ذلك لأن لأطراف المؤمن من الحرمة مثل ما لنفسه.(24/137)
ألا ترى أن المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن يقتله وكذلك لو أمره بقطع أصبع أو نحوه فإن حرمة هذا الجزء بمنزلة حرمة النفس فإن القتل من المظالم والمكره مظلوم فليس له أن يظلم أحدا ولو ظلم وإن أقدم على القتل فليس عليه إلا الإثم فأما الفعل في حق الحكم فقد صار منسوبا إلى المكره لوجود الإلجاء بالتهديد بالقتل.
وإن رأى الخليفة أن يعزر المكره ويحبسه فعل لإقدامه على ما لا يحل له الإقدام عليه وإن أمره أن يضربه سوطا واحدا أو أمره أن يحلق رأسه أو لحيته أو أن يحبسه أو أن يقيده وهدده على ذلك بالقتل رجوت أن لا يكون آثما في فعله ولا في تركه أما في تركه فلأنه من المظالم والكف عن المظالم هو العزيمة والمتمسك بالعزيمة لا يكون آثما وأما إذا قدم عليه فلأنه يدفع القتل عن نفسه بهم وحزن يدخل على غيره فإن بالحبس والقيد وبحلق اللحية وضرب سوط يدخله هم وحزن ولا يخاف على نفسه ولا على شيء من أعضائه ولدفع الهلاك عن نفسه قد رخص له الشرع في إدخال الهم والحزن على غيره.
ألا ترى أن المضطر يأخذ طعام الغير بغير رضاه ولا شك أن صاحب الطعام يلحقه حزن بذلك إلا أنه علق الجواب بالإلجاء لأنه لم يجد في هذا بعينه نصا والفتوى بالرخصة فيما هو من مظالم العباد بالرأي لا يجوز مطلقا فلهذا قال رجوت. وإن كان يهدده على ذلك(24/138)
ص -68- ... بحبس أو قيد أو ضرب سوط أو حلق رأسه ولحيته لم ينبغ له أن يقدم على شيء من الظلم قل ذلك أو كثر لأن الرخصة عند تحقق الضرورة وذلك إذا خاف التلف على نفسه وهو بما هدده هنا لا يخاف التلف على نفسه.
ولو أكرهه بالحبس على أن يقتل رجلا فقتله كان القود فيه على القاتل لأن بالتهديد بالحبس لا يتحقق الإلجاء ولهذا كان الضمان في المال عند الإكراه بالحبس على المكره دون المكره ولو أمره بقتله ولم يكرهه على ذلك إلا أنه يخاف إن لم يفعل أن يقتله ففعل ما أمر به كان ذلك بمنزلة الإكراه لأن الإلجاء باعتبار خوفه التلف على نفسه أن لو امتنع من الإقدام على الفعل وقد تحقق ذلك هنا ومن عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ولكنهم يأمرون ثم لا يعاقبون من خالف أمرهم إلا بالقتل فباعتبار هذه العادة كان الأمر من مثله بمنزلة التهديد بالقتل.
ولو أكرهه بوعيد تلف حتى يفتري على مسلم رجوت أن يكون في سعة منه.
ألا ترى أنه لو أكرهه بذلك على الكفر بالله تعالى كان في سعة من إجراء كلمة الكفر على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان فكذلك إذا أكرهه بالافتراء على مسلم لأن الافتراء على الله تعالى والشتم له يكون أعظم من شتم المخلوق إلا أنه علقه بالرجاء لأن هذا من مظالم العباد وليس هذا في معنى الافتراء على الله تعالى من كل وجه فإن الله تعالى مطلع على ما في ضميره ولا اطلاع للمقذوف على ما في ضميره ولأن الله تعالى يتعالى أن يدخله نقصان بافتراء المفترين وفي الافتراء على هذا المسلم هتك عرضه وذلك ينقص من جاهه ويلحق الحزن به فلهذا علق الجواب بالرجاء قال:(24/139)
ألا ترى أنه لو أكرهه على شتم محمد صلى الله عليه وسلم بقتل كان في سعة إن شاء الله فهذا أعظم من قذف امرئ مسلم ولو تهدده بقتل حتى يشتم محمدا صلى الله عليه وسلم أو يقذف مسلما فلم يفعل حتى قتل كان ذلك أفضل له لما بينا أن في الامتناع تمسك بما هو العزيمة ولما امتنع خبيب رضي الله عنه حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء.
ولو تهدده بقتل حتى يشرب الخمر فلم يفعل حتى قتل خفت أن يكون آثما وقد بينا هذا الفصل إلا أنه ذكره هنا بلفظ يستدل به على أنه كان من مذهبه أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الحرمة بالنهي عنها شرعا فإنه قال لأن شرب الخمر وأكل الميتة لم يحرم إلا بالنهي عنهما وبين أهل الأصول في هذا كلام ليس هذا موضع بيانه.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال فلان فيدفعه إليه رجوت أن يكون في سعة من أخذه ودفعه إليه لأنه بمنزلة المضطر وقد بينا أنه يباح للمضطر أخذ مال الغير ليدفع به الضرورة عن نفسه ولكنه علق الجواب بالرجاء لأن هذا ليس في معنى المضطر من وجه فالعذر هناك وهو الجوع ما كان بصنع مضاف إلى العباد والخوف هنا باعتبار صنع مضاف إلى العبد وبينهما فرق.
ألا ترى أن المقيد إذا صلى قاعدا يلزمه الإعادة إذا أطلق عنه القيد بخلاف المريض؟(24/140)
ص -69- ... قال والضمان فيه على الآمر لأن الإلجاء قد تحقق فيصير الأخذ والدفع كله منسوبا إلى الآمر والمكره بمنزلة الآلة له وإنما يسعه هذا ما دام حاضرا عند الآمر فإن كان أرسله ليفعل فخاف أن يقتله إن ظفر به ولم يقل إن لم يفعل ما هدد به لم يحل الإقدام على ذلك لأن الإلجاء إنما يتحقق ما دام في يد المكره بحيث يقدر على إيقاع ما هدده به عاجلا وقد انعدم ذلك حين بعد عنه ولا يدري أيقدر عليه بعد ذلك أو لا يقدر وبهذا الفصل تبين أنه لا عذر لأعوان الظلمة في أخذ الأموال من الناس فإن الظالم يبعث عاملا إلى موضع ليأخذ مالا فيتعلل العامل بأمره وإنه يخاف العقوبة من جهته إن لم يفعل وليس ذلك بعذر له إلا أن يكون بمحضر من الآمر فأما بعد ما بعد من الظالم فلا إلا أن يكون رسول الآمر معه على أن يرده عليه إن لم يفعل فيكون هذا بمنزلة الذي كان حاضرا عنده لأن كونه تحت يد رسوله ككونه في يده ويتمكن الرسول من رده إليه ليعاقبه بتحقق الإلجاء ولو لم يفعل ذلك حتى قتله كان في سعة إن شاء الله لأنه تحرز عما هو من مظالم العباد وذلك عزيمة.
ألا ترى أن للمضطر أن يأخذ طعام صاحبه بقدر ما تندفع عنه الضرورة به ولو لم يأخذه حتى تلف لم يكن مؤاخذا به فهذا مثله, ولو كان المكره هدده بالحبس أو القيد لم يسعه الإقدام على ذلك لأن الإلجاء والضرورة بهذا التهديد لا يتحقق.(24/141)
ولو أكره رجلا على قتل أبيه أو أخيه بوعيد قتل فقتله فقد بينا حكم المسألة أن الفعل يصير منسوبا إلى المكره فيما هو من أحكام القتل فكأنه هو المباشر بيده وعلى هذا الحرف ينبني ما بعده من المسائل حتى قالوا لو أن لصين أكرها رجلا بوعيد تلف على أن يقطع يد رجل عمدا كان ذلك كقطعهما بأيديهما فعليهما أرش اليد في مالهما في سنتين ولا قود عليهما لأن اليدين لا يقطعان بيد واحدة, وإن مات فيهما فعلى المكرهين القود لأن القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا من أصله, ولو باشرا قتله لزمهما القود ولو كان الآمر واحدا والمأمور اثنين كان على الآمر القصاص في اليد إن عاش وفي البدن إن مات من ذلك لأن الفعل منسوب إلى المكره وهو واحد لو باشر قطع يده أو قتله يجب القود عليه فكذلك إذا أكرهه على ذلك رجلان والله أعلم بالصواب.
باب الإكراه على دفع المال وآخذه
قال رحمه الله ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف حتى أعطى رجلا ماله وأكره الآخر بمثل ذلك حتى قبضه منه ودفعه فهلك المال عنده فالضمان على الذي أكرههما دون القابض لأن الدافع والقابض كل واحد منهما ملجأ من جهة المكره فيصير الفعل في الدفع والقبض منسوبا إلى المكره والقابض مكره على قبضه بوعيد تلف فلا يبقى في جانبه فعل موجب للضمان عليه ولأنه قبضه ليرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يوجب الضمان على القابض, وإن كان قبضه بغير أمر صاحبه كمن أخذ آبقا أو وجد لقطة وأشهد أنه أخذه ليرده على صاحبه لم يكن عليه ضمان إن هلك عنده.(24/142)
ص -70- ... وكذلك لو كان أكره القابض على قبضه ليدفعه إلى الذي أكرهه فقبضه وضاع عنده قبل أن يدفعه إليه فلا ضمان على القابض إذا حلف بالله ما أخذه إلا ليدفعه إليه طائعا وما أخذه إلا ليرده على صاحبه إلا أن يكره على دفعه لأن الظاهر يشهد له في ذلك فإن فعل المسلم محمول على ما يحل, ويحل له الأخذ مكرها على قصد الرد على صاحبه ولا يحل له الأخذ على قصد الدفع إلى المكره طائعا ودينه وعقله يدعوانه إلى ما يحل دون ما لا يحل إلا أن في اللقطة لا يقبل قوله على هذا إذا لم يشهد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه متمكن من الإشهاد على ذلك وهنا هو غير متمكن من الإشهاد على ما في ضميره من قصد الرد على المالك لأنه إن أظهر ذلك عاقبه المكره فلهذا قبلنا قوله في ذلك مع اليمين.(24/143)
ولو كان أكره صاحب المال على أن يهبه لصاحبه وأكره الآخر على أن يقبل الهبة منه ويقبضها بوعيد تلف فقبضها فضاعت عنده, فإن قال القابض أخذتها على أن تكون في يدي مثل الوديعة حتى أردها على صاحبها فالقول قوله مع يمينه لأن الإكراه شاهد له على أنه غير راغب في تمليكها فيكون الضمان على المكره خاصة وإن قال أخذتها على وجه الهبة لتسلم لي كان لرب المال أن يضمنه إن شاء وإن شاء المكره لأن الموهوب له قبض مال الغير على وجه التملك بغير رضا صاحبه وهو طائع في ذلك القبض على هذا القصد فيكون ضامنا للمال وأما المكره فلأن الدافع ملجأ من جهته فيجعل كأنه قبضه بنفسه ودفعه إليه, فإن ضمن المكره رجع على الموهوب له لأنه قائم مقام من ضمنه لأن المكره ما قصد مباشرة الهبة من جهته فلا يمكن تنفيذ الهبة من جهته بملكه إياه وفي الأصل أشار إلى حرف آخر. فقال لأنه إنما ضمن المال بقبض الموهوب له وقد كانت الهبة قبل القبض فلا يجعل الذي أكرههما بمنزلة الواهب وما قلناه أوضح لأنا إذا جعلنا القابض مكرها وكان المكره ضامنا باعتبار نسبة القبض إليه لا يبقى في جانب القابض سبب موجب للضمان عليه والدليل عليه أنه قال فإن ضمن الموهوب له لم يكن على الذي أكرهه شيء لأنه أخذه على أنه له.(24/144)
ولو كان القبض منسوبا إلى المكره كان للقابض أن يرجع على المكره بما يلحقه من الضمان بسببه، فإن كان الموهوب له بحيث يتمكن من الإشهاد عند الهبة أن يقبضه للرد فلم يفعل كان ضامنا بترك الإشهاد لأن القبض بحكم الهبة عمل منه لنفسه فلا يقبل قوله بخلاف ما صرح به إلا عند الضرورة وهو ما إذا لم يكن متمكنا من الإشهاد لأنا رأينا أن في موضع الضرورة يجعل القول قوله فيما في ضميره كالمكره على الكفر إذا قال بعد ما تكلم بالكفر كنت مطمئن القلب بالإيمان قبل قوله ولم تبن منه امرأته فأما عند تمكنه من الإشهاد بلا ضرورة فلا يقبل قوله بمنزلة من وجد عبدا آبقا لرجل في يد غيره فلم يقدر على استرداده منه إلا بشراء أو هبة فطلب ذلك منه حتى وهب له أو اشتراه كان ضامنا له إلا أن يشهد عند ذلك أنه يأخذه ليرده على مولاه فإذا أشهد لم يضمن. وكذلك إن لم يكن متمكنا من الإشهاد يقبل قوله في ذلك(24/145)
ص -71- ... ولو أكرهه على بيع عبده وأكره المشتري على شرائه وأكرههما على التقابض فهلك الثمن والعبد ثم اختصموا فضمان العبد للبائع وضمان الثمن للمشتري على الذي أكرههما لأن كل واحد منهما ملجأ على دفع ماله إلى الآخر من جهته. فإن أراد أحدهما أن يضمن صاحبه سئل كل واحد منهما عما قبضه على وجه قبضه فإن قال قبضته على البيع الذي أكرهنا عليه ليكون لي وقالا ذلك جميعا فالبيع جائز ولا ضمان على المكره فيه لأن قبض كل واحد منهما على هذا القصد دليل الرضا منه بالبيع ودليل الرضا كصريح الرضا.
ألا ترى أنهما لو أكرها على البيع ثم تقابضا بغير إكراه تم البيع بينهما فكذلك إذا أقر كل واحد منهما أنه قبضه على وجه التملك.(24/146)
وإن قال قبضته مكرها لأرده على صاحبه وآخذ منه ما أعطيت وحلف كل واحد منهما لصاحبه على ذلك لم يكن لواحد منهما على صاحبه ضمان لأن الإكراه دليل ظاهر لكل واحد منهما على ما يخبر به عن ضميره إلا أن صاحبه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه الضمان. فإذا أنكر يحلف على ذلك فإن حلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف لم يضمن الذي حلف لأن يمينه قد انتفى عنه بسبب الضمان إلا أن يثبته صاحبه بالحجة ويضمن الذي لم يحلف ما قبض لأن نكوله كإقراره وذلك يثبت عليه سبب الضمان عند قضاء القاضي. فإن كان الذي أبى اليمين هو الذي قبض العبد ضمن البائع قيمة العبد أيهما شاء لأن فعله بالدفع صار منسوبا إلى المكره والقابض كان طائعا حين قبضه لنفسه على وجه التملك. فإن ضمنها المكره رجع بها على المشتري لأنه ملك بالضمان وما قصد تنفيذ البيع من جهته ولأنه إنما ضمنها بالإكراه على القبض وقد كان البيع قبل ذلك فلا يكون بمنزلة البائع وقد بينا أن الوجه الأول أصح، وإن ضمنها المشتري لم يرجع بها على المكره لأنه أقر أنه لم يقبضه على وجه الإكراه وإنما قبضه على وجه الشراء ولم يرجع على البائع بالثمن أيضا لأن البائع قد حلف أنه قبض الثمن للرد عليه وقد هلك في يده فلا يضمن له شيئا من ذلك ولا يرجع بالثمن على المكره أيضا لأنه أقر أنه دفع الثمن طوعا وأنه كان راضيا بالبيع.
وإن كان المشتري حلف وأبى البائع اليمين فلا ضمان في العبد على من أخذه وأما الثمن فإن شاء المشتري ضمنه المكره وإن شاء ضمنه البائع لأن البائع بنكوله أقر أنه قبض الثمن لنفسه طائعا وفعل الدافع منسوب إلى المكره للإلجاء. فإن ضمن البائع لم يرجع به على المكره لأنه ضمن بفعل كان عاملا فيه لنفسه طائعا وإن ضمنه المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملكه بالضمان والقابض كان طائعا في قبضه لنفسه فيضمن له ذلك.(24/147)
ولو أكرههما على البيع والشراء ولم يذكر لهما قبضا فلما تبايعا لم يتقابضا حتى فارقا الذي أكرههما ثم تقابضا على ذلك البيع فهذا رضا منهما بالبيع وإجازة له لأن البيع مع الإكراه كان منعقدا ولم يكن نافذا جائزا لانعدام الرضا منهما فإذا وجد دليل الرضا نزل ذلك(24/148)
ص -72- ... منزلة التصريح بالرضا بالإجارة طوعا وقد بينا الفرق بين الهبة وبين البيع لأن الإكراه على البيع لا يكون إكراها على التسليم والإكراه على الهبة يكون إكراها على التسليم.
ولو كان الإكراه في الوجه الأول على البيع والقبض بغير تلف بل بحبس أو قيد وتقابضا على ذلك مكرهين لم يجز البيع لأن نفوذ البيع يعتمد تمام الرضا وبالتهديد بالحبس ينعدم تمام الرضا, فإن ضاع ذلك عندهما فلا ضمان لواحد منهما على المكره لأن فعلهما لم يصر منسوبا إلى المكره فإن نسبة الفعل إليه بالإلجاء والتهديد بالحبس لا يتحقق الإلجاء ولكن كل واحد منهما ضامن لما قبض من مال صاحبه لأنه قبضه بحكم عقد فاسد وفعل كل واحد منهما في القبض مقصور عليه وقد قبضه بغير رضا صاحبه.
ولو قبضه بحكم العقد الفاسد برضا صاحبه كان مضمونا عليه فهنا أولى أن يكون مضمونا عليه. ولو أكرهه بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل وأكره الآخر بالحبس على قبوله وديعة فقبله وضاع عنده فلا ضمان على المكره ولا على القابض أما على المكره فلانعدام الإلجاء من جهته وأما على القابض فلأنه ما قبض لنفسه وإنما قبضه ليحفظه وديعة ويرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يكون موجبا للضمان عليه وإن انعدم الرضا من صاحبه كما لو هبت الريح بثوب إنسان وألقته في حجر غيره فأخذه ليرده على صاحبه فهلك لم يكن ضامنا شيئا.(24/149)
ولو أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا أو يدفعه إليه وأكره الآخر بالحبس على قبوله وقبضه فهلك فالضمان على القابض لأنه قبضه على وجه التملك وفعله في القبض مقصور عليه فإنه غير ملجأ من جهة المكره فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ولو كان أكره القابض بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ولا المكره شيئا أما القابض فلأنه ملجأ إلى القبض وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه وأما المكره فلأن الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال إليه لأنه كان مكرها بالحبس فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قاله أبو حازم رحمه الله. وهذا غلط لأن فعل الدافع إن لم يكن منسوبا إلى المكره ففعل القابض صار منسوبا إليه وإنما قبضه بغير رضا المالك فكأن المكره قبضه بنفسه فينبغي أن يكون المكره ضامنا من هذا الوجه. وما قاله في الكتاب أصح لأن هذا القبض متمم للهبة وفي مثله لا يصلح المكره آلة للمكره.
ألا ترى أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم الهبة به ثم الموجب للضمان على المكره تفويت اليد على المالك وذلك بالدفع والإخراج من يدهما لا بالقبض لأن الأموال محفوظة بالأيدي وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره.
ولو أكره الواهب بتلف وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن إن شاء المكره وإن شاء القابض لأن فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته فيكون المكره ضامنا له وفعل القابض مقصور عليه لأنه كان مكرها على القبض بالحبس وقد(24/150)
ص -73- ... قبضه على وجه التملك فكان للدافع أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا، وكذلك في البيع إذا أكره البائع بوعيد تلف على البيع والتقابض وأكره المشتري على ذلك بالحبس فتقابضا وضاع المال فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد أن يحلف ما قبضه إلا ليرده على صاحبه لأنه ملجأ قبل القبض فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه وللبائع أن يضمن المكره قيمة عبده لأنه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ثم يرجع بها المكره على المشتري لما بينا أن البيع لم ينفذ من جهة المكره وقد ملكه بالضمان فإن شاء البائع ضمنها المشتري لأن فعله في القبض مقصور عليه وقد قبضه على وجه التملك وإن لم يكن راضيا بسببه. ثم لا يرجع المشتري على المكره بالقيمة ولا بالثمن أما القيمة فلأنه إنما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا لنفسه وأما الثمن فلأنه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره في حكم الضمان وفي هذا طعن أبو حازم رحمه الله أيضا كما في الهبة.
ولو كان أكره البائع بالحبس وأكره المشتري بالقتل فلا ضمان للبائع في العبد على المشتري ولا على المكره لأن المشتري ملجأ إلى القبض فلا يكون ضامنا شيئا والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره فيقتصر حكم الدفع عليه فلهذا لا ضمان على المكره وللمشتري أن يضمن الثمن إن شاء البائع وإن شاء المكره لأنه كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه فاقتصر حكم فعله بالقبض عليه وللمشتري الخيار. فإن ضمن المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملك المضمون بالضمان ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن فرجع على البائع بالثمن والله أعلم بالصواب.
باب من الإكراه على الإقرار(24/151)
قال رحمه الله وإذا أكره الرجل بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بعتق أو طلاق أو نكاح وهو يقول لم أفعله فأقر به مكرها فإقراره باطل والعبد عبده كما كان والمرأة زوجته كما كانت لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والإكراه الظاهر دليل على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقا.
ألا ترى أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا بإخبارهم به والدليل عليه أنه لو أقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب في ذلك فإنه يسعه إمساكها فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن القاضي لا يصدقه على ذلك لأنه مأمور باتباع الظاهر والظاهر أن الإنسان لا يكذب فيما يلحق الضرر به فإذا كان مكرها وجب تصديقه في ذلك لوجود الإكراه فلهذا لا يقع به شيء والإكراه بالحبس والقتل في هذا سواء لأن الإقرار تصرف من حيث القول ويعتمد تمام الرضا وبسبب الإكراه بالحبس ينعدم ذلك وكذلك الإقرار بالرجعة أو الفيء في الإيلاء أو(24/152)
ص -74- ... العفو عن دم العمد فإنه لا يصح مع الإكراه لما قلنا وكذلك الإقرار في عبده أنه ابنه أو جاريته أنها أم ولده لأن هذا إخبار عن أمر سابق خفي فالإكراه دليل على أنه كاذب فيما يخبر به.
فإن قيل أليس عند أبي حنيفة رحمه الله إذا قال لمن هو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الإقرار مكرها فإذا نفذ العتق ثمة ينبغي أن ينفذ هنا بطريق الأولى.
قلنا أبو حنيفة رحمه الله يجعل ذلك الكلام مجازا عن الإقرار بالعتق كأنه قال عتق على من حين ملكته وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في إقراره فأما عند الإكراه فأكثر ما فيه أن يجعل هذا مجازا عن الإقرار بالعتق ولكن الإكراه يمنع صحة الإقرار بالعتق كما يمنع صحة الإقرار بالنسب.(24/153)
ولو أكره نصراني على الإسلام فأسلم كان مسلما لوجود حقيقة الإسلام مع الإكراه فإن ذلك بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد سمعنا إقراره بلسانه وإنما يعبر عما في قلبه لسانه فلهذا يحكم بإسلامه والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83] وقال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وقد قبل من المنافقين ما أظهروا من الإسلام مع علمه أنهم أظهروا ذلك خوفا من السيف وهذا في أحكام الدنيا فأما فيما بينه وبين ربه إذا لم يكن يعتقد فيما يقول لا يكون مسلما, والذمي في هذا والحربي سواء عندنا, والشافعي رحمه الله يفرق بينهما باعتبار أن إكراه الحربي على الإسلام إكراه بحق وقد قررناه فيما سبق وفرق بين الإكراه على الإسلام وبين الإكراه على الردة وقال الردة إنما تحصل بتبديل الاعتقاد والإكراه دليل ظاهر على أنه غير مبدل لاعتقاده فأما الإسلام في أحكام الدنيا فإنما يثبت بالإقرار باللسان مع التصديق بالقلب ولا طريق لنا إلى الوقوف على ما في قلبه وقد سمعنا إقراره مع الإكراه فلذلك حكمنا بإسلامه, فإن رجع عنه إلى النصرانية أجبر على الإسلام ولم يقتل استحسانا وفي القياس يقتل لأنه بدل الدين وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" وهذا لأن الإكراه لما لم يمنع صحة الإسلام كان المكره كالطائع فيه ولكنه استحسن إسقاط القتل عنه للشبهة التي فعلت لأنا لا نعلم سره حقيقة والأدلة قد تعارضت فكون الإسلام مما يجب اعتقاده دليل على أنه معتقد والإكراه دليل على أنه غير معتقد بما يقول وتعارض الأدلة شبهة في درء ما يندرى ء بالشبهات وهذا نظير القياس, والاستحسان في المولود بين المسلمين إذا بلغ مرتدا يجبر على الإسلام ولا يقتل استحسانا والذي أسلم بنفسه في صغره إذا بلغ مرتدا يجبر على الإسلام ولا يقتل للشبهة المتمكنة فيه بسبب اختلاف(24/154)
العلماء رحمهم الله.
ولو كان أكرهه على الإقرار بإسلام ماض منه فالإقرار باطل لأن الإكراه دليل على أنه كاذب فيما أخبر به من الإقرار بالإسلام ماضيا وكذلك لو أكره بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بأنه لا قود له قبل هذا الرجل ولا بينة له عليه به فالإقرار باطل لأن الإكراه دليل(24/155)
ص -75- ... على أنه كاذب فيما يقر به بخلاف ما إذا أكره على إنشاء العفو, فإن أعاده بعد ذلك وأقام البينة عليه به حكم له بالقود لأن ما سبق منه من الإقرار بالعفو قد بطل فكان وجوده كعدمه.
وكذلك لو أكرهه على أن يقر بأنه لم يتزوج هذه المرأة وأنه لا بينة له عليها بذلك أو على أن هذا ليس بعبده وأنه حر الأصل فإقراره بذلك باطل لأن الإكراه دليل على أنه كاذب فيما أقر به فلا يمنع ذلك قبول بينته على ما يدعيه من النكاح والرق بعد ذلك.
ألا ترى أنه لو أقر بشيء من هذا هازلا لا يلزمه شيء فيما بينه وبين ربه ولو أقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب فيما قال وسعه إمساك المرأة والعبد فيما بينه وبين ربه بخلاف الإنشاء فمن هذا الوجه يقع الفرق بين هذه الفصول والله أعلم بالصواب.
باب من الإكراه على النكاح والخلع والعتق والصلح عن دم العمد
قال رحمه الله ولو أن رجلا أكره بوعيد تلف حتى خلع امرأته على ألف درهم ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف وقد دخل بها والمرأة غير مكرهة فالخلع واقع لأن الخلع من جانب الزوج طلاق والإكراه لا يمنع وقوع الطلاق بغير جعل فكذلك بالجعل وللزوج على امرأته ألف درهم لأنها قد التزمت الألف طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة ولا شيء على المكره للزوج لأنه أتلف عليه ملك النكاح وقد بينا أنه لا قيمة لملك النكاح عند الخروج من ملك الزوج وأنه ليس بمال فلا يكون مضمونا بالمال أصلا بل عند الحاجة إلى الصيانة والمضمون المحل المملوك لا الملك الوارد عليه ولهذا جاز إزالة الملك بغير شهود ولا عوض.(24/156)
وكذلك لو أكره ولي العمد على أن يصالح منه على ألف درهم فالإكراه لا يمنع إسقاط القود بالعفو فكذلك لا يمنع إسقاطه بالصلح ولا شيء له سوى الألف على الذي كان قبله الدم ولا شيء لصاحب الدم على الذي أكرهه لأن القاتل ما التزم الزيادة على الألف والمكره أتلف عليه ما ليس بمال متقوم وهو ملك استيفاء القود وهذا ملك غير مضمون بالعفو مندوب إليه شرعا وبه فارق النفس فإنها مضمونة بالمال عند الإتلاف خطأ صيانة لها عن الإهدار.
ولو أكره على أن يعتق عبده على مائة درهم وقبله العبد وقيمته ألف والعبد غير مكره فالعتق جائز على المائة لأن الإكراه لا يمنع صحة إسقاط الرق بالعتق والعبد التزم المائة طوعا ثم يتخير مولى العبد فإن شاء ضمن الذي أكرهه قيمة العبد لأنه أتلف عليه ملكه في العبد بالإكراه الملجى ء وملكه في العبد ملك مال متقوم فيكون مضمونا على المتلف بخلاف ما سبق ثم يرجع المكره على العبد بمائة لأن المولى أقامه مقام نفسه حين ضمنه القيمة في الرجوع على العبد بالمسمى, وإن شاء المولى أخذ العبد بالمائة ورجع على المكره بتسعمائة تمام القيمة لأن ما زاد على قدر المسمى من المالية أتلفه المكره عليه بغير عوض.
فإن قيل لماذا كان له أن يرجع بجميع الألف على المكره وقد أتلف عليه مقدار المائة بعوض؟(24/157)
ص -76- ... قلنا لأن هذا العوض في ذمة مفلسه فإن العبد يخرج من ملك المولى ولا شيء له فهو كالتاوي.
فإن قيل لماذا لم يجعل اختياره للمسمى إبراء منه للمكره.
قلنا في مقدار المائة يجعل هكذا لأن له أن يرجع بها على أيهما شاء فأما في الزيادة على ذلك فحقه متعين في ذمة المكره.
ولو كان أكرهه على العتق بألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده لأنه أتلف عليه ماليته ببدل لا يصل إليه إلا بعد مضي الأجل. وإن شاء اتبع العبد بالألفين بعد مضي السنة لأنه التزم ذلك طوعا فإن اختار تضمين المكره قام المكره مقام المولى في الرجوع على العبد بالمسمى عند حلول الأجل فإذا أخذ ذلك منه أمسك ألفا مقدار ما غرم وتصدق بالفضل لأنه حصل له بكسب خبيث. وإن اختار اتباع العبد فلا شيء له على المكره بعد ذلك لأنه صار راضيا بما صنع حين اختار اتباع العبد فإن كان الألفان نجوما فحل نجم منها فطلب المولى العبد بذلك النجم بغير إكراه فهذا منه اختيار لاتباع العبد ولا ضمان له على المكره بعد ذلك لأن مطالبته إياه بذلك النجم دليل الرضا منه بما سبق فيكون كالتصريح بالرضا وذلك يسقط حقه في تضمين المكره.
ولو أكرهت امرأة بوعيد تلف أو حبس حتى تقبل من زوجها تطليقة على ألف درهم فقبلت ذلك منه وقد دخل بها ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف أو خمسمائة فالطلاق رجعي ولا شيء عليه من المال لأن التزام البدل يعتمد تمام الرضا وبالإكراه ينعدم الرضا سواء كان الإكراه بحبس أو بقتل ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود المقبول.(24/158)
ألا ترى أنه لو طلق امرأته الصغيرة على مال فقبلت وقع الطلاق ولم يجب المال وبسبب الإكراه لا ينعدم القبول فلهذا كان الطلاق واقعا ثم الواقع بصريح اللفظ يكون رجعيا إذا لم يجب العوض بمقابلته وهنا لا عوض عليه فكان الطلاق رجعيا, وقد ذكر في الجامع الصغير إذا شرطت الخيار لنفسها ثلاثة أيام في الطلاق بمال عند أبي حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يسقط الخيار. وعندهما الطلاق واقع والمال لازم.
وكذلك لو هزلت بقبول الطلاق بمال واتفقا على ذلك عند أبي حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يرض بالتزام المال. وعندهما الطلاق واقع والمال واجب فبالكل حاجة إلى الفرق بين مسألة الإكراه ومسألة الخيار والهزل, فأما أبو حنيفة رحمه الله فقال الإكراه لا يعدم الاختيار في السبب والحكم وإنما يعدم الرضا بالحكم فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق ولانعدام الرضا لا يجب المال فكان المال لم يذكر أصلا فأما خيار الشرط فلانعدام الاختيار والرضا بالسبب وبعدم الاختيار والرضا بالحكم يتوقف الحكم وهو وقوع الطلاق ووجوب المال على وجود الاختيار والرضا به. وكذلك الهزل لا ينافي الاختيار والرضا بالسبب وإنما يعدم الرضا والاختيار بالحكم فتوقف الحكم لانعدام الاختيار(24/159)
ص -77- ... في حقه وصح التزام المال به موقوفا على أن يلزمه عند تمام الرضا به. وهما يقولان الإكراه يعدم الرضا بالحكم ولا يعدم الاختيار في السبب والحكم جميعا فيثبت الحكم وهو الطلاق ولا يجب المال لانعدام الرضا به فكأنه لم يذكر فأما الهزل وشرط الخيار فلا يعدم الرضا بالسبب والحكم لا ينفصل عن السبب فالرضا بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ويجب المال لأن المال صار تبعا للطلاق في الحكم وفي الإكراه انعدم الرضا بالسبب فلا يثبت ما يعتمد ثبوته الرضا وهو المال ويثبت من المال ما لا يعتمد ثبوته الرضا وهو الطلاق, فإن قالت بعد ذلك قد رضيت بتلك التطليقة بذلك المال جاز ولزمها المال وتكون التطليقة بائنة في قول أبي حنيفة وقال محمد إجازتها باطلة وهي تطليقة رجعية ولم يذكر قول أبي يوسف فقيل قوله كقول محمد رحمهما الله, والأصح أن قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله فمن جعل قوله كقول محمد قال المسألة فرع لما بينا في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته أنت طالق كيف شئت عند أبي حنيفة تقع تطليقة رجعية ولها الخيار في جعلها بائنة. وعندهما لا يقع عليها شيء ما لم تشأ فمن أصله أنه يقع أصل الطلاق ويبقى لها المشيئة في الصفة فهنا أيضا وقع أصل الطلاق بقبولها وبقي لها المشيئة في صفته فإذا التزمت المال طوعا صارت تطليقة بائنة. وعندهما لا يجوز أن يبقى لها مشيئة بعد وقوع أصل الطلاق بقبولها فلا رأى لها بعد ذلك في التزام المال لتغير صفة تلك التطليقة. ومن قال إن قول أبي يوسف كقول أبي حنيفة جعل المسألة فرعا لما بيناه في كتاب الدعوى أن من طلق امرأته تطليقة رجعية ثم قال جعلتها بائنة عند أبي حنيفة وأبي يوسف تصير بائنا, وعند محمد لا تصير بائنا فلما كان من أصلهما أن للزوج أن يجعل الواقع بصفة الرجعية بائنا فكذلك للمرأة ذلك بالتزام المال. وعند محمد لما لم يكن للزوج ولاية جعل التطليقة الرجعية بائنة فكذلك لا يكون لها ذلك بالتزام المال(24/160)
ولو كان مكان التطليقة خلع بألف درهم كان الطلاق بائنا ولا شيء عليها لأن الواقع بلفظ الخلع بائن من غير اعتبار وجوب المال فإن الخلع مشتق من الخلع والانتزاع ففي اللفظ ما يوجب البينونة, ولهذا لو خلع الصغيرة على مال وقبلت كان الواقع بائنا بخلاف لفظ صريح الطلاق. وكذلك الصلح عن دم العمد إذا أكره القاتل بقتل أو حبس على أن يصالح الولي على أكثر من الدية أو أقل منها فصالحه بطل الدم لوجود القبول مع الإكراه وليس على القاتل من المال شيء لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا وينعدم بالإكراه.
ولو خلع امرأته قبل أن يبلغ وقد دخل بها على ألف درهم فقبلت وقع الخلع لوجود القبول منها ولم يجب المال لأن الصغر لا ينافي التكلم بالقبول ولكن ينافي صحة التزام المال.
ألا ترى أن التزام المال منه عوضا عن مال لا يكون صحيحا فعن غير مال أولى ولذلك لو كان لرجل على رجل دم عمد فصالحه عنه غلام لم يبلغ على مال ضمنه له الغلام على أن عفا جاز العفو لوجود القبول ممن شرط عليه الضمان ولا شيء عليه لأن الصغر ينافي التزام المال بجهة الضمان وإنما أورد هذا لإيضاح مسألة الإكراه.(24/161)
ص -78- ... وكذلك لو أكره العبد على أن يقبل العتق من مولاه بمال قليل أو كثير عتق لوجود القبول ولا شيء عليه من المال لانعدام الرضا من العبد بالتزام المال. ولو أكره الزوج على أن يطلق امرأته بألف درهم وأكرهت المرأة على أن تقبل ذلك ففعلا وقع الطلاق بغير مال لأن الإكراه لا ينافي الاختيار في الإيجاب والقبول وإنما يعدم الرضا به والمال لا يجب بدون الرضا به وكذلك هذا في الصلح من القود والعتق على مال لأن للمولى أن يضمن المكره قيمة عبده إن كان أكرهه بوعيد قتل. وإن كان أكرهه بحبس لم يضمن شيئا لما بينا أن الإتلاف إنما يصير منسوبا إلى المكره عند الإلجاء التام وذلك الإكراه بالقتل دون الإكراه بالحبس.
باب الإكراه على الزنى والقطع
قال رحمه الله كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا لو أن سلطانا أو غيره أكره رجلا حتى زنا فعليه الحد وهو قول زفر رحمه الله ثم رجع فقال لا حد عليه إذا كان المكره سلطانا وهو قولهما وجه قوله الأول أن الزنى من الرجل لا يتصور إلا بانتشار الآلة ولا تنتشر آلته إلا بلذة وذلك دليل الطواعية فمع الخوف لا يحصل انتشار الآلة وفرق على هذا القول بين الرجل والمرأة قال المرأة في الزنى محل الفعل ومع الخوف يتحقق التمكين منها.(24/162)
ألا ترى أن فعل الزنى يتحقق وهي نائمة أو مغمى عليها لا تشعر بذلك بخلاف جانب الرجل وفرق على هذا القول بين الإكراه على الزنى وبين الإكراه على القتل. قال لا قود على المكره وعليه الحد ففي كل واحد من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالإكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فبسبب الإلجاء يصير الفعل منسوبا إلى المكره ولهذا لزمه القصاص وإذا صار منسوبا إلى المكره صار المكره آلة فأما الزنى ففعل لا يتصور أن يكون المكره فيه آلة للمكره لأن الزنى بآلة الغير لا يتحقق ولهذا لا يجب الحد على المكره فبقي الفعل مقصورا على المكره فيلزمه الحد. ووجه قوله الآخر أن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى ذلك في حالة الإكراه لأنه منزجر إلى أن يتحقق الإلجاء وخوف التلف على نفسه فإنما كان قصده بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف فقد تنتشر الآلة طبعا بالفحولة التي ركبها الله تعالى في الرجال وقد يكون ذلك طوعا.
ألا ترى أن النائم تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له في ذلك ولا قصد, ثم على القول الآخر قال أبو حنيفة رحمه الله إن كان المكره غير السلطان يجب الحد على المكره وقال أبو يوسف ومحمد إذا كان قادرا على إيقاع ما هدده به فلا حد على المكره سواء كان المكره سلطانا أو غيره, قيل هذا اختلاف عصر فقد كان السلطان مطاعا في عهد أبي حنيفة ولم يكن لغير السلطان من القوة ما يقدر على الإكراه فأجاب بناء على ما شاهد في زمانه ثم تغير حال الناس في عهدهما وظهر كل متغلب في موضع فأجابا بناء على ما عاينا وقيل بل هو اختلاف حكم فوجه قولهما أن المعتبر في إسقاط الحد هو الإلجاء وذلك بأن(24/163)
ص -79- ... يكون المكره قادرا على إيقاع ما هدد به لأن خوف التلف للمكره بذلك يحصل.
ألا ترى أن السلطان لو هدده وهو يعلم أنه لا يفعل ذلك به لا يكون مكرها وخوف التلف يتحقق عند قدرة المكره على إيقاع ما هدده به بل خوف التلف بإكراه غير السلطان أظهر منه بإكراه السلطان فالسلطان ذو أناة في الأمور لعلمه أنه لا يفوته وغير السلطان ذو عجلة في ذلك لعلمه أنه يفوته ذلك بقوة السلطان ساعة فساعة. وأبو حنيفة لا يقول الإلجاء لا يتحقق بإكراه غير السلطان وإنما يتحقق بإكراه السلطان لأنه لا يتمكن من دفع السلطان عن نفسه بالالتجاء إلى من هو أقوى منه ويتمكن من دفع اللص عن نفسه بالالتجاء بقوة السلطان فإن اتفق في موضع لا يتمكن من ذلك فهو نادر والحكم إنما ينبني على أصل السبب لا على الأحوال وباعتبار الأصل يمكن دفع إكراه غير السلطان بقوة السلطان ولا يمكن دفع إكراه السلطان بشيء ثم ما يكون مغيرا للحكم يعتبر فيه السلطان كتغيير الفرائض من الأربع إلى الركعتين يوم الجمعة وإقامة الخطبة مقام الركعتين يعتبر فيه السلطان ولا يقوم في ذلك غيره مقامه وفي كل موضع وجب الحد على المكره لا يجب المهر لها وقد بينا هذا في الحدود إذ الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافا للشافعي رحمه الله وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر لأن الواطى ء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر فإذا سقط الحد وجب المهر لإظهار خطر المحل فإنه مصون عن الابتذال محترم كاحترام النفوس ويستوي إن كانت أذنت له في ذلك أو استكرهها, أما إذا استكرهها فغير مشكل لأن المهر يجب عوضا عما أتلف عليه ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها وأما إذا أذنت له في ذلك فلأنه لا يحل لها شرعا أن تأذن في ذلك فيكون إذنها لغوا لكونها محجورة عن ذلك شرعا بمنزلة إذن الصبي والمجنون في إتلاف ماله أو هي متهمة في هذا الإذن لما لها في هذا الإذن من الحظ فجعل الشرع إذنها غير معتبر للتهمة ووجوب الضمان(24/164)
لصيانة المحل عن الابتذال والحاجة إلى الصيانة لا تنعدم بالإذن.
ألا ترى أنها لو زوجت نفسها بغير مهر وجب المهر ولو مكنت نفسها بعقد فاسد حتى وطئها الزوج ولم يكن سمى لها مالا وجب المال فهذا مثله وهو واجب في الوجهين. أما إذا استكرهها فإنه ظالم وحرمة الظلم حرمة باتة وكذلك إذا أذنت له في ذلك لأن إذنها لغو غير معتبر.
ثم حرمة الزنى حرمة باتة لا استثناء فيها ولم يحل في شيء من الأديان بخلاف حرمة الميتة ولحم الخنزير فتلك الحرمة مقيدة بحالة الاختيار لوجود التنصيص على استثناء حالة الضرورة في قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وإن امتنع من الزنى حتى قتل كان مأجورا في ذلك لأنه امتنع من ارتكاب الحرام وبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في الوقوف على حد الدين بالتحرز عن مجاوزته وفيما يرخص له فيه وهو إجراء كلمة الشرك وقد بينا أنه إذا امتنع حتى قتل كان مأجورا فما لا رخصة فيه أولى. وإن كان الإكراه على الزنى(24/165)
ص -80- ... بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد لأن تمكن الشبهة باعتبار الإلجاء وبسبب الإكراه بالحبس لا يتحقق الإلجاء فوجوده وعدمه في حق الحكم سواء.
ولو قال له لأقتلنك أو لتقطعن يد هذا الرجل فقال له ذلك الرجل قد أذنت لك في القطع فاقطعه وهو غير مكره لا يسع المكره أن يقطع يده لأن هذا من المظالم وليس المقصود بالفعل أن يأذن في ذلك شرعا لأنه يبذل طرفه لدفع الهلاك عن غيره وذلك لا يسعه كما لو رأى مضطرا فأراد أن يقطع يد نفسه ليدفعها إليه حتى يأكلها ولا يسعه ذلك فهذا مثله. ولو لم يوجد الإذن لم يسعه الإقدام على القطع فكذلك بعد الإذن وإن قطعها فلا شيء عليه ولا على الذي أكرهه لأن القاطع لو لم يكن مكرها وقال له إنسان اقطع يدي فقطعه لم يلزمه شيء فإذا كان القاطع مكرها أولى وهذا لأن الحق في الطرف لصاحب الطرف وقد أسقطه بالإذن في الابتداء.
ولو أسقطه بالعفو في الانتهاء لا يجب شيء فكذلك بالإذن في الابتداء والدليل عليه أن الطرف يسلك به مسلك الأموال من وجه وفى الأموال البدل مفيد عامل في الإباحة والبدل الذي هو سعته عامل في إسقاط الضمان حتى إذا قال له احرق ثوبي هذا لا يباح له أن يفعله ولكن لا يلزمه شيء إن فعله فكذلك في الطرف البدل المفيد عامل في الإباحة وهو إذا وقع في يده أكلة فأمر إنسانا أن يقطع يده فالبدل الذي هو سعته يكون مسقطا للضمان فيه أيضا فلهذا لا يجب على القاطع ولا على المكره شيء.
وإن كان صاحب اليد مكرها أيضا من ذلك المكره أو من غيره على الإذن في القطع بوعيد تلف فالقصاص على المكره لأن بسبب الإلجاء يلغو إذنه وفعل القطع منسوب إلى المكره لأن المكره يصلح أن يكون آلة في ذلك فلهذا كان عليه القود.(24/166)
ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلنه فقال له المقصود اقتلني فأنت في حل من ذلك وهو غير مكره فقتله بالسيف فعلى الآمر الدية في ماله لأن المباشر ملجأ إلى القتل فيصير الفعل منسوبا إلى الملجى ء وصار هذا بمنزلة ما لو قتل إنسانا بإذنه وفي هذا تجب الدية عليه دون القصاص في ظاهر الرواية. وعلى قول زفر رحمه الله عليه القصاص. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا شيء عليه أورده في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله ألا أن هذا إنما يتحقق في حق من باشر القتل بنفسه لا في حق المكره فإن زفر لا يرى القود على المكره, وأورد على هذا أيضا أنه إذا قال اقتل أبي أو ابني فقتله فعليه القصاص في قول زفر رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله أستحسن أن يكون عليه الدية في ماله إذا كان هو الوارث.
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في قوله اقتل ابني كقول زفر وفي قوله اقتلني كقول أبي يوسف أنه لا شيء عليه وجه تلك الرواية أن الإذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء وبعد ما جرحه لو عفى عن الجناية ومات لم يجب شيء,(24/167)
ص -81- ... فكذلك إذا أذن في الابتداء وهذا لأن الحق في بدل نفسه له حتى يقضي منه ديونه فيسقط بإسقاطه كما في الطرف. وجه قول زفر أن بدل النفس إنما يجب بعد زهوق الروح والحق عند ذلك للوارث فإذنه في القتل صادف محلا هو حق الغير فكان لغوا وعليه القصاص بخلاف بدل الطرف فإن الحق له بعد تمام الفعل فيعتبر إسقاطه وهذا بخلاف العفو فإن العفو إسقاط بعد وجود السبب والإسقاط بعد وجود السبب وقبل الوجوب يصح فأما الإذن فلا يمكن أن يجعل إسقاطا لأن السبب لم يوجد بعد وباعتبار عينه الإذن لاقى حق الغير فلا يصح.
ووجه ظاهر الرواية أن إذنه في القتل باعتبار ابتدائه صادف حقه وباعتبار مآله صادف حق الوارث فلاعتبار الابتداء يمكن شبهة والقصاص يسقط بالشبهة ولاعتبار المال تجب عليه الدية في ماله ولهذا قال أبو يوسف في الآذن في قتل أبيه أو ابنه أنه باعتبار الابتداء لاقى حق الغير, وباعتبار المآل لاقى حقه فيصير المال شبهة في إسقاط القود ويجب عليه الدية.
ولو قطع يده بإذنه فمات منه لم يكن على القاطع ولا على الآمر في ذلك شيء لأن أصل الفعل صار هدرا فلو سرى إلى النفس كان كذلك كما لو قطع يد مرتد فأسلم ثم سرى إلى النفس, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تجب الدية هنا لأن القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا فإذا لم يتناوله الإذن فلا شك أنه يجب الضمان به وإن تناوله الإذن فهو بمنزلة قوله اقتلني فيكون موجبا للدية.(24/168)
ولو أكرهه على أن يصنع به شيئا لا يخاف منه تلف من ضرب سوط أو نحوه ففعل ذلك به رجوت أن لا يأثم فيه لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بما يلحق الهم والحزن بغيره وقد رخص له الشرع في ذلك فإن المضطر يباح له أن يأخذ مال الغير فيتناوله بغير رضاه. فإن أبى عليه ذلك فمات منه كانت ديته على عاقلة المكره لأن فعل المكره صار منسوبا إلى المكره فكأنه فعل ذلك بنفسه وهذا بمنزلة الخطأ وهو يوجب الدية على عاقلته وهذا إذا لم يكن المقتول أذن له في ذلك فإن كان أذن له في ذلك طوعا فلا ضمان فيه على أحد لأن فعل الغير به بإذنه كفعله بنفسه.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال رجل فيرمي به في مهلكة فأذن له صاحبه فيه ففعله فلا شيء على واحد منهما لأن صاحب الحق أسقط حقه بالإذن له في الإتلاف طوعا. ولو كان أكره صاحب المال بوعيد تلف أيضا على أن أمره بذلك فإذنه مع الإكراه لغو والضمان على المكره لأن المكره آلة في ذلك الفعل والفعل صار منسوبا إلى المكره ولا ضمان على الفاعل إن علم أن صاحب المال مكره على الإذن أو لم يعلم لأنه بالإلجاء يصير كالآلة ولا يختلف ذلك باختلاف صاحب المال في الإذن طوعا أو كرها.
ولو كان الفاعل أكره على ذلك بحبس أو قيد لم يحل له أن يستهلك مالا لأن هذا من مظالم العباد فلا يرخص له في الإقدام عليه بدون الإلجاء وبالحبس والقيد لا يتحقق الإلجاء(24/169)
ص -82- ... إلا أن يأمره به صاحبه بغير إكراه فحينئذ لا شيء عليه من إثم ولا ضمان لأن صاحب المال صار باذلا ماله بالإذن والمال مبتذل وإنما كان ممنوعا من إتلافه لمراعاة حق صاحب المال. فإذا رضي به طوعا كان له الإقدام عليه والعبد والأمة فيما يأذن فيه مولاهما في جميع ما وصفنا بمنزلة الحر والحرة إلا في خصلة واحدة أن القاتل لا يغرم نفس المملوك إذا أذن المولى في قتله بغير إكراه لأن الحق في بدل نفسه له باعتبار الحال والمآل فيعتبر إذنه في إسقاط الضمان كما يعتبر إذن صاحب اليد في إسقاطه حقه في بدله عن القاطع والله أعلم بالصواب.
باب الإكراه على البيع ثم يبيعه المشتري من آخر أو يعتقه
قال رحمه الله وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على بيع عبد له يساوي عشرة آلاف درهم من هذا الرجل بألف درهم ويدفعه إليه ويقبض الثمن ففعل ذلك وتقابضا والمشتري غير مكره فلما تفرقوا عن ذلك المجلس قال البائع قد أجزت البيع كان جائزا لأن الإكراه لا يمنع انعقاد أصل البيع فقد وجد ما به ينعقد البيع من الإيجاب والقبول من أهله في محل قابل له ولكن امتنع نفوذه لانعدام تمام الرضا بسبب الإكراه فإذا أجاز البيع غير مكره فقد تم رضاه به.(24/170)
ولو أجاز بيعا باشره غيره نفذ بإجازته فإذا أجاز بيعا باشره هو كان أولى به ولأن بيع المكره فاسد والفساد بمعنى وراء ما يتم به العقد فبإجازته يزول المعنى المفسد وذلك موجب صحة البيع كالبيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد إذا أسقط من له الأجل أو الخيار ما شرط له قبل تقرره كان البيع جائزا، وكذلك لو لم يكن البائع قبض الثمن فقبضه من المشتري بعد ذلك كان هذا إجازة للبيع لوجود دليل الرضا منه بقبض الثمن طائعا فإنه قبضه لتملكه ملكا حلالا ولا يكون ذلك إلا بعد إجازة البيع ودليل الرضا كصريح الرضا وفي البيع بشرط الخيار للبائع إذا قبض البائع الثمن روايتان في إسقاط خيار البائع في إحدى الروايتين يسقط به خياره لوجود دليل الرضا منه بتمام البيع. وفي الرواية الأخرى لا يسقط خياره على ما ذكر في الزيادات وهو الأصح والفرق على تلك الرواية أن يقول هناك انعدام الرضا باعتبار خيار مشروط نصا وقبض الثمن لا ينافي شرط الخيار ابتداء فلا ينافي بقاءه بطريق الأولى وهنا الخيار ثبت حكما لانعدام الرضا بسبب الإكراه وبين قبض الثمن الذي هو دليل الرضا وبين الإكراه منافاة وبقبض الثمن طوعا ينعدم معنى الإكراه.
ويوضحه أن هناك العقد في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وبقبض الثمن لا يصير الشرط موجودا وهنا العقد في حق الحكم منعقد غير متعلق بالشرط ولكنه غير نافذ لانعدام الرضا وقبض الثمن دليل الرضا فيتم به البيع. ولو لم يفعل ذلك حتى أعتق المشتري العبد فعتقه جائز عندنا لأنه ملكه بالقبض وإنما أعتق ملك نفسه فإن قال المكره بعد ذلك قد أجزت البيع كانت إجازته باطلة لأن الإجازة إنما تعمل في حال بقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ابتداء وبعد العتق أو التدبير أو الاستيلاد لم يبق محلا لذلك فلا تصح إجازته، كما في(24/171)
ص -83- ... البيع الموقوف إذا أجازه المالك بعد هلاك المعقود عليه في يد المشتري ولأن الفساد قد تقرر حين وجب على المشتري قيمة العبد للبائع دينا في ذمته فإن ذلك حكم العقد الفاسد وبعد ما تقرر المفسد لا ينقلب العقد صحيحا ولأن العبد قد وجب للمشتري بالقيمة فبعد ما تقرر ملكه فيه بضمان القيمة وانتهى لا يمكن أن يجعل مملوكا له بالثمن.
ولو لم يقبض المشتري ولم يحدث فيه شيئا ولم يجز البائع البيع حتى التقيا فقال المشتري قد نقضت البيع فيما بيني وبينك وقال البائع لا أجيز نقضك وقد أجزت البيع فقد انتقض البيع لأن في البيع الفاسد قبل القبض كل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخه فإن فسخه لأجل الفساد مستحسن شرعا على كل واحد منهما وما يكون مستحقا عليه شرعا يتم بمباشرته فإذا انفسخ العقد بفسخ المشتري لا تلحقه الإجازة بعد ذلك من جهة البائع لأن الإجازة تلحق الموقوف لا المفسوخ.(24/172)
والحاصل أن بيع المكره بمنزلة البيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد وهنا لكل واحد من المتعاقدين أن ينفرد بفسخه قبل القبض وبعد القبض من له الخيار أو الأجل الفاسد ينفرد بفسخه وصاحبه لا ينفرد بفسخه على ما فسره في آخر الباب لأن قبل القبض العقد ضعيف جدا وكل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخ العقد الضعيف. فأما بعد القبض فقد تأكد العقد بثبوت حكمه وانضمام ما يقويه إليه وهو القبض فالمنفرد به من ليس له خيار ولا أجل لأن رضاه بالعقد مطلقا قد تم وإنما ينفرد بفسخه من شرط الخيار والأجل له لأنه لا يتم منه الرضا بالعقد مطلقا فكذلك في مسألة الإكراه قبل القبض ينفرد كل واحد منهما بالفسخ وبعد القبض المكره ينفرد بالفسخ لانعدام الرضا من جهته والآخر لا ينفرد بفسخه ما لم يساعده المكره عليه أو يقض القاضي به وهذا بخلاف البيع بالخمر فهناك كل واحد منهما ينفرد بفسخه قبل القبض وبعده لأن المفسد هناك متمكن في صلب العقد ولهذا لا يحتمل التصحيح إلا بالاستقبال فلتمكن المفسد في صلب العقد كان ضعيفا قبل القبض وبعده فينفرد كل واحد منهما بفسخه والذي شرط الخمر لا إشكال أنه ينفرد بفسخه وصاحبه كذلك لأنه ما رضي بوجود بدل آخر عليه سوى المسمى فكان له أن ينفرد بفسخه. فأما في هذه الفصول فالمفسد غير متمكن في صلب العقد ولكنه لمعنى وراء ما يتم به العقد ولهذا أمكن تصحيحه بالإجازة فمن ليس في جانبه المعنى المفسد قد تم الرضا منه بملك المعقود عليه بالبدل المسمى وبإجازة صاحبه لا يثبت إلا ذلك فلهذا لا ينفرد بفسخه بعد تأكد العقد بالقبض.(24/173)
ولو باعه المشتري من المكره من آخر وقد كان قبضه بتسليم البائع مكرها فالبائع على خياره إن شاء نقض البيع الأول والثاني وأخذ عبده وإن شاء أجاز البيع الأول لأن البيع الثاني في كونه محتملا للفسخ كالأول والبائع غير راض بواحد من البيعين فيكون متمكنا من استرداده وباسترداده ينفسخ البيعان جميعا كما لو اشترى عبدا بألف درهم حالة وقبضه(24/174)
ص -84- ... المشتري بغير أمر البائع فباعه كان جائزا لمصادفته ملكه وللبائع الأول أن يسترده لأنه غير راض بالعقد الثاني حين كان ممتنعا من تسليمه إلى المشتري فإذا استرده انتقض البيع الثاني. وكذلك في حق المكره بخلاف البيع الفاسد بشرط أجل أو خيار لمجهول فالمشتري هناك إذا باعه من غيره ونفذ بيعه لا يكون للبائع أن يسترده لأن البيع الثاني حصل برضا البائع الأول وتسليطه عليه فتسليمه المبيع إلى المشتري طائعا يكون تسليطا له على التصرف وهنا البيع الثاني كان بغير رضا المكره لأنه كان مكرها على التسليم فيتمكن من نقض البيعين واسترداد العبد. فإن أجاز البيع الأول فقد أسقط حقه في استرداد العبد فينفذ البيع الثاني لأنه حصل من المشتري في ملكه ويده كما لو قبض المبيع بغير إذن البائع وباعه ثم سلم البائع الأول للمشتري الأول فقبضه جاز البيع الثاني لهذا المعنى وكذلك في الفصلين يجوز كل بيع جرى فيه وإن تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض إذا نفذ البيع الأول بإجازة البائع كذلك البيع بقبض المشتري لأن كل واحد منهم باع ملكه بعد ما قبضه بحكم عقد صحيح إلا أنه كان للبائع الأول حق الفسخ فإذا سقط حقه بالإجازة نفذت البيوع كلها.(24/175)
وكذلك في مسألة المكره لو تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض كان للمكره أن ينقض البيوع كلها ويأخذ عبده فإن سلم بيع من هذه البيوع الأول أو الثاني أو الآخر جازت البيوع كلها لأن تسليمه إسقاط منه لحقه في استرداد المبيع فأما البيع من كل مشتر فكان في ملكه لنفسه ولكن يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الفسخ وبالإجازة سقط حقه فتنفذ البيوع كلها كالراهن إذا باع المرهون وأجاز المرتهن البيع أو الآخر باع المستأجر فأجازه المستأجر بعد البيع من جهة المباشر والمجيز يكون مسقطا حقه في الفسخ إلا أن يكون مملكا بإجازته وإذا جازت البيوع كلها كان الثمن للمكره على المشتري الأول ولكل بائع الثمن على المشتري لأن العقد الأول نفذ بين المكره والمشتري الأول بهذه الإجازة فله أن يطالبه بالثمن وكل عقد بعد ذلك إنما نفذ بين البائع والمشتري منه فيكون الثمن له وهذا بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب وسلمه ثم باعه المشتري من غيره حتى تناسخته بيوع ثم أجاز المالك بيعا من تلك البيوع فإنه ينفذ ما أجازه خاصة لأن الغصب لا يزيل ملكه فكل بيع من هذه البيوع يوقف على إجازته لمصادفته ملكه فتكون إجازته لأحد البيوع تمليكا للعين من المشتري بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه.
وهنا المشتري من المكره كان مالكا فالبيع من كل مشتر صادف ملكه وإنما يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الاسترداد وعلى هذا لا يفترق الحال بين إجازة البيع الأول أو الآخر فلهذا نفذت البيوع كلها بإجازته عقدا منها فإن أعتقه المشتري الآخر قبل إجازة البائع وقد تناسخ العبد عشرة كان العتق جائزا من الذي أعتقه إن لم يقبضه لأن كل بائع صار مسلطا المشتري منه على إعتاقه بإيجابه البيع له مطلقا وصح هذا التسليط لأنه يملك الإعتاق بنفسه فيملك أن يسلط الغير عليه ويستوي إن الآخر قبضه أو لم يقبضه لأن شراءه من بائعه(24/176)
ص -85- ... صحيح وإن كان للمكره حق الفسخ بالاسترداد وفي الشراء الصحيح المشتري تملك المعقود عليه بنفس العقد وينفذ العتق فيه قبضه أو لم يقبضه بخلاف المشتري من المكره فإن شراءه فاسد لانعدام شرط الجواز وهو رضا البائع به فلا يكون مالكا قبل القبض فلهذا لا ينفذ عتقه فيه إلا بعد قبضه, فإذا سلم المكره بعد ذلك لم يجز تسليمه لما بينا أن حقه تقرر في ضمان القيمة فلا يتحول إلى ضمان الثمن وأن المحل بعد العتق لم يبق قابلا لحكم العقد ابتداء فلا تعمل إجازته أيضا وكان له أن يضمن قيمة عبده أيهم شاء لأن كل واحد منهم متعد في حقه بقبض العين على وجه التملك لنفسه بغير رضاه فله أن يضمن قيمته أيهم شاء وإن شاء ضمن المكره لأنه في التسليم كان مكرها من قبله بوعيد تلف فيصير الإتلاف الحاصل به منسوبا إلى المكره فله أن يضمنه قيمته.(24/177)
فإن ضمن الذي أكرهه رجع بها على المشتري الأول لأنه قام مقام المكره في الرجوع عليه بعد ما ضمنه القيمة وقد بينا أن البيع لا ينفذ من جهة المكره حين ضمن القيمة لأنه ما قصد البيع من جهته فإذا رجع بالقيمة على المشتري الأول جازت البيوع كلها. وكذلك إن ضمن البائع المشتري الأول بريء الذي أكرهه وتمت البيوع الباقية كلها لأن الملك قد تقرر للمشتري الأول من حين قبضه وهو إنما باع ملك نفسه فينفذ بيعه وكذلك كل بائع بعده ولأنه في هذا لا يكون دون الغاصب والغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة ينفذ بيعه فهنا كذلك. فإن ضمنها أحد الباعة الباقين سلم كل بيع كان بعد ذلك البيع وبطل كل بيع كان قبل ذلك لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين وإن القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين ولو استرد العين منه بطل كل بيع كان قبله للاستحقاق فكذلك إذا استرد القيمة وجاز كل بيع كان بعده لأن الملك قد تقرر للضامن حين ضمن القيمة فتبين أنه باع ملك نفسه فيكون بيعه جائزا حتى إذا ضمن المشتري الآخر بطلت البيوع لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العبد ويرجع هو على بائعه بالثمن الذي أعطاه. وكذلك كل مشتر يرجع على بائعه حتى ينتهوا إلى البائع المكره لأن البيوع كلها قد انقضت وكل واحد منهم قبض الثمن بحكم بيعه فبعد الانتقاض يلزمه رده على من قبضه منه.(24/178)
ولو أكره بوعيد تلف على أن يشتري من رجل عبدا له يساوي ألف درهم بعشرة آلاف درهم والبائع غير مكره فأكره على الشراء والقبض ودفع الثمن فلما قبضه المشتري أعتقه أو دبره أو كاتب أمة فوطئها أو قبلها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة وأقر بذلك أو قال قد رضيتها فهذا كله جائز عليه لأن البيع تام من جهة البائع وإنما امتنع لزومه في حق المشتري لانعدام الرضا منه بحكمه حين كان مكرها فإذا أجازه فقد تم رضاه به وكذلك دليل الإجازة منه كصريح الإجازة ومباشرته هذه التصرفات المختصة بالملك حالا أو منقودا دليل الرضا منه بالحكم وهو الملك فلهذا يتم به البيع وهو بمنزلة ما لو اشترى جارية على أنه بالخيار أبدا وقبضها فالبيع فاسد. فإن تصرف فيها بشيء من هذه التصرفات نفذ تصرفه وجاز البيع لأنه بتصرفه صار مسقطا لخياره مزيلا للمفسد وهو بمنزلة ما لو اشترى عبدا بألف درهم إلى(24/179)
ص -86- ... الحصاد أو الدياس فالبيع فاسد. فإن أبطل المشتري الأجل وأعطى الثمن حالا جاز شراؤه إلا أن في هذه المسألة بالإعتاق والوطء لا ينقلب العقد صحيحا لأن المفسد شرط الأجل ولم ينعدم ذلك بمباشرته هذه التصرفات وفي مسألة الخيار والإكراه المفسد انعدام الرضا منه بالحكم وهذه التصرفات منه دليل الرضا بالحكم وهو الملك فلهذا نفذ به البيع.
ولو كان أكره البائع ولم يكره المشتري فلم يقبض المشتري العبد حتى أعتقه كان عتقه باطلا لما بينا أن بيع المكره فاسد والبيع الفاسد لا يملك به إلا بعد القبض فإعتاقه قبل القبض لم يصادف ملكه. فإن أجازه البائع بعد عتق المشتري جاز البيع لبقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ولم يجز ذلك العتق الذي كان من المشتري لأنه سبق ملكه فلا ينفذ لحدوث الملك له في المحل كمن أعتق عبد الغير ثم اشتراه ولو أعتقا جميعا العبد جاز عتق البائع لأنه صادف ملكه وانتقض به البيع لأنه فوت بإعتاقه محل البيع وهو نظير ما لو كان البائع بالخيار في البيع ثلاثة أيام فأعتقه هو والمشتري جاز عتق البائع وبطل عتق المشتري.(24/180)
ولو كان المشتري قبضه ثم أعتقاه جميعا عتق العبد من المشتري لأن البيع فاسد والمشتري بالقبض صار مالكا فعتقه صادف ملكه وعتق البائع صادف ملك الغير فلهذا نفذ العتق من المشتري دون البائع. ولو كانا مكرهين جميعا على العقد والتقابض ففعلا ذلك فقال أحدهما بعد ذلك قد أجزت البيع كان البيع جائزا من قبله وبقي الآخر على حاله لأن الذي أجاز صار راضيا به فكأنه كان في الابتداء راضيا وذلك يوجب نفوذ البيع من قبله لا من قبل صاحبه المكره وهو نظير ما لو شرط في البيع الخيار ثم أسقط أحدهما خياره نفذ العقد من جهته وكان الآخر على خياره. فإن أجازا جميعا بغير إكراه جاز البيع لوجود تمام الرضى بينهما بالبيع ولو لم يجيزا حتى أعتق المشتري العبد جاز عتقه لأنه ملكه بالقبض مع فساد العقد فكان ضامنا لقيمته فإن أجاز الآخر بعد ذلك لم يلتفت إلى إجازته لتقرر ضمان القيمة على المشتري وفوات محل حكم العقد ابتداء. وإن لم يتقابضا فأجاز أحدهما البيع بغير إكراه فالبيع فاسد على حاله لأن بقاء الإكراه في جانب صاحبه كاف لفساد البيع فإن أعتقاه جميعا معا وقد أجاز أحدهما البيع، فإن كان العبد غير مقبوض فعتق البائع فيه جائز وعتق المشتري باطل لأنه قبل القبض باق على ملك البايع لفساد البيع فإعتاقه صادف ملكه.(24/181)
وإن أعتقه أحدهما ثم أعتقه الآخر فإن كان البائع هو الذي أجاز البيع وقد أعتقه المشتري قبله فهذا إجازة منهما للبيع لأن إقدام المشتري على الإعتاق رضا منه بحكم البيع وذلك يوجب نفوذ العتق من قبله وإنما يوقف نفوذه لعدم الرضى من البائع فإذا أجاز البيع ثم بتراضيهما والثمن المسمى للبائع على المشتري والعتق لا ينفذ من المشتري لأنه سبق ملكه وإن كان البائع أعتق أولا فهو بإعتاقه قد نقض البيع ونفذ العتق من قبله فلا يعمل فيه إجازة واحد منهما ولا إعتاق المشتري بعد ذلك. وإن كان الذي أجازه أول مرة من المشتري ولم يجزه البائع فعتق البائع جائز فيه وقد انتقض البيع به إن أعتقه قبل المشتري أو بعده لأنه باق(24/182)
ص -87- ... على ملك البائع بعد إجازة المشتري فإعتاق البائع يصادف ملكه فينفذ وينتقض به البيع, وإنما مثل هذا مثل رجل اشترى عبدا بألف درهم على أن المشتري بالخيار أبدا فلم يقبضه حتى أعتقاه فعتق البائع جائز, لأن شرط الخيار بهذه الصفة يفسد البيع, وفي البيع الفاسد المبيع على ملك البائع قبل تسليمه إلى المشتري فينفذ عتقه فيه, وكذلك لو سبق البائع بالمعتق.
فإن أعتقه المشتري أولا فالقياس فيه أن عتقه باطال لأن البيع فاسد, فلا يملكه المشتري بالبيع, لأن الخيار الفاسد لا يكون أقوى من الخيار الصحيح.
ولو كان المشتري شرط لنفسه خيار ثلاثة أيام ثم أعتقه كان إعتاقه إسقاطا منه الخيار, وبإسقاط الخيار يزول المعنى الفاسد, وهذا الفاسد لانعدام الرضا منه بحكم البيع, وإقدامه على العتق يتضمن الرضا منه بالحكم وهو المالك, فيقدم الرضى وثبوت الملك له هلى العتق لتنفيذ العتق كما قصده, فإن من قصد تنفيذه تصرف في محل لا يمكنه ذلك إلا باعتبار بتقدسيم ضرط في محل بعدم ذلك ليصح, كمن يقول لغيره: أعتق عبدك عني على ألف درهم فيقول: قد أعتقت, أو يقول أعتقت عبدي عبك على ألف درهم, وقال الآخر قد رضيت عتق العبد عن المعتق عنه ووقع العتق والملك معا برضاه بذلك أو تقدم في المحل على العتق فكذلك فيما سبق.
ولو كان المشتري قبض العبد في للإكراه وفثي الخيار الفاسد ثم أجاز أجاز أحدهما البيع في الإكراه لم يجز عتق البائع فيه على حال, لأن ملك البائع زال بتسليمه إلى المشتري ويكون البيع مطلقا من جهته, وجاز عتق المشتري فيه لمصادفته ملكه, فإن كان الذي أجاز البيع في الإكراه البائع جاز العتق والبيع بالثمن لأن المشتري بالإعتبار صار مجيزاو وإن كان الذي أجاز البيع المشتري جاز عتقه وغرم القيمة للبائع, لأن البيع فاسد لإنعدام الرضى من البائع به, فإن كان قبض منه الثمن حاسبه به وأعطاه فضلا إن كان له.(24/183)
ولو أن المشتري أكره على الشراء والقبض ودفع الثمن ولم يكره البائع على ذلك وتقابضل ثم التقيا فقال البائع: قد تقضت البيع لم يلتفت إلي قوله, وكان ذلك إلى المشتري, وما بعد هذا إلى آخر الباب مبني على ما قررنا في أول الباب أن بعد القبض أنما ينفرد بالفسخ من كان مكرها منهما دون صا حبه الذي لم يكن مكرها, وقبل القبض كل واحدة منهما متمكن من القبض بعد صحة النقض عاد إلى ملك البائع, فلا ينفذ عتق المشتري فيع بعد ذلك, لأن ملك البائع مضمون في يده كالمغضوب, وينفذ عتق البائع فيه لمصادفته ملكهه.
باب الإكراه على ما يجب به عتق أو طلاق
قال رحمه الله وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يشتري من رجل عبدا بعشرة آلاف درهم وقيمته ألف وعلى دفع الثمن وقبض العبد وقد كان المشتري حلف أن كل عبد يملكه فيما يستقبل فهو حر أو حلف على ذلك العبد بعينه فقد عتق العبد لأنه ملكه بالقبض بعد(24/184)
ص -88- ... الشراء لما بينا أن شراء المكره فاسد وبالملك يتم شرط العتق فاسدا كان السبب أو صحيحا والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه أعتقه بعد ما قبضه فيعتق وعلى المشتري قيمته للبائع ولا يرجع على المكره بشيء لأنه ألزمه بالإكراه على الشراء والقبض مقدار القيمة وقد أدخل في ملكه بمقابلة ما يعد له ثم دخل في ملكه تلف بالعتق ولم يوجد من المكره إكراه على هذا الإتلاف لأن الملك شرط العتق فأما السبب وهو الثمن السابق فلأن كلمة الإعتاق وهي قوله أنت حر, وجدت في اليمين دون الشرط وإنما يحال بالإتلاف على السبب دون الشرط وهو ما كان مكرها عليه من جهة أحد.
ألا ترى أنه لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر فشهد شاهدان أنه قد دخلها وقضى القاضي بالعتق ثم رجعا لم يضمنا شيئا.(24/185)
وفي قياس قول زفر رحمه الله يجب الضمان على المكره لأنه يقول الحكم مضافا إلى الشرط وجودا عندي ولهذا أوجب الضمان على شهود الشرط فكذا في الإكراه يوجب الضمان على المكره على الشرط لحصول تلف المالية عنده. ولكنا نقول المكره إنما يضمن إذا صار الإتلاف منسوبا إليه ولا يكون ذلك إلا بالإكراه على ما يحصل به التلف بعينه وكذا لو أكرهه على شراء ذي رحم محرم منه وعلى قبضه بأكثر من قيمته فاشتراه وقبضه عتق عليه لأنه ملكه ومن ملك ذا رحم محرم منه فهو حر وعليه قيمته لأن الشراء فاسد وقد تعذر رد المشتري لنفوذ العتق فيه فيلزمه قيمته ويبطل عنه ما زاد على قدر القيمة من الثمن لأنه التزمه مكرها والتزام المال مع الإكراه لا يصح ولا يرجع على المكره بشيء لأنه عتق بقرابته ولم يوجد من المكره إكراه على تحصيل السبب الذي به حصل العتق, فإن قيل لا كذلك فالملك هنا متمم عليه العتق لأن القريب إنما يعتق على القريب بالقرابة والملك جميعا والحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين يحال به على آخر الوصفين وجودا ولهذا لو اشترى قريبه ناويا عن كفارته جاز لأن بالشراء يصير معتقا متمما لعلة العتق فهنا المكره يكون متمما عليه العتق فيضمن قيمته كما لو كان أكرهه على الإعتاق بعينه. قلنا نعم الملك متمم عليه العتق ولكن بين المشتري والعبد لأن القرابة وجدت في حقهما فأما في حق المكره فالشراء ليس بمتمم عليه العتق لأن أحد الوصفين وهو القرابة غير موجود في جانب المكره إذ لا صنع له في ذلك أصلا والإضافة إليه باعتبار صنعه فإذا انعدم ذلك الوصف في حقه لم يكن الشراء إتلافا في حقه وما لم يصر الإتلاف منسوبا إليه لا يجب الضمان عليه فأما في الكفارة فالشراء متمم للعلة في حق المشتري والقريب فيصير به معتقا. والثاني أن عتق القريب بطريق المجازاة مستحق عليه عند دخوله في ملكه إلا أنه إذا نوى به الكفارة وقع عما نوى ولم يكن مجازاة للقرابة فتتأدى به الكفارة فأما هنا(24/186)
فالمكره ما نوى شيئا آخر سوى المجازاة لأنه إذا نوى شيئا آخر يصير طائعا والمكره إنما أكرهه على المجازاة فيكون هذا إكراها على إقامة ما هو مستحق عليه وذلك لا يوجب الضمان على المكره كما لو أكرهه على أن يؤدي زكاة ماله أو يكفر(24/187)
ص -89- ... يمينه وكذلك لو أكرهه على شراء أمة قد ولدت منه أو أمة مدبرة إن ملكها لأن التدبير والاستيلاد إنما يحصل عند وجود الشرط بالسبب المتقدم وهو لم يكن مكرها على ذلك السبب وثبوت حق العتق بها عند وجود الشرط لا يكون أقوى من ثبوت حقيقة الحرية.
وقد بينا أن الإكراه على إيجاد الشرط في حقيقة الحرية لا يوجب الضمان على المكره فكذلك في حق الحرية واستوضح بفصل الشهادة إذا شهد شاهدان على رجل أنه اشترى هذا العبد بألف درهم هي قيمته والبائع يدعي البيع وقد كان المشتري قال إن ملكته فهو حر فقضى القاضي بذلك وأعتقه ثم رجعا فلا ضمان عليهما لأنه إنما أعتقه بقوله فهو حر لا بشرائه والشهود ما أثبتوا تلك الكلمة بشهادتهم.
وكذلك لو قال عبده حر إن دخل هذه الدار فأكرهه بوعيد تلف حتى دخل فإنه يعتق لأنه هو الداخل بنفسه وإن كان مكرها بخلاف ما إذا حمل فأدخل لأنه الآن مدخل لا داخل فلا يصير الشرط به موجودا إلا أن يكون قال إن صرت في هذه الدار فعبدي هذا حر فحمله المكره حتى أدخله الدار وهو لا يملك من نفسه شيئا فإنه يعتق لوجود الشرط, ولا ضمان على المكره في الوجهين لأن العتق إنما حصل بقوله هو حر لا بحصوله في الدار فإن الحرية من موجبات قوله هو حر لا من موجبات دخول الدار فالإتلاف الحاصل به لا يكون مضافا إلى من أدخله الدار, ولذلك لو قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فأكره على تزوجها بمهر مثلها طلقت ولزمه نصف الصداق لها بسبب الطلاق قبل الدخول ولم يرجع على المكره بشيء لأنه ما أكرهه على الطلاق إنما أكرهه على التزوج وقد دخل في ملكه بالتزوج ما يعادل ما لزمه من المهر لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم.(24/188)
قال ألا ترى أنه لو قال لامرأته ولم يدخل بها إن شجني اليوم أحد فأنت طالق أو قال ذلك لعبده فشج أن العبد يعتق والمرأة تطلق وعلى الشاج أرش الشجة وليس عليه من قيمة العبد ولا من نصف الصداق شيء للمعنى الذي قلنا وزفر رحمه الله في الكل مخالف ولكن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام.
ولو أكره بوعيد تلف حتى يحصل عتق عبده في يد هذا الرجل أو طلاق امرأته ولم يدخل بها ففعله فطلق ذلك الرجل المرأة أو أعتق العبد وقع الطلاق والعتاق لأن الإكراه لا يمنع صحة الإعتاق والطلاق فكذلك لا يمنع صحة التسليم بها عليه وصحة تمليكه من غيره تجعله في يده.
ألا ترى أن الإكراه في هذا كشرط الخيار وشرط الخيار كما لا يؤثر في الإعتاق لا يؤثر في تفويض العتق إلى الغير ثم القياس فيه أن لا يغرم المكره شيئا لأنه ما أكرهه على السبب المتلف فإن السبب قول المجعول إليه للعبد أنت حر وللمرأة أنت طالق إلا أنه يشترط لحصول التلف بهذا تقدم التفويض من المالك فالمكره على ذلك التفويض بمنزلة المكره على شرط العتق والدليل عليه فصل الشهادة. فإن شاهدين لو شهدا على رجل أنه جعل أمر عبده(24/189)
ص -90- ... في العتق في يد فلان أو أمر امرأته في الطلاق ثم أعتق فلان العبد وطلق المرأة ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا شيئا فلما جعل التفويض بمنزلة الشرط في حكم الشهادة فكذلك في حكم الإكراه. ولكنه استحسن فقال على المكره ضمان قيمة العبد ونصف المهر الذي غرم لامرأته لأن هذا إكراه على الأمر بالعتق بعينه أو بالطلاق بعينه فيصير به متلفا عند وجود الإيقاع من المفوض إليه.
ألا ترى أنه لو أكرهه على أن يجعل ذلك في يد المكره ففعل ذلك وأوقعه كان ضامنا ولا يكون ضامنا بإيقاعه إنما يكون ضامنا بإكراهه على جعل ذلك في يده. والأخذ بالقياس في هذا الفصل قبيح لأنه لو أكرهه على إعتاقه كان المكره متلفا فإذا أكرهه على جعل العتق في يد المكره فأعتقه المكره كان أولى أن يكون متلفا والفرق بين الإكراه والشهادة من حيث إن المكره مضار متعنت فيتعدى الإكراه إلى ما يتحقق فيه الضرر والشاهد محتسب في أداء الأمانة فلا تتعدى شهادته عما شهد به إلى غيره.
ألا ترى أن الإكراه على الهبة يجعل إكراها على التسليم لأن الضرر به يتحقق والشهادة على الهبة لا تكون شهادة على التسليم؟.
يوضحه أن الشاهد مخبر عن تفويض قد كان منه والإيقاع من المفوض إليه ليس من جنس الخبر بل هو إنشاء فلا يصح أن يكون متمما لما ثبت بإخبار الشاهد فأما المكره فإنما ألجأه إلى إنشاء التفويض فيمكن جعل إيقاع المفوض إليه متمما لما أكرهه المكره عليه حتى يصير هو متلفا وفي الكتاب استشهد لإيضاح هذا الفرق فقال:
ألا ترى أن شهود الإحصان إذا رجعوا بعد الرجم وقالوا شهدنا بالباطل ونحن نعلم أنه باطل لم يكن عليهما غرم ولو لم يشهدوا بالإحصان وقال القاضي علمت أنه غير محصن وأنه لا رجم ولكني أرجمه وأكره الناس حتى رجموه كان ضامنا وبهذا تبين الفرق بين الشهادة والإكراه.(24/190)
ثم في هذه المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله الإشكال أن القاضي يضمن الدية لأنه لا يرى القود في القتل رجما على من باشره فكذلك على من أكره عليه وكذلك عند أبي يوسف رحمه الله لأنه لا يرى القود على المكره إذا أكره على القتل بالسيف فبالحجارة أولى فإن عند محمد رحمه الله في القياس يجب القصاص على القاضي لأنه يوجب القود على المكره والقتل بالحجر عنده كالقتل بالسيف في حكم القصاص وهذا قتل بغير حق فكان موجبا للقصاص عليه ولكنه استحسن فجعل عليه الدية في ماله للشبهة التي دخلت من حيث إن السبب المبيح لدمه موجود وهو الزنى فإن عند ظهور إحصانه إنما يرجم لزناه لا لإحصانه فيصير هذا السبب شبهة في إسقاط القود عن القاضي ولأن بعض الرجم قائم مقام إقامة الحد المستحق عليه.
ألا ترى أنه بعد ما رجمه القاضي بعض الرجم لو بدا له في ذلك لم يكن له أن يقيم عليه(24/191)
ص -91- ... الحد فيصير ذلك شبهة في إسقاط القود عن القاضي وتلزمه الدية في ماله لأن المال ثبت مع الشبهات.
ولو أكره على أن يجعل كل مملوك يملكه فيما يستقبل حرا ففعل ثم ملك مملوكا بوجه من الوجوه عتق ولا ضمان على المكره فيه لأن العتق إنما حصل باعتبار صنع من جهته وهو مختار فيه وهو قبول الشراء والهبة أو الصدقة أو الوصية وذلك منه دليل الرضا بالعتق فيكون مانعا من وجوب الضمان على المكره وإن ورث مملوكا فالقياس فيه أن لا يضمن المكره شيئا لأنه أكرهه على اليمين واليمين تصرف لا يحصل الإتلاف به.
ألا ترى أن العتق لا يحصل إلا بعد انحلال اليمين بوجود الشرط فلم يكن الإكراه على اليمين أو تعلق العتق بالملك إكراها على ما يحصل به التلف بعينه. ولكنه استحسن فقال المكره ضامن قيمة المملوك الذي ورثه لأن الميراث يدخل في ملكه شاء أو أبى بغير اختيار ولا يرتد برده وعند وجود الشرط إنما ينزل العتق بتكلمه بكلام العتق وقد كان مكرها على ذلك فإذا لم يوجد منه ما يدل على الرضا بعد ذلك كان المكره ضامنا.
ألا ترى أنه لو أكرهه على أن يقول كل مملوك أرثه فهو حر فقال ذلك ثم ورث مملوكا يعتق ويصح أن يقال لا يضمن المكره هنا لأن بذلك الإكراه قصد إتلاف هذا الملك عليه ولا بد من إيجاب الضمان عليه فكذلك فيما سبق.
ولو أكرهه في هذا كله بحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الإتلاف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا النوع من الإكراه ولو أكرهه على أن قال لعبده إن شئت فأنت حر فشاء العبد عتق وغرم المكره قيمته لأنه عند مشيئته عتق بقوله أنت حر وقد كان مكرها على ذلك القول ولم يوجد منه بعد ذلك ما يدل على الرضا به وكذلك لو أكرهه على أن قال له إن دخلت الدار فأنت حر ثم دخلها العبد لأنه لم يوجد من المولى ما يدل على الرضا بذلك العتق.(24/192)
فإن قيل لا كذلك فقد كان يمكنه أن يخرج العبد من ملكه قبل أن يدخل الدار وإن شاء العتق يبيعه من غيره فإذا لم يفعل صار باستدامة الملك فيه راضيا بذلك العتق.
قلنا لا كذلك فالبيع لا يتم به وحده إنما يتم به وبالمشتري وربما لا يجد في تلك الساعة مشتريا يشتريه منه فلا يصير هو بهذا الطريق راضيا.
ولو كان أكرهه على أن قال لعبده إن صليت فأنت حر أو إن أكلت أو شربت فأنت حر ثم صنع ذلك فإن العبد يعتق ويغرم المكره قيمته وكذلك كل فريضة لا يجد المكره بدا من أن يفعل ذلك لأنه بمباشرة ذلك الفعل لا يصير راضيا بالعتق فإنه يخاف التلف بالامتناع من الأكل والشرب ويخاف العقوبة بترك الفريضة فيكون هو مضطرا في الإتيان بذلك الفعل والمضطر لا يكون راضيا وهو نظير المريض إذا قال لامرأته إن أكلت أو صليت الظهر فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك كان الزوج فارا بهذا المعنى ولو قال له فلان إن تقاضيت ديني الذي على فلان أو أكلت طعام كذا لطعام خاص بعينه أو دخلت دار فلان فأنت حر ففعل ذلك ثم(24/193)
ص -92- ... فعل الذي حلف عليه عتق العبد ولم يغرم المكره شيئا لأنه كان يجد من ذلك الفعل بدا فبالإقدام عليه يصير راضيا بالعتق ويخرج الإتلاف به من أن يكون منسوبا إلى المكره. وقد قال في الطلاق إذا قال المريض لامرأته إن تقاضيت دينك الذي على فلان فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك يصير الزوج فارا والفرق بين الفصلين أن المعتبر هنا انعدام الرضا من المرأة بالفرقة ليصير الزوج فارا لا الإلجاء.
ألا ترى أنه لو أكرهها بالحبس حتى سألته الطلاق كان الزوج فارا لأن الرضا ينعدم بالإكراه بالحبس فكذلك الرضا ينعدم منها إذا كانت تخاف هلاك دينها على فلان بترك التقاضي فأما في هذا الموضع فالمعتبر هو الإلجاء والضرورة لإيجاب الضمان على المكره لا انعدام الرضا من المكره.
ألا ترى أنه لو أكره بحبس أو قيد على أن يعتق عبده لم يضمن المكره شيئا وإنما يتحقق الإلجاء عند خوف التلف على نفسه أو خوف العقوبة بترك الفريضة فأما خوفه على الدين الذي له على فلان فلا يوجب الضرورة والإلجاء فلهذا لا يضمن المكره شيئا.
ولو أن رجلا قتل عبده قتلا خطأ فاختصموا فيه إلى القاضي فأكره القاضي المولى على عتق عبده بوعيد تلف فأعتقه وهو عالم بالجناية فلا ضمان على المولى لأنه بالإلجاء خرج من أن يكون مختارا للدية أو مستهلكا للعبد وإنما الضمان على الذي أكرهه لأن تلف العبد منسوب إليه فيغرم قيمته فيأخذها المولى منه لأنه بدل ملكه ثم يدفعها إلى ولي الجناية لأن الرقبة كانت مستحقة لولي الجناية وقد فاتت وأخلفت بدلا.(24/194)
ولو كان الإكراه بحبس أو قيد لم يضمن المكره شيئا لأن التلف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا التهديد ويغرم المولى قيمة العبد لأصحاب الجناية ولا يلزمه أكثر منها لأنه بالإكراه بالحبس ينعدم الرضا فيخرج به من أن يكون مختارا للفداء ملتزما للدية ولكنه يكون مستهلكا للرقبة فيغرم قيمته بمنزلة ما لو أعتقه وهو لا يعلم بالجناية. ولو كان المولى أكره بوعيد تلف حتى قتل عبده عمدا كان للمولى أن يقتل الذي أكرهه لأن القتل صار منسوبا إلى المكره فصار المكره آلة له بالإلجاء فيجب القصاص عليه ويكون استيفاء القصاص إلى المولى لأنه عوض عن العبد وهو ملكه فباعتبار الملك يخلفه في عوض نفسه خلافة الوارث المورث ويبطل حق أصحاب الجناية لفوات محل حقهم فالقصاص الواجب غير صالح لإيفاء حقهم منه.
وإن كان إكراهه بحبس أو قيد فلا شيء على المكره وعلى المولى قيمته لأصحاب الجناية لأنه مستهلك للعبد فإنه لم يصر ملجأ بالإكراه بالحبس فكان الفعل مقصورا عليه ولكنه لم يصر مختارا للفداء لانعدام الرضا منه بالتزام الدية لأجل الإكراه بالحبس فيلزمه قيمته للاستهلاك كما لو قتله وهو لا يعلم بالجناية والله أعلم بالصواب(24/195)
ص -93- ... باب الإكراه على النذر واليمين
قال رحمه الله ولو أكره بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو حجا أو عمرة أو غزوة في سبيل الله أو بدنة أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى لزمه ذلك وكذلك لو أكرهه على اليمين بشيء من ذلك أو بغيره من الطاعات أو المعاصي والأصل فيه حديث حذيفة رضي الله عنه أن المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حلف مكرها ثم أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم"
وقد بينا أن اليمين بمنزلة الطلاق والعتاق في أن الهزل والجد فيه سواء وهذا لأن فيه منع نفسه عن شيء وإيجاب شيء على نفسه لحق الله تعالى فيكون في معنى الطلاق والعتاق الذي يتضمن تحريم الفرج حقا لله تعالى فيستوي فيه الكره والطوع والنذر بمنزلة اليمين في هذا المعنى وقال عليه الصلاة والسلام "النذر يمين" ولا ضمان على المكره في شيء من ذلك لأن التزامه لا يصير منسوبا إلى المكره وإنما ينسب إليه التلف الحاصل به ولا يتلف عليه شيء بهذا الالتزام ثم المكره إنما ألزمه شيئا يؤثر الوفاء به فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبر عليه في الحكم فلو ضمن له شيئا كان يجبر على إيفاء ما ضمن في الحكم فيؤدي إلى أن يلزمه أكثر مما يلزم المكره وهذا لا يجوز.(24/196)
ولو كان أكرهه على أن يظاهر من امرأته كان مظاهرا لأن الظهار من أسباب التحريم ثم يستوي فيه الجد والهزل وقد كان طلاقا في الجاهلية فأوجب الشرع به حرمة مؤقتة بالكفارة فكما أن الإكراه لا يؤثر في الطلاق فكذلك في الظهار. فإن أكرهه على أن يكفر ففعل لم يرجع بذلك على الذي أكرهه لأنه أمره بالخروج عن حق لزمه وذلك منه حسنة لا إتلاف شيء عليه بغير حق وإن أكرهه على عتق عبد بعينه عن ظهار ففعل عتق وعلى المكره قيمته لأنه صار متلفا عليه مالية العبد بإكراهه على إبطاله، ولو لم يكن عتق هذا العبد بعينه مستحق عليه بل المستحق كان واجبا في ذمته يؤمر بالخروج عنه فيما بينه وبين ربه وذلك في حكم العين كالمعدوم فلهذا ضمن المكره قيمته بخلاف الأول لأن هناك أمره بالخروج عما في ذمته من غير أن يقصد إبطال ملكه في شيء من أعيان ماله ثم لا يجزيه عن الكفارة هنا لأنه في معنى عتق بعوض ولو استحق العوض على العبد بالشرط لم يجز عن الكفارة فكذلك إذا استحق العوض على المكره.
فإن قال أنا أبرئه من القيمة حتى يجزيني من الكفارة لم يجز ذلك لأن العتق نفد غير مجزى ء عن الكفارة والموجود بعده إبراء عن الدين وبالإبراء لا تتأدى الكفارة وإن قال أعتقته حين أكرهني وأردت به كفارة الظهار ولم أعتقه لإكراهه أجزأه عن كفارة الظهار ولم يكن له على المكره شيء لأنه أقر أنه كان طائعا في تصرفه قاصدا إلى إسقاط الواجب عن ذمته وإقراره حجة عليه. وإن قال أردت العتق عن الظهار كما أمرني ولم يخطر ببالي غير(24/197)
ص -94- ... ذلك لم يجزه عن كفارة الظهار وله على المكره القيمة لأنه أجاب المكره إلى ما أكرهه عليه وهو العتق عن الظهار فلا يخرج به من أن يكون مكرها فإذا كان مكرها كان التلف منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فإن هناك لو أقر أنه لم يعتقه لإكراهه بل لاختياره إسقاط الواجب عن ذمته به طوعا. وإن كان أكرهه بحبس أو قيد فلا ضمان على المكره لانعدام الإلجاء وجاز عن كفارته لأن العتق حصل بغير عوض واقترنت به نية الظهار.
ولو أكرهه بوعيد تلف حتى آلى من امرأته فهو مول لأن الإيلاء طلاق مؤجل أو هو يمين في الحال والإكراه لا يمنع كل واحد منهما فإن تركها أربعة أشهر فبانت منه ولم يكن دخل بها وجب عليه نصف المهر ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان متمكنا من أن يقربها في المدة فإذا لم يفعل فهو كالراضي بما لزمه من نصف الصداق. وإن قربها كانت عليه الكفارة ولم يرجع على المكره بشيء لأنه ما جرى على سنن إكراهه فإنه بالإكراه منعه من القربان وقد أتى بضده ولأنه لزمه كفارة يعني بها فلا يرجع عليه بضمان يحبس به.(24/198)
ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فهي طالق ثلاثا ولم يدخل بها فقربها فطلقت ولزمه مهرها لم يرجع على المكره بشيء لأنه خالف ما أكرهه عليه ولأن المهر لزمه بالدخول فإنما أتلف عليه بإكراهه ملك النكاح وذلك ليس بمتقوم فلا يضمن المكره له قيمته. وإن لم يقربها حتى بانت بمضي أربعة أشهر فعليه نصف الصداق ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان يقدر على أن يجامعها فيجب المهر بجماعه إياها لا بما ألجأه إليه المكره وأكثر ما فيه أنه بمنزلة الإكراه على الجماع وذلك لا يوجب الضمان على المكره. وكذلك لو أكرهه على أن يقول إن قربتها فعبدي هذا حر فإن قربها عتق عبده ولا ضمان على المكره لأنه ما جرى على سنن إكراهه. وإن تركها فبانت بالإيلاء قبل الدخول غرم نصف الصداق ولا يرجع على المكره بشيء لأنه كان يقدر على أن يبيع عبده في الأربعة الأشهر ثم يقربها فيسقط الإيلاء ولا يلزمه شيء. فإن قبل البيع لا يتم به وحده وإنما يتم به وبالمشتري وقد بينا قبل هذا أن تمكنه من البيع غير معتبر في إزالة معنى الإكراه. قلنا هناك كان الوقت ضيقا لأن العبد يعتق بدخول الدار وبمشيئة العتق ولا يتفق وجود مشتر في ذلك القدر من المدة وهنا الوقت أربعة أشهر والظاهر أنه في هذه المدة يجد مشتريا يرغب في شراء العبد منه. وإن كان مدبرا لا يقدر على بيعه وإن كانت جارية هي أم ولد فإن قرب المرأة عتق هذا ولا ضمان على الذي أكرهه لأنه خالف ما أكرهه عليه.
وإن تركها حتى بانت بالإيلاء وقد دخل بها لم يرجع على الذي أكرهه أيضا بشيء لأنه أتلف عليه النكاح وإن لم يكن دخل بها لزمه نصف المهر. وفي القياس لا يرجع على المكره بشيء لأنه كان متمكنا من قربانها في المدة ليسقط به الإيلاء فإذا لم يفعل كان في معنى ما لزمه من نصف المهر. وفي الاستحسان يرجع على المكره بالأقل من نصف الصداق ومن قيمة الذي استحلفه على عتقه لأنه ملجأ في التزام الأقل فإنه إما أن يدخل بها فيبطل ملكه(24/199)
ص -95- ... عن المدبر أو لا يدخل بها فيلزمه نصف المهر بوقوع الطلاق قبل الدخول فكان ملجأ مضطرا في أقلهما والمكره هو الذي ألجأه إلى ذلك فلهذا رجع عليه بالأقل وجمع في السؤال بين المدبر وأم الولد. وقيل في أم الولد الجواب قولهما فأما عند تحقيقه فلا يرجع بشيء لأن رق أم الولد عنده فليس بمال متقوم وإنما له عليها ملك المتعة بمنزلة ملك النكاح وذلك لا يكون مضمونا على المكره بالإتلاف.
ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فمالي صدقة في المساكين فتركها أربعة أشهر فبانت ولم يدخل بها أو قربها في الأربعة الأشهر فلزمته الصدقة لم يرجع على المكره بشيء لأنه إن قر بها فقد خالف ما أمر به المكره. وإن لم يقربها فقد كان هو متمكنا من أن يقربها في المدة ويلزمه بالقربان صدقة فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبره السلطان عليها ولهذا لا يرجع على المكره بشيء وهو في المعنى نظير ما لو أكرهه على النذر بصدقة ماله في المساكين والله أعلم.
باب إكراه الخوارج المتأولين(24/200)
قال رحمه الله وإن غلب قوم من الخوارج المتأولين على أرض وجرى فيها حكمهم ثم أكرهوا رجلا على شيء مما وصفنا في إكراه اللصوص أو إكراه قوم من المشركين رجلا على شيء مما ذكرنا في إكراه اللصوص فهذا في حق المكره فيما يسعه الإقدام عليها أو لا يسعه بمنزلة إكراه اللصوص لأن الإلجاء تحقق بخوف التلف على نفسه وذلك عند قدرة المكره على إيقاع ما هدده به سواء كان من اللصوص أو من المشركين أو من الخوارج فأما ما يضمن فيه اللصوص أو يلزمهم به القود في جميع ما ذكرنا فإنه لا يجب شيء من ذلك على أهل الحرب ولا على الخوارج المتأولين كما لو باشروا الإتلاف بأيديهم وهذا لأن أهل الحرب غير ملتزمين لأحكام الإسلام وإذا انضمت المنعة بالتأويل في حق الخوارج كانوا بمنزلة أهل الحرب في سقوط الضمان عنهم فيما أتلفوا من الدماء والأموال للحديث الذي جاء أن الفتنة وقعت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متوافرين واتفقوا أنه لا قود في دم استحل بتأويل القرآن ولا حد في فرج استحل بتأويل القرآن ولا ضمان في مال استحل بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد إلى أهله وقد تقدم بيان هذا في السير.(24/201)
ولو أن المتأولين الشاهدين علينا بالشرك المستحلين لما لنا اقتسموه وأخذوا جوار من جوارينا فاقتسموهن فيما بينهم كما تقسم الغنيمة واستولدوهن ثم تابوا أو ظهر عليهم ردت الجواري إلى مواليهن لأنهم لم يتملكوهن إما لانعدام تمام الإحراز فتمامه بالإحراز بدار تخالف دار المستولى عليه أو لبقاء إحراز الملاك لبقاء الجواري في دار الإسلام ولا حد على الواطى ء منهن ولا عقر لأن المستوفي بالوطء في حكم جزء هو عين وإتلاف الجزء معتبر بإتلاف الكل والأولاد أحرار بعين القيمة لأن الواطى ء بمنزلة المغرور باعتبار تأويله والتأويل الفاسد عند انضمام المنعة بمنزلة التأويل الصحيح وولد المغرور حر ثابت النسب من المغرور إلا أن في غير هذا الموضع المغرور يضمن قيمة الأولاد لأنه منع حدوث الرق فيهم(24/202)
ص -96- ... فنزل ذلك منزلة الإتلاف وهنا هو لا يضمن الولد بالإتلاف لصاحب الجارية فكذلك لا يغرم قيمته بسبب الغرور. وكذلك أهل الحرب فيما أخذوا من المسلمين من مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فولدت لهم ثم أسلموا أن هؤلاء لا يملكون بالإحراز فيكون حال المشركين فيهم كحال الخوارج في الجواري على ما بيناه والله أعلم.
باب ما يخالف المكره فيه ما أمر به
قال رحمه الله ولو أكره الرجل على أن يهب نصف داره غير مقسوم أو لم يسم له مقسوما ولا غيره وأكره على التسليم فوهب الدار كلها وسلمها فهو جائز لأنه أتى بغير ما أكره عليه فالجميع غير النصف وهبة نصف الدار غير مقسوم هبة فاسدة وهو قد أتى بهبة صحيحة عرفنا أن ما أتى به غير ما أكره عليه فكان طائعا فيه وكذلك لو أمر بهبة الدار فتصدق بها عليه أو بصدقتها عليه فوهبها له وهو ذو رحم محرم منه أو أجنبي لأن الهبة غير الصدقة فالهبة تمليك المال من الموهوب له والمقصود به العوض والصدقة جعل المتصدق به لله تعالى خالصا ثم الصرف إلى الفقراء لتكون كفاية من الله تعالى، والدليل عليه أن صرف الصدقة الواجبة إلى بني هاشم لا تجوز والهبة لهم حسن وأنه لا رجوع في الصدقة وحق الرجوع ثابت للواهب وفي الهبة من ذي الرحم المحرم إنما لا يرجع لصيانة الرحم عن القطيعة أو لحصول المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لأنه بمنزلة الصدقة إذا ثبت أن ما أتى به غير ما أكره عليه حقيقة وحكما كان طائعا فيه.(24/203)
ولو أمره بالهبة فنحلها أو أعمرها كان باطلا لأن النحلة والعمرى هبة فهذه ألفاظ مختلفة والمقصود بالكل واحد وفي الإكراه يعتبر المقصود دل على الفرق أن اختلاف الشاهدين في لفظة الهبة والنحلة والعمرى لا يمنع قبول الشهادة. واختلافهما في الهبة والصدقة يمنع قبول الشهادة سواء كان الموهوب له ذا رحم محرم أو أجنبيا ولو أكره على الهبة والدفع فوهب على عوض وتقابضا كان جائزا لأنه أتى بغير ما أمره به فالهبة بشرط العوض بعد التقابض بيع فكأنه أكرهه على الهبة فباع ولأن مقصود المكره الإضرار بإتلاف ملكه بغير عوض ولم يحصل ذلك إذا وهبه على عوض وقد يكون المرء ممتنعا من الهبة بغير عوض ولا يمتنع من الهبة بعوض.
ولو أكرهه على أن يهبه على عوض ويدفعه فباعه بذلك وتقابضا كان باطلا. وكذلك لو أكرهه على البيع والتقابض فوهبه على عوض وتقابضا كان بعد التقابض والهبة بشرط العوض بمنزلة البيع حتى يثبت فيه جميع أحكام البيع فيكون هو مجيبا إلى ما طلب المكره في المعنى وإن خالفه في اللفظ ولأن قصد المكره الإضرار به وذلك لا يختلف باختلاف لفظ البيع والهبة بشرط العوض. ولو أكره على أن يهبه ويدفعه ففعل فعوضه الآخر من الهبة بغير إكراه فقبله كان هذا إجازة منه بهبته حين رضي بالعوض لأن العوض إما يكون عن هبة صحيحة فرضاه بالعوض يكون دليل الرضا منه بصحة الهبة ودليل الرضا كصريح الرضا فإن سلم له(24/204)
ص -97- ... العوض فإن قبضه بتسليم العوض فهو جائز ولا رجوع لواحد منهما على صاحبه كما لو كانت الهبة بغير كره فعوضه وكما في الهبة بشرط العوض. وإن أبى أن يسلم العوض وقال قد سلمت الهبة حين رضيت بالعوض فلا أدفع إليك العوض ولا سبيل لك على الهبة لم يكن له ذلك لأن الرضا كان في ضمن العوض وإنما يكون راضيا بشرط سلامة العوض له وإذا لم يسلم له كان له أن يرجع في الهبة كما لو وهبه بشرط العوض.
ألا ترى أنه لو قال قد سلمته على أن يعوضني كذا فأبى لم يكن هذا تسليما منه للهبة؟
ألا ترى أن رجلا لو وهب جارية رجل بغير أمره لرجل وقبضها الموهوب له فقال له رب الجارية عوضني منها فعوضه عوضا وقبضه كان هذا إجازة منه للهبة وإن أبى أن يعوضه لم يكن هذا إجازة منه للهبة فكذلك ما سبق. وكذلك لو أجبره على بيع عبده بألف درهم وعلى دفعه وقبض الثمن ففعل ذلك ثم قال للمشتري زدني في الثمن ألف درهم لم يكن هذا إجازة للبيع الأول إلا أن يزيده فإن زاده جاز البيع وإن لم يزده فله أن يبطله. كذلك لو قال قد أجزت ذلك البيع على أن تزيدني ألف درهم والمعنى في الكل واحد وهو إنما رضي بشرط أن يسلم له العوض والزيادة فإذا لم يسلم لم يكن راضيا به.
ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يبيع عبده من هذا بألف درهم ولم يأمره بالدفع فباعه ودفعه لم يكن على الذي أكرهه شيء وينبغي أن يجوز البيع إذا كان هو الدافع بغير إكراه بمنزلة ما لو دفعه بعد ما افترقا من موضع الإكراه وقد بينا فيما تقدم أن الإكراه على البيع لا يكون إكراها على التسليم بخلاف الهبة.(24/205)
ألا ترى لو أن لصا قال له لأقتلنك أو لتبيعنه عبدك هذا فإني قد حلفت لتبيعنه إياه فباعه خرج المكره من يمينه وهذا إشارة إلى الجواب عن إشكال يقال في هذه المسألة أن قصد المكره الإضرار وذلك إنما يكون تمامه بالإخراج من يده لأن زوال الملك في بيع المكره لا يكون إلا به كما في الهبة فتبين أنه قد يكون للمكره مقصود في نفس البيع ولكن هذا الذي أشار إليه يتأتى في الهبة أيضا والمعتمد هو الفرق الذي تقدم بيانه.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يهبه له فوهبه ودفعه فقال قد وهبته لك فخذه فأخذه الموهوب له فهلك عنده كان للمكره إن شاء ضمن المكره القيمة لأن إكراهه على الهبة إكراه على التسليم وإن شاء ضمن القابض لأن قبضه على سبيل التملك لنفسه بغير رضاه.
ألا ترى أن رجلا لو أمر رجلا أن يهب جاريته هذه لفلان فأخذها المأمور فوهبها ودفعها إلى الموهوب له جاز ذلك فلما جعل التوكيل بالهبة توكيلا بالتسليم كان المقصود بالهبة لا يحصل إلا بالتسليم فكذلك الإكراه على الهبة يكون إكراها على التسليم.
ثم بين في الأصل ما يوضح هذا الفرق وهو أن إيجاب الهبة للموهوب له يكون إذنا في القبض إذا كان بمحضر منهما وإيجاب البيع لا يكون إذنا في القبض وإن كان المبيع حاضرا حتى لو قبضه بغير أمر البائع كان للبائع أن يأخذه منه حتى يعطيه الثمن والبيع الفاسد بمنزلة(24/206)
ص -98- ... الهبة في هذا الحكم, وكان الطحاوي رحمه الله يقول في البيع الصحيح أيضا للمشتري أن يقبضه بمحضر منهما ما لم ينهه البائع عن ذلك وقال إيجاب البيع الصحيح أقوى من إيجاب البيع الفاسد. ولكن ما ذكره محمد في الكتاب أصح لأن القبض في البيع الفاسد والهبة نظير القبول في البيع الصحيح من حيث أن الملك يحصل به فأما قبض المشتري في البيع الصحيح فيكون مسقطا حق البائع في الحبس وإيجاب البيع لا يكون إسقاطا لحقه في الحبس فلا بد من الأمر بالقبض ليسقط به حقه.
ولو أكرهه على أن يبيعه منه بيعا فاسدا فباعه بيعا جائزا جاز البيع لأنه أتى بغير ما أمره به فالبيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه والبيع الجائز يزيل الملك بنفسه وكذلك الممتنع من البيع الفاسد لا يكون ممتنعا من البيع الجائز فهو طائع فيما أتى به من التصرف ولو أكره على أن يبيعه منة بيعا جائزا ويدفعه إليه فباعه بيعا فاسدا ودفعه إليه فهلك عنده فللبائع أن يضمن المكره إن شاء وإن شاء المشتري لأنه لم يخالف ما أمر به فإنه وإن أتى به على الوجه الذي أمره به يكون البيع فاسدا لكونه مكرها عليه وإنه أتى بدون ما أمره به والممتنع من البيع الجائز يكون ممتنعا من البيع الفاسد وإنما هذا بمنزلة رجل أمره أن يبيع بألف درهم نقد بيت المال فباعه بألف درهم عليه جاز . ولو أمره أن يبيعه بألف فباعه بألفين جاز ولم يكن مكرها فكذلك فيما سبق.(24/207)
ولو أكرهه على أن يهب له نصف هذه الدار مقسوما ويدفعه إلى الموهوب له فوهب له الدار كلها ودفعها إليه جازت الهبة في القياس لأنه أمره أن يقسم ثم يهب له فحين وهب الدار كلها قبل أن يقسم فقد خالف ما أمره وكذلك هذا القياس في البيع لو أمره أن يبيعه نصف الدار مقسوما فباعه الدار كلها لأنه أمره بالبيع بعد القسمة فهو في البيع قبل القسمة لا يكون مطيعا له فيما أمره به ولأنا لو جعلناه مخالفا لم يكن بد من القسمة وفي البيع قبل القسمة لا ندري أي شيء يضمنه لأن بين نصفي الدار مقسوما تفاوتا في المالية ومع الجهالة لا يمكن إيجاب الضمان, ولكنه استحسن فقال لا أجيز هبته ولا بيعه في شيء مما أكرهه عليه لأنه مكره على بعض ذلك فلا بد من أن تبطل هبته فما كان مكرها عليه وذلك يبطل هبته فكذلك في البيع الصفقة واحدة فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل وكذلك لو أكرهه على أن يهب له أو يبيعه بيتا من هذه البيوت فباعه البيوت كلها أو وهبها كان ذلك باطلا في الاستحسان لأنه قد بطل في بعض البيوت للإكراه فيبطل فيما بقي لاتحاد الصفقة وجهالة ما ينفذ فيه العقد والله أعلم.
باب الإكراه على أن يعتق عبده عن غيره
قال رحمه الله ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق عبدا يساوي ألف درهم عن رجل بألف درهم ففعل ذلك وقبل المعتق عنه طائعا فالعبد حر عن المعتق عنه والولاء له لأن المولى لو كان طائعا في هذا الإيجاب كان العبد حرا على المعتق عنه فكذلك إذا كان مكرها إذ لا تأثير للإكراه في المنع من العتق.(24/208)
ص -99- ... فإن قيل إذا كان طائعا يصير كأنه ملك العبد بألف درهم وأعتقه عنه وإن كان مكرها لا يمكن تصحيح العتق عن المعتق عنه بهذا الطريق لأن تمليك المكره بعوض يكون فاسدا والملك بالسبب الفاسد لا يثبت إلا بالقبض ولم يوجد القبض فكيف يعتق العبد عن المعتق عنه, قلنا هذا التمليك غير مقصود بسببه ولكنه في ضمن العتق فيكون حكمه حكم العتق والإكراه لا يمنع صحة العتق فكذلك لا يمنع صحة هذا التمليك بدون القبض.
ألا ترى أن التمليك إذا كان مقصودا فسببه لا يثبت بدون القبول وإذا كان في ضمن العتق يثبت بدون القبول بأن يقول أعتق عبدك عني بألف درهم ويقول الآخر أعتقت يصح بدون القبول والقبض في البيع الفاسد كالقبول في البيع الصحيح فكما سقط اعتبار القبول هناك سقط اعتبار القبض هنا على أن الإعتاق يجعل قبضا في البيع الصحيح فكذلك في البيع الفاسد الذي هو في ضمن العقد وهو نظير ما لو قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم ورطل من خمر فقال أعتقت يصير الآمر قابضا بنفوذ العتق عنه وإن كان البيع المندرج في كلامه فاسدا وقد قررنا هذا في باب الظهار من كتاب الطلاق فكذلك في مسألة الإكراه. ثم رب العبد بالخيار إن شاء ضمن قيمة عبده المعتق عنه وإن شاء المكره لأن المعتق عنه قبله باختياره وقد تعذر عليه رده لنفوذ العتق من جهته فيكون ضامنا قيمته والمكره متلف ملكه عليه بالإكراه الملجى ء فيكون ضامنا له قيمته.
فإن قيل: المكره إنما ألجأه إلى إزالة الملك بعوض يعدله وهو الألف فكيف يجب الضمان عليه؟(24/209)
قلنا هو أكرهه على إبطال الملك بالإعتاق وليس بإزائه عوض وإنما العوض بمقابلة التمليك الثابت بمقتضى كلامه والمقتضى تابع للمقتضى فإنما ينبني الحكم على ما هو الأصل وباعتبار الأصل هو متلف عليه ملكه بغير عوض فإن ضمن المكره قيمته رجع بها على المعتق عنه لأنه قائم مقام المولى حين ضمن له القيمة ولأن العبد قد احتبس عند المعتق عنه حين عتق على ملكه ويثبت الولاء له وكان هو المعتق بقوله طوعا فلا يسلم له مجانا وإن ضمنها المعتق عنه لم يرجع بها على المكره لأنه ضمن باحتباس الملك عنده.
ولو أكرهه بحبس كانت القيمة له على المعتق عنه ولا شيء له على المكره لأن الإلجاء لا يحصل بالإكراه بالحبس وبدونه لا يصير الإتلاف منسوبا إلى المكره ولو كان أكره, المعتق والمعتق عنه بوعيد تلف حتى فعلا ذلك فالعبد حر عن المعتق عنه والولاء له وضمان العبد على المكره خاصة لمولى العبد لأن المعتق عنه ملجأ إلى القبول وهذا النوع من الضرورة يخرجه من أن يكون متلفا مستوجبا للضمان وإنما المتلف هو المكره فالضمان عليه خاصة بخلاف الأول فهناك المعتق عنه طائع في القبول فيصير به متلفا للعبد ضامنا.
فإن قيل العبد قد احتبس عند المعتق عنه فإنه عتق على ملكه وثبت الولاء له وإن كان هو ملجأ في القبول فينبغي أن يجب عليه الضمان.(24/210)
ص -100- ... قلنا المحتبس عنده مقدار ما ثبت له من الولاء وذلك ليس بمتقوم.
ألا ترى أن من أكره رجلا على أن يعتق عبده كان المكره ضامنا له جميع قيمته وإن كان الولاء ثابتا للمعتق فلما لم يعتبر الولاء في إسقاط حقه في الضمان فكذلك لا يعتبر الولاء في إيجاب الضمان عليه وإنما هذا بمنزلة ما لو أكره رجلا على بيع عبده من هذا بألف درهم ودفعه إليه وأكره الآخر على شرائه وقبضه وعتقه بوعيد تلف ففعلا ذلك ففي هذا الضمان يكون على المكره خاصة فكذلك فيما سبق ولو أكرههما على ذلك بالحبس ففعلا ضمن المعتق عنه قيمته لمولاه لأن المكره غير ملجأ هنا فلا ضمان عليه والإتلاف حاصل بقبول المعتق عنه وقد بقي مقصورا عليه حين لم يكن ملجأ إلى ذلك فكان ضامنا قيمته.
