يتمكن فيه نوع شبهة من حيث إن أصل القتل كان هو الشجة والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات ولكن المال يثبت مع الشبهات وأصل المسألة في العفو وموضع بيانها كتاب الديات ولو كان صالحه عن ذلك وما يحدث منه كان الصلح ماضيا إن مات أو عاش لأن ما يحدث منه السراية يكون هو بهذا(21/16)
ص -10- ... اللفظ مسقطا حقه عن النفس بعوض والقصاص في النفس وإن كان يجب بعد الموت فإنما يجب بسبب الجناية وإسقاط الحق بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب صحيح وكذلك من الجناية صحيح إن عاش أو مات لأن اسم الجناية يعم النفس وما دونها حتى لو قال لا جناية لي قبل فلان ثم ادعى عليه النفس لم تسمع دعواه بخلاف ما لو قال لا شجة لي قبل فلان والصلح باسم الجناية يكون مسقطا حقه بريء أو سرى فإن كان مريضا صاحب فراش حين صالح فهو جائز في العمد وإن صالحه على عشرة دراهم لأنه أسقط ما ليس بمال ولو أسقطه بغير عوض بالعفو لم يعتبر خروجه من الثلث فإذا أسقط بالصلح ببدل يسير أولى وفي الخطأ ما حط يكون من الثلث لأن الواجب الدية وهو مال فيكون ما حط وصية من الثلث ولا يقال هي وصية القاتل لأن الدية في الخطأ على العاقلة فيكون هذا منه وصية لعاقلة قاتله وذلك صحيح من الثلث.(21/17)
وإذا قطع رجل أصبع رجل عمدا أو خطأ فصالحه منها على ألف درهم ثم شلت أصبع أخرى سواها فلا شيء له عليه في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه أسقط بالصلح موجب ذلك القطع وذلك يعم الأصبع الأولى والثانية وعند أبي حنيفة رحمه الله عليه أرش الأصبع الأخرى لأنه إنما أسقط بالصلح قصاصا واجبا في الأصبع فلا يتناول الصلح الأصبع الأخرى فيلزمه أرشها إلا أن هنا لا يتبين بهذه السراية إن الأصبع الأولى لم تكن مستحقة له فيبقى الصلح عنها صحيحا بخلاف الأول فإن هناك بالسراية إلى النفس يتبين أن الشجة لم تكن مستحقة له قصاصا فكان الصلح باطلا لأنه صالح من غير حقه وإذا كانت الشجة موضحة فصالحه منها على مائة درهم فصارت منقلة فلا يبقى عليه شيء عندنا لما قلنا وعند أبي حنيفة رحمه الله عليه ألف وأربعمائة درهم لأن المنقلة غير الموضحة والموضحة ما يوضح العظم ولا يؤثر فيه والمنقلة ما يكسر العظم وينقله من موضعه وهو إنما أسقط من موضحة موجبة له قصاصا وقد تبين أنها لم تكن حقا له وإنما كان حقه في المنقلة وأرش المنقلة عشر الدية وذلك ألف وخمسمائة استوفى من ذلك مائة فالباقي عليه ألف وأربعمائة.
رجل قتل عمدا وله ابنان فصالح أحدهمامن حصته على مائة درهم فهو جائز ولا شركة لأخيه فيها لأنه أسقط نصيبه من القود بعوض ولو أسقط بغير عوض جاز والمال عوض عن القصاص استحقه بالعقد وهو المباشرة للعقد فلا شركة لأخيه فيها باعتبار العقد ولا باعتبار الشركة في أصل القود لأن ذلك ليس بمال ثم كل ما يصلح أن يكون صداقا في النكاح يصلح أن يكون عوضا في الصلح عن القصاص لأنه مال يستحق عوضا عما ليس بمال بالعقد وعلى هذا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض وإن كان عينا كما يجوز التصرف في الصداق لأنه لم يبق في الملك المطلق للتصرف عذر حتى لا يبطل بالهلاك ولكن تجب قيمته وكذلك لو استحق العبد كان على القاتل قيمته لأن بالاستحقاق لا يبطل الصلح(21/18)
ص -11- ... ولكن تعذر استيفاء العبد مع قيام السبب الموجب له فتجب قيمته كما في الصداق وهذا لأن الصلح عن القود لا يحتمل الفسخ بالتراضى كالنكاح بخلاف الصلح عن المال وكذلك إن وجد به عيبا فاحشا فرده رجع بقيمته ولا يرده بالعيب اليسير كما في الصداق ولو كان العبد حرا كان على القاتل الدية لأولياء القتيل في ماله وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله عليه قيمته أن لو كان عبدا وأصل الخلاف في الصداق وقد بيناه في النكاح ولو اختلفا في العبد الذي وقع الصلح عليه كان القول فيه قول القاتل مع يمينه لأن القابل للقود سقط باتفاقهما وإنما تنازعا في المال المستحق على القاتل بمقابلته فالقول فيه قوله مع يمينه كما في الخلع بخلاف الصداق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فإن هناك يصار إلى تحكيم مهر المثل لأن صحة النكاح موجبة مالا وهو مهر المثل فعند الاختلاف في المسمى يصار إلى موجبه الأصلي وهنا ليس لسقوط القود بالعفو موجب من حيث المال فيكون هذا نظير الخلع.(21/19)
وإن كان القتل خطأ فصالحه أحدهما على مال كان لشريكه أن يشركه في ذلك لأن الواجب في الخطأ الدية وهو مال وجب مشتركا وصلح أحد الشريكين من الدين المشترك على شيء صحيح ولشريكه أن يشركه في ذلك ولو صالح أحدهما من نصيبه على عبد بعينه كان لشريكه أن يشركه في ذلك إلا أن يشاء المصالح أن يعطيه ربع الأرش ويمسك العبد كما في سائر الديون المشتركة إذا صالح أحدهما من نصيبه على عين وهذا لأنه يملك العبد بالعقد وهو في العقد عامل لنفسه فله أن يختص به ويعطي صاحبه ربع الأرش لأن ذلك أصل حقه فيما وقع الصلح عنه وهو نصف الأرش وإن شاء أبى ذلك وأعطاه نصف العبد لأن مبني الصلح على التجوز بدون الحق وهو يقول إنما توصلت إلى حقي لأني رضيت بدون حقي فعليك أن ترضى به أيضا وتأخذ نصف ما وقع عليه الصلح إن شئت وإلا فاتبع القاتل بحقك ولو صالحه من ذلك على عرض بغير عينه لم يجز لأن هذا العرض بمقابلة الدية يكون بيعا وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز وكذلك لو صالحه على موصوف من المكيل أو الموزون مؤجلا والمكيل والموزون إذا قوبل بالنقد يكون مبيعا ولو صالحه منه على عبد بعينه فاستحق أو مات قبل أن يقبضه رجع بنصف الأرش لأن هذا صلح عن مال على مال وهو محتمل للفسخ فبالاستحقاق أو الهلاك قبل التسليم يبطل الصلح.
وكذلك لو وجد به عيبا صغيرا أو كبيرا رده لأن المصالح عليه بمنزلة المبيع في الصلح عن المال فيرد بالعيب اليسير والفاحش وليس له أن يتصرف فيه قبل أن يقبضه كما في المبيع وكذلك لو صالح عن الجاني غيره بإقرار أو إنكار كما في الصلح عن سائر الديون ولو صالحه من دم العمد على سكنى دار أو خدمة عبد سنة جاز لأن المنفعة المعلومة يجوز استحقاقها عوضا في الصلح عن المال ففي الصلح عما ليس بمال أولى وقد بينا أن هنا العوض بمنزلة الصداق والسكنى والخدمة إذا كانت معلومة ببيان المدة تثبت صداقا في النكاح وإن صالحه(21/20)
ص -12- ... عليه أبدا أو على ما في بطن أمته أو على غلة نخله سنين معلومة أو أبدا لم يجز لأن هذا كله لا يثبت صداقا بالتسمية في النكاح فكذلك لا يستحق عوضا عن دم العمد في الصلح وهذا بخلاف الخلع وإنها لو اختلعت نفسها على ما في بطن أمتها صحت التسمية والفرق من وجهين أحدهما أن بالخلع المرأة لا تستحق شيئا هو متقوم ولكن يبطل ملك الزوج عنها والبضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم فكان التزامها بالوصية والإقرار وذلك صحيح مضافا إلى ما في البطن ولهذا لو اختلعت بمال في مرضها اعتبر من ثلثها كالوصية.
وأما الصلح عن القود فالقاتل يستفيد العصمة والمتقوم في نفسه ولهذا لو صالح في مرضه على قدر الدية اعتبر من جميع المال فكان المال عوضا عما هو متقوم في حق من التزمه فيكون نظير الصداق لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم فيكون الصداق عوضا عما هو متقوم في حق من التزمه والجنين لا يصلح عوضا في مثله يوضح الفرق أن أحد البدلين في الخلع وهو الطلاق يحتمل الإضافة فكذلك البدل الآخر والإيجاب في الجنين بمعنى المضاف إلى حال بعضها إذا جنى وهو وحده حقيقة لا يصير معلوما إلا عند ذلك فأما في الصلح فأحد البدلين وهو إسقاط القود لا يحتمل التعليق والإضافة بالشرط فكذلك البدل الآخر فلا يمكن تصحيحه في الجنس مضافا ولا يمكن تصحيحه في الحال لأنه غير معلوم الوجود والتقوم فكان كالصداق من هذا الوجه ثم على القاتل الدية لأن فساد التسمية لا يمنع سقوط القود كما أن فساد التسمية لا يمنع صحة النكاح وإذا سقط القود وجبت الدية لأن الولي ما رضي بسقوط حقه مجانا وقد صار مغرورا من جهة القاتل بما سمى له فيرجع عليه ببدل ما سلم له وهو العصمة والتقوم في نفسه وبدل النفس الدية ولو صالحه على ما في نخله من ثمرة جاز لأن الثمرة الموجودة تستحق صداقا وتستحق مبيعا فيجوز الصلح عليها أيضا بخلاف ما إذا صالح على ما يحمل نخله العام.(21/21)
ولو صالحه على أن عفى الآخر عن قصاص له قبل رجل آخر كان جائزا لأن كل واحد منهما أسقط حقه عما له من القود وكل واحد منهما متقوم صالح للاعتياض عنه فيجوز أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر وهذا بخلافه فإن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا لأن الشرط في الصداق أن يكون مالا قال الله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}[النساء: 24] والقصاص ليس بمال وهنا الشرط أن يكون ما يستحق بالصلح متقوما وذلك موجود في القصاص كما قررنا.
ألا ترى أنه لو صالح عن القود على أقل من عشرة دراهم يجوز وإن كان ما دون العشرة لا يستحق صداقا ولو قطع رجل يد رجل عمدا فصالحه على خمر أو خنزير أو على حر وهو يعرفه فهو عفو ولا شيء للمقطوعة يده لأنه أسقط حقه بغير عوض فالخمر والخنزير والحر ليس بمال متقوم فلا يكون هو باشتراطه طالبا للعوض عن إسقاط القود ولم يصر مغرورا من جهة القاطع فلا يرجع عليه بشيء كما في الخلع إذا خالع امرأته على خمر أو(21/22)
ص -13- ... خنزير أو حر وهذا بخلاف النكاح فإنه لو تزوجها على خمر أو خنزير أو حر كان لها مهر مثلها لأن استحقاق مهر المثل هناك باعتبار صحة النكاح لا باعتبار تسمية العوض حتى لو لم يسم شيئا وجب مهر المثل في الخلع والصلح عن دم العمد استحقاق البدل باعتبار تسمية البدل حتى لو لم يسم له شيئا كان العفو مجانا وعلى هذا التحقيق يتبين أنه لا فرق فإنا نجعل تسمية الخمر والخنزير وجودها كعدمها في المواضع كلها وهذا لأنه يتملك الزوج بالنكاح ما هو متقوم مصون عن الابتذال فلا يملك إلا بعوض إظهارا لخطره وهنا من له القود يسقط القود ولا يملك القاتل شيئا وإسقاط القود غير مصون عن التبذل فلهذا لا يجب المال إلا باعتبار تسمية عوض هو مال متقوم.
وكذلك لو صالح على أن يقطع رجله فهذا عفو مجانا لأنه لو لم يسم عوضا مالا هو متقوم فكان ذكره والسكوت عنه سواء ولو كان القتل خطأ كان عليه الدية لأن هذا صلح من مال فيكون كسائر صلح الديون إذا بطل بقي المال واجبا كان هو الدية ولوكان قتل عمد فصالح عنه رجل على ألف درهم ولم يضمنها له لم يكن عليه شيء لأنه متبرع بالصلح فلا يلزمه المال إلا بالتزامه والتزامه بالضمان أو بإضافة البدل إلى نفسه أو مال نفسه فإذا لم يوجد ذلك توقف على إجازة القاتل ليكون المال عليه إذا أجاز كما في الخلع وإن كان القاتل هو الذي أمره بذلك كان البدل على القاتل لأن المصالح معبر عنه.(21/23)
ألا ترى إنه لا يستغني عن إضافة العقد إليه فهو نظير الخلع ولو صالحه عنه على عبد له ولم يضمن له خلاصه جاز لإضافة الصلح إلى مال نفسه وقدرته على تسليم بدل الصلح فإن استحق العبد لم يرجع عليه بشيء لأنه ما ضمن له شيئا التزمه في ذمته وإنما التزم تسليم العين فيكون حكم الالتزام مقصورا على العين في حقه فإذا عجز عن تسليمه بالاستحقاق لم يلزمه شيء ولكن يرجع على القاتل بقيمته إن كان أمره بذلك لأن عند استحقاق العين بدل الصلح هو القيمة دينا فيكون على الأمر دون المأمور كالألف المسمى وإن كان المصالح تبرع بالصلح عليه وضمن له خلاصه ثم استحق رجع عليه بقيمته لأنه صير نفسه زعيما والزعيم غارم وعند الاستحقاق بدل الصلح قيمته وقد ضمنه فيكون مطالبا بإيفائه كما لو صالحه على ألف درهم وضمنها له فإن قيل كيف يضمن القيمة وهو إنما ضمن له خلاص العبد قلنا التزامه بالضمان إنما يصح باعتبار وسعه والذي في وسعه خلاص المالية بتسليم العين إن أمكن أو بتسليم قيمته إن استحق وهو نظير الخلع في جميع ما ذكرنا.
وللأب أن يصالح عن دم عمد واجب لابنه الصغير أو المعتوه على الدية لأنه متمكن من استيفاء القود الواجب لولده في النفس وما دون النفس كهو في حق نفسه لأن الولد جزء منه وولايته عليه فيما يرجع إلى استيفاء حقه ولاية كاملة تعم المال والنفس جميعا بمنزلة ولايته على نفسه فإذا جاز له أن يستوفي القود جاز صلحه بطريق الأولى لأن المقصود باستيفاء القود تشفى الغيظ وذلك يحصل للصبي في الثاني إذا عقل وإذا صالح على الدية(21/24)
ص -14- ... تصل إليه منفعة في الحال ثم هو بالصلح يجعل ما ليس بمال من حقه مالا فيتمحض تصرفه نظير الصبي وإن حط عنه شيئا من الدية لم يجز ما حط قل ذلك أو كثر لأنه فيما حط مسقط لحقه غير مستوف له ولاية الاستيفاء في حق الصغير وهذا بخلاف البيع فإنه لو باع ماله بغبن يسير جاز لأن البدل في البيع غير مقدر شرعا والقيمة تعرف بالحزر والظن والمقومون يختلفون فيها ففي الغبن اليسير لا يتيقن بترك النظر فيه بإسقاط شيء من حقه وهنا الدية مقدرة شرعا فإذا نقص عن المقدر شرعا فقد أسقط من حقه شيئا تيقن وذلك غير صحيح منه فعلى القاتل تمام الدية قال وكذلك الوصي فيما دون النفس له أن يستوفي وأن يصالح لأن ما دون النفس سلك به مسلك الأموال حتى تعتبر فيه المساواة في البدل ويقضي عنه بالنكول عند أبي حنيفة رحمه الله كما في الأموال.
وللوصي ولاية التصرف في مال اليتيم استيفاء فكذلك فيما يسلك به مسلك الأموال فأما في النفس فليس للوصي أن يستوفي القود رواية واحدة لأن ولاية الوصي ولاية قاصرة تثبت في المال دون النفس والقصاص في النفس ليس بمال حقيقة ولا حكما فيكون الوصي في استيفائه كأجنبي آخر كما في التزويج وهذا لأن القصاص في النفس عقوبة تندرئ بالشبهات فالمستحق به محل هو مصون عن الابتذال من كل وجه وفي ولاية الوصي شبهة القصور فلا يتمكن به من استيفاء ما يندرئ بالشبهات بخلاف الأب وبخلاف القصاص في الطرف لأنه لا يندرئ بكل شبهة ولهذا حرز أبو حنيفة رحمه الله فيه القضاء بالنكول فإن المستحق به محل غير مصون عن الابتذال وقد قدرنا ذلك في الدعوى فيمكن الوصي الاستيفاء مع قصور ولايته وليس للوصي أن يصالح من القصاص في النفس على الدية في رواية هذا الكتاب.(21/25)
وقال في الجامع الصغير: والديات للوصي أن يصالح من النفس على الدية وجه هذه الرواية إنه لا يملك استيفاء القود بولايته وإنما يملك الإسقاط بعوض من يكون متمكنا من الاستيفاء ووجه الرواية الأخرى أن في الصلح اكتساب المال للصبي والوصي منصوب لاكتساب المال بخلاف استيفاء القود فهو ليس من اكتساب المال في شيء وبخلاف التزويج فهو غير مشروع لاكتساب المال بل لتمليك البضع وهو مصون عن الابتذال توضيحه إن القصاص ليس بمال للحال وهو مال في المآل فلا يملكه الوصي وفي الصلح تحقيق ما هو المطلوب في المآل وهو المال فيملكه الوصي ولا يبعد أن يكون حكم الصلح على المال مخالفا لحكم استيفاء القود.
ألا ترى أن الموصي له بالثلث لا حق له في القود استيفاء ويثبت حقه إذا وقع الصلح عن القود في المال فهذا مثله وإن كان دم عمد بين ورثة فيهم الصغير والكبير فله أن ينفرد باستيفاء القود عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليس له ذلك وفي مثله الديات فإن صالح عن الدية فصلحه جائز أما عند أبي حنيفة فلا يتمكن من استيفاء نصيب الصغير من(21/26)
ص -15- ... القود فيتمكن من إسقاطه بالصلح على الدية كما في الأب وعندهما صلحه عن نصيب نفسه صحيح بمنزلة عفوه وبه ينقلب نصيب الصغير مالا وهو حصته من الدية لتعذر استيفاء القود عليه ولو قتل رجل عمدا ولا ولي له غير الإمام فللإمام أن يستوفي القود في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله فأبو يوسف رحمه الله يجعل الإمام في استيفاء القود كالوصي لأن ثبوت ولايته بالعقد وهو التقليد كثبوت ولاية الوصي وهما يجعلان الإمام فيما هو حق للمسلمين كالأب في حق ولده الصغير لأن ولايته ولاية متكاملة تعم المال والنفس والمسلمون يعجزون عن الإجماع للاستيفاء كالصغير ويجوز للإمام أن يصالح على الدية بالاتفاق أما عندهما فلأنه يملك الاستيفاء فيملك الإسقاط بالصلح على الدية ومنفعة المسلمين في هذا أظهر منه في استيفاء القود وعند أبي يوسف رحمه الله لم يجب القصاص بهذا القتل لانعدام المستوفي فيكون الواجب هو الدية وللإمام ولاية استيفائه لأنه حق جماعة المسلمين.(21/27)
وذكر حديث وهب بن كيسان أن عبد الله بن عمر قتل يزدان في تهمة له في دم عمر فقال علي لعثمان رضي الله عنهما أقتل عبيد الله به فقال عثمان رضي الله عنه قد قتل أبوه بالأمس وإنما استحيى أن يقتل أبوه وأقتله هذا اليوم لا أفعل هذا رجل من أهل الأرض قتل وأنا وليه وأعفو عن هذا وأؤدي ديته فذلك دليل جواز صلح الإمام عن القود على الدية في حق من لا وارث له وإذا قتل الحر والعبد رجلا فوكل الحر ومولى العبد رجلا بالصلح فصالح ولي الدم عنهما على ألف درهم فعلى الحر نصف الألف وعلى مولى العبد نصفها لأن الوكيل نائب عنهما فصلحه كصلحهما وهذا لأن الصلح اعتياض عن الجناية وهما في الجناية وفي موجبها سواء يعني الحر عن نفسه والمولي عن عبده فيستويان فيما يلزمهما من العوض وإذا قتل العبد رجلا وله وليان فصالح مولاه أحدهما عن نصيبه من الدم على العبد فالصلح جائز ويقال للذي صار له العبد ادفع نصفه إلى شريكك أو أفده بنصف الدية على أن يسلم لك العبد لأن المصالح أسقط نصيبه من القود بعوض وهو العبد فصح ذلك ثم تعذر على الآخر استيفاء القود فانقلب نصيبه مالا وعند انقلاب نصيبه مالا العبد في ملك المصالح فهو المخاطب بدفع نصف العبد إليه أو الفداء بنصف الدية لأن نصيبه حين انقلب مالا كان لجناية الخطأ من العبد يتعلق برقبته ويخاطب مولاه بالدفع أو الفداء وليس للعبد الآخر أن يضمن مولى العبد شيئا لأنه ما استحق مالا في ملكه وإنما استحق المال في ملك المصالح وحقه قائم لم يفوته المولي عليه فلهذا لا يضمن له شيئا ولو صالحه على عبد آخر مع ذلك لم يكن له في العبد الآخر حق لما بينا أن المصالح إنما أسقط حقه من القود بعوض فلا يكون للآخر أن يشاركه في العوض فإنما يثبت حقه في نصيب العبد الجاني لا بالصلح ثم يتعذر استيفاء القود منه وذلك غير موجود في العبد الآخر.
ولو صالحه على نصف العبد القاتل جاز وصار العبد بين المولي والمصالح نصفين ثم(21/28)
ص -16- ... انقلب نصيب الآخر مالا واستحق به نصفا شائعا من العبد في النصفين جميعا فيدفعان نصفه إلى الولي الآخر أو يفديانه بنصف الدية ولو صالحه على دراهم أو شيء من المكيل أو الموزون حالا أو مؤجلا فهو جائز ولا حق للآخر في ذلك لأن العاقد في الصلح عاقد لنفسه ولكنه يتبع العبد القاتل حتى يدفع إليه مولاه نصفه أو يفديه بنصف الدية لأن نصيبه انقلب مالا وهو في ملك مولاه على حاله والأمة والمدبرة وأم الولد في الصلح عن قتل العمد سواء لأن الواجب عليهم القود والمنفعة في الصلح للمولي من حيث إن كسبهم يسلم له وإذا قتل العبد رجلا خطأ فصالح المولي ولي الدم من ذلك على أقل من الدية أو على عروض أو على شيء من الحيوان بعينه فهو جائز ولشركائه أن يشاركوه في ذلك المال بمنزلة ما لو كان القاتل حرا وصالحه بعض الأولياء وهذا لأن أصل الواجب بقتل العبد ما هو الواجب بقتل الحر وهو الدية فإنه بدل المتلف إلا أن المولي يتخلص بدفع العبد إن شاء وكيف ما كان فهو مال مشترك بينهم.(21/29)
وإذا صالح أحد الشركاء عن الدين المشترك كان للباقين حق المشاركة معه فيه وإذا قتلت الأمة رجلا خطأ وله وليان ثم ولدت الأمة ابنا فصالح المولي أحد الوليين على أن يدفع إليه بن الأمة بحقه في الدم فهو جائز وللآخر على المولي خمسة آلاف درهم لأن حق أولياء الجناية لا يثبت في ولدها لما عرف أن هذا ليس بحق متأكد لهم في عينها فصلح إحداهما على ولدها كصلحه على عبد آخر له وذلك منه بمنزلة اختيار الفداء واختيار الفداء في نصيب أحدهما يكون اختيارا في نصيب الآخر لأن الجناية واحدة فلا تتجزأ في اختيار الفداء ولو صالحه على أن يدفع إليه ثلث الأمة لحقه من الدم كان جائزا أو يدفع إلى شريكه نصف الأمة أو يفديه بنصف الدية فلم يجعل اختياره الدفع في البعض اختيارا في الكل في رواية هذا الكتاب وفي رواية الجامع والعتق في المرض قال اختياره في الدفع في نصيب أحدهما يكون اختيارا في نصيبهما كما في الفداء وتلك الرواية أصح وتأويل ما ذكر هنا إن أحدهما صالحه على ثلث الأمة وذلك دون حقه فمن حجة المولي أن يقول للآخر إنما اخترت الدفع في نصيبه لأنه تجوز بدون حقه وأنت لا ترضى بذلك فلا يلزمني بذلك تسليم جميع حقك إليك من الأمة ولكن في الحال في نصيبك حتى لو كان صالح أحدهما على نصف الأمة كان اختيارا منه الدفع في نصيب الآخر وما سوى هذا من الكلام فيه قد بيناه في إملاء شرح الجامع.
وإن قتل المدبر قتيلا عمدا فصالح عنه مولاه بألف درهم وهي قيمته جاز لأن المولي من مدبره كان بمنزلة الحر في نفسه فيصح منه التزام العوض عن القود المستحق عليه وإن قتل آخر خطأ فعلى مولاه قيمة أخرى بخلاف ما إذا كانت جنايته الأولى خطأ من قتل فإن في الخطأ المستحق نفس المملوك على المولي دفعا بالجناية وبالتدبير السابق صار مانعا دفع الرقبة على وجه لم يصر مختارا فيلزمه القيمة وهو ما منع إلا رقبة واحدة فلا يلزمه باعتباره إلا(21/30)
ص -17- ... قيمة واحدة فأما هنا فالمستحق بالجناية الأولى نفس العبد قودا والمولي بالتدبير غير مانع استيفاء القود منه فإنما لزمه المال بالتزامه بالصلح وهو سبب آخر سوى منع الرقبة فلا يؤثر ذلك فيما يلزمه بسبب منع الرقبة بالتدبير.
ولأن حق ولي الخطأ لا يثبت في بدل الصلح فلا بد من إثباته في القيمة على المولي وإذا كانت الجنايتان خطأ فحق الثاني يثبت في الجناية الأولى لاتحاد سبب استحقاقهما للقيمة وهو منع الرقبة بالتدبير السابق فلا يجب على المولي شيء آخر فإن صالح المولي الآخر على عبده ودفعه إليه ثم قتل آخر خطأ فولي الدم الآخر يتبع الذي أخذ العبد حتى يدفع إليه نصفه أو نصف قيمة المدبر لأن القيمة صارت مشتركة بينهما وقد صالح أحدهما عن جميعه على عبد وأحد الشريكين في الدين إذا صالح عن جميع الدين على عبد فللآخر أن يرجع عليه بنصف الدين إلا أن يختار المصالح دفع نصف العبد إليه وقد بينا معنى هذا الخيار فيما سبق وإذا كان ذلك بقضاء قاض أو بغير قضاء فهو سواء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وكذلك في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان بقضاء قاض وإن كان بغير قضاء فلولي الدم أن يتبع المولي بنصف قيمة العبد المدبر ويرجع المولي على المصالح بنصف العبد الذي دفع إليه إلا أن يعطيه نصف قيمة العبد المدبر والخيار فيه إلى الذي في يده العبد وأصل هذا فيما إذا كان دفع القيمة إلى الأول بغير قضاء قاض وهي مسألة كتاب الديات نبينها ثمة إن شاء الله تعالى وقيل ينبغي أن يكون الجواب هنا قولهم في الفرق بين قضاء القاضي وغير القضاء لأن الصلح وقع على خلاف الحق وهما يسويان بين القضاء وغير القضاء فيما إذا وقع إلى الأول عين الواجب وما يقضي به القاضي لو رفع الأمر إليه وهذا موجود هنا ولو كان لم يصالحه على العبد ولكن القاضي قضى له بالقيمة فاشترى به العبد ثم قتل آخر فإنه يكون له على المشتري نصف المدبر ولا خيار للمشتري في ذلك ولا(21/31)
ضمان على البائع فيه لأن القاضي قضي بالقيمة للأول فيتعينحق الثاني فيما قضي به القاضي للأول فلهذا لا ضمان على البائع كما لو كان دفع القيمة إلى الأول بقضاء قاض ثم على المشتري نصف قيمة المدبر هنا من غير خيار له في ذلك بخلاف ما إذا أخذ العبد بطريق الصلح لأن مبني الشراء على الاستقضاء فيصير به في معنى المستوفي بجميع القيمة فيرجع الآخر عليه بنصفه ومبنى الصلح على الإغماض عفو فقد رضي بدون حقه حين أخذه صلحا فلهذا يكون له الخيار بين أن يعطي الآخر نصف ما قبضه صلحا وبين أن يغرم له نصف قيمة المدبر.
وتوضيحه إن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه بل بمثله ثم يصير قصاصا ولهذا لو صح الشراء بالدين المظنون فصار هو بطريق الشراء مستوفيا قيمة المدبر بالمقاصة فيلزمه دفع نصفها إلى الثاني والصلح يتعلق بالدين المضاف إليه ولهذا لو صالح عن الدين المظنون ثم ظهر أنه لا دين يبطل الصلح إذا لم يرض المصالح به فهو بطريق الصلح لا يصير مستوفيا إلا للعبد فلهذا كان له الخيار بين أن يدفع نصف العبد إلى الثاني وبين أن يغرم له نصف القيمة(21/32)
ص -18- ... وإذا قتل المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر خطأ فعلى مولاه قيمته بينهما أثلاثا لأن حق صاحب العين في نصف الدين وحق ولي الدم في جميع الدية وعلى المولي قيمة واحدة فيضرب كل واحد منهما فيها بمقدار حقه فإن صالح المولي صاحب العين على مائة درهم وقيمته ستمائة فالمسئلة على ثلاثة أوجه.
أحدها أن يصالح على مائة ويبرئه عن المائة الأخرى قبل القبض والقسمة والثالث أن يبرئه عن المائة الأخرى بعد القبض قبل القسمة أما إذا قبض المائة ولم يبرئه عن المائة الأخرى فإنهما يقسمان هذه المائة أثلاثا على مقدار حقهما فإن إبراءه عن المائة الأخرى بعد القسمة لا يتغير بتلك القسمة لأن جميع حقه كان ثابتا عن القبض والقسمة فبالإسقاط بعد ذلك لا تبطل القسمة كمن مات وعليه لرجل ألف درهم وللآخر ألفا درهم وترك ألف درهم فاقتسما ها أثلاثا ثم أبرأه أحدهما عن بقية دينه وأما إذا صالح على المائة وأبرأه عما بقي قبل القبض والقسمة فهذه المائة تقسم بينهما أخماسا خمسها لصاحب العين وأربعة أخماسها لولي الدم لأن القيمة الواجبة وهي ستمائة كانت بينهما أثلاثا لولي الدم أربعمائة ولصاحب العين مائتان فحق صاحب العين بقي في مائة لأنه أسقط حقه في المائة فإنما يقسم المقبوض بينهما على قدر حقهما عند القبض وعند القبض حق ولي الدم أربعمائة وحق صاحب العين في مائة فإذا جعلت كل مائة بينهما كان قسمة المقبوض بينهما أخماسا فأما إذا قبض المائة ثم أبرأه عن المائة الأخرى قبل القسمة ففي قول أبي يوسف رحمه الله تقسم هذه المائة بينهما أثلاثا لأن قسمة المقبوض بينهما باعتبار القبض وعند ذلك حق صاحب العين في مائتين فوجب قسمة المقبوض بينهما أثلاثا ثم الإبراء في ذلك لا يغير الحكم الثابت في المقبوض كما لا يغير في المقسوم وهذا لأن صاحب العين قد تم استيفاؤه في مقدار نصيبه من المقبوض قسم بينهما أو لم يقسم فإنما يظهر حكم إبرائه فيما بقي ثم رجع فقال لصاحب العين خمس(21/33)
المقبوض لأن القسمة تكون على مقدار القائم من حق كل واحد منهما وقت القسمة وعند القسمة حق صاحب العين في المائة وحق الآخر في أربعمائة كان هذا والإبراء قبل القبض في المعنى سواء وهو قول محمد رحمه الله ولو لم يقض لهما بشيء حتى صالحهما على عبد ودفعه إليهما كان العبد بينهما على ثلاثة لأنه بدل ما استوجباه من القيمة وحكم البدل حكم المبدل ولو استوفيا القيمة اقتسماه أثلاثا فكذلك إذا صالحهما على العبد وأم الولد بمنزلة المدبر في حكم الجناية لأن المولي أحق بكسبها وقد صار مانعا دفع رقبتها بالاستيلاد السابق على وجه لم يصر مختارا وكانت بمنزلة المدبر في ذلك.
وإذا قتل المدبر رجلا خطأ وفقأ عين آخر فصالحهما المولي على عبد دفعه إليهما فاختلفا فقال كل واحد منهما أنا ولي الدم فعلى كل واحد منهما البينة لأن كل واحد منهما يدعي الزيادة في المستحق من القيمة على المولي لنفسه فإن لم تقم لهما بينة فالعبد بينهما نصفان لاستوائهما في سبب استحقاقه فكل واحد منهما في احتمال إنه ولي الدم مثل صاحبه فإن(21/34)
ص -19- ... قال مولي المدبر لأحدهما أنت ولي القتل فالقول قوله مع يمينه لأن استحقاق القيمة عليه وقد أقر لأحدهما بالزيادة وإقرار المرء في المستحق عليه مقبول وقد أنكر حق الآخر في الزيادة فالقول قوله مع يمينه وإذا أقر المدبر بقتل فإقراره جائز بإقرار القن لأن المستحق نفسه قصاص وهو خالص حقه والتهمة منتفية عن إقراره لما يلحقه من الضرر في ذلك فإن صالح مولاه عنه أحد وليي الدم على ثوب فهو جائز وللآخر نصف قيمة المدبر على المولي إن قامت له بينة أو أقر المولي بذلك وإن لم تقم له بينة لم يكن له شيء لأن المولي بالإقدام على الصلح لم يصر مقراً.
ألا ترى أن دعوى القصاص لو كانت عليه لرجلين فصالح أحدهما مع الإنكار لا يصير بهذا الصلح للآخر بشيء وإقرار المدبر في استحقاق المال بجنايته غير مقبول لأن ذلك إقرار على المولي وبعد ما صالح أحدهما المستحق للآخر حصته من المال فلا يثبت ذلك بإقرار المدبر ما لم يقر المولي بذلك أو يقيم عليه البينة وإذا قطعت المرأة يد رجل عمدا فصالحها من الجراحة على أن يتزوجها فالنكاح جائز فإن أبرأه من ذلك فهو أرش ذلك لأن القصاص لا يجري بين الرجال والنساء فيما دون النفس فإن برأ تبين أن الواجب له عليها خمسة آلاف وذلك مال يصلح أن يكون مهرا وكان ذلك مهرها وإن مات من ذلك فلها مهر مثلها وعليها الدية في مالها في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه تبين أن الواجب له عليها القصاص والقصاص لا يصلح أن يكون صداقا لأنه ليس بمال فكان لها مهر مثلها لذلك.(21/35)
ثم التزويج على اليد والضربة أو الجراحة أو القطع بمنزلة الصلح وقد بينا أن في الصلح بهذه الألفاظ يتبين بطلان الصلح بالسراية عند أبي حنيفة رحمه الله وفي القياس يجب القصاص وفي الاستحسان تجب الدية وعندهما الصلح صحيح فها هنا كذلك عندهما القود ساقط ولا شيء عليها وعند أبي حنيفة رحمه الله عليها الدية في مالها استحسانا لأن العاقلة لا تعقل العمد وإن كان القتل خطأ فالدية على عاقلتها عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه سمى اليد في التزويج وبين أن حقه كان في النفس فلهذا كانت الدية على عاقلتها عند أبي حنيفة رحمه الله وليس لها منه شيء لأنها قاتلة ولا ميراث للقاتل وإن كان تزوجها على الجناية وهي عمد ثم مات فقول أبي حنيفة رحمه الله هنا كقولهما أن القود يسقط لأن اسم الجناية يتناول النفس وما دونها ولها مهر مثلها لأن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا وكذلك لو قال علي الضربة وما يحدث منها أو الجراحة وما يحدث منها وإن مات من ذلك وهو خطأ فإنه يدفع عن عاقلتها مهر مثلها من ذلك لأن التسمية صحيحة باعتبار أن المسمى مال وهو الدية وقد تناوله لفظة بدل النفس وما دونه إلا إذا كان مهر مثلها ألفا فما زاد على ذلك لا يستحقه لأنه صاحب فراش فالزيادة على قدر مهر المثل بمنزلة الوصية منه لها والوصية منه لها وصية لقاتل فالمستحق لها مقدار مهر مثلها يدفع عن العاقلة من ذلك بقدر ثلثه لأن ذلك وصية منه لعاقلتها على ما بينا أن الدية على العاقلة فيصح بقدر الثلث ولا ميراث لها لأنها قاتلة(21/36)
ص -20- ... وإن طلقها قبل الدخول أخذ من عاقلتها نصف الدية لأن نصف المسمى سقط بالطلاق قبل الدخول ونظر إلى النصف الباقي فيرجع منه عن عاقلتها نصف مهر مثلها لأن الاستحقاق لها في مقدار مهر المثل صحيح وبقي نصف ذلك لها بعد الطلاق ولا تعقل العاقلة عنه لها فيدفع ذلك عنهم ثم ينظر إلى ثلث ما ترك الميت ويدفع ذلك عن العاقلة لأنه كان موجبا بذلك لعاقلتها فتعتبر من الثلث وتؤدي العاقلة ما بقي بعد ذلك فيكون لورثته.(21/37)
ولو أن رجلا جرح رجلا جراحة عمدا فتزوجت أخت الجارح المجروح على أن مهرها الجراحة على أن ذلك لها خاصة دون أختها فالنكاح جائز وإن بريء فهو عفوولها مهر مثلها على الزوج لأن الواجب هو القصاص وقد صار المجروح مسقطا لحقه بهذه التسمية إلا أن القصاص لا يصلح أن يكون صداقا فكان لها مهر مثلها على الزوج وإن كانت الجراحة لا يستطاع فيها القصاص أو كان ذلك خطأ فأرش ذلك مهرها في مال الزوج لأن الأرش مال يصلح أن يكون صداقا فتصح التسمية وإن كان ذلك دينا للزوج في ذمة الجارح ولكن الصداق يجب في ذمة من ثبت له الملك وهو الزوج دون الجارح وإن اشترطت العفو عن أخيها والبراءة له فلها مهر مثلها وأخوها بريء منه لأن الصداق لا يصير مملوكا لها بالتسمية فالعفو عن أختها والبراءة له لا يوجب الملك لها في شيء فيجعل في حقها كأنه تزوجها من غير تسمية المهر فلها مهر مثلها وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة وقد بريء أخوها بإبراء المجروح إياه في النكاح وإن كانت اشترطت أن تأخذ لنفسها فهو جائز فإن شاءت أخذته من الأخ وإن شاءت رجعت به على الزوج لأن المسمى مال يملكه بهذه التسمية فتصح التسمية وقد شرطت أن تأخذ ذلك من الجارح ولا بد من أن يجب الصداق بالنكاح على الزوج فإن شاءت أخذته من الزوج لصحة النكاح والتسمية وإن شاءت أخذته من الأخ بالشرط كما لو تزوجها على ألف درهم على أجنبي وضمن الأجنبي ذلك وإن طلقها قبل الدخول رجعت بنصف ذلك على أيهما شاءت لأن عند صحة التسمية يتنصف المسمى بالطلاق قبل الدخول.(21/38)
ولو شجت امرأة رجلا موضحة فصالحها على أن تزوجها على هذه الجناية فذهبت عيناها من ذلك فذلك كله مهرها لأن الواجب هو الأرش وقد بينا أن اسم الجناية يعم أصل الفعل والسراية فيكون ذلك كله مهرا لها وإن طلقها قبل الدخول تنصف ذلك كله ويرجع عليها بنصف أرش ذلك وإن كان ذلك عمدا ففي مالها وإن كان خطأ فعلى عاقلتها وإذا جرح الزوج امرأته عمدا فصالحته على أن اختلعت منه بذلك الجرح فذلك جائز إن برأت من ذلك لأنها سمت في الخلع ما هو حقها وإن ماتت فكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعند أبي حنيفة رحمه الله عليه الدية لأنها سمت ما ليس بحق لها فلا تصير هي مسقطة بهذه التسمية شيئا عن الزوج فيجب عليه الدية استحسانا ولا شيء له عليها من مهر المثل لأن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم وهي لم تغره في شيء فهو وما لو خالعها على خمر أو خنزير سواء بخلاف النكاح وقد بيناه.(21/39)
ص -21- ... وإن طلقها على ذلك طلقة ثم ماتت من ذلك فعليه الدية في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا وهو يملك الرجعة لأن الطلاق وقع بغيرجعل حين سمت ما لم يكن حقا لها وصريح لفظ الطلاق إذا كان بغير جعل لا يوجب البينونة بخلاف ما إذا كان بلفظ الخلع كما لو كان المسمى خمرا أو خنزيرا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ليس عليه دية والطلاق رجعي أيضا لأن المسمى بمقابلة الطلاق قصاص والقصاص ليس بمال فلا تقع البينونة باعتباره وإن طلقها على الجناية أو الجرح وما يحدث منه فماتت وهو عمد فهو جائز والطلاق رجعي لأنه مثل العفو عن القصاص وذلك ليس بمال فإن قيل العفو عن القصاص متقوم حتى يصلح أن يكون بدلا في الصلح عن القصاص على ما بينا وإذا كان لكل واحد منهما على صاحبه قصاص فاصطلحا على أن عفى كل واحد منهما عن صاحبه جاز ذلك فكذلك يصلح أن يكون بدلا عن الطلاق فينبغي أن يكون الطلاق ثابتا قلنا وقوع البينونة عند صريح لفظ الطلاق باعتبار ملك الزوج ما له عليها وذلك لا يوجد هنا لأن العفو إسقاط والمسقط يصلح بدلا في الصلح عن دم العمد ولكن الطلاق لا يصير بائنا باعتبار الإسقاط إذا لم يكن فيه معنى التمليك.(21/40)
كما لو كان تحت رجل امرأة وأمته تحت عبدها فطلق امرأته على أن طلق عبدها أمته فإن كل واحد من الطلاقين يكون رجعيا باعتبار هذا المعنى وإن كان الفعل خطأ فالدية على عاقلته ويرجع عليهم بالثلث من تركتها لأنها سمت المال والمريضة إذا اختلعت من زوجها بمال يعتبر ذلك من الثلث وذلك وصية منها لعاقلة الزوج فيكون صحيحا ويؤخذ منهم الباقي والطلاق بائن لأنه وقع بجعل ولا ميراث له لأنه قاتل وإذا جرح الرجل امرأة رجل خطأ فصالحها زوجها على أن طلقها واحدة على أن عفت له عن ذلك كله ثم ماتت منه فالعفو من الثلث لأنها سمت بمقابلة الطلاق ما هو ماله وهو الدية على عاقلة الجارح فيكون ذلك معتبرا من الثلث سواء كان بطريق الإسقاط أو التمليك والطلاق بائن لأنه وقع بمال إن كان عمدا فهو جائز كله والطلاق رجعي لأن الواجب هو القود والقود ليس بمال فلا يعتبر عفوها من الثلث وتسميته لا يثبت البينونة كالخمر.
ولو ضرب رجل سن امرأته فصالحها من الجناية على أن طلقها فهو جائز والطلاق بائن لأن الواجب مال فتسميته بمقابلة الطلاق يوجب البينونة اسودت السن أو سقطت سن ذلك من أخرى فلا شيء عليه لأن اسم الجناية يتناول الكل وإذا قتل المكاتب رجلا عمدا فصالح من ذلك على مائة درهم فهو جائز ما دام مكاتبا لأن المكاتب أحق بمكاسبه وهو بمنزلة الحر في صرف كسبه إلى إحياء نفسه بطريق الصلح عن القود فإن أدى فعتق فالمال لازم له لأن الكسب خلص بالعتق وإن عجز رد رقيقا فبطل المال عنه لأن بعد العجز الحق في كسبه ومالية رقبته لمولاه وقوله في استحقاق المالية على المولي لا يكون حجة فإن أعتق يوما من الدهر لزمه المال لأن التزامه في حق نفسه صحيح وإنما امتنعت صحته في حق المولي فإذا سقط(21/41)
ص -22- ... حق المولي كالعتق كان مطالبا به كالعبد إذا كفل بمال أو أقر به على نفسه وهو محجور عليه وزفر رحمه الله يخالفنا في هذا الفصل وموضع بيانه في كتاب الديات ولو صالح من ذلك على شيء بعينه له كان جائزا لأن المسمى كسبه وهو يملك صرفه إلى إحياء نفسه فإن كان الذي صالح عليه عبدا وكفل به كفيل فمات العبد قبل أن يدفعه كان لولي الدم أن يضمن الكفيل قيمته لأن بموت العبد لم يبطل الصلح وقد تعذر تسليم المسمى مع بقاء السبب الموجب له فتجب القيمة إن شاء رجع بهذه القيمة على المكاتب وإن شاء على الكفيل لأن بدل الصلح عن دم العمد مضمون بنفسه كالمغصوب فالكفيل به يكون كفيلا بقيمته بعد الهلاك وإذا كان العبد قائما فله أن يبيعه قبل أن يقبضه لأنه مضمون بنفسه فيجوز التصرف فيه قبل القبض كالصداق.(21/42)
ولو صالحه من ذلك على مال مؤجل والقتل يثبته وكفل به كفيل ثم عجز ورد رقيقا لم يكن للطالب أن يأخذ المكاتب بشيء حتى يعتق لما بينا أن التزامه المال بالصلح عوضا عن إسقاط القود صحيح في حقه غير صحيح في حق المولي وبالعجز خلص الحق للمولي في كسبه ورقبته فلا يطالب بشيء حتى يعتق ولكنه يأخذ الكفيل لأن المال باق في ذمته ولكن يؤخر مطالبته به لقيام حق المولي وذلك لا يوجدفي حق الكفيل فكان هو مطالبا في الحال كما لو أقر العبد المحجور عليه بدين وكفل به كفيل وكذلك لو كان القتل بإقرار وولد المكاتب في ذلك بمنزلة المكاتب لأن حكم الكتابة ثابت فيه تبعا لأمه وإذا قتل المكاتب رجلا عمدا وله وليان فصالح أحدهما على مائة درهم وأداها إليه ثم عجز ورد في الرق ثم جاء الولي الآخر فالمولي بالخيار إن شاء دفعه أو دفع نصفه إلى الولي وإن شاءفداه بنصف الدية لأن بالصلح مع أحد الوليين سقط القود وانقلب نصيب الآخر مالا ولا يتم ذلك دينا في ذمة المكاتب إلا بقضاء القاضي بمنزلة جناية المكاتب وإذا كانت خطأ فإذا عجز قبل القضاء كان حقه في رقبته ويتخير المولي بين دفع النصف إليه والفداء بنصف الدية كما لو كانت الجناية خطأ في الابتداء ثم وجوب المال للآخر هنا كان حكما بسبب قتل ثابت بالمعاينة فلهذا يباع به بعد العجز بخلاف المال الواجب للمصالح فإن ذلك كان بالتزام المكاتب بدلا عما ليس بمال فلا يباع به بعد العجز ما لم يعتق بمنزلة إقراره بالجناية خطأ وإن لم يعجز ولكنه عتق ثم جاء الولي الآخر فإنه يقضي له على المكاتب بنصف قيمته دينا عليه لأن نصيب الآخر قد انقلب مالا وكان دفعه متعذرا عند ذلك وبالعتق قد تقرر وقوف الناس عن الدفع وكان حق الآخر في حصته من القيمة دينا في ذمته بمنزلة ما لو جنى المكاتب جناية خطأ ثم عتق.(21/43)
ولو عفى أحد الوليين عن الدم بغير صلح فإنه يقضي على المكاتب أن يسعى في نصف قيمته للآخر لأن نصيب الآخر انقلب مالا لغير شريكه فصار في حقه كما لو كانت الجناية في الأصل خطأ وموجب جناية المكاتب في الخطأ قيمته لتعذر دفعه بالجناية مع بقاء الكتابة وذلك عليه دون المولي لأنه أحق بكسبه بخلاف المدبر وأم الولد لأن المولي أحق بكسبهما(21/44)
ص -23- ... وموجب الجناية على من يكون الكسب له فإن صالحه الآخر من ذلك على شيء بعينه جاز وهذا صلح عن مال هو دين على عين فيكون صحيحا ولكن لا يجوز تصرفه فيه قبل القبض لأنه بمنزلة البيع وإن صالحه على شيء بغير عينه وتفرقا قبل أن يقبض بطل الصلح لأنه دين بدين ولو صالحه على طعام بعينه أكثر من نصف قيمته جاز وكذلك العروض لأن الواجب عليه نصف القيمة من الدراهم والدنانير ولا ربا بينه وبين الطعام والعروض.
ولو صالحه على دراهم أو دنانير أكثر من نصف قيمته لم يجز بمنزلة ما لو صالح من الدين على أكثر من قدره من جنسه وقد بينا أن ذلك ربا ولو كفل له رجل بنصف القيمة جاز لأنه كفل بدين على المكاتب للأجنبي فإن صالحه الكفيل على طعام أو ثياب جاز ورجع الكفيل على المكاتب بنصف القيمة لأنه صار موفيا بهذا الصلح إذا كفل عنه بأمره ولو أعطاه المكاتب رهنا بنصف القيمة فهلك الرهن وفيه وفاء بنصف القيمة فهو بما فيه وإن كان فيه فضل بطل الفضل لأن في الفضل المكاتب بمنزلة المودع وذلك منه صحيح والله أعلم.
باب الشهادة في الصلح(21/45)
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل في دار رجل دعوى فأقام الذي في يده الدار شاهدين شهدا أنه صالحه على شيء فرضي به منه ودفعه إليه فهو جائز وإن لم يسميا ما وقع عليه الصلح لأنه مقبوض وحكم الصلح ينتهي في المقبوض بالقبض وإنما يحتاج إلى التسمية فيما يستحق قبضه للتحرز عن الجهالة المانعة من التسليم وهذا لا يوجد في المقبوض وترك التسمية فيه لا يمنع العمل بالشهادة كترك التسمية فيما وقع الصلح عنه وكذلك لو سمي أحدهما دراهم ولم يسم الآخر شيئا وشهدا جميعا إنه استوفى جميع ما صالح عليه فهو جائز لأن تسمية أحدهما زيادة غير محتاج إليها فذكره والسكوت عنه سواء ولو جحد صاحب الدار وادعى الطالب الصلح وجاء بشاهدين فشهد أحدهما على دراهم مسماة وشهد الآخر على شيء غير مسمى أو تركا جميعا تسمية البدل لم تقبل الشهادة لأن المصالح عليه غير مقبوض فلا يتمكن القاضي من القضاء مع الجهالة فإن ادعى الطالب مائة وخمسين درهما وشهد له شاهد بها وشاهد بمائة درهم قضيت له بمائة درهم لأن دعواه في الحاصل دعوى الدين فالإسقاط قد حصل بإقراره وقد اتفق الشاهدان على المائة لفظا ومعنى فتقبل الشهادة إذا كان المدعي يدعي الأكثر وإن كان يدعي الأقل فلا تقبل الشهادة لتكذيب المدعي أحد شاهديه وإذا شهد أحدهما بمائة والآخر بمائتين لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله لاختلاف الشاهدين لفظا ومعنى وإن ترك بينة الصلح فالمدعى على حجته لأنه إنما أقر بسقوط حقه بعوض فإذا لم يقبل ذلك العوض فهو على حقه وحجته فإن شهد شاهد على صلح بمعاينة على دراهم مسماة وشهد الآخر على الإقرار بمثل ذلك فهو جائز لأن الصلح هو إقرار معناه أن صفة الإقرار والإنشاء في الصلح واحد كما في البيع وإن شهد أحدهما بالبيع والآخر بالإقرار به كانت الشهادة مقبولة والله تعالى أعلم.(21/46)
ص -24- ... باب الصلح في الدين
قال رحمه الله:وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على عبد بعينه فهو جائز والعبد للطالب يجوز فيه عتقه ولا يجوز فيه عتق المطلوب لأن الطالب ملكه بنفس الصلح والمصالح عليه كالمبيع وإعتاق المشتري في المبيع قبل القبض صحيح دون إعتاق البائع إياه وإن مات في يد المطلوب قبل أن يقبضه الطالب كان من مال المطلوب بمنزلة المبيع إذا هلك قبل القبض ويرجع الطالب بالدين لأن الصلح بطل لفوات قبض المبدل بموته وكذلك كل شيء بعينه لا يبطله افتراقهما قبل القبض لأنه افتراق عن عين بدين ولو صالحه على دنانير مسماة ثم افترقا قبل القبض بطل الصلح لأنه دين بدين والدين بالدين لا يكون عفوا بعد المجلس وكذلك إن كان الصلح على إنكار لأنه مبني على زعم المدعي وفي زعمه إنه صالحه من الدراهم على الدنانير فيكون ذلك صرفا يشترط فيه القبض في المجلس ولم يوجد وكذلك إن صالحه على مكيل أو موزون بغير عينه لأن في زعمه أنهما افترقا عن دين بدين وذلك مبطل للصلح.(21/47)
ولو صالحه من الألف على مائة درهم وافترقا قبل القبض لم يبطل الصلح لما بينا أن تصحيح الصلح هنا بطريق الإسقاط لا بطريق المبادلة لأن مبادلة الألف بالمائة لا يجوز فيكون مسقطا بعض الحق بغير عوض وذلك صحيح مع ترك القبض فيما بقي بخلاف ما تقدم ولو صالحه من كر حنطة قرض على عشرة دراهم وقبض خمسة ثم افترقا بقي الصلح في نصف الكر بحساب ما قبض وبطل في النصف الآخر بحساب ما بقي لأنهما افترقا عن دين بدين وهذا فساد طارئ فيقتصر على ما وجد فيه عليه ولو صالحه على كر شعير بعينه ثم تفرقا قبل أن يقبضه فهو جائز لأنهما افترقا عن عين بدين ولو ابتاع رجل كرا من حنطة بكر من شعير بعينه وقبض الحنطة ولم يقبض الآخر الشعير حتى افترقا فهو جائز لأن البدل الذي هو دين تعين بالقبض في المجلس فالتحق بما لو كان عينا عند العقد والذي لم يقبض عين والتقابض في بيع الطعام بالطعام في المجلس ليس بشرط عندنا ولو كان الشعير بغير عينه فإن تقابضا قبل أن يتفرقا فهو جائز لأن تعينه بالقبض كبيعه عند العقد وإن تفرقا قبل أن يقبض فسد البيع لأن الدين في مبادلة الطعام بالطعام بعد المجلس لا يكون عفوا فإن الكيل بانفراده يحرم النساء وحرمة النساء كيلا يكون أحد البدلين دينا بعد المجلس فإن ترك القبض فيما هو دين حتى افترقا كان أحد البدلين دينا بعد المجلس وذلك مبطل للبيع والصلح جميعا.
اولو كان لرجل على رجل مائة درهم ومائة دينار فصالحه من ذلك على خمسين درهما وعشرة دنانير إلى شهر فهو جائز لأنه حط وليس ببيع فإن الطالب أسقط بعض حقه من كل واحد من المالين وأجله في الباقي فالإحسان من جهته خاصة في الحط والتأجيل وليس فيه من معنى المبادلة شيء وكذلك لو صالحه من ذلك على خمسين درهما حالة أو إلى أجل فهو جائز لأنه أسقط جميع حقه من الدنانير وبعض حقه من الدراهم وأجله فيما بقي منه وذلك(21/48)
ص -25- ... مستقيم وكذلك لو صالحه على خمسين درهما فضة تبرا بيضاء حالا أو إلى أجل لأن ما وقع عليه الصلح من جنس حقه فصحة الصلح بطريق الإسقاط دون المبادلة وكذلك لو كانت دراهمه سودا فصالحه منها على خمسين غلة حالة أو إلى أجل لأن التبرع كله من جانب صاحب الحق فإنه أبرأه عن البعض وتجوز بدون حقه فيما بقي وأجله فيما بقي أيضا فلا تتحقق معنى المبادلة بينهما بوجه وكذلك لو كانت له عليه مائة درهم بخية وعشرة دنانير فصالحه من ذلك على خمسين درهما سودا حالة أو إلى أجل فالتبرع كله من جهة صاحب المال.
ولو صالحه من ذلك على مائة درهم وعشرة دراهم إلى أجل لم يجز لأن العقد صرف فيما زاد على المائة الدرهم فإنه مبادلة عشرة دراهم بعشرة دنانير وهو صرف والتأجيل في عقد الصرف مبطل للعقد وإنما أجله في المائة الدرهم بشرط أن يسلم له مقصوده في الصرف ولم يسلم فلهذا لم يثبت التأجيل في شيء وإن كانت حالة وقبضها قبل التفرق جاز وكذلك إن قبض عشرة دراهم ثم افترقا لأن المصارفة بينهما في هذا المقدار وإنما يجعل المقبوض مما كان قبضه مستحقا بعقد الصرف وإن صالحه على مائة درهم وعشرة دراهم على أن ينقد خمسين درهما وستين إلى أجل ولم ينقده الخمسين قبل التفرق جاز في قول أبي يوسف رحمه الله ولم يجز في قول محمد رحمه الله لأن العقد في العشرة مع الدنانير صرف وقد شرط في عقد الصرف التأجيل في بعض المائة وفيه منفعة لأحد المتعاقدين فاشتراطه في عقد الصرف يفسد الصرف وأبو يوسف رحمه الله يقول إن بدل الصرف حال مقبوض في المجلس واشتراط الأجل في ستين من المائة محتمل يجوز أن يكون على وجه البراء المبتدأ ويجوز أن يكون ذلك شرطا في عقد الصرف فمع الاحتمال لا يفسد عقد الصرف وهذا لأنه قال ستين إلى أجل ولم يقل وعلى ستين إلى أجل ومقصود المتعاقدين تصحيح العقد فإن حملناه على الإبراء المبتدأ صح العقد وإن حملناه على الشرط لم يصح.(21/49)
ولو صالحه على خمسين درهما وخمسة دنانير إلى أجل جاز ذلك لأنه أسقط بعض كل واحد من المالين وأجله فيما بقي من كل واحد منهما فالتبرع كله من جهة صاحب المال وكذلك الحكم في المكيلات والموزنات وإن كان لرجل على رجل كر حنطة فصالحه بعد إقرار أو إنكار على نصف كر حنطة ونصف كر شعير إلى أجل فالصلح كله باطل لأن في حصة الشعير العقد مبادلة نصف كر حنطة بنصف كر شعير والقدر بانفراده يحرم النساء فيفسد العقد ثم اشتراط ما بقي من الأجل في الحنطة إنما كان بناء على حصول مقصودهما في العقد على الشعير وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي فهو وما لو كان الصلح على الإقرار سواء ولو لم يضرب لذلك أجلا أو كان الشعير معيبا والحنطة بغير عينها كان جائزا وإن تفرقا قبل القبض لأن مبادلة الحنطة التي هي دين بالشعير بعينه جائزة وإن كان الشعير بغير عينه فإن قبضه قبل التفرق جاز وإن كانت بالحنطة مؤجلة أو حالة قبضها لأن الشعير قد تعين في المجلس كالمعين عند العقد(21/50)
ص -26- ... ومعنى قوله إن كانت الحنطة مؤجلة في الأصل إلا أن يكون مراده أنه أجله في الحنطة فإن ذلك يفسد العقد عند محمد رحمه الله لأنه شرط في مبادلة الحنطة بالشعير التأجيل في النصف الآخر من الحنطة وذلك مفسد للعقد فعرفنا أن مراده أن صفة الدينية والتأجيل في الحنطة لا يمنع جواز هذا العقد وإن فارقه قبل أن يقبض الشعير بطل الصلح في حصة الشعير لأنه دين بدين فلا يكون عفوا بعد المجلس فإن قيل حصة الشعير من الحنطة صارت في حكم المقبوض لمن عليه حين سقط عنه فكيف يكون دينا بدين قلنا صار مقبوضا دينا والدين بالسقوط يصير في حكم المقبوض المتلف ولكن لا يتعين ولو كان عليه ألف درهم فضة تبرا بيضاء فصالحه منها على خمسمائة فضة تبرا سوداء إلى أجل فهو جائز وهو حط لا بيع لأن الفضة كلها جنس واحد فيكون صاحب الحق مبرئا عن بعض الحق من الألف ومتجوزا بدون حقه فيما بقي.(21/51)
ولو صالحه على خمسمائة درهم مضروبة وزن سبعة إلى أجل لم يجز لأن المضروب أجود من التبر فتمكن بينهما معاوضة من حيث إن صاحب الحق أبرأه عن خمسمائة وأجله فيما بقي وذلك كله فيما بقي والجودة التي شرطها لنفسه فيما بقي ومبادلة الجودة في الأجل والقدر ربا ولو كان له عليه ألف درهم غلة فصالحه منها على ألف درهم بخية حالة فإن قبض قبل أن يتفرقا جاز لأن مبادلة البخية بالغلة صرف فإذا وجد القبض في المجلس جاز العقد وإن تفرقا قبل القبض بطل وإن جعلا لها أجلا بطل وكذلك إن كان الصلح على خمسمائة بخية في جميع ذلك في قول أبي يوسف الأول رحمه الله معناه إذا قبض خمسمائة في المجلس جاز وإن فارقه قبل القبض فعليه خمسمائة درهم من دراهمه الأولى وقد بريء مما سوى ذلك لأنه يجعل هذا إبراء من الطالب للمطلوب من خمسمائة وإحسانا من المطلوب في قضاء ما بقي وإنما جزاء الإحسان الإحسان لما بينا أنه إن حمل هذا على مبادلة بعض القدر بالجودة لم يصح وإن حمل على البراء المبتدأ صح ومقصودهما تصحيح العقد فعند الاحتمال يتعين الوجه الذي يحصل فيه مقصودهما وإذا فارقه قبل القبض فعليه الخمسمائة من دراهمه الأولى لأنه وعده أن يعطيه ما بقي أجود والإنسان مندوب إلى الوفاء بالوعد من غير أن يكون ذلك مستحقا عليه وقد تمت البراءة عن الخمسمائة حين لم تمكن معنى المعاوضة بينهما.(21/52)
ثم رجع أبو يوسف رحمه الله فقال الصلح فاسد وهو قول محمد رحمه الله لأنهما بادلا صفة الجودة في الخمسمائة الباقية ببعض القدر وهي الخمسمائة التي أبرأه عنها وذلك ربا وإنما يتأتى حمله على البراء المبتدأ إذا لم يذكرا ذلك على وجه المعاوضة والشرط بينهما فأما مع الذكر على وجه المعاوضة فلا يمكن حمله على البراء المبتدأ ولو كان لرجل على رجل دراهم لا يعرفان وزنها فصالحه منها على ثوب أو غيره جاز لأنه صار مشتريا للثوب وجهالة مقدار الثمن فيما يحتاج إلى قبضه لا يمنع جواز البيع إذا كان بعينه ففيما لا(21/53)
ص -27- ... يحتاج إلى قبضه أولى وإن صالحه على دراهم فهو فاسد في القياس لأنه مبادلة الدراهم بالدراهم من غير معرفة الوزن فمن الجائز أن يكون ما يستوفي أكثر من أصل حقه قدرا فيكون ذلك ربا وفي الاستحسان يجوز الصلح لأن مبني الصلح على الحط والإغماض والتجوز بدون حقه فلفظة الصلح دليل على أنه استوفى دون حقه فصح بطريق الإسقاط وكذلك إن جعل لها أجلا لأنه أسقط بعض القدر وأجله فيما بقي والتبرع كله من الطالب.
ولو كان بين رجلين أخذ وعطاء وبيوع وقرض وشركة فتصادقا على ذلك ولم يعرف الحق كم هو للطالب عليه ثم صالحه على مائة درهم إلى أجل فهو جائز استحسانا لأن لفظة الصلح دليل على أن حقه أكثر مما وقع الصلح عليه وقد تبرع بالتأجيل فيما بقي ولو ادعى قبل رجل وديعة دراهم بأعيانها في المدعى عليه فصالحه الطالب على دراهم دونها فهو جائز لأن الوديعة بالجحود صارت دينا أو صارت مضمونة كالمغصوبة فيمكن تصحيح الصلح بينهما بطريق الإسقاط ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم وقبضها ثم استحقت المائة من يدي الطالب رجع بمثلها لأنه صار مبرئا له عن تسعمائة مستوفيا للمائة فبالاستحقاق ينتقض قبضه فيما صار مستوفيا له فيرجع بمثله والبراءة تامة فيما أسقط سواء كان الصلح بإقرار أو إنكار وكذلك لو كان وجدها ستوقة أو نبهرجة ردها ورجع بمائة جاز لانتقاض قبضة بالرد في المستوفي وكذلك لو كانت عليه مائة درهم بخية فصالحه منها على خمسين درهما فقبضها فوجدها بخية نبهرجة أو وجدها سوداء فله أن يستبدلها ببخية لأنه في الخمسين مستوف فإذا كان دون حقه رده واستبدل بمثل حقه والبراءة تامة في الخمسين الأخرى.(21/54)
وكذلك لو كانت له عليه عشرة دنانير فصالحه على خمسة دنانير وقبضها فوجدها حديدا لا ينفق أو مقطعة لا تنفق فله أن يستبدلها بجياد مثل حقه والبراءة تامة في الخمسة الأخرى ولو صالحه من الدنانير على دراهم وقبضها ثم استحقت قبل التفرق رجع بالدنانير لأن العقد بينهما صرف فإذا انتقض قبضه بالاستحقاق من الأصل بطل الصرف ورجع بالدنانير ولو صالحه من دراهم له عليه على فلوس وقبضها فتفرقا ثم استحقت رجع بالدراهم لأن القبض قد انتقض في المستحق من الأصل ويتبين أنهما افترقا عن دين بدين وذلك مبطل للعقد وكذلك إن وجدها من ضرب لا ينفق لأنه تبين إنه صار مستوفيا حقه في المقبوض وكذلك لو كان عليه حنطة فصالحه من ذلك على شعير وقبضه وتفرقا ثم استحق من يده أو وجد به عيبا فرده رجع بالحنطة لأن قبضه انتقض في المردود فظهر إنه دين بدين بعد المجلس ولو صالحه على كر شعير وسط وأعطاه إياه ثم استحق منه قبل أن يتفرقا رجع بمثله لأن قبضه انتقض بمثله في المستحق فكأنه لم يقبضه حتى الآن وصفة الدينية في المجلس لا تضر فلهذا رجع بمثل ذلك الشعير.
ولو كان له عليه كر حنطة قرضا أو غصبا فصالحه على عشرة دراهم ودفعها ثم استحقت(21/55)
ص -28- ... الدراهم أو وجدها ستوقة بعد ما افترقا فردها بطل الصلح لأن القبض في المستحق انتقض من الأصل والستوقة ليست من جنس حقه فتبين أنه دين بدين بعد المجلس ولو وجدها زيوفا أو نبهرجة فردها كان ذلك فاسدا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يستبدلها قبل أن يتفرقا من مجلسهما الثاني وهو بناء على ما إذا وجد رأس مال السلم وبدل القرض زيوفا بعد الافتراق فردها وقدمنا ذلك في البيوع ولو كانت له عليه عشرة دراهم وكرا حنطة قرضا فصالحه من ذلك على أحد عشر درهما ثم فارقه قبل أن يقبض انتقص من ذلك درهما وأخذ حصة الطعام لأنه مبادلة الحنطة بالدراهم فإذا لم يقبض الدراهم في المجلس كان دينا بدين وبعد فساد العقد تبقي عليه الدراهم والطعام على حاله.
ولو كان له عليه ألف إلى أجل فصالحه منها على خمسمائة درهم ودفعها إليه لم يجز لأن المطلوب أسقط حقه في الأجل في الخمسمائة والطالب بمقابلته أسقط عنه خمسمائة فهو مبادلة الأجل بالدراهم وذلك لا يجوز عندنا وهو قول بن عمر رضي الله عنهما فإن رجلا سأله عن ذلك فنهاه ثم سأله ثم نهاه ثم سأله فقال إن هذا يريد أن أطعمه الربا وهو قول الشعبي رحمه الله وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يجوز ذلك وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه استدلالا بحديث بني النضير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلاهم قالوا إن لنا ديونا على الناس فقال صلوات الله عليه:"ضعوا وتعجلوا" وكنا نحمل ذلك على أنه كان قبل نزول حرمة الربا ثم انتسخ بنزول حكم الربا فإن مبادلة الأجل بالمال ربا.(21/56)
ألا ترى أن الشرع حرم ربا النساء وليس ذلك إلا شبهة مبادلة المال بالأجل فحقيقة ذلك لا يكون ربا حراما أولى ولو كان له عليه ألف درهم مؤجلة ثمن خادم فصالحه على أن يردها عليه بخمسمائة قبل الأجل أو بعده غير إنه لم ينتقدها أو انتقدها إلا درهما منها فهو فاسد عندنا لأنه شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن وقد بينا ذلك في البيوع وذكرنا إنه لو كان بعيب عند المشتري جاز ذلك لأن الربح لا يظهر إذا عاد إليه لا على الوجه الذي خرج من ملكه ولو ادعى عليه ألف درهم فأقر بها أو أنكرها فصالحه منها على مائة درهم إلى شهر على أنه إن أعطاها إلى شهر فهو بريء مما بقي وإن لم يعطها إلى شهر فمائتا درهم لم يجز لأنه في معنى شرطين في عقد حين لم يقاطعه على شيء معلوم وهو مبادلة الأجل ببعض المقدار أيضا فيكون ربا حراما وكذلك لو قال أصالحك على مائتي درهم إلى شهر فإن عجلتها قبل الشهر فهي مائة فهذا والأول سواء وكذلك لو صالحه على أحد شيئين سماهما أو أشار إليهما ولم يعزم على أحدهما لم يجز لتمكن الجهالة فيما وقع عليه الصلح والمصالح عليه بمنزلة المبيع فكان هذا في معنى صفقتين في صفقة.
وكذلك لو كان الصلح من أحد الشيئين على الشك أو مع أحد هذين الرجلين على الشك لأن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة ولو أقر له بألف درهم ثم صالحه منها على عبد على أن يخدم الرجل المدعي عليه شهرا لم يجز لأن المصالح عليه مبيع وقد شرطا التأجيل في تسليمه(21/57)
ص -29- ... شهرا أو شرط البائع لنفسه منفعة لا يقتضيها العقد وكذلك لو صالحه على دار واشترط سكناها شهرا أو صالحه على عبد على أن يدفعه إليه بعد شهر وكذلك لو صالحه على ثوب على أن يعطيه قميصا ويخيطه أو صالحه على طعام على أن يطبخه له أو يحمله إلى منزله لأنه شرط منفعة لا يقتضيها العقد وذلك مفسد للبيع فكذلك الصلح وإن صالحه على طعام بعينه في الكوفة على أن يوفيه إياه في منزله فهو جائز استحسانا بخلاف ما لو شرط أن يوفيه بالبصرة وقد تقدم بيان هذه الفصول في البيوع والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الخيار في الصلح
قال رحمه الله: اعلم بأن حكم خيار الشرط في الصلح كهو في البيع في جميع الفصول لأن الصلح عقد يعتمد التراضي ويمكن فسخه بعد انعقاده كالبيع وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على عبد على أن زاده المدعي عشرة دنانير إلى شهر واشترطا الخيار ثلاثة أيام فهو جائز لأنه اشترى العبد بألف درهم وعشرة دنانير واشتراط الخيار في مثل هذاالعقد صحيح فإن استوجب العقد بريء المطلوب من الألف لتمام البيع بينهما وتقرر وجوب الثمن عليه وصارت الدنانير على المطالب الأول إلى شهر من يوم استوجب العقد لأنه شرط في الدنانير أجل شهر واشترط الأجل لتأخير المطالبة وتوجه المطالبة عليه بعد سقوط الخيار وإنما يعتبر ابتداء الأجل من ذلك الوقت ولو كان له عليه عشرة دنانير فصالحه منها على ثوب واشترط المطلوب الخيار ثلاثا ودفع إليه الثوب فهلك عنده في الثلاث فهو ضامن لقيمته وما له على المطلوب كما كان لأن المطلوب بائع للثوب وهلاك المبيع في مدة خيار البائع مبطل للعقد والمبيع في يد المشتري في مدة خيار البائع مضمون بالقيمة لأنه في معنى المقبوض على جهة الشراء.(21/58)
ولو كان لرجل على رجلين دين فصالحاه على عبد على إنه بالخيار ثلاثا فأوجب الصلح على أحدهما ورد على الآخر كان له ذلك لأنه مشتر للعبد منهما وقد شرط كل واحد منهما له الخيار في النصف الذي باعه منه فكان له الرد على أحدهما في نصيبه دون الآخر بخلاف ما إذا كان الدين لرجلين على رجل فصالحهما على أنهما بالخيار ثلاثة أيام لأنهما في معنى المشتريين للعبد منه وأحد المشتريين لا ينفرد بالرد بخيار الشرط عند أبي حنيفة رحمه الله وقد بيناه في البيوع ولو كان لرجل على رجل دين فصالحه على عبد واشترط الخيار ثلاثا فمضت الثلاثة ثم ادعى صاحب الخيار الفسخ في الثلاثة لم يصدق إلا ببينة لأن السبب الموجب لتمام العقد قد وجد وهو مضي مدة الخيار قبل ظهور الفسخ ومدعي الفسخ يدعي ما لا يقدر على إنشائه في الحال فلا يقبل ذلك إلا ببينة فإن أقام بينة على الفسخ وأقام الآخر البينة على أنه قد أمضى في الثلاثة أخذت البينة للفسخ لأنهما كانا بالخيار لأن مدعي الفسخ هو المحتاج إلى إقامة البينة وهو المثبت لعارض الفسخ وذلك خلاف ما يشهد الظاهر به فكان الأخذ ببينته أولى وقع في بعض نسخ الأصل أخذ ببينة إمضاء الصلح وهذا غلط وإن(21/59)
ص -30- ... صح فوجهه إن في بينة إمضاء الصلح إثبات الملك فيما وقع عليه الصلح وقد بينا شبهة اختلاف الروايات في نظير هذا في البيوع من الجامع وإن اختلفا في الثلاثة فالقول قول الذي له الخيار إنه وجد فسخ لأنه أقر بما يملك إنشاءه في الحال فلا تتمكن التهمة في إقراره والبينة بينة الآخر أنه قد وجب لأنه هو المحتاج إلى إسقاط الخيار وفي الصلح على الإنكار إذا شرط المدعي عليه الخيار ثم فسخ العقد بخياره فالمدعي يعود على دعواه ولا يكون ما صنع المدعي عليه إقرارا منه لأن الصلح البات أقوى من الصلح بشرط الخيار وقد بينا أن إقدامه على الصلح البات لا يكون إقرارا فعلى الصلح بشرط الخيار أولى وخيار الرؤية في الصلح بمنزلته في البيع لأن ما وقع عليه الصلح من العين مبيع ومن اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه.
وإذا ادعى رجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على عدل زطي فقبضه ولم يره ثم صالح عليه القابض آخر ادعى قبله دعوى أو قبضه الآخر ولم يره فللآخر أن يرده على الثاني إذا رآه فلم يرضه لأنه بمنزلة مشتري شيء لم يره وليس للثاني أن يرده على الأول إن قبله بقضاء قاض أو بغير قضاء لأن خياره قد سقط حين ملكه من غيره باعتبار أنه عجز عن رده بحكم الخيار وخيار الرؤية كخيار الشرط لا يعود بعد ما سقط بحال وقد بينا أن الصلح من الدعوى ليس بإقرار فبعد الرد بخيار الرؤية إنما يعود المدعي على دعواه وفي حكم الرد بالعيب المصالح عليه كالمبيع أيضا يرد بالعيب اليسير الفاحش يرجع في الدعوى إن كان رده بحكم أو بغير حكم.(21/60)
ولو ادعى رجل قبل رجل مائة درهم فصالحه على أمة على الإنكار وقبضها فولدت عنده ثم وجدها عوراء لم يستطع ردها لحدوث الزيادة المنفصلة بعد القبض من العين ولكنه يكون على حجته فيما يصيب العور من المائة فإذا أقام أو استحلف المدعي عليه فنكل أو أقر يرجع عليه بنصف المائة لأن العين من الآدمي نصفه ولو ادعى عليه كر حنطة قرضا فصالحه منه على ثوب من غير أن يقر بذلك على أن زاد الآخر عشرة دراهم وتقابضا قبل أن يتفرقا فقطع الثوب قميصا ثم وجد به عيبا ينقصه العشرة فإنه لا يستطيع الرد لما أحدث فيه من القطع ولكن يرجع بحصة الغير وذلك غير ما نقده وهو درهم واحد فيكون على حجته في عشر الكر فيستوفي ذلك إن أتى بالبينة أو استحلف صاحبه فنكل ولو ادعى عليه مائة درهم فلم يقر بها فصالحه منها على كر ودفع إليه الكر على أن زاده الآخر عشرة دراهم إلى شهر فهو جائز لأنه اشترى الكر بالعشرة وبما ادعاه وهو المائة في زعمه وذلك صحيح فإن وجد بالكر عيبا ووجد به عنده عيب وكان عيبه الأول ينقصه العشر فإنه يبطل من العشرة الدراهم التي عليه درهم ويكون على حجته في عشر المائة لأن حصة العيب من البدل هذا وهذا عند تعذر الرد يرجع بحصة العيب من البدل.
ولو صالحه من المائة على كر حنطة ودفعه إليه أو على عشرة دراهم إلى شهر من غير(21/61)
ص -31- ... إقرار ثم وجد بالكر عيبا وقد حدث به عنده عيب وكان العيب الأول ينقصه العشر فهو على حجته في عشر تسعين درهما لأن المدعي بقي حقه في عشرة دراهم وأجله في ذلك إلى شهر وإنما صالحه على كر حنطة بما زاد على العشرة إلى تمام المائة وذلك تسعون درهما فعند تعذر الرد بالعيب يرجع بحصة العيب من البدل فلهذا كان على حجته في عشر تسعين درهما وقيل ينبغي أن لا يجوز هذا الصلح عند محمد رحمه الله لأن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وفي زعمه إنه اشترى الحنطة بتسعين درهما وشرط له التأجيل في عشرة دراهم سوى الثمن إلى شهر وذلك شرط منفعة لأحد المتعاقدين لا يقتضيها العقد فيكون مفسدا للعقد والله أعلم
باب الصلح في الدين
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل دين إلى سنة فصالحه على أن أعطاه به كفيلا وأخره به إلى سنة أخرى فهو جائز لأن المطلوب أعطاه بما عليه كفيلا والطالب أجله إلى سنة أخرى وكل واحد منهما صحيح عند الانفراد فكذلك إذا جمع بينهما ولا يتمكن هنا معنى معاوضة والكفالة بالأجل لأن الكفالة إنما تصح بقبول الكفيل سواء سأل المطلوب ذلك أو لم يسأل والتأجيل يثبت حقا للمطلوب فلا تتحقق معنى المعاوضة بينهما وكذلك لو كان به كفيل فأبرأه على أن أعطاه به كفيلا آخر وأخره سنة بعد الأجل الأول لأن إبراء الكفيل الأول يتم بالطالب والتأخير بإيجاب الطالب ذلك للمطلوب ولا يتمكن معنى المعاوضة فيه لما كان تمام كل واحد منهما بشخص آخر ولو صالحه على أن يعجل له نصف المال على أن يؤخر عنه ما بقي سنة بعد الأجل كان ذلك باطلا لأن المطلوب أسقط حقه في الأجل في نصف المال وشرط على الطالب التأجيل فيما بقي سنة أخرى فهذا مبادلة الأجل بالأجل وهو ربا وكذلك كل ما يعجل مؤجلا بتأخير شيء آخر معجلا أو مؤجلا فهو فاسد لما فيه من معاوضة الأجل بالأجل.(21/62)
ولو كان المطلوب قضى الطالب المال قبل حله ثم استحق من يده لم يرجع عليه حتى يحل الأجل لأن القبض انتقض في المستحق من الأصل وسقوط الأجل كان في ضمن التعجيل بتسليم المال إليه وإذا ثبت في ضمن غيره يبطل ببطلانه فلهذا كان المال عليه بعد الاستحقاق إلى أجل وكذلك لو وجد زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا أما في الستوق فظاهر لأنه يتبين إنه لم يكن موفيا له حقه فيبقى المال عليه إلى أجله وفي الزيوف والنبهرجة قد انتقض قبضه بالرد وسقوط الأجل كان باعتبار قبضه وهو دليل أبي حنيفة رحمة الله عليهما في أن الرد بعيب الزيافة ينقض القبض من الأصل بمنزلة الاستحقاق حين عاد الأجل ولكنهمايقولان نحن نسلم هذا إلا أنا نجعل في الصرف والسلم اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما في مجلس العقد وذلك لا يتحقق في حكم سقوط الأجل وعند رد الزيوف رجوعه بأصل حقه وهو ثمن المبيع وقد كان أصل حقه مؤجلا فلهذا رجع به بعد حله(21/63)
ص -32- ... أيضا وكذلك لو باعه به عبدا أو صالحه منه على عبد وقبضه ثم استحق أو وجد حرا أو رده بعيب بقضاء قاض فالمال عليه إلى أجله لأن بهذه الأسباب ينتقض العقد من الأصل.
وكذلك لو طلب إليه أن يقيله الصلح على ما كان من الأجل فأقاله أو رده بعيب بغير قضاء فالمال عليه إلى أجله لأن الإقالة إن جعلت فسخا عاد المال إلى أجله وإن جعلت كعقد مبتدأ فقد شرط التأجيل في البدل فيكون مؤجلا والرد بالعيب بغير قضاء قاض بمنزلة الإقالة وإن لم يسم الأجل فالمال حال لأن الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء قاض بمنزلة البيع المبتدأ فإنه يعتمد التراضي ومطلقه يوجب المال حالا فإن قيل الإقالة فسخ في حقهما وعود الأجل من حقهما قلنا هو فسخ في حقهما فيما هو من أحكام ذلك البيع فأما فيما ليس من أحكامه فهو كالبيع المبتدأ والأجل في أصل الدين لم يكن من أحكام هذا البيع بينهما فالإقالة فيه كالبيع المبتدأ وقد قررنا هذا المعنى فيما أمليناه من شرح الزيادات ولو كان بالدين كفيل لم يعد المال على الكفيل إلا أن يكون رد العبد بالعيب بقضاء قاض لأن الرد بالقضاء فسخ من الأصل ولم يثبت المال على الكفيل لأن هذا دين آخر سوى ما كفل به فهذا مثله ولو كان به رهن وهو في يد الطالب حين رد بالعيب كان رهنا على حاله بالمال لأن البيع قد انفسخ برد العبد وإنما يرجع الطالب بالدين الذي كان له عليه وقد كان الرهن محبوسا عنده بذلك الدين فيبقى محبوسا على حاله لأن الشراء بالدين مثله.(21/64)
ولو كان للطالب على المطلوب ألف درهم من ثمن مبيع ومائة دينار من ثمن مبيع إلى أجل فعجل له المائة الدينار على أن أخر عنه الألف إلى سنة فهذا باطل لأنه أسقط حقه في الأجل في الدنانير عوضا عما أجله الآخر من الدراهم ولو قال أعجل لك الألف درهم على أن تؤخر عني الدنانير سنة أخرى فهذا جائز لأن له أن يأخذ الألف عاجلا فإنما أجله في الدنانير خاصة وليس بمقابلة إسقاط الآخر أجله شيء ولو صالحه من الدين المؤجل على أن جعله حالا فهو جائز وهو حال وليس هذا صلحا وإنما هذا إسقاط من المطلوب حقه في الأجل والأجل حقه فيسقط بإسقاطه وكذلك لو قال أبطلت الأجل الذي في هذا الدين إن تركته أو جعلته حالا فهذا كله إسقاط منه للأجل إن قال قد برئت من الأجل أو قال لا حاجة لي في الأجل وهذا ليس بشيء والأجل على حاله أما في قوله لا حاجة لي في الأجل فإنه غير مسقط للأجل لأن الإنسان قد يكون حقه قائما وإن كان هو لا يحتاج إليه فإظهاره الاستغناء عنه لا يكون إسقاطا للأجل ومعنى قوله لا حاجة لي في الأجل إني قادر على أداء المال في الحال وبقدرته على الأداء لا يسقط الأجل وقوله قد برئت من الأجل بمنزلة قوله أبرأت الطالب منه وذلك لغو فإن الأجل حق المطلوب من حيث إنه يؤخر المطالبة عنه ولكن لا يستوجب به شيئا في ذمة الطالب فإبراء الطالب وليس له في ذمة الطالب شيء يكون لغوا بخلاف قوله أبطلت الأجل فذلك إسقاط منه لحقه وتصرف منه في المال الذي في ذمته بجعله حالا وليس يتصرف في ذمة الطالب بشيء فلهذا كان صحيحا(21/65)
ص -33- ... ولو ادعى عليه ألف درهم فأنكرها ثم صالحه على أن باعه بها عبدا فهو جائز وهذا إقرار منه بالدين بخلاف قوله فصالحتك منها وقد تقدم بيان هذا الفرق أن البيع لفظ خاص بتمليك مال بمال فإقدام المدعي عليه على البيع يكون إقرارا منه إنه يملكه العبد بالمال الذي عليه وذلك إقرار منه بالمال فأما الصلح فتمليك المال بإزاء إسقاط الدعوى والخصومة فلا يكون إقرارا حتى لو قال صالحتك من حقك على أن لك هذا العبد كان إقرارا بحقه أيضا ولو صالحه من الدين على عبد وهو مقر به وقبضه لم يكن له أن يبيعه مرابحة على الدين والصلح مخالف للبيع يعني لو اشترى بالدين العبد كان له أن يبيعه مرابحة لأن مبني الشراء على الاستقصاء فلا يتمكن فيه شبهة التجوز بدون الحق ومبني الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق فيتمكن فيه شبهة الحط وبيع المرابحة مبني على الاحتياط والشبهة فيما هو مبني على الاحتياط يعمل عمل الحقيقة ولو ادعى على رجل كر حنطة قرضا فجحده فصالحه فضولي على أنه اشتراه منه بتصييره دراهم ونقدها إياه كان الصلح باطلا لأن الشراء تمليك مال بمال فيصير المصالح مشتريا الدين من غير من عليه الدين وذلك باطل ولو لم يشتره ولكن صالحه منه على عشرة دراهم ودفعها إليه فهو جائز لأنه التزم المال عوضا عن إسقاط المدعي حقه قبل المدعي عليه وذلك صحيح وإنما أوردنا هذه الفصول لإيضاح الفرق بين لفظ البيع ولفظ الصلح.(21/66)
وإذا كان لرجلين على رجل ألف درهم من ثمن مبيع حال فأخر أحدهما حصته لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ويأخذ الآخر حصته ولا يشاركه المؤخر في المقبوض حتى يمضي الأجل فحينئذ يكون له أن يشارك القابض في المقبوض وجه قولهما أن المؤخر تصرف في خالص نصيبه ولا ضرر على شريكه في تصرفه فينفذ تصرفه كالشريكين في العبد إذا باع أحدهما نصيبه أو وهبه وهذا لأن التأجيل في إسقاط المطالبة إلى مدة ولو أسقط حقه في المطالبة بنصيبه لا إلى غاية بأن أبرأ عن نصيبه كان صحيحا فإذا أسقط مطالبته إلى غاية كان أولى بالصحة ولو اشترى أحدهما نصيبه على عين أو قبل الحوالة بنصيبه على إنسان كان صحيحا لما أنه متصرف في خالص نصيبه فكذلك إذا أجل نصيبه ولو أقر أحد الشريكين بأن الدين مؤجل إلى سنة وأنكر صح إقرار المقر في نصيبه فكذلك إذا أنشأ التأجيل لأن الإقرار لا يصح فيما هو حق للغير مع تمكن التهمة فيه وذلك لأنه لا يملك تحصيل مقصوده بالإنشاء ولما صح إقراره هنا عرفنا أنه يصح تأجيله.
ولأبي حنيفة رحمه الله في المسألة روايتان إحداهما إن تأجيله يلاقي بعض نصيب شريكه وهو لا يملكه بالاتفاق وبيان هذا إن أصل الدين يبقى مشتركا بعد التأجيل ولا يمكن أن يجعل تأجيله مضافا لنصيبه خاصة إلا بعد قسمة الدين وقبل القبض لا يجوز لأن القسمة تمييز وما في الذمة لا يتصور فيه التمييز وفي العين القسمة بدون التمييز لا تحصل فإنه لو(21/67)
ص -34- ... كان بين رجلين صبرة حنطة فقال اقتسمنا على أن هذا الجانب لي والجانب الآخر لك لا يجوز وهذا لأن في القسمة تمليك كل واحد منهما نصف نصيب شريكه عوضا عما يتملكه عليه وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز وإنما قلنا إن هذا قسمة لأن نصيب أحدهما يصير مخالفا لنصيب الآخر في الوصف والحكم في القسمة ليس إلا هذا والدليل على أن تأجيله يصادف بعض نصيب شريكه أن الآخر إذا قبض نصيبه ثم حل الأجل كان للمؤخر أن يشاركه في المقبوض ويكون ما بقي مشتركا بينهما والباقي هو ما كان مؤجلا.
ولو سلم للقابض ما قبض واختار اتباع المديون ثم نوى ما عليه كان له أن يرجع على القابض فيشاركه في المقبوض باعتبار أن نصف المقبوض حقه وإنما يسلمه له بشرط أن يسلم له ما في ذمة المديون فإذا لم يسلم رجع عليه وبهذا الفصل تبين فساد مذهبهما فإنه بعد التأجيل إذا لم يكن للمؤخر أن يطالب بنصيبه فكيف يكون للآخر أن يقبض شيئا من نصيبه وإن جعل الآخر قابضا لنصيب نفسه كان ذلك قسمة فينبغي أن لا يكون للمؤخر أن يشاركه بعد حلول الأجل وإن جعل قابضا لبعض نصيب المؤخر فإذا لم يكن للمؤخر أن يطالب بنصيبه قبل حلول الأجل لا يكون ذلك لغيره بطريق الأولى وهذا بخلاف ما لو أبرأه عن نصيبه لأنه لا يبقى نصيبه بعد الإبراء وإنما القسمة مع بقاء نصيب كل واحد منهما بخلاف البيع في نصيب أحدهما من العين فإنه لا يلاقي شيئا من نصيب شريكه بدليل إنه لا يشاركه في الثمن وبخلاف ما إذا استوفى أحدهما لأن القسمة هناك باعتبار اختلاف المحل فنصيب المستوفي لم يبق في ذمة المديون وكذلك إذا اشترى بنصيبه أو صالح أو قبل الحوالة فيه فقد وجد اختلاف المحل.(21/68)
وإذا أقر أحدهما أن المال كله مؤجل فإقرار المقر حجة في حقه وهو يزعم أن الدين كله مؤجل فلا يتحقق معنى القسمة باعتبار زعمه وإنما لا يظهر حكم الأجل في حق الآخر لقصور الحجة عنه لا لأن نصيبه غير مؤجل في حق المقر ولا يكون في أعمال إقراره في نصيبه معنى قسمة الدين بخلاف النسأ والأجل حتى لو أقر أحدهما إن نصيبه مؤجل فهو على الخلاف أيضا والطريق الآخر إن في تصرف الآخر إضرارا لشريكه وأحد الشريكين إذا تصرف في نصيبه على وجه يلحق الضرر بصاحبه لم ينفذ تصرفه في حق شريكه كما لو كاتب أحد الشريكين العبد كان للآخر أن يبطل المكاتبة وبيان ذلك أن مؤنة المطالبة بجميع الدين على شريكه لأنه يؤخر نصيبه حتى يستوفي الآخر نصيبه فإذا أجل الأجل شاركه في المقبوض ثم يؤخر نصيبه مما بقي حتى يستوفي الآخر نصيبه فإذا أجل شاركه في المقبوض فلا يزال يفعل هكذا حتى تكون مؤنة المطالبة في جميع الدين على شريكه وفيه من الضرر ما لا يخفى وبه فارق الإبراء لأنه ليس في تصرفه هناك إضرار لشريكه لأنه لا يشاركه فيما يقبض بعد ذلك وكذلك استيفاء نصيبه أو الشراء بنصيبه أو الصلح أو قبول الحوالة ليس فيه إضرار بالشريك(21/69)
ص -35- ... وإذا أقر أن الدين مؤجل فهو غير ملحق الضرر بشريكه ولكن في زعمه أن الشريك ظالم في المطالبة ولا يستقل له على المطلوب حتى يحل الأجل فيكون هو في المطالبة ظالما ملتزما مؤنة المطالبة باختياره فلهذا يصح إقراره في نصيبه ولو صالح أحد الشريكين المديون على مائة درهم على أن أخر عنه ما بقي من حصته لم يجز التأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله وما قبض فهو بينهما نصفان لأن المقبوض جزء من دين مشترك حقهما فيه سواء وعندهما تأخيره فيما بقي صحيح والمقبوض بينهما نصفان أيضا لأنه حين قبضه كان حقهما في الدين سواء فصار المقبوض بينهما نصفين فتأخير أحدهما ما بقي من حقه لا يغير حكم الشركة بينهما في المقبوض لأن التأخير لا يمس المقبوض.
وكذلك لو كانا شريكين شركة عنان وكل واحد منهما لا يملك التصرف في نصيب صاحبه من الدين بمنزلة الشريكين في الملك فأما المتفاوضان فتأخير أحدهما جائز على الآخر لأن التأخير من صنع التجار وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما هو من صنع التجار ولو أقر أحد الشريكين في الدين وهو ألف درهم إنه كان للمطلوب عليه خمسمائة درهم قبل دينهما فقد بريء المطلوب من حصته بطريق المقاصة بمنزلة ما لو أبرأه ولا يكون لشريكه عليه شيء لأن المقر صار قابضا بنصيبه من الدين ما كان عليه لا مقضيا فإن آخر الدينين قضاء عن أولهما لأن القضاء لا يسبق الوجوب وإنما يشاركه الآخر فيما يقبض فإذا لم يصر بهذا الطريق قابضا شيئا لا يكون للآخر أن يشاركه فيه كما لو أبرأه من نصيبه أو وهبه له وكذلك لو جنى عليه عمدا دون النفس جناية يكون أرشها خمسمائة أو صالح من جناية عمد فيها قصاص على ذلك لأنه ما صار مستوفيا شيئا مضمونا أو شيئا قابلا للشركة وإنما صار متلفا لنصيبه فلا يكون للآخر أن يرجع عليه بشيء.(21/70)
ولو غصب أحد الشريكين من المديون ما يساوي خمسمائة فهلك في يده فللآخر أن يرجع عليه بمائة وخمسين لأنه صار قابضا بنصيبه مالا مضمونا وضمان الغصب يوجب الملك في المضمون فكأنه استوفى نصيبه ولأن المديون يكون قابضا لنصيبه بطريق المقاصة لأن دينه يكون آخر الدينين ولو حرق أحدهما ثوبا للمديون يساوي خمسمائة فكذلك الجواب في قول محمد رحمه الله لأنه بالإحراق صار قابضا متلفا للمال ويكون ذلك مضمونا فيكون كالغصب والمديون صار قابضا لنصيبه بطريق المقاصة فيجعل المحرق مقضيا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرجع عليه بشيء لأنه متلف لنصيبه بما صنع لا قابض والإحراق إتلاف ويكون هذا نظير الجناية وقد بينا أنه لو جنى أحدهما على المديون حتى يسقط نصيبه من الدين لم يكن للآخر أن يرجع عليه بشيء فكذلك إذا جنى على ماله بالإحراق ولو صالحه على مائة درهم على أن أبرأه مما بقي من حصته بعد قبض المائة أو قبل قبضها كان لشريكه أن يرجع عليه بخمسة أسداس المائة لأن الباقي من دينه على المديون مائة ونصيب شريكه خمسمائة فالمقبوض يكون مقسوما بينهما على مقدار حقهما بخلاف ما إذا أجل فيما(21/71)
ص -36- ... بقي على قولهما لأن التأجيل لا يسقط نصيبه من الدين وإن تأخر حق المقبوض فلهذا بقي المقبوض بينهما نصفين.
ولو كان قبض المائة وقاسمهما شريكه نصفين ثم أبرأه مما بقي له كانت القسمة جائزة لا تعاد لأن عند تمام القسمة كان حقهما في ذمة المديون سواء فسقوط ما بقي من نصيب أحدهما بالإبراء لا يبطل تلك القسمة بعد تمامها ولو كان لرجلين على رجل حنطة قرض فصالحه أحدهما على عشرة دراهم من حصته فهو جائز ويدفع إلى شريكه إن شاء ربع كر وإن شاء خمسة دراهم لأنه بهذا الصلح صار مستوفيا لنصيبه فللآخر أن يطالبه بنصف نصيبه وهو ربع كر كما لو استوفاه حقيقة وهذا لأن الصلح يصحح بطريق المبادلة ما أمكن ومبادلة الكر بعشرة دراهم صحيحة إلا أن مبنى الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق فمن حجة المصالح مبادلة الكر بعشرة دراهم صحيحة إلا أن يقول إنما توصلت إلى نصيبي لأني تجوزت بدون حقي فإن أردت أن تشاركني فتجوز بما تجوزت به لأدفع إليك نصف ما قبضت وهي خمسة دراهم فلهذا كان الخيار لقابض الدراهم في ذلك ولو باعه حصة من الطعام بعشرة دراهم ضمن لشريكه ربع الكر ولا خيار له في ذلك لأن مبني البيع على الاستقصاء فيصير هو بطريق البيع كالمستوفي بجميع نصيبه لشريكه نصفه ولأن البيع عقد ضمان فيصلح أن يكون موجبا لشريكه عليه ضمان نصف نصيبه والصلح عقد تبرع فلا يكون موجبا للضمان على المتبرع إلا أن يلتزم ذلك باختياره ثم في الشراء إذا رجع بربع الكر فما بقي في ذمة المطلوب وذلك نصف كر يكون مشتركا بينهما كما لو قبض أحدهما نصيبه وشاركه الآخر فيه.(21/72)
ولو كان عبد بين رجلين باع أحدهما نصيبه من رجل بخمسمائة وباع الآخر نصيبه منه بخمسمائة وكتبا عليه صكا واحدا بألف ثم قبض أحدهما منه شيئا لم يكن للآخر أن يشاركه فيه لأن نصيب كل واحد منهما وجب على المطلوب بسبب آخر فلا تثبت الشركة بينهما باتحاد الصك كما لو أقرضه كل واحد منهما خمسمائة وكتبا بالألف صكا واحدا وكذلك لو باعاه صفقة واحدة على أن نصيب فلان منه مائة لأن تفرق التسمية في حق البائعين كتفرق الصفقة بدليل أن للمشتري أن لا يقبل البيع في نصيب أحدهما وكذلك لو اشترط أحدهما أن نصيبه خمسمائة بخية وشرط الآخر خمسمائة سوداء لأن التسمية تفرقت ويغني نصيب أحدهما عن نصيب الآخر وصفا فأما إذا باعاه صفقة واحدة بثمن واحد فأيهما قبض من ذلك شيئا شركه الآخر فيه لأنه دين وجب لهما بسبب واحد بدلا عما هو مشترك بينهما فلا يقبض أحدهما شيئا إلا بشركة الآخر لأن المقبوض إما أن يكون عين ما كان في الذمة أو بدلا عنه وحكم البدل حكم المبدل.
ولو كان لرجلين على رجل ألف درهم بخية فصالحه أحدهما من نصيبه على خمسمائة زيوف أو على خمسمائة سود كان لشريكه أن يأخذ منه نصفها لأن ثبوت حق المشاركة له(21/73)
ص -37- ... باعتبار قبضه فإنما ينظر إلى صفة المقبوض فيشاركه فيه ويأخذ منه نصفه وهذا لأن المستوفي إنما وصل إلى حقه لأنه تجوز بدون حقه فعلى الآخر أن يتجوز به إذا أراد مشاركته لأن مشاركته لا تكون إلا بعد رضاه بقبضه وعند الرضا يصير كأنهما قبضا ذلك وإذا كان لرجلين على رجل كر حنطة فصالحه أحدهما عن نصيبه على كر شعير وقبضه وأعطى شريكه ربع كر حنطة ثم وجد بالشعير عيبا ينقصه العشر وقد حدث به عنده عيب آخر فإنه يرجع بنصف عشر كر حنطة وهو حصة العيب فيكون ذلك له خاصة لأنه غرم بدل هذا المقبوض لشريكه فإن هذا المقبوض بدل عن هذا الجزء الفائت بالعيب وقد غرم لشريكه حصة ذلك فيكون له خاصة.
وإذا اشترى الرجل من الرجل ثوبا بفرق بثمن جيد بغير عينه ثم صالحه من الثمن على فرق زيت ودفعه إليه في المجلس جاز لأن الموزون بمقابلة الثوب يستحق ثمنا إذا كان بغير عينه والاستبدال قبل القبض جائز وإذا تعين في المجلس بالقبض فهو كالمعين عند العقد وإذا صالح الرجل الرجل من دعواه على كر حنطة وسط ثم صالحه من ذلك الكر على كر شعير بغير عينه وافترقا قبل القبض لم يجز لأنه دين بدين ولو كان الشعير بعينه جاز لأن الافتراق حصل عن عين بدين وذلك جائز فيما سوى عقد الصرف ولو كان لرجلين على رجل ألف درهم لأحدهما ومائة دينار للآخر فصالحاه من ذلك كله على ألف درهم وقبضا لم يجز بخلاف ما إذا كان المال لواحد فهناك يصير مبرئا من أحد المالين مستوفيا للآخر فأمكن تصحيح العقد بطريق الإسقاط وهنا لا يتأتى ذلك لأنهما صالحاه على أن يكون الألف لهما فلو أجزنا ذلك قسمنا الدراهم بينهما على ألف درهم ومائة دينار فيكون الألف درهم بأقل من ألف درهم وذلك ربا وكذلك لو كان لأحدهما عليه كر حنطة وللآخر كر شعير قرض فصالحاه على كر حنطة فهو باطل لأنا لو جوزناه لم يكن بد من قسمة المقبوض على قيمة كر حنطة وقيمة كر شعير بينهما وقبضت الحنطة دون كيلها وذلك ربا.(21/74)
ولو صالحاه على مائة درهم وقبضاها قبل أن يتفرقا جاز وتقسم المائة بينهما على قيمة الحنطة والشعير لأنهما كالبائعين منه الحنطة والشعير بمائة درهم والبدل يقسم على قيمة المبدل ولو كان لرجلين على امرأة ألف درهم فتزوجها أحدهما على حصة منها فهو جائز ولا يرجع صاحبه عليه بشيء لأنه لم يقبض بحصته شيئا مقبوضا يقبل الشركة فإنه يملك به البضع والبضع ليس بمال متقوم ولا يكون مضمونا على أحد فلا يقبل الشركة فهو كالجناية التي تقدمت وروى بشير عن أبي يوسف رحمه الله أن للآخر أن يشاركه فيضمنه نصف نصيبه من الدين لأن النكاح إنما ينعقد بمثل تلك الخمسمائة والصداق لا يجب بالعقد ويكون مالا متقوما ثم يصير الزوج مستوفيا لنصيبه من الدين بطريق المقاصة لأن آخر الدينين دين المرأة فتصير هي قاضية به نصيب الزوج من الدين وكذلك لو كان لامرأتين على زوج إحداهما ألف درهم فاختلعت منه فليس للأخرى أن ترجع عليها بشيء لأنها لم تقبض شيئا(21/75)
ص -38- ... ولو كان تزوجها أحدهما على خمسمائة ثم قاصها بحصته من الألف أو لم يقاصها رجع عليه شريكه بمائتين وخمسين لأنه صار مستوفيا نصيبه بطريق المقاصة ثم تتبع ابنها بخمسمائة ولو طلقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بمائتين وخمسين لتنصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ويتبعانها بخمسمائة أيضا فيكون عليها سبعمائة وخمسون فما خرج من ذلك كان بينهما على حساب ذلك أثلاثا.
ولو كان لرجلين على رجل ألف درهم فقال له أحدهما قد برئت إلي من خمسمائة فهذا إقرار بالقبض ولشريكه أن يأخذه بنصفها لأنه قد أقر ببراءته بفعل مبتدأ بالمطلوب متحتم بالطالب وذلك بطريق الإيفاء فكان هذا وإقراره باستيفاء نصيبه سواء وكذلك لو استأجر منه أحدهما دارا بحصته منها وسكنها فهو بمنزلة القبض أو استأجر بنصيبه عبدا للخدمة أو أرضا للزراعة لأن المنافع مال في حكم العقد وهي بالاستيفاء تدخل في ضمان المستأجر بمنزلة المشتري ولو اشترى أحدهما بنصيبه شيئا كان ذلك بمنزلة القبض وللآخر أن يرجع عليه بنصف نصيبه فكذا هذا وروى بن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال هذا إذا استأجر أحدهما بخمسمائة ثم أصاب قصاصا بنصيبه فأما إذا استأجر بحصته من الدين لم يكن للآخر أن يرجع عليه بشيء وجعل هذا بمنزلة النكاح لأن المنفعة ليست بمال مطلق فإذا كان بدل نصيبه المنفعة لا يضمن باعتباره مالا مطلقا لشريكه والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الصلح في السلم(21/76)
قال رحمه الله: وإذا صالح الرجل من السلم على ماله لم ينبغ له أن يشتري به شيئا حتى يقبضه عندنا وقال زفر رحمه الله لا يشترط ذلك لأنه ليس له وجه رده بسبب القبض فيجوز الاستبدال به كالمغصوب والمستقرض وهذا لأن إقالة السلم فسخ وليس بعقد مبتدأ بينهما بدليل أنه لا يستحق قبض رأس المال في المجلس والدين بالدين حرام فإذا كان فسخا وجب رد رأس المال بسبب القبض لا بسبب عقد السلم ولكنا نقول قد ثبت بالنص إن رب السلم ممنوع شرعا من أن يأخذ غير رأس المال وغير المسلم فيه فلو جوزنا الاستبدال بعد الإقالة أدى إلى ذلك وإنما لا يجوز الاستبدال بالمسلم فيه قبل الإقالة بهذا المعنى لما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد فالإبراء عن المسلم فيه يصح بالاتفاق وهذا المعنى موجود في الاستبدال برأس المال بعد الإقالة فيكون ذلك فاسدا شرعا فإن كان رأس مال السلم عوضا فصالح عليه ثم هلك قبل أن يقبضه فعلى المسلم فيه قيمته لأن الإقالة لا تنقض بهلاك رأس المال قبل الفسخ فإن إقالة السلم بعد ما صح لا تحتمل الفسخ لأن المسلم فيه كان دينا وقد سقط بالإقالة والساقط متلاش لا يتصور عوده ولهذا لو أراد فسخ الإقالة لم يملكها.
ولو اختلفا في رأس المال بعد الإقالة لم يتخالفا فإذا ثبت أن الإقالة باقية بعد هلاك العوض قلنا تعذر رد العين مع بقاء السبب الموجب للرد فتجب قيمته كالمغصوب وكذلك لو هلك قبل أن يتناقض السلم لأن ما لا يمنع بقاء الإقالة لا يمنع ابتداء الإقالة وهذا لأن(21/77)
ص -39- ... السلم في حكم بيع المعاوضة فإن المسلم فيه بيع وهو قائم بمحله بعد هلاك رأس المال وهلاك أحد العوضين في المعاوضة لا يمنع الإقالة ابتداء وبقاء فإن كان للسلم كفيل يبرأ الكفيل حين وقع الصلح على رأس المال لأن الأصيل بريء عن المسلم فيه لأنه لو كان بدلا عنه لم تصح الإقالة فإن مبادلة الدين بالدين حرام لكنه دين آخر لزم الأصيل ولم يكفل به الكفيل ولا يجوز الصلح من السلم على جنس آخر سوى رأس المال لأنه استبدال بالمسلم فيه وذلك فاسد والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أسلمت في شيء فلا تصرفه في غيره ولو كان السلم كر حنطة فصالحه منه على نصف كر حنطة على أن أبرأه مما بقي جاز" لأن هذا حط ولا إبراء عن جميع المسلم فيه صحيح في ظاهر الرواية لأنه دين لا يستحق قبضه في المجلس وقد بيناه في البيوع فكذلك الإبراء عن بعضه.(21/78)
وكذلك لو كان السلم كر حنطة جيدة فصالحه على كر رديء إلى شهر لأن رب السلم تبرع بالتأجيل بعد ما حل حقه وتجوز بدون حقه أيضا وذلك مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين:"أحسن إلى الشريك ولو كان السلم كر حنطة رديئة فصالحه على كر جيدة" على أن يزيده رب السلم درهما في رأس المال لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وجاز في قول أبي يوسف رحمه الله إذا نقده الدراهم قبل أن يتفرقا وقد بينا هذه الفصول في كتاب البيوع في الحط والزيادة في المكيل والموزون والمذروع إلا أن قول أبي يوسف رحمه الله لم يذكر في كتاب البيوع وإنما ذكر هنا فأما المسائل فهي التي ذكرناها في البيوع أعادها هنا ولو كان المسلم فيه كر حنطة إلى أجل والثمن دراهم أو شيء بغير عينه فاصطلحا على أن زاده الذي عليه السلم نصف كرحنطة إلى ذلك الأجل لم تجز الزيادة لأنها لو جازت كانت برأس مال دين يبتدئ عقد السلم برأس مال هو دين لا يجوز فكذلك الزيادة ولهذا لم تجز الزيادة في الثمن بعد هلاك المبيع اعتبارا لحالة الزيادة بحالة ابتداء العقد وعلى المسلم إليه أن يرد ثلث رأس المال إلى رب السلم وعليه كر حنطة تام في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ليس عليه رد شيء من رأس المال لأنه ما حط شيئا من رأس المال إنما زاده في المسلم فيه ولم تثبت تلك الزيادة فبقي جميع رأس المال بمقابلة الكر والعقد في جميع الكر باق فلا يجب رد شيء من رأس المال وأبو حنيفة رحمه الله يقول الزيادة في المعقود عليه حال قيام العقد وبقاء المعقود عليه صحيح كما في بيع العين وإنما تعذر إثبات الزيادة هنا لأنه دين بدين فإذا لم تثبت الزيادة في المسلم فيه باعتبار هذا المعين وجب رد الدين الذي بمقابلة هذا لأنه لو ثبتت هذه الزيادة ألحقت بأصل العقد ويصير كأنه أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ونصف ثم أبطلا العقد في نصف الكر فيجب رد حصته من رأس المال وهو الثلث(21/79)
وإقدامه على هذه الزيادة إخراج الثلث من رأس المال حتى يكون بمقابلة الكر فإذا لم يكن جعله بمقابلة نصف الكر جعل حطا ليحصل(21/80)
ص -40- ... مقصوده وهو إخراج الغبن من العقد وإدخال الرخص فيه وهذه المسألة نظير ما ذكرنا في العتاق فيما إذا قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني لم يعتق عندهما لأن ما صرح به صار لغوا لم يثبت به شيء آخر وعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل ذلك عبارة عن الإقرار بالعتق مجازا فهنا أيضا تحصيل الزيادة في المسلم فيه عبارة عن حق حصته من رأس المال فجاز.
وإن كان السلم عشرة دراهم في رأس المال جاز لأن المعقود عليه قائم في الذمة فتجوز الزيادة في السلم ملتحقة بأصل العقد ثم مجلس الزيادة فيما زاد كمجلس العقد في رأس المال لأنها وجبت في هذا المجلس فيشترط قبضها قبل أن يتفرقا فإن تفرقا قبل أن يقبض العشرة بطلت حصتها من الكر كما لو كانت الزيادة مذكورة في أصل العقد فتفرقا قبل قبضها فإن كان السلم ثوبا يهوديا قد حل فصالحه على نصف رأس المال وعلى أن يعطيه نصف الثوب جاز عندنا لأنهما تقايلا السلم في النصف وذلك جائز اعتبارا للبعض بالكل وفيه يقول بن عباس رضي الله عنهما ذلك المعروف الحسن الجميل فإن أتاه بنصف ثوب مقطوع لم يجبر على أخذه لأنه في حال قيام العقد في الكل لو أتاه بالثوب مقطوعا نصفين لم يجبر على أخذه فكذلك بعد الإقالة في النصف وهذا لأن القطع في الثوب عيب فكما استحق صفة السلامة في جميع الثوب بالعقد يستحقها في النصف الذي بقي فيه العقد فلا يجبر على أخذ ثوب مقطوع ولكنه تأيد بثوب صحيح فيكون له نصفه ويكونان شريكين فيه.(21/81)
ولو كان السلم إلى أجل فصالحه على أن يأخذ نصف رأس المال ويناقضه السلم ويعجل له نصف السلم قبل الأجل جاز النقض في نصف رأس المال ولم يجز التعجيل لأن الصلح على رأس المال إقالة وقد شرط في الإقالة تعجيل النصف الآخر وإسقاط المسلم إليه حقه في الأجل وهو شرط فاسد إلا أن الإقالة لا تتعلق بالجائز من الشروط ولهذا لا يشترط فيها تسمية البدل فالفاسد من الشروط لا يبطلها وأما شرط التعجيل في النصف الآخر فباطل لأنه مقابلة الأجل بشيء مما عاد إليه المسلم فيه أو بمنفعة حصلت له بالإقالة في النصف وذلك باطل فيكون الباقي عليه إلى أجله ولو كان أسلم كر حنطة إلى رجل فصالحه على أن زاده في الأجل شهرا على أن حط عنه من رأس المال درهما ورد عليه الدرهم لم يجز لأنه مقابلة الأجل بالدرهم المردود وذلك ربا ولو كان حالا فرد عليه من رأس المال درهما على أن الكر عليه كما كان أو على أن أخره شهرا كان جائزا أما إذا شرط أن الكر عليه كما كان فهو غير مشكل لأن المسلم إليه حط درهما من رأس المال ولم يشرط لنفسه بمقابلته شيئا وإنما الإشكال في قوله أو على إنه أخره شهرا فإن كان المراد على أن أخر المسلم فيه عنه شهرا فهو غلط لأنه مقابلة الأجل بالدرهم الذي رده عليه وذلك ربا وإن كان المراد منه على أن أخره بالدرهم المحطوط شهرا فهذا صحيح لأن المحطوط واجب رده باعتبار القبض فيجوز التأجيل فيه كالمغصوب المستهلك وهو الظاهر من مراده لأنه قال وكذلك لو افترقا قبل أن يقبض الدرهم فبه تبين أن المراد بيان أن المحطوط لا يجب قبضه في المجلس ويجوز التأجيل(21/82)
ص -41- ... فيه وإذا اصطلحا على أن يرد عليه رأس المال وهي جارية قد ولدت عند المسلم إليه فإنه يأخذ قيمتها يوم دفعها إليه لأن الزيادة المنفصلة متولدة من عينها ومثل هذه الزيادة تمنع فسخ العقد على العين لأن الولد يبقى فضلا خاليا عن المقابلة فيكون ربا وقد بيناه في البيوع إلا أن الإقالة لا تبطل بالشرط الفاسد واشتراط رد عينها بعد الولادة بشرط فاسد لا يمنع صحة الإقالة وبعد صحتها يجب رد قيمتها يوم قسطها لتعذر رد عينها.
وكذلك لو قتل الولد فأخذ أرشه لأن قيام بدله في يده كقيام عينه وإن كان الولد مات كان له أن يأخذ الجارية لأن المانع كان هو الزيادة وقد فات من غير صنع أحد فصار كأن لم يكن فإن كانت الولادة بقبضها كان لرب السلم الخيار إن شاء أخذها وإن شاء أخذ قيمتها يوم دفعها بمنزلة لو تعيبت عنده بعيب آخر وهذا لأن تعذر الرد بعد النقصان فحق رب السلم فإذا رضي به جاز رده فأما بعد الزيادة بعد الرد فحق الشرع وهو معنى الربا فلا يسقط ذلك برضا رب السلم بها ولو لم تكن ولدت ولكنه جنى عليها فأخذ أرش الجناية لم يكن لرب السلم إلا قيمتها لأن الأرش بدل جزء من عينها فهو بمنزلة الزيادة المنفصلة المتولدة من العين ولو كان المسلم إليه باعها لرب السلم ثم صالحه على رأس المال فعلى المسلم إليه قيمتها يوم قبضها بمنزلة ما لو باعها من غيره وكذلك لو وهبها له على عوض فالهبة بشرط العوض بعد التقابض كالبيع وإن وهبها بغير عوض ففي القياس كذلك بمنزلة ما لو وهبها من غيره وفي الاستحسان لا يرجع بشيء لأن ما هو المقصود له عند الإقالة قد حصل له قبل الإقالة وهو عود رأس المال إليه مجانا فلا يستوجب عند الإقالة شيئا آخر كمن عليه الدين المؤجل إذا أجل ثم حل الأجل بخلاف البيع فهناك لم يحصل مقصوده لأن رأس المال ما يسلم له إلا بعوض غرمه من ماله وهذا نظير ما بيناه في الصداق إذا كان عينا فوهبته للزوج ثم طلقها قبل أن يدخل بها.(21/83)
وإذا كان السلم حنطة رأس مالها مائة درهم فصالحه على أن يرد عليه مائتي درهم أو مائة وخمسين درهما لم يجز لأن هذا استبدال وليس بإقالة فإنه يسمى فيه ما لم يكن مذكورا في العقد والصلح إنما يكون إقالة إذا كان على رأس المال فإذا كان على شيء آخر فهو استبدال والاستبدال بالمسلم فيه باطل وإن صالحه على مائة درهم من رأس ماله فهو جائز لأن حرف من هنا صلة فيبقى الصلح على مائة درهم رأس ماله وذلك إقالة وكذلك إن قال خمسين درهما من رأس مالك فهو جائز لأنه لم يذكر فيه ما لم يكن مستحقا بالعقد فيكون إقالة فإن قال مائتي درهم من رأس مالك فهو باطل لأن رأس المال دون المائتين فحين ذكر في الصلح ما لم يكن مذكورا في العقد كان ذلك استبدالا للمسلم فيه وإذا كان بعض ما هو مذكور في العقد فهو إقالة صحيحة وشرط ترك بعض رأس المال له باطل والإقالة لا تبطل بالشرط الفاسد وإذا سلم الرجل إلى رجل ثوبا في كر حنطة وفيه المسلم إليه ثم إن المسلم إليه سلم ذلك الثوب إلى آخر ثم صالحه الأول على رأس المال ثم صالح الثاني الثالث على(21/84)
ص -42- ... رأس ماله فرد عليه الثوب لم يرده على الأول ويأخذ منه الأول قيمته لأن الأول صالحه على رأس المال والثوب خارج عن ملكه فيجب عليه بهذا الصلح رد قيمته ثم عاد إليه الثوب بملك مستقبل في حق الأول على ما عرف على أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما وفي حق الأول عاد الثوب بملك مستقبل فلهذا يأخذ قيمته ولا سبيل له على عينه كما لو اشتراه الثاني من الثالث فإن اصطلحا كان له ذلك لأن رأس ماله بعينه وهو عائد إليه بطريق الفسخ في حقه وإنما جعل الإقالة بمنزلة البيع الجديد في حق غيره لدفع الضرر فإذا وقع التراضي عليه فقد اندفع الضرر فهذا لأن الاستبدال إنما لا يجوز لما فيه من أخذ رأس المال وغيره المسلم وذلك لا يوجد هنا فإنما يأخذ رأس ماله بعينه وإن كان عوده إليه بحكم ملك جديد وهذا لأن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين لتراضيهما عليه وإذا رضي الأول بذلك كان فسخا في حقه أيضا وهذا بخلاف ما إذا قضى القاضي له بالقيمة قبل أن يصالح الثاني مع الشك لأن حقه هناك تقرر في القيمة بقضاء القاضي فلا يعود في العين بعد ذلك وإن قدر على رده وفي الأول لم يتقرر حقه في القيمة بقضاء القاضي فيعود التعين إذا وقع التراضي عليه كما في المغصوب الآبق إذا عاد لأن هناك بعد قضاء القاضي لو اصطلح على أخذ العبد جاز بطريق إنه بدل عن القيمة التي قضى بها القاضي وهنا لا يجوز لأن القيمة التي قضى بها القاضي رأس مال السلم والاستبدال برأس المال بعد الإقالة لا يجوز بالتراضي.(21/85)
وكذلك لو كان الأوسط قبل الثوب بغير حكم بعيب بعد الصلح الأول أو قبله لأن قبوله بالعيب حكم بمنزلة الإقالة ولو رد عليه بعيب بقضاء قاض ثم ناقض الأقل رده بعينه لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من الأجل أعاد إليه الثوب على الملك الذي كان له قبل ملك الثاني فهو وما لو صالح الأول على رأس المال قبل العقد الثاني سواء ولو كان ناقضه السلم قبل أن يرد عليه الثوب فقضى له بقيمته ثم رد الثوب عليه بعيب بقضاء القاضي كان عليه قيمته بسبب المناقضة لأن القيمة تقررت عليه بقضاء القاضي فلا يسقط عنه بعود رأس المال إليه بعد ذلك على أي وجه عاد ولكن الثوب رد عليه بالعيب بسبب هو فسخ من الأصل فيكون له أن يرده بالعيب على بائعه ويأخذ قيمته وإنما رده بالعيب لدفع الضرر عنه وأخذ القيمة لأن مناقض السلم عقد الرد فبطل ولما صار رأس المال هو القيمة التي قبضها بقي هنا الثوب ثوبا بنفسه أن يسلم إليه على رد السلم وقد تعذر رده إليه سليما فيلزمه قيمته كما في الصداق إذا رد بعيب فاحش يؤخذ قيمته من الزوج.
ولو كان وهبه ثم اشتراه أو ورثه ثم أقاله السلم كان عليه قيمة الثوب لأنه عاد إليه الثوب بملك متجدد بالشراء وفي الوراثة كذلك لأن الوارث يخلف المورث في الملك والملك الذي كان للمورث كان ملكا متجددا سوى المستفاد بعقد السلم فيخلفه الوارث في ذلك الملك واختلاف سبب الملك باختلاف العين لأنهعاد إليه عين آخر فلهذا لزمه عند(21/86)
ص -43- ... الإقالة قيمة الثوب ولو رجع في الهبة ثم ناقضه السلم رد عليه بعيبه لأن الرجوع فسخ الهبة سواء حصل بقضاء أو بغير قضاء وإنما يعود إليه الملك الذي كان قبل الهبة وإذا مات رب السلم أو المسلم إليه ثم صالح الحي الوارث وماتا جميعا ثم صالح الوارث على رأس المال جاز لأن الوارث خلف المورث فيما كان له والصلح على رأس المال إقالة تستفاد بالملك دون العقد.
ألا ترى أن الوكيل بالشراء لا يملك الإقالة بعد الشراء والموكل يملكها لأن الملك له فإذا كان الوارث قائما مقام المورث في الملك قام مقامه في الإقالة أيضا وإذا صالح رب السلم المسلم إليه على أن يرد عليه رأس المال وبعض المسلم فيه لم يجز لأن هذا استبدال للمسلم فيه فإن بمقابلة نصف المسلم فيه نصف رأس المال وهو قد صالحه على أن يرد عليه بمقابلة نصف المسلم فيه جميع رأس المال فيكون هذا استبدالا وذلك باطل ولو كان رأس المال ثوبا فصالحه على أن إبرأه عن الطعام على أن يرد عليه رب السلم خمسة دراهم فهذا باطل أيضا لأن المسلم فيه يأخذ الخمس أيضا بغير شيء أعطاه إياه فإن الطعام قد سقط عنه كله ومثل هذا يكون ربا وإذا كان رأس المال عرضا فصالحه فباعه المسلم إليه من رب السلم بطعام مثل طعامه أو أكثر جاز وإن رب السلم بائع لذلك العرض وقد اشترى بعد السلم بمثل ما باعه أو بأكثر وذلك جائز وإن باعه بأقل لم يجز لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد السلم وهو المسلم فيه فغير جائز لأنه استرباح على ما لم يدخل في ضمانه وقد بيناه في البيوع وكذلك لو كان ذلك بطريقة الصلح.(21/87)
وإذا كان رأس المال شاة فأصاب المسلم إليه من لبنها وصوفها وسمنها ثم صالحه على رأس المال جاز وعليه ثمنها لمكان الزيادة المتولدة من العين كما في الولد الذي قدمنا قال إلا أن يرضى رب السلم أن يأخذ الشاة بعينها ومراده إذا لم تكن الزيادة قائمة ولكن المسلم إليه هنا استهلكها فإن لم يجب عليه عوض بالاستهلاك فيكون هذا بمنزلة تفويته جزءا من عينها وذلك يمنع رد عينها بعد الإقالة إلا أن يرضى به رب السلم فهذا مثله وكذلك لو كان نخلا فأكل من ثمرته بخلاف الولد الذي أعتقه فهناك ولاء الولد باق له والولاء أثر من آثار الملك فيكون بقاؤه كبقاء ملكه في الولد فيمنع رد عينها وإن رضى رب السلم بها رهنا بعد الاستهلاك لم يبق شيء من الزيادة فوزان هذا من ذلك أنه لو قتل الولد ولو كان عبدا فأكل من غلته ثم صالحه على رأس المال كان عليه أن يرد العبد ولا يرد الغلة لأن الغلة ليست متولدة من العين وقد بينا الفرق بينها وبين الزيادة من العين في البيوع قال فإذا كان السلم فاسدا فلا بأس بأن يشتري برأس ماله ما يشاء يدا بيد كما يشتري بالعرض لأن المسلم فيه مع فساد العقد غير مستحق فما بقي من رأس المال لا يكون بدلا من المسلم فيه ولا هو مستحق بقية السلم إنما هو بمنزلة قرض أقرضه والاستبدال ببدل القرض جائز بخلاف الاستبدال برأس المال بعد الإقالة في باب السلم لأن المقبوض كان مستحقا بعقد القبض(21/88)
ص -44- ... وكان السلم بدلا عن المسلم فيه فلا يجوز الاستبدال فيه بعد الفسخ كما لا يجوز الاستبدال في المسلم فيه ولا برأس المال قبل الفسخ.
وإذا كان للمتفاوضين سلم على رجل فصالحه أحدهما على رأس المال جاز لأن الإقالة من صنع التجار وأحد المتفاوضين في صنع التجار قائم مقام صاحبه وكذلك شركاء العنان لأن الصلح عن المسلم فيه على رأس المال إقالة وأحد الشريكين يملك ذلك في حق شريكه كما في الإقالة في بيع العين لو اشتريا عبدا ثم أقال أحدهما المبيع من البائع جاز ذلك على شريكه لأن أكثر ما فيه أن الإقالة بمنزلة بيع جديد وكل واحد من الشريكين يملك ذلك وكذلك يملك الإقالة والصلح على رأس المال في السلم ولو أمر رجل رجلا فأسلم له في كر حنطة ثم صالح الذي ولي السلم على رأس المال جاز عليه ويضمن كر سلم للآمر في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف رحمهما الله لا يجوز صلحه على رأس المال وقد بينا هذا في البيوع أن الوكيل بالسلم إذا أبرأ المسلم إليه جاز في قولهما وكان للآمر مثل طعامه وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز وكذلك إذا أبرأه لا بطريق الصلح على رأس المال وهذا بخلاف الوكيل بالشراء إذا أقال البيع لأن المشتري هناك صار مملوكا للموكل بعينه وإقالة الوكيل تصادف محلا هو حق غيره بغير أمره فأما المسلم فيه فهو دين واجب بالعقد والعاقد فيه لغيره كالعاقد لنفسه.(21/89)
ألا ترى أن حق القبض إليه على وجه لا يملك الموكل عزله عنه والدين في الذمة ليس إلا حق المطالبة بالسلم فتصرفه من حيث الإقالة إسقاط لذلك وهو حق الوكيل فلهذا صح ولكن إذا قبضه تعين المقبوض ملكا للآمر فإذا أقره عليه كان ضامنا له مثله ولو كان الآمر هو الذي صالح المطلوب على رأس المال وقبضه جاز بمنزلة ما لو أبرأه لا بطريق الصلح وهذا لأنه يصير المقبوض ملكا له بالقبض وقد بينا أن ملك الإقالة باعتبار ملك المعقود عليه وباعتبار المال ملك المعقود له عليه فإن المقبوض في عقد السلم عين ما تناوله العقد لا غيره فلهذا صحت الإقالة عن الموكل فصار الحاصل أن الاعتبار حال الدينية هو حق الوكيل لأنه مختص بالمطالبة والقبض وباعتبار حال العينة هو حق الموكل فتصح الإقالة والإبراء من كل واحد منهما باعتبار أن تصرفه يلاقي محلا هو حقه.
وإذا أسلم رجلان عشرة دراهم في كر حنطة فنقد هذا من عنده خمسة وهذا من عنده خمسة ولم يخلطا العشرة ثم صالح أحدهما على رأس ماله وأخذه فهو جائز ولا يشركه الآخر فيه في قول أبي يوسف رحمه الله لأن أصل رأس المال لم يكن مشتركا بينهما ولم يذكر قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في هذا الكتاب وقد ذكر في كتاب البيوع أن الصلح من أحد ربي السلم يتوقف على إجازة الآخر عندهما فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا على الخلاف أيضا إذ لا فرق بين أن يكون رأس المال الذي نقداه مختلطا أو غير مختلط ومنهم من يقول بل جوابهما هنا كجواب أبي يوسف رحمه الله وهذا لاختلاف الطرق لهما(21/90)
ص -45- ... في تلك المسألة فعلى الطريق الذي قلنا إن وجوب المسلم فيه باعتبار عقدهما وكل واحد منهما فيه كشطر العلة الجواب في الفصلين واحد وعلى الطريق الذي قلنا إن تجويز صلح أحدهما يؤدي إلى أن يبطل حق رب السلم عن المسلم فيه ويتقرر في رأس المال ثم يعود في المسلم فيه هذا الجواب قولهم جميعا لأن ذلك إنما يتحقق باعتبار مشاركة الساكت مع المصالح في المقبوض وليس له حق المشاركة هنا إذا لم يكن بينهما شركة فيما نقدا من رأس المال ولو لم يأخذه من رأس المال وقبض شيئا من السلم شاركه صاحبه فيه لأن طعام السلم وجب بالعقد مشتركا بينهما والعقد صفقة واحدة فيشارك أحدهما صاحبه فيما يقبض من الدين المشترك وإذا أسلم الذميان إلى ذمي في خمر ثم أسلم أحدهما بطلت حصته من السلم ورجع إليه رأس ماله لأن إسلامه يمنعه من قبض الخمر بحكم السلم.
ألا ترى أن الخمر لو كانت مبيعا عينا بطل العقد بإسلامه قبل القبض فإذا كانت مملوكة بالعقد دينا أولى فإن صالح من رأس ماله على طعام بعينه أو إلى أجل لم يجز لأن أصل السلم كان صحيحا فإنما عاد إليه رأس المال بعد صحة السلم ببطلان العقد فهو بمنزلة ما لو عاد إليه بالإقالة وقد بينا أن الاستبدال بالمال بعد الإقالة لا يجوز ولو توى لنصراني مال من هذا السلم كان له أن يشارك المسلم فيما قبض من رأس المال لأن أصل رأس المال كان مشتركا بينهما وقد عاد إلى أحدهما بصفة بطريق لا يمكن رده وهو الإسلام فيكون للآخر حق المشاركة معه في المقبوض إذا توى ماله على المسلم إليه من الخمر لأن سلامة المقبوض له كانت بشرط أن يسلم ما بقي من الخمر للآخر وهو بمنزلة دين مشترك بين اثنين إذا صالح أحدهما المديون على شيء وأجاز الآخر اتباع المديون بنصيبه ثم توى ما عليه فإنه يكون له أن يشارك صاحبه فيما قبض فهذا مثله.(21/91)
ولو أعتق نصراني عبدا نصرانيا على خمر ثم أسلم أحدهما فعليه قيمة نفسه في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله وفي القول الأول وهو قول محمد رحمهما الله عليه قيمة الخمر وهذا بناء على مسألة كتاب البيوع إذا أعتق عبده على جارية فاستحقت الجارية أو هلكت قبل التسليم لأن هنا تعذر تسليم الخمر بإسلام أحدهما بعد صحة التسمية فهو بمنزلة ما لو تعذر بالهلاك أو الاستخلاف والرد بالعيب قال وكذلك الخلع والنكاح والصلح عن دم العمد وقد بينا هذا في كتاب النكاح إن عند أبي يوسف رحمه الله إذا أسلم أحدهما فله مهر مثلها وعند محمد رحمه الله لها قيمة الخمر والخنزير وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بين العين والدين والخمر والخنزير ولو أسلم نصراني خمرا إلى نصراني في حنطة وقبض الخمر ثم أسلم أحدهما لم ينتقض السلم لأن الإسلام طرأ بعد قبض الحرام وإنما بقي من حكم العقد قبض الحنطة والإسلام لا يمنع من ذلك ولو صالح المسلم منهما على رأس ماله لم يجز لأن رأس المال خمر والمسلم ليس من أهل أن يملك الخمر بالعقد ولا بالفسخ(21/92)
ص -46- ... ألا ترى أن نصرانيا لو باع نصرانيا جارية بخمر وتقابضا ثم أسلم أحدهما ثم تعاملا لم يجز فكذلك في السلم إذا صالحا على رأس المال وهذا كما لا يتملك المسلم الخمر بالعقد والفسخ لا يملك قيمتها وبه فارق ما لو هلك رأس المال ثم صالحه عليه لأن هناك تصحيح الإقالة على قيمتها ممكن وإنها مال متقوم في حقه وهنا يتعذر تصحيح الإقالة على قيمتها لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وإذا أسلم نصراني إلى نصراني خنزيرا في خمر وقبض الخنزير واستهلكه ثم أسلم أحدهما انتقض السلم لأن الحرام مملوك بالعقد غير مقبوض حين طرأ الإسلام وعليه قيمة الخنزير لأن الخنزير ليس من ذوات الأمثال وحين استهلكه كان هو مالا متقوما في حقهما فيحول حكم رأس المال إلى قيمته.(21/93)
ألا ترى أنهما لو تقايلا قبل الإسلام وجب رد قيمة الخنزير وكذلك إذا أسلم أحدهما حين انتقض به السلم بخلاف الأول فإن الخمر من ذوات الأمثال ولو استهلكها ثم تقايلا قبل الإسلام كان الواجب الرد مثل تلك الخمر والإسلام يمنع استحقاق تلك أو قيمتها بالإقالة للمسلم وإذا صالح الكفيل بالسلم الطالب من السلم على ثوب والسلم حنطة لم يجز لأن رب السلم بهذا الصلح يصير مملكا الحنطة من الكفيل بالثوب وإذا كان تمليك المسلم فيه من المسلم إليه بعوض لا يجوز فمن غيره أولى ثم هذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ظاهر لأنه لو صالح الكفيل على رأس المال لم يجز عندهما فإذا صالحه على شيء آخر أولى وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز صلحه مع الكفيل على رأس المال لأنه قائم مقام المسلم إليه مطلوب بطعام السلم كالمسلم إليه وصلحه مع المسلم إليه على غير رأس المال يكون استبدالا ويكون باطلا فكذلك صلحه مع الكفيل ولو صالح الكفيل رب السلم على أن زاده رب السلم درهما في رأس المال وقبضه لم يجز لأن أصل الطعام المسلم في المسلم إليه والكفيل مطالب به فلا يمكن إثبات هذه الزيادة على أن يملكها المسلم إليه لأنه ليس لأحد ولاية إدخال الشيء في ملكه من غير رضاه ولأن رب السلم ما أوجب له الزيادة إنما أوجبها للكفيل ولا يمكن إثباتها للكفيل لأن الزيادة ملحقة بأصل العقد وبأصل العقد لا يجوز أن يملك شيئا من رأس المال بالشرط ممن لا يجب عليه شيء من أصل طعام السلم وليس في ذمة الكفيل شيء من أصل طعام السلم فلهذا لا تثبت الزيادة على الكفيل أن يرد الدراهم ولأن الزيادة تثبت على أن يتغير بها وصف العقد والكفيل ليس بعاقد فلا يملك التصرف في وصف العقد وهو دليل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في أن الكفيل لا يملك الصلح على رأس المال لأن ذلك فسخ للعقد وإذا عقد لم يكن إليه تغيير وصف العقد فلا يكون له ولاية فسخ العقد بطريق الأولى.(21/94)
ولو قال الطالب للكفيل: قد أغلى على السلم فزاده الكفيل مختوم حنطة في السلم لم يجز ذلك كما لو زاده المسلم إليه ولم يحط به شيء من رأس المال لأن الكفيل لا يملك حط شيء من رأس المال فإن رأس المال صار متحققا للمسلم إليه وليس إلى الكفيل ولاية(21/95)
ص -47- ... إسقاط حقه وقد بينا أن الكفالة بطعام السلم لا تمس رأس المال فلهذا لم يثبت حط شيء من رأس المال بزيادة الكفيل في طعام السلم ولو زاد رب السلم درهما على أن زاده الكفيل مختوم حنطة لم يجز ذلك أيضا لأن كل واحد منهما على الانفراد لا يمكن تصحيحه ولا يمكن أن يجعل هذا ابتداء إسلام الدراهم في مختوم حنطة من الكفيل لأنهما ذكرا ذلك على وجه الزيادة والزيادة تتبع الأصل فلو جعلنا هذا سلما مبتدأ كان أصلا لا زيادة فيكون غير ما أوجباه وذلك لا يجوز ولو كان السلم ثوبا مرويا فأعطاه الكفيل ثوبا أجود منه أو أطول منه على أن زاده رب السلم درهما لم يجز لأن هذه الزيادة لا يمكن إثباتها على سبيل الالتحاق بأصل العقد لما قلنا ولا يمكن إثباتها بمقابلة الجودة أو زيادة الزرع لأن رب السلم التزمها بيعا لا مقصودا بالمعاوضة وكذلك لو أعطاه ثوبا فرد على الكفيل درهما لم يجز لأن الكفيل لم يبايعه بشيء ولم يستحق عليه شيئا من المال فلا يمكن أن يجعل ذلك حطا في حق الكفيل.
ولو كان السلم طعاما فأعطاه الكفيل طعاما فيه عيب على أن يرد عليه درهما مع ذلك لم يجز لأن هذا مع الأصيل لا يجوز على ما بينا أن إقالة العقد في الوصف فكيف يجوز مع الكفيل ولو أعطاه طعاما فيه عيب وتجوز به رجع الكفيل على المكفول عنه بمثل ما كفل به لأن بعقد الكفالة وجب للطالب على الكفيل وللكفيل على المطلوب حق مؤجل إلى أن يقضي عنه ما التزمه وقد فعل ذلك حين أعطاه جنس حقه وتجوز هو بالعيب فيه فيرجع على المكفول عنه بمثل ما كفل به ولو أوفاه الكفيل السلم في غير الموضع الذي شرط فقبله كان له أن يرجع به على الأصيل في موضع الشرط لأنه استحق بالكفالة عليه مثل ما التزم وماله حمل ومؤنة تختلف ماليته باختلاف المكان فقبول رب السلم منه في غير الموضع المشروط بمنزلة قبوله المعيب فيكون له أن يطالب الأصيل بما استوجبه عليه بالكفالة وهو التسليم في الموضع المشروط.(21/96)
ولو صالحه الكفيل على أن يعطيه السلم في غير موضعه ويعطيه الأجر إلى ذلك الموضع لم يجز الصلح ويرد الأجر ويرد الطعام حتى يوفيه عند الشرط كما لو كان هذا الصلح مع الأصيل وقد بيناه في البيوع ولو كان شرط عليه أن يوفيه إياه بالسواد فصالحه على أن يعطيه بالكوفة ويأخذ له كذا من الأجر لم يجز ذلك ويرجع عليه بذلك إن كان دفعه كما لو صالح مع الأصيل على ذلك وهذا لأنه يأخذ المسلم فيه مع الزيادة وتلك الزيادة خالية عن المقابلة وإذا صالح الذي عليه أصل السلم الكفيل من الطعام على دراهم أو شعير أو ثوب فهو جائز لأن ما استوجبه على المسلم إليه ليس بمستحق له بعقد السلم بل بعقد الكفالة والكفيل بالكفالة والأداء يصير كالمقرض لما أدى إلى المسلم إليه والاستبدال ببدل القرض وبالدين الواجب بغير عقد السلم صحيح ثم إن كان صلحه بعد الأداء فهو ضامن وإن كان قبل الأداء فإن أدى الطعام إلى الطالب برئا جميعا لحصول مقصود المطلوب وهو براءة ذمته بأداء(21/97)
ص -48- ... الكفيل ولو أداه المكفول عنه رجع به على الكفيل لأن مقصود المسلم لم يحصل حين احتاج إلى أداء طعام السلم من ماله والكفيل بمنزلة المشتري منه لما أخذه ثم المقاصة بينهما إنما استوجب به الرجوع فيه فإذا أداه من مال نفسه لم تقع المقاصة فكان له أن يرجع على الكفيل به إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه ما أخذه به منه لأنه أخذ بطريق الصلح وهو مبني على التجوز بدون الحق وقد بينا نظيره في سائر الديون.
وإذا أسلم عشرة دراهم إلى رجل في كر حنطة إلى أجل وقبضها ثم مرض رب السلم وحل الطعام وهو يساوي عشرين درهما فتقايلا السلم ثم مات المريض ولا مال له غيره فإن الإقالة تجوز في ثلث الكر ويرد على الورثة ثلثي رأس المال وثلث الطعام لأن المريض بالإقالة حابي بنصف ماله ولا يمكن تصحيح المحاباة فيما زاد على الثلث ولا وجه لإزالة المحاباة في الزيادة بأن يغرم ذلك المسلم إليه من ماله لأن فيه عود الزيادة على رأس المال من رب السلم بطريق الإقالة وذلك لا يجوز ولا وجه إلى إبطال الإقالة لأن إقالة السلم لا يحتمل التبعيض فيتعين الإطلاق الذي قلنا وهو تصحيح الإقالة في ثلثي الكر وإبطالها في الثلث لأنه لو كان للمريض سوى هذا عشرة دراهم لكانت الإقالة تصح في الكل فإنه يسلم للورثة عشرون درهما والمحاباة بقدر عشرة فيقسم الثلث والثلثان فالسبيل فيه أن نضم ما عدمنا إلى الموجود ثم ننظر إلى ما عدمنا إنه كم هو من الجملة فتبطل الإقالة بقدره والعشرة التي عدمنا من الجملة الثلث فنبطل الإقالة في ثلث الكر ونجوزها في ثلثي الكر بثلثي رأس المال فيحصل للورثة ثلث كر قيمته ستة وثلثان وثلثا رأس المال ستة وثلثان فذلك ثلاثة عشر وثلث ويجعل للمسلم إليه ثلثا كر قيمته ثلاثة عشر وثلث بستة وثلاثين فإنما نفذ بالمحاباة له في ستة وثلاثين وقد سلم للورثة ضعف ذلك فينقسم الثلث والثلثان فإن قيل كيف تبطل الإقالة في الثلث والإقالة في السلم لا ناقض لها قلنا(21/98)
إنما ينفذ من تصرفات المريض ما يحتمل النقض بعد وقوعه فأما ما لا يحتمل النقض فالحكم فيه يثبت على سبيل التوقف كما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في العتق وقد قررنا هذا الأصل في كتاب العتاق والله أعلم بالصواب.
باب الصلح في الغصب
قال رحمه الله: رجل غصب عبدا من رجل ثم صالحه صاحبه من قيمته على دراهم مسماة حالة أو إلى أجل فهو جائز بمنزلة ما لو باع العبد منه بثمن حال أو مؤجل جاز سواء قل الثمن أو كثر فإن كان العبد مستهلكا فأقام الغاصب البينة أن قيمته أقل مما صالحه عليه بكثير لم تقبل بينته في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله تقبل بينته ويرد زيادة القيمة على الغاصب إن كان العبد مستهلكا وقت الصلح وإن كان قائما فالصلح ماض وأصل المسألة أن الصلح عن المغصوب الهالك على أكثر من قيمته يجوز في قول أبي حنيفة ولا يجوز في قولهما ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول موضع الخلاف إذا كان(21/99)
ص -49- ... العبد آبقا فأما إذا كان مستهلكا حقيقة فلا خلاف أن الصلح على أكثر من قيمته من النقود لا يجوز حتى إذا تصادقا على أن ما وقع عليه الصلح أكثر من القيمة يجب رده ولكن اختلفا فيه فأبو حنيفة رحمه الله يقول لا أقبل بينة الغاصب على أن قيمته دون ما وقع عليه الصلح لأن إقدامه على الصلح إقرار منه أن قيمته هذا المقدار أو أكثر منه فيكون هو مناقضا في دعواه بعد ذلك ويكون ساعيا في نقض ما تم به فلا يقبل ذلك منه وهما يقولان قد يخفى عليه مقدار القيمة في الابتداء أو يعلم ذلك ولا يجد الحجة لغيبة شهوده فإذا ظهر له ذلك أو حضر شهوده وجب قبول بينته على ذلك لأنه يقصد به إثبات حقه في استرداد الزيادة كالمرأة إذا خالعت زوجها ثم أقامت البينة أنه كان طلقها زوجها ثلاثا قبل الخلع والأصح عندي أن هذا كله يخلف فإن الصلح جائز عند أبي حنيفة رحمه الله على أكثر من قيمة المغصوب وإن كان مستهلكا وتصادقا إن ما وقع الصلح عليه أكثر من القيمة وعندهما لا يجوز وحجتهما في ذلك أن الواجب على الغاصب بعد هلاك العين القيمة وهي مقدرة من النقود شرعا فإذا صالح على أكثر منها من جنس النقود كان ربا كما لو قضى القاضي بالقيمة ثم صالحه على أكثر من القيمة والدليل على أن الواجب هو القيمة وإن ما يقع عليه الصلح بدل عن القيمة أنه لو صالحه على طعام موصوف في الذمة إلى أجل لا يجوز ولو كان ما يقع عليه الصلح بدلا عن العبد لجاز لأن الطعام الموصوف بمقابلة العبد عنه وبمقابلة القيمة يكون مبيعا وقاسا هذا بشريكين في عبد إذا أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر فيضمنه الآخر وصالحه على أكثر من نصف القيمة فإنه لا يجوز لأن الواجب نصف القيمة شرعا وكذلك لو كان المعتق معسرا فصالح الساكت العبد على أن استسعاه في أكثر من نصف القيمة لم يجز لهذا المعنى.(21/100)
وإذا قضى للشفيع بالشفعة بأكثر من الثمن الذي اشترى به المشتري فرضي الشفيع بذلك لم يجز لأن العوض تقدر شرعا بما أعطاه المشتري فلم تجز الزيادة عليه ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أن المغصوب بعد الهلاك باق على ملك المغصوب منه ما لم يتضرر حقه في ضمان القيمة بدليل إنه لو اختار ترك التضمين بقي العبد مملوكا على ملكه حتى تكون العين عليه وإن كان آبقا فعاد من إباقه كان مملوكا له ولو كان اكتسب كسبا كان له أن يأخذ كسبه ولو كان نصب سكة فيعقل بها سيده بعد موته كان للمغصوب منه وإنما يملك الكسب بملك الأصل وهذا لأنه إذا أبرأ الغاصب من إباقه يجعل القول قول الغاصب ولأن الغاصب هو المشتري للعبد بهذا الصلح فإذا قال هو عندي فقد أقر إنه محل البيع وإنه يصير قابضا له بنفس الشراء فيمكن تصحيح هذا الصلح بينهما شراء.
ألا ترى أن شراء الآبق لا يجوز فإن قال المشتري هو عبدي فقد أخذته ثم اشتراه جاز فكذلك المغصوب قال ولو غصبه كر حنطة ثم صالحه منه وهو قائم بعينه على دراهم مؤجلة فهو جائز لأن الدراهم إذا قوبلت بالحنطة يكون ثمنا والشراء بالثمن المؤجل جائز(21/101)
ص -50- ... فكذلك الذهب والفضة والموزونات كلها فأما إذا صالحه على مكيل فلا يجوز فيه النسيئة لأن الكل بانفراده يحرم النساء فإن كان الطعام مستهلكا لم يجز الصلح على شيء من ذلك نسيئة لأنه دين بدين ما خلا الطعام فإن صالحه على طعام مثله إلى أجل حالا فهو جائز لأنه تأجيل في ضمان المغصوب فإن الواجب بهذا الاستهلاك ضمان المثل ولا يتمكن في هذا الصلح معنى المبادلة وكذلك لو صالحه على أقل منه فإنه إسقاط لبعض الواجب وتأجيل فيبقى وإن صالحه على أكثر منه لم يجز نسيئة كان أو حالا لأجل الربا فالمصالح عليه إما أن يكون عوضا عن المستهلك أو عن مثله فكيفما كان فالفضل ربا ولو غصبه كر حنطة وكر شعير فاستهلكهما ثم صالحه على كر شعير إلى أجل على أن أبرأه من الحنطة فهو جائز لأنه أسقط حقه في الحنطة وأجله فيما عليه من ماله لتغيير كل واحد منهما صحيح إذا أفرده فكذلك إذا جمع بينهما وكذلك إذا كان أحدهما قائما فصالحه عليه على أن أبرأه من المستهلك لأنه مستوف عين حقه في القائم مبرئا له عن ضمان المستهلك.(21/102)
ولو غصبه مائة درهم وعشرة دنانير فاستهلكهما ثم صالحه منهما على كر حنطة بعينه ثم استحق الكراء ووجد به عيبا فرده رجع بالدراهم والدنانير لأن بالاستحقاق والرد بالعيب انتقض الصلح وكان قد صح بطريق المعاوضة فإنما يرجع بعد انتقاضه بالعوض الذي كان حقا له وهو الدراهم والدنانير وإن صالحه على خمسين درهما حالة أو مؤجلة فهو جائز لأنه مبرئ له عن الدنانير وعن بعض الدراهم ومؤجل له فيما بقي من حقه في الدراهم وكل ذلك مستقيم فإن استحقت بعد ما قبضها أو وجدها زيوفا أو ستوقة رجع بمثلها ولو لم ينتقض الصلح لأن صحته هنا بطريق الإسقاط دون المعاوضة فباستحقاق ما استوفى أو رده بعيب الزيافة لا يبطل الإبراء فيما سوى ذلك وإنما ينتقض القبض في المستوفي فيرجع بمثله وكذلك لو صالحه على وزن خمسين درهما فضة فصحة هذا الصلح بطريق الإسقاط لأن المستوفي من جنس حقه فلا يمكن تصحيح الصلح بطريق المعاوضة وكذلك لو غصبه مائة مثقال فضة تبرا وعشرة دنانير فصالحه على خمسين درهما حالة أو مؤجلة فهو جائز إذا كانت الدراهم مثل الفضة بطريق الجودة في الإسقاط لبعض حقه وإن كان خيرا منها لم يجز لأن زيادة الجودة فيما وقع عليه الصلح بمقابلة ما أسقط من الدنانير وبعض الدراهم وذلك ربا وهذا كله بخلاف ما سبق فيما إذا كانت الدنانير لإنسان والدراهم لآخر فصالحاه على مائة درهم أو صالحاه على عشرة دنانير لم يجز وقد غلط فيه بعض المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله فقالوا يجوز الصلح في الوجهين على أن يكون صاحب الدراهم مبرئا عن بعض حقه مستوفيا لما يخصه من الدراهم فإن تصحيح الصلح بهذا الطريق ممكن كما إذا كان المالان لواحد ولكن الفرق بينهما واضح فإن المالين إذا كانا لاثنين فلا بد من قسمة ما وقع الصلح عليه بينهما على قدر ماليهما. وإذا جعلنا صاحب الدراهم مبرئا عن بعض حقه لا يمكنه أن يزاحم صاحبه بما أبرأه عنه(21/103)
ص -51- ... من العشرة فلا بد من اعتبار معنى المعاوضة في المالين ابتداء وباعتباره يظهر الربا ولا يوجد هذا المعنى فيما إذا كان المالان لواحد منهما فلهذا صح الصلح بطريق الإبراء ولو غصبه كر حنطة فصالحه منه على نصف كر حنطة والمغصوب قائم بعينه أو صالحه على نصف الكر المغصوب ودفعه إليه واستفضل الثاني غير أن طعام الغصب لم يكن بحضرتهما حين اصطلحا فالصلح جائز حين لم يكن بحضرتهما فإنا نجبر الغاصب على رد العين في الحال وهو في حكم المستهلك من هذا الوجه فيمكن تصحيح الصلح بطريق الإسقاط كما لو كان الكر دينا فصالحه على نصفه وما استفضل الغاصب واجب له أن يرده على المغصوب منه لأنه غير ملكه ولا يتملكه الغاصب حقيقة بما جرى بينهما لأن تصحيح ما جرى بينهما بطريق المعاوضة غير ممكن وبطريق الإسقاط لا يملك العين فلهذا يؤمر بالرد وجميع ما يكال أو يوزن من الدراهم والدنانير في ذلك كالحنطة.
ولو غصب ألف درهم فأخفاها وغيبها عنه ثم صالحه على خمسمائة أعطاها إياه من تلك الدراهم أو من غيرها أحببت له أن يرد الفضل كما في الأول لأن الدراهم تتعين في الملك وفي البعض بحكم الغصب والرد كالحنطة فإن كانت الدراهم في يد الغاصب بحيث يراها المغصوب منه والغاصب منكر للغصب ثم صالحه على خمسمائة منها جاز وكذلك كل ما يكال أو يوزن لأن الغاصب بإنكاره الغصب يزعم أن العين ملكه والشرع جعل القول قوله فيتعذر على المغصوب منه أخذ عينه في الحكم ويكون بمنزلة المستهلك فيمكن تصحيح الصلح منهما بطريق الإسقاط فلهذا أمكن تصحيحه في الحكم ويكون بمنزلة المستهلك والمنكر آثم في الإنكار والغصب فإن وجد المغصوب منه بينة على بقية ماله الذي في يده قضيت له به لأنه لما وجد البينة فقد تمكن من استرداد العين وزال المعنى الذي لأجله كان في حكم المستهلك وتصحيح الصلح بطريق الإسقاط إنما يكون في المستهلك لا في حقهما فلهذا لا يشاركه فيما قبضه ولكنه على حجته مع الغاصب.(21/104)
ولو أن رجلين ادعيا في دار دعوى ميراثا عن أبيهما فصالح رب الدار أحدهما على مال لم يشركه الآخر فيه إن كان المصالح منكرا أو لأنهما يتصادقان على أن المدعي ملكهما وإن البائع لنصيبه وتصادقهما يكون حجة في حقهما ثم ذكر بعض مسائل الإكراه وأن الإكراه عند أبي حنيفة رحمه الله لا يكون إلا من السلطان وعندهما يكون من كل متغلب يقدر على إيقاع ما هدده به والصلح في حكم الإكراه كالبيع فإنه يعتمد تمام الرضا كالبيع وكما أن الإكراه بالجنس والمقيد بعدم الرضا في البيع فكذلك في الصلح ولو أن قوما دخلوا على رجل بيتا نهارا أو ليلا فهددوه وشهروا عليه السلاح حتى صالح رجلا عن دعواه على شيء فهذا الصلح ينبغي أن يجوز في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه ليس بسلطان والإكراه عنده لا يتحقق إلا من السلطان وكذلك لو أكرهوه على الإقرار فإقراره جائز عنده وعندهما إن كانوا شهروا عليه السلاح لم يجز صلحه وإقراره لأنه صار خائفا التلف على نفسه والسلاح مما(21/105)
ص -52- ... لا يلبث وإن كانوا لم يشهروا عليه السلاح وضربوه وتوعدوه فإن كان ذلك نهارا في المصر فالصلح جائز لأنه يستغيث بالناس فيلحقه الغوث في المصر بالنهار قبل أن يأتوا على أحد فالضرب بغير السلاح مما لا يلبث عادة وإن كان ذلك ليلا في المصر أو كان في الطريق غير السفر أو دارا لم يجز الصلح والإقرار لأن اللبث بعيد فصار خائفا التلف على نفسه وكذلك إذا كان في بستان لا يقدر فيه على الناس فهو والمناداة فيه سواء وكذلك الغوث وعلى هذا لو أن الزوج هو الذي أكره في ذلك انتصافه في الصداق لأن الزوج ليس بسلطان فلا معتبر بإكراهه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما المعتبر خوفهما التلف كما ذكرنا قال ولو توعدها بالطلاق أو بالتزويج عليها أو بالتسري لم يكن ذلك إكراها لأنه ما هددها بفعل متلف أو مؤلم بدنها إنما يغمها بذلك والإكراه بهذا القدر لا يتحقق.
وذكر في الأصل إذا كان المدعي رجلين فأكره السلطان المدعي عليه على صلح أحدهما فصالحهما جميعا لم يجز صلحه مع من أكره على الصلح معه وجاز مع الآخر لأنه أنشأ الصلح مع كل واحد منهما ابتداء وهو راض بالصلح مع أحدهما غير راض به مع الآخر لأجل الإكراه وهذا بخلاف ما لو أجبره على أن يقر لأحدهما بدين فأقر لهما بدين لم يجز الإقرار في حق كل واحد منهما لأن الإقرار إخبار منه عن واجب سابق ولم يصح في حق من أكره على الإقرار له فلو صححناه في حق الآخر فقبض نصيبه كان للآخر أن يشاركه في المقبوض ولو قلنا لا يشاركه كان هذا إلزام شيء سوى ما أقر به لأن هذا إقرار بدين مشترك بينهما فلهذا لا يجوز الإقرار بخلاف الصلح فإنه إنشاء عقد يمكن تصحيحه في نصيب أحدهما دون الآخر وهو نظير المريض إذا أقر لوارثه ولأجنبي لم يجز إقراره لواحد منهما ولو أوصى لأجنبي ولوارثه بثلث ماله جاز في نصيب الأجنبي فهذا قياسه والله أعلم بالصواب.
باب الصلح في العارية والوديعة(21/106)
قال رحمه الله:وإذا قال المستودع ضاعت الوديعة أو قال رددتها عليك فهو مصدق في ذلك لكونه أمينا فإن صالحه صاحبها بعد هذا الكلام على مال لم يجز الصلح في قول أبي يوسف رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله والرواية في الأجير المشترك إذا ادعى الرد ثم صالح صاحبه على ما قال فالأجير عنده أمين كالمودع وقال محمد رحمه الله الصلح صحيح والحاصل أن في هذه المسألة ثلاثة أوجه.
أحدها أن يدعي صاحبها عليه الاستهلاك وهو ينكر ذلك وفي هذا يجوز الصلح والاتفاق لأن صاحبها يدعي عليه دينا بسبب لو أقر به لزمه فهذا صلح مع الإنكار وذلك صحيح عندنا.
والثاني أن يقول المودع قد هلكت أو رددتها ولا يدعي صاحبها عليه الاستهلاك ولكنه يكذبه فيما يقول ففي هذا خلاف كما بينا وجه قول محمد رحمه الله أن صاحبها يدعي عليه الضمان بالمنع بعد طلبه وذلك منه بمنزلة الغصب ولو ادعى غصبا على إنسان ثم(21/107)
ص -53- ... صالحه على مال جاز الصلح بناء على زعم المدعي فهذا مثله لأن الثمن باق على المودع فهو بهذا الصلح بقي عليه بمال وذلك صحيح عندنا وأبو يوسف رحمه الله يقول المودع أمثل فيثبت بخبره ما أخذ عن دعوى الرد أو الهلاك لأن تأثير كونه أمينا في قبول قوله فصار ثبوت ذلك بقوله كثبوته بالبينة ولو ثبت ذلك بالبينة لم يجز الصلح بعد ذلك وتوجه اليمين على المودع لنفي التهمة عنه لأن البراءة تظهر بخبره بدليل إنه لو مات قبل أن يحلف كانت البراءة تامة وإذا ثبت حصول البراءة بخبره فهو كما لو أبرأ المغصوب منه الغاصب عن المستهلك ثم صالحه على مال وإنما يجوز بالصلح فداء اليمين التي هي حق المدعي خلفا عما فوت عليه المنكر للدعوى بزعمه وهذه اليمين ليست بتلك الصفة بل هي لنفي التهمة ويفدي مثلها بمال كالمرأة إذا أخبرت بانقضاء العدة فالقول قولها مع اليمين ولو صالحها الزوج على مال لم يجز.
ألا ترى أن هذه اليمين تسقط بموته بخلاف يمين المنكر في الدعوى والخصومات فإن وارثه يقوم مقامه في ذلك حتى يحلف على العلم ولأن المودع سلطه على الإخبار بالرد والهلاك فقوله في ذلك كقول المنكر ولو أقر المودع بذلك ثم صالحه لم يجز الصلح والعذر عن اليمين ما ذكرنا.
الثالث فيما إذا قال المودع رددتها وقال المودع استهلكتها ثم صالحه على مال ففي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز هذا الصلح أيضا ذكره في رواية أبي حفص رحمه الله في الجامع وفي قوله الآخر يجوز الصلح وهو قول محمد رحمه الله وجه قوله الأول ما ذكرنا أن البراءة تحصل له بقوله رددتها وقوله في ذلك بمنزلة قول صاحبها والحكم الثابت بخبره لا يبطل بدعوى صاحبها الاستهلاك فكما أن قبل هذه الدعوى لو صالح لم يجز الصلح عنه فكذلك بعد هذه الدعوى وجه قوله الآخر أن الرد وإن ثبت بخبره فصاحبها يدعي عليه شيئا آخر للضمان وهو الاستهلاك فصار ذلك كدعوى مبتدأة عليه فيجوز أن يصالحه على مال.(21/108)
ألا ترى أن اليمين هنا على ما يدعيه صاحبها بخلاف الأول فهناك اليمين على المودع من الرد وإن هذه اليمين لا تسقط بموته ولكن يحلف الوارث على علمه بالله ما استهلكتها كما يدعيه صاحبها بخلاف الأول وهذا لأن البراءة تثبت بقوله رددتها لكونه أمينا وذلك في حكم القبض بجهة الوديعة وفي الفصل الأول لا يدعي صاحبها لوجوب الدين عليه شيئا آخر وهنا يدعي ذلك قال وإن جحد الطالب أن يكون المستودع قال هذه المقالة قبل الصلح فادعى المستودع أنه قد قالها فالصلح جائز وهذا التفريع على قول أبي يوسف رحمه الله خاصة فأما عند محمد رحمه الله فلا فائدة في هذا الاختلاف لأنه لا يجوز الصلح قبل هذه المقالة وبعدها وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن إقدام المستودع على الصلح طائعا التزام منه للمال بسبب تصحيح ظاهر فهو يريد بها تفريع ذلك أن يبطل ما التزمه فيها فلا يقبل قوله في(21/109)
ص -54- ... ذلك كالمرأة إذا اختلعت من زوجها بعد الطلاق الرجعي ثم زعمت أن عدتها كانت قد انقضت قبل الخلع لا يقبل قولها فإن أقام المودع بينة بهذه المقالة بريء من الصلح وإن لم يكن له بينة فعلى الطالب اليمين لأنه يدعي عليه وجوب رد المال عليه فهو كالمختلعة إذا أقامت البينة على أن الزوج طلقها ثلاثا قبل الخلع فإن قيل هو مناقض في الدعوى هنا أيضا شائع في بعض ما قد تم به فينبغي أن لا تقبل بينته ولا يحلف خصمه كالبائع إذا زعم أنه كان باع العين من فلان قبل أن يبيعه من هذا المشتري بخلاف الخلع فإن هناك هي مناقضة في الدعوى أيضا ولكن البينة على الإطلاق مقبولة من غير الدعوى والجواب أن يقول هو غير مناقض في دعواه لأن قبوله الصلح لا يكون إقرارا منه بوجوب شيء عليه ولكنه يدعي خلاف ما يشهد له الظاهر لأن العقود في الظاهر محمولة على الصحة فلا يقبل قوله في ذلك إلا بالبينة وعند عدم البينة القول قول خصمه مع اليمين لكون الظاهر حجة وشاهدا له وإن كانت الوديعة قائمة بعينها وهي مائة درهم فصالحه منها على مائة درهم بعد إقرار أو إنكار لم يجز إذا قامت البينة على الوديعة لأنها عين في يد المودع فيكون الصلح عنها معاوضة ومعاوضة المائة بالمائتين باطل ولا يمكن تصحيحه بطريق الإبراء والإسقاط لأن العين لا تحتمل ذلك وإن لم تقم بينة وكان المودع منكرا فالصلح جائز عند دعوى الدين عند إنكار المودع وعجز المدعي عن الدار وإنه بمنزلة البيع فلهذا صح العقد بدون الإضافة إلى الموكل ثم المقصود من الصلح قطع المنازعة وقطع المنازعة واجب ما أمكن باعتبار معنى البيع وإذا صح الصلح غير مضاف إلى الموكل انقطعت المنازعة بينهما فوجب المصير إلى ذلك استحسانا والله أعلم بالصواب
باب الحكمين(21/110)
قال رحمه الله: الأصل في جواز التحكيم قوله تعالى:{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء: 35] والصحابة رضي الله عنهم كانوا مجمعين على جواز التحكيم ولهذا بدأ الباب بحديث الشعبي رحمه الله قال كان بين عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما مدارأة بينهما في شيء فحكما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فخرج زيد بن ثابت إليهما وقال لعمر رضي الله عنه ألا تبعث إلي فآتيك يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتي الحكم فأذن لهما فدخلا وألقي لعمر وسادة فقال عمر رضي الله عنه هذا أول جورك وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه فقال زيد لأبي رضي الله عنه لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر يمين لزمتني فلا حلف فقال أبي رضي الله عنه بل يعفي أمير المؤمنين ويصدقه والمراد بالمدارأة الخصومة واللجاج قال الله تعالى:{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}[البقرة: 72] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ثابت بن شريك رضي الله عنهما "لا يدارى ولا يمارى" أي لا يلاحي ولا يخاصم وقد بينا فوائدا الحديث وإذا حكم الحكم بين رجلين ثم تخاصموا إلى حكم آخر فحكم بينهما سوى ذلك ولم(21/111)
ص -55- ... يعلم بالأول ثم ارتفعا إلى القاضي فإنه ينفذ الحكم الذي يوافق رأي القاضي من ذلك لما بينا أن حكم كل واحد منهما غير ملزم شيئا وإذا حكم رجلان حكما في خصومة بينهما ما دام في مجلسه ذلك فتجاحدا وقالا لم تحكم بيننا وقال الحاكم بل حكمت فإنه يصدق ما دام في مجلس الحكومة ولا يصدق بعد القيام منه حتى يشهد على ذلك غيره لأنه ما دام في مجلسه فهو يملك إنشاء الحكم بينهما فلا تتمكن التهمة في إقراره به فأما بعد القيام فهو لا يملك إنشاء الحكم فتتمكن التهمة في إقراره وهو نظير المولي إذا أقر بألف والمطلق إذا أقر بالرجعة في الفرق بينهما إذا أقر قبل مضي المدة وبينهما بعده وإن حكماه ولا يشهدا على تحكيمهما إياه لم يقبل قول الحكم فيه عليهما لأنه يدعي لنفسه عليهما ولاية تنفيذ القول وهو غير مصدق فيما يدعي عليهما إذا كانا يجحدانه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(21/112)
ص -56- ... كتاب الرهن
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء:.
اعلم بأن الرهن عقد وثيقة بمال مشروع للتوثق في جانب الاستيفاء فالاستيفاء هو المختص بالمال ولهذا كان موجبه ثبوت يد الاستيفاء حقا للمرتهن عندنا لأن موجب حقيقة الاستيفاء ملك عين المستوفي وملك اليد فموجب العقد الذي هو وثيقة الاستيفاء بعض ذلك وهو ملك اليد وعلى قول الشافعي رحمه الله موجبه ما هو موجب سائر الوثائق كالكفالة والحوالة وهو أن تزداد المطالبة به فيثبت به للمرتهن حق المطالبة بإيفاء الدين من ماليته وذلك بالبيع في الدين ولكنا نقول الكفالة والحوالة عقد وثيقة ما لزمه والذمة محل لالتزام المطالبة فيها فيكون الثابت بهما بعض ما ثبت لحقيقة التزام الدين وهو المطالبة والرهن عقد وثيقة بمال والمال محل لاستيفاء الدين منه فعرفنا أن الثابت به بعض ما ثبت لحقيقة الاستيفاء وكيف يكون البيع في الدين موجب عقد الرهن ولا يملك المرتهن ذلك بعد تمام الرهن إلا بتسليط الراهن إياه على ذلك نصا وكم من رهن ينفك عن البيع في الدين وموجب العقد ما لا يخلو العقد عنه بعد تمامه ثم جواز هذا العقد ثابت بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وهو أمر بصيغة الخبر لأنه معطوف على قوله تعالى {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]وعلى قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة: 282]وأدنى ما يثبت بصيغة الأمر الجواز.(21/113)
والسنة حديث عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما لبيته ورهنه درعه" وفي حديث أسماء بنت يزيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهون عند يهودي بوسق من شعير" وعن بن عباس وأنس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه ليهودي فما وجد ما يفتكه حتى توفي صلوات الله عليه" وجاء اليهودي في أيام التعزية يطالب بحقه ليغيظ المسلمين به وفي هذا دليل جواز الرهن في كل ما هو مال متقوم ما يكون معدا للطاعة وما لا يكون معدا له في ذلك سواء فإن درعه صلوات الله عليه كان معدا للجهاد به فيكون دليلا على جواز رهن المصحف بخلاف ما يقوله الشيعة أن ما يكون للطاعة لا يجوز رهنه لأنه في صورة حسبة عن الطاعة وفيه دليل أن الرهن جائز في الحضر والسفر جميعا فإنه رهنه صلى الله عليه وسلم(21/114)
ص -57- ... بالمدينة في حال إقامته بها بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر أن الرهن لا يجوز إلا في السفر لظاهر قوله تعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]
والتعليق بالشرط يقتضي الفصل بين الوجود والعدم ولكنا نقول ليس المراد به الشرط حقيقة بل ذكر ما يعتاده الناس في معاملاتهم فإنهم في الغالب يميلون إلى الرهن عند تعذر إمكان التوثق بالكتاب والشهود والغالب أن يكون ذلك في السفر والمعاملة الظاهرة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا فالرهن في الحضر والسفر دليل على جوازه بكل حال ثم ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يترادان الفضل في الرهن وفيه دليل أن المقبوض بحكم الرهن يكون مضمونا ثم بيان هذا اللفظ أنه إذا رهن ثوبا قيمته عشرة بعشرة فهلك عند المرتهن سقط دينه فإن كانت قيمة الثوب خمسة يرجع المرتهن على الراهن بخمسة أخرى وهو مذهبنا أيضا وإن كانت قيمته خمسة عشر فالراهن يرجع على المرتهن بخمسة وهو مذهب علي رضي الله عنه وبه أخذ بعض الناس ولسنا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بقول عمر وبن مسعود رضي الله عنهما فإنهما قالا إنه مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين فإذا كانت القيمة أكثر فالمرتهن في الفضل أمين وهكذا روى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه أن المرتهن في الفضل أمين وحاصل الاختلاف فيه بين العلماء رحمهم الله على ثلاثة أقاويل فعندنا هو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين وعند شريح رحمه الله هو مضمون بالدين قلت قيمته أو كثرت فإنه قال الرهن بما فيه وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم وفي إحدى روايتي علي رضي الله عنه يترادان الفضل هذا بيان الاختلاف الذي كان بين المتقدمين رضي الله عنهم في الرهن إلى أن أحدث الشافعي رحمه الله قولا رابعا إنه أمانة ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه.(21/115)
واستدل في ذلك بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلوات الله عليه وسلامه قال "لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه" وفي رواية "الرهن من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" وزعم أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" لا يصير مضمونا بالدين فقد فسر ذلك بقوله "الرهن من راهنه الذي رهنه" أي من ضمان راهنه وقوله صلى الله عليه وسلم "وعليه غرمه" أي عليه هلاكه فالغرم عبارة عن الهلاك قال الله تعالى {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}[الواقعة:66] أي هلكت علينا أموالنا والمعنى فيه أن الرهن وثيقة بالدين فبهلاكه لا يسقط الدين كما لا يسقط بهلاك الصك وموت الشهود وهذا لأن بعقد الوثيقة يزداد معنى الصيانة فلو قلنا بأنه يسقط دين المرتهن بهلاكه كان ضد ما اقتضاه العقد لأن الحق به يصير بعرضة الهلاك وذلك ضد معنى الصيانة والدليل عليه أن عين الرهن ما زاد على قدر الدين أمانة في يد المرتهن والقبض في الكل واحد وما هو موجب الرهن وهو الحبس ثابت في الكل فلا يجوز أن يثبت حكم الضمان بهذا القبض في البعض دون البعض والدليل عليه أن عين الرهن تهلك على ذلك الراهن حتى لو كان عبدا فكفنه على الراهن ولو استحق(21/116)
ص -58- ... وضمنه المرتهن يرجع بالضمان والدين جميعا على الراهن ولو كان قبضه قبض ضمان لم يرجع بالضمان عند الاستحقاق كالغاصب وعندكم إذا اشترى المرتهن المرهون من الراهن لا يصير قابضا بنفس الشراء ولو كان مضمونا عليه بالقبض لكان قبضه عن الشراء كقبض الغاصب والمقبوض بحكم الرهن الفاسد لا يكون مضمونا عندكم كرهن المشاع وغيره والفاسد معتبر بالجائز في حكم الضمان وليس من ضرورة ثبوت حق الحبس الضمان كالمستأجر بعد الفسخ محبوس عند المستأجر بالأجرة المعجلة بمنزلة المرهون حتى إذا مات الآجر كان المستأجر أحق به من سائر غرمائه ثم لم يكن مضمونا إذا هلك وكذلك زوائد الرهن عندكم والدليل على أنه أمانة أن النفقة على الراهن دون المرتهن كما في الوديعة وحجتنا في ذلك ما أشرنا إليه من إجماع المتقدمين رضوان الله عليهم أجمعين فاتفاقهم على ثلاثة أقاويل يكون إجماعا منهم على أنه ليس فيه قول رابع لم يستدل بحديث عطاء أن رجلا رهن فرسا عند رجل بحق له فنفق الفرس عند المرتهن فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمرتهن:"ذهب حقك" ولا يجوز أن يقال ذهب حقك في الحبس لأن هذا مما لا يشكل ولأن ذكر الحق منكرا فى أول الحديث ثم أعادته معرفا فيكون المراد بالمعرف ما هو المراد بالمنكر قال الله تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}[المزمل: 15] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرهن بما فيه ذهبت الرهان بما فيها" أي بما فيها من الديون ولا حجة لهم في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" فإن أحدا من أهل اللغة لا يفهم منه هذا اللفظ بقي الضمان على المرتهن وذكر الكرخي أن أهل العلم من السلف رحمهم الله كطاوس وإبراهيم وغيرهما اتفقوا أن المراد لا يحبس الرهن عند المرتهن احتباسا لا يمكن فكاكه بأن يصير مملوكا للمرتهن واستدلوا عليه بقول القائل:
وفارقتك برهن لا فكاك له(21/117)
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
يعني احتبس قلب المحب عند الحبيب على وجه لا يمكن فكاكه وليس فيه ضمان ولا هلاك والدليل عليه ما روي عن الزهري قال كانوا في الجاهلية يرتهنون ويشترطون على الراهن إن لم يقض الدين إلى وقت كذا فالرهن مملوك للمرتهن فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:" لا يغلق الرهن" وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن معنى هذا اللفظ فقيل أهو قول الرجل إن لم يأت بالدين إلى وقت كذا فالرهن بيع لي في الدين فقال نعم وقوله صلى الله عليه وسلم "الرهن من راهنه الذي رهنه" يؤكد هذا المعنى أي هو على ملك راهنه الذي رهنه لا يزول ملكه بهذا الشرط وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "له غنمه وعليه غرمه" يعني في حال إبقائه هو مردود عليه لا يتملك غيره عليه أو أن يبيع بالدين فزاد الثمن على الدين فالزيادة له وإن انتقص فالنقصان عليه وبه نقول والمعنى في المسألة أن الرهن مقبوض للاستيفاء والمقبوض على وجه الشيء لا يكون كالمقبوض على حقيقته في حكم الضمان.
ألا ترى أن المقبوض على سوم البيع يجعل كالمقبوض على جهة الاستيفاء وبيان(21/118)
ص -59- ... الوصف أن عقد الرهن يختص بما يمكن استيفاء الدين منه وهو المال المتقوم الذي يقبل البيع في الدين ويختص بحق يمكن استيفاؤه من الرهن وهو الدين حتى لا يجوز الرهن بالأعيان ولا بالعقوبات من القصاص والحدود وتحقيق ما ذكرنا أن موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء وهذه اليد في حقيقة الاستيفاء تثبت الملك والضمان فكذا فيها أيضا يثبت الضمان في عقد الرهن يقرره أن عند أبي حنيفة رحمه الله استيفاء المستوفي يكون مضمونا على المستوفي وله على الموفي مثل ذلك فيصير قصاصا به فكذلك إذا قبضه رهنا وصار مضمونا عليه بهذه اليد فإذا هلك وجب على المرتهن من أولها فيصير المرتهن مستوفيا حقه ولهذا يثبت الضمان بقدر الدين وصفته لأن الاستيفاء به يتحقق وكان الراهن جعل مقدار الدين في وعاء وسلمه إلى رب الدين ليستوفي حقه منه فعند هلاكه في يده يتم استيفاؤه في مقدار حقه ولهذا كان الفضل أمانة عنده بمنزلة ما لو جعل خمسة عشر درهما في كيس ودفعه إلى صاحب الدين على أن يستوفي دينه منه عشرة فيكون أمينا في الزيادة ولهذا جعلت العين أمانة في يد المرتهن لأن الاستيفاء تحصل منه المالية دون العين والاستيفاء بالعين يكون استبدالا والمرتهن عندنا مستوف لا مستبدل وإنما يتحقق الاستيفاء بحبس الحق والمجانسة بين الأموال باعتبار صفة المالية دون العين فكان هو أمينا في العين والعين كالكيس في حقيقة الاستيفاء وبهذا التقرير اتضح الجواب عما قال لأن معنى الصيانة يتحقق إذا صار المرتهن بهلاك الرهن مستوفيا حقه وإنما ينعدم ذلك إذا قلنا يتوى بينه والاستيفاء ليس مأتوا للحق ثم موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء وفيه معنى الصيانة ومن ضرورته فراغ ذمة الراهن عند هلاك الرهن وتمام الاستيفاء فلا يخرج به من أن يكون وثيقة لصيانة حق المرتهن كالحوالة فإنها توجب الدين في ذمة المحتال عليه لصيانة حق الطالب وإن كان من ضرورته فراغ ذمة المحيل وبه لا ينعدم معنى الوثيقة وكذلك(21/119)
المقصود بالعارية منفعة المستعير.
ومن ضرورة حصول تلك المنفعة له أن تكون نفقته عليه فلا يخرج به من أن يكون العقد محض منفعة له وبهذا فارق موت الشهود وهلاك الصك لأن سقوط الدين عندنا باعتبار ثبوت يد الاستيفاء إذا تم ذلك بهلاك الرهن وذلك لا يوجد في الصك والشهود وإنما لا يصير المرتهن قابضا بنفس الشراء لأن الشراء لاقى العين وقد بينا أن العين في حكم الأمانة وقبض الأمانة دون قبض الشراء وإنما يرجع بالضمان عند الاستحقاق لأجل الغرر فالراهن هو المنتفع بقبض الرهن منه حيث إنه يصير موفيا ذمته عند الهلاك في يد المرتهن فيصير المرتهن مغرورا من جهته من هذا الوجه ولهذا تكون النفقة على الراهن بمنزلة المؤجر في يد المستأجر ثم يد المستأجر بعد فسخ الإجارة ليست بيد الاستيفاء ولأنها هي اليد التي كانت له قبل الفسخ وإنما قبض لاستيفاء المنفعة لا لاستيفاء الأجرة من المالية فلهذا لا يصير مستوفيا بهلاك العين في يده والمقبوض بحكم الرهن الفاسد عندنا مضمون فإن المسلم إذا ارتهن من ذمي خمرا أو عصيرا فتخمر في يده كان مضمونا عليه إذا هلك وهو رهن(21/120)
ص -60- ... فاسد فإن المرهون بأجرة النائحة والمغنية ولا عقد هناك فاسدا ولا جائزا لانعدام الدين أصلا وكذلك رهن المشاع فقد قامت الدلالة لنا على أن يد الاستيفاء التي هي موجب الرهن لا تثبت في الجزء الشائع على ما نبينه فلهذا لا يكون مضمونا فأما شريح رحمه الله فكان يقيس المرهون بالمبيع في يد البائع والمبيع في يد البائع مال غير محبوس بدين هو مال فسقط الدين بهلاكه قلت قيمته أو كثرت فكذلك المرهون في يد المرتهن ولأن بهلاك الرهن تعذر على المرتهن رده لا إلى غاية ولو تعذر إحضاره إلى غاية لم يكن له أن يطالب بشيء من الدين ما لم يحضره فكذلك إذا تعذر إحضاره لا إلى غاية ولكن لما حققنا تبين الفرق بين الرهن والبيع من حيث إن سقوط الثمن هناك بسبب انفساخ العقد وبهلاك جميع العقود عليه ينفسخ جميع العقد وهنا سقوط الدين بطريق الاستيفاء ولا يتحقق الاستيفاء إلا بعد مالية الرهن فاستيفاء العشرة من خمسة لا يتحقق فلهذا كان للمرتهن أن يرجع على الراهن بفضل الدين قال ولا يجوز الرهن غير مقبوض عينا.(21/121)
وقال مالك رحمه الله: لا يلزم الرهن بالإيجاب والقبول اعتبارا بالبيع فإن هذا العقد يختص بمال من الجانبين فيكون في معنى مبادلة مال بمال وهو وثيقة بالدين بمنزلة الكفالة والحوالة وذلك يلزم بالقبول وحجتنا في ذلك قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[البقرة: 283] فقد وصف الله تعالى الرهن بالقبض فينتقض أن يكون هذا وصفا لازما لا يفارقه الرهن ثم قد بينا أن موجب العقد ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن وكما أن حقيقة الاستيفاء لا تكون إلا بالقبض فكذلك يد الاستيفاء لا تثبت إلا بالقبض والمقصود الجاء الراهن حياته ليسارع إلى قضاء الدين ولا يحصل ذلك إلا بثبوت يد المرتهن على الرهن ومنع الراهن منه والمقصود أيضا ثبوت حياة حق المرتهن عند الضرر الذي يلحقه بمزاحمة سائر الغرماء فإنما يحصل ذلك للمرتهن باعتبار يده لأن به يصير أحق من سائر الغرماء ثم في ظاهر الروايات القبض بحكم الرهن ثبت بالتخلية لأن القبض بحكم عقد مشروع بمنزلة قبض المبيع.(21/122)
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله إنه لا يثبت في المنقول إلا بالنقل لأنه قبض موجب للضمان ابتداء بمنزلة الغصب فكما أن المغصوب لا يصير مضمونا بالتخلية بدون النقل فكذلك المرهون بخلاف الشراء فكذلك القبض ناقل للضمان من البائع للمشتري إلا أن يكون موجبا للضمان ابتداء والأول أصح لأن حقيقة الاستيفاء تثبت بالتخلية فالقبض الموجب لهذا الاستيفاء أيضا ثبت بالتخلية ولا يجوز رهن المشاع فيما يقسم وما لا يقسم من جميع أصناف ما يرهن عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز لأن المشاع عين يجوز بيعه فيجوز رهنه كالمقسوم وهذا لأن موجب الرهن استحقاق البيع في الدين لأن الرهن مشروع لصيانة حق المرتهن عن الضرر الذي يلحقه بمزاحمة سائر الغرماء فالمشروع وثائق منها ما يؤمنه عن جحود المديون وذلك كالشهود ومنها ما يؤمنه عن سياق الشهود وذلك الكتاب ومنها ما يؤمنه عن التوى بإفلاس من عليه وذلك الكفالة والحوالة ومنها ما يؤمنه عن إبراء(21/123)
ص -61- ... بعض حقه بمزاحمة سائر الغرماء إياه بعد موت المديون وذلك الرهن فإذا كان مشروعا لهذا النوع من الوثيقة كان المستحق به البيع في الدين فيختص بمحل يقبل البيع في الدين ثم القبض شرط تمام هذا والشيوع لا يمنع أصل القبض.
