ص -87- ... صرح به في إقراره ينطلق على ما قل وكثر من المال ولو قال: له علي عشرة دراهم ودانق فالدانق فضة لأنه عبارة عن سدس الدرهم والمعطوف من جنس المعطوف عليه وكذلك لو قال: له علي عشرة دراهم وقيراط فالقيراط من الفضة لأن المعطوف من جنس المعطوف عليه وقد بينا فيما سبق أن الدرهم أربعة عشر قيراطا ولو قال: له علي مائة ودرهم فعليه مائة درهم ودرهم عندنا وقال الشافعي: رحمه الله درهم واحد والقول في بيان المائة قوله .
وكذلك لو قال: مائة ودينار أو مائة وقفيز حنطة فذكر شيئا من الكيل أو الوزن فهو كله على هذا الخلاف وإن قال: مائة وعبد يلزمه العبد والقول في بيان المائة قوله وكذلك إن قال: مائة وثوب في ظاهر الرواية وروى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في قوله مائة وثوب أن الكل من الثياب وكذلك في قوله مائة وشاة أما الشافعي رحمه الله فقال: أنه أبهم الإقرار بالمائة وقوله ودرهم ليس بتفسير له لأنه عطف عليه بحرف الواو والعطف لم يوضع للتفسير لغة فيلزمه ما أقر به مفسرا في الفصول كلها ويكون القول فيما أبهم قوله وكذلك له علي مائة ودرهمان بخلاف ما لو قال: مائة وثلاثة دراهم لأنه عطف أحد العددين المبهمين على الآخر ثم فسره بالدراهم فينصرف التفسير إليهما جميعا لحاجة كل واحد منهما إلى التفسير .
وحجتنا في ذلك قوله ودرهم بيان للمائة عادة ودلالة أما من حيث العادة فلأن الناس يحترزون عن تطويل العبارات فيأتون به للتنصيص على الدراهم عند ذكر كل عدد ويكتفون بذكره مرة وهذا شيء لا يمكن إنكاره ألا ترى إنهم يقولون أحد وعشرون درهما فيكتفون بذكر الدرهم مرة ويجعلون ذلك تفسيرا للكل.(18/182)
وأما من حيث الدلالة فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة المضاف مع المضاف إليه إذ كل واحد منهما للتعريف ثم المضاف يجعل تعريفا للمضاف إليه إذا كان صالحا له فكذلك المعطوف يجعل تعريفا للمعطوف عليه إذا كان صالحا له والصلاحية موجودة في المكيلات والموزونات لأنها تثبت في الذمة مع جميع المعاملات حالا ومؤجلا ويجوز الاستقراض فيها ولعموم البلوى جعلنا العطف فيها تفسيرا بخلاف قوله وثوب وشاة لأن الثوب لا يثبت في الذمة دينا إلا مبيعا مسلما فيه والشاة لا تثبت دينا في الذمة أصلا يعني به ثبوتا لازما فلم يصلح قوله وثوب أن يكون تفسيرا للمائة لأن قوله على مائة عبارة عما يثبت في الذمة مطلقا ثبوتا صحيحا فلهذا كان البيان إليه وجه رواية أبي يوسف رحمه الله أن الثياب والغنم تقسم قسمة واحدة بخلاف العبيد فإنها لا تقسم قسمة واحدة يتحقق في أعدادها المجانسة فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرا للمبهم ومالا يقسم قسمة واحدة لا يتحقق في أعداده المجانسة فلا يمكن أن يجعل المفسر تفسيرا للمبهم .
ولو قال: له علي مائة ومائة أثواب فالكل من الثياب بالاتفاق لما بينا أنه عطف العدد المبهم على عدد مبهم ثم فسر بما يصلح أن يكون تفسيرا للكل فيكون الكل من الثياب(18/183)
ص -88- ... والقول في بيان جنسها قول المقر ولو قال: له علي مائتا مثقال فضة وذهبا فعليه من كل واحد منهما النصف لأنه أضاف العدد المذكور إلى الجنسين والمساواة في الإضافة تقتضي التوزع على سبيل التساوي إلا أن الواجب هنا من كل جنس مثقال بخلاف ما لو قال: له علي مائتا درهم ودينار فهناك يلزمه مائة دينار تاما قيل ومائة درهم وزن سبعة لأنه نص على المثاقيل هنا فقال: مائتا مثقال ثم فسر بالذهب والفضة فيكون من كل واحد منهما مائة مثقال وهناك أطلق اسم الدراهم والدنانير والدراهم عبارة عن وزن سبعة ثم القول قوله في الجودة والرداءة لأنه ليس في لفظه ما يعين أحد الوصفين وعلى هذا جميع ما يقر به من المكيلات والموزونات بأي سبب أقر به.
ولو قال: له على كر من حنطة وشعير وسمسم فعليه من كل أحد الثلث لأن الكر عبارة عن أربعين قفيزا وقد فسره بالأجناس الثلاثة فيكون من كل جنس الثلث ولو قال: له على قفيز من حنطة وشعير إلا ربعا فإن الإستثناء جائز لأنه بعض ما يتناول كلامه وعليه ثلاثة أرباع قفيز من كل واحد النصف اعتبارا لإقراره ببعض القفيز بإقراره بالكل وكذلك لو قال: له قبلي مثاقيل من مسك وزعفران وكذلك لو قال: لفلان وفلان علي قفيز من حنطة وشعير فعليه لهما من كل واحد منهما نصف قفيز للتسوية بينهما في الإقرار والتسوية بين الجنسين في التفسير وإن قال: استودعني ثلاثة أثواب زطي ويهودي كان القول قوله فإن شاء قال: يهودي وزطيان فيقبل قوله مع يمينه لأن الثوب الواحد لا يتبعض فتعين أحد الثلاثة يهوديا والآخر زطيا بقي الثالث مترددا بين وصفين فإن بينه باليهودي فقد التزم الزيادة وإن بينه بالزطي فالقول قوله مع يمينه بمنزلة ما لو قال: له علي ثوب زطي أو يهودي .(18/184)
ولو أقر أن الدين الذي له على فلان لفلان وكان المقر له على فلان مائة درهم في صك وعشرة دنانير في صك فقال: المقر عنيت أحدهما وادعاهما المقر له فهما جميعا للمقر له وأما صحة الإقرار بالدين فلأنه إخبار من الغائب عن واجب سابق وذلك يتحقق في الديون كما يتحقق في الأعيان بخلاف التمليك إبتداء وتصحيح الإقرار ليس على وجه تصحيح التمليك فإن الإقرار بالخمر صحيح وتمليكها إبتداء لا يصح من المسلم ثم أدخل الألف واللام في قوله الدين الذي على فلان وذلك للجنس عند عدم المعهود فيتناول جنس ماله على فلان نصا فقوله بعد ذلك عنيت أحدهما يكون رجوعا ولو غاب المقر لم يكن للمقر له أن يتقاضى المال من الغريم وإن صدقة الغريم لأنه أقر له بذلك ولا يجبر على الدفع إليه لأنه أقر له بالملك لا بحق القبض وليس من ضرورة كون الدين ملكا للمقر له أن يكون حق القبض إليه فإن للوكيل بالبيع حق قبض الثمن وهو ملك للموكل ولهذا قال: لو دفعه الغريم إليه بريء كما لو دفع المشتري الثمن إلى الموكل.
وفي الأصل علل في المسألة فقال: لأن في هذا قضاء على الغائب وفي هذا التعليل نظر فإن القضاء على الغائب بالإقرار جائز ولكن مراده أن يقال: أن في هذا إبطال حق الغائب(18/185)
ص -89- ... في القبض من غير حجة وكذلك لو أقر بنصف الدين الذي له على فلان لغيره جاز والمقر هو الذي يتقاضى فيعطي المقر له نصف الدين الذي له على فلان لغيره جاز والمقر هو الذي يتقاضى فيعطي المقر له نصف ما يستوفي لما بينا في الفصل الأول فإن ادعى المقر له الضمان على المقر وقال: أديته بغير أمري فإن قال المقر له للمقر ذلك فالقول للمقر ولا ضمان عليه لأنه ليس من ضرورة صيرورة المال دينا عليه مباشرة لأدائه فلعله صار دينا عليه باستهلاك منه أو بأدائهما جميعا فالمقر له يدعي عليه بسبب الضمان وهو منكر فإن قال: أديته بأمرك كان ضامنا لنصيبه بعد أن يحلف المقر له ما أذن له في ذلك لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان عليه وادعى المسقط وهو الإذن ولو كان لرجل على رجل كر شعير وكر تمر وكر حنطة فأقر أن نصف طعامه الذي على فلان لفلان فله نصف الحنطة خاصة لأن ذكر الطعام مطلقا يتناول الحنطة ودقيقها ولهذا لو حلف لا يشتري طعاما أو وكل وكيلا بشراء الطعام ينصرف إلى شراء الحنطة ودقيقها خاصة لأن ذكر الطعام مطلقا يتناول الحنطة ودقيقها فإن بائعها يسمى بائع الطعام وسوق الطعام الموضع الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها ولهذا لو حلف لا يشتري طعاما أو وكل وكيلا بشراء الطعام ينصرف إلى شراء الحنطة ودقيقها خاصة والإقرار من جنس التجارة فمطلق لفظ الطعام فيه يتناول الحنطة دون الشعير ولو قال: له عندي ألف درهم قرض ووديعة فهو ضامن لنصفها قرضا والنصف الآخر وديعة لأن قوله قرض ووديعة تفسير للألف فيتنصف بينهما إذ هما لا يجتمعان في محل واحد وكذلك لو قال: مضاربة وقرض فإن وصل الكلام فقال: مائة منها قرض وتسعمائة مضاربة فالقول قوله لأن ظاهر كلامه أنه ينزل على النصف من كل واحد منهما مع احتمال التفاوت وكان هذا بيانا معتبرا لظاهر لفظه بما هو محتمل ومثل هذا البيان يصح موصولا لا مفصولا وكذلك لو قال: له قبلي كر من حنطة وشعير الحنطة محتوم والشعير تسعة(18/186)
وثلاثون محتوما قبل بيانه موصولا لما قلنا .
ولو قال: له عندي ألف درهم هبة أو وديعة فإنها وديعة ولا يكون هبة لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض وهو لم يقبضها وكانت وديعة ولو قال: غصبتك شياها كثيرة فهو على أربعين شاة لما قلنا أن التنصيص على ما يستفاد به الغنى من هذا الجنس وأدناه أربعون شاة ولو قال: غصبتك إبلا كثيرة فهو خمسة وعشرون لأن الكثير ما يحتمل الوجوب من جنسه فإما الخمسة وإن كانت نصاب الزكاة ولكنها قليلة من هذا الجنس ولقلتها لا تحتمل الوجوب من جنسها والكثير من هذا الجنس ما يحتمل الوجوب من جنسه وأدنى ذلك خمسة وعشرون وإذا قال: حنطة كثيرة فهي خمسة أوسق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بناء على أصلهما أن النصاب الذي يجب فيه العشر خمسة أوسق والوسق ستون صاعا ولم يبين قول أبي حنيفة رحمه الله فيه وقيل البيان فيه إلى المقر على قوله بعد أن يبين أكثر مما يتناوله اسم الحنطة إن لو أقر بها مطلقا لأنه لو أقر بالحنطة مطلقا وبينه بالربع كان مقبولا منه(18/187)
ص -90- ... فإذا نص منه على صفة الكثرة لا بد من أن يبين أكثر من ذلك على وجه يحتمله هذا اللفظ لو أقر أن الوديعة التي عند فلان لفلان فهو جائز وليس للمقر له أن يأخذها من المستودع ولكن المقر يأخذها فيدفعها إليه على قياس ما بيناه في الدين وفي هذا بعض أشكال فإن قبض الوديعة إلى صاحبها ولكنه اعتبر إقراره وليس من ضرورة ملك العين له ثبوت حق القبض له لجواز أن يكون المقر مرتهنا فيه أو بائعا من المقر له وكان محبوسا عنده باليمين في يد المودع فلهذا كان حق القبض إلى المقر وإن دفعها المستودع إلى المقر له بريء على قياس ما بينا في الدين وهذا لأن وجوب الضمان عليه بالمحتمل لا يكون بل بحق ثابت للمقر في العين وذلك ليس بظاهر وإن كانت له عنده ودائع فقال: عنيت بعضها لم يصدق لإدخاله الألف واللام في قوله الوديعة كما بينا في الدين.
فإن قال: فلان ما استودعني المقر شيئا وقال: المقر له استودعتها إياه بغير أمري فالمقر ضامن لها بعد أن يحلف المقر له ما أمره بذلك لأنه أقر بالإيداع هنا وهو فعل موجب للضمان عليه إلا أن يثبت الإذن ولم يثبت الإذن إذا حلف المقر له وإن أقر بالأمر وقال: المستودع قد رددتها إلى المقر أو قال: دفعتها إلى المقر له أو قال: قد ضاعت فالقول في ذلك قوله مع يمينه لأنه أمين أخبر بما هو مسلط عليه ولكن الذي يلي خصومته في ذلك واستحلافه المقر إذا كان أودعه بإذن المقر له لأن حق الاسترداد إليه فتكون الخصومة له مع المودع في الاستحلاف.(18/188)
وذكر في الأصل من هذا الجنس مسألة أخرى إذا قال: له على ألف فالقول في بيانه قوله لأنه لم يفسره بشيء فالقول في تفسيره إليه سواء فسره بما يتفاوت من العدديات أو لا يتفاوت وذكر بن رستم عن محمد رحمهما الله أنه إذا قال: له على غير الألف فعليه ألفان ولو قال: له علي غير درهم فعليه درهمان لأن الغير اسم لما يقابل الشيء فيوجب المغايرة فيه وفي الدراهم إنما ثبت ذلك بدرهم آخر وفي الألف بألف آخر وفيما دونه لا يتغير اللفظ الأول لأنه يقال: ألف ومائة وتسعمائة فإنما يثبت المغايرة بألف آخر فيلزمه ألفان والله أعلم .
باب الإقرار بكذا الإبل كذا
قال رحمه الله: وإذا أقر فقال: علي لفلان ألف درهم لا بل خمسمائة فعليه الألف وكذلك لو قال: خمسمائة لا بل ألف لأن كلمة لا بل لاستدراك الغلط ورجوع عما أقر به لا يصح واختياره بوجوب الزيادة عليه صحيح فإذا قال: خمسمائة لا بل ألف فقد استدرك الغلط بالتزام خمسمائة أخرى زيادة على الخمسمائة الأولى فعليه ألف وإذا قال: ألف لا بل خمسمائة فقد قصد الاستدراك بالرجوع عن الألف إلى الخمسمائة فلا يصح ذلك منه وعلى هذا لو قال: له علي عشرة دراهم بيض لا بل سود أو قال: سود لا بل بيض أو قال: جيد لا بل ردى ء أو ردى ء لا بل جيد فعليه أفضلهما لأن الجنس واحد ومثل هذا الغلط(18/189)
ص -91- ... في الجنس الواحد يقع فاستدراكه بالتزام زيادة الوصف صحيح ورجوعه عن وصف التزامه باطل.
ولو قال: له علي درهم لا بل دينار فعليه درهم ودينار لأن الجنس مختلف والغلط لا يقع في الجنس المختلف عادة فرجوعه عن الأول باطل والتزامه الثاني صحيح وما ذكره ثانيا لم يتناوله الكلام الأول أصلا بخلاف الأول فإن ما ذكره ثانيا قد تناوله الكلام الأول باعتبار أصله إن لم يتناوله بصفته عرفنا أن المراد هناك إلحاق الوصف بالأصل وهنا المراد التزام الأصل المذكور وعلى هذا لو قال: على كر حنطة لا بل شعير فعليه الكران جميعا وإن قال: قفيز حنطة جيدة لا بل ردى ء أو رديء لا بل جيد فهو قفيز جيد وكذلك لو قال: محتوم من دقل لا بل فارسي وكذلك لو قال: محتوم دقيق ردى ء لا بل حواري فهو حواري لأن الجنس واحد وذكر الكلام الثاني لاستدراك الغلط بالتزام زيادة وصف ولو قال: له علي رطل من بنفسج لا بل حبري لزماه جميعا لأن الجنس مختلف.(18/190)
وكذلك لو قال: له علي رطل من سمن الغنم لا بل من سمن البقر فعليه الرطلان لأن الجنس مختلف ولو قال: لفلان على ألف درهم لا بل لفلان فعليه لكل واحد منهما ألف لأن المقر له مختلف وهو نظير اختلاف الجنس في المقر به والمعنى فيه أنه رجوع عن الإقرار للأول وإقامة الثاني مقامه في الإقرار له وكذلك لو كان الثاني مكاتبا للمقر له الأول أو عبدا تاجرا له عليه دين لأن المولى من كسب مكاتبه وعبده المديون بمنزلة أجنبي آخر فتحقق إقراره بشخصين صورة ومعنى وإن لم يكن على العبد دين ففي القياس كذلك لأن الدين في الذمة مجرد مطالبة في الحال وفيما للعبد هو المطالب دون المولى فكان إقراره بشخصين فيكون رجوعا في حق الأول وفي الاستحسان لا يلزمه إلا ألف واحدة لأن كسب العبدان لم يكن عليه دين مملوك لمولاه ففي قوله لا بل لعبده لا يكون رجوعا عما أقر به للمولى ولكنه يلحقه زيادة كلامه في أن لعبده أن يطالبه بذلك المال فلهذا لا يلزمه إلا مال واحد(18/191)
ولو قال: له على ألف درهم من ثمن جارية باعنيها لإبل فلأن باعنيها بألف درهم فعليه لكل واحد منهما ألف لأنه غير مصدق فيما يخبر به أن مبايعة الثاني معه كانت على وجه المكاتبة للنيابة عن الأول فيكون هو راجعا عن الإقرار للأول وذلك باطل فعليه لكل واحد منهما ألف لإقراره بتقرر بينته بينه وبين كل واحد منهما إلا أن يقر الثاني أنها للأول فحينئذ عليه في القياس ألفان وفي الاستحسان عليه ألف واحد لأنه غير راجع عن الإقرار للأول بل هو ملحق به وثبوت حق المطالبة للثاني وهذا وفصل المأذون الذي لا دين عليه سواء وإذا كان لرجل على رجل عشرة دراهم بيض وعشرة دراهم سود فأقر الطالب أنه اقتضى منه درهما أبيض لا بل أسود وادعى المطلوب أنه قد قضاه درهمين وأبى ألزم الطالب الدرهم الأبيض فقط لأن الإقرار بالاستيفاء بمنزلة الإقرار بالدين فإن الديون تقضي بأمثالها وقد بينا مثله في الإقرار بالدين أنه يلزمه أفضلهما فهذا مثله(18/192)
ص -92- ... ولو كان عليه مائة درهم في صك ومائة في صك آخر فقال: قبضت منك عشرة من هذا الصك لا بل من هذا وهي عشرة واحدة فعلى قياس الإقرار بالدين يجعلها من أيهما شاء الذي قضاه لأنه هو الذي ملكه فالاختيار في بيان جهته إليه وتتبين فائدته فيما إذا كان لأحدهما كفيل ولو كان له مائة درهم وعشرة دنانير فقال: قبضت منك دينارا لا بل درهما لزماه لاختلاف الجنس كما في الإقرار بالدين ولو كان له على رجلين على كل واحد منهما مائة درهم فقال: قبضت من هذا عشرة لا بل من هذا لزمه لكل واحد منهما عشرة لاختلاف المقر له ويستوي إن كان كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه أو لم يكن وكذلك إن كان كفيلا بذلك عن رجل واحد لأن قبضه من كل كفيل يثبت حق الرجوع لذلك الكفيل على الأصيل لأن المقر له مختلف وإن كان المال واحدا ولو كان له على آخر ألف درهم فقال: دفعت إلي منها مائة بيدك لا بل أرسلت بها لي مع غلامك فهي مائة واحدة ولو أقر أنه قبض منه مائة درهم فقال: المطلوب وعشرة دراهم أرسلت بها إليك مع فلان وثوب بعتكه بعشرة فقال: الطالب قد صدقت فقد دخل هذا في هذه المائة فالقول فيه قوله مع يمينه لأن بيانه هذا تقرير لما أقر به أولا فإنه قابض منه ما أوصله إليه رسوله وقابض بشراء الثوب أيضا حتى لو حلف لا يفارقه حتى يقبض حقه فقبض بهذا الطريق بر في يمينه والبيان المقرر لأول الكلام مقبول من المبين وفي بعض الروايات فقال: المطلوب عشرة دراهم أرسلت بها إليك بغير واو وهذا أوضح لأنه في معنى التفسير للجهة فيما أقر أنه قبضه ولو كان به كفيل فقال: قد قبضت منك مائة لا بل من كفيلك لزمه لكل واحد منهما مائة لأن ما يقبضه من الكفيل يثبت به حق الرجوع للكفيل على الأصيل بخلاف ما يقبضه من الأصيل فكان المقر له مختلفا فلهذا كان مقرا بالمالين .(18/193)
وإن أراد أن يستحلفكل واحد منهما لم يكن عليه يمين لأنه قد أقر بذلك لكل واحد منهما ولا يتوجه اليمين للمقر على المقر له والله أعلم .
باب الإقرار بمال دفعه إليه آخر
قال رحمه الله: وإذا قال الرجل دفع إلي هذه الألف فلان فهي لفلان فلو ادعى الألف كل واحد منهما فهي للدافع لأنه قد أقر له بالمال أولا حين الإقرار بوصوله إلى يده من جهته تم إقراره للثاني حصل بما هو مستحق لغيره بيده فلا يكون ملزما إياه شيئا والمال للدافع فإذا رده المقر عليه بريء مالكا كان أو غير مالك فإن المودع من الغاصب بالرد عليه يبرأ كالمودع من المالك وإذا قال: هذه الألف لفلان دفعها إلي فلان فهي للمقر له الأول لأن إقراره بالملك للأول فإقراره بعد ذلك باليد للثاني لا يكون صحيحا في حق الأول فإن ادعاها الدافع فعليه أولا أن يحلف أنها ما هي لفلان لأن المقر يقول أنا وإن أقررت بأنك دفعتها إلى ولكن الملك كان لفلان وقد رددتها عليه فليس لك علي شيء فلهذا يتوجه اليمين على الثاني فإن حلف أنها ما هي لفلان ضمن المقر له ألفا أخرى والوديعة والعارية فيه سواء.(18/194)
ص -93- ... أما إذا كان دفعها إلى الأول بغير قضاء القاضي فهو قولهم جميعا لأن إقرار المقر حجة في حقه فقد زعم أن المال وصل إليه من جهة الثاني فإذا دفعها إلى غيره باختياره كان ضامنا له بمثلها وإن كان دفعها بقضاء القاضي فعند أبي يوسف رحمه الله لا ضمان عليه للثاني لأنه بتبين الإقرار للأول ما أتلف على الثاني شيئا ولا اختيار له في الدفع بل القاضي ألزمه ذلك فلا يضمن للثاني شيئا وعند محمد رحمه الله هو ضامن للثاني ألفا لأنه بالإقرار به للأول سلط القاضي على هذا القضاء وقد زعم أنه مودع فيها من الثاني والمودع بهذا التسليط يصير ضامنا كما لو دل سارقا على سرقة الوديعة.
ولو قال: هذه الألف لفلان أقرضنيها فلان آخر فادعياها فهي للذي أقر له بها أولا لتقدم الإقرار له بها وللمقرض عليه ألف درهم لأنه أقر أنه قبض ألفا من الثاني بحجة القرض والقبض بحجة القرض يوجب ضمان المقبوض على القابض وإذا كان في يده عبد فقال: هو لفلان باعنيه فلان آخر بألف درهم فادعي كل واحد منهما ما أقر له به فالعبد للمقر له أولا يدفعه إليه إذا حلف أنه لم يأذن للآخر في بيعه لتقدم الإقرار بالعين له ويقضي باليمين للبائع عليه لأنه أقر بشرائه من الثاني ويثبت هذا السبب بإقراره في حقه وهو تام يقبضه فيقضى له عليه باليمين.(18/195)
قال:ولا يشبه البيع والقرض الوديعة وفي بعض النسخ قال: ولا يشبه القرض والبيع والوديعة ما سواها وهذا أقرب إلى الصواب على ظاهر ما تقدم لأنه أجاب في هذه الثلاثة بجواب واحد وأشار إلى الفرق بين هذه الثلاثة وبين المسألة الأولى من الباب حيث قال: يدفع المال إلى الدافع ولا شيء عليه للثاني فأما اللفظ الأول فهو مستقيم على أصل أبي يوسف رحمه الله لأنه في الوديعة قال: إذا دفع إلى الأول بقضاء القاضي لم يغرم للثاني وفي القرض والبيع أن دفعه إلى الأول بقضاء القاضي فهو ضامن للثاني ويحتمل أن يكون المراد بيان الفرق بين القرض والوديعة في أن الوديعة لا تكون مضمونة عليه للثاني ما لم يدفع إلى الأول وفي القرض والبيع المال واجب عليه للثاني وإن لم يدفع إلى الأول شيئا وهذا فرق ظاهر فإن الإقراض والمبايعة سببا ضمان بخلاف الإيداع.
ولو أقر أن هذا العبد الذي في يديه لفلان غصبه فلان المقر له من فلان آخر فإنه يقضى به للمقر له ولا يقضى للمغصوب منه بشيء لأنه مقر بالملك للأول شاهد عليه بالغصب للثاني وشهادته عليه بالغصب لا تكون مقبولة وفي بعض الروايات في لفظ السؤال لفلان غصبه من فلان وليس فيه ذكر المقر له فيكون المفهوم منه إقراره على نفسه بالغصب للثاني وجوابه أن العبد للأول وللمغصوب منه عليه قيمته.
قال: ألا ترى أنه لو قال: هذا الصبي بن فلان غصبته من فلان آخر وادعى الصبي أنه ابنه وادعى المغصوب منه أنه عبده قضى به للأب وهو ثابت النسب منه لتقدم الإقرار له ألا ترى أنه لو قال: هذا الصبي بن فلان أرسل به إلي مع فلان كان الابن للأول إذا ادعاه دون(18/196)
ص -94- ... الرسول لتقدم الإقرار له وفي جميع هذا إن ادعى الرسول ذلك كان له على المقر مثله لإقراره أنه وصل إلى يده من جهته وتعذر الرد عليه بما أقر به للأول ودفع إليه باختياره ما خلا الابن فإن كان يعبر عن نفسه فأقر أنه بن الذي أقر به المقر فلا ضمان على المقر للدافع لأن من يعبر عن نفسه بما هو في يد نفسه وليس عليه للغير يد موجبة للاستحقاق إذا لم يقر بالرق على نفسه وإن كان صغيرا لا يتكلم فعلى المقر قيمته للرسول إذا ادعاه لنفسه وأنه مملوك له لأن الذي لم يتكلم لصغره يثبت عليه يد موجبه للاستحقاق بمنزلة البنات وغيرها ولو قال: هذه الألف لفلان أرسل بها إلي مع فلان وديعة وادعاها كل واحد منهما فهي للأول لتقدم الإقرار له بها.
فإن قال الأول: ليست لي ولم أرسل بها فهي للرسول لأنه قد أقر بالكلام الثاني أن وصولها إلى يده كان من يد الرسول وإنما أمر بالرد عليه لثبوت الاستحقاق فيها للأول وقد بطل ذلك بتكذيبه وإن كان المقر له غائبا لم يكن للرسول أن يأخذها لأنه إن كان يدعيها لنفسه فقد صار مكذبا فيما إذا أقر له به وهو كونه رسولا بالدفع إليه وحق الغائب فيها ثابت لأن الإقرار ملزم بنفسه ما لم يكذب المقر له وإن كان الرسول مصدقا له فيما أقر أنه كان رسولا فيه من جهة فلان فقد انتهت الرسالة بإيصال المال إليه فلا سبيل له على الاسترداد بعد ذلك.(18/197)
وإذا أقر الخياط أن الثوب الذي في يديه لفلان أسلمه إليه فلان وكل واحد منهما يدعيه فهو للذي أقر له أول مرة لتقدم الإقرار له ولا ضمان عليه للثاني لأنه لم يقر على نفسه بما هو سبب الضمان في حق الثاني فإن إسلامه إليه لا يكون سببا في استحقاقه كما في مسألة الرسالة وكذلك سائر الصناع ولو كان إقراره بهذا الثوب أسلمه إليه فلان ليقطعه قميصا وهو لفلان وادعياه فهو للذي أسلمه إليه لتقدم الإقرار له به وليس للثاني شيء وهذا نظير مسألة أول الباب وهو ما إذا قال: دفعه إلى فلان وهو لفلان ولو أقر أن هذا الثوب استعارة من فلان فبعث به إليه مع فلان فهو للذي أعاره إياه لأنه صار مقرا بالملك واليد للمعير الذي استعاره منه دون الذي أوصله إليه بطريق الرسالة ولو أقر أن فلانا أتاه بهذا الثوب عارية من قبل فلان فادعاه فهو للرسول لأنه أقر أولا بأنه وصل إلى يده من جهته وذلك يلزمه الرد عليه فلا يبطل ذلك عنه بإقراره لغيره والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بالاقتضاء
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه اقتضى ن رجل ألف درهم كانت له عليه وقبضها فقال فلان أخذت مني هذا المال ولم يكن لك علي شيء فرده علي فإنه يجبر على أن يرد المال بعد أن يحلف أنه ما كان له عليه شيء وروى أبو يوسف رحمه الله عن بن أبي ليلى رحمه الله أنه لا شيء على المقر ووجهه أنه ما أقر بشيء على نفسه لغيره وإنما أقر بوصول حقه إليه وذلك غير ملزم إياه شيئا وكنا نقول الاقتضاء عبارة عن قبض مال مضمون من ملك الغير لأن(18/198)
ص -95- ... المقتضي يستوفى من مال المديون مثل ماله عليه فيصير قصاصا بدينه والقبض المضمون من ملك الغير سبب لوجوب الضمان عليه وقد أقر به ثم ادعى لنفسه دينا على صاحبه ولا يثبت الدين له على صاحبه بدعواه ولكن يتوجه اليمين فإذا حان لزمه رد المقبوض.
وكذلك لو أقر أنه قبض من فلان ألف درهم كانت وديعة له عنده أو هبة وهبها له فقال: بل هي مالي قبضته مني فعليه أن يرده لإقراره بقبض المال من يد الغير وعلى اليد ما أخذت حتى ترد ولم يثبت ما ادعى من الحق فيه لنفسه فعليه أن يرده.
ولو قال: أسكنت بيتي فلانا هذا ثم أخرجته منه ودفعه إلى وادعى الساكن أنه له فالقول قول صاحب البيت استحسانا وعلى الساكن البينة في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله القول قول الساكن وهو القياس ووجهه هو أن الإقرار بوصول البيت إلى يده كان من جهة الساكن وادعى لنفسه فيه ملكا قديما ولم يثبت ما ادعاه فعليه رد ما أقر بقبضه كما في الفصل ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما أنه ما أقر للساكن بيد أصلية في البيت إنما أخبر بأن يده كانت بناء عن يده لأن يد الساكن تبنى على المسكن والحكم لليد الأصلية لا لما هو بناء فلم يصر مقرا بما يوجب الاستحقاق له بخلاف مسألة الاقتضاء لأنه هنا أقر بيد أصلية كانت له فيما استوفاه منه وبخلاف مسألة الوديعة لأنه هناك أقر بفعل نفسه وهو قبضه المال من فلان وذلك إقرار بيد أصلية كانت لفلان في هذا المال فبعد ذلك هو في قوله كانت لي عنده وديعة أراد أن يجعل يده بناء بعد ما أقر أنها كانت أصلية فلا يقبل قوله في ذلك ولأن الإعارة بين الناس معروفة وفي القول بالقياس هنا قطع هذه المنفعة عن الناس لأن المعير يتحرز عن الإعارة للسكنى إذا عرف أنه لا يعمل بقوله عند الاسترداد فترك القياس فيه لتوفير هذه المنفعة على الناس.(18/199)
وعلى هذا الخلاف لو قال: هذه الدابة أعرتها فلانا ثم قبضتها منه أو هذا الثوب لي أعرته فلانا ثم قبضته منه وإذا أقر الرجل أن فلانا الخياط خاط قميصه هذا بنصف درهم وقبض منه القميص وقال: الخياط هو قميصي أعرتكه فالقول فيه كالقول في الأولى وكذلك الثوب أسلم إلى الصباغ وإن قال رب الثوب خاط لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم ولم يقل قبضته منه ففي قولهم جميعا لا يرجع على الخياط أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر وأما عندهما فلأنه لم يقر بيد الخياط هنا في الثوب لأنه قد يخيط الثوب وهو في يد صاحبه بأن كان أجيرا وجد في بيته يعمل له بخلاف الأول فإن هناك قد أقر بالقبض منه وذلك إقرار بكونه في يده ولو كان الثوب معروفا أنه للمقر أو الدابة أو الدار فقال: أعرته فلانا وقبضته منه كان القول قوله لأن الملك فيه معروف للمقر فلا يكون مجرد اليد فيه لغيره سبب الاستحقاق عليه وقد قال في الباب المتقدم إذا أقر الخياط أن الثوب الذي في يده لفلان أسلمه إليه فلان ليخيطه فهو للذي أقر له أول مرة ولا يضمن للثاني مثله وهذا دليل لأبي حنيفة رحمه الله في الخلافيات لإقراره أن يد الذي أسلمه إليه بناء لا ابتداء.(18/200)
ص -96- ... ولكن مشايخنا رحمهم الله قالوا: هو على الخلاف أيضا بناء على مسألة الإسكان أو مسألة أخرى وهو أن الأجير المشترك عند أبي حنيفة رحمه الله مؤتمن فلا يصير ضامنا بمجرد إقراره للأول وعندهما الأجير المشترك ضامن فيضمن الثوب الذي أسلمه إليه إذا لم يرده عليه وهكذا ذكره بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله وذكر أيضا فيما إذا قال: هذا المال لفلان أرسل به إلي مع فلان وديعة أن المال للأول ولا ضمان على المقر للرسول عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه إنما أقر له بيد هي بناء وذلك غير موجب للاستحقاق عنده بخلاف الدين وهو ما إذا قال: لفلان علي ألف درهم أرسل بها إلي مع فلان لأن محل الدين الذمة وفي الذمة سعة فيكون مقرا بوجوب المال عليه للثاني لما أقر أن وصوله إلى يده من جهته وفي كتاب الإقرار أورد المسألة في موضعين قال: في أحدهما لا شيء عليه للدافع وهو الأشبه بقول أبي حنيفة رحمه الله وفي الثاني قال: عليه مثله للدافع وهو الأشبه بقول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا بعضه في الباب المتقدم.
وإذا أقر الرجل أن فلانا سكن هذا البيت فادعى فلان البيت فإنه يقضي به للساكن على المقر لأن السكنى تثبت اليد للساكن على المسكن وإقراره باليد للغير حجة عليه وما يثبت بإقراره كالمعاين في حقه وهذا بخلاف ما لو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم أو البستان وذلك كله في يد المقر فقال: كله لي واستعنت بك ففعلت ذلك أو فعلته بأجر وقال الآخر بل هو ملكي فالقول قول المقر لأن يده للحال ظاهرة ولم يقر أنه كان في يد غيره من قبل لأن فعل الزراعة والبناء والغرس لا يوجب اليد للفاعل في المفعول وقد يفعله المعين والأجير والمعين في يد صاحبه فهذا وقوله خاط لي القميص سواء.(18/201)
ثم ذكر الخلاف الذي بينا فيما إذا قال لمعتقه أخذت منك مالا قبل العتق أو قطعت يدك قبل العتق وإنما أعادها لفروع فقال: وكذلك لو باعه أو وهبه وسلمه ثم أقر أنه قطع يده قبل البيع والهبة وقال المشتري والموهوب له بل فعلته بعد البيع والهبة لأن البيع والهبة والتسليم يثبت الحق فيه للمتملك كما أن العتق يثبت الحق للمعتق في نفسه وأطرافه فيكون الخلاف في الفصلين واحدا.
ولو قال: قطعت يده ثم بعته أو وهبته فالقول قوله لأنه ما أقر بالفعل الموجب للضمان على نفسه فإنه أقر بالقطع قبل ظهور بيعه لأن ظهور البيع بإقراره وقد أقر بالقطع سابقا على الإقرار بالبيع فلهذا كان القول قوله إلا أن يقيم البينة على هبته أو بيعه قبل إقراره بهذا فيكون على الاختلاف المتقدم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أعتق أمة ثم قال: أخذت منك هذا الولد قبل العتق وقالت بل أخذته مني بعد العتق فإنه يرده عليها وهو حر لأن الولد قائم بعينه وقد بينا في المال القائم إذا أقر أنه أخذه قبل العتق يصدق وعليه رده في أنه أخذه قبل العتق فعليه رده عليها والقول في حريته قولها ولو لم يقل(18/202)
ص -97- ... أخذته منك ولكنه قال: أعتقتك بعد ما ولدتيه وقالت بل أعتقتني قبل أن ألده فإن كان الولد في يد المولى فالقول قوله لأنه أقر بيد فيه لها من قبل ولادتها ولأنها تدعي سبق تاريخ في العتق حين ادعت أنه كان قبل الولادة والمولى ينكر ذلك والعتق فعل حادث من المولى فالقول قوله في إنكاره سبق التاريخ فيه ولأن عتقها ظهر في الحال والولد منفصل عنها وعتقها غير موجب العتق للولد المنفصل وإن كان الولد في يدها فالقول قولها لأن يدها توجب الاستحقاق لها في الحال وقد أقرت بالحرية للولد فوجب الحكم بحريته.
ولو أن رجلا أعتق عبدا فأقر رجل أنه أخذ منه ألفا وهو عبد وقال العبد أخذتها مني بعد العتق فالقول قوله لأن القابض يدعي سبق تاريخ في قبضه والتاريخ لا يثبت بمجرد قوله ولأنه أقر بالسبب الموجب للضمان عليه للعبد وهو أخذه منه وشهد عليه أن المال لغيره وهو المولى فلا تقبل شهادته ويبقى المال مستحقا عليه للعبد وكذلك لو كاتبه مولاه لأن الكتابة توجب استحقاق الكسب للمكاتب واعتبار يده فيه لحقه كالعتق وكذلك لو باعه ثم أقر رجل أنه غصب منه مائة درهم وهو عند مولاه الأول وقال المشتري بل غصبته وهو عندي فالمال للآخر لأن المشتري هو المستحق لكسبه بعد الشراء كما أن العبد هو المستحق لكسبه بعد الكتابة فكما لا يصدق المقر هناك وفيما يدعي من سبق التاريخ فكذلك هنا .(18/203)
ولو أقر بأنه فقأ عين فلان عمدا ثم ذهبت عين الفاقئ بعد ذلك وقال المفقوء عينه بل فقأت عيني وعينك ذاهبة فالقول قول المفقوء عينه لأنهما تصادقا على وجوب الضمان على الجاني فإن كانت عينه قائمة وقت الفقء فالواجب قصاص وهو فيها واجب باعتبار المماثلة وإن كانت عينه ذاهبة فالواجب الأرش فعرفنا أنهما تصادقا على وجوب الضمان وادعى الفاقئ ما يسقطه بفوات المحل بعد الوجوب فلا يقبل قوله في ذلك ولأنه يدعي تاريخا سابقا في الفقء والتاريخ لا يثبت إلا بحجة ولو أن عبدا أعتق ثم أقر أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ وهو عبد وقال: ذلك الرجل قتلته بعد العتق فليس على العبد في هذا شيء لأنه ما أقر على نفسه بوجوب الضمان فإن جنايته قبل العتق لا توجب عليه الضمان في الحال ولا بعد العتق إنما هو على مولاه في الحال يخاطب بالدفع أو الفداء وإن أعتقه وهو يعلم بالجناية يصير مختارا للفداء وإن كان لا يعلم فعليه القيمة فعرفنا أنه إنما أقر به على الغير فلا يلزمه شيء وإذا أقر أحد المتفاوضين أنه كفل عن صاحبه بمهر أو نفقة زوجته أو جنايته لزمه ولزم صاحبه أيضا في قول أبي حنيفة رحمة الله .
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يلزمه ولا يلزم صاحبه لأنه إنما أقر بوجوب المال على صاحبه بطريق غير التجارة ولا قول له على صاحبه في الإقرار بالمال لا بطريق التجارة لأن فيما يجب لا بطريق التجارة كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه يبقى إقراره على نفسه بوجوب المال بطريق الكفالة وقد بينا فيما سبق أن كفالة أحد المتفاوضين أو إقراره بالكفالة يلزم شريكه عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يلزم عندهما فهذا بناء على ذلك.(18/204)
ص -98- ... ولو أقر أحدهما أن على صاحبه دينا قبل الشركة لفلان فأنكره صاحبه والطالب ادعى أن هذا الدين كان في الشركة لزمهما جميعا المال لأن الإقرار بمطلق الدين ينصرف إلى جهة التجارة ولهذا لو أقر أحدهما بدين مطلق يلزم شريكه وفيما هو واجب بطريق التجارة وإقرار أحد المتفاوضين به على نفسه وعلى شريكه سواء ولو أقر به على نفسه وزعم أنه كان قبل الشركة لا يصدق في الإسناد إذا أكذبه الطالب فكذلك إذا أقر به عن صاحبه وإذا لم يصدق في الإسناد لزم المقر المال بإقراره ولزم شريكه بالكفالة عنه لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يلزمه من المال.(18/205)
ولو أقر أن ذلك عليه دون شريكه قبل الشركة وادعى الطالب أنه عليه من الشركة فالمال عليهما لما بينا أنه غير مصدق في الإسناد وإن تصادقا أن الدين كان قبل الشركة لم يؤخذ واحد منهما بدين صاحبه لأن حكم الكفالة بينهما إنما يثبت بالمفاوضة فيكون ثابتا فيما يجب بعد المفاوضة لا فيما كان واجبا قبلها وإذا أقر أحدهما أن لفلان عليه ألف درهم وقال الآخر لا بل لفلان لزمهما جميعا المال لأن المقر لو كان هو الذي قال لفلان لزمهما جميعا ولا أثر لاختلاف المقر لهما فكذلك إذا قال: ذلك صاحبه لأن قول كل واحد منهما يلزم صاحبه وهما بعد المفاوضة كشخص واحد في أسباب التزام المال بالتجارة وإذا مات أحدهما أو تفرقا ثم أقر أحدهما بدين عليهما في الشركة لزمه خاصة لأنه في الإسناد غير مصدق في حق صاحبه فيبقى ملتزما المال في الحال وليس بينهما سبب يوجب كفالة صاحبه عنه فيما يلزمه من المال في الحال فلهذا كان المال عليه خاصة وعلى صاحبه اليمين أن ادعاه الطالب وإن ادعى رجل عليهما مالا ولم يكن له بينة فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف لزمهما جميعا المال لأن نكوله عن اليمين كإقراره وبأن حلف أحدهما لا يسقط اليمين عن الآخر بخلاف ما إذا كانت الدعوى لهما على إنسان فاستحلف أحدهما المطلوب فحلف لم يكن للآخر أن يستحلفه لأن النيابة في الاستحلاف تجزئ وفي الحلف لا تجزئ فلا يمكن أن يجعل الحالف منهما نائبا عن صاحبه في اليمين ولأنه بعد ما حلف أحدهما كان استحلاف الآخر مفيدا لأن الناس يتفاوتون في التحرز عن اليمين الكاذبة أما بعد ما استحلف أحدهما المطلوب كان استحلاف الآخر إياه غير مفيد لعلمنا أنه يحلف لا محالة.(18/206)
ولو أقر أحد المتفاوضين لأبنه أو لامرأته أو لمكاتبه بدين لم يصدق في قول أبي حنيفة رحمه الله على شريكه لأنه متهم في حق هؤلاء فيما يوجب لهم على الغير وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يصدق على ذلك إلا في المكاتب وهو بناء على الخلاف المعروف في الوكيل بالبيع يبيع من أحد هؤلاء والله أعلم.
باب الإقرار في المضاربة والشركة
قال رحمه الله: وإذا أقر المضارب بدين في مال المضاربة وجحده رب المال فإقراره جائز لأنه من التجارة ولهذا يملكه الصبي المأذون والعبد المأذون والمضارب مستند لما هو(18/207)
ص -99- ... من التجارة في مال المضاربة وكذلك لو أقر فيها بأجر أجير أو أجر دابة أو حانوت لأنه مالك لإنشاء سبب وجوب هذه الديون في مال المضاربة فصح إقراره بها وهذا لأنه لا يجد بدا من التزام الدين بهذه الأسباب ويحصل ما هو المقصود من المضاربة فإن كان دفعها إلى رب المال فقال: هذا من رأس مالك فاقبضه ثم أقر بعد ذلك ببعض ما ذكرنا من الدين لم يصدق لأنه مناقض في كلامه فإن المدفوع إنما يكون سالما لرب المال من رأس ماله إذا فرغ عن الدين فكان في أول كلامه مقرا بأنه لا دين فيه ولأن حكم المضاربة قد انتهى فيما وصل إلى رب المال من رأس المال حتى لا يملك المضارب إنشاء التصرف فيه وكذلك لا يصح إقراره في ذلك.
ولو كان المضارب رجلين ومال المضاربة ألف درهم وربحا ألفا فأقر أحدهما أن خمسمائة لفلان وقال الآخر بل الألف كلها ربح فإن المقر يصدق في مائتين وخمسين مما في يده لفلان فإن في يد كل واحد منهما نصف المال وقد أقر بخمسمائة شائعة في الكل ونصفها فيما في يده ونصفها فيما في يد صاحبه فإقراره فيما في يده صحيح وفيما في يد الآخر باطل فيدفع هو مائتين وخمسين إلى المقر له ويقسم مثلها بين رب المال وبين المضارب الآخر لأن المقر يزعم أنه لا حق له فيها بل هي لفلان فلا يكون له فيها نصيب وما بقي من الربح وهو خمسمائة بينهما على الشرط كما بينا وكذلك إن أقر بهذه الخمسمائة لأبيه أو لأبنه فهو وما سبق سواء لأن إقرار المضارب لهؤلاء صحيح ولإنشائه التصرف معهم.(18/208)
ولو أقر المضارب بربح ألف درهم في المال ثم قال: غلطت إنما هو خمسمائة درهم لم يصدق وهو ضامن لما أقر به من المال لأنه مناقض في كلامه راجع عما أقر به ولأنه جاحد لما أقر به بحصوله في يده ربحا وهو أمين في الربح فيضمن ذلك بالجحود وإن بقي في يده شيء من المال فقال: هذا ربح وقد دفعت رأس المال إلى رب المال وكذبه رب المال فالقول قول رب المال لأن المضارب يريد استحقاق شيء مما في يده وإنما يقبل قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه أما في الاستحقاق فلا يقبل قوله ولكن يحلف رب المال بدعوى المضارب فإن حلف يأخذ ما في يده بحساب رأس ماله لأن حق المضارب في الربح ولا يظهر الربح ما لم يصل رأس المال إلى رب المال وإذا قال لرجل فلان شريكي مفاوضة فقال: نعم أو أجل أو قال: صدق أو قال: هو كما قال: أو قال: هو صادق فهذا كله سواء وهما شريكان في كل مال عين أو دين أو رقيق أو عقار أو غير ذلك مما هو في يد كل واحد منهما لأن ما أتى من الجواب غير مستقل بنفسه فيصير ما تقدم من الخطاب معادا فيه حتى يثبت به تصادقهما على شركة المفاوضة والثابت باتفاقهما كالثابت بالمعاينة ولو عاينا شركة المفاوضة بينهما كان ما في يد كل واحد منهما بينهما نصفين لأن المفاوضة تقتضي المساواة ولفظ الشركة يوجب ذلك الإطعام مثل كل واحد منهما وكسوته وكسوة أهله فلمن في يده استحسانا وفي القياس يكون بينهما كسائر الأموال ولكن يصير مستثنى(18/209)
ص -100- ... مما هو موجب شركة المفاوضة لأن الحاجة إليه معلوم وقوعها لكل واحد منهما في مدة المفاوضة ولهذا لو كانت الشركة ظاهرة بينهما كان ما اشتراه كل واحد منهما مشتركا بينهما إلا الطعام والكسوة.
وكذلك إذا ثبت العقد بإقرارهما وكذلك أم ولد أحدهما أو مدبرته لأن أم الولد ليست بمال والمدبرة ليست بمحل للتجارة ومقتضى المفاوضة الشركة بينهما في كل مال قابل للتجارة والتصرف ألا ترى أنه لا تثبت الشركة بينهما في المنكوحة فكذلك في المدبرة وأم الولد فأما إذا كان أحدهما مكاتبا قد كاتبه قبل إقراره فما عليه من بدل الكتابة يكون بينهما لأنه قابل للتصرف والانتقال من ملك إلى ملك بمنزلة سائر الديون ألا ترى أن رقبة المكاتب لا تصير ميراثا وما عليه من بدل الكتابة يصير ميراثا للورثة فكذلك بإقراره تثبت الشركة للآخر في بدل الكتابة وأن كانت لا تثبت في الرقبة ألا ترى أنه لو عجز المكاتب كان مشتركا بينهما فكذلك ما عليه من البدل قبل عجزه وكذلك لو قال: هو مفاوضني في الشركة لأن هذا العقد يضاف إليهما تارة وإلى أحدهما أخرى وثبوت حكم المفاوضة لا يختص بأحد الجانبين فكانت الإضافة إلى أحدهما بمنزلة الإضافة إليهما .(18/210)
ولو أقر أحد المفاوضين لشريك ثالث معهما وأنكر الآخر فهو جائز عليهما لأن المفاوضة من جملة التجارة وهو من صنع التجارة فإقرار أحدهما به كإقرارهما في سائر التجارات وإذا أقر الذمي لمسلم بالمفاوضة أو أقر المسلم للذمي بها فهو جائز في قول أبي يوسف رحمه الله وفي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يكونان متفاوضين ولكن ما في أيديهما يكون بينهما نصفين وأصل المسألة في كتاب الشركة أن المفاوضة لا تصح بين المسلم والذمي في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله للتفاوت بينهما في التصرف في أنواع المال وإذا كان عندهما لا يصح إنشاء هذا العقد فكذلك لا يثبت بإقرارهما ما أقرا به فموجب هذا الإقرار كون ما بيدهما بينهما نصفين وما في يدهما محل لذلك فيثبت هذا الحكم إن لم يثبت أصل المفاوضة كما لو أقر أحد الأخوين بأخ آخر فإنه يشاركه في الميراث وإن لم يثبت النسب بإقراره وعند أبي يوسف رحمه الله إبتداء المفاوضة بين المسلم والذمي صحيح فكذلك يظهر بإقرار الحر لعبد مأذون أنه شريكه مفاوضة أو أقر به لمكاتب وصدقه في ذلك لم تثبت المفاوضة بينهما لأن إنشاء المفاوضة بينهما لا يصح ولكن ما في أيديهما يكون بينهما نصفين لاتفاقهما على ذلك واحتمال أن ما في أيديهما للشركة بينهما ولا يجوز إقرار واحد منهما على صاحبه بدين ولا وديعة لأن نفوذ إقرار أحدهما على صاحبه لا يكون إلا بعد صحة المفاوضة ولم تصح.
وعلى هذا لو أقر لصبي تاجر بالمفاوضة أو أقر الصبي التاجر لصبي تاجر وصدقه الآخر فما في أيديهما بينهما لاتفاقهما على ذلك ولكن لا تثبت المفاوضة بينهما لأن إنشاء هذا العقد بينهما لا يصح فإن موجب المفاوضة الكفالة العامة من كل واحد منهما عن صاحبه(18/211)
ص -101- ... والصبي ليس بأهل لذلك وإذا أقر لرجل بالشركة مفاوضة وأنكر الآخر ذلك فلا شيء لواحد منهما فيما في يد صاحبه لأن تكذيب المقر له مبطل للإقرار.
ولو قال الآخر: أنا شريكك فيما في يدك غير مفاوضة ولست شريكي فيما في يدي فالقول قوله بعد أن يحلف لأنه يتصرف فيما في يده وادعى لنفسه ما في يد صاحبه وقد صدقه في إقراره وكذبه في دعواه فيثبت ما أقر به ويكون على صاحب اليمين في إنكار ما ادعاه وهذا لأن تكذيب المقر له في الجهة لا يوجب تكذيبه في أصل المال كما لو قال: لك على ألف درهم قرضا وقال الآخر بل هي غصب يلزمه المال فليس من ضرورة انتفاء المفاوضة بتكذيبه انتفاء الشركة فيما في يده كما في المسائل المتقدمة .
وإذا أقر لصبي لا يتكلم بشركة المفاوضة وصدقه أبوه كان ما في يد الرجل بينهما نصفين لما بينا أنه أقر له بنصف ما في يده وقد اتصل به التصديق من أبيه ولكن لا يكونان متفاوضين لأن ثبوت المفاوضة بينهما يقتضي المساواة بينهما في التصرف والصبي الذي لا يتكلم ليس بأهل للتصرف وإذا أقر لرجل أنه شريك فلان في قليل وكثير فقال فلان نعم فهما شريكان في كل قليل وكثير في يد كل واحد منهما لأنهما بمنزلة المتفاوضين لأن لفظة لشركة تقتضي التسوية كما في قوله تعالى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: من الآية12] وإنما يتحقق ذلك إذا جعلنا ما في يد كل واحد منهما بينهما نصفين إلا أنه لا يجوز إقرار أحدهما على صاحبه بالدين والوديعة لأن ذلك من خصائص عقد المفاوضة ولم يثبت بإقرارهما حين لم يصرحا بلفظ المفاوضة.(18/212)
ألا ترى أنهما لو أنشآ عقد الشركة العامة بينهما لا تكون مفاوضة إلا أن يصرحا بلفظ المفاوضة وهذا لأن العوام من الناس قلما يعرفون جميع أحكام المفاوضة ليذكروا ذلك عند العقد فأقام الشرع التنصيص منهما على لفظ المفاوضة مقام ذكر تلك الأحكام وإذا كان عقد الإنشاء لا يثبت المفاوضة إلا بالتصريح بلفظها فكذلك عند الإقرار ولو كان أقر أنه شريكه في التجارات كان ما في يدهما من متاع التجارة بينهما ولا يدخل في ذلك مسكن ولا كسوة ولا طعام لأن التصادق منهما كان مقيدا بمال التجارة بخلاف الأول فقد تصادقا هناك في الشركة في كل قليل وكثير وذلك يعم الدار والخادم وغيرهما ولو كان في يدهما دار أو عبد أو أمة وقال: ليس هذا من تجارتنا فالقول قوله لأن هذه الأعيان ليست للتجارة باعتبار الأصل فمن قال: أنها ليست من التجارة فهو متمسك بما هو الأصل ولأن التصادق منهما لم يحصل منهما بصفة العموم وإنما حصل خاصا في متاع التجارة والسبب متى كان مقيدا بوصف لا يكون موجبا بدون ذلك الوصف فما لم يثبت كونه من التجارة لا يتحقق سبب الشركة بينهما فلهذا كان القول قول ذي اليد وعلى هذا لو قال أحدهما لدراهم أو دنانير هذا مال في يدي من غير الشركة أصبته من ميراث أو جائزة أو بضاعة لإنسان فالقول قوله إلا أن يقوم للآخر بينة أنه من الشركة أو كان في يده يوم أقر به لأن الثابت بالبينة كالثابت(18/213)
ص -102- ... بإقراره ولو أقر أنه كان في يده يوم أقر كان في الشركة لأن الدراهم والدنانير من التجارة باعتبار الأصل وأنهما خلقا لذلك ولهذا وجبت الزكاة فيهما باعتبار هذا المعنى من غير نية التجارة فإذا ثبت كونه في يده وقت الإقرار بقدر السبب الموجب للشركة فيه فهو يريد إخراجه من الشركة بعد ما تناوله الإقرار بها فلا يصدق في ذلك
ولو كان في التجارة فقال: ليس هذا من التجارة التي بيننا ولم يزل في يدي قبل الشركة كان المتاع بينهما لأن بثبوت التجارة فيه صار الإقرار بالشركة متناولا له فلا يصدق في إخراجه بعد ما تناوله الإقرار ولو قال: فلان شريكي ولم يسم شيئا ثم قال: عنيت في هذه الدار كان القول قوله لأن في بيانه تقريرا لما أقر به لا تغييرا فيصح موصولا ومفصولا ولأن مطلق الإقرار بالشركة غير مضاف إلى محل لا يثبت من المال إلا قدر ما لا يتحقق هذا الوصف لهما إلا به وهذا الوصف يتحقق لهما بالشركة في شيء واحد فيثبت القدر المتيقن به ويكون القول في إنكار الزيادة على ذلك قوله.(18/214)
ولو قال: فلان شريكي في تجارة الزطي كان القول قوله لأنه قيد إقراره بمحل سماه وتقييد المقر إقراره موصولا بكلامه صحيح ولو قال: فلان شريكي في كل تجارة وقال: فلان أنا شريكك فيما في يدك ولست بشريكي فيما في يدي كان القول قوله لأنه أقر بنصف ما في يده وادعى لنفسه نصف ما في يده وقد صدقه في الإقرار وكذبه في دعواه فالقول قوله مع يمينه ولو كان في يده حانوت فقال: فلان شريكي فيما في هذا الحانوت ثم قال: أدخلت هذا العدل بعد الإقرار من غير الشركة لم يصدق على ذلك وهو على الشركة إلا أن يأتي بالبينة على ما يدعي قال: لأن الحانوت وما في الحانوت معلوم ومعنى هذا الكلام أنه وقع الاستغناء عن بيان المقر في معرفة ما أقر به بتعيينه محله وهو الحانوت فلا يبقى له قول في البيان ولكن جميع ما يوجد في الحانوت يكون بينهما نصفين إلا ما يثبت بالحجة أنه أدخله بعد الإقرار وهو بمنزلة ما لو أبرأ غيره من كل قليل وكثير له عليه ثم ادعى بعد ذلك عليه شيئا وقال: قد حدث وجوبه بعد الإبراء وقال المدعى عليه بل كان قبل الإبراء فالقول قوله إلا أن يثبت المدعى بالبينة أنه وجب بعد الإبراء وهذا بخلاف ما لو قال: جميع ما في يدي مشترك بيني وبين فلان ثم قال: لمتاع بعد ذلك أنه حدث في يدي بعد الإقرار فالقول قوله لأنه ما وقع الاستغناء عن بيانه هناك فإن ما في يده لا يعلم إلا بقوله فلهذا جعلنا بيانه مقبولا فيه وأورد مسألة الحانوت بعد هذا وأجاب فيها أن القول قول المقر بمنزلة قوله جميع ما في يدي بيني وبين فلان ففيه روايتان والأصح هو الأول ووجه الرواية الثانية أن إقراره تقيد بمحل خاص وهو الموجود في الحانوت وقت إقراره فما لم يثبت هذا القيد بالحجة لا يستحقه المقر له لأن وجوده في الحانوت في الحال دليل على أنه كان في الحانوت عند الإقرار باعتبار الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق(18/215)
ولو قال: فلان شريكي في كل تجارة وأقر بذلك فلان ثم مات أحدهما وفي يده(18/216)
ص -103- ... مال فقال ورثته هذا مال استفاده من غير الشركة فالقول قولهم لأنهم قائمون مقامه ولو قال: هو في هذا الفصل لمال في يده أنه حادث في يدي من غير الشركة وجب قبول قوله في ذلك فكذلك يقبل قول ورثته وإن أقروا أنه كان في يده يوم أقروا أنه من التجارة فهو من الشركة لأن إقرارهم بهذا بعد موته كإقراره به في حياته وكذلك إن كان للميت صك باسمه على رجل بمال تاريخه قبل الإقرار بالشركة بينهما لأنه أقر له بالشركة في كل تجارة وذلك يعم العين والدين جميعا وإن كان تاريخ الصك بعد الشركة فالقول قول الورثة أنه ليس من الشركة لأنه إنما يكتب في الصك تاريخ وجوب الدين فإذا كان ذلك بعد الإقرار إن كان هذا دينا حدث وجوبه فلا تثبت الشركة بينهما فيه والظاهر شاهد للورثة في ذلك وحاجتهم إلى دفع استحقاق المقر له والظاهر يكفي لهذا .
ولو قال: فلان شريكي في الطحن وفي يد المقر رحا وإبل ومتاع الطحانين فادعى المقر له الشركة في ذلك كله فالقول قول المقر لأن الطحن اسم للعمل دون الآلات وليس من الضرورة كونه شريكا له في الآلات وكان القول قول المقر في الأول وكذلك كل عامل في يده حانوت وفيه متاع من متاع عمله فأقر أنه شريك لفلان في عمل كذا فهما شريكان في العمل دون المتاع لأن ثبوت الشركة بينهما بإقراره إنما يثبت فيما صرح به أو فيما هو من ضرورة ما صرح به .(18/217)
ولو قال: هو شريكي في هذا الحانوت في عمل كذا فكل شيء في ذلك الحانوت من عمل أو متاع ذلك العمل فهو بينهما لأنه عين لما أقر به محلا وهو الحانوت وذكر العمل لتقييد الإقرار بمتاع ذلك العمل فما كان في الحانوت من متاع ذلك العمل فقد تناوله إقراره فكان بينهما ولو كان الحانوت وما فيه في أيديهما فقال أحدهما فلان شريكي في عمل كذا فأما المتاع فهو لي وقال الآخر بل المتاع بيننا فهو بينهما لأن ثبوت يدهما على الحانوت سبب لثبوت اليد لهما على ما في الحانوت فكان في قوله المتاع لي مدعيا للنصف الذي في يد صاحبه فلا يقبل قوله إلا بحجة بخلاف الأول فإن الحانوت هناك في يد المقر فما فيه يكون في يده أيضا
ولو قال: فلان شريكي في كل زطي اشتريته وفي يده عدلان فقال: اشتريت أحدهما وورثت الآخر فالقول قوله لأنه قيد المقر به بالزطي المشتري فما لم يثبت هذا الوصف في محل لا يتناول إقراره لذلك المحل وكذلك لو قال: هو شريكي في كل زطي عندي للتجارة ثم قال: اشتريت أحدهما من خاص مالي لغير التجارة فالقول قوله لأن مجرد الشراء في الزطي لا يجعل المشتري للتجارة بدون النية ألا ترى أنه لا يجب فيه الزكاة إذا لم ينو به التجارة ونية التجارة لا يوقف عليها إلا من جهته فإذا قيد الإقرار بما لا يوقف عليه إلا من جهته وجب قبول قوله فيه.
ولو أقر أنهما في يده للتجارة ثم قال: هذا من خاصة مالي لم يصدق لأن سبب الشركة(18/218)
ص -104- ... قد تقرر فيه فلا يصدق في إخراجه ولو قال: هو شريكي في كل زطي قدم لي من الأهواز أمس ثم أقر أن الأعدال العشرة قدمت له من الأهواز أمس وقال: أحدهما من خاصة مالي والآخر بضاعة فلان وقال: الشريك هي كلها من الشركة فالكل من الشركة لثبوت الوصف الذي قيد الإقرار به في جميع الأعدال بإقراره إلا أن العدل الذي أقر أنه بضاعة يصدق على حصته منه ولا يصدق على نصيب شريكه لأن إقرار أحد الشريكين لغيره في نصيب نفسه صحيح ويضمن لصاحب البضاعة نصف قيمة هذا العدل لأنه صار متلفا بإقراره السابق للمقر له بالشركة وإقراره للثاني على نفسه صحيح فيصير به ضامنا وقد تقدم نظائر هذه المسألة فيما اتفقوا عليه واختلفوا فيه .
ولو كان العبد بين الشريكين فأقرا به بينهما من شركتهما ثم قال أحدهما استودعناه فلان فهو مصدق على حصته غير مصدق على حصة شريكه ولا يضمن للمقر له شيئا من نصيب شريكه لأن ذلك لم يكن في يده قط والمودع فيما لم تصل إليه يده لا يصير ضامنا وما كان في يده وهو المقر النصف فقد سلمه إلى المقر له وإذا قال: فلان شريكي في هذا الدين الذي على فلان وقال المقر له أنت أديته بغير إذني ولم يكن بيني وبينك شركة فإن كان المقر هو الذي باع المبيع فهو ضامن لنصف قيمة المتاع لأن إقراره بالشركة بينهما في الثمن إقرار منه أن الأصل كان مشتركا بينهما فإن الثمن يملك بملك الأصل وهو الذي باشر البيع فيه وذلك سبب موجب الضمان عليه في نصيب شريكه إلا أن يثبت الإذن وهو ينكر الإذن فالقول قوله مع يمينه وإن لم يكن في ذكر الحق أنه باعه المتاع فقال: لم أبعه أنا ولكن بعناه جميعا وكتب الصك بأسمى فالقول قوله لأن المقر له يدعي عليه سبب وجوب الضمان في نصيبه بيعه بغير إذنه وهو لذلك منكر وليس من ضرورة كتبه الصك باسمه أن يكون هو المباشر للبيع فكان القول قوله لإنكاره مع يمينه .(18/219)
فإن أراد المقر له أن يضمن الذي عليه الصك نصفه قيمة المتاع وقال: قبضت متاعي بغير إذني وقال: الذي عليه الصك ما اشتريت منك شيئا باعني المتاع الذي الصك باسمه فلا ضمان له عليه لأنه يدعي لنفسه عليه حقا وهو ينكره ولو ضمنه إنما يضمنه بإقرار المقر وإقراره ليس بحجة على المشتري فلا ضمان له عليه ولكن المال الذي في الصك بينهما كما لو أقر به وحق المطالبة لمن باسمه الصك.
وإذا كان عبد في يد رجل وقال: هذا مضاربة لفلان معي بالنصف ثم باعه بألفين وقال: كان رأس المال ألف درهم وقال: رب المال دفعت العبد إليك بعينه للمضاربة فالقول قول رب المال لأنه أقر بملك العبد له حين قال: أنه مضاربة لفلان معي هذا فإن اللام للتمليك فيثبت الملك في العبد لرب المال في إقراره والثمن يملك بملك الأصل فإذا ادعى المضارب لنفسه جزأ من ثمنه لا يقبل قوله إلا بحجة فكان الثمن كله لرب المال وعليه للمضارب أجر مثله لأن رب المال أقر له بذلك على نفسه فإن المضاربة بالعروض فاسدة(18/220)
ص -105- ... وإنما يستحق المضارب بسببه أجر مثل عمله وإذا أقر المضارب أن معه ألف درهم لفلان مضاربة بالنصف وأنه قد ربح فيها ألف درهم وقال رب المال بل رأس مالي ألفا درهم .
ففي قول أبي حنيفة رحمه الله: الأول وهو قول زفر رحمه الله القول قول رب المال لأن المضارب يدعي استحقاق بعض ماله لنفسه فإن جميع ما في يده حاصل من ماله فلا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة ثم رجع وقال المضارب مع يمينه وهو قولهما لأن الاختلاف بينهما في مقدار المقبوض وفي مقدار المقبوض القول قول القابض إذا لم يسبق منه إقرار بخلاف ما يقوله الآن فكان عليه رد ما أقر بقبضه من رأس ماله والباقي ربح بينهما نصفين ولو قال: هذا المال معي مضاربة لفلان ثم قال: بعد ذلك فهو لفلان وادعى كل واحد منهما أنه له مضاربة بالنصف ثم عمل به المضارب فربح فيه فإنه يدفع رأس المال إلى الأول ونصف الربح ويدفع الآخر مثل رأس المال غرما من ماله ولا يضمن له من الربح شيئا هذا قول أبي يوسف رحمه الله.(18/221)
وقال محمد رحمه الله: يضمن لكل واحد منهما قدر رأس ماله والربح كله له يتصدق به وأصل المسألة في كتاب المضاربة أن المضارب إذا جحد ثم أقر وتصرف وربح كان الربح بينهما على الشركة عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله الربح كله للمضارب فهنا الأول لما تقدم إقرار المضارب له ثبت حقه وصار كالثابت بالمعاينة ثم بإقراره للثاني صار جاحدا لحق الأول وإنما هو تصرف وربح بعد جحوده فيكون نصف الربح للأول عند أبي يوسف رحمه الله وجميع الربح للمضارب عند محمد رحمه الله ولكنه بسبب جلبه فيتصدق به ويغرم لكل واحد منهما نصف رأس ماله أما للأول فغير مشكل وأما للثاني فلإقراره بأنه كان أمينا من جهته وقد دفع الأمانة إلى غيره وبإقراره صار ضامنا له وإذا أقر أن المال مضاربة في يده لفلان وفلان وصدقاه ثم قال بعد ذلك لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث لم يصدق وهو بينهما نصفان لأن مطلق الإضافة إليهما يقتضي المناصفة بينهما وكان بيانه بعد ذلك مغيرا فيصح موصولا لا مفصولا .
ولو أقر المضاربان بمال في أيديهما أنه مضاربة لفلان وصدقهما في ذلك ثم أقر رب المال لأحدهما بثلث الربح وللآخر بربعه فالقول قوله لأنه ليس من ضرورة تصديقه إياهما الإقرار بشيء معلوم لهما من الربح والمساواة بينهما في الربح بل لكل واحد منهما ما يستوجب الربح عليه بالشرط فيكون القول قوله في بيان شرط كل واحد منهما وإذا أقر بمضاربة لرجل ولم يسمها فالقول قوله فيما يسمى من ذلك لأنه جهل المقر به فالقول في بيانه قوله وإن مات فالقول قول وارثه لأنه خلف عنه قائم مقامه والله أعلم .
باب الإقرار بالبراءة وغيرها
قال رحمه الله: وإذا قال الإنسان لا حق لي على فلان فيما أعلم ثم أقام البينة أن له عليه حقا مسمى قبلت بينته وليست هذه البراءة بشيء لأنها بقوله فيما أعلم وقد بينا أن هذا اللفظ(18/222)
ص -106- ... في الإقرار يخرجه عن أن يكون موجبا فكذلك في البراءة والإقرار بها ولم يذكر قول أبي يوسف رحمه الله هنا فقيل هو على الخلاف أيضا وقيل بل أبو يوسف رحمه الله يفرق بينهما ويقول أن بانتقاء حقوقه عن الغير لا طريق له إلى معرفته حقيقة فقوله فيما أعلم في هذا الموضع لنفي اليقين كما في الشهادة وأما وجوب الحق للغير عليه فلا بد أن يعرفه بمعرفة سببه حقيقة فلم يكن قوله فيما أعلم للتشكيك فيه وكذلك لو قال: في علمي أو في نفسي أو في ظني أو في رأيي أو فيما أرى أو فيما أظن أو فيما أحسب أو حسابي أو كتابي لأن هذه الألفاظ إنما تذكر لاستثناء اليقين فيما يقرر به كلامه من أن يكون غريما أو موجبا للبراءة .
ولو قال: قد علمت أنه لا حق لي قبل فلان لم تقبل منه بينة ألا بتاريخ بعد الإقرار بالبراءة وكذلك لو قال: قد استيقنت لأن ذكر هذين اللفظين لتأكيد معنى العلم واليقين بما يخبر به فإن قوله قد علمت خبر عن الماضي وقد يقرره به للتأكيد ولو أطلق الإقرار بالإبراء لم يسمع منه دعوى إلا بتاريخ بعده فإذا أكد بما يقرن به أولى.
وإذا قال: لا حق لي عليك فأشهد لي عليك بألف درهم وقال الآخر أجل لا حق لك علي ثم أشهد له بألف درهم والشهود يسمعون ذلك كله فهذا باطل ولا يلزمه منه شيء ولا يسع الشهود أن يشهدوا عليه لأنه بما تقدم من تصادقهما على انتفاء حقه عنه تبين أن المراد به الزور والباطل وما ليس بواجب لا يصير بالإشهاد واجبا وإذا علم الشهود انتفاء وجوب المال حقيقة لا يسعهم أن يلزموه بشهادتهم شيئا ألا ترى أنه لو فعل ذلك بين يدي القاضي لم يكن للقاضي أن يقضي عليه بشيء فكذلك لا يسع الشهود أن يشهدوا به عليه .(18/223)
وإذا أقر الرجل أن لفلان عليه ألف درهم تلجئة فقال الطالب بل هو حق فإن كان المقر له لم يقر بأنه تلجئة فالمال لازم للمقر لأن قول المقر تلجئة كالرجوع منه عن الإقرار فإن ظاهر قوله على إقرار حق لازم وما يكون تلجئة فهو باطل ورجوعه عن الإقرار لا يصح وإن كان موصولا إلا أن يصدقه المقر له بذلك فحينئذ هو مثل الأول لأنهما تصادقا على أن الإقرار كان زورا والإقرار بالزور لا يوجب على المقر شيئا وكذلك لو قال: أشهدوا أن لفلان علي ألف درهم زورا وباطلا وكذبا فقال: فلان صدق في جميع ما قاله لم يلزمه شيء فإن قال: صدق في المال وكذب في قوله زورا وباطلا أخذته بالألف لما بينا وعلى هذا لو أقر أنه باع داره من فلان بألف درهم تلجئة لزم المقر البيع إذا كذبه المقر له في قوله تلجئة وإن صدقه في جميع ما قال فهو باطل وإن قال: صدق فهو باطل أيضا لأن مطلق التصديق ينصرف إلى جميع ما أقر به إذا لم يخص فيه شيئا .
ولو قال: لفلان علي ألف درهم فقال: فلان مالي عليك شيء فقد بريء المقر مما أقر به لأنه كذبه في الإقرار ولأنه صار ميراثا له لأن قوله مالي عليك شيء يحتمل أنه أراد مالي عليك شيء في الحال لأني أبرأتك ويحتمل أن يكون مراده ما كان لي عليك شيء ومن(18/224)
ص -107- ... ضرورة نفي حقه في الماضي نفيه في الحال فإن أعاد الإقرار وقال: بل لك على ألف درهم فقال المقر له أجل هي لي عليك لزمته أما على الطريق الأول فلأن الإقرار بطل بالتكذيب فصار كالمعدوم بقي إقراره الثاني وقد صدقه فيه وعلى الطريق الثاني الإبراء إنما يعمل فيما كان واجبا وقت الإبراء فأما فيما يجب بعده بسبب باشره فلا يعمل فيه ذلك الإبراء والإقرار سبب لوجوب المال في الحكم فلا يبطل بالإبراء السابق .
ولو أقر بهذه الجارية لفلان غصبها إياه فلان وليست هذه لي بطل إقراره بالرد فإن ادعاها المقر له وقعت إليه لما بينا أن الإقرار الأول صار كالمعدوم فكأنه أنشأ الإقرار الآن وصدقه المقر له ولو قال: هذا العبد لك فقال: ليس هو لي ثم قال: بلى هو لي لم يكن له لأن الإقرار قد بطل بالتكذيب ولم يوجد إقرار آخر فكذلك لو أقام البينة عليه لم تقبل بينته لأن شرط قبول البينة دعوى صحيحة وبعد ما قال: ليس هو لي لا يصح دعواه أنه له لكونه مناقضا فيه فلا تقبل بينته عليه.
وكذلك لو أقر أنه بريء من هذا العبد ثم ادعاه وأقام البينة لا تقبل بينته إلا على حق يحدث له بعد البراءة لأن قوله أنا بريء من هذا العبد إقرار منه بأنه لا ملك له فيه وهو صحيح في حقه لأنه لا يتعدى عن محل ولايته إلى غير ولايته وبالدعوى بعد ذلك أنه لي يصير مناقضا وبينة المناقض في الدعوى لا تكون مقبولة وكذلك لو قال: خرجت من العبد أو خرج هذا العبد عن ملكي أو عن يدي لأن إقراره بهذا مقصور على محل ولايته لا يتعدى إلى إثبات الملك فيه لغيره فأقيم به وحده فيكون هو في الدعوى بعد ذلك مناقضا وقيل هذا الجواب في قوله خرج عن يدي غير صحيح لأنه يمكنه أن يوقف فيقول هو ملكي وقد خرج عن يدي بغصب ذي اليد أو إعارتي منه فلا يثبت التناقض .(18/225)
وإذا قال الرجل للمرأة: إني أريد أن أشهد أني قد تزوجتك بألف درهم تزوجا باطلا وتلجئة وقالت المرأة نعم أنا أفعل هذا على هذا الوجه وقد حضر الشهود هذه المقالة ثم أشهد أنه قد تزوجها بألف درهم وأقرت المرأة بذلك فالنكاح جائز لازم لهما لأن بالإشهاد السابق تبين أن مقصودهما بهذا العقد الهزل دون الجد وفي النكاح الجد والهزل سواء كما ورد به الأثر "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق" ولأن تأثير التلجئة انعدام ضامنها بالعقد النافذ بمنزلة اشتراط الخيار ولا يشترط الخيار في النكاح فكذلك التلجئة ولأنه إنما تؤثر التلجئة فيما هو محتمل للفسخ بعد تمامه والنكاح غير محتمل للفسخ بعد تمامه ولهذا لا يجري فيه الرد بالعيب ولا يؤثر فيه التلجئة وكذلك الطلاق والعتاق على مال وغير مال والخلع والمال واجب فيما سمى فيه المال لأنه تبع للسبب فكما لا تؤثر التلجئة في أصل السبب فكذلك لا تؤثر فيما يتبعه كالهزل وأما الكتابة على هذا الوجه فباطلة بمنزلة البيع لأنه محتمل للفسخ بعد انعقاده كالبيع .
ولو قال: أريد أن ألجئ إليك داري هذه وأشهد عليك بالبيع وقبض الثمن تلجئة مني(18/226)
ص -108- ... إليك لا حقيقة وقال: الآخر نعم فأشهد له بالبيع وقد حضر الشهود تلك المقالة فإن أبا حنيفة رحمه الله قال فيما أعلم يقع البيع والمقالة التي كانت قبله باطلة وقال أبو يوسف رحمه الله البيع باطل على الكلام الأول ومعنى قوله ألجئ أي أجعلك ظهرا لي لأتمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال: التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا والمراد هذا المعنى وقيل معناه أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع معك ولست بقاصد حقيقة البيع ثم صحح أبو يوسف رحمه الله روايته على أبي حنيفة رحمه الله بقوله فيما أعلم لأن الرواية عن الغير كالشهادة وهذا اللفظ شك في الشهادة عند أبي يوسف رحمه الله ولكن روى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله أن البيع جائز مطلقا.(18/227)
وروى محمد رحمه الله في الإملاء عن أبي حنيفة رحمه الله أن البيع باطل وهو قولهما والحاصل أنهما إذا تصادقا أنهما بنيا على تلك المواضعة فلا بيع بينهما كما ذكراه في البيع نصا وإن تصادقا أنهما أعرضا عن تلك المواضعة فالبيع صحيح بالاتفاق لأن تلك المواضعة ليست بلازمة ولا تكون أقوى من المعاقدة ولو تبايعا بخلاف الأول كان الثاني مبطلا للأول فإذا تواضعا ثم تعاقدا أولى وإذا اختلفا فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال الآخر بل أعرضنا عنها فعندهما القول قول من يدعي البناء على المواضعة ولا بيع بينهما لأن الظاهر شاهد له ولأنا نجعل كأن أحدهما أعرض عن تلك المواضعة والآخر بنى عليها وتلك المواضعة بمنزلة إشتراط الخيار منهما ولو شرطا الخيار ثم أسقطه أحدهما لم يتم البيع وأبو حنيفة رحمه الله يقول الأصل في العقود الشرعية الصحة واللزوم فمن يقول لم نبن على تلك المواضعة يتمسك بما هو الأصل فالقول قوله وتوضيحه أن تلك المواضعة ليست بلازمة بل ينفرد أحدهما بإبطالها فإعراض أحدهما عن تلك المواضعة كإعراضهما وإن تصادقا على أنه لم يحضرهما نية عند العقد فعندهما وهو رواية محمد عند أبي حنيفة رحمهما الله البيع باطل لأنهما ما قصدا بالمواضعة السابقة إلا بناء العقد عليها فيجعل كأنهما بنيا وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله البيع صحيح لأن مطلقه يقتضي الصحة والمواضعة السابقة لم يذكرها في العقد فلا يكون مؤثرا فيه كما لو تواضعا على شرط خيار أو أجل ولم يذكرا ذلك في العقد لم يثبت الخيار ولا الأجل فهذا مثله.(18/228)
ولو قال: أشهد لي عليك بألف درهم على أنها باطل أو على أنك منها بريء ففعل لم يكن عليه شيء منها لأن نفوذ الإقرار يعتمد تمام الرضا ولهذا كان الإكراه مانعا صحة الإقرار فهو والبيع سواء بخلاف النكاح ولو قال لامرأة أني أمهرك ألف درهم في السر وأظهر في العلانية ألفين وأشهد على ذلك فالمهر لها ألف درهم لأنهما تصادقا أن ما زاد على الألف سمياه سمعة وباطلا فلا يكون ذلك موجبا
ولو تواضعا على أن المهر في السر ألف درهم وأنهما يظهران العقد بمائة دينار سمعة(18/229)
ص -109- ... ففعلا ذلك فلها مهر مثلها لأن ما تواضعا عليه لم يذكراه في العقد وثبوت المسمى إنما يكون بالتسمية وما سمياه في العقد يقصدان به السمعة فبقي النكاح خاليا عن تسمية مهر المثل وكذا لو قالا هذا في البيع وأما في الألف درهم والمائة دينار ففي القياس البيع باطل لو لم يسميا ثمنا وفي الاستحسان البيع صحيح بمائة دينار لأنهما قصدا تصحيح أصل العقد وإنما قصدا السمعة في الثمن ولا يمكن تصحيح أصل العقد هنا إلا باعتبار الثمن المسمى فيه وأما في النكاح فتصحيح أصل العقد من غير اعتبار المهر المسمى فيه ممكن ولو كان هذا الألف والألفان في البيع.
وقال أبو يوسف فيما أعلم عند أبي حنيفة رحمه الله: البيع بألفين وهكذا رواه المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله وروى محمد رحمه الله في إملائه عن أبي حنيفة رحمه الله أن البيع صحيح بألف درهم وهو قولهما لأنهما قصدا السمعة بذكر أحد الألفين ولا حاجة في تصحيح البيع إلى اعتبار تسميتهما الألف الثانية فهذا والنكاح سواء وجه الرواية الأخرى عن أبي حنيفة رحمه الله أن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فإذا وجب اعتبار بعض المسمى وجب اعتبار كله كما في اختلاف الجنس بخلاف النكاح وقيل هذا ينبنى على أصل أبي حنيفة رحمه الله أن الألفين غير الألف ولهذا لو شهد أحد الشاهدين بالألف والآخر بالألفين لم يقبل عنده فهو واختلاف الجنس سواء على مذهبه ولكن هذا ينصف بالنكاح والله أعلم.
باب الإقرار بالجناية(18/230)
قال رحمه الله: ولو أن رجلا أقر بقتل رجل خطأ وقامت البينة به على آخر وادعى الولي ذلك كله كان له على المقر نصف الدية ولا شيء له على الآخر لأن المقر قد أقر له بدية كاملة حين زعم أنه تفرد بالقتل وقد صدقه في النصف حين زعما أنهما اشتركا في القتل وتصديقه في بعض ما أقر به صحيح فإن الشهود شهدوا له على الآخر بدية كاملة وهو قد ادعى عليه نصف الدية والشهادة بالأكثر مما ادعاه المدعي لا تكون مقبولة لمعنى وهو أنه صار مكذبا لشهوده في بعض ما شهدوا له وتكذيب المدعي شهوده يبطل شهادتهم وصار مكذبا للمقر أيضا في بعض ما أقر به ولكن تكذيب المقر له في البعض لا يمنعه من التصديق في البعض ولو ادعى الولي ذلك كله على المقر كان عليه الدية في ماله لأنه قد صدقه في جميع ما أقر به ولكن ما ثبت بالإقرار لا تعقله العاقلة للحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نعقل صلحا ولا عمدا ولا عبدا ولا اعترافا" وهذا لأن قول المقر حجة على نفسه خاصة دون عاقلته ولو ادعى ذلك كله على الذي قامت عليه البينة كانت الدية على عاقلته لأنه صار مكذبا للمقر فبطل إقراره وبقيت دعواه على الذي شهد له الشهود وقد ثبت عليه قتل الخطأ بالبينة فتكون الدية على عاقلته ولو أقر رجل أنه قتل فلانا عمدا وحده وأقر آخر بمثل ذلك وقال الولي قتلتماه جميعا كان له أن يقتلهما لأن كل واحد منهما صار مقرا له على نفسه(18/231)
ص -110- ... بالقصاص وقد صدقه في ذلك ثم قد بينا أن الأسباب مطلوبة لأحكامها فبعد ما وجد التصادق في الحكم لا يعتبر التفاوت بين الإقرار والتصديق في السبب.
ولو قال لأحدهما: أنت قتلته كان له أن يقتله لأنه كذب الآخر في إقراره فبطل ذلك الإقرار ويبقى الإقرار الثاني وقد صدقه فيه ولو قال: صدقتما فيه ولا يتصور تكرار القتل بهذه الصفة من شخصين على واحد فكان في تصديق الأكثر منهما أنه قتله وحده تكذيب الأصغر وكذلك في تصديقه الأصغر أنه قتله وحده تكذيب الأكبر فلهذا لا يقبل واحد منهما ولو أقر أحدهما أنه قتله عمدا وقامت البينة بمثل ذلك على آخر فادعى الولي أحدهما كان له أن يقتل المقر لأنه صدقه فيما أقر له به من القصاص ولا شيء له على الآخر لأنه ادعى عليه قتلا مشتركا والشهود شهدوا عليه بقتل انفرد هو به فكانت الشهادة أزيد من الدعوى ولأن التفاوت بين الدعوى والشهادة في السبب يمنع قبول الشهادة كما لو ادعى ألفا غصبا وشهد له الشهود بألف قرض بخلاف الإقرار والله أعلم بالصواب.
باب من الإقرار
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه اقتضى من فلان ألف درهم فقال فلان ما كان لك علي شيء ولكنك أخذتها مني ظلما أمر القاضي بردها وقد بينا هذا مرة وأعدناها لفروع نذكرها هنا وهو أنه لو قال: قبضتها بوكالة من فلان كانت له عليك أو وهبتها له فأمرني فقبضتها ودفعتها إليه كان ضامنا للمال وإقراره بالقبض لغيره في حق صاحبه كإقراره بالقبض لنفسه لأن الضمان إنما ينتفي عنه في الفصلين بثبوت المال له على صاحب المال ولمن يدعي أنه قبض له ولم يثبت ذلك بدعواه فكان ضامنا للمال.(18/232)
وإذا أقر أن :لفلان على ألف درهم وجحد ذلك فلان وادعى الطالب أن المال على المقر وحده فإنه يلزم المقر من ذلك النصف لأن إضافة الألف إلى نفسه وإلى غيره موجبة للانقسام فصار مقرا بنصفه على نفسه وبنصفه على الآخر ألا ترى أن الآخر لو صدقه كان على كل واحد منهما نصفها فإذا كذبه بطل ما أقر به عليه وبقي مؤاخذا بما أقر به على نفسه وهو النصف وكذلك إن أقر بمثله من غصب أو وديعة أو مضاربة أو قتل خطأ أو جراحة فهذا والأول سواء لما بينا .
ولو أقر أنه قطع يد فلان هو وفلان عمدا وجحد فلان ذلك وادعى الطالب أن المقر قطعه وحده لم يلزمه شيء في القياس لأنه أقر له على نفسه بنصف الأرش فإن اليدين لا يقطعان بيد واحدة عندنا ولكن على كل واحد من المالين بنصف الأرش والمدعي يدعي عليه القصاص فكان مكذبا له فيما أقر به مدعيا عليه شيئا آخر ولكن استحسن فقال: له عليه نصف أرش اليد وهذا نظير ما قال: في كتاب الديات إذا قال: قتلت ولي هذا عمدا فقال: بل قتلته خطأ تقضي بالدية استحسانا لأنه يمكنه أن يأخذ ما أقر به مع إصراره على الدعوى بأن يقول حقي في القصاص ولكنه طلب مني أن آخذ المال عوضا عن القصاص وهذا جائز وكذلك(18/233)
ص -111- ... هنا يمكنه أن يأخذ ما أقر به وهو نصف الأرش مع إصراره على دعوى القصاص بهذا الطريق ولو كان هذا في النفس كان له أن يقتل المقر خاصة لأن المثنى يقتل الواحد وقال: والقياس في النفس هكذا أن لا يستوفي المثنى بالواحد لأن القصاص يعتمد المماثلة والواحد لا يكون مثلا للمثنى وكيف يكون مثلا لهما وهو مثل لكل واحد منهما وكنا تركنا القياس في النفس لحديث عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعة من أهل صنعاء بواحد وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به وهذا القياس والاستحسان لم ينص عليه في المبسوط إلا هنا.
ولو قال: أقرضني أنا فلان ألف درهم لزمه النصف لما بينا أنه أقر على نفسه بنصف المال قال: ألا ترى أنه لو قال: لفلان على ألف درهم وفلان ثم قال: عنيت الآخر معي في الدين لم يصدق على ذلك وكان الدين لهما عليه نصفين فكان بمنزلة قوله لفلان وفلان علي ألف درهم ووقعت هذه المسألة في أكثر الروايات أنه قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان ولكن الأصح هو الأول لأنه قال بعده ولو قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان كانت الألف بينهما نصفين وإذا أقر أن لفلان عليه ألف درهم ثم قال بعد ذلك: لأحدهما ستمائة وللآخر أربعمائة لم يصدق إلا أن يصل كلامه لأن مقتضى أول كلامه المناصفة بينهما فكان بيانه مغيرا ولكنه من محتملات كلامه فيصح موصولا ولا يصح مفصولا إلا أنه إذا فصل فعليه للذي أقر له بأربعمائة خمسمائة لأنه راجع عن الإقرار له في قدر المائة وعليه للآخر ستمائة لأنه أقر له في بيانه بمائة زائدة وذلك صحيح منه على نفسه.
ولو قال: أقرضني فلان ألف درهم مع فلان كانت الألف لهما بمنزلة مالو قال أقرضني فلان مع فلان ألف درهم لأن كلمة مع للقران فيوجب الجمع بينهما كحرف الواو ولو قال أقرضني فلان ألف درهم عند فلان كانت الألف للأول لأنه ما أشرك الثاني مع الأول في الإقراض وإنما أخبر أن الإقراض من الأول كان بالقرب من الثاني(18/234)
ولو قال: أقرضني وفلانا معي ألف درهم كان عليه من ذلك خمسمائة لأنه ذكر فلانا منصوبا فذلك دليل على أنه في محل المفعول كالمقر وأن المقر له أقر فيهما جميعا بالألف فلهذا كانت عليه خمسمائة ووقع في بعض النسخ وفلان معي والأصح هو الأول وإن قال أقرضني وفلانا معي شاهدا علي ذلك فلان ألف درهم كانت الألف عليه وحده لأنه ذكر للثاني خبرا وهو أنه كان شاهدا فلا يدخل معه فيما أخبر به من الاستقراض فإنما يكون مقرا على نفسه خاصة باستقراض الألف وكذلك قوله وفلان معي حالين والله أعلم .
باب إقرار الوصي والوكيل بالقبض
قال رحمه الله: وإذا أقر الوصي أنه قد استوفى جميع ما للميت على فلان ولم يسم كم هو صح إقراره في براءة الغريم لأنه في الاستيفاء قائم مقام الوصي فإقراره به كإقرار الموصي بالاستيفاء منهما صحيح لأن الحاجة إلى بيان المستوفي فيما يحتاج فيه إلى القبض وما تم استيفاؤه لا يحتاج فيه إلى القبض فترك البيان لا يمنع صحة الإقرار .(18/235)
ص -112- ... ولو قال بعد ذلك: إنما قبضت منه مائة درهم وقال الغريم كان للميت علي ألف درهم وقد صح فيمنعه ذلك من أن يطالبه بشيء بعد ذلك ولأن بيان المقدار من الوصي للمستوفي غير مقبول في حق الغريم لأنه لا ولاية له عليه في أن يلزم ذمته شيئا وقد استفاد البراءة بإقراره مطلقا ولكن لا ضمان على الوصي أيضا لأن قول الغريم في بيان مقدار الدين غير مقبول في إلزام الضمان على الوصي فإن إقرار المرء إنما يصح فيما يلزم نفسه لا غيره وهو بهذا الإقرار لا يلزم نفسه وإنما يلزم الوصي فلا معتبر بإقراره ولكن القول في مقدار المقبوض قول الوصي معه فإن قامت البينة أن للميت على الغريم ألف درهم أو قامت البينة على إقرار الغريم بذلك قبل إشهاده بالقبض فالوصي ضامن لها لأنه قد أقر بقبض جميع ما للميت على فلان وقد ثبت بالبينة أنه كان للميت على فلان.(18/236)
يومئذ ألف درهم فانصرف إقراره بالقبض إلى جميعها فإن قال بعد ذلك قبضت مائة كان راجعا عن بعض ما أقر به وذلك غير صحيح منه فيصير ضامنا بجحوده ولأنه إن قبض المائة فقد تعذر بإقراره استيفاء ما بقي من الغريم وصار هو متلفا لذلك على اليتيم والوصي بالإتلاف يصير ضامنا والمنع من الاستيفاء كإتلاف المستوفى إيجاب الضمان ألا ترى أن شهود الإبراء إذا رجعوا ضمنوا لأنهم منعوه من الاستيفاء بشهادتهم فصاروا متلفين عليه والوكيل في القبض في هذا بمنزلة الوصي لأن الموكل أقامه مقام نفسه في القبض فإقراره بالقبض مطلقا كإقرار الموكل به فإذا قال الوصي قبضت جميع ما للميت علي فلان وهو مائة درهم فقال فلان كان على ألف درهم وقد قبضها الوصي فقال الوصي إنما قبضت مائة فإنه يؤخذ من الغريم تسعمائة لأن الألف عليه قد ثبت بإقراره والوصي ما أقر ألا بقبض مائة لأنه فسر مطلق إقراره موصولا بكلامه والكلام المطلق إذا اتصل به تفسير كان الحكم لذلك التفسير فكأنه قال قبضت مائة درهم منه بخلاف الأول فإن هناك لم يفسر إقراره المبهم بشيء فكان المعتبر ما نص عليه وهو متناول لجميع ما كان واجبا على الغريم.(18/237)
قال: ولا يصدق الوصي أن جميع ما عليه مائة وكذلك الوكيل في هذا بخلاف الطالب وأنه لو أقر أنه قبض جميع ماله على فلان فالمطلوب بريء من جميع الألف لأن إقرار الطالب بقبض جميع ماله على فلان وتفسيره ذلك بالمائة كلام صحيح معتبر فإنه إن كان الواجب ألفا يكون هو مبرئا عن الزيادة بهذا والإبراء من صاحب الحق صحيح بخلاف الوصي والوكيل فإن إبراءهما لا يكون صحيحا فلا يعتبر قولهما في إسقاط ما زاد على المائة إذا فسر إقرارهما بالمائة موصولا توضيح الفرق أن الطالب صار رادا لإقرار المقر فيما زاد على المائة بقوله أن جميع مالي عليه مائة ورد الإقرار منه صحيح فأما الوصي والوكيل فرد الإقرار منهما باطل وقد ثبت بإقرار الغريم وجوب جميع الألف عليه وهما أقرا بقبض المائة فبقي الغريم مطالبا بتسعمائة ولو أن الوصي باع خادما للورثة وأشهد أنه قد استوفى(18/238)
ص -113- ... جميع ثمنها وهي مائة درهم وقال المشتري بل كانت مائة وخمسين فلا شيء على المشتري لأن الوصي في الإقرار بالاستيفاء هنا بمنزلة صاحب الحق لأن وجوب الثمن بعقده وفيما يجب في العقد العاقد كالمالك ولهذا صح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو في الاستيفاء كالمالك بالاتفاق.
ولو كان المالك هو الذي باع وأقر بالاستيفاء بهذه الصفة كان المشتري بريئا عن جميع الثمن وكذلك الوصي ولكن لا يصدق المشتري على الوصي في إلزام الزيادة بل القول قول الوصي في مقدار الثمن لأن المشتري لا ولاية له على الوصي في إلزام ذمته شيئا والوصي في المقبوض أمين فالقول في مقداره قوله مع اليمين وهذا لأن المشتري بين الثمن بالإقرار بعد فراغ ذمته من الثمن وولاية بيان المقدار له حال اشتغال ذمته باليمين لا بعد الفراغ منه كالبائع وإذا أقر بقبض الثمن فقد استقل ببيان مقداره ولا يقبل قوله في حق الشفيع بخلاف ما قبل إقراره بالقبض والوكيل والمضارب في هذا بمنزلة الوصي.(18/239)
ولو أقر الوصي أنه استوفى من المشتري مائة درهم وهي جميع الثمن وقال المشتري بل الثمن مائة وخمسون فللوصي أن يطالبه بالخمسين لأنه أقر بقبض المائة فقط وقوله وهي جميع الثمن كلام لغو ولما ثبت بإقرار المشتري أن الثمن مائة وخمسون كان له أن يطالبه بالفضل بخلاف الأول فقد أقر هناك بقبض جميع الثمن أولا وذلك كلام معتبر منه فليس له أن يطالب المشتري بشيء بعد ذلك قال وكذلك لو باع صاحب المال مال نفسه وفي هذا بعض أشكال ففي قوله وهي جميع الثمن معنى الحط لما زاد على المائة فينبغي أن يكون له أن يطالبه بالفضل ولكن يقول الحط والإبراء تصرف في الواجب بالإسقاط وإن كان أصل الوجوب لا يكون تصرفا في الواجب كإنكار الزوج لأصل النكاح لا يكون تصرفا في النكاح بالطلاق وقد ثبت بإقرار المشتري أن الثمن مائة وخمسون وكان له أن يطالبه بالفضل ولو أقر الوصي أنه قد استوفى جميع ما للميت على فلان وهو مائة درهم فقامت البينة أنه كان له مائتا درهم فإن الغريم يؤخذ بالمائة الفاضلة ولا يصدق الوصي على إبطالها لأن وجوب المال هنا لم يكن بعقد الوصي فلا قول له إلا فيما يرجع إلى الاستيفاء .
وقد أقر بأن المستوفي مائة درهم موصولا بكلامه وقد ثبت بالبينة أن المال مائتا درهم وكان الغريم مطالبا بالباقي بخلاف ما سبق فإن وجوب المال هناك بعقد الوصي فكان قول الوصي قولا مطلقا فيما يرجع إلى براءة المشتري فإذا أقر بقبض الجميع أولا صح إقراره في براءة المشتري ولو أقر الوصي أنه قد استوفى جميع ما للميت عند فلان من وديعة أو مضاربة أو شركة أو بضاعة أو عارية ثم قال الوصي بعد ذلك إنما قبضت مائة درهم وقال المطلوب قبض الوصي ألف درهم وقامت البينة على ذلك فالوصي ضامن لذلك كله لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا قبض الوصي الألف ثم جحد قبض ما زاد على المائة كان ضامنا فكذلك إذا ثبت بالبينة وإن لم تقم البينة على هذا فالمطلوب غير مصدق على(18/240)
ص -114- ... الوصي بل القول قول الوصي في مقدار المقبوض لأنه أمين فيقبل قوله مع اليمين ولكن لا يرجع الوصي على المطلوب بشيء لأنه كان أمينا فيما في يده فيقبل قوله في دفعه إلى الوصي في براءة نفسه عن الضمان بخلاف ما تقدم من الدين فإنه ضامن لما في ذمته.
ألا ترى أنه لو لم يسبق الإقرار من الوصي بالاستيفاء لكان القول في الأمانات قول الأمين في الدفع وفي الديون في الإيفاء فكذلك بعد إقرار الوصي ولكن قول الأمين مقبول فيما هو عليه وذلك براءة نفسه عن الضمان لإيجاب الضمان على الوصي والوكيل بالقبض في هذا كالوصي وإذا أقر الوصي أنه قبض كل دين للميت على الناس فجاء غريم للميت وقال دفعت إليك كذا وقال الوصي ما قبضت منك شيئا وما علمت أن للميت عليك شيئا فالقول قول الوصي لأن إقراره بالقبض هنا باطل فإن الموصي لو أقر بهذا بنفسه كان باطلا منه لأن المقر له بالقبض مجهول وجهالة المقر له متى كانت فاحشة كانت تابعة صحة الإقرار.(18/241)
ولو قامت البينة على أصل هذا الدين لم يلزم الوصي منه شيء لأنه لم يقر بقبض شيء من رجل بعينه ومعناه ما بينا أن الإقرار بالقبض بمنزلة الإقرار بالدين للغريم فإن المقبوض يصير مضمونا على القابض للغريم ثم يصير قصاصا بماله عليه وإقراره بالدين للمجهول باطل فكذلك إقراره بالقبض من المجهول وكذلك لو قال قبضت كل دين لفلان بالكوفة فهو باطل لجهالة المقر له والوكيل في هذا بمنزلة الوصي وإذا أقر الوصي أنه قد استوفى ما على مكاتب فلان المائة وهو مائة درهم والمكاتب معروف يدعي ذلك ويقول قبضت مني ألف درهم وهي جميع مكاتبتي فالقول قول الوصي في المائة ويلزم المكاتب تسعمائة لأن وجوب هذا الدين لم يكن بعقد الوصي وقد فسر إقراره بالمائة بكلام موصول وإنما يصير مقرا بقبض المائة ويبقى المكاتب مطالبا بتسعمائة لأن دعواه الإيفاء غير مقبولة بغير حجة وإن أقر الوصي بقبض المكاتبة منه ولم يسم شيئا عتق المكاتب لأن حق الاستيفاء إلى الوصي فإقراره بالاستيفاء مطلقا يوجب براءة ذمة المكاتب كإقرار الوصي به فإن قامت البينة أن أصل المكاتبة ألف درهم أو إن المكاتب أقر بذلك قبل أن يشهد الوصي بالقبض فالوصي ضامن لجميع الألف لأن الإقرار بالقبض مطلقا ينصرف إلى جميع بدل الكتابة وقد ثبت بالبينة أن جميع بدل الكتابة ألف درهم فكأنه أقر بقبض ذلك مفسرا ولو أقر الوصي أن المكاتبة ألف درهم وقال قبض الميت منها تسعمائة في حياته وقبضت أنا مائة بعد موته وقال المكاتب بل قبض مني الألف كلها فالمكاتب حر لإقرار الوصي بقبض مبرئ في جميع بدل الكتابة فإن قامت البينة للمكاتب على إقرار الوصي أنه قد استوفى جميع ما كان على المكاتب والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فتكون الألف كلها على الوصي في ماله بعد أن يحلف الورثة ما يعلمون أن الميت قبض منها تسعمائة لأن الوصي يدعي عليهم ما لو أقر به لزمهم فيستحلفون عليه عند إنكارهم ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على(18/242)
العلم .(18/243)
ص -115- ... فإن قيل :كيف تصح هذه الدعوى من الوصي وقد قامت البينة على إقراره باستيفاء جميع ما على المكاتب قلنا لأن إقراره بهذا محتمل يجوز أن يكون هو المباشر للاستيفاء ويجوز أن يكون الميت مباشرا لاستيفاء بعضه فيضيف الوصي الاستيفاء لنفسه على معنى أن فعله متمم لاستيفاء بدل الكتابة وموجب عتق المكاتب فلا يمنعه ذلك من دعواه أن الميت قد استوفى البعض والوكيل في قبض بدل الكتابة في هذا كالوصي وعلى هذا لو أقر الوصي أنه استوفى ما كان على فلان من دين الميت فقال الغريم كان له علي ألف درهم فدفعتها إليك وقال الوصي كان له عليك ألف درهم ولكنك أعطيته خمسمائة ودفعت إلي خمسمائة بعد موته فعلى الوصي جميع الألف لإقراره بالاستيفاء ولكنه يحلف الردية على ما ادعى من قبض الميت نفسه والإشكال في هذا كالإشكال في الأول.
وقد ظن بعض مشايخنا رحمهم الله أن وضع المسألة في الفصلين فيما إذا انضاف فعل الاستيفاء إلى نفسه ولكنه أقر بفعل ما لم يسم فاعله فقال قد استوفى جميع ما على فلان وهذا غلط لأنه لا يلزم الوصي جميع المال لأنه ليس مقبول القول فيما يخبر به من الوصول إليه إذا لم يسبق منه بخلاف ما لو أقر الوصي أنه قد استوفى ما لفلان الميت على الناس من دين استوفاه من فلان بن فلان وقامت البينة أن للميت على رجل ألف درهم فقال الوصي ليست هذه مما قبضت فإنها تلزم الوصي وكل من قامت عليه بينة أن للميت عليه مالا فإنه يلزم الوصي ذلك لأنه أقر بالقبض من رجل بعينه وإقراره للمعلوم بالمجهول صحيح كما أقر به وقد أقر بقبض جميع ديون الميت من هذا الرجل وصحة القضاء من المتبرع كصحته ممن هو عليه .(18/244)
ولو أقر بقبض جميع ما للميت عليه كان ضامنا لكل ما يثبت للميت عليه بالبينة فكذلك هذا بخلاف ما سبق فإن إقراره بالقبض هنا من المجهول وذلك باطل وكذلك الوارث يكتب على الوارث البراءة من كل ميراث ويكتب إليه عجلت نصيبك من كل شيء تركه الميت على الناس فهو جائز عليه وإن لم يسمه لأنه أقر بالاستيفاء من معلوم وهو الوارث الذي عجل له ذلك والإقرار بالمجهول للمعلوم صحيح ولو أقر الوصي أنه قبض جميع ما في منزل فلان من متاعه وميراثه ثم قال بعد ذلك هو مائة درهم وخمسة أثواب وأقام الورثة البينة أنه كان في منزل فلان يوم مات ألف درهم ومائة ثوب لم يلزم الوصي أكثر مما أقر به لأنه أمين في المقبوض فالقول في بيانه قوله وليس من ضرورة كون الزيادة في منزله عند الموت قبض الوصي لذلك فما لم يشهد الشهود أن الوصي قبض ذلك لا يصير ضامنا وهذا بخلاف ما تقدم من الدين لأن إقراره بالقبض هنا مطلقا موجب براءة المشتري عن الكل فقول الوصي متلف لما زاد على القدر الذي بينه مفصولا وهنا إقراره بقبض جميع ما في المنزل مطلقا لا يوجب إتلاف شيء من الأعيان وقوله في بيان ما وصل إليه مقبول لما بينا فلا يكون هو ضامنا لما زاد على ذلك لأنه لم يتلفه ولم يشهد الشهود بوصوله إليه.(18/245)
ص -116- ... وكذلك لو أقر أنه قبض ما في ضيعة فلان من طعام وما في نخله هذا من ثمر وأنه قبض زرع هذه الأرض ثم قال هو كذا وادعى الوارث أكثر منه وأقام البينة أنه كان في هذه الضيعة كذا وكذا لم يلزم الوصي زيادة على ما أقر بقبضه لما بينا أن مطلق الإقرار لا يوجب إتلاف شيء ولا يلزم إلا ما يثبت قبضه فيه وإنما يثبت قبضه فيما أقر به فلا يلزمه الزيادة على ذلك إلا أن يشهد الشهود أنه قبضه والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بالبيع والعيب فيه
قال رحمه الله: وإذا أقر البائع أنه باع هذا العبد من هذا وبه هذا العيب وأن المشتري أبرأه منه فعليه البينة إذا جحد المشتري الإبراء لأن مطلق البيع يقتضي سلامة المعقود عليه ووجود العيب يثبت للمشتري حق الرد فالبائع يدعي عليه إسقاط حقه بعد ما ظهر سببه فلا يقبل قوله إلا بحجة لأن العيب فوات وصف من المعقود عليه والوصف يستحق باستحقاق الأصل فصار ذلك الجزء حقا للمشتري باستحقاقه أصل المبيع والبائع يدعي بطلان استحقاقه بعد ظهور سببه وإن لم يكن له بينة استحلف المشتري بالله ما أبرأه ولا رضي به ولا خرج من ملكه.
ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول: إنما يستحلف بهذه الصفة إذا ادعى البائع كله فأما إذا ادعى البائع الإبراء استحلفه عليه لأن اليمين حق البائع فإنما تتوجه بقدر طلبه والأصح أن القاضي يستحلفه على ذلك كله صيانة لقضاء نفسه ولأن البائع يدعي سقوط حقه في الرد وهذه الأسباب مسقطة لحقه في الرد فصار كأنه ادعى جميع ذلك فلهذا يستحلفه مفسرا بهذه الصفة .(18/246)
وإن ادعى المشتري أنه اشتراه وبه هذا العيب وهو عيب يحدث مثله وجحد البائع ذلك وأقر أنه باعه وبه عيب لم يسمه لم يلزمه بهذا الإقرار شيء لأن المشتري بدعواه معينا يصير مبرئا له عما سواه والبائع ما أقر بذلك العيب بعينه وإنما أقر بعيب منكر والمنكر غير المعين فإذا لم يكن إقراره ملزما بقي دعوى المشتري الرد بعيب يحدث مثله والبائع منكر لذلك والقول قوله مع يمينه ولو كان البائع اثنين فأقر أحدهما بعيب وجحد الآخر كان للمشتري أن يرده على المقر دون الآخر لأن كل واحد منهما بائع لنصفه وإقرار المقر حجة عليه دون شريكه فإن كان البائع واحدا وله شريك مفاوض فجحد البائع العيب وأقر به شريكه كان للمشتري أن يرده لأن إقرار أحد المتفاوضين فيما يرجع إلى التجارة ملزم شريكه فكان للمشتري أن يرده وفي الحكم كإقرارهما وإن كان الشريك شريك عيان لم يكن للمشتري أن يرده بإقراره لأن الرد بالعيب من حقوق العقد فهو كأجنبي آخر
ألا ترى أن للمشتري أن يخاصم الشريك في هذا العيب بخلاف المفاوض إذا باع خادما من المضاربة فأقر رب المال فيها بعيب لم يكن للمشتري أن يرده على المضارب بذلك لأن حقوق العقد تتعلق بالمضارب ورب المال في ذلك كسائر الأجانب ألا ترى أنه(18/247)
ص -117- ... لو نهاه المضارب عن البيع لم يعمل بنهيه ولو أراد أن يفسخ عليه عقدا لم يملكه فكذلك إقراره بما يثبت حق الفسخ للمشتري وكذلك لو كان رب المال هو الذي باع فأقر المضارب بالعيب لأنه أجنبي من حقوق العقد الذي باشره رب المال وكذلك الوكيل بالبيع إذا باع وسلم ثم أقر الآمر بعيب وجحده الوكيل لم يلزم الوكيل ولا الآمر من ذلك شيء لأن الخصومة في العيب من حقوق العقد والوكيل فيه منزل منزلة العاقد لنفسه فكان الآمر أجنبيا من حقوق العقد فلهذا لا يثبت للمشتري حق الرد بإقراره ولو أقر الوكيل بالعيب وجحده الآمر كان للمشتري أن يرده على الوكيل لأنه في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه فإقراره بثبوت حق الفسخ للمشتري صحيح ولكن في حقه دون الآمر لأن الوكالة قد انتهت بالتسليم فلا يكون قول الوكيل بعد ذلك ملزما للآمر وإن كان العيب يحدث مثله فإن أقام الوكيل البينة على أنه كان عند الآمر رده عليه لثبوت العيب بالحجة في يده وإن لم يكن له بينة استحلف الآمر على دعواه فإن نكل رده عليه وإن حلف فهو لازم للوكيل وفي شريكي العنان لو أقر البائع منهما بالعيب وجحد شريكه رده عليه ولزمهما جميعا لأن الوكالة التي بينهما ما انتهت لتسليم المبيع ولكنها قائمة بقيام عقد الشركة وكان تصرف البائع منهما نافذا في حق شريكه.(18/248)
ألا ترى أنه لو أقال المشتري أو اشتراه منه إبتداء يلزم شريكه فكذلك إذا رده عليه بإقراره بخلاف الوكيل على ما سبق وكذلك المضارب إذا أقر بالعيب لزمه ولزم رب المال لأن النيابة في التصرف باقية ببقاء المضاربة ولو أقاله العبد أو اشتراه لزم رب المال فكذلك إذا رده وإن كانا شريكين في سلعة خاصة فالبائع منهما بأمر صاحبه وكيل في بيع نصيبه وقد انتهت وكالته بالتسليم فإقراره بعد ذلك يلزمه دون شريكه فلو باعها من آخر فطعن فيها المشتري الآخر بعيب وأقر به البائع الثاني فإن قبلها بغير قضاء القاضي لم يكن له أن يردها على البائع الأول سواء كان عيبا يحدث مثله أو لا يحدث مثله وهو الصحيح المشهور في عامة الروايات لأن القبول بغير قضاء القاضي بمنزلة الإقالة وهو فسخ بين المتعاقدين وبيع جديد في حق غيرهما فصار في حق البائع الأول كان البائع الثاني اشتراه ابتداء .
وفي كتاب البيوع أشار إلى الفرق بين العيب الذي يحدث مثله أو لا يحدث فقال في العيب الذي لا يحدث مثله سواء قبله بقضاء أو بغير قضاء رده على بائعه لتيقنه بوجود العيب عند البائع الأول ولأنه فعل بدون القاضي غير ما يأمر به القاضي لو رفع الأمر إليه ولم يشتغل بالخصومة لأنه لم ير فيها فائدة .
والأصح هو الأول وإن قبلها بقضاء فإن كان العيب لا يحدث مثله فله أن يردها على بائعها سواء رد عليه بإقراره أو بنكوله أو ببينة قامت لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من الأصل وقد تيقنا بوجود العيب عند البائع الأول فيردها عليه وإن كان عيبا يحدث مثله فله أن يخاصم بائعه ويثبت بالحجة وجود العيب عنده ليردها عليه إن كان رد عليه بإقراره وكذلك إن رد عليه بنكوله لأن النكول لا يكون أقوى من(18/249)
ص -118- ... الإقرار وهذا إذا لم يكن منه جحود للعيب نصا فإن كان قال بعتها وليس هذا العيب بها فاستحلفه فأبى أن يحلف فردها عليه فأراد خصومة البائع الأول فيها واحتج البائع الأول عليه بقوله لم يكن هذا العيب بها فإنه لا يستطيع ردها على البائع الأول لأن من ضرورة جحوده كون العيب عند الإقرار بأنه لم يكن عند البائع الأول وإقراره حجة عليه للبائع الأول وهذا الجحود مطلق له اليمين فإذا امتنع من ذلك صار كالباذل لفسخ المشتري منه فلا يكون له أن يخاصم بائعه كما لو قبله بغير قضاء قاض.
وإذا باع دارا ثم أقر أنه باعها وفيها هذا العيب لصدع في حائط يخاف منه أو كسر في جذع أو في باب رده عليه بذلك لأن هذا العيب يمكن بقضاء باقي المالية وقد يقلل رغائب الناس فيه وقد ثبت كونه عنده بإقراره وكذلك لو باع أرضا فيها نخيل فأقر بعيب ببعض الثمر في نخلة أو شجرة والحاصل أن المبيع كله في حكم شيء واحد فوجود العيب في جزء منه كوجوده في جميعه وكذلك الثياب والعروض والحيوان يقر البائع فيه بعيب ينقص الثمن لأن ما ينقص الثمن يعده التجار عيبا ويقلل رغائبهم في السلعة فيثبت حق الرد به .(18/250)
ولو قال: بعتك هذا الثوب وبه حرق فجاء المشتري بحرق آخر فقال بعتنيه وهذا به وقال البائع ليس هذا الذي أقررت لك به وهذا حدث عندك ولم يكن بالثوب حرق غيره لم يصدق البائع على ما قال لأن الظاهر يكذبه لأن الحرق الموجود في الثوب لا ينعدم بحيث لا يبقى له أثر لأنه إما أن يخاط أو يرفأ وأثرهما يكون ظاهرا فإن لم ير في الثوب حرق ظاهر أو لا أثر لحرق سوى ما عينه المشتري عرفنا أن ما أقر به البائع هو الذي عينه المشتري فله أن يرده بذلك ولو قال كان هذا الحرق صغيرا وزاد فيه فالقول قول البائع لأنه أقر بأصل الحرق لا بمقداره فالقدر الذي ادعى المشتري لم يسبق من البائع إقرار به فكان القول فيه قول البائع لإنكاره والحرق في ذلك قياس الخرق ولو كان فيه حرق غير ذلك فقال بعتك هذا الثوب وهذا به ولم يكن الآخر به فالقول قوله مع يمينه لأن بيانه مطابق لمطلق كلامه فإنه أقر بالحرق في الثوب والذي عينه سوى ما أراد المشتري الرد به فخرج به عن عهدة إقراره يبقى دعوى المشتري للحرق الثاني والبائع منكر له فالقول قوله مع يمينه .
ولو قال: بعته هذا العبد وبه قرحة ثم جاء المشتري يريد رده فقال البائع قد بريء العبد من تلك القرحة وهذه غيرها فالقول قوله لأن القرحة تزول بحيث لا يبقى لها أثر بعد البرء فلم يكن من ضرورته إقرار البائع كون هذه القرحة التي عينها المشتري موجودة عنده وكذلك إن سمى البائع نوعا من العيوب صدق أنه قد ذهب وهذا غيره إن كان ذلك مما ببرأ ويذهب ولو أقر أنه باعه أقطع اليد فجاء به المشتري وهو أقطع اليدين لم يكن له أن يرده ولكن يرجع بنقصان العيب في يد واحدة لأن إقرار البائع لم يتناول إلا قطع يد واحدة فقطع اليد الثانية عيب حادث عند المشتري فيمنعه من الرد ويرجع بنقصان العيب بعد ما يحلف البائع بالله ما باعه وهو كذلك وإن كان للعبد أصبع زائدة فللمشتري أن يرده به إن أقر البائع أو(18/251)
ص -119- ... أنكر لأن هذا لا يحدث مثله عادة فقد تيقنا بوجودها عند البائع فيرده المشتري إلا أن يثبت البائع سببا مانعا من الرد وقد تستوي هذه المواضع في الخصومة في العيب بين حضرة العبد وغيبته إذا كان البائع مقرا بوجود العيب به في الحال ألا ترى أن الخصومة في موت العبد مسموعة .
وإذا أقر الرجل أنه باع عبده هذا من فلان وقبض الثمن منه ولم يسمه فهو جائز لأن حكم البيع في الثمن ينتهي بقبضه فترك التسمية فيه لا يمنع صحة الإقرار لأن التسمية إنما يحتاج إليها فيما تتوجه المطالبة به ويحتاج إلى قبضه وذلك معدوم في الثمن المقبوض ولو سمى وأقر أنه قبضه كان هذا أجوز من الأول لأنه أقرب إلى قطع المنازعة والخصومة فقد تقع الحاجة إلى معرفة مقدار الثمن عند استحقاق المبيع أورده بالعيب فإذا كان مسمى لا تمكن فيه المنازعة ولو سمى ثمنا وقال لم أقبضه وقال المشتري قد قبضه فالقول قول البائع مع يمينه والبينة على المشتري لأن الثمن دين لازم للبائع في ذمة المشتري فإذا ادعى بقاءه كان عليه إثباته بالبينة فإن لم يجدها فالقول قول البائع مع يمينه لإنكاره فإن إقراره بالبيع لا يتضمن الإقرار بقبض الثمن كما أن إقرار المشتري بالشراء لا يتضمن الإقرار بقبض السلعة وليس له أن يأخذ العبد حتى ينقد الثمن لأن مطلق البيع عن حال يثبت حق الحبس للبائع ما دام المبيع في يده فإن كان المشتري قد قبضه فعليه أن ينقد الثمن وليس للبائع أن يسترد العبد لأن ثبوت حقه في الحبس سقط بتسليمه إلى المشتري وقد سلمه وهذا لأن مطلق فعل المشتري محمول على ما يحل شرعا ما لم يظهر خلافه الذي لا يحل شرعا كالقبض بغير إذن البائع ولأن خروج المبيع من يد البائع مبطل حقه في الحبس إلا أن يثبت أنه كان يعتبر رضاه.(18/252)
ولو أقر أنه باعه مني أو قبضه مني ثم استحق العبد أورده المشتري بعيب كان القول قول البائع في الثمن لأنه دين للمشتري في ذمة البائع فالقول في بيان مقداره قول المديون ولا يصدق صاحب الدين على دعوى الزيادة إلا بحجة.
ولو أقر أنه باعه منه بألف درهم فقال المشتري اشتريته بخمسمائة وقد خرج نصف العبد من ملك المشتري فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله القول قول المشتري في الثمن وهذا بخلاف ما قال في البيوع إذا تعيب المبيع في يد المشتري ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا إلا أن يشاء البائع أن يسترد العبد ولا يأخذ للعيب شيئا لأن هناك لم يسلم للمشتري شيء فيصح رضا البائع بسقوط حقه في حصة العيب فيتحالفان عند ذلك وهنا ما أخرجه المشتري من ملكه بعوض أو بغير عوض سالم له فلا يجوز أن يسلم له ذلك مجانا فلهذا كان القول في الثمن قول المشتري سواء رضي البائع باسترداد ما بقي أو لم يرض وعلى قول أبي يوسف رحمه الله القول في الثمن قول المشتري مع يمينه إلا أن يرضى البائع أن يأخذ ما بقي منه ويتبع المشتري بحصة ما خرج من ملكه على قول المشتري فحينئذ يجرى(18/253)
ص -120- ... التحالف لأن من أصل أبي يوسف رحمه الله أن تعذر جريان التحالف في بعض المعقود عليه لا يمنع التحالف فيما بقي كما في العبدين إذا هلك أحدهما ثم اختلفا في الثمن يتحالفان في القائم إلا أن هناك هلاك أحدهما لا يوجب عيبا في الآخر فلم يشترط فيه رضا البائع وهنا خروج بعض العين عن ملكه يوجب العيب فيما بقي فلهذا شرط رضا البائع بالفسخ فيما بقي منه لجريان التحالف بينهما وكذلك في العبدين قال أبو حنيفة رحمه الله إذا رضي بأن لا يأخذ من ثمن الهالك شيئا تحالفا في القائم لأن هناك لم يسلم للمشتري شيء فرضاه بذلك مسقط لحقه في تضمين الهالك للمشتري بمنزلة ما لو قبضه بإذنه بغير عقد فأما على قول محمد رحمه الله فيحالفان ويترادان قيمة العبد إلا أن يشاء البائع أن يأخذ ما بقي من العبد وقيمة ما استهلك المشتري لأن خروج جميع العبد من ملكه لا يمنع جريان التحالف عند محمد رحمه الله فكذلك خروج بعضه وما بقي يتعيب لخروج البعض عن ملكه فثبت للبائع الخيار وإن شاء رضي بعيبه فاسترده مع قيمة ما استهلك منه المشتري وإن شاء لم يرض واسترد جميع قيمة العبد منه .(18/254)
وإذا أقر أنه باع هذا العبد من فلان بألف درهم فقال ما اشتريته منك بشيء ثم قال بلى قد ابتعته منك بألف درهم وقال البائع ما بعتكه فالقول قول المشتري وله أن يأخذه بالثمن لأن البيع لم يبطل بمجرد إنكاره الشراء ألا ترى أن البائع لو أقام البينة فقضى القاضي بالشراء فإنما وجد التصديق من المشتري في حال قيام البيع بينهما ولا معتبر بجحود البائع بعد ذلك والدليل عليه أن بعد جحود المشتري لو استحلفه البائع فأبى أن يحلف ثبت البيع بينهما حتى يقضي به القاضي فإذا أقر به المشتري أولى أن يثبت البيع ولو كان حين جحد المشتري الشراء قال البائع صدقت لم تشتره ثم قال المشتري بعد ذلك قد اشتريته لم يلزمه البيع ولم يقبل منه بينة على ذلك لأن البائع حين صدقه في إنكار الشراء انتقض البيع بينهما بتصادقهما فإنهما يملكان فسخ العقد فتجاحدهما له يكون فسخا .
ألا ترى أن البائع لا يتمكن من إثبات البيع بالبينة بعد ذلك ولا يكون له أن يحلف المشتري فكذلك لم تصح دعوى المشتري البيع بعد ذلك ولم يقبل منه بينة على ذلك للتناقض في كلامه إلا أن يصدقه البائع على ما يدعي من الشراء بعد ذلك فحينئذ تصادقهما على الشراء بمنزلة البيع المستقبل كما كان تجاحدهما بمنزلة الفسخ إذا التجاحد لم يكن فسخا في الحقيقة وإنما جعل ذلك بمنزلة الفسخ في الحقيقة فإذا تصادقا على أن البيع كان منعقدا بينهما حقيقة ظهر البيع بهذا التصادق ولو أنه باع هذا العبد من فلان ولم يسم ثمنا فقال فلان اشتريته منك بخمسمائة وجحد البائع أن يكون باعه بشيء فالقول قول البائع مع يمينه لأن إقرار البائع بالبيع من غير تسمية الثمن ليس بشيء كإيجابه البيع من غير تسمية الثمن وهذا لأن الإقرار ما يمكن العمل به والالتزام بحكمه ولا يمكننا أن نلزمه بيعا بثمن مسمى(18/255)
ص -121- ... بهذا الإقرار لأنه لا يقر بذلك ولا يكون البيع إلا بثمن مسمى فلهذا كان إقراره باطلا بقي دعوى المشتري بالبيع بخمسمائة والبائع منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه.