فإن قيل: الإكراه بالحبس يمنع صحة التزام المال بالقبول والمعتق عنه إنما يلتزم الضمان هنا بقوله وهو القبول.
قلنا: لا كذلك بل هو ملتزم لصيرورته قابضا بالإعتاق متلفا والإكراه بالحبس لا يمنع تحقق الإتلاف منه موجبا للضمان عليه.
ولو أكرهه المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بحبس حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يضمن أيهما شاء قيمته لأن المكره ألجأ المولى إلى إتلاف ملكه فيكون ضامنا له قيمته والمعتق عنه بالقبول متلف معتق لأنه ما كان ملجأ إليه فيكون للمولى الخيار فأيهما اختار ضمانه لم يكن له بعد ذلك أن يضمن الآخر شيئا فإن ضمن المكره رجع على المعتق عنه بما ضمن لأنه قام مقام المولى ولأن المعتق عنه متلف للملك بفعل مقصور عليه فلا بد من إيجاب ضمان القيمة عليه.(24/211)
ولو أكره المولى بالحبس وأكره المعتق عنه بوعيد تلف فالعبد حر عن المعتق عنه ثم المعتق بقيمته غير مدبر لأنه قام مقام المولى في الرجوع عليه حين ضمن له قيمته, فإن لم يرجع المكره على المدبر عنه يضمن الذي أكرهه قيمة العبد لأنه ملجأ إلى القبول من جهته وبه تلف الملك عليه فكان ضامنا له قيمته وإذا قبضها دفعها إلى مولى العبد لأن القيمة قائمة مقام العين.
ولو كان العبد في يده على حاله كان عليه رده على المولى لكونه مكرها بالحبس فكذلك إذا وصل إليه قيمته ولا سبيل للمعتق على المكره لأنه ما كان ملجأ من جهته حين أكرهه بالحبس. ولو أكرههما بوعيد تلف حتى دبره صاحبه عنه بألف درهم وقبل ذلك صاحبه فالتدبير جائز عن الذي دبره عنه لأن التدبير يوجب حق الحرية للعبد ومن شرطه ملك المحل بمنزلة حقيقة الحرية والإكراه كما لا يمنع صحة العتق لا يمنع صحة التدبير ثم المولى بالخيار إن شاء ضمن الذي أكرهه قيمته عبدا غير مدبر لأنه أتلف عليه ملكه حتى ألجأه إلى تدبيره عن الغير وفي حقه هذا والإلجاء إلى الإعتاق سواء لأن ملكه يزول في الموضعين, وإذا ضمنه ذلك يرجع المكره على الذي دبره عنه بقيمته مدبرا ولا يرجع بفضل ما بين التدبير(24/212)
ص -101- ... وغيره لأن النقصان الحاصل بالتدبير كان بقبوله ولكنه كان ملجأ إلى القبول من جهته فصار هذا النقصان كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا قبل هذا نظيره في العتق أن المكره لا يرجع على المعتق عنه فهنا أيضا لا يرجع عليه بالنقصان ولكن يرجع عليه بقيمته مدبرا لأن العبد قد احتبس عنده بهذه الصفة والمدبر مال متقوم فلا يجوز أن يسلم له مجانا ولكنه يضمن قيمته لاحتباسه عنده وإن انعدم الصنع منه لكونه ملجأ إلى القبول كمن استولد جارية بالنكاح ثم ورثها مع غيره يضمن قيمة نصيب شريكه منها لاحتباسها عنده بالاستيلاد وإن كان لا صنع له في الميراث. وإن شاء مولى العبد يرجع بقيمته مدبرا على الذي دبره عنه لاحتباسه عنده ويرجع على المكره بنقصان التدبير لأن ذلك الجزء قد تلف بفعل منسوب إلى المكره لوجود الإلجاء منه.
ولو كان إنما أكرههما على ذلك بالحبس فالعبد مدبر للذي دبره عنه يعتق بموته ولا ضمان على المكره لأن الإتلاف لم يصر منسوبا إليه بالإكراه بالحبس ولكن المولى يرجع بقيمة عبده تامة على المدبر عنه لأن ما تلف بالتدبير وما احتبس عنده صار كله مضمونا عليه حين لم يكن ملجأ إلى القبول فلهذا ضمن قيمته غير مدبر.(24/213)
ولو كان أكره المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بالحبس فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته عبدا غير مدبر لأنه كان ملجأ من جهته إلى إزالة ملكه. وإن شاء ضمن المدبر عنه قيمته غير مدبر لأنه غير ملجأ إلى القبول فكان حكم الإتلاف والحبس مقصورا عليه, وإن ضمن المكره رجع على المدبر عنه بعد ما اختار المولى تضمينه حتى أبرأ المولى المكره من القيمة التي ضمنها إياه أو وهبها له أو أخرها عنه شهرا فكان للمكره أن يرجع على المدبر عنه على حاله لأن المولى باختياره تضمينه يصير مملكا منه القيمة التي على المدبر عنه ولهذا لم يكن له أن يرجع على المدبر عنه بشيء بعد ذلك فإبراؤه إياه وتأجيله لا يسقط حق المكره في الرجوع على المدبر عنه كالوكيل بالشراء إذا أبرأ عن الثمن كان له أن يرجع على الموكل, وهذا بخلاف الكفيل بالدين إذا أبرأ لأن هناك الحق لم يسقط عن الأصيل وهنا باختياره تضمين المكره سقط حقه عن الرجوع على المدبر عنه وتعين ذلك حقا للمكره.
ولو كان المولى أكره بالحبس وأكره الآخر بوعيد تلف حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يرجع على المدبر عنه بقيمته مدبرا لاحتباس العبد عنده مدبرا لسبب فاسد ويرجع على المكره بنقصان التدبير لأن تلف هذا الجزء حصل بقبول المدبر عنه وهو كان ملجأ إلى ذلك وإن لم يكن المولى ملجأ بالإكراه بالحبس، والأصح عندي أن الرجوع بنقصان التدبير على المكره يكون للمدبر عنه يأخذ ذلك منه فيدفعه إلى المكره لأن نقصان التدبير هنا كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا هناك أن المعتق عنه هو الذي يستوفي القيمة فيدفعها إلى المكره وهذا لأن العبد دخل في ملك المدبر عنه ثم صار مدبرا والمولى كان مكرها من جهة المكره بالحبس وبالإكراه بالحبس لا يجب له عليه الضمان وإنما يجب بالإكراه بوعيد تلف وذلك(24/214)
ص -102- ... إنما وجد بين المكره والمدبر عنه. وكذلك في هذه الوجوه كلها لو أكرههما بالبيع والقبض وأكره المشتري على التدبير فهو في التخريج نظير ما سبق.
ولو أكرههما بوعيد تلف على أن يتبايعا ويتقابضا ثم أكره المشتري بوعيد تلف على أن يقتل العبد عمدا بالسيف فالقياس فيه أن للبائع أن يقتل المكره بعبده لأن المشتري في القبول والقبض والقتل كان ملجأ من جهة المكره فيكون بمنزلة الآلة له ويجعل في الحكم كأن المكره هو الذي قتله بنفسه فيلزمه القود، ولكنه استحسن فقال عليه ضمان قيمته في ماله ولا قود عليه لأنهما وإن كانا مكرهين فالمشتري صار مالكا بالقبض ثم قتله صادف ملك نفسه ولو قتله طائعا لم يلزمه القصاص. فلو قتله مكرها لا يكون قتله أيضا موجبا للقصاص لمعنى وهو أن المستحق لهذا القود مسببه فباعتبار أن العبد صار ملك المشتري القود يجب له وباعتبار أن المشتري في حكم الإتلاف الحاصل بقبوله وقبضه وقتله آلة للمكره القود يكون للبائع وعند اشتباه المستوفي يمتنع وجوب القصاص كالمكاتب إذا قتل عن وفاء وله وارث سوى المولى وإذا سقط القود للشبهة وجب ضمان قيمته على المكره لأن التكلم بالبيع والشراء وإن لم يصر منسوبا إلى المكره فتلف المال به صار منسوبا إلى المكره والمشتري في القتل والقبض كان له فلا يجب عليه شيء من الضمان بل ضمان القيمة على المكره في ماله.
ولو أكرههما بالحبس على البيع وأكره المشتري على القتل بوعيد تلف فللبائع قيمة العبد على المشتري لأن البيع مع الإكراه بالحبس كان فاسدا ولكن القبض مقصور على المشتري وقد تعذر عليه رده فيلزمه قيمته وهو إن كان ملجأ إلى القتل فتأثير الإكراه في انعدام الفعل في جانبه فكأنه تلف العبد في يده بغير صنعه فعليه قيمته بسبب البيع الفاسد وللمشتري أن يقتل الذي أكرهه على القتل لأن العبد كان مملوكا له حين أكرهه على قتله بوعيد تلف فيصير فعل القتل منسوبا إلى المكره ويجب القصاص.(24/215)
فإن قيل كيف ينبغي أن لا يجب لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله فإن من أصل زفر والشافعي رحمهم الله أن المشتري لا يملك بالقبض عند فساد البيع بسبب الإكراه فلا يكون القصاص واجبا له.
قلنا أصحابنا رحمهم الله لا يعتبرون خلاف الشافعي في تفريع المسائل لأنه ما كان موجودا عند هذه التفريعات منهم وخلاف زفر في هذا كخلافه في المبيع من وجوب القود على المكره في الأصل وذلك لا يمنعنا من أن نلزمه القود لقيام الدليل ولو كان أكرهه على القتل بحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الإلجاء لم يحصل بالإكراه بالحبس.
ولو أكره البائع بوعيد تلف وأكره المشتري على الشراء والقبض والقتل بالحبس فالبائع بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده لأنه كان ملجأ من جهته إلى البيع والتسليم فيكون متلفا عليه ملكه وإن ضمنه قيمته رجع المكره بها على المشتري لأنه لم يكن ملجأ إلى القتل ولا(24/216)
ص -103- ... إلى العتق وإن شاء البائع ضمن المشتري قيمة عبده لأن فعله في القبض والعتق مقصور عليه فيكون ضامنا له قيمته.
ولو كان أكره المشتري على الشراء بالحبس وعلى القتل عمدا بالقتل فالبائع بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده لما بينا وإذا ضمنه لم يرجع هو على المشتري بشيء لأن المشتري كان ملجأ إلى القتل من جهته فيصير فعله منسوبا إلى المكره وكأنه قتله بيده وذلك استرداد منه للعبد وزيادة فلا يضمن المشتري لذلك بخلاف ما سبق فالإكراه بالحبس على الفعل لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره وإن شاء البائع ضمن المشتري قيمة عبده لأن فعله في الشراء والقبض مقصور عليه فإن كان مكرها على ذلك بالحبس فإن ضمنه كان للمشتري أن يقتل المكره لأن العبد تقرر في ملكه من حين قبضه حين ضمن قيمته فتبين أنه أكرهه على قتل عبده عمدا بوعيد تلف وذلك يوجب القود على المكره.
وإن كان أكره البائع بالحبس على البيع والدفع وأكره المشتري على الشراء والقبض والقتل بالوعيد بالقتل فلا ضمان على المشتري لأنه بمنزلة الآلة في جميع ما كان منه للإكراه الملجى ء ويغرم المكره قيمة العبد لمولاه لأن فعله في البيع والتسليم وإن لم يصر منسوبا إلى المكره ففعل المشتري بالقبض والقتل صار منسوبا إلى المكره فكان المكره هو الذي فعل بنفسه إلا أنه سقط عنه القود استحسانا لاشتباه المستوفي فيجب عليه ضمان قيمته لمولاه.(24/217)
وإن كان إنما أكره المشتري على الشراء والقبض بوعيد تلف وأكرهه على القتل أو العتق أو التدبير بالحبس فلا ضمان على المكره لأن البائع بعد قبض المشتري كان متمكنا من استرداد العين وإنما تعذر ذلك عليه بالقتل أو العتق أو التدبير وذلك مقصور على المشتري غير منسوب إلى المكره لأنه كان مكرها على ذلك بالحبس فلهذا لا ضمان على المكره ويضمن المشتري قيمة العبد لأن إقدامه على هذه التصرفات بمنزلة الرضا منه أن لو كان طائعا ولكن الإكراه يمنع تمام الرضا فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع.
ولو كان البائع غير مكره ولكنه طلب الذي أكرهه أن يكره المشتري بوعيد تلف على أن يشتري عبده بألفين وقيمته ألف ويقبضه ففعل ذلك ثم أكرهه على أن يقتله عمدا أو يعتقه بوعيد تلف فلا ضمان على المشتري في ذلك لأنه ملجأ إلى جميع ما كان منه فكان هو بمنزلة الآلة فيه وعلى المكره قيمة العبد للبائع لأنه إنما طلب المكره الإكراه على الشراء والقبض وقد كان متمكنا من الاسترداد لانعدام الرضا من المشتري فإنما تعذر ذلك عليه بالقتل وقد كان المشتري فيه آلة للمكره فكأنه هو الذي قتله بنفسه فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع.
ولو كان أكرهه بقتل حتى دبر العبد فالبائع بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته غير مدبر لأنه إنما تعذر استرداده بالتدبير ثم يرجع المكره بقيمته مدبرا على المشتري لأنه احتبس في ملك المشتري وهو مدبر فلا بد من إيجاب ضمان القيمة عليه.
ألا ترى أنها لو كانت جارية استخدمها واستكتبها ووطئها فكيف يسلم له ذلك مجانا؟(24/218)
ص -104- ... وإن شاء ضمن المشتري قيمته مدبرا لهذا المعنى أيضا وضمن الذي أكرهه نقصان التدبير لأن ذلك الجزء قد تلف بالتدبير وقد كان المشتري ملجأ إلى التدبير من جهة المكره ولم يوجد من البائع الرضا بذلك.
ولو كان أكره المشتري على الشراء والقبض بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع على المكره شيء وكان له أن يضمن المشتري قيمة عبده لأن الفعل في الشراء والقبض كان مقصورا عليه وإذا تقرر عليه ضمان قيمته تبين أن المكره أكرهه على أن يقتل عبده بالإكراه بالقتل فله أن يقبض منه. وإن أكرهه على العتق ضمنه قيمته. وإن كان أكرهه على التدبير ضمنه نقصان التدبير في الحال فإذا مات المشتري والعبد يخرج من ثلثه ضمنه ورثة المشتري قيمته مدبرا لأن تلف الباقي بعد موته حصل بذلك التدبير وقد كان ملجأ إليه من جهة المكره.
ولو كان أكرهه في ذلك كله بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع مع المكره ضمان لأن ما تلف به العبد لم يصر منسوبا إليه بالإكراه بالحبس ولكنه يضمن المشتري قيمة عبده لأن فعله فيما يحصل به تلف العبد مقصور عليه. ولو كان أكرهه بوعيد تلف على أن يقبل من فلان أن يعتق عبده عنه بألف درهم وقيمته ألفان أو خمسمائة بطلب من رب المال فقبله منه فالعتق جائز عن المعتق عنه لأن فعله في القبول مقصور عليه, ولا ضمان عليه ولا على المكره أما على القابل فلأنه ملجأ إلى هذا القبول بوعيد تلف وذلك يمنع نسبة التلف إليه في حكم الضمان وأما على المكره فلأن رب العبد هو الذي طلب منه ما حصل به تلف العبد فلا يكون له أن يضمن المكره شيئا.(24/219)
ألا ترى أنه لو شاء اللص أن يكره هذا الرجل بوعيد تلف على أن يشتري منه هذا العبد بألف درهم ويقبضه ففعل ذلك فمات في يده لم يضمن المكره ولا المشتري للمولى شيئا. وكذلك إن سأل مع ذلك أن يكرهه على عتقه بوعيد تلف ففعل بخلاف ما إذا كان إكرهه على العتق بغير سؤال من البائع لأن هناك لم يوجد منه الرضا بتلف العبد وهنا قد تحقق منه الرضا بذلك.
ولو أكرهه المولى بالحبس على البيع والدفع وإكره الآخر يومئذ بوعيد تلف على الشراء والقبض ففعلا ذلك ثم أكره المولى بالحبس على أن يأمر المشتري بالعتق وأكره المشتري على أن يعتق بوعيد تلف ففعلا كان العبد حرا وكان ضمان القيمة على المكره لأن أمر البائع إياه بالعتق وهو مكره بالحبس أمر باطل فإن المشتري كان متمكنا من العتق باعتبار ملكه وإنما تأثير أمر البائع في رضاه به ليسقط حقه في الضمان بهذا السبب وبالإكراه بالحبس ينعدم الرضا.
ألا ترى أنه لو أكره رجلا بالحبس حتى يأذن للمكره في قتل عبده فأذن له في ذلك فقتله كان على المكره القيمة لأن إذنه مع الإكراه بالحبس باطل فهذا كذلك وإذا ثبت بطلان أمره بقي إكراهه المشتري على العتق بالقتل وذلك يوجب نسبة الإتلاف إلى المكره والله أعلم بالصواب.(24/220)
ص -105- ... باب الإكراه على الوديعة وغيرها
قال رحمه الله ولو أن لصا أكره رجلا بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل فأودعه فهلك عند المستودع وهو غير مكره لم يضمن المستودع ولا المكره شيئا أما المكره فلأن التهديد بالحبس لا يجعل الدفع من صاحب المال منسوبا إليه وأما المستودع فلأنه قبض المال بتسليم صاحبه إليه ليرده عليه وذلك غير موجب للضمان وهذا لأن فعل التسليم مقصور على المالك فإنه لم يكن ملجأ إليه وإنما هو غير راض به فهو كمن أودع ماله غيره عند خوفه من اللصوص أو عند وقوع الحريق في داره وهناك لا يضمن المودع إذا هلك في يده بغير صنعه. وإن كان أكرهه بوعيد تلف فلرب المال أن يضمن المستودع وإن شاء المكره لأن فعله في التسليم صار منسوبا إلى المكره للإلجاء فكأن المكره هو الذي باشر الدفع إليه فيكون كل واحد منهما جانيا في حق صاحب المال وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشيء لأن المكره إن ضمن فإنما يضمن بكون الدفع منسوبا إليه. ولو كان هو الذي دفعه إليه وديعة لم يرجع على المودع بشيء وإن شاء ضمن المودع فلأنه كان في القبض طائعا وبه صار ضامنا وهو لم يكن في هذا القبض عاملا للإكراه لأنه لم يقبض ليسلمه إلى المكره.
ولو أكره بتلف أو حبس على أن يأمر رجلا بقبض المال فأمر بقبضه والمأمور غير مكره فضاع في يده فالقابض ضامن للمال لأن الأمر قول منه والإكراه بالحبس يبطل قوله في مثله.
ألا ترى أنه يبطل شراؤه وبيعه فكان كالقابض بغير أمره بخلاف الأول فهناك صاحب المال هو الدافع والإكراه بالحبس لا يعدم فعله في الدفع.
ألا ترى أنه لو أكرهه بالحبس على أن يطرح ماله في ماء أو نار ففعل لم يضمن المكره شيئا؟(24/221)
ولو أكرهه بالحبس على أن يأمر إنسانا بأن يطرح ماله في ماء أو نار فأمره بذلك ففعله المأمور كان المكره ضامنا ولا شيء على المكره إلا أن يكون الطارح مكرها من جهته بوعيد تلف فحينئذ يكون الضمان على المكره. وكذلك لو أكرهه بالحبس على أن يأذن له في أن يأخذ ماله فيهبه أو يأكله أو يستهلكه ففعل ذلك كان المستهلك ضامنا لأن أمره بالتهديد بالحبس لغو فكأنه فعله بغير أمره.
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في أن يقتل عبده عمدا فأذن له في ذلك فقتله كان للمولى أن يقتله به لأنه لا معتبر بإذنه بعد الإكراه التام. ولو أكرهه على ذلك بالحبس كان كذلك في القياس لأن الإذن كان باطلا فإن التهديد بالحبس يسقط اعتبار ما يحتمل الإبطال من أقاويله والإذن إنما كان مؤثرا باعتبار أنه دليل الرضا ومع الإكراه بالحبس الإذن لا يكون دليل الرضا ولكنه استحسن في هذا فقال لا يلزمه القود ولكنه ضامن له قيمة عبده لأن الإكراه بالحبس يؤثر في إبطال بعض الأقاويل دون البعض.(24/222)
ص -106- ... ألا ترى أنه لا يؤثر في إبطال قوله في الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ويؤثر في البيع والشراء فإن اعتبرناه بما يؤثر فيه يجب القصاص على المكره وإن اعتبرناه بما لا يؤثر فيه لا يجب القصاص على المكره والقصاص مما يندرى ء بالشبهات فلهذا سقط القود.
فإن قيل هذا في الإكراه بوعيد التلف موجود؟
قلنا لا كذلك فالإكراه بوعيد التلف مؤثر في جميع الأقاويل فيما يحصل بها من الإتلاف حتى يكون موجبا للضمان على المكره بخلاف الإكراه بالحبس ثم الإذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء والعفو مع الإكراه بالحبس صحيح على أن يكون مقصورا على العافي من كل وجه بخلاف الإكراه بالقتل فالعفو هناك صحيح على أن يكون ما يتلف به مما هو متقوم منسوبا إلى المكره فكذلك الإذن في الابتداء مع الإكراه بالحبس. قلنا يجعل معتبرا في إسقاط القود الذي يندرى ء بالشبهات ولا يجعل معتبرا في إسقاط الضمان الذي يثبت مع الشبهات وكذلك إن كان المأمور بالقتل غير المكره فإن المعنى في الكل سواء.
ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يوكل ببيع أو شراء ففعل كان ذلك باطلا لأن التوكيل قول وإنما يعتبر ليتحقق به الرضا من الموكل بتصرف الوكيل على سبيل النيابة عنه وذلك ينعدم إذا كان مكرها على التوكيل ثم الإكراه بالقتل والحبس يمنع صحة البيع والشراء فكذلك يمنع صحة التوكيل بالبيع والشراء, ولو أكرهه بالحبس على أن يوكل هذا بعتق عبده فأعتقه الوكيل والوكيل غير مكره كان العبد حرا عن مولاه ولم يضمن المكره شيئا لأن الإكراه بالحبس لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره في معنى الإتلاف ولا يمنع صحة الإعتاق فكذلك لا يمنع صحة التسليط على الإعتاق والتوكيل في الابتداء كالإجازة في الانتهاء.(24/223)
ولو أن أجنبيا أعتق عبد رجل بغير أمره فأكره بالحبس على أن يجيزه بعد العتق لم يضمن المكره شيئا فهذا مثله. ولو أكرهه على ذلك بوعيد تلف كان الضمان على المكره دون الذي ولى العتق أما نفوذ العتق فلأن الإكراه على التوكيل بالعتق بمنزلة الإكراه على الإعتاق وأما وجوب الضمان على المكره فلأن الإتلاف منسوب إليه بسبب الإلجاء وحصول التلف بالأمر الصادر من المولى عند إعتاق المأمور لا بإعتاق المأمور.
الا ترى أنه لو لم يسبق الأمر كان إعتاقه لغوا وبه فارق القتل والقطع فالإتلاف هناك يحصل بمباشرة المأمور دون الأمر به.
الا ترى أنه يتحقق وإن لم يسبقه أمر فإذا كان المباشر طائعا كان الضمان عليه.
الا ترى أن المشتري لو أمر رجلا بأن يقتل المبيع قبل القبض فقتله كان القاتل ضامنا قيمته للبائع حتى يحبسه بالثمن ولو أمر رجلا فأعتقه كان العبد حرا ولا ضمان على المعتق. والفرق بينهما بما أشرنا إليه أن الإعتاق بدون أمر المشتري لغو فيكون إعتاق المأمور كإعتاق المشتري والقتل بدون أمر المشتري يتحقق فيكون موجب الضمان على القاتل.(24/224)
ص -107- ... ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في عتقه فأذن له فيه فأعتقه عتق والولاء للمولى ويضمن المكره قيمته لا باعتبار أنه أعتقه بل باعتبار أنه ألجأه إلى الأمر بالعتق حتى لو كان أكرهه على ذلك بحبس لم يضمن له شيئا فهذا يبين لك ما سبق أن الإكراه على الأمر بالعتق بمنزلة الإكراه على العتق في حكم الضمان, وكل إكراه بوعيد تلف على الأمر لا يمكن رده بعد وقوعه نحو العتق والطلاق والقتل واستهلاك المال, فإكراهه فيه بمنزلة جنايته بيده لأن المكره في حكم الإتلاف صار آلة للمكره. وإن كان أكرهه على ذلك بقيد أو حبس لم يلزمه ضمانه وإنما الإكراه بالحبس بمنزلة الإكراه بالقتل في البيع والشراء والإقرار بالأشياء كلها والوكالة بذلك والأمر به لأن صحة هذا كله تعتمد الرضا ومع الإكراه بالحبس ينعدم الرضا ثم أوضح الفرق بين الفعل وبين الأمر به عند الإكراه بالحبس بفعل العبد المحجور عليه فإنه لو غصب مالا فدفعه إلى عبد آخر محجور عليه فهلك عنده كان لصاحب المال أن يضمن الثاني ثم يرجع مولاه بما ضمن في رقبة الأول ولو لم يدفعه ولكنه أمره أن يأخذه والمسألة بحالها لم يكن لمولى الآخر أن يضمن الأول.
الا ترى أن الحجر عليه أسقط اعتبار أمره ولم يسقط اعتبار دفعه فكذلك الإكراه بالحبس يسقط اعتبار أمره ولا يسقط اعتبار دفعه والله أعلم بالصواب.
باب التلجئة(24/225)
قال رحمه الله رجل قال لرجل إني أريد أن ألجئ إليك عبدي هذا فأبيعكه تلجئة وباطلا وليس بشراء واجب لشيء أخافه فقال نعم وحضر هذه المقالة شهود ثم قال له في مجلس آخر قد بعتكه بألف درهم فقال قد فعلت ثم تصادقا على ما كان بينهما فالبيع باطل"لأن التلجئة بمنزلة الهزل والهزل أن يراد بالكلام غير ما وضع له والهازل لا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به ويكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب فالمجلى ء أيضا يكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب ولا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به فلا يمنع الهزل والتلجئة انعقاد السبب ولكن لا يكون موجبا لحكمه لما لم ينعدم هذا الوصف وهو كالبيع بشرط الخيار لهما أبدا يكون منعقدا ولكن لا يكون موجبا لحكمه مع بقاء الخيار لهما. إذا عرفنا هذا فنقول إن تصادقا على أنهما بنيا على تلك المواضعة فالبيع باطل لاتفاقهما على أنهما يعزلانه وإن تصادقا أنهما أعرضا عن تلك المواضعة فالبيع لازم بينهما لأنهما تصادقا على أنهما قصدا الجد وهذا ناسخ لما كان بينهما من المواضعة.
وإذا كان العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد فالعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها وإن تصادقا أنه لم يحضرهما نية عند العقد ففي ظاهر الجواب البيع باطل, وروي المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن البيع صحيح وجه تلك الرواية أن مطلق فعل العاقل المسلم محمول على الصحة وما يحل شرعا وعند الإطلاق يجب حمل كلامهما عليه فلا يجوز إلغاء كلامهما مع إمكان تصحيحه. ووجه ظاهر الرواية أنهما ما تواضعا إلا ليبنيا على(24/226)
ص -108- ... تلك المواضعة فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يظهر منهما خلافه وهذا لأنه إذا لم يجعل بناء كان استعمالهما بتلك المواضعة استعمالا بما لا يفيد.
والحاصل أن في ظاهر الرواية تعارض الأمران في الإطلاق فيرجح السابق منهما وهو المواضعة وفي الرواية الأخرى جعل الثاني ناسخا للأول. وأما إذا اختلفا فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر أعرضنا عنها فعلى قول أبي حنيفة القول قول من يدعي صحة العقد وعند أبي يوسف ومحمد القول قول من يدعي البناء على تلك المواضعة لأن عند الخصومة القول قول من يشهد له الظاهر وإنما يشهد الظاهر لمن يدعي البناء على المواضعة.
يوضحه أنا نجعل في حق كل واحد منهما كأنه قصد ما أخبر به ولكن بإعراض أحدهما عن المواضعة لا يصح العقد فيما بينهما كما لو بنيا على المواضعة ثم أجاز العقد أحدهما. وأبو حنيفة يقول عند الاختلاف يجب الرجوع إلى الأصل والأصل أن مطلق العقد يقتضي اللزوم فدعوى البناء من أحدهما على المواضعة كدعواه شرط الخيار.
يوضحه أن تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما فينفرد كل واحد منهما بإبطالها بطريق الإعراض عنها وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة.(24/227)
ولو ادعى أحدهما المواضعة السابقة وجحد الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا بينهما حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما فكذلك إذا اختلفا في البناء عليها, وإن تصادقا على البناء على المواضعة ثم قال أحدهما قد أجزت البيع لم يجز على صاحبه لأن ذلك بمنزلة اشتراط الخيار منهما فالمجيز يكون مسقطا لخياره ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد, فإن قال صاحبه قد أجزت أنا أيضا فالبيع جائز لأنهما أسقطا خيارهما ولأن البيع كان هزلا منهما ولم يكن مفيدا حكمه لانعدام الاختيار منهما للحكم وقد اختارا ذلك. وإن لم يجيزاه حتى قبض المشتري فأعتقه كان عتقه باطلا بمنزلة ما لو كانا شرطا الخيار لهما وهذا لأن الحكم وهو الملك غير ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فتوقف الحكم على اختبارهما له وقبل الاختيار لا ملك للمشتري فلا ينفذ عتقه بخلاف المشتري من المكره فالمكره مختار للحكم ولكنه غير راض به لأن الحكم للجد من الكلام وإنما أكره على الجد فأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ عتقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيعه تلجئة فباعه لم يجز عتق المشتري فيه أيضا.
ولو قال رجل لامرأة أتزوجك تزوجا هزلا فقالت نعم ووافقهم على ذلك الولي ثم تزوجها كان النكاح جائزا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق" ولأن النكاح لا تمتنع صحته بعد اختيار السبب لعدم اختيار الحكم كما لو شرط الخيار فيه كان النكاح صحيحا, وبهذا الفصل(24/228)
ص -109- ... يتبين أن بيع الهازل منعقد تلحقه الإجازة منهما لأن بالهزل لو كان ينعدم اختيار أصل السبب لما صح النكاح والطلاق والعتاق من الهازل وأصل السبب لا بد من اعتباره في هذه الأشياء. وكذلك لو طلق امرأته على مال على وجه الهزل أو أعتق جاريته على مال على وجه الهزل وقد تواضعا قبل ذلك أنه هزل وقع الطلاق والعتاق ووجب المال وهذا عندنا قول أبي يوسف ومحمد أما عند أبي حنيفة رحمه الله فيتوقف وقوع الطلاق والعتاق على وجود الإجازة من المرأة والعبد لما بينا أن الهزل بمنزلة شرط الخيار. وعند أبي حنيفة شرط الخيار في جانب المرأة والعبد يمنع وقوع الطلاق والعتاق ووجوب المال قبل إسقاط الخيار لأن الذي في جانبهما مال فيعتبر بالعقد الذي هو مبادلة مال بمال وعندهما شرط الخيار لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق أو هو المقصود بالعقد فأما المال فتبع فيه وثبوت التبع بثبوت الأصل فكذلك الهزل والإجارة والقسمة والكتابة بمنزلة البيع في حكم التلجئة لأن هذه العقود محتملة للنقض بعد وقوعها كالبيع.
ولو تواضعا على أن يجيزا أنهما تبايعا هذا العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدي يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع لأن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالاخبار به لا يصير حقا, ولو أجمعا على إجازته بعد ذلك لم يكن بيعا لأن الإجازة إنما تلحق العقد المنعقد وبالإقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه الإجازة.(24/229)
الا ترى أنهما لو صنعا مثل ذلك في طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا, وكذلك لو أقر بشيء من ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا فيما بينه وبين ربه وإن كان القاضي لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر طائعا وقد بينا الفرق بين الإقرار والإنشاء في هذه التصرفات مع الإكراه فكذلك مع التلجئة. ولو كان قبض العبد الذي قال فيه ما قال فأعتقه ثم قامت البينة على ما كانا قالا في السر من المواضعة على الإقرار بطل العتق ورد العبد على مولاه لأنه ثبت أن إقرارهما كان كذبا وأن إعتاقه حصل في غير ملكه فكان لغوا.
ولو أن رجلا قال لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها أني أريد أن أتزوج فلانة على ألف درهم وتسمى ألفين والمهر ألف فقال الولي نعم افعل فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزا والصداق ألف درهم إذا تصادقا على ما قالا في السر أو قامت به البينة لأنهما قصدا الهزل بذكر أحد الألفين والمال مع الهزل لا يجب وصار ذكر أحد الألفين على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد في النكاح لا يؤثر في أصل العقد ولا في الصداق وكذلك الطلاق على المال والعتاق عليه. قال في الكتاب وكذلك البيع وهذا الجواب في البيع قول أبي يوسف ومحمد وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله. وأما في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة فالبيع فاسد إذا تصادقا على أيهما شاء على تلك المواضعة لأن الألف التي(24/230)
ص -110- ... قصد الهزل بها يكون ذكرها شرطا فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد بخلاف النكاح وفي الرواية الأخرى ما قصد الهزل به فذكره والسكوت عنه سواء والبيع صحيح بدون ذكره. وإن تصادقا على الإعراض عن تلك المواضعة كان البيع بينهما بألفين وإن تصادقا على أنه لم يحضرهما نية فعند أبي حنيفة في إحدى الروايتين البيع بينهما بألفين لما ذكرنا في المواضعة على أصل البيع وهذا لأن تصحيح العقد غير ممكن إلا بجميع المسمى فيه وعند الإطلاق يجب المضي إلى تصحيح العقد وعندهما البيع منهما بألف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة, وإن اختلفا في البناء فعند أبي حنيفة البيع بينهما بألفين, وعندهما على قياس المواضعة في أصل البيع.
ولو قال المهر مائة دينار ولكنا نسمع بعشرة آلاف درهم وأشهدوا عليه ثم تزوجها في الظاهر على عشرة آلاف درهم كان النكاح جائزا بمهر مثلها كأنه تزوجها على غير مهر لأنهما قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا بينهما ثم يذكر أنه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار كأنه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف الأول فهناك قد سميا في العقد ما تواضعا على أن يكون مهرا وزيادة لأن في تسمية الألفين تسمية الألف. وكذلك لو قالا في السر على أن يكون النكاح على مائة دينار وتزوجها في العلانية ولم يسم لها مهرا فلها مهر المثل لما قلنا. وإن قالا عند العقد عقدنا على ما تراضينا به من المهر فالنكاح جائز على مائة دينار لأن هذه الإضافة بمنزلة التسمية منهما لما تواضعا عليه من الدنانير وأكثر ما فيه أن الشهود لم يسمعوا ما سميا من مقدار المهر ولكن سماع الشهود التسمية ليس بشرط لصحتها.(24/231)
ولو كان هذا في البيع فقالوا البيع على مائة دينار إلا أنا نظهر بيعا بخمسة آلاف درهم فالبيع جائز بخمسة آلاف درهم وما تواضعا عليه باطل وهذا استحسان, وفي القياس البيع باطل لأنهما قصدا الهزل بما سميا ولم يذكرا في العقد ما تواضعا على أن يكون ثمنا بينهما فبقي البيع بينهما بغير ثمن ووجه الاستحسان أن البيع لا يصح إلا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل البيع هنا فلا بد من تصحيحه ولا وجه لذلك إلا أن يعقد بالمسمى فيه من البدل بخلاف النكاح فهناك اعمال الهزل في المسمى مع تصحيح أصل العقد ممكن لأن النكاح لا تتوقف صحته على تسمية البدل.
يوضح الفرق أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع يكون مبطلا الأول بالثاني فإنهما لو تبايعا بمائة دينار ثم تبايعا بخمسة آلاف درهم كان البيع الثاني مبطلا للأول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه فيكون مبطلا للمواضعة وأما في النكاح فالعقد بعد العقد لا يكون مبطلا فإنه لو تزوجها بمائة دينار ثم جدد العقد بعشرة آلاف درهم لم يصح الثاني فكذلك تسمية الدراهم في العقد بعد ما تواضعا على أن يكون الصداق دنانير يمنع وجوب الدراهم فيكون لها مهر مثلها وكل ما يحتمل النقض لا يصح إلا بتسمية(24/232)
ص -111- ... البدل كالقسمة والإجارة والكتابة في ذلك قياس البيع. وكذلك هذا في الخلع والطلاق والعتاق بجعل لأن البدل في هذه العقود لا يجب بدون التسمية فلو أعملنا الهزل في المسمى لوقع الطلاق والعتاق بغير جعل ولم يوجد منهما الرضا بذلك فلهذا صححنا ذلك بالمسمى فيه بخلاف النكاح فهناك وإن جعلنا ما سميا في العقد هزلا انعقد النكاح بينهما مواضعة بمهر المثل فلهذا اعتبرنا المواضعة في المنع من وجوب المسمى في العقد. يوضحه أن في الطلاق بجعل لا بد من وقوع أصل الطلاق لقصدهما الجد فيه فلو لم يجب ما سمينا من البدل فيه كان الطلاق رجعيا ولا وجه لذلك مع وجود تسمية البدل فلهذا أوجبنا المال عليها وجعلنا الطلاق ثابتا.
ولو كانوا عقدوا البيع أو الطلاق أو العتاق أو النكاح أو الإجارة على ما كانوا تواضعوا عليه في السر ثم أظهروا شيئا غير ذلك وادعى أحدهم السر وأقام عليه البينة وادعى الآخر العلانية وأقام عليها البينة أخذ بالعلانية وأبطل السر لأن نية العلانية دافعة لدعوى مدعي السر فإنها تثبت إقدامه في العلانية على ما شهدت به وذلك يمنع منه دعوى شيء آخر بخلافه في السر أو يجعل هذا الثاني ناسخا للأول عند المعارضة لأن البينة لا توجب شيئا بدون القضاء إلا أن يشهد الشهود أنهم قالوا في السر إنا نشهد بذلك في العلانية بسمعه فإن شهدوا بذلك على الولي الذي زوج أو على المرأة أو على الذي ولى ما ادعى من العلانية أخذت بينة أصحاب السر وأبطلت العلانية لأن الثابت بالبينة كالثابت بالعلانية أو باتفاق الخصوم وبهذه البينة تثبت أن الإشهاد في العلانية كان تحقيقا لما كان بينهما في السر لا فسخا لذلك بخلاف الأول.(24/233)
وذكر عن الشعبي رحمه الله قال إذا كان مهر سر ومهر علانية أخذنا بالعلانية إلا أن تقوم بينة أنه أعلم ذلك وأن المهر هو الذي في السر وبهذا نأخذ. ولو قال في السر إنا نريد أن نظهر بيعا علانية وهو بيع تلجئة وباطل ثم أن أحدهما قال علانية وصاحبه حاضر إنا قد قلنا كذا وكذا في السر وقد بدا لي أن أجعله بيعا صحيحا وصاحبه يسمع ذلك ولم يقل شيئا ثم تبايعا فالبيع جائز لأن تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما ينفرد أحدهما بإبطالها ثم إقدام الآخر على العقد معه بعد ما سمع منه إبطال تلك المواضعة يكون رضا منه بصحة البيع فإنما تم البيع بينهما بتراضيهما. ولو لم يكن سمع ذلك من صاحبه ولم يبلغه كان البيع فاسدا لانعدام الرضا من الآخر بصحة البيع ولزومه حين لم يعلم بمناقضة صاحب المواضعة فإن قبضه المشتري على ذلك وأعتقه. فإن كان الذي قال ذلك القول البائع فالبيع جائز لأن البائع صار راضيا بلزوم العقد حين أبطل المواضعة والمشتري صار راضيا بذلك حين أعتقه فيتم البيع وعلى المشتري الثمن وهو بمنزلة ما لو شرطا الخيار لهما ثم أسقط البائع خياره وأعتق المشتري العبد. وإن كان المشتري قاله لم يجز العتق لأن البائع لما لم يظهر منه ما يدل على الرضا بالعقد كان خياره باقيا وبقاء الخيار للبائع يمنع نفوذ عتق المشتري, فإن أجاز البائع(24/234)
ص -112- ... البيع جاز البيع ولا يجوز العتق الذي كان قبل ذلك من المشتري لأنه سبق ملكه فلا ينفذ وإن حدث له الملك من بعد. وإن بلغ الذي لم يقل مقالة صاحبه بعد أن تبايعا فرضي بالبيع فالبيع جائز لأن صاحبه بنقض المواضعة صار راضيا والآخر بالرضا بعد ما بلغه مقالة صاحبه صار راضيا أيضا وإن لم يرض حتى نقض صاحبه البيع فإن كانا لم يتقابضا فنقضه جائز وهو نظير ما تقدم في البيع الفاسد قبل القبض لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ وبعد القبض للذي المفسد من قبله أن ينفرد بالفسخ وليس للآخر ذلك فهذا قياسه. وإن كان المشتري قد قبض فإن كان البائع هو الذي قال ذلك القول فليس له أن ينقض والأمر إلى المشتري لأن رضا البائع قد تم وإنما بقي المفسد في جانب المشتري لما بينا أن المواضعة بمنزلة شرط الخيار أبدا. وإن كان المشتري هو الذي قال ذلك القول فالأمر إلى البائع إن شاء نقض وإن شاء سلم المبيع وليس إلى المشتري من النقض شيء لأن الرضا قد تم منه. فإن كان البائع والمشتري قالا في السر نريد أن نظهر بيعا هزلا وباطلا, ونظهر أنه غير هزل ولا باطل ونظهر مع ذلك أنا إن كنا جعلنا في السر هزلا فقد أبطلنا ذلك وجعلناه جدا جائزا وأشهدا على أنفسهما بذلك ثم قالا علانية قد أبطلنا كل هزل في هذا البيع ونحن نجعله بيعا صحيحا فتبايعا على هذا وادعى أحدهما جواز البيع بينهما فالبيع جائز باعتبار الظاهر فإنه شاهد لمن يدعي جوازه إلا أن يقيم الآخر البينة على ما كانا قالا في السر من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وما كان منهما في العلانية من إبطال كل هزل تحقيق لما كانا تواضعا عليه في السر لا إبطال له فلهذا كان البيع بينهما باطلا، وإن كانا قالا في العلانية إنا قلنا في السر نريد أن نتبايع في العلانية بيعا باطلا هزلا وقد أبطلنا ذلك فقال صاحبه صدقت ثم تبايعا فالبيع باطل إذا قامت البينة على ما كانا قالا في السر لما بينا أن هذا الإبطال(24/235)
تحقيق منهما للمضي على تلك المواضعة فلا يتغير به الحكم إلا أن يقول أحدهما بمحضر من صاحبه وهو يسمع أنا كنا قلنا في السر أنا نتبايع بيعا هزلا وقلنا في السر أيضا أنا نظهر في العلانية أنا قد أبطلنا كل قول قلناه في السر من هذا وإنا قد أبطلنا جميع ما قلنا في السر من هذا وإنا بعنا بيعا صحيحا فإذا قالا هذا أو قال أحدهما والآخر يسمع فالبيع جائز لا يقدر أحدهما على أن يبطله لأنهما وضعا جميع ما كانا قالا في السر ثم أبطلا جميع ذلك وهذا النوع من الإبطال ليس يمضي على موافقة ما تواضعا عليه بل هو إبطال لذلك وتلك المواضعة ما كانت لازمة فتبطل بإبطالهما. فأما إذا وضعا إبطال ما قالا في البيع خاصة وأبطلا ذلك فهذا مضي منهما على موافقة ما تواضعا عليه وذلك مبطل للبيع لا مصحح له والله أعلم.
باب العهدة في الإكراه
قال رحمه الله: "ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف أو سجن على أن يبيع متاع اللص من هذا الرجل بألف درهم فباعه والمشتري غير مكره فالبيع جائز"لأن البيع مع الإكراه منعقد والمالك راض بنفوذه والمشتري راض به أيضا والثمن للص على المشتري ولا عهدة على(24/236)
ص -113- ... البائع لأنه غير راض بالتزام العهدة حين كان مكرها على ذلك وعهدة البيع لا تلزمه بغير رضاه فإذا تعذر إيجاب العهدة على العاقد كانت العهدة على المنتفع بالعقد وهو المالك كما لو أمر عبدا محجورا عليه أو صبيا ببيع متاعه فباعه كانت العهدة على الآمر. فإذا طلب البائع الثمن من المشتري بعد ذلك بغير إكراه فله أن يقبضه وعلى المشتري دفعه إليه وتكون عهدته عليه, لأن امتناع وجوب العهدة عليه لعدم الرضا منه بذلك. فإذا وجد منه ما يدل على الرضا فقد زال المانع بمنزلة ما لو كان الوكيل بالبيع عبدا محجورا عليه فأعتق كان له أن يقبض الثمن والعهدة عليه لزوال المانع.
ولو كان أكره رجلا على أن يشتري له متاعا بألف درهم من رجل فاشتراه كان الثمن على المكره الراضي بذلك كما لو وكل صبيا أو عبدا محجورا عليه بالشراء له فإن طلب المشتري المتاع من البائع فقبضه بغير إكراه فله ذلك وعليه الثمن ويرجع به على الآمر لوجود دليل الرضا منه بالتزام العهدة حين طالبه بتسليم المبيع طائعا فإن بدا له أن يأخذه بعد ذلك فقد وجب عليه الثمن حين طلبه بغير إكراه لأن دليل الرضا كصريح الرضا وبعد ما لزمته العهدة برضاه لا يكون له أن يأبى كما لو كان راضيا به في الابتداء.(24/237)
ولو أن رجلا باع عبدا من رجل فلم يقبض الثمن حتى أكرهه لص على دفعه إلى المشتري بوعيد تلف أو سجن فدفعه كان له أن يرتجعه حتى يأخذ الثمن لأن الإكراه يعدم الرضا منه بالقبض فكأن المشتري قبضه بغير رضاه ولأن إسقاط حقه في الحبس بمنزلة الإبراء عن الثمن فكما أن الإكراه يمنع صحة الإبراء عن الثمن فكذلك يمنع سقوط حقه في الحبس. وكذلك لو كان المشتري باعه أو وهبه كان للبائع أن ينقضه ويرتجع العبد بمنزلة ما لو قبضه بغير تسليم منه وتصرف فيه وهذا لأن البيع والهبة يحتملان النقض فينتقض لقيام حق البائع في الحبس. وكذلك لو أكره المرتهن على أن يرد الرهن إلى الراهن ويناقضه الرهن ففعل ذلك وباعه الراهن أو وهبه وسلمه كان للمرتهن أن ينقض جميع ذلك لأنه مكره على إسقاط حقه في حبس الرهن ومع الإكراه لا يسقط حقه في الحبس فكان له أن يعيده كما كان وأن يبطل تصرف الراهن فيه كما لو تصرف قبل استرداده من المرتهن والله أعلم.
باب ما يخطر على بال المكره من غير ما أكره عليه
قال رحمه الله: "وإذا أكره الرجل على الكفر بالله تعالى فقال قد كفرت بالله وقلبه مطمئن بالإيمان لم تبن منه امرأته استحسانا" وقد بينا ثم المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقول قد خطر على بالي أن أقول لهم قد كفرت بالله أريد به الخبر عما مضى فقلت ذلك أريد به الخبر والكذب ولم أكن فعلت ذلك فيما مضى وهذا مخرج له صحيح فيما بينه وبين ربه ولا يسعه إلا ذلك إذا خطر بباله لأن الإنشاء جناية صورة من حيث تبديل الصدق باللسان. وإن لم يكن جناية معنى لطمأنينة القلب بالإيمان والإخبار لا يكون جناية صورة ولا معنى فعليه أن ينوي ذلك إذا خطر بباله ولكن لا يظهره للناس, فإن أظهر هذا(24/238)
ص -114- ... المراد للناس بانت منه امرأته في الحكم وإن لم تبن فيما بينه وبين الله تعالى لأنه أقر أنه أتى بغير ما أكره عليه فقد أكره على الإنشاء وإنما أتى بالإقرار فكان طائعا في هذا الإقرار ومن أقر بالكفر طائعا بانت منه امرأته في الحكم وفيما بينه وبين ربه لا تبين منه.
والثاني: أن يقول خطر على بالي ذلك ثم قلت قد كفرت بالله أريد به ما طلب مني المكره ولم أرد به الخبر عن الماضي فهذا كافر تبين منه امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه بعد ما خطر هذا بباله قد يمكن من الخروج عما ابتلى به بأن ينوي غير ذلك والضرورة تنعدم بهذا التمكن فإذا لم يفعل وأنشأ الكفر كان بمنزلة من أجرى كلمة الشرك طائعا على قصد الاستحقاق. أو لا على قصده ولكن مع علمه أنه كفر وفي هذا تبين منه امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى فينبغي أن يتوب عن ذلك.
والثالث: أن يقول لم يخطر ببالي شيء ولكني كفرت بالله كفرا مستقبلا وقلبي مطمئن بالإيمان فلا تبين منه امرأته استحسانا لأنه لما لم يخطر بباله سوى ما أكره عليه. كانت الضرورة متحققة ومتى تحققت الضرورة يرخص له إجراء كلمة الشرك مع طمأنينة القلب بالإيمان.
وكذلك لو أكره على أن يصلي لهذا الصليب ومعناه يسجد لهذا الصليب فإن لم يخطر بباله شيء لم تبن امرأته منه وإن خطر بباله أن يصلي لله وهو مستقبل القبلة أو غير مستقبل القبلة ينبغي أن يقصد ذلك لأن الصلاة غير مستقبل القبلة تجوز عند الضرورة والأعمال بالنيات. فإن ترك هذا بعد ما خطر بباله فصلى يريد الصلاة للصليب كما أكره عليه كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته لأنه بعد ما خطر بباله قد وجد المخرج عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا, وهذه المسألة تدل على أن السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر.(24/239)
وكذلك لو أكره على شتم محمد عليه الصلاة والسلام فإن أجابهم إلى ذلك ولم يخطر بباله شيء لم تبن منه امرأته وإن خطر على باله رجل من النصارى. يقال له محمد فإن شتم محمدا ويريد به ذلك الرجل فلا تبين منه امرأته وقد أظرف في هذه العبارة حيث لم يقل خطر بباله رجل من المسلمين يقال له محمد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال رجل من النصارى لأن الشتم في حق النصارى أهون منه في حق المسلمين, فإن ترك ما خطر بباله وشتم محمدا صلى الله عليه وسلم وقلبه كاره لذلك كان كافرا وتبين منه امرأته لأنه بعد ما خطر بباله قد وجد مخرجا عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا فإن شتم النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع الضرورة كفر وكراهته بقلبه لا تنفع شيئا.
ولو أكره بوعيد تلف على أن يعتق عبده فخطر على باله أن يقول هو حر يريد الخبر والكذب وسعه أن يمسكه فيما بينه وبين الله تعالى لما بينا أن المخبر به إذا كان باطلا فبالإخبار لا يصير حقا ولكن إن ظهر ذلك للقاضي أعتقه عليه لإقراره به أي بغير ما أكره عليه فإنه أكره على إنشاء العتق والإقرار غير الإنشاء ومن أقر بحرية مملوكه طائعا يعتق عليه(24/240)
ص -115- ... في القضاء ولا يضمن المكره له شيئا لأنه حين أقر أنه أنى بغير ما أكره عليه فقد صار مغريا المكره على الضمان.
الا ترى أنه لو بين لهم ذلك وقال كيف تكرهونني على العتق وهو حر الأصل أو قد أعتقته أمس أعتقه القاضي ولم يضمن له المكره شيئا ولو قال خطر ذلك على بالي فقلت هو حر أريد به عتقا مستقبلا كان حرا في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وضمن الذي أكرهه قيمته لأن الذي خطر على باله لو فعله عتق به في القضاء أيضا فإتلاف المالية بفعل المكره في القضاء متحقق وسواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد كان الإتلاف في القضاء مضافا إلى المكره فعليه قيمته ثم قد أنشأ عتقا مستقبلا وذلك يجعل المملوك حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى سواء كان مكرها أولم يكن مكرها.
الا ترى أنه لو لم يخطر بباله شيء ولكن أتى بما أكره عليه كان حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ويضمن المكره قيمته فكذلك ما سبق. فإن قال المكره قد خطر على باله الخبر بالكذب فقال هو حر يريد به الخبر الكذب فأنا أريد يمينه على ذلك كان له أن يستحلف عليه لأنه ادعى ما لو أقر به كان مكرها إياه ولا يكون له أن يضمن المكره بعده فإذا أنكره كان له أن يستحلف لرجاء نكوله.(24/241)
وكذلك لو أكره على طلاق امرأته ولم يدخل بها فقال هي طالق ثم قال بعد ذلك أردت الخبر بالكذب أو أنها طالق عن وثاق أو قيد وسعه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فهي بائن منه ولا ضمان على المكره لإقراره أنه أتى بغير ما أكره عليه وأنه كان طائعا فيما قاله بناء على قصده, وإن كان قال قد كان خطر ببالي أن أقول هي طالق أريد الخبر أو أنها طالق من وثاق أو قيد فلم أقل ذلك وقلت هي طالق أريد طلاقا مستقبلا كانت طالقا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ولها على الزوج نصف المهر ويرجع على الذي أكرهه لأن الإتلاف مضاف إلى المكره في القضاء سواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد فهو وما لم يخطر بباله شيء في الحكم سواء, وإن قال المكره إنما قال ذلك يريد الخبر بالكذب أو طلاقا من قيد فطلب يمينه على ذلك استحلف له عليه لرجاء نكوله فإنه لو أقر بذلك يسقط حقه في تضمين المكره.
باب زيادة المكره على ما أمر به
قال رحمه الله: "ولو أكره رجل رجلا بوعيد تلف على أن يطلق امرأته واحدة ولم يدخل بها فقال هي طالق ثلاثا فلا ضمان على المكره"لأنه أتى بغير ما أكره عليه أما من حيث الصورة فلا إشكال وأما من حيث الحكم فلأن زوال الملك بالثلاث لانتفاء صفة الحل عن المحل وأما بواحدة فتحصل إزالة الملك مع بقاء الحل في المحل وهما غيران فكان هو طائعا فيما أتى به ولأن ما زاد مما لم يكرهوه عليه يبينها لو لم يكن غيره لأنه زاد اثنتين وهما كافيتان في البينونة وتأكد نصف الصداق بينهما قبل الدخول. وكذلك لو طلقها اثنتين أو قيل(24/242)
ص -116- ... له طلقها اثنتين وطلقها ثلاثا ولو قال طلقها ثلاثا فطلقها واحدة رجع عليه بنصف الصداق الذي غرم لأن ما أتى به بعض ما أكره عليه فيكون مكرها على ذلك والتلف الحاصل به يصير منسوبا إلى المكره.
الا ترى أن المأمور بإيقاع الثلاث إذا أوقع الواحدة تقع والمأمور بإيقاع الواحدة إذا أوقع الثلاث لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله ولو أكره على أن يضرب هذا بهذه الحديدة فيقطع يده ففعل المكره ذلك ثم ثنى فقطع رجله من غير إكراه فمات من ذلك كله فعليهما القود لأنه في الفعل الأول صار آلة للمكره فكأن المكره فعل ذلك بنفسه وهو في الفعل الثاني طائع والقصاص يجب على المثنى بقتل الواحد.
ولو كان أكره على أن يضربه بعصا ففعل ثم ضربه ضربة أخرى بعصا بغير إكراه أو أكرهه على أن يضربه مائة سوط فضربه مائة وعشرة فمات من ذلك فعلى عاقلة الآمر نصف الدية في ثلاث سنين وعلى عاقلة الضارب كذلك لأنه آلة في الفعل الذي أكره عليه فكأن المكره فعل ذلك بنفسه ولو قتل رجلان رجلا بالعصا والسوط يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف الدية في ثلاث سنين. فإن كان قطع يده بالسيف مكرها ثم ضربه بغير إكراه خمسين سوطا فمات فنصف الدية في مال الآمر في ثلاث سنين لأنه آلة في الفعل الأول فكأن المكره فعله بنفسه إلا أنه اجتمع في المحل الفعل الموجب للقود وغير الموجب فسقط القود بالشبهة ويكون نصف الدية في مال الآمر في ثلاث سنين لأن فعله عمد محض ونصف الدية على عاقلة الضارب في ثلاث سنين لأن فعله الضرب بالسوط وهو بمنزلة الخطأ ولو كان أكرهه على ذلك بالحبس كان ذلك كله على الفاعل لأن الإكراه بالحبس لا يجعل المكره آلة ولا يوجب نسبة الفعل إلى المكره.
ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق نصف عبده فأعتقه كله فلا شيء على الذي أكرهه في قياس قول أبي حنيفة لأن العتق عنده يتجزأ وما أتى به غير ما أكره عليه فلا يصير الإتلاف به منسوبا إلى المكره.(24/243)
الا ترى أن على أصله لو أمر رجلا أن يعتق نصف عبده فأعتقه كله كان باطلا؟ وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المكره ضامن لقيمة العبد لأن عندهما العتق لا يتجزأ فالإكراه على إعتاق النصف بمنزلة الإكراه على إعتاق الكل.
ولو أكرهه على أن يعتق كله فأعتق نصفه فكذلك عندهما لأن إعتاق النصف كإعتاق الكل. فأما في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله فالعتق يتجزأ فيستسعي العبد في نصف قيمته لمولاه بمنزلة ما لو كان أعتق نصف عبده طائعا ويرجع المولى على المكره بنصف قيمته لأنه أتى ببعض ما أكره عليه فكان حكم الإكراه ثابتا فيما أتى به.
الا ترى أن المأمور بإعتاق العبد لو أعتق نصفه نفذ, فإن نوى ما على العبد من نصف القيمة كان للمولى أن يرجع به أيضا على المكره ويرجع المكره به على العبد فيكون الولاء(24/244)
ص -117- ... بينهما نصفين لأن المكره صار كالمعتق لذلك النصف وإعتاق النصف إفساد لملكه في النصف الآخر من حيث أنه يتعذر عليه استدامة الملك فيه فيكون ضامنا له قيمة النصف الآخر ثم يرجع به على العبد لأنه يملك ذلك النصف بالضمان فيستسعيه فيه ويكون الولاء بينهما نصفين لأن هذا النصف عتق على ملك المكره بأداء السعاية إليه قالوا وينبغي أن يكون هذا الجواب فيما إذا كان المكره موسرا على قياس ضمان المعتق.
ولو أن مريضا أكرهت امرأته بوعيد تلف أو حبس حتى تسأله أن يطلقها تطليقة بائنة فسألته ذلك فطلقها كما سألت ثم مات وهي في العدة ورثته لأن سؤالها مع الإكراه باطل فإن تأثير سؤالها في الرضا منها بالفرقة وإسقاط حقها من الميراث وذلك مع الإكراه لا يتحقق ولو سألته تطليقتين بائنتين ففعل ثم مات وهي في العدة لم ترثه لأنها سألته غير ما أكرهت عليه ولأن ما زادت من عندها كاف لإسقاط حقها في الميراث.
الا ترى أنها لو سألت زوجها أن يطلقها تطليقة بائنة فطلقها تطليقتين بائنتين ثم مات وهي في العدة لم ترثه للمعنيين اللذين أشرنا إليهما.
الا ترى أنه لو لم يدخل بامرأته حتى جعل أمرها بيد رجل يطلقها تطليقة إذا شاء وأكره بوعيد تلف على أن جعل في يد ذلك الرجل تطليقة أخرى ففعل فطلقها الرجل التطليقتين جميعا لم يرجع الزوج على المكره بشيء من المهر لأن ما جعله في هذه طائعا كاف لتقرير الصداق به ولا رجوع على المكره بشيء من المهر وكذلك لو طلقها التطليقة التي جعلها الزوج إليه بغير إكراه ولو كان طلقها التطليقة التي أكره الزوج عليها دون الأخرى رجع الزوج على المكره بنصف المهر لأن تقرر نصف الصداق عليه كان باعتبار ما أكره عليه.(24/245)
الا ترى أنه لو قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق تطليقة إذا شئت ثم أكره بعد ذلك أو قبله على أن يقول لها أنت طالق تطليقة إذا شئت فقال لها ذلك فطلقت نفسها التطليقتين جميعا غرم لها الزوج نصف المهر ولم يرجع على المكره بشيء. ولو طلقت نفسها التطليقة التي أكرهه عليها خاصة وثبت ذلك رجع الزوج بنصف المهر على المكره للمعنى الذي بينا ولو كانت هي المسلطة فأكرهته على أن يطلقها بوعيد تلف ففعل لم يكن لها عليه شيء من المهر لأن الإتلاف منسوب إليها للإلجاء فكأن الفرقة وقعت من جهتها قبل الدخول.
ولو كانت أكرهته بالحبس أخذته بنصف الصداق لأن الإتلاف لا يصير منسوبا إليها بهذا النوع من الإكراه فبقيت الفرقة منسوبة إلى الزوج قبل الدخول فيلزمه نصف الصداق لها. ولو أكره رجل الزوج بوعيد تلف على أن يطلقها واحدة بألف درهم فطلقها ثلاثا كل واحدة بألف فقبلت جميع ذلك طلقت ثلاثا ووجب لها عليه ثلاثة آلاف درهم ولها عليه نصف مهرها لوقوع الفرقة قبل الدخول لا بسبب مضاف إليها ولم يرجع على المكره بشيء وإن كان نصف المهر أكثر من ثلاثة آلاف درهم لأن ما زاد الزوج من عنده طائعا كاف في تقرير نصف الصداق عليه.(24/246)
ص -118- ... ولو أكرهه على أن يطلقها واحدة بألف ففعل وقبلت ذلك وجب له عليها ألف درهم ثم ينظر إلى نصف مهرها فإن كان أكثر من ألف درهم أدى الزوج إليها الفضل على ألف درهم ويرجع به على المكره إن كان أكرهه بوعيد تلف وهذا قول أبي يوسف ومحمد. فأما عند أبي حنيفة فلا شيء لها عليه وللزوج عليه الألف وهي مسألة الطلاق إذ الخلع يوجب براءة كل واحد من الزوجين عن صاحبه في الحقوق الواجبة بالنكاح وفي الكتاب ذكر قولهما ولم يذكر قول أبي حنيفة لأنه وضع المسألة في لفظ الطلاق وفيه شبهة اختلاف الروايات عن أبي حنيفة بخلاف لفظ الخلع على ما بينا في الطلاق ثم عندهما قد وجب له عليها ألف درهم بدل الطلاق ولها على الزوج نصف مهرها فتقع المقاصة ويؤدي الزوج إليها الفضل فيرجع به على الذي أكرهه إن كان أكرهه بوعيد تلف لأنه قرر عليه تلك الزيادة من غير عوض
ولو عتقت أمة لها زوج حر لم يدخل بها فأكرهت بوعيد تلف أو حبس على أن اختارت نفسها في مجلسها بطل الصداق كله عن زوجها ولا ضمان على المكره في ذلك لأنه أكرهها على استيفاء حقها فالشرع ملكها أمر نفسها حين عتقت, وليس في هذا الإكراه إبطال شيء عليها لأن المهر للمولى دونها ولو دخل بها الزوج ولأن ما كان بمقابلة المهر عاد إليها ولو كان قد دخل بها قبل ذلك كان الصداق لمولاها على الزوج ولم يرجع الزوج على المكره بشيء لأنه ما أكره الزوج على شيء ولأن الصداق قد تقرر عليه كله بالدخول وإنما أتلف المكره ملك البضع على الزوج وقد بينا أن ذلك لا يتقوم بالإكراه لأنه لا قيمة للبضع عند خروجه من ملك الزوج والله أعلم.
باب الخيار في الإكراه(24/247)
قال رحمه الله: "وإذا قال اللص الغالب لرجل لأقتلنك أو لتعتقن عبدك أو لتطلقن امرأتك هذه أيهما شئت ففعل المكره أحدهما ولم يدخل بالمرأة فما باشر نافذ"لأن الإكراه على كل واحد منهما بعينه لا يمنع نفوذه فكذلك الإكراه على أحدهما بغير عينه ويغرم المكره الأقل من نصف المهر ومن قيمة العبد لأنه إن التزم بمباشرته الأقل منهما فالإتلاف مضاف إلى المكره وإن التزم الأكثر فالضرورة إنما تحققت له في الأقل لأنه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه باختيار الأقل فيكون هو في التزام الزيادة على الأقل غير مضطر ورجوعه على المكره لسبب الاضطرار فيرجع بالأقل لذلك.
ولو كان الزوج دخل بها لم يغرم المكره له شيئا لأنه إن أوقع الطلاق فالمهر قد تقرر عليه بالدخول وإنما أتلف المكره عليه ملك البضع وذلك لا يضمن بالإكراه وإن أوقع العتق فقد كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه بإيقاع الطلاق فيكون هو في إيقاع العتق بمنزلة الرضا به أو غير مضطر إليه بمنزلة ما لو أكره عليه بحبس أو قيد وهناك لا يرجع على المكره بشيء وإن لم يدخل بالمرأة لانعدام الضرورة والإلجاء.
ولو قيل له لنقتلنك أو لتكفرن بالله أو نقتل هذا المسلم عمدا فإن كفر بالله تعالى وقلبه(24/248)
ص -119- ... مطمئن بالإيمان فهو في سعة ولا تبين امرأته منه لتحقق الضرورة في ذلك بسبب الإكراه فإنه لا يحل له قتل المسلم بحال فتتحقق الضرورة في إجراء كلمة الشرك كما لو أكره على ذلك بعينه, والأصل فيه ما روي أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أني رسول الله فقال: لا أدري ما تقول فقتله وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أني رسول الله فقال نعم فخلى سبيله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "أما الأول فقد آتاه الله تعالى أجره مرتين وأما الآخر فلا إثم عليه" ففي هذا دليل أنه يسعه ذلك عند الإكراه وأنه إن امتنع منه حتى قتل كان أعظم لأجره لأنه أظهر الصلابة في الدين ولأن إجراء كلمة الشرك جناية على الدين من حيث الصورة وإن لم تكن جناية معنى عند طمأنينة القلب بالإيمان والتحرز عن الجناية على الدين صورة ومعنى سبب لنيل الثواب ولا يحل له أن يقتل المسلم بحال لأنه لو أكره على ذلك بعينه لم يحل له أن يفعله فعند التردد بينه وبين غيره أولى، فإن قتل الرجل المسلم ففي القياس عليه القود لأنه كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه بإجراء كلمة الشرك على اللسان فلا يأثم به ولا تبين منه امرأته فإذا ترك ذلك وأقدم على القتل كان بمنزلة الطائع في ذلك ولما لم يتحقق الإلجاء فيه فيصير حكم القتل عليه بمنزلة ما لو أكره عليه بالحبس فيلزمه القود، ولكنه استحسن لإسقاط القود عنه إذ لم يكن عالما بأن الكفر يسعه في هذا الوجه لأن حرمة الشرك حرمة باتة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن يرخص له مع طمأنينة القلب بالإيمان فهو يتحرز مما هو حرام لأن هذه الرخصة سببها خفي قد يخفى على كثير من الناس فيصير جهله بذلك شبهة في إسقاط القود عنه ولكن يجب عليه الدية في ماله في ثلاث سنين لأن الضرورة لم تتحقق له في الإقدام على القتل(24/249)
فيكون فعل القتل مقصورا عليه وإن أسقطنا عنه القود للشبهة والمال يثبت مع الشبهات فتجب الدية في ماله ولكن الدية بنفس القتل تجب مؤجلة ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان عالما بأن الكفر يسعه وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه يلزمه القود لأنه لا يبقى له شبهة في الإقدام على القتل إذا كان عالما بأن الكفر يسعه فهو نظير المسلم إذا أكره على أكل الميتة ولحم الخنزير على ما بينه وهذه من جملة المسائل التي يضره العلم فيها ويخلص في جهله.
وفي هذا الكتاب من هذا الجنس خمس مسائل جمعناها في كتاب الوكالة. ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول وإن كان يعلم ذلك لا يلزمه القود لأنه بما صنع قصد مغايظة المشركين وإظهار الصلابة في الدين ويباح للإنسان أن يبذل نفسه وماله لما يكون فيه كبت وغيظ للمشركين فيقاتلهم وإن كان يعلم أنهم يقتلونه فإذا كان يحل له في نفسه ففي نفس الغير أولى وإن كان لا يحل له ذلك فيصير شبهة في درء القود عنه ولو قيل له لنقتلنك أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن هذا المسلم عمدا فينبغي له أن يأكل الميتة لما بينا أن حرمة الميتة تنكشف عند الضرورة وقد تحققت الضرورة هنا فالتحقت الميتة بالمباح من الطعام كما لو أكره عليه(24/250)
ص -120- ... بعينه فإن لم يأكل الميتة وقتل المسلم فعليه القود لأنه طائع في الإقدام على القتل حين تمكن من دفع البلاء عن نفسه بتناول الميتة وذلك مباح له عند الضرورة وليس في التحرز عن المباح إظهار الصلابة في الدين فلهذا لزمه القود وأشار إلى الفرق بين هذا وبين ما تقدم فقال:
ألا ترى أنه لو لم يكفر حتى قتل كان مأجورا ولو لم يأكل الميتة حتى قتل كان آثما إذا كان يعلم أنه يسعه ذلك وقد بينا في أول الكتاب قول أبي يوسف رحمه الله في أنه لا يأثم إذا امتنع من التناول عند الضرورة وأن الأصح ما ذكره في الكتاب من انكشاف الحرمة, ولو أكرهه في هذا بوعيد أو سجن أو قيد لم يسعه أن يكفر فإن فعل بانت منه امرأته لأن الضرورة لم تتحقق فإن شرب الخمر عند الإكراه بالحبس ففي القياس عليه الحد لأنه لا تأثير للإكراه بالحبس في الأفعال فوجوده كعدمه.
ألا ترى أن العطشان الذي لا يخاف على نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزمه الحد فالمكره بالحبس قياسه وفي الاستحسان لا حد عليه لأن الإكراه لو تحقق به الإلجاء صار شرب الخمر مباحا له فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك في الحر وفي الجارية المشتركة يصير شبهة في إسقاط الحد عنه بوطئها ولأن الإكراه بالحبس معتبر في بعض الأحكام غير معتبر في البعض وحد الخمر ضعيف ثبت باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على ما قال علي رضي الله عنه ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي من ذلك شيئا إلا حد الخمر فإنه ثبت بآرائنا فلهذا صار هذا القدر من الإكراه شبهة في إسقاط هذا الحد خاصة, وإن قتل المسلم قتل به في الوجوه كلها لأن الإكراه بالحبس لا أثر له في نسبة الفعل إلى المكره ولا في إباحة القتل فلا يصير الإكراه بالحبس شبهة في إسقاط القود عن القاتل.(24/251)
ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم عمدا أو تزني بهذه المرأة لم يسعه أن يصنع واحدا منهما حتى يقتل فإن صنع واحدا منهما فهو آثم لأن كل واحد من هذين الأمرين لا يحل له بالإكراه وإن أكره عليه بعينه فكذلك إذا أكره على أحدهما بغير عينه, فإن أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان مأجورا لأنه بذل نفسه في التحرز عن الحرام وقيل بالذي قتله لأنه قتله ظلما فعليه القود وإن زنا كما أمره ففي القياس عليه الحد. وفي الاستحسان عليه المهر. ومن أصحابنا من قال المراد بالقياس في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وبالاستحسان قوله الآخر كما بينا فيما إذا أكره على الزنى بعينه, والأصح أن هذا قياس واستحسان أجريناه على قوله الآخر, وجه القياس أنه إذا أقدم على قتل المسلم كان آلة في ذلك الفعل وكان الفعل منسوبا إلى غيره وهو المكره فلا يكون هو مؤاخذا بشيء من أحكامه.
وإذا أقدم على الزنى كان الفعل منسوبا إليه بحكمه فهو للإقدام على الزنى هنا مع تمكنه من دفع البلاء عن نفسه على وجه لا يصير مؤاخذا بشيء من أحكام الفعل بإن يقتل الرجل فيلزمه الحد بخلاف ما لو أكره على الزنى بعينه ووجه الاستحسان أن في هذه الحالة لا(24/252)
ص -121- ... يحل له الإقدام على قتل المسلم فهو أقدم على الزنى دفعا للقتل عن غيره ولو أقدم على الزنى دفعا للقتل عن نفسه بأن أكره عليه بعينه سقط عنه الحد ولزمه المهر فهذا مثله.
يوضحه أن الضرورة تحققت له في كل واحد من هذين الفعلين حين لم يسعه الإقدام على واحد منهما فيجعل في حق كل واحد منهما كأنه أكره عليه بعينه حتى لو قتل المسلم كان القود على المكره وكان المكره مستحقا للتعزير والحبس بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه فلذلك إذا أقدم على الزنى كان عليه الصداق وهذا عند الحد بمنزلة ما لو أكرهه عليه بعينه.
ألا ترى أنه لو أكرهه أن يقتل أحد هذين الرجلين عمدا كان القود على المكره إذا قتل أحدهما لأنه لما لم يسعه الإقدام على قتل واحد منهما صار في حق كل واحد منهما كأنه أكره على قتله بعينه. ولو أكرهه على ذلك بالحبس أخذ بحد الزنى إن زنا وبالقود إن قتل الرجل لأنه لا يسعه الإقدام على واحد من الفعلين بسبب الإكراه وإن تحققت الضرورة به فالإكراه بالحبس لا يكون مؤثرا في موجب واحد منهما كما لو أكره عليه بعينه.
ولو أكرهت المرأة على الزنى بحبس أو قيد درى ء عنها الحد لأنها لو أكرهت على ذلك بالقتل يسعها التمكين ولا تأثم فيه, فإذا أكرهت عليه بالحبس يصير شبهة في إسقاط الحد عنها بمنزلة شرب الخمر وإنما فرقنا بين جانب الرجل والمرأة في الإكراه بالقتل لأن الرجل مباشر لفعل الزنى مستعمل للآلة في ذلك وحرمة الزنى حرمة تامة فلا تنكشف عند الضرورة لحرمة القتل فأما المرأة فهي مفعول بها وليس من جهتها مباشرة للفعل إنما الذي منها التمكين وذلك بترك الامتناع إلا أن في غير حالة الضرورة لا يسعها ذلك لوجوب دفع المباشرة للزنا عن نفسها وذلك المعنى ينعدم عند تحقق الضرورة بالإكراه بالقتل فلا يأثم في ترك الامتناع كمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خوف الهلاك عن نفسه لا يكون آثما في ذلك.(24/253)
ولو قال له: لأقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم أو تأخذ ماله فتستهلكه وهو أكثر من الدية أو أقل فلا بأس بأن يأخذ المال أو يستهلكه ويكون ضمانه على المكره لأن الإلجاء قد تحقق ويباح إتلاف المال عند الإلجاء كما لو أكره عليه بعينه ويصير هو في ذلك آلة للمكره فضمانه على المكره. وإن قتل الرجل قتل به الذي ولي القتل لأنه لما أبيح له الإقدام على إتلاف المال ولا يلحقه بذلك إثم ولا ضمان كان هو غير مضطر في الإقدام على القتل فيكون بمنزلة الطائع فيلزمه القود وهو نظير ما تقدم من مسألة الميتة وشرب الخمر إلا أن هنا إن لم يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم في ذلك بخلاف مسألة الميتة لأن الحرمة هناك لحق الشرع وحالة الضرورة مستثناة من الحرمة شرعا وهنا بخلافه فإن تناول مال الغير واستهلاكه بغير رضاه ظلم في حق صاحب المال والظلم حرام إلا أن بسبب الضرورة يباح له الإتلاف شرعا مع بقاء حق الملك في المال فلهذا وجب الضمان له على المكره جبرانا لحقه فإذا امتنع من ذلك كان ممتنعا من الظلم فلا يأثم به.(24/254)
ص -122- ... ألا ترى أن المضطر إلى طعام الغير يسعه أن يأخذه بغير رضا صاحبه فإن أبى صاحبه أن يعطيه فلم يأخذ حتى مات لم يكن آثما في تركه لهذا المعنى فكذلك المكره.
ألا ترى أنه لو قيل له لنقتلنك أو لتدلنا على مالك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما فإذا كان لو قتل في دفعه عن مال نفسه لم يكن آثما فكذلك إذا امتنع عن استهلاك مال الغير حتى قتل. قال ولو أثم في هذا في ماله أو مال غيره ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل دون ماله فهو شهيد" وهذا حديث مشهور أشار إلى الاستدلال به من حيث أنه لو قتل دفعا عن مال نفسه أو عن مال غيره كان شهيدا فكيف لا يكون شهيدا في دفع ما لا يسعه الإقدام عليه فبهذا تبين أنه لا يأثم إذا امتنع من ذلك كله.(24/255)
وكذلك لو قال لأقتلنك أو لتطلقن امرأتك أو لتعتقن عبدك فلم يفعل حتى قتل لم يأثم لأنه بذل نفسه دفعا عن ملك محترم له فإن ملك النكاح محترم لملك المال وربما يكون الاحترام لملك النكاح أظهر فلا يكون هو آثما وإن كان يسعه الإقدام على كل واحد منهما لتحقق الضرورة. ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده عمدا وقيمته ألف درهم أو يستهلك ماله هذا وهو ألفا درهم فإن أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم لأن حرمة القتل لم تنكشف بالإكراه وحرمة المال قائمة مع الإكراه، وإن أبيح له الإقدام على استهلاكه للدفع عن نفسه فلا يكون آثما في الامتناع لأنه يمتنع من السفه في استهلاك المال وقتل النفس من السفه فإن استهلك ماله فقد أحسن وضمانه على المكره بالغا ما بلغ لأن الإلجاء قد تحقق فيكون فعله في إتلاف المال منسوبا إلى المكره وهو محسن فيما صنع لأنه جعل ماله دون نفسه وقال عليه الصلاة والسلام لواحد من أصحابه "اجعل مالك دون نفسك ونفسك دون دينك" فإن قتل العبد ولم يستهلك المال فهو آثم ولا شيء على المكره لأن الإلجاء لم يتحقق في القتل فإنه كان متمكنا من دفع الشر عن نفسه من غير مباشرة القتل فبقي فعله في القتل مقصورا عليه فليس له على المكره قود ولا قيمة.
ولو أكرهه بوعيد القتل على أن يقتل أحد عبديه هذين وأحدهما أقل قيمة من الآخر فقتل أحدهما عمدا كان له أن يقتل المكره لتحقق الإلجاء هنا فيما أقدم عليه من القتل فحكم القتل في العبد الذي هو قليل القيمة كهو في كثير القيمة وإذا تحقق الإلجاء صار القتل منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فإنه لا مساواة بين استهلاك المال والقتل وإنما يتحقق الإلجاء في الأدنى والأدنى استهلاك المال الذي يباح له الإقدام عليه عند الضرورة فبقي في قتل العبد مباشرا للفعل مختارا وهنا حرمة نفس العبدين سواء فيتحقق الإلجاء في حق كل واحد منهما.(24/256)
وكذلك لو أكرهه بوعيد القتل على أن يقطع يد نفسه أو يقتل عبده عمدا ففعل أحدهما كان له أن يقتص من المكره لأن إلجاء تناول كل واحد منهما بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه. فإن قيل لا كذلك فإنه يباح له الإقدام على قطع يد نفسه عند الإكراه ولا يباح له الإقدام(24/257)
ص -123- ... على قتل عبده فينبغي أن يجعل هذا نظير الفصل الأول. قلنا لا كذلك فالأطراف محترمة كالنفوس إلا أنه إذا أكره على قطع يد نفسه فباعتبار مقابلة طرفه بنفسه جوزنا له أن يختار أدنى الضررين وهذا المعنى لا يتحقق عند مقابلة طرفه بنفس عبده فالضرر عليه في قطع طرفه فوق الضرر في قتل عبده.
ألا ترى أنه لو خاف على عبده الهلاك لا يحل له أن يقطع يد نفسه ليتناوله العبد فبهذا تبين أن المساواة بينهما في الحرمة عند مقابلة أحدهما بالآخر فيتناول الإكراه كل واحد منهما.
ولو أكرهه على أن يضرب أحد عبديه مائة سوط ففعل ذلك بأحدهما فمات منه غرم المكره أقل القيمتين إن كان الذي بقي أقلهما قيمة لأن الواجب بهذا الفعل ضمان المالية في حق المولى وفيما يرجع إلى المالية الضرورة للمولى إنما تتحقق في الأقل فهو إذا أقدم على ضرب أكثرهما قيمة كان مختارا في الزيادة بمنزلة ما لو أكره على الهبة والتسليم في أحدهما بغير عينه بخلاف ما سبق فهناك موجب الفعل القود يستوي فيه قليل القيمة وكثير القيمة وهنا موجبه المال بطريق الجبران لما فات عن المولى وبينهما في المالية تفاوت وإنما تتحقق له الضرورة في أقلهما.(24/258)
ولو أكرهه في كله بوعيد حبس لم يكن على المكره شيء . ولو أكرهه على أن يأخذ مال هذا الرجل أو مال هذا الرجل فلا بأس أن يأخذ مال أحدهما لأن الإكراه قد تناولهما لاستوائهما في بقاء الحرمة والتقوم في حق كل واحد منهما كحق المالك وإن أبيح له الإقدام على الأخذ لدفع الهلاك عن نفسه وأحب إلينا أن يأخذ مال أغناهما عن ذلك لأن أخذ المال من صاحبه يلحق الهم والحزن به وذلك يتفاوت بتفاوت حال المأخوذ منه في الغنى فالأخذ من الفقير يلحق به هما عظيما لأنه لا يرجع إلى ملكه مثله بخلاف الأخذ من الغنى في مباسطة الشرع مع الأغنياء في المال الكثير منه مع الفقراء يعني به الزكاة وصدقة الفطر وضمان العتق والنفقة فلهذا يستحب له أن يأخذ مال أغناهما. فإن كانا في الغنى عنه سواء. قلنا خذ أقلهما لأن الضرورة تتحقق في الأقل وفي القليل من المال من التساهل بين الناس ما ليس في الكثير، وقيل: إن استويا في المقدار. قلنا خذ مال أحسنهما خلقا وأظهرهما جودا وسماحة لأن الهم والحزن بالأخذ منه يتفاوت بحسن خلقه وسوء خلقه وبخله وجوده فإن أخذه واستهلكه كما أمره غرمه الذي أكرهه لأن الإكراه لما تناوله صار الإتلاف منسوبا إلى المكره. وإن أخذ أكثرهما فاستهلكه غرم المكره مقدار أقلهما لأن الإتلاف إنما يصير منسوبا إلى المكره فيما تحقق الإلجاء فيه وهو الأقل ثم يغرم المستهلك الفضل لصاحب المال لأنه في الزيادة على الأقل لا ضرورة له في الاستهلاك فيقتصر حكم الاستهلاك عليه.
ولو أكرهه على أن يقتل عبد هذا الرجل عمدا أو يأخذ مال هذا الآخر أو مال صاحب العبد فيطرحه في مهلكة أو يعطيه إنسانا فلا بأس أن يعمل في المال ما أمره به لتحقق الضرورة فيه وغرمه بالغا ما بلغ على المكره لأن الإتلاف صار منسوبا إليه, وإن قتل العبد(24/259)
ص -124- ... فعلى القاتل القود لأن الإكراه لم يتناول القتل هنا إذ لا مساواة بين حرمة القتل وحرمة استهلاك المال وإذا تمكن من دفع البلاء عن نفسه بغير القتل كان هو في الإقدام على القتل طائعا فعليه القود وعلى المكره الأدب والحبس لارتكابه ما لا يحل. ولو كان إنما أمره أن يستهلك المال ويضرب العبد مائة سوط فلا بأس باستهلاك المال وضمانه على المكره ولا يحل له ضرب العبد لأن مثل هذا الضرب يخاف منه الهلاك فيكون بمنزلة القتل فإن ضربه فمات منه كانت قيمته على عاقلة الضارب ولا ضمان على المكره لأنه طائع في الإقدام على الضرب حتى يتمكن من التخليص بدونه على وجه لا يلحقه إثم ولا ضمان والقتل بالسوط يكون سببه العمد فيوجب القيمة على عاقلة الضارب. ولو كان العبد والمال للمكره لم يسعه ضرب عبده ولكنه يستهلك ماله ويرجع به على المكره. فإن ضرب عبده فمات لم يكن على المكره ضمان لأن المكره. لما كان يتخلص بدون الضرب كان هو في الإقدام على الضرب طائعا.
ومن قتل عبد نفسه طائعا لم يجب الضمان له على غيره. ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده هذا أو يقتل العبد الذي أكرهه أو يقتل ابنه أو قال أقتل عبدك هذا الآخر أو أقتل أباك لم يسعه أن يقتل عبده الذي أكرهه على قتله لأن الإكراه لم يتحقق هنا فالمكره من يخاف التلف على نفسه وهنا إنما هدده بقتل من سماه دون نفسه فلا يكون هو ملجأ به إلى الإقدام على القتل فإن قتل عند ذلك فلا شيء على المكره سوى الأدب لأنه لم يصر آلة للمكره حين لم يتحقق الإلجاء.
ألا ترى أنه لو قيل له لتقتلن ابنك أو لتقتلن هذا الرجل وهو لا يخاف منه سوى ذلك لم يسعه أن يقتل الرجل وإن قتله قتل به وكذلك لو أكرهوه على أن يستهلك مال هذا الرجل أو يقتلون أباه فاستهلكه ضمنه ولم يرجع به على المكره لأنه لم يصر ملجأ إلى هذا الفعل حتى لم يصر خائفا على نفسه ولأن قتل أبيه أو ابنه يلحق الهم والحزن به بمنزلة الحبس والقيد في نفسه.(24/260)
ولو أكره بالحبس على القتل أو استهلاك المال اقتصر حكم الفعل عليه كذلك ها هنا إلا أنه لا يأثم في ذلك الاستهلاك لأنه يجعل مال الغير وقاية لنفس ابنه وكما يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفسه يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفس ابنه أو لنفس أجنبي آخر.
ألا ترى أن المضطر الذي يخاف الهلاك إذا عجز عن أخذ طعام الغير وهناك من يقوى على أخذ ذلك منه وسعه أن يأخذه فيدفعه إلى المضطر فيأكله ويكون ضامنا لما يأخذه وهذا لأن فعله من باب الأمر بالمعروف فإنه يحق على صاحب الطعام شرعا دفع الهلاك عن المضطر فإذا امتنع من ذلك كان فعل الغير به ذلك من نوع الأمر بالمعروف فيسعه ذلك فكذلك في الاستهلاك للمال ولو لم يستهلكه حتى قتل الرجل أباه لم يكن عليه إثم إن شاء الله لأنه كان يلزمه غرمه إذا استهلكه فيكون له أن يمتنع من ذلك كما يكون للقوي في فصل المضطر أن يمتنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر.(24/261)
ص -125- ... ألا ترى أن حرمة أبيه في حقه لا تكون أعظم من حرمة نفسه وفي حق نفسه يسعه أن يمتنع من الاستهلاك حتى يقتل ففي حق أبيه أولى إلا أن يكون شيئا يسيرا فلا أحب له أن يترك استهلاكه ثم يغرم لصاحبه لأنه يحق عليه إحياء أبيه بالغرم اليسير يعني بالإنفاق عليه فكذلك في فصل الإكراه إذا كان شيئا يسيرا لا يستحب له أن يمتنع من التزام غرمه ويدع أباه يقتل وكذلك في الناس التحرز عن التزام القليل لإحياء أبيه يعد من العقوق والعقوق حرام وكذلك في مسألة المضطر المستحب للقوي أن لا يمتنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر لأن ذلك يسير لا يجحف به غرمه ولو كان بحيث يجحف به لم أر بأسا أن لا يأخذه.
ولو رأى رجلا يقتل رجلا وهو يقوى على منعه لم يسعه إلا أن يمنعه وإن كان يأتي ذلك على نفس الذي أراد قتل صاحبه بخلاف فضل المال لأن هذا لا يلتزم غرما بهذا الدفع وإن أتى على نفس القاصد فالقاصد باغ قد أبطل دمه بما صنع.
ألا ترى أنه إذا قصد قتله فقتله المقصود لم يلزمه شيء فكذلك إذا قصد قتل غيره فقتله هذا الذي يقوى عليه فأما في فضل المال القوي فيلتزم الغرم بما يأخذه لأن بسبب الضرورة للمضطر لا تسقط الحرمة والقيمة في حق صاحب المال فلهذا كان له أن يمتنع من ذلك. ولو انتهوا إلى بئر فيها ماء فمنع المضطر من الشرب منها فلم يقو عليهم وقوي صاحبه على قتالهم حتى يأخذ الماء فيسقيه إياه لم يسعه إلا ذلك وإن أتى على أنفسهم لأنهم ظالمون في منع المضطر حقه فحق السقيا في ماء البئر ثابت لكل أحد ولو قوي المضطر بنفسه على أن يقاتلهم بالسيف حتى يقتلهم ويخلوا بينه وبين الماء فكذلك من يقوى على ذلك من رفقائه.
ألا ترى أنه لا يلتزم غرما يفعله فهو نظير القاصد إلى قتل الغير فأما في الطعام والشراب الذي أحرزوه في أوعيتهم فلم يبق للغير فيه حق وإن اضطر إلى ذلك.
ألا ترى أنه لا يسعه أن يقاتلهم عليه إن منعوه فكذلك لغيره أن يمتنع من التزام الغرم بأخذه.(24/262)
ألا ترى أن الماء الذي في البئر لو باعوه منه لم يجز بخلاف ما لو أحرزوه في أوعيتهم ولو بذلوا له الطعام أو الشراب بثمن مثل ما يشترى به مثله فأبى أن يأخذه بذلك حتى مات وهو يقدر على ثمنه كان آثما في ذلك لأنه في معنى قاتل نفسه حين امتنع من تحصيل ما هو سبب لبقائه مع قدرته على ذلك وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ولأنه ملق نفسه في التهلكة بالامتناع من آداء الثمن عند عرضهم عليه إذا كان واجدا للثمن ولو قيل له لتشربن هذا الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن ابنك هذا أو أباك لم يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة لانعدام الضرورة.
ألا ترى أن هذا بمنزلة التهديد بالحبس في حقه كما قررنا. ولو قيل له لتقتلن ابنك هذا أو أباك أو لتبيعن عبدك هذا بألف درهم فباعه فالقياس أن البيع جائز لأنه ليس بمكره على البيع فالمكره من يهدد بشيء في نفسه, ولكنه استحسن فقال البيع باطل لأن البيع يعتمد(24/263)
ص -126- ... تمام الرضا وبما هدد به ينعدم رضاه فالإنسان لا يكون راضيا عادة بقتل أبيه أو ابنه ثم هذا يلحق الهم والحزن به فيكون بمنزلة الإكراه بالحبس والإكراه بالحبس يمنع نفوذ البيع والإقرار والهبة والعقود التي تحتمل الفسخ فكذلك الإكراه بقتل ابنه وكذلك التهديد بقتل ذي رحم محرم لأن القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في حكم الأحياء بدليل أنها توجب العتق عند الدخول في ملكه.
ولو قيل له: لنحبسن أباك في السجن أو لتبيعن هذا الرجل عبدك بألف درهم ففعل ففي القياس البيع جائز لما بينا أن هذا ليس بإكراه فإنه لم يهدد بشيء في نفسه وحبس ابنه في السجن لا يلحق ضررا به والتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته وكذلك في حق كل ذي رحم محرم, وفي الاستحسان ذلك إكراه كله ولا ينفذ شيء من هذه التصرفات لأن حبس ابنه يلحق به من الحزن ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر فالولد إذا كان بارا يسعى في تخليص أبيه من السجن وإن كان يعلم أنه يحبس وربما يدخل السجن مختارا ويحبس مكان أبيه, ليخرج أبوه فكما أن التهديد بالحبس في حقه بعدم تمام الرضا فكذلك التهديد بحبس أبيه والله أعلم.
باب الإكراه فيما يوجب لله عليه أن يؤديه
قال رحمه الله: "وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يكفر يمينا قد حنث فيها فكفر بعتق أو صدقة أو كسوة أجزأه ذلك ولم يرجع على المكره بشيء"لأنه أمره بإسقاط ما هو واجب عليه شرعا وذلك من باب الحسبة فلا يكون موجبا للضمان على المكره وكأنه يعوضه ما جبره عليه من التكفير بسقوط التبعة عنه في الآخرة وأما الجواز عن الكفارة فلأن الفعل في التكفير مقصور عليه لما لم يرجع على المكره بشيء ومجرد الخوف لا يمنع جواز التكفير.(24/264)
ألا ترى أن كل مكفر يقدم على التكفير خوفا من العذاب ولا يمنع ذلك جوازه, ولو أكرهه على أن يعتق عبده هذا عنها ففعل لم يجزه لأن المستحق عليه شرعا الكفالة لا إبطال الملك في هذا العبد بعينه فالمكره في إكراهه على إعتاق هذا العبد بعينه ظالم فيصير فعله في الإتلاف منسوبا إلى المكره ويجب عليه ضمان قيمته وإذا لزمه قيمته لم يجز عن الكفارة لانعدام التكفير في حق المكره حين صار منسوبا إلى غيره ولأن هذا في معنى عتق بعوض والكفارة لا تتأتى بمثله, ولو كان أكرهه بالحبس أجزأه عن الكفارة لأن الفعل منسوب إليه دون المكره ولم يستوجب الضمان على المكره بهذا الإكراه فتتأدى به الكفارة لاقتران النية بفعل الإعتاق.
ولو أكرهه بوعيد تلف على الصدقة في الكفارة ففعل ذلك نظر فيما تصدق به فإن كانت قيمته أقل من قيمة الرقاب ومن أدنى الكسوة التي تجزئ لم يضمن المكره شيئا لتيقننا بوجوب هذا المقدار من المال عليه في التكفير فيكون المكره مكتسبا سبب إسقاط الواجب عنه, وإن كان أكثر قيمة من غيرها ضمنه الذي أكرهه لأنه لا يغبن في وجوب هذا المقدار عليه ولا هذا(24/265)
ص -127- ... النوع بل هو مخير شرعا بين الأنواع الثلاثة ويخرج عن الكفارة باختياره أقلها فيكون المكره متلفا عليه هذا النوع بغير حق فيضمنه له ولا يجزئه عن الكفارة. وإن قدر على الذي أخذه منه كان له أن يسترده لأنه كان مكرها على التسليم إليه وتمليكه إياه مع الإكراه فاسد فيتمكن من استرداده. وإن كان أكرهه بالحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الفعل لا يصير منسوبا إليه بهذا الإكراه ولكنه يرجع به على الذي أخذ منه لأنه ما كان راضيا بالتسليم إليه والتمليك مع الإكراه بالحبس فإن أمضاه له بعد ذلك بغير إكراه أجزأه إن كان قائما وإن كان مستهلكا لم يجزه لأنه إذا كان قائما في يده فإمضاؤه بمنزلة ابتداء التصدق عليه. وإن كان مستهلكا فهو دين عليه والتصدق بالدين على من هو عليه لا يجزئ عن الكفارة وكذلك هذا في كفارة الظهار.(24/266)
وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله أنه إذا أكرهه في كفارة الظهار على عتق عبد بعينه وذلك أدنى ما يجزئ في الكفارة لا يكون على المكره فيه ضمان ويجزيه عن الكفارة لأنا تيقنا أن ذلك القدر واجب عليه فالتكفير بالعتق عين في الظهار والأصح أن ذلك لا يجزيه وعلى المكره قيمته لأنه وإن لم يكن ظالما له في القدر فهو ظالم له في العين إذ ليس عليه إعتاق هذا بعينه وللناس في الإعتاق أغراض فيلزم المكره الضمان بهذا الطريق وإذا لزمه الضمان لم يجزه عن الكفارة. قال "وكذلك كل شيء وجب لله تعالى عليه من بدنة أو هدي أو صدقة أو حج فأكره على أن يمضيه ففعل ولم يأمره المكره بشيء بعينه فلا ضمان على المكره ويجزي عن الرجل ما أمضاه" ولأن المكره محتسب حين لم يزد على أمره بإسقاط الواجب والوفاء بما التزمه وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] فإن أوجب شيئا بعينه على نفسه صدقة في المساكين فأكره بحبس أو قيد على أن يتصدق بذلك جاز ما صنع منه ولم يرجع على المكره بشيء لأن الوفاء بما التزمه مستحق عليه شرعا كما التزمه فإذا التزم التصدق بالعين كان عليه الوفاء به في ذلك العين والمكره ما زاد في أمره على ذلك فلا يرجع عليه بشيء. وكذلك الأضحية وصدقة الفطر لو أكره عليهما رجل حتى فعلهما أجزآه ولم يرجع على المكره بشيء لأن ذلك واجب عليه شرعا وهذا الجواب في الأضحية بناء على ظاهر الرواية أنها واجبة ومقصوده أن يبين أن الواجب الذي يثبت للإمام فيه ولاية الأخذ والذي لا يثبت له في ذلك ولكن من عليه يقضي بأدائه في حكم الإكراه سواء.(24/267)
ولو قال لله تعالى علي هدي أهديه إلى بيت الله فأكره بالقتل على أن يهدي بعيرا أو بدنة ينحرها ويتصدق بها ففعل كان المكره ضامنا قيمتها ولا يجزيه ما أوجبه على نفسه لأن بلفظ الهدي لا يتعين عليه البعير ولا البقرة ولكن يخرج عنه بالشاة فالمكره ظالم له في تعيين البدنة فيلزمه ضمان قيمتها ولا يجزيه عما أوجبه لحصول العوض أو لأن الفعل صار منسوبا إلى المكره. ولو أكرهه على أدنى ما يكون من الهدي في القيمة وغيرها فأمضاه لم يغرم المكره شيئا لأنه ما زاد على ما هو الواجب عليه شرعا.(24/268)
ص -128- ... ولو قال لله علي عتق رقبة فأكرهه على أن يعتق عبدا بعينه بقتل فأعتقه ضمن المكره قيمته ولم يجزه عن النذر لأنه التزم بعتق رقبة بغير عينها والمكره في أمر بعتق عبد بعينه ظالم فيكون ضامنا قيمته وإن كان يعلم الذي أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يكون من التسمية لم يكن على المكره ضمان وأجزأ عن المعتق لتيقننا بوجوب هذا المقدار عليه, ومن قال من أصحابنا في مسألة كفارة الظهار أن المكره لا يضمن إذا أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يجزئ إنما أخذ جوابه من هذا الفصل وعلى ما قلنا من الجواب المختار هذه لا تشبه تلك لأن الناذر إنما يلتزم الوفاء بالمنذور من أعيان ملكه فيصير كالمعتق للأدنى عن نذره فأما في الكفارة فالواجب دين في ذمته ولا يتناول أعيان ملكه.
ألا ترى أن في الكفارات قد يخرج بغير الإعتاق عند العجز عن الإعتاق وفي النذر لا يخرج بدون الإعتاق ولا يكون الإعتاق إلا في ملكه فمن هذا الوجه يقع الفرق.
ولو قال لله علي أن أتصدق بثوب هروي أو مروي فأكرهه على أن يتصدق بثوب بعينه فإنه ينظر إلى الذي تصدق به فإن كان العلم محيطا بأنه أدنى ما يكون من ذلك الجنس في القيمة وغيرها أجزأه ذلك ولا ضمان على المكره لأنه ما ألزمه بالإكراه إلا ما يعلم أنه مستحق عليه بنذره شرعا. وإن كان غيره أقل من قيمته نظر إلى فضل ما بين القيمتين فغرم المكره ذلك لأنه في الزيادة على الأدنى يلزمه ذلك بالإكراه من غير أن كان واجبا عليه وهذا بخلاف الهدي والأضحية والعتق لأن ذلك مما لا ينتقض فإذا ضمن المكره بعضه صار ناقضا ما وجب عليه فلا يجزيه عن الواجب فلهذا يغرم المكره جميع القيمة والتصدق بالثوب مما يحتمل التجزي فإنه لو تصدق بنصف ثوب جيد يساوي ثوبا كما لزمه أجزأه عن الواجب فنحن وإن أوجبنا ضمان الزيادة على المكره وقع المؤدى في مقدار الأدنى مجزيا عن الواجب يوضحه أن في التصدق تعتبر المالية.(24/269)
ألا ترى أن له أن يتصدق بقيمة الثوب مكان الثوب وعند النظر إلى القيمة يظهر الفضل وفي الهدايا والضحايا وعتق الرقاب لا تعتبر المالية حتى لا يتأدى الواجب بالقيمة فلهذا قلنا إذا صار ضامنا للبعض ضمن الكل.
وإذا قال لله علي أن أتصدق بعشرة أقفزة حنطة على المساكين فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق بخمسة أقفزة حنطة جيدة تساوي عشرة أقفزة حنطة رديئة فالمكره ضامن لطعام مثله لأن المؤدى لا يخرج عن جميع الواجب فإنه لا معتبر بالجودة في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها ولا يمكن تجويزها عن خمسة أقفزة حنطة لأن في ذلك ضررا على الناذر فالمكره ظالم له في التزام الزيادة على الأدنى فلهذا يضمن له طعاما مثل طعامه وعلى الناذر أن يتصدق بعشرة أقفزة رديئة. ولو أن رجلا له خمس وعشرون بنت مخاض فحال عليها الحول فوجب فيها ابنة مخاض وسط فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق على المساكين بابنة مخاض جيدة غرم المكره فضل قيمتها على قيمة الوسط لأنه ظالم له في إلزام هذه الزيادة وقد(24/270)
ص -129- ... جازت الصدقة عن المتصدق في مقدار الوسط فلا يغرم المكره ذلك لأن هذا ليس بمال الربا فيمكن تجويز بعضه عن كله.
ألا ترى أنه لو تصدق بنصف ابنة مخاض جيدة فبلغ قيمته قيمة ابنة مخاض وسط أجزأه عن الواجب فلهذا لا يوجب على المكره إلا ضمان الفضل بينهما والله أعلم.
باب الإكراه في الوكالة
قال رحمه الله: "ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد قتل على أن يوكل رجلا بعتق عبد له أو بطلاق امرأة لم يدخل بها ففعل ذلك جاز التوكيل ونفذ تصرف الوكيل"لأن الإكراه لما لم يمنع صحة مباشرة الإعتاق والطلاق, لا يمنع صحة التوكيل بهما أيضا ولا ضمان على الوكيل لأنه نائب معبر فعبارته كعبارة الموكل ولكن الضمان على المكره كما لو أكرهه على مباشرة الإيقاع وهذا استحسان قد بيناه في جعل الأمر في يد الغير عن إكراه فالتوكيل قياسه.(24/271)
ولو أكرهه على أن وكله ببيع عبده من هذا بألف درهم وأكرهه على دفعه إليه حتى يبيعه ففعل ذلك فباعه الوكيل وأخذ الثمن ودفع العبد إلى المشتري فهلك العبد في يده من غير فعله والوكيل والمشتري غير مكرهين فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المشتري قيمة عبده لأنه قبضه طائعا بشراء فاسد وإن شاء ضمن الوكيل لأنه متعد في البيع والتسليم طائعا وإن شاء ضمن المكره لأن إكراهه على التوكيل والتسليم بمنزلة الإكراه على مباشرة البيع والتسليم في حكم الإتلاف والضمان فإن ضمن المشتري لم يرجع على أحد بشيء لأنه ضمن بسبب باشره لنفسه وإن ضمن الوكيل يرجع الوكيل على المشتري بالقيمة لأنه قائم مقام المالك في الرجوع على المشتري ولأنه ملكه بالضمان وقد قبضه المشتري منه بحكم شراء فاسد فيكون له أن يسترد منه قيمته لما تعذر استرداد العين وعلى الوكيل رد الثمن إن كان قبض ولا يكون له الثمن بما ضمن له من القيمة لأنه باعه للمكره ونقض ما ضمنه له من القيمة لأنه باعه للمكره وقد نقض المكره البيع بتضمينه القيمة ولا يشبه هذا الغصب يعني أن الغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة ينفذ البيع من جهته لأنه باعه هناك لنفسه وقد تقرر الملك له بالضمان وهنا باعه بطريق الوكالة عن المكره.(24/272)
ألا ترى أن المكره لو رضي بعد زوال الإكراه نفوذ البيع من جهته والمشتري بالقبض صار متملكا على المكره حتى لو أعتقه نفذ عتقه فلا يمكن أن يجعل متملكا بهذا السبب على الوكيل فلهذا لا ينفذ البيع من جهته ولا يسلم له الثمن بل يرده على المشتري لأن استرداد القيمة من المشتري كاسترداد العين ولا شيء للوكيل على المكره لأنه ما أكرهه على شيء وإنما التزم الوكيل ضمان القيمة بالبيع والتسليم وهو كان طائعا في ذلك وإن كان المكره ضمن المكره القيمة كان له أن يرجع بها إن شاء على المشتري وإن شاء على الوكيل لأنه قائم مقام المكره وقد كان له أن يرجع على أيهما شاء فإن قال الوكيل للمكره لا أضمن لك شيئا لأنك أنت الذي أمرته أن يدفع إلي لم ينفعه ذلك شيئا لأنه كان غير مكره على قبضه وقد(24/273)
ص -130- ... كان له أن لا يقبضه وإنما ضمنه الذي أكرهه بقبضه وتسليمه. فإن قال الوكيل حين ضمن القيمة أنا أجيز البيع فيما بيني وبين المشتري ويكون الثمن لي لم يكن له ذلك لأن المشتري إنما يملكه على المكره فلا يمكن جعله متملكا على الوكيل وإن ملكه بخلاف الغصب على ما بينا ولو كان أكرهه بالحبس على ذلك كان كذلك إلا أنه لا يضمن المكره لأن الإتلاف لا يصير منسوبا إليه بالإكراه بالحبس. ولو كان المولى والوكيل مكرهين بالقتل فإن المولى بالخيار إن شاء ضمن المشتري قيمة عبده لأنه قبضه بشراء فاسد طائعا وإن شاء ضمن المكره بإكراهه إياه على التسليم بوعيد تلف ثم يرجع بها المكره على المشتري لأنه قائم مقام من ضمنه ولأنه ملكه بالضمان ولا ضمان له على الوكيل لأنه كان مكرها بالقتل على القبض والتسليم فلا يبقى في جانبه فعل معتبر. وإن كانوا جميعا مكرهين بالقتل فالضمان على المكره خاصة لأن الإتلاف منسوب إليه إذ لم يبق للمكره فعل معتبر في التسليم والقبض ولا يرجع المكره على أحد بشيء لأنهم صاروا كالآلة له وليس للمتلف أن يرجع على الآلة بشيء وإن كانوا مكرهين بالحبس فلا ضمان على المكره وللمولى أن يضمن المشتري قيمة عبده لأن فعل المشتري في القبض مقصور عليه وكذلك فعل الوكيل في التسليم فإن الإكراه بالحبس لا يخرج واحد منهما من أن يكون مباشرا للفعل فإن ضمن الوكيل رجع الوكيل بالقيمة على المشتري لأنه قام مقام من ضمنه. وإن اختار تضمين المشتري فهو الذي يلي خصومته بما دون الوكيل لأن الوكيل كان مكرها على البيع والتسليم بالحبس وذلك ينفي التزامه العهدة بالعقد فيخرج من الوسط إذا اختار المولى تضمين المشتري وتكون الخصومة فيه لمن باشر العقد له بمنزلة ما لو وكل عبدا محجورا عليه أو صبيا محجورا ببيع فاسد وهذا لأن الوكيل لو خاصم المشتري إنما يخاصمه بحكم العقد فإنه قد استفاد البراءة من الضمان حين اختار المولى تضمين المشتري وهو كان مكرها(24/274)
على العقد بالحبس وذلك يمنع ثبوت أحكام العقد في حقه.
ولو أكره المولى بالقتل وأكره الوكيل والمشتري بالحبس فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء لأن فعلهم في التسليم منسوب إلى المكره وفعل الوكيل والمشتري مقصور عليهما فإن ضمن المشتري لم يرجع على أحد بشيء. وإن ضمن الوكيل كان له أن يرجع على المشتري ولا شيء له على المكره لما بينا وإن ضمن المكره كان له أن يرجع على المشتري بالقيمة التي ضمن ولا يرجع على الوكيل بشيء لأنه أمر الوكيل بالقبض والبيع والدفع حين أكرهه عليه بالحبس والمكره بالضمان يصير كالمالك فلا يكون له أن يرجع بشيء على من قبضه ودفعه إلى غيره بإكراهه على ذلك.
ولو أكره المولى والوكيل بالقتل وأكره المشتري بالحبس فلا ضمان على الوكيل لانعدام الفعل منه حين كان مكرها بالقتل وللمولى أن يضمن المكره قيمته إن شاء ويرجع به المكره على المشتري وإن شاء ضمن المشتري لأن فعله في القبض مقصور عليه.(24/275)
ص -131- ... فإن قيل إذا ضمن المكره ينبغي أن لا يرجع على المشتري بشيء لأن المشتري كان مكرها من جهته بالحبس كما في حق الوكيل في المسألة الأولى.
قلنا نعم ولكن المشتري قبضه على وجه التمليك لنفسه بالشراء فلا بد من أن يكون ضامنا لما كان حكم قبضه مقصورا عليه وأما الوكيل فما قبضه لنفسه وإنما قبضه ليدفعه إلى غيره بأمر المكره فلا يكون للمكره أن يرجع عليه بشيء.
ولو أكره المولى والوكيل بالحبس وأكره المشتري بالقتل فلا ضمان على أحد منهم إلا الوكيل خاصة لأن المولى إنما يضمن المكره بتسليمه إلى الغير مكرها من جهته وإنما كان مكرها هنا على ذلك بالحبس فلا يرجع عليه بشيء والمشتري على القبض مكره بالقتل فلا يكون قبضه موجبا للضمان عليه وأما الوكيل فهو مكره على القبض والتسليم بالحبس وذلك لا يوجب نقل الفعل عنه إلى غيره فيكون ضامنا قيمته.
فإن قيل ينبغي أن يكون المكره ضامنا لأن فعل المشتري في القبض صار منسوبا إليه فيجعل كأنه قبضه بنفسه وهلك في يده.
قلنا المالك إنما يضمن المكره باعتبار سبب جرى بينهما لا باعتبار سبب جرى بينه وبين غيره والذي جرى بينهما إكراهه إياه على التسليم بالحبس فأما إكراهه المشتري فهو سبب بين المكره والمشتري فلا يكون للمولى أن يضمن المكره بذلك السبب وإنما يكون ذلك للمشتري في الموضع الذي لا يكون عاملا لنفسه في القبض ويتقرر عليه ضمان وهذا لأن المالك إنما يثبت له حق التضمين بتفويت يده وتفويت يده بالتسليم لا باعتبار قبض المشتري.(24/276)
ولو أكره المولى والمشتري بالقتل وأكره الوكيل بالحبس والمسألة بحالها كان للمولى أن يضمن المكره إن شاء لأنه فوت يده حين أكرهه بالقتل على التسليم وإن شاء ضمن الوكيل لأن فعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشيء أما إذا ضمن الوكيل فلأنه ما كان عاملا في البيع والتسليم للمكره وفعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأما إذا ضمن المكره فلأنه أذن له في بيعه ودفعه حين أكره بالحبس على ذلك ولا ضمان على المشتري لأنه كان مكرها على القبض بوعيد قتل وذلك ينفي الضمان عليه.
ولو أكرهه بالقتل على أن يوكل هذا الرجل بأن يهب عبده هذا لهذا الرجل فوكله بذلك فقبضه الوكيل ودفعه إلى الموهوب له ومات في يده والوكيل والموهوب له غير مكرهين فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء بمنزلة الشراء لأن الموهوب له يقبض لنفسه على وجه التملك بهبة فاسدة فيكون ضامنا كالمشتري فإن ضمن الموهوب له لم يرجع على أحد وإن ضمن الوكيل رجع به الوكيل على الموهوب له وإن ضمن المكره رجع المكره إن شاء على الموهوب له وإن شاء على الوكيل(24/277)
ص -132- ... ورجع به الوكيل على الموهوب له لما بينا في فصل الشراء. ولو كان الإكراه بحبس لم يضمن المكره شيئا وكان للمولى أن يضمن إن شاء الوكيل وإن شاء الموهوب له فإن ضمن الوكيل رجع به على الموهوب له لأنه قام مقام من ضمنه أو لأنه ملكه بالضمان ولم يقصد تنفيذ الهبة من جهته فكان له أن يرجع على الموهوب له لأنه بالقبض متملك عامل لنفسه بغير إذن المالك فلا يسلم له مجانا والله أعلم.
باب ما يسع الرجل في الإكراه وما لا يسعه
قال رحمه الله: "وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أكل الميتة أو لحم الخنزير أو شرب الخمر فلم يفعل حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما"لأن حالة الضرورة مستثناة من التحريم والميتة والخمر في هذه الحالة كالطعام والشراب في غير حالة الضرورة ولا يسعه أن يمتنع من ذلك حتى يتلف.(24/278)
ألا ترى أن الذي يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا وجد ميتة أو لحم خنزير أو دما فلم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما وقد بينا هذا فيما سبق في الماء الذي خالطه الخمر التحرز عن قول من خالفنا في شرب الخمر عند العطش "وفائده" وذكره عن مسروق رحمه الله قال من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير أو دم فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا دليلنا على قول أبي يوسف وفيه دليل أنه لا بأس بإطلاق القول بدخول "الدار" لمن يرتكب ما لا يحل له وإن كان المذهب أنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه حتى اشتغل بعضهم بالتأويل بهذا اللفظ قالوا مراده الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي داخلها وهو المذهب عند أهل السنة والجماعة ولكن هذا بعيد لأن مراده بيان الجزاء على ارتكاب ما لا يحل ولكن لا يظن أحد بمثله أنه يقصد بهذا اللفظ نفي المشيئة وقطع القول بالعذاب, فإن كان لا يعلم أن ذلك يسعه رجوت أن لا يكون آثما لأنه قصد به التحرز عن ارتكاب الحرام في زعمه وهذا لأن انكشاف الحرمة عند تحقق الضرورة دليله خفي فيعذر فيه بالجهل كما أن عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا له في ترك ما ثبت بخطاب الشرع يعني الصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه. ثم ذكر في فصل الإكراه على الكفر أنه إذا امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثما وقد بينا أنه مأجور فيه كما جاء في الأثر أن المجبر في نفسه في ظل العرش يوم القيامة إن أبى الكفر حتى قتل وحديث خبيب رضي الله عنه فيه معروف وأشار إلى الأصل الذي بينا أن إجراء كلمة الشرك في هذه الحالة رخصة له والامتناع هو العزيمة فإن ترخص بالرخصة وسعه وإن تمسك بالعزيمة كان أفضل له لأن في تمسكه بالعزيمة إعزاز الدين وغيظ المشركين فيكون أفضل, وعلى هذا إذا قيل له لئن صليت لأقتلنك فخاف ذهاب الوقت فقام وصلى وهو يعلم(24/279)
أنه يسعه تركه فلما صلى قتل لم يكن آثما في ذلك لأنه تمسك بالعزيمة أيضا. وكذلك صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم لئن لم تفطر لنقتلنك فأبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا لأنه متمسك بالعزيمة وفيما فعله إظهار الصلابة في الدين وإن أفطر وسعه ذلك لأن الفطر رخصة له عند الضرورة إلا أن يكون(24/280)
ص -133- ... مريضا يخاف على نفسه إن لم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه فحينئذ يكون آثما وكذلك لو كان مسافرا فصام في شهر رمضان فقيل له لنقتلنك أو لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما لأن الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين معتدا بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فعند خوف الهلاك شهر رمضان في حقهما أيامه كلياليه وكأيام شعبان في حق غيرهما فيكون في الامتناع حتى يموت بمنزلة المضطر في فصل الميتة بخلاف الصحيح المقيم فالأمر بالصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والفطر عند الضرورة رخصة فإن ترخص بالرخصة فهو في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له وهذا كله بناء على مذهبنا أنه يصير مفطرا بالتناول مكرها وعند الشافعي رحمه الله لا يصير مفطرا وقد بينا هذا في الصوم فإن الخاطى ء والمكره عنده في الحكم سواء وقال المكره مسلوب الفعل.