ألا ترى أن الشائع يصلح أن يكون رأس مال السلم وبدلا عن الصرف وبالإجماع هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة تتم بالقبض وكذلك عندي فيما يحتمل القسمة جائز ودوام يد المرتهن ليس بشرط لبقاء حكم الرهن فإنه بعد القبض لو أعاره من الراهن أو غصبه الراهن منه يبطل به الرهن وكان للمرتهن أن يشترطه ولا يجوز أن يدعي أن موجب العقد اليد لأن بالعقود المشروعة إنما يستحق ما هو المقصود واليد ليست بمقصودة بنفسها بل للتصرف أو للانتفاع والمرتهن لا يتمكن منه بشيء من ذلك والدليل عليه جواز رهن العين من رجلين بدين لهما عليه وإنما يكون رهنا من كل واحد منهما نصف العين وهذا على أصلكم أظهر حتى إذا هلك كان نصفه مضمونا بدين كل واحد منهما وإذا كان إيجاب البيع في العين لاثنين إيجابا لكل واحد منهما في النصف فكذلك الرهن ثم كل عقد جاز في جميع العين مع اثنين يجوز في نصفه مع الواحد كالبيع ولنا في المسألة الحالة طريقان.(21/124)
أحدهما أن رهن النصف الشائع بمنزلة قوله رهنتك هذا العير يوما ويوما لا وذلك لا يجوز فهذه مسألة وبيانه أن موجب عقد الرهن دوام بين المرتهن عليه من وقت العقد إلى وقت انفكاكه وذلك لا يتحقق مع الشيوع لأنه يحتاج إلى المهايأة مع المالك في الإمساك فينتفع المالك به يوما بحكم الملك ويحفظه المرتهن يوما بحكم الرهن فهو بمنزلة قوله رهنتك يوما ويوما لا لأنه ينعدم استحقاق اليد للمرتهن في يوم الراهن وكان ذلك سببا يقترن بالعقد وهو الشيوع ومتى اقترن بالعقد ما يمنع موجبه لم يصح العقد والدليل على أن دوام اليد موجب العقد قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[البقرة: 283] هذا يقتضي أن لا يكون مرهونا إلا في حال يكون مقبوضا فيه ولأن المقصود بالرهن ضمان حق المرتهن عن التوى لجحود منه عليه فنقل الحكم من الكتاب والشهود إلى الرهن فيكون المقصود بالمنقول إليه ما هو المقصود بالمنقول عنه وذلك لا يحصل إلا بدوام اليد عليه لأنه إذا عاد إلى يد الراهن ربما يجحد الرهن والدين جميعا وكذلك المقصود الجاء الراهن ليسارع إلى قضاء الدين وإنما يحصل هذا المقصود بدوام يد المرتهن عليه والدليل عليه أن المرهون إذا كان شيئا لا ينتفع به مع بقاء عينه فللمرتهن أن يحبسه عند إطلاق العقد ولو لم يكن دوام اليد موجب العقد ما كان له أن يحبسه لأن الراهن يقول أنا أشفق على ملكي منك وحقك البيع في الدين ولا يفوت ذلك عليك بيدي.
وحيث كان المرتهن أحق بإمساكه عرفنا أن دوام اليد موجب هذا العقد ولسنا نعني وجود يد المرتهن حينا وإنما نعني استحقاق دوام اليد وبالإعادة من الراهن أو الغصب لا ينعدم الاستحقاق فلهذا لا يبطل منه الرهن وفي الرهن من رجلين استحقاق دوام اليد ثابت(21/125)
ص -62- ... لكل واحد منهما في جميع العين حتى إذا قضى جميع دين أحدهما يكون للآخر حبس جميع الرهن حتى يستوفي دينه وكما يجوز أن يكون الواحد محبوسا بدين اثنين لا يكون جميعه محبوسا بدين واحد منهما فكذلك حبس العين بحكم الرهن ثم اليد مستحقة على الراهن هناك ولا يكون له حق إعادة شيء من العين إلى يده ما لم يقبض الدين والعقد بهذا يتم وإن لم يكن لكل واحد منهما حق التعذر بإمساك العين كما لو شرط أن يكون الرهن على يدي عدل يجوز العقد لاستحقاق اليد على الراهن وإن لم يكن للمرتهن حق إثبات اليد عليه في شيء من المدة وللمالك فيما له ملك العين والمنفعة واليد فكما يجوز أن يوجب له ملك العين أو المنفعة يجوز أن يوجب له ملك اليد مقصودة وذلك بعقد الرهن وهذا لأن اليد مقصودة.(21/126)
ألا ترى أن الغاصب يضمنه بتفويت اليد كما يضمن المتلف بإتلاف العين وإذا كان باليد يتوصل إلى التصرف والانتفاع كانت اليد مقصودة بالطريق الآخر إذ موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن على ما بيناه ومنه جانب الاستيفاء في الجزء الشائع لا يتحقق لأن اليد حقيقة لا تثبت إلا على جزء معين وإذا كان المرهون جزءا شائعا لو ثبت حكم الرهن إنما يكون عند التخلي لجميع العين أو عند نقل جميع العين حقيقة ونصف العين ليس بمعقود عليه وإذا كان موجب العقد لا يتحقق إلا باعتبار ما ليس بمعقود عليه لا ينعقد العقد أصلا كما لو استأجر أحد زوجي المقراض لمنعه قرض الثياب وبهذا تبين أن العين فيما هوموجب الرهن غير محتمل للتجزى ء وعند إضافة العقد إلى نصفه لم يثبت في كله فيبطل العقد أصلا لتعذر أسباب موجبه في النصف كالمرأة في حكم الحلى لما كانت لا تجزأ فإذا أضيف النكاح إلى نصفها بطل عند الخصم وعندنا يثبت في الكل وهذا بخلاف الرهن من رجلين لأن موجب العقد هناك وهو يد الاستيفاء ثبت في جميع المحل غير متجزئ ثم حكم التجزي يثبت بين المرتهنين عند تمام الاستيفاء بالهلاك للمزاحمة وبه لا يظهر التجزي في المحل.
ألا ترى أن نصف العين لا يستحق قصاصا ثم يجب القصاص لاثنين في نفس واحدة ويكون كل واحد منهما مستوفيا للنصف عند العقل باعتبار أن لا يظهر حكم التجزي في القصاص فكذلك فيما نحن فيه.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا والشرع لا يمنع الاستيفاء حقيقة فإن من كان له على غيره عشرة فدفع إليه المديون كيسا فيه عشرون درهما ليستوفي حقه منه يصير مستوفيا حقه من النصف شائعا وإذا كان الشيوع لا يمنع حقيقة الاستيفاء فكيف يمنع ثبوت يد الاستيفاء؟.(21/127)
قلنا: موجب حقيقة الاستيفاء ملك عين المستوفي واليد هي على الملك والشيوع ولا يمنع الملك فيما هو الموجب يمكن إثباته في الجزء الشائع هناك وموجب الرهن يد الاستيفاء فقط وذلك لا يتحقق في الجزء الشائع وبهذا الطريق كان مستوفيا في حكم الرهن عما(21/128)
ص -63- ... يحتمل القسمة وعما لا يحتمل القسمة بخلاف الهبة فإن موجب العقد هناك الملك والقبض شرط تمام ذلك العقد فيراعى وجوده في كل محل بحسب الإمكان ولهذا لا يجوز رهن المشاع من الشريك هنا لأن موجب العقد لا يتحقق فيما أضيف إليه العقد سواء كان العقد مع الشريك أو مع الأجنبي بخلاف الإجارة عند أبي حنيفة رحمه الله فالشيوع هناك إنما يؤثر لا لأن موجب العقد ينعدم به بل لأنه يتقرر استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي أوجبه العقد لأن استيفاء المنفعة يكون من جزء معين وذلك لا يوجد في الإجارة من الشريك فإنه يستوفي منفعة الكل فيكون مستوفيا منفعة ما استأجر لا على الوجه الذي استحقه وإن كان لا يمكن استيفاء المعقود عليه إلا بما يتناوله العقد لا يمنع جواز العقد كبيع الرهن فإنه استيفاء لا يمكن إلا بالوعاء ولا تمنع به صحة العقد وعلى هذا قلنا إذا استحق نصف المرهون من يد المرتهن بطل الرهن في الكل وقال بن أبي ليلى رحمه الله على الرهن في النصف الآخر لأن العقد صح في الآلة في جميع العين فإن كون الملك بغير الراهن لا يمنع صحة الرهن وثبوت موجبه كما لو استعار منه غيره بيتا ليرهنه بدين ثم بطل حكم العقد في البعض لانعدام الرضا من المالك به فيبقي صحيحا فيما بقي كما لو استحق نصف المبيع ولكنا نقول العقد في المستحق يبطل منه الأصل لانعدام الرضا من المالك به فلو صح في النصف الآخر لكان هذا إثبات حكم الرهن في النصف شائعا والنصف الشائع ليس بمحل موجب الرهن وهو نظير ما لو تزوج أمة بإذن مولاها فاستحق نصفها ولم يجز المستحق النكاح بطل النكاح في الكل لهذا المعنى فأما الشيوع الطارئ بأن رهن جميع العين ثم تفاسخا فالعقد ليس بمحل موجب الرهن وهو نظير ما لو تزوج أمة في النصف ورده المرتهن لم يذكر جوابه في الكتاب نصا والصحيح أن الشيوع الطارئ كالمقارن في أنه مبطل للرهن فإنه قال في القلب المكسور إذا ملك المرتهن البعض بالضمان يتعين ذلك(21/129)
القدر مما بقي منه مرهونا كيلا يؤدي إلى الشيوع وقالوا في العدل إذا سلط على بيع الرهن كيف شاء فباع نصفه يبطل الرهن في النصف الباقي لما بينا أن الجزء الشائع لا يكون محلا بخلاف الشيوع الطارئ في الهبة والقبض هناك شرط تمام العقد وليس شرط بقاء العقد وتأثير الشيوع في المنع منه تمام التبعيض وذكر سماعا أن أبا يوسف رحمه الله رجع عن هذه وقال الشيوع الطارئ لا يمنع بقاء حكم الرهن بخلاف المقارن وقاس ذلك بصيرورة المرهون دينا في ذمة غير المرتهن فإنه يمنع ابتداء الرهن ولا يمنع بقاءه حتى إذا أتلف المرهون إنسانا ووضع المرهون ثمنه تكون القيمة والثمن رهنا في ذمة من عليه وابتداء عقد الرهن مضافا إلى دين في الذمة لا يجوز فكذلك الجزء الشائع.
قال: وإذا ارتهن الرجل ثمرة في نخل دون النخل أو زرعا أو رطبا في أرض دون الأرض لم يجز لأن المرهون متصل بما ليس بمرهون خلفه فيكون بمنزلة الجزء الشائع وكذلك لو رهن النخل والشجر دون الأرض أو البناء دون الأرض فهو باطل لاتصال المرهون بما ليس(21/130)
ص -64- ... مرهونا إلا أن يقول بأصولها فحينئذ يدخل مواضعها من الأرض في الرهن وذلك معلوم معين فيجوز رهنه كما لو رهن بيتا معينا من الدار وإن كان على النخيل ثمر تدخل الثمرة من غير ذكر لأنهما قصدا تصحيح العقد ولا وجه لتصحيحه إلا بإدخال الثمار وليس فيه كبير ضرر على الراهن لأن ملكه لا يزول بخلاف البيع فهناك الثمار لا تدخل في العقد إلا بالذكر لأن تصحيح العقد في النخيل بدون الثمار ممكن بخلاف الهبة ففي إدخاله هناك إضرار بالمالك في إزالة ملكه عنها فإنه قيل أليس أن لو رهن دارا هي مشغولة بأمتعة الراهن لا يصح الرهن ولا يقال لما لم يمكن تصحيح هذا العقد إلا بإدخال الأمتعة ينبغي أن تدخل الأمتعة في الرهن قلنا لا اتصال للأمتعة بالدار.
ألا ترى أنه لو باع الدار كل قليل وكثير هو فيها أو منها لم تدخل الأمتعة بخلاف الثمار فهي بالتمليك والاتصال هنا من وجه لأنها من النخيل.
ألا ترى أنه لو باع النخيل كله قليلا وكثيرا وهو فيها أو منها تدخل الثمار ولو رهن الأرض دون النخيل لم يجزه في ظاهر الرواية فإن المرهون مشغول بما ليس مرهونا مع تلك الراهن فهو كالدار المشغولة بمتاعه وكما لو رهن الأرض بدون البناء وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله إن رهن الأرض بدون الأشجار يصح لأن المستثنى شجر واسم الشجر يقع على الثابت على الأرض.(21/131)
ألا ترى أنه بعد القلع يكون جذعا فكأنه استثنى الأشجار بمواضعها من الأرض وإنما يتناول عقد الرهن سوى ذلك الموضع من الأرض وهو معين معلوم بخلاف البناء فإنه اسم لما يكون مبنيا دون الأرض فيصير راهنا لجميع الأرض وهي مشغولة بملك الراهن وإذا كفل الرجل بنفس رجل فأعطاه رهنا بذلك وقبضه المرتهن لم يجز لأن الكفالة بالنفس ليست بمال والرهن يختص بحق يمكنه استيفاؤه من مال الراهن وما ليس بمال لا يمكنه استيفاؤه من مال الراهن وكذلك الرهن بجراحة فيها قصاص أو دم عمد ولا يضمنه المرتهن إن هلك الرهن في يده من غير فعله لأنه قبضه بإذن المالك ولم ينعقد العقد بينهما أصلا لانعدام الدين فلا يثبت حكم الضمان وكذلك الرهن والعارية والوديعة والإجارة وكل شيء أصله أمانة.
قال رضي الله عنه: واعلم بأن الرهن بالأعيان على ثلاثة أوجه.
أحدها الرهن بعين هو أمانة وهذا باطل لأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن وحق صاحب الأمانة في العين مقصور عليه واستيفاء العين من عين آخر ممكن.
والثاني الرهن بالأعيان المضمونة بغيرها كالمبيع في يد البائع وهذا لا يجوز أيضا لما قلنا.
والثالث الرهن بالاعيان المضمونه بنفسها كالمغصوب وهو صحيح لأن موجب الغصب رد العين إن أمكن ورد القيمة عند تعذر رد العين وذلك دين يمكنه استيفاؤه من مالية الرهن وكذلك الرهن بالدرك باطل لأن الدرك ليس بمال مستحق يمكنه استيفاؤه ممن عليه الرهن وهذا بخلاف الكفالة بالدرك فإنه يصح لأن الكفالة تقبل الإضافة ولهذا لو(21/132)
ص -65- ... كفل بما ذاب له على فلان فكذا إذا كفل بالدرك فإنه يصح لأنه يكون العقد مضافا وليس في المال ضمان مال يستحق فبطل الرهن ولو هلك في يد المرتهن لم يضمن لأن ضمان الرهن ضمان استيفاء والاستيفاء لا يسبق الوجوب.
قال: وإذا ارتهن الرجل من الرجل ثوبا وقبضه فقيمته والدين سواء فلو استحقه رجل فإنه يأخذه ويرجع المرتهن على الراهن بدينه لأن عقد الرهن يبطل باستحقاق المرهون إذا أخذه المستحق من الأصل وإن كان الثوب هلك في يد المرتهن فللمستحق أن يضمن قيمته أيهما شاء لأنه عين بالاستحقاق أن الراهن كان غاصبا والمرتهن بمنزلة غاصب الغاصب وحق في المستحق فله أن يضمنه أيهما شاء فإن ضمن الراهن كان الرهن بما فيه لأنه ملكه بالضمان من وقت وجوب الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه وإن المرتهن صار مستوفيا دينه بهلاك الرهن وإن ضمن المرتهن رجع على الراهن بقيمة الرهن لأنه مغرور من جهته فإن رهنه على أنه ملكه وفي قبض المرتهن منفعة للراهن من وجه وهو أن يستفيد براءة الذمة عند هلاك الرهن والمغرور يرجع على الغار بما يلحقه منه الضمان كما يرجع المستأجر على الآجر والمودع على المودع قال ويرجع بالدين أيضا عليه قال أبو حازم رحمه الله هذا غلط لأنه لما رجع بضمان القيمة على الراهن فقد استقر الضمان عليه والملك في المضمون تبع لمن استقر عليه الضمان فإذا استقر الملك للراهن تبين أنه رهن ملك نفسه كما في الفصل الأول ومن صحح جواب الكتاب فرق بين الفصلين فقال المرتهن يرجع بالضمان على الراهن بسبب الغرور وذلك إنما يحصل بالتسليم إلى المرتهن وهو إنما يملك العين من حين العقد وعقد الرهن سابق عليه فلا يصح باعتبار هذا الملك فأما المستحق فإنما يضمن الراهن باعتبار قبضه فملكه من ذلك الوقت وعقد الرهن بعده قال ولو كان الرهن عبدا فأبق فضمن المستحق المرتهن قيمته ورجع المرتهن على الراهن بتلك القيمة وبالدين ثم ظهر العبد بعد ذلك فهو للراهن لأن الضمان(21/133)
استقر عليه قال ولا يكون رهنا لأنه قد استحق وبطل الرهن وهذا إشارة لما قلنا إن الملك للراهن إنما يتبع بقيمته من وقت التسليم بحكم الرهن وعقد الرهن كان سابقا على ذلك فلهذا بطل الرهن بالاستحقاق.
قال: وإذا كان الرهن أمة فولدت عند المرتهن ثم ماتت هي وأولادها ثم استحقها رجل فله أن يضمن قيمتها إن شاء المرتهن وإن شاء الراهن وليس له أن يضمن قيمة الولد واحدا منهما لأن واحدا منهما لم يحدث في الولد شيئا ومعنى هذه إنه بالاستحقاق ظهر إن كل واحد منهما كان غاصبا له والزوائد لا تضمن بالغصب إذا تلفت من غير صنع الغاصب لانعدام الصنع في الزيادة قال وإذا ارتهن أمة فوضعها على يدي عدل ليبيعها عند حل المال فولدت الأمة فللعدل أن يبيع الولد معها لأن العدل إنما يبيعها بحكم الرهن وقد ثبت حكم الرهن في الولد وبه جاز للوكيل بيع الجارية ولو ولدت في يده فإنه لا يملك أن يبيع ولدها لأنه مبيع بحكم الوكالة وإنما وكله في بيع شخص فلا يملك بيع شخصين وهنا إنما يبيع(21/134)
ص -66- ... العدل بحكم الرهن وحكم الرهن ثبت في الولد حتى كان للمرتهن أن يحبس الولد مع الأصل إلى أن يستوفي دينه فلهذا ملك بيع الولد معها إلا أن المرهون لو قتلها عبده فدفع بها كان للعدل أن يبيع المدفوع.
ولو أن الجارية التي وكل الوكيل ببيعها قتلها عبده فدفع بها لم يكن للوكيل أن يبيع العبد المدفوع فكذلك الولد لأن حكم الولد حكم البدل في سريان حكم العقد إليه وهذه المسألة تنبني على أن الزوائد المتولدة منه حين الرهن تكون مرهونة عند المرتهن على معنى أن له أن يحبسها بالدين وإن لم يكن مضمونا حتى لا يسقط شيء من الدين بهلاكها كالزيادة على قدر الدين من الرهن وعند الشافعي رحمه الله لا يثبت حكم الرهن في الزيادة والراهن أحق بها لقوله صلى الله عليه وسلم "له غنمه وعليه غرمه" فإطلاق إضافة الغنم إليه دليل على أنه محض حق له وقال صلى الله عليه وسلم "الرهن مركوب ومحلوب" والمراد أنه محلوب للراهن بدليل قوله "وعلى الذي يركبه ويحلبه نفقته" والمعنى أن هذه زيادة تملك بملك الأصل فلا يثبت فيها حكم الرهن كالكسب والغلة وهذا لأن الثابت بالرهن حق البيع في الدين عنده وذلك ليس بحق متأكد في القيمة فلا يسري إلى الولد كحق الوكالة بالبيع وحق الدفع في الجارية الحامل وحق الزكاة في النصاب بعد كمال الحول بخلاف ملك الراهن فهو متأكد في العين لأن العين هي المملوك والدليل على هذا أن حكم الضمان عندكم لا يثبت في الولد لهذا المعنى فكذلك حكم الرهن ولأن الرهن وثيقة بالدين فلا يسري إلى الولد كالكفالة وهذا عقد لا يزيل الملك في الحال ولا في المآل فلا يسري إلى الولد كالإجارة والوصية بالخدمة وبتفصيل الوصية يظهر الفرق بين البدل والولد فإن حق الموصي له بالخدمة يسري إلى البدل لقيامه مقام الأصل ولا يسرى إلى الولد وحق ولد الجارية كذلك فكذلك حق المرتهن.(21/135)
وحجتنا في ذلك قول معاذ رضي الله عنه فيمن ارتهن نخيلا فأثمرت أن الثمار رهن معها وقال بن عمر رضي الله عنهما في الجارية المرهونة إذا ولدت فولدها رهن معها والمعنى فيه أن حق المرتهن متأكد في العين فيسري إلى الولد كذلك الراهن وبيان ثبوت الحق في العين أن توصف العين به يقال مرهون محبوس بحق المرتهن كما يقال مملوك للراهن ولهذا يسري إلى بدل العين ودليل التأكيد إن من هو عليه لا يملك إبطاله وفقه هذا الكلام ما قررنا أن موجب عقد الرهن يد الاستيفاء ويد الاستيفاء إنما تثبت في العين وهي معتبرة بحقيقة الاستيفاء وإذا كانت حقيقة الاستيفاء تظهر في موجبه من الزوائد التي تحدث بعده فكذلك يد الاستيفاء وهذا لأن المتولد منه الأصل ثبت فيه ما كان في الأصل والأصل كان مملوكا للراهن مشغولا بحق المرتهن فيثبت ذلك الملك في الزيادة لا ملك آخر لأنه يحتاج لملك آخر وإلى سبب آخر بخلاف الكسب والغلة فهو غير متولد منه الأصل ولا يثبت في الكسب لهذا المعنى وبخلاف حق المستأجر فهو في المنفعة لا في العين ولهذا لا يسري إلى بدل العين فكذلك لا يسري إلى الولد(21/136)
ص -67- ... توضيحه أن الحق إنما يسري إلى الولد إذا كان محلا صالحا والولد محدث غير منتفع به فلم يكن محلا صالحا لحق المستأجر فأما الولد المنفصل فيكون مالا متقوما فيكون محلا صالحا لحق المرتهن ورد أن هذا من الإجارة إن ولدت المرهونة ولدا حرا باعتبار الغرور فالرهن لا يسري على هذا الولد لأنه ليس بمحل له وهذا هو العذر عن ولد المنكوحة فإن حق النكاح لا يسري إليه لأنه ليس بمحل للحل في حق الزوج وهذا هو العذر عن ولد الجارية الموصي بخدمتها لأنه لا يكون محلا صالحا للخدمة حتى ينفصل ثم حق الموصي في المنفعة والولد غير متولد منه المنفعة والسراية إلى الولد باعتبار خروج العين من الثلث لا لأن حقه في العين وحق ولي الجناية ليس بمتأكد في العين فإن ما عليه تقرر بإبطال حق العين عن العين باعتبار اليد وحق الزكاة في الذمة لا في العين فإن المستحق فعل أشياء في الذمة ثم من عليه ملك الأداء من محل آخر فعرفنا أنه غير متأكد في العين وحق الكفالة عندنا يسري إلى الولد إذا كفلت أمه بإذن مولاه بمال ثم ولدت فأما إذا كانت حرة فالحق بالكفالة ثبت في ذمتها والولد لا يتولد من الذمة وإنما لا يثبت حكم الضمان في الولد عندنا لانعدام السبب الذي يجعل العين مضمونة عليه وهذا القبض مقصود.(21/137)
ألا ترى أن ولد المعتق قبل القبض يسري إليه حكم البيع ولا يكون مضمونا إن هلك لهذا المعنى وقوله صلى الله عليه وسلم "له غنمه وعليه غرمه" يقتضي أن تكون الزيادة ملكا للراهن وذلك لا يبقى حقا للمرتهن فإنه كما أضاف الزيادة إليه أضاف الأصل إليه "بقوله الرهن من راهنه الذي رهنه" ونحن نقول إنه محلوب للراهن على معنى أن اللبن يكون مملوكا له وإنه ينتفع به بإذن المرتهن أيضا وليس في هذا الحديث أيضا ما يمنع ثبوت حق المرتهن فيه فإن باعها العدل وسلمها ثم استحقها رجل ولا يعلم مكانها كان للمستحق أن يضمن العدل قيمة الأمة والولد لأنه في حق المستحق غاصب والزيادة في عين المغصوب تضمن بالبيع والتسليم كالأصل لم يرجع العدل بذلك في الثمن الذي عنده إن كان فيه وفاء لأن الثمن بدل العين.
وكما أن الضامن للعين يكون أحق الناس بالعين فكذلك يكون أحق ببدل العين وإن لم يكن فيه وفاء رجع بتمام ما ضمن على الراهن لأنه بالبيع كان عاملا للراهن بأمره ولأنه باعهما ليقتضي الدين بالثمن ويفرغ ذمة الراهن ومنه لحقته العهدة في عمل باشره لغيره كان له أن يرجع به عليه وإنما يرجع في الثمن لأن جنس حقه من مال الراهن وهو بدل العين الذي كان وجب عليه ضمانه ولما كان مراد الضمان على الراهن كان الملك في المضمون له والعدل وكيله بالبيع فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة فإن كان قد قضاه المرتهن فالعدل بالخيار وإن شاء باع الرهن بذلك وسلم للمرتهن ما اقتضاه لأنه في قضاء الدين كان عاملا للراهن بأمره فكان الراهن فعل ذلك لنفسه فله أن يرجع على الراهن بجميع ما ضمن من القيمة وإذا فعل ذلك سلم المقبوض للمرتهن لأنه بدل ملك الراهن قضى به دينه وإن شاء ضمنه المرتهن لأن حقه ثابت في ذلك الثمن بدليل أنه لو لم يكن سلمه إلى المرتهن كان له(21/138)
ص -68- ... أن يأخذه بحقه بعد التسليم إلى المرتهن وله أن يسترده منه أيضا ولا يضمنه المرتهن إلا بقدر ما قبضه لأن وجوب الضمان عليه باعتبار القبض وإن كان في القيمة فضل رجع بالفضل على الراهن كما لو كان الراهن هو الذي قضى بالثمن.
توضيحه أن العدل عامل للراهن بأمره ولكن في عمله منفعة للمرتهن من حيث إنه يصل إليه بحق إلا أن منفعته بقدر دينه فيثبت له الخيار وإن شاء ضمن الراهن جميع القيمة لأنه كان عاملا له وإن شاء ضمن المرتهن بقدر ما قبض لحصول المنفعة في ذلك القدر له وإذا فعل ذلك رجع المرتهن على الراهن بدينه لأن المقبوض لم يسلم إليه وليس له أن يأخذهما جميعا لأن المخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه وهذا لأن اختياره تضمين الراهن بتسليم المقبوض للمرتهن فليس له أن يرجع عليه فإذا اختار أحدهما فأفلس أو مات لم يكن له أن يتبع الآخر بذلك بمنزلة الغاصب مع غاصب الغاصب ولو لم يبعها العدل وماتا عنده كان للمستحق أن يضمن العدل حق الأم دون الولد لأن الولد هلك من غير صنع أحد ويرجع بها العدل على الراهن لأنه عامل له قائم مقامه في إمساك الرهن وقد بينا أن الرهن لو هلك في يد المرتهن ثم ضمن حصته للمستحق لرجع بها على الراهن فإذا هلك في يد العدل أولى.(21/139)
قال:وقبض العدل للرهن بمنزلة قبض المرتهن له في حكم صحة الرهن وذهابه بالدين إذا هلك عندنا وهو قول إبراهيم النخعي والشافعي وعطاء والحسن رحمهم الله وقال بن أبي ليلى رحمه الله لا يتم الرهن بقبض العدل حتى إذا هلك في يد العدل لم يسقط الدين وإن مات الراهن فالمرتهن أسوة الغرماء قال لأن العدل نائب عن الراهن فكذا إذا لحقه عهدة يرجع على الراهن دون المرتهن وكما أن الرهن لا يتم بقبض الراهن وإن أشفى عليه فكذلك لا يتم بقبض العدل والدليل أن موجب عقد الراهن بثبوت يد الاستيفاء وبهذا العقد لم يثبت ذلك للمرتهن لأنه لا يتمكن من إثبات يده على العين وموجب العقد لا يجوز أن يثبت بغير العاقد كالملك في البيع وجه قولنا إن يد العدل كيد المرتهن بدليل إن ملك العدل رد الرهن برضا المرتهن ولو كانت يده كيد الراهن لتمكن الراهن من استرداده متى شاء وبأن كان يرجع بضمان الاستحقاق على الراهن فذلك لا يدل على أن يد الراهن كالمرتهن نفسه.
توضيحه إن المرهون محبوس بالدين كالمبيع بالثمن ثم البائع إذا أبى تسليم المبيع إلى المشتري فوضعاه على يد عدل كانت يد العدل فيه كيد البائع الذي له حق الحبس حتى إذا هلك انفسخ البيع فكذلك في الرهن يد العدل كيد من له الحبس وهو المرتهن ولأنه بعد التسليم إلى المرتهن لو اتفقا على وضعه على يد عدل كانت جائزة وكانت يد العدل فيه كيد المرتهن حتى يصير مستوفيا دينه بهلاكه ولو كانت يد العدل كيد الراهن لم يصر المرتهن مستوفيا دينه بهلاكه كما لو عاد إلى يد الراهن بطريق العارية والغصب وكان هذا نوع استحسان منا لحاجة الناس إليه ولكونه أرفق بهم فالراهن لا يأتمن المرتهن على عين ماله(21/140)
ص -69- ... وعند ذلك طريق طمأنينة القلب لكل واحد منهما الوضع على يد عدل ولهذا جوزنا ذلك في الانتهاء فكذلك في الابتداء.
وإن كان العدل مسلطا على البيع فله أن يبيعه وبدون تسليط ليس له أن يبيعه لأنه قائم مقام المرتهن وللمرتهن أن يبيع الرهن إذا سلط عليه وليس له أن يبيعه إذا لم يسلط على ذلك ونفقته على الراهن سواء كان في يد العدل أو في يد المرتهن لقوله صلى الله عليه وسلم "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" ولأن العين باقية على ملك الراهن ونفقة المملوك على المالك وفي استحقاق اليد عليه للمرتهن منفعة للراهن فإنه يصير قاضيا دينه بهلاكه فهو نظير العبد المؤجر تكون نفقته على الآجر وكذلك كفنه إن مات فإن الكفن لباسه بعد وفاته فيعتبر بلباسه في حال حياته ولأن ضمان الرهن ضمان الاستيفاء ولذلك ثبت في المالية دون العين ولهذا قلنا إن حكم الضمان لا يسري إلى الولد فبقيت العين على ملك الراهن فكان كفنه عليه.(21/141)
قال:وإذا دفعه إلى الراهن أو المرتهن كان ضامنا له لأنه خالف فيما صنع وكل واحد منهما منعه منه دفعه إلى الآخر بغير رضاه فيكون الدفع خيانة في حقه وكذلك لو استودعه رجل أجنبي لأن العدل أمين في حفظ الرهن كالمستودع والمودع إذا أودع أجنبيا صار ضامنا وإن أودعه بعض من في عياله لم يضمنه لأنه يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ مال نفسه فكذلك العدل وكذلك المرتهن لو كان الرهن عنده فدفعه إلى من في عياله لم يضمنه وإن دفعه إلى أجنبي كان ضامنا للعين قال وإذا كان العدل رجلين والرهن مما لا يقسم فوضعاه عند أحدهما كان جائزا ولا ضمان فيه كالمودعين لأنه لما أودعهما مع علمه بأنه لا يتهيأ لهما الاجتماع على حفظه آناء الليل وأطراف النهار فقد صار راضيا بترك أحدهما إياه عند صاحبه وإذا كان مما يقسم اقتسماه فكان عند كل واحد منهما نصفه فإن وضعاه عند أحدهما فمن الذي وضع حصته عند صاحبه في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا ضمان عليه لأن كل واحد منهما مؤتمن فيه وقد بينا المسألة في الوديعة.(21/142)
ولو سافر العدل أو انتقل من البلد فذهب بالرهن معه لم يضمنه لأنه أمين في العين كالمودع وللمودع أن يسافر بالوديعة عندنا وقد بينا اختلاف الرواية فيما له حمل ومؤنة وفيما لا حمل له ولا مؤنة قربت المسافة أو بعدت في كتاب الوديعة وكذلك المرتهن نفسه إذا كان الرهن في يده لأنه لا تمنع عليه المسافرة بسبب الرهن ولو دفعه إلى غيره كان ضامنا مخالفا لما أوجب له نصا فلا يجد بدا من أن يسافر به معه فإن سلط العدل على بيع الرهن فأبى أن يبيع فرفعه المرتهن إلى القاضي أجبره القاضي على البيع بعد أن يقيم البينة على ذلك بخلاف الوكيل فإنه إذا امتنع عن البيع لا يجبره القاضي على ذلك لأن الوكالة بالبيع ليست من ضمن عقد لازم فلا يثبت حكم اللزوم فيه وتسليط العدل على البيع في ضمن عقد لازم وهو الرهن فإن موجب الاستحقاق للمرتهن لازم في حق الراهن والعدل نائب في البيع فيثبت حكم اللزوم في حقه نصا(21/143)
ص -70- ... توضيحه:أن الوكيل إذا امتنع عن البيع لا يتضرر به الموكل لأنه يتمكن من البيع نفسه وأما العدل إذا تضرر من البيع فإنه يتضرر منه المرتهن لأنه لا يتمكن من البيع هذا إذا كان التسليط مشروطا في عقد الرهن فإن كان بعد تمام العقد في ظاهر الرواية لا يجبر العدل على البيع لأن رضا المرتهن على الرهن قد تم بدونه هذا وهو توكيل مستأنف ليس في ضمن عقد لازم وعن أبي يوسف رحمه الله قال التسليط على البيع بعد الرهن يلتحق بأصل العقد ويصير كالمشروط فيه وعلى هذا لو أراد الراهن عزل العدل المسلط على البيع فإن كان بعد تمام الرهن سلطه فهو على الخلاف الذي مضى وإن كان مشروطا في عقد الرهن لم يصح عزله بدون رضا المرتهن لأنه ثبت في ضمنه عقد لازم وهو نظير الوكيل بالخصومة بالتماس الخصم إذا أراد الموكل بغير محضر منه الخصم لم يصح ذلك عليه لدفع الضرر عنه فهذا مثله.(21/144)
ولو مات العدل بطل تسلطه على البيع لأن ذلك كان يتأتى باعتبار رأيه ولم يتعين بعد موته والرهن على ماله لأن الرهن لو كان في يد المرتهن فمات لم يبطل العقد به فلأن يبطل بموت العدل أولى قال وإذا أوصى العدل ببيعه لم يجز كما لو وكل ببيعه في حياته وهذا لأن الراهن رضي برأيه ولم يرض برأي غيره وكذلك لو أراد وارث العدل بيعه لم يجز لأن الوارث إنما يخلف المورث فيما هو حق المورث وهذا حق الراهن والمرتهن وهما رضيا برأي العدل وما رضيا برأي وارثه فإن أجمع الراهن والمرتهن على وضعه على يد غيره أو على يد المرتهن جاز لأن الحق إنهما رأيا ما يعتبر في حقهما كما في الابتداء وإن اختلفا فجعل القاضي منهما عدلا فوضعه على يديه فذلك جائز لأن القاضي منصوب لقطع الخصومة والمنازعة وطريق قطعها هنا أن يقيم عدلا آخر مقام الأول وكذلك إن وضعه على يد المرتهن وجعله عدلا فيه فهو جائز لأن ما يرى القاضي المصلحة فيه عند اختلافهما بمنزلة تراضيهما عند الاتفاق عليه ولو لم يمت العدل ومات الراهن كان للأول أن يبيعه بخلاف الوكالة إذا مات الموكل قبل بيع الوكيل لأن موت الموكل كعزله وبعد العزل في الوكالة ليس للوكيل أن يبيع وللعدل أن يبيع كما بينا فكذلك بعد الموت وهذا لأنه بموت الوكيل تنتقل العين إلى الوارث ولم يوجد منه الرضا ببيعه وهنا المرتهن أحق بالعين بعد موت الراهن كما كان في حياته فكان للعدل أن يبيعه لحق المرتهن.(21/145)
قال: وإذا باع العدل الرهن وقضى المال المرتهن ثم وجد بالعبد عيبا فالخصم فيه هو العدل لأن الرد بالعيب من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد فإذا رد عليه ثمنه فإنه يضمن الثمن لأنه هو القابض للثمن من المشتري فعليه رده ويرجع به على المرتهن لأنه لو كان الثمن في يديه ولم يدفعه إلى المرتهن لرجع فيه ويكون أحق به فكذلك بعد الدفع إليه يرجع به عليه وهذا لأن منفعة عمله حصلت له فيستحق الرجوع عليه بما يلحقه منه العهدة ويكون الرهن رهنا على حاله الأولى يبيعه العدل لأن البيع الأول قد بطل فكأنه لم يكن أصلا ولو لم تقم بينة على العيب ولكن العدل أقر به فإن كان عيبا لا يحدث مثله فكذلك هذا لأنا أثبتنا أن(21/146)
ص -71- ... العيب كان موجودا قبل البيع وإنما لم يستقل العدل بالإنكار لعلمه أن ذلك قدح في عدالته ولا تمنعه وإن كان عيبا يحدث مثله فلم يقر به ولكن أبى أن يحلف حتى رده القاضي عليه فهو كالأول عندنا خلافا لزفر رحمه الله وقد بينا هذا في الوكيل بالبيع إذا رد عليه نكوله في البيع فالعدل مثله وإن أقر به لزمه خاصة لأنه غير مضطر إلى هذا الإقرار فقد كان متمكنا من السكوت ليجعله القاضي منكرا ويعرض عليه اليمين ثم يقضي عليه بالنكول وإقراره ليس بحجة على المرتهن ما لم يصدقه في ذلك فإن صدقه رد عليه ما قبض منه وبيع الرهن ثابت ولا يلزم الراهن من وضعه ذلك شيء إلا أن يقر به كما بينا أن إقرار العدل ليس بحجة عليه ما لم يصدقه فإن صدقه فهو في حقهما كإقامة البينة ولو أقاله البيع أو رده عليه بعيب يحدث قبله أو لا يحدث مثله بغير قضاء قاض لزم ذلك العدل خاصة لأن هذا التصرف في حق الراهن والمرتهن كشراء مستقبل وقد أشار في البيوع إلى العيب الذي لا يحدث مثله إن القضاء وغير القضاء سواء وقد بينا وجه الروايتين في البيوع والأصح ما ذكر هنا.(21/147)
وإذا باع العدل الرهن ثم وهب الثمن للمشتري قبل أن يقبضه جاز وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو خاصة له ولا يجوز في قول أبي يوسف رحمه الله بمنزلة الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري من الثمن ولو قال قد قبضته فهلك عندي كان مصدقا في ذلك وكان من المال المرتهن لأنه يملك القبض بحكم العقد فيملك الإقرار بالقبض وما ظهر بإقراره كالمعاين ولو قبض الثمن وهلك في يده كان من مال المرتهن لأن حكم الراهن تحول إلى الثمن فهلاكه في يده كهلاك العين وكذلك لو قال قد دفعته إلى المرتهن فهو مصدق مع يمينه ولا نقول بإقرار العدل يثبت وصول الثمن إلى المرتهن لأن القول قول الابن في براءة نفسه لا في وصول المال إلى القريب كما لو أمر المودع أن يقضي بالوديعة دينه وقال قد فعلت ولكنه يسقط حق المرتهن لأن حكم الرهن تحول إلى الثمن وقد توى بعد إقرار العدل بما قال فكأنه هلك في يده ولو قبض الثمن ثم وهبه كله أو بعضه لم يجز لأن المقبوض بحكم ملك الراهن مشغول بملك المرتهن فتصرف العدل فيه بطريق التبرع باطل.
ولو قال: حططت عنك من الثمن كذا أو قال قد وهبت لك من الثمن كذا وكذا فذلك جائز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن الحط يلتحق بأصل العقد ولو حط قبل القبض جاز عليه وصار ضامنا فكذلك إذا حط بعد القبض يجوز ذلك عليه وتبين أن قبض ذلك القدر بغير حق فعليه أن يغرم مثله للمشتري من ماله والمقبوض سالم للمرتهن لأن تصرفه صحيح في حق نفسه لا في حق المرتهن وهذا بخلاف ما إذا أضاف الهبة إلى المقبوض لأن المقبوض حق غيره فلا تصح هبته فها هنا أضاف الهبة إلى الثمن والثمن بالعقد يجب للوكيل ولهذا لو وهبه قبل القبض جاز ذلك في حقه وهذا لأن القبض يقرر الثمن لأن المقصود يحصل بالقبض وبحصول المقصود ينتهي حكم الشيء ويتقرر مكان إضافة الهبة إلى الثمن بعد القبض كإضافته إليه قبل القبض فيصح ذلك في حقه وإذا باع العدل الرهن وأقر(21/148)
ص -72- ... الراهن والمرتهن بالبيع فقال بعته بمائة درهم والدين مائة وأعطيتكها وقال المرتهن بعته بخمسين وأعطيتكها فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن العين خرجت من الرهن بالبيع باتفاقهم جميعا مع الاختلاف منهما في مقدار ما قبض المرتهن من حقه وهو منكر للزيادة فالقول قوله وهذا بخلاف ما إذا قال الراهن لم يبعه وقال العدل بعته بخمسين وصدقه المرتهن لأن العين في الحال هالكة وذلك مسقط لجميع الدين عن الراهن باعتبار أن في قيمته وفاء بالدين وقت القبض والمرتهن مع العدل يدعيان خروج العين عن الرهن والراهن منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه فأما هنا فقد اتفقا على خروج العين عن الرهن بالبيع وإنما اختلفا في مقدار ما قبض المرتهن من دينه وكذلك لو كان توى الثمن على المشتري ثم اختلفا في مقداره لأن العين لما خرجت من الرهن باتفاقهما وإنما يحول حكم الرهن إلى الثمن بقدر الثمن واختلافهما في مقداره كاختلافهما في مقدار قيمة الرهن حين قبضه المرتهن والقول في ذلك قول المرتهن لإنكاره الزيادة وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة العدل والراهن لأنهما شيئان الزيادة فيما استوفاه المرتهن والمثبت للزيادة من الشيئين أولى.(21/149)
وإذا قال العدل: قد بعته بخمسين وصدقه المرتهن وقال الراهن هلك في يدك قبل أن تبيعه وأقاما البينة فالبينة بينة الراهن أيضا لأنه أثبت الزيادة فيما استوفاه المرتهن من الدين وعن أبي يوسف رحمه الله أن البينة هنا بينة المرتهن والعدل لأنهما سبب خروج العين من الرهن وهو البيع والحاجة إلى البينة لها فكانت منهما أولى بالقبول ولو وكل العدل في بيع الرهن وكيلا فباعه والعدل حاضر جاز إلا عند زفر رحمه الله وأصله في الوكيل بالبيع وقد تقدم بيانه في باب الوكالة فإن كان العدل غائبا عن ذلك البيع لم يجز لأن الآمر إنما أوصى أن يتم العقد برأي العدل فإن كان حاضرا كان تمام العقد برأيه بخلاف ما إذا كان غائبا وإذا لم ينفذ بيعه كان هذا وما لو باعه قبل التوكيل سواء فإذا أجازه العدل جاز ويصير كأنه باعه بنفسه لأن تمام العقد حصل برأيه وكذلك لو وقت العدل للوكيل ثمنا فقال بعه بكذا فباعه به كان جائزا أما إذا كان بمحضر من العدل فغير مشكل وإن كان بغير محضر منه فكذلك في رواية هذا الكتاب لأن مقصود الآمر قد حصل حين وقت العدل للوكيل الثمن فإن تمام العقد كان برأيه ومقصود الآمر الثمن لا العبادة وقد حصل وفي غير هذا الموضع قال لا يجوز لأن تسميته مقدار الثمن يمنع النقصان ولكن لا يمنع الزيادة ولو حضر العدل ربما يبيعه بأكثر من ذلك لجده وكثرة هدايته في التزويج فلهذا لا يجوز بيع الوكيل الآن بخبرة العدل.
وإذا باع الرهن من ولده أو زوجته لم يجز إلا أن يخبره الراهن والمرتهن في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما بيعه منهم لما يتغابن الناس فيه جائز لأن العدل بمنزلة الوكيل بالبيع وقد بينا في كتاب البيوع الخلاف في بيع الوكيل من مولاه فاللفظ المذكور هنا يدل على أن موضع الخلاف في البيع بالغبن اليسير دون البيع بمثل القيمة بخلاف باقي البيوع وقد بينا وجه الروايتين هناك فلو أجازه الراهن والمرتهن جميعا جاز لأن المنع حقهما فإذا اتفقا(21/150)
ص -73- ... على الإجازة نفذ لزوال المانع كما لو باع الرهن فضولي فأجاز الراهن والمرتهن فإن أجاز ذلك أحدهما دون الآخر لم يجز كما لو باشر أحدهما البيع لم يجز بدون نص الآخر وإذا كان العدل اثنين وقد سلطا على البيع فباع أحدهما لم يجز ذلك لأن الراهن والمرتهن نصا برأيهما والبيع يحتاج فيه إلى الرأي ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فإن أجاز الآخر جاز لاجتماع رأيهما عليه وكذلك إن أجازه الراهن والمرتهن كما لو باعه فضولي آخر فأجازه الراهن والمرتهن وإن أجازه أحدهما دون الآخر لا يجوز لأن للراهن ملكا وللمرتهن حق نصابه في الملك فكما لا ينفرد أحدهما بالبيع بدون رضا الآخر فكذلك لا ينفرد بالإجازة وكذلك لو باعه أجنبي وأجاز الراهن أو المرتهن لم يجز وإن أجازاه جميعا وأبي العدلان ذلك جاز لأن الحق لهما ونفوذ البيع من العدلين باعتبار رضاهما فإذا وجد الرضا منهما في حق الأجنبي نفذ بيعه أيضا وقد خرج العدلان من الوكالة كما لو باشرا البيع بأنفسهما.(21/151)
وإذا أخرج الراهن والمرتهن العدل من التسليط على البيع وسلطا غيره أو لم يسلطا فقد خرج العدل من ذلك إذا علم وإن لم يعلم فهو على وكالته لأنه وكيل بالبيع والموكل ملك عزل الوكيل بعلمه فإذا كان حصول التوكيل برأيهما فكذلك العزل يثبت باتفاقهما عليه إذا علم العدل به قال وإذا أراد العدل بيع الرهن قبل حل الأجل لم يكن له ذلك لأنه سلط على البيع لقضاء الدين عند امتناع الراهن من قضاء الدين من موضع آخر وإنما يتحقق ذلك بعد حلول الأجل لأن المطالبة بقضاء الدين تتوجه عليه عند ذلك وفي النوادر قال محمد رحمه الله هذا على وجهين أما أن يكون التسليط مضافا بأن قال إذا حل الأجل فلم أقض ماله فبعه لم يجز بيعه قبل حل الأجل ولو قال بعه مني متى شئت جاز بيعه قبل حل الأجل لأنه صار وكيلا عقب هذا اللفظ فينفذ بيعه بحكم الوكالة ولكن الثمن يكون رهنا إلا أن يحل الأجل فيستوفيه المرتهن بحقه وإن قال المرتهن كان الأجل إلى شهر رمضان فالقول قول الراهن في التسليط على البيع والقول في حل الأجل قول المرتهن لأن الأجل حق الراهن قبل المرتهن فإذا ادعى زيادة فيه وجحد المرتهن كان القول قوله فأما التسليط على البيع فمن حق المرتهن ويثبت بإيجاب الراهن ولو أنكره أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أنكر حلوله إذ ليس من ضرورة حل المال ثبوت التسليط على البيع لجواز أن يسلطه على البيع بعد مضي شهر من حين يحل المال فإن اتفقا على الأجل إنه شهر واختلفا في مضيه فالقول قول الراهن لأن الأجل حق الراهن قبل المرتهن وقد تصادقا على ثبوته ثم ادعى المرتهن إنه أوفاه ذلك وأنكر الراهن الاستيفاء فالقول قوله.(21/152)
وإذا باع العدل الرهن بدنانير أو بغيرها من العروض والحق دراهم فله أن يصرفها بدراهم إذا كان مسلطا على بيعه حتى يوفيه في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليس له أن يبيعه بعرض لأن العدل وكيل بالبيع وقد بينا الخلاف في الوكيل بالبيع مطلقا أو باع بالعروض وإذا باع بالنقود يجوز بالاتفاق ولكنه مأمور بإيفاء حق المرتهن والإيفاء إنما يكون بجنس الحق(21/153)
ص -74- ... فكان له أن يصرف الثمن إلى جنس الحق ليقضي الدين به وكذلك يبيع العروض به في قول أبي حنيفة رحمه الله وكذلك لو باعه بمكيل أو موزون فهو كالبيع بالعروض على قياس الوكيل وذكر الكرخي رحمه الله إن الرهن إذا كان بطعام السلم فباعه العدل بجنس ذلك الطعام يجوز البيع عندهم جميعا لأن عندهما إنما يتقيد البيع بالنقد بدلالة العرف وذلك غير موجود هنا ثم هذا عرف وعارضه نص لأنه سلطه على البيع لقضاء الدين وذلك بجنس الدين يتحقق وإن باعه بالنقد احتاج إلى أن يسوي به طعاما ليقضي به حق رب السلم فلأجل هذا جوزنا بيعه بالطعام.
قال: ولو باعه بنسيئة كان البيع جائزا بمنزلة الوكيل بالبيع مطلقا وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمهم الله أنه إذا قال لغيره بع هذا المتاع فإني محتاج إلى النفقة أو قال بعه فإن غرمائي ينازعونني فباعه بالنسيئة لا يجوز لأنه اقترن بكلامه ما يدل على أن مراده البيع بالنقد وعلى قياس تلك الرواية لا يجوز بيع العدل بالنسيئة أيضا لأنه أمره بالبيع عند حل الأجل ليوفي حق المرتهن من الثمن وذلك لا يحصل إلا بالبيع بالنقد وإن توى الثمن عند المشتري فهو من مال المرتهن لما بينا أن حكم الرهن تحول من العين إلى الثمن وإن كان في ذمة المشتري كما لو قبل المرهون تحول حكم الرهن من العين إلى القيمة ولو هلكت العين قبل البيع يصير المرتهن به مستوفيا حقه فكذلك إذا توى الثمن وفيه وفاء بالدين وإذا كان الرهن أرض خراج أو عشر فأخذ السلطان الخراج أو العشر من الثمرة كان للعدل أن يبيع ما بقي مع الأرض الرهن لما بينا إن حكم الرهن يثبت في الزيادة المولدة من العين ولا يسقط باعتبار ما أخذ السلطان من ذلك شيء من الدين لأن ذلك مستحق على الرهن ولأن ذلك الجزء كالتاوي بغير صنع المرتهن.(21/154)
ولو هلك الكل بغير صنعه لم يسقط شيء من دينه فإن قيل كيف يأخذ السلطان الخراج من الثمرة والخراج في ذمة الراهن قلنا قد قيل إن المراد خراج المقاسمة وهو جزء من الخارج كالعشر وإن كان المراد خراج الوظيفة فله تعلق بالخراج بدليل أنه لو امتنع من أداء الخراج يبيعه الإمام بطريق الاجتهاد وإذا أخذ السلطان الخراج أو العشر من الراهن لم يكن للراهن أن يرجع بشيء من الثمرة وهو كله رهن يبيعه العدل ويوفيه المرتهن ولا شك إن للسلطان أن يأخذ منه الخراج وكذلك العشر عند حاجة مصارف العشر للسلطان أن يأخذ العشر من مالك الثمرة بعد إدراك الغلة وهذا لأنه يطالبه بالأداء وله أن يؤدي من أي موضع شاء فإذا كان هو الذي رهن العين وتعذر عليه أداء العشر أخذه من غير الثمرة لزمه الأداء من محل آخر فإذا أخذ منه بقيت الثمار مملوكة للراهن محبوسة عند المرتهن بحقه وللعدل أن يبيع الكل كما بينا ولا يكون للراهن أن يرجع بشيء من الثمرة ما لم يقض الدين لأنه بتصرفه قصر يد نفسه عن الثمرة ما لم يؤد الدين وقد كانت الثمرة مشغولة بالعشر والخراج فإذا زال ذلك بأدائه من محل آخر بقي حكم الرهن فيه على حاله.
قال: ولو كان الرهن إبلا أو بقرا أو غنما سائمة لم يكن فيها زكاة لأن على صاحبها من الدين ما يستغرق رقابها ووجوب الزكاة من المال النامي باعتبار عناء المالك قال صلى الله عليه وسلم: "لا(21/155)
ص -75- ... صدقة إلا عن ظهر غني" وبالدين المستغرق ينعدم العناء والسبب إذا وجب الحكم بواسطة لم يثبت الحكم بدون تلك الواسطة كشراء القريب يوجب العتق بواسطة الملك فإذا اشتراه لغيره لا يكون إعتاقا لانعدام الواسطة وإن كان العدل هو الراهن فإن كان المرتهن لم يقبض من يد الراهن فليس برهن لأن تمام الرهن بالقبض ويد المالك في ماله لا تكون نائبة عن الغير فلا يصير المرتهن قابضا بيد الراهن وإن كان المرتهن قبضه وجعل الراهن مسلطا على بيعه فهو رهن وبيع الراهن فيه جائز لأن العين ملكه وهو مشغول بحق المرتهن فإذا رضي صاحب الحق بالبيع نفذ بيع المالك فيه وإذا ارتهن الرجل دارا أو سلط الراهن رجلا على بيعها ودفع الثمن إلى المرتهن ولم يقبضها المرتهن حتى حل المال لم يكن رهنا لانعدام القبض المتمم له.(21/156)
وإن باع العدل الدار جاز بيعه بالوكالة لا بالرهن لأن العدل وكيل بالبيع وبقاء يد المالك في العين لا يمنع صحة الوكالة بالبيع وكذلك التبعيض في الخادم والدار لأن الشيوع وإن كان يمنع موجب الرهن فلا ينافي موجب الوكالة وأحد الحكمين ينفصل عن الآخر فالرهن وإن لم يصح لعدم القيمة فالتوكيل بالبيع صحيح وإذا باع العدل ذلك دفع الثمن إلى الراهن دون المرتهن لأن العين ملك الراهن ولم يثبت فيه حق المرتهن حين لم يصح الرهن فلهذا يدفع الثمن إلى الرهن ثم يقضي للمرتهن على الراهن بحقه وإن دفع العدل المال إلى المرتهن لم يضمن لأن الدفع إليه حصل بأمر المالك وإن نهاه عن البيع لم يجز بيعه بعد ذلك وكذلك إن مات الراهن لم يكن للعدل أن يبيعه بعد موته لأن نفوذ بيعه بالوكالة دون الرهن والوكالة تبطل بالعزل وموت الموكل والمرتهن أسوة الغرماء فيه لأن اختصاصه به يكون باعتبار الرهن فإذا لم يتم الرهن كان أسوة الغرماء وإذا قتل العبد المرهون عبد فدفع به أو أخفى عينه فدفع بالعين كان العدل مسلطا على بيع العبد المدفوع لأنه قائم مقام ما دفع به إلا أن يرى أن حكم الرهن يثبت فيه بهذه الطريقة فكذلك حكم التسليط على البيع لأن ذلك توكيل تعلق به الاستحقاق لكونه في ضمن الرهن فيظهر ظهور حكم الرهن فيه.(21/157)
وإذا باع العدل الرهن فقال بعته بتسعين والدين مائة فأقر بذلك المرتهن فإنه يسأل الراهن عن ذلك فإن أقر أنه باعه وادعى أكثر من تسعين فالقول قول المرتهن والعدل فيه لاتفاقهما على خروج العين من الرهن بالبيع وإنكار المرتهن للزيادة فيما تحول إليه حكم الرهن والبينة بينة الراهن لإثباته الزيادة وإن لم يقر الراهن بالبيع وقال هلك في يد العدل فالقول قول الراهن إذا كانت قيمته مثل الدين لأنه بقبض الرهن تثبت يد الاستيفاء للمرتهن في جميع الدين ثم إذا ادعى ما ينسخه وهو البيع في الدين فلا يصدق في ذلك إلا بحجة وإذا أقر بالبيع قال الراهن بعته بمائة وقال العدل بعته بتسعين وقال المرتهن بعته بثمانين وقد تقابضا فالقول قول المرتهن ويرجع على الراهن بعشرين درهما لتصادقهم على ما ينسخ حكم الرهن في العين وهو البيع وإنكار المرتهن للزيادة فيما استوفى من حقه والبينة بينة الراهن لأنه هو المدعي لزيادة إيفاء الدين على المرتهن فإن أقام العدل البينة إنه باعه بتسعين وأعطاها(21/158)
ص -76- ... للمرتهن وقال الراهن لم يبعه وأقام البينة إنه لم يبع وإنه مات في يده قبل أن يبيعه لم تقبل بينة الراهن على هذا لأنهم لم يشهدوا على فصل ماله وإنما شهدوا على أنه لم يبع وهذا لا تجوز شهادتهم فيه لأن البينة للإثبات فلا تقبل على النفي ولا بلفظ النفي وإن كانت هذه البينة بلفظ الإثبات فقد بينا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في ترجيح إحدى البينتين على الأخرى فيما سبق.
وإذا ارتد العدل ثم باع الرهن ثم قتل على ردته فبيعه جائز لأن نفوذ بيعه باعتبار الوكالة وردته لا تنافي ابتداء الوكالة فلا ينافي البقاء بطريق الأولى وإنما لا يجوز أبو حنيفة تصرفه في ملك نفسه إذا قتل على الردة لأن محل تصرفه حق ورثته وذلك غير موجود هنا فإنه ليس بمالك للرهن وخلف وارثه فيه إنما هو وكيل ببيعه وإن أسلم فذلك أجوز لبيعه وإن لحق بدار الحرب فلحاقه بمنزلة موته ولهذا يقسم القاضي ميراثه فإن رجع مسلما فهو على وكالته وقد نص على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في الوكيل إذا ارتد ولحق بدار الحرب فقيل حكم العدل على ذلك الخلاف وقيل بل هذا قولهم جميعا وأبو يوسف يفرق بينهما فيقول ردته ولحاقه موجب عزله بمنزلة ردة الوكيل وعزله نفسه وذلك يصح من الوكيل ولا يصح من العدل بعد القبول بحق المرتهن فكذلك يبقى حكم التسليط على البيع بعد لحاقه فإذا رجع فهو على وكالته وهذا لأن هذه الوكالة تعلق بها الاستحقاق لكونها في ضمن الرهن على ما بينا وإذا ارتد الراهن والمرتهن فلحقا بدار الحرب أو قتل على الردة ثم باع العدل الرهن جاز بيعه لأن لحاقهما كموتهما والقتل موت وقد بينا أن موتهما لا يبطل الرهن ولا حكم التسليط على البيع فكذلك هنا.(21/159)
قال: وإذا كان العدل عبدا محجورا عليه فإن وضعا الرهن على يديه بإذن مولاه فهو جائز لأنه من أهل يد موجبة لتتميم العقد لو كان العقد معه بإذن مولاه فكذلك إذا كان العقد مع غيره قلنا يتم العقد بيده على أن تكون يده نائبة عن يد المرتهن كما في الحر فإن وضعا على يده بغير إذن مولاه فهو أيضا جائز لأن الأهلية للعبد يكون آدميا مميزا أو مخاطبا بوجود الإذن من المولى وإنما الحاجة إلى الإذن فيما يتضرر المولي به ولا ضرر على المولي في جعل يد العبد نائبة عن يد المرتهن ولكن عهدة البيع لا تكون عليه لأن المولي يتضرر به من حيث إنه يتوى ما ليته فيه وإنما العهدة على الذي سلطه على البيع لأنه لما تعذر إيجاب العهدة على العاقد تعلقت بأقرب الناس إليه وهو من سلطه على بيعه وكذلك الصبي الحر الذي يعقل إذا جعل عدلا فهو والعدل العبد سواء إن كان أبوه أذن له فالعهدة عليه ويرجع به على الذي أمره وإن لم يكن أبوه أذن له فاستحق البيع من يد المشتري فإن شاء المشتري رجع بالثمن على المرتهن الذي قبض المال لأنه هو الذي ينتفع بهذا العقد حين سلم الثمن له وإذا رجع عليه رجع المرتهن على الراهن بماله وإن شاء على الراهن لأن البائع كان مأمورا من جهته وإنما حصل بيعه وقبض الثمن له فكان له أن يرجع بالعهدة عليه.(21/160)
ص -77- ... ولو ذهب عقل العدل لم يجز بيعه في تلك الحالة أما إذا صار بحيث لا يعقل البيع فلا إشكال فيه وإن كان بحيث يعقل البيع جازت الوكالة ونفذ البيع فقياس تلك المسألة هنا يدل على جواز بيعه في هذه الحالة والأصح أن يفرق بينهما فيقال لما وكله وهو صحيح العقل فهو ما رضي ببيعه إلا باعتبار رأي كامل وقد انعدم ذلك بجنونه وأما إذا كان وكله وهو بهذه الصفة فقد رضي ببيعه بهذا القدر من الرأي فيكون هو في البيع ممتثلا أمره فإن رجع إليه عقله فهو على وكالته لأن حكم الرهن والتسليط باق بعد ذهاب عقله ولكنه عجز عن تحصيل مقصود الراهن بعارض وذلك على شرف الزوال فإذا زال ذلك صار كان لم يكن وإذا كان العدل صغيرا لا يعقل أو كبيرا لا يعقل فجعل الرهن على يده لم يجز ولم يكن رهنا لأنه ليس من أهل اليد إذ هو مميز وقبض مثله لا يكون معتبرا شرعا وما هو المقصود بالقبض لا يحصل بقبضه فلا يمكن تتميم الرهن باعتبار إقامة قبضه مقام قبض المرتهن ولو كبر وعقل وباع الرهن جاز البيع لتسليط الراهن إياه على البيع لأن الموكل ينفرد بالتوكيل ونفوذ تصرف الوكيل يعتمد علمه به فإذا باعه بعد ما عقل فقد وجد شرط نفوذ تصرف الموكل بعد صحة التسليط فهو نظير ما لو وكل غائبا ببيع شيء فبلغه وباعه وذكر الخصاف رحمه الله إن هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أما عند أبي حنيفة فلا يجوز بيعه بعد البلوغ لأن التسليط كان لغوا لانعدام الأهلية عنده فلا ينعدم بحدوث الأهلية بخلاف الغائب فهو أهل للتصرف فيصح تسليطه وعلمه به شرط فإذا وجد نفذ تصرفه.(21/161)
وإذا كان العدل ذميا أو حربيا مستأمنا والراهن والمرتهن مسلمين أو ذميين فهو جائز لأن المستأمن في المعاملات بمنزلة الذمي أو المسلم وهو من أهل يد معتبرة شرعا وهو من أهل أن ينفذ بيعه بتسليط المالك كما ينفذ بيعه باعتبار ملكه فإن لحق الحربي بالدار لم يكن له أن يبيع وهو في الدار لأن المرهون في دار الإسلام رجع إلى دار الحرب عاجز عن تسليم ما في دار الإسلام لحاجته في الرجوع إلى أمان جديد فلهذا لا ينفذ بيعه فإن رجع فهو على وكالته بالبيع لما بينا في المرتهن اللاحق بدار الحرب وإن كان الحربي الراجع إلى دار الحرب هو الراهن والمرتهن أو العدل ذمي أو حربي مقيم في دار الإسلام بإذن فله أن يبيعه لأن لحاق الراهن والمرتهن بالدار كموتهما وذلك لا يمنع نفوذ بيع العدل إن كان قادرا على التسليم لبقاء الرهن والتسليط وإذا باع العدل الرهن وقبض الثمن فهلك عنده ثم رد عليه المبيع بعيب فمات عنده أو استحق أو هو باق في يده وقد أخره بالثمن حتى أداه فله أن يرجع على الراهن في ذلك كله لأنه في البيع كان عاملا للراهن بأمره ولا يكون له أن يرجع على المرتهن لأن رجوعه عليه باعتبار قبضه الثمن منه ولم يوجد وإن كان الراهن مفلسا والعبد في يد العدل فله أن يبيعه ويستوفي الثمن الذي غرمه لأن بالرد بالعيب عليه انفسخ البيع فيبقى التسليط على البيع كما كان وإذا باعه فالثمن ملك الراهن وقد استوجب الرجوع على الراهن بما غرم فإذا ظهر حبس حقه من ماله كان له أن يأخذه وهو أحق بذلك من المرتهن لأن دينه وجب بسبب هذا(21/162)
ص -78- ... العبد ودين المرتهن في ذمة الراهن لا بسبب هذا العبد وكان صرف بدل العبد إلى دين وجب بسبب العبد أولى ولأنه لو كان دفع الثمن إلى المرتهن كان له أن يرجع فإذا لم يكن دفعه إليه فلان يكون هو أحق به ولا يلزمه دفعه إليه أولى.
وإذا باع العدل الرهن بيعا فاسدا أو ربا لم يجز بيعه كما لو باشره المالك ولا يضمن العدل لأنه وكيل وإنما يضمن الوكيل بالإخلاف لا بالفساد فكل أحد لا يهتدي إلى التحرز عن الأسباب المفسدة للعقد كما إذا كان الرهن خمرا أو خنزيرا والراهن والعدل ذميين والمرتهن مسلما وباعه العدل فبيعه جائز بالوكالة والرهن باطل لأن المرتهن مسلم والمسلم من أهل العقد على الخمر ولكن بطلان الرهن لا يبطل الوكالة بالبيع وإن كان مسلما والعدل والمرتهن ذميين فالرهن باطل لما قلنا وبيع العدل ينفذ بالتوكيل في قول أبي حنيفة بمنزلة المسلم يوكل الذمي ببيع الخمر والخنزير وينبغي له أن يتصدق بالثمن فإن قضاه العدل المرتهن ففعله كفعل الراهن بنفسه فينبغي أن يتصدق بمثله لأنه قضى دينه بمال يثبت فيه حق الفقراء فعليه أن يتصدق بمثله وإن كان العدل مسلما فبيعه باطل لأن المسلم ليس من أهل العقد على الخمر وليس له أن يباشره لنفسه أو لغيره والله أعلم
باب الرهن الذي لا يضمن صاحبه(21/163)
قال رحمه الله:وإذا ارتهن عبدا بألف درهم وقبضه وقيمته ألف درهم ثم وهب المرتهن المال للراهن أو أبرأه منه ولم يرد عليه الرهن حتى هلك عنده من غير أن يمنعه إياه فهو ضامن في القياس قيمته للراهن وهو قول زفر وفي الاستحسان لا ضمان عليه وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله وجه القياس أن بقبض الرهن ثبتت يد الاستيفاء للمرتهن ويتم ذلك بهلاك الرهن وصيرورته مستوفيا بهلاك الرهن بعد الإبراء بمنزلة استيفائه حقيقة بعد الإبراء فيلزمه رد المستوفي ولا يقال إنما يصير مستوفيا من وقت القبض حتى تعتبر قيمته من ذلك الوقت فيكون بريئا بعد الاستيفاء وهذا لأن الإبراء بعد الاستيفاء صحيح موجب لرد المستوفي كالبائع إذا قبض الثمن ثم أبرأ المشتري عن الثمن وقد قال بعد هذا في الرهن بالصداق إذا طلقها الزوج قبل الدخول بها ثم هلك الرهن لا يلزمها رد شيء على الزوج بطريق الاستحسان ولو كان الطريق فيه هذا للزمها رد النصف لأن الطلاق قبل الدخول بعد استيفاء الصداق يلزمها رد نصف المستوفي ولا وجه لإسقاط الضمان الفائت في مالية الرهن بسبب الإبراء عن الدين لأن ضمان العقد بالقبض فيبقى بعد القبض وإن سقط الدين كما لو استوفى الدين حقيقة أو اشترى بالدين عينا أو صالح منه على عين أو أحاله على إنسان آخر بقي ضمان الرهن وإن برئت ذمة الراهن عن الدين وكذلك لو تصادقا على أن لا دين بقي ضمان الرهن لبقاء القبض وإن انعدم الدين ولو تبادلا رهنا برهن بقي ضمان الأول ما لا يرده على الراهن لبقاء القبض والمشتري إذا قبض المبيع فهو بالخيار ثم فسخ البيع بقي مضمونا بالثمن لبقاء القبض وإن انفسخ البيع وإذا كان الخيار للبائع ففسخ البيع يبقي مضمونا بالقيمة على(21/164)
ص -79- ... المشتري لبقاء القبض كما في الابتداء ولا يقال لو وجب الضمان على المرتهن إنما يجب بسبب الإبراء وهو متبرع فيه فلا يوجب عليه ضمانا لأن وجوب الضمان عليه ليس بالإبراء بل الاستيفاء بهلاك الرهن إلا أنه قبل الإبراء كانت تقع المقاصة وبعد الإبراء لا يمكن إثبات المقاصة فيبقي المستوفي مضمونا عليه كما لو استوفاه حقيقة بعد الإبراء ويلزمه ضمان المستوفي وإن كان لو لم يسبق الإبراء لم يكن عليه شيء وللاستحسان وجهان أحدهما إن ضمان الرهن يثبت باعتبار القبض والدين جميعا لأنه ضمان الاستيفاء فلا يتحقق ذلك إلا باعتبار الدين وبالإبراء عن الدين انعدم أحد المعنيين وهو الدين والحكم الثابت بعلة ذات وصفين ينعدم بانعدام أحدهما.(21/165)
ألا ترى إنه لو رد الرهن سقط الضمان لانعدام القبض مع بقاء الدين فكذلك إذا أبرأ من الدين يسقط الضمان لانعدام الدين مع بقاء القبض وهذا بخلاف ما لو استوفى حقيقة لأن هناك الدين بالاستيفاء لا يسقط بل يتقرر فإن ما هو المقصود يحصل بالاستيفاء وحصول المقصود بالشيء ينهيه ويقرره ولهذا جاز الإبراء عن الثمن بعد الاستيفاء فإذا بقي الدين حكما بقي ضمان الرهن وبهلاك الرهن يصير مستوفيا فتبين إنه استوفي مرتين فيلزمه رد أحدهما فأما بالإبراء فيسقط الدين فلا يبقي الضمان بعد انعدام أحد المعنيين وكذلك إذا اشترى بالدين أو صالح من الدين على عين فذلك استيفاء الدين بطريق المقاصة وكذلك إذا أحال على غيره لأن بالحوالة لا يسقط الدين ولكن ذمة المحال عليه تقوم مقام ذمة المحيل وهو بصدد أن يعود إلى ذمة المحيل إذا كان المحتال عليه مفلسا فلهذا بقي ضمان الرهن وكذلك بعد ما تبادلا رهنا برهن الدين والقبض باقيان في حق العين الأول فيبقي الضمان فيه وإذا تصادقا على أن لا دين فإنما يسلم هذا فيما إذا كان تصادقهما بعد هلاك الرهن والدين كان واجبا ظاهرا حين هلك الرهن ووجوب الدين ظاهرا يكفي لضمان الرهن فصار مستوفيا فأما إذا تصادقا على أن لا دين والرهن قائم ثم هلك الرهن فإن هناك تهلك أمانته لأن بتصادقهما من الأصل وضمان الرهن لا يبقى بدون الدين والوجه الآخر وعليه الاعتماد أن مقصود الراهن بتسليم الرهن إلى المرتهن أن يبرئ ذمته عند هلاك الرهن من غير أن يلزمه شيء آخر وقد حصل له هذا المقصود بالإبراء قبل هلاك الدين فلا يستوجب عند هلاك الرهن سببا آخر كمن عليه الدين المؤجل إذا عجل الدين ثم حل الأجل وصاحب المال إذا عجل الزكاة ثم تم الحول لا يلزمه شيء آخر لهذا المعنى بخلاف ما إذا استوفى الدين فهناك مقصوده لم يحصل لأن ذمته إنما برئت بما أعطى من المال.(21/166)
وكذلك إذا اشترى بالدين أو صالح أو أحال أو تبادلا رهنا برهن فما هو المقصود له عند هلاك الرهن لم يحصل بهذه الأسباب وإذا تصادقا على أن لا دين له ثم هلك الرهن بعد ذلك لا يكون مضمونا لأن مقصوده حصل بالتصادق حين لم يلزمه شيء آخر ولا يقال مقصود براءة ذمته عند هلاك الرهن بطريق الإيفاء وإنما برئت ذمته بطريق الإسقاط بالإبراء أو(21/167)
ص -80- ... الإسقاط عن الإيفاء وهذا لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها فإنما ينظر إلى حصول المقصود ولا ينظر إلى اختلاف الطريق بمنزلة ما لو قال لفلان على ألف درهم قرضا وقال المقر له بل هو غصب يلزمه المال لإيفاء ما هو المقصود وإن اختلفا في السبب وكذلك لو قال لفلان على ألف درهم ثمن هذه الجارية التي بعتها وقال فلان الجارية جاريتك بعتها ولي ألف درهم يلزمه المال لحصول المقصود وهو سلامة الجارية له وإن اختلفا في السيد فهذا مثله وهذا بخلاف البيع بالضمان فإنه هناك انعقد بالقبض ولكن فسخ البيع يبطل بالهلاك قبل الرد كما يبطل البيع بالهلاك قبل التسليم وهنا الإبراء ما يبطل بهلاك الرهن بعده لأن هناك ما هو المقصود للبائع لا يحصل بفسخ البيع ما لم يعد المبيع إلى يده فلهذا بقي الضمان ولو منعه العبد بعد ما أبرأه عن الدين حتى مات في يده ضمن قيمته لأنه كان أمينا فيه فبالمنع بعد طلب الحق يصير غاصبا كالمودع.(21/168)
ولو ارتهن المرأة رهنا بصداقها وهو مسمى وقيمته مثله ثم أبرأته أو وهبته له ولم يقبضه حتى هلك عندها فلا ضمان عليها في الاستحسان وكذلك لو اختلعت منه قبل أن يدخل بها ثم لم يقبضه حتى مات لأن مقصود الزوج هو براءة ذمته عن الصداق بالخلع من غير أن يلزمه شيء آخر وقد حصل وكذلك لو طلقها قبل أن يدخل بها وقد أبرأته عن الصداق ولو لم تبرئه من الصداق قبل الطلاق ولكن أبرأته من حقها قبل الطلاق أو لم تبرئه حتى هلك فلا ضمان عليها فيه أما إذا أبرأته فلحصول مقصود الزوج وإذا لم تبرئه فقد حصل مقصود الزوج في النصف بالطلاق قبل الدخول وإنما بقي ضمان الرهن في النصف الذي هو حقها فبهلاك الرهن يصير مستوفيا ذلك القدر خاصة فلهذا لا يلزمها رد شيء ولو تزوجها على غير مهر مسمى وأعطاها بمهر المثل رهنا فمهر المثل في نكاح لا تسمية فيه بمنزلة المسمى في النكاح الذي فيه تسمية فإن طلقها قبل الدخول بها سقط جميع مهر المثل ولها المتعة ثم في القياس ليس لها أن تحبس الرهن بالمتعة وهو قول محمد والآخر وهو قول أبي حنيفة رحمهما الله وفي الاستحسان لها أن تحبس الرهن بالمتعة وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله وقد بينا في كتاب النكاح إن عند محمد المتعة في حكم جزء من مهر المثل بمنزلة نصف مهر المسمى أو هو خلف عنه والرهن بالشيء يكون رهنا بخلفه على ما بينه في السلم وأبو يوسف يقول المتعة دين حادث ليس بجزء من مهر المثل لأنه ثياب ومهر المثل دراهم ولا هو خلف عن مهر المثل لأن كل واحد منهما يجب باعتبار ملك البضع في حال فلا يكون أحدهما خلفا عن الآخر وكيف يكون خلفا ولا تجب المتعة إلا بعد سقوط مهر المثل بالطلاق قبل الدخول فإذا لم يكن الرهن بمهر المثل رهنا بالمتعة عند أبي يوسف قلنا إن هلك الرهن قبل أن يمنع لا ضمان عليها فيه لحصول مقصود الزوج وهو سقوط مهر المثل عنه بالطلاق وإن منعته ما هي ضامنة قيمته وعند محمد لها أن تمنع فبالهلاك(21/169)
تصير مستوفية مقدار المتعة ولا ضمان عليها فيما زاد على ذلك لحصول مقصود الزوج.(21/170)
ص -81- ... وإذا أسلم الرجل خمسمائة درهم إلى رجل في طعام مسمى فارتهن منه عبدا يساوي ذلك الطعام ثم صالحه على رأس ماله ففي القياس له أن يقبض العبد ولا يكون للمرتهن أن يحبس الرهن برأس المال لأن العبد كان مرهونا بالمسلم فيه وقد سقط لا إلى بدل ورأس المال دين آخر واجب بسبب آخر وهو القرض فلا يكون العبد مرهونا به كما لو كان له على غيره دراهم ودنانير فرهنه بالدنانير رهنا ثم أبرأه المرتهن عن الدنانير لا يكون له أن يحبس الرهن بالدراهم وفي الاستحسان له أن يحبس الرهن حتى يستوفي رأس المال لأنه ارتهن بحقه الواجب بسبب العقد الذي جرى بينهما وحقه في المسلم فيه عند قيام العقد وحقه في رأس المال عند فسخ العقد فيكون له أن يحبس الرهن بكل واحد منهما كمن ارتهن بالمغصوب به فهلك المغصوب كان له أن يحبس الرهن حتى يستوفي قيمته لأن الواجب بالغصب استرداد العين عند قيامه والقيمة عند هلاكه وهذا لأن المسلم فيه مع رأس المال أحدهما بدل عن الآخر ولهذا لا يجوز الاستبدال بالمسلم فيه قبل الإقالة والرهن بالشيء يكون رهنا ببدله لأن البدل يقوم مقام الأصل وحكمه حكم الأصل فإن هلك العبد في يده من غير أن يمنعه فعلى المرتهن أن يعطي مثل الطعام الذي كان على المسلم إليه ويأخذ رأس ماله لأنه بقبض الرهن صارت ماليته مضمونة بطعام السلم وقد بقي حكم الرهن إلى أن هلك فصار بهلاك الرهن مستوفيا طعام السلم ولو استوفاه حقيقة قبل الإقالة ثم تقايلا أو بعد الإقالة لزمه رد المستوفي واسترداد رأس المال فكذلك هناك وهذا لأن الإقالة في باب السلم لا تحتمل الفسخ بعد ثبوتها فهلاك الرهن لا يبطل الإقالة وإن صار مستوفيا طعام السلم ومحمد يحتاج إلى الفرق بين هذا وبين فصل المتعة فهناك جعل الرهن بعد الطلاق محبوسا بالمتعة وجعلها بهلاك الرهن مستوفية للمتعة وهنا جعل الرهن محبوسا برأس المال وجعله هناك هالكا بطعام السلم لأن المتعة في جزء من مهر المثل فإن الطلاق(21/171)
مسقط فلا يصلح أن يكون موجبا دينا آخر ابتداء وإذا كان بمنزلة الجزء فهو كنصف المسمى فإنما يبقى حكم الضمان بقدره وهذا رأس المال ليس بجزء من المسلم فيه وعند هلاك الرهن إنما يتم الاستيفاء من وقت القبض ولهذا تعتبر القيمة من وقت القبض فإنما يصير مستوفيا لما صار مضمونا به.
وتوضيحه إن بالطلاق سقط مهر المثل لا إلى بدل ولا يمكن إيفاء ضمان المهر في مهر المثل وقد سقط لا إلى بدل فلهذا بقي الرهن بقدر المتعة رهنا بالإقالة وسقط السلم فيه لا إلى بدل ولكن إلى بدل وهو رأس المال لما بينا إن أحدهما بدل عن الآخر فلهذا بقي ضمان الرهن بالطعام كما انعقد عند القبض وكذلك لو وهب له رأس المال بعد الصلح ثم هلك العبد فعليه طعام مثله لأن المرهون مضمون بطعام السلم لا رأس المال فالإبراء عن رأس المال وجوده كعدمه في إيفاء حكم الضمان بطعام السلم.
قال:ألا ترى أن رجلا لو أقرض رجلا كر حنطة وارتهنه منه ثوبا قيمته مثل قيمته فصالحه الذي عليه الكر على كرى شعير يدا بيد جاز ذلك ولم يكن له أن يقبض الثوب حتى(21/172)
ص -82- ... يدفع الكرين من الشعير ولو هلك الرهن عنده بطل طعامه ولم يكن له على الشعير سبيل وبيان هذا الاستشهاد إن حبس الرهن بعد هذا الصلح لا يمكن باعتبار ضمان الشعير لأن الشعير مبيع عين والرهن مثله لا يجوز فعرفنا إنه بقي مرهونا بالطعام لأن سقوطه كان بعوض فبقي حكم الرهن والضمان فيه ما لم يأخذ العوض وكذلك في مسألة السلم إلا أن هنا إذا هلك الرهن تم استيفاؤه للطعام فيبطل العقد في الشعير كما لو استوفاه حقيقة ثم اشترى به شعيرا بعينه وفي السلم أيضا صار مستوفيا للمسلم فيه بهلاك الرهن ولكن إقالة السلم بعد استيفاء المسلم فيه صحيحة فلهذا يلزمه رد مثل ذلك الطعام.(21/173)
ولو باعه كرا بدراهم ثم افترقا قبل أن يقبضها بطل البيع لأنهما افترقا عن دين بدين وبقي الطعام عليه والثوب رهن به بخلاف الشعير فإنه عين فإنما الافتراق هنا عن عين بدين حتى لو كان الشعير بغير عينه وتفرقا قبل أن يقبضا كان البيع باطلا أيضا لأنه دين بدين هكذا ذكر في الأصل وينبغي في هذا الموضع أن لا يصح البيع أصلا لأن الشعير بغير عينه بمقابلة الحنطة يكون مبيعا وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز وإذا اشترى ألف درهم بمائة دينار وقبض الألف وأعطاه بالمائة الدينار رهنا يساويها ثم تفرقا فسد البيع لأن الاستيفاء لا يتم مع قيام الرهن فإنما افترقا في عقد الصرف قبل قبض أحد البدلين فإذا فسد الصرف وجب عليه رد الألف وليس له أن يأخذ الرهن حتى يوفيه الألف لما بينا أنه إنما ارتهن بحقه الثابت بسبب عقد الصرف وذلك المائة الدينار عند بقاء العقد واسترداد الألف بعد انفساخ عقد الصرف كما في مسألة السلم فإن هلك الرهن عنده صار مستوفيا للدنانير بهلاك الرهن فإن عند القبض انعقد ضمان الرهن بالدنانير ولو استوفاه حقيقة لزمه رد المستوفي لفساد عقد الصرف فهنا أيضا ترد الدنانير ويرجع على المرتهن بالألف فإن لم يتفرقا حتى ضاع الرهن فهو بالمائة الدنانير لأن الاستيفاء تم بهلاك الرهن قبل الافتراق وقد بينا في كتاب الصرف والبيوع حكم الرهن ببدل الصرف ومن خلاف زفر وكذلك إن كان الرهن على يدي عدل لأن في حكم الرهن يد العدل كيد المرتهن وإذا قبض المرتهن حقه من الراهن ثم هلك عنده فعليه أن يرد ما قبض وقد بينا معنى هذه المسألة وفي هذا اللفظ إشارة إلى أن سقوط الدين بهلاك الرهن على معنى إن ضمان الاستيفاء الذي ثبت بقبض الرهن يتم بهلاك الرهن ويصير كأنه استوفى بقبض الدراهم بعد ما استوفى بقبض الرهن فيلزمه رد ما قبض لهذا.(21/174)
ولو كان الدين طعاما قرضا فاشتراه الذي هو عليه بدراهم ودفعها إلى المرتهن ثم هلك الرهن كان على المرتهن أن يرد مثل ذلك الطعام على الراهن لأنه بهلاك الرهن صار مستوفيا للطعام وقد سقط حقه عن الطعام حين باعه ممن عليه بدراهم وقبض الدراهم ولو ارتهن رجل عبدا بألف درهم يساويها فقضاها رجل تطوعا عن المطالب ثم هلك الرهن عنده فعلى الطالب أن يرد المال على المتطوع عندنا وقال زفر يضمن المرتهن ذلك للراهن وهو بناء على ما تقدم لأن عنده الضمان انعقد بالقبض وصار حقا للراهن فيبقى ذلك ببقاء القبض(21/175)
ص -83- ... والمتطوع ينزع بقضاء الدين فيكون ذلك كتبرع المرتهن بالإبراء عن الدين فلا يتغير به حكم الضمان الثابت له وعندنا قضاء المتبرع للمال كقضاء المطلوب ولو كان قضاه الدين بنفسه ثم هلك الرهن تم استيفاء الدين بهلاك الرهن ووجب عليه رد المقبوض بسبب القبض فكذلك هنا يلزمه رد المقبوض بسبب القبض وإنما قبضه من المتطوع فيرده عليه وعلى هذا لو اشترى عبدا بألف فنقدها رجل عنه متطوعا ثم رد العبد بعيب أو استحق رجع المال إلى المتطوع وكذلك لو أن امرأة نقد رجل مهرها تطوعا عن زوجها ثم ارتدت قبل الدخول بها رجع المال إلى المتطوع ولو طلقها قبل الدخول بها رجع نصف المال إلى المتطوع فلو لم يكن في النكاح تسمية رجع بمهر المثل إلى المتطوع والمتعة على الزوج لأن التطوع بأداء مهر المثل لا يكون تطوعا بأداء المتعة كما إن الكفالة لمهر المثل لا تكون كفالة بالمتعة وزفر مخالف في هذا كله وما أشرنا إليه من المعنى صحيح في الفصول كلها.
وإذا جني العبد الرهن وقيمته ألف والدين ألف والجناية ألف أو أكثر فأبى المرتهن أن يفتكه وفداه الراهن بالجناية ثم مات العبد عند المرتهن فعلى المرتهن أن يرد على الراهن ألفا لأن الفداء من المضمون في الرهن على المرتهن فإن مالية الرهن تجني به وهو حق المرتهن والراهن في الفداء لا يكون متطوعا لأنه قصد بالفداء تخليص ملكه فيستوجب الرجوع به على المرتهن وللمرتهن عليه مثله فيصير قصاصا وفي المقاصة آخر الدينين قضاء عن أولها فصار الراهن قاضيا دين المرتهن وقد بينا أنه لو هلك الرهن بعد ما اقتضى الدين وجب عليه رد ما اقتضى فهذا مثله وكذلك لو كان استهلك متاعا يستغرق رقبته فقضاه الراهن ثم مات العبد لأن المستحق للدين ماليته وهو حق المرتهن فيكون ذلك عليه والراهن لا يكون متطوعا في أداء ذلك لتخليص ملكه كما في الأول.(21/176)
ولو ارتهن عبدا بألف يساويها ثم تصادقا إنه لم يكن عليه شيء وقد مات العبد فعلى المرتهن أن يرد عليه ألف درهم لأن عند هلاك الرهن كان الدين واجبا ظاهرا فيصير بهلاك الرهن مستوفيا ولو استوفاه حقيقة ثم تصادقا على أن لا دين عليه يلزمه رد المستوفي وعن أبي يوسف أنه ليس عليه رد شيء لأنهما تصادقا على انتفاء الدين عند هلاك الرهن وتصادقهما حجة في حقهما والاستيفاء بدون الدين لا يتصور وكذلك لو أخذه منه على أن يقرضه ألفا لأن الدين الموعود بمنزلة الدين المستحق في انعقاد ضمان الرهن به كما إن المقبوض على سوم الشراء كالمقبوض على حقيقة السوم في حكم الضمان فهلاك الرهن يصير مستوفيا فيجعل في الحكم كأنه استوفاه حقيقة فيلزمه رده وإنما أورد هذا إيضاحا للأول فإن كون الدين واجبا ظاهرا عند هلاك الرهن أقوى من الدين الموعود فإذا كان الرهن يهلك مضمونا بالدين الموعود ففيما كان واجبا ظاهرا أولى.
ولو أحال الراهن المرتهن على رجل بالمال ثم مات العبد قبل أن يرده فهو بما فيه لما بينا أن ضمان الرهن باق بعد الحوالة فيتم الاستيفاء بهلاك الرهن فيجعل هذا بمنزلة ما لو(21/177)
ص -84- ... استوفى الطالب الدين من المحيل وذلك مبطل للحوالة فهذا مثله وكذلك لو أعطاه رهنا مكان الرهن الأول ثم هلك الأول قبل أن يرده فهو رهن بالمال لبقاء القبض والدين بعد تسليم العين الثاني إليه وإذا تم الاستيفاء بهلاك الرهن الأول بطل الرهن الثاني ولو هلك الثاني قبل هلاك الأول أو بعده فهو مؤتمن فيه لأنه لم يوجد منهما مرهونا مضمونا بالدين فمن ضرورة بقاء الدين في الرهن الأول إبقاء ضمان الدين عن الثاني وإنما بقي مقبوضا بإذن المالك فيكون القابض أمينا فيه إذا هلك وكذلك لو ناقضه الراهن فقبل أن يرده هلك فهو هالك بالمال لبقاء القبض والدين وهذا لأن فسخ العقد معتبر بأصل العقد فكما إن ضمان الرهن لا يثبت بالعقد قبل القبض فكذلك لا يسقط بالفسخ قبل الرد وإذا زاد الرهن دراهم من المرتهن وجعلها في الرهن فإنه لا يكون في الرهن وهما فصلان أحدهما الزيادة وصورته إذا رهنه ثوبا بعشرة يساوي عشرة ثم زاد الراهن المرتهن ثوبا آخر ليكون مرهونا مع الأول بالعشرة ففي القياس لا تصح هذه الزيادة وهو قول زفر رحمه الله لأنه لا بد من أن يجعل بعض الدين بمقابلة الزيادة ليكون مضمونا به وذلك متعذر مع بقاء حكم الرهن في الثوب الأول لبقاء القبض فهو نظير ما لو ناقصه الرهن أو تبادلا رهنا برهن على ما بينا وهذا في الحقيقة بناء على أصل زفر رحمه الله إن الزيادة في الثمن والبيع لا يثبت ملحقه بأصل العقد وقد بينا في البيوع وفي الاستحسان وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وتثبت الزيادة في الرهن في حكم الدين لأن تراضيهما على الزيادة بعد العقد بمنزلة تراضيهما عليه عند العقد.(21/178)
ولو رهنه في الابتداء يومين بالعشرة جاز الرهن وانقسم الدين على قيمته فكذلك هنا يقسم الدين على قيمة الأصل وقت العقد وعلى قيمة الزيادة وقت القبض وهذا بخلاف ما إذا تبادلا رهنا برهن فلم يوجد هناك افتراض منهما على ثبوت حكم الرهن فيهما جميعا توضيحه إنه بالناس حاجة إلى تصحيح هذه الزيادة وربما نطق المرتهن بالابتداء إنه في الرهن وفاء بدينه ثم ثبت له خلاف ذلك فلا يرضى برهن لا وفاء فيه فيحتاج الراهن برد عين آخر ليطمئن قلبه والزيادة في الرهن تجوز إن ثبت حكما فإن المرهونة إذا ولدت يكون الولد زيادة تثبت في الرهن حكما فيجوز إثباته أيضا فضلا والفضل الثاني في الزيادة بالدين فإن المرتهن إذا زاد الراهن عشرة أخرى ليكون الرهن عنده رهنا بهما جميعا فهذه الزيادة لا تثبت في حكم الرهن في القياس وهو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله وفي الاستحسان تثبت وهو قول أبي يوسف رحمه الله وأوجهه قول أبي يوسف إن الدين مع الرهن يتحاذيان محاذاة المبيع مع الثمن حتى يكون المرهون محبوسا بالدين مضمونا به كالمبيع بالثمن عن الزيادة في الرهن يجعل ملحقة بأصل العقد فكذلك الزيادة في الدين كما في البيع فإن الزيادة في الثمن والمبيع ثبتت على سبيل الالتحاق بأصل العقد وهنا مثله.
وكما أن الحاجة تمس إلى الزيادة في الرهن فقد تمس الحاجة إلى الزيادة في الدين بأن يكون في مالية الرهن فضلا على الدين ويحتاج الراهن إلى مال آخر فيأخذه من المرتهن(21/179)
ص -85- ... ليكون الرهن رهنا بهما وهذا بخلاف المسلم فيه فالزيادة في المسلم فيه لا تجوز وإن كانت تجوز في رأس المال لأن جواز السلم بخلاف القياس فإنه بيع المعدوم وإنما جعل المسلم فيه كالموجود حكما لحاجة المسلم إليه والزيادة في رأس المال بين حوائج المسلم إليه فأما الزيادة في المسلم فيه فليس من حوائج المسلم إليه في شيء فلا يظهر هذا العقد فيه فأما جواز الرهن بالدين فثابت بمقتضى القياس إذ هو لحاجة المديون والزيادة في الدين من حوائج المديون والفرق لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بين الزيادة في الرهن وبين الزيادة في الدين من وجهين.
أحدهما أن الزيادة في الدين تؤدي إلى الشيوع في الرهن لأن بعض الرهن يفرغ من الدين الأول يثبت فيه ضمان الدين الثاني ويبقى حكم الأول في البعض مشاعا ويثبت فيما يقابل الزيادة مشاعا والشيوع في الرهن يمنع صحة الرهن فأما الزيادة في الرهن فتؤدي إلى الشيوع في الدين لأن بعض الدين يحول ضمانه من الرهن الأول إلى الثاني والشيوع في الدين لا يصير كما لو رهنه بنصف الدين رهنا ولا يقال الزيادة تثبت على سبيل الالتحاق بأصل العقد فلا يؤدي إلى الشيوع فيه لأنا نسلم هذا ولكنه مع الالتحاق بأصل العقد تثبت قيمته ملحقا فهو كما لو رهنه في الابتداء ثوبا بعشرين نصفه بعشرة ونصفه بعشرة وذلك لا يجوز وبه فارق البيع فالشيوع وتفرق التسمية لا يؤثر في إفساد البيع.
والثاني أن الزيادة إنما تصح ملحقة بأصل العقد في المعقود عليه والمعقود به والدين ليس بمعقود عليه ولا بمعقود به لأن المعقود به ما يكون وجوبه بالعقد والدين كان واجبا قبل عقد الرهن بسببه ويبقى بعد فسخ الرهن فلا يملك إثبات الزيادة فيه ملحقة بأصل العقد فأما الرهن فمعقود عليه لأنه لم يكن محبوسا قبل عقد الرهن ولا يبقى محبوسا بعد فسخ عقد الرهن فالزيادة في الرهن زيادة في المعقود عليه فيلتحق بأصل العقد.(21/180)
وفقه هذا الكلام أن صحة الزيادة باعتبار إنه تصرف في العقد يعسر وصفه أو حكمه وذلك مستحق في الزيادة في الرهن لأن الحكم قبل الزيادة إن الرهن الأول مضمون بعشرة وبعد الزيادة يكون مضمونا بخمسة فثبتت الزيادة فيه ملتحقة بأصل العقد فإما الزيادة في الدين فلا تغير وصف العقد ولا حكمه لأن الرهن مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين سواء وجدت الزيادة في الدين أو لم توجد فلهذا لا يثبت حكم الزيادة في ضمان الرهن وعلى هذا لو أنفق المرتهن على الرهن بأمر القاضي أو بأمر صاحبه فذاك دين وجب له على الرهن وفي ثبوت حكم الجنس باعتباره اختلاف كما بينا وكذلك إذا كان الرهن يساوي ألفين والدين ألفا فجنى المرهون وفداه المرتهن والراهن غائب فنصف الفداء من ذلك على المرتهن ونصفه وهو حصة الأمانة على الراهن ولا يكون المرتهن متطوعا فيه عند أبي حنيفة على ما بيناه في باب الجنايات فهو دين حادث له على الراهن فلا يكون له أن يحبس الرهن بعد استيفاء الأول بمنزلة ما لو أقرضه ما لا زيادة في الدين الأول والله أعلم بالصواب(21/181)
ص -86- ... باب رهن الوصي والولد
قال رحمه الله: وإذا كان على الميت دين وله وصي فرهن الوصي بعض ما تركه عند غريم من غرمائه لم يجز للآخرين أن يردوه لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن فليس للوصي أن يخص بعض الغرماء بإيفاء دينه حقيقة ولو قبل ذلك كان للآخرين أن يبطلوه فكذلك حكم يد الاستيفاء ولأن حقهم جميعا تعلق بالتركة فهو يبطل حق سائر الغرماء عن عين الرهن بتصرفه فليس له ذلك فإن قضى دينهم قبل أن يردوه جاز لأن المانع قد ارتفع بوصول حقهم إليهم وإثبات يد الاستيفاء للمرتهن في هذا قياس حقيقة الاستيفاء ولو لم يكن للميت غريم آخر جاز الرهن وبيع في دينه لأنه لو أوفاه الدين حقيقة جاز فكذلك إذا رهنه منه إذ ليس في الرهن إبطال حقه ولا حق غيره وقد كان يباع في دينه قبل الرهن فبعده أولى وإذا ارتهن الوصي بدين للميت على رجل جاز لأنه يملك استيفاء الدين حقيقة ويكون هو في ذلك كالموصي فكذلك فيما هو وثيق للاستيفاء.(21/182)
وكذلك لو كان الميت هو الذي ارتهنه فوصيه يقوم مقامه في إمساكه إلا أنه لا يبيعه بدون إذن الراهن لأن التسليط على البيع بطل بموت المرتهن فالراهن إنما رضي ببيعه ولم يرهن برأي غيره في البيع وإن استدان الوصي لليتيم في كسوته وطعامه ورهن به أيضا وكذلك لو أنجز لليتيم فرهن أو ارتهن لأن الرهن وثيقة للاستيفاء فيملكه من يملك حقيقة الإيفاء والاستيفاء تسليم الرهن إلى المرتهن استحفاظا له في الحال وقضاء لدينه باعتبار المآل وكل واحد منهما يملكه الوصي كالإيداع وإيفاء الدين أو هو إيجاب حق للمرتهن على وجه ينتفع به اليتيم من حيث إنه الذي يصير مقضيا عند هلاكه ويكون كالبيع والإجارة والوصي يملك ذلك في مال اليتيم وينبغي للوصي أن يتصرف على وجه يكون فيه نظر لليتيم يتجر فيه بنفسه أو بنصفه كما كانت عائشة رضي الله عنها تفعله في مال ولد أخيها أو يعمل في ماله مضاربة أو يدفعه إلى غيره مضاربة كما كان عمر رضي الله عنه يعطي مال اليتيم مضاربة وقد بينا هذا في أول المضاربة.
وإذا ارتهن الوصي خادما لليتيم من نفسه أو رهن خادما لنفسه من اليتيم بحق لليتيم عليه لم يجز اعتبارا بحقيقة الاستيفاء فإنه لا يستوفي دين اليتيم من نفسه ولا دين نفسه من مال اليتيم من خلاف جنسه وهذا لأن تصرفه مع نفسه لا ينفذ إلا بمنفعة ظاهرة كالبيع والشراء وذلك لا يتحقق في الرهن والارتهان وكذلك اليتيم إن فعل ذلك لم يجز إلا أن يجيزه الوصي بمنزلة بيعه وشرائه وكذلك إن فعل ذلك أحد الوصيين إلا أن يجيزه الآخر في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وتجوز في قول أبي يوسف رحمه الله بناء على اختلافهم في أحد الوصيين يتقدر بالتصرف وهي بفروعها مذكورة في الوصايا ولو كانت الورثة كبارا كلهم لم يكن للوصي أن يرهن من متاعهم شيئا بدين يستدينه عليه وكذلك إن كانوا صغارا وكبارا لأنه(21/183)
ص -87- ... مشاع وكذلك لو كانوا كبارا محبوسين عن التصرف لأنه إنما يملك عليهم من التصرف ما يرجع إلى الحفظ والرهن ليس من ذلك في شيء فهو بمنزلة بيع العقار .
وللوصي أن يرهن بدين على الميت لأنه قائم مقامه فيما هو من حوائج الميت وإيفاء الدين من حوائجه ويملكه الوصي فكذلك الرهن به كانت الورثة صغارا أو كبارا وكان الكبير شاهدا واحتاج إلى نفقة ينفقها على الرقيق فرهن شيئا من متاعهم في ذلك فإنه لا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وإن كان غائبا جاز لأن الاستدانة للإنفاق على الرقيق من التصرفات التي ترجع إلى الحفظ والوصي يملك ذلك في حق الكبير الغائب كما يملك بيع العروض ولا يملك في حق الكبير الحاضر عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله باعتبار ولايته في نصيب الصغير تثبت له الولاية في ذلك في نصيب الكبير أيضا كما في البيع فإنه يجوز بيعه الرقيق إذا كان في الورثة صغار وكبار فكذلك له ولاية الاستدانة للإنفاق عليهم ثم كما يجوز له أن يقضي ذلك الدين من مالهم يجوز له أن يرهن به رهنا ولو رهن الوارث الكبير شيئا من متاع الميت وعلى الميت دين ولا وارث له غيره فإن خاصم الغريم في ذلك أبطل الرهن وبيع له في دينه لأن حقه تعلق بمالية العين التي رهنها فالوارث بتصرفه قصد إبطال حقه فيرد عليه قصده وهذا التصرف من الوارث معتبر بسائر التصرفات كالبيع ونحوه وذلك لا ينفذ من الوارث في التركة المشغولة بالدين فإن قضى الوارث الدين جاز الرهن لأن المانع حق الغريم وقد زال بوصول دينه إليه فينفذ الرهن من الوارث كما ينفذ سائر التصرفات.(21/184)
وإذا لم يكن على الميت دين فرهن الوارث الكبير شيئا من متاعه بمال أنفقه على نفسه أو كان الوارث صغيرا ففعل ذلك الوصي ثم ردت عليهم سلعة بالعين كان الميت باعها فهلكت في أيديهم وصار ثمنها دينا في مال الميت وليس له مال غير ما رهن بالنفقة فالرهن جائز لأنه حين سلم الرهن إلى المرتهن لم يكن على الميت دين والعين كانت ملكا للوارث فارغة عن حق الغير فلزمه حق المرتهن فيه ثم لحق الدين بعد ذلك برد السلعة بالعيب فلا يبطل ذلك حق المرتهن بمنزلة ما لو أقر الوارث بدين على الميت بعد الرهن وهذا الخلاف ما إذا استحق العبد الذي كان الميت باعه أو وجد حرا فإن الرهن يبطل لأنه تبين أن الدين كان واجبا على الميت حين رهن الوارث التركة فالحر لا يدخل في العقد ولا يملك عنه وبالاستحقاق يبطل البيع من الأصل فكان تصرف الوارث في التركة باطلا فأما بالرد بالعيب فلا يتبين أن الثمن كان مستحق الرد قبل أن يرد السلعة بالعيب وكان هذا دينا حادثا بعد تمام الرهن فلا يبطل الرهن ولكن الراهن ضامن لقيمته حتى يؤديه في دين الميت وصيا كان أو وارثا لأنه لما لحق الميت دين وجب فصار ذلك من تركته والوارث قد منع ذلك بتصرفاته فكان في حكم المستهلك له فيضمن قيمته والوصي كذلك إلا أن الوصي يرجع به على اليتيم لأنه دين لحقه في تصرف باشره لليتيم فيرجع به في ماله وعلى هذا لو كان الميت زوج أمته وأخذ مهرها فأعتقها الوارث بعد موته قبل دخول الزوج بها فاختارت نفسها وصار المهر دينا على الميت(21/185)
ص -88- ... كان الرهن جائزا والابن ضامنا له لأنه دين لحق الميت بعد ما نفذ التصرف من الوارث ولا يتبين بهذا السبب قيام الدين عند تصرف الوارث.
وكذلك لو حفر بئرا في الطريق ثم تلف فيها إنسان بعد موته حتى صار ضامنا دينا على الميت فإنه لا يبطل التصرف من الوارث ولكنه ضامن للقيمة لأنه أتلف حق الغريم في العين بتصرفه وإذا ارتهن الوصي متاعا لليتيم في دين استدانه عليه وقبضه المرتهن ثم إن الوصي استفاده من المرتهن لحاجة اليتيم فضاع في يد الوصي فقد خرج من الرهن لأن الوصي فيما يتصرف لليتيم قائم مقامه إن لو كان بالغا ولو كان بالغا فرهن متاعه بنفسه ثم استعاده من المرتهن فهلك في يده لم يسقط الدين لأنه عند هلاك الرهن يصير المرتهن مستوفيا ولا يمكن أن يجعل صاحب الدين مستوفيا دينه باعتبار المديون.(21/186)
ألا ترى أن حكم الرهن لا يثبت بيد الراهن في الابتداء إذا جعل عدلا فيه فكذلك لا تبقى حكم يد الاستيفاء بعد ما رجع الرهن إلى الراهن وإذا لم يسقط الدين بهلاكه رجع المرتهن على الوصي بالدين كما كان يرجع به قبل الرهن ويرجع به الوصي على اليتيم وقد ضاعت العين من مال اليتيم لأنه إنما استعارها لحاجة اليتيم وإذا رهن الوصي متاع اليتيم في نفقة اليتيم فأقر بذلك بعد بلوغه وأراد أن يبطل الرهن فليس له ذلك لأنه تصرف نفذ من الوصي في حال قيام ولايته ولزم فلا يملك اليتيم إبطاله بعد بلوغه كالبيع ولا يجوز للوصي أن يرهن متاع اليتيم من بن له صغير أو من عبد له بآخر ليس عليه دين كان يرهنه من نفسه لأنه في حق الابن الصغير هو الذي يباشر التصرف من الجانبين وكسب العبد الذي لا دين عليه ملك لمولاه فرهنه منه كرهنه من نفسه وإن رهنه من بن له كبيرا ومن أبيه أو من مكاتبه أو عبد له بآخر عليه دين جاز لأنه من كسبهم بمنزلة الأجنبي وهم أحق بالكسب منه يصرفون ذلك إلى حوائجهم وهذا بخلاف الوكيل بالبيع فإنه لا يبيع من هؤلاء وكذلك الوصي لأنه في البيع متهم في حق هؤلاء وفي الرهن لا يكون منهما لأن حكم الرهن واحد وهو إنه مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين سواء رهنه عند هؤلاء أو عند أجنبي فلانتفاء التهمة ينفذ تصرفه معهم.(21/187)
ولو رهن الوصي مال اليتيم ثم غصبه فاستعمله حتى هلك عنده فهو ضامن لقيمته لأنه بالغصب صار جانيا على حق المرتهن مفوتا ليده المستحقة فهو في ذلك كالأجنبي ضامن لقيمته يقضي منه الدين إذا كان حالا والفضل لليتيم فإن لم يكن حل فالقيمة رهن لأنه في الغصب والاستعمال لا يكون عاملا لليتيم في ماله بل يكون هو فيه كأجنبي آخر فيتقرر الضمان عليه وإن استدانه الوصي على نفسه ورهن متاعا لليتيم في ذلك فهو جائز وكذلك الولد في هذه وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله لا يجوز شيء من ذلك لأنه صرف مال اليتيم إلى منفعة نفسه من غير حاجة وليس للأب والوصي ذلك.
ألا ترى أنه ليس لهما أن يقضيا دينهما بمال الصغير فكذلك لا يكون لهما أن يرهنا متاع اليتيم بدينهما ولكنا نقول للأب والوصي أن يودعا مال الصغير من هذا الرجل والمنفعة(21/188)
ص -89- ... للصغير في الرهن أظهر منه في الإيداع لأنه في الإيداع إذا هلك بطل حق الصغير وفي الرهن إذا هلك صار المرتهن مستوفيا لدينه وكانا ضامنين للصغير مالية الرهن وهذا بخلاف حقيقة الإيفاء لأنه إخراج ملك الدين من ملك الصغير بغير عوض يدخل في ملكه بمقابلته في الحال فلا ينفذ منهما فأما بالرهن فلا تخرج العين عن ملكه ولكن يتعين حافظ يحفظها وهو المرتهن فهو كالإيداع من هذا الوجه وإن سلطا المرتهن على بيعه فهو نظير التوكيل بالبيع ولهما ذلك في مال الصغير وفي الحقيقة هذه المسألة تنبني على البيع فإن الأب أو الوصي إذا باع مال اليتيم من غريم نفسه بمثل ما عليه من الدين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يصير الثمن قصاصا بدينه ويصير هو ضامنا للصغير وعند أبي يوسف رحمه الله لا يصير الثمن قصاصا بدينه فإذا كان من أصله أنه لا يملك قضاء دين نفسه بمال اليتيم بطريق البيع فكذلك بطريق الرهن وعندهما لما كان يملك ذلك بطريق البيع فكذلك بطريق الرهن لأنه ليس في الرهن ضرر على الصبي إلا أن يصير قاضيا دينه عند هلاك الرهن ضامنا مثله لليتيم فهو كالبيع في هذا الحكم.
وإذا رهن الأب من نفسه متاع الصغير فهو جائز كما يجوز بيعه مال الصغير لنفسه قال بخلاف الوصي لأن الأب يملك التصرف مع نفسه وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة للصغير بخلاف الوصي وهنا لأن الأب غير متهم بإعزاز نفسه على الولد والوصي متهم بذلك وكذلك لو رهنه الأب من عبد تاجر له ليس عليه دين لأن أكثر ما فيه إنه بمنزلة الرهن من نفسه وكسب عبده ملك له وهو يملك ذلك لما ذكر في الأصل في بيان الصك الذي يكتبه الأب إذا رهن مال نفسه من الصبي إني استقرضته من مالي كذا فأنفقته في حاجتي وفي هذا اللفظ دليل على أن للأب ولاية الإقراض في مال ولده لأن معاملته مع غيره أقرب إلى النفوذ منه مع نفسه فإذا جاز له أن يستقرض مال ولده لنفسه فلأن يجوز له إقراضه من غيره أولى.(21/189)
والحاصل أن الوصي لا يقرض على اليتيم ولا يستقرض لأنه تبرع وفي الأب روايتان وفي الرواية الظاهرة يقول لا يملك الإقراض لأنه تبرع وليس للصغير فيه منفعة ظاهرة وفي هذه الرواية إشارة إلى أن للأب ذلك لأنه غير متهم في حق ولده والظاهر أن لا يقرضه إلا ممن يملك الاسترداد منه متى شاء فهو بمنزلة القاضي في ذلك وللقاضي ولاية الإقراض في مال اليتيم لتمكنه من الاسترداد متى شاء فكذلك الأب له ذلك وإذا رهن الأب فباع ابنه الصغير عند رجل فأدرك الولد ومات الأب لم يكن للولد أن يسترد الرهن حتى يقضي المال لأنه تصرف لزم من الأب في حال قيام ولايته وهو في ذلك قائم مقام الولد أن لو كان بالغا فإن كان الأب رهنه لنفسه فقضاه الابن فإنه يرجع به في مال الأب بمنزلة المعير للرهن إذا قضى الدين وهذا لأنه لا يتوصل إلى عين ماله إلا بقضاء الدين فلم يكن متهما في ذلك.
وإذا رهن الأب متاعا لولده بمال أخذه لنفسه ولولده الصغير فهو جائز لأنه لما ملك أن يرهن بدين أحدهم على الانفراد فكذلك بدينهما بخلاف ما إذا رهن عينا مشتركه بين ابنه(21/190)
ص -90- ... الكبير والصغير فإن ذلك لا يجوز ما لم يسلم الكبير لأنه لا ولاية له على الكبير في رهن نصيبه ونصيب الصغير شائع فلا يمكن تصحيح الرهن في شيء منه فإن هلك الرهن ضمن الأب حصته من ذلك للولد لأنه بهلاك الرهن صار قاضيا دين الصغير ودين نفسه بمال الصغير فيضمن الصغير حصته من ذلك والوصي في ذلك كالأب بعد موته وكذلك الجد أبو الأب إذا لم يكن له وصي لأنه قام مقام الأب في التصرف بحكم الولاية إلا أن الأب يملك أن يرهن مال أحد الصغيرين من الآخر والوصي لا يملك ذلك على قياس الرهن من نفسه وقد بينا الفرق بينهما في ذلك والله أعلم بالصواب.
باب رهن الحيوان
قال رحمه الله: رهن الحيوان المملوك بالدين جائز بخلاف ما يقوله بعض العلماء رحمهم الله إن الحيوان عرضة للهلاك فهو بمنزلة ما يسرع إليه الفساد وما يسرع إليه الفساد كالخضر لا يجوز رهنه ودليلنا على جوازه قوله صلى الله عليه وسلم "الرهن مركوب ومحلوب" ولأنه مال متقوم يجوز بيعه ويمكن استيفاء الدين من ماليته عند تعذر استيفائه من محل آخر فهو كسائر الأموال وما من شيء إلا وهو عرضة للفناء في وقته ثم علفه وطعام الرقيق على الراهن لأن وجوب النفقة على المالك بسبب ملك العين فالراهن بعد عقد الرهن مالك للعين كما كان قبله وفي كون الرهن في يد المرتهن منفعة للراهن فإنه يصير بهلاكه قاضيا لدينه فيكون بمنزلة الوديعة والمؤجر بخلاف المستعار والموصي بخدمته لأنه لا منفعة للمالك في كون العين في يد المستعير والموصي له وإنما تخلص المنفعة لهما فتكون المنفعة عليهما فلهذا لا يرجعان بضمان الاستحقاق بخلاف المرتهن.(21/191)
توضيحه أن الإعارة لا يتعلق بها اللزوم فيقال للمستعير إن ثبت فأنفق عليه وانتفع به وإلا فرده والوصية بالعين وإن كان يتعلق بها اللزوم فلم يأت ذلك بإيجاب من الوارث فلا يلزمه نفقة في حال كونه ممنوعا من الانتفاع به وإثبات اليد عليها وأما الرهن فإنما يثبت للمرتهن فيه حق لازم بإيجاب الرهن فلا يكون ذلك مسقطا للنفقة عنه وإن كانت يده مقصورة عنه كالمستأجر وكذلك أجر الراعي فهو بمنزلة العلف لأنه إنما يلتزم بمقصود الراعي فيكون على المالك وعلى المرتهن أن يضمها إليه إما في منزله وإما في منزل يتكارى له وليس على الراهن من ذلك شيء لأن الحفظ على المرتهن ولا يتأتي حفظه إلا في منزل فمؤنته تلك تكون على المرتهن وهذا لأنه في الحفظ عامل لنفسه لأنه يقصد به إضجار الراهن ولأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء وما يكون موجب العقد فهو حق المرتهن وعن أبي يوسف رحمه الله قال إن كان في منزل المرتهن سعة فالجواب كذلك وإن احتاج إلى أن يتكارى له منزلا فالكراء على الراهن لأن أجرة المسكن كالنفقة.
ألا ترى إنه على الزوج كالنفقة وإن أصاب الرقيق جراحة أو مرض أو ديرت الدواب فإصلاح ذلك ودواؤه على المرتهن لأن المالية انتقصت بما اعترض وبحسب ذلك يسقط من(21/192)
ص -91- ... دين المرتهن ببرء المعالجة إعادة ما كان سقط من الدين أو أشرف على السقوط وهو محض منفعة للمرتهن والمداواة لا تكون قياس النفقة.
ألا ترى أن نفقة الزوجة على الزوج وأجرة الطبيب وثمن الدواء إذا مرضت عليها في مالها لا شيء على الزوج من ذلك وهذا إذا كانت قيمة الرهن والدين سواء فإن كان الدين أقل من القيمة فالمعالجة على الراهن والمرتهن بحساب ذلك لأن تقدر الدين من الرهن مضمون على المرتهن والزيادة على ذلك أمانة ومعالجة الأمانة على صاحبها وهذا لأن بالإصلاح ينتفع المرتهن في المضمون منه وفي الأمانة المنفعة للراهن وهو نظير الفداء من الجناية بقدر المضمون من الرهن والفداء على المرتهن وبقدر الأمانة على الراهن ونقصان السعر وزيادته لا يغير حكم الرهن والاعتبار بقيمته يوم رهن لأن تغير السعر لا يؤثر في العين إنما هو منوط برغائب الناس فيه وذلك يختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فلا يكون مضمونا على المرتهن.(21/193)
توضيحه إن نقصان السعر غير معتبر في ضمان العقود كالمبيع فإن نقصان سعره لا يسقط شيئا من الثمن ولا يثبت الخيار للمشتري وكذلك في ضمان المقبوض كالمغصوب فنقصان سعره في يد الغاصب لا يلزمه شيئا من الضمان وضمان الرهن لا بد أن يعتبر بأحد هذين الضمانين وعن زفر رحمه الله إن بقدر ما ينتقص من سعر المرهون يسقط من الدين وقاس ذلك بنقصان العين من حيث إن الضمان الثابت بالرهن باعتبار المالية دون العين فإن ضمان الاستيفاء والمالية ينتقص بنقصان السعر كما ينتقص بنقصان العين بخلاف سائر الضمانات فضمان الغصب ضمان العين ولهذا يملك العين به وكذلك ضمان البيع ونقصان السعر لا يؤثر في العين وإن ذهبت عين الدابة عند المرتهن وقيمتها مثل الدين سقط ربع الدين لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال في عين الدابة ربع قيمتها يعني إذا فقئت وهذا بخلاف عين الآدمي فإن بذهاب عينه يسقط نصف الدين لأن الانتفاع بالدواب من حيث الحمل والركوب وذلك يمسها وإنما يأتي ذلك بأن تمشي بقوائمها وتبصر بعينها فيتوزع بدلها على ذلك وحصة العينين من ذلك النصف فبفوات أحدهما يذهب الربع وأما البصر في الآدمي فمقصود بنفسه والبطش كذلك والمشي كذلك فيجعل كل جنس بمنزلة النفس فبذهاب إحدى العينين يجعل نصف النفس كالفائت حكما لهذا المعنى ولبن الناقة رهن معها وكذلك أصواف الغنم وأسمانها وأولادها وثمرة الأشجار وما ينبت من الأشجار في أرض الرهن رهن لأن هذه زيادة مستولدة من العين بخلاف ما على الأرض والدار تؤاجر لأن ذلك ليس بمتولد من غير الرهن فلا يثبت فيه حكم الرهن وإن هلكت هذه الزيادة لم يسقط شيء من الدين لانعدام
السبب الموجب للضمان فيها وهو القبض مقصودا.
ثم لا خلاف إن المرتهن لا يملك الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة ولو تمكن من الانتفاع أدى إلى ذلك ولأن المنفعة إنما تملك بملك(21/194)
ص -92- ... الأصل والأصل مملوك للراهن فالمنفعة تكون على ملكه لا يستوفيها غيره إلا بإيجابها له وهو بعقد الرهن أوجب ملك اليد للمرتهن لا ملك المنفعة فكان ماله في الانتفاع بعد عقد الرهن كما كان قبله وكذلك الراهن لا ينتفع بالمرهون بغير إذن المرتهن عندنا وقال الشافعي رحمه الله فيما يمكنه الانتفاع به مع بقاء عينه للراهن أن ينتفع به بدون إذن المرتهن والمسئلة في الحقيقة بناء على الأصل الذي بينا إن عندنا دوام يد المرتهن يوجب عقد الرهن والانتفاع به يفوت هذا الواجب لأنه يعيده إلى يده لينتفع به وعنده يوجب الرهن حق المطالبة بالبيع في الدين عند حلول الأجل وذلك لا يفوت بانتفاع الراهن به ثم الحجة له في المسألة حديث أبي هريرة رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المرهون مركوب ومحلوب وعلى من يركبه ويحلبه نفقته" ولا شك أن النفقة على الراهن فعرفنا أنه مركوب ومحلوب للراهن والمعنى فيه أن عقد الرهن لا يزيل الملك في الحال ولا في ثاني الحال ولكن يوجب للمرتهن حقا فكل تصرف من الراهن يقدره يبطل حق المرتهن فهو باطل كالبيع والراهن من غيره وكل تصرف لا يؤدي إلى إبطال حق المرتهن فالراهن يملكه باعتبار ملكه وهذا كالنكاح فإنه لا يزيل ملك المولي عن الأمة ولكن يوجب للزوج منها حقا فكل تصرف يؤدي إلى إبطال حقه كالوطء والتزوج من الغير يمنع المولي منه وكل تصرف لا يؤدي إلى إبطال حق الزوج كالبيع والهبة لا يمنع المولي منه والاستيلاد لا يزيل ملك المولي ويوجب لها حقا وكل تصرف يؤدي إلى إبطال حق لها كالبيع يمنع للمولي منه وكل تصرف لا يؤدي إلى إبطال حقها كالوطء والتزويج لا يمنع المولي منه ثم الانتفاع لا يؤدي إلى إبطال حق المرتهن بدليل إنه لو انتفع به بإذن المرتهن بقي عقد الرهن وحق المرتهن ولو كان هذا مبطلا حقه لكان يبطل حقه عن العين وإن حصل بإذنه كالبيع ولأن الرهن وثيقة بالدين فلا يمنع المالك من الانتفاع بالملك(21/195)
كالكتابة والدليل عليه إن الراهن أحق ببدل المنفعة وهو الكسب والغلة فذلك دليل على أنه أحق بالمنفعة أيضا.
وعقد الرهن عقد مشروع وبالإجماع المرتهن لا يتمكن من الانتفاع به فلو قلنا يمتنع على الراهن الانتفاع به لتعطلت العين عن الانتفاع بسبب هذا العقد وذلك مشبه تسييب أهل الجاهلية فيكون خلاف المشروع إلا أنه إنما ينتفع بالرهن إذا كان الدين مؤجلا وأما إذا كان الدين حالا فللمرتهن أن يمنعه عن ذلك لاستحقاق المطالبة ببيعه في دينه في المال وهو كالبيع فإن البائع يمنع المشتري من الانتفاع به إذا كان الثمن حالا ولا يمنعه إذا كان الثمن مؤجلا واختلف أصحاب الشافعي رحمهم الله في الإجارة فمنهم من يقول للراهن أن يؤاجره كما له أن ينتفع به بنفسه ومنهم من يقول ليس له ذلك لأن ذلك مبطل لحق المرتهن بدليل أنه لو فعله بإذن المرتهن بطل الرهن وكذلك يختلفون في وطء الراهن الجارية المرهونة فمنهم من يقول يمنع من ذلك إذا كانت بكرا ولا يمنع إذا كانت ثيبا لأنه ليس فيه إبطال حق المرتهن في شيء من المالية ومنهم من يقول يمنع وإن كانت ثيبا لأن فيه تعريض حق(21/196)
ص -93- ... المرتهن للإبطال بأن تعلق منه فتصير أم ولد له وفي الانتفاع لا يوجد هذا المعنى وحجتنا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى "فرهان مقبوضة" فهذا يقتضي أن يكون مقبوضا في حال ما يكون مرهونا وهو مرهون من حين يقبضه المرتهن إلا أن يعتقه الراهن فينبغي أن يكون مقبوضا له وانتفاع الراهن يعدم هذا الوصف وقد بينا أن موجب هذا العقد ثبوت يد الاستيفاء هنا للمرتهن وأنه من جنس اليد التي ثبتت بحقيقة الاستيفاء والراهن لا يتمكن من الانتفاع ما لم يحوله من يد المرتهن إلى يده وفيه تفويت موجب العقد.(21/197)
ألا ترى أن الدين إذا كان حالا كان الراهن ممنوعا من الانتفاع به لكونه مرهونا عند المرتهن فكذلك إذا كان مؤجلا وفصل البيع دليلنا إن هناك متى ثبت للبائع حق حبس المبيع كان المشتري ممنوعا من الانتفاع به لكونه مرهونا عند المرتهن إلا أن حق الحبس هناك إنما يثبت إذا كان الثمن حالا فهنا أيضا متى ثبت حق الحبس بعقد الرهن ينبغي أن يمنع الراهن من الانتفاع وحق الحبس ثابت سواء كان الدين مؤجلا أو حالا حتى إنه في غير أوان الانتفاع وفيما لا ينتفع به مع بقاء عينه المرتهن أحق بإمساكه وبهذا الكلام يتبين أن انتفاع الراهن تصرف مبطل لا يدل لحق المرتهن فيمنع منه وبأنه كان لا يبطل حق المرتهن به إذا حصل تسليطه فذلك على أن الراهن لا يمنع منه كما إذا كان الدين حالا وكما في الوطء وتوهم العلوق بالوطء موهوم ولما بنى الحكم على الموهوم ومثله يتحقق هنا فإنه يتوهم الهلاك في حالة الركوب وإنما يكون هذا في معنى تسييب أهل الجاهلية إذا لم يكن غرض صحيح فأما إذا كان فيه غرض صحيح وهو إضجار الراهن فلا يؤدي إلى ذلك المعنى فأما الحديث فلنا أن نقول الرهن محلوب ومركوب على معنى إنه محلوب ومركوب للمرتهن بإذن الراهن وللراهن بإذن المرتهن ثم قيل الصحيح إن هذا الحديث موقوف على أبي هريرة ولم يثبت مرفوعا ولو ثبت فالمراد انتفاع المرتهن على ما فسره في بعض الروايات لأن الدر يحلب وظهره يركب بنفقته والنفقة بإزاء المنفعة تكون في حق غير المالك وهذا حكم كان في الابتداء لأن المرتهن ينتفع بالرهن وينفق عليه ثم انتسخ ذلك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة فإن آجر المرتهن المرهون بغير إذن الراهن فالغلة له ويتصدق بها لأنه بمنزلة الغاصب في ذلك فإنه كما لا يثبت له بعقد الرهن حق الانتفاع به لا يثبت له حق إيجاب المنفعة للغير إلا أن الأجر وجب لعقده فيكون له ويتصدق به لأنه حصل بسبب حرام شرعا وإن كان الراهن أذن له في ذلك فقد خرج من الرهن(21/198)
ولا يعود فيه إلا برهن مستقبل والغلة للراهن وقال بن أبي ليلى رحمه الله هي رهن على حالها والغلة للمرتهن قضاء من حقها لأن عقد الإجارة لا يلاقي المحل الذي لاقاه عقد الرهن فإنه بعقد الإجارة يثبت للمستأجر ملك المنفعة والثابت للمرتهن ملك اليد إلا أن رضا المرتهن في الإجارة شرط يتمكن به المالك من التسليم فإجارة المرتهن وإجارة الراهن برضا المرتهن سواء على معنى أن الأجر للراهن وإن عقد الرهن على حاله لأن موجب العقدين ما اجتمعا في محل واحد ثم(21/199)
ص -94- ... المرتهن يأخذ الأجر قضاء من حقه لأنه ظفر بجنس حقه من مال المديون ولكنا نقول عقد الإجارة يوجب استحقاق اليد للمستأجر في العين وذلك ينافي موجب عقد الرهن فإذا نفذ ذلك من الراهن بإذن المرتهن أو من المرتهن بطل عقد الرهن كالبيع إذا نفذ من أحدهما وتخرج العين من الرهن بهذا المعنى.
وإذا خرج الرهن كانت الغلة للراهن لأنه بدل ما لم يثبت به حق المرتهن وهو المنفعة وبه فارق الثمن فإنه بدل ما ثبت به حق المرتهن فيحول حقه إليه فإن ركب المرتهن الدابة أو كان عبدا فاستخدمه أو ثوبا فلبسه أو سيفا فتقلده بغير إذن الراهن فهو ضامن له لأنه مستعمل ملكه بغير إذنه فيكون كالغاصب بخلاف ما لو تقلد السيف على سيف أو سيفين عليه فإن ذلك من باب الحفظ لا من باب الاستعمال وقد بينا الفرق بين ما يكون حفظا وبين ما يكون استعمالا في كتاب اللقطة والوديعة فإن كان فعل ذلك بإذن الراهن فلا ضمان عليه لأن وجوب الضمان باعتبار التعدي وهو في الانتفاع لا يكون متعديا فإذا نزل عن الدابة ونزع الثوب وكف عن الخدمة فهي رهن على حالها إن هلك ذهب بما فيه وإن هلك في حال الاستعمال بإذنه هلك بغير شيء لأن استعماله بتسليط المالك كاستعمال المالك بنفسه ولو استعمله الراهن فهلك في حال الاستعمال لم يسقط الدين ولو أعاده المرتهن إلى يده بعلة ما فرغ فهلك في حال الاستعمال كان مضمونا بالدين وكذلك إذا استعمله المرتهن وهذا لأن في حال الاستعمال يده يد عارية وهي غير يد الاستيفاء.(21/200)
ألا ترى إنه باعتبار يد العارية لا يرجع بضمان الاستحقاق على الغير وباعتبار يد الاستيفاء يرجع فأما بعد الفراغ من الاستعمال لم تبق يد العارية لأن تلك اليد المقصودة الاستعمال لا غير فظهر حكم يد الاستيفاء وكذلك لو أعاره غيره بإذن الراهن أو أعاره الراهن بإذن المرتهن فهلك في يد المستعير لا يسقط شيء من الدين لما قلنا ولكن للمرتهن أن يعيده ليد نفسه لأن هذا في حقه بمنزلة الإعارة من الرهن فلا يبطل به حق المرتهن لأن للمرتهن حقا مستحقا والإعارة لا يتعلق بها الاستحقاق والشيء لا ينقص بطريان ما هو دونه عليه بخلاف الإجارة فإنه يثبت حقا مستحقا للمستأجر فهو مثل الرهن أو أقوى منه فيكون مبطلا للرهن وعلى هذا لو أذن له أن يرهنه فرهنه منه غيره وسلمه خرج من الرهن الأول لأن الثاني مثل الأول في إنه يوجب حقا مستحقا للمرتهن فيبطل به الأول ثم يد العارية تتقدم ضمان الرهن ولكن لا يرتفع عقد الرهن حتى لو ولدت في يد المستعير راهنا كان أو غيره كان الولد مرهونا.
ولو مات الراهن في هذا الحال كان المرتهن أحق بها من سائر الغرماء فعرفنا أن عقد الرهن باق فببقائه يتمكن المرتهن من إعادته إلى يده وإذا أثمر الكرم أو النخل وهو رهن فخاف المرتهن على الثمرة الهلاك فباعها بغير إذن القاضي لم يجز بيعه وهو ضامن لقيمتها لأنه باع مال الغير بغير إذن مالكه فيكون غاصبا في ذلك ولا ضرورة في الاستبداد بهذا البيع لأنه(21/201)
ص -95- ... يتمكن منه إن استأذن الراهن فيه إن كان حاضرا أو يرفع الأمر إلى القاضي إذا كان الراهن غائبا ليبيعه القاضي أو يأمره ببيعه فإن ولاية النظر في مال الغائب للقاضي فإذا لم يفعل كان ضامنا وإن جذ الثمرة أو قطف العنب فهو ضامن في القياس لأنه تصرف منه في ملك الغير بغير إذنه وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأن هذا من الحفظ فإنه لو ترك على رؤوس الأشجار فسد فالجداد في أوانه حفظ وحفظ المرهون حق المرتهن فإن قيل البيع أيضا من الحفظ قلنا نعم ولكنه في البيع حفظ المالية دون العين فأما في الجدار فحفظ الملك في العين والمرتهن مسلط على ذلك فإن ذلك من الحفظ للعين بمنزلة الجداد لأن ترك الحلب يفسد الضرع واللبن.
وإذا رهن الرجل عدلا زطيا بألف درهم أو بمائة شاة أو عشرة من الإبل وسلمها إليه ثم قضاه بعض المال لم يكن له أن يقبض شيئا من الرهن حتى يقضي المال كله لأن العقد منفعة واحدة وكل جزء مما يتناوله العقد يكون محبوسا بجميع الدين فما لم يقض جميع الدين لا ينعدم المعنى المثبت بحق الجنس في شيء من الرهن كما في البيع وكذلك إن رهن مائة شاة بألف درهم كل شاة بعشرة ثم قضاه عشرة وفي الزيادات قال في هذه المسألة يكون له أن يسترد أي شاة شاء قال الحاكم فما ذكر في الزيادات قول محمد رحمه الله وما ذكر في كتاب الرهن قول أبي يوسف وكان أبو بكر الرازي ينكر ما ذكره الحاكم ويقول قد ذكر بن سماعة في نوادره عن محمد مثل ما أجاب به في كتاب الرهن والصحيح أن المسألة على روايتين وجه هذه الرواية ظاهر فإن المرهون محبوس بالدين كالمبيع بالثمن ثم في البيع لا فرق في حكم الحبس بين فصل الثمن والإجمال حتى إنه إذا اشترى شاتين بعشرة فنقده عشرة لم يكن له أن يقبض واحدة منهما وكذلك في الرهن فأما وجه الرواية فالزيادات تفرق القيمة بتفرق الصفقة في الرهن بدليل إنه لو رهن عبدا بألف درهم كل نصف بخمسمائة لا يجوز.(21/202)
ولو رهن عبدا من رجلين نصفه من كل واحد منهما بدينه لا يجوز بخلاف حال الإجمال فعرفنا أن الصفقة تتفرق في باب الرهن بتفرق الثمن فكذلك رهن كل شاة بعقد على حدة بخلاف البيع فهناك بتفرق التسمية لا تتفرق الصفقة بدليل أنه لو باعه عبدين بألف كل واحد منهما بخمسمائة فقبل العقد في أحدهما دون الآخر لم يجز كما في حال الإجمال وهذا لأن البيع عقد تمليك والهلاك قبل القبض مبطل للبيع فبعدما نقد بعض الثمن لو تمكن من قبض بعض المعقود عليه أدى إلى تفرق الصفقة قبل التمام بأن يهلك ما بقي فيفسخ البيع فيه بخلاف الرهن فإن الهلاك ينتهي حكم الرهن بحصول المقصود به كما أن بالافتكاك ينتهي حكم الرهن فلو تمكن من استرداد البعض عند قضاء بعض الدين لا يؤدي ذلك إلى تفرق الصفقة لأن أكثر ما فيه أن يهلك ما بقي فينتهي حكم الرهن منه فإن قيل هذا في حال الإجمال موجود قلنا نعم ولكن في حال الإجمال حصة كل شاة من الدين غير معلوم متعين فأما عند التفصيل فما رهن به كل شاة معلوم بالتسمية فلهذا يمكن انفكاك البعض(21/203)
ص -96- ... بقضاء بعض الدين به ولو رهنه شاتين بثلاثين درهما إحداهما بعشرين والأخرى بعشرة ولم يبين هذه من هذه لم يجز الرهن لجهالة ما رهن به كل واحدة منهما وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة فإن إحداهما لو هلكت وثمنها عشرون فالراهن يقول هذه التي رهنتها بعشرين والمرتهن يقول بل هذه بعشرة فإن بين كل واحد منهما كان جائزا لأن الرهن مع الدين يتحاذيان محاذات المبيع مع الثمن وفي البيع إذا عين ثمن كل واحد منهما جاز العقد لانعدام الجهالة بخلاف ما إذا لم يبين فكذلك في الرهن.
ولو ارتهن عبدا بألف نصفه بستمائة ونصفه بأربعمائة أو كل نصف بخمسمائة لم يجز لتمكن الشيوع في الرهن باعتبار تفرق التسمية فإن كل جزء يصير محبوسا بما سمي بمقابلته وقد بينا أن الجزء الشائع لا يكون محلا لحكم الرهن وكذلك إن قال لرجلين رهنتكما هذا العبد بألف لكل واحد منهما نصفه خمسمائة بخلاف ما إذا رهنه بدينهما مجملا فهناك جميع الرهن يصير محبوسا بدين كل واحد منهما فكذلك العين وعند تفرق التسمية إنما يثبت لكل واحد منهما حق الحبس فيما أوجب له نصفا وهو الجزء الشائع وقد قررنا أن العين لا تحتمل التجزى ء في موجب الرهن كالنفس في حكم القصاص ثم قد يثبت قصاص واحد لرجلين في نفس واحدة عند الإطلاق ولا يتصور أن يثبت نصف القصاص لكل واحد منهما في نفس واحدة على الانفراد فكذلك حكم الحبس في الرهن يجوز أن يثبت لشخص في عين واحدة عند الإجمال ولا يثبت لكل واحد الحق في النصف عند القبض.(21/204)
وإذا رهن عند رجل دابتين على أن يقرضه مائة درهم وقبض إحدى الدابتين فبقيت عنده وقيمتها خمسون درهما وقيمة الباقية ثلاثون درهما فعلى المرتهن أن يرد على الراهن خمسين درهما لأن الدين الموعود في حكم الاستيفاء بهلاك الرهن كالدين المقبوض بمنزلة المقبوض على سوم الشراء يجعل في حكم الضمان كالمقبوض بحقيقة السداد ولو كان الدين واجبا كان المرتهن بهلاك إحدى الدابتين مستوفيا قدر قيمتها إذا كانت قيمتها والدين سواء فهنا أيضا عند هلاك إحداهما يصير مستوفيا خمسين درهما فعليه رد ذلك على الراهن إن بدا له أن يأخذ الأخرى ويقرضه فهو هنا مستقيم وإن لم يفعل لم يجبر على شيء لأن ما جرى بينهما ميعاد والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم وإن بقيت الأخرى أيضا عند الراهن ولم يدفع المرتهن إليه المائة أو قد دفعها ولم يختلفا في قيمة الدابتين فالقول قول المرتهن في الوجهين لأن حاصل الاختلاف منهما في مقدار ما صار المرتهن مستوفيا مما سقط به دينه الواجب أو يلزمه رده إن لم يكن دفع إليه شيئا فالمرتهن ينكر الزيادة والراهن يدعي عليه ذلك فالقول قول المنكر وما أنفق المرتهن على الرهن والراهن غائب فهو منه تطوع لأنه تبرع بالإنفاق على ملك الغير بغير أمره فإن أمره القاضي أن ينفق ويجعله على الرهن فهو دين على الرهن لأن الإنفاق بأمر القاضي كالإنفاق بأمر الراهن وللقاضي ولاية النظر في مال الغائب فيما يرجع إلى حفظ ملكه عليه والبيان في إنه قال ويجعله دينا على الراهن وهكذا يقول في كتاب اللقطة وغيره.(21/205)
ص -97- ... وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول لا حاجة إلى هذه الزيادة ولكن مجرد أمره يكفي لأن أمر القاضي كأمر صاحب المال وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه ما لم يصرح القاضي بهذا اللفظ لا يصير دينا لأن أمر القاضي في هذا الموضع ليس لإلزام المأمور فإنه لا يلزمه الإنفاق وإن أمره القاضي بذلك ولكن المقصود النظر وهو متردد بين الأمر بالإنفاق حسبة وبين الأمر بالإنفاق ليكون دينا فعند الإطلاق لا يثبت إلا أدناهما ولا يصير دينا إلا بالقبض بخلاف أمر صاحب المال فهذا استقراض أو استيهاب يثبت أدناهما والأدنى هناك الاستقراض ولا يصدق المرتهن على النفقة إلا ببينة لأنه يدعي لنفسه دينا في ذمة الراهن وهو غير مقبول القول فيما يدعيه لنفسه في ذمة غيره إلا ببينة فإن لم يكن له بينة حلف الراهن ما يعلم إنه أنفق على رهنه كذا كذا لأن المنفق يدعي عليه الدين وهو ينكر فالقول قوله مع يمينه ولأنه يستحلف على فعل الغير وهو الإنفاق من المأمور واليمين على فعل الغير يكون على العلم.(21/206)
ولو ارتهن دابتين فنفقت إحداهما ذهب من الدين بحسابه وكذلك لو كانت الباقية مثلها وليس هذا كجناية الرقيق معناه إذا رهن عبدين بألف قيمة كل واحد منهما ألف فقتل أحدهما صاحبه كان الباقي منهما رهنا بسبعمائة وخمسين ويتحول إلى القاتل بعد ما كان على المقتول من الدين على ما بيناه في باب الجنايات وفي هذه الصورة من الدابتين كانت الباقية رهنا بخمسمائة لأن جناية إحدى الدابتين على الأخرى هدر قال صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار" فكان قتل إحداهما الأخرى وموتها سواء بخلاف بني آدم فإنه من أهل جناية معتبرة في الأحكام فحصة الأمانة من الجاني على المضمون من المجني عليه لا بد أن يقام مقامه في تحويل ما كان على المجني عليه إلى الجاني وذلك نصف ما كان على المجني عليه ولو استحقت إحداهما لم تنفك الأخرى إلا بجميع المال لما بينا أن كل واحدة منهما محبوسة بجميع المال عند الإجمال وإن هلكت إحداهما هلكت بحصتها لأن حكم الضمان يتوزع عليهما فعند هلاك إحداهما إنما يصير مستوفيا حصتها في الدين بمنزلة العين الواحدة يرهنها من رجلين بدين لهما في أن حكم الحبس يكون مخالفا لحكم استيفاء الدين عند الهلاك حتى يصير كل واحد منهما عند الهلاك مستوفيا نصف دينه.
ولو ولدت إحداهما ولدا وقيمتهما سواء وقيمة الولد قيمة الأم ثم بيعت التي لم تلد ذهب بنصف الدين لأن الولد تابع للأم داخل معها في حصتها فيقسم الدين أولا على قيمة الدابتين نصفين لاستوائهما ثم يقسم ثمن التي ولدت على قيمتها وقيمة ولدها فحصة التي لم تلد نصف الدين ولهذا ذهب بموتها نصف الدين وإن بيعت التي ولدت ذهب ربع الدين لأن نصف الدين انقسم على قيمتها وعلى قيمة ولدها فتوسط معها الولد إلى يوم الفكاك على هذه القيمة وقد بقي فكانت حصة الأم ربع الدين وإن لم تتفق هي واتفق ولدها لم يذهب من الدين شيء إذا كانت الولادة لم تنقص الأم لأن الولد هلك من غير صنع أحد وكان تابعا في(21/207)
ص -98- ... حكم الرهن فصار كان لم يكن فإن كانت الأم ماتت فذهب ربع الدين ثم ولدت البنت بنتا مثلها كان الثنتان بثلثي النصف لأن السفلى كالعليا في أنها تابعة للأم الأصلية فإن العليا تبع ولا تبع للتبع فهو نظير ما لو ولدت الأم ولدين قيمة كل واحد منهما مثل قيمتها فإنها تقسم ما فيها على قيمتها وقيمة الولدين أثلاثا ويتبين أن الساقط بموت الأم ثلث نصف الدين ولو كانت المسألة بهذه الصورة في البيع كان الساقط بموت الأم ربع الثمن وقد قررنا هذا الفرق في آخر البيوع إن سقوط الثمن هناك بطريق انفساخ البيع والبيع بعد ما انفسخ لا يعود بحدوث الزيادة وهنا سقوط الدين بطريق انتهاء عقد الرهن لحصول المقصود به والمنتهى يكون متقررا في تعينه فبحدوث الزيادة يعود بعض ما كنا حكمنا بسقوطه بطريق الظاهر ولا يفتك الراهن شيئا من ذلك دون شيء لأن العقد في الكل واحد باعتبار الإجمال.
ولو اعورت إحدى العينين ذهب بموت الأم أربعة أجزاء من أحد عشر جزءا من النصف ولو كان هذا في الرقيق بقيت الاثنتان بثلاثة أخماس النصف وهذا لما بينا إن العين من الأدنى نصف ومن الدية ربعها ففي الرقيق حين اعورت إحدى الاثنتين ذهب نصفها فإنما ينقسم ما في الأم من الدين على قيمتها وقيمة العليا وقيمة نصف السفلى فيكون على خمسة في الأم سهمان وفي الصحيحة من الاثنتين كذلك وفي العوراء سهم فلهذا سقط بهلاك الأم خمسا النصف وبقي ثلاثة أخماس النصف وفي الدواب بالاعورار ذهب بالعور ربعها فإنما ينقسم نصف الدين على قيمة الأم والصحيحة من الولدين وثلاثة أرباع العوراء فكانت الأم أربعة والصحيحة كذلك والعوراء ثلاثة فلهذا قال يذهب بموت الأم أربعة أجزاء من أحد عشر جزءا من النصف.(21/208)
وإذا ارتهن الرجل أرضا ونخلا بألف درهم وقيمة الأرض خمسمائة وقيمة النخل خمسمائة فاحترق النخل فالأرض رهن بخمسمائة بخلاف البيع فإن ضمان البيع ضمان عقد والنخل في العقد تبع وبهلاكه لا يسقط شيء من الثمن كأطراف العبد فأما ضمان الرهن فضمان قبض والأوصاف تفرد بالقبض فتفرد بالضمان فلهذا سقط بذهاب النخل نصف الدين إذا كانت قيمتهما سواء كان نبت في الأرض نخل يساوي خمسمائة والأرض والنخل بثلثي جميع المال لأن النابت زيادة في الأرض فيصير هو كالموجود في أن حكم الرهن ثبت في كل واحد منهما معا وتبين أن الدين ينقسم على قيمة الأرض وقيمة النابت والذي احترق والقيم سواء كإنما سقط بذهاب ما احترق حصتها وهو ثلث الدين وعن أبي يوسف رحمه الله قال إن كان الثابت منه عروق النخل التي احترق سقط ربع الدين وإن كان من غير ذلك من الأرض سقط نصف الدين لأن الثابت إذا كان فيه عروق فاحترقت فهو زيادة في النخيل خاصة فيقسم الدين أولا على قيمة الأصل وقيمة النخيل الموجود عند العقد نصفين ثم تقسم حصة النخيل على قيمتها وقيمة الثابت نصف فسقط باحتراق النخيل الموجودة ربع الدين بمنزلة الجاريتين إذا ولدت إحداهما ثم ماتت الأم وإذا نبت النخيل من الأرض كان زيادة في(21/209)
ص -99- ... الأرض دون النخيل فباحتراق النخيل سقط ما كان فيها وهو نصف الدين والنصف الباقي حصة الأرض ينقسم عليها وعلى النخيل الثابت.
ولو ارتهن أرضا ليس فيها نخل فنبت فيها نخل وقيمة الأرض مثل الدين وقيمة النخيل كذلك فما رهن بالمال وإن ذهب النخيل لم يسقط من الدين شيء لأنها زيادة حدثت بعد تمام الرهن ولم يضر مقصوده بالتناول حين هلكت قبل الفكاك فلا يسقط بهلاكها شيء من الدين كالولد ولو ارتهن أرضا وكرما وقيمته والدين سواء ثم أثمر ثمرا كثيرا يكون مثل قيمته ثم ذهب الشجر وسلم الثمر وقيمة الشجر والأرض سواء فإنه يذهب ثلث الثمن لما بينا إن الثمار زيادة في الشجر والأرض جميعا لأن الشجر تبع للأرض ولا تبع للتبع فانقسم الدين على قيمة الثلاثة سواء فيذهب الشجر بثلث الدين فإن ذهب الثمر بعد ذلك ذهب أيضا سدس جميع المال وليس المراد أنه بذهاب الثمر سقط شيء من الدين لأن الثمار زيادة حادثة بعد تمام الرهن وفاتت من غير صنع أحد فكيف يسقط بهلاكها شيء من الدين ولكن الثمار صارت كأن لم تكن فتبين أن الدين انقسم على قيمة الأرض وقيمة الأشجار نصفين وإن بذهاب الأشجار سقط نصفه وبقيت الأرض رهنا بنصف الدين.(21/210)
وإذا ساق المرتهن دابة الرهن أو قادها فأصابت إنسانا بيدها أو وطئته برجلها فهو على القائد والسائق لأن القائد والسائق متلف بطريق السبب فيكون ضامنا مالكا كان أو غير مالك ولا يلحق الدابة ولا الراهن من ذلك شيء لانعدام سبب الإتلاف من الراهن وكون فعل الدابة هدرا شرعا وإذا ارتهن ثوبا يساوي خمسة دراهم ومثقال ذهب يساوي عشرة دراهم بخمسة فهلك الذهب ولبس الثوب حتى تخرق أو بدأ بالثوب فلبسه قبل هلاك الذهب فقد سقط ثلثا الدين بهلاك الذهب لأن الدين انقسم على قيمة الذهب وقيمة الثوب وحصة الذهب ثلثا الخمسة فذهب ذلك بهلاك الذهب ويضمن قيمة الثوب لأنه باللبس حتى تخرق صار غاصبا متلفا فيضمن قيمته يحسب له من ذلك ما كان منه وذلك ثلث الخمسة بطريق المقاصة ويؤدي ما زاد على ذلك إلى صاحب الثوب.
ولو ارتهن عمامة تساوي نصف درهم ودرهم فضة بدرهم فهلكت الفضة ولبس العمامة حتى تخرقت فإن الفضة تذهب بثلثي دينه لأن حصتها من الدين الثلثان ويضمن قيمة العمامة بالإتلاف يحسب له منها ثلث الدرهم حصة ما كان فيها من الدين ويؤدي ما بقي قال رحمه الله: كان شيخنا الإمام رحمه الله يقول هذه من أعجب المسائل في الوضع فمن عادة محمد رحمه الله أنه يرفع فيما يذكر منه قيمة الأشياء حتى يذكر ثوبا يساوي ألفا وجارية تساوي عشرين ألفا وهنا قال عمامة تساوي نصف درهم ولو كانت هذه العمامة خيشا لكانت قيمتها أكثر من هذا وقد كان صحيحا لأنه قال لبس العمامة حتى تخرقت فلا تأويل لهذا سوى إنه أراد بهذا تطييب قلوب طلبة العلم لأن يثاب بما منهم يكون خلقة فيعملون إذا نظروا إلى هذه المسألة إنه قد يكون في الناس من يكون ثوبه دون ثيابهم فيكون في ذلك بعض التسلي لهم(21/211)
ص -100- ... ولا يجوز ارتهان الخمر والخنزير فيما بين المسلم والذمي لأنه ليس بمال متقوم في حق المسلم منهما فإن هلك عند المرتهن ذهب بما فيه إن كان الراهن كافرا لأن خمر الذمي يكون مضمونا على المسلم بالقبض كما في الغصب وضمان الرهن ضمان القبض وإن كان الراهن مسلما ذهب بغير شيء لأن خمر المسلم لا يكون مضمونا على الذمي بالقبض كما في حال الغصب والإتلاف والله أعلم.
باب رهن الفضة بالفضة والكيل والوزن
قال رحمه الله: وإذا ارتهن الرجل قلب فضة فيه عشرة دراهم بعشرة دراهم فهذه المسألة على ثلاثة أوجه إما أن يكون قيمته مثل وزنه عشرة أو قيمته أقل من وزنه ثمانية أو قيمته أكثر من وزنه اثني عشر وكل وجه من ذلك على وجهين إما أن يهلك القلب أو ينكسر أما إذا كانت قيمته مثل وزنه فإن هلك القلب سقط حق المرتهن لأن في وزنه وقيمته وفاء بالدين فيصير المرتهن مستوفيا كمال حقه بهلاكه وإن انكسر فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يضمن المرتهن قيمته إن شاء من جنسه وإن شاء من خلاف جنسه لأنه لا يمكن فيه الربا ويكون ما ضمنه رهنا عنده إلى أن يحل أجل الدين ثم يستوفيه ضامن حقه والمكسور مملوك له بالضمان وعند محمد رحمه الله يخير الراهن إن شاء سلم المكسور للمرتهن بدينه وإن شاء أفتكه ببعض الدين.(21/212)
وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله أن الراهن يجبر على افتكاك اقتضاء جميع الدين وليس له أن يضمن المرتهن شيئا والأصل عند محمد رحمه الله أن حالة الانكسار معتبرة بحالة الهلاك والقلب عند الهلاك في هذا الفصل مضمون بالدين دون القيمة فكذلك عند الانكسار لأن ضمان القيمة يوجب الملك في المضمون للضامن وضمان الدين لا يوجب ذلك وسبب كل واحد من الضمانين القبض ولا يجوز أن يتعلق بشيء واحد ضمانان من جنسين مختلفين فعند تعذر الجمع بينهما لا بد أن يكون الثابت أحدهما وبالإجماع في حالة الهلاك القلب مضمون بالدين هنا فكذلك في حالة الانكسار.
ألا ترى أن المبيع لما كان مضمونا بالثمن استوى فيه حالة الهلاك وحالة الانكسار والمغصوب لما كان مضمونا بالقيمة استوى فيه حالة الهلاك وحالة الانكسار فهذه مثله إلا أن عند الهلاك يتم الاستيفاء حكما بين الوزن لأن الاستيفاء يكون من المالية والمالية في مال الربا عند المقابلة بالجنس يكون بقدر الوزن والكيل فأما عند الانكسار فلا يتم الاستيفاء لبقاء الوزن ولكنه يتخير الراهن إن شاء سلم المكسور للمرتهن وجعله في حكم الهلاك فيتم الاستيفاء وإن شاء أفتكه بقضاء الدين كما إذا انكسر القلب المبيع يخير المشتري بين أن يأخذه ويؤدي جميع الثمن وبين أن يفسخ البيع ويجعله في حكم المستهلك وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا ضمان الرهن ضمان استيفاء والاستيفاء يكون من المالية ومالية(21/213)
ص -101- ... القلب باعتبار وزنه والوزن قائم بعد الانكسار من كل وجه فلا يمكن جعل المرتهن مستوفيا رضي به الراهن أو لم يرض لأن عند تسليم الراهن المكسور للمرتهن لا بد من القبول لأن المرتهن يمتلك المكسور وذلك ليس من حكم ضمان الاستيفاء إذا لم يهلك الرهن لا يملك المرتهن المرهون به ولهذا لو كان عبدا كان كفنه على الراهن وإذا تعذر جعل المرتهن مستوفيا قلنا الراهن ما رضي بقبضه إلا على وجه يصير مستوفيا عند تعذر رده كما قبض فلا يكون راضيا بقبضه بدون هذا الشرط فالقلب في هذه الحال كالمقبوض بغير رضاه وهو المغصوب فيكون مضمونا بقيمته.
ويخير المالك بين أن يشترط المكسور ولا يبيعه بشيء وبين أن يضمنه قيمته ويملك المكسور بضمان القيمة وبهذا تبين أنا لا نثبت ضمانين باعتبار قبض واحد ولكن باعتبار قبضين معناه أحدهما قبض برضا المالك والآخر قبض بغير رضاه وكالواحد منهما يعتبر في حالة أخرى وعلى الرواية الأخرى عند أبي حنيفة لا يضمنه المرتهن شيئا لأن القبض بحكم الرهن يوجب ضمان الاستيفاء فقط والاستيفاء يكون من المالية وهو باعتبار الوزن ولم يفت شيء بالانكسار من الوزن إنما فاتت الصفقة ولا قيمة للصفقة في مال الربا عند المقابلة بجنسها وما لا قيمة له لا يكون مضمونا بحكم الرهن وفواته لا يسقط من الدين ولا يثبت الخيار للراهن كفوات الزيادة إذا لم يتمكن بحدوثها نقصان في الأصل.(21/214)
وأما إذا كانت قيمة القلب أقل من وزنه فهلك فعند أبي حنيفة رحمه الله يصير المرتهن مستوفيا دينه وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن قيمته من خلاف جنسه كيلا يؤدي إلى الربا ولا يسقط شيء من الدين لأنه لا يمكن أن يجعل مستوفيا قدر قيمته من الدين فإن استيفاء العشرة بثمانية ربا ولا يمكن أن يجعل مستوفيا لجميع دينه باعتبار الوزن لأن فيه اعتبار حق المرتهن في الجودة وكما يجب مراعاة حقه في الوزن يجب مراعاة حقه في الجودة ألا ترى أن الراهن لو أراد قضاء دينه بما هو دون حقه في الجودة لا يملك ذلك بغير رضا المرتهن فإذا تعذر جعله مستوفيا يجعل كالمقبوض بغير إذن المالك فيكون مضمونا بالقيمة على القابض إذا هلك وأبو حنيفة يقول ضمان الرهن ضمان استيفاء والاستيفاء يكون بالوزن وفي القلب وفاء بالدين فيجعل مستوفيا كمال حقه على معنى إنه لما قبض الرهن مع علمه بهلاك الرهن يصير مستوفيا دينه باعتبار الوزن فكأنه رضي بدون حقه في الجودة.
وهذه المسألة نظير مسألة الجامع الصغير إذا كان له على غيره عشرة جياد وستوق فهلك في يده ثم علم أن المستوفي كان زيوفا فعند أبي حنيفة رحمه الله يسقط حقه وعند أبي يوسف رحمه الله نضمنه مثل المقبوض ويرجع بحقه ذكر قوله محمد في تلك المسألة كقول أبي حنيفة قال عيسى وهو قوله الأول أما قول الآخر فكقول أبي يوسف رحمه الله على قياس ما ذكره في كتاب الرهن إذ لا فرق بين النصيبين فإن الرهن مقبوض فيكون بمنزلة المقبوض بحقيقة الاستيفاء وهناك المستوفي إذا تعذر رده للهلاك سقط حقه ولا يرجع(21/215)
ص -102- ... بشيء عند أبي حنيفة لمكان الجودة فكذلك في الرهن وعندهما هناك يضمن مثل المستوفي ومقام رد المثل مقام رد العين لمراعاة حقه في الجودة فكذلك في الرهن.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا البناء وهناك عند القبض لو كان عالما بصفة المستوفي سقط حقه عندهم جميعا وهنا عند قبض الرهن هو عالم برداءة المقبوض قلنا: نعم ولكن عند قبض الرهن ما كان يعلم إنه يهلك في يده فيصير مستوفيا به حقه وإنما يتم الاستيفاء هنا عند هلاك الرهن فبمجرد قبض الرهن لا يتم رضاه بسقوط حقه عند الجودة وعندهما بمنزلة ما لو قبضه لاستيفاء حقين ولا يعلم أنه دون حقه في الجودة ولو انكسر القلب هنا ضمنه المرتهن قيمته من خلاف جنسه أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فظاهر وعند محمد حالة الانكسار معتبرة بحالة الهلاك وفي حالة الهلاك عنده في هذا الفصل القلب مضمون بالقيمة دون الدين فكذلك وزيادة القيمة على الدين كزيادة الوزن فيلغى فتكون تلك الزيادة أمانة ويصير مستوفيا كمال حقه بهلاك الرهن.
وذكر بن سماعة أن في قياس قول أبي يوسف يضمنه المرتهن قيمة خمسة أسداس القلب من خلاف جنسه ولا يسقط شيء من الدين لأنه لا يمكن أن يجعل مستوفيا دينه بجميع القلب فإن من أصله أن الجودة لا تفصل عن الأصل في حكم الضمان وفي هذا إبطال حق الراهن عن الجودة فكما يراعى حق المرتهن في الجودة فكذلك يراعى حق الراهن ولا يمكن أن يجعل مستوفيا دينه بما يساوي عشرة من القلب وهو خمسة أسداسه لأن وزن ذلك ثمانية وثلث واستيفاء العشرة بثمانية وثلث يكون ربا فإذا تغير الاستيفاء قلنا يضمن خمسة أسداس القلب من خلاف جنسه ويكون مرهونا بالدين ولكن الأول أصح لما بينا أن زيادة الجودة لا تكون أعلى من زيادة الوزن والمرتهن آمن في تلك الزيادة فهلاكها في يده كهلاكها في يد الراهن.(21/216)
وأما إذا انكسر القلب فعلى قول أبي حنيفة يضمن جميع القلب من خلاف جنسه ومن أصله أن المعتبر هو الوزن والصيغة تبع للوزن وليس للوزن هنا فضل على الدين فكان كله مضمونا بالدين وثبوت الحكم في التبع كثبوته في الأصل فمن ضرورة كون الأصل كله مضمونا أن تكون الجودة كلها مضمونة وحالة الانكسار ليست بحالة استيفاء الدين عنده فيكون ضامنا جميع القيمة من خلاف جنسه كما في المغصوب وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله مثل هذه فأما ظاهر المذهب عند أبي يوسف فهو أن المرتهن يضمن قيمة خمسة أسداس القلب ويصير مملوكا له بالضمان وإنما نهى عنه للتحرز عن الشيوع في الرهنوقد بينا أن الشيوع الطارئ في ظاهر الرواية كالشيوع المقارن وهذا لأن من أصل أبي يوسف أن(21/217)
ص -103- ... الضمان والأمان تبع في الوزن والجودة لأن الجودة والصنعة لها حكم المالية مع الأصل ولهذا يعتبر من القلب في القلب الموصى به.
ولو باع الوصي قلب اليتيم بمثل وزنه لا يجوز ويجعل محاباته بالجودة والصنعة كمحاباته بالوزن وكذلك في القلب المغصوب باعتبار فوات الصنعة والجودة يصير الغاصب ضامنا وإذا تقرر هذا قلنا خمسة أسداس القلب تصير مضمونة بجودته وصنعته وسدسه أمانة فالتغير بالانكسار فيما هو أمانة لا يعتبر فيما هو مضمون معتبر وحالة الانكسار ليست بحالة الاستيفاء عنده فيضمن قيمة خمسة أسداس من خلاف جنسه لهذه وأما عند محمد أن انتقص بالانكسار من قيمته درهم أو درهمان لجبر الراهن على الفكاك بقضاء جميع الدين لأن من أصله أن الضمان في الوزن والأمانة في الجودة والصنعة باعتبار أن الجودة والصنعة تابعة للوزن وأن الأمانة في المرهون كذلك فيجعل الأصل بمقابلة الأصل والتبع بمقابلة التبع وهذه لأن الصنعة مال من وجه كما قرره أبو يوسف أنها مال تبعا للأصل ولكن ليس لها حكم المالية والتقوم منفردة عن الأصل كما أن حكم الرهن فيما هو أمانة ثابت من وجه وهو الحبس بالدين وليس بثابت في حكم الضمان فإذا كانت الأمانة هنا في الصنعة والجودة قلنا إذا لم تنقص بالانكسار أكثر من درهمين فالثابت ما كان أمانة فيجبر الراهن على الفكاك وإن انتقص أكثر من ذلك فقد فات شيء من المضمون وحالة الانكسار عند محمد معتبرة بحالة الهلاك وفي هذا الفصل عند الهلاك يصير مستوفيا دينه فكذلك عند الانكسار يكون مضمونا بالدين ويتخير الراهن كما بينا وسوى هذا فصلان آخر أن ينقسم الواحد منهما على عشرة أوجه وقد بينا ذلك فيما أنشأه من شرح الزيادات ولم يذكر محمد معناهما في هذا الباب فهذا لم يذكره هنا.(21/218)
ولو ارتهن إبريق فضة قيمته مائة درهم بعشرة دراهم فانكسر عنده فهو ضامنه بعشر قيمته مصوغا من الذهب كما قال في الكتاب والصحيح إنه يتخير بين أن يضمنه بعشر من جنسه أو من خلاف جنسه لأنه لا يؤدي إلى الربا فالقيمة مثل الوزن وقيل يؤول ما ذكر أن قيمته بدون الصنعة دون الوزن وهو إنما يملك بالضمان عشر المكسور فيضمنه من خلاف جنسه كيلا يؤدي إلى الربا وإذا ملك عشر الإبريق فالضمان بمعنى ذلك القدر للتحرز عن البيع ويكون تسعة أعشاره مع الذهب الذي عزله رهنا بالدين وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقد ذكر في نسخ بن حفص أنه قول أبي يوسف فأما عند محمد فالراهن يجعل عشر المكسور للمرتهن بعينه ويرد تسعة أعشاره لأنه يعتبر حالة الانكسار بحالة الهلاك ولو هلك في هذه المسألة كان المرتهن مستوفيا دينه بعشر الإبريق وهذا مثله.
ولو ارتهن قلب فضة فيه عشرة دراهم بدرهم فكسر رجل القلب عنده ضمن قيمته من الذهب وكان رهنا والقلب له لأن المرهون فات إلى بدل فيقوم البدل مقام الأصل ويبقى باعتباره جميع الدين فإن أبى الراهن والمرتهن أن يدفع إليه القلب ورضيا أن يكون رهنا على(21/219)
ص -104- ... حاله وهو مكسور فهو رهن ولا ضمان على ذلك الرجل لما بينا أن الفائت بالكسر الصنعة وهي لا تتقوم منفردة عن الأصل وكما لا يتقوم على الكاسر لوجود الرضا من الراهن به حين الانكسار فكذلك لا يقوم على المرتهن في الكتاب ذكرا بأيهما جميعا والمعتبر إباء الراهن خاصة.
ولو ارتهن عشرة دراهم بيضا صرفا بعشرة سود فهلكت فهي بالسود لأن الفصل في هذا الباب بالرهن إذ في الوزن والجودة وفاء بحق المرتهن وزيادة فيجعل عند الهلاك مستوفيا لدينه والزيادة أمانة ولو ارتهن قلب فضة جيدة بيضاء فيه عشرة دراهم بعشرة دراهم فضة سوداء فهلكت فالمرتهن مستوف لجميع دينه بالهلاك ولو انكسر ضمن المرتهن قيمته مصوغا من الراهن وكان رهنا فالدين والقلب له عند أبي حنيفة وعند محمد رحمهم الله يخير الرهن بين أن يفتك المكسور بقضاء جميع الدين وبين أن يسلمه للمرتهن بالدين وفي قول أبي يوسف للراهن أن يضمن المرتهن من القلب ذهبا بقدر قيمة فضة المرتهن السوداء ويكون ما بقي من القلب للراهن يقسم ذلك فيجمع مع الذهب الذي ضمنه المرتهن فيكون رهنا وهذه وما ذكرنا قبله في الوجه الثالث إذا انكسر القلب في التخريج سواء.(21/220)
ولو ارتهن قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار فانكسر وقيمته والدينار سواء فإن المرتهن يقوم قيمته من الذهب فيكون رهنا بالدينار والقلب له لأنه في وزن القلب فضل على مالية الدين وحالة الانكسار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله حال ضمان القيمة فيكون ضامنا قيمته عندهما ولو هلك هو بما فيه لأن الدينار مقوم بالعشرة ففي ماليته وفاء بالدين عند الهلاك فيصير مستوفيا دينه وعند محمد في حال الانكسار أخص الراهن بالخيار إن شاء أخذ القلب مكسورا وأعطاه الدينار وإن شاء جعل الفضة له بالدينار اعتبارا بهذا الحال بحال الهلاك ولو ارتهن قلب فضة فيه خمسون درهما بكر حنطة سلم أو قرض وقيمته والدين سواء فإن هلك ذهب فيما فيه وإن انكسر فهو على ما وصفت لك معناه إن عند أبي يوسف يكون ضامنا جميع قيمته من خلاف جنسه وعند محمد يخير بين أن يجعله للمرتهن بدينه وبين أن يفتكه بقضاء جميع الدين.
ولو ارتهن خاتم فضة فيه من الفضة وزن درهم وفيه فص يساوي تسعة دراهم بعشرة فهلك فهو بما فيه لأن فيما بقي وفاء بالدين ولو ارتهن سيفا محلى قيمة السيف خمسون درهما ونصله خمسون بمائة درهم فهلكت فهو كالخاتم وإن انكسر الفص والحلية بطل من الدين بحساب نقصان النصل لأن النصل ليس بمال الربا فالنقصان في عينه يسقط من الدين بقدره وأما الفضة فمن مال الربا فالجواب فيه كالجواب في مسألة القلب عند الانكسار وفي الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله ولو ارتهن كر حنطة جيدة بكر رديء فهلك فهو بما فيه وإن أصابه ما يفسده فعلى المرتهن كر مثله لأن الفساد في الحنطة كالانكسار في القلب إلا أن الحنطة مضمونة بالمثل والقلب بالقيمة وعند محمد إن شاء الراهن(21/221)
ص -105- ... سلمه للمرتهن بالدين وإن شاء أخذه معيبا وأعطاه دينه اعتبارا لحالة الفساد بحال الهلاك ولو كان الرهن كرا رديئا والدين كرا جيد فهلك فهو بما فيه عند أبي يوسف لأن في القدر وفاء بالدين والمعتبر القدر عنده وعندهما جميعا وهو نظير ما سبق من رهن القلب الرديء والعشرة السود بالعشرة البيض.
ولو رهن قلب فضة بعشرة دراهم وقال إن جئتك بالعشرة إلى شهر وإلا فهو بيع لك بالعشرة فالرهن جائز والشرط باطل لأن البيع لا يحتمل التعليق بالشرط وقد بينا في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم :"لا يغلق الرهن" إن المراد هذا وإذا كان الحكم في سائر الأعيان المرهونة هذا ففي القلب أولى لأن البيع يدخله معنى الصرف هنا وإذا أعطى رجل رجلا قلب فضة فقال ارهنه لي عند رجل بعشرة دراهم وفي القلب عشرون فأمسكه الوكيل عنده وأعطاه عشرة دراهم وقال رهنته لك كما أمرتني ولم يقل رهنته عند أحد فهلك القلب عنده فإن تصادقا بالذي كان رجع بالعشرة وكان مؤتمنا في القلب لأنه لم يخالف فإن قبضه ففضل المقبوض في يده أمانة وهو كفيل على حفظه إلى أن هلك فهلك أمانة ويرجع بدينه ولا يكون هو بما صنع عاقدا عقد الرهن في القلب مع نفسه فيكون رهنا لا راهنا فلهذا لا يصير مستوفيا دينه بهلاك القلب وإن تجاحدا فقال الآمر قد أقررت لي إنك رهنته فلا شيء لك على فهو كما قال لأن القابض قد أقر بالرهن ومن حكمه بإقراره أنه لا يجب على صاحب القلب شيء من العشرة بعد هلاك القلب والمقر بواحد بحكم إقراره ولكن يحلف صاحب القلب بالله ما يعلمه أمسكه لأنه لو صدق في ذلك لرهنه إذا بعشرة فيحلف عند التكذيب لرجاء نكوله ولكنه يحلف على فعل الغير فيكون على الفعل.
فإن قيل: الاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة ولم تصح الدعوى من المقر للتناقض فكيف يحلف الخصم؟.(21/222)
قلنا: موضوع المسألة أنه قال رهنته ولم يقل رهنته عند أحد فكان توفيقه بين الكلامين صحيحا إني رهنته عند نفسي ظنا منه أن ذلك صحيح وإذا تقدم التناقض بهذا التوقيف توجهت اليمين على الخصم وإن قال الآخر قد أقررت أنك رهنته ثم زعمت إنك لم تفعل فأنت ضامن للقلب فله أن يضمنه قيمة القلب مصوغا من الذهب ويرجع بالعشرة قال عيسى هذا غلط ولا معنى لإيجاب ضمان القيمة على الوكيل لأنه إن كان رهنه فليس عليه ضمان القيمة أيضا وليس هنا حالة ثالثة فبأي طريق يكون الوكيل ضامنا للقيمة وهذا نظير الظن الذي ذكرناه في كتاب الوديعة إذا ادعى المودع الهلاك ثم ادعى الرد.
ووجه ظاهر الرواية: أنه من حيث الظاهر قد تناقض كلامه ومع التناقض لا يقبل قوله فكأنه ساكت حابس للقلب فيضمن قيمته
توضيحه: إنه لما قال رهنته أوجب هذا الكلام إنه لم يبق لك عندي شيء فيجعل جاحدا الأمانة بهذا الطريق ومن نكل أمانة في يده ضمنها فلهذا كان له أن يضمن الوكيل قيمته(21/223)
ص -106- ... ولو ارتهن طوق ذهب فيه مائة وخمسون مثقالا بألف درهم فحال الحول والألف عند الراهن يتجر فيها فلا زكاة فيها على الراهن في رهنه ولا زكاة على المرتهن في الدين الذي له عنده فإذا قبض المال ورد الرهن فعلى المرتهن زكاة الألف لما مضى لوصول يده إليها وقد ذكرنا في كتاب الزكاة أن الزكاة تجب في الدين ولكن لا يجب الأداء إلا بعد القبض وعلى الراهن زكاة الطوق لما مضى لأن وجوب الزكاة في الذهب باعتبار العين إلا أن العين كانت محبوسة عند الحق المرتهن فإذا وصلت يده إليه أدى الزكاة لما مضى وليس عليه في الألف زكاة لأنه كان عليه مثلها دينا والمستغرق بالدين لا يكون نصاب الزكاة.
وإذا ارتهن كرى حنطة رديئة بكر حنطة جيدة وقيمتهما سواء فهلكا عنده فهو بما فيه لأن في مالية الرهن وفاء بالدين وإن أصابه ففسد فإنه يضمن كرا مثل أحدهما ويكون له نصف الكرين جميعا ويرجع على الراهن بدينه في قياس قول أبي حنيفة لأن حالة الفساد ليست بحال استيفاء الدين والمضمون منه المقبوض عند تعذر الدين كيلا فعند الفساد يضمن مثل ذلك القدر ويمكث الفاسد بالضمان مثل ما ضمن ولم يذكر قولهما في هذا الفصل وينبني على قولهما في حالة الهلاك والفساد أن يكون ضامنا مثل أحد الكرين لأنه لا يمكن أن يجعل مستوفيا دينه بالكرين لمعنى الربا ولا يمكن أن يجعل مستوفيا دينه بأحد الكرين لما فيه من أبطال حق المرتهن في الجودة.(21/224)
وإن ارتهن شيئا مما يوزن بشيئين مما يكال أو شيئا مما يكال بشيئين مما يوزن وفيه وفاء فهلك فهو بما فيه لأن معنى الربا لا يتحقق مع اختلاف الجنس وفي مالية الرهن وفاء بالدين وإن أصابه شيء أفسده ضمن المرتهن مثله وكان ذلك له ويرجع بدينه لقول أبي يوسف وقول أبي حنيفة رحمهما الله وفي قول محمد يتخير الراهن بين أن يجعله للمرتهن بدينه وبين أن يسترده بقضاء الدين ولو ارتهن بعشرة دراهم فلوسا تساويها فهلكت فهي بما فيها وإن انكسرت دفعت فيه دينه بحساب ذلك لأن الفلوس الرائجة لا تكون موزونة فإنما رهنها وهي ليست بمال الربا فبالنقصان في عينها سقط من الدين بحساب ذلك وذلك أن تقوم مكسورة وغير مكسورة ثم هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ظاهر لأن بيع فلس بعينه بفلسين بأعيانهما جائز عندهما وإنما الإشكال على قول محمد فإنه لا يجوز ذلك إلا باعتبار أن الفلوس مال الربا على الإطلاق ولكن باعتبار أنها لا تتعين عنده ولا يقابل أحد الفلسين شيئا من العوض وذلك مبطل للعقد في أموال الربا وغيرها ولو لم تنكسر ولكنها كسرت فهي رهن على حالها فإن هلكت ذهبت بالعشرة لأن كسادها بمنزلة تغير السعر وقد بينا أن تغير السعر في المرهون غير معتبر في سقوط الدين وضمان الرهن بالقبض كضمان الغصب ولو رد الفلوس المغصوبة بعينها بعد ما كسدت لم يلزمه شيء آخر وجعل الكساد بمنزلة تغير السعر هناك فكذلك في الرهن.
ولو ارتهن طستا أو تورا أو كوزا بدرهم أو أكثر من ذلك وفي الرهن وفاء وفضل فإن(21/225)
ص -107- ... هلك فهو بما فيه وإن انكسر فما كان فيه لا يوزن ذهب من الدين بحساب النقصان وما كان منه يوزن فإن شاء الراهن أخذه وأعطاه الدين وإن شاء ضمن قيمته مصوغا من الذهب وكان ذلك للمرتهن وأخذ الراهن القيمة وأعطاه دينه في قول أبي يوسف قال الحاكم ورأيت في رواية أبي حفص وهو قول أبي حنيفة مكان قول أبي يوسف رحمهما الله وهذا صحيح على أصل أبي حنيفة أما عند أبي يوسف فإنما يستقيم هذا الجواب على رواية سوى ما على ظاهر الرواية عند أبي يوسف ينبغي أن يضمن من قيمته بقدر الدرهم منه وكذلك نصل السيف والشيء من الحديد والصفر يكون مصوغا لا يباع وزنا بوزن كما يتبادر وما كان من ذلك يباع وزنا لم يذهب من الدين باعتباره شيء ولكن إن كان هو والدين سواء ضمن المرتهن قيمته مصوغا وكان رهنا مكانه وكان ذلك الشيء للمرتهن والدين على حاله في قول أبي يوسف وهنا ذكر قول أبي يوسف في الروايتين جميعا وهو صحيح لما ذكرنا من الزيادة فيه إن كان هو والدين سواء ولا إشكال فيه عند أبي حنيفة.
وإذا ارتهن عند رجل قلب فضة فيه عشرة دراهم على أن يقرضه درهما فهلك الرهن عند المرتهن قبل أن يقرضه فعليه درهم يعطيه إياه لما بينا إن الموعود منه الدين كالمستحق في أنه يصير مستوفيا بهلاك الرهن وكذلك على أن يقرضه شيئا ولم يسمه فهلك فقد صار مستوفيا ذلك الشيء وبيانه إليه فيقال للمرتهن أعطه ما يثبت بمنزلة ما لو أقر له بشيء وكذلك إن قال أمسكه رهنا بنفقة يعطيها إياه وإن قال أمسكه رهنا بدراهم فلا بد من أن يعطيه ثلاثة دراهم لأن أدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة وهو وما لو أقر له بدراهم سواء ولو قال آخذه رهنا بمحتوم حنطة أو محتوم شعير فهلك عنده كان على المرتهن محتوم شعير لأن الأول متيقن به فعند الهلاك يجعل مستوفيا للأول ولذلك لو قال خذه رهنا بدين أراد بدرهم.(21/226)
ولو رهن عند رجل خاتم فضة فيه درهم بنصف درهم فلوس فأعطاه شعيرا بفلس فغلت الفلوس فصارت ثلثين بدرهم ثم هلك الخاتم فهو بما فيه لأن هذا نظير الشعير وهو غير معتبر في حكم الرهن وعند الهلاك إنما يصير مستوفيا باعتبار قيمة الرهن وقت القبض وفي قيمته وقت القبض وفاء بالدين فيصير مستوفيا جميع الدين بهلاكه وكذلك لو كسدت ولم يبق أو رخصت فصارت تسعين بدانق لم يكن عليه إلا تسعون فلسا وإن هلك الخاتم ذهب بما فيه وإن انكسر فإن شاء المرتهن أبطل حقه ودفع به الخاتم مكسورا وإن طلب حقه ضمن نصف قيمة الخاتم مصوغا من الذهب وأخذ نصف الفضة وكان الذهب ونصف الفضة الباقي رهنا بتسعين فلسا لأن نصف الخاتم أمانة ونصفه مضمون فإن الفضة وزن درهم وإنما رهنه بنصف درهم فلوس فعرفنا إن نصف الخاتم مضمون ونصفه أمانة فعند الانكسار يضمن المرتهن قيمة المضمون من الخاتم من الذهب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وفي قول محمد الراهن بالخيار إن شاء أخذه فاسدا وأدى الدين وإن شاء جعل المضمون منه للمرتهن بدينه وأخذ الباقي منه ويبطل قدر الدين اعتبارا لحال الهلاك بحال الانكسار(21/227)
ص -108- ... وذكر الحاكم في المختصر في بيان قول أبي يوسف وإن انكسر فإن شاء الراهن أبطل الرهن وأخذ الخاتم مكسورا وهذا إن صح فمراده أنه يؤخذ مكسورا بقضاء جميع الدين ولا يسقط باعتبار النقصان شيء من الدين بخلاف ما تقدم في الطست والتور لأن مصوغ ذلك ليس من مال الربا فإنه لا يوزن فأما المصوغ من الفضة فمال الربا سواء كان ذلك مما يوزن عادة أو لا يوزن فلا يسقط شيء من الدين باعتبار النقصان المتمكن بالكسر ولكن يلزمه قضاء جميع الدين إذا أراد أخذه والله أعلم.
باب الشهادة في الرهن
قال رحمه الله:وإذا ادعى المرتهن الرهن وقد قبضه وأنكره الراهن فأقام شاهدين فشهد أحدهما أنه رهنه بمائة والآخر إنه رهنه بمائتين فشهادتهما باطلة عند أبي حنيفة لاختلاف الشاهدين في المشهود به من المال لفظا ومعنى فالمائة غير المائتين وبدون ثبوت الدين لا يثبت الرهن وعندهما يثبت المائة إذا كان المدعي يدعي المائتين فتقبل شهادتهما ويقضي بالرهن بالمائة فإن شهد أحدهما بمائة والآخر بمائة وخمسين والمرتهن يدعي مائة وخمسين فالرهن بمائة درهم لاتفاق الشاهدين على المائة لفظا ومعنى والخمسون عطف على المائة في شهادة أحدهما ولو ادعى المرتهن مائة بطلت شهادتهما لا كذاب المدعي أحد الشاهدين وهذا بخلاف البيع فالثمن هناك يجب بالعقد والعقد بمائة غير العقد بمائة وخمسين فلا يمكن القاضي من القضاء بواحد من العقدين وبدون السبب لا يجب المال وهنا الدين كان واجبا قبل عقد الرهن إلا أن يكون وجوبه بالرهن فاختلاف الشاهدين في مقداره لا يمنع القاضي من القضاء بما اتفق عليه لفظا ومعنى عند أبي حنيفة أو معنى عندهما.(21/228)
ولو شهد أحدهما بدنانير والآخر بدراهم كانت شهادتهما باطلة لاختلافهما في جنس المشهود به من الدين فلا بد من أن يدعي أحد المالين فيكون مكذبا شاهده الآخر ولو ادعى الراهن أنه رهنه بمائة وخمسين وهي قيمته وشهد له بذلك شاهد وشهد آخر على مائة وقال المرتهن لي عليه خمسون ومائة وهذا رهن بمائة منها فالقول قول المرتهن لأن المنازعة بينهما في مقدار ما ثبت من يد الاستيفاء للمرتهن بقبض الرهن فيكون ذلك بمنزلة اختلافهما فيما استوفى من الدين فالراهن يدعي زيادة في ذلك والمرتهن ينكر فالقول قول المرتهن ولأنه لو أنكر رهن العين بشيء من الدين كان القول قوله لأن الرهن لا يتعلق به اللزوم في حق المرتهن فكذلك إذا أنكر الرهن ببعض المال فإن أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعى فالبينة بينة الراهن لحاجته إليها وإثباته الزيادة فيما ثبتت فيه يد الاستيفاء.
وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قيمة الرهن بعد هلاكه فالقول قول المرتهن لأن بهلاك الرهن يصير المرتهن مستوفيا بقدر قيمته فحاصل اختلافهما في مقدار ما صار مستوفيا فالراهن يدعي الزيادة والمرتهن ينكر فالقول قول المرتهن مع يمينه والبينة بينة الراهن لإثباته الزيادة بها وكذلك لو كانا ثوبين فهلك أحدهما ثم اختلفا في قيمة الهلاك فحاصل الخلاف(21/229)
ص -109- ... بينهما فيما صار المرتهن مستوفيا بهلاك الثوب الذي هلك عنده وإذا رهن عبدا بألف درهم ثمن متاع باعه إياه فيقبض المتاع إلى أن يدفع إليه الرهن وجحد الراهن فأقام المرتهن بينة أنه باعه على أن يرهنه ذلك العبد فأبى الآخر من دفع العبد لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا البيع بشرط الرهن لم يجبر الراهن على التسليم لأن الرهن لا يتم إلا بالقبض ولا يكون مرهونا غير مقبوض ولكن البائع بالخيار إن شاء أخذ متاعه إلا أن يعطيه الآخر العبد رهنا أو يعطيه مكانه رهنا آخر برضاه لأنه تغير عليه شرط عقده حين لم يعطه ذلك العبد رهنا فثبت له الخيار بين فسخ العقد وإمضائه إلا أن يعطيه ذلك العبد رهنا فحينئذ قد وفى له بالشروط وإن أراد أن يعطيه مكانه رهنا آخر يحتاج إلى رضاه به لأنه إنما رضي بالأول دون الثاني فالثاني لا يقوم مقام الأول إلا برضاهما.(21/230)
ولو لم يجحد الراهن ولكن هلك الرهن في يده أو استحق أو باعه أو أصابه عيب ينقصه فلبائع المتاع أن يأخذ رهنا آخر أو دراهم أو دنانير قيمة ذلك فله ذلك أو يأخذ متاعه لأن قيمة الشيء عند تعذر تسليم عينه يقوم مقام العين فكان منع الراهن القيمة بعد هلاك العين كمنع العين في حال قيامه فلأجله تخير البائع وإن كان الراهن قد استهلك المبيع أخذ البائع ثمنه حالا أو يعطيه قيمة الرهن دراهم أو دنانير مكانه رهنا لأنه تعذر استرداد المبيع حين استهلكه المشتري والثمن حال فيطالبه بالثمن حالا أو يعطيه قيمة الرهن لأن القيمة خلف عن العين عند تعذر تسليم العين والحاصل أن الراهن إذا أراد أن يعطيه عينا آخر يحتاج فيه إلى رضا البائع وهو نظير المغصوب بعد ما هلك إذا أراد الغاصب أن يعطيه عينا أخرى يحتاج إلى رضا البائع لأن العين الثانية لا تقوم مقام الأولى إلا بتراضيهما وإذا أراد أن يعطيه القيمة فالقيمة قائمة مقام العين فلا حاجة فيه إلى رضا البائع وهو نظير المغصوب بعد ما هلك إذا أراد الغاصب أن يعطيه عينا أخرى يحتاج إلى رضا المغصوب منه وإذا أعطاه قيمة المغصوب فليس له أن يأبى ذلك ويطلبه بشيء آخر.(21/231)
وإذا ادعى العين الواحدة رجلان كل واحد منهما يقول لذي اليد قد بعتني بألف درهم وقبضت منك ويقيم البينة ففي القياس لا يقضي لواحد منهما بشيء لأنه لو قضى بالبينتين إنما يقضي لكل واحد منهما بالرهن بنصف وذلك ينعقد لمكان الشيوع ولم يذكر الاستحسان هنا إنما ذكره بعد هذا على ما بينه وإن أقام أحدهما البينة إنه الأول أو ثبتت بينة كل واحد منهما فهو رهن لا ولهما وقتا لأنه أثبت حقه بعقد تام في وقت لا ينازعه فيه صاحبه وبثبوت حقه في ذلك الوقت يمنع ثبوت حق الثاني بعده ما لم يسقط حق الأول بانفكاك وإن كان في يد أحدهما فهو أولى به لأن تمكنه من القبض دليل سبق عقده ولأن الآخر يحتاج إلى إثبات استحقاق اليد عليه وليس في بينته ما يوجب ذلك لجواز أن يكون عقد ذي اليد سابقا وذو اليد لا يحتاج إلى إثبات استحقاق اليد على صاحبه لأن ذلك ثابت له بظاهر يده فكان ذو اليد أولى إلا أن يقيم الآخر بينة أنه الأول فحينئذ شهوده صرحوا بسبق تاريخ عقده وبما يوجب(21/232)
ص -110- ... استحقاق اليد له على يد ذي اليد والتاريخ المنصوص عليه يترجح على التاريخ المدلول عليه فإن كانت يدهما جميعا فإن علم الأول منهما فهو له وإن لم تعلم الأولى لم يكن رهنا لواحد منهما في القياس وبه يأخذ وفي الاستحسان لكل واحد منهما نصفه رهنا بنصف حقه لأن التعارض لما وقع بين البينتين والعمل بهما ممكن وجب العمل بهما بحسب الإمكان.
ألا ترى أن في البيع عند التعارض يعمل بالبيعين جميعا بحسب الإمكان ويجعل كأنه باع منهما جميعا فكذلك في الرهن يجعل كأنه رهن منهما جميعا ورهن العين من رجلين صحيح على أن يكون مضمونا بدين كل واحد منهما ووجه القياس إن عند التعارض والتساوي إنما يقضي لكل واحد منهما بالنصف كما في البيع وذلك غير ممكن هنا لأجل الشيوع وقد بينا أن العين في حكم الرهن بمنزلة المرأة في حكم النكاح لا يحتمل التجزي وعند استواء البينتين في دعوى النكاح على امرأة واحدة لا يقضي بشيء فهذا مثله وإنما أخذنا بالقياس هنا لأن وجه الاستحسان أضعف ووجه القياس أقوى فإن هذا ليس في معنى الرهن من رجلين لأن هناك كل واحد منهما ثبت حقه في جميع الرهن حتى إذا قبض جميع دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن ما لم يقبض دين الآخر لوجود الرضا من كل واحد منهما بثبوت حق صاحبه في الحبس معه وهنا لا يمكن القضاء بذلك لأن كل واحد منهما غير راهن بحق صاحبه ولأن هناك العقد في جانب الراهن واحد وهنا كل واحد منهما يثبت ببينته عقدا آخر والرهن من رجلين بعقدين مختلفين أو بينتين متفرقتين لا يجوز كما لو قال رهنت هذه العين منكما بألف نصفه منك بخمسمائة ونصفه منك بخمسمائة فقد ذكر الاستحسان فيما إذا كان الرهن في أيديهما ولم يذكر فيما إذا كانت العين في يد الراهن والأصح إن القياس والاستحسان منهما وقد تكلف بعض مشايخنا رحمهم الله فقالوا هناك لا يقضي قياسا واستحسانا لأنه لو قضى لم يتمكن كل واحد منهما إلا من قبض النصف وقبض النصف بحكم الرهن(21/233)
مشاعا لا يجوز وهنا العين في أيديهما فيمكن أن يجعل ذلك بمنزلة رهن العين من رجلين.
ولو مات الراهن وعليه دين والرهن في أيديهما وكل واحد منهما يقيم البينة أنه ارتهنه كان لكل واحد منهما نصفه ونصف حقه يباع له فإن فضل عن نصيب كل واحد منهما شيء كان الفضل بين الغرماء بالتخصيص وإن بقي من دين كل واحد منهما شيء ضرب كل واحد منهما بالدين فيما بقي له من الغرماء في التركة وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله استحسانا وقال أبو يوسف الرهن باطل وهو بين الغرماء بالتخصيص فأبو يوسف أخذ بالقياس وسوى بين ما بعد وفاة الراهن وحال حياته باعتبار المعنى الذي قلنا إن القاضي لا يتمكن من القضاء لكل واحد منهما بالرهن إلا في النصف والشيوع لما كان يمنع صحة الرهن في حياة الراهن فكذلك بعد وفاته وهما فرقا لمعنيين أحدهما إن المقصود بعد موت الراهن إثبات الاختصاص دون الجنس وكل واحد منهما أثبت لنفسه حق الاختصاص بالعين حتى يباع له في دينه وهذا مما يحتمل الشركة في العين وهو نظير ما لو ادعى رجلان نكاح امرأة(21/234)
ص -111- ... بعد موتها وأقام كل واحد منهما البينة فيقضي لكل واحد منهما بنصف ميراث الزوج بخلاف حال الحياة.
وكذلك لو ادعى أختان نكاح رجل بعد موته وأقامتا البينة يقضي لكل واحدة منهما بالميراث وبنصف ميراث بخلاف حال الحياة ولأن الشيوع يمنع استحقاق دوام اليد واليد في حال حياة الراهن مستدامة للمرتهن فتمكن الشيوع يمنع القاضي من القضاء به فأما بعد موته فلا يستدام حبس الرهن ولكنه يباع في الدين والشيوع لا يمنع من ذلك فيقضي لكل واحد منهما ببيع النصف في دينه ولو كان الرهن في يد أحدهما وأقام كل واحد منهما البينة إنه ارتهنه من رجل آخر فهو للذي في يديه لأن الخارج يحتاج إلى إثبات الملك لراهنه أولا وذو اليد قد أثبت إنه مرتهن فلا يكون خصما في إثبات الملك عليه للراهن الخارج وهو لو حضر بنفسه لا يقبل دينه وما لم يثبت الملك له لا يثبت الرهن من جهته ولأنه يحتاج إلى إثبات الدين أولا على راهنه حتى يثبت حقه فيستحق العين على ذي اليد بحكم الرهن وذو اليد ليس بخصم عن رهن الخارج في إثبات الدين عليه.(21/235)
وكذلك إن كان وقت المرتهن الخارج أولا لهذين العينين إنه ما لم يثبت ملك راهنه ودينه على الراهن لما ثبت حقه وإن شهد شهوده بسبق التاريخ فإذا لم يستحقوا بقيت العين في يد ذي اليد فيكون القول قوله في بيان حقه وهو لذي يده وفي البيع بهذه الصورة بينة الخارج أولى لأن كل واحد من المشتريين خصم عن بائعه في إثبات الملك له فكان البائعين حضرا أو أقاما البينة على الملك وأحدهما خارج والآخر ذو اليد وفي هذا بينة الخارج أولى وكذلك لو أقام كل واحد منهما البينة إنه متاع فلان الآخر وإنه ارتهنه منه بكذا وقبضه فهو أيضا رهن للذي في يديه ولا يقبل من الآخر بينة إذا كان صاحبه غائبا لأن القضاء يكون على غائب ليس عنه خصم حاضر وقيل معنى هذه قضي على راهن ذي اليد بالملك وهو غائب والمرتهن لا يكون خصما عنه في القضاء بالملك عليه وكل واحد من المعنيين صحيح يقول فإن كان صاحبه شاهدا يعني راهن الخارج وصاحب الآخر غائبا لم أقض بينهما حتى يحضر راهن هذا لأن ذا اليد أثبت ببينته أنه مرتهن فلا يكون خصما لراهن الخارج في إثبات الملك عليه ما لم يحضر راهن ذي اليد فإذا حضر قضيت به للمدعي الذي ليس في يديه وجعلته رهنا له ولا أنظر في هذا إلى الأول والآخر لأن بعد حضورهما الدعوى دعوى الملك وبينة الخارج عنه تترجح على بينة ذي اليد وبالتاريخ في الرهن لا يثبت التاريخ بينهما في الملك فلهذا كانت بينة الخارج أولى.
وإذا كان عبد في يد رجل فادعى آخر أنه عبده رهنه من فلان بألف درهم وقبضه فلان منه وفلان غائب والذي في يديه يقول هو عبدي فإنه يقضي به للمدعي لأنه أثبت الملك لنفسه على من يدعي إن العين ملكه وهو خصم في إثبات الملك لنفسه وإن زعم إنه مرهون عند غيره لأن الراهن ينتفع بإثبات الملك لنفسه في العين حتى يصير قاضيا دينه بهلاك الرهن(21/236)
ص -112- ... عند ظهور عقد الرهن ولكن لا تسلم العين إليه لأنه مقر بأن اليد مستحقة عليه في هذه العين لغائب بحكم الرهن وإقراره حجة عليه فينبغي للقاضي أن ينظر للغائب وذلك بأن يضعه على يدي عدل حتى يحضر الغائب قبضه بالدين أو يكذبه كما يفعل ذلك في سائر أمواله التي ليس لها حافظ يتعين.
ولو غاب الراهن وقال المرتهن هو رهن في يدي من قبل فلان بكذا وإن هذا غصبه مني أو استعاره أو استأجره وأقام على ذلك بينة فإني أدفعه إليه لأن المرتهن لا يكون دون المودع والمودع خصم للغائب منه في إقامة البينة للاسترداد فالمرتهن بذلك أولى لأن بينته أثبتت استحقاق اليد له في هذه العين.
فإن قيل: كيف يقضي له بحقه وهو محتاج لإثبات الدين على راهنه أولا وذو اليد ليس بخصم عن راهنه في ذلك؟.
قلنا: لا يقضي له بالرهن وإنما يقضي بأن وصوله إلى يد ذي اليد كان من يده بجهة الغصب أو الإجارة أو الإعارة كما لو شهد به شهوده وذو اليد خصم له في ذلك.
ألا ترى أن شهود المدعي لو شهدوا أن ذا اليد أخذ منه هذا المال لأمر بالرد عليه وإن لم يشهدوا بالملك للمدعي فكذلك هنا.
وإذا اختلف الراهن والمرتهن في عين الراهن وأقاما البينة فالبينة بينة المرتهن لأنه هو المدعي المحتاج إلى إثبات حقه بالبينة في العين التي ادعاها والراهن منكر لذلك ثم الإلزام في بينته دون بينة الراهن لأن الرهن لا يتعلق به اللزوم في جانب المرتهن وهو متمكن من الرد متى شاء فالعين التي أثبت الراهن بينة الرهن منها قد انتفى ذلك بجحود المرتهن فإن جحوده أقوى من رده وتبقى دعوى المرتهن حقه في العين الأخرى وقد أثبته بالبينة وهو لازم في جانب الراهن وإن كان الشيئان اللذان اختلفا فيهما قد هلكا في يد المرتهن فالبينة بينة الراهن لأن المرتهن صار مستوفيا دينه بهلاك الرهن فالراهن هو المدعي للزيادة فيما أوفى وقد أثبته بالبينة.(21/237)
ولو قال المرتهن: ارتهنتهما جميعا وقال الراهن بل رهنتني هذا وحده وأقاما البينة فالبينة بينة المرتهن لأنها أثبتت الزيادة في حقه وإذا قال المرتهن رهنتني هذا العبد بألف درهم وقبضته منك ولي عليك سوى ذلك مائتا دينار لم تعطني بها رهنا وقال الراهن غصبتني هذا العبد ولك على ألف درهم بغير رهن وقد رهنتك بالمائتي الدينار أمة يقال لها فلانة وقبضتها مني وقال المرتهن لم أرتهن منك فلانة أمتك والعبد والأمة بقيا في يدي المرتهن فإنه يحلف الراهن على دعوى المرتهن لأن عقد الرهن معلق به اللزوم في جانب الراهن فالمرتهن يدعي عليه حقا لنفسه لو أقر به يلزمه فإذا أنكر يستحلف فإن حلف يبطل الرهن في العبد وإن نكل عن اليمين كان العبد رهنا بألف وأما المرتهن فلا يحلف في الأمة بشيء ولكنها ترد على الراهن لأن عقد الرهن لا يكون لازما في جانب المرتهن فجحوده(21/238)
ص -113- ... الرهن في الأمة بمنزلة رده إياها وله أن يردها على الراهن وإن كانت مرهونة عنده فالاستحسان لا يكون مفيدا فيها وإن قامت البينة لهما أثبتت بينة المرتهن لأنها ملزمة للراهن وبينة الراهن لا تلزم المرتهن شيئا في الأمة فلا معنى للقضاء بها إلا أن تكون الأمة قد ماتت في يدي المرتهن فحينئذ يقضي ببينة الراهن أيضا لأنه أثبت أن المرتهن صار مستوفيا المائتي الدينار بهلاك الأمة في يده وذلك يلزمه في حق المرتهن.
وإذا أقام الراهن البينة أنه رهن هذا الرجل عبدا يساوي ألفين بألف وقبضه منه وأنكر المرتهن ذلك ولا يدري ما فعل العبد فالمرتهن ضامن لقيمة العبد كلها لأن الراهن أثبت ببينته إنه يسلم العبد إليه بحكم الرهن والمرتهن منكر لذلك وبحكم الرهن يقدر الدين من العين مضمونا عليه وما زاد على ذلك أمانة في يده والأمين يضمن الأمانة بالجحود فإذا جحد المرتهن ذلك فهو ضامن لقيمتها كلها لأن ما لا يتوصل إلى عينه يجعل في حكم الهالك ولو أقر المرتهن ولم يجحد وادعى أن العبد مات عنده لم يضمن شيئا وذهب العبد بما فيه لإقرار الراهن أنه كان مرهونا عنده والرهن إذا هلك فهو بما فيه والمرتهن أمين في الزيادة وهو مقبول القول فيما يخبر به من موته في يده وإذا أقام الراهن البينة على المرتهن إنه رهنه رهنا وقبضه ولم يسمه الشهود ولم يعاينوه فإنه يسأل المرتهن عن الرهن والقول فيما يسمى من ذلك قوله مع يمينه لأن الثابت بالبينة في حقه كالثابت بإقراره.(21/239)
ولو أقر أنه ارتهن منه رهنا ثم قال هو هذا الثوب كان القول قوله في ذلك مع يمينه أن ادعى الراهن زيادة فكذلك إذا أثبت ذلك بالبينة ولو شهد شهود الراهن إنه رهن عند هذا المرتهن ثوبا هرويا بمائة وهو يساوي خمسين وجحده المرتهن ولا يدري ما فعل بالثوب فهو ضامن لقيمته يحسب له ذلك من دينه لأن ما لا يتوصل إلى عينه فهو هالك وإن لم يجحده ولكن جاء بثوب يساوي عشرين درهما فقال هو هذا لم يصدق لأنه ثبت بالبينة إن المرهون ثوب يساوي خمسين والذي أحضره ليس بتلك الصفة فالظاهر يكذبه فيما قال فلا يقبل بيانه إذا جحد الراهن ذلك بخلاف الأول وإذا لم يقبل بيانه بقي المرهون هالكا في يده لأنه لا يتوصل إلى عينه فيطرح منه خمسون درهما وإذا كان الراهن اثنين فادعى المرتهن عليهما رهنا وأقام البينة على أحدهما إنه رهنه وقبضه والمتاع لهما جميعا وهما يجحدان الرهن فإنه يستحلف الذي لم يقم عليه البينة ما رهنه لأنه لو لم يقم البينة على واحد منهما توجهت اليمين عليهما فكذلك إذا لم يقم البينة على أحدهما وهذا لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر استحلف عليه فإن نكل ثبت الرهن عليهما على أحدهما بالبينة وعلى الآخر بالنكول القائم مقام إقراره فإن حلف رد الرهن عليهما لأن في نصيب الذي حلف انتفى الرهن من الأصل فلا يمكن القضاء في نصيب الآخر لأن نصيبه نصف شائع من العين .
ولو كان الراهن واحدا والمرتهن اثنين فقال أحدهما ارتهنت أنا وصاحبي هذا الثوب منك بمائة وأقام له البينة وأنكر المرتهن الآخر وقال لم نرتهنه وقد قبضا الثوب فجحد(21/240)
ص -114- ... الراهن الرهن فإن الرهن يرد على الراهن في قول أبي يوسف وقال محمد أقضي به رهنا وأجعله في يد المرتهن الذي أقام البينة أو على يدي عدل فإذا قضى الراهن المرتهن الذي أقام البينة ماله أخذ الرهن فإن هلك الرهن ذهب نصيب الذي أقام البينة من المال فأما نصيب الآخر في الرهن فلا يثبت بالاتفاق لأنه أكذب شهوده بجحوده ثم قال أبو يوسف لما انتفى الرهن في نصيب الجاحد انتفى في نصيب المدعي أيضا لأجل الشيوع كما في الفصل الأول وهذا لأنه لا يمكن القضاء بجميعه رهنا للذي أقام البينة بدليل أنه لا يترك في يده وحده وإن بهلاكه لا يسقط جميع دينه ولا يمكن القضاء له بالرهن في نصفه لأجل الشيوع ومحمد يقول هو قد أثبت ببينته الرهن في جميع العين وهو خصم في ذلك لأنه لا يتوصل إلى إثبات حقه في نصيبه إلا بإثبات الرهن على الراهن وعلى المرتهن الآخر فعرفنا إنه خصم في ذلك كله فيقضي بالرهن في جميع حق الآخر وبجحوده صار رادا للرهن في نصيبه وهو متمكن من ذلك ولكن لا يتمكن من إبطال حق الآخر في نصيبه فلا يجوز إعادة شيء منه إلى الراهن لأن فيه إبطال حق المرتهن المدعي ولا يمكن إلزام الجاحد إمساكه مع رده بجحوده ويتعذر جعل الفضل في يد المرتهن المدعي لإقراره بأن الراهن لم يرض بذلك فيجعل على يده وعلى يد عدل حتى يستوفي هو دينه فإذا سقط حقه ردت العين على الراهن وإن هلك الرهن ذهب نصيبه من المال بخلاف الأول فهناك الشهود ما شهدوا بالرهن إلا على أحد المالين فلا يمكن القضاء بالرهن على المالين بحكم تلك البينة فلهذا إذا حلف المنكر رد الرهن عليهما وإذا أقام رجل البينة أنه استودع ذا اليد هذا الثوب وأقام ذو اليد البينة أنه ارتهنه منهما فإنه يؤخذ ببينة المرتهن لإثباته حقا لازما لنفسه ببينة أو يجعل كان الأمرين كانا ويجوز أن يكون الثوب أولا وديعة عنده ثم يرهنه منه.(21/241)
ولو كان الراهن أقام بينة أنه باعه إياه وأقام المرتهن البينة على الراهن جعلته بيعا لأن البيع يرد على الرهن والرهن لا يرد على البيع ولأن البيع يوجب الملك في البدلية والرهن لا يوجب ذلك فكان في بينة البيع زيادة إثبات ولو ادعى الراهن الرهن وأقام البينة وادعى المرتهن إنه وهبه له وقبضه أخذت ببينة الهبة لأن الهبة ترد على الرهن والرهن لا يرد على الهبة ولأن الهبة توجب الملك في العين والرهن لا يوجب ذلك ولو ادعى رجل الشراء والقبض وآخر الرهن والقبض وأقام كل واحد منهما البينة وهو في يدي الراهن أخذت ببينة المشتري لما فيها من الزيادة وهو إثبات اليد في البدلين ولأنه لا يكون الشراء دون الرهن لا محالة فلا بد من القضاء بالشراء في النصف ولا يمكنه القضاء مع ذلك بالرهن في النصف الآخر لأجل الشيوع فلهذا قضى ببينة المشتري بالكل إلا أن يعلم أن الرهن كان قبله ولو كان في يدي المرتهن جعلته رهنا إلا أن يقيم صاحب الشراء البينة إن الشراء كان أولا لأن قبض المرتهن دليل سبق عقده ولأن صاحب الشراء يحتاج إلى استحقاق اليد على ذي اليد وبينته لا توجب ذلك(21/242)
ص -115- ... ولو كان في يد الراهن فادعى المرتهن الرهن والهبة فالصدقة لا تتم إلا بالقبض ثم الرهن عقد ضمان والهبة والصدقة عقد تبرع وعقد الضمان أقوى من عقد التبرع فكان صاحب الرهن أولى إلا أن يقيم الآخر البينة إن القبض بعلم البينة والصدقة كانت منه قبل الرهن وإذا استودع رجلا ثوبا ثم رهنه إياه فهلك قبل أن يقبض المرتهن الرهن فهو فيه مؤتمن لأن يد المودع كيد المودع فما لم يقبضه المرتهن لا يثبت حكم يد الرهن له ولأن اليد بحكم الوديعة دون اليد بحكم الرهن وإلا ضعف لا ينوب عن الأقوى فإذا لم يصر قابضا له بحكم الرهن بقي مؤتمنا فيه والقول فيه قوله بغير بينة لأنه ينكر القبض بحكم الرهن فإن أقام الراهن البينة إنه قبضه بالرهن وهلك بعد ذلك وأقام المرتهن البينة إنه هلك عنده بالوديعة قبل أن يقبضه للرهن فإنه يؤخذ ببينة الراهن لأنه يثبت إيفاء الدين ولأن المودع ببينة يبقى قبضه بحكم الرهن ولا يثبت شيئا والبينات للإثبات دون النفي.(21/243)
وإذا اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن هلك في يدك وقال المرتهن بل قبضته أنت مني بعد الرهن فهلك في يدك فالقول قول الراهن لأن المرتهن يدعي عليه استردادا عارضا وهو ينكر والبينة أيضا بينة الراهن لأنه يثبت إيفاء الدين ببينة والعمل بالبينتين ممكن فمن الجائز إنه استرده منه ثم رده عليه فهلك في يده وإن قال المرتهن هلك في يد الراهن قبل أن أقبضه فالقول قوله لإنكار القبض والبينة بينة الراهن لإثباته إيفاء الدين ببينة وإن قال المرتهن ارتهنته بمائة وقال الراهن بمائتين وقد قبضته فالقول قول المرتهن لإنكاره الزيادة مما ثبتت له فيه يد الاستيفاء والبينة بينة الراهن لإثباته زيادة في الإيفاء وإن قال المرتهن رهنتني هذين الثوبين وقبضتهما وقال الراهن رهنتك أحدهما بعيد فالقول قول الراهن عبدا والدين ألف فذهبت عين العبد وهو يساوي ألفا فالقول قول الراهن لإنكاره حقا للمرتهن في أحدهما والبينة بينة المرتهن لإثباته الزيادة في حقه.
وإن كان الرهن عبدا والدين ألفا فذهبت عين العبد وهو يساوي ألفا فقال الراهن كانت هذه قيمته يوم رهنتك فقد ذهب نصف حقك وقال المرتهن بل كانت قيمته خمسمائة يومئذ وإنما زاد بعد ذلك فذهب ربع حقي فالقول قول الراهن مع يمينه لأن الظاهر شاهد له فقيمته في الحال دليل على قيمته فيما مضى والبينة بينة الراهن لأنه ثبت ببينته زيادة فيما أوفاه المرتهن فبينة نفي ملك الزيادة بالميت أولى والله أعلم.
باب رهن المكاتب والعبد(21/244)
قال رحمه الله:المكاتب بمنزلة الحر في الرهن والارتهان لأنه وثيقة لجانب الاستيفاء والمكاتب في إيفاء الدين باستيفائه كالحر فكذلك فيما هو وثيقة به فإن رهن المكاتب عبدا فيه وفاء قبضه المولى فهو جائز لأن المكاتبة دين يستوفي والرهن في هذا ليس كالكفالة فالكفالة له ببدل الكتابة لا تصح لأن الكفالة وثيقة بجانب اللزوم والكفيل يلتزم في ذمته المطالبة التي هي على الأصيل لأن الفائت بحقيقة الالتزام أصل الدين والمطالب فيما هو وثيقة بجانب(21/245)
ص -116- ... بعضه فبهذا تبين أنه لا يمكن إلزام الكفيل مطالبة أقوى مما على الأصيل والمطالبة ببدل الكتابة على المكاتب ضعيفة لتمكنه من أن يعجز بنفسه وتعذر إثبات مثله في ذمة الكفيل فإن هلك الرهن في يدي المولي فهو بما فيه ويعتق المكاتب لأن استيفاء المولي بدل الكتابة تم بهلاك الرهن وإن أعور ذهب نصف المكاتب لأن العين من الآدمي نصفه ولا يعتق شيء منه كما لو استوفى نصف المكاتب حقيقة فإن خاصم المكاتب المولي فيه وأراد دفع المال وأخذ رهنه فقال المولي قد أبق فإنه يحلف على ذلك بعد أن يتأنى به وينتظر لجواز أن يكون المولي قد عينه قصدا منه الإضرار بالمكاتب وهو نظير المغصوب إذا زعم إنه قد أبق فإن القاضي يعجل بالقضاء بالقيمة ويحلف الغاصب على ذلك فهنا أيضا يحلف المولي فإذا حلف بطلت المكاتبة عن المكاتب لأن الآبق يتوى فهو كالهالك حقيقة فإذا قضى القاضي بذلك ثم وجد العبد بعد ذلك رد على المكاتب ورجع عليه المولي بالمال كما كان قبل الإبان وهو حر بالعتق الأول الماضي فيه لأنه ناقض للعتق بعد ما نفذ بقضاء القاضي وهو نظير ما لو استوفى البدل فاستحق من يده كان العتق ماضيا ولو لم يكن قضى القاضي بعتقه حتى رجع العبد فهو مكاتب على حاله حتى يؤدي البدل وهو بمنزلة المغصوب إذا أبق فإن رجع قبل أن يقضي القاضي بالقيمة فهو ملك للمغصوب منه وصار الأباق كان لم يكن وإن رجع بعد القضاء بالقيمة كان القضاء ماضيا وكان العبد للغاصب كذا هنا يفترقان في حكم العتق فأما العبد فعلى ملك المكاتب في الوجهين جميعا.(21/246)
وقال زفر رحمه الله: إذا عاد بعد قضاء القاضي فهو على ملك المولي لتقرير الضمان عليه بقضاء القاضي وقاس ضمان الرهن بضمان الغصب ولكنا نقول ضمان الرهن ضمان استيفاء والاستيفاء حالة الرهن دون العين لأن الاستيفاء بجنس الحق يتحقق ولا محاسبة باعتبار العين فيصير المرتهن مالكا للعين وإن جعل مستوفيا بقضاء القاضي فلهذا يعود العبد إلى ملك المكاتب وأشبه هذا الغصب في المدبرة وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله قال إن كان هذا أول ما أبق فإنه يسقط من الكتابة حصة نقصان العيب لأن هذا عيب حدث فيه عند المرتهن فيسقط بحصته من الدين كما لو تعيب بعيب محسوس.
ولو رهن رجل عبدا عن المكاتب لمكاتبته وفيه وفاء وقبضه المولي جاز كما لو تبرع بأداء الكتابة عن المكاتب فإن هلك بطلت الكتابة وعتق المكاتب لأن الاستيفاء قد تم ولا يرجع الراهن على المكاتب بشيء لأنه لم يأمره به فكان هو متبرعا فيما صنع ولو تبرع بمثله عن حر لم يرجع عليه فكذلك عن المكاتب وإذا كان المكاتبان كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه بالمال فرهن أحدهما بالمكاتبة رهنا قيمته مثلها فهلك عند المولي عتقا ويرجع الراهن على المكاتب الآخر بحصته من الكتابة بمنزلة ما لو أوفى بدل الكتابة حقيقة وهذا لأنه مطالب بجميع الكتابة متحمل عن الشريك حصته بأمره فيرجع عليه إذا أدى وهما كشخص واحد في حكم هذا العقد فيبقى أن يستويا في الغرم بسبب ولو كان الرهن(21/247)
ص -117- ... بينهما نصفين فرهناه جميعا فهلك عند المولي عتقا ثم إن كانت قيمتهما مختلفة تراجعا فيما بينهما بالفضل لأن بدل الكتابة يتوزع عليهما بقدر قيمتهما فإن كانت قيمة أحدهما ألفا وقيمة الآخر ألفين كان بدل الكتابة عليهما أثلاثا وما زاد على الثلث إلى تمام النصف أوفاه العبد إلا وكس من كسبه عن صاحبه بأمره فيرجع بذلك عليه.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فرهنه بها عبدا يساوي خمسمائة ثم أعتقه الراهن فعتقه نافذ عندنا موسرا كان أو معسرا وهو أحد أقاويل الشافعي وفي قول آخر يقول لا ينفذ عتقه موسرا كان أو معسرا وفي قول آخر يقول إن كان موسرا ينفذ عتقه ويضمن قيمته للمرتهن وإن كان معسرا لا ينفذ عتقه واحتج فقال الإعتاق إزالة ملك اليمين بالقول فلا ينفذ من الراهن في المرهون كالبيع وهذا لأن امتناع نفوذ بيعه لمراعاة حق المرتهن فإن حقه إما البيع في الدين أو استيفاء الدين من المالية وإبطال هذا الحق عليه بالإعتاق أظهر منه بالبيع والبيع أسرع نفوذا من العتق حتى ينفذ البيع من المكاتب ولا ينفذ العتق فإذا لم ينفذ بيع الرهن لمراعاة حق المرتهن فلان لا ينفذ عتقه أولا والدليل عليه أن المرهون كالخارج عن ملك الراهن بدليل أنه لو أتلفه ضمن قيمته كالجنين ولو جنى عليه ضمن الأرش ولو وطئها وهي بكر ضمن النقص ولو كان زايلا عن ملكه حقيقة لم ينفذ عتقه فيه فكذلك إذا كان كالزائل عن ملكه والدليل عليه إن حق المرتهن في المرهون أقوى من حق الغرماء في مال المريض بدليل أن هناك لا يمتنع البيع على المولي وهنا يمتنع ثم حق الغرماء في العبد نفوذ عتق المريض إذا مات من مرضه فحق المرتهن أولى وعلى القول الآخر نقول الراهن مالك حقيقة وهو كالزائل عن ملكه حكما لحق المرتهن فإن كان في إعتاقه إبطال حق المرتهن لم ينفذ عتقه وإن لم يكن فيه إبطال حق المرتهن نفذ عتقه فإذا كان الراهن موسرا فليس في الإعتاق إبطال حق المرتهن أصلا لأن إيجاب الضمان(21/248)
عليه ممكن ولو ألغينا العتق بطل حق العبد أصلا فلمراعاة حق العبد أنفذنا العتق ولمراعاة حق المرتهن أوجبنا الضمان ترجيحا لأهون الضررين وإذا كان معسرا لو أنفذنا العتق كان فيه إبطال حق المرتهن أصلا لأن السعاية عندي لا تجب على العبد والسعاية في ذمة مفلس يكون تاويا فإذا كان في كل واحد من الجانبين صور الإبطال رجحنا جانب المرتهن لأن ثبوت حقه أسبق وهو نظير مذهبه في إعتاق أحد الشريكين نصيبه فإنه لا يتجزأ إذا كان المعتق موسرا لإمكان إيجاب الضمان ويتجزأ إذا كان المعتق معسرا ويستدام الرق فيما يبقى مراعاة لحق الساكت فهذا مثله.
وجه قولنا إنه مخاطب أعتق ملك نفسه فلا يلغي إعتاقه كالمشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض وبيان الوصف إن موجب عقد الرهن إما ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن كما قلنا أو حق البيع كما هو مذهبه وشيء من ذلك لا يزيل ملك العين فتبقى العين على ملك الراهن كما كانت ثم حق المرتهن إنما يثبت في المالية والإعتاق تصرف في الرق بالإزالة والرق غير(21/249)
ص -118- ... المالية ألا ترى أنه ثبت حق الرق بدون المالية في الحبس وتبقى صفة الرق في أم الولد بدون المالية والمالية تنفصل عن الرق في غير بني آدم.
والدليل عليه: أنه لو حلف بعتق عبده إن دخل الدار ثم باعه ثم اشتراه فدخل الدار يعتق وبقيت اليمين بعد البيع لبقاء الرق وإن زال الملك والمالية عنه والإعتاق تصرف في الرق ولا حق للمرتهن فيه فلا بد من تنفيذه باعتبار إنه صادف محلا هو خالص حق الراهن إلا أن المالية المشغولة بحق المرتهن تتلف بهذا التصرف وقوام تلك المالية كان ببقاء الرق فيصير المعتق ضامنا لهذا ولهذا نفذ العتق في المبيع قبل القبض وذلك في معنى المرهون لأنه محبوس بالدين إلا أن الحبس ويلاقي العين والمالية دون الرق وبه فارق البيع فإنه تمليك يمنع للعين نصف المالية وهو مشغول بحق المرتهن فقيام حقه يمنع نفوذه كما أن حق الحبس للبائع يمنع نفوذ بيع المشتري وهذا لأن البيع كما يستدعي الملك في المحل يستدعي القدرة على التسليم ولهذا لا ينفذ في الآبق والجنين في البطن فكذلك لا ينفذ في المرهون لعجز الراهن عن تسليمه بخلاف المعتق.(21/250)
توضيحه: أن نفوذ البيع يعتمد تمام الرضا ولهذا لا ينفذ مع الهزل وشرط الخيار والكره فكذلك عدم الرضا من صاحب الحق وهو المرتهن يمنع نفوذه فأما العتق فلا يعتمد نفوذه تمام الرضا حتى ينفذ مع الهزل وشرط الخيار فإذا كان عدم الرضا من صاحب الملك لا يمنع نفوذ العتق فمن صاحب الحق أولى ولأن البيع يراد به ما ينتفع به وهو العين فكذلك لا يرد منه ما يتصور به وعتق المريض عندنا لا يلغو لقيام حق الغرماء ولكن يخرج إلى الحرية بالسعاية لا محالة فهنا أيضا ينبغي أن لا يلغو إلا أن هناك هو بمنزلة المكاتب ما دام يسعى وهنا يكون حرا ومراده إن لزمته السعاية عند اعتبار الرهن لأن العتق في المرض وصية والوصية تتأخر عن الدين إلا أن العتق لا يمكن رده فيجب عليه السعاية في قيمته لرد الوصية وبهذا تبين إن الواجب عليه بدل رقبته ولا يسلم له المبدل ما لم يرد البدل وهنا السعاية على العبد ليست في بدل رقبته بل في الدين الذي في ذمة الراهن لأن من حق المرتهن ذلك فوجوب السعاية عليه لا يكون مانعا من نفوذ عتقه في الحال ولهذا قلنا إن أيسر الراهن هنا رجع العبد عليه بما أدى من السعاية وهناك لا يرجع العبد على أحد بما ينبغي فيه من قيمته ولا معنى لمن قال إن المرهون في حكم الزائل عن ملك الراهن لأن عقد الرهن لا يزيل الموت في الحال ولا في ثاني حال ووجوب الضمان على الراهن لإتلافه المالية المشغولة بحق المرتهن كالمولي يتلف المأذون فيكون ضامنا قيمته للغرماء لا باعتبار أن لحوق الدين للعبد يزيل ملك المولي ثم أكثر ما في الباب إن حق المرتهن نصا هو الملك وللراهن ملك حقيقة فيكون كالشراء بكفيل وعتق المالك في ملكه لا يمتنع بحق الشريك فلأن لا يمتنع بحق المرتهن أولى.
ولو دبر الراهن صح تدبيره بالاتفاق أما عندنا فلأن التدبير يوجب حق العتق له وإذا(21/251)
ص -119- ... كان لا يمتنع حقيقة العتق بحق المرتهن فحق العتق أولى وعند الشافعي كذلك لأن التدبير لا يمنع البيع فلا يكون مبطلا لحق المرتهن بحق العتق أولى ولو كانت أمة فاستولدها صح استيلاده عندنا وهو الصحيح من مذهب الشافعي لأن الاستيلاد لما كان ينفذ بحق الملك للأب في جارية ولده عنده فلأن ينفذ بحقيقة الملك للراهن فيها أولى فإن كان الراهن موسر فهو ضامن قيمتها فيكون رهنا مكانها لما بينا أنه متلف لحق المرتهن في المالية بما صنع فيكون ضامنا بدله وحكم البدل حكم المبدل فيكون رهنا كما لو أتلف الرهن أجنبي ضمن قيمته فإن كان المال قد حل قبضه المرتهن بحقه لأنه ظفر بجنس حقه من مال المديون فيأخذ قضاء من دينه ويرجع بالفضل وإن كان الراهن معسرا كان للمرتهن أن يستسعى أم الولد والمدبر في الدين كله لأن كسبهما مملوك للمولى فالراهن موسر قادر على أداء الدين بكسبهما ولو كان قادرا على ذلك بمال آخر لأمر بقضاء الدين فكذلك إذا كان قادرا عليه بكسبهما ويستسعى المعتق البتة في قيمة خمسمائة لأن كسب المعتق خالص حقه فلا يجبر على أن يقتضي به دين غيره ولكن قد سلمت له مالية رقبته وكان مشغولا بحق المرتهن فيلزمه السعاية في ذلك القدر لاحتباسه عنده كما تجب السعاية على معتق البعض للشريك الساكت إذا كان المعتق معسرا ثم يرجع المعتق بذلك على الراهن لأنه غير متبرع في قضاء دينه بخالص ملكه بل كان مجبرا على ذلك بسبب باشره الراهن ورضي به فيرجع به عليه كالكفيل عنه بأمره إذا أدى ويرجع المرتهن بفضل دينه على الراهن.(21/252)
فإن ولدت المدبرة ولدا بعد ما قضى عليها بالسعاية ثم ماتت استسعى ولدها في جميع الدين لأن ولدها بمنزلتها فإن التدبير يسرى إلى الولد فولدها مدبر للمولي وكسبه له وهو قادر على قضاء الدين بسعايته فيستسعي الولد في جميع الدين كما كان يستسعي الأم وهذا لأن كسب المملوك لما كان للمالك فحكمه حكم المالك فيما يلزمه من قضاء الدين والراهن كان مجبرا على قضاء جميع الدين بملكه فكذلك المدبرة وولدها يؤمر كل واحد منهما بالسعاية في جميع الدين وإن كان الولد من المولي قد ادعاه قبل الولادة لم يكن عليه سعاية لأن الولد انفصل حرا فكسبه يكون مملوكا له دون المولي ولا يكون المولي قادرا على قضاء دين بكسبه.
توضيحه: إن الولد الذي إن انفصل من الأم حرا لا يثبت فيه حكم الرهن لأنه ليس بمحل له ووجوب السعاية عليه باعتبار حكم الرهن فأما الولد الذي انفصل مدبرا فهو جزء منها انفصل بصفتها وله حكم الرهن من حيث الاستسعاء في الدين لأن هذا الولد جزء منها وقد انفصل بصفتها فيلزمه السعاية لحكم الرهن كما لزمها ولو كان الرهن عبدا يساوي خمسمائة بألف فأعتقه الراهن وهو معسر ثم مات الراهن وترك خمسمائة فإن المرتهن يأخذها ويسعى له العبد في مائتين وخمسين لأن الواجب على العبد السعاية في مقدار قيمته وذلك نصف الدين شائع في الكل والخمسمائة التي استوفاها المرتهن من تركة الراهن نصفه مما(21/253)
ص -120- ... وجب على العبد السعاية فيه وهو في ذلك كالكفيل عن المولي والاستيفاء عن الأصل يوجب براءة الكفيل فلهذا استسعى في نصف ما يبقى وهو مائتان وخمسون.
ولو كان العبد سعى له في قيمته قبل موته ثم مات الراهن وترك خمسمائة كانت بين المرتهن والعبد نصفين لأن الباقي من دين المرتهن خمسمائة والعبد قد استوجب الرجوع على الراهن بالخمسمائة فتقسم تركته بينهما على مقدار دينهما وإذا رهن رجلا عبدا بألف درهم فأعتقه أحدهما وهو موسر وقيمة العبد ألف فهو ضامن لخمسمائة حصته من الدين وعلى شريكه مثلها لأن العبد صار خارجا من الرهن عندهما لأن العتق لا يتجزأ وعند أبي حنيفة لأن معتق البعض لا يستدام فيه الرق فهو كالمكاتب لا يكون محلا للبيع وعلى كل واحد منهما قضاء نصيبه من الدين وهو خمسمائة ثم الحكم بين شريكين في تضمين المعتق أو الاستيفاء وما فيه من الخلاف قد بيناه في كتاب العتاق وإن كان المعتق معسرا فللمرتهن أن يستسعى العبد في الألف كلها لأن حقه كان ثابتا في جميع المالية وقد احتبس ذلك عند العبد بما انتفع هو به وهو الإعتاق ثم يرجع العبد على المعتق بخمسمائة لأنه قضى دينه بذلك القدر على وجه لم يكن متبرعا فيه ولا يرجع على الآخر بشيء لأن الآخر قد استوجب عليه السعاية في نصف القيمة لاحتباس نصيبه عنده وهب إنه قضى دينه واستوجب الرجوع عليه ولكن له على العبد مثلها فيصير قصاصا به ولو أعتقه أحدهما ثم دبره الآخر فإن كانا معسرين فهو كما وصفنا لك في الأول وإن كانا موسرين ضمنا الألف للمرتهن وسعى المدبر للذي دبره في نصف قيمته مدبرا إلا أنه بتدبير نصيبه صار مختارا سعاية العبد في نصيبه فإنه يصير مستوفيا ملكه في نصيبه ويمنعه ذلك من تضمين المعتق فعرفنا إنه صار مختارا للسعاية فنستسعيه في نصف قيمته مدبرا ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء لأن الأول هو المتلف لنصيبه والثاني قد أبرأ الأول عن الضمان ولم يتلف عليه شيئا فلا رجوع(21/254)
لواحد منهما على صاحبه.
وإذا استعار الرجل من الرجل عبدا قيمته ألف درهم ليرهنه فرهنه بألف درهم ثم إن مولاه أعتقه وهو موسر ضمن المال للمرتهن لأنه كان رضي بتعلق حق المرتهن بمالية الرهن حين أعاره الرهن ثم أتلف على المرتهن ذلك بالإعتاق فيضمن له مثله ويرجع على الراهن لأنه قضي بما أدى دين الراهن وكان مجبرا على ذلك.
ألا ترى إنه لو قضى الدين ليسترد الرهن رجع به على الراهن فكذلك إذا استرده بالإعتاق وضمنه للمرتهن وهذا لأن الراهن رضي برجوعه عليه متى صار دينه مقضيا بملكه.
ألا ترى إنه لو هلك الرهن في يد المرتهن رجع المعير على المستعير بمقدار الدين لهذا المعنى فكذلك إذا قضاه بمال آخر وإن كان المعتق معسرا والراهن موسرا ضمن الراهن المال ولم يرجع على أحد بشيء لأنه قضي دين نفسه بماله وإن كانا موسرين فللمرتهن أن يضمن أيهما شاء إن شاء الراهن باعتبار قيام دينه عليه وإن شاء المعتق لإتلافه محل حقه وإن كانا معسرين سعى العبد في جميع ذلك لأن المالية سلمت له وقد كانت مشغولة بحق(21/255)
ص -121- ... المرتهن ثم يرجع العبد على أيهما شاء إن شاء على الراهن لأنه كان مجبرا على قضاء دينه بملك نفسه بسبب رضي به الراهن وهو عقد الرهن وإن شاء على مولاه لأنه هو الذي ألزمه ذلك بإعتاقه إياه فإن رجع به على المولي رجع به مولاه على الراهن كما لو كان المرتهن هو الذي رجع به على المولي فأداه وهذه لأن أصل الدين على الراهن.
وإذا رهن الرجل أمة بألف درهم هي قيمتها فجاءت بولد يساوي ألفا فادعاه بعد ما ولدته وهو موسر ضمن المال وإن كان معسرا سعت الأمة في نصف المال والولد في نصفه لأن الدين انقسم عليهما نصفين بشرط بقاء الولد على هذه القيمة إلى وقت الفكاك ثم الراهن بالدعوة صار مستردا لهما لأنه أوجب في الولد حقيقة العتق وفي الأم حق العتق فيكون ذلك بمنزلة الفكاك المقر به في كل واحد منهما نصف الدين ويسعى كل واحد منهما في نصف الدين لسلامة محل ذلك له بالعتق وهو المالية فإن لم يؤد الولد شيئا حتى ماتت الأم قبل أن يفرغ من السعاية سعى ولدها في الأقل من نصف قيمته ومن نصف الدين على حاله لا يزاد عليه شيء بموت الأم لأنه صار مقصودا بالاستسعاء حين صار مقصودا بالفكاك فبموت الأم لا يتحول إليه شيء مما كان عليها لأنه في حكم السعاية لم يكن تبعا لها.(21/256)
ألا ترى أنه كان لزمه السعاية في حصته قبل موتها ولو مات الولد بعد هذا لم يتحول من سعايته إليها كذلك إذا ماتت هي ويرجع الولد بما سعى فيه على الأب وإن قضى دينه بكسب هو خالص ملكه على وجه كان مجبرا عليه وإذا رهن الرجل عبدا يساوي ألف درهم بألف درهم مؤجلة أو قبضه المرتهن ثم أقر الراهن بالعبد لرجل لم يصدق على ذلك في حق المرتهن لأنه متهم في حقه من حيث إنه لا يقدر على تمليك العبد ابتداء لحق المرتهن فيخرج كلامه مخرج الإقرار ولكن المقر له إن شاء أدى المال وقبض الرهن لأن إقرار المقر حجة في حقه فالمقر له يقوم مقام المقر فكما أن للمقر أن يؤدي المال ويقبض الرهن فللمقر له ذلك فإن أداه حالا لم يرجع به على الراهن حتى يحل عليه لأن أكثر ما فيه أنه كالمتحمل عنه دينا هو مؤجل عليه والكفيل بالدين المؤجل إذا عجل لم يرجع على الأصل حتى يحل الأجل فإذا حل رجع عليه فكذلك المقر له هنا وهذا لأنه كان يضطر لأداء هذا المال لتخليص ملكه فلا يكون متبرعا فيه ولأن الراهن أقر أنه أعتق رقبة عبده بذلك فيكون له أن يرجع عليه بما أدى كالمعير للرهن إذا قضى الدين وللمقر له أن يستحلف المرتهن على علمه لأنه لو أقر بما أقر به الراهن لزمه رد العين عليه فإذا أنكر يستحلف ولكن يمينه على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير فإن لم يؤد المال وأعتق العبد جاز عتقه لأن الراهن بإقراره بالملك للمقر له سلطه على إعتاقه ولو أعتقه بنفسه نفذ عتقه فكذلك إذا أعتق غيره بتسليطه وكان المرتهن بالخيار إن شاء أخذ الراهن بقيمة العبد لأنه صار جانيا على حقه لتسببه بتنفيذ عتق المعتق فيه وهو إقراره بالملك له وإن شاء ضمن المعتق ذلك لأنه بإعتاقه تسبب لإتلاف محل حقه وهو المالية فإن أخذها المعتق رجع بها على الراهن لأنه مقر أنه أغلق رقبة(21/257)
ص -122- ... عبده وباعتبار ذلك لزمه هذا الضمان فيستوجب الرجوع عليه وإن كانا معسرين استسعى المرتهن العبد في قيمته لأن المالية التي هي محل حقه سلمت له ويرجع العبد بها على الراهن دون المعتق لأن العبد مقر بأن المعتق لم يؤذن له في رهنه وإن الراهن كان في حكم الغاصب له وإقراره في حق نفسه صحيح فلا يستوجب الرجوع على المعتق بشيء لهذا ويكون له أن يرجع بها على الراهن لأنه هو الذي ألزمه هذه القيمة بما أوجب من حق المرتهن في ماليته فعند الأداء يرجع عليه.
ولو كان العبد معروفا للمعتق وقد كان أعاره الراهن ليرهنه فأعتقه وهو والراهن موسران فللمرتهن أن يرجع بقيمته على المعتق دون الراهن لأن المعتق هو المتسبب لإتلاف محل حق المرتهن ولم يوجد من الراهن صنع يكون ذلك سببا منه لإتلاف محل حقه فلهذا كان رجوعه بالقيمة على المعتق دون الراهن بخلاف الأول فهناك قد وجد من الراهن تسبب لما به تلف محل حقه وهو إقراره بالملك وتسليطه المقر له على إعتاقه وإن كان المعتق معسرا فللمرتهن أن يستسعى العبد في قيمته فيكون رهنا مكانه ويرجع بها العبد على المعير دون المستعير لأن المعير هو الذي ألزمه ذلك بإعتاقه بعد ما رضي بتعلق حق المرتهن بماليته بالإعادة ولم يوجد من المستعير تسبب في إيجاب القيمة عليه بعد ما تعلق حق المرتهن بماليته فإذا حل الدين أخذ المرتهن دينه من الراهن ورجعت القيمة إلى المعير بضمانه لأن العبد لما رجع على المعير فقد استقر الضمان عليه فيجعل كأنه هو الذي ضمن القيمة وهذا لأن القيمة تقوم مقام العين ولو كانت العين باقية واستوفى المرتهن دينه من الراهن رجع العبد إلى المعير فكذلك القيمة.(21/258)
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فرهنه بها عبدا يساوي ألفين وقبضه المرتهن ثم أقر المرتهن أن الرهن لرجل غصبه الراهن منه لم يصدق المرتهن على الراهن لأن العين باقية على ملك الراهن وإقرار الإنسان في ملك الغير باطل والمرتهن حافظ للعين كالأمين وإقرار المودع الوديعة لغير المودع باطل إذا كان الإيداع ظاهرا فيؤدي الراهن الدين ويأخذ العبد ولا سبيل للمقر على العبد ولا على ما أخذ المرتهن لأن المرتهن أخذ دينه ورد العبد على من أخذ منه فانفسخ به حكم قبضه سواء كان المقبوض منه مالكا أو غير مالك كالمرتهن من الغاصب إذا رده عليه وإقراره ليس بحجة على الراهن فلا سبيل للمقر له على العبد الذي في يده بغير حجة وإن مات العبد في يدي المرتهن صار مستوفيا لدينه باعتبار الظاهر لأن في قيمة الرهن وفاء بدينه وزيادة فكان ضامنا جميع قيمته للمقر له لأن إقرار العبد كان في يده كالمغصوب فإنه كان مملوكا للمقر له وقبضه بغير إذنه وإقراره حجة عليه فيضمن جميع قيمته إذا تعذر رده بالهلاك.
ولو كان المرتهن لم يقر برقبة العبد ولكنه أقر إن له عليه دينا ألف درهم استهلكها وقد مات في يد المرتهن فإن المقر يرجع على المرتهن بألف درهم لأنه أقر إن ماليته كانت(21/259)
ص -123- ... مستحقة بدين المقر له وإنه في القبض بغير إذن صاحب الدين على جهة الرهن غاصب في حقه فإذا هلك في يده ضمن له مقدار حقه وهو ألف درهم كما لو كان ما أقر به ظاهرا ولأنه بالهلاك في يده صار مستوفيا دينه وهو ألف درهم من ماليته والمقر له كان أحق بماليته بزعمه فيغرم له ما صار مستوفيا دينه وهو ألف درهم.
ولو أقر المرتهن برقبته لرجل وقد كان الراهن جعل بينهما عدلا يبيعه واستوفى المرتهن حقه فباعه العدل بألف درهم ودفعه وقبض الثمن فنقد المرتهن منه ذلك ألف درهم وأعطى الراهن ألف درهم فإذا أجاز المقر له البيع أخذ الألف التي أخذها المرتهن لأن إجازة البيع بالثمن حقه بزعم المرتهن وما استوفى المرتهن جزء من الثمن وإقراره فيما وصل إليه حجة فيما أخذه الراهن وإن لم يجز البيع فلا سبيل له على ما أخذ المرتهن لأن المقرله يزعم أن عين العبد هي ملكه ولم يصل العبد إلى يد المرتهن قط ويزعم إن الثمن مال مشتري العبد ولا سبيل له على مال مشتري العبد في يد من كان وإنما عليه أن يثبت ملكه في المشتري بالحجة ولو أثبت ذلك كان يأخذ العبد ولا سبيل له على الثمن ولكن المشتري هو الذي يرجع بالثمن فقبل الإثبات أولى أن لا يثبت له على الثمن سبيل.(21/260)
ولو كان المرتهن لم يقر بالرقبة ولكنه أقر إن العبد قد استهلك لرجل ألفي درهم والمسألة بحالها فإن المرتهن يدفع الألف التي قبض من ثمنه إلى المقر له أجاز البيع أو لم يجزه لأن الرقبة لم تكن للمقر له فلا يضره أجاز البيع أو لم يجز ومعنى هذا إن حق صاحب الدين في مالية العبد دون عينه وعند إجازته البيع تسلم له المالية فالتمليك يكون من جهة المالك والذي قبض المرتهن من ثمنه مالية فعليه أن يدفع ذلك إلى المقر له باعتبار إقراره أما إذا أجاز البيع فظاهر وأما إذا لم يجز فهو يزعم إن المشتري حابس للمالية التي هي حقه ضامن له مثل ذلك وما قبضه المشتري ماله فقد ظفر بجنس حقه من مال غريمه فكان له أن يأخذه منه بخلاف الأول فهناك في زعمه إن العبد باق على ملكه.
ألا ترى أنه لو أقام البينة كان يسلم له ملك العبد فلا سبيل له على مال المشتري مع بقاء العبد على ملكه ثم لا يرجع المرتهن على الراهن بما أخذ منه المقر له لأنه أخذ ذلك من حكم إقراره وإقراره ليس بحجة على الراهن وإذا رهن الرجل عبدا يساوي ألف درهم بألف درهم فحفر العبد عند المرتهن بئرا في الطريق ثم إن الراهن أدى الدين وأخذ عبده فوقعت في البئر دابة تساوي ألفا فإن العبد يباع في الدين إلا أن يفديه الراهن لأنه بالحفر تسبب لإتلاف الدابة وهو متعد فيه فيكون كالمباشر في حكم الضمان ولو أتلف العبد دابة بيع في قيمتها إلا أن يفديه المولى فإن بيع بألف درهم وأخذها صاحب الدابة رجع الراهن على المرتهن بالدين الذي قضاه لأن العبد تلف بفعل كان منه عند المرتهن وهو الحفر فتبين به أن الرد لم يسلم ويجعل هو كالهالك في يد المرتهن فصار هو مستوفيا دينه بالهلاك وقد استوفاه مرة أخرى فعليه رده.(21/261)
ص -124- ... ألا ترى إن العبد المغصوب لو فعل مثل هذا في يد الغاصب كان للمغصوب منه أن يرجع عليه بقيمته ويجعل كالهالك قبل الرد وإن وقعت في البئر دابة أخرى تساوي ألفا فعطبت رجع صاحبها على صاحب الدابة الأولى وأخذ منه نصف ما أخذ لأنهما مشتركان في ثمن العبد فإن الجناية على الدائنين تستند إلى سبب واحد وهو الحفر وهما من جنس واحد فهو كما لو استهلك الدابتين معا فيكون ثمنه بينهما نصفين فإذا أخذ منه نصف ما أخذ لم يكن لصاحب الدابة الأولى أن يرجع على الراهن بشيء مما قبض من الدين لأنه إنما قبض ما كان أعطى المرتهن بطريق إنه استوفى حقه مرتين ولم يقبض منه من قيمة العبد شيئا وحق صاحب الدابة في مالية العبد لا في مال آخر من ملك مولى العبد.
فإن وقع في البئر حر أو عبد فمات فدمه هدر بمنزلة العبد إذا حفر بئرا في الطريق ثم استهلك مال إنسان فبيع في قيمته ثم وقع في البئر إنسان وهذا لأن نفس الحفر ليس بجناية وإنما يصير جناية إذا اتصل الوقوع به والمستحق بجناية على الآدمي نفسه فعند الوقوع هو ملك المشتري وأصل فعل العبد لم يكن في ملكه فلا تتوجه عليه المطالبة بالدفع بفعل سبق ملكه ولا تتوجه المطالبة به على البائع لأن فعل العبد موجبا سببا في ملكه والبيع كان بحق شرعي لا باختياره فلا يضر تعلقه به وهذا بخلاف ما لو كان الواقع دابة أخرى لأن المستحق به من العبد كالمستحق بالأول فيمكن جعل الثمن مشطرا بينهما وهنا المستحق نفس العبد فلم يكن حق ولي الجناية من جنس حق صاحب الدابة إلا قبض الثمن ولما تعذر إثبات حقه في الثمن واستحقاق نفس العبد غير ممكن من الوجه الذي قلنا كان دمه هدرا.(21/262)
وإذا رهن الرجل أمة بألف درهم وقيمتها خمسمائة ثم قبضها وكاتبها فللمرتهن أن يبطل الكتابة لأن الكتابة من الراهن تصرف يحتمل الفسخ وفي عوده إضرار بالمرتهن وكان له أن يفسخ ذلك لدفع الضرر عن نفسه كما يفسخ بيع الراهن وكما يفسخ أحد الشريكين كدابة شريكه ولو لم يكاتبها ولكنه دبرها فسعت في خمسمائة ثم ماتت وقد ولدت بنتا تساوي خمسمائة فعلى ولدها أن يسعى في خمسمائة لأن الباقي من دين المرتهن هذا القدر وولدها بمنزلتها يدبر للراهن وهو أحق بكسبه فكما كان على الأم أن تسعى في دين المرتهن باعتبار إن الراهن موسر بهذا الطريق فكذلك ولدها يسعى فيما يوفي دينه فإن سعت البنت في مائة درهم ثم ولدت بنتا ثم ماتت البنت الأولى وقيمة الأولى والسفلى سواء فعلى السفلى أن تسعى فيما بقي كله لأنها كالأولى مدبرة للراهن وهو أحق بكسبها والسفلى جزء من الأولى فبقاؤها كبقاء الأولى.
ولو رهن أمتين بألف درهم وقيمة كل واحدة منهما ألف فدبرهما المولي ثم ماتت إحداهما سعت الباقية في نصف الدين ويضمن المولي نصف الدين لأن الدين انقسم بينهما بحكم الرهن نصفين ووجوب السعاية على كل واحدة منهما بعد التدبير كحكم الرهن وإنما يجب على كل واحد منهما بقدر ما كان فيها من الدين والذي في الباقية نصف الدين فتسعى(21/263)
ص -125- ... فيه ويضمن المولي نصف الدين لأنه بالتدبير مسترد لها فكأنه أفتكها ثم ماتت فعليه قضاء ما كان منها من الدين.
فإن قيل: فإن ذهب ما قلتم إن السعاية على المدبرة باعتبار إن المالك لكسبها موسر بهذا الطريق؟.
قلنا: نعم ولكن السعاية عليها بهذا الطريق كان بحكم الرهن في الدين الذي كانت هي مرهونة به فإنها لو لم تكن مرهونة لم يكن عليها السعاية في ديون المولي ما دام المولي حيا وكل واحدة منهما كانت مرهونة بنصف الدين مقصودا بخلاف الأول فالسعاية على الولد هناك باعتبار إنه جزء من أجزاء الأم لأن حكم الرهن ثابت فيه بطريق السعاية والأم كانت مرهونة بجميع الدين وكان وجب عليها السعاية في جميع الدين بهذا الطريق فيجب ذلك على ولدها الذي هو جزء منها إذا كان مثلها في الصفة يقول فإن ولدت هذه الباقية بنتا ثم ماتت قبل أن تسعى في شيء وقيمتها مثل قيمة أمها أو أقل أو أكثر سعت في خمسمائة تامة لأنها جزء من أجزاء الأم وقد كانت الأم مرهونة بخمسمائة خرجت بالتدبير من الرهن ووجب عليها السعاية في ذلك فتجب على ولدها الذي هو جزء منها السعاية في ذلك القدر أيضا لأن هذا الجزء نصفها ولو كانت ولدتها قبل التدبير ثم دبرهما جميع وقيمتها مثل قيمة أمها سعت في مائتين وخمسين لأن حكم الرهن ثبت في الولد حين انفصل قبل التدبير وانقسم ما في الأم من الدين على قيمتها وقيمة الولد بشرط بقاء الدين إلى يوم الفكاك على هذه القيمة وقد بقي فإنه صار مقصودا بالتدبير وذلك بمنزلة الفكاك لأنه يخرج به من الرهن فوجبت عليها السعاية فيما كان فيها من الدين وهو مائتان وخمسون وإذا صار مقصودا يوجب السعاية فيما كان على الأم بخلاف الأول فهناك إنما انفصل الولد بعد ما خرجت الأم من الرهن بالتدبير فلم يصر الولد مقصودا بالسعاية في شيء حين لم يصر مقصودا بالفكاك بل هو في حكم جزء من الأم فعليه السعاية فيما وجب عليها وهذا بخلاف ما إذا انفصل الولد حرا لأن الذي(21/264)
انفصل حرا ليس على صفة الأم فإن كسبه ليس لمولاه بل هو أحق به فلا يمكن أن يجعل تبعا في السعاية الواجبة بحكم الرهن فأما الذي انفصل مدبرا فهو نصف الأم فيلزمه من السعاية ما كان على الأم.
ولو رهن أمة تساوي ألفا فولدت بنتا تساوي ألفا ثم دبر المولي الأم وهو معسر فعلى الأم أن تسعى في خمسمائة لأن نصف الدين تحول منها إلى الولد وهو نائب فيه ما بقي الولد والمولي بالتدبير صار مستردا للأم فعليها أن تسعى فيما كان فيها من الدين عند التدبير وذلك خمسمائة فإن ماتت ابنتها سعت في الألف تامة لأن الولد لم يصر مقصودا بالفكاك حين لم يدبر الولد وبالفكاك صار كان لم يكن فتبين إن جميع الدين كان في الأم وقد أخرجها من الرهن بالتدبير فعليها أن تسعى في جميع الألف فإن لم تمت البنت وماتت الأم ثم دبر البنت فعلى البنت أن تسعى في خمسمائة لأنها صارت مقصودة بالفكاك حين دبرها فيستقر ما كان(21/265)
ص -126- ... فيها من الدين وذلك خمسمائة فعليها أن تسعى في ذلك وبعد ما صارت مقصودة لا تلزمها السعاية في شيء مما كان على أمها فإن ولدت البنت بنتا وماتت البنت الأولى سعت السفلى في خمسمائة وإن كانت قيمتها مائة لأنها جزء من الأولى وهي تابعة للأولى في حكم هذه السعاية فإنها ما صارت مقصودة بحكم الرهن.
ولو ولدت أمة الرهن بنتا ثم ولدت البنت بنتا وقيمة كل واحدة منهن ألف درهم ثم دبرهن جميعا ثم ماتت الأم والبنت الآن كان على السفلى أن تسعى في نصف الدين من إنه لا يحتسب بالوسطى وقد طعن عيسى في هذه المسألة وقال ينبغي أن تسعى في ثلث الدين لأنه كالقابض للوسطى بالتدبير وكيف لا تحتسب بها وقد صارت مقصودة بالفكاك والسفلى تابعة للأم كالأولى فانقسم الدين عليهن أثلاثا ثم بالتدبير أخرجهن من الرهن فيتقرر في كل واحدة منهن ما كان فيها وهو ثلث الدين فعلى السفلى السعاية في ذلك القدر خاصة ولا تأويل لجواب محمد رحمه الله سوى أنه ذهب بالدين إلى أنه وضع المسألة فيما إذا دبر الأم والسفلى دون الوسطى فلهذا قال لا يحتسب بالوسطى.
ألا ترى إنه بني عليه فقال وكذلك لو ماتت الأم والبنت قبل التدبير ثم دبر السفلى ثم علل فقال لأني لا أحتسب بالوسطى إذ لم يقع عليها التدبير فهذا يتعين إن مراده في الفصل الأول ما إذا لم يدبر الوسطى فأما إذا دبرهن جميعا فالجواب كما قال عيسى.(21/266)
ولو ولدت أمة الرهن ولدا يساوي ألفا ثم دبرهما فكل واحدة منهما صارت مقصودة بالسعاية في نصف الألف فبموت الأم لا يتحول شيء من سعايتها إلى الولد ولو ماتت البنت سعت الأم بالألف كلها وهذا التفريع غير مذكور في نسخ الأصل وإنما ذكره الحاكم في المختصر والأظهر إنه غلق لأن البنت صارت مقصودة بالفكاك فإذا ماتت بعد ذلك لا يمكن أن يجعل كأن لم يكن ولا يتحول ما كان منها من السعاية إلى الأم وإنما عليها السعاية في مقدار الخمسمائة وإن صح هذا فوجهه إن الأم في الأصل كانت مرهونة بجميع الدين وتمام الفكاك في الولد لا يحصل بالتدبير وإنما تمام الفكاك بوصول حصة الولد من الدين إلى المرتهن ولم يصل إليه شيء فوجب على الأم السعاية في جميع الدين لأن حق المرتهن في استسعاء الأم في جميع الدين بعد التدبير كان ثابتا والراهن لا يملك إبطال ذلك الحق بتدبير الولد فلهذا سعت له في الألف كلها بخلاف ما إذا ماتت الأم فالبنت ما كانت مرهونة بجميع الألف قط فلا تجب على البنت السعاية إلا في مقدار ما كانت مرهونة به.
ولو رهن أمة تساوي ألفا بألف إلى أجل فولدت ولدا يساوي ألفا فدبر المولي الولد وهو موسر ضمن قيمته لأنه أتلف حق المرتهن فيه بالتدبير فكأنه أتلفه بالاستهلاك فيضمن قيمته ويكون رهنا مع الأم وإن كان معسرا سعى العبد في خمسمائة مقدار ما كان مرهونا به فإن مات الولد قبل أن يفرغ من السعاية كانت الأم رهنا بألف لا تفتكها إلا بها وإن ماتت أمه كانت بخمسمائة لأن المولي ضامن لقيمة الولد وبقاء قيمة الولد كبقاء عينه فكانت الخمسمائة(21/267)
ص -127- ... من الدين فيه فإنما يسقط بموت الأم خمسمائة ولكن لو مات الولد كانت الأم رهنا بجميع الدين لما بينا أن حق المرتهن في جنسها بجميع الألف كان ثابتا والمولي بتدبير الولد لا يملك إبطال حق ثابت للمرتهن في الأم ولكن موته قبل التدبير وبعد التدبير سواء فيما يرجع إلى إبطال حق المرتهن فلهذا لم يكن له أن يفتك الأم إلا بجميع الألف.
ورهن العبد التاجر من الأجنبي وارتهانه جائز لأنه منفك الحجر عنه في إيفاء الدين واستيفائه كالمكاتب وكذلك إن رهن ولده أو والده لأنه مالك له بخلاف المكاتب فإن الوالدين والمولودين يتكاتبون عليه ويتعذر عليه بيعهم إذا ملكهم فلا يجوز له أن يرهنه أيضا وفي الأخوة كذلك الجواب عندهما وعند أبي حنيفة لا يمتنع عليه بيع الأخوة فلا يمتنع عليه رهنهم بالدين أيضا وإن رهن المأذون من مولاه أو ارتهنه ولا دين عليه لم يجز لأن أكسابه ملك لمولاه وفي هذه الحالة هو لا يستوجب الدين على المولي ولا المولي عليه والرهن والارتهان لا يكون إلا بدين واجب وإن كان عليه دين جاز له أن يرهن من مولاه لأنه يستوجب على المولي دينا يطالبه به ويستوفيه لحق الغرماء فيجوز أن يرتهن به أيضا ولا يجوز لمولاه أن يرتهن منه لأن المولي لا يستوجب عليه دينا يطالبه به وإنه مالك لرقبته وإن كان عليه دين فلا يجوز له أن يرهن منه.(21/268)
وإذا أخذ العبد رهنا بشيء يقرضه فهلك الرهن عنده قبل أن يقرضه وقيمته والقرض سواء فهو ضامن لقيمته لأن المقبوض على جهة الشيء كالمقبوض على حقيقته ولو أقرض مالا وقبض به الرهن فهلك عنده كان هو بالهلاك مستوفيا وإن كان أقرضه لا يجوز فكذلك إذا ارتهن على جهة الإقراض يصير مستوفيا بهلاكه ويجب عليه رد ما استوفي حين لم يكن له على مالك الرهن شيء وكذلك لو ارتهن بكفالة بالمال يصير مستوفيا بهلاك الرهن وإن لم تصح كفالته في حق المولي وعليه رد ما استوفى ولا يجوز للعبد التاجر إن يرهن عن غيره رهنا وإن أذن له مولاه فيه إذا كان عليه دين لأنه رهنه عن غيره بمنزلة قضائه دينه بكسبه وهو ينزع منه كالإقراض فلا يصح لحق غرمائه وإن رضي به مولاه وكذلك لا يصح من المكاتب كنفس الإقرار وإن لم يكن عليه دين جاز بإذن المولي لأن كسبه حق لمولي ولو باشر المولي ذلك في كسبه جاز فكذلك إذا فعله العبد بإذنه.
وارتهان العبد التاجر من العبد التاجر جائز فيما يجوز من الإقرار لأنها من صنع التجار ولا يجوز للعبد التاجر أن يرهن نفسه كما لا يجوز له أن يبيع نفسه وقد بينا إنه لو رهن ما لا يملك بيعه لا يجوز ذلك وهو لا يملك بيع نفسه إذ موجبه ضد موجب الإذن فإن موجب الإذن فك الحجر عنه وموجب بيع نفسه إثبات الحجر عليه فإن فعل ذلك فأجازه المولى جاز إن لم يكن عليه دين غير ذلك.
ألا ترى إنه لو باع نفسه بذلك الدين فاجازه المولى جاز فكذلك إذا رهنه وهذا لأن المولي يملك مباشرة بيعه في هذه الحالة والإذن له في ذلك فإجازته في الانتهاء كالإذن في(21/269)
ص -128- ... الابتداء وإذا رهن العبد أو ارتهن ثم حجر عليه فالرهن جائز لأنه تصرف في حال انفكاك الحجر عنه وكذلك المكاتب إذا عجز ولا يجوز للعبد المحجور عليه أن يرهن ولا يرتهن إلا أن يجبره المولي بمنزلة سائر التصرفات ومنها البيع والشراء وبمنزلة الإيفاء والاستيفاء وإذا رهن المولي شيئا من متاع العبد المأذون وعليه دين لم يجز وإن أجازه العبد لأن كسبه حق غرمائه والمولي ضامن لما رهنه بحق الغرماء والعبد لا يملك إسقاط حق الغرماء بإجازته رهن المولي إن لم يكن عليه دين جائز لأن كسبه خالص حق المولي وكذلك لو أعار العبد سلعة رجلا أو رهنه فرهنه لم يجز لأن هذا بمنزلة الإقراض منه لمالية المتاع فإن أجازه المولي وعليه دين لم يجز لأن المولي ممنوع من هذا التصرف في كسبه لحق غرمائه فلا ينفذ بإجازته وكذلك إن أجازه الغرماء لأن دينهم لا يسقط بالإجازة وهو بمنزلة ما لو أقرض العبد شيئا من كسبه لم يجز ذلك وإن أجازه الغرماء.
ولو رهن الصبي الحر من غيره رهنا بأمر أبيه لم يجز لأنه بمنزلة الإقراض والأب لا يملك الإقراض في مال الصبي في ظاهر الرواية فكذلك الصبي لا يملك الإقراض بأمر أبيه واشتراط الخيار للراهن في الرهن ثلاثة أيام جائز كما في البيع لأن عقد الرهن يلزم من قبل الراهن وتأثير اشتراط الخيار في منع اللزوم مستفاد ذلك بشرط الخيار للراهن ولا معنى لاشتراط الخيار للمرتهن لأنه لا يتعلق به اللزوم في حقه فإنه متمكن من رده متى شاء بغير خيار وكذلك لا معنى لخيار الرؤية فيه لأن ذلك لو ثبت إنما يثبت للمرتهن وهو متمكن من رده بعد الرؤية متى شاء وليس له أن يأخذ مكانه رهنا آخر وإن كان ذلك مشروطا لأن حكم الرهن لا يثبت بدون القبض ولم يوجد منه القبض في عين أخرى فلا يكون له أن يطالب به فلهذا لا يثبت للمرتهن خيار الشرط والرؤية والله أعلم
باب رهن أهل الكفر(21/270)
قال رحمه الله:الرهن والارتهان جائز بين أهل الذمة فيما يجوز بيعهم فيه بمنزلة الإيفاء والاستيفاء فهو المقصود بالرهن أو بمنزلة سائر المعاملات فالرهن منها وهم في المعاملات يسوون بنا فإن رهنه خمرا فصارت خلافان كانت قيمته مثل قيمتها يوم ارتهنها فهو رهن على حاله لأن العين باقية في المالية وما لم يتقوم لم يتغير بتغير هذا الوصف وضمان الرهن باعتبار المالية فبتغير الوصف إذا لم يكن بقضاء باقي المالية لا يعتبر وكذلك لو رهنه عصيرا فصار خمرا لأن العين بكل واحد من الوصفين مال متقوم في حقهم ولو رهنه شاة فماتت سقط الدين لفوات المالية في ضمان المرتهن وفيها وفاء بالدين فإن دبغ المرتهن جلدها فهو رهن لأن الجلد بالدبغ صار مالا متقوما وهو مما تناوله الرهن فبقدر ما جنى من المالية يعود من الدين وهذا بخلاف الشاة المشتراة إذا ماتت قبل القبض فدبغ البائع جلدها فإن سقط شيء من الثمن لا يعود هناك لأن سقوط الثمن بانفساخ البيع وبه عاد العبد إلى ملك البائع فالجلد المدبوغ ملك البائع فلا يعود الملك فيه بعد ما انفسخ فأما سقوط الدين هنا فبطريق(21/271)
ص -129- ... الاستيفاء وانتهاء حكم الرهن مع بقاء الدين على ملك الراهن فالجلد المدبوغ يكون ملكا له وقد كان حكم الرهن فيه متقررا بالانتهاء فلهذا يعود من الدين حصة ما جنى من مالية الجلد فإن كان الدين عشرة دراهم وكانت الشاة تساوي عشرة والجلد يساوي درهما فهو رهن بدرهم وإن كانت الشاة تساوي عشرين يوم ارتهن والدين عشرة وكان الجلد يساوي درهما يومئذ فالجلد رهن بنصف درهم.
والحاصل: أن انقسام الدين على مالية الجلد واللحم وقت عقد الرهن وقد علمنا إن بمقابلة كل درهم من الرهن نصف درهم من الدين لأن قيمة الشاة ضعف الدين فتعود مالية الجلد بعود نصف ماليته من الدين وذلك نصف درهم فإن كانت الشاة يوم ارتهنت تساوي خمسة والجلد يساوي درهما فقد ذهب من الدين أربعة والجلد رهن بستة لأن الخمسة من الدين كانت باقية وقد عاد من الساقط بقدر مالية الجلد وهو درهم وكل جزء من الرهن محبوس بجميع الدين فلهذا كان الجلد مرهونا بما بقي من الدين وهو ستة وإن هلك هلك بدرهم.(21/272)
ولو ارتهن المسلم من مسلم وكافر خمرا فصارت في يده خلا لم يجز الرهن لانعدام المالية والتقوم في الخمر بخمر في حق المسلم وموجب الرهن ثبت بالعقد عند القبض والخمر ليس بمحل لذلك في حق المسلم فبطل العقد لأنه لم يصادف محله والعقد الباطل بحدوث الصلاحية في المحل المضاف إليه لا ينقلب صحيحا كما لو اشترى مسلم خمرا فتخللت أو صيدا قبل الأخذ ثم أخذه البائع وللراهن أن يأخذ الخل ولا يعطيه أجرا لأن عين ملكه تغير بطبعه من غير أن زاد المرتهن فيه شيئا من ملكه أو أحدث فيه صنعا والدين عليه كما كان إن كان الراهن مسلما وإن كان الراهن كافرا وكانت قيمته يوم رهن والدين سواء فله أن يدع الخل ويبطل الدين لأنه قبض الخمر على وجه الضمان فخمر الكافر يجوز أن تكون مضمونة على المسلم بالقبض وبالتخلل فإن مقصود المضمون له بصفة الخمرية كانت مقصودة له ولا وجه لإسقاط شيء من الدين باعتباره فكان له أن يجعل العين في حكم المستهلك ويصير المرتهن مستوفيا دينه بطريق المقاصة قيل هذا قول محمد كما هو أصله في القلب إذا انكسر إنه تعتبر حالة الانكسار بحالة الهلاك والأصح أنه قولهم جميعا لأن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله هناك في حال الانكسار يوجبان ضمان القيمة لأن تمليك العين بضمان القيمة من الضامن ممكن وهنا ذلك غير ممكن والمضمون بالرهن هو الخمر والمسلم ليس من أهل أن يكتسب بسبب ملك الخمر ببدل فلم يبق إلا أن يكون له أن يدع الخل ويبطل الدين وهذا بخلاف ما إذا كان المرتهن ذميا لأن هناك العقد صحيح فباعتبار صحة العقد يكون المضمون هو المالية والمالية لم تتغير بالتخلل وهنا العقد باطل والمضمون بالقبض هو العين لأن الراهن ما رضي بقبضه إلا باعتبار العقد فبدونه أشبه قبض الغصب.
ولو غصب المسلم من ذمي خمرا فتخللت عنده كان للمغصوب منه أن يدع الخل(21/273)
ص -130- ... ويضمنه قيمته فهنا أيضا له أن يدع الخل ويختار تضمين القيمة ثم يصير قصاصا بدينه وقيمته يوم الرهن والدين سواء وبهذا التحقيق يظهر الاستيفاء عن القدر الذي ذكرنا لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في الفرق بين هذا وبين القلب المستهلك فإنه لا فرق سوى أن القيمة هناك من خلاف جنس الدين فلا يصير قصاصا بالدين وهنا القيمة من جنس الدين فيصير قصاصا بالدين.
ولو ارتهن مسلم عصيرا فصار خمرا والراهن مسلم أيضا لم يكن للراهن أن يأخذه وللمرتهن أن يخللها ويكون رهنا كما كان يبطل منها على حساب ما نقص من الدين لأن بحدوث صفة الخمرية تنعدم المالية ويتقوم في حق المسلم وذلك مسقط للدين إلا أن المرتهن متمكن من إعادة المالية بالتخليل فلا يكون للراهن أن يبطل عليه ذلك بأخذها فإذا خللها المرتهن وقد عادت المالية وبعودها يعود حكم الرهن كما في الشاة الميتة إذا دبغ جلدها إلا أنه إن كانت مالية الخل دون مالية العصير فقد انتقضت المالية بتغير حدث في عين المرهون فهو بمنزلة العيب يسقط بحصته من الدين وإن كان الراهن كافرا فله أن يأخذ الرهن فيكون الدين على حاله وليس للمسلم أن يخللها لأن بحدوث صفة الخمرية لم تنعدم المالية في حق الراهن وقد فسد العقد به لأن الطارئ بعد العقد قبل حصول المقصود به كالمقترن بالعقد والمسلم لو ارتهن خمرا من كافر لم يصح فكذلك إذا ارتهن عصيرا فتخمر يفسد العقد كما لو اشترى عصيرا فتخمر قبل القبض وإذا فسد العقد كان للراهن أن يأخذها والدين عليه كما كان لأن شيئا من المالية لم يفت في ضمان المرتهن وليس للمسلم أن يخللها هنا لأن صفة الخمرية مقصودة للكافر فليس للمسلم أن يبطلها عليه بالتخلل فإن خللها فهو ضامن لقيمتها يوم خللها لأنه صار غاصبا بما صنع فهو كما لو غصب خمر ذمي وخللها فيضمن قيمتها والخل له ويرجع بدينه لأن رد القيمة كرد العين فلا يسقط شيء من دينه عن الراهن.(21/274)
ولو رهن الذمي عند الذمي جلد ميتة فدبغه المرتهن لم يكن رهنا لأن الميتة ليست بمال في حقهم ولا يجوز بيعها بينهم فلا يجوز رهنها ثم ما لم يكن مرهونا فبحدوث صفة المالية فيه لا يصير مرهونا وللراهن أن يأخذه ويعطيه قيمة الدباغة إن كان دبغه شيء له قيمة بمنزلة من غصب جلد ميتة فدبغه وإذا ارتهن الذمي من الذمي خمرا ثم أسلم فقد خرجت من الرهن لأن الإسلام الطارئ بعد العقد قبل تمام المقصود به كالمقارن للعقد بمنزلة التخمر في العصير في حق المسلم فإن خللها فهو أن أصل العقد كان صحيحا ثم فسد لانعدام المالية والتقوم بسبب استلامهما في حقهما فإذا خللها المرتهن فقد عاد فيها صفة المالية والتقوم فكانت رهنا على حالها وكذلك لو أسلم أحدهما أيهما كان ثم صار خلا فهو رهن وينقص من الدين بحساب ما نقص منها لنقصان المالية بتغير صفة العين.
وإذا ارتهن الكافر من الكافر خمرا ووضعها على يدي مسلم عدل وقبضها فالرهن جائز لأن العدل في القبض نائب عن المرتهن والمرتهن من أهل العقد على الخمر(21/275)
ص -131- ... وحكم فعل النائب يظهر في حق المنوب عنه على أن يجعل فعله كفعل المنوب عنه والمسلم ليس من أهل القبض منهم عند عقد الرهن له فأما هو فمن أهل القبض منهم عند عقد الرهن لغيره ولكنها تنزع من المسلم لأنه مأمور بالإمساك عن الخمر ممنوع عن الاقتران منها بقوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: 90]فينزع من يده ويوضع على يدي ذمي عدل دين مراعاة للنظر من الجانبين بمنزلة مسلم رهن من مسلم شيئا ووضعه على يدي عدل فمات العدل فإنه يوضع على يدي عدل آخر والحربي المستأمن في الرهن والارتهان كالذمي فإن رجع إلى دار الحرب ثم ظهر المسلمون على الدار فأخذوه أسيرا وله في دار الإسلام رهن بدين عليه فقد بطل الدين وصار الرهن الذي في يديه بذلك الدين في قول أبي يوسف وقال محمد يباع الرهن فيستوفي المرتهن دينه وما بقي فهو في عين أسره فأبو يوسف يقول تبدلت نفسه بالأسر وصار مملوكا بعد أن كان مالكا فيسقط الدين بفوات محله وهو الذمة المشغولة فالدين لا يجب في ذمة العبد إلا شاغلا مالية رقبته لضعف الذمة بالرق وذلك غير ممكن هنا لأن الشيء يقتضي صفاء ملك المالية في الشيء الثاني فلفوات المحل يسقط الدين ثم الرهن الذي في يديه أما باعتبار أن يده إليه أقرب من يد الأسير فيصير هو متملكا له كمن أسلم في دار الحرب إذا ظهر المسلمون على الدار كان معقولا به لأنه صار محررا لها بسبق يده إليها أو لأن المرهون كان محبوسا عنده إلى أن يصل إليه دينه وقد وقع اليأس عند ذلك فبقي محبوسا في يده على التأييد ولا تظهر فائدة ذلك إلا بأن يصير مملوكا له وقد كان هو بحكم يده أخص بغرمه حتى لو هلك سقط دينه فيكون أخص بقيمته فيملكه بذلك الدين وجه قول محمد أن سقوط الدين عند الاسترقاق لفوات المحل ولم يفت المحل هنا لأن الذمة بقيت صالحة لبقاء الواجب فيها والرهن خلف في حكم الاستيفاء فيبقى الدين باعتبار هذا الخلف كالمديون إذا مات يبقى الدين باعتبار التركة لأنها(21/276)
خلف عن الذمة في حكم الاستيفاء فإذا بقي الدين بقي حكم الأمان في عين الرهن بحق المسلم المرتهن فيباع في دينه وإذا استوفى دينه سقط حقه فيكون الباقي لمن أسره لأن المرتهن في الباقي كان أمينا يده فيه كيد صاحب الأمانة فكأنه كان في يد المأسور والأسر كما يملك المأسور بالقهر يملك ما في يده ولا يمكن أن يجعل مملوكا للمرتهن بضمان الرهن لأن ضمان الرهن لا يوجب الملك في العين ولا بطريق الاغتنام لأن ببقاء يد المرتهن وحقه يبقي الإحراز ولا يفوت فلا يكون محلا للاغتنام ما لم يسقط حق المرتهن والإحراز كان باعتبار حقه لأنه لم يبق للمأسور حق فلهذا كان الباقي لمن أسره.
وإن كان عنده رهن لمسلم أو ذمي بدين له عليه رد الرهن على صاحبه وبطل دينهم عندهم جميعا لأنه بالرق خرج عن أن يكون أهلا لملكه المال فقد صار مملوكا ما لم يخلفه الثاني في ملك الدين لأن ذمة المسلم لا تدخل تحت القهر فإذا لم يملكه بالشيء سقط إما لفوات المطالبة به أصلا أو لأن المسلم محرز ما في ذمته فيملكه ويسقط عنه والرهن مردود(21/277)
ص -132- ... على صاحبه لأنه ملك الرهن فلا يملكه الثاني لبقاء إحراز المسلم أو الذمي له فلهذا كان مردودا عليه.
وإذا ارتهن الحربي من الحربي رهنا فقبضه ثم خرجا بإمام فاختصما فيه لم يقض بينهما لأنهما لم يستأمنا ليجري عليهما الحكم بل ليتجرا ويعودا إلى دارهما وهذه المعاملة كانت منهما حيفا حين لم يكونا تحت ولاية الإمام فما لم يلتزما حكم الإسلام لم يقض في ذلك بينهما ولو جاءا مسلمين أو ذميين ثم اختصما في الرهن وهو بعينه أبقيت الرهن على حاله لأنهما التزما حكم الإسلام وابتدآ الرهن والارتهان صحيح بينهما بعد هذا الالتزام فيبقى أيضا ما كان جرى بينهما ورهن المرتهن المرتد وارتهانه موقوف عند أبي حنيفة فسائر تصرفاته فإن قتل على ردته وهلك الرهن في يدي المرتهن وقيمته والدين سواء وقد كان الدين قبل الردة والرهن من مال اكتسبه قبل الردة أو كان الدين في ردته بإقرار منه أو ببينة قامت عليه والرهن مما اكتسبه في الردة أيضا فهو بما فيه لأن الرهن بمنزلة إيفاء الدين عند هلاكه فيتغير بحقيقة الإيفاء وإنما يوفي دين الإسلام من كسب الإسلام ودين الردة من كسب الردة في ظاهر الرواية عنه فلا فائدة في نقض الرهن هنا وإن كان في الرهن فضل على الدين فإن المرتهن يضمن الفضل لأن الرهن لم يصح في الفضل كما في حقيقة الإيفاء.(21/278)
ولو استدان دينا في ردته ورهن به متاعا اكتسبه في الردة وكان الدين قبل الردة والمتاع من كسبه في الردة فالمرتهن ضامن لقيمته ويكون ذلك كبائع ما اكتسب في الردة ويرجع المرتهن بماله فيما اكتسبه قبل الردة لأن كسب الردة عنده فيء وكسب الإسلام ميراث فإذا أوفى دين الإسلام في كسب الردة فقد أوفاه من محل هو فيء للمسلمين فيرد ذلك لمراعاة حق المسلمين بإيجاب ضمان القيمة على المرتهن وكذلك إذا أوفى دين الردة من كسب اكتسبه قبل الردة لأنه قضى بما هو حق الورثة دينا لزمه في حالة الردة ومحل ذلك الدين كسب الردة لأن الغنم مقابل بالغرم فيكون المرتهن ضامنا قيمته للورثة وفي روايته عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله إنما يقضي الدينان من كسب الردة لأن حق المسلمين إنما يثبت في كسب الردة باعتبار أنه مال ضائع وذلك إذا فرغ عن دينه وكسب الإسلام يثبت فيه حق ورثته بالردة فصار خارجا عن ملكه وإنما يقضي دينه مما كان على ملكه إلى وقت موته فعلى هذا يقول إن كان الرهن من كسب الردة فهو بما فيه بأي العينين كان وإن كان من كسب الإسلام فالمرتهن ضامن قيمته للورثة وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله يقضي الدينان من كسب الإسلام إذا أمكن لأنه كان مملوكا له موروثا عنه والميراث يتأخر عن الدين فعلى هذا إذا كان الرهن من كسب الإسلام فهو بما فيه وإن كان من كسب الردة فالمرتهن ضامن قيمته للمسلمين ويرجع بدينه في كسب الإسلام وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله حكم الكسبين سواء في أنه ميراث عنه وتصرفه من حيث الرهن والارتهان نافذ وكان الرهن بما فيه وكذلك إذا أسلم عند أبي حنيفة لأن بإسلامه ينفذ الرهن كما ينفذ سائر(21/279)
ص -133- ... تصرفاته وقول أبي حنيفة في رهن المرتدة وارتهانها كقولهما لأن رهنها ينفذ كما تنفذ سائر تصرفاتها فإنها لا تقتل والرجل يقتل.
وإذا ارتهن المسلم من مسلم عبدا مرتدا وقبضه وهو لا يعلم به فقتل عنده فهو من مال الراهن والدين عليه وكذلك لو كان حلال الدم بقصاص فقتل عند المرتهن ولو كان قد سرق عند الراهن فقطعت يده عند المرتهن لم يذهب من الدين شيء وكان رهنا بالدين كله وأما العبد الزاني أو القاذف أو الشارب خمرا عند الراهن إذا ضرب الحد عند المرتهن فدخله من ذلك نقصان فذلك من مال المرتهن وهذا كله في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله مثل ذلك إلا في السرقة والقتل فإنه يقوم سارقا ويقوم غير سارق ويقوم حلال الدم ومحقون الدم فيسقط من الدين باعتبار قيمته سارقا أو حلال الدم ويكون على الراهن تفاوت ما بين القيمتين إذا قتل وفي السارق يسقط من الدين نصف قيمته سارقا ويكون مرهونا بما وراء ذلك وأصل هذه المسألة في البيع إذا اشترى عبدا سارقا أو حلال الدم فقتل أو قطعت يده عند المشتري وقد بيناه في البيوع وإن اختلف الراهن والمرتهن في ذلك فقال الراهن رهنتك وهو مسلم وقال المرتهن رهنته وهو كافر فالقول قول المرتهن والبينة بينة الراهن لأن المنازعة بينهما في استيفاء الدين والمرتهن ينكر شيئا من الدين بما فعل به عنده والراهن يدعي ذلك فالقول قول المنكر مع يمينه وعلى الراهن إثبات ما يدعي بالبينة والله أعلم.
باب رهن المضارب والشريك(21/280)
قال رحمه الله: وإذا رهن المضارب رهنا من المضاربة بدين استدامه عليها فإن كان رب المال أمره بأن يستدين ويرهن فالرهن جائز والدين عليهما لأن الاستدامة هو الشراء بالبينة وذلك ليس من حكم المضاربة فالمضاربة تستدعي رأس مال حاضر وذلك معدوم في الاستدانة ولكن استدانة المضارب بأمر رب المال بمنزلة استدانتهما جميعا فيكون المشتري بينهما نصفين والثمن عليهما نصفان سواء كانت المضاربة بالنصف أو بالثلث فإذا رهن بهذا الدين الذي عليهما متاعا بإذن رب المال فهلك الرهن وفيه وفاء صار المرتهن مستوفيا للثمن وعلى المضارب نصفه لرب المال لأن مال المضاربة ملك رب المال وقد قضى به دينا عليهما بأمره فيضمن له مقدار حصته من ذلك كالمستعير للرهن إذا صار قاضيا دينه بهلاك الرهن ضمن مثله للمعير وإن كان لم يأمره أن يستدين عليهما فإنما استدان على نفسه وقضى بمال المضاربة دينا عليه فيكون مخالفا في حق رب المال ضامنا له قيمة المرهون كله.
وإذا ارتهن المضارب بدين من المضاربة جاز لأن الارتهان بمنزلة الاستيفاء وإلى المضارب استيفاء الدين الواجب للمضاربة ولو كانت المضاربة ألفين واشترى عبدا بألف وقبضه ونقدها ثم اشترى متاعا بالألف الأخرى وقبضه على أن أعطاه العبد بها رهنا فهو جائز لأن الرهن بمنزلة الاستيفاء والدين الواجب بتصرفه للمضاربة إنما يقتضيه من مال المضاربة(21/281)
ص -134- ... وإذا مات رب المال والمضاربة عروض فرهن المضارب منها شيئا لم يجز لأن المضاربة تنتقض بموت رب المال كالشركة وإنما يملك من التصرف بعد ذلك ما ينض به المال ويرد رأس المال ويقسم الربح مع الورثة والرهن ليس من هذا في شيء بما لا يملك أن يرهن فيكون هو ضامنا بخلاف ما لو باع شيئا من المال لأنه إن باعه بالنقد فهو تصرف في الذي ينض به المال وإن باعه بالعرض فكذلك أيضا لأن هذا العرض ربما لا يشتري بالنقد فتبادله بعرض آخر يشتري ذلك منه بالنقد.
وإذا رهن رب المال متاعا من المضاربة وفيه فضل لم يجز لأن حق المضارب في الفضل مملوك له فلا يصح رهن رب المال فيه بغير رضا المطالب فلا يصح فيما وراء ذلك لأجل الشيوع فإن لم يكن فيه فضل على رأس المال فهو جائز لأنه رهن ملك نفسه بدينه ولكن يضمن قيمة ذلك لأنه صار مخرجا له من المضاربة وكان فيه حق للمضارب.
ألا ترى أنه لو نهاه عن التصرف فيه لا يعمل بنهيه فيصير ضامنا لحقه كما لو استهلكه وعلى قول زفر لا يضمن له شيئا وأصل الخلاف فيما إذا باع المضارب شيئا من رب المال ولا فضل في المال فعندنا يجوز البيع وعند زفر لا يجوز البيع وبيانه في المضاربة وكذلك لو باع رب المال متاعا في هذه الحالة وأكل ثمنه ورهن المفاوض وارتهانه بدين المفاوضة جائز عليه وعلى شريكه كالاستيفاء لأنهما فيما هو من التجارة كالواحد من المتفاوضين يقوم مقام صاحبه ولو وجب عليه دين من جناية فرهن به رهنا من المفاوضة كان جائزا وهو ضامن حصة شريكه وليس لشريكه أن ينقض الرهن لأنه سلطه على أن يرهن ويبيع فلا يكون له أن ينقضه ولكن إذا هلك الرهن صار قابضا فنصيب شريكه من الرهن دين عليه فلهذا ضمن له قيمة نصيبه.
ولو أعار الشريك إنسانا متاعا ليرهنه كان جائزا عليهما في قياس قول أبي حنيفة ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة الكفالة إذا كفل أحد المتفاوضين بدين وقد بيناه في كتاب الكفالة.(21/282)
ولو استعار متاعا من رجل وقبضه ورهنه كان جائزا لأن هذا من صنع التجار ففعل أحدهما فيه كفعلهما فإن هلك وقيمته والدين سواء ضمن المال الذي أعاره لأنه صار ضامنا دينه بملكه وإذا ارتهن المفاوض رهنا فوضعه عند شريكه فضاع فهو بما فيه لأن كل واحد من المتفاوضين يحفظ المال بيد صاحبه كما يحفظه بيد زوجته فيسلم إلى صاحبه بمنزلة تسليمه إلى زوجته وإذا رهن أحد شريكي العنان رهنا بدين عليهما لم يجز وكان ضامنا للرهن لأن كل واحد منهما في نصيب صاحبه وكيل بالبيع فقط والوكيل بالبيع لا يملك الرهن وإذا لم يصح رهنه في نصيب شريكه لم يصح في نصيبه ويكون ضامنا نصيب صاحبه للخلاف ولو ارتهن بدين لهما أدياه وقبض لم يجز على شريكه لأنه لا يملك استيفاء نصيب شريكه فإنه غير مالك لذلك ولا مباشر سبب وجوبه فإن هلك في يده ذهب بحصته من الدين ويرجع شريكه(21/283)
ص -135- ... بحصته على المطلوب ويرجع المطلوب على المرتهن بنصف قيمة الرهن وإن شاء الشريك ضمن شريكه حصته لأن أخذه الرهن بمنزلة استيفاء المال وقد بينا وجه هذه المسألة مع ما فيها من طعن عيسى في كتاب الشركة ولو كانت شركتهما على أن يعمل كل واحد منهما برأيه فيها فما رهن أحدهما أو ارتهن فهو جائز على صاحبه لأن صاحبه أجاز صنيعه على العموم فيما هو من عمل التجارة والرهن والارتهان من هذه الجملة.
وإذا استودع الرهن صاحبه أو أحدا من عياله لم يضمن لأنه يحفظ المرهون على الوجه الذي يحفظ مال نفسه وإنما يحفظ مال نفسه بيد هؤلاء عادة فكذلك المرهون لو أخذ رهنا بدين لهما وهلك عنده فقال شريكه لم تأخذه رهنا وقال الآخر أخذته رهنا فهلك عندي فإن كان هو ولي حقيقة البيع فالقول قوله لأن هذا منه إقرار بالاستيفاء وهو المختص بملك الاستيفاء فيجوز إقراره به وإن وليها الآخر لم يصدق في هذاإلا أن يكون كل واحد منهما قد أجاز ما صنع صاحبه أو أذن له أن يعمل في ذلك برأيه في الرهن فحينئذ يملك الاستيفاء فيما وجب بمعاملة صاحبه فيصح إقراره بالاستيفاء والرهن فيه أيضا وإن كانت شركتهما الثلث والثلثين على أن يعمل كل واحد منهما برأيه فادان أحدهما دينا من الشركة فهو جائز لأن كل واحد منهما منفرد برأيه فلو ادان أحدهما دينا من الشركة فهو جائز لأن كل واحد منهما فوض الأمر إلى رأي صاحبه فيما هو من عمل التجارة والإدانة من ذلك وكذلك إن رهن أو ارتهن فهو على قدر الشركة بينهما على الثلث والثلثين والكفيل بالدين بأمر المكفول عنه إذا ارتهن من المكفول عنه رهنا وقبضه فهو جائز وإن لم يكن أدى المال بعد لأن بنفس الكفالة يجب المال للكفيل على الأصيل كما يجب للطالب على الكفيل ولكنه مؤجل إلى أن يؤدي عنه.(21/284)
ألا ترى أنه إذا طولب طالب وإذا لوزم لازم وإذا أدى رجع والرهن بالدين المؤجل صحيح وإذا افترق الشريكان ثم هلك الرهن في يد أحدهما ثم قال أخذت هذا الرهن من فلان بديني ودينك في الشركة قبل أن نفترق وقال الآخر أخذته بعد ما افترقنا فإن كان هذا ادان بدين في الشركة وحده فلا فائدة في هذا الاختلاف لأنه يملك أخذ الرهن بها في الشركة وبعدها فإن الاستيفاء إليه خاصة فكما يصح مباشرته عليها يصح إقراره وإن كان الآخر أدانه فعلى المرتهن البينة أنه أخذه في الشركة فإن جاء ببينة على ذلك وقد أجاز كل واحد منهما ما صنع صاحبه فهو جائز لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وفعل أحدهما في الشركة عند إجازة صاحبه صنيعه كفعل صاحبه وإن لم يكن أجاز كل واحد منهما ما صنع صاحبه ولم يقل له اعمل فيه برأيك لم يجز على شريكه وإن كان أخذه في الشركة.
ولو أن رجلا ادان رجلا ألفا واحدة أخذ بها رهنا منه لم يجز ذلك على رب المال كما لو استوفاه حقيقة لأن صاحب المال لم يكن يأمره بذلك ولا يضمن آخذ الرهن شيئا لأنه هنا بمنزلة العدل في حق الراهن وإنما قبض العين بإذنه فلا يكون مضمونا عليه وعيسى في مسألة الطعن إنما يستدل بهذا وقد بينا الفرق بينهما في كتاب الشركة ولو كان قال وكلني(21/285)
ص -136- ... بقبض المال وأمرني أن آخذ به منك رهنا فأخذ به منك رهنا قيمته مثل الدين فهلك عنده قال يضمن قيمته للراهن لأنه إنما رضي بتسليم المال إليه على أنه وكيل تبرأ ذمته بهلاك الرهن في يده وقد تبين أنه لم يكن وكيلا فكان قابضا بغير إذنه ضامنا للقيمة ولو كان المطلوب صدقه بالوكالة لم يرجع المطلوب على الوكيل بشيء لأن في زعمه أنه كان أمينا في قبض الرهن وإنه استفاد البراءة بهلاك الرهن في يده إلا أن الطالب ظلمه بالرجوع عليه مرة أخرى بدينه ومن ظلم ليس له أن يظلم غيره وزعمه معتبر في حقه فلا يرجع على الوكيل بشيء لهذا.
ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فجاء رجل وقال قد وكلني فلان بأخذها منك أو ابتاع منك بيعا بها فاصنع فيها ما شئت فأعطاه ثوبا بخمسة دراهم ورهنه ثوبا بخمسة وقبضهما وصدقه المطلوب في ذلك فهلك الثوبان عنده ضمن ثمن الثوب الذي اشتراه لأنه وكيل بالشراء بتصادقهما ولكن الوكيل بالشراء مطلوب بالثمن ضامن له ولم تقع المقاصة بدين الطالب حين جحد الوكالة ولم يضمن الذي ارتهنه لأنه عدل فيه بزعمهما ويرجع الطالب على الغريم بالعشرة لأن الوكالة لم تثبت في حقه حين جحد وحلف فيرجع بماله على المطلوب والله أعلم
باب العارية في الرهن(21/286)
قال رحمه الله:وإذا استعار الرجل من الرجل ثوبا ليرهنه فما رهنه به من قليل أو كثير فهو جائز أما جواز الاستعارة للرهن فلان الدين يتعلق بمالية الرهن والمعير يرضى بتعلق حق صاحب الدين بملكه واستحقاق ماليته به كما إن الوكيل بالدين يلتزم المطالبة في ذمته على وجه يستحق به قضاء الدين من ماله وذلك منه تبرع صحيح فهذا مثله والدليل عليه أنه لو أمر عبده بأن يكفل بمال صح والدين لا يجب على العبد إلا شاغلا لمالية رقبته فإذا ملك شاغل مالية رقبة العبد بطريق الإذن في الكفالة تملك ذلك بطريق الإعارة للرهن لأن الثابت بالرهن للمرتهن بعض ما ثبت بحقيقة الاستيفاء وهو ملك اليد فإذا جاز أن يثبت له ملك اليد والعين جميعا بإيفاء غير المديون من ماله على طريق التبرع يجوز أن يثبت ملك اليد له بالرهن أيضا وإذا جاز أن يفصل ملك اليد على ملك العين بقاء للبائع جاز أن ينفصل ملك اليد عن ملك العين ثبوتا للمرتهن ثم ما رهنه به من قليل أو كثير فهو جائز لأن المعير أطلق فالتقييد شيء زيادة عليه فلا يثبت ذلك بالمطلق وهذا الإطلاق لا يمنع صحة الإعارة لأنه لا يفضي إلى المنازعة بمنزلة الإعارة للانتفاع مطلقا ولو سمى له سببا فرهنه بأقل منه أو أكثر ضمنه أما إذا رهنه بأكثر فلانعدام الرضا من المعير بالزيادة لأن الإنسان قد يرضى بأن يكون ملكه محبوسا بما تيسر عليه أو على المستعير قضاؤه دون ما تيسر عليهما وأما إذا رهنه بأقل فلان المعير إنما رضي بشرط أن يصير المرتهن عند الهلاك مستوفيا للعشرين ليرجع هو على المستعير بذلك فإذا رهنه بأقل فعند الهلاك إنما يرجع المعير على المستعير بذلك القدر والحاصل أن التقييد متى كان مفيدا فهو معتبر والتقييد هنا مفيد في المنع من الزيادة والنقصان جميعا(21/287)
ص -137- ... وكذلك لو قال: ارهنه بجنس فرهنه بجنس آخر فهو تقييد مفيد لأنه يتعسر على المعير أداء جنس دون جنس وكان مقصوده من التقييدات يتمكن من غير ملكه بأداء الجنس الذي هو متيسر عليه وكذلك إن أمره أن يرهنه من رجل فرهنه من غيره لأن هذا التقييد مفيد فالناس يتفاوتون في الحفظ وأداء الأمانة وكذلك لو قال ارهنه بالكوفة فرهنه بالبصرة لأن هذا التقييد مفيد فقد يرضى الإنسان بأن يكون ماله في بلدة دون بلدة ومتى صار مخالفا فإنه يصير ضامنا قيمته وللمعير الخيار إن شاء ضمن المستعير وتم عقد الرهن بينه وبين المرتهن وإن شاء ضمن المرتهن ورجع المرتهن بما ضمن وبالدين على الراهن وقد بينا ذلك في الاستحقاق.(21/288)
ولو استعار ثوبا ليرهنه بعشرة فرهنه بعشرة وقيمته عشرة أو أكثر فهلك عند المرتهن بطل المال عن الراهن لأن الاستيفاء قد تم بهلاك الرهن ووجب مثله لرب الثوب على الراهن لأنه قبض الثوب وسلمه برضاه وذلك يمنع وجوب ضمان العيب ولكن صار قاضيا دينه بهذا القدر من ماليته ومن قضى دينه بمال الغير يضمن له مثل ذلك المال وكذلك لو أصابه عيب ذهب من الدين بحسابه ووجب مثله لرب الثوب على الراهن لأنه صار قاضيا هذا القدر من الدين بماله والجزء معتبر بالكل فإن كان الثوب يساوي خمسة وهو رهن بعشرة فأعسر الراهن ولم يجد ما يفتكه به ثم هلك الثوب في يد المرتهن ذهب بخمسة وعلى الراهن خمسة للمرتهن وهو مقدار الزيادة على قيمة الرهن من الدين وهي خمسة لرب الثوب لأنه صار موفيا خمسة من دينه بمالية ثوبه فيغرم له مثله ولو كانت قيمته مثل الدين وأراد المعير أن يفتكه حين أعسر الراهن لم يكن للمرتهن أن يمتنع من دفعه إليه إذا قضاه دينه بخلاف ما إذا تبرع أجنبي بقضاء الدين فلصاحب الدين أن لايفتكه منه لأن المعير بالإيفاء هنا يقصد تخليص ملكه فكان بمنزلة المديون الذي يقصد بالإيفاء تفريغ ذمته فأما الأجنبي فلا يقصد تخليص ملكه ولا ذمته بل هو متبرع على الطالب فله أن لا يقبل تبرعه.
توضيحه: أن المرتهن هنا رضي باستيفاء دينه بملك الغير فلا فرق في حقه بين مالية الرهن وبين مال آخر يعطيه وهو في الإباء بعد الرضا يكون متعينا وبهذا الحرف يرجع المعير على الراهن بما أدى عنه لأن الراهن رضي بأن يصير دينه مقضيا بملك المعير على وجه يرجع عليه بمثله وهو إذا هلك الرهن فلا فرق في ذلك بين مالية الرهن وبين مال آخر يؤديه.(21/289)
ولو هلك ثوب العارية عند الراهن قبل أن يرهنه أو بعد ما أفتكه فلا ضمان عليه فيه لأن حفظه العين في الحالين بإذن المالك وبالهلاك قبل الرهن أو بعد الفكاك لا يصير قاضيا شيئا من دينه بماليته وإن قال رب الثوب: هلك قبل أن يفتكه وقال الراهن هلك بعد ما افتككته أو قبل أن أرهنه فالقول قوله والبينة بينة رب الثوب أما إذا قال هلك قبل أن أرهنه فلإنكاره السبب الموجب للضمان وحاجة رب الثوب إلى إثبات ذلك بالبينة وأما إذا قال هلك بعد ما افتككته فلان رب الثوب يدعي عليه إيفاء الدين بماليته وهو منكر لذلك فالقول قول المنكر مع يمينه وعلى المدعي البينة(21/290)
ص -138- ... فإن قيل:هنا الراهن قد أقر بسبب وجوب الضمان وهو رهنه الثوب بدينه أو ادعى ناسخه وهو الفكاك فلا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة كالغاصب يدعي رد المغصوب.
قلنا:لا كذلك فالرهن بإذن صاحب الثوب ليس بسبب موجب للضمان على أحد وإنما الموجب للضمان عليه لرب الثوب فراغ ذمته عن الدين بسبب مالية الرهن.
ألا يرى إنه بذلك القدر يستوجب الرجوع عليه وبالرهن لا يحصل شيء من ذلك فكانت دعواه الهلاك بعد الفكاك ودعواه الهلاك قبل الرهن في هذا المعنى سواء.
ولو اختلف الراهن والمرتهن فقال المرتهن قبضت منك المال وأعطيتك الثوب وأقام البينة وقال الراهن بل أقبضتك المال وهلك الثوب عندك وأقام البينة فالبينة بينة الراهن لأنه ثبت ببينته إيفاء الدين بمالية الرهن والمرتهن ينفي ذلك بقوله أعطيتك الثوب وترجيح الثياب بالإثبات أصل فإن كان الثوب عارية فقال رب الثوب أمرتك أن ترهنه بخمسة وقال المستعير بعشرة فالقول قول رب الثوب لأن الإذن يستفاد من جهته ولو أنكره كان القول قوله فكذلك إذا أقر به مقيدا بصفة والبينة بينة المستعير لإثباته الزيادة وحاجته إليه.(21/291)
ولو استعار عبدا يساوي ألف درهم ليرهنه بألف فرهنه بألف ولم يقبضه حتى مات العبد عند المرتهن فعلى المرتهن ألف درهم للراهن لأن الدين الموعود كالدين المستحق لأنه يصير مستوفيا بهلاك الرهن ولم يكن للمرتهن على الراهن مثله ليصير قصاصا فعليه رد المستوفي إلى الراهن وعليه ألف درهم لصاحب العبد لأن سلامة هذا القدر له من مالية الرهن باستيفائه من المرتهن كسلامته له ببراءة ذمته عنه فإن رهنه وأخذ الألف ثم أعتقه الغير جاز عتقه لقيام ملكه في العبد بمد الرهن وقد قررناه في إعتاق الراهن وللمرتهن أن يرجع بالمال دينا على الراهن لأن دينه ثابت في ذمته والمعير صار مستردا للرهن بالإعتاق وإن شاء رجع به على رب العبد لأن حق المرتهن تعلق بماليته برضاء المعير وقد استهلكه بإعتاقه فهو كما لو استهلكه بالإتلاف وهو في هذا الحكم كأجنبي آخر فيضمن قيمته وتكون القيمة رهنا في يده حتى يقبض دينه من الراهن ثم يردها على المعير لأن استرداد القيمة كاسترداد العين وإن لم يعتقه ولكن الراهن أقر أنه قد قبض العبد ثم مات عنده وادعى ذلك المرتهن وكذلك المعير فإن الراهن يصدق على قبضه العبد لأن المال عليه للمرتهن وهو قد أقر ببقاء دينه عليه كما كان وقوله حجة عليه.
وكذلك لو كان العبد حيا فقبضه الراهن ثم قال اعور عندي ولم أعطه المال بعد وصدقه المرتهن فالقول قول الراهن لإقراره بوجوب جميع الدين عليه للمرتهن ولو قضي الراهن المرتهن المال وبعث وكيلا يقبض العبد فهلك عنده ضمنه المستعير أيضا لصاحبه بمنزلة ما لو قبضه المستعير بنفسه ثم دفعه إلى الأجنبي إلا أن يكون الوكيل من عياله لأنه لو قبضه بنفسه ثم دفعه إليه لم يضمنه فيد من في عياله في حفظ الأمانة كيده ولو استعار عبدا من رجلين فرهنه بأمرهما عند رجل ثم قضى نصف المال وقال هذا فكاك من نصيب فلان خاصة لم يكن له(21/292)
ص -139- ... ذلك وكان من جميع العبد لأن جميع العبد مرهون بالدين صفقة واحدة وكل جزء منه محبوس بجميع الدين.
ألا ترى إنه لو فرق القيمة في الابتداء وقال نصيب فلان بنصف المال ونصيب فلان بنصف المال لا يجوز ذلك فهو في الانتهاء بهذا التفصيل يريد إبطال الرهن في النصف الباقي وهو لا يتمكن من ذلك.
ولو استعار عبدا فرهنه بألف وقيمته ألف ثم قضي المال وهلك العبد عند المرتهن فلا ضمان على الراهن والمرتهن ضامن للألف يردها على مولي العبد قال عيسى رحمه الله هذا خطأ ولكن الصحيح أن الراهن ضامن للألف لصاحب العبد والمرتهن ضامن للألف للراهن لما هلك في يد المرتهن فقد تم الاستيفاء الذي انعقد بقبض الرهن وعلى المرتهن رد ما استوفى بإيفائه وإنما استوفاه من الراهن فيرده عليه والراهن صار قاضيا دينه بملك المعير فيقوم له مثل ذلك قال الحاكم ويحتمل أن يكون أداه فقوله لا ضمان على الراهن ضمان القيمة لأنه لا يتحقق منه خلاف يترك استرداد الرهن مع قضاء الدين بخلاف ما لو استرده ثم دفعه إلى المرتهن يكون ضامنا قيمته للخلاف بالتسليم للأجنبي قال ورأيت جواب هذه المسألة في رواية أبي حفص المرتهن ضامن للألف يردها على الراهن ويردها الراهن على مولي العبد ولم يقل لا ضمان على الراهن وهو الأصح كما قال عيسى.
ولو استعار عبد الرهن أو دابته فاستخدم العبد وركب الدابة قبل أن يرهنهما بمال بمثل قيمتهما ثم قضى المال ولم يقبضهما حتى هلكا عند المرتهن فلا ضمان على الراهن لأنه قد بريء عن الضمان حين رهنهما فإن كان أمينا خالف ثم عاد إلى الوفاق فيبرأ عن الضمان حين رهنهما.
فإن قيل:أليس أن المستعير إذا خالف بمجاوزة المكان لم يبرأ عن الضمان ما لم تصل العين إلى صاحبها وهذا مستعير قد خالف فكيف يبرأ عن الضمان قبل وصول المال إلى صاحبه.(21/293)
قلنا:لأن يد المستعير كيد نفسه فبالعود إلى المكان المشروط لا يصير أداء للعين لصاحبها حقيقة ولا حكما بخلاف المودع فإن يده كيد المالك فبالعود إلى الوفاق يصير أداء عليه حكما وما نحن فيه نظير مسألة الوديعة لأن تسليمه إلى المرتهن يرجع إلى تحقيق مقصود المعير حتى لو هلك بعد ذلك يصير دينه نقضا فيستوجب المعير الرجوع على الراهن بمثله وكان ذلك بمنزلة الرد عليه حكما فلهذا بريء به من الضمان قال والمال على المرتهن يرده على المعير هكذا ذكر في رواية أبي حفص وفي رواية أبي سليمان قال والمال على المرتهن يرده على الراهن ثم يأخذه المعير وقيل وهو الصحيح لأن المرتهن صار مستوفيا دينه بهلاك الرهن وظهر أنه استوفى الرهن فعليه أن يرد المستوفي ثانيا على من استوفاه منه وهو الراهن ويرجع المعير على الراهن لما صار قاضيا من دينه بملكه.
ولو قبل الراهن الرهن وقبضه ثم ركب الدابة أو استخدم العبد فهو ضامن لاستعماله ملك(21/294)
ص -140- ... الغير بغير أمره فإن لم تعطب في الركوب والخدمة ثم عطبت بعد ذلك من غير صنعه فلا ضمان عليه لأنه بعد الفكاك بمنزلة المودع لا بمنزلة المستعير والمودع إذا خالف ثم ترك الخلاف بريء من الضمان ولو استعار أمة ليرهنها فرهنها ثم وطئها الراهن أو المرتهن فإنه يدرأ له الحد عنهما أما المرتهن فلأنه ثبت ملك العبد بعقد الرهن وذلك مسقط للحد وأطلق الجواب هنا وفسر في كتاب الحدود فقال إذا قال ظننتها تحل لي وهو الصحيح فملك اليد الثابت للمرتهن هناك كملك اليد للزوج في العدة في حق المكانة وذلك إنما يسقط الحد إذا قال ظننت أنها تحل لي وكذلك لو وطئها الراهن وقال ظننتها تحل لي لأن حقه فيها نظير حق المرتهن فله حق إيفاء الدين بماليتها وللمرتهن حق استيفاء الدين من ماليتها فكما يسقط الحد باعتبار هذا المعنى عن المرتهن فكذلك عن الراهن ويكون المهر على الواطئ لأن الوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر والمهر بمنزلة الزيادة المنفصلة المتولدة من العين لأنه بدل المستوفي والمستوفي في حكم جزء من العين فيكون رهنا معها فإذا أفتكها الراهن سلمت الأمة ومهرها لمولاها كما لو كانت ولدت ولو وهب لها هبة أو اكتسبت كسبا فذلك لمولاها لما بينا أن حكم الرهن لا يثبت في الزيادة حتى هي غير مطالبة من العين ولكنها تملك بملك الأصل وملك الأصل للمعير فكذلك الغلة والكسب يكون له والله أعلم.
باب رهن الأرضين وغيرها(21/295)
قال رحمه الله:وإذا ارتهن أرضا فيها نخل وشجر وقبضها فهو جائز وسقي النخل والشجر على الراهن لأن سقي النخل بمنزلة علف الدواب ونفقة المالك ليبقى منتفعا بها فيكون على الراهن باعتبار ملكه كما كان قبل الرهن وإن أنفق المرتهن عليها فهو متطوع إلا أن يكون بأمر القاضي وجعله دينا على الراهن وقد بينا ذلك في النفقة وليس للمرتهن أن يبيع ثمرة النخيل وإن خاف الفساد عليها لأنه حافظ لها وبحق الحفظ لا يثبت له ولاية البيع لما فيه من ترك حفظ العين إلا بأمر الراهن أو بأمر القاضي إن كان الراهن غائبا لأن للقاضي ولاية النظر في مال الغائب وبيع ما يخاف الفساد على عينه من النظر ويدخل البناء والشجر في رهن الأرض والداروان لم يذكر كما في البيع وكذلك ثمر النخيل والشجر وزرع الأرض يدخل في الرهن من غير ذكر لقصدهما إلى تصحيح الرهن وقلة الضرر على الراهن في دخولهما فيه بخلاف البيع والهبة وقد بينا هذا الفرق فيما سبق.
وإذا أخذ السلطان العشر من الغلة لم ينقص ذلك من الدين لأنه أخذ ذلك بحق مستحق على الراهن فهو في حق المرتهن بمنزلة الاستحقاق ولا يبطل به الرهن فيما يبقى لأن مقدار العشر من الغلة يبقى على ملك الراهن ما لم يأخذه السلطان.
ألا ترى أنه لو أدى العشر من موضع آخر جاز فصح الرهن في الكل ثم خرج هذا الجزء بأخذ السلطان والباقي مقسوم فلا يتمكن بسببه الشيوع في الرهن قارنا ولا مقارنا.
ولو أخذ السلطان العشر من الراهن لم يرجع الراهن في غلة الأرض بشيء لأن الرهن في(21/296)
ص -141- ... الكل صحيح لمصادفة العقد ملكه ولو أخذها المرتهن فأدى عشرها أو خراجها لم يرجع على الراهن بذلك لأنه إن تطوع بالأداء فلأنه متبرع فيما أدى وإن أكرهه السلطان فهو ظالم في حقه لأنه ليس عليه من الخراج والعشر شيء والمظلوم لا يرجع إلا على الظالم وليس للراهن أن يزرع الأرض المرهونة لأن ذلك انتفاع منه بالمرهون وهو ممنوع من ذلك عندنا بحق المرتهن وكذلك لا يؤاجرها لأنه لما منع من الانتفاع بنفسه فلان يمنع من تمليك منفعتها من غيره ببدل أولى وهذا لأنه بالإجارة يوجب للغير حقا لازما وفي تصحيحها إبطال حق المرتهن في استدامة اليد فإن فعل ذلك فالأجر له لأنه وجب بعقده بدلا عن منفعة مملوكة له وكذلك المرتهن لا يزرعها لأن الملك فيها لغيره فلا يزرعها ولا يؤاجرها بغير إذنه فإن فعل ذلك ضمن ما نقص من الأرض وتصدق بالأجر إن أجر ويفصل الزرع أما ضمان النقصان فلأنه بالزراعة متلف جزءا منها وأما التصدق فلأنه فصل حصل له من ملك الغير بسبب حرام شرعا.
ولو أذن له الراهن في الإجارة ففعل أو سلم المرتهن للراهن أن يؤاجر أو يرهن ففعل خرجت من الرهن ولا يعود فيه لأن الإجارة عقد لازم من الجانبين ويستحق به تسليم العين والرهن يتعلق به اللزوم في جانب الراهن وقد بينا إن الشيء ينقصه ما هو مثله أو أقوى منه فمن ضرورة نفوذ العقد الثاني بطلان الرهن الأول ولو أعادها بإذن الراهن وقبضها المستعير خرجت من الرهن ما دامت في يد المستعير ولم يرد به خروجها من العقد وإنما أراد خروجها من الضمان الثابت بيد المرتهن لأن يد المستعير يد نفسه ولهذا يتقرر عليه ضمان الاستحقاق وتلزمه مؤنة الرد فباعتباره لا تبقى يد المرتهن وضمان الراهن باعتبار يد المرتهن فأما عقد الرهن فباق لأن الإعارة لا توجب حقا لازما للمستعير والشيء لا ينقصه ما هو دونه فلهذا لا يبطل الحق الثابت للمرتهن فيكون له أن يستردها متى شاء.(21/297)
ولو كانت جارية فولدت في يد المستعير كان الولد رهنا معها وللمرتهن أن يستردهما لما قلنا وكذلك أن زرع المستعير الأرض بإذنهما فالإعارة لا تلزم بعد الزراعة كما كان قبلها ولو ارتهن أرضا فغرقت وغلب عليها الماء حتى جرت فيها السفن وصارت نهرا لا يستطاع أن ينتفع بها ولا ينحسر عنها الماء فلا حق للمرتهن على الراهن لأن المرهون صار في حكم المستهلك خصوصا في حق المال فإنه خرج عن أن يكون منتفعا به وبفوات مالية الرهن يصير المرتهن مستوفيا دينه ولأن المرتهن إنما يطالب الراهن بالدين إذا قدر على تسليم الرهن إليه بعد استيفاء الدين كما قبضه منه وهو عاجز عن ذلك فهو نظير العبد المرهون إذا أبق فإن نضب الماء عنها فهي رهن على حالها لأن ماليتها عادت بصيرورتها منتفعا بها كما كانت وإن أفسد منها شيئا ذهب من الدين بحسابه والله أعلم
باب رهن الرجلين وارتهانهما
قال رحمه الله: وإذا كان لرجلين على رجل دين هما فيه شريكان أو لأحدهما دنانير وللآخر دراهم أو حنطة أو غيرهما فرهنهما بذلك رهنا واحدا فهو جائز من أي وجه كان كالواحد من(21/298)
ص -142- ... الدينين لأن جميع الرهن يكون محبوسا بدين كل واحد منهما لاتحاد الصفقة ولأنه لا شيوع في المحل باعتبار عدد المستحقين وهو نظير قصاص يجب لجماعة على شخص فإنه لا يتمكن الشيوع في المحل باعتبار عدد المستحقين فإن قضى أحدهما ماله لم يأخذ الرهن حتى يقبض الثاني ماله لثبوت حق الحبس لكل واحد منهما في جميع الرهن بدينه وإن تلف الرهن عنده استرد الذي قضاه ما أعطاه لأن بهلاك الرهن يصير كل واحد منهما مستوفيا دينه من نصف مالية الرهن فإن في الرهن وفاء بدينهما فتبين أن القابض استوفى حقه مرتين فعليه رد ما قبضه ثانيا وقد بينا أن باستيفاء الدين يتقرر حكم ضمان الرهن ولا يبطل ما لم يعد الرهن إلى يد الراهن.
وإذا ارتهن الرجل من الرجلين دارا بحق له عليهما فهو جائز لأنه لا شيوع في الرهن إنما الشيوع في ملك الراهنين فإن قضاه أحدهما نصف المال لم يأخذ شيئا من الدار حتى يقضي صاحبه ما عليه لأن جميع الرهن محبوس بكل جزء من الدين وقد رضيا فذلك دين أوجبا له الرهن في جميعها صفقة واحدة وإذا كانت الأرض بين رجلين فرهناها من رجل له عليهما مال وأحدهما شريك في ذلك المال والمال متفرق لم يجز الرهن من قبل أنه لا يكون راهنا لنفسه فلما بطل بعضه بطل كله ومعنى هذا أن ملكه لا يجوز أن يكون مرهونا بشيء من نصيبه من المال وبطلان الرهن في جزء من الأرض شائع يبطل الرهن في جميعها.(21/299)
وإذا ارتهن الرجل من الرجلين أرضا أو دارا ولأحدهما أكثر من نصفها وقبض فهو جائز لاتحاد الصفقة وثبوت حق المرتهن في حبس الكل وانتفاء الشيوع عن المحل في موجب الرهن وأكثر ما فيه أن دينهما سواء فصاحب الكبير كالمعير نصيبه من صاحبه ليرهنه معه وذلك مستقيم وإذا كان المرتهن اثنين والراهن اثنين فرهناهما دارا وجعلاها أثلاثا أو نصفين من قبل أنهما قد فصلا بعض الرهن من بعض معناه أن يفرق التسمية فيما أوجبا لكل واحد منهما بمنع ثبوت حق الحبس لكل واحد منهما في جميعه أو يوجب ذلك تفريق التسمية كما في البيع من رجلين بتسمية متفرقة وبتفرق التسمية يتمكن الشيوع في محل فيما أوجباه لكل واحد منهما وذلك مبطل للرهن.
ولو كان لأحدهما ألف درهم وللآخر ألفا درهم على حدة فرهناهما الدار جميعا كان جائزا ولصاحب الألفين الثلثان وللآخر الثلث يعني مقدار ما صار مضمونا بالدين الذي على كل واحد منهما فأما حق الحبس فثبت للمرتهن في الجميع لاتحاد الصفقة والشيوع في الضمان لا يمنع صحة الرهن كما لو كانت قيمة الرهن أكثر من الدين وكذلك لو كان جنس المالين مختلفا فباختلاف جنس المال لا تتفرق الصفقة لاتحاد الإيجاب منهما فإن مات أحد الراهنين فورثه الآخر فالرهن على حاله لأن وارث الميت يخلفه في ملكه بعد موته وكان نصيبه في حياته مشغولا بحق المرتهن فكذلك بعد موته.
وإذا شارك الراهن المرتهن في الرهن ونقضاه وهو في يدي المرتهن فهو رهن على حاله حتى يقبضه الراهن لأن ضمان الرهن انعقد بالقبض والدين يبقى شائعا بينهما وفسخ العقد(21/300)
ص -143- ... معتبر بأصل العقد فكما إن ضمان الرهن لا يثبت بالعقد قبل القبض فكذلك لا يسقط بالفسخ قبل الرد فإن بدا للمرتهن أن يملكه فله ذلك وليس للراهن أن يأخذه لأن بعد العقد قبل التسليم كان للراهن أن يمتنع من التسليم فكذلك بعد الفسخ قبل الرد للمرتهن أن يمتنع من الرد حتى يستوفي دينه اعتبارا لأحد الجانبين بالآخر فبه تتمم المعادلة وإن بدا للراهن أن يتركه كان للمرتهن أن يرده لأنه قبل الفسخ كان يتمكن من ذلك فبعده أولى.
وإذا كان المرتهن اثنين فأراد أحدهما رد الرهن لم يكن له ذلك حتى يجتمعا على الرد لأن حق الحبس لكل واحد منهما ثابت في الجميع ولا ولاية لأحدهما على الآخر في إسقاط حقه ولأنه لو تمكن من رد نصيبه بطل به الرهن في نصيب الآخر فإن الشيوع الطارئ كالشيوع المقارن في ظاهر الرواية ورضاه غير معتبر في إلحاقه بالضرر بالعين كما لا يعتبر رضا الراهن بذلك في إبطال حق المرتهن ولو اختلفا في أصل الرهن فقال أحدهما لم نرتهن وقال الآخر بل قد ارتهنا وأقام البينة وقال الراهن لم أرهنه لم يكن رهنا حتى يجتمعا على الدعوى وهو قول أبي يوسف وقد بينا هذا الخلاف فيما سبق.(21/301)
وكذلك إن كانا شريكين شركة عنان أو مفاوضة وليس هذا كالذي كان رهنا فنقضه أحدهما فإن في المتفاوضين يجوز نقض أحدهما على شريكه لأن فيما هو من التجارة كل واحد منهما يقوم مقام شريكه فأما إذا أنكر أحدهما الرهن فقد أكذب شهوده ومع إكذابه يتعذر القضاء بالرهن في نصيبه فيتعذر القضاء به في نصيب الآخر لأجل الشيوع ولو كانا شريكي عنان فرهنا جميعا رهنا لم يكن لأحدهما أن ينقضه دون صاحبه لأنهما كالأجنبي في نقض كل واحد منهما الرهن في نصيب صاحبه فإن شركة العنان لا تتضمن إلا الوكالة بالبيع والشراء وفيما سوى ذلك كل واحد منهما في حق صاحبه ينزل منزلة الأجنبي فإن نقضه وقبضه فهلك عنده كان المرتهن ضامنا لحصة الذي لم ينتقض لأنه صار مخالفا برد حصته على الآخر ويرجع عليهما بماله ويرجع بنصف القيمة التي ضمن على الذي قبض منه الرهن لأن القابض منه لا يرده عليه بمنزلة غاصب الغاصب في حقه والغاصب الأول إذا ضمن رجع بما ضمن على الغاصب الثاني فهذا مثله قال عيسى هذا خطأ والصواب أن لا يرجع المرتهن بما ضمن على القابض لأنه هو الذي سلمه إليه مع علمه أنه ليس بمالك له فهو في حقه كمودع الغاصب فإذا ملك الغاصب بالضمان كان مسلما ملك نفسه إلى الأجنبي طوعا وقد هلك في يد القابض من غير فعله فلا ضمان عليه إلا أن يكون ادعى الوكالة من صاحبه ودفعه المرتهن من غير تصديق فحينئذ يرجع عليه لأجل الغرور الممكن من جهته بدعواه الوكالة من صاحبه وقد قيل في تصحيح جواب الكتاب إن حالة الشركة التي بينهما توهم كثيرا من الناس جواز قبض أحدهما له في حقهما فيقوم ذلك مقام الغرور الذي يمكن بادعاء أحدهما الوكالة فكما يرجع هناك بما ضمن فكذلك هنا ولو كان رهنه أحدهما بإذن شريكه ثم نقض الرهن وقبضه وسلم ذلك المرتهن جاز ذلك لأنه هو الذي رهنه(21/302)
ص -144- ... ألا ترى أن المستعير للرهن إذا نقض الرهن واسترد العين برضا المرتهن كان جائزا فكذلك هنا والله أعلم
باب جناية الرهن بعضه على بعض
قال رحمه الله: وإذا ارتهن الرجل عبدين بألف درهم وقيمة كل واحد منهما ألف فقتل أحدهما صاحبه فإن الباقي يكون رهنا بتسعمائة وخمسين والأصل فيه أن يقال نصف كل واحد من العبدين مشغول بنصف الدين ونصفه فارغ فالنصف الذي هو مشغول من القاتل جنى على نصف شائع من المقتول نصف ذلك مما هو مشغول ونصفه مما هو فارغ وكذلك النصف الذي هو فارغ من القاتل جنى على نصف شائع من المقتول نصفه من المشغول ونصفه من الفارغ وجناية الفارغ هدر وجناية المشغول على المشغول هدر وجناية الفارغ على المشغول معتبرة وإنما قلنا ذلك لأن العبدين على ملك الراهن بعد عقد الرهن كما كانا قبله وجناية أحدهما قبل عقد الرهن على الآخر خطأ هدر لأن المستحق بجناية الخطأ نفس الجاني ملكا وهو مملوك لمولي المجني عليه ولو اعتبرت الجناية لاستحق بها على نفسه ملك نفسه وهذا لغو فكذلك بعد عقد الرهن لا يمكن اعتبار الجناية لحق الراهن وإنما يجب اعتبار الجناية لحق المرتهن لأن في حق المرتهن تمييز البعض عن البعض كان لثبوت حق الاستيفاء له في نصف كل واحد منهما.(21/303)
ألا ترى أن جناية الراهن على المرهون تعتبر لحق المرتهن فكذلك جناية ملك الراهن على حق المرتهن تكون معتبرة لحق المرتهن إذا عرفنا هذا فنقول جناية الفارغ على الفارغ لو اعتبرت إنما تعتبر لحق الراهن إذ لا حق للمرتهن في المحل المجني عليه من حيث الاستيفاء فلا يعتبر وكذلك جناية المشغول على المشغول غير مفيد اعتبارها في حق المرتهن لأنه لا بد من أن يسقط ماله من الحق في أحدهما أما المجني عليه إذا جعل فائتا لا إلى بدل وأما الجاني إذا أقيم مقام المجني عليه بالدفع فإنه في حق نفسه يصير تاويا وإذا كان اعتبار الجناية في حق المرتهن وجناية المشغول على المشغول لا يفيد اعتبارها في حقه كان هدرا وكذلك جناية المشغول على الفارغ لو اعتبرت إنما تعتبر لحق الراهن فالمرتهن يتصور باعتبار هذه الجناية لأنها إذا لم تعتبر لم يسقط من دينه وإذا اعتبرت سقط بعض دينه فلهذا لا يعتبر وأما جناية الفارغ على المشغول فهي معتبرة لحق المرتهن ففيه توفير المنفعة عليه لأنها لو لم تكن معتبرة كان المجني عليه فائتا لا إلى بدل فيسقط ما كان فيها من الدين وإذا اعتبرت دفع الجاني بالمجني عليه فيتحول ما كان في المجني عليه من الدين إلى الجاني لفوات المشغول إلى خلف فإذا ظهر اعتبار جناية الفارغ على المشغول قام هذا الربع من الجاني مقام ذلك الربع من المجني عليه فيتحول ما كان فيه وذلك مائتان وخمسون إلى الجاني وقد كان فيه خمسمائة بحكم العقد فتجتمع فيه من الدين سبعمائة وخمسون ويسقط مائتان وخمسون حصة جناية المشغول على المشغول فإن ذلك هدر فيكون كالهالك من غير صنع أحد.(21/304)
ص -145- ... وإذا أردت اختصار هذا الكلام قلت السبيل أن ينظر إلى مقدار الفارغ من الجاني فيتحول مما كان من المجني عليه قدر ذلك إلى الجاني إن كان نصفا فالنصف وإن كان ثلثا فالثلث وإن كان ربعا فالربع وإن كان عشرا فالعشر وأبو يوسف يستدل بهذه المسألة في جواز الزيادة في الدين حكما في هذه المسألة في حق العبد الجاني كذلك يجوز إثباته قصدا ولكن هذا ليس بقوي لأنا إنما لم نجوز الزيادة في الدين بحكم الرهن لمعنى الشيوع باعتبار تفرق التسمية وذلك لا يتحقق هنا ولو لم يقتله ولكن فقأ عينه كان الباقي ستمائة وخمسة وعشرين والمفقوء بمائتين وخمسين لأن بذهاب العين المفقوءة تلف نصف نصفه وبقي النصف فإنما يبقى فيه نصف ما كان من الدين وذلك مائتان وخمسون والذي كان في العين مائتان وخمسون ونصف الجاني فارغ فيتحول بحساب ذلك إلى الجاني باعتبار جناية الفارغ على المشغول وذلك مائة وخمسة وعشرون ويسقط نصفه بجناية المشغول على المشغول فيجمع في الفاقئ ستمائة وخمسة وعشرون ولا يفتكهما إلا جميعا لاتحاد العقد فيهما.
ولو أن المفقوءة عينه فقأ بعد ذلك عين الفاقئ بقي في الفاقئ الأول ثلاثمائة واثنا عشر ونصف لأن نصفه فات بفقء العين وقد كان الدين فيه ستمائة وخمسة وعشرين فبعد فوات النصف إنما يبقى فيه نصف ذلك وهو ثلاثمائة واثنا عشر ونصف ولحق الفاقئ الآخر مائة وستة وخمسون وربع لأن الفاقئ الآخر نصفه فارغ باعتباره يتحول نصف ما كان في عين المفقوء إليه بجناية الفارغ على المشغول ويسقط نصفه بجناية المشغول على المشغول والذي كان في العين المفقوءة ثلاثمائة واثنا عشر ونصف يسقط ويلحق الفاقئ الآخر نصفه وذلك مائة وستة وخمسون وربع مع المائتين والخمسين التي كانت بقيت فيه.(21/305)
ولو كان كل واحد منهما فقأ عين الآخر مما ذهب من الدين ربعه وبقي في عنق كل واحد منهما ثلاثة أرباع خمسمائة لأن في عيني الفاقئ في كل واحدة منهما نصف الخمسمائة يتحول نصف ذلك من المجني عليه إلى الجاني باعتبار جناية الفارغ على المشغول ويسقط نصفه حصة جناية المشغول على المشغول فإنما يسقط مما في كل واحدة منهما ربع خمسمائة ويكون كل واحد منهما مرهونا من الحاصل بثلاثة أرباع خمسمائة.
وإذا كان الرهن أمتين قيمة كل واحد منهما ألف درهم فولدت كل واحدة منهما بنتا تساوي ألفا والدين ألف فقتلت إحدى الاثنتين صاحبتها لم يبطل شيء من الدين لأن كل واحدة من البنتين مملوكة للراهن غير مضمونة على المرتهن وقد بينا أن اعتبار الجناية لحق المرتهن لا لحق الراهن ولا منفعة للمرتهن في اعتبار هذه الجناية فيجعل كان إحداهما هلكت من غير صنع أحد فلا يسقط شيء من الدين فإن ماتت أم المقتولة بقيت القاتلة وأمها بستمائة وسبعة وثمانين ونصف الأم من ذلك بمائتين وخمسين والبنت بمائتين وخمسين من الرهن الأول وبمائة وسبعة وثمانين ونصف مما لحقها من الجناية لأن كل واحدة منهما لما ولدت انقسم ما كان فيها من الدين على قيمتها وعلى قيمة البنت فكان في البنت المقتولة(21/306)
ص -146- ... مائتان وخمسون وفي أمها مثل ذلك وفي البنت القاتلة مائتان وخمسون فلما قتلت إحدى الاثنتين الأخرى نظرنا إلى مقدار الفارغ من القاتلة وذلك ثلاثة أرباعها لأن قيمتها ألف وفيها مائتان وخمسون فتحول مقدار ذلك مما كان في المقتولة إلى القاتلة والذي كان في المقتولة مائتان وخمسون فثلاثة أرباع ذلك مائة وسبعة وثمانون ونصف تحول ذلك إلى القاتلة باعتبار جناية الفارغ على المشغول وربع ذلك كان عاد إلى أم المقتولة لفوات ذلك الجزء من ولدها لا إلى خلف وقد سقط ذلك بموتها مع ما بقي فيها فلهذا افتك القاتلة مع أمها بستمائة وسبعة وثمانين ونصف ولم يعتبر هذا التوزيع قبل موت أم المقتولة لأن ذلك غير مفيد فإن اعتباره إذا جاء أو إن سقوط شيء من الدين قبل موت أم المقتولة سواء جعلت المقتولة فائتة لا إلى بدل أو القاتلة لم يسقط شيء من الدين فلهذا لا يعتبر.
قال رضي الله عنه: وفي جواب هذه المسألة بعض إشكال عندي لأن الخمسمائة التي في أم المقتولة إنما انقسمت عليها وعلى ولدها نصفين بشرط بقاء الولد على تلك القيمة إلى وقت الفكاك ولم يبق فإن بعض المقتولة هلك ولم يخلف بدلا وهو ما تلف بجناية المشغول على الفارغ وبجناية الفارغ على الفارغ وبجناية المشغول على المشغول فكيف يستقيم تخريج الجواب على أن المشغول من المقتولة ربعها قال رضي الله عنه والذي تخيل لي بعد التأمل في الجواب عن هذا السؤال إن جناية القاتلة على المقتولة فيما جعل هدرا يكون كجناية الراهن لأنه إنما جعل ذلك هدرا باعتبار جناية ملكه على ملكه ويستقيم أن يجعل فعل المملوك كفعل المالك ولأجله جعل هدرا وفعل الراهن بمنزلة الفكاك فيتم به ذلك الانقسام ولا يبطل.
فإن قال قائل:كما تعتبر جناية الفارغ على المشغول ينبغي أن تعتبر جناية المشغول على الفارغ في أصل الرهن لأن المشغول من أصل الرهن مضمون فيكون هذا كجناية المغصوب على وديعة المغصوب منه في يد الغاصب.(21/307)
قلنا:الفرق بينهما ظاهر فإن ضمان الغصب ضمان العين وهو يوجب الملك في العين إذا تقرر فباعتبار المال المغصوب يكون للغاصب إذا تقرر عليه ضمانه وتبين إن هذه جناية عند الغاصب على ملك المغصوب منه فكان معتبرا فأما ضمان الرهن ضمان الاستيفاء والعين فكحكم الأمانة.
ألا ترى أن تقرر هذا الضمان لا يوجب الملك في العين للمرتهن فلا يتبين إن جنايته حصلت على عبد غير مالكه فلهذا لا تعتبر هذه الجناية إلا لحق المرتهن من الوجه الذي قررنا.
وإذا ارتهن عبدين كل واحد منهما بخمسمائة وقيمة كل واحد منهما ألف وارتهن كل واحد منهما بعقد على حدة فقتل أحدهما صاحبه فإنه يخير الراهن والمرتهن فإن شاء جعلا القاتل مكان المقتول وبطل ما كان في القاتل من الدين وإن شاءا فديا القاتل بقيمة المقتول والفداء عليهما نصفين فكانت هذه القيمة هنا مكان المقتول وكان القاتل رهنا على حاله(21/308)
ص -147- ... لأن كل واحد من هذين رهن على حدة معناه أن الصفقة متفرقة والدين مختلف وكل واحد منهما محبوس بغير ما كان الآخر محبوسا به أما إذا كان جنس الدين مختلفا بأن كان أحدهما رهنا بخمسمائة والآخر بخمسين دينارا فهو ظاهر وكذلك إذا اتفق جنس المالين.
ألا ترى إنه لو أدى ما على أحدهما من الدين كان له أن يفتكه فكان هذا بمنزلة ما لو كان كل واحد منهما مرهونا عند رجل آخر فاعتبار جناية أحدهما على الآخر مفيد في حق المرتهن فوجب اعتباره بمنزلة جناية المرهون على عبد أجنبي أو جناية عبد أجنبي على المرهون بخلاف الأول فالعقد هناك صفقة واحدة وكل واحد منهما محبوس بالدين الذي به الآخر محبوس.
ألا ترى أنه لو أدى خمسمائة لم يكن له أن يسترد واحدا منهما مثل الدين الذي فيه إن جناية أحدهما على الآخر هل تعتبر فظاهر المذهب أن ذلك معتبر لتفرق العقد من الوجه الذي قررنا.(21/309)
وروى بن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله لا تعتبر جناية أحدهما على الآخر إذا كان جنس الدين واحدا لأن العبدين لمالك واحد ولا فائدة في اعتبار الجناية في حق المرتهن فإن لم تعتبر الجناية سقطت الألف التي في المقتول لفواته لا إلى خلف وإن اعتبرت سقطت الألف التي في القاتل لما أقيم مقام المقتول بالدفع بالجناية ولا فائدة للمرتهن بكون الساقط من دينه هذا الألف دون تلك الألف فلهذا لا تعتبر أصلا فأما إذا كان في قيمة كل واحد منهما فضل على الدين فاعتبار الجناية مفيد في حق المرتهن لأن الفداء في حصة الأمانة على الراهن إذا عرفنا هذا فنقول إن اختار الدفع قام القاتل مقام المقتول وخلا مكان القاتل فيصير هو في معنى الهالك يسقط ما فيه من الدين ويتحول إليه ما كان في المقتول فإن اختار الفداء فالفداء بقيمة المقتول ونصف القاتل مضمون فحصة ذلك من الفداء على المرتهن ونصفه أمانة وحصة ذلك من الفداء على الراهن فيغرم كل واحد منهما خمسمائة ثم هذه القيمة قائمة مقام المقتول فيكون بما كان رهنا في المقتول وقد فرغ القاتل من الجناية فيبقى رهنا على حاله.
ولو كان فقأ أحدهما عين الآخر قيل لهما ادفعاه أو افدياه بأرش على الآخر لما قلنا فإن دفعاه فقد خلا مكان الجاني فيبطل ما فيه من الدين وهو خمسمائة وإن فدياه كان الفداء عليهما نصفين وكان الجاني رهنا على حاله لأنه فرغ من الجناية وكان الفداء رهنا مع المفقوءة عينه بالدين الذي كان فيه لأن نصفه فات إلى خلف فيبقى الدين الذي فيه تبعا للخلف.(21/310)
فإن قال المرتهن:لا أبقي الجناية وادع الرهن على حاله فله ذلك لأن اعتبار هذه الجناية لحق المرتهن فإن العبدين كل واحد منهما ملك الراهن فإذا لم يطلب المرتهن حقه لم تعتبر الجناية ويجعل كان العين ذهبت من غير صنع أحد فيسقط نصف ما كان في المفقوءة عينه من الدين والباقي رهن على حاله بما كان فيه من الدين وإن طلب المرتهن الجناية فقال الراهن أنا أفديه وقال المرتهن لا أفدي ولكني أختار الدفع فللراهن أن يفدي بأرش الجناية كلها لأن جناية المملوك تثبت الخيار للمالك بين الدفع والفداء فلا يمكن المرتهن إبطال هذا(21/311)
ص -148- ... الخيار على المالك وليس في اختيار الراهن الفداء ضرر على المرتهن فإذا فداه بأرش الجناية فإنه يكون له نصف ذلك غرما على المرتهن في العبد الجاني لأن الفداء في النصف الذي هو مضمون على المرتهن والراهن غير متطوع في هذا الفداء لأنه يطهر به ملكه عن الجناية فلهذا كان نصف الفداء غرما له على المرتهن في العبد الجاني فيبطل من حقه في العبد الجاني نصفه بطريق المقاصة لأن الراهن استوجب عليه مثل ما كان للمرتهن عليه في هذا النصف ويبقى الجاني رهنا بمائتين وخمسين والمفقوءة عينه مع الفداء رهنا بما كان فيه.
وإن أبى الراهن أن يفدي وقال المرتهن أنا أفدي بجميع الأرش فدى وكان متطوعا فيه لا يلحق الراهن مما فدى منه شيء لأنه تبرع بفداء ملك الغير ولم يكن مجبرا عليه وإن كان الراهن غائبا ففداه المرتهن كان على الراهن نصف ذلك الفداء دينا وهو قول أبي حنيفة وفي قولهما يكون متطوعا وأصله في جناية المرهون على الأجنبي وبيانه يأتي في بابه إن شاء الله تعالى.(21/312)
وإذا كان العبد يساوي ألفا وهو رهن بألف فقتل نفسه أو فقأ عين نفسه فليس في ذلك أرش وهذا مثل بلاء نزل به من السماء لأن جناية المرء على نفسه هدر حرا كان أو مملوكا وكأنه مات أو ذهبت عينه من غير صنع أحد فإن كان مرهونا بمثل قيمته سقط بذهاب عينه نصف الدين وإن كان بمثل نصف قيمته سقط بذهاب عينه ربع الدين وإن كان الرهن أمة تساوي ألفا بألف فولدت بنتا تساوي ألفا فجنت البنت فدفعت بها لم يبطل من الدين شيء لأن البنت خلا مكانها بالدفع فكأنها ماتت فإن فقأت الأم عين البنت فدفعت الأم وأخذت البنت فهي رهن بألف كاملة مكان الأم لأن الأم لما دفعت بالجناية صارت كلمة أخرى للمدفوع إليه فتعتبر جناية الأم عليها لحق المدفوع إليه فلهذا تدفع الأم برضا الراهن والمرتهن وتؤخذ البنت كما هو الحكم في الجثة العمياء ثم البنت رهن بجميع الألف مكان الأم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد يسقط نقصان العينين من الدين وتكون البنت رهنا بما بقي وهكذا الحكم فيما إذا فقأت عين عبد آخر فدفعت وأخذ ذلك العبد فمحمد يقول المجني عليه قائم مقام الجاني حين أخذ بدفع الجاني فكان الأمة مرهونة بما فيها وذهبت عيناها فيسقط نقصان العينين من الدين.
ووجه ظاهر الرواية أن المجني عليه إنما قام مقام الجاني على هذه الصفة لأن الأمة دفعت بفقء العينين فلا يستند الدفع والأخذ إلى ما قبل الفقء فتبين إن المأخوذ قام مقام المدفوع على هذه الصفة وإن حكم الرهن لم يثبت في عينه فلهذا لا يسقط شيء من الدين بخلاف ما إذا ذهبت عينا الأمة المرهونة فإن ماتت البنت ماتت بجميع الدين لأنها قائمة مقام أم المدفوعة وبموتها كان يسقط جميع الدين فلذلك يموت من قام مقامها فإن فقأت البنت بعد ذلك عيني الأم فدفعت وأخذت الأم عمياء فإنه ينبغي في القياس أن تكون رهنا بجميع المال لأنها قائمة مقام البنت المدفوعة ولكنا ندع القياس ونجعل الرهن على الأول وقد عاد(21/313)
ص -149- ... إلى حاله فيذهب من الدين بحساب ما نقص من العينين لأن جميع الدين كان في الأم التي هي الأصل وعاد إليها المال فسقط باعتبار ما تخلل بين ذلك من الزوائد ويجعل كأنها كانت مرهونة إلى الآن وذهبت عيناها وعلى رواية محمد رحمه الله في القياس يتحول إلى الأم ما زاد على نقصان عيني البنت وفي الاستحسان يتوزع ذلك المقدار على ما بقي من الأم وعلى نقصان عينها فتسقط حصة نقصان العينين وتكون هي مرهونة بما بقي.
وإذا استعار رجل من رجلين عبدين قيمة كل واحد منهما ألف فرهنهما بألف ففقأ أحدهما عين الآخر ثم إن المفقوءة عينه فقأ عين الفاقئ فإن المستعير يفتك العبدين بتسعمائة وثمانية عشر درهما وثلاثة أرباع درهم وهذه المسألة تشتمل على أحكام ثلاثة حكم بين المستعير والمرتهن فيما يسقط من الدين وما بقي وحكم بين المستعير والمعيرين فيما يرجع كل واحد منهما به عليه وحكم بين المعيرين أما الذي بين المستعير والمرتهن فيقول رهن العبدين منه بعقد واحد فكأنهما جميعا على ملكه وهي مسألة أول الباب حين فقأ أحدهما عين الآخر سقط من الدين مائة وخمسة وعشرون وتحول إلى الفاقئ مثله باعتبار جناية الفارغ على المشغول فصار الفاقئ مرهونا بستمائة وخمسة وعشرين فلما فقأ الآخر عينه فقد فات نصفه فإنما بقي فيه ثلاثمائة واثنا عشر ونصف وسقط نصف ثلاثمائة واثنا عشر ونصف وهو مائة وستة وخمسون وربع وتحول مثله إلى الفاقئ فكان الساقط من الدين مرة مائة وخمسة وعشرين ومرة مائة وستة وخمسين وربعا وذلك مائتان واحد وثمانون وربع بقي من الألف سبعمائة وثمانية عشر وثلاثة أرباع فيقبلهما بهذا.(21/314)
وأما الحكم الذي بين المستعير والمعيرين فهو إن كل واحد منهما يرجع عليه بما صار قاضيا بملك المفقوءة عينه أولا مائة وخمسة وعشرين فيغرم له ذلك المقدار ويملك مولى المفقوءة عينه أخيرا مائة وستة وخمسين وربعا فيغرم له ذلك المقدار وأما الحكم الذي بين المعيرين فإنه يجبر مولى العبد الفاقئ أولا بجناية عبده على عبد غيره ويقال له ادفع ثلاثة أرباع عبدك أوافده بثلاثة أرباع أرش عين العبد الآخر لأن مقدار الربع من الأرش قد وصل إلى مولى المفقوءة عينه أولا من جهة المستعير وهو مائة وخمسة وعشرون فلهذا بقي حكم الجناية في ثلاثة أرباع العبد فإن دفعه فليس له على صاحبه شيء لأن بالدفع صار مملوكا لمولي المفقوءة عينه أولا فيتبين أنه جنى عبده على عبده وذلك باطل وفيه نوع شبهة فإنه إنما يدفع ثلاثة أرباعه ويبقى الربع على ملكه وفي ذلك القدر يجعل جناية المفقوءة عينه أولا على ملك مولي الفاقئ فكأنه ذهب وهم محمد رحمه الله إلى أن الدفع في جميع العبد فلهذا قال ليس له على صاحبه شيء ومثل هذا يقع إذا طال التفريغ.
وإن فداه بثلاثة أرباع أرش العين قيل لرب العبد المفقوءة عينه أولا ادفع من عبدك ثلاثة أخماسه وثلاثة أثمان خمسة ونصف ثمن خمسه أو أفده بمثل ذلك من أرش العين لأن العبد الفاقئ الأول طهر عن الجناية حين فداه مولاه ثم قد جنى عليه العبد المفقوءة عينه أولا فلا بد(21/315)
ص -150- ... من اعتبار جنايته إلى أنه قد وصل إليه من جهة المستعير مائة وستة وخمسون وربع وذلك خمس الأرش ونصف خمسه ونصف ثمن خمسه لأن الأرش خمسمائة فخمسمائة ونصف خمسة خمسون وستة وربع نصف ثمنه خمسة لأن ثمن المائة اثنا عشر ونصف فنصف ثمنها ستة وربع فإنما بقي من حقه ثلاثة أخماسه وثلاثة أثمان خمسة ونصف ثمن خمسة فيخير بين الدفع والفداء في هذا المقدار وعلى ذلك يسلم لصاحبه ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء.
وإذا كان الربع أمة تساوي ألفا بألف فولدت ولدا يساوي ألفا ثم جنت الأم جناية فدفعت بقي الولد بخمسمائة لأن الدين انقسم على قيمة الأم وقيمة الولد نصفين بشرط بقاء الولد على هذه القيمة إلى وقت الهلاك وقد بقي فالأم لما دفعت بالجناية خلا مكانها فكأنها ماتت فلهذا بقي الولد بخمسمائة فإن فقأ الولد عيني الأم فدفع بها وأخذت الأم عادت إلى حالها الأولى رهنا بألف غير أنه يذهب من الألف بحساب ما ذهب من بصرها لأن الولد حين دفع فكأنه مات وتبين به بطلان ذلك الانقسام والأم حين أخذت عادت رهنا كما كانت بجميع الألف إلا أن عينها ذهبت فكأنها ذهبت من غير صنع أحد فسقط حصة ذلك من الألف.
وإذا كان الرهن أمة بألف تساوي خمسمائة فولدت ولدين كل واحد منهما يساوي ألفا فجنى أحدهما جناية فدفع بها ثم فقأت الأم عينه فدفعت الأم فأخذ الولد مكانها فهذا الولد الأعمى والصحيح بالألف كلها لأن الولد الجاني حين دفع صار كأن لم يكن ولم يسقط شيء من الدين باعتباره والتحق هذا بعبد آخر للمدفوع إليه فحين فقأت الأم عينه فدفعت واحدا مكانها قام مقامها وقبل جنايتها كانت هي مع الولد الصحيح بالألف فكذلك المأخوذ بها مع الصحيح بجميع الألف فإن مات الأعمى ذهب نصف الدين لأنه قائم مقام الأم.(21/316)
ولو ماتت الأم سقط بموتها نصف الدين فكذلك سقط بموت من قام مقامها فإن جنى الولد الجاني على الأم فدفع وأخذته الأم مكانه عاد الرهن على حاله وذلك من الألف بحساب ما انتقص من الأم بالجناية عليها لما بينا أنها كانت مرهونة في الأصل وعادت كما كانت فيجعل ما انتقص منها بالجناية كالثابت من غير صنع أحد فسقط حصة ذلك من الدين استحسانا كما بينا.
وإذا استعار عبدين من رجلين كل واحد منهما يساوي ألفا فرهنهما بألف فقتل أحدهما صاحبه ففي هذه المسألة أحكام ثلاثة كما بينا أما الحكم فيما بين المستعير والمرتهن فإنه يسقط من الدين مائتان وخمسون والقاتل رهن بتسعمائة وخمسين بمنزلة ما لو كانا مملوكين له فقتل أحدهما صاحبه وهناك سقط نصف ما كان في المقتول من الدين وتحول نصفه إلى القاتل بجناية الفارغ على المشغول فيفتك القاتل بسبعمائة وخمسين ويغرم لمولي المقتول مائة وخمسين مقدار ما صار قابضا من دينه بملكه يقال لمولي القاتل ادفع ثلاثة أرباع إلى مولي المقتول أو افده بسبعمائة وخمسين لأنه قد وصل إليه ربع حقه مائتان وخمسون من جهة المستعير فإنما بقي من حقه ثلاثة أرباع ولو لم يقتله ولكن فقأ عينه كانا جميعا رهنا بثمانمائة وخمسة وسبعين وكان الباقي من ذلك ستمائة وخمسة وعشرين لأن بذهاب العين فات نصفه(21/317)
ص -151- ... وحصة ذلك من الدين مائتان وخمسون سقط نصفه وتحول نصفه إلى الفاقئ بجناية الفارغ على المشغول وقد كان في الفاقئ خمسمائة فلهذا يفتك الفاقئ بستمائة وخمسة وعشرين والمفقوءة عينه بمائتين وخمسين ويرد الراهن على مولى المفقوءة عينه مائة وخمسة وعشرين لأنه صار قابضا هذا القدر من دينه بملكه ثم يقال لمولي الفاقئ ادفع ثلاثة أرباع عبدك أو افده بثلاثة أرباع أرش العين لأنه قد وصل إلى مولي المفقوءة عينه ربع حقه من جهة الراهن وذلك مائة وخمسة وعشرون.
ولو كان الرهن أمتين والمسألة بحالها فولدت كل واحدة منهما ولدا يساوي ألفا ثم إن أحدى الأمتين قتلت صاحبتها بطل من الدين اثنان وستون درهما ونصف ولزم القاتلة من الجناية مائة وسبعة وثمانون ونصف لأن ما في كل واحدة منهما من الدين انقسم عليها وعلى قيمة ولدها نصفين فحين قتلت إحداهما الأخرى ففي المقتولة مائتان وخمسون فالفارغ من القاتلة ثلاثة أرباعها وبقدر الفارغ من القاتلة يتحول الدين من المقتولة إليها وثلاثة أرباع مائتين وخمسين مائة وسبعة وثمانون ونصف كل ربع اثنان وستون ونصف فلهذا سقط اثنان وستون ونصف بجناية المشغول على المشغول وتحول مائة وسبعة وثمانون ونصف إلى القاتلة بجناية الفارغ على المشغول.(21/318)
فإن مات ولد القاتلة بطل عنها من هذه الجناية اثنان وستون ونصف لأن ولدها لما مات فقد بطل الانقسام فيما كان فيها وتبين أن نصفها كان مشغولا ونصفها فارغ فإنما يتحول من المقتولة إليها بقدر الفارغ وذلك مائة وخمسة وعشرون وسقط ما سوى ذلك وقد كنا أسقطنا اثنين وستين ونصفا فسقط مثل ذلك ليكون الساقط مائة وخمسة وعشرين وإن ماتت بنت الجارية المقتولة لزم القاتلة من الجناية مائة وخمسة وعشرون أخرى لأنه تبين بطلان انقسام الدين بين المقتولة وولدها حين مات الولد وتبين أن جميع الخمسمائة كان فيها وإن نصف ذلك سقط وتحول نصفه إلى القاتلة وذلك مائتان وخمسون فلهذا كانت القاتلة رهنا بسبعمائة وخمسين والولدان لما ماتا فكأنهما لم يكونا أصلا.
ولو كان الولدان جنيا فأفتكهما الراهن رد على مولى المقتولة اثنين وستين ونصفا مقدار ما صار قابضا من دينه بملكه ودفع مولي الأمة القاتلة كلها إلا نصف ثمنها أو فدى بتسعمائة وسبعة وثلاثين ونصف لأن الواصل إلى مولي المقتول اثنان وستون ونصف وذلك نصف ثمن حقه لأن حقه في الألف قيمة المقتولة وثمن الألف مائة وخمسة وعشرون فنصف ثمنها اثنان وستون ونصف فلهذا يحط ذلك القدر عن مولي القاتلة ويخير بين الدفع والفداء فيما بقي.
وإذا رهن أمتين بألف تساوي كل واحدة منهما ألفا فولدت كل واحدة منهما ولدا يساوي ألفا ثم إن أحد الولدين قتل أمه لم يلحقه من الجناية شيء وذهبت الأم بمائتين وخمسين كأنها ماتت لأن ما كان فيها من الدين انقسم عليها وعلى ولدها نصفين ولكن الولد جزء منها وهو تابع لها في حكم الرهن وقد بينا أن اعتبار الجناية لحق المرتهن بحكم الرهن فيجعل جناية(21/319)
ص -152- ... الولد عليها في حكم الرهن كجنايتها على نفسها ولو قتلت نفسها كان ذلك وموتها سواء فكذلك إذا قتلها ولدها فيسقط ما كان فيه من الدين وذلك مائتان وخمسون ولو كانت الأم هي التي قتلت ولدها أو فقأت عينه لم يسقط من الدين شيء بمنزلة ما لو مات الولد أو ذهبت عينه من غير صنع أحد ولو لم يكن كذلك ولكن أحد الولدين قتل الولد الآخر كانت أم المقتول وثلاثة أثمان القاتل رهنا بخمسمائة وخمسة أثمان القاتل وأمه رهن بخمسمائة وقد ذكرنا المسألة قبل هذه ولكنه أبهم الجواب هناك فقال لا يسقط من الدين شيء وهنا بين التقسيم في القاتل وجه ما ذكرنا هنا إن كل واحد من الولدين تبع لأمه فالنصف منه تبع للنصف الفارغ والنصف تبع للنصف المشغول وقد انقسم الدين الذي في كل واحد منهما عليها وعلى ولدها نصفين فثلاثة أرباع القاتل فارغ وربعه مشغول وقد جنى هذا الفارغ على ثلاثة أرباع الفارغ من المقتول وربع المشغول وقد بينا أن المعتبر جناية الفارغ على المشغول وذلك نصف ثلاثة أرباع ونصف ثلاثة أرباع يكون ثلاثة أثمان فقام نصف ثلاثة أرباعها مقام الفائت مما كان مشغولا بما كان فيها فلهذا كانت أم المقتولة وثلاثة أثمان القاتل رهنا بالخمسمائة التي كانت في أم المقتولة وخمسة أثمان القاتل وأمه رهنا بخمسمائة فإن مات القاتل لم ينقص من الدين شيء لأنه كان نماء حادثا وقد هلك فصار كان لم يكن.(21/320)
وإن لم يمت القاتل وماتت أمه ذهب ربع الدين حصة ما كان فيها وقد بينا أن الخمسمائة التي كانت فيها انقسمت عليها وعلى ولدها نصفين والولد باق وإنما يذهب بموتها ربع الدين ولو لم تمت أمه وماتت الأخرى ذهب من الدين خمسة أثمان خمسمائة لأنه كان فيها أربعة أثمان خمسمائة وفي ولدها مثل ذلك فحين قتل ولدها تحول إلى القاتل ثلاثة أرباع ما كان في المقتول باعتبار جناية الفارغ على المشغول ولم يحول الربع باعتبار جناية المشغول على المشغول فكان ذلك كالهالك من غير صنع أحد فيعود ذلك القدر إلى أمه وقد كان في أمه نصف الخمسمائة وعاد إليها ربع النصف الآخر وذلك خمسة أثمان خمسمائة فيسقط ذلك بموتها ويبقى في عنق القاتل ثلاثة أثمان خمسمائة وذلك مائة وسبعة وثمانون ونصف لأن كل ثمن اثنان وستون ونصف مع ما كان في عنقه وهو خمسون ومائتان من دين أمه فيقبلهما الراهن بذلك وقد بينا شبهة هذه المسألة وما فيها من الأشكال فيما سبق.
وكذلك لو كان الرهن عبدين قيمة كل واحد منهما ألف بألف فقتل كل واحد منهما أمة قيمتها قليلة أو كثيرة فدفعت به ثم ولدت كل واحدة منهما ولدا يساوي الأم ثم قتلت إحدى الأمتين بن الأخرى أو قتل إحدى الاثنين صاحبه فهذا كالأول فيما ذكرنا من التخريج لأن كل أمة دفعت بعبد هي قائمة مقامه في حكم الرهن فهذا وما لو كان الرهن في الأمتين في الابتداء سواء وإذا ارتهن أمة وعبدا بألف درهم يساوي كل واحد منهما ألف درهم فولدت الأمة ولدا يساوي ألفا فهي وولدها بخمسمائة والعبد بخمسمائة لأن الولد زيادة فيما كان في أمة خاصة فإن جنى ولدها على إنسان فدفع به لم يبطل من الرهن شيء لأنه خلا مكانه بالدفع(21/321)
ص -153- ... فكأنه مات فإن فقأ الولد عيني العبد جميعا فأخذ الولد ودفع العبد فالولد بخمسمائة خاصة وأمه بخمسمائة لأن الولد لما دفع صار كعبد آخر للمدفوع إليه فإذا فقأ عيني العبد فدفع العبد وأخذ الولد قام الولد مقام العبد وتحول إليه ما كان في العبد من الدين وهو خمسمائة فإن قتلت الأم الولد أو قتل الولد الأم فالقاتل منهما بتسعمائة وخمسين بمنزلة مسألة أول الباب إذا كان الرهن عبدين فقتل أحدهما صاحبه فإن قتل العبد المدفوع هذا القاتل فدفع به كان رهنا بتسعمائة وخمسين لأنه قام مقام المقتول إلا أن قدر أن نقصان العينين يسقط من ذلك لأن العبد كان رهنا في الابتداء وعاد رهنا كما كان وما تخلل من الزوال بطريق الاستحسان يصير كأن لم يكن وكأنه ذهبت عيناه من غير صنع أحد فيسقط نقصان العينين بما فيه من الدين ويفتكه بما بقي والله أعلم
باب جناية الرهن على الراهن والمرتهن
قال رحمه الله: وإذا كانت قيمة العبد ألف درهم وهو رهن بألف أو أكثر فجني على الراهن جناية خطأ في نفس أو دونها فالجناية باطلة وهو رهن على حاله لأنه بعد عقد الرهن باق على ملك الراهن وجناية المملوك على المالك فيما يوجب المال يكون هدرا لأنه لو جنى على غيره كان المستحق به ملك المولي وماليته فيه فإذا جنى عليه لا يثبت له الاستحقاق على نفسه بخلاف الجناية الموجبة للقصاص فالمستحق به دمه والمولي من دمه كأجنبي آخر ألا ترى أن إقرار المولي عليه بالجناية الموجبة للقصاص باطل وبالجناية الموجبة للمال صحيح وإقراره على نفسه بالجناية الموجبة للمال باطل؟.(21/322)
توضيحه: إن الجناية بعد عقد الرهن على المرهون غير معتبرة لحق المالك كما قبل الرهن وإنما يعتبر لحق المرتهن فقد قررنا هذا في الباب المتقدم وليس في اعتبار جنايته على الراهن منفعة للمرتهن بل فيه ضرر عليه فكان حق المرتهن في هذه الجناية كأنه ليس اعتبار الجناية بالجناية عليه وكذلك لو كانت هذه الجناية على مملوك الراهن أو على متاعه فليس في اعتبارها منفعة للمرتهن ولا يمكن اعتبارها لحق الراهن لأن المستحق به ماليته فلا يعتبر أصلا ولو كان جنى على المرتهن في نفس أو فيما دونها جناية خطأ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله هو هدر أيضا وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو معتبر فيخاطبان بالدفع أو الفداء بمنزلة ما لو جنى على أجنبي آخر وجه قولهما أن المرتهن غير مالك للعين والمستحق بالجناية ملك العبد وإذا كان المرتهن منه كأجنبي آخر يعتبر جنايته عليه كما يعتبر على غيره وهذا على أصلهما مستقيم فإن عندهما جناية المغصوب على الغاصب معتبرة فكذلك جناية المرهون على المرتهن لأن كل واحد منهما ضامن غير مالك ثم في اعتبار هذه الجناية فائدة للمرتهن لأنهما إذا اختارا الدفع تملك المرتهن العين أو من يخلفه إن كان قتل وإن كان سقط حقه في الدين ولكن بضمان الدين ما كان يثبت له ملك العين فربما يكون له في ملك العين غرض صحيح فيستفيد ذلك باعتبار الجناية وربما يكون بقاء الدين مع(21/323)
ص -154- ... التزام الفداء أنفع له ففي إثبات الخيار له توفير النظر عليه وقد بينا أن اعتبار الجناية لحق المرتهن صحيح وبه فارق ما لو جنى على مال المرتهن لأنه لا منفعة للمرتهن في اعتبار تلك الجناية فإنه لا يستحق بها الملك ولكن المستحق بالدين مالية العبد فتباع فيه أو يقضيها المولي وذلك مستحق له بدينه فلا فائدة في اعتبار جنايته على ماله فلهذا لا يعتبر وأبو حنيفة رحمه الله يقول المرتهن في الرهن إذا كانت قيمته مثل الدين بمنزلة المالك في حكم جنايته.
ألا ترى أنه لو جنى على غيره كان الفداء على المرتهن بمنزلة ما لو كان مالكا فكذلك في الجناية عليه يجعل كالمالك فلا تعتبر جنايته عليه وهذا لأن أصل حق المجني عليه في بدل الفائت وهو الأرش إلا أن للمولي أن يخلص نفسه من ذلك بدفع العبد إن شاء ولا يمكن اعتبار جنايته على المرتهن في استحقاق أصل البدل لأنه لو وجب ذلك كان قراره عليه ولا يجب على نفسه أرش الجناية ولا يمكن اعتبار جنايته لمنفعة ثبوت الملك له في العبد فإن ذلك لا يكون إلا باختيار الراهن والراهن لا يختار ذلك خصوصا إذا لم يكن عليه من الفداء شيء فصار هذا وجنايته على مال المرتهن سواء.(21/324)
ألا ترى إن في جانب الراهن سوى بين جناية المغصوب على المغصوب منه أو على الغاصب والمرهون مضمون على المرتهن كما أن المغصوب مضمون على الغاصب فسوى بينهما في جانب الضمان فقال لا تعتبر جناية المرهون على المرتهن كما لا تعتبر جناية المغصوب على الغاصب وفرق بينهما في جانب المالك فقال ضمان الغاصب إذا تقرر وجب الملك فإذا اعتبرنا جنايته على المغصوب منه واستقر الضمان على الغاصب ثبت الملك له من وقت الغصب فتبين أن العبد جنى على غير ملكه فلهذا اعتبر فأما ضمان الرهن وإن تقرر على المرتهن فلا يوجب الملك له في العين فلا يتبين به إن جنايته كانت على غير مالكه فلهذا كان هدرا فصار الحاصل أن المرهون من حيث إنه مضمون المالية كالمغصوب ومن حيث إن عينه أمانة كالوديعة فلاعتبار أنه كالأمانة من وجه تجعل جنايته على المالك هدرا ولاعتبار أنه كالمغصوب من وجه تجعل جنايته على الضامن هدرا قال: ولو كانت الجناية منه على بن الراهن أو بن المرتهن كان كالجناية على الأجنبي يدفع بها أو يفدي بمنزلة جنايته قبل عقد الرهن قال لأن بن الراهن وبن المرتهن في ملك العبد وماليته كأجنبي فجنايته عليهما توجب الدفع أو الفداء وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه لا تعتبر جنايته على بن الراهن ولا على بن المرتهن إذا كان هو المستحق لتركة ابنه لأنه لو وجب الأرش هنا لوجب له فيكون بمنزلة جنايته على نفسه وكما لا تعتبر جنايته على الراهن والمرتهن لخلوه عن الفائدة فكذلك لا تعتبر جنايته على بن أحدهما.
ولو كانت قيمته ألفين والدين ألفا فجنى على الراهن أو على ماله كانت الجناية باطلة لأن نصفه مضمون ونصفه أمانة وحين كان الكل مضمونا لم تعتبر جنايته على الراهن وعلى ماله لقيام ملكه هنا أولى ولو جنى على المرتهن في نفسه أو رقيقه قيل للراهن ادفعه أو افده أما(21/325)
ص -155- ... على قولهما فغير مشكل وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فجنايته هنا معتبرة في ظاهر الرواية وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه لا يعتبر لأن الكل محبوس لحق المرتهن فلا تعتبر جنايته عليه كما في المسألة الأولى ووجه ظاهر الرواية أن النصف منه أمانة هنا ولا بد من اعتبار جنايته على المرتهن في ذلك النصف لأنه بمنزلة الوديعة وجناية الوديعة على المودع معتبرة.
ولو جنى على أجنبي كان الفداء في هذا النصف على الراهن فإذا جنى على المرتهن كان في اعتبار جنايته منفعة للمرتهن فلهذا تعتبر بخلاف الأول وعن زفر رحمه الله قال للمرتهن أن يبطل الرهن ثم يطالب بموجب الجناية لأن عقد الرهن ليس بلازم في جانب المرتهن فيتمكن من إبطاله وإذا أبطله صار كان لم يكن ولكن ليس هذا بقوي لأن النصف منه مضمون وقد صار مستحقا كفعله عند الضامن فكيف يتمكن من إبطال الرهن في ذلك النصف إلا أن يبطل حقه في ذلك النصف فحينئذ يكون لهذا الوجوب معنى ثم التخريج على ظاهر الرواية أن يقال للراهن ادفعه أو أفده لأن الراهن هو المالك للعبد وإنما يخير المالك بين الدفع والفداء في جناية عبده فإن دفعه وقبله المرتهن بذلك صار عبدا له وبطل الدين لأن ملك الراهن تلف بفعله فهو أسوة العبد في ضمان المرتهن فيكون كالهالك في يده في حكم سقوط الدين كما لو جنى على أجنبي فدفعاه به وإن فداه كان على الراهن نصف الفداء حصة الأمانة ونصف الفداء على المرتهن حصة المضمون فتسقط حصته لأنه لا يستوجب على نفسه دينا ويستوفي من الراهن حصته من الفداء ويكون العبد رهنا على حاله لأنه فرغ من الجناية.(21/326)
وإن قال المرتهن: لا أبقي الجناية فهو رهن على حاله لأن اعتبار الجناية لحقه فإذا سقط حقه بقي مرهونا على حاله وإذا أفسد متاعا للمرتهن وقيمته ألفان وهو رهن بألف فإن طلب المرتهن أخذه بقيمة المتاع فإنه يعرض على الراهن فإن شاء قضى عنه نصف ذلك الدين وجعل نصفه على المرتهن فإذا قضى الراهن نصف ذلك الدين فرغ حصة الأمانة منه وحصة المضمون فارغة من ذلك لأن المرتهن لا يستحق على نفسه دينا فيكون رهنا على حاله وإن كرهه بيع العبد في ذلك كله لأن النصف الذي هو أمانة يباع في الدين حين أبى المالك أن يقضي عنه وبعد بيعه لا يمكن إيفاء الرهن في النصف الآخر لأجل الشيوع فالشيوع الطارئ في الرهن كالمقارن وفي بيع الكل جملة توفير المنفعة عليهما فلهذا يباع العبد كله ويقضي منه ثمن الدين فإن بقي بعد ذلك من الثمن شيء أخذ الراهن نصفه والمرتهن نصفه قل الدين أو كثر لأن نصف ما بقي بدل الأمانة فيسلم للراهن ونصفه بدل المضمون في الدين فيستوفيه المرتهن قضاء من دينه وما زاد على ذلك من حقه تاو لتلف المالية بفعل باشره العبد في ضمانه.
وإذا قتل الرهن مولاه أو المرتهن عمدا فعليه القصاص في الوجهين لأن المستحق(21/327)
ص -156- ... بالعمد دمه وكل واحد منهما في دمه كأجنبي آخر وإذا قتل قصاصا سقط الدين لأن ماليته تلفت بسبب باشره في ضمان المرتهن فإن كان العبد يساوي ألفين والدين ألف فقتل المرتهن عمدا فعفا أحد اثنين فإنه يقال للراهن وللذي جنى ادفعا نصف العبد إلى الذي لم يعف أو افدياه بثلاثة أرباع نصف الدية لأن بعفو أحدهما انقلب نصيب الآخر مالا وثبت الخيار للمالك بين الدفع والفداء بمنزلة ما لو كانت الجناية موجبة للمال في الابتداء والخطاب بالدفع يكون مع المال إلا أنه لا يتمكن من الدفع إلا برضا العافي بماله من الحق فيه باعتبار الرهن على سبيل الخلافة عن المرتهن فلهذا قال يقال لهما ادفعا وإنما يدفعان نصف العبد لأن حق الذي لم يعف في نصف الجناية وقد بينا في هذه الصورة جنايته على المرتهن فيما دون النفس إنهما إذا اختارا الدفع دفع جميع العبد إلى المرتهن فكذلك يدفع إلى أحد ابنيه نصف العبد وبطل نصف الدين بدفع النصف إليه كما لو دفع جميعه إلى المرتهن بطل جميع الدين وهذا لأن نصف هذا المدفوع مما كان مضمونا بالدين فسقط نصف الدين باعتبار فواته وكان لهما على الراهن نصف الدين بينهما نصفين لأن الرهن قد بطل في النصف الآخر لأجل الشيوع فيرجعان على الراهن بنصف الدين وإن اختار الفداء فداه بثلاثة أرباع نصف الدية لأن على الراهن ربع الدية حصة الذي لم يعف من النصف الذي هو أمانة وعلى العافي عن الدية حصة نصيبه من المضمون بالدين فيكون جملة ما عليهما ثلاثة أثمان الدية فإذا فدياه بذلك فرغ العبد من الجناية فكان رهنا على حاله بالدين.(21/328)
وإذا كان العبد رهنا بين رجلين بألف وهو يساوي ألفين فقتل أحدهما عمدا وله وليان فعفا أحدهما فإنه يقال للراهن والمرتهن الباقي وللذي عفا ادفعوا نصف العبد إلى الذي لم يعف لأن نصيبه انقلب مالا بعفو صاحبه كما في الفصل الأول فإن دفعوه بطل الرهن في جميع العبد للشيوع فبطل نصف الدين فكان نصف الراهن بينهم على حاله وإن فدوه بسبعة أثمان نصف الدية فعلى الراهن من ذلك أربعة أسهم حصة الأمانة مما انقلب مالا من الجناية وعلى المرتهن الباقي سهمان حصة المضمون بدينه من هذا النصف وعلى المولي الذي على حصة المضمون بدينه من هذا النصف وقد سقطت حصة المضمون بدين الذي لم يعف لأن ذلك وجب له على نفسه وذلك لا يجوز والله أعلم
باب جناية الرهن على غير الراهن والمرتهن
قال رحمه الله: وإذا كان العبد رهنا بألف وهو يساوي ألفين فقتل رجلا خطأ فإن شاء الراهن والمرتهن دفعاه وبطل الرهن وإن شاءا فدياه بالدية كل واحد منهما بالنصف وكان رهنا على حاله وقد بينا أن المخاطب بالدفع هو المالك لأن في الدفع تمليك العين وإنما يملكها من هو مالك إلا أنه لا يملك الدفع هنا بدون رضا المرتهن فربما يكون الفداء أنفع للمرتهن وقد بينا أن حق المرتهن في جناية الرهن مرعي فلهذا قال يخاطبان بالدفع وإذا دفعاه وقد تلف ملك الراهن فيه بسبب كان في ضمان المرتهن فلهذا سقط دينه وهذا بخلاف(21/329)
ص -157- ... ما إذا باعه الراهن بإذن المرتهن لأن هناك يقدم الفكاك على البيع فيصير كان البائع افتكه ثم باعه فلهذا لا يسقط دين المرتهن وهنا لا يقدم الفكاك على الدفع بل يدفع بالجناية وهو مرهون لأنه جنى وهو كذلك وإنما يستحق دفعه على الصفة التي كانت الجناية منه فيها فلهذا يسقط الدين.