وكذلك لو أقر المشتري بالشراء من غير تسمية الثمن وادعى البائع بيعه منه بثمن مسمى فهذا والأول سواء وإقرار المشتري غير ملزم إياه شيئا لما بينا وهذا بخلاف ما سبق من الإقرار بالبيع والقبض فإنه صحيح بدون تسمية الثمن لأن العمل بموجب ذلك الإقرار ممكن فإن موجبه إلزام تسليم المبيع لانتهاء حكم العقد في الثمن بالقبض فلهذا كان الإقرار صحيحا ولو أقر أنه باعه من فلان ثم قال لا بل من فلان فهذا كله باطل لتعذر إلزام شيء بحكمه ويحلف لكل واحد منهما ادعى شراء بثمن مسمى بمنزلة ما لو لم يسبق ذلك الإقرار من البائع ولو ادعى أنه اشترى هذا من هذا الرجل فجحده البائع فادعى المدعي أن العبد كان له في الأصل وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته لأن دعواه الشراء منه إقرار بأن أصل الملك كان له فإن الإستيام في إحدى الروايتين إقرار بالملك للبائع فالشراء أولى وعلى الروايتين جميعا هو أقر بأنه لا حق له فيه فكان في دعواه الملك ثمن الأصل بعد هذا مناقضا والمناقض لا قول له ولا تقبل بينته .(18/256)
ولو أقر أنه باع عبده من فلان ولم يسم العبد ثم جحد فهذا الإقرار باطل لتعذر الإلزام بحكمه فإن الإقرار بالبيع في عبد يعبر عنه كإيجاب البيع في عبد يعبر عنه وكذلك إن أقر أنه باع عبده من فلان غير أن الشهود لا يعرفونه بعينه ومراده من هذا أنهم شهدوا على إقراره ببيع عبد وقالوا لا نعرفه بعينه لو أشهدهم على إقراره بذلك وهم لا يعرفون العبد بعينه فهذا كله باطل لتعذر الإلزام بحكمه وهو على هذا لو كان الإقرار في دار أو ثوب أو دابة فإن حدد الأرض والدار وسمى الثمن فهو جائز لأن التحديد فيما يتعذر إحضاره بمنزلة الإشارة إلى العين فيما يتيسر إحضاره بدليل سماع الدعوى والشهادة باعتباره وكان هذا إقرارا ملزما فإن جحد البائع بعد ذلك فشهد الشهود بإقراره ولا يعرف الشهود الحدود قبلت هذه الشهادة بعد أن يقيم البينة على معرفة الحدود لأن عند قيام البينة على ذلك كان إقراره ملزما فكان العمل بها متمكنا فالبينة عليه تكون مسموعة.
وكذلك لو كان المشتري أقر بالشراء ثم جحد وادعى البائع ذلك فهذا والأول سواء لما بينا ويجوز إقرار شريك العنان على شريكه في بيع شيء بينه وبين شريكه وفي شراء شيء قائم بعينه في يد البائع لأنه أقر بملك أنشأه فإن كل واحد منهما يملك إنشاء البيع والشراء في حق شريكه ما دامت الشركة بينهما قائمة فتنتفي التهمة عن إقراره بذلك فلهذا صح إقراره وله على شريكه ثمن حصته وكما لو أنشأ الشراء أو ما أقر به من شراء شيء مستهلك يكون دينا يلزمه دون شريكه إلا أن يقر به شريكه فإن أقر به فالثابت بتصادقهما كالثابت بالمعاينة وإن جحدا وكل واحد منهما في حق صاحبه وكيل بالشراء والوكيل لا يقبل إقراره بالشراء إذا كان المبيع مستهلكا في إلزام الثمن في ذمة الموكل فكذلك الشريك لا يقبل إقراره(18/257)
ص -122- ... في إلزام الدين في ذمة شريكه لأنه بعقد الشركة يتسلط على التصرف في المال المشترك ولا يتسلط على ذمة شريكه في إلزام الدين فيها وهذا الإقرار يوجب الدين في ذمة شريكه من غير ملك يظهر له بمقابلته في العين فلا يقبل قوله فيه بخلاف ما إذا كان المبيع قائما بعينه وأما المضارب فإذا أقر بالمضاربة ببيع أو بشراء فهو مصدق في ذلك فيها أو في الدين اعتبارا للإقرار بالإنشاء .
ولو أنشأ الشراء صح منه وكان الثمن دينا على رب المال حتى إذا هلك مال المضاربة في يده قبل أن ينفذه رجع عليه فكذلك إقراره بالشراء يكون صحيحا مطلقا لانتفاء التهمة ولو وكل رجل رجلا ببيع عبد له وأقر الوكيل أنه قد باعه من فلان بألف درهم وصدقه وجحد الوكيل فالعبد لفلان بألف درهم لأن ملك الأمر باق بعد الوكالة وهو مالك لإنشاء البيع فيه فيصح إقراره بذلك سواء أضافه إلى نفسه أو إلى وكيله غير أن الآمر مع المشتري لا يصدقان في إلزام العهدة على الوكيل ومتى تعذر إيجاب العهدة عليه يتعلق بأقرب الناس إليه وهو الموكل كما لو كان الوكيل بالبيع صبيا محجورا ولو أمر رجل رجلا بشراء عبد بعينه له فأقر الوكيل أنه اشتراه بألف درهم وصدقه البائع وجحده الآمر فالقول قول الوكيل لأنه أقر بما يملك إنشاءه .
ولو أقر بشراء عبد بغير عينه وسمى جنسه وصفته وثمنه فأقر الوكيل أنه قد اشترى هذا العبد للآمر بالثمن الذي سماه له وجحد الآمر فإن كان الثمن مدفوعا إلى الوكيل فالقول قوله لأنه أمين فيما دفع إليه من الثمن وقد أخبر بأداء الأمانة فيه ومباشرة ما كان مسلطا على مباشرته فيكون مصدقا فيه وإن لم يكن الثمن مدفوعا إليه لم يصدق في قول أبي حنيفة رحمه الله.(18/258)
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان العبد قائما بعينه وكان مثله يشتري بذلك الثمن فالقول قول الوكيل وكلامهما ظاهر لأن الوكيل أقر بما به يملك إنشاءه فيقبل إقراره فيه كما لو كان العبد معيبا ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول تتمكن التهمة في إقراره هذا من وجهين أحدهما أنه ربما اشترى هذا العبد لنفسه فظهر أنه مغبون فيه فأراد أن يلزمه الآمر وهذا لا يوجد في العبد المعين لأنه لا يملك شراءه لنفسه بالثمن المسمى له والثاني أنه ربما كان هذا العبد في الأصل مملوكا له وهو يريد أن يلزمه الآمر بهذا الإقرار ولو باشر شراءه من نفسه للآمر لم يصح فتتمكن التهمة في إخراج كلامه مخرج الإقرار فلهذا لم يصح إقراره وإنما تعتبر هذه التهمة إذا قصد إلزام الثمن ذمته لأنه لا ولاية له على ذمته في إلزامه مطلقا بخلاف ما إذا كان الثمن مدفوعا إليه لأنه لا يلزم ذمة الآمر شيئا بل يجبر بأداء الأمانة فيما يجهل إضافته وإذا كان الآمر قد مات ثم أقر الوكيل بشراء هذا العبد فإن كان الثمن في يده بعينه أو في يد البائع أو كان الآمر لم يدفع الثمن إليه لم يصدق الوكيل على الآمر أما إذا لم يكن الثمن مدفوعا إليه فظاهر وكذلك إن كان الثمن مدفوعا إليه لأن(18/259)
ص -123- ... الوكالة قد بطلت بموت الآمر وصار ما في يده من الثمن ملكا للورثة فهو بهذا الإقرار يريد إبطال ملكهم في الثمن فلا يقبل قوله في ذلك بخلاف حال حياة الآمر لأن الوكالة قائمة وهو يملك إخراج الثمن من ملكه بإنشاء الشراء فكذلك الإقرار وإذا لم يقبل إقراره هنا يكون مشتريا لنفسه ويلزمه الثمن إلا أن يحلف الورثة على عملهم لأنهم لو أقروا بما ادعاه لزمهم والاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم وإن كان قد استهلك البائع الثمن فالقول قول الوكيل ويلزم البيع الميت لأنه بهذا الإقرار لا يخرج شيئا من ملك الورثة ولكنه ينكر وجوب الضمان عليه فما كان أمينا فيه فالقول قوله في ذلك وهذا مستحسن قد بيناه فيما أمليناه من شرح الجامع.
وإذا دفع رجل إلى رجل عبدا وأمره ببيعه ثم مات الآمر فأقر الوكيل أنه باعه بألف درهم وقبضه فإن كان العبد قائما لم يصدق الوكيل لأن الوكالة بطلت بموت الآمر والعبد صار مملوكا للوارث فإقراره بما يبطل فيه ملك الوارث باطل وإن كان مستهلكا صدق لأنه لا يبطل إقراره ملكا للوارث وإنما ينكر وجوب الضمان عليه فيما كان أمينا فيه ولو كان العبد لرجل أجنبي وقد استهلك المشتري العبد فقال رب العبد للبائع أنا أمرتك بالبيع فلي الثمن وقال الوكيل لم تأمرني فالقول قول رب العبد وله الثمن لأن الثمن يملك بملك الأصل والأصل كان مملوكا لرب العبد فالثمن يكون له والوكيل بجحوده الآمر مناقض من وجه لأن إقدامه على البيع كالإقرار منه بصحته وصحته بإذن صاحب العبد ومن وجه آخر هو لا يدعي لنفسه شيئا بهذا الجحود لأنه إن لم يكن مأذونا فلرب العبد أن يضمن المشتري القيمة ويرجع المشتري بالثمن على البائع فيأخذ رب العبد منه هذا الثمن بحساب القيمة فإن لم يكن الوكيل مدعيا لنفسه شيئا لم يقبل قوله.(18/260)
وكذلك إن كان العبد قائما وهذا أظهر لأن رب العبد يملك إجازة البيع فيه فلا تتمكن التهمة في إقراره بالإذن ولو لم يأمره بذلك ولكنه أجاز البيع فإن كان العبد قائما بعينه جاز وإن كان مستهلكا لم يجز لأن الإجازة في نفوذ العقد وثبوت حكمه بمنزلة الإنشاء فإنما تصح الإجازة في محل يصح إنشاء البيع فيه وإن كان لا يعرف أنه حي أو مستهلك فالبيع جائز حتى يعرف أنه ميت لأنه عرف حياته وما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه ويجب التمسك به حتى يعلم خلافه وإن كان قطع يده ثم أجاز البيع فالأرش للمشتري لأنه بمنزلة الزيادة المنفصلة والمشتري عند الإجازة يستحق المبيع بالزيادة المنفصلة وهذا لأن البيع الموقوف سبب ملك تام فإنما يوجد قطع اليد وللمشتري فيه سبب ملك تام فإذا تم له الملك بذلك السبب ملك الأرش وإن لم يجز البيع فالأرش لرب العبد لأن اليد المقطوعة على ملكه المتقرر فبدله يكون له.
وإن أقر رب العبد أنه أجاز البيع بعد ما وقع البيع بيوم وقال المشتري لم يجز والعبد قائم فالقول قول رب العبد لأنه يملك إنشاء الإجازة في الحال ولا يمين عليه لأنه غير(18/261)
ص -124- ... متهم في إخراج الكلام مخرج الإقرار ولو كان العبد ميتا فالقول قول المشتري لأن رب العبد لا يملك الإجازة في الحال فلا يقبل قوله في الإقرار به وعلى المشتري اليمين على علمه لأنه لو أقر رب العبد بما ادعاه لزمه فإذا كان العبد قبله رجل فوجب عليه قيمته فهو بمنزلة الميت لأن ابتداء الإجازة فيه لا يصح كما لا يصح إنشاء العقد فهو والميت في حكم الإجازة سواء والله أعلم.
باب الإقرار بالنكاح والطلاق
قال رحمه الله: رجل أقر أنه تزوج فلانة بألف درهم في صحة أو مرض ثم جحده وصدقته في حياته أو بعد موته فهو جائز لأن النكاح ظهر في حقه بإقراره ثم لا يبطل بجحوده رجوعه فالرجوع عن الإقرار باطل فإذا اتصل به تصديق المقر له استند التصديق إلى وقت الإقرار وكان كالموجود يومئذ فيثبت النكاح ولها الميراث والمهر إلا أن يكون فيه فضل على مهر مثلها فيبطل الفضل إذا كان في المرض لأنها وارثة وهو متهم في الإقرار للوارث وما زاد على مهر المثل لو ثبت إنما يثبت بإقراره فأما مقدار مهر المثل فيثبت حكمه لصحة النكاح فلا تتمكن التهمة في إقراره به.(18/262)
ولو أقرت المرأة في صحة أو مرض أنها تزوجت فلانا بكذا ثم جحدته فإن صدقها الزوج في حياتها يثبت النكاح لما بينا أن جحودها بعد الإقرار باطل وإن صدقها بعد موتها لم يثبت النكاح في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا ميراث للزوج منها وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت النكاح اعتبارا لجانبها بجانبه بعلة أن النكاح ينتهي بالموت فإنه يعقد للعمر فمضى المدة ينهيه ولهذا يستحق المهر والميراث وإن لم يوجد الدخول والمنتهى متقرر في نفسه فيصح التصديق في حال تقرر المقرر به كما يصح قبل تقرره وأبو حنيفة رحمه الله فرق بينهما وأشار إلى الفرق في الكتاب فقال لأن الفراش له عليها لا لها وتقرير هذا من أوجه أحدها أن العدة تبقى بعد موته عليها والعدة من حقوق النكاح عليها فبقاؤها كبقاء النكاح في صحة التصديق وبعد موتها لا عدة في جانب الزوج فقد فات المقر به لا إلى أثر فلا يعمل التصديق بعد ذلك.
والثاني: أن الزوج مالك لحكم النكاح والمرأة محل الملك وبعد فوات المحل لا يتصور بقاء الملك حكما فيبقى الملك ببقاء المحل فيعمل بتصديقها ولهذا حل لها أن تغسله بعد موته ولم يكن له أن يغسلها بعد موتها والثالث إن الفراش لما كان له عليها فالزوج في التصديق بعد موتها مدع لنفسه لا أن يكون مقرا لها بشيء لأن حقها كان في ملك الحل وقد انقطع بموتها بالكلية فأما بعد موت الزوج فالتصديق من المرأة إقرار له على نفسها بالفراش فيصح التصديق بهذا الطريق ثم يبتني عليه حكم الميراث والمهر.
وكذلك لو لم تكن المرأة جحدت بعد إقرارها حتى ماتت فهو على هذا الخلاف كما بينا وإن أقرت المرأة أنها تزوجت هذا الرجل وهي أمة وقد كانت أمة ثم عتقت وقال(18/263)
ص -125- ... الزوج قد تزوجتها بعد العتق أو قبله فهو سواء والنكاح جائز لأنهما تصادقا على نفوذ النكاح إن كان بعد العتق فظاهر وإن كان قبل العتق فقد كان يوقف على سقوط حق المولى أو سقط حقه بالعتق ثم الأصل بعد هذا فيما ذكر من المسائل أن أحد الزوجين متى أضاف الإقرار بالنكاح إلى حال ينافي أصل العقد لانعدام الأهلية يكون القول قوله إلا أن يثبت الآخر ما يدعيه بالبينة وذلك مثل أن يقول تزوجتك قبل أن أخلق أو قبل أن أولد أو قال تزوجتك وأنا صبي فإن الصبا يمنع الأهلية للعقد بدون أذن الولي أو يقول تزوجتك وأنا نائم فإن النوم حال معهودة في الإنسان تنافي أصل العقد وإن قال تزوجتك وأنا مجنون فإن علم جنونه قبل ذلك فالقول قوله لأنه أضاف العقد إلى حال معهودة تنافي أهلية العقد فكان منكرا معنى وإن كان لا يعرف جنونه فالنكاح لازم له لأنه أضافه إلى حال غير معهودة فيه ولا تثبت هذه الحال بخبره فأما إذا أحدهما النكاح إلى حال لا تنافي أصل النكاح كانعدام الأهلية ولكن يمنع ثبوت الحل وانعقاد العقد لانعدام شرطه لا يصدق في الإضافة ويجعل القول قول صاحبه لأن شرط الشيء تابع له فإقراره بأصل العقد إقرار بشرائطه فهو بعد ذلك في هذه الإضافة راجع عن الإقرار بباطل وبيانه أنه لو ادعى أحدهما أن النكاح كان بغير شهود أو في حال ادعى تمجس المرأة قبل أن تسلم أو في عدة الغير أو تزوجها وأختها تحته أو تزوجها وتحته أربع نسوة فإنه لا يصدق في هذه الإضافة لأن امتناع ثبوت النكاح في هذه الأحوال لمعنى في المحل والمحل في حكم المشروط وإقراره بالعقد إقرار بشرطه إلا أن المرأة إن كانت هي التي ادعت هذه الموانع فالنكاح جائز لازم لها وإن كان الزوج هو الذي ادعى ذلك يفرق بينهما لأنه أقر بحرمتها عليه وذلك بمنزلة تطليقه إياها وإن كان قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وإن كان بعد الدخول بها فلها جميع المسمى ونفقة العدة.(18/264)
وكذلك لو أقر أنه كان طلقها ثلاثا ثم تزوجها قبل أن تنكح زوجا غيره وقالت هي ما طلقتني أو تزوجت غيرك ودخل بي فإنه يفرق بينهما لإقراره بذلك وعليه نصف المهر لها قبل الدخول وجميع المهر ونفقة العلة الدخول لما بينا.
ولو أقر أنه تزوجها أمس وقال إن شاء الله موصولا وقالت هي ما استثنى لم يلزمه النكاح وكذلك لو أقرت هي بالنكاح وادعت الإستثناء وادعى هو النكاح لأن الإستثناء إذا اتصل بالكلام فهو بمنزلة الشرط مانع كون الكلام إيجابا فكان هو بهذا اللفظ منكرا لأصل العقد لا مقرا به فيجعل القول في ذلك قوله والذي بينا في النكاح مثله في الطلاق في دعوى الإستثناء وفي الإضافة إلى حال منافية لأصل الطلاق كحال النوم والصبا والجنون إذا كان يعرف ذلك أنه إصابة للمعنى الذي بينا.
ولو قال رجل لامرأة: ألم أتزوجك أمس أو أليس تزوجتك أمس أو أما تزوجتك أمس فقالت بلى وجحد الزوج فهذا إقرار بالنكاح منهما لما بينا فيما سبق أن جواب(18/265)
ص -126- ... الاستفهام بنفي يكون حرف بلى وما تقدم من الخطاب يصير معادا في الجواب وعلى هذا الطلاق إذا قال ما طلقتك أمس أو ليس قد طلقتك أمس فقالت نعم أو بلى فهذا إقرار بالطلاق وكذلك إن قالت المرأة ذلك وقال الزوج بلى فهو إقرار لما بينا ولو قال لها قد تزوجتك أمس فقالت لا ثم قالت بلى وقال هو لا لزمه النكاح لأن إقراره لم يبطل بتكذيبها فإن النكاح عقد لازم لا يبطل بجحود أحد الزوجين فصح تصديقها بعد التكذيب ويثبت النكاح بينهما ثم إن أنكر الزوج النكاح بعد ثبوته بتصادقهما فلا معتبر بإنكاره وإذا أقر أنه طلقها منذ ثلاثة أشهر فإن كان تزوجها منذ شهر لم يقع عليها شيء لأنه أضاف الطلاق إلى وقت قبل النكاح ولا طلاق قبل النكاح وإن كان تزوجها منذ أربعة أشهر وقع الطلاق عليها لكونه مالكا للانتفاع في الوقت الذي أسند الطلاق إليه إلا أنها إن صدقته في الإسناد فعدتها من حين وقع الطلاق وإن كذبته في الإسناد فعدتها من وقت إقرار الزوج به لأن في العدة حقها من حيث أنها تستوجب النفقة والسكنى فلا يقبل قوله في الإسناد إذا لم تصدقه في ذلك لما فيه من إبطال حقها.
ولو قال: فلانة طالق وذلك أسم امرأته أو قال عنيت غيرها لم يصدق في الحكم لأن كلامه إيقاع شرعي ولأنه له الإيقاع على زوجته دون غيرها فإذا قال عنيت غيرها كان الظاهر مكذبا له في مقالته فلا يصدق في الحكم وكذلك لو قال ابنة فلان طالق وأسم أبيها ما قال طلقت ولم يصدق في قوله لم أعن امرأتي وكذلك لو نسبها إلى أمها أو إلى ولدها فإذا قال عنيت غيرها يكون الظاهر مكذبا له في مقالته وكذلك كلامه صالح للإيقاع عليها فهو بما يدعي بعد ذلك يريد أن يخرج كلامه من أن يكون إيقاعا فلا يصدق على ذلك في الحكم .(18/266)
لو أقر بعد الدخول أنه كان طلقها قبل أن يدخل بها وقد سمى لها مهرا فالطلاق واقع عليها لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لا ينافي الوقوع فيه فيجعل موقعا للطلاق ولها عليه مهر ونصف لأنه أقر أن نصف المهر عليه بالطلاق قبل الدخول وأنه وطئها بالشبهة بعد ذلك فيلزمه مهر بالوطء ونصف مهر بالطلاق قبل الدخول والله أعلم بالصواب .
باب إقرار المحجور والمملوك
قال رحمه الله: وإذا حجر القاضي على حر ثم أقر المحجور عليه بدين أوغصب أو بيع أو عتق أو طلاق أو نسب أو قذف أو زنا فهذا كله جائز عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله الأول لأن الحجر على الحر بسبب السفه باطل عندهما فإقراره بعد الحجر كإقراره قبله قال ألا ترى إنه لو شهد قبلت شهادته إن كان عدلا ومعنى هذا معنى الاستشهاد وأن الإقرار ملزم كالشهادة فإذا كان بسبب السفه لا يؤثر في إفساد عبارته ولا يخرجه من أن يكون ملزما بطريق الشهادة فكذلك بطريق الإقرار على قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وهو قول محمد رحمه الله والحجر عليه صحيح ولا يجوز إقراره بعد ذلك بدين ولا بيع كما لا يجوز مباشرته هذه الأسباب عندهما(18/267)
ص -127- ... والحاصل أن تأثير الحجر عندهما كتأثير الهزل لأن فعل السفيه لا يكون على نهج أفعال العقلاء لمكابرته عقله كما أن فعل الهازل لا يكون على نهج أفعال العقلاء لقصده غيره فكل ماأثر فيه الهزل أثر فيه الحجر فلا يصح إقراره به وما لا يؤثر فيه الهزل لا يؤثر فيه الحجر ولكن هذا يبطل بالشهادة حتى إذا علم القاضي أن الشاهد قد قصد الهزل بشهادته لا تقبل شهادته ثم الحجر لا يكون مؤثرا فيه وهذه مسألة كتاب الحجر.
وإذا أقر الرجل لصبي صغير لقيط بدين مائة درهم فهو لازم له لأن الصغير أهل أن يجب له الحق على غيره وتصحيح الإقرار محض منفعة له والصبا لا يوجب الحجر عن ذلك وكذلك لو قال أقرضني الصبي والصبي بحال لا يتكلم ولا يقرض فالمال لازم له لاحتمال أن يكون الولي باشر هذا السبب وإضافة المقر به إلى الصبي بطريق باشره إنما باشره له ولأن أكثر ما في الباب أن هذا السبب لا يثبت لأنه لا يتصور من الصبي ولكن امتناع ثبوت السبب لا يمنع ثبوت المال بإقراره كما لو كذبه المقر له في السبب بأن قال لك علي ألف درهم من قرض أقر ضتنيه وقال المقر له ما أقرضتك بل غصبتها مني فالمال لازم وإن لم يثبت السبب التكذيبه إياه .
على هذا لو قال:أودعني هذا الصبي أو هذا العبد مائة درهم أو أقر بذلك لمجنون فإقراره بأصل المال صحيح والسبب باطل لما قلنا ولو أقر أنه كفيل لهذا الصبي عن فلان بألف درهم والصبي لا يعقل ولا يتكلم فهذا باطل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو جائز في قول أبي يوسف الآخر رحمه الله.(18/268)
وأصل المسألة أن من كفل لغائب بمال ولا يقبل عن الغائب أحد فهو باطل عندهما صحيح عند أبي يوسف رحمه الله فكذلك إذا كفل لصبي عند أبي حنيفة رحمه الله العقد باطل وإقراره بالعقد الباطل لا يلزمه شيئا وعلى قول أبي يوسف رحمه الله العقد صحيح والمال لازم له لإقراره به على نفسه للصبي قال كأن كان أبو الصبي أو وصيه خاطبه بهذه الكفالة فالكفالة باطلة على معنى أنها غير لازمة بل هو موقوف فإذا أدرك الصبي ورضي بها جازت وإن رجع الرجل قبل أن يدرك الصبي بطلت في قولهما لأن عقد الكفالة لا يثبت الولاية للأب والوصي والكفالة وإن كانت لا توجب براءة الأصيل وهو تمليك للدين من الكفيل من وجه حتى إذا أدى رجع على الأصيل بحكم الأداء.
وبين العلماء رحمهم الله اختلافا في براءة الأصيل بحكم الكفالة فكان بن أبي ليلى رحمه الله يقول الكفالة توجب براءة الأصيل كالحوالة ولو اجتهد قاض قال بهذا القول وقضى به نفذ وفيه إضرار الصبي فلهذا لا يملك الأب والوصي ذلك بل هما فيه كسائر الأجانب إذا بلغه وصح رجوع الكفيل قبل إجازته فكذلك هنا تتوقف على إجازة الصبي إذا أدرك وصح رجوع الكفيل قبل إدراكه لأن العقد لم يلزم بعد.
ولو أقر أنه رهن هذا اللقيط لفلان بمائة درهم واللقيط لا يتكلم جاز على الكفيل ولا(18/269)
ص -128- ... يلزم الصبي شيء لأن إقرار المقر على نفسه صحيح وعلى اللقيط باطل وليس من ضرورة امتناع وجوب المال على الأصيل امتناع وجوبه على الكفيل ألا ترى أنه لو أقر بالكفالة عن بالغ وجحد البالغ وجوب المال عليه فإن الكفيل ضامن له وإن لم يجب على الأصيل شيء وهذا لأن الصبي أهل أن يجب المال عليه بحال لأن له ذمة صحيحة فيجعل في حق المقر كان ما أقر به حق وإن امتنع ثبوته في حق الصبي كمن قال لآخر كفلت لك عن فلان الغائب بمائة درهم التي أقرضته أمس ويعلم أن الغائب لم يقدم منذ سنة فالمال واجب على الكفيل للمعنى الذي بينا ولو كفل عن رجل لرجل حاضر بمائة درهم بغير أمره فقال المكفول عنه قد رضيت بكفالتك ثم قال الطالب قد رضيت بضمانك لي فالضمان جائز ويرجع الكفيل إذا ادعى المكفول لأن رضا المكفول عنه بالكفالة حصل قبل تمام العقد فإن تمامه بقبول الطالب فكان هذا بمنزلة أمره إياه بأن يكفل عنه فإذا أدى يرجع عليه فلو قال المكفول له أولا قد رضيت ثم قال المكفول عنه قد رضيت كان رضاه باطلا ولم يرجع الكفيل بالمال إذا أداه لأن الكفالة تمت بقبول الطالب ولزم المال الكفيل إذا أداه لأن الكفالة تمت بقبول الطالب ولزم المال الكفيل على وجه لا يرجع إذا أدى فلا يتعين ذلك برضا المكفول عنه بعد ذلك لأن رضاه وإجازته إنما تؤثر في الموقوف لا في النافذ.(18/270)
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فأما على قول أبي يوسف رحمه الله الآخر الكفالة تتم بالكفيل قبل قبول الطالب فيستوي الجواب في الفصلين ولا يعتبر رضا المكفول عنه في إثبات الرجوع للكفيل في الفصلين جميعا وقول المكفول عنه قد ثبتت كفالتك أو سلمتها أو أجزتها مثل قوله قد رضيت بها لأن المعنى يجمع الفصول كلها ولو أن الكفيل بعد ما رضي المكفول عنه رجع عن الكفالة قبل رضا المكفول له بها لم يلزمه المال في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لما بينا أن نفوذ العقد برضا المكفول له فرجوع الكفيل قبل نفوذ العقد صحيح وإقرار العبد التاجر للأجنبي بدين أو وديعة أو إجارة جائز وإن كان عليه دين يحيط بقيمته وما في يده لأن هذا كله من أسباب التجارة ومن جملة صنع التجارة والإذن فك الحجر عنه فيما هو من عمل التجارة ولا يخل هذا الفك بوجوب الدين عليه فإقراره بهذه الأسباب بعد وجوب الدين كإقراره قبله وإن أقر لمولاه بدين عليه أو وديعة في يده وعليه دين مستغرق لم يجز إقراره لأن المولى يخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث فكما أن تعلق حق الغرماء بمال المريض يمنعه من الإقرار للوارث فكذلك تعلق حق الغرماء بكسب العبد ورقبته يمنعه من الإقرار لمولاه إلا أن تعلق حق الغرماء هناك في حق المرض وهنا التعلق ثابت في صحة العبد ومرضه ولا يجوز إقرار العبد التاجر للأجنبي بجناية ليس فيها قصاص لأن هذا من التجارة والإذن فك الحجر عنه في التجارات ففيما ليس بتجارة المأذون والمحجور سواء وإقرار العبد على مولاه باطل.
وإذا أقر بقتل عمدا جاز إقراره وعليه القصاص لأنه يقر به على نفسه فإن المستحق(18/271)
ص -129- ... بالقصاص دمه وهو في حكم الدم مبقي على أصل الحرية ولأن المولى لا يملك الإقرار عليه بالقصاص وفيما لا يملكه المولى على عبده العبد بمنزلة الحر كطلاق زوجته يصح إقراره به كما يصح إقراره بإيقاعه وكذلك إذا أقر على نفسه بسبب موجب للحد كالقذف والزنا وشرب الخمر وكذلك إذا أقر بسرقة مستهلكة موجبة للقطع وفي إقرار المحجور عليه بسرقة مال قائم بعينه في يده خلاف معروف في كتاب السرقة فأما إقرار المأذون به فصحيح في حق المال والقطع جميعا لأنه يملك الإقرار بكل واحد منهما أما بالمال فلانفكاك الحجر وأما بالقطع فإنه مبقي فيه على أصل الحرية ولا يجوز إقراره في رقبته بمهر امرأة ولا بكفالة بنفس ولا بمال ولا بعتق عبد له ولا بمكاتبته ولا بتدبيره لأن هذا كله ليس من التجارة فالمأذون فيه كالمحجور .
إذا أقر بنكاح امرأة جاز إقراره غير أن المولى له أن يفرق بينهما بمنزلة ما لو أنشأ العقد فللمولى أن يفرق بينهما لأن النكاح تصرف مملوك للمولى عليه وهو ليس من التجارة في شيء بخلاف إقراره بالطلاق فإن ذلك غير مملوك للمولى عليه وينفرد به العبد إنشاء وإقرارا ولو أقر العبد التاجر أنه افتض امرأة بإصبعه أمة كانت أو حرة لم يلزمه شيء في قول أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ويلزمه ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله وجه قوله أن الإقرار بالافتضاض بمنزلة الإقرار بالغصب والاستهلاك .(18/272)
لا ترى أنه لو ثبت هذا بالبينة عليه يباع فيه ولا يدفع بمنزلة الغصب والاستهلاك بخلاف الجناية وإقرار العبد المأذون بالغصب والاستهلاك صحيح يؤاخذ بضمانه في الحال وهذا لأن الغاصب بالافتضاض وإن لم يكن مالا فإنه يسلك به مسلك الأموال حتى يملك بالعقد مقصودا ويستحق بالبيع شرطا وإقراره بضمان المال صحيح وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن هذا الإقرار بالجناية لأن الفعل بالإصبع جناية محضة والمتلف به جزء من الآدمي والمأذون في الإقرار بالجناية كالمحجور فكما أن المحجور لو أقر بهذا لم يصح إقراره لأنه مقر على مولاه فكذلك إذا أقر به فأما قوله أنه يباع فيه فقد قيل أنه قول أبي يوسف رحمه الله خاصة وبعد التسليم يقول من حيث إن هذا الجزء يستحق بالعقد هو بمنزلة المال ومن حيث إنه جزء من الآدمي هو ملحق بما ليس بمال وما تردد بين أصلين يوفر عليه حظه منهما فلشبهة المال.
قلنا :ذا ثبت بالبينة سببه يباع العبد فيه ولشبهه بما ليس بمال لا يثبت على العبد بإقراره وهذا لأن الدفع إنما يصير مستحقا بفعل هو خطأ إذا كان استحقاق القصاص بعمده ولا يستحق القصاص بعمد هذا الفعل بحال فكذلك لا يستحق دفع العبد به وإذا تعذر ذلك تعين جهة البيع فيه ولكن إذا ثبت السبب ثبت بما هو حجة في حق المولى .
لو أقر العبد بتزويج أمته وأنه قد أقبضها لم يلزم مهر لواحد منهما في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يعتق لأن النكاح ليس المأذون والمحجور فيه في الإقرار سواء(18/273)
ص -130- ... وقال أبو يوسف رحمه الله في الحرة كذلك الجواب أطلقه في رواية أبي سليمان رحمه الله وفي رواية أبي حفص رحمه الله قال إذا كانت كبيرة لأن وجوب المهر بالعقد لها وهذا العقد ليس من التجارة فهي قد رضيت بتأخيره حين طاوعت العبد فيه فأما إذا كانت أمة فإن كان المولى زوجها له لم يلزمه شيء حتى يعتق لأن المولى صار راضيا بتأخير حقه وإن لم يكن المولى زوجها فهو مؤاخذ بالمهر في الحال لأن المتعلق بالافتضاض من الأمة في حكم المال حتى يستحق بالبيع شرطا وهو مملوك للمولى وإقرار العبد المأذون بإتلاف مال مملوك للمولى صحيح في إيجاب الضمان عليه فيلزمه المهر هنا باعتبار الإتلاف دون العقد .(18/274)
إن كانت الأمة ثيبا لم يلزمه شيء حتى يعتق لأن بالوطء هنا لم يتلف شيئا مما هو مال وإنما وجوب المهر باعتبار عقد النكاح وإقرار المأذون به غير صحيح في حق مولاه لأنه ليس من التجارة في شيء ثم ذكر في نسخ أبي سليمان رحمه الله بعد هذا وإن كان ذهب العبد بها إلى منزله وهي بكر يعلم ذلك فمولاها بالخيار إن أراد أن يضمنه العذرة بالغصب فله ذلك وإن أراد أن يضمنه بالوطء فلا شيء عليه حتى يعتق ولم يذكر هذا الفصل في نسخ أبي حفص رحمه الله ولا في كتاب الإقرار لأبي يوسف رحمه الله فقال مشايخنا رحمهم الله الصحيح أن هذا التفريع على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا على قول أبي يوسف رحمه الله لأن العبد حين ذهب بها إلى منزل مولاه فقد صار غاصبا لها بجميع أجزائها وضمان الغصب يؤاخذ به المأذون في الحال فإذا اختار المولى تضمينه ما ذهب من العذرة عنده لا بوطئه بل بالغصب السابق كما لو عايناه أنه غصب أمة عذراء وردها بعد زوال عذرتها وإن اختار تضمينه بالوطء ففي الوطء وجوب المهر باعتبار العقد فلا يؤاخذ به المأذون في الحال حتى يعتق وعلى قول أبي يوسف رحمه الله مع الوطء هنا إتلاف العذرة فيضمن باعتبار الحال لحق مولاه ويصح إقراره بمنزلة إقراره بإتلاف المال.(18/275)
ولو أقر العبد التاجر أنه وطىء أمة اشتراها فافتضها ثم استحقت فعليه مهرها للحال لأن الافتضاض هنا بالوطء ترتب على سبب هو تجاوزه وهو البيع الذي لولاه لكان الواجب عليه الحد فكان الضمان الواجب بسبب التجارة من جنس ضمان التجارة فصح إقرار العبد به في الحال بخلاف ما سبق فالسبب هنا عقد النكاح والنكاح ليس من التجارة في شيء فلا يصح إقرار العبد به في الحال والدليل على أن السبب معتبر أن الوكيل بالبيع إذا باع بيعا فاسدا وقبضه المشتري ضمن القيمة كما يضمنها بالغصب ولكن الوكيل هو الذي يستوفيه دون الموكل لأن وجوب هذه القيمة بسبب عقد الوكيل فيجعل معتبرا بضمان العقد وإن كان هو في الحقيقة ضمان العين.
قال في الكتاب: أرأيت لو أقر أن عينها ذهبت من عمله أو من غير عمله لم يضمن ولو أقر أن عذرتها ذهبت عنده من غير وطء ضمن كما يضمن العين المستحق وهذا يبين الفرق بين هذا وبين النكاح فإن سبب النكاح لا يضمن العين إذا ذهبت من غير عمله ولو أقر(18/276)
ص -131- ... أنه وطىء صبية بشبهة فاذهب عذرتها فأفضاها لم يلزمه شيء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هكذا قال في نسخ أبي سليمان رحمه الله وفي نسخ أبي حفص رحمه الله قال في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهما الله والمراد أنه لا يلزمه شيء حتى يعتق لأن إقراره بوجوب المهر بالوطء بالشبهة بمنزلة إقراره بوجوب المهر بسبب النكاح وقد بينا أن هناك في حق الحرة لا يلزمه بإقراره شيء حتى يعتق فهذا مثله وتبين بما ذكر هنا في نسخ أبي حفص رحمه الله أن فعله الكبيرة هناك غير معتبر في قول أبي يوسف رحمه الله فأما ضمان الإفضاء فهو ضمان الجناية وإقرار العبد بالجناية لا يصح مأذونا كان أو محجورا لأنه أقر على مولاه.(18/277)
وكذلك لو أقر أنه وطىء أمة بشبهة فاذهب عذرتها وأفضاها بغير إذن مولاها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن إقراره بالوطء بالشبهة بمنزلة إقراره بالوطء بالنكاح وفي قول أبي يوسف رحمه الله إن كان البول لا يستمسك لا يلزمه شيء لا في الحال ولا بعد العتق لأن من أصل أبي يوسف رحمه الله أن الإفضاء بهذه الصفة يوجب كمال الدية في الحرة دون المهر على ما ذكره في كتاب الحدود فيكون هذا إقرارا بالجناية وذلك غير صحيح من العبد وإن كان البول يستمسك قال في نسخ أبي سليمان رحمه الله يصدق في المهر ويكون دينا عليه اليوم ولا يصدق في الإفضاء لأن الإفضاء بهذه الصفة في الحرة يوجب ثلث الدية والمهر فإقرار العبد صحيح في حق المهر عند أبي يوسف رحمه الله كما في مسألة النكاح إذا أقر أنه أذهب عذرتها بغير تزويج المولى وفي الإفضاء لا يصدق لأنه ضمان جناية وفي نسخ أبي حفص رحمه الله قال وإن كان البول يستمسك فلا يصدق في المهر فلا يكون دينا عليه ووجه هذه الرواية أن الجناية قد تحققت هنا بالإفضاء فلم يبق إذهاب العذرة بالوطء معتبرا وإنما كان وجوب المهر باعتبار الوطء خاصة فهو نظير قوله في المسألة الأولى إذا كانت ثيبا وإقراره بالجناية لا يكون معتبرا صحيحا أصلا بمنزلة إقرار المحجور عليه وما ذكر في نسخ أبي سليمان رحمه الله أشبه بالصواب وإقرار العبد المأذون بالشركة في شيء خاص أو في تجارة كثيرة جائز لأن الشركة من عقود التجارة وهو من صنع التجارة فإقرار العبد به صحيح .(18/278)
إن أقر بشركة مفاوضة جاز عليه فيما في يده كله ولم يكن مفاوضا لما بينا أن الرقيق ليس من أهل المفاوضة فبطل إقراره بها ويبقى معتبرا في استحقاق المقر له نصف ما في يده لأنه أهل للإقرار بجميع ما في يده لغيره فكذلك بنصفه وقد بينا أنه ليس من ضرورة امتناع ثبوت المفاوضة امتناع ثبوت الشركة في المال ولو كان مولى العبد المأذون مرتدا أذن له في حال إسلامه أو بعد ارتداده ثم أسلم المولى أو قتل على ردته فالعبد في أقاريره في حال ردة مولاه بمنزلة المحجور عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إقراره جائز لأن تصرفات المرتد عندهما لا تتوقف وكذلك ملكه بنفس الردة لا يتوقف فيبقى العبد مأذونا له على حاله.(18/279)
ص -132- ... وعند أبي حنيفة رحمه الله: ملكه يتوقف بنفس الردة كما يتوقف نفسه ولهذا قال يتوقف تصرفه في المال وإذنه للعبد كان بمطلق ملكه فإذا توقف ملكه بالردة لم يبق العبد مأذونا وإذا كان حكم الإذن لا يبقى بعد الردة فلأن لا يثبت ابتداء في الردة بطريق الأولى فلهذا كان إقراره بمنزلة إقراره المحجور عليه وإذا ولدت الأمة التاجرة وعليها دين أو لم يكن عليها دين لم يكن ولدها مأذونا له في التجارة لأن ولدها ملك المولى فلا يصير مأذونا إلا أن يأذن له المولى في حال أهليته لذلك وهذا بخلاف الكتابة فإن ولد المكاتبة كأمة لأن ذلك حق لازم فيها فيسرى إلى ولدها والإذن في التجارة ليس بحق لازم في الأم هنا فلا يسري إلى الولد ولأن المقصود بالكتابة العتق والولد ينفصل عنها وهو ليس بأهل لذلك.
وإذا أقر الأجير أن ما في يده من قليل وكثير من تجارة أو متاع أو مال عين أو دين فهو لفلان وقال أنا أجير له فيه فهو جائز لأنه أقر له بمنافع نفسه وما في يده وما كان في يده يومئذ من شيء فهو لفلان كله لا حق للأجير فيه لإقراره بجميع ذلك له والإقرار عاما يصح كما يصح خاصا غير أني أستحسن في الطعام والكسوة فاجعلهما للأجير وفي القياس هما للمقر له لأن ذلك له من قليل في يده وكثير ولكنه استحسن فقال الأجير محتاج إلى ذلك فحاجته تدل على أنه اتخذ ذلك لنفسه فيصير ذلك مستثنى من عموم إقراره كما يصير الطعام والكسوة مستثنى من عموم شركة المفاوضة وهذا استحسان مثل ما استحسنا في ثياب بدل الأجر إذا كان يعمل في بيت الأستاذ عند اختلافهما فيها فيجعل القول قول الأجير فيه بخلاف سائر الأمتعة وإن لم يعرف ما كان في يده يوم أقر فالقول قول الأجير فيما إذا قال أصبته بعد إقراري لأنه لا يعرف ما في يده إلا من جهته .(18/280)
قد بينا أن في كل إقرار لا يقع الاستغناء به عن بيان المقر يجعل بيانه مقبولا فيه ولو أقر الأجير أن ما في يده من تجارة كذا فهو لفلان كان ما في يده من تلك التجارة وقت إقراره لفلان لتقييده الإقرار بذلك وما كان في يديه من غير تلك التجارة فليس لفلان منه شيء والقول في بيانه قول المقر وكذلك ما كان في يده من تلك التجارة وادعى أنه أصابه بعد إقراره فالقول قوله مع يمينه لأنه ما وقع الاستغناء عن بيانه بإقراره فوجب قبول بيانه في ذلك.
وإذا أقر الأجير أن ما في يده من تجارة أو مال لفلان وفي يده صكوك ومال عين فهو كله لفلان لأن ذلك كله من التجارة فإن ما في الصكوك وجب بسبب التجارة وهو مال من وجه باعتبار ماله فيتناوله عموم إقراره ولو أقر أن ما في يده من طعام فهو لفلان وفي يده حنطة وشعير وسمسم وتمر لم يكن من ذلك لفلان إلا الحنطة لأن الإقرار من جنس التجارة وأسم الطعام فيما هو تجارة لا يتناول إلا الحنطة وقد بينا ذلك فيما سبق ولو لم يكن في يده من الحنطة شيء فلا شيء للمقر له لانعدام المقر به في المحل الذي عينه بإقراره وهو يده والله أعلم(18/281)
ص -133- ... باب اليمين والإقرار في الرق
قال رحمه الله: رجل قال لفلان على ألف درهم إن حلف أو علي أن يحلف أو متى حلف أو حين حلف أو مع يمينه أو في يمينه فحلف فلان على ذلك وجحد المقر بالمال لم يؤخذ بالمال لأن هذا ليس بإقرار ولكنه مخاطرة ومعناه إنه علق الإقرار بشرط فيه خطر وهو يمين الخصم والتعليق بالشرط يخرج كلامه عن أن يكون إقرارا كالاستثناء وأن لم يجعل هذا شرطا كان جاعلا اليمين سببا لوجوب المال ويمين المدعي ليس بسبب لاستحقاق المال فإن الشرع جعل اليمين لدفع الاستحقاق فلا يكون سببا للاستحقاق وليس له ولأنه جعل ما ليس بسبب سببا قال وكذلك الإبراء من المال على مثل هذه المخاطرات باطل فإن قال الطالب إن حلفت عليها فأنت بريء منها فهذا تعليق الشراء بالمخاطرة والبر أن لا يحتمل التعليق بالإخطار.
فإن قيل: أليس أن يمين المنكر توجب براءته شرعا قلنا عن اليمين لا فإنه لو حلف في غير مجلس الحكم لا تثبت به البراءة وكذلك في مجلس الحكم اليمين لا توجب البراءة ألا ترى أن بينة المدعي بعدها مسموعة ولكن إنما لا يكون له أن يخاصمه بعد يمينه لانعدام الحجة من إقرار أو نكول أو بينة فتتأخر خصومته إلى أن يجد حجة لا أن تكون اليمين موجبة للبراءة ولو ادعى الطالب عليه المال فحكما رجلا فحلفه فإن حلف انقطعت الخصومة لأن الحكم في حقها كالقاضي وباليمين في مجلس القاضي تنقطع الخصومة إلا أن يجد البينة فإن أبى أن يحلف فقضي الحكم عليه بالمال كان جائزا بمنزلة ما لو كان عند القاضي وهذا هو الأصل إن كل يمين لو امتنع منها يستحق القضاء بها عليه فإذا حلف تنقطع الخصومة به وفي كل يمين لو امتنع منها لا يصير القضاء مستحقا عليه فالخصومة لا تنقطع بتلك اليمين وقد بينا أن النكول في مجلس القضاء بمنزلة الإقرار وفيه فصول تقدم بيانها في كتاب الدعوى.(18/282)
وإذا أقر رجل أو امرأة أو صبي يعقل أو لقيط لم يجر فيه حكم العتق بالرق لرجل فهو جائز لصنع المقر له به ما يصنع بمملوكه أما البالغ إذا أقر به فهو غير مشكل لأنه أقر على نفسه بأمر محتمل وليس هنا دليل يكذبه في ذلك شرعا فأما الصبي إذا أقر به فقد كان ينبغي أن لا يصح إقراره لأن قول الصبي معتبر فيما ينفعه دون ما يضره والإقرار بالرق ليس مما ينفعه ولكنه لما صار عاقلا وجب اعتبار قوله في نفسه بمنزلة البائع.
ألا ترى أنه لو ادعى أنه حر ومن هو في يده يزعم أنه عبد جعل القول فيه قول الصبي وإذا وجب اعتبار قوله إذا ادعى حرية نفسه وجب اعتبار قوله في ضده أيضا كما أنه أيضا لما اعتبر قوله واعتقاده إذا أسلم اعتبر ذلك إذا ارتد أيضا ولأن هذا الإقرار ينفعه عاجلا لأنه يستوجب النفقة على مولاه ولأن إقراره بالرق سكوت منه عن دعوى الحرية لا محالة وانقياد للمقر له حتى يثبت عليه يده وإذا ثبتت عليه يده وهو يدعي رقيته وجب قبول قوله كما إذا كان صبيا لا يعقل(18/283)
ص -134- ... وإن كان المقر حر الأصل معروفا بذلك لا يجوز إقراره بالرق لأنه مكذب فيه شرعا باعتبار حرية الأصل فيكون إقراره هذا إبطالا لحريته وإيجابا للرق على نفسه وذلك ليس تحت ولاية أحد وكذلك إن كان معتقا لرجل فأقر بالرق لآخر لم يصح إقراره لأن ولاءه ثابت للذي أعتقه والولاء كالنسب ومعروف النسب من إنسان إذا أقر بالنسب لغيره لم يصح فكذلك هنا قال إلا أن يصدقه الذي أعتقه فحينئذ يجوز إقراره لأنه المانع حقه فلا يبقى بعد تصديقه وهذا بخلاف النسب فإن هناك صاحب النسب المعروف وإن صدقه لم يثبت النسب من المقر له لأن النسب لا يحتمل الإبطال بعد الثبوت بحال بخلاف الولاء فإن المعتقة إذا ارتدت ولحقت فسبيت فأعتقت كان الولاء عليها للثاني دون الأول فتصديق المعتق الأول هنا عامل في إبطال حقه فكان مملوكا للمقر له وإذا كان عبد في يد رجل فأقر أنه مملوك لآخر وقال الذي هو في يده أنت عبدي فالقول قول ذي اليد لأن المملوك حين أقر به لم يبق له يد معتبرة في نفسه فهو بمنزلة الثابت فالقول فيه قول ذي اليد لاستحقاقه رقبته بيده وإذا لم يكن العبد في يد أحد فالقول فيه قول العبد لأنه لا استحقاق لأحد فيه فهو بإقراره لأحدهما يصير منقادا له فتثبت اليد عليه للمقر له ويكون في الحكم كأنه في يده فيجعل مملوكا له ولو كان العبد في يد قصار أو في مكتب فقال أنت عبدي وقال العبد بل أنا عبد فلان أسلمني إليك وادعاه فلان فالقول قول القصار وصاحب المكتب لأن العبد حين أقر بالرق فقد سقط اعتبار يده في نفسه فيكون القول في الملك قول من هو في يده وبخلاف ما إذا قال أنا حر لأنه هنا لم يقر بالرق على نفسه فبقيت يده في نفسه معتبرة وهي أقرب الأيدي إليه فلا تظهر مع ذلك يد ذي اليد فيه .(18/284)
إذا كانت أمة في يد رجل فقالت أنا أم ولد لفلان أو مكاتبته أو مدبرته وصدقها فلان وقال ذو اليد بل أنت أمة لي فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القول قول ذي اليد وعلى قول أبي يوسف رحمه الله القول قول الأمة والمقر له لأن دعواها حق الحرية بمنزلة دعواها حقيقة الحرية ولو قالت أنا حرة كان القول قولها ولا يثبت استحقاق يد ذي اليد عليها إلا بحجة فكذلك هنا توضيحه أن المكاتبة في يد نفسها كالحرة فلا تظهر يد ذي اليد فيها مع دعواها أنها مكاتبة كما لا يظهر مع دعواها أنها حرة وهذا نوع استحسان ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله والقياس قولها لأنها أقرت بالرق المسقط لاعتبار يدها في نفسها فلا تسمع دعواها إلا بحجة.
ألا ترى أنها لو ادعت شيئا من ذلك على ذي اليد لم تسمع إلا بحجة فكذلك إذا ادعت على غيره وتصديق المقر له ليس بحجة في حق ذي اليد فوجوده كعدمه ولو قال المقر له هي أمة لي غير مدبرة كان القول فيها قول ذي اليد بالاتفاق فكذلك إذا صدقها في التدبير وعلى هذا الخلاف لو قالت كنت أمة لفلان فأعتقني وصدقها فلان بذلك فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هي أمة لذي اليد لأنها أقرت بالرق ثم ادعت زواله بسبب(18/285)
ص -135- ... حادث وعند أبي يوسف رحمه الله هي حرة لأنها لم تقر بالرق لذي اليد وزعمت أنها حرة في الحال ففي حق ذي اليد هذا ودعواها حرية الأصل سواء ولكن هذا غير صحيح لأن دعواها حرية الأصل تتم بها ودعواها العتق من فلان لا يتم إلا بتصديق من فلان وتصديق فلان ليس بحجة على ذي اليد ولو كان في يد رجل غلام فقال أنا بن فلان وأمي أم ولد له وقال ذو اليد أنت عبدي وأمك أمتي وقال المقر له هو أبني ففي قول أبي حنيفة رحمه الله هذا كالأول وهما جميعا لذي اليد لأنه أقر أنه جزء من مملوكه فكما لم يقبل قول الأمة في ذلك على ذي اليد فكذلك قوله جزء منها.
وأبو يوسف رحمه الله قال: القول قوله في ذلك كما بينا في الفصل الأول لأنه يجعل القول في ذلك قول الأمة استحسانا وأما محمد رحمه الله فإنه يقول هنا أجعل الولد حرا ابنا للذي ادعاه استحسانا وكذلك لو قال للذي هو في يده أنا ابنك من أم ولد لك هذه وكذبه المولى أجعله حرا استحسانا في قول محمد رحمه الله نص على قوله هذا في بعض نسخ الإقرار ووجهه أن الولد هنا يدعي حرية الأصل لنفسه سواء ادعى أنه بن ذي اليد أو بن غيره وفي حرية الأصل القول قوله كما لو قال أنا حر الأصل ولم يرد على هذا ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال حكم إقراره هنا يتوقف على تصديق المقر له فكان هذا ودعواه حرية العتق سواء بخلاف ما لو قال أنا حر الأصل فإن حكم قوله هناك لا يتوقف على تصديق غيره .(18/286)
لو كان في يديه عبد،وقال:أعتقتني فكذبه المولى كان عبدا له بالاتفاق لأنه أقر على نفسه بالرق له ثم ادعى زواله بسبب حادث فلا يصدق على ذلك إلا بحجة وإذا أعتق الرجل عبدا له ثم أقر الرجل والعبد أنه كان مملوكا لفلان وادعى ذلك ولم يجر في عتقه حكم فهما مصدقان على ذلك لأنه أقر على نفسه بأمر محتمل لم يجر الحكم بخلافه فصح إقراره وصار مملوكا وظهر هذا الملك في حق المعتق بتصديقه أيضا فيتبين أنه أعتقه وهو لا يملكه وإن كان جرى في عتقه حكم من حد أو قصاص أو شيء مما يجري في الحر دون العبد فأمضى القاضي ذلك فإن هذا لا يرد في الرق لأنه صار مكذبا في إقراره شرعا والمقر إذا كذبه الشرع لم يعتبر إقراره.
وإن أقر مولاه أنه اغتصبه من فلان ضمنه القيمة لأن إقراره على نفسه صحيح وقد تعذر عليه رد المغصوب بما نفذ فيه من العتق من جهته فيضمن قيمته وكذلك إذا ادعى هبة منه أو شراء ولم يكن له بينة وحلف فلان ما فعل ذلك ضمن له قيمة الغلام لأنه أقر أنه قبضه على سبيل التملك وقد تعذر عليه رده فيلزمه قيمته ولو استأجر عبدا ثم ادعى بعد الإجارة أنه عبده لم يصدق على ذلك لأن استئجاره من غيره يشهد بالملك لذلك الغير أو إقرار بأنه لا حق له فيه بمنزلة الشراء والاستخدام فيكون في دعوى الملك لنفسه بعد ذلك مناقضا فلا يسمع منه ولكنه عبد لمن أقر له العبد بالملك وهو الآخر(18/287)
ص -136- ... ولو أن رجلا قال:أمي كانت أمة لفلان ولم أولد أنا قط ألا حرا كان القول قوله في ذلك لأنه أقر على أمة بالرق وإقراره عليها نافذ وليس من ضرورة رق أمه رقه فإن ولد المعروف حر الأصل والأم رقيقة والدليل عليه أن من أقر بأمة لإنسان ولها ولد في يده فإن الولد يكون للمقر دون المقر له فلما لم يجعل إقراره بالأم إقرارا بالولد فكذلك لا يكون إقرار الولد برق الأم إقرارا برق نفسه توضيحه أن من يكون معروفا بحرية الأصل إذا قال جدتي كانت أمة لا يتضمن ذلك الإقرار بالرق على نفسه ولا على أحد من أبويه فكذلك إذا قال أمي كانت أمة لفلان فإذا ادعى فلان رقه فعليه البينة.
ولو أن مجهولة الأصل تزوجت رجلا ثم أقرت بالملك لرجل فهي أمة له لإقرارها على نفسها بأمر محتمل ولا يصدق على فساد النكاح لأنه ليس من ضرورة كونها أمة له لإقرارها على نفسها بكونها أمة فساد النكاح فإن نكاح الأمة بإذن مولاها صحيح بخلاف ما إذا ادعى أبو الزوج نسبها وصدقته لأن من ضرورة ثبوت نسبها من أب الزوج انتفاء النكاح وما ثبت بوجود المنافي ضرورة لا يكون محالا به على إقرارها وهنا لما لم يكن من ضرورة رقها فساد النكاح فلو ثبت ذلك إنما يثبت بإقرارها وإقرارها ليس بحجة على الزوج أن رقها يظهر في حق الزوج في حق حكم يتمكن فيه من التلافي ودفع الضرر عن نفسه ولا يثبت في كل حكم لا يتمكن فيه من التلافي ودفع الضرر عن نفسه حتى لو كان أعطاها المهر قبل الإقرار فهو بريء منه لأنا لو صدقناها في هذا الحكم لحقه ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه.(18/288)
ولو أعطاها المهر بعد الإقرار لم تبرأ منه لأنا لو صدقناها في حق الزوج هنا لتمكن من دفع الضرر عن نفسه بدفع الصداق إلى مولاها دونها وعلى هذا لو طلقها واحدة ثم أقرت بالرق صار طلاقها ثنتين بخلاف ما إذا أقرت بعد ما طلقها ثنتين وكذلك لو مضت من عدتها حيضة فأقرت بالرق صارت عدتها حيضتين بخلاف ما إذا أقرت بعد مضي حيضتين وعلى هذا ما ولدت من ولد قبل الإقرار فهم أحرار لا يصدق عليهم في إبطال حريتهم وكذلك ما كان موجودا في بطن أمهم بأن ولدت لأقل من ستة أشهر فأما ما يحدث من الأولاد بعد فعلى قول أبي يوسف رحمه الله هم أرقاء والوقت فيه ستة أشهر لأن الحمل قائم بينهما وعلى قول محمد رحمه الله هم أحرار لأن الزوج بالنكاح استحق حرمة الأولاد وهي لا تصدق في إبطال الحق الثابت ولو قبلنا إقرارها في رق الأولاد تضرر الزوج ضررا لا يمكنه دفعه عن نفسه إلا أن يمتنع من وطئها وفيه إبطال الاستحقاق الثابت له .
أبو يوسف رحمه الله يقول: هذا ولد حر من أم رقيقة فيكون رقيقا كما لو ثبت رقها بالبينة وهذا لأن الولد جزء من الأم يتبعها في الرق والحرية فالزوج لما أعلقها مع علمه برقها فقد رضي برق هذا الولد بخلاف ما إذا كان موجودا قبل إقرارها وفي قبول إقرارها في هذا الحكم لا ضرر على الزوج لأنه يمكن من أن يعزل عنها عند الوطء ولأن الولد ثمرة(18/289)
ص -137- ... فلا يستحق بالنكاح ولهذا لو كانت عجوزا أو عقيما لا يثبت للزوج الخيار فكيف تكون صفة حرية الولد مستحقة له بالنكاح فلهذا قبلنا إقرارها في هذا الحكم .
لو أن رجلا مجهول الأصل له أولاد وأمهات أولاد أقر بالرق لرجل جاز ذلك كله بنفسه وماله لكون ما أخبر به محتملا ولا يصدق على أولاده وأمهاتهم ومدبريه ومكاتبيه لأنهم استحقوا الحرية أو حقها وليس من ضرورة رقه بطلان هذا الحق عليهم فلا يصدق في حقهم ولو أن امرأة مجهولة في يدها بن لها صغير من فجور أقرت أنها أمة لفلان وأن ابنها عبد له فهي مصدقة على نفسها وابنها لأن الابن لما كان لا يعبر عن نفسه كان القول فيه قول من هو في يده ألا ترى أنه لو لم يعرف أصله فادعت أنه عبدها كان القول قولها لأنه في يدها فكذلك إذا أقرت بالرق لغيرها وإن كان ابنها يتكلم فقال أنا حر كان القول قوله لأن من يعبر عن نفسه كالبائع لا تقوى يد الغير عليه بل يده على نفسه أقوى فكان القول قوله في حريته وكذلك رجل وامرأته مجهولان لهما بن صغير لا يتكلم أقرا بالرق لرجل على أنفسهما وابنهما جاز لما بينا وإن قالا نحن مملوكان لفلان وابننا هذا مملوك لفلان آخر وكذبهما مولاهما في الابن فالابن عبد له معهما لأن إقرارهما بالرق على أنفسهما يسقط اعتبار يدهما ويجعل يدهما لاغية فكما لا قول لهما بعد الإقرار بالرق في إبطال الاستحقاق الثابت لذي اليد فيهما فكذلك لا يقبل قولهما في إبطال الاستحقاق الثابت للمقر له في ولدهما .(18/290)
لو أن رجلا ادعى أمة أنها أمته وادعت الأمة أنه عبدها ولا يعرف أصلهما وليس الواحد منهما في يد صاحبه وصدق كل واحد منهما صاحبه في دعواه جعلت ذلك باطلا لأن تصديق كل واحد منهما لصاحبه إقرار بالرق له على نفسه وبين الإقرارين منافاة لاستحالة أن يكون كل واحد منهما مالكا لصاحبه ومملوكا له فإذا تحقق التنافي بينهما تهاترا إذ ليس العمل بأحدهما بأولى من الآخر وإن كان أقر أحدهما قبل الآخر فالذي أقر أخيرا مملوك للأول إذا صدقه ثانية لأن إقراره بالرق له على نفسه يتضمن رد إقرار صاحبه وذلك صحيح منه فيرد ذلك الإقرار له ويبقى إقرار الثاني بالرق على نفسه فإن صدقه المقر له في ذلك كان عبدا له وإن لم يصدقه ولم يكذبه لم يكن واحد منهما مملوكا للآخر لأن إقرار الأول قد بطل بالرد ولم يبطل بإقرار الثاني تصديق المقر.
ولو قال لآخر: أنا عبد لك فقال الآخر لا ثم قال بلى أنت عبدي فهو عبده لأن الرق الثابت لا يبطل بالجحود والإقرار متى حصل بما لم يرتد بالرد يبقى بعد ذلك المقر به موقوفا على تصديقه في الإقرار بالسبب أرأيت لو كان في يديه فقال أنا عبدك فقال لا ثم قال نعم لم يكن عبده فكذلك إذا لم يعرف يده فيه ولو قال ذو اليد لرجل هو عبدك يا فلان فقال لا ثم قال هو عبدي فهو عبد لذي اليد لأنه أقر لفلان بالملك والملك مما يبطل الإقرار فيه بالرد والتصديق بعد ما بطل الإقرار بالرد لا يكون موجبا شيئا بخلاف ما(18/291)
ص -138- ... سبق فإنه إقرار بالرق والرق لا يبطل بالرد لأنه إنما يبطل بالرد ما يحتمل النقل من شخص إلى شخص فلهذا عمل التصديق هناك بعد الرد وفي الكتاب قال ولا يشبه هذا الأول لأن الأول لم يكن في يد أحد وهذا ليس بقوي فقد بينا في الفصل الأول أنه لا فرق بين أن يكون في يده أو لا يكون في يده وإنما الفرق الصحيح ما قلنا.
ولو قال الذي هو في يديه هو عبدك يا فلان فقال فلان بل هو عبدك ثم قال بلى هو عبدي وجاء بالبينة لا تقبل بينته لأن قوله بل هو عبدك رد لإقراره وإقرار بملك العبد له فإن ادعاه لنفسه بعد ذلك كان مناقضا وكذلك لو أقر أن هذا العبد لفلان ثم جاء بالبينة أنه له لم تقبل بينته للتناقض ولو ادعى رجل دارا فقال هذه الدار لي إلا هذا البيت وجحده ذو اليد فأقام المدعي البينة أن الدار له فإن قال كان البيت لي فبعته قبلت بينته لأن الشهود وإن شهدوا له بأكثر مما ادعاه إلا أنه وفق بين الدعوى والشهادة بتوقيف محتمل فيخرج من أن يكون مكذبا لشهوده .(18/292)
إن قال: لم يكن البيت لي قط فهذا إكذاب منه لشهوده إذا شهدوا له بجميع الدار والمدعي إذا أكذب شهوده بطلت شهادتهم له وإن لم يقل شيئا من ذلك سأله القاضي عنه لأن الحكم يختلف ببيانه من سؤاله فإن أتى ببينة لم تقبل بينته لأنه في الظاهر مكذب شهوده فإنهم شهدوا له بأكثر مما ادعاه إلا أنه كان متمكنا من التوقيف فإذا أبى أن يوقف نفي ظاهر إلا كذاب أرأيت لو قضي بهذه البينة ثم قال المدعي ما كان البيت لي قط لم يكن بحق عليه إبطال قضائه فكذلك في الابتداء لا يقضي إذا لم يبين وعلى هذا لو ادعى رجل على رجل بألف درهم وشهد له شاهدان بألفين فإن قال لم يكن لي عليه إلا ألف درهم فهذا إكذاب منه لشهوده وإن قال كان لي عليه ألفان فأبرأته من ألف قبلت بينته وإن أبى أن يبين بطلت الشهادة وهذا استحسان في الفصلين وفي القياس تقبل البينة لأن البينات حجج فيجب العمل بها ما أمكن وما دام التوقيف ممكنا فالمانع من العمل بالبينة غير متعذر ولكن استحسن للإكذاب الظاهر على ما بينا.
وإذا أقرت الأمة بالرق لرجل فباعها المقر له جاز لأن الملك يثبت له فيها بإقرارها والملك مطلق للتصرف فإذا ادعت عتقا بعد البيع وأقامت البينة على عتق من البائع قبل البيع أو على أنها حرة من الأصل قبلت بينتها استحسانا وفي القياس لا تقبل لأنها انقادت للبيع والتسليم وذلك إقرار منها بأنها لم يجر فيها من البائع عتق قبل هذا فتكون مناقضة في دعوى العتق قبل ذلك وإذا ادعت حرية الأصل فالتناقض ظاهر لتقدم الإقرار منها بالرق على نفسها ومع التناقض في الدعوى لا تكون البينة مقبولة ولكنه أستحسن فقال التناقض بعدم الدعوى والبينة على عتق الأمة يقبل من غير الدعوى فكذلك مع التناقض وفي الكتاب علل فقال لأن هذا فرج ومعناه أن يخرج الفرج من حق الله تعالى فتكون البينة عليه مقبولة حسبة ولكن هذا ليس بقوى فأما التناقض من العبد فيمنع قبول البينة على حريته عند أبي(18/293)
ص -139- ... حنيفة رحمه الله وهنا لأن التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل الإبطال بعد ثبوته وحرية الأصل بعد تأكدها لا تحتمل الإبطال وكذلك العتق بعد ثبوته لا يكون التناقض فيه مانعا من قبول البينة كالنسب فإن التناقض في دعوى النسب لا يمنع صحته حتى أكذب الملاعن نفسه لثبت النسب منه.
ولو أن رجلا باع عبدا ودفعه إلى المشتري وقبض ثمنه وقبضه المشتري وذهب به إلى منزله والعبد ساكت وهو ممن يعبر عن نفسه فهذا إقرار منه بالرق لأنه انقاد بالبيع والتسليم ولا يثبت ذلك شرعا إلا في الرقيق وإقراره على نفسه بالرق بطريق الدلالة بمنزلة التصريح بالإقرار به فلا يصدق في دعوى الحرية بعد ذلك لأنه يسعى في بعض ما تم به إلا أن تقوم له بينة على ذلك فحينئذ تقبل البينة والتناقض لا يمنع من ذلك وكذلك لو رهنه أو دفعه بجناية لأن هذا تصرف في العين لا يصح إلا برقه فانقياده لذلك إقرار بالرق على نفسه بخلاف ما لو أجره ثم قال أنا حر فالقول قوله لأن الإجارة تصرف في منافعة لا في عينه وليس من ضرورة صحة الإجارة رق المحل فإن منافع الحر تملك بالإجارة عند إيجابه أو إيجاب الغير ببيانه وتكون منفعته حقا له .(18/294)
لا ترى إنه لو كان يخدمه ثم قال أنا حر كان القول قوله فكذلك إذا خدم المستأجر بإجارته قال والإجارة ليست بإقرار من الخادم بالرق وهي إقرار من المستأجر بأن العبد ليس له حتى لو ادعاه بعد ما استأجره لنفسه لم يصدق لأن المنفعة تملك بملك الرقبة فمباشرته سبب الملك في المنفعة مقصودا يكون إقرارا منه أنه لا يملك الرقبة وأما إيجاب المنفعة للغير فلا يكون إقرارا على نفسه بالملك في العين لأحد وكذلك لو قال أعرني هذا يخدمني كان هذا إقرارا من المستعير أن العبد ليس له كما إنه من المستأجر على يدنا ولو أن رجلا قدم من بلد ومعه رجال ونساء وصبيان يخدمونه فادعى أنهم رقيقه وادعوا أنهم أحرار كانوا أحرارا لأن اليد لا تقوى على من يعبر عن نفسه وكذلك لو كانوا أغلمة عجما أو سودا أو حبشا فهذه الصفات لا تنافي حرية الأصل وكذلك إن علم أنهم كانوا في يده لأن يدهم في أنفسهم أقوى فما لم يقر بالملك كان القول قولهم في الحرية.
ولو عرض جارية على البيع وهي ساكتة لم يكن هذا إقرارا بالرق منها وكذلك الغلام لأن السكوت في هذه الحالة محتمل فقد يكون للتعجيب أنه كيف تعرضني وأنا حرة وقد يكون للاستخفاف فعليه لا التفات إلى كلامه لكونه لاعبا فلهذا يجعل إقرارا بالرق ولو أن امرأة زوجها رجل من آخر فأقرت بذلك ثم ادعى الذي زوجها أنها أمته لم يصدق على ذلك لأن انقيادها بالنكاح لا يكون إقرارا منها بالرق كانقيادها للإجارة فإن الحرة محل للنكاح ولو كاتبها أو أعتقها على مال أو قال كاتبني أو أعتقني أو بعني نفسي أو بعني من فلان أو أرهني من فلان أو تزوج فلانة على رقبتي أو قالت لامرأة اختلعي من زوجك على رقبتي فهذا كله إقرار منها بالرق لأن ما صرحت به لا يصح شيء منه فيها إلا برقبتها(18/295)
ص -140- ... فتصريحها بذلك إقرار منها بالرق على نفسها بخلاف ما إذا قالت أجرني من فلان فهذا لا يكون إقرارا بالرق لما قلنا ولو قال لآخر أعتقني كان هذا إقرارا بالرق له لأن العتق لا يصح فيه إلا بعد الرق ممن هو يملكه وكذلك لو قال ألم تعتقني أمس أو ليس قد أعتقتني أمس أو ما أعتقتني أمس كان هذا إقرارا بالرق والله أعلم.
باب الإقرار بالنكاح
قال رحمه الله: امرأة قالت لرجل طلقني فهذا إقرار منها بالنكاح لأنها طلبت منه ما لا يصح شرعا إلا بعد صحة النكاح فيكون ذلك منها بمنزلة الإقرار بالنكاح وهذا لأن الطلاق للإطلاق عن قيد النكاح فكأنها قالت أطلقني عن قيد النكاح الذي لك علي وكذلك لو قالت أخلعني بألف درهم وهذا أظهر لأنها التزمت البدل ولا يجب عليها البدل إلا بزوال ملك النكاح عنها بالخلع وكذلك لو قالت طلقتني أمس بألف درهم أو أنت مني مظاهر أو مول فإن شيئا مما أخبرت به لا يصح إلا بعد صحة النكاح فإقرارها به تضمن الإقرار بالنكاح.
ولو قال الرجل: اختلعى مني بمال كان هذا إقرارا منه أنه تزوجها لأن الخلع بمال لا يكون إلا بعد صحة النكاح بينهما وكذلك لو قالت له طلقني فقال لها اختاري أو أمرك بيدك في الطلاق فهذا منه إقرار بالنكاح لأن تفويضه الطلاق إليها لا يكون إلا بعد صحة النكاح ولو قال والله لا أقربك لا يكون هذا إقرارا منه بأنها زوجته لأنه كلام محتمل فلعله منع نفسه من قربانها لعدم الملك له عليها ولعله قصد الإضرار بها والمحتمل لا يكون حجة ثم هذا الكلام نفي موجب النكاح بينهما ونفي موجب العقد لا يكون إقرارا بالعقد .(18/296)
كذلك لو قال أنت على حرام أو بائنة أو بتة لأنه وصفها بالحرمة وموجب النكاح ضده وهو الحل فوصفها به لا يكون إقرارا بالنكاح إلا أن تقول له طلقني فيقول بعد ذلك شيئا من هذه الألفاظ غير أن مذاكرة الطلاق معينة للطلاق ولهذا لا يحتاج فيها إلى البينة وإيقاع الطلاق إقرار منه بالنكاح ولو قال أنا مول منك أو مظاهر كان إقرارا منه بالنكاح لأن الإيلاء والظهار تصرف منه يختص بالنكاح الصحيح ولو قال أنت علي كظهر أمي لم يكن إقرارا بالنكاح لأن هذا إخبار منه بحرمتها عليه وهو ضد موجب النكاح ولو قال ألم أطلقك أمس أو أما طلقتك أمس فهذا إقرار منه بالنكاح والطلاق لأن في هذا الاستفهام معنى التقرير قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} الأنعام:130] أي قد أتاكم وتقرير الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح فكان إقرارا بهما.
ولو قال هل طلقتك أمس كان هذا إقرارا بالنكاح دون الطلاق لأن الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح فكان هذا إقرارا بالنكاح ولو قالت هذا ابني منك فقال نعم فهو إقرار منهما بالنكاح إذا كانت معروفة أنها حرة لأن ثبوت النسب باعتبار الفراش والأصل فيه الفراش الصحيح والشرع إنما يريد الصحيح دون الفاسد ولا يثبت الفراش الصحيح على الحرة إلا بالنكاح فكان اتفاقهما على النسب اتفاقا على سببه وهو النكاح والله أعلم(18/297)
ص -141- ... باب إقرار المكاتب والحر
قال رحمه الله: وإذا أقر المكاتب بدين عليه لحر أو لعبد من ثمن بيع أو قرض أو غصب فهذا لازم له لأن الإقرار من التجارة وعقد الكتابة يوجب انفكاك الحجر عنه مما هو من التجارة فإن عجز لم يبطل ذلك عنه لأن الثابت بإقراره كالثابت بالبينة عليه ألا ترى أن العبد لو أقر بالدين ثم حجر عليه مولاه لم يبطل إقراره فالمكاتب أولى بذلك ولو أقر المكاتب لمولاه بدين جاز عليه لأنه بعقد الكتابة صار أحق بمكاسبه وصار المولى منه كالأجنبي وإقرار المكاتب بالحدود جائز كإقرار العبد بها وإن أقر بمهر من نكاح لم يلزم لأن النكاح ليس من التجارة ولا هو سبب اكتساب المال في حق الزوج إلا أن على قول أبي يوسف رحمه الله إذا أقر بالدخول فإنه يلزمه وهو بمنزلة إقرار العبد التاجر به وقد بينا مذهب أبي يوسف رحمه الله في ذلك.
وكذلك لو أقر أنه افتض امرأة بإصبعه حرة أو أمة أو صبية فهذا يلزمه في قول أبي يوسف رحمه الله لأن العبد التاجر لو أقر به كان مؤاخذا به في الحال عنده فكذلك المكاتب وفي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هذا بمنزلة الإقرار بالجناية وإقرار المكاتب بالجناية صحيح في حال قيام الكتابة لأن الإرش يجب فيه وكسبه حقه فإن عجز قبل أن يؤدي بطل في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول محمد رحمه الله وإنما أراد بهذا إذا عجز بعد ما قضى القاضي عليه بالجناية قلنا إذا عجز قبل قضاء القاضي يبطل إقراره هكذا قال مشايخنا رحمهم الله وهو الذي اعتمده الحاكم رحمه الله وجعل هذا بمنزلة إقراره بقتل رجل خطأ ولكن الأصح عنه أن هنا الجواب مطلق كما قال في الكتاب لأن جناية الخطأ تتعلق بنفسه وإنما يتحول إلى كسبه بالقضاء حتى لو عجز قبل القضاء لدفع به فأما جنايته بالافتضاض بالإصبع فلا تتعلق بنفسه لأنه لا يدفع به بحال وإنما يتعلق بكسبه إبتداء فإن عجز قبل القضاء أو بعد القضاء كان مطالبا عند محمد رحمه الله.(18/298)
وعلى قول محمد رحمه الله لما كان سببه إقراره لم يطالب به بعد العجز بمنزلة إقراره بالجناية إذا اتصل به قضاء القاضي وإذا قضى عليه بأرش جناية الخطأ بعد ما أقر به فأدى بعضه ثم عجز بطل فيه ما بقي عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه لو طولب به إنما يطالب بإقراره وإقراره بالجناية ليس بحجة فيما هو حق المولى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو لازم له لأنه صار دينا بقضاء القاضي فالتحق بسائر الديون بخلاف ما إذا عجز قبل أن يقضي به عليه لأنه لم يصر دينا بعد فيجعل كأنه أقر به بعد العجز وهذا كله عندنا خلافا لزفر رحمه الله.
وفي مسألة كتاب الديات :لو أقر أن العبد تاجر أو محجور عليه بدين أو عين وأراد مولاه أخذه من المقر في حال غيبة العبد لم يكن له ذلك لأن للعبد يدا في مكاسبه محجورا(18/299)
ص -142- ... كان أو مأذونا حتى لا يتم كسبه لمولاه إلا بشرط الفراغ من دينه فأخذ المولى لذلك يتضمن القضاء على الغائب ببطلان حقه عنه وذلك لا يجوز عند غيبته .
و أقر الحر لعبد بوديعة فأقر العبد أنها لغيره فإن كان مأذونا جاز إقراره وإن كان محجورا عليه فإقراره بها لغيره باطل لأن الوديعة في يد المودع ولو كان في يد العبد مال فأقر به لغيره صح إن كان مأذونا ولم يصح إن كان محجورا عليه فكذلك هنا ولو أقر الحر لعبد بين رجلين بدين وقد أذن له أحدهما في التجارة دون الآخر جاز إقراره لأن حكم صحة الإقرار لا يختلف بكون المقر له مأذونا أو محجورا عليه فجاز وإن كان المقر به من كسب العبد فيكون بين الموليين نصفين لأن الكسب يملك بملك الرقبة ولا يختص الإذن بشيء من كسب العبد وإنما اختصاص الإذن يعلق دين العبد بنصيبه من الرقبة لأن الإذن لا يحتاج إليه لتعلق الدين بمالية الرقبة لا بصحة الاكتساب من العبد غير أنه إذا كان على العبد دين فلا يسلم من كسب العبد شيء للذي لم يأذنه ما لم يقض العبد دينه لما بينا أن سلامة الكسب للمولى متعلقة بفراغه عن حاجة العبد .(18/300)
لا ترى أن المحجور عليه إذا وجب عليه دين بالاستهلاك فاكتسب كسبا كان ذلك الكسب مصروفا إلى دينه ولو أقر هذا العبد بدين لزمه في حصة الذي أذن له لأن إقرار المحجور عليه غير صحيح في حق مولاه ونصيب الذي لم يأذن له محجور عليه فاجعل نصيب كل واحد منهما في حكم الإقرار بمنزلة عبد على حدة وما في يده من كسب يقضي به دينه ويكون الباقي بين الموليين نصفين إلا أن يعلم أنه من غير التجارة مثل أن يكون من هبة أو صدقة أو نحو ذلك فيكون نصفه للذي لم يأذن له قبل قضاء الدين لأن إقراره لم يكن صحيحا في نصيب الذي لم يأذن له من الرقبة فكذلك في الكسب الذي لا يعتمد في حصوله على الإذن كالموهوب ونحوه بخلاف ما اكتسبه بطريق التجارة فإن سبب حصول ذلك الكسب تجارة والإقرار من التجارة والدين الواجب بسبب هو تجارة يظهر في الكسب الحاصل بطريق التجارة وإذا ظهر فيه لا يسلم شيء منه للذي لم يأذن له إلا بعد الفراغ من دينه كما لو كان الدين عليه بسبب معاين والله أعلم .
باب إقرار الرجل أنه لا حق له قبل فلان
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه لا حق له قبل فلان فهو جائز عليه لأنه أخرج الإقرار مخرج العموم وإجراؤه على العموم ممكن لجواز أن ينفي حقوقه عن فلان من كل وجه وأمكن العمل بموجب هذا الكلام من غير بيان من المقر بخلاف قوله جميع ما في يدي لفلان فإن العمل بموجب ذلك الكلام غير ممكن إلا ببيان المقر ولا يمكن إجراؤه الكلام هناك على العموم لأن زوجته وولده في يده ولا يكون ذلك للمقر له فلهذا وجب الرجوع إلى بيانه هناك ثم يدخل في هذا اللفظ كل عين أو دين وكل كفالة أو جناية أو إجارة أو حد لأن قوله صلى الله عليه وسلم يتناول ذلك كله وقد بيناه فيما سبق فكل هذا حق مالا كان أو غير مال.(18/301)
ص -143- ... وإن قال: هو بريء مما لي عليه فهو مثل ذلك أيضا غير أنه لا تدخل الأمانة في هذا اللفظ كالوديعة العارية لأن كلمة علي خاص لما هو واجب في الذمة فلا تدخل فيه الأمانة إذ لا وجوب في ذمة الأمين وإن قال هو بريء مما لي عنده فإنما يدخل في هذا اللفظ الأمانة خاصة فأما الغصوب والودائع التي خالف فيها فقد صار ضمانها مستحقا في ذمته بمنزلة الديون فلا يدخل في هذا اللفظ وإن قال هو بريء مما لي قبله بريء من الأمانة والغصوب جميعا.
وإن ادعى الطالب بعد ذلك حقا لم تقبل بينته عليه حتى يشهد شهوده بعد البراءة أو يوقتوا وقتا بعدها لأنه بهذا اللفظ استفاد البراءة على العموم ولا يسمع منه بعد ذلك الدعوى إلا أن يعلم خروج ما ادعاه العامة فإن العمل بالعام واجب حتى يقوم دليل الخصوص .
لو أقر أن فلانا قد بريء من حقه قبله ثم قال أنا بريء من كل حق له علي فإن لفظ الجنس يعم جميع ذلك الجنس بمنزلة اللفظ العام وكذلك لو قال هو بريء من الدين الذي لي قبله أو مما لي قبله أو من ديني عليه أو من حقي عليه ولكن يدخل في البراءة من الحقوق الكفالة والجناية التي فيها قود أو أرش لأن ذلك من حقوقه ولو أقر أنه لا حق له قبل فلان ثم ادعى قبله حد قذف أو سرقة لم تقبل بينته على ذلك إلا أن يشهد الشهود أنه فعل ذلك بعد البراءة وهو ودعوى الدين عليه سواء.
ولو قال أنه قد بريء من قذفه إياي ثم طلبه به بعد ذلك كان له لأن هذا بمنزلة العفو ومعناه أنه بريء من موجب قذفه إياي فإن البراءة عن عين القذف لا تتحقق وموجب القذف عندنا لا يسقط بالعفو بخلاف الأول فإنه نفي حقه من الأصل فكان منكرا للسبب في حد القذف لا مسقطا للحد ولو قال ما قذفني لم تسمع منه دعوى القذف بعد ذلك مطلقا فكذلك إذا قال لا حق لي قبله ولو قال هو بريء من السرقة التي ادعيتها لم يكن عليه ضمان ولا قطع لأن دعوى السرقة حق المسروق منه وهو مما يسقط بإسقاطه.(18/302)
ألا ترى:أنه لو وهب المسروق من السارق سقطت خصومته وبدون خصومته لا تظهر السرقة في حق المال ولا في حق القطع ولو قال لست من فلان في شيء ثم أقام البينة على مال له عليه قبل هذا القول قبلت بينته وهذا القول باطل لأنه ما تعرض في كلامه للحق الذي عليه وإنما تعرض لنفسه والحق الذي عليه غير نفسه فلا يصير مذكورا بذكر نفسه وكذلك لو قال برئت من فلان أو قال أنا بريء من فلان لم يكن هذا القول براءة من حق لواحد منهما قبل صاحبه لأنه أضاف البراءة إلى نفسه دون الحق الذي عليه فلا يصير الحق مذكورا به ألا ترى أن البراءة من نفس الغير تكون إظهارا للعداوة معه والبراءة من الحق الذي له عليه إظهار للمحبة.
ولو قال:لست من هذه الدار التي في يد فلان في شيء ثم ادعى بعد ذلك حقا فيها(18/303)
ص -144- ... لم تقبل دعواه لأنه أخرج نفسه من الدار على العموم واتصاله بالدار من حيث ملكه أو حق له فيه فإخراجه نفسه منها على العموم يكون إقرارا بأنه لا حق له فيها ولا ملك بخلاف قوله لست من فلان في شيء فإن اتصاله من فلان من حيث المحبة والتناصر فإنما يكون هذا الكلام إقرارا منه بأنه لا محبة بينهما ولا تناصر وعلى هذا لو قال أنا بريء من هذه الدار كان هذا إقرارا منه بأنه لا حق له فيها لأن تبرؤه عن العين يكون إقرارا بانقطاع سبب اتصاله به وذلك بالملك أو الحق.
ولو قال خرجت من هذه الدار لم يكن إقرارا بشيء لأنه أخبر بفعله بالخروج من الدار ولو عاين ذلك لم يكن موجبا انتفاء حقه عنها فكذلك إذا قال خرجت منها.
وإن قال:قد خرجت منها على مائة درهم أو بمائة درهم وقبضتها كان إقرارا بأنه لا حق له فيها لأن الخروج بعوض لا يكون إخبارا بعين الفعل بل يكون إخبارا بإزالة ملكه عنها بعوض بطريق البيع أو بطريق الصلح فيكون إقرارا بأنه لا حق له فيها وعلى هذا الحيوان والعروض والدين فإن أنكر ذو اليد ذلك وقال هو لي وقد أخذت مائة درهم غصبا حلف على ذلك لأنه قد أقر بأخذ المائة منه وادعى لأخذه شيئا وهو الصلح فإذا أنكر صاحبه السبب كان القول قوله مع اليمين ويسترد المائة إذا حلف ويكون المقر على خصومته لأن ما أقر به من الصلح قد بطل بإنكار صاحبه واسترداده بدل الصلح.(18/304)
وإذا قال الطالب:قد برئت من ديني على فلان أو هو في حل مما لي عليه كانت هذه براءة للمطلوب لأنه أضاف البراءة إلى الحق الواجب على المطلوب فيكون مسقطا له وكذلك لو قال وهبت الذي لي عليه له فهو بريء من ذلك لأن هبة الدين ممن عليه يكون إسقاطا فإنه ليس بعين قابل للتمليك مقصود ولكنه محتمل للإسقاط فتصير الهبة فيه عبارة عن الإسقاط مجازا كهبة المرأة من نفسها يكون طلاقا وهبة العبد من نفسه يكون إعتاقا وهبة القصاص ممن هو عليه يكون عفوا فإن كان فلان حاضرا فلم يقبل الهبة أو كان غائبا فبلغه فقال لا أقبل فالمال عليه كما لو أبرأه فرد الإبراء وهذا لأن إبراء من عليه الدين وإن كان إسقاطا ففيه معنى التملك لأنه يجوز أن يملك ما في ذمته ويسقط عنه كما يكون عند قضاء الدين أو الشراء بالدين فلما كان فيه معنى التمليك احتمل الارتداد برده ولكونه إسقاطا لا يتوقف على قبوله حتى لو مات قبل أن يرده فهو بريء لأن البراءة حصلت له بنفس الإسقاط على احتمال أن يعود برده فإذا مات قبل أن يرده تم الإسقاط بموته .
كذلك لو قال:هو في حل مما لي عليه فهذا اللفظ يستعمل في الإبراء عرفا فهو وقوله هو بريء مما لي عليه سواء ولو قال ليس لي مع فلان شيء لم يكن هذا إبراء من الدين وكان براءة من كل أمانة بمنزلة قوله ليس عند فلان لأن كلمة مع للضم وكلمة عند للقرب وذلك يتحقق في الأعيان دون الديون وإذا أقر الطالب أن فلانا قد بريء إليه مما له عليه فهذا إقرار بالقبض لأنه أقر ببراءته بفعل من المطلوب متصل بالطالب حين وصله(18/305)
ص -145- ... بنفسه بحرف إلى وذلك إنما يكون بإيفاء الدين فإن ابتداءه من المطلوب وتمامه من الطالب بقبضه.
وإذا أقر أنه لا قصاص له قبل فلان فله أن يدعي الخطأ والحد لأن القصاص أسم خاص لعقوبة هي عوض حق العباد واجب بطريق المماثلة فلا يدخل فيه الخطأ والحد لأن موجب الخطأ والحد مال ومعظم الحق في الحد لله تعالى وإذا أقر أنه لا جراحة له خطأ قبل فلان فله أن يدعي العمد إن كان فيه قصاص أو لم يكن لأن الخطأ صفة للفعل لا لموجبه والعمد ضده فلا يكون نفيه بصفة نفيا منه فعلا بضد تلك الصفة فإن ما ليس بمعين يختلف باختلاف وصفه ولو أقر أنه لا جراحة له قبل فلان فليس له أن يدعي جراحة عمدا ولا خطأ لأنه نفى الفعل مطلقا فلا يتقيد بأحد الوصفين إذ المقيد غير المطلق ونفي الفعل نفي لموجبه ضرورة وله أن يدعي الدم لأن الجرح أسم خاص لما دون النفس فلا يتناول النفس لأن الفعل في النفس إزهاق الحياة وفيما دونها إماتة لجزء ما هو دونها في الجرح ولا مغايرة أبين من مغايرة محل الفعل.(18/306)
وإن أقر أنه لا حد له قبل فلان فادعى سرقة يجب فيها القطع فهو على دعواه لأنه إنما نفى حدا هو حقه وحد السرقة خالص حق الله تعالى حتى لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار ولا يعتبر خصومة المسروق منه في القطع وإنما حقه في دعوى المال وهو ما نفى ذلك بإقراره وإن أقر أنه لا دم له قبل فلان فليس له أن يدعي دما خطأ ولا عمدا لأنه نفي بإقراره الدم مطلقا وقد بينا أن نفي السبب نفي لموجبه والدية في الخطأ موجب الدم كالقصاص في العمد وله أن يدعي ما دون الدم والدم في عرف اللسان عبارة عن النفس خاصة وليس من ضرورة نفي النفس نفي ما دونها ولو أقر أنه لا إرش له قبل فلان لم يكن له أن يدعي دية خطأ ولا صلحا عن دم عمد ولا عن كفالة بدية نفس ولا عن قبل شيء من الجراحة لأن أسم الإرش يعم ذلك كله سواء كان ذلك واجبا بنفس الفعل أو بالصلح على الأصل أو على الكفيل بكفالته به فإقراره بنفي الإرش يتناول ذلك كله والله أعلم .
باب الإقرار بالعتق والكتابة
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه أعتق عبده هذا أمس وهو كاذب عتق في القضاء ولم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى لأن الإقرار خبر محتمل للصدق والكذب لكن دين المقر وعقله يدعوانه إلى الصدق والقاضي مأمور باتباع الظاهر فإذا ترجح جانب الصدق باعتبار الظاهر قضى القاضي بعتقه ولكن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء فإذا لم يسبق من المقر فيه عتق كان خبره في الحقيقة كذبا والكذب بالإخبار عنه لا يصيره حقا كإقرار المقرين به لا يصيره حقا بإخبارهم به فهذا لا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى.
ولو قال :عتقتك أمس وقلت إن شاء الله لم يعتق لما سبق أن عمل الإستثناء في الكلام كعمل الشرط
ولو أقر أنه علق عتقه بشرط لم يكن هذا إقرارا بالعتق فكذلك إذا أقر أنه استثنى(18/307)
ص -146- ... موصولا وكذلك لو قال أعتقتك أمس وإنما اشتراه اليوم فقد أضاف العتق إلى وقت لم يكن مالكا للعتق فيه فهو كقوله أعتقتك قبل أن اشتريتك.
ولو أقر أنه أعتق عبده هذا لا بل هذا عتقا جميعا لأن رجوعه عما أقر به للأول باطل وإقامة الثاني مقامه في الإقرار بعتقه صحيحة فلهذا عتقا ولو قال أعتقتك على مال وقال العبد أعتقتني بغير مال فالقول قول العبد لأن المولى أقر بعتقه وادعى وجوب المال لنفسه في ذمته لأن العتق ينزل بنفس القبول قبل الأداء والمولى مقر بقبوله فلهذا عتق العبد وهو غير مصدق فيما يدعي من المال في ذمة العبد إلا أن يقيم البينة عليه أو يحلف العبد إن لم يكن له بينة ولو قال جعلت أمرك بيدك في العتق أمس فلم تعتق نفسك وقال العبد بل أعتقت نفسي لم يصدق العبد لأن المولى ما أقر بعتقه فإن جعل الأمر في يده لا يوجب العتق ما لم يعتق العبد نفسه والعبد مدع لذلك والمولى منكر ولا قول للعبد في الحال لأنه يخبر بما لا يملك إنشاءه فقد خرج الأمر من يده بالقيام من المجلس .
كذلك لو قال: أعتقتك على مال أمس فلم تقبل وقال العبد بل قبلت أو قال أعتقتني بغير شيء فالقول قول المولى لأنه ما أقر بعتقه فإن إعتاقه بمال تعليق بشرط القبول ولهذا لا يملك الرجوع قبل قبول العبد ولو أقر بتعليق عتقه بشرط آخر لم يقبل قول العبد في إيجاد الشرط ولا في إنكار التعليق بالشرط وكذلك هذا في الطلاق وفي قوله أمرك بيدك واختاري فإن أقام العبد البينة على قبوله أو على إعتاق المولى إياه بغير شيء كان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار المولى.(18/308)
ولو قال لعبده :اتبتك ولم يسم مالا وقال العبد لا بل على خمسمائة فإنه ينبغي في قول أبي حنيفة رحمه الله أن يصدق العبد ولا يصدق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وأصل المسألة فيما إذا اختلف المولى والمكاتب في مقدار بدل الكتابة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله القول قول المولى ويتحالفان وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة البيع لأنه لا يصح إلا بتسمية البدل ويحتمل الفسخ كالبيع وفي قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر القول قول العبد لأن الكتابة إذا تمت بالعتق لا تحتمل الفسخ فتكون بمنزلة العتق على مال والطلاق بمال إذا وقع الاختلاف في مقدار البدل يكون القول قول المنكر في الزيادة ولا يجرى التحالف فلما كان من أصلهما أن الكتابة على قياس البيع وقد بينا في البيع أن إقراره به من غير تسمية الثمن باطل فكذلك في الكتابة فيبقى العبد مدعيا للكتابة بخمسمائة ولا يصدق في ذلك إلا بحجة وعند أبي حنيفة رحمه الله هو بمنزلة العتق والطلاق فإقراره به صحيح وإن لم يسم مالا ثم نقول على قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر المولى لا يتمكن من إنكار أصل الكتابة بعد ما أقر بها وإن ادعى مالا خلاف ما أقر به العبد فالقول قول العبد فعرفنا أنه قد وجب تصديق العبد عندهما إذا ادعى المولى خلاف ما أقر به العبد لم يصدق العبد وتحالفا فكذلك هنا.(18/309)
ص -147- ... ولو قال:كاتبتك أمس على ألف درهم فلم تقبل الكتابة وقال العبد بل قبلتها فالقول قول العبد لأن الكتابة في هذا قياس البيع من حيث إنها لا تحتمل التعليق بالشرط ويلزم الإيجاب فيها قبل القبول فإقراره بالعقد يكون إقرارا بالإيجاب والقبول جميعا ثم قوله فلم تقبل يكون رجوعا عن الإقرار فلا يصح رجوعه كما لو أقر أنه باع عبده من فلان بألف درهم فلم يقبل وقال فلان قبلت بخلاف ما تقدم من العتق والطلاق فإنه يحتمل التعليق بالشرط والإيجاب فيه لازم قبل القبول فإقراره بفعله لا يكون إقرارا منه بقبول العبد والمرأة .
لو أقر أنه كاتب عبده هذا على ألف درهم لا بل هذا وادعى كل واحد منهما الكتابة جاز ذلك لهما لما بينا أن رجوعه عن الإقرار للأول باطل وهذا بخلاف ما لو أقر أنه كاتب هذين العبدين على ألف درهم إلا هذا لأنه هناك أخرج كلامه مخرج الاستثناء والاستثناء صحيح موصولا فإنما يصير مقرا بما وراء المستثنى وفي الأول أخرج الكلام مخرج الرجوع ولا يصح الرجوع عن الإقرار موصولا ومفصولا ولو أقر أنه كاتبه وهو صبي فقال المكاتب بل كاتبتني وأنت رجل فالقول قول المولى لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي الكتابة ولو أقر أنه كاتب هذا قبل أن يملكه أو أنه كاتبه أمس وقال إن شاء الله فالقول قول المولى مع يمينه لأنه وصل كلامه بما ينفي أصل الكتابة بخلاف ما لو قال المولى اشترطت الخيار لانتفى أصل العقد فإن تأثير الخيار في تغيير وصف العقد وجعل حكمه كالمتعلق بالشرط لا أن يصير أصل السبب متعلقا فلم يكن المولى بدعوى الخيار منكرا لأصل العقد بخلاف الإستثناء والبيع في هذا قياس الكتابة والله أعلم.
باب إقرار الكفار(18/310)
قال رحمه الله: وإذا أقر الحربى المستأمن في دار الإسلام بدين لمسلم فهو لازم لأنه أهل أن يجب عليه الحق للمسلم بالمعاملة فيصح إقراره له وهو سبب حادث فيحال به على أقرب الأوقات وهو ما بعد دخوله دارنا بأمان فإن قال أدانني في دار الحرب وقال المسلم في دار الإسلام فالدين لازم عليه سواء قال ذلك موصولا بإقراره أو مفصولا لأنه يدعي تاريخا سابقا لما أقر به من المال وهو غير مصدق في دعوى التاريخ وإن وصل كلامه ولأن بهذا الإضافة لا ينكر وجوب أصل المال فإن المداينة في دار الحرب سبب لوجوب المال للمسلم عليه ولكن لا تسمع الخصومة فيه في دار الإسلام ما لم يسلم أو يصير ذميا فيصير هذا بمنزلة دعوى الأجل وإن ادعاه موصولا بإقراره
وكذلك لو أقر بذلك لمستأمن مثله أو لذمي وكذلك لو أقر بشيء بعينه في يديه أنه له وإقرار المستأمن بالنكاح والطلاق والعتاق والولد والجراحات وحد القذف والإجارة والكفالة وما أشبه ذلك جائز لأن في هذا كله حق العباد والمستأمن ملتزم لذلك مدة مقامه في دارنا حتى إذا باشر سبب ذلك كان مؤاخذا به فكذلك إذا أقر به .
لو أقر بحد زنا أو سرقة فقد عرف أن قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله(18/311)
ص -148- ... الحدود التي هي لله تعالى لا تقام على المستأمن وإن ثبت سببها بالبينة أو بالمعاينة وكذلك إذا أقر به
وعند أبي يوسف رحمه الله في القول الآخر تقام الحدود عليه كما تقام على الذمي فيصح إقراره بها كما يصح إقرار الذمي وهي مسألة كتاب الحدود والفرق بين هذا الحد وحد القذف معروف أن فيه حق العبد ويضمن السرقة إذا أقر بها لأن الضمان من حقوق العباد.
ولو أقر مسلم لذمي بخمر أو خنزير في يده جاز إقراره لأن الخمر مال في حق الذمي فيؤمر بردها عليه بحكم إقراره وكذلك لو أقر الذمي للمسلم بعينها لأن الخمر للمسلم مملوكة وإن لم تكن مالا متقوما فيؤمر الذمي بردها عليه بإقراره ويؤمر المسلم أن يخللها ولو أقر له بخمر أو خنزير مستهلك لم يلزمه شيء كما لو عايناه استهلك الخمر والخنزير على المسلم وهو نظير ما لو أقر له بجلد شاة ميتة يؤمر بدفعه إليه لينتفع به وإن كان مستهلكا لم يلزمه شيء وإن أقر بها لذمي يعني بخمر أو خنزير مستهلك لزمه قيمتها لأنها مال متقوم في حقه يضمن متلفها عليه عندنا .(18/312)
إذا أسلم الذمي فأقر ذمي أنه استهلك له خنزيرا بعد إسلامه وقال المسلم استهلكته قبل إسلامي فهو ضامن لقيمته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وفي قول محمد رحمه الله لا ضمان عليه وهذا بناء على ما سبق إذا قال لحربى أسلم أتلفت مالك أو قطعت يدك حين كنت حربيا وقد بينا هذا الخلاف فهذا قياسه وعلى هذا لو أن ذميا أقر بخمر وقال استهلكتها وأنا حربي وقد علم كونه حربيا من قبل فهوعلى الخلاف الذي بينا وإقرار المرتد بالحقوق جائز إن أسلم وإن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب لم يجز إقراره في كسب إسلامه ويجوز إقراره فيما اكتسبه بعد الردة في قول أبي حنيفة رحمه الله وإقرار المرتدة بذلك كله جائز وعندهما إقرارهما جائز في ذلك إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله هو بمنزلة إقرار الصحيح وعند محمد رحمه الله هو بمنزلة إقرار المريض وهذا نظير اختلافهم في تصرفات المرتد فإن الإقرار تصرف منه كسائر التصرفات وهو مسألة كتاب السير.
ولو أقر المرتد بمكاتبة عبد له أو بعتقه في حال الإسلام لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله إن قتل أو لحق بدار الحرب ويجوز عندهما إلا أن محمدا رحمه الله يقول هو بمنزلة إقرار المريض وإذا أقرت المرتدة أو المرتد بحد في قذف أو سرقة أو زنا أو جراحة عمد فيها قصاص فذلك جائز عندهم لأن الحجر بسبب الزيادة لا يكون أقوى من الحجر بسبب الرق ولأن توقف تصرفه في المال عند أبي حنيفة رحمه الله لتوقف ملكه وذلك غير موجود في العقوبات فأما ما كان من الجراحات التي توجب المال فإقراره بها يوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ويكون نافذا عندهما على ما بينا وذكر حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أن عبدا أتى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأقر بالسرقة مرتين فأمر به فقطع قال(18/313)
ص -149- ... عبد الله وكأني أنظر إلى يده معلقة في عنقه وفيه دليل على صحة إقرار العبد بالأسباب الموجبة للعقوبة وبه يستدل أبو يوسف رحمه الله في اشتراط التكرار في الإقرار بالإقرار إلا أن أبا حنيفة ومحمدا رحمهما الله قالا في الحديث أقر مرتين فقطعه وليس فيه لو لم يكرر إقراره لم يقطعه والسكوت لا يكون حجة.
وذكر عن أبي مالك الأشجعي رحمه الله قال: أتى عبد قد رأيته علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأقر عنده بالزنى فأمر به قنبرا وقال أضربه فإذا قال أتركني فاتركه فلما وفاه خمسين جلدة قال له العبد اتركني فتركه وهو دليل على إقرار صحة العبد بالحد على نفسه ولقوله فإذا قال اتركني فاتركه تأويلان أحدهما إنه إذا رجع عن إقراره فاقبل ذلك منه والثاني أنه علم فقه العبد في أنه لا يقول له أتركني إلا بعد أن يتم عليه حد العبيد وقد ظهر ذلك حين قال له أتركني بعد خمسين جلدة وإذا أقر العبد المحجور بدم عمد وله وليان فعفا أحدهما لم يكن للآخر مال في عتقه لأن صحة إقراره يكون موجبا للعقوبة عليه وكون دمه خالص حقه فإذا آل الأمر إلى أن يكون الواجب مالا بطل إقراره لأن ماليته حق مولاه وكان هو بمنزلة إقراره بالقتل الخطأ.
ولو أقر بسرقة لا يجب في مثلها القطع كان إقراره باطلا لأن كسبه ومالية رقبته حق لمولاه فلا يصدق في إقراره وإقراره بالمال بهذا السبب صحيح كإقراره بالغصب وإقرار الصبي المحجور عليه والمعتوه والمغمى عليه والنائم باطل بمنزلة سائر تصرفاتهم وإقرار السكران جائز كإقرار الصاحي بمنزلة سائر التصرفات ينفذ من السكران كما ينفذ من الصحيح ويستوي في ذلك إقراره بالمال أو بالحد أو بما يصح الرجوع عنه أو بما لا يصح إذا لم يرجع عنه لأن السكر عبارة عن غلبة السرور فلا يؤثر في عقله شيئا فينفذ إقراره كما ينفذ ممن هو صاح وكذلك الأصم والأعمى والمقعد والمفلوج فهذه الآفات لا تؤثر في عقله ولا في لسانه فهو في أقاريره كالصاحي.(18/314)
وإقرار الأخرس إذا كان يكتب ويعقل جائز في القصاص وحقوق الناس لأن له إشارة مفهومة تنفذ تصرفاته بتلك الإشارة ويحتاج إلى المعاملة مع الناس فيصح إقراره بحقوق العباد ما خلا الحدود فإن الإقرار بها يستدعي التصريح بلفظ الزنى والسرقة وبإشارته لا يحصل هذا ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلعل في نفسه شبهة لا يتمكن من إظهارها بإشارته إذ هو لا يقدر على إظهار كل شيء بإشارته ولهذا لا تقام عليه الحدود بالبينة أيضا لأنا لو أقمناها كان إقامة للحد مع الشبهة ولا يجوز إقرار الأب على ابنه الصغير أو الكبير المعتوه بشيء من مال أو جناية لأنه شهادة منه على غيره وشهادة الواحد على غيره لا تكون ملزمة ولأن ولاية الأب على ولده مقيدة بشرط النظر في المصلحة له عاجلا وذلك لا يحصل بإقراره عليه وكان هو في الإقرار عليه كأجنبي آخر والله أعلم.(18/315)
ص -150- ... باب الإقرار بالكتاب
قال رحمه الله: وإذا كتب الرجل ذكر حق على نفسه بشهادة قوم أو كتب وصية ثم قال اشهدوا بهذا لفلان علي ولم يقرأ عليهم الصك ولم يقرأه عليه فهذا جائز إذا كتبه بين أيديهم بيده أو أملاه على إنسان فكتبه لأن المكتوب معلوم لهم وهو بقوله اشهدوا بهذا لفلان علي صار مقرا بجميع ما في الكتاب مشهدا لهم على ذلك ولا إظهار أتم من هذا فالإقرار بيان باللسان وذلك بالإملاء حاصل ولكن لا يؤمن النسيان فالكتاب يؤمن من ذلك ما يكون من البيان وإن لم يحضروا كتابته ولا إملاءه لم تجز شهادتهم لأنه لا علم لهم بما في الكتاب حين لم يقرأه عليهم وقال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] فمن لم يعلم ما شهد عليه لا تجوز شهادته وإن كتب رجل كتابا إلى رجل من فلان إلى فلان أما بعد فإن لك علي من قبل فلان كذا وكذا درهما فذلك جائز عليه إذا كتب ما يكتب الناس في الرسائل.
وفي القياس: لا يجوز هذا لأن الكتاب محتمل قد يكون لتجربة الخط والقرطاس وقد يكون ليعلم كتب الرسالة والمحتمل لا يكون حجة ولكنه استحسن للعادة الظاهرة بين الناس أنهم إنما يكتبون كتاب الرسائل بهذه الصفة لإظهار الحق وإعلام ما عليه من الواجب فإذا ترجح هذا الجانب بدليل العرف حمل الكتاب عليه بمنزلة لفظ محتمل يترجح فيه معنى بدليل العرف وإن جحد وشهدت البينة أنه كتبه أو أملاه جاز عليه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك هذا في الطلاق والعتاق وسائر الحقوق ما خلا القصاص والحد فإني آخذ فيها بالقياس لأنها عقوبات تدرأ بالشبهات فاحتمال جهات أخرى سوى ما ترجح بدليل العرف يصير شبهة في ذلك وهو نظير الاستحسان في صحة إقرار الوكيل على موكله في مجلس القاضي أنه لا يجعل حجة في القصاص والحدود أخذا بالقياس لبقاء شبهة عدم الخصومة حقيقة في الإقرار ولكنه يضمن السرقة بهذا الكتاب لأن الضمان يثبت مع الشبهات .(18/316)
إن كتب في الأرض أو في صحيفة أو خرقة لفلان علي ألف درهم لم يلزمه شيء لأنه لا عرف في إظهار الحق الواجب بهذا الطريق فيبقى محتملا في نفسه والمحتمل لا يكون حجة بخلاف المكتوب على رسم كتب الرسائل للعرف الظاهر فيه بين الناس وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أجيز كتاب القاضي حتى يشهد الشهود على ما في جوفه وهو قول محمد رحمه الله لأن المشهود به ما في الكتاب فلا بد أن يكون معلوما للشهود وإن يشهدوا عليه فإذا كتبه بين أيديهم وقال أشهدوا عليه جاز لأنه صار معلوما لهم وإن لم يحضروا الكتاب لم تجز شهادتهم حتى يقرأ عليهم فأما عند أبي يوسف رحمه الله إذا أشهدهم على الكتاب والخاتم وشهدوا على ذلك أجيزه وإن لم يعلموا ما فيه استحسانا لأن كتاب القاضي إلى القاضي قد يشتمل على شيء لا يريد أن يقف عليه غيرهم ففي تكليف إعلامهم ما في الكتاب(18/317)
ص -151- ... نوع حرج وبالختم يقع الأمن من التغيير والتبديل فلهذا استحسن أبو يوسف رحمه الله قبول ذلك ير أنهما قالا كتاب الخصومة لا يشتمل على التبديل لذلك كتاب آخر فلا بد من إعلام الشهود ما في الكتاب.
ولو قرأ رجل على رجل صكا فقال أشهد عليك بما في هذا الكتاب فقال نعم فسمع ذلك آخر وسعه أن يشهد عليه لأن معنى كلامه أشهد على جميع ما قرئ وذلك معلوم للسامع والقارئ جميعا وهذا من المجيب إقرار تام فلمن سمعه أن يشهد عليه سواء أشهده عليه أو لم يشهده
قال الشعبي رحمه الله: إذا أشهد الرجل قوما على شهادة فسمع ذلك آخرون فشهدوا فهي شهادة جائزة وإذا كتب الرجل ذكر حق لفلان عليه بكذا وعندهم قوم حضور ثم قال اختموا عليه فليست هذه بشهادة لأن قوله اختموا محتمل يجوز أن يكون معناه لا تظهروه فإنه غير واجب على والمحتمل لا يكون حجة فإن الشيء يختم عليه ليكون محفوظا تارة وليكون مكتوما أخرى(18/318)
وكذلك لو قالوا:أنشهد عليك فقال اختموه ولو قالوا نختم هذا الصك فقال اشهدوا كان جائزا لأن الشهادة لا تكون إلا للاستئمان بالحق والأمن من الجحود فيصير بهذا اللفظ مقرا بوجوب الحق عليه والحاصل أن لفظ الشهادة خاص شرعا لإظهار الحقوق ألا ترى أن الشاهد عند القاضي لو أبدل هذه اللفظة بلفظة أخرى لم يقبل القاضي منه شهادته فكذلك الذي يشهد على الكتاب إذا أبدله بلفظ آخر هو محتمل لا يكون إظهارا للحق الواجب عليه ولو كتب رسالة من فلان إلى فلان أما بعد فإنك كتبت إلي إني ضمنت لك عن فلان إلف درهم ولم أضمن لك ألفا وإنما ضمنت لك عنه خمسمائة وعنده رجلان شهدا كتابته ثم مجيء كتابه فشهدا بذلك عليه لزمه وإن لم يقل لهما أشهدا ولا اختما فللاستحسان الذي بينا من حيث العرف لا تكتب الرسالة بهذه الصفة إلا للإعلام بالحق الواجب ثم محوه الكتابة بمنزلة الرجوع عن الإقرار ففرق بين هذا وبين الصك فإن هناك ما لم يقل أشهدوا علي بهذا ألا يكون ملزما إياه وهذا فرق مبني على العرف أيضا فإن الصكوك توثيق بالإشهاد عليها عادة ولا يتم إلا بها وكتب الرسائل تخلو عن الإشهاد عليها عادة فلهذا كان مجرد الكتابة بين أيديهم ملزما إياه وإن لم يقل أشهدوا وكذلك الطلاق والعتاق وكل حق يثبت مع الشبهات ولو كتب هذه الرسالة قدام رجلين أميين لا يقران ولا يكتبان فامسك الكتاب عندهما وشهدا به عليه فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله
أما لو أقرأ الكتاب عندهما وشهدا به عليه فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله بمنزلة ما لو أقرأ الكتاب عند القاضي أنه كتبه إليه قبل أن يفسر القاضي ما فيه وهذا كله بناء على أصل أبي يوسف رحمه الله أن علم الشهود بما في الكتاب ليس بشرط وأما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلا يجوز حتى يعلما ما في الكتاب أو يقرآنه عند القاضي مفسرا وأصله(18/319)
ص -152- ... فيما ذكر كتاب أدب القاضي أن القاضي إذا وجد في خريطته سجلا فيه حكمه وختمه ولم يتذكر الحادثة فليس له أن يقضي به عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له ذلك فمحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين تلك فيقول أصل الحادثة هناك كان معلوما عنده ثم نسيه وقد أمن من التبديل فيه لكونه تحت خاتمه وهنا أصل الحادثة لم يكن معلوما للشاهد وهو أمي لا يعرف الكاتب ولم يسمع الكاتب يخبر فلم يسند علم الشهادة به أصلا ولو كتب على نفسه صكا قدام أميين ثم قال أشهدا عليه وهما لا يعلمان ما فيه لم يجز ذلك بالاتفاق لأن الإشهاد على ما ليس بمعلوم للشاهد باطل فذكره كعدمه وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول فيقول الإشهاد على كتاب الرسالة ليس بشرط فعلم الشاهد بما فيه لا يكون شرطا أيضا والإشهاد على الصك شرط لجواز الشهادة عليه فعلم الشاهد بما فيه يكون شرطا أيضا .
لو كتب رسالة في تراب لم يجز لما بينا من انعدام الفرق المرجح في هذا إلا أن يقول أشهدا علي بهذا فحينئذ هو جائز لأن بالكتابة في التراب صار معلوما لهم فإذا أشهدهم على معلوم صار كأنه ذكر ذلك بلسانه بين أيديهم وكذلك إن كتبه في خرقة أو صحيفة أو لوح بمداد أو بغير مداد إلا أنه يستبين فيه الخط ثم قال أشهدا علي بذلك أو أقر عند القاضي أنه كان كتب لم يلزمه ذلك لأن الكتابة التي لا يستبين فيها الخط كالصوت الذي لا تستبين فيه الحروف وذلك لا يكون إقرارا بشيء فكذلك هنا وهذا لأن الإشهاد إنما يصح على ما يكون معلوما للشهود والكتابة التي يستبين فيها الخط لا توجب إعلام شيء لهم ولأن المقصود بالكتاب الحفظ عن النسيان وشيء من هذا المقصود لا يحصل بالكتابة التي لا يستبين فيها الخط فوجوده كعدمه.(18/320)
ولو كتب في صحيفة حسابه أن لفلان علي ألف درهم وشهد شاهدان حضرا ذلك أو أقر هو عند الحاكم به لم يلزمه إلا أن يقول أشهدوا علي به لأن ما يكتب في صحيفة الحساب محتمل وقد بينا اختيار أئمة بلخ رحمهم الله فيه فيما سبق ولو كتب أن لي على فلان ألف درهم في صك بخطه قدام شاهدين وبمحضر ممن عليه المال وهو كان يعرف ما يكتب ثم قال للشاهدين أشهدا فقال فلان المكتوب عليه نعم فهو جائز وهما في سعة بأن يشهدوا أنه أقر وأشهدهما على نفسه لأن كتابة صاحب الحق صار معلوما كما يصير معلوما كتابة من عليه الحق وتمام الصك بالإشهاد وقد حصل ذلك بقول من عليه الحق نعم لأن معناه نعم فاشهدوا على ذلك.
ألا ترى أن في الإقرار باللسان لا فرق بين أن يتكلم به صاحب الحق فيقول أليس لي عليك كذا فيقول من عليه بلى وبين أن يتكلم به من عليه الحق فكذلك في الكتاب والله أعلم بالصواب.(18/321)
ص -153- ... باب الإقرار بالدين في الحيوان
قال رحمه الله: فإذا أقر الرجل أو المرأة أن لفلان علي عبدا ثم أنكره فإنه يقضى عليه بقيمة عبد وسط كما يقضى في المهر في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله القول قوله مع يمينه فمحمد رحمه الله يقول إقراره بالعبد دينا عليه كإقراره بغصب عبد هو عين في يده وذلك لا يتعين به وصف بل على أي وصف بينه قبل قوله فيه فكذلك هنا ولأن المقر به مجهول فيكون البيان فيه إلى المقر ولا يتعين لوجوب المقر به سبب هذا لمطلق إقراره لأنه لم يتعرض في إقراره لسبب وبين الأسباب معارضة فلا تتعين وتعيين صفة الوسط بتعين بعض الأسباب.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: إنه أقر على نفسه بالعبد مطلقا فيصرف مطلق الإقرار إلى السبب الذي يثبت به العبد المطلق دينا في الذمة وذلك كالنكاح ويتعين فيه وكأنه صرح بذلك فأقر لامرأة بدين عليه صداقا ولو صرح بذلك تعين فيه الوسط فكذلك هنا وكذلك إن أقر به لرجل فلعل هذا الرجل كان زوجه ثلاثة على عبده ثم ماتت فصار ذلك ميراثا للأب وكذلك إن كان المقر امرأة فلعلها ضمنت الصداق عن الزوج ثم ماتت المنكوحة فصار ذلك ميراثا لأبيها على الضامنة مع أن العبد المطلق كما يثبت صداقا يثبت في الخلع والصلح عن دم العمد ويتعين فيه الوسط على وجه يكون الواجب مترددا بين العبد وبين قيمته فأيهما أتى به جبر الطالب على قبوله فبالإقرار تثبت هذه الصفة أيضا.(18/322)
وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على الأصل الذي بينا في أول الكتاب أن عند أبي يوسف رحمه الله مطلق الإقرار بالمال ينصرف إلى التزام بسبب عقد مشروع وعند محمد رحمه الله لا تتعين هذه الجهة وقد بيناه في الإقرار للجنين وإذا قال له عبد فرض عليه قيمة عبد والقول فيها قوله مع يمينه أما عند محمد رحمه الله فظاهر وكذلك عند أبي يوسف رحمه الله هنا لأنه صرح بالقرض وكذلك يمنع مع تعين العقود التي يثبت فيها الحيوان دينا في الذمة وتتعين الصفة المتوسطة باعتبار ذلك فإذا سقط اعتباره بقي إقراره بقبض عبده بطريق القرض واستقراض الحيوان وإن كان باطلا فالمقبوض يصير مضمونا بالقيمة كالمغصوب ولو أقر بالغصب كان القول في تعيينه قوله ولو كان مستهلكا فالقول في بيان قيمته قوله فكذلك هنا .
لو قال له:علي دابة كان عليه قيمة أي الدواب لأن أسم الدابة يتناول أجناسا مختلفة ولا يصح التزامها في شيء من العقود بهذا اللفظ فلم يتعين لما أقر به وضعا بل البيان في ذلك إلى المقر فإذا جاء بدابة بعينها وقال هي هذه فالقول قوله إن جاء بفرس أو برذون أو بغل أو حمار ولا أقبل منه غير ذلك لأن أسم الدابة يتناول هذه الأجناس الثلاثة بدليل ما لو حلف لا يركب الدابة لا يتناول إلا هذه الأجناس الثلاثة وذلك معروف في كتاب الأيمان وإنما يصح البيان من المقر إذا كان مطلقا للفظه(18/323)
ص -154- ... ولو أقر أن لفلان عليه دارا أو أرضا أو نخلا أو بستانا فحقيقة هذا الكلام محال لأن حقيقته إقرار بالدين وهذه الأشياء لا تكون دينا بحال ولكن إذا تعذر العمل بحقيقة الكلام وله مجاز محتمل يحمل عليه فكأنه قال علي رد هذه الأشياء قال صلى الله عليه وسلم:"على اليد ما أخذت حتى ترد" فيكون بمنزلة إقراره بغصب دار أو بستان فيؤخذ بأدنى ما يكون ذلك حتى يدفعه إليه لأن الأدنى هو المتيقن به .
لو أقر أن لفلان عليه ثوبا هرويا فما جاء به من ثوب هروي بعد أن يحلف قبل هذا على قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله فينبغي أن ينصرف إقراره إلى الوسط على قياس العبد وصح في قولهم جميعا وأبو يوسف رحمه الله يفرق فيقول هناك العبد المطلق لا يثبت إلا دينا إلا في معاوضة مال بما ليس بمال ويتعين فيه الوسط وهنا الثوب الهروي يثبت دينا في مبادلة مال كالسلم فلا يتعين فيه الوسط بل لا بد من بيان الوصف فيه فلا يتعين لإقراره هنا ببعض الأسباب فلهذا قبل قوله في بيانه بعد أن يحلف إذا ادعى المقر له شيئا آخر
وكذلك لو قال: له على ثوب ولم يسم جنسه فأي ثوب جاء به قبل منه اللبيس والجديد فيه سواء ولا يترك حتى يسمى ثوبا لأن بمطلق أسم الثوب لا يثبت الثوب دينا في شيء من العقود فيصير كلامه عبارة عن الإقرار بالغصب ومع بيان الجنس والصفة والأجل يثبت دينا فلهذا كان القول في بيانه قول المقر ولو أقر أنه لا هبة له قبل فلان ثم ادعى صدقة أو شراء فهو على دعواه لأنه ادعى غير ما نفاه .(18/324)
ولو قال لا بيع لي قبل فلان ثم ادعى عبدا جعله له من صلح أو قال لا صلح لي قبل فلان ثم ادعى عبدا شراء كان على دعواه لأنه ادعى غير ما نفاه ولو أقر أنه ليس له من هذا العبد شيء ثم ادعى أنه اشتراه لغيره قبل إقراره لم يقبل ذلك منه لأنه مناقض في كلامه ففيما ما اشتراه لغيره مما هو من حقوق العقد من القبض والخصومة في العبد كأنه اشتراه لنفسه ولو ادعاه لنفسه بعد ذلك الإقرار لم يسمع منه فكذلك إذا ادعى أنه اشتراه لغيره وإذا أقر بالرهن في السلم لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول حتى يعاين الشهود التسليم ويجوز في قوله الآخر وهو قولهما وقد بيناه فيما سبق فإن كان في يد الراهن أمر بالدفع إلى المرتهن لأن ثبوت إقراره بالبينة كثبوته بالمعاينة وإن تصادقا في رهن بغير قبض أو على رهن مشاع فهو باطل لأن الرهن لا يتم إلا بالقبض والشيوع يمنع ثبوت اليد بحكم الرهن عندنا فإنما تصادقا على سبب غير ملزم ولو عاينا ما تصادقا عليه لا يجبر على التسليم ولو أقر أنه رهن هذا العبد من فلان بمائة درهم وأنه قد قبضه منه وقال فلان بمائتي درهم فالرهن جائز وهو مائة درهم لأن المرتهن يدعي زيادة في دينه والزيادة لا تثبت بدعواه والدين ليس ببدل عن الرهن فاختلافهما في مقدار الدين لا يتضمن التكذيب في أصل الرهن فلهذا كان رهنا بما اتفقا من المال عليه والله أعلم.(18/325)
ص -155- ... باب الإقرار بكذا وإلا فعليه كذا
قال رحمه الله :قد تقدم بيان الخلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في قوله لفلان علي ألف درهم وإلا فلفلان أن عند أبي يوسف رحمه الله هذا بمنزلة قوله أو لفلان وعند محمد رحمه الله هو للأول دون الثاني ففرع على ما ذكر ثمة وقال إذا قال لفلان علي ألف درهم أقرضنيها أمس وإلا فعبده حر فهذا منه تأكيد للإقرار باليمين لأن العتق يحتمل التعليق بالشرط فيلزمه المال ولا يعتق العبد كما لو حلف على ذلك بطلاق أو بحج ولو أقر أنه استقرض من فلان ألف درهم وقبضها أو لفلان عليه ألف درهم فالإقرار للأول جائز والثاني مخاطرة لا يلزمه أما على قول محمد رحمه الله فظاهر وأما على قول أبي يوسف رحمه الله فكذلك لأنه لا مجانسة بين الكلامين فإن القبض بحكم الاستقراض فعل وآخر كلامه قول فلا يمكن أن يجعل قوله وإلا بمعنى الترديد كحرف أو فبقي مقرا بالمال للأول ومعلقا إقراره للثاني بشرط عدم الاستقراض والقبض من الأول وتعليق الإقرار بالشرط لا يجوز .