ألا ترى أن الإتلاف الحاصل بفعله يصير منسوبا إلى المكره ولكنا نقول المكره إنما يجعل آلة للمكره فيما يصلح أن يكون آلة له وهو في الجناية على صوم نفسه لا يصلح أن يكون آلة للغير فيقتصر حكم فعله في حق الإفطار عليه.(24/281)
ألا ترى أن المكره لو كان صائما لم يصر مفطرا بهذا فلو جعلنا الفعل عدما في حكم المكره في حق الصوم رجع إلى الإهدار وليس للإكراه تأثير في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وبه فارق حكم الضمان لأنا لو جعلنا الفعل منسوبا إلى المكره لا يؤدي إلى الإهدار ولا إلى تبديل محل الجناية. ولو قال له لأقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتعطينيه فأبى أن يفعل ذلك حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا إن شاء الله لأن الأخذ عند الضرورة مباح له بطريق الرخصة وقيام الحرمة والتقوى حقا للمالك يوجب أن تكون العزيمة في ترك الأخذ فإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا وقيده بالاستثناء لأنه لم يجعل هذا بعينه نصا بعينه وإنما قاله بالقياس على ما تقدم وليس هذا في معنى ما تقدم من كل وجه لأن الامتناع من الأخذ هنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء.
ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا الصيد فأبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا إن شاء الله لأن حرمة قتل الصيد على المحرم حرمة مطلقة قال الله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فكان الامتناع عزيمة وإباحة قتل الصيد رخصة عند الضرورة فإن ترخص بالرخصة كان في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له فإن قتل الصيد فلا شيء عليه في القياس ولا على الذي أمره، وفي الاستحسان على القاتل الكفارة أما الآمر فلا شيء عليه لأنه حلال لو باشر قتل الصيد بيده لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه غيره وأما المحرم ففي القياس لا شيء عليه لأنه صار آلة للمكره بالإلجاء التام فينعدم الفعل في جانبه.
ألا ترى أن في قتل المسلم لا يكون هو ضامنا شيئا لهذا المعنى وإن كان لا يسعه(24/282)
ص -134- ... الإقدام على القتل ففي قتل الصيد أولى ووجه الاستحسان أن قتل الصيد منه جناية على إحرامه وهو بالجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فأما قتل المسلم فجناية على المحل وهو يصلح أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى أن في حق الإثم لما كان ذلك جناية على حق دينه وهو لا يصلح آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الإثم.
توضيحه: أنه لما لم يجب على الآمر هنا شيء فلو لم نوجب الكفارة على القاتل كان تأثير الإكراه في الإهدار وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وإن كانا محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما كفارة أما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر بالإكراه وأما المكره فلأنه في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح آلة لغيره.(24/283)
يوضحه أنه لا حاجة هنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره في إيجاب الكفارة عليه فكفارة الصيد تجب على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هنا وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ أو شبه عمد فإنه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل في جانب المكره وهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابه على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبيب ولأن السبب هنا الجناية على الإحرام وكل واحد منهما جان على إحرام نفسه فأما هناك فالسبب هو الجناية على المحل والمحل واحد فإذا أوجبنا الكفارة باعتبارها على المكره. قلنا لا يجب على المكره. ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففي القياس تجب الكفارة على القاتل دون الآمر لأن قتل الصيد فعل ولا أثر للإكراه بالحبس في الأفعال. وفي الاستحسان على كل واحد منهما الجزاء أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلأن تأثير الإكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والإشارة وإذا كان الجزاء يجب على المحرم بالدلالة والإشارة فبالإكراه بالحبس أولى, ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة على المكره لأن جزاء الصيد في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى بالصوم فلا تجب بالدلالة ولا تتعدد بتعدد الفاعلين وهذا لأن وجوبها باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال وذلك على المكره دون المكره عند التهديد بالقتل وإن توعده بالحبس كانت الكفارة على القاتل خاصة بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطأ.(24/284)
ولو أن رجلا وجب عليه أمر بمعروف أو نهى عن منكر فخاف إن فعل أن يقتل وسعه أن لا يفعل وإن فعل فقتل كان مأجورا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض مطلقا قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] الآية والترك عند خوف الهلاك رخصة قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] فإن ترخص بالرخصة كان في سعة وإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا . وذكر في السير الكبير أن(24/285)
ص -135- ... أن المسلم إذا أراد أن يحمل على جمع من المشركين وهو يعلم أنه لا ينكى فيهم وأنه يقتل لم يسعه ذلك لأنه يكون ملقيا نفسه في التهلكة من غير فائدة ولو أراد أن يمنع قوما من فسقة المسلمين عن منكر اجتمعوا عليه وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بسببه وأنهم يقتلونه فإنه يسعه الإقدام على ذلك لأن هؤلاء يعتقدون الإسلام فزجره إياهم يؤثر فيهم اعتقادا لا محالة وأولئك غير معتقدين فالشرط أن ينكى فعله فيهم حسا فإذا علم أنه لا يتمكن من ذلك لا يسعه الإقدام.
ولو أكره بالقتل على أن يزني لم يسعه أن يفعل فإن فعل وكان محرما فسد إحرامه وعليه الكفارة دون الذي أكرهه لما بينا أن فعله جناية على إحرامه وهو في الجناية على إحرامه لا يصلح أن يكون آلة لغيره. ولو أكرهت امرأة محرمة بالقتل على الزنى وسعها أن تمكن من نفسها وقد بينا الفرق بين جانبها وجانب الرجل في حكم الإثم فأما فساد الإحرام فلا فرق حتى يفسد إحرامها ويجب عليها الكفارة دون المكره لأن تمكنها من نفسها جناية على إحرامها وهي لا تصلح في ذلك آلة للمكره, وإن لم تفعل حتى تقتل فهي في سعة من ذلك لأن حرمة الزنى والجماع في حالة الإحرام حرمة مطلقة فهي في الامتناع تتمسك بالعزيمة وفي كل موضع من هذه المواضع أوجبنا الكفارة على المكره لا يرجع به على المكره لأنه ألزمه كفارة يفي بها. ولو رجع بها عليه يقضي بها عليه ولا يجوز أن يرجع عليه بأكثر مما التزمه وكل أمر أحله الله تعالى مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها والفطر في المرض والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم وكل أمر حرمه الله تعالى ولم يجيء فيه إحلال إلا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ بالرخصة حتى قتل فهو في سعة لأن هذا إغرار بالدين وليس في الأول إغرار بالدين.(24/286)
ألا ترى أن محرما لو اضطر إلى ميتة وإلى ذبح صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة لأن الميتة حلال في حال الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة ولأنه لو ذبح الصيد صار ميتة أيضا فيصير هو جامعا بين ذبح الصيد وتناول الميتة وإذا تناول الميتة كان ممتنعا من الجناية على إحرامه بقتل الصيد والحل لأجل الضرورة فإن كانت الضرورة ترتفع بأحدهما لم يكن له أن يجمع بينهما، ولو قيل لرجل دلنا على مالك أو لنقتلنك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما لأنه قصد الدفع عن ماله وذلك عزيمة قال عليه الصلاة والسلام "من قتل دون ماله فهو شهيد" ولأن في دلالته إياهم عليه إعانة لهم على معصية الله تعالى وقد قال الله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فلهذا يسعه أن لا يدلهم وإن دلهم حتى أخذوه ضمنوا له لأن بدلالته لا يخرجون من أن يكونوا غاصبين لماله متلفين فعليهم الضمان والله أعلم بالصواب.
باب اللعان الذي يقضي به القاضي ثم يتبين أنه باطل
قال رحمه الله: "وإذا ادعت امرأة على زوجها قذفا وجحده الرجل فأقامت عليه البينة بذلك وزكوا في السر والعلانية وأمر القاضي الزوج أن يلاعنها فأبى أن يفعل وقال لم أقذفها(24/287)
ص -136- ... وقد شهدوا علي بالزور فإن القاضي يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن, لأنه ممتنع من إيفاء ما هو مستحق عليه فيحبسه لأجله ولا يضربه الحد وقد بينا هذا في الطلاق, فإن حبسه حتى يلاعن أو هدده بالحبس حتى يلاعن وقال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى قاله أربع مرات ثم قال ولعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى والتعنت المرأة أيضا وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود عبيد أو محدودون في قذف أو بطلت شهادتهم بوجه من الوجوه فإن القاضي يبطل اللعان الذي كان بينهما ويبطل الفرقة ويردها إليه لأنه تبين أنه قضى بغير حجة والقضاء بغير حجة باطل مردود. ولا يقال فقد أقر بالقذف بالزنى في شهادات اللعان لأن ذلك كان بإكراه من القاضي إياه على ذلك والإكراه بالحبس يمنع صحة الإقرار.
ألا ترى أنه لو هدده بالحبس على أن يقر بأنه قذف هذا الرجل فأقر بذلك لم يلزمه بهذا الإقرار شيء فكذلك هنا, فإن قيل ذاك إكراه بالباطل وهذا إكراه بحق قلنا هذا إكراه بحق ظاهرا. فأما إذا تبين أن الشهود عبيد فقد ظهر أن الإكراه كان بالباطل حقيقة ولو كان القاضي لم يحبسه حتى يلاعن ولم يهدده بحبس ولكنه قال قد شهدوا عليك بالقذف وقضيت عليك باللعان فالتعن ولم يزده على هذا فالتعن الرجل كما لو وصفت لك والتعنت المرأة وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود كانوا عبيدا فأبطل شهادتهم فإنه يمضي اللعان بين الزوج والمرأة وتمضي الفرقة ويجعلها بائنا من زوجها لأن القاضي لما لم يهدده بحبس ولا غيره حتى قال أشهدكم بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى كان هذا إقرارا منه بأنه قذفها بغير إكراه فيلزمه ما أقر به من ذلك ويصير كأنه أقر بقذفه إياها بعد ما جحد ثم التعن ثلاث مرات وفرق القاضي بينهما فيكون ذلك تفريقا صحيحا باعتبار حجة شرعية.(24/288)
ألا ترى أنه لو قال له القاضي قد شهدوا عليك أنك قذفت هذا الرجل بالزنى وقد قضيت عليك بالحد فقال المقضي عليه أجل قد قذفته بالزنى ثم علم أن شهادة الشهود باطلة ضرب الحد لإقراره على نفسه بالقذف. ولو قال قد شهد عليك الشهود بالقذف فلتقرن بذلك أو لأحبسنك ثم علم أن شهادة الشهود باطلة لم يكن عليه حد بإقراره أنه قذفه لأنه كان مكرها على ذلك فكذلك ما وصفنا من حكم التفريق بسبب اللعان ولو لم يظهر أن الشهود عبيد ولكنهما يعلمان أنهم شهدوا عليهما بزور فالتعنا وفرق القاضي بينهما كان قضاؤه نافذا ظاهرا وباطنا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول رحمهما الله، وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله لا ينفذ قضاؤه باطنا وقد بينا هذا في كتاب الرجوع عن الشهادات والله أعلم بالصواب.(24/289)
ص -137- ... كتاب الحجر
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم بأن الله تعالى خلق الورى وفاوت بينهم في الحجى فجعل بعضهم أولي الرأى والنهي ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وجعل بعضهم مبتلي ببعض أصحاب الردى فيما يرجع إلى معاملات الدنيا كالمجنون الذي هو عديم العقل والمعتوه الذي هو ناقص العقل فأثبت الحجر عليهما عن التصرفات نظرا من الشرع لهما واعتبارا بالحجر الثابت على الصغير في حال الطفولية بسبب عدم العقل بعد ما صار مميزا بسبب نقصان العقل وذلك منصوص عليه في الكتاب فيثبت الحجر في حق المعتوه والمجنون استدلالا بالنصوص بطريق التشبيه لأن حالهما دون حال الصبي فالصبي عديم العقل إلى الإصابة عادة والمجنون عديم العقل إلى الإصابة عادة ولهذا جاز إعتاق الصبي في الرقاب الواجبة دون المجنون فأما إذا بلغ عاقلا فلا حجر عليه بعد ذلك على ما قال أبو حنيفة رحمه الله الحجر على الحر باطل ومراده إذا بلغ عاقلا وحكي عنه أنه كان يقول لا يجوز الحجر إلا على ثلاثة على المفتي الماجن وعلى المتطبب الجاهل وعلى المكاري المفلس لما فيه من الضرر الفاحش إذا لم يحجر عليهم فالمفتي الماجن يفسد على الناس دينهم والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيمتنعون من ذلك دفعا للضرر فإن الحجر في اللغة هو المنع والاختلاف بين العلماء رحمهم الله ورأى هذا في فصلين أحدهما الحجر على السفيه المبذر, والآخر الحجر على المديون بسبب الدين والسفه هو العمل بخلاف موجب الشرع وهو اتباع الهوى وترك ما يدل عليه العقل والحجى وأصل المسامحة في التصرفات والبر والإحسان مندوب إليه شرعا ولكن بطريق السفه والتبذير مذموم شرعا وعرفا ولهذا لا تنعدم الأهلية بسبب السفه ولا يجعل السفه عذرا في إسقاط الخطاب عنه بشيء من الشرائع ولا في إهدار عبارته فيما يقربه على نفسه من الأسباب(24/290)
الموجبة للعقوبة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات بسبب السفه أيضا. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله قالا إن الحجر عليه على سبيل النظر له وقال الشافعي على سبيل الزجر, والعقوبة له ويتبين هذا الخلاف بينهم فيما إذا كان مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعند الشافعي رحمه الله يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر(24/291)
ص -138- ... عليه فالفاسق عند أصحابنا جميعا رحمهم الله أهل للولاية على نفسه على العموم وعلى غيره إذا وجد شرط تعدى ولايته لغيره أما من جوز الحجر على السفيه فقد احتج بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] وهو تنصيص على أن إثبات الولاية على السفيه وأنه مولى عليه ولا يكون ذلك إلا بعد الحجر عليه وقال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] إلى أن قال: {وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] وهذا أيضا تنصيص على إثبات الحجر عليه بطريق النظر له فإن الولي الذي يباشر التصرف في ماله على وجه النظر منه له وروي أن حبان بن منقذ الأنصاري رضي الله عنه كان يغبن في البياعات لآمة أصابت رأسه فسأل أهله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه فقال إني لا أصبر عن البيع فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام" فلو لم يكن الحجر بسبب التبذير في المال مشروعا عرفا لما سأل أهله ذلك ولما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه كان يفني ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى دارا للضيافة بمائة ألف فبلغ ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال لآتين عثمان ولأسألنه أن يحجر عليه فاهتم بذلك عبد الله رضي الله عنه وجاء إلى الزبير رضي الله عنه وأخبره بذلك فقال اشركني فيها فأشركه ثم جاء علي إلى عثمان رضي الله عنه وسأله أن يحجر عليه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وإنما قال ذلك لأن الزبير رضي الله عنه كان معروفا بالكياسة في التجارة فاستدل برغبته في الشركة على أنه لا غبن في تصرفه فهذا اتفاق منهم على جواز الحجر بسبب التبذير فإن عليا رضي الله عنه سأل وعثمان رضي الله عنه اشتغل ببيان العذر واهتم لذلك عبد الله رضي الله عنه(24/292)
واحتال الزبير لدفع الحجر عنه بالشركة فيكون اتفاقا منهم على جواز الحجر بهذا السبب وأن عائشة رضي الله عنها كانت تتصدق بمالها حتى روي أنها كان لها رباع فهمت ببيع رباعها لتتصدق بالثمن فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فقال لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها والمعنى فيه أنه مبذر في ماله فيكون محجورا عليه كالصبي بل أولى لأن الصبي إنما يكون محجورا عليه لتوهم التبذير منه وقد تحقق التبذير والإسراف هنا فلأن يكون محجورا عليه أولى, وتحقيقه وهو أن للصبي ثلاثة أحوال حال عدم العقل وحال نقصان العقل بعد ما صار مميزا وحال السفه والتبذير بعد ما كمل عقله بأن قارب أوان بلوغه ثم عدم العقل ونقصانه بعد البلوغ يساوي عدم العقل ونقصانه قبل البلوغ في استحقاق الحجر به فكذلك السفه والبلوغ يساوي السفه قبل البلوغ بعد كمال العقل في استحقاق الحجر به وكان هذا الحجر بطريق النظر له لأن التبذير وإن كان مذموما فهو مستحق النظر باعتبار أصل دينه.
ألا ترى أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وذلك يكون نظرا له والدليل عليه أن في حق منع المال يجعل السفه بعد البلوغ كالسفه قبل البلوغ بالقياس على عدم العقل ونقصان العقل وكان منع المال بطريق النظر له فكذلك الحجر عليه عن التصرف لأن(24/293)
ص -139- ... منع المال غير مقصود لعينه بل لإبقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإذا كان هو مطلق التصرف لا يفيد منع المال شيئا وإنما يكون فيه زيادة مؤنة وتكلف على المولى في حفظ ماله إلى أن يتلفه بتصرفه.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فاستدل بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فقد نهى الولي عن الإسراف في ماله مخافة أن يكبر فلا يبقى له عليه ولاية والتنصيص على زوال ولايته عنه بعد الكبر يكون تنصيصا على زوال الحجر عنه بالكبر لأن الولاية عليه للحاجة وإنما تنعدم الحاجة إذا صار هو مطلق التصرف بنفسه.(24/294)
ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذه المسألة استدل بآيات الكفارات من الظهار والقتل وغيرها ففي هذه العمومات بيان أن هذه الكفارات تجب على كل من يتحقق منه أسبابها شرعا سفيها كان أو غير سفيه وارتكاب هذه الأسباب اختيارا نوع من السفه فدل أنه مع السفه يتصور منه السبب الموجب لاستحقاق المال ومن ضرورته أن لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا وبه يتبين أن الحجر عن التصرفات ليس فيه كثير فائدة لتمكنه من إتلاف جميع ماله بهذه الأسباب والمعنى فيه أنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد وفي هذين الوصفين إشارة إلى أهلية التصرف والمحلية فيه لأن بكونه مخاطبا نثبت أهلية التصرف فإن التصرف كلام ملزم وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام المميز بنفسه بكونه مخاطبا والمحلية تثبت بكونه خالص ملكه وذلك يثبت باعتبار حرية المالك وبعد ما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه إلا لمانع والسفه لا يصلح أن يكون معارضا للحرية والخطاب في المنع من نفوذ التصرف لأن بسبب السفه لا يظهر نقصان عقله ولكن السفيه يكابر عقله ويتابع هواه وهذا لا يكون معارضا في حق التصرف كما لا يكون معارضا في توجه الخطاب عليه بحقوق الشرع وكونه معاقبا على تركه أن زوال الحجر وتوجه الخطاب في الأصل ينبني على اعتدال الحال إلا أن اعتدال الحال باطنا لا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا على ما هو الأصل أنه متى تعذر الوقوف على المعاني الباطنة تقام الأسباب الظاهرة مقامها كما أقيم السير المديد مقام المشقة في جواز الترخص وأقيم حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة مقام حقيقة استعمال الرحم بالماء في وجوب الاستبراء.(24/295)
ثم هذا السبب الظاهر يقوم مقام ذلك المعنى الخفي فيدور الحكم معه وجودا وعدما فكما لا يعتبر الرشد قبل البلوغ وإن علم أنه أصاب ذلك في زوال الحجر عنه فكذلك لا يعتبر السفه والتبذير بعد البلوغ في إثبات الحجر عليه.
ألا ترى أن في حكم الخطاب اعتبر هذا المعنى فدار مع السبب الظاهر وهو البلوغ عن عقل وجودا وعدما فكذلك في حكم التصرفات بل أولى لأن توجه الخطاب عليه. إنما يكون شرعا والله تعالى أعلم بحقيقة باطنه وحكم التصرف بينه وبين العباد لا طريق لهم إلى معرفة(24/296)
ص -140- ... ما في باطنه حقيقة فلما أقيم هناك السبب الظاهر مقام المعنى الخفي فهنا أولى والدليل عليه جواز إقراره على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة وإقامة ذلك عليه.
وتلك العقوبات تندرى ء بالشبهات فلو بقي السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل لكان الأولى أن يعتبر ذلك فيما يندرى ء بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر له لكان الأولى أن يحجر عليه عن الإقرار بالأسباب الموجبة للعقوبة لأن الضرر في هذا أكثر فإن الضرر هنا يلحقه في نفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر له في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى. وما قالا من أن النظر له باعتبار أصل دينه يضعف بهذا الفصل ثم هذا النوع من النظر جائز لا واجب كما في العفو عن صاحب الكبيرة ومن أصلهم أن الحجر عليه يجب وإنما يجوز النظر له بطريق لا يؤدي إلى إلحاق الضرر به وهو أعظم من ذلك النظر وفي إهدار قوله في التصرفات إلحاق له بالبهائم والمجانين فيكون الضرر في هذا أعظم من النظر الذي يكون له في الحجر من التصرفات لأن الآدمي إنما باين سائر الحيوانات باعتبار قوله في التصرفات فأما منع المال منه فعلى طريق بعض مشايخنا رحمهم الله هو ثابت بطريق العقوبة عليه ليكون زجرا له عن التبذير والعقوبات مشروعة بالأسباب الحسية فأما إهدار القول في التصرفات فمعنى حكمي والعقوبات بهذا الطريق غير مشروعة كالحدود, ولا يدخل عليه إسقاط شهادة القاذف فإنه متمم لحده عندنا ويكون تابعا لما هو حسي وهو إقامة الجلد لا مقصودا بنفسه ولئن ثبت جواز ذلك ولكن لا يمكن إثبات العقوبة بالقياس بل بالنص وقد ورد النص بمنع المال إلى أن يؤنس منه الرشد ولا نص في الحجر عليه عن التصرف بطريق العقوبة فلا يثبته بالقياس وهو نظير ما قال أصحابنا رحمهم الله أن البكر إذا كانت مخوفا عليها فللولي أن يضمها إلى نفسه, وكذلك الغلام البالغ إذا كان مخوفا عليه فللولي أن يضمه إلى نفسه وبأن ثبت له حق الحيلولة بينه وبين نفسه في(24/297)
التفرد بالسكنى لمعنى الزجر لا يستدل به على أنه يسقط اعتبار قوله في التصرف في نفسه نكاحا أو منع المال منه باعتبار بقاء أثر الصبي لأن العادة أن أثر الصبي يبقى زمانا في أوائل البلوغ.
ولهذا لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال منه وبأن جعل أثر الصبي كنفس الصبا في منع المال منه فذلك لا يدل على أن يجعل كذلك في الحجر عليه كما أن العدة تعمل عمل النكاح في المنع من النكاح دون إيفاء الحل بعد البينونة وهذا لأن نعمة اليد على المال نعمة زائدة وإطلاق اللسان في التصرفات نعمة أصلية فبان جواز إلحاق ضرر يسير به في منع نعمة زائدة لتوفر النظر عليه لا يستدل على أنه يجوز إلحاق الضرر العظيم به بتفويت النعمة الأصلية لمعنى النظر له فأما الآيات فقيل المراد بالسفيه الصغير أو المجنون لأن السفه عبارة عن الخفة وذلك بانعدام العقل ونقصانه وعليه يحمل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: من الآية282] أي صبيا أو مجنونا وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] إما أن يكون المراد الصبيان أو المجانين بدليل أنه لا يثبت ولاية الولي عليه ومن يوجب(24/298)
ص -141- ... الحجر على السفيه يقول إن ولاية الولي تزول عنه بالبلوغ عن عقل على ما بينه أو المراد نهي الأزواج عن دفع المال إلى النساء وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله.
ألا ترى أنه قال {أَمْوَالَكُمُ} [النساء: من الآية5] وذلك يتناول أموال المخاطبين بهذا النهي لا أموال السفهاء وحديث حبان بن منقذ دليلنا ذكر أبو يوسف رحمه الله في الأمالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحجر عليه وعلى الرواية الأخرى أطلق عنه الحجر لقوله لا أصبر عن البيع ومن يجعل السفه موجبا للحجر لا يقول يطلق عنه الحجر بهذا القول فعرفنا أن ذلك لم يكن حجرا لازما وحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه دليلنا أيضا لأن عثمان رضي الله عنه امتنع من الحجر عليه مع سؤال علي رضي الله عنه وأكثر ما فيه أنه لم يكن في التصرف غبن ذلك حين رغب الزبير رضي الله عنه في الشركة ولكن المبذر وإن تصرف تصرفا واحدا على وجه لا غبن فيه فإنه يحجر عليه عند من يرى الحجر فلما لم يحجر عليه دل أن ذلك على سبيل التخويف.
وحديث عائشة رضي الله عنها دليلنا فإنه لما بلغها قول بن الزبير حلفت أن لا يكلم بن الزبير أبدا فإن كان الحجر حكما شرعيا لما استجازت هذا الحلف من نفسها مجازة على قوله فيما هو حكم شرعي وبهذا يتبين أن الزبير إنما قال ذلك كراهة أن يفني مالها فتبتلي بالفقر فتصير عيالا على غيرها بعد ما كان يعولها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمصير إلى هذا أولى ليكون أبعد عن نسبة السفه والتبذير إلى الصحابة رضي الله عنهم. فإن بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه في قول أبي حنيفة رحمه الله, وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لم يدفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فهذه آية محكمة لم ينسخها شيء فلا يجوز دفع المال إليه قبل إيناس الرشد منه.(24/299)
ألا ترى أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع المال إليه بهذه الآية فكذلك إذا بلغ خمسا وعشرين لأن السفه يستحكم بمطاولة المدة ولأن السفه في حكم منع المال منه بمنزلة الجنون والعته وذلك يمنع دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله فكذلك السفه. وأبو حنيفة استدل بقوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] معناه: أن يكبروا يلزمكم دفع المال إليهم وقال الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] والمراد البالغين فهذا تنصيص على وجوب دفع المال إليه بعد البلوغ إلا أنه قام الدليل على منع المال منه بعد البلوغ إذا لم يؤنس رشده وهو ما تلوا فإن الله تعالى قال" {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بين أن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال إليه مطلق بما تلونا غير معلق بشرط ومدة البلوغ بالسن ثمانية عشر سنة فقدرنا مدة القرب منه بسبع سنين اعتبارا بمدة التمييز في الابتداء على ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا" ثم قد بينا أن أثر الصبا يبقى بعد البلوغ إلى(24/300)
ص -142- ... أن يمضي عليه زمان وبقاء أثر الصبا كبقاء عينه في منع المال منه ولا يبقى أثر الصبا بعد ما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان به منذ بلغ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال لأن هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال منه أو منع المال كان على سبيل التأديب له والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب. فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب لأنه يتوهم أن يصير جدا لأن البلوغ بالإنزال بعد اثنتي عشرة سنة يتحقق فإذا أحبل جاريته وولدت لستة أشهر ثم إن ولده أحبل جاريته بعد أثنتي عشر سنة وولدت لستة أشهر صار الأول جدا بعد تمام خمس وعشرين سنة ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الأصلية, فإذا لم يؤنس رشده عرفنا أنه انقطع منه رجاء التأديب فلا معنى لمنع المال منه بعد ذلك وإلى هذا أشار في الكتاب فقال أرأيت لو بلغ ستين سنة ولم يؤنس منه الرشد وصار ولده قاضيا أو نافلته أكان يحجر على أبيه وحده ويمتنع المال منه هذا قبيح.
ثم يقول بعد تطاول الزمان به لا بد أن يستفيد رشدا إما بطريق التجربة أو الامتحان فإن كان منع المال عنه بطريق العقوبة فقد تمكنت شبهة بإصابة نوع من الرشد والعقوبة تسقط بالشبهة. وإن كان هذا حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى فقوله رشدا منكر في موضع الإثبات والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تعم فإذا وجد رشد ما فقد وجد الشرط فيجب دفع المال إليه, وهذا معنى ما نقل عن مجاهد رحمه الله في معنى قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي عقلا لأنه بالعقل يحصل له رشد ما.(24/301)
وفي الكتاب تتبع على أبي حنيفة رحمه الله بقوله أي فائدة في منع المال منه مع إطلاق التصرف وفي منع المال منه زمانا ثم الدفع إليه قبل إيناس الرشد منه وقد أوضحنا الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بما ذكرنا ثم السفيه إنما يبذر ماله عادة في التصرفات التي لا تتم إلا بإثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة أو الهبة أو الصدقة فإذا كانت يده مقصورة عن المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وإن كان لا يحجر عليه ثم إذا بلغ سفيها عند محمد رحمه الله يكون محجورا عليه بدون حجر القاضي وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي وكذلك لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها فمحمد يقول قد قامت الدلالة لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والحجر يثبت بهما من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك في السفه وقاس الحجر بسبب الصغر والرق وأبو يوسف يقول الحجر على السفيه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر والضرر ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي.
توضيحه أن السفه ليس بشيء محسوس وإنما يستدل عليه بأن يغبن في التصرفات وقد يكون ذلك للسفه وقد تكون جبلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان مختبلا مترددا(24/302)
ص -143- ... لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعبد ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين, والكلام في الحجر بسبب الدين في موضعين: أحدهما أن من ركبته الديون إذا خيف أن يلجى ء ماله بطريق الإقرار فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه عند أبي حنيفة رحمه الله لا يحجر عليه القاضي, وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وتنفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز عندهما الحجر عليه بطريق النظر فكذلك يحجر لأجل النظر للمسلمين، وعند أبي حنيفة لا يحجر على المديون نظرا له فكذلك لا يحجر عليه نظرا للغرماء ولما في الحيلولة بينه وبين التصرف في ماله من الضرر عليه وإنما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه إلحاق الضرر به إلا بقدر ما ورد الشرع به وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر عليه في إهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر عليه ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي. ومحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول فيقول هنا الحجر لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي له والحجر على السفيه لأجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فيثبت حكمه بدون القضاء. والفصل الثاني أنه لا يباع على المديون ماله في قول أبي حنيفة رحمه الله العروض والعقار في ذلك سواء لا مبادلة أحد النقدين بالآخر فللقاضي أن يفعل ذلك استحسانا لقضاء دينه وقال أبو يوسف ومحمد يبيع عليه ماله فيقضي دينه ثمنه لحديث معاذ رضي الله عنه فإنه ركبته الديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه(24/303)
بالحصص.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته أيها الناس إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن وأن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح وقد دين به ألا إني بائع عليه ماله فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص فمن كان له عليه دين فليفد ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان هذا إتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله والمعنى فيه أن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل أنه يحبس إذا امتنع منه وهو ما يجزئ فيه النيابة والأصل إن امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما يجزئ فيه النيابة ناب القاضي فيه منابه كالذي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي عليه بهذا والتعيين بعد مضي المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما وهذا بخلاف المديون إذا كان معسرا فإن القاضي لا يؤاجره ليقضي دينه من أجرته, وكذلك لا يبيع ما عليه من ثياب بدنه لأن ذلك غير مستحق عليه بدليل أنه لا يحبسه لأجله وكذلك الدين إذا وجب على امرأة فإن القاضي لا يزوجها ليقضي الدين من صداقها لأن ذلك غير مستحق عليها(24/304)
ص -144- ... بدليل أنها لا تحبس لتباشر ذلك بنفسها فلا ينوب القاضي فيه منابها وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وقال عليه الصلاة والسلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه" ونفسه لا تطيب ببيع القاضي ماله عليه فلا ينبغي له أن يفعله لهذا الظاهر والمعنى فيه أن بيع المال غير مستحق عليه فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عند امتناعه كالإجارة والتزويج، بيان الوصف أن المستحق عليه قضاء الدين وجهة بيع المال غير متعين لقضاء الدين فقد يتمكن من قضاء الدين بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله. والدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق وقد ورد الأثر به على ما روي أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له وضمن نصيب شريكه ونحن نعلم أنه ما حبسه إلا بعد علمه بيساره لأن ضمان المعتق لا يجب إلا على الموسر ومع ذلك اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبسه حتى باع بنفسه فعرفنا أن المديون يحبس لقضاء الدين.(24/305)
ولو جاز للقاضي بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما في الحبس من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة وفي اتفاق العلماء رحمهم الله على حبسه في الدين دليل على أنه ليس للقاضي ولاية بيع ماله في دينه وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم لأن عند إصرار المولى على الشرك إخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضي منابه. وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الإمساك بالمعروف فالتسريح مستحق عليه بعينه فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بأن كان الدين عليه دراهم وماله دنانير ففي القياس ليس للقاضي أن يباشر هذه المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين. وفي الاستحسان يفعل ذلك لأن الدراهم والدنانير جنسان صورة وجنس واحد معنى ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان للقاضي أن يقضي دينه به فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يكون لصاحب الدين ولاية الأخذ من غير قضاء كما لو ظفر بحبس حقه وبالإجماع ليس له ذلك. قلنا: لأنهما جنسان صورة وإن كانا جنسا واحدا حكما فلانعدام المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين أخذه لأن فيه معنى المبادلة من وجه ولوجود المجانسة معنى قلنا للقاضي أن يقضي دينه به.
يوضحه أن من العلماء من يقول لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء ولا رضا وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله والقاضي مجتهد فجعلنا له ولاية الاجتهاد هنا في مبادلة أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه ولا يوجد هذا المعنى في سائر الأموال وفيه إضرار بالمديون من حيث إبطال حقه عن عين ملكه وللناس في الأعيان أغراض ولا(24/306)
ص -145- ... يجوز للقاضي أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به فوق ما هو مستحق عليه ثم هذا المعنى لا يوجد في النقود لأن المقصود هناك المالية دون العين وأما تأويل معاذ رضي الله عنه فنقول إنما باع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله بسؤاله لأنه لم يكن في ماله وفاء بدينه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير فيه وفاء بديونه وهذا لأن عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ رضي الله عنه أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله حتى يحتج ببيعه عليه بغير رضاه فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ولأجله ركبته الديون فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشهور في حديث أسيفع رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال إني قاسم ماله بين غرمائه فيحمل على أنه كان ماله من جنس الدين وإن ثبت البيع فإنما كان ذلك برضاه.(24/307)
ألا ترى أن عندهما القاضي لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك وأمرهم أن يفدوا إليه فدل أنه كان ذلك برضاه ثم قد تم الكتاب على قول أبي حنيفة رحمه الله وإنما التفريع بعد هذا على قول من يرى الحجر فنقول بين من يرى الحجر بسبب السفه اختلاف في صفة الحجر فعلى قول الشافعي رحمه الله الحجر به بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعد الحجر شيء من تصرفاته سوى الطلاق لأن السفه لا يزيل الخطاب ولا يخرجه من أن يكون أهلا لالتزام العقوبة باللسان باكتساب سببها أو بالإقرار بها بمنزلة الرق فكما أن بعد الرق لا ينفذ شيء من تصرفاته سوى الطلاق فكذلك بعد الحجر بسبب السفه. وأبو يوسف ومحمد قالا المحجور عليه بسبب السفه في التصرفات كالهازل يخرج كلامه على غير نهج كلام العقلاء لقصده اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله وكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق والعتاق لا يؤثر فيه السفه ولا يجوز أن يجعل هذا نظير الحجر بسبب الرق لأن ذلك الحجر لحق الغير في المحل الذي يلاقيه تصرفه حتى فيما لا حق للغير فيه يكون تصرفه نافذا وهنا لا حق لأحد في المحل الذي يلاقيه تصرفه ثم على مذهبهما القاضي ينظر فيما باع واشترى هذا السفيه. فإن رأى إجازته أجازه وكان جائزا لانعدام الحجر قبل القضاء عند أبي يوسف رحمه الله ولإجازة القاضي عند محمد رحمه الله فإن حاله لا يكون دون حال الذي لم يبلغ إذا كان عاقلا وهناك إذا باع واشترى وأجازه القاضي جاز وهذا لأن الحجر عليه لمعنى النظر وربما يكون النظر له في إجازة هذا التصرف فلهذا نفذ بإجازة القاضي سواء باشره السفيه أو الصبي العاقل. قال "وهما سواء في جميع الأشياء إلا في خصال أربع أحدها لا يجوز لوصي الأب أن يبيع شيئا من مال هذا(24/308)
الذي بلغ وهو سفيه إلا بأمر الحاكم ويجوز له البيع والشراء على الذي لم يبلغ" لأن ولاية الوصي عليه ثابتة إلى وقت البلوغ.(24/309)
ص -146- ... ألا ترى أنه ينفرد بالإذن له والحجر عليه وأنه قائم مقام الأب في ذلك وللأب ولاية على ولده ما لم يبلغ فأما بعد ما بلغ عاقلا لا يبقى للوصي عليه ولاية أما عند أبي يوسف فلأنه صار ولي نفسه ما لم يحجر عليه القاضي ومن ضرورة كونه ولي نفسه انتفاء ولاية الوصي عنه, وأما عند محمد فلأن البلوغ عن عقل مخرج له من أن يكون مولى عليه ويثبت له الولاية على نفسه.
ألا ترى أن لمعنى النظر له امتنع ثبوت أحد الحكمين وهو ثبوت الولاية له في التصرفات بنفسه ولا يتحقق مثل ذلك النظر في إبقاء ولاية الولي عليه ثم قد بينا أن تأثير السفه كتأثير الهزل ولا أثر للهزل في إثبات الولاية عليه للوصي وللهزل تأثير في إبطال تصرفه فلهذا لا يجوز تصرف الوصي عليه إلا أن يأمره الحاكم بذلك فحينئذ يقوم هو في التصرف له مقام القاضي ومعلوم أن القاضي إذا حجر عليه لا يتركه ليموت جوعا ولكن يتصرف له فيما يحتاج إليه وربما لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه لكثرة أشغاله فلا بد من أن يقيم غيره فيه مقامه. "والثاني أن السفيه إذا أعتق مملوكا له نفذ عتقه بخلاف الذي لم يبلغ"لما بينا أن تأثير السفه كتأثير الهزل ثم في قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول على العبد أن يسعى في قيمته وفي قول أبي يوسف الآخر ليس عليه السعاية في قيمته لأنه لو سعى إنما يسعى لمعتقه والمعتق لا تلزمه السعاية قط لحق معتقه بحال إنما تلزمه السعاية لحق غيره.
والثاني أن تأثير السفه كتأثير الهزل ومن أعتق مملوكه هازلا لا تلزمه السعاية في قيمته فهذا قياسه. وجه قول محمد رحمه الله أن الحجر على السفيه لمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض لأجل النظر لغرمائه وورثته.(24/310)
ثم هناك إذا أعتق عبدا وجب عليه السعاية لغرمائه أو في ثلثي قيمته لورثته إذا لم يكن عليه دين ولا مال سواه لأن رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر رده عليه فيكون الرد بإيجاب السعاية فهنا أيضا رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر رد عينه فيكون الرد بإيجاب السعاية فهنا أيضا واجب لمعنى النظر له وقد تعذر رده فكان الرد بإيجاب السعاية وقد بينا أن معنى النظر له في حكم الحجر بمنزلة النظر للمسلمين في الحجر بسبب الدين فكذلك في حكم السعاية.
والثالث أن الذي لم يبلغ إذا دبر عبده لا يصح تدبيره وهذا السفيه إذا دبر عبده جاز تدبيره"لأن التدبير يوجب حق العتق للمدبر فيعتبر بحقيقة العتق إلا أن هناك تجب عليه السعاية في قيمته وهنا لا تجب إلا بعد صحة التدبير في مال مملوك له يستخدمه ولا يمكن إيجاب نقصان التدبير عليه لأنه لما بقي على ملكه والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا تعذر إيجاب النقصان عليه.
ألا ترى أنه لو دبر عبده بمال وقبله العبد كان التدبير صحيحا ولا يجب المال بخلاف ما إذا كاتبه أو أعتقه على مال فإن مات المولى قبل أن يؤنس منه لرشد سعى الغلام في قيمته.(24/311)
ص -147- ... مدبرا لأن بموت المولى عتق فكأنه أعتقه في حياته فعليه السعاية في قيمته. وإنما لاقاه المعتق وهو مدبر فيسعى في قيمته مدبرا.
ألا ترى أن مصلحا لو دبر عبدا له في صحته ثم مات وعليه دين يحيط بقيمته أن على العبد أن يسعى في قيمته مدبرا لغرمائه فهذا مثله وكذا لو أعتقه بعد التدبير نفذ عتقه وعليه السعاية في قيمته لما قلنا.
"والرابع أن وصايا الذي لم يبلغ لا تكون صحيحة والذي بلغ مفسدا إذا أوصى بوصايا فالقياس فيه كذلك أنها باطلة بمنزلة تبرعاته في حياته"ولكنا نستحسن أن ما وافق الحق وما يتقرب به إلى الله تعالى وما يكون على وجه الفسق من الوصية للقرابات ولم يأت بذلك سرف ولا أمر يستقبحه المسلمون أنه ينفذ ذلك كله من ثلث ماله لأن الحجر عليه لمعنى النظر له حتى لا يتلف ماله فيبتلي بالفقر الذي هو الموت الأحمر وهذا المعنى لا يوجد في وصاياه لأن أوان وجوبها بعد موته وبعد ما وقع الاستغناء عن المال في أمر دنياه. فإذا حصلت وصاياه على وجه يكون فيه نظر منه لأمر أضربه أو لاكتساب الثناء الحسن بعد موته لنفسه وجب تنفيذه لأن النظر له في تنفيذ هذه الوصايا والتدبير من هذه الجملة فيعتق به بعد الموت لهذا وكان ينبغي أن لا يجب على المدبر السعاية ولكنه أوجب السعاية لما فيه من معنى إبطال المالية فكلام أبي يوسف يتضح في هذا الفصل ثم العلماء رحمهم الله اختلفوا في وصية الذي لم يبلغ بأهل المدينة رحمهم الله يجوزون من وصاياه ما وافق الحق وبه أخذ الشافعي رحمه الله على ما سنبينه في كتاب الوصايا وقد جاءت فيه الأثار حتى روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز وصية غلام يفاع وفي رواية يافع وهو المراهق وأن شريحا رحمه الله سئل عن وصية غلام لم يبلغ فقال إن أصاب الوصية فهو جائز وهكذا نقل عن الشعبي رحمه الله فحال هذا الذي بلغ وصار مخاطبا بالأحكام أقوى من حال الذي لم يبلغ فاختلاف العلماء في وصية الذي لم يبلغ يكون اتفاقا منهم(24/312)
في وصية السفيه أنه إذا وافق الحق وجب تنفيذه فهذا وجه آخر للاستحسان. ثم الحاصل أن السفه لا يجعل كالهزل في جميع التصرفات ولا كالصبا ولا كالمرض ولكن الحجر به لمعنى النظر له فالمعتبر فيه توفر النظر عليه وبحثه يلحق ببعض هذه الأصول في كل حادثة فإن جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد له فإن مات كانت حرة لا سبيل عليها لأن توفر النظر في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد فإنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى أنها تعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شيء لأن حقه مقدم على حق غرمائه بخلاف ما لو أعتقها, ولو لم يكن معها ولد, وقال هذه أم ولد كانت بمنزلة أم الولد يقدر على بيعها فإن مات سعت في جميع قيمتها بمنزلة المريض إذا قال لجاريته وليس معها ولد هذه أم ولدي وهذا لأنه إذا كان معها ولد فثبوت نسب الولد(24/313)
ص -148- ... بمنزلة الشاهد لها في إبطال حق الغير فكذلك في دفع حكم الحجر عن تصرفه بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد فإنه لا شاهد له هنا فإقراره لها بحق العتق بمنزلة إقراره بحقيقة الحرية فلا يقدر على بيعها بعد ذلك ويسعى في قيمتها بعد موته كما لو أعتقها ولو كان له عبد لم يولد في ملكه فقال هذا ابني ومثله يولد لمثله فهو ابنه يعتق ويسعى في قيمته لأنه أصل العلوق ولما لم يكن في ملكه كانت دعواه دعوى تحرير فيكون كالإعتاق.
ألا ترى أن المريض المديون إذا قال لعبد لم يولد في ملكه هذا ابني عتق وسعى في قيمته ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه لأنه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري شيء من ذلك لأنه وإن ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي وإذا لم يجب على المحجور شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع. ولو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام فقبضه وادعى أنه ابنه فإنه يعتق ويلزمه السعاية في قيمته بمنزلة ما لو أعتقه.(24/314)
ألا ترى أن المريض المديون لو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام في مرضه فادعى أنه ابنه ثم مات سعى الغلام في قيمته لغرمائه ولو أن هذا الذي بلغ مفسدا تزوج امرأة جاز نكاحه وينظر إلى ما تزوجها عليه وإلى مهر مثلها فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها مما سمى وهو في ذلك كالمريض المديون فإن التزوج من حوائجه ومن ضرورة صحة النكاح وجوب مقدار مهر المثل فأما الزيادة على ذلك فالتزام بالتسمية ولا نظر له في هذا الالتزام فلا تثبت هذه الزيادة كالمريض إذا تزوج امرأة بأكثر من صداق مثلها يلزمه من المسمى مقدار مهر مثلها فإذا طلقها قبل الدخول وجب لها نصف المهر في ماله لأن التسمية صحيحة في مقدار مهر المثل وتنصف المفروض بالطلاق قبل الدخول حكم ثابت بالنص. وكذلك لو تزوج أربع نسوة أو تزوج كل يوم واحدة ثم طلقها وبهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله أنه لا فائدة في الحجر عليه لأنه لا ينسد باب إتلاف المال عليه وأنه يتلف ماله بهذا الطريق إذا اعجز عن إتلافه بطريق البيع والهبة وهو يكتسب المحمدة في البر والإحسان والمذمة في التزوج والطلاق قال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله كل ذواق مطلاق".
ولو حلف بالله أو نذر نذورا من هدي أو صدقة لم ينفذ له القاضي شيئا من ذلك ولم يدعه يكفر أيمانه بذلك لأنه حجره عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى الإتلاف ولو لم يمنعه ذلك إذا أوجبه على نفسه لم يحصل المقصود بالحجر لأنه تيسر عليه النذر بالتصدق بجميع ماله ثم عليه أن يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعات وإن كان هو مالكا للمال لأن يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة بن السبيل المنقطع عن ماله وبمنزلة من يكون ماله دينا على إنسان أو غصبا في يده وهو يأبى أن يعطيه فله أن يكفر بالصوم كذلك هنا ولو(24/315)
ص -149- ... ظاهر هذا المفسد من امرأته صح ظهاره كما يصح طلاقه ويجزيه الصوم في ذلك لقصور يده عن ماله بمنزلة من كان ماله غائبا عنه.
فإن قيل هناك لو كان في ماله عبد لم يجز له أن يكفر بالصوم. قلنا لأن هناك يقدر على إعتاقه عن ظهاره وإن لم يكن في يده وهنا لا يقدر على ذلك لأنه لو أعتق عبده وجب على العبد السعاية في قيمته ومع وجوب السعاية عليه لا يجوز عتقه عن الظهار.
ألا ترى أن مريضا مصلحا لو أعتق عبده عن ظهاره أو قتله وعليه دين مستغرق ثم مات سعى الغلام في قيمته ولم يجز عن الكفارة للسعاية التي وجبت فلهذا أوجبنا عليه صوم شهرين متتابعين في كفارة الظهار والقتل.(24/316)
فإن قيل كان ينبغي أن ينفذ إعتاقه من غير سعاية لأن هذا مما يتقرب به إلى ربه ويسقط به الواجب عن ذمته فالنظر له في تنفيذه, قلنا لو فتح عليه هذا الباب لكان إذا شاء أن يعتق عبدا من عبيده وقيل له إن عتقك لا يجوز إلا بالسعاية ظاهر من امرأته ثم أعتق بعد ذلك العبد أو حلف بيمين وحنث فيها ثم أعتق ذلك فيحصل له مقصوده من التبذير بهذا الطريق لأنه يصير بعد هذا العتق بمنزلة من لم يظاهر فلزجره عن هذا القصد أوجبنا السعاية على العبد إذا أعتقه وعينا عليه التكفير بالصوم فإن صام المفسد أحد الشهرين ثم صار مصلحا لم يجزه إلا العتق بمنزلة معسر أيسر لأنه كان معسرا ابتداء وقد وصلت يده إلى المال قبل سقوط الكفارة عنه بالصوم فعليه التكفير بالمال وأما ما وجب على المفسد من أمر أوجبه الله تعالى من زكاة ماله أو حجة الإسلام أو غير ذلك فهو والمصلح فيه سواء لأنه مخاطب وإن كان مفسدا وبسبب الفساد لا يستحق النظر في إسقاط شيء من حقوق الشرع عنه بمنزلة الفاسق الذي يقصر في أداء بعض الفرائض لا يستحق به التخفيف في حكم الخطاب وهذا بخلاف ما أوجبه على نفسه لا فيما يوجبه على نفسه بسبب التزامه فيمكن فيه معنى التبذير فيما يرجع إلى الدنيا وإن كان فيه معنى النظر له في الآخرة كما في مباشرة التصدق فأما فيما أوجب الله تعالى عليه فلا يتوهم معنى التبذير فهو والمصلح فيه سواء.(24/317)
وينبغي للحاكم أن ينفذ له ما أوجب الله تعالى عليه من ذلك إذا طلبه من أداء زكاة ماله ولكن لا يدفع المال إليه ويخلي بينه وبينه لأنه يصرفه إلى شهوات نفسه ولكن لا يخلي بينه وبين ذلك حتى يعطيه المساكين بمحضر من أمينه لأن الواجب عليه الإيتاء وهو عبارة عن فعل هو عبادة ولا يحصل ذلك إلا بنيته فلهذا يدفع المال إليه ليعطيه المساكين من زكاته بمحضر من أمينه. وكذلك إن طلب من القاضي ما لا يصل به قرابته الذي يجبر على نفقتهم إجابة إلى ذلك لأن وجوب نفقتهم عليه يكون شرعا لا بسبب من جهته ولكن القاضي لا يدفع المال إليه بل يدفعه بنفسه إلى ذوي الرحم المحرم منه لأنه لا حاجة إلى فعله ونيته حتى أن من له الحق إذا ظفر بجنس حقه من ماله كان له أن يأخذه فكذلك القاضي يعينه على(24/318)
ص -150- ... ذلك بالدفع إليه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يأخذ بقوله في ذلك حتى تقوم البينة على القرابة وعسرة القرائب لأن إقراره بذلك بمنزلة الإقرار له بدين على نفسه فلا يكون ملزما إياه شيئا إلا في الوالد فإنهما إذا تصادقا على النسب قبل قولهما فيه كل واحد منهما في تصديق صاحبه يقر على نفسه بالنسب وقد بينا أن السفه لا يؤثر في المنع من الإقرار بالنسب لأن ذلك من حوائجه ولكن لا يعتبر قوله في عسرة المقر له حتى يعرف أنه كذلك كما في عسرة سائر الأقارب. وكذلك يقبل إقراره بالزوجية لأنه يملك إنشاء التزوج فيملك الإقرار به ويجب لها مقدار مهر مثلها ويعطيها القاضي ذلك لأن وجوب ذلك حكما لصحة النكاح وإن كان قد مضى بعد إقراره أشهر ثم أقر أنه كان فرض عليه نفقة في أول تلك الشهور لم يصدق على ما مضى من ذلك لأن هذا منه إقرار بالدين لها فإن نفقتها لزوجة في الزمان الماضي لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي وإقراره لها بالدين باطل. وإن أراد أن يحج حجة الإسلام لم يمنع منها لأنها تلزمه شرعا من غير صنع من جهته فلا يتوهم معنى التبذير فيه. ثم لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا. ويعطي ما يحتاج إليه كالزاد والراحلة لأن ذلك من أصول حوائجه وإن أراد عمرة واحدة لم يمنع منها أيضا استحسانا. وفي القياس لا يعطي نفقة السفر لذلك لأن العمرة عندنا تطوع كما لو أراد الخروج للحج تطوعا بعد ما حج حجة الإسلام ولكنه استحسن لاختلاف العلماء في فريضة العمرة وتعارض الأخبار في ذلك ولظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فهذا منه أخذ بالاحتياط في أمر الدين وهو من جملة النظر له ليس من التبذير في شيء.(24/319)
وإن أراد أن يقرن عمرة وحجا وسوق بدنة لم يمنع من ذلك لأن القران فضل عندنا وإذا لم يكن هو ممنوعا من إنشاء سفر لأداء كل واحد من النسكين فلأن لا يمنع من الجمع بينهما في سفر أولى، ثم القارن يلزمه هدي ويجزيه فيه الشاة عندنا ولكن البدنة فيه أفضل وقد اختلف العلماء من السلف في ذلك فكان بن عمر رضي الله عنه يقول لا يجزيه إلا بقرة أو جزور فهو حين ساق البدنة قد قصد به التحرز عن موضع الخلاف وأخذ بالاحتياط في أمر الدين وأراد أن يكون فعله أقرب إلى موافقه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن في سوق البدنة من معنى الفساد شيء فإن أراد الخروج لأداء ذلك نظر الحاكم إلى ثقة من يريد الخروج إلى مكة فيدفع إليه ما يكفي المحجور عليه للكراء والنفقة والهدي فيلي ذلك الرجل النفقة عليه وما أراد من الهدي وغيره بأمر المحجور عليه ولا يدفع إلى المحجور عليه شيئا من ذلك المال مخافة أن يتلفه في شهوات نفسه ثم يقول ضاع مني فأعطوني مثله وهذا لأنه في حالة الحضر كان ماله في يد وليه ينفق عليه منه بحسب حاجته. وإذا ولاه القاضي ذلك كان هو بمنزلة وليه في الهدي ولا بد من اعتبار أمره ونيته لمعنى القربة فأما أن يباشره أولى بأمره أو يدفع إليه ليباشر بحضرته ما يحق عليه مباشرته فإن اصطاد في إحرامه صيدا أو حلق رأسه من أذى أو صنع شيئا يجب فيه الصوم أمره بأن يصوم لذلك ولم يعط من ماله لما صنع(24/320)
ص -151- ... شيئا لأن وجوب هذا بسبب من جهته وأصل ذلك السبب جناية فلا يستحق باعتبار النظر فيؤمر بالصوم لذلك حتى يكون ذلك زجرا عن السفه. فإن رأى الحاكم أن يأمر الرجل إن ابتلي بأذى في رأسه أو أصابه وجع احتاج فيه إلى لبس قميص أو غير ذلك أن يذبح عنه أو يتصدق لم يكن بهذا بأس لأن هذا من النظر له عند حاجته ولهذا جوز الشرع ذلك للمضطر فلا بأس بأن ينظر القاضي له في ذلك فيأمره بالأداء من ماله عند حاجته ولكن لا يفعله الوكيل إلا بأمر المحجور عليه لمعنى القربة فيه فإن الولاية الثابتة عليه لوليه لم تكن باختياره والعبادة لا تتأدى بمثل هذه الولاية فلا بد من أمره ونيته لتحقيق معنى القربة وإن تطيب المحجور في إحرامه بطيب كثير أو قبل للشهوة أو صنع ما يلزمه فيه الدم أو الطعام مما لا يجوز فيه الصوم فهذا لازم له يؤدي إذا صار مصلحا ولا يؤدي عنه في حال فساده وأنه لزمه لأنه مخاطب ولكن سبب هذا الالتزام منه فلا يؤدي من ماله في حال فساده بل يتأخر إلى أن يصير مصلحا بمنزلة المعسر الذي لا يجد شيئا إذا صنع ذلك أو هو بمنزلة العبد المأذون في الإحرام من جهة مولاه إذا فعل شيئا من ذلك وهذا لأنه لو أدى عنه الحاكم هذا فعله في كل يوم مرة فيفني ماله فيه. وكذلك لو جامع امرأته بعد ما وقف بعرفة فعليه بدنة يتأخر إلى أن يصير مصلحا وإن جامعها قبل أن يقف بعرفة لم يمنع نفقة المضي في إحرامه إلى ذلك لأنه يحتاج إلى ذلك التحلل من الإحرام ولا يمنع نفقة العود من عام قابل للقضاء لأن ذلك لازم عليه شرعا ويمنع من الكفارة لأن وجوب ذلك بسبب من جهته وفي هذا السبب من الفساد ما لا يخفى والعمرة في هذا كالحج.(24/321)
ألا ترى أن المرأة ليس لها أن تحج غير حجة الإسلام إلا بإذن زوجها فإذا خرجت لحجة الإسلام ثم جومعت في إحرامها مطاوعة أو مكرهة مضت في الحج الفاسد ولم تمنع من العود للقضاء مع المحرم فإذا كانت لا تمنع هي لحق الزوج لم يمنع المحجور من ذلك أيضا لأجل الحجر ولو أن هذا المحجور عليه قضى حجة الإسلام إلا طواف الزيارة ثم رجع إلى أهله ولم يطف طواف الصدر فإنه يطلق له نفقة الرجوع للطواف ويصنع في الرجوع مثل ما يصنع في ابتداء الحج لأنه محرم على النساء ما لم يطف للزيارة فالرجوع للطواف من أصول حوائجه لأنه محتاج إليه للتحلل ولكن يأمر الذي يلي النفقة عليه أن لا ينفق عليه راجعا حتى يحضره ويطوف بالبيت لأنه لسفهه ربما يرجع ولا يطوف ثم يطلب النفقة مرة أخرى وهكذا يفعل ذلك في كل مرة حتى يفنى ماله فللزجر عن ذلك لا ينفق عليه راجعا حتى يطوف بالبيت بحضرته. وإن طاف جنبا ثم رجع إلى أهله لم يطلق له نفقة الرجوع للطواف لأنه تحلل للطواف مع الجنابة ولكن عليه بدنة لطواف الزيارة وشاة لطواف الصدر يؤديهما إذا صلح لأن وجوبهما كان بسبب من جهته وذلك السبب من الغشيان يعنى طواف الزيارة جنبا وترك طواف الصدر من غير عذر وإن أحصر في حجة الإسلام فإنه ينبغي للذي أعطى نفقته أن يبعث بهدي فيحل به لما بينا أن التحلل بالهدي من أصول حوائجه وماله معد لذلك.(24/322)
ص -152- ... ألا ترى أن العبد إذا حج بإذن مولاه فأحصر وجب على مولاه أن يبعث بهدي ليحل به ولو أن هذا المحجور أحرم بحجة تطوعا لم ينفق عليه في قضائها نفقة السفر لأنه التزم بسبب باشره ولكن يجعل من النفقة ما يكفيه في منزله لأنه مستحق لذلك إذا أقام في منزله ولم يحرم بالحج ولا يمنع ذلك بسبب إحرامه ولا يزاد له على ذلك ما يحتاج في السفر من زيادة النفقة والراحلة ثم يقال له إن شئت فاخرج ماشيا.
ألا ترى أنه لو قال اعطوني من مالي شيئا أتصدق به لم يعط ذلك فالذي يخرج بالحج تطوعا في المعنى ملتمس للزيادة على مقدار نفقته في منزله ليتقرب به إلى ربه فلا يعطى ذلك وإن كان موسرا كثير المال، وقد كان الحاكم يوسع عليه في منزله بذلك فكان فيما يعطيه من النفقة فضل عن قوته فقال أنا أتكارى بذلك وأنفق على نفسي بالمعروف أطلق له ذلك من غير أن يدفع إليه النفقة ولكن يدفعها إلى ثقة ينفقها عليه على ما أراد لأن هذا التدبير دليل الرشد والصلاح وفيه نظر له فلا يمنعه القاضي منه فإن لم يقدر على الخروج ماشيا ومكث حراما فطال به ذلك حتى دخله من إحرامه ذلك ضرورة يخاف عليه من ذلك مرضا أو غيره فلا بأس إذا جاءت الضرورة أن ينفق عليه من ماله حتى يقضي إحرامه ويرجع لأن إيفاء ماله لتوفير النظر له لا للإضرار به ومن النظر هنا له أن يعطي له ما يحتاج إليه لأداء ما التزمه حتى يخرج من إحرامه.(24/323)
وكذلك لو أحصر في إحرام التطوع لم يبعث الهدي عنه لأنه باشره بسبب التزمه باختياره إلا أن يشاء أن يبعث بهدي من نفقته وإن شاء ذلك لا يمنع منه لأنه من باب النظر وحسن التدبير فإن لم يكن في نفقته ما يقدر على أن يبعث بذلك منه تركه على حاله حتى تأتي الضرورة التي وصفت لك ثم يبعث عنه بهدي من ماله يحل به وإنما ينظر في هذا إلى ما يصلحه ويصلح ماله لأن الحجر عليه لصيانة ماله فالمقصود إصلاح نفسه فينظر في كل شيء من ذلك إلى ما يصلحه ويصلح ماله. فإذا بلغت المرأة مفسدة فاختلعت من زوجها جاز الخلع لأن وقوع الطلاق في الخلع يعتمد وجوب القبول لا وجوب المقبول وقد تحقق القبول منها وكان الزوج علق طلاقها بقبولها الجعل فإذا قبلت وقع الطلاق لوجود الشرط ولم يلزمها المال وإن صارت مصلحة لأنها التزمت المال لا بعوض هو مال ولا لمنفعة ظاهرة لها في ذلك فكان النظر في أن يجعل هذه كالصغيرة في هذا الحكم لا كالمريضة. فإن كان الزوج طلقها تطليقة على ذلك المال فهو يملك رجعتها لأن وقوع الطلاق باللفظ الصريح لا يوجب البينونة إلا عند وجوب البدل ولم يجب البدل هنا بخلاف ما إذا كان بلفظ الخلع فإن مقتضى لفظ الخلع البينونة وقد قررنا هذا الفرق في حق الصغيرة في كتاب الطلاق, وهذا بخلاف الأمة التي يطلقها زوجها تطليقة على ألف درهم وقد كان دخل بها فإن الطلاق هناك بائن لأن قبول الأمة المال صحيح في حقها حتى يلزمها المال إذا أعتقت فلوجوب المال في ذمتها كان الطلاق بائنا وفي المفسدة والصغيرة المال لا يجب بقبولها أصلا حتى إذا كانت الأمة مع(24/324)
ص -153- ... رقها مفسدة ممن لو كانت حرة لم يجز أمرها في مالها كان الطلاق رجعيا لأن التزامها المال لم يصح في حق نفسها حتى لا يلزمها المال إذا أعتقت. ولو أن غلاما أدرك مفسدا فلم يرفع أمره إلى القاضي حتى باع شيئا من تركة والده وأقر بديون ووهب هبات وتصدق بصدقات ثم رفع أمره إلى القاضي فإنه يبطل جميع ذلك وهو محجور عليه وإن لم يحجر عليه القاضي وهذا قول محمد رحمه الله. فأما عند أبي يوسف رحمه الله فهذا كله صحيح منه ما لم يحجر عليه القاضي. واستدل محمد على أبي يوسف بمنع المال منه فإن الوصي لا يدفع إليه ولو لم يكن محجورا عليه قبل حجر القاضي لما منع المال منه ومن يقول لا يدفع إليه ماله لم يكن محجورا عليه قبل حجر القاضي لما منع ويكون تصرفه جائزا فقد دخل فيما قال الذين لم يروا الحجر شيئا فإنا ما احتججنا عليهم إلا بهذا ولم يكن بين هذا القائل وبينهم افتراق في رد الآية يعني قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء: 6] فإنما عرض في هذا الكلام لأبي حنيفة ومن قال بقوله رحمهم الله قال رحمه الله وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول أنه في هذه الكلمات جاوز حد نفسه ولم يراع حق الاستناد ولأجل هذا لم يبارك له فيه حتى لم يكثر له تفريعه في هذا الكتاب ولا في كتاب الوقف. ولو كان أبو حنيفة رحمه الله في الأحياء لدمر عليه وكل مجرى في الحلائس, فإن كان هذا المفسد قبض ثمن ما باع ببينة ثم رفع ذلك إلى القاضي فإنه ينظر فيه فإن رأى ما باع به رغبة أجازه وإن كان الثمن قائما جاز بإجازته. وإن كان ضاع في يده لم يجزه القاضي لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء.(24/325)
وللقاضي أن يأذن للسفيه في التجارة إذا رآه أهلا لذلك فكذلك له أن يجيز تصرفه وإذا رأى النظر فيه فإن كان الثمن قائما بعينه والبيع بيع رغبة فالنظر في إجازته فإذا ضاع الثمن في يده فلا نظر له في هذه الإجازة لأنه إن أجازه زال ملكه عن العين من غير عوض يسلم له في الحال فإن إجازة البيع إجازة منه بقبض الثمن بمنزلة ما لو باع الفضولي مال إنسان وقبض الثمن وهلك في يده ثم أجاز المالك البيع كان ذلك إجازة منه بقبض الثمن حتى لا يرجع على واحد منهما بشيء فهذا كذلك فإذا لم يسلم له بعد الإجازة شيء لم يكن في الإجازة نظر له فلا يشتغل القاضي به ولا يكون للمشتري على الثمن الذي ضاع في يد المفسد سبيل لأن قبضه كان بتسليم منه وتسليطه إياه على ذلك فلا يدخل به المقبوض في ضمانه وهو في هذا كالذي لم يبلغ. وكذلك إن كان قبض الثمن يدفع المشتري إليه فاستهلكه بين يدي الشهود ثم رفع إلى القاضي فإنه ينقض بيعه ولا يلزم المحجور من الثمن شيء وهذا على قول محمد رحمه الله. فأما عند أبي يوسف رحمه الله فيكون هو ضامنا لما استهلك من الثمن وللقاضي أن يجيز البيع إن رأى النظر فيه وأصله في الصبي المحجور عليه إذا استهلك الوديعة أو استهلك شيئا اشتراه وإن كان المحجور حين قبض الثمن أنفقه على نفسه نفقة مثله في تلك المدة أو حج به حجة الإسلام أو أدى منه زكاة ماله أو صنع فيه شيئا مما كان على القاضي أن يصنعه عند طلبه ثم دفع إليه نظر فيه فإن كان البيع فيه رغبة فإن كانت قيمته مثل الثمن(24/326)
ص -154- ... الذي أخذه أجاز البيع وأبرأ المشتري من الثمن لأن هذا التصرف لم يتمكن فيه من معنى الفساد شيء فإنه لو طلبه من القاضي وجب عليه أن يجيبه إلى ذلك فإن باشر بنفسه كان على القاضي أن ينفذه لأن الحجر لمعنى الفساد ففيما لا فساد فيه هو كغيره والنظر له في تنفيذ هذا التصرف لأنه لا يمكنه أن يرفع الأمر إلى القاضي في كل حاجة وفي كل وقت لما فيه من الحرج البين عليه. وإن كان في تصرفه محاباة فأبطل القاضي ذلك لم يبطل الثمن عن المحجور عليه ولكن القاضي يقضيه من ماله لأنه لا فساد فيما صرف المال إليه من حوائجه وفيما لا فساد فيه هو كالرشيد فيصير المقبوض دينا عليه يصرفه له في حاجته وعلى القاضي أن يقضيه من ماله إلا أن يرى أن المحجور عليه لو استقرض من رجل مالا فقضى به مهر مثل المرأة قضى القاضي القرض من ماله فإن كان استقرضه لذلك ثم استهلكه في بعض حاجته لم يكن للمقرض عليه شيء له حال فساده ولا بعد ذلك لأنه صرف المال إلى وجه التبذير والفساد وهو كان محجورا عن ذلك فيكون فيه بمنزلة الذي لم يبلغ فأما ما صرفه إلى مهر مثل امرأته فإنما صرفه إلى ما فيه نظر له وهو إسقاط الصداق عن ذمته وربما كان محبوسا فيه أو كانت المرأة تمنع نفسها منه لذلك فيصير ذلك دينا عليه.
يوضحه: أن المقرض ممنوع من دفع مال نفسه إليه ليصرفه إلى تبذيره لأن فيه إعانة له على الفساد فيكون مضيعا ماله بذلك وهو مندوب إلى أن يقرضه ليصرفه إلى مهر مثل امرأته فلا يكون به مضيعا ماله.(24/327)
ولو استقرض مالا فأنفقه على نفسه نفقة مثله ولم يكن القاضي أنفق عليه في تلك المدة أجاز ذلك له وقضاه من ماله لأنه لا فساد فيما صنعه. وإن كان أنفقه بإسراف حسب القاضي للمقرض من ذلك مثل نفقة المحجور عليه في تلك المدة وقضاه من ماله وأبطل الزيادة على ذلك لأن في مقدر نفقة مثله لا فساد وفيما زاد على ذلك معنى الفساد والإسراف وإنما جعل هو كالذي لم يبلغ فيما فيه الفساد فأما في ما لا فساد فيه فهو كالرشيد.
ألا ترى أنه لو أقر على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة كان مؤاخذا بذلك لأنه لا فساد في إقراره وإنما به يحصل التطهير لنفسه وآثر عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة وهو نظير أحد الورثة إذا أسرف في جهاز الميت وكفنه فإنه يحسب من أصل التركة مقدار جهاز مثله وما زاد على ذلك مما فيه إسراف يكون محسوبا عليه دون سائر الورثة. ولو أودعه رجل مالا فأقر أنه استهلكه لم يصدق على ذلك ولم يلزمه بهذا الإقرار شيء أبدا لأن إقراره غير ملزم إياه المال وهو فيه كالذي لم يبلغ ما دام محجورا عليه فإن صلح سئل عما أقر به في حال فساده فإن أقر أنه قد كان استهلكه في حال فساده لم يلزمه ذلك أيضا لأن الثابت بإقراره كالثابت بالبينة والمعاينة. ولو عايناه استهلك الوديعة في حال فساده لم يكن ضامنا أبدا في قول محمد رحمه الله. أما في قول أبي يوسف رحمه الله هو ضامن فكذلك هنا وأصل(24/328)
ص -155- ... الخلاف في الذي لم يبلغ إذا أودعه رجل مالا واستهلكه وعلل في هذا بما علل به هناك فقال لأن رب المال هو الذي سلطه على ماله حين دفعه إليه.
وإذا أودع المحجور عليه غلاما أو جارية فقتله خطأ كانت قيمته على عاقلته لأن الحجر في الأفعال لا يتحقق فالأفعال حسية تحققها بوجودها وأصله في الصبي إذا أودع غلاما أو جارية فقتله, قال "فإن أقر المحجور بذلك لم يلزمه ما دام محجورا عليه"لأن قوله هدر في التزام المال بنفسه أو الإلزام على عاقلته فإن صلح فيسئل عما كان أقر به فإن أقر به في حال صلاحه أخذت منه القيمة من ماله في ثلاث سنين من يوم يقضي عليه لأن بإقراره في حال صلاحه يظهر هذا الفعل في حقه فيكون بمنزلة الظاهر بالمعاينة في حقه وهو لم يظهر في حق عاقلته لكونه متهما في حقهم فتكون القيمة عليه في ماله مؤجلا لأنها وجبت بفعل القتل وابتدأ الأجل من حين يقضي عليه لأنه صار دينا الآن والأجل يكون في الدين وهذا بخلاف الصبي فإنه غير مخاطب ولا يلزمه من الدية شيء من موجب جنايته إذا كان عمدا فكذلك إذا كان هو خطأ فهو وإن أقر عند البلوغ فإنما أقر على عاقلته وذلك لا يلزمه شيئا فأما المحجور عليه فمخاطب، ولو كان فعله عمدا كان هو كالرشيد في موجبه فكذلك إذا كان خطأ يكون هو كالرشيد في أن الدية عليه ثم تتحمله العاقلة عنه للتخفيف عليه وإذا أقر بعد ما صلح فإنما يظهر بإقراره في حقه دون عاقلته فلهذا كانت القيمة عليه في ماله.(24/329)
ولو أقر المحجور عليه أنه أخذ مال رجل بغير أمره فاستهلكه لم يصدق على ذلك لكونه محجورا عن الإقرار بوجوب الدين عليه. فإن صلح سئل عما كان أقر به فإن أقر أنه كان حقا أخذ به كما لو لم يسبق منه الإقرار في حالة الحجر ولكن أقر بعد ما صلح ابتداء أنه استهلك مال رجل بغير أمره وإن أنكر أن يكون حقا لم يؤخذ به لأنه لا حجر عليه بذلك سوى الإقرار الذي كان منه في حالة الحجر وذلك باطل. وكذلك لو قال بعد ما صلح أني قد كنت أقررت وأنا محجور على أني استهلكت لك ألف درهم فقال رب المال أقررت لي بذلك في حال صلاحك أو قال قد أقررت به في حال فسادك ولكنه حق وقال المقر لم يكن ذلك حقا فالقول قول المقر لأنه أضاف الإقرار إلى حالة معهودة تنافي صحة إقراره فيكون في الحقيقة منكرا لا مقرى فيجعل القول قوله في ذلك وهو في هذا بمنزلة الذي لم يبلغ. ولو قال بعد ما صلح قد كنت أقررت بذلك في حال الفساد وكان ذلك حقا فإنه يقضي عليه بذلك لأن بقوله كان ذلك حقا صار مقرى له بوجوب المال الآن فيلزمه القاضي ذلك بهذا الإقرار.
ألا ترى أن الذي لم يبلغ لو أودعه رجل أو أقرضه مالا ثم كبر فأقر أنه استهلكه في حال صغره وقال رب المال استهلكته بعد الكبر أن القول قول الغلام لأنه أضاف استهلاكه إلى حالة معهودة تنافي وجوب الضمان عليه فيكون هو منكرا للضمان. ولو قال رب المال أنا أقرضتك أو أودعتك بعد الكبر فاستهلكته وقال الغلام استهلكته قبل الكبر كان الغلام(24/330)
ص -156- ... ضامنا لجميع ذلك لأن الغلام يدعي اسناد الإيداع والإقراض إلى حالة الصغر ليثبت به تسليطه إياه على الاستهلاك مطلقا ورب المال منكر لذلك فالقول قوله وإذا قبل قوله مع يمينه بقي استهلاكه للمال وهو سبب موجب للضمان عليه في الحال.
ألا ترى أن من أتلف مال إنسان وقال أتلفته بإذنك وأنكر صاحب المال ذلك كان القول قوله فهذا مثله وإذا بلغت المرأة محجورا عليها لفسادها فزوجت كفؤا بمهر مثلها أو بأقل مما يتغابن الناس فيه فهو جائز لأنه لا فساد فيما صنع والحجر بسبب الفساد لا يؤثر فيما لا يؤثر فيه الهزل في جانب الرجل فكذلك في جانبها والغبن اليسير مما لا يستطاع التحرز عنه إلا بحرج والحرج مدفوع. ولو زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فيما يتغابن الناس فيه ولم يدخل بها قيل لزوجها إن شئت فأتم لها مهر مثلها لأن معنى الفساد يتمكن في هذا النوع من المحاباة فلا يسلم ذلك للزوج ولكنه يتخير لأنه يلزمه زيادة لم يرض بالتزامها فإن شاء رضي به والتزمه وإن شاء أبى فيفرق بينهما لأنه لما كان لا يتمكن من استدامة إمساكها إلا بالمعروف إلا بهذه الزيادة فإذا أباها كان راضيا بالتفريق بينهما. وإن كان قد دخل بها فعليه لها تمام مهر مثلها لأن مهر المثل قيمة بضعها مستحق بالدخول لشبهة العقد إلا إذا تقدمه تسمية صحيحة ولم يوجد ذلك حين تمكن الفساد في تسميتها فكأنها زوجت نفسها منه بغير مهر ودخل هو بها فيلزمه تمام مهر مثلها ولا يفرق بينهما لأن التفريق كان للنقصان عن صداق المثل وقد انعدم حين قضى لها بمهر مثلها بالدخول. وكذلك إن كان الذي تزوجها محجورا عليه فالجواب ما بينا إلا في خصلة واحدة وهو إن كان تزوجها على أكثر من مهر مثلها بطل الفضل عن مهر مثلها عن الزوج لأن إلزام المفسد للزيادة بالتسمية غير صحيح فإن في التزام ما زاد على مهر مثلها معنى الفساد ثم لا خيار للمرأة في ذلك إن دخل بها أو لم يدخل بها لأن حقها في قيمة البضع وقد سلم(24/331)
لها ذلك وانعدام الرضا منها لتملك البضع عليها بدون هذه الزيادة لا يمنع لزوم النكاح إياها كما لو أكرهت هي ووليها على أن تزوج نفسها فلانا بمهر مثلها. وإن كانت تزوجت بمهر مثلها غير كفؤ فرق القاضي بينهما لأن طلب الكفاءة فيه حقها وحق الولي ولم يوجد الرضا من الولي بانعدام الكفاءة ورضاها بذلك غير معتبر في إبطال حقها لما تمكن فيه من معنى الفساد واتباع الهوى فلهذا كان لها أن تخاصم ويفرق القاضي بينهما لخصومتها وخصومة أوليائها.
ولو أن غلاما أدرك وهو مصلح قد أونس منه الرشد فدفع إليه وصيه أو للقاضي ماله وسلطه عليه ثم أفسد بعد ذلك وصار ممن يستحق الحجر فهو محجور عليه وإن لم يحجر القاضي عليه وهو قول محمد رحمه الله بمنزلة ما لو صار معتوها وعند أبي يوسف ما لم يحجر عليه القاضي فتصرفه نافذ ثم عندهما القاضي يسترد المال منه ويجعله في يد وليه كما لو بلغ مفسدا لأن إيناس الرشد منه شرط لدفع المال إليه بالنص فيكون شرطا لإبقاء المال في يده استدلالا بالنص, وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يخرج المال من يده لأن ما هو شرط(24/332)
ص -157- ... ابتداء الشيء لا يكون شرط بقائه لا محالة ثم منع المال منه باعتبار أثر الصبي وفساده عند البلوغ دليل أثر الصبي فمنع المال منه إلى أن يزول لأن ذلك بعرض الزوال فأما فساده بعد ما بلغ مصلحا فليس بدليل أثر الصبي فلا يوجب الحيلولة بينه وبين ماله لأن ذلك جناية منه ولا تأثير للجناية في قطع يده عن ماله ولا في قطع لسانه عن المال بالتصرف فيه.
ولو كان باع عبدا ولم يدفعه ولم يقبض ثمنه وهو حال أو مؤجل حتى فسد فسادا استحق الحجر به ثم دفع الغريم إليه المال فدفعه باطل لأن الحجر عليه لمعنى النظر له عند من يرى الحجر وليس من النظر دفع الثمن إليه بعد ما صار سفيها فهو بمنزلة ما لو باع عبدا وسلمه ولم يقبض ثمنه حتى صار معتوها إلا أن مثله يقبض فكما لا يجوز قبضه للثمن هناك إذا دفعه إليه المشتري كذلك هنا. وكذلك لو أن الصبي أذن له وليه في التجارة فباع شيئا ثم حجر عليه وليه قبل قبض الثمن فدفع الثمن إليه المشتري لم يبرأ بمنزلة ما لو كان الولي هو الذي باشر البيع والصبي محجور عليه لأن قبض الصبي إنما يكون مبرئا للمشتري إذا تأيد رأيه بانضمام رأي الولي إليه وقد انعدم ذلك بالحجر عليه وهنا قبضه إنما كان مبرئا للمشتري بكونه رشيدا حافظا لماله وقد انعدم ذلك بفساده.(24/333)
وكذلك لو أن رجلا وكله ببيع عبد له وهو مصلح فباعه ثم صار البائع مفسدا ممن يستحق الحجر عليه فقبض الثمن بعد ذلك لم يبرأ المشتري إلا أن يوصله القابض إلى الآمر فإن أوصله المشتري بريء المشتري بوصول الحق إلى مستحقه وإن لم يصل إلى الآمر حتى هلك في يد البائع هلك من مال المشتري ولا ضمان على البائع والآمر فيه ويؤخذ من المشتري الثمن مرة أخرى لأن الآمر إنما رضي بقبضه للثمن باعتبار أنه مصلح حافظ للمال فلا يكون راضيا به بعد ما صار سفيها وهذا كله بخلاف ما لو نهاه عن قبض الثمن لأنه استحق بالبيع قبض الثمن فاستحق المشتري البراءة بتسليم الثمن إليه فلا يبطل استحقاقها لنهي الآمر لأن ذلك تصرف منه في حق الغير وأما الفساد عند من يرى الحجر به فمعنى حكمي حتى يخرج به المفسد من أن يكون مستحقا لقبض الثمن فيعمل ذلك في حقه وحق المشتري وهذا لأن الآمر بالنهي قصد إلحاق الضرر بهما وليس له هذه الولاية في إثبات الحجر عليه عن القبض بعد ما صار مفسدا دفع الضرر عن الآمر وهذا ضرر لم يرض الآمر بالتزامه فيجب دفعه عنه بخلاف ما لو كان الآمر أمره بالبيع والمأمور مفسد فيما باع وقبض الثمن جاز بيعه وقبضه لأنه راض بالتزام ذلك الضرر حين أمره بالبيع وهو كذلك وهو نظير ما لو أمر صبيا محجورا أو معتوها يعقل البيع والشراء ببيع ماله فباعه جاز. ولو أمره وهو صحيح العقل ثم صار معتوها لم يكن له أن يبيعه ويستوي إن كان الآمر يعلم بفساده أو لم يعلم لأن أمره تصريح منه بالرضى بتصرفه على الصفة التي هو عليها ومع التصريح لا معتبر بعلمه وجهله لأن ذلك لا يمكن الوقوف عليه.
ولو باع المفسد متاعه بثمن صالح ولم يقبضه حتى رفع ذلك إلى القاضي فإنه يجيز البيع(24/334)
ص -158- ... وينهى المشتري عن دفع الثمن إلى المحجور عليه لأن في إجازة البيع نظرا له فإنه لو نقضه احتاج إلى إعادة مثله وليس في مباشرته قبض الثمن نظرا له بل فيه تعريض ماله للهلاك فينهى المشتري عن دفع الثمن إليه لمعنى النظر ويصح ذلك منه لأنه بمنزلة الحكم منه في فصل مجتهد فيه فإن دفعه بعد ما نهاه فضاع في يد المحجور عليه لم يبرأ المشتري منه ويجبر على دفع ثمن آخر إلى القاضي لأن نهيه لما صح صار حق قبض الثمن للقاضي أو لأمينه فدفعه إلى المحجور عليه بعد ذلك كدفعه إلى أجنبي آخر وكدفع ثمن ما باعه القاضي أو أمينه من ماله إلى المحجور عليه ولا خيار للمشتري في ذلك البيع لأنه ضيع ماله بالدفع إليه بعد ما نهاه القاضي وأساء الأدب بمخالفة القاضي فيما خاطبه به فلا يستحق لسعيه تخفيفا ولا خيارا، ولو كان القاضي حين أجاز البيع لم ينهه عن دفع الثمن إليه فدفعه إليه فهو جائز لأن في إجازة بيعه إجازة لدفع الثمن فإن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء ومطلق الإذن له في البيع يكون تسليطا على قبض الثمن فكذلك مطلق الإجازة في الانتهاء إلا أن يبني الأمر على وجه فيقول قد أجزت البيع ولا أجيز للمشتري أن يدفع الثمن إليه فإذا قال ذلك فهذا بمنزلة الحكم منه وحكم القاضي يقيد بما قيده به.(24/335)
ولو أجاز البيع في الابتداء جملة ثم قال بعد ذلك قد نهيت المشتري أن يدفع الثمن إليه كان نهيه باطلا وكان دفع المشتري الثمن إلى المحجور عليه جائزا حتى يبلغه ما قال القاضي في ذلك لأنه سلطه على دفع الثمن بإجازته البيع جملة ثم نهيه إياه عن دفع الثمن إليه خطاب ناسخ أو مغير لحكم الإجازة المطلقة فلا يثبت في حقه حكمه ما لم يعلم به لأنه لا يتمكن من العلم به ما لم يبلغه وفي إلزامه إياه قبل أن يعلم به إضرار فإذا بلغه ثم أعطاه الثمن لم يبرأ منه لأن الناسخ قد وصل إليه فليس له أن يعمل بالمنسوخ بعد ما بلغه الناسخ وهذا نظير الناسخ والمنسوخ في خطاب الشرع فإنه كان في الصحابة رضوان الله عليهم من شرب الخمر بعد ما نزل تحريمها ولم يعاتب على ذلك لأنه لم يبلغه الناسخ وفي قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ومن أعلمه بذلك وكان خبره حقا فهو إعلام لأن على قول من يرى الحجر خبر الواحد في المعاملات حجة سواء كان ملتزما أو غير ملتزم كان المخبر رسولا أو لم يكن فاسقا كان أو عدلا بعد أن يكون الخبر حقا.
ألا ترى لو أن مفسدا قال له القاضي بع عبدك هذا بألف درهم ولم ينهه عن قبض الثمن فباعه وقبض الثمن وضاع عنده كان جائزا. ولو قال بعه ولا تقبض الثمن لم يجز قبضه وأجبر المشتري على أدائه مرة أخرى ولا خيار له في نقض البيع علم بذلك أو لم يعلم.
ولو أمره بالبيع ولم ينهه عن قبض الثمن ثم قال بعد ذلك إذا باع فلا يقبض الثمن فإني نهيته عن ذلك فله أن يبيع ويقبض الثمن ما لم يبلغه نهي القاضي ومعنى هذا الاستشهاد ما أشرنا إليه أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وإذا أدرك اليتيم مفسدا فحجر القاضي(24/336)
ص -159- ... عليه أو لم يحجر فسأل وصيه أن يدفع إليه ماله فدفعه إليه فضاع في يده أو أتلفه فالوصي ضامن للمال لأن دفع المال إلى من هو مفسد يكون تضييعا له فهو بمنزلة ما لو طرح الوصي ماله في مهلكة. وكذلك لو كان الوصي أودعه المال إيداعا لأنه تسليط له على إتلافه حين مكنه منه فيكون ذلك من الوصي بمنزلة الاستهلاك لماله وليس هذا كدفع الوصي مال يتيم مصلح لم يبلغ إليه وديعة أو ليبيع به ويشتري به لا ضمان عليه إذا ضاع منه أو ضيعه لأن الصغير المصلح مأمون على نفسه وماله.
ألا ترى أن للوصي أن يأذن له في التجارة فلا يكون دفع المال إلى مثله تضييعا له وأما الكبير المفسد فدفع ماله إليه ما دام هو على فساده يكون تضييعا له ولهذا لو أذن له في التجارة وهو عالم بأنه فاسد ولم يؤنس منه رشدا لم يجز إذنه وهذا لأنه مأمور بالنظر في حق كل واحد منهما والنظر في حق الصبي المصلح اختباره بالإذن له في التجارة كما قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] والنظر في حق الكبير المفسد منعه من التصرف ومنع المال منه فيكون دفع المال إليه والإذن له في التجارة خلاف المأمور به في حقه فلا ينفذ من الوصي.(24/337)
ألا ترى أن الغلام المصلح لماله لو رفع الأمر إلى القاضي وكان ممن يشتري ويبيع ويربح كان الذي ينبغي للقاضي أن يأذن له في التجارة ولو رفع هذا المفسد لم يأذن له في ذلك فلذلك اختلف حال الوصي فيهما ولو أن القاضي أمر هذا المفسد أن يبيع شيئا من ماله ويشتري به ففعل ذلك جاز وكان هذا إخراجا من القاضي له من الحجر وذلك صحيح من القاضي لأنه حكم منه في موضع الاجتهاد لينفذ منه ولا ينفذ مثله من الوصي لأنه ليس له ولاية الحكم, فإن وهب أو تصدق هذا المفسد بذلك المال لم يجز لأن القاضي إنما دفع الحجر عنه في التجارة خاصة وحكم القاضي يتقيد تنفيذه فبقي الحجر عليه فيما ليس بتجارة على ما كان قبل هذا الإذن حتى إذا أعتق الغلام سعى الغلام في قيمته وإن اشترى وباع بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز لأن المحاباة ممن لا يملك التبرع بمنزلة الهبة. وإن أذن له في بيع عبد بعينه أو في شراء عبد بعينه لم يجز له أن يشتري ولا أن يبيع إلا الذي أذن له فيه خاصة لأنه بهذا الإذن ينيبه مناب نفسه ولا يرفع الحجر عنه في شيء فإنه لم يفوض إليه شيئا من لتصرف إلى رأيه ولكن رأى فيه رأيه ثم أمره أن ينوب عنه في مباشرة العقد فلا يكون ذلك رفعا للحجر عنه.
ولو أذن له في شراء البر وبيعه خاصة دون ما سواه من التجارات كان مأذونا في التجارات كلها لأن هذا الإذن إطلاق للحجر عنه في التجارة في نوع مفوضا إلى رأيه وهو نظير المولى يأذن لعبده في نوع من التجارة يصير مأذونا في التجارات كلها ولو أمره أن يشتري شيئا بعينه لا يصير مأذونا. وكذلك الوصي في حق الذي لم يبلغ والفقه فيه أن الفاسد المحجور عليه يقدر على إفساد ماله فيما أذن له من التجارة لأن إتلاف المال بطريق التجارات في الضرر دون إتلافه بطريق التبرع مثل ما يقدر عليه في غيره فليس في تقييد الإذن بنوع من(24/338)
ص -160- ... التجارة معنى النظر بخلاف التبرع فلا يكون فك الحجر عنه في التجارة فكا للحجر عنه في التبرع فإن قال القاضي في السوق بمحضر من أهلها أو بمحضر من جماعة منهم قد أذنت لهذا في التجارة ولا أجيز له منها إلا ما أعلم أنه اشترى أو باع ببينة فأما ما لا يعلم إلا بإقراره فإني لا أجيز عليه فالأمر على ما قال القاضي من ذلك لأن تقييده فك الحجر عنه بما قيده به يرجع إلى النظر له والقاضي مأمور في حق السفيه بما يكون فيه توفير النظر عليه.(24/339)
يوضحه أن صحة إقراره بعد انفكاك الحجر عنه باعتبار أنه من توابع التجارة وإنما يكون تابعا إذا لم يصرح فيه بخلاف ما صرح به في أصل تجارته وله ولاية هذا التصريح مع بقاء فك الحجر عنه فلا بد من اعتباره ولو لم يعتبر هذا إنما لا يعتبر دفعا للضرر والغرور عمن يعامله وقد اندفع ذلك حين جعل القاضي هذا القيد مشهورا كإشهار الإذن وهذا بخلاف الغلام المصلح الذي لم يبلغ يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة على هذا الوجه أو العبد يأذن له مولاه على هذا الوجه حيث لا يلزمهم وما أقروا به مثل ما يلزمهم بالبينة لأنه ليس للولي ولا للمولى ولاية تقييد الإذن بما قيده به مع بقاء أصل الإذن فيلغو بقيده وهذا لأن الإذن للمحجور عليه على وجه النظر وفي التقييد توفير النظر فيستقيم من القاضي وفي حق من كان مأمونا على ماله أو في حق العبد ليس في هذا التقييد معنى التطويل بل هو تقييد غير مفيد لأن الحاجة إلى إذن المولى لتتعلق ديونه بمالية رقبته ولا فرق في ذلك بين الدين الذي يثبت عليه بإقرار أو بالبينة في حق المولى والفاسد الذي يستحق الحجر عليه كل من كان مضيعا ماله مفسدا له لا يبالي ما صنعه منتفعا بالسرف في غير منفعة على جهة المجون. فإن كان فاسدا في دينه لا يؤمن عليه من فجوره ولا غيره إلا أنه حافظ لماله حسن التدبير له لم يستحق الحجر عليه لأن الحجر على قول من يراه لإبقاء المال ولا حاجة إليه في حق الفاسد الذي هو حسن التدبير في ماله إنما الحاجة إليه في حق المبذر المتلف لماله.(24/340)
ولو أن قاضيا حجر على فاسد يستحق الحجر ثم رفع إلى قاض آخر فأطلق عنه الحجر وأجاز ما كان باع أو اشترى ولم ير حجر الأول شيئا فأبطل حجره جاز إطلاق هذا عنه لأن الأول لو تحول رأيه فأطلق عنه الحجر جاز فكذلك الثاني وهذا لأن نفس الحجر على السفيه مجتهد فيه فإنه باطل عند أبي حنيفة رحمه الله ونفس القضاء متى كان مجتهدا فيه يوقف على إمضاء غيره فإذا أبطله بطل ثم الحجر عليه لم يكن قضاء من القاضي لأن القضاء يستدعي مقضيا له ومقضيا عليه ولم يوجد ذلك إنما كان ذلك نظرا منه له وقد رأى الآخر النظر له في الإطلاق عنه فينفذ ذلك منه إلا أن يكون شيء من بيوعه أو شرائه المتقدمة رفع إلى القاضي الذي يرى الحجر عليه أو إلى قاض آخر يرى الحجر فأبطل مبايعاته ثم رفع إلى هذا القاضي الآخر فأبطل قضاء الأول وأجاز ما كان أبطله ثم رفع إلى قاض آخر يرى الحجر أو لا يراه فإنه ينبغي له أن يجيز قضاء الأول بإبطال ما أبطل من بيوعه واشريته ويبطل قضاء(24/341)
ص -161- ... الثاني فيما أبطله من قضاء الأول لأن قضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ذلك وكان ذلك قضاء تاما بوجود المقضي له والمقضي عليه وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ بالاتفاق ثم الإبطال من الثاني حصل بخلاف الإجماع لأنه أبطل قضاء أجمع المسلمون على نفوذه وقضاء القاضي بخلاف الإجماع باطل فهذا يبطل الثالث قضاء القاضي بإبطال قضاء الأول ويمضي قضاء الأول بإبطال ما أبطل من بيوعه أو أشريته والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(24/342)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الخامس والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(25/1)
ص -3- ... كتاب المأذون الكبير
قال رحمه الله: قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله: أعلم بأن الإذن في التجارة فك الحجر الثابت بالرق شرعا ورفع المانع من التصرف حكما وإثبات اليد للعبد في كسبه بمنزلة الكتابة إلا أن الكتابة لازمة لأنها بعوض والإذن لا يكون لازما فحلوه عن العوض بمنزلة الملك المستفاد بالهبة مع المستفاد بالبيع وهذا لأنه أهل للتصرف بعد حدوث الرق فيه كما كان قبله لأن ركن التصرف كلام معتبر شرعا وذلك يتحقق من الرقيق واعتبار الكلام بكونه صادرا عن مميز أو مخاطب ولا ينعدم ذلك بالرق ومحل التصرفات ذمة صالحة لالتزام الحقوق ولا ينعدم ذلك بالرق فإن صلاحية الذمة للالتزام من كرامات البشر وبالرق لا يخرج من أن يكون من البشر إلا أن الذمة تضعف بالرق فلا يجب المال فيها إلا شاغلا مالية الرقبة وذلك يسقط بوجود الرضا منه لتعلق الحق بمالية رقبته فكان الإذن فكا للحجر من هذا الوجه وهو نظير ملك الحل فإنه من كرامات البشر فلا ينعدم بالرق وإن كان ينتقص حتى أن الحل في حق الرقيق نصف ما هو في حق الحر بيناه في كتاب النكاح وإنما ينعدم بالرق الأهلية لمالكية المال لأنه يصير به مملوكا مالا وبين كونه مملوكا مالا وكونه مالكا للمال منافاة ولهذا لا ينعدم بالرق الأهلية للمالكية بالنكاح لأنه لا يصير به مملوكا نكاحا.
فإن قيل: ينبغي أن ينعدم بالرق الأهلية لملك التصرف لأنه صار مملوكا تصرفا فإن المولى يملك التصرفات عليه.
قلنا: إنما يصير مملوكا تصرفا بنفسه بيعا أو تزويجا فلا جرم تنعدم الأهلية لمالكية هذا التصرف ويكون نائبا فيه عن المولى متى باشر بأمره ولكنه ما صار مملوكا تصرفا في ذمته حتى أن المولى لا يملك الشراء بثمن يجب في ذمة عبده ابتداء فتبقى له الأهلية في ملك هذا التصرف كما أنه لم يصر مملوكا تصرفه عليه في الإقرار والحدود والقصاص بقي مالكا لهذا التصرف.(25/2)
فإن قيل: انعدام الأهلية لخروجه بالرق من أن يكون أهلا لحكم التصرف وهو الملك المستفاد والتصرفات الشرعية لا تراد لعينها بل لحكمها وهو ليس بأهل لذلك.
قلنا: لا كذلك وحكم التصرف ملك اليد والرقيق أهل لذلك.(25/3)
ص -4- ... ألا ترى أن استحقاق ملك اليد يثبت للمكاتب مع قيام الرق فيه وهذا لأنه مع الرق أهل للحاجة فيكون أهلا لقضائها وأدنى طريق الحاجة ملك اليد فهو الحكم الأصلي للتصرف وملك العتق مشروع للتوصل إليه فما هو الحكم الأصلي يثبت للعبد وما وراء ذلك يخلفه المولى فيه وهو نظير من اشترى شيئا على أن البائع بالخيار ثم مات فمتى اختار البائع البيع ثبت ملك العين للوارث على سبيل الخلافة عن المورث بتصرف باشره المورث بنفسه ثم الدليل على جواز الإذن للعبد في التجارة شرعا الآثار التي بدأ بها الكتاب فمن ذلك حديث إبراهيم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار ويجيب دعوة المملوك" وفيه دليل تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ركوب الحمار من التواضع وقد كان يعتاده رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روي أنه ركب الحمار معروريا وروي أنه ركب الحمار وأردف وذلك من التواضع قال عليه السلام "بريء من الكبر من ركب الحمار وسعى في مهنة أهله".(25/4)
وفي لسان الناس: ركوب الفرس عز وركوب الجمال كمال وركوب البغل مكرمة وركوب الحمار ذل ولا ذل كالترجل وكذلك إجابة دعوة المملوك من التواضع وقد فعله غير مرة على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه أجاب دعوة عبد" وروى "أنه كان يجيب دعوة الرجل الدون" يعني المملوك والمملوك لا يتمكن من إيجاد الدعوة ما لم يكن له كسب وطريق الاكتساب التجارة وليس له أن يباشرها بدون إذن المولى فثبت بهذا الحديث جواز الإذن في التجارة وأن ما يكسبه العبد بعد الإذن حلال وأنه لا بأس للعبد المأذون بأن يتخذ الدعوة بعد أن لا يسرف في ذلك ولا بأس بإجابة دعوته اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يجيب الدعوة وكان يقول "من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم". وعن إبراهيم أنه كان يقول يجوز على العبد كل دين حتى يحجر عليه وكان يقول إذا حجر الرجل على عبده في أهل سوقه فليس عليه دين ومعناه يلزمه كل دين يكتسب سبب وجوبه مما هو من صنيع التجار كالإقرار والاستئجار والشراء لأنه منفك الحجر عنه في التجارة فهو من التزام الدين بسببه كالحر وإذا حجر المولى عليه في أهل سوقه فليس عليه دين أي لا يلزمه الدين بمباشرة هذه الأسباب بعد الحجر في حق المولى ليس المراد أنه يسقط عنه وإنما لا يثبت في حق المولى لانعدام الرضا منه باستحقاق مالية رقبته بالدين بعد الحجر ولا يجب الدين في ذمته إلا شاغلا لمالية الرقبة فإذا كان لا يستحق مالية رقبته به بعد الحجر فكأنه لا دين عليه وفيه دليل أن الحجر ينبغي أن يكون عاما منتشرا وأن الانتشار فيه بكونه في أهل سوقه فإنه رفع الإذن الذي هو عام منتشر وفي تصحيحه بدون الانتشار معنى الإضرار والغرور كما نبينه إن شاء الله تعالى.(25/5)
وعن أبي صالح قال: رأيت للعباس بن عبد المطلب عشرين عبدا كلهم يتجر بعشرة آلاف درهم ففيه دليل جواز الإذن وأنه لا بأس باكتساب الغنى والاستكثار من المال بعد أن يكون من حله كما قال النبي عليه السلام "نعم المال الصالح للرجل الصالح". وفي هذا(25/6)
ص -5- ... الحديث دليل ظاهر على غنى العباس فإن من كان له عشرون عبدا رأس مال كل عبد عشرة آلاف فلا بد أن يكون ذلك من أموال التجارة وغيرها وكان سبب ثروته أنه أخذ منه دنانير في الفداء حين أسر فلما أسلم وحسن إسلامه كان يتأسف على ذلك فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] وكان العباس رضي الله عنه يظهر السرور بغناه ويقول إن الله تعالى وعدني بشيئين الغنى في الدنيا والمغفرة في الآخرة وقد أنجز لي أحدهما وأنا أعلم أنه لا يحرمني من الآخر إنه لا يخلف الميعاد.
وعن الشعبي قال: إذا أخذ الرجل من عبده الضريبة فهي تجارة وبه نأخذ فإن المولى استأدى عبده الضريبة فذلك إذن منه له في التجارة لأنه لا يتمكن من الأداء إلا بتحصيل المال ولتحصله طريقان التكدي والتجارة والظاهر أن المولى لا يقصد تحصيله المال بالتكدي فالسؤال يدني المرء ويبخسه قال عليه السلام: "السؤال آخر كسب العبد" أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة وإنما مراده الاكتساب بطريق التجارة ورضاه بالتجارة يتضمن الرضا منه بتعلق الدين الواجب بالتجارة بمالية رقبته ففيه دليل أن الإذن في التجارة ثبت بالدلالة كما ثبتت نصا.
وعن شريح في عبد تاجر لحقه دين أنه يباع فيه وبه نأخذ فإن كل دين ظهر وجوبه على العبد في حق المولى يباع فيه كدين الاستهلاك فإنه يظهر في حق المولى لأن سببه محسوس لا ينعدم بالحجر بسبب الرق فكذلك دين التجارة بعد الإذن يظهر في حق المولى فيباع فيه وفي الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم باع رجلا في دينه يقال له سرف فحين كان بيع الحر جائزا باع الحر في دينه وبيع العبد جائز في الحال فيباع في كل دين يظهر وجوبه في حق المولى.(25/7)
وعن بن سيرين: أن رجلا ادعى على عبد رجل دينا فقال الرجل عبدي محجور عليه وقال شريح شاهدا عدل أنه كان يشتري في السوق ويبيع بعلمه أو بأمره ففيه دليل أن المولى إذا أنكر الإذن كان القول قوله وعلى من يدعي عليه الإذن أن يثبته بالبينة لأنه يدعي عليه أنه أسقط حقه عن مالية الرقبة وفيه دليل أن الإذن يثبته بالدلالة وأن من رأى عبده يبيع ويشتري فلم ينهه فإنه يصير به مأذونا بمنزلة التصريح بالإذن له في التجارة وذلك استحسان عندنا لدفع الضرر والغرور عن الناس.
وعن أبي عون الثقفي: أن رجلا أذن لعبده أن يكون خياطا وأذن آخر لعبده أن يكون صباغا فأجاز شريح على الخياط ثمن الإبر والخيوط وأجاز على الصباغ ثمن الغلي والعصفر وما كان في عمله وفيه دليل أن مبنى الإذن على التعدي والانتشار وأن المولى وإن خص نوعا منه فإنه يتعدى إلى سائر الأنواع لاتصال بعض الأنواع بالبعض فيما يرجع إلى تحصيل مقصود المولى فإن الصباغ لا يتمكن من العمل إلا بشراء الصبغ والخياط لا يتمكن من العمل إلا(25/8)
ص -6- ... بشراء السلك والإبرة والخيوط ثم قد لا يجد ما يحتاج إليه يباع بالنقد ليشتريه وإنما يباع ذلك بالطعام فيحتاج أن يشتري طعاما ليعطيه في ثمن ذلك وربما يشتري ذلك بالدنانير فيحتاج إلى مصارفة الدراهم بالدنانير ليحصل الثمن فعرفنا أن مبناه على التعدي والانتشار فيتعدى الإذن في نوع إلى سائر الأنواع وابن أبي ليلى رحمه الله: كان يأخذ بظاهر هذا الحديث فيقول يجوز عليه ما كان من توابع عمله خاصة وعندنا يجوز عليه ما كان من توابع عمله وما استدار في غيره على ما نبينه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان رضي الله عنه أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد قبل أن يكاتب فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته فأكل وأكل أصحابه وأتاه بصدقة فقبلها وأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل.
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: واعلم أن سلمان كان من قوم يعبدون الخيل البلق فوقع عنده أنه ليس على شيء وجعل يتنقل من دين إلى دين يطلب الحق حتى قال له بعض أصحاب الصوامع لعلك تطلب الحنيفية وقد قرب أوانها وعليك بيثرب ومن علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فتوجه نحو المدينة فاسترقه بعض العرب في الطريق وجاء به إلى المدينة فباعه من بعض اليهود وكان يعمل في نخيل مولاه بإذنه حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأتاه سلمان بطبق فوضعه بين يديه فقال "ما هذا يا سلمان" فقال صدقة فقال لأصحابه كلوا ولم يأكل فقال سلمان في نفسه هذه واحدة ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب فقال "ما هذا يا سلمان" قال هدية فجعل يأكل ويقول لأصحابه "كلوا" فقال سلمان هذه أخرى ثم تحول خلفه فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده فألقى الرداء عن كتفيه حتى نظر سلمان رضي الله عنه إلى خاتم النبوة بين كتفيه فأسلم وفيه دليل أن للعبد المأذون أن يهدى فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته ولأجل هذا أورد هذا الحديث.(25/9)
وذكر عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال بنيت بأهلي وأنا عبد فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر فحضرت الصلاة فتقدم أبو ذر فقالوا له أتتقدم وأنت في بيته فقدموني وصليت بهم وفيه دليل أن للعبد المأذون أن يتخذ الدعوة في العرس كما يتخذ الدعوة للمجاهدين إذا أتوه بتجارة فإن الصحابة رضي الله عنهم أجابوا دعوته وأبو ذر مع زهده أجاب دعوته وهو عبد وفيه دليل أنه لا ينبغي للمرء أن يؤم غيره في بيته إلا بإذنه فإنهم أنكروا على أبي ذر التقدم عليه في بيته وبيانه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" وفيه دليل جواز الاقتداء بالعبد وأنه متى كان فقيها ورعا فلا بأس بإمامته.
ألا ترى أن أبا ذر رضي الله عنه مع زهده قدمه واقتدى به لفقهه وورعه وإذا قال الرجل لعبده قد أذنت لك في التجارة فهو مأذون له في التجارات كلها لا طلاق الإذن من المولى فلا حاجة في تصحيح الإذن إلى التنصيص على أنواع التجارة لأنه فك للحجر كالكتابة ولأن(25/10)
ص -7- ... المقصود به المولى عادة أن يحصل العبد الربح بكسبه واعتبار إذنه شرعا ليتحقق به الرضا من المولى لتعلق الدين الواجب بالتجارة بمالية رقبته وهذا لا يختلف باختلاف أنواع التجارات واشتراط مالا يفيد لا يجوز بخلاف التوكيل فالمقصود هناك قيام الوكيل مقام الموكل في تحصيل مقصوده في العين التي يشتريها ولا يقدر الوكيل على تحصيل ذلك بمطلق التوكيل قبل التنصيص على جنس ما يشتريه له.
ثم للعبد أن يشتري ما بداله من أنواع التجارات لأنه صار منفك الحجر عنه وتم رضا المولى بتعلق الدين بمالية رقبته وهو في أصل الالتزام متصرف في ذمته هو حقه من تعامله وإنما نوجب الملك له في محل مملوك له فيكون صحيحا وله أن يستأجر الإجراء لأن الاستئجار من أنواع التجارات ولأن المأذون يحتاج إليه فإنه يعجز عن إقامة بعض الأعمال بنفسه وربما لا يجد من يعينه على ذلك حسبة فيحتاج إلى الاستئجار الإجراء لإقامة الأعمال التي بها يتم مقصوده وله أن يؤاجر نفسه فيما بداله من الأعمال عندنا.(25/11)
وفي أحد قولي الشافعي رضي الله عنه: ليس له أن يؤاجر نفسه وله أن يؤاجر كسبه لأن عبده المأذون نائب عن المولى في التصرف وهو إنما جعله نائبا في التصرف في كسبه ومنافع بدنه ليس من كسبه وتصرفه فيه بعد الإذن كما قبله والدليل عليه أن رقبته ليست من كسبه بدليل أنه لا يملك بيعها ولا رهنها بدين عليه وما ليس من كسبه فهو لا يملك التصرف فيه بالإجازة كسائر مماليكه وأما عندنا فالإذن فك الحجر عن المأذون فكان كالكتابة ولا يقال الكتابة يتعلق بها اللزوم والإذن فيكون هذا بمنزلة الاستئجار والاستعارة وللمستأجر أن يؤاجر وليس للمستعير ذلك وهذا لأن محل التصرف لا يختلف لكونه لازما أو غير لازم كالبيع مع الهبة فإن محل التصرفين واحد وهو العين وإن كان أحدهما يلزم على وجه لا يملك الموجب الرجوع لكونه معاوضة والأجر لا يلزم ونحن إنما شبهنا الإذن بالكتابة من حيث إنه فك الحجر ثم انفكاك الحجر يثبت له اليد على منافعه فيملك الاعتياض عليها كما ملكه المكاتب.
ولما كان للمأذون أن يعين غيره لمنافعه فلا يكون له أن يؤاجر نفسه أولى لأن الإجارة أقرب إلى مقصود المولى من الإعانة وهو أليق بحال المأذون فإنه يملك المعاوضات دون التبرعات والمستعير إنما لا يؤاجر لما فيه من إلحاق الضرر بالغير من حيث استحقاق اليد عليه في العين وذلك لا يوجد ها هنا.
ثم إجارة النفس نوع تجارة لأن رؤوس التجارة وهم الباعة يؤاجرون أنفسهم للعمل والمولى حين أذن له في التجارة مع علمه أنه لا يتمكن منها إلا برأس مال فالظاهر أنه جعل رأس ماله منافعه وطريق تحصيل المال مما جعل له من رأس المال الإجارة وإنما لا يبيع نفسه لما في ذلك من تفويت مقصود المولى ولأن حكمه ضد حكم الإذن فإن بيع الرقبة إذا صح أوجب الحجر عليه كما لو باعه المولى فكذلك لا يرهن نفسه لأن موجب الرهن ضد موجب الإذن فإن الرهن يوجب يدا مستحقة عليه للمرتهن على وجه يمنع من التصرف لأن موجب الرهن ضد(25/12)
ص -8- ... موجب الإذن فإن الرهن يوجب الإذن فإن الرهن يوجب يدا مستحقة عليه للمرتهن على وجه يمنع من التصرف ولا يستفاد ما ليس من موجب ضده موجبه.
وأما إجارة النفس فلا توجب الحجر عليه ولا تمنعه من التصرف بدليل أنه لو أجره المولى لم يصر محجورا فلهذا لا يملك أن يؤاجر كسبه وله أن يتقبل الأرض ويأخذها مزارعة كما يأخذ الحر لأنه إن كان البذر من قبل صاحب الأرض فالمأذون مؤاجر نفسه للعمل ببعض الخارج وإن كان البذر من قبله فهو مستأجر الأرض ببعض الخارج وذلك أنفع من الاستئجار بالدراهم فإن هناك الأجر دين في ذمته سواء حصل الخارج أو لم يخرج وهنا لا شيء عليه إذا لم يحصل الخارج فإذا ملك استئجاره ببعض الدراهم فببعض الخارج أولى. وله أن يشتري طعاما ليزرعه في أرضه لأن الزراعة من التجارة قال عليه الصلاة والسلام: "الزارع يتاجر ربه والتجار يفعلون ذلك عادة" قال: وليس له أن يدفع طعاما إلى رجل ليزرعه ذلك الرجل في أرضه بالنصف قال لأنه يصير قرضا وليس للمأذون أن يقرض لأن القرض تبرع.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: وهذا التعليل غلط إنما الصحيح من التعليل أن هذا دفع البذر مزارعة ودفع البذر مزارعة وحده لا يجوز لأن صاحب البذر مستأجر الأرض وشرط الإجارة التخلية بين المستأجر وبين ما استأجره وذلك ينعدم إذا كان العامل صاحب الأرض.
قال: ألا ترى أنه إذا دفع الطعام إلى رب الأرض مزارعة بالنصف فزرعة كان الخارج كله لرب الأرض وهو ضامن للعبد طعاما مثل طعامه هكذا ذكر في الكتاب.
وفي كتاب المزارعة قال: إذا دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض فالخارج كله لصاحب البذر وللعامل أجر مثله وأجر مثل أرضه وقيل في المسألة روايتان أصحهما ما قال في المزارعة لأن الخارج نماء البذر.(25/13)
ألا ترى أنه من جنس البذر يكون لصاحب البذر ووجه ما قال هنا أن صاحب البذر إنماء رضي بإلقاء البذر في الأرض بطريق المزارعة بالنصف فبدون ذلك الطريق لا يكون راضيا بل الزارع بمنزلة الغاصب لبذره ومن غصب من آخر بذرا وزرعه في أرضه كان الخارج للزارع وعليه مثل ما غصب وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الوضع فهناك وضع المسألة في الحر وإذن الحر في استهلاك البذر صحيح معتبر والمزارعة وإن فسدت بقي إذنه معتبرا في استهلاك البذر بإلقائه في الأرض فكان الإلقاء بإذن صاحب البذر كإلقائه بنفسه فالخارج كله له وأما إذن العبد في استهلاك بذره لا على وجه المزارعة فغير معتبر فإنه لا يملك أن يأذن في إتلاف البذر ولا أن يقرض البذر فإذا لم يصح العقد وسقط اعتبار(25/14)
ص -9- ... إذنه فكان لزارع بمنزلة الغاصب المستهلك للبذر بإلقائه في الأرض والخارج كله له وعليه ضمان مثل ذلك البذر للعبد.
قال الشيخ الإمام رحمه الله: وقد وجدت في بعض النسخ زيادة في هذا المسألة أنه إذا دفع الطعام إلى رب الأرض ليزرعها لنفسه بالنصف فمع هذه الزيادة لا يبقى الإشكال ويصح التعليل لأن قوله ازرعها لنفسك يكون إقراضا للبذر ثم شرط عليه في بدل القرض نصف الخارج وذلك باطل والزارع في إلقاء البذر في الأرض عامل لنفسه فيكون الخارج كله له وليس على المولى أن يشهد الشهود حتى يأذن له في التجارة لأنه بمنزلة الكتابة والكتابة تصح من غير إشهاد إلا أن هناك يندب الإشهاد لما يتعلق بها من الحق اللازم كما يندب إلى الإشهاد على البيع بيانه في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وذلك لا يوجد في الإذن لأنه في نفسه ليس بحق لازم.
ألا ترى أنه يحجر عليه متى شاء فلهذا لا يكون عليه الإشهاد في ذلك وإذا نظر الرجل إلى عبده يبيع ويشتري فلم ينهه عن ذلك فهو إذن منه له في التجارة بمنزلة قوله قد أذنت لك في التجارة وهذه مسألتان إحداهما إذا أذن له في نوع خاص من التجارة فإنه يكون مأذونا في التجارات كلها عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع خاصة وهو رواية عن زفر رحمه الله: وعنه في رواية أخرى قال إن سكت عن النهي عن سائر الأنواع فإن قال اعمل في البر فهو مأذون في التجارات كلها وإن صرح بالنهي عن التصرف في سائر الأنواع فليس له أن يتصرف إلا في النوع الذي أذن له فيه خاصة فالحجة للشافعي أنه يتصرف للمولى بإذنه فلا يملك التصرف إلا فيما أذن له فيه كالوكيل والمضارب والمستبضع والشريك شركة العنان وبيان ذلك أن الرق موجب للحجر عليه عن التصرفات والرق بعد الإذن قائم كما كان قبله فيكون تصرفه بطريق النيابة عن المولى فيه.(25/15)
ألا ترى أن ما هو المقصود بالتصرف وهو الملك يحصل للمولى وأن العبد بسبب الرق يخرج من أن يكون أهلا للملك الذي هو المقصود فيه يبين أنه ليس بأهل للتصرف بنفسه بخلاف المكاتب فإن بالكتابة عندي يثبت للمكاتب حق ويصير بمنزلة الحر يدا ولهذا لا يملك المولى إعتاقه عن كفارته ولا يملك الحجر وإنما يصير أهلا للتصرف باعتبار ما ثبت له من الحرية يدا.