يوضحه: إن بالبيع يفوت الملك إلى بدل وهو الثمن فيبقى حق المرتهن ببقاء بدل صالح للأشغال لحق المرتهن وفي الدفع بالجناية لا يوجد ذلك وإن اختار الفداء فدياه بالدية كل واحد منهما بالنصف لأن نصفه مضمون ونصفه أمانة والفداء في المضمون على المرتهن لأنه هو الذي ينتفع به وقد أشرفت ماليته على الهلاك وبالفداء يحيا وفيه إبقاء دين المرتهن وكان الفداء في المضمون عليه لهذا وفي النصف الذي هو أمانة على الراهن بمنزلة أجرة الطبيب وثمن الأدوية فإن فدياه فقد فرغ من الجناية فيكون رهنا على حاله بالدين فإن قال أحدهما ادفع وقال الآخر أفدي فليس يستقيم ذلك لأنه إن قال المرتهن ادفع فهو غير مالك فلا يمكن أن يملك غيره وإن قال الراهن ادفع فهو ممنوع من تمليكه ببدل يتعلق به حق المرتهن بغير رضاه وهو البيع فلأن يكون ممنوعا من تمليكه لا ببدل يتعلق به حق المرتهن بغير رضاه كان أولى فإن دفعه الراهن والمرتهن غائب فللمرتهن إذا قدم أن يبطل دفعه وأن يفديه لأن في دفعه ضررا على المرتهن وليس في فداء المرتهن ضرر على الراهن وكذلك لو دفعه المرتهن والراهن غائب فالمرتهن غير مالك فكان دفعه باطلا إذا لم يرض به الراهن فإن فداه الراهن والمرتهن غائب فهو جائز لأنه بالفداء يطهر ملكه عن الجناية وليس فيه إبطال شيء من حق المرتهن فإنه إذا حضر فإما أن يساعده على ذلك فيرد عليه نصف ما فداه به أو يأبى ذلك فيكون المرهون هالكا في حقه ويسقط دينه ولا يرجع عليه الراهن بشيء وإنما لم يجعل الراهن متبرعا في الفداء لأنه قصد به تطهير ملكه عن الجناية وهو محتاج إلى ذلك فلا يكون(21/330)
متبرعا في نصيب المرتهن كالمعير للرهن إذا قضى الدين ثم إن رد عليه المرتهن نصف الفداء بقي مرهونا كما لو فدياه به وإن أبى ذلك فقد خرج من الرهن لأن المرتهن حين أبى الفداء فقد رضي بإتوائه فيجعل في حقه كأنه هلك وما توصل الراهن إليه إلا بمال أعطى بمقابلته.
ولو فداه المرتهن والراهن غائب فهو جائز أيضا لأنه لا ضرر على الراهن في هذا الفداء وهو لا يكون في هذا دون أجنبي آخر إلا أن المجني عليه لا يجبر على قبول الفداء من الأجنبي ويجبر على قبوله من المرتهن لأنه يقصد به إصلاح رهنه وإحياء حقه فيكون هو في ذلك كالمالك ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يكون هو متطوعا في نصيب الراهن من الفداء فيرجع على الراهن بنصف ذلك الفداء ولا يكون العبد به رهنا لأن هذا بمنزلة الزيادة في الدين فلا يثبت في حكم الرهن بخلاف ما إذا كان الراهن حاضرا ففداه المرتهن فإنه يكون متطوعا في نصيب الراهن من الفداء ولا يرجع عليه بشيء منه وروى زفر رحمه الله عن(21/331)
ص -158- ... أبي حنيفة رحمه الله على عكس هذا أن الراهن إذا كان حاضرا فالمرتهن لا يكون متطوعا من الفداء وإن كان غائبا فهو متطوع في الفداء وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المرتهن متطوع في الفداء لا يرجع بشيء منه على الراهن حاضرا كان الراهن أو غائبا لأن نصف المرهون أمانة في يد المرتهن كالوديعة والمودع إذا فدي الوديعة من الجناية كان متطوعا وهذا لأنه تعين التزامه باختياره من غير أن يكون مضطرا إليه ومجبرا عليه ففي النصف الذي هو أمانة ليس للمرتهن ملك العين ولاحق استيفاء الدين من المالية وأبو حنيفة رحمه الله يقول المرتهن أحد من يخاطب بالفداء في هذه الحالة فلا يكون متبرعا فيه كالراهن وهذا لأن الراهن إنما لم يكن متبرعا لأنه قصد بالفداء تطهير ملكه والمرتهن قصد بالفداء إحياء حقه لأنه يتوصل إلى جنس العين واستدامة اليد عليه بحكم الرهن لا بالفداء ثم في ظاهر الرواية قال هذه الحاجة له عند غيبة الراهن فأما عند حضرة الراهن فهو متمكن من استطلاع دائنه والمطالبة بالمساعدة معه إما على الفداء أو الدفع وفي حال غيبة الراهن يعجز عن ذلك فيكون محتاجا إلى الفداء فلهذا لم يكن في الفداء متطوعا عند حاجته إليه وهو بمنزلة أحد المشتريين إذا قضى البائع جميع الثمن والآخر غائب لا يكون متطوعا في نصيب صاحبه بخلاف ما إذا كان حاضرا وعلى الرواية الأخرى يقول في حال غيبة الراهن لا حاجة له إلى الفداء لأن المجني عليه لا يخاطبه بالدفع ولا يتمكن من أخذ العبد منه ما لم يحضر الراهن فيكون متبرعا في الفداء فأما في حال حضرة الراهن فالمجني عليه يخاطب بالدفع أو الفداء ولا يتوصل المرتهن إلى استدامة يده إلا بالفداء فلا يكون متبرعا فيه كصاحب العلو إذا بنى السفل ثم بني عليه علوه لا يكون متبرعا في حق صاحب السفل فهذا مثله.(21/332)
وإذا كانت الأمة رهنا بألف وقيمتها ألف فولدت ولدا يساوي ألفا ثم جنى الولد على الراهن أو على ملكه فلا شيء في ذلك لأن الولد ملك الراهن وهو بمنزلة الأمانة في يد المرتهن وجناية الأمانة على المالك وعلى ملكه هدر ولو جنى على المرتهن لم يكن بد من أن يدفع أو يفدي لأن جناية الأمانة على الأمين كجنايتها على أجنبي آخر فإن دفع لم يبطل من الدين شيء بمنزلة ما لو مات وإن اختار الفداء كان على الراهن نصف الفداء لأن الولد جزء من أجزاء الأم فجنايته على المرتهن كجناية الأم وكذلك لو جنى على أجنبي فالفداء عليهما بمنزلة الأم وهذا لأن الدين انقسم على قيمة الأم وقيمة الولد نصفين فنصف الولد مشغول بالدين.
ألا ترى أن الأم لو ماتت لم يسقط بهلاكها إلا نصف الدين فالفداء في جناية المشغول بالدين يكون على المرتهن وفي جناية الفارغ من الدين على الراهن.
وإذا كان العبد رهنا بألف وقيمته الألف فاستهلك مالا لرجل فذلك دين في عنقه يباع فيه ويستوفي صاحب المال ماله لأن حق المرتهن في الرهن لا يكون أقوى من ملك المالك ثم حق المتلف عليه في ثمنه مقدم على حق المالك فكذلك يكون مقدما على حق المرتهن وإذا(21/333)
ص -159- ... استوفى صاحب المال ماله كان ما بقي للمرتهن فإن كان ماله قد حل اقتضاه لأنه من جنس حقه وإن لم يكن كان رهنا مكان الأول لحصته حتى يحل فيأخذه والزيادة على ذلك من حق المرتهن قد سقطت لفوات المالية في ضمانه.
وإن كان الرهن عبدا يساوي ألفا بألف ففقأ عيني عبد يساوي مائة فدفع الرهن وأخذ العبد أعمى فهو رهن بألف يفتك بها شاء الراهن أو أبى لأنه قائم مقام العبد المرهون حين دفع وأخذ مكانه فكما بقي جميع الدين ببقاء الأول على حاله ويجبر الراهن على الفكاك فكذلك يبقى ببقاء خلفه فإذا أصابه عيب ينقصه ذهب من الدين بحساب ذلك يعني إن كان العيب ينقصه الخمس سقط خمس الألف وإن كان النصف فنصف الأول وإذا انتقص سعره لم يسقط من الدين شيء بمنزلة الأول لو كان باقيا على حاله وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يقوم المأخوذ صحيح العينين ويقوم أعمى فيبطل من الدين فضل ما بينهما ويصير الأعمى رهنا بما بقي لأنه قائم مقام الأول ولكنه أعمى فكان الأول على حاله ذهبت عيناه فتسقط حصة العينين من الدين ويكون رهنا بما بقي فإن شاء الراهن أخذه وأعطاه ما بقي فيه من الدين وإن شاء سلمه للمرتهن بما بقي من الدين للتغير الحاصل في ضمان المرتهن وهو مستقيم على أصل محمد رحمه الله وقد بينا في انكسار القلب إن الراهن يتخير بين أن يسلمه للمرتهن بدينه فيجعله في حكم الهلاك وبين أن يفتكه بقضاء الدين فهذا مثله والله أعلم بالصواب.
باب الجناية على الرهن(21/334)
قال رحمه الله: وإذا كان العبد رهنا بألف وقيمته ألف فصار يساوي ألفين ثم قتله رجل فعليه ألفان قيمته يوم قتله فإن أدى ألفا فالمرتهن أحق بهذه الألف لأن حق المرتهن في مالية الرهن مقدم على حق الراهن وقد كان جميع المالية في الأصل مشغولا لحق المرتهن فالزيادة الحادثة بيع محض لأنها لم تكن في أصل الرهن فكل مال اشتمل على أصل وبيع فما يخرج منه يكون من الأصل وما سواه يكون من البيع كمال المضاربة إذا توى بعضه على الغريم كان ما خرج من رأس المال والتاوي من الربح ولو كانت قيمته في الأصل ألفين فإنما خرج من قيمته بين الراهن والمرتهن نصفين وما توى بينهما لأن النصف مشغول لحق المرتهن والنصف بمنزلة الأمانة في يده وحق الراهن فيه أصل فكان بمنزلة العبد المشترك إذا قتل فما يخرج من قيمته يكون بينهما وما يتوي يكون بينهما وإن لم يقتل ولكنه فقئت عينه ثم توى فالأرش على الفاقئ لأنه ذهب نصف الدين في الفصلين لأن العين من الآدمي نصفه فإن كانت قيمته في الأصل ألفا فبفوات نصفه يذهب نصف الدين وإن كانت تساوي ألفين فبفوات العين يفوت منه نصف شائع نصفه من المضمون ونصفه من الأمانة فلفوات نصف المضمون يسقط نصف الدين.
وإن كان الرهن أمة تساوي ألفا بألف فولدت ولدا يساوي ألفا ثم جنت الأم جناية فدفعت(21/335)
ص -160- ... بها ذهب نصف الدين لأن نصف الدين تحول منهما إلى ولدها فحين دفعت خلا مكانها فيذهب ما بقي فيها وهو نصف الدين كما لو ماتت وإن فديا الأم فالفداء عليها نصفين لأنه لما تحول نصف الدين إلى الولد بقي المشغول بالدين من الأم نصفها والنصف أمانة فكان الفداء عليهما لهذا فإن مات الولد فالفداء الذي أعطى المولي قضاء من الدين والأم رهن بما بقي لأن الولد حين مات قبل الفكاك صار كأن لم يكن فتبين أن جميع الرهن كان مضمونا بالدين وإن الفداء كله كان على المرتهن والراهن لم يكن متطوعا فيما أدى فاستوجب الرجوع به على المرتهن وبيع المقاصة مقدرة بقدره فيصير الراهن قاضيا نصف الدين وتبقى الحادثة رهنا بما بقي من الدين.(21/336)
ولو كان الرهن عبدا يساوي ألفا بألف فقتله عبد يساوي مائة فدفع به فهو رهن يفتكه بجميع الدين في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إن شاء الراهن أخذه وأدى الدين كله وإن شاء سلمه للمرتهن بدينه وأما زفر رحمه الله فمر على أصله فإن عنده لو كان العبد الأول بحاله وتراجعت قيمته إلى مائة لنقصان السعر فإنه يفتكه بمائة ويسقط ما زاد على ذلك من الدين فكذلك إذا كانت قيمة المدفوع مكانه مائة وعندنا بنقصان سعر الرهن لا يسقط شيء من الدين ولا يتخير الراهن فكذلك هنا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن المدفوع قائم مقام المقتول فيفتكه الراهن بجميع الدين وعند محمد رحمه الله يتحول جميع الدين من المقتول إلى المدفوع إلا أن للراهن الخيار لتغير العين في ضمان المرتهن بمال منه أوصى به وأفتكه بجميع الدين وإن شاء سلمه للمرتهن بدينه بخلاف ما إذا انتقص سعر الأول لأن العين لم تتغير هناك وهو نظير المبيع في يد البائع إذا انتقص سعره لا يتخير المشتري وإذا قتله عبد ودفع به يخير المشتري وهذا بخلاف ما إذا تراجع سعر الأول إلى مائة ثم قتله حر فغرم قيمته مائة فإنه يسقط من الدين تسعمائة ويأخذ المرتهن المائة قضاء من مثلها وزفر رحمه الله يستدل بهذا الفصل ولكنا نقول الدراهم لا تفك والمائة لا يجوز أن يكون بمقابلتها أكثر من مائة فإنه لا يتصور استيفاء جميع الدين منها بحال بخلاف العبد المدفوع فإنه يجوز أن يكون بمقابلته ألف درهم شراء فكذلك جنسا بالدين ويتوهم استيفاء جميع الدين من ماليته بأن تزاد قيمته حتى يشتري بألف حتى إن الحر القاتل لو عزز الدنانير حتى تبلغ قيمة هذه الدنانير ألف درهم وإن كان المدفوع صحيحا فذهبت عينه ذهب نصف الدين لأن المدفوع قائم مقام المقتول ففوات نصفه بذهاب عينه كفوات نصف المقتول بذهاب عينه.(21/337)
ولو كانت أمة ففات عتق العبد المرهون فدفعت به فهما جميعا رهن بألف لأن المدفوع خلف عن الفائت من العين فيتحول إليه ما كان فيها من الدين وإن ماتت الأمة فكأن العين فاتت من غير صنع أحد وكذلك لو قتل هذا العبد الأعور عبد فدفع به كان رهنا مع الأمة أيهما مات فات بخمسمائة وإن كانت قيمتهما مختلفة لأن المدفوع بالأعور قائم مقامه(21/338)
ص -161- ... فيتحول إليه ما كان في الأعور من الدين وموته كموت ذلك الأعور فإن قتل أحدهما صاحبه كان القاتل رهنا بخمسمائة وإن كان فيه فضل لأنهما بمنزلة العبد الأول المرهون فإن أحدهما مدفوع بعينه والآخر بنفسه وكان الأول فقأ عين نفسه أو قتل نفسه بعد ما فقأت الأمة عينه ودفعت به فلهذا سقط بقتل أحدهما صاحبه من الدين خمسمائة ويجعل كأنه مات وكذلك لو فقأ أحدهما عين صاحبه ذهب ربع الدين كما لو ذهبت عينه بغير صنع أحد.
وإذا كان العبد رهنا بألف وقيمته ألف فعليه عبدان يدفعان فهما جميعا رهن بألف فإن قتل أحدهما صاحبه كان الباقي رهنا بخمسمائة وإن كانت قيمة كل واحد منهما ألفا أو أكثر بمنزلة ما لو مات أحدهما لأنهما جميعا خلف عن العبد المرهون وكل واحد منهما مدفوع بنصفه وكان الأول أتلف نصفه بأن فقأ عين نفسه وكذلك إن مات أحدهما أو جنى فدفع فالباقي رهن بنصف المال.
ولو كان الرهن عبدين بألف يساوي كل واحد منهما خمسمائة فزاد كل واحد منهما حتى صار يساوي ألفا ثم قتل أحدهما صاحبه كان الباقي رهنا بسبعمائة وخمسين على ما يكون له عليه في الزيادة لو كان في الأصل لأن عند الجناية نصف كل واحد منهما فارغ ونصفه مشغول وجناية الفارغ على المشغول معتبرة فباعتبارها يتحول نصف ما كان في المقتول إلى القاتل ولو لم يقتل أحدهما صاحبه ولكن قتل كل واحد منهما عبدا فدفع به وقيمة المدفوع به قليلة أو كثيرة ثم قتل أحد المدفوعين صاحبه كان القاتل رهنا بسبعمائة وخمسين لأنهما قائمان مقام المقتولين فقتل أحدهما صاحبه كقتل أحد المرهونين في الأصل صاحبه.(21/339)
وإذا كان الرهن عبدين بألف وقيمة كل واحد منهما ألف فقتلهما عبد واحد فدفع بهما ففقأ عين نفسه أو جرح نفسه فإنه يذهب بحساب ذلك ولا يكون عليه أرش لأنه شخص واحد وإن كان قائما مقام المرهونين وجناية المرء على نفسه لا تعتبر بحال فكان هذا وما لو ذهبت عينه من غير صنع أحد سواء فسقط من الدين بحساب ذلك والله أعلم(21/340)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثاني والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(22/1)
ص -3- ... باب الغصب في الرهن
قال رحمه الله: وإذا كان العبد رهنا بألف وقيمته ألف فغصبه رجل فقتل عنده قتلا خطأ ثم رده فدفعه بالجناية فإنه يرجع على الغاصب بقيمته لأن المرتهن له يد صحيحة على الرهن وقد أزالها عنه الغاصب فكان ضامنا له ما لم ينتسخ فعله بالرد كما قبض ولم يرده هنا كما قبضه لأنه قبضه فارغا عن الجناية ورده مشغولا بها واستحق بذلك الشغل حين دفع بالجناية فكأنه لم يرده أصلا ولو هلك عنده قبل الرد كان للمرتهن أن يرجع عليه بقيمته فيكون رهنا مكانه فإن فداه المرتهن كانت القيمة التي يأخذ من الغاصب له مكان الفداء لأن ما لحق من الغرم إنما لحقه بالجناية عند الغاصب وما كان يتوصل إلى إحياء حقه إلا بالفداء فكان له أن يرجع على الغاصب بالأقل من القيمة ومما فداه به لأن الذي يتيقن باستحقاقه عليه الأقل منهما ويكون ذلك له مكان الفداء لأن الغرم مقابل بالغنم.(22/2)
ولو كان الرهن يساوي ألفين ففداه الراهن والمرتهن كانت القيمة التي يأخذونها من الغاصب بينهما نصفين لأن غرم الفداء كان بينهما نصفين وإنما يرجعان بالقيمة باعتبار ما غرما فتكون القيمة بينهما نصفين ولو لم يجن عند الغاصب ولكنه أفسد متاعا لحقه من دين وقيمته ألف ثم رده فإنه يباع في الدين إلا أن يصلحه المرتهن بقضاء الدين فإذا بيع بدئ بحق صاحب الدين لأن حقه مقدم على حق المرتهن فإن بقي شيء بعد الدين كان في الرهن ويضمن الغاصب ما دفعوا في الدين من عنده لأن ذلك القدر استحق بسبب كان من العبد في ضمان الغاصب فيرجعون به عليه لأن الرد لم يسلم فيه ثم يكون رهنا مع ما بقي من الثمن ولا ينقص من الرهن شيء لأن ما فات من ماليته قد أخلف بدلا وهو المستوفى من الغاصب فيبقى جميع الدين ببقاء الخلف ولو كان حين قتل قتيلا في يد الغاصب رده إلى المرتهن فمات عنده بطلت الجناية لأن حق ولي الجناية في تملك نفسه بالدفع إليه وقد فات محل حقه حين مات ثم يسقط الدين بموته في يد المرتهن لأنه عاد إلى يده كما كان مضمونا بالدين إذا هلك ولا شيء على الغاصب لأن الرد قد سلم حين لم يؤخذ منه شيء بالجناية التي كانت عند الغاصب.
وكذلك لو كان الدم عمدا فيه قصاص فعفى ولي الدم أو عفى ولي جناية الخطأ أو أبرأ صاحب المال في الاستهلاك فلا شيء على الغاصب في هذه الفصول لأنه لم يوجد شيء من العبد بسبب الفعل الذي كان منه في يد قيم رده وانتسخ به حكم فعله ولو قتل عند(22/3)
ص -4- ... الغاصب قتيلا خطأ ثم قتل قتيلا عمدا ثم أفسد متاعا مثل قيمته ثم رده عليهم فاختاروا دفعه فإنه يدفع بالخطأ ثم يقتله أصحاب العمد كما لو كانت هذه الجناية من العبد في يد المالك وهذا لو نوى القود وإن جنى ولي الخطأ ولو نوى بالدفع ما يفوت حق ولي العمد في القصاص ولا فائدة في البدلية في البيع بالدين لأنه يفوت به حق ولي الخطأ وإذا استوفى القصاص بطل البيع فلهذا يبدأ بالدفع في الخطأ ثم يقتله أصحاب العمد قصاصا ويكون على الغاصب القيمة ويدفع إلى أولياء الخطأ لأن حقهم ثبت في عبد فارغ ولم يسلم لهم ذلك فإنه دفع إليهم عبدا مباح الدم بالقصاص والقيمة بدل عنه فثبت حقهم في البدل بثبوت حقهم في الأصل فإذا رفعت إلى أولياء الخطأ أخذها الغرماء ثم يرجع المرتهن على الغاصب بقيمة أخرى لأن تلك القيمة استحقت بسبب كان من العبد في ضمانه فيأخذ منه هذه القيمة أصحاب الخطأ أيضا لأن القيمة الأولى لم تسلم لهم فإنها استحقت من يدهم لحق الغرماء فيدفع إليهم القيمة الثانية للذي استحقت من يده الجناية التي كانت عند الغاصب فيرجع عليه بقيمة أخرى حتى يكون في يد المرتهن قيمة لا تبعة فيها قائمة مقام عبد لم يكن فيه تبعة حين أخذه الغاصب.
ولو بدأ بالدين ثم ثنى بالعمد ثم ثلث بالخطأ فاختاروا الدفع فإنه يدفع بالخطأ ثم يقتل قصاصا لما قلنا ثم يكون على الغاصب قيمته للمرتهن ولا سبيل لأولياء الخطأ على هذه القيمة لأن حقهم ما ثبت إلا في عبد مشغول فإنه حين جنى على وليهم كان مشغولا بالدم مباحا بالقصاص وقد دفع إليهم بهذه الصفقة فليس لهم أن يرجعوا بشيء آخر ولكن هذه القيمة يأخذها الغرماء لأنها بدل عن العبد وحقهم كان ثابتا في ماليته فثبت في بدله أيضا فإذا أخذها الغرماء رجع المرتهن على الغاصب بقيمة أخرى فيكون رهنا مكان العبد لأن القيمة الأولى استحقها الغرماء بسبب ما في العبد من ضمان الغاصب.(22/4)
ولو كان الرهن أمة فغصبها رجل فولدت عنده ولدا وجنى الولد جناية ثم ردهما جميعا فإن ولدها يدفع أو يفدى ولا شيء على الغاصب من ذلك لأن الولد ما كان في ضمان الغاصب فإنه لم يغصب الولد حتى لو مات في يده لم يكن عليه شيء فكذلك إذا استحق بجناية كانت عنده وهذا لأن المستحق على الغاصب نسخ فعله بالرد ولم يوجد منه فعل في الولد يستحق عليه نسخ ذلك بالرد ولو كان الرهن عبدا يساوي أكثر من عشرة آلاف وهو رهن بمثل قيمته فغصبه رجل فقتل عنده قتيلا ففداه المرتهن رجع على الغاصب بعشرة آلاف إلا عشرة دراهم لأن رجوع الغاصب بسبب الجناية التي كانت من العبد في ضمانه فإن الرد إنما لم يسلم لكونه مشغولا بالجناية وقيمة العبد بسبب الجناية لا يزيد على عشرة آلاف إلا عشرة.
ألا ترى أن قيمته بسبب الجناية عليه لا تزيد على هذه فكذلك قيمته بسبب الجناية منه وهو نظير المكاتب إذا كان كثير القيمة فجنى جناية لم يلزمه أكثر من عشرة آلاف إلا عشرة بمنزلة ما لو جنى عليه.
ولو كانت قيمته عشرين ألفا أو أكثر وهو رهن بمثله فقتل قتيلين عند الغاصب ففداه(22/5)
ص -5- ... المرتهن بعشرين ألفا لم يرجع على الغاصب بأكثر من عشرة آلاف إلا عشرة لأن الرجوع عليه بسبب الجناية وقيمته في الجناية لا تزيد على هذا المقدار كما لو لم يغصبه الغاصب من يد المرتهن ولكنه قتله لم يلزمه أكثر من عشرة آلاف إلا عشرة ولو لم يفدوه ولكنهم دفعوه رجع على الغاصب أيضا بعشرة آلاف إلا عشرة فيدفع نصفها إلى ولي الجناية الأول لأن حقه ثبت في جميع العبد فارغا ولم يسلم له إلا النصف فيكون له أن يرجع بنصف القيمة التي قامت مقامه حتى يسلم له كمال حقه ولم يرجع المرتهن بذلك على الغاصب لأن هذا المقدار استحق من يده بالجناية التي كانت عند الغاصب فتكون هذه العشرة آلاف إلا عشرة ذهبا بمثلها من الدين إن كان الدين حالا يأخذها المرتهن قضاء من دينه وإن كان مؤجلا يكون رهنا في يده لأن حق الراهن في الأجل مرعي ويبطل الفضل لما بينا أن الدراهم لا تكون مضمونة إلا بمثلها ولا يتصور أن يستوفي منها أكثر من قدرها من الدين فيبطل الفضل عن الراهن لفوات زيادة المالية في ضمان المرتهن ولو لم يقتله حر ولكن قتله عبد قيمته مائة في يد المرتهن كان رهنا بجميع الدين وقد تقدم بيان الخلاف على هذا الفصل.(22/6)
ولو لم يقتل ولم يغصب ولكن المرتهن باعه بعشرين ألفا وكان مسلطا على بيعه فتوى الثمن ذهب من مال المرتهن لأن حكم الرهن يتحول إلى الثمن فهلاكه كهلاك العبد في يد المرتهن وكذلك لو باعه العدل ولو كان باعه بأقل من الدين رجع بباقي الدين على الراهن لأن المرتهن في هذا البيع نائب عن الراهن فيكون بيعه كبيع الراهن وذلك بمنزلة الفكاك ثم يتحول ضمان الدين إلى الثمن بقدر الثمن فما زاد على ذلك يبقي في ذمة الراهن بخلاف القتل فإنه يقتل وهو مرهون فيسقط من الدين مقدار مالية القيمة الواجبة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله في الأمالي إنه إذا باعه المرتهن أو العدل فالثمن لا يكون رهنا إلا أن يكون شرط ذلك عند البيع أو عند الرهن وجعل البيع في إبطال حق المرتهن عن العين هنا نظير بيع العبد المؤاجر برضا المستأجر فإنه يكون مبطلا لحق المستأجر ولكن في ظاهر الرواية في البيع هنا تحقيق مقصود المرتهن لأن مقصود المرتهن استيفاء الدين من ماليته وذلك حال قيامه بالبيع يكون والثمن صالح لحقه كما كان الأصل صالحا فلهذا كان الثمن مرهونا فأما في بيع المؤاجر فإبطال مقصود المستأجر لأن مقصوده الانتفاع بالعين والثمن غير صالح لذلك فيبطل عقد الإجارة إذا كان البيع برضاه.
ولو كان العبد رهنا بألف وقيمته ألف فرخص السعر حتى صار يساوي مائة وحل المال فقتله حر غرم مائة ولم يكن للمرتهن غيرها لما بينا وكذلك لو قتله الراهن أو المرتهن لأن فيما يلزم كل واحد منهما بالقتل لا يكون أشقى من الأجنبي فلا يلزمه قيمته إلا وقت القتل وإن غصبه الراهن وقيمته ألف فجنى عنده جناية ثم رده على المرتهن ففداه فإنه يرجع بالأقل من قيمته ومن الفداء على الراهن كما لو كان الغاصب أجنبيا آخر وهذا لأن الراهن بعقد الرهن صار من ماليته كأجنبي فغصبه إياه يوجب عليه ما يوجب على الأجنبي ولو كان استعاره(22/7)
ص -6- ... الراهن فقتل عنده قتيلا فدفعه الراهن والمرتهن كان الدين على الراهن ولا يضمن قيمة الرهن لأنه قبضه على وجه العارية ولا يكون هو فيه دون أجنبي آخر فتكون العين أمانة في يده ولكنه خرج عن ضمان الرهن ما دام في يد الراهن لأن ضمان الرهن ضمان استيفاء ولا يتحقق ذلك إلا حال ثبوت يد استيفاء المرتهن على الرهن حقيقة وحكما ولا بدل له حال كونه عارية في يد المرتهن فلهذا لا يسقط شيء من الدين بهلاكه.
وكذلك لو استعاره رجل بإذن الراهن ولو استعاره بغير إذن الراهن فجنى عنده فدفع بالجناية كان الراهن بالخيار إن شاء ضمن المرتهن قيمته وإن شاء ضمن المستعير قيمته لأن كل واحد منهما جان في حق صاحبه المرتهن بالتسليم والمستعير بالقبض ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء لأن المستعير إن ضمن فإنما ضمن بقبضه لنفسه والمرتهن إن ضمن فقد ملكه بالضمان وتبين أنه أعار ملك نفسه ثم تكون القيمة رهنا مكانه لأنها قائمة مقامه ولو كان الراهن أعاره بغير إذن المرتهن فللمرتهن أن يضمن القيمة إن شاء المستعير وإن شاء الراهن لأن كل واحد منهما جان في حقه وحقه في الرهن مقدم على حق الراهن وإذا كان العبد قيمته ألف درهم رهنا بألف فغصبه رجل فجنى عنده جناية واكتسب عنده ألف درهم ثم رده ورد المال ودفع العبد بالجناية فإنه يرجع عليه بقيمة العبد والألف التي اكتسب العبد أو وهب له المولى العبد لا حق للمرتهن فيها لأنها غير متولدة من العين فوجود هذا في حق المرتهن كعدمه وقد بينا أنه حين دفع بالجناية فالرد لم يصح فيرجع المرتهن عليه بقيمته ويكون رهنا في يده.
ولو كان الغاصب عبدا فجنى العبد الرهن عنده جناية تستغرق قيمته فذلك في عنق الغاصب يباع فيه أو يفدي لأن الضمان على الغاصب بسبب الغصب وضمان الغصب بمنزلة ضمان الاستهلاك فالمستحق به ماليته فيباع فيه أو يفدي بخلاف جناية العبد فالمستحق بالجناية نفسه إلا أن يفديه المولي.(22/8)
ألا ترى أن الغاصب لو كان حرا كانت القيمة في ماله حالة ولو كان سببها الجناية لكانت عليه في ثلاث سنين ولو كان العبد الغاصب يساوي عشرين ألفا والعبد المغصوب يساوي عشرين ألفا فقتل عنده قتيلين فدفع بهما لم يكن في عنق العبد الغاصب إلا عشرة آلاف غير عشرة دراهم يباع فيها أو يفدي لما بينا أن الغاصب قد رد المغصوب إلا أن الرد لم يسلم لكونه مشغولا بالجناية فيكون الرجوع على الغاصب لأجل شغل الجناية وقيمة العبد في الجناية لا تزيد على هذا المقدار في حق العبد والحر جميعا إلا أن هذا المقدار واجب على الغاصب بسبب غصبه فيباع فيه أو يفدي فصار الحاصل أن وجوب هذا الضمان على الغاصب باعتبار السببين جميعا فإنه لولا غصبه ما ضمن شيئا بسبب جنايته ولولا جناية المغصوب عنده لكان رده تاما فلا يرجع عليه بشيء بعد ذلك فإنما الرجوع عليه باعتبار الأمرين جميعا فلاعتبار الجناية لا يرجع عليه بأكثر من عشرة آلاف إلا عشرة ولاعتبار غصبه يباع فيه أو(22/9)
ص -7- ... يفدي وفي حق من يرجع السبب هو الاستحقاق من يده بالجناية فلا يرجع إلا بعشرة آلاف إلا عشرة وفي حق من يرجع عليه وهو الغاصب لسبب غصبه فيباع فيه.
ولو ارتهن عبدا يساوي ألفا فغصبه رجل فقتل عنده قتيلا خطأ ثم رده فغصبه آخر فقتل عنده قتيلا خطأ ثم رده فغصبه آخر فقتل عنده قتيلا خطأ ثم رده واختاروا دفعه فإنه يكون بين أصحاب الجنايات أثلاثا سواء حق أولياء الجنايات في رقبته بالاستواء في سبب الاستحقاق فإن كل واحد منهم لو انفرد كان مستحقا جميع نفسه بالجناية ولم يضمن الغاصب الأول ثلث قيمته لأن المدفوع إلى ولي الجناية الأولى استحق بسبب كان عند الأول فلهذا يضمن الغاصب الأول ثلث قيمته فيدفعها المولي والمرتهن إلى ولي القتيل الأول ثم يرجع على الغاصب الأول أيضا بمثله فيدفعه إلى ولي القتيل الأول لأن حقه ثبت في العبد فارغا وما سلم له إلا ثلثه فيرجع في بدله مرتين حتى يسلم له ثلثي القيمة وثلث العبد فارغ لم يرجع على الغاصب الأول بمثله فيكون رهنا في يده ويرجع على الغاصب الثاني بثلث قيمته فيدفع نصف ذلك إلى ولي القتيل الثاني لأنه حين جنى على وليه كان مشغولا بالجناية فإنما يثبت حق ولي الثاني في نصفه وقد سلم له الثلث فيرجع إلى تمام حقه وذلك نصف الثلث حتى يسلم له النصف ثم يرجع المرتهن على الغاصب الثاني بذلك فيجعل في يده ثلث القيمة مع ثلث الأول مرهونا ويكون على الثالث ثلث قيمته ولا يدفع إلى ولي القتيل الثالث لأنه حين جنى عليه كان مشغولا بجنايتين فإنما يثبت حقه في ثلث العبد وقد سلم له ثلثه فيجتمع في يد المرتهن قيمة كاملة ويكون رهنا مكان العبد وهذا التخريج إنما يستقيم على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فأما عند محمد وزفر رحمهما الله فيستوفي من الغاصب الأول من ثلث القيمة ولا يدفع شيء منه إلى ولي الجناية الأولى لأن رجوعه ببدل ما دفعه إلى ولي الجناية الأولى فكيف يجتمع البدل والمبدل في ملكه وبيان هذا(22/10)
الفصل يأتي في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.
وكذلك إن كان الغاصب واحدا فغصب ثم رد أو كان جني هذه الجنايات في يده قبل أن يرد فالتخريج مثل ذلك أنه يغرم قيمته فيأخذ ولي القتيل الأول ثلثها والثاني سدسها ثم يرجع بذلك كله على الغاصب فيكون رهنا لأن المعنى في الكل واحد وفائدة وضعه في ثلثه من الغاصبين إيضاح الكلام وإذا ارتهن أمة تساوي خمسة آلاف بألف فغصبها رجل فجنت عنده جناية دون الخمس ثم ردها فاختاروا فداءها فعلى المرتهن خمس الفداء وعلى الراهن أربعة أخماسه لأن خمسها مضمون بالدين والفداء بقدره على المرتهن وأربعة أخماسها أمانة والفداء بقدر ذلك على الراهن ولم يرجعوا بذلك على الغاصب إن كانت الجناية أقل من خمسة آلاف وإن كانت الجناية خمسة آلاف أو أكثر رجعوا على الغاصب بخمسة آلاف إلا عشرة لأن الرجوع بسبب الجناية التي كانت منها عند الغاصب وقيمة الأمة بسبب الجناية لا يزيد على خمسة آلاف إلا عشرة في الروايات الظاهرة(22/11)
ص -8- ... وإذا غصب رجل العبد المرهون فاستهلك عنده متاعا فعليه قيمة ذلك المتاع دينا في عنقه بالغا ما بلغ كما لو استهلك عند المالك أو المرتهن فإذا رده فالغريم بالخيار إن شاء استسعاه وإن شاء بيع له في ذلك لأن لوصوله إلى حقه محلين إما ماليته فيوفيه بالبيع أو الكسب بالاستسعاء وله في أحد الجانبين منفعة التعجيل يعني في البيع وفي الجانب الآخر منفعة توفير حقه عليه فيختار أي ذلك صنع به يضمن الغاصب الأقل من قيمته ومن الدين لأن استحقاق ذلك بسبب كان باشره الغاصب إلا أن تمام الاستحقاق في مقدار الأول فإن الدين إن كان أقل فليس عليه إلا ذلك لأن الرد إنما لم يسلم لشغل الدين وإن كانت قيمته أقل فالغاصب ما صار ضامنا إلا مقدار قيمته ولا يكون هذا على ما لو فات في يده فإن استسعى العبد في الدين ولو ألفا فأداه وأخذوا من الغاصب قيمته أيضا كانت هذه القيمة للمولي لأنه قام مقام كسبه الذي أخذه الغرماء وقد بينا أن حق المرتهن في الكسب فكذلك فيما قام مقام الكسب والعبد رهن على حاله.(22/12)
ولو بيع العبد في الدين فاستوفى الغريم حقه رجعوا على الغاصب بالقيمة وكانت رهنا لأن ما يغرمه الغاصب هنا بدل مالية العبد المدفوع إلى الغريم وحق المرتهن كان ثابتا فيه فإن باعوه بثلاثة آلاف وقيمته ألفان والدين ألف والرهن الأول ألف قضوا للغرماء ألفا وضمنوا للغاصب ثلث قيمته فتكون هذه الألفان وثلث القيمة رهنا بالمال لا ينقص منه شيء لأن قيمته ألفان وقد بقي مثل ذلك فعرفنا أنه لم يستقض شيئا من المالية التي هي أصل في ضمان المرتهن وإنما ضمن الغاصب ثلث قيمته لأن المستحق بالسبب الذي كان عنده ثلث بدل العبد ولو استحق جميع البدل ما كان يرجع عليه إلا بقيمته فكذلك إذا استحق ثلث بدله فإنما يرجع عليه بثلث القيمة ولو كانوا باعوه بألفين فقضوا غريم العبد ألفين رجعوا على الغاصب بنصف القيمة لأن المستحق بالسبب الذي كان عنده نصف بدله وكانت هاتان الألفان رهنا بالمال مكانه لأنه لم يفت شيء من مالية الرهن الذي كان موجودا عند قبض المرتهن ولو توى ما على الغاصب كانت هذه الألف التي بقيت رهنا بنصف الدين لأن نصف المالية تلف في ضمان المرتهن فإن بغصب الغاصب لا يخرج العبد من ضمان المرتهن في حق الراهن.
ولو كان العبد رهنا بألف على يدي عدل وقيمته ألف فباعه العدل بألفين وكان مسلطا على البيع فتوت إحداهما وخرجت الأخرى استوفاها المرتهن لأن الألف الأخرى زيادة وقد بينا أن ما توى كان من الزيادة لا من الأصل ولو كانت قيمته ألفي درهم عند المرتهن والمسألة بحالها فنصف هذه الألف التي خرجت للمرتهن ونصفها للراهن لما بينا أن نصف المالية مشغول بحق المرتهن ونصفها بحق الراهن فما خرج من البدل يكون نصفين وما توى عليهما نصفان ولو باعه بثلاثة آلاف فخرجت الألف وتوى ألفان كان ما يخرج بينهما نصفين لأن الألف الثالثة زيادة فيجعل التاوي بينهما وإنما يعتبر ما كان أصلا وهو ألفان فكان هذه وما لو بيع العبد بألفين سواء والله أعلم(22/13)
ص -9- ... باب جناية الرهن في الحفر
قال رحمه الله: وإذا كان العبد رهنا بألف وقيمته ألف ثم غصبه رجل فحفر عنده بئرا في الطريق ووضع في الطريق حجرا ثم رده الغاصب على المرتهن فأفتكه الراهن بقضاء الدين ثم وقع في البئر إنسان فمات قيل للراهن ادفع عبدك أو افده بالدية لأن العبد صار جانيا على لواقع بالحفر السابق عند وقوعه في البئر فإنه بالحفر متسبب لإتلافه بإزالة ما به كان يستمسك على الأرض وهو متعد في هذا التسبيب وحين صنع هذا كان ملكا للراهن وهو على ملكه عند الوقوع أيضا فيخاطب بالدفع أو الفداء كما لو قتله بيده وأي ذلك فعل يرجع على الغاصب بقيمته لأن فعل الرد لم يسلم وتبين أنه كان قاصرا حين استحق بسبب فعل كان باشره عنده وقيل بل المرتهن هو الذي يرجع على الغاصب بقيمته فيدفعه إلى الراهن لأن الغاصب فوت يد المرهون بغصبه ولكن الأول أصح فإن حق المرتهن في اليد ما لم يصل إليه دينه وقد وصل إليه حقه فإنما المعتبر الآن حق المالك فهو الذي يرجع على الغاصب بالقيمة فإن كان الغاصب مفلسا أو غائبا رجع الراهن على المرتهن بالذي قضاه إذا كان الرهن والدين سواء حتى يكون الفداء من مال المرتهن لأنه حين حفر كان في ضمان المرتهن فيما بينه وبين الراهن.(22/14)
ألا ترى أنه لو هلك في يد الغاصب وتوت عليه القيمة سقط دين المرتهن وقد تبين أن بالفكاك لم يسلم للراهن حين استحق من يده بسبب كان قبل الفكاك فيجعل كالهالك في يد المرتهن بعد استيفاء الدين وفي هذا ما يلزمه رد المستوفى لأنه تبين أنه بالفكاك في يده صار مستوفيا دينه فإن عطب بالحفر آخر فمات وقد دفع العبد إلى صاحب البئر فإنه يقال لصاحب البئر ادفع نصفه أو افده بعشرة آلاف درهم لأن الجنايتين قد حصلتا في ملك رجل واحد وهما من جنس واحد فيكون حق كل واحد منهما في نصف العبد إلا أن صاحب البئر قد ملك جميع العبد حين دفع إليه فقام هو في نصيب صاحب الحفر مقام المولي فيخير بين أن يدفع إليه نصفه أو يفديه بعشرة آلاف ولا يتبع المرتهن ولا المولي من ذلك بشيء سوى الذي تبعهم أول مرة لأن جنايات العبد وإن كثرت لا توجب على المولي إلا دفع العبد وقد دفع العبد والذي عطب بالحفر مثل آخر لو وقع في البئر لأن الموجب واحد في الموضعين.
وإذا حفر العبد بئرا في الطريق وهو رهن بألف وقيمته ألف فوقع فيها عبد فذهبت عيناه فإنه يدفع العبد الرهن أو يفديه بمنزلة ما لو فقأ عيني العبد بيده والفداء كله على المرتهن لأن العبد كله مضمون بالدين فإن فداه فهو رهن على حاله وأخذ المرتهن العبد الأعمى فكان له مكان ما أدى من الفداء وإن دفع العبد الرهن وأخذ الأعمى كان رهنا مكانه بالألف لأنه قائم مقامه في حكم الرهن وإن وقع في البئر آخر اشتركوا في العبد الحافر بحصة ذلك أو يفديه مولاه الذي عنده بالألف لأن الجنايتين استندتا إلى سبب واحد فكأنهما وجدتا معا فيكون حق الوليين في العبد ولا يلحق الأعمى من ذلك شيء لأنه قائم مقام الجاني في حكم الرهن لا(22/15)
ص -10- ... في حكم الجناية فإنه بالدفع خرج من حكم الرهن وتقرر حكم الجناية فيه فلهذا لا يلحق الاعمى من جنايته شيء.
وإن وقعت في البئر دابة فعطبت أخذ عنها العبد في يدي أصحابه حتى يباع له في ذلك بمنزلة ما لو كانت الجنايتان من العبد بيده فإن قتل إنسانا وأتلف مال آخر فهناك يدفع بالجناية أولا ثم يباع بالدين إلا أن يقضي ولي الجناية الدين وهذا لأنه لا مجانسة في موجب الفعلين هنا فالمستحق بالجناية نفسه والمستحق بالاستهلاك بيعه في الدين فلا تثبت المشاركة بينهما ولكن إيفاء الحقين ممكن بأن يدفع بالجناية ثم يباع في الدين فلا يلحق الأعمى شيء من ذلك لما قلنا فإن بيع العبد في ثمن الدابة ثم وقع في البئر آخر فمات لم يكن له أرش ودمه هدر لأن الملك الذي كان فيه حين حفر قد فات وتجدد للمشتري ملك بسبب مبتدأ فلا يستحق عليه هذا الملك بسبب ذلك الفعل وذلك الملك الذي كان قد فات فكأنه مات أو قتل عمدا بخلاف ما قبل البيع في الدين فإن ملك المدفوع إليه بالجناية خلف عن ملك المولي فيبقي حكم ذلك الفعل حتى إذا وقع فيه آخر شارك المدفوع إليه في رقبته فإن وقعت في البئر دابة أخرى شركوا أصحاب الدابة الأولى في الثمن بقدر قيمتها لأن إتلاف الدابتين من العبد أسند إلى سبب واحد وبينهما مجانسة في الموجب فكان حقها في الثمن وهو قائم في يد من حفر بئرا في الطريق وهو رهن بألف وقيمتها ألفان ثم جنى بعد الحفر على عبد ففقأ عينه فدفع واحد العبد فهو رهن مكانه فإن وقع في البئر عبد آخر فذهبت عيناه قيل لمولاه الذي هو عنده ادفع نصفه وخذ هذا العبد الأعمى أو افده بقيمة الأعمى لما بينا أن ملكه في العبد المدفوع خلف عن ملك المولي فيبقي فعله باعتباره وموجب الجنايتين واحد فثبتت المشاركة بينهما ويكون حق مولي العبد الواقع في البئر في نصف العبد المدفوع إلا أنه الآن في ملك المدفوع إليه فيقوم هو في ثبوت الخيار له مقام المولي إن شاء دفع النصف إليه وإن(22/16)
شاء فداه بقيمة هذا الأعمى وأخذ الأعمى فكان له بمقابلة ما أدى والعبد الأعمى الأول رهن بألف على حاله لأنه قائم مقام المدفوع في حكم الرهن فإن كان الأعمى الأول أمة فولدت ولدا ثم ماتت هي قسم الألف على قيمتها وقيمة ولدها فيبطل ما أصاب قيمتها لأنها مرهونة بجميع الألف فكأنها هي التي رهنت في الابتداء فولدت فيقسم الدين على قيمتها وقيمة ولدها إلا أنه تعتبر في القسمة قيمتها عمياء لأنها إنما تقوم حين ثبت حكم الرهن فيها وإنما يثبت حكم الرهن فيها وهي عمياء.
وإذا احتفر العبد الرهن بئرا في الطريق أو وضع فيها شيئا فعطب به الراهن أو أحد من رقيقه لم يلحقه من ذلك ضمان بمنزلة ما لو جنى بيده على الراهن أو على رقيقه وإن وقع فيها المرتهن أو أحد من رقيقه فهذا وما لو جنى عليه بيده سواء فيما اختلفوا وفيما إذا كانت قيمته مثل الدين أو كان في قيمته فضل عن الدين وقد بينا هذه الفصول في جنايته بيده فكذلك في جنايته بحفر البئر وإذا أمره المرتهن أن يحفر بئرا في فنائه فعطب فيها الراهن أو غيره فهو(22/17)
ص -11- ... على عاقلة المرتهن لأن للمرتهن أن يحفر في فنائه فإن الفناء اسم لموضع يتصل بملكه غير مملوك له معد لمنافعه وهو أحق الناس بربط الدواب وكسر الحطب فيه فيكون التدبير في ذلك الموضع إليه وإذا كان له أن يحفر فيه بنفسه فله أن يأمر غيره به وفعل العبد كفعل المرتهن بنفسه ولو فعله هو بنفسه فعطب فيه الراهن كان على عاقلته فكذلك إذا فعله العبد وهذا لأنه لما لم يكن هذا الموضع مملوكا له تقيد فعله بشرط السلامة كالمشي في الطريق فإذا لم يسلم كان هو ضامنا لما يعطب بسبب فعله وكذلك لو كان الراهن أمره بذلك في فناء نفسه كان على عاقلة الراهن.
ولو أمره الراهن أو المرتهن أن يقتل رجلا فقتله فدفع به كان على الذي أمره بذلك قيمته فيكون رهنا مكانه أما موجب الجناية هنا فيتعلق برقبته بخلاف الأول لأن الراهن أو المرتهن لا يملكان مباشرة القتل بأيديهما فلا يعتبر أمرهما في نقل فعل العبد إليهما وإذا بقي العبد جانيا كان مؤاخذا بموجب الجناية في الأول واعتبر أمرهما في الحفر في الفناء لما قلنا فينقل فعل العبد إلى الآمر فلهذا لم يكن في رقبة العبد من ذلك شيء ثم الأمر في مسألة القتل صار مستعملا للعبد غاصبا فإذا استحق بذلك السبب فعليه ضمان قيمته والقيمة قائمة مقامه فيكون رهنا وكذلك لو بعثه ليسقي دابته فوطئت إنسانا لأنه بالاستعمال صار غاصبا له وإن كان بعثه الراهن بإذن المرتهن دفع بالجناية وكان الدين على الراهن لأنه خرج من ضمان الدين حين بعثه الراهن في حاجته بإذن المرتهن بمنزلة ما لو أعاره المرتهن من الراهن ولو مات في هذه الحالة لم يسقط من الدين شيء فكذلك إذا استحق بجناية في هذه الحالة.(22/18)
وكذلك لو كان بعثه المرتهن بإذن الراهن لأن المرتهن لو استعاره من الراهن فما دام يعمل له بحكم العارية لا يكون مضمونا بالدين لو هلك فكذلك إذا استحق بجناية في هذه الحالة وإذا أقر الراهن بالأمة الرهن لرجل فزوجها ذلك الرجل جاز النكاح لأنه بالإقرار سلط المقر له على تزوجها ولو زوجه بنفسه جاز النكاح فكذلك إذا زوجها ذلك الرجل جاز النكاح لأنه بالإقرار سلط المقر له على تزويجها ولو زوجه بنفسه جاز النكاح فكذلك إذا زوجها غيره بتسليطه وقد بينا نظيره في العتق فالتزويج بمنزلة العتق في إنه لا يشترط صحة القدرة على التسليم ولكن ليس للزوج أن يقر بها لأن الراهن ممنوع من غشيانها بنفسه لحق المرتهن فكذلك يمنع منه المقر له أو من زوجها منه المقر له وهذا لأنه لو غشيها الزوج ربما تحمل فتنقص ماليتها بسبب الحبل وربما تتعسر عليها الولادة فتموت منها وفي ذلك من الضرر على المرتهن ما لا يخفى.
ولو رهن رجل أمة لها زوج كان الرهن جائزا لأن المنكوحة مال متقوم يمكن استيفاء الدين من ماليتها بالبيع فيكون رهنا جائزا فإن غشيها الزوج فهلكت من ذلك ففي القياس تهلك من مال الراهن لأن الزوج إنما غشيها بتسليط الراهن حين زوجها منه فيجعل فعله كفعل الراهن بنفسه.(22/19)
ص -12- ... ألا ترى أنه لو زوجها بعد الرهن فوطئها الزوج فماتت من ذلك كانت من مال الراهن فكذلك إذا كان التزويج قبل الرهن لأن موتها من الوطء لا من التزويج والوطء في الفصلين ابتداء فعل من الواطئ بعد الرهن ولكنا نستحسن أن يجعلها هالكة من الرهن حتى سقط دين المرتهن لأنه لم يوجد من الراهن بعد عقد الرهن فعل يصير به مسلطا على إتلافها بل المرتهن حين قبل الرهن فيها مع علمه أنها منكوحة فقد صار راضيا بها على هذه الصفة وأكثر ما فيه أنه لم يرض بوطء الزوج إياها ولكن لا معتبر برضاه في ذلك لأن حق الزوج كان مقدما على حقه والمولي لا يملك إبطال حق الزوج بالرهن هنا فلهذا يجعل كأنها ماتت من غير صنع أحد فسقط الدين بخلاف ما إذا كان التزويج بعد الرهن فقد وجد هناك من الراهن بعد الرهن تسليط الزوج على وطئها ولم يوجد الرضا من المرتهن بذلك والزوج ممنوع من وطئها لحق المرتهن هنا فإن حقه سابق على حق الزوج فلهذا إذا هلكت من الوطء يجعل كأنها هلكت بفعل الراهن فلا يسقط دين المرتهن.
وإذا أشهد الراهنان بالرهن لإنسان لم تجز شهادتهما لأن عقد الرهن لازم من جهة الراهنين فهما بهذه الشهادة يريدان السعي في نقض ما قد تم بهما وإبطال يد الاستيفاء المستحقة للمرتهن عليهما ولو شهد به المرتهنان جاز لأنهما ممكنان من رد الرهن متى شاءا فليس في هذه الشهادة إبطال حق مستحق عليهما بل في هذه الشهادة ضرر عليهما لأن حق استيفاء الدين من مالية الرهن كان ثابتا لهما ويبطل ذلك بشهادتهما فتقبل الشهادة لانتفاء التهمة ولو شهد به كفيلان بالمال لم تجز شهادتهما لأنهما بمنزلة الراهنين ولو شهد به ابنا الراهن أو ابنا الكفيل والأب منكر جازت الشهادة لأنهما يشهدان على أبيهما وكذلك لو شهد به ابنا المرتهن لأنهما شهدا على أبيهما ببطلان حقه في ثبوت يد الاستيفاء.(22/20)
ولو كان الراهن مكاتبا أو عبدا تاجرا فشهد مولياه بذلك وهو منكر جازت الشهادة لأنهما يشهدان على مكاتبهما أو عبدهما في استحقاق الملك والكسب عليه ويبطلان العقد الذي باشره وإذا ادعى رجل على الرهن إنه له وإن راهنه سرقه منه وسأل المرتهن أن يخرجه حتى يقيم البينة فأبى ذلك المرتهن فإنه يجبر على إخراجه لأنه لا ضرر في إخراجه على المرتهن وفيه منفعة للمدعي لأنه لا يتمكن من إثبات دعواه بالبينة إلا بعد إحضار العين ليشير إليه في الدعوى ويشير إليه الشهود في الشهادة والمرتهن في الامتناع من الإحضار متعنت قاصد الإضرار به فيمنعه القاضي من ذلك.
وإذا ارتهن الرجل رهنا وأقر أن قيمته ألف ثم جاء به بعد ذلك وقيمته مائة درهم ولم يتغير فقال الراهن ليس هذا متاعي فالقول قوله في ذلك لأنهما تصادقا على صفة متاعه إنه يساوي ألفا والذي أحضره ليس على تلك الصفة فالظاهر شاهد للراهن فيجعل القول قوله في ذلك وإذا قبلنا قوله كان على المرتهن أن يجيء بمتاع يساوي ألفا أو يحكم بأن الرهن هلك في يده فيسقط دينه وإذا باع رجلان شيئا من رجل إلى رجل على أن يرهنهما هذا العبد ففعل(22/21)
ص -13- ... ثم شهدا إن الرهن لفلان فإن قالا فنحن نرضى أن يكون دينا إلى أجل بغير رهن جازت شهادتهما لخلوها عن التهمة فإنه لا منفعة لهما في قبول هذه الشهادة حين أسقطا حقهما في المطالبة برهن آخر بل عليهما فيه ضرر وإن قالا لا نزيد رهنا غيره أو يرد علينا متاعنا أبطلت شهادتهما لتمكن التهمة فيها فإنهما يشهدان لأنفسهما بثبوت حق مطالبة الراهن برهن آخر أو رد المتاع عليهما وإذا باع متاعا من رجل على أن يرهنه رهنا بعينه فاستحق أو هلك قبل الرهن أو رهنه رهنا يرضى به أو أعطاه قيمة ذلك الرهن فيكون رهنا عنده أو رد عليه ماله وقد بينا هذا الفصل فيما تقدم وإذا زاد الراهن مع الرهن رهنا آخر نظر إلى قيمة الأول يوم رهنه وإلى قيمة الزيادة يوم قبضها المرتهن في قسمة الدين لأن حكم الرهن في الزيادة إنما يثبت بقبض المرتهن فتعتبر قيمتها حين ثبت حكم الرهن فيها كما يعتبر ذلك في قيمة الأصل.(22/22)
ولو كان لرجل على رجل عشرون درهما فرهنه بعشرة منها ما يساوي عشرة ثم قضاه عشرة فله أن يجعلها بما في الرهن ويقبض الرهن أما جواز هذا الرهن فللشيوع في الدين ولا شيوع في الرهن والشيوع في الدين لا يمنع جواز العقد ثم القاضي هو الذي ملك المستوفي هذه العشرة وإليه بيان الجهة التي أوفاها فإذا قال إنما أوفيتها مما كان في الرهن ولو كان رهنه الثوب لجميع المال لم يكن له أن يقبضه حتى يؤدي جميع المال قلت قيمته أو كثرت لأن الرهن محبوس بكل جزء من الدين لاتحاد الصفقة ولو رهنه بعشرة منها ثوبا يساوي عشرين ثم زاده ثوبا آخر رهنا بالعشرة الأخرى فهو جائز لما قلنا وإن جعله رهنا بالعشرين جميعا فهو جائز فإن هلك الثوب الأول ذهب بثلثي العشرة وإن هلك الثوب الآخر ذهب بثلث العشرة التي بها الرهن الأول ويجمع العشرة الأخرى لأنه لما رهنه الثوب الأخرى بجميع العشرين كان نصفه بالعشرة التي لا رهن بها ونصفه زيادة في الرهن الأول بالعشرة الآخر فيقسم ملك العشرة على قيمة الثوب الأول يوم رهنه وذلك عشرون وعلى قيمة نصف الثوب الثاني وذلك عشرة فيقسم أثلاثا ثلثاها في الثوب الأول فإذا هلك هلك به وثلثها مع العشرة الأخرى في الثوب الثاني فإذا هلك هلك به لأن في قيمته وفاء بالدين وزيادة .(22/23)
وإذا كان لرجل على رجلين مال وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فأعطاه أحدهما رهنا بجميع المال يساويه ثم أعطاه الآخر رهنا بجميع المال يساويه فهو جائز وأيهما هلك هلك بنصف المال لأن كل واحد منهما مطالب بجميع المال هنا فهما كشخص واحد في إيفاء هذا الدين حتى لو أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه فيجعل الرهن من الثاني زيادة في الرهن الأول فيقسم الدين على قيمة الرهنين وقيمتهما سواء فأيهما هلك ذهب بنصف المال وكذلك لو كانا مكاتبين مكاتبة واحدة وكذلك لو كان المال على أحدهما والآخر به كفيل وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله هذا الفصل وقال عند زفر رحمه الله إذا هلك أحدهما يهلك جميع المال لأن كل واحد منهما ما رضي بالرهن في متاعه إلا بجميع الدين ولكل واحد منهما في ذلك غرض صحيح فغرض الكفيل في ذلك أن يصير موفيا(22/24)
ص -14- ... جميع الدين بهلاكه ليرجع بالكل على الأصيل وغرض الأصيل أن يصير موفيا جميع الدين بهلاكه حتى لا يرجع الكفيل عليه بشيء وعلى قول أبي يوسف رحمه الله إن لم يعلم الثاني بالرهن الأول فكذلك الجواب وإن علم به فالثاني رهن بنصف المال والأول رهن بجميع المال لوجود الرضا من الثاني بأن يكون رهنه زيادة في الرهن الأول حين علم به.
ولو أن المديون رهن متاعه بالدين الذي عليه وتبرع إنسان بان رهن به متاعا آخر له فقد روى هشام عن محمد رحمهما الله قال إن هلك رهن المطلوب هلك جميع الدين وإن هلك رهن المتبرع هلك نصف الدين لأن رهن المطلوب صار مضمونا بجميع الدين فالمتبرع لا يملك فيعتبر موجب عقده عليه وأما رهن المتبرع فهو زيادة في رهن المطلوب فيكون بنصف الدين ولو رهنه بعشرين درهما دينارا يساوي عشرة ثم رخص الورق فصارت عشرون درهما بدينار فهلك الدينار فإنما يهلك بالعشرة لأن المعتبر قيمة الرهن حين قبضه المرتهن ولو كان له عليه عشرة دراهم فرهن له دينارا يساوي عشرة ثم غلا الورق فصارت خمسة بدينار ثم رهنه دينارا آخر فهما جميعا رهن بالعشرة فإن هلك الدينار الأول ذهب بثلثي العشرة وإن هلك الآخر ذهب بثلثها لأن المعتبر في الانقسام قيمة كل واحد منهما حين ثبت حكم الرهن فيه.(22/25)
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فرهنه بخمسمائة منها عبدا يساوي خمسمائة ثم زاده أمة رهنا بالألف كلها تساوي ألفا فولدت بنتا تساوي خمسمائة ثم مات العبد والأمة بقي الولد بسدس الخمسمائة التي كان العبد رهنا بها وبثلث الخمسمائة الأخرى لأن نصف الأمة رهن بخمسمائة ونصفها زيادة في رهن العبد بالخمسمائة الأخرى فتقسم تلك الخمسمائة على قيمة العبد وقيمة نصف الأمة وهما سواء فانقسم نصفين وصار في الأمة نصف الخمسمائة الأول مع الخمسمائة الآخر فلما ولدت ولدا يساوي خمسمائة انقسم ما فيها على قيمتها وعلى قيمة ولدها أثلاثا لأن قيمتها حين رهنت ألف وقيمة ولدها خمسمائة فصار في الولد ثلث الخمسمائة الأخرى وسدس الخمسمائة الأولى فيبقى ذلك القدر ببقاء الولد ويسقط ما سوى ذلك بموت العبد والأمة.
وإذا ارتهن عبدا بخمسمائة وهو يساوي ألفا ثم زاده المرتهن خمسمائة على أن زاده الآخر أمة رهنا بجميع المال ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تكون الأمة رهنا بجميع المال نصفها مع العبد في الخمسمائة الأولى ونصفها بالخمسمائة الأخرى وعند أبي يوسف رحمه الله هما جميعا يكونان رهنا بالألف كلها لأن أبا يوسف رحمه الله يجوز الزيادة في الرهن والدين وهما يجوزان الزيادة في الرهن دون الدين فلهذا كان العبد مع نصف الأمة رهنا بالخمسمائة الأول ونصف الأمة رهنا بالخمسمائة الأخرى وليس في العبد من الخمسمائة الأخرى شيء.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فرهنه بخمسمائة منها جارية تساوي خمسمائة(22/26)
ص -15- ... فولدت كل واحدة منهما ابنا قيمته مثل قيمة أمه فالأولى وابنها ونصف الآخر ونصف ابنها رهن بالخمسمائة الأول ونصف الآخر ونصف ابنها رهن بالخمسمائة الأخرى فإن ماتت الأم الأخرى ذهب ربع هذه الخمسمائة التي فيها خاصة ويبقى نصف ابنها بثلاثة أرباع ويذهب من الخمسمائة الأول خمسون درهما لأن الجارية الأخرى ثمنها خمسمائة فكل واحد من الولدين تبع لأمه فنصف الجارية الأخرى زيادة في رهن الخمسمائة الأولى ونصفها رهن بالخمسمائة الأخرى وقيمة هذا النصف مائتان وخمسون والرهن مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين فصار ثلث المائتين وخمسين من هذه الخمسمائة مقسوما على نصف قيمتها ولدها وهما سواء والذي فيها من هذه الخمسمائة ربعها مائة وخمسة وعشرون فلهذا يسقط بهلاكها ربع هذه الخمسمائة وبقي نصف ابنها بثلاثة أرباعها فأما الخمسمائة الأولى فانقسمت على قيمة الجارية الأولى وهي ألف وعلى قيمة نصف الجارية الثانية وهو مائتان وخمسون فإذا جعل كل مائتين وخمسين بينهما انقسم أخماسا خمس ذلك وهو مائة في نصف الجارية الأخرى ثم انقسم ذلك على نصف قيمتها ونصف قيمة ولدها نصفين فكان الذي فيها من الخمسمائة الأولى خمسون درهما فيذهب ذلك القدر بهلاكها.(22/27)
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم وزن سبعة فرهنه بخمسمائة منها أمة تساوي ثمانمائة رهنا بالمال كله فولدت كل واحدة منهما ابنا قيمته مثل قيمة أمه ثم ماتت الأولى ذهب من الخمسمائة الأولى السدس لأن نصف الأمة الثانية زيادة في الرهن بالخمسمائة الأولى ونصفها رهن بالخمسمائة الأخرى فالخمسمائة الأولى انقسمت على قيمة الجارية الأولى وهو مائتان وعلى نصف قيمة الأخرى وهو أربعمائة فيقسم أثلاثا ثلثها في الجارية الأولى وثلثاها في نصف الجارية الأخرى ثم انقسم ما في الأولى وهو ثلث الخمسمائة على قيمتها وقيمة ولدها نصفين فحاصل ما بقي فيها سدس الخمسمائة وذلك ثلاثة وثمانون وثلث فإذا هلكت هلكت ولو لم تمت الأولى وماتت الأخرى ذهب من الخمسمائة الأولى ثلثها ومن الخمسمائة الأخرى خمساها لأن ثلثي الخمسمائة الأولى كان في نصفها وقد انقسم ذلك عليها وعلى نصف ولدها نصفين فإنما بقي فيها من تلك الخمسمائة ثلثها فيهلك بذلك وقد كان نصفها مرهونا بالخمسمائة الأخرى إلا أن قيمة نصفها أربعمائة فلا يثبت فيه من الضمان إلا قدر قيمتها ثم نصف ذلك قد تحول إلى نصف ولدها فإنما بقي فيها من الخمسمائة الأخرى مائتان وذلك خمساها فلهذا هلك بذلك.
ولو كان رهنه بخمسمائة من الألف أمة تساوي ألفا ورهنه بالخمسمائة الباقية عبدا يساوي ألفا ثم زاده أمة رهنا فالمال كله يساوي ألفا ثم ولدت كل واحدة من الأمتين أمة تساوي ألفا ثم ماتت الأخرى ذهب سدس المال لأنها كانت زيادة في الكل فنصفها مع الأمة رهن بالخمسمائة الأولى ونصفها مع العبد رهن بالخمسمائة الأخرى ثم كل خمسمائة تنقسم أثلاثا على نصفها وعلى جميع قيمة ما هو مرهون بها خاصة وهو ألف فحاصل ما ثبت فيها(22/28)
ص -16- ... بالانقسام ثلث الألف ثم انقسم هذا القدر عليها وعلى ولدها نصفين فإنما بقي فيها سدس المال فيهلك بذلك وكذلك لو ماتت الأولى ذهبت بسدس المال لأن الذي كان فيها ثلثا الخمسمائة الأولى وهو ثلث جميع المال وقد تحول نصف ذلك إلى أولادها فإنما بقي فيها سدس المال وهو أن بالعبد ذهب ثلث الدين لأن الذي أصاب العبد بالقسمة ثلثا الخمسمائة الثانية وذلك ثلث جميع الدين فبموته يسقط ذلك العدد ولو لم يمت العبد فقضي المطلوب الطالب خمسمائة كان له أن يأخذ إن شاء العبد الأول وإن شاء الأمة الأولى وابنها لأنه هو المالك فيكون له أن يصرف ذلك إلى أي الرهنين شاء فيسترد ذلك وليس له أن يقبض الأمة الآخرة ولا ولدها حتى يؤدي جميع المال لأن الأمة الآخرة رهن بجميع المال فتحبس بكل جزء من أجزاء المال وولدها بمنزلتها.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله إنه لو رهن جاريتين بألف درهم فاستحقت إحداهما فعلى قول أبي يوسف رحمه الله الأخرى رهن بحصتها من الألف وعلى قول زفر رحمه الله الأخرى رهن بجميع الألف إن هلكت وذلك قيمتها يملكها به ولا يفتكها إلا بجميع المال ولو ظهر أن إحداهما مدبرة أو أم ولد فالأخرى رهن بجميع المال بالاتفاق وإن هلكت هلكت به فزفر رحمه الله قاس استحقاق الغير إحداهما باستحقاقها نفسها وأبو يوسف رحمه الله فرق بينهما فقال المستحق محل للرهن بدليل إنه لو رهنها برضا صاحبها جاز فينقسم الدين على قيمتها فإنما صارت الأخرى رهنها بحصتها فإذا هلكت هلكت به والمدبرة وأم الولد ليست بمحل للرهن فيكون جميع الدين في الأخرى فإذا هلكت وفي قيمتها وفاء بذلك صار المرتهن مستوفيا جميع دينه والله أعلم بالصواب(22/29)
ص -17- ... كتاب المضاربة
قال رحمه الله: قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء:المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض وإنما سمي به لأن المضارب يستحق الربح بسعيه وعمله فهو شريكه في الربح ورأس مال الضرب في الأرض والتصرف وأهل المدينة يسمون هذا العقد مقارضة وذلك مروي عن عثمان رضي الله عنه فإنه دفع إلى رجل مالا مقارضة وهو مشتق من القرض وهو القطع فصاحب المال قطع هذا القدر من المال عن تصرفه وجعل التصرف فيه إلى العامل بهذا العقد فسمي به وإنما اخترنا اللفظ الأول لأنه موافق لما في كتاب الله تعالى قال الله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يعني السفر للتجارة.
وجواز هذا العقد عرف بالسنة والإجماع فمن السنة ما روي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان إذا دفع مالا مضاربة شرط على المضارب أن لا يسلك به بحرا وأن لا ينزل واديا ولا يشتري به ذات كبد رطب فإن فعل ذلك ضمن فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فاستحسنه وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه إذا دفع مالا مضاربة شرط مثل هذا وروى أن عبد الله وعبيد الله ابنا عمر رضي الله عنهم قدما العراق ونزلا على أبي موسى رضي الله عنه فقال لو كان عندي فضل مال لاكرمتكما ولكن عندي مال من مال بيت المال فابتاعا به فإذا قدمتما المدينة فادفعاه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه ولكما ربحه ففعلا ذلك فلما قدما على عمر رضي الله عنه أخبراه بذلك فقال هذا مال المسلمين فربحه للمسلمين فسكت عبد الله وقال عبيد الله لا سبيل لك إلى هذا فإن المال لو هلك كنت تضمننا قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اجعلهما بمنزلة المضاربين لهما نصف الربح وللمسلمين نصفه فاستصوبه عمر رضي الله عنه.(22/30)
وعن القاسم بن محمد قال كان لنا مال في يد عائشة رضي الله عنها وكانت تدفعه مضاربة فبارك الله لنا فيه لسعيها.
وكان عمر رضي الله عنه يدفع مال اليتيم مضاربة على ما روي محمد رحمه الله وبدا به الكتاب عن حميد بن عبد الله بن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه أعطاه مال يتيم مضاربة وقال لا أدري كيف كان الشرط بينهما فعمل به بالعراق وكان بالحجاز اليتيم كان يقاسم عمر رضي الله عنه بالربح وفيه دليل جواز المضاربة بمال اليتيم(22/31)
ص -18- ... وإن للإمام ولاية النظر في مال اليتامى وإن للمضارب والأب والوصي المسافرة بمال اليتيم في طريق آمن أو مخوف بعد أن كانت القوافل متصلة فقد كان عمر رضي الله عنه أعطي زيد بن خليدة رضي الله عنه مالا مضاربة فأسلمه إلى عتريس بن عرقوب في حيوان معلوم بأثمان معلومة إلى أجل معلوم فحل الأجل فاشتد عليه فأتى عتريس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يستعين به عليه فذكر ذلك فقال له عبد الله رضي الله عنه خذ رأس مالك ولا تسلمه شيئا مما لنا في الحيوان وفيه دليل جواز المضاربة وفساد السلم وإنما اشتد على عتريس بن عرقوب لفساد العقد أيضا فلا يظن به المماطلة في قضاء ما هو مستحق عليه مع قوله صلى الله عليه وسلم "خيركم أحسنكم قضاء"
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملون بالمضاربة بينهم فأقرهم على ذلك وندبهم أيضا إليه على ما قال صلوات الله وسلامه عليه "من عال ثلاث بنات فهو أسير فأعينوه يا عباد الله ضاربوه داينوه" ولأن بالناس حاجة إلى هذا العقد فصاحب المال قد لا يهتدي إلى التصرف المربح والمهتدي إلى التصرف قد لا يكون له مال والربح إنما يحصل بهما يعني المال والتصرف ففي جواز هذا العقد يحصل مقصودهما وجواز عقد الشركة بين اثنين بالمال دليل على جواز هذا العقد لأن من جانب كل واحد منهما هناك ما يحصل به الربح فينعقد بينهما شركة في الربح ولهذا لا يشترط التوقيت في هذا العقد ولكل واحد منهما أن ينفرد بفسخه لأن انعقاده بطريق الشركة دون الإجارة.
ولهذا العقد أحكام شتى من عقود مختلفة فإنه إذا أسلم رأس المال للمضارب فهو أمين فيه كالمودع وإذا تصرف فيه فهو وكيل في ذلك يرجع بما يلحقه من العهدة على رب المال كالوكيل فإذا حصل الربح كان شريكه في الربح وإذا فسد العقد كانت إجارة فاسدة حتى يكون للمضارب أجر مثل عمله.(22/32)
وإذا خالف المضارب كان غاصبا ضامنا للمال ولكن المقصود بهذا العقد الشركة في الربح وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الربح بينهما مع حصوله فهو مبطل للعقد لأنه مفوت لموجب العقد ومن ذلك ما رواه عن إبراهيم رحمه الله إنه كان يكره المضاربة بالنصف أو الثلث وزيادة عشرة دراهم قال أرأيت إن لم يربح إلا تلك العشرة وهو إشارة إلى ما بينا من قطع الشركة في الربح مع حصوله بأن لم يربح إلا تلك العشرة وعن إبراهيم رحمه الله في المضاربة والوديعة والدين سواء يتحاصون ذلك في مال الميت وبه نأخذ والمراد مضاربة أو وديعة غير معينة فالأمين بالتجهيل يصير ضامنا فهو والدين سواء فأما ما كان معينا معلوما فصاحبه أولى به لأن حق الغريم بموت المديون يتعلق بماله إلا بما كان أمانة في يده لغيره.
وعن إبراهيم رحمه الله قال في الوصي يعطي مال اليتيم مضاربة وإن شاء أبضعه وإن شاء تجر إلى غير ذلك وكان خيرا لليتيم فعل لقوله تعالى:{قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ }[البقرة:(22/33)
ص -19- ... 220]وقال الله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] والأحسن والأصلح في حقه أن يتجر
بماله قال صلى الله عليه وسلم "ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الصدقة" يعني النفقة فإن احتسب بالتصرف فيه أو وجد أمينا يحتسب ذلك والأنفع لليتيم أن يدفعه إليه بضاعة وإن لم يجز ذلك وربما لا يرغب في أن يتصرف فيه مجانا فلا بأس بأن يتصرف فيه على وجه المضاربة وهو أنفع لليتيم لما يحصل له من بعض الربح وبما لا يتفرغ الوصي لذلك فيحتاج إلى أن يدفعه مضاربة إلى غيره وإذا جاز منه هذا التصرف مع نفسه فمع غيره أولى وذكر عن علي رضي الله عنه قال ليس على من قاسم الربح ضمان وتفسيره أنه المواضعة على المال في المضاربة والشركة وهو مروي عن علي رضي الله عنه قال المواضعة على المال والربح على ما اشترطا عليه وبه أخذنا فقلنا رأس المال أمانة في يد المضارب لأنه قبضه بإذنه ليتصرف فيه له وعن علي رضي الله عنه أنه كان يعطي مال اليتيم مضاربة ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الغلام حتى يحتلم وعن المجنون حتى يصح وعن النائم حتى يستيقظ" وفيه دليل أن ولاية النظر في مال اليتيم للقاضي إذا لم يكن له وصي لعجز اليتيم عن النظر لنفسه وإليه أشار علي رضي الله عنه فيما استدل به من الحديث.(22/34)
وعن الشعبي رحمه الله أنه سئل عن رجل أخذ مالا مضاربة فأنفق في مضاربته خمسمائة ثم ربح قال يتم رأس المال من الربح وبه أخذنا فقلنا للمضارب أن ينفق من مال المضاربة إذا سافر به لأن سفره كان لأجل العمل في مال المضاربة فيستوجب النفقة فيه كالمرأة تستوجب النفقة على زوجها إذا زفت إليه لأنها فرغت نفسها له فقلنا الربح لا يظهر ما لم يسلم جميع رأس المال لرب المال لأن الربح اسم للفضل فما لم يحصل ما هو الأصل لرب المال لا يظهر الفضل قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل التاجر لا تخلص له نوافله ما لم تخلص له فرائضه" فالتاجر لا يسلم له ربحه حتى يسلم له رأس ماله.
وعن الشعبي رحمه الله أنه سئل عن رجل دفع إلى رجل أربعة آلاف درهم مضاربة فخرج بها إلى خراسان وأشهد عند خروجه أن هذا المال مال صاحب الأربعة الآلاف ليس لا حد فيها حق ثم أقبل فتوفي في الطريق فأشهد عند موته أيضا بذلك ثم إن رجلا جاء بصك فيه ألف مثقال مضاربة مع هذا الرجل له بها بينة وهي قبل الأربعة الآلاف بأحد وعشرين سنة فقال عامر رحمه الله أشهد في حياته وعند موته أن المال لصاحب الأربعة الآلاف وبه نأخذ فإن حق الآخر صار دينا في ذمته بتجهيله عند موته.
وقد بينا أن حق الغريم يتعلق بشركة الميت لا بما في يده من الأمانة وإنما أفتى الشعبي رحمه الله بهذا لإقراره بالعين لصاحب الأربعة الآلاف في حال صحته لا لإقراره عند موته فإقرار المريض بالدين أو العين لا يكون صحيحا في حق من ثبت دينه بالبينة لكونه متهما في ذلك وإقراره في الصحة بذلك مقبول لأنه غير متهم فيه وعن الحسن رحمه الله أنه كان يكره المضاربة والشركة بالعروض وبه نأخذ وقد بيناه في كتاب الشركة وقال أبو حنيفة(22/35)
ص -20- ... رحمه الله: لا تكون المضاربة إلا بالدراهم والدنانير وهو قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله أستحسن أن تكون المضاربة بالفلوس كما تكون بالدراهم والدنانير لأنها ثمن مثل الدراهم والدنانير.
والحاصل أن في المضاربة بالفلوس عن محمد رحمه الله رواية واحدة إنها تجوز لأنها ما دامت رائجة فهي ثمن لا يتعين في العقد مقابلتها بجنسها وبخلاف جنسها عند محمد رحمه الله فالعقد بها يكون سواء بثمن في الذمة لا بيعا فيكون الربح للمضارب على ضمان الثمن فهو والمضاربة بالدراهم سواء وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن المضاربة بالفلوس جائزة لأنها ثمن لا يتعين عند المقابلة بخلاف جنسها وهكذا ذكره بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله وفي الأصل روى عنهما أن المضاربة بالفلوس لا تجوز لأنها إذا كسدت فهي كالعروض فهي ثمن من وجه مبيع من وجه وهي ثمن لبعض الأشياء في عادة التجار دون البعض فكانت كالمكيل والموزون فإنها ثمن دينا ومبيع عينها فلا تصح المضاربة بها وهذا الاستدلال مروي عن أبي يوسف رحمه الله فإنه سئل عن المضاربة بالدراهم التجارية فقال لو جوزت ذلك جاوزت المضاربة بالطعام بمكة يعني أن أهل مكة يتبايعون بالطعام كما أن أهل بخارى يتبايعون بالبر بعينه.(22/36)
قال الشيخ الإمام الأجل رحمه الله: وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول الصحيح جواز المضاربة بها عندي لأنها من أعز النقود عندنا كالدنانير في سائر البلدان وظاهر ما ذكر هنا يدل على أن المضاربة بالتبر لا لا تجوز والدراهم والدنانير اسم للمضروب دون التبر وذكر في غير هذا الموضع أن التبر لا يتعين بالتعيين ولا يبطل العقد بهلاكه فذلك دليل جواز المضاربة به والحاصل أن ذلك يختلف باختلاف البلدان في الرواج ففي كل موضع يروج التبر رواج الأثمان وتجوز المضاربة به وفي كل موضع هو بمنزلة السلع لا تجوز المضاربة به كالمكيل والموزون وإذا دفع الرجل إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان أو قال ما كان في ذلك من ربح أو قال ما رزقك الله في ذلك من ربح أو ما ربحت في ذلك من شيء فهو كله سواء لأن الحكم يبني على ما هو المقصود ولا ينظر إلى اختلاف العبارة بعد اتحاد المقصود والمقصود بهذه الألفاظ اشتراط التناصف في الربح.
وكذلك لو شرط للمضارب عشر الربح والباقي لرب المال فهو جائز لأن المشروط للمضارب جزء شائع معلوم وهذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الربح مع حصوله فما من شيء يحصل من الربح قل أو كثر إلا وله عشر ويستوي إن كانت الألف المدفوعة جيدة أو زيوفا أو نبهرجة لأن الفضة تغلب على العشر في هذه الأنواع فهو في حكم الدراهم المضروبة من النقرة فيها ولو قال على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فللمضارب من ذلك مائة درهم فهذه مضاربة فاسدة لأن هذا الشرط يوجب قطع الشركة بينهما(22/37)
ص -21- ... في الربح مع حصوله فربما لا يربح إلا مقدار المائة فيأخذه من شرط له ويجيب الآخر وفي هذه الشرط عيب يمكن التحرز عنه أيضا وربما يربح أقل من مائة درهم فلا يسلم جميع المائة لمن شرط له مع حصول الربح فلهذا فسد العقد فإن عمل ذلك فربح مالا أو لم يربح شيئا فله أجر مثله فيما عمل وليس له من الربح شيء لأن استحقاق الشركة في الربح بعقد المضاربة والعقد الفاسد لا يكون بنفسه سببا للاستحقاق وإنما يستوجب أجر المثل لأنه عمل لرب المال وابتغى عن عمله عوضا فإذا لم يسلم له ذلك استحق أجر المثل كما في الإجارة الفاسدة ثم إن كان حصل الربح فله أجر مثله بالغا ما بلغ في قول محمد رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجاوز بأجر مثله ما سمي له وهو بناء على ما بينا في كتاب الشركة من اختلافهما في شركة الاحتطاب والاحتشاش وإن لم يحصل الربح فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال استحسن أن لا يكون للمضارب شيء لأن الفاسد من العقد معتبر بالصحيح في الحكم ولا طريق لمعرفة حكم العقد الفاسد إلا هذا.(22/38)
وفي المضاربة الصحيحة إذا لم يربح لا يستحق شيئا فكذلك في المضاربة الفاسدة وجه ظاهر الرواية أنه لا يستحق بهذا العقد شيئا من الربح بحال وإنما يعتبر حصول الربح في حق من يستحق الربح ثم الفاسد إنما يعتبر بالجائز إذا كان انعقاد الفاسد مثل انعقاد الجائز كالبيع وهنا المضاربة الصحيحة تنعقد شركة لا إجارة والمضاربة الفاسدة تنعقد إجارة فإنما تعتبر بالإجارة الصحيحة في استحقاق الأجر عند إيفاء العمل ولو تلف المال في يده فله أجر مثله فيما عمل ولا ضمان عليه ذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه ضامن للمال فقيل المذكور في الكتاب قول أبي حنيفة رحمه الله وهو بناء على اختلافهم في الأجير المشترك إذا تلف المال في يده من غير صنعه فإن هذا العقد انعقد إجارة وهو بمنزلة الأجير المشترك لأن له أن يأخذ المال بهذا الطريق من غير واحد والأجير المشترك لا يضمن عند أبي حنيفة رحمه الله إذا هلك المال في يده من غير صنعه وعندهما هو ضامن إذا هلك في يده فما يمكن التحرز عنه فكذلك الحكم في كل مضاربة فاسدة.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فللمضارب ربح نصف المال أو قال ربح عشر المال أو قال ربح مائة درهم من رأس المال فهذه مضاربة جائزة لأن في هذا المعنى اشتراط جزء شائع من الربح للمضارب إذ لا فرق بين أن يشترط له عشر الربح وبين أن يشترط له ربح عشر المال ولا أجر للمضارب في عمله هنا إن لم يحصل الربح لأن عند صحة المضاربة هو شريك في الربح فإذا لم يحصل الربح لم يستحق شيئا لانعدام محل حقه لو قال على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فللمضارب ربح هذه المائة بعينها أو ربح هذا الصنف بعينه من المال فهي مضاربة فاسدة لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الربح مع حصوله فمن الجائز أن لا يربح فيما يشتري بتلك المائة والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سئل عن المزارعة بما سقت السواني والماذيانات(22/39)
ص -22- ... فأفسدها" وكان المعنى فيه أن ذلك الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الخارج مع حصوله فيتعدى ذلك الحكم إلى هذا الموضع بهذا المعنى فإن عمل فله أجر مثله لأنه أوفى العمل بحكم عقد فاسد وإذا دفع إليه ألف درهم فقال خذ هذه الألف مضاربة بالثلث أو قال بالخمس أو قال بالثلثين فأخذها وعمل بها فهي مضاربة جائزة وما شرطه من ذلك فهو للمضارب وما بقي لرب المال لأن المضارب هو الذي يستحق الربح بالشرط فأما رب المال فإنما يستحق الربح باعتبار أنه بما ملكه فمطلق الشرط ينصرف إلى جانب من يحتاج إليه وعرف الناس يشهد بذلك والثابت بالعرف من التعيين كالثابت بالنص فكأنه قال الثلثان من الربح لك حتى إذا قال إنما عنيت أن الثلثين لي لم يصدق لأنه يدعي خلاف ما هو الظاهر المتعارف والقول في المنازعات قول من يشهد له الظاهر وحرف الباء دليل عليه لأنه إنما يصحب الأعواض فهو دليل على أن بالثلثين لم يستحق الربح عوضا وهو المضارب وأنه في المعنى يستحق الربح عوضا عن عمله فلهذا كان المنصوص عليه للمضارب.
وكذلك لو قال خذها معاوضة بالنصف أو معاملة بالنصف لأن العبرة في العقود للمعاني دون الألفاظ.
ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول بعتك هذا الثوب بألف أو المكيل بألف ولو قال خذها على أن ما رزق الله تعالى فيها من شيء فهو بيننا ولم تزد على هذا فهو مضاربة جائزة بالنصف لأن كلمة بين تنصيص على الاشتراك ومطلق الاشتراك يقتضي المساواة.(22/40)
ألا ترى أن في الوصية والإقرار إذا قال ثلث ما لي بين فلان وفلان أو هذا المال بين فلان وفلان كان مناصفة بينهما فكذلك قوله الربح بيننا منزل منزلة اشتراط المناصفة في الربح والدليل على أن مطلق كلمة بين تقتضي المساواة قوله تعالى:{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}[القمر: 28]والمراد التسوية بدليل قوله تعالى:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء: 155]ولو قال خذها فاعمل بها على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بيننا نصفين ولم يقبل مضاربة فهي مضاربة جائزة لأنه خرج بمعنى المضاربة وإن لم ينص على لفظ المضاربة وما هو المقصود يحصل بالتصريح بالمعنى وليس لهذا العقد حكم يدل لفظ المضاربة خاصة على ذلك الحكم بخلاف لفظ المفاوضة في شركة المفاوضة على ما قررنا في كتاب الشركة.
وكذلك لو قال: اعمل بهذه الألف على أن لك نصف ربحها أو جزءا من عشرة أجزاء من ربحها فهو جائز لأن المضارب هو الذي يستحق الربح بالشرط وقد نص على شرط نصيبه من الربح وكذلك لو قال خذ هذه الألف فاعمل بها بالنصف أو قال بالثلث فهي مضاربة جائزة استحسانا وفي القياس لا يجوز لانعدام التنصيص على من شرط له الثلث ولكن في الاستحقاق قال إنما يراد بهذا في العرف اشتراط ذلك للمضارب وحرف الباء دليل عليه فكأنه صرح بذلك وللقياس وجه آخر وهو أنه لما لم ينص على المضاربة فيحتمل أن يكون مراده إيجاب الثلث له من أصل الألف بمقابلة عمله ويحتمل أن يكون المراد إيجاب(22/41)
ص -23- ... الثلث له من الربح ولكنه استحسن فقال في عرف الناس المراد بهذا اللفظ اشتراط الثلث له من الربح فهو وما لو أتى بلفظ المضاربة سواء.
ألا ترى إنه لو قال في وصيته أوصيت لك بثلثي بعد موتي جاز استحسانا وكان وصية له بثلث المال لاعتبار العرف فهذا مثله.
ولو دفع الألف إليه على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو كله للمضارب فقبض المال على هذه فربح أو وضع أو هلك المال قبل أن يعمل به فهو قرض عليه وهو ضامن له والربح كله له لأن اشتراط جميع التركة له يكون تنصيصا على تمليك أصل المال منه فإنه لا يستحق جميع الربح ما لم يكن مالكا للمال وللتمليك طريقان الهبة والإقراض فعند التردد لا يثبت إلا أدنى الوجهين لأنه متيقن به وأدنى الوجهين القرض فلهذا جعل مقرضا المال منه .
ولو كان قال: على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو كله لرب المال فهذه بضاعة مع المضارب وليس له فيها ربح ولا أجر ولا ضمان عليه في المال إن هلك لأنه ما ابتغى عن عملي عوضا فيكون هو في العمل معينا لصاحب المال والمعين في التجارة مستصنع فيكون المال في يده أمانة ورب المال لم يعنه في شيء حين شرط جميع الربح لنفسه وهذا الأصل الذي قلنا لأن العبرة للمقصود في كل عقد دون اللفظ ولو قال خذ هذه الألف مضاربة أو مقارضة ولم يذكر ربحا فهي مضاربة فاسدة لأن المضارب شريك في الربح والتنصيص على لفظ المضاربة يكون استرداد الجزء من ربح المضارب وذلك الجزء غير معلوم وجهالته تفضي إلى المنازعة بينهما ومثله إذا كان في صلب العقد يكون مفسدا للعقد فيكون الربح كله لرب المال وللمضارب أجر مثله ربح أو لم يربح.(22/42)
ولو قال: على أن لرب المال ثلث الربح ولم يسم للمضارب شيئا فهذه مضاربة فاسدة في القياس لأنهما لم يبينا ما هو المحتاج إليه وهو نصيب المضارب من الربح وإنما ذكرا مالا يحتاج إليه وهو نصيب رب المال ولا حاجة به إلى ذلك فرب المال لا يستحق بالشرط وليس من ضرورة اشتراط الثلث لرب المال اشتراط ما بقي للمضارب فإن ذلك مفهوم والمفهوم لا يكون حجة للاستحقاق ومن الجائز أن يكون مراده اشتراط بعض الربح لعامل آخر يعمل معه وهذا بخلاف ما إذا بين نصيب المضارب خاصة لأنه ذكر هنا ما يحتاج إلى ذكره وهو بيان نصيب من يستحق بالشرط.
ووجه الاستحسان أن عقد المضاربة عقد شركة في الربح والأصل في المال المشترك إنه إذا بين نصيب أحدهما كان ذلك بيانا في حق الآخر إن له ما بقي قال الله تعالى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}[النساء: 11] معناه وللأب ما بقي وهنا لما دفع إليه المال مضاربة فذلك تنصيص على الشركة بينهما في الربح فإذا قال على أن لي ثلث الربح يصير كأن قال ولك ما بقي كما لو قال على أن لك ثلث الربح يصير كأنه قال ولي ما بقي ولو صرح بذلك لكان العقد صحيحا على ما اشترطا فهذا مثله وهذا عمل بالمنصوص لا بالمفهوم(22/43)
ص -24- ... ولو قال: على أن للمضارب ثلث الربح أو سدسه كانت المضاربة فاسدة لأنه لم ينص في نصيب المضارب على شيء معلوم ولكن ردده بين الثلث والسدس وبهذا اللفظ تمكن فيما يستحقه المضارب جهالة تفضي إلى المنازعة وكذلك لو قال على أن لي نصف الربح أو ثلثه لأن معنى هذا الكلام ولك ما بقي النصف أو الثلث فيفسد العقد لجهالة تفضي إلى المنازعة فيما شرط للمضارب ولو شرط للمضارب ثلث الربح ولرب المال نصف الربح فالثلث للمضارب كما شرط إليه والباقي كله لرب المال لأن استحقاق المضارب بالشرط وما شرط له إلا الثلث ورب المال يستحق ما بقي لكونه بما ملكه وهذا موجود في المسكوت عنه فيكون له.
ولو قال: خذ هذه الألف لتشتري بها هرويا بالنصف أو قال لتشتري بها رقيقا بالنصف فهذا فاسد لأنه استأجره ببعض ما يحصل بعمله وهو نصف المشتري وذلك فاسد ثم هذا استئجار بأجرة مجهولة وإنما جعلناه استئجارا لأنه أمره بالشراء خاصة والربح لا يحصل بالشراء وإنما يحصل به وبالبيع وهو بالأمر بالشراء لا يملك البيع عرفنا أن هذا العقد ليس شركة بينهما في الربح فبقي استئجارا على الشراء بأجرة مجهولة وهذا فاسد يعني به الإجارة فأما الوكالة بالشراء فجائزة وما اشترى بها يكون لرب المال وللمضارب أجر مثله فيما اشترى لأنه ابتغى في عمله عوضا وليس له أن يبيع ما اشترى إلا بأمر رب المال فإن باع بغير أمره فحكمه حكم بيع الفضولي لا يجوز إلا بإجازة المالك فإن تلف ما باع ولم يقدر على المشتري منه فالمضارب ضامن لقيمته حين باع لأنه بالبيع والتسليم غاصب والثمن الذي باع به المضارب ملكه بالضمان فينفذ بيعه من جهته فإن كان فيه فضل على القيمة التي غرم فينبغي له أن يتصدق به إلا على قول أبي يوسف رحمه الله وأصله في المودع إذا تصرف في الوديعة وربح.(22/44)
وإذا أجاز رب المال بيع المضارب فإن كان المبيع قائما بعينه نفذ بيعه لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وكذلك إن كان لا يدري إنه قائم أم هالك لأن التمسك بالأصل المعلوم واجب حتى يعلم غيره وقد علمنا قيامه فجاز البيع باعتبار الأصل والثمن لرب المال لا يتصدق منه بشيء كما لو كان أمره بالبيع في الابتداء وإن علم هلاكه عند الإجازة فإجارته باطلة لأن الملك يثبت للمشتري بالعقد عند الإجارة فلا بد من قيام المعقود عليه على وجه يقبل ابتداء العقد حتى ينفذ العقد فيه بالإجارة فإذا بطلت الإجارة كان المضارب ضامنا للقيمة يوم باعه والثمن له يتصدق بالفضل إذا كان فيه .
ولو قال: خذ هذه الألف فابتع بها متاعا فما كان من فضل فلك النصف ولم يزد على هذه فهو فاسد في القياس أيضا لأن الابتياع عبارة عن الشراء فهذا وقوله اشتر بها بالنصف سواء وفي الاستحسان هذه مضاربة جائزة لأن لفظ الابتياع عام يقع على البيع والشراء جميعا وبقوله فما كان من فضل تبين أن مراده البيع والشراء جميعا لأن الفضل لا يحصل إلا بهما فيكون له أن يشتري ما بدا له ويبيعه وإنما شرط له نصف الربح فكانت مضاربة(22/45)
ص -25- ... جائزة وكذلك لو قال خذها بالنصف فهو جائز استحسانا وفي القياس هذه أفسد من قوله اشتر بها هرويا بالنصف والفرق بينهما على وجه الاستحسان إن هنا لم ينص على شيء من العمل وإنما ذكر حرفا يدل على المعاوضة وهو حرف الباء وهو تنصيص على العوض له وإنما يستحق العوض باعتبار عمله وعمله الذي يستحق باعتباره عوضا مسمى هوالبيع والشراء جميعا فكأنه نص عليهما وبهذه تبين أن مراده اشتراط نصف الربح له فأما هناك فنص على العمل الذي أوجب له العوض بمقابلته وهو الشراء فيكون استئجارا بأجرة مجهولة.
وكذلك لو قال خذها على النصف لأن حرف على وحرف الباء مستعملان في مثل هذا المحل استعمالا واحدا ويكون دليلا على المعاوضة وكذلك لو قال اعمل بهذه على النصف لأنه نص على العمل هنا وإنما ينصرف للعمل الذي يحصل به الربح وذلك الشراء والبيع جميعا ولو دفع إليه مضاربة على أن يعطي المضارب رب المال ما شاء من الربح أو على أن يعطي رب المال المضارب ما شاء من الربح فهذه مضاربة فاسدة لجهالة حصة المضارب من الربح في الفصلين فإن المشيئة المشروطة لأحدهما لا تكون لازمة في حق الآخر وله أن يرجع عن ذلك متى شاء وعند رجوعه تتمكن منهما المنازعة باعتبار جهالة نصيب المضارب.
وكذلك لو اشترط لأحدهما بعينه ما شاء من الربح وللآخر ما بقي فهذه مضاربة فاسدة لجهالة نصيب المضارب سواء كان صاحب الشرط أو صاحب ما بقي ولو اشترطا لرب المال من الربح مائة درهم والباقي للمضارب فهذه مضاربة فاسدة لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الربح مع حصوله فربما لا يحصل إلا قدر المائة وكذلك لو اشترطا للمضارب نصف الربح إلا عشرة دراهم أو نصف الربح وزيادة عشرة دراهم فهذه فاسدة لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة ولأن هذه مخاطرة لا مضاربة فربما يكون الحاصل من الربح دون العشرة فيتعذر مراعاة الشرط عليهما مع حصول الربح.(22/46)
ولو دفعها إليه مضاربة على مثل ما شرط فلان لفلان من الربح فإن كانا قد علما جميعا ما شرطه فلان لفلان فهو مضاربة لأنهما جعلا المشروط لفلان عيارا فإذا كان ذلك معلوما عندهما ضاربا به وإن لم يكن معلوما لهما أو لم يعلمه أحدهما فهي مضاربة فاسدة لأن حصة المضارب من الربح لا بد أن تكون معلومة لهما وبما ذكرا في العقد لم يصر ذلك معلوما لهما ففسد العقد لجهالة نصيب المضارب عندهما أو عند أحدهما وقت العقد وإذا دفع الرجل إلى رجل دراهم مضاربة ولا يدري واحد منهما ما وزنها فهي مضاربة جائزة لأن الإعلام بالإشارة إليه أبلغ من الإعلام بالتسمية ورأس المال أمانة في يد المضارب كالوديعة والدراهم تتعين في الأمانة وعند الشراء بها يعلم مقدارها بالوزن ويقبل قول المضارب فيه لكونه أمينا فجهالة المقدار عند العقد لا تفضي إلى المنازعة فإن اختلفا في مقدار رأس المال عند قسمة الربح فالقول قول المضارب مع يمينه لأنه هو القابض والقول في مقدار المقبوض قول القابض ذلك من شيء فللمضارب ثلثه ولرب المال ثلثه ولعبد المضارب ثلثه فهو(22/47)
ص -26- ... جائز وثلثا الربح للمضارب لأن المشروط للعبد الذي دين عليه كالمشروط لمولاه فإن كسب العبد مملوك لمولاه فكان هذا بمنزلة اشتراط المضارب ثلثي الربح لنفسه فكذلك لو لم يشترط للعبد المضارب ولكنه شرط لعبد رب المال فقلنا الربح لرب المال لأن المشروط لعبده كالمشروط له أو يجعل هذا في حقه كالمسكوت عنه.
ولو كان اشترط الثلث لعبد المضارب وعليه دين يحيط بكسبه فالثلثان من الربح لرب المال في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن من أصله أن استغراق كسب العبد بالدين يمنع ملك المولي في كسبه ويكون المولي من كسبه كأجنبي آخر فالمشروط للعبد في هذه الحالة كالمشروط لأجنبي آخر ولو شرط ثلث الربح لأجنبي كان ذلك لرب المال لأن الربح لا يستحق إلا بعمل أو مال وليس للمشروط له عمل ولا مال في هذا العقد فيلغو ما شرط له ويجعل ذلك كالمسكوت عنه فيكون لرب المال ولا تفسد المضاربة بين المضارب ورب المال وهذا لأن الشرط الفاسد ليس من صلب العقد وإنما صلب العقد بيان حصة المضارب من الربح بالشرط ولا فساد في ذلك وعقد المضاربة نظير عقد الشركة لا يفسد بالشرط الفاسد إذا لم يكن متمكنا في صلب العقد بخلاف ما إذا شرط للمضارب مائة درهم فالشرط الفاسد هناك فيما هو من صلب العقد ولكن ما نحن فيه نظير ما لو شرط أن تكون الوضيعة عليهما فإن هذا الشرط فاسد والوضيعة على المال ولا يفسد العقد لأنه ليس من صلب العقد وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فثلثا الربح للمضارب لأن عندهما الولي يملك كسب عبده وإن كان مستغرقا بالدين فالمشروط لعبد المضارب كالمشروط للمضارب عندهما.(22/48)
ولو كان اشترط ثلث الربح لامرأة المضارب أو لابنه أو لمكاتبه كان ذلك الشرط باطلا ولا يفسد به العقد لأنه ليس من صلب العقد والمضاربة جائزة وثلثا الربح لرب المال لأنه ليس للمرأة والابن في هذا العقد مال ولا عمل فلا يستحق شيئا من الربح ولكن ما شرط له كالمسكوت عنه فيكون لرب المال وكذلك لو كان اشترط الثلث لامرأة رب المال أو ولده أو لأجنبي آخر ولو كان الثلث للمساكين أو للحج أو في الرقاب فهو كذلك لأن ما سمي له ثلث الربح ليس من جانبه رأس مال ولا عمل فالشرط له يلغو واشتراطه للمساكين تصدق بما لم يملكه بعد فكان باطلا ويجعل ذلك كالمسكوت عنه فيكون لرب المال لأنه لو فسد جميع المضاربة كان جميع الربح لرب المال فكذلك إذا فسد بعض الشرط كان ذلك لرب المال وهذا لأن المضارب إنما يملك بالشرط أمينا كان أو ضمينا والبينة بينة رب المال لإثباته الزيادة ببينة.
وإذا كان لرجل عند رجل ألف درهم وديعة فأمره أن يعمل بها مضاربة بالنصف فهو جائز لأنه أضاف العقد إلى رأس مال هو عين وهو شرط صحة المضاربة ولا فرق في ذلك بين أن يكون في يد رب المال أو في يد المضارب لأنه لا بد من تسليمه إلى المضارب عقيب العقد ولم يذكر ما لو كانت الدراهم مغصوبة في يد ذي اليد فقال اعمل بها مضاربة(22/49)
ص -27- ... بالنصف وفي اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله قال عند أبي يوسف رحمه الله هذا والوديعة سواء لأنه أضاف العقد إلى رأس مال عين وذلك منه رضاء بقبض المضارب وإسقاطه لحقه في الضمان فيلحق بالأمانة وعلى قول زفر رحمه الله هذا لا يجوز لأن شرط صحة المضاربة أن يكون رأس المال أمانة في يد المضارب وهذا الشرط لا يحصل بنفس العقد لأن الغاصب لا يصلح قابضا من نفسه للمغصوب منه حتى ينسخ به حكم الغصب ولهذا لو وكل الغاصب ببيع المغصوب لا يبرأ عن الضمان حتى يبيعه ويسلمه فإذا لم يوجد الشرط هنا لا تصح المضاربة.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم دين فأمره أن يعمل بها مضاربة ويشتري بها ما بدا له من المتاع ثم يبيعه بالنصف فهذا فاسد لأن شرط صحة المضاربة كون رأس المال عينا ولم يوجد ذلك عند العقد ولا بعده فالمديون لا يكون قابضا للدين من نفسه لصاحبه وصاحب الدين لا يمكن أن يبرئه عن الضمان مع بقائه بدون القبض فإذا لم تصلح المضاربة فما اشتراه المديون فهو له لا شيء لرب المال منه في قول أبي حنيفة رحمه الله ودينه عليه بحاله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ما اشترى فهو لرب المال والمضارب بريء من دينه وله على رب المال أجر مثله فيما عمل وهو بناء على مسألة كتاب البيوع إذا قال لمديونه اشتر بمالي عليك ثوبا هرويا وقد بيناها ثمة ثم عندهما المضاربة فاسدة فلهذا كان الربح كله لرب المال وللمضارب أجر مثله.
ولو قال رب المال لرجل آخر اقبض ما لي على فلان ثم اعمل به مضاربة بالنصف فهو جائز لأنه وكيل رب المال في قبض الدين منه فإذا قبضه كان المقبوض بمنزلة الوديعة في يده فتنعقد المضاربة بينهما برأس مال هو عين في يده وذكر في النوادر أن هذا يكره لأنه شرط لنفسه منفعة قبل عقد المضاربة ليس ذلك مما حصل به الربح وهو تقاضي الدين وقبضه فالكراهة لهذا والله أعلم
باب اشتراط بعض الربح لغيرهما(22/50)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في فساد الشرط في البعض لا يزداد الشرط في جانب المضارب فلا يزداد حقه ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن ثلث الربح للمضارب وثلثه يقضي به دين المضارب الذي للناس عليه أو مالي الذي لفلان عليه فثلث الربح لرب المال والمضاربة جائزة وثلثا الربح للمضارب لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه فما شرط لقضاء الدين الذي على المضارب يكون مشروطا للمضارب ولا يجبر على قضاء الدين منه لأن الاختيار إلى المديون في تعيين المحل الذي يقضي به الدين من ماله والذي سبق منه وعد بقضاء الدين من بعض الربح الذي يستحقه والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم.
ولو دفع رجلان إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن للمضارب ثلث ربح جميع المال(22/51)
ص -28- ... وما بقي من الربح فثلثه لأحد صاحبي المال بعينه والثلثان للآخر فعمل المضارب على هذا وربح فثلث جميع الربح للمضارب كما شرط والباقي بين صاحب المال نصفين لاستوائهما في رأس المال وذلك يوجب التسوية بينهما في استحقاق الربح والذي شرط لنفسه ثلثي ما بقي يكون شارطا لنفسه شيئا من ربح مال صاحبه من غير أن يكون له فيه رأس مال أو عمل وهذا الشرط باطل ولكنه ليس في صلب العقد بينهما وبين المضارب فبقي العقد بينهما وبينه صحيحا ولو كان المضارب اشترط إن له ثلث الربح ثلثا ذلك من حصة أحدهما بعينه والثلث من حصة الآخر على أن ما بقي من الربح فهو بين صاحبي المال نصفان فللمضارب ثلث الربح على ما اشترطا ثلثا ذلك من حصة الذي اشترط ذلك والثلث من حصة الاخر وما بقي من الربح فهو بين صاحبي المال على اثني عشر سهما خمسة للذي شرط للمضارب من حصته ثلثي ثلث الربح وسبعة للآخر لأنك تحتاج إلى حساب له نصف وثلث ينقسم ثلثه أثلاثا وأقل ذلك ثمانية عشر فقد شرط للمضارب ثلث ذلك ستة أسهم ثلثا ذلك وهو أربعة من نصيب الذي شرط له ثلثي الثلث وثلثه وهو سهمان من نصيب الآخر وذلك جائز لأن نصيب كل واحد منهما بمنزلة مال على حدة دفعه إليه مضاربة والمضارب قد يستقصي فيما يشترطه لنفسه بعمله فيما لزيد ويسامح فيما يشترطه لنفسه من مال عمرو فإذا صح هذا الشرط قلنا ربح كل واحد منهما سبعة أسهم فالذي شرط للمضارب أربعة من نصيبه يبقى له خمسة والذي شرط للمضارب سهمين من نصيبه يبقى له سبعة فكان الباقي مقسوما بينهما على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما فيكون على اثني عشر سهما واشتراط المناصفة بينهما باطل لأن من بقي له خمسة اشترط لنفسه سهما من ربح مال صاحبه من غير أن يكون له فيه رأس مال أو عمل وذلك باطل.(22/52)
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن ثلث الربح للمضارب وثلثه لرب المال وثلثه لمن شاء المضارب فالثلثان من الربح لرب المال والشرط باطل لأنه ليس في شرط المشيئة منفعة للمضارب فلا يجعل ذلك القدر كالمشروط فيكون لرب المال بخلاف المشروط في قضاء الدين فعلى المضارب لأن فيه منفعة ظاهرة له وهي براءة ذمته فيجعل ذلك كالمشروط للمضارب ولو قالا ثلث الربح لمن شاء رب المال فهو والمسكوت عنه سواء فيكون لرب المال وإذا دفع رجل إلى رجلين ألف درهم مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فلأحدهما بعينه نصف الربح وللآخر سدس الربح ولرب المال ثلث الربح فهو جائز على ما اشترطا لأن رب المال شرط على كل واحد من المضاربين جزءا معلوما من الربح وفاوت بينهما في الشرط لتفاوتهما في الهداية في التجارة المربحة وذلك صحيح.
ولو دفع رجلان إلى رجلين ألف درهم مضاربة على أن لأحد المضاربين بعينه من الربح الثلث وللآخر السدس وما بقي من صاحبي المال لأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه فعملا وربحا فنصف الربح للمضاربين على ما اشترطا ثلثاه لأحدهما وللآخر ثلثه لأن الاستحقاق لهما بالشرط وهكذا شرط لهما والنصف الآخر بين صاحبي المال نصفين لان استحقاقهما باعتبار(22/53)
ص -29- ... رأس المال وقد تفاوتا في ذلك فاشتراط الفضل لأحدهما فيما بقي من غير أن يكون له في نصيب صاحبه مال أو عمل يكون شرطا فاسدا ولو قال للمضاربين نصف الربح بينكما لفلان منه الثلثان من نصيب أحد صاحبي المال ثلثاه ومن نصيب الآخر الثلث ولفلان الآخر منه الثلث ثلثا ذلك من نصيب صاحبي المال وهو الذي أعطى له نصيبه وثلث ذلك من نصيب الآخر والنصف الآخر بين صاحبي المال نصفين فعملا فربحا فنصف الربح بين المضاربين على ما اشترطا والنصف الآخر بين صاحبي المال على تسعة أسهم للذي شرط للمضارب ثلثي النصف من نصيبه من ذلك أربعة أسهم وللآخر خمسة وتخرج المسألة على نحو تخريج المسألة الأولى بأن يجعل الربح على ثمانية عشر نصيب كل واحد منهما تسعة والمشروط لأحد المضاربين ثلثا الربح وهو ستة من تسعة ثلثا ذلك وهو أربعة من نصيب أحدهما وثلثه وهو سهمان من نصيب الآخر والذي شرط له ثلث النصف ثلثه ثلث ذلك وهو سهم ممن أعطى الآخر أربعة وثلثاه وهو سهمان ممن أعطى الآخر سهمين فالذي شرط ثلثي الربح لأحدهما استحق عليه أحد المضاربين من نصيبه أربعة والآخر سهما واحدا فإذا دفعت ذلك من تسعة بقي له أربعة أسهم والآخر استحق عليه كل واحد من المضاربين سهمين بقي له خمسة أسهم فيقسم الباقي بينهما على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما فيكون على تسعة لأحدهما خمسة وللآخر أربعة واشتراطهما المناصفة فيما بقي باطل لما قلنا.(22/54)
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن يخلطها المضارب بألف من قبله ثم يعمل بهما جميعا على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فللمضارب ثلثاه وللدافع ثلثه فهو جائز على ما اشترطا لأن العامل شرط لنفسه ربح مال نفسه وثلث ربح مال صاحبه فكأنه أخذ منه الألف مضاربة بثلث الربح وذلك جائز ولو كان الدافع اشترط لنفسه ثلثي الربح وللعامل ثلثه فالربح بينهما نصفان على قدر مالهما لأن الدافع شرط لنفسه جميع ربح ماله فيكون دافعا المال من وجه البضاعة وشرط أيضا لنفسه جزءا من ربح مال العامل وهذا منه طمع في غير مطمع لأنه ليس له في مال العامل رأس مال ولا عمل فيبطل هذا الشرط ويكون الربح بينهما على قدر رأس مالهما نصفين.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن يخلطها بألف من قبله ويعمل بهما جميعا على أن للمضارب ثلثي الربح نصف ذلك من ربح ألف صاحبه ونصفه من ربح ألفه خاصة وعلى أن ما بقي من الربح للدافع فهو جائز للمضارب ثلثا الربح على ما اشترطا والثلث لرب المال لما بينا أنه شرط الدافع للمضارب جزءا من ربح ماله بعمله فيه وذلك مستقيم ثم يقول في بيان العلة لأن سدس الربح صار للدافع من ربح مال المضارب وصار له سدس مثله من ربح ألفه الذي صار للمضارب قال الشيخ الإمام الأجل رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول هذا التعليل لا يصح فمبادلة ربح لم يوجد بربح لم يوجد كيف يكون صحيحا وإنما معنى هذا التعليل أنه ليس في هذا التفصيل فائدة لأحدهما لأن بعد خلط المالين لا فرق في(22/55)
ص -30- ... حق كل واحد منهما بين سدس الربح الذي يكون من ألفه وبين مثله من ألف صاحبه والشرط إنما يراعى إذا كان مفيدا لهما أو لأحدهما فما لم يكن مفيدا يكون لغوا ويبقى اشتراط ثلثي الربح للمضارب مطلقا فيكون صحيحا على ما اشترطا.
ولو دفع إليه ألفي درهم على أن يخلطهما بألف من قبله على أن الربح بينهما نصفان فهذا جائز لأن العامل شرط لنفسه ربح ألفه وربع ربح مال الدافع ودفع المال مضاربة بربع الربح صحيح فإن كان الدافع شرط لنفسه ثلاثة أرباع الربح وللعامل ربعه فالربح بينهما أثلاثا على قدر مالهما لأن الدافع شرط الزيادة على الثلثين لنفسه وطمع في جزء من ربح مال العامل وليس له فيه رأس مال ولا عمل فكان هذا الشرط باطلا والله أعلم
باب المضاربة بالعروض
قال رحمه الله: ذكر عن إبراهيم والحسن رحمهما الله قالا لا تكون المضاربة بالعروض إنما تكون بالدراهم والدنانير وبه نأخذ وقال مالك رحمه الله المضاربة بالعروض صحيحة لأن العرض مال متقوم يستريح عليه بالتجارة عادة فيكون كالنقد فيما هو المقصود بالمضاربة وكما يجوز بقاء المضاربة بالعرض يجوز ابتداؤها بالعروض ولكنا نستدل بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح مال يضمن والمضاربة بالعروض تؤدي إلى ذلك لأنها أمانة في يد المضارب وربما ترتفع قيمتها بعد العقد فإذا باعها حصل الربح واستحق المضارب نصيبه من غير أن يدخل شيء في ضمانه بخلاف النقد فإنه يشتري بها وإنما يقع الشراء بثمن مضمون في ذمته فما يحصل له يكون ربح ما قد ضمن.(22/56)
توضيحه: إن الربح هنا لما كان يحصل بمجرد البيع يصير في المعنى كأنه استأجره لبيع هذه العروض بأجرة مجهولة وفي النقد الربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع جميعا فتكون شركة ولأن تقدير المضاربة بالعروض كأنه قال بع عرضي هذا على أن يكون بعض ثمنه لك ولو قال على أن جميع ثمنه لك لم يجز فكذلك البعض وإذا كان رأس المال نقدا يصير كأنه قال اشتر بهذه الألف وبع على أن يكون بعض ثمنه لك ولو قال على أن جميع ثمنه لك صح فكذلك البعض.
توضيحه: إن الربح في المضاربة لا يظهر إلا بعد تحصيل رأس المال ورأس المال إذا كان عرضا فطريق تحصيله وطريق معرفة قيمته الحزر والظن فلا يتيقن بالربح في شيء ليقسم بينهما بخلاف النقود فإن كان رأس المال مكيلا أو موزونا من غير النقود فالمضاربة فاسدة أيضا عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله هي جائزة لأنها من ذوات الأمثال فيمكن تحصيل رأس المال بمثل المقبوض ثم قسمة الربح بينهما ولأن المكيل والموزون يجوز الشراء بهما ويثبت دينا في الذمة ثمنا فيكون ذلك بمنزلة النقود في أن المضارب إنما يستحق الربح بالضمان وحجتنا في ذلك أن المكيل والموزون يتعين في العقد كالعروض وأول التصرف بهما يكون(22/57)
ص -31- ... بيعا وقد يحصل بهذا البيع ربح بأن يبيعه ثم يرخص سعره بعد ذلك فيظهر ربحه بدون الشراء فيكون هذا استئجارا للبيع بأجرة مجهولة وذلك باطل كما في العروض.
فإن اشترى وباع فربح أو وضع فالربح لرب المال والوضيعة عليه ولا ضمان على المضارب وله أجر مثله فيما عمل كما هو الحكم في المضاربة الفاسدة وقد بينا حكم المضاربة بالفلوس والنبهرجة والستوقة والزيوف والتبر زاد هنا فقال ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا بذهب تبر بعينه أو بفضة تبر بعينها فهلك التبر قبل التسليم بطل البيع فقد أشار في كتاب الصرف إلى أن التبر لا يتعين في الشراء ولا ينتقض العقد بهلاكه وقد بينا هناك وجه الروايتين أن هذا يختلف باختلاف البلدان في رواج التبر نقدا أو عرضا.
وإذا دفع إلى رجل فلوسا مضاربة بالنصف فلم يشتر شيئا حتى كسدت تلك الفلوس وأحدثت فلوس غيرها فسدت المضاربة لأن على قول من يجيز المضاربة بالفلوس إنما يجيز باعتبار صفة الثمنية وهي ثمن ما دامت رائجة فإذا كسدت فهي قطاع صفر كسائر الموزونات ولو اقترن كسادها بعقد المضاربة لم تصح المضاربة فكذلك إذا كسدت بعد العقد قبل حصول المقصود به وقد بينا في كتاب الشركة أن الطارئ بعد العقد قبل حصول المقصود به كالمقارن للعقد فهذا مثله فإن اشترى بها المضارب بعد ذلك فربح أو وضع فهو لرب المال وللمضارب أجر مثل عمله فيما عمل هو الحكم في المضاربة الفاسدة ولا فرق فيه بين الفساد الطارئ والفساد المقارن.
ألا ترى إنه لو اشترى بهذه الفلوس الكاسدة شيئا فضاعت قبل أن ينقدها انتقض البيع فعرفنا أنها بالكساد صارت كالعروض ولو لم تكسد حتى اشترى بها المضارب ثوبا ودفعها وقبض الثوب ثم كسدت فالمضاربة جائزة على حالها لأن بالشراء حكم المضاربة تحول إلى الثوب وصار مال المضاربة الثوب دون الفلوس فلا يتغير الحكم بكساد الفلوس بعد ذلك ولكن المقصود قد حصل بالشراء وما يعرض بعد حصول المقصود لا يجعل كالمقترن بالسبب.(22/58)
فإذا باع الثوب بدراهم أو عرض فهو على المضاربة فإن ربح ربحا وأرادوا القسمة أخذ رب المال قيمة فلوسه يوم كسدت لأنه لا بد من رد رأس المال إليه ليظهر الربح ورأس المال كان فلوسا رائجة وهي للحال كاسدة فقد تعذر رد مثل رأس المال وهذا التعذر إنما يتحقق يوم الكساد فيعتبر قيمتها في ذلك الوقت وفرق بين هذا وبين ما إذا غصب شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي الناس إن عند أبي حنيفة رحمه الله تعتبر قيمته يوم الخصومة لأن المثل هناك باق في الذمة والقدرة على تسليمه متعذرة أو إنه حاصل وإنما يتحول الحق إلى القيمة عند الخصومة فتعتبر قيمته يومئذ وهنا الوقت في تحصيل المثل غير منتظر لأن ما كسد من الفلوس قد لا يروج بعد ذلك قط ولا يدري متى يروج فإنما يتحول الحق إلى القيمة عند تحقق فوات مثل تلك الفلوس وذلك وقت الكساد فتعتبر قيمته عند ذلك ثم الباقي بينهما ربح على الشرط(22/59)
ص -32- ... وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن ما صاد بها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكا كثيرا فجميع ذلك للذي صاد لقوله صلى الله عليه وسلم :"الصيد لمن أخذ" ولأن الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد وكذلك لو دفع إليه دابة يستقي عليها الماء ويبيع عليها أو لينقل عليها الطين ليبيعه أو ما أشبه ذلك بخلاف ما إذا أمره أن يؤاجر الدابة فالغلة هناك لصاحب الدابة وللعامل أجر مثله وقد تقدم بيان هذا في الإجارة إنه إذا آجر الدابة فالأجر بمقابلة منافعها والعامل وكيل لصاحبها وإذا استعملها العامل في نقل شيء عليها وبيع ذلك فهو لنفسه.(22/60)
ولو دفع إلى حائك غزلا على أن يحوكه سبعة في أربعة ثوبا وسطا على أن الثوب بينهما نصفان فهذا فاسد وهو في معنى قفيز الطحان وقد بينا ما فيه من اختيار بعض المتأخرين رحمهم الله باعتبار العرف في ذلك في بعض البلدان في كتاب الإجارة والثوب لصاحب الغزل وللحائك أجر مثله وإذا دفع إلى رجل أرضا بيضاء على أن يبني فيها كذا كذا بيتا وسمى طولها وعرضها وكذا كذا حجرة على أن ما بنى من ذلك فهو بينهما نصفان وعلى أن أصل الدار بينهما نصفان فبنى فيها كما شرط فهو فاسد لأنه أمر بأن يجعل أرضه مساكن بآلات نفسه فيكون مشتريا بالآلات وهي مجهولة وقد جعل العوض نصف ما يعمل لنفسه من المساكن وذلك فاسد وقد قررنا في الإجارات أن هذا المعنى في الأرض يدفعها إليه ليغرسها أشجارا على أن تكون الأرض والشجر بينهما نصفين فهو في البناء كذلك ثم جميع ذلك لرب الأرض وعليه للثاني قيمة ما بنى لأنه يصير قابضا له بحكم العقد الفاسد فإن بناء الغير له بأمره كبنائه بنفسه فعليه ضمان القيمة لما تعذر رد العين باعتبار إنه صار وصفا من أوصاف ملكه وللعامل أجر مثله فيما عمل لأنه أقام العمل له وقد ابتغى من عمله عوضا فإذا لم ينل ذلك استوجب أجر المثل.(22/61)
ولو دفع إليه أرضا على أن يبني فيها دسكرة ويؤاجرها على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فبناها كما أمره فأجرها فأصاب مالا فجميع ما أصاب من ذلك فهو للباني والبناء له لأن صاحب الأرض هنا شرط البناء لنفسه فيكون الثاني عاملا لنفسه في البناء وإذا كان البناء ملكا له فعليه البناء أيضا وإنما يستأجر البيوت للسكنى وذلك باعتبار البناء ولهذا لو انهدم جميع البناء لم يكن على المؤاجر للمستأجر أجر بعد ذلك فلهذا كان الأجر كله لصاحب البناء ولرب الأرض أجر مثل أرضه على الباني لأنه أجر الأرض بنصف ما يحصل من غلة البناء وهي مجهولة وقد استوفى منفعة الأرض بهذا العقد الفاسد فيلزمه أجر مثلها وينقل الثاني بناءه عن أرض رب الأرض لأن الأرض باقية على ملك صاحبها فعلى الثاني أن يفرغها ويردها على صاحبها لفساد عقد الإجارة بينهما في الأرض ولو كان اشترط مع ذلك أن الأرض والبناء بينهما نصفان كان ذلك كله مع ما أجرها به لرب الأرض لأنه صار مشتريا لما بنى به هنا بنصف الأرض أو أمره بأن يجعل أرضه دسكرة بآلات نفسه(22/62)
ص -33- ... على أن له بعض ما يحصل بعمله وذلك فاسد ولكنه صار قابضا مستهلكا بشراء فاسد فعليه قيمته يوم بنى الباني وأجر مثله فيما عمل وأجر مثله فيما أجر من الدسكرة لأنه في كل ذلك عامل لصاحب الأرض بأجرة مجهولة بخلاف الأول فهناك صاحب الأرض ما شرط لنفسه شيئا من البناء فيكون الثاني عاملا لنفسه وهنا أضاف البناء إلى نفسه حين شرط لنفسه نصف البناء وجعل النصف الآخر أجرة للباني فلهذا كان البناء كله لصاحب الأرض هنا.
وإذا دفع إلى رجل بيتا على أن يبيع فيه البر على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فقبض البيت فباع فيه وأصاب مالا فالمال كله لصاحب البر لأنه ثمن ملكه وهو في البيع كان عاملا لنفسه ولرب البيت أجر مثل بيته لأنه أجر البيت بأجرة مجهولة ولو كان رب البيت دفع إليه البيت ليؤجره ليباع فيه البر على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فهذا فاسد فإن أجر البيت فالأجر لرب البيت لأن الأجر عوض منفعة البيت هنا والعامل كالوكيل لصاحب البيت في إجارته ولكنه ابتغى عن عمله له عوضا لم يسلم له فيستوجب أجر مثله فيما عمل.(22/63)
وإذا قال: خذ هذا العبد مضاربة وقيمته ألف درهم على أن رأس مالي قيمته على أن يبيعه ويشتري بثمنه ويبيع فما رزق الله تعالى في ذلك من شيء أخذت منه رأس مالي قيمة العلام وما بقي فهو بينهما نصفان فهذه مضاربة فاسدة لأن رأس المال فيها العبد وهو متعين كسائر العروض ولا يمكن أن يجعل قيمة رأس المال لأن القيمة تختلف باختلاف المقومين ولا يمكن تحصيلها يقينا ليظهر الربح بعدها وإذا فسد العقد فجميع ذلك ما باع واشترى لرب العبد وللمضارب أجر مثله ولو قال بع عبدي هذا واقبض ثمنه واعمل فيه مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ثمنه من شيء فهو بيننا نصفان فهو جائز على ما اشترطا لأنه وكله ببيع العبد أولا فكان بيع الوكيل له كبيعه لنفسه ثم عقد المضاربة على الثمن المقبوض من دراهم أو دنانير وهو أمانة في يد الوكيل فقد وجد شرط صحة المضاربة وأكثر ما فيه أنه أضاف عقد المضاربة إلى ما بعد البيع وقبض الثمن وذلك لا يفسد المضاربة غير أني أكره أن يقول بعه وخذ الثمن مضاربة على أن الربح بيننا نصفان لأن بيع العبد ليس من المضاربة وقد صار كأنه شرط فيها فلهذا كره فإن شبهة الشيء كحقيقته في وجوب التحرز عنه قال صلى الله عليه وسلم :"من اتقى الشبهات سلم له دينه".
ولو شرط على المضارب في المضاربة منفعة له سوى ما يحصل به الربح كان ذلك الشرط فاسدا فكذلك شرط بيع العبد لما صار في معنى ذلك ولكنه ينبغي أن يأمره ببيعه ولا يذكر المضاربة فإذا قبض الثمن أمره أن يعمل به مضاربة وكذلك هنا الحكم في جميع العروض من المكيلات والموزونات.
ولو باع المضارب العبد بعشرة إكرار حنطة وعمل بها فهذا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله مضاربة فاسدة لأنه وكيل بالبيع مطلقا ومن أصل أبي حنيفة إن الوكيل بالبيع يملك(22/64)
ص -34- ... البيع بالمكيل والموزون فلا يصير هو ضامنا ولكنه يصير كأنه دفع إليه الحنطة مضاربة فتكون المضاربة فاسدة وجميع ما ربح لرب المال وللمضارب أجر مثله فيما عمل بالثمن لأنه في بيع العبد معين وإنما يصير أجيرا باعتبار المضاربة وأوان ذلك بعد قبض الثمن وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المضارب ضامن لقيمة العبد وجميع ما ربح له لأن عندهما الوكيل بالبيع لا يملك البيع إلا بالنقود فإذا باع بالحنطة كان مخالفا ضامنا لقيمة العبد كالغاصب فإذا ضمن القيمة بعد البيع من جهته والحنطة التي قبضها له بمقابلة العبد فإنما ربح على مال نفسه ولا يتصدق بالفضل لأنه ربح ما قد ضمن.
فإن قيل: عند أبي حنيفة ينبغي أن يكون الجواب كذلك لأنه قال: اعمل بثمنه مضاربة فبهذا اللفظ ينبغي أن تنفذ الوكالة بالبيع بما يصلح أن يكون رأس المال في المضاربة وهو النقد.
قلنا: لا كذلك فكون المضاربة بالعروض والمكيل فاسدة من الدقائق قد خفي ذلك على بعض العلماء فلعله خفي ذلك على صاحب المال أيضا أو كان ممن يعتقد جواز المضاربة بها فمطلق الوكالة لا يتقيد بمثل هذا الكلام المحتمل.
ولو باعه بمائة درهم وقيمته ألف درهم وعمل بها فهي مضاربة جائزة في المائة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما المضارب ضامن قيمة العبد لرب المال بناء على اختلافهم في الوكيل بالبيع مطلقا يبيع بالغبن الفاحش وإذا كان للرجل دراهم ودنانير وإكرار حنطة ودقيق فقال خذ أي أصناف ما لي شئت واعمل به مضاربة بالنصف فأخذ المضارب أحد الأصناف فعمل به فإن كان أخذ الدنانير والدراهم فعمل بهما فهو جائز على الشرط وإن أخذ غيرهما فهو فاسد فإذا اشترى وباع فهو لرب المال وعليه وضيعته وللمضارب أجر مثله لأن تعيين الضارب صنفا بأمر من رب المال كتعيين رب المال ذلك بنفسه فإن كان المعين من النقود انعقد العقد صحيحا وإلا فالمضاربة فاسدة.(22/65)
ولو قال: خذ أي مالي شئت فبعه ثم اعمل بثمنه مضاربة فأخذ عبدا فباعه بدراهم أو دنانير ثم عمل به مضاربة فهو جائز كما لو كان رب المال دفع العبد إليه وأمره بذلك ولو قال اشتر لي عبدا بألف درهم نسيئة سنة ثم بعه واعمل بثمنه مضاربة فاشترى به كما أمره وقبضه ثم باعه بدراهم أو دنانير ثم عمل بالثمن فهذه مضاربة جائزة لأنه في شراء العبد وبيعه وكيل للآمر معين فكان الآمر فعل ذلك بنفسه ثم إنما عقد المضاربة بعد قبض الثمن على المقبوض وهو تعد فكانت المضاربة جائزة ورأس المال ثمن العبد الذي باعه به المضارب فأما الثمن الذي اشترى به المضارب فليس من المضاربة بل هو دين له على رب المال كما هو الحكم في الوكالة أن البائع يستوجب الثمن على الوكيل والوكيل على الموكل والله أعلم
باب ما يجوز للمضارب في المضاربة
قال رحمه الله:وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة ولم يقل اعمل فيه برأيك فله أن يشتري(22/66)
ص -35- ... به ما بدا له من أصناف التجارة ويبيع لأنه نائب عن صاحب المال في التجارة فإن قصده بالدفع إليه تحصيل الربح وذلك بطريق التجارة فكذلك ما هو من صنع التجار يملكه المضارب بمطلق العقد ويبيع بالنقد والنسيئة عندنا وقال ابن أبي ليلى رحمه الله ليس له أن يبيعه بالنسيئة لأن ذلك تصرف يوجب قصر يده عن مال المضاربة والتصرف فيه فيكون ضدا لما هو مقصود رب المال بمنزلة الإقراض.
ألا ترى أن البيع بالنسيئة من المريض يعتبر من الثلث فعرفنا أنه بمنزلة التبرع ولكنا نقول البيع بالنسيئة من صنع التجار وهو أقرب إلى تحصيل مقصود رب المال وهو الربح فالربح في الغالب إنما يحصل بالبيع بالنسيئة دون البيع بالنقد ولأن تسليط المضارب على المال ليس بمقصود رب المال إنما مقصوده تحصيل الربح بطريق التجارة وذلك حاصل.(22/67)
والدليل على أن البيع بالنسيئة تجارة مطلقة قوله تعالى{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}[البقرة: 282] فهذا يبين أن التجارة قد تكون غائبة وليس ذلك إلا بالبيع بالنسيئة وله أن يبضعه لأن الإبضاع من عادة التجار ويحتاج المضارب إليه لتحصيل الربح فالتجارة نوعان حاضرة في بلده وغائبة في بلدة أخرى ولا يتمكن من مباشرتهما بنفسه ولم لم يجز له الإبضاع والتوكيل والإيداع لفاته أحد نوعي التجارة لاشتغاله بالنوع الآخر وله أن يستأجر معه الإجراء يشترون ويبيعون ويستأجر البيوت والدواب للأمتعة التي يشتريها لأن ذلك من صنع التجار فالمضارب لا يستغني عن ذلك في تحصيل الربح وللمنافع حكم المال عند العقد والإجارة والاستئجار تجارة من حيث إنه مبادلة مال بمال وله أن يسافر به وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله إنه ليس له أن يسافر به ما لم يأذن له فيه صاحب المال لأن فيه تعريض المال للهلاك وجه ظاهر الرواية إن اشتقاق المضاربة من الضرب في الأرض وإنما يتحقق ذلك بالمسافرة ولأن مقصوده تحصيل الربح وإنما يحصل ذلك في العادة بالسفر بالمال فيملكه بمطلق عقد المضاربة.(22/68)
وقد بينا في الوديعة إن المودع له أن يسافر بمال الوديعة ففي المضارب أولى وروي عن أبي يوسف رحمه الله إنه قال إن دفع المال في مصر وهو من أهل ذلك المصر فليس له أن يسافر به وإن دفع المال إليه في غير مصر فله أن يسافر به لأن العام الغالب أن الإنسان يرجع إلى وطنه ولا يستديم الغربة مع إمكان الرجوع فلما أعطاه مع علمه إنه غريب في هذا الموضع كان ذلك منه دليل الرضا بالمسافرة بالمال عند رجوعه إلى وطنه وذلك لا يوجد فيما إذا دفع المال إليه وهو مقيم في مصره ولكن هذا التفصيل فيما له حمل ومؤنة بناء على ما روينا عن أبي يوسف رحمه الله في المودع إنه لا يسافر بالوديعة إذا كان لها حمل ومؤنة وليس له أن يقرضه لأن الإقراض تبرع قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قرض مرتين صدقة مرة" ولأنه ليس في الإقراض تحصيل شيء من مقصود رب المال لأن المقبوض بحكم القرض مضمون بمثله لا يتصور فيه زيادة شرط ولا غيره وليس له أن يخلطه بماله لأن في الخلط بماله أو بمال غيره إيجاب(22/69)
ص -36- ... الشركة في المال المدفوع إليه على وجه لم يرض به رب المال وكذلك لا يدفعه مضاربة لأن بالدفع مضاربة سوى غيره بنفسه في حق الغير وهو لا يملك ذلك.
ألا ترى أن الوكيل بالبيع مطلقا لا يوكل به غيره ولأنه موجب لغيره شركة في الربح ورب المال لم يرض بالشركة لغيره في ربح ماله ولا يشارك به أيضا لأن الشركة بمنزلة الدفع مضاربة بل أقوى منه.
فإن قيل:أليس إن المضارب يأذن لعبد من مال المضاربة في التجارة ويصح ذلك منه وإطلاق التصرف بالإذن في التجارة بمنزلة الدفع مضاربة أو فوقه.(22/70)
قلنا: قد روى ابن رستم عن محمد رحمهما الله أنه لا يملك الإذن في التجارة بمنزلة الدفع مضاربة والفرق بينهما على ظاهر الرواية إن المأذون لا يصير شريكا في الربح فيكون الإذن في التجارة نظير الإبضاع لا نظير الدفع مضاربة والشركة به فإن كان قال له اعمل فيه برأيك فله أن يعمل جميع ذلك إلا القرض لأنه فوض الأمر في هذا المال إلى رأيه على العموم وقد علمنا إن مراده التعميم فيما هو من صنع التجار عادة فيملك به المضاربة والشركة والخلط بماله لأن ذلك من صنع التجار كما يملك الوكيل توكيل غيره بما وكل به إذا قيل له اعمل فيه برأيك ولا يملك القرض لأنه تبرع ليس من صنع التجار عادة فلا يملكه بهذا اللفظ كالهبة والصدقة وإذا دفعه إليه مضاربة على أن يعمل به في الكوفة ليس له أن يعمل به في غيرها لأن كلمة على للشرط والشرط في العقد متى كان مفيدا يجب اعتباره وهذا شرط مفيد لصاحب المال ليكون ماله محفوظا في المصر يتمكن منه متى شاء فيتقيد الأمر بما قيده به وليتبين له أن يعطيه بضاعة ممن يخرج به لأنه إنما يستعين في هذا المال في غير الكوفة فلا يملك أن يستعين بغيره أيضا ويقاس التوقيت من حيث المكان بالتوقيت من حيث الزمان فإن أخرجه من الكوفة فلم يشتر به شيئا حتى رده إليها فهو ضامن على حاله يتصرف فيها لأن خلافه لا يتحقق بإخراج المال ما لم يعمل خارجا من الكوفة فإنه قيد الأمر بالعمل بالمكان وإنما يمتنع عليه إخراج المال من الكوفة على قصد التصرف لكيلا يكون مخالفا لما شرط عليه صاحبه فعرفنا إن بالإخراج لا يتحقق خلافه ولو تحقق فهو أمين خالف ثم عاد إلى الوفاق فيكون أمينا كما كان.(22/71)
وإن اشترى ببعضه في غير الكوفة واشترى بما بقي منه في الكوفة فهو مخالف فيما اشتراه بغير الكوفة ضامن لذلك القدر من المال فله ربحه وعليه وضيعته لتحقق الخلاف منه في ذلك القدر وفيما بقي من المال فهو متصرف على المضاربة لأنه ليس من ضرورة صيرورته مخالفا ضامنا لبعض المال انتفاء حكم المضاربة فيما بقي ما لم يتقرر فيه الخلاف والبعض معتبر بالكل ولو دفعه إليه مضاربة على أن يعمل به في سوق الكوفة فعمل به في الكوفة في غير ذلك المكان ففي القياس هو مخالف ضامن لأنه خالف شرطا نص عليه الدافع وفي الاستحسان ينفذ تصرفه على المضاربة ولا يكون ضامنا لأن الشرط إذا لم يكن(22/72)
ص -37- ... مفيدا لا يكون معتبرا ولا فائدة في تقييد تصرفه بالسوق لأن مقصوده سعر الكوفة لا عين السوق ففي أي موضع من الكوفة تصرف كان تصرفه واقعا على ما شرطه الدافع.
أرأيت لو أمره أن يعمل بها في الصيارفة فعمل بها في سوق آخر أو أمره أن يعمل في بيت فلان فعمل في غير ذلك المكان كان ضامنا ولا يكون ضامنا في شيء من ذلك بسبب اتحاد المصر ولو دفعه إليه على أن يعمل به في سوق الكوفة وقال له لا تعمل به إلا في السوق فعمل به في غير السوق فهو مخالف ضامن لأنه منعه من التصرف بقوله لا تعمل به واستثنى تصرفا مخصوصا وهو ما يكون في السوق فما يكون على الوجه المستثني ينفذ منه ومالا فلا بخلاف الأول فهناك ما حجر عليه عن التصرف إنما أمره بالتصرف وقيد الأمر بشرط غير مفيد فلا يعتبر تقييده وينفذ تصرفه باعتبار صحة الأمر.
ولو قال: خذه مضاربة تعمل به في الكوفة أو قال فاعمل به في الكوفة فعمل به في غير الكوفة فهو ضامن لأن قوله تعمل به تفسير لقوله خذه مضاربة والكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير وقوله فاعمل به في معنى التفسير أيضا لأن الفاء للوصل والتعقيب والذي يتصل بالكلام المبهم ويتعقبه تفسير وكذلك لو قال خذ مضاربة بالنصف بالكوفة لأن الباء للإلصاق فذلك يقتضي أن يكون موجب كلامه ملصقا بالكوفة وموجب كلامه العمل بالمال وإنما يتحقق إلصاقه بالكوفة إذا عمل بها وكذلك لو قال خذه مضاربة بالنصف في الكوفة لأن حرف في للظرف والمكان إنما يكون ظرفا للعمل إذا كان حاصلا فيه فهذا كله اشتراط العمل في الكوفة وقد بينا أن هذا شرط مفيد.
ولو قال: خذه مضاربة بالنصف واعمل به في الكوفة فله أن يعمل به حيث شاء لأن الواو للعطف والشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره وقد تكون الواو للابتداء خصوصا بعد الجملة الكاملة وقوله خذه مضاربة بالنصف جملة تامة وقوله واعمل عطف أو ابتداء فيكون مشورة أشار به عليه لا شرطا في الأول.(22/73)
فإن قيل: لماذا لم يجعل بمعنى الحال كما في قوله أد إلي ألفا وأنت حر.
قلنا: لأنه غير صالح للحال هنا فحال العمل لا يكون وقت الأخذ وإنما يكون العمل بعد الأخذ مع أن الواو تستعار للحال مجازا وإنما يصار إليه للحاجة إلى تصحيح الكلام والكلام صحيح هنا باعتبار الحقيقة فلا حاجة إلى حمل حرف الواو على المجاز ولو قال خذه مضاربة على أن تشتري به الطعام أو قال فاشتر به الطعام أو قال تشتري به الطعام أو قال خذه مضاربة بالنصف في الطعام فهذا كله بمعنى الشرط كما في الأول وهو شرط مفيد وقد يكون المرء مهتديا إلى التصرف في الطعام دون غيره فيعتبر التقييد ثم يصرف لفظ الطعام في هذا الموضوع إلى الحنطة والدقيق خاصة ليس له أن يشتري به غيرهما لأنه ذكر لفظ الطعام عند ذكر الشراء وذلك ينصرف إلى الحنطة والدقيق خاصة باعتبار عرف الناس فإن بائع الطعام في عرف الناس من يبيع الحنطة ودقيقها وسوق الطعام الموضع الذي يباع فيه(22/74)
ص -38- ... الحنطة ودقيقها وقد قررنا هذا في الإقرار والأيمان وله أن يستأجر ببعضه شيئا يجوز فيه الطعام أو يبيعه فيه أو سفينة ليحمل فيها الطعام من مصر إلى مصر أو دواب لأن هذا كله من صنع التجار في الطعام ولا يجد منه بدا فلما أمره صاحب المال بذلك مع علمه إنه لا يجد بدا من ذلك فقد صار إذنا له بجميع ذلك وكذلك كل صنف سماه فهو عليه خاصة لأنه تقييد مفيد فإن اشترى غيره فهو ضامن للخلاف.
وكذلك لو قال: خذه مضاربة في الرقيق فليس له أن يشتري به غير الرقيق لما بينا أن حرف في للظرف ولا يتحقق ذلك إلا من حيث العمل في الرقيق وله أن يشتري ببعضه كسوة للرقيق وطعاما لهم وما لا بد لهم منه ويستأجر ما يحملهم عليه لأن التاجر في الرقيق يحتاج إلى هذا كله عادة فيكون هذا من توابع التجارة في الرقيق وبمباشرة البيع لا يصير مخالفا ولو قال خذه مضاربة بالنصف واشتر به البر وبع فله أن يشتري به ما بدا له من البر وغيره لأن قوله واشتر به البر مشورة وليس بشرط وكذلك لو قال واشتر به من فلان أو قال وانظر فلانا وعامله فيه واشتريه البر وبع لأن هذا مشورة لا شرط فيبقى الأمر الأول بعده على إطلاقه ولو دفع إليه مضاربة على أن يشتري من فلان ويبيع منه فليس له أن يشتري من غيره ولا أن يبيع من غيره لأن هذا تقييد بشرط مفيد والناس يتفاوتون في المعاملة في الاستقضاء والمساهلة ويتفاوتون في ملاءة الذمة وقضاء الديون ولو دفعه إليه مضاربة على أن يشتري به من أهل الكوفة ويبيع فاشترى وباع بالكوفة من رجل ليس من أهل الكوفة فهو جائز لأن مقصوده هنا تقييد العمل بالكوفة لا تعيين من يعامله وتقييد ذلك بأهل الكوفة لأن طريق جميع أهل الكوفة في المعاملة وقضاء الديون لا يتفق فعرفنا أن مراده تقييد التصرف بالكوفة وقد وجد ذلك سواء تصرف بالكوفة مع أهل الكوفة أو مع الغرباء بها.(22/75)
وكذلك لو دفعه إليه مضاربة في الصرف على أن يشتري من الصيارفة ويبيع كان له أن يشتري من غير الصيارفة وما بدا له من الصرف لأنه لما لم يعين شخصا لمعاملته عرفنا أنه ليس مراده إلا التقييد بالمكان وإذا دفع الرجل ما لا مضاربة بالنصف فاشترى به حنطة فقال رب المال دفعته إليك مضاربة في البر وقال المضارب دفعته إلى مضاربة ولم يقل شيئا فالقول قول المضارب مع يمينه عندنا وقال زفر رحمه الله القول قول رب المال ولو قال المضارب أمرتني بالبر وقد خالفت فالربح لي وقال رب المال لم أسم شيئا فالقول قول رب المال والربح بينهما على الشرط بالاتفاق فزفر رحمه الله يقول الإذن يستفاد من جهة رب المال ولو أنكر الإذن أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أقر به بصفة دون صفة وقد تقدم نظيره في
الإجارات إذا قال الحائك أمرتني بستة في أربعة وقال رب الغزل أمرتك بسبعة في خمسة إن القول قول رب الغزل وكذلك المعير مع المستعير إذا اختلفا في صفة الإعارة كان القول فيه قول المعيروالوكيل مع الموكل إذا اختلفا كان القول قول الموكل فهذا مثله
وحجتنا في ذلك أن مطلق المضاربة يقتضي العموم لأن المقصود تحصيل الربح وتمام(22/76)
ص -39- ... ذلك باعتبار العموم في التفويض للتصرف إليه والدليل عليه إنه لو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف يصح ويملك به جميع التجارات فلو لم يكن مقتضى مطلق العقد العموم لم يصح العقد إلا بالتنصيص على ما يوجب التخصيص كالوكالة وإذا ثبت أن مقتضى مطلق العقد العموم فالمدعي لإطلاق العقد متمسك بما هو الأصل والآخر يدعي تخصيصا زائدا فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كما في البيع إذا ادعى أحدهما شرطا زائدا من خيار أو من أجل وبه يتضح الفرق بين هذا وبين ما استشهد زفر رحمه الله مع أنه لا فرق فإن هناك كل واحد منهما يدعي التخصيص بشيء آخر.
وفي المضاربة: لو ادعى أحدهما التقييد بالبر والآخر بالحنطة كان القول فيه قول رب المال أيضا لأنهما اتفقا على تغيير مطلق العقد فبعد ذلك القول قول رب المال باعتبار أن الإذن يستفاد من جهته فأما هنا فأحدهما متمسك بما هو مقتضي العقد فيترجح قوله لذلك فإن أقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى من تجارة خاصة أخذ ببينته لأنه أثبت بالبينة ما يعين مقتضي العقد وهو محتاج إلى إثبات ذلك ولو دفع إليه مالا مضاربة بالنصف ولم يقل شيئا ثم قال له رب المال بعد ذلك لا تعمل بالمال إلا في الحنطة فليس له أن يعمل به إلا في الحنطة لأن تقييده الأمر بعد الدفع مضاربة لتقييده بذلك عند الدفع وهذا لأن رأس المال ما دام في يد المضارب نقدا فرب المال يملك نهيه عن التصرف فيملك تقييد الأمر بنوع دون نوع لأن من يتمكن من دفع شيء أصلا يتمكن من تغيير وصفه بطريق الأولى وبعد ما صار المال عروضا لو قال لا تعمل به إلا في الحنطة لا يعتبر تقييده هذا ما لم يصر المال في يده نقدا لأنه لا يملك نهيه عن التصرف بعد ما صار المال عروضا ولو نهاه لا يعمل نهيه ما لم يصر المال في يده نقدا فكذلك لا يملك تغيير صفة الأمر بالتقييد.(22/77)
وإن كان اشترى ببعض المال ثيابا ثم أمره بأن لا يعمل في المال إلا في الحنطة فليس له أن يشتري بما بقي في يده من المال إلا في الحنطة اعتبارا للبعض بالكل وأما الثياب فله أن يبيعها بما بدا له لأنه إذا رجع إليه رأس المال الذي كان نقد في الثياب فليس له أن يشتري به إلا الحنطة وذلك التقييد بعمل الآن اعتبارا للبعض بالكل ولو دفع إلى رجلين مالا مضاربة وأمرهما بأن يعملا في ذلك برأيهما فليس لواحد منهما أن يشتري ويبيع إلا بأمر صاحبه لأنه رضى وفوض الأمر في العمل إلى رأيهما ورأى الواحد لا يكون كرأي المثنى فباعتبار هذه الزيادة لا ينفذ تصرف أحدهما وحده وفي الوكيلين الجواب كذلك ولو دفع إليه المال مضاربة بالنصف ولم يقل شيئا ثم قال بعد ذلك اشتر به البر وبع فله أن يشتري به غيره وليس هذا بنهي إنما هو مشورة كما لو قال عند الدفع خذه مضاربة بالنصف واشتر به البر وإن قال رب المال دفعته إليك مضاربة في الطعام خاصة وقال المضارب في البر خاصة فالقول قول رب المال لاتفاقهما على تعيين مقتضي مطلق العقد بالتقييد.
وإن أقام المضارب البينة أن رب المال دفع إليه المال وأمره أن يشتري ما بدا له وأقام(22/78)
ص -40- ... رب المال البينة أنه نهاه أن يشتري به شيئا غير الطعام وقد وقتت البينتان فإنه يؤخذ ببينة الوقت الأخير لأنه لا تنافي بينهما فيجعل كان البينتين صدقتا والقول الآخر ينقض الأول لأن النهي بعد الإذن صحيح والإذن بعد النهي عامل وإن لم توقت البينتان وقتا أو وقتت إحداهما دون الأخرى فالبينة بينة رب المال لأنه هو المحتاج إليها فإن القول قول المضارب لدعواه الإطلاق ولأن في بينة رب المال زيادة إثبات التقييد ولو كان ادعى كل واحد منهما شيئا خاصا وأقام البينة فإن وقتت البينتان أخذ بالوقت الأخير لما بينا أن الثاني ينقض الأول وإن وقتت إحداهما أو لم توقتا فالبينة بينة المضارب لأنه هو المحتاج إلى إثبات ما ادعاه بالبينة فإن القول قول رب المال في هذا الفصل.
ولو دفعه إليه مضاربة على أن يشتري بالنقد ويبيع فليس له أن يشتري إلا بالنقد لأن هذا تقييد مفيد في حق رب المال وهو أن يكون متمكنا من ماله مستردا فإن قال المضارب أمرتني بالنقد والنسيئة وقال رب المال أمرتك بالنقد فالقول قول المضارب مع يمينه عندنا لأنه يدعي ما هو مقتضى مطلق العقد والبينة بينة رب المال لأنه هو المحتاج إلى إثبات المعين بالبينة ولو أمره أن يبيع بالنسيئة ولا يبيع بالنقد فباع بالنقد فهو جائز لأن هذا خير لصاحب المال والخلاف إلى خير في جنس ما أمره به لا يكون خلافا في المضاربة كما لو أمره بأن يبيعه بألف درهم ولا يبيعه بأكثر من ألف فباعه بألفين لا يصير مخالفا وهذا لأنه باشر ما به يحصل مقصود الآمر وزيادة خير فكذلك إذا أمره بالبيع نسيئة فباعه بالنقد قالوا وهذا إذا باعه بالنقد بمثل قيمته أو أكثر أو بمثل ما سمي له من الثمن فإن كان بدون ذلك فهو مخالف لأنه ليس فيه تحصيل مقصود الآمر في القدر فالشيء يشتري بالنسيئة بأكثر مما يشتري به بالنقد.(22/79)
وإذا دفعه إليه مضاربة على أن يشتري به الطعام خاصة فله أن يستأجر لنفسه دابة إذا خرج للطعام خاصة كما يستأجر للطعام لأنه لا يجد بدا من ذلك فهو من توابع تجارته في الطعام وله أن يشتري دابة يركبها إذا سافر كما يشتري التجار لأن ركوبه إذا سافر في مال المضاربة كنفقته على ما نبينه في بابه إن شاء الله عز وجل وربما يكون شراء الدابة أوفق من استئجاره وذلك من صنع التجار عادة وله أن يشتري أيضا حمولة يحمل عليها الطعام فإن ذلك من صنع التجار عادة إذا لم يوجد الكراء أو يكون الشراء أوفق في ذلك من الكراء فإن اشترى سفينة يحمل عليها الطعام فإن ذلك لا يجوز على رب المال لأن هذا ليس من صنع التجار عادة ولا يعد شراء السفينة من توابع التجارة في الطعام فإن كان في بلد يشتري للطعام الحمولة فيحمل عليها فاشترى شيئا من الحمولة فهو جائز استحسانا في القياس شراء الحمولة ليس من التصرف في الطعام ولكنه استحسن فقال ما يصنعه التجار عادة إذا خرجوا في حمولة الطعام فذلك يملكه المضارب بتفويض التصرف إليه في هذا المال في الطعام وما ليس من صنع التجار عادة كشراء السفينة يؤخذ بأصل القياس فيه ويكون مشتريا ذلك لنفسه فإن نقد ثمنها من المضاربة فهو ضامن لما نقد لأنه قضى بمال المضاربة دين نفسه(22/80)
ص -41- ... ولو كان رب المال دفع المال إليه مضاربة بالنصف ولم يسم فاشترى بها طعاما وسفينة يحمل عليها الطعام أو اشترى دواب جاز ذلك على المضاربة لأنه يملك التجارة في المدفوع إليه هنا مطلقا وجميع ما اشترى من عقود التجارة وإذا اختلفا بعد ما اشترى بها في غير المصر فقال أحدهما كانت المضاربة على أن يكون الشراء والبيع في المصر خاصة وقال الآخر لم يسم شيئا فالقول قول الذي لم يسم شيئا لتمسكه بمطلق العقد في مقتضاه والبينة بينة الآخر لأنه هو المدعي المحتاج إلى إثبات ما يدعيه بالبينة وإذا دفع إلى رجلين ألف درهم مضاربة ليس لواحد منهما أن يتصرف في المال إلا بإذن صاحبه فهو جائز وقد زعم بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أن ذلك لا يجوز لأن صاحب المال ما رضي برأي أحدهما فليس للمضارب أن يرضى بما لم يرض رب المال به وما ذكره في الكتاب أصح لأن الذي أذن لصاحبه في التصرف يكون كالموكل وللمضارب أن يوكل ولو وكل إنسانا واحدا بالتصرف نفذ تصرف الوكيل بيعا وشراء فكذلك إذا وكل أحدهما صاحبه.
وإن أبضع أحدهما بعض المال بغير أمر صاحبه فاشترى المستبضع وباع وربح أو وضع فربح ذلك للمضارب الذي أبضع ووضيعته عليه لأن إبضاعه صحيح في حق نفسه غير صحيح في حق صاحبه ولا في حق رب المال فيجعل تصرف المستبضع له كتصرفه بنفسه ولرب المال أن يضمن إن شاء المستبضع ويرجع به المستبضع على الآمر وإن شاء ضمن المضارب الآمر لأن كل واحد منهما في حقه غاصب فإن ضمنه لم يرجع على المستبضع بشيء لأنه ملك المال بالضمان فإنما أبضع ملك نفسه ولأن المستبضع عامل له لو لحقه ضمان رجع به عليه ورجوع الآمر عليه بالضمان لا يفيده شيئا فإن أذن كل واحد من المضاربين لصاحبه في أن يبضع ما شاء من المال فأبضع أحدهما رجلا وأبضع الآخر رجلا فذلك جائز عليهما وعلى رب المال لأن فعل كل واحد منهما بإذن صاحبه بمنزلة فعلهما جميعا.(22/81)
وإن باع المضاربان عبدا من رجل فلكل واحد منهما أن يقبض نصف الثمن من المشتري وإن لم يأذن له شريكه في ذلك لأن كل واحد منهما بائع للنصف وحق قبض الثمن إلى العاقد والعاقد في ذلك لغيره كالعاقد لنفسه ولا يقبض أكثر من نصف الثمن إلا بإذن شريكه فإن أذن له شريكه في ذلك فهو جائز كما لو وكل به غيره لأن حق قبض النصف الآخر للشريك ولو قال لهما حين دفع المال إليهما مضاربة لا تبضعا المال فأبضعاه فهما ضامنان له لأن هذا نهي مفيد فيكون عاملا مع العقد وبعده وإن أبضعاه رب المال فهو جائز على المضاربة لأن قبول رب المال البضاعة منهما والشراء لهما به فسخ منه لذلك النهي فيكون بمنزلة ما لو أذن لهما في الإبضاع أو كان العقد مطلقا وفي ذلك لا فرق بين أن يبضعا رب المال أو غيره.
وإذا أبضع المضارب في المضاربة الفاسدة فهو جائز على رب المال لأن الفاسد يعتبر بالجائز في الحكم فإنه لا يمكن تعرف معرفة الحكم الفاسد إلا باعتباره بالجائز فكما لا يصير مخالفا به في المضاربة الجائزة فكذلك لا يصير مخالفا في المضاربة الفاسدة وللمضارب(22/82)
ص -42- ... أجر المثل فيما عمل المستبضع لأن عمل المستبضع له بأمره كعمله بنفسه وقد بينا إن له في المضاربة الفاسدة أجر مثله فيما عمل وكذلك لو كان قال له اعمل فيه برأيك فإنه ينفذ منه بعد هذا ما ينفذ في المضاربة الصحيحة فلا يصير به ضامنا ولو دفع إلى رجلين ألف درهم مضاربة على أن لأحدهما ثلث الربح وللآخر مائة درهم فثلث الربح للمضارب الذي شرط له ثلث الربح وما بقي من الربح فهو لرب المال وعليه أجر المثل للمضارب الآخر فيما عمل لأن المضاربة فيما بينه وبينه فاسدة باشتراطه له مقدارا مسمى من المال وهذا المفسد غير ممكن فيما هو من صلب العقد بينه وبين الذي شرط له ثلث الربح فاستحق هو ثلث الربح بالشرط لصحة العقد بينهما فإن لم يعملا به حتى أبضع أحدهما المال مع صاحبه فعمل به أيهما كان فكذلك الجواب لأنا قد بينا أن عمل أحدهما بإذن صاحبه كعملهما إذا كان العقد صحيحا في حقهما أو فاسدا فكذلك إذا كان صحيحا في حق أحدهما فاسدا في حق الآخر والمضارب الذي شرط له مائة درهم أجر مثله في العمل بنصف المال سواء كان هو العامل أو صاحبه لأن عمله في النصف لصاحبه وعمل صاحبه في النصف له فيكون كعمله بنفسه.(22/83)
وإذا باع المضارب متاع المضاربة وسلمه إلى المشتري ثم أخر الثمن عن المشتري بعيب أو غير عيب فهو جائز على المضاربة ولا يضمن المضارب بهذا التأخير شيئا بخلاف الوكيل فهناك عند أبي يوسف رحمه الله لا يصح تأجيله في الثمن وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز ويصير ضامنا للموكل لأن المضارب يملك أن يشتري ما باع بمثل ذلك الثمن ثم يبيعه بمثله مؤجلا فكذلك يملك أن يؤجله في ذلك الثمن لأن ذلك من صنع التجار وهو يملك ما هو من صنع التجار فأما الوكيل في حق الموكل لا يملك الشراء والبيع ثانيا بثمن مؤجل فكذلك تأجيله في حق الموكل لا يصح وكذلك لو أحال به المضارب على إنسان أيسر من المشتري أو أعسر منه لأن قبول الحوالة من صنع التجار ولو أقال العقد مع الأول ثم باعه بمثله من المحتال عليه جاز فكذلك إذا قبل الحوالة بالثمن عليه وبه فارق الوكيل والمضارب في هذه ليس نظير الأب والوصي فإن قبولهما الحوالة على من هو أعسر من المحيل لا يصح في حق الصغير لأن تصرفهما مقيد بشرط الأحسن والأصلح له وذلك لا يوجد في قبول الحوالة على من هو أفلس وتصرف المضارب غير مقيد بمثله بل بما هو من صنع التجار عادة وذلك يوجد هنا.
وكذلك لو حط شيئا بعيب مثل ما يحط التجار في مثل ذلك العيب أو يتغابن به الناس فذلك جائز لأنه من صنع التجار عادة ولو قبله بالعيب ثم باعه منه بغبن يسير ثانيا جاز فكذلك إذا حط عنه هذا المقدار وإن حط عنه شيئا فاحشا أو حط بغير عيب جاز ذلك على المضارب خاصة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهو ضامن ذلك لرب المال وما قبضه من الثمن فعمل به فهو على المضارب خاصة ورأس المال في ذلك الذي قبضه من المشتري وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز هذا الحط لأن هذا الحط ليس من صنع التجار فلا يملكه(22/84)
ص -43- ... بمقتضى عقد المضاربة ولكنه هو العاقد فيكون في هذا الحط كالوكيل بالبيع والحط والإبراء عن الثمن من الوكيل بالبيع باطل في قول أبي يوسف رحمه الله صحيح في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ضامن ذلك للموكل وفي مقدار ما صار ضامنا يبطل حكم المضاربة لأن شرط المضاربة الصحيحة أن يكون رأس المال أمانة في يد المضارب.
وإذا قال رب المال للمضارب اعمل فيه برأيك فخلطه بماله ثم اشترى به جاز على المضاربة لأنه بتعميم التفويض إلى رأيه يملك الخلط بماله فلا يصير به مخالفا ولو لم يقل له اعمل فيه برأيك كان هو بالخلط مخالفا ضامنا للمال والربح له والوضيعة عليه لبطلان حكم المضاربة بفوات شرطها فإن لم يخلطه ولكنه اشترى به وبألف من ماله عبدا واحدا وقبضه ونقد الثمن قبل أن يخلط فهو جائز على المضاربة كما لو اشترى نصف العبد بألف المضاربة في صفقة ونصفه بمال نفسه في صفقة أخرى إذ لا فرق بينهما في المعنى وهذا لأن الاختلاط إنما يحصل حكما إما لاتحاد الصفقة أو لاتحاد المحل من غير فعل من المضارب في الخلط وبمثله لم يصر مخالفا ضامنا كما لو اشترى العبد بألفين ينفذ شراؤه في النصف على المضاربة وإن باع العبد بألفين وقبضه مختلطا فهو جائز على المضاربة لما بينا أن الاختلاط بمعنى حكمي لا بفعل باشره المضارب قصدا فإن عزل حصة المضارب ثم اشترى بأحد المالين فربح أو وضع فالربح لهما نصفه للمضارب ونصفه على ما اشترطا في المضاربة والوضيعة عليهما نصفان وقسمته باطلة لأنه لا يكون مقاسما لنفسه فلا يكون أمينا في المقاسمة مع نفسه وقد بينا في كتاب القسمة أن القسمة لا تتم إلا باثنين فكان هذا وشراؤه ببعض المال قبل القبض سواء والله أعلم
باب شراء المضارب وبيعه(22/85)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجلين ألف درهم مضاربة بالنصف وقال لهما اعملا برأيكما أو لم يقل فاشترى أحدهما بنصف المال بأمر صاحبه وباعه حتى أصاب مالا وعمل الآخر بنصف المال بغير أمر صاحبه حتى أصاب مالا فالعامل بغير أمر صاحبه مخالف ضامن لنصف رأس المال لأن صاحب المال فوض التصرف في المال إلى رأيهما ولم يرض برأي أحدهما فيه والعامل بغير أمر صاحبه ينفرد بالرأي فيه حقيقة وحكما فيكون مخالفا ضامنا وما يحصل بتصرفه من الربح له ويتصدق بالفضل لحصوله له بسبب حرام وأما الذي عمل بأمر صاحبه فتصرفه حاصل برأيهما حكما فيكون على المضاربة يؤخذ مما في يده نصف رأس المال والباقي بين المضاربين ورب المال على الشرط كما لو عملا فيه فإن توى ما في يد العامل بغير أمر صاحبه وهو معسر فإن رب المال يأخذ جميع رأس المال مما في يد المضارب الذي عمل بأمر صاحبه لأن الربح لا يظهر ما لم يصل إليه جميع رأس ماله وما أخذه العامل الآخر تاو فهو بمنزلة ما لو غصب بعض رأس المال إنسان أو استهلكه وتوى بدله عليه ثم عملا بما بقي وفي هذا يأخذ رب المال جميع رأس ماله ثم قسمه الربح بينهما بعد ذلك.(22/86)
ص -44- ... ألا ترى أنه لو هلك جميع المال إلا عشرة دراهم فتصرفا فيها حتى أصابا مالا فإنه يأخذ رب المال جميع رأس ماله أولا فهذا مثله.
فإن بقي من الربح شيء أخذ رب المال نصفه وأخذ هذا المضارب ربعه والربع الباقي نصيب المضارب المخالف من الربح فلا يدفع إليه لأن نصف رأس المال دين عليه وصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه من مال المديون يأخذه لحقه وإذا ظهر إنه لا يدفع إليه قلنا إن كان هذا الربع مثل ما توى من حصته من الربح أخذ رب المال والموافق ربع الربح الذي صار للمخالف فاقتسماه أثلاثا على مقدار حقهما في الربح وإن كان ما توى عليه أكثر من حصته من الربح أو أقل تراجعوا بالفضل وبيان ذلك إن المال الذي كان في يد الموافق إن كان ألفا وخمسمائة فأخذ رب المال رأس ماله ألفا بقي خمسمائة فيجمع إلى نصف رأس المال الذي استهلكه المضارب الآخر فيقسم على أربعة أسهم لرب المال من ذلك النصف وللمضارب العامل بأمر صاحبه الربع وذلك مائتان وخمسون وبقيت حصة المضارب الآخر وهو الربع وذلك مائتان وخمسون يحسب لهما عليه ويقسم رب المال والمضارب الآخر خمسمائة العين على ثلاثة أسهم ويرجعان على المضارب الذي استهلك نصف رأس المال بمائتين وخمسين درهما فيقسمانها على ثلاثة أسهم فإذا فعل ذلك وصل إلى رب المال خمسمائة وإلى المضارب الموافق مائتان وخمسون وسلم للآخر مما عليه مائتان وخمسون فاستقام الحساب ولو لم يهلك ما في يده ولكن هلك ما في يد العامل بأمر صاحبه فإن رب المال يضمن المضارب المخالف نصف رأس ماله ليس له غير ذلك لأن نصف رأس المال صار دينا عليه بالخلاف وتصرفه كان لنفسه ولو كان حين قبضا الألف مضاربة اقتسماها نصفين فاشترى أحدهما بنصف المال عبدا ثم أجاز صاحبه شراءه لم يكن العبد من المضاربة بإجازته لأن الإجازة إنما تعمل في العقد الموقوف والشراء هنا نافذ على المشتري فلا يكون إجازة الآخر تنفيذا للعقد فيكون وجوده كعدمه.(22/87)
ولو اشتريا جميعا بالألف عبدا ثم باعه أحدهما بثمن معلوم فأجازه صاحبه جاز لأن البيع من أحدهما توقف على إجازة الآخر باعتبار أنه تعذر تنفيذه على العاقد ولأن ملك العين لغيره فتكون إجازته في الانتهاء كإذنه في الابتداء وهو نظير فضولي باع مال الغير فأجازه المالك ينفذ بإجازته ولو اشترى لغيره ينفذ الشراء على العاقد ولا يتغير ذلك بإجازة المشتري له وكذلك لو أجازه رب المال لأن ملك العين لرب المال والمضارب الآخر عامل له في الإجازة فإذا كان العقد ينفذ بإجازة الآخر فبإجازة رب المال أولى والبائع هو الذي يلي قبض الثمن من المشتري لأن قبض الثمن من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد وليس للآخر أن يأخذ المشتري بشيء من الثمن إلا بوكالة من البائع لأن المشتري لم يعامله بشيء ولو كان أحدهما باع العبد بشيء بعينه فأجازه صاحبه ففي القياس لا تعمل إجازته لأن في بيع المقابضة كل واحد من العاقدين يكون مشتريا عرض صاحبه وقد بينا أن الشراء لا يتوقف على الإجازة كما لو اشتراه بالدراهم وإذا لم تعمل إجازته فيما اشتراه صاحبه فكذلك لا تعمل في البدل الآخر(22/88)
ص -45- ... وفي الاستحسان ينفذ العقد بإجازته ويكون بدله من المضاربة لأن في العرض الذي هو من جهته هو بائع وبيعه يتوقف على إجازة صاحبه وتجعل إجازته في الانتهاء بمنزلة إذنه في الابتداء فمن ضرورة أعمال إجازته في نفوذ العقد به في أحد البدلين أعماله في البدل الآخر ثم هذا العقد في أحد البدلين شراء وفي البدل الآخر بيع ولكنا رجحنا جانب البيع لأن العوض الآخر مذكور في العقد على وجه الثمن فإنهما قرنا به حرف الباء وحرف الباء يصحب الإبدال والأثمان وفي ترجيح جانب البيع بصحيح العقد على الوجه الذي قصد العاقد عند الإجازة وبقي الضمان على المتصرف والضمان لا يلزمه بالشك فلهذا رجحنا جانب البيع فإن لم يجز الآخر حتى قبض البائع ما باع به العبد فباعه ثم إن المضارب الآخر أجاز ما صنع من ذلك فإجازته باطلة لأنه أجاز ما أجاز بيعه قبل إجازته معناه أنه مشتر للعرض الآخر وأكثر ما فيه إنه اشتراه ببدل يستحق فيملكه بالقبض وينفذ بيعه من جهته وبعد ما نفذ بيعه من جهة لا يصير للمضاربة بإجازة الآخر فإذا بطلت الإجازة يسترد العبد من المشتري فيكون على المضاربة وعلى البائع ضمان الذي قبضه وباعه لأنه لما استحق ما يقابله ظهر أنه ملكه بالقبض بسبب فاسد وقد تعذر رده حين باعه فعليه مثله إن كان له مثل وقيمته إن لم يكن له مثل.(22/89)
ولو كان رب المال هو الذي أجاز بيع العبد بشيء بعينه قبل أن يحدث العامل في ثمنه شيئا جاز بيع العبد للعامل البائع وله ثمنه وهو ضامن قيمة العبد لرب المال لأنه كان اشترى العرض لنفسه وأعطى العبد بمقابلته قرضا على نفسه ورب المال مالك للإقراض فيصير بالإجازة كأنه أقرضه العبد واستقرض الحيوان وإن كان فاسدا ولكنه يملك بالقبض وينفذ فيه تصرف المستقرض وهو ضامن قيمته للمقرض وقد بطلت المضاربة لأنها صارت دينا على المضارب البائع وذلك ينافي عقد المضاربة ولم يحصل الحكم عند إجازة المضارب الآخر بهذه الصفة لأن المضارب الآخر لا يملك الإقراض في مال المضاربة فلا يمكن إعمال إجازته بطريق إقراض العبد من صاحبه فاشتغلنا بترجيح جانب البيع لأعمال إجازته ورب المال يملك الإقراض فأمكن أن يجعل إجازته إقراضا منه فلهذا لم يشتغل فيه بترجيح جانب البيع.
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى عبدا بألف درهم فلما قبضه قال اشتريته وأنا أنوي أن يكون بالمضاربة وكذبه رب المال والعبد قائم أو هالك فالقول قول رب المضارب لأن ما في ضميره لا يوقف عليه إلا من جهته فيقبل قوله فيه ويدفع مال المضاربة في ثمنه لأنه أمين فيما في يده من المال فيكون مقبول القول فيه كالوكيل بالبيع إذا قال بعت وقبضت الثمن وهلك في يدي يقبل قوله في ذلك فإن لم يدفعه حتى هلك المال ثم قال المضارب اشتريته وأنا أنوي المضاربة وقد كان الشراء قبل هلاك المال والعبد قائم أو هالك فالقول قول رب المال والعبد للمضارب لأن المضارب يريد بهذا البيان أن يرجع على رب المال بألف أخرى ليدفعه في ثمن العبد وهو لم يكن مسلطا من جهة رب المال على ذمته لالتزام المال فيها بخلاف الأول فهناك إنما يريد دفع الألف الذي في يده في ثمنه وهو مسلط على ذلك من جهة رب المال.(22/90)
ص -46- ... يوضحه أن هناك تملك هو دفع ما في يده بإنشاء الشراء للمضاربة فيملك ذلك بالإقرار به أيضا وفي هذا الفصل لا يملك إلزام شيء في ذمة رب المال بإنشاء الشراء للمضاربة لأن ذلك استدانة على رب المال والمضارب لا يملك ذلك فكذلك بطريق الإقرار.
وإن كان هذا القول من المضارب قبل هلاك المال وكذبه رب المال ثم هلك المال بعد ذلك فإن كان العبد قائما فالقول قول المضارب لأنه يملك دفع المال بمقابلة هذا العبد بطريق إنشاء الشراء فكذلك بطريق الإقرار وإن كان العبد هالكا حين قال المضارب هذا القول ثم ضاعت الألف بعد ذلك قبل أن ينقدها المضارب للبائع فالقول قول رب المال لأنه حين أقر ما كان يملك إنشاء الشراء في هذا العبد لكونه هالكا فلا يمكن جعل إقراره كالإنشاء وإنما أعملنا إقراره باعتبار إنه أمين فيما في يده من المال وذلك المعنى ينعدم بهلاك المال في يده قبل الدفع فكان القول قول رب المال وفي الفصل الأول كان عند الإقرار متمكنا من إنشاء الشراء في هذا العبد القائم فيجعل إقراره كإنشائه والمضارب إذا اشترى شيئا للمضاربة ثم هلك المال في يده قبل دفع الثمن رجع بمثله على رب المال لأنه في الشراء كان عاملا له فهذا مثله.
ولو كان المضارب اشترى العبد بألف المضاربة ثم نقد ثمنه من مال نفسه وقال اشتريته لنفسي وكذبه رب المال فالقول قول رب المال ويأخذ المضارب ألف المضاربة قصاصا بما أداه لأن الظاهر شاهد لرب المال فإضافة الشراء إلى الألف المضاربة دليل ظاهر على إنه قصد الشراء للمضاربة ثم لا يتغير ذلك الحكم بنقده الثمن من مال نفسه فقد يحتاج المضارب إلى ذلك لتعذر وصوله إلى المضاربة في الموضع الذي يطالبه البائع بإيفاء الثمن ولا يكون هو متبرعا فيما نقد من مال نفسه فيما اشتراه للمضاربة لأنه قضى به عليه ولكن يأخذ ألف المضاربة قصاصا بما أداه لأن ذلك صار دينا له على مال المضاربة.(22/91)
ولو كان اشترى العبد بألف درهم ولم يسم مضاربة ولا غيرها ثم قال اشتريته لنفسي فالقول قوله لأن الحكم هنا ينبني على قصده فإنه يملك الشراء للمضاربة ولنفسه بالألف المرسلة على السواء وما في ضميره لا يوقف عليه إلا من جهته فيكون هو مقبول القول فيه ولو اشترى المضارب عبدا بألف درهم ولم يسم شيئا ثم اشترى عبدا آخر بألف درهم ولم يسم شيئا ثم قال نويتها للمضاربة ولم ينقدها في واحد منهما وصدقه رب المال أو كذبه فيهما فالعبد الأول من المضاربة لأنه حين اشتراه كان في يده من مال المضاربة مثل ثمنه فصح شراؤه للمضاربة ويقبل قوله في ذلك وحين اشترى العبد الثاني هو لم يكن مالكا شراءه للمضاربة لأن مال المضاربة صار مستحقا في ثمن الأول فلو نفذ الشراء الثاني على المضاربة كان استدانة والمضارب لا يملك ذلك فصار مشتريا العبد الثاني لنفسه.
وإن قال رب المال: إنما اشتريت الثاني للمضاربة فالقول قوله لأنهما تصادقا على إنه اشترى العبد الثاني للمضاربة فيثبت ذلك بتصادقهما وذلك كالإقرار من المضارب أنه ما اشترى الأول للمضاربة فإذا ادعى إنه اشترى الأول للمضاربة كان مناقضا والمناقض لا قول له(22/92)
ص -47- ... بخلاف ما إذا صدقه رب المال فيهما أو في الأول لأنه مناقض صدقة خصمه وبخلاف ما إذا كذبه رب المال فيهما لأنه عند الشراء الأول كان هو مالكا الشراء للمضاربة بيقين فيجب قبول قوله فيه وإن كذبه وعند الشراء الثاني ما كان يملك ذلك بيقين فلا يقبل قوله في الثاني مع تكذيب رب المال إياه.
ولو كان المضارب اشترى العبدين صفقة واحدة كل واحد منهما بألف درهم ثم قال نويت كل واحد بالألف المضاربة وصدقه رب المال في ذلك فنصف كل واحد من العبدين للمضارب ونصفهما للمضاربة لأنه إنما اشتراهما معا فليس أحدهما بجعله للمضاربة بأولى من الآخر وليس قبول المضاربة في أحدهما بأولى منه في الآخر ولا يمكن تنفيذ شرائه لهما على المضاربة لما فيه من الاستدانة على المال فصار مشتريا نصف كل واحد منهما للمضاربة ونصفه لنفسه ولو قال رب المال اشتريت هذا بعينه للمضاربة كان القول قوله لتصادقهما إنه اشترى ذلك العبد للمضاربة وذلك يمنع المضارب من دعوى الشراء للمضاربة في العبد الآخر ولو قال المضارب اشتريتهما بألف من عندي وبألف من المضاربة فقال رب المال اشتريت هذا بعينه بألف المضاربة فالقول قول المضارب لأن رب المال يدعي تفرق الصفقة والمضارب منكر لذلك فالقول قوله ونصف العبدين على المضاربة ونصفهما للمضارب.(22/93)
وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف ثم نهاه بعد ذلك أن يبيع ويشتري فإن كان المال بعينه في يده فنهى رب المال جائز لأن عقد المضاربة لا يتعلق به اللزوم بنفسه فيملك رب المال فسخه بنهيه عن التصرف وهذا في الابتداء وكالة والموكل يملك عزل الوكيل قبل تصرفه فإن اشترى المضارب بعد ذلك فهو مشتر لنفسه لانفساخ المضاربة بنهي رب المال وإن كان رب المال نهاه بعد ما اشترى بالمال شيئا فنهيه باطل لأن المال بعد ما صار عروضا بتصرف المضارب قد ثبت فيه حقه في الربح فلا يملك رب المال إبطال حقه عليه بالنهي عن التصرف وبخلاف ما قبل الشراء فلا حق هناك للمضارب في المال الذي في يده ثم له أن يبيع ما في يده من العروض بما بدا له من العروض والمكيل والموزون ثم يبيع ذلك بما بدا له كما قبل نهى رب المال وهذا لأن مقصوده وهو الربح قد لا يحصل بالبيع بالنقد فقد لا يجد من يشتري ذلك منه بالنقد فيكون له أن يبيعه بما شاء ليحصل مقصوده من الربح الذي هو حقه فإن باع شيئا من ذلك بدراهم بما شاء أو دنانير لم يكن له أن يشتري لأن المال صار نقدا في يده فيعمل ذلك النهي بمنزلة ما لو كان نقدا في الابتداء حين نهاه عن التصرف ويستوي أن صار بعض المال أو جميعه نقدا في أن النهي يعمل فيما صار منه نقدا فلا يكون له أن يشتري به شيئا إلا أن له أن يبيع الدنانير بالدراهم حتى يوفي رب المال رأس ماله لأن النقود في حكم المضاربة جنس واحد على ما نبينه فيعمل النهي لذلك ولكن إنما يرد رأس المال على رب المال من جنس ما قبض حقيقة وحكما ولا يتهيأ له ذلك إلا بمبادلة أحد النقدين بالآخر وكذلك إن كان رأس المال سودا والحاصل في يده بيض فله أن يشتري بها مثل رأس المال(22/94)
ص -48- ... وكذلك لو مات رب المال فإن موته ونهيه سواء من حيث إن كل واحد منهما لا يعمل فيما يرجع إلى إبطال الحق الثابت للمضارب ولو دفع إليه مالا مضاربة وأجاز ما صنع في ذلك من شيء فاشترى بها خمرا أو خنزيرا أو ميتة أو مدبرا أو مكاتبا وهو يعلم أو لا يعلم فقبض ذلك ودفع الدراهم فهو ضامن للدراهم لأن رب المال إنما أمره بشراء ما يتمكن من بيعه والربح لا يحصل إلا بذلك وقد اشترى بها ما لا يجوز بيعه فيه فلا ينفذ شراؤه على المضاربة وإنما يكون مشتريا لنفسه سواء علم بذلك أو لم يعلم وإن نفذ فيه مال المضاربة فهو ضامن للخلاف.
ولو اشترى بالمضاربة عبدا شراء فاسدا أو اشترى بها دراهم أكثر منها أو أقل ودفع المال وقبض ما اشترى فلا ضمان عليه فيما دفع من مال المضاربة لأنه اشترى ما يملكه بالقبض ويجوز بيعه فيه فالمشتري شراء فاسدا يملك بالقبض فلا يمكن تضمينه بالخلاف لأنه لم يخالف والمضارب لا يضمن بالفساد كالوكيل ولو دفع إليه ألفا مضاربة وأمره أن يعمل في ذلك برأيه فاشترى بها عبدا يساوي خمسمائة فهو مخالف مشتر لنفسه ضامن للمال إن دفعه لأنه اشترى بما لا يتغابن الناس في مثله والمضارب في الشراء كالوكيل والوكيل لا يملك أن يشتري بما لا يتغابن الناس فيه.(22/95)
ولو اشترى العبد بألف درهم وهو يساوي تسعمائة وخمسين جاز على المضاربة لأن قدر الخمسين في الألف مما يتغابن الناس في مثله وذلك عفو في حق الوكيل بالشراء ولو اشترى بها عبدا يساوي ألفا ثم باعه بمائة درهم جاز في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه فيما يبيع بمنزلة الوكيل بالبيع ومن أصله أن الوكيل بالبيع يملك البيع بغبن فاحش وقد بينا هذا الفرق له في كتاب الوكالة ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن يشتري بها الثياب ويقطعها بيده ويخيطها على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فهو جائز على ما اشترطا لأن العمل المشروط عليه مما يصنعه التجار على قصد تحصيل الربح فهو كالبيع والشراء وكذلك لو قال له على أن يشتري بها الجلود والإدم ويخرزها خفافا ودلاء وروايا واجربة فكل هذا من صنع التجار على قصد تحصيل الربح فيجوز شرطه على المضاربة.
ولو دفع إليه مالا مضاربة على أنهما شريكان في الربح ولم يسم نصفا ولا غيره فهو جائز وللمضارب نصف الربح لأن مطلق الشركة يقتضي التسوية قال الله عز وجل {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}[النساء: 12] ولو قال على أن للمضارب شركا في الربح فكذلك في قول أبي يوسف رحمه الله إذ لا فرق بين الشرك والشركة في اقتضاء ظاهر اللفظ التسوية وقال محمد رحمه الله هذه مضاربة فاسدة لأنه بمعنى النصيب قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}[الاحقاف: 4] فكأنه قال على أن للمضارب نصيبا وذلك مجهول.
توضيحه: إن الشركة التي تقتضي التسوية ما يكون مضافا إلى الشريكين كما في قوله على أنهما شريكان وهنا أضاف الشركة إلى المضارب خاصة عرفنا أن المراد به النصيب.
وإذا دفع في مرضه ألف درهم مضاربة بالنصف فعمل المضارب فربح ألفا ثم مات رب(22/96)
ص -49- ... المال من مرضه ذلك وأجر مثل المضارب أقل مما شرط له من الربح فيما عمل وعلى رب المال دين يحيط بما به فللمضارب نصف الربح يبدأ به قبل دين المريض لأن عقد المضاربة قد صح فنصيب المضارب من الربح لم يكن مملوكا لرب المال قط حتى يكون إيجابه للمضارب بطريق الوصية بخلاف الأجرة فإنه يستحق الأجرة على المستأجر فيعتبر ما زاد على أجر مثله بعد الدين بطريق الوصية وهذا لأنهما شريكان في الربح واحد الشريكين لا يتملك على صاحبه شيئا إنما يملك كل واحد منهما حصته من الربح كما حدث ابتداء.