وكذلك لو قال: ابتعت من فلان هذا العبد بألف درهم وإلا فلفلان علي خمسمائة إلا أن هنا إن أقر رب العبد ببيع العبد لزمه الألف وإن أنكر ذلك لا يلزمه شيء لأنه صار رادا لإقراره حين أنكر بيع العبد منه وإقراره بالخمسمائة كان معلقا بشرط وهو باطل من أصله ولو قال قد أعتقت عبدي هذا وإلا فغلامي هذا حر عتق الأول دون الثاني لأنه أكد عتق الأول باليمين بعتق الثاني إذ لا مجانسة بين الكلامين لمحل قوله أو ولو قال هذا حر وإلا فهذا أو أعتقت هذا وإلا فقد أعتقت هذا كان مخيرا بينهما عند أبي يوسف رحمه الله لأنه لما تجانس الكلامان فقوله وإلا بمنزلة قوله أو كما لو قال لفلان علي ألف درهم وإلا فلفلان علي مائة دينار أما عند محمد رحمه الله في هذا كله فالأول إيجاب صحيح والثاني باطل لأنه بمنزلة التعليق بالشرط والله أعلم .
باب إقرار الرجل في نصيبه(18/326)
قال رحمه الله: وإذا كانت الدار بين رجلين فأقر أحدهما أن نصيبه منها لفلان لا حق له فيه صح إقراره لثبوت ولاية التصرف له على نصيبه وكذلك إن أقر ببعض نصيبه من نصف أو عشر أو غير ذلك وكذلك لو أقر له بنصف الدار مطلقا ينصرف إقراره إلى نصيبه خاصة لأن قصده تصحيح كلامه ولا يصح إلا بأن يحمل إقراره على نصيبه ولو قال له ربع جميع هذه الدار ولي ربع ونصفه ولصاحبي ربع ونصفه وجحد شريكه ذلك فإن نصف الدار حصة المقر بين المقر والمقر له على خمسة للمقر سهمان وللمقر له ثلاثة لأن المقر يعامل في نصيب صاحبه نفسه كأن ما أقر به حق ولا يصدق على غيره وقد زعم المقر هنا أن حق المقر له في سهمين من ثلثه وحقي في ثلثه وحق شريكي في ثلثه إلا أن شريكه ظلمهما حين أخذ زيادة على مقدار حقه فلا يكون ذلك الظلم على أحدهما خاصة بل يجعل ذلك كالثاوي(18/327)
ص -156- ... ويبقى ما في يد المقر تصرف فيه المقر له بسهمين والمقر بثلثه فيكون مقسوما بينهما على خمسة .
وإذا أقر أن لفلان عليه ألفا وأنه قد قضاها إياه فوصل الإقرار بهذا ثم جاء بالبينة أنه قضاها إياه قبل ذلك منه استحسانا وفي القياس لا يقبل وهو قول زفر رحمه الله لأن كلامه محال فإنه أقر بوجوب المال عليه في الحال وما قضاه قبل هذا لا يكون عليه في الحال فكان مناقضا في دعوى القضاء والكلام المحال والتناقض لا يمكن إثباته بالبينة ولكن استحسن للعرف فإن الناس يذكرون هذا اللفظ ويريدون به أنه كان له عليه ذلك .
ألا ترى أن الرجل يقول هذا الثوب للأمير كسانيه أو هذه الدابة للأمير حملني عليها والمراد أنه كان له لا أنه في الحال له كذلك هنا ولو قال له علي ألف درهم ثم قال بعد ماسكت قضيتها إياه قبل أن أقر بها وجاء بالبينة لم يقبل منه لأن قوله قضيتها إياه بيان مغاير لظاهر كلامه فإن ظاهر كلامه الإخبار بوجوب المال عليه في الحال على احتمال أن يكون مراده أنه كان ومثل هذا الكلام إنما يسمع موصولا لا مفصولا فإذا سكت تقرر المال عليه واجبا في الحال فهو في قوله قضيتها إياه قبل أن أقر بها مناقض في كلامه.(18/328)
ولو قال: كان له علي ألف درهم ثم قال قد قضيتها إياه قبل أن أقر به وجاء بالبينة قبلت بينته لأن قوله كان كذا لا يكون تصريحا منه بقيامه في الحال وإنما يجعل قائما باعتبار استصحاب الحال لأن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه وإنما يصار إلى استصحاب الحال إذا لم يقم الدليل بخلافه وقد قام الدليل هنا حين أتى بالبينة على ما ادعى من القضاء بخلاف ما سبق فإن كلامه الأول هنا تصريح بوجوب المال عليه في الحال فهو بقوله كنت قضيتها من قبل يكون مناقضا فيما صرح به وعلى هذا لو قال هذا العبد لفلان اشتريته منه فوصله بإقراره وأقام البينة على الشراء قبلت بينته استحسانا ولو قال بعد ما سكت اشتريته منه قبل الإقرار أو وهبه لي أو تصدق به علي لم تقبل بينته استحسانا فهذا والأول سواء.
ولو أقر أن هذا العبد الذي في يده عبد لفلان اشتريته منه بألف درهم ونقدته الثمن ثم قال بعد ذلك اشتريته من فلان الآخر بخمسمائة درهم ونقدته الثمن فإن أقام البينة على ذلك كله فهو جائز وعليه اليمين للأول والثمن للآخر ومراده من هذا الجواب إذا أقام البينة على التعيين فقط دون نقد الثمن فأما إذا أقام البينة على نقد الثمن فلا شيء لواحد منهما وإذا أقام على التعيين فقط فالمبيع مقبوض له وثمن المبيع المقبوض يكون متأكدا على المشتري وفي الذمة سعة بالحقوق فلهذا لزمه الثمن لكل واحد منهما وإذا لم تقم بينة على ذلك فالعبد للأول إذا جحد البيع لأن إقراره بالشراء منه إقرار بملك أصل العبد له ولم يثبت شراؤه منه حين جحده فعليه رد العبد عليه وقد أقر للثاني أنه قبض العبد منه بجهة البيع فإن صدقه في ذلك فله الثمن خمسمائة لأنه غير مصدق عليه فيما يدعي من نقد الثمن إذا لم يصدقه في ذلك.(18/329)
ص -157- ... وإن جحد البيع ضمن له المقر قيمة العبد لأن المقبوض على جهة الشراء مضمون بالقيمة على القابض كالمقبوض بحقيقة الشراء إذا لم يجب به الثمن المسمى وكذلك هذا في الدار والأرض والعروض وإذا أقر الرجل أن هذا العبد في يديه بينه وبين فلان ثم قال بعد ذلك هو بيني وبين فلان الآخر ثم تخاصموا إلى القاضي فإنه يقضي للأول بنصيبه لأنه شركه بنفسه في العبد وعند ذلك هو كان مالكا لجميع العبد ظاهرا فيكون كلامه إقرارا بالنصف ثم ساوى الثاني بنفسه في العبد وعند إقراره للثاني ما كان يملك في المقر به إلا نصفه فصار مقرا له بنصف ذلك النصف وساوى الثالث بنفسه في العبد وعند ذلك ما كان يملك من العبد إلا ربعه فصار مقرا له بنصف ذلك الربع وهو الثمن ويبقى في يد المقر الثمن.
وكذلك لو أقر على ميت هو وارثه فإقراره فيما يخلف الميت بمنزلة إقراره على نفسه ابتداء ولو أقر بالعبد كله لفلان ثم قال بعد ذلك هو لفلان فإنه للأول ولا شيء للآخر إلا أن يدفعه إلى الأول بغير قضاء فحينئذ يضمن للآخر قيمته وقد بينا هذه الفصول في إقراره بالغصب والوديعة والعارية فيما اتفقوا عليه واختلفوا فيه .
ولو كانت دابة في يدي رجل فقال استودعني فلان نصف هذه الدابة ثم قال استودعني فلان نصف هذه الدابة ثم قال استودعني فلان آخر نصف هذه الدابة فينصرف مطلق إقراره إلى ذلك ثم يضمن للثالث نصف قيمتها عند أبي يوسف رحمه الله إذا دفع بغير قضاء إلى الأولين وعند محمد رحمه الله سواء دفع بغير قضاء أو بقضاء على ما بينا فيما سبق في دار في يد رجل ثم أقام الآخر البينة عليه أنه أقر إنها له وأقام ذو اليد البينة أن المدعي أقر أنها له فالثابت من الإقرارين بالبينة كالثابت بالمعاينة فيتغايران للتعارض فتبقى الدار في يده على ما كان وإن شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة جازت الشهادة على ألف وإن ادعى المدعي أكثر المالين لا تفاق الشاهدين على ألف لفظا ومعنى.(18/330)
وكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لو شهد أحدهما بألف والآخر بألفين وعند أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل الشهادة هنا لاختلاف الشاهدين في اللفظ وهي مسألة دوارة في الكتب معروفة بيناها في كتاب الطلاق وإن شهدا على أنه أقر بألف فقال أحدهما كنا جميعا وقال الآخر كنت وحدي فالشهادة جائزة لأن الإقرار قول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فبهذا لا يختلف المشهود به ولو ادعى على رجل ألف درهم فقال قد أخذت منها شيئا فقد أقر بها لأن الهاء والألف في قوله منها كناية عن الألف فكأنه قال قد أخذت من الألف التي لك على شيئا .
وكذلك إذا قال: كم وزنها أو متى حلها أو ما ضربها أو قد برئت إليك منها أو قد أديتها إليك فهذا كله إقرار بألف لما بينا ولو قال قد برئت إليك من كل قليل وكثير كان لك على لم يكن هذا إقرارا بالألف ولكنه إقرار بشيء لأنه لا يؤخذ من قوله الإيفاء(18/331)
ص -158- ... فيتضمن الإقرار بشيء مجهول الجنس والقدر فيكون مجبرا على بيانه وإذا بينه يحلف الطالب ما قبضه منه ويحلف المطلوب ما عليه غير هذا لأن الطالب يدعي عليه زيادة وهو لذلك منكر فالقول قوله مع يمينه والله أعلم.
باب الإقرار بما قبضه من غيره
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أنه أخذ ثوبا من دار بينه وبين آخر فادعى عليه الشريك نصف الثوب وأنكر المقر فالقول قول المقر لأن الثوب في يده وإقراره بالأخذ من دار مشتركة لا يتضمن الإقرار بالثوب غير متولد من الدار بل موضوع فيها وكل واحد من الشريكين ساكن في الدار يضع أمتعته فيها ثم يأخذها منها فلا يكون مقرا باليد للشريك في الثوب ولو أقر أنه قبض من بيت فلان ألف درهم ثم قال هو لي فالمال لصاحب البيت لأنه أقر بالأخذ من بيته فهو كإقراره بالأخذ من يده لأن ما في ملك الإنسان يكون في يده حكما لو نازعه فيه غيره كان القول قوله فيؤمر بالرد عليه حتى يثبت ما يدعيه من الملك لنفسه.
وكذلك إن زعم أنه لآخر إلا أنه يضمن للثاني مثله لأن إقراره حجة في حق نفسه وقد أقر بأنه قبض ملكه وتعذر عليه رده فيضمن له مثله وكذلك لو قال قبضت من صندوق فلان مائة درهم أو من كيسه أو سفطه ثوبا هرويا أو من قريته كرا من حنطة أو من نخله كرا من تمر أو من زرعه كرا من حنطة فهذا كله إقرار بأنه أخذ ما كان في يد فلان فعليه رده ولو قال قبضت من أرض فلان عدل زطي ثم قال مررت فيها مارا فنزلتها لم يصدق إذا لم يعرف نزوله فيها ويقضي بالزطي لصاحب الأرض وقد بينا هذا إلا أن تكون الأرض طريقا معروفا للناس أو يكون له التصرف فيها فالقول قوله حينئذ.(18/332)
وكذلك القرية إذا كان الطريق فيها لأنه متمكن من التصرف فيها بالنزول فيكون قياس الدار المشتركة التي يمكن كل شريك من السكنى فيها فلا يتضمن كلامه الإقرار بأنه خذ للعدل من صاحب الأرض ولو قال أخذت من دار فلان مائة درهم ثم قال كنت فيها ساكنا بأجرة فإن علم ذلك أو بينه بالبينة فهو بريء من المال وإلا لم يصدق وأمر برد المال لأنه إذا لم يثبت سبب يده على الدار في وقت ما يكون هذا إقرارا منه بأخذ المائة من صاحب الدار.
ولو شهد شاهدان أن فلانا أتى أرض فلان هذه فاحتفر فيها واستخرج منها ألف درهم وزن سبعة وادعاها رب الأرض وجحد الحافر أو أقر بذلك وادعى أن المال له فأني أقضي بها لرب الأرض لأن شهادتهم على أخذها من ملكه كشهادتهم على أخذها من يده أرأيت لو شهدوا أنه ضرب صاحب الأرض حتى أوقعه أو قاتله حتى غلبه ثم احتفر الأرض وأخرج المال أما كان يؤمر بالرد عليه فهذا مما لا يشكل على أحد أنه يؤمر برده وكذلك لو شهدوا أنه أخذ من منزله كذا أو من حانوته أو أخذ دهنا من قارورته أو سمنا من زقه فهذا وشهادتهم على الأخذ من يده سواء(18/333)
ص -159- ... وكذلك لو أقر أنه أخذ سرجا كان على دابة فلان أو لجاما أو حملا من حنطة كانت على دابة فلان أو طعاما كان في جولق فلان قضي به له لإقراره بالأخذ من يده فإن دابة فلان وما عليها من يده وكذلك لو أقر أنه أخذ بطانة جبته أو ستر بابه فالإضافة لملكه بمنزلة الإضافة إليه في أنه إقرار بالملك له.
وكذلك لو أقر أنه ركب دابة فلان أو لبس ثوب فلان أو استخدم خادمه ثم أخذه فلان آخر منه فهذا كله إقرار على نفسه بفعل هو غصب من ملك الأول فيؤمر بالرد عليه وإن عجز عن الرد كان ضامنا ولو قال فلان حملني على دابته أو في سفينته لم يضمن شيئا لأنه ما فعل بنفسه في ملك الغير وإنما أقر بفعل صاحب الدابة وذلك غير موجب للضمان عليه وكذلك لو أقر أنه حمل على دابة فلان هذا فعل ما لم يسم فاعله فلا يصير به مضيفا للحمل على نفسه ولا مقرا على نفسه بسبب موجب للضمان .
ولو أقر أنه أخذ ثيابا من حمام فلان لا يضمن شيئا لأن الناس يدخلون الحمام فيضعون ثيابهم فيها ثم يأخذونها فلا يتضمن هذا اللفظ الإقرار بيد أصلية لصاحب الحمام في الثياب وكذلك المسجد الجامع والكعبة والخان والأرض ينزلها الناس ويضعون فيها الأمتعة ولو أقر أنه وضع ثوبه في بيت فلان لم يضمن عند أبي حنيفة رحمه الله أن ادعاه رب البيت ويضمنه عندهما وهو نظير ما سبق إذا قال أسكنته داري ثم أخذتها منه ولو أقر أنه أخذ ثوبا من طريق فلان أو من فناء فلان لا ضمان عليه لأن الفناء أسم لسعة خارجة عن ملكه معدة لمنافعه من كسر الحطب وإلقاء الكناسة ونحوها فلا تكون تلك المنفعة في يد فلان على الخصوص بل للناس أن ينتفعوا بها وكذلك الطريق(18/334)
ولو قال: أخذت ثوبا من أجير فلان فهو للأجير دون المستأجر من يده ويد الأجير في أمتعته يد نفسه حتى لو نازعه في شيء من ذلك فإن القول قول الأجير ولو أقر أنه أخذ ثوبا من مسجد فلان لم يكن عليه ضمان إلا أن يكون المسجد له خاصة في داره فيكون من جملة ملكه وما فيه يكون في يده فيضمنه ولو قال من هذه البيعة أو الكنيسة أو بيت النار أو القنطرة أو الجسر أو كل موضع للعامة مما لا يد عليه فيه لأحد لأن له حق وضع الأمتعة في هذه المواضع فلا يتضمن كلامه الإقرار بأخذه من يد إنسان والله أعلم .
باب إقرار الرجل على نفسه وعلى غيره
قال رحمه الله:وإذا قال الرجل لفلان علي وعلى فلان ألف درهم فجحد الآخر لزم المقر نصفه لأنه عطف الآخر على نفسه والعطف يقتضي الاشتراك في الخبر وإقراره على نفسه حجة وعلى الآخر ليس بحجة.
وكذلك لو سمى اثنين معه لزمه الثلث وكذلك لو سمى عبدا محجورا أو صبيا أو حربيا أو ذميا أو رجلا لا يعرف فعلى المقر حصته على عددهم لأن جميع من سمى ذمته صالحة لالتزام المال فيتحقق الاشتراك ويكون مقرا على نفسه بحصته خاصة .(18/335)
ص -160- ... ولو قال: أن لفلان عينا ألف درهم ولم يسم أحدا ثم قال عنيت فلانا وفلانا لزمه المال كله إن ادعاه الطالب عليه عندنا وعند زفر رحمه الله لا يلزمه إلا حصته لأن إقراره بلفظ الجمع وحقيقة لفظ الجمع لا تتناول المفرد فكان القول قوله في بيان العدد الذي تضمنه الإقرار لأن إبهام العدد في المقر عليه بمنزلته في المقر به فيرجع في بيانه إليه وكنا تركنا هذه الحقيقة لدليل عرف الناس فقد يخبر الواحد عن نفسه بعبارة الجمع تارة وبعبارة المفرد أخرى ألا ترى أن العظماء من الناس يقولون فعلنا بكذا وأمرنا بكذا ونحن نقول كذا وإنما يريدون أنفسهم ويؤيد هذا قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19] وقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}[قّ:43] وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر: من الآية9] فإذا كان عرف ظاهر جعلناه بهذا اللفظ مخبرا عن نفسه فيلزمه المال.
وكذلك لو قال علينا وأشار بيده إلى نفسه وإلى آخرين معه لأن الإقرار إنما يحصل بلفظه لا بإشارته فوجود هذه الإشارة كعدمها إلا أن يكون معه رهط قعود فقال لفلان علينا جميعا أو علينا كلنا وأشار إلى نفسه وإليهم فحينئذ لا يلزمه إلا حصته على عدد القوم الذين معه لأنه قرن بكلامه لفظا يمنعنا أن نحمل كلامه على الإخبار عن نفسه خاصة وهو قوله كلنا فعرفنا أنه مضيف الإقرار إلى نفسه وإلى القوم الذين هم جلوس معه وقد أظهر ذلك بإشارته إليهم فلم يلزمه إلا حصته بخلاف ما سبق.(18/336)
ولو قال: لفلان على رجل منا كر أو رجلين منا كر لم يلزمه شيء لأنه أقر على مجهول فإنه جعل المقر عليه منكرا وهو معرفة في حق نفسه فلا يمكن أن يجعل لفظه عبارة عن نفسه ولو قال يا فلان لك علي ألف درهم لزمه المال كله لأنه خاطب المقر له بهذا اللفظ وقد يخاطب المفرد بعبارة الجمع تعظيما وهذا ظاهر عند أهل اللسان وكذلك لو قال أنتم يا فلان لكم علي ألف درهم أو قال نحن يا فلان لك علينا ألف درهم فهو إقرار له بالمال على نفسه لما قلنا ولو قال يا فلان لكما علي ألف درهم كان لفلان منهما النصف لأنه لا يخاطب المفرد بعبارة التثنية إذ ليس في ذلك غرض فإن في عبارة الجمع للمفرد معنى التعظيم وليس ذلك في عبارة التثنية فإنما صار مقرا له ولمجهول آخر بألف درهم فلا يلزمه إلا نصف الألف وبعض أهل اللغة يقولون يلزمه الألف له فخطاب التثنية للمفرد يوجد في القرآن العزيز قال الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}[قّ:24] وقال تعالى: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [قّ:26] ولكن محمد رحمه الله أبقى الجواب على ما هو المعروف بين العوام من الناس.
ولو قال :أقرضنا فلان ألف درهم أو استودعنا أو أعارنا أو غصبناه منه لزمه جميع المال ولا يصدق أنه أراد به غيره معه لما قلنا ولو قال غصبت ومعي فلان من فلان مائة درهم لزمه النصف بخلاف ما لو قال ومعي فلان جالس لأنه متى ذكر للثاني خبرا لا يكون(18/337)
ص -161- ... اشتراكا بينه وبين نفسه في الخبر وإذا لم يذكر خبرا تحقق الاشتراك للعطف كما إذا قال زينب طالق ثلاثا وعمرة تطلق ثلاثا بخلاف ما لو قال وعمرة طالق ولو قال له علي عشرة مثاقيل فضة ثم قال هي سود فالقول قوله لأن بيانه مقرر لأول كلامه فإن أسم الفضة يتناول السود والبيض على السواء فيكون بيانه مقبولا ولو قال له علي ألف درهم قرضا ولم أقبضها لم يصدق وإن وصل لأن المال لا يجب عليه بالقرض إلا بالقبض فكان هذا رجوعا .
وكذلك لو قال: له عندي ألف درهم وديعة أو غصب لم أقبضها لم يصدق لأن المال لا يصير وديعة عنده ولا غصبا قبل القبض ولو قال له علي ألف درهم من ثمن متاع باعنيه ونسأني إلى العطاء لم يصدق في الأجل إذا أنكره الطالب لأنه لو ادعى أجلا صحيحا لم يقبل قوله فإذا ادعى أجلا فاسدا كان ذلك أولى وكذلك لو ادعى فيه شرطا يفسده أو زاد مع ذلك خمرا أو خنزيرا لم يقبل قوله لما بينا وأورد في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله إذا قال له علي ألف درهم زيوف وقال المقر له بل هي جياد فعندنا يلزمه المال كما أقر به وعند زفر رحمه الله إقراره باطل لأنه رد إقراره وادعى عليه شيئا آخر فقياس تلك المسألة على قول زفر رحمه الله هنا يوجب أن يكون إقراره باطلا وأورد أيضا ثم أنه لو قال لفلان علي ألف درهم ثمن هذا العبد لا بل ثمن جارية وادعاهما المقر له أن على قول أبي يوسف رحمه الله يلزمه ألف واحد وعند زفر رحمه الله يلزمه ألفان .
ولو قال: لا بل هي ثمن جارية لم يلزمه إلا ألف واحد بالإنفاق وهذا بناء على ما تقدم من القياس والاستحسان في استدراك الغلط بقوله لا بل ولو قال لفلان علي ألف درهم فقال المقر له بل هي لفلان على فعلى قول زفر رحمه الله يبطل إقراره وعندنا يكون المال للثاني استحسانا ونظائر هذا الفصل قد ذكرناها في الجامع والله أعلم.
باب الإقرار في غير المرض(18/338)
قال رحمه الله: وإقرار الصحيح بالدين والقرض والغصب والوديعة لوارثه وغير وارثه والمكاتبة وإقرار المكاتب لمولاه جائز كله لأنه لا حق لأحد في مال الصحيح ولا تهمة في إقراره فإنه ممكن من تحصيل مقصوده بطريق الإنشاء وإذا أقر المريض فقال لفلان علي حق فصدقوه فيما قال ثم مات المريض ففي القياس لا يصدق على ما يدعي في يده من غير حجة لأن هذه وصية بخلاف حكم الشرع فإن من حكم الشرع أن لا يصدق في دعواه قال صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي الناس بدعواهم" الحديث ووصيته بخلاف الشرع باطلة ولكنه استحسن فقال يصدق الطالب فيما بينه وبين الثلث لأنه سلطه على مال نفسه وهو مالك لتسليطه على قدر الثلث في ماله إيجابا له فكذلك يصح تسليطه إياه على قدر الثلث إخبارا به وهذا لأن الشرع جعل ثلث المال حقا للمريض ليفك به نفسه ويصرفه في حوائجه ومن حوائجه تفريغ ذمته وربما يعلم بوجوب الحق للغير عليه ويشتبه عليه مقداره فيقر به ويفوض بيان المقدار إلى صاحب الحق لعلمه بأمانته فلهذا صححنا وصيته في التصديق بقدر الثلث.(18/339)
ص -162- ... وإن ادعى أكثر من ذلك لم يقبل قوله ولكن يحلف الورثة على علمهم لأنا كنا نصدقه باعتبار وصية الموصي ووصيته لا تكون ملزمة فيما زاد على الثلث وإن أقر المريض بدين مسمى بعد ذلك كان الدين المسمى أولى في جميع تركته لأن حق صاحب الدين المسمى معلوم ثابت بما هو حجة وهو الإقرار وحق الآخر مجهول ويشبه دعوى المدعي ولا يقع التعارض بين الضعيف من السبب وبين القوى فلهذا كان صاحب الدين المسمى أولى وإن لم يقر بدين مسمى ولكنه أوصى بوصية معلومة كانت الوصية بالثلث أولى من ذلك الإقرار أيضا لأن حق الموصى له معلوم مسمى والمجهول لا يزاحم المعلوم فلم يزد على هذا في الكتاب وأورد في الزيادات أن الموصى له بالثلث إذا أخذ الثلث يقال لا بد له من أن يقر بشيء لآخر فنعطيه ثلث ذلك مما في يدك لأن الموصى له شريك الآخر الوارث وقد أقر الميت للآخر بدين مجهول والدين مقدم على الوصية فلا بد للموصى له أن يبين كما لا بد من ذلك للوارث ولكن وضع المسألة هناك فيما إذا قال لفلان علي دين فصدقوه وهنا قال لفلان علي حق فصدقوه فما زاد على هذا من الكلام فيه فقد بيناه فيما أمليناه من شرح الزيادات.
ولو أقر في مرضه بدين ثم بدين آخر تخاصموا جميعا لأنه لما تقدم الإقرار بالدين فقد صار ماله مشغولا بحق الغريم على وجه لا يملك إبطال حقه عنه فإقراره بالوديعة بعد ذلك إقرار بوديعة مستهلكة فهو كالإقرار بالدين ولو قال لفلان علي ألف إلا درهم أو غير درهم أو نقصان درهم كان كما قال لأن المستثنى من جنس المستثنى منه حقيقة فتصريحه في المستثنى بالدراهم يكون بيانا في المستثنى منه أنه من الدراهم .(18/340)
ولو قال: له علي ألف درهم إلا تسعمائة فعليه مائة لما بينا أن الإستثناء صحيح متى بقي وراء المستثنى شيئا قل ذلك أو كثر وإن قال له علي عشرة ونصف درهم كانت عشرة دراهم لأنه عطف العشرة ثم فسره بالدرهم فيكون ذلك تفسيرا لهما بمنزلة قوله عشرة دراهم وقد بينا نظائره في قوله مائة درهم.
وإذا مات الرجل وعليه دين إلى أجل بطل الأجل هكذا روى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأن حق الغريم صار كالعين في التركة والأعيان لا تقبل الآجال فلا فائدة في إبقاء الأجل بعد موته له ولا لوارثه لأنه يبقى مرتهنا بالدين ولا تنبسط يد وارثه في التركة لمكان الدين ولا يجوز إقرار المريض بالدين لقابله ولا لعبد قابله ولا لمكاتب قابله وقد بينا فيما سبق أن إقراره بالدين للقابل بمنزلة إقراره للوارث على قياس الوصية فكذلك لعبده ومكاتبه وإن أقر المريض لمكاتب نفسه بدين فهو جائز إذا كان كاتبه في الصحة لأنه صار أحق بنفسه ومكاسبه وهو من مولاه بمنزلة أجنبي آخر في أنه يثبت عليه دين فيصح إقراره له أيضا كما يصح لأجنبي آخر وإن كان كاتبه في المرض لم يجز إلا من الثلث لأن هذا بمنزلة إعتاقه إياه فإن إقراره له بالدين بمنزلة إقراره باستيفاء بدل الكتابة لم يصح إلا من الثلث بخلاف ما(18/341)
ص -163- ... إذا كاتبه في الصحة وهذا لأن تهمة المواضعة تتمكن بينهما إذا كانت الكتابة في المرض فلهذا جعلنا ذلك بمنزلة إعتاقه .
وإن أقر أنه أثبته أن مثل الكتابة عتق وسعى في ثلثي قيمته لما قلنا وإذا أقر المريض أن على أبيه لفلان ألف درهم دينا وفي دار لأبيه وعلى المريض دين معروف في الصحة فدينه الذي في الصحة أولى بذلك لأن إقراره على أبيه في مرضه كإقراره على نفسه أو دون ذلك فيقدم دين الصحة ولو كان أقر بذلك في صحته بعد موت أبيه كان دين الأب أولى في تركة الأب لأن ذلك بمنزلة الإقرار بالعين فإن حق غرماء الأب يتعلق بتركته وصحة إقرار الابن على الأب باعتبار ما في يده من التركة فإذا حصل إقراره في الصحة صار ذلك مستحقا لغرماء الأب فلا يتعلق به حق غرماء الابن وإذا مرض الرجل ولا دين عليه وفي يده ألف درهم من تركة أبيه فقال لفلان ألف درهم على أبي ولفلان ألف درهم ووصل ذلك فهو بينهما نصفان لأن في آخر كلامه ما يغاير أوله فتوقف أوله على آخره وصار هذا كقوله لهما على أبي ألف درهم وكذلك لو قال لفلان على أبي ألف درهم وهذه وديعة عند أبي لفلان وقد بينا هذا فيما سبق أنه إذا قدم الإقرار بالدين فإن الإقرار بالوديعة بعد الإقرار بالدين بوديعة مستهلكة فيتحاصان بخلاف ما إذا انعدم الإقرار بالوديعة .(18/342)
ولو كان أبوه ترك عبدا فقال رجل: لي على أبيك ألف درهم وقال العبد قد أعتقني أبوك فقال صدقتما فعند أبي حنيفة رحمه الله الدين أولى وعلى العبد أن يسعى في عتقه لأن نفوذ العتق عند إقرار الوارث كنفوذه لو باشره الأب في مرضه فيكون مؤخرا عن الدين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يعتق العبد ولا سعاية عليه لأن الوارث مقر أنه لم يصر إليه شيء من تركته فلا يصح إقراره بالدين عليه وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على ما تقدم بيانه إذا ادعى رجل وديعة في يد أبيه بعينها وادعى الآخر دينا فصدقهما الوارث وهناك عندهما مدعي العين أولى فكذلك هنا العبد بمنزلة مدعي العين وعند أبي حنيفة رحمه الله وهناك يتحاصان وصارت دعوى العين كدعوى الدين حين أقر الوارث بهما معا فهنا أيضا يصير مقرا بالدين والتبرع فيقدم الدين عنده .
ولو قال لفلان: على أبي ألف درهم دينا ودفعها إليه بقضاء القاضي ثم أقر لآخر بألف درهم عليه لم يضمن له شيئا لأن بمجرد إقراره ما صار متلفا شيئا من تركة أبيه والدفع حصل بقضاء القاضي فلا ضمان عليه ولو كان دفع إلى الأول بغير قضاء ضمن الثاني خمسمائة بإقراره حق كل واحد منهما في خمسمائة من التركة فإنه بالدفع إلى الأول بغير قضاء صار متلفا حق الثاني فيضمن له نصيبه ولو كان قال لفلان على أبي ألف درهم لا بل لفلان فالألف للأول ولا ضمان على المقر للثاني ورجوعه في إبطال استحقاق الأول باطل ولكنه في حق نفسه صحيح فإذا دفعها بغير قضاء صار متلفا جميع الألف على الثاني بزعمه فيضمن له مثلها.(18/343)
ص -164- ... ولو أقر أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا لا بل لهذا فالثلث للأول ولا شيء للثاني عليه إلا أن يكون دفع الثلث إلى الأول بغير قضاء فحينئذ يغرم للثاني مثله وعلى قول زفر رحمه الله يدفع ثلثا إلى الأول وثلثا إلى الثاني ولو كان قال أوصى أبي بثلث ماله لفلان لا بل لفلان فعند زفر رحمه الله يدفع إلى كل واحد منهم ثلث المال ويخرج من الوسط وعندنا الثلث للأول ولا شيء عليه للآخرين إذا دفعه بقضاء وهذا قياس ما سبق.
ولو أقر المريض بدين لوارثه فخاصمه الوارث في ذلك أمره القاضي بأن يوفيه حقه لأن السبب الموجب للمال عليه وهو ظاهر والمبطل له وهو موته من مرضه موهوم والموهوم لا يعارض المعلوم فيأمره بالقضاء فإن برأ من مرضه كان ذلك جائزا عليه وإن مات من مرضه بطل إقراره حينئذ فيأمر الوارث برد المقبوض والله أعلم.
باب الإقرار بالقبض
قال رحمه الله: وإذا أقر الطالب أنه قبض مما له على فلان مائة درهم فقال فلان قد قبضت مني مائة وخمسين درهما من قبل كذا فقال الطالب نعم ولكنها قد دخلت في المائة فالقول قول الطالب مع يمينه لأن ما ادعاه المطلوب بعد ما أقر له الطالب باستيفائه فكان الظاهر شاهدا للطالب فجعلنا القول قوله ولأن المطلوب يدعي زيادة فيما أوفاه والطالب ينكر ذلك فالقول قوله مع يمينه وكذلك لو قال المطلوب بعتك ثوبا بعشرة دراهم ممالك علي فقال الطالب نعم قد دخل في هذه المائة فالقول قول الطالب لأن ما ادعاه من المطلوب من البيع سبب لقضاء الدين بالثمن وإقرار الطالب باستيفائها لا بد له من سبب فمال المطلوب لسبب في البعض لا يزداد ما أوفاه من المال.(18/344)
ولو قال: كان في يد المطلوب شاة فقال الطالب ابتعتها منك بعشرة دراهم من هذه المائة وقال المطلوب لم أبعها وقد أخذت مني مائة درهم فالقول للمطلوب مع يمينه لأنهما تصادقا على أن الشاة كانت مملوكة للمطلوب وادعى الطالب تملكها عليه وهو منكر لذلك فالقول له مع يمينه ويبقى إقرار الطالب بقبض المائة فذلك لازم عليه وإذا أقر المريض بقبض ماله على فلان وسماه فهو جائز لأن الإقرار باستيفاء الدين منه بمنزلة الإقرار بالدين له فيصح إذا كان أجنبيا وإن كان المطلوب وارثه أو كفيلا عن وارثه والوارث كفيل عنه بالإقرار باطل لما فيه من اتصال النفع إلى وارثه وإذا جاء الوارث بالمال فأدخله عليه بمحضر من الشهود بريء الوارث منه لأنه لا تهمة في السبب المعاين فالأجنبي والوارث فيه سواء .
وإذا أقر الطالب أنه قبض من المطلوب خمسمائة ثم خمسمائة ثم قال وجدتها زيوفا فالقول قوله وصل أم فصل لأنه أقر بقبض الدراهم مطلقا والزيوف من جنس الدراهم يتناولها مطلق أسم الدراهم فكان بيانه هذا مقررا لكلامه ولو قال قبضت منه حقي أو قبضت منه الذي لي عليه أو قبضت منه مالي عليه أو الألف التي كانت لي عليه ثم قال وجدتها زيوفا لم يصدق إلا أن يصله بكلامه لأن لفظه هذا محمول على الحق الذي له عليه وهو الجياد من(18/345)
ص -165- ... حيث الظاهر على احتمال أن يكون المقبوض زيوفا وقال ذلك لجهالته بها فكان هذا بيانا مغايرا لكلامه عن ظاهره فيصح ولا يصح مفصولا ولو قال قبضت منه خمسمائة درهم ثم قال بعد وجدتها ستوقا أو رصاصا لم يصدق لأنه أقر بقبض الدراهم والستوق ليست من جنس الدراهم فكان بيانه هذا مغايرا ورجوعا عما أقر به فلا يصح مفصولا .
ولو أقر أنه قبض خمسمائة درهم مما له على المطلوب ثم قال بعد ذلك وجدتها زيوفا لم يصدق لما بينا أنه لو أقر بقبض جميع ما عليه ثم ادعى أنه زيوف لم يصدق إذا كان مفصولا فكذلك إذا أقر ببعض ماله عليه ولا يمين على المطلوب أنها كانت جيادا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله .
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا اتهمته حلفته وهو بناء على الاختلاف الذي سبق إذا أقر البائع بقبض الثمن ثم قال لم أقبضه لم يحلف خصمه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يخلف للعرف الظاهر في الإقرار قبل أن يستوفى بالاستيفاء للإشهاد فكذلك هنا فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله اعتبرا التناقض وأبو يوسف رحمه الله اعتبر العرف أنه قد يقر بالاستيفاء بناء على أن المستوفى جياد ثم تبين له أنه زيوف فلهذا قال إذا اتهمته حلفته ولو أقر بقبض خمسمائة وله شريك في الدين ثم قال بعد ذلك هي زيوف فالقول قوله لما بينا أنه أقر بقبض الدراهم وذلك يتناول الزيوف حقيقة وللشريك الخيار إن شاء شاركه في المقبوض من الزيوف وإن شاء اتبع المطلوب الجياد وإن قال بعد ما سكت هي رصاص لم يصدق وللشريك نصفها جياد لأنه راجع عن الإقرار فإن أسم الدراهم لا يتناول الرصاص حقيقة وإن قال هو رصاص موصولا فالقول قوله لأن الرصاص من الدراهم صورة وإن لم تكن الدراهم معنى فكان هذا بيانا مغايرا لظاهر كلامه إلى ما هو محتمل فيصح موصولا وإذا صح فلا شيء للشريك منها لأنه بقبض الرصاص لا يصير مستوفيا شيئا من حقوقه وإنما يثبت للآخر حق المشاركة معه فيما يقبض من حقه.(18/346)
وإن قال: قبضت من مالي ولفلان على فلان خمسمائة ثم قال بعد ذلك هي زيوف لم يصدق لإقراره بأن المقبوض مما له عليه وذلك جياد فلا يصدق في حق الشريك مفصولا كما لا يصدق في حق المطلوب فلهذا كان للشريك نصفها جيادا.
وإذا أقر الطالب أنه قبض من المطلوب كر حنطة أو شعير أو شيئا مما يكال أو يوزن ثم قال بعد ذلك هو رديء فالقول قوله لأن الرداءة في الحنطة بيان للنوع لا بيان للعيب فإن العيب لا يخلو عنه أصل الفطرة السليمة وفي بيان نوع المقبوض القول قول القابض وقد تقدم بيان هذه الفصول فيما سبق والله أعلم.
تم كتاب الإقرار ولله المنة وبه تم الجزء الثامن عشر ويليه الجزء التاسع عشر وأوله كتاب الوكالة(18/347)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء التاسع عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(19/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الوكالة
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم أن الوكالة في اللغة عبارة عن الحفظ ومنه الوكيل في أسماء الله تعالى بمعنى الحفيظ كما قال الله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ سورة آل عمران:آية 173] ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله فيمن قال لآخر وكلتك بمالي أنه يملك بهذا اللفظ الحفظ فقط وقيل معنى الوكالة التفويض والتسليم ومنه التوكل قال الله تعالى: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [سورة الأعراف: آية 173] يعني فوضنا إليه أمورنا وسلمنا.
فالتوكيل تفويض التصرف إلى الغير وتسليم المال إليه ليتصرف فيه ثم للناس إلى هذا العقد حاجة ماسة فقد يعجز الإنسان عن حفظ ماله عند خروجه للسفر وقد يعجز عن التصرف في ماله لقلة هدايته وكثرة اشتغاله أو لكثرة ماله فيحتاج إلى تفويض التصرف إلى الغير بطريق الوكالة. وقد عرف جواز هذا العقد بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [سورة الكهف، آية: 19] وهذا كان توكيلا.(19/2)
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وكل حكيم بن حزام رضي الله عنه بشراء الأضحية وبه وكل عروة البارقي فلما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أعطاه علامة وقال "ائت وكيلي بخيبر ليعطيك ما سألتني بهذه العلامة" والدليل عليه الحديث الذي بدأ به محمد رحمه الله الكتاب ورواه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله عن سالم عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت طلقني زوجي ثلاثا ثم خرج إلى اليمن فوكل أخاه بنفقتي فخاصمته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي نفقة ولا سكنى ففي هذا جواز التوكيل بالاتفاق وبظاهر الحديث يستدل ابن أبي ليلى رحمه الله فيقول ليس للمبتوتة نفقة ولا سكنى. ولكنا نقول إن صح الحديث فله تأويلان أحدهما أنها كانت بذيئة اللسان بذية على أحماء زوجها فأخرجوها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت أم مكتوم رضي الله عنها تسكينا للفتنة فظنت أنه لم يجعل لها نفقة ولا سكنى الثاني أنه وكل أخاه بأن ينفق عليها خبز الشعير ولم يكن الزوج حاضرا ليقضي عليه بشيء آخر فلهذا قالت ولم يجعل لي نفقة ولا سكنى. وذكر عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال كان علي كرم الله وجهه لا يحضر خصومة أبدا وكان يقول إن الشيطان ليحضرها وإن لها قحما الحديث وفيه دليل على أن(19/3)
ص -4- ... التحرز عن الخصومة واجب ما أمكن لما أشار إليه رضي الله عنه أنه موضع لحضرة الشيطان وأن للخصومة قحما أي مهالك وقال صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء إثما أن لا يزال مخاصما" قال وكان إذا خوصم في شيء من أمواله وكل عقيلا رضي الله عنه وفيه جواز التوكيل بالخصومة.
وبظاهره يستدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في جواز التوكيل بغير رضا الخصم لأن عليا رضي الله عنه لم يطلب رضا خصومه ولكن الظاهر أن خصومه كانوا يرضون بتوكيله لأنه كان أهدى إلى طرق الخصومة من غيره لو فور علمه وإنما كان يختار عقيلا رضي الله عنه لأنه كان ذكيا حاضر الجواب حتى حكي أن عليا رضي الله عنه استقبله يوما ومعه عنزله فقال له علي رضي الله عنه على سبيل الدعابة أحد الثلاثة أحمق فقال عقيل رضي الله عنه أما أنا وعنزى فعاقلان قال فلما كبر سن عقيل وكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه إما أنه وقره لكبره أو لأنه انتقص ذهنه فكان يوكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وكان ذكيا شابا وقال هو وكيلي فما قضى عليه فهو علي وما قضي له فهو لي.(19/4)
وفي هذا دليل على أن الوكيل يقوم مقام الموكل وأن القضاء عليه بمنزلة القضاء على الموكل قال فخاصمني طلحة بن عبد الله رضي الله عنه في ضفير أحدثه علي رضي الله عنه بين أرض طلحة وأرض نفسه والضفير المسناة وفيه دليل على أنهم كانوا يختصمون فيما بينهم ولا نظن بواحد منهم سوى الجميل لكن كان يستبهم عليهم الحكم فيختصمون إلى الحاكم ليبينه لهم ولهذا كانوا يسمون الحاكم فيهم المفتي فوقع عند طلحة رضي الله عنه أن عليا كرم الله وجهه أضربه وحمل عليه السيل ولم ير علي رضي الله عنه في ذلك ضررا حين أحدثه قال فوعدنا عثمان رضي الله عنه أن يركب معنا فينظر إليه, وفيه دليل على أن فيما تفاقم من الأمر ينبغي للإمام أن يباشره بنفسه وأن يركب إن احتاج إلى ذلك فقال والله إني وطلحة نختصم في المواكب وإن معاوية رضي الله عنه على بغلة شهباء أمام الموكب قد قدم قبل ذلك وافدا فألقى كلمة عرفت أنه أعانني بها قال أرأيت هذا الضفير كان على عهد عمر رضي الله عنه قال قلت نعم قال لو كان جورا ما تركه عمر رضي الله عنه وفي هذا بيان أنه لم يكن بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في أول الأمر سوى الجميل إلى أن نزغ الشيطان بينهما فوقع ما وقع قال فسار عثمان رضي الله عنه حتى رأى الضفير فقال ما أرى ضررا وقد كان على عهد عمر رضي الله عنه ولو كان جورا لم يدعه وإنما قال ذلك لأن عمر رضي الله عنه كان معروفا بالعدل ودفع الظلم على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينما دار عمر فالحق معه" وفيه دليل على أن ما وجد قديما يترك كذلك ولا يغير إلا بحجة فإن عثمان رضي الله عنه ترك الضفير على حاله بسبب أنه كان قديما وذكر عن شريح رحمه الله أنه يجيز بيع كل مجيز الوصي والوكيل والمجيز ما يتم العقد بإجازته وفيه بيان أن العقود تتوقف على الإجازة وأن من يملك إنشاء العقد يملك إجازته وصيا كان أو وكيلا أو مالكا لأن المعتبر أن يكون تمام العقد برأيه,(19/5)
ص -5- ... وذلك ما حصل بإجازته وذكر عن شريح رحمه الله أنه قال من اشترط الخلاص فهو أحمق سلم ما بعت أو ذر ما أخذت ولا خلاص وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله بخلاف ما يقوله إبراهيم النخعي رحمه الله أن من باع عبدا يؤاخذ بخلاصه يعني إذا اشترط.
وهذه ثلاثة فصول الأول: اشتراط الدرك وتفسيره رد اليمين لاستحقاق المبيع وهو شرط صحيح لأنه يلائم موجب العقد وهو ثابت بدون الشرط فلا يزيده الشرط إلا وكادة.
والثاني: شرط العهدة وهو جائز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فإنه عبارة عن ضمان الدرك عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله هو باطل وتفسيره الصك الأصلي الذي كان عند البائع يشترط المشتري عليه أن يسلمه إليه وهذا شرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يقتضيه العقد فكان باطلا والثالث: شرط الخلاص وتفسيره أن يشترط على البائع أن المبيع إذا استحق من يده يخلصه حتى يسلمه إليه بأي طريق يقدر عليه وهذا باطل لأنه شرط لا يقدر على الوفاء به فالمستحق ربما لا يساعده عليه ولهذا ينسبه شريح رحمه الله إلى الحماقة حيث التزم ما ليس في وسعه الوفاء به.(19/6)
وإذا وكل الرجل بالخصومة في شيء فهو جائز لأنه يملك المباشرة بنفسه فيملك هو صكه إلى غيره ليقوم فيه مقامه وقد يحتاج لذلك إما لقلة هدايته أو لصيانة نفسه عن الابتذال في مجلس الخصومة وقد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر فإن أقر الوكيل على الذي وكله بالخصومة مطلقا في القياس لا يجوز إقراره سواء كان في مجلس القاضي أو في غير مجلس القاضي وهو قول أبي يوسف الأول وقول زفر والشافعي رحمهم الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله فقال يصح إقراره في مجلس القاضي وفي غير مجلس القاضي إقراره باطل وجه القياس أنه وكله بالخصومة والخصومة اسم لكلام يجري بين اثنين على سبيل المنازعة والمشاحة والإقرار اسم لكلام يجري على سبيل المسالمة والموافقة وكان ضد ما أمر به والتوكيل بالشيء لا يتضمن ضده ولهذا لا يملك الوكيل بالخصومة الهبة والبيع أو لصلح والدليل عليه بطلان إقرار الأب والوصي على الصبي مع أن ولايتهما أعم من ولاية الوكيل وأبو يوسف رحمه الله يقول الموكل أقام الوكيل مقام نفسه مطلقا فيقتضي أن يملك ما كان الموكل مالكا له والموكل مالك للإقرار بنفسه في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فكذلك الوكيل وهذا لأنه إنما يختص بمجلس القضاء ما لا يكون موجبا إلا بانضمام القضاء إليه كالبينة واليمين فأما الإقرار فهو موجب للحق بنفسه سواء حصل من الوكيل أو من الموكل فمجلس القضاء فيه وغير مجلس القضاء سواء.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا حقيقة الخصومة ما قال زفر رحمه الله ولكنا تركنا هذه الحقيقة وجعلنا هذا توكيلا مجازا بالجواب والإقرار جواب تام وإنما حملناه على هذا المجاز لأن توكيله إنما يصح شرعا بما يملكه الموكل بنفسه والذي يتيقن به أنه مملك(19/7)
ص -6- ... للموكل الجواب لا الإنكار فإنه إذا عرف المدعي محقا لا يملك الإنكار شرعا وتوكيله فيما لا يملك لا يجوز شرعا والديانة تمنعه من قصد ذلك فلهذا حملناه على هذا النوع من المجاز كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصيبه فينصرف بيعه إلى نصيبه مطلقا ليصحح عقدة هذا الطريق غير أنه إنما سمي الجواب خصومة مجازا إذا حصل في مجلس القضاء لأنه لما ترتب على خصومة الآخر إياه سمي باسمه كما قال الله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى,آية:40] والمجازاة لا تكون سيئة حقيقة ولأن مجلس الحكم الخصومة فما يجري فيه يسمى خصومة مجازا وهذا لا يوجد في غير مجلس القضاء ولأنه إنما استعان بالوكيل فيما يعجز عن مباشرته بنفسه وذلك فيما يستحق عليه والمستحق عليه إنما هو الجواب في مجلس الحكم بخلاف الأب والوصي فإن تصرفهما مقيد بشرط الأنظر والأصلح قال الله تعالى {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ }[سورة البقرة،آية:220] وقال عز وجل {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[سورة الإسراء,آية:34] وذلك لا يظهر بالإقرار فلهذا لا يملكه وإن وكله بالخصومة غير جائز الإقرار عليه صح الاستثناء في ظاهر الرواية.(19/8)
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يصح لأن من أصله أن صحة الإقرار باعتبار قيام الوكيل مقام الموكل وهذا حكم الوكالة فلا يصح استثناؤه كما لو وكل بالبيع على أن لا يقبض الوكيل الثمن أو لا يسلم المبيع كان الاستثناء باطلا فأما في ظاهر الرواية فالاستثناء صحيح لأن صحة إقرار الوكيل باعتبار ترك حقيقة اللفظ إلى نوع من المجاز فهو بهذا الاستثناء يبين أن مراده حقيقة الخصومة لا الجواب الذي هو مجاز بمنزلة بيع أحد الشريكين نصف العبد شائعا من النصيبين أنه لا ينصرف إلى نصيبه خاصة عند التنصيص عليه بخلاف ما إذا أطلق والثاني أن صحة إقراره وإنكاره عند الإطلاق لعموم المجاز لأن ذلك جواب ولاعتبار المناظرة في المعاملات بالمناظرة في الديانات منع موضعه فإذا استثني الإقرار كان هذا استثناء لبعض ما تناوله مطلق الكلام أو هو بيان مغاير لمقتضى مطلق الكلام فيكون صحيحا كمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها ماشيا أو راكبا حنث لعموم المجاز فإن قال في يمينه ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث لما قلنا وعلى هذا الطريق إنما يصح استثناؤه الإقرار موصولا لا مفصولا عن الوكالة.
وعلى الطريق الأول يصح استثناؤه موصولا ومفصولا قالوا وكذلك لو استثنى الإنكار صح ذلك عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله وهذا لأن إنكار الوكيل قد يضر الموكل بأن كان المدعي وديعة أو بضاعة فأنكر الوكيل لم يسمع منه دعوى الرد والهلاك بعد صحة الإنكار ويسمع منه ذلك قبل الإنكار فإذا كان إنكاره قد يضر الموكل صح استثناؤه الإقرار ثم إذا أقر الوكيل في غير مجلس القاضي فلم يصح إقراره عندهما كان خارجا من الوكالة وليس له أن يخاصم بعد ذلك لأنه يكون مناقضا في كلامه والمناقض لا دعوى له فيستبدل به كالأب والوصي إذا لم يصح إقرارهما على الصبي لا يملكان الخصومة في تلك(19/9)
ص -7- ... الحادثة بعد ذلك وإذا وكله بالخصومة في دار يدعي فيها دعوى ثم عزله عنها ثم شهد له الوكيل بها فإن كان الوكيل قد خاصم إلى القاضي جازت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولم تجز عند أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على ما ذكرنا أن عند أبي يوسف رحمه الله بتعيينه للتوكيل صار خصما قائما مقام الموكل ولهذا جاز إقراره فيخرج من أن يكون شاهدا بنفس التوكيل وعندهما إنما يصير خصما في مجلس القاضي.
فكذلك إنما يخرج من أن يكون شاهدا إذا خاصم في مجلس القاضي لا قبل ذلك وإذا وكله بالخصومة فله أن يعزله متى شاء لأن صحة الوكالة لحاجة الموكل إليه ولما له فيها من المنفعة وذلك في جوازها دون لزومها ولأن الوكيل معيره منافعه والإعارة لا يتعلق بها اللزوم إلا في خصلة واحدة وهي أن يكون الخصم قد أخذه حتى جعله وكيلا في الخصومة فلا يكون له أن يخرجه منها إلا بمحضر من الخصم لأنه تعلق بهذه الوكالة حق الخصم فإنه إنما خلي سبيله اعتمادا على أنه يتمكن من إثبات حقه على الوكيل متى شاء فلو جوزنا عزله بدون محضر من الخصم بأن يعزل الموكل وكيله ويخفي شخصه فلا يتوصل الخصم إلى إثبات حقه فلمراعاة حق الخصم قلنا لا يتمكن من عزل الوكيل كالعزل في باب الرهن إذا كان مسلطا على بيعه لا يملك الراهن عزله لحق المرتهن وعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله إذا وكل الزوج وكيلا بطلاق امرأته بالتماسها ثم سافر لا يملك عزل الوكيل إلا بمحضر منها والأصح أنه لا يملكه هناك لأنه لا حق للمرأة في سؤال الطلاق والتوكيل عند سفر الزوج وهنا للخصم حق أن يمنع خصمه من أن يسافر وأن يلازمه ليثبت حقه عليه وهو إنما ترك ذلك بتوكيله وعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله إذا قال الزوج للوكيل بالطلاق كلما عزلتك فأنت وكيل لا يملك عزله لأنه كلما عزله تجددت وكالته فإن تعليق الوكالة بالشرط صحيح.(19/10)
والأصح عندي أنه يملك عزله بأن يقول عزلتك عن جميع الوكالات فينصرف ذلك إلى المعلق والمنفذ لأنا لو لم نجز ذلك أدى إلى تغيير حكم الشرع بجعل الوكالة من اللوازم وذلك باطل وإذا وكله بالخصومة وهو مقيم بالبلد لم يقبل ذلك منه إلا برضا من خصمه أو يكون مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام والرجال والنساء والثيب والبكر في ذلك سواء في قول أبي حنيفة رحمه الله وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول للبكر أن توكل بغير رضا الخصم وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا للمرأة أن توكل بذلك بكرا كانت أو ثيبا إذا لم يكن مروءة وفي قوله الآخر وهو قول محمد والشافعي رحمهما الله الرجل والمرأة سواء في ذلك لهم التوكيل بغير رضا الخصم.
ووجه هذا القول أن التوكيل حصل بما هو من خالص حق الموكل فيكون صحيحا بغير رضا الخصم كالتوكيل بالقبض والإيفاء والتقاضي وبيان ذلك أنه وكله بالجواب الذي هو إنكار ومن أفسد هذا التوكيل إنما يفسده من هذا الوجه فإن التوكيل بالإقرار صحيح,(19/11)
ص -8- ... والإنكار خالص حق الموكل لأنه يدفع به الخصم عن نفسه فعرفنا أنه وكله بما هو من خالص حقه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول هو بهذا التوكيل قصد الإضرار بخصمه فيما هو مستحق عليه فلا يملكه إلا برضاه كالحوالة بالدين ومعنى هذا الكلام أن الحضور والجواب مستحق عليه بدليل أن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضره ليجيب خصمه وإنما يحضره لإيفاء حق مستحق عليه والناس يتفاوتون في هذا الجواب فرب إنكار يكون أشد دفعا للمدعي من إنكار والظاهر أن الموكل إنما يطلب من الوكيل وذلك الأشد الذي لا يتأتى منه لو أجاب الخصم بنفسه وفيه إضرار بالخصم إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله قالا ذلك حق الموكل لو أتى به بنفسه كان مقبولا منه وصحة التوكيل باعتبار ما هو حق للموكل دون ما ليس الأشد لحق له كما بيناه في المسألة الأولى أبو حنيفة رحمه الله بنى على العرف الظاهر هنا وقال الناس إنما يقصدون بهذا التوكيل أن يشتغل الوكيل بالحيل والأباطيل ليدفع حق الخصم عن الموكل وأكثر ما في الباب أن يكون توكيله بما هو من خالص حقه ولكن لما كان يتصل به ضرر بالغير من الوجه الذي قلنا لا يملك بدون رضاه كمن استأجر دابة لركوبه أو ثوبا للبسه لا يملك أن يؤاجره من غيره وإن كان يتصرف في ملكه وهي المنفعة ولكن يتصل به ضرر بملك الغير وهو العين لأن الناس يتفاوتون في اللبس والركوب فكذلك أحد الشريكين في العبد إذا كاتبه كان للآخر أن يفسخ وإن حصل تصرف المكاتب في ملكه لإضرار يتصل بالشريك وهذا بخلاف التوكيل بالقبض والإيفاء فإن الحق معلوم بصفته فلا يتصل بهذا التوكيل ضرر بالآخر.(19/12)
وكذلك التقاضي له حد معلوم منع الوكيل من مجاوزة ذلك الحد لئلا يتضرر به الخصم فأما الخصومة فليس لها حد معلوم يعرف حتى إذا جاوزه منع منه فلهذا شرطنا رضا الخصم وهذا الشرط ليس مؤثرا في صحة الوكالة فالتوكيل صحيح ولكن الكلام في إسقاط حق المطالبة بجواب الموكل ولهذا لا يشترط رضا الخصم في التوكيل عند غيبة الموكل أو مرضه لأنه ليس للخصم حق المطالبة بإحضار الموكل فلا يكون في التوكيل إسقاط حق مستحق عليه وهو نظير شهادة الفروع على شهادة الأصول فإنها تصح عند مرض الأصول وغيبتهم مدة السفر ولا تصح عند حضورهم لاستحقاق الحضور بأنفسهم للأداء في هذه الحال.
وابن أبي ليلى رحمه الله كان يقول المقصود بإحضار البكر لا يحصل لأنها تستحيي فتسكت والشرع مكنها من ذلك فجاز لها أن توكل بغير رضا الخصم وهكذا يقول أبو يوسف رحمه الله في المرأة التي ليست معتادة مخالطة الرجال فإنها لا تتمكن من هذا الجواب إذا حضرت مجلس الحكم فإن حشمة القضاء تمنعها من ذلك وإذا كان المقصود لا يحصل بحضورها جاز لها أن توكل والذي نختاره في هذه المسألة من الجواب أن القاضي إذا علم(19/13)
ص -9- ... من المدعي التعنت في إباء الوكيل لا يمكنه من ذلك ويقبل التوكيل من الخصم وإذا علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعي في التوكيل لا يقبل ذلك منه إلا برضا الخصم فيصير إلى دفع الضرر من الجانبين.
وإذا وكلت امرأة رجلا أو رجل امرأة أو مسلم ذميا أو ذمي مسلما أو حر عبدا أو مكاتبا له أو لغيره بإذن مولاه فذلك كله جائز لعموم الحاجة إلى الوكالة في حق هؤلاء قال والوكالة في كل خصومة جائزة ما خلا الحدود والقصاص أو سلعة ترد من عيب والمراد التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص فإن التوكيل باستيفاء الحدود باطل بالاتفاق لأن الوكيل قائم مقام الموكل والحدود تندرئ بالشبهات فلا تستوفى بما يقوم مقام الغير في ذلك من ضرب وشبهه ألا ترى أنها لا تستوفى في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على شهادة النساء مع الرجال.(19/14)
وكذلك التوكيل باستيفاء القصاص لا يجوز ولا يستوفى في حال غيبة الموكل عندنا, وعند الشافعي رحمه الله يستوفيه الوكيل لأنه محض حق العباد ومبنى حقوق العباد على الحفظ والصيانة عليهم فكان لصاحب القصاص أن لا يحضر بنفسه ويوكل باستيفائه دفعا للضرر عن نفسه كسائر حقوقه ولكنا نقول هذه عقوبة تندرى ء بالشبهات فلا تستوفي بمن يقوم مقام الغير كالحدود ولهذا لا تستوفي في كتاب القاضي إلى القاضي ولا بشهادة النساء مع الرجال وتوضيحه أنه لو استوفى في حال غيبة الموكل كان استيفاء مع تمكن شهادة العفو لجواز أن يكون الموكل عفا بنفسه والوكيل لا يشعر به ولهذا إذا كان الموكل حاضرا يجوز للوكيل أن يستوفي لأنه لا تتمكن فيه شبهة العفو وقد يحتاج الموكل إلى ذلك إما لعلة هدايته في الاستيفاء أو لأن قلبه لا يحتمل ذلك فيجوز التوكيل في الاستيفاء عند حضرته استحسانا فأما قوله أو سلعة ترد بالعيب فليس المراد به أن التوكيل بالخصومة في هذا غير صحيح بل المراد أن الوكيل إذا أثبت العيب فادعى البائع رضا المشتري بالعيب فليس للوكيل أن يرده بالعيب حتى يحضر المشتري فيحلف بالله ما رضي بالعيب وهذا بخلاف الوكيل يقبض الدين إذا ادعى المطلوب أن الطالب قد استوفى دينه أو أبرأ المطلوب منه فإنه يقال له ادفع المال إلى الوكيل وأنت على خصومتك في استحلاف الموكل إذا حضر.(19/15)
والفرق من وجهين أحدهما أن الدين حق ثابت بنفسه إذ ليس في دعوى الاستيفاء والإبراء ما ينافي أصل حقه لكنه يدعي إسقاطه بعد تقرير السبب الموجب فلا يمتنع على الوكيل الاستيفاء ما لم يثبت المسقط فأما في العيب إن علم المشتري بالعيب وقت البيع يمنع ثبوت حقه في الرد أصلا فالبائع ليس يدعي مسقطا بل زعم أن حقه في الرد لم يثبت أصلا فلا بد من أن يحضر الموكل ويحلف ليتمكن من الرد عليه والثاني أن الرد بالعيب بقضاء القاضي فسخ للعقد والعقد إذا انفسخ فلا يعود فلو أثبتنا حق الرد عليه تضرر الخصم بانفساخ عقده عليه فأما قضاء الدين فليس فيه فسخ عقد وإذا حضر الموكل فأبى أن يحلف توصل(19/16)
ص -10- ... المطلوب إلى حقه فلهذا أمر بقضاء الدين وفي الوكيل يأخذ الدار بالشفعة إذا ادعى الخصم أن الموكل قد سلم وطلب يمينه على ذلك ففي ظاهر الرواية هذا ومسألة الدين سواء وللوكيل أن يأخذ بالشفعة لأن المشتري يدعي مسقطا بعد تقرر السبب.
وعن أبي يوسف رحمه الله إن هذا ومسألة العيب سواء لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء فكما لا يقضي القاضي بفسخ العقد ما لم يحضر الموكل ويحلف فكذلك لا يقضي بالشفعة ما لم يحضر الموكل ويحلف ما سلم بالشفعة فإن أراد المطلوب يمين الوكيل فليس له عليه يمين في الاستيفاء لأن الاستيفاء مدعي على الطالب ولو استحلف الوكيل على ذلك كان على سبيل النيابة عنه ولا نيابة في اليمين وقال زفر رحمه الله له أن يحلف الوكيل بالله ما يعلم أن الطالب استوفى الدين لأن الوكيل لو أقر باستيفاء الطالب لم يكن له أن يخاصم المطلوب فإذا أنكر استحلفه عليه كما يستحلف وارث الطالب على هذا بعد الطالب
ولكنا نقول الوكيل نائب ولا نيابة في اليمين بخلاف الوارث فإنه قائم مقام المورث في الحق فتصير اليمين مستحقة على الطالب إلا أن الاستحلاف على فعل الغير يكون علما فإذا حضر الطالب فات المطلوب إلا أن يحلف بالله لقد شهدت شهوده بحق لم يكن له على ذلك سبيل لأن صدق الشهود شرعا بظهور عدالتهم كما أن صدق المدعي بإقامة البينة فكما لا يحلف المدعي مع البينة فكذلك لا يحلف بعد ظهور عدالة الشهود الذين شهدوا بحق ولكنه يحلف بالله ما استوفيت ديني فإن حلف ثم قبض الوكيل وإن نكل عن اليمين لزمه المال دون الوكيل لأن نكوله كإقراره أو بدله فينفذ عليه دون الوكيل.(19/17)
ولكن إن كان المال المقبوض عند الوكيل فهو حق الطالب يقبضه من الوكيل ثم يدفعه إلى المطلوب بحكم نكوله وليس للمطلوب أن يرجع به على الوكيل بخلاف ما إذا أقام المطلوب البينة على القضاء فإن البينة حجة في حقهما فإن شاء رجع بالمقبوض على الوكيل إذا كان قائما في يده لأنه تبين أنه قبض بغير حق وإن شاء أخذ الموكل به لأن الوكيل عامل له فعهدة عمله عليه وإن قال الوكيل قد دفعته إلى الموكل أو هلك مني فالقول قوله مع يمينه لأنه كان أمينا مسلطا على ما أخبر به من جهة الموكل فالقول فيه قوله
وإن قال أمرني فدفعته إلى وكيل له أو غريم أو وهبه لي أو قضاني من حق كان لي عليه لم يصدق وضمن المال لأنه يدعي تملك المقبوض لنفسه بسبب لم يعرف ذلك السبب أو يقر بالسبب الموجب للضمان على نفسه بدفعه إلى غيره وادعى الأمر من جهة صاحب المال ولا يثبت ذلك بقوله إذا أنكره صاحب المال فلهذا ضمن المال قال ولا يقبل من الوكيل شهادة على الوكالة في شيء مما ذكرنا إلا ومعه خصم حاضر لأن شرط قبول البينة الدعوى والإنكار فكما أن انعدام الدعوى يمنع قبول البينة فكذلك انعدام الإنكار ولا يتحقق الإنكار إلا من خصم حاضر.
وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقبل البينة على هذا من غير خصم ويقول الوكيل بهذه(19/18)
ص -11- ... البينة لا يلزم أحدا شيئا وإنما يثبت كونه نائبا عن موكله وليس فيه إلزام شيء على موكله فلا معنى لاشتراط حضور الخصم ولكنا نقول إنما سميت البينة لكونها مبينة في حق المنكر وذلك لا يتحقق إلا بمحضر من الخصم فإن أقام البينة على الوكالة بغير محضر من الخصم واليمين من القاضي أن يكتب شهادة شهوده إلى قاضي بلد آخر ليقضي به في ذلك لأن هذه الشهادة ليست للقضاء بل للنقل فإن قاضي بلد ينقل شهادتهم في كتابه إلى مجلس القاضي الذي فيه الخصم كما أن شهود الفرع ينقلون شهادة الأصول بعبارتهم فكما لا يشترط في إشهاد الفروع حضرة الخصم فكذلك هنا وإن قبل القاضي البينة بغير خصم وقضى بها جاز قضاؤه لأنه قضى في فصل مختلف فيه فإن العلماء رحمهم الله مختلفون في سبب القضاء هنا أن البينة هل هي حجة بغير محضر خصم أم لا فإذا قضى بها القاضي فقد أمضى فصلا مجتهدا فيه باجتهاده فلهذا لا يفسد قضاؤه.
قال ولأحد الوكيلين بالخصومة أن يخاصم وليس له أن يقبض أولا بقول الوكيل بالخصومة له أن يقبض المال عندنا وليس له أن يقبض عند زفر رحمه الله لأنه أمر بالخصومة فقط والخصومة لإظهار الحق والاستيفاء ليس من الخصومة ويختار في الخصومة ألح الناس وللقبض آمن الناس فمن يصلح للخصومة لا يرضى بأمانته عادة ولكنا نقول الوكيل بالشيء مأمور بإتمام ذلك الشيء وإتمام الخصومة يكون بالقبض لأن الخصومة قائمة ما لم يقبض ولأن المقصود بالخصومة الوصول إلى الحق وذلك بالقبض يكون والوكيل بالشيء يحصل ما هو المقصود به.(19/19)
قال فإن وكل رجلين بالخصومة فلأحدهما أن يخاصم عندنا بدون محضر من الآخر خلافا لزفر رحمه الله لأن الخصومة يحتاج فيها إلى الرأي ورأي المثنى لا يكون كرأي الواحد فرضاه برأيهما لا يكون رضا برأي أحدهما كالوكيلين بالبيع, ولكنا نقول لو حضر لم يخاصم إلا أحدهما لأنهما لو تكلما معا لم يتمكن القاضي من أن يفهم كلامهما فلما وكلهما بالخصومة مع علمه أن اجتماعهما عليها متعذر فقد صار راضيا بخصومة أحدهما بخلاف الوكيلين بالبيع ولكن إذا آل الأمر إلى القبض فليس أحدهما أن يقبض لأنه رضي بأمانتهما أو اجتماعهما في القبض والحفظ متأت فلا يكون راضيا بقبض أحدهما وليس للوكيل أن يوكل غيره لأن الناس يتفاوتون في الخصومة قال صلى الله عليه وسلم "ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" والموكل إنما رضي برأيه فلا يكون له أن يوكل غيره بدون رضاه وإن قال ما صنعته في شيئي ذلك جائز كان له أن يوكل غيره لأنه أجاز صنعه على العموم فالتوكيل من صنعه فيجوز لوجود الرضا من الموكل به وليس للوكيل بالخصومة أن يصالح ولا أن يبيع ولا أن يهب لأن هذه التصرفات ليست من الخصومة بل هي ضد الخصومة قاطعة لها والأمر بالشيء لا يتضمن ضده.
وإذا وكل رجل رجلا بقبض حق له في دار أو بقسمة أو بخصومة فجحده ذو اليد فله(19/20)
ص -12- ... أن يخاصم ويقيم البينة على حقه لأنه وكله بالخصومة نصا ولأنه لا يتوصل إلى تمييز نصيب الموكل ولا إلى قبض حقه إلا ببينة فكان خصما في إثباته ليحصل مقصود الموكل, وإذا وكل المسلم الذمي في خصومة فشهد شهود من أهل الذمة على إبطال حق المسلم لم يجز ذلك على المسلم لأن الوكيل نائب عن الموكل وهذه البينة في الحقيقة إنما تقوم عن الموكل فلا تكون شهادة أهل الذمة حجة عليه ولو كان المسلم هو الوكيل والذمي صاحب الحق فشهد عليه قوم من أهل الذمة جاز ذلك لأن الإلزام في هذه البينة على صاحب الحق دون الوكيل فإن الوكيل كالنائب إذا استشهدنا الذمي أنه أوصى إلى مسلم فشهد قوم من أهل الذمة عليه لحق قبلت الشهادة لأن الإلزام على الميت أو على ورثته دون الوصي وهم من أهل الذمة فكانت شهادة أهل الذمة في ذلك مقبولة فكذلك هنا, وتوكيل الرجل الصبي بالخصومة إذا كان يعقل صحيح لأنه إذا كان يعقل فله عبارة معتبرة شرعا حتى تنفذ تصرفاته بإذن الولي ويجوز أن يكون وكيلا في البيع والشراء فكذلك في الخصومة إلا أن الصبي إذا لم يكن ابن الموكل فلا ينبغي أن يوكله إلا بإذن أبيه لأن في هذا التوكيل استعمال الصبي في حاجة نفسه وليس لأحد أن يفعل ذلك في ولد غيره إلا بإذن أبيه.(19/21)
وإذا وكل وكيلا في بيع أو شراء أو خصومة فذهب عقل الموكل زمانا فقد خرج الوكيل من الوكالة لأنه نائب عن الموكل وهو إنما انتصب نائبا عن الموكل باعتبار رأي الموكل وقد خرج الموكل بالجنون المطبق من أن يكون أهلا للرأي وصار مولى عليه فبطلت وكالة الوكيل كما تبطل بموته وهذا في موضع كان للموكل أن يخرجه من الوكالة فأما في كل موضع فلم يكن له أن يخرجه منها فلا تبطل بجنونه مثل الأمين باليد والعدل إذا كان مسلطا على البيع فجن الراهن لأن حق الغير هناك ثبت في العين وصار ذلك لازما على الموكل فلا يبطل بجنونه ولا بموته إذا نفي المحل فأما الوكيل بالخصومة إذا كان بالتماس الخصم فجن الموكل أو مات بطلت الوكالة لأن هذه الوكالة لم تكن لازمة على الموكل، ألا ترى أن له أن يعزل الوكيل بمحضر من الخصم وإنما لا يعزله بغير محضر منه لدفع الغرور لا لحق ثابت للخصم في محل ولو كان ذهب عقله ساعة أو جن ساعة فالوكيل على وكالته لأن هذا بمنزلة النوم لا ينقطع به رأي الموكل فلا يصير مولى عليه.
ثم أشار إلى القياس والاستحسان فيه واختلفت فيه ألفاظ الكتاب فذكر في باب وكالة المكاتب القياس والاستحسان في جنون ساعة واحدة أن في القياس تبطل الوكالة, وفي الاستحسان لا تبطل وفي باب الوكالة في الطلاق ذكر القياس في المتطاول, وقال لا تبطل الوكالة بجنون الموكل وإن تطاول لبقاء المحل الذي تعلقت الوكالة به على حق الموكل وفي الاستحسان تبطل الوكالة ثم لم يذكر في الكتاب الحد الفاصل بين القليل والكثير.
وذكر في النوادر أن محمدا رحمه الله كان يقول أولا إذا جن شهرا فهو متطاول ثم رجع وقدر المتطاول بجنون سنة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قدر المتطاول بأكثر السنة,(19/22)
ص -13- ... وقد روي عنه أنه قدر ذلك بأكثر من يوم وليلة ووجه هذا أن الجنون إذا زاد على يوم وليلة كان مسقطا لقضاء الصلاة بخلاف النوم والقليل منه كالدوام فإذا ظهرت المخالفة بين هذا القدر من الجنون وبين النوم عرفنا أنه متطاول ووجه قول محمد رحمه الله أولا أن الشهر في حكم المتطاول وما دونه في حكم القريب بدليل أن من حلف ليقضين حق فلان عاجلا أو عن قريب فقضاه فيما دون الشهر بر في يمينه ولو لم يقضه حتى مضى الشهر كان حانثا ولأن الجنون إذا استوعب الشهر كله أسقط قضاء الصوم بخلاف دونه ثم رجع فقدره بالسنة لأنه لا تسقط العبادات إلا باستغراق الجنون سنة كاملة فإن من العبادات ما يكون التقرير فيها بحول كالزكاة على قول محمد رحمه الله ولكن أبو يوسف رحمه الله يجعل أكثر الحول كجميعه في حكم الزكاة حتى قال إذا جن في أكثر الحول لا تلزمه الزكاة فلهذا قال المتطاول ما يكون في أكثر السنة ولكن محمدا رحمه الله يقول يعتبر كمال السنة لأنه إذا لم يوافقه فصل من فصول السنة ولم يفق عرفنا أن هذه آفة في أصل العقل بخلاف ما إذا كان في بعض السنة وهو قياس أجل العنين أي أن التقدير فيه بالسنة الكاملة.
وتوكيل الصبي رجلا باطل إلا أن يكون الصبي مأذونا له لأنه إنما ينيب نفسه مناب غيره فيما يملكه بنفسه والصبي المحجور لا يملك التصرف بنفسه فلا يوكل غيره فأما المأذون فيملك التصرف بنفسه فله أن يوكل غيره وإذا وكل الرجل عبده أو امرأته بالخصومة ثم أعتق عبده أو طلق امرأته ثلاثا فهما على وكالتهما لأن ما عرض لا ينافي ابتداء الوكالة فلا ينافي بقاءها بطريق الأولى وإن باع العبد فإن رضي المشتري أن يكون العبد على وكالته فهو وكيل وإن لم يرض بذلك فله ذلك كما لو وكله بعد البيع وهذا لأن منافع العبد صارت للمشتري فلا يكون له أن يصرفها إلى حاجة الموكل إلا برضا المشتري.(19/23)
قال ولو وكل المسلم الحربي في دار الحرب والمسلم في دار الإسلام أو وكله الحربي فالوكالة باطلة لأنه لا عصمة بين من هو من أهل دار الحرب وبين من هو من أهل دار الإسلام ألا ترى أن عصمة النكاح مع قوتها لا تبقى بين من هو في دار الحرب وبين من هو في دار الإسلام فلأن لا تثبت الوكالة أولى وهذا لأن تصرف الوكيل برأي الموكل ومن هو في دار الحرب في حق من هو في أهل دار الإسلام كالميت والوكيل يرجع بما يلحقه من العهدة على الموكل وتباين الدارين يمنع من هذا الرجوع.
قال وإن وكل الحربي الحربي في دار الحرب ثم أسلما أو أسلم أحدهما فالوكالة باطلة لأن النيابة بالوكالة تثبت حكما ودار الحرب ليست بدار أحكام بخلاف البيع والشراء فإن ثبوت الحكم هناك بالاستيلاء حسا على ما يقتضيه ألا ترى أن بعد ما أسلما لم يكن لأحدهما أن يخاصم صاحبه بشيء من بقايا معاملاتهم في دار الحرب فكذلك لا تعتبر تلك الوكالة وإن أسلما جميعا ثم وكل أحدهما صاحبه أجزت ذلك بمنزلة المسلمين من الأصل وإذا خرج الحربي إلينا بأمان وقد وكله حربي آخر في دار الحرب ببيع شيء أجزت ذلك لأن(19/24)
ص -14- ... ذلك الشيء معه يتمكن من التصرف فيه وقد ثبت حكم الأمان فيه فكأنه وكله ببيعه وهما مستأمنان في دارنا بخلاف ما إذا لم يكن ذلك الشيء معه فإن حكم الأمان لم يثبت فيه ولا يقدر الوكيل على تسليمه بحكم البيع وإن كان وكله بخصومة لم يجز ذلك على الحربي لأن الإلزام بخصومة الوكيل إنما تكون على الموكل وليس للقاضي ولاية الإلزام على من هو في دار الحرب.
قال وتوكيل المرتد المسلم ببيع أو قبض أو خصومة أو غير ذلك موقوف في قول أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة سائر تصرفاته عنده أنها توقف بين أن تبطل بقتله أو موته أو لحوقه بدار الحرب وبين أن تنفذ بإسلامه فكذلك وكالته وعندهما تصرفات المرتد نافذة فكذلك وكالته ولو ارتد الوكيل ولحق بدار الحرب انتقضت الوكالة لانقطاع العصمة بين من هو في دار الحرب وبين من هو في دار الإسلام
وإذا قضى القاضي بلحاقه بعد موته أو جعله من أهل دار الحرب فتبطل الوكالة ألا ترى أن ابتداء الوكيل لا يصح في هذه الحال فإن عاد مسلما لم تعد الوكالة في قول أبي يوسف رحمه الله وعادت في قول محمد رحمه الله.(19/25)
وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن قضاء القاضي بلحوقه بمنزلة القضاء بموته وذلك إبطال للوكالة وبعد ما تأكد بطلان الوكالة بقضاء القاضي لا نعود إلا بالتجديد ولأنه لما عاد مسلما كان بمنزلة الحربي إذا أسلم الآن ألا ترى أن الفرقة الواقعة بينه وبين زوجته لا ترتفع بذلك فكذلك الوكالة التي بطلت لا تعود, ومحمد رحمه الله يقول صحة الوكالة لحق الموكل وحقه بعد إلحاقه بدار الحرب قائم ولكنه عجز عن التصرف لعارض والعارض على شرف الزوال فإذا زال صار كأن لم يكن فيبقى الوكيل على وكالته بعد ردة الموكل على حاله ولكن تعذر على الوكيل بمنزلة ما لو أغمي على الوكيل زمانا ثم أفاق فهو على وكالته فأما إذا ارتد الموكل ولحق بدار الحرب بطلت الوكالة لقضاء القاضي بلحاقه بدار الحرب فإن عاد مسلما لم يعد الوكيل على وكالته في رواية الكتاب فأبو يوسف رحمه الله سوى بين الفصلين, ومحمد رحمه الله يفرق فيقول الوكالة تعلقت بملك الموكل وقد زال ملكه بردته ولحاقه فبطلت الوكالة على البتات وأما بردة الوكيل فلم يزل ملك الموكل قائما فكان محل تصرف الوكيل باقيا ولكنه عجز عن التصرف لعارض فإذا زال العارض صار كأن لم يكن وجعل على هذه الرواية ردة الموكل بمنزلة عزله الوكيل لأنه فوت محل وكالته بمنزلة ما لو وكله ببيع عبد ثم أعتقه.
وفي السير الكبير يقول محمد رحمه الله يعود الوكيل على وكالته في هذا الفصل أيضا لأن الموكل إذا عاد مسلما يعاد عليه ماله على قديم ملكه وقد تعلقت الوكالة بقديم ملكه فيعود الوكيل على وكالته كما لو وكل ببيع عبد له ثم باعه الموكل بنفسه ويرد عليه بالعيب بقضاء القاضي عاد الوكيل على وكالته فهذا مثله, قال وإذا وكل رجلان رجلا وأحدهما يخاصم صاحبه لم يجز أن يكون وكيلهما في الخصومة لأنه يؤدي إلى فساد الأحكام فإنه يكون مدعيا من جانب جاحدا من الجانب الآخر والتضاد منهي عنه في البيع والشراء فإذا(19/26)
ص -15- ... كان في البيع لا يصلح الواحد أن يكون وكيلا من الجانبين ففي الخصومة أولى وإن كانت الخصومة لهما مع ثالث فوكل واحدا جاز لأن الوكيل معبر عن الموكل والواحد يصلح أن يكون معبرا عن اثنين كما يصلح أن يكون معبرا عن واحد وإذا وكل رجلا بالخصومة ثم عزله بغير علم منه لم ينعزل عندنا وقال الشافعي رحمه الله ينعزل لأن نفوذ الوكالة لحق الموكل فهو بالعزل يسقط حق نفسه وينفرد المرء بإسقاط حق نفسه ألا ترى أنه يطلق زوجته ويعتق عبده بغير علم منهما ويكون ذلك صحيحا.
والثاني الوكالة للموكل لا عليه ولهذا لا يكون ملزما إياه فلو لم ينفرد بالعزل قبل علم الوكيل به كان ذلك عليه من وجه وذلك لا يجوز ولكنا نقول العزل خطاب ملزم للوكيل بأن يمتنع من التصرف وحكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به كخطاب الشرع فإن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة وجوز لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يعلموا به وكذلك كثير من الصحابة رضوان الله عليهم شربوا الخمر بعد نزول تحريمها قبل علمهم بذلك وفيه نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}[سورة المائدة,الآية: 93] ولأن هذا الخطاب مقصود للعمل ولا يتمكن من العمل ما لم يعلم ولو أثبتنا العزل في حق الوكيل قبل علمه أدى إلى الإضرار به والغرر ولم يثبت للوكيل عليه ولاية الإضرار به, وهذا بخلاف ما إذا أعتق العبد الذي وكله ببيعه لأن العزل هناك حكمى لضرورة فوات المحل فلا يتوقف على العلم وهنا إنما يثبت العزل قصدا فلا يثبت حكمه في حق الوكيل ما لم يعلم به دفعا للضرر عنه حتى إذا نفذ القاضي القضاء على الوكيل قبل علمه بالعزل كان نافذا.(19/27)
وللوصي أن يوكل بالخصومة لليتامى لأنه قائم مقام الأب ولأنه يملك مباشرة الخصومة بنفسه فله أن يستعين بغيره بخلاف الوكيل فإن هناك رأي الموكل قائم وإذا عجز الوكيل عن المباشرة بنفسه فلا حاجة له إلى الاستعانة بغيره بل يرجع إلى الموكل ليخاصم بنفسه أو يوكل غيره وهنا رأي الموصي ثابت والصبي عاجز عن الخصومة بنفسه وإنما يصير الأب وصيا له لدفع الضرر عن الصبي وذلك إنما يحصل بمباشرة الوصي بنفسه تارة والاستعانة بغيره أخرى فلهذا ملك التوكيل.
قال وإذا وكل الرجل بالخصومة عند القاضي والقاضي يعرف الموكل فهو جائز لأن علم القاضي بالوكالة يتم إذا عرف الموكل وعلمه أقوى من شهادة الشهود عنده وإن لم يعرفه لم يقبل ذلك منه حتى يشهد للوكيل على الوكالة شاهدان يريد به أن الوكيل إذا حضر خصم يدعي لموكله قبله مالا وذلك الخصم يجحد وكالته فالقاضي يقول للوكيل قد عرفت أن رجلا من الناس قد وكلك ولكني لا أدري من يدعي له الحق الآن, هو ذلك الرجل أم لا لأني ما كنت أعرف ذلك الرجل فلهذا لا يجد الوكيل بدا من إقامة البينة على الوكالة من جهة ذلك الرجل الذي يدعي الحق له, وإذا وكل الرجل بقبض عبد له أو إجارته فادعى العبد(19/28)
ص -16- ... العتق من مولاه وأقام البينة ففي القياس لا تقبل هذه البينة لأنها قامت على من ليس بخصم فإن الوكيل بقبض العين لا يكون خصما والعبد إنما يدعي العتق على مولاه والمولي غائب ولكنه استحسن فقال تقبل هذه البينة في قصر يد الوكيل عن العبد دون القضاء بالعتق لأنها تتضمن العتق ومن صيرورته قصر يد الوكيل عن قبضه وإجازته والوكيل ليس بخصم في أحدهما وهو إثبات العتق على الموكل ولكنه خصم في إثبات قصر يده وليس من ضرورة قصر يده القضاء بالعتق على الغائب فلهذا قلنا البينة في قصر يد الوكيل عنه وإن لم يقم العبد البينة وادعى أن له بينة حاضرة أجله القاضي ثلاثا فإن أحضر بينة وإلا دفعه إلى الوكيل لأنه لا يتمكن من إحضار الشهود إلا بمهلة فلو لم يمهله القاضي أدى إلى الإضرار بالعبد ومدة الثلاث حسن لدفع الضرر وإبلاغا للعذر كما اشترطت في الخيار.
وكذلك لو وكله بنقل امرأته إليه فأقامت البينة أن زوجها طلقها ثلاثا أو وكله بقبض دار فأقام ذو اليد البينة أنه اشتراها من الموكل لأنه وكيل بقبض العين والوكيل بقبض العين لا يكون خصما فيما يدعي على الموكل من شراء أو غير ذلك لكنه خصم في قصر يده عنه فتقبل البينة عليه في هذا الحكم ولو وكله بقبض دين له فأقام الغريم البينة أنه قد أوفاه الطالب قبل ذلك منه في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الوكيل بقبض الدين عنده يملك خصومته فيكون خصما عن الوكيل فيما يدعي عليه من وصول الحق إليه.(19/29)
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الوكيل بقبض الدين كالوكيل بقبض العين في أنه نائب محض فتقصر وكالته على ما أمر به فلا يملك الخصومة ولا يكون خصما فيما يدعي على الموكل وقاساه بالرسول فإن الرسول بقبض الدين لا يملك فكذلك الوكيل لأن كل واحد منهما لا يلحقه شيء من العهدة وأبو حنيفة رحمه الله يقول الوكيل بقبض الدين وكيل بالمبادلة فيكون خصما كالوكيل بالبيع وبيان ذلك أن الديون تقضى بأمثالها فكأن الموكل وكله بأن يملك المطلوب ما في ذمته بما يستوفي منه بخلاف الوكيل بقبض الدين فليس فيه من معنى التمليك شيء ثم قبض الدين من وجه مبادلة من وجه كأنه غير حق الموكل لأن من الديون ما لا يجوز الاستبدال به فلاعتبار شبهه بقبض العين قلنا لا تلحقه العهدة في المقبوض ولاعتبار شبهه بالمبادلة قلنا يملك الخصومة وليس هذا كالرسول فإن الرسول في البيع لا يخاصم بخلاف الوكيل فكذلك في قبض الدين وهذا لأن الرسالة غير الوكالة ألا ترى أن الله تعالى سمى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الخلق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [سورة المائدة, الآية: 67]ونفى عنه الوكالة بقوله {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [سورة الأنعام, الآية: 66] وقال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}[سورة الأنعام الآية:107] فظهرت المغايرة بينهما والله أعلم.
باب الشهادة في الوكالة
قال رحمه الله ويجوز من الشهادة في الوكالة ما يجوز في غيرها من حقوق الناس لأن الوكالة لا تندرئ بالشبهات إذا وقع فيها الغلط أمكن التدارك والتلافي فتكون بمنزلة سائر(19/30)
ص -17- ... الحقوق في الحجة والإثبات أو دونه ولا تفسد باختلاف الشاهدين في الوقت والمكان لأنها كلام يعاد ويكرر ويكون الثاني عين الأول فاختلاف الشاهدين فيه في المكان والزمان لا يكون في المشهود به
وإن شهدا على الوكالة وزادا أنه كان عزله عنها جازت شهادتهما على الوكالة ولم تجز شهادة أحدهما على العزل عندنا. وقال زفر رحمه الله لا يقضى بهذه الشهادة بالوكالة في الحال لأن أحد الشاهدين يزعم أنه ليس بوكيل في الحال فكيف يقضى بالوكالة بهذه الحجة ولكنا نقول العزل يكون إخراجا للوكيل من الوكالة ولا يتبين به أنه لم يكن وكيلا فقد اتفق الشاهدان على الوكالة وبعد ثبوتها تكون باقية إلى أن يظهر العزل.
فإنما يقضي القاضي ببقاء الوكالة لأن دليل العزل لم يظهر بشهادة الواحد وإن شهد أحدهما أنه وكله بخصومة فلان في دار سماها وشهد الآخر أنه وكله بالخصومة فيها وفي شيء آخر جازت الشهادة في الدار التي اجتمعا عليها لأن الوكالة تقبل التخصيص فإنه أنابه وقد ينيب الغير مناب نفسه في شيء دون شيء ففيما اتفق عليه الشاهدان تثبت الوكالة وفيما تفرد به أحدهما لم تثبت وهو قياس ما لو شهد أحد شاهدي الطلاق أنه طلق زينب وشهد الآخر أنه طلقها وعمرة فتطلق زينب خاصة لاتفاق الشاهدين عليها فكذلك هنا.(19/31)
وإن شهد له شاهدان بالوكالة والوكيل لا يدري أنه وكله أو لم يوكله غير أنه قال أخبرني الشهود أنه وكلني بذلك فأنا أطلبها فهو جائز لأن بخبر الشاهدين يثبت العلم للقاضي بالوكالة حتى يقضي بها فكذلك يثبت العلم للوكيل حتى يطلبها بل أولى لأن دعوى الوكيل غير ملزمة وقضاء القاضي ملزم وهو نظير الوارث إذا أخبره الشاهدان بحق لمورثه على فلان جاز له أن يدعي ذلك ليشهدا له وإن شهدا على وكالته في شيء معروف والوكيل يجحد الوكالة ويقول لم يوكلني فإن كان الوكيل هو الطالب فليس له أن يأخذ بتلك الوكالة لأنه أكذب شهوده حين جحد الوكالة وإكذاب المدعي شهوده يبطل شهادتهم له بخلاف الأول فإنه هناك ما أكذب شهوده بقوله لا أدري أوكلني أم لا ولكنه احتاط لنفسه وبين أنه ليس عنده علم اليقين بوكالته وإنما يعتمد خبر الشاهدين إياه بذلك وذلك يوجب العلم من حيث الظاهر
فإن كان الوكيل هو المطلوب فإن شهدا أنه قبل الوكالة لزمته الوكالة لأن توكيل المطلوب بعد قبول الوكالة مجبر على جواب الخصم دفعا للضرر عن الطالب فإنا لو لم نجبره على ذلك وقد غاب المطلوب تضرر المدعي بتعذر إثبات حقه عليه فإنما شهدا عليه بما هو ملزم إياه فقبلت الشهادة وأن يشهد على قبوله وله أن يقبل وله أن يرد لأن الثابت من التوكيل بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاين توكيل المطلوب إياه كان هو بالخيار إن شاء رد لأن أحدا لا يقدر على أن يلزم غيره شيئا بدون رضاه فكذلك هنا ولو لم نجبره على الجواب هنا لا يلحق المدعي ضرر من جهة الوكيل وإنما يلحقه الضرر بترك النظر لنفسه فأما بعد القبول فلو لم يجبره على الجواب تضرر الطالب بمعنى من جهة الوكيل لأنه إنما ترك المطلوب اعتمادا على قبول الوكيل الوكالة.(19/32)
ص -18- ... وتجوز شهادة الذميين على توكيل المسلم مسلما أو ذميا بقبض دينه من مسلم أو ذمي لأن في هذه البينة معنى الإلزام على المسلم فإن الوكالة متى ثبتت استفاد المطلوب البراءة من حقه بدفع الدين إلى الوكيل وكان المقبوض أمانة في يد الوكيل إذا هلك ضاع حق المسلم وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في إلزام شيء على المسلم وإن كان الطالب ذميا والوكيل مسلما والمطلوب ذميا جازت شهادتهما لأن الإلزام في هذه الشهادة على الذمي فإنها تلزم المطلوب دفع المال وهو ذمي ويبرأ بهذا الدفع عن حق الطالب وهو ذمي وشهادة أهل الذمة حجة على الذمي وإن كان المطلوب مسلما فإن كان منكرا للوكالة لم تجز شهادتهما لأن فيها إلزام قضاء الدين على المسلم المطلوب فيجبر على دفع المال إلى الوكيل متى ثبتت الوكالة.(19/33)
وشهادة أهل الذمة لا تصلح للإلزام على المسلم إن كان المطلوب مقرا بالدين والوكالة جازت شهادتهم لأن معنى الإلزام فيها على الطالب فأما الإلزام على الطالب فقد ثبت بإقراره بالدين والوكالة ألا ترى أن هذه البينة وإن لم تقم كان هو مجبرا على دفع المال إلى الوكيل وإنما تثبت بهذه البينة براءته عن حق الطالب بالدفع إلى الوكيل والطالب ذمي وإذا كان المطلوب غائبا فادعى الطالب في داره دعوى ونفاها المطلوب فشهد ابنا المطلوب أنه قد وكل هذا الوكيل بخصومته في هذه الدار والوكيل يجحد ذلك فهو باطل لأنهما يشهدان لأبيهما فإنهما يثبتان بشهادتهما نائبا عن أبيهما ليخاصم الطالب ويقيم البينة حجة للدفع فيقرر به ملك أبيهما وشهادة الولد لا تقبل لأبيه قال وكذلك لو كان الطالب يجحد الوكالة لأن الوكيل إن كان جاحدا للوكالة فليس هنا من يدعيها وبدون الدعوى لا تقبل الشهادة على الوكالة وإن كان الوكيل مدعيا للوكالة فالطالب لا يكون مجبرا على الدعوى وإن كان هذا الرجل وكيلا كما لا يجبر على الدعوى عند حضرة المطلوب مع أن الابنين نصبا نائبا عن أبيهما ليثبتا حجة الدفع لأبيهما على الطالب.
ولو أن رجلا كان له على رجل مال فغاب الطالب ودفع المطلوب المال إلى رجل ادعى أنه وكيل الطالب في قبضه فقبضه ثم قدم الطالب فجحد ذلك فشهد للمطلوب ابنا الطالب بالوكالة جازت الشهادة لأنهما يشهدان على أبيهما فإن هذه الشهادة لو انعدمت كان للطالب أن يرجع في حقه على المطلوب إذا حلف أنه لم يوكل الوكيل وعند قبول هذه الشهادة يبطل حقه في الرجوع على المطلوب ويستفيد المطلوب البراءة بما دفع إلى الوكيل فظهر أنهما يشهدان على أبيهما وشهادة الواحد على والده مقبولة.(19/34)
ولو وكل رجل رجلا بقبض دين له على رجل وغاب فشهد على ذلك ابنا الطالب والمطلوب يجحد الوكالة لم تجز الشهادة لأنهما ينصبان نائبا عن أبيهما ليطالب المطلوب بالدين ويستوفيه فيتعين به حق أبيهما فكانا شاهدين له وإن أقر بها المطلوب وادعاها أحدهما جازت لأن المطلوب بإقراره بالوكالة صار مجبرا على دفع المال إلى الوكيل بدون(19/35)
ص -19- ... هذه الشهادة فهذه الشهادة تقوم على الطالب في إثبات البراءة للمطلوب عن حقه بالدفع إلى الوكيل وشهادة الابنين على أبيهما مقبولة وإن كان في يديه فشهد ابنا الطالب أن أباهما وكل هذا بالخصومة فيها وجحد ذلك المطلوب أو أقر لم تجز الشهادة أما إذا جحد فلما بيناه في الفصل الأول وأما إذا أقر به فلأنه بهذا الإقرار لم يصر مجبرا على الدفع إلى الوكيل ولا على جوابه إن خاصمه ألا ترى أن البينة لو لم تقم هنا لم يكن الوكيل مجبرا بشهادتهما على شيء وإن أقر بوكالته فإنما يصير مجبرا بشهادتهما وهو بذلك يصير نائبا لأبيهما ملزما على الغير فلا تقبل شهادتهما فيه.
وأصل هذه المسألة أن من جاء إلى المديون وقال أنا وكيل صاحب الدين في قبض الدين منك فصدقه فإنه يجبر على دفع المال إليه ولو جاء إلى المودع وقال أنا وكيل صاحب الوديعة في قبض الوديعة منك فصدقه فإنه لا يجبر على الدفع إليه لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه فهو بالتصديق يثبت له حق القبض في ملكه وإقراره في ملك نفسه ملزم فأما في الوديعة فهو بالتصديق يقر بحق القبض له في ملك الغير وقوله ليس بملزم في حق الغير وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أن المودع إذا صدق مدعي الوكالة فيها يجبر على دفعها إلى الوكيل لأن بإقرار الوكيل يكون أولى بإمساكها منه واليد حقه فإقراره بها لغيره يكون ملزما ولأنه يقر أنه يصير ضامنا بالامتناع من الدفع إلى الوكيل بعد طلبه وإقراره بسبب الضمان على نفسه مثبت إياه ولا يثبت ذلك الضمان إلا بثبوت الوكالة فأجبر على الدفع إليه.(19/36)
ولو كان مسلم في يده دار ادعى ذمي فيها دعوى ووكل وكيلا بشهادة أهل الذمة لم تجز شهادتهم على الوكالة سواء أقر المسلم بالوكالة أو أنكرها أما إذا أنكرها فلأن في هذه الشهادة إلزام الجواب على المسلم عند دعوى الوكيل وأما إذا أقر بها فلأن إقراره بالوكالة لا يلزمه الجواب هنا لما بينا أن إقراره لحق الغير فإنه يلزمه ذلك بشهادة الشهود وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلم وإن كان ذلك في دين وهو مقر به وبالوكالة أجبرته على دفعه إلى الوكيل لأنه ليس في هذه الشهادة إلزام شيء على المسلم وصار مجبرا بإقراره على دفع الدين إلى الوكيل قال وليس هذا كالوكالة بالخصومة يريد به أن بإقرار المطلوب يكون هذا وكيل الطالب بالخصومة ولا يلزمه الجواب لأن إقراره يتناول حق الغير فهو بمنزلة إقراره بالوكالة بقبض العين بخلاف إقراره بالوكالة بقبض الدين وإذا شهد الشاهدان فشهد أحدهما أن فلانا وكل فلانا بقبض الدين الذي على فلان وشهد الآخر أنه أمره بأخذه منه أو أرسله ليأخذه فإن كان المطلوب مقرى بالدين فله أن يأخذه لأن الشاهدين اتفقا على ثبوت حق القبض له فإن الرسول والمأمور به له حق القبض عند إقرار المطلوب بالدين كالوكيل وإن جحد المطلوب الدين لم يكن هذا خصما له أما عندهما فظاهر فإن الوكيل بقبض الدين لا يملك الخصومة عندهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أيضا وأما على ظاهر الرواية فالوكيل يملك الخصومة دون الرسول والمأمور بالقبض كالرسول فإنما الشاهد(19/37)
ص -20- ... له لحق الخصومة واحد وبشهادة الواحد لا يثبت شيء وإن شهدا جميعا أنه وكله بقبضه فحينئذ يكون خصما في إثبات الدين إذا جحد المطلوب ذلك باتفاق الشاهدين على ما يثبت له حق الخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله ولو وكله بتقاضي دين له بشهود ثم غاب فشهد ابنان للطالب أن أباهما قد عزله عن الوكالة وادعى المطلوب شهادتهما جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما للمطلوب فإن العزل إذا ثبت لم يكن المطلوب مجبرا على الدفع إلى الوكيل وشهادتهما على أبيهما مقبولة وإن لم ندع شهادتهما أجبر على دفع المال إلى الوكيل لأن الوكالة ظاهرة فجحوده للعزل إقرار بثبوت حق القبض له في ماله وذلك صحيح.(19/38)
وبهذه المسألة يتبين أن الوكيل بالتقاضي له أن يقبض كالوكيل بالخصومة بخلاف ما ظنه بعض أصحابنا رحمهم الله حيث جعلوا الوكيل بالتقاضي حجة لزفر رحمه الله في الخلافية وتكلفوا للفرق بينهما وكذلك شهادة الأجنبيين في هذا فإن جاء الطالب بعد دفع المال فقال قد كنت أخرجته من الوكالة فأنا أضمن المطلوب لأن دفعه إليه بإقراره فإن كان الشاهد على العزل أمين الطالب لم يكن له أن يضمن المطلوب شيئا لأن شهادتهما الآن لأبيهما على المطلوب فإن أصل الوكالة ثابت وذلك يوجب براءة المطلوب بالدفع إلى الوكيل ما لم يثبت العزل فلهذا لا تقبل الشهادة وإن كان الشاهدان على العزل أجنبيين فقد ثبت العزل بشهادتهما وكان للطالب أن يرجع بماله على المطلوب إذا شهد أن الوكيل علم بالعزل وإن شهد الابنان قبل قدوم أبيهما أن أباهما قد أخرج هذا من الوكالة ووكل هذا الآخر بقبض المال وإن أقر المطلوب بذلك دفعه إلى الآخر لإقراره بثبوت حق القبض له في ملكه لا بشهادة الابنين بالوكالة له وإن جحد دفعه إلى الأول لأن وكالته ثابتة ولم يثبت العزل بشهادتهما حين أنكره المطلوب فكان مجبرا على دفع المال إليه فإن كان الطالب ذميا فشهد مسلمان أنه وكل هذا المسلم بقبض دينه على هذا والمطلوب مقر وشهد الذميان أنه عزله عن الوكالة ووكل هذا الآخر لم يجز على الوكيل الأول لأن حق القبض ثابت له بظهور وكالته وهو مسلم فشهادة الذميين عليه بإبطال حقه لا تكون مقبولة ولو كان الوكيل الأول ذميا جازت عليه لأن شهادة أهل الذمة في إبطال حقه حجة عليه.(19/39)
وإذا شهد ابنا الوكيل أن الطالب أخرج أباهما عن الوكالة ووكل هذا الآخر يقبض المال فهو جائز لأنهما يشهدان على أبيهما في إبطال حق القبض الثابت له ويشهد أن للآخر بثبوت حق القبض له وليس بينه وبينهما سبب التهمة ولو كان الشاهدان بني الوكيل لم تجز شهادتهما على الوكالة لأبيهما لأنهما يشهدان بثبوت حق القبض له ويجوز على إخراج الأول لأنهما يشهدان عليه بالعزل وبطلان حقه في القبض وإذا شهد أنه جعله وكيلا في الخصومة في الدين الذي على فلان وشهد الآخر أنه وكله بقبضه قبلت شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله في الخصومة والقبض جميعا.(19/40)
ص -21- ... وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل في القبض إذا أقر المطلوب بالدين ولا تقبل في الخصومة إذا جحد المطلوب الدين وفي قول زفر رحمه الله لا تقبل في واحد منهما وهذا بناء على ما سبق أن الوكيل بالخصومة يملك القبض عندنا والوكيل بالقبض يملك الخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله فقد اتفق الشاهدان على الحكمين معنى وإنما اختلفا في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد أحدهما بالتخلي والآخر بالهبة وعندهما الوكيل بالقبض لا يملك الخصومة فقد اتفق الشاهدان على ثبوت حق القبض له فأما الشاهد بحق الخصومة لأحدهما فيثبت فيما اتفقا عليه دون ما انفرد به أحدهما.
وعند زفر رحمه الله الوكيل بالخصومة لا يملك القبض والوكيل بالقبض لا يملك الخصومة والشاهد أثبت أحد الأمرين ولا تتم الحجة بشهادة الواحد وإن شهد أحدهما أنه وكله ببيع هذا العبد وشهد الآخر أنه وكله بالبيع وقال لا تبع حتى تستأمرني فباع الوكيل العبد فهو جائز في القياس وقول الآخر حتى تستأمرني باطل لأنهما اتفقا على الوكالة بالبيع وانفرد أحدهما بزيادة لفظ وهو قوله لا تبع حتى تستأمرني فكان قياس ما لو شهد أحدهما بالعزل.(19/41)
وقد بينا هناك أنه يثبت ما اتفقا عليه من الوكالة ولا يثبت ما انفرد به أحدهما وهو العزل فهذا مثله فقد أشار إلى القياس ولم يذكر الاستحسان وقيل جواب الاستحسان أنه لا يقضي بشيء لأنه في قوله لا تبع حتى تستأمرني يفسد الوكالة فإنما شهد أحدهما بوكالة مطلقة والآخر بوكالة مقيدة والمقيد غير المطلق فلم يثبت واحد منهما بخلاف العزل فإنه رفع للوكالة لا يفسد لها ولو قال أحد الشاهدين وكل هذا بالبيع وقال الآخر وكل هذا وهذا لم يكن لهما ولا لأحدهما أن يبيع لأن الشاهد بوكالة الثاني واحد ولا تثبت وكالته بشهادة الواحد والشاهد بثبوت حق التفرد للأول بالبيع واحد وهو الذي شهد بوكالته خاصة فإن الآخر شهد بوكالة الاثنين وليس لأحد الوكيلين أن ينفرد بالبيع فلهذا لم يكن لأحدهما أن يبيع فإن قيل إذا اجتمعا على البيع كان ينبغي أن ينفذ لاتفاق الشاهدين على نفوذه عند مباشرتهما ولا اعتبار بمباشرة الثاني لأنه ليس بوكيل من جهة صاحب العبد فإن الشاهد بوكالته واحد وليس بوكيل من جهة الوكيل الأول فسقط اعتبار مباشرته لنفوذ هذا البيع وكذلك هذا في قبض الدين ولو كان هذا في الوكالة بالخصومة كان الذي اجتمعا عليه هو الخصم لأنهما اتفقا على ثبوت حق التفرد له في الخصومة فإن أحد الوكيلين في الخصومة ينفرد بها ولكن إذا قضى له لا يملك القبض لأن أحد الوكيلين لا ينفرد بالقبض فليس على ثبوت حق التفرد له بالقبض إلا شاهد واحد فلهذا لا يقبضه.
وإن شهد أحدهما أنه قال أنت وكيلي في قبض هذا الدين وشهد الآخر أنه قال أنت حسيبي في قبضه كان جائزا لأن كل واحد من اللفظين عبارة عن الوكالة فإن الحسيب نافذ الأمر وذلك يكون بالوكالة وإنما اختلفا في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة وكذلك لو(19/42)
ص -22- ... شهدا هكذا في الخصومة أو قبض العين وإن قال أحدهما أنه قال أنت وكيلي وقال الآخر أنه قال أنت وصيي لا تقبل هذه الشهادة لأن الوصية تكون بعد الموت وحكمها مخالف لحكم الوكالة فلم تبق شهادة الشاهدين على شيء واحد إلا أن يشهد أنه قال أنت وصيي في حياتي فالوصية في الحياة تكون وكالة لأنه أنابه في التصرف حال قيام ولايته وذلك إنما يكون بالوكالة وإنما الاختلاف بين الشاهدين هنا في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة.
وإن شهد أحدهما إنه وكله بالخصومة في هذه الدار إلى قاضي الكوفة وشهد الآخر إنه وكله بالخصومة في هذه الدار إلى قاضي البصرة فهو جائز وهو وكيل بالخصومة لأن المطلوب قضاء القاضي لا عين القاضي وأقضية القضاة لا تختلف بل تكون بصفة واحدة في أي مكان كان قاضيا فقد اتفق الشاهدان على ما هو المقصود وهو الوكالة ألا ترى أنه لو وكله بالخصومة عند القاضي فعزل أو مات فاستقضي غيره كان له أن يخاصم عنده وكذلك لو تحول الخصم إلى بلدة أخرى كان للوكيل أن يخاصم عند قاضيها وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أنه جعله وكيلا بالخصومة إلى فلان الفقيه وقال الآخر إلى فلان الآخر فهذا باطل لأن الفقيه إنما يصير حاكما بتراضيهما وكل واحد منهما يشهد برضا الموكل بحكومة إنسان على حدة فلم يثبت واحد من الأمرين وهذا لأن حكم الحكم بمنزلة الصلح لأنه يعتمد تراضي الخصمين وذلك ليس بمعلوم في نفسه بل يتفاوت بتفاوت عدل الحكم وميله إلى أحدهما ورضاه بالتحكيم إلى إنسان لا يكون رضا بالحكم إلى غيره.
وكذلك إن سمي أحدهما القاضي والآخر الفقيه لأن الشاهد على التوكيل بالخصومة إلى فلان الفقيه لا يملك التحكيم فعرفنا اختلاف المشهود به وإن شهد أحدهما أنه وكله بطلاق فلانة وفلانة وقال الآخر(19/43)
فلانة وحدها فهو وكيل في طلاق التي اجتمعا عليها لاتفاق الشاهدين على ذلك فأما في طلاق الأخرى فالشاهد بالوكالة واحد ولو شهد أحدهما أنه وكله بقبض هذا الدين وشهد الآخر أنه سلطه على قبضه فالتسليط على القبض توكيل وإنما الاختلاف بين الشاهدين في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة وكذلك هذا في كل عقد ولو شهد رجلان على وكالة رجل بالخصومة في دار فأثبته القاضي وكيلا فيها ثم رجعا لم أضمنهما لأنهما بالشهادة على الوكالة لم يتلفا على أحد شيئا وإنما نصبا عن الموكل نائبا ليطالب بحقه والشاهد عند الرجوع إنما يضمن ما أتلف بشهادته ثم رجوعهما غير مقبول في حق الوكيل فيضمن القاضي وكالته على حالها وإذا ادعى الوكيل دعوى في دار في يدي رجل لموكله فأنكر ذو اليد الوكالة والدعوى فشهد ابنا ذي اليد على الوكالة بالخصومة فهو جائز لأنهما يشهدان على أبيهما فإنهما يلزمانه الجواب عند دعوى الوكيل وإذا أشهدا رجلين على شهادتهما ثم ارتد الأصليان ثم أسلما لم تجز شهادة الآخرين على شهادتهما لأن شهادتهما عند الآخرين تبطل بارتدادهما بمنزلة شهادتهما عند القاضي فإنهما لو شهدا عند القاضي ثم ارتدا قبل القضاء بطلت شهادتهما فكذلك إذا شهدا عند الفرعيين والحاصل أن بردتهما لا(19/44)
ص -23- ... يبطل أصل شهادتهما إنما يبطل أداؤهما لأن سبب أصل الشهادة معا بينهما وذلك لا ينعدم بالردة ولأن اقتران الردة بالتحمل لا يمنع صحة تحمل الشهادة فاعتراضهما لا يمنع البقاء بطريق الأولى فأما اقتران الردة بالأداء فيمنع صحة الأداء فاعتراضهما بعد الأداء قبل حصول المقصود به يكون مبطلا للأداء وإنما يجوز للفرعيين أن يشهدا بأداء الأصليين عندهما وقد بطل ذلك بردتهما وإن شهد الأصليان بأنفسهما بعد ما أسلما جازت شهادتهما لبقاء أصل الشهادة لهما بعد الردة وكذلك لو شهد على شهادتهما رجلان ثم فسقا لم يجز أداؤهما لأن أداءهما عند الفرعيين بمنزلة أدائهما عند القاضي وفسق الشاهدين عند الأداء يمنع القاضي من العمل بشهادتهما فكذلك فسقهما هنا يمنع الفرعيين من أن يشهدا على شهادتهما ولكن إنما يبطل بفسقهما أداؤهما لا أصل شهادتهما حتى إذا تابا وأصلحا ثم شهدا بذلك جاز.
وكذلك لو شهدا على شهادتهما بعد التوبة ذلك الشاهدان أو غيرهما جاز فإن شهد الفرعيان على شهادة الفاسقين عند القاضي فردهما لتهمة الأولين لم يقبلها أبدا من الأولين ولا ممن يشهد على شهادتهما لأن الفرعيين نقلا شهادة الأصليين إلى القاضي فكأنهما حضرا بأنفسهما وشهدا والفاسق إذا شهد فرد القاضي شهادته تأبد ذلك الرد ولأن الفسق لا يعدم الأهلية للشهادة فالمردود كان شهادة وقد حكم القاضي ببطلانها فلا يصححها بعد ذلك أبدا وإن كان الأصليان عدلين فرد القاضي الشهادة لفسق الفرعيين ثم حضر الأصليان وشهدا قبل القاضي شهادتهما لأن القاضي إنما أبطل هنا نقل الفرعيين لفسق فيهما.(19/45)
وما أبطل المنقول وهو شهادة الأصليين لأن إبطال الفسق المنقول لا يكون إلا بعد ثبوته في مجلسه ولم يثبت ذلك إلا بنقل الفاسق بخلاف الأول فإن النقل هناك قد ثبت بعدالة الفرعيين وإنما أبطل القاضي المنقول وهو شهادة الأصليين فلا يقبلها بعد ذلك وكذلك إن شهد شاهدان على شهادة عبدين أو كافرين على مسلم فرد القاضي ذلك ثم عتق العبدان أو أسلم الكافران فشهدا بذلك جاز لأنهما لو شهدا عند القاضي بأنفسهما فرد القاضي شهادتهما ثم أعادا بعد العتق والإسلام قبل ذلك منهما لما أن المردود لم يكن شهادة فإن العبد ليس من أهل الشهادة وكذلك الكافر ليس من أهل الشهادة على المسلم فلم يحكم القاضي ببطلان ما هو شهادة هنا فله أن يقبلها بعد ذلك بخلاف الفاسقين فإذا ثبت هذا الحكم عند أدائهما فكذلك عند أداء الفرعيين.
ولا تجوز شهادة أهل الحرب بعضهم على بعض في دار الحرب لأن حال الحربي في دار الحرب كحال الأرقاء أو دون ذلك لأنه لا يملك دفع ملك الغير عن نفسه بالاستيلاء فلا شهادة لهم ولا يجوز لقاضي المسلمين أن يعمل بذلك إن كتب به إليه ملكهم إما لأنه ليس بحجة أو لأن ملكهم بمنزلة الواحد منهم فلا يكون كتابه حجة عند القاضي إنما الحجة كتاب القاضي إلى القاضي وملكهم ليس بقاض في حق قاضي المسلمين ولا في دار الإسلام فلهذا لا يلتفت إلى كتابه والله أعلم.(19/46)
ص -24- ... باب كتاب القاضي إلى القاضي في الوكالة
قال رحمه الله وإذا وكل الرجل بالخصومة في دار له يقبضها والدار في مصر سوى المصر الذي هو فيه فأراد أن يأخذ كتاب القاضي بالوكالة فذلك جائز لأن الوكالة تثبت مع الشهادة فيجوز فيها كتاب القاضي إلى القاضي والقياس يأبى كون كتاب القاضي إلى القاضي حجة لأن القاضي الكاتب لا ولاية له على الخصم الذي هو في غير بلده وكتابه لا يكون حجة عليه ولأن الخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم والكتاب قد يفتعل ولكنا تركنا القياس لحديث علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه فإن فيه كتاب القاضي إلى القاضي ولأن بالناس حاجة ماسة إلى ذلك لأنه قد يتعذر عليه الجمع بين الخصم وبين شهوده في مجلس القضاء وربما لا يعرف عدالة شهوده في المصر الذي فيه الخصم لو شهد على شهادتهم قبيل كتاب القاضي إلى القاضي لينقل شهوده كتابه إلى مجلس قاضي البلد الذي فيه الخصم ويثبت عدالتهم في كتابه فلأجل الحاجة جوزنا ذلك بشرط أن يحتاط فيه.(19/47)
ثم بين صفة الكتاب فقال ينبغي للقاضي أن يسأله البينة أنه فلان بن فلان الفلاني بعينه وهذا إذا لم يعرفه القاضي باسمه ونسبه فإن كان ذلك معلوما له فعلم القاضي فيه أبلغ من البينة فلا يسأله البينة على ذلك ولكن يذكر في كتابه وقد أثبته معرفة وإذا كان لا يعرف اسمه ويشتبه فلا بد من أن يسأله البينة على ذلك لأنه يحتاج في كتابه إلى أن يعرفه عند القاضي المكتوب إليه وتعريف الغائب إنما يكون الاسم والنسب فما لم يثبت ذلك عنده لا يمكنه أن يعرفه في كتابه وإذا أثبت ذلك الشهود عنده وزكوا كتب له وسماه وينسبه إلى أبيه وقبيلته قالوا وتمام التعريف أن يذكر اسم أبيه واسم جده وإن ذكر قبيلته مع ذلك فهو أبلغ وإن ترك ذلك لم يضره ويذكر في كتابه أنه قد أقام عنده البينة بذلك وزكوا شهوده في السر والعلانية وإن شاء سمى الشهود وإن شاء ترك ذكرهم وقال أعرف وجهه واسمه ونسبه لأن تعريفه عند القاضي المكتوب إليه كتاب القاضي لا شهوده عند القاضي الكاتب فيجوز أن يترك ذكرهم ثم يكتب وذكر أن دارا في البصرة في بني فلان ويذكر حدودها له وأنه قد وكل في الخصومة فيها وقبضها فلان بن فلان فإن كان الوكيل حاضرا عند الكاتب جلاه مع ذلك في الكتاب ليكون أبلغ وإن ترك ذلك لم يضره ثم يختم الكتاب ليؤمن بالختم من التغيير والزيادة والنقصان فيه ويشهد على ختمه شاهدين.
وإذا قدم الوكيل كتابه سأله القاضي البينة على الكتاب والخاتم وما فيه لأنه يوهم أن هذا كتاب القاضي إليه وهو لا يعرف حقيقة ذلك وما غاب عن القاضي علمه فطريق إثباته عنده شهادة شاهدين وعلم الشاهدين بما في الكتاب شرط عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله وهي مسألة أدب القاضي فإن شهدوا بذلك فزكوا سأل الوكيل البينة أنه فلان بن فلان بعينه وهذا إذا كان المكتوب إليه لا يعرف الوكيل باسمه ونسبه فإذا كان يعرفه فلا حاجة إلى إقامة البينة عليه وإن كان لا يعرفه يقول للوكيل قد(19/48)
ص -25- ... علمت بهذا الكتاب أن الوكيل فلان بن فلان ولكن لا أدري أنك ذلك الرجل أم لا فيحتاج إلى إقامة البينة على اسمه ونسبه لهذا فإذا أقام البينة وزكوا ادعى بحجة صاحبه في الدار لأنه قائم مقام الموكل ولو حضر الموكل بنفسه طالبه بالحجة على ما يدعي من الحق في الدار فكذلك إذا حضر وكيله وإن سأل القاضي الوكيل البينة أن فلان بن فلان بعينه قبل أن يسأله البينة على الكتاب فذلك صواب وأحسن لأنه لا بد في إقامة البينة على الكتاب والخاتم من مدعيه والمدعي من ذكر له أنه وكيل وأنا عرفت عنده بالاسم والنسب فيقيم البينة أولا على اسمه ونسبه حتى إذا ثبت أنه فلان بن فلان سمع دعواه في كتاب القاضي وختمه فهذا الترتيب أحسن.(19/49)
والأول جائز أيضا لأنه ليس في أحدهما بدون صاحبه إلزام شيء على الخصم فبأيهما كانت البداءة جاز ولا ينبغي للقاضي أن يفتح كتاب القاضي إلا والخصم معه لأنه مندوب إلى أن يصون نفسه عن أسباب التهمة ولو فتح الكتاب بدون حضور الخصم ربما يتهمه الخصم بتغيير شيء منه وإذا قبض الوكيل الدار لم يكن له أن يؤاجرها ولا يرهنها ولا يسكنها أحدا لأنه إنما وكل بالخصومة فيها وبقبضها وهذه التصرفات وراء ذلك فهو فيها كأجنبي آخر وإن ادعى رجل فيها دعوى فهو خصم فيها لأنه وكله بالخصومة فيها ولم يسم في الوكالة أحدا بعينه فإن كان سمى في الوكالة إنسانا لم يكن له أن يخصم غيره لأن التخصيص في الوكالة صحيح إذا كان مقيدا وهذا مقيد إما لأن الموكل رضي بكونه نائبا عنه في الإثبات له على فلان دون الإثبات عليه لغيره أو لأن الناس يتفاوتون في الخصومة فقد يقدر الوكيل على دفع خصومة إنسان ولا يقدر على دفع خصومة غيره لكثرة هدايته في وجوه الحيل والقاضي في التوكيل لنفسه بمنزلة غيره من الرعايا لأنه مالك للتصرف في حقوق نفسه فله أن يوكل غيره بذلك ولا يجوز قضاؤه بين وكيله وبين خصمه لأن قضاءه لوكيله بمنزلة قضائه لنفسه وهو في حق نفسه لا يكون قاضيا لأن القضاء فوق ولاية الشهادة.(19/50)
وإذا كان المرء في حق نفسه لا يكون شاهدا فكذلك لا يكون قاضيا وكذلك كل من لا تجوز شهادته له من أبيه أو أمه أو زوجته أو ابنه لا يجوز قضاؤه له ولا لوكيله وكل من جازت شهادته له جاز قضاؤه له لأن أقرب الأسباب إلى القضاء الشهادة فإن القضاء يكون بالشهادة والشهادة تصح بالقضاء فإذا جعل في حكم الشهادة من سميا بمنزلة نفسه فكذلك في حكم القضاء ولو أن رجلا وصى بثلث ماله للقاضي وأوصى إلى رجل آخر لم يجز قضاء القاضي لذلك الميت بشيء من الأشياء لأن له نصيبا فيما يقضي به للميت من المال فكان قاضيا لنفسه من وجه فكما لا يقضي عنده دعوى الوصي فكذلك عند دعوى الوكيل للوصي وكذلك إن كان القاضي أحد ورثة الميت ولم يوص له بشيء لأنه قاض لنفسه من وجه وكذلك إن كان الموصى له أو الوارث ابن القاضي أو امرأته لأنه بمنزلة نفسه.
ألا ترى أنه لا يصلح للشهادة فيما يدعي للميت من المال فكذلك لا يصلح للقضاء,(19/51)
ص -26- ... وكذلك إن كان للقاضي على الميت دين لأنه بهذا القضاء يمهد محل حقه فإنه إذا أثبت بقضائه تركة الميت استبد باستيفائه بدينه فكان قاضيا لنفسه من هذا الوجه ولو اختصم رجلان في شيء فوكل أحدهما ابن القاضي أو عبده أو مكاتبه لم يجز قضاء القاضي للوكيل على خصمه لأن حق القبض بقضائه يثبت للوكيل فإذا كان عبده أو ابنه كان بمنزلة القضاء له ولو قضى للخصم على الوكيل جاز بمنزلة قضائه على ابنه أو عبده إذ لا تهمة في قضائه على ابنه وإنما التهمة في قضائه له ألا ترى أن شهادته على ابنه مقبولة بخلاف شهادته له.
وإذا وكل رجلا بالخصومة ثم ولي الوكيل القضاء لم يجز قضاؤه في ذلك لأنه فيما يدعيه لنفسه لا يكون قاضيا فكذلك فيما هو وكيل فيه لأن حق القبض يثبت له فلو أراد أن يجعل مكانه وكيلا آخر لم يجز أيضا لأن الموكل ما رضي بتوكيل غيره ولكنه لو عزل عن القضاء كانت وكالته على حالها لأن نفاذ القضاء لا ينافي الوكالة وإن كان يمنعه من القضاء بها كما لا ينافي أصل حقوقه وإن كان هو ممنوعا من القضاء بها ألا ترى أنه لو وكل وهو قاض كان التوكيل صحيحا وكان وكيلا حتى إذا عزل كان وكيلا فإذا كان اقتران القضاء بالوكالة لا يمنع ثبوتها فطريانه لا يرفعها وكان بطريق الأولى وكذلك لو وكل رجل القاضي ببيع أو شراء أو قبض جاز ذلك لأنه يملك البيع والشراء لنفسه فكذلك للغير، وكذلك لو وكل القاضي بالخصومة فهو على وكالته إذا عزل عن القضاء.(19/52)
وإن قال له الموكل ما صنعت من شيء فهو جائز فوكل القاضي وكيلا يخاصم إليه بذلك فالتوكيل صحيح لأن الموكل أجاز صنعه على العموم والتوكيل من صنعه ولكن لا يجوز قضاؤه للوكيل لأنه إذا كان هو الذي وكله فقضاؤه له كقضائه لنفسه من وجه ألا ترى أنه لا يصح أن يكون شاهدا فيما يدعيه وكيله وكذلك لو كان هذا وكيل ابنه أو بعض من هو ممن لا يجوز شهادته له قال وإذا وكل القاضي ببيع عبده وكيلا فباعه فخاصم المشتري الوكيل في عيب لم يجز قضاء القاضي فيه لموكله لأنه بمنزلة قضائه لنفسه فإن ما يلحق الوكيل من العهدة يرجع به على الموكل فيندفع عنه أيضا ففي الحقيقة إنما يندفع عن الموكل وإن قضي به على الوكيل جاز لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة القضاء على نفسه ولا تهمة في ذلك فكذلك على ابنه ومن لا يجوز شهادته له.