ثم المأذون عندي يرجع بالعهدة على المولى إلا أنه عين لرجوعه محلا وهو كسبه فلا يملك الرجوع في محل آخر وهكذا مذهبي في الوكيل إذا وكله بأن يشتري ويبيع على أن الربح كله للموكل فإن رجوعه بالعهدة فيما يشتري على الموكل دون غيره ويكون هو نائبا عن الموكل في التصرف فكذلك المأذون والدليل عليه أنه لو أذن له في تزويج امرأة لا يملك أن يتزوج امرأتين ولو أذن له في نكاح امرأة بعينها لا يملك أن يتزوج غيرها فكذلك في التجارة(25/16)
ص -10- ... بل أولى لأن مقصود ذلك التصرف يحصل للعبد ومقصود هذا التصرف يحصل للمولى فكذلك إذا أذن له في التجارة لا يملك النكاح وإذا أذن له في النكاح لا يملك التجارة ولئن كان الإذن إطلاقا وتمليكا لليد منه كما هو مذهبكم فذلك لا يدل على أنه لا يقبل التخصيص كتقليد القضاء فإنه إطلاق وإثبات للولاية ثم يقبل التخصيص والإعارة والإجارة تمليك المنفعة وإثبات اليد على العين ثم يقبل التخصيص بالإذن كذلك وهذا لأن التخصيص مفيد فمقصود المولى تحصيل الربح وذلك يحصل بتجارته في نوع لكثرة هدايته فيه ثم يفوت ذلك بتجارته في نوع آخر لقلة هدايته في ذلك فكان التقييد مفيدا فيما هو المقصود وزفر رحمه الله: على الرواية الأخرى يقول إنما أثبتنا حكما عاما عند سكوته عن النهي لدلالة العرف وذلك يسقط عند التصريح بالنهي في سائر الأنواع.
ألا ترى أن مطلق الإذن يوجب التعميم في الوقت ثم إذا صرح بالحجر عليه بعد أن مضى شهر أو يوم يرتفع ذلك الإذن فهذا مثله.
وحجتنا في ذلك طرق ثلاثة: أحدها: ما بينا أن الإذن في نوع يستدعي الإذن في سائر الأنواع لاتصال بعض التجارات بالبعض والمتصرف في البر ربما يشتري ذلك البر بالطعام فلا بد من أن يشتري الطعام ليؤدي ما عليه وربما يحتاج إلى بيع البر بالعبيد والإماء إذا لم يجد من يشتري ذلك منه بالنقد وإذا كان الإذن في نوع يتعدى إلى سائر أنواع التجارة لاتصال بعض التجارات بالبعض ولأن الإذن في التجارة فك للحجر عنه والعبد بعد الإذن متصرف لنفسه لانفكاك الحجر عنه كالمكاتب.(25/17)
وكما أن في الكتابة لا يعتبر التقييد بنوع خاص فكذلك في الإذن وبيان الوصف أن بمطلق الإذن يملك التصرف والإنابة لا تحصل بمطلق اللفظ من غير تنصيص على التصرف كما في حق الوكيل والدليل عليه أن المأذون لا يرجع بما يلحقه من العهدة على مولاه والمتصرف للغير يرجع عليه بما يلحقه من العهدة وأنه إذا قضى الدين من خالص ملكه بعد العتق لا يرجع به على المولى ولو كان هو بمنزلة الوكيل لكان يرجع على الموكل بما يؤدي من خالص ملكه كالوكيل وإنما يكون رجوع الوكيل فيما يحصل تصرفه إذا بقي ذلك فأما بعد الفوات فيكون رجوعه على الموكل وهنا وإن هلك كسبه لم يرجع على المولى بشيء ودل أنه متصرف لنفسه.
وقد بينا أن بالرق لم يخرج من أن يكون أهلا للتصرف ولا من أن يكون أهلا لثبوت اليد له على كسبه ولكنه ممنوع عن التصرف لحق المولى مع قيام الأهلية فالإذن لإزالة المنع كالكتابة ولا يجوز أن يدعي أن بالكتابة يثبت له حق العتق أو يجعل كالحر يدا لأن الكتابة تحتمل الفسخ والسبب الموجب لحق العتق متى ثبت لا يحتمل الفسخ كالاستيلاد فثبت أن الكتابة فك الحجر والإذن مثله ثم فك الحجر عنه بهذين السببين بمنزله الفك التام الذي يحصل بالعتق وذلك لا يختص بنوع دون نوع سواء أطلق أو صرح بالنهي عن سائر الأنواع،(25/18)
ص -11- ... لأن هذا التقييد منه تصرف في غير ملكه فكذلك ها هنا والثالث: أن تصرف العبد يلاقي محلا هو ملكه والمتصرف في ملكه لا يكون نائبا عن غيره وبيانه أن أول التصرفات بعد الإذن من العبد شراء لأنه ما لم يشتر لا يمكنه أن يبيع وهو بالشراء يلتزم الثمن في ذمته وقد بينا أن الذمة مملوكة بمنزلة ذمته فكما أنه يملك التصرف في ذمته بالإقرار على نفسه بالقود فكذلك يكون مالكا للتصرف في ذمته إلا أن الدين لا يجب في ذمته إلا شاغلا مالية رقبته فيحتاج إلى إذن المولى هنا لإسقاط حقه عن مالية الرقبة والرضي بصرفها إلى الدين وفي هذا لا يفترق الحال بين نوع من التجارة ونوع فتقييده بنوع غير مفيد في حقه فلا يعتبر كما إذا رضي المستأجر ببيع العين من زيد دون عمرو أو رضي الشفيع بيع المشتري من زيد دون عمرو ولو أسلم البائع المبيع إلى المشتري قبل نقد الثمن على أن يتصرف فيه نوعا من التصرف دون نوع لا يعتبر ذلك التقييد لأنه وجد من هؤلاء إسقاط حق المبيع فأهل التصرف يكون متصرفا لنفسه فتقييده بنوع دون نوع لا يكون مفيدا وهذا بخلاف النكاح فإن ذلك تصرف مملوك للمولى عليه لأن النكاح لا يجوز إلا بولي والرق يخرجه عن أن يكون أهلا للولاية فكان هو نائبا عن المولى في النكاح ولهذا قلنا: المولى يجبره على النكاح فأما هذا التصرف فغير مملوك للمولى عليه فكان الإذن من المولى إسقاطا لحقه لا إنابة العبد منابه في التصرف وقد بينا أنه مع الرق أهل للحكم الأصلي وهو ملك اليد وأن ما وراء ذلك من ملك العين يثبت للمولى على سبيل الخلافة عنه وهذا بخلاف تقليد القضاء فالقاضي لا يعمل لنفسه فيما يقضي بل هو نائب عن المسلمين ولهذا يرجع بما يلحقه من العهدة في مال المسلمين.(25/19)
وكيف يكون عاملا لنفسه وهو فيما يعمل لنفسه لا يصلح أن يكون قاضيا وهذا بخلاف المستعير والمستأجر لأنه يتصرف في محل هو ملك الغير بإيجاب صاحب الملك له وإيجابه في ملك نفسه يقبل التخصيص فأما العبد فلا يتصرف بإيجاب المولى له فقد بينا أن التصرف غير مملوك للمولى في ذمته فكيف يوجب له مالا يملكه؟
والمسألة الثانية: إذا رآه يبيع ويشتري فسكت عن النهي فهذا إذن له في التجارة عندنا وعند الشافعي لا يكون إذنا قبل هذا بناء على المسألة الأولى فإن عنده لو أذن له نصا في نوع لا يملك التصرف في سائر الأنواع فكذلك إذا رآه يتصرف في نوع فسكوته عن النهي لا يكون إذنا له في التصرف في سائر الأنواع وعندنا لما كان إذنه في نوع يوجب الإذن في سائر الأنواع لدفع الغرور والضرر عن الناس فكذلك سكوته عن النهي عند رؤيته تصرفا منه يكون بمنزلة الإذن دفعا للضرر والغرور عن الناس وحجته في هذه المسألة أن سكوته عن النهي محتمل قد يكون للرضي بتصرفه وقد يكون لفرط وقلة الالتفات إلى تصرفه لعلمه أنه محجور عن ذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة فهو بمنزلة من رأى إنسانا يبيع ماله فسكت ولم ينهه لا ينفذ ذلك التصرف بسكوته ولأن الحاجة إلى الإذن من المولى والسكوت ليس بإذن،(25/20)
ص -12- ... فالإذن ما يقع في الإذن ولو أذن له ولم يسمع لم يكن ذلك إذنا فمجرد السكوت كيف يكون إذنا والدليل عليه أن هذا التصرف الذي يباشره لا ينفذ بسكوت المولى وأنه إذا رآه يبيع شيئا من ملكه فسكت لا ينفذ هذا التصرف فكيف يصير مأذونا له في التصرفات فالحاجة إلى رضى مسقط لحق المولى عن مالية رقبته وذلك لا يحصل بالسكوت كمن رأى إنسانا يتلف ماله فسكت فلا يسقط الضمان بسكوته وهذا بخلاف سكوت البكر إذا زوجها الولي فإن ذلك محتمل ولكن قام الدليل الموجب لترجيح الرضا فيه وهو أن لها عند تزويج الولي كلامين لا أو نعم والحياء يحول بينها وبين نعم لما فيه من إظهار الرغبة في الرجال وهي تستقبح منها لا يحول الحياء بينها وبين لا فسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك الجواب ولا يوجد مثل ذلك ها هنا فلا يترجح جانب الرضا وكذلك سكوت الشفيع عن الطلب لأنه لا حق للشفيع قبل الطلب وإنما له أن يثبت حقه بالطلب فإذا لم يطلب لم يثبت حقه وها هنا حق المولى في مالية الرقبة ثابت وإنما الحاجة إلى الرضا المسقط لحقه.
يوضحه: أن حق الشفعة قبل الطلب ضعيف وإنما يتأكد بالطلب فإعراضه عن الطلب المؤكد لحقه يجعل دليل الرضا لدفع الضرر عن المشتري فإنه إذا بقي حق الشفيع يتمكن به من نقض تصرف المشتري وفيه من الضرر عليه ما لا يخفى فأما هنا فحق المولى في مالية الرقبة متأكد وفي إسقاطه إلحاق الضرر به عند سكوته لدفع الضرر عمن يعمل العبد معه.
وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقال: "ألا من غشنا فليس منا".(25/21)
ولو لم تتعين جهة الرضا عند سكوت المولى عن النهي أدى إلى الضرر والغرور فالناس يعاملون العبد ولا يمتنعون من ذلك عند محضر المولى إذا كان ساكتا وإذا لحقته ديون ثم قال المولى كان عبدي محجورا عليه فتتأخر الديون إلى وقت عتقه ولا يدري متى يعتق وهل يعتق أو لا يعتق فيكون فيه إنواء حقهم ويلحقهم فيه من الضرر ما لا يخفى ويصير المولى غار الهم فلرفع الضرر والغرور جعلنا سكوته بمنزلة الإذن له في التجارة والسكوت محتمل كما قال ولكن دليل العرف يرجح جانب الرضا فالعادة أن من لا يرضى بتصرف عبده يظهر النهي إذا رآه يتصرف ويؤدبه على ذلك وإنما يستحق عليه ذلك شرعا لدفع الضرر والغرور.
فبهذا الدليل رجحنا جانب الرضى في سكوت البكر كما في سكوت الشفيع يرجح جانب الرضى لدفع الضرر عن المشتري والدليل عليه أنه بعد ما أذن له في أهل سوقه لو حجر عليه في بيته لم يصح حجة لدفع الضرر والغرور فلما سقط اعتبار حجره نصا لدفع الضرر فلأن يسقط اعتبار احتمال عدم الرضى من سكوته لدفع الضرر عن الناس كان أولى ولئن منع الشافعي هذا فالكلام في المسألة يبنى على الكلام في تلك المسألة فإن الكلام فيها أوضح على ما نبينه وهذا بخلاف الوكيل لأنه لا ضرر على من يعامل الوكيل إذا لم يجعل(25/22)
ص -13- ... سكوت الموكل رضي فإن تصرف الوكيل نافذ على نفسه ومن يعامله لا يطالب الموكل بشيء وإنما يطالب الوكيل سواء كان تصرفه لنفسه أو لغيره.
وقوله: هذا التصرف بسكوت المولى لا ينفذ قلنا: لأن في هذا التصرف إزالة ملك المولى عما يبيعه وفي إزالة ملكه ضرر متحقق للحال فلا يثبت بسكوته وليس في ثبوت الإذن ضرر على المولى متحقق في الحال فقد يلحقه الدين وقد لا يلحقه.
ولو لم يثبت الإذن به تضرر الناس الذين يعاملون العبد يوضحه: أن في ذلك التصرف العبد نائب عن المولى بدليل أنه إذا لحقه عهدة يرجع بها عليه فيكون بمنزلة الوكيل في ذلك وقد بينا أن الوكالة لا تثبت بالسكوت وأما في سائر التصرفات فهو متصرف لنفسه كما قررنا والحاجة إلى إذن المولى لأجل الرضا تصرف مالية رقبته إلى الدين فيثبت ذلك بمجرد سكوته لخلوه عن الضرر في الحال بخلاف ما إذا أتلف إنسان ماله وهو ساكت لأن الضرر هناك يتحقق في الحال وسكوته لا يكون دليل التزام الضرر حقيقة ولأنه لا حاجة إلى تعيين جانب الرضا هناك لدفع الضرر والغرور عن المتلف وهو ملتزم الضرر بإقدامه على إتلاف المال بخلاف ما نحن فيه على ما قررناه.
ولو قال لعبده: أد إلي الغلة كل شهر خمسة دراهم فهذا إذن منه له في التجارة لأنه استئذاء المال مع علمه أنه لا يتمكن من ذلك إلا بالاكتساب يكون أمرا له بالاكتساب ضرورة وقد علمنا أنه لم يطلب منه الاكتساب بالتكدي فعرفنا أن مراده الاكتساب بالتجارة ودليل الرضا في الحكم كصريح الرضا.
وكذلك لو قال: إذا أديت إلي ألفا فأنت حر لأنه حثه على أداء المال بما أوجب له بإزاء المال من العتق عند الأداء ولا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب وقد علمنا أنه لم يرد أداء الألف إليه من مال المولى لأن ذلك غير مفيد في حق المولى وإنما المفيد في حقه أداء الألف إليه من كسب يكتسبه بعد هذه المقالة.(25/23)
وكذلك لو قال: أد إلي ألفا وأنت حر فإنه لا يعتق ما لم يؤد ولو قال: إن أديت ألفا فأنت حر عتق في الحال أدى أو لم يؤد ولو قال: إذا أديت إلي ألفا وأنت حر عتق في الحال أيضا بخلاف قوله فأنت حر فإنه لا يعتق فيه إلا بالأداء لأن جواب الشرط بالفاء دون الواو فإن الجزاء يتصل بالشرط على أن يتعقب نزوله بوجود الشرط وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيتصل فيه الجزاء بالشرط فأما حرف الواو فللعطف لا للوصل وعطف الجزاء على الشرط لا يوجب تعليقه بالشرط فكان تنجيزا.
وأما جواب الأمر بحرف الواو على معنى أنه بمعنى الحال أي وأنت حر في حال أدائك وأما صفة الأمر يكون بمعنى التعليل يقول الرجل أبشر فقد أتاك الغوث يعني لأنه أتاك الغوث فإذا قال أد إلي ألفا فأنت حر معناه لأنك حر فلهذا يتنجز به العتق في الحال.
وعلى هذا ذكر في السير الكبير إذا قال افتحوا الباب وأنتم آمنون فما لم يفتحوا لا(25/24)
ص -14- ... يأمنوا ولو قال: فأنتم آمنون كانوا آمنين فتحوا أو لم يفتحوا ولو قال: إذا فتحتم الباب فأنتم آمنون لا يأمنون ما لم يفتحوا ولو قال: وأنتم آمنون كانوا آمنين في الحال.
ولو قال لعبده: اذهب فأجر نفسك من فلان لم يكن هذا إذنا منه له في التجارة بخلاف قوله أقعد قصارا وصباغا فإن هناك لما لم يعتق من يعامله فقد فوض الأمر إلى رأيه في ذلك النوع من التجارة وها هنا عين من يؤاجر العبد نفسه منه ولم يفوض الأمر إلى رأيه فيه ولكنه جعله رسولا قائما مقام نفسه في مباشرة العقد فلا يكون ذلك دليل الرضا بتجارته.
يوضحه: أنه أمره بأن يعقد على منافعه ها هنا ومنافعه مملوكة للمولى فلا يكون ذلك على وجه الرضا بتجارته لا على وجه الاستخدام له وفي الأول أمره بتقبل العمل في ذمته وذلك من نوع التجارة.
ألا ترى أن إجارة نفس العبد مملوكة للمولى فلا يكون ذلك على وجه الرضا بتجارته لا على وجه الاستخدام له وفي الأول أمره بتقبل العمل في ذمته وذلك من نوع التجارة.
ألا ترى أن إجارة نفس العبد مملوكة للمولى عليه وأن يقبل العمل في ذمة العبد غير مملوك للمولى عليه واستشهد بما لو أرسل عبدا له يؤاجر عبدا له آخر لم يكن هذا إذنا لواحد من العبدين في التجارة ولو قال: اعمل في النقالين أو في الحناطين أو قال أجر نفسك في النقالين أو الحناطين فهذا منه إذن في التجارة لأنه فوض ذلك النوع من التجارة إلى رأيه لأنه لم يعين له من يعامله بل جعل تعيينه موكولا إلى رأيه النقالون الذين ينقلون الخشب من الشطء إلى البيوت والحناطون ينقلون الحنطة من موضع السفينة إلى البيوت وإنما يعمل ذلك منهم العبيد والأقوياء.(25/25)
ولو أرسل عبده يشتري له ثوبا أو لحما بدراهم لم يكن هذا إذنا له في التجارة استحسانا وفي القياس هو إذن له في التجارة لأنه جعل اختيار من يعامله مفوضا إلى رأيه وفي الاستحسان لا يكون إذنا له في التجارة فإنه في عادة الناس هذا استخدام ولو جعلناه إذنا في التجارة يتعذر على المولى استخدام المماليك فإن الاستخدام يكون في حوائج المولى وهذا النوع من العقد من حوائجه.
يوضحه: أن المولى لا يقصد التجارة بهذا الشراء إنما يقصد كفاية الوقت من الكسوة والطعام والتجارة ما يقصد به المال والاسترباح.
وكذلك لو أمره بأن يشتري ثوب كسوة للمولى أو لبعض أهله أو طعاما رزقا لأهله أو للمولى أو للعبد نفسه لا يكون شيء من ذلك إذنا له في التجارة أرأيت لو أمره أن يشتري نقلا بفلسين أكان يصير به مأذونا وكذلك لو قال: اشتر من فلان ثوبا فاقطعه قميصا أو اشتر من فلان طعاما فكله أو دفع إليه راوية وحمارا وأمره أن يستقي عليه الماء لمولاه ولعياله ولجيرانه بغير ثمن فشيء من هذا لا يكون إذنا له في التجارة لما قلنا.
ولو قال: استق على هذا الحمار الماء وبعه كان هذا إذنا له في التجارات كلها لأنه(25/26)
ص -15- ... فوض إلى رأيه نوعا من التجارة وقصد به تحصيل المال والربح ولو أن طحانا دفع إلى عبده حمارا لينقل عليه طعاما له فيأتيه به ليطحنه لم يكن هذا إذنا منه له في التجارة لأنه استخدمه في نقل الطعام إليه وما أمره بشيء من عقود التجارات ولا باكتساب المال.
ألا ترى أن المضاربة باعتبار هذا العمل لا تصح حتى لو أمره أن ينقل الطعام إليه ليبيعه صاحب الطعام بنفسه على أن الربح بينهما نصفان لا يجوز.
ولو أمره أن يتقبل الطعام من الناس بأجر وينقله على الحمار كان هذا إذنا له في التجارة لأنه فوض نوعا من التجارة إلى رأيه وأمره باكتساب المال له وأما إذا كان الرجل تاجرا وله غلمان يبيعون متاعه بأمره فهذا إذن منه لهم في التجارة لأن سكوته عن النهي عند رؤية تصرف العبد جعل إذنا فتمكينه إياهم من بيع أمتعته في حانوته أو أمره إياهم بذلك أولى أن يجعل إذنا ولذلك لو أمرهم أن يبيعوا لغيره متاعه فإنه فوض نوعا من التجارة إلى رأيهم ورضي بالتزامهم العهدة فيما يبيعونه لغيرهم.
ألا ترى أنه لو أمرهم أن يشتروا له متاعا أو يشتروا ذلك لغيره فاشتروه لزمهم الثمن وهم تجار في تلك التجارة وغيرها فكذلك إذا أمرهم بالبيع لأن في الموضعين جميعا قد صار راضيا باستحقاق مالية رقبته بما يلحقه من العهدة في ذلك التصرف ألا ترى أنهم إذا باعوا فوجد المشتري بالمبيع عيبا كان له أن يرده عليهم ويطالبهم بالثمن ولو رأى عبده يبيع في حانوته متاعه لغيره فلم ينهه كان مأذونا لسكوت المولى عن النهي بعد علمه بتصرفه ولكن لا يجوز ما باع من متاع المولى لأن جواز البيع في ذلك المتاع يعتمد التوكيل وذلك يحصل بالأمر في الابتداء والإجازة في الانتهاء والسكوت لا يكون أمرا ولا إجازة فلا يثبت به التوكيل.(25/27)
ألا ترى أن فيما يبيع من متاع المولى بأمره إذا لحقه عهدة يرجع على المولى وأن الضرر يتحقق في حق المولى بزوال ملكه عن المتاع في الحال فلهذا لا يثبت ذلك بالسكوت بخلاف صيرورته مأذونا فإن ذلك يعتمد الرضى لا التوكيل حتى لا يرجع بما يلحقه من العهدة في سائر التصرفات على المولى ولا يتحقق الضرر في حق المولى بمجرد صيرورته مأذونا.
وكذلك عبد دفع إليه رجل متاعا ليبيعه فباعه بغير أمر المولى والمولى يراه يبيع ولا ينهاه فهو إذن من المولى له في التجارة والبيع في المتاع جائز بأمر صاحبه لا بسكوت المولى عن النهي حتى أن المولى وإن نهاه أو لم يره أصلا كان البيع جائزا لأنه وكيل صاحب المتاع في البيع إلا أن تأثر صيرورته مأذونا في هذا التصرف من حيث إن العهدة تكون على العبد ولو نهاه المولى أو لم يره كانت العهدة على صاحب المتاع لأن العبد المحجور لا يلزم العهدة في تصرفه لغيره وإذا تعذر إيجاب العهدة عليه تعلقت العهدة بأقرب الناس بعده من هذا التصرف وهو الأمر الذي انتفع بتصرف العبد له.(25/28)
ص -16- ... وإذا اغتصب العبد من رجل متاعا فباعه ومولاه ينظر إليه فلم ينهه عنه فهذا إذن له في التجارة لوجود دليل الرضى منه بتصرفه حين سكت عن النهي ولا ينفذ ذلك البيع سواء باعه بأمر المولى أو بغير أمره لأن في ذلك البيع إزالة الملك المغصوب منه فلا ينفذ إلا بإجازته فكذلك لو رأى عبده يبيع متاعا له بخمر أو أمره بالبيع والشراء بالخمر فإنه يكون مأذونا له في التجارة لوجود الرضا منه بتجارته صريحا أو دلالة وإن فسد ذلك العقد لكون البدل فيه خمرا وإنما أورد هذه الفصول لإزالة إشكال الخصم أنه لما لم ينفذ ذلك العقد بسكوته فكيف يصير به مأذونا فإن هذا العقد الفاسد لا ينعقد بأمره والعقد على المال المغصوب لا ينعقد بأمر المولى أيضا ومع ذلك كان العبد به مأذونا.
ولو أرسل عبده إلى أفق من الآفاق بمال عظيم يشتري له البز ونهاه عن بيعه فهذا إذن له في التجارة لأنه فوض نوعا من التجارة إلى رأيه وهو شراء البز ورضي بتعلق الدين الواجب بشراء البز بمالية رقبته ولو رأى عبده يشتري بماله فلم ينهه عن ذلك ومال المولى دراهم ودنانير فهذا إذن منه له في التجارة وما اشتراه العبد فهو لازم له وللمولى أن يأخذ من الذي أجازه لأن الدراهم والدنانير لا يعينان في العقود وإنما كان شرى العبد بثمن في ذمته وقد صار المولى بسكوته عن النهي راضيا بتعلق الدين بمالية رقبته ولكن لا يصير به راضيا بقضاء دينه من سائر أمواله كما لو صرح بالإذن له في التجارة وما نقد من دراهم المولى مال آخر له فيكون العبد في قضاء الدين منه كالمستقرض له من مولاه والإقراض بالسكوت لا يثبت فلهذا كان للمولى أن يأخذ ماله من الذي أخذه لأنه وجد عين ماله ويرجع ذلك الرجل على العبد لأن ثمن المقبوض لم يسلم له فينتقض قبضه ويبقى الثمن في ذمته على حاله.(25/29)
ولو كان مال المولى ذلك شيئا بعينه من العروض والمكيل والموزون سوى الدراهم والدنانير كان كذلك إلا أن المولى إذا أخذه انتقض شراء العبد به لأن العبد تعلق بعين ما أضيف إليه فصار قبضه مستحقا بالعقد فإذا فات القبض المستحق فيه باستحقاق المولى بطل العقد بخلاف الأول وإذا دفع إلى غلامه مالا وأمره أن يخرج به إلى بلد كذا ويدفعه إلى فلان فيشتري به البز ثم يدفعه إليه حتى يأتي به مولاه ففعله لم يكن هذا إذنا له في التجارة لأنه استخدمه حين أمره بحمل المال إليه ولم يفوض شيئا من العقود إلى رأيه وإنما جعل الشراء به إلى فلان ثم العبد يأتيه بما يشتريه فلان له فيكون هذا استخداما وإرسالا لا إذنا له في التجارة.
ولو دفع إلى عبده أرضا له بيضاء فأمره أن يشتري طعاما فيزرعها ويتقبل الإجراء فيها فيكريون أنهارها ويسقون زروعها ويكربونها ويؤدي خراجها فهذا إذن منه في التجارة لأنه فوض نوعا من العقد إلى رأيه وقصد تحصيل الربح والمال بتصرفه ورضي بتعلق ثمن الطعام وأجرة الإجراء بمالية رقبته فيكون به مأذونا له في التجارة ولو أمره أن يبيع له ثوبا واحدا يريد بذلك الربح والتجارة فهو إذن له في التجارة لأنه فوض الأمر إلى رأيه باختيار من يعامله(25/30)
ص -17- ... في عقد هو تجارة وكان قصده من ذلك تحصيل الربح وصار راضيا بالتزام العهدة في مالية رقبته.
ولو قال: قد أذنت لك في التجارة يوما واحدا فإذا مضى رأيت رأيا فهو مأذون له في التجارة أبدا حتى يحجر عليه في أهل سوقه لأن فك الحجر لا يقبل التخصيص بالوقت كما لا يقبل التخصيص بالمكان ولو قال: أذنت لك في التجارة في هذا الحانوت كان مأذونا له في جميع المواضع وهذا لأن الفك أنواع ثلاثة نوع هو لازم تام كالإعتاق ونوع هو لازم غير تام كالكتابة ونوع هو غير لازم ولا تام كالإذن له في التجارة فكما أن النوعين الآخرين لا يقبلان التخصيص بالزمان والمكان فكذلك هذا النوع ثم تقييد هذا الإذن بوقت كتقييده بنوع وقد بينا أن الإذن في نوع خاص يكون إذنا في جميع التجارات وكذلك الإذن في يوم أو ساعة يكون إذنا في جميع الأيام ما لم يحجر عليه في أهل سوقه.(25/31)
وكذلك لو قال: أذنت لك في التجارة في هذا الشهر فإذا مضى هذا الشهر فقد حجرت عليك فلا تبيعن ولا تشترين بعد ذلك فحجره هذا باطل لأنه أضاف الحجر إلى وقت منتظر وذلك غير صحيح كما لو قال لعبده المأذون قد حجرت عليك رأس الشهر فإنه يكون باطلا وهذا لأنه إنما يحتمل الإضافة إلى وقت ما يحتمل التعليق بالشرط والحجر لا يحتمل التعليق بالشرط فإنه لو قال إن كلمت فلانا فقد حجرت عليك كان هذا باطلا فكذلك لا يحتمل الإضافة إلى وقت وفرق بين هذا وبين الإذن لأنه لو قال لعبده المحجور إذا كان رأس الشهر فقد أذنت لك في التجارة فهو كما قال ولا يكون مأذونا حتى يجيء رأس الشهر لأن ذلك من باب الإطلاق والاطلاقات تحتمل الإضافة والتعليق بالشرط لأن في الإطلاق معنى إسقاط حقه عن مالية رقبته فيكون نظير الطلاق والعتاق فأما الحجر فمن باب التقييد لأنه رفع للإطلاق وهو في المعنى إحراز لمالية رقبته حتى لا يصير مستهلكا عليه بما يلحقه من الدين بعد ذلك فيكون في معنى التمليك لا يحتمل الإضافة إلى الوقت والتعليق بالشرط أو يجعل الحجر بمنزلة الرجعة بعد الطلاق وبمنزلة عزل الوكيل وعزل الوكيل لا يحتمل التعليق بالشرط في الإضافة إلى وقت بخلاف التوكيل.
وإذا أجر الرجل عبده من رجل فليس هذا بإذن منه له في التجارة لأنه إنما يؤاجره للاستخدام ولو استخدمه لنفسه لا يصير به مأذونا فكذلك إذا أجره من غيره للخدمة ولو أجره منه كل شهر بأجر معلوم على أن يبيع له البر ويشتريه جازت الإجارة لأن المعقود عليه منافعه في المدة وهي معلومة فصار العبد مأذونا له في التجارة لأنه رضي بتجارته والتزامه العهدة لسبب التجارة فما لزمه من دين فيما اشترى للمستأجر رجع به عليه لأنه في التصرف له نائب كالوكيل فيرجع عليه بما لحقه من العهدة وما لزمه من دين فيما اشتري لنفسه فهو في رقبته يباع فيه أو يفديه مولاه لأن في هذا يتصرف لنفسه لا للمستأجر إلا أن يقضي المولى عنه.(25/32)
ص -18- ... وللمكاتب أن يأذن لعبده في التجارة فكذلك المأذون له أن يأذن لعبده في التجارة سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن كل واحد منهما متصرف لنفسه بفك الحجر عنه ثم الإذن في التجارة من صنيع التجار ومما يقصد به التجار تحصيل المال فيملك المأذون والمكاتب ذلك وكذلك الشريك شركة عنان له أن يأذن لعبد من شركتهما في التجارة وهو جائز على شريكه لأنه من عمل التجارة وكل واحد منهما نائب عن صاحبه فيما هو من عمل التجارة وكذلك المضارب له أن يأذن لعبد من المضاربة في التجارة لأنه فوض إلى المضارب ما هو من عمل التجارة في المال المدفوع إليه والإذن في التجارة من عمل التجارة.
واختلف مشايخنا رحمهم الله في فصل وهو أن المضارب في نوع خاص إذا أذن لعبد من المضاربة في التجارة أن العبد يصير مأذونا له في جميع التجارات أم في ذلك النوع خاصة فمنهم من يقول يصير مأذونا له في ذلك النوع خاصة لأنه إنما استفاد الإذن من المضارب والمضارب لا يملك التصرف إلا في ذلك النوع لأن المضاربة تقبل التخصيص فكذلك المأذون من جهته.
قال رضي الله عنه: والأصح عندي أن يكون مأذونا في التجارات كلها لأن السبب في حقه فك الحجر وهو لا يقبل التخصيص والعبد متصرف لنفسه فإن كان الآذن له مضاربا لا يرجع بالعهدة على المضارب ولا على رب المال لأن المضارب نائب يرجع بما يلحقه من العهدة على رب المال ورب المال لم يرض برجوعه عليه لعهدة نوع آخر من التصرف فأما هذا العبد فلا يرجع بالعهدة على رب المال فهو والمأذون من جهة مولاه سواء.
ألا ترى أن عبد المضاربة لو جنى جناية لا يكون للمضارب أن يدفعه بغير اختيار رب المال ولو أن عبدا لهذا العبد المأذون جنى جناية كان له أن يدفعه بجنايته بغير محضر من المضارب ولا من رب المال ويجعل فيه كالمأذون من جهة مولاه فهذا مثله.(25/33)
وإذا أمر الرجل عبده بقبض غلة دار أو أمره يقبض كل دين له على الناس أو وكله بالخصومة منه في ذلك فليس هذا بإذن له في التجارة فكذلك إن أمره بالقيام على زرع له أو أرض أو على عمال في بناء داره أو أن يحاسب غرماءه أو أن يقاضي دينه عن الناس ويؤدي منه خراج أرضه أو يقضي عليه دينا لم يكن هو مأذونا له في التجارة بشيء من ذلك لأن ما أمره به من نوع الاستخدام لا من نوع التجارة فإنه ما فوض شيئا من عقود التجارة إلى رأيه ولا رضي منه باكتساب سبب موجب للدين في مالية رقبته فلا يصير به مأذونا.
فإن قيل: لا كذلك ففي القبض اكتساب سبب موجب للدين في مالية رقبته لو ظهر أن المقبوض مستحق.
قلنا: نعم ولكن تعلق الدين بمالية رقبته بهذا السبب لا يتوقف على إذن المولى به فإن العبد المحجور إذا قبض مالا من إنسان فهلك في يده ثم استحق كان ذلك المال دينا في ذمته ويتعلق بمالية رقبته وإنما الإذن أن يرضى المولى بتعلق الدين بمالية رقبته بسبب لولا إذنه لم(25/34)
ص -19- ... يتعلق ذلك الدين بمالية رقبته ولو أمره بقرية له عظيمة أن يؤاجر أرضها ويشتري الطعام ويزرع فيها ويبيع الثمار فيؤدي خراجها كان إذنا له في جميع التجارات لأنه فوض الأمر إلى رأيه في أنواع من التجارات ورضي بتعلق الديون التي تلزمه بتلك التجارات بمالية رقبته فيصير به مأذونا له في التجارات.
ولو قال لعبده: اشتر لي البر أو الطعام أو قال اشتر لفلان البر أو الطعام فهذا إذن له في التجارة لأنه رضي بتجارته وتعلق الدين بمالية رقبته سواء أضاف ذلك إلى نفسه أو إلى غيره أو إلى العبد بأن يقول اشتر لنفسك وكذلك لو كان العبد صغيرا إلا أنه يعقل البيع والشراء في جميع ذلك وهذا عندنا وبيان هذه المسألة في الباب الذي يلي هذا في تصرفات الصبي حرا كان أو عبدا وكذلك إذن القاضي لعبده اليتيم في التجارة لأن للقاضي ولاية التجارة في مال اليتيم كما للأب ذلك وللوصي ثم إذنهما في التجارة لعبد الصبي صحيح فكذلك إذن القاضي.(25/35)
وإن قال القاضي للعبد: اتجر في الطعام خاصة فاتجر في غيره فهو جائز بمنزلة إذن المولى وهذا لأنه ناب عن الصبي في ذلك ولو كان المولى بالغا فقال لعبده اتجر في البر خاصة كان له أن يتجر في جميع التجارات فكذلك إذا أذن له القاضي في ذلك وهذا لأن الإذن من القاضي ليس على وجه القضاء لأنه يملك رفعه بالحجر عليه فهو في ذلك كغيره وكذلك لو قال: له القاضي اتجر في البر خاصة ولا تتعد إلى غيره فإني قد حجرت عليك أن تعدوه إلى غيره فهو مأذون له في جميع التجارات وقول القاضي ذلك باطل لأن تقييد الإذن بنوع كان باطلا فقوله بعد ذلك فإني قد حجرت عليك أن تعدوه إلى غيره حجر خاص في إذن عام أو حجر معلق بشرط أن لا يعدوه إلى غيره وذلك باطل فإن دفع هذا العبد إلى القاضي وقد اتجر في غير ما أمر به فلحقه من ذلك دين فأبطله القاضي وقضى بذلك على الغرماء ثم رفع إلى قاض آخر أمضى قضاءه وأبطل دينهم لأنه أمضى فصلا مجتهدا فيه بقضائه وبين العلماء اختلاف ظاهر في أن الإذن في التجارة هل يقبل التخصيص وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ وليس لأحد من القضاة أن يبطله بعد ذلك وهذا بخلاف أمره إياه في الابتداء أن لا يتصرف إلا في كذا لأن ذلك الأمر ليس بقضاء لأن القضاء يستدعي مقضيا له ومقضيا عليه ولم يوجد ذلك عند الأمر فأما قضاؤه بإبطال ديون الغرماء بعد ما لحقه فقضاء صحيح منه لوجود المقضي له والمقضي عليه فلا يكون لأحد من القضاة أن يبطله بعد ذلك وهو نظير ما لو حجر القاضي على سفيه فإن حجره لا يكون قضاء منه حتى أن لغيره من القضاة أن يبطل حجره ولو تصرف هذا السفيه بعد الحجر فرفع تصرفه إلى القاضي فأبطله كان هذا قضاء صحيحا منه حتى لا يكون له ولا لغيره من القضاة أن يصحح ذلك التصرف بعد ذلك والله أعلم بالصواب.(25/36)
ص -20- ... باب الإذن للصبي الحر والمعتوه
قال رحمه الله: وإذا أذن الرجل لابنه الصغير في التجارة أو في جنس منها وهو يعقل البيع والشراء فهو مأذون له في التجارات كلها مثل العبد المأذون عندنا وقال الشافعي رحمه الله: الإذن له في التجارة باطل إذا كان صغيرا أو معتوها حرا كان أو مملوكا وأصل المسألة أن عبارته صالحة للعقود الشرعية عندنا فيما يتردد بين المنفعة والمضرة وعنده هي غير صالحة حتى لو توكل بالتصرف عن الغير نفذ تصرفه عندنا ولم ينفذ عنده احتج بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] فقد شرط البلوغ وإيناس الرشد لجواز دفع المال إليه وتمكينه من التصرف فيه فدل أنه ليس بأهل للتصرف قبل ذلك قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] والمراد الصبيان والمجانين أنه لا يدفع إليهم أموالهم بدليل قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فالإذن له في التجارة لا ينفك عن دفع المال إليه ليتجر فيه والمعنى فيه أنه غير مخاطب فلا يكون أهلا للتصرف كالذي لا يعقل وهذا لأن التصرف كلام وإنما تبني الأهلية على كونه أهلا لكلام ملزم شرعا وذلك ينبني على الخطاب.
ألا ترى أنه لعدم الخطاب بقي مولى عليه في هذه التصرفات ولو صار باعتبار عقله أهلا لمباشرتها لم يبق مولى عليه فيها لأن كونه مولى عليه لعجزه عن المباشرة لنفسه والأهلية للتصرف آية القدرة وهما متضادان فلا يجتمعان.(25/37)
يوضحه: أن اعتبار عقله مع النقصان لأجل الضرورة وإنما تتحقق هذه الضرورة فيما لا يمكن تحصيله بوليه فجعل عقله في ذلك معتبرا ولهذا صحت منه الوصية بأعمال البر وخيرته بين الأبوين ولا تتحقق الضرورة فيما يمكن تحصيله بوليه فلا حاجة إلى اعتبار عقله فيه ولأن ما به كان محجورا عليه لم يزل بالإذن فإن الحجر عليه لأجل الصبا أو لنقصان عقله لا لحق الغير في ماله إذ لا حق لأحد في ماله وهذا المعنى بعد الإذن قائم والدليل عليه أن للمولى أن يحجر عليه فلو زال سبب الحجر بإذن الولي لم يكن له الحجر عليه بعد ذلك وهذا بخلاف العبد فإن الحجر هناك لحق المولى في كسبه ورقبته وبالإذن صار المولى راضيا بتصرفه في كسبه وبخلاف السفيه فالحجر عليه لمكابرة عقله وذلك ليس بوصف لازم ولا يجوز الإذن له إلا بعد زواله إلا أن إذن القاضي إياه دليل زواله.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] والابتلاء هو الامتحان بالإذن له في التجارة ليعرف رشده وصلاحه فلو تصرف بدون مباشرتهم لا يتم به معنى الابتلاء ثم علق الزام دفع المال إليه بالبلوغ وذلك عبارة عن زوال ولاية الولي عنه وبه نقول أن ذلك لا يثبت ما لم يبلغ وقال تعالى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}[النساء: 2] واسم اليتيم حقيقة يتناول الصغير فعرفنا أن دفع المال إليه وتمكينه من التصرفات جائز إذا صار عاقلا،(25/38)
ص -21- ... والمراد بقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] الذين لا يعقلون أو المراد النساء وهو أن الرجل يدفع المال لزوجته ويجعل التصرف فيه إليها وذلك منهي عنه عندنا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: "قم يا عمر فزوج أمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكان ابن سبع سنين ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر يبيع لعب الصبيان في صغره فقال: "بارك الله لك في صفقتك" فقد مكن الصبي من التصرف فدل أن عبارته صالحة لذلك والمعنى فيه أنه محجور إذن وليه له وعرفه فينفذ تصرفه كالعبد وهذا لأنه مع الصغر أهل للتصرف إذا كان عاقلا لأنه مميز والأهلية للتصرف بكونه متكلما عن تمييز وبيان لا عن تلقين وهذيان وقد صار مميزا إلا أن الحجر عليه لدفع الضرر عنه ولهذا سقط عنه الخطاب لأن في توجيه الخطاب عليه إضرارا به عاجلا.(25/39)
ألا ترى أنه جعل أهلا للنوافل من الصلوات والصيام لأنه لا ضرر عليه في ذلك ولو توجه عليه الخطاب ربما لا يؤدي للحرج ويبقى في وباله وهذا لأن الصبي يقرب من المنافع ويبعد من المضار فإن الصبا سبب للمرحمة واعتبار كلامه في التصرف محض منفعة لأن الآدمي باين سائر الحيوانات بالبيان وهو من أعظم المنافع عند العقلاء وهذه منفعة لا يمكن تحصيلها له برأي المولى ولهذا صح منه من التصرفات ما يتمحض منفعة وهو قبول الهبة والصدقة فأما ما يتردد بين المنفعة والمضرة فيعتبر فيه انضمام رأي إلى رأيه لتوفير المنفعة عليه فلو نفذنا ذلك منه قبل الإذن ربما يتضرر به ويزول هذا المعنى بانضمام رأي الولي إلى رأيه ولهذا لو تصرف قبل إذن الولي فأجازه الولي جاز عندنا وهذا لأنه يتردد حاله بين أن يكون ناظرا في عاقبة أمره بما أصاب من العقل وبين أن لا يكون ناظرا في ذلك بنقصان عقله ولا يحل للولي أن يأذن له شرعا ما لم يعرف منه حسن النظر في عاقبة الأمر فكان إذن الولي له دليل كمال عقله أو حسن نظره في عاقبة أمره كإذن القاضي للسفيه بعد الحجر عليه أو فيه توفير المنفعة عليه حين لزم التصرف بانضمام رأي الولي إلى رأيه فإذا اعتبرنا عقله في هذا الوجه اتسع توفير طريق المنفعة عليه لأنه يحصل له منفعة التصرف بمباشرته وبمباشرة وليه وذلك أنفع له من أن يسد عليه أخذ الناس ويجعل لتحصيل هذه المنفعة طريقا واحدا إلا أن نظره في عاقبة الأمر ووفور عقله متردد قبل بلوغه فلاعتبار وجوده ظاهرا يجوز للولي أن يأذن له ولتوهم القصور فيه يبقي ولاية الولي عليه ويتمكن من الحجر عليه بعد ذلك وهو كالسفيه فإن القاضي بعد ما أطلق عنه الحجر إذا أراد أن يحجر عليه جاز ذلك لهذا المعنى.(25/40)
إذا عرفنا هذا فنقول إقراره بعد إذن الولي له بعين أو دين لغيره صحيح لأنه صار منفك الحجر عنه بالإذن فهو كما لو صار منفك الحجر عنه بالبلوغ وهذا إشكال الخصم علينا فإنه يقول إقرار الولي عليه باطل فكيف يستفيد هو بإذن الولي ما لا يملك الولي مباشرته ولكنا نقول الولي إنما لا يملك مباشرته لأنه لا يتحقق ذلك منه فالإقرار قول من المرء على نفسه وما ثبت على الغير فهو شهادة وإقرار الولي على الصبي قول على الغير فيكون(25/41)
ص -22- ... شهادة وشهادة الفرد لا يكون حجة فأما قوله بعد الإذن إقرار منه على نفسه وهو من صنيع التجار ومما لا تتم التجارة إلا به لأن الناس إذا علموا أن إقراره لا يصح يتحرزون عن معاملته فمن يعامله لا يتمكن من أن يشهد عليه شاهدين في كل تصرف فلهذا جاز إقراره في ظاهر الرواية وكما يجوز إقراره فيما اكتسبه يجوز فيما ورثه عن أبيه وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يجوز إقراره فيما ورثه عن أبيه لأن صحة إقراره في كسبه لحاجته إلى ذلك في التجارات وهذه الحاجة تنعدم في الموروث من أبيه.
وجه ظاهر الرواية: أن انفكاك الحجر عنه بالإذن في حكم إقراره بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالبلوغ بدليل صحة إقراره فيما اكتسبه فكذلك فيما ورثه لأن كل واحد من المالين ملكه وهو فارغ عن حق الغير وهذا لأنه إذا انضم رأي الولي إلى رأيه التحق بالبالغ ولهذا نفذ أبو حنيفة رحمه الله: تصرفه بعد الإذن في الغبن الفاحش على ما نبينه في موضعه فكذلك في حكم الإقرار يلتحق بالبالغ ثم صحة الإذن له من وليه ووليه أبوه ثم وصى الأب ثم الجد أب الأب ثم وصيه ثم القاضي أو وصي القاضي فأما الأم أو وصي الأم فلا يصح الإذن منهم له في التجارة لأنه غير ولي له في التصرفات مطلقا بل هو كالأجنبي إلا فيما يرجع إلى حفظه ولهذا لا يملك بيع عقاره والإذن في التجارة ليس من الحفظ فلهذا لا يملكه.
ولو أقر الصبي المأذون بغصب أو استهلاك في حال إذنه أو أضافه إلى ما قبل الإذن جاز إقراره بذلك لأن ضمان الغصب والاستهلاك من جنس ضمان التجارة ولهذا صح إقراره به من العبد المأذون وكان مؤاخذا به في الحال وانفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالبلوغ ولو أقر بعد البلوغ أنه فعل شيئا من ذلك في صغره كان مؤاخذا به في الحال فكذلك إذا أقر بعد الإذن ولو كاتب هذا الصبي مملوكه لم يجز لأنه منفك الحجر عنه في التجارة والكتابة ليست من عقود التجارة.(25/42)
ألا ترى أن العبد المأذون لا يملكها ولا يقال فالأب والوصي يملك الكتابة في عبد الصبي وهذا لأن تصرفهما مقيد بشرط النظر ويتحقق في الكتابة النظر وأما تصرف الصبي بعد الإذن فمقيد بالتجارة والكتابة ليست بتجارة ولهذا لا يملك الصبي المأذون تزويج أمته في قول أبي حنيفة ومحمد وإن كان الأب والوصي يملكان ذلك.
وأما تزويج العبد فلا يملكه الصبي لأنه ليس بتجارة ولا يملك أبوه ووصيه لأنه ليس فيه نظر للصبي بل فيه تعييب العبد وإلزام المهر والنفقة عليه من غير منفعة للصبي فيه وكذلك لو كبر الصبي فأجازه لم يجز لأنه إنما يتوقف على الإجازة ماله مجيز حال وقوعه ولا مجيز لهذا التصرف حال وقوعه فتعين فيه جهة البطلان وكذلك العتق على مال لا يصح من الصبي لأنه ليس من التجارة ولا من الولي لأنه لا منفعة للصبي في ذلك بل فيه ضرر به من حيث إنه يزول ملكه في الحال ببدل في ذمة مفلسه.
ولو أجازه الصبي بعد الكبر لم يجز لأنه لا مجيز له عند وقوعه وكذلك لو فعله(25/43)
ص -23- ... أجنبي بخلاف ما لو زوج الأجنبي أمته أو كاتب عبده فأجازه الصبي بعد ما كبر فهو جائز لأن لهذا التصرف مجيزا حال وقوعه وهو وليه والولي في الإجازة ناظر له فإذا صار من أهل أن يستبد بالنظر لنفسه نفذ بإجازته وهذا هو الأصل فيه أن كل شيء لا يجوز للأب والوصي أن يفعلاه في مال الصبي فإذا فعله أجنبي فأجازه الصبي بعد ما كبر فهو جائز لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وهذه التصرفات تنفذ بالإذن في الابتداء ممن قام رأيه مقام رأي الصبي فينفذ بالإجازة في الانتهاء من ذلك الأذن أو من الصبي بعد ما كبر لأنه هو الأصل في هذا النظر.
ولو زوج هذا الصبي عبده أمته أو فعل ذلك أبوه أو وصيه لم يجز عندنا خلافا لزفر وقد بيناه في كتاب النكاح.
قال: ألا ترى أن الأمة لو بيعت فأعتقت لحق العبد نفقتها فدل على أنه لا ينفك عن معنى الضرر في حق الصبي ويستوي في ذلك إن كان على الصبي دين أو لم يكن لأن الدين في ذمته وولاية الولي عليه لا تتعين بلحوق الدين إياه بخلاف العبد.
ولو كان للصبي امرأة فخلعها أبوه أو أجنبي أو طلقها أو أعتق عبده ثم أجاز الصبي بعد ما كبر فهو باطل لأنه لا مجيز لهذا التصرف عند وقوعه فالطلاق والعتاق محض ضرر عاجل في حقه فلا يعتبر فيه عقله ولا ولاية الولي عليه لأن ثبوت الولاية عليه لتوفير المنفعة له لا للإضرار به وإذا قال حين كبر قد أوقعت عليها الطلاق الذي أوقع عليها فلان أو قد أوقعت على العبد ذلك العتق الذي أوقعه فلان وقع الطلاق والعتاق لأن هذا اللفظ إيقاع مستقبل.
ألا ترى أنه يملك الإيقاع ابتداء بهذا اللفظ فيكون إضافته إلى أوقع فلان لتعريف العدد والصفة لا أن يكون أصل الإيقاع من فلان لكنه من الموقع في الحال وهو من أهله بخلاف الإجازة منه فإن الإجازة تقيد للتصرف الذي باشره فلان.(25/44)
ألا ترى أن إيقاع الطلاق والعتاق بلفظ الإجازة منه لا يصح ابتداء وقد تعينت جهة البطلان فيما باشره قبل بلوغه فإجازته لذلك بعد البلوغ تكون لغوا.
وإذا باع الصبي وهو يعقل البيع عبدا من رجل بألف درهم وقبض الثمن ودفع العبد ثم ضمن رجل للمشتري ما أدركه في العبد من درك فاستحق العبد من يد المشتري فإن كان الصبي مأذونا رجع المشتري بالثمن إن شاء على الصبي وإن شاء على الكفيل لأن الكفالة التزام المطالبة بما على الأصيل فالصبي المأذون مطالب بضمان الدرك عند الاستحقاق فيصح التزام الكفيل عنه ذلك ويتخير المشتري فإن رجع على الكفيل رجع الكفيل على الصبي إن كان كفل بأمره لأن هذه الكفالة تبرع على الصبي لا منه وهو في التبرع عليه كالبالغ وأمر الغير بالكفالة معتبر إذا كان مأذونا بمنزلة استقراضه وإن كان الصبي محجورا عليه فالضمان عنه باطل لأنه غير مطالب بضمان الاستحقاق فالكفيل عنه التزم مالا مطالبة عليه فيه فلهذا لا يجب على الكفيل شيء ولا على الصبي أيضا إن كان الثمن قد هلك في يده أو استهلكه،(25/45)
ص -24- ... لأن فعله كان بتسليط صحيح من المشتري حين سلم الثمن إليه وإن كان قائما بعينه في يده أخذه المشتري لأنه وجد عين ماله وإن كان الرجل ضمن للمشتري في أصل الشراء أو ضمنه قبل أن يدفع المشتري الثمن إلى الصبي ثم وقع الثمن على لسان الكفيل ثم استحق العبد من يده فالضمان جائز ويأخذ المشتري الكفيل بالثمن لأن المشتري إنما سلم الثمن إلى الصبي على أن الكفيل ضامن له فتسليمه على هذا الشرط صحيح لأن الكفيل ملتزم لهذا الضمان وهو من أهله بخلاف الأول فهناك الدفع حصل على أن الصبي ضامن له والصبي المحجور ليس من أهل التزام هذا الضمان ثم الكفيل بعد ذلك التزم مطالبة ليست على الأصيل فكان باطلا.
ألا ترى أن رجلا لو قال لرجل ادفع إلي هذا الصبي عشرة دراهم ينفقها على نفسه على أني ضامن لها حتى أردها عليك والصبي محجور عليه ففعل كان ضمانها على الكفيل ولو كان دفع الدراهم أولا إلى الصبي وأمره أن ينفقها على نفسه ثم ضمنها له رجل بعد الدفع كان ضمانه باطلا والفرق ما بينا.(25/46)
وإذا اشترى الصبي المأذون عبدا فأذن له في التجارة فهو جائز لأن الإذن في التجارة من صنيع التجار ومما يقصد به تحصيل الربح ولهذا صح من العبد المأذون فكذلك من الصبي المأذون وكذلك لو أذن له أبوه أو وصيه في التجارة لأن تصرفهما في كسبه وأن مأذونا صحيح بمنزلة البيع والشراء سواء كان على الصبي دين أو لم يكن لأن دين الحر في ذمته لا تعلق له بماله بخلاف دين المأذون فإنه يتعلق بكسبه ويصير المولى من التصرف في كسبه كأجنبي آخر إذا كان الدين مستغرقا وإذن القاضي أو الوالي الذي استعمل القاضي لعبد الصبي في التجارة صحيح بمنزلة إذنه للصبي لأن ولاية التصرف عليه فيما يرجع إلى النظر له ثابت عند عدم الأب والوصي للقاضي أو الوالي وإذن أمير الشرط ومن لم يول القضاء له في ذلك باطل لأنه لا ولاية لهؤلاء عليه في التصرف في نفسه وماله والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي في جميع ذلك لأنه مولى عليه كالصبي ولكنه يعقل التصرف وفي اعتبار عقله توفير المنفعة عليه كما قررنا في الصبي وهذا بخلاف التخيير بين الأبوين فإنه لا يعتبر عقل الصبي في ذلك عندنا لأن الظاهر أنه يختار ما يضره لأنه يميل إلى من لا ينفعه ولا يؤاخذه بالآداب فلم يكن في هذا التخيير توفير المنفعة عليه ولهذا لا يعتبر عقله في باب الوصية لأن الوصية ليست من التصرفات التي فيها المنفعة له باعتبار الوضع بل هو نظير الهبة في حياته.
وإن كان المعتوه لا يعقل البيع والشراء فأذن له أبوه أو وصيه في التجارة لا يصح لأنه بمنزلة الصبي الذي لا يعقل يتكلم عن هذيان لا عن بيان ولو أذن للمعتوه الذي يعقل البيع والشراء في التجارة ابنه كان باطلا لأنه لا ولاية للابن على الأب في التصرف في ماله وقد بينا أن الإذن في التجارة لا يصح ممن لا يثبت له ولاية التصرف مطلقا وعلى هذا لو أذن له أخوه أو عمه أو واحد من أقربائه سوى الأب والجد فإذنه باطل لما قلنا.(25/47)
ص -25- ... باب الحجر على الصبي والعبد والمعتوه
قال رحمه الله: وإذا باع العبد المأذون له في التجارة واشترى فلحقه دين أو لم يلحقه ثم أراد مولاه أن يحجر عليه فليس يكون الحجر عليه إلا في أهل سوقه عندنا وقال الشافعي صحيح وإن لم يعلم به أحد من أهل سوقه وهو بناء على مسألة الوكالة أن عزل الوكيل لا يصح إلا بعلمه عندنا وعنده يصح بغير علمه فكذلك الحجر على العبد عنده يصح بغير علم العبد وبغير علم أهل السوق له لأن الإذن عنده إنابة كالتوكيل وهذا لأن المولى يتصرف في خالص حقه فلا يتوقف تصرفه على علم الغير به ولأن الإذن لا يتعلق به اللزوم فلو لم يملك الحجر عليه إلا في أهل سوقه لثبت به اللزوم من وجه ثم الإذن صحيح وإن لم يعلم به أهل سوقه فكذلك الحر الذي يرفعه وعزل الوكيل صحيح بعلمه وإن لم يعلم به من يعامله فكذلك الحجر على العبد ولكنا نشترط علم أهل السوق لدفع الضرر والغرور عنهم فإن الإذن عم وانتشر فيهم فهم يعاملونه بناء على ذلك.
فلو صح الحجر بغير علمهم تضرروا به لأن العبد إن اكتسب ربحا أخذه المولى وإن لحقه دين أقام البينة إن كان قد حجر عليه فتتأخر حقوقهم إلى ما بعد العتق ولا ندري أيعتق أم لا ومتى يعتق والمولى بتعميم الإذن يصير كالفار لهم فلدفع الضرر قلنا: لا يثبت الحجر ما لم يعلم به أهل سوقه ثم هو بالحجر يلزمهم التحرز عن معاملته والخطاب الملزم للغير لا يثبت حكمه في حقه ما لم يعلم به كخطاب الشرع.(25/48)
ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد الأمر باستقبال الكعبة وجوز لهم ذلك لأنهم لا يعلمون به وهذا لأنه لا يتمكن من الائتمار إلا بعد العلم به إلا أن في الوكالة شرطنا علم الوكيل لدفع الضرر عنه ولا يشترط علم أهل السوق لأنه لا ضرر عليهم في العزل فإن تصرفهم معه نافذ سواء كان وكيلا أو لم يكن ثم الحجر رفع الإذن وإنما يرفع الشيء ما هو مثله أو فوقه فإذا كان الإذن منتشرا لا يرفعه إلا حجر منتشر وكان ينبغي أن يشترط إعلام جميع الناس بذلك إلا أن ذلك ليس في وسع المولى والتكليف ثابت بقدر الوسع والذي في وسعه إشهار الحجر بأن يكون في أهل سوقه لأن أكثر معاملاته مع أهل سوقه وما ينتشر فيهم يصل خبره إلى غيرهم عن قريب فإن حجر عليه في بيته ثم باع العبد أو اشترى ممن قد علم بذلك فبيعه وشراؤه جائز لأن شرط صحة الحجر التشهير ولم يوجد فلا يثبت حكمه في حق من علم به كما لا يثبت في حق من لم يعلم به وهذا لأن الحجر لا يقبل التخصيص كالإذن ولم يمكن إثباته في حق من لم يعلم به فلو ثبت في حق من علم به كان حجرا خاصا وذلك لا يكون.
ألا ترى أنه لو أذن له في أن يشتري ويبيع من قوم بأعيانهم ونهاه عن آخرين فبايع الذين نهاه عنهم كان جائزا وهذا بخلاف خطاب الشرع فإن حكمه ثبت في حق من علم به لأن الخطاب مما يقبل التخصيص وكل واحد من المخاطبين الحكم في حقه كأنه ليس معه غيره.(25/49)
ص -26- ... وإذا أتى المولى بعبده إلى أهل سوقه فقال قد حجرت على هذا فلا تبايعوه كان هذا حجرا عليه لأن المولى أتى بما في وسعه وهو تشهير الحجر فيقام ذلك مقام علم جميع أهل السوق به بمنزلة الخطاب بالشرائع فإن الذمي إذا أسلم ولم يعلم بوجوب الصلاة عليه حتى مضى زمان يلزمه القضاء لإشهار حكم الخطاب في دار الإسلام والحربي إذا أسلم في دار الإسلام لا يلزمه القضاء ما لم يعلم لأن حكم الخطاب غير منتشر في دار الحرب ثم المولى قد أنذرهم بما أتى به من الحجر عليه في أهل سوقه وقد أعذر من أنذر فيخرج به من أن يكون غارا لهم أو مضرا بهم بعد ذلك ولكن هذا إذا كان بمحضر الأكثر من أهل سوقه. فإن كان إنما حضر ذلك من أهل سوقه رجل أو رجلان لم يكن ذلك حجرا حتى يحضر الأكثر من أهل سوقه لأن المقصود ليس عين السوق.
ألا ترى أنه لو أتى به إلى سوقه ليلا وجعل ينادي قد حجرت على هذا لم يكن ذلك معتبرا فعرفنا أن المقصود علم أهل السوق وليس في وسعه إعلام الكل فيقام الأكثر مقام الكل فإذا حضر ذلك الأكثر من أهل سوقه يجعل ذلك كحضور جماعتهم فثبت حكم الحجر في حق من علم به وفي حق من لم يعلم به وإن لم يحضر ذلك أكثر أهل السوق جعل كأنه لم يحضر أحد منهم.
ألا ترى أنه لو دعا برجل من أهل سوقه إلى بيته وحجر عليه بمحضر منه لم يكن حجرا ولو دعا إلى منزله جماعة من أهل سوقه فأشهدهم أنه قد حجر عليه كان حجرا وهذا لأن ما يكون بمحضر من الجماعة قل ما يخفى فأما ما يكون بمحضر الواحد والمثنى فقد يخفى على الجماعة وشرط صحة الحجر تشهيره فإذا كان عند جماعة من أهل سوقه فقد وجد شرطه.(25/50)
ولو خرج العبد إلى بلد للتجارة فأتى المولى أهل سوقه فأشهدهم أنه قد حجر عليه والعبد لا يعلم بذلك لم يكن هذا حجرا عليه لأنه إنما خرج ليعامل غير أهل سوقه فبإعلام أهل السوق لا يتم معنى دفع الضرر والغرور ولأن علم العبد بالحجر شرط لثبوت حكم الحجر في حقه كعلم الوكيل بالغرور وهذا لأن العبد يتضرر لصحة الحجر عليه قبل علمه لأنه يتصرف على أن يقضي ديونه من كسبه ورقبته فإذا لحقه دين وأقام المولى البينة أنه قد كان حجر عليه تأخر ديونه إلى عتقه وبعد العتق يلزمه أداؤها من خالص ماله وفيه من الضرر عليه ما لا يخفى.
وكذلك لو كان العبد في المصر ولكنه لم يعلم بالحجر فليس هذا بحجر عليه بل ينفذ تصرفه مع أهل سوقه ومع غيرهم ما لم يعلم بالحجر فإذا علم العبد بذلك بعد يوم أو يومين فهو محجور عليه حين علم وما اشترى وباع قبل أن يعلم فهو جائز لأن شرط صحة الحجر علمه به فكل تصرف سبق ما هو شرط الحجر فهو كالتصرف الذي سبق الحجر وكل تصرف كان بعد علمه بالحجر فهو باطل لأن دفع الضرر والغرور قد حصل بعلمه بالحجر فإن كان المولى يراه يشتري ويبيع بعد ما حجر عليه قبل أن يعلم به العبد فلم ينهه ثم علم به العبد(25/51)
ص -27- ... فباع أو اشترى بعد علمه فالقياس في هذا أن يكون محجورا وأن لا تكون رؤيته إياه يبيع ويشتري إذنا مستقبلا لأنه كان مأذونا على حاله حين رآه يشتري ويبيع والسكوت عن النهي دليل الرضا فإنما يعتبر ذلك في حق من لا يكون مأذونا لرفع الحجر به فأما في حق من هو مأذون فسكوته عن النهي وجودا وعد ما بمنزلته ولكنه استحسن وجعل ذلك إذنا من المولى له في التجارة وإبطالا لما كان أشهد به من الحجر لأن الحجر كان موقوفا على علم العبد به والحجر الموقوف دون الحجر النافذ ثم رؤيته تصرف العبد وسكوته عن النهي لما كان رافعا للحجر النافذ الذي قد علمه العبد فلأن يكون رافعا للحجر الموقوف أولى وهذا لأن السكوت بمنزلة الإذن الصريح.
ولو قال بعد ذلك الحجر: قد أذنت لك في التجارة كان هذا إذنا مبطلا لذلك الحجر الموقوف فكذلك إذا سكت عن النهي فإن ذلك الحجر كان لكراهة تصرفه والسكوت عن النهي بعد الرؤية دليل الرضا بتصرفه والرضا بعد الكراهة كامل وإذا أذن له في التجارة ولم يعلم بذلك أحد سوى العبد حتى حجر عليه بعلم منه بغير محضر من أهل سوقه فهو محجور عليه لوصول الحجر إلى من وصل إليه الإذن وهو العبد فبه تبين أن الحجر مثل الإذن والشيء يرفعه ما هو مثله ثم اشتراط علم أهل السوق بالحجر كان لدفع الضرر والغرور عنهم وذلك المعنى لا يوجد هنا لأنهم لم يعلموا بالإذن ليعاملوه بناء على ما علموه
فإن علم بعد ذلك أهل سوقه بإذنه ولم يعلموا بالحجر عليه فالحجر صحيح لأنه لما كان الحجر قبل علمهم بالإذن فقد بطل به حكم ذلك الإذن وإنما علموا بعد ذلك بإذن باطل بخلاف ما لو علموا بالإذن قبل قول المولى حجرت عليه ولكنهم لم يعاملوه حتى كان الحجر من المولى عليه لأن الحجر ها هنا باطل ما لم يعلم به أهل سوقه لأن الإذن قد انتشر فيهم حين علموا به فلا يبطله إلا حجر منتشر فيهم.(25/52)
ولو لم يعلم بالإذن غير العبد ثم حجر عليه والعبد لا يعلم به فاشترى وباع كان مأذونا والحجر باطل لأنه ما وصل الحجر إلى من وصل إليه الإذن وهو العبد وهو نظير عزل الوكيل فإنه إذا علم بالوكالة ولم يعلم بالعزل لا يصير معزولا سواء كان الوكيل عبدا له أو حرا فكذلك حكم الحجر.
وإذا أذن العبد في التجارة فاشترى وباع وهو لا يعلم بإذن المولى ولم يعلم به أحد فليس هو بمأذون ولا يجوز شيء من تصرفاته لأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به خصوصا إذا كان ملزما إياه وهذا خطاب ملزم لأنه لا يطالب بعهدة تصرفاته قبل الإذن في الحال ويطالب بذلك بعد الآن فكما لا يثبت حكم الحجر في حقه ما لم يعلم به لدفع الضرر عنه فكذلك حكم الإذن فإن علم بعد ذلك فباع واشترى جاز ما فعله بعد العلم بالإذن ولم يجز ما قبله لأنه حين علم فإنما تم شرط الإذن في حقه الآن وكأنه أذن له في الحال فلا يؤثر هذا الإذن فيما كان سابقا عليه من تصرفاته.(25/53)
ص -28- ... ولو أمر المولى قوما أن يبايعوه فبايعوه والعبد لا يعلم بأمر المولى كان شراؤه وبيعه معهم جائزا هكذا ذكر هنا وفي الزيادات قال إذا قال الأب لقوم بايعوا ابني والابن لا يعلم بذلك فإن أخبروه بمقالة الأب قبل أن يبايعوه نفذ تصرفهم معه وإن لم يخبروه لم ينفذ.
وفي الوكالة ذكر المسألة في الموضعين إذا قال اذهب فاشتر عبدي هذا من فلان قال في أحد الموضعين إن أعلمه بمقالة الموكل صح شراؤه منه وقال في الموضع الآخر وإن لم يعلمه ذلك ولكنه اشتراه منه جاز شراؤه فقيل في الفصول كلها روايتان في إحدى الروايتين الإذن في الابتداء كالإجازة في الانتهاء وإجازته كاملة في نفوذ التصرف سواء علم به من باشر التصرف أو لم يعلم وكذلك أمره بالتصرف في الابتداء وفي الرواية الأخرى قال هو ملزم في حق المتصرف والإلزام لا يثبت في حقه ما لم يعلم به وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع ففي الزيادات وضع المسألة في الحر وليس للأب ولاية إلزام الدين في ذمة أبيه فما لم يعلم الابن بإذن الأب لا ينفذ التصرف في حقه وللولي ولاية شغل مالية عبده بدينه.
ألا ترى أنه يرهنه بالدين فيصح والحاجة إلى الإذن ها هنا لتعلق الدين بمالية الرقبة لا لثبوته في العبد فالدين بالمعاملة يجب في ذمته وإن كان محجورا عليه حتى يؤاخذ به بعد العتق ولهذا صح تصرف من أمره المولى بالمعاملة معه وإن لم يعلم العبد بمقالة المولي وقد قررنا تمام هذا في الزيادات فإن اشترى العبد بعد ذلك من غيرهم وباع فهو جائز لأن من ضرورة الحكم بنفوذ تصرفه مع الذين أمرهم المولى بمبايعته الحكم بأنه مأذون والإذن لا يقبل التخصيص فإذا ثبت في حق البعض ثبت في حق الكل.(25/54)
ولو كان الذين أمرهم المولى أن يبايعوه لم يفعلوا وبايعه غيرهم وهم لا يعلمون بإذن المولى والعبد لا يعلم به أيضا كانت مبايعتهم إياه باطلة وهو محجور عليه على حاله لأن بمجرد مقالة المولى لا يصير العبد مأذونا قبل أن يعلم به ولكن ثبت حكم الإذن في حق الذين أمرهم بمبايعته ضمنا لتصرفهم معه للحاجة إلى دفع الضرر والغرور عنهم وما ثبت ضمنا لشيء لا يثبت قبله وثبوت حكم الإذن في حق سائر الناس كان لضرورة الحكم بنفوذ تصرفه مع الذين أمرهم المولى بمبايعته فلا يثبت ذلك قبل تصرفه معهم فإن بايعه بعد ذلك الذين أمرهم المولى ثم بايع العبد بعدهم قوما آخرين جازت مبايعته مع الذين أمرهم الذين أمرهم المولى بها ومع من بايعهم بعدهم ولم تصح المبايعة التي كانت قبل ذلك.
أما نفوذ مبايعته مع الدين أمرهم المولى بها فللحاجة إلى دفع الضرر والغرور عنهم ونفوذه من بعدهم فلأن الإذن لا يقبل التخصيص ولا يوجد ذلك في حق الذين كان عاملهم قبل ذلك وكان الإذن في
حق الذين أمرهم ثبت حكمه مقصودا وفي حق غيرهم تبع والتبع يتبع الأصل ولا يسبقه.(25/55)
ص -29- ... وإذا باع المولى العبد المأذون وعليه دين أو لا دين عليه وقبضه المشتري فهذا حجر عليه علم به أهل سوقه أو لم يعلموا لأن المشتري بالقبض قد ملكه فإن قيام الدين على العبد يمنع لزوم البيع بدون رضا الغرماء ولكن لا يمنع وقوع الملك للمشتري إذا قبضه لأن ذلك لا يزيل تمكن الغرماء من نقضه ولهذا لو أعتقه المشتري كان عتقه نافذا وانفكاك الحجر عنه كان في ملك المولى وملك المشتري ملك متجدد ثابت بسبب متجدد فلا يمكن إظهار حكم ذلك الإذن فيه فيثبت الحجر لفوات محل الإذن وذلك أمر حكمي فلا يتوقف على علم أهل السوق به كما لو أعتق العبد الذي كان وكل الوكيل ببيعه فإنه ينعزل الوكيل وإن لم يعلم به.
وكذلك لو وهبه لرجل وقبضه الموهوب له لأن الملك تجدد للموهوب له وكذلك لو مات المولى يصير العبد محجورا عليه علم بذلك أهل سوقه أو لم يعلموا لأن صحة الإذن باعتبار رأي المولى وقد انقطع رأيه بالموت وحكم الإذن هو الرضا من المولى بتعلق الدين بمالية رقبته وقد صار ملك المالية بموته حق ورثته وجدد لهم صفة المالية في مالية رقبته وإن كان الملك هو الذي كان للمولى ولكن رضا المولى غير معتبر في إبطال حق ورثته عن مالية الرقبة فلتحقق المنافي قلنا: لا يبقى حكم الإذن بعد موت المولى.
وإذا أشهد المولى أهل سوقه أنه قد حجر على عبده وأرسل إلى العبد به رسولا أو كتب به إليه كتابا فبلغه الكتاب أو أخبره الرسول فهو محجور عليه حين بلغه ذلك لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل والكتاب أحد اللسانين وهو ممن يأتي كالخطاب ممن دنا.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالتبليغ إلى الناس كافة؟ ثم كتب إلى ملوك الآفاق وأرسل إليهم من يدعوهم إلى دين الحق وكان ذلك تبليغا تاما منه صلى الله عليه وسلم وإن أخبره بذلك رجل لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: حتى يخبره به رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد.(25/56)
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله من أخبره بذلك من رجل أو امرأة أو صبي صار محجورا عليه بعد أن يكون الخبر حقا وهذا الخلاف في فصول منها عزل الوكيل ومنها سكوت البكر إذا أخبرها الفضولي بالنكاح ومنها سكوت الشفيع عن الطلب إذا أخبره فضولي بالبيع ومنها اختيار الفداء إذا أعتق المولى عبده الجاني بعد ما أخبره فضولي بجنايته فطريقهما في الكل أن هذا من باب المعاملات وخبر الواحد في المعاملات مقبول وإن لم يكن عدلا كما لو أخبر بالوكالة وبالإذن للعبد وهذا لأن في اشتراط العدالة في هذا الخبر ضرب حرج فكل أحد لا يتمكن من إحضار عدل عند كل معاملة ولهذا سقط اشتراط العدد فيه بخلاف الشهادات فلذلك يسقط اعتبار العدالة فيه.
ومتى كان الخبر حقا فالمخبر به كأنه رسول المولى لأن المولى حين حجر عليه بين يديه فكأنه أمره أن يبلغه الحجر دلالة والدلالة في بعض الأحكام كالصريح خصوصا فيما بنى(25/57)
ص -30- ... على التوسع ولو أرسله لم يشترط فيه صفة العدالة فكذلك ها هنا وأبو حنيفة رحمه الله: استدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فقد أمر الله بالتوقف في خبر الفاسق وذلك منع من العمل بخبر الفاسق فلو أثبتنا الحجر والعزل بخبر الفاسق لكان ذلك حكما يخالف النص بخلاف الرسول فإنه ثابت عن المرسل فعبارة الرسول كعبارة المرسل فأما الفضولي فليس بنائب عن المولى لأنه ما أنابه مناب نفسه فيبقى حكم الخبر مقصورا عليه وهو فاسق فكان الواجب التوقف في خبره بالنص ثم هذا خبر ملزم لأنه يلزم العبد الكف عن التصرف والشفيع طلب المواثبة والبكر حكم النكاح والمولى حكم اختيار الفداء وخبر الفاسق لا يكون ملزما كخبره في الديانات بخلاف إخباره بالوكالة والإذن فإن ذلك غير ملزم لأنه بالخيار إن شاء تصرف وإن شاء لم يتصرف وتقرير هذه أن لهذا الخبر شبهين شبه رواية الإخبار من حيث إلزام العمل به وشبه الإخبار بالوكالة من حيث إنه معاملة وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلاعتبار معنى الإلزام شرطنا فيه العدالة ولشبهه بالمعاملات لا يشترط فيه العدد.
واختلف مشايخنا رحمهم الله فيما إذا أخبره بذلك فاسقان فمنهم من يقول لا يصير محجورا عليه أيضا لأن خبر الفاسقين كخبر فاسق واحد في أنه لا يكون ملزما وأنه يجب التوقف فيه ومن اختار هذا الطريق قال معنى اللفظ المذكور في الكتاب حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فإن قوله عدل يصلح نعتا للواحد والمثنى يقال رجل عدل ورجال عدل ومنهم من يقول إذا أخبره بذلك فاسقان صار محجورا عليه فظاهر هذا اللفظ يدل عليه فإنه أطلق الرجلين وإنما قيد بالعدالة الواحد وهذا لأنه يشترط في الشهادة العدد والعدالة لوجوب القضاء بها وتأثير العدد فوق تأثير العدالة.(25/58)
ألا ترى أن قضاء القاضي بشهادة الواحد لا ينفذ وبشهادة الفاسقين ينفذ وإن كان مخالفا للسنة ثم إذا وجدت العدالة ها هنا بدون العدد يثبت الحجر بالخبر فكذلك إذا وجد العدد دون العدالة وهذا لأن طمأنينة القلب تزداد بالعدد كما تزداد بالعدالة ويختلفون على قول أبي حنيفة في الذمي أسلم في دار الحرب إذا أخبره فاسق بوجوب الصلاة عليه هل يلزمه القضاء باعتبار خبره فمنهم من يقول ينبغي أن لا يجب القضاء عندهم جميعا لأن هذا من إخبار الدين والعدالة شرط بالاتفاق وأكثرهم على أنه على الخلاف كما في الحجر والعزل.
قال رضي الله عنه: والأصح عندي أنه يلزمه القضاء ها هنا لأن من أخبره فهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ قال عليه السلام: "نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها" وقد بينا في خبر الرسول أنه بمنزلة خبر المرسل ولا يعتبر في الإلزام أن يكون المرسل عدلا فكذلك ها هنا ولا يدخل على هذا رواية الفاسق الإخبار لأن هناك لا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره وبذلك يتبين كون المخبر به حقا وها هنا نحن نعلم أن ما أخبره به حق فيثبت حكمه في حق من أخبره الفاسق به حتى يلزم القضاء فيما يتركه بعد ذلك.(25/59)
ص -31- ... وإذا أبق العبد المأذون له في التجارة فإباقه حجر عليه وقال زفر رحمه الله: لا يصير محجورا عليه بالإباق لأن صحة الإذن باعتبار ملك المولى وقيام رأيه ولم يختل ذلك بإباقه والدليل عليه أن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن فإن المحجور عليه إذا أبق فأذن له المولى في التجارة وعلم به العبد كان مأذونا وما لا يمنع ابتداء الإذن لا يمنع بقاءه بطريق الأولى ولكنا نقول لما جعل دلالة الإذن كالتصريح به فكذلك دلالة الحجر كالتصريح بالحجر وقد وجدت دلالة الحجر بعد إباقه لأن الظاهر أن المولى إنما يرضى بتصرفه ما بقي تحت طاعته ولا يرضى بتصرفه بعد تمرده وإباقه ولهذا صح ابتداء الإذن بعد الإباق لأنه يسقط اعتبار الدلالة عند التصريح بخلافه.
يوضحه: أن حكم الإذن رضا المولى بتعلق الدين بمالية رقبته وقد توت المالية فيه بالاتفاق ولهذا لا يجوز فيه شيء من التصرفات التي تنبني على ملك المالية فكان هذا وزوال ملك المولى عنه في المعنى سواء.
يوضحه: أن المولى لو تمكن منه أوجعه عقوبة جزاء على فعله وحجر عليه فإذا لم يتمكن منه جعله الشرع محجورا عليه كالمرتد اللاحق بدار الحرب لو تمكن منه القاضي موته حقيقة بالقتل ويقسم ماله بين ورثته فإذا لم يتمكن من ذلك جعله الشرع كالميت حتى يقسم القاضي ماله بين ورثته فإن بايعه رجل بعد الإباق ثم اختلفا فقال المولى كان آبقا وقال من بايعه لم يكن آبقا لم يصدق المولى على إباقه إلا ببينة لأن كونه مأذونا معلوم وسبب الحجر الطارئ عليه متنازع فيه فالقول قول من ينكره.(25/60)
ألا ترى أن المولى لو ادعى أنه كان حجر عليه أو كان باعه من إنسان قبل مبايعة العبد مع هذا الرجل لا يصدق في ذلك إلا ببينة فكذلك إذا ادعى أنه كان آبقا فإن أقام البينة على ذلك فقد أثبت الحجر العارض بالحجة وإن أقام المولى البينة أنه أبق منه إلى موضع كذا وأقام الذي بايع العبد البينة أن المولى أرسله إلى ذلك الموضع يشتري فيه ويبيع فالبينة بينة الذي بايع العبد أيضا لأنه يثبت إرسال المولى إياه وإذنه في الذهاب إلى ذلك الموضع وبينة المولى تنفي ذلك وفيما هو المقصود وهو تعلق الدين بمالية رقبته من بائع العبد يثبت لذلك بالبينة والمولى ينفي فكان المثبت أولى.
فإن ارتد العبد المأذون ثم تصرف فإن قتل على ردته أو مات بطل جميع ما صنع في قول أبي حنيفة رحمه الله: وإن أسلم جاز جميع ذلك وفي قول أبي يوسف ومحمد جميع ذلك جائز إن أسلم أو قتل على ردته لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالعتق ومن أصل أبي حنيفة أن تصرف المرتد لنفسه يوقف إذا كان حرا فكذلك إذا كان عبدا وإن كانت أمة جاز جميع ما صنعت في ردتها إن أسلمت أو لم تسلم بمنزلة الحرة المرتدة وهذا لأن الرجل يقتل بالردة حرا كان أو عبدا فكما يوقف نفسه يوقف تصرفه في كسبه والمرأة لا تقتل فلا يوقف تصرفها في كسبها كما لا توقف نفسها ثم المرتد هالك حكما لاستحقاق(25/61)
ص -32- ... قتله بسبب الردة والموت حقيقة يوجب الحجر عليه فكذلك إذا توقف حكم نفسه بالردة بتوقف حكم الحجر عليه أبدا وبه فارق المكاتب فإن تصرفه في كسبه بعد ردته نافذ لأن انفكاك الحجر عنه من حكم الكتابة وموته حقيقة لا ينافي بقاء الكتابة فإن المكاتب إذا مات عن وفاء أو عن ولد يسعى في بقية الكتابة فكذلك استحقاق نفسه بالردة لا يمنع بقاء الكتابة فلهذا ينفذ تصرفه بخلاف العبد.
وإذا أسر العدو عبدا مأذونا له وأحرزوه في دارهم فقد صار محجورا عليه لزوال ملك المولى عنه وثبوت ملكهم فيه بالإحراز فإن انفلت منهم أو أخذه المسلمون فردوه على صاحبه لم يعد مأذونا إلا بإذن جديد لأن الإذن بطل لفوات محل حكمه والإذن بعد بطل لا يعود إلا بالتجديد وإن كان أهل الحرب لم يحرزوه في دارهم حتى انفلت منهم فأخذه المسلمون فردوه على صاحبه فهو على إذنه لأنه بمنزلة المغصوب في يدهم ما لم يحرزوه والغصب لا يزيل ملك المولى ولا يوجب الحجر على المأذون.(25/62)
ألا ترى أن المولى لو أعتقه قبل أن يحرزوه نفذ عتقه بخلاف ما بعد الإحراز وإذا باع المولى عبده المأذون له بيعا فاسدا بخمر أو خنزير وسلمه إلى المشتري فباع واشترى في يده ثم رده إلى البائع فهو محجور عليه لأن المشتري قد ملكه بالقبض مع فساد البيع وذلك موجب للحجر عليه وكذلك لو قبضه المشتري بأمر البائع بحضرته أو بغير حضرته أو قبضه بحضرة البائع بغير أمره ولو قبضه بغير أمره بعد ما تفرقا لم يصر محجورا عليه لأن القبض في البيع الفاسد بمنزلة القبول في البيع الصحيح فكما أن إيجاب البيع يكون رضي بقبول المشتري في المجلس لا بعده فكذلك البيع الفاسد يكون رضي من البائع بقبضه في المجلس لا بعده فإذا قبضه بعد الافتراق لم يملكه لأنه قبضه بغير تسليط من البائع فلا يصير محجورا عليه وفي المجلس إنما يقبضه بتسليط البائع إياه على ذلك فيملكه ويصير محجورا عليه فأما إذا أمره بالقبض نصا فهذا أمر مطلق يتناول المجلس وما بعده فمتى قبضه كان قبضه بتسليط البائع فيملكه ويصير محجورا عليه.
ولو كان البيع بميتة أو دم لم يصر محجورا عليه في جميع هذه الوجوه فإن البيع بالميتة لا يكون منعقدا ولا يوجب الملك للمشتري وإن قبضه كان العبد على إذنه في يد المشتري ينفذ تصرفه وإن كان المشتري ضامنا له في إحدى الروايتين كما لو غصبه غاصب ولو كان باعه بيعا صحيحا كان محجورا عليه قبضه المشتري أو لم يقبضه لأن الملك يثبت للمشتري بنفس العقد ها هنا وكذلك إن كان المشتري منه بالخيار ثلاثة أيام أما عندهما فلأن المشتري ملكه مع ثبوت الخيار له وعند أبي حنيفة فلأن زواله عن ملك البائع قد تم ولذلك يفوت محل حكم الإذن وإن كان الخيار للبائع لم يكن ذلك حجرا إلا أن يتم البيع فيه لأن خيار البائع يمنع زوال ملكه وما بقي الملك للبائع فيه يبقى محل حكم الإذن.
ولو لم يبعه المولى ولكنه وهبه فالهبة الصحيحة في حكم الملك نظير البيع الفاسد من(25/63)
ص -33- ... حيث أن الملك يتأخر إلى وجود القبض لضعف السبب وقد بينا تفصيل حكم القبض في البيع الفاسد ففي الهبة الصحيحة الجواب كذلك.
وإذا غصب عبدا محجورا عليه وطلبه صاحبه فجحده الغاصب وحلف ولم يكن لصاحبه بينة ثم أذن له الغاصب في التجارة فباع واشترى والمغصوب منه يراه فلم ينهه ثم أقام رب العبد البينة أن العبد عبده فقضى له به فإن القاضي يبطل جميع ما باع واشتري لأنه تبين أن الآذن له كان غاصبا وإذن الغاصب لا يوجب انفكاك الحجر عنه ولا يسقط حق المولى عن مالية الرقبة.
وفي القياس: سكوت المولى عن النهي كالتصريح بالإذن ولو صرح بالإذن له في التجارة جاز ذلك لقيام ملكه وإن كان الغاصب جاحدا له ولكنه ترك هذا القياس فقال السكوت عن النهي مع التمكين من النهي دليل الرضا فأما بدون التمكن من النهي فلا يكون دليل الرضى.
ألا ترى أن سكوت الشفيع عند عدم التمكن من الطلب لا يكون مسقطا لحقه وسكوت البكر كذلك وهو لم يكن متمكنا من النهي ها هنا لأنه ما كان يلتفت إلى نهيه لو نهاه عن التصرف بل يستخف به فلصيانة نفسه سكت عن النهي.
ألا ترى أن العبد لو ادعي أنه حر فجعل القاضي القول قوله فاشترى وباع والمولى ينظر إليه ولا ينهاه ثم أقام البينة أنه عبده لم يجز شراؤه ولا بيعه لأن سكوته عن النهي كان لصيانة نفسه وإذا دبر عبده المأذون فهو على إذنه لأن التدبير لا يمنع صحة الإذن ابتداء فلا يمنع بقاءه بطريق الأولى وهذا لأن بالتدبير يثبت للمدبر حق العتق وحق العتق إن كان لا يزيد في انفكاك الحجر عنه فلا يؤثر في الحجر عليه.(25/64)
ولو كانت أمة فاستولدها المولى لم يكن ذلك حجرا عليها في القياس وهذا قول زفر رحمه الله: لما بينا في التدبير ولكنه استحسن فقال استيلاد المولى حجر عليها لأن العادة الظاهرة أن الإنسان يحصن أم ولده ولا يرضى بخروجها واختلاطها بالناس في المعاملة والتجارة وهذا لأنها تصير فراشا له فلا يأمن من أن يلحق به نسبا ليس منه ودليل الحجر كصريح الحجر ولا توجد مثل هذه العادة في المدبر وهذا بخلاف ما إذا أذن لأم ولده في التجارة لأنه صرح هناك بخلاف المعتاد وإنما تعتبر العادة عند عدم التصريح بخلافها فأما مع التصريح بخلاف العادة فلا كتقديم المائدة بين يدي إنسان يجعل إذنا في التناول بطريق العرف فإن قال لا تأكل لم يكن ذلك إذنا وإذا أذن العبد التاجر لعبده في التجارة فباع واشترى فلحقه دين ثم أن المولى حجر على عبده الأول في أهل سوقه بحضرته والعبد الآخر يعلم بذلك أو لا يعلم فإن كان على الأول دين فحجره عليه حجر عليهما جميعا وإن لم يكن عليه دين لم يكن حجره عليه حجرا على الباقي لأنه إذا لم يكن على الأول دين فالعبد الثاني خالص ملك المولى وهو يملك الإذن له في التجارة ابتداء فجعل الثاني مأذونا من(25/65)
ص -34- ... جهة المولى لا باعتبار العبد كان نائبا عنه في الإذن ولكن باعتبار أن تخصيص المولى الأول بالحجر عليه دليل الرضى منه بتصرف الثاني وهذا الرضا يثبت الإذن من جهته ابتداء فكذلك يبقى.
وأما إذا كان على الأول دين فالمولى لا يملك الإذن للثاني لأنه تصرف منه في كسب عبده المستغرق بالدين فلا يمكن أن يجعل الثاني مأذونا من جهة المولى وإنما كان مأذونا من جهة الأول بالحجر عليه وقد انقطع رأيه فيه وإنما كان الثاني مأذونا من جهته دون المولى وإن لم يكن عليه دين فالثاني على إذنه لأنه مأذون من جهة المولى والمولى باق على حاله وإن مات المولى كان حجرا عليهما جميعا كان على الأول دين أو لم يكن لأنه إن لم يكن عليه دين فالثاني كان مأذونا من جهة الأول وقد صار الأول محجورا عليه بموت المولى فكذلك الثاني.(25/66)
وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة ثم عجز وعليه دين أو ليس عليه دين فهو حجر على العبد لأن الإذن للعبد كان من قبل المكاتب فإن المولى من كسب المكاتب أبعد منه من كسب المأذون المديون وقد بينا هناك أن عبده يكون مأذونا من جهة المولى فهنا أولى وكذلك إن مات المكاتب عن وفاء أو عن غير وفاء أو عن ولد مولود في الكتابة لأنه إن مات عن غير وفاء فقد مات عاجزا وعجزه في حياته يكون حجرا على عبده فموته عاجزا أولى وإن مات عن وفاء فهو كالحر وموت الحر حجر على عبده بانقطاع رأيه فيه فإن أذن الولد للعبد بعد موت المكاتب في التجارة لم يجز إذنه لأن كسب المكاتب مشغول بدينه فلا يصير شيء منه ميراثا للولد مع قيام دينه وكما لا ينفذ منه سائر التصرفات فيه فكذلك الإذن وكذلك الحر إذا مات وعليه دين وله عبد فأذن له وارثه في التجارة فإذنه باطل لأن الوارث لا يملك التركة المستغرقة بالدين ولا ينفذ شيء من تصرفاته فيها ما لم يسقط الدين كما لا ينفذ تصرفه في حال حياة مورثه فإن قضى الوارث الدين من ماله لم ينفذ إذنه أيضا لأنه غير متبرع فيما قضى من الدين وإنما قصد به استخلاص التركة فيستوجب الرجوع بما أدى ويقوم دينه مقام دين الغريم فلا ينفذ إذنه لبقاء المانع فإن أبرأ أباه من المال الذي قضى عنه بعد إذنه للعبد نفذ إذنه وجاز ما اشترى قبل قضاء الدين وبعده لأن المانع زال حين سقط دينه بالإبراء وصار هو ملكا للتركة من وقت الموت.
ألا ترى أنه ينفذ سائر تصرفاته في العبد فكذلك إذنه له في التجارة ولو لم يكن على الميت دين وكان الدين على العبد فإن أذن الوارث له في التجارة جاز لأن دين العبد لا يملك ملك الوارث في التركة فإنه مع تعلقه في مالية رقبته ما كان يمنع ملك المولى في حياته فكذلك لا يمنع ملك وارثه بخلاف دين المولى فإنه في حياته كان في ذمته وإنما يتعلق بالتركة بموته وحق الغريم مقدم على حق الوارث.(25/67)
وكذلك ابن المكاتب لو أذن للعبد الذي تركه أبوه في التجارة ثم استقرض مالا من إنسان(25/68)
ص -35- ... فقضى به الكتابة لم يكن إذنه له في التجارة صحيحا لأنه يستوجب الرجوع بما أدى ليقضي به ما عليه من الدين فقيام دينه بمنزلة قيام دين المولى في أنه يمنع ملكه فلهذا لا ينفذ إذنه.
ولو وهب رجل لابن المكاتب مالا فقضى به الكتابة جاز إذنه للعبد في التجارة لأن ما وهب له بمنزلة سائر إكسابه والمكاتب أحق بإكساب ولده المولود في الكتابة ليقضي به مال الكتابة فكان قضاء بدل الكتابة من هذا الكسب كقضائه من شيء آخر للمكاتب ولا يستوجب الولد الرجوع عليه بذلك فتبين به زوال المانع من صحة إذنه.
وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة ثم جن المولى فإن كان جنونه مطبقا دائما فهو حجر على العبد لأن المولى صار مولى عليه في التصرف وانقطع رأيه بما أعرض فكان ذلك حجرا عليه وإن كان غير مطبق فالعبد على إذنه لأن المولى لم يصر مولى عليه بهذا القدر من الجنون فهو بمنزلة الإغماء والمرض فلا يوجب الحجر على العبد لبقاء ملك المولى وبقاء ولايته والفرق بين المطبق من الجنون وغير المطبق بيناه في الوكالة.
ولو ارتد المولى ثم باع العبد واشترى فإن قتل أو مات أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه فجميع ما صنع العبد بعد ردة المولى باطل وإن أسلم قبل أن يلحق بها أو بعد ما لحق بها قبل قضاء القاضي ورجع فذلك كله جائز في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد جميع ذلك جائز إلا ما صنع العبد بعد لحاق المولى بدار الحرب فإن ذلك يبطل إذا لم يرجع حتى يقضي القاضي بلحاقه وإن رجع قبل ذلك جاز وهذا لأن استدامة الإذن بعد الردة كإنشائه وتصرف المأذون معتبر بتصرف الآذن.(25/69)
ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله: أن تصرفات المرتد توقف لتوقف نفسه ويوقف ماله على حق ورثته فكذلك تصرف المأذون من جهته وعندهما تصرف المرتد قبل لحاقه بدار الحرب نافذ وبعد لحاقه يتوقف بين أن يبطل القضاء القاضي بلحاقه وكون المال لوارثه من حين لحقه بدار الحرب وبين أن ينفذ برجوعه مسلما فكذلك تصرف المأذون من جهته.
ولو كان المولى امرأة فارتدت ثم صنع العبد شيئا من ذلك فهو جائز لأن ابتداء الإذن منها صحيح بعد ردتها ولأن تصرف المأذون كتصرف الآذن وتصرفها بعد الردة نافذ كما كان قبله فإن نفسها لم تتوقف بالردة ولو لحقت بدار الحرب ثم باع العبد أو اشترى فإن رجعت قبل أن يقضي بلحاقها فذلك جائز وإن لم ترجع حتى قضى القاضي بلحاقها وقسم ميراثها وأبطل ما صنع العبد من ذلك ثم رجعت مسلمة لم يجز للعبد ما صنع بعد لحاقها بدار الحرب لأن نفسها باللحاق بدار الحرب توقفت على أن تسلم لها بالإسلام أو يفوت عليها بالاسترقاق فيتوقف تصرفها أيضا وكما يتوقف تصرفها يتوقف تصرف المأذون من جهتها ولأن القاضي إذا قضى بلحاقها جعل المال لوارثها من وقت لحاقها بدار الحرب كما في حق الرجل ولهذا يعتبر من يكون وارثا لها وقت اللحاق بدار الحرب فتبين أن ملكها زال من ذلك الوقت وذلك مبطل لتصرفات العبد وكما أن إذن أحد الشريكين في المفاوضة والعنان(25/70)
ص -36- ... للعبد المشترك في التجارة يجعل كإذنهما فكذلك حجر أحدهما عليه كحجرهما لأن كلاهما من التجارة وكل واحد منهما نائب عن صاحبه في التصرف في المال المشترك بطريق التجارة.
وإذا أذن المضارب لعبد من المضاربة في التجارة فهو جائز على رب المال وفي رواية هشام عن محمد رحمهما الله لا يجوز لأن الإذن أعم من المضاربة فإنه فك للحجر ولا يستفاد بالشيء ما هو فوقه وفي ظاهر الرواية قال المضارب مفوض إليه وجوه التجارة في مال المضاربة والإذن في التجارة من التجارة فإن حجر عليه رب المال فحجره باطل لأن المضارب أحق به حتى يبيعه فيوفي رأس المال.
ألا ترى أن رب المال لو نهى المضارب لم يعتبر نهيه ونفسه أقرب إلى رب المال من كسبه فإذا كان لا يعمل نهيه منه في منع المضارب عن التصرف في نفسه فلأن لا يعمل نهيه في منع المأذون من جهته عن التصرف في كسبه كان أولى.
وإذا اشترى العبد المأذون عبدا فأذن له في التجارة فحجر المولى على العبد الآخر فحجره باطل كان على الأول دين أو لم يكن لأن هذا حجر خاص في إذن عام وهو باطل.
ألا ترى أنه عند ابتداء الإذن لو قال لا تأذن لعبدك في التجارة لم يعتبر نهيه وكذلك بعد الإذن لو نهاه عن بيع هذا العبد لا يعمل نهيه وكذلك لو كان العبد الأول أمر رجلا ببيع عبده فنهاه المولى كان نهيه باطلا فكذلك إذا حجر عليه.
ولو كان المولى حجر على العبد الآخر وقبضه من الأول فإن كان على العبد الأول دين فهذا والأول سواء لأن قبض المولى إياه من الأول باطل ولا يخرج به الثاني من أن يكون كسبا للأول فإن حق غرماء الأول فيه مقدم على حق المولى فأما إذا لم يكن على الأول دين فقبض المولى العبد الآخر وحجر عليه جاز لأن كسب الأول خالص حق المولى فبقبضه منه يخرج من أن يكون كسبا للأول وصار الأول بحيث لا يملك التصرف فيه بعد ذلك حتى لو باع لم يجز بيعه فلهذا صار محجورا عليه بحجر المولى.(25/71)
وإذا دفع المولى إلى عبده المأذون مالا وأمره أن يشتري به عبدا ويأذن له في التجارة ففعل ثم حجر المولى على المولى وعليه دين أو لا دين عليه فليس ذلك بحجر على الآخر لأن الأول في شراء الثاني والإذن له في التجارة نائب عن المولى حتى إذا لحقه عهدة يرجع به على المولى ولا يثبت فيه حق غرمائه فيكون الثاني مأذونا من جهة المولى فلا يصير الثاني محجورا عليه بحجر المولى على الأول وإن حجر المولى على الآخر كان حجره عليه جائزا على كل حال لأنه كان مأذونا من جهة المولى كالأول وحجر الأب أو وصيه على الصبي الحر المأذون له في التجارة مثل الحجر على العبد لأنه من جهة المولى كالأول وحجر الأب أو وصيه على الصبي الحر استفاد الإذن من جهته وولايته قائمة عليه بعد الإذن فكما ملك الإذن بولايته يملك الحجر وهذا لأنه قد يؤنس منه رشدا فيأذن له في التصرف ثم يتبين له أن الحجر عليه أنفع فيحجر عليه ولأن الابتداء بهذا يحصل أن يأذن له تارة ويحجر(25/72)
ص -37- ... عليه تارة حتى تتم هدايته في التصرفات وكذلك حجر القاضي عليه لأن الولاية ثابتة له حسب ما كان للأب أو للوصي وكذلك حجر هؤلاء على عبد الصبي بعد ما أذنوا له في التجارة لأنهم بالولاية على الصبي قاموا مقامه في التصرف في ماله فيما يرجع إلى النظر والحجر من باب النظر كالإذن فكما صح منهم الإذن لعبده في التجارة يصح الحجر وموت الأب أو الوصي حجر على الصبي وعلى عبده لأن تصرفهما كان باعتبار رأيه على ما بينا أن توفر النظر بانضمام رأي الأب والوصي إلى رأي الصبي وقد انقطع رأيهما بموتهما فيكون ذلك حجرا على الصبي.
وكذلك عبد الصبي إنما كان يتصرف برأي الأب والوصي وقيام ولايتهما عليه وقد انقطع ذلك بموتهما وكذلك جنونهما جنونا مطبقا فإنه كالموت في قطع ولايتهما عنه وفوات رأيهما في النظر له وكذلك عزل القاضي الوصي عن الوصية فإن ذلك يزيل ولايته ويقطع تدبيره في النظر له فيكون حجرا على من كان يتصرف باعتبار رأيه وهو الصبي أو عبده.
ولو كان القاضي أذن للصبي أو المعتوه في التجارة ثم عزل القاضي كان الصبي والمعتوه على إذنهما لأن إذن القاضي يكون قضاء منه فإنه ليس له ولاية غير ولاية القاضي وبعزل القاضي لا يبطل شيء من قضاياه ولأنه كالنائب عن المسلمين في النظر لهذا الصبي والتصرف في ماله بالإذن وغيره لعجز المسلمين عن الاجتماع على ذلك وبعد ما عزل القاضي لم يتبدل حال عامة المسلمين في الولاية ولهذا لم ينعزل وصيه وقيمه بعزله فكذلك مأذونه.(25/73)
وإذا كان للصبي أو المعتوه أب أو وصي أو جد أبي الأب فرأي القاضي أن يأذن له في التجارة فأذن له وأبى ذلك أبوه أو وصيه فإذن القاضي له جائز لما بينا أن إذنه بمنزلة القضاء منه وولاية القضاء له في حال قيام الأب وبعد موته بصفة واحدة ولأنه متى كان النظر في الإذن فكذلك بما يحق على المولى أن يفعله فإذا امتنع منه كان للقاضي أن ينفذه كالولي إذا امتنع من تزويج المولى عليها من كفؤ زوجها القاضي إذا طلبت فإن حجر عليه أحد من هؤلاء فحجره باطل لأنه بهذا يريد أن يفسخ ما قضى القاضي عليه ولأن حجره عليه كآبائه في الابتداء وكما أن إباءه لا يمنع صحة إذن القاضي له فكذلك حجره عليه بعد الإذن.
وإن مات القاضي أو عزل ثم حجر عليه أحد من هؤلاء فحجره باطل لأن بعزل القاضي وبموته لا تزداد ولايتهم على الصبي فكما لا ينفذ حجرهم عليه قبل عزل القاضي فكذلك بعده وكذلك لو حجر عليه ذلك القاضي بعد عزله لأنه بالعزل التحق بسائر الرعايا فلم يبق له ولاية النظر في حقوق هذا الصبي وإنما الحجر عليه إلى القاضي الذي يستقضي بعد موت الأول أو عزله لأن ولايته عليه في النظر كولاية الأول ولا يقال الثاني بالحجر كيف ينقض قضاء الأول وهذا لأن الأول لو حجر عليه حال كونه قاضيا بعد حجره لا بطريق أنه نقض لقضائه بالإذن بل بطريق أنه أنشأ نظرا له على ما بينا أن النظر قد يكون بالإذن له في وقت،(25/74)
ص -38- ... والحجر عليه في وقت آخر والثاني كالأول فيما يرجع إلى إنشاء النظر للصبي كما في سائر التصرفات في ماله.
وإذا أذن الرجل لعبد ابنه الصغير في التجارة تم مات الابن ووارثه الأب فهذا حجر عليه لأن صحة إذنه كان باعتبار أنه نائب عن الابن وقد زال ملك الابن بموته ولا يقال الأب يخلفه في هذا الملك وهو راض بتصرفه لأنه إنما كان راضيا بتصرفه في ملك الصبي وذلك لا يكون رضا منه بتصرفه في ملك نفسه وكذلك لو اشتراه الأب من الابن فهو محجور عليه لأن الملك قد انتقل فيه من الابن إلى الأب ولو لم يكن ذلك ولكن أدرك الصبي أو كان معتوها فأفاق فالعبد على إذنه لأن تصرف الأب نفذ في حال قيام ولايته فلا يبطل بزوال ولايته كسائر التصرفات ثم فك الحجر عنه بالإذن كفك الحجر عنه بالكتابة.
ولو كاتبه ثم أدرك الصبي لم تبطل الكتابة وإن مات الأب بعد إدراك الصبي وإفاقة المعتوه كان العبد على إذنه لأن بعد إدراكه العبد مأذون من جهته فإن الأب كان نائبا عنه فهذا وما لو أذن له بعد البلوغ ابتداء سواء ثم هو بعد الإذن يتمكن من الحجر عليه فاستدامته الإذن مع تمكنه من الحجر كإنشائه ولا تتغير ولايته عليه بموت الأب وإذا ارتد الأب بعد ما أذن لابنه الصغير في التجارة ثم حجر عليه ثم أسلم فحجره جائز لأن حجره عليه تصرف كسائر تصرفاته فينفذ بإسلامه وإن قتل على ردته فذلك حجر أيضا بمنزلة ما لو مات وابنه صغير.(25/75)
ولو أذن لابنه في التجارة بعد ردته فباع واشترى ولحقه دين ثم حجر عليه ثم أسلم فجميع ما صنع الابن من ذلك جائز وإن قتل ذلك على ردته أو مات كان جميع ما صنع الابن من ذلك باطلا وهذا عندهم جميعا لأن إذنه له في التجارة تصرف بحكم ولايته عليه وولايته عليه توقفت بالردة على أن يتقرر بالإسلام ويبطل بالقتل وكذلك تصرفه بحكم الولاية وهذا على مذهبهما بخلاف تصرفه بحكم ملكه فإن ملكه لم يزل عنه بردته فلا يمتنع نفوذ تصرفه باعتبار الملك والذمي في إذنه لابنه الصغير أو المعتوه في التجارة وهو على ذميته بمنزلة المسلم في جميع ما ذكرنا لثبوت ولايته عليه قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
ولو كان الولد مسلما بإسلام أمه أو بإسلام نفسه بأن عقل فأسلم كان إذن الأب الذمي له باطلا لأنه لا ولاية للذمي على المسلم فصحة إذنه باعتبار ولايته فإن أسلم الأب بعد ذلك لم يجز ذلك الإذن لأنه تصرف منه قبل ثبوت ولايته عليه ولا ينفذ بولايته التي تحدث من بعد كالأب إذا كان مملوكا فأذن لولده الحر ثم عتق لم ينفذ ذلك الإذن والله أعلم.
باب العبد بين رجلين يأذن له أحدهما
قال رحمه الله: وإذا كان العبد بين رجلين فأذن له أحدهما في التجارة فباع واشترى فلحقه دين فذلك كله جائز في نصيب الذي أذن له لأن الإذن فك للحجر وذلك لا يحتمل الوصف بالتجزي ولا يتصور انفكاك الحجر في نصف التصرف دون النصف ولا بد من تصحيح هذا الفك في نصيب الآذن لأنه تصرف منه في ملكه وإسقاط لحقه في المنع من(25/76)
ص -39- ... شغل مالية نصيبه بالدين والإسقاط يتم بالمسقط وقد بينا أن إذن المولى إنما يشترط لوجود الرضا منه بتعلق الدين بمالية الرقبة وهذا الرضى من الآذن الآن صحيح في نصيب نفسه دون نصيب صاحبه ويجوز استحقاق مالية الرقبة بالدين كما يجوز استحقاق جميعه فكان هذا محتملا للوصف بالتجزي فيثبت في نصيب الآذن خاصة وإن كان في يده مال أصابه من تجارته فقال الذي لم يأذن له أنا آخذ نصف هذا المال فليس له ذلك ولكن يعطي منه جميع دين الغرماء لأن حاجة العبد من كسبه مقدمة على حاجة المولى والذي وجب على هذا العبد ها هنا بسبب ظهر في حق المولى فيقدم من كسبه قضاء الدين على حق المولى فإن بقي بعد ذلك شيء أخذ كل واحد من الموليين نصفه لأنه كسب عبد مشترك بينهما
وإن زاد الدين على ما في يديه كانت تلك الزيادة في نصيب الذي أذن له خاصة من الرقبة لوجود الرضا منه باستحقاق مالية نصيبه بالدين وانعدام الرضا به من الآخر وفرق بين الكسب والرقبة من حيث إن نصيب الذي لم يأذن من الكسب مصروف إلى الدين دون نصيبه من الرقبة لأن الكسب يتملكه المولى من جهة العبد وسلامته له متعلقة بشرط الفراغ من حاجة العبد فما لم يفرغ من الدين لا يسلم له فأما الرقبة فلم تحصل للمولى من جهة العبد وإنما تستحق مالية الرقبة بالدين عند وجود الرضا من المولى يصرفه إلى ديونه ولم يوجد.
يوضحه: أن الدين إنما لحقه بسبب الذي حصل به الكسب والغنم مقابل بالغرم فكما يكون نصف الكسب للذي لم يأذن له فكذلك يستحق عليه صرف ذلك الكسب إلى قضاء الدين لتتحقق مقابلة الغنم بالغرم بخلاف الرقبة فإن حصول الرقبة للمولى ما كان بالسبب الذي به وجب الدين فلا تصرف مالية الرقبة إلى الدين ما لم يرض به المولى وكذلك ما أقر به العبد من غصب أو استهلاك مال أو غيره لأن الإقرار من التجارة فالدين الواجب به نظير الواجب بالمبايعة.(25/77)
ولو استهلك مالا ببينة كان ذلك في جميع رقبته بمنزلة ما لو استهلكه قبل إذن أحدهما له وهذا لأن الحجر لحق المولى إنما يتحقق في الأقوال ولا يتحقق في الأفعال فإنها محسوسة تحققها بوجودها.
ألا ترى أن الحجر بسبب الصبي لا يؤثر في الأفعال فبسبب الرق أولى فإذا تحقق السبب ظهر الدين في حق المولى والدين لا يجب في ذمة العبد إلا شاغلا مالية رقبته.
فإن قيل: هذا في الفصل الأول موجود فالدين بالمبايعة ظهر وجوبه في حق الموليين جميعا ثم لا يستحق به نصيب الذي لم يأذن له.
قلنا: لا كذلك فإن فيما ثبت الحجر بسبب الرق لا يظهر وجوب الدين في حق المولى إلا بعد فك الحجر عنه وفك الحجر وجد من الآذن خاصة ولكن حكم نفوذ التصرف لا يحتمل التجزي فظهر في الكل لأجل الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها وليس من ضرورة نفوذ تصرفه ظهور الدين في حق المولى في استحقاق مالية الرقبة كما لو توكل(25/78)
ص -40- ... العبد عن الغير بالبيع والشراء ولكن من ضرورة نفوذ تصرفه في سلامة الكسب للمولي ظهور الدين في حق ذلك الكسب فمن هذا الوجه يتحقق الفرق.
فإن اشترى العبد وباع ومولاه الذي لم يأذن له يراه فلم ينهه فهذا إذن منه له في التجارة لأن السكوت عن النهي بمنزلة التصريح بالإذن.
فإن قيل: هذا إذا كان متمكنا من نهيه عن التصرف وهو غير متمكن من النهي ها هنا لوجود الإذن من الآخر فلا يجعل سكوته دليل الرضا بتصرفه.
قلنا: هو متمكن من إظهار الكراهة وإزالة احتمال معنى الرضا من سكوته فإذا ترك ذلك مع الإمكان قام ذلك منه مقام الرضا بتصرفه حتى لو جاء به الآخر إلى أهل سوقه فقال إني لست آذنا له في التجارة فإن بايعتموه بشيء فذلك في نصيب صاحبي فباع بعد ذلك واشترى والشريك الذي لم يأذن له ينظر إليه فهذا لا يكون إذنا منه في نصيبه استحسانا لأنه أتى بما في وسعه من إظهار الكراهة لتصرفه وبقى الضرر والغرور وفي القياس هذا إذن أيضا لأنه مالك لنصيبه بعد هذه المقالة فيقاس بما لو كان مالكا لجميعه.
ولو أتى بعبده إلى السوق وقال لست آذن له في التجارة فلا تبايعوه ثم رآه بعد ذلك يتصرف كان إذنا منه له في التجارة فكذلك ها هنا والفرق بين الفصلين على طريقة الاستحسان أن العبد إذا كان كله له فهو قادر على منعه من التصرف حين رآه يتصرف فيجعل سكوته عن المنع دليل الرضا ولا ينعدم ذلك بما كان منه من إظهار الكراهة قبل هذا فقد يرضى المرء بتصرف عبده بعد ما كان يكرهه وفي هذا الفصل ليس في وسعه أن يمنعه من التصرف وإنما في وسعه إظهار الكراهة وقد أتى به فلا ينفسخ ذلك بسكوته عن النهي عند رؤيته يتصرف ولو كان الذي لم يأذن له بايعه بعد مقالته جعل هذا ناسخا لما كان قبله من إظهار الكراهة فإن مبايعته إياه كالتصريح بالرضا بتصرفه فهو وقوله أذنت لك في التجارة سواء.(25/79)
وإذا قال أحد الموليين لصاحبه إئذن لنصيبك منه في التجارة ففعل فالعبد كله مأذون له في التجارة لوجود الرضا منه بتصرفه من الآذن بالإذن ومن الآخر بقوله إئذن لنصيبك فهذا اللفظ أدل على الرضا بتصرفه من سكوته عن النهي وإذا جعل سكوته عن النهي دليل الرضا فأمره بالتسليط أولى أن يجعل دليل الرضا.
ولو كان العبد بين رجلين فكاتب أحدهما نصيبه منه فهذا إذن منه لنصيبه في التجارة لأن انفكاك الحجر بالكتابة أقوى من انفكاك الحجر بالإذن والأقوى ينتظم الأضعف ثم هو رضي منه بتصرفه حين رغبه في تحصيل المال وأدائه ليعتق نصيبه وللآخر أن يبطل الكتابة لدفع الضرر عن نفسه بعتق نصيب المكاتب عند الأداء وبه فارق الإذن فإنه لا ضرر على الشريك في ثبوت حكم الإذن في نصيب الآذن في الحال ولا في ثاني الحال فإن لحقه دين ثم أبطل الآخر الكتابة كان ذلك الدين في نصيب الذي كاتب خاصة لوجود الرضا منه بتعلق الدين بنصيبه وإن لم تبطل الكتابة حتى رآه يشتري ويبيع فلم ينهه لم يكن ذلك منه إجازة(25/80)
ص -41- ... للكتابة وله أن يبطلها وكان هذا إذنا منه له في التجارة لأن الإذن في التجارة بمجرد الرضا بتصرف العبد يثبت والسكوت عن النهي دليل عليه فأما في تنفيذ الكتابة فالحاجة إلى التوكيل لتكون مباشرة الشريك بمنزلة مباشرته والتوكيل بالسكوت لا يثبت ولأن السكوت محتمل وإنما يترجح جانب الرضا فيه لضرورة الحاجة إلى دفع الضرر والغرور عن الناس وهذه الضرورة ترتفع إذا جعل السكوت إذنا وإن لم يجعل إجازة للكتابة والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها فإن رد المكاتبة وقد لحق العبد دين بيع كله في الدين إلا أن يفديه مولاه لوجود الرضا منهما بتعلق الدين بمالية رقبته.