توضيحه: أن المشروط له بعض ما يحدث بعمله وهو يملك أن يجعل جميع ذلك له بأن يقرضه المال ليتصرف فيه لنفسه فيكون ربحه كله له لا سبيل للغرماء وورثة المريض عليه فلان يملك جعل بعض الربح له بطريق المضاربة أولى ولو لم يكن سمى للمضارب ربحا كان له أجر مثل عمله ذلك دينا على المريض كسائر الديون فيضرب به مع الغرماء في تركته ولا حق له في شيء من الربح ليستحق التقديم فيه على سائر الغرماء.(22/97)
ولو دفع الصحيح ألف درهم مضاربة إلى مريض على أن للمضارب عشر الربح وأجر مثله خمسمائة فربح ألفا ثم مات من مرضه وعليه دين كثير فللمضارب عشر الربح لا يزاد عليه لأن الذي من جهته مالا حق فيه للغرماء والورثة وهو العمل بمنافعه ولو تبرع به بأن عمل لا على وجه المضاربة بل على وجه البضاعة لم يكن للغرماء والورثة سبيل على صاحب المال فإذا شرط لنفسه بمقابلة عمله شيئا كان ذلك أولى بالجواز وإن كان ذلك دون أجر مثله وإذا أراد المضارب أن يرد عبدا اشتراه بالعيب فطلب البائع يمين المضارب ما رضي بالعيب ولا عرضه على بيع منذ رآه فله ذلك لأنه لو أقر به تعذر الرد فإن نكل عن اليمين بقي العبد على المضاربة لأنه مضطر إلى هذا النكول فإنه لا يمكنه أن يحلف كاذبا وقد بينا في البيوع أن يكون الوكيل ملزما للموكل فيكون المضارب أولى وكذلك لو أقر المضارب بذلك لأن إقراره يتضمن لزوم البيع فيه فهو بمنزلة شرائه ابتداء وهو يملك ذلك بأن يقيله العقد ثم يشتريه ثانيا بخلاف الوكيل.(22/98)
ولو ادعى البائع الرضا على الآمر لم يكن له أن يستحلف المضارب ولا رب المال على ذلك لأن رب المال بمنزلة الموكل وقد بينا في كتاب البيوع إن دعوى الرضا على الموكل لا يوجب اليمين على الوكيل ولا على الموكل فكذلك في المضاربة ولو اشترى المضارب عبدا لم يره وقد رآه رب المال فللمضارب أن يرده بخيار الرؤية لأن رؤية رب المال لا تكون دليل الرضا منه به فإنه ما كان يعلم أن المضارب يشتري ذلك العبد بعينه لا عند رؤيته ولا عند عقد المضاربة وبعد الرؤية لو اشتراه رب المال وهو لا يعلم عند الشراء إنه ذلك العبد لا يسقط خيار رؤيته فإذا اشتراه مضاربة أولى أن لا يسقط الخيار بتلك الرؤية ولو رآه المضارب ثم اشتراه لم يكن لواحد منهما خيار وإن لم يره رب المال لأن المضارب عالم عند الشراء بأنه يشتري ذلك الذي رآه فالرؤية السابقة منه دليل الرضا به وفيما يبني على الرضا ولزوم العقد العاقد لغيره كالعاقد لنفسه(22/99)
ص -50- ... ولو كان رب المال قد علم أنه أعور قبل أن يشتريه المضارب فاشتراه المضارب وهو لا يعلم به فله أن يرده بالعيب لأن رب المال ما كان يعلم أن مضاربه يشتري ذلك العبد بعينه فعلمه بالعور لا يكون دليل الرضا منه بعيبه في ملك نفسه ولأن المضارب بمطلق العقد يستحق صفة السلامة فإنه ما كان يعلم بالعيب على العبد ولا علم لرب المال بعيبه فبفوات صفة السلامة يثبت له حق الرد والوكيل بشراء عبد بغير عينه بألف درهم بمنزلة المضارب في جميع ما ذكرنا ولو دفع إلى رجل مالا مضاربة على أن يشتري به عبد فلان بعينه ثم يبيعه فاشتراه المضارب ولم يره وقد رآه رب المال فلا خيار للمضارب فيه ولأن المضارب نائب عنه في الشراء ورؤية رب المال هنا دليل الرضا منه بذلك العيب حين أمر نائبه وكذلك لو كان المضارب رآه ولم يره رب المال فهذا كالأول في هذا الحكم.
ولو كان العبد أعور وقد علم به أحدهما لم يكن للمضارب أن يرده أبدا لأنه إن كان المضارب عالما به فهو ما استحق صفة السلامة بالإقدام على الشراء بعد علمه بالعيب وإن كان رب المال هو الذي علم به فأمره إياه بالشراء بعينه بعد علمه بعيبه دليل الرضا منه بالعيب ورضا رب المال معتبر في إسقاط خيار العيب للمضارب وكذلك الوكيل بشراء عبد بعينه إذا اشتراه وقد كان الآمر رآه أو علم به فليس للوكيل أن يرده لما قلنا وإذا دفع إليه مالا مضاربة على أن يشتري به الثياب ويبيع فاسم الثياب اسم جنس للملبوس في حق بني آدم فله أن يشتري به ما شاء من ذلك كالخز والحرير والقز وثياب القطن والكتان والأكسية والانبجانيات والطيالسة ونحو ذلك وليس له أن يشتري المسوح والستور والأنماط والوسائد والطنافس ونحو ذلك لأن ذلك كله من جنس الفرش لا يتناوله اسم الثياب في العادة مطلقا والدليل عليه أن بايع هذه الأشياء لا يسمى ثيابا بل الثيابى في الناس من يبيع ما يلبسه الناس ومطلق اللفظ محمول على المفهوم عرفا.(22/100)
ولو دفعه على أن يشتري به البز فليس له أن يشتري به من ثياب الخز والحرير والطيالسة والأكسية شيئا وإنما يشتري ثياب القطن والكتان فقط لأن البراز في عرف الناس من يبيع ثياب القطن والكتان لا من يبيع الخز والحرير وهذا شيء مبناه على عرف الناس ليس من فقه الشريعة في شيء وإنما يعتبر فيه ما هو معروف عند الناس في كل موضع وإذا باع المضارب عبدا من المضاربة ثم قبله بعيب يحدث مثله بإقرار أو غيره بحكم أو إقالة فهو سواء وهو على المضاربة بخلاف الوكيل بالبيع لأن الوكيل بالبيع لا يملك الشراء للموكل ابتداء والمضارب يملك الشراء كما يملك البيع فقبوله بهذه الوجوه لا يكون فوق شرائه ابتداء فيجوز على المضاربة.
ولو أنكر المضارب العيب ثم صالحه منه على أن زاده مع العبد دينارا أو ثوبا أو نحو ذلك من المضاربة فهو جائز على رب المال إن كان مثل ذلك العيب أو أكثر مما يتغابن الناس فيه وإن كان أكثر مما لا يتغابن الناس فيه أبطلته لأن الصلح عن العيب على مثل هذا متعارف بين التجار والمضارب يملك ما هو من صنع التجار فأما الصلح على أكثر من حصة العيب(22/101)
ص -51- ... مما لا يتغابن الناس فيه فليس من صنع التجار بل هو كالبر المبتدأ ثم هو مأمور بالصلح لإصلاح مال المضاربة لا لإفساد المال وفي الصلح على مثل حصة العيب أو زيادة يسيرة إصلاح فأما في الصلح على أكثر منه مما لا يتغابن الناس فيه فإفساد به.
ولو اشترى المضارب بألف المضاربة من ولده أو والديه أو مكاتبه أو عبده وعليه دين يساوي ألف درهم فهو جائز على المضاربة وإن كان يساوي أقل منه مما يتغابن الناس فيه فهو مشتر لنفسه في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز على المضاربة إلا ما اشترى من عبده أو مكاتبه فإن قولهما في ذلك مثل قول أبي حنيفة رحمه الله وقد أطلق في الوكيل جواب هذه المسألة في كتاب البيوع ولم يفصل بين الشراء بمثل القيمة وبين الشراء بغبن يسير ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تقسيمه هنا تقسيم في الوكيل والخلاف في الفصلين في الشراء بغبن يسير فأما الشراء بمثل القيمة فجائز لأن أبا حنيفة رحمه الله يعتبر التهمة وذلك إنما يظهر عند الشراء بغبن يسير وفي حق الأجنبي ليس بينهما سبب موجب التهمة فيحمل شراؤه بغبن يسير على أنه خفي عليه ذلك وفي حق الآباء والأولاد بينهما سبب التهمة فيحمل ذلك على الميل إليه وإيثاره على الموكل كما في الشهادة فأما في الشراء بمثل القيمة فلا يتمكن معنى التهمة ومنهم من قال بل هذا التقسيم في المضارب فأما الوكيل فلا يملك الشراء من هؤلاء لموكله بمثل القيمة والفرق بينهما لأبي حنيفة رحمه الله أن المضارب شريك في الربح فيمنعه ذلك من ترك الاستقصاء والنظر وإن كان يعامل أباه أو ابنه لأنه يؤثر نفسه عليهما فلهذا جازت معاملته معهم بمثل القيمة فأما الوكيل فعامل للموكل ولا حق له فيما يشتريه فالظاهر إنه يترك الاستقصاء في المعاملة مع هؤلاء فلهذا لا ينفذ تصرفه معهم على الموكل.(22/102)
يوضحه: أن المضارب أعم تصرفا من الوكيل وقد يستبد بالتصرف على وجه لا يملك رب المال نهيه وهو بعد ما صار المال عروضا وقد يكون نائبا محضا في بعض الأحوال فلشبهه بالمستبد بالتصرف قلنا يجوز تصرفه مع هؤلاء بمثل القيمة ولشبهه بالنائب قلنا لا يجوز تصرفه معهم بغبن يسير فأما الوكيل فنائب محض وهو نائب في تصرف خاص فيكون متهما في تصرفه مع هؤلاء في حق الموكل وإن كان بمثل القيمة.
ولو كان العبد يساوي ألفا فأراد المضارب أن يبيعه مرابحة لم يبعه في قول أبي حنيفة رحمه الله حتى يبين وعندهما يبيعه مرابحة من غير بيان إلا ما اشتراه من مكاتبه وعبده المديون فإنه لا يبيعه مرابحة حتى يبين وقد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب البيوع.
ولو اشترى بألف المضاربة أباه أو أمه أو أخاه أو ولده ولا فضل على رأس المال فهو جائز على المضاربة لأن المضارب لا يملك شيئا منه إذا لم يكن في المال فضل فهو يتمكن من بيعه وقد بينا أن للمضارب أن يشتري للمضاربة ما يملك بيعه وإن كان فيه فضل يوم اشتراه فهو مشتر لنفسه لأنه لو نفذ شراؤه على المضاربة ملك منه مقدار حصته من الربح فيعتق(22/103)
ص -52- ... عليه ذلك الجزء ولا يمكنه بيعه وقد بينا أن المضارب لا يشتري للمضاربة ما لا يمكن بيعه فكان مشتريا لنفسه فعتق عليه وإن نقد ثمنه من مال المضاربة فهو ضامن لذلك لأنه قضى بمال المضاربة دين نفسه ولو اشترى أبا رب المال أو ابنه أو أخاه وفيه فضل أولا فضل فيه فهو مشتر لنفسه لأنه لو نفذ شراؤه على المضاربة ملكه رب المال وعتق عليه بالقرابة فلا يتمكن المضارب من بيعه وليس له أن يشتري بمال المضاربة ما لا يمكنه بيعه فكان مشتريا لنفسه.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فأمر رجلا أن يقبض من المديون جميع ماله عليه ويعمل به مضاربة بالنصف فقبض المأمور نصف ما على المديون ثم عمل به فهو جائز على المضاربة ورأس المال فيه ما قبضه اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأن الواو للعطف من غير أن تقتضي الترتيب فكان هو في كل جزء من المال مأمورا بالقبض والعمل به مضاربة فإذا قبض البعض وعمل به كان ممتثلا أمر رب المال ولو قال له اقبض جميع الألف التي لي على فلان ثم اعمل بها مضاربة كان مخالفا فيما صنع ضامنا للمال والربح له والوضيعة عليه لأن حرف ثم للتعقيب مع التراخي فهو أخر الأمر بالعمل مضاربة عن قبض جميع المال فما لم يقبض جميع الألف لا يأتي أو إن العمل بالمال مضاربة فإذا عمل بالبعض قبل أن يقبض الكل كان مخالفا.
ألا ترى إنه لو قال لزوجته اقبضي جميع المال الذي على فلان ثم أنت طالق فقبضت البعض دون البعض لم تطلق ولو قال اقبضي جميع المال الذي على فلان وأنت طالق طلقت للحال قبل أن تقبض شيئا إذا لم يزد الزوج واو الحال.(22/104)
وإذا دفع الرجل إلى الصبي أو إلى العبد المحجور عليه مالا مضاربة فاشترى به فربح أو وضع بغير إذن والد الصبي ومولى العبد جاز على رب المال والربح بينهما على ما اشترطا لأنه من أهل التصرف لكونه مميزا وإنما يلاقي تصرفه مال رب المال وهو راض بتصرفه ولو استعان به من غير شرط شيء من الربح له نفذ تصرفه في حقه فإذا شرط لهما نصيبا من الربح أولى لأن ذلك محض منفعة لهما والعبد والصبي لا يلحقهما الحجر بتمحض منفعة والعهدة في البيع والشراء على رب المال بمنزلة ما لو كانا وكيلين له بالبيع لأن في إلزام العهدة إياهما ضررا وهم محجوران عن اكتساب سبب الضرر فإذا تعذر إيجاب العهدة عليهما لزمت العهدة من ينتفع بهذا العقد بعدهما وهو رب المال ثم لا تنتقل العهدة إلى الصبي وإن كبر وتنتقل إلى العبد إذا عتق لأن العبد مخاطب من أهل إلزام العهدة في حق نفسه ولكن حق المولي كان مانعا من إلزام العهدة إياه فإذا زال المانع لزمته العهدة والصبي ليس من أهل إلزام العهدة أصلا فلا يلحقه ذلك وإن بلغ وهو بمنزلة الكفالة والإقرار.
ولو مات العبد في عمل المضاربة وقتل الصبي وهو في عمل المضاربة بعد ما ربحا فإن مولي العبد يضمن رب المال قيمة عبده يوم عمل في ماله مضاربة بأمره لأنه صار غاصبا له(22/105)
ص -53- ... باستعماله بغير إذن مالكه وإذا ضمن قيمته في ذلك الوقت ملكه بالضمان فجميع ما ربح العبد لرب المال دون مولي العبد لأن ذلك كسب اكتسبه العبد المغصوب والكسب للغاصب إذا ملك العبد بالضمان.
ألا ترى أن المضاربة لو كانت فاسدة كان للعبد أجر مثله في حياته فإذا مات غرم رب المال قيمته وبطل الأجر عنه فهذا مثله.
وأما الصبي إذا قتل في عمل رب المال بعد ما ربح فعلى عاقلة القاتل الدية وإن شاء ورثة الصبي ضمنوا عاقلة رب المال لأنه باستعماله صار متسببا لهلاكه وهذا سبب هو متعد فيه فيكون بمنزلة جنايته بيده في إيجاب الدية على قاتله بمنزلة من غصب صبيا حرا وقربه إلى مسبعة حتى افترسه السبع ثم يرجع على عاقلة رب المال بها على عاقلة القاتل لأنهم قاموا مقام ورثة الصبي حين ضمنوا لهم ديته وهذا لأن القاتل مباشر والمتسبب يرجع بما يلحقه من الضمان على المباشر لأنه هو الذي قرر عليه ذلك بمباشرته فكأنه ألزمه إياه ابتداء ثم يسلم لورثة الصبي حصته من الربح لأن الصبي الحر لا يملك بضمان الدية ولأن عاقلة رب المال إنما غرموا الدية بهلاك الصبي في عمله لرب المال لا لاستعمال رب المال إياه.
ألا ترى أن الصبي لو مات ولم يقتل كان رب المال بريئا من ديته فلهذا يسلم حصته من الربح لورثته.(22/106)
وإذا دفع الرجل إلى الرجلين ألف درهم مضاربة فمات أحدهما فقال الباقي منهما قد هلك المال فهو مصدق في نصف المال مع يمينه ولا ضمان عليه في شيء من المال لأنه مؤتمن فيما كان في يده فالقول قوله إذا أخبر بهلاكه مع يمينه وأما الميت فإن نصف مال المضاربة دين في ماله لأن نصف المال كان أمانة في يده وقد مات مجهلا والأمين بالتجهيل ضامن لأنه عند الموت يصير متملكا فيكون ضامنا وإذا دفع المسلم إلى النصراني مالا مضاربة بالنصف فهو جائز لأن المضاربة من المعاملات وأهل الذمة في ذلك كالمسلمين إلا أنه مكروه لأنه جاهل بشرائع الإسلام فلا نأمن أن يؤكله حراما أما لجهله أو لقصده فإنهم لا يؤدون الأمانة في حق المسلمين قال الله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}[آل عمران: 118] أي لا يقصرون في إفساد أمر دينكم ولأنه يتصرف في الخمر والخنزير ويعمل بالربا ولا يتحرز في ذلك فيكره للمسلم أن يكتسب الربح بتصرف مثله له ولكن مع هذا جازت المضاربة لأن الذي من جانب المضارب البيع والشراء والنصراني من أهل ذلك فإن اتجر في الخمر والخنزير فربح جاز على المضاربة في قول أبي حنيفة رحمه الله وينبغي للمسلم أن يتصدق بحصته من الربح وعندهما تصرفه في الخمر والخنزير لا يجوز على المضاربة وهو فرع الاختلاف الذي بينا في البيوع في المسلم يوكل الذمي بشراء الخمر والخنزير فإن اشترى ميتة فنقد فيها مال المضاربة فهو مخالف ضامن عندهم جميعا لأنه اشترى مالا يمكنه أن(22/107)
ص -54- ... يبيعه وإن تصرفهم في الميتة لا يكون نافذا والمضارب لا يشتري بمال المضاربة مالا يمكنه أن يبيعه وإن أربى فاشترى درهمين بدرهم كان البيع فاسدا لأنهم يمنعون من المعاملة بالربا لأنفسهم كما يمنعه المسلم منه ولكن لا يصير ضامنا لمال المضاربة والربح بينهما على الشرط لما بينا أن المضارب لا يصير مخالفا بإفساد العقد إذا كان هو يتمكن من بيع ما اشتراه والمشتري شراء فاسدا يملك بالقبض فينفذ البيع فيه ولا بأس بأن يأخذ المسلم مال النصراني مضاربة ولا يكره له ذلك لأن الذي يلي التصرف في المال هنا المسلم وهو يتحرز من العقود الفاسدة في تصرفه في مال غيره كما يتحرز عنه في تصرفه في مال نفسه فإن اشترى به خمرا أو خنزيرا أو ميتة ونقد المال فهو مخالف ضامن لأنه اشترى بمال المضاربة مالا يمكنه أن يبيعه فيكون مخالفا كما لو كان رب المال مسلما فإن ربح في ذلك رد الربح على من أخذه منه إن كان يعرفه لأنه أخذه منه بسبب فاسد فيستحق رده عليه وإن كان لا يعرفه تصدق به لأنه حصل له بكسب خبيث ولا يعطي رب المال النصراني منه شيئا لأن تصرفه ما وقع له حين اشترى ما لا يمكنه بيعه وصار به مخالفا.(22/108)
ولو دفع المسلم ماله مضاربة إلى مسلم ونصراني جاز من غير كراهة لأن النصراني هنا لا ينفرد بالتصرف ما لم يساعده المسلم عليه والمسلم لا يساعده في العقود الفاسدة والتصرف في الخمر بخلاف ما إذا كان المضارب نصرانيا وحده فإنه ينفرد بالتصرف هناك وإذا دفع الرجل ماله مضاربة إلى عبده وعليه دين أو إلى مكاتبه أو إلى ولده فهو جائز على ما اشترطا لأنه من كسب هؤلاء كالأجنبي فكسب العبد المستغرق بالدين حق الغرماء وإذا دفع رجل إلى رجلين ألف درهم مضاربة بالنصف فاشتريا بها عبدا يساوي ألفي درهم وقبضاه فباعه أحدهما بغير أمر صاحبه بعرض يساوي ألفا وأجاز ذلك رب المال فذلك جائز لأن المضارب مشتر ذلك العرض لنفسه مستقرض عبد المضاربة حين جعله عوضا عما اشتراه لنفسه ورب المال بالإجازة صار مقرضا العبد منه فتعمل إجازته بهذا الطريق ويكون على المضارب العامل قيمة العبد ألفي درهم ألف من ذلك يأخذها رب المال برأس ماله وألف أخرى ربحه يأخذ رب المال نصفها ونصفها بين المضاربين فيطرح عن العامل مقدار نصيبه من الربح وذلك ربع الألف ويغرم ما سوى ذلك وحق المضارب الآخر بيع لحق رب المال فلا يمتنع لأجله نفوذ إجازة رب المال في حصته.(22/109)
ولو كان المضارب باع العبد بألفي درهم وأجاز ذلك رب المال جاز على المضاربين ولا ضمان على البائع لأنه غير مشتر بمال المضاربة شيئا بل هو تابع لمال المضاربة واستقراضه في الفصل الأول كان ضمنا لشرائه لنفسه ولم يوجد ذلك هنا فكان فعله بيعا مطلقا إن أجازه صاحبه نفذ لاجتماع رأيهما عليه وإن أجازه رب المال نفذ لأن المضارب نائب عنه في التصرف وإذا كان ينفذ العقد بإجازة النائب فبإجازة المنوب عنه أولى ويؤخذ من المشتري الألفان فيكون ذلك على المضاربة بمنزلة ما لو باعاه جميعا ولو كان المضارب باع العبد بأقل من ألفين بقليل أو كثير بما يتغابن الناس في مثله أو لا يتغابن فيه فأجاز ذلك رب المال فإجازته باطلة لأن فيه نقصانا يدخل على المضارب الآخر(22/110)
ص -55- ... ألا ترى أنه لا ربح في المضاربة حتى يستوفي رأس المال فإن كان النقصان يدخل عليه لم يجز ذلك عليه إلا أن يرضى بالبيع فإذا لم يرض به رب العبد حتى يبيعه المضاربان جاز وحاصل المعنى أن الإجازة إنما تصح ممن يملك مباشرة العقد ورب المال لا يملك بيع مال المضاربة بغبن يسير مراعاة لحق المضارب في الربح فكذلك لا يملك إجازة البيع بغبن يسير من أحد المضاربين أو من أجنبي آخر وهو يملك مباشرة البيع بمثل القيمة فكذلك يملك إجازة بيع أحدهما بمثل القيمة وهذا لأن رب المال غير مسلط على هذا التصرف من جهة من له الحق وهو المضارب فيستوي في حقه الغبن اليسير والفاحش كالمريض في حق ورثته بخلاف الوكيل بالشراء فإنه مسلط على التصرف من جهة الموكل فيجعل الغبن اليسير عفوا في حقه بخلاف الوصي فهو مسلط على التصرف في حق الصبي شرعا فيقام ذلك مقام التسليط من جهته أن لو كان من أهله وعلى هذا لو كان رب المال هو الذي باعه وأجازه أحد المضاربين فإن كان باعه بمثل القيمة فهو جائز وإن باعه بدون القيمة بقليل أو كثير لم يجز حتى يجيزاه جميعا.
ولو كان أحد المضاربين باع العبد ببعض ما ذكرنا من الثمن فأجازه المضارب الآخر ولم يجز رب المال فهو جائز إن كان باعه بأقل من قيمته بما يتغابن الناس فيه وإن كان بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة ما لو كان باعاه جميعا وأصل المسألة في الوكيلين بالبيع والله أعلم.
باب نفقة المضارب(22/111)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل مالا مضاربة بالنصف فعمل به في مصره أو في أهله فلا نفقة له في مال المضاربة ولا على رب المال لأن القياس أن لا يستحق المضارب النفقة في مال المضاربة بحال فإنه بمنزلة الوكيل أو المستبضع عامل لغيره بأمره أو بمنزلة الأجير لما شرط لنفسه من بعض الربح وواحد من هؤلاء لا يستحق النفقة في المال الذي يعمل فيه إلا أنا تركنا هذا القياس فيما إذا سافر بالمال لأجل الصرف فبقي ما قبل السفر على أصل القياس وهذا لأن مقامه في مصره أو في أهله لكونه متوطنا فيه لا لأجل مال المضاربة.
ألا ترى أنه قبل عقد المضاربة كان متوطنا في هذا الموضع وكانت نفقته في مال نفسه فكذلك بعد المضاربة.
فأما إذا خرج بالمال إلى مصر يتجر فيه كانت نفقته في مال المضاربة في طريقه وفي المصر الذي يأتيه لأجل العادة وهذا لأن خروجه وسفره لأجل مال المضاربة والإنسان لا يتحمل هذه المشقة ثم ينفق من مال نفسه لأجل ربح موهوم عسى يحصل وعسى لا يحصل بل إنما رضي بتحمل هذه المشقة باعتبار منفعة تحصل له وليس ذلك إلا بالإنفاق من ماله الذي في يده فيما يرجع إلى كفايته بخلاف الوكيل والمستبضع فإنه متبرع في عمله لغيره غير طامع في شيء من ماله لأجله وبخلاف الأجير لأنه عامل له ببدل مضمون في ذمة المستأجر(22/112)
ص -56- ... وذلك يحصل له بيقين فأما هذا فغير متبرع ولا هو مستوجب بدلا مضمونا بل حقه في ربح عسى يحصل وعسى لا يحصل فلا بد من أن يحصل له بإزاء ما تحمل من المشقة شيء معلوم وذلك نفقته في المال وهو بمنزلة الشريك والشريك إذا سافر بمال الشركة فنفقته في ذلك المال وهو مروي عن محمد رحمه الله فالمضارب كذلك وهذا لأنه فرغ نفسه عن أشغاله لأجل مال المضاربة فهو كالمرأة إذا فرغت نفسها لزوجها بالمقام في بيته فأما في المصر فما فرغ نفسه لمال المضاربة فلا يستوجب نفقته فيه ونفقته طعامه وكسوته ودهنه وغسل ثيابه وركوبه في سفره إلى المصر الذي أتاه بالمعروف على قدر نفقة مثله لأن هذا كله مما لا بد منه في السفر.
وفي النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إن دهنه ليس من جملة النفقة وكأنهما أرادا به في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى استعمال الدهن عادة فتكون الحاجة إليه نادرة والثابت عرفا لا يثبت فيما هو نادر ومراد محمد رحمه الله إذا سافر إلى المواضع التي يحتاج فيها إلى استعمال الدهن عادة وذلك في ديار الحجاز والعراق ثم المستحق نفقة المثل وهو المعروف كما في نفقة الزوجة فإن أنفق أكثر من ذلك حسب له من ذلك نفقة مثله وكان ما بقي عليه في ماله فإذا رجع إلى مثله وقد بقي معه ثياب أو طعام أو غيره رده في مال المضاربة لأن استحقاقه قد انتهى برجوعه إلى مصره فعليه رد ما بقي كالحاج عن الغير إذا بقي معه شيء من النفقة بعد رجوعه وكالمولى إذا بوأ أمته مع زوجها بيتا ثم شغلها بخدمته وقد بقي معها شيء من النفقة كان للزوج أن يسترد ذلك منها فأما الدواء والحجامة والكحل ونحو ذلك ففي ماله خاصة دون مال المضاربة وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن ذلك كله في مال المضاربة لأن مال المضاربة مدة سفره في حاجته كمال نفسه فكما إنه يصرف مال نفسه في هذه الأشياء كما يصرف في النفقة فكذلك مال المضاربة.(22/113)
وجه ظاهر الرواية إنه إنما يستوجب النفقة في مال المضاربة وثمن الدواء وأجرة الحجام وما يحتاج إليه من العلاج ليس من النفقة.
ألا ترى أن الزوجة لا تستحق شيئا من ذلك على زوجها بخلاف النفقة ثم الحاجة إلى هذه الأشياء غير معتادة بل هي نادرة والنادر لا يستحق بطريق العادة وكذلك جارية الوطء والخدمة لا يحتسب بثمنها في المضاربة لأن ذلك ليس من أصول حوائجه بل يكون للترفه وقضاء الشهوة ولأن ما قصد لشرائها لا ترجع منفعته إلى مال المضاربة.
ولو استأجر أجيرا يخدمه في سفره وفي مصره الذي أتاه ليخبز له ويطبخ ويغسل ثيابه ويعمل له ما لا بد له منه احتسب بذلك على المضارب لأنه لو لم يستأجر احتاج إلى إقامة هذه الأعمال بنفسه فإنه ما لا بد له منه وإذا عمل له أجيره تفرغ هو للعمل في مال المضاربة فكان في هذا الاستئجار منفعة للمضاربة وكذلك لو كان معه غلمان له يعملون في المال كانوا بمنزلته ونفقتهم في مال المضاربة لأن نفقتهم كنفقته وهم يعملون له في المال كما يعمل هو(22/114)
ص -57- ... ومن يستحق نفقته على إنسان يستحق نفقة خادمه كالمرأة على زوجها إلا أنها لا تحتاج إلى الزيادة على خادم واحد في عملها للزوج في بيته وقد يحتاج المضارب إلى غلمان يعملون في المال معه فلهذا كانت نفقتهم في مال المضاربة وكذلك لو كان للمضارب دواب يحمل عليها متاع المضاربة إلى مصر من الأمصار كان علفها على المضاربة ما دامت في عملها لأنها بالعلف تتقوى على حمل المتاع ومنفعة ذلك راجعة إلى مال المضاربة وإذا أراد القسمة بدأ برأس المال فأخرج من المال وجعلت النفقة مما بقي فإن بقي من ذلك شيء فهو الربح يقسم بين المضارب ورب المال على ما اشترطا.
وكذلك لو كان أنفق في سفره من المال بعضه قبل أن يشتري به شيئا ثم اشترى بالباقي وباع وربح استوفى رب المال رأس ماله كاملا لأن ما أنفقه المضارب يجعل كالتاوي وقد بينا أن العقد يبقى في الكل بعد هلاك بعض رأس المال فيحصل جميع رأس المال وما بقي فهو بينهما على الشرط ولو دفع المال مضاربة إليه فخرج إلى السواد يشتري به الطعام وذلك مسيرة يوم أو يومين فأقام في ذلك المكان يشتري ويبيع فإنه ينفق في طريقه ومقامه في ذلك المكان من مال المضاربة وهذا ومسيرة ثلاثة أيام في المعنى سواء لأنه إنما فارق وطنه لعمله في مال المضاربة وكذلك لو أقام في هذا الموضع أيضا فيستوجب النفقة في مال المضاربة ولو كان في المصر الذي فيه أهله إلا أن المصر عظم أهله في أقصاه والمقام الذي يتجر فيه في الجانب الآخر وكان يقيم هناك ليتجر ولا يرجع إلى أهله فلا نفقة له في مال المضاربة لأن نواحي المصر في حكم ناحية واحدة.(22/115)
ألا ترى أن المقيم في ناحية من المصر يكون مقيما في جميع نواحيه وإذا خرج من أهله على قصد السفر لا يصير مسافرا ما لم ينفصل من عمران المصر وقد بينا أن مقامه في المصر لم يكن لأجل المضاربة وعلى هذا قيل لو كان يخرج للعمل إلى موضع قريب ويعود إلى أهله قبل الليل فإنه لا ينفق من مال المضاربة لأنه مقيم في أهله إذا كان خروجه إلى موضع لا يحتاج إلى أن يبيت في غير أهله.
ولو كان له أهل بالكوفة وأهل بالبصرة ووطنه فيهما جميعا فخرج بالمال من الكوفة ليتجر فيه بالبصرة فإنه ينفق من مال المضاربة في طريقه فإذا دخل البصرة كانت نفقته على نفسه ما دام بها فإذا خرج منها راجعا إلى الكوفة أنفق من مال المضاربة في سفره لأن سفره في الذهاب والرجوع لأجل المضاربة أما في البلدتين فهو مقيم في أهله وإقامته في أهله ليس لأجل المضاربة ففي البلدتين ينفق من مال نفسه.
ولو كان أهل المضارب بالكوفة وأهل رب المال بالبصرة فخرج بالمال إلى البصرة مع رب المال ليتجر فيه فنفقته في طريقه وبالبصرة وفي رجوعه إلى الكوفة من مال المضاربة لأن مقامه بالبصرة لأجل مال المضاربة إذ ليس له أهل بالبصرة لتكون البصرة وطن الإقامة له ويستوي إن نوى الإقامة بها خمسة عشر يوما أو أقل لأن التاجر في المال العظيم قد يحتاج(22/116)
ص -58- ... إلى هذا القدر من المقام في بلده لأجل التصرف في المال وبهذه النية تصير البصرة وطنا مستعارا له بخلاف ما لو كان له بها أهل أو تأهل بها لأنه حينئذ تصير البصرة وطن إقامته ولو دفع إليه المال مضاربة وهما بالكوفة وليست الكوفة بوطن للمضارب لم ينفق على نفسه من المال ما دام بالكوفة لأن إقامته بالكوفة على أي وجه كان ليس لأجل المضاربة.
ألا ترى أنه قبل عقد المضاربة كان مقيما بها فلا يستوجب النفقة في مال المضاربة ما لم يخرج منها فإن خرج منها إلى وطنه ثم عاد إليها في تجارته أنفق بالكوفة من مال المضاربة لأنه حين سافر بعد عقد المضاربة استوجب النفقة في مال المضاربة وصارت الكوفة في حقه كسائر البلدان لأن وطنه بها كان مستعارا وقد انتقض بالسفر فرجوعه بعد ذلك إلى الكوفة وذهابه إلى مصر آخر سواء فإن تزوج بها امرأة واتخذها وطنا زالت نفقته عن مال المضاربة لأن مقامه بها بعد ما تزوج بها واتخذها دارا لأجل أهله لا لأجل مال المضاربة فهي بمنزلة وطنه الأصلي.(22/117)
وإذا سافر المضارب بالمال فأعانه رب المال بغلمانه يعملون معه في المضاربة أو أعانه بدوابه لحمل المتاع الذي يشتري بالمضاربة عليها فإن المضاربة لا تفسد بهذا كما لو أعانه بنفسه في بعض الأعمال ونفقة الغلمان والدواب على رب المال دون مال المضاربة لأن نفقة غلمان رب المال وعلف دوابه كنفقة نفسه ورب المال لو سافر معه ليعينه على العمل في مال المضاربة لم يستوجب نفقة في مال المضاربة بهذا السبب فكذلك نفقة غلمانه ودوابه بخلاف غلمان المضارب ودوابه فإن نفقتهم كنفقته وهو يستوجب نفقة نفسه في مال المضاربة إذا سافر لأجله فكذلك نفقة غلمانه ودوابه فإن أنفق على غلمان رب المال ودوابه من مال المضاربة بغير أمر رب المال ضمنه من ماله بمنزلة ما ينفق على أجنبي آخر لأنه صرف مال المضاربة إلى وجه غير مستحق صرفه إليه بحكم المضاربة فيصير كالمستهلك لذلك المال وإن كان أنفقه بأمر رب المال حسب ذلك على رب المال لأنه صرف إلى ملكه بأمره بمنزلة صرفه إليه فيحسب ذلك على رب المال وفي الأصل أوضح هذا الفرق فقال لو لم أجعل نفقة غلمان المضارب في المضاربة جعلتها على المضارب لا محالة وكل نفقة تلحق المضارب في سفره في المضاربة فذلك في مال المضاربة ونفقة غلمان رب المال لو لم أجعلها في مال المضاربة كان ذلك على رب المال وهذا في المعنى اعتبار نفقة هؤلاء بنفقة نفسه على ما بينا.
ولو دفع المضارب مال المضاربة إلى عبده ليخرج به إلى مصر فيشتري به ويبيع فخرج به كانت نفقته في مال المضاربة لأن نفقة عبده كنفقته وهو لو خرج بنفسه أنفق من مال المضاربة فكذلك عبده إذا خرج.
ألا ترى أني لو لم أجعل نفقته على المضاربة جعلتها على المضارب ولو كان ذلك عبد رب المال بإعانته وإذنه فنفقته على مولاه ولا تكون على المضاربة بمنزلة ما لو خرج رب المال بنفسه على وجه الإعانة للمضارب في عمله فإن كان العبد أنفق على نفسه بأمر رب(22/118)
ص -59- ... المال فذلك محسوب على رب المال كما لو كان هو الذي أنفق على نفسه ولو أبضعه المضارب مع رجل لم يكن للمستبضع نفقة في مال المضاربة لأن المستبضع متبرع ولأنه لا يسافر عادة لأجل البضاعة بخلاف المضارب ولو أبضعه المضارب مع رب المال فعمل به فهو على المضاربة والربح بينهما على الشرط لأنه معين للمضارب متبرع فيما أقام من العمل فلا يفسد به عقد المضاربة بينهما كالشريكين في المال إذا عمل أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا ولا نفقة لرب المال على المضاربة لأنه بمنزلة المستبضع إذا كان أجنبيا.
وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة وأمره أن يعمل فيه برأيه فدفعه المضارب إلى آخر مضاربة فسافر الآخر بالمال إلى مصر ليشتري ويبيع فنفقته على المضاربة لأنه بمنزلة المضارب الأول فإن بعد قول رب المال اعمل فيه برأيك للمضارب أن يدفعه مضاربة ويقوم هو في ذلك مقام رب المال فكما أن نفقة المضارب الأول في سفره في مال المضاربة فكذلك نفقة المضارب الثاني وإذا دفع الرجل إلى رجل ألف درهم مضاربة فخرج المضارب فيها وفي عشرة آلاف من مال نفسه إلى مصر ليشتري بها ويبيع فإن نفقته على أحد عشر سهما جزء منها في مال المضاربة وعشرة أجزاء في مال نفسه لأنه يحتمل أن يكون خروجه لأجل مال المضاربة ويحتمل أن يكون خروجه لأجل مال نفسه احتمالا على السواء فينظر إلى منفعة خروجه وعمله وذلك يختلف بقلة المال وكثرته فيقسم النفقة على قدر ذلك لأن المغرم مقابل بالمغنم وكذلك لو قال له اعمل فيه برأيك فخلط ماله بمال المضاربة ثم خرج لأنه بعد هذا القول لا يصير ضامنا بالخلط فكان إخراجه المالين بعد الخلط كإخراجه قبل الخلط وكل مضاربة فاسدة فلا نفقة للمضارب فيها على مال المضاربة لأن بعد فساد المضاربة هو بمنزلة الأجير.(22/119)
ألا ترى أنه يستوجب أجر المثل ربح أو لم يربح والإجارة الفاسدة معتبرة بالصحيحة فكما أن في الإجارة الصحيحة لا يستوجب النفقة على المال لأنه استوجب بدلا مضمونا بمقابلة عمله فكذلك في الإجارة الفاسدة فإن أنفق على نفسه من المال حسب من أجر مثل عمله وأخذ بما زاد عليه إن كان أنفق أكثر من أجر المثل لأنه صاحب دين ظفر بجنس حقه من مال مديونه وأخذ أكثر من حقه وفي هذا يلزمه رد الزيادة وإذا أنفق في المضاربة الصحيحة في سفره من مال المضاربة فلما انتهى إلى المصر الذي قصده لم يشتر شيئا حتى رجع بالمال إلى مصره فأخذ رب المال ما بقي منه لم يكن على المضارب ضمان ما أنفق لأنه أنفق بحق مستحق له فإن سفره كان لأجل المضاربة وبان لم يشتر شيئا لا يتبين أن سفره لا يكون لأجل المضاربة فالتاجر لا يشتري بالمال في كل موضع يأتيه للتجارة لا محالة ولكن إن وجد ما يربح عليه اشترى وإلا رجع بالمال وذلك أرفق الوجهين له فإن كان ما فعله من صنع التجار لا يخرج هو به من أن يكون مستحقا للنفقة على المال فلا يضمن ما أنفق وإذا مر المضارب على العاشر بمال المضاربة وأخبره به وأخذ منه العشر فلا ضمان على(22/120)
ص -60- ... المضارب فيما أخذ منه العاشر وقد بينا في كتاب الزكاة أن على قول أبي حنيفة الأول رحمه الله العاشر يأخذ منه الزكاة وعلى قوله الآخر وهو قولهما لا يأخذ منه شيئا فما أخذه العاشر أما أن يكون تاويا أو مأخوذا بحق فلا ضمان فيه على المضارب وإن كان هو الذي أعطى العاشر بغير إلزام من العاشر له فهو ضامن لما أعطى وكذلك إن صانعه بشيء من المال حتى كف عنه فهو ضامن لما أعطى لأنه أعطى باختياره إلى من لا حق له في أخذه منه فيكون هو مستهلكا لما أعطى كما لو وهبه من أجنبي آخر.
قال الشيخ الإمام الأجل رحمه الله وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول الجواب في زماننا بخلاف هذا ولا ضمان على المضارب فيما يعطي من مال المضاربة إلى سلطان طمع فيه وقصد أخذه بطريق الغصب وكذلك الوصي إذا صانع في مال اليتيم لأنهما يقصدان الإصلاح بهذه المصانعة فلو لم يفعل أخذ الطامع جميع المال فدفع البعض لإحراز ما بقي من جملة الحفظ في زماننا والأمين فيما يرجع إلى الحفظ يكون ضامنا كما لو وقع الحريق في بيت المودع فناول الوديعة أجنبيا فأما في زمانهم فكانت القوة لسلاطين العدل فكان الأمين متمكنا من دفع الأمر إليهم ليدفعوا الظالم عن الأمانة فلهذا قال إذا صانع بشيء من المال فهو ضامن لما أعطى.(22/121)
وإذا اشترى المضارب بالمال متاعا أو لم يشتر به شيئا فنهاه رب المال أن يخرج من البلدة فليس له أن يخرجه من ذلك البلد أما قبل الشراء بالمال فالجواب صحيح واضح لأنه يملك نهيه عن التصرف أصلا ما بقي المال نقدا في يده فإذا قيد الأمر بشيء دون شيء كان أقرب إلى الصحة والحال قبل الشراء بعد العقد كحال العقد في انتفاء صفة اللزوم في حق كل واحد منهما وانعدام حق المضارب فكما أنه يملك التقييد عند العقد فكذلك بعد العقد قبل الشراء بالمال فأما بعد الشراء بالمال فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول إنما يستقيم الجواب على الرواية التي رويت إنه ليس للمضارب أن يسافر بالمال بمطلق المضاربة.
وموضوع هذه المسألة فيما إذا قال له اعمل برأيك فإنما يملك المسافرة باعتبار هذه الزيادة وهو يملك رفع هذه الزيادة بعد الشراء فكذلك يملك التقييد فيما هو مستفاد بهذه الزيادة فأما على الرواية التي قلنا بمطلق العقد له حق المسافرة بالمال لا يستقيم هذا الجواب لأنه بعد صيرورة المال عروضا لا يملك نهيه عما صار مستفادا له بمطلق العقد وهو حق التصرف فيه فكذلك لا يملك التقييد فيه بالنهي عن المسافرة بالمال والأصح أن نهيه عن المسافرة بالمال عامل على الإطلاق وإن كان بمطلق المسافرة لدلالة اسم العقد فالمضاربة مشتقة من الضرب في الأرض أو لمراعاة ما نص عليه رب المال من حفظه المال بنفسه عند خروجه مسافرا كما في الوديعة وهذا كله ينعدم بالنهي عن المسافرة بالمال بخلاف أصل التصرف فإن حق المضارب يثبت بالتصرف حين صار المال عرضا لأن ربحه لا يظهر إلا بالتصرف ورب المال لا يملك إبطال حقه أما بالنهي عن المسافرة بالمال فليس فيه إبطال حق المضارب لتمكنه من التصرف في البلدة وإنما فيه إيفاء حق رب المال في أن يكون ماله(22/122)
ص -61- ... مصونا عن أسباب الهلاك وهذا مملوك له بعد ما صار المال عروضا كما كان قبله فإن أخرجه ضمنه للخلاف والأمين متى خالف ما أمر به نصا كان ضامنا وما أنفق على نفسه أو على المال بعد ما صار ضامنا له فهو في ماله خاصة بمنزلة الغاصب فإن لم يحدث فيه حدثا حتى رده إلى البلد فهو بريء من ضمانه لأنه عاد إلى الوفاق بعد ما خالف والعقد قائم بينهما فيعود أمينا كما كان وكذلك لو لم ينهه ولكن رب المال مات والمضاربة في يد المضارب عين أو متاع فسافر به المضارب بعد موته لأن المال بالموت انتقل إلى الورثة ولم يوجد منهم الرضا بسفره به قط وما كان من رضا رب المال به قد انقطع بموته فذلك بمنزلة نهيه عن المسافرة بالمال إذا بلغه فالنهي لا يعمل في حقه ما لم يعلم به ولا فرق في الموت بين أن يعلم به أو لا يعلم لأنه عزل حكمي فلا يتوقف على العلم به كعزل الوكيل بموت الموكل.(22/123)
وإذا سافر المضارب بالمال فاشترى به متاعا في بلد آخر فمات رب المال وهو لا يعلم بموته ثم سافر بالمتاع حتى أتى مصرا فنفقة المضارب بعد موت رب المال على نفسه دون المضاربة لأن حكم المضاربة في حق المسافرة بالمال قد انتهى بموت رب المال وإن لم يعلم به المضارب وباعتباره كان ينفق من مال المضاربة فنفقته بعد ذلك في سفره على نفسه وهو ضامن لما يهلك من المتاع في الطريق فإن سلم حتى يبيعه جاز بيعه لأن بالموت لا يمتنع عليه بيعه في أي موضع باعه كما لا يمتنع عليه ذلك بالنهي عن التصرف بعد علمه به لما في التصرف من حق المضارب وقد سبق ثبوت حقه بثبوت حق الورثة فلا يبطل لحقهم لو كان المضارب خرج بالمتاع من ذلك المصر قبل موت رب المال لم يكن عليه ضمان وكانت نفقته في سفره حتى ينتهي إلى المصر ويبيع المتاع على المال لأنه لا يتمكن من المقام في المفازة أو في موضع لا يتمكن من بيع المتاع كما هو عادة التجار فهو في نفقته على السفر إلى أن ينتهي إلى المصر ويبيع المتاع موافق لا مخالف فتكون نفقته في المال.
ولو كان رب المال مات والمضارب بمصر من الأمصار غير مصر رب المال والمضاربة متاع في يده فخرج بها إلى مصر رب المال ففي القياس هو ضامن ولا يستوجب النفقة في المال لأنه ينشئ سفرا بالمال بعد ما انعزل عنه بموت رب المال ولا حاجة به إلى ذلك فإنه في موضع أمن ويتمكن من التصرف في المال وهذا وسفره إلى مصر آخر سواء وفي الاستحسان لا ضمان عليه ونفقته حتى يبلغ مصر رب المال على المضاربة لأن هذا سفر لا يجد المضارب منه بدا فإنه لا بد من أن يسلم المال إلى الورثة ليسلم له نصيبه من الربح ولا يتأتى له ذلك إلا بالعود إلى مصر لأن ورثته فيه بخلاف سائر الأمصار والعقد يبقى لأجل الحاجة إليه كما إذا مات صاحب السفينة وهي في لجة البحر أو مات المكاري للدابة في طريق الحج بخلاف سفره إلى مصر آخر فإنه غير محتاج إلى ذلك.(22/124)
وكذلك لو كان رب المال حيا فأرسل إليه رسولا ينهاه عن الشراء والبيع وفي يده متاع فخرج بها إلى مصر رب المال فإني لا أضمنه ما هلك من المتاع في سفره واجعل نفقته في(22/125)
ص -62- ... المال استحسانا لأنه لا بد من أن يرجع بالمال إلى مصر رب المال كما لا بد له من أن يبيعه إذا نهاه في المصر فكما أن نهيه في ذلك لا يعمل إيفاء لحق المضارب في حصته من الربح فكذلك في هذا المقدار لا يعمل نهيه.
ولو كانت المضاربة في يده دراهم أو دنانير فمات رب المال والمضارب في مصر آخر وكان رب المال حيا فأرسل إليه ينهاه عن الشراء والبيع فأقبل المضارب بالمال إلى مصر رب المال فهلك في الطريق فلا ضمان عليه لأنه لا يجد بدا من رد المال عليه ولا يتمكن من ذلك ما لم يأت به مصره فيسلمه إليه أو إلى ورثته.
ألا ترى أنه لو تركه هناك عند غيره وخرج إلى مصر رب المال كان مخالفا ضامنا وهو بما صنع يتحرز عن الخلاف فلا يضمنه لانعدام السبب الموجب للضمان فإن سلم حتى قدم وقد أنفق منه على سفره فهو ضامن للنفقة لأن عقد المضاربة لا يبقى بعد موت رب المال أو نهيه إذا كان المال في يده نقدا فإن بقاء العقد ببقاء حق المضارب في المال ولا حق له في المال هنا فهذا المال بمنزلة الوديعة في يده والمودع لا يستوجب النفقة في مال الوديعة.
ألا ترى أنه ليس له أن يشتري به شيئا لرب المال ولو فعل ذلك كان ضامنا بخلاف ما إذا كان المال عروضا فقد بقي العقد هناك لبقاء حق المضارب.(22/126)
ألا ترى أنه يملك البيع على رب المال فكذلك يستوجب النفقة في سفر لا بد له منه وإذا اشترى المضارب بالمال وباع فصار المال دينا على الناس ثم أبى أن يتقاضاه فإن كان فيه فضل أجبر على أن يتقاضاه وإن لم يكن له فيه فضل لم يجبر على أن يتقاضاه لأنه إذا كان فيه فضل فقد استحق المضارب نصيبه من الربح بعمله فيجبر على إكمال العمل كالأجير وذلك بالتقاضي حتى يقبض المال وإن لم يكن فيه فضل فالمضارب كالوكيل في التصرف إذا لم يستوجب بإزاء تصرفه شيئا والوكيل بالبيع لا يجبر على تقاضي الثمن ولكن يؤمر بأن يحيل به الموكل على المشتري فكذلك هنا يؤمر بأن يحيل به رب المال على الغرماء لأنه لا يتمكن من مطالبتهم إذا لم يعاملهم وليس في امتناع المضارب من أن يحيله بالمال عليهم إلا التعنت والقصد إلى إتواء ماله فيمنع من ذلك.
توضيح الفرق: إنه إذا كان في المال فضل فلا بد للمضارب من أن يتقاضى نصيبه من الربح ويقبض فإذا قبض سلم له ذلك ولكنه يؤمر بتسليمه إلى رب المال بحساب رأس المال لأنه ما لم يصل رأس المال رب المال لا يسلم شيء من الربح للمضارب ثم يقبض ثانيا مثله فيسلمه إليه فلا يزال هكذا حتى يقبض جميع المال فإنه إذا لم يكن في المال فضل فلا حاجة بالمضارب إلى تقاضي شيء منه إذ لا نصيب له في المال فيؤمر أن يحيل به رب المال على الغرماء كما يؤمر به الوكيل وإن كان فيه فضل وهو في مصره فأنفق في تقاضيه وخصومة أصحابه وطعامه وركوبه نفقة لم يرجع بها في مال المضاربة لأن هذا كله بمنزلة تصرفه في المال وقد بينا إنه ما دام يتصرف في مصره لا يستوجب النفقة في مال المضاربة ولأنه بما(22/127)
ص -63- ... صنع يحيى حصة من الربح فهو كبيعه العروض في مصره وإن كان الدين غائبا عن مصر المضارب فأنفق في سفره وتقاضيه ما لا بد له منه حسب ذلك من مال المضاربة لأن سفره وسعيه كان لأجل مال المضاربة فتكون نفقته في المال كما لو سافر للتصرف في المال وبهذا يتبين أن المضارب إذا أنفق في السفر من مال نفسه استوجب الرجوع به في مال المضاربة لأنه قد لا يجد بدا من ذلك بأن لا تصل يده إلى مال المضاربة عند كل حاجة إلى نفقة فلا يكون متبرعا فيما ينفق من مال نفسه كالوصي يشتري لليتيم ويؤدي الثمن من مال نفسه كان له أن يرجع به في مال اليتيم إلا أن تزيد نفقة المضارب على الدين فلا يرجع بالزيادة على رب المال لأن نفقته في مال المضاربة لا في ذمة رب المال فلو استوجب الزيادة إنما يستوجبها في ذمة رب المال ولأنه إنما يستوجب النفقة لأن سعيه لإصلاح مال المضاربة ولمنفعة رب المال وهذا المعنى ينعدم في الزيادة على المال.(22/128)
وإذا سافر المضارب بمال المضاربة فاشترى طعامه وكسوته واستأجر ما يركب عليه من ماله ليرجع به في مال المضاربة فلم يرجع به حتى توى مال المضاربة لم يرجع على رب المال بتلك النفقة لأن حقه كان في المال لا في ذمة رب المال وبهلاك المال فات محل حقه فيبطل حقه كالعبد الجاني أو المديون إذا مات ومال الزكاة إذا هلك لا تبقى الزكاة واجبة بعد هلاك المال وكذلك لو لم يكن نقد ماله في ذلك فكان ثمن الطعام والكسوة وأجرة الدابة دينا عليه لأنه التزمه بمباشرة سبب الالتزام فلا يستوجب شيئا من ذلك في ذمة رب المال وهذا بخلاف ما إذا استأجر دابة ليحمل عليها متاع المضاربة أو اشترى طعاما للمضاربة فضاع المال قبل أن ينفذ فإنه يرجع بذلك على رب المال لأنه فيما يشتري للمضاربة عامل لرب المال بأمره فعليه أن يخلصه من عهدة عمله وذلك في رجوعه عليه بالثمن في الأجرة فيما تعذر إيفاؤه من المال الذي في يده فإما فيما يشتري أو يستأجر لحاجة نفسه هو عامل لنفسه وهو فيما هو عامل لنفسه لا يستوجب الرجوع على رب المال بما يلحقه من العهدة وإنما كان يرجع في مال المضاربة لأن سعيه لأجل مال المضاربة وهذا لا يوجد في مال آخر لرب المال فلا يستوجب الرجوع في ذلك بعد هلاك مال المضاربة.(22/129)
وإذا ادان المضارب مال المضاربة في غير مصره وربح فيه فأراد أن يتقاضاه وتكون نفقته منه وقال رب المال بل أتقاضاه ولا أريد أن تكون أنت المتقاضي فإن رب المال يجبر على ترك التقاضي للمضارب وتكون نفقته على المال لأن حق المضارب ثابت في نصيبه من الربح فلا بد من أن يتقاضى حصة من الربح وإذا أخذ ذلك أخذه رب المال منه بحساب رأس المال ثانيا أو ثالثا فتبين أن المضارب متقاض لرب المال وإن نفقته في المال فرب المال فيما يسأل يقصد إسقاط حق المضارب وهو لا يتمكن من ذلك وإن لم يكن فيه فضل فقال المضارب أنا أتقاضاه وتكون نفقتي منه حتى أقبضه وقال رب المال أحلني به أجبر المضارب على أن يحيل به رب المال لأنه لا حصة للمضارب في المال هنا ولا حق فهو(22/130)
ص -64- ... بمطالبته يريد أن يلزمه نفقة نفسه في مال غيره فلصاحب المال أن يأبى ذلك ويتقاضى بنفسه وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا وفيه فضل أولا فضل فيه فأراد المضارب أن يمسكه حتى يجد به ربحا كثيرا وأراد رب المال أن يبيعه فإن كان لا فضل فيه أجبر المضارب على أن يبيعه أو يعطيه رب المال برأس ماله لأنه لا حق للمضارب في المال في الحال فهو يريد أن يحول بين رب المال وبين ماله بحق موهوم عسى يحصل له وعسى لا يحصل وفيه إضرار برب المال والضرر مدفوع وإن كان فيه فضل وكان رأس المال ألفا والمتاع يساوي ألفين فالمضارب يجبر على بيعه لأن في تأخيره حيلولة بين رب المال وبين ماله وهو لم يرض بذلك حين عاقده عقد المضاربة إلا أن للمضارب هنا أن يعطي رب المال ثلاثة أرباع المتاع برأس ماله وحصته من الربح ويمسك ربع المتاع وحصته من الربح وليس لرب المال أن يأبى ذلك عليه لأن الربح حق والإنسان لا يجبر على بيع ملك نفسه لتحصيل مقصود شريكه وكما يجب دفع الضرر عن رب المال يجب دفعه عن المضارب في حصته والطريق الذي يعتدل فيه النظر من الجانبين ما ذكرنا.
وإذا دفع مالا مضاربة وأمر المضارب أن يعمل في ذلك برأيه أو لم يأمره فاستأجر المضارب ببعضه أرضا بيضاء واشترى ببعضه طعاما فزرعه في الأرض فهو جائز على المضاربة بمنزلة التجارة لأن عمل الزراعة من صنع التجار يقصدون به تحصيل النماء وإليه أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم "الزارع يتاجر ربه وما كان من عمل التجار يملكه المضارب بمطلق العقد".(22/131)
ولو استأجر أرضا بيضاء على أن يغرس فيها شجرا أو أرطابا فقال ذلك من المضاربة فهو جائز والوضيعة على رب المال والربح على ما اشترطا لأنه من صنيع التجار يقصدون به استنماء المال ولو كان دفع إليه مضاربة بالنصف وقال له اعمل فيه برأيك فأخذ المضارب نخلا وشجرا وأرطابا معاملة على أن ما أخرج الله بعد من ذلك فنصفه لصاحب النخل ونصف المضارب على المضارب فعمل وأنفق مال المضاربة عليه فإن ما خرج من ذلك بين صاحب النخل والمضارب نصفين ولا يكون لرب المال شيء من ذلك لأنه إنما استحق النصف بعقد المعاملة وفي عقد المعاملة العامل يؤاجر نفسه وصاحب المال إنما فوض الأمر إلى رأيه في المضاربة لأن منافع يده فيما يستوجب بإقامته العمل بمنافعه تكون له خاصة والنفقة التي أنفقها من ماله خاصة وهو ضامن لما أنفق من ذلك من مال المضاربة لأنه صرف إلى حاجة نفسه على وجه لم يأذن له رب المال فيه.
ولو كان المضارب أخذ من رجل أرضا بيضاء على أن تزرعها طعاما فما خرج منها فنصفه لصاحب الأرض ونصفه على المضاربة فاشترى طعاما ببعض المال فزرعه في الأرض ثم أنفق ما بقي من المضاربة عليه حتى بلغ فهذا جائز لأنه مستأجر الأرض بنصف الخارج منها ولو استأجرها بدراهم جازت المضاربة فكذلك إذا استأجرها بنصف الخارج منها ولو استأجرها بدراهم جاز على المضاربة لذلك وتصرفه هنا في المال فإن استحقاقه للخارج باعتبار(22/132)
ص -65- ... أنه بما بذره والبذر من مال المضاربة فلهذا كان نصف الخارج لصاحب الأرض ونصفه يباع يستوفي رب المال رأس ماله والباقي بينه وبين المضارب على الشرط وإن لم يكن قال له اعمل فيه برأيك فالمضارب ضامن للمضاربة لأنه أشرك غيره في مال المضاربة وقد بينا أن بمطلق العقد لا يملك المضارب الإشراك وهو بمنزلة دفعه بعض المال مضاربة إلى غيره وإذا صار مخالفا بتصرفه ضمن مال المضاربة وهو ملك المضمون به فما خرج من الزرع بين المضارب ورب المال نصفين على الشرط والله أعلم.
باب المرابحة في المضاربة
قال رضي الله عنه: قد تقدم بيان بعض مسائل الباب في البيوع فمن ذلك أن ما أنفق المضارب على نفسه في سفره لا يلحقه برأس المال في بيع المرابحة بخلاف ما أنفق على المتاع والرقيق مما لا بد منه فإنه يلحقه ويقول قام علي بكذا من غير أن يفسره لوجود العادة بين التجار في إلحاق النفقة على المتاع برأس المال دون إلحاق ما أنفقوا على أنفسهم وفي حق المشتري لا فرق بين أن يكون المتصرف مضاربا أو مالكا فكما أن المالك لا يلحق ما أنفقه على نفسه برأس المال لأن منفعة ذلك لا ترجع إلى المتاع خاصة فكذلك ما أنفقه المضارب على نفسه وإن ألحق ما أنفقه على نفسه برأس المال وباعه مرابحة أو تولية على الجملة من غير بيان فذلك جناية وقد بينا أقاويلهم في الجناية في المرابحة والتولية في البيوع وفي قول زفر كقول محمد رحمهما الله.(22/133)
ولو اشترى المضارب متاعا بألف درهم ورقمه بألفي درهم ثم قال للمشتري منه ابتعه مرابحة على رقمه فإن بين للمشتري كم رقمه فهو جائز لا بأس به لأنه صادق في مقالته فرقمه ما أخبره ولم يخبره أنه قام عليه بذلك وقد بينا في البيوع رواية أبي يوسف في الفرق بين ما إذا كان المشتري عالما بعادة التجار أو غير عالم بذلك وإن لم يعلم المشتري كم رقمه فالبيع فاسد لجهله بمقدار الثمن فإذا علم بالرقم كم هو فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه لأنه إنما يكشف له الحال الآن وخيار كشف الحال قد بيناه في البيوع عند أبي حنيفة رحمه الله فإن قبضه فباعه ثم علم ما رقمه فرضي به فرضاه باطل وعليه قيمته لأنه ملكه بالقبض بحكم عقد فاسد فنفذ بيعه فيه وتقرر عليه ضمان القيمة بإخراجه من ملكه فلا يتغير ذلك بعلمه بالرقم ورضاه به لأن إزالة المفسد إنما تصحح العقد إذا كان المعقود عليه قائما في ملكه والتولية في هذه كالمرابحة فإن كان المضارب ولاه رجلا برقمه ولا يعلم المشتري ما رقمه ثم باعه المضارب بعد ذلك من آخر بيعا صحيحا جاز إن لم يكن الأول قبضه لأن البيع الأول كان فاسدا ولم يملكه المشتري قبل القبض فصح البيع الثاني من المضارب وانتقض به البيع الأول ولذلك لو كان الأول علم برقمه فسكت حتى باعه المضارب من آخر بيعا صحيحا لأن بمجرد علمه لا يصح البيع الأول ما لم يرض به فإن رضي الأول بعد ما علم ثم باعه المضارب من آخر بيعا صحيحا فالبيع للثاني باطل لأن البيع الأول قد تم برضا المشتري به بعد علمه فصار(22/134)
ص -66- ... المبيع مملوكا للمشتري ولو كان الأول قبض المتاع من المضارب في هذه الوجوه ثم باعه المضارب من آخر كان بيعه الثاني باطلا لأن الأول بالقبض صار مالكا فما لم يسترده المضارب منه لا ينفذ بيعه من غيره وإن علم الأول بالرقم فنقض البيع لم يجز البيع الثاني أيضا لأنه سبق عود الملك إليه فلا ينفذ بعوده إليه من بعد كمن باع مالا يملكه ثم ملكه.
ولو كان المضارب اشترى المتاع بألف درهم ثم قال لرجل أبيعك هذا المتاع مرابحة بربح مائة على ألفي درهم ولم يسم رقما ولا غيره فاشتراه برقمه ثم علم أن المضارب كان اشتراه بألف درهم فالبيع لازم بألفي درهم ومائة درهم ولا بأس للمضارب بما صنع لأنه ما باعه مرابحة على رأس ماله فيه بل باعه مرابحة على ألفي درهم وإنما يكره أن يتكلم بالكذب أو بما فيه شبهة الكذب فأما إذا خلا كلامه عن ذلك فلا بأس ببيعه وقد باعه بثمن مسمى معلوم فيجوز وإن كان أسرف فيما أنفق على الرقيق فإنما يضم إلى رأس ماله من ذلك نفقة مثله فأما الزيادة على ذلك كالتبضع منه فلا يلحق برأس المال.
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى بها جارية ثم باعها بألفين واشترى بألفين جارية تساوي ألفي درهم من الغريم لا بأس بأن يبيعها مرابحة ولا يبين أن ثمنها كان دينا بخلاف ما إذا صالحه على هذه الجارية صلحا فإنه لا يبيعها مرابحة حتى يبين لأن الشراء مبني على الاستقصاء والصلح مبني على التجاوز بدون الحق فعند ذلك لفظ الصلح يمكن شبهة الحطيطة والشبهة كالحقيقة في المنع من بيع المرابحة لأنه مبني على الأمانة ولو اشترى بألف المضاربة جارية نسيئة سنة فهو جائز لأن في يده من مال المضاربة مثل ثمنها فلا يكون هذا استدانة على المضاربة والشراء بالنسيئة من عادة التجار كالشراء بالنقد ثم لا يبيعها مرابحة على الألف ما لم يبين لما في الشراء بالنسيئة من شبهة الزيادة على ثمن المثل وقد بينا هذا في البيوع.(22/135)
ولو اشترى ببعض الجارية ثيابا ثم فتلها أو قصرها بأجر أو صبغها بأجر فله أن يبيعها مرابحة على الثمن والأجر لأن هذا مما جرى الرسم به بين التجار في إلحاقه برأس المال ولو مر على العاشر فعشره لم يلحق ذلك برأس المال لأن ذلك إما أن يكون زكاة فلا يلحقه برأس المال وإما أن يكون غصبا فلا بيع على ما غصب منه مرابحة ولو اشترى المتاع بجميع المال ثم قصره من ماله فهو متطوع لا يرجع به على رب المال ولا ضمان عليه إن قال له رب المال اعمل فيه برأيك أو لم يقل لأن القصارة تزيل الدرن ولا تزيد في العين شيئا من مال المضاربة فلا يصير هو مخالفا بما صنع لأنه زاد المتاع خيرا بما صنع وهو متطوع في ذلك لأن رب المال لم يرض برجوعه عليه بشيء في ذمته فعمله ذلك في متاع المضاربة ومتاع أجنبي آخر سواء وإذا باعه مساومة أو مرابحة كان الثمن كله على المضاربة وكذلك لو فتل الثوب أو صبغه أسود من ماله فنقصه ذلك أو لم يزد فيه وإن صبغه من ماله صبغا يزيد فيه كالعصفر والزعفران وإن كان رب المال أمره أن يعمل في ذلك برأيه فلا ضمان عليه وإن كان(22/136)
ص -67- ... لم يأمره لذلك فهو ضامن للثياب لأنه خلط ماله بمال المضاربة والصبغ مال متقوم للمضارب وقد بينا أن المضارب بالخلط يصير ضامنا إذ لم يقل له رب المال اعمل فيه برأيك ثم إن لم يكن فيه فضل على رأس المال فرب المال بالخيار إن شاء أخذه برأس ماله وأعطى المضارب ما زاد على الصبغ فيه يوم يختصمون وإن شاء سلم له الثوب وضمنه قيمته لأن الثوب كله لرب المال والمضارب فيما صنع بمنزلة من غصب ثوب إنسان وصبغه فإن لم يختر شيئا حتى باعها المضارب مساومة أو مرابحة جاز بيعه لبقاء عقد المضاربة بينهما في الثوب بعد الصبغ لأن المضارب في البيع كالوكيل والوكالة بالبيع لا تبطل بالخلاف من طريق الفعل وبرئ من ضمانه لأنه عاد إلى الوفاق من بعد تصرفه على المضاربة ويقسم الثمن في المساومة على قيمة الثوب وقيمة ما زاد الصبغ فيه فيكون حصة الصبغ للمضارب ويستوفي رب المال رأس ماله من حصة الثوب والباقي ربح بينهما على الشرط لأن الصبغ عين مال قائم في الثوب للمضارب وقد تناوله البيع كالثوب فيقسم الثمن عليهما بخلاف القصارة وإن كان باعه مرابحة قسم الثمن على ما اشترى به المضارب وعلى جر الصبغ يوم صبغ لأن الثمن في بيع المرابحة مبنى على الثمن الأول فيقسم عليه وفي بيع المساومة بمقابلة الملك فيقسم على قدر الملك وإن كان صبغه أسود فكذلك الجواب عندهما لأن السواد عندهما زيادة كالحمرة وعند أبي حنيفة السواد في الثوب نقصان فهو بمنزلة الفتل والقصارة في أنه لا حصة للمضارب من الثمن ولا ضمان عليه لأنه لم يخلط مال المضاربة بمال متقوم له.(22/137)
وإذا اشترى المضارب المتاع بألف المضاربة وقبضه ولم ينقد الثمن حتى ضاعت فإنه يرجع على رب المال بألف أخرى فينقدها إياه لأنه في الشراء كان عاملا لرب المال بأمره فيرجع عليه بما لحقه من العهدة وهو في هذا كالوكيل إذا دفع إليه الثمن قبل الشراء وهلك في يده بعد الشراء فإنه يرجع على الموكل بعد الشراء لأن الوكيل لا يرجع إلا مرة واحدة فإن شراء الوكيل يوجب الثمن عليه للبائع وله على الموكل فإذا رجع على الموكل بعد الشراء صار مقتضيا ما استوجبه دينا عليه وصار مضمونا عليه بالقبض فإذا هلك يهلك من ضمانه فأما المضارب إذا رجع على رب المال فما يقبضه يكون أمانة في يده لأنه من رأس المال.
ألا ترى أن عند القسمة يرد على رب المال أولا جميع ما استوفى ثم يقاسمه الربح؟.
ومن شرط المضاربة أن يكون رأس المال أمانة في يد المضارب فإذا هلك ثانيا كان هلاكه على رب المال فيرجع عليه مرة بعد أخرى حتى يصل الثمن إلى البائع ولا يبيع المتاع مرابحة إلا على ألف درهم لأنه اشتراه بألف وما هلك في يده من رأس مال المضاربة فلا يلحقه برأس المال فإذا باع المتاع أخذ رب المال رأس ماله ألفي درهم لأنه رجع ذلك إلى المضارب بسبب عقد المضاربة فيكون جميع رأس ماله يرد عليه ثم الباقي ربح بينهما.
وكذلك لوكان اشترى بألف جارية فلم يقبضها حتى ادعى المضارب إنه قد نقد البائع الثمن وجحد البائع ذلك وحلف فإن المضارب يرجع على رب المال بألف أخرى فيدفعها إلى(22/138)
ص -68- ... البائع ويأخذ الجارية فتكون على المضاربة لأن هذه عهدة لحقته في عمل باشره لرب المال وإذا اقتسموا المضاربة أخذ رب المال رأس ماله ألفي درهم لما ذكرنا والمضارب في هذا مخالف للوكيل فإن الوكيل بالشراء لو قال دفعت الألف إلى البائع وجحد البائع غرمها الوكيل من ماله فيدفعها إلى البائع ويأخذ منه الجارية فتسلم إلى الآمر لأن الوكيل قد أقر إنه اقتضى دينه على الموكل بما قضى به دين نفسه من مال الموكل فيسلمها إلى الآمر وإقرارهما ليس بحجة على البائع في قضاء الثمن لأن ذلك دعوى منه عليه ولكنه حجة عليه في الاقتضاء لأن ذلك إقرار منه وبعد ما صار مقتضيا لا يرجع على الموكل بشيء فأما المضارب يدفع الثمن إلى البائع يكون قاضيا لا مقتضيا لأنه لو صار مقتضيا كان ضامنا ورأس المال أمانة في يده فإذا لم تصح دعواه في القضاء بجحود البائع بقي المقبوض كالهالك في يده فيرجع على رب المال بألف أخرى.(22/139)
ألا ترى أن الوكيل لو لم يدفع إليه الثمن حتى اشترى ثم قبض الثمن فهلك في يده لم يرجع على الموكل مرة أخرى والمضارب في مثله يرجع على رب المال ثانيا حتى يدفع الثمن إلى البائع ولو اشترى ثوبا بعشرة دراهم من مال المضاربة ثم باعه مرابحه فقال للمشتري أبيعك هذا الثوب بربح الدرهم درهم فالثمن عشرون درهما لأنه سمى بمقابلة كل درهم من رأس المال درهما ربحا والألف واللام للجنس فيما يمكن استغراق الجنس فيه إذ لا معهود له فيه ليحمل على المعهود فهذا وقوله بربح كل درهم درهما سواء وكذلك لو قال بربح كل درهم اثنين فالثمن ثلاثون درهما ولو قال بربح العشرة خمسة أو بربح الدرهم نصف درهم كان الثمن خمسة عشر لأنه سمي بمقابلة كل درهم من رأس المال نصف درهم ربحا أو بمقابلة جميع رأس المال خمسة ربحا ولو قال أبيعك بربح العشرة خمسة عشر فالقياس أن يكون بخمسة وعشرين درهما لأنه ضم إلى رأس المال خمسة عشر درهما ربحا ولكنا نستحسن أن يكون البيع بخمسة عشر للعادة الظاهرة بين التجار فإنهم يقولون يده يا زده سود فروحب وإنما يريدون به أن الخمسة ربح والعشرة رأس مال.
وكذلك لو قال بربح العشرة أحد عشر أو قال يده يازده فالربح درهم واحد استحسانا لأن مطلق اللفظ محمول على معاني كلام الناس وما يتفاهمونه في مخاطباتهم وكذلك لو قال بربح عشرة أحد عشر ونصف فالربح درهم ونصف أو قال أحد عشر ودانق فالربح درهم ودانق ولو قال بربح العشرة عشرة وخمسة أو خمسة وعشرة فالثمن خمسة وعشرون لأنه عطف أحد العددين على الآخر في تسمية الربح وضم العدد إلى رأس ماله وليس بين التجار عادة في مثل هذا اللفظ فيجب حمل اللفظ على الحقيقة ويكون ربحه العددين جميعا.
و إن كان الثوب انتقص عنده حتى صار يساوي ثلاثة دراهم ثم باعه بوضيعة الدرهم درهم كان الثمن خمسة دراهم لأن بيع الوضيعة كبيع المرابحة فكما أن هذا اللفظ في بيع المرابحة(22/140)
ص -69- ... التضعيف على الثمن الأول فكذلك في بيع الوضيعة يوجب التنصيف ولو كان بوضيعة الدرهم درهمين كان الثمن عليه ثلاثة دراهم وثلثا لأن هذا اللفظ في بيع المرابحة يوجب أن يكون الربح ضعف رأس المال ففي بيع الوضيعة نصف الثمن وإنما يكون ذلك إذا كان النقصان من العشرة ستة وثلاثين لأن في بيع المرابحة هذا اللفظ يوجب أن يكون الربح مثل نصف رأس المال ففي الوضيعة يوجب أن يكون النقصان مثل نصف الباقي في ذلك في أن يكون الباقي من الثمن ستة وثلاثين والنقصان ثلاثة وثلثا وكذلك لو قال بوضيعة العشرة خمسة عشر اعتبارا للوضيعة بالمرابحة.
ولو اشترى المضارب عبدا وقبضه ثم باعه بجارية وقبضها ودفع العبد لم يكن له أن يبيع الجارية مرابحة على الثمن ولا تولية إلا من الذي يملك العبد لأن بيع المرابحة والتولية بيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح مسمى في عقد المرابحة والعبد لا مثل له من جنسه فلو باعها مرابحة أو تولية من غير أن يملك العبد لكان هذا بيعا بقيمة العبد وطريق معرفة القيمة الحزر والظن دون الحقيقة فأما ممن يملك العبد إنما يبيعها على العبد بعينه وهو قادر على تسليمه فإن باعها تولية جاز وإن باعها مرابحة بربح عشرة دراهم جاز ويأخذ العبد عشرة دراهم وإن باعها مرابحة بربح عشرة أحد عشر لم يجز لأن هذا اللفظ يوجب أن يكون الربح من جنس رأس المال ورأس المال لا مثل له من جنسه ليضم إليه مقدار الربح من جنسه بخلاف ما إذا كان اشتراها بماله مثل من جنسه كالمكيل والموزون فإن هناك يبيعها مرابحة ممن شاء فسواء سمي مقدارا معلوما من الربح أو قال بربح عشرة أحد عشر لأنه لما اشترى بماله مثل من جنسه فهو والمشتري بالنقد سواء.(22/141)
ولو كان الذي اشترى العبد باعه من رجل آخر أو وهبه وسلمه ثم باعه المضارب الجارية مرابحة أو تولية كان باطلا لأنه لم يبق العبد في ملكه فهو في هذا الشراء كأجنبي آخر ولو باع المضارب الجارية من الموهوب له بالغلام مرابحة أو تولية جاز ذلك لأن عين الغلام في ملكه وهو قادر على تسليمه فهو بمنزلة الواهب في المسألة الأولى ولو باع المضارب الجارية من رجل لا يملك العبد بربح عشرة دراهم على رأس المال فأجاز رب العبد البيع جاز لأنه بإجازة رب العبد قدر المشتري على التسليم للعبد فنزل في ذلك منزلة المالك للعبد فإن بملكه كان يقدر على التسليم وقد قدر على ذلك بإجازة رب العبد والمانع من جواز هذا العقد عجزه عن تسليم العبد ثم الجارية تكون للمشتري من المضارب ويأخذ المضارب الغلام ويأخذ من المشتري منه الجارية عشرة دراهم ويرجع مولى الغلام على المشتري بقيمة الغلام لأن المشتري للجارية عامل لنفسه في شرائها فنفذ الشراء عليه ولم يتوقف على إجازة رب الغلام ولكنه استقرض منه الغلام ليدفعه في ثمنها وهو بالإجازة صار مقرضا منه واستقراض الحيوان وإن كان فاسدا لكنه مضمون بالقيمة عند تعذر رد العين وقد تعذر رد الغلام بخروجه عن ملك المستقرض وصيرورته على المضاربة(22/142)
ص -70- ... ولو كان في يد المضارب جارية من المضاربة فباعها بغلام وتقابضا ثم إن المضارب باع الغلام من صاحب الجارية بربح العشرة أحد عشر كان البيع فاسدا لأن موجب هذا اللفظ أن يكون الربح من جنس رأس المال وليس للجارية مثل من جنسها ولو باع الغلام من رب الجارية بوضيعة العشرة أحد عشر كان البيع جائزا ويعطيه المشتري من الجارية عشرة أجزاء من أحد عشر جزءا لأن موجب هذا اللفظ في الوضيعة نقصان جزء من أحد عشر جزءا من ثمن الأول وقد بينا ذلك في البيوع فيما إذا كان الثمن عشرة دراهم فكذلك هنا يصير في التقدير كأنه باع الغلام من رب الجارية بعشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من الجارية ولو قال أبيعك هذا الغلام بربح عشرة دراهم كان جائزا ويأخذ الجارية وعشرة دراهم لأن ما سماه ربحا وضمه إلى الجارية دراهم معلومة.
ولو قال: أبيعك بوضيعة عشرة دراهم من رأس المال كان البيع باطلا لأن موجب لفظ الوضيعة النقصان وإنما ينقص من ثمن الجارية مقدار عشرة دراهم منها وذلك لا يعرف إلا بالتقويم والبيع بالوضيعة كالبيع مرابحة في أنه إذا وقعت الجارية إلى التقويم كان باطلا لأن طريق معرفة القيمة الحزر والظن.
يوضحه: أنه يصير في التقدير كأنه قال بعتك هذا الغلام بهذه الجارية إلا مقدار عشرة دراهم منها وذلك باطل.
وإن كانت المضاربة بألف درهم بخية فاشترى بها عبدا ثم باعه بالكوفة مرابحة بربح مائة درهم فعلى المشترى ألف درهم بخية ومائة درهم غلة نقد الكوفة ولو قال أبيعك بربح عشرة أحد عشر كان الثمن والربح كله بخية لأن موجب هذا اللفظ أن يكون الربح من جنس ثمن الأول بصفته ليكون الربح جزءا من أحد عشر جزءا من جميع الثمن الثاني واللفظ الأول لا يوجب ذلك وإنما يوجب أن يكون الربح مائة درهم كما سمي فيه وتسمية مائة درهم في البيع مطلقا ينصرف إلى غلة الكوفة.(22/143)
ألا ترى أنه لو قال أبيعك بربح دينار كان الثمن ألف درهم بخية ودينارا من نقد الكوفة ولو كان باعه بوضيعة مائة درهم أو بوضيعة عشرة أحد عشر كانت الوضيعة من البخية لأن الوضيعة لا تكون أبدا إلا من الثمن الأول فإن طرح بعض الثمن الأول بأي لفظ ذكره لا بد أن يكون المطروح جزءا من الثمن الأول والربح ليس من الثمن الأول فلهذا افترقا.
وإذا دفع مالا مضاربة إلى رجل فاشترى به جارية وقبضها وباعها بغلام وتقابضا فزادت الجارية في يد المشتري أو ولدت ثم باع المضارب الغلام من رب الجارية بربح مائة درهم وهو لا يعلم بالولادة فإن كانت الزيادة في البدن أخذ الجارية ومائة درهم لأن الزيادة المنفصلة لا تعتبر في عقود المعاوضات.
ألا ترى أنه لو وجد بالجارية عيبا ردها مع الزيادة المنفصلة فكان وجود هذه الزيادة كعدمها وإن كانت ولدت فإن شاء المضارب أخذ الجارية ومائة درهم وإن شاء نقض البيع ولا سبيل له على الولد لأنه إنما باع الغلام بالجارية والولد منفصل عنها عند هذا العقد فلا يدخل(22/144)
ص -71- ... في البيع ولكن إن كانت الولادة نقصت الجارية فلا إشكال في ثبوت الخيار للمضارب لأنه وجدها معيبة ولم يكن عالما بعيبها وإن لم يلف فيها نقصان الولادة فعلى رواية هذا الكتاب الجواب كذلك فإن الولادة في هذه الجارية على رواية هذا الكتاب عيب لازم أبدا بخلاف رواية كتاب البيوع وقد بينا وجه لروايتين ثمة والتولية في هذا كالمرابحة ومقصود بيان الفرق بين هذا وبين الرد بالعيب أنه فسخ للعقد الأول فلو جاز بقي الولد ربحا للمشتري بغير عوض وهو الربا بعينه فأما التولية أو المرابحة فلا توجب فسخ العقد الأول فيمكن تصحيح ذلك في الجارية مع سلامة الولد للمشتري.
وإن كانت المضاربة ألف درهم فاشترى بها جارية وباعها بألف وخمسمائة ثم اشتراها بألف باعها مرابحة على ألف درهم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعند أبي حنيفة رحمه الله على خمسمائة وقد بينا هذا في البيوع أن من أصل أبي حنيفة ضم أحد العقدين إلى الآخر واعتبار الحاصل مما بقي من ضمانه فإنما يبيعه مرابحة على ذلك وذلك خمسمائة هنا ولو كان باعها بألف درهم وكر حنطة وسط أو بألف درهم ودينار ثم اشتراها بألف لم يبعها مرابحة عند أبي حنيفة لأنه إنما يبيعها مرابحة على حاصل ما بقي في ضمانه ولا يعرف ذلك إلا بالحزر والظن لأنه غرم فيها مرتين ألف درهم ورجع إليه ألف وكر حنطة أو ألف دينار فلا بد من طرح ذلك من الألفين وطرح الحنطة والدينار من الدراهم يكون باعتبار القيمة وطريق معرفتها الحزر والظن.(22/145)
ولو كان باعها بمائة دينار وقيمتها أكثر من ألف درهم ثم اشتراها بألف درهم لم يبعها مرابحة في قياس قول أبي حنيفة لأن الدراهم والدنانير في الصورة جنسان وفي المعنى كجنس واحد ألا ترى أن في شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن جعل الدراهم والدنانير كجنس واحد للاحتياط وفي بيع المرابحة كذلك وإذا كانا كجنس واحد فلا بد من طرح مائة دينار من الألفين التي غرمها في ثمنها مرتين ولا طريق لذلك إلا باعتبار القيمة فلهذا لا يبيعها مرابحة عنده ولو كان المضارب باع الجارية بشيء من المكيل أو الموزون أو بعرض قيمته أكثر من ألف درهم ثم اشتراها بألف درهم فله أن يبيعها مرابحة على الألف لأن ما عاد إليه ليس من جنس ما غرم فيها حقيقة وحكما وضم بعض العقود إلى البعض كما لا يكون عند اختلاف جنس النقود بأن يكون أحد العقدين هبة فكذلك لا يكون عند اختلاف الجنس فيما غرم فيه وفيما عاد إليه وهذا بمنزلة شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن فإنه لو اشتراه بكر حنطة قيمته أقل مما باعه به قبل قبض الثمن كان جائزا بخلاف النقود فهذا مثله والله أعلم.
باب المضارب يبيع المال ثم يشتريه لنفسه بأقل من ذلك
قال رضي الله عنه: قد بينا في البيوع أن من باع أو بيع له فليس له أن يشتري المبيع بأقل من الثمن الأول قبل قبض الثمن إذا لم يتعيب المبيع عند المشتري فعلى ذلك الأصل بني الباب قال إذا اشترى المضارب بألف المضاربة جارية وقبضها ثم باعها بألف درهم فلم ينقد(22/146)
ص -72- ... ثمنها حتى اشتراها لنفسه بخمسمائة لم يجز لأنه هو البائع لها والبائع لغيره كالبائع لنفسه في حق قبض الثمن فكذلك في المنع من الشراء بأقل قبل قبض الثمن وكذلك لو اشتراها رب المال لنفسه بخمسمائة لم يجز لأن المضارب باعها له.
ألا ترى إنه يرجع عليه مما لحقه من العهدة فكأنه باعها بنفسه وكذلك لو كانت قيمتها ألفي درهم يوم اشتراها المضارب وإنما أورد هذا لأن المضارب في مقدار حصته من الربح ببيعها لنفسه لا لرب المال فكان ينبغي أن يصح شراء رب المال في ذلك الربح لأنه ما باعه ولا بيع له ولكنه قال حق المضارب تبع لحق رب المال لا يظهر قبل وصول رأس المال إلى رب المال فبيعه في جميعها كان لرب المال حكما.
ألا ترى إنه لو استوفى من المشتري ألفا من الثمن وتوى عليه ألف كان المقبوض كله لرب المال من رأس ماله فبه تبين أن بيعه في جميعها وقع لرب المال.
وكذلك لو كان المضارب باعها بألفين وقبض الثمن إلا درهما ثم اشتراها المضارب لنفسه أو اشتراها رب المال لنفسه بأقل من الثمن الأول لم يجز لأن المنع من الشراء بأقل من الثمن الأول حكم ثبت لعدم قبض الثمن فيبقى ما بقي شيء من الثمن غير مقبوض كحق الحبس للبائع في المبيع .
وكذلك لو اشتراها أحدهما بدنانير قيمتها أقل من الثمن الأول لأن الدراهم والدنانير في هذا الحكم كجنس واحد استحسانا وقد بيناه في البيوع وكذلك لو اشتراها بن أحدهما أو أبوه أو عبده أو مكاتبه في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما شراء هؤلاء جائز إلا المكاتب والعبد وقد بينا هذا في البيوع.(22/147)
ولو وكل المضارب ابنه بشرائها أو بن رب المال لم يجز الشراء في قول أبي حنيفة للوكيل وللموكل لأن هذا الوكيل لا يملك شراءها لنفسه بهذا الثمن فلا يملك شراءها لغيره أيضا كالمسلم في الخمر بخلاف ما إذا وكل أجنبيا فإن الأجنبي يملك شراءها لنفسه بأقل من الثمن الأول فيصح منه شراؤها للمضارب أيضا بناء على أصل أبي حنيفة في المسلم يوكل ذميا بشراء الخمر والخنزير وقد بينا في البيوع الفرق بين شراء الوكيل للبائع وبين شراء بن الآمر لنفسه على أصل أبي حنيفة رحمه الله.
ولو وكل المضارب رب المال أن يشتريها له أو وكل رب المال المضارب بذلك لم يجز لأن كل واحد منهما لا يملك شراءها لنفسه وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن يشتري بها من الهروي خاصة والربح بينهما نصفان وما يشتري بها من النسائي فالربح كله لرب المال وما يشتري بها من الزطي فالربح كله للمضارب فهو على ما سمي لأنه فوض إلى رأيه ثلاثة أنواع من العمل أما العمل على طريق المضاربة أو على سبيل البضاعة أو على سبيل القرض لنفسه وكل ذلك معلوم عند مباشرته العمل والجهالة عند العقد لا تفضي إلى تمكن المنازعة بينهما فيصح فإن كان اشترى الهروي فهو على المضاربة كما اشترطا وإن كان(22/148)
ص -73- ... اشترى بها النسائي فهو بضاعة في يده والربح لرب المال والوضيعة عليه فإن كان اشترى بها الزطية فالمال قرض عليه والربح له والوضيعة عليه.
وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة جاريتين تساوي كل واحدة منهما ألف درهم ثم باع إحداهما بألف والأخرى بألفين وقبضهما المشتري ثم لقيه المضارب وقال زدني في ثمنها فزاده مائة درهم وقبضها المضارب ثم وجد المشتري بأحدهما عيبا ردها بثمنها ونصف المائة لأن الزيادة أضيفت إليهما والتزمها المشتري بمقابلها فيتوزع على قيمتهما كأصل الثمن إذا سمي بمقابلهما جملة وقيمتهما سواء فانقسمت الزيادة عليهما نصفين ولو كان المشتري طعن فيهما بعيب فصالحه المضارب على أن حط من الثمن مائة درهم ثم وجد المشتري بعد ذلك بالذي اشتراها بألف درهم عيبا ردها بألف غير ثلاثة وثلاثين وثلث لأنه حط المائة من الثمنين فيقسم على قدر الثمنين ثلثاه من ثمن التي باعها بألفين وثلثه من ثمن التي باعها بألف وثلث المائة ثلاثة وثلاثون وثلث فلهذا ينتقص من ثمنها وهو ألف هذا المقدار وهذا لما قدمنا في الباب الأول إن الحط من الثمن والزيادة ليست من الثمن إنما هي مال التزمه المشتري بمقابلة الجاريتين فهو كالمال الذي اشترى به الجاريتين.(22/149)
ولو كان المضارب اشترى الجاريتين من المشتري بربح مائة درهم على ما باعهما به ثم وجد بإحداهما عيبا ردها بثمنها وحصتها من الربح إذا قسمت على الثمنين لما بينا أن الثمن في بيع المرابحة مبني على الثمن الأول أصله وربحه ولو كان المشتري اشترى إحدى الجاريتين بألف والأخرى بألفين ثم أراد أن يبيعهما مرابحة على ثلاثة آلاف درهم فله ذلك لأن حاصل ما غرم في ثمنهما ثلاثة آلاف درهم وإن باع كل واحدة منهما على حدة مرابحة على ثمنها جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقد بينا هذا في البيوع فإن زاد في ثمنهما مائة درهم وأراد أن يبيعهما مرابحة باعهما جميعا على ثلاثة آلاف درهم ومائة درهم لأنه تيقن بمقدار ما غرم في ثمنهما فيبيعهما على ذلك مرابحة وإن أراد أن يبيع إحداهما مرابحة على حدة لم يكن له ذلك لأن المائة الزائدة إنما تقسم على قيمتها وطريقة معرفة القيمة الحزر والظن وذلك يمنعه من بيع المرابحة كما لو كان اشتراهما بثمن واحد له أن يبيعهما جميعا مرابحة على الثمن وليس له بيع إحداهما مرابحة على حصتها من الثمن والله أعلم
باب عمل رب المال مع المضارب
قال رضي الله عنه: وإذا وقعت المضاربة على أن يعمل رب المال مع المضارب فالمضاربة فاسدة لأن من شرط صحتها التخلية بين المضارب وبين رب المال وهذا الشرط بعدم التخلية وإنما قلنا ذلك لأن من حكم المضاربة أن يكون رأس المال أمانة في يد المضارب ولا يتحقق ذلك إلا بأن يخلي رب المال بينه وبين المال كالوديعة وإذا اشترط عمل نفسه معه تنعدم هذه التخلية لأن المال في أيديهما يعملان فيه.
يوضحه أن المضاربة فارقت الشركة في الاسم فينبغي أن تفارقها في الحكم وشرط(22/150)
ص -74- ... العمل عليهما من حكم الشركة فلو جوزنا ذلك في المضاربة لاستوت المضاربة والشركة في العمل وشرط الربح فلا يبقي لاختصاص المضاربة بهذا الاسم فائدة.
وإذا أخرج الرجل من ماله ألف درهم وقال لرجل اعمل بهذه مضاربة فاشتر بها وبع على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بيننا نصفان ولم يدفع إليه المال مضاربة فالمضاربة فاسدة لأن المال غير مدفوع إلى المضارب وقد بينا أن من شرط المضاربة دفع المال إلى المضارب ليكون أمانة في يده فبقي هذا استئجارا على البيع والشراء بأجرة مجهولة فإذا تصرف كان الربح كله لرب المال والوضيعة عليه وللعامل أجر مثله فيما عمل.
ولو دفع المال إليه على أن يعمل به المضارب وعبد رب المال على أن لرب المال نصف الربح وللمضارب والعبد نصف الربح فهذه مضاربة جائزة والربح على ما اشترطا سواء كان على العبد دين أو لم يكن لأن عبد رب المال في حكم المضاربة كعبد أجنبي آخر ألا ترى إن لرب المال أن يدفع ماله إليه مضاربة فما هو شرط للمضاربة يوجد مع اشتراط عمل رب المال وهو التخلية بين المضارب والمال بخلاف شرط عمل رب المال فإنه لا يدفع المال إلى نفسه مضاربة وهذا لأن للعبد يدا معتبرة في كسبه وليست يده بيد رب المال فيتحقق خروج المال من يد رب المال مع اشتراط عمل عبده وإذا ثبت هذا في عبده فهو في مكاتبه وابنه وأبيه أظهر.(22/151)
ولو اشترط أن يعمل معه شريك مفاوض لرب المال فالمضاربة فاسدة لأن المفاوضين فيما بينهما من المال كشخص واحد فكل واحد منهما إنما يستحق الربح الحاصل بعمل المضارب بملكه رأس المال فاشتراط عمل شريكه كاشتراط عمل نفسه لأن بهذا الشرط تبقى المرابحة لمالك المال مع المضارب في اليد فتنعدم به التخلية وإن كان شركة عنان فإن كان المال من شركتهما فالمضاربة فاسدة لأن كل واحد منهما يستحق الربح بملكه بعض رأس المال وإن لم يكن من شركتهما فهي مضاربة جائزة لأن ما ليس من شركتهما ينزل كل واحد منهما من صاحبه منزلة الأجنبي.
ألا ترى أن لأحدهما أن يدفع إلى صاحبه مالا من غير شركتهما مضاربة وإذا دفع الرجل مال ابنه الصغير مضاربة إلى رجل على أن يعمل معه الأب بالمال على أن للمضارب ثلث الربح وللابن ثلثه وللأب ثلثه جاز على ما اشترطا وكذلك الوصي لأن الأب أو الوصي لو أخذ مال الصبي مضاربة ليعمل فيه بنصف الربح جاز كما لو دفعه إلى أجنبي مضاربة وكل مال يجوز أن يكون الإنسان فيه مضاربا وحده يجوز أن يكون مضاربا فيه مع غيره وهذا لأنهما يستحقان الربح بالعمل لا بملك المال فكانا في ذلك كأجنبي آخر وما هو شرط المضاربة وهو كون المال أمانة في يد المضارب لا ينعدم بهذا لأن يدهما بعد هذا الشرط يد المضارب على المال كيد المضارب الآخر.
ولو كان الأب اشترط عمل الابن مع مضارب كانت المضاربة فاسدة لأن الابن لا يجوز(22/152)
ص -75- ... أن يكون مضاربا بالعمل في مال نفسه ولأنه يستحق الربح بملك المال سواء كان الدافع هو أو أباه أو وصيه ولو كان الدافع هو بعد بلوغه وأباه أو وصيه وشرط عمل نفسه مع المضارب بطلت المضاربة فكذلك أبوه أو وصيه ثم أجر مثل المضارب في عمله على الأب أو الوصي يؤديان ذلك من مال الابن لأنه أجير في العمل فإنما يطالب بالأجر من استأجره والأب استأجره للعمل للابن فيؤدي أجره من مال الابن.
وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف فرده المضارب على رب المال وأمره أن يشتري به ويبيع على المضاربة ففعل رب المال ذلك فربح ولم يل المضارب شيئا من العمل فهذه مضاربة جائزة لأن رب المال معين للمضارب في إقامة العمل والمال في يده على سبيل البضاعة في حق المضارب ولو أبضعه غيره كان الربح بينهما على الشرط فكذلك إذا أبضعه رب المال وعلى قول زفر رحمه الله رده المال على رب المال نقض منه للمضاربة لأن رأس المال في المضاربة من جانب العامل عمله ورب المال لا يجوز أن يكون عاملا في مال نفسه لغيره فكان ذلك بمنزلة نقض المضاربة ولكنا نقول منافع رب المال لم يتناولها عقد المضاربة كمنافع أجنبي آخر فكما يجوز إقامة عمل أجنبي آخر مقام عمل المضارب ما استعان به بعد فكذلك تجوز إقامة عمل رب المال من منزل المضارب بغير أمره فاشترى به وباع وربح فقد انتقضت المضاربة والربح كله لرب المال لأن عمله هنا لا يمكن أن يجعل كعمل المضارب فإنه ما استعان به.
ألا ترى إنه لو فعل ذلك أجنبي آخر كان غاصبا عاملا لنفسه ضامنا لرب المال فإذا فعل رب المال ذلك كان عاملا لنفسه أيضا فانتقضت المضاربة لفوات العمل حقيقة وحكما بخلاف الأول على ما بينا.(22/153)
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها المضارب جارية وقبضها وأخذها رب المال وباعها بغير أمر المضارب فربح فيها جاز بيعه والربح على ما اشترطا ولا يكون بيعه الجارية نقضا للمضاربة أما جواز البيع فلأنه مالك للجارية قادر على تسليمها ثم قد بينا إنه بعد ما صار المال عروضا لا يملك رب المال نقض المضاربة ومنع المضارب من التصرف فلا يكون بيعه نقضا للمضاربة أيضا بل يكون نظرا منه للمضارب ولنفسه فربما يخاف أن يفوته هذا المشتري لو انتظر حضور المضارب فأعانه في بيعها بخلاف الأول فإن المال ما دام نقدا في يده فهو متمكن من نقض المضاربة فيجعل إقدامه على الشراء نقضا للمضاربة يوضح الفرق إن استحقاق المضارب الربح باعتبار ضمانه الثمن بالشراء في ذمته فإن ربح ما لم يضمن منهي عنه ولهذا لم تجز المضاربة بالعروض فإذا كان المضارب هو المشتري فقد تأكد به سبب استحقاقه لحصة من الربح إذا ظهر فلا يبطل ذلك بيع رب المال الجارية فأما قبل الشراء فلم يتأكد سبب ثبوت الحق للمضارب في الربح إذا ظهر فلا يثبت ذلك بشراء رب المال(22/154)
ص -76- ... قال:باع رب المال الجارية بألفي درهم ثم اشترى بألفين جارية أخرى فباعها بأربعة آلاف درهم ضمن رب المال للمضارب خمسمائة درهم حصته من الربح على الجارية الأولى ولا حق له في ثمن الجارية الأخيرة لأن ببيع الجارية الأولى صار المال نقدا في يد رب المال فهو بمنزلة ما لو كان نقدا قبل شراء المضارب الجارية بالمال وقد بينا هناك أن عمل رب المال في المال يكون لنفسه ويكون نقضا للمضاربة إذا عمل بغير أمر المضارب فهنا أيضا شراء الجارية الأخيرة بغير أمره لنفسه وقد نقد ثمنها حصة المضارب من الربح وهو خمسمائة فيضمن له ذلك القدر وثمن الجارية الأخيرة كلها له لأنه عمل لنفسه في ماله في شرائها وبيعها.
ولو كان المضارب دفع الجارية إلى رب المال وأمره أن يبيعها ويشتري بثمنها ويبيع على المضاربة جاز ما صنع على المضاربة وما ضاع في يد رب المال من ذلك ضاع من الربح لأنه فيه بمنزلة أجنبي آخر استعان به المضارب في العمل فكما أن الأجنبي إذا استعان به المضارب يكون أمينا في المال وما يهلك في يده يجعل كالمالك في يد المضارب فكذلك رب المال ولو كان رب المال أخذ الجارية بغير أمر المضارب فباعها بغلام أو عرض أو شيء من المكيل والموزون يساوي ألف درهم وقبضها وباعها بأربعة آلاف درهم فذلك كله على المضارب لأن رب المال لا يتمكن من نقض المضاربة ما دام المال عروضا.
ألا ترى أنه لو نهى المضارب عن التصرف لا يعمل نهيه وإن حوله المضارب من عرض إلى عرض لم يصر المال نقدا فكذلك لا تنتقض المضاربة بتحويل رب المال من عرض إلى عرض بغير أمر المضارب ولكنه فيما يباشر من التصرف بمنزلة الأجنبي يعقد للمضارب فجميع ما يحصل يكون على المضاربة .
ولو كان رب المال باع الجارية الأولى بمائتي دينار ثم اشترى بها جارية أخرى كان هذا بمنزلة بيعه لها بالدراهم والجارية الأخرى له دون المضارب لأن الدراهم والدنانير في حكم المضاربة كجنس واحد.(22/155)
ألا ترى أنه بعد ما نهى المضارب عن التصرف لو صار المال في يده دنانير عمل نهى رب المال حتى لا يملك أن يشتري بها عرضا بمنزلة ما لو صار المال في يده دراهم فكذلك هنا لما صار المال في يد رب المال دنانير انتقضت المضاربة بمنزلة ما لو صار دراهم فكان هو في شراء الجارية الأخيرة عاملا لنفسه والذي قلنا إن تأكيد السبب في حق المضارب بضمان الثمن بالشراء وذلك ينعدم في شراء رب المال بالدنانير كما ينعدم في شرائه بالدراهم بخلاف العروض وفي بيع المقابضة واحد من المتعاقدين لا يلتزم إلا تسليم العين التي من جهته سواء كان المضارب هو المباشر لهذا العقد أو رب المال فالتزام تسليم العين يكون بصفة واحدة فلهذا كان العرض المشتري بمقابلة العرض على المضارب.
ولو لم يشتر بالدنانير جارية ولكنه اشترى بها ثلاثة آلاف درهم كانت على المضاربة يستوفي رب المال منها رأس ماله والباقي بينهما على الشرط لأنه في هذا التصرف خاصة معين للمضارب.(22/156)
ص -77- ... ألا ترى أنه بعد ما نهاه عن التصرف أو مات رب المال وبطلت المضاربة بموته يملك المضارب هذا التصرف ليحصل به جنس رأس المال فكذلك رب المال يكون معينا للمضارب في هذا التصرف والحاصل أن كل تصرف صار مستحقا للمضارب على وجه لا يملك رب المال منعه منه فرب المال في ذلك يكون معينا له سواء باشره بأمره أو بغير أمره وكل تصرف يتمكن رب المال أن يمنع المضارب منه فهو في ذلك التصرف بغير أمر المضارب عامل لنفسه إلا أن يكون بأمر المضارب فحينئذ يكون معينا له.
وإذا دفع العبد المأذون إلى رجل مالا مضاربة فهو جائز لأن هذا من صنيع التجار وهو منفك الحجر عنه فيما هو من صنيع التجار فإن اشترط أن يعمل مولاه معه على أن للعبد نصف الربح وللمضارب ربعه وللمولي ربعه ولا دين على العبد فالمضاربة فاسدة لأن المولي يستحق الربح هنا بملك المال فلا يجوز اشتراط عمله فيه وإن كان الدافع عبده ولأنه لا يجوز أن يكون هو مضاربا لعبده في عمله في المال هنا لو دفعه إليه وحده فلهذا كان اشتراط عمله مفسدا للعقد وإن كان عليه دين جاز على ما اشترطوا لأن عند أبي حنيفة رحمه الله المولي لا يملك كسب عبده المديون فهو إنما يستحق الربح بعمله هنا لا بملك المال كأجنبي آخر وعندهما وإن كان هو يملك كسب عبده إلا أن حق الغرماء في كسبه مقدم على حق المولي ويجوز أن يكون المولي مضاربا وحده في هذا المال لاعتبار حق الغرماء فكذلك يجوز اشتراط عمله مع المضارب ويكونان كالمضاربين في هذا المال.(22/157)
ولو كان العبد اشترط عمل نفسه مع المضارب ولا دين عليه فالمضاربة فاسدة لأن العبد متصرف لنفسه بحكم انفكاك الحجر عنه فهو كالمالك في هذا المال ويده فيه يد نفسه فاشتراط عمله بعد التخلية بين المضارب والمال فلهذا فسدت المضاربة وللمضارب أجر مثل عمله على العبد لأنه هو الذي استأجره للعمل ولو كان الدافع مكاتبا واشترط أن يعمل مولاه مع المضارب جاز لأن المولي من كسب مكاتبه أبعد منه من كسب العبد المديون وهو يجوز أن يكون مضاربا في هذا المال وحده فكذلك مع غيره فإن عجز قبل العمل ولا دين عليه فسدت المضاربة لأن المال صار مملوكا للمولي وصار بحيث يستحق ربحه بملكه المال وقد بينا أن الفساد الطارئ بعد العقد قبل حصول المقصود به كالمقترن بالعقد فلهذا فسدت المضاربة فإن اشتريا بعد ذلك وباعا وربحا فالربح كله لرب المال والأجر للمضارب في عمله لأن رب المال لم يستأجره للعمل والمكاتب بالعجز صار عبدا محجورا عليه واستئجار العبد المحجور عليه غيره للعمل في مال مولاه باطل واستئجار المكاتب لو كان صحيحا في حال الكتابة يبطل بعجزه فكيف يثبت حكم الاستئجار بعد عجزه موجبا للأجر عليه.
ولو كانا اشتريا بالمال جارية ثم عجز المكاتب فباعا الجارية بغلام ثم باعا الغلام بأربعة آلاف درهم فإن المولي يستوفي منها رأس ماله وما بقي فهو بينهما على ما اشترطا لأن عجز المكاتب هنا بمنزلة موته أو بمنزلة موت الحر والموت لا يبطل المضاربة ما دام المال(22/158)
ص -78- ... عروضا وإنما يبطل إذا صار المال نقدا فهنا كذلك ولو دفع مالا إلى رجل مضاربة بالنصف وأمره أن يعمل فيه برأيه فدفعه المضارب إلى رجل آخر مضاربة على أن يعمل المضارب الأول معه وللمضارب الآخر ربع الربح وللأول ربعه ولرب المال نصفه فالمضاربة فاسدة لأن المضارب الأول في عمله في المال بمنزلة المالك فاشتراط عمله يعدم التخلية بين المال وبين المضارب الآخر وذلك شرط صحة المضاربة الثانية والدليل عليه أن المضارب لا يعاقد نفسه في هذا المال عقد المضاربة وحده فكذلك لا يعاقد غيره على شرط عمله معه فإن عملا فللآخر أجر مثله لأنه أوفى عمله بعقد فاسد والربح بين الأول ورب المال على شرطهما والوضيعة على رب المال لأن المضارب الآخر أجير للأول إجارة فاسدة.
ولو استأجره إجارة صحيحة للعمل في المال كان يعطي أجره من المال والربح بين المضارب ورب المال على الشرط فكذلك هنا فإن دفعه المضارب الأول إلى رب المال مضاربة بالثلث فعمل به فربح أو وضع فإنه يقسم على شرط المضاربة الأولى والمضاربة الأخيرة باطلة والمال في يد رب المال بمنزلة البضاعة وعلى قول زفر رحمه الله الثانية تنقض الأولى والربح كله لرب المال وعندنا رب المال في العمل معين للمضارب لأن المضارب قد استعان به فيكون عمله كعمل المضارب والربح بينهما على الشرط ولا تصح المضاربة الأخيرة لأن رب المال مالك للمال يستحق الربح باعتبار ملكه فلا يجوز أن يكون مضاربا فيه لأن المضارب من يستحق الربح بعمله لا بملكه المال فالمضاربة الثانية لم تصادف محلا فكانت باطلة.(22/159)
ألا ترى أن المضارب لو استأجر رب المال أن يشتري له ويبيع بعشرة دراهم في الشهر فاشترى له فربح أو وضع كان ما صنع من ذلك جائزا على المضارب ولا أجر له لأنه عامل في مال نفسه فلا يستوجب على عمله أجرا بالشرط وبه تبين الفرق بينه وبين الأجنبي ولو دفعه المضارب إلى رجل مضاربة بالربع على أن يعمل هو ورب المال فعملا فالمضاربة الثانية فاسدة لأن رب المال يستحق الربح بملكه المال ولا يجوز أن يكون مضاربا في هذا المال وحده فاشتراط عمله بعدم التخلية فإذا فسدت المضاربة الثانية فللمضارب الآخر أجر مثله والربح بين الأول وبين رب المال على ما اشترطا والله أعلم
باب الاختلاف بين المضارب ورب المال
قال رضي الله عنه:وإذا قال المضارب بعد حصول الربح شرطت لي نصف الربح وقال رب المال شرطت لك ثلث الربح فالقول قول رب المال مع يمينه لأن الربح بما ملك رب المال وإنما يستحقه المضارب بالشرط فهو يدعي الزيادة فيما شرط له ورب المال منكر فالقول قوله مع يمينه وإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب لإثباته الزيادة في حقه ببينة وإن قال رب المال لم أشترط لك الربح أو قال اشترطت لك مائة درهم من الربح وقال المضارب شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال لإنكاره استحقاق شيء من ربح ماله(22/160)
ص -79- ... عليه وللمضارب أجر مثله فيما عمل أما في قوله شرطت لك مائة درهم فظاهر فالمضاربة بهذا الشرط تصير إجارة فاسدة وكذلك في قوله لم أشترط ربحا لأنهما اتفقا على أن الدفع إليه كان بطريق المضاربة فإذا لم يبين نصيب المضارب كانت إجارة فاسدة وقد وفي العمل فاستحق أجر المثل.
ولو قال المضارب: شرطت لي ثلث الربح وقال رب المال: شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة دراهم فالقول قول المضارب لأنهما تصادقا على أنه شرط له ثلث الربح ثم أقر رب المال بزيادة على ذلك لا يستحقها المضارب بل ليفسد العقد بها ويبطل استحقاق المضارب فهو متعنت في هذا فلا يقبل قوله ويجعل القول قول من يدعي جواز العقد لأن الأصل في العقود الصحة وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب المال لأنه يثبت ببينته زيادة الشرط المفسد للعقد فهو كما لو أثبت أحد المتعاقدين خيارا أو أجلا مجهولا ببينة.
ولو قال رب المال:شرطت لك ثلث الربح إلا مائة وقال المضارب شرطت ثلث الربح فالقول قول رب المال لأن المضارب يدعي عليه زيادة فإن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فالمضارب يدعي أن المشروط له ثلث كامل ورب المال ينكر ذلك والقول قول المنكر لأنه غير متعنت في ذلك والبينة في هذا الفصل بينة المضارب لإثباته الزيادة في حقه بالبينة ولو وضع في المال فقال رب المال شرطت لك نصف الربح وقال المضارب شرطت لي مائة درهم أو دفعته إلى مضاربة ولم تشترط لي شيئا فلي أجر المثل فالقول قول رب المال لأن المضارب يدعي لنفسه دينا في ذمته وهو أجر المثل ورب المال ينكر ذلك فالقول قوله فإن أقام رب المال البينة أنه شرط له ثلث الربح وأقام المضارب البينة أنه لم يشترط له شيئا فالبينة بينة رب المال لأنها قامت لإثبات شرط نصف الربح وبينة المضارب قامت على نفي الشرط والشهادة على النفي لا تقبل فلهذا كانت البينة بينة رب المال والقول قوله.(22/161)
وإن كان أقام المضارب البينة أنه شرط له ربح مائة درهم وأقام رب المال البينة أنه شرط له نصف الربح فالبينة بينة المضارب لأن البينتين استوتا في إثبات الشرط فرجحت بينة المضارب لأنها تثبت دينا مضمونا في ذمة رب المال ولأن المضارب هو المحتاج إلى البينة وذكر نظير هذه المسألة في المزارعة أن رب الأرض والبذر إذا قال للعامل شرطت لك نصف الخارج وقال العامل شرطت لي مائة أقفزة من الخارج ولم يحصل الخارج وأقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض والبذر وأكثر مشايخنا رحمهم الله قالوا جوابه في كل واحد من الفصلين جواب في الفصل الآخر وفي المسألتين روايتان وجه هذه الرواية ما ذكرنا ووجه رواية المزارعة إن رب المال يثبت صحة العقد فترجح بينته لذلك وأصح الجوابين ما ذكر هنا قال الشيخ الإمام الأجل رحمه الله والأصح عندي الفرق بين المضاربة والمزارعة لأن عقد المزارعة يتعلق بها اللزوم.(22/162)
ص -80- ... ألا ترى إنه ليس للعامل أن يمتنع من إقامة العمل فترجح فيه البينة المثبتة لصحة العقد لما فيها من الإلزام وأما المضاربة فلا تكون لازمة فإن للمضارب أن يمتنع من العمل ويفسخ العقد متى شاء فترجح هنا البينة التي فيها إلزام وهي المثبتة للدين في ذمة رب المال.
وإذا ادعى المضارب إنه شرط له نصف الربح أو شرط له مائة درهم وقال رب المال إنما دفعت إليك المال بضاعة لتشتري به وتبيع فالقول قول رب المال لأن المضارب يدعي استحقاق جزء من ربح ماله أو استحقاق الأجر دينا في ذمته ورب المال ينكر ذلك بإنكاره سببه فالقول قوله والبينة في هذا الفصل بينة المضارب لأنها تثبت حقه على رب المال وبينة رب المال تنفي ذلك.
ولو كانت المضاربة بالنصف فجاء المضارب بألفي درهم فقال رب المال دفعت إليك ألفين وقال المضارب دفعت إلي ألف درهم وربحت ألف درهم فالقول قول المضارب في قول أبي حنيفة الآخر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله وفي قوله الأول القول قول رب المال وهو قول زفر رحمه الله.
وجه قوله الأول: إن المضارب أقر أن جميع ما في يده مال المضاربة والأصل في مال المضاربة حق رب المال فإذا ادعى بعد ذلك استحقاق بعض المال لنفسه لا يقبل قوله إلا بحجة والقول قول رب المال لإنكاره كما في مسألة البضاعة بخلاف ماذا قال المضارب ألف من الألفين خلطته لي بمال المضاربة وقد كان قال له اعمل فيه برأيك لأن هناك لم يقر أن جميع ما في يده مال المضاربة والأصل أن القول قول المرء فيما في يده من المال بخلاف ما لو ادعى رب المال رأس المال أكثر مما جاء به المضارب وإنه قد استهلك بعضه فإن هناك هو يدعي دينا على المضارب والمضارب ينكر والقول قول المنكر.(22/163)
وجه قوله الآخر: أن الاختلاف بينهما في مقدار المقبوض من رأس المال والقابض هو المضارب فيكون القول قوله في مقدار المقبوض لأن رب المال يدعي زيادة فيما أعطاه وهو ينكر لأنه لو أنكر أصل القبض كان القول قوله فكذلك إذا أنكر زيادة القبض.
يوضحه أن المال في يده فالقول قوله في بيان جهة حصوله في يده كما لو قال ألف من المال لي خلطته بمال المضاربة فإن اختلفا مع ذلك فيما شرط له من الربح فقال رب المال شرطت لك الثلث وقال المضارب شرطت لي النصف فالقول قول المضارب في رأس المال والقول قول رب المال فيما شرط له من الربح لأن المضارب يدعي الزيادة فيما شرط له ورب المال ينكر ولو أنكر أصل الشرط بأن قال كان المال في يدي بضاعة فالقول قوله فكذلك إذا أنكر الزيادة فيما شرط له وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب
المال في مقدار ما سلم إليه من رأس المال ويأخذ الألفين برأس ماله لأنه أثبت زيادة فيما دفعه إليه.
وإن كان المال ثلاثة آلاف كانت البينة بينة المضارب فيما ادعى من الربح حتى إن الألف الفاضلة عن الألفين بينهما نصفان لأن المضارب يثبت ببينته زيادة في حصته من الربح وإذا(22/164)
ص -81- ... دفع الرجل إلى رجلين مالا مضاربة بالنصف فجاء بثلاثة آلاف درهم فقال رب المال كان رأس مالي ألفين والربح ألف وصدق أحد المضاربين وقال الآخر كان رأس المال ألفا والربح ألفي درهم فإن رب المال يأخذ ألف درهم من رأس ماله من يد المضاربين لأنهما اتفقا على ذلك القدر من رأس ماله ويبقي في يد كل واحد منهما ألف درهم فيأخذ رب المال خمسمائة من الذي صدقه لأنه يقر أنه قد بقي من رأس ماله ألف نصفه في يده ونصفه في يد شريكه وإقراره فيما في يده حجة وإن لم يكن حجة فيما في يد شريكه فيأخذ منه خمسمائة بحساب رأس ماله لأن حق رب المال في الربح ضعف حق المصدق فيقسمان الحاصل من الربح في أيديهما على أصل حقهما أثلاثا ويقاسم الآخر خمسمائة مما في يده أثلاثا لأن رب المال يزعم أن هذه الخمسمائة من رأس ماله أيضا ومن في يده ينكر ويقول هو ربح وحق رب المال فيه ضعف حقي لأن حق رب المال في نصف الربح وحق كل واحد من المضاربين في ربع الربح فلهذا يقاسمه خمسمائة أثلاثا ثلثها لرب المال يأخذها بحساب رأس ماله بزعمه فيجتمع في يده ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ثم يقتسمون الألف الباقية ربحا بينهم أرباعا فيصير في يد رب المال خمسمائة من الربح وفي يد الذي صدقه مائتان وخمسون فيجمع ذلك فيأخذ منه رب المال ما بقي من رأس ماله على ما تصادقا عليه لأن الربح لا يكون إلا بعد وصول جميع رأس المال إلى رب المال وقد بقي من رأس المال بزعمهما مائة وستة وستون وثلثا درهم فيأخذ رب المال ذلك والباقي من الربح بينهما أثلاثا لأن حق رب المال في الربح ضعف حق المصدق فيقسمان الحاصل من الربح في أيديهما على أصل حقهما أثلاثا والمكذب بزعمهما استوفى أكثر من حقه فتجعل تلك الزيادة في حقهما كالتاوي.(22/165)
وقد طعن عيسى بن أبان رحمه الله في فصل من جواب هذه المسألة وهو قوله إن الخمسمائة مما في يد المكذب تقسم بين رب المال وبين المكذب أثلاثا وقال الصحيح أنه ليس لرب المال إلا نصفها لأن المنكر يزعم أن الألف الباقية مقسومة بينهم أرباعا نصفها لرب المال وربعها للمصدق وربعها لي فالمصدق أقر بحصته لرب المال من هذه الألف فيصير لرب المال ثلاثة أرباعها وقد وصل إليه من يد المصدق نصف هذه الألف وهو خمسمائة فإنما بقي حقه في ربعها وحقي في ربعها فينبغي أن تقسم هذه الخمسمائة بينهما نصفان وكان القياس ما ذكره عيسى رحمه الله ولكن محمد رحمه الله ترك ذلك لوجهين أحدهما أنا لو فعلنا هكذا كنا قد أعطينا المنكر جميع حصة مدعاه من ربح الألفين ويأخذ من الألف الثانية مائتين وخمسين ومن الألف الثالثة مائتين وخمسين فتسلم له حصته من ربح الألفين بزعمه ولا يجوز أن يصدق هو على ما في يد صاحبه كما لا يصدق صاحبه على ما في يده والثاني أن ما وصل إلى رب المال من تلك الألف لم يصل ربحا كما ادعاه هذا المضارب وإنما أخذه على أنه من رأس ماله فلا يكون للمنكر أن يجعل ذلك محسوبا عليه من الربح في مقاسمته الخمسمائة الأخرى معه فلهذا قسمت هذه الخمسمائة بينهما أثلاثا وهذا الجواب حكاه بن سماعة عن محمد رحمهما الله(22/166)
ص -82- ... وإذا دفع الرجل إلى رجل مالا فربح فيه ربحا فقال العامل أقرضتني هذا المال وقال الدافع دفعته إليك بضاعة أو مضاربة بالثلث أو قال مضا فالقول قول رب المال لأن العامل يدعي تملك المال عليه بالقبض ورب المال ينكر ذلك ولأن الإذن في التصرف مستفاد من جهة رب المال فالقول قوله في بيان الإذن والتسليط فإن كان أقر بالمضاربة فلا شيء للعامل بل الربح كله لرب المال لأنه بما ملكه وإن كان أقر له بربح الثلث أعطاه ذلك لأن العامل يدعي عليه جميع الربح وهو أقر له بالثلث وإن أقر بمضاربة فاسدة أعطاه أجر مثله فيأخذه المضارب قضاء مما ادعاه من المال الذي أخذه منه رب المال لأن العامل يدعي عليه أكثر مما أقر له به فيعطيه مقدار ما أقر له به من الجهة التي أقر بها ويأخذه العامل من الجهة التي يدعيها فإن هلك المال في يد المضارب بعد هذا القول فهو ضامن للأصل والربح لأنه كان أمينا في الكل وقد جحد حق صاحب المال فيه وادعى أنه ملكه فيكون ضامنا له.(22/167)
ولو قال المضارب: شرطت لي النصف وقال رب المال شرطت لك الثلث ثم هلك المال في يد المضارب فهو ضامن لسدس الربح لأنه ادعى تلك الزيادة لنفسه وقد كان أمينا فيه فيصير ضامنا بدعواه الأمانة لنفسه ولو وضع في المال ثم قال العامل دفعته إلى مضاربة وقال رب المال دفعته إليك قرضا فالقول قول رب المال لأن الإذن مستفاد من جهته فالقول قوله في بيان صفته ولأن العامل يزعم أنه كان نائبا عن رب المال في العمل ورب المال ينكر ذلك فالقول قوله وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب المال أيضا لأنه يثبت ببينته سبب تمليك المال منه بالفرض ووجوب الضمان دينا له في ذمته فكانت بينته أولى بالقبول ولأنه لا تنافي بين البينتين فالقرض يرد على المضاربة فيجعل كأنه دفعه إليه مضاربة ثم أقرضه منه ولا يمكن أن يجعل على عكس هذا لأن المضاربة لا ترد على القرض والقرض يرد على المضاربة ولو لم يكن عمل بالمال وضاع فالقول قول المضارب لأن رب المال يدعي عليه سبب الضمان والمضارب ينكر والبينة بينة رب المال لإثباته الضمان دينا في ذمة المضارب ثم الفرق بين هذا والأول أن في هذا الفصل تصادقا على أنه قبضها بإذن المالك وذلك غير موجب للضمان عليه فبقي دعوى رب المال سبب الضمان وفي الفصل الأول عمل العامل في ملك الغير سبب موجب للضمان وقد ظهر ذلك فيحتاج إلى سبب مسقط للضمان عن نفسه وهو كونه نائبا عن المالك في عمله في المال مضاربة ولا يثبت هذا المسقط إلا بالبينة ولا يقال تصادقا أن عمله حصل بإذن رب المال وتسليطه فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه لأن رب المال يزعم أنه عمل لنفسه في مال نفسه فإذا لم يثبت الملك له لا يكون هو عاملا بإذن رب المال كما أقر به فيبقى عاملا في المال بغير إذنه وذلك موجب للضمان عليه.(22/168)
ولو قال المضارب: دفعته إلى مضاربة وقد ضاع المال قبل أن أعمل به وقال رب المال أخذته غصبا فلا ضمان على المضارب لأنه ما أقر بوجود السبب الموجب للضمان عليه وإنما أقر بتسليم رب المال إليه وذلك غير موجب للضمان(22/169)
ص -83- ... عليه ورب المال يدعي عليه الغصب الموجب للضمان وهو ينكر فإن كان عمل به ثم ضاع فهو ضامن للمال لأن عمله في مال الغير سبب موجب للضمان عليه ما لم يثبت إذن صاحبه فيه ولم يثبت ذلك لإنكاره فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب في الوجهين لأنه يثبت تسليم رب المال والإذن له في العمل ببينة.
ولو قال المضارب: أخذت منك هذا المال مضاربة فضاع قبل أن أعمل به أو بعد ما عملت وقال رب المال: أخذته مني غصبا فالقول قول رب المال والمضارب ضامن لأنه أقر بالأخذ وهو سبب موجب للضمان عليه قال عليه الصلاة والسلام "على اليد ما أخذت حتى ترد" ثم ادعى المسقط وهو إذن صاحبه فلا يصدق في ذلك إلا بحجة.(22/170)
ولو قال: أخذته منك مضاربة فضاع قبل أن أعمل به وقال رب المال أقرضتكه فلا ضمان على المضارب لتصادقهما أن القبض حصل بإذن المالك فإنه هو الذي دفعه إليه إلا أن يكون عمل بالمال فحينئذ هو ضامن لأن عمله في مال الغير سبب موجب للضمان عليه كما ذكرنا وإذا دفع الرجل إلى الرجلين ألف درهم مضاربة بالنصف فجاءا بألفين فقال أحدهما ألف رأس مالك وألف ربح فصدقه رب المال بذلك وقال المضارب الآخر ألف رأس المال وخمسمائة ربح وخمسمائة لفلان كان دينا علينا في المضاربة وادعى المقر له ذلك فإن رب المال يأخذ رأس ماله ألف درهم لتصادقهما على ذلك ويأخذ المقر له بالدين من المضارب المقر مائتين وخمسين درهما لأنه أقر أن نصف الخمسمائة دينا عليه يؤديه مما في يده ونصفه دين على شريكه وإقراره على نفسه وبما في يده حجة وعلى غيره لا فلهذا يأخذ منه مائتين وخمسين وهذا بخلاف أحد الوارثين إذا أقر على الميت بدين فإنه يستوفي جميع الدين من نصيبه لأن هناك ما أقر بالدين في ذمة نفسه ولا في ذمة شريكه وإنما أقر به على الميت والمقر يعامل في حق نفسه كان ما أقر به حق فلا يسلم له شيء من التركة ما لم يقبض جميع الدين الذي على الميت وها هنا إنما أقر بالدين على نفسه وعلى شريكه بسبب معاملتهما مع المقر له وإقراره بالدين في ذمة الغير لا يلزمه القضاء مما في يده ثم يقاسم المضارب الجاحد مع رب المال مائتين وخمسين درهما مما في يده له ثلثها ولرب المال ثلثاها لأن المضارب المقر يزعم إنه لا حق له في هذا بل حق صاحب الدين والجاحد يزعم إنه ربح ولكن لا حق فيه للمقر لأنه أتلف مثل هذا بإقراره كاذبا فهو محسوب عليه من نصيبه فيقسم هذا المقدار بين رب المال والجاحد على مقدار حقهما من الربح لرب المال ثلثاها وللجاحد ثلثها ويبقى في يد المضاربين خمسمائة درهم قد أقروا جميعا أنها ربح فيقتسمونها بينهم لرب المال نصفها ولكل واحد من المضاربين ربعها ولا يرجع الغريم على(22/171)
المضارب المقر بشيء مما أخذ لما بينا إنه أقر له بالدين في ذمة شريكه فلا يلزمه ذلك القضاء من مال نفسه.
وكذلك لو كان أحدهما ادعى لنفسه خمسمائة من هذا المال أنه من خاصة ماله فهذا(22/172)
ص -84- ... والأول في التخريج سواء كما بينا ولو جاء المضاربان بألفي درهم خمسمائة منها بيض وألف وخمسمائة سود فقال أحدهما الخمسمائة البيض وديعة لفلان عندنا والخمسمائة السود ربح وقال المضارب الآخر كلها ربح فإن رب المال يأخذ رأس ماله ألف درهم من السود ويأخذ المقر له مائتين وخمسين من البيض وهي التي في يد المقر بالوديعة لأن نصف البيض في يده وإقراره فيه حجة ويقسم المضارب الآخر ورب المال مائتين وخمسين من البيض أثلاثا سهمان لرب المال وسهم للمضارب لأن المقر لا يدعي لنفسه في هذا شيئا والمنكر يزعم إنه أتلف فوق حقه من هذا المال فلا حق له فيما بقي بل يقسم هذا المقدار بين الجاحد ورب المال مائتين وخمسين على أصل حقهما أثلاثا ويقسم الخمسمائة السود أرباعا لاتفاقهم على أن ذلك ربح.
وكذلك لو كان جميع المال في يد المنكر للوديعة لأن المنكر للوديعة يزعم أن الخمسمائة البيض ربح من مال المضاربة ومال المضاربة في أيديهما فباعتبار إقرار ذي اليد هذه وما لو كان المال كله في أيديهما سواء بخلاف ما إذا كان المال كله في يد المقر لأن المقر يزعم إن هذه الخمسمائة ليست من مال المضاربة بل هي وديعة لصاحبها ولا يدفعها للمضارب الآخر ولا قول فلهذا كان المقر مصدقا في جميعها هنا فإن كان المضاربان حين جاءا بألفين كانت الخمسمائة البيض كلها في يد المقر بالوديعة فقال هذه وديعة لفلان عندي وقال الآخر ورب المال كله ربح أخذها صاحب الوديعة كلها لأن اليد فيها له فكان القول قوله فيها والخمسمائة السود بينهم أرباعا لاتفاقهم على أنها ربح.(22/173)
ولو كانت البيض في يد المنكر للوديعة أخذ رب المال رأس ماله ألف درهم وما بقي من المال قسم على أربعة أسهم لرب المال سهمان ولكل واحد من المضاربين سهم لأن البيض هنا قبل القسمة في يد الجاحد ليس شيء منها في يد المقر وإقراره بالوديعة فيما في يد الغير لا يكون صحيحا ما لم يصل إليه المال فلهذا قسم الكل كما هو زعم المنكر للوديعة ثم ما وقع في سهم المقر بالوديعة من البيض سلمه إلى صاحب الوديعة لأن ذلك القدر قد وصل إلى يده وقد أقر بالملك له وهذا بخلاف ما سبق إذا كان المال كله في يد الجاحد لأن هناك الجاحد مقر للمقر بالوديعة باليد في نصفه وهنا الجاحد لا يقر باليد في شيء من البيض للمقر بالوديعة لأن في يده مثلها من مال المضاربة وهي الخمسمائة السود.
وإذا دفع إلى رجلين ألف درهم مضاربة بالنصف وأمرهما أن يعملا في ذلك برأيهما فجاءا بألفي درهم في أيديهما جميعا فقال أحدهما ألف منها رأس المال وخمسمائة ربح وخمسمائة وديعة لفلان خلطناها بالمال بأمره فهو شريكنا في هذا المال بخمسمائة درهم وصدقه فلان بذلك وقال المضارب الآخر يملك الألف كلها ربح فإن رب المال يأخذ رأس ماله ألفا ويأخذ المقر له بالشركة مائتين وخمسين مما في يد المنكر أثلاثا لأنهما يزعمان إن ذلك ربح وإن المقر أتلف منه ذلك فهو محسوب عليه ثم يقسم رب المال والمضاربان(22/174)
ص -85- ... الخمسمائة الباقية أرباعا لاتفاقهم على أنها ربح فيكون للمضارب المقر بالشركة منها مائة وخمسة وعشرون درهما فيجمعها إلى ما أخذ المقر له بالشركة ويقسم ذلك كله بينهما على خمسة أسهم سهم للمضارب وأربعة للمقر له بالشركة لأنهما تصادقا على الشركة بينهما في المال وتصادقهما معتبر في حقهما فما وصل إليهما يقسم على أصل حقهما وهما متفقان أن حق المقر له في خمسمائة وإن حق المقر في مائة وخمسة وعشرين فاجعل كل مائة وخمسة وعشرين سهما فيكون الخمسمائة أربعة أسهم فأربعة أسهم حق المقر له وسهم حق المقر فلهذا قال يقسم ما في أيديهما أخماسا بينهما وما لم يصل إلى يدهما من المال يجعل كالتاوي بينهما.
ولو كان المال كله في يد المقر بالشركة يوم أقر بها أخذ المقر له بالشركة جميع الخمسمائة من المال لأن إقرار المقر فيما في يده مقبول ويأخذ رب المال رأس ماله ألفا والخمسمائة الباقية بين المضاربين وبين رب المال أرباعا ولو كان المال كله في يد المنكر للشركة أخذ رب المال رأس ماله ألف درهم فاقتسم هو والمضاربان الألف الباقية أرباعا وما أخذه المقر بالشركة اقتسمه هو والمقر أخماسا لأن الواصل إلى يده من المال هذا المقدار فباعتباره يصح إقراره ويقسم بينهما أخماسا للمقر خمسه وللقمر له أربعة أخماسه قال عيسى بن أبان رحمه الله هذا غلط وسواء كان المال في أيديهما أو في يد المنكر منهما ينبغي أن يأخذ المقر له بالشركة مائتين وخمسين أولا كما أجاب به في مسألة البيض والسود قبل هذا لأن المنكر مقر أن المال كله من المضاربة وإن نصفه في يد صاحبه ولكن ما ذكره هنا أصح.
والفرق بين هذا وبين تلك المسألة من وجهين أحدهما أن المنكر وإن أقر في هذه المسألة أن نصف المال في يد صاحبه وصاحبه ينكر ويقول يد المقر له على ماله لأنه شريك معنى فلم تثبت يد المقر على شيء من تلك الخمسمائة فلهذا لا يجوز إقراره في شيء منها قبل القسمة بخلاف مسألة البيض.(22/175)
والثاني إن في مسألة الشركة حق المقر له شائع في الكل وحق المضاربة كذلك شائع فلم يختص واحد من المضاربين بشيء منه ولم يثبت تنفيذ إقراره إلا بعد القسمة وأما في الوديعة فقد أقر بشيء بعينه متميز من حق المضاربة غير مفتقر إلى المقاسمة.
ولو جاء المضاربان بألفي درهم فقال أحدهما كان رأس المال ألف درهم فشاركنا فلان في المال بخمسمائة درهم فخلطناها بالألف ثم عملنا فربحنا خمسمائة وقال الآخر كلها ربح فإن رب المال يأخذ رأس ماله ألف درهم لاتفاقهم عليه ثم يدفع إلى المقر له مائتين وخمسين درهما في يد المقر بالشركة لأن إقراره فيما في يده مقبول ويبقى في يد المقر بالشركة مائتان وخمسون فقد أقر أنها ربح بين صاحب الشركة وبين المضاربين وبين رب المال على ثلاثة فيأخذ صاحب الشركة أيضا منها حصته من الربح بإقراره وذلك ثلاثة وثمانون(22/176)
ص -86- ... وثلث ويبقى في يد المضارب المقر بالشركة مائة وستة وستون وثلثان ثم ينظر إلى ما في يد المنكر للشركة وهو خمسمائة فيدفع منها مثل ما أخذ المقر له مما في يد المقر بالشركة وذلك ثلاثمائة وثلاثون وثلث فيقسمها رب المال والمضارب المنكر للشركة بينهما أثلاثا لإقرارهما أن هذا ربح وإن المقر بالشركة أتلف مثل هذا مما في يده وذلك محسوب عليه من نصيبه ويقسم هذا القدر بين المضارب الجاحد ورب المال على أصل حقهما ثلثاه لرب المال وثلثه للمضارب الجاحد ثم يجمع ما بقي في يد المضاربين وذلك ثلاثمائة وثلاثون وثلث فيكون ذلك بينهم أرباعا لاتفاقهم على أن ذلك ربح مال المضاربة فيقسم بينهم على الشرط ثم يجمع ما أصاب المقر بالشركة من الربح وهو ثلاثة وثمانون وثلث إلى ما في يد صاحب الشركة فيقسمان ذلك كله على تسعة أسهم للمقر سهم وللمقر له ثمانية لأن المقر زعم إن للمقر له سهما أصل ماله وثلث الخمسمائة ربح وذلك مائة وستة وستون وثلثان وثلث الخمسمائة الربح بينه وبين رب المال أرباعا فيجعل كل خمسمائة على ستة أسهم والخمسمائة التي أقر بها المقر لصاحب الشركة ستة أسهم وحصته من الربح سهمان فذلك ثمانية وحصة المضارب المقر بالشركة مما بقي من الخمسمائة سهم فذلك كله إذا جمعته تسعة أسهم فلهذا يقسم ما حصل في أيديهما على تسعة أسهم ثمانية اتساعه للمقر له وتسعه للمقر لأن ما زاد على ما وصل إليهما يجعل في حقهما كالتاوي والله أعلم.
باب المضارب يدفع المال مضاربة(22/177)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم ولم يقل اعمل فيه برأيك فليس للمضارب أن يدفعه إلى غيره مضاربة لأنه سوى غيره بنفسه في حق الغير ولأنه يوجب للثاني شركة في ربح مال رب المال ورب المال ما رضي إلا شركته فليس له أن يكسب سبب الشركة للغير فيه فإن دفعه مضاربة إلى غيره فاشترى به وباع فرب المال بالخيار إن شاء ضمن المضارب الأول رأس ماله لأنه صار غاصبا مخالفا بدفعه إلى غيره لا على الوجه الذي رضي به رب المال فإن ضمنه سلمت المضاربة فيما بين المضارب الأول والمضارب الآخر على شرطهما لأنه ملكه بالضمان من حين صار مخالفا فإنما دفع مال نفسه مضاربة إلى الثاني وإن شاء ضمن المضارب الآخر لأنه قبض ماله بغير إذنه وتصرف فيه ثم يرجع المضارب الآخر بما ضمن من ذلك على المضارب الأول لأنه مغرور من جهته فيرجع عليه بما يلحقه من الضمان ولأنه كان عاملا للمضارب الأول فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة ثم الربح بين المضاربين على ما اشترطا لأن الضمان استقر على الأول فيثبت الملك له وإن اختار رب المال أن يأخذ من الربح الذي ربح
المضارب الآخر حصته الذي اشترط على المضارب الأول لا يضمن واحد منهما شيئا فليس له ذلك لأن المضارب الأول صار غاصبا بما صنع.
ومن غصب من رجل مالا ودفعه مضاربة فعمل به المضارب وربح فلا سبيل لرب المال على الربح ولكن يضمن أيهما شاء وفرق بين المضاربة والرهن فإن المرهون إذا استحق(22/178)
ص -87- ... وضمن المرتهن قيمته فرجع به على الراهن لم يصح الرهن حتى يرجع عليه بالدين أيضا وهنا إذا رجع الثاني على الأول صحت المضاربة بين الأول والثاني لأن استرداد القيمة كاسترداد العين فينتقض قبض المرتهن باسترداد المستحق القيمة منه وبدون قبضه لا يكون مرهونا وهنا أيضا استرداد المثل كاسترداد العين ولكنه لا ينعدم به ابتداء اليد للمضارب على المال واستدامته ليست بشرط لحكم المضاربة حتى إنه إذا رد المضارب المال على رب المال واستعان به في التصرف كان الربح بينهما على الشرط.
ولو رد المرتهن المرهون على الراهن بعارية أو غيرها خرج من ضمان الرهن ولو كان المضارب الثاني لم يعمل بالمال حتى ضاع في يده فلا ضمان على واحد من المضاربين وكذلك لو غصب رجل المال من الآخر فالضمان على الغاصب ولا ضمان على واحد من المضاربين وقال زفر رحمه الله لرب المال أن يضمن أيهما شاء لأن المضارب الأول أمين وقد خالف بالدفع إلى غيره على وجه المضاربة فكان كل واحد منهما ضامنا كالمودع إذا أعار الوديعة من غيره ولكنا نقول المضارب غير ممنوع من دفع المال إلى غيره.
ألا ترى أن له أن يودع المال وأن يبضعه فلا يكون مجرد الدفع موجبا للضمان على واحد منهما ولكن في ظاهر الرواية حين عمل به الثاني صار المال مضمونا على كل واحد منهما وروى الحسن عن أبي حنيفة أن بمجرد العمل لا يصير مضمونا على واحد منهما حتى يحصل الربح لأنه إنما يصير مضمونا إذا صار مخالفا وذلك باشتراك الغير في ربح ماله ولهذا لا يضمن إذا أبضع أو أودع لأنه ليس في ذلك اشتراك الغير في الربح والشركة في الربح لا تتحقق قبل حصول الربح لسبب الخلاف وإنما تتحقق إذا حصل الربح.
وجه ظاهر الرواية: أن الربح إنما حصل بالعمل فيقام سبب حصول الربح مقام حقيقة حصول الربح في صيرورة المال به مضمونا عليهما بخلاف مجرد الدفع فهو ليس سببا لحصول الربح ليقام مقام حصوله.(22/179)
ولو استهلك المضارب الآخر المال أو وهبه كان الضمان على الآخر خاصة دون الأول لأنه في مباشرة هذا الفعل مخالف لما أمره به الأول فيقصر حكمه عليه بخلاف ما إذا عمل بالمال لأنه في مباشرة العمل ممتثل أمر المضارب الأولة فيجعل ذلك كعمل المضارب الأول فلهذا كان له أن يضمن أيهما شاء ولو أبضعه المضارب الثاني مع رجل يشتري به ويبيع فلرب المال أن يضمن ماله أي الثلاثة شاء لأن المضارب الثاني بمطلق العقد يملك الإبضاع كما يملك التصرف فيه فيكون هو فيما صنع ممتثلا أمر المضارب الأول والربح الحاصل بين المضاربين على الشرط لأن عمل المستبضع كعمل المبضع بنفسه وكان الربح بينهما على الشرط والوضيعة على المضارب الأول ولا ربح لرب المال لأن الأول صار بمنزلة الغاصب في حق رب المال فإن ضمن المضارب الأول صحت المضاربة الثانية وإن ضمن الثاني رجع به على الأول لأنه مغرور من جهته وصار المال مملوكا للمضارب الأول حين استقر عليه(22/180)
ص -88- ... الضمان وإن ضمن المستبضع رجع به على المضارب الثاني لأنه عامل له ومغرور من جهته ويرجع به الثاني على المضارب الأول كما لو ضمن نفسه لرب المال فإذا ظهر استقرار الضمان عليه تبين به وجه صحة المضاربة الثانية.
وإذا دفع الرجل مالا مضاربة بالنصف ولم يقل له اعمل فيه برأيك فدفعه المضارب إلى آخر مضاربة بالثلث ولم يقل له اعمل فيه برأيك فدفعه الثاني إلى آخر مضاربة بالسدس فعمل فيه وربح أو وضع فالمضارب الأول بريء من الضمان لأن الثاني خالف أمره حين دفعه إلى الغير مضاربة فلا يتحول منه هذا العقد إلى الأول كما لو استهلك المال ورب المال بالخيار إن شاء ضمن الثان رأس ماله وإن شاء ضمن الثالث وحال الثالث في هذه المسألة كحال الأول في المسألة الأولى حتى إذا ضمن لم يرجع على أحد بشيء وإن ضمن الثالث رجع على الثاني والربح بينهما على ما اشترطا لأن الضمان استقر على الثاني فصحت المضاربة بينه وبين الثالث.(22/181)
ولو كان المضارب الأول حين دفع المال مضاربة إلى الثاني بالثلث وقال له اعمل فيه برأيك فدفعه الثاني إلى الثالث مضاربة بالسدس فربح أو وضع فلرب المال أن يضمن أي الثلاثة شاء لأن الثاني بالدفع إلى الثالث هنا ممتثل أمر الأول فإن بعد قوله اعمل فيه برأيك له أن يدفع المال مضاربة إلى غيره فكان فعله كفعل الأول فلرب المال أن يضمن أي الثلاثة شاء فإن ضمن الثالث رجع على الثاني ورجع الثاني على الأول لمعنى الغرور وإن ضمن الثاني رجع على الأول وإن ضمن الأول لم يرجع على أحد مما ضمن بعد كما استقر الملك للأول صحت المضاربتان جميعا الثانية والثالثة والوضيعة على الأول وأما الربح فللضارب الآخر سدسه لأنه المشروط له هذا المقدار وللثاني سدسه لأن الأول للثاني شرط ثلث الربح ولنفسه ثلثيه فشرط الثاني السدس للثالث ينصرف إلى نصيبه خاصة دون نصيب الأول لأنه ليس للثاني أن يبطل حق الأول عن شيء من الربح الذي شرط لنفسه وإن كان قال اعمل فيه برأيك فلهذا كان للثاني ما بقي من الثلث بعد حق الثالث وهو السدس وللأول ثلث الربح.(22/182)
ولو كان المضارب الأول دفع المال إلى رجل مضاربة على أن للمضارب الثاني من الربح مائة درهم فعمل به فربح أو وضع أو توى المال بعد ما عمل به فلا ضمان لرب المال على أحد والوضيعة عليه والتوى من ماله لأن المضارب الأول إنما يصير ضامنا بإشراك الغير في ربح ماله وبما باشر من المضاربة الفاسدة لا يوجد سبب الاشتراك بل المضاربة الفاسدة كالإجارة ولو استأجر أجيرا ليعمل في المال لم يكن مخالفا به وجعل عمل الأجير كعمله فكذلك إذا دفعه إلى غيره مضاربة فاسدة وللعامل أجر مثله على المضارب الأول لأنه هو الذي استأجره ويرجع به الأول على رب المال لأنه في الاستئجار عامل له بأمره غير مخالف وإن كان فيه ربح فإنه يعطي أجر مثل العامل أولا من المال كما لو استأجره إجارة صحيحة ثم الربح بين رب المال والمضارب الأول على الشرط لأن عمل الأجير كعمل المضارب بنفسه وهذا وما لو أبضعه غيره سواء.(22/183)
ص -89- ... ولو كان رب المال شرط للمضارب الأول من الربح مائة درهم ولم يقل له اعمل برأيك فدفعه المضارب إلى آخر مضاربة بالنصف فعمل به فلا ضمان على المضاربين في الوضيعة والتوى لأن المضارب الأول ما أوجب للغير شركة في ربح ماله فإن بالعقد الذي بينه وبين رب المال لا يستحق هو شيئا من الربح فكيف يوجبه لغيره وإنما يتحقق الخلاف بإيجاب الشركة للغير في ربح ماله ثم الربح كله لرب المال هنا لأن عمل الثاني بأمر الأول كعمل الأول بنفسه وعليه أجر مثل المضارب الأول بمنزلة ما لو أقام العمل بنفسه وعلى المضارب الأول للمضارب الآخر مثل نصف الربح الذي ربح في ماله خاصة لأنه صار مغرورا من جهته فإنه أطمعه في نصف الربح وقد حصل الربح ولم يسلم له مع حصوله بل استحقه رب المال بسبب كان بينه وبين المضارب الأول وهو فساد العقد فرجع المضارب الثاني على المضارب الأول بمثل نصف الربح في ماله خاصة لأجل الغرر.
ألا ترى أن رجلا لو استأجر رجلا يعمل له بماله فيشتري به ويبيع ويبضعه ويستأجر عليه إن أحب فاستأجر عليه الأجير من يعمل به أو أبضعه مع رجل فربح أو وضع فالربح لرب المال والوضيعة عليه وللأجير الأول أجره على رب المال لأن عمل أجيره بأمره كعمله بنفسه وللأجير الآخر أجره على الأول لأنه هو الذي استأجره وعمل له ولو كان الأجير الأول دفعه مضاربة إلى رجل بالنصف فعمل به وربح كان الربح كله لرب المال وللأجير أجره على رب المال وللمضارب نصف الربح على الآخر في ماله خاصة لأجل الغرر الموجود من جهته ولا ضمان على الأجير والمضارب في المال لأن المضارب لم يصر شريكا في المال بمضاربته والخلاف إنما يتحقق به.(22/184)
ولو دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف وقال له اعمل برأيك فدفعه المضارب إلى رجل مضاربة بالثلث فعمل به وربح فللمضارب الآخر ثلث الربح وللأول سدسه ولرب المال نصفه لأن دفعه إلى الثاني مضاربة كان بإذن رب المال حين قال له اعمل برأيك فالمضارب بهذا اللفظ يملك الخلط والشركة والمضاربة في المال لأن ذلك كله من رأيه وهو من صنيع التجار إلا أن رب المال شرط لنفسه نصف جميع الربح فلا يكون للمضارب الأول أن يوجب شيئا من ذلك لغيره بل ما أوجبه للثاني وهو ثلث الربح ينصرف إلى نصيبه خاصة كأحد الشريكين في العبد إذا باع ثلثه.
وإذا كان المشروط للمضارب الأول نصف الربح وقد أوجب للثاني الثلث بقي له السدس وذلك طيب له بمباشرته العقدين وإن لم يعمل بنفسه شيئا.
ألا ترى أنه لو أبضع المال مع غيره أو أبضعه رب المال له حتى ربح كان نصيب المضارب من الربح طيبا له وإن لم يعمل بنفسه شيئا وإن دفع الثاني إلى ثالث مضاربة وقد كان الأول قال للثاني اعمل فيه برأيك فهو جائز والمضارب الثاني فيه بمنزلة الأول لأنه قال اعمل فيه برأيك فله أن يخلطه بماله وأن يشارك فيه وأن يدفعه إلى غيره مضاربة(22/185)
ص -90- ... وهذا بخلاف الوكيل إذا قال له الموكل اعمل برأيك فوكل غيره وقال للثاني اعمل برأيك لم يصح هذا منه حتى لا يكون للثاني أن يوكل غيره لأن الوكيل نائب محض لا حق له في المال فليس للأول أن يسوي غيره بنفسه في تفويض الأمر إلى رأيه على العموم بل هو نائب عن الموكل في توكيل الثاني به فأما المضارب فله في المال نوع حق من حيث إنه شريك في الربح فيكون له أن يفوض الأمر إلى رأي غيره على العموم فيما يعامله من عقد المضاربة ولو لم يقله الأول للثاني لم يكن للثاني أن يدفعه مضاربة وله أن يبضعه ويستأجر فيه بمنزلة الأول لو لم يقل له رب المال اعمل فيه برأيك وهذا لأن المضارب لا يستغني عن الأعوان والأجراء لتتميم مقصود رب المال.(22/186)
وإذا دفع مالا مضاربة إلى رجل على أن للعامل من الربح مائة درهم وقال له اعمل فيه برأيك فدفعه المضارب إلى غيره بالنصف فربح فيه أو وضع فالربح كله لرب المال والوضيعة عليه لأن المضارب غير مخالف في دفعه المال إلى غيره مضاربة فقد قال له رب المال اعمل فيه برأيك والمضاربة الفاسدة تعتبر بالمضاربة الجائزة في الحكم فكما أنه في العقد الجائز بهذه الصورة لا يصير مخالفا بالدفع إلى غيره مضاربة فكذلك الفاسدة إلا إنه لا حق للأول في الربح فلا يستحق الثاني بشرطه شيئا من غير الربح ولكن عمل المضارب الثاني كعمل الأول فالربح كله لرب المال والوضيعة عليه وعلى رب المال أجر مثل المضارب الأول فيما عمل المضارب الآخر وللمضارب الآخر مثل نصف الربح في مال المضارب الأول لأنه صار مغرورا من جهته وقد استحق الربح من يده بعد حصوله فيرجع عليه بمثل ما أوجبه له ولو كان الأول أخذ المال مضاربة بالنصف وقيل له اعمل فيه برأيك فدفعه مضاربة إلى آخر على أن له من الربح مائة درهم فعمل به الثاني فللثاني أجر مثله على المضارب في تلك المضاربة لما بينا أنه بمنزلة الأجير له ولكن الإجارة فاسدة ولو كانت صحيحة كان رجوعه في مال المضاربة فكذلك في الإجارة الفاسدة والربح بينه وبين رب المال على الشرط لأن عمل أجيره كعمله بنفسه.(22/187)
ولو كان رب المال حين دفعه إلى الأول قال على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بيننا نصفان أو قال ما كان في ذلك من رزق فهو بيننا نصفان أو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف وقال اعمل فيه برأيك فدفعه المضارب إلى آخر مضاربة بالثلث فربح فللمضارب الآخر ثلث الربح وللأول سدسه ولرب المال نصفه لأن رب المال بهذه الألفاظ يكون شارطا نصف ربح جميع المال لنفسه فما أوجبه المضارب الأول للآخر يكون من نصيبه خاصة حتى لو دفعه الأول إلى الثاني مضاربة بالنصف فنصف الربح للمضارب الثاني ونصفه لرب المال ولا شيء للمضارب الأول لأنه حول جميع نصيبه إلى الثاني فإن كان المضارب الأول شرط للثاني ثلثي الربح فللمضارب الثاني نصف الربح لأن إيجاب المضارب الأول للثاني إنما يتم سببا لاستحقاقه فيما هو نصيب الأول وهو النصف دون الزيادة على ذلك ثم(22/188)
ص -91- ... يرجع الثاني على الأول في ماله خاصة بسدس الربح أيضا لأنه صار مغرورا من جهته فإنه شرط له الثلثين ولم يسلم له إلا النصف وهذا الشرط من المضارب الأول غير صحيح في إبطال استحقاق رب المال أما في حق نفسه فهو صحيح وقد التزم سلامة ثلثي الربح للثاني فإذا لم يسلم إلا النصف رجع عليه بالسدس إلى تمام الثلثين ولا ضمان على المضارب الأول لأن رب المال قال له اعمل برأيك فلا يصير هو مخالفا بإيجاب الشركة للغير في ربح المال.
ولو قال رب المال للأول: ما ربحت في هذا من شيء فهو بيننا نصفان أو ما رزقك الله فيه أو قال على أن ما كان لك فيه من فضل أو ربح أو قال على أن ما كسبت فيه من كسب أو قال على أن ما رزقك الله فيه من شيء أو قال على أن ما صار لك فيه من ربح فهو بيننا نصفان وقال له اعمل فيه برأيك ودفعه الأول إلى آخر مضاربة بالنصف أو بثلثي الربح أو بخمسة أسداس الربح كان ذلك كله صحيحا وللثاني من الربح جميع ما شرط له والباقي بين الأول ورب المال نصفان لأن رب المال بهذه الألفاظ ما شرط لنفسه نصف جميع الربح وإنما شرط لنفسه نصف ما يحصل للأول من الربح لأنه أضاف بحرف الخطاب وهو الكاف أو التاء فما شرطه الأول للثاني قل أو كثر لا يتناول شيئا مما شرط رب المال لنفسه فيستحق الثاني جميع ما شرط له وما وراء ذلك جميع ما حصل للمضارب الأول وإنما شرط رب المال لنفسه نصف ذلك فلهذا كان الباقي بينهما نصفين بخلاف الأول فرب المال هناك شرط نصف جميع ربح المال لنفسه لأنه أضاف الرزق والربح إلى المال دون المضارب الأول.(22/189)
وإذا دفع رب المال ماله مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينه وبين المضارب نصفان وقال له: اعمل فيه برأيك فدفعه الثاني إلى الثالث مضاربة بالثلث فعمل به وربح فيه فللثالث ثلث الربح لأن ما أوجبه الثاني له ينصرف إلى نصيبه خاصة وللثاني سدس الربح لأن هذا القدر هو الباقي من نصيبه فلرب المال نصف الربح ولا شيء للمضارب الأول لأنه أوجب للثاني جميع نصيبه حين شرط له النصف ولو كان المضارب الأول دفعه إلى الثاني وشرط عليه أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بيننا نصفان وقال له اعمل فيه برأيك فدفعه الثاني إلى ثالث مضاربة بالثلث فللمضارب الآخر ثلث الربح كله وسدس الربح بين المضارب الثاني والأول نصفان ونصف الربح لرب المال لأن رب المال شرط لنفسه نصف جميع الربح والأول إنما شرط للثاني نصف ما رزق الله وذلك سدس الربح فكان بينهما نصفين.
ولو كان رب المال قال للأول: ما رزق الله من شيء و المسألة بحالها فالمضارب الآخر يأخذ ثلث الربح ويقاسم المضارب الثاني المضارب الأول الثلثين نصفين لأن الأول إنما أوجب للثاني نصف ما رزقه الله تعالى والذي رزقه الله تعالى ما وراء نصيب الثالث فكان ذلك بينهما نصفين ويقاسم رب المال المضارب الأول ثلث الربح الذي وصل إليه نصفين لأن رب المال إنما شرط لنفسه نصف ما رزق المضارب الأول والذي رزق الأول هذا الثلث فكان بينهما نصفين والله أعلم.(22/190)
ص -92- ... باب قسمة رب المال والمضارب
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فربح ألفا فاقتسما الربح وأخذ كل واحد منهما خمسمائة لنفسه وبقي رأس مال المضاربة في يد المضارب على حاله حتى هلك أو عمل بها فوضع فيها أو توى بعد ما عمل فيها فإن قسمتها باطلة والخمسمائة التي أخذها رب المال تحتسب من رأس ماله فيغرم له المضارب الخمسمائة التي أخذها لنفسه فيكون له من رأس ماله وما هلك فهو من الربح لأن الربح لا يتبين قبل وصول رأس المال إلى رب المال قال عليه الصلاة والسلام:"مثل المؤمن كمثل التاجر لا يسلم له ربحه حتى يسلم له رأس ماله فكذلك المؤمن لا تسلم له نوافله حتى تسلم له عزائمه" أو قال:" فرائضه" وهذا لأن رأس المال أصل والربح فرع وما بقي من رأس المال في يد المضارب فهو أمين فيه فإذا هلك من عمله أو من غير عمله لا يكون مضمونا عليه ولكن يجعل ما هلك كأن لم يكن فتبين أن الباقي من المال كان مقدار الألف وصل إلى رب المال من ذلك خمسمائة وما أخذه لنفسه فهو مضمون عليه فيغرم لرب المال الخمسمائة التي أخذها حتى يصل إليه كمال رأس ماله وقسمة الربح هنا قبل وصول رأس المال إلى رب المال بمنزلة قسمة الوارث التركة مع قيام الدين على الميت.
ولو أن الورثة عزلوا من التركة مقدار الدين وقسموا ما بقي ثم هلك المعزول قبل أن يصل إلى الغرماء بطلت القسمة وعليهم ضمان ما أخذوا لحق الغرماء فكما أن حق الغرماء سابق على حق الورثة في التركة فكذلك هنا حق رب المال سابق على حقهما في الربح وكذلك لو هلك أيضا ما أخذه كل واحد منهما لنفسه لأن ما أخذ رب المال محسوب عليه من رأس ماله فيستوي هلاكه في يده وبقاؤه وما هلك في يد المضارب كان مضمونا عليه لأنه أخذه لنفسه وأخرجه من المضاربة بأخذه فبقاؤه وهلاكه في يده سواء.(22/191)
ولو كان الربح ألفين وأخذ كل واحد منهما ألفا من الربح ثم ضاع المال كله ولم يقبض رب المال رأس ماله من المضاربة فإن الألف التي قبض رب المال هو رأس ماله لأن قسمة الربح بعد انتهاء العقد بوصول رأس المال إلى يد رب المال أو إلى يد وكيله فأما مع بقاء المال في يد المضارب وقيام عقد المضاربة فلا يصح قسمة الربح بينهما فيجعل ما هلك كأن لم يكن وتبين أن ما قبضه رب المال هو رأس ماله وأن الربح كله ما أخذه المضارب وقد أخذه لنفسه فكان مضمونا عليه فيغرم نصف تلك الألف لرب المال حصته من الربح ولو لم يضع المال حتى اشترى المضارب بالألف التي بقيت في يده بعد قسمة الربح فربح مالا كثيرا كانت الألف التي قبضها رب المال أولا من رأس المال ويأخذ من هذا المال ألف درهم مثل ما أخذ المضارب من الربح الأول ثم يكون الباقي ربحا بينهما نصفين لما قلنا إن قسمة الربح لا تجوز حتى يستوفي رب المال رأس ماله أو يستوفي له وكيله فإذا استوفاه ثم اقتسموا الربح جازت المقاسمة فإن استوفاه ثم اقتسما الربح فأخذ كل واحد منهما نصفه ثم إن رب المال(22/192)
ص -93- ... دفع إلى المضارب الألف التي قبضها برأس ماله فقال خذها فاعمل بها على المضاربة التي كانت فهذه مضاربة مستقبلة جائزة إن ربح فيها أو وضع لم تنتقض القسمة الأولى لأن العقد الأول قد انتهى بوصول رأس المال إلى يد رب المال ثم قسمتهما الربح حصلت في أوانها فتمت ثم دفع المال إلى الأول مضاربة مستقلة بمنزلة ما لو دفع إليه ألفا أخرى سوى الألف الأولى.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف فربح فيها ألفي درهم ثم اقتسما فدفع إلى رب المال رأس ماله ألف درهم وأخذ المضارب من الألفين حصته من الربح ألف درهم وبقيت حصة رب المال ولم يأخذها حتى ضاعت فإنها تضيع منهما جميعا لأن المضارب أمين فيما بقي في يده من المال ما لم يأخذه لنفسه فإذا هلك صار كأن لم يكن ويرد المضارب نصف ما أخذ من الربح لأن تلك الألف مضمونة عليه حين أخذها لنفسه وقد تبين أنها كانت جميع الربح ولأنها لا تسلم للمضارب ربحا حتى يسلم لرب المال مثلها ربحا ولم يسلم فعلى المضارب أن يرد نصف ما أخذ من الربح.(22/193)
ولو كانت الألف التي أخذها المضارب لنفسه هي التي هلكت وبقيت الألف الأخرى فإنها تحسب على المضارب من حصته وتسلم الألف التي بقيت لرب المال لأنه قبض تلك الألف لنفسه فصارت مضمونة عليه والضمان الذي لزمه بعد ما هلك محسوب عليه من حصته من الربح فيأخذ رب المال الألف الباقية من الربح فإن كان المضارب قاسم رب المال الربح وأخذ حصته ولم يقبض رب المال حصته حتى ضاع ما قبضه المضارب لنفسه وما بقي فإن الذي لم يقبضه رب المال هلك من مالهما ويصير كأن لم يكن لأن المضارب بقي أمينا في ذلك ويغرم المضارب لرب المال نصف الربح الذي كان قبضه لنفسه وكان مستوفيا له بالقبض فهلك مضمونا عليه وقد تبين أنه جميع الربح فيغرم نصفه لرب المال ولو ربح ألفا فاقتسما الربح وأخذ كل واحد منهما نصفه ثم اختلفا في رأس المال فقال المضارب قد دفعته إليك وإنما قاسمتني بعد الدفع وقال رب المال لم تدفع إلى رأس المال فالقول قول رب المال ويأخذ الخمسمائة التي أخذها المضارب فتكون له من رأس ماله لأن المضارب أمين والأمين فيما يدعي من الرد مقبول القول في براءة نفسه عن الضمان غير مقبول القول في وصول المال إلى المردود عليه.
ألا ترى أن المودع إذا ادعى رد الوديعة على الوصي ليس لليتيم أن يضمن الوصي شيئا وإذا ادعى الرد على أحد الشريكين ليس للشريك الآخر أن يضمنه شيئا فكذلك هنا لا يقبل قول المضارب في وصول رأس المال إلى رب المال وما لم يصل رأس المال إليه لا يسلم للمضارب شيء بطريق الربح ولأن المضارب يدعي خلوص الخمسمائة المقبوضة له ورب المال منكر لذلك والقول قول المنكر فإن قيل كان ينبغي أن يقال اشتغالهما بقسمة الربح يكون إقرارا بوصول رأس المال إليه فهو في إنكاره بعد ذلك مناقض إذ الظاهر يشهد للمضارب(22/194)
ص -94- ... لأن الظاهر أن قسمة الربح تكون بعد قبض رب المال رأس المال قلنا لا كذلك فبين التجار عادة ظاهرة في المحاسبة في كل وقت وأخذ كل واحد منهما حصته من الربح مع بقاء رأس المال على حاله فلا يكون هذا إقرارا من رب المال بقبض رأس المال فباعتبار هذا العرف لا يشهد الظاهر للمضارب أيضا ثم الظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق والمضارب يدعي استحقاق الخمسمائة ربحا والظاهر لهذا لا يكفي فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب لأنه أثبت ببينته دفع رأس المال إلى رب المال وبينة رب المال تنفي ذلك ولأنه أثبت استحقاقه الخمسمائة ربحا بالحجة وإن لم يقيما بينة وهلكت الخمسمائة التي أخذها المضارب لنفسه فالمضارب ضامن لها لأنه أخذها على أنها له فصار ضامنا لها.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف فذكر المضارب أنه قد ربح فيها ألفا وجاء بألفين ثم إنه جحد فقال لم أربح فيها إلا خمسمائة فهلكت الألفان في يده وقامت البينة على إقراره بما قال من الربح فإنه يضمن الخمسمائة التي جحدها من الربح فيأخذها رب المال من رأس ماله ولا يضمن شيئا غيرها لأن جميع المال أمانة في يده وإنما يصير ضامنا مقدار ما جحد من المال كالمودع وإنما جحد الخمسمائة فيما سوى ذلك وقد هلكت في يده فهي أمانة فإنما عليه ضمان الخمسمائة فيأخذها رب المال من رأس ماله ولو كان أنكر أن يكون ربح في المال شيئا و المسألة بحالها ضمن الألف الربح كلها فيأخذها رب المال من رأس ماله ولا ضمان عليه في رأس المال لأنه لم يجحدها فهلكت في يده أمانة وقد جحد الألف التي اعترف أنها ربح في يده فيكون ضامنا مثلها يأخذها رب المال من رأس ماله.(22/195)
ولو ربح فيها ألفا وقال لرب المال قد دفعت إليك رأس المال ألف درهم وبقيت هذه الألف الربح وقال رب المال لم أقبض منك شيئا فالقول قول رب المال مع يمينه أنه لم يقبض شيئا ويأخذ الألف الباقية من رأس ماله ويستحلف المضارب بالله ما استهلكها ولا ضيعها لأن المضارب أمين في رأس المال والقول قول الأمين مع اليمين في براءته عن الضمان لكونه غير مقبول القول فيما يدعي من سلامة نصف ما بقي له ولا هو مقبول القول في وصول رأس المال إلى رب المال بل القول في ذلك قول رب المال مع يمينه فإذا حلف هو ونكل المضارب عن اليمين غرم الخمسمائة لرب المال حصته من الربح لأن رب المال يأخذ الألف الباقية كلها من رأس المال والمضارب بنكوله عن اليمين قد أقر أنه استهلك تلك الألف أو ضيعها وقد بين أن ذلك كان جميع الربح فيغرم حصة رب المال وهو النصف.
ولو أن المضارب حين أراد رب المال استحلافه قال لم أدفعها إليك ولكنها ضاعت مني وحلف على ذلك فإنه يغرم نصفها لرب المال لأنه تناقض كلامه في تلك الألف حين ادعى مرة أنه دفعها إليه ثم ادعى إنها ضاعت منه وقد بينا في الوديعة أن المودع يضمن بمثل هذا التناقض فكذلك المضارب ولو أن المضارب حين قال دفعت إليك رأس مالك وبقيت هذه الألف الربح في يدي وكذبه رب المال وأقاما البينة فالبينة بينة المضارب لأنه يثبت قبض رب(22/196)
ص -95- ... المال رأس ماله ببينته ورب المال ينفي ذلك ولو أقام المضارب البينة أن رب المال أقر أنه قبض رأس ماله ألف درهم وأقام رب المال البينة على المضارب أن رب المال لم يقبض من رأس ماله شيئا فإن لم يعلم أي الإقرارين أول فالبينة بينة المضارب لأنه يثبت حق نفسه في نصف ما بقي بطريق الربح ورب المال ينفي ذلك وإن علم أيهما أول فالبينة بينة الذي يدعي الإقرار الآخر لأنا لو عاينا الإقرارين كان الثاني منهما ناقضا للأول فإن المقر الآخر يصير به رادا إقرار الأول والإقرار يرتد برد المقر له فلهذا كان المعمول به آخر الإقرارين.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل مالا مضاربة بالنصف فاشترى به وباع وربح أو لم يربح أو لم يشتر به شيئا منذ دفع المال إليه أو اشترى به عرضا ولم يبعه حتى زاد رب المال من الربح السدس فصار لرب المال الثلثان من الربح وللمضارب الثلث ثم ربح المضارب بعد ذلك ربحا فهذا جائز على ما فعلا ويقتسمان على ذلك ما حصل قبل الزيادة أو الحط وما حصل بعد ذلك لا ينظر فيه إلى الشرط الأول لأن الحط والزيادة قد نقضا الشرط الأول وهذا لأن العقد قائم بينهما ما لم يصل إلى رب المال رأس ماله والزيادة والحط في العقود اللازمة تثبت على سبيل الالتحاق بالأصل ففيما ليس بلازم أولى وإذا التحق بأصل العقد وصار كأنهما شرطا في الابتداء أن يكون الربح بينهما على الثلث والثلثين.(22/197)
ولو كان ربح ربحا فاقتسماه نصفين وأخذ رب المال رأس ماله قبل الحط والزيادة ثم وقع الحط والزيادة بعد ذلك فقال المضارب إنك قد غبنتني فزاده سدس الربح أو قال رب المال قد غبنتني فنقص المضارب من حقه سدس الربح فهذا جائز لازم يرجع كل واحد منهما على صاحبه بما حصل له من ذلك في القياس وهو قول أبي يوسف رحمه الله فأما في قول محمد رحمه الله فيجوز الحط ولا تجوز الزيادة لأنالعقد قد ارتفع بوصول رأس المال إلى رب المال وقسمة الربح وصحة الزيادة في حال بقاء العقد ثم ما يأخذ المضارب يأخذه بمقابلة عمله وقد انقضى عمله حقيقة وحكما بانتهاء العقد بقسمة الربح فلا تجوز الزيادة بعد ذلك في البدل وتجوز في الحط كما في الإجارة والبيع فإن بعد هلاك المبيع لا تجوز الزيادة ويجوز الحط فهذا مثله وأبو يوسف يقول القسمة تنهي عقد المضاربة والمنتهي ما يكون متقررا في نفسه فكان في معنى القائم دون المفسوخ فيجوز الحط والزيادة جميعا ثم من حيث المعنى كل واحد منهما يزيد من وجه ويحط من وجه لأن رب المال يزيد في حصة المضارب وذلك حط من نصيبه وكذلك المضارب يزيد في نصيب رب المال وذلك حط منه لنصيبه فإذا جاز من المضارب هذا بطريق الحط فكذلك يجوز من رب المال بطريق الحط والله أعلم
باب عتق المضارب ودعوته الحط
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها عبدا يساوي ألفا فأعتقه المضارب فعتقه باطل لأنه لا فضل في مالية العبد على رأس ماله والمضارب إنما يثبت له الملك في الفضل فبعتقه العبد ولا فضل فيه عتق فيما لا يملكه ولا عتق فيما لا(22/198)
ص -96- ... يملكه بن آدم والذي تدور عليه مسائل الباب أن رأس المال معتبر في كل نوع من أنواع مال المضاربة كان ذلك النوع جميع المال.
ألا ترى انه لو هلك أحد النوعين استوفى رب المال جميع رأس ماله من الآخر فهنا يعتبر العبد كأنه جميع المال ولا فضل فيه على رأس المال فلا ينفذ عتق المضارب فيه سواء كان في يد المضارب من مال المضاربة شيء آخر أو لم يكن ولو أعتقه رب المال كان حرا لأنه أعتق ملك نفسه ولا ضمان على رب المال فيه لأن جميعه مشغول برأس المال ورأس المال خالص حق رب المال وقد بطلت المضاربة إن لم يكن في يد المضارب سوى العبد من مال المضاربة شيء لأن المال قد تلف كله بإتلاف رب المال.
ولو أن المضارب اشترى بخمسمائة درهم من الألف عبدا يساوي ألفا فأعتقه المضارب فعتقه باطل لما قلنا وإن أعتقه رب المال جاز عتقه وصار مستوفيا لرأس المال بعتقه فتبقى الخمسمائة ربحا في يد المضارب فيقسمانها نصفين ولو كان اشترى بالألف عبدا يساوي ألفين فأعتقه المضارب جاز عتقه في ربعه لأن المال كله من جنس واحد وفيه فضل على رأس المال فيملك المضارب حصته من الربح وذلك ربع العبد فإن نصفه مشغول برأس المال والنصف الآخر ربح بينهما نصفان وإعتاق أحد الشريكين صحيح في حصته ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان موسرا فلرب المال الخيار بين أن يضمن المضارب ثلاثة أرباع قيمته وبين أن يستسعى العبد فيها وبين أن يعتقه بناء على مذهبه أن العتق يتجزأ وعندهما قد عتق كله والمضارب ضامن لرب المال ثلاثة أرباع قيمته إن كان موسرا وإن كان معسرا استسعى العبد في ثلاثة أرباع قيمته وهي مسألة معروفة في العتاق.(22/199)
ولو كان المضارب اشتراه بخمسمائة درهم من المضاربة وهي تساوي ألفين فأعتقه وهو موسر جاز عتقه في ربعه ويأخذ رب المال الخمسمائة الباقية من رأس المال ويضمن المضارب تمام رأس ماله خمسمائة ونصف الربح وهو سبعمائة وخمسون ويرجع المضارب في قول أبي حنيفة رحمه الله على العبد بجميع ما ضمن وهو ألف ومائتان وخمسون ويرجع المضارب أيضا على العبد بمائتين وخمسين فيستسعيه فيها وذلك تمام ما كان وجب له من الربح لأن عتقه إنما نفذ في القدر الذي هو مملوك له وقت الإعتاق وذلك ربع العبد فالعبد كأنه جميع مال المضاربة لأن ما سواه ليس من جنسه وإذا نفذ عتقه في ربعه وذلك خمسمائة أخذ رب المال الخمسمائة الباقية من رأس ماله وضمن المضارب الخمسمائة الأخرى من قيمة العبد تمام رأس ماله وظهر أن الربح ثلاثة أرباع العبد وهو ألف وخمسمائة لكل واحد منهما سبعمائة وخمسون فيغرم المضارب لرب المال حصته وذلك سبعمائة وخمسون وقد أتلف من نصيب نفسه بالإعتاق خمسمائة فإنما بقي له مائتان وخمسون فيستسعى العبد في ذلك ويرجع عليه أيضا بما ضمن لرب المال وذلك ألف ومائتان وخمسون لأنه ضمن له ذلك بإعتاقه(22/200)
ص -97- ... ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن المعتق إذا ضمن يرجع بما ضمن على العبد فيستسعيه فيه لأنه قائم مقام الساكت في ذلك وقد كان للساكت أن يستسعى العبد في ذلك فكذلك للمعتق إذا ضمن ولأنه بالضمان ملك نصيبه فيستسعى العبد في ذلك لإتمام العتق وعند أبي يوسف ومحمد يعتق العبد كله ويستوفي رب المال الخمسمائة الباقية من رأس ماله ويضمن المضارب ألفا ومائتين وخمسين درهما ولا سعاية له على العبد في شيء بناء على أصلهما أن العتق لا يتجزأ.
ولو اشترى المضارب بألف المضاربة عبدين كل واحد منهما يساوي ألفا فأعتقهما المضارب فعتقه باطل عندنا وعند زفر رحمه الله نافذ في ربع كل واحد منهما وقيل على قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله ينبغي أن يكون الجواب كذلك بناء على أصلهما أن الرقيق يقسم قسمة واحدة فكان هذا بمنزلة جنس واحد من المال فيملك المضارب حصته من الربح وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجري في الرقيق قسمة الجبر فيستسعى كل واحد من العبدين على حدته وكل واحد منهما مشغول برأس المال والأصح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله أن لا ينفذ عتق المضارب في شيء منها لأنهما يريان قسمة الجبر على الرقيق عند إمكان اعتبار المعادلة إذا رأى القاضي النظر في ذلك فعند عدم هذا الشرط كل واحد منهما معتبر على حده لا فضل في كل واحد منهما على رأس المال فلا ينفذ عتق المضارب في شيء منها فزفر رحمه الله يقول العبدان في حكم المضاربة كعبد واحد ورأس المال ألف درهم فيتيقن بوجود الفضل فيهما على رأس المال فينفذ عتق المضارب في حصته وهو الربع كما في العبد الواحد.(22/201)
ألا ترى أنه لو أعتقهما رب المال كان ضامنا حصة المضارب خمسمائة فإذا ظهر نصيب المضارب في حق وجوب الضمان له عند إعتاق رب المال فلإن يظهر نصيبه في تنفيذ العتق كان أولى ولنا أن بإعتاق رب المال إياهما يصل إليه رأس المال فيظهر الفضل فأما بإعتاق المضارب إياهما لا يصل إلى رب المال شيء ولا فضل في واحد منهما على رأس المال فيعتبر كل واحد منهما على حدة كأنه ليس معه غيره فلا ينفذ عتق المضارب في واحد منهما.
يوضحه أن للمضارب هنا حقا يتقرر عند وصول رأس المال إلى رب المال لا قبله.
ألا ترى أنه لو هلك أحدهما كان الباقي كله لرب المال برأس ماله وباعتبار الحق يجب الضمان ولكن لا ينفذ العتق وإنما ينفذ باعتبار الملك ولا ملك له في واحد منهما عند الإعتاق فلهذا لا ينفذ عتقه وإن زادت قيمتهما بعد ذلك كان العتق باطلا أيضا لأنه إنما يملك نصيبه الآن حين ظهر الفضل فيهما على رأس المال بزيادة قيمتهما ومن أعتق ما لا يملك ثم ملك لا ينفذ عتقه ولو أعتقهما رب المال معا عتقا لأن كل واحد منهما ملكه لكون كل واحد منهما مشغولا بملك رأس المال وألف ربح فيضمن حصة المضارب من ذلك وهو خمسمائة موسرا كان أو معسرا ولا سعاية على العبد عندهم جميعا لأن كل واحد منهما عتق(22/202)
ص -98- ... كله بإعتاق المالك إياه فلا يلزمه السعاية ورب المال صار متلفا حق المضارب من الربح بالعتق فيضمن له موسرا كان أو معسرا فإن أعتق أحدهما قبل صاحبه عتق الأول كله وولاؤه له ويعتق من الثاني نصفه لأنه حين نفذ عتقه في الأول منهما قد وصل إليه كمال رأس ماله وبقي العبد الآخر ربحا والربح مشترك بينهما نصفان فهو بإعتاق الثاني أعتق عبدا مشتركا بينه وبين غيره وحكم هذا في الخيار والاستسعاء والتضمين معروف.
ولو كان المضارب اشترى بها عبدين يساوي أحدهما ألفين والآخر ألفا فأعتقهما المضارب معا أو متفرقين وهو موسر فعتقه في دين قيمته ألف درهم باطل لأنه لا فضل في قيمته على رأس المال فلا يملك هو شيئا منه وأما الذي قيمته ألفان فالمضارب مالك لربعه حين أعتقه فيعتق منه ربعه ثم باع الذي قيمته ألف درهم فيستوفي رب المال من ذلك رأس ماله لأن رأس المال يحصل من شراء الأموال وذلك مالية العبد الذي لقي فيه عتقه بطريق البيع فقد تعذر البيع في معتق العبد فإذا وصل إليه رأس ماله ظهر إن العبد الثاني كله ربح وأن نصيب المال منه ألف درهم فيضمن المضارب ذلك لرب المال إن كان موسرا ويرجع بها على العبد في قول أبي حنيفة ويستسعيه أيضا في خمسمائة تمام نصيبه لأنه حين أعتق ما كان يملك منه إلا الربع فإن حدث له ملك في ربع آخر بعد ذلك بأن وصل إلى رب المال رأس ماله لا ينفذ ذلك العتق فيه فلهذا يستسعيه في هذا الربع لتتميم العتق.(22/203)
ولو لم يعتقهما المضارب وأعتقهما رب المال في كلمة واحدة فالعبد الذي قيمته ألف جزء من مال رب المال ولا سعاية عليه وأما العبد الذي قيمته ألفان فثلاثة أرباعه جزء من مال رب المال لأن عتقه إنما نفذ فيه بقدر ملكه فيهما وقت الإعتاق وقد كان مالكا جميع العبد الأوكس لأنه لا فضل فيه على رأس المال وثلاثة أرباع الأرفع فينفذ عتقه في ذلك القدر وأما الربع الباقي فإن كان رب المال موسرا فالمضارب في قول أبي حنيفة رحمه الله بالخيار إن شاء أعتق ذلك الربع وإن شاء استسعى العبد فيه وإن شاء ضمنه رب المال ويرجع به رب المال على العبد وإن كان معسرا فإن شاء أعتق وإن شاء استسعى وهذا ظاهر وضمن المضارب أيضا رب المال تمام حصته من الربح وذلك خمسمائة موسرا كان أو معسرا لأنه بالإعتاق صار متلفا مقدار ألفين وخمسمائة ألف من ذلك رأس ماله وألف وخمسمائة ربح وقد وصل إلى
المضارب خمسمائة إما بالتضمين أو بالاستسعاء فيسلم مثله لرب المال بقي ألف درهم بما أتلفه فنصفها حصة المضارب فلهذا غرم له خمسمائة موسرا كان أو معسرا.
والحاصل: أن كل شيء زاد به نصيب المضارب بعد عتق رب المال فالضمان فيه على رب المال ولا ضمان فيه على العبد وكل ما كان الملك فيه ظاهرا للمضارب وقت إعتاق رب المال فالحكم فيه بالتضمين والاستسعاء يختلف باليسار والإعسار كما بينا ثم رب المال لا يرجع على العبد بما ضمن للمضارب من هذه الخمسمائة الأخرى لأنه التزم ذلك بالإتلاف فإن كان رب المال أعتق الذي قيمته ألفان أولا عتق منه ثلاثة أرباعه لما بينا ثم تبين بوصول(22/204)
ص -99- ... رأس المال إلى رب المال أن الآخر كله ربح مشترك بينهما فإنما ينفذ عتق رب المال في نصفه فالحكم فيه بمنزلة الحكم في العبد المشترك يعتقه أحد الشريكين وإن كان أعتق الذي قيمته ألف درهم أولا عتق الأول كله وصار رب المال مستردا جميع رأس ماله فيظهر أن الآخر كله ربح وأنه مشترك بينهما وإنما ينفذ عتق رب المال في نصفه وللمضارب الخيار في نصيبه كما بينا.