ولو وكل القاضي وكيلا يبيع لليتامى شيئا ثم خاصم المشتري في عينه جاز قضاء القاضي للوكيل في ذلك لأن الوكيل هنا نائب عن اليتيم لا عن القاضي حتى إذا لحقته عهدة رجع بها في مال اليتيم فلا يكون القاضي في هذا القضاء دافعا عن نفسه وإذا وكل ابن القاضي وكيلا في خصومة فخاصم إلى القاضي ثم مات الموكل لم يجز له أن يقضي للوكيل به لأنه فيما يقضي به له نصيب فيه وإن قضي به قبل موت الموكل جاز لأنه لا حق للوارث قبل موت المورث في ماله ولكن هذا إذا كان الوارث ممن تجوز شهادة القاضي له.
ولو وكلت امرأة القاضي وكيلا بالخصومة ثم بانت منه وانقضت عدتها فقضي لوكيلها(19/53)
ص -27- ... جاز, وكذلك وكيل مكاتبه إذا عتق المكاتب قبل القضاء والحاصل أن المعتبر وقت القضاء لا وقت التوكيل لأن الإلزام إنما يكون بالقضاء فإذا لم يكن عند ذلك سبب ممكن للتهمة كان القضاء نافذا وإلا فلا, وإذا كان ابن القاضي وصيا ليتيم لم يجز قضاؤه في أمر اليتيم لأن فيما يقضي به لليتيم حق القبض يثبت للوصي فإذا كان الوصي ابن القاضي كان هذا بمنزلة قضائه لابنه من وجه فلهذا لا يجوز والله أعلم.
باب وكالة وصي اليتيم
قال رحمه الله: ويجوز لوصي اليتيم أن يوكل في كل ما يجوز له أن يعمله بنفسه من أمور اليتيم وقد بينا الفرق بين الوصي والوكيل مع أنه لا فرق في الحقيقة لأن الوصي مفوض إليه الأمر على العموم ولو فوض إلى الوكيل بهذه الصيغة بأن قال ما صنعت من شيء فهو جائز كان له أن يوكل غيره فكذلك الوصي فإن بلغ اليتيم قبل أن يصنع الوكيل ذلك لم يجز له أن يفعله لأن حق التصرف للوكيل باعتبار حق التصرف للوصي وببلوغ اليتيم عن عقل انعزل الوصي حتى لا يملك التصرف فكذلك وكيله ولأن استدامة الوكالة بعد بلوغ اليتيم كإنشائها ولو وكله الوصي بعد بلوغ اليتيم لم يجز فكذلك لا تبقى وكالته وإذا وكل اليتيم بشيء من أموره وكيلا لم يجز إلا بإجازة وصيه كما لو باشر ذلك التصرف بنفسه لا يجوز إلا بإجازة وصيه فإن كان لليتيم وصيان فوكل كل واحد منهما رجلا على حدة بشيء مما ذكرنا قام وكيل كل واحد منهما مقامه وجاز له ما يجوز له لأن بالتوكيل أقامه مقام نفسه وهو في حق نفسه مستبد بالتصرف فيقوم كل واحد من الوكيلين مقام موكله.(19/54)
ثم إن الخلاف معروف في أن أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إلا في أشياء معدودة خلافا لأبي يوسف رحمه الله فكذلك وكيل كل واحد منهما, قال وإذا كان الصبي في حجر ذي رحم محرم يعوله وليس بوصي له لم يجز عليه بيع ولا شراء ولا خصومة ولا غير ذلك لأن نفوذ هذه التصرفات يعتمد الولاية ولا ولاية له على اليتيم فلا ينفد تصرفه فيما سوى إجارته وقبض الصدقة والهبة له استحسانا أما إجارة نفسه ففي القياس لا يجوز لأنها تعقد على منافع نفسه ويلزمه بحكم ذلك العقد تسلم نفسه ولا ولاية له عليه في ذلك.
ولكنه استحسن فقال المقصود من هذه الإجارة أن يتعلم الصبي ما يكتسب به إذا احتاج إليه وهو منفعة محضة له لو أراد من يعوله أن يعلمه ذلك بنفسه ويستخدمه في ذلك ليتعلم جاز ذلك فكذلك له أن يسلمه إلى غيره ليعلمه ذلك من غير عوض يحصل له فإذا أجره لذلك لحصل له عوض بإزاء منافعه فكان إلى الجواز أقرب وإلزام التسليم بحكم هذا العقد فيه منفعة لليتيم لأنه يبقى محفوظا بيد من يحفظه وهو محتاج إلى الحافظ فإذن قبض الهبة والصدقة لا يستدعي الولاية ألا ترى أن القبض للصبي وله أن يقبض بنفسه إذا كان يعقل ذلك هو لأنه محض منفعة لا يشوبها ضرر ولا معتبر بالولاية فيه ألا ترى أن من يعوله(19/55)
ص -28- ... يحفظه ويحفظ ما معه من ماله فكذلك يحفظ ما يوهب له ولا يتأتى ذلك إلا ببينة وإن أجر عبده أو دابته لم يجز لأن الإجارة نوع بيع يعتمد الولاية ولا مقصود فيه سوى أسباب المال فيكون بمنزلة بيع الرقبة قال وإذا وكل وصي الميت وكيلا في خصومة اليتيم أو بيع أو شراء ثم مات الوصي بطلت الوكالة لأن نفوذ تصرف الوكيل باعتبار ولاية الوصي ورأيه وقد انقطع ذلك بموته فتبطل الوكالة أيضا والله أعلم.
باب الوكالة بالقيام على الدار وقبض الغلة والبيع
قال رحمه الله: وإذا وكل وكيلا بالقيام على داره وإجارتها وقبض غلتها لم يكن له أن يبني ولا يرم شيئا منها لأنه تصرف وراء ما أمر به وإنه إنما أمر بحفظ عينها والاعتياض عن منافعها والبناء والترميم ليسا من هذا في شيء بل هو إحداث شيء آخر فيها فلا يمكنه بدون أمر صاحبها وكذلك لا يكون وكيلا في خصومتها لأنه مأمور بحفظها كالمودع ولا يكون المودع وكيلا بالخصومة لمن يدعي في الوديعة حقا فكذلك هذا ولو هدم رجل منها بيتا كان وكيلا بالخصومة في ذلك بمنزلة المودع وهذا لأن الهادم استهلك شيئا مما في يده وقد أمر بحفظه وحفظ الشيء بإمساك عينه حال بقائه ولا بدل له عند استهلاك العين ولا يتوصل إلى ذلك إلا بأن يخاصم المستهلك ليسترد فكان خصما في ذلك كما يكون خصما للغاصب في استرداد العين وكذلك لو أجرها من رجل فجحد ذلك الرجل الإجارة كان خصما له حتى يثبتها عليه لأنه هو الذي باشر العقد والإجارة أحد البيعين والمباشر للبيع هو الخصم في إثباته عند الحاجة.(19/56)
وكذلك المباشر للإجارة وإن وقعت الحاجة إلى إثبات تسليم العين إليه كان الخصم له في ذلك أيضا لأنه هو الذي يسلمها وكذلك إن سكنها المستأجر وجحد الأجر فإنما كان وجوب الأجر بعقد الوكيل وقبض الحق إليه فكان خصما في إثباته لأن الإجارة من العقود التي تتعلق الحقوق فيها بالعاقد وليس للوكيل أن يدعي شيئا من هذه الدار لنفسه لأنه أقر أنه وكيل فيها وذلك يهدم دعواه فإن بين كونه مالكا للعين وبين كونه وكيلا فيها منافاة فإقراره بالوكالة يجعله مناقضا في دعواه الملك لنفسه وليس لهذا الوكيل أن يوكل بها غيره وكذلك الوكيل بالبيع ليس له أن يوكل غيره به إلا على قول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى فإنه يقول لما ملك الوكيل التصرف بنفسه بعد الموكل ملك التفويض إلى غيره بالوكالة كما في حقوق نفسه ولكنا نقول الموكل وصي برأي الوكيل الأول والناس يتفاوتون في الرأي فلا يكون رضاه برأيه فيما يحتاج فيه إلى الرأي رضا برأي غيره وكان هو في توكيل الغير به مباشرا غير ما أمره به الموكل ومتصرفا على خلاف ما رضي به فلا يجوز إلا أن يبيع الوكيل الثاني بمحضر من الوكيل الأول فحينئذ يجوز عندنا استحسانا وعند زفر رحمه الله لا يجوز كما لو باعه في حال غيبته وهذا لأن حقوق العقد إنما تتعلق بالعاقد والموكل إنما رضي بأن تتعلق الحقوق بالوكيل الأول دون الثاني ولو جاز بيع الثاني بمحضر من الأول تعلقت الحقوق به(19/57)
ص -29- ... دون الأول ولكنا نقول مقصود الموكل من هذا أن يكون تمام العقد برأي الوكيل الأول وإن كان هو حاضرا فإتمام العقد برأيه فكان مقصوده حاصلا بخلاف ما إذا كان عاما والدليل عليه أنه إذا كان حاضرا يصير كأنه هو المباشر للعقد.
ألا ترى أن الأب إذا زوج ابنته البالغة بشهادة رجل واحد بحضرتها يجعل كأنها هي التي باشرت العقد حتى يصلح الأب أن يكون شاهدا ولا معتبر بالعقد فإنه لو باعه غيره فأجاز الوكيل جاز لأن تمام العقد برأيه وإن كانت حقوق العقد تتعلق بالمباشر عند الإجازة فكذلك إذا باع بمحضر منه ولو كانا وكيلين في إجارة أو بيع ففعل ذلك أحدهما دون الآخر لم يجز لأن الموكل رضي برأيهما ورأي أحدهما لا يكون برأيهما وهذا بخلاف الوكيلين بالخصومة لأن هناك يتعذر اجتماعهما على الخصومة فيكون الموكل راضيا بخصومة كل واحد منهما على الانفراد وهنا اجتماعهما في العقد يتيسر وهذا عقد يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير فلا ينفرد به أحدهما إذا رضي الموكل برأيهما وكذلك المرمة والبناء في هذا ولو باعه الوكيل بالبيع من نفسه أو من ابن له صغير لم يجز وإن صرح الموكل بذلك لأن الواحد في باب البيع إذا باشر العقد من الجانبين يؤدي إلى تضاد الأحكام فإنه يكون مستردا مستقضيا قابضا مسلما مخاصما في العيب ومخاصما وفيه من التضاد ما لا يخفى.(19/58)
ولو باعه له من ابن له كبير أو امرأته أو واحد ممن لا تجوز شهادته له لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله بمطلق الوكالة أيضا ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إلا من عبده ومكاتبه هكذا أطلق الجواب في كتاب البيوع والوكالة وفي المضاربة يقول بيعه من هؤلاء بمثل القيمة يجوز وإنما الخلاف في البيوع بالغبن البين فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول من يقيس هناك يقيس في الوكالة أيضا ومنهم من فرق بين الوكيلين والمضارب ثم وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه ليس للوكيل فيما يشتري هؤلاء ملك ولا حق ملك فبيعه منهم كبيعه من أجنبي آخر بخلاف العبد والمكاتب فإن كسب عبده له وفي كسب مكاتبه له حق الملك فتلحقه التهمة بالبيع منهما فلا يملك ذلك كما لا يملك البيع من نفسه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول الوكيل بالبيع يوجب الحق للمشتري في ملك الغير والإنسان متهم في حق ابنه وامرأته فيما يوجبه لهما في ملك الغير ألا ترى أنه لو شهد له لا تقبل شهادته وجعل بمنزلة الشاهد لنفسه أو لعبده أو مكاتبه فكذلك إذا باعه منه ثم إن كان الخلاف في البيع بالغبن اليسير فكلام أبي حنيفة رحمه الله واضح فيه لأنه في حق الأجنبي إنما جعل الغبن اليسير عفوا لأنه ليس بينه وبين الوكيل سبب يجر إليه تهمة الميل فالظاهر أنه خفي عليه ذلك فأما ما بينه وبين ابنه أو أبيه فسبب يجر تهمة الميل لنفوذ الوكالة وإن أجريت على إطلاقها فتخصيصها بالتهمة.
ألا ترى أنه لا يملك البيع من هؤلاء بالغبن الفاحش بالاتفاق وإذا دخله الخصوص(19/59)
ص -30- ... حمل على أخص الخصوص وهو جعل الخلاف على البيع بمثل القيمة والفرق بين المضارب والوكيل أن المضارب كالمتصرف لنفسه من وجه ألا ترى أنه لا يجوز نهيه عن التصرف بعد ما صار المال عروضا وأنه شريكه في الربح فلا تلحقه التهمة في البيع بمثل القيمة من هؤلاء لأنه إنفاذ في العين دون المالية وفي الغبن هو كالمتصرف لنفسه بخلاف البيع بالغبن فإنه إيثار له في شيء من المالية وهو في ذلك نائب محض فأما الوكيل ففي العين والمالية جميعا نائب فلهذا لا يجوز بيعه من هؤلاء بمثل القيمة إلا أن يكون الموكل قد أجاز له في الوكالة بأن قال له بع ممن شئت العموم فحينئذ يجوز بيعه من هؤلاء وهذه الزيادة لم يذكر ها هنا لأنه لما فوض الأمر إليه على العموم كان ذلك بمنزلة التنصيص على البيع من هؤلاء فإن اللفظ العام يكون نصا في كل ما يتناوله فلهذا جاز بيعه من هؤلاء بعد هذه الزيادة إلا من عبده الذي لا دين عليه لأنه لا نص على بيعه منه فلم يجز فإن كسبه ملك مولاه فبيعه منه كبيعه من نفسه فأما عند إطلاق الوكالة فلا يملك البيع من هؤلاء لأن الأمر مطلق والمطلق غير العام فلم يكن إطلاقه بمنزلة التنصيص على كل بيع يباشره فلهذا لا يملك البيع من هؤلاء لتمكن سبب التهمة بينه وبينهم كما لا يبيعه من مكاتبه.(19/60)
قال: وإذا باع الوكيل الدار والخادم فطعن المشتري بعيب فخصومته في العيب مع الوكيل حتى يرده وكذلك الخصومة في العين إلى الوكيل حتى يقبضه عندنا وهو بناء على أن حقوق العقد عندنا تتعلق بالوكيل في البيع والشراء وعلى قول الشافعي رحمه الله حقوق العقد تتعلق بالموكل وليس للوكيل من ذلك شيء لأنه نائب في التصرف عن الموكل معبر عنه فلا تتعلق حقوق العقد به كالوكيل بالنكاح ودليل الوصف أن حكم العقد وهو الملك يثبت للموكل دون الوكيل ولنا أن العاقد لغيره في البيع والشراء كالعاقد لنفسه لأن مباشرته العقد بالولاية الأصلية الثابتة له إلا أنه كان لا ينفذ تصرفه بهذه الولاية في محل هو مملوك للغير إلا برضا المالك به فالتوكيل لتنفيذ حكم التصرف في محل الإثبات والولاية له وإذا كان تصرفه بالولاية الأصلية كان عقده لنفسه ولغيره سواء فيما هو من حقوقه والدليل عليه أنه مستغن عن إضافة العقد إلى الموكل فإن الوكيل بشراء شيء بعينه لو لم يضف العقد إلى الموكل يقع للموكل بخلاف النكاح حتى إذا أضافه إلى نفسه كان العقد له دون الموكل فعرفنا أنه معبر عنه.
توضيحه أن الوكيل بالنكاح ليس له قبض المعقود عليه والوكيل بالشراء له قبض السلعة وحقيقة الفرق أن كل عقد يجوز أن ينتقل موجبه من شخص إلى شخص فالوكيل فيه كالعاقد لنفسه وكل عقد لا يجوز أن ينتقل موجبه من شخص إلى شخص فالوكيل فيه يكون مغايرا فموجب النكاح ملك البضع وهو لا يحتمل النقل وموجب الشراء ملك الرقبة وهو يحتمل النقل فيجعل كأن الوكيل يملكه بالشراء ثم ملكه من الموكل هذا على طريقة الكرخي رحمه الله حيث يقول الملك أولا فأما على طريقة أبي طاهر الدباس رحمه الله الملك(19/61)
ص -31- ... يقع للموكل ولكن يعقده الوكيل على سبيل الخلافة عنه وملك النكاح لا يحتمل مثل هذه الخلافة فأما ملك المال فيحتمل.
ألا ترى أن بعقد العبد الملك يقع لمولاه وبعقد المورث يقع لوارثه بعد موته فلهذا كان الوكيل فيه بمنزلة العاقد لنفسه فيما هو من حقوق العقد وإذا رد عليه بالعيب بغير قضاء قاض بعيب يحدث مثله أو لا يحدث لزمه دون الآمر وقد بينا اختلاف الروايات في هذا في الإقرار أما وكيل الإجارة فله أن يقبل بدون القاضي وإذا قبله لم يلزمه ومن أصحابنا رحمهم الله من قال لا فرق بينهما لأن المعقود عليه في الإجارة لا يصير مقبوضا بقبض الدار ولهذا لو تلف بانهدام الدار كان في ضمان الأجير فيكون هذا من البيع بمنزلة ما لو قبله الوكيل بالعيب بغير قضاء القاضي قبل القبض وهناك يلزم الآمر فكذلك في الإجارة, فأما في الكتاب فعلل للفرق بين الفصلين وقال لأن فسخ الإجارة ليس بإجارة ومعنى هذا أن القول بالعيب بغير قضاء القاضي في البيع يجعل بمنزلة عقد مبتدأ في حق غير المتعاقدين والموكل غيرهما فصار في حقه كأن الوكيل اشتراه ابتداء فيلزمه دون الآمر وفي الإجارة لا يجعل هكذا لأن على أحد الطرفين الإجارة في معنى عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة فبعد الرد بالعيب يمتنع الانعقاد لا أن يجعل ذلك عقدا مبتدأ بين المستأجر والوكيل وعلى الطريقة الأخرى العقد منعقد باعتبار إقامة المعقود عليه وهو المنفعة وهذا حكم ثبت للضرورة ولا ضرورة إلى أن يجعل الرد بالعيب عقدا مبتدأ ليقام رقبة الدار فيه مقام المنفعة قال وللوكيل بالبيع أن يبيع بالنسيئة لأنه أمر بالبيع مطلقا ومن اعتبر أمره في شيء بغير إطلاق جعل أمره كأوامر الشرع فالامتثال إنما يحصل بأصل البيع لا بصفة النقد والنسيئة لأن ذلك قيد والمطلق غير المقيد.(19/62)
ألا ترى أن التكفير لما كان بتحرير رقبة مطلقة استوى فيه الذكر والأنثى والصغير والكبير وللوكيل بالبيع أن يأخذ بالثمن رهنا أو كفيلا لأن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء وللوكيل أن يستوفي الثمن والكفالة وثيقة لجانب اللزوم لأنه يزداد به لمطلق المطالبة فإنه يطالب الكفيل بعد الكفالة مع بقاء الكفالة والمطالبة على الأصيل كما كانت والمطالبة من حقوق الوكيل وله أن يحتال بالثمن إن كان قال له ما صنعت من شيء فهو جائز لأن موجب الحوالة يحول الثمن من ذمة المحيل إلى ذمة المحتال عليه فإن جوز بصيغة العموم نفذ هذا التصرف منه على الموكل لأنه من صنعه وإن لم يكن قال له هذا فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز قبول الحوالة في حق براءة المشتري ويكون الوكيل ضامنا الثمن للموكل وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجوز.
وأصل المسألة في الإبراء أن الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري من الثمن جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وصار ضامنا للموكل قياسا وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز إبراؤه استحسانا لأن الثمن في ذمة المشتري ملك للموكل فإنه بدل ملكه لأنه إنما(19/63)
ص -32- ... يملك البدل بملك الأصل فإبراء الوكيل تصرف في ملك الغير على خلاف ما أمره به فلا ينفذ كما لو قبض الثمن ثم وهبه من المشتري ودليل الخلاف أنه يصير ضامنا عندهما. وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الإبراء إسقاط لحق القبض والقبض خالص حق الوكيل.
ألا ترى أن الموكل لا يمنعه من ذلك ولو أراد أن يقبض بنفسه لم يكن له ذلك فكان هو في الإبراء عن القبض مسقطا حق نفسه فيصح منه إلا أن بقبضه يتعين ملك الآمر في المقبوض فإذا انسد عليه هذا الباب فبإبرائه صار ضامنا بمنزلة الراهن يعتق المرهون ينفذ إعتاقه لمصادفته ملكه ولكنه يضمن للمرتهن لانسداد باب الاستيفاء من مالية العبد عليه بهذا الإعتاق إذا عرفنا هذا في الإبراء قلنا الحوالة إبراء المشتري بتحويل الحق إلى ذمة المحال عليه فلا يجوز عند أبي يوسف رحمه الله لأنه تصرف في حق الموكل بخلاف ما أمره به ويجوز عندهما ويكون الوكيل ضامنا كما لو أبرأه بغير حوالة وعلى هذا لو حط البائع عن المشتري بعض الثمن بعيب أو بغير عيب فإن كان قال له ما صنعت من شيء فهو جائز فهذا من صنعه فيجوز في حق الآمر وإن لم يقل له فهو جائز في حق المشتري ويكون الوكيل ضامنا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا يجوز في قول أبي يوسف رحمه الله اعتبارا للبعض بالكل.(19/64)
وكذلك لو اشترى الوكيل من المشتري بالثمن متاعا أو كان الثمن دنانير فأخذ منه بها دراهم أو صالح من الثمن على متاع فذلك كله جائز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في حق الوكيل ويكون ضامنا الثمن للموكل وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجوز شيء مما صنع في براءة المشتري والثمن على المشتري على حاله ولو قبض من الثمن بعضه واشترى ببعضه متاعا كا ن مؤتمنا فيما يقبض من الثمن بعينه كما لو قبض الكل ويكون ضامنا حصة ما اشترى به الآمر كما لو اشترى بالكل وهذا لأن ثمن المشتري وجب عليه ثم صار قاضيا بالثمن دين نفسه بطريق المقاصة, وإن هلك المشترى قبل أن يقبضه لم يضمن المشتري ثمنه للآمر لأن بهلاك المبيع قبل القبض انفسخ البيع من الأصل وكان سقوط الثمن عن المشتري بانفساخ السبب لا للمقاصة بالثمن الذي هو للآمر قال وللوكيل بالبيع أن يبيع بقليل الثمن وكثيره وبأي جنس شاء من الأجناس للأموال في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز بيعه إلا بالنقد بما يتغابن الناس في مثله وحجتهما في ذلك أن مطلق الوكالة يتقيد بالمعتاد والبيع بالغبن الفاحش ليس بمعتاد فلا ينصرف التوكيل إليه بمنزلة التوكيل بالشراء ثم البيع بالمحاباة الفاحشة بيع فيه هبة ولهذا لو حصل من المريض كان معتبرا من ثلثه وهو وكيل بالبيع دون الهبة.
ألا ترى أن الأب والوصي لا يملكان البيع بالمحاباة الفاحشة لهذا وأما البيع بالعروض فبيع من وجه شراء من وجه وهو وكيل بمطلق البيع ومطلق البيع يكون بالنقد دون العروض. ألا ترى أن الوكيل بالشراء لا يشتري للآمر إلا بالنقد وأبو حنيفة رحمه الله يقول:(19/65)
ص -33- ... هو مأمور بمطلق البيع وقد أتى ببيع مطلق لأن البيع اسم لمبادلة مال بمال وذلك يوجد في البيع بالعروض كما يوجد في البيع بالنقود ولكن من البيع ما يتضمن الشراء ولا يخرج به من أن يكون بيعا مطلقا لا يضمن الشراء في جانب العروض لا في جانب المبيع وأمره كان باعتبار المبيع والعقد فيه بيع مطلق وكذلك البيع بالمحاباة فما من جزء من البيع إلا ويقابله جزء من الثمن.
ألا ترى أنه يستحق الكل بالشفعة والشفعة في الهبات لا تثبت والدليل عليه أن من حلف أن لا يبيع فباع بالمحاباة يحنث وكما يراعى العرف في الوكالات يراعي في الأثمان ثم جعل هذا بيعا مطلقا في اليمين وكذلك في الوكالة وهذا لأن العرف مشترك فقد يبيع المرء الشيء للبر فيه وفي هذا لا ينافي قلة الثمن وكثرته وقد يبيعه للاسترباح فعند إطلاق الأمر لا يترجح أحد المقصودين من غير دليل وهذا بخلاف الوكيل بالشراء لأن الأمر المطلق تخصصه التهمة وفي الوكيل بالشراء التهمة ممكنة لجواز أن يكون اشترى لنفسه فلما لم يعجبه أخذه في يمينه أراد أن يحوله إلى الآمر ولا يتمكن مثل هذه التهمة في الأمر بالبيع لأن أمره بالتوكيل بالشراء يلاقي ملك الغير وليس له ولاية مطلقة في ملك الغير لينظر إلى إطلاق أمره وأمره في البيع يلاقي ملك نفسه وله ولاية مطلقة في ملك نفسه.(19/66)
ولو اعتبرنا العموم في جانب الوكيل اشترى ذلك المتاع بجميع ملك الموكل ونحن نعلم أن الموكل لم يقصد ذلك فإذا تعذر العموم حمل على أخص الخصوص وفي التوكيل بالبيع لا يعد وتصرفه ما أمر ببيعه فأمكن اعتبار إطلاق الأمر فيه, وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في الوكيل في البيع إذا باع بعرض فإن كان يساويه جاز وإلا فلا ووجه هذه الرواية أنه في جانب العرض مشتر فالوكيل بالشراء لا يشتري للآمر بالمحاباة الفاحشة ولم يذكر الخلاف في البيع بالنسيئة فهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله ولكن قبل هذا على قولهما إذا باعه بأجل متعارف فأما بأجل غير متعارف كعشرين سنة ونحو ذلك فإنه لا يجوز وإن الأجل المتعارف كالغبن اليسير وما ليس بمتعارف كالغبن الفاحش ولو وكله بأن يعاوض عبده هذا فلانا بأمته هذه فباع فلان أمته تلك من رجل جاز للوكيل أن يعاوض بها لأن مقصود الموكل تحصيل الأمة لنفسه بمقابلة العبد وقد حصل مقصوده بتصرفه مع الثاني وهذا بخلاف الوكيل بالبيع من فلان فإنه لا يبيع من غيره لأن مقصوده هناك الثمن وإنما رضي أن يكون الثمن له في ذمة من سماه ويتفاوت الناس في ملاءة الذمة فلهذا لا يجوز بيعه من غيره.
قال وللوكيل بالإجارة أن يؤاجر بالنقد والمكيل والموزون إذا كان معلوما موصوفا وبالمعين من الحيوانات وبالموصوف المؤجل من الثياب أما على قول أبي حنيفة رحمه الله فهو ظاهر فإنه بمنزلة الوكيل وهما يفرقان ويقولان بتخصيص الوكيل بالبيع بالنقد بدليل العرف ولا عرف هنا فإن الأرض تؤاجر بغير النقد ألا ترى أنها تدفع مزارعة وهي إجارة(19/67)
ص -34- ... بجزء من الخارج ثم التخصيص في البيع لدفع الضرر عن الآمر ودفع الضرر هنا باعتبار الإطلاق لأنا إذا جعلنا الوكيل مخالفا كان بمنزلة الغاصب فيكون الأجر له ولا شيء للآمر عليه فلهذا اعتبرنا الأمر هنا وإن وكل الوكيل بقبض الأجر أو الثمن رجلا ليس في عياله فهو جائز والمستأجر والمشتري بريئان لأن حق القبض للوكيل يملك مباشرته بنفسه فيملك تفويضه إلى غيره ولكن الوكيل ضامن للآخر إن هلك المقبوض في يد وكيله قبل أن يصل إلى الوكيل الأول بمنزلة ما لو قبض الثمن بنفسه ثم دفعه إلى رجل ليس في عياله لأن قبض وكيله كقبضه بنفسه وهو في المقبوض أمين فإذا دفعه إلى رجل ليس في عياله لأن قبض وكيله كقبضه بنفسه وهو في المقبوض أمين فإذا دفعه إلى من ليس في عياله صار ضامنا للآمر
وكذلك لو وهبها الوكيل للمستأجر أو أبرأه منها أو أخرها عنه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وصار ضامنا للآمر.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز هبته ولا إبراؤه ولم يذكر التأجيل فقيل بأن أبا يوسف رحمه الله يجوز تأجيله كما لو باع بثمن مؤجل ابتداء وهذا لأنه ليس في التأجيل إسقاط الثمن بخلاف الإبراء
وقيل بل لا يجوز ذلك فقد ذكر في الجامع أن كل تصرف يصير الوكيل به ضامنا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا ينفذ ذلك التصرف عند أبي يوسف رحمه الله والله أعلم.
باب من الوكالة بالبيع والشراء(19/68)
قال رضي الله عنه الأصل في هذا الباب أن الوكيل متى قدر على تحصيل مقصود الموكل بما سمى له جاز التوكيل وإلا فلا لأن الوكالة غير مقصودة لعينها بل المقصود شيء آخر يحصل للموكل فإذا قدر على تحصيل مقصوده بما سمي له كان هذا عقدا مقيدا للمقصود فصح وإلا فلا وأصل آخر أن ما سماه في الوكالة إذا كان يتناول أجناسا مختلفة لا يصح التوكيل به سواء سمي الثمن أو لم يسم لأن جهالة الجنس جهالة متفاحشة وتسمية الجنس والثمن لا يصير الجنس معلوما بها فإن كل جنس فيه ما يوجد بذلك الثمن فلا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود الموكل وإذا سمي الجنس اشتمل على أنواع مختلفة فإن بين الثمن أو النوع جاز التوكيل وإلا فلا لأن بيان مقدار الثمن يصير النوع معلوما وإن سمي الجنس والنوع ولم يبين الصفة جازت الوكالة سواء سمي الثمن أو لم يسم وهذا استحسان وفي القياس لا يجوز ما لم يبين الصفة. وجه القياس أن التوكيل بالبيع والشراء معتبر بنفس البيع والشراء فلا يجوز إلا ببيان وصفه المعقود عليه ألا ترى أنا نجعل الوكيل كالمشتري لنفسه ثم البائع من الموكل وكان بشر المريسي رحمه الله يأخذ بالقياس إلى أن نزل به ضيف فدفع الدراهم إلى إنسان ليأتي له برؤوس مشوية فجعل يصفها له فعجز عن علمه بالصفة فقال له اصنع ما بدا لك فذهب الرجل واشترى الرؤوس وحملها إلى عياله وعاد إلى بشر بعد ما أكلها مع عياله فقال له أين ما قلت لك عنه فقال قلت لي اصنع ما بدا لك وقد بدا لي ما فعلت فرجع عن قوله وأخذ بالاستحسان.
ووجه الاستحسان ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع دينارا إلى حكيم بن حزام رضي الله(19/69)
ص -35- ... عنه وأمره بأن يشتري له شاة للأضحية ولم يبين صفتها ثم الوكالة عقد مبني على التوسع والجهالة في الصفة جهالة مستدركة وذلك عفو في العقود المبنية على التوسع وهذا لأن الوكالة لا يتعلق بها اللزوم والمقصود بها الرفق بالناس وفي اشتراط بيان الوصف بعض الحرج فسقط اعتباره لهذا إذا عرفنا هذا فنقول رجل وكل رجلا أن يشتري له جارية أو عبدا لم يكن لأن الذكور من بني آدم جنس والإناث كذلك ولكن يشتمل على أنواع كالحبشي والسندي والهندي والتركي وغير ذلك فإذا لم يبين النوع ولم يسم مقدار الثمن كانت الجهالة متفاحشة فلا يتمكن الوكيل من تحصيله فينفرد الآمر بما سمي له وإن أمره بأن يشتري له عبدا مولدا أو حبشيا أو سنديا جاز لأن النوع صار معلوما بالتسمية وإنما بقيت الجهالة في الوصف وهي جهالة مستدركة فإن الأوصاف ثلاثة الجودة والوسط والرداءة وهي تتفاوت في نوع واحد فكان الوكيل قادرا على تحصيل مقصود الآمر وكذلك إن لم يسم النوع وسمي الثمن لأن بتسمية الثمن صار النوع معلوما فإن مقدار ثمن كل نوع معلوم عند الناس فيتمكن به من تحصيل مقصوده.
ولو وكله بأن يشتري له رقبة أو مملوكا لا تجوز له الوكالة وإن بين الثمن لتمكن الجهالة في الجنس وهذا لأن الذكور مع الإناث من بني آدم جنسان مختلفان لاختلافهما في المنافع فلا يصح التوكيل إلا ببيان الجنس, وإذا وكله بشراء جارية وسمي جنسها وثمنها فاشتراها له عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليدين والرجلين أو إحداهما أو مقعدة فهو جائز على الآمر في قول أبي حنيفة رحمه الله إذا اشتراها بمثل القيمة أو بما يتغابن الناس فيه وعندهما كذلك في قطعاء اليد والعوراء فأما العمياء والمقطوعة اليدين والرجلين والمقعدة فلا يجوز على الآمر ويكون مشتريا لنفسه وهذا بناء على ما سبق فإنهما يعتبران العرف والشراء والعمياء والمقعدة غير متعارف بين الناس فأما العوراء فمعيبة وشراء المعيب متعارف.(19/70)
توضيحه أن العمى وقطع اليدين يفوت منفعة الجنس وذلك استهلاك حكم ولهذا لا يجوز التكفير بالرقبة العمياء فأما العور وقطع إحدى اليدين فليس باستهلاك. ألا ترى أن التكفير به يصح وأبو حنيفة رحمه الله بنى على أصله أن المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد وقد سمى له الجارية مطلقا واسم الجارية حقيقة في العمياء ومقطوعة اليدين ولا يثبت التقييد بالعرف لأن العرف مشترك فقد يشتري المرء رقبة عمياء ترحما عليها لابتغاء مرضاة الله عز وجل أو قصدا إلى ولائها أو إلى ولاء أولادها بخلاف الرقبة في كفارة اليمين فإن دليل التقييد هناك قد قام وهو أن الكفارات أجزية الأفعال وهي مشروعة للزجر عن ارتكاب أسبابها ولا يحصل الزجر بالعمياء ومقطوعة اليدين.
وإن وكله أن يشتري له جارية للخدمة أو عبدا ليسلمه إلى خباز أو عمل من الأعمال فاشترى أعمى أو مقطوع اليدين لم يجز على الآمر لقيام دليل التقييد في لفظه وهو تنصيصه على عمل لا يحصل ذلك من الأعمى ومقطوع اليدين وكذلك لو قال اشتر لي جارية أطؤها(19/71)
ص -36- ... فاشترى محرما من الآمر لم يجز على الآمر لأن دليل التقييد في لفظه مختص أمره بجارية يحل له وطؤها.
قال وإذا وكله بأن يشتري له دابة لم يجز وإن سمي الثمن له لأن الدابة اسم لما دب على وجه الأرض في الحقيقة وهي أجناس مختلفة كالخيل والبغال والحمير وقد بينا أن الجهالة للجنس تمنع صحة الوكالة وأنها لا ترتفع بتسمية الثمن لأن كل جنس يؤخذ بما سمي من الثمن وإن قال اشتر لي حمارا ولم يسم الثمن فهو جائز لأن الجنس صار معلوما بالتسمية وإن بقيت الجهالة في الوصف فسخ الوكالة بدون تسمية الثمن فإن قيل لا كذلك فإن الحمير أنواع منها ما يصلح لركوب العظماء ومنها ما لا يصلح إلا للحمل عليها قلنا هذا اختلاف الوصف مع أن ذلك يصير معلوما بمعرفة حال الموكل حتى قالوا بأن القاضي إذا أمر إنسانا بأن يشتري له حمارا فإنه ينصرف إلى ما يركبه مثله حتى لو اشتراه مقطوع الذنب أو الأذنين فإنه لا يجوز عليه بخلاف ما إذا أمره ألفا ليري بذلك وإذا أمره أن يشتري له ثوبا لم يجز وإن سمي الثمن لأن الثوب يشتمل على أجناس مختلفة فبالتسمية لا يصير الجنس معلوما وإن قال اشتر لي ثوبا هرويا جاز على الآمر ما اشترى من ذلك الجنس وإن لم يسم الثمن لأن الجهالة إنما بقيت في الصفة ولكن إنما ينفذ على الآمر إذا اشتراه بما يتغابن الناس في مثله فإن اشتراه بما لا يتغابن الناس في مثله كان مشتريا لنفسه لأنه تعذر تنفيذ شرائه على الآمر لما بينا وأمكن تنفيذه على العاقد فصار مشتريا لنفسه وإن سمي ثمنا فزاد عليه شيئا لم يلزم الآمر لأنه خالف ما سمي له إلى ما هو أضر عليه.(19/72)
وكذلك إن نقص من ذلك الثمن لأنه لم يحصل مقصود الآمر فإن مقصوده ثوب يهودي يشتري له بالثمن لا بما دونه والجيد يشترى بعشرة فإذا اشترى بثمانية كان رديئا إلا أن يكون وصف له صفة وسمي له ثمنا فاشترى بتلك الصفة بأقل من ذلك الثمن فحينئذ يجوز على الآمر لأنه حصل مقصوده حين اشتراه بتلك الصفة وخالفه إلى ما هو خير له حين اشتراه بأقل من ذلك الثمن وهذا لا يعد في العرف خلافا وإن دفع إليه دراهم وأمره بأن يشتري له بها طعاما فاشترى بها لحما وفاكهة لم يجز على الآمر استحسانا وفي القياس يجوز لأن الطعام اسم لما يطعم والفاكهة واللحم مطعوم إلا أن جوازه على طريقة الناس إنما يكون إذا فوض الأمر لرأيه على العموم في شراء الطعام فأما إذا لم يفعل ذلك فلا يصح التوكيل لأن المطعوم أجناس مختلفة وبتسمية الثمن لا يصير الجنس معلوما فينبغي أن لا يصح التوكيل ولكنه استحسن فقال التوكيل صحيح وإنما ينصرف إلى الحنطة ودقيقها لأنه ذكر الطعام عند ذكر الشراء وذلك لا يتناول إلا الحنطة ودقيقها.
ألا ترى أن سوق الطعام ما يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام في الناس من يبيع الحنطة ودقيقها دون من يبيع الفواكه فصار التقييد الثابت بالعرف كالثابت بالنص ثم إن قلت الدراهم فله أن يشتري بها خبزا وإن كثرت فليس له أن يشتري بها الخبز لأن ادخاره(19/73)
ص -37- ... غير ممكن إنما يمكن الادخار في الحنطة فعند كثرة الدراهم يعلم أنه لم يرد الخبز إلا أن يكون الرجل قد اتخذ وليمة فحينئذ يعلم أن مراده الخبز وإن كثرت الدراهم وجعل الدقيق في إحدى الروايتين بمنزلة الخبز
وقال إنما ينصرف القليل من الدراهم إليه لأنه قل ما يدخر عادة وفي الرواية الأخرى جعل الدقيق كالحنطة لأن الكثير من الدراهم ينصرف إليه لأنه قد يدخر الدقيق كما تدخر الحنطة وإذا لم يدفع إليه شيئا وقال اشتر لي حنطة فاشتراها لم يجز على الآمر لأنه لم يبين له القدر وجهالة القدر في المكيلات والموزونات كجهالة الجنس من حيث أن الوكيل لا يقدر على تحصيل مقصود الآمر بما سمي له.
وإن وكله بأن يشتري له دارا أو لؤلؤة ولم يسم الثمن لم يجز ذلك على الآمر لأن اللآلى ء أنواع مختلفة فلا يقدر الوكيل على تحصيل اللآلى ء بمطلق التسمية وكذلك الدور في معنى الأنواع المختلفة وأنها تختلف باختلاف البلدان وباختلاف المحال في البلدة وبقلة المرافق وكثرتها وبصلاح الجيران وفسادهم وبالسعة والضيق فلا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود الآمر الموكل بما سمي له قال وإن سمي الثمن جاز وبتسمية الثمن يصير معلوما عادة وإن بقيت جهالة فهي يسيرة مستدركة والمتأخرون من مشايخنا رحمهم الله يقولون في ديارنا لا يجوز إلا ببيان المحلة لأن الدور في كل محلة تتفاوت في القيمة وتوجد بما سمي له من الثمن الدار في كل محلة ومقصود الآمر يختلف باختلاف المحال فلهذا لا يجوز إلا بتسمية المحلة.(19/74)
قال وإذا كان الصبي حرا مسلما وأبوه ذميا أو حربيا ارتد عن الذمة ولحق بدار الحرب أو مستأمنا أو مكاتبا أو عبدا لم يجز توكيل أحدهم عليه ببيع ولا شراء ولا تزويج ولا خصومة لأن التوكيل بالتصرف إنما يصح ممن يباشر التصرف بنفسه وملك الأب مباشرة التصرف في حق ولده بولايته عليه والرق واختلاف الدين وتباين الدارين حقيقة وحكما مانع من ثبوت ولايته عليه فإن أسلم أو عتق بعد ذلك أجيز ما منع منه لأن ولايته بعد الإسلام والعتق تثبت مقصورة على الحال فلا يؤثر في تنفيذ تصرفه سبق ثبوت ولايته وإن كان الأب مرتدا عن الإسلام لم يجز توكيله عليه أيضا إلا أن يسلم فإن أسلم جاز لأن تصرفه في حق نفسه يتوقف بين أن ينفذ بالإسلام أو يبطل إذا قتل على ردته فكذلك في حق عليه والولد الكبير إذا كان ذاهب العقل بمنزلة الصبي فيما ذكرنا لأنه عاجز عن التصرف لانعدام عقله فكان مولى عليه كالصبي.
قال وإذا وكل أبو الصبي وكيلا ببيع متاع الصبي ووارثه الأب بطلت الوكالة إلا عند زفر رحمه الله فإنه يقول ثبوت الوكالة باعتبار ملك الموكل لذلك التصرف وقد بقي ذلك بعد موت الصبي وازداد بتقرر ملك الأب في المحل لكنا نقول الأب في هذا التوكيل كان نائبا عن الصبي وقد انتهت هذه النيابة بموت الصبي وتوضيحه أن الأب في هذه الوكالة إنما رضي بزوال ملك الصبي ورضاه بزوال ملك الصبي لا يكون رضا بزوال ملك نفسه فإذا صار(19/75)
ص -38- ... الملك له بالإرث بطلت الوكالة وكذلك إن مات الأب ولم يمت الصبي لأن رأي الأب قد انقطع بموته وتصرف الوكيل كان باعتبار رأي الموكل ونفاذ ولايته وكذلك لو زال عقل الأب أو ارتد ولحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه لأن ولايته قد زالت بهذه الأسباب حتى لا يملك ابتداء التوكيل فإن أسلم لم يعد الوكالة بمنزلة وكالته بالتصرف في حق نفسه وقد بينا أن بردة الموكل تبطل الوكالة على وجه لا يعود بإسلامه في رواية هذا الكتاب وكذلك في توكيله بالتصرف لولده.
قال وإذا وكل رجل رجلين ببيع شيء أو شرائه أو تزويج امرأة بعينها أو بغير عينها أو بخلع أو بمكاتبة أو عتق على مال ففعله أحدهما لم يجز لأن هذه التصرفات يحتاج فيها إلى الرأي والتدبير ورضاه برأي المسمى لا يكون إلا برأي الواحد ويستوي فيه أن يكون الموكل سمى البدل أو لم يسم لأن بتسمية البدل يمنع النقصان ولا تمنع الزيادة ولو حضر وليهما جميعا ربما يزيد أن في البدل فينتفع الموكل بذلك فلهذا لا ينفذ التصرف برأي أحدهما وإن كان لم يسم لهما مالا فزوجاه بأكثر من مهر مثلها أو طلقا امرأته على درهم أو أعتقا العبد أو كاتباه على درهم جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله للأصل الذي قلنا أنه يعمل بإطلاق الأمر ما لم يقم دليل على التقييد وهو التهمة وعندهما لا يجوز لاعتبار العرف والعادة.
قال ولو وكل رجل رجلا ببيع عبدين له بألف درهم فباع أحدهما بأربعمائة فإن كان ذلك القدر حصته من الألف جاز لأنه ليس في التفريق بين العبدين في البيع إضرار بالموكل فربما لا يجد مشتريا يرغب في شرائهما جملة فلما وكله بذلك مع علمه بما قلنا كان راضيا ببيعه أحدهما دون الآخر دلالة وكذلك إن باعه بأكثر من حصته وفيه زيادة منفعة للموكل.(19/76)
وإن باع أحدهما بأقل من حصته لم يجز وسوى في الكتاب بين النقصان الكثير واليسير وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما فإن كان النقصان يسيرا جاز وإن كان فاحشا لم يجز لأن الموكل إنما سمي الثمن بمقابلتهما جملة ولم ينص على حصة كل واحد منهما وإنما طريق معرفة حصة كل واحد منهما الحزر والظن دون اليقين وفي مثله لا يمكن التجوز عن النقصان اليسير فجعل عفوا كما لو لم يسم الثمن للوكيل فباع بغبن يسير جاز بيعه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول تنصيصه على ثمنها في الوكالة يكون تنصيصا على حصة كل واحد منهم بحصته حتى أنه لو وجد بأحدهما عيبا رده بحصته وعند التنصيص على الثمن إذا نقص الوكيل عن ذلك القدر يصير مخالفا سواء قل النقصان أو كثر كما لو قال بع هذا العبد بألف درهم فباعه بألف إلا درهما فإنه لا يجوز وإن وكله بأن يشتري له عبدين بألف درهم فاشترى أحدهما بستمائة فإن كان ذلك حصته من الألف أو أقل جاز وإن كانت حصته أكثر من ذلك لم يجز على الآمر وصار مشتريا لنفسه وهذا والوكيل بالبيع سواء لأنه قد لا يتمكن من شرائهما جملة واحدة فيكون له أن يشتري كل واحد منهما بحصته وإن وكله ببيع(19/77)
ص -39- ... عبد له فباع نصفه من رجل ثم باع النصف الآخر منه أو من غيره جاز لأنه حصل مقصود الموكل بما صنع فإن مقصوده أن يزول ملكه بعوض هو مال وذلك يحصل بالعقدين كما يحصل بالعقد الواحد فربما لا يجد مشتريا يشتريه جملة فيحتاج إلى تفريق العقد ليحصل مقصوده فإن باع نصفه ولم يبع ما بقي لم يجز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجاز في قول أبي حنيفة رحمه الله فهما يقولان بيع النصف يضر بالموكل فيما بقي لأنه يتبعض عليه الملك والشركة في الأملاك المجتمعة عيب وأمره إياه بالبيع لا يتضمن الرضا بتعيب ملكه فلهذا لا يجوز إلا أن يبيع ما بقي قبل الخصومة فحينئذ قد زال الضرر عنه وحصل مقصوده فيجوز.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول الوكيل قائم مقام الموكل في بيع العبد والموكل مالك لبيع البعض كما هو مالك لبيع الكل فكذلك الوكيل لأن اعتبار الجزء باطل واعتبار الكل صحيح ثم في تصرفه في هذا منفعة للموكل لأنه لو باع الكل بالثمن الذي باع به النصف جاز عند أبي حنيفة رحمه الله كما بينا فإذا باع البعض به كان أقرب إلى الجواز لأنه حصل له ذلك القدر من الثمن وبقي بعض العبد على ملكه
ولو وكله بأن يشتري له عبدا فاشترى بعضه لم يجز على الآمر إلا أن يشتري ما بقي قبل الخصومة فحينئذ يجوز كله على الآمر وهذا على أصلهما ظاهر للتسوية بين جانب البيع والشراء. وأبو حنيفة رحمه الله يفرق فيقول الوكيل بالشراء لو اشترى بالزيادة الكثيرة لا يجوز بخلاف الوكيل بالبيع والتهمة تتمكن في جانب الوكيل بالشراء فلعله اشترى النصف لنفسه فلما علم أن الشركة عيب أراد أن يحوله على الآمر.(19/78)
توضيح الفرق أن صحة التوكيل بالشراء بتسمية العبد ونصف العبد ليس بعبد فلا يصير به ممتثلا أمر الآمر إلا أن يشتري ما بقي قبل الخصومة فأما في جانب البيع فصحة التوكيل باعتبار ملك الموكل للغير وذلك موجود في البعض والكل ثم ذكر في النوادر أن الوكيل إذا اشترى النصف توقف شراؤه على رضا الآمر عند أبي يوسف رحمه الله حتى لو أعتقه الوكيل عن نفسه لا يجوز ولو أعتقه الموكل عن نفسه يجوز وعند محمد رحمه الله يصير الموكل مشتريا لنفسه حقا لو أعتقه جاز عتقه إلا أن يشتري ما بقي فحينئذ يتحول إلى الآمر فأبو يوسف رحمه الله يقول مقصود الموكل حصول ملك الغير له والقدر الذي حصل من جملة مقصودة ولكنه معيب بعيب الشركة فينفذ تصرف الوكيل له ويثبت له الخيار للعيب فإذا قدم على العتق صار مسقطا لخياره فينفذ العتق من جهته فإذا رده يصير الملك للوكيل حينئذ كما لو وجد به عيبا فرده بشراء العبد والنصف ليس بعبد ولكنه يفرض أن يصير موافقا بشراء ما بقي فقبل وجود هذا لموافقته كان خلافه ظاهرا وكان مشتريا لنفسه فنفذ عتقه من جهته وفرق محمد رحمه الله بين هذا وبين الوكيل بالشراء بألف إذا اشتراه بألفين يتقرر شراؤه لنفسه حتى أنه وإن حط البائع أحد الألفين لا يصير الشراء للموكل وهنا(19/79)
ص -40- ... لو اشترى ما بقي قبل الخصومة كان الشراء للموكل ووجه الفرق أن غرضه الموافقة هناك باعتبار ما لم يتناوله عقد الوكالة وهو حط الألف الزائد فلم يكن معتبرا وهنا غرضه الموافقة باعتبار ما تناولته الوكالة وهو شراء النصف الباقي فلهذا كان معتبرا.
قال ولو وكل رجلين ببيع شيء وأحدهما عبد محجور عليه أو صبي لم يجز للآخر أن ينفرد ببيعه لأنه ما رضي برأيه وحده حتى ضم إليه رأي الآخر ولو كانا حرين فباع أحدهما والآخر حاضر فأجاز البيع كان جائزا لأن تمام العقد برأيهما ألا ترى أنه لو باع فضولي فأجازه جاز وكذلك إذا باع أحدهما وأجازه الآخر ولو مات أحدهما أو ذهب عقله لم يكن للآخر أن يبيعه لأنه ما رضي برأيه وحده قال ولو وكل رجلا ببيع خادمة له فباعها ثم أقال البيع البائع فيها لزمه المال والخادم له لأن الإقالة بيع مبتدأ في حق غيرهما فهو شراء مبتدأ وللموكل غيرهما فيجعل في حقهما حقه كأن الوكيل اشتراه ابتداء ويستوي إن كانت الوكالة قبل القبض أو بعده من عيب أو من غير عيب.
ولو وكل الصبي ببيع خادم فباعها جاز لأن الصبي العاقل له عبارة معتبرة شرعا حتى ينفذ تصرفه بإذن الولي في ملك نفسه فكذلك ينفذ تصرفه في ملك الغير بتوكيل المالك إياه بذلك وهذا لأن اعتبار عبارته بتمحض منفعة له فيه يمتاز الآدمي من البهائم ويحصل له بهذا التصرف معنى التجربة فيصير مهتديا إلى التصرفات عالما بطرق التحرز عن أسباب الغبن وذلك محض منفعة له ثم العهدة على الآمر إذا لم يكن الصبي مأذونا لأن في إلزام العهدة إياه ضررا والصبي يبعد عن المضار فإذا تعذر إيجاب العهدة عليه تعلق بأقرب الناس إليه وهو من انتفع بهذا التصرف وهو الآمر فكانت العهدة عليه إلا أن يكون الصبي مأذونا له فحينئذ تلحقه العهدة لأنه بالإذن صار بمنزلة البالغ في التزام العهدة بالتصرف.(19/80)
ألا ترى أنه فيما يتصرف لنفسه تلحقه العهدة فكذلك فيما يتصرف لغيره والعبد بمنزلة الصبي إلا أنه إذا كان محجورا عليه يلزمه العهدة بعد العتق لأن قول العبد ملزم في حق نفسه لكونه مخاطبا وإنما لا يكون ملزما في حق المولى وقد سقط حقه بالعتق فأما قوله الصبي المحجور ليس بملزم في حق نفسه فلهذا لا تلزمه العهدة بعد البلوغ وإن كان الوكيل مجنونا لا يعقل فبيعه باطل لأنه ليس له قول معتبر فركن التصرف القول المعتبر شرعا وإن كان يعقل البيع والشراء فهو بمنزلة الصبي على ما بيناه وإن كان المأمور مرتدا جاز بيعه لأنه من أهل العبارة المعتبرة ولكن يوقف حكم العهدة عند أبي حنيفة رحمه الله فإن أسلم كانت العهدة عليه وإلا فالعهدة على الآمر وعندهما العهدة عليه على كل حال وهو يظهر اختلافهم في تصرفات المرتد لنفسه بيعا أو شراء.
ولو وكل الصبي أو العبد المحجور عليه بشراء عبد بعينه بثمن مسمى فاشتراه فالثمن لازم على الآمر دون الصبي والعبد ما لم يعتق لأن الصبي المحجور لا يملك التزام الثمن في ذمته والعبد لا يملك ذلك في حق المولى فإذا تعذر إيجاب الثمن عليهما وجب على من(19/81)
ص -41- ... وقع له الملك وهو الآمر وصار في حقه بمنزلة الرسول بالشراء فيجب الثمن على المرسل ولو كان مأذونا لهما في التجارة لزمهما الثمن ورجع به على الآمر لأنهما يملكان التزام الثمن في ذمتهما بتصرفهما لأنفسهما فكذلك للغير بحكم الوكالة وأورد المسألة في كتاب الحوالة والكفالة وقال هذا استحسان وفي القياس لا يلزمهما الثمن لأنهما ملتزمان الثمن لمنفعة لغيرهما فكان هذا منهما بمنزلة الكفالة وكفالة الصبي المأذون والعبد المأذون لا تصح وإن كانت بأمر المكفول عنه ولكن استحسن فقال هذا من صنع التجار لأن التعارف بين التجار في التصرفات ظاهر فإذا لم يتوكل هو عن الغير لا يتوكل الغير عنه في ذلك وفيما هو من صنع التجار المأذون منفك الحجر عنه بخلاف الكفالة فإنها ليست من صنع التجار.
توضيحه أن المشتري يكون في يده فيحبسه حتى يستوفي الثمن من الآمر فلا يتضرر به بخلاف الكفالة حتى لو وكل بالشراء لنفسه يقول لا يلزمه الثمن لأنه ليس له أن يحبس المبيع بالثمن فيكون ذلك بمنزلة الكفالة منه.(19/82)
قال وإذا أذن لعبده أو لابنه في التجارة ثم ذهب عقله وأطبق عليه انقطع إذنه لأن صحة تصرف المأذون برأي الآذن والجنون المطبق قد قطع رأيه فيكون ذلك بمنزلة موته ولو حلف بطلاق أو عتاق أو جعل أمر امرأته بيدها ثم أصابه الجنون بعد ذلك لم يبطل ما فعل من ذلك لأن حكم ذلك التصرف قد لزمه في حال عقله وكماله فلا يبطل بجنونه وهنا بالإذن في التجارة لم يلزمه شيء حتى لو كان مالكا للحجر على المأذون لبطل إذنه بجنونه لأن صحة تصرف المأذون باعتبار أنه يتقوى رأيه برأي وليه فيكون ذلك كالبلوغ في حقه ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله يملك التصرف بالغبن الفاحش وقد انعدم ذلك المعنى بجنون الولي فلا ينفذ تصرفه بعد ذلك ولو وكل وكيلا ببيع أو شراء ثم ذهب عقل الوكيل واختلط ثم اشترى وباع لم يلزم الوكيل الثمن ولزم الآمر أما في نفوذ تصرفه على الآمر فروايتان في هذه الرواية قال ينفذ لأن جنونه بهذه الصفة لو اقترن بالوكالة لمنع صحتها وإذا طرأ عليها فلأن يمنع بقاءها كان ذلك بطريق الأولى وفي غير هذا الموضع يقول لا ينفذ تصرفه على الآمر لأن الآمر إنما رضي بتصرفه في حال كمال عقله فلا يكون ذلك منه رضا بتصرفه بعد اختلاط عقله بخلاف ما إذا وكله ابتداء في هذه الحال لأنه رضي بتصرفه مع اختلاط عقله فإذا ثبت نفوذ التصرف على هذه الرواية قلنا العهدة تكون على الآمر لأن أوان لزوم العهدة وقت مباشرة التصرف لا وقت التوكيل وهو ذاهب العقل فكان التوكيل وجد في هذه الحال وإن كان العبد المحجور عليه وكل رجلا ليشتري له شيئا فاشترى له لزم الوكيل لأن العبد لا يملك الشراء لنفسه بنفسه فلا يصح توكيله به وإذا لم يصح التوكيل به صار الوكيل مشتريا لنفسه كما لو لم تسبق الوكالة.
وإذا وكل الرجلان رجلا بيع عبد لهما فباع نصفه وقال هذا نصف فلان فهو جائز لأنه صار وكيلا من جهة كل واحد منهما ببيع النصفين والوكيل معير منافعه للموكل فيملك(19/83)
ص -42- ... تعيين من يعبر عنه وإن لم يبين عند البيع أي النصفين يبيع جاز بيعه من نصيب كل واحد منهما نصفه في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قولهما لأنه سمي النصف مطلقا عند البيع فليس صرفه إلى نصيب أحدهما بأولى من صرفه إلى الآخر فيشيع في النصفين جميعا وإذا شاع فيهما بحكم المعارضة لم يجز في شيء عندهما لأن الوكيل ببيع النصف لا يملك بيع نصف النصف عندهما كما أن الوكيل ببيع الكل من واحد لا يملك بيع النصف وفي قول أبي حنيفة رحمه الله الوكيل ببيع العبد يملك بيع نصفه فيمكن تنفيذ بيعه هنا في نصف نصيب كل واحد منهما وإن لم يختصموا في ذلك حتى باع النصف الآخر جاز كله لأنه قد حصل مقصود كل واحد منهما فلا ينظر إلى تفريق الصفقة مع ذلك.
وإذا باع الوكيل العبد بخمسمائة درهم فقال الآمر أمرتك بألف درهم أو قال أمرتك بدنانير أو بحنطة أو بشعير أو باعه بنسيئة فقال الآمر أمرتك بالحال فالقول قول الآمر لأن الأمر مستفاد من جهته ولو أنكر الإذن كان القول قوله مع يمينه فكذلك إذا أقر بصفته وكذلك الخلع والنكاح والمكاتبة كله على هذا
وإذا قال الآمر للوكيل قد أخرجتك عن الوكالة فقال الوكيل لقد بعته أمس لم يصدق الوكيل لأن الموكل أقر بعزل الوكيل بمحضر منه وإنما أقر بالبيع بعد ما صار معزولا وهو لا يملك إنشاء البيع في هذه الحال فلا يصح إقراره أيضا ولو أقر الوكيل بالبيع لإنسان بعينه فقال الآمر قد أخرجتك من الوكالة جاز البيع إذا ادعى ذلك المشتري لأن الوكيل أقر به في حال بقاء الوكالة لإنشاء العقد في هذه الحال فصح إقراره ولا يبطل ذلك بالعزل بعده وإذا اتصل التصديق بالإقرار كان كالموجود يومئذ.(19/84)
ولو وكله ببيع عبد له فباعه من نفسه لم يجز لأن بيع العبد من نفسه إعتاق والإعتاق غير البيع فإنه إبطال للملك والبيع ناقل أو موجب الملك للغير أو لأن العتق يوجب الوكالة للموكل وهو لم يرض بذلك وليس للوكيل أن يلزمه الولاء بغير رضاه ولو باعه من قريب العبد جاز لأن هذا بيع مطلق ثم العتق ينبني عليه ثبوت الملك للقريب بالشراء فلا يخرج به البيع من أن يكون مطلقا في حق البائع.
ألا ترى أنه لا يملك الرجوع عن الإيجاب هنا قبل قبول المشتري بخلاف بيع العبد من نفسه ولأنه لا يلزم الموكل هنا ولاء وإنما يلزم ولاؤه للمشتري وإن وكله أن يبيعه وأمره أن يشهد على بيعه فباعه ولم يشهد فهو جائز لأنه أمره بالبيع مطلقا وأمره بالإشهاد كان معطوفا على الأمر بالبيع فلا يخرج به الأمر بالبيع من أن يكون مطلقا ألا ترى أن الله عز وجل أمر بالإشهاد على البيع فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[سورة البقرة,آية:282].
ثم من باع ولم يشهد كان بيعه جائزا ولو وكله أن يبيعه برهن ثقة بنسيئة فباعه بغير رهن لم يجز لأن حرف الباء للإلصاق وإلصاق البيع بالرهن لا يكون إلا بالشرط فإنما أمره ببيع مقيد بشرط فإذا لم يأت بذلك الشرط كان مخالفا.(19/85)
ص -43- ... وكذلك لو أمره بأن يبيعه من فلان بكفيل ثقة فباعه من غير كفيل لم يجز لأنه أمره ببيع مقيد والذي أتى به بيع مطلق والمطلق غير المقيد وفي شراء الكفيل والرهن منفعة معتبرة للموكل وهو التوثق بحقه فليس للوكيل أن يفوت عليه هذه المنفعة ألا ترى أن التوكيل بالبيع ومن أوجب لغيره بيعا بشرط رهن أو كفيل لم يكن له أن يقبل بدون ذلك الشرط فهذا مثله فإن قال الوكيل لم يأمرني بذلك فالقول قول الآمر لما بينا أن الأدب مستفاد من جهته ولو وكله أن يبيعه من رجل سماه فباعه منه ومن آخر جاز في النصف الذي باع لذلك الرجل في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يجز عندهما لأنه في الذي باعه للآخر مخالف.
ألا ترى أنه لو باع الكل من الآخر لم يجز بيعه فإذا باع من الذي سمي له الموكل والوكيل ببيع النصف عند أبي حنيفة رحمه الله فلهذا جاز في ذلك النصف قال وإذا وكله ببيع عبد فباعه واشترط الخيار لنفسه أو للآمر فهو جائز لأنه قائم مقام الموكل وكل يملك البيع بشرط الخيار واشتراط الخيار للموكل كاشتراطه للأجنبي وذلك يجوز عندنا خلافا لزفر رحمه الله وهي مسألة معروفة ثم لا ضرر على الآمر في هذا الشرط بل فيه نفع له والوكيل لا يصير مخالفا بما يراد فيه منفعة الآمر وإذا قبل الوكيل العبد بغير قضاء قاض بخيار شرط أو رؤية فهو جائز على الآمر لأن الرد بهذا فسخ من الأصل.(19/86)
ألا ترى أن المشتري ينفرد به وكذلك لورده المشتري عليه بعيب قبل القبض بغير قضاء قاض فهو جائز على الآمر لأن الرد هنا فسخ من الأصل حتى ينفرد به المشتري وهذا بخلاف الإقالة قبل القبض على ما سبق بيانه لأن المشتري لا ينفرد بالإقالة فكان ذلك التصرف معتمده التراضي فينفذ على الوكيل دون الآمر وإذا باع الوكيل العبد من أبي الآمر أو ابنه أو مكاتبه أو عبده التاجر المديون جاز لأنه لا تهمة بين الوكيل وبين هؤلاء إذ ليس بينهما وصلة وكان بيع الوكيل من هؤلاء كبيع الموكل بنفسه ولو باعه من عبده المأذون الذي لا دين عليه لم يجز كما لو باعه الموكل بنفسه وكذلك لو كان العبد مأذونا فباعه الوكيل من هؤلاء فهو جائز إن كان على العبد دين وإن لم يكن دين فالبيع مردود اعتبارا لبيع الوكيل ببيع الموكل بنفسه وهذا لأن البيع عقد شرعي فيعتبر إذا كان مفيدا ولا يعتبر إذا لم يكن مفيدا وإذا كان على العبد دين فبيعه الكسب من هؤلاء مفيد وإذا لم يكن عليه دين فلا فائدة في هذا البيع لأن المولى يتمكن من أخذ كسبه من غير بيع.
قال وإذا أمر الرجل رجلا ببيع عبد له ودفعه إليه فقال الوكيل قد بعته من هذا وقبضت الثمن وهلك عندي وادعى المشتري ذلك فهو جائز والوكيل مصدق فيه مع يمينه لأنه مسلط على البيع وقبض الثمن وقد أجبر بما جعل مسلطا عليه في حال قيام التسليط ولا تتمكن التهمة في جبره وهو أمين بما دفع إليه فإذا أخبر بأداء الأمانة فيه كان القول قوله مع يمينه وإن كان الآمر قد مات. وقال ورثته لم نسمع وقال الوكيل قد بعته من فلان بألف درهم وقبضته وهلك عندي وصدقه المشتري فإن كان العبد قائما بعينه لم يصدق الوكيل(19/87)
ص -44- ... بالبيع لأنه أخبر به في حال لا يملك إنشاءه فإنه قد يعزل بموت الآمر ولأن العبد صار ملك الوارث في الظاهر ولم يسلطه الوارث على إزالة ملكه فلا قول له في ذلك بخلافه حال حياة الآمر ولكن إن أقام المشتري البينة على الشراء في حياة الآمر كان العبد له وإلا فهو للورثة مع يمينهم على العلم فإذا أخذت الورثة العبد ضمن الوكيل المال للمشتري بإقراره بقبضه منه عوضا عن اليمين وقد استحق العبد من يد المشتري فكان ضامنا له ما قبض من الثمن.
وإن كان العبد مستهلكا فالوكيل يصدق بعد أن يحلف استحسانا وفي القياس لا يصدق لما بينا من المعنيين أنه قد انعزل بموت الآمر وإن بدله وهو القيمة صار ملكا للوارث على المشتري بقبضه العبد أو باستهلاكه فلا يقبل قول الوكيل في إبطال ملكهم. ووجه الاستحسان أن الوكيل بما يخبر هنا ينفي الضمان عن نفسه وهو كان أمينا في هذا العبد فيكون قوله مقبولا مع يمينه فيما ينفي الضمان به عن نفسه بخلاف قيام العبد فإنه يزيل ملكا ظاهرا للوارث في العبد وهو ليس بأمين في ذلك فلا يقبل قوله
لهذا ولو وكله ببيع أمة له فباعها الموكل أو كاتبها أو وهبها وسلمها فذلك نقض للوكالة لأن الوكالة تعلقت بملك الموكل وقد زال ملكه بالبيع والهبة والتسليم فلا تبقى الوكالة بدون المحل. وكذلك بالكتابة خرجت عن أن تكون محلا للبيع فلا تبقى الوكالة بعد خروج المحل من أن يكون محلا للتصرف كما لا يثبت ابتداء, ولو استخدمها الموكل أو وطئها ولم تلد ولدا منه فالوكيل على وكالته لأنها باقية على ملكه محل للتصرف الذي وكل الوكيل به وكذلك لو أجرها أو رهنها الموكل فإن الوكيل على وكالته لأنها باقية على ملكه محل للبيع وإن كان يحتاج إلى رضا المرتهن والمستأجر للزوم البيع فيهما.(19/88)
ألا ترى أن ابتداء التوكيل من الآمر صحيح بعد الرهن والإجارة وهذا لأنه يملك بيعها بنفسه فإنه لو باعها نفذ في حقه وإنما توقف لحق الغير حتى إذا سقط حق المستأجر والمرتهن كان بيعه جائزا نافذا فكذلك توكيله ببيعها يصح في هذه الحال ويبقى صحيحا ولو باعها الوكيل أو الآمر ثم ردت بعيب بقضاء قاض فللوكيل أن يبيعها لأن الرد بالعيب بقضاء القاضي فسخ من الأصل فعادت إلى قديم ملك الموكل وانتقاض الوكالة كان حكما لزوال ملك الموكل فإذا عاد ملكه عادت الوكالة.
وكذلك لو كان الرد بخيار الشرط كان للبائع أو للمشتري أو بفساد البيع أو بخيار الرؤية لأن هذه الأسباب تفسخ العقد من الأصل وإن قبلها الموكل بعيب بغير قضاء القاضي بعد قبض المشتري لم يكن للوكيل بيعها وكذلك لو تقايلا البيع فيها لأن هذا السبب كالعقد المبتدإ في حق غير المتعاقدين والوكيل غيرهما فكان في حق الوكيل كان الموكل اشتراها ابتداء وكذلك إن رجعت إلى الموكل بميراث أو هبة أو غيرهما بملك جديد لم يكن للوكيل بيعها لأن الوكالة تعلقت بالملك الأول وهذا ملك جديد سوى الأول فلا يثبت فيه حكم الوكالة إلا بتجديد توكيل من المالك.(19/89)
ص -45- ... ولو وكله ببيع عبد ثم أذن له في التجارة أو جنى عليه جناية كان على وكالته لأن المحل لم يخرج من أن يكون محلا صالحا لهذا التصرف بما أحدثه الموكل ولم يخرجه الموكل بهذا الفعل عن صحة تصرف الوكيل فبقاء الوكالة أولى وإذا باع الوكيل العبد ثم قطع يده قبل أن يقبضه المشتري فللمشتري أن يؤدي جميع الثمن ويأخذ العبد ويتبع الوكيل بنصف القيمة ويتصدق بالفضل لأن قطع اليد ليس مما اقتضته الوكالة فكان الوكيل فيه كأجنبي آخر فإن قيل أليس أن الوكيل بالبيع نزل منزلة العاقد لنفسه ولو كان باعه لم يجب عليه القيمة بقطع يده, قلنا هو في حقوق العقد ينزل منزلة العاقد لنفسه وقطع اليد ليس من حقوق العقد في شيء فكان هو فيها كأجنبي آخر وكذلك لو كبله أو استخدمه فمات من ذلك فللمشتري أن يضمن الوكيل القيمة ويعطيه الثمن لأن هذا الفعل ليس مما تضمنته الوكالة وهو من حقوق عقد الوكيل فيكون الوكيل فيه كأجنبي آخر.(19/90)
وإذا وكل رجلا ببيع عبده هذا ووكل آخر به أيضا فأيهما باعه جاز لأنه رضي برأي كل واحد منهما على الانفراد حين وكله ببيعه وحده وهذا بخلاف الوصيين إذا أوصى كل واحد منهما في عقد على حدة حيث لا ينفرد واحد منهما بالتصرف في أصح القولين لأن وجوب الوصية بالموت وعند الموت صارا وصيين جملة واحدة وهنا حكم الوكالة يثبت بنفس التوكيل فإذا أفرد كل واحد منهما بالعقد استبد كل منهما بالتصرف فإن باعه كل واحد منهما من رجل فإن علم الأول منهما كان العبد له لأن بيع الأول منهما حصل في حال قيام الوكالة فنفذ وصار بيعه كبيع الموكل بنفسه فانعزل به الوكيل الثاني وإنما باعه بعد ما انعزل فلم يصح بيعه وإن لم يعلم الأول منهما فلكل واحد منهما نصفه بنصف الثمن لأنه ليس أحدهما بنفوذ تصرفه بأولى من الآخر ولأن المشتريين قد استويا في استحقاق العبد للمساواة بينهما في السبب فكان العبد بينهما نصفين ويجبر كل واحد منهما لتفرق الصفقة عليه حيث لم يسلم له إلا نصف العبد وقد اشتراه كله وإن كان العبد في يد أحد الوكيلين أو في يد الموكل أو في يد المشتريين فهو سواء لأن يد الوكيل فيه كيد الموكل فلا يظهر اعتبار ترجيح لأحد المشتريين.(19/91)
فأما إذا كان في يد أحد المشتريين فهو له لترجيح جانبه بتأكد شرائه وتمكنه من القبض دليل سبق شرائه ولأن بالآخر حاجة إلى استحقاق يده عليه وبشرائه من الوكيل الآخر لا يظهر عند الاستحقاق وإنما يظهر بإقامة البينة بسبق عقده فإن أوهم لبسة على ذلك أخذه وإلا فلا سبيل له على العبد وإذا وكل رجل رجلا ببيع عبده فباعه مع عبد آخر بثمن واحد فهو جائز وللآمر حصة عبده لأنه حصل مقصود الآمر إذ لا فرق في حقه بين أن يبيعه وحده وبين أن يبيعه مضموما إليه عبد آخر إلا أن عند أبي حنيفة رحمه الله يجوز بيعه سواء قلت حصة عبد الموكل من الثمن المسمى أو كثرت وعندهما إنما يجوز إذا كان بحصة من الثمن قدر قيمته أو أقل بما يتغابن الناس في مثله بمنزلة ما لو باعه وحده ولو كان قال له بع(19/92)
ص -46- ... عبدي هذا بخمسمائة فباعه مع عبد آخر بألف درهم لا يجوز بيعه في عبد الموكل عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يجوز إذا كانت حصة عبد الموكل من المسمى خمسمائة أو أكثر لأنه حصل مقصود الآمر بتصرفه ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول أمره بالبيع بثمن مقطوع على مقداره بيقين ولم يأت بذلك لأن انقسام الثمن على العبدين باعتبار القيمة وطريق معرفة ذلك الحزر والظن فكان هذا غير التصرف المأمور به فلهذا لا ينفذ ولو وكله بشراء عبد بعينه فإن لم يسم له الثمن فاشتراه مع عبد آخر جاز إذا كان حصة المشتري للآمر مثل قيمته أو أكثر بما يتغابن الناس فيه وإن كان سمي له خمسمائة فاشتراه مع عبد آخر بألف لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله على الآمر ويجوز في قولهما إذا كان حصة المشتري للآمر من الثمن خمسمائة أو أقل.
ولو كان الآمر الموكل حين أمره ببيع عبده قال له هو يقوم على بمائتي درهم فضم الوكيل عبدا آخر معه يقوم عليه بمائتي درهم فباعهما مرابحة على ثلاثمائة درهم فهو جائز والثمن بينهما على رأس المال لأن بيع المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة مضمومة إليه ربحا فكان هو مسميا بمقابلة عبد الآمر ما نص عليه وزيادة فلهذا نفذ بيعه وكان الثمن بينهما أثلاثا وإذا باع الوكيل العبد بيعا فاسدا فهلك عند المشتري فعليه قيمته كما لو باعه الموكل بنفسه بيعا فاسدا وهذا لأن الضمان الأصلي في المبيع هو ضمان القيمة وإنما يتحول إلى المسمى عند صحة التسمية ولم تصح التسمية للفساد فيبقى مضمونا بالقيمة والوكيل لا يصير ضامنا شيئا لأنه لم يخالف وإنما يضمن هو بالخلاف بالفساد وهذا لأن أسباب الفساد قلما يمكن التحرز عنها عادة.(19/93)
والناس كلهم لا يكونون كأبي حنيفة رحمه الله في معرفة الأسباب المفسدة للبيع فلو قلنا يضمن الوكيل بالفساد لتحرز الناس عن قبول الوكالة وفيه قطع هذا الرفق عن الناس فلا يجوز القول به والوكيل هو الذي يقبض القيمة من المشتري لأنه وجب بعقده والفاسد من العقد معتبر بالصحيح فإذا كان عقد القبض للوكيل فيما يجب بالعقد الصحيح فكذلك فيما يجب بالعقد الفاسد فيقبض القيمة ويدفعها إلى الموكل وليس للموكل أن يطالب المشتري بها إلا أن يوكله الوكيل بذلك في البيع الفاسد والصحيح جميعا وإن دفعه المشتري إلى الآمر بريء استحسانا وفي القياس لا يبرأ لأن الآمر في حقوق العقد كأجنبي آخر فقبضه لا يوجب براءة المشتري ولكنه استحسن فقال الوكيل يعمل به في القبض فليس في قبضه بنفسه تفويت شيء على الوكيل بل فيه إسقاط فوته بالقبض والدفع عنه.
توضيحه أنه لو لم يبرئ المشتري كان له أن يسترده من الموكل ولا فائدة في نقض قبضه لحاجتنا إلى إعادته في الحال فإنه لو نقض قبض الوكيل ودفعه إلى الآمر لكان هذا اشتغالا بما لا يفيد وإن كتب الوكيل الصك باسم رب العبد فليس له أن يطالب المشتري إلا أن يوكله الوكيل بذلك لأن كتبه الصك باسمه إقرار بأن الثمن ملك له وإقراره بذلك نصا لا(19/94)
ص -47- ... ينافي كون القبض حقا للوكيل ولا يتضمن توكيل الوكيل إياه بالقبض فلهذا لا يكون له أن يقبضه.
وإذا قال الرجل للرجل بع عبدي هذا وهذا أو بع أحدهما فأيهما باع جاز وهذا استحسان وفي القياس التوكيل بالبيع معتبر فإيجاب البيع في أحدهما بغير عينه لا يصلح فكذلك التوكيل به ولكنه استحسن
فقال مبنى الوكالة على التوسع لأنه لا يتعلق اللزوم بنفسها لأن هذه جهالة مستدركة لا تفضي إلى المنازعة فلا يمنع صحة التوكيل.
توضيحه أن الموكل قد يحتاج إلى هذا لأنه لا يدري أي العبدين يروج فيوكله ببيع أحدهما توسعة للآمر عليه وتحصيلا لمقصود نفسه في الثمن وإذا باع الوكيل العبد ثم قتله المولى بطل البيع لأن الوكيل نائب عنه في البيع فكأنه بنفسه باعه ثم بقتله بطل البيع لفوات القبض المستحق بالعقد وهذا لأن القيمة لم تجب عليه لأنه مضمون عليه بالثمن للمشتري أن يأخذه بنصف الثمن إن شاء كما لو باعه بنفسه.
قال ولو وكله ببيع عدل زطي فباعه وقبضه المشتري ثم رده على البائع بخيار الرؤية فقال الآمر ليس هذا عدلي فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه كان أمينا فيه وبعد ما رد عليه بخيار الرؤية عاد أمينا كما كان فالقول في تعيين الأمانة قوله ولو باع الوكيل منه ثوبا ولم يبع ما سواه جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله
ولم يجز عندهما إن كان يضر ذلك بالعدل بمنزلة الوكيل ببيع العبد إذا باع نصفه وقد بيناه فيما سبق.(19/95)
ولو وكله ببيع شيء مما يكال أو يوزن فباع بعضه دون بعض جاز لأن هذا مما لا يضره التبعيض فلا ضرر على الموكل في بيع بعضه بخلاف الدار والعبد عندهما وضمان الوكيل ثمن ما باعه للآمر باطل لأن حق القبض في الثمن للوكيل فلو صح ضمانه عن المشتري كان ضامنا لنفسه إذ لا حق للموكل على المشتري وضمان المرء لنفسه باطل ولأنه أمين فيما يقبض من الثمن فيما بينه وبين الآمر فلو صحت كفالته للآمر صار ضامنا وبين كونه أمينا وبين كونه ضامنا في الشيء الواحد منافاة وكذلك المضارب وكل مال أصله الأمانة وإذا أقام المشتري البينة على الوكيل أنه قد أوفاه الثمن والوكيل يجحد ذلك فقد بريء المشتري من الثمن والوكيل ضامن له لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عايناه قد قبض الثمن ثم جحده كان ضامنا له.
وإذا وكله ببيع عدل زطى له فعمد الوكيل إلى العدل وقصره فهو ضامن لما هلك عند القصار لأنه غير مأمور بالدفع إليه للقصارة فيكون بهذا الدفع مخالفا ضامنا ما هلك عند القصار فإن رجع إلى يد الوكيل بريء من ضمانه لأنه أمين خالف ثم عاد إلى الوفاق فلا يكون ضامنا لما هلك وأجرة القصار تكون على الوكيل لأنه هو الذي استأجره وإن باعه بعد القصارة فالثمن كله للموكل ولا شيء منه للوكيل باعتبار الأجرة للقصارة لأن القصارة ليست بعين مال قائم في الثوب وإنما هي إزالة الدرن والوسخ عن الثوب فإن اللون الأصلي(19/96)
ص -48- ... للقطن إنما هو البياض ويتغير ذلك بالوسخ فإذا أزيلت عند القصارة عاد اللون الأصلي فإذا لم يكن للوكيل عين مال قائم باعتبار القصارة لا يكون له من الثمن حصة.
وكذلك إن فتل الثياب فأما إذا صبغها بعصفر أو زعفران فهو مخالف بما صبغ لأن صاحب الثوب لم يأمره به فهو كمودع أو غاصب صبغ الثوب فلصاحب الثوب أن يضمنه قيمة ثوبه أبيض وإن شاء أخذ الثوب منه ورد عليه ما زاد العصفر والزعفران فيه وإن شاء باعه الوكيل وضارب الآمر في الثمن بقيمة الثوب أبيض وضارب الوكيل بما زاد الصبغ فيه لأن الصبغ عين مال قائم في الثوب فيسلم للوكيل ما يخصه من الثمن وكان الخيار للمالك لأنه صاحب الأصل فإن الصبغ تبع لأن قيامه بالثوب وقيام البيع يكون بالأصل ولأن الثوب قائم من كل وجه والصبغ مستهلك من وجه دون وجه فلهذا كان الخيار لصاحب الثوب.
ولو صبغه أسود فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله السواد نقصان في الثوب لا زيادة فللموكل أن يأخذه ولا يعطي الوكيل شيئا وإن باعه الوكيل فالثمن كله للآمر وعندهما السواد بمنزلة العصفر والزعفران وقيل هذا اختلاف عصر وزمان فإن لبس السواد لم يكن ظاهرا في زمن أبي حنيفة رحمه الله فعده نقصانا في الثوب وقد ظهر في عهدهما فقالا زيادة وقيل بل هذا يختلف باختلاف الثياب فمن الثياب ما ينقص السواد من قيمته كالقصب ونحوه فيكون ذلك نقصانا فيه كما قال أبو حنيفة رحمه الله ومن الثياب ما يزيد السواد في قيمته فيكون الجواب فيه كما قالا.(19/97)
وكان أبو يوسف رحمه الله يقول بقول أبي حنيفة فلما قلد القضاء وكلف السواد احتاج فيه إلى مؤنة فرجع وقال السواد زيادة ثم الوكيل في هذا كله على وكالته في بيعه لأن ما عرض لا ينافي ابتداء التوكيل ولا يخرج المحل من أن يكون صالحا للتصرف وإذا دفع إليه جراب هروي يبيعه وهو بالكوفة فبأي أسواق الكوفة باعه جاز وإن خرج إلى البصرة فباعه هناك ضمنه استحسانا ولم يجز بيعه على الآمر وفي القياس يجوز لأنه أمره بالبيع مطلقا فلا يتقيد بمكان من غير تقييد في كلامه وأكثر ما فيه أن مقصوده البيع بالكوفة والتقييد بالمقصود لا يحصل خصوصا عند أبي حنيفة رحمه الله ولكنه استحسن فقال لو لم تتقيد الوكالة بالكوفة كانت مؤنة النقل إلى موضع آخر على الموكل لأن الوكيل في النقل ممتثل أمره فيرجع عليه بما يلحقه من المؤنة فربما تبلغ المؤنة قيمة المتاع أو تزيد فيكون في ذلك تفويت مقصود الموكل.
وهذا دليل صالح لتقييد مطلق الوكالة فإذا تقيدت بالمصر كان هو بالإخراج مخالفا فلا ينفذ بيعه ويكون ضامنا ولم يذكر في الكتاب ما إذا لم يخرج المتاع مع نفسه ولكن باعه بالبصرة ومشايخنا رحمهم الله يقولون بيعه يجوز هنا لأن التسليم في بيع العين إنما يجب في موضع المبيع فلا يلحقه مؤنة النقل. والأصح أنه لا يجوز لأن التقييد ثبت بالدلالة كما ذكرنا فكان كالثابت بالنص والوكالة تقبل التقييد بالمكان والزمان.(19/98)
ص -49- ... ولو قال بعه بالكوفة ففي أي أسواق الكوفة باعه جاز لأن مقصوده بهذا التقييد سعر الكوفة وفي أي أسواق الكوفة باع فإنه إنما باع بسعر الكوفة وإن حمله إلى مصر آخر فباعه لم يجز بيعه فكان ضامنا له قياسا واستحسانا لتقييد الأمر بالكوفة نصا وإذا كان للرجل عدل زطى فقال لرجلين أيكما باعه فهو جائز وإن باعه أحد هذين فهو جائز أو وكلت هذا أو هذا ببيعه فباعه أحدهما ففي القياس لا يجوز لجهالة من وكل بالبيع وفي الاستحسان يجوز لأن هذه جهالة مستدركة فيحمل فيما هو مبني على التوسع.
ثم قد نص على القياس والاستحسان هنا ولم ينص فيما سبق من توكيل الواحد ببيع أحد العبدين حتى تكلف بعضهم كما بينا في الإقرار أن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار وجهالة المقر له تمنع من ذلك
ولكن الأصح أن القياس والاستحسان في الفصلين فإنه قال هنا وكذلك لو قال لواحد بع أحد هذين العبدين أو بع ذا وذا فهذا بيان أن القياس والاستحسان سواء وإذا أمره أن يبيعه ويشترط الخيار للآمر ثلاثة أيام فباعه بغير خيار أو بخيار دون الثلاثة فدفعه فبيعه باطل وهو له ضامن لأنه أتى بعقد هو أضر على الآمر فإنه أمره بالبيع على وجه يكون الرأي في هذه الثلاثة إلى الموكل بين أن يفسخ العقد أو يمضيه وقد أتى بعقد لا يثبت فيه هذا القدر من الرأي للآمر فكان مخالفا كالغاصب.(19/99)
ولو قال بعه واشترط الخيار لي شهرا فباعه وشرط الخيار له ثلاثة أيام جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله استحسانا ولم يجز في قولهما لأن من أصلهما أن الخيار يثبت في مدة الشهر ويصح البيع معه فإنما أمره بعقد يكون فيه الرأي إلى الآمر في هذه المدة وهو لم يأت بذلك فكان ضامنا وإن من أصل أبي حنيفة رحمه الله أن اشتراط الخيار في البيع لا يجوز أكثر من ثلاثة أيام فإنما هذا وكيل بالبيع الفاسد عنده والوكيل بالبيع الفاسد إذا باع بيعا جائزا نفذ على الآمر استحسانا فهذا مثله. ولو قال بعه بيعا فاسدا فباعه بيعا جائزا كان هذا استحسانا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وفي القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله لا يجوز لأن أمره بالعقد لا يزيل ملكه بنفس العقد فكان كالمأمور بالهبة إذا باع أو لأنه أمره ببيع لا ينقطع به حق الموكل في الاسترداد أو أمره ببيع يكون المبيع مضمونا بالقيمة على المشتري إذا قبضه فكان كالمأمور بشرط الخيار للآمر إذا باعه بغير خيار, ووجه الاستحسان أنه من جنس التصرف الذي أمره به وهو خير للآمر مما أمره به فلا يكون مخالفا كالوكيل بالبيع بألف إذا باع بألفين وبيانه أنه أمره بأن يطعمه الحرام بالتجارة وهو أطعمه الحلال والتجارة مشروعة لاكتساب الحلال بها دون الحرام بخلاف المضمون المأمور بالهبة إذا باع لأن ما أتي به ليس من جنس ما أمره به وبخلاف بيع المأمور بشرط الخيار إذا لم يذكر الخيار لأن ما أتى به ليس بأنفع للآمر به بل هو أضر عليه.
يوضحه أنه لو أمره بالبيع الجائز فباع بيعا فاسدا لم يكن مخالفا فعرفنا أن الامتثال بأصل العقد لا بصفة الجواز والفساد, وفي الأمالي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لو أمره بأن يزوجه(19/100)
ص -50- ... امرأة بغير شهود فزوجها إياه بشهود لم يجز عند أبي يوسف رحمه الله وهذا لأن التوكيل بالنكاح لا يتناول النكاح الفاسد عنده بخلاف البيع ولأن النكاح الفاسد لا يوجب الكل أصلا وهو غير مأمور من جهته بإثبات الحل له فلهذا لا يصح مباشرته العقد الصحيح بخلاف البيع ولا إشكال على قول محمد رحمه الله أنه لا يجوز فأما عند أبي يوسف رحمه الله فقال ينبغي أن يجوز لأن الإذن في النكاح عنده يتناول الجائز والفاسد وما أتى به أنفع للموكل مما أمره به ولو قال بعه بعبد إلى أجل فباعه بدراهم حالة في القياس لا يجوز وهو قول محمد رحمه الله ولم يذكر قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقيل على قولهما ينبغي أن يجوز لأنه مأمور بالعقد الفاسد وقد أتى بالعقد الصحيح والأصح أنه لا يجوز هنا لأنه سمي جنسا خلاف ما أمره به الآمر وعند اختلاف الجنس في المسمى يكون مخالفا وإن كان ذلك أنفع للآمر كالتوكيل بالبيع بألف درهم إذا باعه بألف دينار لا ينفذ على الآمر.
ولو قال بعه بألف نسيئة فباعه بألف أو أكثر من ألف بالنقد فهو جائز لأنه حصل مقصود الآمر وزاده خيرا بزيادته في قدر المسمى أو في صفة الحلول وإن باعه بأقل من ألف بالنقد لم يجز لأنه خالف مقصوده وما سمي له فإنه أمره بأن يدخل في ملكه بمقابلة العبد ألفا وقد أدخل في ملكه دون ذلك وإن باعه بألفين نسيئة جاز لأنه خالف إلى خير بزيادة الثمن وإن باعه بألفين نسيئة شهرين والموكل إنما أمره بألف نسيئة شهرا لم يجز أيضا لأنه خالف ما سمي له في مدة الأجل إلى ما هو أضر عليه.(19/101)
والحاصل أن مقابلة زيادة القدر بالنقصان المتمكن بزيادة الأجل إنما يكون بطريق المقايسة وليس للوكيل ذلك بل عليه مراعاة ما سمي له الآمر فإذا خالف إلى ما هو أضر عليه لم ينفذ تصرفه عليه ولو دفع إليه منطقة فيها مائة درهم فضة فقال بعها بخمسين فباعها بمائة درهم وعشرة دراهم نقدا فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله لأنه زاده خيرا من كل وجه وفي قول محمد رحمه الله لا يجوز لأنه أمره بالعقد الفاسد وقد أتى بالعقد الصحيح.
وكذلك لو قال بعها بخمسين درهما نسيئة فباعها بخمسين نقدا فهو على الخلاف الذي ذكرنا وإن دفع إليه جراب هروي فقال بعه نسيئة أو نقدا فما باعه من شيء من دراهم أو دنانير أو شيء مما يكال أو يوزن فهو جائز أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يشكل وأما عندهما فلأنه وسع الآمر عليه بقوله بعه نسيئة أو نقدا فينصرف إلى كل ما يثبت دينا في الذمة ثبوتا صحيحا وإن باعه بيعا فاسدا ودفعه إليه لم يكن مخالفا لما بينا ولو قال بعه نسيئة فباعه إلى الحصاد والدياس إو إلى العطاء أو إلى النيروز فالبيع فاسد بجهالة هذه الآجال عند المتعاقدين كما لو باعه الموكل بنفسه إلا أن يقول المشتري أنا أعجل المال وأدع الأجل فحينئذ يجوز حذف الشرط المفسد قبل تقرره وهي زفرية معروفة في البيوع.(19/102)
ص -51- ... ولو وكله بطعام فقال بعه كل كر بخمسين فباعه كله فهو جائز لأن حرف كل جامع لكل ما يضاف إليه وقد أضافه إلى الطعام فيجمع كل كر منه وإن قال بعه بمثل ما باع به فلان الكر فقال فلان بعت الكر بأربعين فباع الوكيل بأربعين ثم وجد فلانا باعه بخمسين فالبيع مردود لأنه تبين أنه باعه بأقل مما سمي له وأن فلانا أخبر بالباطل والمخبر به إذا كان كذبا فبالإخبار به لا يصير صدقا وجهل الوكيل لا يبطل حق الموكل ولا يجعل الوكيل موافقا وإن كان فلان باع كرا بخمسين فباع هذا كراره بخمسين خمسين ثم باع فلان بعد ذلك بستين فهو جائز ولا ضمان على الوكيل لأنه أمره بالبيع بمثل ما باع به فلان في الماضي لا بمثل ما يبيع به في المستقبل وقد امتثل أمره في ذلك وإن كان فلان باع كرا بأربعين وكرا بخمسين فباع الوكيل طعامه كل كر بأربع وأربعين ففي القياس لا يجوز بيع الوكيل لأن جوازه يعتمد رضا الموكل وفي رضاه بأربعين شك لما كان فلان باع تارة بخمسين وتارة بأربعين فالظاهر أن مراد الآمر بهذا بع على ما باع به فلان لا أدناه ولكنه ترك القياس واستحسن فقال يجوز لأنه امتثل ما سمي له فإنه سمي له البيع بمثل ما باع به فلان وإذا كان قد باعه بأربعين فهذا قد باع بمثل ما باع به فلان وهذا لأن في المنصوصات يعتبر أدنى ما يتناوله الاسم لا نهايته.(19/103)
ألا ترى أنه إذا شرط صفة الجودة في المبيع يعتبر أدنى الجودة لا أعلاها ولأنا لو لم ننفذ بيعه لم نجد بدا من أن نجعل الوكيل ضامنا وبالشك لا يجب عليه الضمان ولو وكله بشراء عبد بعينه فقبل الوكالة وخرج من عنده فاشهد أنه يشتريه لنفسه ثم اشتراه فهو للموكل لأنه قصد عزل نفسه فيما يوافق أمر الآمر وعزله يكون بالخلاف لا بالموافقة فلا يعمل قصده هذا وكذلك لو وكله آخر بعد ذلك بشرائه فاشتراه فهو للأول لأنه بعد قبول الوكالة منه صار بحيث لا يملك شراءه لنفسه فكذلك لا يملك شراءه لغيره وإذا وجد الوكيل بالعبد عيبا فله أن يرده ولا يستأمر فيه لأن الرد بالعيب من حقوق العقد وهو مستبد بما هو من حقوق العقد لأن العبد ما دام في يده فالوكالة قائمة غير منتهية فهو متمكن من رده بيده فلا حاجة إلى استئمار الآمر.
وإن كان دفعه إلى الآمر فليس له أن يخاصم في عيبه إلا بأمر الآمر لأن الوكالة قد انتهت بالتسليم إلى الآمر ولأنه لا يتمكن من رده إلا بإبطال يده واليد حقيقة فيه للآمر ولا سبيل له إلى إبطال يده إلا برضاه والدليل على الفرق أن الوكيل لا يكون خصما لمن يدعي في هذا العبد شيئا بعد ما سلمه إلى الآمر بخلاف ما قبل التسليم فإنه خصم باعتبار يده ما لم يثبت أنها لغيره وإذا أمره أن يشتري له هذا العبد بصنف المكيل أو الموزون فاشتراه بغير ذلك الصنف لم يلزم الآمر لأنه لم يحصل مقصود الآمر فإن مقصوده تحصيل العبد له بهذا الصنف الذي سماه فإذا لم يحصل مقصوده كان مشتريا لنفسه, ولو لم يسم له الثمن لم يجز له أن يشتريه للآمر إلا بدراهم أو بدنانير لما بينا أنه يتعذر اعتبار إطلاق الوكالة في العوض,(19/104)
ص -52- ... فيحمل على أخص الخصوص وهذا الشراء بالنقد فإن اشتراه بعضه بعينها تبرا وإناء مصوغ أو ذهب أو تبر أو بمكيل أو بموزون أو عرض لزم المشتري دون الآمر لأن أمره لما قيد بالشراء بالنقد صار كأنه نص عليه والتبر والمصوغ ليسا بنقد فكان فيما صنع مخالفا أمره فلهذا صار مشتريا لنفسه دون الآمر ولو وكله بشراء عبد بعينه بثمن مسمى فوكل الوكيل وكيلا آخر فاشتراه لزم الآمر الثاني دون الأول لأن الأول إنما رضي برأي وكيله بالشراء وما رضي بتوكيله فهو في التوكيل مخالف وإن كان قد سمى الثمن له لأن تسمية الثمن تمنع الزيادة دون النقصان.
وإذا صار مخالفا نفذ شراء وكيله عليه كما لو اشتراه بنفسه على وجه يكون مخالفا فيه يصير مشتريا لنفسه ولو اشتراه الوكيل الثاني بمحضر الوكيل الأول لزم الآمر الأول لأن تمام العقد برأي الوكيل الأول فكأنه هو الذي باشر العقد وفي هذا خلاف زفر رحمه الله وقد بيناه.(19/105)
وإن قال الوكيل: أمرتني أن اشتريه لك بألف درهم وقال الآمر أمرتك بخمسمائة فالقول قول الآمر لأن الإذن مستفاد من جهته ولو أنكر أصل الإذن كان القول قوله فكذلك إذا أنكر الزيادة ولأن تصرف كل إنسان يكون لنفسه باعتبار الأصل إلى أن يظهر كونه نائبا عن غيره فكان الآمر متمسكا بالأصل. ولو أقام البينة فالبينة بينة الوكيل لأنه يثبت لنفسه دينا في ذمة الآمر ويثبت خلاف ما يشهد به الظاهر وهو وقوع الملك بشرائه للآمر وكذلك لو قال الآمر للوكيل أمرتك بغير هذا العبد وقال اشتر لي عبد فلان بعبدك هذا فاشتراه جاز للآمر وعليه قيمة عبد الوكيل لأنه صار كالمستقرض لعبد الوكيل حين أمره أن يشتري به له عبدا واستقراض الحيوان, وإن كان فاسدا فإذا تم كان مضمونا بالقيمة ولأن الشراء يوجب الثمن للبائع على الوكيل وللوكيل على الموكل فإذا صح التوكيل هنا واشترى بعبده وجب للبائع على الوكيل تسليم العبد إليه وللوكيل على الموكل مثله ومثل العبد قيمته وإنما صح التوكيل لأنه أقر بالشراء له بعوض يلتزمه في ذمة نفسه كان صحيحا.(19/106)
وكذلك إذا أمره بالشراء له بعوض يلتزمه في مال نفسه وإن اختلفا في مقدار القيمة فالقول قول الوكيل مع يمينه أو يترادان لأن الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشتري على معنى أن الموكل يملك السلعة بعقد الوكيل بعوض يستوجبه الوكيل عليه والبائع مع المشتري إذا اختلفا في الثمن فالحكم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما يقوله البائع أو يترادان". ثم حاصل الجواب في هذه المسألة أن يقال هنا معنيان أحدهما ما بينا وذلك موجب للتخالف, والثاني أن الوكيل أمين مخبر بما يجعل مسلطا عليه وفي مثله القول قوله مع يمينه فيكون للموكل الخيار إن شاء مال إلى هذا الجانب ورضي أن يأخذ بما قال الوكيل فحينئذ يحلف الوكيل على ما يدعي من مقدار الثمن كما هو الحكم في يمين الأمين فإذا حلف أخذه بذلك وإن شاء مال إلى الآخر ولم يرض أن يأخذه بما قال الوكيل(19/107)
ص -53- ... فحينئذ, يتحالفان والذي يبتدأ به في اليمين الآمر لأنه بمنزلة المشتري فكما أن البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن يبدأ بيمين المشتري لأن أول التسليمين عليه فكذلك هنا يبدأ بيمين الآمر ويحلف على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير وبعد ما تحالفا فالعبد المشتري يلزم الوكيل لانفساخ السبب بين الوكيل والموكل.
قال وإذا وكل رجل رجلا أن يشتري له أمة يتخذها أم ولد ويطؤها بألف درهم فاشترى له أمة رتقاء لا توطأ أو مجوسية أو أمة لها زوج لم يلزم الآمر لأنه صرح بمقصوده عند التوكيل بمحل صالح لما صرح به وهذا المحل غير صالح لذلك وكان الوكيل مشتريا لنفسه وكذلك كل ما وصفه بصفة فاشتراه بصفة تخالف تلك الصفة كان مشتريا لنفسه لما قلنا بخلاف ما إذا أطلق فإن ما ليس بمعين يختلف باختلاف الصفة. قال وإذا وكله أن يشتري له عبدا بعينه بألف درهم فاشتراه الوكيل وقبضه وطلب الآمر أخذه فأبى الوكيل أن يعطيه حتى يستوفي الثمن فله أن يمنعه عندنا سواء نقد الوكيل الثمن أو لم ينقد وليس له حق المنع عند زفر رحمه الله.(19/108)
وهذه معروفة في البيوع بفروعها إلا أن هناك لم ينص على الخلاف إذا هلك بعد المنع وإنما نص عليه هنا فقال عند أبي يوسف رحمه الله يكون مضمونا بالأقل من قيمته ومن الثمن كالمرهون. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يكون مضمونا بالثمن قلت قيمته أو كثرت كالمبيع إذا هلك في يد البائع فإن الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري فإن مات في يد الوكيل قبل أن يمنعه مات من مال الآمر لأن الوكيل في القبض عامل للآمر فيصير الآمر بقبض الوكيل قابضا حكما ما لم يمنعه منه فإذا هلك هلك من مال الآمر وللوكيل أن يرجع عليه بالثمن بخلاف ما إذا منعه لأنه صار مستردا ليده أو لأن بالمنع تبين أنه كان في القبض عاملا لنفسه لا للآمر وإن كان البائع أخر المال عن المشتري لم يكن للمشتري أن يأخذه من الآمر بمنزلة ما لو اشترى بثمن مؤجل فإنه لم يرجع على الآمر قبل حلول الأجل.
وهذا لأن الوكيل إنما يستوجب على الآمر مثل ما وجب للبائع عليه بصفته وهذا بخلاف الشفيع مع المشتري فإن الأجل الثابت في حق المشتري لا يثبت في حق الشفيع لأن الشفيع إنما يتملك المبيع بعقد جديد سوى عقد المشتري والأجل المذكور في عقد لا يثبت في عقد آخر وهنا الموكل إنما يتملك بذلك العقد الذي باشره الوكيل والأجل ثابت في حق الوكيل بحكم ذلك العقد فيثبت في حق الموكل أيضا
ولو حط البائع شيئا من الثمن عن الوكيل ثبت ذلك للآمر لأن حط بعض الثمن يلتحق بأصل العقد ويخرج قدر المحطوط من أن يكون ثمنا بخلاف ما لو وهب البائع الثمن كله للوكيل كان له أن يرجع على الموكل بالثمن لأن حط الكل لا يلتحق بأصل العقد إذ لو التحق بأصل العقد فسد البيع لأنه يبقى بيعا بغير ثمن وهو فاسد فكان ذلك مقصورا على الحال وإبراء الوكيل لا يمنع من الرجوع على الآمر لأن ثبوت حق الرجوع له بالشراء لا بالولاء بخلاف الكفيل إذا بريء حيث لا يرجع(19/109)
ص -54- ... على الأصيل لأن ثبوت حق الرجوع له بالأداء أو بملكه ما في ذمته وذلك لا يحصل بالأداء ولو أمره أن يشتري له عبدا بعينه بألف درهم ومائة ثم حط البائع المائة عن المشتري كان العبد للمشتري دون الآمر لأنه في أصل العقد مخالف فوقع الشراء له ثم لا يتحول إلى الآمر بعد ذلك إلا بتجديد سبب ولم يوجد. وبهذا يحتج زفر رحمه الله في الوكيل بشراء العبد إذا اشترى نصفه فإن عند زفر رحمه الله هناك وإن اشترى الباقي قبل الخصومة كان العبد للوكيل دون الآمر لأنه في أصل الشراء مخالف ولكنا نقول هناك عرضت الموافقة بفعل يكون من الوكيل فيما تناولته الوكالة قائم فمنع تحقق الخلاف وهنا عرضت الموافقة بفعل يحدثه الوكيل فيما تناولته الوكالة غير موجود فتحقق الخلاف بنفسه.(19/110)
ولو أن رجلا اشترى عبدا وأشهد أنه يشتريه لفلان فقال فلان قد رضيت كان للمشتري أن يمنعه منه لأن الشراء نفذ على العاقد حين لم يكن مأمورا من جهة غيره ورضا الغير إنما يعتبر في عقد موقوف على إجازته وهذا العقد غير موقوف على إجازته فرضاه فيه وجوده كعدمه وإن سلمه له وأخذ الثمن كان ذلك بمنزلة بيع مستقبل منهما فإن البيع بالتعاطي ينعقد عندنا لأن المقصود تمام الرضا قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [ سورة النساء,آية:29] وذلك يحصل بالفعل كما يحصل بالقول وإذا وكله بأن يشتري له أمة بألف درهم فاشتراها بألفين فبعث بها للآمر فاستولدها ثم قال الوكيل اشتريتها بألفين فإن كان حين بعث بها إليه قال هذه الجارية التي أمرتني فاشتريتها لك لم يصدق في أن ثمنها ألفان ولم تقبل بينته على ذلك لأنه بالكلام الأول صار مقرى أنه اشتراها للآمر وإنما يكون مشتريا للآمر إذا اشتراها بالثمن الذي سمي الآمر له فكان هو في قوله بعد ذلك اشتريتها بألفين مناقضا والمناقض لا دعوى له ولا تقبل بينته وإن لم يكن قال ذلك حين بعث بها إليه فالقول قوله لأنه يقول اشتريتها لنفسي وإنما بعثتها إليه وديعة أو لينظر أنها تعجبه بالثمن الذي اشتريتها له به أولا فلم يسبق منه ما يناقض قوله فلهذا جعلنا القول قوله ثم يأخذ القيمة وعقرها وقيمة ولدها لأن الآمر مغرور فيها فإنه استولدها باعتبار سبب ظاهر لو كان حقيقة كانت الجارية له وهو أن الوكيل اشتراها له بما أمره به فإذا تبين الأمر بخلافه كان مغرورا ولو وكله أن يشتري له كر حنطة من الفرات فاشتراها واستأجر بعيرا لحملة عليه لم يكن الكراء على الآمر في القياس لأن وجوب الكراء بعقد آخر سوى العقد الذي أمره به فكان متبرعا في حمله بمنزلة أجنبي آخر.(19/111)
ألا ترى أنه لو أمره بالشراء من السوق فاشتراه ثم حمله إلى منزله بكراء كان متبرعا فيه فكذلك هذا وفي الاستحسان يرجع على الآمر بالكراء لأنه مأمور بحمله دلالة فإنه أمره بالشراء من الفرات ولا يمكنه أن يتركه هناك بعد الشراء فإن الحنطة تحمل في السفن إلى بغداد فتشتري ثمة وتنقل إلى المنازل إذ لا يبقى هناك بالليل أحد يحفظها وليس هناك(19/112)
ص -55- ... حانوت تحفظ فيه فلما أمره بالشراء مع علمه بهذا صار الآمر آمرا له بالنقل دلالة والنقل لا يتأتى إلا بالكراء وكأنه أمره بهذا الاستئجار بخلاف ما لو أمره بالشراء من السوق.
توضيحه أن الوكيل مضطر في هذا النقل فإنه لو تركه هناك يكون مضيعا له فلم يكن متبرعا في هذا النقل بخلاف ما إذا اشتراه من السوق فإنه غير مضطر إلى نقله لتمكنه من الترك في حانوت البائع
وإن كان الآمر أمره أن يستأجر الكر بدرهم فاستأجر له بدرهم ونصف لم يكن على الآمر من الكراء شيء لأن الوكيل صار مخالفا له فكان مستأجرا لنفسه فحمله على من استأجره لنفسه كحمله على دابة نفسه ولو استأجره بدرهم جاز على الآمر ولم يكن للوكيل حبس الطعام حتى يستوفي الكراء لأن الكراء ليس بعوض عن الطعام وإنما يحبس الطعام ببدله وبدل الكراء هنا منفعة الدابة في الحمل وقد تلاشت وليس للحمل أثر قائم في المحمول فلا يحبس المحمول به بخلاف الخياطة والقصارة فإن أثر فعل الخياط والقصار قائم في الثوب فله أن يمنعه حتى يستوفي الأجرة.
ولو وكله أن يشتري له طعاما بعشرة دراهم ولم يدفعها إليه فاشتراه الوكيل نسيئة فهو جائز لأنه مأمور بالشراء مطلقا وقد بينا نظيره في الوكيل بالبيع. وعن أبي يوسف رحمه الله في الفصلين جميعا أنه إنما يبيع ويشتري للآمر بالنسيئة إذا أمره بالتصرف على وجه التجارة لأن كل واحد من النوعين من صنع التجار فإذا أمره بالبيع لا على وجه التجارة لا يملك البيع بالنسيئة وبيان هذا في كتاب الرهن ثم للآمر أن يأخذ الطعام قبل أن ينقد الثمن لأن حاله مع الوكيل كحال الوكيل مع البائع وللوكيل أن يقبض المبيع قبل أن ينقد الثمن إذا كان مؤجلا فللآمر ذلك أيضا فإن مات الوكيل فحل عليه الثمن لم يحل على الآمر لأن حلول الثمن على الوكيل لوقوع الاستغناء عن الأجل وعدم انتفاعه ببقائه أو لأن ما عليه من الدين صار كالمستحق في تركته وهو ميت وهذا لا يوجد في حق الآمر ما بقي حيا.(19/113)
وكذلك لو أمره بأن يشتري له إلى أجل وهذا أظهر من الأول ولو كان أعطاه دنانير وأمره أن يشتري بها ثم لم ينقدها حتى دفع الطعام إلى الآمر وأنفق الدنانير في حاجته ونقد الثمن غيرها فهو جائز لأنه امتثل الأمر في الشراء بتلك الدنانير وهي لا تتعين في الشراء بالتعيين فكانت باقية على ملك الآمر وقد وجب الثمن للبائع دينا في ذمة الوكيل وللوكيل في ذمة الآمر فالوكيل حين أنفق دنانير الآمر في حاجته صار مستوفيا دين نفسه فبقي دين الآمر عليه يغرمه في ماله وإن اشترى بدنانير غيرها ثم نقدها فالطعام للوكيل لأنه كان مأمورا بالشراء بتلك الدنانير فإذا اشترى بغيرها صار مخالفا فكان مشتريا لنفسه ثم نقد دنانير الآمر في قضاء دين نفسه فصار ضامنا له فإن قيل الشراء لا يتعلق بتلك الدنانير فشراء الوكيل بها وبغيرها سواء قلنا لا نقول يتعلق الشراء بتلك الدنانير وإنما تتقيد الوكالة بما يتقيد به المال المضاف إليها.
ألا ترى أنه لو هلك المال قبل الشراء به بطلت الوكالة وإذا تعلقت الوكالة بتلك الدنانير(19/114)
ص -56- ... لم يكن الشراء بغيرها من موجبات الوكالة على أن الشراء قد بطل بتعلق الدنانير المضافة إليها نوع تعلق
ألا ترى أن من اشترى بالدنانير المغصوبة ونقدها لم يطلب له الفضل بخلاف ما إذا اشترى بغيرها ونقدها وإن اشترى الوكيل طعاما إلى أجل وهو ينوي الشراء بها لم يصدق على ذلك ولم يلزم الآمر لأن تلك الدنانير عين وصفة العينية تنافي الأجل فبين شرائه بالثمن المؤجل وبين شرائه بتلك الدنانير منافاة بينة فبينه مخالفة لما صرح به ودعواه غير مطابقة لما ظهر منه فلا يصدق على ذلك وكان هذا وما لو اشتراه بدنانير غير تلك الدنانير سواء وإن كان اشترى طعاما بمال فنوى الشراء بتلك فهو جائز على الآمر لأنه ما صرح بخلاف ما أمره به نصا فإن إضافة الثمن إلى ذمته وإلى ما في يده من الدنانير سواء وكان تعيين تلك الدنانير في قلبه كتعينها بإشارته في العقد إليها وهذا لأن الوكيل قد يبتلى بهذا بأن يجد ما يوافق الآمر في السوق ولا تكون تلك الدنانير معه فلو رجع إلى بيته ليحضرها فاته فلهذا جوزنا شراءه للآمر بمطلق الدنانير وإن نقد بعد ذلك تلك الدنانير نصا.(19/115)
وكذلك لو أمره أن يشتري له عبدا وسمي جنسه وثمنه ووكله آخر بمثل ذلك ودفع إليه الثمن فاشتراه على تلك الصفة وقال نويته لفلان فالقول قوله لأن ما في ضميره لا يعرفه غيره فيوجب قبول قوله في ذلك وهو أمين مسلط على ما أخبر به من جهة كل واحد منهما وإن مات في يديه مات من ماله الذي سمي له لأنه بقبضه له يصير من وقع له الشراء قابضا ولو وكله أحدهما أن يشتري له نصف عبد معروف بثمن مسمى ووكله آخر بأن يشتري له نصف عبد بمثل ذلك الثمن فاشترى الوكيل نصفه وقال نويت أن يكون للآخر فالقول قوله لأن وكالة الثاني صحيحة وصار هو مالكا شراء النصف لكل واحد منهما فكان قوله مقبولا في تعيين من المشتري له وإن كان كل واحد منهما سمي له ثمنا مخالفا لما سمي الآخر فاشترى أحد النصفين بذلك الثمن وقال نويته لفلان الآخر فالقول قوله لما بينا أن ما في ضميره لا يعرفه غيره فإذا قبلنا قوله في ذلك صار مخالفا مشتريا لنفسه لأنه اشترى بثمن غير الثمن الذي نوا ه له بالشراء ولا يكون هذا النصف للذي أمره بالشراء بهذا الثمن لأنه لم ينوه له وفيما ليس بعين لا يصير مشتريا للآمر إلا أن ينوي أن ينقد دراهمه.
قال وإذا وكله أن يشتري له جارية بعينها فقال الوكيل نعم ثم اشتراها لنفسه ووطئها فحبلت منه فإنه يدرأ عنه الحد وتكون الأمة وولدها للآمر ولا يثبت النسب لأنه صار مشتريا للآمر فإن نيته لنفسه لغو في الجارية المعينة إلا أنها في يده بمنزلة الجارية المبيعة في يد البائع على ما بينا أن الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري ووطء البائع للأمة المبيعة لا يوجب عليه الحد لتمكن الشبهة ولكن لا يتمكن الغرور بهذا لأنه استولدها مع العلم بأنها لغيره ولهذا كانت مع ولدها للآمر ولا يثبت النسب.
قال ولو وكله بأن يشتري له أمة وسمى جنسها فاشترى أمة وأرسل إليه بها فاستولدها الآمر ثم قال الوكيل ما اشتريتها لك فإن كان حين بعث بها إليه قال اشتريتها لك أو(19/116)
ص -57- ... قال هي الجارية التي أمرتني بأن أشتريها لك لم يسمع دعواه بعد ذلك ولا تقبل بينته على الإشهاد عند الشراء أنه اشتراها لنفسه لكونه مناقضا في هذه الدعوى وإن لم يذكر شيئا من ذلك فالقول قوله مع يمينه ويأخذها وعقرها وقيمة ولدها لما بيناه فيما سبق.
قال ولو وكله بأن يشتري له دار فلان بألف درهم فاشترى صحراء ليس فيها بناء فهو جائز لأن الدار اسم لما يدار عليه الحائط مبنيا كان أو غير مبني والعرب يطلقون اسم الدار على الصحراء التي لم يبق فيها إلا أثر قال القائل:
يا دار مية فالعلياء فالسند
وقال الآخر:
عفت الديار ومحلها فمقامها
وهذا بخلاف ما لو أمره بأن يشتري له بيتا فاشترى أرضا لم يكن فيه بناء لم يجز على الآمر لأن البيت اسم لما يبات فيه وذلك في المبنى خاصة ثم الإنسان قد يشتري الدار غير مبنية ليبنيها على مراده فلم يكن فيما اشتراه الوكيل معنى المخالفة لمقصود الآمر بخلاف البيت فإنه يشتريه لينتفع به ولا يحتاج إلى تخلق بنائه وهذا المعنى لا يحصل في غير المبني فإذا صح شراء الدار للآمر وهلك المال عند الوكيل فقال الآمر هلك قبل أن تشتري وقال الوكيل هلك بعد ما اشتريتها فالقول قول الآمر لإنكاره بقاء الوكالة عند الشراء بمنزلة ما لو أنكر التوكيل أصلا ولأن الوكيل يدعى لنفسه الثمن في ذمة الموكل وهو منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه ويحلف على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير وهو الشراء به قبل الهلاك أو بعده ولو لم يهلك ونقده البائع فاستحقه رجل فضمن الوكيل رجع به على الآمر لأنه كان عاملا له فيما قبض من الثمن ونقد.(19/117)
وإن ضمن البائع رجع به على الوكيل لأن المقبوض من الثمن لم يسلم له رجع الوكيل على الآمر لكونه عاملا له ولو لم يستحق ولكن جحد البائع أن يكون القبض قبض الثمن فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف رجع به على الوكيل ولم يرجع به الوكيل على الآمر لأنه مقر أنه استوفى الثمن من الآمر ونقده البائع ثم ظلمه البائع بتغريمه الثمن مرة أخرى فليس له أن يظلم الآمر إن ظلمه غيره ولو لم ينقده البائع حتى هلك عند الوكيل فأخذه من الآمر ثانية فهلك عنده لم يرجع به على الآمر ويضمن الثمن من عنده للبائع لأن بالشراء وجب الثمن للبائع على الوكيل وللوكيل على الآمر فإذا قبضه الوكيل بعد الشراء صار به مستوفيا دين نفسه فدخل المقبوض في ضمانه وكان هلاكه عليه بخلاف ما لو قبضه قبل الشراء فإنه ما استوجب على الآمر شيئا بعد وكان في ذلك القبض عاملا للآمر لا لنفسه والفرق بين هذا وبين المضاربة قد بيناه فيما أمليناه من شرحه.
قال ولو وكله أن يشتري له سيفا بثمن مسمى فاشترى نصلا أو سيفا محلى كان جائزا لأن اسم السيف للنصل حقيقة وشراؤه معتاد فقد يشتري المرء نصلا ليركب عليه(19/118)
ص -58- ... الحمايل على مراده. قال ولو وكله بأن يشتري له ثوبا يهوديا ليقطعه قميصا فاشترى له ثوبا لا يكفيه لم يلزم الآمر لأنه بين له مقصوده فتقيدت الوكالة بثوب يصلح لمقصوده وكذلك لو وكله أن يشتري له دابة يسافر عليها ويركبها فاشتراها مقطوعة اليد أو عمياء أو مهرا لا يركب عليه لأنه غير صالح لما قيد الآمر التوكيل به.
قال ولو وكله أن يشتري له عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى أكثر به لزم الآمر عشرة منها بنصف درهم والباقي للمأمور لأنه أمره بشراء قدر مسمى فما زاد على ذلك لم يتناوله أمره فكان مشتريا لنفسه وفي القدر الذي تناوله أمره قد حصل مقصوده وزاده منفعة بالشراء بأقل مما سمي له فكان مشتريا للآمر ولكن هذا الجواب إنما يستقيم فيما إذا اشترى ما يساوي عشرة أرطال بدرهم أما إذا اشترى ما يساوي عشرين رطلا بدرهم فيصير مشتريا الكل لنفسه لأن الأمر تناول اللحم السمين الذي يشتري منه عشرة أرطال بدرهم وقد اشترى المهزول فلم يكن محصلا مقصود الآمر فكان مشتريا لنفسه والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في الصرف والسلم
قال رحمه الله رجل وكل رجلا بأن يشتري له إبريق فضة بعينه ولم يسم الثمن فاشتراه بقيمته دنانير أو بمثل وزنه دراهم فهو جائز لأنه مطلق للتوكيل بالشراء بالنقود وكل واحد من الجنسين من النقود وشراء الإبريق بكل واحد منهما معتاد لو اشتراه الموكل بنفسه يجوز فكذلك إذا اشتراه الوكيل له وفي حكم التقابض المعتبر بقاء المتعاقدين في المجلس وغيبة الموكل لا تضر هذا غير مشكل فيما إذا كان الوكيل ممن تتعلق به حقوق العقد لأنه بمنزلة العاقد لنفسه.(19/119)
وكذلك إن كان ممن لا تتعلق به حقوق العقد لأن قبضه وتسليمه صحيح وإن كان لا تتوجه عليه المطالبة ففي حكم صحة التقابض هو بمنزلة وكيل يتعلق به حقوق العقد فإن قال الموكل لم تشتره وقال الوكيل اشتريته بكذا وكذا فصدقه البائع فإنه يلزم الموكل بذلك الثمن لأن الوكيل أقر بالشراء في حال تملك الإنشاء فيكون إقراره صحيحا.
وكذلك لو قال الموكل أخذته بثمن دون الذي قلت لأن تصادق البائع مع الوكيل على الشراء بذلك الثمن بمنزلة مباشرتهما العقد فيكون لازما للموكل فالموكل يدعي عقدا سوي الذي ظهر بتصادقهما فلا يقبل قوله ذلك إلا بحجة وكذلك هذا في الوكالة بشراء دار بعينها أو عبد بعينه لأن في المعين الوكيل يملك الشراء للموكل ولا يملك الشراء لنفسه إذا كان بمثل قيمته فمطلق شرائه محمول على ما يملكه دون ما لا يملكه فلهذا كان لازما للموكل قال ولو وكله بخاتم ذهب فصه ياقوتة يبيعه فباعه بفضة أو ذهب أكثر مما فيه أو بخاتم من ذهب أكثر وزنا منه وليس فيه فص فهو جائز كما لو باعه الموكل بنفسه وهذا لأن المثل من الذهب يصير بإزاء المثل والباقي بإزاء الفص وإن تفرقا قبل قبض أحدهما فسد البيع لأن العقد في حصة الذهب صرف وإن باعه بخاتم ذهب أكثر مما فيه من الذهب أو أقل(19/120)
ص -59- ... وفيه فص وتقابضا جاز كما لو باعه الموكل بنفسه وهذا لأن الجنس يصرف إلى خلاف الجنس أحيانا لا لتصحيح العقد.
وعلى هذا قول أبي حنيفة رحمه الله ظاهر لأن عنده الوكيل بالبيع يملك البيع بالغبن اليسير والفاحش وعندهما إنما لا يملك البيع بالغبن الفاحش لأنه خلاف المعتاد ولما فيه من الضرر على الموكل وهذا غير موجود هنا وإن صرفنا الجنس لتصحيح العقد وإذا وكله بدراهم صرفها له وصرفها الوكيل عند أبيه أو عند ابنه أو عبده أو مكاتبه كان باطلا في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو جائز عندهما إلا في عبده أو مكاتبه وقد بينا هذا.
ثم زاد فقال فإن باعه بالقيمة دنانير جاز ذلك كله ما خلا عبده إذا لم يكن عليه دين وهذا إشارة إلى أن الخلاف في البيع بالغبن اليسير دون البيع بمثل القيمة وقد بينا اختلاف المشايخ رحمهم الله فيما سبق. قال ولو دفع إليه عبدا فقال بعه بألف درهم وزن سبعة فباعه بألفي درهم وزن خمسة فهذا جائز لأنه باعه بأكثر مما سمي له من جنسه فإن ألف درهم وزن سبعة تكون سبعمائة مثقال وألفي درهم وزن خمسة يكونان ألف مثقال فلم يكن هذا مخالفا لما سمي له الآمر.(19/121)
قال وإن دفع إليه عشرة دراهم يسلمها في ثوب ولم يسم جنسه لم يجز لأن اسم الثوب يتناول أجناسا مختلفة فلم يصر مقصود الموكل بتسمية الثمن معلوما فإن أسلمها الوكيل في ثوب موصوف فالسلم للوكيل لأن الوكالة لما بطلت تعذر تنفيذ العقد على الموكل فنفذ على الوكيل ثم للموكل أن يضمن دراهمه أيهما شاء لأنه قضى دين نفسه بدراهم الموكل فكان هو ضامنا بالدفع والمسلم إليه بالقبض فإن ضمنها الوكيل فقد ملكها بالضمان وتبين أنه نقد دراهمه بعينها فكان السلم له وإن ضمنها المسلم إليه بعد ما افترقا بطل السلم لاستحقاق رأس المال من يد المسلم إليه فإن ذلك يقتضي القبض من الأصل وإن سمي ثوبا يهوديا جاز التوكيل لبيان الجنس والسلم نوع شراء فالتوكيل بشرائه سلما معتبر بتوكيله بشرائه والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في الدين
قال رحمه الله رجل وكل رجلا بتقاضي دينه وبقبضه لم يكن للوكيل أن يوكل غيره بذلك لأن الناس يتفاوتون في التقاضي فقد يمل الغريم من تقاضي بعض الناس والموكل إنما رضي بتقاضيه بنفسه لا بتوكيله والقبض باعتبار الائتمان والناس يتفاوتون فيه فلا يكون رضا الموكل بقبض الوكيل رضا منه بقبض غيره فإن قبضها الوكيل الثاني لم يبرأ المطلوب لأنه في حق الطالب كأجنبي آخر فلا يبرأ المطلوب بقبضه إلا أن يصل المال إلى الوكيل الأول لأن يد الوكيل كيد الموكل فوصوله إلى يده كوصوله إلى يد الموكل ولأن وصوله إلى يده من جهة وكيله كوصوله إلى يده أن لو قبض بنفسه.
وكذلك إن كان الآخر مما في عيال الأول فحينئذ يكون قبضه مبرئا للمطلوب لأن يد(19/122)
ص -60- ... من في عيال الوكيل كيد الوكيل ألا ترى أنه إن قبضه بنفسه ثم دفعه إلى من في عياله لم يصر ضامنا وهذا لأن الوكيل أمين في المقبوض والأمين يحفظ الأمانة تارة بيده وتارة بيد من في عياله.