ولو كان العبد لواحد فكاتب نصفه كان هذا إذنا لجميعه في التجارة لوجود الرضا منه بتصرفه ثم عندهما يصير الكل مكاتبا وعند أبي حنيفة يصير نصفه مكاتبا وما اكتسب من مال فنصفه للمولى باعتبار النصف الذي لم يكاتب منه ونصفه للمكاتب باعتبار النصف الذي يكاتب منه وما لحقه من دين كان عليه أن يسعى فيه لأن مكاتبة النصف كمكاتبة الجميع في أنه لا يجوز بيعه فعليه السعاية فيما لحقه من الدين كما لو كان المأذون مدبرا.(25/81)
ولو كان العبد بين رجلين فأذن أحدهما لصاحبه في أن يكاتب نصيبه فكاتبه فهذا إذن منهما للعبد في التجارة لما قلنا: ولكن الكتابة تقتصر على نصيب المكاتب في قول أبي حنيفة حتى أن نصف كسبه للمولى الذي لم يكاتب وكأنه أورد هذا الفصل لإيضاح ما سبق من أن سكوته عن النهي وأمره أن يكاتب نصيبه سواء فكما أن تسليطه إياه على ذلك يكون رضى منه بتصرفه ولا يكون أمرا بالكتابة في نصيب نفسه فكذلك سكوته عن النهي إلا أن تسليطه إياه على الكتابة يكون رضا منه بالكتابة في نصيب الشريك فلا يكون له أن يفسخها بعد ذلك وسكوته عن النهي لا يكون رضا منه بالكتابة في نصيب الشريك فكان له أن يبطلها وكذلك لو وكل أحدهما صاحبه أن يكاتب نصيبه لأن مباشرة الوكيل الكتابة في نصيب الموكل رضا منه بتصرف العبد وبنفوذ الكتابة في نصيب الموكل فلا يكون ذلك مباشرة منه للمكاتبة في نصيب نفسه فما اكتسب العبد بعد ذلك يكون نصفه للمكاتب ونصفه للوكيل لأن نصيبه لم يصر مكاتبا عنده.
ولو أذن أحدهما للعبد في التجارة فلحقه دين ثم اشترى نصيب صاحبه منه ثم اشترى بعد ذلك وباع والمولى لا يعلم به فلحقه دين فإن الدين الأول والآخر كله في النصف الأول لوجود الرضا منه بتعلق الدين بالنصف الأول ولم يوجد مثل ذلك الرضا فيما اشترى من نصيب صاحبه إذا لم يعلم منه تصرفا بعد الشراء ولو كان يعلم بيعه وشراءه بعد ما اشترى نصيب صاحبه كان هذا إذنا منه للنصف الذي اشتراه في التجارة لأن استدامته الإذن السابق وتقريره على التصرف مع علمه منه بمنزلة ابتداء الإذن ولم يعتبر الرؤية ها هنا إنما اعتبر العلم بتصرفه لأنه منفك الحجر في حقه واعتبار السكوت عن النهي عند الرؤية في المحجور عليه لدفع الضرر والغرور عن الناس وهذا في المأذون لا يتحقق فإنما يعتبر عامه بتصرفه ليكون(25/82)
ص -42- ... مقررا له على ذلك بالفك السابق ثم الدين الأول في النصف الأول خاصة لأنه حين اكتسب العبد بسببه لم يكن الآذن مالكا إلا لذلك النصف والدين الآخر في جميع العبد لأنه حين اكتسب بسببه كان جميعه مأذونا من جهة الآذن في ملكه.
ولو أذن له أحد الموليين في التجارة وأبى الآخر إلى أهل سوقه فنهاهم عن مبايعته ثم أن الذي لم يأذن له اشترى نصيب صاحبه منه فقد صار العبد محجورا عليه لأن حكم الإذن لم يكن ثابتا في نصيب المشتري وإنما كان في نصيب البائع وقد انتقل الملك في ذلك النصف إلى المشتري ولو كان الكل مأذونا فباعه مولاه صار محجورا عليه فالنصف يعتبر بالكل فإن رآه المشتري يبيع ويشتري فلم ينهه فهذا إذن منه له في التجارة لأنه بعد ما اشترى نصيب صاحبه يتمكن من نهيه عن التصرف فيجعل سكوته عن النهي دليل الرضا ولا معتبر بما سبق من النهي عن مبايعته كما لو كان العبد كله له عند ذلك.
وإذا اشترى الرجل العبد على أنه بالخيار ثلاثة أيام فأذن له في التجارة أو نظر إليه يشتري ويبيع فلم ينهه كان هذا رضا منه بالعبد ولزمه البيع والعبد مأذون له قبضه أو لم يقبضه لأن الإذن في التجارة تصرف منه فيه بحكم الملك فيكون دليل الرضا منه بتقرير ملكه وذلك إسقاط منه لخياره والسكوت عن النهي عند التمكن منه بمنزلة الإذن وهو متمكن من الإذن للنهي عن التصرف سواء قبضه أو لم يقبضه فكان سكوته كإذنه.(25/83)
ولو كان الخيار للبائع فأذن البائع له في التجارة بغير محضر من المشتري أو رآه يبيع ويشتري فلم ينهه لم يسقط خياره لذلك ولم ينتقض البيع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف الآخر هذا نقض منه للبيع وهذا لأن الإذن له في التجارة تصرف بحكم الملك فيكون مقررا به ملكه وذلك منه كالتصريح بالفسخ ومن أصل أبي يوسف أن من له الخيار ينفرد بالفسخ بغير محضر من صاحبه وفي قول أبي حنيفة ومحمد لا ينفرد بالفسخ إلا بمحضر من صاحبه بخلاف ما سبق فإذن المشتري له في التجارة بمنزلة الإجازة منه للبيع وإجازته بغير محضر من صاحبه صحيحة فإن لحقه دين بعد ما أذن له البائع فهذا نقض منه للبيع لأن الدين عيب في العبد وإنما تعيب بهذا العيب بسبب الإذن الموجود من البائع فالتعييب من البائع في مدة الخيار فسخ وإن لم يكن بمحضر من صاحبه لأنه فسخ من طريق الحكم وإن لم يلحقه دين حتى مضت الثلاث تم البيع وصار محجورا عليه لأنه كان مأذونا في ملك البائع وقد تحول الملك فيه إلى المشتري وما اكتسب العبد من شيء فهو للمشتري لا يملكه عند سقوط الخيار بسبب البيع فيستند ملكه في حكم الكسب إلى وقت البيع فإن كان المشتري قد قبضه قبل الاكتساب طاب له الكسب وإن كان اكتسبه قبل قبضه تصدق به لأنه ربح حصل لا على ضمانه وما اكتسبه بعد قبضه فهو ربح حصل على ضمانه فيطيب له.
وإذا كان العبد بين رجلين فأذن له أحدهما في التجارة فلحقه دين وفي يده مال فقال(25/84)
ص -43- ... العبد هذا من التجارة وهو للغرماء وصدقه الذي أذن له وقال الذي لم يأذن له هذا مال وهب لك ولي نصفه فالقياس أن يكون نصفه له ولكنا ندع القياس ونجعله كله للغرماء ولو علم أن المال وهبه رجل للعبد أو تصدق به أو كان من كسب اكتسبه قبل الدين أو من كسب كسبه بعد الدين من غير الذي لحقه من قبله الدين فنصف هذا المال للمولى الذي لم يأذن له ونصفه للغرماء أما إذا علم أنه صدقة أو هبة في يده فسلامة نصفه للذي لم يأذن له ما كان بالسبب الذي به وجب الدين على العبد ولا بسبب تمكن منه باعتبار إذن الآذن لأن قبول الهبة والصدقة صحيح منه وإن كان محجورا عليه فيكون نصيب الذي لم يأذن من الهبة والصدقة بمنزلة نصيبه من الرقبة فكما لا يصرف نصيبه من الرقبة إلى دينه فكذلك نصيبه من الهبة والصدقة وكذلك ما اكتسبه قبل لحوق الدين أو بعد لحوق الدين من غير السبب الذي لحقه من قبله الدين فنصف هذا الكسب كان سالما للذي لم يأذن له قبل أن يلحقه الدين فلا يتغير ذلك بلحوق الدين إياه أو كان يسلم له لولا ما تقدم من لحوق الدين والذي لم يأذن له ما رضي بلحوق الدين إياه فلا تمتنع سلامة نصيبه له بسبب ذلك الدين وإنما كان ذلك خاصا فيما اكتسبه بالسبب الذي به لحقه الدين فكان ذلك حكما ثابتا بطريق الضرورة لأنه لا يتمكن من أخذ نصيبه من ذلك الكسب إلا باعتبار الرضا باكتسابه ومن ضرورته تعلق الدين بذلك الكسب.(25/85)
أرأيت لو استقرض العبد من رجل مالا ثم جاء من الغدو في يده ألف درهم فقال هذه الألف الذي استقرضت أكان للذي لم يأذن له أن يأخذ نصفه لا يكون له ذلك ويكون للمقرض أخذ ذلك المال من الذي لم يأذن له إذا عرفنا هذا فنقول إذا اختلفا فقال العبد هذا من التجارة وقال الذي لم يأذن له بل هو في يدك هبة أو صدقة ففي القياس القول قول الذي لم يأذن له لأن سبب سلامة نصف هذا المال له ظاهر وهو أنه كسب عبده والعبد يدعي ثبوت حق الغرماء فيه والمولى منكر فكان القول قوله لإنكاره كما لو اكتسب العبد مالا ولحقه دين ثم ادعي العبد أن المولى كان أذن له في التجارة وأنكر المولى ذلك فإنه يكون القول قول المولى ولكنه استحسن فجعل المال كله للغرماء لأن الظاهر شاهد للعبد من حيث إنه صار منفك الحجر عنه في اكتساب المال بطريق التجارة فالظاهر أن المال في يده بذلك الطريق حصل ولأن الدين ظهر عليه مع ظهور هذا الكسب في يده ولا يعلم لكل واحد منهما سبب فيجعل باعتبار الظاهر سببا واحدا ثم كسب العبد يسلم للمولى بشرط الفراغ من دينه أو بشرط أن وصوله إلى يده كان بسبب آخر غير السبب الذي به وجب الدين وهذا الشرط لا يثبت بمجرد قول المولى فإذا لم يثبت الاستحقاق الذي به وجب الدين للمولى بقي مشغولا لحق الغرماء فقلنا: يصرف جميع الكسب إلى ديونهم إلا ما علم أنه موهوب والله أعلم.
باب الدين يلحق العبد المأذون
قال رحمه الله: وإذا أذن المولى لعبده في التجارة فلحقه دين بسبب التجارة فإن كان في(25/86)
ص -44- ... كسبه وفاء بالدين أمر بقضاء الدين من كسبه عند طلب الغريم وإن لم يكن في يده كسب فيه وفاء بالدين تباع رقبته في ديونه إلا أن يفديه مولاه بقضاء الدين عندنا وقال الشافعي لاتباع رقبته في دين التجارة لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
والعبد الذي لا كسب في يده معسر فكان مستحقا للنظرة شرعا ولو أجله الطالب لم يجز بيع رقبته فيه فكذلك إذا أنظره الشرع والمعنى فيه أن رقبته ليست من كسبه ولا من تجارته ولا تباع في دينه كسائر أموال المولى وبيان الوصف أنها كانت مملوكة للمولي قبل الإذن له في التجارة وأنه لا يملك بيع رقبته ولا رهنها وتأثيره وهو أن استحقاق قضاء دين التجارة شبه الالتزام وإنما يجب على من التزمه من ماله لا من مال عبده والعبد هو الملتزم دون المولى إلا أن المولى بالإذن له يكون ملتزما عهدة تصرفاته في إكسابه لا في رقبته لأنه يقصد تحصيل الربح لنفسه لا إتلاف ملكه وهذا كإذن الأب والوصي لعبد الصغير في التجارة وهو صحيح وإنما يحصل مقصوده إذا كان رجوع العبد بالعهدة مقصورا على كسبه فصار في حق مالية الرقبة ما بعد الإذن كما قبله وكما لا تباع رقبته في ديون التجارة قبل الإذن فكذلك بعده بخلاف دين الاستهلاك فإن وجوبه يتقرر سببه من غير أن يحتاج فيه إلى اعتبار رضا المولى واستحقاق مالية الرقبة به لأن الجناية الموجودة من ملكه كالجناية الموجودة منه في استحقاق مالية الرقبة.(25/87)
توضيح الفرق: أنه لم يوجد من المتلف عليه هناك دليل الرضا بتأخر حقه وفي التأخير إلى وقت عتقه إضرار به فلدفع الضرر تعلق الدين برقبة العبد وهنا صاحب الدين عامل العبد باختياره فيكون راضيا بتأخير حقه حين عامله مع علمه أنه ليس في يده كسب والمولى غير راض بإتلاف مالية رقبته فمراعاة جانب المولى أولى وأصحابنا استدلوا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم باع رجلا في دينه يقال له سرف فحين كان بيع الحر جائزا باعه في دينه.
ومن ضرورة بيع الحر في دينه بيع العبد في دينه وما ثبت بضرورة النص فهو كالمنصوص ثم انتسخ بيع الحر وبقي بيع العبد مشروعا فيباع في دينه وإذا كان بيعه في الدين مستحقا بهذا النص ظهر أنه موسر في قضاء الدين بمالية الرقبة والإنظار شرعا بعد تحقق العسرة فأما مع اليسار فلا والمعنى فيه أن هذا دين ظهر وجوبه في حق المولى فتباع رقبة العبد فيه كدين الاستهلاك وتأثيره بما ذكرنا أن الدين لا يجب في ذمة العبد إلا شاغلا مالية رقبته ودين التجارة من المحجور عليه إنما لا يكون شاغلا لمالية الرقبة لأنه لا يظهر وجوبه في حق المولى فإنه محجور عن مباشرة سببه لحق المولي فأما بعد الإذن دين التجارة كدين الاستهلاك من حيث إنه ظهر وجوبه في حق المولى فيكون شاغلا لمالية الرقبة وبهذا تبين أن تأثير الإذن في ظهور وجوب الدين في حق المولى لتعلقه بمالية الرقبة وأن المولى بالإذن يصير كالمتحمل لمقدار مالية الرقبة من ديونه فبهذا الطريق يتحقق رضى المولى بتعلق الدين بمالية الرقبة ولم يظهر من صاحب الدين ما يدل على الرضا بتأخير حقه والدليل عليه أن(25/88)
ص -45- ... العبد المأذون لو قتل فإنه يقضي بالقيمة الواجبة على القاتل ديته والقيمة بدل الرقبة فكما يستحق قضاء الدين من بدل رقبته بعد القتل وإن لم يكن ذلك من كسب العبد فكذلك يستحق قضاء الدين من ثمن الرقبة وهذا لأن الرقبة رأس مال تجارته إلا أنه لا يملك بيعها ولا رهنها لأن بين موجب الرهن والبيع وبين موجب الإذن تضادا فإن منع استحقاق قضاء الدين من قيمته فنقول الأصل أن بدل الرقبة يجعل بمنزلة الكسب في وجوب قضاء الدين منه كالدية في حق الحر فإنه يجعل بمنزلة كسبه في وجوب صرفه إلى غرمائه فكذلك في حق العبد بل أولى لأن حق غرماء الحر كان في ذمته في حياته والدية ليست ببدل عن الذمة وهنا القيمة بدل عن رقبته وقد كان حق غرمائه متعلقا بالرقبة إذا عرفنا هذا فنقول كل دين وجب على المأذون بسبب هو من جنس التجارة أو كان وجوبه باعتبار سبب التجارة فإنه تباع رقبته فيه حتى إذا لحقه الدين من غصب أو وديعة جحدها أو دابة عقرها فذلك من جنس دين التجارة لأن هذه الأسباب توجب الملك في المضمون بالضمان وهذا إذا كان ظهور هذه الأسباب بإقراره فأما إذا كان بالمعاينة فلا إشكال أنه تباع رقبته فيه لأن المحجور عليه يباع في هذا.
وكذلك أجر الأجير بمنزلة ثمن المبيع سواء ثبت بإقراره أو ببينته لأن الإقرار من التجارة وهو منفك الحجر عنه في التجارة.
ألا ترى أن أحد المتعاوضين إذا أقر بشيء من ذلك كان شريكه مطالبا به فكذلك المأذون إذا أقر به وكذلك مهر جارية اشتراها فوطئها فاستحقت لأن وجوب هذا الدين بسبب التجارة فإنه لولا الشراء لكان الواجب عليه الحد فيباع فيه سواء ثبت بإقراره أو بالبينة بخلاف مهر امرأة تزوجها فوطئها ثم استحقت لأن وجوب ذلك الدين بسبب النكاح والنكاح ليس من التجارة فيتأخر إلى ما بعد عتقه.(25/89)
ولا يجوز بيع المولى العبد بأمر بعض الغرماء ولا بغير أمرهم لأن حقهم في العبد مقدم على حق المولى ولوصولهم إلى حقهم طريقان أحدهما آجل وفيه وفاء بحقوقهم وهو الاستكساب والثاني عاجل ولكن ربما لا يفي بحقوقهم وهو بيع الرقبة فربما لا يكون بالثمن وفاء بديونهم وفي بيع المولى إياه بدون رضاهم قطع خيارهم وإبطال أحد الطريقين عليهم فلا يملك ذلك وحق كل واحد منهم ثابت كأنه ليس معه غيره.
ألا ترى أنه لو أسقط الباقون حقهم كان المنع باقيا لحق هذا الواحد فكذلك إذا رضي بعضهم ولو رفعه بعض الغرماء إلى القاضي ومن بقي منهم غائب فباعه القاضي للحضور أو أمره مولاه ببيعه جاز بيعه لأن الحاضرين طلبوا من القاضي أن ينظر لهم وينصفهم بإيصال حقهم إليهم فعليه أن يجيبهم إلى ذلك وهذا لأن في بيع القاضي نظرا للحاضر والغائب جميعا وللقاضي ولاية النظر في حق الغائب وليس للمولى على الغائب ولاية النظر فلهذا جاز البيع من القاضي أو بأمره ولا يجوز بدونه.
ثم القاضي يدفع إلى الحاضرين حصتهم من الثمن ويمسك حصة الغائب لأن دينه ثابت(25/90)
ص -46- ... عند القاضي وبثبوت دينه ثبت مزاحمته مع الحاضرين في الثمن فلا يدفع إلى الحاضرين إلا مقدار حصتهم وهذا بخلاف ما إذا حفر العبد بئرا في الطريق فتلف فيه مال إنسان فباعه القاضي في ذلك فإنه يصرف جميع الثمن إلى صاحب المال وإن كان من الجائز أن يتلف في البئر مال لآخر فيكون شريكا مع الأول في الثمن لأن الثابت ها هنا حق الطالب خاصة وما سوى ذلك موهوم والموهوم لا يعارض المتحقق فلا ينقض شيء من حق الطالب لمكان هذا الموهوم وها هنا حق الغائب ثابت معلوم فهو بمنزلة التركة إذا حضر بعض الغرماء وغاب البعض فباع القاضي التركة في الدين فإنه لا يدفع إلى الحاضرين إلا حصتهم لهذا المعنى.
فإن قال العبد قبل أن يباع أن لفلان على من المال كذا فصدقه المولى بذلك أو كذبه وفلان غائب وكذبه الحضور من غرمائه فالعبد مصدق فيه ويوقف حصة المقر له من الثمن حتى يحضر لأن العبد ما لم يبع في الدين فهو على إذنه وإقرار المأذون بالدين صحيح في مزاحمة الغرماء في الثمن لأن الديون اجتمعت في حالة واحدة وهي حالة الإذن فكأنها حصلت جملة.(25/91)
ولو أقر بذلك بعد ما باعه القاضي وصدقه مولاه لم يصدقا على الغرماء لأن العبد بالبيع صار محجورا عليه وحق الغرماء في ثمنه مقدم على حق المولى فلا يعتبر تصديق المولى ويدفع جميع الثمن إلى الغرماء المعروفين فإن قدم الغائب وأقام البينة على حقه اتبع الغرماء بحصته مما أخذوا من الثمن لأن البينة حجة في حقهم والثابت بالبينة من دينه كالثابت بمعاينة سببه أو بتصادقهم عليه فلا يكون له على العبد ولا على مولاه البائع ولا على المشتري سبيل لأن الثابت للمشتري ملك حادث وهو لم يرض بتعلق شيء من دينه بملكه والمولى البائع ما كان ملتزما لغرمائه إلا مقدار مالية الرقبة وقد صارت مصروفة إلى الغرماء بأمر القاضي والعبد محجور عليه في الحال فلا يكون مطالبا بشيء حتى يعتق ويتبعه تحول الاستحقاق من رقبته إلى الثمن فيما يرجع إلى مالية الرقبة والثمن في يد الغرماء المعروفين فلهذا شاركهم الغائب بحصة ما أثبت من الدين.
وإن أراد القاضي أن يستوثق من الغرماء بكفيل حتى يقدم الغائب فأبى الغرماء أن يفعلوا لا يجبرون على شيء من ذلك لأن إقرار العبد كما لا يكون حجة عليهم في إثبات المزاحمة للغائب معهم كذلك لا يكون حجة عليهم في إلزام إعطاء الكفيل.
أرأيت لو أبوا أن يعطوا كفيلا أو لم يجدوا كفيلا كان له أن يمنعهم حقهم بسبب إقرار العبد ولكن إن أعطوه ذلك وطابت به أنفسهم جاز وقيل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله: فأما عندهما فالقاضي يأخذ منهم كفيلا على وجه النظر للغائب إذ لا ضرر عليهم في إعطاء كفيل وأصله ما بينا في كتاب الدعوى إذا قسم القاضي التركة بين الغرماء أو الورثة هل يأخذ منهم كفيلا لحق وارث أو غريم بتوهم حضوره فإذا كان عندهما هناك يحتاط بأخذ الكفيل فلأن يحتاط ها هنا بعد إقرار العبد أولى.(25/92)
ص -47- ... فإن قدم الغائب فأقام البينة على إقرار العبد بدينه قبل البيع فذلك جائز أيضا لأن الثابت مع إقراره بالبينة كان له أن يأخذ حصته إن شاء من الغرماء وإن شاء من الكفيل ثم يرجع به الكفيل على الغرماء وإذا أذن لعبده في التجارة فاكتسب مالا فأخذه المولى منه ثم لحقه دين بعد ذلك وقد استهلك المولى المال أو لم يستهلكه فإن كان على العبد دين يومئذ فإن المولى يؤخذ بذلك المال حتى يرده لأن المولى في هذا الأخذ غاصب فإنه لا سبيل له على كسب العبد ما لم يفرغ من دينه والدين وإن قل فكل جزء من الكسب مشغول به فلهذا لا يسلم المقبوض للمولى ولا يخرج بقبضه من أن يكون كسب العبد بل كونه في يد المولى وكونه في يد العبد سواء فيشترك فيه الغرماء بالحصة وإن كان قبضه ولا دين فاستهلكه أو لم يستهلكه حتى لحقه دين فليس لصاحب الدين على ما قبض المولى سبيل لأن كسبه الفارغ عن الدين خالص ملك المولى فهو محق في أخذه ويخرج المقبوض بقبضه من أن يكون كسب العبد ويلتحق بسائر أموال المولى فإذا لحقه الدين بعد ذلك يقضي مما بقي في يد العبد من الكسب ومما يكسبه بعد لحوق الدين لأن محل قضاء الدين كسبه وما اكتسبه قبل لحوق الدين ما دام في يده فهو كسبه مثل ما اكتسب بعد لحوق الدين فيصرف جميع ذلك إلى دينه.(25/93)
ولو كان المولى أخذ منه ألف درهم فاستهلكه وعليه دين خمسمائة درهم يومئذ ثم لحقه بعد ذلك دين آخر يأتي على قيمته وعلى ما قبض المولى فإن المولى يغرم الألف كلها فيكون للغرماء ويباع العبد أيضا في دينه لأن المولى غاصب للمأخوذ باعتبار ما على العبد من الدين وإن كان الدين دون المأخوذ فهو وما لو كان في يد العبد سواء وهذا لأنا لو أوجبنا على المولى رد مقدار خمسمائة لم يسلم ذلك للغريم الأول بل يشاركه الغريم الثاني فيه لاستواء حقهما في كسب العبد ثم يستوجب الغريم الأول الرجوع على المولى بما بقي من حقه فإذا قبض ذلك شاركه فيه الغريم الثاني فلا يزال هكذا حتى يسترد من المولى جميع الألف فقلنا: في الابتداء يسترد منه الكل إذ لا فائدة في الترتيب والتكرار.
ولو لم يلحق العبد دين آخر لم يغرم المولى إلا نصفه لأنه إذا دفع للغريم خمسمائة فقد وصل إليه كمال حقه وزال المانع من سلامة الكسب للمولى فيسلم له ما بقي وإذا لحق المأذون دين يأتي على رقبته وعلى جميع ما في يده فأخذ منه مولاه الغلة بعد ذلك في كل شهر عشرة دراهم حتى أخذ منه مالا كثيرا ففي القياس عليه رد جميع ما أخذ لأنه أخذ ذلك من كسبه وحق الغرماء في كسبه مقدم على حق المولى والمولى وإن استأداه الضريبة فذلك لا يصير دينا له على عبده فيسترد المأخوذ لحق الغرماء ولكنه استحسن فقال المقبوض سالم للمولى لأن في أخذ المولى الغلة منه منفعة للغرماء فإنه يبقيه على الإذن بسبب ما اتصل إليه من الغلة فيكتسب ويقضي حق الغرماء من كسبه وإذا لم يسلم الغلة للمولى حجر عليه فينسد على الغرماء باب الوصول إلى حقهم من كسبه فعرفنا أن في هذا منفعة للغرماء،(25/94)
ص -48- ... والمولى يتمكن بسبب ملكه من تصرف ما لا يكون فيه ضرر على الغرماء وما دفع العبد من الغلة إلى المولى مثل ما ينفقه على نفسه في حال تصرفه.
وكما أن قدر نفقته مقدم على حق غرمائه فكذلك مقدار ما دفع إلى المولى من غلة مثله يكون مقدما على حق غرمائه ثم منافعه على ملك المولى وهو إنما يستوفي منه الغلة بدلا عن المنفعة ولو كان استوفى منفعته لم يكن للغرماء عليه سبيل في ذلك فكذلك إذا استوفى بدل المنفعة ولو كان قبض منه كل شهر مائة درهم كان باطلا وعليه أن يرد ما زاد على غلة مثله لأن في قبض الزيادة على غلة المثل ضررا على الغرماء والعبد غير محتاج إلى أداء تلك الزيادة إلى المولى فكان المولى غاصبا لتلك الزيادة فعليه ردها لحق الغرماء.
ولو أقر العبد المأذون بدين خمسمائة ثم استفاد عبدا يساوي ألفا فأخذه المولى ثم لحق المأذون بعد ذلك دين يأتي على قيمته وعلى قيمة ما قبضه المولى فإن المقبوض يؤخذ من المولى فيباع ويقسم ثمنه بين سائر الغرماء لما بينا أن المولى غاصب في أخذ العبد منه لمكان ما عليه من الدين فإن أدى المولى الدين الأول ليسلم العبد له لم يسلم وبيع للآخرين في دينهم لأن كونه في يد المولى ككونه في يد العبد فيتعلق به حق كل غريم ثم المولى أسقط حق الغريم الأول بإيفاء دينه ولو سقط حقه بإبرائه لم يسقط به حق الغريم الثاني عن العبد المأخوذ فكذلك إذا سقط بإيفاء المولى إياه.(25/95)
وليس للمولى أن يخاصمهم بما أدى من الدين الأول لأنه لا يستوجب الرجوع بما أدى على العبد فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا والمزاحمة في كسب العبد باعتبار الديون الواجبة عليه فإن لم يؤد المولى ولكن الغريم الأول أبرأ العبد من دينه بعد ما لحقه الدين الآخر بيع العبد وقبضه المولى في دين الآخرين لأن بإبرائه يسقط دينه ولا يتبين أنه لم يكن واجبا يومئذ وأن حق الآخرين لم يكن متعلقا بمالية العبد المأخوذ وإن كان أبرأه منه قبل أن يلحقه الدين الآخر سلم العبد الذي قبضه المولى له لأن المانع من سلامته له قد انعدم بسقوط دينه فصار كما لو أخذه المولى بعد ما سقط دينه قبل أن يلحقه الدين الآخر وبهذا الأخذ يخرج المأخوذ من أن يكون كسبا للمأذون فلا يتعلق به ما يلحقه من الدين بعد ذلك.
ولو لم يبرئه حتى لحقه الدين الآخر ثم أقر الغريم الأول أنه لم يكن له على المأذون دين فإن أقر العبد المأذون له بالدين كان باطلا وسلم العبد الذي قبضه المولى له ولا يتبعه صاحب الدين الآخر بشيء منه بخلاف ما إذا أبرأه الغريم الأول لأن بالإبراء يسقط دينه ويتبين أنه لم يكن واجبا فأما بإقراره فتبين أنه لم يكن له على المأذون دين وأن المقبوض كان سالما للمولى.
فإن قيل: حين لحقه الدين الآخر كان الدين واجبا ظاهرا فباعتباره يتعلق حق الغريم الآخر بمالية العبد ثم إقرار الأول بعد ذلك لا يكون حجة في إبطال حق الآخر فينبغي أن يجعل إقراره بمنزلة الإبراء المبتدأ.(25/96)
ص -49- ... قلنا: هذا أن لو كان في المحل الذي تناوله إقراره حق الغريم الآخر ولا حق للغريم الآخر فيما أقر به الأول أنه لم يكن واجبا له فيكون قراره فيه صحيحا على الإطلاق فيتبين به أن المقبوض كان سالما للمولى وأنه خرج بقبضه من أن يكون كسبا للعبد.
ولو كان المولى أقر بالدين للأول كما أقر به العبد ثم قال الغريم الأول لم يكن لي على العبد دين وإقراره لي كان باطلا فإن الغريم الآخر يأخذ العبد الذي قبضه المولى ليباع في دينه لأن المولى أقر أن الدين الأول كان واجبا وأنه غاصب في أخذ العبد وإقراره فيما في يده حجة عليه فيجعل ذلك كالثابت باتفاقهم.
توضيحه: أن المولى ها هنا أقر بأن الشركة وقعت بين الغريمين فيما قبضه هو ثم سقط حق أحدهما بسبب إقراره فبقي حق الآخر كما لو أبرأه غريم الأول وفي الأول لم يقر المولى بثبوت الشركة بين الغرماء في العبد الذي أخذه ولكن إنما كان يثبت فيه حق الغريم الثاني لوجوب الدين الأول فإذا ظهر بإقرار الأول أنه لم يكن له دين ثم قبض المولى العبد ولا شركة للغريم الآخر معه لأن دينه لحق المأذون بعد ما خرج العبد من أن يكون كسبا له.
وإذا أذن الرجل لأمته فلحقها دين ثم وهب لها هبة أو تصدق عليها بصدقة أو اكتسبت مالا من التجارة فغر ماؤها أحق بجميع ذلك من مولاها وقال زفر رحمه الله: لا حق لغرمائها إلا فيما اكتسبت بطريق التجارة لأن وجوب الدين عليها بسبب التجارة فما كان من كسب تجارتها يتعلق الدين به لاتحاد السبب وما لم يكن من كسب تجارتها فهو كسائر أملاك المولى فلا يتعلق حق غرمائها به.
ألا ترى أنها لو ولدت ثم لحقها دين بعد ذلك لم يتعلق حق غرمائها بولدها لهذا المعنى وهذا لأن وقوع الملك للمولى في الهبة والصدقة ما كان بسبب فك الحجر عنه.
فإن قيل: الإذن كان يثبت له الملك في الهبة والصدقة أيضا بخلاف كسب التجارة فحصوله كان بسبب الإذن له في التجارة.(25/97)
فقلنا: بأنه لا يسلم للمولى ما لم يفرغ عن دين العبد.
وحجتنا في ذلك أن الهبة والصدقة كسب العبد فلا يسلم للمولى إلا بشرط الفراغ من دين العبد ككسب التجارة وهذا لأن الكسب يوجب الملك للمكتسب بأي طريق كان إلا أن المكتسب إذا لم يكن أهلا للملك يخلفه في ذلك مولاه خلافة الوارث المورث فكما أنه لا يسلم للوارث شيء من التركة إلا بشرط الفراغ من دين المورث فكذلك لا يسلم للمولى شيء من كسب العبد إلا بشرط الفراغ من دينه وهذا لأن العبد وإن لم يكن أهلا للملك فهو من أهل قضاء الدين بكسبه وحاجته في ذلك مقدمة على حق مولاه في كسبه فما لم يفضل عن حاجته لا يسلم للمولى شيء منه ويستوي إن كان الكسب قبل لحوق الدين أو بعد لحوق الدين لأن يدها في الكسب يد معتبرة حتى لو نازعها فيه إنسان كانت خصما له فباعتبار بقاء يدها تبقي حاجتها فيه مقدمة بخلاف ما إذا كان أخذ المولى منها قبل أن يلحقها الدين،(25/98)
ص -50- ... وهذا بخلاف ما لو ولدت بعد ما لحقها الدين لأن ولدها ليس من كسبها ولكنه جزء متولد من عينها فكما أن نفسها لا تكون من كسبها ولا يكون الملك للمولى في نفسها مستفادا من جهتها فكذلك في ولدها إلا أن نفسها تباع في الدين لالتزام المولى ذلك بالإذن لها في التجارة وذلك لا يوجد في حق الولد ولا يعلق به حق الغرماء إنما يكون بطريق السراية ولا سراية بعد الانفصال لأن الولد بعد الانفصال نفس على حدة وهذا بخلاف ما إذا كان الدين لحقها قبل أن تلد ثم ولدت لأن حق الغرماء تعلق بها في حال ما كان الولد جزءا متصلا بها فيسري إلى الولد بحكم الاتصال وينفصل على تلك الصفة.
ثم تعلق حق الغرماء بها لا يكون قبل سبب وجوب الدين فإذا كان السبب موجودا بعد انفصال الولد لا يمكن إثبات الحكم في الولد بطريق السراية وهذا بخلاف الدفع بالجناية فإن الجارية إذا ولدت فلا حق لأولياء الجناية في ولدها لأن حقهم هناك في بدل المتلف وهو أرش الجناية أو في نفسها جرى على الجناية ولكن ذاك ليس بحق متأكد بدليل تمكن المولى من التصرف فيها كيف شاء بالبيع وغيره فلهذا لا يسري إلى الولد وها هنا حق الغرماء متأكد في ذمتها متعلق بماليتها بصفة التأكيد بدليل أنه لا ينفذ تصرف المولى فيها بالبيع والهبة ما لم يصل إلى الغرماء حقهم فيسري هذا الحق المتأكد إلى الولد.
ولو ولدت ولدا وعليها دين ثم لحقها دين بعد ذلك اشترك الغرماء جميعا في ماليتها إذا بيعت فأما ولدها فلأصحاب الدين خاصة لأنه انفصل عنها وحقهم ثابت فيها فسرى إلى الولد وأصحاب الدين الآخر إنما يثبت حقهم فيها بعد انفصال الولد عنها فلهذا لا يثبت حق الغرماء في ولدها.(25/99)
ولو ولدت ولدين أحدهما قبل الدين والآخر بعد الدين لحق الولد الدين الآخر دون الأول لأن الأول انفصل عنها قبل تعلق الدين برقبتها ويعتبر حال كل واحد من الولدين كأنه ليس معه الولد الآخر ولو جنى عليها جناية فاستوفى أرشها من الجاني أو كان الجاني عبدا فدفع بالجناية فحكمه حكم ولدها في حق الغرماء لأن الأرش مملوك للمولى لا من جهتها ولكن بدل جزء منها فيكون حكم الأرش حكم ولدها في حق الغرماء.
وفي الجارية الجانية إذا جنى عليها بدفع الأرش معها لأن الأرش بدل جزء من عينها وحق الدفع كان ثابتا في ذلك الجزء فيثبت في بدله اعتبارا لبدل طرفها ببدل نفسها فأما الولد فليس ببدل جزء فائت من عينها ولكنه زيادة انفصل عنها فلا يثبت فيه حق أولياء الجناية لوجوب دفعها إليهم بالجناية فكان الولد في هذا قياس العقد فإنها لو وطئت بالشبهة لا يتعلق حق أولياء الجناية بعقدها فكذلك بولدها.
وإذا أذن لعبده في التجارة فلحقه دين كثير ثم دبره مولاه فالغرماء بالخيار إن شاؤوا ضمنوا المولى القيمة وإن شاؤوا استسعوا العبد في جميع الدين لأن قبل التدبير كان لوصولهم إلى حقهم طريقان بيع الرقبة في الدين أو الاستسعاء والمولى بالتدبير فوت عليهم(25/100)
ص -51- ... أحد الطريقين وهو استيفاء الدين من المالية لأن التدبير لا يمكن بيعه في الدين وما يعرض للطريق الآخر وهو الكسب لأن الكسب بعد التدبير يكون على ملك المولى كما كان قبله فيبقى الخيار لهم إن شاءوا ضمنوا المولى لإتلافه مالية الرقبة عليهم وذلك يتقدر بقيمة العبد فإذا استوفوا ذلك منه فلا سبيل لهم على العبد حتى يعتق لأنه لو وصل ذلك إليهم ببيعه في الدين لم يبق لهم عليه سبيل حتى يعتق فكذلك إذا وصل إليهم بتضمين المولى فإذا عتق اتبعوه ببقية دينهم لأن بقية الدين كان ثابتا في ذمته فعليه قضاؤه من خالص ملكه وخالص ملكه ما اكتسب بعد العتق فأما ما كان اكتسبه قبل العتق فهو للمولى والمولى قد ضمن لهم مالية الرقبة فلا يبقى لهم سبيل على كسب هو ملك المولى.(25/101)
فإن اختاروا استسعاء المدبر استسعوه في جميع الدين كما قبل التدبير كان لهم حق استيفاء جميع الدين من كسبه فكذلك بعد التدبير لأن الكسب على ملك المولى والمولى راض بقضاء ديونه من كسبه بخلاف الأول فهناك المولى ضمن مالية الرقبة فهو غير راض بصرف ما يكتسبه بعد إسلامه مالية الرقبة للغرماء إلى ديونهم فإذا اختاروا أحد الأمرين فليس لهم أن يرجعوا عنه بعد ذلك لأنهم اختاروا تضمين المولى فقد سلموا ما يكتسبه المدبر للمولى وإن اختاروا استسعاء المدبر فقد أبرءوا المولى فلا يكون لهم أن يرجعوا عنه كالغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما فإن ضمنوا المولى قيمته اقتسموها بينهم بالحصص والعبد على إذنه فإن اشترى وباع فلحقه دين كان لأصحاب هذا الدين أن يستسعوه ولا سبيل لهم على المولى لأن حقهم ما تعلق بمالية الرقبة فإنه ما كان محلا للبيع حين وجب دينهم فإنما يتعلق حقهم بالكسب خاصة ولا يشاركهم الأولون في سعايته لأنهم باختيار تضمين المولى أسقطوا حقهم عن كسب رقبته ولأن استدامة الإذن بعد التدبير كإنشائه فإن فضل شيء من كسبه عن دين الآخرين كان للمولى دون الأولين.
وإذا قتل المدبر كانت قيمته للآخرين دون الأولين لأن القيمة بدل الرقبة فيكون كالكسب في وجوب صرفها إلى الدين ولأن الأولين قد وصل إليهم بدل مالية الرقبة حين ضمنوا المولى قيمته فلا سبيل لهم على القيمة التي تستوفي من القاتل ولم يسلم للآخرين شيء من ذلك.(25/102)
وإذا لحق العبد المأذون دين ثلاثة آلاف درهم لثلاثة نفر وقيمته ألف درهم ثم دبره المولى فاختار بعض الغرماء اتباع المولى بالقيمة وبعضهم استسعاء العبد فذلك لهم لأن لكل واحد منهم فيما اختار غرضا صحيحا وقد كان لكل واحد منهم هذا الخيار في دينه قبل التدبير فكذلك بعده إلا أن قبل التدبير إذا اختار أحدهم البيع فبيع له لا يملك إيفاء حق الباقين في الكسب لأنه بالبيع قد انحجر عليه وها هنا بعد التدبير العبد على إذنه فيمكن إيفاء حق من اختار السعاية في كسبه فإن كان اختار ضمان المولى اثنان منهم كان لهما ثلثا القيمة وسلم للمولى ثلث القيمة لأن القيمة على المولى أثلاثا بينهم لو اختاروا تضمينه.(25/103)
ص -52- ... والذي اختار الاستسعاء ما أسقط حقه أصلا ولكن عين لحقه شيئا من ملك المولى وهو الكسب فيكون مزاحمته مع الأولين في حق المولى قائم حكما فلهذا يسلم حصته من القيمة للمولى ويغرم للآخرين ثلثي القيمة ثم الذي اختار السعاية إن أخذها من العبد قبل أن يأخذ الآخر إن شاء من القيمة لم يكن لهما حق المشاركة معه فيما قبض لأنهما أسقطا حقه عن السعاية باختيار التضمين فانقطعت المشاركة بينه وبينهما في السعاية.
وإذا أراد الذي اختار السعاية قبل أن يأخذ المولى نصيبه أو شارك صاحبه فيما يقبضان من القيمة لم يكن له ذلك وكذلك الآخر أن بعد اختيارهما ضمان المولى وإن أرادا أن يتبعا المدبر بدينهما ويدعا تضمين المولى لم يكن لهما ذلك وإن سلم ذلك لهما المولى لأن كسب العبد صار حقا للذي اختار السعاية ما لم يصل إليه كمال دينه وحقه فيه مقدم على حق المولى فلا يتبين رضى المولى في مزاحمة الآخرين معه في السعاية بعد ما أسقطا حقهما عنها باختيار تضمين المولى.
فإن اشترى المدبر بعد ذلك وباع فلحقه دين آخر كان جميع كسب المدبر بين صاحب الدين الذي اختار سعايته وبين أصحاب الدين الذي لحقه آخرا ليس لأحد منهم أن يأخذ منه شيئا دون صاحبه لأن العبد بقي على إذنه فهذه الديون جميعها حالة واحدة وهي حالة الإذن فيكون الكسب مشتركا بينهم بالحصة فأيهم أخذ منه شيئا شاركه أصحابه وقد بينا أن ما اكتسب من ذلك قبل أن يلحقه الدين الآخر أو بعده في ذلك سواء فإن كان الأول الذي اختار سعايته قبض شيئا من سعايته قبل أن يلحقه الدين الآخر سلم ذلك له لأنه حين قبضه ما كان لأحد سواه حق في الكسب وما قبضه خرج من أن يكون كسبا للعبد فلا يتعلق به حق الآخرين بعد ذلك كما لو كان المولى هو الذي قبضه.(25/104)
ولو أقر المدبر لرجل بدين ألف درهم وذكر أنه كان عليه قبل التدبير فصدقه صاحبه أو قال كان بعد التدبير فذلك سواء ويسعى له المدبر مع غرمائه لأنه باق على إذنه فيما يلزمه بإقراره بمنزلة ما يلزمه بالتجارة فما سعى فيه من شيء اشتركوا فيه ولا يصدق المدبر على أن يدخل هذا في القيمة التي كانت وجبت للأولين على المولى لأنه في إسناد الإقرار إلى ما قبل التدبير متهم في حقهم فإنه لا يملك إثبات المزاحمة له معهم بطريق الإنشاء.
ولو صدقه المولى في ذلك وأقر أنه كان قبل التدبير واختار هذا الغريم إتباع المولى فإن كان المولى دفع إلى الغريمين اللذين اختارا ضمانه ثلثي القيمة بقضاء القاضي دفع إلى هذا المقر له سدس القيمة وهو نصف ما بقي عليه لأن تصديق المولى معتبر في حقه غير معتبر في حق الأولين وهو يزعم أن الأولين حقهما في نصف القيمة وأن عليهما رد الزيادة على ذلك ولكنه غير مصدق في استرداد شيء منهما إلا أن ما دفعه بقضاء القاضي لا يكون مضمونا فيجعل ذلك كالتاوي وما بقي بزعمه بين الآخرين نصفين إلا أن الذي اختار السعاية يسلم للمولى حصته من ذلك فيدفع إلى المقر له مقدار حقه من ذلك وهو مقدار نصف ما بقي(25/105)
ص -53- ... عليه بزعمه ثم اتبع هذا الغريم المدبر بثلث دينه فيسعى له فيه لأنه تمام حقه في ربع القيمة وإنما سلم له سدس القيمة وذلك ثلثا حقه ولو لم يسلم له شيء من القيمة كان له أن يستسعي العبد في جميع دينه فكذلك يستسعيه في ثلث دينه حين لم يسلم له ثلث نصيبه من القيمة اعتبارا للبعض بالكل ولا يبطل اختياره ضمان المولى حق استسعائه في هذا القدر لأن اختياره ضمان المولى معتبر فيما وصل إليه دون ما لا يصل إليه والواصل إليه ثلثا نصيبه من قيمته فلا يعتبر ذلك الاختيار في إبطال حقه في السعاية في الثلث الباقي وإن كان دفع الثلثين بغير قضاء قاض غرم للمقر له ربع جميع القيمة لأن المولى مقر أن حقه في ربع جميع القيمة وما دفع إلى الأولين زيادة على حقهما ها هنا محسوب عليه في حق المقر له لأنه دفعه باختياره فلهذا غرم له جميع نصيبه وهو ربع القيمة ثم لا يتبع المقر له المدبر بشيء من دينه حتى يعتق لأنه وصل إليه كمال حقه من بدل الرقبة.
قال: ألا ترى أن غرماءه الثلاثة الأولين لو اختاروا ضمان المولى فضمنوه القيمة فدفعها إليهم بقضاء ثم ادعى آخر على المدبر دينا ألف درهم قبل التدبير وصدقه المدبر والمولى في ذلك فلا سبيل لهذا الغريم على تلك القيمة ولا على المولى ولا يبطل اختياره ضمان المولى حقه في سعاية العبد بخلاف ما إذا كان دفع القيمة إلى الأولين بغير قضاء قاض فإنه يغرم للدافع كمال حصته وهو ربع القيمة.(25/106)
ولو لم يكن المولى دبر عبده ولكنه أعتقه وهو موسر أو معسر فهو سواء والغرماء بالخيار إن شاءوا اتبعوا المولى بالقيمة لأنه أتلف حقهم في ماليته بالإعتاق وضمان الإتلاف لا يختلف باليسار والإعسار فإذا اتبعوه بالقيمة أخذا العبد بما بقي من دينهم لأن كسبه بعد العتق خالص حقه والباقي من الدين ثابت في ذمته فعليه قضاؤه من ملكه بخلاف التدبير فإن كسبه بعد التدبير مال المولى وقد ضمن المولى لهم بدل الرقبة فلا يبقى لهم سبيل على شيء من ملكه بعد ذلك حتى يعتق وإن شاءوا أخذوا جميع دينهم من العبد وأبرؤوا المولى لأن ضمان القيمة على المولى خالص حقهم وهو محتمل للإسقاط فيسقط بإسقاطهم ويبقى أصل ديونهم على العبد وقد عتق فيتبعوه بجميع ذلك.
وإن اختاروا إتباع العبد بدينهم ولم يبرئوا المولى من شيء لم يكن هذا براءة منهم للمولى لأن المولى في مقدار القيمة متحمل لهم عن العبد بمنزلة الكفيل ومطالبة الأصيل بالدين لا توجب براءة الكفيل بدون الإبراء.
وكذلك لو اختاروا ضمان المولى كان لهم أن يتبعوا العبد بجميع دينهم إذا لم يقبضوا من المولى شيئا لأن اختيارهم تضمين المولى بمنزلة مطالبة الكفيل بالدين وذلك غير مبرئ للأصيل بخلاف التدبير فهناك حقهم أحد شيئين إما القيمة على المولى أو استيفاء الدين من كسبه على ملك المولى فاختيارهم أحد الأمرين يوجب براءة الآخر وها هنا قد ثبت حقهم في(25/107)
ص -54- ... الأمرين جميعا لتقرر سببهما في مطالبة المعتق بجميع الدين لأنه في ذمته وفي مطالبة المولى بالقيمة لأنه متحمل لذلك القدر.
ألا ترى أنهم إذا أخذوا القيمة من المولى كان لهم أن يتبعوا العبد ببقية دينهم فلهذا لا يكون اختيارهم تضمين أحدهما إبراء للآخر.
ولو اختار بعض الغرماء إتباع المولى وأبرؤوا المولى من أن يكون يتبعه بشيء من القيمة لم يكن لهم بعد ذلك أن يتبعوه بشيء لصحة الإبراء منهم له عن ذلك في حقهم وتكون القيمة كلها لأصحاب الدين الذين اختاروا تضمين المولى لأن النقصان كان لمزاحمة الآخرين وقد زال ذلك بالإبراء فالتحق بما لو لم يكن إلا دينهم وهذا بخلاف التدبير فهناك مزاحمة الذين اختاروا استسعاء العبد لم ينعدم في حق المولى لأن سعايته ملك المولى فلهذا لا يدفع إلى الذين اختاروا ضمانه لأن حصتهم من القيمة وهنا مزاحمة الذين أبرؤوا المولى قد انعدمت في حقه من كل وجه لأنهم يأخذون دينهم من سعاية هي خالص ملك المعتق لا حق للمولى فيه فلهذا لزمه دفع جميع القيمة إلى الذين اختاروا تضمينه ولهم الخيار كما بينا فإن آخذوا المولى لم يرجع على العبد بشيء لأنه ضامن لإتلافه محل حقهم أو لأنه متحمل عن العبد ولم يستوجب بهذا التحمل شيئا على العبد وإن أخذوا العبد لم يرجع على المولى بشيء لأنه أصيل قضى دينه بملكه وما أخذ واحد منهم من القيمة التي على المولى اشترك فيها جميع من اختار ضمان المولى لأن وجوب القيمة لهم على المولى بسبب واحد ولأن القيمة كالثمن لو بيعت الرقبة في ديونهم وما أخذ واحد من الغرماء من العبد بعد عتقه فهو له خاصة لا يشاركه فيه الغرماء لأنه حر ودين الحر في ذمته لا تعلق له بكسبه وإنما وجب دين كل واحد منهم في ذمته بسبب على حدة بخلاف التدبير فإنه بعد التدبير مملوك والدين في ذمة المملوك يكون شاغلا لكسبه فلهذا إذا خص أحدهم بقضاء الدين دون أصحابه لم يسلم ذلك له ولو لحق العبد المأذون دين كبير(25/108)
فأعتقه المولى وأخذ ما في يده من المال فاستهلكه ثم اختار الغرماء اتباع العبد وأخذوا منه الدين رجع العبد على المولى في المال الذي أخذ منه بما أداه من الدين وضمنه ذلك لأن كسبه إنما كان يسلم للمولى بشرط براءته عن الدين ولم يوجد وهو غير متبرع فيما أدى من الدين من خالص ملكه بعد العتق بل هو مجبر على ذلك فيكون له أن يرجع على المولى فيما استهلكه من كسبه بذلك المقدار وإن كان قائما في يد المولى اتبعه العبد حتى يستوفي منه مقدار ما أدى وما فضل منه فهو للمولى وكذلك لو لم يوف العبد الدين ولكن الغرماء أبرءوه منه لم يرجع على المولى بشيء من ذلك المال لأنه كان اكتسبه في حال رقه وقد فرغ من دينه فيكون سالما للمولى.
وكذلك إن كانت أمة فاعتقها وأخذ منها مالها وولدها وأرش يدها وقد كان الدين لحقها قبل الولادة والجناية ثم حضر الغرماء فإن المولى يجبر على أن يدفع إليها مالها لتقضي دينها لأن كسبها لا يسلم للمولى مع قيام الدين عليها ولا يجبر على دفع الولد والأرش إن كان لم(25/109)
ص -55- ... يعتقها ولكن تباع فيقضي من ثمنها ومن أرش اليد الدين لأن الولد ليس من كسبها في شيء بل هو ملك المولى كرقبتها.
وليس للغرماء أن يعينوا على المولى قضاء الدين من مالية الولد ولكن الخيار في ذلك إلى المولى فإن أرادوا بيع الرقبة لهم في ديونهم وفي الرقبة وفاء بحقوقهم فقد وصل إليهم كمال حقهم وأرش اليد من جنس حقهم فإذا استوفوا حقهم منه لا يبقى لهم على الولد سبيل وإن كان المولى أعتقها فللغرماء أن يرجعوا عليه بقيمتها لأنه أتلف ماليتها عليهم ثم يباع ولدها في دينهم أيضا لأنه انفصل بعد تعلق حقهم بماليتها ويأخذون من المولى الأرش أيضا لأنه بدل ما كان تعلق حقهم به ثم يتبعون الأمة بما بقي من دينهم لأنها قد أعتقت وإن شاؤوا اتبعوها بجميع الدين وتركوا اتباع المولى فإن أتبعوها بدينهم فأخذوه منها سلم للمولى ولدا لأمة وما أخذ من أرش يدها لم يكن لها أن ترجع على المولى بالولد والأرش كما لا ترجع بقيمة نفسها اعتبارا للجزء بالكل والمعنى أن المولى يرجع بما يملكه من جهتها ولها أن ترجع على المولى بما أخذ من مالها لأنه كان يتملكه من جهتها فلا يسلم له ذلك إلا ببراءتها عن الدين فكذلك لو باعها للغرماء بدينهم وقبض الثمن ثم أعتق المشتري الجارية فإن شاء الغرماء أخذوا الثمن واتبعوا الجارية بما بقي من دينهم لأن ما بقي استقر في ذمتها فعليها قضاؤه من ملكها بعد العتق وإن شاؤوا اتبعوها بجميع دينهم فإن أخذوا ذلك منها سلم للمولى الثمن لأنها أصل في جميع الدين والمولى في مقدار الثمن كالكفيل. والأصيل إذا قضى الدين من ملكه لم يكن له أن يرجع على الكفيل بشيء فكذلك إذا كان المولى كاتبها بإذن الغرماء ما كان لهم أن يأخذوا جميع ما يقبض المولى من المكاتبة لأن ذلك كسبها وحقهم باق في كسبها وإن نفذت الكتابة فيها برضاهم فليس لهم أن يرجعوا فيها بشيء من دينهم ما دامت مكاتبة لأن المكاتبة التي استوفوا في معنى بدل الرقبة فإذا وصل(25/110)
إليهم بدل الرقبة لا يبقى لهم سبيل على كسبها ما لم تعتق.
ألا ترى أن كتابة المولى إياها بإذن الغرماء كبيعها ولو باعها برضاهم وأخذوا ثمنها لم يبق لهم على كسبها سبيل ما لم تعتق فكذلك ههنا.
فإن قبض المولى جميع المكاتبة وعتقت فالغرماء بالخيار إن شاؤوا أخذوا المكاتبة من السيد لأنه بدل ما تعلق به حقهم ثم اتبعوا الأمة بما بقي من دينهم لأنها قد عتقت وإن شاؤوا أخذوا الأمة بجميع دينهم فإن أخذوه منها سلمت المكاتبة للمولى بمنزلة الثمن الذي أخذه المولى ببيعها برضاهم وهذا لأن كل واحد منهما بدل الرقبة وحكم البدل حكم الأصل وملك الرقبة للمولى ما كان مستفادا من جهتها وهي فيما قضت من الدين أصل فلا ترجع على المولى بشيء بما كان متحملا عنها لغرمائها وإذا أذن للعبد في التجارة فلحقه دين كبير ثم أن المولى كاتبه فللغرماء أن يفسخوا الكتابة لأنهم يتضررون بما باشره المولى من حيث أنه يتعذر عليهم استيفاء الدين من مالية الرقبة بالبيع والكتابة تحتمل الفسخ فيفسخونها لدفع(25/111)
ص -56- ... الضرر عنهم كما يفسخون البيع وكما يفسخ الشريك الكتابة فإن لم يعلموا ذلك حتى أدى الكتابة إلى المولى فقد عتق بأدائها لوجود شرط العتق والمولى كان يملك تنجيز العتق فيه مع اشتغاله بحق الغرماء فيصح منه أيضا تعلق العتق بأداء المال ويعتق بالأداء ثم للغرماء أن يأخذوا الكتابة من المولى فيقتسمونها بينهم بالحصص لأن المؤدي كسب العبد وحق الغرماء في كسبه مقدم على حق المولى فلا ينتقض العتق باستيفائهم بدل الكتابة من المولى لأنه لا ناقض للعتق بعد الوقوع.
وللغرماء أن يضمنوا المولى قيمته لأنه أتلف عليهم مالية الرقبة بعد ما تعلق حقهم بها بخلاف المسألة الأولى فهناك إنما كاتبه برضاهم فكذلك يضمن لهم القيمة ثم يتبعوا العبد بما بقي من ديونهم لأنه حر فعليه قضاء دينه من خالص ملكه وإن شاؤوا اتبعوا العبد بجميع دينهم لتقرر الدين في ذمته بعد ما عتق وتسلم الكتابة للمولى وليس للعبد أن يرجع عليه بشيء مما أدى لأن الكتابة بدل ما سلم للعبد من جهة المولى وهو العتق فلا يكون له أن يرجع على المولى بشيء منه.
فإن قيل: فالغرماء إذا استوفوا الكتابة ينبغي أن لا يكون لهم أن يضمنوا المولى القيمة لأن بدل الرقبة سلم لهم وإن كانت الكتابة بمنزلة كسبه وليست ببدل عن رقبته فينبغي للمكاتب أن يرجع به على المولى كما إذا أخذ كسب عبده المأذون وأعتقه فقضى الدين من خالص ملكه كان له أن يرجع على المولى بما أخذ منه من كسبه.
قلنا: الموجود في حق الغرماء كسب العبد واستيفاء الكسب لا يبطل حقهم عن بدل الرقبة فأما فيما بين المولى والمكاتب فهو بدل عما أوجبه للمكاتب وقد سلم ذلك للمكاتب من جهته وهذا لأن المولى بعقد الكتابة يكون مسقطا حقه عن كسبه فيأخذون من المولى ما استوفى باعتبار أنه كسبه.(25/112)
ولو كان العبد أدى بعض الكتابة ثم جاء الغرماء فلهم أن يطلبوا الكتابة ويباع العبد لهم في دينهم لأن احتمال الكتابة بالفسخ بعد قبض البدل كما كان قبله ويأخذون ما قبض المولى من الكتابة لأنه كسب العبد المأذون فإذا أجازوا المكاتبة جازت لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وما كان قبض المولى وما بقي منها فهو بين الغرماء كما لو كانت الكتابة بإذنهم لما بينا أن المقبوض كسب العبد فإن كان ما قبض المولى منها هلك قبل الإجازة لم يكن للغرماء إلا ما بقي من الكتابة لأن إجازتهم دليل الرضا منهم بقبض ما قبضه المولى فكان أمينا فيه غير ضامن بالهلاك في يده.
ولو أجاز المكاتبة بعض الغرماء دون البعض لم يجبر لأن لكل واحد منهم حق نقض الكتابة لأجل دينهم وبعضهم لا يملك إبطال حق النقض والذي أجاز قد أسقط حق نفسه فكأنه لم يكن في الابتداء إلا حق الذي لم يجز.
ولو أرادوا رد المكاتبة فأعطاهم المولى دينهم أو أعطاهم ذلك المكاتب فأبوا أن يقبلوا(25/113)
ص -57- ... وأرادوا رد المكاتبة لم يكن لهم ذلك لأن حقهم في ديونهم فإذا وصل إليهم كمال حقهم فقد زال المانع من نفوذ الكتابة وهم متعنتون في الإباء لأنهم يفسخون الكتابة ليبيعوه في ديونهم وقد وصلت إليهم ديونهم فلهذا لا يكون لهم أن يفسخوا الكتابة والله أعلم
باب العبد بين رجلين يلحقه دين
قال رحمه الله: وإذا كان العبد بين رجلين فأذنا له في التجارة ثم أدانه أحد الموليين مائة درهم وأدانه أجنبي مائة درهم ثم بيع العبد بمائة درهم أو قتل واستوفيت القيمة مائة درهم من قاتله أو مات وخلف مائة درهم من كسبه فعند أبي حنيفة رحمه الله: تقسم هذه المائة بين الأجنبي والمولى الدائن أثلاثا بطريق العول يضرب الأجنبي فيه بمائة والمولى الدائن بخمسين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقسم بينهما على طريق المنازعة أرباعا ثلاثة أرباعها للأجنبي وربعها للمولى الدائن.
وجه قولهما أن نصف المائة نصيب المولى الدائن ودينه لا يثبت في نفسه فيسلم ذلك للأجنبي خاصة ونصفه نصيب الذي لم يدن وقد استوفى فيه حق الأجنبي وحق المولى الدائن من دين كل واحد منهما فيه مقدار خمسين فيقسم ذلك بينهما نصفين وأبو حنيفة رحمه الله: يقول محل الدين هو الذمة وإنما المال محل قضاء الدين لا محل وجوب الدين وجميع دين الأجنبي ثابت في ذمة العبد والثابت من دين المولى نصفه لأن نصف العبد ملكه ولا يستوجب المولى على عبده دينا فيضرب كل واحد منهما بجميع ما ثبت من دينه لأن قسمة كسب العبد بين غرمائه كقسمة التركة بين الغرماء.(25/114)
وإذا اجتمع في التركة دين مائة لرجل ودين خمسون لآخر والتركة مائة فإنه يضرب كل واحد منهما فيها بجميع حقه وتكون التركة بينهما أثلاثا فهذا مثله وهذه المسألة بنظائرها وأضدادها قد تقدم بيانها في كتاب الدعوى فلهذا اقتصرنا على هذا الحرف لكل واحد منهما لأن مسائل الباب على هذا تدور ولو أدانه كل واحد من الموليين مائة درهم وأدانه أجنبي مائة درهم والمسألة بحالها فنصف المائة للأجنبي ونصفها للموليين أما عندهما فلأن نصيب الأكبر فارغ عن دينه وقد استوى فيه الأصغر مع الأجنبي لأن الثابت من دين كل واحد منهما فيه بقدر خمسين فيكون بينهما نصفين وكذلك نصيب الأصغر منهما فارغ عن دينه وقد استوى فيه حق الأكبر والأجنبي فيقسم بينهما نصفين فبالقسمتين يسلم للأجنبي نصف المائة ولكل واحد من الموليين ربع المائة فأما عند أبي حنيفة فلأن الثابت من دين كل واحد من الموليين خمسون ودين الأجنبي ثابت كله فيضرب الأجنبي بمائة وكل واحد من الموليين بخمسين فكان للأجنبي نصف المائة وللموليين نصفها بينهما نصفين.
وإذا كان رجلان شريكين شركة مفاوضة أو عنان وبينهما عبد ليس من شركتهما فأدانه أحدهما مائة درهم من شركتهما وأدانه أجنبي مائة ثم مات العبد وترك مائة أو بيع بمائة فللأجنبي ثلثاها وللشريكين ثلثها لأن إدانة أحد الشريكين في المال المشترك كإدانتهما جميعا،(25/115)
ص -58- ... فصار كل واحد منهما مدينا له بقدر الخمسين ثم نصيب الأكبر منهما فارغ عن حقه وقد اجتمع فيه من دين الأجنبي خمسون درهما ومن دين الأصغر خمسة وعشرون لأنه كان مدينا بجميعه خمسين على مقدار حقهما أثلاثا وكذلك نصيب الأصغر يقسم بين الأصغر والأجنبي أثلاثا بهذا الطريق فبالقسمة يحصل للأجنبي ثلثا المائة وللموليين ثلث المائة.
وعند أبي حنيفة دين الأجنبي وهو مائة كله ثابت والثابت من دين كل واحد من الموليين مقدار خمسة وعشرين فإذا جعلت كل خمسة وعشرين سهما صارت المالية التي للأجنبي أربعة أسهم ولكل واحد من الموليين سهم فتكون القسمة على ستة أربعة للأجنبي وذلك ثلثا المائة وسهمان للموليين وذلك ثلث المائة.
ولو كانت شركتهما شركة عنان والعبد من شركتهما فأداناه مائة درهم من غير شركتهما وأدانه أجنبي مائة درهم كان ثلثا المال للأجنبي وثلثه بين الموليين لما قلنا: أن كل واحد منهما صار مدينا له في مقدار خمسين نصف ذلك لا في نصيبه فلم يثبت ونصفه يثبت باعتبار شريكه فكان الثابت من دين كل واحد من الموليين خمسة وعشرين ودين الأجنبي ثابت كله فتكون القسمة بينهم على ستة أسهم على ما بينا.
ولو كان العبد من شركتهما فأداناه وأدانه أحدهما مائة من شركتهما وأدانه أجنبي مائة والمسألة بحالها فالمائة كلها للأجنبي ولا شيء لواحد من الشريكين ها هنا لأن العبد والمال كله من شركتهما فلا يثبت شيء من دين الموليين لاتحاد المستحق واتحاد حكم الواجب والمحل الذي يقضي منه وإنما الثابت دين الأجنبي خاصة وهو نظير ما لو كان العبد لواحد فأذانه مائة وأجنبي مائة ثم بيع بمائة فإن الثمن كله للأجنبي ولا يكون للمولى منه شيء.(25/116)
وإذا أذن أحد الرجلين لعبد بينهما في التجارة ثم أدانه أحدهما مائة وأدانه أجنبي مائة ثم أن المولى الذي لم يأذن للعبد غاب وحضر الأجنبي فأراد بيع نصيب المولى الذي أذن العبد في دينه بيع له لأن دينه متعلق بنصيب كل واحد منهما والحاضر منهما خصم في نصيبه وليس بخصم في نصيب الغائب ولكن أحد النصفين ينفرد عن الآخر في البيع في الدين فلا يتأخر بيع نصيب الحاضر لغيبه الآخر فإن بيع بخمسين درهما أخذها الأجنبي كلها لأنه لا يثبت شيء من دين المولى الدائن في نصيبه فيسلم نصيبه للأجنبي فإن حضر المولى الآخر فإنه يباع نصيبه للأجنبي وللمولى الذي أدانه فيقتسمان ذلك نصفين لأن دين كل واحد منهما ثابت في نصيبه وقد استويا في ذلك فإن الباقي من دين الأجنبي فيه خمسون والثابت من دين المولى الدائن فيه خمسون فلهذا يقسم نصيبه بينهما نصفين وهذا شاهد لهما على أبي حنيفة ولكن أبو حنيفة رحمه الله: يقول قد تميز نصيب أحدهما عن نصيب الآخر ها هنا حين بيع نصيب كل واحد منهما بعقد على حدة فلا بد من اعتبار حال كل واحد من النصيبين على الانفراد.
ولو كان ثمن نصيب المولى الذي أدان العبد توى على المشتري وبيع نصيب الذي لم(25/117)
ص -59- ... يدن بخمسين درهما أو بأكثر أو بأقل فإن ذلك يقسم بينهما أثلاثا سهم للأجنبي وسهم للمولى الذي أدان لأنه لم يصل إلى الأجنبي شيء من حقه وجميع دينه ثابت في كل جزء من العبد فهو يضرب بمائة والمولى الدائن يضرب بما ثبت من دينه وذلك خمسون فلهذا قسم هذا النصف بينهما أثلاثا وهو دليل لأبي حنيفة في أنه يتميز في حكم الدين بعض العبد عن البعض فإن اقتسماه كذلك ثم خرجت الخمسون الأولى أخذها الأجنبي كلها لأنه قد بقي من دينه هذا القدر وزيادة ولا حق للمولى الدائن في ثمن نصيبه فيأخذها الأجنبي كلها وكذلك لو كانت أكثر من خمسين درهما حتى تزيد عن ثلثي المائة فتكون الزيادة للمولى الذي أدان لأنه قد وصل إلى الأجنبي كمال حقه والباقي ثمن نصيب المولى الدائن قد فرغ من الدين وسلم له ولا يرجع واحد من الموليين على صاحبه بشيء لأن نصيب المولى الذي لم يدن استحق بدين كان متعلقا بنصيبه برضاه فلا يرجع على صاحبه بشيء وكذلك بخروج ما توى لا يتبين فساد في سبب القسمة الأولى لأنه لا يتبين أن جميع دين الأجنبي لم يكن ثابتا يومئذ.
وإذا كان العبد بين رجلين فأذنا له في التجارة ثم أن كل واحد منهما أدانه مائة درهم من رجل آخر وأدانه أجنبي مائة ثم بيع بمائة درهم فالمائة بين الأجنبي والموليين أثلاثا لكل واحد منهما ثلثها لأن كل واحد من هذه الديون ثابت بكماله في الفصلين جميعا والمولى إنما لا يستوجب على عبده دينا لنفسه وكل واحد من الموليين في الإدانة ها هنا نائب عن صاحب المال فكان صاحب المال هو الذي أدانه بنفسه فلهذا كانت المائة أثلاثا بينهم.(25/118)
ولو كان المال الذي أدانه الموليان كل واحد من المالين بين المولى الذي أدانه وبين أجنبي قد أمره بإدانته والمسألة بحالها فإن المائة تقسم على عشرة أسهم أربعة للأجنبي الذي أدان العبد وأربعة للأجنبيين اللذين شاركهما الموليان في المائتين لكل واحد منهما سهمان ولكل واحد من الموليين سهم لأن كل واحد من الموليين نائب عن شريكه في نصف ما أدانه فيثبت على العبد جميع نصيب كل واحد من الشريكين وفي النصف كل واحد منهما دائن لنفسه فيثبت نصف ذلك النصف باعتبار نصيب شريكه من العبد ولا يثبت نصفه باعتبار نصيبه من العبد فكان الثابت على العبد للأجنبي مائة درهم ولكل واحد من شريكي الموليين خمسون ولكل واحد من الموليين خمسة وعشرون فإذا جعلت كل خمسة وعشرين سهما كان الكل عشرة أسهم فلهذا كانت القسمة بينهم على ذلك.
وإذا كان العبد بين رجلين وقيمته مائتا درهم فأدانه أجنبي مائة فحضر الغريم وطلب دينه وغاب أحد الموليين فإن نصيب الغائب لا يقضى فيه بشيء حتى يحضر لما بينا أن كل واحد من الموليين خصم في نصيبه خاصة وأحدهما ليس بخصم عن صاحبه في نصيبه ولكن بيع نصيب الحاضر يتأتى منفردا عن نصيب الغائب فلهذا يباع نصيب الحاضر فإن بيع بمائة درهم أخذها الغريم كلها لأن جميع دينه كان ثابتا في كل جزء من العبد والذي بيع جزء من العبد ولا فضل في ثمنه على دينه فيأخذ جميع ذلك قضاء بدينه فإذا حضر الغائب(25/119)
ص -60- ... كان للذي بيع نصيبه أن يتبعه بخمسين في نصيبه حتى يباع فيه أو بعضه لأن نصف الدين كان قضاؤه مستحقا من نصيب هذا الذي حضر وقد استوفى من نصيب الآخر بغير اختياره أو باختياره ولكنه غير متبرع في ذلك بل كان محتاجا إليه لتخليص ملكه فيرجع على صاحبه في نصيبه بخمسين بمنزلة الوارثين لو اقتسما التركة وغاب أحدهما ثم حضر الغريم واستوفى جميع دينه من نصيب الحاضر كان له أن يرجع على شريكه بنصف ما أخذه الغريم منه فهذا كذلك.
وإذا رجع في نصيبه بخمسين فذلك دين في نصيبه يباع فيه أو يقضيه وكذلك لو كان العبد قتل فأخذ الحاضر نصف قيمته كان للغريم أن يأخذه كله ويرجع المأخوذ منه في نصيب شريكه إذا حضر وقبض لأن الواجب بالقتل بدل العبد كما أن الواجب بالبيع ثمن العبد فيعتبر حكم أحدهما بالآخر.(25/120)
ولو كان العبد بين رجلين فأذنا له في التجارة فلحقه من الدين ألفا درهم لرجلين لكل واحد منهما ألف درهم وفي يده ألف درهم فأخذها أحد الموليين فاستهلكها ومات العبد فللغريمين أن يأخذا المستهلك بالألف فيقتسمانه نصفين لأن حقهما في كسب العبد مقدم على حق الموليين فالمستهلك بمنزلة الغاصب فإن رفعاه في ذلك إلى القاضي فقضى عليه بدفعها إليهما ولم يقبضا شيئا حتى أبرأ أحد الغريمين العبد والموليين من دينه فإن الغريم الآخر يأخذ المستهلك بجميع الألف لأن سبب استحقاق كل واحد منهما لجميع الألف معلوم وإنما كانت القسمة بينهما لأجل المزاحمة فإذا زالت المزاحمة بأن أبرأه أحدهما كان للآخر جميع الألف كالشفيعين إذا أسلم أحدهما الشفعة إلا أن هناك يفصل بين ما قبل القضاء لهما بالدار وما بعد القضاء لأن بالقضاء يتملك كل واحد منهما نصف الدار ومن ضرورته بطلان حق صاحبه عن ذلك النصف وها هنا بالقضاء لا يتملك كل واحد منهما شيئا لم يكن له قبل القضاء فبقي حق كل واحد منهما في جميع الألف بعد القضاء كما قبله وإنما هذا بمنزلة التركة فإن حرا لو مات وترك ألفا وعليه دين لرجلين لكل واحد منهما ألف فقضي القاضي بقسمتها بينهما فلم يقسماها ولم يقبضاها حتى أبرأ أحد الغريمين الميت من دينه كانت الألف كلها للغريم الباقي ولو اقتسماها وقبضاها ثم أبرأ أحدهما الميت من دينه سلم له ما أخذ ولم يكن لصاحبه من ذلك شيء لأن البراءة إسقاط لما بقي من حقه دون ما تم استيفاؤه فكذلك في غريمي العبد لو أخذ الألف من المولى المستهلك ثم أبرأ أحدهما العبد من دينه سلم لكل واحد منهما ما قبض فكذلك في هذه الفصول لو كان مولى العبد واحدا.(25/121)
ولو كان العبد بين رجلين فأذن له أحدهما في التجارة وأقر العبد بألف في يديه أنها وديعة لرجل وأنكر الموليان فالقياس في هذا أن يأخذ المولى الذي لم يأذن له نصف الألف لأن ما في يد العبد كسبه ولكل واحد من الموليين نصفه بطريق الظاهر وإقرار العبد ليس بحجة في نصيب الذي لم يأذن له فيسلم له نصف الألف وهو حجة في نصيب الآذن لوجود الرضا منه(25/122)
ص -61- ... بذلك حين أذن له في التجارة فكان هذا النصف للمستودع ولكنا نستحسن فنجعل الألف كلها للمستودع لأن إذن أحدهما في نفوذ تصرف العبد كإذنهما والإقرار من التجارة فكما ينفذ جميع تجارة العبد بإذن أحدهما فكذلك ينفذ إقراره بإذن أحدهما ويتبين بإقراره أن المال للمودع وإنما يثبت حق الموليين في كسب العبد وإذا ثبت بإقراره أن هذا المال ليس من كسبه كان للمودع كله ولو لم يقر بالوديعة حتى قبض الموليان منه الألف ثم أقر بعد ذلك أنها وديعة لفلان وكذباه لم يصدق على الألف لأن بأخذ الموليين خرج المقبوض من أن يكون كسبا للعبد وصار بحيث لا ينفذ فيه سائر تصرفاته فكذلك لا ينفذ فيه إقراره لأن نفوذ الإقرار باعتبار نفوذ سائر التصرفات بخلاف الأول وهناك المال باق في يده فينفذ فيه تصرفه فينفذ إقراره ويكون الثابت بإقراره كالثابت بالبينة.
ولو شهد الشهود عليه بألف درهم وديعة لهذا الرجل ولكنهم لا يعرفونها بعينها فقال العبد هي هذه الألف كان مصدقا في ذلك فهذا مثله ثم لا شيء عليه في الوديعة إذا كان إقراره بعد أخذ الموليين لأنه لم يتلفظها وإنما أخذها الموليان بغير رضاه ولو أخذها أجنبي منه غصبا وجحدها لم يضمن العبد شيئا فكذلك إذا أخذها الموليان منه.(25/123)
ولو أذن للعبد أحد الموليين في التجارة فأدانه أجنبي مائة وأدانه الذي أذن مائة درهم فإن نصيبه يباع في دين الأجنبي خاصة لأنه لا يستوجب الدين في نصيب نفسه ولا في نصيب شريكه فإن شريكه لم يضمن باستحقاق نصيبه بالدين فلهذا يباع نصيبه في دين الأجنبي خاصة ولو كان أدانه الذي لم يأذن له مائة درهم فإن كان إنما أدانه قبل إدانة الأجنبي فإدانته إذن له في التجارة لأنه معاملة منه مع العبد وقد بينا أن دليل الرضا بتصرفه فإذا أدانه الأجنبي بعد ذلك كان ثمن العبد إذا بيع بينهما أثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله: وأرباعا في قولهما وهي مسألة أول الباب وإن كان أدانه بعد الأجنبي فإنه يباع من العبد نصفه وهو حصة المولى الذي كان أذن له فيضرب فيه الأجنبي بجميع دينه ويضرب فيه المولى الذي أدانه بخمسين فيقتسمان ذلك النصف أثلاثا ولا يلحق حصة الذي أدانه من دين الأجنبي شيء لأن ثبوت الإذن في نصيبه كان ضمنا لإدانته وقد حصل بعد إدانة الأجنبي والدين السابق على الإذن لا يتعلق بمالية العبد وإن وجد الإذن بعد ذلك كالعبد المحجور إذا لحقه دين بتجارته ثم أذن المولى له في التجارة لا يلحقه ذلك الدين ما لم يعتق فهذا كذلك ولما ثبت أن نصيب المدين فارغ عن دين الأجنبي بقي جميع دينه في نصيب الذي أذن له وقد ثبت فيه أيضا من دين المولى الدائن خمسون فلهذا قسم ثمن نصيبه بينهما أثلاثا والله أعلم.
باب العبد المأذون يدفع إليه مولاه ما لا يعمل به
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى عبده مالا يعمل به بشهود وأذن له في التجارة فباع واشترى فلحقه دين ثم مات وفي يده مال ولا يعرف مال المولى بعينه فجميع ما في يد العبد بين غرمائه لا شيء للمولى منه لأن مال المولى كان أمانة في يده وقد مات مجهلا له،(25/124)
ص -62- ... والأمانة بالتجهيل تصير دينا والمولى لا يستوجب على عبده دينا وما في يده كسبه بطريق الظاهر فيكون مصروفا إلى غرمائه ولا شيء للمولى منه إلا أن يعرف شيء للمولى بعينه فيأخذه دون الغرماء لأنه عين ملكه وليس من كسب العبد في شيء وكذلك لو عرف شيء بعينه اشتراه بمال المولى أو باع به مال المولى لأنه بدل ملكه بعينه وحكم البدل حكم المبدل وهذا لأنه يجوز أن تكون عين ملك المولى في يد عبده على سبيل الأمانة كما يجوز أن تكون في يد حر.(25/125)
ولو كان دفعه إلى آخر فمات كان هو أحق بما عرف من ماله بعينه أو ببدله فهذا مثله إلا أن هناك إذا لم يعرف بعينه صار دينا وهو يستوجب الدين على الحر وهنا يصير دينا أيضا ولكن هو لا يستوجب دينا على عبده فيبطل وإذا أقر العبد في حصته بعد ما لحقه الدين بأن هذا المال الذي في يده بعينه هو مال مولاه الذي دفعه إليه لم يصدق على ذلك لأنه تعلق بذلك المال حق غرمائه والمولى يخلف عبده في كسبه خلافة الوارث المورث ثم إقرار المورث لوارثه بعين بعد تعلق الحقوق بها لا يكون صحيحا فكذلك إقرار العبد لمولاه والأصح أن نقول العبد في حق مولاه متهم فيجعل هو في الإقرار له بالعتق بعد تعلق حق الغرماء بالمال بمنزلة المريض يقر لإنسان بعين وعليه ديون في الصحة وهناك لا يصح إقراره في حق غرماء الصحة فهذا كذلك إلا أن يعرفه الشهود بعينه فحينئذ قد ثبت ملكه بحجة لا تهمة فيها أو يقر به للغرماء فيكون الثابت في حقهم بتصديقهم كالثابت بالبينة وهو نظير إقرار المريض المديون بوديعة الأجنبي فإن أقام ذلك الرجل ببينة أنه أودعه عبدا وقبضه المريض إلا أن الشهود لا يعرفون العبد بعينه لم يصدق على الغرماء في استحقاق المقر له ملك العين ولكن إذا مات المريض بيع العبد فيقسم ثمنه بين الغرماء وبين المستودع يضرب فيه المستودع بقيمته لأنه يثبت بالبينة أنه أودعه العبد ولم يصح منه تعيين العبد فقد مات مجهلا له والوديعة بالتجهيل تصير دينا ووجوب هذا الدين بسبب لاتهمة فيه والقول في تلك القيمة إن اختلفوا قول الغرماء مع أيمانهم لإنكارهم الزيادة.
ولو أن العبد أقر بالوديعة بعينها لأجنبي كان إقراره جائزا والأجنبي أحق بها من الغرماء وإن لم يكن له بينة على أصل الوديعة لأنه غير متهم في حق الأجنبي وهذا لأنه مأذون أقر بعين بعد ما لحقه الدين وإقرار المأذون بالدفع بعد ما لحقه دين صحيح فكذا إذا أقر بالعين.(25/126)
ألا ترى أنه لو أقر بدين استحق المقر له مزاحمة سائر الغرماء فكذلك إذا أقر له بعين استحق العين دونهم بخلاف المريض فإنه محجور لحق الغرماء حتى لو أقر بدين لم يصح إقراره في حق غرماء الصحة فكذلك إذا أقر بالدين.
ولو دفع المولى إلى عبده المأذون مالا وأمره أن يشتري الطعام خاصة فاشترى به رقيقا فشراؤه إياه جائز عليه في عتقه لأنه خالف أمر المولى وتنفيذ العقد عليه ممكن لكونه(25/127)
ص -63- ... مأذونا وليس للبائع أن يأخذ الثمن من المال الذي دفعه إليه المولى لأن الثمن فيما اشتراه لنفسه دين في ذمته وإنما يقضي ديونه من كسبه لا من أمانة للمولى في يده.
وكذلك لو لم يكن مأذونا له ولكنه دفع إليه المال وأمره أن يشتري به الطعام لأنه بهذا يصير مأذونا له فقد رضي المولى بنوع من تصرفه فإن نقد الثمن من مال مولاه كان للمولى أن يتبع البائع بذلك المال حتى يسترده منه بعينه أو مثله إن كان هالكا لأنه غاصب في قبضه مال المولى لنفسه على وجه التملك ثم يرجع البائع على العبد لأن قبضه انتقض من الأصل وكان الثمن دينا في ذمة العبد فبقي كما كان وللبائع أن يطالبه بقضاء الدين من كسبه.
ولو أن المولى اشترى متاعا من عبده المأذون بمثل ثمنه فهو جائز لأنه غير متهم في ذلك فإنه ليس في تصرفه إبطال حق الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به وهو كالمريض يبيع عينا من أجنبي بمثل قيمته وعليه ديون الصحة.
فإن قيل: لماذا لم يجعل هذا بمنزلة بيع المريض من وارثه بمثل قيمته حتى لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله: فإن المولى يخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث.
قلنا: منع المريض من هذا التصرف مع الوارث عبده لحق سائر الورثة لأن حقهم متعلق بعين ماله وفي هذا التصرف إيثار بعض الورثة على البعض بالعين فأما ها هنا المنع لحق الغرماء وحق الغرماء في المالية دون العين.
ألا ترى أن للمولى أن يستخلص إكسابه لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر وليس في البيع بمثل القيمة إبطال حقهم عن شيء من المالية فإذا أجاز البيع طالب العبد مولاه بالثمن لحق غرمائه سواء سلم إليه المبيع أو لم يسلم لأن المولى في هذه الحالة كالأجنبي من كسبه لحق غرمائه.(25/128)
ولو حابا فيه بما يتغابن الناس فيه أو بما لا يتغابن الناس فيه فهو سواء ويقال للمولى أنت بالخيار إن شئت فانقض البيع وإن شئت فأد جميع قيمة ما اشتريت وخذ ما اشتريت لأن في المحاباة إبطال حق الغرماء عن شيء من المالية والعبد في ذلك متهم في حق المولى والمحاباة اليسيرة والفاحشة في ذلك سواء كما في حق المرتهن لأن تصرفه ما كان بتسليط من الغرماء وإنما يتخير المولى لأنه يلزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها.
فإن قيل: هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة فالبيع فاسد بمنزلة بيع المريض من وارثه فإن هناك لما تمكنت تهمه الإيثار في تصرفه فسد العقد عنده فكذلك هنا بخلاف البيع بمثل القيمة والأصح أن هذا قولهم جميعا لأن العبد في تصرفه مع مولاه كالمريض المديون في تصرفه مع الأجنبي فإن كان المولى قبضه واستهلكه فعليه كمال القيمة لأن المحاباة لا تسلم له وقد تعذر الرد بالاستهلاك فعليه القيمة والقول قوله في فضل القيمة لأنه منكر للزيادة فالقول قوله مع يمينه إلا أن يقيم الغرماء البينة على أكثر من ذلك.
ولو كان المولى هو الذي باع متاعه من العبد بمثل قيمته أو أقل منها فبيعه جائز لأنه مفيد(25/129)
ص -64- ... فإنه يخرج به من كسب العبد إلى ملك المولى ما كان المولى ممنوعا منه قبل ذلك لحق الغرماء ويدخل به في كسب العبد ما لم يكن تعلق به حق الغرماء وهذا التكلف عندهما فأما عند أبي حنيفة فالمولى لا يملك كسب عبده المديون كما لا يملك كسب مكاتبه فيجوز البيع بينهما وللمولى أن يمنع البيع حتى يستوفي الثمن كما لو باعه من مكاتبه وهذا لأن البيع يزيل العتق عن ملك البائع ولا يزيل ملك اليد ما لم يصل إليه الثمن فيبقى ملك اليد للمولى على ما كان حتى يستوفي الثمن فإن دفع إليه الثمن وقبض ما اشترى فهو جائز ولا سبيل للغرماء على المولى فيما قبض من الثمن لأن المبيع خلف عن الثمن في تعلق حق الغرماء به.
ولو سلم المولى ما باعه إلى العبد قبل أن يقبض الثمن والثمن دين على العبد فقبض العبد لما اشترى جائز وهو للغرماء ولا شيء للمولى من الثمن وعند أبي يوسف قال هذا إذا استهلك العبد المقبوض فإن كان قائما في يده فللمولى أن يسترده حتى يستوفي الثمن من العبد وجه ظاهر الرواية أنه بتسلم المبيع أسقط حقه في الحبس وملك اليد الذي كان باقيا له فلو بقي الثمن بقي دينا في ذمة العبد والمولى لم يستوجب على عبده دينا.
وجه قول أبي يوسف: أنه إنما أسقط حقه في العين بشرط أن يسلم له الثمن ولم يسلم فيبقي حقه في العين على حاله ويتمكن من استرداده ما بقيت العين لأنه يجوز أن يكون له ملك العين فيما في يد عبده فكذلك يجوز أن يكون له ملك اليد فيه فأما بعد الاستهلاك فقد صار دينا.(25/130)
ولو كان الثمن عروضا كان المولى أحق بذلك الثمن من الغرماء لأنه بالعقد ملك العرض بعينه ويجوز أن يكون عين ملكه في عبده وهو أحق به من الغرماء ولو كان المولى باع متاعه من عبده بأكثر من قيمته بقليل أو كثير فالزيادة لا تسلم للمولى لكونه متهما في المعاملة مع المولى بحق الغرماء ويكون المولى بالخيار إن شاء نقض البيع وإن شاء أخذ من العبد قدر قيمة ما باع وأبطل الفضل لأنه ما رضي بخروجه عن ملكه إلا بشرط سلامة جميع الثمن له ولم يسلم.
وإذا خرج العبد إلى مصر فأتجر فيه فلحقه دين ثم قال لم يأذن لي مولاي فلان في التجارة وقال الغرماء قد أذن لك فللغرماء بيع جميع ما في يده في دينهم استحسانا وفي القياس لا يباع شيء مما في يده حتى يحضر المولى فتقوم عليه البينة بالإذن لأن السبب الموجب للحجر عليه وهو الرق معلوم والغرماء يدعون عارض الإذن والعبد ليس بخصم في ذلك ما لم يحضر مولاه وأكثر ما فيه أن تكون معاملته معهم إقرارا منه بأنه مأذون له ولكن إقراره لا يكون حجة على المولى وما في يده من الكسب ملك المولى كرقبته فكما لا تباع رقبته في الدين حتى يحضر المولى فكذلك لا يباع كسبه.
وجه الاستحسان: أن الظاهر شاهد للغرماء لأن استبداد العبد بالتصرف معهم دليل ظاهر على كونه مأذونا ومن حيث العرف الإنسان لا يبعث عبده إلى مصر آخر ما لم يأذن له في(25/131)
ص -65- ... التجارة ولكن هذا الظاهر حجة في دفع الاستحقاق لا في إثبات الاستحقاق وفي حق الرقبة حاجتهم إلى استحقاق ماليتها على المولى والظاهر لا يكفي لذلك فما لم يحضر المولى لا تباع الرقبة فأما في حق الكسب فحاجتهم إلى دفع استحقاق المولى لأن المولى يستحق الكسب من جهة عبده بشرط الفراغ عن دينه.
يوضحه: أن الكسب حصل في يده بسبب معاملته وديونهم وجبت بذلك السبب أيضا فهم أحق بالكسب حتى يستوفوا ديونهم منهم بطريق إقامة البدل مقام المبدل وأما الرقبة فسلامتها للمولى لم يكن بالسبب الذي به وجبت الديون عليه فلهذا لا تباع حتى يحضر مولاه فإن أقام الغرماء البينة أن العبد مأذون له وهو يجحد والمولى غائب لم تقبل بينتهم لخلوها عن الفائدة فإن حقهم ثابت في الكسب من غير بينة والعبد ليس بخصم في حق الرقبة فلو لم تقم البينة على الإذن وأقر به العبد بيع ما في يده أيضا ولم تبع رقبته لأن الخصم في الرقبة المولى وإقرار العبد ليس بحجة على المولى فإن حضر مولاه بعد ما باع القاضي ما في يده فقضاه الغرماء فأنكر أن يكون أذن له في التجارة فإن القاضي يسأل الغرماء البينة على الإذن من المولى لأنهم يدعون عليه الإذن العارض فلا بد أن يقيم البينة عليه فإن أقاموها وإلا ردوا ما أخذوا.
فإن قيل: فأين ذهب قولكم أنهم يستحقون ما في يده باعتبار الظاهر؟
قلنا: نعم ولكن هذا الاستحقاق إنما يكون في حق من لم يثبت له حقيقة الاستحقاق بعد ذلك قبل أن يحضر المولى لأن الملك في رقبته للمولى لا يثبت حقيقة ما لم يحضر فيصدقه في ذلك.
ألا ترى أنه لو حضر وقال هو حر أو ملك فلان لغيره لم يكن له في كسبه سبب الاستحقاق حقيقة فأما بعد ما حضر وادعى رقبته فقد ظهر استحقاقه حقيقة لكسبه فيسقط اعتبار هذا الظاهر بعد هذا ويحتاج الغرماء إلى إثبات السبب الموجب للاستحقاق لهم في كسبه ورقبته على المولى وذلك الإذن فإذا لم يقيموا البينة على ذلك لزمهم رد ما أخذوا.(25/132)
وإذا اشترى العبد من رجل متاعا فقال الرجل للعبد أنت محجور عليك فلا أدفع إليك ما اشتريت مني وقال العبد أنا مأذون لي فالقول في ذلك قول العبد لأن معاملة الرجل معه إقرار منه بصحة المعاملة وكونه مأذونا له في التجارة فإنه لا يحل للرجل أن يعامل عبد الغير إلا أن يكون مأذونا له فهو في قوله أنت محجور عليك مناقض في كلامه ساع في نقض ما تم به فلا يقبل قوله ولا يمين على العبد لأن اليمين تنبني على صحة الدعوى ودعوى الحجر باطلة للتناقض وكذلك لو أقام البينة على ذلك لم يقبل منه ويجبر على دفع ما باع وأخذ الثمن منه كما التزمه بالبيع.
وكذلك لو كان العبد هو البائع فقال المشتري أنت محجور عليك وقال العبد أنا مأذون لي فالقول قول العبد لما بينا ويجبر المشتري على أخذ ما اشترى ودفع الثمن ولا(25/133)
ص -66- ... يمين على العبد ولا تقبل بينة المشتري على أنه محجور عليه ولا على إقرار العبد به عند غير القاضي أنه محجور عليه لأنه مناقض في هذه الدعوى لأنه قد تقدم منه الإقرار بأنه مأذون له وإن أقر العبد بذلك عند القاضي رد البيع لأن المشترى وإن كان مناقضا فقد صدقه خصمه والمناقض إذا صدقه خصمه يقبل قوله.
يوضحه: أن تصادقهما على أنه محجور عليه إقرار منهما ببطلان البيع ولو تقايلا البيع عن تراض جاز فإن حضر المولى بعد ذلك فقال كنت أذنت له في التجارة جاز النقض الذي كان فيما بين البائع والمشتري ولم يلتفت إلى قول المولى لأن تصادقهما على بطلان البيع بمنزلة الإقالة منهما والإقالة من العبد المأذون صحيحة وكذلك إذا قال لم آذن له ولكن أجزت بيعه لم يبطل ذلك النقض لأن تصادقهما على بطلان البيع يوجب انتفاء البيع مأذونا كان أو غير مأذون والإجازة إنما تلحق البيع الموقوف دون المنتقض.
ولو لم يحكم القاضي بنقض البيع حتى حضر المولى فقال كنت أذنت له أو قال لم آذن له ولكني أجزت البيع جاز ذلك البيع لأنهما لو كانا متناقضين في كلامهما فبنفس التكلم لا ينتقض البيع منهما ما لم يتأكد ذلك بقضاء القاضي فإذا كان البيع قائما قبل أن يحكم القاضي بنقضه لحقه الإجازة من جهة المولى وينفذ بإقراره بأنه كان مأذونا وهذا لأنهما ينكران أصل جواز البيع وإنما يجعل ذلك عبارة عن نقض البيع بنوع اجتهاد فأما في الحقيقة فنقض الشيء تصرف فيه بعد صحته وإنكار الشيء من الأصل لا يكون تصرفا فيه بالنقض بعد صحته كما أن إنكار الزوج النكاح لا يكون إقرارا بالطلاق فإذا كان مجتهدا فيه لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي.(25/134)
ولو باع العبد متاعا لرجل ثم قال هذا الذي بعتك لمولاي لم يأذن لي في بيعه وأنا محجور علي وقال المشتري كذبت وأنت مأذون لك فالقول قول المشتري لأن إقدامهما على البيع إقرار منهما بصحته فلا يقبل قول من يدعي بطلانه بعد ذلك وكذلك لو كان العبد هو المشتري ثم قال أنا محجور علي لم يصدق ويجبر على دفع الثمن فإن حضر المولى وقال لم آذن له في شيء فالقول قوله ويرد البيع والشراء لأن الإذن مدعي على المولى وهو ينكر.
وكذلك لو أن عبدا ابتاع من عبد شيئا فقال أحدهما أنا محجور علي وقال الآخر أنا وأنت مأذون لنا فالقول قول الذي يدعي منهما الجواز للبيع والشراء لوجود الإقرار من صاحبه بذلك ولا يمين عليه ولا تقبل بينة الآخر بالحجر ولا على إقراره به عند غير القاضي لكونه مناقضا في دعواه ولو أقر بذلك عند القاضي أخذ بذلك وأبطل البيع بينهما لتصادقهما على بطلان البيع.
وإذا اشترى الرجل وباع ولا يدري أحر هو أو عبد فلحقه دين كثير ثم قال أنا عبد فلان وصدقه فلان وقال هو عبدي محجور عليه وقال الغرماء هو حر فالدين لازم للعبد يباع به(25/135)
ص -67- ... إلا أن يفديه مولاه لأن الظاهر من حال مجهول الحال الحرية وقد ثبت للغرماء حق مطالبته بديونهم في الحال فهو إذا أقر بالرق وصدقه المولى فقد زعما أن حق الغرماء متأخر إلى ما بعد عتقه وذلك غير مقبول منهما في حق الغرماء كما لو ادعى المديون أجلا في الدين ثم ليس من ضرورة ثبوت الرق بإقراره أن تتأخر ديونهم إلى ما بعد العتق بل يجوز أن يكون مطالبا بالدين في الحال وإن كان رقيقا كالعبد المأذون أو المحجور في دين الاستهلاك فهو نظير مجهولة الحال إذا أقرت بالرق لا يقبل إقرارها في إبطال النكاح لهذا المعنى وإذا بقي مطالبا في الحال بالدين وهو رقيق بيع فيه إلا أن يفديه مولاه لأنه ظهر وجوب هذا الدين في حق المولى والدين لا يجب على العبد إلا شاغلا مالية رقبته.
ولو جنى عبده جناية بإقرار أو ببينة ثم قال أنا عبد فلان فصدقه فلان بذلك وقال ولي الجناية بل هو حر فهو عبد لفلان ولا حق لأصحاب الجناية في رقبته لأنهم ينكرون تعلق الجناية برقبته ويزعمون أن حقهم على عاقلته ولا يعرف له عاقلة ثم بين ثبوت الرق بإقراره ووجوب أرش الجناية على عاقلته منافاة وبين حريته كما زعموا واستحقاق رقبته بالجناية منافاة والمتنافيان لا يجتمعان وإقرار صاحب الحق معتبر في حقه لا محالة فإذا أقر أنه حر لم يكن له على أخذ الرقبة سبيل بخلاف الأول فالدين هناك واجب عليه حرا كان أو عبدا إلا أنه إذا ثبت رقه يستوفي الدين من مالية رقبته أو من كسبه وقد ثبت رقه بإقراره.(25/136)
وكذلك عبد مأذون عليه دين فقال غرماؤه لمولاه قد أعتقته وقال المولى لم أعتقه فإن العبد يباع للغرماء لأنهم يدعون العتق والضمان على المولى والمولى منكر فإذا لم يثبت عتقه بقي مستحق البيع في الدين كما كان ولو كان جنى جناية فقال أصحاب الجناية للمولى قد أعتقته وقال المولى لم أعتقه فالعبد عبد المولى على حاله لإنكاره العتق ولا شيء لأصحاب الجناية لأنهم يزعمون أنه لم يبق لهم حق قبل العبد وإنما حقهم قبل المولى وهو الفداء إذا كان عالما والقيمة بالاستهلاك إذا لم يكن عالما ولا يستحقون ذلك على المولى إلا بإقامة البينة على العتق وسقط حقهم عن العبد لإقرارهم بأنه لا حق لهم في رقبته بخلاف الدين فهناك ما أقروا بسقوط حقهم عن ذمة العبد بالعتق.
ألا ترى أن ما ادعوا من العتق لو كان ظاهرا بقي الدين بعده في ذمة العبد وللغرماء أن يطالبوه بجميع ذلك وفي الجناية لو كان العتق ظاهرا فرغ به العبد من الجناية فلا يكون للأولياء عليه سبيل بعد ذلك فكذلك إذا ثبت ذلك في حق الأولياء بإقرارهم والله أعلم.
باب إقرار العبد المأذون بالدين
قال رحمه الله: وإذا أقر المأذون بالدين من غصب أو غيره لزمه صدقه المولى أو لم يصدقه لأن الغصب يوجب الملك في المضمون عند أداء الضمان فالضمان الواجب به من جنس ضمان التجارة وإقرار المأذون بمثله صحيح ولهذا لو أقر به أحد المتفاوضين كان شريكه مطالبا وكذلك لو أقر أنه اشترى جارية فوطئها فوجوب العقر هنا باعتبار الشراء لولاه(25/137)
ص -68- ... لكان الواجب الحد وكذلك لو غصب جارية بكرا فافتضها رجل في يده ثم هرب كان لمولاه أن يأخذ العبد بعقرها لأن الفائت بالافتضاض جزء من ماليتها وهي مضمونة على العبد بجميع أجزائها فإذا فات جزء منها في ضمانه كان عليه بدل ذلك الجزء وهو مؤاخذ به في الحال إما لأنه ضمان غصب والعبد مؤاخذ بضمان الغصب في الحال مأذونا كان أو محجورا أو لأن هذا من جنس ضمان التجارة.
ولو أقر العبد أنه وطىء جارية هذا الرجل بنكاح بغير إذن مولاه فافتضها لم يصدق لأنه ليس من التجارة ولهذا لو أقر به أحد المتفاوضين لم يلزم شريكه فإن صدقه مولاه بذلك بدئ بدين الغرماء لأن تصديق المولى في حق الغرماء ليس بحجة فوجوده كعدمه فإن بقي شيء أخذه مولى الجارية من عقرها لأن الباقي حق مولى العبد وتصديق مولى العبد في حقه معتبر ولو كان هذا السبب معاينا كان لمولى الجارية أن يأخذ عقرها من كسبه في الحال فكذا إذا ثبت بتصادقهما عليه.
ولو تزوج العبد المأذون وعليه دين امرأة بإذن مولاه كانت المرأة أسوة الغرماء بمهرها وبما يجب لها من النفقة وهذا لأن النكاح بإذن المولى صحيح مع قيام الدين عليه فإن الدين لا يزيل ملكه عن رقبته وإنما تثبت ولاية التزويج باعتبار ملكه ثم في النكاح منفعة الغرماء لأنه يستعف به والمرأة تعينه على الاكتساب لقضاء الدين فظهر وجوب الدين بهذا السبب في حق الغرماء فلهذا كانت المرأة أسوة الغرماء بمهرها ونفقتها.(25/138)
ولو كان العبد أقر أنه وطئها بنكاح وجحد المولى أن يكون أذن له في ذلك لم يؤخذ بالمهر حتى يعتق لأن انفكاك الحجر عنه في التجارة والنكاح ليس بتجارة فالمأذون فيه والمحجور سواء ولو أقر المحجور بذلك وكذبه المولى لم يؤاخذ بشيء حتى يعتق وكذلك لو أقر أنه وطىء أمة بنكاح فافتضها بإذن مولاه أو بغير إذن مولاه ومولاه يجحد ذلك فإقراره بهذا لا يكون حجة على المولى ولا يظهر الدين به في حق المولى لأنه لولا النكاح لكان الواجب عليه الحد سواء كانت الموطوءة حرة أو أمة فلهذا لا يطالب بشيء حتى يعتق.
وكذلك لو أقر أنه افتضها بأصبعه غاصبا كان إقراره باطلا في قياس قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه بمنزلة الجناية فإنه إقرار بإتلاف جزء من الآدمي فهو كإقراره بقطع يدها أو رجلها وفي قول أبي يوسف رحمه الله: إقراره جائز ويضرب مولاها بمهرها مع الغرماء لأنه إقرار بدين الاستهلاك والفائت بهذا الفعل جزء من المالية.
ألا ترى أن هذا السبب لو كان معاينا يباع ولا يدفع به وإقرار المأذون بدين الاستهلاك صحيح في مزاحمة الغرماء وفي حق المولى وقد بينا المسألة في كتاب الإقرار فإن كان أقر أنه غصبها ثم افتضها بأصبعه فإن اختار المقر له التضمين بالغصب كان الإقرار صحيحا لأن ضمان الغصب من جنس ضمان التجارة فالإقرار به صحيح ويجعل في الحكم كان غيره فعل بها ذلك في ضمان العبد وإن اختار التضمين بالافتضاض فهو على الخلاف عند أبي حنيفة(25/139)
ص -69- ... ومحمد رحمهما الله الإقرار باطل وعند أبي يوسف رحمه الله: هو صحيح كما بينا.
وإذا كان على المأذون دين كثير فأقر بدين لزمه ذلك وتخاصموا فيه لأنه مطلق التصرف ما دام مأذونا وإن لحقه الدين فإقراره يكون حجة بمنزلة البينة في إثبات المزاحمة للمقر له مع سائر الغرماء وهذا لأن الإقرارين متى جمعهما حالة واحدة يجعلان كأنهما كانا معا وكما وجب تصحيح إقرار المأذون في حق المولى لحاجته إلى ذلك في تجارته يجب تصحيحه في حق غرمائه لأن الناس إذا علموا أن إقراره لهم لا يصح بعد لحوق الدين تحرزوا عن معاملته.
ولو أقر بشيء بعينه في يديه أنه لفلان غصبه منه أو أودعه إياه وعليه دين كثير بدئ بالذي أقر بعينه لأن إقراره بالعين صحيح ما دام مأذونا ويكون الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة وبين أن المقر به ليس من كسبه فلا يتعلق به حق غرمائه وإن أتى ذلك على ما في يده.
ولو أقر بعبد في يده أنه ابن فلان أودعه إياه أو قال هو حر لم يملك فالقول قوله لأنه نفى ملكه عن هذا العين ولم يظهر له فيه سبب الملك فإن الظاهر كونه في يده واليد في الآدمي لا تكون دليل الملك.
ألا ترى أن من في يده لو ادعى ذلك وقال لست بملك له بل أنا حر كان القول قوله ولا سبيل للغرماء عليه فكذلك إذا أقر به المأذون.(25/140)
ولو اشترى المأذون من رجل عبدا ونقده الثمن وعليه دين أو لا دين عليه ثم أقر أن البائع أعتق هذا العبد قبل أن يبيعه إياه وأنه حر الأصل وأنكر البائع ذلك فالعبد مملوك على حاله لأن سبب الملك للمأذون فيه قد ظهر وهو شراؤه وانقياد العبد له عند الشراء إقرار منه بأنه مملوك حتى لو ادعى بعد ذلك أنه حر الأصل وأن البائع أعتقه لم يقبل قوله فيه إلا بحجة فإقرار المأذون بذلك بعد ظهور سبب الملك له فيه مع إنكار البائع بمنزلة إعتقاقه إياه والمأذون لا يملك الإعتاق فلا يقبل قوله فيما يوجب العتاق له لأن كل واحد من الكلامين إبطال للملك بعد ظهوره في المحل بظهور سببه بخلاف الأول فالذي ظهر للمأذون هناك اليد في العبد وهو ليس بدليل الملك فيكون كلامه إنكارا لتملكه لا إبطالا للملك الثابت فيه.
وكذلك لو أقر بالتدبير من البائع أو كانت جارية فأقر بولادتها من البائع لأن التدبير والاستيلاد يوجب حق العتق للمملوك والعبد ليس من أهل إيجابه فلا يصح إقراره به لحقيقة العتق فإن صدقه البائع انتقض البيع بينهما ورجع بالثمن عليه لأنهما تصادقا أن البيع كان باطلا بينهما وهما يملكان نقض البيع باتفاقهما بالإقالة فيعمل بعد تصادقهما على بطلانه ويرجع العبد بالثمن عليه والحرية أو حق الحرية يثبت للمملوك بعد تصديق البائع من جهته والبائع أهل لإيجاب ذلك بأن يشتريه من العبد ثم يعتقه بخلاف الأول فهناك البائع منكر والبيع بينهما صحيح باعتبار الظاهر فلو ثبتت الحرية أو حقها للمملوك فإنما تثبت من جهة المأذون وهو ليس بأهل لذلك.(25/141)
ص -70- ... ولو أقر المأذون أن البائع كان باعه من فلان قبل أن يبيعه منه وقبضه فلان منه ونقده الثمن وجاء فلان يدعي ذلك فهو مصدق على ذلك ويدفع العبد إلى المقر له لأن كلامه إقرار بالملك في العبد للمقر له وهو من أهل أن نوجب الملك له فيه بطريق التجارة فيكون قوله مقبولا في الإقرار بالملك له وإنما يثبت الملك للمقر له ها هنا من جهة العبد بمنزلة ما لو أقر له بالملك مطلقا بخلاف الأول فكلامه هناك إبطال للملك والعبد ليس من أهله ثم لا يرجع على البائع بالثمن إلا ببينة يقيمها على ما ادعى أو يقر البائع به أو يأبى اليمين لأن إقراره ليس بحجة على البائع والبائع مستحق الثمن باعتبار صحة البيع ظاهرا فلا يبطل استحقاقه إلا بالبينة أو بإقراره أو بما يقوم مقام إقراره وهو النكول.
فإن قيل: كيف تقبل البينة من المأذون أو يحلف البائع على دعواه وهو مناقض في هذه الدعوى لأن إقدامه على الشراء إقرار منه بالملك لبائعه وبصحة البيع فقوله بعد ذلك بخلافه يكون تناقضا؟.
قلنا: لا كذلك بل هذا إقرار منه أن البائع بسبيل من بيعه لأنه وكيل المشتري أو بائع له بغير أمر المشتري على أن يجيزه المشتري فإذا أبى أن يجيزه كان له أن يرجع بالثمن عليه فلهذا قبلنا بينته على ذلك وحلفنا البائع لأنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر استحلفه عليه.(25/142)
ولو باع العبد جارية من رجل وقبضها ذلك الرجل بمحضر من الجارية ولا يدري ما حالها فادعى رجل أنها ابنته وصدقه بذلك المشتري والعبد فالجارية ابنة الرجل وترد إليه ولا ينتقض البيع فيما بينهما لأنها مملوكة للمشتري بما جرى من البيع بينه وبين العبد وقد أقر أنها حرة بنت المدعي وإقراره بذلك صحيح في ملكه لأنه يملك إيجاب الحرية فيها من قبله فيصح الإقرار به أيضا ولا ينتقض البيع فيما بينهما لأن المأذون قد استحق الثمن عليه فلا يقبل قوله في إبطال ملكه عن الثمن من غير أن يعود إليه بمقابلته شيء وهذا لأن الجارية لما انقادت للبيع والتسليم فذلك إقرار منها أنها كانت مملوكة للعبد حتى لو ادعت الحرية بعد ذلك لا يقبل قولها إلا بحجة فإقرار العبد بعد ذلك أنها كانت حرة الأصل يكون إبطالا لملكه الثابت فيها ظاهرا وقوله في ذلك غير مقبول وليس من ضرورة ثبوت النسب والحرية لها بتصديق المشتري رجوعه على العبد بالثمن.
ولو كان اشتراها من رجل وقبضها منه فأقر البائع بذلك أيضا انتقضت البيوع كلها ويرجعوا بالثمن لأن بائعها من العبد أهل لإيجاب الحرية لها في ملكه فيصح إقراره بحريتها ويكون هذا تصادقا منه على بطلان البيع جميعا وهم متمكنون من ذلك بنقض البيعين بالإقالة فيعمل تصادقهم على إبطالها ويرجع بالثمن بعضهم على البعض بخلاف الأول فهناك لو عمل تصديق العبد كانت الحرية لها من جهته وكسب المأذون لا يحتمل ذلك.
ولو كان المأذون اشتراها من رجل بمحضر منها وقبضها وهي ساكتة لا تنكر ثم باعها من رجل وقبض الثمن ثم ادعى أجنبي أنها ابنته وصدقه في ذلك المأذون والجارية والمشتري،(25/143)
ص -71- ... وأنكر ذلك البائع من العبد فالجارية حرة بنت الذي ادعاها بإقرار المشتري ولا يبطل البيع الذي كان بين العبد وبين المشتري الآخر لما بينا أن المشتري من العبد يملك إيجاب الحرية فيها فيعمل تصديقه للأجنبي في ملكه والعبد لا يملك ذلك في كسبه فلا يعمل تصديقه في ذلك.
وكذلك لو ادعى المشتري الآخر أن الذي باعها من العبد كان أعتقها قبل أن يبيعها أو دبرها أو ولدت وصدقه العبد بذلك فإقرار المشتري من العبد بذلك صحيح لتمكنه من إيجاب الحرية أو حق الحرية لها وتصديق العبد إياه بذلك باطل فإن كان أقر بالحرية فهي حرة موقوفة الولاء لأن المشتري ينفي ولاءها عن نفسه ويزعم أن البائع الأول أعتقها وهو منكر لذلك فتكون موقوفة الولاء ولو كان أقر فيها بتدبير أو ولادة فهي موقوفة في ملك المشتري الآخر فإذا مات البائع الأول عتقت لأن المشتري الآخر مقر بأن عتقها تعلق بموت البائع الأول والبائع الأول مقر أن إقرار المشتري الآخر فيها نافذ لأنها مملوكة له ولا يرجع بالثمن على العبد حتى يعتق فيرجع به عليه حينئذ لأنه بالتصديق صار مقرا بوجوب رد الثمن عليه ولكن لم يصح إقراره بهذا مع قيام الرق لحق مولاه وغرمائه فإذا زال ذلك بالعتق كان مأخوذا به كما لو أقر بكفالة أو مهر.
وكذلك لو كان المأذون منكرا لجميع ذلك إلا أنه لا يرجع عليه بالثمن في هذا الفصل بعد العتق أيضا لأن المشتري يدعي وجوب رد الثمن عليه وهو منكر لذلك فما لم يثبت المشتري دعواه بالحجة لا يرجع عليه بخلاف الأول فهناك العبد مصدق له مقر بوجوب رد الثمن عليه بسبب لا يحتمل الفسخ فيجعل كالمجدد للإقرار به بعد العتق فيرجع عليه بالثمن.(25/144)
ولو كان المشتري الآخر ادعى أن الذي باعها من العبد كان كاتبها قبل أن يبيعها وصدقه المأذون في ذلك أو كذبه وادعت الأمة ذلك لم تكن مكاتبة وهي أمة للمشتري يبيعها إن شاء لأن الكتابة تحتمل الفسخ وقد عجزت هي عن أداء بدل الكتابة بجهالة من يؤدي البدل إليه لأن المشتري الآخر يزعم أنها مكاتبة للبائع الأول وأنه لا ينفعها دفع البدل إليه والبائع الأول ينكر ذلك ويزعم أنها مكاتبة للمشتري الآخر بإقراره فصارت كما لو عجزت عن أداء البدل لعدم ما تؤدي البدل به في يدها وذلك موجب انفساخ الكتابة فإذا انفسخت كانت أمة فالمشتري يبيعها إن شاء.
وإن كان على المأذون دين فأقر بشيء في يده أنه وديعة لمولاه أو لابن مولاه أو لأبيه أو لعبد له تاجر عليه دين أو لا دين عليه أو لمكاتب مولاه أو لأم ولده فإقراره لمولاه ولمكاتبه وعبده وأم ولده باطل لأن حق غرمائه تعلق بكسبه والمولى يخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث فكما أن إقرار المريض لوارثه أو لعبده أو لمكاتبه لا يصح لكونه متهما في ذلك فكذلك إقرار العبد لمولاه لأن سبب التهمة بينهما قائم وكذلك لعبد مولاه أو لأم ولده فإن كسبهما لمولاه وكذلك إقراره لمكاتب مولاه لأن للمولى في كسب المكاتب حق(25/145)
ص -72- ... الملك فأما إقراره لابن مولاه أو لابنه فجائز لأنه ليس للمولى في ملكهما ملك ولا حق ملك.
ألا ترى أن المريض إذا أقر لأبي وارثه أو لابن وارثه جاز إقراره لهذا المعنى وإذا صح الإقرار صار المقر به بعينة ملكا للمقر له فلا يتعلق به حق غرمائه كما لو أقر به لأجنبي ولو لم يكن على العبد دين كان إقراره جائزا في ذلك كله لأنه لاتهمة في إقراره فإنه لا حق لأحد في كسبه وإن لحقه دين بعد ذلك لا يبطل حكم ذلك الإقرار بمنزلة الصحيح إذا أقر بعين لوارثه ثم مرض ومات فإقراره يكون صحيحا.
وإن كان أقر بدين لأحد منهم ثم لحقه دين بعد ذلك لم يكن للمقر له شيء إن كان هو المولى أو أم ولده أو عبده الذي لا دين عليه لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا فإقراره له ما كان ملزما إياه شيئا بخلاف إقراره له بالعين فقد يجوز أن يكون للمولى عين في يد عبده وأم ولده وعبده الذي لا دين عليه كسبهما للمولى فالإقرار لهما كالإقرار للمولى فإن كان عليه دين أو كان أقر لمكاتب مولاه أو لابنه ثم لحقه دين اشتركوا في ذلك لأن المقر له ها هنا ممن يستوجب الدين على العبد وقد صح إقراره له لانتفاء التهمة حين لم يتعلق حق أحدهما بماله فهو كما لو أقر لأجنبي ثم لحقه دين آخر فيشتركون في كسبه.(25/146)
وإذا أقر المأذون لابنه وهو حر أو لابنه أو لزوجته وهي حرة أو لمكاتب ابنه أو لعبد ابنه وعليه دين أو لا دين عليه وعلى المأذون دين أو لا دين عليه فإقراره لهؤلاء باطل في قول أبي حنيفة وفي قولهما إقراره لهؤلاء جائز ويشاركون الغرماء في كسبه وهذا لأن كسب المأذون فيه حق غرمائه أو حق مولاه وإقراره عند أبي حنيفة لمن لا تقبل شهادته في حق الغير باطل لو كان حرا فكذلك إذا كان عبدا وفي قولهما إقراره لهؤلاء جائز بمنزلة إقراره لأخيه وأصل المسألة في إقرار أحد المتفاوضين لأبيه أو لابنه بدين أو وديعة لأنه لا يجوز على شريكه في قول أبي حنيفة رحمه الله: وهو جائز في قولهما وقد بيناه في كتاب الإقرار والشركة أو هو بناء على بيع الوكيل ممن لا تقبل شهادته له بمثل القيمة أو بالمحاباة وقد بيناه في كتاب البيوع.