ولو اشترى بألف عبدين كل واحد منهما يساوي ألفا فأعتقهما المضارب معا أو أحدهما قبل صاحبه ثم فقأ رب المال عين أحدهما أو قطع يده فقد صار مستوفيا نصف رأس ماله لأن العين من الآدمي نصفه فصار متلفا نصفه بفقء العين أو قطع اليد ولو كان العبد الأجنبي يضمن نصف قيمته خمسمائة فإذا كان من مال المضاربة صار مستوفيا نصف رأس ماله ثم ظهر الفضل في العبد الآخر لأن الباقي من رأس المال خمسمائة وقيمته ألف إلا أن العتق الذي كان من المضارب قبل ذلك فيه باطل لأنه سبق الملك فلا ينفذ وإن ظهر الملك من بعده وإن أعتقهما المضارب بعد ذلك لم يجز عتقه في المجني عليه لأنه لا فضل فيه عما بقي من رأس المال وأما العبد الآخر فيعتق منه ربعه نصف الفضل على ما بقي من رأس المال فيه ثم يباع المجني عليه فيدفع إلى رب المال تمام رأس ماله ويضمن المضارب إن كان موسرا لرب المال نصف قيمة العبد الذي جاز عتقه فيه لأنه ظهر أن جميعه ربح وأن نصفه لرب المال فيضمن المضارب له ذلك إذا كان موسرا ضمان العتق ويرجع به على العبد ويرجع عليه أيضا بمائتين وخمسين درهما وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه ظهر ملكه في نصفه إلا أن أعتقه حين عتق ما نفذ إلا في ربعه فيستسعيه في قيمة ربعه لتتميم العتق فيه.(22/205)
وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي ألفا فولدت ولدا يساوي ألفا فادعاه المضارب فدعواه باطل لأن كل واحد منهما مشغول برأس المال ولا فضل فيه وكل واحد منهما معتبر بانفراده فدعوته حصلت في غير ملكه فهو ضامن لعقر الجارية لأنه أقر بوطئها وهي مملوكة لرب المال فعليه عقرها لما سقط الحد عنه بالشبهة وله أن يبيع الجارية وولدها فقد أبهم الجواب هنا وهو على التقسيم فإن كانت جاءت بالولد منذ اشتراها لأقل من ستة أشهر فله أن يبيعها ولكن لا يلزمه العقر لأنا تيقنا إن الوطء سبق شراءه فلا يوجب عليه العقر للمضاربة وإن كانت جاءت به لأكثر من ستة فعليه العقر وله أن يبيعها ما لم يستوف رب المال منه عقرها فإن استوفى عقرها وهو مائة درهم صحت دعوته وثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له لأن ما وصل إلى رب المال وهو مائة درهم محسوب من رأس ماله فإنما يبقى من رأس ماله تسعمائة وفي قيمة كل واحد منهما فضل على ما بقي من رأس المال فتصح دعواه ثم يغرم لرب المال من قيمة الجارية تسعمائة تمام رأس ماله وخمسين درهما مما بقي موسرا كان أو معسرا لأن ضمان الاستيلاد ضمان تملك فلا يختلف باليسار والإعسار ولهذا لا يعتمد الصنع فإذا غرم له(22/206)
ص -100- ... تسعمائة فقد وصل إليه تمام رأس ماله وصارت المائة الباقية من قيمتها ربحا بينهما فيغرم حصة رب المال من ذلك خمسين درهما وأما الولد فهو ربح كله ويعتق نصيب المضارب منه وهو النصف ويستسعى في نصف قيمته لرب المال ولا ضمان على المضارب في ذلك وإن كان موسرا لأنه كالمعتق له وضمان الإعتاق لا يجب إلا بالصنع وإنما عتق نصيبه هنا حكما لظهور الفضل في قيمة كل واحد منهما على رأس المال فإن لم يبع واحد منهما ولم يستوف رب المال عقرها حتى زادت الجارية فصارت تساوي ألفين فهي أم ولد للمضارب لأنه ظهر الفضل في قيمتها على رأس المال فيملك المضارب حصته منها وهو الربع فتصير أم ولد له لأنه بدعواه نسب الولد قد أقر أنها أم ولد له والإقرار بالاستيلاد إذا حصل قبل الملك يوقف على ظهور الملك في المحل وبعد الملك يصير كالمجدد له ثم الاستيلاد لا يحتمل الوصف بالتحري في المحل فصار هو متملكا نصيب رب المال منها وذلك ثلاثة أرباعها ألف وخمسمائة ألف رأس ماله وخمسمائة ربح فعليه قيمة ثلاثة أرباعها موسرا كان أو معسرا لأنه ضمان التملك وأما الولد فهو رقيق على حاله ما لم يؤد ما عليه من قيمة الأم أو يأخذ رب المال شيئا من العقر لأنه لا فضل فيه على رأس المال وله أن يبيعه فإن لم يبعه حتى صار يساوي ألفين فإنه يصير بن المضارب ويعتق منه ربعه لأنه ظهر الفضل في قيمته على رأس المال فملك المضارب نصيبه من الربح وذلك ربع الولد فيعتق ذلك القدر عليه بخلاف ما سبق أنه إذا أعتقه ولا فضل فيه على رأس المال ثم ظهر الفضل فيه لم ينفذ ذلك العتق لأن إنشاء العتق متى سبق الملك لم ينفذ بحدوث الملك في المحل بعده ودعوى النسب إذا سبقت الملك نفذ لحدوث الملك في المحل بعده باعتبار أن سببه لا يحتمل الفسخ بحال وهو كونه مخلوقا من مائة ثم لا ضمان على المضارب فيه لأنه عتق حكما لظهور الفضل في قيمته وضمان العتق يعتمد الصنع وحين وجد منه الصنع وهو الدعوى لم(22/207)
يعتق شيء منه لأن علة العتق القرابة والملك فإنما يضاف إلى آخر الوصفين وجودا وقد حصل ذلك حكما بغير صنعه ولهذا لو ورث بعض قريبه لم يضمن لشريكه شيئا بخلاف الأم فإن ضمان الاستيلاد ضمان تملك وهو لا يعتمد الصنع.
ألا ترى أنه لو ورث بعض أم ولده يضمن لشريكه نصيبه فإن استوفى رب المال من المضارب ألف درهم صار ما بقي من الابن وما بقي على المضارب من قيمة الأم وعقرها على المضاربة ربحا كله فإن كان العقر مائة درهم ضمن رب المال المضارب الألف كلها والمائة الدرهم فإذا أخذها كان للمضارب مثل ذلك من الولد فيعتق من الولد قدر ألف درهم ومائة ويبقى تسعمائة فهو بين المضارب وبين رب المال نصفين فيعتق حصة المضارب ويستسعى الولد لرب المال في حصته أربعمائة وخمسين ولرب المال من ولاء الولد عشره وربع عشره والباقي للمضارب في قول أبي حنيفة رحمه الله وهذا اللفظ سهو فإن لرب المال من ولاء الولد خمسه وربع عشره لأن قيمة الولد ألفان والذي عتق منه على ملك رب(22/208)
ص -101- ... المال قدر أربعمائة وخمسين وأربعمائة خمس الألفين والخمسون ربع العشر فإن العشر مائتان فعلمنا أن له من الولاء خمسه وربع عشره والباقي للمضارب وقد طعن عيسى رحمه الله في هذا الجواب فقال هو خطأ لأن الباقي بعد الألف الذي استوفاها رب المال كله ربح بينهما نصفان فلا يكون حصة المضارب من الولد خاصة ولكن المضارب يضمن نصف ما بقي من نصف قيمة الأم ونصف العقر واستسعى الولد في نصف قيمته واستشهد ب المسألة التي ذكرها في آخر الباب فإنه خرجها على هذا الوجه فقال تلك صحيحة وهي تنقض هذه المسألة فقال مشايخنا رحمهم الله ما ذكره عيسى هو القياس ولكن ما ذكره محمد رحمه الله نوع استحسان وإنما أخذ به هنا لزيادة العتق في الولد فأما لو سلكنا طريق القياس لم يعتق الولد مجانا إلا بصفة وإذا صرنا إلى ما ذكره محمد رحمه الله يعتق من الولد ثلاثة أرباعه وربع عشره مجانا ومبنى العقد على الغلبة والسراية فيترجح الطريق الذي فيها تكثير العتق ثم الفرق بين هذه المسألة وبين تلك بيناه في آخر الباب.(22/209)
ولو كان المضارب معسرا لا يقدر على الأداء فأراد رب المال أن يستسعى الجارية في رأس ماله وحصته من الربح لم يكن له ذلك لأن ذلك دين على المضارب ولا سعاية على أم الولد في دين مولاها وإن أراد أن يستسعى الولد كان له ذلك في الألف وخمسمائة ألف درهم رأس ماله وخمسمائة حصته من الربح في الولد لأن نصيب المضارب من الولد وهو الربع عتق بالدعوى فعليه السعاية في نصيب رأس المال وهو ثلاثة أرباعه وهذا لأن الولد يعتق بأداء السعاية والاستسعاء لتتميم العتق صحيح فأما أم الولد فلا تعتق بأداء السعاية فلهذا لا يلزمها السعاية في دين مولاها ثم لرب المال ثلاثة أرباع ولاء الولد لأن هذا القدر عتق على ملكه بأداء السعاية إليه ويرجع على المضارب بنصف قيمة الأم ونصف العقد لأنها مع عقرها كله ربح فيسقط عن المضارب حصته من ذلك ويغرم حصة رب المال فإذا أدى ذلك إلى رب المال فأراد الولد أن يرجع بشيء مما سعى فيه على واحد منهما لم يكن له ذلك لأن عوض ما سعى فيه قد حصل له وهو ذلك القدر من رقبته.
ولو كان المضارب حين اشترى الجارية بالألف وهي تساوي ألفا فولدت ولدا يساوي ألفا فلم يدعه ولكنه ادعاه رب المال فهو ابنه والأم أم ولد له ولا يغرم للمضارب شيئا من عقر ولا قيمة جارية لأن الجارية كلها مملوكا لرب المال إذ لا فضل فيها على رأس المال فاستيلاده حصل في خالص ملكه وذلك نقض منه للمضاربة بمنزلة ما لو استردها بالإعتاق فلم يلزمه عقرها وقد علق الولد حر الأصل ولا شيء للمضارب قبله من قيمتها ولا من قيمة ولدها وكذلك لو كان الولد يساوي ألفين لأن نسبه ثبت من وقت العلوق وإنما علق حر الأصل فلا معتبر بقيمته قلت أو كثرت ولو كانت الأم تساوي ألفين غرم ربع قيمتها وثمن عقرها للمضارب لأنه حين استولدها كان الربع منها للمضارب فيغرم له ربع قيمتها وقد لزمه ربع عقرها أيضا باعتبار ملك المضارب لكن هذا الربع من العقر ربح بينهما نصفان فتسقط حصته من ذلك(22/210)
ص -102- ... ويغرم حصة المضارب وهو ثمن عقرها ولا ضمان عليه في الولد لأنه علق حر الأصل فإن أصل العلوق حصل في ملكه فتستند دعواه إلى تلك الحالة ويكون الولد حر الأصل.
ولو كان المضارب هو الذي وطىء الجارية وقيمتها ألفان فجاءت بولد فادعاها المضارب بعد ما ولدته وقيمته ألف درهم فالولد ولد المضارب لأنه كان مالكا لربعها حين استولدها وذلك يكفي لثبوت نسب الولد بالدعوى ولا ضمان عليه فيه وهو عبد لأنه لا يملك شيئا من الولد فإنه لا فضل في قيمته على رأس المال ولو اشترى المضارب ابنا معروفا له بمال المضاربة ولا فضل فيه على رأس المال لم يعتق عليه فكذلك إذا ثبت النسب بدعواه ويغرم لرب المال ثلاثة أرباع قيمة الجارية لأن نصيبه منها صار أم ولد له وصار به متملكا نصيب رب المال وهو ثلاثة أرباعها فلهذا يغرم ثلاثة أرباع قيمتها ويغرم له ثلاثة أثمان العقر ولكن ذلك ربح كله فيسقط نصف حصة المضارب ويضمن لرب المال حصته من ذلك وهو ثلاثة أثمان عقرها فإذا قبض رب المال ذلك عتق نصف الولد لأن الولد صار ربحا كله فيعتق نصيب المضارب منه وهو النصف ويسعى في نصف قيمته لرب المال ولا ضمان على المضارب فيه لأن العتق حصل حكما بحدوث ملكه فيه ولا يقال كان ينبغي أن يكون الولد حر الأصل كما في جانب رب المال لأن رب المال صار ناقضا للمضاربة باسترداد رأس المال عنه عند الاستيلاد والمضارب لا يتمكن من ذلك فلا يسلم له شيء من الربح ما لم يسلم رأس المال لرب المال فلهذا كان الولد رقيقا وإنما يعتق إذا سلم رأس المال لرب المال.(22/211)
ولو كانت الجارية تساوي ألفا فولدت ولدا يساوي ألفا فادعاه المضارب فغرمه رب المال المقر وهو مائة درهم وأخذها صارت الجارية أم ولد للمضارب ويعتق الولد ويثبت نسبه لظهور الفضل في قيمة كل واحد منهما على ما بقي من رأس المال ويضمن المضارب من قيمة الأم تسعمائة وخمسين درهما تسعمائة ما بقي من رأس المال وخمسون حصة رب المال من المائة التي هي ربح في الجارية فإذا قبضها رب المال عتق نصف الولد من المضارب ويسعى في نصف قيمته لرب المال وولاؤه بينهما نصفان لأن الولد كله ربح بينهما نصفين وهذه هي المسألة التي استشهد بها عيسى رحمه الله والفرق بينها وبين الأول على جواب الكتاب من وجهين.
أحدهما: أن في هذا الموضع سبب عتق الولد اشترك فيه المضارب ورب المال فلهذا لا يجمع نصيب المضارب من الربح في الولد كله وهناك لا صنع لرب المال في السبب الموجب للعتق في الولد وإنما السبب ظهور الفضل في قيمته على رأس المال فلهذا يجمع جميع نصيب المضارب من الربح في الولد لدفع الضرر عن رب المال بوصوله إلى جميع نصيبه بالتضمين في الحال.
والثاني: أن الجمع هناك لتغليب العتق وذلك لا يقوى هناك لأن تفاوت ما بين الجمع والتفريق نصف عشر الولد فالربح من الجارية قدر المائة وإن جعلنا ذلك كله لرب المال لا يزداد العتق للولد إلا بقدر نصف العشر وذلك قليل فلهذا لم يشتغل بالجمع هنا(22/212)
ص -103- ... وإن كان المضارب معسرا وقد أدى العقر فلرب المال أن يستسعى الولد بتسعمائة وخمسين درهما تسعمائة بقية رأس ماله لأنه لا وجه لاستسعاء الجارية في ذلك فإنها أم ولد فلا يلزمها السعاية في دين مولاها ولكن يستسعى الولد في ذلك ليعتق ثم المائة الباقية منه ربح فيسعى لرب المال في نصفها ويكون لرب المال من الولد تسعة أعشاره ونصف عشره ويكون له نصف قيمة الأم دينا على المضارب في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الأم صارت ربحا كلها وإنما يضمن المضارب لرب المال مقدار حصته منها بالاستيلاد وذلك النصف والله أعلم.
باب جناية العبد في المضاربة والجناية عليه(22/213)
قال رحمه الله: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى وباع وربح ثم اشترى ببعضها عبدا يساوي ألفا فقتله رجل عمدا فلا قصاص فيه لاشتباه المتوفى لأن في الحال العبد كله مشغول برأس المال فالقصاص لرب المال دون المضارب وباعتبار المال المضارب شريك لأن رب المال باستيفاء القصاص لا يصير مستوفيا رأس ماله فإن القصاص ليس بمال فلا بد أن يستوفي ما بقي من المال بحساب رأس المال وإذا استوفى ذلك ظهر في العبد فضل على ما بقي من رأس المال فيكون المضارب شريكا بقدر حصته من الربح وليس لأحد الشريكين أن ينفرد باستيفاء القصاص فإن قيل كان ينبغي أن يجتمعا في استيفاء القصاص قلنا هذا غير ممكن أيضا فإن المضارب يصير مستوفيا لنفسه شيئا قبل أن يصل إلى رب المال كمال رأس ماله وذلك لا يجوز وبه فارق العبد المرهون إذا قتل عمدا واجتمع الراهن والمرتهن في استيفاء القصاص فإن لهما ذلك في قول أبي حنيفة وأحد الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله وفي قول محمد رحمه الله وهو أحد الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله ليس لهما ذلك لأن حق المرتهن مع حق الراهن فيه بمنزلة حق المضارب مع حق رب المال هنا والفرق بينهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف إن هناك الحق لا يعد وهما وليس في اجتماعهما على استيفاء القصاص ما يتضمن مخالفة حكم الشرع بل مالية الرهن تصير تاوية به ويسقط الدين وذلك مستقيم بتراضيهما وهنا في اجتماعهما على الاستيفاء سلامة شيء للمضارب قبل وصول كمال رأس المال إلى رب المال يوضحه أن هناك الراهن هو المالك لجميع العبد في الحال والمآل وللمرتهن حق فيشترط رضاه ليتمكن المالك من استيفاء القصاص وهنا المالك رب المال في الحال وباعتبار المآل المضارب شريك في المآل وهو نظير المكاتب إذا قتل عن وفاء وله وارث سوى المولى لا يجب القصاص لاشتباه المستحق.(22/214)
ولوكان المضارب اشترى بالألف المضاربة عبدا يساوي ألف درهم فقتله رجل عمدا فالقصاص واجب لرب المال لأن العبد قتل على ملكه ولا شركة للغير فيه باعتبار الحال والمال إذ لا فضل في المال على رأس المال فيجب القصاص له على القاتل وقد خرج العبد عن المضاربة لأن القصاص الواجب ليس بمال وقد صار مال المضاربة بحال لا يتأتى فيه(22/215)
ص -104- ... التصرف بيعا ولا شراء فلهذا يخرج من المضاربة كما لو أعتقه رب المال فإن صالحه على ألف درهم كانت لرب المال من رأس ماله وإن صالحه على ألفي درهم استوفى رب المال من ذلك رأس ماله وما بقي بمنزلة الربح بينهما على ما اشترطا لأن القود الواجب كان مثلا لمال المضاربة وقد صار ذلك القود بالصلح مالا والمال عوض عن ذلك القود وحكم العوض حكم المعوض إلا أنه كان لا يظهر حق المضارب في القود لأنه ليس بمال والربح لا يظهر ما لم يصل رأس المال إلى رب المال فأما هنا العوض مال فيظهر نصيب المضارب فيه إذا وصل رب المال رأس ماله وهو نظير الموصى له بالثلث لا حق له في القصاص فإن وقع الصلح عنه على مال ثبت فيه حق الموصى له.
ولو كان المضارب اشترى العبد بألف المضاربة وهو يساوي ألفين فقتله رجل عمدا فلا قصاص عليه وإن اجتمع على طلبه رب المال والمضارب لأن رب المال لا ينفرد باستيفاء القصاص هنا للشركة التي كانت للمضارب في العبد حين قتل ولا يجوز أن يجتمعا على الاستيفاء لأن رب المال باستيفاء القصاص لا يصير مستوفيا رأس ماله فيؤدي إلى أن يستوفي المضارب شيئا لنفسه قبل أن يصل إلى رب المال رأس ماله فلهذا لا يجب القصاص أصلا ومتى تعذر إيجاب القصاص في العمد المحض يجب بدل المقتول في مال القاتل وبدل المقتول قيمته هنا فيأخذ المضارب قيمة العبد من القاتل في ماله في ثلاث سنين لأن وجوب المال بنفس القتل فيكون مؤجلا وإن كانت العاقلة لا تعقله لكونه عمدا كالأب إذا قتل ابنه عمدا ثم هذه القيمة على المضاربة يشتري بها ويبيع بمنزلة ما لو غصب العبد غاصب وتلف في يده.(22/216)
ولو كانت قيمته ألف درهم أو أقل فقتل العبد رجلا عمدا فادعى ذلك أولياؤه على العبد وأقاموا عليه البينة بذلك والمضارب حاضر ورب المال غائب لم يقض على العبد بالقصاص حتى يحضر رب المال وكذلك إن حضر رب المال والمضارب غائب ما لم يقض بالقصاص حتى يحضر المضارب لأن الملك لرب المال واليد للمضارب وهي يد مستحقة له.
ألا ترى أنه يتمكن من التصرف باعتبارها على وجه لا يملك رب المال نهيه عن ذلك فنزل هو منزلة المالك واشتراط حضور المالك في القضاء بالبينة على العبد بالقود قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف الآخر لا يشترط ذلك لأن العبد في حكم دمه مبقي على أصل الحرية وعندهما للمولي حق الطعن في الشهود فلا يجوز تفويت ذلك الحق عليه بالقضاء بالبينة حال غيبته وقد بينا المسألة في الآبق فحال غيبة المضارب على الخلاف أيضا ولا خلاف أن العبد لو أقر بالقتل عمدا فإنه يقضي عليه بالقود حضرا أو لم يحضرا لأن الإقرار ملزم بنفسه وليس لهما حق الطعن في إقراره ولو أقر العبد بذلك وهما حاضران يكذبانه فيه وللمقتول وليان فعفا أحدهما فإن حق ولي الآخر باطل لأن صحة إقراره باعتبار أن المستحق به دمه وهو خالص حقه وبعد عفو أحد الوليين المستحق للآخر هو المال وإقراره في استحقاق الملك والمالية على مولاه باطل كما لو أقر بجناية خطأ(22/217)
ص -105- ... وكذلك لو كان المضارب صدقه لأن العبد كله مشغول برأس المال فالمضارب فيه كالأجنبي وباعتبار اليد لا ينفذ إقراره كالمرتهن إذا أقر بذلك على المرهون فإن كان في العبد فضل فقيل له ادفع نصف حصتك إلى الولي الذي لم يعف أو افده لأنه ملك حصته من الفضل ولو أقر فيه بجناية خطأ خوطب بالدفع أو الفداء فكذلك بجناية العمد بعد عفو أحد الوليين في نصيب الآخر فإذا احتال أحدهما بطلت المضاربة لأنه لو اختار الدفع فقد صار مملكه ذلك القدر من جهة نفسه لا على وجه التصرف في مال المضاربة وإن اختار الفداء فقد سلم له ذلك القدر بما أدى من الفداء وذلك يبطل عقد المضاربة فيه وإذا بطل حكم المضارب في بعض رأس المال بطل في كله فيأخذ رب المال من العبد قدر رأس ماله وحصته من الربح ويأخذ المضارب نصف حصته الذي بقي ولو لم يكن في دفعه إلا إثبات الشركة للغير في مال المضاربة لكان ذلك مبطلا للمضاربة.
ولو كان المضارب أنكر ما أقر به العبد وأقر به رب المال وقيمته ألف أو أقل قيل لرب المال ادفع نصفه أو افده بنصف الدية لأن العبد كله مملوك لرب المال فإقراره عليه بالجناية الموجبة للمال صحيح فإن دفعه كان النصف الباقي على المضاربة ورأس المال فيه خمسمائة لأنه في حق المضارب صار هو مستوفيا نصفه بالدفع فيكون ذلك محسوبا عليه من رأس ماله وإن كانت قيمته أقل من ألف طرح من الألف قدر قيمة ما استهلك رب المال من العبد بالدفع ورأس ماله ما وراء ذلك والباقي على المضاربة يتمكن المضارب من التصرف فيه ولو كانت قيمته ألفي درهم صدق رب المال على حصته من ذلك وهو ثلاثة أرباع العبد فيقال له ادفع نصف حصتك أو افده ويسلم لرب المال نصف حصته من العبد ويكون للمضارب حصته من العبد وهو الربع لأن المولي حين أقر عليه بالجناية كان العبد مشتركا بينه وبين المضارب أرباعا فإنما يعمل إقراره في نصيبه دون نصيب المضارب.(22/218)
ولو اشترى المضارب بألف المضاربة عبدا قيمته ألف درهم فجني جناية خطأ لم يكن للمضارب أن يدفعه بالجناية لأن العبد كله مملوك لرب المال فالدفع بالجناية تمليك لا بطريق التجارة فلا يملكه المضارب بعقد المضاربة كالتمليك بالهبة والصدقة وكإبطال الملك فيه بالإعتاق وإن فداه كان متطوعا في الفداء لأنه لا ملك له في العبد وهو غير مجبر على هذا الفداء فهو فيه كأجنبي آخر وكان العبد على المضاربة على حاله لأنه فرغ من الجناية بالفداء فإن كان رب المال حاضرا قيل له ادفعه أو افده لأنه هو المالك لجميع العبد حين جنى والمالك هو المخاطب بالدفع أو الفداء فإن اختار الفداء أخذه ولم يكن للمضارب عليه سبيل لأنه سلم له العبد بما أدى من الفداء فصار هو في حق المضارب كالتاوي حين أبى المضارب أن يفديه فلا يبقي له حق فيه باعتبار يده وإن أراد دفعه فقال المضارب أنا أفديه ويكون على المضاربة لأني أريد أن أبيعه فاربح فيه كان له ذلك لأن له في العبد يدا معتبرة وباعتبارها يتمكن من التصرف على وجه لا يملك رب المال منعه عن ذلك فيكون هو متمكنا من(22/219)
ص -106- ... استدامة يده بأداء الفداء لأنه لا يبطل بالفداء شيئا من حق رب المال ورب المال بالدفع يبطل حق المضارب ولو كان المضارب غائبا لم يكن لرب المال أن يدفعه وإنما له أن يفديه لأنه ليس في الفداء إبطال اليد المستحقة للمضارب فيه بل فيه تقرير يده بعد ما أشرفت على الفوات وفي الدفع تفويت يده فلا يملكه إلا بمحضر من المضارب لأن له أن يختار الفداء إذا حضر فلا يملك رب المال أن يبطل عليه خياره.
ولو كان المضارب اشترى ببعض المضاربة عبدا فجنى جناية خطأ وفي يد المضارب من المضاربة مثل الفداء أو أكثر لم يكن له أن يفديه بالمال الذي في يده لأن الفداء من الجناية ليس من التجارة وليس له أن يتصرف في مال المضاربة على غير وجه التجارة وإنما له أن يفديه من مال نفسه إن أحب ولو كان اشترى بألف المضاربة عبدا يساوي ألفين فجنى جناية خطأ تحيط بقيمته أو أقل منها لم يكن لواحد منهما أن يدفعه حتى يحضرا جميعا لأن العبد مشترك بينهما ربعه للمضارب وثلاثة أرباعه لرب المال وأحد الشريكين في العبد لا ينفرد بدفع جميع العبد وأيهما فداه فهو متطوع في الفداء لأن في نصيب شريكه هو غير مجبر على الفداء ولا مضطر إلى ذلك لإحياء ملكه فكان متبرعا فيه فإن حضرا واختارا الدفع دفعاه وليس لهما شيء وإن اختارا الفداء فالفداء عليهما أرباعا على قدر ملكهما فيه وقد خرج العبد من المضاربة وليس للمضارب بيع نصيب رب المال منه لأنه إنما سلم له بما أدى من الفداء والمضارب قد رضي بفوات يده وحقه فيه حين أبى الفداء في حصة رب المال فإن اختار رب المال الفداء واختار المضارب الدفع فكل واحد منهما يختص بملك نصيبه وله ما اختار في نصيبه من دفع أو فداء وقد وقعت القسمة بينهما وخرج العبد من المضاربة لأن رب المال إن دفع نصيبه وفدى المضارب نصيبه فقد تميز نصيب أحدهما من الآخر وكذلك إن كان المضارب دفع نصيبه وتميز نصيب أحدهما من نصيب الآخر لا يكون إلا بعد القسمة(22/220)
فلهذا جعل ذلك قسمة بينهما وإبطالا للمضاربة ولأن بالتخيير في حق كل واحد يثبت في نصيبه حكم ليس ذلك من حكم المضاربة فيتضمن ذلك بطلان المضاربة بينهما والله أعلم
باب ما يجوز للمضارب أن يفعله وما لا يجوز
قال رحمه الله: وإذا اشترى المضارب بألف المضاربة عبدا أو أمة ليس له أن يزوج واحدا منهما في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يزوج الأمة ولا يزوج العبد لأن في تزويج الأمة اكتساب المال وإسقاط نفقتها من مال المضاربة وذلك بمنزلة بيعها وإجارتها وتزويج العبد إضرار لا منفعة فيه للمضاربة ولهما أن المضارب فوض إليه التجارة في هذا المال والتزويج ليس من التجارة فإن التجار ما اعتادوه ولم نعرف في موضع من البلدان سوقا معدا للتزويج وفيما ليس بتجارة المضارب كغيره من الأجانب.
ألا ترى إنه لا يكاتب لأن الكتابة ليست بتجارة وإن كان فيها اكتساب المال فكذلك تزويج الأمة(22/221)
ص -107- ... وإن كاتب عبدا من المضاربة ولا فضل في قيمته على رأس المال فأدي الكتابة فهو عبد لأنه لو أعتقه كان عتقه باطلا فكذلك إذا استوفى منه بدل الكتابة وما أداه فهو من المضاربة لأنه كسب عند المضاربة والكسب يتبع الأصل فإذا كان المكتسب على المضاربة فكذلك كسبه وإذا كان كاتبه وفيه فضل على رأس المال فالكتابة أيضا باطلة لأنه لا يمكن تنفيذها على المضاربة فإنها ليست بتجارة ولا يمكن تنفيذها في نصيب نفسه باعتبار ملكه لأن ذلك القدر يخرج من المضاربة فيؤدي إلى سلامة شيء للمضارب قبل وصول رأس المال إلى رب المال ثم هذا عبد مشترك بينهما وأحد الشريكين إذا كاتب فللآخر أن يفسخ الكتابة لدفع الضرر عن نفسه فهنا للمولي أن يبطل الكتابة أيضا فإن لم يبطلها حتى أدى البدل عتق نصيب المضارب منه لأنه كان علق عتقه بالأداء فعند استيفاء البدل منه يصير كالمعتق إياه وإعتاق المضارب في نصيب نفسه صحيح إذا كان في العبد فضل على رأس المال ثم حصة نصيب المضارب من المكاتب وهو الربع يسلم له وما وراء ذلك كسب ثلاثة أرباعه فيكون على المضارب يستوفي رب المال منه رأس المال وما بقي بعد ذلك اقتسماه على الشرط في الربح ثم رب المال بالخيار في قول أبي حنيفة رحمه الله إن شاء ضمن المضارب إن كان موسرا نصف قيمة العبد إذا كانت المضاربة بالنصف وإن شاء استسعى العبد وإن شاء أعتقه لأنه لما وصل إلى رب المال رأس المال بقي العبد كله ربحا فيكون بينهما نصفين وقد عتق نصيب المضارب منه باعتاقه وهو موسر فيكون للثالث ثلاث خيارات كما هو أصل أبي حنيفة.(22/222)
ولو كان المضارب أعتقه على ألفي درهم ولا فضل في قيمته على رأس المال فعتقه باطل لأنه لا يملك إعتاق شيء منه بغير عوض لانعدام ملكه في شيء من الرقبة فكذلك لا يملك الإعتاق بعوض وإن كان فيه فضل عتق نصيبه منه بحصته من المال الذي أعتقه عليه لأنه في حصته يملك الإعتاق بغير عوض فيملك الإعتاق بعوض وشرط العتق قبول العبد جميع العوض وقد وجد وسلم تلك الحصة له ورب المال بالخيار وإن كان المضارب موسرا بين التضمين والاستسعاء والإعتاق.
إذا دفع الرجل إلى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى ببعضها عبدا فرهنه المضارب بدين عليه من غير المضاربة لم يجز كان في العبد فضل على رأس المال أو لم يكن لأنه صرف مال المضاربة إلى حاجة نفسه والرهن نقيض الاستيفاء وليس له أن يوفي دين نفسه بمال المضاربة قبل القسمة فكذلك لا يرهن به فإن رهنه بدين من المضاربة وفيه فضل أو ليس فيه فضل فالرهن جائز لأنه يملك إيفاء دين المضاربة بمال المضاربة فيملك الرهن أيضا وهذا لأنه من صنيع التجار والمضارب فيما هو من صنيع التجار بمنزلة المالك ولو لم يرهنه ولكن العبد استهلك مالا لرجل أو قتل دابة فباعه المضارب في ذلك دون حضور رب المال أو دفعه إليهم بدينهم أو قضى الدين عنه من مال المضاربة فذلك جائز لأن ما فعله من صنيع التجار(22/223)
ص -108- ... أما البيع فلا يشكل وكذلك قضاء الدين عنه لأن فيه تخلص المالية فيكون بمنزلة فكاك الرهن بقضاء الدين وهذا بخلاف جنايته في بني آدم فإن موجب الجناية الدفع أو الفداء وليس ذلك من التجارة فليس تستند المضاربة به.
ولو أذن المضارب لهذا العبد في التجارة ولم يقل له رب المال في المضاربة اعمل برأيك جاز ذلك على رب المال لأن الإذن في التجارة من التجارة وبمطلق العقد يملك المضارب ما هو من التجارة في مال المضاربة مطلقا فإن اشترى العبد عبدا من تجارته فجنى عبده جناية لم يكن للعبد أن يدفعه ولا يفديه حتى يحضر رب المال والمضارب وهذا بخلاف العبد المأذون من جهة مولاه إذا اشترى عبدا فجنى جناية فإن للمأذون أن يدفعه أو يفديه لأن هناك العبد استفاد الإذن ممن يخاطب بموجب جنايته فكذلك هو بعد انفكاك الحجر يخاطب بموجب جناية عبده فيخير بين الدفع والفداء وأما عبد المضاربة فاستفاد الإذن من جهة من لا يكون مخاطبا بموجب جنايته فكذلك هو لا يكون مخاطبا بموجب جناية عبده في الدفع أو الفداء قبل حضور رب المال والمضارب وهذا لأن المأذون من جهة المضارب لا يكون أحسن حالا في التجارة من المضارب فإذا كان المضارب لا ينفرد بدفع عبد المضاربة بالجناية ولا بالفداء من مال المضاربة قبل أن يحضر رب المال فكذلك المأذون من جهته لأن كسب هذا المأذون مال المضاربة لنفسه.(22/224)
وإذا دفع الرجل مال ابنه الصغير مضاربة بالنصف أو بأقل أو بأكثر فهو جائز لأنه مأمور بقربان ماله بالأحسن وقد يكون الأحسن هذا فقد لا يجد من يحتسب بالتصرف في ماله ولا يتفرغ لذلك لكثرة أشغاله وإن استأجر من يتصرف في ماله وجب الأجر حصل الربح أو لم يحصل فكان أنفع الوجوه للصبي أن يجعل المتصرف شريكا في الربح التابع في النظر لأجل نصيب نفسه من الربح ولا يغرم الصبي له شيئا إن لم يحصل الربح وكذلك لو أخذه لنفسه مضاربة لأن منفعة الصغير في هذا أبين فإنه أشفق على ماله من الأجنبي ويكون المال عنده محفوظا فوق ما يكون عند الأجنبي.
ولو أخذ الأب لابنه الصغير مال رجل مضاربة بالنصف على أن يعمل به الأب للابن فعمل به الأب فربح فالربح بين رب المال والأب نصفان ولا شيء للابن من ذلك لأن الربح في المضاربة يستوجب بالعمل وإذا كان العمل مشروطا على الأب فما يقابله من الربح يكون له وهذا لأنه يعمل بمنافعه وهو العقد على منافع نفسه ولا يكون نائبا عن الابن فكانت الإضافة إلى الابن لغوا إذا كان العمل مشروطا على الأب ولو كان مثله يشتري ويبيع فأخذه الأب على أن يشتري به الغلام ويبيع والربح نصفان فالمضاربة جائزة والربح بين رب المال والابن نصفان لأنه ممن يملك التصرف عند الإذن له في التجارة والأب نائب عنه فيما هو من عقود التجارة وفيما هو من عقود التجارة عليه وأخذ المال له المضاربة بتلك الصفة فمباشرة الأب له كمباشرته بنفسه أن لو كان بالغا وكذلك لو عمل به الأب للابن بأمره لأنه استعان(22/225)
ص -109- ... بالأب في إقامة ما التزم من العمل بعقد المضاربة ولو استعان بأجنبي آخر كان عمل الأجنبي له بأمره كعمله بنفسه فكذلك إذا استعان فيه نائبه وإن كان الابن لم يأمره بالعمل فهو ضامن للمال لأن رب المال إنما رضي بتصرف الصبي لا بتصرف أبيه فيكون الأب في التصرف فيه كأجنبي آخر بخلاف مال الصبي فله ولاية التصرف فيه شرعا لكونه قائما مقام الصبي وإن ثبت أنه في هذا التصرف كأجنبي آخر كان غاصبا ضامنا للمال والربح له يتصدق به لأنه استفاده بكسب خبيث والوصي في جميع ذلك بمنزلة الأب لأنه بعد موته قائم مقامه فيما يرجع إلى النظر للصغير في ماله.
وإذا دفع المكاتب مالا مضاربة بالنصف أو بأقل أو بأكثر أو أخذ مالا مضاربة فهو جائز وكذلك العبد المأذون له في التجارة لأن هذا من عمل التجار وكذلك الصبي المأذون له في التجارة لأنه منفك الحجر عنه فيما هو من صنيع التجار كالعبد وإن دفعه الصبي بغير إذن أبيه أو وصيه وهو غير مأذون له في التجارة فعمل به المضارب فهو ضامن له لأنه غاصب للمال فإذن الصبي له في التصرف ودفعه المال إليه بدون رأي الولي باطل وإذا كان غاصبا ضمن المال وملك المضمون بالضمان والربح له ويتصدق به والله أعلم.
باب مضاربة أهل الكفر
قال رحمه الله: ولا بأس بأن يأخذ المسلم من النصراني مالا مضاربة لأنه من نوع التجارة والمعاملة أو هو توكيل من رب المال إياه بالتصرف فيه ولا بأس للمسلم أن يلي البيع والشراء للنصراني بوكالته ويكره للمسلم أن يدفع إلى النصراني مالا مضاربة وهو جائز في القضاء كما يكره أن يوكل النصراني بالتصرف في ماله وهذا لأن المباشر للتصرف هنا النصراني وهو لا يتحرز عن الزيادة ولا يهتدي إلى الأسباب المفسدة للعقد ولا يتحرز عنها اعتقادا وكذلك يتصرف في الخمر والخنزير ويكره للمسلم أن ينيب غيره منابه في التصرف فيها ولكن هذه الكراهة ليست لعين المضاربة والوكالة فلا تمتنع صحتها في القضاء.(22/226)
ولا يكره للمسلم أن يدفع ماله إلى مسلم ونصراني مضاربة لأن النصراني لا يستبد بالتصرف في هذا المال دون المسلم والمسلم لا يمكنه من الربا والتصرف في الخمر فكان دفعه إليهما مضاربة كالدفع إلى المسلمين ولا ينبغي للمضارب ولا لرب المال أن يطأ جارية اشتراها للمضاربة كان فيها فضل على رأس المال أو لم يكن ولا يقبلها ولا يلمسها لأنه إن لم يكن فيها فضل فهي ملك رب المال ليست بزوجة للمضارب ولا بملك يمين ولكن للمضارب فيها حق نسبة الملك حتى أن رب المال لا يملك أخذها منه ولا نهي المضارب عن التصرف فيها فكان المضارب ممنوعا عن التصرف والتي يختص بالملك فيها والوطء ودواعيه من هذه الجملة وكان رب المال ممنوعا من ذلك لقيام حق المضارب فيها وفي المضاربة الصغيرة قال إذا لم يكن فيها فضل فأحب إلي أن لا يطأها رب المال ولا يعرض لها بشيء من هذا ولو فعل لم يكن آثما فيه لأنه خالص ملكه وحق المضارب في المالية وحل(22/227)
ص -110- ... الوطء ينبني على ملك المتعة وإنما يستفاد ذلك بملك الرقبة دون ملك المالية وإن كان فيها فضل فهي بمنزلة جارية مشتركة بين اثنين فلا يحل لواحد منهما أن يطأها لأن حل الوطء ينبني على ملك المتعة وإنما يستفاد ذلك بكمال ملك الرقبة وببعض العلة لا يثبت شيء من الحكم.
ولو زوجها رب المال من المضارب فإن كان فيها فضل فالنكاح باطل لأن المضارب يملك مقدار حصته منها وملك جزء منها كملك جميع الرقبة في المنع من النكاح ابتداء وبقاء وإذا بطل النكاح بقيت على المضاربة كما كانت وإن لم يكن فيها فضل جاز النكاح كما لو زوجها من أجنبي آخر لأن ولاية التزويج تستفاد بملك الرقبة كولاية الإعتاق ولو أعتقها رب المال أو دبرها نفذ ذلك منه فكذلك إذا زوجها وقد خرجت من المضاربة لأن التزويج ليس من التجارة وتنفيذ المولي فيها تصرفا ليس من التجارة بل يكون إخراجا لها من المضاربة فليس للمضارب أن يبيعها بعد ذلك.
ألا ترى أن المولى لو زوج أمته من كسب عبده المأذون ولا دين عليه من المأذون أو غيره جاز النكاح وخرجت الجارية من التجارة حتى لا يملك المأذون بيعها بعد ذلك فكذلك المضارب.(22/228)
وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة جارية ثم أشهد بعد ذلك أنه اشتراها لنفسه شراء مستقلا بمثل ذلك المال أو بربح وكان رب المال أذن له أن يعمل فيه برأيه أو لم يأذن فإن شراءه لنفسه باطل ولا ينبغي له أن يطأها وهي على المضاربة على حالها لأنه يشتري من نفسه لنفسه وأحد لا يملك ذلك غير الأب في حق ولده الصغير وهذا المعنى يضاد الأحكام وإن كان حين اشتراها بمال المضاربة أشهد أنه يشتريها لنفسه فإن كان رب المال أذن له في ذلك فذلك جائز وما اشترى فهو له وهو ضامن لرب المال ما نقد لأنه قضى بمال المضاربة دين نفسه فإن ثمن ما اشترى لنفسه يكون عليه وإن كان رب المال لم يأذن له في ذلك فالجارية على المضاربة لأنه أضاف الشراء إلى مال المضاربة وهو لا يملك التصرف في مال المضاربة إلا للمضاربة والمأمور بالتصرف لا يعزل نفسه في موافقته أمر الآمر كالوكيل بشراء شيء بعينه إذا اشترى ذلك الشيء لنفسه يكون مشتريا لرب المال لأنه يريد عزل نفسه في موافقة أمر الآمر فأما إذا كان أذن له في ذلك فيتمكن من التصرف في هذا المال إلا للمضاربة ويصير رب المال بهذا الإذن كالمقرض للمال منه أن اشترى به لنفسه وإن كان اشتراها على المضاربة وفيها فضل فأراد المضارب أن يأخذها لنفسه فباعها إياه رب المال بربح فذلك جائز ويستوفي رب المال من ذلك رأس ماله وحصته من الربح وقد خرج المال من المضاربة لأن رب المال لو باعها من غيره برضاه جاز فكذلك إذا باعها منه وأكثر ما فيه إن للمضارب فيها شركة وشراء أحد الشريكين من صاحبه جائز في نصيبه ثم قد خرج المال من المضاربة لأنه حين اشتراها لنفسه فقد تحول حكم المضاربة إلى ثمنها والثمن مضمون في ذمة المضارب(22/229)
ص -111- ... ومن شرط المضاربة كون المال أمانة في يد المضارب فإذا صار مضمونا عليه بطلت المضاربة.
ولو كان رب المال أراد أخذ الجارية لنفسه فباعها إياه المضارب بزيادة على رأس المال فهو جائز عندنا وهو قول زفر لا يجوز لأن الملك فيها لرب المال حقيقة وللمضارب فيها حق وبيع الحق لا يجوز ولنا أن هذا تصرف مفيد لأنه يخرج به من المضاربة ما كان فيها ويدخل به في المضاربة ما لم يكن فيها وهو الثمن ومبنى التصرفات الشرعية على الفائدة فمتى كان مفيدا كان صحيحا كالمولى إذا اشترى عبدا من عبده المأذون المديون ويكون الثمن هنا على المضاربة لأن شرط المضاربة ما انعدم بصيرورة الثمن دينا في ذمة رب المال فإن العينية شرط ابتداء المضاربة فأما في حالة البقاء في ذمة رب المال وكونه في ذمة أجنبي آخر فسواء بخلاف الأول فيكون المال أمانة في يد المضارب بشرط بقاء العقد وابتدائه فإذا صار مضمونا عليه قلنا بأن المضاربة تبطل.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل مالا مضاربة بالنصف فارتد المضارب أو دفعه إليه بعد ما ارتد ثم اشترى وباع فربح أو وضع ثم قتل على ردته أو مات أو قتل بدار الحرب جاز جميع ما فعل من ذلك والربح بينهما على ما اشترطا لأن توقف تصرفاته عند أبي حنيفة رحمه الله لتعلق حق ورثته بماله أو لتوقف ملكه باعتبار توقف نفسه وهذا المعنى لا يوجب تصرفه في مال المضاربة لأنه نائب فيه عن رب المال وهو متصرف في منافع نفسه ولا حق لورثته في ذلك فلهذا نفذ تصرفه والعهدة في جميع ما باع واشترى على رب المال في قول أبي حنيفة لأن حكم الردة نيط بردته وقد بينا ذلك في ردة الوكيل وهذا لأنه لو لزمته العهدة لكان قضى ذلك من ماله فإذا نحيت العهدة عنه بأن قتل على ردته تعلق بما انتفع بتصرفه بمنزلة الصبي المحجور عليه إذا توكل بالشراء للغير أو بالبيع في قول أبي يوسف ومحمد وحاله في التصرف بعد الردة كحاله قبل الردة فالعهدة عليه ويرجع بذلك على رب المال.(22/230)
وإن كان المضارب امرأة فارتدت أو كانت مرتدة حين دفع المال إليها ثم فعلت ذلك كانت العهدة عليها كما لو تصرفت لنفسها وهذا لأن المرتدة لا توقف نفسها ما دامت في دار الإسلام ولا يوقف مالها أو تصرفها أيضا بخلاف المرتد قال ولو لم يرتد المضارب وارتد رب المال أو كان مرتدا ثم اشترى المضارب وباع فربح أو وضع ثم قتل المرتد أو مات أو لحق بدار الحرب فإن القاضي يجيز البيع والشراء على المضاربة والربح له ويضمنه رأس المال في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو على المضاربة لأن رب المال حين ارتد فقد توقفت نفسه وصار بحيث لا يملك التصرف بنفسه فكذلك لا يملك المضارب التصرف له ولكن ينفذ تصرفه في الشراء والبيع على نفسه ويضمن ما نقد من مال المضاربة وعند أبي يوسف ومحمد تصرفه نافذ على المضاربة ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله ينفذ شراؤه على نفسه غير مشكل ولكن الإشكال في تنفيذ بيعه وإنما(22/231)
ص -112- ... ينفذ بيعه لأن ردة رب المال بعد ما صار المال عروضا كموته وقد بينا أنه يملك البيع بعد موت رب المال فلا بد من تنفيذ بيعه لذلك ثم شراؤه بعد ذلك بالمال على نفسه ولو لم يدفع ذلك إلى القاضي حتى رجع المرتد مسلما جاز جميع ذلك على المضاربة كما اشترطا وهذا بخلاف الوكالة فإن الموكل إذا ارتد ولحق بدار الحرب ثم عاد مسلما جاز جميع ذلك على المضاربة كما اشترطا وهذا بخلاف الوكالة فإن الموكل إذا ارتد ولحق بدار الحرب ثم عاد مسلما لم يعد الوكيل على وكالته أما إذا لم يتصل قضاء القاضي بلحاقه فلان هذا بمنزلة الغيبة فلا يوجب عزل الوكيل ولا بطلان المضاربة وأما بعد الالتحاق والقضاء به فالوكيل إنما ينعزل بخروج محل التصرف عن ملك الموكل إلى ملك ورثته وذلك مبطل للوكالة والوكالة بعد ما بطلت لا تعود إلا بالتجديد وهو غير مبطل للمضاربة لمكان حق المضارب كما لو مات حقيقة وهذا الفرق فيما ينشأ من التصرف بعد عود رب المال فأما فيما كان أنشأ من التصرف فإن كان قد قضى القاضي بلحاقه لا ينفذ ذلك التصرف على المضاربة بعد ما نفذ على المضارب نفسه كما لو مات حقيقة فإن كان لم يقض القاضي بلحاقه فهو كما لو غاب ثم رجع قبل اللحوق بدار الحرب وأسلم فينفذ جميع ذلك على المضاربة.
ولو كان لرب المال امرأة مرتدة كان جميع ذلك جائزا على المضاربة إن أسلمت أو لم تسلم لأنها تملك التصرف بعد الردة فكذلك ينفذ تصرف المضارب لها بعد ردتها.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل مالا مضاربة بالنصف فارتد رب المال ولحق بدار الحرب فلم يقض في ماله بشيء حتى رجع مسلما وقد اشترى المضارب بالمال أو باع ورب المال في دار الحرب فذلك كله جائز على المضاربة لأن اللحوق بدار الحرب إذا لم يتصل به قضاء القاضي بمنزلة الغيبة.(22/232)
ولو كان المضارب هو الذي ارتد ولحق بدار الحرب واشترى به في دار الحرب وباع ثم رجع بالمال مسلما فإن له جميع ما اشترى وباع من ذلك ولا ضمان عليه في المال لأنه لما لحق بالمال دار الحرب فقد تم استيلاؤه عليها لأنه حربي أدخل مال المسلم دار الحرب بغير رضاه وهذا الاستيلاء يوجب الملك له في المال فتصرفه بعد ذلك لنفسه لا للمضاربة ولا ضمان عليه في المال لأنه صار مستوليا مخالفا بعد الإحراز بدار الحرب ولو استهلك بعد ذلك لم يكن عليه ضمان لأن الموجب للتقوم في هذا المال كان هو الإحراز بدار الإسلام وقد انقطع ذلك.
ألا ترى أنه لو لحق مرتدا ثم عاد فأخذ المال فاستهلكه لم يكن عليه ضمان فكذلك إذا أدخله مع نفسه في دار الحرب.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم مضاربة فاشترى بها ثم ارتد رب المال ولحق بدار الحرب أو قتل مرتدا ثم باع المضارب العرض جاز بيعه على المضاربة لأنه لو مات رب المال حقيقة كان للمضارب بيع العروض بعد ذلك فكذلك إذا قتل أو مات مرتدا وإن كان(22/233)
ص -113- ... المال في يده دراهم لم يكن له أن يشتري بها شيئا اعتبارا للموت الحكمي بالموت الحقيقي وإن كانت دنانير فليس له أن يشتري بها عين الدراهم وإن كان غيرهما كان له أن يبيعه بما بدا له حتى يصير في يده دراهم أو دنانير وإذا دخل الحربي إلينا بأمان فدفع إليه مسلم مالا مضاربة بالنصف فأودعه الحربي مسلما ثم رجع إلى دار الحرب ثم دخل إلينا بعد ذلك بأمان وأخذ المال من المستودع فاشترى به وباع فهو عامل لنفسه ويضمن لرب المال رأس ماله لأنه لما عاد إلى دار الحرب التحق بحربي لم يكن في دارنا قط وذلك ينافي عقد المضاربة بينه وبين المسلم لأن ما هو أقوى من المضاربة وهو عصمة النكاح منقطع بتباين الدارين حقيقة وحكما فانقطاع المضاربة بهذا السبب أولى فإذا بطلت المضاربة كان هو في التصرف غاصبا ضامنا لرب المال رأس ماله.
ولو أن الحربي دخل بالمال دار الحرب فاشترى به وباع هناك فهو له ولا ضمان عليه لأنه صار مستوليا على المال حين دخل دار الحرب بغير إذن رب المال وتم إحرازه لها فيكون متملكا متصرفا فيه لنفسه وبعد الإسلام هو غير ضامن لما يملكه على المسلم بالاستيلاء وإن كان رب المال أذن له في أن يدخل دار الحرب فيشتري به ويبيع هناك فإني أستحسن أن أجيز ذلك على المضاربة وأجعل الربح بينهما على ما اشترطا إن أسلم أهل الدار ورجع المضارب إلى دار الإسلام مسلما أو معاهدا أو بأمان وفي القياس هو متصرف لنفسه لأن المنافي للمضاربة قد تحقق برجوعه إلى دار الحرب وإن كان بإذن رب المال بعد تحقق المنافي لا يمكن تنفيذ تصرفه على المضاربة فيكون متصرفا لنفسه بطريق الاستيلاء على المال ووجه الاستحسان أنه ما دخل دار الحرب إلا ممتثلا أمر رب المال ولا يكون مستوليا على ماله فيما يكون ممتثلا فيه أمره وإذا انعدم الاستيلاء كان تصرفه في دار الحرب وفي دار الإسلام سواء.(22/234)
ألا ترى أن رب المال لو بعث بماله إليه ليتصرف فيه له جاز وتكون الوديعة في ذلك التصرف على رب المال والربح له فكذلك إذا أدخله مع نفسه بإذن رب المال.
وإن ظهر المسلمون على تلك الدار والمال في يد المضارب فربح فيه واشترى عرضا فيه فضل أولا فضل فيه قال رب المال يستوفي من المضاربة رأس ماله وحصته من الربح وما بقي فهو فيء للمسلمين لأن الباقي حصة الحربي والحربي صار فيئا بجميع أمواله فأما قدر رأس المال وحصته من الربح فهو حق رب المال ورب المال مسلم ماله مصون عن الاغتنام كنفسه وقيل هذا قول أبي حنيفة فأما عندهما فينبغي أن يكون جميع المال فيئا لأنه مال المسلم في يد الحربي ولا حرمة ليده وأصل الخلاف في مسلم أودع ماله عند حربي في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام ثم ظهر المسلمون على الدار فعند أبي حنيفة هذا وما لو أودعه عند مسلم أو ذمي سواء فلا يكون فيئا وعند أبي يوسف ومحمد يد المودع على الوديعة لا تكون أقوى من يده على مال نفسه ويد الحربي على مال نفسه لا تكون دافعة للاغتنام فكذلك يده على الوديعة(22/235)
ص -114- ... وإذا دخل الحربيان دار الإسلام بأمان فدفع أحدهما إلى صاحبه مالا مضاربة بالنصف ثم دخل أحدهما دار الحرب لم تنتقض المضاربة لأنهما من أهل دار الحرب والذي بقي منهما في دار الإسلام كأنه في دار الحرب حكما.
ألا ترى أنه يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب وأن زوجته التي في دار الحرب لا تبين منه فانتقاض المضاربة بين المسلم والحربي الراجع إلى دار الحرب كان حكما لتباين الدارين وذلك غير موجود هنا.
ولو أن أحد الحربيين دفع إلى مسلم مالا مضاربة بالنصف ثم دخل المسلم دار الحرب لم تنتقض المضاربة وكذلك إن كان المضارب ذميا لأنه من أهل دار الإسلام فإن دخل دار الحرب تاجرا حتى لا تبين زوجته التي في دار الإسلام فيكون هذا السفر في حقه بمنزلة السفر إلى ناحية أخرى من دار الإسلام ولو دفع أحد الحربيين إلى صاحبه مالا مضاربة على أن له من الربح درهما فالمضاربة فاسدة وهما في ذلك بمنزلة المسلمين والذميين لأن المضاربة من المعاملات وقد التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات حين دخلوا دارنا بأمان للتجارة فما يفسد بين المسلمين يفسد بينهم إلا التصرف في الخمر والخنزير وكذلك حكم المسلمين في المضاربة الفاسدة في دار الحرب ودار الإسلام سواء لأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثما يكون فإذا دخل المسلم والذمي دار الحرب بأمان فدفع إلى حربي مالا مضاربة بربح مائة درهم أو دفعه إليه الحربي فهو جائز في قول أبي حنيفة ومحمد والربح بينهما على ما اشترطا حتى إذا لم يربح إلا مائة درهم فهي كلها لمن شرط له والوضيعة على رب المال وفي قول أبي يوسف رحمه الله المضاربة فاسدة وللمضارب أجر مثله وحالهما في ذلك كحالهما في دار الإسلام وهو بناء على مسألة الربا فإنه لا يجري بين المسلم والحربي في دار الحرب عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله والعقود الفاسدة كلها في معنى الربا وإن كان ربح أقل من مائة درهم فذلك للمضارب(22/236)
ولا شيء على رب المال غيره لأنه إنما شرط له المائة من الربح فلا يلزمه أداء شيء من محل آخر وهكذا إن لم يربح شيئا فلا شيء له على رب المال لأن محل حقه قد انعدم ولا وجه لإثبات الحق له في محل آخر لانعدام السبب.
وإذا دفع المسلم المستأمن في دار الحرب مالا مضاربة إلى رجل قد أسلم هناك ولم يهاجر إلينا بربح مائة درهم وأخذ منه ذلك جاز على ما اشترطا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المضاربة فاسدة وهو بمنزلة الربا أيضا فإن عند أبي حنيفة الذي أسلم ولم يهاجر في حكم الربا كالحربي وعندهما كالتاجر المسلم في دار الحرب وقد بينا المسألة في الصرف والله أعلم بالصواب.
باب الشركة في المضاربة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل مالا مضاربة ولم يقل له اعمل فيه برأيك(22/237)
ص -115- ... فدفع المضارب المال إلى رجل وقال له اخلطه بمالك هذا أو بمالي ثم اعمل بهما جميعا فأخذه الرجل منه فلم يخلطه حتى ضاع من يده فلا ضمان على المضارب ولا على الذي أخذه منه لأنه بمنزلة الوديعة في يده ما لم يخلطه والمضارب بمطلق العقد يملك الإيداع والإبضاع فلا يصير هو بالدفع مخالفا ولا القابض بمجرد القبض منه غاصبا ما لم يخلطه.
ولو كان رب المال حين دفع إليه المال مضاربة قال له شارك به فدفعه المضارب إلى رجل مضاربة جاز ولا ضمان على واحد منهما فيه لأن المضاربة في معنى الشركة فإنه إشراك للمضارب في الربح وبمطلق العقد إنما كان لا يملك الدفع مضاربة لمعنى الاشتراك للثاني في الربح.
ألا ترى أنه يملك الإبضاع واستئجار الأجراء للتصرف فيه فإذا أذن له في الإشراك كان ذلك إذنا له في الدفع مضاربة وإذا اشترى الآخر به وباع فهو على المضاربة بمنزلة ما لو كان قال له رب المال اعمل فيه برأيك.(22/238)
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف ودفع إليه ألفا أخرى مضاربة بالثلث أيضا ولم يقل في واحد منهما اعمل فيه برأيك فخلطهما المضارب قبل أن يعمل بشيء منهما ثم عمل فربح أو وضع فلا ضمان عليه والوضيعة على رب المال لأن المالين على ملك رب المال والمضارب أمين فيهما والأمين بخلط الأمانة بعضها ببعض لا يصير ضامنا لأن الخلط إنما يكون موجبا للضمان باعتبار أن فيه معنى الاستهلاك لمال رب المال أو معنى الشركة فيه وذلك لا يوجد إذا خلط بماله ماله فإن ربح في المالين ربحا قسما نصف الربح نصفين والنصف الآخر أثلاثا لأن نصف الربح حصة الألف المدفوعة إليه مضاربة بالنصف والنصف الآخر حصة الألف المدفوعة إليه مضاربة بالثلث فما يكون من ربح كل واحد منهما بعد الخلط معتبر به قبل الخلط وإن ربح في أحدهما ووضع في الآخر قبل أن يخلطهما فالربح بينهما على الشرط والوضيعة على المال الآخر ولا يدخل أحد المالين في المال الآخر ذكر هذا في كتاب المضاربة الصغيرة لأن كل واحد من المالين في يده بحكم عقد على حدة وهو مختص بحكم فهو وما لو كانا من جنسين مختلفين سواء في أن الوضيعة التي تكون في أحدهما لا تعتبر كماله من ربح ماله الآخر فإن خلطهما بعد ذلك صار ضامنا للمال الذي وضع فيه ولا ضمان عليه في مال الآخر لأنه صار شريكا في المال الذي ربح فيه بمقدار حصته من الربح فإنما يخلط الذي وضع فيه بمال نفسه في مقدار حصته من الربح وذلك موجب الضمان عليه فأما المال الذي ربح فيه فإنما خلطه بمال رب المال لأن الذي وضع فيه كله لرب المال وقد بينا أن خلط رب المال
بماله لا يكون موجبا للضمان على المضارب فإن عمل بعد ذلك كان ربح المال الذي كان وضعه للمضارب يتصدق به لأنه بالضمان يملك ذلك المال فيملك ربحه أيضا ولكنه استفاده بكسب خبيث فيتصدق به وربح المال الآخر بينهما على الشرط لأنه أمين فيه ممتثل أمر رب المال في التصرف فيه.(22/239)
ص -116- ... ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة فاشترى المضارب بها وبألف من ماله جارية ثم خلط الألفين قبل أن ينقدهما بعد الشراء ثم نقدهما فلا ضمان عليه لأن حكم المضاربة بالشراء تحول من المال إلى الجارية وتعين عليه قضاء ثمن الجارية بالألفين ووجود الخلط قبل النقد في هذا الموضع وعدمه سواء.
ألا ترى أنه لا يملك أن يصرف الألف إلى غيره بل عليه دفعها إلى البائع مع الألف من عنده وفي حق البائع لا فرق بين أن يأخذ الألفين مختلطا أو غير مختلط والاختلاط الذي في الجارية يثبت حكما لاتحاد الصفقة وقد بينا أن المضارب لا يصير مخالفا ضامنا بمثل ذلك فإن باعها بعد ذلك وقبض الثمن مختلطا فلا ضمان عليه فيه لأنه بالبيع استوجب ثمن الكل جملة فالاختلاط في الثمن حكمي بمنزلة الاختلاط في الجارية وله أن يشتري بالثمن بعد ذلك ويبيع فيكون نصفه على المضاربة حصة ما اشترى من الجارية بمال المضاربة ونصفه للمضارب حصة ما اشترى منها بمال نفسه.
وإن قسم المضارب المال بغير محضر من رب المال فقسمته باطلة لأنه شريك مع رب المال في هذا المال وأحد الشريكين لا ينفرد بالقسمة من غير محضر من صاحبه لأن القسمة للحيازة والإفراز وذلك لا يتم بالواحد وإنما يتحقق بين اثنين ولو أن المضارب حين أخذ الألف المضاربة خلطها بألف من ماله قبل أن يشتري بها كان مشتريا لنفسه وهو ضامن لمال المضاربة لأنه بالخلط بماله صار مستهلكا أو موجبا الشركة في مال المضاربة على حال لم يأمره به رب المال فيصير ضامنا وبعد ما صار ضامنا للمال لا تبقى المضاربة لأن شرطها كون رأس المال أمانة في يده فلهذا كان مشتريا لنفسه بها.(22/240)
ولو كان خلط المال بعد ما اشترى به ثم لم ينقد حتى ضاع في يده كان ضامنا لألف المضاربة حتى يدفعها من ماله إلى البائع لأنه كان أمينا في المال ما لم يسلمها إلى البائع والأمين إذا خلط الأمانة بمال نفسه كان ضامنا في حق صاحب الأمانة فما ضاع يكون مما له وعليه دفع الثمن إلى البائع كما لو التزمه بالشراء ولا يرجع على رب المال بشيء لأنه استوجب الرجوع بالألف على رب المال ولرب المال عليه مثله فصار قصاصا ولكن حكم المضاربة تحول من الألف إلى الجارية فلا تبطل المضاربة بخلط الألف بعد ذلك ولكنه إذا قبض الجارية كان نصفها على المضاربة ونصفها للمضارب وهذا نظير ما لو كانت الجارية مشتركة بين المضارب وبين الأجنبي فاشترى نصيب الأجنبي منها بمال المضاربة للمضاربة فذلك جائز ولا يصير هو مخالفا بشراء نصفها شائعا للمضاربة.
ولو كان المضارب اشترى بألف المضاربة مع رجل وبألف مع عبد ذلك الرجل جارية ودفعها قبل أن يخلطاها ثم قبض الجارية فنصفها على المضاربة ونصفها لذلك الرجل وهذا الشيوع لا يجعل المضارب مخالفا في تصرفه على المضاربة فإن باعا بثمن واحد وقبضا الثمن مختلطا فهو جائز ولا ضمان على المضارب لأنه اختلاط ثبت حكما لكون الأصل مختلطا(22/241)
ص -117- ... فإن قاسم المضارب ذلك الرجل الثمن فهو جائز على رب المال لأن القسمة إما أن تكون تمييزا أو مبادلة وكل واحد منهما يملكه المضارب في حق رب المال فإن خلط مال المضاربة بمال ذلك الرجل بعد القسمة فالمضارب ضامن للمضاربة لأن بالقسمة تميز أحد المالين من الآخر فالخلط بعد ذلك اشتراك واستهلاك حكمي باشره المضارب قصدا فيصير ضامنا للمضاربة.
وإن شارك المضارب بمال المضاربة بإذن رب المال ثم قال المضارب للشريك قد قاسمتك والذي في يدي من المضاربة كذا وكذبه الآخر فالقول قول الشريك مع يمينه لأن المضارب يدعي الإيفاء وقطع الشركة فلا يصدق إلا بحجة ويدعي الاختصاص بما بقي دون شريكه بعد ما علم إنه كان مشتركا فلا يقبل قوله إلا بحجة وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألفا مضاربة بالنصف وأمره أن يعمل فيها برأيه فعمل فربح ألفا ثم أعطاه ألفا أخرى مضاربة بالثلث فعمل فيها برأيه فخلط خمسمائة من هذه الألف بالمضاربة الأولى ثم هلك منها ألف فالهالك في قول أبي يوسف هو ربح المال الأول وقال محمد رحمه الله يهلك من ذلك كله بالحساب ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله في الكتاب وقوله كقول أبي يوسف رحمه الله هو بناء على مسألة الأيمان إذا أعطى في يمينين كل مسكين صاعا على قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمهما الله لا يجزئه إلا عن يمين واحدة وفي قول محمد يجزئه عنهما وجه قول محمد إن حكم المالين مختلف لأن المال الأول مدفوع إليه مضاربة بالنصف بعقد على حدة والذي خلطه من المال الثاني في يده مضاربة بالثلث بعقد على حدة فالسبيل أن يجعل الهالك من المالين جميعا والباقي من المالين بالحساب.
ألا ترى إنه لو كان دفع الألف الأخرى إلى آخر مضاربة يعمل فيه برأيه و المسألة بحالها كان الهالك من المالين بالحصة فكذلك إذا كان المدفوع إليه واحدا وأبو يوسف يقول الكل في حق رب المال كمال واحد وقد اشتمل على أصل وتبع فيجعل الهالك من التبع دون الأصل.(22/242)
ألا ترى أنه لو هلك من المال ألف قبل أن يخلط بالخمسمائة يجعل الهالك كله من الربح فكذلك بعد الخلط وهذا لأنا لو جعلنا شيئا من الهالك من الخمسمائة يؤدي إلى أن يسلم للمضارب شيء من الربح قبل وصول جميع رأس المال إلى رب المال وذلك لا يجوز لأن المستحق للربح واحد سواء كان المالان دفعهما إليه رب المال بعقد واحد أو بعقدين بخلاف ما إذا كان المضارب في الألف الأخرى رجلا آخر لأن لكل واحد من المضاربين بالمال المدفوع إليه حقا معتبرا وعند اختلاف المستحق لا بد من أن يعتبر اختلاف السبب فجعلنا الهالك من المالين فأما عند اتحاد المستحق فلا حاجة إلى ذلك وهو نظير العبد المأذون مع المولي وأجنبي إذا تنازعا في شيء في أيديهم فإن لم يكن على العبد دين فهو بين المولي والأجنبي نصفان لاتحاد المستحق فيما في يد المولي والعبد بخلاف ما إذا كان على(22/243)
ص -118- ... العبد دين فالمستحق لكسب العبد هناك غرماؤه فلا بد من اعتبار يد كل واحد منهم على حدة ولو لم يهلك حتى عمل فربح ألفا أخرى فخمس هذا الربح من المضاربة الأخيرة وأربعة أخماسه على المضاربة الأولى لأن الربح نماء الربح وخمس الربح نماء الخمسمائة التي خلطها من الألف الأخرى بالمال فيكون بينهما على الثلث والثلثين وأربعة أخماسه على المضاربة الأولى فيكون مع الربح الأول بينهما نصفان.
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف يعمل فيها برأيه فعمل فربح ألفا وأعطي رب المال رجلا آخر ألف درهم مضاربة بالنصف يعمل فيها برأيه ودفع المضارب الثاني الألف إلى هذا الرجل أيضا مضاربة بالثلث يعمل فيها برأيه فخلط الألف بالألفين فلا ضمان عليه لأن الأمر من المضاربين كان مفوضا إلى رأيه على العموم وقد صح منهما كما يصح من رب المال فيمنع ذلك وجوب الضمان عليه بالخلط فإن ربح على ذلك كله ألفا أمسك ثلثه لنفسه وقسم الثلثين الباقيين المضاربان الأولان أثلاثا باعتبار ما دفعا إليه من المال لأن أحدهما دفع إليه الألفين والآخر دفع إليه ألفا فإذا أخذ صاحب الألفين الثلثين من ذلك دفع إلى رب المال رأس ماله ألف درهم وما بقي فلرب المال نصف ما كان ربح المضارب الأول في المال من شيء وذلك خمسمائة ونصف ذلك للمضارب ولرب المال أيضا ثلاثة أرباع ما كان من الربح الثاني لأن المضارب الأول أوجب للثاني ثلث الربح وذلك من نصيبه خاصة وقد كان له نصف الربح فإنما بقي من حقه سهم وحق رب المال في النصف وهو ثلثه فيجعل هذا الباقي مقسوما بينهما على مقدار حقهما ثلاثة أرباعه لرب المال وربعه للمضارب ويأخذ المضارب الآخر من المضارب الثاني ثلث الثلثين ثم يدفع إلى رب المال رأس ماله ويقاسمه الربح أرباعا ثلاثة أرباعه لرب المال وربعه له لما بينا أنه أوجب الثلث للمضارب المتصرف وذلك من نصيبه خاصة فإنما بقي من حقه ثلث النصف وهو سهم من ستة وحق رب المال في ثلثه(22/244)
فيجعل الربح مقسوما بينهما أرباعا.
ولو كان المضارب الأول لم يربح شيئا حتى دفع المال مضاربة بالثلث وأمره أن يعمل فيها برأيه فعمل فربح ألفا ثم دفع إليه المضارب الثاني الألف التي في يده مضاربة بالثلث وأمره أن يعمل فيه برأيه فعمل فخلطها بألفين ثم عمل وربح ألفا ثم دفع إليه المضارب الثاني الألف التي في يده مضاربة بالثلث وأمره أن يعمل فيه برأيه فخلطها بألفين ثم عمل فربح ألفا فإن الربح على ثلاثة والوضيعة على ثلاثة بحسب المال فنصيب الألف ثلث الربح ويأخذ المضارب الآخر حصته من ذلك الثلث ثم يأخذ رب المال منه رأس ماله ألفا واقتسما ما بقي بينهما لرب المال ثلاثة أرباعه وللمضارب ربعه لأنه أوجب ثلث الربح للمضارب الآخر وذلك من نصيبه خاصة وما أصاب الألفين من الربح وهو الثلثان من ذلك أخذ المضارب الآخر منه ومن الألف التي هي ربح والألف الأول ثلثه لأن ذلك حصة من الربح ورد ما بقي على المضارب الأول ويأخذ منه رب المال رأس ماله وثلاثة أرباع ما يبقي بعده من الربح(22/245)
ص -119- ... وللمضارب ربعه لأنه قد أوجب ثلث الربح للمضارب الآخر وذلك من نصيبه خاصة وإنما يقسم الباقي على مقدار ما بقي من حق كل واحد منهما.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم فقال نصفها قرض عليك ونصفها معك مضاربة بالنصف فأخذها المضارب فهو جائز على ما سمي أما في حصة المضاربة فغير مشكل لأن الشيوع لا يمنع صحة المضاربة فإن شرطها كون رأس المال أمانة في يد المضارب وذلك في الجزء الشائع يتحقق وأما القرض فلأنه تمليك بعوض والشيوع لا يمنع صحته كالبيع بخلاف الهبة فإن الهبة تبرع محض والتبرع ينفي وجوب الضمان على المتبرع وبسبب الشيوع فيما يحتمل القسمة يجب ضمان المقاسمة على المتبرع فأما القبض بجهة القرض فلا ينفي وجوب الضمان إلا أنه يدخل على هذه الهبة بشرط العوض فإنه لا يجوز في مشاع يحتمل القسمة وقبل الشيوع إنما يمنع صحة الهبة لأنه لا يتم القبض فيما يحتمل القسمة مع الشيوع وهذا لا يتحقق هنا فالمال كله في يد المستقرض فيتم قبضه في المستقرض وهذا ليس يقوى فإن هبة المشاع من الشريك لا تجوز فيما يحتمل القسمة وكون النصف في يده بطريق المضاربة لا تكون أقوى مما يكون في يده بطريق الملك والأوجه أن نقول القرض أخذ شبها من الأصلين من الهبة باعتبار أنه تبرع ومن البيع باعتبار إنه مضمون بالمثل على كل حال فيوفر حظه على الشبهين فلشبهه بالتبرع يشترط فيه أصل القبض وبشبهه بالمعاوضة لا يشترط فيه ما يتم القبض به وهو القسمة بخلاف الهبة بشرط العوض فإنه تبرع في الابتداء وإنما يصير معاوضة بعد تمامه بالقبض من الجانبين فإن هلك المال قبل أن يعمل به فهو ضامن لنصفه لأنه تملك نصف المقبوض بجهة القرض وكان مضمونا عليه بمثله والنصف الباقي أمانة في يده وهو ما أخذه بطريق المضاربة ولو عمل به فربح كان نصف الربح للعامل ونصفه على شرط المضاربة بينهما.(22/246)
وإن قسم المضارب المال بينه وبين رب المال بعد ما عمل به أو قبل أن يعمل به بغير محضر من رب المال فقسمته باطلة لما بينا إن الواحد لا ينفرد بالقسمة فإن هلك أحد القسمين قبل أن يقبض رب المال نصيبه هلك من مالهما جميعا لأن القسمة صارت كان لم تكن وإن لم يهلك حتى حضر رب المال فأجاز القسمة فالقسمة جائزة ومعنى قوله أجاز القسمة أي قبض نصيبه فيكون ذلك بمنزلة القسمة تجري بينهما ابتداء لأن معنى الحيازة والإفراز قد تم حين وصل إلى رب المال مقدار نصيبه فإن لم يقبض رب المال نصيبه الذي حصل له حتى هلك رجع بنصف نصيب المضارب لأن نصف رب المال لم يسلم له وإنما يسلم للمضارب نصيبه إذا سلم لرب المال نصيبه فإذا لم يسلم كان الهالك من النصيبين والباقي من النصيبين ولو كان هلك نصيب المضارب لم يرجع المضارب في نصيب رب المال بشيء لأنه قد قبض منه نصيبه وذلك منه حيازة في نصيبه إلا إن شرط سلامة ذلك له في سلامة الباقي لرب المال وقد وجد ذلك وإن هلك النصيبان جميعا بعد رضا رب المال(22/247)
ص -120- ... بالقسمة رجع رب المال على المضارب بنصف ما صار للمضارب لأن شرط سلامة النصف له سلامة الباقي لرب المال ولم يوجد والمضارب قبض تلك الحصة على سبيل التملك لنفسه فلهذا يضمن نصفها لرب المال ولرب المال على المضارب قرض خمسمائة على حالها لأنه قبض نصف الألف بحكم القرض وقد بينا أن ذلك مضمون عليه بالمثل.
ولو قال:خذ هذه الألف على أن نصفها قرض عليك وعلى أن تعمل بنصفها الآخر مضاربة على أن الربح كله لي فهذا مكروه لأنه قرض جر منفعة فإنه أقرضه نصف الألف وشرط عليه منفعة العمل له في النصف الآخر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة فإن عمل مع هذا فربح أو وضع فالربح والوضيعة بينهما نصفان لأن نصف المال ملكه فقد قبضه بجهة القرض والنصف الآخر بضاعة في يده فقد قبضه على أن يعمل فيه لصاحبه ولو دفعها إليه على أن نصفها مضاربة بالنصف ونصفها هبة للمضارب وقبضها المضارب غير مقسومة فهي هبة فاسدة لأنه هبة المشاع فيما يحتمل القسمة وبهذا تبين أن الصحيح من المذهب أن هبة المشاع بعد اتصال القبض بها فاسدة بخلاف ما ظنه بعض المتأخرين رحمهم الله إنها تكون بمنزلة الهبة قبل القبض ولكن الصحيح أنها فاسدة لأن القبض الموجب للملك قد وجد مع الشيوع.
ألا ترى أن هذا القبض فيما لا يحتمل القسمة يوجب الملك لكن شرط صحته القسمة فلانعدام شرط الصحة تكون الهبة فاسدة والمقبوض بحكمها مملوك للموهوب له وهو مستحق الرد عليه للفساد فلهذا كان مضمونا عليه بخلاف المقبوض بهبة صحيحة فإن هلك المال في يده قبل العمل أو بعده ضمن نصفه لهذا المعنى فإن ربح في المال كان نصف الربح حصة الهبة للمضارب والنصف الآخر على ما اشترطا في المضاربة بينهما فإن وضع فالوضيعة عليهما نصفين لأن نصف المال مملوك للمتصرف فله ربح ذلك النصف وعليه وضيعته والنصف الآخر مضاربة في يده.(22/248)
ولو دفعها إليه على أن نصفها بضاعة ونصفها مضاربة بالنصف فهو كما قال لأن الشيوع لا يمنع صحة دفع المال مضاربة ولا صحة دفعه بضاعة ولو دفعها إليه على أن نصفها وديعة في يد المضارب ونصفها مضاربة بالنصف فذلك جائز على ما سمى لأنه لا منافاة بينهما فمال المضاربة أمانة في يد المضارب كالوديعة فإن تصرف في جميع المال كان ضامنا للنصف حصة الوديعة لأنه خالف بالتصرف فيه وربح ذلك النصف له وعليه وضيعته وإن قسم المضارب المال نصفين ثم عمل بأحد النصفين على المضاربة فربح أو وضع فالوضيعة عليه وعلى رب المال نصفين لأنه لا ينفرد بالقسمة فالنصف الذي تصرف فيه من النصفين جميعا نصفه مما كان مضاربة في يده ونصفه كان وديعة فله ربح حصة الوديعة من ذلك وعليه وضيعته لأنه صار مخالفا ضامنا والبعض في هذا الحكم معتبر بالكل نقول فإن أراد أن يشتري بالمضاربة ولا يضمن اشترى بنصف الألف غير مقسوم وكان البائع شريكا في الألف(22/249)
ص -121- ... حتى يحضر رب المال فيقاسمه ومراده أن يشتري بنصفه ويسلمه على سبيل الشيوع لأن الضمان في الوجه الأول إنما كان يلزمه بالتسليم لا بنفس الشراء فطلب السلامة في هذا الموضع من الضمان الذي كان يلحقه في الوجه الأول ثم قد صار نصف المال شائعا مملوكا للبائع ونصفه وديعة في يد المضارب والمودع لا يملك المقاسمة فلا بد من أن يحضر رب المال ليقاسمه.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف وأشهد عليه في العلانية إنها قرض يتوثق بذلك فعمل المضارب بالأمر فإن تصادقوا أن الأمر كان على ذلك وإنهم إنما شهدوا بالقرض على جهة الثقة فالمال على حكم المضاربة لأن تصادقهما حجة تامة في حقهما وكذلك إن تكاذبا فقامت البينة إنه دفعه مضاربة وأشهد عليه بالقرض وقالوا أخبرانا أنهما إنما أشهدا بالقرض على وجه التوثق وليس بقرض إنما هو مضاربة فإن الثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصمين أو أقوى منه.(22/250)
وإن شهد شاهدان بالمضاربة وشاهدان بالقرض ولم يفسروا شيئا غير ذلك فالبينة بينة الذي يدعي القرض لأنه لا تنافي بينهما فيجعل كأن الأمرين كانا والقرض يرد على المضاربة والمضاربة لا ترد على القرض فيجعل كأنه دفع المال إليه مضاربة أولا ثم أقرضه منه وفي بينة من يدعي القرض إثبات الزيادة وهو الملك في المقبوض للقابض واستحقاق القرض عليه إذا دفع الرجل إلى رجل جراب هروي فباع نصفه بخمسمائة ثم أمره بأن يبيع النصف الباقي ويعمل بالثمن كله مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فباع المضارب نصف الجراب بخمسمائة ثم عمل بها وبالخمسمائة التي عليه فالربح والوضيعة نصفان في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن من أصله أن من قال لمديون اشتر لي متاعا بمالي عليك لا يصح هذا التوكيل فإذا اشترى المديون كان مشتريا لنفسه وهنا أمره إياه بالشراء بالخمسمائة التي هي دين عليه لا يصح فكان هو عاملا لنفسه فيما اشتراه بتلك الخمسمائة له ربحه وعليه وضيعته وأما عندهما فأمره المديون بالشراء بما عليه من الدين صحيح ذلك لا على وجه المضاربة لأن شرط صحة المضاربة أن يكون رأس المال أمانة في يد المضارب ولا يوجد هذا الشرط فيما هو دين في ذمته فكان نصف ما اشترى للآمر له ربحه وعليه وضيعته والنصف الآخر على المضاربة.
ولو كان رب المال أمره أن يعمل بالمالين مضاربة على أن للمضاربة ثلثي الربح فعمل بها كان للمضارب ثلثا الربح لأنه في النصف مشتر لنفسه فاستحق نصف الربح بذلك والنصف الآخر إنما دفعه إليه مضاربة بثلث ربح هذا النصف وذلك صحيح ولو كان رب المال اشترط لنفسه الثلثين من الربح وللمضارب الثلث و المسألة بحالها كان الربح بينهما نصفان والوضيعة عليهما نصفين لأن من أصله أن المضارب صار مشتريا بالدين لنفسه فنصف الربح له باعتبار ملكه نصف المشتري وقد شرط رب المال لنفسه ثلث ذلك النصف من الربح وليس له في(22/251)
ص -122- ... ذلك النصف مال ولا عمل فلا يستحق شيئا من ربح ذلك النصف لأنه أسباب المعدوم فهو بمنزلة رجل دفع إلى آخر خمسمائة مضاربة بالنصف وأمره أن يخلطها بخمسمائة من ماله ثم يعمل بها على أن للمضارب ثلث الربح ولرب المال الثلثان فعمل بها فالربح بينهما نصفان فكذلك في الفصل الأول والله أعلم.
باب إقرار المضارب بالمضاربة في المرض
قال رحمه الله: وإذا مات المضارب وعليه دين ومال المضاربة في يده معروف وهو دراهم وكان رأس المال دراهم بدى ء برب المال قبل الغرماء بأخذ رأس المال وحصته من الربح لأنه وجد عين ماله ومن وجد عين ماله فهو أحق به ثم دين المضارب إنما يتعلق بتركته بعد موته وتركته ما كان مملوكا له عند موته وهو حصته من الربح فأما مقدار رأس المال وحصة رب المال من الربح فهو ملكه ليس من تركة المضارب في شيء فإن قال ورثة المضارب والغرماء الدين الذي على المضارب من المضاربة وكذبهم رب المال فالقول قول رب المال لأنهم يدعون استحقاق ملكه بالدين الذي هو على المضارب في الظاهر فلا يقبل قولهم إلا بحجة ورب المال منكر لدعواهم فالقول قوله مع يمينه وإنما استحلف على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير.(22/252)
وإن كانت المضاربة حين مات المضارب عروضا أو دنانير فأراد رب المال أن يبيعها مرابحة لم يكن له ذلك لأنه في حال حياة المضارب كان هو ممنوعا عن أخذ وبيعها لحق المضارب وحقه بموته لا يبطل والذي يلي بيعها وصي المضارب لأنه قائم مقامه فيبيعها لتحصيل جنس رأس المال فإن لم يكن له وصي جعل القاضي له وصيا ببيعها فيوفي رب المال رأس ماله وحصته من الربح ويعطي حصة المضارب من الربح غرماءه لأن الميت عجز عن النظر لنفسه والقيام باستيفاء حقه فعلى القاضي أن ينظر له بنصيب الوصي وقال في المضاربة الصغيرة يبيعها وصي الميت ورب المال ووجهه أن رب المال ما كان راضيا بتصرف الوصي في ماله والمال وإن كان عروضا أو دنانير فالملك لرب المال فيه ثابت فلا ينفرد الوصي ببيعها ولكن رب المال يبيعها معه وما ذكر هنا أصح لأن الوصي قائم مقام الموصي وكان للموصي أن ينفرد ببيعها فكذلك لوصيه وهذا لأن رب المال لو أراد بيعها بنفسه لم يملك فلا معنى لاشتراط انضمام رأيه إلى رأي الوصي في البيع.
وإن كانت المضاربة لا تعرف بعينها في يد المضارب وعليه دين في الصحة فرب المال أسوة الغرماء في جميع تركته ولا ربح للمضارب لأن مال المضاربة كان أمانة في يده وقد صار مجملا بترك التعيين عند موته فيكون متملكا ضامنا لها وهذا دين لزمه بسبب لا تهمة فيه فيكون رب المال مزاحما لغرماء الصحة في جميع تركته وتركته ما كان في يده لأن الأيدي المجهولة عند الموت تنقلب يد ملك وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فأقر المضارب عند موته أنه قد عمل بالمال فربح ألفا ثم مات والمضاربة غير معروفة وللمضارب مال فيه وفاء بالمضاربة وبالربح(22/253)
ص -123- ... فإن رب المال يأخذ من مال المضارب رأس ماله ولا شيء له من الربح لأن المضارب لم يقر بأن الربح وصل إليه إنما أقر أنه ربح ألفا وليس لرب المال أن يأخذ من تركته شيئا من الربح ما لم يثبت وصوله إلى يده ولو كان أقر أن ذلك وصل إليه أخذ رب المال حصته منه مع رأس المال لأن حصة رب المال من الربح كانت أمانة في يد المضارب مع رأس المال وقد مات مجملا للملك فصار ذلك دينا عليه يستوفيه رب المال من مال المضاربة.
ولو قال المضارب في مرضه: قد ربحت ألف درهم ووصلت إلي فضاع المال كله وكذبه رب المال فالقول قول المضارب مع يمينه لأنه أمين أخبر بما هو مسلط على الإخبار به فإن لم يستحلف على ذلك حتى مات فهو بريء من المال لإخباره بضياع المال ولرب المال أن يستحلف ورثته على علمهم بضياع المال لأنهم لو أقروا بما ادعاه رب المال كانوا ضامنين له من التركة فإذا أنكروا استحلفهم على العلم لرجاء نكولهم وهو استحلاف على فعل الغير بأن يدهم ما وصلت إلى المال ولذلك لو قال في مرضه قد دفعت رأس المال إلى رب المال وحصته من الربح فهو مخبر بما هو مسلط عليه فيقبل قوله في براءته عن ذلك إلا أن قوله غير مقبول في الحكم بإيصال المال إلى رب المال حقيقة فيأخذ حصة المضارب من الربح فيكون له من رأس ماله لأن ما وراء ذلك كالتاوي حين لم يثبت وصوله إلى رب المال ولم يكن المضارب ضامنا فإن كان على المضارب دين يحيط بماله وحصة المضارب من الربح غير معروفة وقد علم أن المضارب قد ربح ألف درهم ووصلت إليه فإن رب المال يحاص الغرماء بحصة المضارب من الربح لأن ذلك القدر قد صار دينا له في تركته بسبب لا تهمة فيه فيكون صاحبه مزاحما لغرماء الصحة.(22/254)
ولو أقر المضارب عند موته وعليه دين يحيط بماله أنه ربح في المال ألف درهم وأن المضاربة والربح دين على فلان ثم مات فإن أقر الغرماء بذلك فلا حق لرب المال فيما ترك المضارب لأنه عين مال المضاربة بما أقر به وذلك يمنع صيرورة المال دينا في تركته ولكن يتبع رب المال المديون برأس ماله فيأخذه ويأخذ نصف ما بقي منه أيضا حصة من الربح واقتسم نصفه غرماء المضارب مع ماله وإن قال غرماء المضارب إن المضارب لم يربح في المال شيئا وليس الدين الذي على فلان من المضاربة كان ذلك الدين مع سائر تركته بين الغرماء ورب المال بالحصص يضرب رب المال برأس ماله ولا يضرب بشيء من الربح لأن ذلك الدين واجب بمعاملة المضارب فيكون في الظاهر له كالمال الذي في يده وإقراره به لرب المال كإقراره بعين في يده لإنسان ومن عليه الدين المستغرق إذا أقر في مرضه بعين لإنسان وكذبه الغرماء لم يصح إقراره فهذا مثله إلا أن بقدر رأس المال قد علمنا وجوبه في تركته وصيرورته دينا عليه حين لم يعمل بيانه فهذا القدر دين لزمه لسبب لا تهمة فيه فأما حصة رب المال من الربح لو لزمه إنما يلزمه بإقرار المضارب به وإقرار المضارب بالدين غير صحيح في مزاحمة غرماء الصحة(22/255)
ص -124- ... ولو أقر في مرضه بمال في يده أنه مضاربة لفلان ولا يعرف إلا بقوله بدئ بدين الصحة لأن المريض محجور عن الإقرار بالدين والعين بحق غرماء الصحة فإن لم يكن عليه دين في الصحة وإنما أقر بالدين في مرضه قبل إقراره بالمضاربة حاص رب المال الغريم برأس ماله لأن إقراره بمضاربة بعينها كالإقرار بالوديعة وقد بينا في كتاب الإقرار أن المريض إذا أقر بالدين أولا ثم بالوديعة يتحاصان لأن حق الغريم متعلق بماله فيمنع ذلك سلامة العين للمقر له بالعين ويصير هذا كالإقرار بالوديعة مستهلكة ولو كان بدأ الإقرار بالمضاربة بعينها بدئ بها لأن العين صار مستحقا لرب المال وخرج من أن يكون مملوكا للمضارب فإقراره بالدين بعد ذلك يكون شاغلا لتركته لا لأمانة الغير في يده وإن أقر لها بغير عينها تحاصا لأن الإقرار بالمضاربة المجهولة كالإقرار بالدين فكأنه أقر بدين ثم بدين وإن أقر بها بعينها ثم أقر بالدين ثم أقر بعد ذلك إن المضاربة في هذه الألف بعينها تحاصا لأن إقراره بالعين كان بعد الإقرار بالدين فلا يكون مقبولا في استحقاق المقر له العين واختصاصه به بعد ما صار مشغولا بحق المقر له بالدين وإن قال هذه الألف مضاربة لفلان عندي ولفلان عندي وديعة كذا ولفلان كذا من الدين بدئ بالمضاربة لأنه أقر بها بعينها فبنفس الإقرار صارت العين مستحقة لرب المال فلا يتغير ذلك بما يعطف عليه الإقرار بوديعة غير معينة بالدين ولو لم يقر بها بعينها كان جميع مال المضاربة بين صاحب الدين وصاحب الوديعة وصاحب المضاربة بالحصص لأن إقراره بأمانة غير معينة بمنزلة إقراره بالدين.(22/256)
ولو قال لفلان: عندي ألف درهم مضاربة وهي في هذا الصندوق ولفلان على ألف درهم فلم يوجد في الصندوق شيء كان ما تركه المضارب بين رب المال والغريم بالحصص لأنه حين لم يوجد في الصندوق شيء فقد ظهر أن تعيينه كان لغوا بقي إقراره بمضاربة غير معينة وبالدين ولو وجد في الصندوق ألف كان رب المال أحق بها لأن تعيينه كان صحيحا فإن التعيين وجد منه قبل الإقرار بالدين فكأنه أقر ابتداء بالمضاربة بعينها.
فإن قيل: كان ينبغي أن يقال إذا لم يوجد في الصندوق شيء أن لا يكون لرب المال شيء لفوات محل حقه.
قلنا: هذا إن لو صح تعيينه مع فراغ الصندوق عنه ولم يصح ذلك بل هو تجهيل منه والمضارب بالتجهيل ضامن.
وقال في المضاربة الصغيرة: إذا لم يشهد الشهود إن هذه الألف كانت في الصندوق يوم أقر جعلناها بين الغرماء ورب المال بالحصص والقياس ما قاله ثمة لأن الموجود من المضارب تعيين الصندوق ولم يوجد منه تعيين مال المضاربة إذا لم يعلم أن الألف كانت في الصندوق يومئذ وطريق العلم به شهادة الشهود وما ذكر هنا استحسان لأن الصندوق محل لما فيه من المال فتعيينه كتعيين المال فلهذا كان رب المال أحق بها ولو وجد في الصندوق ألفان فلرب المال ألف منها خاصة والباقي بين الغرماء لأن تعيينه صحيح لما وجد في الصندوق(22/257)
ص -125- ... من جنس حق رب المال مقدار حقه وزيادة وسواء كانت الألفان مختلطة أو غير مختلطة لأن المضارب أمين في مال المضاربة واختلاط الأمانة بمال الأمين من غير صنعه لا يكون موجبا للضمان فإن علم أن المضارب هو الذي خلط المال بغير أمر رب المال كان المال كله بينهم بالحصص في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد نصفه لرب المال ونصفه للغرماء وهو بناء على ما تقدم بيانه أن الأمين إذا خلط الوديعة بمال نفسه صار مستهلكا للمخلوط وصارت الأمانة دينا عليه عند أبي حنيفة رحمه الله فيكون رب المال صاحب دين كغيره من الغرماء وأما عندهما فبالخلط يصير ضامنا ولكن لا يصير متملكا فلرب المال أن يرضى بالخلط ويختار المشاركة فيأخذ نصف المخلوط برأس ماله ونصفه للغرماء.(22/258)
ولو قال لفلان: عندي ألف درهم مضاربة وهي التي على فلان ولفلان على ألف درهم ولا مال له غيره فذلك الدين لرب المال لأن تعيينه للمضاربة التي على غيره كتعيينه ألفا في صندوقه أو في كيسه أو بيته فإذا حصل ذلك قبل الإقرار بالدين اختص رب المال به وإن جحد المضارب المضاربة في صحة أو مرض ثم أقر بها فهي دين في ماله لأن الإقرار بعد الإنكار صحيح ولكن الأمين بالجحود يصير ضامنا فإقراره بعد ذلك كالإقرار بالدين وكذلك لو جحد شيئا من الربح ثم أقر ثم قال لم يصل إلي ضمن ما جحد من الربح وإن كان دينا قال عيسى رحمه الله هذا غلط وإن جحد الدين لم يضمنه حتى يقبضه على الجحود لأن الجحود إنما يكون موجبا للضمان عليه باعتبار أن المال في يده وأنه متملك له مستول عليه بهذا الجحود وهذا لا يتحقق فيما هو دين على الغير ما لم يقبضه فإن قبضه على الجحود فهو ضامن وإن رجع إلى الإقرار ثم قبضه فلا ضمان عليه وقيل يحتمل أن مراد محمد رحمه الله قوله لرب المال لك ثلث الربح ولي ثلثاه ليس بإقرار وفي المختصر للكافي قال ليس إقراره بأن له النصف وقيل في تأويله أنه أقر له بالثلث ثم بالنصف بعد ذلك فيكون مقرى بالسدس بعد الجحود فيجب عليه الضمان وذكر القاضي أبو عاصم في شرحه فقال جحوده الربح إقرار بإبراء الغريم ولو صرح بالإبراء فإنه يضمن الربح وإن لم يصل إلى يده كذلك هذا بإقرار بأن له النصف فيكون ضامنا ثم سلم بما سلم من ذلك على ذلك والأصح أن يقول حق القبض فيما وجب بمعاملته له خاصة فكونه في ذمة الغريم وكونه في يده سواء في أنه صار متملكا مقدار ما جحده متويا حق رب المال فيه فكان قبضه على الجحود وعلى الإقرار بعد الجحود في إيجاب الضمان عليهلأجل الإقرار سواء.(22/259)
وإذا دفع إلى رجلين مالا مضاربة فمات أحدهما وقال الآخر هلك المال صدق في نصيبه لكونه أمينا فيه وكان نصيب الآخر دينا في تركته لأنه مات مجهلا لنصيبه فإن علم أن الميت كان أودع نصيبه صاحبه الحي فقال الحي قد هلك فهو مصدق على جميعه لأن المضارب يملك الإيداع فقول مودعه قد هلك بمنزلة قول المضارب في حياته إنه قد هلك وإن قال قد دفعت ذلك إلى صاحبي كان مصدقا مع يمينه لكونه أمينا فيه وكان ذلك دينا في(22/260)
ص -126- ... مال صاحبه لأن صاحبه مات مجهلا فإنه إن ثبت وصوله إليه فلا إشكال وإن لم يثبت وصوله إليه من يد الحي فالحي كان مسلطا من جهته على الرد وإنما قبل قوله في ذلك لأجل التسليط فيكون المضارب الميت مجهلا له على كل حال فكان ذلك دينا في تركته وإذا ربح المضارب في المال ربحا فأقر به وبرأس المال ثم قال قد خلطت مال المضاربة بمالي قبل أن أعمل وأربح لم يصدق لأن الربح صار مستحقا لرب المال فهو بهذه المقالة يبطل استحقاقه ويدعي ملك جميع الربح لنفسه بالخلاف الحاصل منه بالخلط فلا يقبل قوله إلا بحجة ولأن الربح نماء المال فيكون ملكا لصاحب المال باعتبار الظاهر فلا يستحقه غيره إلا بالشرط.
ألا ترى أن المضارب لو ادعى زيادة فيما شرط له من الربح لم يقبل قوله فيه إلا بحجة فإذا ادعى سببا يملك به جميع الربح فلأن لا يقبل قوله من غير حجة كان أولى فإن هلك المال في يده بعد ذلك ضمن رأس المال لرب المال وحصته من الربح لإقراره على نفسه بالسبب الموجب للضمان ولأنه لما زعم أنه خلطه بماله ثم ربح بعد ذلك فقد ادعى أن الربح كله ملكه والأمين إن ادعى الملك لنفسه في الأمانة يصير ضامنا.(22/261)
وإذا أقر المضارب بدين في المضاربة لولده أو والده أو زوجته أو مكاتبه أو عبده وعليه دين أو لا دين عليه لزمه ذلك في ماله خاصة في قول أبي حنيفة رحمه الله إلا ما أقر به لعبده ولا دين عليه فإنه لا يلزمه منه شيء وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إقراره لهؤلاء صحيح على المضاربة إلا لعبده أو لمكاتبه وهذا لأن المضارب نائب في التصرف كالوكيل وقد بينا في البيوع أن عند أبي حنيفة رحمه الله الوكيل لا يملك التصرف مع من لاتجوز شهادته له في حق الموكل لكونه متهما في ذلك وعندهما يملك ذلك إلا في عبده ومكاتبه فالمضارب كذلك وهذا لأنه يلزمه لهؤلاء حق في مال رب المال بمجرد قوله فيكون في معنى الشاهد لهم على غيره بمال وشهادته لهؤلاء لا تقبل فكذلك قراره إلا أن الدين بالمعاملة يجب في ذمته وهو غير متهم فيما يلزمه لهؤلاء فلذا لزمه ذلك في ماله خاصة فأما العبد الذي لا دين عليه له فهو ليس من أهل أن يستوجب دينا عليه وعندهما إقراره لعبده ومكاتبه كإقراره لنفسه لأنه يملك كسب عبده وله حق الملك في كسب مكاتبه وأما إقراره لابنه وأبيه كإقراره لأخيه من حيث أنه لا يثبت له في المقر به ملكا ولا حق ملك فيصح في حق رب المال.
وقال في المضاربة الصغيرة في قول أبي حنيفة إذا كان في المضاربة فضل لزم المضارب ما أقر به من حصته وهو صحيح لما بينا أنه غير متهم في حق نفسه وإن كان متهما في حق غيره ولو أقر المضارب في مرضه بمضاربة بعينها ثم أقر بها بعينها وديعة لآخر ثم أقر بدين ثم مات بدئ بالمضاربة لأن رب المال استحق ذلك المال بإقراره عينا كما أقر به ثم هو أقر للثاني بوديعة قد استهلكها بإقراره فيها بالمضاربة والإقرار بالوديعة المستهلكة إقرار بالدين فكأنه أقر بدين ثم بدين فيتحاص صاحب الوديعة والدين فيما بقي من تركته.(22/262)
ص -127- ... باب الشفعة في المضاربة
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم مضاربة فاشترى المضارب بها دارا تساوي ألفا أو أقل منها أو أكثر ورب المال شفيعها بدار له فله أن يأخذها بالشفعة من المضارب ويدفع إليه الثمن فيكون على المضاربة لأن أكثر ما فيه أن المضارب اشتراها لرب المال ومن اشترى أو اشترى له فهو على شفعته وإنما تسقط شفعة من باع أو بيع له ثم الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء لأنه يملك الدار عليه بما يعطيه من الثمن وقد بينا أن رب المال لو اشترى من المضارب دارا اشتراها للمضاربة جاز شراؤه لكونه مفيدا فكذلك إذا أخذها بالشفعة.
ولو اشترى المضارب دارا ببعض المضاربة ثم اشترى رب المال دارا لنفسه إلى جنبها فللمضارب أن يأخذها بالشفعة بما بقي من مال المضاربة لأن أكثر ما فيه أن المضارب يأخذها لرب المال ورب المال مشتر والشراء لا يكون مبطلا شفعة الشفيع ثم أخذه بالشفعة كالشراء المبتدأ وشراء المضارب بمال المضاربة دارا من رب المال يكون صحيحا لكونه مفيدا من حيث أنه يدخل فيه في المضاربة ما لم يكن فيها ويخرج من المضاربة ما كان فيها.
ولو اشترى بألف مضاربة دارا تساوي ألفا ورب المال شفيعها فتسلم الشفعة ثم باع المضارب الدار فلا شفعة لرب المال فيها لأن المضارب نائب عن رب المال في بيعها ومن بيع له لا يستوجب الشفعة كما لا يستوجبها من باع وكذلك لو باع رب المال داره لم يكن للمضارب فيها شفعة بدار المضاربة لأنه لو أخذها أخذها للمضاربة ومال المضاربة لرب المال ورب المال بائع لهذه الدار فكما لا يكون له أن يأخذها بالشفعة بدار أخرى له لا يكون لمضاربه أن يأخذها بدار المضاربة.(22/263)
ولو اشترى المضارب بألف المضاربة دارا تساوي ألفين ورب المال شفيعها فسلم الشفعة ثم باعها المضارب بألفي درهم لم يكن لرب المال أن يأخذ شيئا منها بالشفعة أما مقدار رأس المال وحصته من الربح فلأن البيع فيه وقع من المضارب لرب المال وأما حصة نصيبه من الربح فلأنه لو أخذها رب المال تفرقت الصفقة على المشتري وليس للشفيع أن يفرق الصفقة على المشتري ولأن حق المضارب في الربح تبع وإذا لم تجب الشفعة فيما هو الأصل لا تجب في التبع ولهذا لا يستحق البناء بدون الأصل في الشفعة لأن البناء يمنع الأصل ولو لم يبعها المضارب ولكن باع رب المال داره فأراد المضارب أن يأخذها بالشفعة لنفسه من الربح الذي له في مال المضاربة بحصته من الربح كان له ذلك لأن رب المال ما باع داره للمضارب والمضارب حاز الدار المبيعة بحصته من الربح فإنه تملك حصته قبل القسمة حقيقة ولهذا تجب عليه الزكاة فيه فيكون له أن يأخذها بالشفعة لنفسه بذلك السبب.
ولو اشترى المضارب ببعض المال دارا في قيمتها فضل على رأس المال فباع رجل إلى جنبها دارا وفي يد المضارب من مال المضاربة مثل ثمن الدار التي بيعت إلى جنب دار(22/264)
ص -128- ... المضاربة فأراد المضارب أن يأخذ الدار بالشفعة لنفسه لم يكن له ذلك وإنما يأخذها على المضاربة أو يدع لأن حق رب المال أصل وحق المضارب تبع وهو متمكن من أخذها بما هو الأصل والتبع لا يظهر مع ظهور الأصل وهذا لأن في أخذها للمضاربة مراعاة الحقين جميعا حق رب المال وحق المضارب وفي أخذها لنفسه إبطال حق رب المال وليس للمضارب أن يقدم حق نفسه في الربح ويبطل حق رب المال فتسلم المضارب الشفعة فأراد رب المال أن يأخذها بالشفعة لنفسه لم يكن له ذلك لأن المضارب إذا كان متمكنا من الأخذ بالشفعة يصح منه التسليم في حق نفسه وفي حق رب المال جميعا فإن التسليم من التجارة كالأخذ قيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فأما عند محمد رحمه الله فينبغي أن لا يصح تسليمه في حق رب المال كما في الأب والوصي إذا سلما شفعة الصبي والأصح أن هذا قولهم جميعا لأن فيما هو من صنيع التجار المضارب نائب عن رب المال على الإطلاق وتسليم الشفعة من صنيع التجار.
ولو لم يكن في يد المضارب من مال المضاربة شيء يأخذ به الدار التي بيعت كان له أن يأخذها بالشفعة لنفسه لأنه غير متمكن من أخذها للمضاربة هنا لأنه لو أخذها للمضاربة كان استدانة منه على المال والمضارب لا يملك ذلك فإذا لم يثبت له الحق باعتبار الأصل ظهر حكم التبع وهو أنه جاز للدار المبيعة بملكه في نصيبه من الربح فيكون له أن يأخذ بالشفعة لنفسه وإن لم يكن فيها فضل على رأس المال لم يكن للمضارب أن يأخذها لنفسه لأنه لا ملك له فيها وإنما جواره من حيث اليد دون الملك وبه لا يستحق الشفعة وإن أراد رب المال أن يأخذها لنفسه فله ذلك لأن ما في يد المضارب ملك لرب المال حقيقة فيكون به جارا للدار المبيعة فإن سلم المضارب الشفعة فتسليمه باطل ورب المال على شفعته لأن تسليم الشفعة إنما يصح ممن يكون متمكنا من الأخذ بالشفعة والمضارب هنا لم يكن متمكنا من الأخذ فليس له تسليم الشفعة.(22/265)
ولو كان في الدار التي من المضاربة فضل على رأس المال وليس في يد المضارب من مال المضاربة شيء فأراد المضارب ورب المال أن يأخذ الدار المبيعة إلى جنب دار المضاربة بالشفعة لأنفسهما فلهما أن يأخذاها نصفين لأن كل واحد منهما جار لها بملكه في حصته من دار المضاربة واستحقاق الشفعة باعتبار عدد رؤوس الشفعاء لا باعتبار مقدار الانصباء فإن سلم أحدهما كان للآخر أن يأخذها كلها لأن لكل واحد من الشفيعين سببا تاما لاستحقاق جميع الدار المبيعة ولكن للمزاحمة عند طلبهما يأخذ كل واحد منهما النصف فإذا انعدمت هذه المزاحمة بتسليم أحدهما كان للآخر أن يأخذها كلها فإن كان بقي في يد المضارب من المضاربة قدر ثمن الدار التي بيعت فأراد المضارب أو رب المال أن يأخذها بالشفعة لم يكن له ذلك لأن حق المضاربة في هذه الدار هو الأصل قبل القسمة لما في الأخذ للمضاربة من مراعاة الحقين في أخذ أحدهما لنفسه إبطال حق الآخر وإذا كان الأخذ باعتبار الحق الأصلي(22/266)
ص -129- ... ممكنا يوجب ترجيح ذلك فيكون للمضارب أن يأخذها للمضاربة وليس لواحد منهما أن يأخذها لنفسه فإن سلم المضارب الشفعة لم يكن لواحد منهما أن يأخذها بالشفعة بعد ذلك لأن المضارب كان متمكنا من أخذه لهما فيعمل تسليمه أيضا في حقهما.
أرأيت لو أخذها للمضاربة ثم باعها من الذي أخذها منه أو ردها عليه بحكم الإقالة أما كان يصح ذلك منه في حق رب المال فكذلك إذا ردها عليه بتسليم الشفعة له ولو لم يعلم المضارب بالشفعة حتى تناقضا المضاربة واقتسما الدار التي من المضاربة على قدر رأس المال والربح ثم أرادا أن يأخذا الدار المبيعة بالشفعة لأنفسهما فلهما ذلك لأن سبب الاستحقاق لكل واحد منهما يتقرر بالقسمة ولا ينعدم فإن السبب كونه جارا للدار المبيعة بملكه في دار المضاربة وبالقسمة يتقرر ملك كل واحد منهما إلا أن حق المضاربة كان مقدما فإذا انعدم ذلك بقسمتها كان لكل واحد منهما حق الأخذ لنفسه بالشفعة كالشريك إذا سلم الشفعة فللجار أن يأخذها فإن طلباها جميعا فهي بينهما نصفان وأيهما سلم أخذ الآخر الدار كلها لما قلنا.
وإذا دفع الرجل إلى الرجلين مالا مضاربة فاشتريا به دارا ورب المال شفيعها فله أن يأخذ حصة أحدهما بالشفعة دون حصة الآخر لأن الصفقة تتفرق بتعدد الشريكين في حكم الشفعة.
ألا ترى أنهما لو اشترياها لأنفسهما كان للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر قبل القبض في ظاهر الرواية وقد بينا هذا في الشفعة فكذلك إذا كان المشتريان مضاربين وكذلك لو كان الشفيع أجنبيا فإن المضاربين في شرائهما للمضاربة في حق الشفيع كالمشتريين لأنفسهما حتى كان له أن يأخذها منهما بالشفعة وإن لم يحضر رب المال وكذلك الوكيلان.(22/267)
ولوكان المضارب واحدا فأراد الشفيع أن يأخذ بعض الدار بالشفعة لم يكن له ذلك سواء كان الشفيع رب المال أو أجنبيا لما فيه من تفريق الصفقة على المشتري وإذا دفع الرجلان إلى رجل مالا مضاربة فاشترى بها دارا وأحد صاحبي المال شفيعها فأراد أن يأخذ بعضها بالشفعة فليس له ذلك إما أن يأخذها كلها أو يدع لأن المشتري لما كان واحدا كانت الصفقة في حكم الشفعة متحدة فلا يكون للشفيع أن يفرقها بأخذ البعض سواء كان الشفيع أجنبيا أو أحد ربى المال وكذلك الرجلان يوكلان رجلا بشراء دار كان للشفيع أن يأخذها من الوكيل جملة وإن كان الآمران غائبين وليس له أن يأخذ نصيب أحد الآمرين وإن كان المأمور اثنين فله أن يأخذ نصيب أحد الآمرين دون الآخر لأن المشتري لغيره في حق الشفيع كالمشتري لنفسه فإن المعتبر في تفريق الصفقة واجتماعها حال العاقد لا حال من وقع العقد له.
وإذا وجبت الشفعة للمضاربة فسلم أحد المضاربين الشفعة لم يكن للآخر أن يأخذها لأن الأخذ بالشفعة شراء وأحد المضاربين لا ينفرد بالشراء دون صاحبه فكذلك في الأخذ بالشفعة.
ألا ترى إنه ليس لأحدهما أن يأخذ بالشفعة دون صاحبه وإن لم يسلما فبعد تسليم أحدهما أولى.(22/268)
ص -130- ... وإن كان رأس المال ألف درهم فاشترى بها المضارب دارا تساوي ألفا أو أقل أو أكثر وشفيعها رب المال بدار له ورجل أجنبي أيضا شفيعها بدار له أخرى فلهما أن يأخذا الدار نصفين لأن كل واحد منهما لو انفرد لاستحق الكل بالشفعة فإذا اجتمعا وطلباها أخذاها بينهما نصفين فإن سلم رب المال الشفعة وأراد الأجنبي أن يأخذها فالقياس أن يأخذ الأجنبي نصف الدار بالشفعة وليس له غير ذلك لأن المضارب إنما اشتراها لرب المال وشراء الشفيع لنفسه يكون أخذا بالشفعة فكذا شراء غيره له واحد الشفيعين إذا سلم بعد الأخذ فليس للآخر أن يأخذ إلا النصف بخلاف ما إذا سلم قبل الأخذ لأن مزاحمته في الأخذ تنعدم بالتسليم قبل الأخذ لا بعده وفي الاستحسان للأجنبي أن يأخذ الدار كلها أو يدع لأن المضارب إنما اشترى للمضاربة وذلك حق آخر غير حق رب المال فيما له على الخصوص والمزاحمة بينهما باعتبار الحق الخالص لكل واحد منهما ولم يوجد من رب المال أخذ باعتبار هذا الحق ولا من غيره له فإنما سلم قبل الأخذ والدليل عليه إنه لو تمكن الأجنبي من أخذ النصف تفرقت الصفقة به على المشتري وليس للشفيع حق تفريق الصفقة على المشتري بالأخذ بالشفعة فلهذا يأخذ كلها أو يدع.
باب الشروط في المضاربة(22/269)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف على أن للمضارب بما عمل في المال أجرا عشرة دراهم كل شهر فهذا شرط فاسد ولا ينبغي له أن يشترط مع الربح أجرا لأنه شريك في المال بحصته من الربح وكل من كان شريكا في مال فليس ينبغي له أن يشترط أجرا فيما عمل لأن المضارب يستوجب حصة من الربح على رب المال باعتبار عمله له فلا يجوز أن يستوجب باعتبار عمله أيضا أجرا مسمى عليه إذ يلزم عوضان لسلامة عمل واحد له وإن اعتبرنا معنى الشركة في المضاربة كان رأس مال المضاربة عمله ورأس ماله فلا يجوز أن يستوجب باعتبار عمله على رب المال أجرا فإن عمل على هذا الشرط فربح فالربح على ما اشترطا ولا أجر للمضارب في ذلك لأنه ما سلم عمله بحكم الإجارة على رب المال والمضاربة شركة والشركة لا تبطل بالشرط الفاسد إذا كان لا يؤدي ذلك إلى قطع الشركة بينهما في الربح بعد حصوله وقد طعن عيسى رحمه الله في هذه المسألة وقال يجب أن يكون للمضارب أجر مثله فيما عمل لأن شرط الأجر المسمى ينافي موجب المضاربة فإن المضاربة جائزة غير لازمة فلكل واحد منهما أن يفسخها واشتراط الأجر المسمى يجعل العقد لازما وكل شرط يضاد موجب المضاربة فهو مفسد للمضاربة كما لو شرط للمضارب مائة درهم من الربح واستدل بما قاله في كتاب المزارعة في نظير هذه المسألة إن المزارعة تفسد والخارج كله لصاحب البذر وقد قيل في الفرق بينهما أنه قال في مسألة المزارعة على أن للمزارع أجر مائة درهم ولم يقل كل شهر فصار الأجر شرطا على العمل الذي قد اشترط له نصيبه من الزرع عليه وفي المضاربة قال على أن له أجرا عشرة دراهم كل شهر فالأجر هناك مشروط بمقابلة منافعه لا مقابلة العمل.(22/270)
ص -131- ... ألا ترى أن بمضي المدة بعد تسليم النفس يجب الأجر وإن لم يعمل له شيئا وشرط الربح بمقابلة العمل فكانا في حكم عقدين إذا فسد أحدهما لم يفسد الآخر به وقيل في الفرق بينهما المزارعة إجارة ولهذا شرط التوقيت فيها والإجارة تبطل بالشروط الفاسدة.
فأما المضاربة فشركة حتى لا يشترط فيها التوقيت والشركة لا تبطل بالشروط الفاسدة قوله هذا الشرط يضاد موجب المضاربة قلنا الشرط لا يضاد ذلك ولكن صحة الشرط واستحقاق الأجر به يوجب اللزوم وهذا الشرط غير صحيح هنا بل هو لغو كما ذكرنا فتبقى المضاربة بينهما صحيحة كما هو موجب المضاربة ولذلك إذا شرط ذلك الأجر لعبد له يعمل معه في المضاربة أو لبيت يشتري فيه ويبيع فالربح على ما اشترطا ولا أجر لعبد المضارب ولا لبيته لأن المشروط للبيت مشروط للمضارب وعليه حفظ مال المضاربة في بيته ولا يجوز أن يستوجب على ذلك أجرا ولهذا لا يجوز استئجار المرتهن على حفظ المرهون وعبد المضارب الذي لا دين عليه كسبه لمولاه فالمشروط له من الأجر كالمشروط للمضارب.
ولو كان العبد الذي اشترط له الأجر عليه دين أو كان مكاتب المضارب أو ولده أو والده فهو جائز على ما اشترطا وللذي عمل بالمال مع المضارب من هؤلاء عشرة دراهم كل شهر على ما اشترطا لأنه من كسب هؤلاء كالأجنبي وله أن يستأجرهم للعمل معه ويكون أجرهم في مال المضاربة فاشتراط ذلك في المضاربة لا يزيده إلا وكادة وليس له أن يستأجر عبده الذي لا دين عليه ولا بيته من نفسه ليبيع فيه ويشتري للمضاربة فكان اشتراط ذلك في العقد شرطا فاسدا.(22/271)
ولو اشترطا أن يعمل عبد رب المال مع المضارب على أن للعبد أجرا عشرة دراهم كل شهر ما عمل معه فهذا شرط فاسد لأن عبد رب المال إذا لم يكن عليه دين كنفسه ولو شرط عمل رب المال معه بأجر لم يجز ذلك ولا أجر له فيما عمل فكذلك إذا شرط ذلك لعبده أو لأبيه والربح بينهما على الشرط لأن الشرط الفاسد غير متمكن في صلب العقد بخلاف ما إذا شرط رب المال أن يعمل معه وهو بغير أجر لأن ذلك الشرط يعدم التخلية بين المضارب ورب المال وهنا الشرط لا يعدم التخلية فإن العبد أجير المضارب ويد الأجير كيده.
ولو كان عبد رب المال عليه دين فاشترط له أجرا عشرة دراهم كل شهر أو اشترط ذلك لمكاتبه أو لابنه جاز لما بينا أن هؤلاء كأجنبي آخر فيما يشترط لهم من الأجر على العمل وإذا استأجر رجل رجلا عشرة أشهر كل شهر بعشرة دراهم يشتري له البز ويبيع ذلك فهو جائز لأنه عقد على منافعه في مدة معلومة ببدل معلوم فإن دفع إليه رب المال في هذه العشرة الأشهر ما لا يعمل به على أن الربح بينهما نصفان فعمل به الأجير فالربح لرب المال والوضيعة عليه ولا شيء للأجير من الربح في قول أبي يوسف وقال محمد ربح المضاربة بينهما على ما اشترطا ولا أجر للأجير ما دام يعمل بهذا وإذا عمل بغيره من ملك رب المال فله أجر عشرة دراهم في كل شهر حتى تنقضي هذه الشهور لأن اتفاقهما على المضاربة بمنزلة الفسخ منهما(22/272)
ص -132- ... للإجارة ولكن هذا الفسخ في ضمن المضاربة فيقتصر على المنافع التي يعمل بها في مال المضاربة ولا تتعدى إلى ما يعمل به في غيره من مال رب المال فيستوجب الشركة في الربح باعتبار المضاربة والأجر بمنافعه المصروفة إلى عمله لرب المال من غير مال المضاربة ولأن المضاربة شركة.
ولو أن الأجير شارك رب المال بألف من ماله خلطه بمال رب المال بإذنه على أن يعمل بالمالين فما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان كانت الشركة جائزة على ما اشترطا ولا أجر للأجير ما دام يعمل بهذا المال فكذلك في المضاربة وأبو يوسف يقول عقد الإجارة لا ينتقض بالمضاربة لأن المضاربة دون الإجارة فالإجارة لازمة من الجانبين والمضاربة غير لازمة ولا ينتقض الشيء بما هو دونه ولأن المعقود عليه في الإجارة منافعه وفي المضاربة العمل وأحدهما غير الآخر والعقد المضاف إلى محل لا يبطل عقدا مضافا إلى محل آخر هو أقوى منه ومع بقاء الإجارة لا يجوز أن تثبت له الشركة في الربح إذا اجتمع له الأجر والشركة في الحاصل بعمله وذلك لا يجوز ولأن المضارب إنما يستحق الشركة في الربح بإزاء عمل نفسه بمنافع هي له وهنا منافعه بعقد الإجارة مستحقة للمستأجر فلا يوجد ما هو موجب استحقاق الشركة في الربح وهذا بخلاف الشركة فإن الشريك يستحق الربح بماله لا بعمله فبالإجارة السابقة بينهما لا ينعدم ما به يستحق الشريك ولأن الشريك يعمل لنفسه في مال نفسه فلا يستوجب الأجر بهذا العمل على المستأجر والمضارب يعمل لرب المال وهو بعمله لرب المال يستوجب الأجر هنا فلا يجوز أن يستوجب الشركة في الربح وعقد الإجارة يرد على منافعه كما قال ولكن المقصود هو العمل فإذا وجد ما هو المقصود كان البدل بمقابلته وإن كان تسليم النفس عند عدم العمل يقام مقامه في استحقاق الأجر كالصداق فإنه بمقابلة ما هو المقصود وإن كان تسليم المرأة نفسها قد يقام مقام ما هو المقصود في تأكد المهر به لدفع(22/273)
الضرر عنها.
ولو كان الأجير دفع إلى رب المال مالا مضاربة يعمل به على النصف جاز والأجير على الإجارة والمستأجر على المضاربة لأن عقد الإجارة لا يوجب للأجير حقا في منافع رب المال ولا في عمله فدفعه المال إليه مضاربة بعد الإجارة كدفعه إليه قبل الإجارة فإن استبضع رب المال الأجير مال المضاربة يشتري به ويبيع على المضاربة فقبضه الأجير فاشترى به وباع فهو جائز على ما اشترطا في المضاربة لأن عمل المستبضع كعمل المبضع كما لو أبضعه المضارب مع أجنبي آخر والأجر على حاله للأجير لأنه قد تحقق منه تسليم نفسه في المدة للعمل به وهو يستوجب الأجر بذلك وعقد المضاربة لا يفسد هنا بخلاف ما إذا اشترط عمل رب المال بالمال لأن ذلك الشرط يعدم التخلية فأما الإبضاع فلا يعدم التخلية المستحقة لتمكن المضارب من استرداد المال منه متى شاء.
وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف على أن يعمل معه رب المال على أن لرب(22/274)
ص -133- ... المال أجرا عشرة دراهم كل شهر فهذا الشرط يفسد عقد المضاربة لأنه يعدم التخلية وقد بينا أنه لو شرط عمل رب المال مع المضارب بغير أجر فسد العقد فإذا شرط عمله مع المضارب كان أولى وإذا فسد العقد كان الربح كله لرب المال والوضيعة عليه وللمضارب أجر مثله فيما عمل وهو الحكم في المضاربة الفاسدة ولا أجر لرب المال لأنه عامل في مال نفسه لنفسه وهو في ذلك لا يكون أجيرا لغيره فلهذا لا يستوجب الأجرة به, والله أعلم .
باب المرابحة بين المضارب ورب المال
قال رحمه الله: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن ما كان في ذلك من ربح فهو بينهما نصفان فاشترى رب المال عبدا بخمسمائة وباعه من المضارب بألف المضاربة جاز ذلك لكون العقد مفيدا بينهما فإن باعه المضارب مساومة باعه كيف شاء وإن باعه مرابحة باعه على خمسمائة وهو ما اشتراه به رب المال دون الألف الذي اشتراه به المضارب لأن الذي يجري بين رب المال والمضارب في الحقيقة لم يكن بيعا فإن البيع مبادلة ملك إنسان بملك غيره وهذا كان مبادلة ملك رب المال بملكه ولكن جعل بمنزلة العقد في حق ما بينهما لكونه مفيدا في حقهما فأما في حكم بيع المرابحة فالعقد هو الأول وهو شراء رب المال إياه بخمسمائة فيبيعه مرابحة على ذلك.
يوضحه: أن المضارب متهم في حق رب المال بالمسامحة وترك الاستقصاء وبيع المرابحة بيع أمانة ينفي عنه كل تهمة وخيانة وانتفاء التهمة في أقل الثمنين فبيعه مرابحة على ذلك إلا أن يبين الأمر على وجهه فحينئذ يبيعه كيف شاء ولأن المضارب ببيعه لرب المال فينبغي أن يطرح ربح رب المال عند انضمام أحد العقدين إلى آخر وربح رب المال خمسمائة فيطرح ذلك من الثمن ويبيعه مرابحة على ما بقي.(22/275)
ولو كان رب المال اشترى العبد بألف فباعه من المضارب بخمسمائة درهم من المضاربة باعه المضارب مرابحة على خمسمائة لأنه أقل الثمنين والذي جرى بينهما عقد في حقهما فإن لم يكن في الحقيقة عقدا فيعتبر هذا الجانب إذا كان أقل الثمنين عند اعتباره وانتفاء التهمة إنما يكون في الأقل ولو كان رب المال ملك العبد بغير شيء فباعه من المضارب بألف المضاربة لم يبعه مرابحة حتى يبين إنه اشتراه من رب المال لما بينا أن الذي جرى بينهما ليس ببيع في الحقيقة وليس لرب المال على هذه العين شراء سوى هذه ليبيعه المضارب به مرابحة باعتبار ذلك فإن بين الأمر على وجهه فقد انتفت التهمة.
ولو عمل المضارب بألف المضاربة فربح فيها ألفا ثم اشترى رب المال عبدا يساوي ألفي درهم فباعه من المضارب بالألفين فله أن يبيعه مرابحة على ألف وخمسمائة لأن مقدار الخمسمائة في العقد الثاني ربح رب المال فيطرح ذلك من الثمن الثاني إذا لم يخرج ذلك القدر من ملك رب المال وإنما بقي من الثمن ربح المضارب فيه وهو خمسمائة وما اشتراه به رب المال وهو ألف فيبيعه مرابحة على ذلك لأن المضارب إنما يبيعه لرب المال في مقدار(22/276)
ص -134- ... رأس ماله وحصته من الربح ولهذا لو لحقه عهدة في ذلك رجع به عليه فيطرح مقدار ربح رب المال لذلك ولو كان رب المال اشتراه بخمسمائة والمسألة على حالها باعه المضارب مرابحة على ألف درهم خمسمائة منها التي اشترى بها رب المال العبد وخمسمائة ربح فأما ألف المضارب التي طرحت من الثمن بخمسمائة درهم تمام رأس مال رب المال والعقد في ذلك لرب المال فيعتبر أقل الثمنين فتطرح الزيادة إلى تمام رأس مال رب المال وخمسمائة درهم ربح رب المال فلا يحتسب بشيء من ذلك ويبيعه مرابحة على ما اشتراه به رب المال وعلى حصة المضارب من الربح إلا أن يبين الأمر على وجهه.
ولو كان رب المال اشتراه بألف وقيمته ألف فباعه من المضارب بألفين باعه المضارب مرابحة على الألف لأن قيمته إذا كانت مثل رأس المال فلا ربح للمضارب منه.
ألا ترى أنه لو أعتقه لم يجز عتقه وربح رب المال يطرح من بيع المضارب فإنما يبيعه مرابحة على ما اشتراه به رب المال وهو ألف درهم.
وإن كان اشتراه رب المال بخمسمائة وقيمته ألف فباعه من المضارب بالألفين باعه المضارب مرابحة على خمسمائة لأنه لا ربح في قيمته فإنما يبيعه لرب المال كله فإن قيل كيف ينفذ هذا الشراء بالغبن الفاحش من المضارب على المضاربة قلنا لأنه اشتراه من رب المال وشراؤه بالزيادة الفاحشة من غيره إنما لا ينفذ على المضاربة لحق رب المال فإذا كان العامل معه رب المال فهو راض بذلك.(22/277)
ولو كان رب المال اشتراه بألفين وقيمته ألف فباعه من المضارب بألفين باعه المضارب مرابحة على ألف على أنه لا فضل فيه على رأس المال وفي حق رب المال إنما يعتبر أقل الثمنين وذلك مقدار قيمته فبيعه مرابحة على الألف كذلك فإن قيل رب المال اشتراه بألفين والمضارب اشتراه منه كذلك بألفين فقولكم أقل الثمنين ألف من أين قلنا نعم رب المال اشتراه بألفين وقد عاد إليه ألف زائدة على قيمته بالعقد الذي جرى بينه وبين المضارب فإنما بقي له فيه بقدر رأس مال المضاربة وذلك ألف درهم.
ولو كان العبد يساوي ألفا وخمسمائة وقد اشتراه رب المال بألف و المسألة بحالها باعه المضارب مرابحة على ألف ومائتين وخمسين لأن الربح فيه خمسمائة نصف ذلك لرب المال وقد بينا أن ربح المال يطرح وإنما يعتبر قدر رأس المال وربح المضاربة وذلك ألف ومائتان وخمسون ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى المضارب بها عبدا فباعه من رب المال بألفي درهم باعه رب المال مرابحة على ألف وخمسمائة لان خمسمائة من الألفين حصة رب المال من الربح فيطرح ذلك من الثمن لان المضارب انما كان اشترى العبد له فيعتبر في حقه أقل الثمنين وذلك ما اشترى به المضارب وهو ألف وحصة المضارب من الربح معتبرة لا محلة فيبيعه رب المال مرابحة على ألفى درهم وخمسمائة.
ولو كان المضارب اشترى العبد بخمسمائة من المضاربة فباعه من رب المال بألفى(22/278)
ص -135- ... درهم فإنه يبيعه مرابحة على ألف وخمسمائة الثمن الذي اشتراه به المضارب وخمسمائة ربح المضارب ويطرح عنه خمسمائة ربح رب المال وخمسمائة ربح رب المال أيضا مما يكمل به رأس المال وان كان بقى من المضاربة خمسمائة في يد المضارب لم يحتسب بها في ثمن هذا العبد وقد بينا أن في حق كل جنس من المال يجعل كأنه ليس في المضاربة غيره.
ألا ترى أن تلك الخمسمائة لو ضاعت كان رأس مال المضاربة كله ثمن هذا العبد فلهذا حسب جميع رأس المال في ثمن هذا العبد فطرح تمام رأس المال من ثمن العبد الذي اشتراه به رب المال وهو خمسمائة وربح رب المال باعه مرابحة على الثمن الذي اشترى به المضارب وهو خمسمائة وعلى ربح المضارب وهو خمسمائة ويشترى إن كانت قيمة العبد أقل من ذلك أو أكثر في هذا الوجه لأنه لا معتبر بقيمة العبد فإنه إنما يصل إلى المضارب في هذا الوجه الثمن دون العبد.(22/279)
ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى بها عبدا فباعه من رب المال بألفى درهم ثم باعه رب المال من أجنبي مساومة بثلاثة آلاف ثم اشتراه المضارب من الأجنبي بالألفين اللذين أخذهما من رب المال ثمنا للعبد فإنه لا يبيعه مرابحة في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله أصلا وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يبيعه المضارب مرابحة على الثمن الأخير الذي اشتراه به من الأجنبي وهو ألفا درهم وهذا بناء على ما بينا في كتاب البيوع إن عند أبي حنيفة يضم بعض العقود إلى البعض ثم ينظر إلى حاصل الضمان فيه فعلى ذلك يباع مرابحة فهنا الثمن الأول كان ألف درهم فلما باعه المضارب بألفين من رب المال كان المعتبر من ذلك مقدار رأس المال وهو ألف وحصة المضارب من الربح وهو خمسمائة فلما باعه رب المال بثلاثة آلاف فقد ربح فيه ألفا وخمسمائة فلا بد من أن يطرح ذلك من رأس المال بعد ما اشتراه المضارب من الأجنبي ليبيعه مرابحة لرب المال على ما بقي وإذا طرحت ذلك من رأس المال لم يبق شيء فلهذا لا يبيعه مرابحة أصلا إلا أن يبين الأمر على وجهه وعندهما لا يعتبر ضم العقود بعضها إلى بعض في المعاملة مع الأجنبي فيبيعه مرابحة على ما اشتراه من الأجنبي وذلك ألفا درهم .(22/280)
ولو كان المضارب باع العبد من رب المال بألف وخمسمائة ثم باعه رب المال من أجنبي بألف وستمائة ثم عمل المضارب بالألف وخمسمائة حتى صارت ألفين فاشترى بها العبد من الأجنبي بألف وستمائة ثم عمل المضارب بألف وخمسمائة حتى صارت ألفين فاشترى بها العبد من الأجنبي فإن بيعه مرابحة في قولهما على ألفين وهو ظاهر وأما في قياس قول أبي حنيفة فإنه يبيعه مرابحة على ألف وأربعمائة لأن المضارب كان ربح في البيع الأول مائتين وخمسين وكان المعتبر رأس المال وحصة المضارب من الربح فحين باعه رب المال بألف وستمائة فثلثمائة وخمسون من ذلك ربح المال فيطرح ذلك من الألفين ويطرح أيضا ما ربح المضارب على رب المال وذلك مائتان وخمسون درهما فإذا طرحت ذلك من الألفين يبقى(22/281)
ص -136- ... ألف وأربعمائة درهم فعلى ذلك يبيعه المضارب مرابحة وإنما يطرح ما ربح المضارب على رب المال لأنه لو ربح ذلك في معاملته مع الأجنبي بيعا وشراء لكان يطرح ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في بيع المرابحة فلأن يطرح ذلك عند معاملته مع رب المال أولى.
وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف فاشترى بألف منها عبدا يساوي ألفين فولاه رب المال فهذا جائز عند أبي حنيفة لا يشكل لأنه يملك البيع بالمحاباة وعندهما بيعه بالمحاباة الفاحشة من غير رب المال لا يجوز لحق رب المال فلا يكون ذلك مانعا من جواز المعاملة بينه وبين رب المال فإن باعه رب المال من أجنبي بألف وخمسمائة مرابحة ثم اشتراه المضارب من الأجنبي مرابحة بألفي درهم من المضاربة ثم حط رب المال عن الأجنبي من الثمن ثلاثمائة فإن الأجنبي يحط عن المضارب مثل ذلك من الثمن وحصته من الربح وذلك كله أربعمائة لأن العقدين جميعا كانا مرابحة فإذا خرج القدر المحطوط من أن يكون ثمنا في حق الأجنبي بحط رب المال عنه يخرج ذلك القدر وحصته من الربح من أن يكون ثمنا في عقد المضارب أيضا والمحطوط في عقد رب المال خمس الثمن وفي عقد المضارب جملة الثمن ألفان فيحط عنه خمس الثمن وفي عقد المضارب جملة الثمن ألفان فيحط عنه خمسها أيضا وهو أربعمائة ثم يبيعه لمضارب مرابحة على ما بقي من الألفين في قول أبي يوسف ومحمد وهو ألف وستمائة وعند أبي حنيفة رحمه الله يبيعه مرابحة على ألف ومائتي درهم لأن رب المال كان ربح فيه خمسمائة فلما حط ثلاثمائة كان الحط من جميع الثمن ثلثاه من رأس المال وثلثه من الربح فبقي ربحه على الأجنبي أربعمائة درهم فيطرح المضارب هذه الأربعمائة مع الأربعمائة التي سقطت عنه من الألفين لأنه يبيعه مرابحة لرب المال فلهذا باعه مرابحة على ألف ومائتين إلا أن يبين الأمر على وجهه.(22/282)
ولو كان المضارب حط عن رب المال من الثمن الذي ولاه به العقد مائتي درهم فإن رب المال يحط المائتين وحصتها من الربح وهو مائة درهم عن الأجنبي لأن المضارب حط عنه خمس الثمن وبيعه من الأجنبي كان مرابحة بألف وخمسمائة فيطرح عنه أيضا خمس الثمن وذلك ثلاثمائة ثم يحط الأجنبي عن المضارب هذه الثلثمائة حصتها من الربح وهو مائة لما قلنا فيبقى العبد في يد المضارب بألف وستمائة شراء من الأجنبي فإن أراد أن يبيعه مرابحة باعه في قول أبي حنيفة مرابحة على ألف ومائتين لما بينا أنه يطرح ما ربح رب المال عن الأجنبي وهو أربعمائة لأنه بقي حاصل ضمانه الأول فيه ثمانمائة وحاصل ما سلم له من الأجنبي ألف ومائتان فعرفنا أن ربحه كان أربعمائة فيحط المضارب ذلك في بيع المرابحة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يبيعه مرابحة وهو على ألف وستمائة لما بينا والله أعلم .
باب ضمان المضارب
قال رحمه الله: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف وأمره أن يعمل فيه برأيه أو لم يأمره فعمل فربح ألف درهم ثم إنه دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف وأمره أن يعمل(22/283)
ص -137- ... فيها برأيه أو لم يأمره فخلط هذه الألف الأخيرة بالألف الأولى ثم عمل بالمال كله فربح ألفا فإن كان لم يأمره أن يعمل في الأخيرة برأيه فالمضارب ضامن للألف الأخيرة بالخلط لأن له في المال الأول من الربح خمسمائة فهذا منه خلط مال المضاربة بمال نفسه وذلك موجب للضمان عليه في المضاربة المطلقة فإن كان ربح بعد هذا الخلط ألف درهم فثلث ذلك حصة الألف الأخيرة وقد ضمنها المضارب فيكون ربحها له فيأخذ من المال هذه الألف وربحها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث وما بقي من المال فهو على المضاربة الأولى بينهما لأن في حق المضاربة الأولى إنما خلط مال رب المال بماله وذلك لا يوجب الضمان عليه.
ولو ضاع المال قبل القسمة لم يضمن المضارب إلا الألف الأخيرة لأن سبب الضمان وهو الخلط بمال نفسه إنما وجد فيها خاصة ولو كان أمره في المضاربة الثانية أن يعمل فيها برأيه ولم يأمره بذلك في الأولى أو أمره والمسألة بحالها فلا ضمان عليه والمال كله مضاربة على ما اشترطا لأن الأمر في المضاربة الأخيرة مفوض إلى رأيه على العموم فلا يصير ضامنا لها بالخلط وفي المضاربة الأولى إنما خلط مال رب المال بماله وذلك غير موجب للضمان عليه فلهذا كان المال كله مضاربة في يده على ما اشترطا ولو لم يأمره أن يعمل في واحد من المالين برأيه فخلطهما قبل أن يربح في واحد منهما شيئا فلا ضمان عليه لأنه إنما خلط مال رب المال بماله وذلك ليس بسبب موجب للضمان عليه في المضاربة المطلقة.(22/284)
ولو كان ربح في كل واحد ربحا ثم خلطهما ضمنهما جميعا مع حصة رب المال من الربح الذي كان قبل الخلط لأن في كل واحد من المالين وجد سبب وجوب الضمان وهو خلط ملك رب المال بملك نفسه وذلك حصته من الربح في كل مال وما ربح فيهما بعد ما خلطهما فهو للمضارب لأنه يملك المالين بالضمان فما ربح عليهما بعد ذلك يكون له ويتصدق به لأنه حصل له ذلك بسبب حرام إلا حصة ربحه قبل أن يخلطها فإنها حلال له لأن ذلك حصل له بسبب لا حنث فيه وفي قول أبي يوسف لا يتصدق بشيء من الربح لأنه حصل على ضمانه وأصل الخلاف في المودع إذا تصرف في الوديعة وربح وإذا كان أمره فيهما جميعا أن يعمل برأيه كان ذلك كله مضاربة بينهما على الشرط لوجود تفويض الأمر إلى رأيه في المضاربتين على العموم والجواب في المضاربين إذا خلطا المالين قبل أن يربح واحد منهما شيئا أو بعد ما ربح أحدهما في مضاربته شيئا نحو الجواب في المضارب الواحد لاستواء الفصلين في المعنى الذي أشرنا إليه والله أعلم .
باب المرابحة في المضاربة بين المضاربين
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم مضاربة بالنصف ودفع إلى آخر ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى أحدهما عبدا بخمسمائة من المضاربة فباعه من المضارب الآخر بجميع الألف المضاربة فهو جائز وإن كان المالان لواحد لأن هذا البيع مفيد فإنه يدخل في مضاربة كل واحد منهما ما لم يكن فيها وللمشتري أن يبيعه مساومة كيف شاء وإن أراد(22/285)
ص -138- ... أن يبيعه مرابحة باعه على أقل الثمنين وهو خمسمائة التي اشتراه بها المضارب الأول لأن ما زاد على ذلك لم يتم خروجه من ملك رب المال فإن ما في يد المضارب الأول وما في يد المضارب الآخر كله ملك رب المال وكل واحد منهما عامل له فإنما يبيعه مرابحة على ما يتيقن بخروجه من ملكه وهو الخمسمائة التي دفعها الأول إلى البائع.
ولو كان المشتري اشترى العبد بألف المضاربة وبألف من ماله ثم أراد أن يبيعه مرابحة باعه على ألف ومائتين وخمسين لأنه اشترى نصفه لنفسه بألف من ماله فيبيعه على ذلك مرابحة ويشتري النصف الآخر للمضاربة فإنما يبيعه مرابحة على أقل الثمنين فيه وثمن هذا النصف في العقد الأول كان مائتين وخمسين فيبيع العبد كله مرابحة على ألف ومائتين وخمسين فإن بين الأمر على وجهه باعه مرابحة على الألفين لأن تهمة الجناية تنعدم ببيان الأمر على وجهه.
ولو دفع ألف درهم إلى رجل مضاربة بالنصف ودفع إلى آخر ألفي درهم مضاربة بالنصف فاشترى المدفوع إليه الألف عبدا بها وباعه من آخر بألفي درهم المضاربة فلهذا كان للثاني أن يبيعه مرابحة على ألف وخمسمائة لأن المضارب الأول ربح ألف درهم حصته من ذلك خمسمائة وحصة رب المال خمسمائة إلا أن حصة رب المال من الربح تطرح في بيع المرابحة لأن ذلك لم يخرج من ملكه فإنما يعتبر حصة المضارب الأول من الربح والألف التي غرمها المضارب الأول في ثمنه فيه فيبيعه الآخر مرابحة على ألف وخمسمائة لهذا ولو كان الأول اشتراه بخمسمائة من المضاربة وباعه من الثاني بألفي المضاربة باعه مرابحة على ألف درهم خمسمائة منها رأس مال المضاربة الأول الذي نقد في العبد وخمسمائة ربح المضارب الأول وقد بطلت حصة رب المال من الربح وهو خمسمائة وخمسمائة أخرى تمام رأس مال رب المال من المضاربة الأولى لأنا قد بينا أنه يعتبر رأس المال في كل جنس كأنه ليس معه غيره.(22/286)
ألا ترى أنه لو هلكت الخمسمائة الأخرى كان جميع رأس المال محسوبا من هذا الثمن بمقدار ما يكمل به رأس مال رب المال ويطرح في بيع المرابحة كما يطرح حصة رب المال من الربح لأن ذلك لم يخرج من ملكه والمضارب الآخر إنما اشتراه لرب المال والأول كذلك باعه لرب المال وإذا ثبت أنه يطرح من الثمن الثاني ألف درهم باعه مرابحة على ألف ولو كان الأول اشتراه بألف المضاربة ثم باعه من الثاني بألفي المضاربة وألف من ماله فله أن يبيعه مرابحة على ألفين ومائة وستة وستين درهما وثلثي درهم لأنه اشترى ثلثه لنفسه بألف درهم فيبيعه مرابحة على ذلك واشترى ثلثيه بألفي المضاربة ورأس مال المضاربة الأولى فيه ثلثا الألف وربح المضارب الأول فيه خمسمائة فإذا ضممت خمسمائة إلى ثلثي الألف يكون ألفا ومائة وستة وستين وثلثين ويضم إليه الألف التي هي ثمن ثلث العبد فيبيعه مرابحة على ذلك ويطرح ما سواه يعني حصة رب المال من الربح وذلك خمسمائة وما يكمل به رأس(22/287)
ص -139- ... ماله في المضاربة الأولى من هذا المال وذلك ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث فتبين أن المطروح من ثلاثة آلاف ثمانمائة وثلاثة وثلاثون وثلث.
ولو كان المضارب الأول اشترى العبد بخمسمائة وقيمته ثلاثة آلاف والمسألة بحالها فإن للآخر أن يبيعه مرابحة على ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهما وثلث لأن الآخر اشترى ثلثه لنفسه بألف درهم وذلك معتبر كله واشترى ثلثه للمضاربة وإنما يعتبر فيه حصته من الثمن الأول وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث وحصة المضارب من الربح وهو خمسمائة فإذا جمعت ذلك كان مقداره ما بيناه ويطرح حصة رب المال من الربح وهو خمسمائة وما يكمل به رأس ماله في المضاربة الأولى من هذا المال وهو ستمائة وستة وستون وثلثان فإذا طرحت من ثلاثة آلاف ألفا ومائة وستة وستين وثلثين يبقى ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثون وثلث.
ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف ثم دفع إلى آخر ألف درهم مضاربة بالنصف فعمل الآخر بالمال حتى صارت ألفين ثم اشترى الأول بألف المضاربة عبدا فباعه من الآخر بالألفين اللتين في يده وقيمته ألفا درهم فإن الثاني يبيعه مرابحة على ألف وخمسمائة لأن رأس مال الأول فيه ألف درهم فيعتبر ذلك ويعتبر حصة الأول من الربح وهو خمسمائة وتبطل حصة رب المال من الربح في المضاربة الأولى لأن ذلك لم يخرج من ملكه بالعقد الثاني فلهذا باعه الثاني مرابحة على ألف وخمسمائة.(22/288)
ولو كان الأول اشتراه بخمسمائة من المضاربة وخمسمائة من ماله والمسألة على حالها باعه مرابحة على ألف وخمسمائة لأن الأول اشترى نصفه لنفسه بخمسمائة وباعه من الثاني بألف فيبيع ذلك النصف مرابحة على ألف واشترى الأول النصف الآخر وباعه من الآخر بألف ولا فضل فيه على رأس مال المضاربة في العقد الأول فإنما يبيع هذا النصف مرابحة على الثمن الأول وهو خمسمائة ولو كان الأول اشتراها بألف من عنده وخمسمائة من المضاربة والمسألة بحالها باعه الآخر مرابحة على ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلث لأن الأول اشترى ثلثيه لنفسه وباع ذلك من الآخر بثلث الألفين وذلك ألف وثلاثمائة وثلاثون وثلث فيعتبر ذلك كله وأما الثلث الذي اشتراه للمضاربة وباعه من الآخر للمضاربة بما لا فضل فيه على رأس مال المضاربة الأولى فإنما يبيع هذا الثلث مرابحة على الثمن الأول وهو خمسمائة وإذا ضممت الخمسمائة إلى الألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلث كانت جملته ألفا وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلثا ولو كان الأول اشتراه بألف المضاربة وبخمسمائة من ماله فإن الآخر يبيعه أيضا مرابحة على ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلث لأن الأول اشترى لنفسه ثلثه وباعه بثلث الألفين فيعتبر ذلك واشترى ثلثه للمضاربة وباعه بثلثي الألفين فيعتبر من ذلك مقدار رأس المال وهو ألف درهم وحصة المضارب من الربح وذلك مائة وستة وستون وثلثان ويطرح حصة رب المال من الربح خاصة وإذا طرحت من الألفين مائة وستة وستين وثلثين كان الباقي ألفا وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلثا.(22/289)
ص -140- ... ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة وإلى آخر ألفي درهم مضاربة فاشترى الأول بألف عبدا من ماله وبخمسمائة من المضاربة ثم باعه من الآخر بثلاثة من ماله وألفي المضاربة فإن الآخر يبيعه مرابحة على ألفين وستمائة وستة وستين درهما وثلثي درهم لأن الأول اشترى ثلثي العبد لنفسه وباعه من الآخر بألفي درهم فيعتبر جميع ذلك واشترى ثلثه للمضاربة ثم إن الآخر اشترى منه ثلث هذا الثلث لنفسه بثلثمائة وثلاثة وثلاثين وثلث لا ينتقص من ذلك شيء واشترى ثلثي هذا الثلث منه للمضاربة فيعتبر فيه حصة من الثمن الأول وذلك ثلث الألف ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث هذا هو المعتبر فيه ويطرح ما زاد على ذلك فإن جمعت ذلك كله كان ألفي درهم وستمائة وستة وستين وثلثين فيبيعه مرابحة على ذلك وحاصل ما طرح ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث وذلك ربح ثلثي هذا الثلث لأنه مشغول برأس المال كله ولم يخرج من ملك رب المال بالعقد الثاني ولو كان الأول اشترى العبد وقيمته خمسة آلاف درهم بألف المضاربة وبخمسمائة من ماله و المسألة بحالها باعه الثاني مرابحة على ألفين وخمسمائة لأن الأول اشترى ثلث العبد لنفسه وباعه من الثاني بألف فيبيعه مرابحة على ذلك فاشترى الثلثين للمضاربة ثم إن المضارب الآخر اشترى منه ثلث الثلثين لنفسه بستمائة وستة وستين وثلثين فلا ينقص منه شيء واشترى منه ثلث الثلثين للمضاربة بألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلث فالمعتبر من ذلك رأس المال في العقد الأول وذلك ستمائة وستة وستون وثلثان وحصة المضارب الأول من الربح وهو مائة وستة وستون وثلثان فإذا جمعت ذلك كله كان ألفين وخمسمائة والمطروح من ذلك حصة رب المال من الربح وهو مائة وستة وستون وثلثان وما يكمل به رأس المال في المضاربة الأولى وذلك ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث.(22/290)
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف ودفع إلى آخر ألفي درهم مضاربة بالنصف فاشترى الأول جارية بألف من ماله وخمسمائة من المضاربة وباعها من الآخر بثلاثة آلاف درهم ألف من المضاربة وألفين من ماله فإنه يبيعها مرابحة على ألفين وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلث لأن الأول اشترى ثلثيها لنفسه وباع ذلك من الثاني بألفي درهم فيعتبر ذلك كله واشترى ثلثها للمضاربة ثم باع ثلثي هذا الثلث من الثاني واشترى الثاني لنفسه بستمائة وستة وستين وثلثين فيعتبر ذلك أيضا واشترى ثلث هذا الثلث للمضاربة فإنما يعتبر حصة هذا الجزء من الثمن الأول وذلك مائة وستة وستون وثلثان فإذا جمعت هذا كله كان ألفين وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلثا فإذا قبض الثمن أخذ لنفسه من الثمن حصته ألف درهم وكان ما بقي من المضاربة لأن الثمن في بيع المرابحة مقسوم على الثمن الأول وثلث الثمن الأول كان من مال المضارب الآخر فإن كان الثمن الذي باعها به أربعة آلاف درهم كان له خاصة من ذلك اثنا عشر جزءا والباقي يكون من المضاربة لأن مقدار الألفين من ماله وثمانمائة وثلاثة وثلاثون وثلث مال المضاربة فالسبيل أن يجعل كل مائة وستة وستين وثلثين وسهم فصار الألفان اثني عشر وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلثا خمسمائة فتكون الجملة سبعة عشر(22/291)
ص -141- ... سهما للمضاربة من ذلك خمسة وللمضارب الآخر اثنا عشر فعلى ذلك يقسم الأربعة آلاف.
ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف ودفع إلى آخر ألفي درهم مضاربة بالنصف فاشترى الأول جارية بألف المضاربة وبخمسمائة من ماله وباعها من الآخر بألف المضاربة وبألفين من ماله فإنه يبيعها مرابحة على ألفين وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلث لأن الثاني اشترى ثلث الثلث الباقي لنفسه وباع ذلك بثلث الألف فيعتبر ذلك كله في بيع المرابحة والأول كان اشترى ثلث الثلث الباقي لنفسه وباع ذلك بثلث الألف فيعتبر ذلك كله أيضا وكان اشترى ثلثي الثلث للمضاربة وباعها للمضارب بثلثي الألف وإنما يعتبر من ذلك رأس مال هذا الجزء وفي العقد الأول وذلك ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث وحصة المضارب من الربح وذلك مائة وستة وستون وثلثان ويطرح حصة رب المال من الربح وذلك مائة وستة وستون وثلثان فيبيعه مرابحة على ألفين وثمانمائة وثلاثة وثلاثين وثلث بهذا فإذا قسم الثمن على سبعة عشر سهما بينه وبين المضارب كما بينا في الفصل الأول قال عيسى رحمه الله هذا الجواب خطأ فإنما يبيعها مرابحة على ألفين وستمائة وستة وستين وثلث لأن ثلث الثلثين باعه الأول من المضاربة واشتراه منه الثاني للمضاربة أيضا فلا يعتد بربح رب المال فيه وذلك إذا تأملت مائة وستة وستون وثلثان فتبين أن المطروح من ثلاثة آلاف مائة وستة وستون وثلثان مرتين فيكون الباقي ألفين وستمائة وستة وستين وثلثين وقيل إنما يصح ما ذهب إليه عيسى رحمه الله إن لو كان مقدار ذلك الثلث من الثلثين مقررا في مملوك أو في مبيع على حدة فأما إذا كان في جملة مملوك قد بيع بيعا واحدا وسائر رأس المال فيه مجمل فلا يصح ذلك ولكن يجب اعتبار جميع ثمن الثلثين لأن المضارب الآخر اشترى الثلثين لنفسه بألفين من ماله فلا بد من اعتبار جميع ذلك في بيع المرابحة والله أعلم.
باب دعوى المضارب ورب المال(22/292)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف وأمره أن يعمل فيها برأيه أو لم يأمره فاشترى بالألف بن رب المال فهو مشتر لنفسه لأن رب المال إنما أمره بأن يشتري بالمال ما يمكنه بيعه فإن المقصود الاسترباح ولهذا أوجب له الشركة في الربح وذلك لا يحصل إلا بالبيع بعد الشراء فعرفنا أنه مأمور بشراء ما يمكنه بيعه وقريب رب المال لو جاز شراؤه منه على المضاربة عتق ولا يمكنه بيعه فلم يكن هذا من جملة ما تناوله الأمر كما لو قال اشتر لي جارية أطؤها فاشترى أخت الموكل من الرضاع أو جارية مجوسية لم تلزم الآمر لهذا وإذا لم ينفذ شراؤه على رب المال صار مشتريا لنفسه وقد نقد ثمنها من مال المضاربة فيخير رب المال بين أن يسترد المقبوض من البائع ويرجع المضارب على البائع بمثله وبين أن يضمن المضارب مثل ذلك لأنه قضى بالمضاربة دينا عليه.
ولو كان اشترى دين نفسه وقيمته ألف درهم أو أقل جاز على المضاربة وهو عبد لأنه لا يملك المضارب شيئا منه ولا ربح فيه فهو متمكن من بيعه فإذا زادت قيمته على ألف عتق(22/293)
ص -142- ... ويسعى في رأس المال وحصة رب المال من الربح لأنه لما ظهر في قيمته فضل على رأس المال ملك المضارب نصيبه من الفضل فيعتق ذلك الجزء عليه لأنه ملك جزءا من قريبه ولا ضمان على المضارب فيه لرب المال لأنه لا صنع للمضارب في هذه الزيادة بل عتق حكما وعليه السعاية في رأس المال وحصة رب المال من الربح لتتميم العتق لأنه احتبس ذلك القدر عنده من ملك رب المال فعليه أن يسعى له في ذلك ولو كانت قيمته يوم اشتراه أكثر من ألف درهم كان مشتريا لنفسه لأنه اشترى للمضاربة ما لا يمكنه بيعه فإنه يعتق منه بقدر نصيبه من الربح كما ينفذ شراؤه على المضاربة فلهذا كان مشتريا لنفسه فيعتق عليه ولرب المال الخيار في تضمين مال المضاربة أيهما شاء كما بينا.
ولو كان اشترى بالألف عبدا يساوي ألفي درهم لا يعرف له نسب فقال المضارب لرب المال هذا ابنك وقال رب المال كذبت فإن الغلام يعتق لأن المضارب مالك مقدار ربع منه بحصته من الربح وقد أقر بفساد الرق فيه حين زعم أنه بن رب المال فيعتق لذلك ويسعى الغلام في جميع قيمته بينهما أرباعا ثلاثة أرباعها لرب المال وربعها للمضارب فإن قيل كان ينبغي أن لا يعتق لأن رب المال يزعم أن المضارب كاذب وأن العبد مملوك لهما على المضاربة والمضارب يزعم أنه مملوك له اشتراه لنفسه لأنه بن رب المال قلنا نعم ولكن العبد في الظاهر مشترى على المضاربة وباعتبار هذا الظاهر يكون المضارب مقراً بفساد الرق فيه ورب المال مقر بصحة إقرار المضارب فيه باعتبار نصيبه فيكون هذا بمنزلة عبد مشترك بين اثنين أحدهما مقر على صاحبه بالعتق في نصيبه.(22/294)
ولو قال المضارب لرب المال: هذا ابنك وقال رب المال: بل هذا ابنك وقال صدقت فهو مملوك للمضارب أما إذا قال صدقت فقد تصادقا على أن المضارب اشتراه لنفسه لأنه بن رب المال بمنزلة ما لو اشترى ابنه المعروف وأما إذا قال: بل هو ابنك فقد تصادقا على أنه اشتراه لنفسه لأنه إذا كان في قيمته فضل فالمضارب يصير مشتريا لنفسه سواء كان ابنه أو بن رب المال ثم كان رب المال شاهدا على المضارب للعبد بالعتق والنسب وبشهادة الفرد لا تتم الحجة فلهذا كان مملوكا للمضارب وعلى المضارب أن يرد رأس المال على رب المال بخلاف الأول فهناك المضارب يدعي أنه اشتراه لنفسه وقد كذبه رب المال في ذلك وكان العبد مشتركا بينهما باعتبار الظاهر فلهذا يفسد الرق فيه بإقرار المضارب.
ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى عبدا يساوي ألفا فقال المضارب لرب المال هو ابنك وكذبه رب المال فالعبد على حاله في المضاربة لأن المضارب لا يملك شيئا منه حين لم يكن في قيمته فضل على رأس المال فلا يفسد الرق فيه بإقراره ويبقي على حاله في المضاربة فإن لم يبعه حتى زاد فصار يساوي ألفي درهم عتق لإقرار المضارب أنه بن رب المال وأنه أقر بما لا يحتمل الفسخ فيصير كالمجدد لإقراره بعد ما ظهر الفضل في(22/295)
ص -143- ... قيمته فيفسد الرق فيه لذلك ويسعى في قيمته بينهما أرباعا لأنه في معنى الشاهد على رب المال بالعتق أو فساد الرق فيه كان حكما عند ظهور الفضل فيه فلا يوجب الضمان على المضارب ولا يسقط به حقه عن شيء من نصيبه من السعاية فلهذا يسعى في قيمته بينهما أرباعا.
ولو قال رب المال: صدقت ولا فضل فيه على رأس المال فالغلام للمضارب ويضمن رأس المال لرب المال لتصادقهما على أن المضارب اشتراه لنفسه ولو قال رب المال كذبت ولكنه ابنك فهو على المضاربة لأن المضارب يدعي أنه اشتراه لنفسه ورب المال ينكر ويزعم أنه اشتراه على المضاربة إذ لا فضل فيه على رأس المال والمضارب يشتري بن نفسه على المضاربة إذا لم يكن فيه فضل على رأس المال والظاهر شاهد لرب المال فيما يقول أنه اشتراه على المضاربة فإن لم يبعه حتى زادت قيمته فصار يساوي ألفي درهم استسعى في قيمته بينهما أرباعا لأن كل واحد منهما في معنى الشاهد على صاحبه بالعتق والمضارب يزعم إنه بن رب المال وأن نصيبه منه قد عتق ورب المال يزعم أنه بن المضارب وأن نصيبه منه قد عتق وهذه الشهادة منهما تفسد الرق فلا تسقط شيئا من السعاية عن العبد حقيقة فيسعى في جميع قيمته بينهما أرباعا ثلاثة أرباعها لرب المال وربعها للمضارب.
ولو كان اشترى بألف عبدا يساوي ألفين فقال رب المال للمضارب هذا ابنك وقال المضارب كذبت فإنه يعتق ويسعى في حصة المضارب من الربح خمسمائة ولا سعاية عليه لرب المال لأن رب المال يتبرأ من السعاية ويزعم أن المضارب اشتراه لنفسه وأنه عتق كله عليه وأنه ضامن له بمثل رأس المال إلا أنه لا يصدق فيما يدعي من الضمان على المضارب فلا يسعى العبد له في شيء لأنه لا يدعي عليه السعاية وإنما سعى للمضارب في خمسمائة لأنه يدعي سعايته ويقول قد فسد الرق فيه بشهادة رب المال علي كاذبا ولم يجب لي ضمان عليه وإنما حقي في استسعاء العبد في نصيبي فلهذا يستسعى له في خمسمائة.(22/296)
ولو كان المضارب صدقه في ذلك ثبت نسبه منه لتصادقهما عليه ويكون حرا على المضارب لأنه صار مشتريا إياه لنفسه باعتبار الفضل على رأس المال في قيمته ويكون ضامنا لرب المال رأس ماله ولو قال رب المال للمضارب: هو ابنك وقال المضارب بل هو ابنك فهو مملوك للمضارب وضمن له رأس ماله لأنهما تصادقا أن المضارب اشتراه لنفسه فإنه إن كان بن رب المال كما ادعاه المضارب فقد اشتراه المضارب لنفسه ولو كان بن المضارب كما زعم رب المال فقد اشتراه لنفسه باعتبار الفضل فيه فلهذا ضمن لرب المال رأس ماله فيه وهو مملوك للمضارب لأنه أقر بحريته بإقراره بنسبه لرب المال.
ألا ترى أن رب المال لو صدقه في ذلك يثبت نسبه منه ولم يعتق فرب المال شهد عليه بالعتق في ملكه وبشهادته لا تتم الحجة.(22/297)
ص -144- ... ولو كان اشترى بها عبدا يساوي ألفا فقال رب المال للمضارب هو ابنك وقال المضارب كذبت فالعبد على المضاربة بحاله لأنه وإن كان هو بن المضارب فقد صار مشتريا له على المضاربة إذ لا فضل فيه على رأس المال وإنما بقي إقرار رب المال بنسبه للمضارب وقد كذبه في ذلك فلم يثبت النسب منه فإن زادت قيمته حتى صارت ألفي درهم عتق ويسعى في قيمته بينهما أرباعا لأن رب المال أقر بما لا يحتمل الفسخ فيصير كالمجدد لإقراره بعد ما زادت قيمته وقد صار الربع منه مملوكا للمضارب ففي زعم رب المال أن الرق فيه قد فسد بملك المضارب جزءا منه فلهذا عتق ويسعى في قيمته بينهما أرباعا وإن كان المضارب صدقه ولا فضل في الغلام فهو ابنه مملوك له في المضاربة بمنزلة ما لو اشترى ابنه المعروف ولا فضل فيه على رأس المال فإن لم يبعه حتى بلغت قيمته ألفي درهم عتق وسعى في ثلاثة أرباع قيمته لرب المال لأن الربع منه صار مملوكا للمضارب فيعتق عليه لثبوت نسبه منه ولكن هذا العتق حصل منه حكما لظهور الزيادة من غير صنع للمضارب فيه فلا يكون ضامنا لرب المال شيئا ولكن العبد يسعى في حصة رب المال باعتبار رأس المال وحصته من الربح وذلك ثلاثة أرباعه.(22/298)
ولو كان اشترى عبدا يساوي ألفين فقال المضارب هو ابني وقال رب المال كذبت ثبت نسبه من المضارب لأنه مالك له بعد مقدار حصته من الربح وذلك يكفي لصحة دعواه النسب فيه ثم هذه دعوى تحرير لأن أصل العلوق به ما كان في ملكه فيكون بمنزلة الإعتاق ولو أعتقه المضارب عتق نصيبه ورب المال في نصيبه بالخيار إن كان المضارب موسرا بين الإعتاق والاستسعاء والتضمين وإن كان معسرا فله الخيار بين الإعتاق والاستسعاء والولاء بينهما أرباعا لأن ثلاثة أرباعه عتقت على رب المال حين أعتقه أو استسعاه وربعه عتق من جهة المضارب ولو كان رب المال صدقه في ذلك عتق على المضارب ويضمن المضارب رأس المال لأنهما تصادقا على أن المضارب اشتراه لنفسه وإن لم يصدقه ولكنه ادعى ثبوته بعد ذلك فهو ابن المضارب يعتق عليه ويضمن رأس المال لأنهما تصادقا على أن المضارب اشتراه لنفسه فإنه إن كان ابن رب المال كما زعم فقد اشتراه المضارب لنفسه وإن كان ابن المضارب فكذلك وإذا كان مشتريا لنفسه ترجحت دعواه بالسبق وبالملك فيعتق عليه ويضمن رأس المال.
ولو كان اشترى عبدا يساوي ألفا فقال المضارب هو ابني وكذبه رب المال لم يثبت نسبه وهو على حاله في المضاربة لأنه مشتر له على المضاربة بمنزلة ابنه المعروف ولا ملك له فيه لتصح دعواه باعتباره مع تكذيب رب المال فلهذا لم يثبت نسبه منه فإن صارت قيمته ألفين عتق ربعه وثبت نسبه من المضارب لأن بظهور الفضل صار هو مالكا لربعه وهو كالمجدد لدعوى النسب لأن النسب لا يحتمل الفسخ بعد ثبوته فيثبت نسبه منه ويسعى في ثلاثة أرباع قيمته لرب المال ولا ضمان على المضارب فيه لأن العتق حصل حكما بظهور(22/299)
ص -145- ... الفضل في قيمته من غير صنع للمضارب فيه ولو كان صدقه رب المال وقيمته ألف ثبت نسبه منه وهو على المضاربة لأنه مملوك لرب المال وقد أقر بنسبه للمضارب فيثبت نسبه منه وهو على المضاربة بمنزلة ابنه المعروف فإن صارت قيمته ألفين عتق ربعه لأن المضارب صار مالكا ربعه وهو ثابت النسب منه ويسعى في ثلاثة أرباع قيمته لرب المال ولو زادت قيمته حتى صارت ألفين قبل دعوى المضارب ثم ادعي أنه ابنه وكذبه رب المال ثبت نسبه منه لأنه مالك لربعه حين ادعى نسبه ويكون هذا بمنزلة إعتاق ربعه فيخير رب المال بين أن يضمن المضارب ثلاثة أرباع قيمته وبين الاستسعاء والإعتاق إن كان موسرا وإذا ضمن المضارب لم يرجع المضارب بها على الغلام لأنه ملك بالضمان ثلاثة أرباعه فعتق عليه لثبوت نسبه منه وإذا اختار الاستسعاء أو الإعتاق فلرب المال ثلاثة أرباع ولائه لأن ثلاثة أرباعه عتقت من قبله.(22/300)
ولو كان رب المال صدقه فلا ضمان له على المضارب وله أن يستسعى الغلام أو يعتقه لأنهما تصادقا على أنه عتق على المضارب ربعه حكما عند ظهور الفضل فيه فهو بمنزلة بن معروف له ولو لم تزد قيمته على ألف فقال المضارب هو ابني وقال رب المال كذبت ولكنه ابني فهو بن رب المال حر من ماله لأنه في الظاهر مشتري على المضاربة وهو مملوك لرب المال كله فتصح دعواه لمصادفته ملكه ويعتق من ماله ولا ضمان على المضارب فيه لأن رب المال يدعي عليه أنه ضامن رأس ماله مشتري الابن لنفسه ولا يصدق في ذلك إلا بحجة وإن لم يدعه واحد منهما حتى صارت قيمته ألفين فقال المضارب هو ابني وقال رب المال كذبت ولكنه ابني فهو بن المضارب لأنه حين ادعى نسبه كان مالكا لربعه فثبت نسبه منه ثم رب المال ادعى نسبه منه بعد ذلك وهو ثابت النسب فلا يثبت نسبه منه وقد عتق منهما جميعا والولاء بينهما أرباعا ولا ضمان على واحد منهما لصاحبه لأن رب المال يدعي أنه لا سعاية له على العبد وأنه حر كله بإقرار المضارب وأن حقه في تضمين المضارب رأس ماله وهو غير مصدق في التضمين إلا بحجة ولكن كل واحد منهما يصير كالمعتق بحصته منه أما المضارب فلا إشكال فيه ورب المال بدعواه النسب يصير كالمعتق لنصيبه لأن من ادعى نسب مملوكه وهو معروف النسب من الغير يكون ذلك بمنزلة الإعتاق منه فلهذا كان الولاء بينهما أرباعا.
ولو كان العبد يساوي ألفين يوم اشتراه ونقد ثمنه فقال رب المال هو ابني وكذبه المضارب ثبت نسبه من رب المال وعتق ثلاثة أرباع العبد بدعواه إياه والمضارب بالخيار في الربع كما وصفنا في رب المال لأن رب المال صار بمنزلة المعتق له فإن دعوى التحرير كالإعتاق ولو لم يكذبه المضارب ولكن صدقه فالغلام بن لرب المال وعبد للمضارب(22/301)
ويضمن المضارب رأس مال رب المال لأنهما تصادقا على أن المضارب اشتراه لنفسه فيكون عبدا له ولكن نقد ثمنه من مال المضاربة فيصير ضامنا لرب المال ولو لم يصدقه المضارب ولكنه قال كذبت بل هو ابني فهو بن المضارب حر من ماله لأنهما تصادقا أن المضارب(22/302)
ص -146- ... اشتراه لنفسه وقد ادعى نسبه فهو حر من ماله ويضمن رأس المال لرب المال ولو كان يساوي ألفا فقال رب المال هو ابني وكذبه المضارب فهو ابنه حر من ماله لأنه مالك لجميعه في الظاهر وقد أقر بنسبه ولو صدقه المضارب كان بن رب المال وهو عبد للمضارب لأنهما تصادقا أن المضارب اشتراه لنفسه وقد أقر بنسبه لرب المال فثبت نسبه منه ويكون عبدا للمضارب وهو ضامن رأس المال لرب المال ولو لم يصدقه المضارب ولكنه قال كذبت ولكنه ابني فهو بن رب المال حر من قبله لأنه هو المالك له في الظاهر وقد ادعى نسبه فيثبت نسبه منه ويعتق عليه ولا ضمان على واحد لصاحبه لأن المضارب ما كان يملك منه شيئا فلا يضمن رب المال له شيئا من قيمته.
ولو لم يقولا ذلك حتى صارت قيمته ألفي درهم فقال رب المال هو ابني وقال المضارب كذبت ثبت نسبه منه وعتق ثلاثة أرباعه لإقراره بنسبه والمضارب بالخيار في الربع لأنه مالك حصته من الربح ورب المال صار كالمعتق فيتخير المضارب في نصيبه كما بينا ولو صدقه المضارب بما قال فهو بن رب المال وهو عبد للمضارب لتصادقهما على أن المضارب اشتراه لنفسه ويكون ضامنا لرب المال رأس ماله ولو لم يصدقه رب المال ولكنه قال كذبت بل هو ابني فالغلام بن رب المال لأنه سبق بالدعوى فيثبت نسبه منه وعتق ثلاثة أرباعه من قبله ثم المضارب ادعى نسبه وهو ثابت النسب من رب المال فلا يثبت نسبه منه ولكنه صار كالمعتق لنصيبه فلا ضمان لواحد منهما على صاحبه وكان ولاؤه بينهما أرباعا.
باب ضياع مال المضاربة قبل الشراء أو بعده(22/303)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها شيئا ثم ضاعت الألف قبل أن ينقدها المضارب البائع فإن المضارب يرجع بمثلها على رب المال لأن رأس المال كان أمانة في يده بعد الشراء كما قبله فهلك من مال رب المال ولم يبطل الشراء بهلاك الألف والمضارب عامل لرب المال في هذا الشراء فيرجع عليه بما لحقه من العهدة فلهذا يرجع بألف أخرى على رب المال فيدفعها إلى البائع فإن قبضها من رب المال فلم يدفعها إلى البائع حتى ضاع رجع بمثلها أيضا وكذلك كل ما ضاع مما يقبضه قبل أن ينقده البائع كان ما يقبضه من رب المال يكون أمانة في يد المضارب.
ألا ترى أن عند حصول الربح يحصل جميع رأس المال وهو ما قبضه في المرات كلها ورأس المال يكون أمانة في يد المضارب فلهذا يرجع مرة بعد أخرى حتى يصل الثمن إلى البائع بخلاف الوكيل فإنه إذا رجع بالثمن على الموكل مرة بعد البيع لم يرجع مرة أخرى لأن بالشراء يجب الثمن للبائع على الوكيل وللوكيل على الموكل فيصير الوكيل بالقبض من الموكل مقتضيا دين نفسه فيكون المقبوض مضمونا عليه وهنا قبض المضارب لا يكون اقتضاء لدين وجب له كيف يكون كذلك والمقبوض رأس مال المضاربة وهو في قبض رأس مال المضاربة عامل لرب المال.(22/304)
ص -147- ... ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها عبدا يساوي ألفين فقبضه وباعه بألفين ثم اشترى بالألفين جارية ولم ينقد الألفين حتى ضاعا فإن المضارب يرجع على رب المال بألف وخمسمائة ويغرم من ماله خمسمائة لأن المضارب في شراء ربع الجارية عامل لنفسه باعتبار حصته من الربح فلا يرجع بما يلحقه من العهدة في ذلك الربع على رب المال وفي شراء ثلاثة أرباعها كان عاملا لرب المال فيرجع عليه بالعهدة في ذلك القدر فإذا دفع الألفين إلى البائع وقبض الجارية فباعها بخمسة آلاف درهم فله ربع ثمنها وهو حصة ما اشترى لنفسه ونقد الثمن من ماله وثلاثة أرباع ثمنها من مال المضاربة فيأخذ منها رب المال رأس ماله ألفين وخمسمائة لأنه غرم ذلك مرتين وقد بينا أن جميع ما يأخذ المضارب من المال يكون رأس ماله والربح لا يظهر إلا بعد وصول رأس المال إلى رب المال فإذا أخذ جميع رأس ماله كان الباقي ربحا على الشرط.(22/305)
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة بالنصف فضاعت قبل أن يشتري بها شيئا فقد بطلت المضاربة لفوات محلها بخلاف ما إذا ضاعت بعد الشراء بها لأن حكم المضاربة بالشراء تحول إلى المشتري فهلاك الألف بعد ذلك لا يفوت محل المضاربة وإن اشترى بالألف جارية فضاعت الألف فقال رب المال ضاعت قبل أن يشتري بها وقال المضارب بعد ما اشتريت بها فالقول قول رب المال لأن المضارب يدعي لنفسه حق الرجوع على رب المال بألف في ذمته ورب المال ينكر ذلك فإن قيل: هلاك ذلك المال عارض ورب المال يدعي فيه سبق تاريخ والمضارب ينكره قلنا: هذا متعارض فالمضارب يدعي سبق التاريخ في شراء الجارية على هلاك المال ورب المال ينكره فعند التعارض كان الترجيح فيما قلنا لأن كون هلاك المال محالا به على أقرب الأوقات نوع من الظاهر وبالظاهر يرفع الاستحقاق ولا يثبت الاستحقاق وحاجة المضارب إلى استحقاق الرجوع على رب المال فإن أقام رب المال البينة أنها ضاعت قبل أن يشتري بها وأقام المضارب البينة أنه اشترى بها قبل أن يضيع فالبينة بينة المضارب لأنه يثبت الاستحقاق لنفسه ببينة ورب المال ينفي ذلك ولو لم يهلك الألف ولم ينقدها في ثمن الجارية ولكنه اشترى بها جارية أخرى على المضاربة وقال أبيعها فأنقد الثمن الأول فإنما اشترى الجارية الأخيرة لنفسه ولا تكون من المضاربة لأن ما في يده من المال مستحق في ثمن الجارية الأولى فقد اشترى الأخرى وليس في يده من مال المضاربة شيء من ثمنها فلو نفذ شراؤه على المضاربة كان هذا استدانة منه على المضاربة والمضارب بمطلق المضاربة لا يملك الاستدانة.
ولو اشترى بالجارية التي قبض جارية أخرى جاز وكانت على المضاربة لما بينا أن حكم المضاربة تحول بالشراء من الألف إلى الجارية فإنما أضاف العقد الثاني إلى مال المضاربة والمضارب كما يملك البيع والشراء بالنقد يملك ذلك بالعرض فلهذا كانت الأخرى على المضاربة.(22/306)
ص -148- ... ألا ترى أن ثمنها لا يصير دينا على المضارب في هذا الفصل؟ وفي الفصل الأول ثمن الجارية الأخرى دين على المضاربة فلو نفذ شراؤه على المضاربة لصار عليه دين ألفا درهم في ثمن المشتري للمضاربة ورأس مال المضاربة ألف درهم فكأنه اشترى جارية أو جاريتين بالألفين ابتداء.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة فاشترى جارية بألف درهم ولم يقل بهذه الألف وقال أردت بذلك المضاربة فالقول قوله لأن المأخوذ عليه الشراء للمضاربة لا إضافة العقد إلى ألف المضاربة فإن النقود لا تتعين في العقود بالتعيين وإذا لم يتعين الألف لم يبق في التعيين فائدة فيكتفي ببينته للمضاربة كما في حق الوكيل وما في ضميره لا يعرف إلا من جهته فيقبل قوله فيه ولو اشتراها بألف درهم نسيئة سنة يريد بها المضاربة جاز على المضاربة أيضا لأن في يده من المال مثل ما اشترى به والشراء بالنسيئة وبالنقد من صنيع التجار فيملك المضارب النوعين جميعا بمطلق العقد فإن قبضها فاشترى بها شيئا فهو على المضاربة لأن حكم المضاربة تحول إلى الجارية المشتراة فإنما أضاف الشراء الثاني إلى مال المضاربة.(22/307)
ولو لم يشتر بالجارية ولكنه اشترى بالألف التي في يده كان مشتريا لنفسه لأن حكم المضاربة تحول إلى الجارية المشتراة فلما أضاف الشراء الثاني إلى ألف المضاربة فقد أضافه إلى غير محل المضاربة فكان مشتريا لنفسه ولأن الألف صارت مستحقة عليه في ثمن الجارية الأولى عند حل الأجل فلو صار مشتريا الأخرى على المضاربة لكان ذلك منه استدانة وإذا اشترى بألف المضاربة حنطة أو غيرها ثم اشترى بما في يديه عبدا بألف درهم وهو يريد أن يبيع بعض ما في يده وينقد الألف وفي يده وفاء بالألف وفضل فهو مشتر لنفسه لأن الذي في يده غير ما اشترى به يعني أن حكم المضاربة تحول إلى الحنطة وهي تتعين في العقد بالتعيين فإذا اشترى بالدراهم فقد اشترى بغير مال المضاربة فكان مشتريا لنفسه إذ لو جاز شراؤه بالدراهم على المضاربة كان في معنى الاستدانة منه.
ولو اشترى بالألف حنطة ثم اشترى جارية بكر حنطة وسط نسيئة شهر وهو يريد أن يكون على المضاربة وفي يده حنطة مثل ما اشترى به أو أكثر فهذا جائز على المضاربة لأنه اشترى بجنس ما في يده من مال المضاربة وله في ترك الإضافة إلى العين غرض صحيح وهو ثبوت الأجل في ثمن المشتري لأن العين لا تقبل الأجل ولا فرق في حق رب المال بين أن يشتري بتلك الحنطة بعينها وبين أن يشتري بمثلها من حنطة وسط.
ألا ترى أنه عند حلول الأجل يملك إيفاء الثمن بغير ما في يده من مال المضاربة فلهذا نفذ شراؤه على المضاربة.
وإذا كانت المضاربة ألف درهم فاشترى عليها جارية بخمسين دينارا وقبضها وصرف الدراهم فنقدها البائع فالقياس فيه أن يكون مشتريا لنفسه وهو قول زفر رحمه الله ولكن استحسن علماؤنا الثلاثة رحمهم الله وقالوا هو مشتر للمضاربة وكذلك لو كانت المضاربة دنانير فاشترى عليها(22/308)
ص -149- ... بدراهم فصرفها ونقد الدراهم وجه القياس في الفصلين أنه اشتري بجنس آخر غير ما في يده من مال المضاربة لأن الدراهم والدنانير جنسان حقيقة وحكما ولهذا لا يحرم التفاضل بينهما فكان هذا بمنزلة ما لو اشترى بالحنطة والمال في يده دراهم أو دنانير.
ألا ترى أنه لا يملك إيفاء الثمن من مال المضاربة إلا بالمبادلة أو رضا البائع به كما في المكيل والموزون ووجه الاستحسان أن الدراهم والدنانير جنسان صورة ولكنهما جنس واحد معنى ومقصودا لأن المعنى المطلوب بهما الثمنية والمقصود هو الرواج والنفاق وهما في ذلك كشيء واحد وكذلك في حكم المضاربة هما كشيء واحد تصح المضاربة بهما بخلاف سائر الأموال فإن الشراء بها يكون شراء محضا بثمن في ذمة المشتري ويسير عليه إذ ما يلزمه من أحد النوعين في ذمته بالآخر الذي في يده لأن الإنسان في مصارفة أحدهما بالآخر لا يحتاج إلى مؤنة كثيرة فهي بمنزلة ما لو كانت المضاربة دراهم بخية لها فضل في الصرف فاشترى المضارب بألف درهم غلة البلد جارية وصرف الدراهم بالدنانير ثم صرفها بدراهم غلة البلد وأعطاها البائع فذلك جائز استحسانا وزفر رحمه الله يخالف في هذا الفصل أيضا ولكن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام.
وكذلك لو دفع إلى رجل ألف دينار مضاربة فاشترى بخمسين دينارا منها جارية وقبضها ثم اشترى بها وبدراهم أو فلوس طعاما يأكله فإن ذلك من المضاربة ولا فرق بين أن يشتري طعاما بالدنانير أو بالدراهم أو بالفلوس يصح وهو كالنقود في الصلاحية لرأس مال المضاربة ولو كان الذي في يده من المضاربة سوى هذه الثلاثة الأصناف ثم اشترى عليها بدراهم أو دنانير أو فلوس أو صنف آخر غير ما في يده كان مشتريا لنفسه لأنه لا مجانسة بين ما في يده من مال المضاربة وبين ما اشترى به في الصورة والمعنى المقصود فلهذا كان مشتريا لنفسه.(22/309)
وإذا دفع الرجل إلى الرجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي ألفين فقبضها ولم ينقد الدراهم حتى باع الجارية بألفي درهم وقبض الألفين ثم هلكت الدراهم قبل أن ينقد الثمن وهلكت الجارية مع ما في يده معا فعلى رب المال أن يؤدي ألفا أخرى مكان الألف الأولى التي اشترى بها الجارية فيدفعها المضارب إلى الذي باعه الجارية ويغرم رب المال أيضا ألفا وخمسمائة فيدفعها إلى المضارب فيؤديها المضارب مع خمسمائة من ماله إلى مشتري الجارية لأن الألف الأولى كانت أمانة في يد المضارب قد هلكت وكان المضارب في شراء الجارية عاملا لرب المال فيرجع عليه بألف أخرى ليؤدي منها ثمنها به حين باع الجارية وقبض ثمنها كان هو في ثلاثة أرباعها عاملا لرب المال وكان في الربع عاملا لنفسه وهو مقدار حصته من الربح وبهلاك الجارية قبل التسليم انفسخ البيع فيجب عليه رد المقبوض من الثمن وقد هلكت في يده فيرجع على رب المال بمقدار ما كان عمله فيه لرب المال وذلك ألف وخمسمائة ويغرم من مال نفسه مقدار ما كان عمله فيه لنفسه وذلك(22/310)
ص -150- ... خمسمائة فإن هلكت الدراهم الأولى أولا ثم هلكت الدراهم المقبوضة والجارية بعد ذلك فالثلاثة الآلاف كلها على رب المال لأن الدراهم الأولى حين هلكت استوجب المضارب الرجوع بمثلها على رب المال وكان ذلك دينا لحق المضارب ويصير رأس مال رب المال به ألفي درهم.
ألا ترى أنه إن استوفى من رب المال ألفا أخرى ثم تصرف في ثمن الجارية وربح يحصل رأس ماله ألفا درهم أولا فيتبين أنه لا ربح فيما في يده وإنه في بيع جميع الجارية وقبض الثمن عامل لرب المال فيرجع عليه بالعهدة في جميعه.
يوضحه: أن ألفا من الألفين المقبوضة وجب دفعها إلى بائع الجارية والألف الأخرى مشغولة برأس المال فظهر أنه لا ربح فيها والمضارب إنما يغرم من ماله شيئا باعتبار حصته من الربح.