قال وإن وكله بتقاضي كل دين له ثم حدث له بعد ذلك دين فهو وكيل في قبضه استحسانا وفي القياس لا يكون وكيلا في قبضه لأنه سمي في الوكالة كل دين له والدين اسم لما هو واجب فإنما يتناول ما كان واجبا عند الموكل دون ما يحدث ولكنه استحسن للعادة فإن الناس بهذا التوكيل لا يقصدون تخصيص الواجب على ما يحدث وجوبه.
ألا ترى أنه يوكل الغير بقبض غلاته ومراده في ذلك ما هو واجب وما يحدث وجوبه بعد ذلك وهذا لأن مقصوده في هذا التوكيل صيانة هذا النوع من ماله بقبض الوكيل فإنه لا يتفرغ لذلك بنفسه لكثرة اشتغاله وفي هذا المعنى لا فرق بين ما هو واجب وبين ما يحدث وجوبه فإن جحد الغريم الدين فقد بينا أن عند أبي حنيفة رحمه الله الوكيل بالتقاضي والقبض وكيل بالخصومة فيثبت الدين بالبينة وعندهما لا يكون وكيلا بالخصومة فيتوقف الأمر حتى يحضر الطالب.
قال ولو وكل رجلين بالقبض فقبض أحدهما لم يبرأ الغريم حتى يصل ذلك إلى الآخر ويقع في أيديهما جميعا لأنه رضي بأمانتهما جميعا فلا يكون راضيا بأمانة أحدهما ولكن إذا وقع في أيديهما تم مقصود الموكل الآن فكأنهما باشرا العقد بالقبض من الغريم وإذا قال لغيره وكلتك بديني فهو وكيل بقبضه استحسانا وفي القياس لا يكون وكيلا لجهالة ما وكله به من استبدال أو صلح أو قبض أو إبراء وهذه جهالة غير مستدركة ولكنه استحسن للعادة فالمراد بهذا اللفظ في العادة التوكيل بالقبض ومعنى كلامه وكلتك بديني لتعينه وتعينه بالقبض يكون ولأن القبض متيقن به إذ ليس فيه تغيير شيء من حق الموكل وهو موجب الدين باعتبار الأصل فينصرف التوكيل إليه وهذا نظير الاستحسان الذي قال فيما إذا وكله بماله يكون وكيلا بالحفظ لأنه هو المتيقن به.(19/123)
قال وإذا وكله بقبضه فأبى أن يقبل الوكالة ثم ذهب فقبض لم يكن وكيلا ولم يبرأ الغريم من الدين لأن الوكالة قد ارتدت برده فكان هو في القبض كأجنبي آخر فلهذا لا يبرأ الغريم ويرجع الطالب بماله على الغريم ثم إن كان المقبوض قائما في يد الوكيل استرده الغريم منه لأنه عين ماله سلمه إليه ليستفيد منه البراءة من الدين وهو لم يستفد. وإن هلك المال في يد الوكيل رجع عليه الغريم فضمنه إن كان كذبه في الوكالة لأنه قبض منه المال بشرط أن يستفيد البراءة عما في ذمته أو يملك ما في ذمته فإذا لم يستفد هذا لم يكن راضيا بقبضه بل هو في حقه كالغاصب وكان له أن يضمنه.
وكذلك إن لم يصدقه ولم يكذبه أو صدقه وضمنه لأنه إذا كان ساكتا فإنما دفع المال بزعمه وزعمه أن يستفيد الغريم البراءة بما يدفعه إليه فيفيد رضاه به. وإن صدقه وضمنه,(19/124)
ص -61- ... فقد قال أنت وكيلي لا آمن أن يجحد الطالب إذا تصرف ضمن له ما يقبضه الطالب مني وهذا ضمان صحيح لأنه مضاف إلى سبب الوجوب لأن الطالب في حقهما غاصب فيما يقبضه ثانيا فكأنه قال أنا ضامن لك ما يغصبه فلان منك وهذا إضافة إلى سبب الوجوب فكان صحيحا فإن صدقه في الوكالة ولم يضمنه لم يرجع به عليه لأنهما تصادقا على أنه في المقبوض أمين وأن الطالب في قبضه من الغريم ثانيا غاصب ظالم ومن ظلم ليس له أن يظلم غيره.
قال ولو قبل الوكالة ثم أخرجه الموكل من الوكالة ولم يعلمه ذلك فهو على وكالته لما بينا أن العزل حجر عليه في القبض فلا يثبت حكمه في حقه ما لم يعلم به وإن أخبره بذلك حر أو كافر أو مسلم صغيرا أو كبيرا برسالة من الآمر لم يكن له أن يقبض شيئا ولم يبرا الغريم منه إن أعطاه لأنه كعبارة المرسل وإرسال الصبي والعبد في مثل هذا معتاد بين الناس فإن كل واحد لا يجد عدلا ليرسله في حوائجه.
قال وإن كان رب الدين وكله بمحضر من المطلوب يبرأ بالدفع حتى يأتيه الخبر أنه قد أخرجه من الوكالة لأن توكيله إياه بمحضر من المطلوب أمر للمطلوب بالدفع إليه ثم الإخراج نهى له عن ذلك فبعد ما علم بالأمر لا يثبت حكم النهي في حقه ما لم يعلم به. قال وإذا ارتد الوكيل ولحق بدار الحرب أو ذهب عقله ثم أسلم أو رجع إليه عقله فهو على وكالته أما عند ذهاب عقله فلأنه لم يوجد ما ينافي الوكالة ولكنه في حال الجنون عاجز عن القبض وأداء الأمانة في المقبوض فإذا زال ذلك صار كأن لم يكن فهو على وكالته.(19/125)
أما في الردة فإن لم يكن القاضي قضى بإلحاقه فهو بمنزلة الغيبة وإن كان القاضي قضى بلحاقه فهذا الجواب قول محمد رحمه الله وقد بينا الخلاف فيما سبق. قال والوكيل بقبض الدين إذا وهبه الغريم أو أبرأه منه أو أخره أو أخذ به رهنا لم يجز لأن هذا تصرف غير ما أمر به. ألا ترى أن الموكل غير مجبر على شيء من هذا وهو مجبر على القبض إذا أتاه المطلوب بالمال وهذا قول هو الأصل في هذا الجنس أن الوكيل بالقبض إنما يملك القبض على وجه لا يكون للموكل أن يمتنع منه إذا عرضه عليه المطلوب فليس للوكيل بالقبض ذلك كالشراء بالدين والاستبدال. وإن قال الوكيل قد برأ إلى منه أو قامت عليه بينة بهذا القول بريء الغريم لأن هذا اللفظ إقرار بالقبض والوكيل بالقبض يصح إقراره في براءة الغريم.
قال وإن أخذ منه كفيلا بالمال جاز وله أن يأخذ به أيهما شاء لأن الكفالة بالمال توثق به وأمره إياه بالقبض لتحقيق معنى الصيانة وذلك يزاد بالتوثق به ولا ضرر فيه على الموكل إلا أن يكون أخذ كفيلا على أن أبرأه فحينئذ لا تجوز البراءة عليه لما فيه من الضرر على الآمر وهذا بخلاف الرهن لأنه وإن كان توثقا لجانب الاستيفاء لكن فيه نوع ضرر على الآمر على معنى أنه لا يتصرف في المرهون فبهلاكه يصير مستوفيا ويسقط حقه فلهذا لم يصح في حق الآمر.
قال وإذا وكله في كل قليل وكثير هو له فهو وكيل بالحفظ وليس بوكيل في تقاض ولا(19/126)
ص -62- ... شراء ولا بيع إلا في قول ابن أبي ليلى رحمه الله فإنه يقول ظاهر لفظه يتضمن ذلك كله فإنه من القليل والكثير الذي له أن يباشره بولايته في ماله ولكنا نقول قد عرفنا يقينا أنه لم يرد بهذا اللفظ جميع ماله أن يفعله وإنما يثبت بهذا اللفظ القدر المتيقن والمتيقن به هو الحفظ فلا يملك إلا ذلك بمنزلة قوله وكلتك بمالي.
قال وإذا وكله بتقاضي دينه بالشام فليس له أن يتقاضى دينه بالعراق لأن الوكالة تتقيد بتقييد الموكل وتقييده بموضع كتقييده بشخص بأن يوكله بتقاضي دينه على فلان فكما أن هناك الوكالة لا تعدو إلى غيره فكذلك هنا وهذا لأنه إنما يستعين بغيره فيما يعجز عن مباشرته بنفسه وقد يعجز عن مباشرة القبض لديونه في موضع دون موضع قال وإذا وكل ذمي مسلما بتقاضي خمر له على ذمي كرهت للمسلم أن يقبض ذلك لأن المسلم مأمور بالاجتناب عن الخمر ممنوع من الاقتراب منها وفي القبض اقتراب منها ولأن التوكيل بقبض الدين من وجه توكيل بتمليك الدين لأن الديون تقضي بأمثالها فالوكيل يملك المطلوب ما في ذمته بما يقبضه وتوكيل الذمي المسلم بتملك الخمر لا يجوز إلا أن هنا يجوز إن قبض في حق براءة الغريم لأنه من وجه تعيين لما كان مملوكا للطالب دينا فكان كالوكيل بقبض العين ومن وجه يتضمن التمليك ولكن لا يتوقف هذا على فعل الوكيل.
ألا ترى أن المطلوب إذا أتى بالدين فوضعه بين يدي الطالب أو وكيله بريء فلما كان إتيانه لا يستدعي فعلا من الوكيل قلنا يجوز ولما كان أن فيه تمليك الخمر من وجه قلنا يكره توكيل المسلم به(19/127)
قال وإذا قال الرجل للرجل اقض عني فلانا من مالك ألف درهم ثم أقضيكها فقال المأمور قد دفعتها إلى فلان وصدقه الآمر فإن الطالب يأخذ الآمر بما له لأن دعوى المأمور للقضاء كدعوى الآمر بما له بنفسه وهو غير مصدق فيما يدعي من قضاء الدين إلا بحجة فكذا المأمور لا يصدق ولكن إذا حلف الطالب أخذ ماله من الغريم ولا شيء للمأمور على الآمر لأنه أمره بدفع يكون مبرئا له عن حق الطالب ولم يوجد ذلك حين لم يستفد البراءة ولأنه وكله بأن يملكه ما في ذمته ببدل يعطيه من مال نفسه ولم يكن ذلك حين رجع عليه الطالب بدينه فهو نظير ما لو وكله بأن يملكه عينا في يده بغيره بشرائه له وهناك لو قال اشتريته ونقدت الثمن من مالي وجحد ذلك صاحب العين وأخذ متاعه لم يكن للمأمور أن يرجع على الآمر بشيء فكذلك هنا.
قال وإذا وكل الوصي وكيلا بدفع دين على الميت أو وصية إلى صاحبها فهو جائز لأنه يملك مباشرة الدفع بنفسه فيستعين فيه بغيره أيضا ولو وكل وكيلا وسماه في هذا الكتاب فدفع بغير بينة ولم يكتب براءة فلا ضمان عليه لأنه أمين في المال المدفوع والقول قول الأمين في براءة ذمته مع اليمين إلا أن يكون مما لا يدفع إلا بشهود فحينئذ يضمن إذا دفع بغير شهود لأنه نهاه عن الدفع واستثنى دفعا بصفة وهو أن يكون بشهود فإذا دفع بغير شهود فهذا الدفع لم يكن مأمورا به فصار غاصبا ضامنا.(19/128)
ص -63- ... وإن قال الوكيل قد أشهدت وجحد الطالب أن يكون قبض ولم يكن للوكيل شهود إلا قوله أشهدت كان الوكيل بريئا من الضمان بعد أن يحلف على ذلك لأنه أخبر بأداء الأمانة فالقول قوله مع يمينه ألا ترى أن فيما تقدم جعل إخباره بأصل الدفع مقبولا براءته لأنه مسلط على ذلك فكذلك خبره بالدفع بالصفة التي أمر بها يكون مقبولا لكنه محتمل فقد يشهد على الدفع ثم يغيب الشهود أو يموتون فلا يقدر على إحضارهم وعلى هذا لو قال لا تدفع إلا بمحضر من فلان فدفع بغير محضر منه كان ضامنا لما قلنا.
قال ولو وكله بدفع مال لفلان عليه له فارتد الوكيل ثم دفعه إليه جاز لأن المدفوع مال الموكل والدفع تصرف من الوكيل من متاع نفسه لا في ماله ولا حق لورثته في ذلك فكان دفعه بعد الردة كدفعه قبلها
فإن ارتد الموكل قبل ردته أو لحق بدار الحرب فقال الوكيل دفعت المال قبل أن يرتد فالقول قوله لأنه أخبر بما كان مسلطا عليه وكان خبره مقبولا في براءته عن الضمان وإن دفع الموكل المال إلى صاحبه ثم دفع الوكيل المال الذي أمر بدفعه إليه وهو لا يعلم بدفع الموكل فلا ضمان عليه. قال وهذا مثل إخراجه من الوكالة وقد بينا أن إخراجه من الوكالة لا يصح في حقه ما لم يعلم به دفعا للضرر عنه فهذا مثله فإن قيل هذا إخراج حكما لأن الدين لا يبقى بعد قضاء الموكل فيكون قضاؤه تفويتا للمحل وذلك عزل حكمي فلا يتوقف على العلم قلنا لا كذلك فإن دفع الموكل بنفسه ليس موجب العزل حكما ولكن يتضمن منع الوكيل عن الدفع لأنه لا يحصل المقصود بدفعه بعد ذلك.(19/129)
ألا ترى أن الطالب لو وجد المقبوض زيوفا فرده على المطلوب كان الوكيل على وكالته فتبين أن هذا بمنزلة عزله قصدا لا حكما فيتوقف على علمه به وكذلك لو وهب الطالب المال للمطلوب أو أبرأه منه فهذا بمنزلة العزل قصدا فلا يثبت في حق الوكيل إذا لم يعلم به ولا يصير ضامنا للمال بدفعه بل يرجع المطلوب بالمال على الطالب إن بين هو لكونه مالكا وإنشاء الوكيل لكونه دافعا وقد تبين أنه لم يكن للقابض حق القبض منه ولو دفعه إليه الوكيل وهو يعلم بذلك فهو ضامن له لأنه انعزل عن الدفع حين علم بسقوط الدين عن المطلوب فإذا دفعه كان ضامنا ويرجع به على الذي قبضه منه لأنه ملك المقبوض بالضمان وقد قبضه منه بغير حق وكان له أن يرجع به عليه.
وقد فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الوكيل بأداء الزكاة وهذا فرق قد بيناه على أصل الكل في كتاب الزكاة فلو لم يكن شيء من ذلك ولكن الطالب ارتد ثم دفع الوكيل إليه بالمال فإن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب فدفع الوكيل إليه باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه تصرف منه في كسب إسلامه وقد تعلق به حق ورثته فكان تصرفه فيه موقوفا عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن الوكيل لا يصير ضامنا إلا أن يعلم أن قبضه لا يجوز بعد ردته, فإذا علم ذلك فحينئذ يضمن لأن دفع الضرر عن الوكيل واجب وإذا علم اندفع الضرر(19/130)
ص -64- ... عنه ودفع المال على وجه لم يحصل مقصود الآمر فصار ضامنا وإذا لم يعلم فهو محتاج إلى دفع الضرر عنه وقد امتثل أمره في الدفع ظاهرا فلا يصير ضامنا كما بينا.
وهذه المسائل المعدودة التي يضر العلم فيها وهي خمس جمعناها في غير هذا الموضع. قال وإذا ضمن الوكيل لعلمه رجع في مال المرتد الذي اكتسبه في الردة لأنه قبضه منه بغير حق حين لم يحصل للمطلوب البراءة بهذا القبض فكان دينا عليه في كسب ردته ولا يجوز أن يكون الواحد وكيلا للمطلوب في قضائه ووكيلا للطالب في الاقتضاء كما لا يجوز أن يكون المطلوب وكيلا للطالب في قبض الدين من نفسه وهذا لأن في القبض معنى المبادلة من وجه فلا يتولاه الواحد من الجانبين كالبيع والشراء.
قال والتوكيل بالتقاضي والقبض جائز إن كان الموكل حاضرا أو غائبا صحيحا أو مريضا لأنه تفويض إلى غيره ما هو من خالص حقه ولا ضرر فيه على الغير فإن القبض معلوم بجنس حقه لا يتفاوت فيه الناس وعلى المطلوب أن يقضي الدين ولا يخرج الوكيل ولا الطالب إلى التقاضي مع أن للتقاضي حقا معلوما إذا جاوزه منع منه بخلاف الوكيل بالخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله فإن مات المطلوب فالوكيل على وكالته في تقاضي ذلك من مال الميت فإن الدين لم يسقط بموت المطلوب بل قضاؤه من تركته مستحق وابتداء التوكيل بالتقاضي بعد موته صحيح فبقاؤه أولى, ولو كان الموكل هو الميت بطلت الوكالة لأن المال صار ميراثا لورثته ولم يوجد التوكيل منهم بقبضه.(19/131)
فإن قال قد كنت قبضته في حياة الموكل ودفعته إليه لم يصدق في ذلك لأنه أخبر بما لا يملك إنشاءه فكان متهما في الإخبار وقد انعزل بموت الموكل والدين قائم ظاهرا فلا يقبل قوله في إبطال ملك قائم للوارث وإن لم يمت الطالب ولكنه احتال بالمال على آخر وأبرأ المطلوب منه لم يكن للوكيل أن يقبضه من المحتال عليه ولا من الأول لأنه لم يبق في ذمة الأول شيء والتوكيل كان مقيدا بالتقاضي والقبض منه فلا يملك به القبض من غيره وهو المحتال عليه فإن نوى ما على المحتال عليه ورجع على الأول فالوكيل على وكالته لأن الحوالة لم تبطل الوكالة ولكن تعذر على الوكيل مطالبة المحيل كما كان فبقي الوكيل على وكالته.
وكذلك لو اشترى الموكل بالمال عبدا من المطلوب فاستحق العبد من يده أو رده بسبب هو فسخ من الأصل فقد عاد دينه كما كان فبقيت الوكالة وكذلك لو كان قبض الدراهم فوجدها زيوفا لأن بالرد بعيب الزيافة انتقض القبض من الأصل فبقي الوكيل على وكالته ولو أخذ الطالب منه كفيلا لم يكن للوكيل أن يتقاضى من الكفيل لأن التوكيل مقيد بالتقاضي من الأصيل فلا يملك به التقاضي من غيره
فلو قال الطالب لرجل إذا حل مالي على فلان فتقاض أو قال إذا قدم فتقاضاه أو اقبض ما عليه كان جائزا لأن التوكيل إطلاق وهو يحتمل التعليق بالشرط والإضافة إلى وقت.(19/132)
ص -65- ... وكذلك لو قال إذا أديته شيئا فأنت وكيلي في قبض ما عليه فقد أضاف التوكيل بالقبض إلى حال وجوب الدين كالمستثنى للوكيل في ذلك الوقت ولو قال أنت وكيلي في قبض كل دين لي وليس له دين يومئذ ثم حدث له دين كان وكيلا في قبضه أما على طريقة الاستحسان فغير مشكل لما بينا وعلى طريقة القياس فكذلك لأن الدين اسم للواجب في الحال حقيقة ولما استجيب مجاز ولم تكن الحقيقة مرادة هنا فتعين المجاز وفيما تقدم كانت الحقيقة مرادة فانتفى المجاز.
ولو قال اذهب فتقاض ديني على فلان فله أن يقبضه لأن المقصود من التقاضي القبض والمأمور بالشيء يكون مأمورا بتحصيل المقصود به ولا يكون وكيلا في الخصومة لأن قوله اذهب فتقاض ديني بمنزلة قوله اذهب واقبضه وهذا اللفظ بمنزلة الرسالة بالقبض فلا يصير به وكيلا بالخصومة إلا أن يصرح بلفظة التوكيل قال ولو كتب في ذكر الحق ومن قام بهذا الذكر فهو ولي ما فيه أو وكيل بقبضه لم تكن هذه الوكالة شيئا لأنه توكيل لمجهول بالقبض وهو باطل.
قال ولو كتب فيه أن فلانا وكلني وكيلا في قبض هذا الحق كان جائزا لأنه توكيل المعلوم وذلك صحيح يتم للموكل في حقه ولا يتوقف على حضرة الوكيل قال ولو وكله بقبض دينه على رجل فقبضه كان بمنزلة الوديعة عند الوكيل لأنه في القبض عامل للموكل فكأن الموكل قبضه بنفسه ثم دفعه إليه ليحفظه
فإن وجده الوكيل زيوفا أو ستوقا فرده فإنه ينبغي في القياس أن يضمن ولكن استحسن أن لا يضمنه فقد جمع في السؤال بين الفصلين والمراد بالجواب أحدهما وهو الزيوف فأما في الستوق فلا يضمن بالرد قياسا واستحسانا لأنه وكيل بقبض دينه والستوق ليست من جنس دينه فلا يصير به قابضا دينه حتى لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز فرد المقبوض لأنه باق على ملك من قبضه منه وهو على وكالته في قبض دينه.(19/133)
وجه القياس في الزيوف أنه من جنس دينه فصار به قابضا ويجعل في الحكم كأن الموكل قبضه بنفسه ثم دفعه إليه ليحفظه فإذا رده على غيره صار ضامنا وهذا لأن الوكالة انتهت بالقبض فهو في الرد كأجنبي آخر. ووجه الاستحسان أنه مأمور بقبض أصل حقه بصفته وقد تبين أنه لم يقبض الصفة ولا يتوصل إلى قبض الصفة إلا برد الزيوف فصار مأمورا به من جهة الموكل دلالة توضيحه أن قبض الدين فيه معنى التمليك من وجه والزيافة عيب في الدراهم والوكيل بالتمليك بعوض يملك الرد بالعيب كالوكيل بالبيع والشراء.
قال وإن وكله بتقاضي حنطة له على رجل فقبضها ووجد بها عيبا فردها فهو جائز لأنه تبين أنه مما قبض حقه فيرد المقبوض ليقبض الحق بصفته وفيه منفعة للآمر لأنه لو هلك المقبوض قبل الرد بطل حقه من الصفة فكان في الرد إحياء حقه وإن لم يكن بها عيب فاستأجر لها من يحملها لم يجب الأجر على الآمر لأنه متبرع بالحمل فأداء الكراء عليه فإن(19/134)
ص -66- ... الآمر لم يأمره بذلك قال إلا أن يكون في المصر فأستحسن أن أجعله عليه وفي القياس هو متبرع هنا كما في الأول وفي الاستحسان قال الظاهر هنا أنه يأمره بالقبض في المصر ليحمله إلى منزله لأنه إن أراد الأكل جملة إلى منزله وإن أراد البيع فكذلك لأن قيمة الحنطة في المصر لا تختلف بالسوق وغيره فأما خارج المصر فإن كان مراده البيع فربما يبيعه هناك ولا يحمله إلى المصر إذا كان أنفع له من التزام الكراء فلا يكون أمره بالقبض أمرا بالحمل إلى منزله ولأن المؤنة في الحمل إلى المصر تقل فلا يكون على الآمر فيه كثير ضرر لو عدينا حكم الآمر إلى الحمل فأما خارج المصر فالمؤنة تكثر فربما يتضرر به الآمر فلهذا لا يتعدى حكم الوكالة إلى الحمل وعلى هذا لو وكله بقبض رقيق أو غنم فقبضها وأنفق عليها في رعيها أو في كسوة الرقيق وطعامهم فهو متطوع في ذلك لأن الأمر بالقبض لا يتعدى إلى هذه الأشياء فهو متبرع فيها كسائر الأشياء.
قال ولو وكله بقبض دين له على أبي الوكيل أو ولده أو مكاتبه أو عبده فقال الوكيل قد قبضته وهلك في يدي وكذبه الآمر فالقول قول الوكيل لأن الوكالة لما صحت بالقبض من هؤلاء صار هو مسلطا من جهة الآمر على الإقرار بالقبض لأن من ملك مباشرة الشيء يملك الإقرار به وتأويله في حق العبد إذا كان مديونا أما إذا لم يكن مديونا فتوكيله بالقبض يصح كتوكيله بالقبض من نفسه ولا يصح إقراره بالقبض لأن وجوب الدين فيما هو ملك المولى وفي بعض النسخ قال أو مكاتب ولده أو عبده يعني عبد الولد وهذا الجواب واضح وإن كان الوكيل عبدا فقال قد قبضت من مولاي أو من عبد مولاي وهلك مني فهو مصدق أيضا لأنه صح التوكيل وملك إبراء الغريم بمباشرة القبض منه فكذلك بإقراره بالقبض منه.(19/135)
قال وإن كان الوكيل أبا الطالب أو المطلوب فكذلك لأنه لا تهمة في إقرار الوكيل بالقبض منه وقد صح توكيله إياه بالقبض ولو وكل غيره أن يلزم رجلا بمال له عليه لم يكن وكيلا بالقبض بخلاف الوكيل بالتقاضي فإن هناك التوكيل مضاف إلى المطلوب دون الدين لأنه يقول وكلتك بأن تلازم فلانا فلا يتعدى ذلك إلى قبض الدين ولهذا يختار للملازمة أسفه الناس ومن يتأذى المطلوب بملازمته ومصاحبته ويختار للقبض الأمناء فلهذا لا يتعدى التوكيل بالملازمة إلى القبض.
قال ولو وكل المسلم مرتدا بقبض دينه فقبضه أو أقر بقبضه وهلاكه منه ثم قتل على ردته جاز قبضه لأن قبول الوكالة صحيح فإنه يتصرف به في منافعه لا فيما يتعلق به حق ورثته وكذلك إن كان الوكيل حربيا فقبضه ثم لحق بدار الحرب لأنه قبض بحكم وكالة صحيحة فبرى ء الغريم وصار كأن الموكل قبضه بنفسه ثم دفعه إليه ليحفظه قال ولو وكل رجل رجلا بقبض دينه من فلان وأمره أن لا يقبضه إلا جميعا فقبضه كله إلا درهما لم يجز قبضه على الآمر لأنه قيد الأمر بوصف مرغوب فيه فإن التجار يرغبون في قبض الحق جملة واحدة ويمتنعون من القبض متفرقا فإذا لم يقبض الكل جملة لم يكن هذا القبض هو المأمور(19/136)
ص -67- ... به فلا يستفيد الغريم به البراءة وللطالب أن يرجع عليه بجميع حقه وكذلك لو قال له لا تقبض درهما دون درهم فإن معنى هذا لا تقبضه متفرقا فإذا قبض شيئا دون شيء لم يبرأ الغريم من شيء.
قال وإذا ادعى الرجل أن فلانا وكله بقبض دين له على هذا فلم يقر الغريم به ودفع المال إليه على الإنكار ثم أراد أن يسترده منه لم يكن له ذلك لأنه دفع إليه على وجه القضاء فما لم يتبين الأمر بخلافه لا يكون له حق الاسترداد فإن قاضي الدين ينقطع حقه عن المقضي به من كل وجه.
ألا ترى أنه لو قضي الطالب دينا على دعواه لم يسترده ما لم يتبين أنه لا دين له عليه فكذلك إذا قضاه الوكيل بدعواه الوكالة وإن أقر بالوكالة ثم أراد أن لا يدفع المال إليه فإن القاضي يقضي عليه بالمال للوكيل على ما بينا أن المديون يقضي الدين بملك نفسه وهو إنما أقر بثبوت حق القبض له في ملكه وذلك جحد عليه إلا على قول ابن أبي ليلى رحمه الله فإنه يقول لا يجبره القاضي على الدفع إليه ولكن يقول له أنت أعلم إن شئت فأعطه وإن شئت فاتركه لأنه لم يثبت كونه نائبا عن الطالب في حق القاضي وولاية الإجبار بعد ثبوت كونه ثابتا عنده ولكنا نقول قد ثبت ذلك بجبر الوكيل وتصديق المطلوب إذ ليس هنا مكذب لهما وكل خبر عند القاضي محمول على الصدق ما لم يأت له معارض ولكن إذا حضر الطالب وأنكر الوكالة رجع على الغريم بماله لأن الوكالة لا تثبت في حق الطالب لإنكاره ولم يحكم ببراءة الغريم في حق الطالب أيضا لأن حجة الإجبار قاصرة على المطلوب والوكيل وثبوت الحكم بحسب الحجة.(19/137)
قال وإن أنكر المطلوب الوكالة فقال الوكيل استحلفه أنه ما وكلني ليستحلفه على ذلك فإن حلف بريء وإن نكل عن اليمين قضيت عليه بالمال للوكيل لأن نكوله كإقراره ولم يصدق على الطالب حتى إذا أنكر الطالب ونكل عن اليمين وحلف ذلك كان له أن يأخذ ماله من الغريم وذكر الخصاف رحمه الله هذا الفصل في كتابه وقال لا يحلف المطلوب على الوكالة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يحلف على العلم وجه قولهما ظاهر وذلك لأنه ادعى عليه ما لو أقربه لزمه فإذا أنكر حلفه ولكنه استحلاف على فعل الغير فيكون على العلم وأبو حنيفة رحمه الله يقول الاستحلاف يبنى على صحة الدعوى وما لم يثبت كونه نائبا عن الآمر لا تصح دعواه على المطلوب فلا يكون له أن يحلفه وهذا نظير الاختلاف فيما إذا ادعى المشتري عيب الإباق في العبد للحال وجحده البائع أن عندهما يحلف البائع على العلم وعند أبي حنيفة رحمه الله لأن الخصومة في العيب لا تكون إلا بعد ثبوته في الحال وبدون سبب الخصومة لا يستحلف وإن أقر المطلوب بالوكالة وأنكر الدين فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يستحلف المطلوب
وعندهما لا يستحلف لأن الوكيل بقبض الدين عنده يملك الخصومة وقد تثبت الوكالة في حقه بإقراره.(19/138)
ص -68- ... قال وإذا دفع لرجل ألف درهم وقال ادفعها إلى فلان قضاء عني فدفع الوكيل غيرها واحتبسها عنده كان القياس أن يدفع الألف التي احتبست عنده إلى الموكل ويكون متطوعا فيما أمره لأن أمره بالدفع كان مقيدا بالمال المدفوع ففي دفع مال الآمر هو كأجنبي آخر فيكون متبرعا في القضاء بمال نفسه لدين الغير ويرد على المطلوب ماله لأنه ملكه دفعه إليه لمقصوده وقد استغنى عنه وجه الاستحسان أن مقصود الآمر أن يحصل البراءة لنفسه ولا فرق في هذا المقصود بين الألف المدفوعة إلى الوكيل وبين مثلها من مال الوكيل والتقييد إذا لم يكن مقيدا لا يعتبر ثم الوكيل قد يبتلى بهذا بأن يجد الطالب في موضع وليس معه مال المطلوب فيحتاج إلى أن يدفع مثله من مال نفسه ليرجع به في المدفوع إليه وقد بينا أن هذا توكيل بالمبادلة من وجه وهذا القدر يصح من الوكيل بالمبادلة ولا يكون هو متبرعا فيما يدفع على ما سبق بيانه.
قال وإذا دفع رجل إلى رجلين ألف درهم يدفعانها إلى رجل فدفعها أحدهما فهو ضامن للنصف في القياس لأن كل واحد أمين في النصف مأمور بدفعه إلى الطالب فإذا دفع أحدهما الكل كان متعديا في نصيب صاحبه فيكون ضامنا ولكنه استحسن فقال لا ضمان عليه لأن دفع المال إلى الغير لا يحتاج فيه إلى الرأي فينفرد كل واحد من الوكيلين ولأن صاحب الحق إذا ظفر به كان له أن يأخذه من غير دفع أحدهما والذي دفع كأنه يعينه على حقه وصاحب الحق هو القابض في الحقيقة وهو قبض في الحقيقة لحق فلا يوجب الضمان على أحد فإن قال خذ أنت يا فلان هذا الألف فاقضها فلانا أو أنت يا فلان فادفعها إلى فلان فأيهما قضى جاز لأنه رضي بدفع كل واحد منهما على الانفراد حين خيرهما.(19/139)
ولو قال لرجل اقض عني هذه الألف درهم فلانا أو فلانا فأيهما قضى جاز لأنه رضي بدفعه إلى أيهما شاء والحاصل أن الوكالة حكمها إباحة التصرف للوكيل وفي المباحات حرف أو يتناول كل واحد من المذكورين على سبيل التخيير بينهما كقول الرجل لغيره كل هذا الطعام أو هذا والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في الرهن
قال رحمه الله وإذا دفع الرجل إلى رجل متاعا فقال بعه أو ارهن به لي ففعل فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله سواء كان الرهن مثل الثمن أو أقل بما لا يتغابن الناس فيه لأن الأمر بالارتهان مطلق فيجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد وعندهما لا يجوز إلا أن يرتهن رهنا هو مثل الثمن أو أقل بما يتغابن الناس فيه بناء على أصلهما أن التقييد, يحصل بدلالة العرف, ولو باعه ولم يرتهن به رهنا لم يجز البيع لأن الآمر قيد التوكيل بما فيه منفعة له وهو الارتهان بالثمن ليكون حقه مضمونا وليندفع عنه ضرر الثواء عند موت المشتري مفلسا فإذا باعه ولم يرتهن به لم يحصل مقصوده الذي صرح به فلا ينفذ تصرفه فيه كما لو قال بعه واشترط الخيار ثلاثة أيام فإن قيل قوله وارتهن أمر مبتدأ معطوف على(19/140)
ص -69- ... الأول فلا يتقيد به الأمر الأول كما لو قال بع واشهد قلنا لا كذلك فإن هذه الواو بمعنى الحال أي بعه في حال ما ترتهن بالثمن مع أنا نقول قوله وارتهن يقتضي الأمر بما يستبد به وذلك برهن مشروط في البيع ليصير ذلك حقا له فكأنه قال بعه بشرط أن ترتهن بالثمن رهنا وما قلنا في قوله واشترط الخيار بخلاف الإشهاد فإن ذلك لا يكون شرطا لازما في البيع وإن ذكر فلا يتقيد به الأمر بالبيع.
ولو قال بعه برهن ثقة فارتهن رهنا أقل منه بما يتغابن الناس فيه جاز وإن كان أقل منه بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز لأنه قيد الارتهان هنا بأن يكون ثقة وهو عبارة عما يكون في ماليته وفاء بالدين فيتقيد به إلا أن قدر ما يتغابن الناس فيه لا يمكن التحرز عنه فكان عفوا.
قال وإن ارتهن رهنا ثقة وقبضه ثم رده على صاحبه جاز رده في حق نفسه لأنه بمنزلة العاقد لنفسه والارتهان لاستيفاء الثمن وحق القبض إلى الوكيل حتى لو أبرأ المشتري منه كان صحيحا فإذا رده عليه الراهن بسبب كان صحيحا أيضا ولكنه يصير ضامنا له ولم يذكر خلاف أبي يوسف رحمه الله هنا قيل على قوله لا يصح رد الرهن بناء على الأصل الذي ذكرنا وقيل لا يصح هنا لأنه ليس فيه إبطال شيء من الثمن وهو من صنع التجار فيملكه.
قال وإن وضعه على يدي عدل فهو جائز لأن كون الرهن على يدي عدل أو على يدي الوكيل سواء في حق الموكل وهو اختصاصه الرهن عند تعذر استيفاء دينه من محل آخر ولم يقيد الأمر بيد الوكيل فلا يتقيد به وليس للموكل قبض الرهن لأن المشتري ما رضي بقبضه إنما رضي بقبض العدل أو قبض الوكيل ورضاه معتبر في ملكه وكذلك الجواب في القرض برهن في جميع ما ذكرنا.(19/141)
قال وإذا دفع إلى رجل مائة درهم فقال له ائت بها فلانا وقل له أن فلانا أقرضك هذه على أن تعطيه بها رهنا وأمرني أن أقبض الرهن منك فآتيه به ففعل وقبض الرهن فهو جائز والرهن مقبوض وللآمر أن يقبضه من الوكيل لأنه جعله رسولا حين أمره أن يضيف ما يقول له إلى الآمر وقد بلغ الرسالة وليس على الرسول إلا تبليغ الرسالة فأما شيء من الحقوق لا يتعلق بالرسول فكان للآمر أن يقبض الرهن من
الوكيل وأن يطالب المستقرض بدينه إلا أن الرهن يتم بقبض الرسول لأنه نائب عن المرسل في قبضه لنائبه فتم الرهن بقبضه وإذا هلك في يده هلك من مال الآمر.
وإن قال أقرض أنت وخذ بها رهنا لم يكن للآمر أن يأخذ الرهن من الوكيل لأنه بمباشرة العقد كان وكيلا لا رسولا فقد أضاف العقد إلى نفسه فتتعلق حقوقه به وإنما رضي المستقرض بكون الرهن في يده دون غيره فلهذا لا يكون للآمر أن يأخذه بخلاف ما سبق وإن هلك في يد الوكيل هلك من مال نفس الآمر أيضا لأنه عامل له فيما صنع فقبضه كقبض الآمر.
قال وإن دفع إليه ثوبا يساوي عشرة دراهم ووكله أن يرهنه بعشرة ففعل وقبض(19/142)
ص -70- ... العشرة فإن كان قال للذي أعطاه المال أن فلانا أرسلني إليك بهذا الرهن لتقرضه عشرة دراهم وترتهن هذا الثوب منه بدراهم فالدراهم للآمر والوكيل فيها أمين لأنه أخرج الكلام مخرج الرسالة حين أضافه إلى الآمر فانعقد العقد للمرتهن مع الآمر حتى لا يكون للرسول أن يسترد هذا الثوب ولا يكون هذا مطالبا بالعشرة وإن كان قال للمقرض أقرضني عشرة دراهم وارتهن هذا الثوب مني فالعشرة للوكيل لأنه أضاف العقد إلى نفسه فلم يكن رسولا ولا يمكن أن يجعل وكيلا لأن التوكيل بالاستقراض لا يجوز فإن المستقرض يلتزم بدل القرض في ذمته.
ولو قال بع شيئا من مالك على أن يكون ثمنه لي لا يصلح فكذلك إذا قال التزم العشرة في ذمتك على أن يكون عوضه لي وكان التوكيل بالاستقراض قياس التوكيل فكان باطلا والعشرة للوكيل وله أن يمنعها من الآمر وإن هلكت من ماله وليس هذا الخلاف منه للآمر وإن كان قال استقرض لي ما بينا أن التوكيل لما لم يصلح فاستقراضه لنفسه ولغيره في الحكم سواء وهذا تقييد غير مفيد فلا يكون معتبرا
قال وإن كان قال له صاحب الثوب قل لفلان يقرضني وأعطه هذا الثوب برسالتي رهنا عني فأضاف الوكيل العقد إلى نفسه كان مخالفا ضامنا للثوب ولا يجوز رهنه لأن صاحب الثوب جعله رسولا وكيلا هنا فيكون ذلك إذنا منه له في إضافة العقد إلى نفسه.
قال ولو دفع إليه عبدا فقال له إئت فلانا وقل له أن فلانا يستقرضك ألف درهم ويرهنك هذا العبد ففعل ذلك وأخذ الألف وأعطاها الآمر ثم جاءه بالمال فأمر الراهن فقضاه لم يكن له أن يقبض العبد إلا أن يوكله رب العبد بقبضه لأنه فيما صنع كان رسولا وقد انتهت الرسالة بالتبليغ فيكون هو في استرداد العبد كأجنبي آخر فلا يملكه إلا بأمر جديد وإرساله بالمال على يده لا يتضمن الأمر له بقبض العبد فإن قبض العبد فعطب عنده فهو ضامن كما لو قبضه أجنبي آخر.(19/143)
قال فإن كان المرتهن هو الذي دفعه إليه فللمالك الخيار يضمن أيهما شاء قيمته بالغة ما بلغت لأن كل واحد منهما غاصب في حقه وإن أخذه بغير أمره فالمرتهن لا يصير ضامنا بهذا شيئا ولكن صاحبه بالخيار إن شاء ضمن القيمة القابض وإن شاء رجع على المرتهن بما قضاه وجعل الرهن تأديا فيسقط الدين به ويسترد منه ما قضاه وهذا بمنزلة ما لو غصب المرهون من المرتهن غاصب فللراهن الخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمته وإن شاء جعله تأديا فلا يرجع المرتهن عليه بشيء إذا كان في قيمته وفاء بالدين وإن قضاه دينه استرده منه فهذا مثله.
قال ولو وكله أن يرتهن ثوبا له بدراهم قرضا فذهب الوكيل فقال إن فلانا يقول لك اقبض هذا الثوب رهنا وأعطه كذا وكذا درهما فزاد على ما سمي له أو نقص ففعل ذلك المقرض لم يكن الثوب رهنا في الوجهين لأن الوكيل خالف أمره على وجه هو أضر على(19/144)
ص -71- ... الموكل لأنه إن نقص عما سمي له فمقصود الموكل لم يحصل ولم يرض هو أن يكون ثوبه مضمونا بأقل مما سمي له وإن زاد على ما سمي له فالموكل لم يرض بأن يكون ثوبه محبوسا عنده بأكثر مما سمي فعرفنا أنه مخالف في الوجهين.
قال فإن جاء الوكيل إلى الموكل بدراهم مثل ما سمي له فأعطاها إياه فهو دين له عليه لأنه لما خالف صار مستقرضا لنفسه وإن أضاف العقد إلى غيره ثم أعطاه الموكل على سبيل القرض فيكون ذلك دينا للوكيل على الموكل ولا يكون الثوب رهنا بها وإنما يصير رهنا عند الوكيل والموكل لم يرض بذلك والوكيل في أصل العقد كان مخالفا فلهذا لم يكن الثوب رهنا وللمرتهن أن يرجع على الوكيل بما قبض منه والوكيل ضامن له لما بينا أنه صار كالمستقرض لنفسه أو كالقابض لما له بغير حق فإن كان المرتهن صدقه في الرسالة فالوكيل مؤتمن إن هلكت الدراهم في يده لم يضمن للمرتهن شيئا لأنهما تصادقا على أنه غير مخالف بل هو مؤد للرسالة على وجهها أمين في المقبوض.
وإن قال دفعتها إلى رب الثوب فالقول قوله في براءة نفسه عن الضمان ولا يصدق في إيجاب الضمان على رب الثوب لأنهما لا يصدقان في حق رب الثوب بزعم أن الرسول خالف ما أمره به وإن لم يدفع إليه شيئا فلهذا لا ضمان عليه وإن قال الوكيل إنما أمرتني أن أرهنه بخمسة عشر وقال رب الثوب أمرتك بعشرة أو بعشرين ففي الوجهين القول قول رب الثوب لأنه لو أنكر الإرسال كان القول قوله فكذلك إذا أقر به مقيدا بصفة فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف كان هذا والفصل الأول سواء.(19/145)
قال وإذا وكله أن يرهن له ثوبا بشيء ولم يسم ما يرهنه فما رهنه به من شيء فهو جائز لأن التوكيل مطلق فيجري على إطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد فيه ودليله عندهما في غير هذا الموضع العرف ولا عرف هنا فالرهن قد يكون بالقليل والكثير عادة قال وليس للوكيل بالرهن أن يوكل غيره به لأن هذا عقد يحتاج فيه إلى الرأي والموكل رضي برأيه دون غيره وليس للوكيل المرتهن بيعه لأن ذلك ليس من موجبات عقد الرهن ألا ترى أنه لا يملكه بمطلق عقد الرهن والتوكيل بالرهن لا يعدو ما هو من موجبات العقد ففيما وراء موجب العقد الوكيل كأجنبي آخر.
قال ولو وضعه على يدي عدل جاز لأن يد العدل كيد المرتهن في إتمام الراهن به والتوكيل بالعقد يتضمن التوكيل بما هو من إتمامه وربما يكون كونه في يد العدل أنفع للراهن من كونه في يد المرتهن فلهذا يملكه بمطلق التوكيل فإن كان قال له الموكل ما صنعت من شيء فهو جائز فإن للوكيل أن يوكل غيره بأن يرهنه وأن يرهنه بنفسه وأن يسلط المرتهن على بيعه عند حلول المال لأنه أجاز بيعه على العموم وهذا مما يقصد بعقد الرهن لإتمام المقصود فإن المقصود استيفاء الدين منه وإذا تعذر استيفاؤه من محل جاز استيفاؤه من محل آخر وذلك يكون بالبيع عند قيام العين.(19/146)
ص -72- ... قال وإن وكل الوكيل وكيلا فرهنه فليس للثاني أن يسلط المرتهن على البيع لأن الثاني وكيل بالرهن مطلقا وتوكيل الأول إياه بذلك عند تفويض الآمر إليه على العموم بمنزلة توكيل المالك إياه بذلك
قال إلا أن يفوض رب الثوب ذلك إليه ومراده أن تفويض الوكيل الأول الأمر إلى الثاني عاملا لا يطلق له لأن هذا يسوي غيره بنفسه في حق الغير وذلك لا يجوز فيحتاج إلى تفويض الموكل ذلك إليه.
قال وإذا وكل الرجل رجلا أن يتعين له دراهم في شراء شيء معلوم وأعطاه رهنا يرهنه وقال له ما صنعت من شيء فهو جائز فتعين لرجل ورهن لرجل فإن العينة للموكل وبيع العينة ما ورد الأثر بالذم فيه إذا اتبعتم أذناب البقر وقعدتم عن الجهاد ذللتم حتى يطمع فيكم وتفسير ما ذكر في الجامع الصغير أن الرجل إذا استقرض من آخر شيئا فأبى أن يقرضه إلا بربح وعلم أن ذلك ربا فيبيع المقرض من المستقرض شيئا يساوي عشرة بخمسة عشر فيبيعه المقترض بعشرة فسلم له مقصوده وهو عشرة ويكون للمقرض عليه خمسة عشر فإنما أراد بما ذكر في الكتاب التوكيل بهذا النوع من الشراء والرهن وفعل الوكيل كفعل الموكل بنفسه فلهذا العينة للموكل فإن كان قال للوكيل ما صنعت من شيء فهو جائز كان له أن يبيع ما اشترى ليحصل الدراهم التي هي مقصود الموكل لأنه أجاز صنعه على العموم والبيع من صنعه وإن لم يكن قال ذلك فليس له أن يبيع ما اشترى لأنه وكيل بالشراء فلا يملك بعد الشراء البيع بمطلق التوكيل وهو نظير المستصنع ذلك وإن حل الثمن فالمأخوذ به هو الوكيل لأنه مباشر لعقد الشراء قابض للمشتري فيكون مطالبا بثمنه فإذا قضي الثمن من مال نفسه كان له أن يقبض الرهن ويكون أمينا فيه إن هلك قبل رده على الآمر ويرجع بما قضي به على الآمر لأن شراءه أوجب الثمن للبائع على الوكيل وللوكيل على الآمر وقد قضي ما وجب للبائع عليه فيرجع على الآمر بما استوجبه عليه.(19/147)
ولو قال ائت فلانا وقل له أن فلانا يقول لك بعني خادمك فلانا إلى سنة بألف درهم فأبلغه الوكيل ذلك فقال قد فعلت فرجع الوكيل إلى الآمر فأبلغه ذلك فقال قد قبلت فرجع الوكيل إلى البائع فأخبره بذلك فقال قد أجزت فقد وقع البيع بينهما لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن قوله فرجع الوكيل إلى البائع فأخبره فقال قد أجزت فصل غير محتاج إليه بل يتم البيع بقول البائع بعد تبليغ الرسالة فعلت وقول المرسل قبلت لأن انعقاد البيع بلفظين هما عبارة عن الماضي وقد وجد ذلك كما لو كانا حاضرين فلا حاجة إلى إجازته بعد ذلك قال رضي الله عنه والصحيح عندي أن الصواب ما ذكره محمد رحمه الله لأن البائع وإن قال قد فعلت ما لم يجعل هذا المبلغ رسولا يقبضه والمرسل الأول ليبلغه فإذا بلغه فقال قد قبلت يوقف هذا التبليغ على إجازة البائع وما لم يتم ذلك التبليغ بإجازته لم يتم البيع بقول المشتري قبلت فلهذا ذكر هذه الزيادة.(19/148)
ص -73- ... قال فإن قبض الآمر الخادم فالمال عليه إلى سنة ولا شيء على الوكيل من ذلك وليس للوكيل أن يقبض الخادم لأنه كان رسولا فبتبليغ الرسالة يخرج من الوسط فصار كأن المرسل عبر بنفسه أو كتب قال وإذا وكل رجلين أن يرهنا له شيئا بكذا فرهنه أحدهما بذلك لم يجز لأنه عقد يحتاج فيه إلى الرأي في تعيين من يرهن عنده والوضع على يدي مرتهن أو على يدي عدل وقد رضي الآمر أيهما فلا ينفرد به أحدهما وإن رهناه جميعا وشرط له أحدهما بيع الرهن جاز الرهن لاجتماع رأيهما فيه ولم يجز ما ينفرد به أحدهما وهو التسليط على البيع حتى إذا باعه المرتهن لا يجوز.
قال وإن كان الموكل قد أمرهما بذلك فإن كانا قالا إن فلانا يستقرضك كذا فأقرضه وقال أحدهما أنه قد أمرنا أن يجعلك مسلطا على بيعه إذا بدا لك وسكت الآخر فللمقرض أن يبيعه لأنهما كانا رسولين والرسول معبر عن المرسل وينفرد كل واحد منهما بتبليغ الرسالة فلهذا صح ما بلغه أحدهما من التسليط على البيع وإن كانا استقرضا له المال وقال أحدهما هذه المقالة لم يجز للمرتهن أن يبيعه لما بينا أنهما يكونان مستقرضين لأنفسهما فإن التوكيل بالاستقراض لا يجوز وإذا عملا لأنفسهما لم يصح تسليط أحدهما المرتهن على البيع من جهة نفسه لأن صاحبه لم يساعده على ذلك وعندهما مباشرتهما العقد لا ينفرد أحدهما بالتسليط على البيع ولا يصح ذلك من جهة الآمر لأن الرهن لم يثبت من جهة الآمر وهو ما رضي بالتسليط على البيع إذا لم يكن الرهن من جهته.(19/149)
قال فإن وكله أن يرهن له ثوبا بدراهم مسماة فرهنه عند نفسه ودفع الدراهم إلى الآمر ولم يبين له الآمر لم يكن الثوب رهنا لأنه أمره بأن يرهنه لا بأن يرتهنه وإذا رهنه عند نفسه كان مرتهنا لا راهنا وهو أمين في هذا الثوب والقبض بحكم الرهن قبض ضمان فلا يصلح أن يجعل يده التي هي أمانة يد ضمان بحكم العقد ولكنه يبقى أمينا في الثوب وإن هلك لم يضمنه لأنه لم يصنع في الثوب شيئا هو مخالف لما أمره به بل هو حافظ للثوب وبذلك أمر والدراهم قرض له على الآمر وكذلك إن رهنه عند ابن له صغير لأنه هو القابض لهذا الرهن فهو وما لو رهنه عند نفسه سواء وكذلك إن رهنه عند عبده ولا دين عليه لأن كسب العبد مملوك للمولى فهذا وما لو رهنه عند نفسه سواء.
قال ولو كان رهنه عند ابنه وهو كبير أو عند مكاتبه أو عند عبد له تاجر وعليه دين كان جائزا لأنه لا ضرر فيه على رب الثوب معناه أن حكم الرهن واحد وهو أنه مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين سواء رهنه من أجنبي أو من هؤلاء ولا تتمكن تهمة الإضرار بالآمر في تصرفه مع هؤلاء فلهذا صح فإن كان الوكيل في ذلك عبدا تاجرا أو غير تاجر أو مكاتبا أو صبيا فإن كان قال إن فلانا يقول لك أقرضني كذا وأمسك هذا رهنا فهو جائز لأنه أخرج الكلام مخرج الرسالة وهو أهل للعبادة فيكون صالحا لتبليغ الرسالة وإن كان قال أقرضني وأمسك هذا رهنا لم يجز في حق الصبي والعبد المحجور لأنهما يكونان(19/150)
ص -74- ... مستقرضين لأنفسهما والإقراض من الصبي والعبد المحجور لا يصح لأنه التزم الضمان بالعقد وليس من أهله وجاز في حق غيرهما لأن المكاتب والعبد التاجر يملكان الاستقراض وإن كانا لا يملكان الإقراض.
قال ولو كان تاجرا وعليه دين فرهنه فإن قال له أقرض فلانا فهو جائز لأن العبد يصلح أن يكون معبرا بين مولاه وبين الآمر وقد أخرج الكلام مخرج الرسالة وإن قال أقرضني وأمسك هذا رهنا لم يكن رهنا لأن المولى لا يستوجب على عبده شيئا إذا لم يكن العبد مديونا فإذا لم يجب الدين لم يثبت حكم الرهن في الثوب قال وإذا وكل الذمي المسلم أن يرهن له عبدا ذميا بخمر أو يرهن له خمرا بدراهم فإن أضافه الوكيل إلى الآمر وأخبر به على وجه الرسالة صح لأن صحة تبليغ الرسالة ينبني على صحة العبادة ولا يصير الرسول عاقدا وكان هذا وما لو بلغه كتابا كتب به الآمر سواء وإن قال أقرضني لم يكن رهنا لأنه عاقد لنفسه والمسلم لا يعقد على الآمر بالخمر استقراضا ولا رهنا بها بالدين لأن الرهن يكون مضمونا للراهن على المرتهن ولا يجوز أن تكون الخمر مضمونة للمسلم على الذمي وإذا قال لرجل ائت فلانا وقل له أقرضني ألف درهم وأمسك هذا العبد عندك رهنا بها فلما خرج من عنده أشهد أنه قد أخرجه من الوكالة فلم يبلغ ذلك الوكيل حتى رهن العبد فإن الرهن جائز لما بينا أن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب حتى يبلغه وهو خاطبه بالعزل والنهي عن تبليغ الرسالة فلما لم يبلغه لم يثبت ذلك في حقه فلهذا جاز رهنه وإن أرسل إليه بذلك رسولا أو كتب إليه كتابا فرهنه بذلك لم يجز يعني إذا وصل إليه لأن حكمه يثبت في حقه بالوصول إليه فإن لم يصدقهما المرتهن بذلك فالقول قوله لأنه متمسك بما هو الأصل وهو ثبوت الوكالة حتى يظهر العزل إلا أن يقيم البينة على أن الرسول قد أبلغه إخراجه من الوكالة قبل أن يرهنه فحينئذ يجعل الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.(19/151)
قال وإن كان رب العبد باعه أو أعتقه أو دبره أو كاتبه أو رهنه أو سلمه ولم يعلم به الوكيل حتى رهنه فالرهن باطل لأنه بما أحدث من التصرف خرج المحل من أن يكون محلا للرهن أو أخرج نفسه من أن يكون مالكا فيه التصرف الذي فوضه إلى الوكيل فيتضمن عزل الوكيل حكما والعزل الحكمي لا توقف على العلم بل ثبوته لضرورة ثبوت ذلك الحكم.
قال وإن كان الموكل رهنه ثم افتكه ولم يعلم به الوكيل حتى رهنه لم يجز رهنه لأن مقصود الموكل قد تم بما باشره بنفسه وبالانفكاك لا ينفسخ رهنه من الأصل بل يتقرر حكمه لأن الرهن إنما يعقد إلى وقت الفكاك فكان الفكاك تقديرا لا فسخا فلهذا لا يملك أن يرهنه بعد ذلك بخلاف ما إذا وكل ببيعه ثم باعه بنفسه ثم انفسخ بيعه من الأصل بسبب فالوكيل على وكالته لأن مقصود الآمر لم يتم بما صنع ولأن بانفساخه من الأصل صار ذلك العقد كأن لم يكن وكذلك إذا وكل الآمر آخر برهنه فرهنه فقد خرج الأول من الوكالة لأن فعل وكيله له كفعله بنفسه وإن كان الأول رهنه ثم وكل المولى برهنه رجلا ثم افتكه المولى ثم(19/152)
ص -75- ... رهنه الثاني فهو جائز لأن التوكيل لما حصل في حال لا يملك مباشرة الرهن بنفسه عرفنا أن مقصوده إضافة التوكيل إلى حال الفكاك من الرهن الأول بخلاف الفصل الأول فإن هناك حضر الوكيل في وقت هو متمكن من أن يرهنه فإذا زال تمكنه من ذلك تضمن عزل الوكيل وهو بمنزلة من وكل وكيلا أن يزوجه امرأة وتحته أربع نسوة صارت هذه الوكالة مضافة إلى ما بعد مفارقة إحداهن إذا فارق إحداهن ثم زوجها الوكيل صح ومثله لو تزوج بنفسه بعد التوكيل أربع نسوة انعزل الوكيل والذي يوضح الفرق ما بينا أنه إذا كان التوكيل بعد ما رهنه فقد علمنا أن مقصود الآمر بما صنعه بعد التوكيل عزل الوكيل به.
قال وإذا رهن الوكيل عبدا للموكل ثم أنه ناقض المرتهن أو أجره إياه أو باعه فالإجارة والبيع باطل لأنه أنشأ تصرفا سوى المأمور به أما مناقضة الرهن فإن كان قال أن فلانا يستقرضك وقد رهنك هذا فمناقضته باطلة لأنه بتبليغ الرسالة خرج من الوسط وليس هو من العقد في شيء فمناقضته كمناقضة أجنبي آخر فيكون باطلا ويكون ضامنا للعبد إن قبضه على هذا وإن كان المستقرض هو أو الراهن فالمناقضة جائزة لأنه هو المباشر للعقد والحاجة في المناقضة إلى رضا المرتهن وقد رضي به ألا ترى أنه لو أراد رد الرهن لم يكن للراهن أن يأتي ذلك فإذا صحت مناقضته كان هو مؤتمنا في العقد لأنه قبضه بحق وعادت يده فيه كما كانت وليس له أن يرهنه ثانية لأن المأمور بالشيء لا يملك أن يكرره فإن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار ومناقضة الرهن مقصورة على الحال فلا يتبين أن الرهن الأول لم يكن حكما.(19/153)
قال وإن وكله أن يرهنه فرهنه ثم كتب عليه الشراء فأقر الوكيل والمشتري أنه رهنه وأنه إنما كتب الشراء سمعة ففي القياس هذا لا يكون رهنا وهو ضامن لأنه خالف أمره فيما أظهر وجعل ملكه في العين بعرض الهلاك بما كتب به من حجة الشراء أو لأنه مأمور بتصرف باطنه كظاهره وقد أتى بتصرف باطنه بخلاف ظاهره فصار ضامنا ولكنه استحسن فقال هذا ظاهرا فيما بين الناس أنهم يعقدون الرهن بهذه الصفة وقد أمره بالرهن مطلقا فيملك به ما هو متعارف بين الناس والضرر الموهوم الذي قلنا في وجه القياس قد اندفع بالإشهاد على إقرار المشتري أنه رهن وليس بشراء.
قال وإن وكله بأن يرهن عبدا له بألف درهم فقال رهنته عند فلان وقبضت منه المال وهلك ودفعت إليه العبد وإنما قلت له أقرض فلانا فإنه أرسلني إليك بذلك وبذلك أمره الموكل وصدقه المرتهن وقال الموكل لم يقبض هذا القرض ولم يرهن العبد فالقول قول الموكل مع يمينه لأن المال بهذه الطريق يجب للمقرض على الآمر لا على الوكيل كما لو عاينا هذا التصرف فإنما حصل إقرار الوكيل بوجوب المال للمقرض على الآمر وإقراره ليس بحجة عليه في إلزام المال في ذمته لأنه إنما سلطه على مال عين بقبضه له ولم يحصل ذلك(19/154)
ص -76- ... بخبره فلهذا كان القول قوله لإنكاره مع يمينه قالوا ولو كان الوكيل الذي استقرض المال هو الذي أقرض العبد وبذلك أمره رب العبد كان المال دينا عليه دون الموكل لما بينا أن التوكيل بالاستقراض باطل وكان العبد رهنا بالمال لأن صاحب العبد قد رضي بأن يرهنه بما يستقرضه فصار في معنى المعير للعبد منه ليرهنه بدينه وإعارة العبد من غيره ليرهنه بدينه صحيحة.
قال وإذا أذن الوكيل للمرتهن في ركوب الرهن واستخدامه ففعل فهو ضامن له لأن الوكيل لا يملك ذلك بالتوكيل بالرهن فإذنه فيه وإذن أجنبي آخر سواء ويكون المرتهن مستعملا ملك غيره بغير إذن صحيح فلهذا كان ضامنا قال وطعام الرهن وعلفه على الموكل وإن كان الوكيل استقرض المال لنفسه لأن النفقة على المالك وهو الموكل ولأن المنفعة له فإنه لو هلك في يد المرتهن حتى صار قاضيا لدينه رجع عليه الموكل بمثله فلهذا كانت النفقة عليه بخلاف المستعار للانتفاع فإن المنفعة هناك للمستعير دون المعير فيقال إما أن تنفق لينتفع به وإما أن ترده على صاحبه لينفق على ملكه وكذلك المكان وأجر رعي الغنم على الموكل لما بينا أنه هو المالك المنتفع به بخلاف أجر الحافظ فإن الحفظ على المرتهن فكان أجر الحافظ عليه والمكان الذي يحفظ فيه عليه أيضا فأما الرعي فليس على المرتهن فلا يكون أجر الراعي عليه أيضا فيكون ذلك على المالك والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في قبض الوديعة والعارية(19/155)
قال رحمه الله: رجل وكل رجلا بقبض أمانة له في يدي رجل فقال ذو اليد قد دفعتها إلى الموكل فالقول قوله مع يمينه لأن مطالبة الوكيل إياه بالرد كمطالبة الموكل ودعوى الأمين الرد على الموكل أو على الوكيل مقبوله لأنه سلط على ذلك ولأنه مجبر بأداء الأمانة إلا أنه يقبل قوله في إبرائه عن الضمان إلا في إيجاب الضمان عن الغير حتى إذا ادعى الرد على الوكيل وحلف لم يضمن شيئا وكذلك لا يضمن إذا جحد وحلف وإن وكل رجلين بقبض عبد له وديعة فقبضه أحدهما بغير أمر الآخر لم يجز وهو ضامن لأنه رضي برأيهما وأمانتهما فلا يكون راضيا بأمانة أحدهما.
ولو قبضه ثم أودعه أحدهما من الآخر جاز لأنهما امتثلا أمره في القبض ثم لا يقدران على الاجتماع على حفظه آناء الليل والنهار وهو لا يحتمل التبعيض ليحفظ كل واحد منهما نصفه ولما استحفظهما على علمه بذلك فقد صار راضيا بترك أحدهما عند صاحبه ولكن إنما يعتبر هذا فيما يطول وهو استدامة الحفظ فأما في ابتداء القبض فيتحقق اجتماعهما عليه من غير ضرر فلهذا لا ينفرد به أحدهما وكما يجوز لأحدهما أن يودعه من الآخر يجوز لهما أن يودعاه عيال أحدهما لأن يد عيال المودع في الحفظ كيد المودع كما إذا كان المودع واحدا وهذا لأن المرء إنما يحفظ المال بيد عياله عادة وإن وكل بقبضه رجلا أجنبيا فالذي كان عنده الوديعة ضامن إلا أن يصل إلى الوكيلين لأن الحفظ يتفاوت فيه الناس,(19/156)
ص -77- ... لتفاوتهم في أداء الأمانة فلا يملك الوكيل بوكيل الأجنبي وصار تسليم المودع إلى الأجنبي بعد هذا التوكيل كتسليمه قبله فكان المودع ضامنا إلى أن يصل إلى الوكيلين فحينئذ وصوله إلى يدهما كوصوله إلى يد الوكيل في براءة الدافع له عن الضمان.
ولو وكل رجلا بقبض وديعته فقبض بعضها جاز لأن الوديعة قد تكون بحيث لا يمكن حمل كلها جملة واحدة فيحتاج إلى أن يحملها شيئا فشيئا ولا ضرر على الموكل في قبض الوكيل بعضها إلا أن يكون أمره أن لا يقبضها إلا جميعا فحينئذ لا يجوز له أن يقبض بعضها أو يصير ضامنا له لأن الموكل قيد أمره ونهاه عن القبض إلا بصفة فكل قبض لا يكون بتلك الصفة فهو قبض بغير إذن المالك فكان موجبا للضمان وإن قبض ما بقي قبل أن يهلك الأول جاز القبض عن الموكل لأنه قد اجتمع الكل عند الوكيل واندفع ضرر التفريق عن الموكل فكأنه قبض الكل دفعة واحدة ولو وكله بعبد له يدفعه إلى فلان وديعة فأتاه فقال إن فلانا استودعك هذا فقبله ثم رده على الوكيل فهلك فلرب العبد أن يضمن أيهما شاء لأن الوكيل حين أضاف الإيداع إلى الآمر فقد جعل نفسه رسولا وتبليغ الرسالة يخرج فكان هو في الاسترداد كأجنبي آخر فيصير المودع بالدفع إليه غاصبا وهو بالقبض كذلك فله أن يضمن أيهما شاء.(19/157)
ولو قال له الوكيل قد أمرك فلان أن تستخدمه أو تدفعه إلى فلان ففعل فهلك العبد فالمستودع ضامن إن كان كذب الوكيل لأنه باستعمال ملك الغير بغير إذن المالك أو بدفعه إلى غيره يصير غاصبا ولا يضمن الوكيل شيئا لأنه لم يوجد منه فعل متصل بالعين إنما غره بخبره أو أخبره زورا وذلك غير موجب الضمان عليه كمن قال لغيره هذا الطريق آمن فسلكه فأخذ متاعه لم يضمن المخبر شيئا ولو وكله بقبض وديعة له عند فلان أو عارية ثم مات الموكل فقد خرج الوكيل من الوكالة لانتقال الملك إلى الوارث ولم يوجد من الوارث الرضا بقبضه وإن قال الوكيل قد كنت قبضتها في حياته وهلكت عندي أو دفعتها إلى الميت فالقول قوله بخلاف الدين لأن المودع لو ادعى هنا الرد على الوكيل كان القول قوله وإن لم يصدقه الوكيل فإذا صدقه أولى وفي الدين لو ادعى المديون قضاء الدين وجحد الوكيل لم يقبل قوله فكذلك إذا صدقه الوكيل لأن قول الوكيل ليس بحجة في حق الوارث فتصديقه كتكذيبه في الفصلين.
قال ولو وكل رجل عبد رجل بقبض وديعة له عند مولاه أو عبد غيره فباع المولى العبد أو أعتقه أو كاتب أمة فاستولدها فالوكيل على وكالته لأن ما اعترض لا ينافي ابتداء التوكيل فلا ينافي بقاءه بطريق الأولى قال وإذا وكل رجلا بقبض عبد له عند رجل فقتل العبد خطأ كان للمستودع أن يأخذ قيمة العبد من عاقلة القاتل لأنه مأمور بالحفظ وحفظ الشيء بإمساك عينه في حال قيامه وبدله بعد هلاكه ولأن يد المودع كانت ثابتة على العبد والقاتل جان على حقه بتفويت يده فكان له أن يأخذ القيمة من عاقلته وهو مذهبنا فأما عند(19/158)
ص -78- ... الشافعي رحمه الله فليس للمودع أخذ القيمة لأنه مودع في العين فتتعذر ولايته على العين ولا تتعدى إلى محل آخر فما دامت العين باقية بملك أحد يجوز له استردادها فأما بعد هلاك العين فلا يكون له أن يخاصم في القيمة ثم فرق علماؤنا رحمهم الله بين المودع والوكيل.
قالوا ليس للوكيل بالقبض أن يقبض القيمة لأنه نائب في القبض وإنما أنابه الموكل في قبض العبد دون القيمة وقد يختار المرء بقبض شيء دون شيء لأدائه في الأعيان دون النقود فأما المودع فقد كانت له يد ثابتة على العين فأزالها القاتل بجنايته فله أن يسترد القيمة من عاقلته بحكم يده المعتبرة شرعا حتى لو كان الوكيل قبض العبد ثم قتل عنده كان له أن يأخذ القيمة أيضا لأنه بعد القبض صار مودعا فيه ولو جنى على العبد قبل أن يقبضه الوكيل فأخذ المستودع الأرش فللوكيل أن يقبض العبد ولا سبيل له على الأرش لأنه أمين من جهة المالك في قبض العبد وذلك لا يتعدى إلى قبض الأرش اعتبارا للجزء بالكل.
وكذلك لو كان المستودع أجره بإذن مولاه لم يكن للوكيل أن يقبض الأجر ولو كانت أمة فوطئت بالشبهة لم يكن للوكيل أن يقبض المهر لما بينا أن المالك إنما أنابه مناب نفسه في قبض العبد فلا يصير به نائبا في قبض ما انقلب من العين دراهم.(19/159)
قال ولو وكله بقبض أمة أو شاة فولدت كان للوكيل أن يقبض الولد مع الأم لأن الولد جزء من عينها وقد ثبت له حق القبض في جميع أجزائها بالوكالة فلا يسقط عن هذا الجزء بالانفصال بخلاف ما إذا ولدت قبل الوكالة لأن حق القبض يثبت له بالتوكيل وعنده ذلك الولد شخص وليس بجزء ثم نقول الولد من جنس الأصل ولا يبقى محفوظا إلا مع الأم ومقصود الموكل من هذا التوكيل صيانة ماله فلهذا يتعدى أمره إلى ما يلد بعد ذلك ولا يتعدى إلى الأرش والعقد لأنه ليس من جنس الأصل ويبقى محفوظا منفصلا من الأصل فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يقبض المنفصل قبل الوكالة قلنا نعم ولكن هناك لو كان مقصوده قبض الولد مع الأصل أمكنه أن ينص في التوكيل عليها لكون الولد موجودا عند التوكيل فأما ما ينفصل بعد ذلك فما كان الموكل يعلم به لينص في التوكيل على قبضه فلهذا يتعدى حكم الآمر إليه وثمرة البستان بمنزلة الولد لأنه متولد من الأصل.
ولو كان المستودع باع الثمرة في رؤوس النخيل بأمر رب الأرض لم يكن له أن يقبض الثمن لأن ائتمانه إياه في قبض البستان لا يكون ائتمانا في قبض الدراهم بخلاف الثمار فإن ائتمانه إياه في قبض البستان يكون ائتمانا في قبض الثمار التي تتولد من الأشجار عادة ألا ترى أن ما يحدث بعد قبضه من الثمار يكون أمانة عنده باعتبار رضا المالك به وكما لا يقبض ثمن الثمار لا يقبض ثمن ولد الجارية ولا قيمته إذا أتلفه متلف.
قال وإذا كانت الوديعة مما يكال أو يوزن فوكله بقبضه فاستهلكها رجل وقبض المستودع مثلها من المستهلك ففي القياس ليس للوكيل أن يقبض المثل لأن المثل في ذوات الأمثال كالقيمة فيما لا مثل له وهذا لأنه أذن له في قبض العين فلا يتعدى إذنه إلى عين(19/160)
ص -79- ... أخرى ومثل الشيء غيره ولكنه استحسن فقال له أن يقبض المثل لأن رضاه بأمانته لا يختلف باختلاف العين وإنما يختلف باختلاف الجنس فقد يؤدي الإنسان الأمانة من الجنس والقيمة ليست من جنس العين فائتمانه إياه في العين لا يتعدى إلى ما ليس من جنسه فأما المثل من جنس المتلف فائتمانه إياه في تلك العين يقتضي الائتمان في المثل الذي هو من جنسه وهذا لأن التعيين معتبر فيما يفيد دون ما لا يفيد.
ألا ترى أن تعيين النقود في العقود معتبر في تعيين جنس النقد ولا يعتبر في استحقاق تلك العين حتى كان للمشتري أن ينقد مثله ولم يكن له أن ينقده من جنس آخر فهذا مثله قال أرأيت لو أكلها المستودع أما للوكيل أن يأخذ منه مثلها والجواب فيما استشهد به وفيما استشهد له سواء قال وإذا وكله بقبض وديعة له عند رجل ثم قبضها الموكل ثم استودعها إياه ثانية لم يكن وكيلا بقبضها علم بذلك أو لم يعلم لأن بقبض الموكل تم مقصوده فانعزل الوكيل ولأن إيداعه ثانيا عقد جديد والتوكيل باسترداد وديعة بحكم عقد لا يتعدى إلى استرداد وديعة بعقد آخر كما لا يتعدى من عين إلى عين أخرى.(19/161)
وكذلك لو قبضها الوكيل أولا ودفعها إلى الموكل ثم استودعها الأول لم يكن للوكيل أن يقبضها منه لأن الوكالة قد انتهت باسترداد الوكيل إياها فكان هو في استردادها في المرة الثانية كأجنبي آخر فلرب الوديعة أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن الوكيل لم يرجع على المستودع لأنه في قبضها ما كان عاملا للمستودع وإن ضمن المستودع رجع على الوكيل لأنه مكنها بالضمان وما رضي بقبض الوكيل له وحالهما كحال غاصب الغاصب مع الأول وهذا إذا لم يصدقه على أنه وكيل في المرة الثانية وقد بينا وجوه هذه المسألة فيما سبق ولو وكله بقبض الوديعة وقال اقبضها اليوم ففي القياس ليس له أن يقبضها غدا لأن الوكالة تتوقت بالتوقيت فإذا وقتها باليوم انتهت الوكالة بمضي اليوم كما لو جعل أمر امرأته بيدها اليوم لم يكن لها أن تختار نفسها غدا ولكنه استحسن فقال ذكر اليوم ليس لتوقيت الوكالة بل للتعجيل في قبضه بمنزلة قوله اقبضها الساعة ولو قال ذلك كان له أن يقبضها بعد تلك الساعة فكذلك هنا.
توضيحه أنه لو قال اقبضها كان له أن يقبضها متى شاء فقوله اليوم سكوت عما بعده وذلك لا يكون عزلا عما كان ثابتا له بمطلق الأمر بخلاف قوله لامرأته أمرك اليوم بيدك لأنه لو قال أمرك بيدك اليوم كان مقصورا على المجلس فقوله اليوم لمد حكم الأمر إلى آخر اليوم فإذا مضى اليوم خرج الأمر من يدها لأنه ليس في الغد أمر ثابت لها ولو قال اقبضها بمحضر من فلان فقبضها وهو غير حاضر جاز لما قلنا أنه لو قال اقبضها كان له أن يقبضها سواء كان فلان حاضرا أو لم يكن فقوله بمحضر من فلان سكوت في غير هذه الحال فيبقى ما كان على ما كان. ألا ترى أنه لو قال اقبضها بشهود كان له أن يقبضها بغير شهود بخلاف ما لو قال لا تقبضها إلا بمحضر من فلان فإنه هناك نهاه عن القبض,(19/162)
ص -80- ... واستثنى قبضا بمحضر من فلان وكل قبض لا يكون بمحضر من فلان فهو مما يتناوله النهي لعمومه دون الإذن.
قال وإذا قبض رجل وديعة رجل فقال رب الوديعة ما وكلتك وحلف على ذلك وضمن المستودع رجع بالمال على القابض إن كان عنده بعينه لأنه ملكه بأداء الضمان وإن قال هلك مني أو دفعته إلى الموكل فهو على التقسيم الذي قلنا إن صدقه المستودع بالوكالة لم يرجع عليه بشيء وإن كذبه أو لم يصدقه ولم يكذبه أو صدقه وضمنه كان له أن يضمنه لما قلنا ولو وكل رجلا بقبض دابة استعارها من رجل فقبضها الوكيل وركبها فهو ضامن لها لأن المالك إنما رضي بركوب المستعير دون الوكيل والركوب يتفاوت فيه الناس فرب راكب يروض الدابة ركوبه والآخر يتلف الدابة ركوبه فلهذا كان الوكيل ضامنا ولا يرجع به على الموكل لأنه في الركوب ما كان عاملا له ولا كان مأمورا به من جهته قالوا وهذا إذا كانت الدابة بحيث تنقاد للسوق من غير ركوب فإن كانت لا تنقاد فلا ضمان على الوكيل لأن صاحب الدابة لما دفعها إلى الوكيل ليأتي بها المستعير مع علمه أنها لا تنقاد إلا بالركوب فقد صار راضيا بركوبه.(19/163)
قال وإذا وكل المكاتب وكيلا بقبض وديعة أو دين له على رجل ثم رد المكاتب في الرق فقبضها الوكيل جاز وكذلك لو كان الموكل عبدا تاجرا فحجر عليه مولاه لأنه فيما باشر الإيداع بنفسه أو المعاملة حق القبض إليه بعد الحجر حتى لو قبضه بنفسه جاز فكذلك يبقى الوكيل على وكالته ولو أن رجلا وكل رجلا بقبض وديعة له وجعل له أجرا مسمى على أن يقبضها فيأتيه بها فهو جائز لأنه استأجره لعمل غير مستحق عليه وهو حمل الوديعة إليه وذلك عمل معلوم في نفسه فيجوز الاستئجار عليه فإن كان دينا يتقاضاه لم يجز إلا أن يوقت له أياما لأن عمل التقاضي ليس بمعلوم المقدار في نفسه فلا يجوز الاستئجار عليه إلا ببيان المدة كالبيع والشراء ولو وكله بالخصومة وجعل له أجرا كان فاسدا إلا أن يوقت أياما لأنه استأجره لعمل غير معلوم في نفسه فلا يصح إلا ببيان المدة وإن وكل الوصي وكيلا بدفع وديعة أو دين أو بقبضهما كان جائزا لأن الوصي في التوكيل قائم مقام الموصي والله أعلم.
باب الوكالة في الهبة
قال رحمه الله ويجوز للواهب أن يوكل وكيلا بالتسليم لأنه عمل تجزي فيه النيابة وإذا وقع فيه الغلط يمكن تداركه فيقوم فعل الوكيل فيه مقام فعل الموكل وكذلك يجوز للموهوب له أن يوكل بالقبض والصدقة نظير الهبة في ذلك فإن التسليم والقبض في ذلك بمنزلة الإيجاب والقبول في البيع والشراء والتوكيل به يصح وإذا وكل الواهب بالتسليم والموهوب بالقبض وقاما جميعا فامتنع وكيل الواهب من التسليم فخاصمه وكيل الموهوب له وأقام البينة أن صاحب العين وكله بدفعها إليه قبلت البينة وأجبر الوكيل على دفعه لأن الثابت(19/164)
ص -81- ... بالبينة كالثابت بإقرار الخصم فمراده من هذا الإخبار أنه لا يمكنه أن يمنع العين لا أن يجبره على مباشرة فعل فإن وكيل الموهوب له أن يقبضه بأمر الواهب إذا لم يمنعه أحد من ذلك فهو بهذه البينة يثبت عليه أنه ليس له حق المنع فإذا ثبت ذلك قبضه وكيل الموهوب له بنفسه وإذا ادعى مدع في ذلك دعوى لم يكن واحد من هذين الوكيلين خصما في خصومته لأن كل واحد منهما أمين في هذه العين والأمين لا يكون خصما لمدعي الأمانة ما لم يحضر صاحبها وليس لوكيل الواهب أن يرجع في الهبة سواء كان وكيلا بالتسليم أو بعقد الهبة لأنه سفير ومعبر فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل وتكون هذه الهبة تبرعا من جهة الموكل دون الوكيل فكما باشر عقد الهبة وسلمت انتهت الوكالة والتحق بأجنبي آخر فلا يملك الرجوع لأن ثبوت حق الرجوع في الهبة لفوات ما هو المقصود وهو العوض وهذا هو المقصود للموكل دون الوكيل.
قال ولو أراد الواهب أن يرجع في الهبة وهي في يد وكيل الموهوب له لم يكن له أن يرجع ولم يكن الوكيل خصما له فيه لأن يد الوكيل كيد الموكل والعوض مقصود من جانب الموكل دون الوكيل فالقبض ثابت محض فانتهت الوكالة بقبضه ألا ترى أنه لا يستغنى عن الإضافة إلى الموكل فيقول سلم إلى ما وهبت لفلان ولا يقول ما وهبته لي وكذلك الوكيل بقبول الهبة لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل بأن يقول هب لفلان كذا حتى لو قال هب لي كان العقد للوكيل دون الموكل بخلاف الوكيل بالشراء إذا قال بع مني لأن الانتقال إلى الموكل هناك يوجب ضمان اليمين على الموكل للوكيل وليس في عقد الهبة ضمان الثمن فلهذا جعل ملتمسا العقد لنفسه إذا لم يضفه إلى الآمر.(19/165)
قال ولو وهب رجلان لرجل شيئا ثم وكلا رجلا بأن يدفعه إليه جاز وكذلك لو وكلا رجلين أو وكل كل واحد منهما رجلا على حدة لأن كل واحد من الوكيلين نائب عن موكله ويجوز نيابة الواحد عن الواحد وعن الاثنين فإن دفعه أحدهما إليه أو قبضها من غير دفع جاز لأنهما حين وكلا هذين بدفعها فقد سلطا الموهوب له على قبضها وقد بينا أنه ينفرد بالقبض عند وجود التسليط من الواهب تصريحا أو دلالة.
قال وإذا وهب الذمي للذمي خمرا أو خنزيرا فوكل الموهوب له بقبضها مسلما أو وكل الواهب بدفعها إلى الموهوب له مسلما فهو جائز لأن الوكيل غير مملك ولا يتملك بل هو نائب في القبض أمين في المقبوض والمسلم يجوز أن يكون نائبا عن الذمي أمينا له في قبض الخمر والخنزير قال ولو وكل الموهوب له رجلين بقبض الهبة فقبضها أحدهما لم يجز لأنه رضي بأمانتهما فلا يكون راضيا بأمانة أحدهما لأن الموهوب له يملك القبض بنفسه من غير دفعها وكذلك عند دفع أحدهما وعلى هذا لو وكل الوكيل غيره بدفعها جاز ولو وكل وكيل الموهوب له يقبضها لم يجز إلا أن يكون الموكل قال له ما صنعت من شيء فهو جائز فحينئذ له أن يوكل غيره بذلك لأنه أجاز صفة على العموم والتوكيل من صفته.(19/166)
ص -82- ... قال وإذا وكل رجل رجلا أن يهب الثوب لفلان على عوض يقبضه منه ففعل ذلك غير أن العوض أقل من قيمة الهبة فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله في اعتبار إطلاق اللفظ فإن اسم العوض يتناول القليل والكثير ولا يجوز في قولهما إلا أن يكون العوض مثل الموهوب أو دونه بما يتغابن الناس في مثله بناء على أصلهما في تقييد مطلق اللفظ باعتبار العادة قال وإذا وكل الموهوب له وكيلا بأن يعوض ولم يسمه فدفع عوضه من عروض الموهوب له لم يجز لأن ما أمره بدفعه مجهول جهالة مستدركة لا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود الموكل فكان التوكيل باطلا بمنزلة قوله بع شيئا من مالي واستبدل شيئا إلا أن يكون قال له عوض له من مالي ما شئت فحينئذ يكون له أن يعوض ما شاء لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم.
وإن قال له عوض عني من مالك على أني ضامن له فعوضه عوضا جاز ورجع بمثله على الآمر إن كان له مثل وبقيمته إن لم يكن له مثل لأنه باشتراط الضمان على نفسه يصير مستقرضا منه بعوض له من ملك نفسه والمستقرض مضمون بالمثل إن كان من ذوات الأمثال أو بالقيمة إن لم يكن من ذوات الأمثال وجهالة ما يعوضه هنا لا تمنع صحة الأمر لأنه في أصل التعويض متصرف في ملك نفسه وتعيينه في ملك نفسه صحيح وإنما يرجع عليه بحكم الضمان والجهالة لا تمنع صحة الضمان إذا كان المضمون له والمضمون عنه معلومين والعوض وإن كان مجهولا إلا أن ذلك لا يمنع صحة الاستقراض إذا كان عند الإقراض معينا معلوما فإن هناك هو في أصل التعويض نائب فلا يملك التعيين إلا على وجه أن يكون موافقا لمقصود الموكل وذلك لا يحصل مع جهالة الجنس.(19/167)
قال ولو أمره أن يعوضه من ملك نفسه ولم يشترط الضمان على نفسه فعوضه لم يرجع على الآمر بشيء لأن التعويض غير مستحق عليه فلا يكون هو مسقطا عنه بهذا التعويض ما هو لازم عليه بخلاف المأمور بقضاء الدين من ملك نفسه فإن الدين مستحق على الآمر هناك فإذا أمره أن يسقط عن ذمته ما هو مستحق عليه ثبت له حق الرجوع عليه بما يؤدي من ملك نفسه ولأن المديون يملك ما في ذمته بقضاء الدين والمعوض عن الهبة لا يملك بالتعويض شيئا فلهذا فرقنا بين الفصلين قال وللواهب أن يوكل وكيلا في الرجوع بالهبة لأنه يملك المطالبة به بنفسه ويحكم به الحاكم عند طلبه فكذلك عند طلب وكيله له.
قال ولو وكل رجلين بذلك لم يكن لأحدهما أن ينفرد به دون صاحبه لأنهما وكيلان بالقبض فإن الرجوع في الهبة لا يتم إلا بإثبات اليد على الموهوب وقد بينا أن الوكيلين بالقبض لا ينفرد أحدهما به دون صاحبه قال ولو وكل رجلا أن يقبض له دينا من فلان فيدفعه إلى فلان هبة منه له فهو جائز لأنه وكله بشيئين بقبض الدين ثم بعقد الهبة في المقبوض ويجوز التوكيل بكل واحد منهما على الانفراد فكذلك يجوز التوكيل بهما وتوكيله بهبة دين يقبضه من مديونه كتوكيله بهبة عين يدفعها إليه فيصح كل واحد منهما لأنه(19/168)
ص -83- ... يضيفه إلى ملك نفسه وكذلك لو أمر المديون أن يدفع إليه فدفعه فهو جائز لأن أمره إياه بالدفع يكون تسليطا للآخر على القبض فإن قال الغريم قد دفعت إليه فصدقه الموهوب له فهو جائز وإن كذبه لم يصدق الغريم لأن دعواه الدفع إلى الموهوب بمنزلة دعواه الدفع إلى الواهب فإن صدقه ثبت الدفع وإن كذبه لم يثبت لأن الدين مضمون في الذمة لا يستفيد البراءة عنه بمجرد قوله.
قال ولو وكل وكيلا بقبضه منه ودفعه إلى الموهوب له فقال الغريم قد دفعه إلى الوكيل وقال الوكيل قد دفعته إلى الموهوب له فالغريم والوكيل بريئان فتصديق الوكيل لاختياره بأداء الأمانة ولكن لا يصدق الوكيل على الموهوب له لأن قول الأمين إنما يقبل في براءته عن الضمان لأنه ادعى ثبوت وصول شيء إلى غيره فلا يثبت بقوله وصول الهبة إلى الموهوب له حتى لا يرجع الواهب عليه وكذلك الرجل يهب ما على مكاتبه لرجل ويأمر آخر بقبضه ودفعه إلى الموهوب له فإن دين الكتابة في هذا بمنزلة غيره من الديون في الحكم والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في العتق والكتابة(19/169)
قال رحمه الله رجل وكل رجلا بعتق عبده على مال أو غير مال فله أن يعتقه في ذلك المجلس أو بعده لأن التوكيل مطلق وهذا بخلاف ما لو قال لعبده أعتق نفسك لأن ذلك تمليك وليس بتوكيل لأن العبد في العتق عامل لنفسه فلا يكون نائبا عن غيره وجوب التمليك يقتصر على المجلس ألا ترى أن هناك لا يملك الرجوع عنه قبل أن يعتق العبد نفسه وهنا يملك إخراج الوكيل مثل الوكالة قبل أن يعتقه ثم ليس للوكيل أن يقبض المال هنا لأن العتق تبرع وإن كان بمال ألا ترى أن الأب والوصي لا يملكانه في عبد اليتيم وقد بينا أن الوكيل بالتبرع نائب محض وأن المعتق هو المولى دون الوكيل ألا ترى أن الولاء يثبت للمولى والشرع إنما أثبت الولاء لمن أعتق ولأنه إنما يطالب بقبض البدل من تتوجه عليه المطالبة بتسليم المبدل والوكيل بالعتق لا يكون مطالبا بشيء من جهة العبد ولا يكون إليه قبض البدل بل المولى هو الذي يقبض لأن مباشرة نائبه كمباشرته بنفسه.
قال ولو وكله أن يعتقه فدبره لم يصح لأنه تصرف سوى ما أمره به فإن التدبير إضافة العتق إلى ما بعد الموت أو تعليق العتق بالموت والمأمور بالتنجيز لا يملك التعليق ولا الإضافة وعلى هذا لو قال أنت حر غدا أو إن دخلت الدار أو أعتقه على مال لأنه تعليق بشرط قبوله فيكون بمنزلة تعليقه بشرط آخر ولأنه مأمور بالتبرع المحض وربما يكون له فيه مقصود يفوت ذلك باشتراط العوض وهو الجواز عن كفارته وكذلك لو كاتبه فإن الكتابة عقد آخر سوى ما أمره به فلهذا لم يصح منه وكذلك لو وكل آخر بإعتاقه لأن مطلق التوكيل لا يثبت للوكيل ولاية توكيل الغير به فإنه يساوي تأثيره بنفسه في حق الغير وذلك لا يصح ولأن التوكيل بالعتق ليس بإعتاق وهو إنما أنابه مناب نفسه في الإعتاق خاصة.(19/170)
ص -84- ... قال ولو وكله أن يعتقه غدا فأعتقه اليوم كان مخالفا لأنه أضاف وكالته إلى وقت في المستقبل فلا يصير وكيلا قبل مجيء ذلك الوقت قال ولو وكله أن يعتقه اليوم فأعتقه غدا جاز استحسانا وقد تقدم نظيره وقد بينا أن المقصود بذكر اليوم التعجيل وهو لا يفسد الوكالة بالوقت بمنزلة قوله أعتقه الساعة فإنه يصير وكيلا بعتقه ما لم يعزله عنه قال ولو وكل صبيا أو عبدا أن يعتق عبده على مال أو غير مال أو كاتبه فهو جائز لأنه من أهل العبادة ومباشرة هذا العقد إنما تكون بالعبادة.
قال ولو وكله أن يعتقه ألبتة على مال أو غير مال ثم دبره المولى فالوكيل على وكالته وكذلك لو كانت أمة فاستولدها المولى لأن التدبير والاستيلاد لا يمنعان صحة الإعتاق بجعل أو غيرجعل فلم يخرج المحل بتصرف المولى من أن يكون محلا لما فوضه إلى الوكيل قال ولو وكله أن يعتق أمته فولدت قبل أن يعتقها لم يكن له أن يعتق ولدها لأنه أمره بعتق شخص واحد فلا يملك عتق شخصين ولأن الوكالة بالعتق ليست بحق مستحق في الأم وإنما يسري على الولد ما كان مستحقا في الأم قبل الانفصال للولد عنها
ألا ترى أن الوصية لا تسري إلى الولد المنفصل قبل موت الموصي لهذا المعنى والكتابة والبيع على هذا فإن التوكيل بهما ليس بحق مستحق في الأم فلا يسري إلى الولد المنفصل قبل ثبوت الاستحقاق في الأم.(19/171)
قال ولو وكله أن يعتق عبده أو مكاتبه أو يبيعه ثم باعه المولى فقد خرج الوكيل من الوكالة لأن الموكل بعد البيع لا يملك فيه مباشرة التصرف الذي وكل الوكيل به فإقدامه على البيع يتضمن خروج الوكيل من الوكالة حكما فإن رجع إلى ملك المولى فإن كان رجوعه بسبب هو فسخ للبيع من الأصل فقد عاد إليه قديم ملكه وكان الوكيل على وكالته لأن رجوعه من الوكالة كان حكما لزوال ملكه فلا يظهر بعد عود ذلك الملك إليه وإن كان بسبب هو تمليك فسد من وجه كالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء قاض أو بالإقالة أو الميراث لم تعد الوكالة لأن تعلقها كان بذلك الملك والعائد ملك غير ذلك الملك.
قال ولو باشره أهل الحرب فأدخلوه دارهم ثم رجع إلى الموكل بملك جديد بأن اشتراه منهم لم تعد الوكالة ولو أخذه المشتري منهم بالثمن أو ممن وقع في سهمه من الغانمين بالقيمة فهو على وكالته لأنه بالأخذ بهذا الطريق يعيده إلى قديم ملكه وقد كانت الوكالة متعلقة بذلك الملك فإذا عاد عادت الوكالة
قال ولو وكله أن يعتق أمته ثم أعتقها المولى فارتدت ولحقت بدار الحرب فأسرت وملكها المولى لم يجز عتق الوكيل فيها لأنه كان مأمورا بإزالة رق كان فيها وقد زال ذلك بإعتاق المولى وهذا الحادث رق متجدد السبب فلا يكون هو وكيلا بإزالته إلا بتوكيل مستأنف قال ولو أمره أن يعتق عبده فقال الوكيل أعتقته أمس وجحد ذلك رب العبد لم يصدق الوكيل على ذلك لأن الوكالة بالعتق تنتهي بالفراغ منه فكيف يقبل إقراره وليس هو بوكيل في الحال بخلاف البيع والشراء فإن الوكالة(19/172)
ص -85- ... تبقى بعد المباشرة لتعلق حق العقد بالوكيل توضيحه أن الوكيل بالعتق معبر عن الموكل وإنما أمره بأن يعبر عنه إنشاء العتق دون الإقرار وكان هو في الإقرار كأجنبي آخر سوى المأمور به فلا يصير به ممتثلا للآمر ويبقى المأمور على وكالته.
قال ولو وكله أن يعتقه فقبل ذلك ثم أبى أن يعتقه لم يجبر عليه لأن الوكيل معير لمنافعه والمعير غير مجبر على تسليم ما أعاره ولو قال له الوكيل أنت حر إن شئت فقال قد شئت لم يعتق لأنه مأمور بالتنجيز وقد أتى بالتعليق بمشيئة أو بتمليك الآمر من العبد وكل واحد منهما غير مأمور به ولكنه يبقى على وكالته فإذا أعتقه بعد ذلك كان صحيحا منه قال وإن أعتقه بغير لسان العربية جاز لأن المقصود إيصال العبد إلى شرف الحرية وذلك يحصل بأي لسان كان وبأي لفظ من العربية يكون كقوله أنت عتيق أو معتق وحررتك وكما يحصل ذلك باللسان يحصل بالكتاب أيضا حتى إذا كتب بعتقه جاز ألا ترى أنه يشتريه مكفرا فكذلك الوكيل يصير به ممتثلا.
قال وإن قال له أعتق نفسك بما شئت فأعتق نفسه على درهم فهو جائز إن رضي المولى بذلك لأن تفويضه في حق البدل غير معتبر لأنه مجهول الجنس والقدر فلا يقدر العبد على تحصيل المقصود للمولى يبقى قول العبد أعتقت نفسي بدرهم فيوقف ذلك على رضا المولى به كما لو ابتدأ العبد بهذا الكلام
وكذلك لو قال بع نفسك من نفسك بما شئت فباع نفسه من نفسه جاز ذلك إذا رضي المولى به والطلاق في هذين الوجهين قياس العتق ولا يقال أنه فوض الأمر في البدل إلى رأيه وهو لا يصلح نائبا عن المولى في قبول البدل على نفسه فكيف يصلح نائبا في تعيين جنس البدل ومقداره.(19/173)
قال وإن وكله أن يعتق عبده على مال فأعتقه على درهم جاز في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله في اعتبار إطلاق اللفظ ما لم يقم دليل التقييد ولا يجوز عندهما إلا بمثل القيمة أو بنقصان يسير بناء على أصلهما في ثبوت التقييد بدليل العرف قال وإن وكله أن يعتقه على شيء فما أعتقه عليه من أصناف المال فهو جائز أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر كما هو أصله في الوكيل بالبيع وعندهما هناك يتقيد مطلق اللفظ بالبيع لاعتبار العرف ولا عرف هناك فإن الإعتاق بغير النقود من الأموال متعارف كالإعتاق بالنقود فلهذا جاز له أن يعتقه على أي صنف من المال يسميه وإن اختلف المولى والوكيل في جنس ما أمره به من البدل أو في مقداره فالقول قول المولى لأن الإذن يستفاد من جهته فلا يثبت في حقه إلا ما يقربه.
قال وإن وكله أن يعتقه على جعل فأعتقه على خمر أو خنزير فالعتق جائز وعلى العبد قيمة نفسه لأنه امتثل أمره بما صنع فإن العتق بالخمر لو باشره المالك كان عتقا بعوض لقيام شبهة المالية في الخمر وعلى العبد قيمة نفسه لفساد التسمية فكذلك إذا باشره الوكيل ولو أعتقه على ميتة أو دم لم يجز لأن هذا العتق لو باشره المالك كان عتقا بغير عوض إذ(19/174)
ص -86- ... ليس في الميتة والدم شبهة المالية فبتسميته لا يصير ممتثلا لانعدام الرضا بالعتق مجانا والموكل إنما أمره بعتق بعوض فليس له أن يعتق بغير عوض قال ولو أعتقه على حكم العبد أو على حكم الوكيل جاز العتق وعليه قيمته لأن هذا العتق لو باشره الموكل كان عتقا بعوض فكذلك إذا باشره الوكيل غير أن ما يحكم به العبد أو الوكيل مجهول الجنس والقدر فلا تصح التسمية وعند فساد التسمية يجب على العبد قيمة نفسه ولكن لاشتراط أصل المال بهذا اللفظ ينعدم الرضا بالعتق مجانا.
قال ولو قال أعتقه على هذا العبد فأعتقه عليه فإذا هو حر جاز العتق وعليه قيمة نفسه لأن فعل الوكيل كفعل الموكل بنفسه حين امتثل أمره فيما صنع وقد سمي ما هو مال وهو العبد فإذا ظهرت حريته تبين به فساد التسمية فعليه قيمة نفسه ولو أعتقه على عبد واستحق جاز العتق وعليه قيمة نفسه في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله قيمة العبد المستحق وهي معروفة في كتاب البيوع أن في قوله الآخر بيع العبد من نفسه بمال عند الاستحقاق ثم حكم مبادلة المال بالمال وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله في حكم مبادلة المال بما ليس بمال عند الاستحقاق أو الرد بالعيب.
قال وإن وكله أن يعتقه على جعل فأعتقه على شاة مذبوحة بعينها أو على دن خل بعينه فإذا الشاة ميتة والخل خمر فالعتق جائز في الخمر وعلى العبد قيمة نفسه والعتق باطل في الشاة لأنه ليس في الميتة شبهة المالية فلا يصير بها العتق بعوض بخلاف الخمر ففيها شبهة المالية فيكون العتق بعوض عند ذكر الخمر فليس في تسمية الشاة ما يوجب اشتراط العوض لأن اسم الشاة يتناول الميتة كما يتناول المذبوحة بخلاف تسمية العبد فإن اسم العبد لا يتناول إلا ما هو مال فبذكره يثبت اشتراط العوض ويصير الوكيل ممتثلا أمره.(19/175)
قال وإذا وكل الكافر المسلم بعتق عبده على جعل فأعتقه على خمر أو خنزير جاز لأن الوكيل بالعتق بمال نائب محض لا يتعلق به شيء من الحقوق ولا يثبت له حق المطالبة بالبدل فيكون المعتبر فيه دين من وقع له العقد وهو المولى كما في النكاح والخلع والخمر والخنزير مال متقوم في حق الكافر فلهذا صحت التسمية والكتابة في هذا قياس العتق بالجعل لأن الوكيل بالكتابة سفير ومعبر أيضا قال وإذا وكل العبد رجلا أن يشتري له نفسه من مولاه ويسأله له العتق على مال ففعل ذلك الوكيل والمولى فالعتق جائز والمال على العبد وليس على الوكيل شيء هكذا ذكر هنا وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب أن المال على الوكيل وهكذا أجاب في الجامع إلا أن هنا في بعض النسخ قال ويسأله العتق وفي بعض النسخ قال يسأله له العتق فقال بعض مشايخنا رحمهم الله إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فقوله يسأله العتق تفسير لأول كلامه وبيان أنه جعل رسولا إلى المولى والمطالبة بالبدل لا تتوجه على الرسول في شيء من العقود فأما إذا وكله العبد فالجواب(19/176)
ص -87- ... على ما قال في الجامع أن الوكيل هو المطالب بتسليم البدل وفي المسألة روايتان وعيسى بن إبان رحمه الله قال في الصحيح ما ذكر هنا دون ما قاله في الجامع لأن الوكيل من جانب العبد في العتق بجعل يكون سفيرا ومعبرا بمنزلة الوكيل من جانب المولى.
ألا ترى أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الآمر وأنه ليس إليه من قبض المعقود عليه شيء فلا تتوجه المطالبة بتسليم البدل كالوكيل من جانب المولى وجه رواية الجامع أن توكيله بشراء العبد لنفسه بمنزلة توكيله بشراء العبد لغيره فكما أنه هناك يصير المطلوب بتسليم البدل فكذلك هنا بخلاف الوكيل من جانب المولى فإن الذي في جانب المولى إعتاق بمال يشترطه والذي في جانب العبد التزام المال فالوكيل في جانب المولى يكون وكيلا بالإعتاق فكان معبرا لا تتعلق به حقوق العقد والوكيل في جانب العبد وكيل بالتزام المال فيكون بمنزلة الوكيل في البيع والشراء فما زاد على هذا من البيان فقد أمليناه في شرح الجامع.
قال ولو وكله وهذا بناء على أصلين أحدهما أن العتق يتجزأ عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يتجزأ
والثاني أن عند أبي حنيفة رحمه الله تسمية النصف غير تسمية الكل والوكيل متى زاد على ما أمر به وأتى بغيره كان مخالفا فهنا الموكل أمره بإعتاق النصف وهو قد سمي الكل فصار مخالفا فلهذا لا يعتق منه شيء
وعلى قولهما العتق لا يحتمل التجزي فالتوكيل بإعتاق النصف وإعتاق الكل سواء ويكون هو ممتثلا أمر الموكل في إعتاق الكل فلهذا عتق كله.(19/177)
قال ولو وكله أن يعتق العبد كله فأعتق نصفه عتق النصف في قول أبي حنيفة رحمه الله كما لو أعتق الموكل بنفسه نصفه وهذا لأن الوكيل أتى ببعض ما أمره به فلم يكن مخالفا فيعتق نصفه وعلى العبد أن يسعى في نصف قيمته وعندهما يعتق كله ولا يسعى في شيء لأن العتق عندهما لا يتجزأ. قال وإذا وكله أن يعتقه على جعل ولم يسم شيئا فأعتقه على ألف جاز ذلك استحسانا وعليه ألف درهم إن كان مثله يعتق على مثل ذلك وفي القياس لا يصح إعتاقه لأن البدل المسمى مجهول جهالة متفاحشة فإن اسم الألف يتناول كل معدود مالا كان أو غير مال فلم تصح التسمية وإن لم تصح كان هذا بمنزلة عتق بغير جعل فيكون باطلا من الوكيل ولكنا استحسنا فقلنا الوكيل ممتثل أمره فإن الموكل بنفسه لو أعتقه على هذا كان عتقا بعوض وكان صحيحا فكذلك الوكيل إذا فعله وهذا لأن مطلق التسمية محمول على المتعارف فيما بين الناس كما أن مطلق تسمية النقد معروف فكذلك مطلق تسمية الألف فإذا كان قيمة العبد ألف درهم أو مثلها فالظاهر أن المراد بذكر الألف هو الألف درهم لأن المعتاد هو الإعتاق بمثل القيمة أو أقل فصار الثابت بالعادة كالثابت بالنص.
قال ولو وكله أن يكاتب عبده فكاتبه لم يكن للوكيل أن يقبض المكاتب لأنه في العقد سفير ومعبر وهو لا يستغنى عن الإضافة إلى الموكل ولا تتوجه عليه المطالبة بتسليم العوض فلا يكون إليه من قبض البدل شيء وإن دفعها إليه المكاتب لم يبرأ لأن وكالته قد(19/178)
ص -88- ... انتهت بمباشرة العقد فكان هو في قبض البدل كأجنبي آخر فلهذا لا يستفيد المكاتب البراءة بالدفع إليه.
قال ولو وكله أن يكاتب عبده فكاتبه على شيء لا يتغابن الناس في مثله جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله في اعتبار الإطلاق ما لم يقم الدليل المقيد كما لو وكله ببيعه ولم يجز عندهما لأن التقييد عندهما يثبت بدلالة العرف وإن كاتبه على غنم أو صنف من الثياب أو الموزون أو من المكيل جاز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يشكل بناء على مذهبه في التوكيل بالبيع وعندهما الاختصاص بالنقد هناك بدليل العرف ولا يوجد ذلك هنا فالإعتاق بغير النقود من الأموال متعارف وكذلك الخلع والكتابة.
قال ولو وكله أن يكاتب عبدين له فكاتب أحدهما جاز لأنه أتى ببعض ما أمر به ولا ضرر فيه على الموكل فيكون هذا بمنزلة الوكيل ببيع العبدين يبيع أحدهما فإنه يجوز على الآمر فكذلك هنا قال ولو وكله أن يكاتبهما مكاتبة واحدة ويجعل كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه فكاتب أحدهما لم يجز لأنه ترك شرطا فيه منفعة للموكل وهو أن يصير كل واحد منهما مطالبا بجميع البدل ولأن العقد بهذه الصفة لا يصح إلا أن كاتبهما معا فكان الموكل بالتنصيص على هذا الوصف كالشارط عليه أن لا يفرق العقد فإذا فرق كان مخالفا.
ألا ترى أنه لو قال بعه من فلان برهن فباعه بغير رهن لم يجز وكذلك لو قال بعه من فلان بكفالة فباعه من غير كفاله لم يجز بخلاف ما لو قال بعه بشهود فباعه بغير شهود حيث يجوز لأن الرهن والكفالة إنما يشترطان في العقد ويصير مستحقا بالشرط وحرف الباء للوصل فإنما أقر أن يصل شرط الكفالة والرهن بالبيع فإذا لم يفعل كان مخالفا لأمره فأما الشهود فلا يتحقق اشتراطهم في البيع فلا يخرج هو بهذا اللفظ من أن يكون مأمورا بمطلق البيع.(19/179)
قال ولو وكله أن يكاتب عبده ثم كاتبه المولى فعجز فليس للوكيل أن يكاتبه لأن ما قصده الموكل بتصرف الوكيل قد حصل له بمباشرته فتكون مباشرته عزلا للوكيل ثم بعجز المكاتب لا تنفسخ الكتابة من الأصل ولكن ترتفع في الحال لأن السبب مقصور على الحال وهو العجز عن تسليم البدل بعد توجه المطالبة به فلهذا لا تعود وكالة الوكيل قال ولو وكله أن يكاتبه أو يبيعه ثم قتل العبد رجلا خطأ ثم فعل الوكيل ذلك وهو يعلم أو لم يعلم جاز ما صنعه الوكيل لأن استحقاق العبد بجنايته لا يمنع الموكل من التصرف فيه بالبيع والكتابة فلا يوجب عزل الوكيل أيضا وابتداء التوكيل صحيح بعد جناية العبد فلأن يبقى أولى ثم على المولى قيمته ولا يصير مختارا للدية وإن علم بذلك لأن التوكيل قبل الجناية وهو لا يصير مختارا بفعل منه سبق جناية العبد ولم يوجد بعد الجناية من المولى فعل يصير به مختارا ولكنه صار مستهلكا للعبد فعليه قيمته كما لو دبره قبل جنايته.
وأشار في موضع من الزيادات إلى أن استمرار الوكالة بعد العلم بالجناية بمنزلة إنشاء التوكيل لكونه متمكنا من العزل فيصير به مختارا للفداء وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح(19/180)
ص -89- ... الزيادات ولو قال بع عبدي هذا أو كاتبه أو أعتقه على مال فأي ذلك فعل الوكيل جاز لأنه خيره بين التصرفات الثلاثة وإن قال كاتب عبدي هذا أو هذا فله أن يكاتب أيهما شاء لأن المولى خيره بينهما بحرف أو فإن كاتب كل واحد منهما على حدة جازت مكاتبة الأول لأنه وكيل بكتابة أحدهما
فإذا كاتب الأول انتهت وكالته وليس له أن يكاتب الآخر بعد ذلك وإن كاتبهما معا فكتابتهما باطلة إذا جعل النجوم واحدة لأن هذا بمنزلة عقد واحد.(19/181)
ألا ترى أنه لا يقبل أحدهما دون الآخر وهو غير مأمور بمكاتبتهما جميعا فإذا تعذر تنفيذ العقد فيهما ولا وجه لتصحيح واحد منهما لأنهما في حكم هذا العقد كشخص واحد تعينت جهة البطلان في هذا العقد وإن لم يجعل النجوم واحدة فالخيار إلى المولى يختار أيهما شاء بحصته من ذلك ويحبس الآخر لأن تصحيح العقد في أحدهما ممكن فإن العقد متفرق فهو في كتابة أحدهما ممتثل أمر المولى وفسخ العقد في أحدهما ويكون الخيار إلى المولى لأن الوكيل معبر عنه فلا يكون إليه من خيار البيان شيء كالطلاق والعتاق وهذا لأن الكتابة في حكم الإسقاط دون التمليك لأنه فك الحجر وإسقاط حقه من ملك اليد حتى يصير للمكاتب كما أن في الإعتاق إسقاط الحق عن أصل ملكه لأن يكون تمليكا من العبد والجهالة إنما تمنع الصحة في التمليكات لا في الإسقاطات فأما في النكاح لو وكله أن يزوجه أي هاتين فزوجهما منه لم يصح نكاح واحدة منهما لأن النكاح من عقود التمليكات فلا يمكن تصحيحه فيهما لأنه مأمور بتزويج إحداهما ولا يمكن تصحيحه في إحداهما بعينها لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا في إحداهما بغير عينها لأن النكاح لا يثبت في المجهول وعن أبي يوسف رحمه الله أنه جعل النكاح كالكتابة فقال يجوز في إحداهما بغير عينها والبيان إلى الزوج وهو قوله الأول وقد رجع عنه فأما في البيع إذا باعهما جميعا فلا يجوز البيع في واحد منهما لأن البيع تمليك لا يثبت في المجهول ولا يمكن تصحيحه فيها لأنه لم يكن مأمورا ببيعها.(19/182)
قال ولو وكله أن يكاتب عبده يوم الجمعة فقال الوكيل يوم السبت قد كاتبته أمس بعد الوكالة على كذا وكذبه المولى فالقول قوله في القياس لأنه أقر بالعقد في حال لا يملك استئنافه فإن بمضي يوم الجمعة قد انتهت وكالته ولكن استحسن فجوز إقراره فكان مسلطا على مباشرة العقد في وقت معلوم وقد أخبر بما سلطه عليه وأدى الأمانة على وجهها وهذا لأن التوقيت من المولى كان في مباشرة العقد لا في الإقرار به فجعل في حق الإقرار كأن التوكيل كان مطلقا فإذا أقر به كان إقراره صحيحا وعلى هذا البيع والإجارة والخلع والعتق على مال.
قال ولو وكله أن يكاتبه فقال الوكيل وكلني أمس وكاتبته آخر النهار بعد الوكالة وقال رب العبد إنما وكلتك اليوم فالقول قول رب العبد لأنه لو أنكر التوكيل أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أنكر التوكيل أمس وإذا لم يثبت التوكيل في الوقت الذي أضاف الوكيل مباشرة العقد إليه كان العقد باطلا
ولو قال أي هذين الرجلين كاتبه فهو جائز فأيهما كاتبه(19/183)
ص -90- ... جاز وهذا استحسان وقد تقدم بيانه أن الوكالة مبنية على التوسع والجهالة المستدركة فيها تمنع الجواز وكذلك لو قال وكلت أحد هذين الرجلين أن يكاتبه فهذا والأول سواء وأيهما كاتبه جاز قال ولو وكل رجلا بأن يكاتب عبده فأبى العبد أن يقبل ثم بدا له في قبول ذلك فكاتبه الوكيل جاز لأن بإباء العبد في الابتداء لا ينعزل الوكيل فإن العبد لا يملك عزل الوكيل عن كتابته وإذا بقيت الوكالة نفذت الكتابة بقبول العبد كما لو قبل في الابتداء والله أعلم بالصواب.
باب وكالة المضارب والشريك فيه
قال رحمه الله وتوكيل المضارب بالبيع والشراء والقبض والخصومة وغير ذلك من أسباب المضاربة جائز لأن للمضارب إقامة الأعمال كلها بنفسه فيحتاج إلى الاستعانة بغيره في بعض الأعمال ولما دفع رب المال إليه المال مضاربة على علمه بذلك فقد صار آذنا له في الاستعانة بالغير فيما يعجز عن مباشرته بنفسه قال ولو وكل المضارب رجلا أن يشتري له عبدا بالمضاربة فاشترى له أخا رب المال فالشراء جائز على المضارب دون رب المال لأن شراء وكيل المضارب بمنزلة شراء المضارب بنفسه وهو لو اشترى أخا رب المال كان مشتريا لنفسه لأن رب المال إنما أمره أن يشتري بمال المضاربة ما يمكنه أن يبيعه ليحصل الربح بتصرفه وهو لا يحصل بشراء أخي رب المال لأنه لو جاز شراؤه على رب المال عتق عليه فلهذا جعلناه مشتريا لنفسه ويضمن مال المضاربة إذ هو في يمينه.(19/184)
قال وإن اشترى أخا المضارب فإن لم يكن فيه فضل فهو جائز على المضاربة لأن شراء الوكيل كشراء المضارب بنفسه ولو اشترى أخا نفسه بمال المضاربة جاز على المضاربة إن لم يكن فيه فضل لأنه شريك في الربح فإذا لم يحصل الربح لا يملك المضارب شيئا منه فيتمكن من بيعه بعد الشراء وإن كان فيه فضل كان الشراء على المضارب خاصة لأنه لو جاز على المضاربة عتق عليه حصته من الربح فإذا لم يحصل الربح لا يملك المضارب شيئا منه فيتمكن من بيعه بعد الشراء وإن كان فيه فضل كان الشراء على المضارب خاصة لأنه لو جاز على المضاربة عتق عليه حصته من الربح فلا يملك بيعه فلهذا كان مشتريا لنفسه.
قال وإذا وكل المضارب وكيلا في الخصومة في دين المضاربة فأقر الوكيل عند القاضي أن المضارب قد قبض ذلك الدين فهو جائز إلا على قول زفر رحمه الله لأن الوكيل بالخصومة مطلقا يملك الإقرار ويكون إقراره كإقرار الموكل بنفسه ولو أقر المضارب بين يدي القاضي بقبض الدين الواجب بإدانته صح إقراره فكذلك إقرار وكيله وإن قال المضارب لم أقبضه منه بريء الغريم ولا ضمان على المضارب لأن إقراره الوكيل إنما يصح باعتبار أنه وكيل بجواب الخصم وذلك فيما بين الوكيل والخصم وليس من ضرورة براءة الغريم وصول المال إلى المضارب فلهذا لا يقبل إقرار الوكيل في إيجاب الضمان على المضارب لأنه ما وكل بذلك قال وهذا بمنزلة قول الوكيل قد أخذته فدفعته إليك وقال المضارب لم تدفعه إلي وكذا إقرار الوكيل بالقبض صحيح في براءة الغريم غير مقبول في إيجاب الضمان على المضارب فكذلك هنا.(19/185)
ص -91- ... قال ولو وكل المضارب رجلا بقبض مال المضاربة من رب المال أو بدفع شيء من المال إلى رب المال كان جائزا لأنه وكله بما يملك مباشرته بنفسه فيصير الوكيل قائما مقامه في مباشرته قال وإذا أمر رب المال المضارب أن ينفق على أهله فوكل المضارب وكيلا بالنفقة عليهم فهو جائز لأنه مأمور بإيصال مقدار حاجتهم من المال الذي في يده إليهم فلا فرق بين أن يوصل ذلك بنفسه أو بنائبه وهذا لأن من له النفقة له أن يمد يده إلى هذا المال ويأخذ منه مقدار حاجته إذا ظهر به ولأن أمر رب المال بالدفع إلى أهله بمنزلة أمره بالدفع إليه ولا فرق بين أن يدفع بنفسه أو بوكيله فإن قال الوكيل أنفقت مائة درهم عليهم وقال المضارب أنفقت مائتي درهم في مدة ينفق مثلها على مثلهم وقال رب المال ما أنفقت عليهم شيئا فالقول قول المضارب وقد ذهب من المال مائة درهم كما لو ادعى أنه أنفق بنفسه وهذا لأن المال في يده وهو أمين فيما في يده من المال فلو ادعى الرجل على رب المال كان القول قوله فكذلك إذا ادعى الإنفاق على أهله بأمره ولا يضمن الوكيل شيئا لأنه كان أمينا فيما أمره به ولم يوجد منه سبب يوجب الضمان عليه فلهذا لا يصير ضامنا شيئا وكذلك كل وكيل بدفع إليه المال ويؤمر بالنفقة على شيء من الأشياء فهو جائز وهو مصدق في النفقة على ذلك بالمعروف لأنه أمين أخبر بأداء الأمانة بطريق محتمل.(19/186)
قال وإن وكل المضارب وكيلا ينفق على رقيق من المضاربة ولم يدفع إليه مالا فقال الوكيل أنفقت عليه كذا وكذا وكذبه المضارب فإن الوكيل لا يصدق لأنه يدعي لنفسه دينا في ذمة المضارب فإن المال لم يكن في يده ليكون أمينا فيما يخبر به من الإنفاق ولكنه يزعم أنه أنفق من مال نفسه ليكون ذلك دينا في ذمة من أمره وهو غير مصدق في مثله إلا ببينة وكذلك لو وكله في مال نفسه ينفق على رقيقه فهذا والأول سواء قال وإن وكل المضارب رجلا يشتري له متاعا بعينه من المضاربة ولم يدفع المال إليه فجاء رب المال وأخذ المال وناقض المضاربة لا يمنع ابتداء التوكيل فلا يمنع بقاء التوكيل أيضا بالطريق الأولي وإذا بقيت الوكالة كان شراء وكيل المضارب كشراء المضارب بنفسه فإنما ينفذ العقد على المضارب خاصة لأن عقد المضاربة قد انفسخ باسترداد رب المال ماله.
قال ولو وكل المضارب عبدا من رقيق المضاربة ثم أن رب المال نهى المضارب عن البيع ونقض المضاربة ثم باعه الوكيل وهو لا يعلم أو يعلم فبيعه جائز لأن المال بعد ما صار عروضا بملك رب المال فيه نهى المضارب عن التصرف فكان وجود النهي كعدمه وكذلك لو مات رب المال ثم باعه الوكيل أو وكله المضارب بعد موته فباعه لأنه يملك مباشرة البيع بنفسه بعد موت رب المال فإنه شريك في الربح والربح إنما يظهر ببيع المشتري فكان تصرفه من وجه بنفسه فلهذا لا يمتنع بموت رب المال ولا ببيعه.
قال ولو وكله بشراء عبد بألف درهم من المضاربة ثم مات رب المال ثم اشترى العبد لزم المضارب خاصة لأن عقد المضاربة انفسخ بموت رب المال حين كان المال نقدا حتى(19/187)
ص -92- ... لا يملك المضارب بعد ذلك التصرف فيه فيكون هذا بمنزلة استرداد رب المال ماله وقد بينا أن هناك الوكالة تبقى ولكن الوكيل يصير مشتريا للمضارب خاصة فكذلك هنا قال وإذا اشترى أحد المتفاوضين عبدا فوجد به عيبا فوكل وكيلا في رده أو كان شريكه هو الذي يخاصم فيه لم يكن بد من أن يحضر الذي اشترى حتى يحلف ما رضي بالعيب وقد بينا فيما سبق أن القاضي لا يقضي بالرد إلا بعد هذه اليمين ولا يمكن استحلاف الوكيل ولا الشريك إذا كان يخاصم بنفسه لأن النيابة لا تجري في اليمين
وإن كان الذي اشترى حاضرا يخاصم فطلب البائع يمين شريكه ما رضي بالعيب لم يكن له عليه يمين لأن الاستحلاف ينبني على توجه الخصومة ولا خصومة للبائع مع الشريك لأنه لم يعامله بشيء وكذا إن وكل أحدهما وكيلا بالخصومة في عبد باعه وطعن المشتري فيه بعيب ورده لم يكن على الوكيل فيه يمين لأن الوكيل فيه نائب ولا نيابة في اليمين وإن أراد المشتري أن يخاصم الشريك الآخر ويحلفه على علمه لأن كل واحد من الشريكين في المفاوضة قائم مقام صاحبه فيما يدعي عليه فإنهما في الحكم كشخص واحد ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم ولا يكون على البتات.(19/188)
قال وإذا وكل أحد المتفاوضين وكيلا بشيء هو بينهما ثم نقضاها واقتسما وأشهدا أنه لا شركة بينهما ثم أمضى الوكيل ما وكل به وهو يعلم أو لا يعلم جاز ذلك عليهما لأن توكيل أحدهما في حال بقاء عقد المفاوضة كتوكيلهما فصار وكيلا من جهتهما جميعا فلا ينعزل بنقضهما الشركة بينهما قال وإذا وكل أحد شريكي العنان وكيلا ببيع شيء من شركتهما جاز عليه وعلى صاحبه استحسانا وكان ينبغي في القياس أن لا يجوز لأن كل واحد من الشريكين وكيل من جهة صاحبه بالتصرف وليس للوكيل أن يوكل غيره إذا لم يأمره الموكل بذلك ولكنه استحسن فقال كل واحد من الشريكين في حق صاحبه بمنزلة وكيل فوض إليه الأمر على العموم لأن مقصودهما تحصيل الربح وذلك لا يحصل بتصرف واحد فصار مأذونا من جهة صاحبه بالتوكيل فيما يعجز عن مباشرته بنفسه كما بيناه في المضارب وهذا لأن كل واحد منهما رضي بتصرف صاحبه فيما هو بصدده من التجارة والتوكيل من التجارة فلهذا نفذ من كل واحد منهما على صاحبه.
قال وإن وكله ببيع أو شراء أو إجارة أو تقاضي دين ثم أخرجه الشريك الآخر من الوكالة فكان له أن يخرجه من الوكالة في جميع ذلك إلا في تقاضي الدين خاصة لأنه كما جعل توكيل أحدهما في التصرف بمنزلة توكيلهما فكذلك عزل أحدهما عن التصرف بمنزلة عزلهما إلا في تقاضي الدين فإن سبب وجوب الدين هو الذي يختص بقبضه على وجه لا يملك شريكه نهيه عن ذلك فكذلك نهي وكيله توضيحه أن الشريك الآخر لما جعل في هذا الدين بالقبض بمنزلة سائر الأجانب فكذلك في عزل الوكيل يجعل بمنزلة سائر الأجانب فلهذا لا يصح منه النهي.(19/189)
ص -93- ... قال وإن كان الموكل هو الذي أدانه لم يصح إخراج هذا الآخر الوكيل من التقاضي لما بينا وإن كان الذي أدانه هو الشريك الآخر فتوكيل الشريك بقبضه لا يصح لأنه لا يملك مباشرة القبض بنفسه فكذلك لا يوكل به غيره والله أعلم بالصواب.
باب ما لا تجوز فيه الوكالة
قال رحمه الله وإذا وكل الرجل وكيلا بطلب قصاص في نفس أو في فيما دون النفس لا يجوز فإن وكله بإقامة البينة على ذلك جاز التوكيل في قول أبي حنيفة رحمه الله عند رضا الخصم أو مرضه أو غيبته
وعند محمد رحمه الله على كل حال وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز التوكيل بذلك وجه قوله أن الوكيل يقوم مقام الموكل في دعوى القصاص والقصاص لا يثبت بما يقوم مقام الغير كما لا يثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال وهذا لأن هذه عقوبة تندرى ء بالشبهات وفيما يقوم مقام الغير ضرب شبهة في العادة وهو إنما يوكل ليحتال الوكيل لإثباته وفي القصاص إنما يحتال لإسقاطه لا لإثباته.
ألا ترى أن التوكيل باستيفاء القصاص لا يجوز باعتبار أنه يندرى ء بالشبهات فكذلك بإثباته وقد ذكر في بعض المواضع قول محمد رحمه الله كقول أبي يوسف رحمه الله وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه وكل بما يملك مباشرته بنفسه وإذا وقع الغلط أمكن التدارك والتلافي فصح التوكيل كما في الأموال بخلاف استيفاء القصاص فإنه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن التدارك والتلافي فأما إثبات القصاص فكإثبات سائر الحقوق من حيث أنه إذا وقع فيه الغلط أمكن التدارك والتلافي وعلى هذا الخلاف إذا وكل المطلوب بالقصاص وكيلا بالخصومة في دفع ما يطالب به وكلام أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل أظهر لأن دفع القصاص جائز بمن يقوم مقام الغير.(19/190)
ألا ترى أن الشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال في العفو صحيحة ولكن هذا الوكيل لو أقر في مجلس القضاء بوجوب القصاص على موكله لم يصح إقراره استحسانا وفي القياس يصح لأنه قام مقام الموكل بعد صحة التوكيل ألا ترى أن في سائر الحقوق جعل إقراره كإقرار الموكل وكذلك في القصاص وفي الاستحسان يقول إقرار الوكيل قائم مقام إقرار الموكل والقصاص لا يستوفى بحجة قائمة مقام غيرها توضيحه أنا حملنا التوكيل على الجواب لأن جواب الخصم من الخصومة ولكن هذا نوع من المجاز فأما في الحقيقة فالإقرار ضد الخصومة فيصير ذلك شبهة فيما يندرئ بالشبهات دون ما يثبت مع الشبهات وكذلك في التوكيل بإثبات حد القذف أو دفعه من جهة القاذف فأما التوكيل بإثبات المال في السرقة فقد طلب بالاتفاق لأن المقصود إثبات المال والمال يثبت مع الشبهات
ألا ترى أن بالشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال تثبت فأما التوكيل بإثبات الحد فهو على الخلاف الذي بينا.(19/191)
ص -94- ... قال وإذا قتل العبد عند المستودع أو عند المستعير فليس لهما أن يستوفيا القصاص وإن وكلهما بذلك صاحبه لأن من الجائز أن صاحب العبد عفى فلو استوفينا القصاص كان استيفاء مع تمكن الشبهة وذلك لا يجوز يدل عليه أن وجوب القصاص باعتبار الدم والمستودع والمستعير ليسا بخصمين في الدم وإنما خصومتهما فيما يتناوله الإيداع والإعارة وكذلك عبد من المضاربة أو عبدان شريكان شركة عنان أو مفاوضة قتل عمدا وأحدهما غائب فليس للحاضر أن يقتل قاتله وإن وكله الغائب بذلك لتمكن شبهة العفو من رب المال أو من الشريك الغائب.