وإذا كان على العبد المأذون دين فأذن لجارية له في التجارة فلحقها دين ثم أقرت له بوديعة في يدها لم تصدق على ذلك لأن المأذون في حقها بمنزلة المولى في حق المأذون وقد بينا أن إقرار المأذون المديون لمولاه بعين في يده غير صحيح فكذلك إقرارها له ولأنها مملوكة للمولى إذا لم يكن على المأذون دين بالاتفاق فإقرارها له بالوديعة إقرار لعبد مولاها وإقرار المأذون لعبد مولاه باطل وإن أقر العبد لها بوديعة في يده صدق على ذلك بمنزلة إقرار المولى لعبده بعين في يده فإنه يكون صحيحا ويستوي إن كان على المأذون دين أو لم يكن فتكون هي أحق به من الغرماء.(25/147)
ص -73- ... فإن قيل: هي مملوكة للمولى المأذون فإقراره لها كإقراره لأمة مولاه فينبغي أن لا يصح إذا كان على المأذون دين.
قلنا: نعم ولكن إن صح لم يكن عليها دين فجميع ما أقر لها به قد يعود إليه ويكون مصروفا إلى غرمائه كسائر إكسابها فلا يكون في هذا الإقرار إبطال حق الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به ولا إبطال حق المولى بخلاف إقراره لأمة مولاه فليست من كسبه لأن فيه إبطال حق الغرماء عما أقر به لها.
وإن كان عليها دين فإقراره لها يكون إقرارا لغرمائها وإقرار المأذون لغرمائها صحيح لأنهم منه بمنزلة الأجانب فلهذا جاز إقراره لها بخلاف إقرارها لأنه إذا صح إقرارها له يخرج المقر به من أن يكون كسبا لها ويبطل حق غرمائها عنه فلهذا لا يحكم بصحته وكذلك إن أقر لها بدين إلا أن في الإقرار بالدين هي تشارك غرماء المأذون في كسبه وفي الإقرار بالعين هي أولى بالعين من غرماء المأذون فإن كان بعض غرمائها مكاتبا للمولى أو عبدا مأذونا له في التجارة وعليه دين فإن كان العبد المقر لا دين عليه فإقراره لها بالدين والوديعة صحيح بمنزلة إقراره بذلك لغرمائها وإن كان عليه دين فإقراره لها باطل لأنه لو جاز ذلك شارك المكاتب والعبد بدينهما سائر غرمائه فيه وإقراره لمكاتب مولاه أو لعبد مولاه باطل إذا كان عليه دين فكذلك إقراره بما يوجب الشركة لهما يكون باطلا.
ألا ترى أن رجلا لو مات وعليه دين لقوم شتى ثم حضر رجل آخر الموت فأقر للميت بوديعة ألف درهم في يده أو بدين ثم مات وبعض غرماء الميت الأول أحد ورثة الآخر كان إقراره باطلا لأنه لو صح إقراره ثبتت لوارثه الشركة في المقر به ولو كان بعض غرماء الجارية أبا للمولى أو ابنه فأقر لهما العبد بوديعة أو دين وعلى العبد دين فإقراره جائز لأن إقرار المأذون لأب مولاه أو ابنه بالدين والعين صحيح فكذلك إقراره بما تثبت فيه الشركة لهما.(25/148)
ولو كان بعض غرمائها أب العبد أو ابنه وعلى العبد دين أو لا دين عليه فإقراره في قياس قول أبي حنيفة باطل وهو جائز في قولهما وهذا بناء على الأول في أنه لو أقر لأبيه أو لابنه بدين أو عين لم يجز عند أبي حنيفة فكذلك إقراره بما يوجب الشركة لهما في المقر به وكذلك لو كان بعض غرمائها مكاتبا لأبي العبد المأذون أو لابنه ولو كان بعض غرمائها أخا للعبد كان إقراره لها جائزا لأنه لا تهمة في إقراره لأخته فكذلك لا تهمة في إقراره لها وإن كان يثبت فيه الشركة لأخته.
وإذا أقر المأذون وعليه دين أو لا دين عليه بدين كان عليه وهو محجور عليه من قرض أو غصب أو وديعة استهلكها فصدقه رب المال بذلك أو كذبه وقال ذلك بعد ما أذن لك مولاك في التجارة فالقول قول المقر له والمال لازم للعبد إذا لم يصدقه المقر له أنه كان في حالة الحجر لأنه من أهل التزام المال بالإقرار في الحال وقد أضاف الإقرار إلى حالة لا تنافي(25/149)
ص -74- ... وجوب المال عليه فإن المال بهذه الأسباب يجب على المحجور عليه وإن تأخر إلى عتقه فلم يكن هو في هذه الإضافة منكرا وجوب المال عليه بل هو مدع أجلا فيه إلى وقت عتقه فإن صدقه المقر له بذلك لم يؤخذ بشيء منه حتى يعتق إلا بالغصب خاصة فضمان الغصب يلزمه في الحال وإن كذبه المقر له أخذ بالمال في الحال لأن ما ادعى من الأجل لم يثبت عند تكذيب المقر له فكأنه ادعى الأجل إلى شهر في دين أقر به مطلقا وقيل في القرض والوديعة التي استهلكها هذا الجواب على قول أبي حنيفة ومحمد فأما عند أبي يوسف فيؤاخذ به في الحال وإن صدقه كما في الغصب وقد بينا المسألة في الوديعة وكذلك الصبي والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء وقد أذن له في التجارة فيقر بنحو ذلك لأن الإذن لهما في التجارة صحيح وإقرارهما بعد الإذن نافذ كإقرار العبد وكما ينفذ إقرارهما بعد البلوغ عن عقل إلا أنهما لا يؤاخذان بالقرض والوديعة المستهلكة إذا صدقهما المقر له في ذلك بعد الكبر والإفاقة لأن الثابت بإقرارهما كالثابت بالمعاينة وقد طعن عيسى رحمه الله: في مسألة الصبي فقال هذا في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف صحيح وهو خطأ في قول محمد على قياس مسألة الإقرار إذا أسلم حربي ثم قال لرجل غصبتك ألف درهم في دار الحرب وأنا حربي فاستهلكتها وقال الرجل غصبتها في دار الإسلام فالقول قول الحربي في قول محمد.(25/150)
وكذلك إذا قال المولى لمعتقه: أخذت منك ألف درهم في حال ما كنت عبدي فاستهلكتها وقال العبد بل أخذتها بعد العتق فالقول قول المولى عند محمد لأنه ينكر وجوب الضمان عليه أصلا بإضافته الإقرار إلى الحالة التي أضاف إليها فكذلك الصبي والمعتوه فإنهما ينكران وجوب المال عليهما أصلا بالإضافة إلى حالة الحجر فينبغي أن لا يجب المال عليهما عند محمد وإن كذبهما المقر له في الإضافة ولكنا نقول الأصح أن محمدا رحمه الله: يفرق بين هذه الفصول فإن في مسألة الحربي لا يجب عليه رد ما أخذه حال كونه حربيا وإن كان غاصبا ذلك.
وكذلك في مسألة المولى لا يلزمه رد ما أخذه من العبد في حال قيام رقه وإن كان غاصبا ذلك فإنما أقر بمال لو علم صدقه لم يجب عليه رده قبل تبدل الحال فلا يكون إقراره ملزما شيئا والصبي أقر بما كان يجب رده لو كان معلوما حال قيام عينه لأن ما استقرضه الصبي أو أخذه وديعة يجب رده ما دام قائما بعينه فلا يخرج إقراره بهذه الإضافة من أن يكون ملتزما في الأصل فلهذا يلزمه الضمان إذا كذبه المقر له في الإضافة كما في فصل العبد فإن أقاما البينة أنهما فعلا ذلك قبل أن يؤذن لهما في التجارة وأقام المقر له البينة أنهما فعلا ذلك بعد ما أذن لهما في التجارة فالبينة بينة المقر له لأن في بينته إلزام المال والبينات لذلك شرعت ولأنه أثبت بقاء العين في يدهما بعد ما أذن لهما في التجارة وذلك يدفع بينتهما على استهلاك العين قبل أن يؤذن لهما في التجارة فلهذا كان القول قوله والبينة بينته وإذا أذن لعبده في التجارة ثم حجر عليه ثم أذن له بعد ذلك ثم أقر أنه كان استقرض من هذا الرجل(25/151)
ص -75- ... ألف درهم في حال إذنه الأول وقبضها منه أو أنه كان استودعه في حال إذنه الأول ألف درهم فاستهلكها أو ما أشبه ذلك فصدقه رب المال أو كذبه فالمال لازم للعبد في الوجوه كلها ويحاص به غرماءه المعروفين لأنه أقر وهو من أهل التزام المال بالإقرار في الحال وأضاف الإقرار إلى حالة لا تنافي وجوب الضمان عليه بذلك السبب في الحال فهو بمنزلة إقراره بالدين مطلقا في المحاصة مع الغرماء فكذلك الصبي والمعتوه في نحو هذا بخلاف الأول فهناك أضاف الإقرار إلى حالة تنافي وجوب المال بذلك السبب على الصبي والمعتوه أصلا وعلى العبد ما لم يعتق فلهذا فرقنا بين تصديق المقر له في ذلك وتكذيبه هناك وسوينا بينهما ها هنا ولو أذن لعبده في التجارة ثم حجر عليه فأقر بعد الحجر بغصب اغتصبه في حال إذنه أو بقرض أو بوديعة أو مضاربة استهلكها في حال إذنه فكذبه المولى ولا مال في يد العبد لم يصدق حتى يعتق لأنه حين أقر فهو محجور عن الإقرار وإقراره ليس بحجة في حق المولى فلا يثبت به الدين في حق المولى إذا كذبه ولكن إقراره حجة في حق نفسه فإذا سقط حق المولى عنه بالعتق كان مؤاخذا به فإن لم يعتق حتى أذن له المولى مرة أخرى سأله القاضي عما كان أقر به فإن أقر به بعد الإذن الأخير أخذ به لأن إقراره الأول في حالة الحجر كالمعدوم في حق المولى فكأنه ما أقر به حتى الآن وهو منفك الحجر عنه حين أقر به الآن.(25/152)
وإن أنكر ذلك أو قال لم يكن إقراري ذلك بحق وإن كنت أقررت به في تلك الحالة لم يؤخذ به لأنه لم يوجد بعد انفكاك الحجر منه إقرار ملزم في حق المولى وإقراره في حالة الحجر مما كان ملزما في حق المولى فأكثر ما فيه أنه ظهر ذلك بقوله الآن ولو كان ظاهرا عند القاضي بأن كان في مجلسه في حالة الحجر لم يؤاخذ به في الإذن الآخر ما لم يعتق فكذلك إذا ظهر بقوله الآن والصبي والمعتوه في ذلك كالعبد ولو لم يكن أقر في حال حجره ولكن أقر في حال إذنه الآخر أنه كان قد أقر وهو محجور عليه أنه غصب من هذا الرجل ألف درهم في حال إذنه الأول أو أنه أخذ منه ألف درهم وديعة أو مضاربة فاستهلكها وصدقه رب المال بذلك لم يلزمه حتى يعتق لأن بتصادقهما ظهر إقراره في حالة الحجر.
ولو كان إقراره في حالة الحجر معلوما للقاضي لم يقض عليه بشيء حتى يعتق فكذلك إذا ظهر ذلك بتصادقهما ولو قال: المقر له قد أقررت لي بذلك في حال إذنك الأول أو قال في حال إذنك الآخر فالقول قول المقر له لما بينا أن العبد أضاف الإقرار إلى حال لا ينافي التزام المال بالإقرار وإن كان يتأخر إلى العتق فكان مدعيا للأجل لا منكرا للمال فإذا كذبه المقر له فيما ادعى من الأجل أخذ بالمال في الحال وإن أقاما البينة على ذلك فالبينة بينة المقر له أيضا لأن في بينته إثبات الملك في الحال ولأنه لا منافاة بين البينتين فيجعل كأن الآمرين كانا وكأنه أقر بذلك قبل الحجر وأقر به بعد الحجر أو أقر به بعد الحجر وأقر به في الإذن الآخر أيضا.(25/153)
ص -76- ... ولو كان ذلك من الصبي والمعتوه لم يلزمهما ذلك بإقرارهما كما لزم العبد بإقراره من غير بينة لأنهما أضافا الإقرار إلى حالة معهودة تنافي صحة إقرارهما أصلا فكانا منكرين للمال بخلاف العبد فهو إضافة الإقرار إلى حالة الحجر وذلك لا ينافي صحة الإقرار في حقه فإن قامت البينة للمقر له على إقرارهما به في حالة الإذن الأول أو في حالة الإذن الآخر أخذا بذلك لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وإذا أذن لعبده في التجارة ثم حجر عليه ثم أذن له وفي يده ألف درهم يعلم أنها كانت في حال الإذن الأول في يده فأقر أنها وديعة لفلان فهو مصدق في قول أبي حنيفة وكذلك لو أقر بألف في يده أنه غصبها من فلان في حالة الإذن الأول فهو مصدق في قول أبي حنيفة وقالا لا يصدق العبد على الألف وهي للمولى ويتبع المقر له العبد بما أقر له به في رقبته فيبيعه فيه.
وكذلك لو أقر بها بعد ما لحقه الدين في الإذن الثاني فالألف للمقر له في قول أبي حنيفة رحمه الله: وعندهما هي للمولى وأصل هذه المسألة فيما إذا حجر المولى على عبده المأذون وفي يده مال فلم يأخذ المال من يده حتى أقر العبد بذلك المال بعينه لإنسان أو أقر بدين له على نفسه فإقراره جائز عند أبي حنيفة وعندهما إقراره باطل وما في يده للمولى لأن صحة إقراره في حق المولى باعتبار الإذن وقد ارتفع بالحجر فهو كما لو كان محجورا عليه في الأصل فأقر بعين في يده لإنسان أو بدين وهناك إقراره في حق المولى باطل.
يوضحه: أن إقراره معتبر كسائر تصرفاته ولو أنشأ تصرفا آخر فيما في يده بعد الحجر لم ينفذ ذلك منه فكذلك إذا أقر به.(25/154)
يوضحه: أن الحجر عليه لما كان منعا له من التجارة فيما في يده كان قائما مقام أخذ المال منه ولو أخذ المال منه لم يصح إقراره فيه بعد ذلك فكذلك إذا حجر عليه لأن صحة إقراره لحاجته إليه في التجارة ولأبي حنيفة حر فان أحدهما أن إقراره في هذا المال كان صحيحا في حال إذنه وإنما كان يصح باعتبار يده على المال لا باعتبار كونه مأذونا.
ألا ترى أنه لو أخذ المال منه ولم يحجر عليه لم يصح إقراره فيه بعد ذلك لانعدام يده فعرفنا أن صحة إقراره فيه بعد ذلك باعتبار يده ويده باقية بعد الحجر عليه ما لم يأخذ المال منه فيصح إقراره فيه كما قبل الحجر بخلاف ما بعد أخذ المال منه.
والثاني: أن بقاء يده على المال أثر ذلك الإذن وبقاء أثر الشيء كبقاء أصله فيما يرجع إلى دفع الضرر كما أن بقاء العدة يجعل كبقاء أصل النكاح في المنع لدفع الضرر وصحة إقرار المأذون بالدين والعين لدفع الضرر عن الذين يعاملون معه والحاجة إلى دفع الضرر باقية بعد الحجر لأنه لو لم يجز إقراره حجر المولى عليه أيضا إذا صار الكسب في يده قبل أن يقر بما عليه ثم لا يصح إقراره فيتضرر به الغرماء فلدفع الضرر جعلنا بقاء أثر الإذن كبقاء أصله بخلاف ما بعد أخذ المال منه لأنه لم يبق هناك شيء من آثار ذلك الإذن وهذا على أصل أبي حنيفة مستمر فإنه جعل السكر في العصير بعد الشدة بمنزلة بقاء صفة الحلاوة في إباحة(25/155)
ص -77- ... شربه والدليل عليه أن العبد بعد الحجر عليه هو الخصم في حقوق تجاراته حتى لو كان وجد المشتري منه بالمشتري عيبا كان له أن يخاصمه فيه كما قبل الحجر.
وصحة إقراره من حقوق تجاراته إلا أنه لا يبقى ذلك بعد أخذ المال منه لأنه لو بقي كان كلامه استحقاقا للملك على المولى ابتداء وذلك لا يجوز بعد الحجر فأما ما بقي الكسب في يده فيكون إقراره في المعنى إنكارا لاستحقاق المولى إلا أن يكون استحقاقا عليه ابتداء وبخلاف إنشاء التجارة فإن ذلك إثبات سبب الاستحقاق ابتداء على المولى وهو غير محتاج إلى ذلك وإقامة أثر الإذن مقام الإذن باعتبار الحاجة فلا يعدو موضعها إذا عرفنا هذا فنقول لا أثر للإذن الثاني فيما في يده من المال مما علم أنه كان في الإذن الأول فيجعل وجوده كعدمه ولو لم يوجد كان الإقرار صحيحا عند أبي حنيفة في استحقاق المقر له العين وعندهما يكون إقراره باطلا فكذلك بعد الإذن الثاني إلا أن عندهما إقراره في الإذن الثاني إقرارا بوديعة مستهلكة فيكون إقرارا بالدين وهو لو أقر بدين اتبعه المقر له في رقبته فباعه فيه فكذلك هنا.
وإذا أذن لعبده في التجارة فأقر أنه كان أقر لهذا الرجل وهو محجور عليه بألف درهم وقال المقر له قد أقررت لي بعد الإذن فالقول قول المقر له لأنه أضاف الإقرار إلى حالة لا تنافي صحة إقراره فإن إقرار العبد المحجور بالمال ملزم إياه بعد العتق ولو كان العبد صغيرا أو كان صغيرا حرا أو معتوها فأقروا بعد الإذن أنهم قد أقروا له بذلك قبل الإذن كان القول قولهم لأنهم أضافوا الإقرار إلى حالة معهودة تنافي صحة إقرارهم أصلا فلم يكن كلامهم في الحال إقرارا بشيء إنما هو بمنزلة قول أحدهم أقررت لك بألف قبل أن أولد أو قبل أن أخلق فلا يلزمه شيء وإن كذبه المقر له في الإضافة لأنه منكر للمال في الحقيقة والله أعلم بالصواب.
باب إقرار المحجور عليه(25/156)
قال رحمه الله: وهذا الباب بناء على الخلافية التي بيناها إذا أقر العبد بعد الحجر عليه بدين أو عين قائمة في يده مضمونة أو أمانة مستهلكة أو غير مستهلكة فإنه يصدق فيما في يده من المال عند أبي حنيفة ولا يصدق في استهلاك رقبته بالإنفاق حتى إذا لم يف ما في يده بما عليه لاتباع رقبته فيه لأن القياس أن لا يصح رق بعد الحجر في شيء مما في يده ولكنه استحسن أبو حنيفة رحمه الله: فأقام أثر الإذن مقام الإذن في تصحيح إقراره وهذا الأثر في المال الذي في يده لا رقبته لأنه لا يد له في رقبته بعد الحجر.
ولو ادعى إنسان رقبته لم يكن هو خصما له ولا كسبه مستفادا للمولى من جهته بشرط الفراغ من دينه ورقبته كانت للمولى قبل الإذن فعادت كما كانت وإن كان عليه دين في حال إذنه بإقراره أو ببينة كان ذلك الدين مقدما على ما أقر به بعد الحجر لأن ذلك الدين لزمه حال الإطلاق فيكون سببه أقوى مما أقر به بعد الحجر والضعيف لا يزاحم القوي كالدين المقر به(25/157)
ص -78- ... في المرض مع دين الصحة في حق الحر وهذا لأن ما في يديه من الكسب صار مستحقا للغرماء الذين وجبت ديونهم في حال الإذن وهو غير مصدق في إبطال استحقاقهم فكذلك في إثبات المزاحمة معهم وإن لم يكن عليه دين ولم يقر بشيء حتى أخذ مولاه المال منه أو باعه ثم أقر بشيء من ذلك لم يصدق العبد فيه على شيء من ذلك المال أما إذا أخذ المال منه فلأنه لم يبق أثر ذلك الإذن في المال المأخوذ منه وأما إذا باع فلأنه يحول إلى ملك المشتري وذلك مفوت محل الإذن لأن محله كان ملك الإذن وإقامة الأثر مقام الأصل في حال بقاء محل الأصل لا بعد فواته ولأن صحة إقراره قبل البيع باعتبار أنه هو الخصم في بقاء تجارته وقد انعدم ذلك بالبيع حتى لا يكون لأحد ممن عامله أن يخاصمه بعد ما باعه المولى في عيب ولا غيره فلا يصح إقراره بعد ذلك في حال رقه ولكنه يؤخذ به إذا عتق فيما هو دين عليه من ذلك لأنه مخاطب فإقراره صحيح في حكم الالتزام في ذمته ولكنه لم يطالب به لحق المولى فإذا سقط حقه بالعتق أخذ بجميع ذلك والعبد الصغير في جميع ذلك بمنزلة الكبير إلا أنه لا يؤخذ به بعد العتق لأنه غير مخاطب فلا يكون التزامه صحيحا في حق نفسه.
وإذا حجر على عبده وفي يده ألف درهم فأخذها المولى ثم أقر العبد أنها كانت وديعة في يده لفلان وكذبه المولى لم يصدق على ذلك لأنه لم يبق للعبد فيها يد حين أخذها المولى وكان صحة إقراره باعتبار يده فإن عتق لم يلحقه من ذلك شيء لأنه أقر بأن المال كان في يده أمانة وقد أخذها المولى من غير رضا العبد وتسليطه فلا يكون ذلك موجبا للضمان عليه كما لو غصب الوديعة أجنبي من المودع والبضاعة والمضاربة أمانة في يده كالوديعة ولو كان غصبا أخذ به إذا أعتق لأنه أقر بوجوب الضمان عليه بالغصب وقد عجز عن رد العين فعليه قيمتها.(25/158)
ولو حجر عليه وفي يده ألف درهم وعليه ألف درهم فأقر أن هذه الألف وديعة عنده لفلان أو مضاربة أو قرض أو غصب فلم يصدقه على ذلك وأخذها صاحب الدين من حقه ثم عتق العبد كانت الألف دينا عليه يؤاخذ بها لأنه في حق نفسه يجعل كأنما أقر به حق وقد أقر أنه قضى بعين مال الغير دينا عليه وذلك موجب للضمان عليه كان المال في يده أمانة أو مضمونا.
ولو حجر عليه وفي يده ألف درهم فأقر بدين ألف درهم عليه ثم أقر أن هذه الألف وديعة عنده لفلان فالألف في قياس قول أبي حنيفة لصاحب الدين لأن صحة إقراره باعتبار ما في يده وكما لو أقر بالدين صار المقر به مستحقا للمقر له بالدين فإقراره بعد ذلك بالعين لغيره لإبطال استحقاق الأول باطل بمنزلة الوارث إذا أقر بدين على الميت مثل ما في يده من التركة ثم أقر بعين التركة لإنسان آخر فإذا صرف المال إلى المقر له بالدين ثم عتق اتبعه صاحب الوديعة لأنه قضى بالوديعة دينا عليه بزعمه واستفاد به براءة ذمته فيتبعه صاحب(25/159)
ص -79- ... الوديعة بمثلها بعد العتق بخلاف ما يأخذه المولى منه لأنه ما قضى به دينا في ذمته إنما أزال المولى يده عنه من غير رضاه فيجعل في حقه كالهالك فلا ضمان عليه فيه.
ولو كان أقر أولا بالوديعة كانت الألف لصاحب الوديعة ويتبعه صاحب الدين بدينه بعد العتق وفي قول أبي يوسف ومحمد إقراره بالوديعة باطل والألف يأخذه المولى ولا يتبعه صاحب الوديعة إذا عتق فأما المقر له بالدين فيبيعه بعد العتق بدينه لأن إقراره بالدين في ذمته صحيح.
ولو أقر إقرارا متصلا فقال لفلان علي ألف درهم وهذه الألف وديعة لفلان كانت الألف بينهما نصفين في قول أبي حنيفة لأنه عطف أحد الكلامين على الآخر وفي آخر كلامه ما يغاير موجب أوله فيتوقف أوله على آخره ولأن إقراره بالوديعة متصلا بالإقرار بالدين بمنزلة الإقرار بوديعة مستهلكة لأنه حين قدم الإقرار بالدين قد صار كالمستهلك للوديعة فكأنه أقر بدين ودين في كلامه موصول فيكون الألف بينهما نصفين وإذا عتق أخذاه بما بقي لهما ولو بدأ في هذا الإقرار المتصل بالوديعة كانت الألف لصاحب الوديعة لأنه يتملك العين بنفس الإقرار والدين بعد ذلك يثبت في ذمته ثم يستحق به كسبه وقد تبين أن ما في يده لم يكن كسبا له فلهذا لا يتعلق به حق المقر له بالدين.
ولو ادعيا جميعا فقال صدقتما كانت الألف بينهما نصفين لأنه ما ظهر الإقرار بالوديعة إلا والإقرار بالدين ظاهر وذلك يمنع تمام استحقاق العين للمقر له بالوديعة.(25/160)
والحاصل: أن صحة إقراره ها هنا باعتبار ما في يده كما أن صحة إقرار الوارث باعتبار ما في يده من التركة وقد بينا هذه الفصول في الوارث في كتاب الإقرار فكذلك في حق العبد المأذون بعد الحجر والعبد الصغير والحر الصغير بعد الحجر عليهما في هذا بمنزلة الكبير إلا أنهما لا يؤاخذان بعد العتق والبلوغ بشيء مما يؤخذ به العبد الكبير بعد العتق لأن إقرارهما في حقهما لم يصح ولو حجر على عبده وفي يده ألف درهم فأقر لرجل بدين ألف درهم أو بوديعة ألف درهم بعينها ثم ضاع المال لم يلحق العبد من ذلك شيء حتى يعتق لأن صحة إقراره باعتبار ما في يده وقد انعدم ذلك بهلاك ما في يده فكأنه أقر ولا مال في يده فإذا عتق أخذ بالدين دون الوديعة لأن ما أقر به كالمعاين في حقه.
ولو كان ذلك معاينا معلوما لم يلحقه معه بعد هلاك الوديعة في يده وكان مؤاخذا بالدين فهذا مثله ولو حجر عليه وفي يده ألف درهم وعليه دين ألف درهم ثم أذن له فأقر بدين ألف درهم لرجل آخر أو وجبت عليه ببينة فالألف التي في يده لصاحب الدين الأول خاصة لأن الإذن الثاني غير مؤثر فيما في يده مما كان في الإذن الأول ووجوده كعدمه وقد بينا أنه كما أقر بالدين الأول صار ما في يده مستحقا للمقر له فلا يتغير ذلك بما لحقه من الدين في الإذن الثاني. وكذلك إن أقر العبد أن هذا الدين كان في حال الإذن الأول لأنه غير مصدق في الإسناد في حق المقر له الأول وكذلك إن أقر أنها وديعة عنده لرجل أودعها إياه(25/161)
ص -80- ... في حال الإذن الأول فالأول أحق بالألف ويتبع صاحب الوديعة العبد بها في رقبته لأنه قضى بالوديعة دينا عليه بزعمه وعندهما الألف لمولاه ويتبع بالدين في رقبته لأن الإذن الثاني غير مؤثر فيما في يده من الكسب فإن المولى بالحجر عليه يصير كالمخرج لما في يده من يده ولكن إقراره بالدين في الإذن الثاني صحيح في رقبته فيباع فيه إلا أن يقضي المولى دينه.
ولو حجر عليه وفي يده ألف درهم وعليه دين خمسمائة فأقر بعد الحجر بدين ألف درهم ثم أذن له فأقر أن تلك الألف التي كانت في يده وديعة أودعها إياه هذا الرجل فإنه لا يصدق على الوديعة والألف التي في يده لصاحب الدين الأول منها خمسمائة والخمسمائة الباقية للذي أقر له العبد بالألف وهو محجور عليه لأن ما وجب عليه في الإذن الأول مقدم فيما في يده فيأخذ صاحب الدين الأول كمال حقه ثم المقر له بالدين بعد الحجر مستحق لما بقي في يده فيأخذه وقد بقي عليه من الدين خمسمائة فيؤاخذ به بعد العتق ويتبع صاحب الوديعة العبد بوديعته كلها فيباع فيه إلا أن يقضيه المولى لأن إقراره بالوديعة حصل في حال الإذن الثاني وهو صحيح في حق المولى وقد قضى بالوديعة دينا عليه بزعمه فيؤاخذ ببدله في الحال.(25/162)
وفي قول أبي يوسف ومحمد خمسمائة من الألف لصاحب الدين الأول وخمسمائة للمولى لأن إقراره بالدين بعد الحجر عندهما غير صحيح ويتبع صاحب الوديعة فيه العبد بخمسمائة درهم ويبطل من وديعته الخمسمائة التي أخذها المولى لأن إقراره بالوديعة حصل في حالة الإذن إلا أنه إنما يصير ضامنا لما قضى به دينا عليه دون ما أخذه المولى بغير اختياره وإنما قضي الدين الذي عليه بخمسمائة منها فيتبع بذلك خاصة والخمسمائة الأخرى أخذها المولى فهي في حقه وما لو أخذها غاصب آخر سواء فإن هلك من هذه الألف خمسمائة في يد العبد كانت الخمسمائة الباقية لصاحب الدين خاصة لأن حقه مقدم في كسبه على حق من أقر له بعد الحجر ويلزم رقبة العبد من الوديعة خمسمائة لأنه إنما يكون ضامنا باعتبار أنه قضي الدين بالوديعة وقد كان ذلك في مقدار الخمسمائة خاصة وما زاد على ذلك هالك في يده من غير صنعه فلا يلزمه ضمانه.
وإذا وهب لعبد محجور عليه ألف درهم وقبضها العبد فلم يأخذها منه المولى حتى استهلك لرجل ألف درهم ببينة ثم استهلك ألفا آخر ببينة فالألف الهبة للمولى لأنه ليس للمحجور عليه يد معتبرة شرعا فيما هو في يده صورة.
ألا ترى أنه لو باعه في ذلك إنسان لم يكن هو خصما له فهو وما لو أخذه المولى من يده سواء فما يلحقه من الدين بعد ذلك في ذلك إنسان لم يكن هو خصما له يتعلق برقبته دون مال آخر لمولاه ولو كان دينا قبل الهبة كانت الهبة لصاحب الدين لأن الموهوب بالقبض صار كسبا له وحق غرمائه في كسبه مقدم على حق مولاه لأن الكسب إنما يسلم للمولى بشرط الفراغ من دينه وبقيام الدين عليه عند الاكتساب يتعذر هذا الشرط فلهذا كانت الهبة(25/163)
ص -81- ... لصاحب الدين بخلاف الأول فإن هناك حين صارت الألف كسبا له ما كان لأحد عليه دين فتم شرط سلامة الكسب للمولى ثم لا يتغير ذلك بلحوق الدين إياه.
وإن استهلك بعد الهبة ألف درهم لرجل آخر ببينته كانت الهبة لصاحب الدين الأول وكان ينبغي أن يثبت فيه حق صاحب الدين الثاني لأن تعلق صاحب الدين الأول به يمنع استحقاق المولى وثبوت يده على المال حكما فيثبت فيه حق غريمي العبد باعتبار يده كما لو كان مأذونا ولكنه قال لو لم يكن عليه الدين الأول لم يثبت لصاحب الدين الثاني حق في ذلك الكسب فتأثير الدين الأول واستحقاق الغريم ذلك الكسب به في نفي ثبوت حق الغريم الثاني منه لا في إثبات ذلك.
يوضحه: أن حق الغريم الأول في هذا المال أقوى من حق المولى لأنه مقدم على المولى ثم استحقاق المولى إياه يمنع ثبوت حق الغريم الثاني فيه فكذلك استحقاق الغريم الأول إياه بخلاف المأذون لأن الإقرارين في حقه جميعهما حالة الإطلاق وقد بينا أن حال الإذن جعل بمنزلة زمان واحد فكان الدينين وجبا عليه معا فيستويان في استحقاق الكسب بهما والله أعلم.
باب خصومة العبد المحجور عليه فيما يشتري ويبيع
قال رحمه الله: وإذا اشترى العبد المحجور عليه عبدا بغير إذن مولاه فشراؤه باطل لأن في تصحيحه شغل ماليته بالثمن والمولى غير راض به وفيه إدخال المشتري في ملك المولى بعقد المعاوضة من غير رضاه وليس للحر هذه الولاية على حر فلأن لا يكون للعبد على مولاه أولى ولا يقال إنه يدخل العين في ملكه بقبض الهبة والصدقة لأن المولى بملك رقبته ما قصد إلا تحصيل المنفعة لنفسه فيكون راضيا بما هو انتفاع محض محصل له بملك رقبته فإن أجازه المولى بعد الشراء جاز لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وهذا لأن العبد من أهل العقد فانعقد العقد فيه وامتنع نفوذه بمراعاة حق المولى وبإجازته يرتفع هذا المانع لوجود الرضا منه بتعلق الثمن بماليته.(25/164)
وكذلك لو باع شيئا من مال مولاه أو مما وهب للعبد فبيعه باطل لأنه لاقى محلا مملوكا للمولى ومثله من الحر لا يصح إلا بإجازة المولى فكذلك من العبد فإن أجازه المولى جاز والعهدة على العبد كما لو أذن له في الابتداء وهذا لأن العبد من أهل التزام العهدة في حقه لأنه مخاطب وإنما امتنع ثبوته في حق المولى لانعدام رضاه به وقد تحقق الرضا بإجازته والإجارة والرهن والقرض في هذا كالبيع والشراء والصبي والحر والمعتوه الذي يعقل الشراء والبيع في ذلك كالعبد لأنه من أهل التزام العهدة عند انضمام رأي الولي إلى رأيه.
وإذا اشترى العبد المحجور عليه متاعا بغير إذن مولاه ثم أذن له في التجارة لم يجز شراؤه المتقدم لأنه بالإذن صار منفك الحجر عنه فيما استقبل من التصرفات وصار المولى(25/165)
ص -82- ... راضيا بشغل ماليته بما ينشئه من التصرفات بعد الإذن فلا يؤثر ذلك في تصرف سبق الإذن فإن أجازه العبد بعد ذلك جاز استحسانا لأن الإجازة إنشاء تصرف منه وهي فيما هو المقصود بمنزلة ابتداء الشراء أو لأن المولى صار راضيا بتصرفه فتكون إجازته ذلك العقد بعد رضا المولى كإجازة المولى.
ولو أجازه المولى جاز لأن بالإذن له في التجارة لم يزل ملك المولى وولايته عنه فإجازته بعد الإذن له كإجازته قبل أن يأذن له في التجارة.
ولو أعتقه المولى بطل الشراء المتقدم لأنه لا وجه لتنفيذه بعد العتق على الوجه الذي انعقد حالة الرق فإنه انعقد موجبا الملك للمولى على سبيل الخلافة عن العبد وبعد العقد لو نفذ كان موجبا الملك للعبد مقصودا عليه وبه فارق الإذن له في التجارة لأنه لو بقي العقد موقوفا بعد الإذن كان موجبا الملك للمولى على وجه الخلافة عنه إذا تم بإجازته وإجازة مولاه وها هنا بعد العتق لا يبقى كذلك ولا يجوز أن ينفذ العقد موجبا حكما غير الحكم الذي انعقد له ولهذا لا تعمل إجازة العبد بعد العتق فيه ولا إجازة المولى ولا إجازتهما جميعا لأن بالعتق تعين جهة البطلان فيه فلا ينقلب جائزا بعد ذلك إلا بالتجديد بخلاف النكاح فإن العبد لو تزوج بغير إذن المولى ثم أعتقه المولى نفذ النكاح لأن النكاح انعقد موجبا ملك الحل للعبد عند نفوذه وبعد العتق إذا نفذ ثبت ملك المحل للعقد كما أوجبه العقد وكان المانع من نفوذه حق المولى فإذا سقط حقه بالعتق نفذ فأما الشراء فانعقد موجبا الملك في المشتري للمولى على وجه الخلافة عن العبد ولا يمكن إنفاذه كذلك بعد العتق.
قال: ألا ترى أن عبدا محجورا عليه لو اشترى جارية بألف درهم ثم أن المولى باع عبده من رجل فأجاز المشتري شراء الجارية لم يجز لأنه لو نفذ بإجازته ثبت الملك في المشتري للمشتري على وجه الخلافة عن العبد وإنما انعقد موجبا الملك للبائع.(25/166)
وكذلك لو أجازه البائع لم يجز لأنه لو نفذت إجازته كانت العهدة على العبد في ماليته ومالية ملك المشتري وهو غير راض بذلك وكذلك لو لم يبعه المولى ولكنه مات فورثه وارثه فأجاز البيع لم يجز لأنه لو جاز ثبت الملك للوارث على سبيل الخلافة عن العبد فإذا مات المولى فقد خرج من أن يكون أهلا للتملك بالعقد فتعين جهة البطلان في هذا الشراء.
وإذا اشترى المحجور عليه عبدا من رجل بألف درهم وقبض العبد ولم ينقد الثمن حتى مات العبد في يده فلا ضمان عليه في العبد حتى يعتق لأنه قبضه بتسليم المالك فلا يكون هو جانيا في القبض على حق المالك ولكن هذا القبض يوجب الضمان عليه بحكم العقد والعبد المحجور لا يؤاخذ بضمان العقود في حال قيام الرق ويؤاخذ به بعد العتق لأن التزامه بالعقد صحيح في حقه دون حق المولى فإذا عتق لزمه قيمة العبد الذي قبض بالغة ما بلغت،(25/167)
ص -83- ... لأن البيع كان فاسدا لانعدام شرط الجواز فيه وهو إذن المولى والمقبوض بحكم الشراء الفاسد مضمون بالقيمة بالغة ما بلغت.
ولو كان قتل العبد حين قبضه من البائع قيل لمولاه ادفعه أو افده بقيمة المقتول لأن البائع كان أحق باسترداده منه وملكه لم يزل بتسليمه إلى العبد لأن العبد ليس من أهل الملك ولا يمكن إثبات الملك للمولى لانعدام الرضا منه بذلك فكان العبد في قتله جانيا على ملك البائع فيخاطب مولاه بالدفع أو الفداء.
ولو كان مكان العبد ثياب أو عروض أو دواب فاستهلكها العبد حين قبضها لم يضمنها حتى يعتق فإن عتق ضمن قيمتها بالغة ما بلغت لأن ضمان الاستهلاك من جنس ضمان العقد فإذا ترتب على العقد كان حكمه حكم ذلك العقد ولا يؤاخذ العبد المحجور بضمان العقود حتى يعتق بخلاف ضمان القتل فإنه ليس من جنس ضمان العقد حتى لا يملك به المضمون والمستحق به الدفع دون البيع في الدين.
يوضح الفرق أن إيجاب البيع تسليط من البائع للمشتري على التصرفات المفضية إلى الاستهلاك كالأكل في الطعام واللبس في الثوب والركوب على الدواب فلا يكون هذا السبب موجبا الضمان عليه إلا باعتبار العقد كأصل القبض بخلاف القتل وقد قررنا هذا الفرق في الوديعة ولم يذكر خلاف أبي يوسف في كتاب المأذون والأصح أن عنده يؤخذ بضمان الاستهلاك في الحال كما في الوديعة عنده وقد تكلف بعضهم للفرق فقالوا البيع تمليك العين من المشتري فيثبت باعتبار التسليط على الاستهلاك فأما الإيداع فإنه استحفاظ فلا يثبت به التسليط على الاستهلاك ولكنه نص على الخلاف في استقراض العبد المحجور في كتاب الصرف والإقراض تمليك كالبيع.(25/168)
قال: وكذلك إذا كان البائع لذلك العبد عبدا مأذونا أو صبيا مأذونا لأنهما في انفكاك الحجر عنهما كالحر الكبير فيصح منهما التسليط ضمنا لعقد التجارة وكذلك لو كان صبيا محجورا عليه أو معتوها فهو بمنزلة العبد المحجور عليه إلا أنهما إذا قتلا العبد المشتري كانت القيمة على عاقلتهما بمنزلة ما لو قتلاه قبل الشراء فلا يلحقهما ضمان ما استهلكا من هذا إذا كبر الصبي وعقل المعتوه لأن التزامهما الضمان بالعقد لا يصح في حقهما فإنهما غير مخاطبين شرعا بخلاف العبد فإن التزامه العقد صحيح في حق نفسه فيؤاخذ به بعد العتق.
ولو كان البائع أيضا عبدا محجورا أو صبيا محجورا أخذ المشتري بضمان ما في يده من ذلك إذا هلك في يده أو استهلكه لأن تسليط المحجور عليه إياه على القبض والاستهلاك غير معتبر في إسقاط الضمان الواجب به والقبض والاستهلاك فعل موجب للضمان إذا حصل من المحجور عليه بطريق الجبران فلا يسقط ذلك إلا باعتبار تسليط صحيح ولم يوجد ذلك فإن قتل المشتري العبد المشتري أو الجارية كان مولاهما بالخيار إن شاء باع العبد في رقبتهما وإن(25/169)
ص -84- ... شاء أخذه بالجناية عليهما فيدفعه المولى بذلك أو يفديه لأنه وجد سببان موجبان للضمان أحدهما القبض والآخر القتل فللمولى أن يضمنه بأي السببين شاء فإن اختار التضمين بالقبض صار العبد كالهالك في يده من غير صنع فيباع في قيمته إلا أن يقضي المولى عنه وإن اختار التضمين بالجناية أمر المولى بالدفع أو الفداء بمنزلة من غصب من آخر عبدا وقتله كان للمولى أن يضمن الغاصب قيمته من ماله حالا بالغصب وإن شاء رجع بقيمته على عاقلته موجبا في ثلاث سنين باعتبار قتله إياه خطأ.
وإن اشترى العبد المحجور عليه من رجل عبدا بألف درهم وقيمته ألف درهم وقبضه فباعه وربح فيه ثم اشترى بثمنه وباع حتى صار في يده ألفا درهم ثم حضر البائع فله أن يستوفي ثمنه مما في يده استحسانا وفي القياس ليس له ذلك لأن ما في يده من الكسب ملك مولاه ودين البائع غير ثابت في حق المولى.
ألا ترى أنه لا يستوفي من مالية رقبته فكذلك في الكسب الذي في يده ولكنه استحسن فقال إذا علم أن هذا المال في يده حصل بسبب ذلك المشتري فالبائع أحق به حتى يستوفي ثمنه منه لأن حكم البدل حكم المبدل.(25/170)
ولو كان المشتري في يده قائما بعينه كان البائع أحق باسترداده فكذلك بدله وهذا لأنه إذا استوفى الثمن مما في يده فلا ضرر على المولى إذا علم أن ما في يده من ذلك المشتري بل يكون فية منفعة له لأن الفضل يسلم للمولى والعبد لا يلحقه الحجر عما يتمحض منفعة للمولى وهو نظير ما لو أجر المحجور نفسه وسلم من العمل فإن لم يعلم أن الذي في يده من ثمن عبده الذي باعه فذلك المال للمولى ولا شيء للبائع على العبد حتى يعتق لأن استحقاق البائع باعتبار أن ما في يده بدل عما كان هو أحق به ولا يعلم ذلك في هذا المال الذي في يده وللمولى فيه سبب استحقاق ظاهر وهو أنه كسب عبده المحجور وفي تقديم البائع عليه مع الاحتمال إضرار بالمولى وتصرف المحجور فيما يلحق الضرر بالمولى لا يكون نافذا وإن قال المولى هذا المال ذهب لعبدي أو أصابه من غير ثمن عبدك الذي بعت وقال البائع أصابه من ثمن عبدي وصدقه العبد بذلك فالقول قول المولى لأن البائع يدعي سبب استحقاقه لهذا المال والمولي منكر لذلك وتصديق العبد لا ينفع البائع لأنه محجور لا قول له في حق المولى وإن أقاما البينة فالبينة بينة البائع لأنه ثبت بسبب استحقاقه بالبينة ولأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة.
وكذلك لو كان مكان شراء العبد قرض ألف درهم أو وديعة ألف درهم أو عروض فتصرف فيها العبد فهو بمنزلة ما تقدم وإن كان المال الذي في يد العبد في جميع ذلك أقل من قيمة ذلك الأصل أخذ صاحب الأصل ما وجده في يده بما هو بدل ملكه ولم يتبعه بما بقي حتى يعتق لأن ما بقي ثابت في حق العبد دون المولى بمنزلة جميع المال إذا لم يجد منه شيئا في يد العبد المحجور.(25/171)
ص -85- ... ولو دفع إليه رجل متاعا بضاعة فباعه العبد جاز بيعه لأنه من أهل البيع وبيعه لاقى ملك المبضع برضاه فينفذ وهذا لأن نفوذ البيع بالتكلم بالإيجاب والقبول ولا ضرر على المولى في ذلك وإذا جاز البيع كان الثمن للآمر والعهدة على الآمر حتى يعتق لأن في الزام العهدة العبد إضرارا بمولاه وذلك لا يجوز بغير رضاه فإذا تعذر إيجاب العهدة عليه تعلقت العهدة بأقرب الناس إليه وأقرب الناس إليه من هذا العقد بعد المباشرة هو المبضع فإذا عتق العبد لزمه العهدة لأنه من أهل التزام العهدة في حقه وإنما امتنع لزومها في حق المولى وقد سقط حقه بالعتق.(25/172)
وإن وجد المشتري بالمباع عيبا فالخصم فيه الآمر ما لم يعتق العبد كما لو كان باشر العقد بنفسه إذ جعل العبد رسولا فيه إلا أن اليمين في حقه بالعلم لأنه يستحلفه على مباشرة غيره وفي استحلافه على البتات على فعل الغير إضرار به ولو أعتق العبد مولاه وأذن له في التجارة صارت الخصومة لحقه لأنه صار منفك الحجر عنه بالإذن كما يصير منفك الحجر عنه بالعتق وقد زال المانع من لحوق العهدة إياه وهو انعدام الرضا من المولى به فإن كان المشتري قد أقام البينة على العيب قبل أن يعتق العبد ثم عتق فهو الخصم في ذلك ولكن يقضي بتلك البينة فلا يحتاج المشتري إلى إعادتها لأنه أقام البينة على من هو خصم وهو الآمر فلا يحتاج إلى إعادتها وإن تحولت الخصومة إلى العبد كما لو كان البائع حرا فأقام البينة عليه ثم مات فورثه وارثه وكذلك لو أقام شاهدا واحدا قبل العتق لم يكلف إعادته على العبد ويحكم عليه إذا أقام شاهدا آخر به على العبد لأن الحجة قد تمت فإن قضى القاضي على العبد بالرد بالعيب ونقض البيع فإن كان الآمر هو الذي قبض الثمن من المشتري لزم الثمن الآمر وليس على العبد منه لا قليل ولا كثير لأن وجوب رد الثمن باعتبار القبض دون العقد والقابض كان هو الآمر دون العبد فعليه أن يرده وهكذا إذا كان الوكيل حرا وكان الموكل هو الذي قبض الثمن من المشتري فإن كان قبضه العبد فهلك عنده أخذ العبد به لأنه هو القابض للثمن بحكم العقد فعليه رده إذا انتقض العقد فيرجع بذلك على الآمر لأن قبضه كان صحيحا في حق الآمر ولهذا بريء المشتري به فكان هلاكه في يده كهلاكه في يد الآمر ولأنه في القبض كان عاملا له بأمره فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة بسببه.(25/173)
ولو كان مكان العبد صبي محجور أو معتوه كانت العهدة في جميع هذه الوجوه على الآمر والخصومة معه واليمين على العلم وهو الذي يرد الثمن ولا تنتقل العهدة عن الصبي والمعتوه بالإدراك والإفاقة لأن التزامهما العهدة غير صحيح في حقهما وإذا لم يكن العاقد من أهل التزام العهدة وجبت العهدة على من هو أقرب الناس من هذا العبد بعد العاقد وهو الآمر المنتفع به.
وإذا وجب للعبد المأذون على رجل دين من ثمن مبيع أو إجارة أو قرض أو استهلاك ثم حجر عليه مولاه فالخصم فيه العبد لأنه باشر سبب الالتزام في حال انفكاك الحجر عنه،(25/174)
ص -86- ... وتأثير الحجر عليه بعد ذلك في منع لزوم العهدة إياه بمباشرة السبب ابتداء لا في إسقاط ما كان لزمه فإن دفع الذي عليه الدين إلى العبد بريء كان عليه الدين أو لم يكن لأنه حين عامل العبد فقد استحق براءة ذمته بتسليم الدين إليه فلا يتغير ذلك بالحجر عليه بعد ذلك وإن دفعه إلى مولاه بريء أيضا إن لم يكن على العبد دين لأن كسبه خالص حق المولى وبقبض العبد يتعين الملك له فهو نظير الموكل إذا دفع الثمن المشتري إليه وإن كان عليه دين لا يبرأ بدفعه إلى المولى لأن كسبه الآن حق غرمائه والمولى من كسبه كأجنبي آخر ما لم يقض دين غرمائه فلا يبرأ المديون بالدفع إلى المولى صيانة لحق الغرماء إلا أن يقضي المولى الدين فإن قضاه بريء المطلوب من الديون لأن المانع قد زال وهو حق الغرماء في كسبه واستدامة القبض في المقبوض بعد سقوط الدين عن العبد كإنشائه ولأنه لا يشتغل بنقض شيء ليعاد مثله وبعد سقوط الدين عن العبد لو نقضنا قبض المولى احتجنا إلى إعادته لأن العبد يقبضه فيسلمه إليه بخلافه حال قيام دينه لأنه يقبضه ليقضي به دينه فإن مات العبد بعد حجره ولا دين عليه فالخصم في ذلك المولى لأن كسبه خالص حق المولى فيكون هو أحق الناس باستيفائه وإن لم يمت ولكن المولى أخرجه من ملكه فليس للعبد أن يقبض شيئا منه ولا يكون خصما فيه لأن منافعه صارت للمشتري فالمقبوض يسلم للبائع فلا يكون للعبد أن يصرف المنافع التي هي ملك المشتري إلى القبض والخصومة فيما ينتفع به البائع وإن قبض لم يبرأ الغريم بقبضه لأنه خرج من أن يكون خصما فيه حكما فكان قبضه كقبض أجنبي آخر والمقبوض للبائع ولا يبرأ المديون بتسليم ملك البائع إلى عبد غيره وقد انقطعت خصومة العبد عن ذلك إن كان عليه دين أو لم يكن لأنه لما انتقل الملك إلى المشتري صار العبد في تلك الخصومة كالمستهلك فإن تجدد سبب الملك فيه بمنزلة تبدل عينه ولكن الخصم في ذلك هو المولى لأنه كان خلفا عن(25/175)
العبد فإنما هو غنم تلك التصرفات فكذلك في الغرم والخصومة فيه يكون خلفا عنه فيقبضه فإن لم يكن عليه دين فهو سالم له لأنه كسب عبده.
وإن كان عليه دين فالمولى هو الخصم أيضا في الخصومة في جميع ماله على الناس وغيره إلا أنه إذا قضى بذلك لم يكن للمولى قبضه لأن حق الغريم في كسبه مقدم على حق المولى ولم يوجد الرضا من الغرماء بقبض المولى لذلك وهو ليس بمؤتمن على حق الغرماء فأما أن يقبض الغرماء دينهم من المقبوض فيكون ما بقي للمولى لأنه كسب عبده وقد فرغ من دينه.
ولو كان المولى أعتقه كان العبد هو الخصم في قبض جميع ذلك لأنه هو المباشر لسببه وقد خلصت له منافعه بعد العتق وكذلك لو باعه المولى فاعتقه المشتري فالعبد هو الخصم في جميع ذلك لخلوص منافعه له وقد كان المانع له من الخصومة قبل العتق كون منافعه للمشتري وقد زال ذلك بالعتق.(25/176)
ص -87- ...
وإذا باع العبد المأذون متاعا من رجل بألف وتقابضا ثم حجر عليه المولى فوجد المشتري بالمتاع عيبا فالخصم فيه العبد لأن ملك المولى في منافعه باق بعد الحجر وقد كان لزمه العهدة لمباشرته سببه بإذن المولى فإن قامت عليه بينة وحكم برده عليه فأبى المشتري أن يدفعه حتى يقبض الثمن فله ذلك لأن حال المشتري بعد الفسخ كحال البائع قبل التسليم وقد كان له أن يحبس المبيع ليستوفي الثمن فللمشتري بعد الفسخ أن لا يرده حتى يستوفي الثمن فإن لم يكن في يد العبد مال وعليه دين بدئ بالمتاع فبيع وأعطى المشتري ثمنه لأن حقه في المتاع مقدم على حق سائر الغرماء فإن دينه بدل هذا المتاع والمتاع محبوس به كالمرهون في يد المرتهن فلهذا يبدأ من ثمن المتاع بدينه فإن فضل من ثمن المتاع شيء فهو لغرماء العبد وإن نقص فالمشتري شريك غرماء العبد في رقبته بما بقي من دينه لأن دينه واجب بسبب ظاهر لا تهمة فيه وإن جهل المشتري فدفع إليه المتاع ثم جاء بعد ذلك يطلب الثمن فهو أسوة الغرماء في المتاع وفي رقبته لأن تقدمه عليهم في ثمن المتاع باعتبار يده وقد انعدم بإخراجه من يده فهو نظير البائع إذا سلم المبيع إلى المشتري ثم مات المشتري كان هو أسوة سائر الغرماء في ثمن المشتري وغيره من تركته.
ولو لم يقم بينة على العيب وطلب اليمين فالثمن على العبد دون مولاه لأن العبد هو الذي باشر هذا البيع وهو الخصم فيما يدعي من العيب فيه بعد الحجر كما قبله فيكون اليمين عليه فإن نكل عن اليمين رد المتاع عليه بالعيب وكان حاله بمنزلة ما إذا قامت البينة بالعيب كما لو كانت الخصومة في العيب قبل الحجر عليه ثم هذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله: واضح لأنه يجعل أثر الإذن في بقايا تجارته بحاصل الإذن وكذلك عندهما لأن المشتري استحق رد المتاع عليه والرجوع بالثمن عند نكوله حالة العقد فلا يتغير ذلك الاستحقاق بالحجر عليه.(25/177)
وكذلك لو أقر بالعيب عند القبض وهو عيب لا يحدث مثله لأنه لاتهمة في إقراره والقاضي يتيقن بدون إقراره أن العبد كان عنده وإن كان يحدث مثله لم يرده عليه القاضي بإقراره لأن إقراره بمنزلة إنشاء تصرف منه باختياره وهو غير صحيح منه في حق مولاه بعد الحجر إذا لم يكن في يده كسب بالاتفاق وها هنا لا كسب في يده فلا يكون إقراره ملزما مولاه شيئا ولا يكون هو خصما فيه بعد ذلك لأنه أقر به فلا يتمكن من الإنكار بعد ذلك ليقام عليه البينة كالوصي إذا أقر على اليتيم بدين لا يكون هو خصما فيه بعد ذلك ولكن المولى هو الخصم فيه لأنه خلف عنه في غنمه فكذلك في الخصومة فإن أقام المشتري البينة على العيب رده فإن لم يكن له بينة استحلف المولى على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير فإن نكل عن اليمين وأقر بالعيب رده بالعيب.
فإن كان على العبد دين فكذب الغرماء العبد والسيد بما أقرا به من العيب فإقرارهما يكون حجة في حقهما دون الغرماء ويباع المتاع المردود في ثمنه فأعطى ثمنه المشتري فإن(25/178)
ص -88- ... فضل من ثمنه الآخر شيء على ثمنه الأول كان لغرماء العبد لأن الفاضل كسب العبد فيصرف إلى غرمائه وإن نقص عنه كان الفضل في رقبة العبد إلا أن يباع فيبدأ من ثمنه لغرمائه لأن وجوب هذا الفضل كان بإقرار المولى وهو غير صحيح في حق الغرماء فيبدأ من ثمنه بحق غرمائه وإن فضل من ثمنه شيء بعد قضاء دينهم كان للمشتري لأن الفاضل حق المولى وهو مقر بدين المشتري وإن لم يفضل شيء فلا شيء له وإن لم يكن على العبد دين كان ثمن المتاع في رقبته وفي المتاع يباعان فيه بإقرار المولى بذلك للمشتري والحق له في الرقبة والكسب.
وإن حلف المولى لم يرد إن كان على العبد دين أو لم يكن فإذا عتق رد عليه بإقراره لأن إقراره حجة في حقه وإنما كان المانع من العمل حق المولى فإذا عتق صار كالمجدد لذلك الإقرار بعد العتق فيرد عليه ويلزمه الثمن والمتاع له.
وإذا باع المأذون متاعا له بألف درهم وقبض الألف فضاعت من يده ثم حجر عليه مولاه وفي يده ألف درهم ثم طعن المشتري بعيب في المتاع فأقر به العبد ومثله يحدث فهو مصدق في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: لأنه أقر للمشتري بألف درهم عند رد المتاع عليه ولو أقر له بألف درهم مطلقا وفي يده ألف درهم صح إقراره في قول أبي حنيفة باعتبار ما في يده ولا يصح في قولهما وقد بينا هذا فإن كان المولى قبض من يده ذلك المال قبل إقراره بالعيب لم يصدق لأن إقراره صحيح باعتبار ما في يده ولم يبق في يده شيء حين قبض المولى منه وكذلك لو كان في يده مال وعليه دين مثله لأن ما في يده مستحق لغرمائه فلا يمكن تصحيح إقراره فيه وحاله كحال ما لو لم يكن في يده شيء سواه.(25/179)
ولو باع المأذون متاعا له ثم حجر عليه المولى ثم باعه مولاه فوجد المشتري بالمتاع عيبا فليس العبد خصما فيه ولكن الخصم هو المولى إن كان على العبد دين حين باعه مولاه أو لم يكن لأن منافعه بالبيع صارت مملوكة للمشتري فلا يتمكن من صرفه إلى خصمائه بغير رضى المشتري فإن قامت البينة بالعيب رد المتاع وبيع في ثمنه وكان المشتري أحق به من الغرماء فإن لم يف بحقه حاص الغرماء فيما قبض من ثمن العبد لأن دينه ثبت بالبينة وهو حجة في حق الغرماء.
وإن لم يكن له بينة على العبد ولكن أقر به المولى أو نكل عن اليمين فكذلك إلا أن المشتري لا يحاص الغرماء بما بقي من حقه لأن إقرار المولى ونكوله لا يكون حجة في حق الغرماء ولا يضمن المولى له شيئا لأن الغرماء إنما قبضوا ثمن العبد منه بقضاء القاضي لهم به ولو حجر المولى على العبد ولم يبعه ثم طعن المشتري بعيب في المتاع فصدقه به العبد وناقضه البيع بغير قضاء قاض والعيب مما يحدث مثله أو لا يحدث مثله فمناقضته إياه باطلة لأن قبوله بالعيب بغير قضاء قاض بمنزلة الإقالة والإقالة كالبيع الجديد في حق غير المتعاقدين فيكون هذا في حق المولى كشراء العبد إياه ابتداء بعد الحجر فإن أذن له المولى(25/180)
ص -89- ... بعد ذلك لم تجز تلك الإقالة إلا أن يجيز أو يجدد الإقالة بعد الإذن بمنزلة الشراء المبتدأ في حال الحجر فإنه لا ينفذ بالإذن إلا أن يجيزه أو يجدده فإن كان العبد أقر بالعيب في حال الحجر وليس في يده مال ثم أذن له المولى في التجارة لم يؤخذ بذلك الإقرار لأن تأثير الإذن في تنفيذ ما ينشئه من التصرف بعد الإذن لا في تنفيذ ما كان سبق الإذن إلا أن يقر إقرارا جديدا بعد الإذن فحينئذ هو مؤاخذ به كإقراره بدين آخر عن نفسه.
فإن قال المشتري: أقررت بالعيب بعد الإذن وقال العبد أقررت به في حالة الحجر أخذ بإقراره لأنه أضاف الإقرار إلى حالة لا تنافي الإلزام بحكم الإقرار إلا أن يكون العبد صبيا فيكون القول قوله حينئذ لإضافة الإقرار إلى حالة معهودة تنافي الالتزام بحكم الإقرار أصلا إلا أن يقيم المشتري البينة أنه أقر به بعد الإذن الآخر أو في الإذن الأول فالثابت بالبينة يكون كالثابت معاينة.
ولو دفع أجنبي متاعا له إلى عبد مأذون يبيعه له بغير إذن مولاه فباع فهو جائز لأن التوكيل بالبيع من صنيع التجار والمأذون يحتاج إلى ذلك لأنه يستعين بالناس في مثله ومن لا يعين غيره لا يعينه غيره عند حاجته والعهدة على العبد إذا كان عليه دين أو لم يكن لأن هذا التصرف مما يتناوله الفك الثابت بالإذن.(25/181)
وكذلك لو كان دفع مولاه إليه متاعا يبيعه له وعليه دين فإن المولى لا يكون دون أجنبي آخر في الاستعانة به في البيع فإن حجر المولى على العبد ثم طعن المشتري بعيب في المتاع فالعبد خصم في ذلك كما لو كان باع المتاع لنفسه وهذا لأن المشتري استحق الخصومة معه في العيب فلا يبطل حقه بحجر المولى فإن رد عليه ببينته أو بإباء يمين أو كان عيبا لا يحدث مثله بيع المتاع في الثمن فإن بقي منه شيء كان في عتق العبد لأنه في حكم العهدة بمنزلة ما لو باشر العقد لنفسه إلا أنه يرجع به على الأجنبي إن كان باعه له وعلى المولى إن باعه له لأن الحق في كسبه ورقبته لغرمائه والمولى كأجنبي آخر في هذه الحالة وإنما لحقته العهدة بسبب عقد باشره له فرجع به عليه فإن كان المولى والأجنبي معسرين حاص المشتري الغرماء في رقبة العبد ما بقي شيء من حقه لأن دينه ثابت بسبب ظاهر في حق الغرماء تم يرجع المشتري بما بقي بعد ذلك من حقه على الآمر ويرجع عليه الغرماء أيضا بما أخذه المشتري من ثمن العبد لأن ثمن العبد حقهم وقد أخذ المشتري بعض ذلك بسبب دين كان العبد في التزامه عاملا للآمر فيرجعون عليه بذلك فيقتسمونه بالحصة.
وإن كان العبد أقر بالعيب وهو يحدث مثله فإقراره باطل لأنه محجور عليه فلا يكون إقراره حجة في حق المولى والغرماء ولا يكون خصما فيه بعد ذلك ولكن رب المتاع هو الخصم فيه لأن المنفعة في هذا العقد كانت له فإن أبى اليمين أو قامت البينة على العيب أو أقر به رده عليه وأخذ منه الثمن إن كان قبضه من العبد أو هلك عند العبد لأن العبد كان وكيلا عنه فيده في الثمن كيد الموكل.(25/182)
ص -90- ... وإن حلف على العيب ثم عتق العبد ورده المشتري عليه بإقراره الذي كان في حال الحجر وأخذ منه الثمن فكان المتاع للعبد المعتق لأنه كالمجدد لذلك الإقرار بعد العتق ولأن إقراره ملزم إياه في حقه وقد خلص الحق له بالعتق.
باب إقرار المولى على عبده المأذون
قال رحمه الله: وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة ثم أقر عليه بدين أكثر من قيمته وأنكره العبد فالدين كله لازم لأن إقراره في الصورة على العبد وفي الحكم على نفسه فالحكم الثابت في حالة الرق بيع الرقبة في الدين أو قضا الدين من كسبه وذلك استحقاق على المولى وإقراره على نفسه صحيح فيخير المقر له بين أن يطلب بيعه في الدين وبين أن يختار استسعاءه في جميع الدين وكذلك لو أقر عليه بكفالة بأمره فإن كفالة العبد بأمر المولى صحيحة ملزمة إياه بمنزلة التزام الدين بغيره من الأسباب فإن كانت قيمته ألف درهم فأقر المولى عليه بدين عشرة آلاف درهم ثم أعتقه فعلى المولى قيمته للغرماء لأنه بالإعتاق أتلف عليهم مالية الرقبة فيكون ضامنا لهم قيمته ويرجعون أيضا على العبد بقدر قيمته لأن المالية هي حقهم سلمت للعبد بالعتق والإقرار تصرف من المولى عليه باعتبار تلك المالية وهو بملك الرقبة يملك أن يلزمه السعاية في مقدار قيمته بعد العتق بتصرفه.(25/183)
ألا ترى أنه لو رهنه ثم أعتقه وهو معسر يجب على العبد السعاية بقدر قيمته وكذلك لو أقر أنه مرهون عند فلان بدين له عليه ثم أعتقه وهو معسر كان على العبد السعاية في مقدار قيمته فكذلك إذا أقر عليه بالدين وهذا لأن محل الدين الذمة ولكن الدين في ذمة المملوك يكون شاغلا لمالية رقبته وهذه المالية ملك المولى والذمة مملوكة للعبد وفي مقدار مالية الرقبة إقرار المولى كإقرار العبد لمصادفته ملكه فيلزمه السعاية فيه بعد العتق وهذا المعنى ينعدم في الزيادة على قدر القيمة فلا يسعى العبد فيه بعد العتق لأن الكسب بعد العتق خالص ملكه فلا يلزمه أن يؤدي منه إلا مقدار ما هو ثابت في حقه فأما قبل العتق فالكسب ملك المولى والمولى مقر بأن حق المقر له في الكسب مقدم على حقه فلهذا يقضي جميع الدين من كسبه قبل العتق.
ثم وجوب قيمة المالية على المولى لا يمنع وجوب السعاية على العبد بقدر قيمته لأن السبب مختلف فإن السبب في حق المولى إتلاف مالية الرقبة وفي حق العبد وجوب الدين عليه في مقدار القيمة باعتبار نفوذ تصرف المولى عليه وعلى هذا لو أبرؤوا المولى من القيمة أو قومت عليه لم يرجعوا على العبد إلا بقدر قيمة العبد لأن الثابت في حقه يتصرف المولى عليه بعد العتق هذا القدر.
وكذلك لو سعى لهم العبد في خمسة آلاف ثم أعتقه المولى في صحته ثم مات ولم يدع شيئا فعلى العبد أن يسعى لهم في قيمته لأن ما استوفوا كان من ملك المولى وذلك لا يمنع وجوب السعاية على العبد بعد العتق في مقدار قيمته يتصرف المولى عليه إلا أن يكون ما بقي(25/184)
ص -91- ... من الدين أقل منها فحينئذ يلزمه السعاية في الأقل بمنزلة المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر يلزمه السعاية في الأقل من قيمته ومن الدين وهذا لأنه إذا سعى في مقدار الدين وقد وصل إلى الغرماء كمال حقهم فلا معنى لإيجاب السعاية عليه في شيء بعد ذلك.
ولو كان العبد أقر بالدين أيضا لزمه الدين كله كما لو لم يوجد الإقرار من المولى به أصلا وهذا لأن الإقرار من العبد التزام في ذمته وهو خالص حقه وفي الذمة سعة فيثبت جميع الدين بإقراره في ذمته ويؤاخذ به بعد العتق فأما إقرار المولى عليه باعتبار ماليته فلا يثبت به في حق العبد إلا بعد ما يتسع له المحل.
ولو أقر عليه المولى بدين عشرة آلاف وأنكرها عليه العبد فبيع في الدين واقتسم الغرماء ثمنه فلا سبيل لهم على العبد عند المشتري لأن الدين الذي أقر به المولى عليه لا يكون أقوى من دين واجب عليه ظاهرا وهناك إذا بيع في الدين لم يكن للغرماء عليه سبيل عند المشتري وهذا لأن المشتري غير راض باستحقاق شيء عليه بالدين ولا يسلم الثمن للغرماء ما لم يسقط حقهم عن مطالبة في ذلك المشتري لأنهم إن تمكنوا من مطالبته رده المشتري بالعيب ورجع بالثمن فإن أعتقه المشتري رجع الغرماء على العبد بقيمته لأن مقدار القيمة بما أقر به المولى عليه ثبت لزومه في حق العبد بعد العتق بمنزلة جميع الدين الثابت بإقرار العبد أو بتصرفه فكما يطالب هناك بجميع الدين بعد العتق يطالب ها هنا بقيمته بعد العتق.
ولو لم يبع في الدين حتى دبره المولى فللغرماء الخيار بين تضمين المولى قيمته وبين استسعاء المدبر في جميع دينهم لأن المولى بالتدبير صار مفوتا عليهم مالية الرقبة بالبيع في الدين فينزل ذلك منزلة الإعتاق في إيجاب ضمان القيمة لهم على المولى إلا أن الفرق بين هذا وبين الإعتاق من وجهين:(25/185)
أحدهما: أن هناك إذا ضمنوا المولى قيمته رجعوا على العبد بقدر قيمته أيضا وها هنا لا شيء لهم على العبد حتى يعتق لأن كسب المدبر للمولى وهم قد استحقوا على المولى مالية الرقبة حين ضمنوه فلا يبقى لهم سبيل على كسب هو ملك المولى وهناك كسب المعتق ملكه فتضمينهم المولى قيمته لا يمنعهم من الرجوع على المعتق بقيمته ليؤدي من كسبه.
والثاني: أن هناك لا يكون لهم استسعاء العبد إلا في مقدار قيمته وهنا لهم حق استسعاء المدبر في جميع دينهم لأن الكسب بعد التدبير ملك المولى والمولى مقر بجميع الدين وكون المقر له أحق بالكسب منه وهناك الكسب بعد العتق ملك العبد وهو منكر للدين فلا يلزمه أن يؤدي منه إلا مقدار ما يقدر فيه تصرف المولى عليه فإن أعتقه بعد التدبير ها هنا أخذوه بقيمته فقط لأن الكسب بعد العتق ملكه.
وإن أدى خمسة آلاف ثم أعتقه المولى أخذوا منه أيضا قيمته وبطل ما زاد على ذلك لأن المستوفي من ملك المولى فلا يمنع ذلك وجوب مقدار القيمة عليه بعد العتق لنفوذ تصرف المولى عليه في ذلك القدر ولو لم يدبره حتى مرض المولى فأعتقه ثم مات ولا مال له غيره(25/186)
ص -92- ... فعليه أن يسعى في قيمته فيأخذه الغرماء دون الورثة لأن المولى بالإعتاق صار ضامنا مقدار قيمته للغرماء والعتق في المرض وصية فيتأخر عن الدين فعلى العبد أن يسعى في قيمته لرد الوصية ويأخذه الغرماء باعتبار أنه تركة الميت وحق الغريم في تركته مقدم على حق الوارث ثم يأخذ الغرماء العبد بعد ذلك أيضا بقيمته لأنه قد لزمه بعد العتق مما أقر به المولى مقدار قيمته ولا شيء للورثة ولا لغرماء المولى من ذلك لأن ما سعى فيه العبد بدل ماليته ودينه في ماليته مقدم على دين غرماء المولى لأن حق غرماء المولى يتعلق بماليته بمرضه وحق غريم العبد كان ثابتا في ماليته قبل ذلك فلهذا لا يكون لغرماء المولى مزاحمة مع غرماء العبد في شيء مما سعى فيه العبد وإن كان إنما أقر على العبد بالدين في المرض والمسألة على حالها كانت القيمة الأولي لغرماء المولى خاصة لأن حقهم تعلق بماليته لمرض المولى فإقراره على العبد بالدين بعد ذلك بمنزلة إقراره على نفسه وكما لا مزاحمة للمقر له في المرض مع غريم الصحة في تركة المولى فكذلك لا مزاحمة للمقر له في المرض ها هنا والقيمة الأولى التي سعى العبد فيها تركة المولى فتكون لغرماء المولى خاصة ثم يسعى في قيمته لغرماء العبد خاصة لأن وجوب القيمة الثانية عليه باعتبار الدين الواجب عليه لإقرار المولى فيكون ذلك لغرمائه خاصة وهذا لأن حق غرماء المولى تعلق بمالية الرقبة وقد سلمت لهم تلك المالية.(25/187)
ولو لم يقر عليه بالدين ولكن أقر عليه بجناية خطأ فإنه يدفعه بها أو يفديه لأن موجب جناية العبد على المولى فإن المستحق بالجناية نفس العبد على المولى فإقراره عليه بالجناية بمنزلة البينة والمعاينة فيدفع بها أو يفديه وكذلك لو أقر على أمة في يدي العبد أو عبد في يديه بدين أو جناية كان مثل إقراره على العبد بذلك لأن كسب العبد ملك المولى كرقبته فإن أعتقها بعد ذلك فهو بمنزلة ما ذكرنا من إعتاقه العبد بعد الإقرار عليه بالدين وإقرار الأب والوصي على الصبي المأذون له في التجارة أو على عبده باطل لأنه لا ملك له على الصبي ولا في ماله فإقراره عليه يكون شهادة وبشهادة الفرد لا يستحق شيء ثم ثبوت الولاية للأب والوصي على الصبي بشرط النظر وليس في إقرارهما عليه في معنى النظر له عاجلا.
ولو أذن الصبي التاجر لعبده في التجارة ثم أقر الصبي على عبده بدين أو جناية خطأ وجحده العبد كان إقرار الصبي عليه في جميع ذلك بمنزلة إقرار الكبير لأنه بالإذن له في التجارة صار منفك الحجر بمنزلة ما لو صار منفك الحجر عنه بالبلوغ وإقراره بعد البلوغ على عبده بذلك صحيح فكذلك بعد الإذن وكذلك المكاتب أو العبد المأذون يأذن لعبده في التجارة ثم يقر عليه ببعض ما ذكرنا فهو بمنزلة إقرار الحر على عبده لأن بالكتابة والإذن له في التجارة يصير منفك الحجر عنه في الإقرار بالدين والعين إذا أقر به على نفسه فكذلك فيما يقر به على عبده لأن صحة إقراره على العبد باعتبار أن المستحق به ملك المقر والمكاتب والمأذون في هذا أسوة الحر.(25/188)
ص -93- ... وإذا اشترى المكاتب ابنه أو أباه أو ولد له من المكاتبة ولد فهو مأذون له في التجارة وإن لم يأذن له المكاتب قال لأنه مكاتب معه فإن المكاتب بمنزلة الحر يدا وولده ووالده بينهما بعضية فكما يثبت باعتبار هذا السبب حقيقة الحرية له إذا ملكه الحر فكذلك يثبت له الحرية يدا إذا ملكه المكاتب لأن ملك المكاتب يحتمل هذا القدر.
ألا ترى أنه يكاتب عبده فيصح وبهذا يتبين أن من قال من أصحابنا لا يكاتب أحد على أحد فذلك وهم منه قاله من غير تأمل في الروايات المنصوصة وإذا ثبت أنه صار مكاتبا فمن ضرورته الإذن له في التجارة لأن انفكاك الحجر بالكتابة أقوى منه بالإذن له في التجارة فإن أقر عليه المكاتب بدين لم يصدق عليه لأن من يكاتب عليه صار ملكا للمولى داخلا في كتابته كنفس المكاتب وإقراره على مكاتب مولاه ليس بصحيح.
ألا ترى أنه لا يملك أن يشغله بالدين بطريق الرهن فكذلك لا يملك الإقرار عليه بالدين إلا أن المقر له أحق بما يكسبه وبما في يده من مال كان اكتسبه ولم يأخذه منه المكاتب لأن المكاتب كان أحق بكسبه وأخذه فيستعين به على أداء بدل الكتابة وقد أقر أن المقر له بالدين أحق بهذا الكسب وإقراره صحيح في حق نفسه فإن كان المكاتب قد أخذ منه قبل إقراره مالا فإن ذكر المكاتب أن الدين وجب عليه بعد قبضه المال منه فالقول قوله ولا حق للغريم فيما قبضه لأن بقبض المكاتب يخرج ذلك من أن يكون كسبا له والدين إنما يلزمه في كسبه وكسبه ما في يده عند وجوب الدين عليه أو ما يكتسبه بعد ذلك وإن ذكر أنه وجب عليه قبل قبضه فالغريم أحق به منه لإقراره بتعلق حق الغريم به قبل أن يقبضه منه المولى وإن اختلفا في ذلك فالقول قول المكاتب في ذلك مع يمينه على علمه لأن الغريم يدعي استحقاق ذلك المال عليه والمكاتب منكر لذلك.(25/189)
ولو أقر عليه المكاتب بالدين ثم أدى فعتق عتق هذا معه لكونه داخلا في كتابته ولا شيء على واحد منهما في ذلك الدين أما على المكاتب فلأنه لم يتلف على الغرماء شيئا من محل حقهم إذ لا حق لهم في مالية رقبتهم ما دام مكاتبا وأما على المقر له فلأن إقرار المكاتب عليه باطل وإنما كان يأخذ كسبه باعتبار أن المكاتب أحق بذلك الكسب وبعد العتق الكسب خالص ملكه فلا يلزمه أداء شيء منه بإقرار المكاتب عليه.
ولو كان اشترى أخاه أو ذا رحم محرم فيه فالجواب كذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن هؤلاء يتكاتبون عليه عندهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله: فهذا بمنزلة إقراره على عبده لأنهم لا يتكاتبون عليه فإذا أدى المكاتب عتق وعتقوا جميعا لأنه ملك ذا رحم محرم منه ويضمن المكاتب من الدين الذي أقر به قدر قيمة المقر عليه يوم عتق ثم يكون على المقر عليه الأقل من قيمته وما بقي من الدين بمنزلة الحر إذا أقر على عبده ثم أعتقه وهذا لأن حق المقر له تعلق بمالية رقبته حين كان يجوز له بيعه.
ولو كان حين اشترى ابنه أو أباه أقر عليه بجناية خطأ فإقراره عليه باطل لأن موجب(25/190)
ص -94- ... جناية المكاتب يكون عليه دون مولاه ومن يكاتب على المكاتب فهو مملوك للمولى فلهذا بطل إقرار المكاتب عليه بالجناية عليه فإن اكتسب مالا كان المكاتب أحق به من صاحب الجناية لأن جناية المكاتب لا تكون مالا إلا بقضاء القاضي ولهذا لو جنى المكاتب ثم عجز فرد في الرق يدفع به أو يفدى ولا يباع فيه فقبل قضاء القاضي لا تكون جنايته متعلقة بكسبه فلهذا كان كسبه للمكاتب دون صاحب الجناية فإن لم يأخذه المكاتب منه حتى مات المقر له عليه بالجناية أخذ صاحب الجناية من ذلك المال الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن بموته تحقق اليأس عن دفعه فصارت جنايته مالا بمنزلة قضاء القاضي به فيتعلق بكسبه وما بقي من المال في يده فهو في كسبه فينفذ إقرار المكاتب فيه.
ولو كان المكاتب قبض منه كسبه قبل موته لم يكن لصاحب الجناية على ذلك سبيل لأنه إنما تصير جنايته مالا بعد موته وما أخذه قبل ذلك خرج عن أن يكون كسبا له فلا يثبت فيه حق ولي الجناية بمنزلة ما لو أخذ منه كسبه ثم أقر عليه بدين لزمه بعد ما أخذه ولو لم يمت ولم يأخذ منه المكاتب كسبه حتى أدى المكاتب فعتقا فالكسب كله للمكاتب ولا شيء لصاحب الجناية فيه ولا على واحد منهما لأن إقراره بالجناية عليه كان باطلا قبل العتق وقد ازداد بالعتق بعدا عنه فلا وجه للحكم بصحة إقراره عليه بعد العتق والجناية إنما تصير مالا بعد العتق وبعد العتق لا حجة له عليه بالجناية فلهذا لا يجب شيء للمقر له على واحد منهما.(25/191)
ولو كان المكاتب أقر عليه بجناية خطأ ثم أقر عليه بدين ثم اكتسب المقر عليه مالا كان صاحب الدين أحق به لأن الجناية لا تصير مالا إلا بقضاء القاضي وما لم يصر مالا لا يتعلق صاحب الجناية بالكسب فيكون ما اكتسب لصاحب الدين خاصة إذ لا مزاحم له فيه فإذا لم يأخذه حتى مات تحاص فيه صاحب الجناية إلا قل من قيمته ومن أرش الجناية وصاحب الدين بدينه لأنه رفع الناس عن الدفع بموته فتصير الجناية مالا والكسب في يده على حاله فيتعلق حق صاحب الجناية به لأن الوجوب وإن تأخر فقد كان بسبب سابق على حق صاحب الدين فكان حق صاحب الدين أحق بدينه لأن لكل واحد من الخصمين نوع قوة من وجيه أما حق صاحب الجناية فلسبق السبب وأما حق صاحب الدين فلأنه تعلق بالكسب كما أقر به فلهذا الحق سبق من حيث التعلق بالكسب وللآخر سبق من حيث السبب فيستويان في القوة ويتحاصان في الكسب.
وكذلك إن كان المكاتب أخذ منه قبل موته كان أخذه غصبا باعتبار أن حق صاحب الدين فيه مقدم على حقه فكونه في يده وكونه في يد المقر عليه سواء ولو لم يمت ولكن المكاتب أدى الكتابة كان صاحب الدين أحق بذلك المال وبطلت الجناية لأن الجناية لو صارت مالا إنما تصير مالا بعد العتق ولا وجه لذلك لانعدام الحجة فإقرار المكاتب لا يكون حجة على المقر عليه بعد العتق باعتبار نفسه ولا باعتبار كسبه والجناية إنما تصير مالا على أن تكون دينا(25/192)
ص -95- ... في ذمته ثم يقضي من كسبه فإذا انعدم ذلك بعد العتق كان صاحب الدين أحق بذلك المال فإن فضل من حقه شيء كان للمكاتب.
ولو أقر عليه أولا بدين ثم بجناية ثم مات المقر عليه وفي يده مال بدئ منه بالدين لأن الدين أقوى من حق صاحب الجناية فإنه أسبق سببا وتعلقا بالكسب واعتبار إقرار المكاتب عليه لأجل الكسب وإنما يعتبر ذلك إذا فرغ الكسب عن صاحب الدين فأما ما بقي من الدين فحق الغريم مقدم على حق المكاتب فيه فلا يعتبر إقراره فيه بالجناية فإن بقي شيء بعد الذي كان لصاحب الجناية بموت المقر عليه صارت مالا وهذا الفاضل من الكسب حق المكاتب فأخذه المقر له بالجناية لحكم إقراره.
ولو كان أقر بالدين أولا ثم بجناية ثم بدين وهو يجحد ثم مات المقر عليه وفي يده مال فإنه يبدأ منه بالدين أولا لأن حق المقر له الأول أقوى من حق صاحب الجناية للسبق والتعلق بالكسب كما أقر به وهو أقوى من حق صاحب الدين الآخر لأنه أسبق تعلقا بالكسب فإن فضل من دينه شيء تحاص فيه صاحب الجناية والدين الآخر لأن الغريم الأول لما استوفى حقه صار كان لم يكن وكأنما يفي هو جميع الكسب وقد أقر عليه بالجناية ثم بالدين وفي هذا هما يتحاصان لقوة في كل واحد منهما من وجه ولو لم يمت ولكن المكاتب أدى فعتق بدئ بالدين الأول ثم بالدين الآخر فما فضل عن الدينين فهو للمكاتب لما بينا أنه لا وجه لإيجاب المال عليه بإقرار المكاتب بالجناية عليه بعد العتق فكأنه ما أقر عليه إلا بدين ثم بدين فيبدأ من كسبه بالدين الأول لأنه أقوى ولا مزاحمة للضعيف مع القوي ثم بالدين الآخر.(25/193)
ولو أقر عليه بجناية ثم مات المقر عليه وفى يده مال فإنه يتحاص أصحاب الجناية الأولى وصاحب الدين في ذلك المال لاستوائهما في القوة من حيث إن كل واحد منهما له نوع قوة من وجه ثم يدخل صاحب الجناية الأخيرة مع صاحب الجناية الأولى فيشاركه فيما أصاب لأن صاحب الدين لما استوفى حقه خرج من الدين وحق صاحب الجناية الأولى والجناية الأخيرة سواء.
ألا ترى أنه لو لم يتخللهما الإقرار بالدين كانا مستويين في الكسب لأن حق كل واحد منهما إنما يصير مالا بعد موت المقر عليه ويتعلق بالكسب في وقت واحد والأسباب مطلوبة لإحكامها لا لأعيانها فإذا كان صيرورة الجنايتين مالا في وقت واحد كانا مستويين في الكسب كما لو أقر بهما معا فلهذا دخل صاحب الجناية الأخيرة مع صاحب الجناية الأولى ويشاركه فيما أصابه.
فإن قيل: هذا ليس بصحيح لأن ما يأخذه صاحب الجناية الأخيرة لا يسلم له وأن صاحب الدين ما استوفى كمال حقه فيكون له أن يأخذ من يد صاحب الجناية الأخيرة ما يصل إليه ويقول حقي مقدم على حقك في الكسب.(25/194)
ص -96- ... قلنا: القول بهذا يؤدي إلى دور لا ينقطع أبدا لأنه إذا أخذ ذلك منه لا يسلم له ولكن يأخذه منه صاحب الجناية الأولى لأنه يقول حقي في الكسب مثل حقك فليس لك أن تفضل علي بشيء من الكسب فإذا أخذ ذلك منه أتاه صاحب الجناية الأخيرة واسترد ذلك منه لأن حقه مثل حقه فلا يزال يدور هكذا فلقطع هذا الدور قال: لا يكون لصاحب الدين سبيل على ما يأخذه صاحب الجناية الأخيرة فإن استوفى صاحب الجناية الأولى وصاحب الدين حقهما وبقي شيء أضيف ذلك الباقي إلى ما أصاب صاحب الجناية الأولى فاقتسم جميع ذلك صاحبا الجنايتين نصفين حتى يستوفيا حقهما لأن حقهما في الكسب سواء والمانع لصاحب الجناية الأخيرة من المزاحمة حق صاحب الدين وقد انعدم ذلك بوصول كمال حقه إليه ولو لم يمت المقر عليه ولكن المكاتب أدى فعتق فصاحب الدين أحق بما في يد المقر عليه حتى يستوفي دينه فما فضل عنه كان للمكاتب ولا شيء لصاحب الجنايتين بعد عتق المقر عليه لما بينا.
ولو كان أقر عليه بجناية ثم بجناية في كلام متصل أو منقطع ثم مات المقر عليه تحاصا في تركته لأن كل واحدة من الجنايتين إنما تصير مالا بعد موته وتعلقهما بالكسب في وقت واحد وفي مثله المتقدم والمتأخر سواء كالمريض إذا أقر بدين ثم بدين ثم مات تحاصا في تركته سواء كان الإقرار بكلام متصل أو منقطع ولو كان أقر عليه بدينين لرجلين في كلام متصل تحاصا أيضا في تركته لأن في آخر كلامه ما يغير موجب أوله وأن موجب أول الكلام اختصاص المقر له بالكسب ويتغير ذلك بالإقرار للثاني فيصير موجبه المشاركة بينهما في الكسب ومتى كان في آخر كلامه ما يغير موجب أوله توقف أوله على آخره فكأنه أقر لهما جميعا.(25/195)
وإن كان قطع كلامه بين الإقرارين بدئ بالأول فإن فضل عنه شيء كان للثاني سواء مات المقر عليه أو أدى المكاتب مكاتبته لأن صحة إقرار المكاتب عليه باعتبار الكسب وكما أقر للأول بالدين تعلق حق المقر له بالكسب فإقراره بعد ذلك غير مقبول في إثبات المزاحمة للثاني مع الأول وهو نظير الوارث إذا أقر على الميت بدين ثم بدين فإنه يبدأ بما في يده بالدين الأول لهذا المعنى.
وإذا أذن للعبد في التجارة وقيمته ألف درهم فأدان ألف درهم ثم أقر المولى عليه بدين ألف درهم وهو يجحد ذلك ثم أن المولى أعتقه فالغريم الذي أدان العبد بالخيار لأن حقه أقوي لأنه دين من كل وجه والضعيف لا يظهر مع القوى فكأنه ليس لأحد عليه شيء سواه فإن شاء ضمن المولى قيمة العبد بإتلافه المالية المستحقة له بالإعتاق وإن شاء أخذ دينه من العبد لأن دينه كان ثابتا في ذمة العبد قبل العتق فبالعتق ازداد قوة ووكادة فإن ضمنه المولى لم يكن للآخر على المولى ولا على العبد شيء أما على المولى فلأنه ما أتلف إلا مالية الرقبة وقد ضمن جميع بدلها مرة وأما على العبد فلأن صحة إقرار المولى عليه باعتبار مالية الرقبة.
ألا ترى أنه بعد العتق لا يسعى إلا في مقدار مالية الرقبة لو لم يكن عليه دين آخر وهنا(25/196)
ص -97- ... لا فضل في مالية الرقبة على دين العبد فيبطل إقرار المولى عليه لانعدام محله وإن اختار الغريم أخذ دينه من العبد فللمقر له أن يأخذ المولى بقيمة العبد لأن المولى صار متلفا مالية الرقبة بالعتق ولم يغرم لصاحب دين العبد شيئا حين اختار اتباع العبد فيجعل في حقه كأنه لم يكن على العبد دين سوى ما أقر به المولى عليه فيكون للمقر له أن يضمنه قيمه العبد لأن المولى مصدق على نفسه وإن لم يكن مصدقا على عبده.
ولو كان المولى أقر على العبد بدين ألفي درهم ولا دين عليه سواه وجحده العبد ثم صار على العبد ألف درهم بإقرار أو ببينة فإنه يباع فيضرب كل واحد منهما في ثمنه بجميع دينه لأن إقرار المولى عليه صادف محلا فارغا فإنه لم يكن عليه دين آخر حين أقر به المولى فيثبت جميع ما أقر به المولى في حال رقه وإن كان أكثر من قيمته.
ألا ترى أن للمقر له أن يستسعيه في جميع الدين وكذلك يثبت ما أقر به العبد على نفسه بعد ذلك لبقائه مأذونا بعد إقرار المولى عليه فإذا بيع ضرب كل واحد منهما في ثمنه بجميع دينه كما لو حصل الإقرار أن من العبد ولو كان إقرار العبد أولا بدئ به لأن حق غريمه تعلق بمالية رقبته فإقرار المولى بعد ذلك صادف مالية مشغولة وصحة إقراره باعتبار الفراغ فلا يظهر مع الشغل فلهذا بدئ من ثمنه بما أقر به العبد على نفسه بخلاف ما لو كان الإقرار أن من العبد لأن صحة إقراره باعتبار الإذن لا باعتبار الفراغ.(25/197)
وكذلك إن بيع بألفي درهم فخرج منهما ألف وتويت ألف كان الخارج منها للذي أقر له العبد لأن التاوي غير معتبر وباعتبار الحاصل إقرار المولى لم يصادف الفراغ في شيء مما أقر به فإن كان العبد أقر بألف ثم أقر عليه المولى بألف ثم أقر العبد بألف فإنه يباع ويتحاص في ثمنه اللذان أقر لهما العبد لاستواء حقهما في القوة فإن الإقرارين من العبد جميعهما حالة الإذن ولا مزاحمة معهما للذي أقر له المولى لأن حقه أضعف فإقرار المولى ما صادف فراغا في شيء من المالية فإن بقي من ثمنه شيء بعد قضاء دينهما كان للذي أقر له المولى لأن الفاضل للمولى وقد زعم هو أن المقر له أحق بذلك منه وزعمه في نفسه معتبر.
ولو لم يقر العبد على نفسه بشيء وأقر عليه المولى بدين ألف درهم ثم بدين ألف درهم في كلام منقطع فإنه يباع فيبدأ بالألف لأن حق الأول أقوى فإقرار المولى له صادف فراغا ولأن صحة إقرار المولى على عبده باعتبار المالية وقد صارت المالية مستحقة للمقر له الأول فلا يعتبر إقراره في إثبات المزاحمة للثاني معه ولكن يستوفي الأول دينه فإن بقي شيء كان للثاني وإن كان وصل كلامه فقال لفلان على عبدي هذا ألف درهم ولفلان ألف درهم تحاصا في ثمنه لأن في آخر كلامه ما يغير موجب أول كلامه فإن صدقه العبد في أحدهما والكلام متصل أو منقطع تحاصا في ثمنه لأن العبد بالتصديق صار مقرا بدين أحدهما فكأن المولى أقر عليه بدين ثم أقر العبد على نفسه بدين وفي هذا يتحاصان في ثمنه وإن صدقه في أولهما بدئ به لأن التصديق متى اتصل بالإقرار كان كالموجود عند الإقرار.(25/198)
ص -98- ... ألا ترى أن الصحيح إذا أقر بدين لغائب ثم حضر المقر له في مرضه وصدقه جعل ذلك دين الصحة فها هنا أيضا يصير العبد بالتصديق كالمقر بذلك الدين حين أقر المولى به فهو نظير ما لو أقر العبد على نفسه بدين ثم أقر المولى عليه بدين وهذا إذا كان إقرار المولى بهما منقطعا فإن كان متصلا تحاصا في ثمنه لأن باتصال الكلام يصير كان الإقرارين من المولى وجدا معا فتثبت المحاصة بينهما في ثمنه ثم التصديق من العبد بعد ما أوجب الدينين في رقبته لا يكون مغيرا للحكم.(25/199)
ولو كانت قيمة العبد ألف درهم وخمسمائة فأقر العبد بدين ألف درهم ثم أقر المولى عليه بدين ألف درهم ثم أقر العبد بدين ألف ثم بيع العبد بألفي درهم فإنه يضرب كل واحد من غريمي العبد في ثمنه بجميع دينه ويضرب الذي أقر له المولى في ثمنه بخمسمائة فيكون الثمن بينهم أخماسا لأن الإقرارين من العبد جميعهما حالة الإذن فيثبت جميع دين كل واحد منهما فأما الإقرار من المولى فحين وجد كان الفارغ منه بقدر خمسمائة لأن قدر الألف من ماليته كان مشغولا بحق غريم العبد وصحة إقرار المولى عليه باعتبار الفراغ وإنما يصح من إقرار المولى في حق المزاحمة بقدر الفارغ منه وهو خمسمائة فإذا جعلت كل خمسمائة سهما كان الثابت على العبد خمسة أسهم فيجعل ثمنه على خمسة لكل واحد من غريمي العبد خمساه وللذي أقر له العبد خمسه ولو لم يبع وأعتقه المولى وقيمته ألف وخمسمائة كان ضامنا لهما قيمته بالإعتاق ثم هذه القيمة بدل مالية الرقبة كالثمن لو بيع العبد فيقسم بينهم أخماسا فيجعل لكل واحد من غريمي العبد خمسمائة ويرجع كل واحد منهما على العبد بما بقي من دينه وهو أربعمائة لأن جميع دين كل واحد منهما ثابت على العبد ويرجع الذي أقر له المولى على العبد بمائتين لأن الثابت من دينه على العبد خمسمائة وقد وصل إليه ثلاثمائة فبقي من هذا الثابت مائتان وإن شاء الغرماء تركوا المولى واتبعوا العبد بالثابت من ديونهم فإن اتبعوه أخذ منه الغريمان اللذان أقر لهما العبد جميع دينهما ألفي درهم وأخذ منه الذي أقر له المولى خمسمائة لأن هذا القدر هو الثابت على العبد بإقرار المولى عليه فلا يطالبه بعد العتق إلا به ثم يرجع على المولى بخمسمائة درهم أيضا لأن المولى مقر بأن ذلك الدين على عبده وأنه استهلك رقبته بالإعتاق وقد بريء من حق غريمي العبد بإبرائهما إياه فكان للذي أقر له المولى أن يرجع عليه بما بقي من دينه حتى يصل إليه كمال حقه.(25/200)
ولو كانت قيمة العبد ألف درهم فأقر العبد بدين ألف درهم ثم أقر المولى عليه بدين ألف درهم ثم ازدادت قيمته حتى صارت ألفي درهم ثم أقر العبد بدين ألف درهم ثم بيع بألفي درهم فجميع الثمن للذين أقر لهما العبد خاصة لأن المولى أقر عليه وليس في ماليته شيء فارغ عن حق غريم العبد عند ذلك وصحة إقرار المولى عليه باعتبار الفراغ فلم يثبت شيء مما أقر به المولى في مزاحمة غريمي العبد وبالزيادة التي حدثت بعد ذلك لا يتغير حكم إقرار المولى إذ لا معتبر بالزيادة المتصلة وحين بيع فلا فضل في ثمنه على حق غريميه،(25/201)
ص -99- ... فلهذا كان الثمن كله لغريمي العبد ولو أعتقه المولى يضمن قيمته لأن القيمة بدل المالية كالثمن.
ولو اختار اللذان أقر لهما العبد اتباعه وأبرؤوا من القيمة المولى كان للذي أقر له المولى أن يأخذ المولى بجميع دينه لأن المولى استهلك مالية الرقبة وفي زعمه أن حق المقر له كان ثابتا في هذه المالية وزعمه معتبر في حقه ثم حقه ثابت في هذه المالية إذا فرغ من حق غريمي العبد بدليل أنهما لو أبرآه عن دينهما بيع للمقر له وحين اختار المقر اتباع العبد فقد فرغت هذه المالية من حقهما فلهذا كان للذي أقر له المولى أن يضمنه هذه المالية ويستوفيه بدينه.
ولو كانت قيمة العبد ألف وخمسمائة فأقر عليه المولى بدين ألف ثم بألف ثم بألف في كلام منقطع ثم بيع العبد بألفا فهو بين الأولين أثلاثا يضرب فيه الأول بألف والثاني بخمسمائة لأن جميع الدين الأول ثبت على العبد بإقرار المولى به فإنه صادف محلا فارغا وقد ثبت من دين الثاني نصفه بإقرار المولى لأن الفارغ من ماليته عند ذلك كان بقدر خمسمائة فيضرب كل واحد منهما في الثمن بما هو ثابت من دينه.(25/202)
ولو أعتقه المولى وقيمته ألف درهم ضمن قيمته ألف درهم لأن وجوب الضمان عليه باستهلاك المالية بالإعتاق وإنما يعتبر قيمة المستهلك عند الاستهلاك ثم يقتسم الأولان هذه القيمة بينهما أثلاثا على قدر الثابت من دين كل واحد منهما لما بينا أن في ثبوت الدين يعتبر الفراغ وقت الإقرار ثم يرجعان على العبد بخمسمائة لأن الثابت من دينهما على العبد ألف وخمسمائة وقد استوفيا من المولى مقدار ألف فيرجعان على العبد بما بقي مما هو ثابت من دينهما وهو خمسمائة فيقتسمانها أثلاثا وإن طلبا أولا أخذ العبد أخذاه بألف درهم مقدار قيمته لأن العبد بعد العتق لا يلزمه من الدين الذي أقر عليه المولى به إلا مقدار قيمته فيرجعان عليه بألف مقدار قيمته ويقتسمان ذلك أثلاثا على قدر الثابت من دينهما ثم يرجعان على المولى بجميع قيمته أيضا لأنه استهلك مالية الرقبة فيكون ضامنا لهما جميع القيمة فإذا استوفيا ذلك منه وصل إليهما جميع دينهما بخلاف ما إذا ضمنا المولى في الابتداء فهناك لا يتبعان العبد إلا بالباقي مما هو ثابت من دينهما وهو خمسمائة لأن العبد كان منكرا لما أقر به المولى عليه فأما إذا أتبعا العبد أولا بمقدار قيمته والمولى مقر إن جميع دينهما ثابت فبحكم إقراره يكون لهما أن يأخذا المولى بجميع القيمة حتى يصل إلى كل واحد منهما كمال حقه.
وإذا أتبعا المولى فاستوفيا منه خمسمائة اقتسما ذلك أثلاثا أيضا ثم قد وصل إلى المقر له الأول كمال حقه فالخمسمائة الباقية على المولى يستوفيها المقر له الثاني ولو كان المولى أقر بهذه الديون إقرارا متصلا كانوا شركاء في ثمن العبد لأن باتصال الكلام يصير كأن الإقرار منه لهم حصل في كلام واحد معا وإن أعتقه المولى اتبعوا المولى بالقيمة ثم يرجعوا على العبد(25/203)
ص -100- ... بقدر قيمته مما بقي من دينهم وما زاد على ذلك فهو تاو لأن المولى لا يغرم إلا قيمة ما استهلك والعبد بعد العتق لا يغرم مما أقر به المولى عليه إلا مقدار قيمته حتى لو كانت قيمة العبد ألف درهم فأقر عليه المولى بدين ألف ثم أقر بعد ذلك بدين ألف ثم ازدادت قيمته حتى صارت ألفين ثم أقر عليه بدين ألف ثم بيع العبد بألفي درهم فهو بين الأول والآخر نصفان ولا شيء للأوسط لأنه حين أقر للأول ثبت جميع ما أقر به لفراغ ماليته عند ذلك وحين أقر للثاني لم يثبت شيء مما أقر به لأنه ليس في ماليته فضل على الدين الأول وحين أقر للثالث ثبت جميع ما أقر به له لأن في ماليته فضلا على حق الأول بقدر الألف وإقرار المولى عليه متى صادف محلا فارغا كان صحيحا فلهذا قسم الثمن بين الأول والآخر نصفين وإن بيع بألفين وخمسمائة استوفى الأول والآخر دينهما وكان الفضل للأوسط لأن الفاضل من حقهما للمولى والمولى مقر بوجوب الدين للثاني عليه وهو مصدق على نفسه.
ولو أعتقه المولى وقيمته ألفان أخذ الأول والآخر قيمته من المولى ولا شيء للأوسط لأن القيمة بدل المالية كالثمن فإن أعتقه وقيمته ألفان وخمسمائة أخذ الأول والآخر من المولى ألفين وكانت الخمسمائة الباقية للأوسط باعتبار زعم المولى ولا شيء له على العبد لأن شيئا من دينه غير ثابت في حق العبد فإن توى بعض القيمة على المولى كان التاوي من نصيب الأوسط خاصة لأن حقه في الفاضل ولا يظهر ذلك ما لم يستوف الأول والآخر كمال حقهما بمنزلة مال المضاربة إذا توى منه كان التاوي من الربح دون رأس المال.(25/204)
ولو كانت قيمة العبد ألفا وخمسمائة فأقر المولى عليه بدين ألف ثم بألف ثم بألفين ثم بيع العبد بثلاثة آلاف فإن الأول يستوفي ألف درهم تمام دينه وكذلك الثاني ويبقى ألف درهم فهو للثالث فإن خرج من الثمن ألف درهم وتوى الباقي كان ثلثا الألف للأول وثلثها للثاني لأن جميع دين الأول ثابت على العبد والثابت من حق الثاني بقدر خمسمائة لأن الفارغ عن ماليته يومئذ كان هذا المقدار فيقتسمان ما يخرج من الثمن على قدر الثابت من دينهما فيكون الخارج تمام دينه لأن حقه أقوى من حق الثالث فالإقرار له من المولى كان سابقا على الإقرار للثالث فما يتوي يكون على الغريم الثالث وإن استوفى الثاني جميع دينه ثم خرج شيء بعد ذلك كان للثالث.
ولو كان الإقرار كله متصلا كان الخارج بينهم على قدر دينهم والتاوي بينهم جميعا بمنزلة ما لو حصل الإقرار لهم بكلام واحد ولو كان الإقرار منقطعا ثم أقر العبد بعد ذلك بدين ألف ثم بيع بثلاثة آلاف فإن الغريم الأول والذي أقر له العبد يأخذ كل واحد منهم جميع دينه وكذلك الثاني الذي أقر له المولى يأخذ جميع دينه مما بقي من الثمن ولا شيء للثالث لأن حقه دون حق الثاني وحق غريم العبد ثابت بعد إقرار المولى لبقاء الإذن فإن توى من الثمن ألف درهم وخرجت ألفان كانتا بين الأول والثاني والذي أقر له العبد أخماسا لأن جميع دين الأول ثابت وجميع دين الذي أقر له العبد على نفسه ثابت والثابت للمقر له الثاني مقدار(25/205)
ص -101- ... خمسمائة فإن الفارغ من مالية الرقبة يومئذ كان هذا القدر فيضرب كل واحد منهم في الخارج من الثمن بقدر الثابت من دينه فيكون مقسوما بينهما أخماسا سواء كان الخارج ألفين أو ألفا وخمسمائة للأول خمسماه وللذي أقر له العبد خمسماه وللثاني الذي أقر له المولى خمسه.
وإذا أذن لعبده في التجارة وقيمته ألف درهم فاشترى وباع حتى صار في يده ألف درهم ثم أقر العبد بدين ألف ثم أقر عليه المولى بألف فالألف الذي في يده بين الغريمين نصفان لأن دين العبد يقضي من كسبه كما يقضي من بدل رقبته وباعتبارهما جميعا إقرار المولى صادف محلا فارغا في جميع ما أقر به فهو كما لو حصل الإقراران من العبد فيقسم الكسب بينهما نصفان ولو كان المولى أقر عليه بألفين معا قسم ثمن العبد وما له بينهما نصفين لأن الثابت مما أقر به المولى عليه بقدر الفارغ من مالية رقبته وكسبه وذلك مقدار ألف فلهذا قسم الثمن والكسب بينهما نصفين.
ولو كان المال في يد العبد خمسمائة فأقر العبد بدين ألف ثم أقر عليه المولى بدين ألفين ثم أقر العبد بدين ألف لم يضرب الذي أقر له المولى في ثمن العبد وكسبه مع غريميه إلا بخمسمائة لأن الفاضل حين أقر له المولى مقدار خمسمائة فيثبت بما أقر به المولى وجميع دين كل واحد من غريمي العبد ثابت فيقسم الثمن والكسب بينهم أخماسا.(25/206)
ولو كان أقر المولى قبل إقرار العبد بالدين الأول كان ثمن العبد وماله بينهم أرباعا سهمان من ذلك للذي أقر له المولى ولكل واحد من غريمي العبد سهم لأن المولى حين أقر عليه كان العبد فارغا عن كل دين فثبت جميع ما أقر به المولى في حال رقه وإن كان أكثر من قيمته فيضرب في الثمن والكسب الذي أقر له المولى في جميع دينه فلهذا كانت القسمة أرباعا بخلاف الأول فهناك إقرار المولى وجد بعد اشتغال العبد بالدين الذي أقر به على نفسه فلا يثبت مما أقر به المولى عليه إلا بقدر الفاضل من ماليته على دين العبد لأن مقدار الفاضل فارغ من دين العبد فيصح إقرار المولى عليه بقدر ذلك والله أعلم.
باب إقرار العبد لمولاه
قال رحمه الله: وإذا باع العبد المأذون المديون متاعا له من مولاه بقدر قيمته أو بأكثر فهو جائز لأنه ليس في تصرفه إسقاط حق الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به وقد بينا فرق أبي حنيفة بين هذا وبين بيع المريض من وارثه فإذا سلم المتاع إلى مولاه وأقر بقبض الثمن منه لم يصدق على ذلك حتى تشهد الشهود على معاينة القبض لأن في تصحيح إقراره إبطال حق الغرماء عما تعلق حقهم به من مالية الثمن والعبد فيما يقر به لمولاه متهم في حق غرمائه لأنه يؤثر مولاه على غرمائه وإقرار المتهم لا يصح في إبطال حق الغير بخلاف إقراره بقبض الثمن من أجنبي لأنه غير متهم في ذلك.
يوضحه: أن إقراره بالقبض في معنى الإقرار بالدين لأن الديون تقضي بأمثالها،(25/207)
ص -102- ... والمقبوض يصير مضمونا على القابض ثم يسقط الدين بطريق المقاصة وإقراره للأجنبي بالدين أو بالعين صحيح في حق الغرماء فكذلك إقراره بالقبض من الأجنبي فأما إقراره بالدين والعين لمولاه فلا يكون صحيحا في حق الغرماء فكذلك إقراره بالقبض والمولى بالخيار إن شاء أعطى الثمن مرة أخرى وإن شاء نقض البيع ورد المتاع لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها وذلك مثبت له الخيار وإقرار العبد له صحيح في إثبات الخيار لأنه يملك الإقالة معه إذ ليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به فكذلك إقراره يجعل معتبرا في إثبات حق الفسخ للمولى.
فإن كان المتاع قد هلك في يده فعليه أن يؤدي الثمن ولا خيار له لأن فسخ العقد في الهالك لا يتحقق وإثبات الخيار له للفسخ وكذلك إن كان حدث به عيب عنده لأن في إثبات خيار الفسخ له ها هنا إضرارا بالغرماء ولأنه يثبت له خيار الفسخ لدفع الضرر عن نفسه فلا يجوز إثباته على وجه يكون فيه إلحاق الضرر بغيره وكذلك كل دين وجب للعبد على مولاه فأقر بقبضه منه لم يصدق ولا يبرأ المولى منه حتى يعاين الشهود القبض لما بينا أن إقراره بالقبض في معنى الإقرار له بالدين أو العين وكذلك إقرار وكيل العبد بقبض الدين من المولى لأن الوكيل قائم مقام الموكل فإنه هو الذي سلطه على القبض فإقراره بالقبض كإقرار الموكل به صدقه العبد في ذلك أو كذبه.
وإذا أذن الرجل لابنه الصغير في التجارة أو أذن له وصي الأب فلحقه دين ثم باع عبدا من ابنه أو من وصى ابنه فبيعه جائز إذا باعه بالقيمة أو بأقل منها بما يتغابن الناس فيه لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالبلوغ.(25/208)
ألا ترى أنه في تجارته مع الأجنبي يجعل كذلك فكذلك في تجارته مع الأب والوصي وإن كان باعه بشيء لا يتغابن الناس فيه لم يجز بيعه في قياس قول أبي حنيفة ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد أما عندهما فظاهر لأن الصبي المأذون والعبد عندهما لا يملكان البيع بالمحاباة الفاحشة من أجنبي لأن في ذلك معنى التبرع وهما ليسا من أهل التبرع فكذلك بيع الصبي من الأب والوصي بمحاباة فاحشة وعند أبي حنيفة رحمه الله: يملكان البيع من الأجنبي بالمحاباة الفاحشة على ما نبينه في موضعه.
فأما في بيع الصبي من وليه بالمحاباة فروايتان في إحدى الروايتين يملك لأن رأيه بعد الإذن إذا انضم إلى رأي وليه كان بمنزلة رأيه بعد البلوغ وفي هذا لا فرق بين أن تكون معاملته مع وليه أو مع أجنبي وهذا لأنه عامل لنفسه في خالص ملكه إلا أن يكون نائبا عن وليه وفي الرواية الأخرى لا يجوز هذا لأن الولي في هذا الرأي متهم في حق نفسه فباعتبار التهمة ينعدم انضمام رأي الولي إلى رأيه في هذا التصرف.
يوضحه: أن الصبي وإن كان متصرفا لنفسه فهو بمنزلة النائب عن وليه من وجه حتى ملك الحجر عليه فباعتبار معنى النيابة قلنا: لا يبيع من وليه بغبن فاحش كما لا يبيع من(25/209)
ص -103- ... نفسه وباعتبار أنه متصرف لنفسه قلنا: يبيع من وليه بمثل قيمته أو بغبن يسير مع أن في بيع اليتيم من الوصي الذي ذكره في السؤال ها هنا نظرا فقد ذكر مفسرا في موضع آخر أنه لا يجوز لأنه من وجه نائب والوصي لا يملك بيع مال اليتيم من نفسه بمثل قيمته ولا بغبن يسير فكذلك لا يملكه اليتيم بعد إذن الوصي له لأنه يتمكن فيه تهمة المواضعة وأن الوصي ما قصد بالإذن النظر للصبي وإنما قصد تحصيل مقصود نفسه بخلاف الأب فإنه يملك بيع مال ولده من نفسه بمثل قيمته وبغبن يسير ولا يتمكن تهمة ترك النظر له عند الإذن له في التجارة بهذا التصرف فإن أقر الصبي بقبض الثمن مع صحة البيع جاز بخلاف إقرار العبد بقبض الثمن من المولي لما بينا أن الإقرار بالقبض كالإقرار بالدين أو العين وإقرار الصبي المأذون لأبيه أو وصيه بدين أو عين صحيح فكذلك إقراره بقبض الدين منهما وهذا لأن المال خالص ملكه وحق الغرماء في ذمته لا في ماله وقد صار منفك الحجر عنه بالإذن فيصح إقراره في محل هو خالص حقه فأما دين العبد فمعلق بكسبه فإقراره للمولى بشيء منه يصادف محلا مشغولا بحق غرمائه فلهذا لا يصح.
وإذا وكل العبد التاجر المديون وكيلا يبيع متاعا له من مولاه فباعه جاز كما لو باع العبد بنفسه فإن أقر الوكيل أنه قبض الثمن من المولى ودفعه إلى العبد وصدقه العبد أو كذبه لم يصدق على ذلك إلا أن يعاين الشهود القبض لأن الوكيل قائم مقام الموكل وبقبضه يصير المقبوض للموكل ويكون مضمونا عليه فكان هذا في معنى إقراره للمولى بعين في يده وذلك لا يصح من العبد سواء كان الإقرار منه أو من وكيله إلا أن للمولى أن ينقض البيع أو يؤدي الثمن لما لزمه من الزيادة في الثمن بزعمه فأيهما فعل كان له أن يتبع الوكيل بالثمن الذي أقر بقبضه منه لأن إقرار الوكيل على نفسه صحيح في حقه وقد أقر بقبض الثمن فإذا فسخ المولى البيع كان عليه رد المقبوض باعتبار إقراره به.(25/210)
وكذلك إن أدى الثمن مرة أخرى لأن الوكيل إنما قبض الثمن منه ليستفيد البراءة عن الثمن بقبضه ولم يستفد ذلك حين غرم الثمن مرة أخرى فكان له أن يرجع على الوكيل بما أقر بقبضه ولا يرجع به الوكيل على العبد لأن إقراره بالقبض غير صحيح في حق العبد لمراعاة حق الغرماء وإذا لم يظهر القبض بإقراره في حق القيمة لا يكون له أن يرجع عليه بشيء ولو ظهر القبض في حق العبد بإقراره لما غرم له المولى الثمن مرة أخرى.
ولو دفع العبد إلى مولاه ألف درهم وديعة أو بضاعة أو مضاربة ثم أقر بقبضها منه فالقول قوله لأن المال أمانة في يد المولى حتى لو قال دفعتها إليه وكذبه العبد كان القول قول المولى لإنكاره وجوب الضمان عليه فكذلك إذا أقر العبد بقبضها منه لأنه إنما لا يصح إقرار العبد إذا كانت المنفعة للمولى في إقرار العبد بالقبض لأنه يستفيد البراءة بقوله دفعتها وإن لم يقر به العبد بخلاف المال المضمون عليه.
فإن قيل: بل فيه منفعة وهو سقوط اليمين عن المولى.(25/211)
ص -104- ... قلنا: نعم ولكن ليس في يمينه حق الغرماء وإنما لا يقبل قول العبد إذا سقط عنه بإقراره شيء مما تعلق به حق غرمائه مع أن الغرماء إن ادعوا على المولى أنه استهلك ذلك المال كان عليه اليمين في ذلك.