ولو هلكت الجارية أولا ثم هلك المال الأول والآخر معا فعلى رب المال ألفان وخمسمائة وعلى المضارب خمسمائة وهذا وهلاك المال كله معا سواء لأن بهلاك الجارية لا يزداد رأس مال المضاربة ولا يلحق المضارب دين فلا يخرج المضارب من أن يكون عاملا لنفسه في قبض ربع ثمن الجارية وكذلك إن هلكت الجارية أولا ثم هلك المال الآخر ثم هلك المال الأول فهذا وما لو هلك المالان بعد هلاك الجارية معا سواء لاستواء الفصلين في المعنى وإذا كانت المضاربة ألف درهم فاشترى عليها جارية بخمسمائة وكر حنطة وسط فقبض الجارية وهلكت الدراهم عند المضارب فالمضارب مشتر للجارية لنفسه وعليه ثمنها لأنه ليس في يده جنس ما اشترى من مال المضاربة صورة ولا معنى فيكون شراؤه للمضاربة استدانة عليها وهو لا يملك ذلك ولا ضمان عليه في المضاربة لأنه اشترى الجارية لنفسه بثمن في ذمته وهذا التصرف منه لا يمس مال المضاربة وهو إنما يصير مخالفا ضامنا إذا تصرف في مال المضاربة على خلاف ما أمر به فإذا لم يمس تصرفه مال المضاربة لا يكون ضامنا.(22/311)
ولو كان اشتراها بخمسين دينارا فقبضها ولم ينقد الثمن حتى ضاعت الدراهم رجع على رب المال بخمسين دينارا استحسانا لما بينا أن المجالسة بين ما اشترى به وبين ما في يده من مال المضاربة موجود معنى فصار مشتريا للمضاربة وقد هلكت الدراهم في يده بصفة الأمانة فيرجع على رب المال بما اشترى به الجارية وذلك خمسون دينارا فيعطيها بائع الجارية فإذا باعها بعد ذلك بثلاثة آلاف أو أقل أو أكثر استوفى رب المال رأس ماله ألف درهم وخمسين دينارا والباقي ربح بينهما وكذلك لو كان رأس المال نقدا ثبت المال فاشترى الجارية بألف غلة ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي ألفا فقبض الجارية ولم ينقد الدراهم حتى باعها بألفين فقبضهما ولم يدفع الجارية حتى اشترى بالألفين جارية تساوي ألفين فقبضها ولم يدفع الدراهم فهلكت الدراهم كلها والجاريتان جميعا فعلى المضارب أن يؤدي إليهم خمسة آلاف إلى بائع الجارية الأولى ثمنها ألف درهم(22/312)
ص -151- ... ويرد على مشتري الجارية الأولى ما قبض منه من ثمنها وذلك ألفا درهم بانفساخ البيع فيها بالهلاك قبل التسليم وإلى بائع الجارية الثانية ألفي درهم ثمنها لأنه حين قبضها دخلت في ضمانة وتقرر عليه جميع الثمن بقبضها ثم يرجع على رب المال من هذه الجملة بأربعة آلاف درهم ألف ثمن الجارية الأولى وألف وخمسمائة مما قبض من ثمن الجارية الأولى بعد بيعها لأنه في قبض الألفين كان عاملا لرب المال في ثلاثة أرباعها وذلك ألف وخمسمائة وفي الربع كان عاملا لنفسه باعتبار حصته من الربح وكذلك في شراء الجارية الثانية وقبضها كان عاملا لرب المال في ثلاثة أرباعها وذلك ألف وخمسمائة وفي الربع كان عاملا لنفسه باعتبار حصته من الربح فلهذا يغرم ألفا من ماله ويرجع على رب المال بأربعة آلاف ولو هلكت الألف الأولى ثم هلك ما بقي معا يرجع بجميع الخمسة آلاف على رب المال لأن هلاك الألف الأولى لحق المضاربة دين بقدر ألف وصار رأس مال المضاربة ألفي درهم للطريقين اللذين بيناهما فتبين إنه في بيع جميع الجارية وقبض ثمنها كان عاملا لرب المال وكذلك في شراء الجارية الثانية فلهذا يرجع بالكل على رب المال.(22/313)
ولو هلكت الجارية الأخيرة أولا ثم هلك ما بقي معا رجع على رب المال بأربعة آلاف درهم لأن بهلاك الجارية الأخيرة لا يلحق مال المضاربة دين فلا يخرج المضارب من أن يكون عاملا لنفسه في الربع وكذلك لو هلكت الجارية الأولى أولا أو هلكت الألفان أولا ثم هلك ما بقي فهذا وما لو هلك الكل معا في المعنى سواء ولو دفع إليه الألف مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي ألفا وقبضها ولم ينقد الثمن ثم اشترى بالجارية عبدا يساوي ألفين وقبضه ولم يدفع الجارية ثم اشترى بالعبد جراب هروي يساوي ثلاثة آلاف درهم وقبضه ولم يدفع العبد فهلكت هذه الأشياء كلها ورأس مال الأول معا فعلى المضارب ستة آلاف درهم ألف ثمن الجارية الأولى وألفان قيمة العبد لأنه اشتراه بالجارية وقد انفسخ البيع بهلاك الجارية قبل التسليم وتعذر عليه رد العبد بهلاكه في يده فعليه رد قيمته والثلاثة آلاف قيمة الجراب لأنه اشترى الجراب بالعبد وقد انفسخ العقد بهلاك العبد قبل التسليم وتعذر عليه رد الجراب بهلاكه في يده فيغرم قيمته ثلاثة آلاف درهم ويرجع على رب المال من ذلك بأربعة آلاف وخمسمائة لأنه في شراء العبد كان عاملا لرب المال في ثلاثة أرباعه وذلك ألف وخمسمائة وفي الربع كان عاملا لنفسه باعتبار حصته من الربح فيرجع عليه بألف وخمسمائة من قيمة العبد الأول وفي شراء الجراب كان عاملا لنفسه في الثلث لأن الثلث مشغول منه برأس المال والثلثان ربح بينهما نصفين فكان عاملا لنفسه في شراء الجراب في الثلث فحاصل ما استقر على المضارب ربع قيمة العبد وثلث قيمة الجراب وذلك ألف وخمسمائة فيرجع على رب المال بما سوى ذلك.
ولو هلك رأس المال أولا ثم هلك ما سواه معا رجع المضارب على رب المال بخمسة آلاف وخمسمائة لأنه حين هلك رأس المال أولا فقد لحق مال المضاربة دين ألف درهم(22/314)
ص -152- ... وصار رأس المال ألفين فهو في شراء جميع العبد عامل لرب المال وأما في شراء الجراب فهو عامل لنفسه في السدس باعتبار حصته من الربح وفيما سوى ذلك عامل لرب المال فيغرم من ماله قيمة سدس الجراب وهو خمسمائة ويرجع بما سوى ذلك على رب المال ولو هلك الجراب أولا ثم هلك ما بقي معا رجع على رب المال بأربعة آلاف وخمسمائة لأنه لهلاك الجراب لا يلحق مال المضاربة دين يوجب زيادة في رأس المال وكذلك لو هلك العبد أولا ثم هلك ما بقي رجع على رب المال بأربعة آلاف وسبعمائة وخمسين لأن الجارية لو هلكت أولا انفسخ البيع في العبد ووجب على المضارب قيمة العبد لأنه أتلف العبد حين باعه بالجراب وقيمة العبد ألفا درهم فلما وجبت عليه قيمته كان في القيمة فضل ألف درهم على رأس المال فذلك ربح بينهما فعليه غرم حصته من ذلك وهو خمسمائة وذلك ربعه فقد استوجب الرجوع على رب المال بألف وخمسمائة من قيمة العبد وبالألف الأولى ثم كان مشتريا ربع الجراب لنفسه فعليه قيمة ذلك عند انفساخ البيع فيه وذلك سبعمائة وخمسون فحاصل ما عليه من الغرم في ماله ألف ومائتان وخمسون وعلى رب المال ثلاثة أرباع قيمة الجراب لأن رأس ماله في الجراب ألفان وخمسمائة وقيمته ثلاثة أرباع الجراب دون رأس ماله فظهر أنه لا ربح فيها فلهذا رجع عليه بثلاثة أرباع قيمة الجراب وذلك ألفان ومائتان وخمسون مع الألفين والخمسمائة فيكون جملة ذلك أربعة آلاف وسبعمائة وخمسين.
ألا ترى أنه لو لم يملك غير الجارية وغرما قيمة العبد أرباعا ثم باع الجراب بثلاثة آلاف درهم أخذ المضارب ربعها لنفسه واحتاج رب المال إلى الألفين وخمسمائة من بقية ثمن الجارية ولا وفاءفيه فيأخذ ما بقي فقط وبهذا تبين أنه لا ربح له في الجراب.(22/315)
ولو اشترى بالألف جارية تساوي ألفا فقبضها ثم اشترى بالجارية جاريتين تساوي كل واحدة منهما ألفا فقبضهما ثم هلكت الجواري ورأس المال الأول معا فعلى المضارب ثمن الجارية الأولى ألف درهم وألفان قيمة الجاريتين لأن البيع قد انفسخ فيهما بهلاك الجارية قبل التسليم وقد تعذر عليه ردها فيرد قيمتها ويرجع بجميع ذلك على رب المال لأن كل واحدة من الجاريتين كانت مشغولة برأس المال إذ لا فضل في قيمة كل واحدة منهما على رأس المال وقد بينا أنه تعتبر كل واحدة منهما على حدة ولهذا لو أعتق المضارب واحدة منهما لم ينفذ عتقه فكان هو عاملا لرب المال في جميع كل واحدة منهما بخلاف ما لو كان اشترى بالجارية الأولى جارية تساوي ألفين وقبضها فهلكت الجاريتان ورأس المال معا فإن على المضارب ثلاثة آلاف درهم ألف ثمن الجارية الأولى وألفان قيمة الجارية الثانية ويرجع على رب المال بألفين وخمسمائة لأن في قيمة الجارية الثانية فضلا على رأس المال بقدر الألف فكان المضارب في ربعها عاملا لنفسه فيغرم ربع قيمتها من ماله.
وكذلك لو هلكت إحدى الجاريتين أولا ثم هلك ما بقي معا لأن الجارية الأولى إن هلكت أولا فبهلاكها ينتقض البيع ولم يلحق رأس المال دين لأن الواجب رد الجارية الأولى(22/316)
ص -153- ... وإن هلكت الأخرى أولا لم ينتقض البيع بهلاكها لأن المضارب قابض لها ولو هلكت الألف الأولى أولا ثم هلك ما بقي معا رجع بالثلاثة آلاف كلها على رب المال لأن بهلاك الألف الأول لحق رأس المال دين ألف درهم فظهر أنه في شراء الجارية الثانية عامل لرب المال في جميعها إذ لا فضل في قيمتها على رأس المال.
ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي ألفا وقبضها ثم باعها بألفي درهم وقبض الثمن ولم يدفع الجارية ثم اشترى بالألفين وبالألف الأولى وهي في يديه جارية تساوي أربعة آلاف وقبضها ثم دفع رأس المال الأول إلى صاحب الجارية الأولى ودفع الألفين إلى الذي اشترى منه الجارية الأخيرة فإن عليه غرام ألف درهم من ماله للذي اشترى منه الجارية الأخيرة لأنه اشتراها منه بثلاثة آلاف درهم ألفان منها في المضاربة وهما الألفان الأخريان وألف منها على نفسه لأن الألف الأولى مستحقة عليه في ثمن الجارية الأولى فشراؤه بها مرة أخرى يكون استدانة على المضاربة وهو لا يملك ذلك فصار مشتريا ثلث الجارية الأخيرة لنفسه فعليه ثمنها وثلثاها على المضاربة فإن لم ينقده الألف الأولى حتى هلك وباع الجارية الأخيرة بستة آلاف درهم كان له من ثمنها ألفا درهم حصة ثلثها الذي كان اشتري لنفسه ويكون أربعة آلاف درهم على المضاربة يؤدي منها ألف درهم إلى الذي اشترى الأول منه ثم يأخذ رب المال رأس ماله ألف درهم من الباقي وما بقي وهو ألفا درهم ربح بينهما على الشرط فإن كان المضارب لم ينقد الألفين اللتين اشترى بهما الجارية الأخيرة حتى ضاعت و المسألة بحالها فإنه يؤدي ذلك أيضا من ثلثي الجارية الأخيرة ولا يبقي فيه ربح لأن ثلثي ثمنها أربعة آلاف وقد دفع ألفا من ذلك إلى بائع الجارية الأولى وألفين إلى بائع الجارية الأخيرة وألف يأخذه رب المال بحساب رأس ماله.(22/317)
ولو اشترى وباع بالألف المضاربة حتى صار في يده ألفا درهم فاشترى بها جارية وقبضها ثم باعها بأربعة آلاف درهم نسيئة منه وقيمتها يوم باعها ألف درهم أو أكثر أو أقل فدفعها إلى المشتري ثم هلكت الألفان الأوليان قبل أن ينقد الثمن بائع الجارية الأولى فإنه يرجع بألف وخمسمائة على رب المال فيؤديها مع خمسمائة من ماله إلى بائع الجارية لأنه في شراء ربع الجارية كان عاملا لنفسه باعتبار حصته من الربح في مال المضاربة فإذا خرجت الأربعة آلاف كان للمضارب ربعها من غير المضاربة لأنه لما استقر عليه ربع ثمنها فقد ظهر أنه كان مشتريا ربعها لنفسه من غير المضاربة ويأخذ رب المال من الثلاثة الأرباع رأس ماله ألفين وخمسمائة لأنه غرم هذا المقدار في دفعتين والباقي ربح بينهما.
ولو اشترى بألف المضاربة جارية قيمتها أكثر من ألف درهم ونقد الدراهم ثم باعها بجارية تساوي ألفا فقبضها ثم هلكت الجاريتان جميعا فعلى المضارب قيمة الجارية الأخيرة لانفساخ البيع فيها بهلاك ما يقابلها قبل التسليم ويرجع بها على رب المال لأنه لا فضل في قيمتها على رأس المال فكان هو في شرائها عاملا لرب المال في الكل ولا ينظر إلى الفضل فيما اشترى به(22/318)
ص -154- ... في هذه الجارية لأن الواجب عليه قيمة الجارية ولا فضل فيها ولو عمل بالمضاربة حتى صارت ألفي درهم ثم اشترى بها جارية قيمتها أقل من ألفين وقبضها فهلك ذلك كله عنده معا فعلى المضارب ألفا درهم ثمن الجارية لأنه تقرر عليه بقبضها وهلاكها في يده ويرجع على رب المال بثلاثة أرباعها لأن الربع من ذلك حصته من الربح فيكون عاملا لنفسه في ذلك ولا ينظر إلى قيمة الجارية هنا لأن الثمن هو الواجب دون قيمتها بخلاف الأول.
ولو عمل بالمضاربة حتى صارت أربعة آلاف ألفان منها دين وألفان عين في يده فاشترى بهاتين الألفين جارية فلم يقبضها حتى هلكت الألفان فإنه يرجع بثلاثة أرباعها على رب المال لأن رأس المال في هاتين الألفين ألف درهم فإن الدين والعين في معنى جنسين وقد بينا أنه يعتبر جميع رأس المال في كل جنس كأنه ليس معه غيره.
ألا ترى أن الدين لو توى كان رأس المال كله في الألفين فعرفنا أن ربحه في الألفين بقدر الربع فكان هو عاملا لنفسه في الشراء بربعها ولرب المال في الشراء بثلاثة أرباعها ويرجع على رب المال بألف وخمسمائة وإذا أخذ الجارية كان له ربعها من غير المضاربة لأنه أدى ربع ثمنها من مال نفسه فإن هلكت الجارية في يده ثم خرج الدين بعد ذلك كان كله لرب المال لأنه دون رأس المال فرأس ماله ألفان وخمسمائة ولا يرجع المضارب في هاتين الألفين بشيء لأنه صار له ربع الجارية باعتبار ما نقد وقد هلكت الجارية في يده فقدر الربع منها هلك في ضمانه.
ألا ترى إنها لو لم تهلك وباعها بعشرة آلاف كان له ربع ثمنها من غير المضاربة فلهذا لا يرجع بشيء مما نقد من مال نفسه في الدين الذي خرج.
باب المضارب يأمره رب المال بالاستدانة على المضاربة(22/319)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف وأمره أن يستدين على المال فهو جائز لأن الاستدانة شراء بالنسيئة قال الله تعالى:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}[البقرة: 282] فقد وكله بالشراء بالنسيئة على أن يكون المشتري بينهما نصفين ولو وكله بالشراء بالنسيئة على أن يكون المشتري كله للموكل جاز فكذلك النصف فإن اشترى بالمضاربة غلاما ثم اشترى على المضاربة جارية بألف درهم دينا وقبضها ثم باعها بألفي درهم فقبض المال ثم هلك ما قبض ولم يدفع ما باع وما كان عنده فإن المضارب يلحقه نصف ثمن الجارية ويكون على رب المال نصف ثمنها لأنه فيما استدان كان مشتريا نصفه لنفسه ونصفه لرب المال على المضاربة فإن الشرط بينهما في المضاربة المناصفة ولا تكون المناصفة في الربح في المشتري بالنسيئة إلا بعد أن يكون المشتري بينهما نصفين وقد قررنا هذا في كتاب الشركة في شركة الوجوه فإذا ثبت إنه اشترى نصفها لنفسه كان عليه نصف ثمنها ونصف ثمنها كان على رب المال لأنه اشترى نصفها له بأمره ولو لم تهلك الجارية كانت بينهما نصفين يؤديان من ثمنها ما عليه من الثمن والباقي عليهما نصفان فإن لم يبع المضارب الجارية ولكنه(22/320)
ص -155- ... أعتقها ولا فضل فيها على رأس المال فعتقه جائز في نصفها لأنه ملك نصفها بالشراء لنفسه فهي بمنزلة جارية بين رجلين أعتقها أحدهما وهذا بخلاف العبد المشترك بالمضاربة فإنه مملوك لرب المال إذا لم يكن فيه فضل على رأس المال فلا ينفذ عتق المضارب فيه.
ولو دفع إليه ألف درهم مضاربة وأمره أن يستدين على المال على إن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما للمضارب ثلثاه ولرب المال ثلثه فاشترى المضارب بالألف جارية تساوي ألفين ثم اشترى على المضاربة غلاما بألف درهم يساوي ألفين فباعهما جميعا بأربعة آلاف فإن ثمن الجارية يستوفي منه رب المال رأس ماله وما بقي فهو ربح بينهما على ما اشترطا ثلثاه للمضارب وثلثه لرب المال وأما ثمن الغلام فيؤدي منه ثمنه والباقي بينهما نصفان لأن الأمر بالاستدانة كان مطلقا فالمشتري بالدين يكون مشتركا بينهما نصفين ومع المناصفة بينهما في المشتري لا يصح شرط التفاوت في الربح.(22/321)
ألا ترى أن رجلين لو اشتركا بغير مال على أن يشتريا بالدين ويبيعا فما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما أثلاثا فاشتريا وباعا وربحا كان الربح بينهما نصفين فاشتراطهما الثلثين والثلث في الربح يكون لغوا لأنه لو صح ذلك استحق أحدهما جزءا من ربح ما ضمنه صاحبه وذلك لا يجوز فكذلك المضارب إذا أمره رب المال أن يستدين على المضاربة وشرط الثلث والثلثين في الربح لا في أصل الاستدانة فإن كان أمره أن يستدين على المال على إن ما اشترى بالدين من شيء فلرب المال ثلثه وللمضارب ثلثاه على إن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فاشترى المضارب بالمضاربة جارية تساوي ألفين واشترى على المضاربة جارية بألف دينا تساوي ألفين فباعهما بأربعة آلاف درهم فحصة جارية المضاربة يأخذ منه رب المال رأس ماله ألف درهم والباقي بينهما نصفان على ما اشترطا وثمن الجارية المشتراة بالدين بينهما أثلاثا على قدر ملكيهما لأنه إنما وكله بالاستدانة على أن يكون ثلث ما يستدين لرب المال وثلثاه للمضارب فيكون الثمن بينهما على قدر ذلك واشتراط المناصفة في الربح في هذا يكون باطلا لأن أحدهما يشترط لنفسه ربح ما قد ضمنه صاحبه وذلك باطل.(22/322)
ولو دفع إليه الألف مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما كذلك أيضا فاشترى بالمضاربة جارية تساوي ألفين ثم اشترى على المضاربة جارية بألف دينار تساوي ألفين فباعهما بأربعة آلاف فأما حصة المضاربة فتكون بينهما على شرطهما بعد ما يستوفي رب المال رأس ماله وحصة الجارية المشتراة بالدين بينهما لأن ضمانها عليهما نصفين لإطلاق الأمر بالاستدانة فاشتراط كون الربح بينهما أثلاثا بعد المساواة في الضمان يكون باطلا وكذلك لو كان أمره أن يستدين على رب المال لأن قوله استدن على المضاربة وقوله استدن على سواء في المعنى وما استدان سواء كان بقدر مال المضاربة أو أقل أو أكثر فهو بينهما نصفان فربحه ووضيعته بينهما نصفان حتى لو هلكت المشتراة بالدين كان ضمان ثمنها عليهما نصفين ولو كان أمره أن يستدين على نفسه كان ما اشتراه المضارب(22/323)
ص -156- ... بالدين له خاصة دون رب المال لأنه في الاستدانة على نفسه يستغني عن أمر رب المال فكان وجود أمره فيه وعدمه سواء بخلاف ما إذا أمره أن يستدين على المال أو على رب المال لأنه في الاستدانة على رب المال أو على المال لا يستغني عن أمر رب المال فلا بد من اعتبار أمره في ذلك وأمره بالاستدانة على المال كأمره بالاستدانة على رب المال لأن ملك المال لرب المال والمال محل لقضاء الواجب لا للوجوب فيه فالواجب يكون على رب المال ثم أمره بالاستدانة عليه مطلقا يقتضي الشركة بينهما فيما يستدين ولا تكون هذه الشركة بطريق المضاربة لأن المضاربة لا تصح إلا برأس مال عين فكانت هذه الشركة في معنى شركة الوجوه فيكون المشتري مشتركا بينهما نصفين فلا يصح منهما شرط التفاوت في الربح مع مساواتهما في الملك في المشتري.
ولو كان أمره أن يستدين على المال أو على رب المال فاشترى بالمضاربة جارية ثم استقرض المضارب ألف درهم على المضاربة واشترى بها جارية فهو مشتر لنفسه خاصة والقرض عليه خاصة منهم من يقول إن الاستدانة هو الشراء بالنسيئة والاستقراض غيره فلا يدخل في مطلق الأمر بالاستدانة والأصح أن يقول الأمر بالاستقراض باطل.
ألا ترى إنه لو أمر رجلا أن يستقرض له ألفا من فلان فاستقرضها كما أمره كان الألف للمستقرض دون الآمر وهذا لأن القرض مضمون بالمثل في ذمة المستقرض.(22/324)
وإذا كان البدل في ذمته كان المستقرض مملوكا له وهو غير محتاج في ذلك إلى أمر الآمر وما كان الأمر بالاستقراض إلا نظير الأمر بالتكدي وهو باطل وما يحصل للمتكدي يكون له دون الآمر إذا ثبت هذا فنقول ما استقرضه المضارب يكون مملوكا له فإذا اشترى به جارية فقد أضاف العقد إلى ملك نفسه فكان مشتريا الجارية لنفسه ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالثلث وأمره أن يعمل في ذلك برأيه وأمره أن يستدين على المال فاشتري بألف ثيابا فأسلمها إلى صباغ يصبغها صفرا بمائة درهم ووصف له شيئا معروفا فصبغها ثم إن المضارب باع الثياب مرابحة بألفي درهم فإن رب المال يأخذ رأس ماله ألف درهم ويؤدي المضارب أجر الصباغ مائة درهم وما بقي من الربح قسم على أحد عشر سهما عشرة أسهم من ذلك حصة المضاربة بينهما أثلاثا على الشرط وسهم حصة المائة التي بينهما نصفان لأنه لما أمره أن يعمل برأيه فقد ملك به خلط مال المضاربة بمال آخر والصبغ عين مال قائم في الثوب وهو في الصبغ مستدين بأمره فلا يصير مخالفا بخلط ما استدان بمال المضاربة ثم الثمن في بيع المرابحة يكون مقسوما على الثمن الأول وقد كان ثمن ثياب المضاربة ألف درهم وثمن الصبغ مائة درهم فيحصل من ثمن الباقي رأس مال المضاربة لرب المال ويعطي المائة ثمن الصبغ والباقي ربح فيكون مقسوما على أحد عشر سهما عشرة من ذلك حصة ربح مال المضاربة فيكون بينهما أثلاثا على الشرط وسهم من ذلك ربح ما استدان فيكون بينهما نصفين لاستواء ملكيهما فيما استدان.(22/325)
ص -157- ... ولو كان باع الثياب مساومة قسم الثمن على قيمة الثياب وعلى ما زاد الصبغ فيها لأن في بيع المساومة الثمن بمقابلة الملك والملك الذي تناوله البيع أصل الثياب والصبغ القائم فيها فيقسم الثمن جملة على قيمة الثياب غير مصبوغة وعلى ما زاد الصبغ فيها فما يخص قيمة الثياب فهو مال المضاربة يعطي منه رب المال رأس ماله ويقسم الباقي بينهما أثلاثا على الشرط وما أصاب قيمة الصبغ يعطي منه أجر الصباغ مائة درهم والباقي بينهما نصفان لأنه ربح حصة الاستدانة.
ولو اشترى المضارب بألف المضاربة ثيابا واستقرض على المال مائة درهم فاشترى بها زعفرانا فصبغ به الثياب ثم باعها مرابحة على مال المضاربة وعلى ما استقرض بألفي درهم فإنها تقسم على أحد عشر سهما عشرة أسهم منها مال المضاربة على شرطهما وسهم للمضارب خاصة لأن ما استقرض كان على نفسه خاصة وما اشترى به من الزعفران مملوك له إلا أنه لا يصير مخالفا إذا صبغ الثياب بها لأنه أمره أن يعمل في المال برأيه والثمن في بيع المرابحة مقسوم على الثمن الأول فيكون على أحد عشر سهما عشرة أسهم حصة مال المضاربة وسهم حصة الصبغ وهو للمضارب خاصة فيكون بدله له ولو باعها مساومة قسم الثمن على قيمة الثياب وعلى ما زاد الصبغ في الثياب فما أصاب قيمة الثياب كان على المضاربة وما أصاب قيمة الصبغ كان للمضارب وكان عليه أداء القرض لأن في بيع المساومة الثمن بمقابلة الملك فإنما يقسم على قدر الملك.(22/326)
ولو كان اشترى الزعفران بمائة درهم نسيئة فصبغ الثياب به كان هذا والذي كان استأجر الصباغ بمائة ليصبغها سواء في جميع ما ذكرنا لأن شراء الزعفران بالنسيئة استدانة فينفذ على رب المال وعلى المستدين ويكون الصبغ مشتركا بينهما نصفين فهو ومسألة استئجار الصباغ لنصفها سواء ولو خرج المضارب بالمال إلى مصر فاشترى بها كلها ثيابا ثم استكرى عليها بغالا بمائة درهم فحمله إلى مصره فله أن يبيعها مرابحة على ألف ومائة لأن الكراء مما جرى الرسم به بين التجار بإلحاقه برأس المال وقد بينا في البيوع إن ما جرى العرف به بين التجار في إلحاقه برأس المال فله أن يلحقه به في بيع المرابحة وعلى هذا أجر السمسار فإن باعه مرابحة بألفي درهم كانت حصة المضارب من ذلك من كل أحد عشر سهما عشرة أسهم بينهما على شرطهما وحصة الكراء سهم واحد بينهما نصفان لأن الثمن في بيع المرابحة مقسوم على رأس المال الأول وذلك ألف درهم التي غرمها في شراء الثياب والمائة التي غرمها في الكراء فإذا جعلت كل مائة سهما كان على أحد عشر سهما سهم من ذلك حصة الكراء وهو استدانة فيكون بينهما نصفين.
ولو باعها مساومة كان جميع الثمن في المضاربة على الشرط بينهما لأن الثمن في بيع
المساومة بمقابلة الملك والملك الذي تناوله البيع الثياب دون منفعة الحمل من مصر إلى مصر وقد كان جميع الثياب على المضاربة فيكون الثمن كله في المضاربة على الشرط بينهما بخلاف ما تقدم من مسألة الصبغ لأن الصبغ عين مال قائم في الثوب يتناوله البيع ثم غرم الكراء على المضارب ورب المال نصفان لأن المضارب كان مستدينا فيها بأمر رب(22/327)
ص -158- ... المال ففعله كفعلهما جميعا فلهذا كان غرم الكل عليهما نصفين ولو لم يكن استكرى به ولكنه استقرض مائة درهم فاستكرى بها بأعيانها دواب يحمل على كل دابة كذا وكذا ثوبا فله أن يبيعها مرابحة على ألف ومائة وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وإن لم ينص عليه في الكتاب وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ببيع الثياب مرابحة على ألف درهم ولا يدخل في ذلك حصة الكراء وأصل المسألة فيما إذا اكترى دواب للثياب بمائة من مال نفسه لأن ما استقرض له خاصة ثم وجه قولهما إنه متطوع فيما أدى من مال نفسه في الكراء ولو تطوع إنسان آخر بحمل الثياب على دوابه لم يكن للمضارب أن يلحق ذلك برأس المال فكذلك إذا تطوع المضارب به وأبو حنيفة رحمه الله يقول المضارب في حمل الثياب كالمالك لأنه محتاج إلى ذلك لتحصيل حصة الربح والمالك لو استكري دواب للثياب المشتراة بماله كان له أن يلحق ذلك برأس المال في بيع المرابحة فكذلك للمضارب أن يلحق الكراء برأس المال فيبيعها مرابحة على ألف ومائة فإن باعها بألفين كانت عشرة أسهم من أحد عشر سهما من ذلك حصة المضاربة على شرطهما وسهم واحد للمضارب خاصة وإن باعها مساومة كان الثمن كله مضاربة لأن الثمن بمقابلة الثياب هنا والثياب كلها مال المضاربة وضمان الكراء في مال المضاربة خاصة لأنه هو المستقرض فعليه ضمان ما استقرضه.(22/328)
فإن قال المضارب لرب المال: إنما استكريت الدواب لك تحمل ثيابك وقال رب المال إنما استكريت بمالك لنفسك ثم حملت ثيابي عليها فالقول قول رب المال لأنه استكرى بالمائة التي استقرض بعينها وملك المائة للمضارب فإضافته العقد إلى مال نفسه دليل على إنه استكراها لنفسه ولو لم يأمره أن يعمل في المضاربة برأيه فاشترى بها كلها ثيابا تساوي ألف درهم ثم اشترى من عنده عصفرا بمائة درهم فصبغها فهو ضامن للثياب لأن ما اشترى من الصبغ له وقد خلط مال المضاربة به حين صبغ الثياب والمضارب بمطلق العقد لا يملك الخلط فيصير به غاصبا ضامنا وصاحب المال بالخيار إن شاء أخذ ثيابه وأعطاه ما زاد العصفر في ثيابه وإن شاء ضمنه ثيابه غير مصبوغة ألف درهم فأخذها منه فكانت الثياب للمضارب بمنزلة ما لو غصب ثوبا فصبغه فإن لم يختر شيئا من ذلك حتى باع المضارب المتاع بألفي درهم جاز بيعه لأن عقد المضاربة باق بينهما ببقاء المال وإن صار مخالفا ونفوذ بيع المضارب باعتبار الوكالة ووجوب الضمان عليه لا ينفي جواز بيعه بحكم الوكالة فيقسم الثمن على قيمة الثياب وما زاد الصبغ فيها فما أصاب زيادة الصبغ فهو للمضارب لأنه بدل ملكه وما أصاب الثياب فهو بينهما على شرطهما لأنه بدل مال المضاربة فإن هلك الثمن من المضارب بعد ما قبضه فلا ضمان عليه فيه لأنه ببيع الثياب خرج من أن يكون مخالفا والاختلاط الذي في الثمن حكمي وبه لا يكون المضارب مخالفا ضامنا.
فإن كانت الثياب حين اشتراها المضارب تساوي ألفي درهم فصبغها بعصفر من عنده فإن شاء رب المال ضمنه ثلاثة أرباع قيمة الثياب وسلم الثياب للمضارب وإن شاء أخذ ثلاثة(22/329)
ص -159- ... أرباع الثياب وأعطى المضارب ما زاد الصبغ في ثلاثة أرباعها لأنه في مقدار الربع عامل لنفسه بالصبغ فإن مقدار حصته من الربح مملوك له في الثياب وفي ثلاثة أرباعها هو مخالف لعمله في مال رب المال بالخلط من غير أمره فتكون ثلاثة أرباع الثياب في هذا الفصل نظير جميع الثياب في الفصل الأول في حكم الضمان والخيار فإن لم يختر شيئا حتى باعها المضارب جاز بيعه لبقاء عقد المضاربة بينهما بعد الصبغ وكان للمضارب حصة الصبغ من الثمن والباقي مضاربة بينهما على شرطهما.
ولو أن المضارب لم يصبغ الثياب ولكن قصرها بمائة درهم من عنده وذلك يزيد فيها أو ينقص منها فلا ضمان عليه في ذلك إن زادت أو نقصت لأنه لم يخلط بها شيئا من ماله وهو إنما يصير ضامنا بالخلط لا بعمل القصارة.
ألا ترى أنه لو كان في يده فضل من مال المضاربة كان له أن يقصر الثياب به ولا يكون مضمونا عليه إن زادت أو نقصت فكذلك إذا قصرها بمال نفسه بخلاف الصبغ فإنه عين مال قائم في الثوب فيصير بخلط مال المضاربة بماله ضامنا هناك فإن باعها بربح أو وضيعة فهو على المضاربة لأنه متبرع فيما غرم من مال نفسه في قصارتها قيل هذا على قولهما فأما عند أبي حنيفة فينبغي أن يكون الجواب في هذا كالجواب في مسألة الكراء لأن مؤنة القصارة جرى الرسم بإلحاقها برأس المال بمنزلة الكراء.
وكذلك لو اشترى بها ثيابا تساوي ألفا فصبغها أسود فهذا والقصارة سواء لأن السواد نقصان وليس بزيادة ولا ضمان على المضارب في ذلك لأنه لم يخلط مالا من عنده بالمضاربة ألا ترى أنه لا قيمة للسواد في الثياب ولا يضمن النقصان الذي دخل في الثياب لأنه بمطلق عقد المضاربة يملك أن يصبغ الثياب بالسواد.(22/330)
ألا ترى أنه لو كان فضل في يده من مال المضاربة فصبغ الثياب بها سوادا لم يضمن وقيل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قولهما فالسواد كالصفرة والحمرة وقد بينا ذلك في كتاب الغصب والأصح إن هذا في ثياب ينقص السواد من قيمتها فأما في ثياب يزيد السواد في قيمتها فهو بمنزلة ما لو صبغها أصفر أو أحمر.
ولو كان أمره أن يعمل في المضاربة برأيه فاشترى بها ثيابا ثم صبغها بعصفر من عنده فهو شريك في الثياب بما زاد العصفر فيها لأنه يملك الخلط عند تفويض الأمر في المضاربة إلى رأيه على العموم فلا ضمان عليه في ذلك وأصل الثياب على المضاربة والصبغ فيه ملك للمضارب خاصة.
وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالثلث وأمره أن يستدين على المال فاشترى بها وبثلاثة آلاف درهم جارية تساوي خمسة آلاف درهم فقبضها وباعها بخمسة آلاف درهم وقبض الدراهم فهلكت المضاربة الأولى والجارية وثمنها في يد المضارب فعلى المضارب تسعة آلاف أربعة آلاف لبائع الجارية لأنه قبضها وهلكت في يده وخمسة آلاف لمشتري الجارية(22/331)
ص -160- ... لأن بهلاكها قبل التسليم انفسخ البيع فيها فعليه رد المقبوض من الثمن ثم يرجع على رب المال بخمسة آلاف وخمسمائة وواحد وأربعين درهما وثلثي درهم وعلى المضارب في ماله بثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانية وخمسين وثلث لأنه حين اشتراها اشتراها بأربعة آلاف فأنف منها مال المضاربة وثلاثة آلاف كانت دينا عليهما نصفين نصف ذلك على المضارب وهو ألف وخمسمائة ثم باع الجارية بخمسة آلاف درهم فيكون هو في قبض الثمن عاملا لنفسه في مقدار ألف وخمسمائة وحصتها من الربح وذلك في الحاصل ثلاثة أثمان خمسة آلاف مقداره ألف وثمانمائة وخمسة وسبعون وخمسة أثمان هذه الخمسة الآلاف كانت على المضاربة مقدار ذلك ثلاثة آلاف ومائة وخمسة وعشرون حصة ألف المضاربة من ذلك ألف ومائتان وخمسون فتبين أن الربح في مال المضاربة مائتان وخمسون للمضارب ثلث ذلك وثلثه ثلاثة وثمانون وثلث فإذا ضممت ذلك إلى ألف وثمانمائة وخمسة وسبعين يكون جملة ذلك ألفا وتسعمائة وثمانية وخمسين وثلثا فإذا ضممت إليه أيضا ألفا وخمسمائة يكون ذلك ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانية وخمسين وثلثا هذا حاصل ما على المضارب وما زاد على ذلك إلى تمام تسعة آلاف كله على رب المال وذلك خمسة آلاف وخمسمائة وواحد وأربعون وثلثا درهم وإذا جمعت حاصل ما وجب عليه متفرقا بلغ هذا المقدار.(22/332)
فإن هلكت الألف المضاربة أولا ثم هلكت الجارية والخمسة آلاف بعد ذلك معا و المسألة على حالها فإنه يؤدي تسعة آلاف درهم كما بينا ويرجع على رب المال بخمسة آلاف وستمائة وخمسة وعشرين درهما لأن الألف الأولى حين هلكت فقد لحق رب المال في المضاربة ألف درهم دين وصارت المضاربة لا ربح فيها فلم يبق على المضارب إلا حصته من الدين وربحها فأما حصة المضارب من الربح وذلك ثلاثة وثمانون وثلث كما بيناه في المسألة الأولى فيتحول غرم ذلك إلى رب المال مع ما عليه من خمسة آلاف وخمسمائة وواحد وأربعين وثلثين فيكون جميع ما عليه خمسة آلاف وستمائة وخمسة وعشرين درهما والله أعلم .
باب الشهادة في المضاربة
قال رحمه الله: وإذا أقر رب المال للمضارب بسدس الربح وقال المضارب لي نصف الربح وأقام شاهدين فشهد أحدهما أنه شرط له ثلث الربح وشهد الآخر أنه شرط له نصف الربح فالشهادة باطلة في قياس قول أبي حنيفة لأنه يشترط الموافقة بين الشهادتين لفظا ولم يوجد والثلث غير النصف وإذا بطلت الشهادة كان للمضارب ما أقر به رب المال وهو السدس وفي قول أبي يوسف ومحمد الشهادة جائزة على ثلث الربح للمضارب لأنهما يعتبران الموافقة بين الشهادتين معنى وقد اتفقا على مقدار الثلث فالشاهد بالنصف شاهد بالثلث وزيادة فيقضي القاضي له بثلث الربح ويبطل ما زاد على ذلك إلى تمام النصف لأن الشاهد به واحد.
ولو كان ادعى المضارب نصف الربح فشهد له شاهد على نصف الربح وشهد له شاهد آخر إن رب المال شرط له ثلثي الربح فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة وعندهما لأن المضارب(22/333)
ص -161- ... يكذب أحد شاهديه وهو الذي شهد له بأكثر مما ادعاه بخلاف الأول فهناك المضارب يدعي الأكثر فلا يكون مكذبا أحد شاهديه ولو قال رب المال دفعته إليك بضاعة وادعي المضارب إنه شرط له مائتي درهم من الربح فالقول قول رب المال مع يمينه لأن المضارب يدعي عليه أجر المثل في ذمته ورب المال ينكر ذلك فالقول قوله مع يمينه.
وإن أقام المضارب شاهدين فشهد أحدهما إنه شرط له مائتي درهم وشهد الآخر أنه شرط له مائة درهم ففي قول أبي حنيفة الربح كله لرب المال ولا شيء للمضارب على رب المال من أجر ولا غيره لأن الشاهدين اختلفا في المشهود به لفظا فتبطل الشهادة أصلا وعندهما له أجر مثله فيما عمل لأنهما اتفقا على شرط المائة معنى فيوجب قبول شهادتهما على ذلك فكان للمضارب أجر مثله لفساد عقد المضاربة ولو ادعي المضارب أنه شرط مائتين وخمسين وشهد له شاهد بها وشاهد بمائة فله أجر مثله عندهم جميعا لاتفاق الشاهدين على المائة لفظا ومعنى وإن كان المضارب يدعي المائة لم تقبل الشهادة لأنه مكذب أحد شاهديه فيما يشهد به من الزيادة على المائة.(22/334)
ولو دفع إلى رجلين ألف درهم مضاربة فعملا بها وربحا ربحا فادعى أحدهما إنه شرط لهما نصف الربح وادعى الآخر أنه شرط لهما الثلث وادعي رب المال أنه شرط لهما مائة درهم من الربح فالقول قول رب المال لأن المضارب يستحق الربح على رب المال بالشرط فهما يدعيان عليه استحقاق جزء من الربح ورب المال ينكر ذلك فالقول قوله مع يمينه فإن أقاما شاهدين فشهد أحدهما بنصف الربح والآخر بثلث الربح ففي قياس قول أبي حنيفة لا تقبل هذه الشهادة لاختلاف الشاهدين في المشهود به لفظا ويكون للمضاربين أجر مثلهما فيما عملا لأن رب المال أقر لهما بذلك فيأخذان ذلك منه من الوجه الذي يدعيانه وعندهما الشهادة جائزة للمضارب الذي ادعى نصف الربح ويكون له من الربح سدسه لأنه مدع للأكثر فلا يكون مكذبا أحد شاهديه ولكن الشهادة تقبل له في مقدار ما اتفق الشاهدان عليه معنى وهو سدس الربح وللآخر أجر مثله لأنه صار مكذبا أحد شاهديه وهو الذي شهد له بأكثر مما ادعاه فإذا بطلت شهادتهما له كان له أجر مثله كما أقر به رب المال.
ومن كتاب المضاربة الصغيرة قال: وإذا اشترى المضارب بالمال وهو ألف درهم خادما ثم هلكت الألف فيرجع بمثلها على رب المال ونقدها ثم باع الخادم بثلاثة آلاف درهم فاشترى بها متاعا فهلكت قبل أن ينقدها فإنه يرجع على رب المال بألفين وخمسمائة ويؤدي من عنده خمسمائة لأنه حين رجع بمثل الألف التي هلكت على رب المال فقد لحق رب المال في المضاربة دين ألف درهم وصار رأس ماله ألفين فلما باع الغلام بثلاثة آلاف فألفان من ذلك مشغولان برأس المال وألف ربح بينهما نصفان فحين اشترى بها متاعا كان هو في الشراء بحصته من الربح عاملا لنفسه وذلك خمسمائة فيغرم ذلك من ماله وفي مقدار رأس المال وحصة رب المال من الربح عامل له فيرجع عليه بذلك وهو ألفان وخمسمائة فإن باع(22/335)
ص -162- ... المتاع بعد ذلك بعشرة آلاف كان للمضارب سدس الثمن لأن سدس المتاع كان مملوكا فقد نقد ثمنه من مال نفسه فيكون سدس الثمن له من غير المضاربة وخمسة أسداس الثمن على المضاربة يستوفي منها رب المال ما غرم في المرات وذلك أربعة آلاف وخمسمائة والباقي ربح بينهما وقال أبو يوسف إذا عمل الوصي بمال اليتيم فوضع أو ربح فقال عملت به مضاربة فهو مصدق في حال الوضيعة لأنه ليس مسلطا على التصرف فيما في يده من مال اليتيم وهو بمقابلته ينكر وجوب الضمان عليه فالقول قوله في ذلك ولا يصدق في حال الربح حتى يشهد قبل العمل إنه يعمل به مضاربة لأن الربح نماء المال فيكون مملوكا لليتيم بملك المال والوصي يدعي استحقاق بعض الربح لنفسه والقول قول الأمين في براءته عن الضمان لا في استحقاق الأمانة لنفسه إلا أن يشهد قبل العمل فحينئذ يكون هذا إقرارا بما منه يملك استئنافه على ما بينا أن للوصي أن يأخذ مال اليتيم مضاربة فيعمل به.
ولو قال: استقرضته لم يصدق وإن كان فيه ربح حتى يشهد قبل العمل لأن ما حصل من الربح مستحق لليتيم بملكه أصل المال في الظاهر فالوصي يدعي استحقاق ذلك عليه لنفسه فلا يقبل قوله في ذلك وإن أشهد قبل العمل فقد علمنا أنه في التصرف عامل لنفسه ضامن لمال الصبي لأنه ليس له أن يستقرض مال اليتيم لنفسه ولكن الفاسد من القرض معتبر بالصحيح فيكون الربح الحاصل بعمل له وإن كانت فيه وضيعة فهو ضامن لها وإن لم يشهد قبل العمل لأنه في قوله استقرضه أقر لليتيم على نفسه بالضمان وفي مقدار الوضيعة وإقراره على نفسه حجة وكذلك لو دفعه إلى رجل فعمل به ثم قال دفعته قرضا ليعمل به وصدقه ذلك الرجل فهو يقر له باستحقاق الربح وإقراره في مال اليتيم ليس بحجة.(22/336)
وإن قال: مضاربة لليتيم أو بضاعة له وصدقه الرجل وفيه وضيعة فلا ضمان عليهما لأن في تصادقهما انتفاء الضمان عن العامل لا إثبات الاستحقاق له في شيء من مال اليتيم وللوصي هذه الولاية فإنه يودع مال اليتيم ويبضعه وإن كان فيه ربح فهو لليتيم كله إلا أن يشهد على ما صنع من ذلك قبل أن يعمل به لأن الصبي صار مستحقا لجميع الربح بملكه أصل المال فإقرار الوصي بجزء منه للعامل يكون إقرارا في مال اليتيم لغيره وذلك غير مقبول عن الوصي وكل هذا يسعه فيما بينه وبين الذي يعمل على ما قال إن كان صادقا لأن الله تعالى مطلع على ضميرهما عالم بما كان منهما إلا أن القاضي لا يقبل قوله إلا ببينة لأن القاضي مأمور باتباع الظاهر وأصله في الوصي إذا عرف وجوب الدين على الميت فإنه يسعه فيما بينه وبين ربه أن يقضي دينه من التركة ولكن إن علم به القاضي ضمنه إذا لم يكن لصاحب الدين بينة على حقه فهذا قياسه والله أعلم بالصواب.
تم الجزء الثاني والعشرون(22/337)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثالث والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(23/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب المزارعة
"قال الشيخ الإمام" الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن المزارعة مفاعلة من الزراعة والاكتساب بالزراعة مشروع أول من فعله آدم صلوات الله وسلامه عليه على ما روي أنه لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بحنطة وأمره بالزراعة وازدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف وقال عليه الصلاة والسلام: "الزارع يتاجر ربه عز وجل" وقال عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض" يعني عمل الزراعة والعقد الذي يجري بين اثنين لهذا المقصود يسمى مزارعة ويسمى مخابرة أيضا على ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فقيل وما المخابرة قال المزارعة بالثلث والربع وإنما سميت مخابرة من تسمية العرب الزارع خبيرا وقيل هذا الاشتقاق من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر فسميت مخابرة بالإضافة إليهم وبيانه في الحديث الذي بدئ الكتاب به ورواه عن أبي المطرف عن الزهري قال حدثني من لا أتهمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود حين عاملهم على خيبر أقركم ما أقركم الله وفيه بيان أن المرسل حجة فإن الزهري رحمه الله أرسل الحديث حين لم يبين اسم الراوي ورواه محمد رحمه الله مستدلا به على جواز المزارعة والمعاملة فقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل الجواز وتأويل ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله من وجهين:(23/2)
أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر استرقهم وتملك أراضيهم ونخيلهم ثم جعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبيد في نخيل مواليهم وكان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم ولأنهم كانوا أبصر بذلك العمل من المسلمين وما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم فإنهم مماليك للمسلمين يعملون لهم في نخيلهم فيستوجبون النفقة عليهم فجعل نفقتهم فيما يحصل بعملهم وجعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبا وقد نقل بعض هذا عن الحسين بن علي رضي الله عنهما.
والثاني أنه من عليهم برقابهم وأراضيهم ونخيلهم وجعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة وللإمام رأي في الأرض الممنون بها على أهلها إن شاء جعل عليها خراج(23/3)
ص -4- ... الوظيفة, وإن شاء جعل عليها خراج المقاسمة وهذا أصح التأويلين فإنه لم ينقل عن أحد من الولاة أنه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك وكذلك عمر رضي الله عنه أجلاهم ولو كانوا عبيدا للمسلمين لما أجلاهم فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب يتمكن من إمساكه واستدامة الملك فيه فعرفنا أن الثاني أصح ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما فعله من المن عليهم بنخيلهم وأراضيهم غير مؤبد بقوله عليه الصلاة والسلام "أقركم ما أقركم الله" وهذا منه شبه الاستثناء وإشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد لأنه علم من طريق الوحي أنه يؤمر بإجلائهم فتحرز بهذه الكلمة عن نقض العهد لأنه كان أبعد الناس عن نقض العهد والغدر وفيه دليل أن المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة وأن الغدر ينتفي بمثل هذا الكلام وإن لم يفهم الخصم فإنهم لم يفهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح منه التحرز عن الغدر بهذا اللفظ قال وإن بني عذرة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر وجاءته يهود وادي القرى شركاء بني عذرة بالوادي فأعطوا بأيديهم وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء كانوا بالقرب من أهل خيبر وإن اليهود بالحجاز كانوا ينتظرون ما يئول إليه حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر فقد كانوا أعز اليهود بالحجاز كما روي أنه كان بخيبر عشرة آلاف مقاتل فلما صاروا مقهورين ذلت سائر اليهود وانقادوا لطلب الصلح فمنهم يهود وادي القرى جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوا بأيديهم أي انقادوا له وطلبوا الأمان وخشوا أن يغزوهم فكان هذا من النصرة بالرعب كما قال عليه الصلاة والسلام نصرت بالرعب مسيرة شهر فلما أعطوا بأيديهم والوادي حين فعلوا ذلك نصفان نصف لبني عذرة ونصف لليهود فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي أثلاثا ثلثا له وللمسلمين وثلثا(23/4)
خاصة لبني عذرة وثلثا لليهود فكان هذا بطريق الصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدل أن للإمام أن يصالح أهل بلده على بعض الأموال والأراضي إذا رضوا بذلك ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم بإجلاء اليهود إلى الشام على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وقال عليه الصلاة والسلام إن عشت إلى قابل لأخرجن نجران من جزيرة العرب وكان في ذلك إظهار فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته حيث أن جزيرة العرب مولده ومنشأه طهر الله تلك البقعة عن سكني غير المؤمن فيها وهي أفضل البقاع لأن فيها الحرم وبيت الله تعالى حرم الله تعالى نعم مشاركة غير المؤمن مع المؤمن في السكنى فيها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يتمم ذلك ولم يتفرغ أبو بكر الصديق رضي الله عنه لذلك لأنه لم تطل مدة خلافته وقد كان مشغولا بقتال أهل الردة حتى إذا كان في زمن عمر رضي الله عنه وكان قد سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى اليهود من خيبر وأمر يهود الوادي أن يتجهزوا بالجلاء إلى الشام وكان المعنى في ذلك أن اليهود إنما جاؤوا من الشام إلى أرض الحجاز وكان مقصود رؤسائهم من ذلك طلب الحنيفية لما وجدوا في كتبهم من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعت أمته وبذلك كان يوصي بعضهم بعضا فلما بعث الله تعالى(23/5)
ص -5- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنعوا من متابعته والانقياد للحق الذي دعا إليه حسدا وكفرا قال الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] فجوزوا على سوء صنيعهم بأن لا يمكنوا من المقام في أرض العرب وأن يعودوا إلى الموضع الذي جاء من ذلك الموضع آباؤهم فلهذا أجلاهم عمر رضي الله عنه ثم احتج عليه يهود الوادي بقولهم إنما نحن في أموالنا قد أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاسمنا ومعنى هذا الكلام الإشارة منهم إلى الفرق بينهم وبين أهل خيبر فإن خيبر قد افتتحها المسلمون فصارت مملوكة لهم فأما نحن فصالحنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض الأراضي فأقرنا في أموالنا على ما كنا عليه في الأصل ولم يظهر منا خيانة فليس لك أن تجلينا من أرضنا فقال لهم عمر رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم أقركم ما أقركم الله يعني أن هذا اللفظ كان استثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح الذي جرى بينه وبينكم فلا يمنعني ذلك من إجلائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد أن لا يجتمع في أرض العرب دينان وإني مجل من لم يكن له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عهدا خاصا سوى ذلك الصلح العام فقد كان ذلك مقيدا بالاستثناء وأنا مقوم أموالكم هذه فمعطيكم أثمانها يعني بهذا الإجلاء لا أبطل حقكم عن أموالكم ولا أتملكها عليكم مجانا ولكني أعطيكم قيمتها وفيه دليل أن الملك الذمي من الحرمة ما لملك المسلم وأنه متى تعذر إيفاء العين في ملكه يجب إزالته بالقيمة ولهذا قلنا في الكافر إذا أسلم عبده يجبر على بيعه وإذا أسلمت أم ولده تخرج إلى الحرية بالسعاية في القيمة وفيه دليل أن الإمام إذا أحس بالغدر من أهل بلدة من بلاد أهل الذمة وأنهم يخبرون المشركين بعورات المسلمين يكون له أن يجليهم من تلك الأرض إلى أرض أخرى وأنه يقوم من أملاكهم ما يتعذر نقله(23/6)
فيعطيهم عوض ذلك من بيت المال أو من أرض أخرى إن كانت لعامة المسلمين كما فعله عمر رضي الله عنه فإنه أمر بأموالهم فقومت بتسعين ألف دينار فدفعها إليهم وأجلاهم وقبض أموالهم ثم قال لبني عذرة إنا لن نظلمكم ولن نستأثر عليكم أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود فإن شئتم أعطيتم نصف ما أعطيناهم وأعطيتكم نصف أموالهم وإن شئتم سلمتم لنا البيع فتولينا الذي لهم وفيه دليل أن الشفعة تستحق بالشركة في العقار فقد كانت بنو عذرة في الوادي شركاء وأن أحد الشركاء إذا اشترى فله الشفعة فيما اشترى كما للشريك الآخر وإنما يشتريه الإمام للمسلمين بمال بيت المسلمين ليستحق بالشفعة ولكن الإشكال في أنهم لم يطلبوا الشفعة حتى قال لهم عمر رضي الله عنه ما قال.
والشفعة تبطل بترك الطلب بعد العلم بالبيع فقيل هم قد طلبوا الشفعة وأظهروا ذلك بينهم ولكنهم احتشموا عمر رضي الله عنه فلم يجاهروه بذلك فلما بلغه طلبهم قال ما قال وقيل هم عمر رضي الله عنه أن ذلك بيع شرعي وأن لهم الشفعة بذلك فعند ذلك طلبوا الشفعة وقالوا بل نعطيكم نصف الذي أعطيتم من المال وتقاسمونا أموالهم فباعت بنو عذرة في ذلك الرقيق والإبل والغنم حتى دفعوا إلى عمر رضي الله عنه خمسة وأربعين ألف دينار(23/7)
ص -6- ... فقسم عمر الوادي نصفين بين الإمارة وبين بني عذرة وذلك زمان التحظير حين حظر عمر رضي الله عنه الوادي نصفين يعني جمع أنصباء المسلمين في جانب وأنصباء بني عذرة في جانب وكان ذلك أمرا عظيما قد اشتهر في العرب حتى جعلوه تاريخا وكانوا يسمون ذلك زمان التحظير فيقول بعضهم لبعضهم كنت زمان التحظير بن كذا سنة كما يكون مثله في زماننا إذا حدث أمر عظيم في الناس يجعل التاريخ منه بمنزلة وقت الوباء وغيره.
وقال الزهري رحمه الله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح أهل خيبر أعطاهم النخل على أن يعملوا ويقاسمهم نصف الثمار وكان يبعث لقسمة ذلك عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم فيقول: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا" وفي هذا الحديث بيان حكمين حكم المعاملة وقد بيناه وحكم الخرص فهو دليل على أن للإمام في الأراضي التي يكون للإمام خراجها خراج المقاسمة وفي الأرض العشرية أن يبعث من يخرص الثمار والزروع على أربابها إلا أن عند الشافعي هذا الخرص بمنزلة الكيل حتى إذا ادعوا النقصان بعد ذلك لا يقبل قولهم إلا بحجة وعندنا هذا الخرص لا يكون ملزما إياهم شيئا لأن الذي يخرص إنما يقول شيئا بظن والظن لا يغني من الحق شيئا فالقول قولهم في دعوى النقصان وعلى من يدعي عليهم الخيانة والسرقة إثبات ذلك بالبينة.
وعلى هذا الأصل جوز الشافعي رحمه الله بيع العرايا وهو بيع الثمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق وقال الخرص بمنزلة الكيل ولم يجوز ذلك علماؤنا رحمهم الله وقالوا الخرص ليس بمعيار شرعي تظهر به المماثلة فيكون هذا بيع الثمر بالثمر مجازفة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التمر بالتمر مثلا بمثل".(23/8)
وتأويل ما فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أحدهما أن ذلك كان على سبيل النظر للمسلمين منه حتى يتحرز اليهود من كتمان شيء فقد كانوا في عداوة المسلمين بحيث لا يمتنعون مما يقدروا عليه من الإضرار بالمسلمين وقيل كان بن رواحة مخصوصا بذلك حتى كان خرصه بمنزلة كيل غيره لا يتفاوت قد علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق الوحي أو كان له ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكونه مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بين فيما رواه بعد هذا ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره ومعنى قوله إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا أي إن شئتم أخذتم على ما خرصت وأعطيتمونا نصف ذلك بعد الإدراك وإن شئتم أخذنا ذلك وأعطيناكم نصف ذلك بعد الإدراك فهذا منه بيان أنه عدل في الخرص ولم يمل إلى المسلمين ولا قصد الحيف على اليهود.
وعن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى أهلها الذين كانت لهم على أن يعملوها فإذا بلغت الثمار كان لهم النصف وللمسلمين النصف فبعث بن رواحة رضي الله عنه فخرصها عليهم وقد بينا فائدة الحديث وفي اللفظ المذكور في هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله أنه من عليهم بأراضيهم وجعل عليهم نصف الخارج بطريق خراج المقاسمة وعن حجاج بن أرطاة قال سألت محمد بن علي رضي الله عنه عن المزارعة(23/9)
ص -7- ... بالثلث فالنصف فقال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر وأبو بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأهلوهم إلى يومهم هذا يفعلونه وفيه دليل جواز استعمال القياس فقد سئل عن المزارعة وجوازها استدلالا بالمعاملة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل خيبر في النخيل وقيل بل كانت بخيبر نخيل ومزارع فقد كان عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في المزارعة عقد مزارعة وفي هذا الحديث دليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله في جواز المزارعة والمعاملة.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر قال لليهود "أقركم ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم" فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بن رواحة فخرص عليهم ثم يقول: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا" فكانوا يأخذونه وفي هذا الحديث بيان أن ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم كان على طريقة الصلح وقد يجوز من الإمام المعاملة بين بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين فيضعف من هذا الوجه استدلالهم بمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وفيه دليل هداية بن رواحة رضي الله عنه في باب الخرص فإنهم كانوا أهل نخل وقد علموا أنه أصاب في الخرص حين رغبوا في أخذ ذلك.(23/10)
وعن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث بن رواحة فيخرص بينه وبين اليهود قال فجمعوا له حليا من حلى نسائهم فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم فقال يا معشر اليهود إنكم أبغض خلق الله تعالى إلي وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم أما الذي عرضتم من الرشوة فهو سحت وإنا لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض وإنما طلبوا من بن رواحة رضي الله عنه ما ظهر منهم من الميل إلى أخذ الرشوة وترك بيان الحق لأجله فإنهم كتموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث أمته من كتابهم وحرفوا الكلم عن مواضعه بهذا الطريق كما قال الله تعالى {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وما طلبوا منه التخفيف من غير ميل وخيانة فقد كان بن رواحة رضي الله عنه يفعل ذلك من غير طلبهم وبه كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال للخراصين "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية" ثم أنه قطع طمعهم بما قال إنكم من أبغض خلق الله تعالى إلي وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة فإنهم في عداوة المسلمين بهذه الصفة كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82] وقال عليه الصلاة والسلام "ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله" وكان شكواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت حتى قال: "لو آمن بي اثنا عشر منهم آمن بي كل يهودي على وجه الأرض" يعني رؤساءهم ثم بين أن هذا البغض لا يحمله على الحيف والظلم عليهم فالحيف هو الظلم قال الله تعالى: {يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] فكيف(23/11)
يحمله ما عرضوا من الرشوة على الميل إليهم وقال أما الذي عرضتم من الرشوة فإنها سحت يعني تناول السحت من معامليكم دون المسلمين وقد وصفهم الله بذلك بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [المائدة: 42](23/12)
ص -8- ... والسحت: هو الحرام الذي يكون سببا للاستئصال مأخوذ من السحت قال الله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] أي يستأصلنكم فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض يعني ما يقوله حق وعدل وبالعدل قامت السماوات والأرض وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول في هذا الحديث إشارة إلى أن أمتعة النساء وحليهن لم تزل عرضة لحوائج الرجال فإن اليهود لحاجتهم إلى ذلك تحكموا على نسائهم فجمعوا من حلى نسائهم وحكي أن رجلا من أهل العلم كانت له امرأة ذات يسار فسألها شيئا من مالها لحاجته إلى ذلك فأبت فقال لا تكوني أكفر من نساء خيبر كن يواسين أزواجهن بحليهن وأنت تأبي ذلك.
وعن بن سيرين رحمه الله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر فقال بعثني إليكم من هو أحب إلي من نفسي ولأنتم علي أهون من الخنازير ولا يمنعني ذلك من أن أقول الحق هكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وولده وماله لأنه به نال العز في الدنيا والنجاة في الآخرة قال الله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران103] يعني بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه.(23/13)
وينبغي أن يكون اليهود عند كل مسلم بهذه الصفة والمنزلة أيضا فهم شر من الخنازير فيما أظهروا من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسدا وتعنتا فكأنه قال ذلك لأنه قد مسخ منهم قردة وخنازير كما قال الله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حاصر بني قريظة فسمع من بعض سفهائهم شتيمة فقال عليه الصلاة والسلام: "أتشتموني يا أخوة القردة والخنازير" فقالوا ما كنت فحاشا يا أبا القاسم قال: "وذلك لا يمنعني من أن أقول الحق" فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض أي بالحق ومخالفة الهوى والميل بها ثم قال: "قد خرصت عليكم نخيلكم" ففيه دليل أن النخيل كانت مملوكة لهم وأن ما كان يؤخذ منهم بطريق خراج المقاسمة فإن شئتم فخذوه ولي عندكم الشطر وإن شئتم أخذته ولكم عندي الشطر فخذوه فإن لكم فيه منافع فأخذوه فوجدوا فيه فضلا قليلا وهذا دليل على حذاقته في باب الخرص وإن خرصه بمنزلة كيل غيره حين لم يخف عليه الفضل اليسير وإنما تجوز بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمره بالتخفيف في الخرص ولم يترك النصيحة لهم في الأخذ مع شدة بغضه إياهم فدل أنه لا ينبغي للمسلم أن يترك النصيحة لأحد من ولي أو عدو إذا كان لا يخاف على نفسه لأن نصيحته بحق الدين.
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر وقال "لكم السواقط" قيل المراد من السواقط ما يكسر من الأغصان من النخيل مما يستعمل استعمال الحطب والأصح أن المراد ما سقط من الثمار قبل الإدراك فإن ذلك مما لم يمكن ادخاره إلى وقت القسمة لأنه يفسد فشرط ذلك لهم دفعا للحرج عنهم وفيه دليل على أن مثل هذا يجعل عفوا في حق المزارع والمعامل لأنه لا يتأتى التحرز عنه إلا بحرج والحرج مدفوع(23/14)
ص -9- ... وعن بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بن رواحة رضي الله عنه فخرص عليهم مائة وسق فقالت اليهود أشططتم علينا فقال عبد الله رضي الله عنه نحن نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالت بهذا تنصرون وقوله أشططتم علينا أي ظلمتمونا وزدتم في الخرص والشطط عبارة عن الزيادة قال عليه السلام: "لا وكس ولا شطط" وكان ذلك منهم كذبا وكانوا يعلمون ذلك ولكن كان من عادتهم الكذب وقول الزور مع علمهم بذلك كما وصفهم الله تعالى به بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] فرد عليهم تعنتهم بما قال إنا نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالوا بهذا تنصرون أي بالعدل والتحرز عن الظلم فالنصر موعود من الله تعالى للعادلين المتمسكين بالعدل والحق في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. يعني أن تنصروا الله تعالى بالانقياد للحق والدعاء إليه وإظهار العدل ينصركم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع.(23/15)
واعلم بأن المزارعة في جوازها اختلاف بين العلماء رحمهم الله وكان الخلاف في الصدر الأول والتابعين رحمهم الله تعالى بعدهم واشتبهت فيها الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع محمد رحمه الله ما نقل من الآثار في ذلك ثم بنى عليه بيان المسألة من طريق المعنى فممن قال بجوازها من الصحابة رضي الله عنهم علي رضي الله عنه ومعاذ رضي الله عنه على ما روي عن طاوس رحمه الله قال قدم علينا معاذ رضي الله عنه اليمن ونحن نعطي أراضينا بالثلث والربع فلم يعب ذلك علينا وفيه بيان أن ترك التكثر ممن تعين عليه البيان دليل التقرير فقد كان معاذ رضي الله عنه متعينا للبيان لأهل اليمن لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم ليبين لهم الأحكام واستدل بترك التكثر عليهم بعد ما اشتهر هذا العقد بينهم على جوازه ثم روي عنه أنه أمضى ذلك وفي هذا تنصيص على الفتوى بالجواز.
وعن طاوس رحمه الله أنه سئل عن المخابرة في الأرض فقال خابروا على الشطر والثلث والربع ولا تخابروا على كيل معلوم فكأن طاوسا تعلم من معاذ رضي الله عنه وفيه دليل أن المزارعة على كيل معلوم يشترطه أحدهما لا تجوز وبه يأخذ من يجوز المزارعة لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج بعد حصوله. وعن موسى بن طلحة قال أقطع عمر رضي الله عنه خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد بن مالك والزبير وخبابا ورأيت هذين يعطيان أرضهما بالثلث والربع وعبد الله وسعدا رضي الله عنهم والمراد عبد الله بن مسعود وقد ذكره مفسرا بعد هذا وهو من كبار فقهاء الصحابة وسعد بن مالك من العشرة وكانا يباشران المزارعة بالثلث والربع.
وفي الحديث دليل أن للإمام ولاية الإقطاع فيما ليس بملك لإنسان بعينه لأن ما كان الحق فيه لعامة المسلمين فالتدبير فيه إلى الإمام وله أن يخص بعضهم بشيء من ذلك على حسب ما يرى كما يفعله في بيت المال وعن أبي الأسود قال إنا كنا لنزارع على عهد علقمة(23/16)
ص -10- ... والأسود رحمهما الله بالثلث والربع فما يعيبان ذلك علينا وهما من كبار أصحاب علي وعبد الله رضي الله عنهما وفتواهما في ذلك على موافقة فتوى علي وعبد الله رضي الله عنهما حجة أيضا.
وعن محمد بن رافع بن خديج قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى قوم يطمس عليهم نخلا فجاء أرباب النخيل فقالوا يا رسول الله إن فلانا قد طمس علينا نخلنا فقال عليه الصلاة والسلام: "قد بعثت رجلا في نفسي أمينا فإن أحببتم أن تتخذوا نصيبكم بما طمس وإلا أخذنا وأعطيناكم نصيبكم" فقالوا هذا الحق وبالحق قامت السماوات والأرض والمراد بالطمس المذكور في أول الحديث الحزر والمذكور ثانيا الظلم فالطمس هو الاستئصال ومنه يقال عين مطموسة قال الله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37]وكان الحديث في بن رواحة رضي الله عنه في أهل خيبر وإن لم يفسره في هذه الرواية وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت رجلا في نفسي أمينا" في معنى الرد لتعنتهم عليه وهكذا ينبغي للإمام أن يختار لعمله من هو أمين عنده ثم يقبل قوله فيما يخبر به ولا يرده لطعن الطاعنين فالقائل بحق لا بد أن يطعن فيه بعض الناس فالناس أطوار وقليل منهم الشكور وقد تحقق تعنتهم لما خيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هذا الحق وبالحق قامت السماوات والأرض وبيانه في قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71].
وعن الضحاك رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه كان يكري الأرض الجرز بالثلث والربع وكان لا يرى بذلك بأسا والمراد به الأرض البيضاء التي تصلح للزراعة قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [السجدة: 27] وعمر رضي الله عنه كان ممن يرى جواز المزارعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينما دار عمر فالحق معه" رضي الله عنه فهو حجة لمن يجوزها.(23/17)
وعن بن عمر رضي الله عنه أنه قال لرافع بن خديج ما حديث بلغني عن عمومتك في كراء المزارع فقال دخل عمومتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا إلينا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن كراء المزارع" فقال بن عمر رضي الله عنه قد كنت أعلم أنا كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لرب الأرض ماء في الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء وطائفة من الدين قال لا أدري كم هو قال محمد رحمه الله وهذا عندنا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراء المزارع أنهم كانوا يكرونها بشيء لا يدرون كم هو ولا ما يخرج وفيه دليل أن النهي العام يجوز أن يقيد بالسبب الخاص إذا علم ذلك فقد قيد بن عمر رضي الله عنه النهي المطلق بما عرف من السبب والخصوصية وهو تأويل النهي عند من أجاز المزارعة قال المزارعة بهذه الصفة لا تجوز لأنها تؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصولها فمن الجائز أن يحصل الخارج في الجانب الذي شرط لأحدهما دون الجانب الآخر والربيع الساقي الماء وهو ماء السيل ينحدر من الموضع المرتفع فيجتمع في موضع ثم يسقى(23/18)
ص -11- ... منه الأرض ولكن أبو حنيفة رحمه الله أخذ بعموم النهي بحديثين رويا في الباب عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحائط فأعجبه فقال: "لمن هذا؟" فقال رافع رضي الله عنه لي استأجرته فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تستأجره بشيء منه" وهذا الحديث يمنع حمله على هذا التأويل.
والثاني: ما روي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن كراء المزارع" فقلت إنا نكريها بما على الربيع الساقي فقال "لا" فقلت إنا نكريها بالتبن فقال "لا" فقلت إنا نكريها بالثلث والربع فقال عليه السلام: "لا أزرعها أو امنحها أخاك" وهذا إن ثبت فهو نص وكأن هذه الزيادة لم تثبت عند من يرى جوازها وإنما الثابت القدر الذي رواه محمد رحمه الله عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن أسد بن ظهير جاء ذات يوم إلى قومه فقال يا بني خارجة قد دخلت عليكم اليوم مصيبة قالوا ما هي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قلنا يا رسول الله إنا نكريها بما يكون على الربيع الساقي من الأرض فقال عليه السلام: "لا أزرعها أو امنحها أخاك" وإنما سمى ذلك مصيبة لهم لأن اكتسابهم كان بطريق المزارعة وكانوا قد تعارفوا ذلك وكان يشق عليهم تركها فلو كان المراد التأويل الذي أشار إليه في الحديث الأول لم يكن في ذلك كبير مصيبة لتمكنهم من تحصيل المقصود بدفع الأرض مزارعة بجزء شائع من الخارج فهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "ازرعها أو امنحها أخاك" يدل على سد باب المزارعة عليهم بالنهي مطلقا وبه يستدل من يقول من المتعسفة أنه لا يجوز استئجار الأرض بالذهب والفضة لمقصود الزراعة ولكن ما روينا من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وهو قوله لي استأجرته دليل على جواز ذلك وقد ذكر بعد هذا آثارا تدل على جوازه والمراد ها هنا الانتداب إلى ما هو من مكارم الأخلاق بأن يمنح الأرض غيره إذا(23/19)
استغنى عن زراعتها بنفسه ولا يأخذ منه أجرا على ذلك.
وعن يعلى بن أمية وكان عاملا لعمر رضي الله عنه على نجران فكتب إليه يذكر له أرض نجران فكتب إليه عمر رضي الله عنه ما كان من أرض بيضاء يسقيها السماء أو تسقى سحا فادفعها إليهم لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان من أرض تسقى بالغروب فادفعها إليهم لهم الثلثان ولنا الثلث وما كان من كرم يسقيه السماء أو يسقى سحا فادفعه إليهم لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان يسقى بالغروب فادفعه إليهم لهم الثلثان ولنا الثلث والمراد بالأراضي التي هي لبيت المال حق عامة المسلمين أنه يدفعها إليهم مزارعة.
الا ترى أنه فاوت في نصيبهم بحسب تفاوت عملهم بين ما تسقيها السماء أو تسقى بالغروب وهي الدوالي فهو دليل لمن يجوز المزارعة.
وعن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال أخبرني أعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها(23/20)
ص -12- ... ولكنه قال: "يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ منه خرجا معلوما" أو قال "خراجا معلوما" وكل واحد من اللفظين لغة صحيحة والمراد بقوله أعلمهم معاذ رضي الله عنه فكأنه أشار به إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" أو قال ذلك لأنه أخذ العلم منه وهكذا ينبغي لكل متعلم أن يعتقد في معلمه أنه أعلم أقرانه ليبارك له فيما أخذ منه ثم قد دعاه عمرو بن دينار إلى الأخذ بالاحتياط والتحرز عن موضع الشبهة والاختلاف فأبى ذلك لأنه كان يعتقد فيه الجواز كما تعلمه من أستاذه وفيه دليل أنه لا بأس للإنسان من مباشرة ما يعتقد جوازه وإن كان فيه اختلاف العلماء رحمهم الله ولا يكون ذلك منه تركا للاحتياط في الدين وقوله: "يمنح أحدكم أخاه" إشارة إلى الانتداب الذي بيناه في الحديث الأول. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال لم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حتى تظالموا كان الرجل يكري أرضه ويشترط ما يسقيه الربيع والنطف فلما تظالموا نهى عنها والنطف جوانب الأرض فهذا إشارة إلى التأويل الذي ذكره محمد رحمه الله وأن النهي كان بناء على تلك الخصومة فكان تقييدا بها.
وعن بن عمر رضي الله عنه قال كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركنا من أجل قوله يعني من أجل روايته وبن عمر كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم وأشار بهذا إلى أنه يعتقد في المزارعة الجواز ولكنه تركها لحيثية مطلق النهي المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم من حلال يتركه المرء على طريق الزهد وإن كان يعتقد الجواز على ما جاء في الحديث: "لا يبلغ العبد محض الإيمان حتى يدع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام".(23/21)
وعن بن عمر قال أكثر رافع رضي الله عنه على نفسه ليكريها كراء الإبل معناه شدد الأمر على نفسه بروايته النهي مطلقا من غير رجوعه إلى سبب النهي ولأجل روايته يترك المزارعة ويكري الأرض بالذهب والفضة كراء الإبل فهو دليلنا على جواز الإجارة في الأراضي لمقصود الزراعة. وعن بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا أكرى الأرض اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ولا يعذرها وهذا من المتقرر الذي اختاره عمر رضي الله عنه ولسنا نأخذ به فلا بأس بإدخال الكلب الأرض لحفظ الزرع.
" ألا ترى" أن الحديث جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رخص في ثمن الكلب للصيد والحرث والماشية" وقوله ولا يعذرها أي لا يلقي فيها العذرة وهو ما ينفصل من بني آدم وقد كان بين الصحابة خلاف في جواز استعمال ذلك في الأرض فابن عمر رضي الله عنه كان لا يجوز ذلك وكذلك بن عباس رضي الله عنهما كان ينهى عن إلقاء العذرة في الأرض. وعن سعد رضي الله عنه أنه كان يجوز ذلك وهكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه حتى كان يباشر ذلك بنفسه فعاتبه إنسان على ذلك فجعل يقول مكيل بر بمكيل بر.
وعن أبي حنيفة فيه روايتان في إحدى الروايتين يجوز إلقاؤها في الأرض إذا كان غير مخلوط بالتراب وفي الرواية الأخرى لا يجو ز ذلك إلا مخلوطا وهو الظاهر من المذهب(23/22)
ص -13- ... إذا صار مغلوبا بالتراب فحينئذ يجوز إلقاؤها في الأرض ويجوز بيعها لأن المغلوب في حكم المستهلك فأما إذا كانت غير مخلوطة بالتراب فلا يجوز بيعها ولا استعمالها في الأرض لنجاسة عينها بمنزلة الخمر وكانت هذه الحرمة لاحترام بني آدم فبيع السرقين وإلقاؤه في الأرض جائز ولكن لاحترام بني آدم لا يجوز ذلك في الرجيع وهو كالشعر فإن شعر الآدمي لا ينتفع به بعد ما بان عنه بخلاف شعر سائر الحيوانات وصوفها وعلى الرواية الأخرى عن أبي حنيفة إذا ألقاها في الأرض وخلطها بالأرض وصارت مستهلكة فيها يجوز استعمالها كذلك ولكن لا يجوز بيعها غير مخلوطة بالتراب.
وعن خالد الحذاء قال كنت عند مجاهد فذكر حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في كراء الأرض فرفع طاوس يده فضرب صدره ثم قال قدم علينا معاذ رضي الله عنه اليمن وكان يعطي الأرض على الثلث والربع فنحن نعمل به إلى اليوم ومعنى ما قاله طاوس أن معاذا رضي الله عنه كان أعلمهم بالحلال والحرام وما كان يخفى عليه النهي الذي رواه رافع بن خديج وقد كان يباشر المزارعة بالثلث والربع فنحن نتبرم في ذلك ونحمل النهي على ما حمله معاذ رضي الله عنه فقد كان دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله تعالى لما وفقه لما يرضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن كليب بن وائل قال قلت لابن عمر رضي الله عنهما رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر أعطاني أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري ثم قاسمته فقال حسن وفيه منه دليل على أن العالم يفتي بما يعتقد فيه الجواز وإن كان لا يباشره فقد روينا أن بن عمر رضي الله عنهما ترك المزارعة لأجل النهي ثم أفتى بحسنها وجوازها للسائل.(23/23)
وعن جابر رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم مبشر فقال: "يا أم مبشر من غرس هذا النخل مسلم أو كافر؟" قالت بل مسلم قال عليه الصلاة والسلام: "لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا سبع ولا طير إلا كانت له صدقة يوم القيامة" وفي رواية "وما أكلت العافية منها فهي له صدقة" يعني الطيور الخارجة عن أوكارها الطالبة لأرزاقها وفيه دليل أن المسلم مندوب إلى الاكتساب بطريق الزراعة والغراسة ولهذا قدم بعض مشايخنا رحمهم الله الزراعة على التجارة لأنها أعم نفعا وأكثر صدقة وقد باشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روينا أنه ازدرع بالجرف وفي الحديث رد على من يكره من المتعسفة الغرس والبناء وقالوا إنه يركن به إلى الدنيا وينتقص بقدره من رغبته في الآخرة {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وهذا غلط ظنوه فإنه يتوصل بهذا الاكتساب إلى الثواب في الآخرة. وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام "نعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة الغرس والبناء" وإن كان حسنا من كل واحد ولكن معنى القربة فيه إذا باشره المسلم دون الكافر فإن الكافر ليس من أهل القربة وهو مأمور بتقديم الإسلام على الاشتغال بالغرس ولكن قد ورد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن ربه عز وجل حيث قال: "عمروا بلادي فعاش فيها عبادي" فلهذا قلنا هذا الفعل حسن من كل أحد.(23/24)
ص -14- ... وعن بن المسيب رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسا بكراء الأرض البيضاء بذهب وفضة وعن جبير أنه كان لا يرى بأسا بإجارة الأرض بدراهم أو بطعام مسمى وقال هل ذلك إلا مثل دار أو بيت وهو حجة على مالك رحمه الله فإنه لا يجوز إجارة الأرض بالطعام لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يستأجر بشيء منه" ولكنا نقول الأرض غير منتفع بها كالدار والبيت وكل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح أجرة في الإجارة وتأويل النهي الاستئجار بأجرة مجهولة معدومة هي على خطر الوجود كما يكون في المزارعة وهذا ينعدم في الاستئجار بطعام مسمى وربما يكون في هذا نوع رفق لأن من يستأجر الأرض للزراعة فأداء الطعام أجرة أيسر عليه من أداء الدراهم لقلة النقود في أيدي الدهاقين.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال "إنما يزرع ثلاثة" رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة, والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فالنهي عنها حجة لنا في إفساد ذلك العقد. والمحاقلة قيل بيع الحنطة في سنبلها بحنطة والعرب تقول الحقلة تنبت الحقلة أي الحنطة تنبت السنبلة وقيل المحاقلة المزارعة وهذا أظهر فقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله: "إنما يزرع ثلاثة" فهو دليل لأبي حنيفة على أن الانتفاع بالأرض للزراعة مقصور على هذه الطرق الثلاثة وأن المزارعة بالربع والثلث لا تكون صحيحة لأن كلمة إنما لتقرير الحكم في المذكور ونفيه عما عداه.(23/25)
وعن بن عباس رضي الله عنهما قال إن أمثل ما أنتم صانعون أن يستكري أحدكم الأرض البيضاء بذهب أو فضة عاما بعام يعني أبعدها عن المنازعة والجهالة واختلاف العلماء رحمهم الله فإن الأمثل ما يكون أقرب إلى الصواب والصحة وذلك فيما يكون أبعد عن شبهة الاختلاف. وعن مجاهد قال اشترك أربعة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم من عندي البذر وقال الآخر من عندي العمل وقال الآخر من عندي الفدان وقال الآخر من عندي الأرض فقضى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لصاحب الفدان أجرا مسمى وجعل لصاحب العمل درهما كل يوم وألحق الزرع كله لصاحب البذر وألغى الأرض وبهذا يأخذ من يجوز المزارعة فيقول المزارعة بهذه الصفة فاسدة لما فيها من اشتراط الفدان وهي البقر وآلات الزراعة على أحدهم مقصودا به وبما فيها من دفع البذر مزارعة على الانفراد وكل واحد من هذين مفسد للعقد ثم في المزارعة الفاسدة الخارج كله لصاحب البذر لأنه بما بذره.
الا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقه بصاحب البذر وألغى الأرض؟ يعني لم يجعل لصاحب الأرض من الخارج شيئا إلا أنه يستوجب على صاحب البذر أجر مثل أرضه بل يستوجب ذلك عليه كصاحب الفدان وقد أعطاه أجرا مسمى والمراد أجر المثل وصاحب العمل فقد أعطاه درهما كل يوم وتأويله أن ذلك كان أجر مثله في عمله.
وكما أنه سلم لصاحب البذر منفعة الفدان والعامل بحكم عقد فاسد فقد سلم له منفعة(23/26)
ص -15- ... الأرض بعقد فاسد فيستوجب أجر المثل وبهذا تبين أن المراد بالإلغاء أنه لم يجعل لصاحب الأرض شيئا من الخارج فكان الطحاوي لا يصحح هذا الحديث ويقول الخارج لصاحب الأرض أو رد ذلك في المشكل وقال البذر يصير مستهلكا لأن النبات يحصل بقوة الأرض فيكون النابت لصاحب الأرض وجعل الأرض كالأم وفي الحيوانات الولد يكون مملوكا لصاحب الأم لا لصاحب الفحل ولكن هذا وهم منه والحديث صحيح وكل قياس بمقابلته متروك.
ثم في الحيوانات توجد الحضانة من الأم لماء الفحل في رحمها وفي حجرها بلبنها نموه بعد الانفصال فلهذا جعلت تابعة للأم في الملك وذلك لا يوجد في الأرض ثم الخارج نماء البذر.
ألا ترى أنه يكون من جنس البذر وقوة الأرض ويكون بصفة واحدة ثم جنس الخارج يختلف باختلاف جنس البذر فعرفنا أنه يكون نماء البذر فيكون لصاحب البذر وهذا هو الحكم في كل مزارعة فاسدة أن للعامل أجر مثل عمله إن عمل بنفسه أو بأجرائه أو بغلمانه أو بقوم استعان بهم بغير أجر ويكون الخارج لصاحب البذر في هذه المسألة بعينها قول جميع المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن المزارعة فاسدة على كل حال وعندهما المزارعة فاسدة هنا كما بينا ثم صاحب البذر يؤمر فيما بينه وبين ربه عز وجل أن ينظر إلى الخارج فيدفع فيه مثل ما بذر ومقدار ما غرم فيه من الأجر لصاحب الأرض ولصاحب العمل ولصاحب البقر فيطيب له ذلك بما غرم فيه ويتصدق بالفضل لتمكن الحنث فيه باعتبار فساد العقد والأصل في المزارعة الفاسدة أنه متى ربى زرعه في أرض غيره يؤمر بالتصدق بالفضل وإن ربى زرعه في أرض نفسه بعقد فاسد لا يؤمر بالتصدق في عقد فاسد وسيأتي بيان هذا الفصل في موضعه إن شاء الله تعالى.
باب المزارعة على قول من يجيزها في النصف والثلث(23/27)
قال رحمه الله: اعلم أن المزارعة والمعاملة فاسدتان في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وفي قول أبي يوسف ومحمد وبن أبي ليلى هما جائزتان وقال الشافعي المعاملة في النخيل والكروم والأشجار صحيحة ويسمون ذلك مساقاة والمزارعة لا تصح إلا تبعا للمعاملة بأن يدفع إليه الكرم معاملة وفيه أرض بيضاء فيأمره أن يزرع الأرض بالنصف أيضا وقد قدمنا بيان الكلام من حيث الأخبار في المسألة فأما من حيث المعنى فهما يقولان المزارعة عقد شركة في الخارج والمعاملة كذلك فتصح كالمضاربة وتحقيقه من وجهين:
أحدهما: أن الربح هناك يحصل بالمال والعمل جميعا فتنعقد الشركة بينهما في الربح بمال من أحد الجانبين وعمل من الجانب الآخر وهما باعتبار عمل من أحد الجانبين وبذر وأرض من الجانب الآخر أو نخيل من الجانب الآخر والدليل على أن للعمل تأثيرا في تحصيل الخارج أن الغاصب للبذر أو الأرض إذا زرع كان الخارج له وجعل الزرع حاصلا بعمله.
والثاني: أن بالناس حاجة إلى عقد المضاربة فصاحب المال قد يكون عاجزا عن(23/28)
ص -16- ... التصرف بنفسه والقادر على التصرف لا يجد مالا يتصرف فيه فيجوز عقد المضاربة لتحصيل مقصودهما فكذلك هنا صاحب الأرض والبذر قد يكون عاجزا عن العمل والعامل لا يجد أرضا وبذرا ليعمل فيجوز العقد بينهما شركة في الخارج لتحصيل مقصودهما.
وفي هذا العقد عرف ظاهر فيما بين الناس في جميع البلدان كما في المضاربة فيجوز بالعرف وإن كان القياس يأباه كالاستبضاع وبهذا الطريق جوز الشافعي رحمه الله المعاملة ولم يجوز المزارعة لأن المعاملة بالمضاربة أشبه من المزارعة فإن في المعاملة الشركة في الزيادة دون الأصل وهو النخيل كما أن المضاربة الشركة في الربح دون رأس المال.(23/29)
وفي المزارعة لو شرط الشركة في الفضل دون أصل البذر بأن شرطا دفع البذر من رأس الخارج لم يجز العقد فجوزنا المعاملة مقصودا لهذا ولم نجوز المزارعة إلا تبعا للحاجة إليها في ضمن المعاملة وقد يصح العقد في الشيء تبعا وإن كان لا يجوز مقصودا كالوقت في المنقول وبيع الشرب وهذا كله بخلاف دفع الغنم معاملة بنصف الأولاد أو الألبان لأن ذلك ليس في معنى المضاربة فإن تلك الزوائد تتولد من العين ولا أثر لعمل الراعي والحافظ فيها وإنما تحصل الزيادة بالعلف والسقي والحيوان يباشر ذلك باختياره فليس لعمل العامل تأثير في تحصيل تلك الزيادة وليس في ذلك العقد عرف ظاهر في عامة البلدان أيضا ولهذا لو فعل الغاصب لم يملك شيئا من تلك الزوائد فأما هنا فلعمل الزارع تأثير في تحصيل الخارج وكذلك لعمل العامل من السقي والتلقيح والحفظ تأثير في جودة الثمار لأن بدون ذلك لا يحصل إلا ما لا ينتفع به من الحشف فلهذا جوزنا المزارعة والمعاملة ولم نجوز المعاملة في الزوائد التي تحصل من الحيوانات كدود القز والديباج وما أشبه ذلك وأبو حنيفة يقول هذا استئجار بأجرة مجهولة معدومة في وجودها خطر وكل واحد من المعنيين يمنع صحة الاستئجار والاستئجار بما يكون على خطر الوجود في معنى تعليق الإجارة بالخطر والاستئجار بأجرة مجهولة بمنزلة بيع بثمن مجهول وكل واحد منهما عقد معاوضة يعتمد تمام الرضا ثم البيع بثمن مجهول يكون فاسدا فكذلك الاستئجار بأجرة مجهولة وهذا القياس سنده الأثر وهو قوله عليه الصلاة والسلام "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وبيان ما ذكرنا أن البذر إن كان من قبل العامل فهو مستأجر للأرض بما سمى لصاحبها من الخارج وفي حصول الخارج خطر ومقداره مجهول وإن كان من قبل رب الأرض فهو مستأجر للعامل والدليل على أن هذا إجارة لا شركة أنه يتعلق به اللزوم من جانب من لا بذر من قبله وكذلك من جانب الآخر بعد إلقاء البذر في الأرض وعقد المعاملة يتعلق به اللزوم(23/30)
من الجانبين في الحال والشركة والمضاربة لا يتعلق بهما اللزوم والدليل عليه أنه لا بد من بيان المدة واشتراط بيان المدة في عقد الإجارة لإعلام ما تناوله العقد من المنفعة، فأما في الشركة والمضاربة فلا يشترط التوقيت ولا معنى لاعتبار العرف لأن العرف يسقط اعتباره عند وجود النص بخلافه وقد وجد ذلك هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لا تستأجره بشيء منه" وقوله عليه الصلاة والسلام: "فليعلمه أجره".(23/31)
ص -17- ... وكما وجد العرف هنا فقد وجد العرف في دفع الدجاج معاملة بالشركة في البيض والفروج وفي دفع البقر والغنم معاملة للشركة في الأولاد والألبان والسمون وفي دفع دود القز معاملة للشركة في الإبريسم ومعنى الحاجة يوجد هناك أيضا ثم لا يحكم بصحة شيء من ذلك باعتبار العرف والحاجة فهنا كذلك وإذا ثبت فساد العقد على قوله كان الخارج كله لصاحب البذر فإن كان صاحب البذر هو العامل فعليه أجر مثل الأرض فينبغي لصاحب الأرض أن يشتري منه نصف الخارج بعد القسمة بما استوجب عليه من أجر المثل وكذلك يفعله العامل إن كان البذر من قبل صاحب الأرض وبهذا الطريق يطيب لكل واحد منهما على قوله ثم التفريع بعد هذا على قول من يجوز المزارعة والمعاملة وعلى أصول أبي حنيفة أن لو كان يرى جوازها. وأبو حنيفة رحمه الله هو الذي فرع هذه المسائل لعلمه أن الناس لا يأخذون بقوله في هذه المسألة ففرع على أصوله إن لو كان يرى جوازها.
ثم المزارعة على قول من يجيزها تستدعى شرائط ستة:
أحدها: التوقيت لأن العقد يرد على منفعة الأرض أو على منفعة العامل بعوض والمنفعة لا يعرف مقدارها إلا ببيان المدة فكانت المدة معيارا للمنفعة بمنزلة الكيل والوزن وهذا بخلاف المضاربة فإن هناك بالتصرف المال لا يصير مستهلكا فلا حاجة إلى إثبات صفة اللزوم كذلك العقد وهنا البذر يصير مستهلكا بالإلقاء في الأرض فبنا حاجة إلى القول بلزوم هذا العقد لدفع الضرر من الجانبين ولا يكون ذلك إلا بعد علم مقدار المعقود عليه من المنفعة.
والثاني: أنه يحتاج إلى بيان من البذر من قبله لأن المعقود عليه يختلف باختلافه فإن البذر إن كان هو من قبل العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض وإن كان من قبل صاحب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل فلا بد من بيان المعقود عليه وجهالة من البذر من جهته تؤدي إلى المنازعة بينهما.(23/32)
والثالث: أنه يحتاج إلى بيان جنس البذر لأن إعلام جنس الأجرة لا بد منه ولا يصير ذلك معلوما إلا ببيان جنس البذر.
والرابع: أنه يحتاج إلى بيان نصيب من لا بذر من قبله لأنه يستحق ذلك عوضا بالشرط فما لم يكن معلوما لا يصح استحقاقه بالعقد شرطا.
والخامس: أنه يحتاج إلى التخلية بين الأرض وبين العامل حتى إذا شرط في العقد ما تنعدم به التخلية وهو عمل رب الأرض مع العامل لا يصح العقد.
والسادس: الشركة في الخارج عند حصوله حتى إن كل شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج بعد حصوله يكون مفسدا للعقد.
ثم المزارعة على قول من يجيزها على أربعة أوجه.
أحدها: أن تكون الأرض من أحدهما والبذر والعمل والبقر وآلات العمل كله من(23/33)
ص -18- ... الآخر فهذا جائز لأن صاحب البذر مستأجر للأرض بجزء معلوم من الخارج ولو استأجرها بأجرة معلومة من الدراهم والدنانير صح فكذا إذا استأجرها بجزء مسمى من الخارج شائع.
والوجه الثاني: أن تكون الأرض والبذر والبقر والآلات من أحدهما والعمل من الآخر فهذا جائز أيضا لأن صاحب الأرض استأجر العامل ليعمل بآلاته له وذلك صحيح كما لو استأجر خياطا ليخيط بإبرة صاحب الثوب أو طيانا ليجعل الطين بآلة صاحب العمل.
والوجه الثالث: أن تكون الأرض والبذر من أحدهما والبقر والآلات من العامل وهذا جائز أيضا لأن صاحب الأرض استأجره ليعمل بآلات نفسه وهذا جائز كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة نفسه أو قصارا ليقصر الثوب بآلات نفسه أو صباغا ليصبغ الثوب بصبغ له فكذلك هنا وهذا لأن منفعة البقر والآلات من جنس منفعة العامل لأن إقامة العمل يحصل بالكل فيجعل ذلك نابعا لعمل العامل في جواز استحقاقه بعقد المزارعة.
والرابع: أن يكون البذر من قبل العامل والبقر من قبل رب الأرض وهذا فاسد في ظاهر الرواية لأن صاحب البذر مستأجر للأرض والبقر واستئجار البقر بجزء من الخارج مقصودا لا يجوز وهذا لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض فإن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل به الخارج ومنفعة البقر يقام به العمل فلانعدام المجانسة لا يمكن جعل البقر تبعا لمنفعة الأرض ولا يجوز استحقاق منفعة البقر مقصودا بالمزارعة كما لو كان البقر مشروطا على أحدهما فقط والأصل فيه حديث مجاهد في اشتراك أربعة نفر كما بينا.
وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن هذا النوع جائز أيضا للعرف ولأنه لما جاز أن يكون البقر مع البذر مشروطا على رب الأرض في المزارعة فكذلك يجوز أن يكون البقر بدون الأرض مشروطا عليه كما في جانب العامل لما جاز أن يكون البذر مع البقر مشروطا على العامل جاز أن يكون البقر مشروطا عليه بدون البذر.(23/34)
ثم في الوجوه الثلاثة إن حصل الخارج كان بينهما على الشرط وإن لم يحصل الخارج فلا شيء لواحد منهما على صاحبه لأن العقد انعقد بينهما شركة في الخارج ولئن كان إجارة فالأجرة يتعين محلها بتعيينها وهو الخارج ومع انعدام المحل لا يثبت الاستحقاق وهكذا في الوجه الرابع على رواية أبي يوسف فأما في ظاهر الرواية فالخارج كله لصاحب البذر لأنه نماء بذره فإنه يستحقه الغير عليه بالشرط بحكم عقد صحيح ولم يوجد وعليه لصاحب الأرض أجرة مثل الأرض والبقر لأنه صار مستوفيا منفعة أرضه وبقره بحكم عقد فاسد.
ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويل قوله عليه أجر المثل لأرضه وبقره أنه يغرم له أجر مثل الأرض مكروبة فأما البقر فلا يجوز أن يستحقه بعقد المزارعة بحال فلا ينعقد العقد عليه صحيحا ولا فاسدا ووجوب أجر المثل لا يكون بدون انعقاد العقد فالمانع لا يتقوم إلا بالعقد والأصح أن عقد المزارعة من جنس الإجارة ومنافع البقر يجوز استحقاقها بعقد الإجارة فينعقد عليها عقد المزارعة بصفة الفساد ويجب أجر مثلها كما يجب أجر مثل(23/35)
ص -19- ... الأرض وزعم بعض أصحابنا أن فساد العقد هنا على أصل أبي حنيفة لأنه فسد العقد في حصة البقر ومن أصله أن العقد إذا فسد بعضه فسد كله فأما عندهما فينبغي أن يجوز العقد في حصة الأرض وإن كان يفسد في حصة البقر والأصح أنه قولهم جميعا لأن حصة البقر لم يثبت فيه الاستحقاق أصلا وحصة الأرض من المشروط مجهول فيفسد العقد فيه للجهالة وقد بينا نظيره في الصلح إذا صولح أحد الورثة من العين والدين على شيء في التركة.
وسواء أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج فأجر المثل واجب لصاحب الأرض والبقر لأن محل وجوب الأجر هنا الذمة دون الخارج وإنما يجب استيفاء المنفعة وقد تحقق ذلك سواء أحصل الخارج أم لم يحصل وقيل ينبغي في قياس قول أبي يوسف رحمه الله أن لا يزاد بأجر مثل أرضه وبقره على نصف الخارج الذي شرط له وفي قول محمد يجب أجر المثل بالغا ما بلغ على قياس الشركة في الاحتطاب وقد بيناه في كتاب الشركة فإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل عنده مع العامل والخارج بينهم أثلاث جازت المزارعة وللعامل ثلث الخارج والباقي كله لرب الأرض لأن اشتراط العبد على رب الأرض والبذر كاشتراط البقر عليه في هذا الفصل وأنه صحيح فكذلك اشتراط العبد عليه.(23/36)
ثم المشروط للعبد إن لم يكن عليه دين فهو مشروط لصاحب الأرض وإن كان عليه دين ففي قولهما كذلك وفي قياس قول أبي حنيفة المولى من كسب عبده المديون كالأجنبي فكأنه دفع الأرض والبذر مزارعة إلى عاملين على أن لكل واحد منهما ثلث الخارج حتى أن في هذا الفصل لو لم يشترط العمل على العبد ففي قولهما المشروط للعبد يكون لرب الأرض فيجوز العقد وفي قياس قول أبي حنيفة المشروط للعبد كالمسكوت عنه لأنه لا يستحق شيئا من غير بذر ولا عمل والمسكوت عنه يكون لصاحب البذر وإن كان البذر من العامل والمسألة بحالها فالعقد فاسد لأن اشتراط العمل على رب الأرض كاشتراط البقر عليه وذلك مفسد للعقد وإن كان شرط ثلث الخارج لعبد العامل.
فإن كان البذر من قبل العامل ولا دين على العبد فالعقد صحيح ولرب الأرض ثلث الخارج والباقي للعامل لأن اشتراط العبد عليه كاشتراط البقر والمشروط لعبده إن لم يكن عليه دين كالمشروط له وإن شرط لعبده ثلث الخارج ولم يشرط على عبده عملا فإن كان على العبد دين ففي قول أبي يوسف ومحمد هذا جائز والمشروط للعبد يكون للعامل لأنه يملك كسب عبده المديون وعند أبي حنيفة كذلك الجواب لأن المشروط للعبد كالمسكوت عنه إذا لم يشرط عليه العمل فهو للعامل لأنه صاحب البذر بخلاف ما إذا شرط عليه العمل والعبد مديون لأن العبد منه كأجنبي فكأنه شرط عمل أجنبي آخر مع صاحب البذر على أن يكون له ثلث الخارج وذلك مفسد للعقد في حصة العامل الآخر على ما بينه في آخر الكتاب.
وإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل هو مع العامل لم يجز لأن(23/37)
ص -20- ... هذا الشرط يعدم التخلية بين العامل وبين الأرض والبذر وقد بينا نظيره في المضاربة أنه إذا شرط عمل رب المال مع المضارب يفسد العقد لانعدام التخلية والحاكم رحمه الله في المختصر ذكر في جملة ما يكون فاسدا من المزارعة على قولهما يجمع بين الرجل وبين الأرض ومراده أن يكون البقر والبذر مشروطا على أحدهما والعمل والأرض مشروطا على الآخر وهذا فاسد إلا في رواية عن أبي يوسف يجوز هذا بالقياس على المضاربة لأن البذر في المزارعة بمنزلة رأس المال في المضاربة ويجوز في المضاربة دفع رأس المال إلى العامل فكذلك يجوز في المزارعة دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض والعمل فأما في ظاهر الرواية فصاحب البذر مستأجر للأرض ولا بد من التخلية بين المستأجر وبين ما استأجر في عقد الإجارة وتنعدم التخلية هنا لأن الأرض تكون في يد العامل فلهذا فسد العقد.
ثم في كل موضع صار الريع لصاحب البذر من قبل فساد المزارعة والأرض له لم يتصدق بشيء لأنه لا يتمكن في الخارج خبث فإن الخارج نماء البذر بقوة الأرض والأرض ملكه والبذر ملكه وإذا لم تكن الأرض له تصدق بالفضل لأنه تمكن خبث في الخارج فإن الخارج إنما يحصل بقوة الأرض وبهذا جعل بعض مشايخنا الخارج لصاحب الأرض عند فساد العقد ومنفعة الأرض إنما سلمت له بالعقد الفاسد لا بملكه رقبة الأرض فيتصدق لذلك بالفضل ونعني بالفضل أنه يرفع من الخارج مقدار بذره وما غرم فيه من المؤن والأجر ويتصدق بالفضل.(23/38)
وإن كان هو العامل لا يرفع منه أجر مثله لأن منافعه لا تتقوم بدون العقد ولا عقد على منافعه إذا كان البذر من قبله فلهذا لا يرفع أجر مثل نفسه من الخارج ولكن يتصدق بالفضل وما يشترط للبقر من الخارج فهو كالمشروط لصاحب البقر لأن البقر ليس من أهل الاستحقاق لنفسه فالمشروط له كالمشروط لصاحبه وما يشترط للمساكين للخارج فهو لصاحب البذر لأن المساكين ليس من جهتهم أرض ولا عمل ولا بذر واستحقاق الخارج في المزارعة لا يكون إلا بأحد هذه الأشياء فكان المشروط لهم كالمسكوت عنه فيكون لصاحب البذر لأن استحقاقه بملك البذر لا يشترط والأجرة تستحق عليه بالشرط فلا يستحق إلا مقدار ما شرط له.
وإذا لم يسم لصاحب البذر وسمى ما للآخر جاز لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر ففي القياس هذا لا يجوز لأنهم ذكروا ما لا حاجة بهم إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد ومن لا بذر من قبله يستحق بالشرط فبدون الشرط لا يستحق شيئا ولكنه استحسن فقال الخارج مشترك بينهما والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيان أن الباقي للآخر قال الله سبحانه وتعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] معناه وللأب ما بقي فكأنه قال صاحب البذر على أن لي ثلثي(23/39)
ص -21- ... الخارج ولك الثلث وإذا قال له اعمل ببذري في أرضي بنفسك وبقرك وأجرائك فما خرج فهو كله لي جاز والعامل معين لأن صاحب الأرض والبذر استعان به في العمل حين لم يشترط له بمقابلته شيئا ولأن الذي من جانب العامل منفعة والمنفعة لا تتقوم إلا بالتسمية في العقد فإذا لم يسم لم تتقوم منافعه وإن قال على أن الخارج كله لك فهو جائز أيضا وصاحب الأرض معير لأرضه مقرض لبذره لأنه شرط للعامل جميع الخارج ولا يستحق جميع الخارج إلا بعد أن يكون البذر ملكا له.
ولتمليك البذر منه هنا طريقان أحدهما الهبة والثاني القرض فيثبت الأدنى وهو القرض لأنه متيقن به ثم البذر عين متقوم بنفسه فلا يسقط تقومه عنه إلا بالتنصيص على الهبة ومنفعة الأرض غير متقومة بنفسها فلا تتقوم إلا بتسمية البدل بمقابلتها ولم يوجد فلهذا كان معير الأرض مقرضا للبذر بمنزلة ما لو دفع إليه حانوتا وألف درهم وقال اعمل بها في حانوتي على أن الربح كله لك فإنه يكون مقرضا للألف معيرا للحانوت ولو قال ازرع في أرضي كرا من طعامك على أن الخارج كله لي لم يجز هذا العقد لأنه دفع الأرض مزارعة بجميع الخارج وحكى عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه قال يجوز هذا لأنه لما شرط جميع الخارج لنفسه ولا يكون ذلك إلا بملك البذر فكأنه استقرض منه البذر وأمره بأن يزرعه في أرضه فيصير قابضا له باتصاله بملكه وقد بينا نظير هذا في كتاب الصرف ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن الأصل أن يكون الإنسان في إلقاء بذره في الأرض عاملا لنفسه وقوله على أن الخارج لي محتمل بجواز أن يكون المراد الخارج لي عوضا عن منفعة الأرض ويجوز أن يكون المراد الخارج لي بحكم استقراض البذر والمحتمل لا يترك الأصل به ولا يثبت تمليك البذر منه بالمحتمل فكان الخارج كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض لأن صاحب الأرض ابتغى عن منفعة أرضه عوضا ولم ينل فله أجر مثله أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج.(23/40)
ولو قال ازرع لي في أرضي كرا من طعامك على أن الخارج لي أو على أن الخارج نصفين جاز على ما قال والبذر قرض على صاحب الأرض أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن قوله ازرع لي تنصيص على استقراض البذر منه فإنه لا يكون عاملا له إلا بعد استقراضه البذر منه فكان عليه بذرا مثل ما استقرض أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأنه صار قابضا له باتصاله بملكه ثم إن كان قال إن الخارج بيننا نصفان فهي مزارعة صحيحة وإن قال على أن الخارج لي فهو استعانة في العمل وكان محمد بن مقاتل رحمه الله يقول ينبغي أن يفسد العقد هنا لأنه مزارعة شرط فيها القرض إذا قال على أن الخارج بيننا نصفان والمزارعة كالإجارة تبطل بالشرط الفاسد ولكن في ظاهر الرواية قال الاستقراض مقدم على المزارعة فهذا قرض شرط فيه المزارعة والقرض لا يبطل بالشروط الفاسدة كالهبة.
وفي الأصل استشهد فقال أرأيت لو قال أقرضني مائة درهم فاشتر لي بها كرا من(23/41)
ص -22- ... الطعام ثم ابذره في أرضي على أن الخارج بيننا نصفان ألم يكن هذا جائزا فكذلك ما سبق إلا أن هذا مكروه لأنه في معنى قرض جر منفعة ولو دفع بذرا إلى صاحب الأرض على أن يزرعه في أرضه على أن الخارج بينهما نصفان فهو فاسد وهذه مسألة دفع البذر مزارعة وقد بينا قول أبي يوسف رحمه الله وحكم هذه المسألة على ظاهر الرواية نفى الإشكال في أنه أوجب لصاحب الأرض أجرا مثل أرضه ولم يسلم الأرض إلى صاحب البذر فكيف يستوجب عليه أجر مثله ولكنا نقول صارت منفعته ومنفعة الأرض حكما كلها مسلمة إلى صاحب البذر لسلامة الخارج له حكما.
وكذلك إن لم تخرج الأرض شيئا لأن عمل العامل بأمره في إلقاء البذر كعمله بنفسه فيستوجب عليه أجر المثل في الوجهين جميعا وإن قالا على أن الخارج لصاحب البذر فهو جائز وصاحب البذر معين له في العمل معير لأرضه لأنه ما شرط بآراء منافعه ومنافع أرضه عوضا فيكون متبرعا بذلك كله وإن قال ازرعه لي في أرضك على أن الخارج لك لم يجز لأنه نص على استئجار الأرض والعامل بجميع الخارج حين قال ازرعه لي في أرضك والخارج كله لصاحب البذر وعليه للعامل أجر مثل أرضه وعمله وإن قال ازرعه في أرضك لنفسك على أن الخارج لي لم يجز لأن قوله ازرعه لنفسك تنصيص على إقراض البذر منه ثم شرط جميع الخارج لنفسه عوضا عما أقرضه وهذا شرط فاسد لأن القرض مضمون بالمثل شرعا ولكن لقرض لا يبطل بالشرط الفاسد والخارج كله لرب الأرض وعليه مثل ذلك البذر لصاحبه.(23/42)
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرع ببذره وبقره ويعمل فيها معه هذا الأجنبي لم يجز ذلك فيما بينهما وبين الأجنبي وهو فيما بينهما جائز وثلث الخارج لصاحب الأرض وثلثاه لصاحب البذر لأن صاحب البذر استأجر بثلث الخارج وذلك فاسد كما لو كانت الأرض مملوكة له وهذا فيما بينهما في معنى اشتراط عمل رب الأرض مع العامل ولكنهما عقدان مختلفان أحد العقدين على منفعة الأرض والآخر على منفعة العامل فالمفسد في أحدهما لا يفسد الآخر فلهذا كان لصاحب الأرض ثلث الخارج والباقي كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الرجل الذي عمل معه وقد أجاب بعد هذا في نظير هذه المسألة فقال يفسد العقد كله وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فإنه قال هناك على أن يعمل معه الرجل الآخر فبهذا اللفظ يصير العقد الفاسد مشروطا في العقد الذي جرى بين صاحب الأرض وبين صاحب البذر فيفسد كله وهنا قال ويعمل معه الرجل الآخر والواو للعطف لا للشرط فقد جعل العقد الفاسد معطوفا على العقد الصحيح لا مشروطا فيه فلهذا لم يفسد العقد بين صاحب الأرض وصاحب البذر ولو كان البذر من قبل رب الأرض كانت المزارعة جائزة والخارج أثلاثا كما اشترطوا لأن صاحب الأرض والبذر استأجر عاملين وشرط لكل واحد منهما ثلث الخارج وذلك صحيح والله أعلم بالصواب.(23/43)
ص -23- ... باب ما للمزارع أن يمنع منه بعد العقد
قال رحمه الله وإذا دفع إلى رجل أرضا مزارعة بالنصف يزرعها هذه السنة ببذره وبقره ولما تراضيا على ذلك قال الذي أخذ الأرض مزارعة قد بدا لى في ترك زرع هذه السنة أو قال أريد أن أزرع أرضا أخرى سوى هذه فله ذلك لأن المزارعة على قول من يجيزها إجارة والإجارة تنقض بالعذر وترك العمل الذي استأجر العين لأجله عذر له في فسخ العقد كمن استأجر حانوتا ليتجر فيه ثم بدا له ترك التجارة يكون ذلك عذرا له في الفسخ وكذلك لو استأجر أرضا بدراهم أو بدنانير ليزرعها ثم بدا له ترك الزراعة يكون ذلك عذرا له في الفسخ وهذا لأن الإجارة جوزت لحاجة المستأجر ففي الزام العقد إياه بعد ما بدا له ترك ذلك العمل إضرار به فيؤدي إلى أن يعود إلى موضوعه بالإبطال والضرر عذر في فسخ العقد للازم.
وكذلك أن قال أريد أن أزرع أرضا أخرى لأن البذر من قبله وفي القاء البذر في الأرض اتلاف البذر وقد يحصل الخارج وقد لا يحصل الخارج وفي إلزام العقد صاحب البذر قبل الإلقاء في الأرض إضرار به من حيث أنه يلزم إتلاف ملكه وذلك لا يجوز ثم له في ترك هذه الأرض وزرعه أرضا أخرى غرض صحيح فتلك الأرض مملوكة له أو يمنحه إياها صاحبها أو تكون أكثر ريعا من هذه الأرض فلا يجوز لنا أن نلزمه زراعة هذه الأرض شاء أو أبى وهكذا لو كان استأجرها بدراهم أو دنانير إلا أن هناك لا يفسخ العقد إذا أراد زراعة أرض أخرى لأن في إبقاء العقد بينهما مع اختياره أرضا أخرى للزراعة منفعة لصاحب الأرض وهو أنه استوجب الأجر دينا في ذمته بالتمكن من الإنتفاع وإن لم يزرع.(23/44)
وفي المزارعة لا فائدة في إبقاء العقد مع امتناعه من زراعة هذه الأرض لأن حق صاحب الأرض في الغلة والغلة لا تحصل بدون الزراعة فلهذا قلنا يفسخ العقد بينهما ثم في الإستئجار بالدراهم إذا أراد ترك الزراعة أصلا يكون ذلك عذرا لأنه يتحرز عن اتلاف البذر بإلقائه في الأرض وإذا أراد أن يزرع أرضا أخرى لا يكون ذلك عذرا له وذلك لا يصير مستحقا له بمطلق العقد.
وإذا كان البذر من جهة رب الأرض أجبر العامل على أن يزرعها إن أراد ترك لزارعة سنته تلك أو لم يرد لأن العامل هنا أجير لرب الأرض وعلى الأجير الإيفاء بما التزم بعد صحة العقد وهذا لأنه ليس في إيفاء العقد إلحاق ضرر به سوى ما التزمه بالعقد لأنه التزم بالعقد إقامة العمل وهو قادر على إقامة العمل كما التزمه بالعقد وموجب العقود اللازمة وجوب تسليم المعقود عليه فأما في الفصل الأول ففي إلزام العقد إياه الحاق ضرر به فيما لم يتناوله العقد لأن البذر ليس بمعقود عليه وفي القائه في الأرض اتلافه وإن بدا لرب الأرض والبذر أن يترك الزراعة في تلك الأرض أو في غيرها فله ذلك لأنه في إلزام العقد إياه إتلاف بذره والبذر ليس بمعقود عليه فلا يجوز أن يلزمه إتلافه بالإلقاء في الأرض إنما هو موهوم عسى يحصل وعسى لا يحصل.
وإن كان البذر من العامل لم يكن لصاحب الأرض أن يمنع الزارع من الزراعة لأنه مؤجر(23/45)
ص -24- ... لأرضه ولا يلحقه بإيفاء العقد ضرر فيما لم يتناوله العقد وإنما الضرر عليه في إلزام تسليم الأرض وقد التزم ذلك بمطلق الزراعة إلا أن يكون له عذر والعذر دين لا يقدر على قضائه إلا من ثمن هذه الأرض فإن حبس فيه كان له أن يبيعها لقضاء الدين لأن في إيفاء العقد هنا إلحاق الضرر به فيما لم يتناوله العقد وهو تعينه وقد بينا في كتاب الإجارات أن مثل هذا عذر له في فسخ الإجارة وأنه يفسخ العقد بنفسه في إحدى الروايتين وفي الرواية الأخرى القاضي هو الذي يتولى ذلك ببيعه في الدين على ما فسره في الزيادات.(23/46)
ولو دفع نخلا له معاملة بالنصف ثم بدا للعامل أن يترك العمل أو يسافر فإنه يجبر على العمل أما إذا بدا له ترك العمل فلأن في إيفاء العقد لا يلحقه ضرر لم يلتزمه بالعقد لأنه التزم بالعقد إقامة العمل ولا يلحقه سوى ذلك وأما في السفر فقد ذكر في غير هذا الموضع أن ذلك عذر له لأن بالإمتناع يلحقه ضرر لم يلتزمه بالعقد وفيما ذكر هنا لا يكون عذرا له لأنه يتعلل بالسفر ليمتنع من إقامة العمل الذي التزمه بالعقد وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فهناك وضع المسألة فيما إذا شرط عليه إقامة العمل بيده وبعد السفر لا يتمكن من ذلك ولا يجوز أن يحول بينه وبين سفر يبتلى به في المدة لما في ذلك من الضرر عليه وهنا وضع المسألة فيما إذا لم يشترط عليه العمل بيده فهو متمكن من إقامة العمل بإجرائه وأعوانه وغلمانه بعد السفر بنفسه فلا يكون ذلك عذرا له في الفسخ وكذلك إن بدا لصاحب النخيل أن يمنع العامل منه ويعمل بنفسه أو يدفعه إلى عامل آخر فذلك لا يكون عذرا له في الفسخ بخلاف من البذر من قبله في باب المزارعة لأن هناك هو يحتاج إلى إتلاف بذره بالإلقاء في الأرض وهنا رب النخيل لا يحتاج إلى ذلك فيكون العقد لازما من جانبه بنفسه كما في جانب العامل وإنما العذر من جانبه أن يلحقه دين فادح لا وفاء عنده إلا من ثمن النخل فإذا حبس فيه كان ذلك عذرا له في فسخ المعاملة للبيع في الدين كما بينا في الأرض والله أعلم.
باب الأرض بين رجلين يدفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة(23/47)
قال رحمه الله: وإذا كانت الأرض بين رجلين فدفعها أحدهما إلى صاحبه مزارعة على أن يزرعها هذه السنة ببذره وبقره على أن الخارج بينهما نصفان فالمزارعة فاسدة لأن الدافع كأنه قال لصاحبه ازرع نصيبك من الأرض ببذرك على أن الخارج كله لك وهذه مشهورة صحيحة أو قال وازرع نصيبي ببذرك على أن الخارج كله لي وهذا فاسد لأنه دفع الأرض مزارعة بجميع الخارج وهي مطعونة عيسى رحمه الله وقد بيناها بالأمس.
فإن قيل لماذا لم يجعل كأنه قال ازرع نصيبي ببذرك على أن الخارج بيننا نصفين وازرع نصيبك ببذرك على أن الخارج بيننا نصفين حتى تصح المزارعة في نصيب الدافع من الأرض؟
قلنا لأنه يكون ذلك منه انتهاب المعدوم وطمعا في غير مطمع وهو أن يشترط لنفسه جزأ بما أخرجه نصيب صاحبه من غير أن يكون منه أرض أو بذر أو عمل والعاقل لا يقصد(23/48)
ص -25- ... ذلك بكلامه عادة فلذلك حملناه على الوجه الأول وأفسدنا المزارعة والخارج كله للزارع لأنه نماء بذره وعليه أجر مثل نصف الأرض لصاحبه لأنه استوفى منفعة نصيبه من الأرض بعقد فاسد ويطيب له نصف الخارج لأنه ربى نصف الزرع في أرض نفسه ولا فساد في ذلك النصف ويأخذ من النصف الآخر ما أنفق فيه وغرم ويتصدق بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض الغير بسبب فاسد فيتصدق بالفضل.
ولو كان البذر من الدافع فالعقد فاسد لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي من الأرض ببذري على أن الخارج كله لي وهذه استعانة صحيحة لو اقتصر عليها ولكنه قال وازرع نصيبك من الأرض ببذري على أن الخارج كله لك وهذا أيضا إقراض صحيح للبذر لو اقتصر عليه ولكن الجمع بينهما يظهر الفساد باعتبار أنه جعل بإزاء عمله في نصيب الدافع منفعة إقراض البذر إياه أو تمليك البذر منه هبة في مقدار ما يزرع به نصيب نفسه فلهذا فسد العقد والزرع كله للدافع لأن إقراض شيء من البذر غير منصوص عليه وإنما كنا نثبت التصحيح للعقد بينهما وليس فيه تصحيح العقد فلا يجعل مقرضا شيئا من البذر منه فلهذا كان الخارج كله لصاحب البذر وللعامل عليه أجر مثل عمله وأجر حصته من الأرض لأن منفعة حصته من الأرض ومنفعة عمله سلمت للدافع بعقد فاسد ويطيب له نصف الريع لأنه رباه في أرض نفسه ويأخذ من النصف الآخر نصف البذر وما غرم من أجر مثل نصف الأرض ونصف أجر مثل العامل ويتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بسبب فاسد.(23/49)
ولو كان البذر من العامل على أن ثلثي الخارج له وللدافع الثلث جاز لأن تقدير كلامه كأنه قال ازرع نصيبك ببذرك على أن الخارج كله لك وهي مشهورة صحيحة وازرع نصيبي ببذرك على أن ثلثي الخارج منه لي والثلث لك وهي مزارعة صحيحة ولا يتولد من الجمع بينهما فساد فكان الخارج بينهما على الشرط ولو كان البذر من الدافع كان العقد فاسدا لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي ببذري على أن لك ثلث الخارج وهذا صحيح ولكنه قال وازرع نصيبك ببذرك على أن الخارج كله لك وهذا إقراض للبذر لو اقتصر عليه إلا أنه باعتبار الجمع بينهما يظهر الفساد من حيث أنه جعل له بالعمل في نصيبه من الأرض ثلث الخارج ومنفعة إقراض نصف البذر وكذلك إن كان شرط الثلثين للدافع, لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي ببذرك على أن الخارج كله لي وهذه استعانة صحيحة ولكنه قال وازرع نصيبك ببذري على أن لي ثلث الخارج وهذا دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض فلهذا كان فاسدا ولو كان البذر بينهما نصفين على أن ثلثي الخارج للعامل وثلثه للآخر فهذا فاسد لأن الدافع شرط للعامل ثلث الخارج من نصيبه من البذر وذلك فاسد لأن عمله يلاقي بذرا أو زرعا مشتركا بينهما وأحد الشريكين بعمله فيما هو فيه شريك لا يستوجب الأجر على صاحبه فلهذا فسد العقد والخارج بينهما نصفان طيب لهما لأن البذر بينهما نصفان وكل واحد منهما إنما ربى زرعه في أرضه ولا أجر لواحد منهما على صاحبه لأن العامل إنما عمل فيما هو(23/50)
ص -26- ... فيه شريك وهو لعمله فيما هو فيه شريك لا يستوجب الأجر لأن شريكه في المعمول يمنع تسليم العمل إلى غيره وبدون التسليم لا يجب الأجر فاسدا كان العقد أو جائزا وكذلك لو شرط الثلثين للدافع ومعنى الفساد هنا أبين لأن الدافع شرط لنفسه جزأ مما يحصل في أرض العامل ببذره من غير أن يكون له في ذلك أرض ولا بذر ولا عمل.
ولو اشترطا أن الخارج بينهما نصفان فهذا جائز لأن العامل معين للدافع هنا فإن المشروط لكل واحد منهما بقدر حصته من البذر فكأنه قال ازرع أرضك ببذرك على أن الخارج كله لك وازرع أرضي ببذري على أن الخارج كله لي وهذه استعانة صحيحة فيكون العامل معينا له في نصيبه ولو اشترطا ثلثي البذر على الدافع وثلثه على العامل والريع نصفان فهذا فاسد لأن الدافع يصير كأنه قال ازرع أرضي ببذري على أن الخارج كله لي وازرع أرضك ببذرك وبذري على أن الخارج كله لك وباعتبار الجمع بين هذين العقدين يفسد العقد لأنه جعل له بإزاء عمله في نصيبه منفعة إقراض ثلث البذر وذلك فاسد ولأنه أوجب له جزأ من الخارج من بذره بعمله فيما هو شريك فيه وذلك فاسد وما خرج فثلثاه لصاحب ثلثي البذر وثلثه لصاحب ثلث البذر على قدر بذرهما والأجر للعامل لأنه عمل في شيء هو شريك فيه ولا يتصدق صاحب الثلث بشيء منه لأنه رباه في أرض نفسه وصاحب الثلثين يغرم أجر مثل سدس الأرض للعامل لأنه استوفى منفعة ثلث نصيبه من الأرض بعقد فاسد والشركة في الأرض لا تمنع وجوب الأجر على الشريك كما لو استأجر أحد الشريكين من صاحبه بيتا ليحفظ فيه الطعام المشترك ثم يطيب له نصف الزرع لأنه رباه في أرضه ويبقى سدس الزرع فيستوفي منه ربع بذره وما غرم من أجر مثل سدس الأرض ويتصدق بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره في ذلك الجزء بسبب فاسد.(23/51)
ولو اشترطا أن ثلث البذر على الدافع وثلثيه على العامل والخارج نصفان فهو فاسد لأنه يصير كأنه قال ازرع ببذرك نصيبك على أن الخارج كله لك وازرع نصيبي ببذري وبذرك على أن الخارج كله لي وهذه مطعونة عيسى رحمه الله والعقد فيها فاسد على رواية الكتاب لأن في الجزء المشروط على العامل من البذر استئجار الأرض بجميع ما تخرجه وذلك فاسد فيكون للعامل ثلثا الريع وعليه سدس أجر مثل الأرض لأنه ربى زرعه في ثلث نصيب صاحبه وذلك سدس الأرض بعقد فاسد فيلزمه أجر مثل ذلك ويطيب له نصف الريع ويرفع من السدس الباقي ربع نصيبه من البذر وما غرم من الأجر ويتصدق بالفضل وثلث الريع طيب للدافع لأنه رباه في أرض نفسه.
ولو اشترطا البقر على الدافع والبذر على العامل والخارج نصفان فهذا فاسد لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبك ببذرك وبقري على أن الخارج كله لك وازرع نصيبي ببذري وبذرك على أن الخارج كله لي وهذا فاسد من وجهين أحدهما ما بيننا والثاني أنه جعل له بإزاء عمله في نصيبه منفعة البقر ليعمل به في نصيب نفسه ولو كان البذر كله من العامل والبقر من(23/52)
ص -27- ... الدافع والشرط أن يكون الخارج بينهما نصفين فهو فاسد لأنه جعل بإزاء منفعة عمله في نصيب منفعة البقر له بزراعته نصيب نفسه وذلك مفسد للزراعة ثم الخارج كله لصاحب البذر وللآخر مثل أجر بقره وأجر مثل نصف الأرض يستوفي الزارع نصف الخارج فيطيب له ويأخذ من النصف الآخر نصف البذر ونصف أجر البقر ونصف أجر مثل الأرض ويتصدق بالفضل وكذلك لو اشترطا الثلثين لصاحب البذر لأنه يصير كأنه قال ازرع نصيبي من الأرض ببذرك وبقري على أن لك ثلث الخارج وقد بينا أن البقر إذا كان مشروطا على صاحب الأرض ولا بذر من قبله أن المزارعة تكون فاسدة والله أعلم.
باب اجتماع صاحب الأرض مع الآخر على العمل والبذر مشروط عليهما
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا على أن يزرعها بنفسه وبقره والبذر بينهما نصفان والخارج بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لأن الدافع يصير كأنه قال ازرع نصف الأرض ببذري على أن الخارج كله لي وازرع نصف الأرض ببذرك على أن الخارج كله لك وكل واحد من هذين صحيح لو اقتصرا عليه لأن أحدهما استعان بالعامل والآخر أعاره الأرض ولكن عند الجمع بينهما يظهر المفسد بطريق المقابلة وهو أنه لما جعل للعامل بإزاء عمله في نصف الأرض منفعة نصف الأرض وذلك في المزارعة لا يجوز والخارج بينهما نصفان على قدر بذرهما ولا أجر للعامل لأنه عمل في شيء هو شريك فيه فإنه ألقى في الأرض بذرا مشتركا ثم عمل في زرع مشترك فلا يستوجب الأجر ولصاحب الأرض على العامل نصف أجر مثل الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بحكم عقد فاسد وقد بينا أن الشركة في الخارج لا تمنع وجوب أجر مثل الأرض لأنه يجب أجر مثل النصف الذي هو مشغول بزرع العامل ثم يطيب نصف الخارج لصاحب الأرض لأنه رباه في أرضه وأما العامل فيتصدق بالفضل فيما بينه وبين ربه لأنه رباه في أرض غيره بسبب فاسد.(23/53)
وكذلك لو اشترط للعامل ثلثي الخارج والفساد هنا أبين لأن الدافع شرط للعامل ثلث الخارج من نصيبه ومنفعة نصف الأرض بإزاء عمله وذلك مفسد للعقد وكذلك لو اشترط لصاحب الأرض ثلثي الخارج لأن العامل جعل له بمقابلة منفعة نصف الأرض ثلث الخارج منه وعمله في النصف الآخر من الأرض له وكذلك لو كان البذر ثلثاه من أحدهما بعينه واشترط الريع على قدر البذر فهو فاسد إن كان ثلثا البذر من العامل فلمقابلة منفعة ثلثي الأرض بمقابلة عمله في ثلث الأرض لصاحبه وإن كان ثلث البذر من قبل الدافع فلمقابلة منفعة ثلث الأرض بعمله في ثلثي الأرض لصاحبه وكذلك إن اشترطا أن الريع بينهما نصفان فهذا فاسد والفساد هنا أبين لأنه جعل الدافع للعامل ثلث منفعة الأرض وبعض الخارج من بذره بإزاء عمله في نصيبه أو على عكس ذلك فيكون العقد فاسدا في الوجوه كلها والخارج بينهما على قدر البذر.
وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا له على أن يعمل فيها رب الأرض والمدفوع إليه سنته هذه(23/54)
ص -28- ... ببذر بينهما نصفان على أن الخارج بينهما نصفان فهذا جائز لأنه أعاره نصف الأرض ليزرعه ببذر نفسه وزرع نصف الأرض بنفسه لنفسه وكل واحد منهما صحيح ولا يظهر فساد بالجمع بينهما ولو اشترط لرب الأرض ثلثي الخارج كان هذا فاسدا لأنه دفع إليه نصف الأرض مزارعة بثلث ما يخرج ولكن شرط عمل رب الأرض معه وهذا شرط يعدم التخلية بين المستأجر وبين ما استأجر فيفسد به العقد والخارج بينهما على قدر بذرهما ولا أجر لواحد منهما على صاحبه لأنه عمل فيما هو شريك فيه ولصاحب الأرض على الآخر أجر مثل نصف الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بعقد فاسد ويطيب لصاحب الأرض نصيبه ويتصدق العامل بما زاد على البذر والنفقة والأجر الذي غرمه لأنه رباه في أرض غيره بسبب فاسد.
ولو اشترطا الثلثين للعامل كان فاسدا أيضا لأن الدافع دفع إليه نصف الأرض مزارعة بثلث الخارج وشرط عمل نفسه معه ثم جعل له منفعة نصف الأرض بإزاء عمله مع ما شرط له من ثلث الخارج فهذا كان فاسدا والخارج بينهما نصفان ولا أجر لصاحب الأرض على العامل هنا لأنه ما ابتغى على منافع أرضه عوضا حين لم يشترط لنفسه فضلا بخلاف الأول فإن هناك شرط الفضل لنفسه فعرفنا أنه ابتغى على منافع الأرض عوضا ولم ينل فكان له أجر مثل نصف الأرض على صاحبه ثم يطيب لكل واحد منهما نصيبه من الزرع لأن العامل لما لم يجب عليه الأجر عرفنا أن نصف الأرض كان في يده بطريق العارية ولا فساد في ذلك فيطيب له الخارج.(23/55)
ولو اشترطا العمل عليهما جميعا والخارج بينهما نصفان والبذر من المدفوع إليه خاصة فعملا أو عمل صاحب الأرض وحده جعل له منفعة نصف الأرض بمقابلة عمله في النصف الآخر معه من الأرض وشرط لنفسه مع ذلك منفعة إقراض نصف البذر منه وذلك مفسد للعقد ثم الخارج كله لصاحب البذر ولصاحب الأرض نصف أجر مثل أرضه وأجر مثل نفسه في عمله إن كان عمل لأنه لا شركة في الخارج هنا فصاحب البذر استوفى منفعة أرضه وعمله بعقد فاسد فيجب عليه أجر المثل والله أعلم.
باب اشتراط شيء بعينه من الريع لأحدهما
قال رحمه الله: وإذا اشترطا أن يرفع صاحب البذر بذره من الريع والباقي بينهما نصفان فهو فاسد أياما كان البذر لأن جواز المزارعة على قول من يجوزها لمتابعة الآثار فأما القياس فما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله فمتى كان العقد لا على الوجه الذي ورد به الأثر أخذ فيه بالقياس ثم المزارعة شركة في الخارج وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما مع حصول الخارج في بعضه أو في كله كان مفسدا للعقد وقدر البذر من جملة الريع فإن البذر بالإلقاء في الأرض يتلف فهذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في بعض الريع أو في جميعه إذا كان لا يحصل من الخارج إلا قدر البذر وهذا بخلاف المضاربة لأن رأس المال هنا(23/56)
ص -29- ... ليس من الربح فإن بالتصرف لا يتلف رأس المال فاشتراط دفع رأس المال لا يوجب قطع الشركة بينهما في شيء من الربح ثم اشتراطه دفع البذر هنا في كونه مخالفا لموجب العقد كاشتراط كون رأس المال بينهما في المضاربة.
ولو اشترطا أن الربح ورأس المال كله نصفان فسد العقد فهذا قياسه ولو اشترطا أن يرفع صاحب البذر عشر الخارج لنفسه والباقي بينهما نصفان جاز لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة في شيء من الريع بينهما مع حصول الخارج فإنه ما من قدر يخرج إلا ويبقى بعد رفع العشر منه تسعة أعشاره ثم هذا في المعنى اشتراط خمسة ونصف من عشرة لصاحب البذر وأربعة ونصف للآخر وذلك لا يؤدي إلى قطع الشركة في شيء من الريع وكذلك لو اشترط العشر لمن لا بذر من قبله والباقي بينهما نصفان جاز لما قلنا.
ولو اشترطا رفع الخراج من الريع والباقي بينهما نصفان كان فاسدا لأن الخراج على رب الأرض وهو دراهم مسماة أو حنطة مسماة فاشتراط رفع الخراج بمنزلة اشتراط ذلك القدر من الخارج لرب الأرض وهذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الريع مع حصوله لجواز أن لا يحصل إلا ذلك القدر أو دونه ولو كانت الأرض عشرية فاشترطا رفع العشر إن كانت الأرض تشرب سحا أو نصف العشر إن كانت تشرب بدلو والباقي بينهما نصفان فهذا جائز لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج فإنه ما من مقدار تخرجه الأرض إلا وإذا دفع منه العشر أو نصف العشر يبقى شيء ليكون مشتركا بينهما نصفين فإن حصل الخارج أخذ السلطان حقه من عشر أو نصف والباقي بينهما نصفان لأنهما شرطا كذلك والمؤمنون عند شروطهم وإن لم يأخذ السلطان منهم شيئا أو أخذوا بعض طعامهم سرا من السلطان فإن العشر الذي شرط من ذلك للسلطان يكون لصاحب الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله على قياس من أجاز المزارعة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يكون بينهما نصفين.(23/57)
وأصل المسألة فيما تقدم بيانه في الزكاة أن من أجر أرضه العشرية فالعشر عند أبي حنيفة على رب الأرض وعندهما العشر في الخارج على المستأجر ففي المزارعة رب الأرض مؤجر للأرض أو مستأجر للعامل إن كان البذر من قبله فالعشر عليه عند أبي حنيفة في الوجهين فالمشروط للعبد مشروط لرب الأرض وعندهما العشر في الخارج فإذا لم يأخذ السلطان منهما العشر أو أخذا بعض الطعام سرا من السلطان فالخارج بينهما نصفان وكذلك المشروط للعشر يكون بينهما نصفين وكان ذلك مشروطا لهما ولو كان صاحبه قال للعامل لست أدري ما يأخذ السلطان منا العشر أو نصف العشر فإنما تلك على أن النصف لي مما تخرج الأرض بعد الذي يأخذ السلطان ولك النصف فهذا فاسد في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز بينهما على ما قالا.
ومعنى هذه المسألة أن الأرض قد تكون بحيث تكتفي بماء السماء عند كثرة الأمطار وقد تحتاج إلى أن تسقى بالدلاء عند قلة المطر وفي مثله السلطان يعتبر الأغلب فيما يأخذ من(23/58)
ص -30- ... العشر أو نصف العشر فكأنهما قالا لا ندري كيف يكون حال المطر في هذه السنة وماذا يأخذ السلطان من الخارج فتعاقدا على هذه الصفة ثم عند أبي حنيفة رحمه الله العشر أو نصف العشر يكون على رب الأرض فبهذا الشرط هما شرطا لرب الأرض جزءا مجهولا من الخارج أما العشر أو نصف العشر وذلك مفسد للعقد. وعند أبي يوسف ومحمد العشر أو نصف العشر يكون في الخارج والخارج بينهما نصفان فهذا في معنى اشتراط جميع الخارج بينهما نصفين وذلك غير مفسد للعقد.(23/59)
وإذا دفع إلى رجل أرضا من أرض الخراج يزرعها بنفسه وبذره وبقره فما خرج منها دفع منه حظ السلطان وهو النصف مما تخرج وكان ما بقي بينهما لرب الأرض ثلثه وللعامل الثلثان فهو جائز على ما اشترطا وإنما يعني خراج المقاسمة وللإمام رأي في الخراج بين خراج المقاسمة وبين خراج الوظيفة وخراج المقاسمة جزء من الخارج حتى لا يجب إلا بوجود حقيقة الخارج بخلاف خراج الوظيفة فكان ذلك بمنزلة العشر عند أبي حنيفة وهو على رب الأرض فالمشروط لخراج المقاسمة كأنه مشروط لرب الأرض وهذا الشرط لا يؤدي إلى قطع الشركة وعندهما خراج المقاسمة في الخارج فيكون عليهما على قدر الخارج بينهما فكأنهما شرطا الثلث والثلثين في جميع الخارج فيصح العقد فإن أخذ السلطان من رب الأرض الخراج وترك المقاسمة فالنصف الذي شرطاه للسلطان هو لرب الأرض والباقي بينهما على ما اشترطا ومعنى هذا أن السلطان قد يفتح بلدة ويمن بها على أهلها ثم يتردد رأيه في توظيف خراج المقاسمة عليهم أو خراج الوظيفة فلا يعزم على شيء من ذلك حتى يحصل الخارج أو كان جعل عليهم خراج المقاسمة على أنه إن بدا له أن يجعل عليهم خراج الوظيفة فعل ذلك وقد يشترط ذلك حتى لا يعطلوا الأراضي فيكون هذا من الإمام نظرا لأرباب الخراج فإذا بدا له بعد حصول الخارج أن يأخذ خراج الوظيفة فإنه يأخذ ذلك من رب الأرض ثم النصف المشروط للسلطان يكون لرب الأرض. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يشكل لأن ذلك على رب الأرض وإن كان خراج المقاسمة فالمشروط له مشروط لرب الأرض وعندهما لأن بدل ذلك أخذه السلطان من رب الأرض والغنم مقابل بالغرم فما شرط لخراج المقاسمة يكون لرب الأرض بهذا الطريق.(23/60)
وكذلك لو لم يأخذ السلطان خراجا ولا مقاسمة وترك ذلك أصلا أو أخذا شيئا من الطعام سرا ثم قاسمهم السلطان ما بقي فأخذ نصفه فإن ما أخذاه سرا لصاحب الأرض ثلثه وللمزارع ثلثاه فقد عطف أحد الفصلين على الآخر بقوله وكذلك وجوابهما يختلف فإنه يأخذ إذا لم يأخذ السلطان شيئا فعطف ذلك على المسألة الأولى دليل على أن المشروط لخراج المقاسمة يكون لرب الأرض وفيما إذا أخذا شيئا من الطعام سرا نص على أنه يكون أثلاثا بينهما ففيما ذكره في هذا النوع نوع من التشويش والحاصل أن على قول أبي حنيفة المشروط للخراج يكون مشروطا لرب الأرض ففي الفصلين يكون النصف المشروط لخراج المقاسمة يكون(23/61)
ص -31- ... لرب الأرض والباقي بينهم أثلاثا وعند أبي يوسف ومحمد خراج المقاسمة في الخارج إلا إذا أخذ السلطان الخراج من رب الأرض فحينئذ يكون ذلك له عوضا عما أخذه السلطان منه فإذا لم يأخذ منه شيئا أو أخذا شيئا من الطعام سرا فذلك مقسوم بينهما على أصل المشترط لصاحب الأرض ثلثه وللمزارع ثلثاه وقد ذكر في بعض النسخ في هذا الفصل الأخير أن ما أخذاه سرا يكون لصاحب الأرض ثلثاه وللمزارع ثلثه فعلى هذا يتفق الجواب في الفصول الثلاثة ويتحقق العطف فإن ذلك النصف لرب الأرض والثلث من النصف الباقي له فإذا أخذ ثلثي الخارج فقد وصل إليه جميع هذا ولكن هذا الجواب بناء على قول أبي حنيفة فأما عندهما فالتخريج ما ذكرنا وقيل بل هذا الجواب قولهم جميعا لأن المقاسمة واجبة باسم الخراج كالوظيفة والخراج مؤنة تجب على رب الأرض فالمشروط للخراج بمنزلة المشروط لرب الأرض عندهما جميعا.(23/62)
وكذلك لو كان البذر من صاحب الأرض والذي قلناه أولا من أن المسألة على الخلاف هو الأصح وقد نص عليه في بعض نسخ الأصل ولو قال لا أدري ما يأخذ السلطان في هذه السنة المقاسمة أو الخراج فإنما تلك على أن أرفع مما تخرج الأرض حظ السلطان مقاسمة كان أو خراجا أو يكون ما بقي بيننا لي الثلث ولك الثلثان فرضي المزارع بذلك فهذه مزارعة فاسدة من أيهما كان البذر لأن هذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصول الخارج عشرا بأن يأخذ السلطان خراج الوظيفة ويكون الخارج بقدر ذلك أو دونه ثم الريع كله لصاحب البذر كما هو الحكم في المزارعة الفاسدة والخراج والمقاسمة أيهما كان على صاحب الأرض لما بينا أن الخراج مؤنة للأرض فيكون على صاحب الأرض ثم إن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل ولو عمل بنفسه كان الخراج عليه فكذلك إذا استأجر العامل فيه وإن كان البذر من قبل العامل فرب الأرض مؤجر للأرض ومنفعة الأرض تحصل له بهذه الإجارة كما يحصل إذا استوفاها بنفسه فيكون الخراج عليه والله أعلم.
باب ما يفسد المزارعة من الشروط وما لا يفسدها(23/63)
قال رحمه الله: وإذا اشترط رب الأرض على العامل الحصاد فالمزارعة فاسدة من أيهما كان البذر والأصل أن العمل الذي به يحصل الخارج أو يتربى في المزارعة الصحيحة يكون على العامل وذلك بمنزلة الحفظ والسقي إلى أن يدرك الزرع لأن المزارعة على قول من يجيزها شركة في الخارج ورأس مال العامل فيها عمل مؤثر في تحصيل الخارج كما في المضاربة وما يكون من العمل بعد الإدراك التام إلى أن يقسم كالحصاد والدياس والتذرية يكون عليهما لأن الخارج ملكهما فالمؤنة فيه عليهما بقدر الملك وما يكون من العمل بعد القسمة كالحمل إلى البيت والطحن يكون على كل واحد منهما في نصيبه خاصة لأن بالمقاسمة تميز ملك أحدهما عن ملك الآخر فيكون التدبير في ملك كل واحد منهما إليه فإذا شرطا الحصاد على العامل فهذا لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين فيفسد به(23/64)
ص -32- ... العقد كما لو شرط رب الأرض الحمل والطحن عليه في نصيب نفسه ولأن المزارعة تنتهي باستحصاد الزرع.
الا ترى أن الزرع بعد ما استحصد لو دفعه معاملة إلى رجل ليقيم فيه هذه الأعمال بالثلث لم يجز بخلاف ما إذا كان الزرع بقلا فدفعه معاملة إلى من يحفظه ويسقيه بالثلث فإذا شرط الحصاد على العامل فهذا عمل شرط عليه بعد انتهاء العقد واستحقاق العمل عليه بالعقد وكل شرط يوجب عليه عملا بعد انتهاء العقد فهو فاسد يفسد به العقد.
وروى بشر وبن سماعة عن أبي يوسف أن العقد لا يفسد بهذا الشرط ولكن إن لم يشترطا فهو عليهما وإن شرطا فهو على المزارع لأن العرف الظاهر أن المزارع يباشر هذه الأعمال فهذا شرط يوافق المتعارف فلا يفسد به العقد ولكن بمطلق العقد لا يستحق عليه إلا ما يقتضيه العقد فإن شرط ذلك عليه صار مستحقا بالعرف كما لو اشترى حطبا في المصر بشرط أن يوفيه في منزله وفي المعاملة قال هذا الشرط يفسد المعاملة لأنه ليس فيه عرف ظاهر وكان نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة رحمهما الله يقولان هذا كله على العامل شرط عليه أو لم يشرط لأن فيه عرفا ظاهرا يتناوله والمعروف كالمشروط فقد جوزنا بعض العقود للعرف وإن كان القياس يأباه كالاستبضاع فهذا مثله وهذا هو الصحيح في ديارنا أيضا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله إذا استفتى في هذه المسألة قال فيها عرف ظاهر ومن أراد أن لا يتعطل فعليه أن لا يمتنع مما هو العرف وكذلك لو اشترطا شيئا من ذلك على صاحب الأرض كان العقد فاسدا لما بينا وفي جانب رب الأرض فساد العقد بهذا الشرط على الأقاويل كلها لأنه ليس فيه عرف ظاهر.(23/65)
الا ترى أن رجلا لو جاء إلى رجل قد صار زرعه بقلا فعامله على أن يقوم عليه ويسقيه حتى يستحصد فما خرج فهو بينهما نصفان كان جائزا ولو عامله بعد ما استحصد على أن يحصده ويدوسه ويذريه وينقيه ويحمله إلى منزله أو إلى موضع كذا كان العقد فاسدا وهذا لأن المزارعة على قول من يجيزها إنما تكون باعتبار الأثر والأثر إنما جاء في مزارعة يكون للعمل فيها تأثير في تحصيل الخارج وذلك لا يوجد في الفصل الثاني وفي الفصل الأول يوجد ذلك لأن الزرع يزداد بعمل العامل بمنزلة الثمار تخرج بعمل العامل فلهذا صح العقد هناك ولم يصح هنا.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه على أن ما رزق الله تعالى من شيء فهو بيننا نصفان فصار قصيلا فأرادا أن يقصلاه ويبيعاه فحصاد القصيل وبيعه عليهما لأنهما أنهيا العقد بما عزما عليه والقصل في القصيل كالحصاد بعد الاستحصاد لأنه عمل في ملك مشترك وليس له تأثير في زيادة الخارج فكما أن الحصاد بعد الإدراك عليهما فكذلك حصاد القصيل عليهما ويستوي إن كان البذر من قبل رب الأرض أو المزارع ولو استحصد الزرع فمنعهم السلطان من حصاده أما ظلما أو لمصلحة رأى في ذلك أو استوفى منهم الخراج(23/66)
ص -33- ... فالحفظ عليهما لأن الحفظ بعد الاستحصاد بمنزلة الحصاد فإن عقد المزارعة ينتهي بالحصاد.
ولو دفع إلى رجل نخلا له معاملة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه على أن الخارج بينهما نصفان فهو جائز وعلى العامل حفظه بالليل والنهار حتى يصير تمرا لأن عقد المعاملة قائم بينهما ما لم يصر تمرا والحفظ من الأعمال التي تستحق على العامل بعقد المعاملة فإذا صار تمرا فقد انتهى العقد وبقي التمر مشتركا بينهما فكان الحفظ بعد ذلك والجداد عليهما بقدر ملكيهما فإن اشترط صاحب النخل على العامل في أصل المعاملة بعد ما يصير تمرا كانت المعاملة فاسدة لأنه شرط لنفسه منفعة عليه بعد انتهاء العقد ولو أراد في المعاملة الصحيحة أن يجداه بسرا فيبيعانه أو يلقطانه رطبا فيبيعانه فإن اللقاط والجذاذ عليها نصفين لما بينا أنهما أنهيا العقد بما عزما عليه فإن الجذاذ قبل الإدراك بمنزلته بعد الإدراك ولكن الحفظ على العامل ما دام في رؤوس النخيل حتى يصير تمرا لأن عقد المعاملة بينهما باق فإنه إنما ينتهي ضمنا للجذاذ واللقاط فلا يكون منتهيا قبله وحال قيام العقد الحفظ مستحق على العامل والله أعلم.
باب الشرط فيما تخرج الأرض وفي الكراب وغيره(23/67)
قال رحمه الله: إذا دفع الرجل أرضا له مزارعة بالنصف سنته هذه على أن البذر من قبل العامل فقال صاحب الأرض أكريها ثم ازرعها فقال العامل أزرعها بغير كراب فإنه ينظر في ذلك فإن كانت تزرع بغير كراب ويحصل الريع إلا أن بالكراب أجود فإن شاء العامل كرب وإن شاء لم يكرب وإن كانت لا تخرج زرعا بغير كراب لم يكن له أن يزرع إلا بكراب لأن المقصود بالمزارعة تحصيل الخارج فإن العمل الذي لا بد منه لتحصيل الخارج يصير مستحقا عليه بمطلق العقد وما يحصل الخارج بدونه لا يصير مستحقا عليه إلا بالشرط لأن بمطلق العقد يستحق المعقود عليه بصفة السلامة ولا يستحق صفة الجودة إلا بالشرط فإذا كانت تلك الأرض بحيث لا يحصل ريعها إلا بكراب فهذا عمل لا بد منه فيصير مستحقا على العامل بمطلق العقد إلا إن شاء أن يدع الزرع لأن البذر من قبله فلا يكون العقد لازما في حقه قبل إلقاء البذر في الأرض.
وإن كان الريع يحصل بغير كراب ومع الكراب يكون أجود ولكن صفة الجودة لا تستحق بمطلق العقد وبدون الكراب صفة السلامة تحصل في الريع فيتخير العامل لذلك وإن كانت تخرج بعد الكراب شيئا قليلا نظرت فيه فإن كان مما يقصد الناس ذلك بالزراعة تخير المزارع في الكراب وإن كان ذلك شيئا لا يقصده الناس بالعمل يجبر على الكراب لأن مطلق العقد يتقيد بالمتعارف ولأن ما لا يقصد تحصيله بالزراعة عادة يكون معينا وقضية عقد المعاوضة صفة السلامة عن العيب فيصير الكراب مستحقا على العامل لتحصيل صفة السلامة لصاحب الأرض في نصيبه من الخارج.(23/68)
ص -34- ... وإذا كان يخرج بغير كراب ما يقصد بالزراعة فأدنى السلامة يحصل بغير كراب والأعلى لا يصير مستحقا إلا بالشرط وكذلك إن زرع ثم قال لا أسقي ولكن أدعها حتى تسقيها السماء فإن كانت تكتفي بماء السماء إلا أن السقي أجود للزرع لم يجبر على السقي وإن كانت مما لا يكفيه سقي السماء أجبر على السقي وكذلك لو كان البذر من قبل صاحب الأرض في جميع ذلك للمعنى الذي قلنا ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يكربها ويزرعها سنته هذه بالنصف فأراد أن يزرعها بغير كراب فليس له ذلك ويجبر على الكراب سواء كان البذر من قبل المزارع أو من قبل رب الأرض لأن أصل الريع وإن كان يحصل بغير كراب فمع الكراب أجود وصفة الجودة تصير مستحقة بالشرط كصفة الجودة في المسلم فيه وصفة الكتابة والحبر في العبد تصير مستحقة بالشرط وإن كان لا يستحق بمطلق العقد وكذلك لو شرط في المسلم فيه أن يوفيه في مصر كذا فله أن يوفيه في أي ناحية من نواحي المصر شاء وإن شرط عليه أن يوفيه في منزله في المصر فليس له أن يوفيه في موضع آخر إلا أن يكون الريع يحصل بالكراب وغير الكراب على صفة واحدة فحينئذ لا يعتبر هذا الشرط لأنه غير مفيد.(23/69)
وكذلك إن كان الكراب بحيث يضر بالزرع وقد يكون ذلك عند قوة الأرض فإن الكراب يحرق الأرض والزرع وإذا كان بهذه الصفة فليس على المزارع أن يكربها لأن اعتبار الشرط للمنفعة لا للضرر واشتراط التثنية على المزارع في المزارعة يفسد العقد قال لأنه يبقى منفعتها في الأرض بعد مضي السنة بخلاف الكراب فإنه لا تبقى منفعته في الأرض بعد مضي السنة فاشتراطه لا يفسد المزارعة وتكلموا في تفسير التثنية فقيل المراد أن يكربها مرتين ثم يزرع فعلى هذا اشتراط التثنية في ديارنا لا يفسد المزارعة لأنه لا تبقى منفعتها بعد مضي السنة وفي الديار التي تبقى منفعتها في الأرض بعد سنة إن كانت المزارعة بينهما سنة واحدة يفسد بهذا العقد لأنه لا تبقى منفعتها في الأرض بعد المدة وقيل معنى التثنية أن يكربها بعد ما يحصد الزرع فيردها مكروبة وهذا الشرط مفسد للعقد لأن المزارعة تنتهي بإدراك الزرع فقد شرط عليه عملا بعد انتهاء العقد وفيه منفعة لرب الأرض وقيل معنى التثنية أن يجعلها جداول كما يفعل بالمبطخة فيزرع ناحية منها ويبقي ما بين الجداول مكروبا فينتفع رب الأرض بذلك بعد انتهاء المزارعة وهذا مفسد للعقد والحاصل أنه متى شرط على العامل ما تبقى منفعته لرب الأرض بعد مضي المدة فالمزارعة تفسد به كما لو شرط عليه أن يكرب أنهارها والمزارعة بينهما سنة واحدة فإن كرب الأنهار تبقي منفعتها بعد انقضاء السنة وكذلك لو شرط عليه إصلاح مشاربها أو بناء حائط فيها أو أن يسرجنها فهذا كله مما تبقى منفعته في الأرض بعد مضي مدة المزارعة فتكون مفسدة للمزارعة.
ولو دفع إليه الأرض والبذر على أن يعمل سنته هذه على أنه إن زرع بغير كراب فللمزارع ربع الخارج وإن كربها ثم زرعها فللمزارع ثلث الخارج وإن كرب وثنى ثم زرع فالخارج بينهما نصفان فهذه مزارعة جائزة على ما اشترطا لأنه ذكر أنواعا من العمل وأوجب له(23/70)
ص -35- ... بمقابلة كل نوع شيئا معلوما من الخارج فيصح العقد كما لو دفع ثوبا إلى خياط فقال إن خطته رومية فلك درهم وإن خطته فارسية فلك نصف درهم وهذا لأن أوان لزوم العقد من الجانبين وانعقاد الشركة بينهما في الخارج عند إلقاء البذر في الأرض والكراب والتثنية كل ذلك يسبق إلقاء البذر فعند لزوم العقد نوع العمل معلوم وبدله معلوم فيجوز العقد كما في مسألة الخياطة فإن وجوب الأجر عند إقامة العمل وذلك عند العمل معلوم والبدل معلوم وقال عيسى رحمه الله هذا الجواب غلط لأنه ذكر قبل هذا أن اشتراط التثنية على المزارع يفسد العقد وهنا قد شرط عليه التثنية وضم إليه نوعين آخرين من العمل فتمكنت الجهالة هنا في العمل ومقدار البدل عند العقد مع اشتراط التثنية فلأن يكون مفسدا للعقد كان أولى وإن كان لا يفسد العقد إذا كربها أو زرعها بغير كراب فينبغي أن يفسد العقد إذا ثنى لأنه تعين ذلك بعمله فكأنه شرط ذلك في الابتداء بعينه ولكن ما ذكره في الكتاب أصح, أما إذا جعلنا تفسير التثنية أن يردها مكروبة فلا حاجة إلى الفرق بين هذا وبين ما سبق وإن جعلنا تفسير التثنية أن يكربها مرتين فهناك تعين عليه التثنية بالشرط وهي مما تبقى منفعتها بعد مضي المدة فلا يجوز أن يجبر المزارع على إقامتها وهنا لا يتعين عليه التثنية بل يتخير هو في ذلك إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وهذا غير مفسد للعقد كما إذا أطلق العقد يصح ويتخير المزارع بين أن يثني الكراب وبين أن يكربها ويدع التثنية فإن زرع بعضها بكراب وبعضها بغير كراب وبعضها بكراب وثنيان فهو جائز وما زرعها بغير كراب فللخارج بينهما يكون أرباعا وما زرعها بكراب فهو بينهما أثلاثا وما زرع بكراب وثنيان فهو بينهما نصفان اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأنه لا يتعين على صاحب الأرض والبذر شرط عقده بهذا التبعيض وهو متعارف بين الناس أن يزرع بعض الأرض بكراب وثنيان وبعضها بكراب وبعضها بغير كراب وهذا بخلاف مسألة(23/71)
الخياطة فإن هناك ليس له أن يخيط بعض الثوب رومية وبعضه فارسية لأن ذلك يفوت المقصود على صاحب الثوب وهذا غير متعارف في الثوب الواحد أن يخاط بعضه رومية وبعضه فارسية بل يعد ذلك عيبا في الثوب.
وكذلك لو كان البذر من قبل المزارع في جميع ذلك وكذلك لو كان الشرط أن ما زرع بكراب وثنيان فهو بينهما نصفان فهذا والأول سواء وقد طعنوا في هذه المسألة فقالوا ينبغي أن لا يصح العقد هنا لأن كلمة من للتبعيض فقد شرط عليه أن يزرع البعض بكراب والبعض بثنيان والبعض بغير كراب وذلك البعض مجهول وهذه الجهالة تفضي إلى تمكن المنازعة لأن العقد لازم من جانب العامل أو من جانب رب الأرض إذا كان البذر من قبل العامل فينبغي أن يفسد العقد واستدلوا على هذا بما ذكره في آخر الباب من التخيير بين أجناس البذر بهذا اللفظ وأفسدوا العقد به لهذا المعنى إلا أنا نقول حرف من قد يكون للصلة خصوصا في موضع يكون الكلام بدونه مختلا قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 22] وإذا كان حرف من صلة كان له أن يزرع الكل بأي نوع من الأعمال الثلاثة شاء فهذه(23/72)
ص -36- ... المسألة والأولى سواء والفرق بين هذا وبين التخيير في جنس البذر بهذا اللفظ نذكره في آخر الباب.
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرعها ببذره سنته هذه على أن يزرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فلصاحب الأرض ثلثه وإن زرعها سمسما فلصاحب الأرض ربعه فهذا جائز على ما اشترطا لما بينا أن أوان لزوم العقد وانعقاد الشركة عند إلقاء البذر في الأرض وعند ذلك المعقود عليه معلوم والبذر معلوم والجهالة قبل ذلك لا تفضي إلى المنازعة وإن زرعها بعضها حنطة وبعضها شعيرا وبعضها سمسما فذلك جائز في كل نوع على ما اشترطا اعتبارا للبعض بالكل لأنه لما رضي رب الأرض بأن يزرع كلها على صفة يكون راضيا بأن يزرع بعضها على تلك الصفة وبذلك البذر كما في المسألة الأولى وكذلك لو دفع إليه أرضا ثلاثين سنة على أن ما زرع فيها من حنطة أو شعيرا أو شيء من غلة الصيف أو الشتاء فهو بينهما نصفان وما غرس فيها من نخل أو شجر أو كرم فهو بينهما أثلاثا فلصاحب الأرض الثلث وللعامل الثلثان فهو بينهما على ما اشترطا سواء زرع الكل على أحد النوعين أو زرع بعضها وجعل في بعضها كرما قال ولا يشبه البيوع في هذا الإجارات والإجارات في مثل هذا تجوز.(23/73)
وذكر حماد عن إبراهيم رحمه الله قال سألته عن الأجير أقول له إن عملت في كذا كذا فبكذا وإن عملت كذا فبكذا فقال لا بأس به إنما يكره ذلك في البيوع قيل معنى هذا الفرق أن في البيوع إذا اشترى أحد شيئين وسمى لكل واحد منهما ثمنا ولم يشترط الخيار ثلاثة أيام لواحد منهما كان العقد فاسدا وفي الإجارات يكون العقد صحيحا بدون شرط الخيار كما في مسألة الخياطة والمزارعة لأن الثمن في البيع يجب بنفس العقد والعقد يلزم بنفسه فإذا لم يشترط الخيار فيه كان المعقود عليه مجهولا والثمن مجهولا عند لزوم العقد وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وفي باب المزارعة العقد لا يلزم من جانب من البذر من قبله قبل إلقاء البذر في الأرض وفي الإجارة العقد وإن كان يلزم بنفسه ولكن البدل لا يجب إلا بالعمل وعند ذلك العمل والبدل معلوم وجهالة صفة العمل قبل ذلك لا تفضي إلا المنازعة وقيل بل مراده من هذا الفرق أن في البيع إذا قال إلى شهر بكذا أو إلى شهرين بكذا فهذا يكون مفسدا للعقد لجهالة مقدار الثمن عند وجوبه بالعقد وفي الإجارة وجوب البدل عند إقامة العمل وكذلك في المزارعة انعقاد الشركة عند إلقاء البذر في الأرض وعند ذلك هو معلوم وفي بعض النسخ قال ولا يشبه هذا البيوع والإجارات فهو إشارة إلى الفرق بين المزارعة والبيع والإجارة إذ في المزارعة له أن يزرع بعضها حنطة وبعضها شعيرا وفي الإجارة في مسألة الخياطة ليس له مثل ذلك وكذلك في البيع إذا اشترى أحد الثوبين على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء وسمى لكل واحد منهما ثمنا ليس له أن يلتزم العقد في نصف كل واحد منهما لما في التبعيض في البيع والإجارة من الضرر على البائع وعلى صاحب الثوب,(23/74)
ص -37- ... وذلك لا يوجد في المزارعة لأنه ليس في زرعه البعض حنطة والبعض شعيرا معنى الإضرار بصاحب الأرض.
ثم فرق أبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله بين الإجارة والمزارعة فيما إذا استأجر بيتا على أنه إن قعد فيه طحانا فله عشرة دراهم وإن قعد يبيع الطعام فيه فأجره خمسة دراهم فالعقد فاسد في قولهما وهو قول أبي حنيفة الأول رحمه الله وقد بينا المسألة في الإجارات والفرق لهما بين هذه المسألة وبين مسألة المزارعة أن هناك يجب الأجر بالتخلية وإن لم يسكنها المستأجر وعند التخلية مقدار ما يجب عليه من الأجر مجهول وأما في المزارعة فالشركة لا تنعقد إلا بإلقاء البذر في الأرض وعند ذلك حصة كل واحد منهما معلومة فيكون هذا قياس مسألة الخياطة الرومية والفارسية على ما بينا.
ولو دفع إليه أرضا مزارعة على أن يزرعها ببذره وبقره وعمله على أن يزرع بعضها حنطة وبعضها شعيرا وبعضها سمسما فما زرع منها حنطة بينهما نصفان وما زرع منها شعيرا فلرب الأرض ثلثه وما زرع منها سمسما فلرب الأرض منه ثلثاه وللعامل ثلثه فهذا فاسد كله لأنه نص على التبعيض هنا وذلك البعض مجهول في الحال وكذلك عند إلقاء البذر في الأرض لأنه إذا زرع بعضها حنطة فلا يعلم ماذا يزرع في ناحية أخرى منها فكان العقد فاسدا لهذا وعند فساد العقد الخارج كله لصاحب البذر وقد بينا حكم المزارعة الفاسدة وهذا بخلاف الأول فإن هناك حرف من صلة فله أن يزرع الكل شعيرا إن شاء وحنطة إن شاء وهنا نص على التبعيض فليس له أن يزرعها كلها أحد الأصناف وكذلك لو قال خذها على أن ما زرعت منها حنطة فالخارج بيننا نصفان وما زرعت منها شعيرا فلي ثلثه ولك ثلثاه، وما زرعت منها سمسما فلي ثلثاه ولك ثلثه فالعقد فاسد وهذه المسألة هي التي استشهد بها الطاعن.(23/75)
قال علي القمي رحمه الله وجدت في بعض النسخ العتيقة في هذه المسألة زيادة أنه قال على أن يزرع كل ذلك فيها فعلى هذا لا حاجة إلى الفرق بينه وتبين من هذه الزيادة أن مراده من حرف من التبعيض فهو وما لو نص على التبعيض سواء وأما على ما ذكره في ظاهر الرواية فوجه الفرق بين هذا وبين ما سبق أن الجهالة هنا تتمكن في سلب العقد لأن الجهالة في البذر فلا بد من بيان جنس البذر في عقد المزارعة وكذلك الأجر لا يصير معلوما إلا ببيان جنس البذر فكانت الجهالة متمكنة في صلب العقد فيفسد به العقد فأما في مسألة الكراب والثنيان فالجهالة لم تتمكن في صلب العقد فالعقد بينهما صحيح بدون ذلك فلهذا لم تكن الجهالة المتمكنة بذكر حرف التبعيض مفسدة للعقد هناك يوضح الفرق أن الكراب والثنيان كل ذلك يسبق إلقاء البذر في الأرض وانعقاد الشركة عند إلقاء البذر وعند ذلك البعض الذي ثنى والبعض الذي كرب معلوم فيجوز العقد وأما هنا عند إلقاء أحد الأصناف من البذر في ناحية من الأرض العقد في الناحية الأخرى مجهول في حق جنس البذر وجنس البدل فلهذا فسد العقد بهذا الشرط.(23/76)
ص -38- ... ولو دفع الأرض إليه ليزرعها ببذره على أنه إن زرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فالخارج للعامل فهذا جائز لأنه خيره بين المزارعة والإعارة فاشتراط الخارج كله للعامل يكون إعارة للأرض منه وذلك صحيح واشتراط المناصفة بينهما في الخارج من الحنطة يكون مزارعة صحيحة ولا يتولد من ضم أحدهما إلى الآخر سبب مفسد وإن سمى الخارج من الشعير لنفسه جاز في الحنطة ولم يجز في الشعير وهي مطعونة عيسى رحمه الله على ما بينا.
وإذا دفع الأرض إلى صاحب البذر على أن الخارج كله لصاحب الأرض إلا أنه ما جعل أحد العقدين مشروطا في الآخر ولكنه عطف أحدهما على الآخر ففساد أحدهما لا يمنع صحة الآخر فإن زرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فالخارج لصاحب البذر كما هو الحكم في المزارعة الفاسدة ولو دفع إليه أرضا وكر حنطة وكر شعير على أنه إن زرع الحنطة فيها فالخارج بينهما نصفان والشعير مردود عليه وإن زرعها الشعير فالخارج لصاحب الأرض ويرد الحنطة كلها فهو كله جائز على ما اشترطا لأنه استعان بالعامل في أحد العقدين واستأجره بنصف الخارج في الآخر وخيره بينهما وكل واحد منهما صحيح عند الانفراد ولو اشترط الخارج من الشعير للعامل جاز أيضا لأن اشتراط جميع الخارج له يكون إقراضا منه وقد بينا هذا أنه بانفراده صحيح فكذلك عند التخيير بينه وبين المزارعة.(23/77)
ولو دفع إليه الأرض وحدها على أنه إن زرعها حنطة فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها شعيرا فالخارج كله للعامل وإن زرعها سمسما فالخارج كله لصاحب الأرض فلهذا جاز في الحنطة والشعير على ما قالا لأن العقد في الحنطة مزارعة صحيحة بينهما في النصف وفي الشعير إعارة للأرض من العامل وهو صحيح أيضا وأما في السمسم فلا يجوز لأن في السمسم يكون دفعا للأرض مزارعة بجميع الخارج وهي مطعونة عيسى رحمه الله لما بينا ولو كان البذر من صاحب الأرض جاز في جميع ذلك على ما قالاه لأنه في الحنطة العقد مزارعة صحيحة وفي السمسم استعانة بالعامل وفي الشعير إقراض للبذر منه وإعارة للأرض وكل واحد صحيح عند الإنفراد فكذلك إذا خيره بين هذه الأنواع لأنه ما جعل البعض مشروطا في البعض إنما عطف البعض على البعض فلا يتولد من هذا العطف معنى يفسد به العقد والله أعلم.
باب العذر في المزارعة والاستحقاق
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضه سنته هذه على أن يزرعها ببذره ونفقته بالنصف فلما تراضيا على ذلك أراد صاحب الأرض أن يأخذ أرضه قبل أن يعمل فيها الذي قبضها شيئا وبعد ما كربها وحفر أنهارها وسوى مساقيها لم يكن له ذلك لأنه مؤاجر لأرضه ولا يحتاج في المضي على هذا العقد إلى إتلاف شيء من ملكه فيلزم العقد بنفسه في حقه كما لو أجرها بدراهم لم يكن له أن يفسخها إلا بعذر الدين فإن حبس في الدين ولا وفاء(23/78)
ص -39- ... عنده إلا من ثمن الأرض فحينئذ يكون هذا عذرا لصاحب الأرض في فسخ المزارعة وبيع الأرض في الدين لأن في المضي على أن هذا العقد يلحقه ضرر في نفسه وإذا كان الضرر الذي يلحقه في ماله يدفع صفة اللزوم فالضرر الذي يلحقه في النفس وهو الحبس في الدين أولى.
الا ترى أن العقد قد تمتنع صحته في الابتداء لدفع الضرر فإن من باع جذعا من سقف لا يمكنه تسليمه إلا بضرر لا يجوز البيع ولو أجر ما يلحقه ضرر في تسليمه لا يلزمه الإجارة فكذلك تنعدم صفة اللزوم بعذر الدين لدفع الضرر فإن باعها بعد الدين لم يكن عليه من نفقة العامل شيء لأنه لم يزد فيها مالا متقوما من عنده والذي أتى به مجرد المنفعة والمنفعة لا تتقوم إلا بالتسمية والعقد والمسمى بمقابلة المنفعة هنا جزء من الخارج فإن لم يحصل الخارج بأن لم يزرع أصلا لا يستوجب شيئا آخر ولأن المزارع عامل لنفسه لأنه استأجر الأرض ليقيم العمل فيها لنفسه والعامل لنفسه لا يستوجب الأجر على غيره وإن لم يأخذها حتى زرعها فنبت الزرع ولم يستحصد حتى حبس القاضي رب الأرض في الدين فأراد أن يأخذها ليبيعها فليس له ذلك لأن المزارعة تأكدت بإلقاء البذر في الأرض والشركة انعقدت بينهما في الخارج وفي البيع إضرار بالعامل في إبطال حقه في الزرع وفي التأخير إلى أن يستحصد الزرع ضرر بالغرماء فإن نصيب رب الأرض من الزرع يباع في دينهم أيضا وما فيه من النظر للكل يترجح على ما فيه إضرار بالبعض ولئن كان في التأخير إضرار بالغرماء فضرر التأخير دون ضرر الإبطال وإذا لم يكن بد من إلحاق الضرر بأحدهما ترجح أهون الضررين وإذا علم القاضي ذلك أخرجه من السجن لأنه إنما يحبسه ليقضي دينه إذا كان متمكنا منه فإذا لم يكن عنده وفاء إلا من ثمن الأرض وهو غير متمكن من بيعها شرعا لم يكن ظالما في تأخير قضاء الدين وإنما يحبس الظالم.(23/79)
الا ترى أن المديون إذا ثبت إفلاسه عند القاضي أخرجه من السجن فهنا أيضا يخرجه حتى يستحصد الزرع ولا يحول بين صاحب الدين وبين ملازمته كما في المفلس لجواز أن يحصل في يده مال فإذا كان ملازما له أخذ ذلك المال بحقه والمال غاد ورائح فإذا استحصد الزرع رد في الحبس حتى يبيع الأرض ونصيبه من الزرع لأن المزارعة قد انتهت وتمكن من قضاء الدين ببيع ملكه فيحبسه لذلك.
ولو كان دفع الأرض مزارعة ثلاث سنين فلما ثبت الزرع لم يستحصد حتى مات رب الأرض فأراد ورثته أخذ أرضهم فليس لهم ذلك استحسانا ولكن الأرض تترك في يد الزارع حتى يستحصد الزرع وفي القياس المزارعة تنتقض بموت رب الأرض لأنها إجارة وإنما يستحق على رب الأرض بعقده ما يحدث على ملكه من المنفعة فالمنفعة بعد الموت إنما تحدث على ملك الورثة ولم يوجد من جهتهم الرضا بذلك وفي الاستحسان العقد يبقى بينهما لدفع الضرر عن المزارع فإن في قلع الزرع من الضرر عليه ما لا يخفى وكما يجوز نقض الإجارة لدفع الضرر يجوز إبقاؤها بعد ظهور سبب النقض لدفع الضرر.(23/80)
ص -40- ... ألا ترى أن الإجارة تعقد ابتداء لدفع الضرر فإن المستعير للأرض إذا زرعها ثم بدا للمعير أن يستردها لم يكن له ذلك وتترك في يد المستعير بأجر المثل إلى وقت إدراك الزرع وكذلك إذا انتهت مدة إجارة الأرض والزرع بقل فإنها تترك إلى وقت الإدراك بأجر المثل وهذا لأنه كان محقا في المزارعة في الابتداء فلا يقلع زرعه ويعقد بينهما عقد الإجارة لدفع الضرر فكذلك هذا كان محقا في الابتداء فتبقى الإجارة لدفع الضرر وهو نظير ما تقدم فيما إذا مات المكاري في طريق الحج أو مات صاحب السفينة والسفينة في لجة البحر فإذا استحصد الزرع أخذوها وقد انتقضت الإجارة فيما بقي من السنين.
ولو مات قبل أن يزرع انتقضت المزارعة وأخذ الوارث الأرض لأنه لا حاجة إلى إيفاء العقد هنا فإن العقد ما تأكد بالزراعة وليس في أعمال سبب النقض إبطال حق العامل عن الزرع ثم لا شيء على الوارث من نفقة العامل لأن المنافع لا تتقوم إلا باعتبار التسمية والمسمي بمقابلة منفعة الأرض جزء الخارج ولم يحصل.(23/81)
ولو كان الوقت سنة واحدة فأجر العامل الزرع حتى زرع في آخر السنة لم يمنع لأن المزارعة باقية بينهما ببقاء شيء من المدة فإن انقضت المدة والزرع بقل بعد فالزرع بين العامل ورب الأرض نصفان كما كان الشرط بينهما والعمل فيما بقي عليهما لأن العمل كان على المزارع في المدة وقد انتهت المدة والعمل بعد ذلك يكون باعتبار الشركة في الزرع وهما شريكان في الزرع فالعمل والمؤنة عليهما كنفقة العبد المشترك بينهما إذا كان عاجزا عن الكسب وعلى العامل أجر مثل نصف الأرض لأن المزارعة لما انتهت لم يبق للعامل حق في منفعة الأرض وهو يستوفي منفعة الأرض بتربية نصيبه من الزرع فيها إلى وقت الإدراك فلا يسلم له ذلك بل عليه أجر مثل نصف الأرض لصاحبها كما لو كان استأجرها بدراهم والزرع بقل كان عليه أجر مثلها إلى وقت الإدراك بخلاف ما تقدم من موت رب الأرض لأن هناك بقي العقد بينهما ببقاء المدة ومنفعة الأرض كانت مستحقة في المدة فإذا لم يعلم سبب التقضي بقي العقد كما كان فلا يلزمه أجر وهنا العقد ما تناول ما وراء المدة المذكورة فالمنفعة فيما وراء المدة لا تسلم له إلا بأجر المثل فإن أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك لما فيه من الإضرار بالعامل في إبطال حقه وهو كان محقا في الزراعة فيجب دفع الضرر عنه.
وإذا كان يسلم لرب الأرض أجر مثل نصف الأرض كان هو في المطالبة بالقلع متعنتا قاصدا للإضرار به فيرد عليه قصده وإن أراد العامل أن يأخذه بقلا فله ذلك لأنه إنما كان يترك لدفع الضرر عنه وقد رضي بالتزام الضرر ولأنه ناظر لنفسه من وجه فإنه يمتنع من التزام أجر مثل نصف الأرض مخافة أن لا يفي نصيبه بذلك ثم يقال لصاحب الأرض أقلعه فيكون بينكما أو أعطه قيمة حصته منه أو أنفق على الزرع كله وارجع بحصته مما ينفق في نصيبه لأنه زرع مشترك بينهما في أرض أحدهما فلصاحب الأرض أن يتملك على شريكه(23/82)
ص -41- ... نصيبه بقيمته كما في البناء والأشجار المشتركة بينهما في ملك أحدهما وهذا لأن المزارع لما رضي بالقلع فقد رضي بسقوط حقه عن حصته مجانا فيكون أرضى بذلك إذا وصل إليه قيمة حصته أو رضى بقيمة حصته بعد القلع لأن أكثر ما فيه أن يبيع نصيبه مقلوعا وقيمة حصته قبل القلع أكثر فلصاحب الأرض أن يعطيه ذلك إن شاء وإن شاء ساعده على القلع فيكون المقلوع بينهما وإن شاء أنفق على الزرع كله لأنه محتاج إلى إبقاء حقه في نصيبه من الزرع حتى يستحصد ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالإنفاق فيكون له أن ينفق على الزرع كله بمنزلة العبد المشترك إذا كان عاجزا عن الكسب لصغره وزمانة به وأحدهما غائب فللآخر أن ينفق عليه ولا يكون متبرعا في نصيب الآخر بل يرجع عليه بما ينفق في نصيبه فهذا مثله إلا أنه لا يرجع إلا بقدر نصيبه حتى إذا كان نصيبه من النفقة أكثر من نصيبه من الزرع لم يرجع عليه بالفضل لأن العامل ما كان مجبرا على الإنفاق فلا يكون له أن يلزمه الزيادة على نصيبه وإنما يرجع في نصيبه باعتبار أن سلامة ذلك له بما أنفق وهذا المعنى لا يوجد فيما زاد على قيمة نصيبه من النفقة ولأن حق الإنفاق إنما يثبت له باعتبار النظر منه لنفسه لا على سبيل الإضرار به وذلك يختص بمقدار نصيبه من الزرع.(23/83)
ولو كان البذر من صاحب الأرض فبدا له أن لا يزرع بعد ما كربها العامل وحفر أنهارها كان له ذلك لأنه يتضرر بالمضي على العقد من حيث إتلاف البذر بإلقائه في الأرض ولا يعلم أيحصل الخارج أم لا ثم لا شيء عليه للعامل على ما بينا أن المنافع لا تتقوم إلا بالتسمية والمسمى للعامل بإزاء عمله بعض الخارج ولم يحصل الخارج قال مشايخنا رحمهم الله وهذا الجواب في الحكم فأما فيما بينه وبين ربه يعني بأن يعطي العامل أجر مثل عمله لأنه إنما اشتغل بإقامة العمل ليزرع فيحصل له الخارج فإذا أخذ الأرض بعد إقامة هذه الأعمال كان هو غارا للعامل ملحقا الضرر به والغرور والضرر مدفوع فبقي بأن يطلب رضاه وإن كان قد زرع وصار الزرع بقلا لم يكن لصاحب الأرض إخراج العامل منه وإن لحقه دين لا وفاء عنده إلا من ثمن هذه الأرض ولكنه يخرج من الحبس حتى يستحصد الزرع لأن العقد تأكد بإلقاء البذر في الأرض وانعقدت الشركة في الخارج وفي البيع إضرار بالمزارع من حيث إبطال حقه في نصيبه من الزرع وهذا نظير الفصل الأول كما بينا.
ولو مات رب الأرض عمل المزارع على حاله حتى يستحصد الزرع لما بينا من وجه الاستحسان في الفصل الأول ولو انقضت السنة والزرع لم يحصد ترك في الأرض على حاله حتى يستحصد لأنه كان محقا في المزارعة في الابتداء فلا يجوز أن يقلع زرعه قبل الاستحصاد والنفقة عليهما نصفان لأن الزرع بينهما نصفان واستحقاق العمل على العامل كان في المدة خاصة وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض لأنه يستوفي منفعة نصف الأرض لتربية حصته فيها إلى وقت الإدراك فإن أنفق أحدهما بغير أمر صاحبه ولا أمر قاض فهو متطوع في النفقة لأن كل واحد منهما غير مجبر على الإنفاق فكان المنفق منهما متطوعا(23/84)
ص -42- ... كالدار المشتركة بينهما إذا اشتريت فأنفق أحدهما في مرمتها بغير أمر صاحبه كان متطوعا في ذلك.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان فزرعها ولم يستحصد حتى هرب العامل فأنفق صاحب الأرض بأمر القاضي على الزرع حتى استحصد ثم قدم المزارع فلا سبيل له على الزرع حتى يوفي صاحب الأرض جميع نفقته أولا لقول القاضي لا نأمره بالإنفاق حتى يقيم البينة عنده على ما يقول لأنه يدعي ثبوت ولاية النظر للقاضي في الأمر بالإنفاق على هذا الزرع ولا يعرف القاضي بينته فيكلفه إقامة البينة عليه ويقبل هذه البينة منه ليكشف الحال بغير خصم أو يكون القاضي فيه خصمه كما يكون في الإنفاق على الوديعة واللقطة فإذا أقام البينة كان أمر القاضي إياه بالإنفاق كأمر المودع ولو كان حاضرا فيكون له أن يرجع عليه بجميع ما أنفق بخلاف ما سبق فرجوعه هناك بقدر حصته من الزرع لأن العمل والإنفاق هناك غير مستحق على العامل وأمر القاضي إنما ينفذ على الغائب باعتبار النظر له وذلك في مقدار حصته من الزرع لا في إيجاب الزيادة دينا في ذمته وهنا العمل مستحق على المزارع لو كان حاضرا أجبره القاضي عليه فيعتبر أمره في إثبات حق الرجوع عليه بجميع النفقة ولا سبيل له على الزرع حتى يوفيه نفقته لأن نصيبه من الزرع إنما هو بالإنفاق فيكون محبوسا بما أنفق كالآبق يحبس بالجعل ولأنه استفاد نصيبه من جهة رب الأرض بهذه النفقة فيكون بمنزلة المبيع محبوسا عنه بالثمن فإن اختلفا في النفقة فالقول قول المزارع مع يمينه كما لو كان هو الذي أمره بالإنفاق وهذا لأن رب الأرض يدعي عليه زيادة فيما استوجبه دينا في ذمته وهو منكر لذلك وإنما يحلف على العلم لأنه استحلاف على فعل باشره غيره وهو الإنفاق الذي كان من صاحب الأرض ولو لم يهرب ولكن انقضت مدة المزارعة قبل أن يستحصد الزرع والمزارع غائب فإن القاضي يقول لصاحب الأرض أنفق عليه إن شئت فإذا(23/85)
استحصد لم يصل العامل إلى الزرع حتى يعطيك نفقتك فإن أبى أن يعطيك نفقتك أبيع حصته عليه من الزرع وأعطيك من ثمنه حصته من النفقة فإن لم تف حصته بذلك فلا شيء لك عليه وهذا لأن بعد انقضاء مدة المزارعة المزارع لا يجبر على العمل لو كان حاضرا فأمر القاضي عليه لا ينفذ إلا بطريق النظر له وذلك في أن يقصر الرجوع على مقدار حصته من الزرع وفي الزيادة على ذلك يلحقه خسران وهو لم يرض به وبين ذلك لصاحب الأرض ليكون إقدامه على الإنفاق على بصيرة ولكن لا يكون القاضي غارا يحسب حصته من الزرع بحصته من النفقة لأنه حيى بتلك النفقة فإن أبى أن يعطي النفقة باع القاضي حصته قيل هذا بناء على قولهما فأما عند أبي حنيفة فلا يبيع القاضي حصته من ذلك لأنه لا يرى الحجر على الحر وبيع ماله عليه في دينه وقيل بل هو قولهم جميعا لأن الدين الذي لزمه تعلق بنصيبه من الزرع على معنى أن سلامته له متعلقة بوصول النفقة إلى صاحب الأرض فيباع فيه كما يباع المرهون والتركة في الدين ولا يتصدق واحد منهما بشيء في هذه المسائل(23/86)
ص -43- ... من الزرع الذي صار له لأنه لا يتمكن خبث ولا فساد في السبب الذي به سلم لكل واحد منهما نصيبه من الزرع.