قال وإذا كان للرجل عبد في يدي رجل فقال الرجل انطلق فاشتر عبدي من فلان لنفسك فذهب فاشتراه ولم يكن رب العبد وكل البائع بالبيع فإن هذا البيع يجوز ويكون أمره للمشتري بالشراء وكالة للبائع بالبيع وذكر بعد هذا أنه لا يجوز وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فالمراد هنا أنه لما أتاه أخبره بما قال له المالك فيصير ذو اليد وكيلا لعلمه بوكالة المالك إياه ومراده بما ذكر بعد هذا أنه لم يخبره بذلك ولكنه قال له بع هذا العبد مني فلا يصير ذو اليد وكيلا ما لم يعلم بتوكيل المالك إياه وإن حملنا المسألة على الروايتين فيما إذا لم يخبره فوجه الرواية التي قال لا يجوز البيع أن البائع لم يرض بالتزام العهدة حين لم يعلم بالوكالة ألا ترى أنه لو وكله بالبيع مقصودا لا بحضرته لا يصير وكيلا ما لم يعلم به فكذلك إذا كان التوكيل ضمنا لأمر المشتري بشرائه ووجه هذه الرواية أن رضا المالك قد تم بهذا العقد والمشتري إنما أقدم على الشراء باعتبار تمام الرضا من المالك فلو لم ينفذ البيع صار مغرورا من جهة المالك ويلحقه الضرر فيه والضرر مدفوع في الشرع وما زاد على هذا البيان قد بيناه فيما أمليناه من شرح الزيادات.(19/192)
قال وكذلك إذا قال اقبض ديني من فلان كان جائزا وليس للذي عليه الدين أن يمتنع من دفعه وهذا ظاهر فإنه وكل القابض بالقبض هنا وقد علم القابض بوكالته ولا معتبر بعلم المديون بعد أن يثبت وكالته وكذلك لو وكله بقبض الوديعة والعارية وما أشبههما قال أرأيت لو قال للعبد انطلق إلى فلان حتى يكاتبك فكاتبه فلان أما كان يجوز أو قال انطلق إليه حتى يعتقك فأعتقه أما كان يعتق أو قال لامرأته انطلقي إليه حتى يطلقك وطلقها فلان أما يقع الطلاق عليها والفرق بين هذه الفصول وبين البيع على الرواية الأخرى ظاهر لأن حقوق العقد لا تتعلق بالعاقد في هذا الموضوع بخلاف البيع.
قال ولو أمر رجلا أن يطلق امرأته أو يعتق عبده ثم قال للمرأة والعبد قد نهيت فلانا عن ذلك فلم يعلم الوكيل بالنهي حتى طلق أو أعتق وقع وإن علم بالنهي لم يقع وكذلك في الفصل الأول إن نهاهما بعد ذلك لا يعمل النهي في حق فلان ما لم يعلم به ولا فرق بين أن يثبت التوكيل بخطاب خاطب به الوكيل وبين أن يثبت ضمنا بخطاب خاطب به المرأة والعبد فإنه بعد ما صار وكيلا لا ينعزل ما لم يعلم بالعزل
قال وإذا قال الرجل لرجل اذهب(19/193)
ص -95- ... بثوبي هذا إلى فلان حتى يبيعه أو أذهب إلى فلان حتى يبيعك ثوبي الذي عنده فهو جائز في الوجهين وهو إذن منه لفلان في بيع ذلك الثوب إن أعلمه المخاطب بما قاله المالك جاز بيعه رواية واحدة وإن لم يعلمه ففيه روايتان وكذلك لو قال اذهب بهذا الثوب إلى القصار حتى يقصره أو إلى الخياط حتى يخيطه قميصا فهذا إذن منه للقصار والخياط في ذلك العمل حتى لا يصير ضامنا بعلمه بعد ذلك والله أعلم بالصواب.
باب وكالة العبد المأذون والمكاتب
قال رحمه الله وكل ما جاز لهما أن يفعلاه جاز لهما أن يوكلا به من يفعله لأن الحجر قد انفك عنهما فيما هو من عمل التجارة أو سبب اكتساب المال والتوكيل من هذه الجملة فيصح منهما وبعد صحة الوكالة فعل الوكيل كفعل الموكل بنفسه وكل ما يجوز للموكل أن يفعله جاز لوكيله أن يفعله.
قال وليس للعبد المأذون أن يتزوج ولا يكاتب عبده لأن هذا من عقود التجارة وانفكاك الحجر في حقه مقصور على التجارة فإذا أذن له المولى في ذلك فوكل به وكيلا لم يجز لأنه نائب عن المولى في هذا العقد بمنزلة الوكيل ألا ترى أنه يعمل بهبة عنه مع بقاء الإذن له في التجارة والوكيل لا يملك أن يوكل غيره بمباشرة ما وكل به فإذا حجره مولاه أو عجز المكاتب عن كتابته انقطعت وكالة وكيله في البيع والشراء
ونحوهما لأنه عجز عن مباشرة التصرف في نفسه وصحة التوكيل كانت باعتباره ولو وكله ابتداء بعد الحجر لم يجز فكذلك إذا طرأ الحجر على الوكالة لأن المقصود بنفس التوكيل لا يحصل والطارئ قبل حصول المقصود بالسبب كالمقترن بأصل السبب فأما إذا كان التوكيل بقضاء الدين أو التقاضي لم يبطل ذلك التوكيل بالعجز ولا بالحجر على المأذون لأنه في كل شيء ولاه العبد لا يسقط المطالبة عنه بالحجر عليه بل يبقى هو مطالبا بإيفائه وله ولاية المطالبة باستيفاء ما وجب له لأن وجوبه كان بعقده فإذا بقي حقه بقي وكيله على الوكالة فيه.(19/194)
قال ولو وكله ابتداء بعد الحجر صح أيضا فإن باعه بإذن الغرماء أو مات بطلت وكالة الوكيل في جميع ذلك لأنه حين خرج عن ملكه لم يبق له حق المطالبة بالاستيفاء ولا يبقى هو مطالبا بإيفاء شيء في حالة الرق فتبطل وكالة الوكيل حكما بخروج الموكل من أن يكون مالكا لذلك التصرف قال وليس لمولى العبد أن يتقاضى دينه كان عليه دين أو لم يكن لأنه إن كان عليه دين فكسبه حق غرمائه والمولى منه كسائر الأجانب ما لم يفرغ من الدين وإن لم يكن عليه دين فوجوب المال بعقد العبد ولا يكون هو في هذا دون الوكيل وما وجب من الثمن بعقد الوكيل لا يملك الموكل المطالبة به فهنا أولى وكذلك ليس للمولى أن يوكل بذلك وكيلا لأنه لا يملك المباشرة بنفسه فلا يوكل به غيره أيضا فإن اقتضى هو شيئا أو وكيله جاز إن لم يكن على العبد دين لأنه خالص حق المولى لو قبضه العبد سلمه إلى المولى فإذا قبضه المولى أو من وكله جاز كما في الموكل إذا قبض الثمن بتسليم(19/195)
ص -96- ... المشتري إليه وإذا كان على العبد دين لم يجز لأن حق الغرماء متعلق بكسبه فالمولى كأجنبي آخر
ألا ترى أنه لو قبض شيئا من أعيان كسبه كان ضامنا بمنزلة أجنبي آخر فلهذا لا يبرأ الغريم بالدفع إليه والوديعة والبضاعة في هذا قياس الدين.
قال ولو أذن له المولى في التزويج فوكل العبد وكيلا بذلك فرجع المولى عن الإذن في التزويج فإن علم به الوكيل خرج عن الوكالة وإذا لم يعلم به فهو على وكالته لأن العبد في هذا التوكيل نائب عن المولى حتى لا يملك التوكيل إلا بإذن المولى فهذا الوكيل بمنزلة الوكيل من جهة المولى ثم نهيه العبد عن أن يتزوج عزل لوكيله لأنه يظهر بهذا أنه غير راض بعيب العبد بالنكاح وتعلق المهر والنفقة بماليته وفي هذا لا يفترق الحال بين عقد العبد وعقد الوكيل فعرفنا أنه بمنزلة العزل للوكيل قصدا فإن علم به صار معزولا
وإن لم يعلم به لا يصير معزولا.(19/196)
قال ولو وكل العبد بتقاضي دينه وكيلا ثم باعه المولى بإذن الغرماء أو مات العبد خرج وكيله من الوكالة سواء علم به أو لم يعلم كان على العبد دين أو لم يكن لأن العزل هنا ثبت حكما لخروج موكله من أن يكون مالكا لذلك التصرف وفي مثله لا يشترط علم الوكيل ولو لم يكن على العبد دين فالمولى يتقاضاه لأن الحق تخلص له وإن كان عليه دين نصب القاضي وكيلا بتقاضي الدين ليقضي به حق الغرماء لأن الحق للغرماء ولكنهم عاجزون عن التقاضي بأنفسهم فينصب القاضي عنهم وكيلا بمنزلة التركة إذا كان على الميت دين وله دين على إنسان فأما إذا أعتق المولى العبد فالوكيل على وكالته لأن حق العبد في المطالبة والقبض لا يبطل بعتقه بل يتقوى وكذلك لو كاتبه بإذن الغرماء لأن حق القبض إليه بعد الكتابة كما كان قبلها وإذا قال الوكيل قبضته قبل الحجر أو قبل موته لا يصدق لأنه أخبر بما يملك استئنافه وقد صار الحق للمولى بعد الحجر إذا تحقق ذلك ببيعه فهو بهذه الدعوى يريد إبطال حق المولى فلم يكن مصدقا في ذلك.
قال ولو أن عبدا تاجرا له دين على رجل وله به كفيل فوكل رجلا بتقاضي دينه ليتقاضى دينه على فلان كان له أن يتقاضاه من الكفيل أيضا لأنه أقامه مقام نفسه في المطالبة بذلك الدين وله أن يطالب الكفيل والأصل جميعا وكذلك لمن قام مقامه وهذا الأصل معروف في كتاب الكفالة أن أصل الدين في ذمة الأصيل وإنما يطالب الكفيل بما على الأصيل والوكيل صار مالكا المطالبة بالدين على الأصيل سواء طالب الكفيل أو الأصيل فإنما طالب بذلك الدين قال ولو ادعى دارا في يدي رجل فوكل رجلا بالخصومة فيها وبقبضها فباعها ذو اليد وقبضها المشتري كان للوكيل أن يخاصم المشتري لأن وكالته بالخصومة كانت مقيدة بالدار لا بالبائع ففي يد من وجدت الدار يكون له أن يخاصمه لأنه إنما يخاصم في العين التي وكله بالخصومة فيها.
قال ولو وكله بخصومة فلان في هذه الدار لم يكن له أن يخاصم المشتري لأنه قيد(19/197)
ص -97- ... الوكالة بخصومة البائع وهذا تقييد مفيد فقد يقاوم الإنسان إنسانا في الخصومة ولا يقاوم غيره وهو نظير ما لو وكله بأن يبيع عبده هذا كان له أن يبيعه ممن بينا وإن قال له بعه من فلان لم يكن له أن يبيعه من غيره وهذا بخلاف ما إذا وكل ذو اليد وكيلا بالخصومة معروفا بين الناس فلما وكله بالخصومة مع ذي اليد مع علمه أن ذا اليد قد يوكل غيره بالخصومة فيه كان هذا رضا منه بالخصومة مع وكيله وهذا لأن القضاء إذا توجه على الوكيل يكون على الموكل خاصة والوكيل نائب عنه فلهذا ملك أن يخاصم وكيله وهذا لا يوجد في حق المشتري لأنه بالشراء يصير مالكا فإنما يخاصم عن نفسه ولا يكون نائبا عن البائع فلهذا فرقنا بينهما.
قال ولو وكله أن يخاصم فلانا في هذه الدار فإذا الدار في يدي غير فلان لم يكن له أن يخاصم غير فلان ولا فلانا لأن الدار ليست في يديه والخصومة في دعوى الملك المطلق إنما تكون مع ذي اليد والوكالة كانت مقيدة بالخصومة مع فلان فلا يملك أن يخاصم في هذه الوكالة غير فلان وإن لم يسم له أحدا كان له أن يخاصم من وجد الدار في يده لأن الوكالة هنا مقيدة بالخصومة في العين فإذا خاصم فيه ذا اليد فإنما يخاصم في تلك العين فلهذا سمعت خصومته قال ولو كانت الدار في يدي العبد فوكل وكيلا بالخصومة فيها لفلان المدعي فادعاها آخر لم يكن الوكيل وكيلا في خصومة هذا الثاني وهو وكيل في خصومة الأول وخصومة وكيله لأنه قيد الوكالة بالخصومة مع فلان فلهذا يملك ذلك.(19/198)
قال وإذا وكل العبد التاجر وكيلا ببيع أو شراء أو رهن وغير ذلك فأخرج المولى الوكيل من الوكالة فليس ذلك بشيء وهو على وكالته إن كان على العبد دين أو لم يكن لأنه حجر خاص في إذن عام وذلك باطل ألا ترى أن المولى بنفسه لو نهى العبد عن ذلك التصرف ولم يحجر عليه لا يعمل نهيه فكذلك إذا منع وكيله منه أو هذا بمنزلة النهي عن التوكيل وكما لا يملك نهيه عن تصرف آخر مع بقاء إذنه فكذلك لا يملك نهيه عن التوكيل لأن ذلك من صنع التجار لا يملك إخراج وكيله.
قال ولو أن العبد وكل مولاه بشيء من ذلك كان جائزا كما لو وكل غير المولى به وليس للمولى بمطلق التوكيل أن يوكل به غيره ولكن لو وكل به غيره فباشره الوكيل فإن لم يكن على العبد دين جاز لا بالتوكيل السابق من العبد ولكن ما تصرف فيه خالص ملك المولى لأن المولى لو باشره بنفسه صح وإن لم يسبق التوكيل من العبد فكذلك إذا وكل به غيره وإن كان عليه دين لم يجز لأنه لا يملك مباشرة هذا التصرف بنفسه إذا لم يسبق التوكيل من العبد فإن كسبه حق غرمائه والوكيل لا يملك أن يوكل غيره
قال وإذا وكل العبد وكيلا بخصومة في شيء له ثم حجره مولاه بطلت وكالة الوكيل لما بينا فإن أذن له في التجارة لم يكن الوكيل وكيلا في ذلك وكذلك البيع والشراء وما أشبههما لأن هذا إذن حادث غير الأول ووكالته كانت بحكم الإذن الأول فإن لم يعد ذلك لم يعد هذا ألا ترى(19/199)
ص -98- ... أنه لو كان تصرف بنفسه قبل الإذن لا ينفذ بالإذن الحادث فكذلك إذا كان الوكيل في الأول لا يملك التصرف به في الإذن الثاني.
قال ولو كان العبد التاجر بين رجلين وكل وكيلا بشيء من ذلك ثم حجر عليه أحدهما وعلم به الوكيل كان على وكالته ويجوز ما صنع في حصة الذي لم يحجر عليه لأنهما لو حجرا عليه لم يجز تصرف الوكيل في حقهما بعد ذلك فكذلك إذا حجر عليه أحدهما جعلا في حقه كأنهما حجرا عليه وفي حق الآخر كأنه لم يحجر عليه واحد منهما ولأن في الابتداء لو كان أذن له أحدهما جاز توكيله بالتصرف في حصة الذي أذن له فكذلك يبقى الوكيل باعتبار بقائه مأذونا له في نفسه فأما في تقاضي الدين فيجوز قبضه في نصيبهما جميعا لأنهما لو حجرا عليه لم يؤثر الحجر في منع الوكيل من قبض الدين بالتقاضي وكذلك إذا حجر عليه أحدهما.
قال وإذا وكل العبد مولييه ببيع شيء أو شرائه ثم حجرا عليه ثم أذنا له في التجارة وعليه دين ثم باعا ما كان وكلهما ببيعه لم يجز ذلك إلا بوكالة مستقلة لأن الموليين في هذه الوكالة كغيرهما من الأجانب فإن كسب العبد إذا كان مشغولا بالدين لا يملك المولى التصرف فيه إلا بتوكيل وقد بينا أن الوكالة في الإذن الأول لا تكون سببا لنفوذ تصرفه في الإذن الثاني في حق الأجانب فكذلك في حق المولى قال وليس للعبد أن يوكل وكيلا بخصومة أحد يدعي رقبته أو يدعي جراحة جرحها إياه العبد أو جرح هو العبد ولا بالصلح في ذلك لأنه ليس بخصم في هذه الأشياء بنفسه بل الخصم فيها مولاه وإنما يملك التوكيل بالخصومة فيما يملك مباشرة الخصومة فيه بنفسه فأما فيما لا يملكه بنفسه فلا يملك إنابة الوكيل فيه مناب نفسه وله أن يوكل بذلك في خصومه آخر جنى على عبده من كسبه أو جنى عبده عليه أو يدعي رقبته لأنه في كسبه خصم يملك مباشرة الخصومة بنفسه فيملك أن يوكل غيره به.(19/200)
قال وإذا أذن الموليان للعبد في التجارة فوكل وكيلا بشراء أو غيره فباعه أحدهما من آخر فأذن له المشتري في التجارة فإنه ينبغي في القياس أن تكون الوكالة جائزة في النصف الذي لم يبع لأن الحجر قد ثبت منه في نصيب من باع نصيبه وإنما صار مأذونا بإذن حادث بعد ذلك ولو ثبت الحجر في الكل بطلت الوكالة ثم لا يعود بعد ذلك بسبب الإذن الحادث فكذلك إذا ثبت الحجر في النصف اعتبارا للبعض بالكل ولكن في الاستحسان الوكالة جائزة في جميع ذلك لأن بيع النصف لم يصر العبد محجورا عليه ألا ترى أن ابتداء التوكيل يصح منه بعد بيع البعض فلأن يبقى أولى وهذا لأن الحق بهذا الشراء إنما خلص لمن هو راض بتصرف العبد أو خلص الحق لمن هو وكيل وخلوص الحق له لا يجوز أن يكون مبطلا لحقه فلهذا بقي الوكيل على وكالته في الكل.
قال وإذا كانت الأمة مؤجرة وعليها دين فأذن لها مولاها بالتزويج فهو جائز لأن(19/201)
ص -99- ... المولى لو زوجها بغير إذن الغرماء جاز فإن فيه منفعة للغرماء لأنها تتمكن من قضاء ديونها من مهرها والزوج يعينها على الاكتساب لتقضي به ديونهم فكذلك إذا زوجت نفسها بإذن المولى ولو وكلت وكيلا بذلك فإن زوجها وكيلها وهي حاضرة جاز وإن زوجها وهي غائبة لم يجز إلا أن يخبره بعد ذلك لأنها بمنزلة الوكيل للمولى والوكيل ليس له أن يوكل غيره بما وكل به ليعقد إلا بحضرته فإذا كانت حاضرة كانت مباشرة وكيلها كمباشرتها وإن كانت غائبة لم يتم عقد الوكيل إلا برأيهما وإنما يحصل رأيها بالإجازة.
قال وإذا وكل العبد المحجور عليه وكيلا بشراء شيء ثم أعتق أو كوتب أو أذن له المولى في التجارة فاشترى ذلك ففي القياس لا يصير مشتريا للعبد لأن سبق ثبوت حق التصرف للعبد فكان باطلا بمنزلة سائر تصرفاته والعتق والكتابة والإذن بعد ذلك مقصور على الحال ولا يستند إلى وقت التوكيل باطلا فكان الوكيل مشتريا لنفسه ولكن في الاستحسان تجوز هذه التصرفات على العبد لأن التوكيل غير مقصود لعينه لما نفذه من التصرفات ووقت التصرف الآمر أهل أن يباشره بنفسه فيجوز مباشرة وكيله له إما لأنه لا ضرر على المولى في مباشرة تصحيح الوكالة أو لأن الاستدامة بعد العتق والكتابة والإذن بمنزلة إنشاء التوكيل وفرق بين هذا وبين الصبي يوكل بالبيع أو بالشراء ثم يدرك أو يأذن له أبوه فيه فيمضيه الوكيل عليه فإنه لا يجوز إلا أن يجيزه الصبي فيما يحتمل التوقيت لأن توكيله قبل الإذن غير معتبر في حق نفسه فإنه محجور عن التصرف لحق لنفسه والإذن والإدراك لا يستند حكمه إلى وقت التوكيل فأما توكيل العبد في نفسه فصحيح لكونه أهلا لذلك والحجر عليه عن التصرف لحق المولى فإذا سقط حق المولى بالكتابة والعتق والإذن نفذ تصرف الوكيل عليه.(19/202)
توضيحه أن امتناع توكيل الصبي كان لمعنى لا يزول ذلك المعنى بالإذن ولا بالإدراك لأن التوكيل نفع له في الحالين فإذا كان قبل الإذن والإدراك لم يجز تصرفه له بحكم الوكالة فكذلك بعده وأما امتناع نفوذ تصرف وكيل العبد في حق العتق والكتابة والإذن كان لمعنى يزول ذلك بهذه الأسباب وذلك المعنى هو أن حكم تصرف الوكيل يلاقي حق المولى وذلك يزول بهذه الأسباب فيجعل استدامة الوكالة كإنشائها بعد هذه الأسباب.
قال ولو وكل العبد وكيلا أن يكاتب مولاه عليه في عمل لم يكن على الوكيل من المال شيء وإن ضمنه ولو وكله أن يشتري له نفسه من مولاه فاشتراه وبينه لمولاه عتق والمال على الوكيل وهذا موافق لرواية الجامع وقد ذكر هذا الفصل فيما سبق وأجاب بخلاف هذا وقد بينا وجه الروايتين ثم على ما ذكر هنا وفي الجامع الفرق بين الكتابة والعتق أن يقول هو لا يوجب للعبد مالا بعقد الكتابة وإنما يوجب له ملك اليد والمكاسب فلم يكن هذا التصرف في حق وكيل العبد بمنزلة مبادلة مال بمال فلهذا لا يجب على الوكيل شيء من ذلك المال فأما في العتق فلأن المولى يزيل عن ملكه ما هو مال بإزاء مال يستوجبه على العبد,(19/203)
ص -100- ... فكان هذا في حق وكيل العبد بمنزلة مبادلة مال بمال ثم في باب الكتابة وإن ضمن الوكيل البدل لا يكون مطالبا به لأنه بمباشرة العقد لا تتوجه عليه المطالبة ببدل الكتابة فلو لزمه إنما يلزمه بحكم الكفالة ببدل الكتابة وهو لا يصح كما لو كفل به غيره وفي العتق بمال إذا أداه وكيل العبد غرمه نائبه إذا كان المال في يده قبل العتق لأن ذلك المال ملك المولى فلا يسقط به ما وجب له على الوكيل بالعقد ولكنه يطالب الوكيل ليؤديه من مال نفسه ثم رجع به على العبد لأنه التزمه بأمره فحصل مقصوده له وإن كان الوكيل وكيل المولى لم يكن له أن يقبض المال من العبد وقد بينا الفرق بين وكيل المولى ووكيل العبد أن الذي من جانب المولى إعتاق والمعتق هو المولى دون الوكيل حتى كان الولاء له فلا يكون الوكيل في حكم المستحق للبدل فأما في جانب العبد فهو التزام المال ويمكن أن يجعل الوكيل ملتزما المال.(19/204)
قال وإذا وكل العبد وكيلا في خصومة أو بيع أو شراء ثم أبق العبد خرج الوكيل من الوكالة لأن الإباق من المأذون حجر عليه وبالحجر يخرج العبد من أن يكون مالكا لما وكل الوكيل به فيكون ذلك موجبا عزل الوكيل كما لو حجر عليه المولى وإن كان الوكيل عبدا فأبق فهو على الوكالة غير أنه لا يلزمه عهدة في شيء لأن صيرورته محجورا عليه لا تبقي صحة التوكيل في الابتداء وإنما تبقي لزوم العهدة فكذلك إذا صار محجورا عليه بعد التوكيل وعزل المطالب يبطل وكالة وكيله في العقود والخصومات إلا في تقاضي الدين الذي ولاه المكاتب أو قضائه لأن عجزه يوجب الحجر عليه عن أسباب التصرفات فيخرج وكيله من الوكالة ولا يوجب الحجر عليه عن قضاء الدين واقتضائه فكذلك لا يوجب عزل وكيله عن ذلك فإن كوتب بعد ذلك لم تعد الوكالة التي بطلت لأن صحتها كانت باعتبار ملك المولى التصرف عند التوكيل وقد زال ذلك بعد العجز ولم يعد بالكتابة الثانية وقد بينا نظيره في الإذن بالتجارة فكذلك في الكتابة وهذا بخلاف المحجور عليه يوكل وكيلا ثم يكاتب أو يأذن له على طريقة الاستحسان لأن صحة التوكيل هناك لم تكن باعتبار ملك التصرف الذي هو نائب للآمر وقت الوكالة وإنما ذلك باعتبار ما يحدث له عند التصرف باعتبار الكتابة أو الإذن وقد وجد ذلك وهذا نظير رجل تحته أربع نسوة فوكل رجلا بأن يزوجه امرأة فزوجه بعد ما فارق إحداهن جاز ذلك ولو كان تزوج أربعا بعد الوكالة ثم فارق إحداهن لم يكن للوكيل أن يزوجه بحكم تلك الوكالة والفرق ما ذكرنا.(19/205)
قال وتوكيل المكاتب وكيلا بالخصومة في جناية خطأ أو عمدا لا قصاص فيما يدعي قبله أو قبل عبده جائز لأنه هو الخصم في ذلك كله وإن موجب جنايته في كسبه فيلزمه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية فلهذا صح توكيله به بخلاف المأذون فإنه ليس بخصم في جناية نفسه لأن موجبه على مولاه لا في كسبه فلا يصح توكيله بالخصومة في الخصومة وتوكيل المكاتب بمخاصمة المولى في الكتابة أو غيرها جائزة لأنه مالك للخصومة بنفسه معه فيجوز توكيله به كما في الخصومة مع غيره.(19/206)
ص -101- ... قال عبد بين رجلين كاتبه أحدهما في نصيبه بغير إذن شريكه فوكل المكاتب ببيع أو شراء أو خصومة فهو جائز في نصيب الذي كاتبه لأن كتابته في نفسه صحيحة ما لم يفسخ شريكه ذلك ولو كان مكان الكتابة إذنا منه للعبد في نصيبه جاز توكيله باعتبار ذلك في نصيب الآذن فلأن يجوز بعد الكتابة كان ذلك بطريق الأولى فإن كاتبه الآخر بعد ذلك جاز فعل الوكيل في نصيبهما استحسانا أما في نصيب المكاتب الأول فلا إشكال فيه وأما في نصيب المكاتب الثاني فلأنه لو كان محجورا عليه حين وكل ثم كاتبه مولاه جاز تصرف المولى استحسانا فكذلك هنا لأن أكثر ما في الباب أن يكون نصيبه كعبد على حدة ولو كان مكاتبا لهما فوكل وكيلا بشيء من ذلك ثم عجز عن نصيب أحدهما ففعل ذلك الوكيل فعلا جاز في نصيبهما جميعا وكان ينبغي أن لا يجوز في نصيب الذي عجز بمنزلة ما لو عجز في نصيبهما ولكنه قال مساعدة كل واحد منهما صاحبه على الكتابة تكون إذنا منه له في كتابة نصيبه ولهذا لا يملك فسخه في نصيب شريكه بعد ذلك فلما عجز عن نصيب أحدهما بقيت الكتابة في نصيب الآخر بإذن الشريك فهو بمنزلة عبد بين رجلين كاتب أحدهما نصيبه بإذن صاحبه ثم وكل العبد بشيء من أنواع التجارات فيكون ذلك صحيحا من الوكيل في جميع ذلك كما يصح في المكاتب نفسه فإن قيل هذا لا يشبه ذلك لأن هناك إذنه لشريكه من الوكيل في أن يكاتب نصيبه يتضمن الإذن للعبد في التجارة في نصيب نفسه وهنا بعد العجز لا يبقى نصيبه مأذونا فينبغي أن لا ينفذ تصرف الوكيل ولا تصرف العبد في نصيبه قلنا ليس كذلك بل من ضرورة بقاء الكتابة لازمة في نصيب الشريك كون نصيبه مأذونا وليس من ضرورة فسخ الكتابة في نصيبه الحجر عليه عن التصرفات لا محالة فيبقى نصيبه مأذونا كما كان في الابتداء لو أذن له أن يكاتب نصيبه.(19/207)
قال وإذا وكل المكاتب وكيلا بقبض هبة له فقبضها الوكيل بعد عجز المكاتب أو بعد عتقه جاز لأن عجز الموكل لا يمنع صحة التوكيل بقبض الهبة كما لا يمنع صحة مباشرته بنفسه فكذلك لا يمنع بقاء الوكالة فإن قبضها بعد موته لم يجز لأن موته يخرجه من أن يكون أهلا للقبض بحكم الهبة ويكون مبطلا لعقد الهبة فيوجب إخراج الوكيل من الوكالة أيضا قال ولو كان المكاتب بين رجلين فوكله أحدهما بقبض دين له على آخر أو على غيره أو ببيع أو شراء من الآخر أو من غيره فهو جائز لأنه ما بقي عقد الكتابة فكل واحد من الموليين ينزل منزلة أجنبي آخر وكذلك إن وكله أحدهما ببيع عبد من الآخر أو من غيره أو بالخصومة مع الآخر أو غيره فهو جائز للمعنى الذي قلنا وكذلك لو كانت الخصومة بينه وبين مولييه جميعا فوكل ابن أحدهما بذلك أو عبده أو مكاتبه أو وكله بالبيع أو الشراء فهو جائز كما يجوز مع سائر الأجانب لأنه ملك الخصومة معه بنفسه فيجوز أن يستعين في ذلك بابن الخصم أو بعبده أو مكاتبه ليكون نائبا عنه في هذه الخصومة.
قال ولو وكل هذا المكاتب وكيلا بدفع نصيب أحدهما إليه وغاب لم يكن للآخر أن يأخذ من الوكيل شيئا لأنه في نصيبه ليس بوكيل من جهته في الدفع فلا يكون له أن يطالبه(19/208)
ص -102- ... بشيء كما لا يطالبه به قبل التوكيل وكذلك لو كان وكل وكيلا بقضاء دين عليه ودفع المال إليه فأراد مولياه أو غيرهما أن يقبضوا ذلك من الوكيل لم يكن لهم ذلك لأن التوكيل كان مقيدا بالدفع إلى صاحب ذلك الدين ففي الموليين أو غريم آخر يكون الحال بعد التوكيل كالحال قبله ألا ترى أن مطالب المكاتب بنفسه لو قضى دين هذا الرجل لم يكن للموليين على ما قبضه سبيل فكذلك إذا دفعه إلى رجل ليقضي به دينه.
قال وإذا أمر المكاتب رجلا أن يشتري له عبد فلان من فلان فاشتراه الوكيل من فلان أو من وكيله أو من رجل اشتراه منه فهو جائز لأن مقصوده سلامة العبد له وقد قيد الوكالة بذلك العبد وهو مشتر لذلك العبد ممن اشتراه فحصل مقصوده فنفذ تصرفه عليه قال ولو أمر رجلا أن يبيع عبدا له من فلان فباعه من غيره وليس بوكيله لم يجز لأنه قيد الوكالة بالبيع من فلان وله في ذلك غرض لا يحصل ذلك الغرض بالبيع من غيره إما لأن الناس يتفاوتون في الملاءة والمماطلة في قضاء الدين أو لأنه أراد أن يؤثره على نفسه بذلك العبد لعلمه أنه يتمكن من الاسترداد منه بالإقالة أو الشراء المبتدإ الذي أراد ذلك ولا يتمكن منه إذا باعه من غيره ولم يبين أنه إذا باع من وكيل فلان يجوز أم لا وعلى قضية الطريقة الأولى لا يجوز لأن المطالبة بالثمن تكون على الوكيل دون الموكل وعلى الطريقة الثانية يجوز لأن الملك في العبد إنما يحصل بشراء الوكيل للموكل وهذا هو الأصح.
قال وإذا وكل المكاتب وكيلا بتقاضي دين له على رجل ثم عجز المكاتب ورد في الرق فقال قد قبضت ما عليك غيرها فهو مصدق في ذلك أيضا لأنه في الدين الواجب بعقده بمنزلة الحر فكما أن إقرار الحر ببيان مقدار الدين صحيح فكذلك إقرار المكاتب به بعد عجزه عن أداء الكتابة أو قبله وإقرار وكيله إنما يصح بما فوضه الموكل إليه وهو القبض والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في النكاح(19/209)
قال رحمه الله رجل وكل رجلا بأن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه بأكثر من مهر مثلها جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن المطلق يجري على إطلاقه حتى يقوم دليل التقييد وعندهما لا يلزمه النكاح إذا زاد أكثر مما يتغابن الناس فيه لأن التقييد عندهما يثبت بدليل العرف وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الوكيل بالشراء فإن هناك إذا زاد يصير مشتريا لنفسه لأنه لم يضف أصل العقد إلى الموكل وإنما أضافه إلى نفسه فتتمكن التهمة في تصرفه من حيث أنه قصد الشراء لنفسه ولما علم بغلاء الثمن حوله إلى الآمر وفي النكاح يضيف العقد إلى الموكل فلا تتمكن فيه التهمة ولو أضاف العقد إلى نفسه بأن تزوجها كانت امرأته دون الموكل بخلاف الشراء فإن هناك يجوز أن يثبت حكم العقد لغير من يضاف إليه العقد ولا يجوز مثله في النكاح بل يثبت الملك لمن يضاف إليه العقد. ألا ترى أن ملك اليمين يثبت للمولى بسبب مضاف إلى عبده ولا يثبت ملك النكاح بمثله.(19/210)
ص -103- ... قال ولو وكله أن يزوجه امرأة ولم يسمها فزوجه إياه وليست بكفؤ له فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله هو جائز لإطلاق التوكيل وعندهما في القياس يجوز أيضا لأن التقييد بدليل العرف والعرف مشترك هنا فقد يتزوج الرجل من ليست بكفؤ له لأن الكفاءة غير مطلوبة من جانب النساء فإن نسب الأولاد إلى الآباء فيبقى مطلق التوكيل عند تعارض دليل العرف ولكنهما استحسنا فقالا لا يجوز لأن المرء مندوب شرعا أن يتزوج من يكافئه دون من لا يكافئه قال صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم الأكفاء" والغالب أن مراده بهذا التوكيل نكاح من يكافئه لأنه غير عاجز بنفسه عن التزوج إذا كان يرضى بمن لا يكافئه.
قال أرأيت لو كان الموكل من قريش فزوجه الوكيل أمة أو نصرانية أو حبشية أو كتابية أنجيزه عليه أم لا
قال وبهذا الاستشهاد أشار إلى الخليفة قال ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياها على عبد للزوج فإنه لا يجوز أن يمهرها العبد إلا أن يسلمه الزوج لأنه ما سلطه على إزالة الملك عن عين العبد إذ
ليس من ضرورة ما أمره به زوال ملكه عن شيء من أعيان ماله ثم في القياس لا يجوز النكاح لأنه خالف حين سمى ما لم يأمره بتسمية فكأنه أمره بالتزويج فعقد بألفين ولكنه استحسن فقال يجوز النكاح لأنه لم يخالف ما أمره به نصا فإنه كما لم يؤمر بتسمية العبد صداقا لم ينه عن ذلك ولكن امتنعت صحة التسمية في حق العبد لما قلنا وذلك لا يمنع جواز أصل النكاح كمن تزوج امرأة على عبد للغير يصح النكاح ولها قيمة العبد إن لم يرض صاحب العبد وهذا مثله بخلاف الألفين حيث خالف هناك ما أمره به نصا.(19/211)
قال وإن زوجه على وصف بغير عينه جاز لأن هذه التسمية باعتبار مالية الوصف ولهذا لو أتاها بالقيمة أجبرت على القبول ووجوب المال على الزوج من ضرورة ما أمر به الوكيل وهو النكاح قال الله تعالى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}[سورة النساء, آية:24] ولأن فيه تحصيل ملك النكاح للزوج من غير زوال شيء من أعيان ماله من ملكه ثم هذا عند أبي حنيفة رحمه الله لا يشكل وعندهما كذلك فإن التوكيل عندهما يتقيد بالنقد بدليل العرف والعرف في الصداق مشترك فيصح تسمية النقد وغير النقد حتى إذا زوجه على بيت وخادم أو على عشرة أكرار حنطة موصوفة أو غير موصوفة فذلك جائز كما لو باشره الموكل بنفسه وكذلك لو زوجه على جراحة جرحها الزوج ولها أرش جاز لأن الواجب من الأرش دراهم أو دنانير فتسمية ذلك كتسمية الدراهم ثم يصير قصاصا بأرش الجراحة.
قال ولو وكله ببيع عبده فزوجه امرأة على رقبته لم يجز لأنه باشر عقدا غير ما أمر به بعقد يكون العبد معتوقا عليه مقصودا حتى لا ينقضي العبد بهلاكه وقد أتى بعقد يكون المقصود فيه ملك البضع دون العبد حتى لا ينقضي العقد بهلاكه قبل التسليم ولأن البيع اسم خاص لمبادلة مال بمال ولأن تقابل العبد في النكاح ليس بمال وعلى هذا لو صالح به عن جراحة فيها قصاص أو استأجر به له دارا لم يجز لما قلنا.(19/212)
ص -104- ... قال وإن وكله أن يزوجه امرأة لم يسمها فزوجه ابنته لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يرضي الزوج وعندهما يجوز إذا كانت كبيرة ورضيت بذلك للأصل الذي قلنا أن بمطلق التوكيل عند أبي حنيفة رحمه الله لا يملك التصرف مع ولده للتهمة فالتهمة دليل تقييد المطلق وعندهما يملك ذلك ولو كان الولد صغيرا لم يجز ذلك بالاتفاق لأنه هو الموجب والقابل فكان ذلك بمنزلة عقده مع نفسه وبمطلق التوكيل لا يملك العقد مع نفسه وإن زوجه أخته جاز لأنه غير متهم في حقها.
قال ولو زوجه امرأة عمياء أو معتوهة أو رتقاء أو ذمية أو مفلوجة جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله غير مشكل لأنه في التوكيل سمى المرأة مطلقا وإنما الإشكال على قولهما وقد بينا مثله في الشراء أنه لا يجوز عندهما وكذلك في النكاح ولكنهما قالا النكاح لا يختل بهذه العيوب وإنما تختل صفة المالية ولهذا يثبت له بالشراء حق الرد بهذه العيوب ولا يثبت في النكاح فلهذا صح من الوكالة ولأن هناك لو لم نجوز العقد على الآمر جعلنا الوكيل مشتريا لنفسه شراء صحيحا وهنا لو لم نجز على الآمر بطل أصل العقد فلا يمكن إثبات هذا الحكم بالقياس على ذلك.(19/213)
قال ولو أمر رجلا أن يزوجه امرأة من قبيلة أو من بلدة فزوجه امرأة من قبيلة أخرى أو من بلدة أخرى لم يجز لتقييد الوكالة بما سمى ومباشرة الوكيل بخلاف ما سمى قال ولو وكله أن يزوجه امرأة وجعلها الوكيل طالقا إن أخرجها الزوج من الكوفة فالنكاح جائز والشرط باطل لأنه امتثل أمره ثم تصرف تصرفا لم يأمره به وهو تعليق طلاقها بالإخراج ولئن جعل هذا شرط في النكاح فهو شرط باطل من الوكيل والشرط لا يهدم النكاح كما لو تزوج بنفسه وشرط شرطا باطلا وكذلك لو شرط لها الوكيل أن لا يخرجها من الكوفة جاز النكاح وبطل الشرط كما لو تزوجها الموكل بنفسه بهذا الشرط إلا أن حطت من مهر مثلها لأن رضاها بالنقصان لمنفعة مشروطة فإذا لم يقبل كان لها مهر مثلها.
ولو قال زوجني فلانة على مائة درهم فإن أبت فأعطها ما بين مائة ومائتين فأبت المائة فزوجها إياه على مائتين فذلك لازم للزوج لأن الوكالة لا يتعلق بها اللزوم والغاية تدخل في مثله بالاتفاق كما في الإباحات إذا قال خذ من مالي من درهم إلى مائة فله أن يأخذ المائة قال وإن وكله أن يزوجه امرأة على بيت وخادم ففعل وقال الزوج عنيت أرضا ميتة لم يصدق لأن مطلق التسمية في عقود المعاوضات ينصرف إلى المتعارف والمتعارف من تسمية البيت في الصداق متاع البيت وإن زوجها الوكيل على بيت من داره فقال الزوج عنيت أثاث البيت فالقول قوله لأنه هو المتعارف وقد سمى الوكيل غير ما أمر به نصا فلا يجوز النكاح بينهما أصلا.
قال وإن أرسل رجل رجلا يخطب عليه امرأة بعينها فذهب الرسول وزوجها إياه فهو جائز لأنه أمر الرسول بالخطبة وتمام الخطبة بالعقد وقد بينا أن المأمور بالشيء مأمور بإتمام(19/214)
ص -105- ... ذلك الشيء والعاقد في باب النكاح سفير ومعبر كالرسول ولو وكله أن يزوجه امرأة فزوجها إياه على خمر أو خنزير أو على غير مهر أو على حكمها فالنكاح جائز لأنه لم يخالف ما أمره به نصا وإنما فسدت التسمية شرعا وذلك لا يمنع صحة النكاح كما لو تزوجها الموكل بنفسه وإن زوجها إياه على دار رجل أو على عبده جاز النكاح ولها قيمة ذلك لأنه غير مخالف لما أمره به نصا ولكن صاحبه استحق عين ملكه فيكون لها قيمته صداقا على الزوج كما لو زوجها بنفسه.
قال وإن زوجه امرأة معتدة أو لها زوج قد دخل بها الزوج ولم يعلم بذلك فرق بينهما وعليه الأول من مهر المثل ومما سمي لها لأن الدخول حصل باعتبار صورة العقد فسقط به الحد ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل وهو الحكم في النكاح الفاسد ولا ضمان على الوكيل في ذلك لأن ما لزم الزوج إنما لزمه بفعله وهو الدخول لا بعقد الوكيل فإن العقد الباطل لا يوجب شيئا ولا كذلك إن كاتب أم امرأة الزوج والوكيل يعلم بذلك أولا يعلم لما بينا أن ما يلحق الزوج من الأقل من مهر المثل ومما سمي للوطوءة من فساد نكاح امرأته وغير ذلك وكان كل ذلك باعتبار فعل الزوج لا بعقد الوكيل فلا يرجع على الوكيل بشيء.
قال وإذا وكله أن يزوجه امرأة بعينها على ألف درهم فزوجها إياه بألف درهم وكرامتها فإن كان مهر مثلها أكثر من الألف لم نر النكاح لأنه لو جاز النكاح كان لها تمام مهر مثلها كما لو باشره الموكل بنفسه فهذا في معنى تسمية الزيادة على الألف لها فيكون مخالفا لما سمي له نصا ويستوي إن ضمن الوكيل الكرامة أو لم يضمن لها لأنه لو سمي لها الزيادة قدرا معلوما ضمنها من مال نفسه لم يجز النكاح فهنا أولى وكذلك إن شرط مع ذلك طلاق امرأة أخرى ففي هذا الشرط منفعة لها فهو قياس ما لو شرط كرامتها.(19/215)
قال ولو وكله أن يزوجه أمة فزوجه حرة لم يجز لأنه خالف المأمور نصا وفي هذا التقييد منفعة للزوج وهو أن لا يؤوي الحرة التي تحته في القسم وكذلك مؤنة الأمة دون مؤنة الحرة وإن زوجه مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد جاز لأن هؤلاء في حكم النكاح كالأمة إلا أنه يصير محصنا بالدخول بهن بالنكاح كما في الأمة قال وإن وكله أن يزوجه امرأة فزوجه صغيرة لا يجامع مثلها فهو جائز لأن اسم المرأة اسم جنس يتناول الصغير والكبير وملك النكاح يثبت على الصغيرة حسبما يثبت على الكبيرة وإنما كان مقصود المجامعة متأخرا لصغرها ولو كان فائتا بأن كانت رتقاء أو قرناء لم يكن الوكيل به مخالفا فهنا أولى.
قال وإن وكله أن يزوجه امرأة بعينها على ألف درهم ومهر مثلها ألفان فزوجها الوكيل بألف وشرط أن لا يتزوج عليها أو لا يخرجها من الكوفة لم يجز النكاح لأنه لو جاز كان لها كمال مهر مثلها باعتبار ما سمي لها إذا لم يف الزوج بالشرط والوفاء بهذا الشرط لا يلزمه كما لو التزمه بنفسه وكان هذا في معنى تزويجه إياه بأكثر مما سمي له قال ولو وكله أن(19/216)
ص -106- ... يزوجه امرأة فزوجه امرأة قد حلف الزوج بطلاقها أن لا يتزوجها أو كان آلى منها أو ظاهرها أو كانت في عدة منه والنكاح جائز لأنه أطلق اسم المرأة في التوكيل وذلك يتناولها كما يتناول غيرها.
قال ولو وكله أن يزوجه امرأة فزوجه امرأتين في عقد لم يلزم الزوج واحدة منهما وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا يلزمه واحدة منهما يختار أيتهما شاء ثم رجع إلى قولهما وجه قوله الأول أنه في العقد على إحداهما ممتثل أمر الزوج فينفذ عليه ذلك إذ لا يبعد أن يكون ملك النكاح له في امرأة يعبر عنها ويتعين باختياره كما لو طلق إحدى امرأتيه بغير عينها ثلاثا وجه قوله الآخر أن عقد النكاح عقد تمليك فلا يملك إثباته في المجهول ابتداء لأنه إنما يثبت في المجهول ما يحتمل التعليق بالخطر فإن الثابت في غير المعنى في الحكم كالمتعلق به لخطر البيان ولا يمكن إثباته في إحداهما بعينها لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا فيهما لأن الموكل لم يرض بنكاح امرأتين ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها فزوجه تلك وأخرى معها لزمته تلك دون الأخرى لأنه في ملك المرأة ممتثل أمره فحصل مقصوده فإن حكم النكاح لا يختلف بضم الأخرى إليها.
قال ولو وكله أن يزوجه امرأة فاختلف الزوج والوكيل فقال الزوج زوجتني هذه وقال الوكيل لا بل زوجتك هذه فالقول قول الزوج إذا صدقته المرأة لأن الوكيل في النكاح معبر والزوج إنما يمتلك عليها لا على الوكيل وقد تصادقا على النكاح فيثبت بتصادقهما ولا قول للوكيل في ذلك قال ولو وكله أن يزوجه فلانة أو فلانة فأيتهما زوجه جاز لأن التوكيل مبني على التوسع فهذا القيد من الجهالة لا يمنع صحته وإن زوجهما جميعا منه لم يجز نكاح واحدة منهما لأنه مأمور بنكاح إحداهما بغير عينها فلا يمكن تصحيح نكاحهما للزوج ولا نكاح إحداهما بعينها إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا إحداهما بغير عينها لأن النكاح في المجهول لا يثبت ابتداء.(19/217)
قال ولو وكل رجلا أن يزوجه امرأة ووكل آخر بمثل ذلك فزوجه كل واحد منهما امرأة وإذا هما أختان جاز نكاح الأولى منهما لأنه ممتثل أمره ولم يجز نكاح الثانية لا لأنه مخالف ولكن لأن الموكل لو فعله بنفسه لا يجوز لأنه يصير به جامعا بين الأختين وإن وقع النكاحان معا فالنكاح باطل لأن الجمع بين الأختين حرام وقد حصل بهما معا وليس تصحيح نكاح إحداهما بأولى من الأخرى كما لو تزوجها الموكل بنفسه في عقدة واحدة وكذلك لو وكل خمسة رهط أن يزوجه كل واحد منهم امرأة فالجمع بين ما زاد على الأربع بالنكاح حرام كالجمع بين الأختين فكان هذا مثل الأول.
قال ولو زوج رجل رجلا من غير وكالة أختين في عقدتين أو خمس نسوة في عقد متفرقة كان له أن يختار إحدى الأختين أو أي أربع شاء من الخمس لأن العقود كلها تتوقف على إجازته فإن الجمع بين نكاح الأختين لا يكون نافذا بل موقوفا والعقد الموقوف لا(19/218)
ص -107- ... يوجب الحل ولا يثبت الفراش فلا يكون من ضرورة توقف العقد الأول امتناع توقف الثاني ولا من ضرورة توقف العقد الثاني بطلان الأول فإذا توقف الكل كان له أن يختار ما شاء من ذلك على وجه لا يحصل به الجمع بين الأختين ولا بين خمس نسوة وإن كان ذلك في عقد واحد لم يكن له أن يختار نكاح شيء منهن لأنه إنما يتوقف على إجازته ما يتصور نفوذه بالإذن السابق وهو لا يجوز لو باشره بنفسه وهذا العقد لا ينفذ بمباشرته ولا بإذنه سابقا فلا يتوقف على إجازته بخلاف العقود المتفرقة فإن كل عقد من ذلك معتبر على حدته وهو مما ينفذ بمباشرته وبإذنه السابق فيتوقف على إجازته أيضا.
قال وإن وكله أن يزوجه من النساء ما شاء وكيف شاء فزوجه أمة مسلمة أو كتابية أو أربع إماء جاز لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم فمباشرته فيما يكون من جنس التزويج كمباشرة الموكل بنفسه(19/219)
قال وإن وكله أن يزوجه امرأتين في عقدة فزوجه واحدة جاز لأنه امتثل أمره في بعض ما أمر به وحكم نكاح هذه لا يختلف بضم نكاح الأخرى إليها فلا يكون هذا التفريق من الوكيل خلافا للأصل الذي بينا أن التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا وهذا التقييد غير مفيد ولو كان قال لا يزوجني إلا اثنين في عقدة واحدة لم يلزمه نكاح امرأة واحدة لأنه نهاه عن العقد هنا واستثنى عقدا واحدا فما لا يكون بصفة المستثنى فهو داخل في عموم النهي بخلاف الأولى فإنه ما نهاه عن شيء نصا بل أمره وقيد الآمر بما ليس بمقيد وهو نظير ما سبق إذا قال لاتبع إلا بشهود فباع بغير شهود لا يجوز بخلاف ما لو باع وقد قال له بع بشهود قال ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها فإذا لها زوج فمات عنها أو طلقها وانقضت عدتها ثم زوجها إياه الوكيل جاز لأنها لما لم تكن محلا عند التوكيل لما أمر به الموكل صار التوكيل كالمضاف إلى ما بعد صيرورتها محلا فإن التوكيل يحتمل الإضافة ويحصل مقصود الموكل في ذلك ولو تزوجها الموكل ثم أبانها لم يكن للوكيل أن يزوجها إياه لأن ما قصد تحصيله بتصرف الوكيل قد حصل له بمباشرته فأوجب ذلك عزل الوكيل ثم لا يعود التوكيل بالإبانة لأنه ليس بفسخ لذلك العقد من الأصل.(19/220)
قال ولو تزوجها الوكيل ودخل بها ثم أبانها وانقضت عدتها ثم زوجها إياه جاز لأن مقصود الموكل لم يحصل بمباشرة الوكيل العقد الأول مع نفسه ولا منافاة بين ذلك العقد وبين الوكالة ألا ترى أن ابتداء التوكيل بعده صحيح حتى إذا فارقها زوجها منه فبقاؤها أولى ولو ارتدت المرأة ولحقت بدار الحرب ثم سبيت وأسلمت فزوجها إياه الوكيل جاز في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يجز عندهما لأن من أصلهما أن تسمية المرأة مطلقا في التوكيل ينصرف إلى الحرة دون الأمة ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يتقيد بالحرة فكذلك التوكيل في المرأة المعينة وعندهما يتقيد بحال حريتها فبعد ما صارت أمة لا يجوز تزويجها منه وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يتقيد فمتى زوجها منه كان ممتثلا أمره.
قال ولو كان الموكل تزوج أمها أو ذات رحم محرم منها أو أربعا سواها خرج الوكيل(19/221)
ص -108- ... من الوكالة لأنه صار بحال لا يملك مباشرة العقد عليها بنفسه بما أحدث من التصرف وذلك عزل منه للوكيل وقد سبق نظائره قال ولو كان الموكل قال إن تزوجتها فهي طالق فليس هذا بإخراج له من الوكالة لأنه ما صار بحال لا يملك مباشرة العقد عليها بما أحدث فإنه إن تزوجها بعد يمينه صح النكاح فيبقى الوكيل على وكالته أيضا قال وإذا وكلت المرأة رجلا أن يزوجها فزوجها من غير كفؤ لها لم يجز قيل هذا قولهما وهو قياس رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها من غير كفؤ وأما على ظاهر الرواية فينبغي أن يجوز نكاح الوكيل عنده لأنها لو زوجت نفسها من غير كفؤ كان جائزا وإن كان للأولياء حق الاعتراض عليها والأصح قولهم جميعا لأنها ممنوعة من أن تزوج نفسها من غير كفؤ ومطلق التوكيل ينصرف إلى ما يجوز للموكل أن يفعله بنفسه شرعا دون ما يكون ممنوعا عنده فيقيد مطلق التوكيل بهذا الدليل ولأن مقصودها لم يتم بالتزويج من غير كفؤ لأن للأولياء حق الاعتراض عليها وإنما ينصرف مطلق التوكيل إلى عقد يتم لها به مقصود النكاح وإن كان كفؤا لها غير أنه أعمى أو مقعد أو صبي فهو جائز لأن مقصود النكاح يتم لها بما صنعه الوكيل
وكذلك إن كان عنينا أو خصيا فالنكاح جائز ويؤجل كما لو زوجت هي نفسها ثم علمت بهذا العيب من الزوج.(19/222)
قال وإن زوجها الوكيل من نفسه لم يجز لأنها أمرته أن يكون مزوجا لا متزوجا ولأنه في حق نفسه متهم والتهمة دليل التقييد ولو زوجها ابنه أو أباه لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله وجاز عندهما إلا أن يكون الابن صغيرا فحينئذ لا يجوز لأنه لا يباشر العقد مع نفسه وقد بينا هذا في جانبه قال وإذا وكلته أن يزوجها فزوجها على مهر صحيح أو فاسد أو وهبها لرجل بشهود أو تصدق بها على رجل وقبل ذلك الرجل فهو جائز لأنه مأمور بالتزويج وقد أتى به فإن لفظ الهبة والصدقة عبارة عن التزويج مجازا وترك تسمية الصداق لا يمنع حصول المقصود بالنكاح ولا وجوب الصداق وكذلك فساد التسمية كما لو باشرته هي بنفسها.
قال وإن زوجها إياه على ألف درهم على أن زاد عبدا لها فالنكاح جائز ولها أن تمنع العبد لأنها ما رضيت بزوال العبد عن ملكها ولكن الزوج سمي الألف بمقابلة نكاحها والعبد فإذا لم تسلم له العبد فبمنعها بطلت حصته من الألف وجاز النكاح بحصتها من الألف قال ولو تزوجت هي قبل أن يزوجها الوكيل فقد أخرجته من الوكالة لأنها حصلت ما هو مقصودها بالتوكيل وكذلك لو ارتدت لأنها خرجت من أن تكون محلا بما أحدثت فيكون ذلك منها عزلا لوكيلها سواء لحقت بدار الحرب أو لم تلحق.
قال ولو كانت امرأة لها زوج فقالت لرجل إني اختلع من زوجي فإذا فعلت ذلك وانقضت عدتي فزوجني فلانا جاز ذلك على ما قالت لأنها أضافت الوكالة إلى ما بعد انقضاء العدة فيجعل كمباشرتها التوكيل بعد انقضاء عدتها قال ولو وكلته بأن يزوجها وقالت ما صنعت من أمري في شيء فهو جائز فحضر الوكيل الموت فأوصى بوكالتها إلى(19/223)
ص -109- ... رجل فزوجها الوكيل الثاني بعد موت الأول كان جائزا لأنها فوضت الأمر إلى رأيه على العموم وهذا من جملة رأيه فهو بمنزلة التوكيل في حياته والبيع والشراء في هذا قياس النكاح قال ولو وكلته بأن يزوجها رجلا فزوجها منه واشترط عليه أنه إذا تزوجها كان أمرها بيدها فالنكاح جائز وأمرها بيدها حين تزوجها لأن هذا شيء يستبد به الزوج ولا ضرر عليها فيه ولا هو حاصل بقبول الوكيل ولو كان هذا وكيل الرجل كان النكاح جائزا والشرط باطلا لأن الزوج لم يأمره بذلك وهو يتضرر به.
ولو قال الزوج زوجني امرأة وأمرها بيدها فزوجه الوكيل ولم يشترط لها فأمرها بيدها حين يقع النكاح لأن الزوج يستبد بذلك مضافا إلى النكاح كما يستبد به منجزا بعد النكاح ولو قال زوجني امرأة واشترط لها على أني إذا تزوجتها فأمرها بيدها لم يكن الأمر بيدها إلا أن يشترطه الوكيل لأن الزوج ما باشر ذلك بنفسه بل فوضه إلى الوكيل فما لم يباشره الوكيل لا يصير الأمر في يدها وليس في ترك الوكيل هذا الشرط ضرر على الموكل بل فيه منفعة.
قال ولو وكلته أن يزوجها فزوجها على عبد على أن زادته مائة درهم فالنكاح جائز فإن أبت أن تعطي الدراهم بطلت حصتها من العبد لأنه امتثل أمرها في النكاح وزاد تصرفا آخر وهو الشراء فإن ما يخص المائة من العبد يكون مبيعا وما يخص البضع يكون صداقا فلا تنفذ حصة الشراء إلا برضاها إذ الوكيل لا يقدر على أن يلزمها المائة بغير رضاها فإن قيل كان ينبغي أن يكون مشتريا لنفسه ما يخص المائة من العبد لأن الشراء لا يتوقف بل ينفذ على العاقد إذا تعذر بتقييد غيره ويكون المباشر معبرا لا يلزم شيئا بنفسه فكذلك فيما يثبت تبعا ألا ترى أن هذا الشراء يحصل بغير القبول إذا قالت تزوجني على هذا العبد على أن أزيدك مائة درهم فقال فعلت يتم من غير قبولها والشراء مقصورا لا يتم بهذا اللفظ بدون القبول فعرفنا أن ما هو بيع ليس نظير ما هو مقصود.(19/224)
قال ولو وكلته على أن يزوجها على دم عمد في عتقها فزوجها بعض أولياء ذلك الدم بطلت حصة الزوج من الدم كما لو باشرت هي العقد وهذا لأن تزوج الزوج إياها على القصاص يكون عفوا منه عنها وذلك صحيح في نصيبه وانقلب نصيب الآخرين مالا فعليها حصة الورثة من الدية ولها مهر مثلها لأن القصاص ليس بمال فلا يصلح أن يكون صداقا فهذا والنكاح بغير تسمية المهر سواء.
قال ولو وكلت المرأة أو الرجل وكيلين بالتزويج أو الخلع ففعل ذلك أحدهما لم يجز لأنه فوض إليها عقدا يحتاج فيه إلى الرأي ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى قال ولو وكل رجلين بطلاق أو عتاق بغير مال ففعل ذلك أحدهما جاز لأن هذا لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير بل الحاجة فيه إلى العبارة وعبارة الواحد والمثنى سواء والله أعلم بالصواب.
باب توكيل الزوج بالطلاق والخلع
قال رحمه الله: رجل وكل رجلا أن يطلق امرأته ثلاثا فطلقها واحدة وقعت واحدة لأنه(19/225)
ص -110- ... أتى ببعض ما فوض إليه ولا ضرر على الموكل في هذا التبعيض بل فيه منفعة له ولأنه مكنه من إيقاع الثلاث ومن ضرورته تمكنه من إيقاع الواحدة كما أن الشرع لما مكن الزوج من إيقاع الثلاث فلأن يمكنه من إيقاع الواحدة أولى وإن وكله أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثا أو اثنين لم يقع شيء في قول أبي حنيفة لأن الثلاث غير الواحدة ولم يصر متمكنا من إيقاع الثلاث بتفويض الواحدة إليه فلا يقع الثلاث لعدم تمكنه من إيقاعها ولا الواحدة لأنه ما أوقعها وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى يقع واحدة لأنه أوقع ما فوض إليه وزيادة فيعمل إيقاعه بقدر ما فوض إليه وهي خلافية معروفة.
قال: وإن وكله أن يطلقها واحدة بائنة فطلقها واحدة رجعية طلقت واحدة بائنة لأنه لاغ في قوله رجعية فإن ذلك غير مفوض إليه يبقى قوله طلقتك فيقع على الوجه الذي فوض إليه لأن ثبوت الصفة بثبوت الأصل وهو نظير ما لو قال لامرأته قبل الدخول بها أنت طالق تطليقة رجعية لانعدام محلها يبقى قوله أنت طالق فيقع الطلاق به بائنا كما هو مملوك له شرعا.
قال: وإن وكله أن يطلقها واحدة رجعية فطلقها واحدة بائنة طلقت واحدة رجعية لأنه لاغ في قوله بائنة لأنه لم يفوض إليه تلك الصفة يبقى قوله أنت طالق فيقع به تطليقة رجعية وهذا على أصلهما ظاهر وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله كذلك لأنه بما ألحق كلامه من الصفة لا يخرج من أن يكون ممتثلا في إيقاع أصل الطلاق فإن الأصل لا يتغير بالصفة بخلاف ما إذا أوقع ثلاثا فإنه يصير مخالفا في أصل الإيقاع لأن الثلاث اسم لعدد مركب مؤلف والواحدة في ذوي الأعداد أصل العدد وليس فيه تأليف وتركيب وبينهما مغايرة على سبيل المضادة.(19/226)
قال: وإن وكله أن يطلق امرأتين له فطلق إحداهما طلقت لأن بضم الثانية إلى الأولى لا يتغير حكم الطلاق في حق الأولى فلا يخرج به من أن يكون ممتثلا في حقها بخلاف الطلقات الثلاث مع الواحدة فإنه يتغير حكم الطلاق من حيث أنه يثبت الحرمة الغليظة وزوال الملك به لوجود المنافي في المحل وهو الحرمة الغليظة.
قال: وإن وكله أن يطلق امرأته للسنة فطلقها في غير وقت السنة لم يقع لأنه أضاف الوكالة إلى وقت السنة فإن اللام للوقت قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [سورة الإسراء, آية: 78] أي لوقت دلوك الشمس فلا يكون وكيلا في غير وقت السنة ومباشرته ما لم يفوض إليه لا يبطل الوكالة حتى إذا طلقها في وقت السنة بعد ذلك وقع الطلاق قال: وإن وكله أن يطلقها ثم طلقها الزوج أو خالعها فإن طلاق الوكيل يقع عليها ما دامت في العدة لأن المملوك للزوج من الطلاق محصور بالعدد فلا يتغير ما أوقعه الزوج بما فوضه إلى الوكيل ولكن ما بقي الزوج مالكا لإيقاع الطلاق عليها يبقي الوكيل على وكالته أيضا وإذا انقضت عدتها لم يقع طلاق الوكيل عليها بعد ذلك لأن الزوج خرج من أن يكون مالكا للإيقاع بعد انقضاء العدة فتبطل الوكالة وكذلك إن تزوجها بعد ذلك لأن تمكن الزوج من الإيقاع(19/227)
ص -111- ... بالسبب المتجدد والوكالة لم تتناوله فلا تعود الوكالة باعتباره وعلى هذا لو ارتدت أو ارتد الزوج فإن طلاق الوكيل يقع عليها في العدة لبقاء تمكن الزوج من الإيقاع بالسبب المتجدد.
ولو قال لرجل: إذا تزوجت فلانة فطلقها فتزوجها الموكل فطلقها الوكيل جاز لأن الوكالة تحتمل الإضافة كالطلاق وقد وقعت الإضافة إلى ما بعد الزواج فعند ذلك يصير كالمستثنى للتوكيل ولو وكل عبدا بطلاق امرأته فباعه مولاه فهو على وكالته لأن تمكنه من الإيقاع لا يزول ببيعه وابتداء التوكيل يصح بعد بيعه وكذلك لو وكل مجنونا فقبل الوكالة في حال جنونه ثم أفاق فهو على وكالته لأن بالإفاقة يزداد التمكن من التصرف ولا يزول ماكان ثابتا.
قال: ولو وكل مسلم مسلما بالطلاق فارتد الوكيل ولحق بدار الحرب ثم جاء مسلما كان على وكالته إذا لم يقض القاضي بلحاقه وهو بمنزلة الغيبة فأما بعد قضاء القاضي بلحاقه فهو قول محمد رحمه الله وقد بينا الخلاف فيه قال ولو وكل رجلا بطلاق امرأته والوكيل غائب لا يعلم فطلقها فالطلاق باطل وكذلك سائر العقود لأن الوكالة لا تثبت قبل علم الوكيل بها كما في العزل لا يثبت قبل علمه وهذا للأصل الذي قلنا إن حكم الخطاب في حق المخاطب لا يثبت ما لم يعلم به وهذا لأن الوكيل نائب عن الموكل معبر عن منافعه في التصرف له ولا يتحقق ذلك إلا بعلمه بخلاف الوصي إذا تصرف بعد موت الموصي قبل علمه بالوصية ينفذ تصرفه استحسانا لأن الوصاية خلافة وهو النائب فيها ولأن أوانها بعد انقطاع ولاية الموصي وقد تحقق ذلك بموته وإنما جوز ذلك للحاجة فالحاجة بعد موت الموصي تصرف إلى من يتصرف قياسية فأما هنا فالوكالة إنابة والموكل قادر على التصرف بنفسه فلا حاجة إلى إثبات حكم الوكالة قبل علم الوكيل بها.(19/228)
قال: ولو وكله بطلاقها فأبى أن يقبل ثم طلقها لم يقع لأن الوكالة ارتدت برده فكأنها ارتدت برجوع الموكل عنها وإن لم يقل الوكيل قبلت وإن قال رددت حين طلقها وقع استحسانا وفي القياس لا يقع لما بينا أنه معير لمنافعه والإعارة لا تثبت بمجرد السكوت فما لم يصر وكيلا لا يعمل إيقاعه ووجه الاستحسان أن دليل القبول وإقدامه على ما فوض إليه بعد علمه به من أدل الدلائل على قبوله الوكالة فقد يباشر بعد القبول وقد لا يباشر قال: وإذا وكل الصحيح وكيلا بطلاق امرأته ثلاثا ثم طلقها الوكيل في مرض الموكل ثم مات الزوج وهي في العدة ورثت لأن إيقاع الوكيل كإيقاع الموكل بنفسه فإن قيل: بعد وقوع الثلاث بقاء ميراثها باعتبار الفرار من الزوج ولم يوجد ذلك هنا فإن التوكيل كان في الصحة ولم يكن لها في ماله حق يومئذ ولم يوجد من الزوج صنع بعده قلنا لا معتبر لقصد الفرار لأن ذلك لا يوقف عليه ولكن متى كان وقوع الثلاث عليها في مرضه باعتبار معنى مضاف إليه يجعل فارا وإن لم يقصد وقد وجد ذلك هنا مع أنه قادر متمكن من عزل الوكيل بعد مرضه فاستدامة الوكالة بعد تمكنه من العزل بمنزلة إنشاء التوكيل في أنه يثبت به حكم الفرار وعلى هذا لو كان الموكل عبدا فأعتق بعد التوكيل ثم مرض فطلقها الوكيل أو وكل الذمي بعد إسلام المرأة(19/229)
ص -112- ... ثم أسلم الزوج ومرض فطلقها الوكيل كان له أن يستديم الوكالة بعد تعلق حقها بماله وكذلك تعليق المسلم الوكالة بمرضه لأن المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه أنشأ التوكيل بعد مرضه.
قال: وإذا شهد الموليان على وكالة زوج أمتهما بالطلاق وإن الوكيل قد طلق أو شهدا على ذلك وأن الزوج طلقها بنفسه فإن كانت الأمة تدعي ذلك فهو باطل لأنهما يشهدان لها وإن كانت تجحد فكذلك الجواب في قول محمد رحمه الله وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الشهادة جائزة وهذا بناء على ما قدمنا في كتاب النكاح أن أبا يوسف رحمه الله يعتبر الدعوى والإنكار في شهادة الابنين لأبيهما فكذلك في شهادة الموليين لأمتهما ومحمد رحمه الله يعتبر المنفعة وعلى سبيل الابتداء في هذه المسألة فمحمد رحمه الله يقول هما في معنى الشاهدين لأنفسهما لأن ملك البضع يعود إليهما بعد طلاق الزوج وشهادته لنفسه أو فيما فيه منفعة له لا تكون مقبولة وأبو يوسف رحمه الله يقول هذه الشهادة تقوم بطريق الحسبة وهذا لأن كون الإنسان خصما في منافاة الشهادة أبلغ من منفعته له في ذلك وكل أحد خصم فيما هو حق الشرع ومع ذلك كانت شهادته في ذلك مقبولة كالزنا ونحو ذلك فكذلك فيما له فيه منفعة مع أنه لا منفعة لهما في المشهود به لأن موجب الطلاق سقوط ملك الزوج عنها أو حرمة المحل عليه لا انتقال ذلك الملك إلى الموليين وكذلك إذا سقط ملك الزوج ظهر ملك الموليين لفراغ المحل عن حق الغير وبهذا لا يمنع قبول الشهادة كصاحبي الدين إذا شهدا للمديون بمال من جنس حقهما على إنسان قبلت الشهادة وإن كانا يتمكنان من استيفاء حقهما إذا قبض المشهود له المال.(19/230)
وإذا قال الرجل للرجل: طلق امرأتي إن شئت أو إن هويت أو أردت فقام من المجلس بطل لأنه تمليك للمشيئة منه وذلك يقتصر على المجلس كتمليك المشيئة في القبول بإيجاب البيع له والوكيل هنا في معنى المخير وقد اتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أن المخيرة لها الخيار ما دامت في مجلسها لأنها مالكة للرأي والمشيئة متمكنة من ذلك في المجلس فقيامها منه دليل الإعراض فكذلك بهذا اللفظ يصير متمكنا من الرأي والمشيئة وهذا بخلاف قوله للأجنبي طلقها فإن ذلك إنابة واستعارة لمنافعه فيقوم هو في الإيقاع مقام الموكل وهذا تفويض للمشيئة إليه لا استعارة شيء منه.
ولو قال: أنت وكيلي في طلاقها إن شاءت أو هويت أو أرادت لم يكن وكيلا حتى تشاء هي ذلك في مجلسها لأنه علق التوكيل بمشيئتها ولو علق الوقوع بمشيئتها اقتصر ذلك على المجلس وتأخر الوقوع إلى حين وجود مشيئتها فكذلك إذا علق التوكيل وإذا صار وكيلا فإن قام الوكيل من المجلس قبل أن يطلق بطلت الوكالة قال عيسى رحمه الله: وهذا غلط لأن عند مشيئتها إنما تثبت الوكالة بقول الزوج أنت وكيلي في طلاقها وذلك لا يقتصر على المجلس كما لو نجز هذا اللفظ ولكن ما ذكر في الكتاب أصح لأن معنى قوله إن(19/231)
ص -113- ... شاءت الطلاق وكان هذا بمنزلة قوله ولئن كان المراد إن شاءت هذه الوكالة فثبوت الوكالة بالإيقاع بناء على ما فوض إليها من المشيئة ومشيئتها تقتصر على المجلس وهو لا يتأبد فكذلك ما ينبني عليه من تمكن الوكيل من الإيقاع وإليه أشار في الكتاب فقال لأنها وكالة بالمشيئة وقعت بحيث لا يملك الزوج فسخها ولو جعل قوله أنت وكيل في طلاقها منفصلا عن المشيئة يملك الزوج فسخها.
وإن قال: أنت وكيلي في طلاقها إن شئت فإن شاء في ذلك المجلس فهو جائز وإن قام قبل أن يشاء فلا وكالة لأن تعليق الوكالة بمشيئته يكون ملكا للرأي والمشيئة منه كتعليق الإيقاع بمشيئته على ما بينا وإن قال أنت وكيلي في طلاقها على أني بالخيار ثلاثة أيام فالوكالة جائزة والخيار باطل وكذلك لو قال على أن فلانة بالخيار ثلاثة أيام وكذلك هذا في كل تصرف لأن اشتراط الخيار باشره في منع صفة اللزوم والوكالة لا يتعلق بها اللزوم بحال فاشتراط الخيار فيما لا يكون مفيدا يكون باطلا ولأن اشتراط الخيار ليتمكن به من له الخيار من التفرد بالفسخ بغير رضا صاحبه وهذا في الوكالة ثابت بدون اشتراط صاحب الخيار وكما لا يصح اشتراط الخيار لنفسه في الوكالة لا يصح اشتراطه لغيره.(19/232)
قال: ولو وكله بطلاق امرأته فقال الوكيل أنت طالق غدا لم يقع وإن جاء الغد لأنه مفوض إليه التخيير والإضافة إلى وقت والتعليق بالشرط غير التخيير قال وإن وكله أن يطلقها ثلاثا بألف درهم أو على ألف فطلقها واحدة أو اثنتين لم يقع لأنها لو وقعت وقعت بحصتها من الألف والزوج لم يرض بزوال ملكه عنها إلا بعد أن يجب له عليها جميع الألف فكان بما صنع مخالفا وفيه ضرر على الموكل بخلاف التوكيل بالإيقاع بغير عوض وإن طلقها واحدة بألف درهم أو أكثر جاز لأنه حصل ما هو مقصود الزوج من المال ونفعه لبقاء صفة الحل في المحل حين اقتصر على إيقاع الواحدة وليس للوكيل بالخلع قبض المال لأن الذي من جانب الزوج في باب الخلع إيقاع الطلاق والوكيل معبر عنه إما حقيقة بالإضافة إليه أو حكما لأنه غير مالك للإيقاع بنفسه فهو نظير وكيل المولى في العتق بجعل أو لأنه لا يتوجه عليه المطالبة بتسليم المعقود عليه فلا يكون له قبض البدل.
قال: وإن وكله أن يطلق امرأته وله أربع نسوة ولم يسم له امرأة بعينها فإن أوقع الطلاق على إحدى نسائه جاز لأنه ممتثل أمره فإنه أمره بإيقاع الطلاق على امرأة غير معينة وقد فعل فإن طلقهن جميعا وقع الطلاق على واحدة منهن لأنه في حق الواحدة ممتثل أمره وفيما زاد عليه مبتدي فيقع على الواحدة بغير عينها والبيان إلى الزوج كما لو أوقع بنفسه على إحداهن بغير عينها وليس إلى الوكيل من البيان شيء لأنه معبر عن الزوج وقد انتهى حكم وكالته بإيقاعه.
قال: ولو وكله أن يطلق امرأته فطلقها الوكيل ثلاثا فإن كان نوى الزوج ثلاثا فهو جائز لأن قوله طلقها تفويض وهو يحتمل معنى العموم والخصوص فإذا نوى الثلاث فقد نوى(19/233)
ص -114- ... العموم في التفويض وذلك صحيح منه ثم الوكيل ممتثل أمره في إيقاع الثلاث وإن لم يكن نوى ثلاثا لم يقع شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما تقع واحدة بمنزلة ما لو قال طلقها واحدة وطلقها ثلاثا وكذلك لو قال اخلعها فطلقها ثلاثا فهو على ما بينا لأن نية الثلاث تقع في الخلع ولو قال طلق إحداهن بعينها أو اخلعها كان ذلك جائزا بمنزلة ما لو قال طلق أيتهن شئت وهناك يملك الإيقاع على واحدة بعينها وكذلك إذا طلق إحداهن ألا ترى أنه لو قال بع عبدا من عبيدي فباع واحدا منهم بعينه جاز ولو قال الموكل لم أعن هذا لم يصدق فكذلك في الطلاق فإن قيل التعيين من ضرورة ما فوض إليه فإن بدون التعيين لا ينفذ بيعه وهنا التعيين ليس من ضرورة ما فوض إليه فإن بدون التعيين يقع الطلاق على إحداهن فينبغي أن لا يملك الوكيل الإيقاع على المعينة لما فيه من قطع خيار الزوج قلنا هذا أن لو شرط الزوج لنفسه خيارا وهنا لم يشترط ولكن ثبوت الخيار له عند انعدام تعين محل الطلاق وذلك لا يوجد إذا وقع على إحداهن بعينها وهذا لأن المعتبر ما نص عليه في التوكيل وهو إنما نص على الإيقاع على واحدة وهذه واحدة منهن قد أوقع عليها فكان ممتثلا لما نص عليه الموكل وكذلك لو طلق واحدة منهن بغير عينها وقع لأنه ممتثل أمره بالإيقاع على واحدة منهن ثم الخيار إلى الزوج لانعدام تعين محل الطلاق ولا يملك الوكيل التعيين لأن وكالته قد انتهت بالإيقاع فأما قبل الإيقاع فوكالته قائمة فلهذا ملك الإيقاع على واحدة بعينها.(19/234)
قال: وإذا وكلت المرأة رجلا أن يخلعها من زوجها على مال أو على ما بدا له فخلعها على المهر الذي أخذت منه فهو جائز عليها وهو دين على المرأة ولا يؤخذ به الوكيل لأنه معبر عنها فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إليها فيقول اخلع امرأتك ولا يقول اخلعني ولأنه ليس على الوكيل من تسليم المعقود عليه شيء فلا تتوجه عليه المطالبة بالبدل أيضا قال وإذا وكلته بالخلع فله أن يخلعها في ذلك المجلس وغيره ما لم تعزله لأن التوكيل مطلق فهو بمنزلة الوكيل في سائر التصرفات أو التوكيل بالخلع من جانب الزوج.
قال: ولو وكل الرجل رجلا أن يخلع امرأته ووكلت المرأة ذلك الرجل أن يخلعها من زوجها فخلعها الوكيل من نفسه ولم يلق الزوج ولا المرأة فالخلع باطل وهو في هذا بمنزلة البيع لأن الخلع من جانبها إلتزام للمال بعوض فيكون في حكم البيع وهذا لأن المال في الخلع لا يجب إلا بتسمية البدل فالواحد إذا تولاه من الجانبين يكون مستزيدا أو مستنقصا وذلك لا يجوز وكذلك إن كان البدل مسمى لأن تسمية البدل من جانب الزوج يمنع الوكيل من النقصان دون الزيادة ومن جانب المرأة يمنع من الزيادة دون النقصان.
قال: ولو وكلت المرأة زوجها أن يخلعها من نفسه بما شاء فخلعها من نفسه بخادمها فهو باطل إلا أن تجيز المرأة ذلك وكذلك لو وكل الزوج المرأة أن تخلع نفسها منه فخلعت نفسها منه بمال أو عرض فإن ذلك لا يجوز إلا أن يرضى الزوج به وهذا بمنزلة البيع من(19/235)
ص -115- ... الوجه الذي قلنا وهذا لأن المرأة رضيت بالخلع لا بزوال ملكها عن الخادم والزوج رضي بالخلع لا بدخول ذلك العرض بعينه في ملكها فلهذا لا يجوز إلا برضا من الجانبين.
ولو قال الرجل لامرأته: اشتري طلاقك مني بما شئت فقد وكلتك بذلك فقالت قد اشتريته بكذا وكذا كان باطلا لما بينا أنها لا تصلح نائبة عن الزوج في تعيين جنس البدل وتسمية مقداره فيما يجب عليها لأنها بحكم النيابة تكون مستزيدة في ذلك وباعتبار جانبها تكون مستنقصة ولو قال لها طلقي نفسك مني بكذا وكذا ففعلت كان ذلك جائزا لأن الزوج هنا قدر البدل بنفسه ثم جعلها نائبة عنه في الإيقاع وهي تصلح معبرة عن الزوج في إيقاع الطلاق قال: ولا تنشئ الطلاق بالمال كالخلع بغير مال وقيل هذا غير صحيح فإنه ذكر في الخلع بمال أنه جائز فما معنى هذا الفرق الذي أشار إليه قيل معناه إذا قال لها طلقي نفسك أو اختلعي مني بغير مال فأوقعته كان صحيحا ولو قال بما شئت لم يكن صحيحا إلا أن يرضى به الزوج.
قال: وإذا وكل الرجل رجلا أن يخلع امرأته فخلعها الزوج أو بانت منه بوجه ثم تزوجها في العدة أو بعدها لم يكن للوكيل أن يخلعها لأن بوقوع البينونة خرج الموكل من أن يكون مالكا للخلع فيتضمن ذلك عزل الوكيل ثم لو تزوجها بعد ذلك بسبب مستأنف لا يوجب إعادة الوكالة وكذلك لو وكلته هي سقطت برده أو بطلاق الزوج قال: ولو وكله أن يخلعها على عبد لها على إن زادها مائة درهم فأبى الزوج أن يلتزم المائة بطلت حصتها من العبد لأن العقد في حصة المائة شراء ولم يفوض الزوج إليه ذلك وجاز له حصة المهر وقد بينا في النكاح نظيره.(19/236)
قال: ولو كان الوكيل ضمن المائة لها لزمته بالضمان ولا يرجع بها على الزوج لأنه ضمن بغير أمره وهذا لأن ضمان البدل في باب الخلع من الوكيل صحيح فكذلك ضمان ما كان ثبوته تبعا للخلع والشراء في حصة المائة يثبت تبعا على ما قدرنا فيصح التزام الوكيل ذلك بالضمان ولا يملك الوكيل بمقابلته شيئا من العبد بل يكون العبد كله للزوج بدلا في الخلع.
قال: ولو خلعها الوكيل على حر أو خمر أو دم أو خنزير فالخلع باطل لأنه لو وقع الطلاق هنا وقع بغير جعل فصار كما لو أوقعه الزوج بنفسه والموكل بهذا لم يرض بخلاف النكاح فإنه لو صح النكاح عند تسمية الخمر والخنزير كان بعوض كما لو ترك تسمية العوض أصلا قال: ولو خلعها على درهم جاز عند أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصلهما فيما يفسد الوكالة بالعرف وإن خلعها على حكمها أو على حكم الوكيل جاز لأن الطلاق بهذا الخلع يقع بعوض كما لو باشره الزوج بنفسه ثم الواجب عليها رد المقبوض من الصداق فإن حكمت بذلك أو أكثر جاز حكمها وإن حكمت أو حكم الوكيل بأقل من ذلك لم يجز حكمه لأن فيه إسقاط حق الزوج عن بعض ما صار مستحقا له فهما لا يملكان ذلك.(19/237)
ص -116- ... قال: وإذا وكلت المرأة الذمية مسلما بخلعها من ذمي على خمر أو خنزير جاز وكذلك النكاح لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم ولو كان أحد الزوجين مسلما والوكيل كافرا جاز الخلع وبطل الجعل لأن الوكيل ممتثل أمره حين سمي ما هو مال متقوم في حقه ولكن المسلم ممنوع من تملك الخمر وتملكها بالعقد فلهذا بطل الجعل وهذا على أصلهما ظاهر لأنهما يعتبران حال الموكل كما في التوكيل ببيع الخمر وشرائها وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله هناك كذلك لأن الوكيل سفير ومعبر لا يتعلق به شيء من حقوق العقد هنا بخلاف الوكيل بالبيع والشراء قال: ولو وكل رجلا بأن يخلع امرأته وقال له إن أبت الخلع فطلقها فأبت الخلع فطلقها وقع بإيقاعه ثم هذا كإيقاع الموكل بنفسه وإيقاع الموكل بصريح الطلاق لا يمنع بقاء الوكالة بالخلع فكذلك إيقاع الوكيل حتى لو قالت أنا أخالع فخلعها وهي في العدة جاز لأن الأول كان رجعيا والطلاق الرجعي لا يمنع الخلع وقد بينا الوكالة بالخلع بعد ما أبانها فلهذا صح الخلع والله أعلم.
باب الوكالة في الإجارة والمزارعة والمعاملة
قال رحمه الله: وإذا كانت الأرض بين رهط فوكل أحدهم وكيلا بإجارة نصيبه فأجره من جميعهم جاز وإن أجره من أحدهم لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز عندهما بمنزلة ما لو باشره الموكل بنفسه وأصل المسألة أرض بين رجلين أجر أحدهما نصيبه من صاحبه يجوز بالاتفاق لتمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه كما تناوله العقد ولو أجره من أجنبي لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز عندهما لأن بيع المنفعة معتبر ببيع العين فالشيوع لا يمنع صحته وأبو حنيفة رحمه الله يقول المستأجر لا يقدر على استيفاء المعقود عليه كما تناوله العقد لأن المعقود عليه منفعة نصيب من العين شائع والاستيفاء جزء معين إذا عرفنا هذا فنقول هنا إذا أجر نصيبه من جميع شركائه فهم يقدرون على الاستيفاء كما هو قضية العقد.(19/238)
وإن أجره من أحدهم لم يقدر على استيفاء المعقود عليه كما تناوله العقد فلهذا لم يجز العقد عنده والوكيل بالإجارة إذا أجره بعرض أو خادم بعينها فهو جائز وعند أبي حنيفة رحمه الله ظاهر وعندهما تقييد التوكيل بالبيع بالنقد لدليل العرف ولا عرف في الإجارة بل العرف فيه مشترك ولأن البيع بعرض بعينه شراء من وجه وهنا تعيين الأجرة لا يخرج العقد من أن يكون إجارة من كل وجه ولأنا لو جعلناه مخالفا تضرر به الموكل لأن الأجر يكون للعاقد ولا ضمان عليه فإن المنافع لا تتقوم بخلاف بيع العين والوكيل بالإجارة خصم في إثبات الإجارة وفي قبض الأجر وجنس المستأجر به لأن الإجارة بيع المنفعة قياس بيع العين والوكيل وكيل في إضافة العقد إليه وكان في حقوق العقد كالعاقد لنفسه فإن وهب الأجر للمستأجر أو أبرأه منه جاز إن لم يكن شيئا بعينه ويضمنه للآمر وإن كان شيئا بعينه لم يجز إبراؤه ولا هبته لأن الغير صار مملوكا له باستيفاء المنفعة واشتراط التعجيل فتصرف الوكيل بالهبة يلاقي عينا هي ملك الغير بغير أمره فكان باطلا في غير المعين وإنما وجب(19/239)
ص -117- ... الأجر بعقد الوكيل عند استيفاء المنفعة دينا في ذمة المستأجر فيكون بمنزلة الثمن في البيع وقد بينا أن الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن صح إبراؤه وصار ضامنا للآمر في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله فهذا مثله.
وأما إذا أبرأه عن جميع الأجر قبل استيفاء المنفعة فهو على الخلاف الذي عرف في المؤاجر إذا كان مالكا فأبرأ عن جميع الأجر قبل استيفاء المنفعة وفيه خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله مذكور في الإجارات وموت الوكيل لا ينقض الإجارة وموت رب الأرض أو المستأجر ينقضها لأن الانتقاض بموت رب الأرض باعتبار أن العين قد انقلبت إلى ملك الوارث فالمنافع بعد الموت تحدث على ملك الوارث وفي هذا لا يفترق الحال بين أن يكون هو المؤجر بنفسه أو وكيله وبموت المستأجر إنما تنتقض لأن الإرث لا يجري في المنافع المجردة وعند موت الوكيل لا يتحقق واحد من هذين المعنيين فلا تنتقض الإجارة وكذلك الجواب في وصي اليتيم وقيم الوقف بعد ما أجر العين.
قال: ولو أن الوكيل ناقض المستأجر الإجارة قبل استيفاء المنفعة جازت مناقضته إن كان الأجر دينا أو عينا بخلاف الإقالة في بيع العين وقد قررنا هذا الفرق فيما سبق ثم زاد فقال إلا أن الوكيل قد قبض الأجر فحينئذ لا يجوز مناقضته لأن المقبوض صار مملوكا للآمر بعينه فإن الأجر يملك بالتعجيل وفي هذه المناقضة إبطال ملك الآمر عن العين وإبطال يده لأن مقبوض الوكيل صار كالمقبوض للآمر فأما قبل القبض وإن كان الأجر عينا فلم يصر مملوكا فلا تثبت اليد أيضا للآمر فلهذا ملك الوكيل نقض العقد فيه وأما بعد استيفاء المنفعة فلا يتصور مناقضة الإجارة.(19/240)
قال: وإذا وكله أن يؤاجره أرضا له وفيها بيوت ولم يسم البيوت فله أن يؤاجر البيوت والأرض وكذلك لو كان فيها رحى لأن ما في الأرض من البناء وصف وتبع له حتى يدخل في البيع من غير ذكر فكذلك في الإجارة لأنه صالح لما يصلح له الأصل بطريق الإجارة فكذلك إذا وكل الوكيل بأن يؤاجره وإذا أجر الأرض صاحبها ثم وكل وكيلا بقبض الأجر فهو جائز كالتوكيل بقبض سائر الديون فإن أخر الوكيل الأجر عن المطلوب أو حطه عنه أو صالحه على نقض دينه لم يجز لأنه غير ما فوض إليه وهو نائب محض فلا يصح منه إلا ما فوض إليه وإن وكله أن يؤاجرها بدراهم فأجرها بدنانير لم يجز لأنه خالف ما أمره به نصا ولو أجرها بأكثر مما سمي له من الدراهم جاز إلا على قول زفر رحمه الله وهو نظير الوكيل بالبيع بألف إذا باع بألفين فعند زفر رحمه الله ظاهر لأنه خالف اللفظ في الفصلين.
ونحن نقول: إذا حصل مقصود الآمر وزاد خيرا لم يكن تصرفه خلافا وكذلك الوكيل بالاستئجار مدة معلومة بدراهم مسماة إذا استأجرها بأقل من ذلك والوكيل بالإجارة والاستئجار بالدراهم ليس له أن يزارع لأنه مخالف لما أمره به نصا وكذلك الوكيل بالمزارعة ليس له أن يؤاجر بدراهم ولا حنطة لأنه مخالف لما أمره به نصا أما في الاستئجار بدراهم(19/241)
ص -118- ... فغير مشكل وكذلك بالحنطة لأن الآمر إنما رضي بأن يكون حق صاحب الأرض في جزء من الخارج لا في ذمته والاستئجار بالحنطة يوجب الأجر في ذمته وله في هذا منفعة فربما يصيب الخارج آفة فإذا كان أجرها مزارعة لم يضمن شيئا وإذا استأجره بحنطة في ذمته كان ضامنا للآجر.
قال: وإذا وكله أن يستأجرها له فأخذها له مزارعة لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا يرى جواز المزارعة أصلا وتجوز عندهما لأن المزارعة عقد وهي من صاحب اليد استئجار الأرض بجزء من الخارج فإذا لم يسم له الآمر بأي شيء يستأجرها له أن يستأجرها ببعض الخارج لأن فيه منفعة للآمر فإنه إن حصل الخارج يجب الأجر وإن لم يحصل لا يجب شيء ولو استأجرها بأجرة مسماة يجب الأجر سواء حصل الخارج أو لم يحصل.(19/242)
قال: وإذا وكله أن يستأجر له أرضا فما استأجرها به من مكيل أو موزون بغير عينه فهو جائز على الآمر في قول أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو على الدراهم والدنانير وما يستأجر به الأرض مما يخرج منها من المكيل والموزون ونحوه أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن التوكيل بالاستئجار مطلق فما استأجر به من مكيل أو موزون بغير عينه فهو جائز لأنه استئجار مطلق وقيل: هذا بناء على قوله الأول في الوكيل بالشراء أنه يملك الشراء بمكيل أو موزون بغير عينه فأما على قوله الآخر كما لا يملك الوكيل بالشراء أن يشتري إلا بالنقد فكذلك الوكيل بالاستئجار وقيل بل بينهما فرق لأن في الشراء بالنقد عرفا ظاهرا فإذا تعذر حمل التوكيل على العموم حمل على المتعارف وليس في الاستئجار مثل ذلك الفرق فقد يكون بمكيل أو موزون بالنسيئة كما يكون بالنقد فأما عندهما فالوكيل بالاستئجار يملك أخذ الأرض مزارعة وذلك استئجار ببعض ما تخرج الأرض فإذا استأجرها بالدراهم أو بشيء مما تخرجه تلك الأرض كان ممتثلا أمر الآمر فيجوز وإن استأجرها بشيء من الجراب أو المكيل أو الموزون بعينه كان مخالفا لأنه لو نفذ هذا التصرف منه خرج ملك العين عن ملك الآمر وهو مأمور من جهته بإدخال المنفعة في ملكه لا بنقل الملك بشيء من أعيان ماله إلى غيره.(19/243)
قال: وللوكيل بالمزارعة والمعاملة أن يقبض نصيب رب الأرض من الخارج لأنه وجب بعقده فإن وهبه للعامل أو أبرأه منه لم يجز في قول من يجوز المزارعة والمعاملة لأن لرب الأرض في نصيبه من الخارج عينا وقد بينا أن الأجر إذا كان شيئا بعينه فليس للوكيل فيه ولاية الإبراء والهبة قال وإذا وكله أن يدفع أرضه مزارعة فأجرها بحيوان أو بدراهم لم يجز لأنه مأمور بأن يؤاجرها بجزء مما تخرجه الأرض وقد خالف ما أمر به نصا وأن أجرها بحنطة كيلا أو بشيء مما يزرع يجوز ذلك في قول من يجيز المزارعة لأنه حصل مقصود الآمر بطريق هو أنفع له مما سمي له فإنه لو دفعها مزارعة ثم اصطلم الزرع آفة لم يستوجب الآمر شيئا وإذا أجرها بحنطة كيلا كان الآمر مستحقا للآجر وإن اصطلم الزرع آفة وفيه يحصل مقصوده لأن الأجر المسمى من جنس ما تخرجه الأرض فلهذا كان صحيحا.(19/244)
ص -119- ... قال: وإذا وكله أن يدفعها مزارعة فدفعها إلى رجل وزرعها رطبة أو شيئا من الحبوب كان هذا جائزا لأن هذا كله من عمل المزارعة والضرر على الأرض فيه غير متفاوت فإن دفعها إلى رجل يغرس فيها شجرا لم يجز لأن الغراسة ليست من المزارعة في شيء والضرر على الأرض في عمل الغراسة ليس من جنس ضرر عمل المزارعة فلهذا كان مخالفا ثم فرق بين هذا وبين ما إذا أخذ الأرض مزارعة ولم يبين الآمر ما يزرع فيها لم يجز والتوكيل بدفعها مزارعة يجوز في هذا لأن الوكالة مبنية على التوسع وتسمية البدل في الوكالة ليس بشرط والجهالة المستدركة لا تمنع صحتها بخلاف المزارعة فإنها تتعلق بها صفة اللزوم على قول من يجيزها فلا بد أن يكون البدل معلوما فيها وإنما يصير الجنس معلوما ببيان ما يزرع فيها.
قال: ولو وكله بدفعها لمن يغرس فيها النخل بالنصف فدفعها له لم يجز قال ولو وكله في أرض له ليدفعها إلى رجل يبني فيها بيوتا ويؤاجرها بالنصف ويكون الأجر بينهما نصفين فهو جائز في قول من يجيز المعاملة وليس هذا مذهب علمائنا رحمهم الله بل هو قول أهل المدينة رحمهم الله بيانه في مسألة الدسكرة في كتاب المضاربة.(19/245)
قال: ولو وكل رجل رجلا بأن يستأجر له أرضا فاستأجرها فالأجر إنما يجب لرب الأرض على الوكيل وللوكيل على الآمر بمنزلة التوكيل بالشراء حتى لو وهب رب الأرض الأجر من المستأجر أو أبرأه منه كان للمستأجر أن يأخذ ممن وهبها له ولو أراد المستأجر أن يأخذ من الآمر الأجر قبل أن يؤديه كان له ذلك كما في الوكيل بالشراء وكذلك لا سبيل لرب الأرض على الآمر له في المطالبة بالأجر لأنه لم يعامله بشيء قال ولو مات المستأجر كان ينبغي في القياس أن الإجارة له لأنه في حكم العقد بمنزلة العاقد لنفسه ولكنه استحسن فقال موت العاقد ليس بمبطل للإجارة بعينه بل لما في إبقائه من توريث المنفعة وذلك غير موجود هنا لأن المنفعة كانت مملوكة للآمر يستوفيها قبل موت الوكيل وبعده بصفة واحدة.
قال: ولو أن المستأجر ناقض رب الأرض الإجارة فإن كانت الأرض في يد المؤاجر جازت المناقضة لأن الآمر لم يتملك بنفس العقد شيئا من المعقود عليه ولا ثبتت يده على شيء فصحت المناقضة من الوكيل كما في جانب الوكيل بالإجارة وإن كان قد دفعها إلى الآمر أو المستأجر ثم ناقض ففي القياس يجوز أيضا لأن الآمر لم يملك شيئا من المعقود عليه لكونها معدومة وكذلك لم تثبت يده على المعقود عليه حتى لو تلفت لخراب الدار كان في ضمان الأجر كذلك ولكنه استحسن فقال قبض محل المعقود عليه وهو الأرض أو الدار جعل بمنزلة قبض المعقود عليه كما أن عين الدار والأرض جعل قائما مقام المعقود عليه في جواز العقد ألا ترى أنه لا يملك التصرف قبل قبض الدار ويملك بعد ذلك وقد ثبتت يد الآمر على الأرض حقيقة بقبضه وحكما بقبض المستأجر وصار استدامة اليد إلى انتهاء المدة مستحقا له فلا يملك الوكيل إبطال ذلك الحق عليه للمناقضة استحسانا.
قال: وإذا وكله أن يستأجرها له سنة فاستأجرها سنتين فالسنة الأولى للآمر والسنة الثانية(19/246)
ص -120- ... للوكيل لأن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة ففي المدة التي سمي له الآمر امتثل أمره بالاستئجار له وحصل مقصوده وفيما زاد على ذلك أنشأ التصرف بغير أمره فيكون عاقدا لنفسه ويكون كالمضيف العقد الذي باشره لنفسه إلى وقت في المستقبل ولأن التوكيل بالاستئجار كالتوكيل بالشراء والوكيل بشراء شيء بعينه إذا اشترى ذلك الشيء مع غيره كان مشتريا ذلك الشيء للآمر وما سواه يصير مشتريا لنفسه قالوا وإذا وكله أن يستأجر له دارا فسقط بعض الدار قبل أن يقبضها أو بعد ما قبضها فقال المستأجر أنا أرضى بها فإنها تلزم المستأجر دون الآمر بمنزلة الوكيل بالشراء يعلم بالعيب فيرضى به وذلك يلزمه دون الآمر فهذا مثله إلا أن هنا يستوى إن كان الانهدام قبل قبض الدار أو بعده لأن بقبض الدار المعقود عليه لا يدخل في ضمان المستأجر وانهدام بعض البيوت يمكن نقصانا في المعقود عليه فيكون منشئا الخيار للمشتري والمستأجر والآمر.
قال: ولو وكل رجلين أن يستأجرا له أرضا فاستأجرها أحدهما لزم الوكيل لأن هذا عقد يحتاج فيه إلى الرأي وقد فوضه إليهما فلا ينفرد به أحدهما وإذا تعذر تنفيذه على الآمر نفذ العقد على المباشر بمنزلة الوكيلين بالشراء فإن قال الآمر أنا أرضى بذلك فللمستأجر أن يمنعه منه لأنه صار عاقدا لنفسه فلا يملك استحقاقه عليه بغير رضاه فإن دفعها إليه فهو للآمر بإجارة مستقبلة ويجعل الوكيل عند التسليم إليه كأن يقول أجرتك هذه إلى كذا كذا فهو بالقبض يصير كأنه قال استأجرته منك والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة من أهل الكفر(19/247)
قال رحمه الله: وإذا وكل الذمي الذمي بقبض خمر له بعينها فصارت خلا فله أن يقبضها لأن العين باقية بعد التخلل والهيئة باقية وإنما اختلف الطعم والوكالة إنما صحت لبقاء العين فما بقيت العين صحت الوكالة وبقيت وكذلك المسلم يوكل المسلم بقبض عصير له بعينه فيصير العصير خلا فله أن يقبضه ولم يذكر ما إذا صار خمرا والصحيح أن له أن يقبضه أيضا لأن الموكل يملك قبضه بعد التخمر فيملك وكيله قبضه أيضا.
قال: ولو وكل ذمي ذميا بقبض جلود ميتة ودباغها ففعل ذلك فهو جائز وهذا لا يختص بالذمي والجواب في المسلم هكذا لأن القبض إثبات اليد على العين مالا كان أو غير مال والموكل يملك ذلك بنفسه وهو أحق به لأن ملكه لم يبطل ببطلان المالية إلا أنه وضع هذه المسائل في أهل الذمة صيانة للمسلمين عن التداول لأعيان نجسة قال وإذا وكل الحربي مسلما أو ذميا أو حربيا بتقاضي دين له في دار الإسلام وأشهد على ذلك شهودا من أهل الإسلام فخرج وكيله من دار الحرب وطلب ذلك فهو جائز لأنه خرج بنفسه مسلما أو ذميا أو مستأمنا فطلب ذلك الحق جاز فكذلك إذا بعث وكيلا لأنه ربما يعجز عن الخروج بنفسه والتوكيل استعانة بالغير فيما يعجز فيه عن مباشرته بنفسه وعلى هذا لو وكل بقبض وديعة له أو بيع شيء أو شرائه في دار الإسلام وعلى هذا توكيل المسلم أو الذمي أو الحربي(19/248)
ص -121- ... المستأمن في دار الإسلام بخصومة أو بيع أو غير ذلك لأن المسلم والذمي من أهل دار الإسلام وهو يملك الخصومة بنفسه فيملك أن يوكل الحربي المستأمن بها.
قال: فإن كان الحربي مستأمنا فلحق بدار الحرب فإن كان الذي وكله مسلما أو ذميا انتقلت الوكالة لتباين الدارين حقيقة وحكما وذلك قاطع لأقوى أنواع العصمة وهو النكاح فلأن يقطع الوكالة بالخصومة أولى ألا ترى أن ابتداء التوكيل بهذه الصفة لا يجوز فكذلك لا يبقى قال وإذا كان الذي وكله حربيا من أهل داره ففي القياس تبطل الوكالة أيضا لما قلنا ولكنه استحسن فقال إنفاق الدارين حكما قد انعدم هنا لأن المستأمن وإن كان في دارنا صورة فهو من أهل الحرب حكما ألا ترى أنه ممكن من الرجوع والظاهر أنه يرضى بتصرفه بعد رجوعه إلى دار الحرب لأنه على عدم اللحوق بدار الحرب بخلاف المسلم والذمي.
قال: وإذا وكل المستأمن مستأمنا بخصومة ثم لحق الموكل بالدار وبقي الوكيل يخاصم فإن كان الوكيل هو الذي يدعي للحربي الحق قبلت الخصومة فيه لما بينا وإن كان الحربي هو المدعى عليه ففي الاستحسان كذلك اعتبارا لأحد الجانبين بالآخر وتحقيقا للتسوية بين الخصمين وفي القياس تنقطع الوكالة حين يلحق بالدار وبالقياس نأخذ لأن المقصود من الخصومة القضاء وإنما توجه القاضي للقضاء على الموكل دون الوكيل ألا ترى أن فيما يقيم من الحجة عليه يراعي دين الموكل دون الوكيل وبعد ما رجع الموكل إلى دار الحرب حربيا لا يبقى لقاضي المسلمين عليه ولاية إلزام القضاء فلهذا تبطل الوكالة فأما إذا كان الموكل هو المدعي فإنما يوجه القاضي القضاء على الخصم الذي هو في دار الإسلام لخصومة وكيل الحربي وله هذه الولاية فلهذا بقيت الوكالة.(19/249)
قال: ولو وكل المستأمن ذميا ببيع متاع أو بتقاضي دين سوى الخصومة ثم لحق بدار الحرب فهو جائز لأن ابتداء التوكيل وهو في دار الحرب صحيح فبقاؤه أولى قال وإن كان الموكل ذميا والوكيل مستأمنا فلحق بالدار بطلت الوكالة لأن الذمي من أهل دارنا كالمسلم ومن هو في دار الحرب حقيقة وحكما في حق من هو في دار الإسلام كالميت فكما لا يبقى بعد موت الوكيل فكذلك بعد لحاقه بخلاف ما إذا كان الموكل حربيا لأنه من أهل تلك الدار حكما فلا يصير الوكيل باللحوق بالدار في حقه كالميت قال وإن وكل المرتد وهو في دار الحرب وكيلا ببيع شيء من ماله في دار الإسلام لم يجز لأن بلحوقه بالدار زال ماله عن ملكه وصار في حكم الميت ولهذا يقضي بالمال لوارثه لأنه إنما وكل ببيع ما لا يملك بيعه بنفسه فإن أسلم بعد ذلك لم تجز الوكالة لأنه لما لم يكن مالكا عند التوكيل تعينت جهة البطلان في وكالته فلا ينقلب صحيحا بعد ذلك بعود الملك إليه ألا ترى أنه لو باع بنفسه ثم أسلم لم ينفذ ذلك البيع.
قال: ولو وكله وهو مسلم ثم ارتد ثم أسلم قبل لحاقه بدار الحرب فهو على وكالته في جميع ذلك لأن ملكه لم يزل قبل لحاقه بل توقف وبإسلامه قبل لحاقه يعود ألا ترى(19/250)
ص -122- ... أنه لو باع بنفسه ثم أسلم نفذ البيع فكذلك تبقى وكالة الوكيل في جميع ذلك ما خلا النكاح لأنه بالردة خرج من أن يكون مالكا للنكاح بنفسه فتبطل الوكالة به أيضا ثم لا يعود إلا بالتجديد قال ولو لحق بدار الحرب مرتدا ثم جاء مسلما فالوكيل على وكالته إلا أن يكون القاضي قضى بلحاقه وقسم ماله بين ورثته فحينئذ ينعزل الوكيل ثم لا يعود وكيلا وإن جاء مسلما لأن اللحوق بدار الحرب إذا لم يتصل به قضاء القاضي فهو غيبة وإذا اتصل به قضاء القاضي فهو كالموت ولم يذكر هذا التقسيم فيما إذا كان ابتداء التوكيل بعد ما لحق بدار الحرب فمن أصحابنا رحمهم الله من قسمه على أحد الفصلين والأصح هو الأول والفرق بينهما أن تعيين اللحوق بدار الحرب لا يمنع ابتداء التصرف من المرتد فلا يمنع بقاءه ما لم يقض القاضي بلحاقه ألا ترى أنه لو باع بنفسه بعد ما التحق بدار الحرب شيئا من ماله في دار الإسلام ثم جاء مسلما لم ينفذ ذلك البيع فكذلك الوكالة بلا فرق بينهما.
قال: وإذا وكل الرجلان رجلا أن يشتري لهما جارية بعينها ثم ارتد أحدهما ولحق بالدار ثم اشتراها الوكيل لزم الوكيل نصفها والموكل الثاني نصفها لأن كل واحد منهما وكله بشراء النصف له ففي نصف الذي لحق بالدار جعل كأنهما لحقا فيكون الوكيل مشتريا لنفسه وفي نصيب الذي بقي يجعل كأنهما بقيا في دارنا فيكون مشتريا له وهذا قياس موت أحد الموكلين فإن قال ورثة المرتد اشتريتها قبل أن يرتد صاحبها وكذبهم الوكيل فالقول قوله مع يمينه لأن الورثة يدعون الإرث فيما لم يثبت الملك لمورثهم فيه ولأن الشراء حادث فيحال بالحدوث إلى أقرب الأوقات وهم يدعون فيه تاريخا سابقا ولأن الظاهر أن المرء يكون متصرفا لنفسه حتى يقوم الدليل على أنه يتصرف لغيره.(19/251)
ولو كان الوكيل نقد مال المرتد فالقول قول الورثة لأن الظاهر شاهد لهم فإن الإنسان في تصرفه لنفسه لا ينقد مال غيره فإن أقاما البينة فالبينة بينة الورثة أيضا لأنهم يثبتون الملك لمورثهم وسبق التاريخ في العقد الذي باشره الوكيل وعلى هذا لو كان المرتد هو الموكل وحده فالجواب لا يختلف ولو قال الوكيل اشتريتها قبل لحاقه بدار الحرب وكذبه الورثة فالقول قول الوكيل إذا كان المال مدفوعا إليه وهو ليس تعيين مال قائم في يده أو يد غيره وإن لم يكن المال مدفوعا إليه فالقول قول الورثة لأنه يدعي عليهم وجوب ثمن المشتري وهم ينكرون ذلك وكذلك إن كان المال المدفوع إليه بعينه في يده أو في يد البائع لأن عينه صارت ملكا لهم فهو بقوله يبطل ملكهم وقد بينا نظير ذلك في موت الموكل.
قال: وإذا وكل الرجل رجلا أن يخلع امرأته على مال أو يطلقها بتا بغير مال ثم ارتد الزوج ولحق بالدار أو مات وخلعها الوكيل أو طلقها فقالت المرأة فعل ذلك بعد موت زوجي أو بعد لحاقه وقال الوكيل والورثة كان ذلك في حياته وإسلامه فالقول قول المرأة والطلاق باطل ومالها مردود عليها ولها الميراث لأن الخلع والإيقاع من الوكيل حادث والورثة يدعون فيه سبق التاريخ وهو ينكر فالقول قولها إلا أن تقوم البينة فحينئذ يثبت التاريخ ببينة(19/252)
ص -123- ... الورثة قال ولو وكل وكيلا بعتق عبد له على مال أو غير مال أو مكاتبته ثم ارتد الموكل ولحق بدار الحرب أو مات فقال الوكيل فعلت ذلك في إسلامه وكذبه الورثة فالقول قول الورثة لأن سبب ملكهم في العبد ظاهر فالوكيل مخبر بما يبطل ملكهم عن العين وهو لا يملك إنشاءه في الحال فلا يقبل قوله بخلاف ما تقدم.
فإن الورثة لا يخلفونه في ملك المرأة نكاحا فلهذا جعلنا القول قولها هناك وفي الحقيقة لا فرق وفي الموضعين جميعا يجعل تصرفه محالا به على أقرب الأوقات لأنه لم يثبت فيه سبق التاريخ ولهذا لو قامت لهم جميعا البينة أخذ ببينة الوكيل والعبد لأن فيها إثبات سبق التاريخ ولو دفع إلى رجل ألف درهم فقال تصدق بها أو اقضها فلانا عني ثم ارتد الآمر ولحق بالدار فقال الوكيل فعلت ذلك في إسلامه فالقول قوله لأنه أمين مسلط أخبر بما سلط عليه فيوجب قبول قوله إذا لم يكن كذبه ظاهرا وإن أقاموا البينة فالبينة بينته أيضا لأنه يثبت سبق التاريخ في تصرفه ببينته وكذلك لو وكله ببيع عبد بعينه فقال قد بعته في إسلامه ودفعت إليه الثمن فإن كان مستهلكا فالقول قوله والبينة بينته لما بينا وإن كان العبد قائما بعينه لم يصدق الوكيل لأنه يخبر بزوال ملك الورثة عنه بتصرف لا يملك إنشاءه في الحال وكذلك هذا كله في المرتدة اللاحقة بالدار لأن بعد اللحوق حال الرجل والمرأة فيه سواء.(19/253)
قال: وإن كان الموكل قد عاد مسلما من دار الحرب ثم اختلف هو والوكيل فالقول فيه مثل الأول كاختلاف الوكيل مع الورثة لما قلنا قال ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها ثم ارتد الآمر ولحق بالدار فقال الوكيل زوجته في إسلامه وكذبه الورثة والموكل بعد ما جاء مسلما فإنه لا يقبل قول الوكيل أو المرأة لأن الوكيل يخبر بما لا يملك استئنافه فقد انعزل بردة الآمر ولم يعد وكيلا بعد ما جاء مسلما وليس في كلامه نفي ضمان عن نفسه بل فيه إيجاب الحق لها في تركته أو في ذمته إذا جاء مسلما وإن أقاموا البينة فالبينة بينة المرأة لأنها تثبت الحق لنفسها ببينتها ونثبت سبق التاريخ والورثة ينفون ذلك وإن لم يكن بينهما بينة يستحلف الورثة على علمهم لأنهم لو أقروا بما ادعت لزمهم فإن قضى القاضي لهم بالميراث بعد ما حلفوا ثم رجع المرتد مسلما فأرادت المرأة أن تستحلفه أيضا فلها ذلك لأنها تدعي الصداق دينا في ذمته واستحلاف الورثة لا يسقط اليمين عنه لأنهم ما كانوا نائبين عنه فالنيابة في الأيمان لا تجري.
قال: وتوكيل المرتدة بالتصرفات التي تملك مباشرتها بنفسها صحيحة سواء وكلت بذلك مرتدة مثلها أو مسلما وكذلك إن كان التوكيل قبل ردتها يبقى بعد الردة لأنها تبقى مالكة للتصرف بنفسها إلا أن توكل بتزويجها وهي مرتدة فإن ذلك باطل لأنها لا تملك أن تتزوج بنفسها فلا يصح توكيلها بذلك حتى لو زوجها الوكيل في حال ردتها لم يجز وإن لم يزوجها حتى أسلمت ثم زوجها جاز لأن التوكيل كالمضاف إلى ما بعد إسلامها بمنزلة المعتدة أو المنكوحة إذا وكلت إنسانا بأن يزوجها وهذا بخلاف ما إذا كان التوكيل في إسلامها ثم(19/254)
ص -124- ... ارتدت ثم أسلمت فزوجها لم يجز لأن ارتدادها إخراج من الوكالة فإنها حين كانت مالكة للعقد وقت التوكيل نثبت الوكالة في الحال ثم بردتها تخرج من أن تكون مالكة للعقد فيكون ذلك عزلا منها لوكيلها فبعدما انعزل لا يعود وكيلها إلا بتجديد.
قال: ولو وكلت المرتدة وكيلا بخصومة أو قضاء دين أو تقاضيه ثم لحقت بالدار انتقضت الوكالة لأن لحاقها بمنزلة ردتها حكما كلحاق الرجل لأنها باللحوق صارت مستحقة لأن تسترق ففيه إتلاف حكما فلهذا تبطل الوكالة فإن قال الوكيل فعلت في حياتها أو قبل لحاقها فهو مصدق في المستهلك غير مصدق في القائم بعينه لأنه صار مملوكا لورثتها ولو قال قد قبضت دينا لها من فلان لم يصدق على ذلك إلا ببينة وإن كان قائما بعينه لأن الورثة قاموا مقامها في الدين في ذمة الغريم والوكيل يخبر بتحول حقهم إلى العين في حال تملك إنشائها فلا يصدق في ذلك إلا ببينة إن قال قد قبضت المال الذي أعطتني فلانة وقد كانت أمرته بذلك فهو مصدق إذا كان المال عينا قائما بعينه لأنه يخبر بما كان مسلطا عليه ويقصد بذلك نفي الضمان عن نفسه فكان القول قوله.(19/255)
قال: وإذا وكلت المرتدة وكيلا بقبض وديعة لها ثم ماتت فقال الوكيل قد قبضتها ودفعتها إليها وقالت الورثة قبضتها بعد موتها فالقول قول الوكيل لأنه أخبر بما كان مسلطا عليه والوديعة ما كانت مضمونة وهذا بخلاف الدين فإنه كان مضمونا في ذمة الغريم فلا يقبل قول الوكيل في قبضه إذا كان لا يملك إنشاء القبض في الحال لأن فيه إسقاط الضمان عن الغريم ولو وهب لها هبة أو تصدق عليها بصدقة فوكلت وكيلا بقبضها ثم ماتت فقال الوكيل قد قبضتها ودفعتها إليها فالقول قول الوكيل لأنه يخبر بما جعل مسلطا عليه أمينا فيه وإن قال الواهب قبضتها بعد موتها فالقول قول الوكيل أيضا لأن الواهب يدعي الضمان لنفسه عليه فلا يصدق إلا بحجة فإن كون القبض حادثا يحال بحدوثه على أقرب الأوقات نوع من الظاهر ولا يكفي الظاهر لإثبات الضمان على الوكيل إلا أن تكون قائمة بعينها فيكون للواهب أن يرجع فيها لأنه يبقى استحقاق المرأة عنها والظاهر شاهد له والظاهر يكفي لدفع الاستحقاق وكذلك لو وهبت هبة فوكلت بدفعها وكيلا ثم ماتت ودفعها الوكيل فقال دفعتها في حياتها فصدقه الموهوب له فلا ضمان على الوكيل لأنه كان أمينا في الدفع ولكن إن كانت قائمة في يد الموهوب له فللورثة أن يأخذوها لأن الظاهر يشهد لهم فإنه إنما يحال بالدفع على أقرب الأوقات وهو ما بعد موتها والوكيل يبطل ملك الورثة باختياره بتصرف لا يملك إنشاءه فإن أقاموا البينة أخذت ببينة الموهوب له لأنه يثبت الملك لنفسه في الموهوب وسبق التاريخ في دفع الوكيل إليه.
قال: وإذا رهنت المرتدة رهنا أو ارتهنته مع التسليط على البيع عند حل الأجل فهو جائز وللوكيل أن يبيعه وإن ماتت أو لحقت بالدار إن كانت رهنت فلقيام حق المرتهن وإن كانت ارتهنت فلقيام حق ورثتها وبقاء الوكيل والموكل جميعا قال وإذا وكل المكاتب(19/256)
ص -125- ... المرتد وكيلا ببيع أو شراء فهو جائز بخلاف الحر على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المكاتب بعد الردة يملك التصرف بنفسه لقيام الكتابة فيوكل به غيره بخلاف الحر وهذا لأن كسب المكاتب دائر بينه وبين مولاه والمولى راض بتصرفه بخلاف مال الحر فإنه يوقف على حق ورثته وهم لا يرضون بتصرفه والمستسعى كالمكاتب في قوله قال فإن لحق المكاتب بالدار مرتدا كان الوكيل على وكالته وكذلك لو أسر أو سبي لأن عقد الكتابة بان بعد لحاقه ألا ترى أن لحاقه لا يكون أعلى من موته وموته عن وفاء لا يبطل الكتابة فكذلك لحاقه فلهذا بقي الوكيل على وكالته والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في الدم والصلح
قال رحمه الله: قد بينا فيما سبق أن وكيل من عليه القصاص إذا أقر بوجوب القصاص على موكله لم يجز استحسانا إلا أن يشهد هو وآخر معه إن ادعى المدعي عليه لأن قبوله الوكالة لا يخرجه من أن يكون شاهدا على موكله أما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلا يشكل لأنه عزل قبل الخصومة فشهادته لموكله تجوز فعلى موكله أولى وعند أبي يوسف رحمه الله فقد صار قائما مقام موكله فلم تجز شهادته له ولا يوجد هذا المعنى في شهادته عليه وهذا إذا لم يسبق من الوكيل إنكار فإن سبق منه إنكار في مجلس القضاء ثم جاء بعد ذلك يشهد بحضرة المدعى عليه فهو مناقض والشهادة مع التناقض لا تقبل قال والتوكيل بطلب دم جراحة خطأ أو عمدا ليس فيها قود جائز مثل التوكيل في المال لأن العمد الذي لا قود فيه موجبه موجب الخطأ وهو المال وهذا التوكيل لإثبات موجب الفعل والاستيفاء وذلك مال.(19/257)
قال: ولو وكل رجل رجلا أن يصالح عنه رجلا ادعى عليه دعوى من دين أو عين وأن يعمل في ذلك برأيه فصالحه الوكيل على مائة فهو جائز لأنه فوض الأمر إلى رأيه على العموم والمال على الآمر دون الوكيل لأن الوكيل يضيف العقد إلى الموكل فيقول صالح فلانا من دعواك على كذا وفي مثله العاقد يكون سفيرا ويكون المال على من وقع له دون الوكيل قال والوكيل بالصلح ليس بوكيل في الخصومة لأن الصلح عقد ينبني على الموافقة والمسالمة وهو ضد الخصومة ألا ترى أن الوكيل بالخصومة لا يملك الصلح ولو أقر أن ذلك باطل لم يجز إقراره على صاحبه لأن صحة إقرار الوكيل بالخصومة باعتبار أنه وكيل بجواب الخصم والوكيل بالصلح ليس بوكيل بالجواب وإنما هو وكيل بعقد يباشره والإقرار ليس من ذلك العقد في شيء.
قال: ولو وكل المدعى عليه وكيلا بالصلح فوكل الوكيل وكيلا بالصلح وفعل لم يجز لأنه عقد يحتاج فيه إلى الرأي وإنما رضي الموكل برأيه دون رأي غيره فإن كانت الدراهم من مال الآمر رجع بها لأن الصلح لا ينفذ في حقه حين لم يباشره من رضي برأيه وإن لم يكن الآمر دفع المال فصالح الوكيل الآخر ودفع المال من عند نفسه لم يلزم الأول شيء وجاز الصلح عن الموكل الآخر وهو الوكيل الأول لأن الوكيل باشره بأمر الأول(19/258)
ص -126- ... فجاز في حق الأول ولكنه حصل على وجه لم تتضمنه وكالة الموكل الأول فكأن توكيل الأول لم يوجد ولكن أمر أجنبي أجنبيا بأن يصالح على مال ويدفع من عند الموكل أو من عنده فهذا الصلح يجوز ويكون الموكل متطوعا فيه فكذلك هنا الموكل الثاني يكون متطوعا.
وكذلك لو وكل اثنين فصالح أحدهما دون الآخر بماله دون مال الموكل جاز ذلك عليه وهو متطوع فيه ولا يجوز على الموكل لأن الموكل رضي برأيهما فلا يكون راضيا برأي أحدهما وهذا الواحد إذا تفرد بالصلح كان كالفضولي وصلح الفضولي صحيح إذا أضافه إلى نفسه أو أدى المال أو ضمن المال ويكون متطوعا فيه لمعين وهو أن موجب الصلح في حق المصالح المديون البراءة عن الدين والمشتري ينفرد بذلك وإنما يحتاج إلى رضاه لوجوب العوض عليه فإذا لم يكن عليه شيء من العوض سقط اعتبار رضاه
وكذلك لو وكله أن يصالح عنه بألف وضمن المال فصالح بألفين أو بمائة دينار ونقده من ماله أو شيء من العروض أو المكيل أو الموزون من عند الوكيل فالصلح جائز ولا يرجع على الموكل بشيء لأنه خالف أمره حين صالح على غير ما سمي له كالفضولي في هذا الصلح ولو صالحه على أقل من ألف درهم وضمنه جاز على الموكل لأنه امتثل أمره فإن صالحه بأقل مما سمي من الدراهم يكون خيرا للموكل فهذا لا يعد خلافا وقد وقع ضمن بدل الصلح بأمره فيكون له أن يرجع به عليه.(19/259)
قال: ولو وكله أن يصالح على كر حنطة فصالح على كر شعير أو دراهم جاز على الوكيل دون الآمر لأنه خالف ما أمره به نصا قال ولو وكله أن يصالح على عبد بعينه فصالح على أمة للوكيل جاز عليه إن ضمن أو دفع ولا يجوز على الموكل لمخالفته أمره نصا قال ولو وكله أن يصالح على كر حنطة بعينها فصالحه على غيرها من حنطة أجود منها وضمنها جاز على الوكيل دون الموكل لأنه خالف ما أمره به نصا حين أضاف الصلح إلى غير المحل الذي أمره به الموكل وهو أضر على الموكل مما أمره به قال ولو صالح على كر حنطة وسط بغير عينه والكر الذي دفع إليه وسط ففي القياس لا يجوز على الموكل لأنه لو جاز كان بدل الصلح دينا في ذمته وهو إنما وكله بأن يصالح على كر حنطة بعينه وكان بهذا مغيرا العقد إلى غير المحل الذي أمر به ولكنه استحسن وقال يجوز صلحه على الموكل لأنه ما خالف أمره به بتسمية شيء آخر سوى المأمور به إنما ترك التعيين ولا ضرر على الموكل في ذلك وقد بينا أنه إنما يعتبر من التقييد ما يكون مفيدا في حق الموكل دون ما لا يكون مفيدا ولأن الوكيل قد يبتلى بهذا فقد يتفق الصلح في غير الموضع الذي فيه الحنطة ولو أضاف العقد إلى عينه وهو غير مرئي دخل فيه شبهة الاختلاف بين العلماء رحمهم الله في جواز شراء ما لم يره فتجوز عن ذلك بتسمية كر وسط مطلقا على أن يدفع إليه ذلك الكر ولما وكله الموكل مع علمه أنه قد يبتلى بهذا فقد صار راضيا بترك التعيين.