ولو دفع العبد إلى المولى ألف درهم مضاربة بالنصف فربح فيه المولى ألف درهم ثم قال العبد قد أخذت من المولى رأس المال وحصتي من الربح وكذبه الغرماء أو ادعى ذلك المولى وكذبه العبد والغرماء فلا ضمان على المولى مع يمينه لأن المال كله أمانة في يد المولى فهو فيما يزعم أنه دفعه إلى العبد ينكر وجوب الضمان عليه وللعبد أن يأخذ من المولى ما أصابه من الربح فيكون له من رأس ماله لأن العبد والمولى لا يصدقان على أن يسلم للمولى حصته التي قبض من الربح بل يجعل ما ادعى المولى أنه دفعه إلى العبد كالتاوي فكأن المال كله ما بقي في يد المولى فيستوفيه العبد بحساب رأس ماله ولا يصدق العبد في حق غرمائه في أن ذلك حصة المولى من الربح لأن فيه إسقاط حق الغرماء عما تعلق حقهم به.(25/212)
ولو شارك العبد مولاه شركة عنان بخمسمائة درهم مما في يديه وخمسمائة من مال مولاه على أن يبيعا ويشتريا فهو جائز لأن المولى من عبده المديون في حكم التصرف في كسبه كأجنبي آخر فيجوز بين العبد وبينه شركة العنان والمضاربة فإن اشتريا وباعا فلم يربحا شيئا ثم أقر العبد أنه قد قاسم مولاه المال واستوفى منه نصفه ودفع إلى المولى نصفه وصدقه المولى فإن العبد لا يصدق على القسمة وللغرماء أن يأخذوا من المولى نصف ما قبض لأن قول المولى مقبول في براءته عن ضمان ما زعم أنه دفعه إلى العبد فإنه أمين في ذلك وإقرار العبد بذلك لا يكون مقبولا لاختصاص المولى بما بقي لما فيه من إبطال حق الغرماء عن شيء مما تعلق به حقهم فيجعل ما تصادقا على دفعه إلى العبد كالتاوي وكان مال الشركة هو ما بقي في يدي المولى فللغرماء أن يأخذوا من المولى نصفه وكذلك كل شيء كان بينهما على الشركة فإن العبد لا يصدق على القسمة والقبض إلا أن تعاين الشهود ذلك لحق غرمائه.
وإذا وكل المأذون المديون رجلا يبيع له متاعا من مولاه فباعه ثم حجر المولى على عبده فأقر الوكيل بقبض الثمن لم يصدق على ذلك لأنه قائم مقام الموكل وبالحجر عليه لا يخرج العبد من أن يكون الحق له في المقبوض بقبضه ليصرفه إلى غرمائه فكما أن إقرار الوكيل به لا يصح قبل حجر المولى على عبده فكذلك إقراره بعد الحجر لأن الوكيل نائب عن العبد في الوجهين.
ولو كان القاضي باع العبد للغرماء في دينهم ثم أقر الوكيل أنه قد قبض الثمن من المولى فضاع في يده فهو مصدق مع يمينه لأن العبد لما خرج من ملك المولى فقد خرج الوكيل نائبا عنه في القبض ولكنه نائب عن غرمائه بقبض الثمن لهم فيقضي به دينه فيكون إقراره كإقرار الغرماء بقبضه وهذا ينبني على ما تقدم بيانه أن العبد لو كان باشر البيع بنفسه ثم باعه مولاه لم يكن له حق قبض الثمن وإنما ذلك لغرمائه فكذلك إذا كان البائع وكيله.(25/213)
ص -105- ... قلنا: ينفذ بيع المولى إياه والوكيل نائب عن الغرماء فيصح إقراره بالقبض.
وإذا كان على العبد المأذون دين فأخذ المولى جارية من رقيقه فباعها وقبضها المشتري وتوي الثمن على المشتري فأقر العبد أنه أمر مولاه بذلك فإقراره جائز لأنه يملك الإذن للمولى في بيعها فيصح إقراره بالإذن له أيضا لأن من أقر بما يملك إنشاءه لا يكون متهما في إقراره وقد طعن عيسى رحمه الله: في هذا الجواب وقال ينبغي أن لا يصدق العبد على ذلك لأن المولى صار ضامنا قيمتها حين سلمها إلى المشتري قبل أن يظهر أمر العبد إياه ببيعها ففي إقرار العبد براءة للمولى من شيء قد لزمه وبمجرد قول العبد لا يبرأ المولى عما لزمه لما فيه من إبطال حق غرمائه على قياس مسألة أول الباب ومسألة الإجازة ذكرها بعده أن الجارية لو هلكت في يد المشتري ثم أقر العبد أنه كان أجاز بيع المولى فإقراره باطل والمولى ضامن قيمة الجارية لهذا المعنى ولكن ما ذكره في الكتاب أصح فإن في مسألة أول الباب العبد أقر بقبض دين كان ثابتا على المولى وكان حق الغرماء متعلقا به فكان في إقراره إسقاط حق الغرماء وها هنا هو يقر بأن المولى لم يكن ضامنا لأن بيعه كان بأمره فلا يكون ذلك إسقاطا منه لحق الغرماء بل إنكار الثبوت حقهم في ذمة المولى وذلك صحيح من العبد.
ألا ترى أن المولى لو وهب شيئا من عبده في ذمة العبد كان صحيحا وإن كان لو قتله يتعلق به حق غرمائه بخلاف ما لو وهب العبد المديون شيئا من كسبه من المولى وفي مسألة الإجازة قد ثبت وجوب الضمان في ذمة المولى بهلاك الجارية في يد المشتري وتعلق به حق غرمائه فإقراره بالإجازة قبل هلاكها يكون إسقاطا لحق الغرماء ثم أقر بما لا يملك إنشاءه لأن أمره إياه ببيعها وهي قائمة في يد المشتري بعينها يكون صحيحا فكذلك إقراره بالأمر يكون صحيحا.(25/214)
ولو أنكر العبد أن يكون أمر المولى ببيعها ضمن المولى قيمة عبده فكانت بين الغرماء وهذا اللفظ غلط بل إنما يضمن المولى قيمة الجارية لأنه كان غاصبا في بيعها وتسليمها بغير أمر العبد فهو في ذلك كأجنبي آخر فيضمن قيمتها لعبده وتكون القيمة بين غرمائه كسائر أكسابه.
ولو قال العبد: لم آمر المولى بذلك ولكن قد أجزت البيع فإن كانت الجارية قائمة بعينها أو لا يدري ما فعلت فالبيع جائز وقد بريء المولى من ضمان الجارية لأن البيع كان موقوفا على إجازته كما لو باشره أجنبي والإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء وكذلك إن كان لا يدري ما فعلت لأنا قد عرفنا قيامها وما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه ما لم يظهر خلافه وكما يصح منه ابتداء الإجازة يصح منه الإقرار بالإجازة
فإن كانت قد ماتت لم يصح منه إنشاء الإجازة لأن إجازة العقد الموقوف إنما تجوز في حال يجوز ابتداء العقد فيه فكذلك إقراره بالإجازة بعد الهلاك باطل لأنه لا يملك إنشاء الإجازة ويكون المولى ضامنا قيمة الجارية كما بينا.(25/215)
ص -106- ... ولو لم يقر العبد بشيء من ذلك حتى حجر عليه مولاه ثم أقر أنه أمره بالبيع لم يصدق على ذلك لأنه أقر بالأمر في حال لا يملك إنشاءه فإنه بعد الحجر كما لا يملك إنشاء البيع لا يملك أمر المولى بالبيع فيكون هو متهما في إخراجه الكلام مخرج الإقرار وإذا لم يصدق على ذلك كان المولى ضامنا قيمتها لحق الغرماء ولو بيع المأذون في دين الغرماء ثم أقر أنه أمر المولى بذلك لم يصدق لأنه بالبيع في الدين صار محجورا عليه وهو أقوى مما لو حجر عليه قصدا فلا قول له بعد ذلك في الإقرار بالأمر بالبيع كما لا قول له في إنشائه.
وإذا كان على المأذون دين كثير فباع جارية له من ابن مولاه أو أبيه أو مكاتبه أو عبد تاجر عليه دين أو لا دين عليه بأكثر من قيمتها ودفعها إلى المشتري ثم أقر بقبض الثمن منه جاز إقراره بذلك إلا في العبد والمكاتب فإن كسب العبد لمولاه وللمولى في كسب المكاتب حق الملك فهما في حكم هذا الإقرار بمنزلة المولى.
ولو كان المولى هو المشتري فأقر العبد بقبض الثمن منه لم يجز فكذلك هنا.
ألا ترى: أن إقراره لعبد مولاه أو لمكاتب مولاه بدين أو عين بمنزلة إقراره لمولاه فأما في حق الأب والابن فليس للمولى في ملكهما ملك ولا حق ملك وإقرار العبد بالدين أو العين لأبي مولاه أو ابنه صحيح فكذلك إقراره بقبض الثمن منه ووكيل العبد في ذلك بمنزلة العبد لأنه نائب عنه.
ولو كان ابن العبد حرا فاستهلك مالا للعبد الذي هو أبوه أو امرأته أو مكاتب ابنه أو عبده وعليه دين أو لا دين عليه فأقر العبد المأذون أنه قد قبض ذلك من المستهلك لم يصدق على ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله: سواء كان على المأذون دين أو لم يكن وهو مصدق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهذا بناء على الأصل الذي بينا أن عند أبي حنيفة رحمه الله: الإنسان في حق من لا تجوز شهادته له متهم في حق الغرماء في إقراره كما أنه متهم في شهادته.(25/216)
فإن كان على العبد دين فكسبه حق غرمائه وهو متهم في الإقرار بقبض الدين ممن لا تجوز شهادته له لحق الغرماء وإن لم يكن عليه دين فكسبه حق مولاه وهو متهم في حق المولى أيضا في إقراره بالقبض ممن لا تجوز شهادته له وعندهما لا يكون متهما في الوجهين جميعا. ولو كان المستهلك أخاه كان إقراره بالقبض منه جائزا لأنه في حق الأخ غير متهم في الشهادة له بل الأخ في ذلك كأجنبي آخر فكذلك في الإقرار بالدين له وفي الإقرار بالقبض منه ولا يمين على الأخ بعد إقرار العبد بالقبض منه لأن اليمين ينبني على دعوى صحيحة ولا دعوى لأحد عليه بعد ما حكمنا بصحة إقرار العبد بالقبض منه.
وإذا كان على العبد دين فدفع متاعا إلى مولاه وأمره أن يبيعه فباعه من رجل وسلمه إليه ثم أقر المولى أنه قد قبض الثمن من المشتري ودفعه إلى العبد فهو مصدق على ذلك مع(25/217)
ص -107- ... يمينه لأن المولى أمين في بيع المتاع وقبض الثمن فإذا ادعى أداء الأمانة كان القول قوله مع يمينه ولا يمين على المشتري لأن من عامله قد أقر بقبض الثمن ولا دعوى لأحد عليه سواه والاستحلاف ينبني على دعوى صحيحة.
وكذلك لو كان حجر على العبد قبل الإقرار بقبض الثمن أو باع عبده في الدين ثم أقر بقبض الثمن بعد بيعه فإقراره جائز والمشتري بريء من الثمن لأن المولى إنما يملك قبض الثمن بمباشرته سببه وهو البيع وذلك لا يتغير بحجره على العبد ولا ببيعه وهو أمين في الثمن الذي يقبضه بعد الحجر على عبده وبيعه كما هو أمين فيه قبل الحجر عليه فإذا ادعى أنه قد ضاع في يده صدق مع يمينه لأنه أمين ينكر وجوب الضمان عليه.
ولو كان العبد هو الذي باع فأقر بقبض الثمن وعليه دين صدق في ذلك لأن الإقرار منه بالدين للمشتري إذا كان أجنبيا صحيح فكذلك إقراره بقبض الثمن منه ولا يمين على المشتري فيه لأنه لا دعوى لا حد عليه بعد صحة إقرار من عامله بقبض الثمن منه وكذلك لو أقر بقبض الثمن بعد ما حجر عليه مولاه لأن حق القبض إليه بعد الحجر كما كان قبله فيكون إقراره بالقبض صحيحا أيضا وهو شاهد لأبي حنيفة رحمه الله: في صحة إقراره بالدين بعد ما حجر عليه المولى باعتبار ما في يده من كسبه.
فإن كان بيع في الدين ثم أقر بقبض الثمن أو عاينت الشهود دفع الثمن إليه بعد ما بيع فالثمن على المشتري على حاله لأنه بالبيع ثبت الحجر عليه حكما لتجدد الملك فيه للمشتري وصار هو في معنى شخص آخر فلا يبقى له حق قبض الثمن كما لا حق في قبض الثمن لغيره من الأجانب فلا يبرأ المشتري بإقراره ولا يدفع الثمن إليه بمعاينة الشهود بخلاف ما إذا حجر عليه ولم يبعه.(25/218)
ولو كان المولى باع متاع العبد بأمره من أجنبي وضمن الثمن عن المشتري لعبده فالبيع جائز والضمان باطل لأن الوكيل بالبيع في حكم قبض الثمن بمنزلة العاقد لنفسه فإنه هو المختص بالمطالبة وبالقبض على وجه لا يملك أحد عزله عنه فلو صح ضمانه عن المشتري كان ضامنا لنفسه ولأن الوكيل أمين بالثمن فلو صح ضمانه عن المشتري لصار ضامنا مع بقاء السبب الموجب للأمانة وإن قال المولى قد قبض العبد الثمن من المشتري وادعاه المشتري وأنكره العبد والغرماء فالقول قول المولى مع يمينه لأن ضمان المولى لما بطل صار كان لم يوجد ثم قد أقر بقبض مبرئ فإن قبض الموكل الثمن من المشتري يوجب براءة المشتري عن الثمن وإقرار الوكيل بقبض مبرئ يكون صحيحا.
ألا ترى أنه لو قال قبضت الثمن وهلك في يدي كان القول قوله مع يمينه فكذلك إذا أقر بقبض الموكل الثمن فالمشتري بريء من الثمن ولا يمين عليه لأنه لا دعوى لأحد عليه بعد صحة إقرار من عامله ببراءته عن الثمن ولكن على المولى اليمين لأنه لو أقر أنه قبض(25/219)
ص -108- ... وهلك في يده استحلف على ذلك فكذلك إذا أقر أن العبد قبضه لأن العبد والغرماء يزعمون أنه صار مستهلكا الثمن بإقراره كاذبا وأنه ضامن الثمن لهم وهو منكر فعليه اليمين.
وكذلك لو أقر العبد أن المولى قبض الثمن وجحد المولى لأن العبد لو قبض الثمن بريء المشتري بالدفع إليه فإذا أقر أن وكيله قد قبض كان هذا إقرارا منه فهو مبرئ للمشتري فيصدق في ذلك ولا يمين على المشتري ولا ضمان وكذلك لا ضمان على المولى لأن بإقرار العبد لم يثبت وصول شيء إلى المولى في حقه.
ولو استهلك رجل ألف درهم للعبد فضمنها عنه المولى جاز ضمانه لأنه التزم المطالبة بدين مضمون على المستهلك وهو في هذا الضمان كأجنبي آخر فإن أقر العبد بقبض المال من المولى أو من المستهلك لم يصدق فيه لأن في إقراره هذا ما يوجب براءة المولى عما لزمه من الدين للعبد فإن قبض المال من الأصيل يوجب براءة الكفيل فكذلك قبضه من الكفيل يوجب براءته لا محالة.
وقد بينا أن إقرار العبد بالقبض الموجب براءة مولاه عن الدين الذي عليه باطل وكذلك لو كان الدين على المولى فاستهلكه والأجنبي كفيل عنه بأمره أو بغير أمره لأنه سواء أقر بقبضه من المولى أو من الكفيل فإقراره يوجب براءة المولى لأن براءة الكفيل بالإيفاء توجب براءة الأصيل.
ولو كان العبد أبرأ الكفيل بغير قبض لم يجز لأنه لم يتضمن براءة الأصيل فإن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل لأن الإبراء تبرع والعبد ليس من أهله فإبراؤه باطل سواء أبرأ الأصيل أو الكفيل وكذلك لو كان الغريم مكاتبا للمولى والأجنبي كفيل به أو كان الغريم هو الأجنبي والكفيل مكاتب للمولى كفل بمال عليه للمكفول عنه فهذا بمنزلة المولى وكفيله لما للمولى من حق الملك في كسب مكاتبه ولأن إقرار العبد لمكاتب مولاه باطل كإقراره لمولاه فكذلك إقراره بقبض يوجب براءة مكاتب مولاه عن الدين يكون باطلا.(25/220)
ولو كان الغريم أبرأ المولى أو كان الكفيل ابن المولى كان العبد مصدقا على الإقرار بالقبض سواء أقر بقبضه من الأصيل أو من الكفيل لأن إقراره بالدين والعين لأب المولى أو ابنه صحيح فكذلك إقراره بقبض يوجب براءة ابن المولى أو أبيه عن دين له عليه يكون صحيحا والله أعلم.
باب وكالة الأجنبي العبد بقبض الدين
قال رحمه الله: وإذا وكل الأجنبي عبدا تاجرا عليه دين أو لا دين عليه بقبض دين له على مولى العبد فالتوكيل جائز لأنه لا حق للعبد في الدين الذي على مولاه للأجنبي ولا في المحل الذي يستحق قضاء هذا الدين منه وهو مال المولى فيكون العبد فيه كأجنبي آخر
فإن أقر بقبضه وهلاكه في يده فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين فيه كغيره ولا يمين على المولى لأن العبد مسلط على الإقرار بالقبض من جهة صاحب الدين، فإقراره به كإقرار صاحب الدين،(25/221)
ص -109- ... وبعد هذا الإقرار لا دعوى لأحد عليه حتى يحلفه فإن نكل العبد عن اليمين لزمه المال في عتقه يحاص به الموكل غرماء لأن الأجنبي يدعي على العبد أنه مستهلك لماله بإقراره كاذبا أو مانع منه بعد ما قبضه من غريمه ولو أقر العبد بذلك لزمه فإذا أنكر يستحلف ويقام نكوله مقام إقراره فيكون للمقر له المزاحمة به مع غرمائه.
وإن كان المولى هو الوكيل بقبض دين على عبده لم يكن وكيلا في ذلك ولم يجز قبضه بإقراره ولا بمعاينة الشهود إن كان على العبد دين أو لم يكن ولا يبرأ العبد من الدين بدفعه إلى مولاه لأن ما على العبد من الدين مستحق على المولى من وجه فإنه يقضي من ملك المولى وهو كسب العبد أو مالية رقبته وما يكون مستحقا على المرء من الدين لا يصلح هو أن يكون وكيلا في قبضه كما لو وكل المديون بقبض الدين من نفسه وهذا لأن بقبضه يسلم له مالية رقبته ومن ضرورة صحة التوكيل بالقبض صحة إقراره بالقبض منه وكونه أمينا في المقبوض وهو في هذا الإقرار متهم لماله من الحظ في ذلك بخلاف الدين الواجب على المولى فإنه غير مستحق على العبد ولا هو متهم في الإقرار بقبضه.
وذكر في كتاب الوكالة أنه لو وكل رجلا بقبض دين من أبيه أو ابنه أو مكاتبه أو عبده جاز التوكيل وكأنه في تلك الرواية اعتبر جانب من له الدين وهو أجنبي فيكون توكيله المولى وتوكيله أجنبيا آخر سواء وأصح الروايتين ما ذكر ههنا.(25/222)
ولو كان لرجل عبدان تاجران فوكل أجنبي أحدهما بقبض دين له على العبد الآخر فأقر بقبضه وهلاكه في يده فالقول قوله مع يمينه لأن الدين المستحق على العبد لا يكون أقوى من المستحق على المولى وقد بينا أن العبد يصلح أن يكون وكيلا للأجنبي في قبض دينه من المولى وأن إقراره بالقبض بعد الوكالة صحيح فكذلك في دين واجب على عبد آخر للمولى إلا أن الأجنبي يدعي عليه استهلاك ماله بإقراره فيحلف على ذلك ويجعل نكوله كإقراره فيلزمه ذلك في عتقه وكذلك لو كان الوكيل مكاتبا للمولى أو ابنه لأن المكاتب منه أبعد من عبده.
وإذا أراد العبد المأذون أن يقضي دين بعض غرمائه أو يعطيه به رهنا فللآخرين أن يمنعوه لأن حق جميع الغرماء تعلق بكسبه وفي تخصيص بعضهم بقضاء الدين إيثاره والعبد لا يملك ذلك لما فيه من إبطال حق الباقين عن ذلك المال كالمريض إذا خص بعض غرمائه بقضاء الدين والمقصود بالرهن الاستيفاء لأن موجبه يد الاستيفاء فيكون معتبرا بحقيقة الاستيفاء فإن كان الغريم واحدا فرهنه بدينه رهنا ووضعاه على يد المولى فضاع من يده ضاع من مال العبد والدين عليه بحاله لأن يد المولى لا تصلح للنيابة عن الأجنبي في استيفاء الدين من العبد حقيقة فكذلك لا تصلح النيابة للقبض بحكم الرهن لأنه قبض للاستيفاء وهذا لأن الدين الذي على العبد من وجه مستحق على المولى فيكون هذا في معنى ما لو ارتهن بدين له على إنسان وجعل الراهن عدلا فيه فتركه على يده.(25/223)
ص -110- ... يوضحه: أن بهلاك الرهن يجب للراهن على المرتهن مثل ما كان للمرتهن عليه ثم يصير قصاصا.
ولو وضعاه على يد عبد له آخر أو مكاتب أو على يد ابنه فهلك في يد العبد ذهب بالدين لأن هؤلاء يصلحون للنيابة عن الأجنبي في استيفاء دينه من العبد فكذلك في يد الاستيفاء بحكم الرهن ثم هلاك الرهن في يد العدل كهلاكه في يد المرتهن وكذلك لو وضعاه على يد عبد للعبد المأذون المديون لأن ذلك العبد يصلح وكيلا للأجنبي في قبض دينه من العبد المأذون فإن العبد المأذون مع عبده بمنزلة المولى في حق العبد المأذون وقد بينا أن العبد يصلح أن يكون وكيلا في قبض الدين من مولاه.
ولو كان الدين على المولى والعبد هو العدل في الرهن فهلك ذهب بما فيه لأن العبد يصلح أن يكون وكيلا في قبض ما على مولاه فيصلح أن يكون عدلا في الرهن به أيضا وكذلك لو لم يعرف هلاكه إلا بقول العبد لأنه لما انتصب عدلا كان أمينا فيه والأمين مسلط على الإخبار من جهة من أئتمنه فإخباره بالهلاك بمنزلة إقرار المرتهن به فلهذا يصير مستوفيا به دينه.
وإذا أذن المأذون لعبده في التجارة فلحق كل واحد منهما دين فوكل بعض غرماء الأول العبد الآخر بقبض دينه فأقر بقبضه جاز إقراره لأن الأول في حق الآخر بمنزلة المولى في حق عبده والدين المستحق على المولى لا يكون مستحقا على عبده بحال فيصلح أن يكون وكيلا في قبضه.
ولو أن بعض غرماء الآخر وكل الأول أو مولاه بقبض دينه من الآخر لم يكن وكيلا في ذلك ولم يجز قبضه لأن الأول في معنى المولى للآخر فالدين الذي على الآخر من وجه كأنه مستحق على الأول فلا يصلح أن يكون وكيلا في قبضه فكذلك المولى فإنه يملك كسب العبد الأول كما يملك رقبته ويسلم له إذا فرغ من دينه كما يسلم له الأول فكما لا يكون وكيلا للأجنبي في قبض دينه من الأول فكذلك من مولاه.(25/224)
ولو رهن كل واحد منهما رهنا بدينه ووضعه على يد الآخر فضاع الرهنان فرهن الأول يذهب بما فيه ورهن الثاني يذهب من مال الثاني لأن الثاني يصلح أن يكون عدلا في الرهن بالدين الذي على الأول كما يصلح أن يكون وكيلا بقبضه والأول لا يصلح أن يكون عدلا في الرهن بالدين الذي على الثاني ولا يصير صاحب الدين مستوفيا دينه بهلاكه ولو أن العبد المأذون المديون أحال أحد غرمائه بدينه على رجل فإن كان أحاله بما كان للعبد على المحال عليه فالحوالة باطلة لأن ما على المحال عليه للعبد كسبه وهو حق جميع غرمائه فهو بهذه الحوالة يخص المحال بذلك المال ويبطل حق سائر الغرماء عنه وذلك لا يكون صحيحا من العبد كما لو خص بعض الغرماء بقضاء دينه.
وبيان هذا أن الحوالة لو صحت لم يكن للعبد ولا لسائر الغرماء مطالبة للمحتال عليه(25/225)
ص -111- ... بعد ذلك بشيء مما كان عليه لأنه إنما التزم دين المحتال بالحوالة ليقضيه من ذلك المال وإن لم يكن للعبد مال على المحتال عليه فالحوالة جائزة لأن المحتال عليه تبرع على العبد بإقراض دينه منه لالتزام الدين فيها للمحتال والتبرع على العبد صحيح والعبد مالك للاستقراض وإنما لا يملك الإقراض وليس في هذه الحوالة إبطال حق سائر الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به فإن وكل الطالب بقبض الدين منه العبد أي كان عليه أصل الدين أو مولاه لم يجز قبضه لأن الثابت في ذمة المحتال عليه عين ما كان في ذمة العبد فإن الحوالة لتحويل الحق من ذمة إلى ذمة وحين كان في ذمة العبد ما كان لا يصلح هو ولا مولاه وكيلا في قبضه فكذلك بعد التحول إلى ذمة المحتال عليه ولأن العبد بهذه الحوالة لم يستفد البراءة الثانية.
ألا ترى أن المحتال عليه إذا مات مفلسا عاد الدين إلى ذمته فلو صح التوكيل لكان يثبت له البراءة بقبضه ومولاه لا يصلح أن يكون وكيلا في قبض يوجب براءة عبده عن الدين فإن قبض بحكم هذه الوكالة فعليه رد المقبوض على صاحبه لأنه قبضه بسبب باطل شرعا وإن ضاع في يده فلا ضمان عليه لأنه قبضه بتسليم صحيح من صاحب المال إليه فيكون أمينا في المقبوض.
وإن كان وكل بقبضه عبدا آخر للمولى أو مكاتبه أو ابنا للمولى أو عبدا للعبد المأذون الذي كان عليه الدين فأقر بقبضه من المحتال عليه جاز إقراره لأنه حين كان هذا الدين في ذمة المحيل كان هذا الوكيل صالحا للتوكيل في قبضه منه واستفاد البراءة بإقراره بالقبض منه فكذلك بعد ما تحول إلى ذمة المحتال عليه فإن كان الدين على المولى فأحال به على رجل ثم إن الغريم وكل عبدا للمولى يقبضه فأقر بقبضه من المحال عليه جاز لأنه لو وكله بالقبض من المولى حين كان الدين في ذمته جاز التوكيل فكذلك إذا وكله بقبضه من المحال عليه.(25/226)
وكذلك لو وكل عبدا للمولى بقبضه فأقر بقبضه جاز لما بينا وإذا وكل الأجنبي بقبض دين له على عبد مأذون ابن العبد والابن حر أو وكل به مكاتب ابنه أو عبد لابنه مأذونا له في التجارة أو محجورا عليه فأقر بقبضه جاز في قولهم جميعا لأن ابن العبد أجنبي من الدين الذي على العبد وهو غير مستحق عليه في وجه من الوجوه فيجوز أن يكون وكيلا في قبضه منه ويصح إقراره بقبضه كأجنبي آخر فإن قيل: هو بهذا الإقرار ينفع أباه ويبرئ ذمته عن الدين ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن الابن غير مقبول الإقرار فيما يرجع إلى منفعة أبيه.
قلنا: هذا إذا لم يوجد التسليط من صاحب الحق له على ذلك بعينه وها هنا لما وكله بالقبض فقد سلطه فالإقرار بالقبض رضا فلهذا صح إقراره به.
وإذا غصب المأذون من رجل ألف درهم فقبضها منه رجل فهلكت عنده ثم حضر صاحبها فاختار ضمان الأجنبي بريء العبد منها لأنه كان مخيرا بين تضمين الغاصب الأول أو(25/227)
ص -112- ... الثاني والمخير بين شيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك باختياره وكأنه ما كان الواجب إلا ما اختاره وهذا لأن اختياره تضمين أحدهما تمليك للمضمون منه وبعد ما صح التمليك لا يمكنه أن يرجع فيطالب الآخر به بحال.
فإن وكل العبد أو مولاه بالقبض من الأجنبي جاز إقرار الوكيل بقبضه لأن العبد استفاد البراءة على الإطلاق بهذا الاختيار.
ألا ترى أنه لا يتصور عود ذلك الدين إليه بحال فيكون هو ومولاه كأجنبي آخر في التوكيل بالقبض بعد ذلك وكذلك إذا اختار ضمان العبد ثم وكل الأجنبي بقبضه منه جاز لأن الأجنبي استفاد البراءة بعد فالاختيار على الإطلاق.
ولو وكل الموكل بقبضه منه لم يجز توكيل المولى ولا إقراره بالقبض لأن بهذا الاختيار تعين الدين في ذمة العبد والمولى لا يصلح أن يكون وكيلا للأجنبي في قبض ما على عبده ولو دبر المولى عبده المديون فاختار الغرماء تضمينه القيمة ثم وكلوا المدبر بقبضها منه لم يجز توكيله ولا إقرار المدبر بالقبض لأن جميع الدين باق على المدبر حتى كان مطالبا به بعد العتق فهو بالقبض والإقرار به يبرئ نفسه عن الدين والإنسان لا يكون وكيلا في قبض دين على نفسه وكذلك إن اختاروا اتباع المدبر ووكلوا المولى بقبضه منه لم يجز لأن المدبر باق على ملكه وكسبه مملوك للمولى.(25/228)
وقد بينا أن المولى لا يكون وكيلا في قبض ما على مملوكه لأن بالقبض يستخلص الكسب لنفسه فإن أعتقه بعد التدبير لم يلزمه ضمانه مستأنفا لأنه بهذا الإعتاق ما أتلف عليهم شيئا فإنه لم يبق لهم حق في مالية الرقبة بعد التدبير إذ المدبر لا يحتمل البيع في الدين وكسبه كان حق الغرماء وبالإعتاق لا يبطل حقهم عن الكسب بل يتقرر حقهم به فلهذا لا يجب عليه ضمان لهم فإن قبض شيئا من المدبر عن الوكالة الأولى لم يجز قبضه لأن تلك الوكالة كانت باطلة ولم ينتصب هو وكيلا بها فلا تنقلب وكالة صحيحة بإعتاقه إياه وإن وكلوه بعد العتق جاز لأن بعد العتق المولى أجنبي من الدين الذي عليه وقد استفاد البراءة باختيار الغرماء اتباع العبد ولا حق له في كسبه بعد العتق فيجوز أن يكون وكيلا في قبضه كأجنبي آخر.
ولو أعتق المولى عبده المديون فللغرماء أن يتبعوا العبد بدينهم كله ويتبعوا المولى بقيمة العبد لأنه أتلف مالية الرقبة عليهم بالإعتاق ولا يكون اتباع واحد منهم إبراء للآخر لأن المولى كان متحملا من ديون العبد بقدر مالية رقبته بمنزلة الكفيل ومطالبة الكفيل بالدين لا توجب براءة الأصيل وكذلك مطالبة الأصيل لا توجب براءة الكفيل فإن أبرءوا العبد عن دينهم بريء المولى من القيمة لأن العبد أصيل في هذا الدين وبراءة الأصيل بالإبراء توجب براءة الكفيل ولو أبرءوا المولى من القيمة كان لهم أن يتبعوا العبد بجميع دينهم لأن براءة الكفيل بالإبراء لا توجب براءة الأصيل فإن إبراء الكفيل فسخ للكفالة ولا ينعدم به سبب(25/229)
ص -113- ... وجوب الدين على الأصيل فيبقى جميع الدين على العبد ببقاء سببه كما لو كان المولى أعتقه برضاهم فإن وكلوا المولى بعد ما أبرؤه بقبض دينهم من العبد فأقر بقبضه جاز إقرارهم عليه لأن المولى استفاد البراءة على الإطلاق بإبرائهم إياه ولا حق له في كسب معتقه.
ولو كانوا وكلوه بذلك قبل الإبراء لم يجز توكيله لأنه في القبض والإقرار به يبرئ نفسه مما عليه فإن أبرأوه بعد الوكالة لم يكن وكيلا في قبضه أيضا لأن ذلك التوكيل كان باطلا فالإبراء لا ينقلب صحيحا إلا أن يوكلوه بعد البراءة فيصح إنشاء التوكيل الآن ولو كانوا أبرأوا العبدين من دينهم على أن يتبعوا المولى بقدر القيمة من دينهم وتراضوا على ذلك جميعا كان جائزا ويبرأ العبد من الديون ويتبعون المولى بالقيمة لأنهم بهذا الشرط حولوا ما كان واجبا على المولى بجهة الكفالة كالواجب بطريق الحوالة فكان المولى قبل الحوالة لهم في مقدار القيمة والحوالة توجب براءة الأصيل ولا توجب براءة المحال عليه.
فإن توت القيمة على المولى رجعوا على العبد من دينهم بقدر القيمة لأن ذلك كان على المولى بطريق الحوالة ومتى توى الدين على المحتال عليه بموته مفلسا أو بجحوده عاد الدين إلى ذمة المحيل فإن لم يتوما على المولى حتى وكلوا العبد بقبضه من المولى لم يجز توكيله ولا قبضه لأن العبد لم يستفد البراءة عن هذا القدر مطلقا حتى يعود إليه بالتوى فلا يصلح أن يكون وكيلا في قبضه وقد قررنا هذا المعنى في الحوالة.
وإذا مات الرجل وعليه دين أو لا دين عليه وله عبد مديون فوكل غرماء العبد الوارث بقبض دينهم من العبد لم يكن وكيلا في ذلك لأن الورثة قائمون مقام المورث في ملك رقبة العبد وكسبه وقد بينا أن المولى لا يكون وكيلا في قبض ما على عبده فكذلك وارثه بعده.(25/230)
وكذلك لو وكلوا بعض غرماء المولى لأن حقهم في رقبته وكسبه مقدم على حق الوارث ولو لم يكن على المولى دين وقد ترك ثلاثمائة درهم سوى العبد وقد أوصى بنصفها أو ثلثها لرجل فوكل غرماء العبد الموصى له بقبض دينهم من العبد لم يكن وكيلا في ذلك لأن الموصى له شريك الوارث في تركة الميت والوارث لا يكون وكيلا في ذلك فكذلك الموصى له وهذا لأن العبد من مال الميت وفي فراغه عن الدين منفعة للموصي له.
ألا ترى أنه لو صح التوكيل وأقر بالقبض ثم لحق الميت دين كان يقضي ذلك الدين من مالية الرقبة ويسلم للموصى له جميع وصيته فلهذا لا يصلح وكيلا فيه.
ألا ترى أن الموصى له لو شهد على رجل آخر بدين للميت على إنسان لا تقبل شهادته لأنه شريك الوارث في مال الميت فكذلك في حكم الوكالة.
ولو أعتق الوارث العبد ولا دين على الميت جاز عتقه عندنا وعلى قول الحسن بن زياد لا يجوز عتقه قال لأن دين العبد أقوى من دين المولى.
ألا ترى أن دين العبد في القصاص من مالية الرقبة مقدم على دين المولى ثم استغراق رقبته بدين المولى يمنع ملك الوارث فاستغراقه بدين نفسه أولى أن يمنع ملك الوارث ولكنا(25/231)
ص -114- ... نقول الوارث يخلف ملك المورث بعد موته وقد كان المورث مالكا رقبة العبد مع كونه مستغرقا بدينه فكذلك وارثه بخلاف دين المولى فإن المولى كان مالكا رقبته في حياته باعتبار أن الدين في ذمته لا تعلق له بماله وبموته قد تعلق حق الغرماء بتركته ولهذا حل الأجل لأنه صار في حكم العين والعين لا تقبل الأجل وحق الغرماء مقدم على حق الورثة فمن هذا الوجه منع دين المولى ملك الوارث فأما دين العبد فعلى صفة واحدة في التعلق بمالية الرقبة بعد موت المولى كما كان قبله.
وإذا نفذ العتق من الوارث كان ضامنا قيمته للغرماء لأنه أتلف عليهم مالية الرقبة فإن اختار الغرماء اتباع العبد وأبرأوا الوارث من القيمة ثم وكلوا الموصى له بقبض دينهم من العبد فأقر بقبضه جاز إقراره لأن الموصى له في التركة شريك الوارث ولو وكلوا الوارث في هذه الحالة بالقبض جاز التوكيل لأن الوارث استفاد البراءة مطلقا ولا حق له في كسب المعتق فكذلك إذا وكلوا الموصى له بقبضه.
ولو وكلوا الموصى له بقبضه قبل إبراء الوارث من القيمة لم يجز التوكيل لأنهم لو وكلوا الوارث في هذه الحالة لم يجز التوكيل فكذلك إذا وكلوا الموصى له وكذلك لو وكلوه بقبض القيمة من الوارث لم يجز التوكيل لأن القيمة التي على الوارث مال الميت.(25/232)
ألا ترى أنه لو أبرأ الغرماء العبد وظهر على المولى دين وجب قضاؤه من تلك القيمة؟ والموصى له شريك الوارث في مال الميت فلا يجوز أن يكون وكيلا في قبضه من الوارث. ولو باع المولى العبد المديون للغرماء برضاهم وقبض الثمن فاستهلكه فلا شيء للغرماء على العبد حتى يعتق لأن العبد صار خالصا للمشتري وحق الغرماء في المطالبة تحول من مالية العبد إلى بدله وهو الثمن فباستهلاك المولى الثمن يجب عليه ضمان مثله ولا يعود حق الغرماء في مالية الرقبة فلهذا لا يطالبونه بشيء حتى يعتق فإن وكل الغرماء العبد وهو مأذون له أو محجور عليه بقبض الثمن الذي استهلكه المولى منه لم يجز توكيله ولا قبضه لأن أصل الدين باق على العبد بدليل أنه إذا عتق كان مطالبا بجميعه خصوصا إذا توى الثمن على المستهلك فلهذا لا يكون وكيلا في قبضه.
ولو دفع العبد المديون ألف درهم مضاربة إلى رجل بالنصف فاشترى المضارب بالألف عبدا وقبضه ولم ينقد الثمن حتى وكل البائع المأذون أو مولاه أو بعض غرمائه بقبض ذلك الثمن لم يجز التوكيل ولا القبض لأن المضارب متصرف للعبد وما يستحق عليه من الدين بتصرفه مستحق على العبد حقيقة.
ألا ترى أن المضارب يرجع بما يلحقه من العهدة على رب المال فكان هذا في معنى الدين الواجب على العبد حتى لو وكل بعض هؤلاء بقبضه فأقر بقبضه جاز إقراره بمنزلة ما لو كان العبد هو المشتري بنفسه ثم وكل مولاه أو غريمه بقبض المشتري فهناك التوكيل صحيح لأنه لا تهمة في إقراره بالقبض.(25/233)
ص -115- ... ولو وجب للعبد المأذون ولرجل حر على رجل ألف درهم هما فيه شريكان ثم أن الشريك وكل العبد بقبض نصيبه فقبضه بمعاينة الشهود فهلك في يده فإنه يهلك من ماليهما جميعا لأن العبد لا يجوز أن يجعل قابضا لنصيب الأجنبي خاصة فإن ذلك لا يكون إلا بعد القسمة والإنسان لا يجوز أن يكون وكيلا في المقاسمة مع نفسه عن غيره وبدون القسمة المقبوض مشترك بينهما كما كان قبل القبض مشتركا والعبد في حصة الأجنبي أمين بحكم التوكيل فلهذا كان الهلاك من ماليهما جميعا والباقي بينهما نصفان وإن كان العبد قبض من الغريم شيئا لنفسه فهلك كان هالكا من ماله خاصة به لأن قبل التوكيل كان يملك قبض نصيبه فبقي مالكا له بعد التوكيل لأن بقبول الوكالة لا يتعذر عليه التصرف في نصيبه وإذا كان المقبوض من نصيبه فإن هلك كان من ماله خاصة وإن لم يهلك كان للأجنبي أن يأخذ منه نصفه كما لو قبضه قبل التوكيل وهذا لأن المقبوض جزء من الدين المشترك فلشريكه أن يشاركه فيه.
ولو كان الشريك وكل مولى العبد بقبض نصيبه من الدين فإن كان العبد لا دين عليه فهذا ووكالة العبد سواء لأن كسب العبد ملك المولى في هذه الحالة فلو جعلنا المقبوض من نصيب الأجنبي خاصة كان المولى وكيلا عن الأجنبي في المقاسمة مع نفسه وذلك لا يجوز فلهذا كان المقبوض من نصيبهما وإن كان على العبد دين كان قبض المولى على الأجنبي جائزا لأنه من كسب عبده المديون بمنزلة الأجنبي فتوكيل الأجنبي إياه بقبض نصيبه بمنزلة توكيل غيره به وإن توى المقبوض في يد المولى توى من مال الأجنبي لأن قبض وكيله له كقبضه بنفسه.(25/234)
وكذلك لو أقر المولى بالقبض كان إقراره على الأجنبي جائزا لأنه بالتوكيل سلطه على الإقرار فيجعل إقراره بذلك كإقرار الأجنبي بنفسه وقد طعن عيسى رحمه الله في هذا المسألة فقال ينبغي أن لا يجوز إقرار المولى بالقبض ها هنا لأن فيه منفعة عبد فإن ما بقي في ذمة المديون يخلص للعبد إذا صح إقرار المولى على الأجنبي بالقبض وفي منفعة العبد منفعة المولى فلا يجوز إقراره.
واستشهد على ذلك بالمسألة المذكورة بعد هذا في باب خصومة المأذون إذا مات الغريم فادعى العبد أن شريكه قد قبض حصته فجحده الشريك ووكل الشريك مولى العبد في خصومة العبد فأقر المولى على الشريك بالاستيفاء لم يجز إقراره ولم يكن وكيلا له لما فيه من منفعة عبده وقد قيل في الفرق بينهما على جواب الكتاب أن المولى لا يخاصم عبده لنفسه فكذلك لا يخاصمه لغيره ولو جعلناه وكيلا هنا لكان يخاصم العبد لغيره وهو الموكل فأما فيما نحن فيه فهو يخاصم الأجنبي لغيره وهو يجوز أن يخاصم الأجنبي لنفسه فكذلك لغيره وإذا صح التوكيل جاز إقراره على الأجنبي لأنه سلطه على الإقرار عليه لما وكله به.
وإذا وكل رجل رجلا ببيع متاعه فباعه من عبد الوكيل وعليه دين أو لا دين عليه فبيعه(25/235)
ص -116- ... باطل لأن بيعه من عبده كبيعه من نفسه فإن كسب العبد ملكه وله حق استخلاصه لنفسه بقضاء دينه فيكون متهما في ذلك فإن كان الموكل أمره أن يبيعه من عبد الوكيل فباعه ولا دين عليه فالبيع باطل كما لو أمره بالبيع من نفسه وإن كان عليه دين فهو جائز لأنه من كسبه الآن كالأجنبي وإنما لا يجوز بيعه منه بمطلق التوكيل لتمكن تهمة الميل إليه باعتبار ماله من الحق في كسبه وقد انعدم ذلك بالتنصيص على البيع منه والعهدة على الآمر دون المولى لأن المولى لا يستوجب على عبده الثمن.
ألا ترى أنه لو باع ماله من عبده المديون لا يستوجب عليه الثمن فكذلك إذا باعه مال الغير منه لأن في حقوق العقد والعهدة البائع لغيره كالبائع لنفسه.
وإذا تعذر إيجاب حقوق العقد على المولى تعلق بمن انتفع به وهو الآمر فهو الذي يلي التسليم والتسلم والدليل عليه أنا لو جعلنا حق قبض الثمن إلى المولى لم يكن بد من صحة الإقرار بقبضه وقد بينا أن في الدين الواجب على العبد للأجنبي المولى لا يكون وكيلا بالقبض ولا مقبول الإقرار فيه.
وكذلك لو وكله أجنبي بشراء شيء منه فهو كالوكيل بالبيع في جميع ما ذكرنا وإن كان المأذون هو الوكيل للأجنبي ببيع شيء أو شرائه من مولاه جاز لأنه لا حق للعبد في مال مولاه وكانت العهدة عليه مديونا كان أو غير مديون وإن أقر بالقبض جاز إقراره لأنه يصلح وكيلا للأجنبي في قبض الدين من المولى ويصلح مطالبا للمولى بالثمن إذا باع منه شيئا من أكسابه وعليه دين لمراعاة حق غرمائه فكذلك لمراعاة حق الموكل.
وكذلك لو لم يدفع الآمر إلى العبد شيئا من الثمن ووكله بأن يشتري له من مولاه جاز شراؤه وأخذ الثمن من الآمر ودفعه إلى المولى لأنه في التوكيل بالمعاملة مع المولى كهو في التوكيل بالمعاملة مع أجنبي آخر.(25/236)
ولو دفع العبد المأذون لرجل ألف درهم مضاربة بالنصف فربح فيه أو لم يربح حتى وكل العبد أو مولاه أو بعض غرمائه أجنبيا ببيع شيء فباعه من المضارب بمال المضاربة لم يجز لأن المضارب مشتر لرب المال ورب المال هو العبد فإذا كان هو الوكيل بالبيع فكأنه يبيعه من نفسه فكذلك مولاه أو غريمه يكون متهما في البيع من مضاربه لماله من الحق في كسبه.
وإن كان الموكل أمره ببيعه منه جاز لأن التهمة قد انتفت بقبض الموكل على البيع منه ولكن العهدة على الآمر لما بينا أن العبد لا يصلح وكيلا في قبض ما على مضاربه لأجنبي وكذلك مولاه وغريمه وأصله أن العاقد متى لم يكن أهلا لعهدة العقد فالعهدة تكون على الآمر وكذلك هذا في التوكيل بالشراء منه وكل من وصفنا في هذه المسائل أنه لا يكون وكيلا في القبض فإنه لا يكون عدلا ولا يجوز أن يوضع الرهن على يده وكل من جاز أن يكون وكيلا في قبضه جاز أن يكون وكيلا في وضع الرهن على يده لأن الرهن مقبوض للاستيفاء فيعتبر تحقيقه للاستيفاء.(25/237)
ص -117- ... باب بيع القاضي والمولى العبد المأذون
قال رحمه الله: وإذا دفع الغرماء المأذون إلى القاضي وأرادوا بيعه في ديونهم فإن القاضي يتأنى في ذلك وينظر هل له مال حاضر أو غائب يرجو وصوله لأن البداءة في قضاء دين العبد من كسبه وهو الحاصل بتجارته كما أن وجوب الدين بتجارته ومقصود المولى استدامة الملك في رقبته فلا يجوز تفويت هذا المقصود عليه بدون الحاجة والحاجة ها هنا إلى قضاء دين الغرماء والمال الحاضر أو الغائب الذي يرجى وصوله عاجلا.
ولو انتظر القاضي وصوله لم يكن فيه كثير ضرر على الغرماء فلهذا يتأنى القاضي كما يتأنى في القضاء بقيمة المغصوب بعد ما أبق من يد الغاصب فإن لم يكن شيء من ذلك باعه لأن المولى ضمن للغرماء قضاء الدين من مالية رقبته عند تعذر إيفائه من محل آخر وقد تعذر ذلك إذا لم يكن له كسب أو كان له دين مؤجل أو غائب لا يرجى وصوله لأن في انتظار ذلك تأخر حق الغرماء وضرر التأخير كضرر الإبطال من وجه ثم لا يبيعه إلا بمحضر من المولى لأن في بيعه قضاء على المولى باستحقاق مالية الرقبة وإزالة ملكه والعبد ليس بخصم عنه في ذلك ولأن للمولى حق استخلاص الرقبة لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فليس للقاضي أن يبطل عليه هذا الحق ببيعه بغير محضر منه فإذا باعه ضرب كل غريم في الثمن بجميع دينه سواء كان أكثر من الثمن أو أقل وإذا قسم الثمن بينهم على ذلك فلا سبيل لهم على العبد حتى يعتق لأنه لم يبق لقضاء حقهم محلا في حال رقه وكسبه بعد البيع ملك المشتري ولم يرض بصرفه إلى ديونه.(25/238)
وكذلك إن اشتراه مولاه الذي باعه القاضي عليه بعد ذلك لم يتبع بشيء بما بقي من الدين لأنه تجدد له فيه ملك بتجدد سببه فهو في ذلك كغيره فإذا أذن له هذا المولى بعد ما اشتراه فلحقه دين فبيع لغرمائه لم يشارك الأولون بما بقي من دينهم الآخرين لأن الأولين قد استوفوا مالية الرقبة مرة فلا حق لهم في مالية الرقبة بعد ذلك فهو في هذا الملك المتجدد كعبد آخر فالمولى بالإذن إنما رضي بتعلق حق الآخرين بملكه فلهذا يباع لهم ولا سبيل للأولين على الثمن حتى يعتق فإذا عتق بيع بجميع ديونه لأن الديون كلها ثابتة في ذمته والذمة بالعتق تزداد قوة فيؤمر بقضائها من كسب هو خالص حقه.
وإذا باعه المولى بغير أمر القاضي والغرماء فبيعه باطل لأن حق الغرماء يتعلق بمالية الرقبة وهو مقدم على حق المولى فكان المولى في بيعه بغير رضاهم كأجنبي آخر بمنزلة الراهن يبيع المرهون وهذا لأن للغرماء حق استسعاء العبد في دينهم فربما يكون ذلك أنفع لهم فإنهم يتوصلون به إلى جميع دينهم فلا يكون للمولى أن يبطل عليهم هذا الحق بغير رضاهم.
فإن أجازوا البيع أو قضاهم المولى الدين أو كان في الثمن وفاء بدينهم فأعطاهم نفذ البيع لزوال المانع بوصول حق الغرماء إليهم كالراهن إذا قضى دين المرتهن بعد البيع وأجاز المرتهن البيع فإن لم يبق شيء من ذلك ولكن الغرماء وجدوا المشتري والعبد في يده ولم(25/239)
ص -118- ... يجدوا البائع لم يكن المشتري خصما لهم في نقض البيع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله هو خصم لأن المشتري مالك الرقبة وهم يدعون استحقاق مالية الرقبة فكان هو خصما له كما لو ادعوا ملك العبد لأنفسهم وهما يقولان الغرماء لا يدعون على المشتري ولا في ملكه حقا لأنهم إنما يستحقون مالية الرقبة على البائع والمشتري ليس بخصم عن البائع في إثبات حقهم عليه ونقض البيع ينبني على ذلك.
يوضحه: أن البيع يحول حق الغرماء في مالية الرقبة إلى الثمن بدليل أنه لو باشره القاضي أو المولى فأجازه الغرماء كان حقهم في الثمن لا في مالية الرقبة وبعد ما صار ملكا للمشتري لا طريق لإثبات حقهم في مالية الرقبة سوى نقض البيع وإنما جرى البيع بين البائع والمشتري فلا يجوز نقضه بغير محضر من البائع وبدون نقض البيع لا حق لهم في مالية الرقبة بخلاف ما إذا ادعوا ملك العبد لأنفسهم فهناك إنما يدعون عين ما يزعم المشتري أنه ملكه وقد تقدم نظير هذه المسألة في الشفعة .
يوضحه: أن حق المشتري لا يسقط عن العبد ما لم يعد إليه الثمن وذلك لا يكون إلا بمحضر من البائع فينتظر حضوره ليأخذ الغرماء العبد ويرجع المشتري على البائع بالثمن.
ولو حضر البائع وغاب المشتري وقد قبض العبد فلا خصومة بين البائع والغرماء في رقبة العبد حتى يحضر المشتري لأن الملك واليد للمشتري وإبطال ذلك بدون حضوره لا يمكن فما لم يبطل ملك المشتري لا تكون الرقبة محلا لحق الغرماء إلا أن لهم أن يضمنوا البائع قيمته لأنه بالبيع والتسليم صار مفوتا محل حقهم فإذا ضمنوه القيمة جاز البيع فيه وكان الثمن للبائع لأن القيمة دين في ذمته وهو الخصم في ذلك وبتضمين القيمة يسقط حق الغرماء عن مالية الرقبة فينفذ بيعه فيه.(25/240)
وإن أجازوا البيع وأخذوا الثمن واقتسموه لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء فإن هلك الثمن في يد البائع قبل أن يقبضه هلك من مال الغرماء على معنى أنه لا شيء لهم على المبيع حتى يعتق لفوات محل حقهم وهو الثمن فالمولى بإجازتهم يخرج من أن يكون جانيا ضامنا لهم ولا حق لهم في ملك المشتري فتتأخر ديونهم إلى ما بعد العتق وليس المراد من قوله هلك من مال الغرماء أنهم في حكم القابض له حتى يسقط شيء من دينهم به فكيف يكون كذلك والمولى في البيع عامل لنفسه لأنه متصرف في ملكه ولهذا إذا أعتق العبد اتبعه الغرماء بجميع دينهم.
وكذلك لو أجازوا البيع بعد ما هلك الثمن لأن الثمن معقود به ومحل العقد هو المعقود عليه فإذا كان باقيا بعد البيع بالإجازة ثم الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء وكذلك لو أقر البائع أنه قد قبض الثمن فهلك في يده قبل إجازتهم البيع أو بعدها فكذبوه في القبض فقد أجازوا البيع قبل إقراره أو بعده فهو مصدق في ذلك مع يمينه لأن المولى بإجازتهم صار أمينا كما يصير أمينا في الثمن بإذنهم في البيع في الابتداء وحق قبض الثمن إليه لأنه باشر(25/241)
ص -119- ... سببه فيكون مقبول القول فيه مع يمينه ولا شيء للغرماء حتى يعتق العبد فإذا عتق اتبعوه بجميع دينهم.
ولو اختار بعض الغرماء القيمة واختار بعضهم الثمن كان للذين اختاروا ضمان القيمة حصتهم من القيمة وللذين اختاروا الثمن حصتهم من الثمن على قدر الدين لأن لكل واحد منهما في نصيبه رأيا واستحقاق القيمة والثمن كل واحد منهما على المولى وكل واحد منهما محل حق الغرماء ولكل واحد منهم حصة مما اختار وفيما بقي من الثمن للبائع مما ضمن من القيمة ولو أجاز بعض الغرماء البيع وأبطله بعضهم كان البيع باطلا لأن حق كل واحد منهما بانفراده سبب تام للمنع من نفوذ البيع.
ولو باع القاضي المأذون للغرماء في دينهم أو باعه أمينه فضاع الثمن في يد الأمين الذي باعه ثم وجد المشتري بالعبد عيبا فرده على الأمين فإن القاضي يأمر الأمين بأن يبيعه مرة أخرى ويبين عيبه أما لا خصومة بين الأمين وبين المشتري بحكم ذلك البيع لأن أمين القاضي بمنزلة القاضي فلا تلحقه العهدة ولكن القاضي يأمر ذلك الأمين أو غيره بأن يخاصم المشتري نظرا منه للمشتري فإذا رده بالعيب أمره ببيعه مع بيان عيبه ولأنه يحتاج إلى إيفاء حق المشتري في الثمن وطريقه بيع الرقبة وإنما يبين عيبه لكيلا يرد عليه مرة أخرى فإذا أخذ الثمن بدأ بالمشتري الأول فأوفاه الثمن لأن الثمن الثاني بدل مالية الرقبة والثمن المقبوض من المشتري الأول بدل مالية الرقبة أيضا فكان هو مقدما فيه على سائر الغرماء.(25/242)
فإن كان الثمن الآخر أكثر من الثمن الأول فالفضل للغرماء وإن كان أقل غرم الغرماء للمشتري الأول تمام حقه ولا غرم على الأمين في ذلك لانتفاء العهدة ولكن بيعه كان بطلب الغرماء لمنفعتهم فما يلحق من العهدة يكون عليهم ولو فضل شيء كان الفضل لهم فكذلك النقصان يكون عليهم فإن كان المولى هو الذي باعه للغرماء بأمرهم وقبض الثمن فضاع في يده ثم وجد المشتري به عيبا فرده على البائع ببينة أو إباء يمين أو بعيب لا يحدث مثله فإن القاضي يبيعه ويوفي المشتري ثمنه لما قلنا: فإن نقص عن الثمن الأول غرم البائع نقصانه للمشتري لأنه بمنزلة الوكيل في البيع فالرجوع بالثمن عند الرد يكون عليه ولكنه باعه لمنفعة الغرماء فيكون قرار العهدة عليهم فلهذا رجع هو بما لحقه على الغرماء.
ولو كان رد عليه بإقراره بعيب يحدث مثله بيع العبد ودفع ثمنه إلى المشتري فإن نقص عنه ضمن البائع النقصان ولم يرجع به على الغرماء لأن إقراره لا يكون حجة عليهم إلا أن تقوم له بينة أن العيب كان بالعبد قبل أن يقبضه المشتري الأول فحينئذ يرجع على الغرماء بما غرم من الثمن لأن الثابت بالبينة كالثابت بتصديق الغرماء وإن لم يكن له بينة يستحلف الغرماء على علمهم لأنه يدعي عليهم ما لو أقروا به لزمهم وإن كان العبد حين رد على أمين القاضي أو المولى البائع بالعيب في جميع هذه الوجوه مات قبل أن يباع البيع الثاني رجع المشتري بالثمن على الغرماء إن كان أمين القاضي باعه لأنه لا ضمان على الأمين فيه ولا عهدة.(25/243)
ص -120- ... وإن كان المولى هو البائع ضمن الثمن للمشتري ورجع به على الغرماء لأنه باعه لمنفعتهم فيرجع عليهم بما يلحقه من العهدة إلا أن يكون القاضي رده عليه بإقراره بعيب يحدث مثله فلا يرجع حينئذ بالثمن على الغرماء إلا أن تقوم له بينة على العيب أو يأبى اليمين وصار جميع الثمن في هذا الفصل كالنقصان في الفصل الأول ولو أن أمين القاضي أو المولى البائع قبل العبد بعيب بغير قضاء القاضي فمات في يده غرم الثمن للمشتري ولم يرجع به على الغرماء إن كان العيب يحدث مثله أو لا يحدث لأن قبوله بغير قضاء القاضي بمنزلة شرائه ابتداء في حق الغرماء ولهذا لو لم يمت العبد فهو لازم للمردود عليه وإن أراد الغرماء بيعه وفيه فضل على الثمن الأول لم يكن لهم ذلك بمنزلة ما لو اشتراه.
ولو كان على المأذون دين فباعه المولى بألف درهم وقبض الثمن وسلمه إلى المشتري بعينه فالغرماء بالخيار إن شاؤوا ضمنوا المشتري قيمة العبد وإن شاؤوا البائع لأن كل واحد منهما جان في حق الغرماء البائع بالبيع والمشتري بالقبض فإن ضمنوا المشتري رجع بالثمن على البائع لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العبد أن لو ظفروا به ولم يسلم العبد للمشتري بالثمن الذي أداه إلى البائع وإن ضمنوا البائع قيمته سلم المبيع فيما بين البائع والمشتري لزوال المانع وأيهما اختار الغرماء ضمانه بريء الآخر حتى لو توت القيمة على الذي اختاره لم يرجعوا على الآخر بشيء لأن حقهم قبل أحدهما وكان الخيار إليهم في التعيين والمخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه.(25/244)
فإن ظهر العبد بعد ما اختاروا ضمان أحدهما فلا سبيل لهم عليه لأن القاضي لما قضى لهم بقيمة العبد على الذي اختاروا ضمانه ببينة أو بإباء يمين تحول حقهم إلى القيمة بقضاء القاضي وإن كان قضى عليه بقوله وقد ادعى الغرماء أكثر منه فهم بالخيار إن شاؤوا رضوا بالقيمة وإن شاؤوا ردوها وأخذوا العبد فبيع لهم لأنه لم يصل إليهم كمال حقهم بزعمهم وهو نظير المغصوب في ذلك وقد بيناه في الغصب.
وإن اختاروا البائع فضمنوه قيمته فاقتسموها بينهم ثم ظهر العبد في يد المشتري ووجد به عيبا فرده على البائع بقضاء القاضي فالبائع بالخيار إن شاء كان العبد له وسلمت القيمة إلى الغرماء وإن شاء استرد من الغرماء ما أعطاهم وبيع العبد لهم لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من الأصل فعاد إلى قديم ملك المولى والغرماء ضمنوه القيمة على صفة السلامة عن العيب فإذا ظهر العيب يخير المولى لما يلحقه من الضرر فإن شاء رضي به وإن شاء رده على الغرماء واسترد منهم ما أعطاهم بمنزلة المشتري الأول مع بائعه إذا رد عليه فإن رده عليهم عاد حقهم في العبد كما كان فيباع في دينهم.
وإن كان البائع قد علم بالعيب قبل أن يبيعه ثم رده على المشتري بذلك العيب فإن كان الغرماء ضمنوه قيمته صحيحا كان للبائع أن يأخذ منهم القيمة ويسلم لهم العبد فيباع في دينهم وإن شاء سلم لهم القيمة وأمسك العبد وإن ضمنوه قيمته وبه العيب سلم العبد للغرماء لأن(25/245)
ص -121- ... الضرر مندفع عن المولى وقد كان عالما بالعيب فاندفع به ضرر جهله وإنما ضمن لهم القيمة معيبا فلهذا لا يرجع عليهم بشيء.
ولو كانوا ضمنوا المشتري قيمته واقتسموها بينهم ورجع المشتري على البائع بالثمن ثم ظهر العبد فوجد المشتري به عيبا رده على الغرماء لأنه تملكه من جهتهم بضمان القيمة والبيع الذي كان بينه وبين المولى قد انفسخ وإنما ضمنه قيمته صحيحا فإذا ظهر أنه كان معيبا رده عليهم وأخذ القيمة منهم ثم يباع لهم.
وإن كانوا ضمنوا البائع القيمة ثم وجد به المشتري عيبا فرده القاضي على البائع بإقراره والعيب مما يحدث مثله فلا سبيل للبائع على الغرماء في القيمة لأن إقراره ليس بحجة عليهم إلا أن يقيم البينة على العيب أو يأبوا اليمين وإن رده بغير قضاء القاضي والعيب مما يحدث مثله أو لا يحدث فلا سبيل للبائع على الغرماء في القيمة لأن الرد بغير قضاء القاضي بمنزلة الشراء المستقبل في حق الغرماء.
وكذلك لو كان الشراء بالخيار ثلاثة أيام في العبد فرده بالخيار بعد ما ضمن الغرماء البائع القيمة لم يكن للبائع أن يرجع عليهم بالقيمة لأن المشتري إنما رده بتسليط البائع بشرط الخيار له وذلك غير عامل في حق الغرماء وكذلك المشتري لو كان المشتري أرسل رسولا فقبض العبد من البائع ولم يرده فضمن الغرماء البائع القيمة ثم رأى المشتري العيب فلم يرضه فرده على البائع لم يكن للبائع أن يرجع بالقيمة على الغرماء لأنه وإن عاد إليه بسبب هو فسخ من الأصل فلم يتبين به أن سبب القضاء بالقيمة للغرماء ما لم يكن موجودا يومئذ.
وكذلك لو كان البائع بالخيار وقد دفع العبد إلى المشتري فضمن الغرماء البائع القيمة ثم اختار البائع رد العيب واستوضح بالمغصوب.(25/246)
قال: ألا ترى أن الغاصب لو باع المغصوب ودفعه إلى المشتري ثم أن رب العبد ضمن الغاصب قيمته بقضاء القاضي وقد كان للغاصب فيه خيار الشرط أو للمشتري أو كان له فيه خيار رؤية ففسخ البيع أو أجاز سلمت القيمة للمغصوب منه على كل حال. وكذلك ما سبق في فصل المأذون.
ولو باع المولى المأذون بغير أمر الغرماء فأعتقه المشتري قبل أن يقبضه فعتقه موقوف لأن المشتري بنفس العقد لا يتملك العبد ملكا تاما فإن السبب موقوف على إجازة الغرماء وبالسبب الموقوف إنما يثبت الملك الموقوف لأن الحكم بحسب السبب والسبب الضعيف لا يوجب حكما قويا والعتق منهي للملك
فإذا كان موقوفا فما ينهيه يوقف بتوقفه فإذا تم البيع بإجازته أو قضاء دين أو كان في الثمن وفاء فأخذوه بعد العتق وإن لم يتم البيع أبطله القاضي وباع العبد في دينهم نظرا منه للغرماء. وعلل فقال لأن البيع كان فاسدا لا يجوز إلا بالإجازة أو ما يقوم مقامها وفي هذا التعليل نظر فإن في البيع الفاسد إن أعتقه المشتري قبل القبض ثم نفذ البيع لا ينفذ ذلك العتق وها هنا ينفذ فعرفنا أن مراده أنه بمنزلة الفاسد في الضعف لأجل التوقف.(25/247)
ص -122- ... ولو كان أعتقه بعد القبض جاز عتقه لأن السبب الضعيف بالقبض يقوى كما في البيع الفاسد وهذا أقوى من الفاسد.
يوضحه: أن البيع تسليط على التصرف وتمام هذا التسليط بالتسليم فإن أعتقه بعد القبض فقد أعتقه بعد تمام هذا التسليط والمسلط لو أعتقه بنفسه نفذ عتقه وأما قبل القبض فالتسليط غير تام ولكن تمامه موقوف على القبض فيتوقف العتق أيضا وهو نظير الراهن يبيع المرهون ثم يعتقه المشتري. ولو لم يعتقه المشتري ولكنه باعه أو وهبه وسلمه فإن تم البيع الأول ببعض ما وصفنا جاز ما فعل المشتري فيه لأنه باع ملكه وحق الغرماء الذي كان مانعا من نفوذه قد زال وهو نظير المشتري من المكره إذا تصرف ثم أجاز المكره البيع ولو لم يبعه المولى ولكنه وهبه لرجل وسلمه ثم ضمنه الغرماء القيمة نفذت الهبة فإن رجع في الهبة بحكم أو غير حكم سلم العبد له ولم يكن له على القيمة ولا للغرماء على العبد سبيل لأن حقهم تحول إلى القيمة بقضاء القاضي فإن وجد به عيبا ينقص من القيمة التي غرمها كان له أن يرده ويأخذ القيمة لأنهم ضمنوه القيمة على صفة السلامة وبالرجوع عاد إلى قديم ملكه فإن كان أعتقه بعد الرجوع في الهبة قبل أن يعلم بالعيب أو دبره أو حدث به عيب رجع بما بين العيب والصحة من القيمة لأنه تعذر الرد على وجه لم يصر هو راضيا فيرجع بالتفاوت وللغرماء أن يردوا القيمة ويتبع العبد في الدين في غير العتق والتدبير لأن تعذر الرد لمراعاة حقهم بسبب العيب الحادث وإذا رضوا به فقد زال المانع إلا أن يشاء المولى أن لا يطالبهم بالنقصان ويرضى به معيبا وإن كان هذا في جارية قد وطئت بشبهة فوجب لها العقد لم يكن للغرماء عليها سبيل من أجل الزيادة المنفصلة لأنها تمنع الرد لحق الشرع وردوا نقصان العيب من القيمة لأنه تبين أنهم أخذوا ذلك زيادة على حقهم ولو كان المولى باعه وعيبه المشتري فضمن الغرماء المولى ثم وجد المشتري بالعبد عيبا لا يحدث مثله وحدث به عيب(25/248)
آخر فرجع بنقصان القيمة على البائع لم يكن للبائع أن يرجع على الغرماء بالقيمة ولكنه يرجع بحصة العيب من القيمة التي غرمها للغرماء لأنه ظهر أن ما بين قيمته معيبا إلى قيمته سليما أخذوه منه بغير حق فعليهم رد ذلك عليه
باب بيع المولى عبده المأذون فيجوز
قال رحمه الله: وإذا كان الدين على المأذون إلى أجل فباعه المولى بأكثر من قيمته أو بأقل فبيعه جائز لأنه باع ملكه وهو قادر على تسليمه وتحقيقه أن بسبب التأجيل يتأخر حق الغرماء في المطالبة بقضاء الدين إلى حلول الأجل وامتناع نفوذ تصرف المولى في كسبه ورقبته لكونه مشغولا بحق الغرماء وحقهم في المال استيفاء الدين منه وبسبب التأجيل سقط هذا الحق إلى حلول الأجل فلانعدام المانع من نفوذ تصرف المولى فيه ينفذ بيعه فإن قيل: حق الغرماء في العبد المديون كحق المرتهن في المرهون وذلك يمنع الراهن من البيع سواء كان الدين حالا أو مؤجلا كحق الغرماء في مال المرتهن وذلك يمنع التصرف المبطل لحقهم سواء كان الدين حالا أو مؤجلا أو هو لحق الغرماء في مال المريض وذلك يمنع(25/249)
ص -123- ... التصرف المبطل لحقهم سواء كان الدين حالا أو مؤجلا فهذا مثله. قلنا: لا كذلك فللمرتهن في المرهون ملك اليد وذلك قائم مع التأجيل في الدين وبه يعجز الراهن عن التسليم وليس للغرماء ملك اليد في المأذون ولا في كسبه وإنما لهم حق المطالبة بقضاء الدين وذلك يتأخر إلى ما بعد حلول الأجل وتصرف المريض في ماله نافذ ما دام حيا وبعد موته لا يبقى الأجل ولهذا لا يتصرف الوارث في تركته ويؤمر بقضاء الدين في الحال فلما لم يبق الأجل بعد موته كان الدين الحال والمؤجل في الحكم سواء وإنما لم يبق الأجل لأن ذمته لم تبق محلا صالحا لوجوب الدين منه فأما ذمة العبد فمحل صالح لذلك فالدين ثابت في ذمته والأجل فيه صحيح فلا سبيل للغرماء على منع المولى من التصرف أو مطالبته بشيء حتى يحل دينهم
فإذا حل ضمنوه قيمته لأنه أتلف عليهم محل حقهم وهو المالية ولأن المولى كالمتحمل عن العبد لغرمائه مقدار مالية رقبته والدين إذا حل على الأصيل بمضي الأجل حل على الكفيل فكان لهم أن يضمنوه قيمته بعد حل المال ولا سبيل لهم على الثمن أجازوا البيع أو لم يجيزوا لأنه كان جائزا بدون إجازتهم وكان الثمن للمولى سالما كسائر أملاكه فلا يتغير ذلك بإجازتهم ولأن ضمان القيمة دين لهم في ذمة المولى ويعتبر محل قضاء الدين إلى المديون فلا سبيل للغرماء على الثمن كما لا سبيل لهم على سائر أملاك المولى بخلاف ما إذا كان البيع بعد حل المال فأجازوه لأن نفوذ البيع هناك يكون بإجازتهم فيتحول حقهم عن مالية العبد إلى بدله وها هنا نفوذ البيع كان بدون إجازتهم وكان الثمن سالما للمولى كسائر أملاكه قبل حلول المال فكذلك بعد حله.(25/250)
وكذلك لو وهبه لرجل وسلمه فإن توى ما على المولى من القيمة لم يكن لهم على العبد ولا على الموهوب له سبيل لأن الملك تجدد للموهوب له في العبد بتجدد سببه ولا حق لهم في هذا الملك ولا سبيل لهم إلى نقض سببه لأن المولى حين باشره لم يكن لهم حق المنع فلا يثبت لهم حق الإبطال بعد ذلك ولكن دينهم على العبد يتأخر إلى عتقه بمنزلة مريض وهب عبدا لا مال له غيره وعليه دين كثير فباعه الموهوب له أو وهبه وسلمه ثم مات الواهب الأول فلا سبيل لغرمائه على العبد ولا على من في يده وإنما لهم القيمة على الموهوب له الأول لأنه صار متلفا محل حقهم بتصرفه فإن توت تلك القيمة عليه لم يكن لهم على العبد ولا على من هو في يده سبيل وللمولى أن يستخدم العبد المأذون إذا كان دينه إلى أجل لأنه مالك رقبته والمنفعة تملك بملك الرقبة ولا سبيل للغرماء عليه في مطالبته بشيء في الحال فيتعذر على المولى استخدامه مراعاة لحقهم ولو كان الدين حالا كان لهم أن يمنعوه من ذلك لأن لهم حق المطالبة بقضاء الدين والاستسعاء فيه وباستخدام المولى إياه يفوت عليهم ذلك أو يتمكن فيه نقصان فكان لهم أن يمنعوه من ذلك.
وكذلك لو أراد أن يسافر به لم يكن لهم أن يمنعوه إذا كان الدين مؤجلا لأنه لا سبيل لهم على العبد في مطالبته بشيء فكيف يثبت لهم السبيل على المولى في منعه من السفر به؟.(25/251)
ص -124- ... ولو كان الدين حالا كان لهم أن يمنعوه من ذلك لأنه يحول بينهم وبين حق ثابت لهم وهو المطالبة ببيع الرقبة وقضاء الدين من ثمنه. وكذلك له أن يؤاجره ويرهنه إذا كان الدين مؤجلا لما قلنا: فإن حل الدين قبل انقضاء مدة الإجارة كان هذا عذرا وللغرماء أن ينقضوا الإجارة لأن الإجارة وإن كانت من لوازم العقود فإنها تنتقض بالعذر والحاجة إلى دفع الضرر.
ألا ترى أنها تنتقض لدفع الضرر عن المباشر للعقد؟ فلأن تنقض لدفع الضرر عن غير المباشر أولى وتنقض للرد بسبب فساد البيع والرد بسبب العيب في البيع فينقض أيضا لحق الغرماء في المطالبة ببيع الرقبة بعد حل المال فأما الرهن فهو لازم من جهة الراهن ولا يثبت للغرماء بعد حل الأجل نقض الرهن كما لا يثبت لهم حق نقض البيع الذي نفذ من المولى ولكنهم يضمنون المولى قيمته لأنه حال بينهم وبين حقهم في المطالبة بإيفاء الدين من مالية الرقبة وبالبيع فيضمن لهم القيمة كما لو أتلف عليهم ذلك بإبطال المالية فيه بالإعتاق فإذا أرادوا تضمينه فافتكه من المرتهن ودفعه إليهم بريء من الضمان لأن الحيلولة قد ارتفعت وإن أفتكه بعد ما قضى عليه القاضي بضمان القيمة فالقيمة عليه والعبد له ولا سبيل للغرماء على العبد لأن حقهم تحول بقضاء القاضي إلى القيمة والسبب الموجب له كان قائما وقت القضاء فلا يعود حقهم بعد ذلك بانعدام الحيلولة بالفكاك كالمغصوب إذا عاد من إباقه بعد ما قضى القاضي على الغاصب بقيمته.
ولو أبى المولى أن يفتكه فقضى الغرماء الدين ليبيعوه في دينهم كان لهم ذلك لأن المانع حق المرتهن وحقه يسقط بوصول دينه إليه وإنما يقصدون بهذا تخليص محل حقهم فلا يكون للمرتهن أن يأبى ذلك عليهم(25/252)
وإذا لم يكن على المأذون دين فأمره مولاه أن يكفل عن رجل بألف فقال العبد للمكفول له إن لم يعطك فلان مالك عليه وهو ألف فهو علي فالضمان جائز لأن العبد إنما كان محجورا عن الكفالة لحق المولى فإذا رضي المولى بكفالته كان هو والحر سواء.
وكذلك لو قال: إن مات فلان ولم يعطك هذا المال الذي لك عليه فهو جائز على ما قال وقد بينا في كتاب الكفالة معنى صحة تعليق الكفالة بهذه الأسباب فإن أخرجه المولى عن ملكه ببيع أو هبة ثم مات المكفول عنه قبل أن يعطي المكفول له حقه فإن المكفول له يضمن المولى الأقل من دينه ومن قيمته ولا يبطل بيع المولى في العبد ولا هبته لأن هذا في معنى الدين المؤجل على العبد حين تصرف المولى من حيث أنه لم يكن للموهوب له سبيل على مطالبته بشيء يومئذ وهو دونه لأن أصل الوجوب لم يكن ثابتا قبل وجود شرطه وإن وجد سببه وهو الكفالة ثم قد بينا أن هناك الغريم لا يبطل تصرف المولى فهاهنا أولى. وأما تضمين المكفول له المولى قيمته فلأنه فوت عليه محل حقه بتصرفه وقد كان سبب وجوب المال منعقدا وإن كانت المطالبة به متأخرة فيكون المولى ضامنا له قيمته بتفويت المال عليه وكذلك هذا في ضمان الدرك لو أمر عبده أن يضمن الدرك في دار باعها المولى ثم إن(25/253)
ص -125- ... المولى باعه ثم استحقت الدار فللمشتري أن يضمن المولى الأقل من قيمته ومن الثمن باعتبار أنه فوت عليه محل حقه فإن لم يخرجه المولى من ملكه حتى لحق العبد دين يحيط برقبته ثم استحقت الدار من يد المشتري فإن العبد يلزمه ما ضمن مع الدين الذي في عنقه لأن سبب وجوب الضمان للدرك كان صحيحا لكون العبد فارغا عن حق الغرماء عند ذلك وقد تعذر الوجوب بالاستحقاق فيكون هذا دينا لأن ما على العبد كسائر ديونه في جميع ذلك.
ولو حفر العبد التاجر بئرا في الطريق ثم أخرجه المولى من ملكه ثم وقع في البئر دابة تساوي ألف درهم فعطبت فلا سبيل لصاحبها على العبد ولا على الذي هو في يده لأنه حين أخرجه المولى من ملكه لم يكن العبد مطالبا بشيء ولم يوجد من العبد صنع هو جناية في الملك الذي تجدد للمشتري فلا سبيل له على المشتري ولكنه يضمن مولاه الأقل من قيمته ومن قيمة الدابة لأن عند وقوع الدابة في البئر يصير العبد متلفا له بالحفر السابق وذلك الحفر جناية منه في ملك المولى يستحق به صاحب الدابة مالية رقبته لو لم يخرجه المولى عن ملكه فبإخراجه يكون مفوتا عليه محل حقه فلهذا يضمن له المولى الأقل من قيمته ومن قيمة الدابة فإن تويت القيمة عليه لم يتبع عبده بشيء حتى يعتق فيؤخذ بقيمة الدابة حينئذ لأن الدين كان واجبا في ذمته باعتبار جنايته وكان لا يطالب به لحق مولاه الذي حدث له فإذا سقط حقه بالعتق كان مطالبا بقضاء دينه.
وإذا كان على العبد التاجر دين إلى أجل فباعه مولاه ثم اشتراه أو رجع إليه بإقالة أو عيب بعد القبض بغير حكم ثم حل الدين فلا سبيل للغرماء أما في الشراء فلا إشكال أن الملك متجدد له بتجدد السبب وكذلك في الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير حكم فإنه في معنى بيع متجدد في حق غيرهما فكان وجود هذا العود إليه كعدمه وعود هذا العبد إليه كعود عبد آخر فإن اختلاف سبب الملك بمنزلة اختلاف العين فلهذا ضمنوا المولى قيمته.(25/254)
ولو رجع العبد إليه بعيب بقضاء قاض أو خيار رؤية أو شرط في أصل البيع ثم حل الدين أخذوا العبد به ولا سبيل لهم على المولى لأنه عاد إليه بسبب هو فسخ من الأصل فإنما يعود إلى قديم ملكه الذي كان مشغولا بحق غرمائه وينعدم به السبب الموجب للضمان على المولى وهو تفويت محل حقهم وإن مات في يد المولى بعد ما رجع إليه على هذا الوجه قبل أن يحل دينهم ثم حل الدين فلا ضمان لهم على المولى لأن البيع حين انفسخ من الأصل صار كأن لم يكن ولو مات قبل البيع لم يكن لهم على المولى ضمان إذا حل دينهم.
وكذلك المولى لو وهبه وسلمه ثم رجع في الهبة بحكم أو بغير حكم فإن المولى يبرأ من القيمة لأن الرجوع في الهبة فسخ من الأصل وإعادة إلى قديم ملكه سواء كان بقضاء أو بغير قضاء عندنا وقد بيناه في الهبة فإذا عاد محل حقهم صارت الإزالة كأن لم تكن ولو باعه فمات قبل أن يقبضه المشتري بريء المولى من القيمة لأن بمجرد البيع لا يتقرر السبب الموجب للضمان على المولى وإنما يكون بالتسليم.(25/255)
ص -126- ... ولو تقرر السبب بالبيع فبالموت قبل التسليم ينتقض البيع من الأصل ويعود إلى ملك المولى مشغولا بحق الغرماء كما كان فهو كما لو انتقض البيع بالرد بخيار الشرط ثم مات وإن مات بعد ما قبضه المشتري قبل أن يحل الدين فقد حل عليه بموته لأن الأجل حق العبد وقد استغنى عنه بموته ووجوب الدين كان في ذمته وقد خرجت ذمته من أن تكون محلا صالحا لوجوب الدين فيه فهو وموت الحر سواء وعلى المولى قيمته إلى أجل الدين لأن الأجل كان ثابتا في حق المولى ولم يقع له فيه الاستغناء عنه وهو بمنزلة الكفيل فيما لزمه من القيمة والدين المؤجل إذا حل على الأصيل بموته يبقى الأجل في حق الكفيل.
وكذلك لو أعتقه المولى ثم مات العبد حل عليه ولم يوجد المولى القيمة إلا إلى الأجل في حق المولى لحاجته إلى ذلك وقيام ذمته محلا صالحا لوجوب الحق فيها.
ولو كان الدين على العبد ألفي درهم ألف حالة وألف إلى أجل فباعه المولى أو وهبه وسلمه فلصاحب الدين الحال أن ينقضه إلا أن يقضي المولى دينه لأن الدين المؤجل في حكم نقض تصرف المولى كالمعدوم وقيام صاحب الدين الحال كاف في نقض تصرف المولى فإن قضاه جاز ما صنع المولى من ذلك به لأنه وصل إليه جميع حقه ولا سبيل لصاحب الدين المؤجل على العبد في الحال فينفذ تصرفه فيه فإذا حل الدين الآخر لم يشارك الأقل فيما أخذ من المولى لأن أصل الدين لم يكن مشتركا بينهما والمقبوض من محل لا شركة بينهما فيه وهو ملك المولى ولكنه يتبع المولى بالأقل من دينه ومن جميع قيمته لأن حق الآخر سقط بوصول دينه إليه وكان المولى متطوعا فيما قضاه كأجنبي آخر وصار كأن لم يكن عليه إلا الدين المؤجل فباعه المولى.
ألا ترى أنه لو لم يبعه حتى حل الدين فإن العبد كله يباع للغريم الآخر في دينه إلا أن يفديه المولى فكذلك إذا باعه كان ضامنا بجميع قيمته إلا أن يكون الدين أقل منه.(25/256)
ولو لم يقض المولى صاحب الدين الحال حقه فنقض البيع وطلب من القاضي ببيعه فإن القاضي يبيعه بمطالبته ثم يدفع إليه نصف الثمن لأن ببيع القاضي يتحول حق الغرماء إلى العبد من الثمن وأصل الاستحقاق لصاحب الدين المؤجل ثابت وإن كانت المطالبة متأخرة إلى حلول الأجل واستحقاق الثمن بثبوت حقه من الدين في ذمته فكان ذلك بائعا سلامة جميع الثمن لصاحب الدين الحال فيدفع إليه نصف الثمن ويدفع النصف إلى المولى لأنه حق صاحب الدين المؤجل ولكن مطالبته به تتأخر إلى حلول الدين.
ألا ترى أن قبل حلول المال لم يكن له سبيل على رقبته وكسبه فكذلك على بدل الرقبة وإذا لم يكن له سبيل كان المولى أحق به لأنه بدل ملكه وعلى قول زفر رحمه الله لا يتبع القاضي بحل الدين الآخر على العبد ويكون الثمن بينهما نصفين لأن الدين يتحول ببيع القاضي إلى الثمن والثمن عين لا يقبل الأجل فهو بمنزلة موت الحر ولكنا نقول الدين باق في ذمة العبد حتى إذا عتق كان للغريم أن يطالبه بجميع الدين إن شاء فيبقى الدين ببقاء الأجل(25/257)
ص -127- ... في ذمته فإذا حل الدين الآخر أعطاه المولى ما في يده وإن هلك ذلك في يد المولى فلا ضمان عليه لأن حكم البدل حكم المبدل.
ولو هلك العبد في يد المولى لم يكن على المولى فيه ضمان ويتبع صاحب الدين الغريم الأول فيأخذ منه نصف ما أخذه لأن ثمن العبد كان مشتركا بينهما فإنما يسلم له المقبوض بشرط سلامة الباقي للغريم الآخر ولم يسلم له ذلك فلهذا يأخذ منه نصف ما أخذ فإن لم يهلك ذلك ولكن هذا الغريم أبرأ من دينه أو وهبه فإن الأول يأخذ هذه الخمسمائة من المولى لتمام حقه لأنه كان مستحقا لجميع العين بدينه وإنما امتنع سلامة النصف له لمزاحمة الآخر وقد زالت مزاحمته بالإبراء ولأن نصف دين الأول باق على العبد فلا يجوز أن يسلم للمولى شيء من ثمن العبد مع قيام الدين عليه ولو لم يبرئه ولكن المولى نقد غريما له تلك الخمسمائة التي في يده فهو جائز لأنها مملوكة له وتصرفه فيها قبل حل الأجل كتصرفه في الرقبة فلا يمتنع نفوذه لحق صاحب الدين المؤجل ولكن إذا حل دينه ضمن المولى له تلك الخمسمائة لأنه فوت عليه محل حقه بتصرفه فإن تويت عليه رجع على الأول فيما قبض فيشاركه فيه ثم رجعا على الغريم الذي قضاه المولى بالخمسمائة التي اقتضاها لأنه حين رجع على الأول بنصف ما قبض ثبت للأول حق الرجوع في نصف ما بقي في يد المولى ونقض تصرف المولى فيه ثم يشارك فيه الغريم الآخر فلا يزال هكذا حتى يأتي على جميعه فلهذا كان لهما حق نقض تصرف المولى والرجوع على القابض بالخمسمائة التي قبضها من المولى.(25/258)
ولو لم يبع القاضي العبد للغريم ولكن المولى باعه برضى صاحب الدين الحال فبيعه جائز لأن الراضي مسقط حقه في إبطال البيع ولا حق لصاحب الدين المؤجل في إبطال البيع ثم يعطي نصف الثمن صاحب الدين الحال ويسلم للمولى نصف الثمن فإذا حل الدين الآخر أخذ صاحبه من المولى نصف القيمة ولا سبيل له على الثمن لأن المولى مفوت عليه محل حقه وليس بمحول حقه إلى الثمن إذ ليس له ولاية تحويل حقه من محل إلى محل بخلاف الأول فهناك إنما باعه القاضي وللقاضي ولاية تحويل الحق من الرقبة إلى الثمن فلهذا كان المولى ضامنا نصف القيمة للثاني ها هنا وما قبض من نصف الثمن فهو مال سالم له فإن توى ما على المولى من نصف القيمة لم يرجع على الذي أخذ نصف الثمن بشيء لأن أصل الثمن ها هنا ما كان مشتركا بينهما ولا شركة بينهما في أصل الدين.
فإن قيل: لماذا لا يأخذ الأول جميع الثمن من المولى لما لم يكن للثاني شركة من الأول في الثمن.
قلنا: لأن المولى ضامن للثاني نصف القيمة ولا بد من أن يسلم ما هو عوض من ذلك النصف من الثمن للمولى فلهذا يعطي للأول نصف الثمن ولا يضمن للثاني إلا نصف القيمة لأن الأول استحق عليه نصف بدل المالية فمنع ذلك ثبوت حق الثاني في تضمين المولى جميع القيمة.(25/259)
ص -128- ... وإن كان على المأذون ديون إلى آجال مختلفة فباعه المولى قبل أن يحل شيء منها ثم حل الدين الأول فإن قيمة العبد تقسم على الدين ما حل منه وما لم يحل فما أصاب الذي حل منها من القيمة أخذه
وكذلك كل من حل دينه من غرمائه لما بينا أن المولى ضامن قيمته بتفويته محل حق الغرماء ولكل واحد منهم حصته من ذلك ولكن لا يطالبه به إلا بعد حل دينه فإن كان الدين ثلاثة آلاف فحل ألف منها فطلب صاحبها من القاضي بيع العبد فإنه يبيعه ويعطيه ثلث ثمنه ويضع الثلثين الذي هو حق الآخرين في يد المولى حتى يحل دينهما فإذا حل دين آخر أعطى صاحبه حصته من ذلك وذلك ثلث الثمن فإذا حل الثالث أعطاه الثلث الباقي فإن توى الثلث الباقي على المولى رجع الثالث على الأولين فيأخذ منهما ثلث ما في أيديهما لأن الثمن كان مشتركا بينهم أثلاثا حين كان البيع من القاضي وكان شرط سلامة الثلثين للأولين أن يسلم الثلث للثالث فإذا لم يسلم كان التاوي من حقوقهم والباقي مقسوم بينهم على قدر حقهم فرجع على الأولين بثلث ما في أيديهما ليسوي بينهما في ثمنه فإن لقي أحدهما أخذ منه نصف ما في يده لأن حقهما في الثمن سواء ثم يرجعان جميعا على الآخر بثلث ما في يده فيقتسمانه نصفين ليسلم لكل واحد منهما ثلث الثلثين ويستووا في الضرر الحاصل بالتوى فإن لقي أحدهما الآخر وحده أخذ منه ربع ما في يده لأن الباقي في يده نصف الثلث وفي يد من لقيه نصف الثلث وفي يد من لقيه الثلث فيضم ما في يده إلى ما في يد صاحبه ويقتسمان ذلك نصفين ليستويا وإذا فعل ذلك أخذا منه ربع ما في يده حتى يكون الباقي في يده ثلاثة أرباع الثلث وفي يد هذا الآخر ثلاثة أرباع الثلث أيضا فإن لقيهما بعد ذلك الآخر أخذ منهما تسع ما في أيديهما لأن المساواة بينهم بذلك تحصل.(25/260)
وإذا أردت معرفة ذلك جعلت الثمن كله على اثني عشر فسهام الثلثين ثابتة بينهم أثلاثا لكل واحد منهم سهمان وثلثا سهم والذي في يد هذا الذي لقيهما نصف الثلث سهمان وفي يد الآخر ستة فيأخذ منهما ثلثي سهم وثلثا سهم من ستة يكون تسعها فيحصل له سهمان وثلثا سهم وبقي في يد كل واحد منهما سهمان وثلثا سهم.
وإذا قال المأذون بأمر مولاه ولا دين عليه لرجل إن مات فلان ولم يعطك ألفك التي عليه فأنا ضامن لها حتى أدفعها إليك ثم لحق العبد دين ألف درهم فباعه القاضي في دينهم بألف فإنه يدفعها كلها إلى الغريم لأنه لا مزاحم له في الثمن فإن المزاحمة باعتبار وجوب الدين على العبد ولم يجب للمكفول له شيء بعد وجود سببه قبل شرطه وبه فارق الدين المؤجل وتأثير الأجل في المنع في المطالبة لا في نفي أصل الوجوب والمتعلق بالشرط لا يكون موجودا قبل الشرط فإذا دفع الثمن إلى الغريم استوثق منه بكفيل لأن حق المكفول له بعرض اللزوم فإن سببه وهو الكفالة مقرر فلتقرر السبب يجب النظر له بالاستيثاق فإذا لزم العبد ضمان ما كفل به أخذ المكفول من الغريم نصف الثمن الذي أخذه لأن الوجوب إذا ثبت عند وجود شرطه فإنما يحال به على سببه وهو الكفالة ولهذا لو كانت الكفالة في الصحة كان(25/261)
ص -129- ... هذا من جملة ديون الصحة بقدره وهو أن حق المكفول له أخذ سببها من الدين الحادث بعد البيع باعتبار أن الوجوب يكون عند وجود الشرط ومن الدين المؤجل باعتبار أن السبب كان متقررا قبل وجود الشرط فيتوفر حظه عليهما فيقول لشبهه بالدين الحال يدفع الثمن كله إلى الغريم الأول قبل أن يجب دين الكفالة بالدين ولشبهه بالدين المؤجل قلنا: إذا تحقق لزوم دين الكفالة رجع المكفول له على الغريم بنصف الثمن الذي أخذه.
وإذا كان على المأذون دين حال فوهبه مولاه لرجل وسلمه إليه فالهبة باطلة إلا أن يجيزها الغرماء لأنهم أحق بمالية العبد من المولى وفي الهبة تفويت محل حقهم فلا ينفذ إلا بإجازتهم فإن أجازوها بطل دينهم لا على معنى أنه سقط عن ذمة العبد ولكن على معنى أنه لا شيء لهم على المولى ولا على العبد حتى يعتق لأنهم رضوا بصنع المولى والملك للموهوب له حادث بعد الدين فلا يستحق بذلك الدين ولكن يتأخر حقهم في المطالبة إلى ما بعد العتق لانعدام محل الاستيفاء فإذا عتق اتبعوه بجميع دينهم.
ولو كان الدين كله إلى أجل جازت الهبة لأنه لا حق للغرماء في المطالبة بشيء قبل حلول الأجل فينفذ تصرف المولى باعتبار ملكه وللغرماء على المولى قيمته إذا حل دينهم لأنه فوت عليهم محل حقهم بتصرفه
فإذا أخذوا القيمة منه أو قضى بها القاضي عليه ثم رجع في هبته فلا سبيل لهم على العبد لأن حقهم تحول إلى القيمة بقضاء القاضي وقد كان السبب قائما عند القضاء فلا يتحول إلى العبد بعد ذلك وإن عاد إليه قديم ملكه بالرجوع في الهبة فإن أذن له المولى بعد ذلك في التجارة فلحقه دين بيع في الدين الآخر خاصة لوجود الرضا من المولى بتعلق هذا الدين بمالية رقبته ولا سبيل للأولين على هذا الثمن لأن حقهم تحول إلى القيمة دينا في ذمة المولى فكما لا سبيل للآخرين على القيمة إذا أخذها الأولون فكذلك لا سبيل للأولين على الثمن.(25/262)
وإن مات المولى قبل أن يباع ولا مال له غيره بيع فبدئ بدين الآخرين لأن حق الأولين أيضا في ذمة العبد حتى يتبعوه بعد العتق لانا بينا أن حقهم تحول إلى القيمة فلا يبقى على العبد في حال رقه فإن بقي من ثمنه شيء بعد قضاء دين الآخرين كان للأولين باعتبار أنه ملك المولى ودينه بعد موته يقضي من ملكه فإن كان على المولى دين سوى ذلك اقتسم هذا الباقي الأولون وأصحاب دين المولى تصرف فيه أصحاب دين المولى بديونهم الأولون بقيمة العبد لأن حقهم في ذمة المولى بقدر قيمة العبد.
وإذا كان على المأذون ألف درهم حالة وألف درهم إلى أجل فوهبه مولاه لرجل وسلمه فلصاحب الدين الحال أن يرد الهبة لأن توجه المطالبة له علة تامة تمنع نفوذ تصرف المولى فإن أجازها جازت لوجود الرضا منه ولا سبيل لصاحب الدين على العبد حتى يحل دينه.
ألا ترى أنه لو لم يكن سوى دينه على العبد كانت الهبة صحيحة فإن حل دين الآخر ضمن المولى قدر القيمة له حتى يستوفي دينه ولا شيء منه للغريم الأول لأن الأول بإجازة(25/263)
ص -130- ... الهبة أبطل حقه في حال رق العبد فهو بمنزلة ما لو أبرأه عن دينه وقد فوت المولى على الآخر محل حقه فيضمن له جميع القيمة.
ولو أن صاحب الدين الحال لم يجز الهبة ولم يقدر على العبد فله أن يضمن المولى نصف قيمته لأن الدين المؤجل ثابت عليه وإن كانت المطالبة به متأخرة والقيمة عند تعذر الوصول إلى العبد كالثمن عند بيع القاضي إياه وقد بينا هناك أنه لا يسلم لصاحب الدين الحال إلا حصته من الثمن فها هنا أيضا لا يسلم لصاحب الدين الحال إلا حصته من القيمة وذلك النصف فإن ضمنه ثم حضر العبد فالهبة جائزة لأن حقه سقط عن العبد بوصول حصته من الضمان إليه والدين الآخر مؤجل لا يمنع الهبة فإذا حل دين الآخر كان له أن يتبع المولى بنصف القيمة لأنه فوت محل حقه بتصرفه فإن شارك الأول فيما أخذ لأن القيمة وجبت لهما في ذمة المولى مشتركة بسبب واحد وإنما يسلم المقبوض للأول بشرط أن يسلم النصف الباقي للآخر فإذا لم يسلم كان له أن يشارك الأول فيما أخذ ثم يتبعان المولى بنصف القيمة لأن المقبوض لما صار مشتركا بينهما كان الباقي مشتركا أيضا.(25/264)
ولو لم يحل الدين الثاني حتى رجع المولى في هبته ثم حل كان لصاحبه أن يتبع نصف العبد بدينه حتى يباع له لأن تحول حقه إلى نصف القيمة لا يتم إلا بالقبض أو بقضاء القاضي له بها ولم يوجد فقد عاد العبد بالرجوع إلى قديم ملك المولى فكان له أن يطالب ببيع حصته منه في الدين وذلك نصفه وإن شاء شارك الأول فيما أخذ لما بينا أن وجوب القيمة لهما بسبب واحد فهو بمنزلة العبد المشترك إذا غصبه غاصب فأبق ثم إن كان أحدهما خاصم الغاصب وضمنه نصف القيمة ثم رجع العبد كان للآخر الخيار إن شاء أخذ نصف العبد وإن شاء شارك الأول فيما أخذ من نصف القيمة فإن شاركه في ذلك يباع نصف العبد في دينهما لأن المقبوض لما صار مشتركا بينهما كان الباقي كذلك فيباع نصفه في دينهما لأن في هذا النصف الحق باق في العبد وإن كان العبد اعورا في يد الموهوب له قبل أن يرجع فيه الواهب ضمن المولى ربع قيمته وبيع نصفه في دينه لأن العين من الآدمي نصفه.
ولو عاد الكل إليه بالرجوع في الهبة كان يباع نصفه في الدين ولو هلك الكل في يد الموهوب له كان المولى ضامنا نصف قيمته فالجزء يعتبر بالكل ولفوات النصف ضمن المولى ربع قيمته وبعود النصف إلى قديم ملكه بالرجوع يباع نصفه في دينه ولو اعورا بعد ما رجع إلى المولى لم يضمن من عوره شيئا لأنه لو هلك العبد بعد الرجوع في الهبة لم يضمن شيئا فإنه بالرجوع عاد إلى قديم ملكه فعوره في هذه الحالة كهلاكه قبل الهبة فكذلك إذا اعور قلنا: لا يضمن المولى شيئا ولكن يباع نصفه أعور في دينه.
وإذا كفل المأذون عن رجل بألف درهم بأمر مولاه ولا دين عليهم باعه المولى للمكفول له أن ينقض البيع لأنه صار أحق بماليته من المولى.(25/265)
ص -131- ... ألا ترى أنه يطالبه بقضاء دين الكفالة ويباع له فيه كما يباع في سائر ديونه ولو كانت الكفالة بنفس رجل لم يكن للمكفول له أن ينقض البيع لأنه صار أحق بماليته بهذه الكفالة.
ألا ترى أنه لا يطالب ببيعه في هذه الكفالة فكانت المالية خالص حق المولى فلهذا نفذ بيعه وهذا لأن صاحب الدين إنما ينقض بيع المولى ليستسعيه في دينه ولا حق لصاحب الكفالة بالنفس في استسعائه في شيء ولكن يبيع العبد بكفالته حيث كان لأنه استحق عليه المطالبة بتسليم النفس فلا يسقط ذلك ببيع المولى إياه وهذا عيب فيه للمشتري أن يرده به إن شاء لأنه يحبس به ويؤمر بطلب المكفول بنفسه ليسلمه وفيه حيلولة بين المشتري وبين مقصوده من الخدمة فيثبت له حق الرد لأجله كما يثبت له حق رد الجارية بعيب النكاح إن شاء فإن كانت الكفالة على أنه كفيل بنفس المطلوب إن لم يعط المطلوب ما عليه إلى كذا وكذا لم يكن للمشتري أن يرده بعيب هذه الكفالة قبل وجود الشرط لأنه لا مطالبة بشيء على العبد في الحال فالتزام تسلم النفس منه كان معلقا بالشرط والمعلق بالشرط معدوم قبله فإذا وجب على العبد لوجود شرطه رده المشتري إن لم يكن علم بها حين اشتراه لأن الحيلولة وقعت بينه وبين الخدمة بسبب كان سابقا على بيعه فإن ثبوت الحكم عند وجود الشرط يكون محالا به على السبب وإن كان علم بها حين اشتراه فليس له أن يرده بهذا العيب أبدا لأن تمكنه من الرد بالعيب لدفع ضرر لم يرض بالتزامه.
قال: والحكم في بيع المولى شيئا من رقيق المأذون أو هبته وعليه دين حال أو مؤجل على ما وصفنا في المأذون بنفسه لأن مطالبة صاحب الدين بإيفاء الدين من الكسب والرقبة فكما أن في الرقبة إذا انعدمت المطالبة للتأجيل في الدين جعل في حق تصرف المولى كأنه لا دين عليه فكذلك في تصرفه في كسبه بالبيع والهبة في حكم النفوذ وحكم تضمين المولى عند حل الدين وفي الأصل إشارة إلى مخالف له في هذا الجواب.(25/266)
واستشهد عليه بشواهد قال أرأيت لو أعتق رقيق العبد قبل أن يحل دين العبد لم يجز عتقه في قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي لمن زعم أن البيع لا يجوز أن لا يجوز عتقه في الرقيق بمنزلة ما لو كان الدين حالا وكان محيطا برقبته وما في يده.
أرأيت لو أن المولى لو حجر عليه والدين عليه مؤجل لم يكن له أن يبيع الرقيق فإذا لم يكن له أن يبيعهم فمن ذا الذي ينفق عليهم فبيع المولى في هذا كله جائز وهو ضامن للقيمة إذا حل الدين وقيل المخالف أبو يوسف رحمه الله فقد روي عنه أنه لا يجوز بيع المولى كسب العبد وإن كان الدين مؤجلا عليه لأن بالتأجيل لا ينعدم وجوب أصل الدين وحاجة المأذون إلى قضائه وحاجته في كسبه مقدمة على حق المولى
فكان المولى ممنوعا من إثبات يده عليه ولا يجوز بيعه ولا هبته فيه ويجوز العتق لأن تقرر العتق لا يستدعي اليد فأما إذا كان الدين حالا على العبد فإن لم يكن محيطا بكسبه ورقبته لا يمنع نفوذ عتق المولى في رقبته لأن المولى يخلف عبده في كسبه خلافة الوارث المورث والدين على المورث إذا لم(25/267)
ص -132- ... يكن محيطا بالتركة لا يمنع ملك الوارث في التركة ونفوذ عتقه في قول أبي حنيفة رحمه الله الأخير وفي قوله الأول يمنع ذلك وقد بينا هذا في أول الزيادات فكذلك الدين على العبد فأما إذا كان الدين محيطا بكسبه ورقبته فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله المولى لا يملك شيئا من كسبه.
ولو أعتقه لا ينفذ عتقه في كسبه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المولى يملك كسبه حتى ينفذ عتقه في رقبته كما يملك عتقه لأن الكسب بمنزلة الرقبة من حيث أن حق الغريم فيه مقدم على حق المولى وأنه لا يسلم للمولى إلا بشرط الفراغ من دين العبد فكما أن قيام الدين عليه لا ينافي ملك المولى في رقبته فكذلك لا ينافي ملكه في كسبه وهذا لأن الكسب يملك بملك الرقبة وله ملك مطلق في رقبته فيملك كسبه وهذا بخلاف المكاتب فرقبته مملوكة للمولى من وجه دون وجه لأنه بعقد الكتابة صار بمنزلة الحريدا وقد ملك بدل الرقبة وهو دين الكتابة من وجه فكذلك يمنع بقاء ملكه في رقبته من هذا الوجه فلهذا لا يكون مالكا كسبه فأما رقبة العبد بعد لحوق الدين إياه فمملوكة للمولى من كل وجه.
ألا ترى أنه يملك استخلاصه لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر ولا يملك إبطال حق المكاتب بفسخ الكتابة وهذا بخلاف الدين في التركة وذلك لأن الوارث إنما يملك الفاضل عن حاجة الميت.
ألا ترى أن المشغول بالجهاز والكفن لا يكون مملوكا للوارث فكذلك المشغول بالدين وها هنا ملك المولى كسب العبد لا يتعلق بفراغه من حاجة العبد وإن كانت سلامته له تتعلق بذلك.(25/268)
ألا ترى أن حاجته إلى النفقة والكسوة لا يمنع ملك المولى في كسبه فكذلك حاجته إلى الدين ولأن الشرع جعل الميراث بعد الدين فحال قيام الدين كحال حياة المورث في أنه لا يكون أو أن الميراث والحكم لا يسبق أوانه فأما خلافة المولى عبده في ملك الكسب واعتبار الرق ينافي الأهلية لملك المال والكسب موجب الملك في المكسوب فإذا لم يكن المكتسب من أهله وقع الملك لمن يخلفه وهذا المعنى قائم حال قيام الدين عليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول المولى يخلف عبده في ملك الكسب خلاف الوارث المورث على معنى أنه يملكه بإكسابه وسلامته له متعلقة بفراغه عن حاجة العبد فكما أن الدين المحيط بالتركة يمنع ملك الوارث في التركة فكذلك الدين المحيط بالكسب والرقبة يمنع ملك المولى وهذا لأن الخلافة في الموضعين جميعا باعتبار انعدام الأهلية للملك في المكتسب فالميت ليس بأهل للمالكية كالرقيق لأن المالكية عبارة عن القدرة والاستيلاء والموت ينافي ذلك كالرق بل أظهر فالرق ينافي مالكية المال دون النكاح والموت ينافيهما جميعا.
ثم لقيام حاجة الميت إلى قضاء ديونه يجعل كالمالك حكما حتى لا يملك الوارث كسبه فكذلك العبد لقيام حاجته يجعل كالمالك حكما وهذه الحاجة ليست كالحاجة إلى(25/269)
ص -133- ... الطعام والكسوة فإن الرقيق لا يحتاج إلى ذلك لأنه يستوجب النفقة على المولى إذا لم يكن له كسب وليس الكسب نظير الرقبة لأن المولى ليس يخلفه في ملك الرقبة بل كان مالكا للرقبة لا بالاكتساب من العبد فبقي ملكه في الرقبة بعد لحوق الدين وهو نظير المكاتب فالمولى مالك رقبته حتى ينفذ منه العتق في رقبته وتؤدي به كفارته وبه يتبين أن ملكه في الرقبة مطلق ومع ذلك لقيام حاجته لا يملك المولى كسبه فكذلك في العبد المديون لا يملك كسبه وإن كان يملك رقبته ولا عتق فيما لا يملك ابن آدم.
وإذا أقر العبد المحجور عليه باستهلاك ألف درهم لرجل لم يؤخذ به حتى يعتق فإذا عتق أخذ بذلك لأنه محجور عن الإقرار لحق المولى فبإقراره لا يظهر وجوب الدين في حق المولى ولكن يظهر في حق العبد لأنه مخاطب لا تهمة في إقراره في حقه فيؤاخذ به بعد العتق وإن ضمن عنه رجل هذا الدين قبل أن يعتق أخذ به الكفيل حالا لأن أصل الدين واجب على العبد وإنما تأخرت المطالبة في حقه لانعدام المحل فإذا ضمنه عنه رجل فقد ضمن دينا واجبا فيؤاخذ به في الحال بمنزلة الدين على مفلس إذا ضمنه عنه إنسان أخذ به في الحال لهذا المعنى فإذا اشتراه صاحب الدين فأعتقه أو أمسكه بطل دينه عن العبد لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا ولكنه يأخذ الكفيل بالأقل من الثمن ومما ضمنه لأن الدين لو كان معروفا على العبد تحول بالبيع إلى الثمن سواء بيع من صاحب الدين أو من أجنبي وهذا الدين بمنزلة المعروف في حق الكفيل فيحول إلى الثمن لأنه إنما يتحول إلى الثمن بقدر ما يسع من الثمن لقضاء الدين منه فبقدر ذلك يكون الكفيل مطالبا وما زاد على ذلك سقط عن الكفيل بسقوطه عن الأصيل من كل وجه.(25/270)
ولو لم يشتره ولكن صاحبه وهبه منه وسلمه إليه بطل دينه عن العبد وعن الكفيل لأن الدين ها هنا سقط عن الأصيل والمولى لا يستوجب على عبده دينا ولم يخلف العبد محلا آخر يمكن تحويل الدين إليه وبراءة الأصيل بأي سبب كان توجب براءة الكفيل فإن رجع في هبته لم يعد الدين أبدا وهذا قول محمد رحمه الله وعند أبي يوسف رحمه الله يعود الدين برجوعه في الهبة وأصل الخلاف في الدين المعروف على العبد ولم يذكر قول أبي يوسف ها هنا إنما ذكره في أول الزيادات وجه قول محمد رحمه الله أن الدين بالهبة سقط عن العبد لا إلى بدل فكان كالساقط عنه بالإبراء وبعد الإبراء لا يتصور عود الدين إذا تم السقوط بالقبول وهذا لأن الساقط يكون متلاشيا والعود يتصور في القائم دون المتلاشي بخلاف ما إذا اشترى بالدين شيئا أو صالح على عين فهلك قبل القبض لأن الدين هناك لم يسقط وإنما تحولت المطالبة إلى المشتري وإلى ما وقع عليه الصلح وكذلك الحوالة فإن الدين لا يسقط بها ولكن يتحول إلى ذمة المحتال عليه ثم يعود بالتوي إلى المحيل وأبو يوسف رحمه الله يقول بالرجوع في الهبة بفسخ العقد من الأصل وتعود العين إلى قديم ملكه وسقوط الدين كان بحكم الهبة فإذا انفسخ عاد الدين كما إذا سقط الدين بالشراء أو(25/271)
ص -134- ... الصلح بخلاف الإبراء فالسبب هناك غير محتمل للفسخ بعد تمامه والدليل عليه أن الدين لو كان لصبي فوهبه صاحب الدين منه وقبضه هو أو وصيه سقط الدين.
ثم إذا رجع الواهب لو قلنا: بأنه لا يعود الدين كان فيه إلحاق الضرر بالصبي وإسقاط دينه مجانا وذلك مملوك للصبي فلا بد من القول بعود الدين لدفع الضرر.
وقد روى ابن سماعة عن محمد والحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهم أنه ليس للواهب أن يرجع في الهبة بعد سقوط الدين لأن ذلك في معنى زيادة حادثة في ملك الموهوب له والزيادة المتصلة تمنع الواهب من الرجوع ولكن في ظاهر الرواية هذه زيادة لا تغير صفة العين فتكون كزيادة السعر فلا يمنع الواهب من الرجوع.
ألا ترى أن المشتري إذا أقر على العبد بالدين قبل القبض لم يصر قابضا وإن كان الدين عينا والمشتري بالتعيب يصير قابضا ولكن هذا التعييب لما لم يؤثر في العين لم يجعل به قابضا فهذا مثله وقد أملينا في أول شرح الزيادات هذه الفصول بفروعها.
ولو كان الدين على العبد لشريكين وبعضه حال وبعضه مؤجل فوهبه المولى لأحدهما وسلمه إليه فلشريكه أن ينقض الهبة لمكان حقه في المطالبة بالدين الحال كما لو وهبه لأجنبي آخر فإن نقضها بيع العبد فاستوفى الهبة حقه من الثمن وما بقي فهو للمولى ولا شيء للموهوب له على المولى ولا على العبد ولا على الشريك لأن الموهوب له حين قبض العبد بحكم الهبة فقد ملكه وإن كان النقض مستحقا لحق الآخر كالمريض إذا وهب عبده وسلمه صار ملكا للموهوب له وإذا ملكه سقط دينه ولا يعود بعد ذلك إذن فعلى قول أبي يوسف إذا نقض الآخر الهبة عاد الدين كله إلى العبد كما في الأول.(25/272)
ولو باعه المولى من أحدهما بألف درهم وقيمته ألفا درهم فأبطل الآخر البيع بعد القبض أو قبله بيع لهما فاقتسما ثمنه ولم يبطل من دين المشتري شيء لأن بالبيع تحول حقه إلى الثمن كما لو باعه من أجنبي آخر لا يسقط به دينه ولكن يتحول إلى الثمن بخلاف الهبة فلهذا يباع العبد ها هنا في دينهما بعد نقض البيع
وإذا كان على المأذون دين مؤجل فباعه المولى من صاحب الدين بأقل من قيمته أو بأكثر فالثمن للمولى وهو أحق به حتى يحل الدين فيدفع الثمن إلى الغريم وفي قياس قول زفر رحمه الله يحل عليه الدين بالبيع فيكون الثمن للغريم وقد بينا هذا في البيع من أجنبي آخر إذا كان القاضي هو الذي باشره حتى يحول به الدين إلى الثمن وكذلك إذا باعه المولى من صاحب الدين لأنه في البيع من صاحب الدين لا يكون جانيا في حقه ضامنا له شيئا.
فإن توى الثمن في يد المولى لم يكن للغريم على المولى سبيل لأنه في البيع وقبض الثمن منه لم يكن جانيا في حق الغريم فهلاك الثمن في يده كهلاك العبد قبل البيع وإن كان على العبد دين لآخر مثل دين المشتري فحل ضمن نصف القيمة لصاحب الدين الذي لم يشتر العبد لأنه في حقه جان بتفويت محل حقه بالبيع فيضمن له نصف القيمة ثم يسلم له ذلك(25/273)
ص -135- ... ولا يشاركه المشتري فيه كان شريكا في الدين الذي على العبد أو لم يكن شريكا لأن وجوب ضمان القيمة على المولى باعتبار جنايته وهو غير جان في حق المشتري حين ساعده على الشراء منه فلا يثبت له حق في قيمته.
ولو شارك الآخر فيما قبض من القيمة لم يسلم له ولكن يأخذه المولى منه ثم يأتي الشريك الآخر فيأخذ ذلك من المولى فعرفنا أنه لا فائدة في إثبات المشاركة له في المقبوض.
ولو أمر المولى عبده المأذون فكفل لرجل بألف درهم عن رجل على أن الغريم إن مات ولم يدفع المال إلى رب المال فالعبد ضامن للمال فهو جائز لأن كفالته بإذن المولى إذا لم يكن عليه دين ككفالة الحر فإن باعه المولى من رب المال بألف أو بأقل فبيعه جائز ويقبض الثمن فيصنع به ما بدا له لأن وجوب دين الكفالة متعلق بالشرط فلا يكون ثابتا قبله فإن مات المكفول عنه قبل أن يؤدي المال كان للذي اشترى العبد من المولى أن يرجع بالثمن على المولى فيأخذه منه قضاء من دينه لأن عند وجود الشرط يثبت المال على العبد مضافا إلى سببه ويكون هذا في معنى الدين المؤجل فيتحول إلى الثمن ببيعه إياه من الطالب
وإن كان الثمن هلك من المولى لم يضمن المولى شيئا لأنه غير جان في حق المكفول له حين اشترى منه العبد فإقدامه على الشراء يكون رضا ببيعه لا محالة وإن هلك بعضه أخذ الباقي بدينه والهالك صار كأن لم يكن.
فإن هلك الثمن من المولى ثم وجد المشتري بالعبد عيبا رده إن شاء ولم يكن له من الثمن شيء على المولى لأن المولى كان عاملا له في بيعه وقبض ثمنه.(25/274)
ألا ترى أن حقه تحول إلى الثمن وكان هو أحق به عند وجوب دينه على العبد بوجود شرطه فلو رجع على المولى بشيء كان للمولى أن يرجع عليه بذلك أيضا وهذا لا يكون مفسدا ولكن يباع له العبد المردود حتى يستوفي من ثمنه الثمن الذي نقد البائع فإن فضل شيء أخذ هذا الفضل من دينه الأول وإن نقص الآخر عن الثمن الأول لم يكن له على البائع شيء من النقصان لما بينا والله أعلم.