ولو كان البذر من العامل فزرع الأرض ثم مات المزارع قبل أن يستحصد فقال ورثته نحن نعلمها على حالها فلهم ذلك لأنهم قائمون مقام المورث في ملك نصيبه من الزرع فيقومون مقامه في العمل إذا اختاروا ذلك وهذا لأن مقصود رب الأرض إقامة العمل لا عين العامل.
ألا ترى أنه كان للعامل أن يستعين بهم أو بغيرهم في حياته ليقيموا العمل فكذلك بعد وفاته إذا اختاروا العمل ولا أجر لهم في العمل لأنهم يعملون فيما لهم فيه شركة على سبيل الخلافة عن مورثهم ولا أجر عليهم في الأرض إن عملوها بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض لأنهم قائمون مقام مورثهم وعقد المزارعة لم يبطل بموت مورثهم إذا اختاروا العمل وإن قالوا لا نعملها لم يجبروا على العمل لأنهم إنما يخلفون الميت في أملاكه وحقوقه وليس عليهم إيفاء شيء مما كان مستحقا على مورثهم من ملكهم.(23/87)
ألا ترى أنهم لا يجبرون على قضاء ديونه من ملكهم فكذلك لا يجبرون على إقامة العمل الذي كان مستحقا عليه بمنافعهم وقيل لصاحب الأرض اقلع الزرع فيكون بينك وبينهم نصفين أو اعطهم قيمة حصتهم من الزرع وأنفق على حصتهم فتكون نفقتك في حصتهم مما تخرج الأرض لأن المزارعة قد انقطعت بموت العامل إذا أبى الوارث إقامة العمل لفوات المعقود عليه لا إلى خلف وبقي الزرع مشتركا بينهما فهو بمنزلة ما لو انقضت مدة العمل والزرع بقل فأراد أن يقلع نصيبه وقد بينا هناك أن صاحب الأرض يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة فهو قياسه إلا أن هناك إذا أراد صاحب الأرض الإنفاق فإنه يرجع بنصف النفقة في نصيب العامل وهنا يرجع بجميع النفقة في نصيب الورثة لأن هناك استحقاق العمل على العامل بمقابلة حصته من الزرع في المدة لا بعدها وقد انتهت المدة فكانت النفقة عليهما نصفين وهنا المدة لم تنته وقد كان العمل مستحقا على المزارع بمقابلة ما يسلم له من نصف الزرع وما كان مستحقا عليه يجب إيفاؤه من تركته ولا يسلم التركة للورثة إلا بعد إيفاء ما كان مستحقا عليه فلهذا رجع بجميع ما أنفق في حصة الورثة من الزرع فيستوفيه ثم يعطيهم الفضل على ذلك وكذلك لو كان الذي مات رب الأرض وبقي العامل وكذلك لو كان البذر من قبل رب الأرض ثم مات أحدهما فالأمر فيه على ما بينا إن شاء المزارع إن كان حيا أو ورثته إن كان ميتا أن يمضوا على المزارعة فذلك لهم وإن أبوا خير رب الأرض وورثته بين القلع وإعطاء قيمة حصة العامل وبين الإنفاق على نحو ما ذكرنا.
ولو كان البذر من العامل فلما صار الزرع بقلا انقضى وقت المزارعة فأيهما أنفق والآخر غائب فهو متطوع في النفقة لأن الغائب لو كان حاضرا لم يكن مجبرا على الإنفاق فيكون صاحبه في الإنفاق على نصيبه متطوعا ولا أجر لصاحب الأرض على العامل لأن أجر مثل(23/88)
ص -44- ... نصف الأرض إنما يلزم بالتزامه وهو اختياره إمساك الأرض إلى وقت الاستحصاد بعد مطالبة صاحب الأرض بالتفريغ ولم يوجد ذلك.
وإن رفع العامل الأمر إلى القاضي وصاحب الأرض غائب فإنه يكلفه البينة على ما ادعى لأنه ادعى ثبوت ولاية القاضي في الأمر بالإنفاق فلا يقبل ذلك منه إلا ببينة فإن أتى بالبينة على الزرع أنه بينه وبين فلان الغائب أمره القاضي بالنفقة وإن تأخرت إقامة البينة وخيف على الزرع الفساد فإن القاضي يقول له أمرتك بالإنفاق إن كنت صادقا والنظر لهذا يحصل لأنه إن كان صادقا في مقالته فالأمر من القاضي في موضعه وإن كان كاذبا لم يثبت حكم الأمر لأنه علقه بالشرط فإن أنفق حتى يستحصد ثم حضر رب الأرض كان المزارع أحق بحصة رب الأرض حتى يستوفي نفقته فإن بقي شيء كان لرب الأرض وإن كانت نفقته أكثر لم يرجع على رب الأرض بشيء لأن أمر القاضي إنما نفذ في حق الغائب على وجه النظر منه له وكذلك يقول له القاضي أنفق على أن تكون نفقتك في حصته من الزرع لدفع الغرر ويجعل القاضي عليه أجر مثل نصف الأرض لأن القاضي قام مقام الغائب في ما يرجع إلى النظر له ولو كان حاضرا يلزمه أجر مثل نصف الأرض بتربية نصيبه من الزرع في الأرض إلى وقت الإدراك فكذلك القاضي يلزمه ذلك بخلاف ما لو أنفق بغير أمر القاضي. فإن هناك ليس عن الغائب نائب ليلزمه أجر مثل نصف الأرض.
ألا ترى أنه لا يثبت له حق الرجوع على الغائب بحصته فيما أنفق بغير أمر القاضي وثبت له حق الرجوع بحصته مما أنفق بأمر القاضي فكذلك في أجر مثل نصف الأرض يقع الفرق بين الفصلين لهذا المعنى.(23/89)
ولو حضروا جميعا فقال المزارع يقلع الزرع وقال رب الأرض ينفق عليه وآخذ منك أجر مثل نصف الأرض لم يكن له ذلك لأنه لا بد أن يلزم المزارع دينا في ذمته وربما يتضرر به المزارع بأن لا يفي نصيبه من الزرع بذلك فيكون له أن يأبى ذلك ثم يقول القاضي لصاحب الزرع إن شئت فاقلع الزرع مع المزارع وإن شئت فأعطه نصف قيمة الزرع وإن شئت فأنفق على الزرع كله وتكون حصته إلى حصة العامل من النفقة في حصته من الخارج ولا يجبر المزارع على نفقة ولا أجر لأن فيه إتلاف ملكه وأحد لا يجبر على ذلك وإن كان ينتفع به غيره.
وإن قال المزارع ينفق على الزرع وأبى ذلك صاحب الأرض وقال يقلع الزرع أمر القاضي أن ينفق على الزرع فتكون نفقته على حصة صاحب الأرض في حصته من الزرع وعليه أجر مثل نصف الأرض لأنه في اختيار الإنفاق ناظر لنفسه ولصاحب الأرض فإنه يحيي به نصيبه من الزرع ويسلم له أجر مثل نصف الأرض وصاحب الأرض في الإباء متعنت قاصد إلى الإضرار به فلا يلتفت القاضي إلى تعنته بخلاف الأول فإن المزارع هناك يلزمه الأجر بما اختاره صاحب الأرض من الإنفاق ولو ساعده على ذلك فهو بالإباء يدفع الغرم عن نفسه(23/90)
ص -45- ... وهنا صاحب الأرض لا يلزمه شيء وكل شيء من هذا الباب أمر القاضي أحدهما بالنفقة كلها وصاحبه غائب لم يأمره بذلك حتى تقوم البينة على الشركة فإن خيف الهلاك عليه إلى أن تقوم البينة قال له القاضي أمرتك بالنفقة إن كان الأمر كما وصفت وقد بينا وجه هذا.
ولو كان البذر من صاحب الأرض فلما صار الزرع بقلا قال العامل لا أنفق عليه ولا أسقيه فإن القاضي يجبره على أن ينفق عليه ويسقيه لأنه التزم ذلك بمباشرة العقد طائعا فيجبر على إيفاء ما التزمه فلو أجبره ولم يكن عنده ما أنفق أمر صاحب الأرض والبذر أن ينفق عليه ويسقيه على أن يرجع بذلك كله على صاحبه وإن كان أكثر من نصيبه لأن ذلك شيء يجبره عليه وكل نفقة يجبر عليها صاحبها فلم ينفق فأمر القاضي صاحبه بالنفقة فأنفق رجع بكلها على شريكه هلكت الغلة أو بقيت وكل نفقة لا يجبر عليها صاحبها فأنفق شريكه بأمر القاضي فإنها تكون في حصة الآخر فإن لم تف بها لم يكن للمنفق غير ذلك.
ولو أصاب الغلة آفة وتعذر عليه إيفاؤه للإفلاس فيستحق النظرة إلى الميسرة ولا يبطل أصل الاستحقاق فيكون الآخر كالفائت عنه شرعا فيما كان مستحقا عليه فيرجع بجميعه دينا في ذمته كما لو كان أمره بذلك وفيما لم يكن هو مجبرا عليه لم يؤخذ منه الالتزام بمباشرة سببه وإنما يلزم القاضي ذلك على سبيل النظر منه له ومعنى النظر إنما يتحقق إذا كان الإلزام بقدر نصيبه من الغلة على وجه يبقى ببقائه ولا يطالب بشيء بعد هلاكه فلهذا لا يعتبر أمر القاضي إلا في هذا المقدار.(23/91)
ألا ترى أن عبدا صغيرا لو كان بين رجلين فقال أحدهما ليس عندي ما أنفق عليه ولا ما استرضع به أجبره القاضي على ذلك فإن لم يقدر على ذلك وأمر شريكه فاسترضع له رجع عليه بحصته من الأجر بالغا ما بلغ إذا كان رضاع مثله وإن كان أكثر من قيمة الصبي سواء بقي الصبي أو هلك لأنه لما كان مجبرا على الإنفاق كان أمر القاضي شريكه بالإنفاق كأمره لأن القاضي نائب عنه في إيفاء ما كان مستحقا عليه ودفع الظلم فيرجع عليه بنصيبه بالغا ما بلغ وبمثله في الدابة المشتركة لما لم يكن مجبرا على الإنفاق في القضاء فإذا أنفق الشريك لم يكن له أن يرجع عليه فيما زاد على قيمة نصيبه ولا بعد هلاك الدابة فبهذا يتضح الفرق بينهما.
ولو أوصى لرجل بنخل ولآخر بغلته فالنفقة على صاحب الغلة تسلم له بمقابلة ما ينفق والغرم مقابل بالغنم فإن أحاله فلم يخرج شيئا في سنته لم يجبر واحد منهما على النفقة أما صاحب النخل فلأن لا يسلم له شيء من الغلة ولأنه لا يجبر على الإنفاق على ملكه في غير بني آدم وصاحب الغلة إنما كان ينفق لتسلم له الغلة وفي هذه السنة لا يسلم له شيء من الغلة فلا يجبر على النفقة فإن أنفق عليه صاحب النخل حتى حمل لم يكن لصاحب الغلة شيء حتى يستوفي صاحب النخل النفقة من الغلة وإن لم يخرج من الغلة فيما يستقبل مثل ما أنفق لم يكن له على صاحب الغلة غرم نفقته وإنما نفقته فيما أخرجت النخل لأن الغلة إنما(23/92)
ص -46- ... حصلت بالنفقة فلا تسلم له الغلة حتى يعطيه ما أنفق ولكن صاحب الغلة لم يكن مجبرا على الإنفاق فلا يرجع بالفضل عليه فكذلك الزرع الذي وصفنا قبل هذا.
ولو أنفق عليه المزارع بأمر صاحبه رجع عليه بذلك بالغا ما بلغ لأنه استقرض منه ما أمره بأن ينفق عليه وقد أقرضه فيكون ذلك دينا عليه في ذمته ولا سبيل له على حصته من الزرع وهذا لأن أمره على نفسه نافذ مطلقا فلا يتقيد بما فيه نظر له وأمر القاضي عليه يتقيد بما فيه نظر له فيما لم يكن هو مجبرا عليه.
وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا عشر سنين على أن يزرعها ما بدا له على أن ما أخرج الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فغرسها نخلا أو كرما أو شجرا فأثمر ولم يبلغ الثمر حتى مات المزارع أو رب الأرض فالثمر بمنزلة الزرع الذي لم يبلغ في جميع ما بينا لأن لإدراك الثمار نهاية معلومة كالزرع فيبقى العقد بعد موت أحدهما إلى وقت الإدراك لما فيه من النظر لهما وليس فيه كثير ضرر على صاحب الأرض.
ولو مات رب الأرض وليس فيه ثمر انتقضت المزارعة وصار الشجر بين ورثة الميت وبين المزارع نصفين فإن الشجر كالبناء ليس له نهاية معلومة في تفريغ الأرض منه وفي إبقاء العقد إضرار بصاحب الأرض وهو الوارث.
ألا ترى أن المستعير لو زرع الأرض ثم بدا للمعير أن يستردها يبقى زرع المستعير إلى وقت الإدراك بأجر ولا يفعل مثله في الشجر والبناء فهذا مثله.(23/93)
وكذلك لو مات المزارع وبقي صاحب الأرض فإن قال المزارع أنا آخذ من الورثة نصف قيمة الغرس لم يكن له ذلك والخيار فيه إلى صاحب الأرض أو ورثته إن كان ميتا إن شاؤوا قلعوا ذلك وكان بينهم وإن شاؤوا أعطوا المزارع أو ورثته نصف قيمة ذلك لأن الأشجار مشتركة بينهما وهي في أرض صاحب الأرض فيكون بمنزلة البناء المشترك بينهما في أرض أحدهما والخيار في التملك بالقيمة إلى صاحب الأرض دون الآخر لأن البناء والشجر تبع للأرض حتى يدخل في البيع من غير ذكر بمنزلة الصبغ في الثوب.
ولو اتصل صبغ إنسان بثوب غيره كان الخيار في التملك إلى صاحب الثوب لا إلى صاحب الصبغ وهذا لأن الآخر لا يمكنه أن يتملك الأرض عليه لأن الأرض أصل فلا تصير تبعا لما هو تبع له وهو الشجر ولا في أن يتملك نصيبه من الأشجار لأنه لا يستحق حق قرار الأشجار بهذه الأرض ولكن يؤمر بالقلع وصاحب الأرض إن تملك عليه نصيبه من الأشجار كان ذلك مفيدا له لأنه يستحق حق قرار جميع هذه الأشجار في أرضه فلهذا كان الخيار لصاحب الأرض وكذلك لو كانا حيين فلحق رب الأرض دين ولا وفاء عنده إلا من ثمن الأرض ولا ثمر في الشجر فإن القاضي ينقض الإجارة ويجبر رب الأرض فإن شاء غرم نصف قيمة الشجر والنخل والكرم وإن شاء قلعه لأن سبب الدين الفادح بقدر إبقاء العقد بينهما فينقض القاضي الإجارة ليبيع الأرض في الدين ويكون ذلك بمنزلة انتقاض الإجارة(23/94)
ص -47- ... بموت أحدهما وكذلك لو انقضت المدة لأن العقد قد ارتفع بانقضاء المدة وبقيت الأشجار مشتركة بينهما في أرض أحدهما.
ولو كان العامل أخذ الأرض بدراهم مسماة لم يكن له في هذه الوجوه خيار ولا لصاحب الأرض ويقال له اقلع شجرك لأن الأشجار من وجه تبع للأرض ومن وجه أصل ولهذا جاز بيع الأشجار بدون الأرض فلا بد من اعتبار الشبهين فيقول لشبهه بالأصل من وجه لا يكون لصاحب الأرض أن يتملك عليه بغير رضاه إذا لم يكن له شركة في الأشجار بمنزلة صاحب السفل لا يتملك على صاحب العلو علوه بالقيمة بغير رضاه ولشبهة بالتبع من وجه كان له أن يتملك عليه نصيبه إذا كان شريكا له في الأشجار وهذا لأنه إذا كان شريكا له في الأشجار فله أن يمنع شريكه من قلع الأشجار لأنه يبقى نصيبه من الأشجار في أرض نفسه فلا يكون لأحد أن يبطل هذا الحق عليه بالقلع بغير رضاه ولا يتمكن من قلع نصيب نفسه خاصة لأن ذلك لا يكون إلا بعد القسمة ولا تتحقق القسمة بينهما ما لم تقلع الأشجار فأما إذا كانت الأشجار كلها لأحدهما والأرض للآخر فصاحب الأشجار متمكن من قلع أشجاره على وجه لا يكون فيه ضرر على صاحب الأرض فلهذا لا يكون لصاحب الأرض أن يتملك عليه الأشجار بقيمتها بغير رضاه إلا أن يكون قلع ذلك يضر بالأرض إضرارا شديدا ويكون استهلاكا وفسادا فحينئذ يكون للمؤاجر أن يغرم للمستأجر لأن صاحب الأشجار ليس له أن يلحق الضرر الفاحش بصاحب الأرض وإذا كان في القلع ضرر فاحش فقد بعد القلع واحتبست الأشجار في ملك صاحب الأرض فتحبس بالقيمة بمنزلة من غصب ساحة وأدخلها في بنائه فإنه يضمن القيمة وليس لصاحب الساحة أن يأخذ الساحة لما فيه من الإضرار بصاحب البناء.(23/95)
ولو دفع إلى رجل أرضا مزارعة سنته هذه يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما نصفان فكربها العامل وبناها وحفر أنهارها ثم استحقها رجل أخذها ولا شيء للمزارع على الذي دفعها إليه من نفقته وعمله لأنه لم يزد فيها شيئا من عنده إنما أقام العمل وقد بينا أن المنفعة إنما تتقوم بالتسمية والمسمى بمقابلة عمله بعض الخارج وذلك لا يحصل قبل الزراعة ولأن المزارعة شركة في الخارج وابتداؤها من وقت إلقاء البذر في الأرض فهذه أعمال تسبق العقد فلا يستوجب بسببها شيئا على الدافع ولو استحقها بعد ما زرعها قبل أن يستحصد فإنه يأخذ الأرض ويأمر المزارع وصاحب الأرض أن يقلعا الزرع لأنه تبين أن الأرض كانت مغصوبة والغاصب لا يكون في الزراعة محقا فلا يستحق إبقاء زرعه ثم المزارع بالخيار إن شاء أخذ نصف الزرع على حاله ويكون النصف للآخر الذي دفع إليه الأرض مزارعة وإن شاء ضمن الذي دفع الأرض مزارعة نصف قيمة الزرع نابتا في الأرض وتسلم الزرع كله لأنه مغرور من جهته حين أعطاه الأرض على أنها ملكه والذي جرى بينهما عقد معاوضة فيثبت الغرور بسببه وقد استحق إبقاء نصيبه من الزرع إلى وقت الإدراك فإذا فات عليه ذلك كان له أن(23/96)
ص -48- ... يرجع عليه بقيمة حصته من الزرع نابتا في الأرض كالمشتري للأرض إذا زرعها ثم استحقت وقلع زرعه وإن أخذ نصف الزرع كان النصف الآخر للذي دفع إليه الأرض لأن الاستحقاق بعقده وهو الذي عقد وقد بينا أن الغاصب إذا أجر الدار أو الأرض فالأجر له فكذا هنا يكون نصف الزرع للدافع دون المستحق ثم المستحق في قول أبي حنيفة يضمن نقصان الأرض للزارع خاصه ويرجع به على الذي دفع إليه الأرض وهو قول أبي يوسف الآخر وفي قوله الأول وهو قول محمد المستحق بالخيار إن شاء ضمن نقصان الأرض الدافع وإن شاء الزارع ثم يرجع المزارع به على الدافع وهو بناء على مسألة غصب العقار فإن العقار يضمن بالإتلاف بالإنفاق وفي الغصب خلاف فالدافع غاصب والمزارع في مقدار النقصان متلف لأن ذلك حصل بمباشرته المزارعة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر الضمان للمستحق على المتلف دون الغاصب وعند محمد له الخيار ثم المزارع إذا ضمن يرجع بما ضمن على الدافع لأنه كان مغرورا من جهته فإنه ضمن له بعقد المعاوضة سلامة منفعة الأرض بعمل الزراعة له ولم يسلم فيرجع عليه بسبب الغرور كالمغرور في جارية اشتراها واستولدها يرجع بقيمة الولد الذي ضمن على البائع.(23/97)
ولو كان العامل غرسها نخلا وكرما وشجرا وقد كان أذن له الدافع في ذلك فلما بلغ وأثمر استحقها رجل فإنه يأخذ أرضه ويقلع من النخل والكرم والشجر ما فيها ويضمنان للمستحق نقصان القلع إذا قلعا ذلك بالإنفاق لأن النقصان إنما يتمكن بالقلع بمباشرتهما القلع فكان ضمانه عليهما ويضمن الغارس له أيضا نقصان الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف الآخر ويرجع العامل بما ضمن من نقصان القلع والغرس على الدافع وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله للمستحق أن يضمن الدافع جميع ذلك النقصان وهو بناء على ما بينا فإن في النقصان بالغرس الغارس هو المباشر للإتلاف والدافع غاصب في ذلك وعند محمد الغاصب ضامن كالمتلف وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ضمان ذلك للمستحق على المتلف دون الغاصب ثم الغارس يرجع على الدافع لأجل الغرور الذي تمكن في عقد المعاوضة بينهما.
باب العذر في المعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل نخلا له معاملة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما أخرج الله تعالى في شيء منه فهو بينهما نصفان فقام عليه ولقحه حتى إذا صار بسرا أخضر مات صاحب الأرض فقد انتقضت المعاملة بينهما في القياس وكان البسر بين ورثة صاحب الأرض وبين العامل نصفين لأن صاحب الأرض استأجر العامل ببعض الخارج ولو استأجره بدراهم انقضت الإجارة بموت أحدهما أيهما مات فكذلك إذا استأجره ببعض الخارج ثم انتقاضها بموت أحدهما بمنزلة اتفاقهما على نقضها في حياتهما ولو نقضاه والخارج بسر كان بينهما نصفين ولكنه استحسن فقال للعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم حتى يدرك(23/98)
ص -49- ... الثمر وإن كره ذلك الورثة لأن في انتقاض العقد بموت رب الأرض إضرارا بالعامل وإبطالا لما كان مستحقا له بعقد المعاملة وهو ترك الثمار في الأشجار إلى وقت الإدراك.
وإن انتقض العقد يكلف الجداد قبل الإدراك وفيه ضرر عليه وكما يجوز نقض الإجارة لدفع الضرر يجوز إبقاؤها لدفع الضرر وكما يجوز أن ينعقد العقد ابتداء لدفع الضرر يجوز إبقاؤه لدفع الضرر بطريق الأولى وإن قال العامل أنا آخذ نصف البسر له ذلك لأن إبقاء العقد لدفع الضرر عنه فإذا رضي بالتزام الضرر انتقض العقد بموت رب الأرض إلا أنه لا يملك إلحاق الضرر بورثة رب الأرض فيثبت الخيار للورثة فإن شاؤوا صرموا البسر فقسموه نصفين وإن شاؤوا أعطوه نصف قيمة البسر وصار البسر كله لهم وإن شاؤوا أنفقوا على البسر حتى يبلغ ويرجعوا بنصف نفقتهم في حصة العامل من الثمر لتحقق المساواة بينهما في ملك البسر واختصاص الورثة بملك النخل والأرض واتصال الثمر بالنخل كاتصال النخل بالأرض واتصال البناء بالأرض وقد بينا أن هناك عقد الشركة في النخل والبناء يكون الخيار لصاحب الأرض بين هذه الأشياء الثلاثة فهذا مثله.(23/99)
ولو كان مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه وإن كرهه صاحب الأرض لأنهم قائمون مقامه وفي قيامهم على النخل تحصيل مقصود رب النخل وتوفير حقهم عليهم بترك نصيب مورثهم من الثمر في النخل إلى وقت الإدراك كما صار مستحقا له فلا يكون لرب النخل أن يأبى ذلك عليهم وإن قالت الورثة نحن نصرمه بسرا كان لصاحب الأرض من الخيار مثل ما وصفنا لورثته في الوجه الأول ولو ماتا جميعا كان الخيار في القيام عليه أو تركه إلى ورثة العامل لأنهم يقومون مقام العامل وقد كان له في حياته هذا الخيار بعد موت رب الأرض فكذلك يكون لورثته بعد موته وليس هذا من باب توريث الخيار بل من باب خلافة الوارث المورث فيما هو حق مالي مستحق له وهو ترك الثمار على النخيل إلى وقت الإدراك فإن أبوا أن يقوموا عليه كان الخيار إلى ورثة صاحب الأرض على ما وصفنا في الوجه الأول ولو لم يمت واحد منهما ولكن انقضت مدة المعاملة والبسر أخضر فهذا والأول سواء والخيار فيه إلى العامل فإن شاء عمل على ما كان يعمل حتى يبلغ الثمر ويكون بينهما نصفين فإن في الأمر بالجذاذ قبل الإدراك إضرارا بهما والضرر مدفوع وقد تقدم نظيره في الزرع إلا أن هناك العامل إذا اختار الترك فعليه نصف أجر مثل الأرض لأن استئجار الأرض صحيح فينعقد بينهما عقد الإجارة على نصف الأرض إلى وقت الإدراك وهنا لا أجر على العامل لأن استئجار النخيل لترك الثمار عليها إلى وقت الإدراك باطل.
ألا ترى أن من اشترى زرعا في أرض ثم استأجر الأرض مدة معلومة جاز ولو استأجرها إلى وقت الإدراك وجب أجر المثل.
ولو اشترى ثمارا على رؤوس الأشجار ثم استأجر الأشجار إلى وقت الإدراك لا يجب عليه أجر وإذا ظهر الفرق ابتنى على الفرق الآخر وهو أن هناك العمل عليهما بحسب ملكهما(23/100)
ص -50- ... في الزرع لأن رب الأرض لما استوجب الأجر على العامل لا يستوجب عليه العمل في نصيبه بعد انتهاء المدة وهنا العمل على العامل في الكل لأنه لا يستوجب رب النخيل عليه أجرا بعد انقضاء المدة كما كان لا يستوجب عليه ذلك قبل انقضاء المدة فيكون العمل كله على العامل إلى وقت الإدراك كما قبل انقضاء المدة وإن أبى ذلك العامل خير رب النخيل بين الوجوه الثلاثة كما بينا ولو لم ينقض المعاملة ولكنه لحق رب النخل دين فادح لا وفاء عنده إلا ببيع النخل وفي النخل بسرا وطلع لم يجبر على بيع النخل ويخرج من السجن حتى يبلغ الثمر وتنقضي المعاملة ثم يعاد في السجن حتى يقضي الدين لما بينا أن في البيع قبل الإدراك ضررا بالعامل في إبطال حقه وفي الترك إضرار بالغرماء في تأخير حقهم وبمقابلة هذا الضرر منفعة لهم وهو إدراك نصيب غريمهم من الثمر ليباع في دينهم فيكون مراعاة هذا الجانب أولى.
ولو مات أحدهما أو انقضت المدة أو لحق صاحب الأرض دين فادح وقد سقى العامل النخل وقام عليه وحفظه إلا أنه لم يخرج شيئا انقضت المعاملة ولم يكن له من منفعته شيء على الذي دفع إليه معاملة لأن المعاملة شركة في الخارج فإذا لم يحصل الخارج بعد لم تنعقد الشركة بينهما في شيء فاعتراض هذه العوارض قبل انعقاد الشركة كاعتراضها في المزارعة قبل إلقاء البذر في الأرض وقد بينا أن هناك العقد ينتقض ولا شيء للعامل على رب الأرض لأن تقوم منافعة بالمسمى ولم يحصل شيء منه فهذا مثله.(23/101)
ولو كان الطلع قد خرج وهو اسم لأول ما يبدو مما هو أصل التمر من النخل أو صار بسرا ثم استحقت الأرض كان النخل وما فيه للمستحق لأن النخل تبع للأرض كالبناء وكما أن باستحقاق الأرض يستحق البناء فكذلك يستحق النخل والتمر زيادة متولدة من النخل والاستحقاق بحجة البينة يثبت في الزيادة المتصلة والمنفصلة جميعا إذا كانت متولدة ثم يرجع العامل على الذي دفع إليه النخل معاملة بأجر مثله فيما عمل لأنه كان استأجره بنصف الخارج وقد حصل الخارج ثم لم يسلم له بالاستحقاق فيفسد العقد ويبقى عمله مستوفى بعمل فاسد فيستوجب أجر المثل كما لو استأجره للعمل بشيء بعينه فاستحق بعد ما أقام العمل.
ولو دفع إلى رجل زرعا له في أرض قد صار بقلا معاملة على أن يقوم عليه ويسقيه حتى يستحصد فما خرج منها فهو بينهما نصفان فهو جائز بالقياس على دفع النخيل معاملة لأن الحب يتولد من النبات بعمل العامل كالتمر من النخيل ولأن الريع يحصل بعمله هنا فهو بمنزلة دفع الأرض والبذر مزارعة بل هذا أقرب إلى الجواز من ذلك لأنه أبعد من الغرر فهناك لا يدرى أيكون الزرع أو لا وهنا الزرع ثابت فالظاهر أن يحصل الريع بعمله إلا أن يصيبه آفة وإذا جاز العقد ثمة فهنا أولى فإذا قام عليه حتى انعقد حبه ولم يستحصد حتى مات أحدهما فالعامل أو ورثته بالخيار إن شاء مضى على العمل حتى يستحصد فيكون الخارج بينهما على الشرط وإن شاء نقض المعاملة لأن العامل استحق بتربية نصيبه من الزرع إلى وقت الإدراك ووارثه يخلفه في ذلك وإن اختار نقض المعاملة فله ذلك لأن إبقاء العقد بعد موت(23/102)
ص -51- ... أحدهما كان لدفع الضرر عنه ثم يخير صاحب الزرع أو وارثه بين القلع وبين إعطاء قيمة نصيب العامل يومئذ وبين الإنفاق على الزرع حتى يستحصد ثم يرجع بنصف نفقته من حصة العامل لأنه شريك في التبع وهو مختص بملك الأصل وكذلك لو ماتا جميعا ولو لم يمت واحد منهما وكان دفعه إليه أشهرا معلومة فانقضت قبل أن يستحصد الزرع فالزرع بينهما والنفقة عليهما وعلى العامل أجر مثل نصف الأرض وقد بينا هذا في المزارعة, والفرق بينه وبين المعاملة في الأشجار أن العاملة في الفصل هذا على قياس المزارعة وفإن قال العامل: أريد قلعه خير صاحب الأرض بين الأشياء الثلاثة كما وصفنا ي المزارعة والمعاملة في النخيل, وإن أراد صاحب الأرض قلعه وقال العامل: أنا أنفق عليه, قال القاضي له: انفق عليه حتى يستحصد وعليك اجر مثل نصف الأرض, فإذا استصحد أخذت نصف النفقة من حصته لأنه مما يختار من الإنفاق بقصد دفع الضرر عن نفسه وعن صاحب الأرض, فصاحب الأرض إذا أبى ذلك عليه كان متعنتا فلا يلتفي القاضي إلى تعنته.
ولو لم تنقض المدة حتى استصحد الزرع ثم استق رجل الأرض بزرعها أخذها كلها ورجع العامل على الدافع باجر مثله فيما عمل,لأنه كان استأجره ببعض الخارج وقد حصل الخارج ثم لم يسلم له حين استحق فرجع عليه باجر مثله.(23/103)
وإذا دفع إلى رجل نخلا فيه طلع كفري على أن يقوم عليه ويلقحه ويسقيه فما خرج فهو بينهما نصفان, ولم يضرب له وقتا معلوما فهو جائز, لأن بعد خروج الطلع لإدراك الثمار نهاية معلومة بطريق العادة, والمعلوم بالعادة كالمشروط بالنص, فلا يضرهما ترك التوقيت ثم الثمر هنا يحصل أو يزداد بعمل العامل, فباعتباره تجوز المعاملة قبل خروج الطلع. فغن قام عليه حتى صار بسرا ثم مات احدهما أو كلاهما وانقضى وقت المعاملة فالخيار في العمل إلى العامل أو وارثه, وإن ابى أن يعمل خير صاحب النخل بين إحدى الوجوه الثلاثة, ولم يفرق هنا في الجواب بين الموت وبين انقضاء الوقت, لأن الثمر خارج عند المعاملة, فالشركة بينهما تحصل عقيب العقد, ولا يستوجب صاحب النخل الأجر على العامل عند انقضاء المدة, كما لا يستوجب عند موت أحدهما في المدة, والعمل كله على العامل إذا اختار الترك إلى وقت الإدراك في الفصلين جميعا, ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن استحق الأرض والنخل كان على الدافع أجر مثل العمل, لأنه استأجره للعمل ببعض ما يحصل بعمله وقد حصل ثم استحق فيستوجب عليه أجر المثل.
ولو استحق المستحق بعدى ما سقاه العامل وقام عليه وانفق إلا انه لم يزدد شيئا حتى اخذه المستحق لم يكن للعامل على الدافع شيء, لأن اجر عمله نصف بعمله من زيادة أو أصل ثمرة ولم يوجد ذلك, فإن قيل: فأين ذهب قولكم: إن الشركة تحصل هنا عقيب العقد؟ قلنا: نعم ولكن فيما يحصل بعمله على أن يكون ما هو حاصل قبل العمله تابع له, فإما أن يستحق الشركة فيما هو حاصل قبل عمله مقصودا فلا, لأن جواز هذا العقد بينهما(23/104)
ص -52- ... بالقياس على المعاملة في النخيل, ولو شرطا هناك الشركة في النخيل الحاصل والثمر الذي لم يحصل لم يجز العقد. فعرفنا أن المقصود هنا الشركة فيما يحصل من الزيادة بعمله, فإذا لم يحصل شيء من ذلك حتى استحقه المستحق لم يستوجب عليه شيئا من الأجر لأنه لم يستحق شيئا مما صار مستحقا للعامل بعمله ولو لم يستحق ومات أحدهما انتقضت المعاملة لأنه لم يحصل بعمله شيء فهو نظير موت رب النخيل في المعاملة قبل خروج الثمار ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء فكان الكفرى كله لصاحب النخيل كما كان قبل العقد والله أعلم.
باب ما يجوز لأحد المزارعين أن يستثنيه لنفسه وما لا يجوز
قال رحمه الله: وإذا اشترطا في المزارعة والبذر من أحدهما أن للزارع ما أخرجت ناحية من الأرض معروفة ولرب الأرض ما أخرجت ناحية منها أخرى معروفة فهو فاسد لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الريع مع حصوله لجواز أن يحصل الريع في الناحية المشروطة لأحدهما دون الآخر لأن صاحب الأرض شرط على العامل العمل في ناحية من الأرض له على أن يكون له بمقابلته منفعة ناحية أخرى والخارج من ناحية أخرى فيكون هذا بمنزلة ما لو شرط ذلك في أرضين وفي الأرضين إذا شرط أن يزرع أحدهما ببذره على أن له أن يزرع الأخرى ببذره لنفسه كان العقد فاسدا فهذا مثله ثم الزرع كله لصاحب البذر وقد بينا هذا الحكم في المزارعة الفاسدة.
وكذلك لو اشترطا أن ما خرج من زرع على السواقي فهو للمزارع وما خرج من ذلك في الأتوار والأواعي فهو لرب الأرض فالعقد فاسد لما قلنا وكذلك لو اشترطا التبن لأحدهما والحب للآخر كان العقد فاسدا لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله فمن الجائز إن يحصل التبن دون الحب بأن يصيب الزرع آفة قبل انعقاد الحب وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله كان مفسدا للعقد.
ثم الكلام في التبن في مواضع:(23/105)
أحدها: أنهما إذا شرطا المناصفة بينهما في الزرع أو الريع أو الخارج مطلقا فالحب والتبن كله بينهما نصفان لأن ذلك كله حاصل بعمل الزارع.
والثاني: أن يشترطا المناصفة بينهما في التبن والحب لأحدهما بعينه فهذا العقد فاسد لأن المقصود هو الحب دون التبن فهذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما فيما هو المقصود.
والثالث: أن يشترطا المناصفة في الحب ولم يتعرضا للتبن بشيء فهذا مزارعة صحيحة والحب بينهما نصفان لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود والتبن لصاحب البذر منهما لأن استحقاقه ليس بالشرط وإنما استحقاق الأجر بالشرط فإنما يستحق الأجر بالشرط والمسكوت عنه يكون لصاحب البذر وبعض أئمة بلخ رحمهم الله قالوا في هذا(23/106)
ص -53- ... الفصل التبن بينهما نصفان أيضا لأن فيما لم يتعرضا له يعتبر العرف والعرف الظاهر المناصفة بينهما في التبن والحب جميعا ولأن التبن في معنى التبع للحب واشتراط المناصفة في المقصود بمنزلة اشتراطه في التبع ما لم يفصل عنه بشرط آخر فيه مقصود.
والرابع: أن يشترطا المناصفة بينهما في الحب والتبن لأحدهما بعينه فإن شرطا التبن لصاحب البذر فهو جائز لأنهما لو سكتا عن ذكره كان لصاحب البذر فإذا نصا عليه فإنما صرحا بما هو موجب للعقد فلا يتغير به وصف العقد وإن شرطا التبن للآخر لم يجز لأن الآخر إنما يستحق بالشرط فلو صححنا هذا العقد أدى إلى أن يستحق أحدهما شيئا من الخارج بالشرط دون صاحبه بأن يحصل التبن دون الحب بخلاف الأول فاستحقاق رب البذر ليس بالشرط بل لأنه نماء بذره ثم التبن للحب قياس النخل للتمر ويجوز أن يكون النخل لصاحبه لا بشرط المزارعة والتمر بينهما نصفان ولكن لا يجوز أن يكون النخل للعامل بالشرط في المعاملة والتمر بينهما نصفان فكذلك في المزارعة ولو سميا لأحدهما أقفزة معلومة فسد العقد لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله بأن يكون الخارج الأقفزة المعلومة لأحدهما بعينه من غير زيادة.
ولو دفع إليه أرضا عشرين سنة على أن يزرعها ويغرسها ما بدا له على أن ما أخرج الله تعالى من ذلك فهو بينهما نصفان فهو جائز لأن التالة للأشجار بمنزلة البذر للخارج واشتراط ذلك على العامل في المزارعة صحيح فكذلك اشتراط الغرس على العامل بعد أن تكون المدة معلومة وما زرع وغرس بينهما نصفان حبه وتبنه وثمره ورطبه وأصول الرطب وعنبه وكرمه وأصول الكرم وحطبه وعيدانه لأن هذا كله حاصل بعمله وبقوة أرض صاحبه فإن الغروس تتبدل بالعلوق.
ألا ترى أن من غصب تالة فغرسها كان الشجر له بمنزلة ما لو غصب بذرا فزرعه فإن كان الكل حاصلا بعمله وقد اشترطا المناصفة في جميعه كان الكل بينهما نصفين.(23/107)
ولو اشترطا أن الثمر بينهما جاز والثمر بينهما على ما اشترطا فأما الشجر والكرم وأصول الرطبة فهو للغارس يقلعه إذا انقضت المعاملة وهو نظير ما بينا إذا شرط المناصفة في الحب أن التبن كله لصاحب البذر فهذا أيضا الثمر بينهما نصفان كما شرطا والشجر وأصول الرطبة كله للغارس لأن استحقاقه باعتبار ملك الأصل لا بالشرط ويقلعه انقضت المعاملة لأن عليه تسليم الأرض إلى صاحبها فارغة ولا يتمكن من ذلك إلا بقلع الأشجار وكذلك لو كان شرطا ذلك للغارس وإن كانا شرطاه لرب الأرض كانت المعاملة فاسدة كما بينا في التبن لأن استحقاق رب الأرض بالشرط فلو جوزنا هذا الشرط أدى إلى أن يثبت له استحقاق الخارج قبل أن يثبت لصاحبه بالشروط وربما لا يثبت لصاحبه بأن لا تحصل الثمار.
ولو كان الغرس والبذر من قبل صاحب الأرض كان جائزا في جميع هذه الوجوه إلا أن يشترط الشجر والكرم وأصول الرطبة للعامل فحينئذ تفسد المعاملة لأن استحقاق العامل هنا(23/108)
ص -54- ... بالشرط فلا يجوز أن يسبق استحقاق صاحب الأرض في الخارج وإن شرطا الثمر لأحدهما بعينه والشجر بينهما نصفان لم يجز لأن المقصود بالمعاملة الشركة في الثمار فهذا شرط يؤدي إلى قطع الشركة بينهما فيما هو المقصود فيفسد به العقد كما لو شرطا في المزارعة الحب لأحدهما بعينه والتبن بينهما نصفين وقد بينا هذا.
وإن اشترطا في المزارعة أن ما خرج منها من حنطة فهو بينهما نصفان وما خرج من شعير فهو لصاحب البذر كله يستوفيه فيأخذه فهذه مزارعة فاسدة وكذلك لو شرطا الشعير الذي سرق منها للذي ليس من قبله البذر فهو فاسد والمراد من هذا أنه قد يكون في الحنطة حبات شعير فتقلع وذلك إذا اشتد حبه قبل أن تدرك الحنطة وتجف فإذا شرطا ذلك لأحدهما بعينه فسد العقد لأن الحنطة والشعير كل واحد منهما ريع مقصود فهذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في ريع مقصود وذلك مفسد للعقد ومن الجائز أن يحصل الشعير ويصيب الحنطة آفة فيختص به أحدهما وذلك ينفي صحة المزارعة بينهما.
ولو دفع زرعا في أرض قد صار بقلا مزارعة واشترطا أن الحب بينهما نصفان والتبن لصاحب الأرض أو سكتا عنه فهو جائز والتبن لصاحب الأرض ولو شرطا التبن للعامل فهو فاسد لأن دفع الزرع الذي صار بقلا مزارعة كدفع الأرض والبذر مزارعة وقد بينا هذا الحكم فيما إذا دفع الأرض والبذر مزارعة فكذلك إذا دفع الفضل مزارعة والله أعلم.
باب عقد المزارعة على شرطين(23/109)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا يزرعها سنته هذه ببذره وعمله على أنه إن زرعها في أول يوم من جمادى الأولى فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها في أول يوم من جمادى الآخرة فالثلثان من الخارج لرب الأرض والثلث للمزارع فالشرط الأول جائز. والثاني فاسد في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من أجاز المزارعة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الشرطان جائزان وهذه المسألة تنبني على ما بينا في الإجارات إذا دفع ثوبا إلى خياط فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم ووجه البناء عليه أن صاحب الأرض مؤاجر أرضه من صاحب البذر وإن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل وقد شرط عليه إقامة العمل في أحد الوقتين وسمى بمقابلة العمل في كل وقت بدلا مخالفا للبدل الآخر فيكون بمنزلة الخياطة في اليوم وفي الغد عند أبي حنيفة رحمه الله الشرط الأول صحيح والثاني فاسد إما لأنه علقه بالأول أو لأنه اجتمع سببان في الوقت الثاني فإن زرعها في جمادى الأولى فالخارج بينهما نصفان وإن زرعها في جمادى الآخرة فالخارج كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض إن كان البذر من قبل العامل وأجر مثل العامل إن كان البذر من قبل صاحب الأرض وعندهما الشرطان جميعا جائزان فإن زرعها في جمادى الآخرة فالخارج بينهما أثلاثا.
ولو قال على أن ما زرع من هذه الأرض في يوم كذا فالخارج منه بينهما نصفان وما(23/110)
ص -55- ... زرع منها في يوم كذا فللمزارع ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثاه فهذا فاسد كله لأنه أجرها على شيء غير معروف فإن مقدار ما يزرع منها في الوقت الأول على شرط النصف غير معلوم وكذلك مقدار ما يزرع في الوقت الثاني على شرط الثلث غير معلوم فيفسد العقد كله للجهالة كما لو دفع ثوبه إلى خياط على أن ما خاط منه اليوم فبحساب درهم وما خاط منه غدا فبحساب نصف درهم كان فاسدا كله ولو كان في المسألة الأولى زرع نصفها في أول يوم من جمادى الأولى ونصفها في أول يوم من جمادى الآخرة فما زرع في الوقت الأول فهو بينهما على مااشترطا وما زرع في الوقت فهو لصاحب البذر في القول الأول وفي القول الثاني كل واحد منهما على ما اشترطا لأن الشرط الأول في المسألة الأولى كان صحيحا في القول الأول وفي القول الثاني الشرطان صحيحان فزراعة البعض معتبرة بزراعة الكل إذ ليس في هذا التبعيض إضرار بأحد وهو نظير مسألة الخياطة إذا خاط نصف الثوب اليوم ونصفه غدا فله فيما خاطه اليوم نصف درهم اعتبارا للبعض بالكل وفيما خاطه غدا ربع درهم في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة أجر مثله لا ينقص عن ربع درهم ولا يزاد على نصف درهم اعتبارا للبعض بالكل بخلاف قوله على أن ما زرع منها لأن هناك صرح بالتبعيض والبعض الذي تناوله كل شرط مجهول في نفسه فكان العقد فاسدا وهنا أضاف كل شرط إلى جملة وهي معلومة والتبعيض عند إقامة العمل ولا جهالة في ذلك أيضا.(23/111)
ولو قال: على أنه إن زرعها بدالية أو سانية فالثلثان للمزارع والثلث لرب الأرض وإن زرعها بماء سيح أو سقت السماء فالخارج بينهما نصفان فهو جائز على ما اشترطا وهذا بناء على قول أبي حنيفة الآخر فأما على قياس قوله الأول وهو قول زفر رحمه الله فيفسد الشرطان جميعا لأنه ذكر نوعين من العمل وجعل بمقابلة كل واحد منهما جزأ من الخارج معلوما فهو بمنزلة ما لو دفع ثوبا إلى خياط على أنه إن خاطه خياطة رومية فأجره درهم وإن خاطه خياطة فارسية فأجره نصف درهم وقد بينا هذا في الإجارات.
ولو قال: على أن ما زرع منها بدلو فللعامل ثلثاه ولرب الأرض ثلثه وإن زرع منها بماء سيح فللعامل نصفه فهذه مزارعة فاسدة لجهالة كل واحد من العملين فإنه صرح بالتبعيض وشرط أن يزرع بعضها بدلو على أن له ثلثي الخارج وذلك البعض مجهول وكذلك فيما شرط الزراعة بماء السيح وهو بمنزلة رجل دفع إلى خياط خمسة أثواب يقطعها قمصا على أن ما خاط منها روميا فله درهم في كل ثوب وما خاط منها فارسيا فله نصف درهم في كل ثوب وهناك يفسد العقد كله للجهالة فهذا قياسة.
ولو دفع إليه أرضا يزرعها خمس سنين ما بدا له على أن ما خرج منها من شيء في السنة الأولى فهو بينهما نصفان وفي السنة الثانية لرب الأرض الثلث وللمزارع الثلثان وسميا لكل سنة شيئا معلوما فهو جائز من أيهما شرط البذر لأن هذه عقود مختلفة بعضها معطوف على البعض ففي السنة الأولى عقد إجارة مطلق وفي السنة الثانية مضاف إلى وقت والإجارة(23/112)
ص -56- ... تحتمل الإضافة إلى وقت في المستقبل فيجعل في حق كل عقد من هذه العقود كأنهما أفردا ذلك العقد بخلاف الأول والعقد هناك واحد باتحاد المدة وإنما التغاير في شرط البدل ثم جواز المزارعة للحاجة وهما يحتاجان إلى هذا لأن الأرض في السنة الأولى يكون فيها من القوة ما لا يحتاج إلى زيادة عمل لتحصيل الريع وفي السنة الثانية يحتاج إلى زيادة العمل لنقصان تمكن في قوة الأرض بالزراعة في السنة الأولى فيشترط للمزارع زيادة في السنة الثانية باعتبار زيادة عمله.
وكذلك لو اشترطا أن البذر في السنة الأولى من قبل الزارع وفي السنة الثانية من قبل رب الأرض وبينا نحو ذلك في كل سنة فهو جائز لأنهما عقدان مختلفان أحدهما معطوف على الآخر ففي السنة الأولى العامل مستأجر للأرض بنصف الخارج وفي السنة الثانية رب الأرض مستأجر للعامل بنصف الخارج وكل واحد من العقدين صحيح عند الإنفراد فكذلك عند الجمع بينهما وهو بمنزلة رجل دفع عبده إلى حائك يقوم عليه في تعليم الحياكة خمسة أشهر على أن يعطيه في كل شهر خمسة دراهم وعلى أن يعطيه الحائك في خمسة أشهر أخرى في كل شهر عشرة دراهم فهو جائز على ما اشترطا للمعنى الذي بينا.(23/113)
ولو دفع إليه أرضه ثلاث سنين على أن يزرعها في السنة الأولى ببذره ما بدا له على أن الخارج بينهما نصفان وعلى أن يزرعها في السنة الثانية ببذره وعمله على أن الخارج له وعليه أجر مائة درهم لرب الأرض وعلى أن يزرعها في الثالثة ببذر رب الأرض على أن الخارج لرب الأرض وللمزارع أجر مائة درهم فهذا جائز كله لأن العقد بينهما في السنة الأولى مزارعة صحيحة بنصف الخارج سواء كان البذر من قبل رب الأرض أو من قبل العامل وفي السنة الثانية العامل استأجر الأرض بأجرة معلومة لمنفعة معلومة وفي السنة الثالثة رب الأرض استأجر العامل ببدل معلوم لعمل معلوم وكل عقد من هذه العقود صحيح عند الإنفراد فكذلك عند الجمع لأن الإضافة إلى وقت في المستقبل لا تمنع صحة الإجارة.
وإذا دفع إلى رجل أرضا على أن يزرعها أرزا أو قال رزا كل ذلك لغة عشر سنين ويغرسها نوى ببذره وعمله وعلى أن يحول ذلك من موضعه إلى موضع آخر من الأرض ويسقيه ويقوم عليه على أن ما خرج منه فهو بينهما نصفان فهذا جائز سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض لأن العقد بينهما مزارعة بشرائطها وإنما في هذا العقد زيادة شرط الحوالة على العامل وهو من عمل الزراعة به يزكو الريع فيكون بمنزلة اشتراط عمل الكراب والسقي عليه ثم الحوالة تكون في بعض الأشياء الذي تزرع كالباذنجان والأرز والأشجار وذلك معلوم عند أهل الصنعة وربما يحتاج إليه في البعض دون البعض فلا يشترط إعلام ما يحوله بعينه إما لأنه معلوم بالعادة أو لأن في اشتراط إعلام ذلك بعض الحرج والحرج مدفوع.
ولو دفع إليه أرضين على أن يزرع هذه أرزا أو هذه أرزا ببذره وعلى أن يحول ما يزرع(23/114)
ص -57- ... في هذه في هذه الأخرى وما يزرع في هذه في هذه الأخرى ويسقيه ويقوم عليه فما خرج فهو بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لوجهين:
أحدهما: أنه اشترط عليه العمل في أرضين في إحداهما بالزراعة وفي الأخرى بالحوالة على أن تكون الشركة بينهما في الخارج من إحداهما وذلك مفسد للعقد.
والثاني: أنه شرط عليه شرطا لا يمكنه الوفاء به وهو تحويل جميع ما ينبت في كل واحدة من الأرضين إلى الأرض الأخرى وربما لا يتمكن من ذلك بأن لا تتسع له الأرض الأخرى.
يوضحه: أنه لا يحول جميع ما يزرع في هذه الأرض إلى الأرض الأخرى, إلا بعد أن يقلعه من الأرض التي زرع فيها وعقد المزارعة في كل واحد من الأرضين معقود على حدة فبالقلع ينتهي ويصير كأنه شرط عليه في كل عقد عملا بعد انتهاء عقد المزارعة وذلك مفسد للعقد بخلاف الأرض الواحدة فالعقد فيها واحد ولا ينتهي بتحويل بعض ما نبت فيها من موضع إلى موضع منها وكذلك في الأرضين لو شرطا الزرع في إحداهما والتحويل إلى الأخرى والغرس في إحداهما والتحويل إلى الأخرى أو كانت أرضا واحدة وشرطا أن يزرع أو يغرس ناحية منها معلومة على أن يحول ذلك في ناحية منها أخرى معلومة فهذا فاسد لأنه إذا ميز إحدى الناحيتين من الأخرى كانتا في معنى أرضين وكذلك هذا الجواب في كل ما يحول كالزعفران ونحوه.(23/115)
وإذا دفع إلى رجل أرضه سنته هذه على أن يزرعها ببذره قرطما فما خرج منها من عصفر فهو للمزارع وما خرج من قرطم فهو لرب الأرض أو على عكس ذلك فالعقد فاسد سواء كان البذر من قبل رب الأرض أو من قبل المزارع لأن القرطم والعصفر كل واحد منهما ريع مقصود في هذه الزراعة فاشتراط أحد الجنسين لكل واحد منهما بعينه شرط يفوت المقصود بالمزارعة وهو الشركة بينهما في الريع وربما يؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الريع مع حصوله بأن يحصل أحدهما دون الآخر وقد يجوز أن يحصل العصفر ثم تصيبه آفة فلا يحصل القرطم ويكون ذلك للذي شرط له العصفر فهو بمنزلة ما لو دفع إليه أرضا ليزرعها حنطة وشعيرا على أن الحنطة لأحدهما بعينه والشعير للآخر بعينه وكذلك هذا في كل شيء له نوعان من الريع كل واحد منهما مقصود كبزر الكتان إذا شرط لأحدهما بعينه الكتان وللآخر البزر والرطبة إذا شرطا لأحدهما بعينه بزر الرطوبة وللآخر العنب فالعقد فاسد.
ولو شرطا القرطم لأحدهما بعينه والعصفر بينهما نصفان أو العصفر لأحدهما بعينه والقرطم بينهما نصفان لم يجز ذلك من أيهما كان البذر لأن كل واحد منهما ريع مقصود ولا يجوز في المزارعة تخصيص أحدهما بشرط ريع مقصود له وكذلك هذا في الكتان وبزره والرطبة وبزرها بخلاف مسألة التبن فإنه إذا شرط لصاحبه البذر والحب بينهما نصفان كان جائزا لأن التبن ليس بريع مقصود.(23/116)
ص -58- ... ألا ترى أنه لا يشتغل بالزراعة لمقصود التبن خاصة بل المقصود هو الحب فإذا شرطا الشركة فيما هو المقصود جاز العقد إن شرطا تخصيص صاحب البذر بما ليس بمقصود فأما في هذه المسائل فكل واحد من النوعين مقصود فاشتراط تخصيص أحدهما بأحد النوعين يقطع الشركة بينهما فيما هو مقصود وذلك مفسد للعقد واشتراط بزر البطيخ أو القثاء لأحدهما بمنزلة اشتراط التبن لأن ذلك غير مقصود بل هو تبع للمقصود كالتين بخلاف بزر الرطبة فإنه مقصود وربما بلغ قيمة القت أو يزيد عليه فهو بمنزلة العصفر والكتان على ما بينا والله أعلم.
باب اشتراط عمل العبد والبقر من أحدهما
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا وبذرا على أن يزرعها هو وعبده هذا فما خرج فللمزارع ثلثه ولعبده ثلثه ولرب الأرض ثلثه فهذا جائز وما خرج فللمزارع ثلثاه نصيبه ونصيب عبده لأن العبد ليس من أهل الملك بل المولى يخلفه في ملك ما يكون من كسبه فاشتراط الثلث لعبد المزارع يكون اشتراطا للمزارع واشتراط عمل عبد المزارع معه كاشتراط البقر عليه لأن عمل الزراعة يتأتى له بالبقر وبمن يعينه على العمل ثم يجوز اشتراط العمل على المزارع إذا كان البذر من قبله أو لم يكن فكذلك اشتراط عمل عبده معه يجوز.(23/117)
وكذلك لو لم يشترطا على العبد عملا ولكنه شرط لعبده ثلث الريع فالمشروط للعبد مشروط لمولاه فكأنه شرط الثلثين للمزارع وهو بمنزلة ما لو شرط الثلث لبقره فذلك اشتراط منه لصاحب البقر وسواء شرط العمل ببقره أو لم يشترط ولو شرط الثلث لمكاتبه أو لمكاتب رب الأرض فإن اشترط عمله عليه فهو جائز وهو مزارع معه له ثلث الريع لأن المكاتب أحق بمكاسبه وهو بمنزلة الحريدا فهذا في معنى دفع الأرض والبذر مزارعة إلى حرين على أن لكل واحد منهما ثلث الخارج وإن لم يشترط عليه عملا فالمزارعة جائزة بين المزارع ورب الأرض فاشتراط ثلث الخارج للمكاتب باطل لأن المشروط للمكاتب لا يكون مشروطا لمولاه فإن المولى لا يملك كسب مكاتبه ما بقيت الكتابة فالمشروط له كالمشروط لأجنبي آخر وبطلان هذا الشرط لأنه ليس من جهته بذر ولا أرض ولا عمل والخارج لا يستحق إلا بأحد هذه الأشياء ولكن هذا الشرط وراء عقد المزارعة بين المزارع ورب الأرض فلا يفسد به العقد بل يكون ثلث الريع للمزارع كما شرط له والثلثان لرب الأرض لأن رب الأرض والبذر لا يستحق بالشرط والمزارع هو الذي يستحق بالشرط فما وراء المشروط له يكون لرب البذر ويجعل ما بطل الشرط فيه كالمسكوت عنه.
وكذلك لو شرط الثلث لامرأته أو لابنه أو لأبيه فهو بمنزلة الشرط لأجنبي آخر إن شرط عليه العمل معه كان صحيحا وإن لم يشترط عليه العمل معه كان باطلا والمزارعة بين رب الأرض والمزارع صحيحة بالثلث.
ولو كان البذر من العامل فهو على هذا القياس ما شرط لعبد العامل فهو للعامل سواء شرط عليه العمل أو لم يشترط والمزارعة جائزة وما شرط لمكاتبه أو لابنه أو لامرأته فهو(23/118)
ص -59- ... كالمشروط لأجنبي آخر فإن لم يشترط عليه أن يعمل معه فهذا الشرط باطل وذلك الثلث للعامل لأنه نماء بذره وصاحب الأرض يستحق بالشرط فلا يستحق إلا ما شرط له ولو شرط عليه العمل وعمل معه فله أجر مثله على المزارع لأن المزارع استأجر الأرض بثلث الخارج ثم استأجر العامل بثلث الخارج ليعمل معه وقد بينا أن هذا العقد يفسد بينهما لانعدام التخلية حين شرط عمل صاحب البذر المستأجر للأرض مع العامل الآخر ولكنهما عقدان مختلفان جرى بينه وبين شخصين مختلفين فبفساد أحدهما لا يفسد الآخر فيكون للعامل الآخر أجر مثله على المزارع لأنه استوفى عمله بعقد فاسد ولصاحب الأرض ثلث الخارج لأنه شرط له ذلك بعقد صحيح وثلثا الزرع طيب للعامل لأنه لا يتمكن خبث من جانب الأرض حيث صح العقد بينه وبين رب الأرض فيطيب له ثلثا الريع.
وكذلك لو شرط عمل رب الأرض فهو كاشتراط بقر رب الأرض وذلك يفسد المزارعة بينهما وإن كان على العبد دين فعبد رب الأرض إذا كان مديونا بمنزلة مكاتبه لأن كسبه حق غرمائه والمشروط له لا يكون مشروطا لمولاه وكذلك لو شرط عليه من العمل فالمشروط عليه لا يكون مشروطا على مولاه فيكون له أجر مثله والعقد صحيح بين العامل الذي من قبله البذر وبين رب الأرض بثلث الخارج كما شرط لرب الأرض.(23/119)
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرعها ببذره وعمله على أن له ثلث الخارج ولرب الأرض ثلثه وعلى أن يكربها ويعالجها ببقر فلان على أن لفلان ثلث الخارج فرضي فلان بذلك فعلى العامل أجر مثل البقر بثلث الخارج وقد بينا أن البقر لا يكون مقصودا في المزارعة فكان العقد بينهما فاسدا وقد استوفى منفعة بقره فله أجر مثله عليه وثلث الخارج لرب الأرض وثلثاه للعامل طيب لأنه لا فساد في العقد بينه وبين رب الأرض وإذا كان البذر من قبل رب الأرض كان الثلثان له وعليه أجر مثل البقر لأنه استأجر العامل بثلث الخارج وهو جائز واستئجار البقر مقصود بثلث الخارج وهو فاسد ولو كانا اشترطا عليه أن يعمل بنفسه مع بقره بالثلث حتى استحصد الزرع جاز وهما مزارعان جميعا لأن عمل البقر هنا تبع لعمل صاحبه وقد بينا جواز اشتراط البقر على العامل في عقد المزارعة ولا فرق بين أن يشترط ذلك على العاملين أو على أحدهما كسائر الآلات إذا شرط على أحد العاملين في الإجارة.
ولو كان البذر والبقر من واحد والأرض من آخر والعمل من ثالث كان فاسدا لما فيه من دفع البذر والبقر مزارعة ودفع كل واحد منهما على الانفراد مقصودا يفسد عقد المزارعة فدفعهما أولى ثم الخارج كله لصاحب البذر وعليه للعامل أجر مثل عمله ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه يتصدق صاحب البذر بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بسبب فاسد ولو كان البذر من أحدهم والبقر من الآخر والأرض والعمل من الآخر كان فاسدا أيضا وفيه حديث مجاهد رحمه الله كما بينا.
ولو دفع إليه أرضا يزرعها سنته هذه ببذره وبقره وعمله على أن يستأجر فيها أجراء من(23/120)
ص -60- ... مال الزارع فهو جائز لأن هذا شرط يقتضيه العقد فإن العمل بمطلق العقد كله يصير مستحقا على الزارع وله أن يقيمها بنفسه وأعوانه وأجرائه وهو الذي يستأجرهم لذلك فيكون الأجر عليه في ماله وإن لم يذكره فالشرط لا يزيده إلا وكادة ولو اشترطا أن يستأجر الأجراء من مال رب الأرض فهذه مزارعة فاسدة لأن الأجير الذي يستوجب الأجر من مال رب الأرض يكون أجيرا له فإنه إنما يستوجب الأجر عليه إذا كان عاملا له واشتراط عمل أجير رب الأرض كاشتراط عمل رب الأرض مع المزارع وذلك مفسد للمزارعة.
وكذلك لو شرطا أن يستأجرا الأجراء من مال المزارع على أن يرجع به فيما أخرجت الأرض ثم يقتسمان ما بقي نصفين فهذا فاسد لأن القدر الذي شرطا فيه رجوع المزارع من الريع بمنزلة المشروط للمزارع فكأنه شرط له أقفزة معلومة من الخارج والباقي بينهما نصفان وذلك مفسد للعقد لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله.(23/121)
وإن كان البذر من قبل رب الأرض فاشترط على الزارع أجر الأجراء من ماله جاز لما بينا أن العمل كله مستحق عليه وهو متمكن من إقامتها بنفسه وأجرائه ولو شرط أجر الأجراء على رب الأرض من ماله لم يجز وهو بمنزلة اشتراط عمل رب الأرض والبذر مع المزارع وكذلك لو اشترطاه على الزارع على أن يرجع به في الخارج فهو فاسد بمنزلة ما لو شرطا له ذلك العقد من الخارج فيفسد به العقد ويكون الريع كله لصاحب البذر وللعامل أجر مثله فيما عمل وأجر مثل أجرائه فيما عملوا ولا يشبه هذا المضاربة فإنه لو دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف على أن أجر الأجراء من المال كان جائزا لأن ذلك شرط يقتضيه العقد فإن أجر الأجراء بمنزلة نفقة المضارب إذا خرج للعمل في مال المضاربة وذلك يكون في المال بغير شرط فأجراء العمل في مال المضاربة كذلك فالشرط لا يزيده إلا وكادة وهذا لأن مقتضى المضاربة الشركة بينهما في الربح خاصة والربح لا يظهر إلا بعد أجر الأجراء كما لا يظهر إلا بعد رفع رأس المال فهذا الشرط لا يغير مقتضى العقد فأما عقد المضاربة فمقتضاه الشركة في جميع الريع فاشتراط أجر الأجراء من الريع أو على أن يرجع به العامل في الريع بمنزلة اشتراط رفع صاحب البذر بذره من الريع وذلك مفسد للعقد ولو كانا اشترطا أن أجر الأجراء على المضارب في ماله وعلى رب المال في ماله كان ذلك باطلا وتفسد المضاربة لأنه يغير مقتضى العقد فإن أجر الأجراء في مال المضاربة فإذا شرط على أحدهما خاصة كان هذا شرطا مخالفا لموجب العقد فيفسد به العقد والله أعلم.
باب التولية في المزارعة والشركة(23/122)
قال رحمه الله: رجل دفع إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان ولم يقل له اعمل فيه برأيك فله أن يستأجر فيه الأجراء بماله لأنه التزم عمل الزراعة في ذمته فإن شاء أقامه بنفسه وإن شاء بأعوانه وأجرائه ولما استأجره رب الأرض والبذر مطلقا لعمل الزراعة مع علمه أنه قد يعجز عن إقامة جميع الأعمال بنفسه وقد يبتلى بسوء أو(23/123)
ص -61- ... مرض لا يمكنه إقامة العمل معه فقد صار راضيا بإقامته العمل بأعوانه وأجرائه وليس له أن يوليها أحدا فيدفعها إليه مع البذر يعملها على أن الخارج بينهما نصفان لأنه يوجب للغير شركة في الخارج من يد رب الأرض فإنما رضي رب الأرض بشركته لا بشركة غيره ولأنه لا يملك نصيبه قبل إقامة العمل فلا يتمكن من إيجابه لغيره بمطلق العقد ولا يتمكن من إيجاب نصيب رب الأرض لغيره لأن رب الأرض لم يرض به وإن فعل ذلك فعملها الرجل فالزرع بين الآخر والأوسط نصفان لأن الأول صار غاصبا للأرض والبذر بتولية العقد فيه إلى الثاني وإيجاب الشركة في الخارج.
ومن غصب أرضا وبذرا ودفعهما مزارعة كان الخارج بين الغاصب والمزارع على شرطهما لا شيء منه لرب الأرض ولرب الأرض أن يضمن بذره أيهما شاء لأن كل واحد منهما غاصب فتعدى في حقه الثاني بالإلقاء في الأرض لا على وجه رضي به رب الأرض والأول بالدفع إلى الثاني مع إيجاب الشركة في الخارج منه وكذلك نقصان الأرض في قول محمد وفي قياس قول أبي يوسف الأول يضمن أيهما شاء، فأما في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر فإنما يضمن نقصان الأرض الثاني خاصة لأنه هو المتلف بعمله والعقار يضمن بالإتلاف دون الغصب عندهما فإن ضمن الثاني فله أن يرجع بما ضمن على الأول لأنه مغرور من جهته وإن ضمن الأول لم يرجع على الثاني بشيء لأنه ملك البذر بالضمان فإنما دفع بذره مزارعة وكذلك نقصان الأرض عند محمد رحمه الله إذا ضمن الأول لم يرجع على الثاني لأنه لا فائدة فيه فإن الثاني يرجع على الأول بما يضمنه لأجل الغرور.(23/124)
ولو قال له: اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها فالتولية جائزة ونصف الخارج للمزارع الآخر ونصفه لرب الأرض ولا شيء منه للمزارع الأول لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم والدفع إلى الغير مزارعة بالنصف من رأيه فيقوم هو مقام رب الأرض والبذر ثم هو يقيم غيره مقام نفسه في ثبوت حق الشركة له في الخارج بمقابلة عمله عند حصوله وقد رضي به صاحب الأرض حين أجاز صنعه على العموم فهو كالوكيل يوكل غيره فيما وكل به فيصح منه إذا قيل له اعمل فيه برأيك وإن ثبت أن الثاني قائم مقام الأول فإنما يستحق النصف الذي كان يستحقه الأول ولا يستحق شيئا من نصيب رب الأرض لأنه لم يرض بذلك فلهذا كان الخارج بين المزارع الآخر وبين رب الأرض نصفين.
ولو لم يقل له اعمل فيه برأيك فأشرك فيه رجلا ببذر من قبل ذلك الرجل واشتركا على أن يعملا بالبذرين جميعا على أن الخارج بينهما نصفان فعملا على هذا فجميع الخارج بينهما نصفان والمزارع الأول ضامن لبذر صاحب الأرض لأنه مخالف له بإلقائه في الأرض على وجه يثبت للغير شركة في الخارج منه وإن خلطه ببذر الآخر فهو ضامن له بالخلط لأنه اشتراك لم يرض به صاحب الأرض والبذر ثم هو بالضمان يملك بذر صاحب الأرض فظهر أنهما زرعا ببذر بينهما نصفين فيكون الخارج بينهما نصفين على قدر البذر وهما ضامنان(23/125)
ص -62- ... نقصان الأرض لأنهما باشرا عمل الزراعة فكانا مباشرين إتلاف الجزء الذي تمكن النقصان في الأرض بذهاب قوتها فعليهما ضمان ذلك ولا يرجع الثاني على الأول بشيء من النقصان لأن الثاني عامل لنفسه والأول كالمعير منه لنصف الأرض والمستعير لا يرجع بما يلحقه من الضمان على المعير ثم يأخذ كل واحد منهما من نصيبه ما غرم وما أنفق ويتصدق بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بغير رضاه.
ولو كان أمره أن يعمل فيها برأيه ويشارك فيها من أحب والمسألة بحالها جاز ونصف الخارج للآخر لأنه نماء بذره ونصفه بين الأول ورب الأرض نصفان لأنه نماء بذر رب الأرض والمزارع موافق له في عمل الزراعة فيه فالخارج بينهما على الشرط ولا شيء لرب الأرض على واحد منهما لأن نصف الأرض زرعه الأول ونصفه زرعه الثاني والأول كالمعير منه لذلك النصف وقد رضي به رب الأرض حين أمره أن يعمل في ذلك برأيه وأن يشارك من أحب ولو لم يكن شاركه ولكنه دفع إليه البذر على أن يعمل فيه ويبذر مثله من عنده في الأرض على أن الخارج بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لأن المزارع الأول قائم في الدفع مقام المالك حين فوض الأمر إلى رأيه على العموم وقد بينا أن المالك إذا دفع البذر والأرض إلى رجل على أن يزرعها مع مثل ذلك البذر من عنده على أن الخارج بينهما نصفان لم يجز لأنه يجعل منفعة نصف الأرض له بإزاء عمله لصاحب الأرض في النصف الآخر فهذا مثله ثم المزارع الآخر له نصف الخارج لأنه نماء بذره وعليه أجر نصف مثل نصف الأرض لرب الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بعقد فاسد والذي يلي قبضه منه المزارع الأول لأنه وجب بعقده ويكون نصف الزرع بين المزارع الأول ورب الأرض على الشرط لأنه نماء بذر رب الأرض والمزارع الأول لم يصر مخالفا له بالدفع إلى الثاني بحكم عقد فاسد لأن الأمر مفوض إلى رأيه فإنما يضمن بالخلاف لا بالفساد ويطيب لهما هذا النصف لأنه لا فساد في العقد الذي جرى بينهما وقد صار(23/126)
هذا النصف من الزرع مربى في أرض رب الأرض فلا يتمكن فيه الخبث وأما المزارع الآخر فيأخذ مما أخرج بذره ونفقته وما غرم من الأجر ويتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد.
ولو لم يكن رب الأرض أمره أن يعمل فيه برأيه أو يشارك في المزارعة والمسألة بحالها كان الخارج بين المزارع الأول والآخر نصفين لأن الأول صار ضامنا بذر رب الأرض بالخلاف فالخارج نماء بذرهما بسبب عقد فاسد جرى بينهما فيكون بينهما نصفين على قدر البذر وللمزارع الأول على الآخر أجر مثل نصف الأرض لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بحكم عقد فاسد جرى بينهما والأول وإن صار غاصبا للأرض ولكن وجوب أجر المثل باعتبار العقد وهو العاقد فيكون بمنزلة من غصب أرضا وأجرها ويضمنها رب الأرض نقصان الأرض في قول محمد رحمه الله وهو قول أبي يوسف الأول لأن الأول غاصب للأرض والثاني متلف في مقدار النقصان فيضمن أيهما شاء ويرجع به الآخر على الأول إذا ضمن لأنه(23/127)
ص -63- ... مغرور من جهته والغرور يتمكن بالعقد الفاسد كما يتمكن بالعقد الصحيح.
وظاهر ما نقل في الكتاب يدل على أنه يضمن كل واحد منهما نصف النقصان أيهما شاء فأما في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله فإن رب الأرض يضمن جميع النقصان المزارع الآخر لأنه هو المتلف وضمان النقصان في العقار يجب على المتلف دون الغاصب عنده ثم يرجع به المزارع الآخر على الأول بحكم الغرور.
ولو دفع إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه بالنصف ولم يقل له اعمل فيه برأيك فدفعها المزارع إلى رجل آخر على أن يزرعها سنته هذه بذلك البذر على أن للآخر ثلث الخارج وللأول ثلثاه فعملهما الثاني على هذا فالخارج بينهما أثلاث كما شرطاه في العقد الذي جرى بينهما والمزارع الأول صار مخالفا بإشراك الغير في الخارج بغير رضا رب المال فلرب الأرض أن يضمن بذره أيهما شاء وكذلك نقصان الأرض في قول محمد وأبي يوسف الأول فإن ضمنها الآخر رجع على الأول بذلك كله وإن ضمنها الأول لم يرجع على الآخر وفي قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله إنما يضمن نقصان الأرض للآجر ويرجع هو على الأول ثم يأخذ الأول من نصيبه بذره الذي ضمن وما غرم ويتصدق بالفضل لتمكن الخبث في تصرفه بخلافه ولا يتصدق الآخر بشيء قال لأنه كان أجيرا بنصف الخارج وهو سهو والصحيح أن يقال لأنه كان أجيرا بثلث الخارج ومعنى هذا التعليل أن العقد بين الأول والثاني صحيح وإن كان الأول غاصبا مخالفا فالثاني إنما استحق الأجر على عمله بعقد صحيح فلا يلزمه أن يتصدق بشيء بخلاف ما سبق فهناك الثاني إنما استحق الخارج بكونه نماء بذره وقد رباه في أرض غيره بغير رضا صاحب الأرض.(23/128)
ولو كان رب الأرض قال له اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها كان ثلث الخارج للآخر ونصفه لرب الأرض وسدسه للمزارع الأول لأن الأول لم يصر مخالفا بالدفع إلى الثاني ولكنه أوجب له ثلث الخارج بعقد صحيح فينصرف ذلك إلى نصيبه خاصة وذلك ثلثا نصيبه ورب الأرض مستحق لنصف الخارج كما شرط لنفسه ويبقى ثلث نصيب المزارع الأول وذلك سدس جميع الخارج فيكون له بضمان العمل في ذمته وإن كان دفع إليه البذر والأرض على أن يزرعها سنته هذه فما رزقه الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان وقال له اعمل في ذلك برأيك فدفعها المزارع إلى رجل بالنصف فهو جائز وللآخر نصف الخارج لأن عقد المزارع الأول معه بعد تفويض الأمر إلى رأي الأول على العموم كعقد رب الأرض فيستحق هو نصف الخارج والنصف الآخر بين الأول وبين رب الأرض نصفين لأن رب الأرض ما شرط لنفسه هنا نصف جميع الخارج وإنما شرط لنفسه نصف ما رزقه الله تعالى للأول وذلك ما وراء نصيب الآخر فكان ذلك بينهما نصفان وفيما تقدم, إنما شرط رب الأرض لنفسه نصف جميع الخارج فلا ينتقض حقه بعقد الأول مع الثاني.(23/129)
ص -64- ... وكذلك لو قال على أن ما أخرج الله لك منها من شيء فهو بيننا نصفين أو قال ما أصبت من ذلك من شيء فهو بيننا نصفان فهذا وقوله وما رزقك الله سواء ولو لم يقل له اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها كان الأول مخالفا ضامنا حين زرعها الآخر لما قلنا والخارج بينهما نصفان ولا شيء منه لرب الأرض ويضمن رب الأرض بذره أيهما شاء وفي نقصان الأرض خلاف كما بينا.
ولو لم يزرع الآخر حتى ضاع البذر من يده أو غرقت الأرض ففسدت ودخلها عيب ينقصها فلا ضمان على واحد منهما في شيء من ذلك لأن الأول بمجرد الدفع إلى الثاني لا يصير مخالفا.
ألا ترى أنه لو دفع إليه البذر والأرض واستعان به في عمل الزراعة أو استأجره على ذلك بدراهم لم يكن مخالفا وإنما يصير مخالفا بإيجاب الشركة للغير في الخارج وذلك لا يحصل بمجرد العقد ولا بدفع الأرض والبذر إليه وإنما تكون حقيقة الشركة عند حصول الخارج وسببه إلقاء البذر في الأرض على طريق المزارعة فما لم يوجد هذا السبب لا يصير واحد منهما مخالفا فلهذا لا ضمان على واحد منهما لرب الأرض والدليل عليه أن الشركة بعقد المزارعة لا تكون في البذر بل تكون في النماء الحاصل من البذر وسببه ليس هو قبض المزارع البذر وإنما سببه إلقاء البذر في الأرض.(23/130)
ولو دفع إليه أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه بالنصف وقال له اعمل فيه برأيك فدفعها المزارع إلى آخر مزارعة على أن للمزارع الآخر الثلثين مما تخرج الأرض وللأول الثلث فهذا فاسد لأن إيجاب الأول للثاني إنما يصح في مقدار نصيبه من الخارج وقد أوجب له أكثر من نصيبه فالزيادة على مقدار نصيبه إنما يوجبها له في نصيب رب الأرض والبذر وهو غير راض بذلك أو قال له اعمل فيه برأيك لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم على أن يكون له نصف الخارج فلهذا فسد العقد وإذا حصل الخارج كان للآخر أجر مثله على الأول لأنه استوفى عمله بحكم عقد فاسد جرى بينهما والزرع بين رب الأرض والمزارع الأول نصفان لأن عمل أجيره إجارة فاسدة بمنزلة عمل أجيره أن لو استأجره بالدراهم إجارة صحيحة وذلك كعمله بنفسه فيكون الخارج بينهما على الشرط ويطيب لهما ذلك لأنه لا فساد في العقد الذي جرى بينهما وإنما الفساد في العقد المعقود على عمل المزارع الآخر ولسببه لا يتمكن الخبث في الخارج قال ولا يشبه هذا المضاربة يريد به ما بينا في كتاب المضاربة في هذه الصورة بعينها لأن للمضارب الآخر نصف الربح نصيب المضارب الأول ويرجع على الأول بسدس الربح لأن الربح دراهم أو دنانير فاستحقاق رب المال بعض ما شرطه الأول للثاني لا يبطل العقد بينهما ولكن يثبت للآخر حق الرجوع على الأول بمثله كما لو استأجره بدراهم أو دنانير بأعيانها فاستحقت وفي المزارعة الذي أوجبه الأول للآخر طعام بعينه وهو الخارج من الأرض واستحقاق رب الأرض والبذر بعض ما أوجبه له يبطل العقد الذي جرى بينهما.(23/131)
ص -65- ... يوضح الفرق أنه لا مجانسة بين الآخر وبين الخارج من الأرض فلا يمكن الجمع بينهما للمزارع الآخر بعقد واحد وفي المضاربة الأجر من جنس الربح فيجوز أن يجمع بينهما للمضارب الآخر على أن ما يأخذ مما شرط له من الربح مقدار ما تمكن الأول من تسليمه إليه ويرجع عليه بما زاد على ذلك إلى تمام حقه دراهم أو دنانير ولو لم يكن قال له اعمل فيه برأيك والمسألة بحالها كان المزارع الأول مخالفا والخارج بينه وبين الآخر أثلاثا على شرطهما ويضمن رب الأرض بذره أيهما شاء وفي نقصان الأرض اختلاف كما بينا.
ولو كان رب الأرض قال للأول اعمل فيه برأيك على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بيننا نصفان والمسألة بحالها كان ثلثا الزرع للآخر والثلث بين الأول ورب الأرض نصفان لأن رب الأرض ما شرط هنا لنفسه نصف الخارج بل نصف ما يرزقه الله تعالى المزارع الأول وذلك ما وراء نصيب مزارع الآخر فكان للمزارع الآخر جميع ما شرط له والباقي بين الأول ورب الأرض نصفين على شرطهما.
باب تولية المزارع ومشاركته والبذر من قبله
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا يزرعها سنته هذه ببذره على أن الخارج بينهما نصفان وقال له اعمل في ذلك برأيك أو لم يقل فدفعها المزارع وبذرا معها إلى رجل مزارعة بالنصف فهو جائز لأن الأول هنا مستأجر للأرض بنصف الخارج وله أن يتصرف في الأرض التي استأجرها بالدفع مزارعة على الوجه الذي يتصرف في أرض نفسه.
ألا ترى أنه لو استأجرها بدراهم كان له أن يدفعها مع البذر مزارعة بالنصف فكذلك إذا استأجرها ببعض الخارج بخلاف ما سبق فهناك المزارع أجر رب الأرض بنصف الخارج وحقيقة المعنى أن المستأجر عامل لنفسه فإنما يوجب الشركة للأجير في حق نفسه وأما الأجير عامل المستأجر فإنما هو يوجب الشركة للآخر في الخارج من بذر رب الأرض فلهذا افترقا.(23/132)
ثم إذا حصل الخارج هنا فنصفه للآخر بمقابلة عمله كما أوجبه له صاحب البذر ونصفه لرب الأرض بإزاء منفعة أرضه كما شرط له صاحب البذر ولا شيء لصاحب البذر لأنه أوجب لغيره جميع الخارج من بذره بعقد صحيح وكذلك لو كان البذر من قبل الآخر لأن الأول مستأجر للأرض بنصف الخارج ثم أجرها من الآخر بنصف الخارج وللمستأجر أن يؤاجر فيما يتفاوت الناس في استيفائه.
ولو كان الشرط للمزارع الآخر ثلث الخارج في المسألتين جميعا جاز وللآخر الثلث ولرب الأرض النصف وللأول السدس طيب له لأنه نماء بذره في المسألة الأولى وهو فاضل عما أوجبه لغيره ولأنه عاقد العقدين جميعا في المسألة الثانية فيسلم الفضل له باعتبار عقده.(23/133)
ص -66- ... فإن قيل في المسألة الثانية هو مستأجر للأرض وقد أجره بأكثر مما استأجره في العقد الثاني من غير إن زاد من عنده شيئا فينبغي أن لا تطيب له الزيادة.
قلنا هذا في أجر يكون مضمونا في الذمة فيقال إنه ربح حصل لا على ضمانه فأما في المزارعة فلا يتأتى هذا لأن الأجر في العقد جزء من الخارج ولا يكون مضمونا في ذمة أحد وسلامته لكل واحد منهما باعتبار الشركة لا باعتبار أنه عوض عن منفعة الأرض.
ولو كان رب الأرض دفعها إليه على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان أو قال ما أصبت أو ما خرج لك من ذلك ولم يقل اعمل فيه برأيك فدفعها المزارع وبذرا معها إلى رجل بالنصف فنصف الخارج للآخر والنصف الآخر بين الأول ورب الأرض نصفين لأن رب الأرض إنما شرط لنفسه هنا نصف ما يرزق الله المزارع الأول وهو ما وراء نصيب المزارع الآخر فيستوي إن كان البذر من قبل الأول أو الآخر.
ولو دفع أرضه إلى الأول على أن يعملها ببذره على أن الخارج بينهما نصفان فدفعها الأول إلى الآخر على أن يعملها ببذره على أن للآخر ثلثي الخارج وللأول الثلث فعملها على ذلك فثلثا الخارج للآخر لأن الخارج نماء بذره فلا يستحق الغير عليه شيئا منه إلا بالشرط وإنما شرط للأول ثلث الخارج ثم هذا الثلث يكون لرب الأرض ولرب الأرض على المزارع الأول أجر مثل ثلث أرضه لأنه استأجرها منه بنصف الخارج وقد حصل الخارج ولم يسلم له ثلث ذلك النصف بل استحقه المزارع للآجر واستحقاق بعض ما هو أجر للأرض إذا كان بعينه يوجب الرجوع بحصته من أجر المثل اعتبارا للبعض بالكل لأنه لو استحق جميعه رجع بأجر مثل جميع الأرض فكذلك إذا استحق ثلثه.
ولو كان البذر من قبل الأول كان ثلثا الخارج للأجير كما أوجبه له المزارع الأول والثلث لرب الأرض ولرب الأرض أجر مثل ثلث أرضه على المزارع الأول.(23/134)
فإن قيل هنا كل واحد منهما إنما يستحق الخارج على الأول بالشرط وشرط النصف لرب الأرض كان أسبق فكان ينبغي أن لا يستحق الأجر بإيجاب الأول له شيئا من النصف الذي استحقه رب الأرض.
قلنا نعم ولكن الاستحقاق لا يثبت حقيقة قبل حصول الخارج وحكما قبل لزوم السبب والسبب في حق صاحب البذر لا يلزم قبل إلقاء البذر في الأرض فصح منه اشتراطه ثلثي الخارج للآخر.
يوضحه أنا لو أبطلنا استحقاق الأجر في بعض ما شرط له بطل استحقاقه في الكل لأنه لا يجوز الجمع له بين أجر المثل وشيء من الخارج فإنه يعمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر ولو أبطلنا حق رب الأرض فيما زاد على الثلث من الخارج استحق أجر المثل بمقابلة ذلك الجزء من الأرض فالضرر الذي يلحقه يعوض بعدله والضرر الذي يلحق الآخر بغير عوض فلهذا كان الحكم فيه على ما ذكرنا.(23/135)
ص -67- ... ولو كان الأول دفعها إلى الآخر منحة على أن يزرعها لنفسه فالخارج كله له لأنه نماء بذره ولم يوجب منه شيئا لغيره والمزارع الأول مستأجر للأرض وللمستأجر أن يغرم لصاحب الأرض على الأول أجر مثل أرضه لأنه استأجر الأرض منه بنصف الخارج وقد حصل الخارج واستحقه الآخر فيكون للأول عليه أجر مثله لفساد العقد بينهما باستحقاق البدل ولو كان البذر من قبل الأول فاستعان بإنسان أو استأجره يعمل له فيها فنصف الخارج للأول ونصفه لرب الأرض لأن عمل أجيره ومعينه كعمله بنفسه.(23/136)
ولو دفع إلى رجل أرضا يزرعها ببذره بالنصف ولم يقل اعمل فيه برأيك فشارك فيها رجلا آخر فأخرجا جميعا بذرا على أن يعملا والخارج بينهما نصفان جاز لأن الأول استأجر الأرض فهو في التصرف فيها بمنزلة المالك للأرض والمالك للأرض لو شارك فيها رجلا على أن يزرعها ببذر بينهما والخارج نصفان جاز ويكون هو معيرا نصف الأرض من الآخر كذلك هنا ثم نصف الخارج للآخر لأنه نماء بذره ونصفه بين الأول ورب الأرض نصفان لأنه شرط له نصف الخارج من الأرض بإزاء منفعة الأرض وهذا الخارج الذي حصل له خارج من نصف الأرض فيستحق نصفه بالشرط وعلى الأول لرب الأرض أجر مثل نصف أرضه لأن الخارج من النصف الآخر قد استحقه المزارع الآخر وقد كان المزارع الأول أوجب لرب الأرض نصف ذلك فإذا لم يسلم له رجع عليه بأجر المثل في ذلك النصف ولو اشترطا العمل على الأجير خاصة فهو فاسد لما بينا أن الأول جعل للثاني منفعة نصف الأرض بمقابلة عمله في النصف الآخر من الأرض له والمزارعة لا تحتمل مثل هذه المقابلة ثم نصف الزرع للآخر لأنه نماء بذره وعليه نصف أجر مثل الأرض للمزارع الأول لأنه استوفى منفعة نصف الأرض التي كانت مستحقة له بعقد فاسد ويتصدق المزارع الآخر بالفضل لأنه ربح حصل له بسبب عقد فاسد تمكن في منفعة الأرض ونصف الزرع بين الأول ورب الأرض نصفان على شرطهما لأنه لا فساد في العقد الذي جرى بينهما فما سلم لهما يكون على الشرط بينهما طيبا لهما وعلى الأول لرب الأرض أجر مثل نصف أرضه لأنه شرط له النصف مما يخرج له جميع الأرض وإنما يسلم له النصف مما أخرجه نصف الأرض فأما ما أخرجه النصف الآخر فقد استحق المزارع الأجر كله فلهذا كان عليه أجر مثل نصف الأرض والله أعلم.
باب دفع المزارع الأرض إلى رب الأرض أو مملوكه مزارعة(23/137)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه على أن الخارج بينهما نصفان فقبضها ثم استعان برب الأرض على عملها لم يضر ذلك والخارج بينهما على الشرط في المزارعة والأجر له في عمله لأن استعانته برب الأرض بمنزلة استعانته بغيره وعمل المعين بمنزلة عمل المستعين به ثم رب الأرض والبذر ما أقام العمل على سبيل النقض منه للمزارعة وإنما أقام العمل على سبيل التبرع منه على عامله وإن كان استأجره على ذلك بدراهم معلومة كان الأجر باطلا لأن وجوب الأجر يعتمد تسليم العمل إلى المستأجر وهو(23/138)
ص -68- ... عامل في أرض نفسه ببذره فلا يكون مسلما عمله إلى غيره فلهذا لا يستوجب عليه شيئا من الأجر وإذا لم يستوجب الأجر كان هذا وما لو عمله على سبيل الإعانة سواء وهذا بخلاف ما إذا كان عمل رب الأرض مشروطا في عقد المزارعة لأن ذلك الشرط يعدم التخلية بين المزارع وبين رب الأرض والبذر وقد بينا أن التخلية شرط العقد فكل شرط يفوته يكون مفسدا للعقد فأما في هذا الموضع فلا ينعدم استحقاق التخلية بإعانة رب الأرض المزارع فهو قياس المرهون إذا أعاده المرتهن من الراهن أو غصبه منه الراهن لم يبطل به الرهن بخلاف ما إذا شرطا أن يكون في يد الراهن في بعض المدة وكذلك لو دفعها إليه يزرعها على أن له ثلث نصيبه فعملها على ذلك كان الأمر بينهما على المزارعة الأولى لا يفسدها ما صنعا والشرط باطل لأن رب الأرض لا يكون مسلما عمله إلى المزارع فكما لا يستوجب عليه بمقابلة عمله دراهم وإن شرط ذلك عليه فكذلك لا يستوجب جزأ من نصيبه من الخارج بل يكون هو متبرعا في العمل.
فإن قيل لماذا لم يجعل هذا من المزارع بمنزلة الحط لبعض نصيبه فقد شرط لنفسه نصف الخارج في العقد الأول ثم حط ثلثه بالعقد الثاني.
قلنا لأن عقد الإجارة تمليك منفعة بعوض فلا يمكن أن يجعل هذا كناية عن الحط كما لا يجعل بيع المبيع من البائع قبل القبض هبة ثم هذا الحط ليس بمطلق بل هو بمقابلة العمل وكما لا يستحق بمقابلة عمله في أرضه وبذره عوضا على الغير فكذلك لا يستحق حط شيء مما استحقه الغير عليه.(23/139)
ولو كان استأجر على العمل أجراء كان أجر الأجراء على المزارع لأن العمل مستحق عليه فإنما استأجرهم لإيفاء ما هو مستحق عليه فيكون الأجر لهم بمقابلة دين في ذمته ولو كان استأجر على ذلك عبد رب الأرض بدراهم معلومة ولا دين عليه فالإجارة باطلة لأن كسب العبد الذي لا دين عليه لمولاه فكما لا يستحق المولى باعتبار عمله أجرا على المزارع وإن شرط ذلك عليه فكذلك لا يستحقه بعمل عبده وإن شرط ذلك عليه وإن كان على العبد دين فالإجارة جائزة والأجر واجب لأن كسب العبد المديون لغرمائه فاستئجار العبد على العمل في هذه الحالة كاستئجار بعض غرمائه.
وإن استأجر مكاتب رب الأرض أو ابنه جاز لأن المولى من كسب مكاتبه وابنه أبعد منه من كسب عبده المديون وكذلك لو كان البذر من قبل المزارع في جميع هذه الوجوه فهما في المعنى مستويان لأن رب الأرض إنما يعمل في الأرض وهو في عمله في أرضه لا يستوجب الأجر على غيره والمعاملة في جميع ذلك قياس المزارعة ولو دفع إليه أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه بالنصف فلما تراضيا على ذلك أخذ صاحب الأرض البذر فبذره بغير أمر المزارع فأخرجت زرعا كثيرا فذلك كله لرب الأرض وقد بطلت المزارعة لأن عقد المزارعة لا يتعلق به اللزوم من قبل صاحب البذر قبل إلقاء البذر في الأرض فينفرد صاحب الأرض بفسخ العقد.(23/140)
ص -69- ... وقد صار فاسخا حين أخذه بغير أمر المزارع وزرعه لأنه لا يمكن أن يجعل معينا له لأنه استعان به وليس لأحد أن يعين غيره بغير رضاه فكان فاسخا للعقد بخلاف الأول فإن هناك يمكن أن يجعل معينا له لأنه استعان به فلا يجعل فاسخا للعقد لأنه امتنع من العمل حتى استعان به فعرفنا أن قصده إعانته لا فسخه العقد بينهما.
ولو كان البذر من قبل المزارع والمسألة بحالها كان الزرع لرب الأرض لأنه غاصب للبذر حين أخذه بغير أمر المزارع فالعقد لم يكن لازما في جانب المزارع قبل إلقاء البذر في الأرض وصاحب الأرض لا يملك أن يلزمه العقد بغير رضاه فيصير هو غاصبا للبذر ومن غصب بذرا فزرعه في أرض نفسه أو غيره كان الخارج كله له وعليه بذر مثل ذلك البذر ولا شيء له على المزارع لأنه لم يسلم للمزارع شيء من منفعة الأرض ولكن رب الأرض فوتها عليه ولو فوتها غاصب آخر لم يكن لرب الأرض على المزارع شيء فهذا أولى والله أعلم.
باب الشروط التي تفسد المزارعة(23/141)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا له مزارعة على أن يزرعها سنته هذه ببذره وعمله بالنصف وعلى أن يكري العامل أنهارها فالمزارعة فاسدة لأن رب الأرض مؤاجر أرضه بنصف الخارج وكري الأنهار على المؤاجركما لو أجرها بدراهم وهذا لأن بكري الأنهار يأتيها الماء ويتمكن المستأجر من الانتفاع بها وما لم يتمكن المستأجر من الانتفاع لا يستوجب الأجر فإذا ثبت أن كري الأنهار على المستأجر قلنا إذا شرط على المستأجر فكأنه شرط لنفسه مع نصف الخارج مؤنة كري الأنهار بمقابلة منفعة الأرض وذلك مفسد للعقد ثم منفعة كري الأنهار تبقى بعد مضي مدة المزارعة وشرط ما تبقى منفعته بعد مضي المدة على المزارع مفسد للعقد فإن عمل على هذا وكرى الأنهار كان الخارج للعامل لأن البذر من قبله ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد فاسد وللعامل على صاحب الأرض أجر مثل عمله في كري الأنهار لأنه استوفى منفعة عمله بعقد فاسد فيتقاصان ويترادان الفضل.
ولو لم يكن كري الأنهار مشروطا على العامل في العقد ولكن العامل كرى الأنهار بنفسه فالمزارعة جائزة ولا أجر له في كريها لأنه تبرع بإيفاء ما ليس بمستحق عليه فهو بمنزلة ما لو حوطها وكذلك إصلاح المسناة فإن ذلك على رب الأرض بمنزلة كري الأنهار فإن شرط على المزارع في العقد فسد به العقد وإن باشره من غير شرط فالعقد جائز ولا أجر له فيما عمل ولو كان البذر من رب الأرض وقد شرط على العامل لنفسه شيئا وراء ما يقتضيه المزارعة ومنفعة هذا تبقى بعد مضي مدة المزارعة فيفسد به العقد ويكون الخارج كله لصاحب الأرض وللعامل أجر مثل عمله في جميع ذلك لأن صاحب الأرض استوفى جميع عمله بعقد فاسد.
ولو اشترطا على رب الأرض كري الأنهار وإصلاح المسناة حتى يأتيه الشرب كانت(23/142)
ص -70- ... المزارعة جائزة على شرطهما سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض لأن هذا العمل على رب الأرض بدون الشرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة وليس شيء منها على العامل فاشتراطهما عليه اشتراط عوض مجهول وهو خلاف ما يقتضيه العقد فيفسد به العقد ونظيره ما لو استأجر دارا بدراهم مسماة على أن يطين رب الدار سطوحها وعلى أن يصلح مساربها لمسيل الماء جاز ذلك لأن هذا على رب الدار بدون الشرط فإنه إذا لم يفعله رب الدار فوكفت البيوت وجاء من ذلك ضرر بين كان للمستأجر أن يخرج من الدار فاشتراطه عليه لا يزيده إلا وكادة ولو اشترط رب الدار ذلك على المستأجر كانت الإجارة فاسدة لأن اشتراطه هذه الأعمال عليه كاشتراط مؤنتها لنفسه بمقابلة منفعة الدار وهي مجهولة.
ولو اشترط على رب الأرض كرابها أو الكراب والثنيان فإن كان البذر من العامل فالمزارعة فاسدة لأن العقد في جانب الأرض يلزم بنفسه وموجبه التخلية بين الأرض والمزارع واشتراط الكراب والثنيان عليه يفوت موجب العقد فيفسد به العقد ثم الكراب والثنيان من عمل الزراعة واشتراط بعض عمل الزراعة على رب الأرض مفسد للعقد كاشتراط الحفظ ثم الخارج كله لصاحب البذر ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه وعمله في الكراب والثنيان ولم يرد به إن عمله في الكراب والثنيان يتقوم على العامل وإنما مراده أنه يغرم أجر مثل الأرض مكروبة أو مكروبة مسناة لأنه استوفى منفعتها في وقت إلقاء البذر فيها وهي بهذه الصفة وإن كان البذر من رب الأرض فالمزارعة جائزة لأن لزوم العقد من جهة صاحب البذر لا يكون قبل إلقاء البذر في الأرض والكراب والثنيان يسبق ذلك فاشتراطه على رب الأرض لا يضر ولأن الكراب في الثنيان بالبقر يكون واشتراط البقر على رب الأرض جائز إذا كان البذر من قبله ولا يجوز إذا كان البذر من قبل المزارع فكذلك اشتراط الكراب والثنيان.(23/143)
ولو اشترط على أحدهما بعينه أن يسرقنها أو يعذرها والبذر من قبل العامل فالمزارعة فاسدة لأنه إن شرط ذلك على العامل فقد شرط عليه ما تبقى منفعته في الأرض بعد مضي مدة المزارعة وشرط عليه إتلاف عين مال لا يقتضيه عقد المزارعة وذلك مفسد للعقد وإن شرط على رب الأرض فذلك بمنزلة شرط الكراب والثنيان عليه لأن هذا من عمل الزراعة فاشتراطه على رب الأرض يكون مفسدا للعقد ويكون الخارج كله للعامل ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه وأجر مثل عمله فيما عمل من ذلك وقيمة سرقينه إن كان ذلك من قبله وإن كان من قبل العامل لم يكن له على رب الأرض من قبل ذلك شيء وإن كان فيه منفعة لرب الأرض فيما بقي لأن العامل إنما عمل لنفسه وما بقي لرب الأرض أثر عمله وإن لم يتقوم أصل عمله على رب الأرض فكذلك أثر عمله وإن كان البذر من رب الأرض فإن كان اشترط عليه ذلك فالمزارعة جائزة بمنزلة اشتراط الكراب والثنيان وهذا لأن إلقاء السرقين والعذرة في الأرض يكون قبل الزراعة وقبل الكراب أيضا وأن لزوم العقد في جانب صاحب البذر عند إلقاء البذر في الأرض فكأنه استأجره للعمل بنصف الخارج بعد ما فرغ من إلقاء العذرة(23/144)
ص -71- ... والسرقين وإن شرطاه على العامل فالمزارعة فاسدة لأنهما شرطا على العامل ما تبقى منفعته بعد مضي مدة المزارعة وللعامل أجر مثله فيما عمل وقيمة ما طرح من السرقين لأن صاحب الأرض استوفى ذلك كله بعقد فاسد فهو نظير من استأجر صباغا إجارة فاسدة ليصبغ ثوبه بصبغ من عنده ففعل ذلك فإنه يكون له أجر مثل عمله وقيمة صبغه لو اشترط على العامل أن لا يعذرها ولا يسرقنها والبذر منه أو من صاحب الأرض فالمزارعة جائزة والشرط باطل لأن هذا شرط لا طالب به فإن في إلقاء العذرة والسرقين في الأرض منفعة للأرض وليس فيه مضرة.
والمطالبة بالوفاء بالشرط يكون لتوفر المنفعة أو لدفع الضرر فإذا انعدم ذلك في هذا الشرط عرفنا أنه لا مطالب به فلا يفسد العقد به واستدل في الكتاب بحديث بن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أجر أرضه اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ولا يعذرها وقد بينا أنه إنما كان يشترط ذلك لمعنى التقذر ولو كان هذا من الشروط التي تفسد الإجارة ما اشترطه بن عمر رضي الله عنه على من استأجر منه أرأيت لو اشترط عليه أن لا يدخلها كلبا كما اشترطه بن عمر رضي الله عنه كان هذا مفسدا للمزارعة وليس يفسدها هذا ويتخير المزارع إن شاء أدخلها كلبا وإن شاء لم يدخلها فكذلك إذا شرط عليه أن لا يعذرها ولا يسرقنها يتخير المزارع في ذلك.(23/145)
فلو اشترط العامل على رب الأرض دولابا أو دالية بأداتها وذلك بعينه عند رب الأرض أو لم يكن عنده فاشتراه فأعطاه إياه فعمل على هذا والبذر من العامل فالمزارعة فاسدة وإن شرط ذلك لرب الأرض على العامل جاز وكان ذلك على العامل وإن لم يشترط رب الأرض لأنه مما يسقي به الأرض والسقي على العامل فاشتراطه ما يتأتى به السقي عليه يكون مقررا لمقتضى العقد وليس السقي على رب الأرض فاشتراط ما يتأتى به السقي على رب الأرض بمنزلة اشتراط السقي عليه وذلك مفسد للعقد وكذلك الدواب التي يسقى عليها بالدولاب إن اشترطها على رب الأرض فالمزارعة فاسدة وإن اشترطها على العامل جاز لأن اشتراط الدولاب للسقي كاشتراط البقر للكراب وقد بينا أن اشتراط البقر على رب الأرض مفسد للعقد إذا كان البذر من قبل العامل واشتراطها على العامل لا يفسد العقد فكذلك اشتراط الدواب للسقي.
وكذلك لو اشترط الدولاب والدواب على العامل وشرط علف الدواب كذا مختوما شعيرا وسطا كل شهر وكذا من القت وكذا من التبن بشيء معروف من ذلك على رب الأرض فالمزارعة فاسدة لأن ما يشترط على رب الأرض لعلف دواب المزارع يكون مشروطا للمزارع واشتراط شيء له من غير ما تخرجه الأرض يكون مفسدا للمزارعة فإنها شركة في الخارج فلا يجوز أن يستحق بها مال آخر فإن حصل الخارج فهو كله لصاحب البذر ولصاحب الأرض أجر مثل أرضه ومثل ما أخذ منه المزارع من الشعير والقت والتبن لأنه استوفى ذلك بعقد فاسد.(23/146)
ص -72- ... ولو كان اشتراط ذلك كله على العامل جاز لأن علف دوابه عليه بغير شرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة ولو كان البذر من رب الأرض فاشترط ذلك كله على صاحب العمل جاز بمنزلة اشتراط البقر للكراب عليه وكذلك إن اشترط على رب الأرض لأنه لو اشترط عليه البقر للكراب في هذه الحالة يجوز فكذلك إذا شرط عليه الدولاب والدواب للسقي وهذا لأن المزارع أجيره فإنما استأجره ليقيم العمل بأداة المستأجر وذلك صحيح وإذا اشترطا الدواب والدولاب على رب الأرض وعلف الدواب شيئا معروفا على المزارع فسدت المزارعة لأنه شرط على المزارع علف دواب غيره وذلك بمنزلة اشتراط رب الأرض على المزارع طعام غلامه وذلك مفسد للمزارعة سواء سمى طعاما معروفا أو لم يسم لأن ذلك بمنزلة الاشتراط منه لنفسه وكذلك لو اشترطا الدواب والدولاب على المزارع وعلف الدواب على رب الأرض ولو اشترطا الدابة وعلفها على أحدهما والدولاب على الآخر جاز لأن علف الدابة مشروط على صاحب الدابة وهو عليه بغير شرط ثم في هذا الفصل اشتراط الدواب والدولاب على أحدهما صحيح أيهما كان فكذلك اشتراط كل واحد منهما على أحدهما بعينه يكون صحيحا والله أعلم.
باب المزارعة يشترط فيها المعاملة(23/147)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا بيضاء مزارعة وفيها نخيل على أن يزرعها ببذره وعمله على أن ما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان واشترطا ذلك سنين معلومة فهذا فاسد لأن في حق الأرض العامل مستأجر لها بنصف الخارج على أن يزرعها ببذره وفي حق النخيل رب النخيل مستأجر للعامل ليعمل فيها بنصف الخارج فهما عقدان مختلفان لاختلاف المعقود عليه في كل واحد بينهما وقد جعل أحد العقدين شرطا في الآخر وذلك مفسد للعقد لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة ثم الخارج من الأرض كله لصاحب البذر وعليه أجر مثل الأرض لصاحب الأرض ويتصدق المزارع بالفضل لأنه ربى زرعه في أرض غيره بعقد فاسد والخارج من النخل كله لصاحب النخل وللعامل أجر مثل عمله فيما عمل في النخيل ويطيب الخارج كله لصاحب النخل وكذلك لو كان الشرط بينهما في النخل على الثلث والثلثين أو في الزرع على الثلث والثلثين فالجواب واحد وهذا أبين للمعنى الذي بينا أن العقد مختلف فيها.
ولو كان البذر من صاحب الأرض والمسألة بحالها جاز العقد لأنه استأجر العامل ليعمل في أرضه ونخله فيكون العقد بينهما واحدا لاتحاد المعقود عليه وهو منفعة العامل فهو بمنزلة ما لو دفع إليه أرضين مزارعة ليزرعها ببذر صاحب الأرض وكذلك لو اشترطا على العامل في النخيل تسعة أعشار الثمار وفي الزرع النصف لأن العقد لا يختلف باختلاف مقدار البذر المشروط كما لو استأجره لعمل معلوم بمائة درهم وبدينار يكون العقد واحدا وإنما يختلف العقد باختلاف المعقود عليه والمعقود عليه واحد وهو عمل العامل.(23/148)
ص -73- ... ولو دفع إليه أرضا وكرما على نحو هذا كان الجواب كالجواب في النخل لاتفاقهما في المعنى ولو دفع إليه أرضا بيضاء فيها نخيل فقال أدفع إليك هذه الأرض تزرعها ببذرك وعملك على أن الخارج من ذلك بيني وبينك نصفان وأدفع إليك ما فيها من النخيل معاملة على أن تقوم عليه وتسقيه وتلقحه فما خرج من ذلك فهو بيني وبينك نصفان أو قال لك منه الثلث ولي الثلثان وقد وقتا لذلك سنين معلومة فهو جائز لأنه لم يجعل أحد العقدين هنا شرطا في الآخر وإنما جعله معطوفا على الآخر لأن الواو للعطف لا للشرط بخلاف الأول فهناك جعل أحد العقدين شرطا في الآخر لأن حرف على للشرط.
ألا ترى أنه لو قال أبيعك هذه الدار بألف درهم على أن تستأجر مني هذه الدار الأخرى شهرا بخمسة دراهم كان هذا فاسدا لأن هذا بيع شرطت فيه إجارة ولو قال أبيعك هذه الدار بألف وأؤجرك هذه الدار الأخرى شهرا بخمسة دراهم كان جائزا لأنه لم يجعل أحدهما شرطا في صاحبه وكذلك لو قال أبيعك هذه الدار بألف درهم على أن أبيعك هذه الأمة بمائة دينار كان العقد فاسدا بخلاف ما لو قال وأبيعك هذه الأمة وقد أجاب في الزيادات في مسألة البيع بخلاف هذا وقد بينا وجه الروايات والتوفيق فيما أملينا من شرح الزيادات وكذلك لو دفع إليه أرضا وكرما وقال ازرع هذه الأرض ببذرك وقم على هذا الكرم فاكسحه واسقه فهذا صحيح لأنه ما شرط أحد العقدين في الآخر فلا يفسد واحد منهما والله أعلم.
باب الخلاف في المزارعة(23/149)
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا مزارعة بالنصف سنته هذه فهو فاسد لأنهما لم يسميا البذر من أحدهما بعينه والمعقود عليه يختلف باختلاف من البذر من قبله لأنه إن كان البذر من قبل رب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل وإن كان من قبل العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض وجهالة المعقود عليه مفسدة للعقد ثم هذه جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما لأن كل واحد منهما يقول لصاحبه البذر من قبلك وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الرجوع إلى قول الآخر ويحكى عن الهندواني رحمه الله أنه قال هذا في موضع ليس فيه عرف ظاهر يكون البذر من أحدهما بعينه أو كان العرف مشتركا فأما في موضع يكون فيه عرف ظاهر يكون البذر من أحدهما بعينه فإن العقد يكون صحيحا والبذر من قبله لأن الثابت بالعرف كالثابت بالشرط كما لو اشترى بدراهم مطلقة تنصرف إلى نقد البلد للعرف فتنقطع المنازعة بينهما بالرجوع إلى الظاهر المتعارف.
وكذلك لو قال للمزارع على أن تزرعها سنتك هذه لأن من البذر من قبله لا يتعين بهذا اللفظ فالمزارع هو الذي يزرع البذر سواء كان البذر من رب الأرض أو من قبله ولو قال على أن تزرعها سنتك هذه لنفسك بالنصف فهو جائز استحسانا والبذر من قبل المزارع لأنه إنما يكون عاملا لنفسه إذا كان البذر من قبله فيكون هو مستأجرا للأرض فأما إذا كان البذر من قبل رب الأرض فيكون هو أجيرا عاملا لرب الأرض ففي لفظه ما يدل على اشتراط البذر(23/150)
ص -74- ... على المزارع فيكون ذلك كالتصريح به وكان القياس أن لا يجوز حتى يسمى ما يزرعها لأن بعض الزرع أضر على الأرض من بعض فما لم يبين جنس البذر لا يصير مقدار ما يستوفيه من منفعة الأرض معلوما وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة لأن رب الأرض يطالبه بأن يزرع فيها أقل ما يكون ضررا على الأرض والمزارع يأبى إلا أن يزرع فيها أضر الأشياء بالأرض.
وكذلك في جهالة جنس البذر جهالة جنس الأجر لأن الأجر جزء من الخارج وذلك لا يصير معلوما إلا بتسمية جنس البذر ولكنا نستحسن أن نجيز العقد ونجعل له أن يزرعها ما بدا له من غلة الشتاء والصيف من الحنطة والرطبة والسمسم والشعير ونحو ذلك أما لأن بطريق العرف يحصل تعيين جنس البذر بتعيين الأرض فإن أهل الصنعة يعلمون كل أرض صالحة لزراعة شيء معلوم فيها أو لأنه لا تجري المنازعة بين رب الأرض والمزارع فيها لما لكل واحد منهما من الحظ في ذلك أو لأن المزارع مستأجر للأرض ومنفعة الأرض معلومة بتعين الأرض والضرر في أنواع ما يزرعها فيها يتفاوت فلا يفسد العقد كما لو استأجر دارا للسكنى ولم يبين من يسكنها وليس له أن يغرس فيها كرما ولا شجرا لأنه قال في العقد ازرعها لنفسك وعمل الغرس غير عمل الزراعة والتفاوت بينهما في الضرر على الأرض فاحش فلا يستفيد أعظم الضررين عند التصريح بأدناهما كما لو استأجر حانوتا ليسكنها لم يكن له أن يقعد فيها قصارا ولا حدادا.(23/151)
ولو كان دفعها إليه على أن يزرعها سنته هذه لصاحب الأرض بالنصف فهو جائز والبذر من رب الأرض لأنه إنما يكون زارعا لصاحب الأرض إذا كان هو أجيرا له في العمل ولرب الأرض أن يستعمل الزارع في زراعة ما بدا له فيها من غلة الشتاء والصيف استحسانا وكان القياس أن لا يجوز حتى يبين ما يزرع أو يشترط التعميم فيقول على أن يزرع لي ما بدا لي من غلة الشتاء والصيف لأن العمل يتفاضل في ذلك والعمل في بعض أنواع الزرع يكون أشد على العامل من بعض فأما أن يبين جنس البذر ليصير مقدار العمل به معلوما أو يصرح باشتراط الخيار لنفسه في ذلك ولكن في الاستحسان لا يشترط هذا لما قلنا.
ولو دفعها إليه على أن يزرعها سنته هذه ما بدا للمزارع من غلة الشتاء والصيف فهو جائز والبذر من قبل العامل لأن تفويض الأمر إلى رأيه على العموم دليل أن يكون عاملا لنفسه في الزراعة ولو قال ما بدا لرب الأرض كان البذر من رب الأرض لأن التنصيص على كون الرأي فيه إليه دليل على أن المزارع عامل له وذلك إذا كان البذر من قبل رب الأرض وكذلك لو قال رب الأرض تزرعها ما أحببت أنا أو ما شئت أنا أو ما أردت أنا فهذا كله دليل على أن البذر من قبل رب الأرض ولو قال ما شئت أنت أو ما أحببت أنت أو ما أردت أنت فهو دليل على أن البذر من العامل والعقد جائز في الفصلين استحسانا وفي القياس لا يجوز حتى يبينا من البذر من قبله أيهما هو لأن مع اشتراط الرأي لأحدهما يجوز أن يكون البذر من قبل الآخر.(23/152)
ص -75- ... ألا ترى أنهما لو صرحا بذلك كان البذر من قبله فإذا سكتا عن ذكره كان من البذر من قبله مجهولا منهما ولكنه استحسن فقال الظاهر أنه إنما شرط المشيئة والمحبة والإرادة في البذر على العموم لمن البذر من قبله وهذا الظاهر يسقط اعتباره عند التصريح بخلافه وعند عدم التصريح بخلافه يبقى معتبرا كتقديم المائدة بين يدي إنسان يكون إذنا في التناول بدليل العرف وإن صرح بخلافه فقال لا تأكل لم يكن ذلك إذنا في التناول.
ولو دفع إليه أرضا وبذرا على أن يزرعها سنته هذه بالربع ولم يسميا غير ذلك فالمزارعة جائزة والربع للزارع إن اختلفا فيه قبل العمل أو بعده لأن حرف الباء للإلصاق وإنما يصحب الأعواض فيكون هذا اشتراط الربع لمن يستحق الخارج عوضا وهو المزارع فإنه يستحقه عوضا عن عمله فأما صاحب الأرض والبذر فإنما يستحقه لأنه نماء بذره.
يوضحه أن المزارع هو المحتاج إلى بيان نصيبه بالشرط فاشتراط الربع مطلقا إنما ينصرف إلى بيان نصيب من يحتاج إلى الشرط.(23/153)
ولو قال دفعت إليك هذه الأرض على أن تزرعها ببذرك وعملك بالربع كان الربع لرب الأرض لأنه هو الذي يستحق الخارج هنا عوضا عن منفعة الأرض وهو المحتاج إلى الشرط للاستحقاق ولو دفعها إليه على أن يزرعها حنطة من عنده بالنصف لم يكن له أن يزرعها غير الحنطة وإن كان أقل ضررا على الأرض لأنهما شرطا زراعة الحنطة في عقد لازم وهذا شرط مفيد فيجب الوفاء به بخلاف ما إذا استأجرها بدراهم ليزرعها حنطة فزرعها شيئا هو أقل ضررا على الأرض لم يضمن وعليه الأجر لأن تعيين الحنطة هناك غير مفيد في حق رب الأرض فإن حقه في الأجر وهو دراهم يستوجبها بالتمكن من الزراعة وإن لم يزرعها فلا يعتبر تعيينها بالحنطة إلا في معرفة مقدار الضرر على الأرض فإذا زرع فيها ما هو أقل ضررا لم يكن مخالفا أما في المزارعة فتعيين الحنطة شرط مفيد في حق رب الأرض لأن حق رب الأرض في نصف الخارج فإنما جعل له الأجر من الحنطة فلا يكون له أن يحول حقه إلى شيء آخر بزراعته فيها وإن كان ذلك أقل ضررا لم يكن مخالفا وكذلك لو قال خذ هذه الأرض لتزرعها حنطة فهذا شرط بمنزلة قوله على أن تزرعها الحنطة وقد بينا هذه الفصول في المضاربة.
ولو دفع إليه الأرض والبذر على أن يكون للمزارع ربع الخارج ولرب الأرض نصفه فهو جائز وثلاثة أرباع الزرع لرب الأرض والبذر لأن المزارع هو الذي يستحق بالشرط فلا يستحق غير ما شرط له وما وراء ذلك مما هو مسكوت عنه يكون لصاحب البذر لأن استحقاقه يكون نماء بذره لا بالشرط ولو دفع إليه أرضا فقال قد أجرتك هذه الأرض هذه السنة مزارعة بالنصف فهو جائز والبذر من العامل لأن رب الأرض نص على أنه مؤاجر للأرض وإنما يكون كذلك إذا كان البذر من قبل العامل وكذلك لو قال أجرتك هذه الأرض هذه السنة على أن تزرعها بالنصف أو لتزرعها بالنصف فهو جائز والبذر من قبل(23/154)
ص -76- ... العامل ولو قال أجرتك هذه الأرض هذه السنة بالنصف كان فاسدا لأنه لم يسم زرعا ولا غرسا والتفاوت بينهما في الضرر على الأرض فاحش ورب الأرض هو المؤاجر لأرضه لكل واحد منهما فإذا لم يبينا ذلك كان العقد فاسدا فإن لم يتفاسخا حتى زرعها أو غرسها وقد أجرها إياه سنين مسماة كان الخارج بينهما نصفين استحسانا لأنه تعين المعقود عليه في الانتهاء قبل وجوب البدل فيجعل كتعينه في الابتداء وهو نظير ما تقدم في الإجارات إذا استأجر دابة للركوب أو ثوبا للبس ولم يبين من يركبها ولا من يلبسها.
ولو قال له استأجرتك هذه السنة تزرع في هذه الأرض بالنصف جاز والبذر من رب الأرض فما أعطاه من حبوب أو رطبة فعليه أن يزرعها لأنه صرح باستئجاره للزراعة وإنما يكون رب الأرض مستأجرا للزارع إذا كان البذر من قبله ولو أراد رب الأرض أن يدفع إليه شجرا أو كرما يغرسه فيها فللعامل أن يمتنع من ذلك لأنه استأجره للزراعة وهذا العمل لا يقع عليه اسم الزراعة مطلقا إنما يسمى غراسة وما شرط عليه في العقد عمل الغراسة فليس له أن يكلفه ذلك ولو قال استأجرتك تعمل في هذه الأرض عشر سنين بالنصف فهذا فاسد لأن العمل المشروط عليه مجهول وبين عمل الزراعة والغراسة تفاوت عظيم فإن لم يتفاسخا حتى أعطاه رب الأرض بذرا فبذره أو غرسا فغرسه وعمله كان الخارج منهما على شرطهما استحسانا وجعل التعيين في الانتهاء بتراضيهما كالتعيين في الابتداء وهو نظير الأول على ما بينا والله أعلم.
باب اختلافهما في المزارعة فيما شرط كل واحد منهما لصاحبه(23/155)
قال رحمه الله وإذا كان البذر من رب الأرض فأخرجت الأرض زرعا كثيرا فقال رب الأرض شرطت لك الثلث وقال المزارع شرطت لي النصف فالقول قول رب الأرض مع يمينه لأن المزارع يستحق عليه الخارج بمقابلة عمله بالشرط فهو يدعي زيادة فيما شرط له ورب الأرض ينكر تلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه وعلى المزارع البينة على ما ادعى وتترجح بينته عند المعارضة لما فيها من إثبات الزيادة ولا يصار إلى التحالف عند أصحابنا جميعا رحمهم الله بعد استيفاء المنفعة لخلوه عن الفائدة وقد بينا ذلك في الإجارات وإن اختلفا قبل أن يزرع شيئا تحالفا وترد اليمين عليه أيضا وهنا أول المزارعة لأن المزارعة عقد محتمل للفسخ فإذا اختلفا في مقدار البدل فيه حال قيام المعقود عليه تحالفا وترادا ويبدأ بالمزارع في اليمين وهذا قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله وقد بينا ذلك في البيوع أن البداءة في البيع بيمين المشتري لأن أول التسليمين عليه فأول التسليمين على المزارع ثم العقد لازم في جانبه حتى لا يتمكن من الفسخ من غير عذر وصاحب البذر يتمكن من ذلك فكانت اليمين في جانبه ألزم وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله كإقراره وإن أقاما البينة قبل التحالف أو بعده فالبينة بينة المزارع لأنها مثبتة للزيادة واليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة.(23/156)
ص -77- ... ولو اختلفا والبذر من العامل وقد أخرجت الأرض الزرع فالقول قول العامل لأن رب الأرض هو الذي يستحق الخارج عليه بالشرط فإذا ادعى زيادة فيما شرط له كان عليه أن يثبت تلك الزيادة بالبينة وعلى الآخر اليمين لإنكاره وإن اختلفا قبل أن يزرع تحالفا ويبدأ بيمين صاحب الأرض لأن أول التسليمين عليه ولأن لزوم العقد هنا في جانبه وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا وبذرا يزرعها سنته هذه على أن للمزارع ثلث الخارج ثلثه من نصيب أحدهما بعينه والثلثان من نصيب الآخر فهذا جائز وله ستة من ثمانية عشر سهما والباقي بين صاحبي الأرض خمسة أسهم منه للذي شرط للمزارع الثلثين من نصيبه وسبعة للآخر لأن المزارع أجيرهما في العمل وقد استأجراه بجزء معلوم من الخارج وبينا مقدار ما له من نصيب كل واحد منهما من ذلك الجزء وذلك مستقيم فالأجير قد تسامح مع أحد المستأجرين دون الآخر وقد تعينت مع أحدهما وطلب الأجر من الآخر فإذا صح هذا الشرط احتجنا في التخريج إلى حساب له ثلث ينقسم أثلاثا وذلك تسعة إلا أن أصل الخارج بينهما نصفان فليس لتسعة نصف صحيح فيضعف الحساب ويجعل الخارج على ثمانية عشر سهما نصيب كل واحد منهما تسعة وقد شرطا للمزارع ثلث الخارج وهو ستة ثلثا ذلك وهو أربعة من نصيب أحدهما ونصيبه كان تسعة فإذا استحق المزارع من ذلك أربعة بقي له خمسة وثلث ذلك وهو سهمان من نصيب الآخر وقد كان نصيبه تسعة فلما استحق المزارع من ذلك أربعة بقي له خمسة وثلث ذلك هو سهمان من نصيب الآخر وقد كان نصيبه تسعة فلما استحق المزارع من ذلك سهمين بقي له سبعة.(23/157)
ولو كانا اشترطا للمزارع الثلث ولم يزد على هذا كان الزرع بينهما أثلاثا لأن المشروط للمزارع مطلقا يكون من النصيبين على السواء فإذا استحق المزارع ثلث الخارج بقي الباقي بينهما على ما كان أصل الخارج فيكون بينهم أثلاثا ولو كانا اشترطا الثلث للزارع ثلثه من نصيب هذا بعينه والثلث من نصيب الآخر وما بقي بين صاحبي الأرض نصفين فللمزارع الثلث ستة من ثمانية عشر والباقي بينهما لأحدهما خمسة وللآخر سبعة كما خرجنا واشتراط المناصفة فيما بينهما فيما بقي باطل لأن الذي شرط للمزارع ثلثي الثلث من نصيبه باشتراط المناصفة في الباقي يستوهب من نصيب صاحبه سهما واحدا ليكون ستة له من الباقي ولصاحبه ستة واستيهاب المعدوم باطل وهو طمع منه في غير مطمع ولأنه طمع في شيء من نصيب صاحبه من الخارج من غير أن يكون له أرض ولا بذر ولا عمل وعقد المزارعة إنما كان بينهما وبين المزارع والشرط الباطل فيما بينهما لا يؤثر في العقد الذي بينهما وبين المزارع.
ولو دفع رجل إلى رجلين أرضا بينهما نصفين ليزرعاها ببذرهما وعملهما على أن لصاحب الأرض ثلث الخارج ثلثه من نصيب أحدهما بعينه وثلثاه من نصيب الآخر فهو جائز لأنه أجر الأرض منهما بجزء معلوم من الخارج وفاوت بينهما ذلك الأجر وذلك مستقيم فإنه لا تتفرق الصفقة في حقه بهذا التفاوت فإذا حصل الخارج كان له الثلث ستة من ثمانية عشر والباقي بين العاملين على اثني عشر سهما خمسة للذي شرط لرب الأرض ثلثي الثلث من نصيبه لأن نصيبه كان تسعة وقد أوجب للمزارع من ذلك أربعة فبقي له خمسة والآخر إنما(23/158)
ص -78- ... أوجب لرب الأرض سهمين من نصيبه فبقي له سبعة فإذا كانا اشترطا أن الباقي بعد الثلث بينهما نصفان فهذه مزارعة فاسدة لأن الذي شرط ثلثي الثلث من نصيبه لرب الأرض شرط لنفسه سهما من نصيب صاحبه ليستوي به وكان صاحبه عاقده عقد المزارعة في نصيبه بهذا السهم الذي شرط له وشرط عمله معه وذلك مفسد لعقد المزارعة بخلاف الأول فهناك ليس بين صاحبي الأرض شبهة عقد فاشتراط أحدهما لنفسه سهما من نصيب صاحبه استيهاب للمعدوم وإذا فسد العقد كان الخارج بين المزارعين نصفين ولرب الأرض أجر مثل أرضه أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج.
فإن قيل كان ينبغي أن لا يفسد العقد بينهما وبين رب الأرض لأن المفسد ممكن فيما بينها ولم يتمكن في العقد الذي فيما بينهما وبين رب الأرض.
قلنا العقد كله صفقة واحدة بعضه مشروط في البعض فيتمكن المفسد منه وفي جانب منه يفسد الكل ثم قد يمكن المفسد بينهما وبين رب الأرض من وجه وهو أن الذي شرط الثلثين لرب الأرض من نصيبه كأنه شرط ربع ذلك على صاحبه ليستوي به فيما بقي واشتراط شيء من الأجر في الإجارة على غير المستأجر يكون مفسدا للإجارة.(23/159)
ولودفع رجلان أرضا وبذرا إلى رجل ليزرعها على أن للعامل ثلث الخارج والثلثان من ذلك لأحد صاحبي الأرض ثلاثة أرباعه وللآخر ربعه فعمل على ذلك فللعامل ثلث الخارج والباقي بين صاحبي الأرض نصفين لأن البذر بينهما نصفان والعامل أجيرهما بالثلث فاستحق الثلث بمطلق الشرط من نصيبهما سهمين وكان الباقي بينهما نصفين فالذي شرط له ثلاثة أرباع ما بقي يكون شرطها له نصف ما بقي من صاحبه لنفسه وهذا منه استيهاب المعدوم أو طمع في غير مطمع فيلغو ولو كان البذر من قبل العامل والمسألة بحالها جاز وكان الباقي بينهما على الشرط ثلاثة أرباعه للذي شرط ذلك له وربعه للآخر لأن العامل هنا مستأجر للأرض منهما وإنما استحقاق الخارج عليه بالشرط فيكون لكل واحد منهما مقدار ما شرط لأحدهما ثلاثة أرباع الثلثين وللآخر الربع بخلاف الأول فاستحقاقهما هناك يكون من الخارج نماء بذرهما لا بالشرط.
فإن قيل هنا العامل يكون مستأجرا نصيب أحدهما من الأرض بجميع الخارج لأن الخارج من نصف الأرض ثلاثة أرباع الثلثين مثل ما شرط له واستئجار الأرض في المزارعة بجميع الخارج لا يجوز.
قلنا نعم ولكن لا يميز نصيب أحدهما من نصيب الآخر لما في ذلك من تمكن الشيوع في العقد في نصيب كل واحد منهما وإذا لم يميز لم يتحقق هذا المعنى فبقي العقد بينهما على جميع الأرض بثلثي الخارج وذلك صحيح بينهما وبين صاحب البذر ثم جعلا ثلاثة أرباع الثلثين بمقابلة نصيب أحدهما من منفعة الأرض والربع بمقابلة نصيب الآخر وذلك مستقيم فيما بينهما أيضا.(23/160)
ص -79- ... ولو دفع رجل إلى رجلين أرضا يزرعها ببذرهما وعملهما على أن لصاحب الأرض ثلث الخارج وللعاملين الثلثين الربع من ذلك لأحدهما بعينه وثلاثة أرباعه للآخر فهذا فاسد لأنهما استأجرا الأرض على أن يكون جميع الأجر على أحدهما وهو الذي شرط له الربع من الباقي لأن الذي شرط لنفسه ثلاثة أرباع ما بقي قد شرط لنفسه جميع ما يخرجه بذره فعرفنا أنه شرط نصيبه من الأجر على صاحبه وذلك مفسد للعقد.
ويوضحه أنهما شرطا لرب الأرض الثلث وذلك من نصيبهما نصفين فلما شرطا لأحدهما ثلاثة أرباع ما بقي فكان الآخر عقد عقد المزارعة بنصف الباقي من نصيبه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للمزارعة وإذا فسدت كان الخارج كله للمزارعين ولرب الأرض أجر مثل أرضه أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج وهو الحكم في المزارعة الفاسدة.(23/161)
وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا يزرعها ببذره وعمله على أن الخارج بينهما نصفان فلما حصل الخارج قال صاحب البذر شرطت لك عشرين قفيزا من الخارج وقال رب الأرض شرطت لي النصف منه فالقول قول صاحب البذر لأن صاحب البذر يدعي عليه استحقاق نصف الخارج بالشرط وهو منكر لذلك فالقول قول المنكر مع يمينه والبينة بينة رب الأرض لأنها تثبت الاستحقاق له ولا يقال الظاهر يشهد لرب الأرض فإن العقد الذي يجري بين المسلمين الأصل فيه الصحة لأن هذا الظاهر يصلح لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق به وحاجة رب الأرض إلى ابتداء الاستحقاق فإذا حلف صاحب البذر أعطاه أجر مثل أرضه لأنه مقر له بذلك القدر وإن لم تخرج الأرض شيئا فقال المزارع شرطت لك النصف وقال رب الأرض شرطت لي عشرين قفيزا فالقول قول المزارع لأن رب الأرض يدعي لنفسه أجر المثل دينا في ذمة المزارع والمزارع منكر لذلك ثم الظاهر يشهد للمزارع فإن الأصل في العقود الصحة وحاجة المزارع إلى دفع استحقاق رب الأرض والظاهر يكفي لذلك وإن أقاما البينة فالبينة بينة المزارع أيضا لأنه يثبت ببينته اشتراط نصف الخارج ورب الأرض ليس يثبت ببينته ما شهد به الشهود لأنهم شهدوا باشتراط عشرين قفيزا وذلك لا يستحق بالشرط بل يفسد به العقد فيجب أجر المثل فتترجح بينه من تثبت بينته صحة العقد وصحة الشرط.(23/162)
ولو لم يزرع حتى اختلفا كان القول قول رب الأرض إن ادعى أنه دفعها بأقفزة معلومة لأن المزارع يدعي عليه استحقاق منفعة الأرض ووجوب تسليمها إليه ورب الأرض منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإن ادعى رب الأرض أنه دفعها بالنصف فالقول قول المزارع أنه أخذها بعشرين قفيزا مع يمينه على ما ادعى رب الأرض لأن رب الأرض يدعي استحقاق بعض الخارج عليه والمزارع منكر لذلك وقيل لا معنى ليمين المزارع هنا لأنه متمكن من فسخ العقد قبل إلقاء البذر في الأرض وقد ادعى ما يفسد العقد فكان ذلك بمنزلة الفسخ منه ثم اليمين إنما تنبني على دعوى ملزمة ودعوى رب الأرض لا تلزمه شيئا قبل الزراعة فلا معنى لاستحلافه.(23/163)
ص -80- ... فإن كان البذر من صاحب الأرض فلما أدرك الزرع قال العامل شرطت لي النصف وقال رب الأرض شرطت لك عشرين قفيزا من الخارج فالقول قول رب الأرض والبينة بينة العامل لأن العامل يدعي استحقاق جزء من الخارج على رب الأرض بالشرط ورب الأرض منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه والبينة بينة العامل لأنها تثبت الاستحقاق له وإن لم تخرج الأرض شيئا فقال العامل شرطت لي عشرين قفيزا وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض لأن العامل يدعي أجر العمل دينا في ذمته وهو منكر لذلك والبينة بينة رب الأرض أيضا لأنه يثبت ببينته صحة العقد ويشهد شهوده باشتراط ما يثبت بالشرط في المزارعة والآخر إنما يشهد شهوده باشتراط ما لا يثبت بالشرط في المزارعة فكان الإثبات في بينة رب الأرض أظهر ولو لم يزرع حتى اختلفا فالقول قول الذي يدعي الفساد منهما مع يمينه لأنه ينكر وجوب تسليم شيء عليه ولو أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي المزارعة بالنصف أيهما كان لأنه يثبت ببينته صحة العقد وكونه سببا للاستحقاق فتترجح بينته بذلك.
ولو أخرج زرعا كثيرا فقال لصاحب الأرض والبذر شرطت لك النصف وزيادة عشرة أقفزة وقال العامل شرطت لي النصف فالقول قول العامل لأنهما اتفقا على اشتراط النصف ثم ادعى رب الأرض زيادة على ذلك والعامل منكر لتلك الزيادة ثم رب الأرض متعنت في كلامه لأنه يقر له بزيادة ليبطل به أصل استحقاقه لا ليثبت حقه فيما أقر له به وقول المتعنت غير مقبول وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة رب الأرض لأنه يثبت ببينته زيادة الشرط ولأنه يثبت ببينته فساد العقد بعد ما ظهر باتفاقهما ما هو شرط الصحة وهو اشتراط نصف الخارج فالزيادة ها هنا في بينته.(23/164)
ولو ادعى رب الأرض انه اشترط له نصف ما تخرج الأرض إلا خمسة أقفزة وقال العامل لم يستثن شيئا فالقول قول رب الأرض لأن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثني فالمزارع يدعي عليه استحقاق نصف كامل بالشرط ورب الأرض ينكر الشرط في بعض ذلك النصف معنى فالقول قوله لإنكاره والبينة بينة المزارع لأنه يثبت صحة المزارعة والفضل فيما يدعيه لنفسه إن لم تخرج الأرض شيئا وقال المزارع شرطت لي النصف وزيادة عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض لاتفاقهما على اشتراط النصف وتفرد المزارع بدعوى الزيادة لا ليستحقها بل ليبطل العقد بها والبينة بينة المزارع لأنه يثبت زيادة شرط ببينته ويثبت لنفسه أجر المثل دينا في ذمة رب الأرض.
ولو قال المزارع شرطت لي النصف إلا عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف ولم تخرج الأرض شيئا فالقول قول رب الأرض لأن المزارع يدعي الأجر دينا في ذمة رب الأرض ورب الأرض منكر لذلك وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض أيضا لأنه يثبت ببينته شرط صحة العقد وإن اختلفا قبل العمل فقال المزارع شرطت لي النصف وزيادة عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من يرى جواز المزارعة وفي قول أبي يوسف ومحمد:(23/165)
ص -81- ... القول قول المزارع وهذا لأن رب الأرض يدعي صحة العقد ومن أصل أبي حنيفة أن القول قول من يدعي الصحة بيانه فيما تقدم في السلم إذا ادعى أحد المتعاقدين الأجل في السلم وأنكره الآخر أن عند أبي حنيفة القول قول من يدعي الأجل أيهما كان لأنه يدعي صحة العقد وعندهما القول قول رب السلم لأن المسلم إليه إذا كان يدعي الأجل ورب السلم منكر لدعواه فالقول قوله وإن كان في إنكاره إفساد العقد وإن كان المسلم إليه منكرا للأجل فهو متعنت في هذا الإنكار لأن رب السلم يقر له بالأجل وهو ينكر ذلك تعنتا ليفسد به العقد فهنا كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله يجعل القول قول رب الأرض لأنه يدعي صحة العقد وعندهما يجعل القول قول المزارع لأن كلامهما خرج مخرج الدعوى والإنكار فرب الأرض يدعي على المزارع استحقاق تسليم النفس لإقامة العمل وهو منكر فالقول قوله مع يمينه وإن كان في إنكاره إفساد العقد وإن أقاما البينة فالبينة بينة المزارع في قولهم جميعا لأنه يثبت السبب المفسد بعد تصادقهما على ما هو شرط الصحة ولا يثبت الفضل فيما شرط له.(23/166)
ولو قال المزارع شرطت لي النصف إلا عشرة أقفزة وقال رب الأرض شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض عندهم جميعا أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه يدعي الصحة وأما عندهما فلأن المزارع متعنت لأن رب الأرض يقر له بزيادة فيما شرط له والمزارع يكذبه فيما أقر له به ليفسد به العقد فكان متعنتا فإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض لأنه يثبت شرط صحة العقد واستحقاق العمل على المزارع ببينته ولو قال المزارع قبل العمل شرطت لي النصف وقال رب الأرض والبذر شرطت لك النصف وزيادة عشرة أقفزة فالقول قول المزارع لأنهما اتفقا على شرط صحة العقد وهو اشتراط النصف ثم رب الأرض يدعي شرط زيادة على ذلك ليفسد به العقد والمزارع منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه والبينة بينة رب الأرض لإثباته الشرط المفسد مع تصادقهما على ما هو شرط صحة العقد.
ولو قال رب الأرض شرطت لك النصف إلا عشرة أقفزة وقال المزارع شرطت لي النصف فالقول قول رب الأرض لأن المزارع يدعي زيادة أقفزة فيما شرط ورب الأرض منكر لما قلنا أن الكلام المصدر بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثني والبينة بينة المزارع لأنه يثبت الفضل في المشروط له ببينته ولو كان البذر من قبل العامل كان حاله في جميع هذه الوجوه بمنزلة حال رب الأرض حتى كان البذر من قبله للمعنى الذي أشرنا إليه وإذا دفع الرجل إلى رجلين أرضا وبذرا على أن يزرعاها سنتهما هذه فما أخرج الله تعالى من ذلك فلأحدهما بعينه الثلث منه ولرب الأرض الثلثان وللآخر على رب الأرض أجر مائة درهم فهو جائز على ما اشترطوا لأنه استأجر أحدهما ببدل معلوم لعمل مدة معلومة واستأجر الآخر بجزء من الخارج مدة معلومة وكل واحد من هذين العقدين جائز عند الانفراد فكذا عند الجمع بينهما.
فإن أخرجت الأرض زرعا كثيرا فاختلف العاملان فقال كل واحد منهما أنا صاحب الثلث فالقول قول رب الأرض في ذلك لأن كل واحد منهما يدعي استحقاق الثلث عليه(23/167)
ص -82- ... بالشرط فإذا صدق أحدهما فقد أقر له بالثلث وأنكر استحقاق الآخر فالقول قوله ثم لما كان كل واحد منهما يستحق عليه كان القول قوله في بيان ما يستحقه كل واحد منهما عليه من الأجر أو ثلث الخارج وإن أقام كل واحد منهما البينة أنه صاحب الثلث أخذ الذي أقر له رب الأرض الثلث بإقراره وأخذ الآخر الثلث ببينته لأنه أثبت ما ادعاه بالبينة ولا شيء له من الأجر لأن من ضرورة استحقاقه ثلث الخارج ابتغاء الأجر الذي به أقر له رب الأرض.
ولو لم تخرج الأرض شيئا فقال كل واحد منهما أنا صاحب الأجر فالقول قول رب الأرض لما قلنا وإن أقاما البينة فلكل واحد منهما على رب الأرض مائة درهم لأحدهما بإقرار رب الأرض له وللآخر بإثباته بالبينة ولا يلتفت إلى بينة رب الأرض في هذا الوجه ولا في الوجه الأول مع بينتهما لأنهما المدعيان للحق قبله والبينة على المدعي دون المنكر ولو كان دفع الأرض إليهما على أن يزرعاها ببذرهما على أن ما خرج منه فلأحدهما بعينه نصفه ولرب الأرض عليه أجر مائة درهم وللآخر ثلث الزرع ولرب الأرض سدس الزرع فهذا جائز لأنه أجر الأرض منهما نصفها من أحدهما بمائة درهم ونصفها من الآخر بثلث ما يخرجه ذلك النصف وكل واحد من هذين العقدين صحيح عند الإنفراد وقد بينا أن باختلاف البدل لا تتفرق الصفقة في حق صاحب الأرض فإن زرعها فلم تخرج الأرض شيئا فقال كل واحد منهما لرب الأرض أنا شرطت لك سدس الزرع فالقول قول كل واحد منهما فيما زعم أنه شرط له لأن رب الأرض يصدق أحدهما في ذلك ويدعي على الآخر وجوب الأجر دينا في ذمته وهذا منكر لذلك فالقول قوله لإنكاره مع يمينه وإن أقاما البينة أخذ ببينة رب الأرض لأنه يثبت للآخر ببينته دينا في ذمته.(23/168)
ولو أخرجت زرعا كثيرا فادعى كل واحد منهما أنه هو الذي شرط له الأجر وادعى صاحب الأرض على أحدهما الأجر وعلى الآخر سدس الزرع فإنه يأخذ الأجر من الذي ادعاه عليه لتصادقهما على ذلك وفي حق رب الأرض يدعي عليه استحقاق بعض الخارج وهو منكر فالقول قوله ويقال لرب الأرض أقم البينة على السدس الذي ادعيته عليه وإن أقام البينة أخذ ببينة رب الأرض لأنه هو المدعي المثبت لحقه ببينته.
ولو دفع رجل إلى رجل أرضا على أن يزرعها ببذره وعمله فما خرج منه فثلثاه للعامل والثلث لأحد صاحبي الأرض بعينه وللآخر مائة درهم أجر نصيبه فهو جائز لأنه استأجر من أحدهما نصيبه بأجر مسمى واستأجر من الآخر نصيبه بثلث ما يخرجه نصيبه وكل واحد منهما مستقيم فإن أخرجت زرعا كثيرا فادعى كل واحد من صاحبي الأرض أنه صاحب الثلث فالقول قول الزارع لأن كل واحد منهما يدعي استحقاق الخارج عليه وإن أقام كل واحد من صاحبي الأرض البينة كان لكل واحد منهما ثلث الخارج لأنه أقر لأحدهما بثلث الخارج والآخر أثبت ببينته استحقاق ثلث الخارج ولا يلتفت إلى بينة المزارع مع بينتهما لأنهما المدعيان والبينة في جانب المدعي دون المنكر.(23/169)
ص -83- ... وإذا دفع الرجل إلى رجلين أرضا وبذرا على أن لأحدهما بعينه ثلث الخارج وللآخر عشرين قفيزا من الخارج ولرب الأرض ما بقي فزرعاها فأخرجت الأرض زرعا كثيرا فالثلث للذي سمي له الثلث والثلثان لصاحب الأرض وللآخر أجر مثله أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن عقد المزارعة بينه وبين الذي شرط له الثلث صحيح وبينه وبين الآخر فاسد لأنه شرط له شرطا يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصوله والمزارعة بمثل هذا الشرط تفسد ولكن عقده مع أحدهما معطوف على العقد مع الآخر بحرف العطف وليس بمشروط فيه ففساد العقد بينه وبين أحدهما لا يفسد العقد بينه وبين الآخر فإن اختلفا في الذي شرط له الثلث منهما فالقول قول رب الأرض لأن كل واحد منهما يدعي الاستحقاق عليه بالشرط وإن أقاما البينة كان لكل واحد منهما ثلث الخارج لأحدهما بإقرار رب الأرض له به وللآخر بإثباته بالبينة.
ولو لم تخرج الأرض شيئا كان القول قول رب الأرض في الذي له أجر مثله منهما فإن أقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى فالبينة بينة رب الأرض لأن رب الأرض صدق أحدهما فيما ادعى عليه من أجر المثل وإنما بقيت الدعوى بينه وبين الآخر ورب الأرض ببينة تثبت شرط صحة العقد بينه وبين الآخر والآخر ينفي ذلك ببينته وقد بينا أن البينة التي تثبت شرط صحة العقد تترجح بخلاف ما سبق فهناك كل واحد من العقدين صحيح فلا يكون رب الأرض ببينته مثبتا شرط صحة العقد ولو كان صاحب الأرض اثنين على مثل هذا الشرط دفعاه إلى واحد والبذر من قبل المزارع كان في جميع هذه الوجوه مثل ما بينا من حكم صاحب الأرض حين كان البذر من قبله لاستوائهما في المعنى وذلك يتضح لك إذا تأملت والله أعلم.
باب العشر في الزراعة والمعاملة(23/170)
قال رحمه الله: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضا سنته هذه على أن يزرعها ببذره وعمله بالنصف فأخرجت الأرض زرعا كثيرا والأرض أرض عشر ففي قياس قول أبي حنيفة على قول من أجاز المزارعة يكون للمزارع نصف الخارج كاملا ويأخذ السلطان عشر جميع الخارج من نصيب صاحب الأرض إن كانت تشرب سحا أو تسقيها السماء وإن كانت تسقى بدلو أو دالية فنصف عشر جميع الخارج على صاحب الأرض لأنه مؤاجر لأرضه بجزء من الخارج ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن من أجر أرضه العشرية فالعشر يكون على الآخر وعندهما العشر في الخارج على المستأجر فهنا أيضا عندهما العشر على كل واحد منهما في الخارج نصفان وإن سرق الخارج قبل القسمة أو بعد القسمة فلا عشر عليهما لفوات محل الحق وعند أبي حنيفة رحمه الله عشر جميع الخارج على رب الأرض فإن سرق الطعام بعد ما حصد أو حرق قبل أن يأخذ السلطان العشر يبطل عن رب الأرض نصفه ولزمه في ماله نصفه لأن حصة النصف الذي صار للمزارع من العشر صار دينا في ذمة رب الأرض فلا يسقط ذلك عنه بهلاك الخارج وفي النصف الذي هو ملك رب الأرض العشر باق في عينه فإذا هلك سقط عشر ذلك عنه لفوات المحل وكذلك لو كان البذر من قبل رب الأرض فإنه(23/171)
ص -84- ... مستأجر للعامل بنصف الخارج فيكون عشر الكل عليه عند أبي حنيفة لأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج وهو المالك للأرض فإذا سرق الطعام بعد الحصاد سقط عنه النصف حصة نصيبه من الخراج وأما حصة نصيب المزارع فصارت دينا في ذمته بتمليكه إياه من المزارع فلا يسقط ذلك عنه بهلاك الخارج.
ولو أجر أرضه من رجل بمائة درهم يزرعها هذه السنة فأخرجت زرعا كثيرا ثم توى الأجر على المستأجر فعشر جميع الطعام على رب الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله وقد صار ذلك دينا في ذمته وللآخر دين له على المستأجر فإن توى دينه على المستأجر فإن سرق طعام المستأجر لا يسقط عن المؤاجر العشر الذي صار دينا عليه ولو استحصد الزرع فلم يحصد حتى هلك فالأجر واجب لأن وجوب الأجر بالتمكن من استيفاء المعقود عليه وقد تمكن المستأجر من ذلك وقد استوفاه حقيقة ولا عشر على واحد منهما لأن وجوب العشر عند الحصاد قال الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وإنما يصير دينا في ذمة الآجر بعد وجوبه فإذا هلك الخارج قبل الحصاد لم يكن عليه شيء بخلاف ما إذا هلك بعد الحصاد لأن العشر قد تقرر وجوبه هنا وصار دينا في ذمة الآجر وكذلك في المزارعة إذا هلك الزرع بعد ما استحصد قبل أن يحصد فلا عشر على واحد منهما في القولين جميعا سواء كان البذر من قبل رب الأرض أو من قبل المزارع لأن المحل فات قبل أن يأتي وقت وجوب العشر فهو بمنزلة ما لو استهلك النصاب قبل تمام الحول والهلاك هنا في حق المؤاجر بمنزلة الاستهلاك في مال الزكاة حتى إذا استهلك بعد تمام الحول فالزكاة دين عليه فإذا هلك هنا بعد الحصاد يكون العشر دينا عليه وكذلك الجواب في معاملة النخيل والكروم وهو مثل الجواب في المزارعة أنه إذا هلك قبل الجذاذ فلا عشر على رب النخيل وإن هلك بعد الجذاذ فعشر نصيب العامل دين عليه في قول أبي حنيفة فإن الجذاذ في الثمار بمنزلة الحصاد في الزرع وإن استهلكه(23/172)
رجل فليس على رب النخيل في حصته شيء من العشر إلا أن يستوفي بدله من المستهلك فحينئذ يؤدي عشره لأن المحل فات وأخلف بدلا وإن استوفى منه بعض البدل يؤدي العشر بقدر ذلك اعتبارا للجزء بالكل.
ولو صالح الإمام قوما من أهل الحرب على أن صاروا ذمة له ووضع على رؤوسهم شيئا معلوما وجعل خراج أراضيهم ونخيلهم وأشجارهم المناصفة فذلك جائز لأنه نصب ناظرا للمسلمين وربما يكون خراج المقاسمة أنفع للفريقين من خراج الوظيفة فإذا دفع رجل أرضا مزارعة والبذر منه أو من العامل أو أجرها بدراهم أو أعارها رجلا ليزرعها لنفسه أو دفع الأشجار معاملة كان الجواب في جميع ذلك على نحو ما بينا في العشر لأن الخراج هنا جزء من الخارج لا يجب إلا بعد حصول الخارج حقيقة فيكون بمنزلة العشر في التخريج على القولين كما بينا بخلاف خراج الوظيفة فإنه يجب بالتمكن من الانتفاع وإن لم يزرع كان على رب الأرض في الوجوه كلها.(23/173)
ص -85- ... وإذا دفع أرضا من أرض العشر وبذرا إلى رجل على أن يزرعها سنته هذه على أن للمزارع عشرين قفيزا من الخارج فأخرجت الأرض زرعا كثيرا فللعامل أجر مثله وعلى رب الأرض عشر جميع الخارج لأنه استأجر العامل إجارة فاسدة ولو استأجره إجارة صحيحة بدراهم مسماة للعمل كان عشر جميع الخارج على رب الأرض فكذلك هنا ولا يرفع مما أخرجت الأرض نفقة ولا أجر عامل لأن بإزاء ما غرم من الأجر دخل في ملكه العوض وهو منفعة العامل وصار إقامة العمل بأجيره كإقامته بنفسه ولو زرع الأرض كان عليه عشر جميع الخارج من غير أن يرفع من ذلك بذرا أو نفقة أنفقها فكذلك أجر العامل ولو كان البذر من العامل كان الخارج له وعليه أجر مثل الأرض ثم في قول أبي حنيفة رحمه الله عشر جميع الخارج على رب الأرض وعندهما العشر في الخارج اعتبارا للإجارة الفاسدة بالإجارة الصحيحة في القولين.
ولو دفع إليه الأرض على أن يزرعها ببذر منهما فما خرج فهو بينهما نصفان فالمزارعة فاسدة لأنه جعل منفعة نصف الأرض للعامل مقابلة عمله في النصف الآخر لرب الأرض ثم الخارج بينهما نصفان لأن البذر بينهما نصفان والخارج نماء البذر وعشر الطعام كله على رب الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه صار مؤاجرا نصف الأرض بما شرط بمقابلته من عمله في النصف الآخر فهو بمنزلة ما لو أجرها بدراهم وعندهما العشر في الخارج ولرب الأرض نصف أجر مثل أرضه لأنه استوفى منفعة نصف الأرض بحكم عقد فاسد ولهذا المعنى يكون العشر في نصيب العامل على رب الأرض في قول أبي حنيفة لأنه قد حصل له منفعة ذلك النصف من الأرض وهو أجر المثل ولا أجر للعامل لأنه عمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر على غيره.(23/174)
ولو دفع إلى رجل أرض عشر على أن يزرعها ببذره وعمله بالنصف فاستحصد الزرع ولم يحصد حتى استهلكه رجل أو سرقه وهو مقر به فلا عشر على واحد منهما حتى يؤدي المستهلك ما عليه وما أدى من شيء كان على رب الأرض عشره في قول أبي حنيفة رحمه الله سواء كان البذر من قبل العامل أو من قبل رب الأرض لأن حكم البدل حكم المبدل وسلامته بأن يستوفي ممن عليه فأما ما كان دينا في ذمته فهو كالتاوي وفي قولهما ما خرج من شيء أخذ السلطان عشر ذلك والباقي بينهما نصفان وكذلك لو كانت الأرض مما صالح الإمام أهلها على أن جعل خراجها نصف الخارج فإن خراج المقاسمة بمنزلة العشر وكذلك لو كان أجر أرضه العشرية بدراهم فزرعها المستأجر فاستحصد زرعها ثم استهلكها مستهلك فلا عشر على واحد منهما حتى يؤدي المستهلك ما عليه من البدل فإذا أدى شيئا منه فعند أبي حنيفة عشر مقدار ما وصل إلى المستأجر على رب الأرض وعندهما عشر ذلك القدر في الخارج لأن رب الأرض في حكم العشر بمنزلة ما لو كان زرعها بنفسه عند أبي حنيفة رحمه الله.
وإذا غصب الرجل أرض عشر أو خراج فزرعها فأخرجت زرعا كثيرا ولم تنقصها لزراعة(23/175)
ص -86- ... شيئا فالخارج على الزارع والعشر عليه في الخارج لأن رب الأرض لم يسلم له شيء من منفعة الأرض ولا كان متمكنا من الانتفاع بها مع منع الغاصب إياه من ذلك فلا يلزمه عشر ولا خراج فإذا تعذر إيجاب ذلك عليه وجب على الغاصب لأن المنفعة سلمت له من غير عوض فكما التحق هو بالمالك في سلامة منفعة الأرض له بغير عوض فكذلك في وجوب العشر والخراج عليه ولو كانت المزارعة نقصت الأرض فعلى الزارع غرم النقصان لأن ذلك الجزء تلف بفعله فيجب عليه ضمانه ثم في قول أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكره أبو يوسف عشر جميع ما أخرجت الأرض على رب الأرض وكذلك إن كانت له أرض خراج فعليه خراجها لأن ما استوفى هو من قيمة النقصان منفعة سلمت له باعتبار عمل الزراعة فكان بمنزلة ما لو أجر الأرض بذلك القدر فعليه العشر والخراج سواء كان ما وصل إليه مثل العشر أو الخراج الواجب أو أقل أو أكثر وهذا يقوي قول من يقول من أصحابنا رحمهم الله أن نقصان الأرض عوض عن منفعتها وأن الطريق في معرفة النقصان أن ينظر بكم تؤجر الأرض قبل المزارعة وبعدها فمقدار التفاوت هو نقصان الأرض وفي هذا اختلاف بين أئمة بلخ فإن بعضهم يقولون إن المنفعة عندنا لا تضمن بالإتلاف ولكن النقصان في حكم بدل جزء فائت من العين وطريق معرفته أن ينظر بكم كانت تشترى تلك الأرض قبل الزراعة وبكم تشترى بعدها فتفاوت ما بينهما هو النقصان والقول الأول أقرب إلى الصواب بناء على الجواب الذي ذكره هنا فإنه جعل النقصان بمنزلة الأجرة عند أبي حنيفة وأما في قول محمد فإن كان نقصان الأرض مثل الخراج أو أكثر فلرب الأرض قيمة النقصان على الغاصب والخراج على رب الأرض يعطيه بما يستوفي وإن كانت قيمة النقصان أقل من الخراج فالخراج على الغاصب وليس عليه شيء من النقصان لرب الأرض فكأنه استحسن ذلك لدفع الضرر عن رب الأرض فإنه لا يمكن إيجاب موجبين على الغاصب بسبب زراعة واحدة فيجعل كأنه لم يتمكن نقصان في الأرض(23/176)
حتى يجب الخراج على الغاصب ولا يتضرر به رب الأرض, وأما العشر على قوله وعلى قول أبي يوسف ففي الخارج والخارج للغاصب فيؤدى عشر الخارج ويغرم لصاحب الأرض النقصان مع ذلك كما يغرم الأجر لو كان استأجرها منه وقع في بعض نسخ الأصل الجمع بين الخراج والعشر في تخريج قول محمد رحمه الله وهو سهو إنما الصحيح ما ذكرناه والله أعلم.
باب المعاملة
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل نخلا معاملة سنين معلومة بالنصف فهو جائز على قول من يرى جواز المزارعة وكذلك معاملة الشجر والكرم والرطاب في قول علمائنا رحمهم الله وقال الشافعي لا تجوز المعاملة إلا في النخيل والكروم خاصة لأن جواز ذلك بالأثر وإنما ورد الأثر في النخيل والكروم وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ولكن هذا فاسد فقد كان أهل خيبر يعملون في الأشجار والرطاب أيضا كما يعملون في النخيل والكروم.(23/177)
ص -87- ... ثم هذا الكلام إنما يستقيم ممن لا يرى تعليل النصوص فإذا كان الشافعي يرى تعليل النصوص فلا يستقيم منه معنى فيصير حكم المعاملة على النخيل والكروم باعتبار أن الأثر ورد فيها فإن أراد صاحب النخيل أن يخرج العامل لم يكن له ذلك إلا من عذر بخلاف ما لو دفع الأرض والبذر مزارعة لأن صاحب البذر يحتاج إلى أن يلقي بذره في الأرض وفيه إتلاف ملكه فله أن لا يرضى به وهنا صاحب النخيل لا يحتاج في إيفاء العقد إلى إتلاف شيء من ماله فيلزم العقد في الجانبين بنفسه ولا ينفرد أحدهما بفسخه إلا بعذر كسائر الإجارات والعذر هنا أن يلحقه دين فادح لا وفاء عنده إلا ببيع النخيل أو يكون العامل سارقا معروفا بالسرقة فخاف منه على أخذ سعف النخل وسرقته أو على سرقة الثمار قبل الإدراك وقد بينا أن هذا عذر في سائر الإجارات نحو إجارة الظئر لما يلحقه فيه من ضرر لم يلزمه بالعقد فكذلك في المعاملة.
وإن كان الثمر قد خرج ولم يبلغ ثم لحقه دين لا وفاء عنده إلا ببيع النخيل لم يكن له أن ينقض المعاملة ولا يبيعه حتى يبلغ الثمر فيباع نصيب صاحب النخل من النخل من الثمر في الدين وتنتقض المعاملة فيما بقي وقد تقدم نظيره في المزارعة والمعنى فيهما سواء فإن الشركة انعقدت بينهما في الثمر ولإدراكه نهاية معلومة ففي الانتظار توفير المنفعة ودفع الضرر من الجانبين وفي نقض المعاملة في الحال إضرار بالعامل من حيث أن فيه إبطال حقه من نصيب الثمر فلدفع الضرر قلنا يخرج رب النخيل من الشجر وتبقى المعاملة بينهما إلى أن يدرك ما خرج من الثمر.(23/178)
ولو أراد العامل ترك العمل قبل خروج الثمر لم يكن له ذلك إلا أن يمرض مرضا يضعف عن العمل معه فيكون هذا عذرا ولا يقال ينبغي أن يؤمر في المرض أن يستأجر عاملا ليقيم العمل لأن في ذلك إلحاق ضرر به لم يلتزمه بعقد المعاملة وإذا كان عليه في إيفاء العقد ضرر فوق ما التزمه يصير ذلك عذرا في فسخ المعاملة قال في الأصل أو يريد سفرا أو يترك ذلك العمل فيكون هذا عذرا له وقد بينا في أول الكتاب أن في هذا الفصل روايتين وتأويل ما ذكر هنا أن العمل كان مشروطا بيده.
ولو دفع إلى رجل نخلا أو شجرا أو كرما معاملة بالنصف ولم يسم الوقت جاز استحسانا على أول ثمرة تخرج في أول سنته وفي القياس لا يجوز لأن هذا استئجار للعامل وبهذا لا يصير المعقود عليه معلوما إلا ببيان المدة فإذا لم يبينا لا يجوز العقد كما في المزارعة ووجه الاستحسان أن لإدراك الثمر أوانا معلوما في العادة ونحن نتيقن أن إيفاء العقد مقصود هنا إلى إدراك الثمار والثابت بالعادة كالثابت بالشرط فصارت المدة معلومة وإن تقدم أو تأخر فذلك يسير لا يقع بسببه منازعة بينهما في العادة بخلاف المزارعة فإن آخر المدة هناك مجهول لجهالة أولها لأن ما يزرع في الخريف يدرك في آخر الربيع وما يزرع في الربيع يدرك في آخر الصيف وما يزرع في الصيف يدرك في آخر الخريف فلجهالة وقت ابتداء عمل المزارعة يصير وقت النهاية مجهولا وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة بينهما فلهذا لا يجوز العقد إلا(23/179)
ص -88- ... ببيان المدة ثم في المعاملة يتيقن أن العقد تناول أول ثمره وفيما وراء ذلك شك فلا يثبت إلا المتيقن وإذا لم يخرج ثمره في تلك السنة انتقضت المعاملة لأن العقد لا يتناول إلا ذلك القدر من المدة فكأنهما نصا على ذلك.
ولو دفع إليه أصول رطبة ثابتة في الأرض معاملة ولم يسم الوقت فهو فاسد لأن الرطبة ليست لها غاية ينتهي إليها نموها ولكنها تنمو ما تركت في الأرض بخلاف الثمار فإن لها غاية تنتهي إليها فإذا تركت بعد ذلك تفسد فإن كانت للرطبة غاية معلومة تنتهي إليها في نباتها حتى تقطع ثم تخرج بعد ذلك فهذه معاملة جائزة والمعاملة في ذلك على أول جزة كما في الثمار وكل شيء من هذا أخرنا فليس لواحد منهما أن ينقض المعاملة إلا من عذر لأن المعلوم بالعادة من المدة لما جعل كالمشروط لها في جواز العقد فكذلك في لزومه.
ولو دفع إليه نخلا فيه طلع معاملة بالنصف أو لم يسم الوقت أو دفعه إليه بعد ما صار بسرا أخضر أو أحمر غير أنه لم ينته عظمه فهو جائز لأنه بحيث ينمو بعمل العامل وله نهاية معلومة فيجوز العقد باعتباره ولو دفع إليه بعد ما تناهى عظمه وليس يزيد بعد ذلك قليلا ولا كثيرا إلا أنه لم يرطب فالمعاملة فاسدة لأنه لا يزداد بعمله والشركة بعقد المعاملة إنما تصح فيما يحدث بعمل العامل أو يزداد بعمله فإذا لم يكن بهذه الصفة كان العقد فاسدا وإن عمل فيه العامل فله أجر مثله.(23/180)
ولو اشترى من رجل طلعا في نخل أو بسرا أخضر فتركه في النخل بغير أمر صاحبه حتى صار تمرا تصدق المشتري بالزيادة لتمكن الخبث في المشتري بالزيادة الحاصلة فيه من نخل صاحب النخل بغير رضاه ولو اشتراه وهو بسر أحمر قد انتهى عظمه لم يتصدق بشيء لأنه لم يزد فيه من النخل شيء وإنما النضج واللون والطعم يحدث فيه بتقدير الله تعالى وسبب ذلك على ما جعله الله تعالى سببا الشمس والقمر والكواكب فلا يتمكن فيه خبث وإنما أورد هذا لإيضاح الفصل الأول وقد بينا تمام هذا الفصل في البيوع ولو دفع إليه رطبة له في أرض قد صارت بلحا ولم تنته إلى أن تجذ فدفعها إليه معاملة على أن يسقيها ويقوم عليها بالنصف ولم يسم وقتا معلوما فهو فاسد إلا أن يكون للرطبة غاية معلومة تنتهي إليها فحينئذ يجوز.
ولو دفع إليه رطبة قد انتهى إحرازها على أن يقوم عليها ويسقيها حتى تخرج بذرها على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من بذر فهو بينهما نصفان ولم يسميا وقتا فهو جائز استحسانا لأن لإدراك البذر أوانا معلوما عند المزارعين والبذر إنما يحصل بعمل العامل فاشتراط المناصفة فيه يكون صحيحا والرطبة لصاحبها ولو اشترطا أن الرطبة بينهما نصفان فسدت المعاملة لأنهما شرطا الشركة فيما لا ينمو بعمل العامل والرطبة للبذر بمنزلة الأشجار للثمار فكما أن شرط الشركة في الأشجار المدفوعة إليه مع الثمار يكون مفسدا للعقد فكذلك هنا ولو كان دفعها إليه وهي قداح لم تتناه والمسألة بحالها جاز العقد لأن الرطبة هنا تنمو بعمله فيجوز اشتراط المناصفة فيه ولإدراك البذر أوان معلوم فلا يضرهما ترك التوقيت.(23/181)
ص -89- ... ولو دفع إلى رجل غراس شجرا أو كرم أو نخل قد علق في الأرض ولم يبلغ الثمر على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقح نخله فما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان فهذه معاملة فاسدة إلا أن يسمي سنين معلومة لأنه لا يدري في كم تحمل النخل والشجر والكرم والأشجار تتفاوت في ذلك بتفاوت مواضعها من الأرض بالقوة والضعف فإن بينا مدة معلومة صار مقدار المعقود عليه من عمل العامل معلوما فيجوز وإن لم يبينا ذلك لا يجوز ولو دفع إليه نخلا أو كرما أو شجرا قد أطعم وبلغ سنين معلومة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقح نخله ويكسح كرمه على أن النخل والكرم والشجر والخارج كله بينهما نصفان فهذا فاسد لاشتراطهما الشركة فيما هو حاصل لا بعمل العامل وهو الأشجار بمنزلة ما لو دفع الأرض مزارعة على أن تكون الأرض والزرع بينهما نصفين ولو دفع إليه أصول رطبه على أن يقوم عليها ويسقيها حتى تذهب أصولها وينقطع نبتها على أن الخارج بينهما نصفان فهو فاسد وكذلك النخل والشجر لأنه ليس لذلك نهاية معلومة بالعادة وجهالة المدة في المعاملة تفسد المعاملة.(23/182)
ولو دفع إليه نخلا أو شجرا أو كرما معاملة أشهرا معلومة يعلم أنها لا تخرج ثمرة في تلك المدة بأن دفعها أول الشتاء إلى أول الربيع فهذا فاسد لأن المقصود بالمعاملة الشركة في الخارج وهذا الشرط يمنع ما هو المقصود فيكون مفسدا للعقد ولو اشترطا وقتا قد يبلغ الثمر في تلك المدة وقد يتأخر عنها جاز لأنا لا نعلم تفويت موجب العقد فهذا الشرط إنما يوهم ذلك وهذا التوهم في كل معاملة ومزارعة فقد يصيب الزرع والثمار آفة سماوية فإن خرج الثمر في تلك المدة فهو بينهما على ما اشترطا وإن تأخر عن تلك المدة فللعامل أجر مثله فيما عمل إن كان تأخير ذلك ليس من ذهاب في تلك السنة لأنه تبين أنهما سميا من المدة ما لا تخرج الثمار فيها ولو كان ذلك معلوما عند ابتداء العقد كان العقد فاسدا فكذلك إذا تبين في الانتهاء وبهذا يستدل على جواب مسألة السلم أنه إذا انقطع المسلم فيه من أيدي الناس في خلال المدة بآفة فإنه يتبين به فساد العقد بمنزلة ما لو كان منقطعا عند ابتداء العقد وإن كان قد أحال في تلك السنة فلم يخرج شيئا فهذه معاملة جائزة ولا أجر للعامل في عمله ولا شيء له لأنه بما حصل من الآفة لا يتبين أن الثمار كانت لا تخرج في المدة المذكورة وإذا لم يتبين المفسد بقي العقد صحيحا وموجبه الشركة في الخارج فإذا لم يحصل الخارج لم يكن لواحد منهما على صاحبه شيء وإن كان قد خرج في تلك السنة ولم يحل إلا أن الوقت قد انقضى قبل أن يطلع الثمر فللعامل أجر مثله فيما عمل لأنه تبين المفسد للعقد وهو أنهما ذكرا مدة كانت الثمار لا تخرج فيها ولو كان هذا معلوما في الابتداء كان العقد فاسدا فكذلك إذا تبين في الانتهاء في المعاملة الفاسدة للعامل أجر مثله فيما عمل لأن رب النخيل استوفى عمله بعقد فاسد والله أعلم.
باب من المعاملة أيضا
قال رحمه الله: وإذا دفع إلى رجل أرضا بيضاء سنين مسماة على أن يغرسها نخلا وشجرا(23/183)
ص -90- ... وكرما على أن ما أخرج الله تعالى من ذلك من نخل أو شجر أو كرم فهو بينهما نصفان وعلى أن الأرض بينهما نصفان فهذا كله فاسد لاشتراطهما الشركة فيما كان حاصلا لا بعمله وهو الأرض فإن قبضها وغرسها فأخرجت ثمرا كثيرا فجميع الثمر والغرس لرب الأرض وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل وقد بينا في المسألة طريقين لمشايخنا رحمهم الله في كتاب الإجارات إحداهما أنه اشترى منه نصف الغرس بنصف الأرض والأخرى أنه اشترى منه جميع الغرس بنصف الأرض والأصح فيه أنه استأجره ليجعل أرضه بستانا بآلات نفسه على أن يكون أجره نصف البستان الذي يظهر بعمله وآلاته وذلك في معنى قفيز الطحان فيكون فاسدا ثم الغراس عين مال قائمة كانت للعامل وقد تعذر ردها عليه للاتصال بالأرض فيلزمه قيمتها مع أجر مثل عمله فيما عمل بمنزلة ما لو دفع إلى خياط ظهارة على أن يبطنها أو يحشوها ويخيطها جبة بنصف الجبة كان العقد فاسدا وكانت له قيمة البطانة والحشو وأجر مثل عمله فيما عمل وكذلك لو لم يشترط له من الأرض شيئا ولكنه قال على أن يكون لك على مائة درهم أو شرط عليه كر حنطة أو شرط له نصف أرض أخرى معروفة فالعقد فاسد في هذا كله لجهالة الغراس الذي شرطه عليه وكذلك هذا في الزرع.(23/184)
ولو دفع إليه أرضا على أن يزرعها سنته هذه كرا من حنطة بالنصف وعلى أن للمزارع على رب الأرض مائة درهم كان العقد فاسدا لاشتراط الأجر المسمى للمزارع مع نصف الخارج ثم الخارج كله لرب الأرض وعليه كر حنطة مثل الكر الذي بذره المزارع وأجر مثل عمله فيما عمل أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج لأن عمل المزارع في ذلك لرب الأرض بأمره فيكون كعمل رب الأرض بنفسه وكذلك لو كان الغرس عند رب الأرض واشترط ما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان وعلى أن للعامل على رب الأرض مائة درهم فهو فاسد لاشتراط أجر المسمى للعامل مع الشركة في الخارج فإنه لو صح هذا كان شريكا في الخارج فلا يستوجب الأجر بعمله فيما هو شريك فيه وإذا عمل على هذا فالخارج كله لرب الأرض وللعامل أجر مثله وكذلك لو شرط كر حنطة وسط أو شرط أن الأرض بينهما نصفان.
ولو كان الغرس من قبل العامل وقد اشترط أن الخارج بينهما نصفان على أن لرب الأرض على المزارع مائة درهم فهذا فاسد لاشتراط الأجر المسمى لصاحب الأرض مع الشركة في الخارج فإنه لو صح ذلك كان هو يستوجب أجر الأرض للعامل فيما هو مشغول من الأرض بنصيب رب الأرض من الغراس وذلك لا يجوز ثم الخارج كله للعامل ولرب الأرض أجر مثل أرضه لأن العامل هنا استأجر الأرض وعمل فيها لنفسه حين شرط لرب الأرض على نفسه أجرا مائة درهم مع بعض الخارج فيكون عاملا لنفسه وقد استوفى منفعة الأرض بحكم عقد فاسد فعليه أجر مثل الأرض بخلاف ما تقدم.
ولو كان الغرس والبذر من رب الأرض على أن الخارج بينهما نصفان وعلى أن لرب الأرض على الزارع مائة درهم فهو فاسد أيضا ثم الخارج كله للعامل ولرب الأرض أجر(23/185)
ص -91- ... مثل أرضه وقيمة غرسه وبذر مثل بذره على الزارع لأنه كالمشتري للبذر والغرس ببعض المائة التي شرطها له على نفسه فيه وظهر أنه عامل لنفسه وأنه مستأجر للأرض مشتر للغرس والبذر بالمائة وبنصف الخارج ففسد العقد لجهالة الغرس ثم صار قابضا للغرس والبذر بحكم عقد فاسد وقد تعذر عليه رده فيلزمه القيمة فيما لا مثل له والمثل فيما له مثل ويلزمه أجر مثل الأرض وعليه أن يتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد وكذلك لو شرط له الغارس مكان المائة حنطة أو شيئا من الحيوان بعينه أو بغير عينه فالكل في المعنى الذي يفسد به العقد سواء.
ولو دفع إليه الأرض على أن يغرسها المدفوع إليه لنفسه ما بدا له من الغرس ويزرعها ما بدا له على أن الخارج بينهما نصفان وعلى أن للغارس على رب الأرض مائة درهم أو سمى شيئا غير المائة فهو فاسد والخارج كله للغارس ولرب الأرض أجر مثل أرضه لأن رب الأرض وإن صار كالمشتري للغراس والبذر بما شرط له على نفسه من المال المسمى ولكنه لم يملكه لفساد العقد وانعدام القبض من جهته فيكون الغارس عاملا لنفسه فكان الكل له بخلاف ما سبق فهناك الغارس يصير قابضا لما اشتراه شراء فاسدا.
فإن قيل هنا ينبغي أن يصير رب الأرض قابضا أيضا باتصاله بأرضه.
قلنا ابتداء عمله في الغرس والزرع يكون لنفسه لأنه ملك له قبل أن يتصل بالأرض ثم هو في يد الغارس حقيقة والمشتري شراء فاسدا وإن كان يملك المشتري بالقبض فرده مستحق شرعا لفساد العقد فلا يجوز جعله في يد المشتري حكما مع كونه في يد البائع حقيقة لأن يد البائع فيه يد بحق ويد المشتري محرم شرعا فأما فيما سبق فبنقض العامل يخرج من يد رب الأرض ويصير العامل قابضا له حقيقة وكذلك لو لم يشترط المائة واشترط أن الأرض بينهما نصفان.(23/186)
ولو كان البذر والغرس من رب الأرض على أن يغرسه ويبذره العامل لرب الأرض على أن ما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان وعلى أن لرب الأرض على العامل أجرا مائة درهم فهو فاسد والخارج كله لرب الأرض وللعامل أجر مثل عمله لأنه صرح في كلامه بما ينفي بيع الغرس والبذر منه فإنه شرط أن يعمل فيها لرب الأرض وإنما يكون عاملا لرب الأرض إذا كان الغرس والبذر من جهته فعرفنا أنه ما باع شيئا من ذلك من العامل ولكنه استأجره للعمل بنصف الخارج وشرط عليه بإزاء نصف الخارج لنفسه أيضا مائة درهم فكان فساد العقد من قبل أن العامل اشترى منه بعض الخارج الذي هو معدوم بالمسمى من المائة فكان الخارج لرب الأرض وللعامل أجر مثل عمله.
ولو دفع إليه نخلا معاملة سنين مسماة على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما أخرج الله تعالى من ذلك من شيء فهو بينهما نصفان وعلى أن لرب الأرض على العامل مائة درهم أو اشترط العامل على رب الأرض مائة درهم فهو فاسد لاشتراط الأرض المسماة مع بعض(23/187)
ص -92- ... الخارج لأحدهما والخارج كله لصاحب النخل لأنه تولد من نخيله وكذلك لو كان قال للعامل اعمل ذلك لنفسك أو قال اعمل لي أو قال اعمل ولم يقل لي ولا لك فهو سواء لأن النخيل مملوكة لصاحبها فيكون العامل في الوجوه كلها عاملا له سواء صرح بذلك أو بخلافه والله أعلم.
باب الأرض بين الرجلين يعملان فيها أو أحدهما
قال رحمه الله: وإذا كانت الأرض بين رجلين فاشترطا على أن يعملا فيها جميعا سنتهما هذه ببذرهما وبقرهما فما خرج فهو بينهما نصفان فهو جائز لأن كل واحد منهما عامل في نصيبه من الأرض ببذره وبقره غير موجب لصاحبه شيئا من الخارج منه فإن اشترطا أن الخارج بينهما أثلاثا كان فاسدا لأن الذي شرط لنفسه الثلث كأنه دفع نصيبه من الأرض والبذر إلى صاحبه مزارعة بثلث الخارج منه على أن يعمل هو معه وذلك مفسد للعقد ولأن ما شرط من الزيادة على النصف لصاحب الثلثين يكون أجره له على عمله وإنما يعمل فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر فيما هو شريك فيه على غيره.(23/188)
ولو كان البذر منهما أثلاثا والخارج كذلك كان جائزا لأن الذي شرط لنفسه ثلث الخارج كأنه أعار شريكه ثلث نصيبه من الأرض وأعانه ببعض العمل وذلك جائز ولو اشترطا أن الخارج نصفان كان فاسدا لأن الذي كان منه ثلث البذر شرط لنفسه بعض الخارج من بذر شريكه وإنما يستحق ذلك بعمله والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر على غيره إذ هو يصير دافعا سدس الأرض من شريكه مزارعة بجميع الخارج منه وذلك فاسد ثم الخارج بينهما على قدر بذرهما وعلى صاحب ثلثي البذر أجر مثل سدس الأرض لشريكه لأنه استوفى منفعة ذلك القدر من نصيبه من الأرض بعقد فاسد ويكون له نصف الزرع طيبا لا يتصدق بشيء منه لأنه رباه في أرض نفسه وأما سدس الزرع فإنه يدفع منه ربع بذره الذي بذره وما غرم من الأجر والنفقة فيه يتصدق بالفضل لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد ويكون له نصف الزرع طيبا لا يتصدق بشيء منه لأنه رباه في أرض غيره بعقد فاسد.
ولو كان الخارج والبذر بينهما نصفين والعمل عليهما جميعا إلا البقر فإنهما اشترطاه على أحدهما بعينه خاصة جاز والخارج بينهما نصفان لأن صاحب البقر معين لصاحبه ببقره حين لم يشترط لنفسه شيئا من الخارج من بذر صاحبه ولو اشترطا لصاحب البقر ثلثي الخارج كانت المزارعة فاسدة لأن الذي شرط لنفسه الثلث كأنه استأجر البقر من صاحبه بثلث الخارج من نصيبه واستئجار البقر في المزارعة مقصودا لا يجوز والخارج بينهما نصفان على قدر بذرهما ولصاحب البقر أجر مثل بقره فيما كربت لأنها كربت الأرض قبل أن تقع الشركة بينهما في الزرع فكان مستوفيا هذه المنفعة من بقره بحكم عقد فاسد.
ولو اشترطا البذر من عند أحدهما بعينه والبقر من الآخر والخارج بينهما نصفان لم يجز لأن صاحب البقر يصير دافعا أرضه وبقره مزارعة بنصف الخارج وقد شرط في ذلك عمل(23/189)
ص -93- ... رب الأرض والبقر مع صاحب البذر وكل واحد من هذين بانفراده مفسد للعقد فإذا حصل الخارج فهو كله لصاحب البذر ولصاحب البقر أجر مثل بقره وأجر مثل عمله وأجر مثل حصته من الأرض على صاحب البذر ثم يطيب نصف الزرع لصاحب البذر لأنه رباه في أرض نفسه ويأخذ من النصف الآخر نصف ما غرم لصاحب البقر من أجر مثل بقره وأجر عمله وجميع ما غرم له من أجر مثل الأرض ونصف البذر مع نصف ما أنفق فيه ويتصدق بالفضل لأنه ربى هذا النصف في أرض غيره بعقد فاسد وكذلك لو اشترطا لصاحب البذر ثلثي الخارج وللآخر ثلث الخارج فهذا وما سبق في التخريج سواء لاستوائهما في المعنى.
وإذا دفع الرجلان أرضا لهما وبذرا إلى رجل على أن يزرعها سنته هذه فما خرج فنصفه لأحد صاحبي الأرض وللآخر الثلث وللعامل السدس فهذه مزارعة فاسدة لأن أحد الدافعين صار مستأجرا للعامل أن يعمل في نصيبه بجزء مما يخرجه نصيب صاحبه فإنه شرط لنفسه نصف الخارج وذلك جميع ما تخرجه أرضه وبذره فعرفنا أنه جعل أجر العامل في نصيبه جزءا من الخارج من نصيب صاحبه وذلك لا يجوز والخارج بينهما نصفان على قدر بذرهما وللعامل أجر مثل عمله فيما عمل ولو كان العامل حين اشترط السدس سمى أن ذلك السدس من حصة أحدهما خاصة وهو الذي شرط لنفسه السدس فهذا تصريح بالمعنى المفسد للعقد فلا يزداد العقد به إلا فسادا.(23/190)
ولو دفع رجل إلى رجل أرضا مزارعة بالنصف واشترط حفظ الزرع حتى يستحصد على رب الأرض والبذر من قبله أو من قبل العامل فالمزارعة فاسدة لأن هذا شرط يعدم التخلية بين الأرض وبين العامل في مدة المزارعة فيفسد به العقد ولو شرط الكراب على رب الأرض فإن كان البذر من قبل العامل فالعقد فاسد وإن كان من قبل رب الأرض فالعقد جائز لأنه إذا كان البذر من قبل العامل فالعقد في جانب رب الأرض يلزم بنفسه وهذا الشرط يعدم التخلية بعد لزوم العقد وإن كان من جانب رب الأرض فلزوم العقد في جانبه إنما يكون بعد إلقاء البذر في الأرض والكراب يسبق ذلك فكأنه استأجره لعمل الزراعة في أرض مكروبة وإذا كان النخيل بين رجلين فدفعه أحدهما إلى صاحبه سنته هذه على أن يقوم عليه ويسقيه ويلقحه فما خرج من ذلك فهو بينهما للعامل ثلثاه وللآخر ثلثه فهذا فاسد لأن الذي شرط الثلث لنفسه استأجر صاحبه للعمل في نصيبه بثلث الخارج من نصيبه وهو إنما يعمل فيما هو شريك لنفسه فيه واستئجار أحد الشريكين صاحبه للعمل فيما هو فيه شريك باطل والخارج بينهما نصفان لا يتصدق واحد منهما بشيء منه ولا أجر للعامل على شريكه لأن قيام الشركة بينهما فيما يلاقيه عمله يمنع تسليم عمله إلى صاحبه.
ولو كان اشترطا أن الخارج نصفان جاز وكان العامل معينا لشريكه بعمله في نصيبه فإن كان الذي لم يعمل أمر العامل أن يشتري ما يلقح به النخل فاشتراه رجع عليه بنصف ثمن ذلك في المسألتين جميعا لأنه وكيل في شراء نصف ما يلقح به النخل له وقد أدى الثمن من عنده(23/191)