قال: ولو وكله المدعي أن يصالح على بيت من هذه الدار بعينه فصالح عليه وهو بيت(19/260)
ص -127- ... وآخر فهو جائز لأنه زاد خيرا بما صنع وحصل مقصوده قال ولو وكله أن يصالح عن هذا البيت بمائة درهم فصالح عنه وعن بيت آخر بمائة درهم والوكيل من جانب المدعى عليه جاز في حصة ذلك البيت لأنه امتثل أمره حين صالحه عن ذلك البيت على أقل مما سمي له قال ولو وكله رب الدار أن يصالح عنه ولم يسم له شيئا فصالح على مال كثير وضمن فهو لازم للوكيل بحكم ضمانه ثم إن كان مما يتغابن الناس فيه جاز على الموكل وإن كان أكثر من ذلك لم يجز على الموكل لأنه بمنزلة الوكيل بالشراء وقد بينا أن تصرفه هناك يتقيد بما يتغابن الناس في مثله فإذا زاد على ذلك لم يجز على الموكل فإن كان الوكيل وكيلا للمدعي فصالح على شيء يسير فهو جائز على المدعي في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه بمنزلة الوكيل بالبيع والتوكيل مطلق فلا يتقيد بشيء من البدل كما هو مذهبه وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز إلا أن يحط عنه فيما يتغابن الناس في مثله بمنزلة الوكيل بالبيع والشراء عندهما وإن لم يعرف الدعوى فالصلح جائز على كل حال يريد به إذا كان الخصم منكرا ولا حجة للمدعي أو لا يعرف مقدار ما يدعيه من الدار فالصلح على البدل اليسير في مثل هذا الموضع متعارف والحط على وجه يكون فيه إسقاط شيء من حق الموكل غير معلوم هنا فلهذا جاز الصلح على كل حال.
قال: وإذا وكل المشتري الطاعن بالعيب وكيلا بالصلح فأقر أن صاحبه قد رضي بالعيب فإقراره باطل لأن الوكيل بالصلح لا يملك الخصومة وصحة إقرار الوكيل باعتبار مباشرته أو كونه وكيلا بالخصومة ولم يوجد ذلك قال ولو كان البائع عبدا فوكل مولاه وكيلا بالصلح لم يجز إن كان على العبد دين وجاز إن لم يكن عليه دين كما لو باشر المولى الصلح بنفسه وهذا لأن كسب العبد خالص ملك مولاه إن لم يكن عليه دين وحق غرمائه إن كان عليه دين فيكون المولى منه كالأجنبي وكذلك لو كان العبد هو المشتري.(19/261)
قال: ولا يجوز توكيل المولى على المكاتب بذلك لأنه من كسبه كالأجنبي لا يملك مباشرة الصلح بنفسه فلا يملك أن يوكل به غيره ولو كان ابن المكاتب ولدا من أمة له فباع أو اشترى فطعن بعيب أو طعن عليه فوكل المكاتب بالصلح في ذلك جاز إن لم يكن على الأب دين وإن كان دخل عليه دين لم يجز لأن كل من في كتابته فكسبه يكون له بشرط الفراغ من دينه يأخذه فيستعين به في قضاء بدل الكتابة فإذا لم يكن على العبد دين فالمكاتب يملك هذا الصلح بنفسه فكذلك يوكل غيره به بخلاف ما إذا كان عليه دين قال ولو وكل المكاتب وكيلا بالخصومة في ذلك لم يجز على أبيه إن كان عليه دين أو لم يكن لأن الخصومة في العيب من حقوق العقد والعقد إنما باشره الابن والمكاتب لا يملك الخصومة فيه بنفسه على كل حال فكذلك لا يملك أن يوكل به غيره بخلاف الصلح فإنه أنشأ عقدا في كسبه وهو يملكه إذا كان الكسب حقه وكذلك لو وكل المكاتب وكيلا بتقاضي دين لابنه وبالخصومة في ذلك لم يجز إن كان على العبد دين أو لم يكن لأن الابن هو الذي باشر(19/262)
ص -128- ... المداينة فحق القبض والتقاضي إليه دون المكاتب والذي بينا في المكاتب مع ابنه فكذلك الجواب في المولى مع عبده.
قال: وإذا كان دين بين رجلين فوكل أحدهما وكيلا فاقتضى منه شيئا كان نصف ما أخذ لشريكه لأن أصل الدين مشترك بينهما وقبض وكيل أحدهما كقبض الموكل بنفسه وللشريك أن يأخذ منه نصفه وإن ضاع المقبوض من الوكيل فللشريك أن يضمن صاحبه نصف ما أخذ الوكيل لأن الموكل صار قابضا بقبض وكيله فكان هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل فلهذا يرجع الشريك عليه بنصفه
قال وإن كان وكله بقبض ماله كله فقبضه فهلك منه فللشريك أن يضمن شريكه نصف ذلك كما لو قبضه بنفسه وإن شاء ضمن الوكيل لأنه في قبض نصيب الشريك متعد في حق الشريك فكان له أن يضمنه نصيبه بتعديه ثم يرجع الوكيل بما ضمن لأنه قائم مقام من ضمنه ولأنه لحقه غرم فيما باشره بأمر الموكل فيرجع به عليه وذكر في نسخ أبي حفص رحمه الله أن للشريك أن يضمن شريكه نصف ذلك إن شاء وإن شاء ضمن الغريم ثم يرجع الغريم بما ضمن من ذلك على الشريك وهذا هو الأصح لأنه إذا لم يجز قبض الوكيل بقي حقه في ذمة الغريم على حاله وإنما يكون له أن يضمن الغريم دون الوكيل لأن قبض الوكيل لم يصادف ماله ثم قبض الوكيل في حق الموكل كقبضه بنفسه ولو قبض أحد الشريكين بنفسه جميع الدين ثم أن الآخر رجع لحقه على الغريم كان للغريم أن يرجع بذلك على القابض لأنه إنما دفع إليه المال على أنه يستفيد البراءة من جميع الدين ولم يستفد ذلك فلهذا رجع عليه ويستوي إن أقر الوكيل بالقبض أو قامت به بينة عليه لأنه يملك مباشرة القبض بنفسه فيصح إقراره به في حق الموكل(19/263)
قال: وإن كان الوكيل وكيلا بالخصومة فأقر عند القاضي أن صاحبه الذي وكله به قد قبض حصته جاز ذلك على صاحبه ولم يضمن لشريكه شيئا لأن صحة إقرار الوكيل بقبض موكله كان باعتبار أنه جواب الخصم وهو وكيل بالخصومة بينه وبين الغريم لا بينه وبين الشريك فلا يثبت قبضه في حق الشريك بهذا الإقرار فلهذا لا يرجع عليه بشيء بخلاف الوكيل بالقبض إذا أقر أنه قبض لأنه أقر بما سلطه عليه فيكون إقراره بذلك كإقرار الموكل فلهذا كان للشريك أن يرجع عليه بنصف المقبوض.
قال: ولو كان دين بين اثنين وكل أحدهما وكيلا يتقاضاه فاشترى بحصته ثوبا جاز على الوكيل دون الموكل لأنه أتى بتصرف آخر سوى ما أمره به فلا ينفذ على الموكل وقد بينا أن الشراء ينفذ على العاقد إذا تعذر بتقيده على الموكل فيصير مشتريا الثوب لنفسه بما سمي من الثمن دينا في ذمته ثم جعله قصاصا بدين الموكل ولم يصح ذلك فبقي هو مطالبا بالثمن وبقي المطلوب مطالبا بحصة الموكل من الدين وكذلك إن رضي الموكل بذلك لأن رضاه إنما يعتبر فيما توقف على إجازته وهذا التصرف لم يكن موقوفا فلا يعتبر رضاه فيه قال وإذا كان الدين طعاما قرضا بينهما فوكل أحدهما وكيلا بقبض حصته فباعها بدراهم لم يجز(19/264)
ص -129- ... على الموكل لأنه تصرف بغير ما أمره به وإن رضي به الموكل جاز لأن بيع نصيبه من الدين كبيع نصيبه من العين بغير أمره فيتوقف على إجازته فإذا أجاز كانت الدراهم له ويرجع شريكه عليه بربع الطعام إن قبض الدراهم أو لم يقبضها بمنزلة ما لو باع نصيبه بدراهم وهذا لأنه صار متملكا عوض نصيبه من الدراهم فيجعل نصيبه كالسالم له حكما حين يملك بدله فللشريك أن يرجع عليه بنصفه فقال ولو كان باعها بثوب وقبض لم يجز على الوكيل ولا على الموكل إلا أن يجيزه الموكل بمنزلة ما لو باع نصيبه بالدراهم فإن قيل ينبغي أن ينفذ الشراء للثوب على الوكيل لأنه في جانب الثوب مشتر والشراء ينفذ على العاقد إذا تعذر بتقيده على غيره قلنا ولكنه في جانب الطعام بائع وإضافة العقد إلى الطعام هو دين للموكل في ذمة المطلوب بمنزلة إضافته إلى طعام هو عين له.(19/265)
ومن باع طعام غيره بثوب لا ينفذ عقده ما لم يجز صاحبه فإذا أجاز يكون الثوب للعاقد دون صاحب الطعام وهذا لأنه مشتر للثوب ومستقرض الطعام من صاحبه في جعله عوضا عن الثوب فيتوقف جانب الاستقراض على إجازة صاحبه ولو جعلنا العقد نافذا قبل إجازته لم يكن بالمسمى من الطعام لأنه لا يجوز إخراجه من ملك صاحبه بغير رضاه فإذا أجازه تم رضاه الآن فينفذ العقد في الثوب للوكيل ويكون على الوكيل حصة الموكل من الطعام بسبب استقراضه لأنه صار قاضيا به عوض ما اشتراه به لنفسه فإذا قبضه الموكل أخذ منه شريكه نصف ذلك لأنه وصل إليه الطعام الأول فأما قبل القبض فلم يتملك هو بدلا بمقابلته وإنما تحول حقه من نصيبه في ذمة الغريم إلى مثله في ذمة الوكيل فكان بمنزلة قبوله الحوالة في نصيبه فلهذا لا يرجع عليه الشريك بشيء حتى يقبضه بخلاف ما تقدم لأن هناك يملك الدراهم بمقابلة نصيبه من الطعام توضيح الفرق أن رجوع الشريك عليه بالطعام هناك لا يجوز أن يكون موقوفا على قبضه الدراهم وهنا هو يقبض من الوكيل الطعام دون الدراهم فيكون رجوع الشريك عليه بالطعام موقوفا على قبضه الطعام.(19/266)
قال: ولو وكله أن يصالح عنه في دم عمد ادعى عليه فصالح الوكيل على عشرة آلاف درهم وضمنها فهو جائز لأن التوكيل بالصلح عن الدم ينصرف إلى بدل الدم وبدل الدم مقدار الدية عشرة آلاف درهم أو ألف دينار أو مائة من الإبل أو ألف شاة على قولهما أو مائتا ثوب فإذا صالح الوكيل على شيء من ذلك بعد صلحه على الموكل بعد أن يكون ما سمي معلوما بأن قال مائتي ثوب يهودي فيكون هو في هذا الصلح والضمان ممتثلا لأمره فيرجع بذلك ويستوي إن كان أمره بالضمان أو لم يأمره بمنزلة الوكيل بالخلع وهذا لأنه إذا ضمن البدل فلا حاجة إلى اعتبار أمره في جواز أصل الصلح لأن ذلك جائز بدون أمره وإنما الحاجة إلى ذلك في الرجوع بالضمان على الآمر فيجعل أمره معتبرا في ذلك جائزا فلهذا رجع عليه وإن لم يأمره بالضمان ولأن المباشر لهذا العقد قد يكون ملتزما إذا ضمن للبدل وقد لا يكون ملتزما إذا لم يضمن فينصرف مطلق التوكيل إليهما بخلاف الوكيل بالنكاح إذا ضمن المهر ولم يأمره(19/267)
ص -130- ... الزوج بذلك لم يرجع عليه بشيء وقد قررنا هذا الفرق فيما أمليناه من شرح الجامع.
وكذلك لو صالحه على عشر وصفاء بغير أعيانهن كان جائزا لأن الدم ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال فإن كان قيمة الوصفاء أكثر من الدية تقيد بما لا يتغابن الناس في مثله فلو ضمن ذلك جاز عليه دون الموكل لأنه في معنى الوكيل بالشراء فإنه يلتزم بالصلح البدل عما هو مستحق على موكله من القصاص وتصرفه في ذلك يتقيد بما يتغابن الناس في مثله فإذا زاد على ذلك كان بمنزلة الفضولي فينفذ عليه إذا ضمن البدل ولا يرجع على الموكل لأنه التزمه بغير أمره.
قال: ولو وكله فإن كان طالب الدم هو الذي وكل بالصلح في ذلك فصالح على بعض ما سميا كان جائزا وإن صالحا على مائة درهم جاز على الطالب في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز عندهما إلا أن ينقص من الدية ما يتغابن الناس في مثله لأنه الآن بمنزلة الوكيل بالبيع وإن صالح وكيل المطلوب على عبد المطلوب فالصلح جائز فإن شاء المطلوب أعطي العبد وإن شاء أعطي قيمته لأنه أمره بالصلح وما أمره بإزالة ملكه عن عين العبد وكان له حق إمساك العبد فإذا أمسكه كان هذا بمنزلة ما لو صالح من الدم على عبد فاستحق والصلح بهذا لا يبطل ولكن يجب قيمة المستحق بمنزلة الخلع فكذلك هنا وكذلك كل شيء يعينه من العروض والحيوان والعقار وإن كان مكيلا أو موزونا بعينه فإن شاء الموكل أعطاه وإن شاء مثله لأنه من ذوات الأمثال فإذا حبس العين باعتبار أنه لم يرض بزواله عن ملكه كان ذلك كالمستحق من يده فيلزمه مثله وإن كان بغير عينه وضمن ذلك جاز على الوكيل والموكل لأنه امتثل أمره فيما صنع فينفذ تصرفه على الموكل.(19/268)
قال: وإذا وكل المطلوب وكيلا يصالح عنه ويضمن فصالح عنه على مال وسمي ذلك إلى أجل وضمن فهو للوكيل على الموكل إلى ذلك الأجل لأن بالصلح يجب على الضامن المال إلى ذلك الأجل فيجب له على الموكل أيضا إلى ذلك الأجل بمنزلة الوكيل بالشراء إذا اشترى بثمن مؤجل وإن كان بدل الصلح حالا كان للوكيل أن يأخذه من الموكل قبل أن يؤديه بمنزلة الوكيل بالشراء إذا اشترى بثمن غير مؤجل لأن الوكيل حين ضمن البدل فالمطالبة للطالب إنما تتوجه على الوكيل لا على الموكل وكما تتوجه مطالبة الوكيل على الموكل بخلاف الكفالة فإن الكفالة لم تسقط مطالبة الطالب عن الأصيل فلا تتوجه مطالبة الكفيل على الأصيل ما لم يؤد عنه وإن أعطاه الوكيل به كفيلا لم يكن للكفيل إذا أدى أن يرجع على الموكل بشيء لأن الموكل ما أمره بأداء شيء عنه ولا بالكفالة ولكن الوكيل هو الذي كفل به فيكون رجوع الكفيل على الوكيل ورجوع الوكيل على الموكل.
قال: ولو أن الموكل أعطى الوكيل رهنا بالمال قيمته والمال سواء فهلك الرهن عند الوكيل صار مستوفيا بهلاك الرهن ما استوجبه على الموكل فكأنه استوفاه حقيقة وعليه أن يؤدي المال للطالب من عند نفسه كما التزمه ولا يرجع به على الموكل لأنه قد استوفاه منه(19/269)
ص -131- ... مرة قال ولو أن الوكيل صالح للطالب على ألف درهم على أن يكون ذلك على المطلوب دون الوكيل كان ذلك جائزا على ما قاله لأنه أخرج كلامه مخرج الرسالة وأضاف العقد إلى الموكل وهو المطلوب بالدم فكان على المطلوب وكذلك لو قال الوكيل أعف عنه على ألف درهم فعفا عنه على ذلك كان المال على المطلوب وفي غير الدم الحكم هكذا متى أضاف الوكيل العقد إلى المطلوب لا يكون عليه من البدل شيء إذا لم يضمن.
قال: ولو أن طالب الدم وكل وكيلا بالصلح والقبض فصالح كان له أن يقبض المال لأنه مأمور بذلك ولأنه بمنزلة البائع ولو وكله أن يقول قد عفى فلان عن فلان بألف درهم وقبل ذلك المطلوب لم يكن للوكيل أن يأخذ ذلك المال لأنه أضاف العفو إلى الموكل وجعل نفسه سفيرا ومعبرا عنه فكان حق قبض المال إلى الطالب ولأن الوكيل لا تتوجه عليه المطالبة بتسليم المبدل فلا يكون له قبض البدل قال ولو أن المطلوب بالدم وكل وكيلا بما يطالب به أو وكله بالدم لم يكن له أن يصالح لأن ما وكل به مجهول فإنه لم يبين أنه أراد الصلح أو الخصومة فهو عاجز عن تحصيل مقصود الموكل فلهذا لا يجوز صلحه حتى يتبين مراده.
قال: وإذا وكل المطلوب بالدم وكيلا يصالح عنه الطالب فالتقى الوكيلان واصطلحا فهو جائز لأن مقصود كل واحد من الموكلين يحصل بالصلح مع وكيل صاحبه مثل ما يحصل بالصلح مع صاحبه فلا يكون هذا خلافا من الوكيلين وعلى هذا لو أمر رجلا أن يشتري له خادما بعينه فاشتراه من وكيله أو من رجل اشتراه منه فهو جائز لأن المقصود قد حصل للمولى فإن مقصوده ملك ذلك الخادم بالشراء بخلاف ما لو وكله ببيع عبده من فلان فباعه من غيره لم يجز إلا أن يكون ذلك الغير وكيل فلان بشرائه له وقد سبق بيان هذا الفرق.(19/270)
قال: وإذا كان دم خطأ بين الورثة فوكل أحدهم بالصلح في حصته عن عشرة دراهم وقبضها فلبقية الورثة أن يشاركوا الموكل ويخاصموه فيما أخذ كما لو أخذ بنفسه وهذا لأن ما وقع عليه الصلح بدل دين مشترك بينهم وهو الدية ولا سبيل لهم على الوكيل لأن ما في يده من المال أمانة لمن وكله ويده فيه كيد من وكله فلا يكون لهم معه في ذلك خصومة كصاحب الدين فإنه لا خصومة له مع مودع المديون وإن كانت الوديعة من جنس حقه وإن هلك المال عند الوكيل فلا ضمان عليه لأحد ولكن سائر الورثة يأخذون الموكل فيضمنونه بقدر حصتهم مما أخذ وكيله لأن هلاك المقبوض في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل.
قال: وإذا قضي بالدية مائة من الإبل على القاتل وعواقله فوكل الطالب وكيلا بقبضها فقبضها وأنفق عليها في علفها وسقيها ورعيها حتى يبلغها الموكل فهو متطوع في ذلك لأنه لم يؤمر بذلك فهو أمين أنفق على الأمانة بغير أمر صاحبها ولا أمر القاضي قال ولو أمره الموكل ببيعها فوكل الوكيل عبدا له فباعها لم يجز لأن الموكل رضي برأيه دون رأي عبده وهذا بخلاف الحفظ فإن الإنسان يحفظ المال بيد عبده فلا يصير ضامنا بالدفع إلى عبده ليحفظه ولكنه يباشر البيع بنفسه فإذا أمر به عبده لم يجز كما لو أمر به أجنبيا آخر.(19/271)
ص -132- ... قال: وإن تعذر استرداد عينها فلرب الإبل أن يضمن الوكيل لأنه متعد بتسليطه عبده على البيع والتسليم وإن شاء ضمن عبده قيمة الإبل في رقبته لأنه متعد بالبيع والتسليم في حقه قال وإذا قضى بالدية من جنس فوكله بقبضه فقبض به جنسا آخر لم يجز على الموكل لأن حقه تعين في ذلك الجنس بقضاء القاضي فبقبض جنس آخر مكانه يكون استبدل والوكيل بالقبض لا يملك الاستبدال قال وإن وكل المطلوب وكيلا يؤدي عنه وقد قضى عليه بالدية بالدراهم فباع بها وكيل الطالب دنانير أو عروضا فهو جائز لأنه باع ملك نفسه ثم قضى بالثمن دين المطلوب فإن أخر الدينين يكون قضاء عن أولهما ولا فرق في حق المطلوب بين أن يقضي بهذه الطريق وبين أن يقضي بأداء الدراهم فلهذا جاز ويرجع الوكيل بالدراهم على المطلوب.
قال: وإذا وكل المطلوب رجلا بالخصومة فأدى الوكيل من عند نفسه لم يرجع به على الموكل لأنه مأمور بالخصومة لا بأداء المال فإن الخصومة تكون في دفع دعوى المدعي فأما دفع المال فليس من الخصومة في شيء فكان متبرعا كأجنبي آخر قال وإذا دفع الدية دراهم إلى رجلين وقال أدياها عني فصالحا الطالب من المال على دنانير أو عروض جاز ذلك لأنهما عقدا على ملكهما فكانا متطوعين في ذلك لأنهما باشرا عقدا غير ما أمرا به فإنهما أمرا بحمل المال للمطلوب والتسليم إليه ولم يفعلا ذلك بل تبرعا بأداء المال من عندهما فيردان على الموكل دراهمه ولو قضي الطالب الدراهم لهما لأنهما في حق المطلوب لا فرق بين أن يدفعا تلك الدراهم أو مثلها وقد يبتلي الوكيلان بذلك بأن يتفق رؤيتهما الطالب في موضع لا تكون دراهم المطلوب معهما لأنه يشق عليهما استصحاب تلك الدراهم في كل وقت فلدفع الحرج عليه استحسنا لهما أداء مثل الدراهم ليرجعا فيها.(19/272)
قال: ولو وكل وكيلا بأن يؤدي عنه دية ودفع إليه المال فأدى نصفه وحط الطالب نصفه فهذا الحط عن الأصيل وليس للوكيل منه شيء لأن الحط إسقاط والإسقاط إنما يكون عمن عليه المال فإن وهبه للوكيل وأمره بقبضه من الأصيل فهو جائز وهي مسألة الهبة إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وسلطه على القبض ثم للوكيل أن يقاصصه بما في يده حتى يستوفي منه ما في يده إذا حضر من عليه الدين لأنه لو رده عليه كان له أن يستوفيه منه لتسليط صاحب الدين إياه على قبضه فكذلك إذا كان في يده فله أن يمسكه ولكن بمحضر من عليه الدين لأنه مأمور بقبضه منه والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة بالصلح في الشجاج
قال رحمه الله: رجل وكل رجلا بالصلح في شجة ادعيت قبله وأمره أن يضمن ما صالح عليه فصالح على أكثر من خمسمائة فإن كانت الشجة خطأ جاز من ذلك خمسمائة وبطل الفضل لأن بدل الشجة مقدر بالخمسمائة شرعا فالصلح على أكثر منه يكون ربا ولو باشره الموكل بنفسه بطل الفضل لهذا فكذلك إذا باشره الوكيل وإن كانت عمدا جاز ذلك كله على الموكل إذا كان زاد ما يتغابن الناس في مثله لأن الواجب في العمد القود وما يقع(19/273)
ص -133- ... عليه الصلح يكون بدلا عن القود فلا يتمكن فيه الربا ولكن الوكيل بمنزلة الوكيل بالشراء وتصرف الوكيل بالشراء إنما ينفذ على الموكل في الزيادة بقدر ما يتغابن الناس في مثله وإن مات المشجوج انتقض الصلح في الوجهين جميعا.
وفي مسألة كتاب الديات أن العفو عن الشجة لا يكون عفوا عن السراية عند أبي حنيفة رحمه الله فكذلك الصلح عن الشجة لا يكون صلحا عن السراية فإذا مات المشجوج بطل الصلح لأنه يتبين أن الحق كان في الدم دون الشجة فكان أولياؤه على دعواهم قال وإن كان الوكيل صالح عن الجناية فإن بريء من الشجة فالجواب كما بينا لأنه حصل مقصود الموكل في إسقاط الموجب للشجة عنه بلفظ الجناية وإن مات فيها فالصلح جائز على الوكيل إن كان ضمن البدل ولا يجوز على الموكل لأنه تبين أنه صالح عن الدم فإن اسم الجناية يتناول النفس وما دونها وإنما كان هذا مأمورا بالصلح عن الشجة فيكون هو في الصلح عن الدم متبرعا بمنزلة أجنبي آخر فيلزمه المال بالضمان ولا يرجع به على الموكل.(19/274)
قال: فإن كان الوكيل صالح عن الشجة وهي خطأ وما يحدث منها على خمسمائة فإن المشجوج يجوز له من ذلك نصف العشر ويرد تسعة أعشار ونصف العشر إن كان قبض لأن ما يحدث منها النفس وهو إنما جعل الخمسمائة بالصلح عوضا عن جميع الدية وقد تبين أن الواجب كان بعد نصف عشر الدية فيمسك من بدل الصلح حصة حقه ويرد ما بقي منه ولو مات عن مال الشجة وله مال كثير يخرج ما حطه من ثلثه جاز ذلك على الوكيل إن كان ضمنه ولا يجوز على الموكل لما بينا أنه أمره بالصلح عن الشجة وهو إنما صالح عن النفس والمشجوج أسقط من حقه ما زاد عن الخمسمائة وذلك بمنزلة الوصية منه فإذا كان يخرج من ثلثه كان جائزا وإن لم يكن للمشجوج مال إلا الدية جازت وصيته بقدر الثلث ثم يخاصم أولياء المشجوج المدعى عليه الشجة في مقدار الثلثين فإن ثبت لهم عليه أخذ وإتمام ذلك منه لبطلان وصية المشجوج فيما زاد على الثلث ولو أن المشجوج حط ما يتغابن الناس فيه جاز على الموكل.
وإن كان أكثر من ذلك لم يجز قيل هذا قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن يجوز لأن وكيل المشجوج بمنزلة الوكيل بالبيع وقيل بل هذا قولهم جميعا لأن بدل الشجة معلوم شرعا فالتوكيل بالصلح ينصرف مطلقه إلى ذلك ولكن قدر ما يتغابن الناس فيه يكون عفوا لأن مبنى الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق قال ولو وكل وكيلا بالصلح في الشجة خاصة فصالح عليها وعلى ما يحدث منها على عشرة آلاف وضمن الوكيل ثم مات المشجوج فالصلح يلزم الوكيل دون الآمر في قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن اسم الشجة لا يتناول النفس فالآمر إنما أمره بالصلح عن الشجة وهو قد صالح عن النفس وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله اسم الشجة يتناول الشجة وما يحدث منها فإذا وكله بالصلح عما يحدث منها كان هو ممتثلا أمره فيما صنع لا مبتدئا شيئا آخر.(19/275)
ص -134- ... قال: ولو وكله بالصلح في شجة فصالحه عن الشجة وعن جرح آخر مثلها جاز على الموكل النصف لأنه في حصة ذلك ممتثل أمره وفي الجراحة هو مبتدى ء فهو كأجنبي آخر وإن كانت الجراحة الأخرى أكبر أو أصغر جاز على الموكل بحساب تلك الشجة وما زاد على ذلك فهو على الوكيل إذا ضمنه لأنه متبرع بالتزام ذلك قال وإذا وكله بالصلح في موضحة وما يحدث منها فصالح عن موضحتين وما يحدث منهما وضمن جاز على الموكل النصف ولزم الوكيل النصف سواء مات أو عاش لأنه في أحد الموضحتين ممتثل أمره وفي الأخرى متبرع بالصلح كأجنبي آخر فإن وكله بالصلح في موضحة ادعاها قبل فلان فصالح الوكيل عليها وعلى غيرها جاز عليها ولم يجز على غيرها لأن وكيل الطالب مسقط الحق بالصلح وإنما يصح إسقاطه بقدر ما أمره صاحب الحق وفيما زاد على ذلك هو كأجنبي آخر فلا يصح إسقاطه أصلا.
قال: وإذا وكل الرجل رجلا بالصلح في شجة تدعى قبله وأن يضمن البدل فصالح على صنف بغير عينه أو على عشرة من الغنم أو على خمس من الإبل فهو جائز وعلى الوكيل من ذلك الوسط كما لو كان الموكل صالح بنفسه وهذا لأنه مال يلتزمه عوضا عما ليس بمال وجهالة الوصف في المسمى لا تمنع صحة التسمية في مثله كما في النكاح والخلع ثم يرجع الوكيل به على الموكل لأنه التزمه بأمره حين أمره أن يضمن.(19/276)
قال: ولو وكل المطلوب وكيلا بالصلح في موضحة عمدا فصالح الوكيل على خدمة عبد الموكل سنين فالصلح جائز لأن تسمية خدمة عبده كتسمية رقبة عبده وذلك لا يمنع جواز الصلح إلا أن يكون الموكل لم يرض بزوال ملكه عن منفعة عبده فيخير في ذلك إن شاء رضي به وإن شاء لم يرض وعليه قيمة الخدمة وقد بينا نظيره فيما إذا سمى في الصلح عينا من أعيان ماله وأن استحقاقه ذلك المسمى كاستحقاق غيره فلا تبطل به التسمية ولكن يجب قيمة المسمى قال ولو صالحه على خمر أو خنزير أو حر فهو عفو ولا شيء على الآمر ولا على الوكيل لأن القصاص ليس بمال وإنما يجب المال فيه بالتسمية وإذا كان المسمى ليس بمال لا يجب شيء كالطلاق فإن من طلق امرأته على خمر أو خنزير أو حر لا يجب عليها شيء وهذا بخلاف البضع لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم.
ألا ترى أنه لو سكت هناك عن ذكر البدل يجب مهر المثل ولو سكت عن ذكر البدل هنا لا يجب شيء ولو قال الوكيل أصالحك على هذا العبد أو على هذا الخل فضمنه له فإذا العبد حر والخل خمر فعلى الوكيل أرش الشجة لأنه سمى متقوما فإذا ظهر أن المشار إليه ليس بمال تمكن الغرر من جهته فيرجع بأصل حقه وهو أرش الشجة وهو بمنزلة الخلع في هذا ثم الوكيل قد ضمنه فيكون مطالبا بحكم الضمان ويرجع به على الموكل لأنه غير مخالف أمره فيما التزم ولو صالحه على عبدين فإذا أحدهما حر فليس للمصالح غير العبد الباقي في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله الآخر له العبد الباقي(19/277)
ص -135- ... وقيمة الحر لو كان عبدا وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله مع العبد الباقي تمام أرش الشجة وهذا الخلاف في الخلع هكذا فمحمد رحمه الله يقول المصالح سمى عبدين فإذا كان أحدهما حرا تحقق الغرر من جهته فيكون حق الطالب في تمام أرش الشجة هنا وحق الرجوع للزوج فيما ساق إليها من الصداق في الخلع هكذا فيأخذ العبد الباقي وما زاد على قيمته إلى تمام الشجة باعتبار الغرر كما إذا كان الصلح على عبد واحد فظهر أنه حر.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول الخلع والصلح باعتبار تسمية الباقي صحيح وتسمية الحر معه لغو فصار ذكره والسكوت عنه سواء بخلاف ما إذا كان المسمى عبدا واحدا لأنه لا يمكن تصحيح العقد هناك معاوضة باعتبار ما وقعت الإشارة إليه من العبد الباقي فلهذا جعلنا التسمية في العبد الأخير لغوا
وأصل مذهب أبي حنيفة رحمه الله في مسألة الجامع الصغير إذا تزوجها على عبدين فإذا أحدهما حر فليس لها إلا العبد الباقي في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله الآخر لها العبد الباقي
وقيمة الحر لو كان عبدا وفي قول محمد رحمه الله لها العبد الباقي والزيادة على ذلك إلى تمام مهر مثلها.
قال: ولو صالحه على عبد فإذا هو مدبر أو مكاتب أو على أمة فإذا هي أم ولد وضمن الوكيل تسليمه فعليه قيمته في ماله ويرجع بها على الموكل لأن المسمى مملوك متقوم ولكنه استحق نفسه بالحرية الثابتة له فكأنه استحقه غيره ولو وقع الصلح على عبد فاستحق وجبت قيمته فهذا مثله قال: وإذا شج رجلان رجلا موضحة فوكل وكيلا يصالح مع أحدهما بعينه على مائة درهم جاز كما لو باشر الصلح بنفسه وعلى الآخر نصف الأرش لأن الواجب بالجناية على كل واحد منهما نصف الأرش دون القود فإن الاشتراك في الفعل يمنع وجوب القود فيما دون النفس.(19/278)
قال: وإن وكله أن يصالح مع أحدهما ولم يبين أيهما هو فهو جائز لأن هذه جهالة مستدركة ومثلها لا يمنع صحة الوكالة ثم الرأي إلى الوكيل يصالح أيهما شاء
وكذلك لو كان الشاج واحدا والمشجوج اثنين فوكل وكيلا بالصلح عنهما فصالح عن أحدهما ولم يسمه ثم قال الوكيل هو فلان فالقول قوله لأنه ممتثل أمره في حق من صالح معه وهو المباشر للعقد وإليه تعيين ما باشر من العقد لأنه كان مالكا للتعيين في الابتداء فكذلك في الانتهاء يصح تعيينه ويكون هو بمنزلة الموكل فيه.
قال: وإذا اشترك حر وعبد في موضحة شجاها رجلا فوكل الحر ومولى العبد وكيلا فصالح عنهما على خمسمائة فعلى مولى العبد نصف ذلك قلت قيمة العبد أو كثرت وعلى الحر نصفه لأن كل واحد منهما كان مطالبا بنصف الجناية وإنما وكلا الوكيل بالصلح عن الجناية فإذا كان كل واحد منهما مطالبا بالنصف كان الوكيل نائبا عن كل واحد منهما في النصف فعلى كل واحد منهما نصف البدل كما لو كانا حرين أو كان المولى والأجنبي صالحا بأنفسهما مع المشجوج وهذا لأن المولى بهذا الصلح صار مانعا دفع العبد فيكون مختارا(19/279)
ص -136- ... للفداء وعند اختيار الفداء فموجب جناية العبد والحر سواء وكذلك لو كان ذلك في دم خطأ لما ذكرنا.
قال: ولو أن رجلا قتل عبدا وحرا عمدا أو خطأ فوكل مولى العبد وأولياء الحر وكيلا فصالح القاتل على عشرة آلاف كانت بينهم يضرب فيها أولياء العبد بقيمته وأولياء الحر بالدية كما لو صالحا بأنفسهما وهذا لأن كل واحد منهم يضرب في بدل الصلح بجميع حقه وحق مولى العبد في قيمة العبد وحق أولياء الحر في الدية وكذلك لو صالح على أحد عشر ألفا وقيمة العبد خمسمائة والقتل عمد لأن الواجب هو القصاص دون المال والمال في الصلح من دم العمد لا يتقدر بشيء شرعا فأما إذا كان القتل خطأ فلورثة الحر من ذلك عشرة آلاف والباقي لمولى العبد لأن دية الحر في الخطأ مقدرة شرعا بعشرة آلاف لا تجوز الزيادة عليها فلهذا كان لورثة الحر عشرة آلاف.
قال: ولو كان العبد قتل عمدا والحر خطأ فصالح على أحد عشر ألفا كان لأولياء الحر عشرة آلاف لما بينا وما بقي فلمولى العبد لأنه في حقه هذا صلح عن القود فيجوز على قدر من البدل قال ولو كان الحر قتل عمدا والعبد خطأ كان الصلح جائزا وهو مثل الباب الأول لما قلنا قال ولو أن نصرانيا شج موضحة فوكل المطلوب وكيلا مسلما فصالح عنه بخمر وضمن له لم يجز وكان الذمي على حقه لأنه ملتزم بدله حين ضمنه بعقد الصلح والتزام المسلم الخمر لا يكون صحيحا ولما وكله بأن يصلح ويضمن كان التوكيل باطلا فيبطل الصلح أيضا والنصراني على حقه قال ولو كان الطالب وكل مسلما فصالح عنه على خمر جاز لأن وكيل الطالب سفير عنه لا يتعلق به شيء من الحقوق ولا إليه شيء من قبض البدل وهو قياس نصرانية وكلت مسلما أن يزوجها من نصراني على خمر وذلك جائز فهذا مثله. قال: ولو كان الطالب والمطلوب مسلمين وقد وكل كل واحد منهما ذميا فصالح على خمر لم يجز لأن الوكيلين سفيران عن المسلمين فلا يكون إليهما من حقوق العقد شيء فيكون صلحهما كصلح الموكلين(19/280)
قال ولو أن عبدا قتل خطأ فوكل مولاه وكيلا بالصلح فصالح على عشرة آلاف درهم جاز ذلك ويرد المولى من ذلك عشرة دراهم لأن بدل نفس العبد في الخطأ لا يزاد على عشرة آلاف إلا عشرة فالزيادة على ذلك أخذ بغير حق فيلزمه رده وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تتقدر نفس العبد بشيء ولكن تجب القيمة بالغة ما بلغت لا يلزمه به شيء ولو كانت شجة فصالح على ألف درهم جاز لأن بدل الطرف من العبد في الجناية لا يتقدر بشيء بل تجب القيمة بالغة ما بلغت بمنزلة الجناية على الأموال وقد ذكر هنا على قول محمد رحمه الله أنه يسلم له من ذلك خمسمائة درهم ويبطل ما بقي وهذا إشارة إلى أن الجناية على العبد فيما دون النفس فعلى هذه الرواية يسلم له باعتبار الموضحة نصف عشر بدل نفسه وذلك خمسمائة إلا نصف درهم ويلزمه رد ما بقي.(19/281)
ص -137- ... قال: ولو كانت الجناية فقء عين فصالحه على ستة آلاف جاز في ظاهر الرواية لما قلنا وعلى قول محمد رحمه الله يسلم له من ذلك خمسة آلاف إلا خمسة ويبطل ما بقي وذكر في هذا الكتاب رواية أخرى عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا صالحه من هذه العين على عشرة آلاف نقصت منها أحد عشر درهما ووجه هذا أن بدل الطرف وإن كان لا يتقدر بشيء فعلم أنه لا يكون مساويا لبدل النفس وإذا كان بدل نفسه يتقدر بعشرة آلاف إلا عشرة ينقص من ذلك في بدل العين درهم فلهذا يسلم له عشرة آلاف إلا أحد عشر درهما قال ولو كان وكيل هذا الصلح وكيل المطلوب فضمن ذلك جاز عليه ولكن إن كان زاد بقدر ما يتغابن الناس فيه لزم ذلك المطلوب حتى يرجع الوكيل عليه لأنه ممتثل أمره في الالتزام وإن زاد ما لا يتغابن الناس فيه كان مخالفا لأنه بمنزلة الوكيل بالشراء فيلزمه المال بالضمان ولا يرجع على المطلوب بشيء منه.
قال: وإذا وكل رجلا بشجة موضحة شجها إياه رجل فليس له أن يصالح ولا يعفو ولا يخاصم لأنه لم يبين عند التوكيل أنه بماذا أمره فكان عاجزا عن تحصيل مقصود الموكل بما سمي له
ولو أخذ أرشها تاما كان باطلا في القياس أيضا لما قلنا أن التوكيل باطل حين لم يعرف الوكيل مقصود الموكل وفي الاستحسان إن كان عمدا فكذلك لأن الواجب هو القصاص فأخذ الأرش يكون صلحا وقد بينا أن الوكيل بالشجة لا يملك الصلح وإن كان خطأ جاز أخذه الأرش لا بانتفاء أنه استوفى كمال حقه وذلك كان مقصود الموكل وهو نظير ما تقدم فيما إذا وكل وكيلا بدينه كان له أن يقبضه استحسانا فكذلك إذا وكل وكيلا بشجة لأن المراد موجب الشجة وهو الدية.(19/282)
قال: ولو وكله في كل شيء له لم يكن له أن يتقاضى دينه ولا يخاصم وإنما هو وكيل بالحفظ لأن في قوله وكلتك بأعيان مالي فإنه نص على ما هو له على الإطلاق وذلك في العين دون الدين ويعلم أن الحفظ مراده وليس في شيء آخر سوى الحفظ بيقين فلهذا لا يملك إلا المتيقن به قال ولو قال المشجوج ما صنعت في شجتي من شيء فهو في حل فصالح عليها أجزت ذلك استحسانا لأن هذا وقوله وكلته بالصلح عن شجتي سواء فإن قوله فهو في حل أي هو من النقصان في حل وذلك إنما يكون بالصلح لأن مبنى الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق ولو أبرأه منهما لم يجز لأنه بهذا اللفظ صار وكيلا بالصلح ولفظ الصلح يحتمل إسقاط بعض البدل لا كله وفي الإبراء إسقاط الكل.
ولو قال: ما صنعت فيها من شيء فهو جائز أجزأت البراءة والصلح وغيره لأنه أجاز صنعه مطلقا وإسقاط البعض بالصلح أو الكل بالإبراء من صنعه فلهذا يجوز ولو قال قد جعلته وكيلا في الصلح وأمرته بالقبض فصالح عنه فله أن يقبض لأنه أمره بالقبض نصا ولو صالح بنفسه ثم أمره بقبض بدل الصلح جاز فكذلك إذا أمره بالصلح والقبض قال وإذا وكل الشاج وكيلا بما يدعي قبله فليس له أن يصالح ولا يخاصم ولا يصنع شيئا لأن الموكل(19/283)
ص -138- ... لم يعين مراده عند التوكيل فكان عاجزا عن تحصيل مقصوده قال وإذا وكل المكاتب بالصلح عن جناية ادعيت عليه أو على عبده ثم رد في الرق ثم صالح الوكيل وهو لا يعلم بعجزه وضمن بدل الصلح فإنه لا يجوز على المكاتب في رقبته كما لو صالح بنفسه بعد العجز وعجزه يتضمن عزل الوكيل في حق المولى لا في حق المكاتب لأن ابتداء التوكيل بعد عجزه لا يصح في حق المولى ولكنه يصح في حق المكاتب وكذلك العجز بعد التوكيل فيكون الوكيل مطالبا بالمال لأنه قد ضمنه ويرجع به على المكاتب إذا عتق لأن التوكيل في حقه صحيح وعلى هذا توكيل العبد المأذون بالصلح عن جناية عبده إذا حجر عليه مولاه.
قال: ولو وكل رجل رجلا بالصلح في شجة ادعيت قبله ثم مات الموكل بطلت الوكالة لأن تصرف الوكيل كان على وجه النيابة عن الموكل وقد انقطع رأي الموكل بموته فإن صالح الوكيل وضمن جاز عليه في ماله خاصة لأنه متبرع في الصلح كأجنبي آخر وإن لم يمت ومات الطالب فصالح الوكيل ورثته جاز على الموكل لأن ورثة الطالب بعد موته يقومون مقامه في المطالبة بموجب الشجة قال وإذا وكله بالصلح في موضحة شجها إياه رجل فصالح على الموضحة التي شجها فلان ولم يقل هي في موضع كذا فهو جائز لأنه عرفها بالإضافة إلى فلان ومحل فعل فلان معلوم معاين فيغني ذلك عن الإشارة إليه وكذلك اليد والعين والسن فإن قال على اليد اليسرى والمقطوعة هي اليمنى فالصلح باطل لأنه أضاف الصلح إلى ما ليس بحق له ولو صالح الموكل بنفسه عما ليس بحق له كان الصلح باطلا فكذلك الوكيل إذا صالح عن مثل ذلك والله أعلم.
باب وكالة الوكيل(19/284)
قال رحمه الله: وإذا وكل الرجل الصبي الذي لا يعقل أو المجنون الذي لا يعقل ولا يتكلم فهو باطل لأن التوكيل إنابة للوكيل مناب نفسه في العبارة فإذا لم يكن الوكيل من أهل العبارة كان التوكيل باطلا وإن كان صبيا يعقل ويتكلم أو مجنونا يعقل فهو جائز لأنه من أهل العبارة ألا ترى أن تصرفه في حق الموكل بأمره ينفذ ولكنه ليس من أهل التزام العهدة فعهدة التصرف تكون على الموكل.
قال: ولو وكل وكيلا بشيء من التصرفات وقال ما صنعت فيه من شيء فهو جائز فوكل الوكيل بذلك غيره فهو جائز لأنه إخبار منه على العموم والتوكيل من صنعه قال وإن مات الوكيل أو جن أو ارتد ولحق بدار الحرب فالوكيل الثاني على وكالته لأن الوكيل الثاني وكيل الآمر لا وكيل الوكيل فإن فعل الوكيل الأول في توكيله كفعل الموكل بنفسه فصار هو بعبارة الوكيل الأول وكيلا للموكل ورأي الموكل باق فلهذا بقي على وكالته ولم يذكر في الكتاب أن الموكل إذا عزل وكيله وجاء فضولي وأخبره بذلك هل ينعزل أو لا والجواب فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله أن المخبر إن كان عدلا انعزل بخبره وإلا فلا وفي الفضولي اختلاف الروايات على قول أبي حنيفة رحمه الله في اشتراط العدالة وفي قول أبي يوسف(19/285)
ص -139- ... ومحمد رحمهما الله ينعزل بخبر الواحد عدلا كان أو فاسقا وسنقرر هذا الفصل في المأذون إن شاء الله تعالى فإن الحجر على العبد المأذون وعزل الوكيل في هذا سواء فمن أصلهما أن ما يكون من المعاملات لا يشترط العدالة في الإخبار به لأجل الضرورة فإن العدل في الخبر لا يوجد في كل معاملة ألا ترى أن في التوكيل والإذن إذا أخبره به مخبر فوقع في قلبه أنه صادق كان له أن يتصرف وإن كان المخبر فاسقا فكذلك العزل على أصل أبي حنيفة رحمه الله إذ كل خبر يتعلق به اللزوم فقول الفاسق لا يكون حجة فيه لأن الشرع نص على التوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: من الآية94] الحجرات 6 وذلك يمنع ثبوت اللزوم بخبره والإخبار بالعزل والحجر يلزمه الكف عن التصرف فلهذا يشترط فيه إن كان فضوليا أن يخبر عن نفسه إلا أن يكون رسولا للموكل فحينئذ هو معبر عنه فيكون الملزم قول الموكل لا قوله بخلاف التوكيل والإذن فإنه غير ملزم شيئا بل هو بالخيار إن شاء تصرف وإن شاء لم يتصرف فلهذا لا تشترط العدالة فيه.
وذكر في نوادر هشام رحمه الله أنه إذا وكل وكيلا ببيع عبده وقيمة العبد ألف فباعه بأقل من ألف على أن الوكيل بالخيار ثلاثة أيام فصار يساوي ألفين في مدة الخيار ثم اختار الوكيل البيع ومضت الأيام الثلاثة فعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز في الوجهين لأنه يملك ابتداء البيع بأقل من قيمته فكذلك يملك الإجازة وعلى قول محمد لا يجوز في الوجهين لأن عنده لا يملك ابتداء البيع بأقل من قيمته بما لا يتغابن الناس فيه فكذلك لا ينفذ بالإجازة سواء كانت الإجازة بفعله أو بمضي المدة قبل الفسخ لأن سكوته عن الفسخ حتى مضت المدة بمنزلة الإجازة منه وعلى قول أبي يوسف رحمه الله إن أجاز الوكيل في الثلاثة فهو باطل كما قال محمد رحمه الله وإن سكت حتى مضت المدة تم البيع بمضي المدة ويجعل كأن حصول الزيادة بعد مضي المدة.(19/286)
قال: ولو وكله أن يشتري له فعلى قول زفر رحمه الله يجوز شراؤه على الموكل لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة ثمنا فالشراء به كالشراء بالدراهم وفي قول أبي حنيفة الآخر رحمه الله وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يكون الوكيل مشتريا لنفسه لأنه لما لم يحمل التوكيل في الثمن على العموم لما بيناه حمل على أخص الخصوص وهو الشراء بالنقد فإذا اشترى لغيره كان مشتريا لنفسه وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أنه إذا وكله ببيع متاعه في سوق الكوفة فباعه في بيت في غير سوق الكوفة لا ينفذ بيعه عند زفر رحمه الله لأنه خالف ما أمره به نصا وجاز عند أبي يوسف رحمه الله لأن مقصود الموكل إنما هو سعر الكوفة لا عين السوق وقد حصل مقصوده وإنما يراعي من الشروط ما يكون مفيدا على ما بينا.
قال: ولو كان عبد بين رجلين فباع فضولي نصفه من رجل فإن أجاز الموليان جاز في النصيبين جميعا بالاتفاق وإن أجازه أحدهما فعلى قول زفر رحمه الله يجوز في النصف نصيبه(19/287)
ص -140- ... ويبقى النصف نصيب الآخر موقوفا على إجازته لأنه هكذا يتوقف وعند الإجازة إنما ينفذ على الوجه الذي يتوقف وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز في جميع نصيب المجيز ويصير عند الإجازة كأنه باشر بيع النصف بنفسه فينصرف إلى نصيبه خاصة ولو أراد صاحبه أن يجيز بعد ذلك لا تصح إجازته في شيء والله أعلم بالصواب.(19/288)
ص -141- ... كتاب الكفالة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء: الكفالة مشتقة من الكفل وهو الضم ومنه قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: من الآية37] أي ضمها إلى نفسه وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" أي ضام اليتيم إلى نفسه ومنه سميت الخشبة التي تجعل دعامة الحائط كفيلا لضمها إليه فمعنى تسمية العقد بالكفالة أنه يوجب ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل على وجه التوثيق أحدهما الضم في المطالبة دون أصل الدين بل أصل الدين في ذمة الأصيل على حاله والكفيل يصير مطالبا كالأصيل وكما يجوز أن تنفصل المطالبة عن أصل الدين في حق من له ابتداء حتى تكون المطالبة بالثمن للوكيل بالبيع وأصل الثمن للموكل فكذلك يجوز أن تنفصل المطالبة عن أصل الدين في حق من عليه فتتوجه المطالبة على الكفيل بعد الكفالة وأصل الدين في ذمة الأصيل وكذلك تنفصل المطالبة عن أصل الدين سقوطا بالتأجيل فكذلك التزاما بالكفالة والمطالبة مع أصل الدين بمنزلة ملك التصرف مع ملك الغير فكما يجوز أن ينفصل ملك التصرف عن ملك العين في حق المطالبة وملك اليد عن ملك العين في حق المرتهن فكذلك يجوز أن ينفصل التزام المطالبة بالكفالة عن التزام أصل الدين.(19/289)
والطريق الآخر: أن تنضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في ثبوت أصل الدين لأن الكفالة إقراض للذمة والتزام المطالبة ينبني على التزام أصل الدين وليس ضرورة ثبوت المال في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل ما يوجب زيادة حق الطالب لأنه وإن ثبت الدين في ذمتهما فلأن لا يكون إلا من أحدهما كالغاصب مع غاصب الغاصب فإن كل واحد منهما ضامن للقيمة ولا يكون حق المغصوب منه إلا في ذمة واحد لأنه لا يستوفي إلا من أحدهما غير أن هناك اختيار تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر لما فيه من التمليك منه وهنا لا يوجب مالا توجد حقيقة الاستيفاء فلهذا ملك مطالبة كل واحد منهما به.
والحوالة مشتقة من التحول ومنه الحوالة في الغرس بالنقل من موضع إلى موضع وموجبه تحول الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه على سبيل التوثق به والعقدان في الشرع وأما الكفالة فلقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: من الآية72] وما ثبت في شريعة من قبلنا فهو ثابت في شريعتنا ما لم يظهر نسخه والظاهر هنا التقرير فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والناس يكفلون فأقرهم على ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" والدليل على جواز الحوالة قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيل على مليء فليتبع" أي فليتبع من أحيل عليه والكفالة مع جوازها وحصول التوثق بها فالامتناع من مباشرتها أقرب إلى الاحتياط على ما(19/290)
ص -142- ... قيل إنه مكتوب في التوراة الزعامة أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها غرامة واختلف العلماء رحمهم الله في موجب العقدين فعندنا الكفالة لا توجب براءة الأصيل والحوالة توجب وعند ابن أبي ليلى رحمه الله الكفالة توجب براءة الأصيل كالحوالة لأنه لا بد من وجوب الدين في ذمة الكفيل ومن ضرورته فراغ ذمة الأصيل منه لأن ما ثبت في محل فما دام باقيا في ذلك المحل فرغ منه سائر المحال ضرورة وإذا ثبت في محل آخر فرغ منه المحل الأول ضرورة لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شاغلا لمجلس وقد ثبت الدين في ذمة الكفيل فمن ضرورته براءة ذمة الأصيل وعلى قول زفر رحمه الله الحوالة لا توجب براءة الأصيل كالكفالة لأن المقصود بها التوثق لحق الطالب وذلك في أن تزاد له المطالبة لا أن يسقط ما كان له من المطالبة ولكنا نقول كل واحد من العقدين اختص باسم واختصاص العقد بموجب هو معنى ذلك الاسم كاختصاص الصرف باسم كان كاختصاصه بموجب هو معنى ذلك الاسم وهو صرف ما في يد كل واحد منهما إلى يد صاحبه بالقبض في المجلس والسلم اختص باسم لاختصاصه بموجب هو معنى ذلك الاسم وهو تعجيل أحد البدلين في القبض في المجلس وتأخير البدل الآخر بالتأجيل فكذلك هنا معنى الكفالة الضم فيقتضى أن يكون موجب هذا العقد ضم أحد الذمتين إلى الأخرى وذلك لا يكون مع براءة ذمة الأصيل ومعنى الحوالة التحويل وذلك لا يتحقق إلا بفراغ ذمة الأصيل.(19/291)
ثم الكفالة نوعان كفالة بالنفس وكفالة بالمال وقد بدأ ببيان الكفالة بالنفس لأن ذلك يكون قبل ثبوت المال عادة ومباشرته بين الناس أظهر من مباشرة الكفالة بالمال وافتتح بحديث حبيب الذي كان يقوم على رأس شريح رحمه الله أن شريحا حبس ابنه بكفالة بنفس رجل قال حتى طلبنا الرجل فوجدناه فدفعناه إلى صاحبه وفي الحديث دليل عدل شريح رحمه الله فإنه لم يمل إلى ابنه بل حبسه ولهذا بقي على القضاء نيفا وأربعين سنة وفيه دليل على أن الكفالة بالنفس تصح وأن الكفيل يحبس إذا لم يسلم نفس المطلوب إلى خصمه وأن تسليم الغير بأمر الكفيل كتسليم الكفيل لأنه قال طلبنا الرجل فأخذناه فدفعناه إلى صاحبه وجواز الكفالة بالنفس مذهب علمائنا رحمهم الله وعليه عمل القضاة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهو أحد أقاويل الشافعي رحمه الله وفي القول الآخر يقول هي ضعيفة وفي القول الثالث يقول لا تكون صحيحة لأنه يلتزم ما لا يقدر على تسليمه فيكون كبيع الطير في الهواء وبيانه أن المكفول بنفسه رقباني مثله لا ينقاد له لتسليمه خصوصا إذا كفل بغير أمره.
وكذلك إذا كفل بأمره لأن أمره بالكفالة لا يثبت له عليه ولاية في نفسه لتسليمه كما أن أمره بالكفالة بالمال لا يثبت له عليه ولأنه يؤدي المال من مال المكفول عنه وهو الحرف الثاني له أن هذه الكفالة بشرط أداء المكفول به من ملك المكفول عنه ولو كفل بشرط أن يؤديه من مال المكفول عنه لم يصح فكذلك إذا كفل بالنفس وحجتنا في ذلك ما روي عن(19/292)
ص -143- ... النبي صلى الله عليه وسلم أنه كفل رجلا في تهمة والتكفيل أخذ الكفيل بالنفس وكان بين علي وابن عمرو رضي الله عنهما خصومة فكفلت أم كلثوم رضي الله عنها بنفس علي رضي الله عنه وكفل حمزة بن عمر والأسلمي في تهمة رجل فاستصوبه عمر رضي الله عنه وإن ابن مسعود رضي الله عنه لما استناب أصحاب ابن النواحة كفلهم عشائرهم ونفاهم إلى الشام والمعنى فيه أنه التزم تسليم ما هو مستحق على الأصل فتصح كالكفالة بالمال ومعنى هذا أن تسليم النفس مستحق على الأصيل حقا للمدعي حتى يستوفي عند طلبه فإن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضرة مجلسه عند طلب خصمه.
وقد ذم الله تعالى قوما على الامتناع عن الحضور بقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور: من الآية48] الآية وإنما يذم الامتناع بما هو مستحق عليه فإذا ثبت أن التسليم مستحق وهو مما تجري فيه النيابة صح التزامه بالكفالة والظاهر أن الإنسان لا يكفل إلا بنفس من يقدر على تسليمه ممن هو تحت يده أو ينقاد له في التسليم خصوصا إذا كفل بأمره فإنه هو الذي أدخله في هذه الورطة فعليه إخراجه بالانقياد له لتسليمه إلى خصمه إلا أنه إذا كان كفل بالمال والديون تقضي بأمثالها وهو موجود في يد الكفيل فلا حاجة إلى إثبات الولاية له في مال الأصيل فيؤمر بالأداء من مال نفسه ثم يؤمر بالرجوع عليه وفي النفس لا يتأتى التسليم إلا بإحضار الأصل فيثبت له عليه ولاية الإحضار للتسليم.(19/293)
وكذلك إن كان كفل بغير أمره لأنه يتمكن من أن يدعي عليه مالا ليحضره القاضي فيسلمه إلى خصمه ويكون هذا كذبا ولا رخصة في الكذب والأصح أن يقول ليس التسليم كله في إحضار الأصل إذا أتى بالطالب إلى الموضع الذي فيه المطلوب فبدفعه يتحقق التسليم مع أن شرط صحة الالتزام كون الملتزم ملتزما ما لا قدرة له على أدائه كالتزام حقوق الله تعالى بالنذر حتى أن من نذر أن يحج ألف حجة يلزمه وإن كان لا يعيش هو ألف سنة ليؤدي فهنا أيضا التسليم يتأتى فيصح التزامه وإن كان الكفيل ربما يعجز عنه.
وعن الشعبي رحمه الله في رجل كفل بنفس رجل فمات المكفول بريء الكفيل وبه نأخذ لمعنيين أحدهما أن الخصومة وتسليم النفس إلى الخصم الذي سقط عن الأصل بموته وبراءة الأصيل بأي طريق يكون موجب براءة الكفيل والثاني أن محل التسليم فات بموته ولا يتأتى التسليم بدون المحل فكما أن عدم تأتي التسليم يمنع ابتداء الكفالة فكذلك يمنع بقاءها ثم ذكر عن أبي حنيفة رحمه الله في الرجل يكفل بنفس الرجل ثم لم يأبه أن يحبس ولا يكون ذلك في أول مرة يتقدم إليه وهذا لأن الحبس نوع عقوبة وإنما تتوجه على الظالم ولا يظهر ظلمه في أول مرة لأنه لم يسرقه أنه لماذا يدعي حتى يأتي بالخصم معه فلهذا لا يحبسه القاضي ولكنه يأمره أن يأتي بالخصم فيسلمه فإذا امتنع حين ذلك مع تمكنه منه حبسه.
وإذا ارتد المكفول ولحق بدار الحرب لم يبرأ الكفيل لأن لحاقه بدار الحرب كموته(19/294)
ص -144- ... حكما في قسمة ماله بين ورثته فأما في حق نفسه فهو مطالب بالتوبة والرجوع وتسليم النفس إلى الخصم فيبقى الكفيل على كفالته وكذلك الإحضار والتسليم يتأتى بعد ردته وعليه تنبني الكفالة إذا علم ذلك لا يحبس الكفيل ولكنه إن كان يتمكن من الدخول في دار الحرب وإحضاره أمهله في ذلك مقدار ما يذهب فيأتي به فإن لم يفعل حبسه حينئذ بمنزلة ما لو كان غائبا في بلدة أخرى وإن كان يعلم أن الكفيل لا يتمكن من ذلك أمهله إلى أن يتمكن منه ويحبسه ما لم يمتنع منه بعد تمكنه وهو نظير الكفيل بالمال فإنه إذا كان معسرا عاجزا عن الأداء أمهله القاضي إلى وقت يساره عملا بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: من الآية280] وطريق ثبوت هذا العجز علم القاضي به بإقامة البينة عليه
ولم يذكر في الكتاب أن في مدة عجزه عن الطالب أن يلزم الكفيل فهو على الاختلاف عندنا له ذلك ولكن لا يمنعه من كسبه وحوائجه وعند إسماعيل بن حماد رحمهما الله ليس له ذلك وهو نظير الاختلاف في المديون إذا ثبت عند القاضي عسرته فأخرجه من السجن وسنقرره في موضعه إن شاء الله تعالى
وإذا حبس المكفول به بدين أو غيره فللطالب أن يأخذ الكفيل بتسليمه لأنه قادر على تسليمه بأن يعتقه مما حبس فيه إن كان دينا قضاه عنه أو حقا آخر أوفاه إياه وهذا النوع من التسليم وإن كان يلحقه الضرر فيه فقد رضي بالتزامه حتى قدم على الكفالة.(19/295)
ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا إذا كان محبوسا عند غير هذا القاضي فأما إذا كان محبوسا عند هذا القاضي فالسبيل للكفيل أن يقول للقاضي هو في يديك فأخرجه من السجن لأسلمه إلى خصمه حتى يثبت عليه حقه ثم يحبسه بحقهما فالقاضي يحبسه إلى ذلك لأنه طلب منه أن ينظر له وليس فيه ضرر على أحد فيحبسه القاضي إلى ذلك وإن مات الكفيل بطلت الكفالة لأن تسليم الكفيل المطلوب بعد موت الكفيل لا يتحقق منه ولا تتوجه المطالبة بالتسليم على ورثته لأنهم لم يكفلوا له بشيء وإنما يخلفونه فيما له لا فيما عليه ألا ترى أن من عليه القصاص إذا مات لا يخلفه وارثه فيما عليه وكذلك لا يبقى باعتبار تركته بعد موته لأنه إنما يبقى باعتبار التركة بعد الموت ما يمكن استيفاؤه من التركة.
والكفالة بالنفس لا يمكن استيفاؤها من المال فلهذا لا يبقى باعتبار التركة وإذا أقر الطالب أنه لا حق له قبل المكفول ثم أراد أخذ الكفيل بتسليم نفسه فله ذلك وإقراره بهذا لا يمنع ابتداء الكفالة فلا يمنع بقاءها بطريق الأولى وهذا لأنه ربما يكون وصيا لميت له عليه حق أو وكيلا في خصومة له قبل ذلك الرجل حق فانتفاء حق نفسه عنه لا يمنع استحقاق التسليم له بهذا الطريق فلهذا كان الكفيل مطالبا بتسليم نفسه وإن لم يقر الطالب بذلك ولكن بقي المكفول به فأخذ منه كفيلا آخر لا يبرأ الكفيل الأول لأنه لا منافاة بين الكفالة الثانية والأولى ومقصود الطالب من هذه الزيادة التوثق بحقه فلا يتضمن براءة الكفيل الأول وكذلك ملاقاة الطالب مع المكفول لا يمنع بقاء الكفالة لأن ذلك كان موجودا عند ابتداء الكفالة ولم يمنع صحة كفالته فلأن لا يمنع بقاءها أولى وإذا سلم الكفيل المكفول إلى(19/296)
ص -145- ... الطالب بريء منه لأنه أوفاه ما التزمه له فإنه ما التزم التسليم إلا مرة واحدة وقد أتى به وهو كالمطلوب إذا أوفى الطالب ما عليه من الدين ويستوي إن قبله الطالب أو لم يقبله لأن الكفيل يبرأ بإيفاء عين ما التزم فلا يتوقف ذلك على قبول صاحب الحق كالمديون إذا جاء بالدين فوضعه بين يدي الطالب وتضرر من عليه فإنه يمتنع من ذلك إبقاء لحق نفسه والضرر مدفوع بحسب الإمكان وإذا كفل بنفس رجل على أن يوافي به في المسجد الأعظم فدفعه إليه بالكناسة أو في السوق أو في غير ذلك الموضع من المصر بريء لأن التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا فأما إذا لم يكن مفيدا فلا وتقييد التسليم بالمصر مفيد لأنه إذا سلمه خارج المصر ربما يهرب منه أو لا يتمكن من إحضاره بل يمتنع منه أما في المصر فالتقييد بموضع منه غير مفيد لأنه يتمكن من إحضاره مجلس الحكم في أي موضع من المصر سلمه إليه إما بقوة نفسه وإما بمعاونة الناس إياه فلهذا لا يعتبر تقييده بالمسجد الأعظم.
والمتأخرون من مشايخنا رحمهم الله يقولون هذا الجواب بناء على عادتهم في ذلك الوقت فأما في زماننا إذا شرط التسليم في مجلس القاضي فإنه لا يبرأ بالتسليم إليه في غير ذلك الموضع لأن في زماننا أكثر الناس يعينون المطلوب على الامتناع من الحضور لغلبة أهل الفسق والفساد فتقييد التسليم بمجلس القاضي مفيد وفيه طريقة أخرى أن نواحي المصر كلها كمكان واحد ألا ترى أن في عقد السلم إذا شرط التسليم في مصر كذا جاز وإن لم يبين في أي موضع من المصر يسلمه إليه فإذا جعل الكل كمكان واحد قلنا في أي موضع من المصر سلمه إليه فقد أتى بما التزمه فيبرأ وإذا كفل بنفس رجل وهو غائب أو محبوس جاز وهو جائز ضامن لأن تسليمه يتأتى بإحضاره أو إخراجه من السجن وشرط صحة الكفالة يأبى التسليم(19/297)
وإذا طلب رجل إلى رجل أن يكفل بنفس آخر ففعل فإن الكفيل يؤخذ به ولا يرجع على الآمر ولا على المكفول به أما الكفيل فلأنه التزم تسليم ما يتأتى تسليمه فيؤخذ به ولا يرجع عليه فكذلك إذا كفل بنفسه وهو يرجع على الآمر لأنه ما ضمن له شيئا وإنما أشار عليه بمشورة ولم تكن تلك المشورة ملزمة إياه شيئا وإنما اللزوم بالتزامه باختياره فلهذا لا يرجع عليه وإذا كفل بنفسه إلى شهر ثم دفعه إليه قبل الشهر بريء لأن التأجيل إنما كان لحق الكفيل حتى لا يضيق عليه الأمر في المطالبة قبل الشهر.
فإذا سلمه قبل مضي الشهر فقد أوفى ما عليه وأسقط حق نفسه فهو بمنزلة من عليه دين مؤجل إذا قضاه قبل مضي الأجل بريء ولم يكن للطالب أن يأبى القبول فكذلك هنا لا يكون للمكفول أن يأبى القبول وإذا دفع المكفول به إلى الطالب في السجن وقد حبسه غيره فإن الكفيل لا يبرأ منه لأن المقصود من التسليم أن يتمكن من إحضاره مجلس الحكم ليثبت حقه عليه وذلك لا يتأتى إذا كان محبوسا فهو بمنزلة تسليم الطير في الهواء أو السمك في الماء.
وكذلك لو دفعه إليه في مفازة أو موضع يستطيع المكفول أن يمتنع من الطالب فإن المقصود بهذا التسليم لا يحصل للطالب فهو نظير المؤجر إذا سلم الدار إلى المستأجر(19/298)
ص -146- ... وهناك غاصب يحول بينه وبين السكنى لا يكون هذا التسليم معتبرا وإذا دفع إليه في مصر غير المصر الذي كفل به وفيه سلطان أو قاض بريء في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يبرأ في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله حتى يدفعه إليه في المصر الذي كفل به فيه.
قيل: هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم فأبو حنيفة رحمه الله كان في القرن الثالث وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بالصدق فكانت الغلبة لأهل الصلاح والقضاة لا يرغبون في الميل بالرشوة وعامل كل مصر ينقاد لأمر الخليفة فلا يقع التفارق بالتسليم إليه في ذلك المصر أو في مصر آخر ثم تغير الحال بعد ذلك في زمن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فظهر أهل الفساد والميل من القضاة إلى أخذ الرشوة فقالا يتقيد التسليم بالمصر الذي كفل له فيه دفعا للضرر عن الطالب ثم وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن مقصود الطالب التسليم في موضع يمكن فيه إثبات حقه عليه بالحجة وربما يكون شهوده على الحق في ذلك المصر الذي كانت فيه الكفالة فإذا سلمه إليه في مصر آخر لا يتمكن من إثبات الحق عليه كما لو سلمه إليه في المفازة.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: سلمه إليه في موضع آمن وغاب فيبرأ مما سلمه إليه في ذلك المصر وهذا لأن المعتبر تمكنه من أن يحضره مجلس القاضي إما ليثبت الحق عليه أو ليأخذ منه كفيلا وهذا قد حصل ثم كما يتوهم أن يكون شهوده في ذلك المصر يتوهم أن يكون شهوده في ذلك المصر فيتقابل الموهومات ويبقى التسليم متحققا من الكفيل على وجه الالتزام فيبرأ به.(19/299)
وإذا كفل بنفس رجل ثم دفعه إليه وبرى ء منه فلزمه الطالب فقال الكفيل دعه وإنما على كفالتي أو على مثل كفالتي أو أنا كفيل به فهو لازم له أتى بلفظ صالح لإنشاء الكفالة به أما قوله أنا على كفالتي أي بعقد إنشائه سوى الأول لأنه لا وجه لتصحيحه إلا هذا ووجه الصحة مقصود كل متكلم عاقل أو معناه فسخنا ذلك الإبراء الحاصل لي بالرد عليك فأنا كفيل به كما قلت وإذا كفل بنفس رجل والطالب يدعي قبله مالا عينا أو دينا أو كفالة بنفس أو مال أو وكالة أو وصية فالكفالة صحيحة لأن تسليم النفس بهذه الدعاوي للجواب مستحق على المطلوب.
وكذلك لو كان الطالب يدعي قبل المطلوب قصاصا في النفس أو فيما دونها أو حدا في قذف أو سرقة لأن تسليم النفس للجواب يستحق على المطلوب في هذه الدعاوي فيصح التزامه بعقد الكفالة ومراده من هذا إذا أعطي الكفيل بنفسه طوعا فأما القاضي فلا يأخذه بإعطاء الكفيل بنفس في دعوى القصاص والحد ولكن إن أقام المدعي شاهدين مستورين أو شاهدا عدلا وقال لي شاهد آخر حاضر حبسه القاضي على قدر ما يرى استحسانا ولا يجبره على إعطاء الكفيل بالنفس وإن لم يقم شاهدا لم يحبسه ولكنه يمكنه من ملازمته إعطاء الكفيل بالنفس وإن لم يقم شاهدا لم يحبسه ولكنه يمكنه من ملازمته إذا ادعى شهودا(19/300)
ص -147- ... حضورا إلى آخر المجلس ليأتي بهم لأنه ينظر لأحد الخصمين على وجه لا يضر بالآخر والمقصود من الكفالة بالنفس التوثق والاحتياط ومبنى الحدود والقصاص الدرء والإسقاط فلهذا لا يجبر على إعطاء الكفيل فيه.
فإن قيل: فقد قلتم بحبسه بعد إقامة شاهد عدل ومعنى الاحتياط في الحبس أكثر منه في أخذ الكفيل
قلنا الحبس ليس للاحتياط ولكن لتهمة الدعاوي والفساد فبشهادة الواحد العدل أو شهادة المستورين يصير متهما بذلك فيحبس تعزيرا له وهذا لأن الحبس نوع عقوبة وفي دعوى القصاص والحد عقوبة هي أقوى من الحبس إذا صار متهما به يعاقب بالحبس فأما في المال فأقصى العقوبات إذا ثبت الحبس لا يجوز أن يعاقب به قبل ثبوته وإذا لم يجز حبسه وجب الاحتياط بأخذ الكفيل بنفسه ولكن هذا في دعوى الحد والقصاص بنفسه لو كفل صح بخلاف ما إذا كفل بنفس الحد والقصاص لأن ذلك لا تجري النيابة في إيفائه والكفالة التزام التسليم فإذا حصل بما يمكن استيفاؤه من الكفيل كان باطلا فأما تسليم النفس فتجري فيه النيابة فلهذا صحت الكفالة ولو لم يدع شيئا من ذلك قبله غير أنه كفل له بنفسه فالكفالة جائزة لأن الحضور عند دعواه مستحق عليه.(19/301)
ألا ترى أنه لو حضر مجلس القاضي وادعى قبله شيئا أحضره مجلسه للجواب والدعوى ليست بسبب الاستحقاق فعرفنا أن الحضور مستحق إذا لم يسبق ما ينفيه فلهذا جازت الكفالة وكان التسليم مستحقا بما التزمه بعقد الكفالة ألا ترى أنه لو كفل عنه بمال صحت الكفالة وإن كان الأصيل منكرا للمال وجعل كالثابت في حق الكفيل فإن خاصم الكفيل بالنفس الطالب إلى القاضي وقال إنه لا حق لهذا قبل الذي كفلت به فإن القاضي ينبغي له أن يسأله عن ذلك ولكنه يأخذه بالكفالة لأنه التزم تسليم نفسه فيكون مطالبا به ما لم يظهر ما ينفيه وما ادعاه قبل الطالب من إسقاط حقه عن المطلوب فإنه هو ليس بخصم فيه فلهذا لا يسأل الخصم عنه ولكن إن أقر الطالب أنه لا حق له قبل المكفول وأنه ليس بوصي لميت قبله خصومة ولا حق له قبله بوجه من الوجوه فإن الكفيل يبرأ لأن الإقرار بهذه الصفة ينفي استحقاق تسليم النفس للمقر على المطلوب وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل.
وقد ذكر قبل هذا أنه لا يبرأ واختلف الجواب لاختلاف الموضوع فإنه وضع المسألة هناك فيما إذا أقر مطلقا أنه لا حق له قبله وهذا لا يوجب براءة الكفيل لجواز أن يكون الطالب صبيا أو وكيلا وهنا وضع المسألة فيما إذا فسر إقراره بما يبقى استحقاقه لتسليم النفس عنه من كل وجه وكذلك لو جحد الطالب هذه المقالة وشهد عليه بها شاهدان بريء لظهور ما ينفي استحقاق تسليم النفس عن المطلوب والثابت بشهادة العدالة كالثابت بإقرار الخصم أو أقوى منه وقوله ضمنت وكفلت وهو على أو إلى سواء يصير به كفيلا بالنفس أما الضمان فهو موجب عقد الكفالة لأنه يصير به ضامنا للتسليم والعقد ينعقد بالتصريح بموجبه كعقد البيع ينعقد بلفظ التمليك وكذلك كفلت فإن اسم هذا العقد هو الكفالة(19/302)
ص -148- ... والعقد ينعقد بالتصريح باسمه ولفظ القبالة كلفظ الكفالة فإن الكفيل يسمى قبيلا وهو عبارة عن الالتزام ومنه يسمى الصك الذي هو وثيقة قبالة ولفظ الزعامة كذلك قال الله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: من الآية72] وقوله وهو على أي أنا ملتزم بتسليمة لأن مبلغ كلمات اللزوم على وإلى وإلى هنا بمعنى على قال صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا أو عيالا فإلي" أو قال علي معناه أنا ملتزم له.
وإذا أبرأ الطالب الكفيل من الكفالة بريء منها لأنه أسقط خالص حقه وهو من أهله وألحق بمحل السقوط وكذلك قد بريء إلى صاحبي فهذا إقرار بالتسليم إليه لأنه أقر ببراءته مفتتح بالكفيل مختتم بالطالب وذلك بالتسليم يكون ألا ترى أن هذا اللفظ في المال يكون إقرارا بالاستيفاء وذلك لو قال قد دفعه إلي أو قال لا حق لي قبل الكفيل من هذه الكفالة فهو بريء منها لأن النفي على سبيل الإطلاق أبلغ وجوه البراءة وإذا دفع المكفول به نفسه إلى الطالب وقال دفعت نفسي إليك من كفالة فلان بريء الكفيل وهذا وما لو سلمه الكفيل سواء لأن للكفيل أن يطالبه بالحضور ليسلمه إذا طولب به فهو إنما يبرى ء نفسه عن ذلك بهذا التسليم فلا يكون منتزعا فيه كالمحيل إذا قضي الدين بنفسه.(19/303)
وكذلك لو دفعه إليه إنسان من قبل الكفيل من رسول أو وكيل أو كفيل لأنهم قائمون مقامه في التسليم أو لم يقبل والمرأة والرجل والذمي والمستأمن في ذلك سواء وإذا كفل ثلاثة رهط بنفس رجل على أن بعضهم كفيل عن بعض كان للطالب أن يأخذ أيهم شاء بنفس الأول وبنفس صاحبه لأن كل واحد منهم التزم تسليم نفس المطلوب يملكه إليه بنفسه وتسليم نفس صاحبه باشتراط كفالة بعضهم عن بعض وكما تصح الكفالة بنفس المطلوب فكذلك تصح الكفالة بتسليم النفس لإبقاء ما التزمه مستحقا عليه فأيهم دفع الأول إلى الطالب بريء لأن تسليم النفس لإبقاء ما التزمه مستحق عليه فأيهم دفع الأول إلى الطالب وأشهد بالبراءة فهو بريء وصاحباه بريئان لأنه في حق صاحبيه هو كفيل بنفسيهما
وقد بينا أن تسليم كفيل الكفيل كتسليم الكفيل بنفسه فلهذا يبرءون جميعا عن تسليم نفس المطلوب كما لو سلموه جميعا وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل فيبرأ كل واحد منهم عن كفالة صاحبه.
ولو لم يكن بعضهم كفيلا عن بعض كان للطالب أن يأخذ أيهم شاء بنفس الأول وليس له أن يأخذه بصاحبه لأنه ما التزم تسليمهما بنفسهما وأيهم دفع الأول برئوا جميعا لأنهم التزموا تسليم نفس المطلوب بعقد واحد فكانوا فيه كشخص واحد ولأن المستحق عليهم إحضار واحد فبالعقد الواحد لا يستحق إلا إحضار واحد وقد أتى به أحدهم وهو غير متبرع في ذلك فكأنهم أتوا جميعا به وهذا بخلاف ما إذا كفل كل واحد منهم بنفسه بعقد على حدة ثم سلمه أحدهم بريء هو دون صاحبه لأن هناك كل واحد منهم التزم الإحضار بعقد على حدة فالإحضار المستحق على كل واحد منهم غير ما على صاحبيه وفي الأول التزموا الإحضار بعقد واحد فيكون المستحق عليهم إحضار واحد.(19/304)
ص -149- ... وقد قال ابن أبي ليلى رحمه الله: إذا كفل به الثاني بريء الأول لأن الطالب يصير معرضا عن كفالته حين اشتغل بأخذ كفيل آخر وهذا فاسد فإنه يأخذ الكفيل الثاني بقصد زيادة التوثق فلا يصير مبرئا للكفيل الأول ولا منافاة بين الكفالتين فالمستحق على كل واحد منهما الإحضار ولا يبعد أن يكون إحضار شيء واحد مستحقا على شخصين.
وإذا كفل رجل بنفس رجل وكفل آخر بنفس الكفيل ثم مات الأول بريء الكفيل لأن الأصل بريء من الحضور فيبرأ الكفيل الأول ببراءة الأصيل والكفيل الأول أصل في حق الكفيل الثاني فيبرأ ببراءته أيضا وإن مات الأوسط بريء الأخير لأن الوسط أصل في حق الآخر وقد بريء بموته وإن مات الأخير فالأوسط على كفالته لأن براءة الكفيل على ما هو سقوط محض لا يوجب براءة الأصيل كما لو بريء الكفيل بالإبراء ولو دفع الأول نفسه إلى الطالب بريء الكفيلان لما بينا ولو كفل بنفس رجل والطالب غير حاضر فهو باطل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال هو جائز وكذلك الكفالة بالمال إذا لم يكن الطالب حاضرا وفي موضع آخر من هذا الكتاب يقول هو موقوف عند أبي يوسف رحمه الله حتى إذا بلغ الطالب فعله جاز.(19/305)
وذكر الطحاوي رحمه الله قول محمد مع قول أبي يوسف رحمهما الله وهو غلط فإن كان الصلح الصحيح من مذهب أبي يوسف رحمه الله التوقف فهو مبني على بيانه في كتاب النكاح وهو ما إذا قال اشهدوا أني تزوجت فلانة وهي غائبة فكما أن هناك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله كلام الواحد شطر العقد فلا يتوقف على ما وراء المجلس وعند أبي يوسف رحمه الله جعل كلام الواحد كالعقد التام حتى يتوقف على ما وراء المجلس فكذلك هنا لأنه لا ضرر على أحد من هذا التوقف وإن كان الصحيح من قول أبي يوسف رحمه الله أنه جائز في مسألة مبتدأة وجه قوله أن الكفالة التزام من الكفيل من غير أن يكون بمقابلته إلزام على غيره والالتزام يتم بالملتزم وحده كالإقرار وهذا لأنه تصرف منه في ذمته وله ولاية على ذمته ولا يتعدى ضرره إلى الطالب لأنه لا يزداد بالكفالة حق الطالب.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: الكفالة تبرع وهو تبرع على الطالب بالالتزام له وإنشاء سبب التبرع لا يتم بالتبرع ما لم يقبله المتبرع عليه كالهبة والصدقة وهذا لأن التزام الحق بإنشاء العقد والعقد لا يتم بالإيجاب بدون القبول ولا يمكن جعل إيجابه قائما مقام قبول الآخر لأنه لا ولاية له عليه فبقي إيجابه شطر العقد وذلك يبطل بالقيام عن المجلس بخلاف الإقرار فإنه إخبار عن واجب سابق والإخبار يتم بالمخبر ثم قد يتعدى ضرر هذا الالتزام إلى الطالب فإن على قول بعض العلماء رحمهم الله الكفالة إذا صحت بريء الأصيل فبقي الأمر إلى الطالب ولعل قاضيا يرى ذلك فيحكم ببراءة الأصيل عن حق الطالب وفيه ضرر عليه فلهذا لا تصح الكفالة إلا بقبوله وعلى هذا لو خاطب فضولي عن الطالب على قولهما يتوقف على إجازة الطالب وعلى قول أبي يوسف رحمه الله هو جائز قبله الفضولي أو(19/306)
ص -150- ... لم يقبله إلا في خصلة واحدة وهي ما إذا قال المريض لورثته أو لبعضهم اضمنوا علي ديني فضمنوا فهذا لا يجوز في القياس على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن الطالب غير حاضر فلا يتم الضمان إلا بقبوله ولأن الصحيح لو قال هذا لورثته أو لغيرهم لم يصح إذا ضمنوه فكذلك المريض.
وفي الاستحسان يصح لأن حق الغرماء والورثة يتعلق بتركته بمرضه على أن يتم ذلك بموته وتتوجه المطالبة على الورثة بقضاء ديونهم من التركة فقام المطلوب في هذا الخطاب لورثته مقام الطالب أو نائبة لأنه يقصد به النظر لنفسه حتى يفرغ ذمته بقضاء الدين من تركته فلهذا جوزناه استحسانا بخلاف ما إذا كان صحيحا فإنه لا حق لأحد في ماله ولا مطالبة في شيء من دينه قبل ورثته فلا يقوم هو مقام الطالب في الخطاب لهم بهذا الضمان واختلف مشايخنا رحمهم الله فيما إذا قال المريض ذلك لأجنبي فضمن الأجنبي دينه بالتماسه فمنهم من يقول لا يجوز لأن الأجنبي غير مطالب بقضاء دينه بدون الالتزام فكان المريض في حقه والصحيح سواء ومنهم من يقول يصح هذا الضمان لأن المريض قصد به النظر لنفسه والأجنبي إذا قضى دينه بأمره يرجع به في تركته فيصح هذا من المريض على أن يجعله قائما مقام الطالب لضيق الحال عليه بمرض الموت ومثل ذلك لا يوجد في الصحيح فأخذنا فيه بالقياس ثم هذا من المريض صحيح وإن لم يسم الدين ولا صاحب الدين لأنه إنما يصح بطريق الوصية منه لورثته بأن يقضوا دينه ووجوب تنفيذ الوصية على الورثة لحق الموصي والجهالة لا تمنع صحة الوصية.(19/307)
وإذا كفل رجل برأس رجل أو برقبته أو بوجهه أو بجسده أو ببدنه جاز لأن هذا كله يعبر به عن جميع البدن ولهذا صح إيقاع الطلاق والعتاق به فهذا وكفالته بنفسه سواء وكذلك لو كفل بروحه وهكذا ذكره في الكتاب خاصة فإنه يعبر بالروح عن النفس وكذلك لو كفل بنصفه أو بجزئه لأن النفس واحدة في الكفالة لا تتجزأ فإن المستحق إحضارها وإحضار بعض النفس لا يتحقق وذكر جزء ما لا يتجزأ كذكر كله ولو كفل بيده أو رجله فهذا باطل لأن هذا اللفظ لا يعبر به عن جميع البدن ولهذا لا يصح إيقاع الطلاق والعتاق به فكذلك الكفالة.
ولو قال: علي أن أوفيك به أو إلي أن أوفيك به فهو كفيل لأن الموافاة به إحضاره للتسليم وذلك موجب الكفالة وقد التزمه بقوله علي أو إلي وكذلك لو قال علي أن أكفلك به يعني على أن أحضره وأسلمه إليك إذا التقينا وذلك موجب الكفالة وكذلك لو قال هو علي حتى تجتمعا أو تلتقيا لأنه التزام إلى غاية وهو اجتماعهما وذلك موجب الكفالة والتصريح بموجب العقد ينعقد به العقد وإن قال أنا ضامن لمعرفته فهو باطل لأن موجب الكفالة التزام التسليم وهو إنما ضمن المعرفة فهذا بمعنى قوله أنا ضامن لأن أدخلك عليه أو أوقفك عليه بخلاف ما لو قال أنا ضامن بوجهه لأن الوجه إنما يعبر به عن النفس(19/308)
ص -151- ... فكأنه قال أنا ضامن بنفسه ولو قال أنا ضامن لك أن تجتمعا أو تلتقيا فهو باطل لأن اجتماعهما أو ملاقاتهما فعلهما ولا يكون الإنسان ضامنا لفعل الغير بخلاف قوله هو علي حتى تجتمعا أو تلتقيا لأن قوله هو علي إشارة إلى نفسه فإنه التزم تسليم نفسه إلى هذه الغاية وذلك التزام منه لفعله دون فعل الغير وإذا كفل وصي الميت غريما للميت بنفسه من رجل فدفعه الكفيل إلى ورثة الميت أو غريم من غرمائه لم يجز لأنه التزم تسليم النفس إلى الوصي وبالتسليم إلى غيره لا يكون موفيا ما التزمه والمقصود لا يحصل بالتسليم إلى الغرماء وهم لا يتمكنون من إثبات الدين للميت عليه وكذلك الورثة لأن أيديهم لا تنبسط في التركة عند قيام الدين على الميت وإنما الوصي هو الذي يتمكن من إثبات الدين عليه واستيفائه فلهذا لا يبرأ بالتسليم إلى غيره.(19/309)
والكفالة جائزة بالنفس فيما بين الأولاد والأزواج والزوجات وفيما بين الأقارب كجوازها بين الأختين بمنزلة سائر العقود من التبرعات والمعاوضات والكفالة بالنفس أو المال إلى الحصاد والدياس أو إلى الجذاذ أو إلى المهرجان أو إلى النيروز جائزه إلى الأجل الذي سمي لأن ما ذكر من الأجل وإن كان فيه نوع جهالة فهي جهالة مستدركة متقاربة فإن الدياس والحصاد يتقدمان الحر وتأخرهما بامتداد البرد فتكون متقاربة ومثل هذه الجهالة لا تمنع صحة الكفالة لأنها مبنية على التوسع ألا ترى أن الجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة مع أنه هو المقصود بها المعقود عليه ففيما ليس بمعقود عليه وهو الأجل أولى وبه فارق البيع فإن الجهالة في المعقود عليه هناك تمنع صحة العقد فكذلك في الأجل المشروط فيه لأنه إذن شرط في نفس العقد ولهذا روى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه إذا أجله في الثمن بعد البيع إلى الحصاد أو إلى الدياس يجوز لأنه إذا لم يكن الأجل مشروطا في العقد لا يصير من العقد ولكن تأثيره في تأخير المطالبة ويجوز تأخير المطالبة إلى هذه كما في الكفالة.(19/310)
فإن قيل ما يقولون فيما إذا تزوج امرأة بصداق مؤجل إلى هذا الأجل فإن الصداق يحتمل الجهالة المتقاربة ثم لا يصح اشتراط هذه الآجال فيه قلنا جواب هذا الفصل غير مذكور في الكتب وبين مشايخنا رحمهم الله فيه خلاف والأصح عندي أنه تثبت هذه الآجال في الصداق لأنه لا شك أن اشتراط هذه الآجال لا يؤثر في أصل النكاح بخلاف البيع فيبقى هذا أجلا في الدين المستحق بالعقد لأن في العقد والمهر تحتمل جهالة الصفة فجهالة الأجل أولى ومن يقول لا يثبت تحول ما هو المعقود عليه في النكاح وهو المرأة لا يحتمل الجهالة فكذلك الأجل المشروط فيه بخلاف الكفالة وكذلك لو قال الكفالة إلى العطاء أو إلى الرزق أو إلى صوم النصارى أو فطرهم فهذا كله جائز بأجل وإن كانت فيه جهالة مستدركة ولو قال إلى أن يقدم المكفول به من سفره لأن قدوم المكفول به من سفره منتشر لتسليم نفسه إلى خصمه والتأجيل إلى أن ينتشر التسليم صحيح بخلاف ما لو قال إلى(19/311)
ص -152- ... قدوم فلان غير المكفول به لأن ذلك غير منتشر لتسليم ما التزمه فيكون تعليقا للكفالة بالشرط المحض وذلك باطل كما لو علقه بدخول الدار أو كلام زيد وهذا لأنه إنما يحتمل التعليق ما يجوز إن يحلف به كالطلاق والعتاق.
ونعني بقولنا باطل: أن الشرط باطل فأما الكفالة فصحيحة لأن الكفالة لا تبطل بالشروط الفاسدة كالنكاح ونحوه وعلى هذا لو كفل به إلى أن تمطر السماء أو إلى أن يمس السماء فالكفالة جائزة والأجل باطل لأن ما ذكره ليس من الآجال المعروفة بين التجار ولأن الأجل بذكر الزمان في المستقبل ولا يحصل ذلك بهذا اللفظ لجواز أن يتصل هبوب الريح وإمطار السماء بالكفالة فيبقى شرطا فاسدا فلا تبطل به الكفالة فأما ما ذكر من الحصاد والدياس فذكر زمان في المستقبل لا بالعلم إذ زمان الدياس ليس زمان الحصاد فيصح ذلك على وجه التأجيل.(19/312)
ولو قال: أنا كفيل بنفس هذا إلى قدوم فلان وذلك معه في الدين عليهما جازت الكفالة إلى هذا الأجل لأن اشتراط قدومه لينتشر الأمر عليه يتمكن الطالب من استيفاء الدين منه فكان هذا وما لو شرط قدوم المكفول بنفسه سواء ولو قال رجل لقوم اشهدوا أني كفيل لفلان بنفس فلان والطالب غائب فقد بينا أن إنشاء الكفالة بهذه الصفة لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وسواء أجازه الطالب أو لم يجزه فإن قال الطالب حين حضر قد كنت كفلت لي به قبل ذلك وأنا حاضر وإنما كان هذا اللفظ إقرارا منك بالكفالة وقال الكفيل بل أنشأت الكفالة بهذا اللفظ فلم يصح فالقول قول الطالب لأن صيغة كلامه إقرار ولأنا لو حملنا كلامه على الإقرار كان صحيحا ولو حملناه على الإنشاء لم يصح وكلام العاقل مهما أمكن حمله على وجه صحيح يحمل عليه وكان الظاهر شاهدا للطالب من هذا الوجه وإذا كفل رجل بنفس رجل على أنه إن لم يوثق به غدا فهو كفيل بنفس فلان لرجل آخر وللطالب قبله حق فذلك جائز إن لم يواف بالأول كان عليه الثاني وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله الآخر فأما على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله فالكفالة بنفس الأول صحيحة وبنفس الثاني باطلة نص على الخلاف بعد هذا في الكفالة بالمال والكفالة بالنفس والكفالة بالمال في هذا سواء.(19/313)
وجه قول محمد رحمه الله أن هذه مخاطرة لأنه علق الكفالة بالشرط وتعليقها لا يجوز كما لو قال إن دخلت الدار فأنا كفيل لك بنفس فلان وهذا بخلاف ما لو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به فعليه المال الذي له عليه لأن القياس هناك أن لا تصح الكفالة الثانية لكونها مخاطرة وكنا استحسنا للتعامل الجاري بين التجار وهذا ليس في معنى ذلك لأن ذلك المال كان سببا للكفالة بالنفس فكان بينهما اتصالا من هذا الوجه فأما الكفالة بنفس عمر وفليست بسبب للكفالة بنفس زيد فلا اتصال بين الكفالتين هنا فوجب اعتبار كل واحدة منهما على حدة والثانية منهما متعلقة بالخطر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا(19/314)
ص -153- ... تعليق الكفالة بخطر عدم الموافاة صحيح كما لو قال إن لم أوافك به غدا فعلي مالك عليه وهذا لأن الكفالتين حصلتا لشخص واحد فكان في تصحيح الثانية تأكيد يوجب الأولى لأن موجبها الموافاة فإذا علم أنه إن لم يواف به لزمته الكفالة الثانية جد في طلبه ليوافي به حتى يدفع عن نفسه ضرر التزام الكفالة الثانية.
ولو قال: أنا كفيل لفلان أو لفلان كان جائزا بدفع أيهما شاء الكفيل إلى المكفول له فيبرأ من الكفالة لأن جهالة المكفول به لا تمنع صحة الكفالة على ما بينه في قوله ما ثبت لك على فلان فهو علي إن شاء الله تعالى ثم الكفيل بهذا اللفظ يكون ملتزما تسليم أحدهما إلى الطالب لإقحامه حرف أو بينهما فيكون الخيار في بيان ما التزمه إليه وأيهما سلم فقد وفي بما شرط وإذا قال رجل لرجل لفلان على فلان مال فأكفل له بنفسه فقال قد فعلت ثم بلغ الطالب فقال أجزت فإنه يجوز لأنه عقد جرى بين اثنين ولو كان الملتزم وكيل الطالب كانت الكفالة صحيحة فإذا كان فضوليا توقفت على إجازته فإذا أجاز صار ملتزما وللكفيل أن يخرج من الكفالة قبل قدوم الطالب لأنه يدفع اللزوم عن نفسه عند إجازة الطالب وللعاقد هذه الولاية في العقد الموقوف إذا فسخه المشتري قبل إجازة المالك.(19/315)
وليس للمخاطب أن يبطل هذه الكفالة قبل إجازة الطالب لأنه لا يدفع به عن نفسه شيئا فإن عند الإجازة لا يجب على المخاطب شيء بخلاف البائع في البيع الموقوف فإنه يجوز فسخه قبل أن يجيزه المالك لأنه يدفع به عن نفسه ضرر لزوم العهدة إذا أجازه المالك وإذا وكل رجل رجلا أن يأخذ له من فلان كفيلا بنفسه فأخذ منه كفيلا بنفسه فإن كان الكفيل كفل للوكيل فإن الوكيل يأخذه بذلك دون الموكل لأنه أضاف العقد إلى نفسه بقوله أكفل لي والتزام الكفيل تسليم نفس المطلوب إليه فعليه الوفاء بما التزم وإن كفل به للموكل أخذه الموكل دون الوكيل لأن الوكيل أضاف الكفالة إلى الموكل وجعل نفسه رسولا من جهته والكفيل التزم تسليم نفسه إلى الموكل فإن دفعه في الوجهين جميعا إلى الموكل فهو بريء من الكفالة.
أما في الفصل الثاني فلا يشكل وأما في الفصل الأول فالوكيل وإن كان هو الذي يطالب للموكل فإذا سلمه إلى الموكل فقد وفى الحق المستحق عليه إلى مستحقه وهو كالمشتري من الوكيل إذا دفع الثمن إلى الموكل وإذا ادعى رجل من رجل كفالة بنفس وأراد يمينه فإنه يستحلفه له لأنه يدعي عليه حقا مستحقا لو أقر به لزمه فإذا أنكره يستحلف عليه حتى إذا نكل عن اليمين يقام نكوله مقام إقراره فيؤخذ بذلك فإن أخذ به فاستعدى على المكفول به أن يحضر فيبرئه عن الكفالة فإن كان المكفول به مقرى بأنه أمره بالكفالة أمر بأن يحضر معه لأنه هو الذي أدخله في هذه الورطة فعليه إخراجه منها ولا طريق للإخراج سوى أن يحضر معه ليسلمه فإن تسليم نفسه لا يتصور بدون نفسه.
وإن قال: كفل لي ولم آمره وحلف على ذلك لم يجبر على الحضور معه لأنه تبرع بهذا الالتزام ولم يكن مأمورا به من جهة أحد فيقتصر وبال ما التزمه عليه إلا أن يقيم البينة(19/316)
ص -154- ... أنه كفل له بأمره فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم فيؤمر بالحضور معه وإذا كفل رجل بنفس رجل فمات الطالب فلوصيه أن يأخذه بها لأن الوصي قائم مقام الموصي في حقوقه وكما يطالب الوصي المطلوب بالحق الذي كان عليه للموصي فكذلك يطالب الكفيل وإن لم يكن له وصي أخذه الورثة لأنهم خلفاؤه يقومون مقامه في حقوقه وأي الورثة أخذه به فله ذلك ولكن يبرأ الكفيل بدفعه إليه من جهته لا من جهة سائر الورثة حتى أن لهم أن يطالبوه بالتسليم لأن كل واحد منهم يقوم مقام الميت فيما هو من حقه ولا يقوم مقام شركائه في حقوقهم ألا ترى أنه لا يقبض من المطلوب إلا مقدار حصته من المال ولو دفع إليه جميع المال لم يبرأ من نصيب سائر الورثة.
ولو كان على الميت دين يحيط بماله ولم يوص إلى أحد فدفعه الوكيل إلى غرمائه أو إلى الورثة لا يبرأ لأن المقصود لا يحصل بالدفع إليهم فإن الغرماء لا يتمكنون من الخصومة معه والورثة كالأجانب إذا كانت التركة مستغرقة بالدين ولو كان في ماله فضل على الدين وقد أوصى الميت بالثلث فدفع الكفيل المكفول به إلى الغرماء أو إلى الموصى له لم يبرأ إلا أن يدفعه إلى الوصي لأنه هو القائم مقام الميت للمطالبة بحقوقه حتى يوصل إلى كل مستحق حقه فأما الموصى له والورثة فحقهم مؤخر عن حق الغرماء والخلافة لكل واحد منهم بقدر حقه فلهذا لا يبرأ إلا بدفعه إلى الوصي ولم يذكر في الكتاب ما إذا دفعه إلى الثلاثة جميعا قيل يبرأ بالدفع إليهم لأن الحق لهم لا يعدوهم والأصح أنه لا يبرأ لأن الغرماء لا يتمكنون من الخصومة معه فلا يعتبر دفعه إليهم ولا حق للورثة والموصى له ما لم يصل إلى الغرماء حقهم فإذا أدى الورثة الدين والوصية جاز الدفع إلى الورثة وبرى ء الكفيل من كفالته لأن المانع من صحة الدفع إليهم قيام حق الموصى له والغريم وقد زال ذلك بوصول حقهم إليهم فبقي الحق للورثة فلهذا جاز دفعه إليهم.(19/317)
وإذا كفل رجل لرجلين بنفس رجل ثم دفعه إلى أحدهما بريء من كفالة هذا وكان للآخر أن يأخذه لأنه التزم تسليمه إليهما وواحد منهما ليس بنائب عن الآخر في استيفاء حقه فلا يبرأ عن حقه بالتسليم إلى الآخر ولكن في حق من سلم إليه المقصود لم يحصل بهذا التسليم لأنه يتمكن من خصومته وإثبات حقه عليه وكذلك وصيان لميت كفلا رجلا بنفسه للميت عليه دين فدفعه الكفيل إلى أحد الوصيين بريء منه وكان للآخر أن يأخذه به سواء كانت الكفالة في صفقة واحدة أو في صفقتين لأن كل واحد منهما ينفرد بالخصومة فيحصل المقصود بالتسليم إليه فلهذا بريء من حقه والله أعلم.
باب الكفالة بالنفس فإن لم يواف به فعليه المال
قال رخمه الله: وإذا كان لرجل على رجل مال فكفل رجل بنفس المطلوب فإن لم يواف به إلى وقت كذا فعليه ما له عليه وهو كذا فمضى الأجل قبل أن يوافيه به فالمال لازم له عندنا استحسانا وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول لا يلزمه المال وهو القياس لأنه علق(19/318)
ص -155- ... التزام المال بالخطر وتعلق التزام المال بالخطر باطل كالإقرار لأنه إنما يعلق بالأخطار ما يجوز أن يحلف به ولهذا لا يجوز تعليق الكفالة بسائر الشروط فكذلك بخطر عدم الموافاة وللاستحسان وجهان أحدهما أنه يحمل على التقديم والتأخير فيجعل كأنه كفل بالمال في الحال ثم علق البراءة على الكفالة بالموافاة بنفسه والموافاة تصلح سببا للبراءة عما التزمه بالكفالة والتقديم والتأخير في الكلام صحيح فإذا أمكن في هذا الوجه تصحيح كلامه حمل عليه وللتحرز عن الغاية والثاني أن هذا متعارف فيما بين الناس فإن رغبة الناس في الكفالة بالنفس أكثر منه بالكفالة بالمال فللطالب أن يرضى بأن يكفل بنفسه على أنه إن لم يواف به يكون كفيلا بالمال حينئذ وفيه يحصل مقصوده فإنه يجد في طلبه ليسلمه إلى خصمه فيتمكن من استيفاء الحق منه وإن لم يفعل يصير كفيلا بالمال فقد بينا أن سبب كفالته بالنفس هو المال الذي ادعاه قبله ويكون للحقين اتصال من هذا الوجه فإذا عين الكفالة بأحدهما وأخر الكفالة الثانية إلى وقت عدم الموافاة كان صحيحا وإذا لم يواف بنفسه حتى لزمه المال لا يبرأ من الكفالة بالنفس لأنه لا منافاة بين الكفالتين ألا ترى أنه لو كفل بهما معا كان صحيحا وبعد ما ما صحت الكفالة بالنفس لا يستفيد البراءة عنها إلا بالموافاة بالنفس ولم يوجد ذلك وكذلك إن كان قال فعلي مالك عليه ولم يسم كم هو جاز لأن جهالة المكفول به لا تمنع صحة الكفالة فإنها مبنية على التوسع مع أن عين الجهالة لا تؤثر في العقد وإنما المؤثر جهالة تفضي إلى المنازعة ألا ترى أن بيع القفيز من الصبرة جائز فإن جهالة القفيز لا تقتضي المنازعة وهنا الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأن الحق الذي له عليه معلوم في نفسه وإن لم يكن معلوما فإعلامه بطريق ممكن فلهذا صحت الكفالة ألا ترى أنه لو قال كفلت لك ما أدركك في هذه الجارية التي اشتريت من درك كان جائزا وأصل لحوق الدرك وقدر ما(19/319)
يلحقه فيه من الدرك مجهول وقد اعتاد الناس الكفالة بهذه الصفة.
وكذلك لو قال كفلت لك بما أصابك من هذه الشجة التي شجك فلان وهي خطأ كان جائزا بلغت النفس أو لم تبلغ ومقدار ما التزمه بهذه الكفالة مجهول لأنه لا يدري قدر ما يبقي من الشجة وأنه هل يسري إلى النفس أو لا يسري فدل أن مثل هذه الجهالة لا تمنع الكفالة وكذلك لو قال كفلت بالمال الذي لك عليه إن وافيتك به غدا فإن بريء منه كان جائزا عن المال إذا أسلم نفسه إليه في الغد لأن إبراء الكفيل إسقاط محض والإسقاط بالتعليق بالشرط كالطلاق والعتاق ولأن الموافاة بنفسه ممكنة للطالب من الوصول إلى حقه فيجعل ذلك قائما مقام وصول حق الطالب إليه في إبراء الكفيل ولكن هذه الإقامة تكون عند الشرط فلا تثبت بدون الشرط وإذا كفل رجل رجلا وقال إن لم أوافك به غدا فعلي ألف درهم ولم يقل التي لك فمضى الغد ولم يواف به وفلان ينكر أن يكون عليه شيء والطالب يدعي عليه ألف درهم والكفيل ينكر أن يكون له عليه شيء فالمال لازم على الكفيل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله لا شيء عليه لأن(19/320)
ص -156- ... بمجرد دعوى الطالب لا يثبت المال على واحد منهما فكانت هذه رشوة التزمها الكفيل له عند عدم الموافاة والرشوة حرام ولو جعلناه كأنه قال فعلي الألف التي لك عليه لزمه المال ولو جعلناه كأنه قال فلك علي ألف درهم ابتداء من جهتي لم يلزمه شيء والمال لا يجب بالشك لعلمنا ببراءة ذمته في الأصل ووقوع الشك في اشتغالها وحجتهما ما بينا أن الصحة مقصود كل متكلم فمهما أمكن حمل كلامه على وجه صحيح يجب حمله عليه ولو حملناه على الالتزام بطريق الرشوة لم يصح ولو حملناه على الالتزام بطريق الكفالة عن فلان كان صحيحا فعلي مالك عليه وهو ألف درهم موجب حمله على هذا الوجه.
ألا ترى أن من قال لغيره لك علي ألف درهم حمل كلامه على الإقرار فيصح ولا يحمل على الالتزام ابتداء لأنه إذا حمل عليه لم يصح توضيحه أن أول كلامه كفالة صحيحة عن فلان والأصل أن ما مبناه على كلام صحيح يكون صحيحا على ما بينا هذا في الفرق بين الوجه واليد إن شاء الله تعالى وإذا حملنا آخر كلامه على الكفالة كان ذلك إقرارا منه بوجوب المال على فلان وإقراره صحيح في حق نفسه فلا ينفعه الإنكار بعد ذلك ولو ادعى الطالب المال وجحد المطلوب وكفل رجل بنفسه فإن لم يواف به غدا فعليه الذي ادعى على المطلوب فلو مضى الغد ولم يواف به لزم الكفيل المال عندهم جميعا لأنه صرح بالالتزام بطريق الكفالة عن فلان وذلك إقرار بوجوب المال على فلان لأن الكفالة لا تصح إلا به وإقراره حجة على نفسه فإذا أداه رجع به على المطلوب إن كان أمره أن يكفل عنه بالمال وإن لم يأمره بذلك وأمره أن يكفل بالنفس لم يرجع عليه بالمال لأنه متبرع بالكفالة بالمال وهذا عندنا.(19/321)
وقال مالك رحمه الله الكفيل بالمال إذا أدى يرجع على الأصيل سواء أمره بالكفالة عنه أو لم يأمره لأن الطالب بالاستيفاء منه يصير كالمالك لذلك المال من الكفيل أو كالمقيم له مقام نفسه في استيفاء المال من الأصيل ولكنا نقول تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز وإذا كفل بأمره فبنفس الكفالة يجب المال للطالب على الكفيل كما يجب للكفيل على الأصيل ولكن يؤخر إلى أدائه وهذا لا يكون عند كفالته بغير أمره والثاني أن عند الكفالة بالأمر يجعل أصل المال كالثابت في ذمة الكفيل عند الأداء يتملكه بالأداء وذلك يصح عند وجود الرضا من الطالب والمطلوب وإذا كانت الكفالة بغير أمره لا يمكن إثبات أصل المال في ذمته حتى يتملكه بالأداء لانعدام الرضا من المطلوب بذلك فلهذا لا يرجع عليه.
قال وكذلك لو كان المطلوب عبدا تاجرا لأنه تبرع عليه والعبد في التبرع عليه كالحر ولو كفل بنفس المطلوب على أن يوافيه به إذا ادعى به فإن لم يفعل فعليه الألف التي له عليه فلو سأله الرجل أن يدفعه إليه فدفعه إليه مكانه فهو بريء من المال لأن شرط التزام المال عدم الموافاة حين يطلبه منه فإذا وافاه به في المجلس الذي طلب منه فقد انعدم شرط وجوب المال وإن لم يدفعه إليه فقد تقرر شرط وجوب المال فيلزمه وكذلك إن قال ائتني به العشاء أو الغداء فلم يوافه به على ما قال فالمال لازم عليه لوجود شرطه وإن قال الطالب(19/322)
ص -157- ... ائتني به غدوة وقال الكفيل آتيك به بعد غدوة فأبى الطالب أن يفعل فلم يواف به الكفيل غدوة فالمال عليه لأن الكفيل استمهله وله أن يأبى الإمهال فإذا أباه بطل ذلك الاستمهال فيبقى عدم الوفاء إلى الوقت الذي طلب منه فيلزمه المال وإن أخره الطالب إلى بعد غد كما قال فقد أجابه إلى ما التمس من الإمهال وصار في التقدير كأنه أمره بالموافاة بعد غد فإذا أوفاه به فقد بريء عن المال وإن مضى بعد غد ولم يوافه به فعليه المال وإن كان شرط أن يوافيه به عند مكان القاضي فدفعه إليه في السوق أو الكناسة فهو بريء من المال لأنه أتاه بالموافاة المستحقة عليه فإن التقييد بمكان القاضي غير معتبر لأن المقصود أن يتوصل إلى الخصومة معه وذلك حاصل بالتسليم في المصر وقد بينا هذه الفصول في الباب المتقدم.(19/323)
وإن شرط عليه أن يدفعه إليه عند الأمير فدفعه إليه عند القاضي أو شرط عليه عند القاضي فدفعه إليه عند الأمير أو شرط له عند القاضي فاستعمل قاض غيره فدفعه إليه عنده فهو بريء لأنه ليس المقصود بهذا التقييد عين القاضي والأمير وإنما المقصود تمكنه من إثبات الحق عليه بالحجة والاستيفاء منه بقوة الوالي وفي هذا المقصود الأمير والقاضي الأول والثاني سواء وقد بينا أن ما لا يكون مفيدا من التقييد لا يعتبر ولو كفل بوجهه على أنه إن لم يواف به غدا فعليه ما عليه وهو الألف درهم فهو جائز لا على ما شرط ولو كفل بيده أو برجله على هذا الشرط كان باطلا لا يلزمه المال فيه والفرق بينهما أن الكفالة الثابتة بالمال مبنية على الكفالة الأولى بالنفس والكفالة بالنفس بالإضافة إلى الوجه تصح فإذا صح ما هو الأصل صح ما جعل بناء عليه لمعنى وهو أن الكفالة بالمال لا يمكن إثباتها بهذه الصفة مقصودا لأنه علقها بالشرط وتعليق الكفالة بالشرط لا يصح وإنما يصححها اعتبار التبعية للكفالة الأولى وثبوت التبع بثبوت المتبوع ففي الفصل الأول لما صح المتبوع صح التبع وفي الفصل الثاني لم يصح المتبوع فلا يمكن تصحيحه التبع ولا يمكن تصحيح الكفالة بالمال مقصودا بهذه الصفة فتعينت جهة البطلان فيه وإذا كفل رجل بنفس رجل فإن لم يوافه به غدا فالمال الذي للطالب على فلان رجل آخر وهو ألف درهم على الكفيل فهو جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله الآخر وفي قول محمد وأبي يوسف رحمهما الله الأول الكفالة بالمال باطلة.(19/324)
وهذه الفصول أحدها أن يكون الطالب والمطلوب واحدا في الكفالتين فتجوز الكفالتان استحسانا كما بينا والثاني أن يكون الطالب مختلفا فتبطل الكفالة بالمال سواء كان المطلوب واحدا أو اثنين نحو أن يكفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به غدا فالمال الذي لرجل آخر على هذا المطلوب على الكفيل أو المال الذي لرجل آخر سوى الطالب على رجل آخر سوى المطلوب على الكفيل فهذا باطل بالاتفاق لأن عند اختلاف الطالب الكفالة الثانية لا تكون تابعة للكفالة الأولى ولا يكون تصحيحها مقصودا لأنه تعليق للالتزام بالشرط ولأنا عند اتحاد الطالب والمطلوب صححنا الكفالة الثانية حملا لكلامه على معنى التقديم والتأخير ولا يتأتى ذلك عند اختلاف الطالب فأما إذا كان الطالب واحدا والمطلوب اثنين فهو على(19/325)
ص -158- ... الخلاف كما بينا فمحمد رحمه الله يقول الكفالة الثانية هنا لا يمكن تصحيحها تبعا للكفالة الأولى لأن الكفالة الأولى بنفس غير نفس المطلوب بالمال ولا يمكن أن تجعل الموافاة بنفسه مبرئة له عما التزمه عن آخر فبقيت هذه كفالة مقصودة متعلقة بالشرط وهي مخاطرة فلا يصح كما قال في الفصل الثاني.
وكذلك لا يمكن تصحيح الكفالة هنا بحمل كلامه على التقديم والتأخير بخلاف ما إذا اتحد المطلوب
فأما أبو يوسف رحمه الله فإنه يقول الكفالة الثانية هنا توقن بحق من وقعت الكفالة الأولى له فيصح كما إذا اتحد المطلوب وهذا لأن الكفالة إنما تقع للطالب حتى يحتاج إليه قبول الطالب وإذا كان الطالب واحدا أمكن جعل الكفالتين في المعنى ككفالة واحدة واتباع الثانية للأولى فيحكم بصحتها بخلاف ما إذا اختلف الطالب.
ولو قال فإن لم أوافك به فالمال الذي لك عليه وهو مائة درهم والمال الذي لك على فلان وهو عشرة دنانير علي فإن ذلك كله عليه عند عدم الموافاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله عليه المال الذي كان على المطلوب دون الذي على غيره اعتبارا لحالة الجمع بينهما بحال إفراد كل واحد منهما واستشهد لهما بما لو كان عليهما مال واحد وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكفل بنفس أحدهما على أنه إن لم يواف به غدا فالمال الذي على فلان وهو كذا علي إن لم أواف به أن ذلك عليه وعذر محمد رحمه الله واضح لأن المال هنا واحد سواء أضافه إلى المكفول بنفسه أو إلى صاحبه.(19/326)
ولو كفل بنفس رجل للطالب عليه مال فلزم الطالب الكفيل فأخذ منه كفيلا بنفسه على أنه إن لم يواف به فالمال الذي له على فلان المكفول به الأول عليه فهو جائز وهذا عندهم جميعا وعذر محمد رحمه الله أن الكفالة بالنفس هنا باعتبار ذلك المال ألا ترى أن المطلوب إذا بريء من ذلك المال بريء الكفيل الأول والثاني فأمكن تصحيح الكفالة بالمال تبعا للكفالة بالنفس وإذا كفل رجل بنفس رجل أو بما عليه وهو مائة درهم كان جائزا لأنه ردد الالتزام بين شيئين وقد ذكرنا أن مثل هذه الجهالة لا تمنع صحة الالتزام بحكم الكفالة والخيار إلى الكفيل وأيهما سلم المال أو النفس بريء لأن حرف أو للتخيير وعزيمة الكلام في أحدهما.
وإذا كفل بنفس فلان أو بما عليه أو بنفس فلان آخر أو بما عليه فهو جائز وأي ذلك دفع الكفيل فهو بريء لأن الجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة عند عدم التنصيص فعند التنصيص عليه أولى وأي ذلك دفع فقد وفى بما لزمه.
ولو ادعى رجل قبل رجل ألف درهم فأنكرها ثم قال إن لم أوافك به غدا فهو علي فإن لم يوافه به غدا لا يلزمه شيء لأنه تعليق للالتزام بالخطر بمنزلة قوله إن دخلت دارك فهو علي وهذا بخلاف ما لو كفل رجل بنفس جاحد وقال إن لم أوافك به غدا فالذي تدعي عليه لك علي لأن الكفالة بالنفس والمال جائزة ويلزم الكفيل المال إن لم يواف لأنه جعل التزام المال تبعا للكفالة بالنفس وقد صحت الكفالة بالنفس فكذلك بالمال وحقيقة(19/327)
ص -159- ... المعنى في الفرق أنه ليس من شرط توجه المطالبة على الكفيل وجوب أصل المال في ذمته على ما بينا أن موجب الكفالة المطالبة بما هو في ذمة غيره وهو لما قدم على الكفالة صار كالمقر بوجوب المال في ذمة المطلوب وإقراره بذلك ملزم إياه وإن لم يثبت المال له في ذمة المطلوب بخلاف المطلوب إذا علق الالتزام بعدم موافاته لأنه لا يمكن توجه المطالبة عليه إلا بعد وجوب المال في ذمته ولم يوجد منه الإقرار بوجوب المال عليه صريحا ولا دلالة فكانت هذه مخاطرة حتى لو كان المطلوب أمر الكفيل بالكفالة بهذا الشرط يجب المال به على المطلوب كما يجب على الكفيل.
ولو كفل رجلا بنفسه فإن لم يواف به غدا فالألف درهم التي لك عليه على فلان آخر سوى الكفيل بالنفس وإقرار الكفيل بالمال بذلك فهو جائز على هذا الشرط لأن معنى الاستحسان الذي ذكرنا في الفصل الأول إذا أضاف الكفالة بالمال إلى نفسه يأتي هنا أيضا وهو أن يحمل كلامه على التقديم والتأخير ويجعل كأن أحدهما كفيل بنفس المطلوب والآخر بالمال بشرط أن الكفيل بنفسه إن وفى بالنفس بريء الكفيلان جميعا.(19/328)
فأيهما صرح بهذا كان جائزا مستقيما لأن عند الموافاة بالنفس الطالب يستغنى عن الكفالتين فلذا تعينت البراءة عن الكفالتين بسبب بعينه عنهما ولا فرق في ذلك بين أن يكون الكفيل رجلا أو رجلين وإذا كفل رجل بنفس رجل فإن لم يواف به غدا فعليه المال الذي عليه وهو الألف فلم يواف به الكفيل ولكن الرجل لقي الطالب وخاصمه ولازمه في المسجد حتى الليل فالمال لازم للكفيل لوجود شرطه وهو عدم موافاة الكفيل به وقد بينا أنهما وإن تلاقيا لا يبرأ الكفيل به عن الكفالة بالنفس بخلاف ما إذا وافاه به فكذلك في وجوب المال وهذا لأن تسليم المطلوب نفسه إلى الطالب أنواع قد يكون عما هو مستحق عليه وقد يكون من جهة الكفالة فلا تتعين جهة الكفالة في تسليمه إلا بالتنصيص لأن الأصل في تسليمه أنه عما هو مستحق عليه فإن الكفالة بناء على ذلك الاستحقاق إلا أن يكون المطلوب قال قد دفعت نفسي إليك عن كفالة فلان فحينئذ يصح ذلك منه لأنه مطلوب بذلك من جهة الكفيل فيصح تعيينه لتلك الجهة ليسقط به مطالبة الكفيل عن نفسه وإذا صح ذلك كان هذا وموافاة الكفيل به سواء فيبرأ من المال.
ألا ترى أنه لو بعث به مع رسوله إلى الطالب كان ذلك موافاة منه حتى يبرئه من المال ولو كفل رجل بنفس الكفيل على أنه إن لم يواف به غدا فالمال الذي كفل عن فلان وهو ألف عليه فوافى الكفيل الأول بالمطلوب ودفعه إليه في الغد فالكفيلان بريئان من الكفالة بالمال أما الكفيل الأول فلوجود الموافاة منه وأما الكفيل الثاني فلأن الكفيل الأول في حقه أصيل وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل وإن لم يواف به الأول ولا الثاني ووافى الكفيل الأول في الغد فإن الكفيل الثاني يبرأ لوجود شرط البراءة في حقه وهو الموافاة بنفس الكفيل الأول في الوقت الذي اشترطه والتزم المال الكفيل الأول لوجود شرطه وهو عدم الموافاة بنفس(19/329)
ص -160- ... المطلوب ولو كفل بنفس رجل فإن لم يواف به إلى شهر فالمال الذي عليه وهو مائة عليه ثم لقي الطالب به المكفول قبل الأجل فأخذ منه كفيلا آخر بنفسه وبالمال بهذا الشرط أيضا فوافى به أحدهما في الأجل فإن الذي وافى به بريء من المال والنفس ولا يبرأ الآخر لأن كل واحد منهما التزم تسليم النفس بعقد على حدة فموافاته به تكون تسليما عن نفسه لا عن غيره فيجب المال على الآخر لوجود شرطه وهو انعدام الموافاة بالنفس منه.
وإن قال الكفيل الذي وافى به قد دفعته عن نفسي وعن فلان فإنه يكون عن نفسه ولا يكون عن فلان لأن التسليم الواحد لا يكون عن جهتين ولأنه متبرع في التسليم عن فلان لأن ذلك الالتزام غير متعلق به أصلا فهو في ذلك كأجنبي آخر فلا يصح تسليمه عن فلان إلا أن يقبله الطالب فإذا قبله على ذلك برئا جميعا ويصير كأنه سلم مرة عن نفسه ومرة عن فلان فإن الاستدامة على ما يستدام بمنزلة الإنشاء وعلى هذا لو جاء رجل ليس بكفيل فقال قد دفعته إليك عن فلان لم يبرأ واحد منهما إلا أن يقبله الطالب عنهما.(19/330)
ولو قال المكفول به قد دفعت نفسي إليك عن فلان وفلان برئا جميعا من الكفالتين ولا يشترط قبول الطالب هنا لأن الطالب مطالب من جهة كل واحد من الكفيلين بتسليم النفس إليه لتسليمه إلى الطالب فلا يكون هو متبرعا في هذا التسليم فلا يشترط فيه قبول الطالب بخلاف الأجنبي وتوضيح هذا الكلام لو كان المكفول به قاعدا مع الطالب يحدثه فقال رجل للطالب قد دفعت إليك هذا عن فلان فسكت الطالب أو قال لا لم يبرإ الكفيل وإن قال الطالب نعم قد قبلت فالكفيل بريء لأن المسلم ليس بخصم عنه فكان متبرعا فلا تقع البراءة للكفيل إلا بقبول الطالب ولو كان المتكلم بذلك وكيل الكفيل بريء الكفيل لأن وكيله قائم مقامه فصار تسليم النفس كتسليم المال في حكم البراءة ولو أن أجنبيا أدى المال عن المطلوب لم يبرأ المطلوب إلا بقبول الطالب بخلاف ما إذا كان المؤدي وكيل المطلوب أو المطلوب نفسه فكذلك البراءة عن الكفالة بالنفس.
ولو كفل ثلاثة رهط بنفس رجل فإن لم يوافوا به يوم كذا فعليهم المال الذي عليه وهو ألف درهم فلم يوافوا به فعلى كل واحد منهم ثلث الألف كما لو أرسلوا الكفالة بالمال والمعنى فيه أنه التزام للمال أو للمطالبة فإذا أضيف إلى جماعة يتوزع على عددهم كالإقرار ولو قال ثلاثة نفر لرجل لك علينا ألف درهم يجب على كل واحد منهم ثلث الألف فإن وافى به أحدهم في ذلك اليوم فهم جميعا برآء من المال والنفس لأنهم التزموا تسليم النفس بعقد واحد فموافاة أحدهم به كموافاتهم جميعا وكذلك إن كان قال فعليهم الألف التي عليه وبعضهم كفيل عن بعض بها فوافى به أحدهم برئوا جميعا وهذا أظهر وإن لم يوافوا به لزمهم المال وللطالب أن يأخذ أيهم شاء بجميع المال لأن كل واحد منهم التزم عن الأصيل ثلث المال وكل واحد عن صاحبه كفيل بالثلث الذي التزمه أيضا فإن أدى أحدهم جميع المال رجع كل واحد على صاحبه بثلثه إن شاء لأنه كفل عن كل واحد منهم بثلث المال وأدى ثلثه(19/331)
ص -161- ... ويرجعون جميعا على صاحب الأصل بالمال وإن شاء المؤدي رجع على أحد صاحبيه بالنصف لأنه يقول أنت مساو لي في هذه الكفالة وقد أديت المال فارجع عليك بنصفه لنستوي في القيام بالكفالة كما استوينا في الكفالة فإن قيل كيف يرجع عليه بالنصف وهو إنما كفل عنه الثلث قلنا نعم ولكن الثلث الذي على الثالث المؤدي وهذا الآخر يستويان في الكفالة عنه بذلك فكان له أن يقول نصف ذلك الثلث أديته بحكم الكفالة عنك لأنك كفيل معي عنه بذلك وبعضنا كفيل عن بعض فلهذا رجع عليه بنصفه فإذا فعل ذلك ثم لقيا الثالث رجعا عليه بثلث المال ليستووا في عدد الكفالة ثم إذا لقوا المطلوب رجعوا عليه بجميع المال.
ولو كفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه ألف درهم التي له عليه فلم يواف به في الغد وقال الطالب وصلني الألف وأديته ألفا أخرى أو قال لم يكن لي عليه يومئذ شيء ولكن أديته ألفا قبل حلول الأجل لم يلزم الكفيل من ذلك شيء لأنه إنما كفل المال الواجب عليه عند الكفالة بالنفس لا عند عدم الموافاة وذلك المال قد سقط أو تبين أنه لم يكن واجبا بإقرار الطالب وما وجب بعد ذلك لم يتناوله عقد الكفالة فلا يطالب الكفيل بشيء منه.