باب توكيل العبد المأذون في الخصومة وغيرها
قال رحمه الله: توكيل المأذون بالخصومة له وعنه جائز مثل الحر لأنه من صنيع التجار ومما لا يجد التاجر منه بدا وانفكاك الحجر فيه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالعتق فكل ما يصح منه من هذا الباب بعد العتق فهو صحيح بعد الإذن وكذلك إن كان الوكيل مولاه أو بعض غرمائه أو ابنه أو ابن المدعي أو مكاتبه أو عبدا مأذونا له لأنه صالح للنيابة عنه في تجاراته واستيفاء حقوقه فيصلح نائبا عنه في المطالبة بحقوقه والخصومة فيها وإقرار وكيله عليه عند القاضي جائز وإن أنكر مولاه أو غرماؤه لأن الوكيل فيما هو من جواب الخصم قائم مقام الموكل كما في الحر وقد بينا اختلاف العلماء فيه في كتاب الوكالة فإقرار وكيل(25/275)
ص -136- ... العبد ههنا في مجلس القاضي كإقرار العبد وإقرار العبد صحيح وإن كذبه مولاه وغرماؤه فكذلك إقرار وكيله.
وإن أقر عند غير القاضي فقدمه خصمه إلى القاضي وادعى إقراره عند غيره سأله عن ذلك فإن أقر له بذلك قبل أن يتقدم إليه ألزمه ذلك لأن كلامه هذا إقرار مستأنف منه في مجلس القاضي مع حكايته ما كان منه من الإقرار في غير مجلسه فإقراره المستأنف ملزم لموكله وما كان منه من الحكاية ساقط الاعتبار.
وإن قال: أقررت به قبل أن توكلني وقال الخصم أقر به في الوكالة ألزمه القاضي ذلك باعتبار أنه إقرار مستأنف منه وسواء كان إقراره السابق قبل التوكيل أو بعده فإنما يلزمه باعتبار إقراره المستأنف في مجلسه ثم يدعي هو تاريخا سابقا في إقراره حين أسنده إلى ما قبل التوكيل وخصمه ينكر هذا التاريخ وحقيقة المعنى فيه أنه ينكر صحة التوكيل لأنه حين كان مقرى قبل التوكيل لا يصلح نائبا في الخصومة في هذه الحالة وقبوله الوكالة إقرار منه بصحتها فإذا ادعى بعد ذلك أنها لم تكن صحيحة كان مناقضا وإن صدقه خصمه في أنه أقر قبل الوكالة أخرجه القاضي من الوكالة ولم يقض بذلك الإقرار على الموكل لأن المناقض إذا صدقه خصمه كان قوله مقبولا منه وقد تصادقا على أنه لم يصر وكيلا وإنشاء الإقرار في مجلس القاضي ممن هو وكيل يكون ملزما للموكل وإذا تصادقا أنه لم يصر وكيلا لا يقضي القاضي على الموكل بإقراره بشيء وإن كان كلامه إنشاء الإقرار.(25/276)
ولو جحد الوكيل الإقرار لم يستحلف عليه لأن الخصم لا يدعي لنفسه بهذا الإقرار شيئا على الوكيل إنما يزعم أنه ليس بخصم له لأنه أقر في غير مجلسه وكيف يستحلفه وهو يزعم أنه ليس بخصم له فإن أقام الخصم البينة على إقراره قبل الوكالة أو بعد ما أخرجه القاضي عن الوكالة لم يجز إقراره على موكله لأنه يثبت إقرار من ليس بوكيل وهو بهذه البينة ثبت أنه ليس بخصم له وإن له المطالبة بإحضار الوكيل للخصومة معه فتقبل بينته عليه فيكون الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وإنما لا يستحلف على ذلك لأنه لو استحلف كان في معنى النيابة عن الموكل والنيابة لا تجزي في الاستحلاف وتجزي في قبول البينة.
ولو كان المدعي على العبد وكل مولى العبد بخصومته وعلى العبد دين أو لا دين عليه كانت وكالته باطلة لأنها لو صحت نفذ إقراره على موكله في مجلس القاضي وفيه براءة لعبده وقول المولى في ذلك غير مقبول لما فيه من المنفعة أو لأن الوكيل بالخصومة يملك القبض فكان هذا بمنزلة التوكيل بالقبض وقد بينا أن الطالب إذا وكل مولى العبد بقبض دينه من العبد لم يجز التوكيل.
وكذلك لو وكل به غريما من غرمائه لأن المنفعة للغريم فيه أظهر ولو كان الوكيل ابن الغريم أو مكاتبه أو عبده كان جائزا وإقراره على موكله جائز بمنزلة ما لو أقر موكله بالقبض وهذا لأنه لا منفعة في هذا الإقرار للوكيل فهو كأجنبي آخر في حق الإقرار به بخلاف المولى(25/277)
ص -137- ... والغريم بنفسه. وإذا قبض المولى ما في يد المأذون ولا دين عليه ثم ادعى رجل فيه دعوى فوكل العبد بخصومته وكيلا لم يجز توكيله بذلك لأن المأخوذ خرج من أن يكون كسبا له وصار كسائر أملاك المولى فلا يكون العبد خصما فيه وتوكيله فيما ليس بخصم فيه باطل.
وكذلك لو أخذه بعد ما وكل العبد وكيلا بالخصومة قبل أن يقر الوكيل بما ادعى المدعي ثم أقر له فإقراره باطل لأن العبد خرج من أن يكون خصما فيه قبل إقرار الوكيل وأكثر ما في الباب أن يجعل إقرار الوكيل كإقرار الموكل وإقرار الموكل به بعد ما أخذه المولى منه باطل فكذلك إقرار الوكيل.
ولو كان على العبد دين كانت الوكالة صحيحة والإقرار جائزا لأن أخذ المولى بمنزلة الغصب لمكان حق الغرماء فلا يخرج المأخوذ به من أن يكون كسب العبد وكما يجوز إقرار العبد به في هذه الحالة فكذلك إقرار وكيله ولو كان المولى حجر عليه وقبض ما في يده ثم ادعى رجل بعض ما في يده فتوكيل العبد في ذلك باطل إذا لم يكن عليه دين لأنه خرج من الخصومة فيه بما فعله المولى وتوكيل المولى بالخصومة فيه صحيح وإقرار وكيله جائز لأن المولى هو الخصم في ذلك.
ولو ادعى العبد دينا على رجل فوكل بالخصومة بعد ما حجر عليه المولى جاز لأنه هو الخصم في بقاء تجاراته فإن أقر الوكيل عند القاضي أن العبد قد استوفى دينه كان إقراره به أيضا كإقرار العبد فينفذ في حق المولى والغرماء وإن أقر أنه لا حق للعبد قبل الخصم فإقراره به أيضا كإقرار العبد به يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله فيما في يده من المال دون رقبته وعندهما لا يجوز في شيء وقد تقدم بيان هذا الفصل.(25/278)
وإذا وجب للمأذون ولشريك له على رجل ألف درهم فجحدها فوكل العبد وشريكه بخصومته مولى العبد وعلى العبد دين أو لا دين عليه فأقر المولى عند القاضي باستيفائهما المال جاز إقراره عليهما لأنه لا منفعة له في هذا الإقرار بل فيه ضرر فهو كأجنبي آخر ينفذ إقراره عليهما وإن جحداه فإن ادعى الشريك على العبد أنه قبض نصيبه فإن كان العبد لا دين عليه فإن الشريك يرجع في رقبة العبد بنصف حصته فيباع في ذلك لأن بإقرار المولى ثبت وصول نصيب العبد إليه فكأنه ثبت ذلك بإقرار العبد فكان للشريك أن يرجع عليه بنصفه ولم يثبت بإقرار المولى نصيب الشريك إليه في حق العبد لأنه كان نائبا عن الشريك في الخصومة مع المطلوب لا مع العبد وصحة إقراره باعتبار أنه وكيل في الخصومة ولأن في ثبوت وصول نصيب الشريك إليه منفعة العبد من حيث أنه يسلم المقبوض أو يثبت للعبد حق الرجوع عليه أن لم يكن هو قبض شيئا وإقرار المولى لا يصح بذلك فلهذا كان للشريك أن يرجع في رقبة العبد بنصف حصته.
وإن كان على العبد دين فلا سبيل له عليه ولا على مولاه حتى يقضي دينه لأن إقرار المولى على العبد بوصول نصيبه إليه لا يكون صحيحا في حق غرمائه فإنه إنما ينفذ إقراره(25/279)
ص -138- ... عليه بكونه وكيلا في الخصومة وهو كان وكيلا في الخصومة مع المطلوب لا مع الأجنبي فإقراره على العبد الآن كإقراره على الأجنبي.
وإذا استوفى العبد دينه وفضل شيء رجع الأجنبي بحصته في ذلك لأن الفاضل خالص ملك المولى وقد أقر بوصول نصيب العبد إليه وللأجنبي أن يرجع في ذلك بنصفه بحكم إقراره كما لو لم يكن عليه دين ولو كان الشريك صدق المولى فيما أقر به عليهما وكذبه العبد وعليه دين أو لا دين عليه لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء لأن بتصديق الشريك ثبت وصول نصيبه إليه وبإقرار المولى على عبده ثبت وصول نصيب العبد إليه أما إذا لم يكن عليه دين فغير مشكل وكذلك إن كان عليه دين فإنه يثبت وصول نصيبه إليه في حق المولى ويكون إقرار المولى عليه بذلك كإقرار العبد ثم بإقرار العبد ثبت وصول نصيبه إليه في حق غرمائه فكذلك بإقرار المولى فلهذا لا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء.
ولو كان الشريك هو الذي وكل العبد بالخصومة في دينه ولم يوكل المولى بذلك فأقر العبد عند القاضي أنه لا حق للشريك قبل الغريم أو أقر أنه استوفى من الغريم نصيبه وجحد ذلك الشريك بريء الغريم من حصة الشريك لأن إقرار وكيله في مجلس الحكم كإقراره فيما يرجع إلى براءة خصمه ويتبع العبد الغريم بنصف الدين لأنه لم يقر في نصيب نفسه بشيء فإذا أخذه شاركه الغريم فيه كان على العبد دين أو لم يكن لأن في إقرار العبد شيئين إبطال حق الشريك على الغريم وسلامة ما يقبضه له وقوله مقبول فيما يرجع إلى إبطال حق الشريك على الغريم لا بتوكيله بخصومته فيكون راضيا بإقراره بذلك ولكن إقراره غير صحيح في سلامة المقبوض له لأن ذلك دعوى منه فكان المقبوض مشتركا بينهما لأنه جزء من دين كان مشتركا بينهما وهو نظير المودع في مال مشترك إذا ادعى أنه رد على أحد الشريكين نصيبه يقبل قوله في براءته عن الضمان ولا يقبل قوله في سلامة الباقي للآخر بل يكون مشتركا بينهما.(25/280)
ولو كان للعبد ولشريكه على رجل ألف درهم هو مقربها فغاب الغريم وادعى العبد أن شريكه قد قبض حقه وأراد أن يرجع عليه بنصفه فجحد الشريك ووكل مولى العبد بخصومة العبد في ذلك وعلى العبد دين أو لا دين عليه أو وكل الشريك بعض غرماء العبد فأقر الوكيل أن الشريك قد استوفى نصيبه من الغريم فإقراره باطل ولا يكون وكيلا في ذلك لأنه يجر به إلى نفسه مالا فإنه إذا صح إقراره على الشريك سلم للعبد ما قبضه من الغريم من نصيبه وفيه منفعة لمولاه ولغرمائه فلهذا لا يكون وكيلا فيه به وقد تقدم بيان الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الطعن.
ولو كان الشريك ادعى على العبد الاستيفاء فوكل العبد بالخصومة لمولاه أو بعض غرمائه فأقر الوكيل على العبد بالاستيفاء جاز إقراره عليه لأنه لا منفعة للمقر في هذا الإقرار بل عليه فيه ضرر وهو كأجنبي آخر فيه وإقرار الوكيل عند القاضي كإقرار الموكل ولو أقر العبد بذلك رجع عليه الشريك بنصف ما قبض فهذا كذلك أيضا.(25/281)
ص -139- ... وإذا حضر الغريم وادعى أن العبد قد قبض ما قال الوكيل لم يصدق على ذلك لأن العبد إنما كان وكيلا بالخصومة مع الشريك لا مع الغرماء فإقراره في حق الغريم لا يكون نافذا على الموكل لأن صحة إقرار الوكيل لضرورة أنه من جواب الخصم وذلك في حق خصمه دون غيره فلهذا كان للعبد أن يرجع على الغريم بجميع دينه إلا أن يكون العبد لا دين عليه والوكيل هو المولى فيصدق على عبده في ذلك لأن جواز إقراره عليه الآن ليس باعتبار أنه جواب الخصم ولكن باعتبار أنه ملكه وفي ذلك الغريم والخصم سواء.
ألا ترى أن قبل التوكيل لو أقر به عليه في هذه الحالة جاز إقراره فأما في غير هذه الحالة فصحة إقراره باعتبار التوكيل بالخصومة كما بينا ثم الغريم قد بريء من نصف حق الشريك لأنه قد قبضه من العبد فلا يكون له أن يرجع به على الغريم وذلك خمسمائة ويرجع الشريك بنصف حقه على الغريم وذلك مائتان وخمسون فما أخذ واحد منهما من شيء اقتسماه أثلاثا على قدر حقيهما على الغريم حتى يستوفا منه سبعمائة وخمسين.
وإذا كان لرجلين على المأذون دين ألف فادعى العبد على أحدهما أنه قد استوفى نصيبه وجحد المدعى عليه فوكل المدعى عليه مولى العبد بذلك فالتوكيل باطل وإقرار المولى به باطل سواء كان على العبد دين أو لم يكن لأن في إقراره منفعة المولى وهو براءة ذمة عبده عن نصيبه وسلامة ماليته للمولى بذلك القدر
وإذا حضر الغريم الآخر فادعى ما أقر به المولى على شريكه فأراد أن يأخذه بنصفه لم يكن له ذلك لأن إقرار المولى به كان باطلا لأن المولى لم يكن وكيلا بالخصومة في حق الشريك وكذلك لو كان الوكيل غريما للعبد لأن منفعة المولى في هذا الإقرار أظهر من منفعة المولى لأنه يخرج به موكله من مزاحمته في مالية العبد.(25/282)
ولو كان أحد الشريكين وكل صاحبه بخصومة العبد في ذلك فادعى عند القاضي أن صاحبه قد استوفى من العبد حصته جاز ذلك عليه وعلى شريكة ويبطل من الدين خمسمائة لأنه لا منفعة له في هذا الإقرار ثم ما أخذ الشريك الوكيل من الخمسمائة الباقية أخذ صاحبه منه نصفه لأن صحة إقراره في براءة الغريم لا في سلامة الباقي له إذ هو متهم في ذلك ولو كان الوكيل غريما للعبد ليس بينه وبين الوكيل شركة في المال الذي على العبد لم يجز إقراره فيما فيه المنفعة له وهو دفع مزاحمة الموكل عن نفسه في مالية العبد.
وإذا وجب لرجلين على عبد ألف درهم فادعى أحدهما على صاحبه أنه قبض نصيبه من الدين فأنكر شريكه ووكل بذلك مولى العبد أو العبد أو غريما للعبد بخصومته فأقر الوكيل عند القاضي أن موكله قد قبض ما ادعاه شريكه لم يجز توكيله ولا إقراره لأن العبد إن كان هو الوكيل فهو بهذا الإقرار يبرئ نفسه والمولى يبرئ به عبده والغريم يزيل به مزاحمة الموكل معه في مالية العبد فلا يجوز إقرارهم بذلك.
ألا ترى أنه لو جاز إقرار المولى أو الغريم بذلك كان للمدعي أن يأخذ نصف ما قبض(25/283)
ص -140- ... المدعى عليه ويبرئ العبد من ذلك ولو كان المدعي هو الموكل فأقر وكيله أن المدعى عليه لم يأخذ من الدين شيئا جاز إقراره على المدعي وكان حقهما على العبد بحاله لأنه لا منفعة للوكيل في هذا الإقرار وهو فيه كأجنبي آخر والله أعلم.
باب شراء المأذون وبيعه
قال رحمه الله: شراء المأذون وبيعه بما يتغابن الناس فيه جائز حالا كان أو إلى أجل سواء كان بيعا بثمن أو مقابضة عرض بعرض أو سلما لأنه منفك الحجر عنه فيما هو تجارة وهذه كلها من عقود التجارات والتاجر يحتاج إليها يعني البيع والشراء بالحال والمؤجل والإسلام إلى الغير وقبول السلم من الغير والمحاباة بما يتغابن الناس فيه من صنيع التجار عادة وما لا يقدر التاجر على التحرز عنه في كل تجارة ويحتاج إليه لإظهار المسامحة من نفسه في المعاملة فأما تصرفه بما لا يتغابن الناس فيه فجائز في قول أبي حنيفة رحمه الله بيعا كان أو شراء سواء كان عليه دين أو لم يكن ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وكذلك الخلاف في المكاتب والصبي والمعتوه يأذن له أبوه في التجارة فيتصرف بما لا يتغابن الناس فيه وطريقهما أن المحاباة الفاحشة بمنزلة الهبة.(25/284)
ألا ترى أن من لا يملك الهبة كالأب والوصي لا يملك التصرف بالمحاباة الفاحشة وأنه متى حصل ذلك من المريض كان معتبرا من ثلثه كالهبة ثم هؤلاء لا يملكون الهبة فكذلك لا يملكون التصرف بالمحاباة الفاحشة وهذا لأنه ضد لما هو المقصود بالتجارة فالمقصود بالتجارة الاسترباح دون إتلاف المال وإنما لم ينفذ هذا العقد من الأب والوصي لدفع الضرر عن الصبي فإذنهما له إنما يصح لتوفر المنفعة عليه لا للإضرار به فحاله فيما يلحق الضرر به من التصرفات بعد الإذن كما قبله وأبو حنيفة رحمه الله يقول انفكاك الحجر عنه بالإذن في وجوه التجارات كانفكاك الحجر عنه بالعتق والبلوغ عن عقل وبعد ذلك يملك التصرف بالغبن الفاحش واليسير فكذلك بعد الإذن وهذا لأن التصرف بالغبن الفاحش تجارة فإن التجارة مبادلة مال بمال وهذا التصرف في جميع المحل مبادلة مال بمال.
ألا ترى أنه تجب الشفعة للشفيع في الكل بخلاف الهبة فإنه ليس بتجارة وبخلاف الأب والوصي لأنه لم يثبت لها الولاية في التجارة في مال الصغير مطلقا بل مقيدا بشرط الأحسن والأصلح ولا يبعد أن لا يصح التصرف من الأب والوصي ثم يصح ذلك من الصبي بعد الإذن كالإقرار بالدين والعقد بالغبن الفاحش من صنيع التجار لأنهم لا يجدون من ذلك بدا وربما يقصدون ذلك لاستجلاب قلوب المجاهرين فيسامحون في التصرف لتحصيل مقصودهم من الربح في تصرف آخر بعد ذلك فكان هذا والغبن اليسير سواء وبأن كان يعتبر في حق المريض من الثلث لعدم الرضى به من غرمائه وورثته فذلك لا يدل على أنه لا ينفذ من المأذون كالغبن اليسير.(25/285)
ص -141- ... ثم أبو حنيفة في تصرف الوكيل فرق بين البيع والشراء في الغبن الفاحش وفي تصرف المأذون سوى بينهما لأن الوكيل يرجع على الآمر بما يلحقه من العهدة فكان الوكيل بالشراء متهما في أنه كان اشتراه لنفسه فلما ظهر الغبن أراد أن يلزمه الآمر وهذا لا يوجد في تصرف المأذون لأنه متصرف لنفسه لا يرجع بما يلحقه من العهدة على أحد فكان البيع والشراء في حقه سواء وإن كانت في يد المأذون جارية فباعها من رجل لغلام وسلم الجارية ولم يقبض الغلام حتى ذهبت عين الجارية أو شلت يدها ثم مات الغلام فالمأذون بالجارية إن شاء أخذ جاريته ولا يتبع المشتري بنقصانها وإن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم قبضها لأن البيع قد انتقض بموت الغلام قبل التسليم لفوات القبض المستحق بالعقد فيثبت له حق الرجوع بملكه إلا أن المشتري للجارية عجز عن ردها كما قبضها لأنها تعيبت في يده فيثبت للعبد الخيار
فإن اختار أحدهما فليس له على المشتري نقصانها لأن المشتري قبضها بحكم عقد صحيح وذلك لا يوجب ضمان الأوصاف والفائت وصف من غير صنع أحد.
ألا ترى أنه لو فات وصف من أوصافها في يد البائع قبل التسليم يثبت الخيار للمشتري وإن اختار الأخذ لم يتبع البائع بشيء من النقصان ولا يسقط شيء من الثمن باعتبار ذلك النقصان فكذلك إذا حدث النقصان عند المشتري لأن ضمان الأصل بحكم العقد الصحيح في الموضعين.
وإذا أبى أن يأخذها فقد عجز المشتري عن ردها مع تقرر السبب الموجب للرد فيرد قيمتها لأن القيمة تقوم مقام العين عند تعذر رد العين وإنما يعتبر قيمتها حين دخلت في ضمانه وذلك وقت القبض فيعتبر قيمتها عند ذلك كما في المغصوبة.(25/286)
ولو كان حدث لها ذلك بعد موت الغلام أخذ المأذون جاريته ونقصانها لأن بموت الغلام قبل التسليم بطل البيع فبقيت الجارية مقبوضة بحكم عقد فاسد والأوصاف تضمن في القبض بحكم العقد الفاسد كما لو كان العقد فاسدا من الأصل وهذا لأن الفاسد ضعيف في نفسه فإنما يثبت الضمان به باعتبار القبض والأوصاف تفرد بالقبض والتناول فتفرد بضمان القبض كما في المغصوبة بخلاف الأول فهناك العقد صحيح وضمان المقبوض بما يقابله إنما يكون بحكم العقد دون القبض والأوصاف لا تفرد بالعقد فلا تفرد بضمانه فإن كان حدث بها عيبان أحدهما قبل هلاك الغلام والآخر بعد هلاكه فإن شاء المأذون أخذها ونقصان عيبها الآخر وإن شاء أخذ قيمة الجارية يوم دفعها إليه لأنه يجعل في نقصان كل واحد من الثمنين كأنه لا عيب سواه ولو لم يحدث ذلك ولكن قطع رجل يدها أو فقأ عينها أو وطئها بشبهة أو ولدت ولدا من غير سيدها ثم هلك الغلام لم يكن للمأذون إلا قيمتها يوم دفعها لأنه حدث فيها زيادة منفصلة متولدة من عقر أو أرش أو ولد وذلك في العقد الصحيح بعد القبض فمنع فسخ العقد فيها لمعنى الربا حق للشرع وقد بيناه في البيوع فلا يتغير ذلك برضا الغير ويكون حقه في قيمتها لأنه تعذر رد عينها مع بقاء السبب الموجب له فيجب(25/287)
ص -142- ... قيمتها يوم دفعها وإن كان ذلك بعد موت الغلام أخذ المأذون جاريته مع هذه الزيادات لأن بموت الغلام بطل العقد وكانت كالمقبوضة بحكم عقد فاسد وهي بمنزلة المغصوبة في أنها ترد بزوائدها المنفصلة والمتصلة وفي أرش العين واليد يتخير العبد إن شاء أخذ به المشتري لفوات ذلك الجزء في ضمانه وإن شاء اتبع به الجاني وقد بينا في البيوع هذا التفريع في البيع إذا كان فاسدا من الأصل فهو أيضا فيما إذا فسد العقد قبل الجناية.
وإن كانت الجارية ولدت ثم هلك الغلام فلم يقض له بقيمة الجارية حتى هلك الولد فيقول الولد حين هلك من غير صنع أحد صار كأن لم يكن بقي نقصان الولادة في الجارية فيجعل كما لو انتقصت بعيب حادث فيها من غير صنع أحد قبل هلاك الغلام فيتخير المأذون إن شاء أخذ الجارية ولا شيء له غيرها وإن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم دفعها.
ولو كان مكان الجارية دابة لم يكن له في ذلك خيار إذا هلك الولد وأخذ الأم لأن الولادة نقصان في بني آدم دون الدواب والولد إذا هلك صار كأن لم يكن وكان للغلام أن يأخذ الأم فقط لأن المشتري قادر على ردها كما قبض فإن كانت ولدت ولدا فأعتقه المشتري ثم مات الغلام فعلى المشتري قيمة الجارية ولا يرد الجارية لأن ملك المشتري قد تقرر في الولد والعتق منه للملك والنهي يكون متقررا ولهذا يكون
ولاؤه له ومع سلامة الولد له لا يكون متمكنا من رد الجارية.(25/288)
وكذلك إن مات الولد بعد العتق قبل أن يقضي على المشتري بقيمة الجارية فأراد المأذون أخذ جاريته لم يكن له ذلك إن كان الولد ترك ولدا آخر وولاؤه للمشتري لأن الولد الثاني قائم مقام الأول فإن بقاء الأول بعد العتق باعتبار أن ولاءه للمشتري وهذا المعنى موجود عند بقاء ولد الولد وهذا لأن الولاء جزء من الملك لأنه أثر من آثار الملك وإن لم يكن ترك ولدا آخر ولاؤه للمشتري فللعبد أن يأخذ الجارية إن شاء ولا يأخذ نقصانا لأن الولد مات ولم يبق له أثر فصار كأن لم يكن فإن قيل: فأين ذهب قولكم إن العتق أنهى للملك قلنا: المنهى يكون متقررا إلى أن انتهى فلا يكون قائما بعد الانتهاء كعقد الإجارة فإنه ينتهي بمضي المدة ولا يكون باقيا بعده والمانع من رد الجارية بقاء شيء من الزيادة للمشتري بعد ردها وذلك يوجد عند بقاء الولاء على الولد ولا يوجد بعد موت الولد لا إلى خلف وإن كان موته بعد قضاء القاضي بالقيمة على المشتري فلا سبيل للعبد على الجارية لأن حقه تحول إلى قيمتها بالقضاء.
ولو كان المشتري حين قبضها قطع يدها أو وطئها وهي بكر أو ثيب أو ولدت ولدا فقتلها المشتري ثم مات العبد في يد البائع فإن شاء المأذون أخذ الجارية ولم يضمن المشتري شيئا من ذلك وإن شاء أخذ قيمة الجارية يوم دفعها إليه لأن المشتري لم يلزمه ضمان بهذه الأفعال فإنها حصلت في ملك صحيح تام فكان حدوث هذه المعاني بفعل المشتري كحدوثها بآفة سماوية وهناك يتخير المأذون وإن أراد أخذها لم يضمن المشتري شيئا فهذا كذلك.(25/289)
ص -143- ... وقد بينا في البيوع أن وطء الثيب بمنزلة استيفاء جزء من العين في حكم الرد حتى لا يردها بالعيب بعده إلا برضا البائع كما لو كانت بكرا فها هنا كذلك.
ولو كانت بهيمة فولدت فقتل المشتري ولدها ولم تنقصها الولادة شيئا فالمأذون بالخيار إن شاء أخذها ولم يرجع على المشتري بشيء من قيمة ولدها وإن شاء أخذ قيمتها يوم دفعها إليه وكان ينبغي أن لا يثبت له الخيار كما لو هلك الولد من غير صنع أحد ولكنه قال المشتري استفاد ها هنا بملك الولد البراءة عن الضمان فيعتبر ذلك في إثبات الخيار للمأذون بخلاف ما لو أعتق الولد فهلك فإن هناك بملكه ما استفاد البراءة عن الضمان لأن إعتاقه في غير الملك باطل غير موجب للضمان عليه وقتله في غير الملك موجب للضمان عليه ثم الولد في حكم جزء من عينها فإتلاف ولدها كإتلاف جزء من عينها وذلك معتبر في إثبات الخيار للمأذون باعتبار أنه حابس لذلك الجزء حكما بالقتل إلا أنه لا يمنع الرد إذا رضي المأذون به لأن المانع بقاء الزيادة في ملكه بعد ردها وذلك غير موجود ههنا.
ولو كان هذا كله من المشتري بعد هلاك الغلام فإن للعبد أن يأخذ الجارية وعقرها وأرشها وقيمة ولدها إذا قتل الولد لأنها بعد هلاك الغلام كالمقبوضة بحكم شراء فاسد وفي إيجاب العقر على المشتري الحر بوطء المشتراة شراء فاسدا اختلاف الروايات في العقر وقد بيناه في البيوع.(25/290)
ولو كانت الجارية زادت في بدنها قبل هلاك الغلام أو بعده أخذها المأذون بزيادتها أما بعد هلاك الغلام فغير مشكل لأنها كالمقبوضة بحكم شراء فاسد وأما قبل هلاك الغلام فلأنه لا معتبر بالزيادة المتصلة في باب البيع في المنع من الرد والفسخ وقد بينا اختلاف الرواية في ذلك في البيوع حيث نص على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في أن الزيادة المتصلة في المنع من التخالف كالزيادة المنفصلة وأصح الروايتين ما ذكره هنا فالزيادة المتصلة تبع من كل وجه وحق المأذون في استردادها عند هلاك الغلام حق قوي فيثبت ذلك فيما هو تبع من كل وجه وكذلك في جميع هذه الوجوه لو لم يمت العبد ولكن المأذون وجد به عيبا قبل القبض أو بعده فرده بحكم الحاكم أو غير حكم أو رده بخيار رؤية فالرد في هذا والموت قبل القبض سواء لأن العقد ينفسخ في الغلام بالرد بهذه الأسباب كما ينفسخ بموته قبل التسليم.
ولو كان المأذون اشترط الخيار ثلاثة أيام في الغلام الذي اشتراه فقبضه ودفع الجارية فذهب عينها عند المشتري من فعله أو فعل غيره أو من غير فعل أحد أو وطئها هو أو غيره أو ولدت ولدا ثم أن المأذون رد الغلام بخياره فإنه يأخذ الجارية وولدها وعقرها ونصف قيمتها إن كانت عينها ذهبت عند المشتري من فعله أو من غير فعل أحد وإن ذهبت من فعل غير المشتري أخذها ونصف قيمتها إن شاء من الجاني وإن شاء من المشتري ورجع به المشتري على الجاني لأن اشتراطه الخيار فيما اشترى اشتراط فيما باع وخياره فيما باع خيار البائع(25/291)
ص -144- ... والمقبوض يتبع فيه خيار البائع ويكون مضمونا بالقيمة بمنزلة المغصوب والمشتري شراء فاسدا فلهذا كان الحكم فيها بهذه الصفة.
وكذلك لو قتلها غير المشتري وقد ازدادت قيمتها في يد المشتري فللمأذون أن يضمن المشتري قيمتها يوم قبضها حالة إن شاء ويرجع المشتري على القاتل بقيمتها يوم قتلها على عاقلته في ثلاث سنين وإن شاء المأذون رجع على عاقلة القاتل بقيمتها في ثلاث سنين وهي بمنزلة المغصوبة ها هنا دون المشتراة شراء فاسدا يملكها المشتري بالقبض ومع خيار الشرط للبائع لا يملكها بالقبض بل هي باقية على ملك بائعها مضمونة في يد البائع كالمغصوبة.
ثم إن اختار المأذون تضمين المشتري يملكها بالضمان فجناية القاتل حصلت على ملكه فكان له أن يرجع على عاقلته بقيمتها في ثلاث سنين ويتصدق بالفضل لأن هذا ربح حصل لا على ملكه فإنها ما كانت مملوكة له عند القتل وسواء في جميع ذلك إن كان ما وصفنا قبل أن يختار المأذون نقض البيع أو بعده لأنها مضمونة بنفسها مملوكة لبائعها في الوجهين جميعا.
ألا ترى أن المشتري لو أعتق الغلام الذي باع أو أعتق الجارية التي اشترى لم يجز عتقه ما دام خيار المأذون باقيا لأن خيار المأذون فيما باع خيار البائع فيمنع دخولها في ملك المشتري وخياره فيما اشترى خيار المشتري فيكون خارجا من ملك البائع ولو قبض لكون البيع مطلقا في جانبه فلهذا لا ينفذ عتقه في واحد منهما.
وإذا باع المأذون جارية لرجل بغلام فقبض الرجل الجارية ولم يدفع الغلام حتى هلك في يده ثم أعتق المشتري الجارية فعتقه جائز لأن بهلاك الجارية فسد العقد في الجارية ولو كان العقد فاسدا فيها في الابتداء ملكها المشتري بالقبض وينفذ عتقه فيها فكذلك إذا فسد العقد فيها بهلاك الغلام يبقى ملك المشتري لبقاء قبضه فينفذ عتقه ويضمن قيمتها يوم قبضها.(25/292)
وكذلك لو قتلها المشتري أو قتلها أجنبي ضمن المشتري قيمتها يوم قبضها ولا سبيل للمأذون على القاتل الأجنبي لأن قتله صادف ملك المشتري لا ملك المأذون بخلاف المشتراة بشرط الخيار للبائع لم يرجع المشتري بالقيمة على عاقلة المشتري لأنه قبل ملكه ولو كان المشتري لم يقبض الجارية من المأذون حتى أعتقها فإن كان أعتقها قبل موت الغلام جاز عتقه لأنها مملوكة له بنفس العقد الصحيح وإن أعتقها بعد موته فعتقها باطل لفساد العقد فيها بموت الغلام والمشتراة شراء فاسدا لا تكون مملوكة قبل القبض للمشتري.
ولو قبض الجارية ولم يدفع الغلام حتى حدث به عيب فرده المأذون على المشتري بعيب بحكم أو بغير حكم ثم أعتق المشتري الجارية فعتقه باطل وكذلك لو رده بخيار الرؤية أو رده بالعيب بعد القبض بحكم أو رده بالإقالة لأن في هذه الوجوه كلها العقد انفسخ فيهما جميعا إما من الأصل أو في الجارية سواء كان بحكم أو بغير حكم فعادت هي إلى ملك المأذون وإن كانت في يد المشتري فلهذا لا ينفذ عتقه فيها بخلاف ما إذا هلك الغلام لأن هناك العقد في الجارية قد فسد ولم ينتقض بغير نقض.(25/293)
ص -145- ... ألا ترى أن في الابتداء لو اشتراها بقيمة العبد الهالك كان العقد فاسدا فيها ويملكها المشتري بالقبض حتى ينفذ عتقه فيها ما لم ينتقض البيع بينهما فكذلك إذا مات العبد بقيت هي مملوكة للمشتري مع فساد العقد فيها فتعتق بإعتاق المشتري إياها والله أعلم.
باب هبة المأذون ثمن ما باعه
قال رحمه الله: وإذا باع المأذون جارية ودفعها ثم وهب الثمن للمشتري أو بعضه قبل القبض أو بعده أو حط عنه فذلك باطل لأن الإسقاط بغير عوض تبرع كالتمليك بغير عوض وهو منفك الحجر في التجارات دون التبرعات فإن كان وهب بعض الثمن أو حطه قبل القبض أو بعده بعيب طعن به المشتري فهو جائز لأن الحط بسبب العيب من صنيع التجار ثم هو بمقابلة هذا الإسقاط عوض وهو إسقاط حق المشتري في الرد وهذا إسقاط بحصة الجزء الفائت من الثمن وعجزه عن تسليم ذلك الجزء يسقط حقه في عوضه فكان هذا اسقاطا بعوض.(25/294)
ولو حطوا عنه جميع الثمن أو وهبه لم يجز لأنا نتيقن أن جميع الثمن لم يكن بمقابلة الجزء الفائت فكان إسقاطا بغير عوض ثم حط جميع الثمن لا يلتحق بأصل العقد ولكنه بر مبتدأ وحط بعض الثمن يلتحق بالعقد ويصير كأنه عقد بما بقي فيصح من المأذون إذا كان مفيدا ولو اشترى المأذون جارية وقبضها ثم وهب البائع الثمن للعبد فهو جائز لأنه تبرع على العبد والمتبرع من أهل التبرع والعبد من أهل التبرع عليه وكذلك لو وهبه للمولى وقبله كان بمنزلة هبته للعبد كان عليه دين أو لم يكن لأن المولى يخلف العبد في كسبه خلافة الوارث المورث وهبة صاحب الدين دينه للوارث بعد موت المورث بمنزلة هبته من المورث سواء كان على المورث دين أو لم يكن فكذلك المولى ههنا وإن لم يقبلها المولى في هذا الوجه ولم يقبلها العبد في الوجه الأول كانت الهبة باطلة والمال على العبد بحاله لأن رد الهبة امتناع عن التملك لإزالة الملك الثابت له وهذا الامتناع صحيح من المولى والعبد جميعا بخلاف هبة شيء من أكسابه ابتداء.
فإن وهب البائع الثمن للعبد أو لمولاه قبل أن يقبضه ثم وجد العبد بالجارية عيبا لم يكن له أن يردها لأنه لو ردها ردها بغير شيء والمقصود بالرد سلامة الثمن له وقد سلم له ذلك بطريق الهبة فلا يستوجب عند الرد شيئا آخر وهذا استحسان وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله يرده بمثل ذلك الثمن وقد بينا نظير هذا في كتاب الرهن وإذا ثبت أنه يردها بغير شيء يتعذر الرد لأن إخراج العين عن ملكه لا يصح من العبد بغير عوض وكذلك هذا في كل ثمن كان بغير عينه وإن كان الثمن عرضا بعينه فوهب المأذون العرض للمشتري قبل أن يقبضه فقبضه المشتري فالهبة جائزة لأن هبة المعقود عليه قبل القبض فسخ للعقد لما فيه من يفويت القبض المستحق بالعقد والمأذون يملك الإقالة إذا ساعده صاحبه عليها بخلاف بيع المبيع
قبل القبض لأن البيع اسم خاص لمبادلة مال بمال والفسخ ليس بتمليك ولفظ الهبة فيه توسع(25/295)
ص -146- ... قد يكون بمعنى التمليك وقد يكون بمعنى الإسقاط فيمكن أن يجعل مجازا عن الفسخ إذا تعذر تصحيحه بطريق التمليك فإن لم يقبل المشتري الهبة فالهبة باطلة لأن أحد المتعاقدين لا يفرد بالفسخ بعد لزوم العقد.
وإن كان المشتري وهب الجارية قبل أن يقبضها العبد فقبلها العبد جاز سواء كان على العبد دين أو لم يكن وكان ذلك فسخا للعقد وإن وهبها للمولى فإن لم يكن على العبد دين فهذا نقض صحيح أيضا لأن كسب العبد خالص ملك المولى وهو يتمكن من التصرف فيه بطريق النقض كما يتمكن من التصرف فيه بطريق الإيجاب وإن كان على العبد دين فقبلها المولى وقبضها فهذا ليس بنقض للبيع لأن المولى لا يملك إنشاء التصرف في كسب عبده المديون فلا يملك نقض بيعه أيضا ولكن هذه هبة صحيحة من المولى وهو بناء على أصل محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله فلا يصح وقد بينا المسألة في البيوع أن التصرفات التي لا تتم إلا بالقبض عند أبي يوسف لا تصح في المبيع قبل القبض وعند محمد تصح باعتبار أنه تسليط على القبض والقابض نائب عن المشتري وهو إنما ينفذ تصرفه بعد قبضه.
ولو تقابضا ثم وهب العبد العرض من المشتري فقبله فالهبة باطلة لأن هبة المعقود عليه بعد القبض لا تكون فسخا فإن كونه فسخا باعتبار ما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد وذلك لا يوجد بعد القبض فكان هذا إبراء مبتدأ فلا يصح من المأذون.(25/296)
ولو وهب المشتري الجارية للمأذون أو لمولاه جازت الهبة على سبيل البر المبتدأ فإن وجد المأذون بالعرض عيبا ولا دين عليه فليس له أن يرده بالعيب لأنه لو رده بالعيب رده بغير شيء فالجارية التي هي عوض العرض قد عادت بعينها إلى ما كانت سواء كانت الهبة من العبد أو من المولى لأن كسب العبد خالص حق المولى في هذه الحالة وإن كان عليه دين وقد وهب المشتري الجارية للعبد فكذلك لأن الجارية عادت كما كانت قبل العقد فلو رد العرض رده بغير شيء وإن كان قد وهبها لمولاه فله أن يرد العرض بالعيب ويضمنه قيمة الجارية يوم قبضها لأن المولى من كسب عبده المديون كالأجنبي ولو وهبها المشتري لأجنبي كان للعبد أن يرد العرض بالعيب وعند الرد يجب على بائع العرض رد الجارية وقد تعذر ردها عليه فيغرم قيمتها يوم قبضها.
ولو باع المأذون جارية بعرض بعينه وتقابضا فحدث في الجارية عيب عند المشتري من غير فعل أحد أو من فعل المشتري أو من فعل أجنبي أو ولدت ولدا أو وطئت وهي بكر أو ثيب ثم وهبها المشتري للعبد أو لمولاه وعليه دين أو لا دين عليه ثم وجد المأذون بالعرض عيبا رده وضمنه قيمتها في جميع ذلك لأن ما هو موجب الرد لم يسلم له ها هنا قبل الرد.
ألا ترى أنه لو لم يهب الجارية حتى رد العرض عليه بالعيب كان له أن يرجع بقيمة الجارية ولا يسترد الجارية إما للزيادة المنفصلة في يد مشتريها أو لحدوث العيب فيها فإذا(25/297)
ص -147- ... كان حقه ههنا في استرداد قيمة الجارية لا يبطل بعود الجارية بالهبة ولا يتعذر عليه رد العرض بالعيب.
ولو اشترى المأذون جارية من رجل بغلام قيمته ألف درهم وبألف درهم وتقابضا ثم وهب البائع بالألف والغلام الغلام للمأذون وسلمها إليه ثم وجد المأذون بالجارية عيبا ليس له أن يردها لأن نصفها بمقابلة الغلام وقد عاد إليه الغلام بعينه بالهبة فلو رد ذلك النصف يرده بغير شيء فإذا تعذر الرد في النصف الأول تعذر في النصف الثاني لما فيه من الضرر على البائع بتبعيض الملك عليه والمشتري لا يملك ذلك بالرد بالعيب وكذلك لو كانت الهبة للمولى ولا دين على العبد.
وإن كان عليه دين والهبة للمولى كان له أن يرد الجارية بالعيب ويأخذ من البائع ألف درهم وقيمة الغلام لأن الهبة من المولى في هذه الحالة كالهبة من أجنبي آخر فإن تصرف العبد كان لغرمائه دون مولاه فإن أخذ ذلك ثم أبرأه الغرماء من الدين أو وهبوه له أو للمولى أو ورثة المولى من الغريم لم يرد على البائع شيئا مما أخذ منه لأن بما اعترض من السبب لا يتبين أن الأخذ لم يكن بحق وأن قيمة الغلام مع الألف لم تكن واجبة له يومئذ والعارض من السبب لا يؤثر فيما انتهى حكمه بالاستيفاء، والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الإقالة(25/298)
قال رحمه الله: المأذون في إقالة البيع كالحر لأنه فسخ أو بيع مبتدأ في حق غيرهما والمأذون يملك كل واحد منهما فإن اشترى المأذون جارية فزادت في يده حتى صار الثمن أقل من قيمتها بما لا يتغابن الناس في مثله ثم أقاله البيع فيها فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو بناء على ما تقدم أن المأذون إذا باع شيئا من كسبه أو اشترى شيئا مما لا يتغابن الناس في مثله فعلى قول أبي حنيفة لما كان يملك ابتداء التصرف بهذه الصفة فكذلك الإقالة وعندهما لا يملك ابتداء التصرف بهذه الصفة لحق المولى أو للغرماء فكذلك لا يملك الإقالة لأن الإقالة في حق غير المتعاقدين بمنزلة البيع المبتدأ والإقالة من المأذون بعد حجر المولى عليه باطلة لأنه لا يملك ابتداء البيع والشراء بعد الحجر. وإذا باع المأذون شيئا أو اشترى ثم أن المولى أقال البيع فيه فإن كان المأذون لا دين عليه يومئذ فما صنع المولى من ذلك على عبده فهو جائز لأن الكسب خالص حقه والمأذون في حكم العقد كان متصرفا له فتصح الإقالة منه وإن كان عليه دين يومئذ فهو باطل لأن المولى في كسبه كأجنبي آخر وإنما يعتبر قيام الدين عليه عند الإقالة لا عند ابتداء التصرف لأن الإقالة بمنزلة البيع الجديد فإذا كان الدين عليه قائما عند الإقالة لا يصح من المولى هذا التصرف كما لا يصح ابتداء البيع.
وإذا لم يكن الدين قائما يومئذ صح منه لمصادفته محله فإن كان عليه دين عند الإقالة(25/299)
ص -148- ... فقضى المولى الدين أو أبرأ الغرماء العبد من دينهم قبل أن يفسخ القاضي الإقالة صحت الإقالة بمنزلة ما لو باع شيئا من كسبه ثم سقط دينه بهذا الطريق وإن فسخ القاضي الإقالة ثم أبرأه الغرماء من الدين فالفسخ ماض لأن السبب الموجب لفسخ الإقالة وهو حق الغرماء كان قائما حين قضى القاضي به فلا يبطل ذلك الفسخ بسقوط الدين بعده كما إذا زال العيب بعد ما قضى القاضي بالفسخ.
وإذا باع عرضا بثمن وتقابضا ثم تقايلا والعرض باق والثمن هالك قبل الإقالة أو بعدها فالإقالة ماضية وإن كان الثمن باقيا والعرض هالكا قبل الإقالة أو بعدها فالإقالة باطلة وهذه فصول قد بيناها في البيوع في بيع العرض بالثمن وفي بيع العرض بالعرض وفي السلم وفي بيع النقود بعضها ببعض وما فيها من الفروق وقد استقصينا في بيانها في البيوع فإذا باع المأذون جارية بألف وتقابضا ثم قطع المشتري يدها أو وطئها أو ذهبت عينها من غير فعل أحد ثم تقايلا البيع ولا يعلم العبد بذلك فهو بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء ردها لأنه إنما رضي بالإقالة على أن تعود إليه كما خرجت من يده وقد خرجت من يده غير معيبة والآن تعود إليه معيبة فلا يتم رضاه بها فلهذا كان له الخيار وحال البائع عند الإقالة كحال المشتري عند العقد.(25/300)
ولو حدث بالمبيع عيب بعد العقد وقبل القبض يخير المشتري فهذا مثله وإنما الإشكال إذا وطئها وهي ثيب فإن من اشترى جارية ثيبا ثم علم أن البائع كان وطئها قبل العقد لم يكن له أن يردها بذلك وها هنا قال للعبد أن يردها إذا علم أن المشتري كان وطئها قبل الإقالة وهذا لأن الوطء في المشتراة بمنزلة التعييب والمستوفي بالوطء في حكم جزء من العين ولهذا لو وجد المشتري بها عيبا بعد الوطء لم يكن له أن يردها إلا برضا البائع فكذلك وطء المشتري إياها في حكم الإقالة بمنزلة التعييب فلهذا يخير العبد وهذا لأنه لا يرضى بأن يطأها المشتري زمانا ثم يقبل العقد فيها بجميع الثمن بخلاف البيع المبتدأ فالمشتري هناك يرغب فيها بالثمن المسمى في العقد إن كان يعلم أن البائع وطئها قبل العقد.
ولو كان الواطئ أو القاطع أجنبيا فوجب عليه العقر أو الأرش ثم تقايلا البيع والعبد يعلم بذلك أو لا يعلم فالإقالة باطلة في قول أبي حنيفة رحمه الله صحيحة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو بناء على ما بينا في كتاب الصلح أن الإقالة عند أبي حنيفة فسخ في حق المتعاقدين فإذا لم يمكن تصحيحه فسخا كان باطلا وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة قبل القبض كذلك وبعد القبض بمنزلة البيع وفي قول أبي يوسف الإقالة بمنزلة البيع في المستقبل إلا إذا تعذر جعلها بيعا فحينئذ يجعل فسخا وذلك في المنقول قبل القبض وعند محمد الإقالة بالثمن الأول أو أقل منه تكون فسخا فأما بأكثر من الثمن الأول أو بجنس آخر غير الثمن الأول تكون بيعا مستقبلا والثمن الأول إنما يكون فسخا إذا كان المحل قابلا للفسخ فأما إذا لم يكن قابلا لذلك كان بيعا مبتدأ ووجوه هذه الأقاويل بيناها في كتاب(25/301)
ص -149- ... الصلح والآن نقول العقر والأرش زيادة منفصلة وهي تمنع الفسخ حقا للشرع فلا تصح الإقالة بعدها عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف الإقالة بمنزلة البيع المستقبل وعند محمد كذلك عند تعذر الفسخ فجوز الإقالة ها هنا بطريق البيع المستقبل.
ولو اشترى المأذون جارية بألف درهم وقبضها ولم يدفع الثمن حتى وهب البائع الثمن للعبد ثم تقايلا فالإقالة باطلة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن عند أبي حنيفة الإقالة فسخ ولا يمكن تصحيحها ها هنا فسخا فإنه بالفسخ يردها بغير شيء وعند محمد كذلك لأن المحل قابل للفسخ.
ألا ترى أنه لو لم يهب الثمن منه كان الفسخ صحيحا وإن كان المشتري حرا كان الفسخ صحيحا فعرفنا أن المحل قابل للفسخ والإقالة بالثمن الأول فلو صحت كان فسخا بغير شيء والعبد ليس من أهل رد الجارية بغير شيء وعند أبي يوسف الإقالة بمنزلة البيع المستقبل فكأنه باعها ابتداء من البائع بألف وذلك صحيح فيأخذ العبد الألف من البائع ويدفع إليه الجارية.
ولو أقاله البيع بمائة دينار أو بجارية أخرى أو بألفي درهم كانت الإقالة باطلة في قياس قول أبي حنيفة ومحمد لأنها فسخ عنده وما سمى فيها من الثمن باطل فلو ردها ردها بغير شيء وعند أبي يوسف ومحمد هذا جائز أما عند أبي يوسف فهذا غير مشكل وعند محمد الإقالة بأكثر من الثمن الأول أو بجنس غير جنس الثمن الأول تكون بيعا مبتدأ فكأنه باعها ابتداء بما سمى من الثمن فيكون صحيحا.
ولو كان المأذون لم يقبض الجارية حتى وهب البائع ثمنها ثم تقايلا فالإقالة باطلة عندهم جميعا لأن قبل القبض لا يمكن تصحيحها بيعا فيكون فسخا فلو صححناها لكان مخرجا إياها من ملكه بغير عوض(25/302)
وكذلك لو أقاله بثمن آخر في هذه الحالة فإن بيع المبيع قبل القبض لا يجوز بخلاف جنس الثمن الأول ولا بأكثر من الثمن الأول فكان الجواب في الفصول سواء ولو لم يتقايلا البيع ولكنه رأى بالجارية عيبا قبل أن يقبضها فلم يرض بها أو لم يكن رآها فلما رآها لم يرض بها فنقض البيع وقد كان البائع وهب له الثمن فقبضه بطل لأن الرد بخيار الرؤية فسخ من كل وجه وكذلك الرد بالعيب قبل القبض فيكون في الرد إخراجها من ملكه بغير عوض والمأذون لا يملك ذلك.
ولو كان حين اشتراها اشترط فيها الخيار ثلاثة أيام ثم وهب له البائع الثمن ثم ردها بالخيار فرده جائز في قول أبي حنيفة وفي قولهما ليس له أن يردها بناء على ما بينا في البيوع أن خيار المشتري عنده يمنع دخول المبيع في ملكه فهو بهذا الرد لا يخرج العين عن ملكه بغير عوض ولكنه يمتنع من تملكه وهو صحيح من العبد كالامتناع من قبول الهبة وعندهما السلعة دخلت في ملك المشتري فهذا الرد إخراج لها من ملكه بغير عوض والمكاتب في(25/303)
ص -150- ... جميع ما وصفنا كالمأذون لأنه ليس من أهل التبرع بكسبه كالمأذون بل أولى فإن المكاتب لا يتبرع بإذن المولى ومن المأذون يصح ذلك إن لم يكن عليه دين.
ولو باع المأذون جارية من رجل بألف درهم وتقابضا ثم تقايلا فلم يقبض العبد الجارية حتى قطع رجل يدها أو وطئها فنقصها الوطء كان العبد بالخيار للتغيير الحاصل فيها بعد الإقالة قبل الرد ولو اختار أخذها اتبع الواطئ أو الجاني بالعقر أو الأرش لأنها عادت إلى ملكه ففعل الواطئ أو الجاني حصل في ملكه فيكون العقر والأرش له أوان نقض الإقالة فالعقر والأرش للمشتري لأنها تعود إلى ملك المشتري على ما كانت قبل الإقالة وصار الحال بعد الإقالة قبل الرد ها هنا كالجاني بعد الشراء قبل القبض والمبيعة إذا وطئت بالشبهة ونقصها الوطء أو جنى عليها قبل القبض يخير المشتري إن شاء أخذها واتبع الجاني أو الواطئ بالعقر والأرش وإن شاء نقض البيع والعقر والأرش للبائع فكذلك بعد الإقالة.
ولو كان مكان الألف عرضا بعينه كان العبد بالخيار إن شاء أخذ الجارية من المشتري واتبع الجاني أو الواطئ بالأرش والعقر وإن شاء أخذ قيمة الجارية من المشتري يوم قبضها وسلم له الجارية وأرشها وعقرها للمشتري لأن الإقالة ها هنا لا تبطل وإن أبى أن يأخذ الجارية بمنزلة ما لو هلكت فإن في بيع المقايضة هلاك أحد العوضين كما لا يمنع بقاء الإقالة لا يمنع ابتداء الإقالة بخلاف ابتداء البيع.(25/304)
وإذا بقيت الإقالة وقد تعذر على المشتري رد عين الجارية للتغيير الحاصل فيها في ضمانه فعليه قيمتها يوم قبضها وكذلك لو كان قبلها الجاني كان العبد بالخيار إن شاء اتبع عاقلة الجاني بقيمتها لأن جنايته حصلت على ملكه وإن شاء اتبع المشتري بقيمتها حالة لأن الإقالة لم تبطل وقد تعذر على المشتري ردها فيلزمه رد قيمتها وهذه القيمة ضمان العقد فتكون حالة في ماله ثم يرجع المشتري على عاقلة الجاني بقيمتها في ثلاث سنين لأنها عادت إلى أصل ملكه وكذلك لو ماتت الجارية بعد الإقالة كان للعبد أن يأخذ من المشتري قيمتها لما بينا أن هلاك الجارية لا يمنع بقاء الإقالة كما لا يمنع ابتداء الإقالة فعليه رد قيمتها ولو كان حدث بها عيب من فعل المشتري بعد الإقالة يخير العبد فإن شاء ضمنه قيمتها يوم قبضها منه لأنه تعذر عليه رد عينها كما قبضها وإن شاء أخذ الجارية ورجع على المشتري بنقصان العيب لأن الجارية بعد الإقالة مضمونة بنفسها حتى لو هلكت يجب ضمان قيمتها فتكون كالمغصوبة فيضمن المشتري نقصان العيب بخلاف المبيعة قبل القبض فإنها مضمونة بالثمن فلا يكون للمشتري أن يتبع البائع بنقصان العيب من القيمة إذا أراد أخذها ولكن يسقط حصة ذلك من الثمن لأن التعييب حصل بقول البائع والأوصاف بالتناول تصير مقصودة.
ولو كان العيب أحدثه فيها المشتري قبل الإقالة ثم تقايلا ثم علم العبد بالعيب تخير لمكان التغيير فإن شاء ضمن المشتري قيمتها يوم قبضها لأنه تعذر عليه ردها كما قبضها(25/305)
ص -151- ... وإن شاء أخذها معيبة ولا شيء له غير ذلك لأن فعل المشتري حصل في ملك صحيح له وذلك غير موجب للضمان عليه فهو وما لو تعيبت بغير فعله سواء بخلاف الأول ففعل المشتري هناك لا في ملك غيره لأنها بالإقالة عادت إلى العبد وهي مضمونة في يد المشتري بنفسها على ما قررنا.
ولو كان العيب أحدثه فيها رجل أجنبي قبل الإقالة ثم تقايلا فالإقالة جائزة ولا سبيل للعبد على الجارية ولكنه يأخذ من المشتري قيمتها يوم قبضها لأنه بحدوث الزيادة المنفصلة فيها تعذر الفسخ فكأنها ماتت وموتها قبل الإقالة لا يمنع صحة الإقالة ويكون حق العبد في قيمتها يوم قبضها لتعذر رد العين في قيام السبب الموجب للرد.
ولو باع العبد إبريق فضة فيه مائة درهم بعشرة دنانير وتقابضا ثم تقايلا وافترقا قبل القبض فالإقالة منتقضة لأن العبد في حكم الإقالة كالحر وقد بينا في الصرف أن الإقالة بمنزلة العقد الجديد في حكم استحقاق القبض في المجلس لأن ذلك من حقوق الشرع والرد بعد القبض بغير قضاء بمنزلة الإقالة في ذلك بخلاف الرد بالعيب فإن فسخ من الأصل فلا يبطل بترك التقابض في مجلس الرد.(25/306)
ولو باع المأذون جارية من رجل بجارية قيمة كل واحدة منهما ألف وتقابضا ثم تقايلا ولم يتقابضا حتى ولدت كل واحدة منهما ولدا قيمته مثل قيمة أمه فلهما أن يتقابضا الجاريتين وولديهما لأن كل واحدة منهما عادت بالإقالة إلى ملك من خرجت من ملكه بالعقد ثم ولدت على ملكه فيكون له أن يأخذها مع ولدها كالمبيعة إذا ولدت قبل القبض فإن لم يتقابضا حتى ماتت الأمهات وأرادا أخذ الولدين فإن كل واحد منهما يأخذ الولد الذي في يد صاحبه مع نصف قيمة أمه لأن كل واحدة منهما حين ولدت فالأخرى تنقسم على قيمتها وقيمة ولدها وقيمتهما سواء فانقسمت نصفين وقد هلكت الأمتان فكان لكل واحد منهما أن يأخذ من صاحبه الولد الذي في يده مع نصف قيمة أمه اعتبارا للبعض بالكل وإن كانت قيمة كل واحد من الولدين خمسمائة والمسئلة بحالها كان لكل واحد منهما أن يأخذ الولد الذي في يد صاحبه ويرجع على صاحبه بثلث قيمة الأم التي هلكت في يده لأن انقسام كل واحد منهما على الأم وعلى الولد باعتبار القيمة فيكون أثلاثا فبعد هلاك الأمتين إنما تبقى الإقالة فيما هو حصة الولد من كل واحدة منهما وحصة ولد هذه من الأخرى الثلث فعرفنا أن بقاء الإقالة في ثلث الأخرى فيرجع بثلث قيمتها فأما في ثلثيها فقد بطلت الإقالة بهلاك العوضين جميعا بخلاف الأول فالانقسام هناك نصفان لاستواء القيمتين فبقي كل واحد من الولدين ببقاء الإقالة في نصف الأم الأخرى حصة هذا الولد فيها فلهذا كان الرجوع بنصف القيمة.
ولو هلك الولد وبقيت الأمتان أخذ كل واحد منهما الجارية التي في يد صاحبه ولم يتبعه بشيء من قيمة الولد لأن الولد حدث من غير صنع أحد ومات كذلك فصار كأن لم يكن ولو هلكت الأمتان وأخذا الولدين فإن الذي في يده الولد الحي يدفعه إلى صاحبه فيأخذ منه ثلث(25/307)
ص -152- ... قيمة الأم التي هلكت في يد الآخر لأن بقاء الإقالة باعتبار الولد الحي وإنما يبقى فيما يخصه من الجارية الأخرى وحصة ثلث الجارية الأخرى فلهذا رجع بثلث قيمتها وفيما سوى ذلك بطلت الإقالة كلها بهلاك العوضين قبل الرد والله أعلم.
باب تأخير العبد المأذون الدين
قال رحمه الله: وإذا وجب للعبد المأذون على رجل ألف درهم من ثمن مبيع أو غصب أو غير ذلك فأخره العبد عنه سنة فهو جائز لأن التأجيل من صنيع التجار وهو منفك الحجر عنه فيما هو من صنيع التجار وهذا لأن التأجيل لا يسقط الدين وإنما يؤخر المطالبة.
ولو ترك المطالبة زمانا من غير تأجيل لم يكن به متبرعا عليه بشيء من الدين فكذلك إذا أجله سنة ولو صالحه على أن أخر ثمن بعضه وحط عنه بعضه كان الحط باطلا والتأخير جائزا اعتبارا للبعض بالكل
ولو كان الدين الواجب له قرضا اقترضه فتأجيله غير لازم كما في الحر وقد بيناه في كتاب الصرف.
ولو وجب للمأذون ولرجل على رجل ألف درهم وهما فيه شريكان فأخر العبد نصيبه منه فالتأخير باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو جائز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا المسألة في الحرين في كتاب الصلح فكذلك في العبد مع الحر وبينا أن على قولهما الذي لم يؤخر الدين يأخذ حصته فيكون له خاصة فإذا حل الأجل كان العبد بالخيار إن شاء أخذ من شريكه نصف ما أخذ لأن المقبوض كان دينا مشتركا بينهما وبالتأجيل لم تبطل الشركة فإن قسمة الدين قبل القبض لا تجوز إلا أن الأجل كان مانعا من مشاركة القابض فإذا ارتفع هذا المانع كان له أن يشاركه في المقبوض ثم يتبعان الغريم بالباقي وإن شاء سلم له المقبوض واختار اتباع الغريم بنصيبه في الدين.(25/308)
ولو اقتضى العبد شيئا قبل حل الأجل كان لشريكه أن يأخذ منه نصفه لأن الأجل سقط فيما اقتضاه العبد فكأنه لم يكن ولأن المقبوض من دين مشترك ولا مانع للشريك من مشاركته في المقبوض لأن نصيبه من الدين حال وكذلك إن كان الدين كله مؤجلا فقبض أحدهما شيئا منه قبل حله كان للآخر أن يشاركه فيه لأن الأجل حق المطلوب فهو في مقدار ما أوفى قبل حله أسقط حقه من الأجل فسقط ذلك في حق الشريكين جميعا والحكم في هذا الحر بمنزلة ما لو كان الدين كله حالا فللذي لم يقبض أن يشارك القابض في المقبوض.
ولو كان الدين حالا فأجله العبد سنة ثم قبض الشريك حصته ثم أبطل الغريم الأجل الذي أجله العبد برضى منه قبل مضيه فقد بطل الأجل لأنه حق الغريم وقد أسقطه ولكن لا سبيل للعبد على ما قبض شريكه في قول أبي حنيفة ومحمد حتى يحل الأجل لأنه ثبت بالتأجيل حكمان أحدهما سقوط حقه عن مشاركة القابض في المقبوض قبل حل الأجل والآخر سقوط حقه عن مطالبة المديون قبل حل الأجل فإسقاط الغريم الأجل عامل في حقه وليس بعامل في حق القابض إذ لا ولاية له عليه فيجعل الأجل في حقه كالقائم وهو نظير(25/309)
ص -153- ... الدين المؤجل إذا كان به كفيل فأسقط الأصيل الأجل بقي الأجل في حق الكفيل فإذا حل الأجل شاركه في المقبوض إن شاء وإن لم ينقص الأجل ولكن الغريم مات فحل عليه شارك العبد شريكه فيما قبض لأن انتقاض الأجل بالموت ثابت حكما فيظهر في حق مطالبة الغريم وحق مشاركة القابض في المقبوض بخلاف الأول فإنه كان عن قصد من الغريم وهذا بخلاف مسألة الكفيل فإن الأصيل إذا مات بقي الأجل في حق الكفيل لأن هناك الأجل في حق كل واحد منهما ثابت مقصود والغريم بالموت قد استغنى عن الأجل والكفيل محتاج إليه فبقي الأجل في حقه فأما ها هنا فالأجل في حق الغريم خاصة فأما مشاركه القابض في المقبوض فلا أجل فيه مقصودا لأن ذلك عين والعين لا تقبل الأجل وإنما كان ذلك بناء على قيام المانع في حق الذي أجله ولم يبق المانع بعد موت الغريم حقيقة وحكما فأما بعد إسقاط الأجل من الغريم قصدا فالمانع كالقائم في حق الشريك حكما فمن هذا الوجه يقع الفرق ولو لم يمت ولكنهما تناقضا الأجل ثم قبض الشريك حقه كان للعبد أن يشاركه لأنهما حين تناقضا لم يكن في هذا الأجل حق سوى الغريم فصحت مناقضته مطلقا فصار الدين حالا فإذا قبض الآخر نصيبه بعد ذلك كان له أن يشاركه بخلاف الأول فهناك حين تناقضا كان حق الشريك ثابتا في ذلك الأجل من حيث تأخر رجوع الشريك عليه في المقبوض فلا يعمل انقضاضه في حقه.
يوضحه: أن هناك حين قبض مع قيام الأجل لم يثبت للشريك حق المشاركة في المقبوض إلا بعد حل الأجل فلو ثبت بعد ذلك إنما يثبت بتصرف الغريم وتصرفه في حق الغير لا يكون صحيحا وها هنا حين قبض بعد مناقضة الأجل حق الشريك ثابت في المشاركة ومناقضة الأجل لم يكن تصرفا منه في حق الغير فكان صحيحا.(25/310)
ولو كان المال حالا فقبض الشريك حقه ثم إن العبد أخر الغريم حقه وهو يعلم بقبضه أو لا يعلم فتأخيره جائز عندهما ولا سبيل له على ما قبض شريكه حتى يحل الأجل لأن كون نصيبه مؤجلا مانع له من الرجوع على شريكه في المقبوض قبل حل الأجل.
ولو كان هذا المانع قائما عند القبض لم يكن له أن يشاركه فكذلك إذا ثبت هذا المانع بالتأجيل بعد قبضه ولأن نصيبه في حصة الغريم على حاله.
ألا ترى أنه لو سلم للقابض ما قبض واختار اتباع الغريم كان له ذلك فإذا صح تأجيله في نصيبه لم يكن له أن يشارك صاحبه في المقبوض حتى يحل الأجل فإذا حل أخذ منه نصف ما قبض إن شاء.
فإن قيل: لماذا لم يجعل تصرفه في نصيبه من حيث التأجيل مسقطا حقه في مشاركة القابض.
قلنا: لأنه لا منافاة بين تأجيله في نصيبه وبين ثبوت حقه في المشاركة في المقبوض بعد حل الأجل وهذا لأن حق المشاركة باعتبار الشركة في أصل الدين وبتأجيله لا ينعدم ذلك،(25/311)
ص -154- ... ولو كان مالهما إلى سنة فقبض الشريك عاجلا ثم أن العبد أخر حقه للغريم سنة أخرى وهو يعلم بقبضه أو لا يعلم فتأخيره جائز عندهما ولا سبيل له على ما قبض شريكه حتى يمضي السنتان جميعا لأن الزيادة في الأجل بعد قبض الشريك بمنزلة أصل التأجيل وقد بينا أن ذلك يمنعه من المشاركة قبل حل الأجل فلا يسقط حقه في المشاركة بعد حل الأجل فكذلك الزيادة في الأجل.
ولو كان المال حالا فأخذ الشريك حقه فسلمه له العبد كان تسليمه جائزا عندهم لأنه يسقط حقه في المشاركة بعوض وهو ما يستوفي من الغريم من نصيبه من الدين وذلك من صنيع التجار فيكون صحيحا من العبد ولا يرجع العبد على القابض بشيء حتى يتوي ما على الغريم فإذا توى ما عليه رجع على شريكه فيشاركه في المقبوض لأنه سلم له المقبوض بشرط أن يسلم له ما في ذمة الغريم فإذا لم يسلم عاد حقه كما كان كالمحتال عليه إذا مات مفلسا.
ولو كان المال إلى سنة فاشترى العبد من الغريم جارية بحصته فللشريك أن يأخذ العبد بنصف حقه من الدراهم لأنه صار مستوفيا نصيبه بطريق المقاصة كما هو الأصل في الشراء بالدين فكأنه استوفاه حقيقة وأحد الشريكين إذا استوفى نصيبه قبل حل الأجل كان للآخر أن يشاركه فيه فإن أخذ منه نصف نصيبه من الدراهم ثم وجد العبد بالجارية عيبا فردها على البائع بقضاء قاض عاد المال إلى أجله لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من الأصل وسقوط الأجل كان من حكم البيع ووقوع المقاصة بالثمن وقد بطل ذلك بانفساخ العقد من الأصل فعاد المال إلى أجله واسترد العبد من شريكه ما أخذه منه لأنه أخذه باعتبار أنه استوفى نصيبه بالمقاصة وقد بطل ذلك من الأصل بانفساخ البيع فتبين أنه استوفى منه بغير حق فيلزمه رده(25/312)
ولو كان ردها بغير قضاء أو بإقالة لم يرجع على الشريك بشيء مما أعطاه لأن هذا السبب بمنزلة العقد المبتدأ في حق الشريك فلا يتبين به بطلان المقاصة وحكم الاستيفاء من العبد لنصيبه في حق الشريك فلهذا لا يرجع عليه بشيء ويكون للعبد ولشريكه على الغريم الخمسمائة الباقية إلى أجلها وللعبد على الغريم خمسمائة حالة فكان ينبغي أن يكون هذا مؤجلا عليه لأن الإقالة والرد بغير قضاء القاضي فسخ في حقهما والأجل في هذا المال من حقهما ولكن هذا بناء على الأصل الذي بينا فيما أمليناه من شرح الزيادات أن الإقالة والرد بغير قضاء القاضي فسخ في حقهما فيما هو من حكم ذلك العقد خاصة فأما فيما ليس من حكم ذلك فالعقد يكون بمنزلة البيع المبتدأ وعود الأجل ليس من حكم ذلك العقد فيجعل في حقه كالبيع المبتدإ فكأنه اشتراها بخمسمائة مطلقة فتكون حالة.
وكذلك لو كان العبد المشتري الجارية من الغريم بجميع الألف إلا أن للشريك أن يأخذه بنصف الألف ها هنا لأنه صار مستوفيا جميع الدين بطريق المقاصة واحد الشركين أن استوفى الدين كان للآخر أن يرجع عليه بنصف ذلك الدين سواء كان الدين حالا أو مؤجلا فإن كان حين إقالة البيع أو رده بغير قضاء شرط عليه البائع أن الثمن إلى أجله كان إلى أجله لأن هذا(25/313)
ص -155- ... بمنزلة البيع المبتدأ لكن بثمن مؤجل شرطا وهو نظير المشتري بالنسبة إذا ولاه غيره مطلقا يكون الثمن في حق البائع حالا إلا أن يكون اشترط في التولية أن يكون المال إلى أجله فحينئذ يكون مؤجلا كما شرط.
باب وكالة العبد المأذون بالبيع
قال رحمه الله: وللمأذون له أن يتوكل لغيره بالشراء بالنقد استحسانا وفي القياس لا يجوز ذلك لأنه يلتزم الثمن في ذمته بمقابلة ملك يحصل لغيره فيكون في معنى الكفالة بالمال عن الغير والمأذون ليس من أهله إلا أن يكون بإذن المولى إذا لم يكن عليه دين ولأنه يلتزم العهدة من غير منفعة له في ذلك فيكون تبرعا منه ولهذا لا يتوكل بالشراء لغيره بالنسيئة.
وجه الاستحسان: أن الثمن بالشراء كما يجب على المأذون يجب له على الموكل وتكون العين محبوسة في يده إلى أن يصل الثمن إليه فلا يلحقه ضرر في ذلك بل هو بمنزلة ما لو اشتراه لنفسه ثم باعه من غيره بمثل ذلك الثمن بخلاف الكفالة فإنه يلتزم المال في ذمته بالكفالة من غير أن تكون بمقابلته في يده عين محبوسة وبخلاف الشراء بالنسيئة فإنه لا يستوجب حبس العين بالثمن ها هنا كما أن البائع لا يستوجب الحبس عليه فيكون ذلك في معنى الكفالة ثم هذا التوكيل منفعة للمأذون لأنه يحتاج في بعض التصرفات إلى الاستعانة بغيره ومن لا يعين غيره لا يعان عند حاجته.(25/314)
وإذا توكل بالشراء نسيئة صار مشتريا لنفسه لأنه لما تعذر تنفيذ شرائه على الموكل وهو يملك الشراء لنفسه بهذه الصفة نفذ العقد عليه كالحر إذا اشترى لغيره بغير أمره وأن يتوكل لغيره بالبيع بالنقد والنسيئة لأنه في الموضعين جميعا إنما يلتزم تسليم العين ولا يلتزم في ذمته شيئا من البدل وهو لا يستغنى عن ذلك في التصرفات ولأن التوكيل عن الغير بالشراء أو بالبيع من نوع التجارة فإن أعظم الناس تجارة وهم الباعة يتوكلون بالبيع والشراء للناس وللمأذون أن يوكل بالبيع والشراء غيره كما يفعله الحر لأن التوكيل من صنيع التجار ولأنه لا يستغنى عن ذلك في تجارته فإن التجارة نوعان حاضرة وغائبة وإذا اشتغل بأحدهما بنفسه يحتاج إلى أن يستعين في الآخر بغيره لكن لا يفوته مقصود النوعين وإذا باع المأذون جارية رجل بأمره ثم قتلها الآمر قبل التسليم بطل البيع لأن البيع من نائبه كبيعه من نفسه والمبيع مضمون على الموكل بالثمن لو هلك فلا يكون مضمونا عليه بالقيمة لما بينهما من المنافاة فإذا لم تجب القيمة بحقوق فوات القبض المستحق بالعقد حين تلف المعقود عليه ولم يخلف بدلا بطل البيع فإن قتلها المأذون قيل لمولاه ادفعه بالجناية أو افده كما لو قتلها قبل البيع وهذا لأن بالوكالة لا يثبت للمأذون فيها ملك ولا حق ملك فقتله إياها جناية على ملك الغير وجناية المملوك بهذه الصفة توجب على المولى الدفع أو الفداء فأيهما فعل كان المشتري بالخيار لتغير المعقود عليه قبل التسليم حين تحول البيع إلى البدل فإن شاء نقض البيع وإن شاء أخذ ما قام مقام الجارية وأدى الثمن كما لو كان القاتل عبدا آخر سوى الوكيل.(25/315)
ص -156- ... ولو كان مولى العبد هو الذي قتلها وعلى العبد دين أو لا دين عليه فعلى عاقلته قيمتها إلى ثلاث سنين لأنه ليس لمولى العبد فيها ملك ولا حق ملك ثم يتخير المشتري فإن شاء نقض البيع والقيمة للموكل وإن شاء أدى الثمن فاستوفى قيمتها من عاقلة القاتل في ثلاث سنين.
ولو كان المأذون باع جارية مما في يده من رجل بجارية ثم قتلها العبد قبل أن يسلمها بطل العقد لأن العبد في التصرف في كسبه كالحر في التصرف في ملكه فالمبيع في يده مضمون بما يقابله ويستوي إن كان على العبد دين أو لم يكن فيبطل البيع لفوات القبض المستحق بالعقد.
وكذلك إن قتلها المولى ولا دين على العبد لأن كسب العبد خالص ملك المولى والعبد بائع للمولى من وجه.
ألا ترى أنها لو هلكت بطل ملك المولى عما يقابلها فكذلك إذا قتلها المولى وإن كان على العبد دين فالمولى ضامن لقيمتها لأن كسبه في هذه الحالة لغرمائه.
ولو قتلها المولى قبل البيع كان ضامنا لقيمتها لغرمائه فبعد البيع أولى وهذه القيمة عليه في ماله لأن له حق الملك في كسبه على معنى أنه يسلم له إذا فرغ من دينه والعاقلة لا تتحمل عنه له فتكون القيمة في ماله سواء قتلها عمدا أو خطأ والمشتري بالخيار لتغيير المعقود عليه قبل التسليم فإن شاء نقض البيع وكانت القيمة لغرماء العبد وإن شاء أخذ القيمة وأدى الثمن وتصدق بالفضل إن كان في القيمة على الثمن فضل لأن ذلك ربح حصل لا على ضمانه.(25/316)
ولو كان المولى دفع إلى عبده جارية له ليست من تجارة العبد وأمره ببيعها فباعها ولم يقبضها المشتري حتى قتلها مولى العبد فالبيع منتقض لأن العبد في هذا التصرف كان نائبا عن المولى كالحر وهي مضمونة على المولى بالثمن فينتقض البيع لتفويت القبض المستحق بالعقد فيها وإن كان العبد هو الذي قتلها فإن اختار المولى دفع العبد بالجناية فالمشتري بالخيار لأن الجارية صارت مملوكة للمشتري بالعقد والعبد إنما جنى على ملك المشتري وذلك يوجب الخيار للمولى بين الدفع والفداء فإن اختار الدفع فهناك لا يجب في ذمته شيء من قيمتها ولكن يلزمه تسليم العبد وإذا اختار الدفع قام العبد مقام الجارية ويخير المشتري للتغيير وإذا اختار الفداء انتقض البيع لأنه حين اختار الفداء فقد صار الضمان دينا في ذمته وإذا صار الضمان عليه بطل الشراء لأنه مضمون عليه بالثمن قبل التسليم فلا يكون مضمونا بالقيمة كما لو كان هو الذي قتلها بخلاف ما إذا اختار المشتري إمضاء العقد ووجوب تسليم العبد عليه كوجوب تسليم الجارية عليه قبل القتل.
وإذا كان بين المأذون وبين حر جارية فأمره الحر ببيعها فباعها العبد بألف درهم ثم أقر العبد أن شريكه قد قبض جميع الثمن أو نصفه من المشتري وصدقه المشتري وكذبه الشريك فإقرار العبد صحيح في براءة المشتري من نصف الثمن لأنه أقر في النصف بقبض مبرئ وهو(25/317)
ص -157- ... قبض الموكل فيكون بمنزلة ما لو أقر بأنه هو الذي قبضه وهذا لأن الإقرار بالقبض يملكه المأذون كإنشاء القبض فإن ذلك من صنيع التجار ثم يحلف العبد بدعوى الشريك لأنه يزعم أنه أتلف حقه في الثمن بإقراره بالقبض كاذبا.
ولو أقر العبد لزمه فإذا أنكره يحلف لرجاء نكوله فإن حلف أخذ من المشتري نصف الثمن فيكون بينهما نصفين لأن يمينه حجة له في براءته عن ضمان ذلك النصف الذي زعم أن الموكل قبضه وليست بحجة في وصول ذلك إلى الشريك حقيقة ولا في سلامة ما بقي له خالصا فهذا الذي يقبضه جزء من دين مشترك بينهما فيكون بينهما نصفان والنصف الآخر صار كالتاوي وإن نكل عن اليمين غرم نصف الثمن للشريك لإقراره أنه أتلف ذلك عليه ويأخذ من المشتري نصف الثمن فيسلم له لأنه وصل إلى الشريك جميع حقه ولا يمين على المشتري في شيء من ذلك لأنه لا دعوى لأحد عليه فالمشتري لم يعامله بشيء والعبد بالنكول صار مقرى بأنه لم يقبض شيئا فلا يسمع منه دعوى القبض لتخلفه.
ولو كان الشريك هو الذي أقر أن العبد قبض جميع الثمن وصدقه المشتري وكذبه العبد بريء المشتري من نصف الثمن أيضا لأن الموكل في نصيبه من الثمن كما يملك قبضا يوجب براءة المشتري يملك الإقرار بقبض مبرئ.
ألا ترى أنه لو أقر أنه قبضه بنفسه كان إقراره مبرئا للمشتري فكذلك إذا أقر أن البائع قبضه ولا يمين على المشتري في ذلك لأنه لا دعوى للعبد عليه في ذلك النصف بعد إقرار الموكل عليه بقبض مبرئ كما لا دعوى في ذلك للوكيل بعد إبراء الموكل إياه ويحلف الآمر العبد لأنه يدعي عليه أنه قبض الثمن وأنه يمتنع من دفع نصيبه إليه.(25/318)
ولو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله فإن نكل لزمه نصف الثمن للآمر وإن حلف بريء من نصيب الآمر وأخذ العبد من المشتري نصف الثمن لا يشاركه فيه الآمر لأن الآمر صار متلفا نصيبه بإقراره أن العبد قبضه فهو بمنزلة ما لو أبرأ المشتري عن نصيبه من الثمن فلا يكون له مشاركة العبد فيما يقبض من نصيبه.
ولو أقر الآمر أن العبد قبض نصف الثمن بريء المشتري من ربع الثمن لأنه نصف ما أقر بعضه نصيب الآمر وهو في نصيبه يملك الإقرار بقبض مبرئ فإذا بريء من ربع الثمن بقي على المشتري سبعمائة وخمسون درهما فما قبض العبد منهما فللآمر ثلثه وللعبد ثلثاه على قدر ما بقي من حقهما في ذمة المشتري فإنه بقي حق العبد في خمسمائة وحق الآمر في مائتين وخمسين ولو أقر الآمر أن العبد أبرأ المشتري من جميع الثمن أو أنه وهبه له فإقراره باطل والثمن كله على المشتري لأن الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة.
ولو عاينا هبة العبد الثمن من المشتري كان باطلا في الكل لأنه تبرع والعبد ليس من أهله فيما باع لنفسه أو لغيره وكذلك لو أقر العبد بذلك على الآمر وأنكره الآمر لأن إقرار العبد إنما يصح بما يملك إنشاءه وهو لا يملك إنشاء الهبة والإبراء فكذلك لا يملك الإقرار(25/319)
ص -158- ... به على نفسه أو على غيره بخلاف الإقرار بالقبض فإنه يملك إنشاء القبض فيملك الإقرار به أيضا.
ولو كان شريك العبد هو الذي ولي البيع بأمر العبد ثم أقر على العبد بقبض الثمن أو بقبض حصته كان ذلك بمنزلة إقرار العبد عليه لو كان العبد هو الذي ولي البيع لأن المأذون والحر في الإقرار بالقبض يستويان كما في إنشاء القبض.
ولو أقر البائع على العبد بالإبراء والهبة كان باطلا كما لو عاينا الإبراء والهبة من العبد وكذلك لو أقر العبد على البائع بأنه وهب الثمن أو أبرأ المشتري منه لأن العبد لا يملك الإقرار بالهبة والإبراء على نفسه فلا يملكه على غيره بغير دعوى المشتري على البائع الإبراء عن الثمن فيحلف البائع على ذلك فإن حلف أخذ جميع الثمن من المشتري وإن نكل بريء المشتري من جميع الثمن وللعبد أن يضمن البائع نصف الثمن في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يبرأ من حصة البائع من الثمن خاصة وهو بناء على أن الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن.(25/320)
وإذا كانت الجارية بين رجلين حرين فباع أحدهما بأمر صاحبه من العبد المأذون بألف درهم ثم أقر الآمر أن البائع أبرأ المشتري من الثمن أو وهبه له وادعاه العبد وجحده البائع فقد بريء من حصة الآمر من الثمن في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه أقر فيه بإبراء صحيح فإبراء الوكيل عندهما يصح في براءة المشتري ولا يمين على المشتري في شيء من ذلك لأن العبد لا دعوى له في ذلك بعد إقرار الآمر بما يبرئ المشتري ويأخذ البائع من المشتري نصف الثمن فيسلم له بعد ما يحلف على ما ادعاه الآمر لأن الآمر يدعي عليه أنه ضامن له نصيبه بالإبراء والهبة وهو منكر لذلك فيستحلف وإذا حلف صار الآمر هو المتلف لنصيبه من الثمن بإقراره والنصف الآخر يسلم للبائع وعند أبي يوسف رحمه الله إقرار الآمر باطل وجميع الثمن على المشتري بينهما نصفان لأن في نصيب البائع لا قول له وفي نصيبه إبراء البائع عنده باطل.
ولو كان البائع أقر أن شريكه أبرأ العبد من حصته أو أنه قبض حصته وجحده الشريك وادعاه العبد فإن العبد بريء من نصف الثمن لأن البائع أقر بما يوجب براءة المشتري من نصف الثمن وهو القبض أو الإبراء من الآمر ولا يمين عليه لأنه لا دعوى لأحد عليه بعد ذلك لكن يرجع الآمر على البائع بحصته من الثمن وهو نصفه فيضمنها إياه لأن البائع صار متلفا نصيبه من الثمن بإقراره ويكون للبائع على المشتري نصف الثمن في قول أبي حنيفة ومحمد فأما عند أبي يوسف فإقراره على الآمر بالإبراء بمنزلة إبرائه إياه عن نصيبه وذلك باطل عنده ولا يمين على البائع في ذلك ولكن العبد يستحلف الآمر على ما يدعي عليه من الإبراء والهبة فإن نكل لزمه ما قال البائع وإن حلف بقي الثمن كله على المشتري.
وإذا دفع المأذون إلى رجل جارية ببيعها فباعها من رجل له على المأذون دين ودفع(25/321)
ص -159- ... الجارية إليه فقد صار الثمن قصاصا بدين العبد لأن الثمن بالبيع وجب للمأذون حتى إذا قبضه الوكيل يؤمر بالتسليم إليه وللمشتري على المأذون مثل ذلك دينا فيصير قصاصا لأنه لا فائدة في القبض وإن كان الدين للمشتري على المأمور دون المأذون فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يكون قصاصا بدين الوكيل وهي فرع مسألة الوكيل إذا أبرأ المشتري عن الثمن وقد بيناها في البيوع.
ولو كان للمشتري على العبد ألف وعلى الوكيل ألف كان الثمن قصاصا بدين الموكل دون الوكيل أما عند أبي يوسف فلا إشكال وأما عندهما فلأنه لو جعل قصاصا بدين الموكل لم يجب ضمانه على أحد
ولو جعل قصاصا بدين الوكيل كان الوكيل ضامنا مثله للموكل فكانت المقاصة بدين الموكل أقرب إلى انقطاع المنازعة وإلى إظهار فائدة المقاصة ثم الثمن ملك الموكل والمطالبة حق الوكيل وعند المعارضة الملك يكون أقوى من الحق فلهذا يترجح جانب الموكل فيصير قصاصا بدينه.
باب البيع الفاسد من المأذون(25/322)
قال رحمه الله: وإذا باع المأذون جارية بيعا فاسدا من رجل وسلمها إليه جاز للمشتري فيها من العتق وغير ذلك ما يجوز له في شرائه من الحر لأن البيع الفاسد من نوع التجارة والمأذون فيه كالحر والمشتري بالقبض صار مالكا المبيع في الوجهين فينفذ تصرفه لمصادفته ملكه وكذلك المأذون لو كان هو الذي اشتراه شراء فاسدا وقبضه فإنه ينفذ فيه من تصرفاته ما ينفذ في الشراء الصحيح فيكون ضامنا قيمته للبائع لتعذر رد العين لأن التزام ضمان القيمة من العبد بسبب صحيح كالتزام ضمان الثمن فإذا غلت في يد المشتري غلة ثم باعها المأذون من رجل فالغلة تسلم له سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن الغلة حصلت على ملكه وقد تقرر ملكه حين باعها من غيره وإن لم يبعها ولكن ردها على البائع فالغلة مردودة على البائع لأن الرد بفساد العقد يفسخ البيع من الأصل والمشتراة شراء فاسدا كالمغصوبة في أنها ترد بزوائدها المنفصلة والمتصلة فترد الغلة أيضا ثم على البائع أن يتصدق بها لأن الغلة حصلت لا على ملكه ولا على ضمانه.
ولو كان العبد هو الذي باع الجارية أو الغلام بيعا فاسدا ثم أغل غلة عند المشتري ثم باعها المشتري فالغلة له لتقرير ملكه في الأصل وعليه أن يتصدق بها لأن الغلة حين حصلت كان ملكه فيها بسبب فاسد والمبيع كالمغصوب في يده تسترد بزوائدها المنفصلة والمتصلة فيؤمر بالتصدق بالغلة ولو ردهما مع الغلة على المأذون لم يتصدق المأذون بشيء من الغلة وكذلك في المسألة الأولى إذا كان المأذون هو المشتري فلا يتصدق بالغلة لأن كسبه لا يحتمل الصدقة والغلة صارت من إكسابه فلا يستحق عليه التصدق بها شرعا لكن إن كان على العبد دين أخذ الغرماء الغلة قضاء من دينهم ولم يتصدقوا بشيء منها لأنهم أخذوها بدلا(25/323)
ص -160- ... عن دينهم فإن لم يكن عليه دين فينبغي للمولى أن يتصدق بها لأن كسب العبد خالص حق المولى في هذه الحالة وإنما يملك على سبيل الخلافة عن المأذون.
ولو كان المأذون من أهل أن يتصدق كان عليه التصدق بهذه الغلة فكذلك من يخلفه وهو المولى من أهل التصدق فيستحب له أن يتصدق بها.
وإذا باع المأذون جارية من رجل بيعا فاسدا وسلمها فباعها المشتري من المأذون أو من وكيل مولاه بيعا صحيحا وسلمها إليه فإن لم يكن على المأذون دين فهو نقض للبيع الفاسد لأن بيع المأذون كسبه إذا لم يكن عليه دين يصادف ملك المولى فهو في حكم النائب عنه من وجه بمنزلة الوكيل فالرد لأجل الفساد مستحق في هذه العين على المولى كما هو مستحق على العبد ولو باعه من العبد كان ذلك نقضا للبيع الفاسد سواء كان على العبد دين أو لم يكن فإذا باعه من المولى ولا دين عليه يكون نقضا للبيع الفاسد أيضا وبيعه من وكيل المولى كبيعه من المولى وإن كان على المأذون دين فهو بيع جائز لأن المولى من كسبه في هذه الحالة كالأجنبي فيكون هذا بمنزلة بيع المشتري إياها من أجنبي آخر فيلزمه القيمة للعبد المأذون ويكون له الثمن على من باعها منه وإن باعها من عبد آخر للمولى بأجر وسلمها إليه فإن لم يكن على واحد منهما دين فهو نقض للبيع الفاسد لأن تصرف العبد الآخر للمولى من وجه لأن كسبه مملوك للمولى فهو نظير بيعها من وكيل المولى ولا يبرأ من ضمانها إلا بردها على المأذون أو على مولاه لأنها صارت مضمونة عليه بالقبض فبقي الضمان بعد انتقاض العقد لبقاء القبض وإن كان على أحدهما دين فهو بيع جائز.
أما إذا كان الدين على البائع فقد بينا أنه لو باعها في هذه الحالة من المولى كان بيعا جائزا فكذلك من عبده وإن كان الدين على المشتري فهو في هذا الشراء غير متصرف لمولاه بل لغرمائه فبيعها منه كبيعها من أجنبي آخر فيتقرر ضمان القيمة عليه للمأذون وله الثمن على المشتري منه.(25/324)
وإذا باعها من مضارب المأذون البائع فهو جائز لأن للمضارب فيما يشتري حقا في الربح وهو بمنزلة المشتري لنفسه من وجه.
ألا ترى أن رب المال لا يملك نهيه عن بيعه؟ وأن رب المال لو باع شيئا من ماله من المضارب جاز فكذلك هذا المشتري شراء فاسدا إذا باعها من مضارب البائع جاز بمنزلة بيعها من أجنبي آخر وكذلك إن باعها من مضارب المولى وعلى العبد دين أو لا دين عليه.
ولو باعها من ابن المولى أو أبيه أو مكاتبه أو باعها من المولى لابن صغير له في عياله فهو كله سواء لأن التصرف الحاصل لهؤلاء في حق البائع دون تصرف مضارب البائع وإذا ثبت صحة الشراء الثاني هناك فها هنا أولى وكذلك لو أن أجنبيا وكل المولى بشرائها له فاشترى له أو وكل المأذون بشرائها له فاشتراها له كانت الجارية للآمر وكان الثمن على العبد المشتري ويرجع به العبد على الآمر وللعبد على الآمر قيمة الجارية فتكون القيمة قصاصا(25/325)
ص -161- ... بالثمن ويرجع العبد على الآمر بما أدى عنه من الثمن والحاصل أنه متى كان العقد الثاني موجبا حكما في الملك والضمان غير الحكم الذي كان قبل البيع الفاسد فإنه لا يكون ذلك نقضا للبيع الفاسد وإن كان لا يوجب حكما آخر سوى ما كان قبل البيع في حق الملك والضمان فهو نقض للبيع الفاسد.
ولو كان المأذون البائع هو الذي وكل إنسانا بشرائها من المشتري له ففعل وقبضها فهو نقض للبيع الفاسد فكأنه اشتراها بنفسه لأن هذا الشراء في حكم الملك والضمان لا يوجب إلا ما كان قبل العقد الفاسد فإن بشراء الوكيل يقع الملك للموكل وبقبض الوكيل يدخل في ضمان الموكل وإن كان المولى هو الذي أمر رجلا بشرائها له فهذا وشراء المولى بنفسه سواء في الفرق بينهما إذا كان على العبد دين أو لا دين عليه وإذا قتلها المأذون في يد المشتري فهو نقض للبيع لأنه بالإتلاف صار مستردا لها وزيادة.
ألا ترى أن المشتري بالإتلاف يصير قابضا للمبيع وكذلك لو كان حفر بئرا في الطريق قبل البيع أو بعده فوقعت الجارية فيها أو حدث بها عيب من ذلك ولم يمنعها المشتري منه حتى ماتت من حفره فهو فسخ للبيع لأن العبد بالحفر صار جانيا على الواقع في بئره عند الوقوع حكما فكأنه حفر بيده والبائع إذا أتلف المعقود عليه أو عيبه في البيع الفاسد صار مستردا له بمنزلة المشتري في البيع الصحيح لأن الاسترداد ها هنا مستحق كالقبض هناك إلا أن المشتري لو منعها منه بعد التعييب بطل حكم استرداده في حكم الضمان بمنع المشتري كما يبطل حكم قبض المشتري بمنع البائع بعد ما عيبها المشتري.(25/326)
وإن كان المولى هو الذي فعل ذلك ولا دين على العبد فهو كذلك لأن المولى متمكن من استردادها لفساد البيع في هذه الحالة كالعبد وكما لو كان هو البائع بنفسه فإن كان عليه دين فالمولى غير متمكن من استردادها في هذه الحالة فيكون هو كأجنبي آخر فيما فعله فعلى عاقلته قيمتها في ثلاث سنين لأن جنايته حصلت على ملك المشتري فيجب ضمان القيمة على عاقلته إذا حدث الموت من فعله وإن كان حدث العيب من فعله والموت من غيره ضمن المشتري قيمتها بسبب القبض وتعذر الرد عليه ويرجع على المولى بنقصان العيب في ماله حالا لأن النقصان حصل بجناية المولى في ملك المشتري والجناية على المماليك فيما دون النفس حكمه حكم الأموال في أنه يكون في مال الجاني حالا وإن وقعت في بئر حفرها المأذون في دار من تجارته فمات أو في بئر حفرها المولى في ملكه لا يكون ذلك نقضا للبيع لأن الحافر في ملك نفسه لا يكون جانيا فإنه غير متعد في هذا التسبب وإنما يكون الإتلاف مضافا إليه إذا كان متعديا في التسبب فإذا لم يصر مضافا إليه لانعدام التعدي كان هذا وموتها في يد المشتري سواء يعطي المشتري ضمان قيمتها ولا شيء له على صاحب البئر من ذلك والله أعلم بالصواب.(25/327)
ص -162- ... باب قبض المأذون في البيوع
قال رحمه الله: وحكم المأذون في قبض ما اشتراه باليد أو بالجناية عليه كحكم الحر لأن القبض يصير مستحقا له بالشراء كما للحر وكذلك إن كانت جارية فوطئها فنقصها الوطء أو لم ينقصها ثم ماتت في يد المشتري من غير الوطء قبل أن يمنعها المشتري من العبد فعلى العبد جميع الثمن لأن المستوفي بالوطء في حكم جزء من العين كالمستوفي بالجناية ثم الوطء من الحر يجعل قبضا فكذلك من العبد لأن العبد لا يفارق الحر في ذلك إلا في حكم الحل والقبض ليس باعتبار صفة الحل بل باعتبار تمكنه من قبضها والتخلي بها حالة الوطء أو باعتبار أنه استيفاء جزء منها حكما وفي هذا الحر والعبد سواء.
وكذلك إن أقر بالوطء وكذبه المولى لأن الوطء منه لما كان قبضا فإقراره بالوطء كإقراره بالقبض وإقرار المأذون بقبض ما اشتراه صحيح صدقه المولى في ذلك أو كذبه.(25/328)
وإذا اشترى المأذون من رجل كر حنطة يساوي مائة درهم بثمانين درهما فصب العبد فيه ماء قبل أن يقبضه فأفسده فصار يساوي ثمانين درهما ثم أن البائع بعد ذلك صب فيه ماء فأفسده فصار يساوي ستين درهما فالمأذون بالخيار للتغيير الحاصل فيه بفعل البائع فإنه بما صنع صار مستردا محدثا للعيب فيه ولم يوجد من العبد الرضا بذلك فكان له الخيار فإن اختار أخذ الكر أخذه بأربعة وستين درهما لأن البائع صار متلفا خمس المبيع فسقطت حصته من الثمن وذلك الخمس وخمس ثمانين ستة عشر فإذا سقط من المشتري ستة عشر درهما بقي عليه أربعة وستون فإن قيل: أتلف البائع ربع الباقي لأن الثمن حين أفسده البائع كان ثمانين وقد تراجع إلى ستين قلنا: إنما يعتبر ما أتلف البائع من المبيع والمبيع قيمته مائة والجزء الذي أتلفه المشتري تقرر البيع فيه ولم ينتقض فلهذا سقط بفعل البائع خمس الثمن فإن تركه المشتري فلا ضمان عليه لما أفسد لأن الكر بعينه قد رجع إلى البائع فإنما بقي الفائت بفعل المشتري مجرد الجودة ولا قيمة للجودة في الأموال الربوية منفردة عن الأصل وقد صار البائع راضيا بذلك حين استرده بالإفساد بعد فعل المشتري.
ولو ضمن له المشتري النقصان عاد إليه الكر تاما مع زيادة دراهم وذلك ربا.
ألا ترى أن الغاصب لو أفسد الكر بصب الماء فيه ثم اختار المغصوب منه أخذه لم يكن له أن يضمن الغاصب النقصان فهذا مثله بخلاف ما إذا اختار الأخذ فإنا لو أسقطنا عن المشتري حصة ما أتلفه البائع من الثمن لا يؤدي إلى الربا بل يسلم الكر للمشتري بأربعة وستين درهما وذلك صحيح كما لو أبرأه البائع عن خمس الثمن.
ولو كان البائع هو الذي صب فيه الماء أولا ثم المشتري صب فيه الماء فإن المشتري يجبر على قبضه لأنه صار راضيا بالتعييب الحاصل بفعل البائع حين قبضه بالتعييب بعده ويؤدي أربعة وستين درهما لما قلنا: وكذلك هذا الحكم في كل مكيل أو موزون.(25/329)
ولو كان المبيع عرضا أفسده المشتري أولا ثم أفسده البائع فإن شاء المشتري أخذه(25/330)
ص -163- ... وسقط عنه من الثمن بحساب ما نقصه البائع وإن شاء نقص المبيع وأدى من الثمن بحساب ما نقصه المشتري لأن المبيع ليس بمال الربا فيكون للوصف منه قيمة منفردا لأن الأوصاف بالتناول تصير مقصودة ويقابلها حصة من الثمن سواء تناولها البائع أو المشتري وقد بينا هذا في البيوع وإن كان المشتري أفسده بعد البائع لزمه ذلك وسقط عنه من الثمن بحساب ما نقصه البائع لوجود القبض والرضا من المشتري بعد التعييب الذي كان من البائع.
وإذا اشترى المأذون كر تمر جيد بعينه بكر تمر رديء بعينه فصب العبد في الكر الذي اشتراه ماء فأفسده ثم صب البائع فيه ماء فأفسده فهو بالخيار لأن البائع عيبه فصار مستردا له بعد تعييب المشتري ولم يوجد من المشتري الرضا بذلك فيتخير لهذا إن شاء أخذه ودفع الكر وإن شاء نقض البيع ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بنقصان الكر في الوجهين جميعا أما إذا رده فظاهر وإن اختار أخذه فلأنه لو اعتبر جناية البائع ها هنا سقط عن المشتري حصته من العوض فيصير بأقل من كر وهو الربا بعينه بخلاف ما تقدم.(25/331)
ولو كان المشتري صب فيه الماء بعد البائع لزمه الكر بجميع الثمن الذي اشتراه به لأنه صار راضيا به حين عيبه بعد البائع ولا يسقط بتعييب البائع شيء من العوض لأجل الربا وله أن يرده بعيب أن وجده قبل القبض أو بعده بالتعيب الحاصل من المشتري بما صب فيه من الماء وإذا اشترى المأذون من رجل عشرة أرطال زيت بدرهم وأمره أن يكيله في قارورة جاء بها فكال البائع الزيت في القارورة فلما كال فيها رطلين انكسرت والبائع والمشتري لا يعلمان فكالا بعد ذلك جميع ما باعه من الزيت فيها فسال ذلك لم يلزم العبد من الثمن إلا عن الرطل الأول لأن القارورة بالانكسار خرجت من أن تكون وعاء فتبين بهذا أنه حين أمره بالصب كانت القارورة صحيحة وعاء صالحا للزيت فيقيد أمره بحال بقائها وعاء لما عرف من مقصود المشتري إذ مقصوده كان هو الإحراز دون الإتلاف وقد صب الرطل الأول في القارورة وهي صحيحة فصار المشتري قابضا لذلك الرطل بملكه ثم انكسرت القارورة فسال ذلك الرطل بعد ما صار المشتري قابضا فيلزمه ثمنه ثم بالانكسار خرجت القارورة من أن تكون وعاء فبطل حكم أمر المشتري فصار البائع بصب ما بقي فيها متلفا المبيع بغير أمر المشتري فسقط عن المشتري ثمن ما بقي لانفساخ البيع فيه بإتلاف البائع.
وإن كان الرطل الأول لم يسل كله حين صب البائع الرطل الثاني فيه فالبائع ضامن لما بقي من الرطل الأول في القارورة لأن المبيع لما انفسخ فيما بقي من الوجه الذي قررنا تبين أن البائع خلط ما بقي من الرطل الأول في القارورة بمال نفسه ومن خلط زيت غيره بزيت نفسه يكون ضامنا لصاحبه فلهذا ضمن ما بقي سواء كان نصف الرطل أو ثلثه أو ربعه ولو كانت القارورة مكسورة حين دفعه إليه فأمره أن يكيل فيها ولا يعلمان بذلك فكال البائع فيها عشرة أرطال فسالت كلها فالثمن كله لازم على العبد لأنه حين أمره لم تكن القارورة وعاء صالحا لإحراز الدهن فيها فكان ذلك بمنزلة أمره إياه بالإتلاف.(25/332)
ص -164- ... ومن اشترى شيئا بعينه ثم أمر البائع أن يتلفه ففعل تقرر على المشتري جميع الثمن فكذلك هذا والحر والعبد في هذا سواء لأن إتلاف البائع بأمر المشتري كإتلاف المشتري بنفسه وقد بينا أن في حكم القبض والإتلاف الحر والعبد سواء ولا معتبر بعلم المشتري وجهله بذلك لأنا لو اعتبرنا جهله بذلك لدفع الضرر عنه كان فيه إضرارا بالبائع وكما يجب دفع ضرر المشتري يجب دفع ضرر البائع ولأنه صرح بالأمر بالصب فيه ومع التصريح لا معتبر بجهله كما لو قال لرجل أتلف هذا المال فأتلفه ثم تبين أنه كان للآمر ولم يكن عالما به لم يضمن المأمور شيئا وهذا بخلاف الأول فهناك إنما صرح بالأمر بالإحراز لكون القارورة صحيحة عند الأمر بالصب فيها فلا يكون هذا الأمر بالإتلاف صريحا فلهذا قيدناه بحال بقاء القارورة صحيحة.
وإذا اشترى المأذون جارية فقبضها بغير إذن البائع قبل نقد الثمن فماتت عنده أو قتلها مولاها ولا دين على العبد أو أعتقها لم يكن للبائع أن يضمن العبد ولا المولى قيمتها لأنها صارت مضمونة عليه بالثمن بهذا القبض وضمان القيمة مع ضمان الثمن لا يجتمعان ولكنه يطالب العبد بالثمن فيباع له فيه
فإن نقص ثمنه عن حقه كان على المولى تمام ذلك من قيمة الجارية التي استهلكها لأن الجارية صارت كسبا للعبد وقد أتلفها المولى بالقتل أو الإعتاق فلا يسلم له ذلك إلا بشرط الفراغ من دين العبد فإذا لم يف ثمن العبد بثمن الجارية كان المولى ضامنا الفضل من قيمة الجارية لما بينا.(25/333)
ولو كان العبد وكل رجلا بقبضها فقبضها فماتت في يده ضمن الوكيل قيمتها للبائع لأنه جان في حق البائع حين قبضها بغير أمره قبل نقد الثمن فيضمن له قيمتها كالراهن إذا وكل وكيلا باسترداد المرهون فاسترده بغير رضا المرتهن ثم هذه القيمة تكون في يد البائع فإن أوفى العبد الثمن رجعت القيمة إلى الوكيل وإن هلكت القيمة من الوكيل سقط الثمن عن العبد لأن استرداد القيمة كاسترداد عينها ثم يرجع الوكيل بها على العبد لأنه غرم لحقه في عمل باشره له بأمره فيرجع به عليه سواء كان الثمن أكثر من ذلك أو أقل.
وكذلك لو كان المشتري حرا فوكل رجلا بقبضها أو أمره بقتلها فقتلها وهذا فصل قد بيناه في آخر البيوع وبينا الفرق بينه وبين ما إذا أمر غيره بأن يعتقها فأعتقها على قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فالتسوية بينهما على قوله الأول وذلك كله في البيوع والله أعلم.
باب الرد بالعيب على المأذون
قال رحمه الله: وإذا باع المأذون جارية وسلمها إلى المشتري ثم ردها عليه المشتري بعيب يحدث مثله أو لا يحدث مثله بغير قضاء قاض وقبلها العبد فهو جائز بمنزلة الحر في ذلك لأن الرد بغير قضاء قاض إقالة والمأذون يملك الإقالة فسخا كان أو بيعا مبتدأ وكذلك لو ردها عليه بقضاء قاض ببينة قامت أو بإباء يمين أو بإقرار منه بالعيب فهذا كله فسخ يملكه(25/334)
ص -165- ... المأذون فإن ردها وأخذ الثمن ثم وجد بها عيبا قد كان حدث عند المشتري ولم يعلم به فهو بالخيار إن شاء ردها على المشتري وأخذ منه الثمن وإن شاء أمسكها لأن حال البائع بعد الفسخ كحال المشتري عند العقد والمشتري إذا وجد بها عيبا كان عند البائع ثبت له الخيار فكذلك البائع إذا وجد بها عيبا كان حدث عند المشتري وهذا لأنه إنما رضي بالفسخ على أن تعود إليه كما خرجت من يده وكذلك القاضي إنما قضى بالفسخ لدفع الضرر عن المشتري فينفذ قضاؤه بدفع الضرر على وجه لا يلحق الضرر بالبائع فإذا ظهر أنه كان حدث بها عيب عند المشتري تضرر البائع بهذا فلهذا ثبت له الخيار فإن ردها على المشتري انفسخ ذلك الفسخ وصار كأن لم يكن فبقي حق المشتري في المطالبة بالجزء الفائت وقد تعذر ردها فيرجع بحصة العيب من الثمن وإن لم يردها العبد حتى حدث بها عيب عنده لم يكن له أن يردها لأنه يمكنه من ردها لدفع الضرر عن نفسه فلا يكون له أن يلحق الضرر بالمشتري وفي الرد عليه بعد ما حدث بها عيب عنده إضرار بالمشتري ولكنه يرجع بنقصان العيب الذي حدث عند المشتري من الثمن كما كان يفعله المشتري قبل الفسخ إذا وجد بها عيبا وقد تعيبت عنده.(25/335)
فإن شاء المشتري أن يأخذها بعيبها الذي حدث عند العبد فله ذلك لأن تعذر الرد لمراعاة حق المشتري وربما يكون قبولها مع العيب أنفع له من الرجوع بحصة العيب من الثمن فإن أخذها ودفع الثمن إلى العبد رجع المشتري على العبد بنقصان العيب الأول من الثمن لأن ذلك الفسخ قد انفسخ بردها على المشتري فيكون حقه في الرجوع بنقصان العيب الأول من الثمن كما كان قبل الفسخ ولم يكن له أن يرجع بنقصان العيب الآخر لأنه قد رضي به حين قبلها مع علمه بذلك العيب ويمكنه من أن لا يقبلها وكذلك إن كان العيب الآخر جناية من العبد أو وطئها لأن جنايته على كسبه لا تلزمه أرشا والمستوفي بالوطء في حكم جزء من العين كالمستوفي بالجناية وإن كانت جناية من أجنبي أو وطئها فوجب العقر أو الأرش رجع العبد على المشتري بنقصان العيب الحادث عند المشتري من الثمن ولم يكن للمشتري أن يأخذ الجارية لحدوث الزيادة المنفصلة المتولدة في يد البائع بعد الفسخ وكما أن حدوث هذه الزيادة عند المشتري يمنع فسخ العقد حقا للشرع فكذلك حدوثها عند البائع بعد الفسخ وإذا تعذر ردها تعين حق البائع في الرجوع بحصة العيب.
ولو كان المشتري رد الجارية على العبد أولا بالعيب فقبضها العبد ثم وجد المشتري قد قطع يدها أو وطئها فلم يردها عليه بذلك حتى حدث بها عيب عند العبد فالمشتري بالخيار لأن المشتري لم يلزمه أرش ولا عقر بما فعله في ملك صحيح له فهو كحدوث العيب عنده بآفة سماوية وقد حدث بها عيب عند العبد فيخير المشتري إن شاء أخذها وأعطى العبد جميع الثمن ثم يرجع المشتري على العبد بنقصان العيب الأول من الثمن وإن شاء دفع إلى العبد نقصان العيب الذي حدث عنده من الثمن يعني في الجناية في الوطء إذا كانت بكرا حتى نقصها الوطء في ماليتها.(25/336)
ص -166- ... فإن كان المشتري وطئها وهي ثيب فلم ينقصها الوطء شيئا لم يرجع العبد على المشتري بشيء من الثمن ولم يرد العبد الجارية لأن المستوفي بالوطء وإن كان في حكم جزء فهو بمنزلة جزء هو ثمرة.
ألا ترى أن استيفاءه لم يوجب نقصانا في مالية العين والثمن إنما يقابل المالية فما لا يكون مالا لا يقابله شيء من الثمن فلا يتمكن العبد من الرجوع بنقصان العيب عند تعذر ردها عليه.
فإن قيل: أليس أنه لو علم بوطء المشتري إياها قبل الرد يكون له أن يقبلها ويجعل ذلك كالخيار فكذلك إذا علم به بعد الرد وقد تعذر ردها بالعيب الحادث عنده قلنا: امتناع الرد بسبب الوطء ليس لعين الوطء بل لدفع الضرر عن البائع ولأن الرد بالعيب بقضاء القاضي فسخ العقد من الأصل فتبين أن الوطء كان في غير الملك حتى لو رضي به البائع بالاسترداد ردها لأنه حينئذ لا يكون فسخا من الأصل وهذا المعنى لا يوجد في رجوع البائع على المشتري بنقصان العيب عند تعذر ردها عليه وكيف يرجع بنقصان العيب من الثمن ولا ثمن بمقابلة المستوفي بالوطء لأن ذلك ليس بمال.(25/337)
ولهذا لو علم المشتري أن البائع كان وطئها بعد ما باعها منه وهي ثيب لم يكن له خيار في ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يرجع عليه بشيء من الثمن وإن كان أجنبي قطع يدها عند المشتري أو وطئها فوجب العقر ثم ردها القاضي على العبد بالعيب الذي كان عنده ولم يعلم صنع الأجنبي ثم حدث بالجارية عيب عند العبد ثم اطلع على ما كان عند المشتري فإن الجارية ترد على المشتري لأنه تبين بطلان قضاء القاضي بالفسخ للزيادة المنفصلة من العين عند المشتري ويرد عليه معها نقصان العيب الذي حدث عند العبد من قيمتها لأنه ظهر أن العبد قبضها بحكم فسخ فاسد والمقبوض بفسخ فاسد كالمقبوض بعقد فاسد فيكون مضمونا بالقيمة بجميع أوصافه تلف بنفسه أو أتلفه البائع ثم يأخذ العبد الثمن من المشتري إن كان قد رده إليه ويرجع المشتري على العبد بنقصان العيب الأول لتعذر ردها بالعيب بسبب الزيادة المنفصلة.
وإن كان العيب الذي حدث بها عند العبد من فعل الأجنبي فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ذلك النقصان من العبد ورجع به العبد على الأجنبي وإن شاء أخذه من الأجنبي اعتبارا للمقبوض بفسخ فاسد بالمقبوض بعقد فاسد إذا جنى عليه أجنبي في يدي المشتري فإنها ترد على البائع ويتخير البائع في تضمين النقصان الجاني بالجناية أو المشتري بالقبض ثم يرجع المشتري به على الأجنبي فإن كان العبد البائع قتلها أو قتلها أجنبي في يد العبد فهو سواء ويأخذ المشتري من العبد قيمتها ولا سبيل له على الأجنبي لأن البائع ملكها بالقبض بفسخ فاسد وجناية الأجنبي إنما صادفت ملكه لا ملك المشتري ولا سبيل للمشتري على الأجنبي يأخذ قيمتها من البائع لتعذر رد عينها ثم يرجع العبد بالقيمة على الأجنبي لأنه أتلف ملكه(25/338)
ص -167- ... وهذا بخلاف الجناية فيما دون النفس لأن هناك استرداد الأصل لم يتعذر وقد بينا هذا الفرق في المقبوض بحكم شراء فاسد فكذلك المقبوض بحكم فسخ فاسد.
وإن كان العبد باعها بعد ما قبضهاالمشتري جاز بيعه لأنه ملكها بالقبض وإن كان الفسخ فاسدا فينفذ بيعه وعليه قيمتها يوم قبضها من المشتري وقيمتها كاسترداد عينها فيكون له أن يرجع على العبد بنقصان الأول من الثمن وكذلك لو كان المشتري ردها بهذا العيب على البائع بغير قضاء قاض أو كان ذلك بطريق الإقالة فهو فسخ في قول أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة الرد بالعيب وهذا الحكم كذلك في البيع والشراء إذا كانا حرين والله أعلم.
باب الخيار في بيع المأذون(25/339)
قال رحمه الله: والمأذون مثل الحر في حكم الخيار المشروط في البيع لأن اشتراط الخيار في البيع لدفع الغبن وحاجة العبد إليه كحاجة الحر وإذا باع المأذون متاعا أو اشتراه واشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام وعلى العبد دين أو لا دين عليه فنقض المولى البيع في الثلاثة بمحضر من الآخر لم يجر نقضه لأنه حجر خاص في إذن عام فإن هذا التصرف من العبد تناوله الإذن فالمولى يفسخ هذا التصرف عليه بحجر عليه من إمضائه بالإجازة والحجر الخاص مع قيام الإذن العام باطل كما أن استثناء تصرف من الإذن في التجارة عند ابتداء الإذن باطل وإن أجازه جاز إن لم يكن على العبد دين لأن الإجازة اتمام لتصرف العبد فإذا لم يكن على العبد دين فهو في حكم العقد متصرف للمولى لأن كسبه خالص ملك المولى فيعمل إجازة المولى كما يعمل إجازة الموكل لتفرق الوكيل مع خيار الشرط فإن كان عليه دين لم يجز إجازة المولى لأنه من كسبه كأجنبي آخر وهذا التصرف من العبد لنفسه فإن المقصود بتصرفه تصرفه لغرمائه والمولى في هذه الحالة منه كالأجنبي فلهذا لا تعمل إجازته فإن كان الخيار للمشتري مع العبد أو للبائع مع العبد فنقض صاحب الخيار البيع بحضرة المولى وعلى العبد دين أو لا دين عليه فنقضه باطل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أما إذا كان على العبد دين فلا إشكال فيه وإن لم يكن عليه دين فلان النقض تصرف في أصل العقد بالفسخ لا في حكم العقد والمولى في أصل السبب كأجنبي آخر وعند أبي حنيفة ومحمد فسخ من له الخيار بغير محضر من عاقده لا ينفذ وإن كان بمحضر من الأجنبي بخلاف الإجازة فالإجازة تصرف في الحكم بالإثبات أو التقرير والمولى في الحكم ليس كالأجنبي إذا لم يكن على العبد دين بل العبد بمنزلة النائب عنه.(25/340)