ولو قال إن لم يواف به فعليه المائة درهم التي له عليه وما باعه من شيء ما بينه وبين أن يمضي هذا الأجل لزمه على ما قال لأن الكفالة هنا كما تناولت الواجب عند الكفالة بالنفس تتناول ما يجب بعدها قبل الأجل وكل واحد منهما صحيح لأنه أضاف الالتزام بالكفالة إلى سبب وجوب المال وهو المبايعة فما كان قائما من المال عند عدم الموافاة يصير الكفيل به كفيلا به.(19/332)
ولو كفل بنفس رجل وإن لم يواف به إلى كذا من الأجل فعليه المال الذي عليه وهو مائة درهم فمات المكفول به قبل الأجل ثم مضى الأجل فالمال على الكفيل لأن شرط الوجوب عدم الموافاة وذلك يتحقق بعد موت المكفول به وإن قيل شرط وجوب المال عدم موافاة مستحقه وذلك لا يكون بعد موت المكفول به لأن الكفالة بالنفس تبطل بالموت فينبغي أن لا يلزمه المال وهو كما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته كذا فأهريق الماء قبل الليل لا يقع الطلاق لأن الشرط عدم شرب يتأتى أو يكون مستحقا باليمين في آخر النهار ولا يتحقق ذلك إذا أهريق
والجواب عنه أن نقول هما جعلا عدم الموافاة شرط وجوب المال فالتقييد بموافاة مستحقة يكون زيادة ثم حقيقة المعنى وبه يتضح الفرق أن تصحيح الكفالة بالمال هنا بطريق التقديم والتأخير وهو أنه يجعل كأنه كفل بالمال للحال ثم علق التركة عنه بالموافاة بالنفس والموافاة بالنفس لا توجد بالموت فيبقى المال واجبا بالكفالة ولا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير في اليمين بالطلاق لأن الطلاق يحتمل التعليق بالشرط وبعد الوقوع لا يحتمل الرفع فلهذا افترقا وإن مات الكفيل قبل حلول الأجل فإن مضى الأجل قبل أن يوافي ورثة الكفيل الطالب بالرجل فالمال دين في مال الكفيل لأن شرط البراءة الموافاة بالنفس ولم توجد ثم يضرب الطالب مع سائر غرمائه في تركته لأن حق الطالب قبله في حكم دين الصحة في الوجه.(19/333)
ص -162- ... قلنا إنه يجعل كأنه كفل بالمال في الحال وعند الكفالة كان صحيحا فلهذا كان حق الطالب بمنزلة غرماء الصحة يضرب معهم في تركته وإن دفعوه إليه في الأجل أو دفع المكفول به نفسه بريء الكفيل من المال والكفالة لأن موافاة الوارث بنفسه كموافاة المورث في حياته وكذلك دفع المكفول به نفسه من جهة الكفالة بمنزلة دفع الكفيل فقد وجد شرط البراءة عن المال وهو الموافاة بالنفس وإن لحق الكفيل بدار الحرب مرتدا فهو بمنزلة موته في أن تسليم الورثة يقوم مقام تسليمه في براءة الكفيل لأنهم يخلفونه في أمواله بهذا السبب كما يخلفونه بعد موته وإن لحق المكفول به بدار الحرب فإن مضى الأجل قبل أن يوافي به فالمال لازم للكفيل لأن شرط البراءة عن المال الموافاة بالنفس ولم توجد وأكثر ما فيه أن يكون لحوقه كموته وقد بينا أن المال بعد موته يجب على الكفيل عند عدم الموافاة فهذا مثله.(19/334)
ولو كان المكفول به امرأة فارتدت ولحقت بالدار وسبيت فوافى بها وهي أمة في الأجل بريء الكفيل من الكفالة والمال لأن شرط البراءة وهو الموافاة في الأجل قد وجد والموافاة تتحقق بعد ما صارت أمة ولأنها حين سبيت سقط الدين عنها وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل وكذلك لو كان المكفول به رجلا فوافى به وهو حلال الدم بردة أو قتل عمدا لأن الموافاة بعد حل دمه تتحقق كما تتحقق قبله ولو مات الطالب فوافى به الكفيل وصيه بريء من المال والكفالة لأن وصيه قائم مقامه بعد موته فتسليم النفس إليه كالتسليم إلى الموصي فلهذا يستفيد به البراءة وإن لم يكن له وصي فوافى به ورثته فإن كان عليه دين يستغرق ماله لم يبرأ بتسليمه إلى الورثة لأنهم لا يملكون شيئا من تركته مع الدين المستغرق فالتسليم إليهم في هذه الحال بمنزلة التسليم إليهم قبل موته وهذا لأن المقصود لا يحصل بالتسليم إليهم فإنهم لا يتمكنون من مطالبته بالمال فأما إذا لم يكن عليه دين فيبرأ بتسليمه إلى جميع الورثة لأنهم خلفاؤه في التركة فيتمكنون من مطالبته بالمال فتسليمه إليهم بمنزلة تسليمه إلى الطالب في حياته ولو وافى به أحدهم بريء من الكفالة لهذا الواحد ولم يبرأ من غيره لما بينا أن حق المطالبة والاستيفاء إليه في نصيبه دون نصيب سائر الورثة فقد بريء بالتسليم إليه في نصيبه دون نصيب غيره.(19/335)
ولو كفل بنفس رجل لرجلين فإن وافاهما به فكذا وإلا فعليه مالهما عليه فلو وافى به أحدهما والآخر غائب بريء من كفالة الشاهد لوجود شرط البراءة في حقه وهو الموافاة بالنفس ولزمه نصيب الغائب من المال لانعدام شرط البراءة في حقه فإن شريكه لم يكن نائبا عنه في المطالبة بحقه ثم ما أخذه الغائب من الكفيل يكون بينه وبين شريكه لأن أصل المال كان مشتركا بينهما فاستيفاء أحدهما نصيبه من الكفيل بمنزلة استيفائه من الأصيل فكان له أن يشاركه في المقبوض ولو ماتا جميعا كان ورثتهما على ما كانا عليه حتى إذا سلمه إلى ورثة أحدهما بريء في نصيبه دون نصيب الآخر إقامة لكل وارث مقام مورثه ولو كان الطالب واحدا فتغيب عند حل الأجل فطلبه الكفيل وأشهد على طلبه ولم يدفع إليه الرجل فالمال لازم للكفيل لأن شرط البراءة عن المال تسليم النفس إلى الطالب ولم يوجد ذلك وإن طلبه(19/336)
ص -163- ... ليسلمه فيبقى المال عليه فإن قيل إنما تغيب قصدا منه إلى الإضرار بالكفيل فيبقى إلى أن يرد عليه قصده ويقام هذا مقام تسليمه لأن الكفيل أتى بما في وسعه قلنا الكفيل هو الذي أضر بنفسه بكفالته بالمال وقد بينا أن وجوب المال عليه بالكفالة لانعدام الموافاة ولكن الموافاة بنفسه مبرئة له عن المال فإذا انعدم ذلك بقي المال عليه بكفالته لا بتغيب الطالب.
وكذلك لو كان اشترط عليه مكانا فوافى به ذلك المكان وتغيب الطالب لأن المبرى ء له تسليم نفسه إلى الطالب دون إحضاره ذلك ولا يتصور تسليمه إلى الطالب وهو غائب فوجود إحضاره ذلك المكان كعدمه وإن كان الكفيل اشترط في الكفالة أنه بريء منه إن وافى به المسجد الأعظم وأشهد عليه يوم كذا فوافى به المسجد يومئذ وأشهد وغاب الطالب فقد بريء الكفيل من الكفالة بالنفس والمال لأنه جعل شرط براءته إحضاره للمسجد في ذلك الوقت وقد وجد ذلك فيبرأ من الكفالة بالنفس والمال جميعا وكذا في الكفالة بالنفس وحدها وهذا لأن إبراء الكفيل إسقاط محض ولهذا لا يرتد بردته فيصح تعليقه بحضور المكان في وقت معلوم كالطلاق والعتاق وإذا صح التعليق فالمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
ولو كفل بنفسه إلى غد في المسجد فعليه المائة الدرهم التي له عليه ولو اشترط الكفيل على الطالب إن لم يوافني غدا عند المسجد ليقبضه مني فأنا بريء منه فالتقيا بعد الغد فقال الكفيل قد وافيت به وقال الطالب قد وافيت ولم تواف لم يصدق كل واحد منهما على الموافاة لأن كل واحد منهما يدع موافاته وخصمه يكذبه في ذلك فلا نثبت موافاة بدعوى كل في حق صاحبه وكان الكفيل على كفالته والمال لازم لما بينا أنه ملتزم للمال بنفس الكفالة وجعل شرط براءته موافاته ولم يثبت ذلك بقوله فلا يبرأ منه(19/337)
ولو جعل شرط البراءة عدم موافاة الطالب ليقبضه منه ولم يثبت هذا الشرط بقوله لم تواف أنت بل يجعل القول قول الطالب مع يمينه على ما عرف أن الشرط سواء كان نفيا أو إثباتا لا يثبت إلا بحجة والقول قول من ينكر وجود الشرط فإن أقام كل واحد منهما البينة على الموافاة إلى المسجد ولم تشهد على دفع الكفيل إليه فإن المال لا يلزم الكفيل لأنه قد أثبت بالبينة شرط براءته عن المال وهو عدم موافاة الطالب ليقبضه منه فيبرأ من المال ولكن الكفالة بالنفس على حالها لأن براءته عن الكفالة بالنفس بتسليمه إلى الطالب ولم يوجد ولأن البينتين قد تحققت المعارضة بينهما فامتنع القضاء بما كان متقررا وهو وجوب تسليم النفس بحكم الكفالة والعمل بهما ممكن في البراءة على المال لأن الكفيل يثبت شرط البراءة ببينة والآخر ينفي فيترجح الإثبات.
وإن أقام المطلوب البينة على موافاة المسجد ولم يقم الطالب البينة بريء الكفيل من كفالة النفس والمال جميعا لأن الطالب غير مصدق على الموافاة والكفيل أثبت ببينته موافاته المسجد فوجب قبول بينته على ذلك وإذا قبلنا ببينته صار الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم فيثبت شرط البراءة عن المال والنفس جميعا ولو كفل بنفسه على أن يدفعه إليه غدا(19/338)
ص -164- ... فإن لم يفعل فالمال عليه ولو اشترط الكفيل عليه إن لم توافني فتقبضه مني فأنا بريء من الكفالة والمال فلم يلتقيا من الغد فالكفيل بريء والقول قول الكفيل أن الطالب لم يواف مع يمينه وعلى الطالب البينة بخلاف ما تقدم لأن هناك موافاة المكان مشروطة على الطالب والكفيل جميعا وموافاة الكفيل لا تثبت بقوله لأنه يدعي وجود فعل كان مشروطا فلا يصدق عليه إلا بحجة ولهذا لو أقام البينة على الموافاة بنفسه بريء لأن موافاته المكان مشروطة عليه فتثبت ببينته فأما في الفصل الأول فالموافاة غير مشروطة على الكفيل وإنما هي مشروطة على الطالب وأن يأتي ليقبضه منه ولم يأت فقد وجد شرط براءة الكفيل عن المال فلهذا كان بريئا وحاصل الفرق بين هذه الفصول بحرف وهو أن من ينكر فعل غيره فالقول قوله في ذلك لأنه متمسك بالأصل ومن يدعي فعل نفسه لا يقبل قوله إلا بحجة لأنه يدعي أمرا عارضا.
ولو كفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه ما للطالب عليه من شيء فلم يواف به الغد وقال الكفيل لا شيء لك عليه فالقول قوله مع يمينه على علمه لأنه التزم مالا موصوفا وهو أن يكون واجبا على الأصيل فلما لم يثبت الوجوب على الأصيل لا يصير هو ملتزما كما لو قال ما قضي به لك عليه فهو علي فما لم يصر المال مقضيا به على الأصيل لا يجب على الكفيل وبقول الطالب لم يصر المال واجبا على الأصيل والكفيل في إنكاره تمسك بالأصل وهو عدم الطالب فالقول قوله مع يمينه على علمه لأنه استحلاف على ما هو فعل غيره وهذا بخلاف ما تقدم وهو ما إذا قال إن لم أوافك به غدا فالمال الذي تدعي عليه علي لأنه كفل هناك بما يدعيه الطالب والدعوى متحققة منه فلما وجدت الصفة التي قيدت الكفالة بما يصحح التزامه للمال كان مؤاخذا به.(19/339)
وكذلك إن قر الكفيل بمائة درهم وأقر المكفول عنه بمائة درهم صدق المكفول عنه ولم يصدق الكفيل لما بينا أنه التزم بالكفالة ما كان واجبا على الأصيل وقت كفالته وإقرار الأصيل ليس بحجة على الكفيل فإنما يثبت الوجوب وقت الكفالة فما أقر به الكفيل وهو المائة فلا يلزمه أكثر من ذلك ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فعليه من المال قدر ما أقر به المطلوب فلم يواف به الغد وأقر المطلوب أن عليه ألف درهم فالكفيل ضامن لها لأنه قيد الكفالة هنا بصفة ثبتت تلك الصفة بإقرار المطلوب فيتم به شرط الالتزام بالكفالة بخلاف الأول فإن بإقراره هناك ثبت الوجوب عليه وقت الإقرار وإنما التزم هو بالكفالة ما كان واجبا عليه وقت الكفالة ولا يثبت ذلك إلا فيما أقر به الكفيل لو نكل عن اليمين فيه بعد الاستحلاف.
ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فعليه ما ادعى الطالب فلم يواف به الغد وادعى الطالب ألف درهم وأقر بها المطلوب وجحدها الكفيل فالقول قول الكفيل مع يمينه على علمه وهو مشكل لأنه إنما كفل هنا بما ادعاه الطالب وقد تحققت الدعوى منه والإقرار من المطلوب ولكن مراده من هذه المسألة أنه كفل بما ادعاه الطالب قبل الكفالة ولم تظهر تلك الدعوى منه ولكنه لما لم يواف به غدا ادعى الآن أنه كان ادعى عليه ألف درهم قبل الكفالة وهو غير مصدق في(19/340)
ص -165- ... هذا فالقول للكفيل في إنكاره أنك لم تدع مع يمينه على علمه بخلاف ما تقدم فإن هناك إنما كفل بما يدعي الطالب عليه وقد وجد ذلك منه بالمعاينة بعد الكفالة.
ولو كفل بنفسه على أن يوافي به إذا جلس القاضي فإن لم يواف به فعليه الألف التي للطالب عليه فلم يقعد القاضي أياما ولم يواف به وطلبه صاحبه فلم يأت به فلا شيء عليه أي على الكفيل من المال لأنه جعل شرط وجوب المال عدم الموافاة إذا جلس القاضي وإن لم يجلس القاضي لم يوجد ذلك ولأنه أجل في الموافاة إلى جلوس القاضي وما لم يمض الأجل لا تتوجه عليه المطالبة بالموافاة ووجوب المال عليه عند عدم موافاة مستحقة فإذا لم يوجد ذلك قبل جلوس القاضي لا يلزمه المال.
ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فقد احتال الطالب عليه بالألف درهم التي له على المطلوب ولم يواف به الغد فالمال عليه والحوالة في هذا والكفالة سواء على ما بينا من طريق الاستحسان أنه يلزم المال وتتعلق براءته عنه بشرط الموافاة بالنفس وذلك صحيح في الكفالة والحوالة جميعا وكذلك لو قال فإلي المال أو فعلي المال لأن هذا من ألفاظ الكفالة وكذلك لو قال فعندي له هذا المال لأن كلمة عند عبارة عن القرب وقرب الدين منه إما بالتزام أصله في ذمته أو بالتزام المطالبة به فكان هذا والكفالة سواء
ولو كفل بنفسه على أن يوافي به غدا فإن لم يواف به غدا فعليه المال الذي عليه وهو ألف درهم فلم يواف به الغد ولزمه المال ثم أخذه الطالب بكفالة النفس وقال لي عليه مال آخر أولي معه خصومة فإن الكفيل يؤخذ بنفسه ولا يبرأ منه حتى يدفعه إليه لأنه بأصل الكفالة التزم تسليم نفسه وبأداء المال لم يصر مسلما نفسه وأداؤه ذلك المال لا يمنع ابتداء الكفالة بنفسه فلأن لا يمنع بقاءها كان أولى.(19/341)
وإن كفل بنفسه على أنه متى ما طالبه الطالب فلم يواف به فعليه المال الذي عليه وهو ألف درهم فطلبه منه فلم يدفعه إليه فعليه المال لوجود شرطه وهو عدم الموافاة في الوقت الذي طلبه الطالب منه وكذلك لو طلبه غدوة فلم يدفعه إليه حتى العشي قال ولا يبرئه من المال إلا أن يدفعه إليه ساعة طلبه منه وهذا اللفظ إشارة إلى ما بينا أن المال واجب عليه بالكفالة وشرط براءته أن يوافيه به حين يطلبه الطالب فإذا لم يفعل انعدم شرط البراءة فبقي المال عليه كما التزمه بأصل الكفالة ولا ينفعه دفع النفس إليه بعد ذلك لأن ذلك لم يكن شرطا عن المال والله أعلم بالصواب.(19/342)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء العشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(20/1)
ص -3- ... باب الكفالة بالنفس والوكالة بالخصومة
قال رحمه الله: وإن ادعى رجل قبل رجل دعوى وأخذ منه كفيلا بنفسه ووكيلا بالخصومة ضامنا لما ثبت عليه فهو جائز لأن مقصود صاحب الحق التوثق بحقه وتمام التوثق يكون بهذا فإن المكفول بنفسه ربما لا يأتي بالكفيل ويخفي شخصه فيتعذر على الطالب إثبات حقه ولا يتوصل إلى حبس الكفيل وإن كان وكيلا في خصومته يمكن من إثبات حقه بالبينة وبعد الإثبات ليس له أن يطالب الوكيل بأداء المال وربما لا يظفر الوكيل بالأصيل فإذا كان ضامنا لما ذاب عليه توصل إلى استيفاء حقه منه فعرفنا أن تمام التوثق بها يحصل فلهذا جوزناه وعلى قول الشافعي رحمه الله هذا الضمان لا يجوز.
وأصل المسألة أن الكفالة بالمال مضافا إلى سبب وجوبه يجوز عندنا نحو أن يقول ما ذاب لك على فلان فهو علي أو ما بعت به فلانا فهو علي وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنه التزم المال بالعقد فلا يحتمل الإضافة كالالتزام بالشراء ولأن الإضافة إلى وقت في معنى التعليق بالشرط والتزام المال بالكفالة لا يحتمل التعليق بالشرط حتى لو علق بدخول الدار وكلام زيد لم يصح فكذلك إذا أضافه إلى وقت توضيحه أن عندكم لو أضاف الكفالة إلى موت المطلوب كان صحيحا ولو أضافها إلى موت غيره لم يصح ولا فرق بين الموتين فإن كل واحد منهما كائن غير موجود وفي الحال ثم جهالة المكفول عنه تمنع صحة الكفالة بهذه الصفة بأن يقول ما بايعت به أحدا من الناس فكذلك جهالة المكفول به تمنع صحته بالأولى لأن الملتزم بالعقد هو المكفول به.(20/2)
وحجتنا قوله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[سورة يوسف, آية:72] فهذا المنادي أضاف الالتزام بالكفالة إلى سبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وإنما نادى بأمر يوسف عليه السلام وما أخبر به الله تعالى عن شريعة من قبلنا فهو ثابت في شريعتنا حتى يقوم دليل النسخ غير أن الشافعي رحمه الله يقول هنا بيان العمالة لمن يأتي به وعندي من أبق عبده فخاطب جماعة وقال من جاء به منكم فله عشرة كان هذا صحيحا ولكنا نقول استدلالنا بزعامة المنادى بقوله {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[سورة يوسف,آية:72] ولا حاجة هنا إلى معرفة طريق وجوب ذلك المال فإن العمالة تجب على من وقع له العمل فأما الوجوب على الكفيل فبسبب الكفالة إلا أنه يقول لم يكن هذا كفالة(20/3)
ص -4- ... على الحقيقة فإن المكفول له مجهول وجهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة والكلام فيه من حيث المعنى إذ التزام المال بالكفالة نظير التزام المال بالإقرار من حيث إنه التزام لا يقابله إلزام على من يلتزم له وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار فكذلك فيما التزمه بالكفالة وجواز الكفالة في الأصل لحاجة الناس والحاجة ماسة إلى إضافة الكفالة إلى سبب وجوب المال ولهذا جوز العلماء رحمهم الله الكفالة بالدرك وهو مضاف إلى سبب الوجوب بالاستحقاق فبه يتبين أن مثل هذه الجهالة لكونها لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة الكفالة ولا يجوز أن تمنع صحتها لمعنى الخطر فإنه موجود في كل كفالة إذ لا يدري أن الطالب يطالب الكفيل أو الأصيل فأما الفرق بين الموتين فهو أن موت المطلوب يجوز أن يكون سببا لتوجه المطالبة بالمال عليه بأن يكون وارثه فلهذا تصح إضافة الكفالة إليه.
وكذلك التعليق بكلام زيد ودخول الدار فإنه ليس بسبب لوجوب المال بحال فتمحض ذلك تعليقا بالشرط ولا يكون التزاما فأما ها هنا فإنه أضاف الالتزام إلى ما هو سبب لوجوب المال وهو المبايعة والذوب فيكون التزاما صحيحا فإن وافى به ودفعه إليه فهو بريء من ذلك لوجود الموافاة به كما التزمه وإن لم يفعل فللطالب أن يأخذه بالكفالة ويخاصمه في دعواه قبل المكفول به والكفيل ضامن له لتحقق الذوب بقضاء القاضي وقد كان ملتزما لما يذوب له عليه والذوب عبارة عن تحقق الوجوب.(20/4)
وإن قال إن لم أوافك به غدا فأنا وكيل في خصومته ضامن لما ذاب عليه فرضي بذلك المطلوب فهو جائز وإنما شرط رضاه في الوكالة بالخصومة دون الكفالة بالنفس والمال لأن الوكيل بالخصومة نائب عنه وربما يتضرر هو به فلا ينفرد به الوكيل بدون رضا الموكل فأما الكفالة فالتزام للطالب ولا يتضرر به المكفول عنه فلا يعتبر رضاه بذلك وكذلك لو قال متى دعوتني به فلم أوافك به فأنا وكيل في خصومته ضامن ما ذاب لك عليه لأن كلمة متى للوقت فمعناه إن لم أوافك به في الوقت الذي تطلب مني وهذا الوقت وإن كان مجهولا ولكن لا تمكن بسبب جهالته منازعة.
ولو كفل به على أنه إن لم يواف به غدا ففلان يعني رجلا آخر وكيل في خصومته فما قضى به عليه فأنا ضامن له فرضي بذلك المطلوب فهو جائز إذ لا فرق أن يكون الوكيل والضامن للمال هو الكفيل بالنفس وبين أن يكون غيره إذا وجد منه القبول لذلك وقد بينا أنه لو كانت إضافته لذلك كله إلى نفسه كان صحيحا فكذلك إذا أضاف كل عقد من هذا إلى شخص معلوم وقبلوا ذلك ورضي به المطلوب كان صحيحا.
ولو قدم الوكالة فقال هو وكيلي في خصومة ما بيني وبينك ضامن لما ذاب لك علي أو لما قضى لك به علي أو لما لزمني لك أو بما لحقني فإن وافاني به غدا حتى أدفعه إليك فهو بريء من ذلك فهذا جائز لأنه وإن أخر التزام المال بالكفالة كان محمولا على معنى التقديم فإذا قدمه فأولى أن يصح وهذه كلها وثائق لحق واحد فلا فرق في صحتها بين تقديم(20/5)
ص -5- ... التعيين وتأخير التعيين لأن المقصود لا يختلف بذلك ولو كفل بنفسه إلى أجل فإن لم يواف به فيه فهو وكيل في الخصومة التي بينهما ضامن لما ذاب عليه ولم يشهد المطلوب على ذلك فالكفالة بالنفس والمال جائزة والوكالة والكفالة باطلة لأنه أنابه ولا يقدر الإنسان على أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في خصومته من غير رضاه فإذا لم يرض المطلوب بوكالته بطلت الوكالة ولا تبطل ببطلانها الكفالة بالمال والنفس لأن جوازهما لا يتعلق بصحة الوكالة فإنهما صحيحان وإن لم يذكر الوكالة أصلا.
ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فهو وكيل في خصومته فرضي به المطلوب فلم يواف به الغد فهو وكيل بالخصومة لأن الوكالة إطلاق تحتمل التعليق بخطر عدم الموافاة فإن قضى عليه بشيء لم يلزم الكفيل منه شيء لأنه ما التزم شيئا من المال وبالكفالة بالنفس لا يصير ملتزما للمال ولكن الطالب يأخذ الكفيل بالكفالة بالنفس حتى يدفعه إليه لأنه التزم تسليم النفس إليه فلا يبرأ بثبوت المال عليه ما لم يسلمه فإن ثبوت المال عليه لا يغنيه عن نفسه بل يحوجه إلى ذلك ليستوفي حقه منه فكان الكفيل مطالبا به فإن قضى الكفيل الطالب حقه كان متبرعا بذلك كسائر الأجانب لأنه غير ملتزم للمال وبأدائه لا يستفيد البراءة من الكفالة بالنفس لجواز أن يكون بين الطالب والمطلوب خصومة أخرى فلهذا كان متبرعا في أداء المال إن شاء الطالب قبل ذلك منه وإن شاء أبى وطالبه بتسليم النفس إليه كما التزمه
وإن كان كفيلا بالمال أجبرت الطالب على قبضه منه على معنى أنه إذا وضع المال بين يديه يصير الطالب قابضا له لأنه يبرئ ذمته بالأداء ولمن عليه الحق ذلك والأول متبرع لا تبرأ ذمته عن شيء بما يؤديه
ولو قضاه الكفيل المال على أن يبرئه من الكفالة بالنفس كان جائزا لأنه متبرع في قضاء المال وقد قبله الطالب ثم أبرأه الطالب عن الكفالة بالنفس وذلك حقه.(20/6)
وكذلك لو قضاه بعضه على أن يبرئه عن الكفالة بالنفس وهذا لأن الطالب ليس يملك ما يقبضه منه
بإزاء الإبراء عن الكفالة بالنفس إنما يملك ذلك بدلا عن أصل حقه على المطلوب كما يملكه من جهة متبرع آخر ثم هو مسقط لحقه في الكفالة بالنفس من غير عوض فيكون صحيحا فأما إذا أبرأه عن الكفالة بالنفس بمال يشترطه عليه بمقابلة البراءة فلا يجب ذلك المال ولو أداه كان له أن يرجع فيه لأن الكفالة بالنفس ليست بمال ولا تؤول إلى المال بحال وهو مجرد حتى لا يوصف بأنه ملكه والاعتياض عن مثله بالمال لا يصح بخلاف العتاق بجعل والطلاق بجعل فإنه اعتياض عن ملك.
ألا ترى أن ملك النكاح لا يثبت إلا بالمال فيجوز الاعتياض عن إزالته بالمال أيضا بخلاف حق الكفالة بالنفس فإنه لا يثبت ابتداء بمال قط حتى لو أخذ منه مالا ليكفل به بنفس فلأن لا يصح فكذلك لا يصح التزام المال عوضا عن الإبراء بالكفالة بالنفس وفي حصول البراءة روايتان في كتاب الشفعة يشير إلى أنه يبرأ وجعل هذا كحق الشفعة إذا سلمه بمال يصح التسليم ولا يجب المال والمعنى أنه إسقاط محض واشتراط العوض بمقابلته فاسد ولكن(20/7)
ص -6- ... الإسقاط لا يبطل بالشرط الفاسد لأنه لا يتعلق بالجائز من الشروط فلا يكون الشرط الفاسد مبطلا له وفي موضع آخر يقول لا يبرأ عن الكفالة بالنفس بخلاف الشفعة لأن الكفالة بالنفس حق قوي لا يسقط بعد ثبوته إلا بإسقاط تام ولا يسقط إلا بعد تمام الرضا به ولهذا لا يسقط بالسكوت وإنما يتم رضاه بسقوطه إذا وجب له المال فإذا لم يجب لا يكون راضيا به فأما سقوط الشفعة فليس يعتمد الإسقاط وتمام الرضا به.
ألا ترى أن بالسكوت عن الطلب بعد العلم به يسقط وحجته أن الوجوب لم يكن لعقده وإنما كان شرعا لدفع ضرر مخصوص عنه وهو ضرر سوء المجاورة وقد صار راضيا بهذا الضرر وإن سلمه بمال فأما وجوب تسليم النفس بالكفالة فكان بقبوله العقد فلا بد من إسقاط يكون منه وهو إذا أسقطه بمال فإنما يحول حقه إلى المال فلا يسقط أصلا وهذا التحويل لم يصح فبقيت الكفالة بالنفس على حالها ولو قضاه المال على أن يرجع به على المطلوب وقبضه منه على ذلك فهذا لا يجوز لأن هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض والمبادلة بالدين من غير من عليه الدين لا تصح بخلاف الأول لأنه إسقاط المال عن المطلوب وليس بتمليك من المتبرع لقضائه بعوض وهنا نص على التمليك منه حتى شرط له الرجوع على المطلوب وهذا بخلاف الكفيل بالمال أيضا فإنه متبرع ملتزم للمال لأن بعقد الكفالة يجب المال في ذمته على أحد الطريقين وعلى الطريق الآخر عند قضاء الدين ليرجع به ولهذا لو وهب هناك المال من الكفيل لرجع به على الأصيل ولو وهب المال هنا من الكفيل بالنفس لا يصح إلا أن يسلطه على قبضه فحينئذ يكون نائبا عنه في قبضه استحسانا.(20/8)
قال فإن أبرأه عن الكفالة على هذا كان للكفيل أن يرجع بما قضاه عليه لأنه قبضه منه بحكم تمليك فاسد ويرجع الطالب عليه بالكفالة بالنفس في أصح الروايتين ولو كفل نفسه إلى أجل مسمى فإن لم يواف به فهو ضامن لما ذاب عليه وكيل في خصومته فليس للطالب أن يأخذه بالكفالة بالنفس قبل الأجل ولا أن يخاصمه قبل الأجل لأن اشتراط المدة لتوسعة الأمر على نفسه فلا يتضيق الأمر عليه إلا بمضي المدة كاشتراط المطلوب الأجل لنفسه في الدين والوكالة في الخصومة وضمان المال عليه بناء على عدم موافاة مستحقة وذلك لا يكون إلا بعد الأجل فلهذا لا يطالبه بشيء من ذلك قبل مضي الأجل وعلى هذا الكفالة بالنفس بغير وكالة فإن المعنى يجمع الكل.
ولو كفل بنفس رجل وجعل المكفول به وكيلا في خصومته ضامنا لما ذاب عليه ثم مات الكفيل وله مال فلا خصومة بين الطالب وورثته ولكنه يخاصم المكفول به لأن الوكالة تبطل بالموت فإن الموكل إنما رضي برأيه في الخصومة فلا يقوم رأي وارثه في ذلك مقام رأيه والكفالة بالمال باقية بعد موته ولكن ما لم يتحقق الذوب على المطلوب لا يكون هو ضامنا للمال والذوب إنما يتحقق عند خصومة الطالب وإثبات حقه عليه بالحجة فلهذا خاصم المكفول به وما قضى له به عليه ضرب به مع غرماء الكفيل في ماله لأن الذوب قد(20/9)
ص -7- ... تحقق فالوجوب بالكفالة يستند إلى أصل السبب لأن اللزوم تعلق به نفسه وقد كان أصل السبب في صحته فلهذا المعنى الواجب من جملة دين الصحة يضرب به مع غرماء الصحة.
وكذلك لو مات المكفول به أيضا فخاصم الطالب ورثته أو وصيه فقضي له بالمال كان له أن يتبع ميراث أيهما شاء لأن الذوب قد تحقق فيضرب في ميراثه بجميع ماله وفي ميراث الآخر بما يبقى له لأنه وصل إليه بعض حقه حين ضرب مع غرماء الأول فلا يضرب مع غرماء الآخر إلا بما بقي له والله أعلم
فإن لم يكن على واحد منهما سوى هذا الدين فالجواب واضح وإن كان على كل واحد منهما دين آخر يضرب مع غرماء أيهما شاء أولا بجميع دينه وفي الكتاب أبهم فقال إن بدأ فضرب مع غرماء الكفيل رجع على ورثة الكفيل بما أدوا في مال المكفول عنه فضربوا به مع غرمائه لأن كفالته عنه كانت بأمره وما يستوفي من تركته بعد وفاته بمنزلة ما يؤديه في حياته ويرجع به ورثته في تركة المكفول عنه
وإن بدأ فضرب مع غرماء المكفول عنه لم يرجع ورثة المكفول عنه في تركة الكفيل بشيء لأن أصل الحق كان على مورثهم وكان الطالب يرجع بما بقي من حقه فيضرب به مع غرماء الكفيل في تركة الكفيل لأنه لا يبرأ الكفيل إلا من القدر الذي وصل إلى الطالب من تركة المكفول عنه فقطع الجواب في الكتاب على هذا وهو مبهم في أصل الوضع قاصر في البيان فحينئذ لا يتم بيان المسألة بما ذكر.(20/10)
وليس في الكتاب مسألة أشكل من هذه المسألة من الحسابيات وغيرها فالوجه أن نصور المسألة ليتبين موضع الإشكال فنقول دين الطالب عشرة دراهم وقد ترك الكفيل عشرة وعليه دين لرجل آخر عشرة وترك المكفول منه أيضا عشرة وعليه لرجل آخر دين عشرة فالطالب بالخيار كما بينا فإن بدأ بتركة الكفيل ضرب بالعشرة في تركته وغريم الكفيل بالعشرة فكانت تركته بينهما نصفين فوصل إلى الطالب خمسة يأتي في تركة المكفول عنه فيضرب مع غريمه بما بقي من دينه وذلك خمسة ويضرب ورثة الكفيل أيضا بما أدوا إلى الطالب وذلك خمسة فيسلم الغريم المطلوب خمسة وللطالب درهمان ونصف ولورثة الكفيل درهمان ونصف لا يسلم هذا لورثة الكفيل لأنه تركة الكفيل وقد بقي من دين غريمه خمسة ومن دين الطالب درهمان ونصف فيقسمان هذا الذي ظهر من تركته على مقدار حقهما أثلاثا فالثلث الذي يستوفيه الطالب رجع به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه فيتبين به بطلان القسمة الأولى وإن استأنفوا القسمة على هذا الذي ظهر أيضا يرجع به الطالب فيما يستوفون ويرجعون بما يعطون إليه في تركة المكفول عنه فتنقض القسمة أيضا ولا يزال يدور هكذا إلى ما لا يتناهى.
وإذا بدأ بالرجوع في تركة المكفول عنه فضرب مع غريمه بالعشرة واقتسما تركته نصفين فإنه يضرب بما بقي من دينه وذلك خمسة في تركة الكفيل مع غريم الكفيل فيقتسمان العشرة أثلاثا فيتبين أن ورثة الكفيل أدوا إلى الطالب ثلاثة وثلثا ويرجعون به في تركة المكفول عنه,(20/11)
ص -8- ... وتبين بطلان القسمة الأولى وكذلك إن استأنفوا القسمة ثانيا وثالثا فكما وصل إليهم شيء يأخذ الطالب من ذلك قدر حصته ويرجع به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه إلى ما لا يتناهى فهذا بيان مواضع إشكال المسألة.
وكان أبو بكر القمي رحمه الله من متقدمي علمائنا رحمهم الله من الحساب يقول هذه المسألة من باب مفتريات الجبر ومحمد بن الحسن رحمه الله كان يعرف مفردات الجبر وما كان يعرف مفتريات الجبر أصلا فلهذا ترك بيان هذه المسألة ومعنى كلامه أن هذه الحاجة تقع إلى معرفة القدر الذي يرجع به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه ليضم ذلك إلى ما يضرب به الطالب في تركة المكفول عنه غريمه والعلم بمفردات الجبر لا يهدي إلى ذلك فأما أبو الحسن الأهوازي من حساب أصحابنا رحمهم الله فكان يقول إنما تعذر تخريج هذه المسألة لما وقع فيها من جذر الأصم وكانت عائشة رضي الله عنها تقول سبحان من لا يعلم الجذر الأصم إلا هو وقيل الجذر الأصم مغلق ضل مفتاحه فلا يعرفه أحد من العباد بطريق التحقيق وبرهن بمقالته بمسئلة مجتذرة من هذا الجنس وحققها وخرجها وسئل القاضي أبو عاصم الجنوبي في زمانه وكان مقدما في الحساب أن يخرج هذه المسألة فتكلف لذلك مدة وخرجها بالتقريب دون التحقيق.(20/12)
والحاصل أن من تكلف لذلك من أصحابنا رحمهم الله تعذر عليه تخريج المسألة بالتحقيق أصلا وكل ما ذكروه عندي في تصنيف ولكن لم يكن معي شيء من كتبي ولم يجد به خاطري الآن فإن تيسر وصولي إلى كتبي أو جاد به خاطري أي وقت أتيت منه بقدر الممكن إن شاء الله تعالى ثم نعيد المسألة في آخر الكتاب بعينها ومن أراد من أصحابنا رحمهم الله التخلص من هذه الخصومة يقول الطالب إذا اختار الرجوع على أحدهما ثم ضرب ببقية دينه في تركة الآخر فما سلم لورثة الكفيل لا يرجع فيه الطالب بشيء لأنه بدل ما وصل إلى الطالب ولا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد ولكن يكون ذلك سالما لغريم الكفيل غير أن هذا من حيث المعنى بعيد فإن ما يأخذون مال الكفيل فكيف يسلم ذلك لأحد غريميه دون الآخر.
ولو كفل بنفس رجل إلى آخر الشهر فإن لم يواف به فهو وكيل في خصومة ما بينهما ولم يبين أي خصومة هي والكفالة بالنفس جائزة ولا يكون وكيلا في الخصومة لأنه إذا لم يبين أنه في أي خصومة وكيله فالوكيل عاجز عن تحصيل مقصود الموكل لأن ما وكله به مجهول جهالة متفاحشة ولم يفوض الأمر إلى رأيه على العموم ولكن فساد الوكالة بالخصومة لا يوجب فساد الكفالة بالنفس لأن أحد الحكمين منفصل عن الآخر فالمفسد في أحدهما لا يتعدى إلى الآخر وكفالة الصبي التاجر بإذن أبيه أو بغير إذنه بنفس أو مال باطلة لأنه تبرع ولا يملكه الصبي بغير إذن أبيه ولا بإذنه كالهبة وهذا لأن عقل الصبي إنما يعتبر شرعا فيما ينفعه والتبرع ليس من جنس ما ينفعه عاجلا وإذن الأب له لا يصح فيما لا يملك الأب مباشرته(20/13)
ص -9- ... كالطلاق ونحوه ولأن الكفالة إقراض للذمة بالتزام الحق فيها فكان كإقراض المال فلا يملكه الصغير بإذن أبيه ولا بغير إذنه والمعتوه والمبرسم الذي يهذي في ذلك كالصبي.
وكذلك رجل عليه مال أدخل ابنا له غير بالغ معه في الكفالة أو بنفسه فهو باطل لأنه لما كان لا يملك الكفالة عن الغير بإذن الأب فلأن لا يملك عن الأب كان ذلك بطريق الأولى لأنه في حق نفسه متهم بما لا يتهم به في حق غيره ولو أقر بعد بلوغه أنه كفل بنفس أو مال وهو صبي كان باطلا لأن الثابت بالإقرار بعد البلوغ كالثابت معاينة ولو عايناه كفل في صباه لم ينفذ ذلك بعد بلوغه ولأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي تلك الحال الكفالة فكان منكرا للكفالة في الحقيقة لا مقرا بها ولهذا لو ادعى الطالب أنه كفل به بعد بلوغه فالقول قول الصبي مع يمينه.
ولو أقر أنه كفل به وهو مغمى عليه فإن عرف ذلك منه فالقول قوله في ذلك لإضافته الكفالة إلى معهود ينافي كفالته وإن لم يعرف ذلك منه فهو مأخوذ به لإقراره بالالتزام ولو استدان وصي اليتيم دينا في نفقة اليتيم وأمر اليتيم فضمنه أو ضمنه بنفسه فضمان الدين جائز وضمان النفس باطل لأن حاصل الدين على الصبي ألا ترى أن الوصي يؤديه من ماله ولو أداه من مال نفسه رجع به عليه فهو بهذا الضمان يلتزم ما عليه بخلاف الكفالة بالنفس فإنه يلتزم بها ما ليس عليه توضيحه أنه لو أمر الصبي بأن يستدين ففعله جاز وكان مطالبا بالمال فكذلك إذا استدان بنفسه وأمره حتى ضمن المال ولا يملك مثله في الكفالة بالنفس بأمره وكذلك الأب إذا استدان على الابن دينا في بعض ما لا بد منه وأمره بالكفالة جاز لأن تصرف الأب عليه أنفذ من تصرف الوصي وإن أمره أن يكفل بنفسه لم يجز والتاجر وغير التاجر في ذلك سواء لأن الكفالة ليست من عقود التجارة ولا تجوز الكفالة لصبي لا يعقل ولا لمجنون ولا لمغمى عليه.(20/14)
وفي رواية حماد رحمه الله أن الكفالة لهؤلاء جائزة في قول أبي يوسف رحمه الله وأصل هذا في الكفالة للغائب وقد بينا أن عند أبي يوسف رحمه الله الكفيل ينفرد بالكفالة فيجوز العقد وإن لم يقبله أحد ولا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يقبل قابل وقبول الصبي الذي لا يعقل والمجنون باطل وتجوز الكفالة للصبي التاجر لأنه من أهل القبول وهذا تبرع عليه لا منه أو بمنزلة الإقراض له وذلك صحيح إذا قبله ولو كفل رجل بنفس رجل على أنه يوافي به إلى أجل مسمى فإن لم يواف به إلى ذلك الأجل فهو ضامن لما ذاب عليه فلو مضى الأجل قبل أن يوافيه به فهو ضامن لما ذاب عليه لوجود شرطه ولكن الذوب إنما يتحقق بقضاء القاضي فإنما يلزم الكفيل المال إذا قضى به على المكفول عنه لأنه ضمن مالا بصفة وليس الكفيل بخصم عنه في إقامة البينة عليه بالمال لأن المال ما لم يصر مقضيا به على الأصيل لا يلزم الكفيل منه شيء وما لم يصر كفيلا به لا يكون خصما فيه وإن مات الطالب أو المطلوب قام وارثه أو وصيه في ذلك مقامه وكذلك لو كفل بنفسه على أنه ضامن لما(20/15)
ص -10- ... قضى عليه أو لما قضى عليه قاضي أهل الكوفة فقضى بذلك غير قاضي أهل الكوفة فهو لازم للكفيل لأنه إنما يراعي من الشروط ما يكون مفيدا والتقييد بصفة أن يكون المال مقضيا به على الأصيل مفيد فأما التقييد بكون القاضي به قاضي أهل الكوفة فغير مفيد لأن المقصود القضاء لا عين القاضي وفي القضاء قاضي الكوفة وغير قاضي الكوفة سواء.
ولو كفل بنفس رجل على أنه ضامن لما قضى به على المكفول به وهو ميت والمكفول وارثه فهو جائز مستقيم لأن المكفول به بعد موت أبيه مطالب بقضاء دينه من تركة أبيه فهو في الحكم كالذي عليه وكذلك وصي الميت يكفل نفس رجل على أنه ضامن لما قضى به على الميت فهو جائز لأنه مطلوب بذلك الدين يقضيه من تركة الميت وكذلك الوصي يأخذ من غريم الميت كفيلا بنفسه ضامنا لما قضى به عليه لأنه في ذلك قائم مقام الموصي وكذلك الأب يأخذ من غريم ولده الصغير لأنه قائم في ذلك مقام ولده إن لو كان بالغا.
ولو أن رجلا أخذ غريما بمال لأخيه أو لبعض أهله من غير وكالة من صاحب المال وأخذ كفيلا منه بنفسه ضامنا لما ذاب عليه فرضي بذلك مدعي المال كان جائزا لأن قبول هذا كان موقوفا على إجازة الطالب فإذا أجازه جاز ولو فسخ الكفيل الكفالة قبل أن يرضى صاحب المال فهو منها بريء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن الكفالة عندهما لا تلزم الكفيل إلا برضا الطالب وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وقد بيناه.(20/16)
ولو وكل رجلا بأن يأخذ له كفيلا عن غريمه بنفسه ضامنا لما قضى به عليه كان جائزا لأن التوكيل صحيح بما يملك الموكل مباشرته بنفسه فإن كفل الكفيل للوكيل فدفعه إليه بريء من الكفالة بنفسه وليس للموكل أن يطالبه بشيء لأنه أتى بما التزمه وهو التسليم إلى الوكيل لأن الوكيل بإضافة العقد إلى نفسه جعل نفسه مباشرا العقد وإليه الاستيفاء والمطالبة وإن كفل به للموكل لم يبرأ بدفعه إلى الوكيل لأنه جعل نفسه رسولا ولأن الكفيل التزم التسليم إلى الموكل فلا يبرأ بالتسليم إلى غيره وإن دفعه إلى الموكل بريء في الوجهين لأن في الفصل الأول الوكيل وإن كان هو المباشر للعقد فإنما يطالب بموجبها لمنفعة الموكل فإذا حصل المقصود بالتسليم إلى الموكل بريء الكفيل.
ولو وكل رجل رجلا بأن يعطي فلانا كفيلا بنفس الموكل ضامنا لما ذاب على الموكل فأعطى الوكيل كفيلا بذلك فقضى على الموكل بمال للطالب فإنه يأخذ الكفيل بحكم ضمانه وليس للكفيل أن يأخذ الوكيل بذلك لأنه كان رسولا من الموكل إليه فلا عهدة عليه إلا أن يكون ضمن له شيئا فحينئذ يؤاخذ بضمانه ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يضمن رجلا بنفسه وأن يضمن ما ذاب عليه لم يكن على الآمر شيء ولا على المكفول به لأن الآمر أشار عليه بالكفالة من غيره ولم يلتزم له شيئا ولا عهدة على المشير والمكفول عنه لأنه لم يأمره بالكفالة عنه فلا يرجع عليه أيضا وفي الباب الأول يرجع على المكفول به بما(20/17)
ص -11- ... أدى من المال لأن أمره وكيله بالكفالة عنه ككفالته بنفسه والكفيل بالأمر إذا طولب طالب ولو لوزم لازم وإذا حبس حبس وإذا أدى رجع ونعني بقولنا يطالبه أن يقول اقض حق المطلوب لا تخلص من هذه العهدة ولا يطالبه بأن يدفع إليه شيئا لأنه ما لم يؤد عنه لا يثبت له حق الرجوع فإنه بمنزلة المقرض وبالقرض لا يطالبه بأداء المال وإنما يطالبه بأداء المال بعد إقراض المال منه وذلك إنما يكون عند أدائه فلهذا لا يرجع عليه بالمال ما لم يؤد عنه والله أعلم.
باب الكفالة عن الصبيان والمماليك(20/18)
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل قبل صبي دعوى وكفل به رجل بغير إذن أبيه فالكفالة لازمة للكفيل يؤاخذ بهذا لأن تسليم النفس للجواب مستحق على الصبي حتى يحضر إن كان مأذونا أو يحضر وليه إن لم يكن مأذونا ليقوم وليه في ذلك مقامه فلما التزم الكفيل تسليم ما هو مستحق للتسليم عليه وهو مما تجري فيه النيابة صح التزامه فإن طلب الكفيل أن يحضر معه الصبي ليسلمه إلى خصمه لم يؤاخذ الصبي به وإن كان الصبي طلب ذلك إليه لأن قول الصبي ليس بملزم إياه شيئا إلا أن يكون تاجرا مأذونا له فحينئذ قوله ملزم فيؤمر بالحضور معه لأنه أدخله في هذه العهدة فعليه أن يخلصه بالحضور معه ليسلمه إلى خصمه وكذلك إن كان غير تاجر فادعى عليه مالا فطلب أبوه إلى رجل أن يضمنه فضمنه كان جائزا ويؤخذ به الكفيل وللكفيل أن يأخذ الغلام به لأن الأب قوله ملزم على ولده فيما ينفعه وهذا من جملة ما ينفع الصبي فكان قول الأب فيه ملزما إياه فلهذا يؤمر بالحضور معه فإن تغيب فله أن يأخذ الأب حتى يحضره فيدفعه إليه أو يخلصه من ذلك لأن أمر الأب في هذا لما جاز على الولد صار الولد مطلوبا به وكل حق كان الولد مطلوبا به فأبوه مأمور بإيفائه ذلك الحق من ملك الولد كما إذا ثبت عليه دين بالبينة فلهذا يؤمر الأب بإحضار الصبي والوصي في هذا بمنزلة الأب لأن فيه منفعة للصبي ولو أمره بأن يكفل بنفس غلام ليس هو وصيه أخذ الكفيل بتسليمه لأنه قد التزمه ولا يؤمر الصبي بالحضور معه لأنه ليس للآمر عليه قول ملزم وليس للكفيل أن يأخذ الآمر بشيء لأنه أشار عليه بالكفالة ولم يلتزم له بشيء والمعتوه في ذلك بمنزلة الصبي لأن ولاية الوصي على المعتوه تثبت كما تثبت على الصبي.(20/19)
ولو كفل بنفس صبي على أن يوافي به غدا فإن لم يواف به غدا فعليه ما ذاب عليه فالكفالة بالنفس جائزة وكذلك بالمال إن لم يواف به غدا لوجود شرطه ثم الذوب على الصبي إنما يتحقق بقضاء القاضي بالمال على أبيه أو وصيه أو قيم نصبه القاضي له فإذا وجد ذلك لزم الكفيل ولم يرجع به على الصبي إلا أن يكون أمره بالضمان أو الوصي لأنه بمنزلة الإقراض والإقراض من الصبي المحجور لا يلزمه به شيء إلا أن يكون بأمر وليه فحينئذ يكون المال لازما عليه وأمر وليه بذلك كأمره بعد بلوغه وكفالة العبد التاجر أو غير التاجر عن سيده بمال أو بنفسه بغير إذنه باطلة لأن الكفالة تبرع وهو منفك الحجر عنه في التجارات(20/20)
ص -12- ... دون التبرعات فلا تصح منه الكفالة بالنفس والمال عن المولى بغير إذنه كما لا يصح عن سائر الأجانب وإنما يعني بهذا أنه لا يطلب به في حال رقه فأما بعد العتق فهو مأخوذ بذلك لأنه مخاطب من أهل الالتزام في حق نفسه وإن كفل بنفسه بإذنه فهو جائز لأن المانع من صحة التزامه في الحال حق مولاه دون حق غيره من غرمائه فإن الكفالة بالنفس لا تلاقي حق محل الغرماء فلهذا نفذ منه بإذن المولى سواء كفل عن المولى أو عن الأجنبي وهذا لأن أكثر ما يجب بهذه الكفالة حبسه إن لم يحضر نفس المطلوب وذلك يوقع الحيلولة بين المولى وبين خدمته فلهذا جاز بإذن المولى.
وإن كفل عنه بالمال بإذنه وليس عليه دين فهو جائز لأن الحق في ماليته لمولاه وهو يملك أن يجعله مشغولا بالدين بأن يرهنه أو يقر بالدين وكذلك إذا أذن له حتى كفل عنه فإن أداه بعد العتق لم يرجع على سيده وعن زفر رحمه الله أنه يرجع عليه لأنه قضى دينه من خالص ملكه بأمره فيرجع عليه كما لو أمره بالأداء بعد العتق ولكنا نقول إن الكفالة حين وقعت لم تكن موجبة له شيئا على المولى فإن العبد لا يستوجب دينا على مولاه فلهذا لا يرجع عليه إذا أداه بعد العتق وهذا لما بينا أن الكفالة توجب للطالب على الكفيل حقا وللكفيل على الأصيل إلا أن ما يجب للكفيل على الأصيل مؤجل إلى وقت أدائه ولهذا لو أبرأ الكفيل الأصيل قبل أدائه عنه كان صحيحا ولا يرجع إذا أدى بعد ذلك فتبين بهذا أن المعتبر وقت الكفالة وعند ذلك لم يكن العبد ممن يستوجب شيئا على مولاه وإن كان عليه دين يستغرق قيمته لم يلزمه الكفالة في حال رقه لأن المولى في ماليته كأجنبي آخر.(20/21)
ألا ترى أنه لا يملك شغله بالدين بالإقرار عليه ولا بالرهن فكذلك بإذنه بالكفالة عنه ولكن الالتزام منه صحيح في حق نفسه حتى إذا عتق كان مطالبا به وإن مات السيد وترك مالا وأعتق العبد عند موته فإن غرماء العبد يستسعونه في قيمته ولا شيء لغرماء السيد من هذه القيمة لأن هذه القيمة بدل مالية العبد وغرماء العبد حقهم أسبق تعلقا بماليته من حق غرماء السيد ألا ترى أنه لو لم يعتقه حتى مات لكان يباع العبد ويصرف ثمنه إلى غرمائه دون غرماء السيد فكذلك حكم هذه السعاية ولكن غرماء السيد يبيعون مال السيد وإن شاء غرماء العبد تبعوا مال السيد بقيمة العبد أيضا لأنه صار مستهلكا محل حقهم بعتق العبد فوجب لهم قيمة العبد دينا في تركته بعد موته ثم إن عند أبي حنيفة رحمه الله لا تنفذ الكفالة ما لم يفرغ من السعاية لأن المستسعي في بعض قيمته عنده كالمكاتب وكفالة المكاتب لم تصح وعندهما متى عتق نفذت الكفالة لأنه عندهما حر عليه دين والمكفول له إن شاء اتبع مال السيد لأن أصل دينه عليه وإن شاء اتبع العبد لصحة كفالته بعد عتقه غير أنه لا يشارك غرماءه في تلك القيمة لأنها بدل ماليته ولم يثبت له مزاحمة مع غرماء العبد في ماليته فكذلك في بدل المالية فإن كان مكان العبد أم ولد فعتقت فإن صاحب الكفالة يستسعيها مع غرمائها بماليتها إذ لا مالية فيها ولكن الديون تتقرر في ذمتها بعد العتق فتؤمر بقضاء ذلك كله والمكفول له(20/22)
ص -13- ... أخذها والمدبرة بمنزلة العبد في ذلك لقيام المالية فيها ولا يرجع واحد منهم على السيد بشيء مما يؤدي عنه من الكفالة لأنهم كانوا مملوكين له عند الكفالة والمملوك لا يستوجب الدين على مالكه فإن في المدبرة ينبغي أن يثبت لغرمائها حق الرجوع في تركة المولى بقيمتها بخلاف العبد لأن المولى بإعتاق المدبرة لم يصر مستهلكا من حق الغرماء شيئا إذ لم يكن لهم حق بيع الرقبة في الدين وإنما كان حقهم في الكسب وذلك حاصل لهم.
قلنا هو كذلك ومراد محمد رحمه الله من هذا اللفظ المساواة في إيجاب السعاية في القيمة على المدبرة والعبد دون الولد على أن المالية كانت قائمة في المدبرة حتى لو غصبها غاصب ضمن قيمة ماليتها وكان ذلك لغرمائها فلهذا يجب عليها السعاية في قيمتها لغرمائها كالعبد وكذلك إذا كان المال على السيد من كفالة فأدى عنه العبد كأدائه بنفسه فيستوجب الرجوع به على الأصيل وذكر عن شريح رحمه الله أنه قال لا كفالة للعبد ومعناه أنه ليس له حق ولاية الكفالة بالنفس والمال لأنه تبرع بالتزام وهو محجور عنه لحق مولاه وكفالة المدبر والعبد وأم الولد من غير السيد بنفس أو مال بغير إذنه باطلة حتى يعتقوا فإذا عتقوا لزمهم لأن المانع حق مولاه وإذا أذن له سيده فيها جازت إن لم يكن عليه دين ويباع العبد في الكفالة بالدين وإن كان عليه دين بدئ بدينه قبل دين الكفالة وأما أم الولد والمدبر فإنهما يستسعيان في الدين لأن رقبتهما ليست بمحل للبيع فكان عليهما قضاء الدين من كسبهما وهو السعاية فيبدأ بدينهما من سعايتهما ثم بدين الكفالة إذا كان بإذن المولى وإذا كفل العبد بإذن سيده بنفس رجل ثم أعتقه سيده لم يضمن شيئا وأوخذ العبد بالكفالة لأنه بالإعتاق لم يضع على المكفول له شيء فإن حقه في مطالبة العبد بتسليم نفس المكفول به.(20/23)
ذلك بعد العتق وقبله سواء وإنما أبطل المولى المالية بالعتق ولا تعلق للكفالة بالنفس بالمالية وإن كانت الكفالة بمال ضمن السيد الأقل من قيمته ومن الدين لأن حق المكفول له تعلق بماليته فإن الدين لا يجب على العبد إلا شاغلا لماليته وقد ظهر الوجوب في حق المولى بإذنه له في الكفالة فإذا أتلفه بالإعتاق صار ضامنا ذلك للطالب والغريم بالخيار إن شاء اتبع العبد بالمال لكفالته وإن شاء اتبع السيد لإتلافه مالية الرقبة فإن تبع العبد كان للعبد أن يتبع المكفول به إن كان كفل بأمره وإن اتبع السيد كان للسيد أيضا أن يتبع المكفول به إن كان المكفول به طلب من السيد أن يأمر عبده وإن لم يكن طلب من السيد ولا من العبد لم يرجع عليه بشيء لأنهما تبرعا بالالتزام والأداء عنه وإذا كانت قيمة العبد التاجر ألفي درهم وعليه دين ألف درهم فأمره مولاه فكفل بألف درهم ثم استدان العبد بعد ذلك ألف درهم ثم باعه القاضي في الدين بألف درهم فإن ثمنه يضرب فيه الغرماء الأولون والآخرون بدينهم كله ويضرب فيه أصحاب الكفالة بألف درهم مقدار الفارغ من قيمته عن الدين يوم كفل لأن التزامه المال بالكفالة بإذن المولى إنما يصح بقدر الفارغ والفارغ يومئذ كان ألف درهم ألا ترى أن المولى لو أقر عليه بالدين لم يصح إلا بقدر الفارغ من ماليته فكذلك إذا(20/24)
ص -14- ... أذن له حتى كفل فاستدانته ملزمة إياه من غير أن يشترط فيه فراغ المالية فثبت عليه جميع ما استدانه فلهذا ضرب كل غريم من غرمائه بجميع دينه ولا يضرب المكفول له إلا بألف درهم وإذا كفل العبد وهو صبي بغير إذن سيده بنفس أو مال ثم عتق لم يلزمه من ذلك شيء لأنه غير مخاطب والتزامه في حق نفسه غير صحيح ألا ترى أنه لو كفل بعد ما عتق وهو صبي لم يلزمه بذلك شيء فكذلك قبله وإن كان كفل بإذن سيده فهو جائز عليه في الرق وبعد العتق لما بينا أن إذن السيد في الكفالة بمنزلة إقراره عليه بالدين وذلك صحيح عليه في الرق وبعد العتق فكذلك هذا وهذا لأن للمولى قولا ملزما على عبده وقوله على عبده ألزم من قول الأب على ولده ثم كل دين وجب على الولد باعتبار إذن والده كديون التجارة يكون الوالد مؤاخذا به بعد البلوغ فكذلك ما يجب على العبد بإذن السيد يكون مؤاخذا به بعد العتق.(20/25)
وإن كفل بإذن سيده بدين يستغرق قيمته ثم كفل بدين آخر يستغرق قيمته بإذنه أيضا لم يجز الدين الثاني لأن شرط صحة هذا الالتزام فراغ المالية فما لم يقض بالأول لا يصير هذا الشرط موجودا فلا يثبت الثاني وهو بمنزلة ما لو أقر السيد عليه بدين مستغرق قيمته ثم بدين آخر وكذلك إن كان الدين الأول من تجارته وإن عتق قبل أن يقضي دينه لزمه الثاني لأن المانع كان اشتغال المالية بحق الأول وقد زال ذلك المعنى ببطلان المالية بالعتق فاستوت الديون عليه بعد العتق وإن كان مولى العبد صبيا فأذن هو أو أبوه أو وصيه للعبد في الكفالة لم يجز أما الصبي فلأنه لا يملك مباشرة الكفالة فكذلك لا يأذن فيه لعبده وليس للأب ولاية الكفالة على الصبي ولا في ماله ألا ترى أنهم لو أذنوا للصبي حتى كفل لم يصح فكذلك إذا أذنوا فيه لعبد الصبي وكذلك إن كان مولاه عبدا تاجرا لأنه لا يملك الكفالة بنفسه فلا يصح إذنه بذلك لعبده فإن أذن المولى لعبد عبده في الكفالة بنفس أو مال فإن كان على العبد الأول دين مستغرق لم يجز لأنه من كسبه كسائر الأجانب في حق التصرف ما لم يفرغ من دينه وإن لم يكن على واحد منهما دين جاز لأن الثاني خالص ملكه كالأول فكما تصح الكفالة من الأول بإذن مولاه فكذلك من الثاني.
وإن أمر السيد عبده أن يكفل بثلاثة آلاف درهم عن رجل وكفل بها ثم استدان ثلاثة آلاف درهم وباعه القاضي بألفين فإنه يضرب فيها أصحاب الكفالة بدينهم كله وأصحاب الدين بجميع دينهم لأن الكفالة من العبد حصلت في حال فراغه من الدين فنفذت في الكل ثم اشتغاله بدين الكفالة لا يمنع وجوب الدين عليه بالاستدانة فيثبت الدينان فيضرب كل واحد من الغريمين في ثمنه بجميع دينه وهو كما لو أقر المولى عليه بثلاثة آلاف درهم ثم استدان العبد مثل ذلك.(20/26)
وإذا كفل العبد وهو يساوي ألف درهم بإذن سيده بألف درهم ولا دين عليه ثم كفل بألف أخرى بإذنه أيضا لم تجز الكفالة الثانية لأن بالكفالة الأولى اشتغلت جميع مالية العبد(20/27)
ص -15- ... بحق المكفول له وشرط صحة الكفالة فراغ المالية فإذا لم يوجد ذلك عند الكفالة الثانية لم يصح كما لو أقر المولى عليه بدين بقدر قيمته ثم بدين آخر فإن زادت قيمته حتى بلغت ألف درهم ثم كفل بألف أخرى بإذن مولاه فهو جائز لأن شرط صحة الكفالة الثالثة قد وجد وهو فراغ المالية عندها بقدرها
فإن قيل إذا زادت قيمته لماذا لم تشتغل هذه الزيادة بالكفالة الثانية حتى لا تصح الكفالة الثالثة قلنا لأن شرط صحة العقد إنما تعتبر عند وجود العقد لأنه يتعذر اعتبار ما بعده فإن القيمة تزداد تارة وتنتقص أخرى فلهذا صححنا باعتبار هذه الزيادة الكفالة الثالثة دون الثانية فإن باعه القاضي بألفي درهم فإنها تقسم بين المكفول له الأول والمكفول له الآخر نصفين لصحة هاتين الكفالتين ولا شيء للأوسط لأنه كفل له وليس في قيمته فضل فلم تصح الكفالة له ولا مزاحمة بين الصحيح والفاسد وكذلك لو باعه بألف وخمسمائة أو بألف درهم لأن الكفالتين يعني الأولى والثانية استوتا في الصحة والمقدار فما يحصل من ثمن العبد قل أو كثر فهو بينهما نصفان حتى يستوفيا حقهما فإن فضل شيء بأن باعه بألفين وخمسمائة أو بثلاثة آلاف فالفضل للثانية لأن هذا الفضل حق المولى والمولى قد رضي بصرفه إلى الكفالة الثانية حين أمره أن يكفل بها.(20/28)
ألا ترى أن العبد المديون لو كفل بإذن مولاه ثم سقطت ديونه بالأداء يصرف كسبه ورقبته إلى دين المكفول له فكذلك هنا وإذا قال الرجل لرجل ما ذاب لك على فلان فهو علي ورضي بذلك الطالب فقال المطلوب لك علي ألف درهم وقال الطالب لي عليك ألفان وقال الكفيل ما لك علي شيء فالقول قول المطلوب لأن الطالب يدعي عليه الزيادة وهو منكر ثم ما أقر به المطلوب يكون لازما على الكفيل لأن القاضي يقضي عليه بإقراره فيتحقق الذوب في هذا القدر بقضاء القاضي كما يتحقق إن لو قامت البينة فيكون ذلك لازما على الكفيل فإن قيل في هذا إلزام المال على الكفيل بقول المطلوب وقوله ليس حجة عليه قلنا ليس كذلك بل فيه إيجاب المال عليه بكفالته لأنه لما قيد الكفالة بالذوب مع علمه أن الذوب قد يحصل عليه بإقراره فقد صار ملتزما ذلك بكفالته.
وكذلك لو قال ما أقر لك به فلان من شيء فهو على وما صار لك عليه فهو علي وهذا كله استحسان وفي القياس لا يجب على الكفيل شيء إذا أنكر الوجوب على المطلوب ما لم يقم البينة بذلك لما بينا أن الإقرار حجة في حق المقر خاصة فالثابت بإقرار المطلوب ثابت في حقه دون غيره ولكنا نترك هذا القياس للتنصيص من الكفيل في الكفالة على ما يقر به المطلوب أو على ما يذوب عليه مطلقا من غير تقييد الذوب بشيء وكذلك لو قال ما قضى لك عليه فهو علي إلا أن هنا لا يلزم الكفيل حتى يقضي على المطلوب بإقراره لأنه كفل بمال مقضى به فما لم يصر المال مقضيا به على المطلوب لا يتقرر الوصف الذي قيد الكفالة به ولو قال ما لك عليه فهو علي لم يلزم الكفيل شيء بإقرار المكفول عنه لأنه كفل بما هو واجب عليه وقت الكفالة وما بعد ذلك ثبت الوجوب عليه ولم يبين في حق الكفيل أنه صار(20/29)
ص -16- ... واجبا وقت الكفالة لأن الإقرار إخبار في حق المقر ولكن في حق الغير يجعل كالإنشاء بمنزلة إقرار المريض في حق غرماء الصحة بخلاف ما سبق فإن هناك إنما كفل بما يقر به في المستقبل أو بما يلزمه في المستقبل أو بما يقضي عليه به في المستقبل وذلك يثبت بإقراره حتى لو قال ما كان أقر به لك فلان أمس فهو علي فقال المطلوب قد أقررت له أمس بألف درهم وجحد ذلك الكفيل فلا شيء عليه لأنه كفل بمال سبق الإقرار به من المطلوب على الكفالة ولا يتبين ذلك بإقراره بعد الكفالة في حق الكفيل لأنه متهم في ذلك فلا يجب على الكفيل إلا أن يقيم البينة على إقراره بذلك أمس فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
ولو قال ما أقر لك به من شيء فهو علي فقامت عليه البينة أنه قد أقر قبل الكفالة بألف درهم لم تلزم الكفيل إلا أن يقر بها بعد الكفالة لأن هذا اللفظ إنما يدخل فيه إقرار يكون منه في المستقبل لا ما كان منه في الماضي وكأنه أورد هذا الفصل لإيضاح الفرق الأول وما قضى به القاضي بنكوله عن اليمين لم يلزم الكفيل لأنه إنما كفل بما يقر به والنكول بدل عند أبي حنيفة رحمه الله وليس بإقرار وعندهما هو قائم مقام الإقرار لضرورة فصل الخصومة وذلك في حق الخصمين دون الكفيل فإذا لم يكن بمنزلة الإقرار في حق الكفيل لا يلزمه شيء وإذا ادعى رجل قبل عبد دعوى فكفل مولاه بنفسه فهو جائز لأنه التزم تسليم ما يقدر على تسليمه وهذا الفصل في الكفالة بالنفس أقرب إلى الجواز من غيره لأن له ولاية على عبده بسبب ملكه فيقدر على تسليمه وكذلك كفالة المولى عن العبد بالمال جائزة لأن العبد يصح أن يكون مطلوبا بالمال فلو كفل عنه أجنبي صح فكذلك مولاه.(20/30)
فإن قيل دين العبد مستحق القضاء من ماليته وهو ملك مولاه فأي فائدة في هذه الكفالة قلنا الفائدة شغل ذمة المولى إما بالمطالبة أو بأصل الدين واستحقاق قضائه من سائر أمواله وهذا إذا لم يكن ثابتا قبل الكفالة وإذا أدى المال لا يرجع به على عبده وإن أداه بعد عتقه لم يستوجب المولى عليه شيئا فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا وقد بينا أنه متى لم يجب عند الكفالة للكفيل على المكفول عنه لا يجب بعد ذلك وإن أحال العبد غريما له على مولاه بدينه على أن يبرأ العبد فمات المولى ولا مال له إلا العبد وعلى العبد دين كثير فللمحتال له أن يرجع على العبد لأن مالية العبد مستحقة بديونه وقد مات المولى ولا مال له إلا العبد مفلسا ومن أصلنا أن الحوالة تبطل بموت المحتال عليه مفلسا على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى.
وإذا بطلت الحوالة بعود دين المحتال له إلى العبد فيضرب بدينه في مالية العبد مع غرمائه وإن كفل المولى عن عبده بدين ثم أبرأ صاحب الدين المولى الكفيل كان فسخا للكفالة وذلك لا يسقط الدين عن الأصيل ألا ترى أن قبل الكفالة كان المال واجبا على الأصيل فكذلك بعد انفساخ الكفالة يبقى المال على الأصيل وهذا بخلاف الهبة من الكفيل لأن الهبة تمليك فلا يمكن تصحيحه إلا بتحويل الدين إلى ذمة الكفيل فلهذا يسقط(20/31)
ص -17- ... عن الأصيل فأما الإبراء فإسقاط محض وإسقاط المطالبة دون أصل الدين صحيح فكان إبراء الكفيل إسقاطا للمطالبة عنه فيبقى المال على الأصيل بحاله وإن أبرأ العبد برئا جميعا لأن إبراء الأصيل إسقاط لأصل الدين وذلك يوجب براءة الكفيل ضرورة فإن كفل المولى بنفس عبده وضمن ما ذاب عليه وغاب العبد تاجرا فإن المولى يؤخذ بنفسه لكفالته ولا يكون خصما فيما على العبد حتى يحضر العبد فيخاصم فإذا قضى عليه لزم المولى لأنه إنما ضمن ما يذوب على العبد بل ولا يتحقق الوجوب على العبد ما لم يقض عليه القاضي بحضرته وما لم يثبت ضمان المالك لا يكون هو خصما فيه وقد سبق نظيره في الحر فكذلك في العبد سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن المولى ليس بخصم فيما على عبده بدون الضمان.(20/32)
وإذا كان لرجل على عبد تاجر ألف درهم ولآخر على ذلك الرجل ألف درهم فأحاله بذلك على العبد أو ضمنه العبد له بأمره فهو جائز لأنه لا يلتزم بهذه الحوالة والضمان شيئا لم يكن عليه إنما يلتزم ما هو عليه فلا يتحقق معنى التبرع في هذا الالتزام وكذلك وصى الصبي لو استدان مالا وأنفقه عليه ثم أمر الصبي بأن يضمن هذا المال جاز لأنه ليس بإلزام للمال بل فيه التزام لما عليه كذا هنا وفي الحقيقة هذا أمر من غريم العبد للعبد بأن يدفع ماله عليه إلى غريمه أو يوكل غريمه في أن يقبض من العبد ماله عليه وكما يملك أن يطالب بنفسه يملك أن يوكل غيره ألا ترى أن المال لو كان عينا في يد العبد للآمر فأمره أن يدفعه إلى مديونه صح فكذلك إذا كان دينا في ذمته ولو كفل رجل بنفس عبد محجور عليه بأمره فإن الكفيل يؤخذ بالكفالة لأن العبد مخاطب وتسليم النفس عليه لجواب الخصم مستحق وإنما تأخر ذلك عنه لحق المولى فتصح الكفالة بذلك عنه كالمال فإن العبد المحجور لو أقر لإنسان بمال ثم كفل به عنه إنسان صح وليس لهذا الكفيل أن يتبع العبد بذلك حتى يعتق كما أن الطالب لا يطالبه بذلك حتى يعتق فإذا أعتق اتبعه بكفالته حتى يبرئه منها لأنه أمره بهذه الكفالة وأمره في حق نفسه صحيح فكان مطالبا به بعد العتق.
ولو كان على المكاتب مال لرجل فكفل به عنه لآخر كان جائزا بخلاف كفالة المكاتب بالنفس أو بالمال فإن ذلك تبرع واصطناع معروف وهذا ليس بتبرع وإنما هو التزام مال أصله عليه ولا فرق في حقه بين أن يدفعه إلى الأول أو إلى الثاني فلهذا صحت الكفالة وإن أمر المكاتب عبده أن يكفل بمال على المكاتب فهو جائز لأن المكاتب ملتزم فصار هذا الدين من كسبه وعبده كسبه فليس في هذه الكفالة إلا استحقاق ما هو مستحق بخلاف ما إذا أمره أن يكفل عن غيره فإن ذلك التزام بطريق التبرع فيما ليس عليه ولا يملك المكاتب مباشرته بنفسه فكذلك لا يملك أن يأمر عبده به.(20/33)
ولو أن رجلا طلب من مكاتب أو عبد تاجر أن يشتري له متاعا بمال مسمى ولم يدفع إليه شيئا فاشترى العبد كان شراؤه في القياس لنفسه دون الآمر لأنه ملتزم المال في ذمته(20/34)
ص -18- ... بعوض يحصل للآمر فيكون هذا بمنزلة الكفالة ألا ترى أنه لو أمره بالشراء له بالنسيئة لم يصح فكذلك بالنقد وفي الاستحسان هذا جائز لأنه من صنع التجار وهو محتال إليه فإن من لا يعين غيره لا يعان ثم المشتري محبوس في يده حتى يستوفي الثمن من الآمر بخلاف الكفالة والشراء بالنسيئة وقد بينا هذا في كتاب الوكالة وذكر عن إبراهيم رحمه الله قال لا يجوز كفالة الرجل عن المكاتب بالمكاتبة لمولاه وبه نأخذ لأن المكاتب عبد والمولى لا يستوجب على عبده دينا ولأن ما للمكاتب على المكاتب بصفة لا يمكن إيجابه بتلك الصفة على الكفيل لأن المكاتب يتمكن من أن يسقط عن نفسه المال بأن يعجز نفسه ولا يمكن إثباته في ذمة الوكيل الكفيل بهذه الصفة ولو أثبتناه في ذمة الكفيل لأثبتنا أكثر مما هو واجب في ذمة الأصيل وذلك لا يجوز وكذلك لو كان للمولى عليه دين سوى مال الكتابة وكفل به رجل لم يجز للمعنيين اللذين ذكرناهما فإن المكاتب إذا عجز نفسه فكما يسقط عنه بدل الكتابة فكذلك تسقط سائر ديون المولى.(20/35)
وكذلك لو كان له مكاتبان كل واحد منهما مكاتب على حدة فكفل أحدهما بمال على صاحبه للمولى من الكتابة أو الدين لم يجز لأنه كفالة لمكاتب ولا كفالة للمولى عن المكاتب وذلك غير صحيح من الحر فلأن لا يصح من المكاتب كان أولى ولو كان بينهما مكاتبة واحدة وجعل نجومها واحدة فإذا أديا عتقا وإن عجزا ردا كان ذلك جائزا استحسانا وفي القياس هذا لا يجوز لأنه كفالة لمكاتب ولأنه كفالة ببدل الكتابة ولكنه استحسن فقال المولى جعلهما في هذا الحكم كشخص واحد فكأنه ألزم جميع المال كل واحد منهما ثم علق عتق صاحبه بأدائه وله هذه الولاية ولهذا كان له أن يأخذ كل واحد منهما بجميع الكتابة إلا أنه في حق ما بينهما إذا أدى أحدهما جميع البدل رجع على صاحبه بنصفه فأما في حق المولى فالمال عليهما كشيء واحد حتى أنه لو أدى أحدهما نصيبه من البدل لا يعتق لأن المولى ما رضي بعتقهما ولا عتق أحدهما حتى يصل إليه جميع البدل وإذا دان المولى أحدهما دينا بعد المكاتبة فكفل الآخر لم يجز لأنه لم يكن على هذا الآخر من الدين شيء ولا تعلق عتقه بأدائه فكان هذا التزاما منه بطريق التبرع ثم هو التزام الدين عن المكاتب لمولاه وذلك باطل بخلاف الأول فإن عتقه تعلق بأداء ذلك المال فيجوز أن يكون هو ملتزما أداءه.
ولو كان للمكاتب مال على رجل فأمره فضمنه لمولاه من المكاتبة أو من دين له سوى ذلك فهو جائز لأن أصل ذلك المال واجب على الكفيل فهذا في الحقيقة أمر له منه بدفع ما عليه إلى مولاه أو توكيل لمولاه أن يقبض دينه من غريمه وذلك مستقيم ولو كان للمولى دين على ابن المكاتب أو على رحم محرم منه أو على عبد له فكفل به لم يجز لأن من دخل في كتابته فهو مكاتب لمولاه وكفالة الرجل على المكاتب لمولاه باطلة ومن لم يدخل في كتابته فهو عبد للمكاتب والدين الذي للمولى على عبد المكاتب بمنزلة الدين له(20/36)
ص -19- ... على المكاتب لأن كل واحد منهما يسقط بعجز المكاتب فكما لا تجوز الكفالة للمولى بماله على مكاتبه فكذلك بماله على عبد مكاتبه وإن كفل به المكاتب عن عبده أو أم ولده جاز لأن كسبهما ورقبتهما كذلك.
ألا ترى أنه إذا أدى بدل الكتابة يتقرر ملكه فيهما فكان الواجب على ملكه بمنزلة الواجب عليه وتبين بهذا أنه بهذه الكفالة ليس بملتزم ما ليس عليه بطريق التبرع وإن كفل به عن ابنه أو عن أحد أبويه لم يجز أما إذا كان حرا فغير مشكل وكذلك إن كان داخلا في كتابته لأن من دخل في كتابته فهو بمنزلة المكاتب لمولاه ألا ترى أن بأدائه يعتق كما يعتق المكاتب وإن كان في الحال لا تصح منه الكفالة والتبرعات كما لا تصح من المكاتب فكفالة أحد المكاتبين عن الآخر باطلة وإن كان المولى واحدا وإذا مات مولى المكاتب وكفل رجل بماله عليه من الكتابة أو غيرها للورثة لم يجز لأنهم قائمون مقام المورث فكما لا تصح كفالة هذا الرجل للمورث عنه في حياته فكذلك لوارثه بعد وفاته فإن قيل الوارث لا يملك رقية المكاتب فلماذا لا تصح الكفالة قلنا هو بمنزلة المالك على معنى أنه إذا عجز كان مملوكا له مع
أن المانع من الكفالة ضعف ذلك الدين في حق الأصيل حتى أنه يسقط عنه إذا عجز نفسه وفي هذا لا فرق بين المولى وبين وارثه بعد موته ولو كان للمكاتب دين على بعض الورثة وكفل به رجل أو كفل بنفس المطلوب كان جائزا لأن الأصيل مطلوب بهذا المال مطلقا فتصح كفالة الكفيل به.(20/37)
ألا ترى أن المال لو كان للمكاتب على مولاه لم يكن من جنس الكتابة وكفل به رجل للمكاتب عن المولى صح فكذلك وارثه بعد موته وإذا أدان العبد التاجر لمولاه دينا ولا دين عليه وأخذ منه كفيلا بذلك فالكفالة باطلة لأن العبد لا يستوجب الدين على مولاه إذا لم يكن عليه دين فإن دينه كسبه وكسبه ملك المولى ومن ملك ما في ذمته سقط ذلك عنه وإن كان على العبد دين فالكفالة جائزة لأن كسبه حق غرمائه فيتحقق واجبا في ذمة المولى كما يتحقق واجبا في ذمة غيره فلهذا صحت الكفالة به عنه والكفالة بالنفس في ذلك مثل الكفالة بالمال لأنه إذا لم يكن على العبد دين فخصومته مع المولى لا تلزم المولى تسليم النفس إليه للجواب فلا تصح الكفالة بتسليم نفسه أيضا وإذا كان عليه دين فإنه يستحق على المولى تسليم النفس للجواب فيصح إلزامه بالكفالة أيضا وكذلك أخذ هذا الكفيل بنفس مولاه في خصومة شيء يدعيه قبله وكيلا في خصومته فهو جائز إذا كان عليه دين لأن الجواب لما كان مستحقا على المولى صح توكيله به وإن لم يكن عليه دين فهو باطل لأن الجواب غير مستحق له على المولى فكذلك على وكيله لأن العبد إذا لم يكن عليه دين فحقه لمولاه ويكون هذا بمنزلة التوكيل من المولى عبده في أن يخاصم نفسه وذلك باطل.
وكذلك لو كفل الوكيل بنفس المولى وضمن ما عليه وهو مائة درهم فهو على التقسيم(20/38)
ص -20- ... الذي قلنا فإن مات المولى وعلى العبد دين فللعبد أن يستوفي المال من الكفيل لصحة الكفالة ويرجع به الكفيل في تركة المولى لأنه كفل عنه بأمره وأدى وكذلك لو كان المولى صبيا وقد أذن أبوه أو وصيه لعبده في التجارة فاستهلك الصبي شيئا لعبده وعليه دين فضمان ذلك واجب عليه كما لو استهلكه على غريم العبد فإذا أخذ منه كفيلا بالمال برضا الأب أو الوصي كان ذلك جائزا لأنه دين مستحق عليه يؤمر الأب والوصي بقضائه من ماله فتصح كفالة الكفيل به وإذا كان بأمر الأب أو الوصي رجع الكفيل عليه إذا أداه وإذا كفل الكفيل للعبد بمال عن مولاه وعلى العبد دين فأدى العبد دينه بريء الكفيل من الكفالة لأن صحة هذه الكفالة باعتبار الدين على العبد حتى إذا لم يكن عليه دين لا تصح الكفالة فإذا سقط الدين فقد انعدم المعنى الذي به كانت الكفالة وإن عتق قبل أن يؤدي دينه ثم أداه من مال اكتسبه بعد العتق أخذ الكفيل بالمال لأن الأصل أن العبد المديون إذا أدى دينه بعد العتق من مال اكتسبه بعد العتق لا يكون متبرعا بالأداء ولكن يرجع بالمؤدي فيما اكتسبه قبل العتق وما اكتسبه قبل العتق هو الدين الذي له على مولاه فإذا لم يسقط ذلك الدين عن المولى بقي الكفيل على كفالته وإن أداه من مال كان له في الرق بريء الكفيل من الكفالة لأنه لا يستوجب الرجوع بالمؤدي في كسبه فصار ما في ذمة المولى حقا له فبالخلوص يسقط عنه وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل.(20/39)
وكذلك هذا الحرف فيما إذا أدى دينه في حال الرق فإن ما في ذمة المولى يخلص له ويسقط عنه وبراءته توجب براءة الكفيل وكفالة الرجل للمكاتب بنفس مولاه أو بدين له عليه جائزة لأن المولى في كسب مكاتبه أنفذ منه في كسب عبده المديون وقد بينا صحة كفالة العبد عن مولاه إذا كان مديونا فللمكاتب أولى وكذلك لو كفل بنفسه وضمن ما ذاب عليه أو جعله كفيلا بنفسه وكيلا في خصومته وهذا بخلاف كفالة المولى عن المكاتب لأن دين المولى على مكاتبه لا يقوى حتى يملك المكاتب إسقاطه بالتعجيز فأما دين المكاتب على مولاه فقوي فإن المولى لا يملك إسقاطه إلا بالأداء فلهذا صحت الكفالة به.
وكذلك لو كفل عن المولى بدين لابن المكاتب أو أبعد من ذلك وبن المكاتب بمنزلة المكاتب لأن من دخل في كتابته فهو مكاتب للمولى والمستسعي في بعض قيمته بعد ما عتق بعضه بمنزلة المكاتب وفي قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز كفالة أحد عنه بالسعاية لمولاه ولا بنفسه فإن قيل المعنى الذي لأجله لا تجوز الكفالة ببدل الكتابة عن المكاتب للمولى لأنه ضعيف يملك المكاتب إسقاطه بالتعجيز وهذا لا يوجد في السعاية فإنه لا يملك إسقاطه بالتعجيز إذ ليس له أن يعجز نفسه فينبغي أن تصح الكفالة قلنا بل المعنى أن المكاتب عبد ولا يقوى دين المولى في ذمته لأنه ليس للعبد ذمة قوية في حق مولاه وهذا موجود هنا فالمستسعي عنده بمنزلة المكاتب لأن الرق يتجزأ عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يعتق نصيبه ما لم يؤد حق السعاية وكذلك العتق عند الموت إذا لم يخرج من الثلث فلزمته السعاية(20/40)
ص -21- ... فهذه السعاية بمنزلة بدل الكتابة على معنى أنه لا يعتق إلا بأدائها فلا تصح الكفالة بها عند المولى
وهذا بخلاف ما إذا أعتق عبده على مال فكفل كفيل للمولى بذلك المال صحت الكفالة لأنه عتق هناك بنفس القبول فكان المال دينا قويا في ذمته كسائر الديون والمستسعي لا يعتق إلا بالأداء فلا يكون المال لازما في ذمته بصفة القوة وهذا لأن العتق في الأصل صلة وكل مال يحصل بأدائه العتق أو يتم بأدائه العتق يكون في معنى الصلة فلا تصح الكفالة به فأما الواجب بعد تمام العتق فليس فيه معنى الصلة فتصح الكفالة به.
وإذا كان العبد التاجر بين رجلين فأدانه أحدهما دينا وأخذ منه كفيلا به أو بنفسه فهو جائز غير أنه لا يلزم الكفيل إلا نصف المال لأنه إنما يجب على الكفيل بالكفالة ما هو واجب على الأصيل وهو العبد نصف المال لأن حصة المولى المدينة لا تجب عليه فإن المولى لا يستوجب الدين على عبده وإنما ثبت بحصة نصيب الآخر وذلك نصف المال فوجب على الكفيل ذلك أيضا وكذلك لو كان العبد هو الذي أدان أحد مولييه وأخذ منه كفيلا بنفسه أو بالمال فهو جائز يؤخذ إن كان على العبد دين لأن جميع الدين هنا ثابت للعبد على المولى الذي له النصف لأنه غير مملوك والنصف الآخر لقيام الدين عليه وإن لم يكن عليه دين ثبت نصف الدين عليه وهو نصيب المولى الآخر فأما نصيبه من كسب العبد في خالص حقه فتصح الكفالة عنه للعبد بالنصف هنا دون النصف الآخر.
وكذلك شريك المولى شركة مفاوضة لو أدان العبد دينا فأخذ منه كفيلا بنفسه أو بالدين فهو جائز غير أنه يبطل من حصة المولى من الدين نصفها بقدر ملكه وما سقط عن الأصيل سقط عن الكفيل بقدره(20/41)
ولو كان للمولى شريك شركة عنان فأدان العبد وأخذ منه كفيلا بنفسه أو بالدين فهو جائز لأن شريكي العنان فيما ليس من شركتهما كسائر الأجانب فكان جميع دينه مستحقا على العبد فتصح الكفالة ولو أن الموليين جميعا أدانا العبد دينا واحدا بعقد واحد وفي صفقة واحدة فأخذا منه كفيلا بالمال أو بنفسه فهو جائز غير أنه يبطل منه مقدار حصته لأنه لا يستوجب الدين على ملكه وبقدر ما يبطل عن الأصيل يبطل عن الكفيل.
ولو أن العبد أدان مولييه دينا وأخذ منهما كفيلا به فهو جائز غير أنه يبطل من كل واحد منهما
نصف الدين لأن نصف كسب العبد خالص كل واحد منهما إذا لم يكن على العبد دين ولو كان للعبد دين على رجل فكفل به أحد مولييه أو كفل بنفسه فهو جائز يؤخذ به كله إن كان عليه دين لأن كسبه حق غرمائه فالموليان منه كسائر الأجانب وإن لم يكن عليه دين أخذ بنصفه لأن نصف كسبه للمولى الذي كفل ولا يجب له بالكفالة على نفسه فلهذا كان له عليه الكفالة بقدر نصيب شريكه وإن كفل له الموليان جميعا بمال وكل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه فإن كان على العبد دين فهو جائز لأنه إن كفل به أحدهما جاز فكذلك إذا كفلا به لأنهما كسائر الأجانب في كسبه وأيهما أدى إليه المال رجع على صاحبه بنصفه ليستويا في غرم الكفالة كما استويا في أصل الكفالة وإن لم يكن عليه دين(20/42)
ص -22- ... بطل عنهما نصف هذا الدين لأن كل واحد منهما مالك لنصف كسبه ولا يملك لنفسه بنفسه فلهذا بطل عنهما نصف هذا الدين ولا يكون كل واحد منهما كفيلا من قبل صاحبه لأن كل واحد منهما إنما يضمن بأصل الكفالة صاحبه فلا يجوز أن يصير صاحبه كفيلا عنه بذلك إذ يكون كفيلا بنفسه وذلك باطل.
ولو كفل ما جازت فيه كفالة المسلم عن المسلم والذمي عن الذمي جاز لأن الكفالة من المعاملات وأهل الذمة يستوون مع المسلمين في المعاملات.
ولو كفل الذمي عن الذمي للذمي بالخمر من قرض أو غصب أو استهلاك صحت الكفالة لأن الخمر مال متقوم عندهم فإن أسلم الطالب سقطت الخمر عن الأصيل والكفيل جميعا لا إلى بدل لأنه لا يستوجب الخمر ولا قيمتها ابتداء بهذا السبب على أحد فكذلك لا يبقى ما كان واجبا له ويجعل بإسلامه له كمبرئ الأصيل والكفيل جميعا وإن أسلم المطلوب فكذلك الجواب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يجب على المطلوب قيمة الخمر ويبقى الكفيل على كفالته وهي رواية زفر رحمه الله وخالفه أبو حنيفة رحمه الله لأن إسلام المطلوب لا يمنع وجوب قيمة الخمر عليه للذمي ابتداء ألا ترى أنه لو استهلك المسلم خمر ذمي أو استقرض من ذمي خمرا فأتلفها كانت مضمونة عليه بالقيمة فكذلك تبقى القيمة على المسلم للذمي وقد جعلنا الطالب بإسلامه كالمبرئ والمطلوب لا يمكن أن يجعل بإسلامه كالمبرئ لأنه لا يبرئ نفسه وإن لم يبرأ الأصيل لا يبرأ الكفيل فيكون للطالب الخيار إن شاء رجع على الأصيل بقيمة الخمر وإن شاء رجع على الكفيل بالخمر ثم الكفيل يرجع على الأصيل بقيمة الخمر إن كان كفل بأمره ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن الخمر التي هي بدل القرض إذا سقطت بالإسلام تسقط لا إلى بدل كما إذا سقطت بإسلام الطالب.(20/43)
وكان المعنى فيه أن الطالب لو استوفى القيمة لكان به مملكا من المطلوب الخمر التي في ذمته ولا يجوز تمليك الخمر من المسلم ببدل فتسقط أصلا لأن حق إسقاط البدل متى كان متعلقا بشرط تمليك المبدل فإذا امتنع ذلك يسقط أصلا كمن هشم قلب فضة لإنسان فلصاحب القلب أن يضمنه قيمته من خلاف جنسه بشرط أن يملكه المهشوم فإذا امتنع من ذلك لا يرجع عليه بشيء بخلاف ما إذا كان المطلوب مسلما وقت الاستقراض والاستهلاك فإن أصل الخمر هناك لا تجب في ذمته ابتداء وإنما تجب القيمة ولايشترط لوجوب القيمة ملك ما يقابله كمن غصب مدبرا أو أتلفه يضمن قيمته من غير أن يملك المدبر به فإذا سقطت عندهما الخمر عن المطلوب لا إلى بدل بريء الكفيل لأن إبراء الأصيل يوجب براءة الكفيل ولو أسلم الكفيل خاصة سقطت الخمر عن الكفيل لا إلى بدل في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله ولكن براءة الكفيل لا توجب براءة الأصيل وكانت الخمر للطالب على المطلوب على حالها وعند محمد رحمه الله الطالب بالخيار إن(20/44)
ص -23- ... شاء رجع على الكفيل بقيمة الخمر لأنه مطلوب وإن شاء رجع على الأصيل بالخمر فإن أخذ من الكفيل قيمة الخمر لم يرجع الكفيل على الأصيل بشيء لأنه مطالب في حق الأصيل وإسلام الطالب يسقط الخمر لا إلى بدل وإن أسلموا جميعا يسقط الخمر لا إلى بدل لأن في إسلامهم إسلام الطالب وزيادة.
وكذلك إن أسلم الطالب والكفيل أو الطالب والأصيل فإن أسلم الكفيل والأصيل سقطت الخمر لا إلى بدل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويتحول إلى القيمة عند محمد رحمه الله فإذا استوفاه من الكفيل لم يرجع الكفيل على الأصيل لأنه طالب في حقه ولو كانت الخمر من ثمن بيع والمسألة بحالها فإن أسلم الطالب أو المطلوب سقطت الخمر لا إلى بدل بالاتفاق لانفساخ البيع بينهما بإسلام أحدهما قبل قبض الخمر وإن أسلم الكفيل خاصة فالبيع يبقى على حاله ويسقط الخمر لا إلى بدل من الكفيل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يتحول إلى القيمة لأن ما في ذمة الكفيل بمنزلة القرض ولو كانت الخمر سلما والمسألة بحالها فإن أسلم الطالب والمطلوب سقطت لا إلى بدل لانفساخ العقد بينهما وإن أسلم الكفيل يبقى العقد بين رب السلم والمسلم إليه ولكن يبرأ الكفيل بالاتفاق لأنه لا يجوز أن يتحول حق رب السلم إلى القيمة دينا في ذمته فإن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز.(20/45)
ولو كانت الخمر صداقا والمسألة بحالها فنقول أما بيان قول أبي حنيفة رحمه الله فالصداق إما أن يكون خمرا أو خنزيرا بعينه أو بغير عينه فإن كان بعينه وقد كفل به كفيل فهو صحيح لأن الصداق مضمون بنفسه في يد الزوج والكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها صحيحة كالمغصوب وسواء أسلم الزوج والمرأة أو أحدهما أو أسلموا جميعا فبقي حقها في العين كما بيناه في كتاب النكاح فيكون لها أن تأخذ العين من الزوج وإن شاءت طالبت الكفيل بالتسليم لأن الزوج لما بقي بالتسليم بعد إسلامه يبقى الكفيل مطالبا به أيضا وإن كان بغير عينه فإن كان خمرا وأسلمت المرأة فحقها في ذمة الزوج في قيمة الخمر ويبرأ الكفيل من الكفالة لأنها طالبته وما في ذمة الكفيل بمنزلة بدل القرض فإنه غير واجب بالنكاح بل إنما وجب بالكفالة فيسقط بإسلام الطالب لا إلى بدل فأما في ذمة الزوج فصداق وإسلامها يحول الحق إلى قيمة الخمر في صداق بغير عينه عند أبي حنيفة رحمه الله وإن أسلم الزوج فحقها عليه في قيمة الخمر وإن شاءت طالبت الكفيل بالخمر لأن الأصيل ما بريء بإسلامه بل تحول إلى القيمة في حقه لتعذر تسليم عين الخمر عليه ولم يتعذر ذلك على الكفيل فإن استوفت الخمر من الكفيل لم يكن للكفيل أن يرجع على الزوج بشيء لأنه بمنزلة المقرض من الأصيل وعند أبي حنيفة رحمه الله إسلام المستقرض يسقط الخمر لا إلى بدل وإن أسلم الكفيل فإنها ترجع على الزوج بالخمر وقد بريء الكفيل لأن ما في ذمته بمنزلة القرض وإسلام المطلوب عنده يسقط الخمر لا إلى بدل وإن كان خنزيرا بغير عينه فإن أسلمت(20/46)
ص -24- ... المرأة فلها مهر مثلها على الزوج ولا شيء على الكفيل من ذلك لأن الخنزير قد سقط ومهر المثل دين حادث على الزوج والكفيل لم يكفل به.
وإن أسلم الزوج فكذلك الجواب لأن الزوج قد بريء عن الخنزير أصلا فيبرأ الكفيل ببراءته ومهر المثل دين حادث على الزوج فليس على الكفيل منه شيء وإن أسلم الكفيل سقط عنه الخنزير لا إلى بدل ولها على الزوج الخنزير أو قيمته على حاله فأما على قول أبي يوسف رحمه الله فالجواب في الفصول كلها كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله في الخنزير بعينه وعلى قول محمد رحمه الله الجواب في الفصول كلها كجواب أبي حنيفة رحمه الله في الخمر بغير عينها إلا في فصلين أحدهما فيما إذا أسلم الزوج وأدى الكفيل عين الخمر فعند محمد رحمه الله يرجع الكفيل على الزوج بقيمة الخمر لأنه مطلوب في حقه وإسلام المطلوب عند محمد رحمه الله يسقط الخمر إلى القيمة. والثاني فيما إذا أسلم الكفيل عند محمد رحمه الله فلها الخيار إن شاءت رجعت على الزوج بالخمر وإن شاءت على الكفيل بقيمة الخمر لأن الكفيل مطلوب في حقها وإسلام المطلوب عنده يسقط الخمر إلى القيمة.
ولو كفل الذمي بالخمر عن الذمي لمسلم فهو باطل لأن المسلم لا يستوجب الخمر دينا على أحد ولا يكون له الخمر أيضا عينا مضمونة على أحد فلا تصح الكفالة بها له وكذلك إن كفل عن مسلم لذمي بخمر لأن الخمر لا يكون دينا في ذمة المسلم لأحد والكفالة بما ليس بواجب في ذمة الأصيل باطلة
وكذلك لو كفل مسلم لذمي عن ذمي بخمر فهو باطل لأن المسلم لا يلتزم الخمر بشيء من العقود لأحد فكذلك بالكفالة لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وكفالة الذمي بالخمر للعبد التاجر الذمي(20/47)
والمكاتب الذمي جائزة وإن كان مولاهما مسلما لأنهما يتصرفان لأنفسهما والمعتبر في التصرف في الخمر في حقهما دينهما لا دين مولاهما فإن كانا ذميين جازت الكفالة لهما بالخمر كما لو كانا حربيين وإذا كاتب الذمي عبدين له ذميين على خمر مسماة وكل واحد منهما كفيل عن الآخر فأسلم أحدهما صارت كلها قيمة لأن جواز العقد كان باعتبار أنهما في هذا العقد كشخص واحد ولولا ذلك لم يصح لاعتبار معنى الكفالة فإذا كانا كشخص واحد يجعل إسلام أحدهما في حكم التحول من الخمر إلى القيمة كإسلامهما.
توضيحه أنه لا يعتق واحد منهما إلا إذا أدى جميع البدل إلى المولى ولو تحول نصيب المسلم منهما إلى القيمة وبقي نصيب النصراني منهما خمر التميز ما على أحدهما مما على الآخر فيعتق أحدهما بأداء ما عليه وذلك خلاف شرط المولى فإما أن يبقى الكل خمرا أو يتحول قيمة وإبقاؤه خمرا بعد إسلام أحدهما لا يصح فيتحول الكل إلى القيمة وكذلك إذا كان عبد واحد مكاتب لذميين على خمر فأسلم أحدهما لما بينا أنه لا يتميز نصيب أحدهما عن نصيب الآخر وقد صح تحول نصيب المسلم منهما إلى القيمة فيتحول نصيب الآخر أيضا ضرورة.(20/48)
ص -25- ... ولو كاتب النصراني عبدا مسلما وعبدا نصرانيا على خمر وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه لم يجز لأنهما كشخص واحد في هذا العقد وقد بطل نصيب المسلم فكذلك النصراني إذ لو جوزنا العقد في نصيب النصراني لا يبقى جعل المسلم كفيلا به والمولى ما رضي إلا بذلك ولو غصب ذمي من ذمي خمرا أو خنزيرا فكفل به عنه مسلم لم يجز إن كانا قائمين لأن المسلم كما لا يلتزم الخمر والخنزير في ذمته دينا بالعقد فكذلك لا يلتزم تسليم عيني الخمر والخنزير بالعقد وإن كانا قد هلكا قبل الكفالة صارت الكفالة بما عليه من ضمان الخنزير ولم يجز في الخمر لأن الخمر مضمونة على الغاصب بالمثل فالكفيل المسلم إنما يلتزم الخمر في ذمته بالكفالة وذلك لا يجوز فأما الخنزير فمضمون بالقيمة والقيمة دراهم فصح التزام ذلك بالكفالة ولو كان الغاصب مسلما جازت كفالته عنه في الخمر أيضا بعد هلاكها لأن خمر الذمي مضمونة على المسلم بالقيمة كالخنزير والقيمة دراهم فإذا كانت الكفالة تكون بالقيمة بعد هلاكها فهذا مسلم التزم دراهم هي دين على الأصيل بالكفالة وذلك صحيح.
باب الكفالة بالمال
قال رحمه الله: وفيه حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم(20/49)
يقول: "العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضى والزعيم غارم والمنحة نوع من العارية" ولكن فيها معنى العطية فإن من أعار غيره شاة أو ناقة ليشرب لبنها يسمى ذلك منحة ولهذا قلنا أن من منح غيره شيئا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدار والدابة والثوب يكون عارية ولا يكون منحة وإن منحه شيئا لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه يكون هبة لا عارية والإعارة في مثله تكون قرضا وفيه دليل أن رد العارية على المستعير ورد المنحة على الممنوح له لأن منفعة النقل حصلت له وقضاء الدين يستحق على المديون بقوله والدين مقضى ومقصوده آخر الحديث وهو قوله والزعيم غارم معناه الكفيل ضامن أي ضامن لما التزمه من مال أو تسليم نفس على معنى أنه مطالب به.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم إلى أجل فقال له رجل إذا حل أجل مالك على فلان فلم يوفك مالك فهو علي أو قال إن حل فهو علي فهو جائز على ما قال لأن حلول المال على الأصيل سبب لتوجه المطالبة عليه والكفالة التزام المطالبة فيجوز إضافتها إلى وقت توجد المطالبة به على الأصيل وتعليقها به وكذلك لو قال إن مات فلان قبل أن يوفك مالك فهو علي لأن موت المديون سبب لحلول الأجل وتوجه المطالبة بقضاء الدين فيجوز تعليق الكفالة به بخلاف ما إذا علقه بموت رجل آخر وإذا ادعى الكفيل بعد موته أو بعد حلول المال أن المطلوب قد كان قضاه قبل ذلك لم يصدق لأن السبب الموجب لتوجه المطالبة على الكفيل قد تقرر وقد يدعي مانعا ما لم يظهر وهو قضاء المطلوب حقه ولو ادعى المطلوب ذلك بنفسه لم يصدق إلا بحجة فكذلك إذا ادعاه الكفيل ولو كان حالا فقال إن لم يعطك(20/50)
ص -26- ... فلان مالك فهو علي فتقاضى الطالب المطلوب فلم يعطه ساعة تقاضاه فهو لازم الكفيل لأن الشرط امتناع المطلوب من الإعطاء وإنما يتحقق بعد ذلك التقاضي فكما تقاضاه وامتنع من الأداء فقد وجد شرط وجوب المال على الكفيل ولأن مقصود الكفيل من هذا دفع مؤنة كثرة التقاضي عن الطالب فإنه يتأدى بذلك وإنما يحصل ذلك إذا صار الكفيل ملتزما عند امتناع المطلوب بعد التقاضي.
وذكر عن شريح رحمه الله أنه قضى بكفالة وقال إن الكفيل غارم وفيه دليل جواز الكفالة مطلقا لكن لا يكون مستحق التسليم حتى يتحقق أن الكفيل غارم له وإذا كفل الرجل عن رجل بمال فللطالب أن يأخذ به أيهما شاء وبمطالبة أحدهما لا يسقط حقه في مطالبة الآخر بخلاف الغاصب مع غاصب الغاصب وقد بينا نوع فرق بينهما ونوع آخر وهو أن هناك الحق قبل أحدهما فيعين من عليه الحق باختياره وهنا أصل الدين بعد الكفالة على الأصيل كما كان قبله ألا ترى أنه يكتب في الصكوك لفلان على فلان كذا وفلان به كفيل وموجب الكفالة زيادة الحق للطالب في المطالبة وإنما يتحقق ذلك إذا توجهت المطالبة له عليهما فلا تكون مطالبة أحدهما مسقطه حقه في مطالبته الآخر فإذا أخذ الكفيل به كان للكفيل أن يأخذ المكفول به فيعامله بحسب ما يعامل وليس له أن يأخذ المال من الأصيل حتى يؤديه لأنه قبل الأداء مقرض للذمة فلا يرجع بالمال حتى يؤديه فحينئذ يصير به متملكا ما في ذمة الأصيل ولكن إن قضاه الأصيل فهو جائز لأن أصل الوجوب ثبت للكفيل على الأصيل وإن كان حق الاستيفاء متأخرا إلى أدائه وتعجل الدين المؤجل صحيح.(20/51)
فإذا قبضه الكفيل وتصرف فيه كان ما ربح حلالا له لأنه ملك المقبوض ملكا صحيحا فالربح الحاصل لديه يكون له ولو هلك منه كان ضامنا لأنه قبضه على وجه اقتضاء الدين الذي له على الأصيل وعلى وجه الاقتضاء يكون مضمونا على المقتضي ولو اقتضاه الطالب من الذي عليه وهو الأصيل فله أن يرجع على الكفيل بما أعطاه لأنه إنما أعطاه ذلك ليسلم له به ما في ذمته بأن يؤديه الكفيل عنه فإذا لم يسلم له كان له أن يرجع عليه بما أعطاه ولو لم يكن دفعه إلى الكفيل في الابتداء على طريق القضاء ولكن قال أنت رسولي بها إلى فلان الطالب فهلك من الكفيل كان مؤتمنا في ذلك لأنه استعمله حين بعث بالمال على يده إلى الطالب ولو استعمل في ذلك غيره كان أمينا فيه فكذلك إذا استعمل الكفيل حتى إذا أداه المطلوب إلى الطالب بعد ذلك لا يرجع على الكفيل بشيء.
وإن أدى الكفيل إلى الطالب رجع به على الأصيل فهلاك الأمانة في يده كهلاكها في يد صاحبها
ولو لم يهلك منه ولكنه عمل به وربح أو وضع كانت الوضيعة عليه لأنه مخالف بما صنع والربح له يتصدق به في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يطيب له بمنزلة المودع إذا تصرف في الوديعة وربح ولو كان الدين طعاما فأرسل به الأصيل مع الكفيل إلى الطالب فتصرف فيه الكفيل فربح فهذا والأول سواء ولو أعطاه(20/52)
ص -27- ... الطعام اقتضاء عما كفل به فباعه وربح فيه فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول الربح له ولو تصدق به كان أحب إلي وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يطيب له الربح فالحاصل أن الكفيل إن قضى الطالب طعامه فالربح يطيب له لأنه استربح على ملك صحيح له وإن قضى المطلوب طعامه حتى رجع على الكفيل بالطعام الذي أعطاه فالربح يطيب للكفيل في رواية كتاب البيوع لأن أصل ملكه كان صحيحا فبأن وجب عليه الرد بعد ذلك لا يمكن خبث في الربح وفي الجامع الصغير يقول يرد الأصل والربح على الأصيل عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه إنما رضي بتسليمه إليه بشرط ولم يسلم له ذلك الشرط ولكن مراده أن يفتي برد الربح عليه من غير أن يجبر عليه في الحكم وهنا قال يتصدق بالربح لأنه يمكن فيه نوع خبث حين كان قبضه بشرط ولم يسلم ذلك الشرط للمعطي فيؤمر بالتصدق به على سبيل الفتوى بخلاف ما تقدم من الدراهم فإنها لا تتعين في العقد فلم يكن ربحه حاصلا على عين المال المقبوض فأما الطعام يتعين فإنما ربح على غير المقبوض فيتمكن فيه الخبث من هذا الوجه.(20/53)
وإذا قال الرجل للرجل اكفل عني لفلان بكذا وكذا فهذا إقرار منه بالمال إن كفل به أو لم يكفل لأنه أمره بالكفالة عنه ولا تكون إلا بعد وجوب المال على الأصيل فإن الكفيل إما أن يلتزم المطالبة بما هو واجب على الأصيل أو يقرض ذمته على أن يثبت فيها ما هو واجب في ذمة الأصيل فيقتضي أمره بذلك الإقرار وجوب المال عليه والثابت بمقتضى النص كالثابت بالنص فكأنه قال لفلان علي ألف درهم فاكفل بها عني وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم إلى أجل فكفل بها عنه رجل ولم يسمه في الكفالة إلى أجل فالكفيل بها ضامن للأصيل وإن لم يسمه لأنه يلتزم المطالبة التي هي على الأصيل والمطالبة على الأصيل بهذا المال بعد حلول الأجل فكذلك على الكفيل أو يلتزم في ذمته ما هو ثابت في ذمة الأصيل والثابت في ذمة الأصيل مؤجل إلى سنة فكذلك لو كان في ذمة الأصيل زيوف تثبت في ذمة الكفيل بتلك الصفة وهذا بخلاف الشفيع إذا أخذ الدار بالشفعة والثمن مؤجل على المشتري لا يثبت الأجل في حق الشفيع لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وهو سبب مبتدأ لوجوب الثمن به على الشفيع فلا يثبت الأجل فيه إلا بالشرط فأما الكفالة فليست بسبب لوجوب المال بها ابتداء ولكنها التزام لما هو ثابت فلا يثبت إلا بتلك الصفة.
فإن مات الكفيل قبل الأجل فهو عليه حال يؤخذ من تركته لأنه بالموت استغنى عن الأجل ولأنه يتصور لإبقاء الأجل بعد موته لأن يد وارثه لا تنبسط في التركة لقيام الدين وربما يهلك قبل حلول الأجل والأجل كان لمنفعة من عليه الدين فإذا أدى إلى الضرر سقط ولكن لا يرجع ورثته على الذي عليه الأصيل حتى يحل الأجل لأن الأجل باق في حق الأصيل لبقاء حاجته حتى لا يطالبه الطالب بشيء فكذلك ورثة الكفيل ولو مات الأصيل قبل الأجل حلت عليه لاستغنائه عن الأجل ولم يحل على الكفيل لبقاء حاجته إلى الأجل.(20/54)
ص -28- ... وليس من ضرورة حلوله على الأصيل سقوط الأجل في حق الكفيل ألا ترى أنه لو كان أصل المال حالا ثم أجل الكفيل فيما عليه صح وبقي المال على الأصيل حالا والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم حالة فكفل بها رجل إلى سنة فهو جائز إلى ذلك الأجل وهذا تأخير عن الذي عليه الأصل قال ألا ترى أنه لو كان عليه ذكر حق بألف درهم وفلان كفيل بها إلى سنة كانت عليهما جميعا إلى سنة وعن زفر رحمه الله أن المال على الأصيل حال لأنه أجل الكفيل خاصة والتأجيل إسقاط للمطالبة إلى غاية فإذا كان إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل فالتأجيل في حق الكفيل لا يمنع كون المال حالا على الأصيل ولكنا نقول إنما أجل الطالب هنا أصل الدين لأن الهاء في قوله فكفل بها إلى سنة كناية عن أصل المال وإضافة التأجيل إلى أصل المال يثبت الأجل في حق الأصيل والكفيل جميعا حتى لو أجل الكفيل بما التزم بالكفالة يبقى المال حالا على الأصيل وهكذا يقول في الإبراء إذا أضافه إلى أصل المال يكون إبراء لهما وإذا أضافه إلى الكفيل خاصة يكون موجبا براءة الأصيل وإذا كفل له بألف درهم لفلان على أن يعطيها إياه من وديعة لفلان عنده فهو جائز لأنه قبل الالتزام بمحل مخصوص وهو أن يؤديه بما في يده وذلك صحيح في الكفالة والحوالة جميعا فإن هلكت الوديعة فلا ضمان على الكفيل لانعدام الجناية ولا فرق في حقه بين التزام أداء الوديعة إلى صاحبها أو غريم صاحبها بأمر صاحبها فإذا لم يضمن الوديعة فقد فات المحل الذي التزم فيه التسليم للطالب وقد بينا أن فوات المحل مبطل للكفالة.(20/55)
ولو كان لرجل عند رجل ألف درهم وديعة وعلى رب الوديعة ألف درهم دين وطلب من الذي عنده الوديعة التزام أداء ذمته بمحل مخصوص وهو تقييد مفيد في حقه حتى لا يكون ضامنا في ذمته شيئا بعد هلاك ذلك المال ثم ليس لصاحب الوديعة أن يأخذها من الكفيل لا عن حق الغريم وقد تعلق بها ولأنه التزم أداء دينه منها بأمره ولا يتمكن من ذلك إلا بعد كونها في يده فإذا هلكت بريء الكفيل منها لما بينا والقول قوله في أنها هلكت لأنه بقي أمينا في العين بعد هذه الكفالة كما كان قبلها فيكون مقبول القول في هلاكها وإن اغتصبها إياه رب الوديعة أو اغتصبها إياه إنسان آخر فاستهلكها بريء الكفيل لما بينا أن وجوب الأداء عليه كان مقصورا على العين ما بقيت في يده فإنه ما التزم في ذمته شيئا فإذا لم تبق العين في يده لا يكون ضامنا شيئا وكذلك لو ضمن له ألف درهم على أن يعطيها إياه من ثمن هذه الدار فلم يبعها لم يكن عليه ضمان لأنه التزم الأداء من محل مخصوص وهو ثمن الدار ولا يحصل ثمن الدار في يده ما لم يبع الدار وهو لم يلتزم بيعها على ذلك فلهذا لا يطالب بشيء ما لم يبع الدار ويقبض الثمن.
ولو كفل رجل عن رجل بمال على أن يجعل له جعلا فالجعل باطل هكذا روي عن إبراهيم رحمه الله وهذا لأنه رشوة والرشوة حرام فإن الطالب ليس يستوجب بهذه الكفالة(20/56)
ص -29- ... زيادة مال فلا يجوز أن يجب عليه عوض بمقابلته ولكن الضمان جائز إذا لم يشترط الجعل فيه وإن كان الجعل مشروطا فيه فالضمان باطل أيضا لأن الكفيل ملتزم والالتزام لا يكون إلا برضاه ألا ترى أنه لو كان مكرها على الكفالة لم يلزمه شيء فإذا شرط الجعل في الكفالة فهو ما رضي بالالتزام إذا لم يسلم له الجعل وإذا لم يشترطه في الكفالة فهو راض بالالتزام مطلقا فيلزمه وكفالة المرتد موقوفة عند أبي حنيفة رحمه الله بنفس كانت أو بمال كسائر تصرفاته وكفالة المرتدة جائزة وإن ماتت على الردة كسائر تصرفاتها فإنها لا تقبل بخلاف الرجل وهذا فرق ظاهر في السير فإن لحقت بدار الحرب وسبيت بطلت الكفالة بالنفس دون المال لأنها لما لحقت وسبيت فكأنها ماتت ألا ترى أن مالها لورثتها وموت الكفيل يبطل الكفالة بالنفس دون المال وفي الكتاب قال هي بمنزلة أمة كفلت بنفس لأن الكفالة بالنفس لما كانت لا تتحول إلى المال وقد صارت هذه أمة بالاسترقاق فكأنها كفلت ابتداء وهي أمة فلا تطالب بذلك لحق مولاها وأما الكفالة بالمال فقد تحولت إلى ما خلفت من المال فكأن وارثها مطالبا بقضاء ذلك ولكن التعليل الأول أصح لما ذكر بعد هذا.(20/57)
قال وإن أعتقت يوما من الدهر لم تؤخذ بالكفالة بالنفس ولا بالمال وقد أبطل السبي كل كفالة وكل حق قبلها ولو كان هذا بمنزلة ابتداء الكفالة منها وهي أمة كانت تؤخذ بذلك بعد العتق فعرفنا أنه لما تبدلت نفسها بالرق كان ذلك بمنزلة موتها على ما قيل الحرية حياة والرقية تلف فبطلت الكفالة بالنفس أصلا وتحول المال إلى مال فلا يعود شيء من ذلك إليها بعد العتق ولو كفل مسلم بنفس مرتد في دين عليه فلحق بدار الحرب أو ارتد بعد الكفالة ولحق كان الكفيل على كفالته وقد بينا هذا الفصل بفروعه في أول الكتاب فإن كانت امرأة فسبيت بطلت الكفالة عنها بالنفس دون المال لأنها حين سبيت فقد سقطت عنها المطالبة بالحضور فيسقط عن الكفيل ما التزم من الإحضار.
توضيحه أنها لما تبدلت نفسها بالاسترقاق فكأنها ماتت وموت المكفول عنه بنفسه يبطل الكفالة ولكن الكفيل مأخوذ بقضاء ذلك الدين فإذا أداه رجع به فيما تركت في دار الإسلام لأنه دين مؤجل كان له عليها بمنزلة سائر ديونها فإن لم يكن شيء تركت وأدى الكفيل ذلك ثم إن عتقت يوما لم يتبعها من ذلك بشيء لأن السبي أبطل عنها كل دين فإن نفس المسبي تتبدل بالاسترقاق من صفة المالكية إلى المملوكية والدين لا يجب على المملوك إلا شاغلا لماليته وهذا الدين حين وجب لم يكن شاغلا لشيء سوى الذمة وقد تعذر إبقاؤه بتلك الصفة فلهذا سقط عنها وكذلك الذمي والذمية إذا انقضى العهد ولحقا بالدار وقد كفل رجل عنهما بنفس أو مال فإن الكفيل يؤخذ بذلك فإن ماتا أو سبيا بطلت الكفالة بالنفس دون المال فإن أداه ثم عتقا لم يرجع عليهما به لما بينا في المرتدة ولا تجوز كفالة المرتد عن الذمي بالخمر والخنزير لأن حكم الإسلام باق في حق المرتد فإنه مجبر على العود إلى الإسلام غير مقر على ما اعتقده فكما لا تجوز كفالة المرتد بالخمر فكذلك كفالة(20/58)
ص -30- ... المرتد وعلى هذا لو استهلك المرتد خمر الذمي كان عليه قيمتها كما لو استهلكها مسلم فإن كفل بها عنه مسلم جاز لأن القيمة الواجبة عليه دراهم أو دنانير ولو كفل مسلم لمرتد بنفس أو مال ثم لحق المرتد بدار الحرب كان ورثته على حقه من الكفالة لأنهم يخلفونه في حقوقه بعد لحاقه كما يخلفونه في أملاكه. فإن رجع ثانيا كان له أن يأخذ الكفيل بالنفس والمال لأن ما كان قائما من حقوقه يعود إليه إذا رجع ثانيا بمنزلة ما هو قائم من أملاكه وإن كان ورثته قد استوفوا بقضاء القاضي فالكفيل من ذلك بريء بمنزلة ما هلك من ماله وهذا لأن الأداء إلى وارثه بقضاء القاضي بمنزلة الأداء إليه فيبرأ الكفيل به وكفالة المستأمن والكفالة له بمال أو نفس جائزة لأنه من المعاملات وإنما دخل دارنا بأمان ليعاملنا ففي المعاملات يستوي بنا فإن لحق بداره ثم خرج مستأمنا فالكفالة بحالها لأنه باللحاق صار من أهل دار الحرب حقيقة بعد أن كان من أهلها حكما فهو قياس ما بينا في المرتد وإن أسر بطلت الكفالة فيما له لأن نفسه قد تبدلت بالأسر وذلك مبطل لحقوقه ولم يخلفه ورثته في ذلك بخلاف المرتدة على ما بينا.
فأما فيما عليه فتبطل الكفالة بالنفس لتبدل نفسه بالأسر كما في المرتدة وبالمال كذلك هنا لأن في المرتدة المال يتحول إلى ما خلفت وليس هنا محل هو خلف عنه فلهذا بطلت الكفالة بالمال أيضا ومكاتب الحربي إذا كان مستأمنا في دار الإسلام وعبده بمنزلة عبيد أهل الذمة ومكاتبهم في جميع ذلك لأن في المعاملات هم بسبب عقد الضمان يكونون بمنزلة أهل الذمة فكذلك عبيدهم ومكاتبوهم والله أعلم بالصواب.
باب كفالة الرهط بعضهم عن بعض(20/59)
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه ثلاثة نفر وبعضهم كفيل عن بعض وكلهم ضامنون ذلك فهو جائز لأن كل واحد منهم كفيل عن الأصل بجميع المال وذلك جائز فإن الكفالة للتوثق بالحق وهو يحتمل التعدد ثم كفل كل واحد منهم عن الآخرين بما لزمهما بالكفالة والكفالة عن الكفيل صحيحة لأن الكفيل مطلوب بما التزمه وشرط صحة الكفالة أن يكون المكفول عنه مطلوبا بما التزمه الكفيل لأن موجب الكفالة التزام المطالبة بما على الأصيل فإن أدى أحد الكفلاء المال كان له أن يرجع على الأصيل بالمال كله إن شاء لأنه أدى ما تحمل عنه بأمره وإن شاء رجع على شريكيه فإن الكفالة بثلثي المال لأنهم في حكم الالتزام بهذه الكفالة سواء فينبغي أن يستووا في الغرم وإن شاء أخذ أحدهما بالنصف لأنه إذا لقي أحدهما قال له أنا وأنت في غرم الكفالة سواء لأنا جميعا كفيلان عن الأصيل وعن الثالث أيضا فهات نصف ما أديت لنستوي في الغرم ثم إذا رجع عليه بالنصف رجعا على الثالث إذا لقياه بثلث المال فيأخذان ذلك نصفين ليستوي هو بهما في عدم الكفالة ثم يرجعون على الأصيل بالمال كله لأنهم كفلوا عنه بأمره وأدوه.
ولو كان ثلاثة نفر عليهم ألف درهم وبعضهم كفيل عن بعض فأدى المال أحدهم,(20/60)
ص -31- ... فإن للمؤدي أن يرجع على كل واحد من الآخرين بالثلث إن شاء لأن كل واحد منهم أصيل في ثلث المال والمؤدي قد كفل عن كل واحد منهما في ذلك الثلث بأمره وإن شاء رجع على أحدهما بالنصف أما الثلث فلأنه كفل عنه وأدى وأما السدس فلأن المؤدي مع الذي لقيه كفيلان عن الثالث بما عليه وهو الثلث فينبغي أن يكون غرم هذه الكفالة عليهما على السواء فيرجع عليه بنصف هذا الثلث لتتحقق المساواة بينهما في الغرم ثم يرجعان على الثالث إذا لقياه بالثلث فيأخذان ذلك بينهما نصفين وفي الكتاب ذكر عن عبد الله بن الجلاب أنه باع قوما غنما على أن يأخذ أيهم شاء بحقه فأبى شريح رحمه الله ذلك وقال اختر أملاهم فخذه حتى تستوفي منه حقك وإنما أوردنا هذا لنبين أنه يجوز أن يكون المال عليهم ويكون بعضهم كفيلا عن بعض بما على كل واحد منهم لما في هذا من زيادة التوثق لحق صاحب الحق فإن بدون هذه الكفالة لم يكن له أن يطالب كل واحد منهم إلا بما عليه وهو الثلث وبعد هذه الكفالة له أن يطالب أيهم شاء بجميع المال مع بقاء حقه في المطالبة الأصلية وهو أن يطالب كل واحد منهم بالثلث ولا فرق في هذا الحكم بين أن يشترط أن يأخذ أيهم شاء بحقه كما ذكر في الحديث وبين أن يشترط أن بعضهم كفيل عن بعض بالمال أو لم يقل بالمال لأن ذلك معلوم بدلالة الكلام وإن كان قال مليئهم على معدمهم أو حيهم على ميتهم فليس هذا بشيء ولا يطالب كل واحد منهم إلا بثلث المال لأن هذه كفالة بالمجهول على المجهول ولا يدري من يفلس منهم ليكون المليء كفيلا عنه ولا من يموت منهم ليكون الحي كفيلا عنه فإن حرف على في هذه المسائل بمعنى عن كقوله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[سورة المطففين, آية:2] أي عن الناس وكفالة المجهول باطلة وإذا كان لرجل على أربعة نفر ألف درهم ومائتا درهم وكل اثنين منهم كفيلان عن اثنين بجميع المال فإن للطالب أن يأخذ أي اثنين منهم بجميع المال(20/61)
إن شاء وأن يأخذ الواحد منهم بسبعمائة وخمسين درهما أما أخذه اثنين منهم بجميع المال فظاهر لأن الكفالة كانت على هذه الصفة أن كل اثنين كفيلان بجميع المال عن الآخر فأي اثنين منهم شاء فهما كفيلان بجميع المال وأما إذا أخذ الواحد منهم ففي ربع المال وهو ثلاثمائة هو أصيل فيطالبه بذلك وفي الباقي وهو تسعمائة هو مع واحد من الآخرين كفيل لأن الشرط في الكفالة كان هكذا.
وإنما يكون هو مطالبا بالكل إذا التزم الكل بالكفالة فأما إذا التزم الكل بالكفالة مع آخر لم يكن هو مطالبا إلا بالنصف وذلك أربعمائة وخمسون فإذا ضممت ذلك إلى ثلاثمائة يكون سبعمائة وخمسين فلهذا يأخذ الواحد بهذا المقدار فإذا أدى أحدهم نصف المال ستمائة ففي هذا النصف هو مؤد عن نفسه فلا يرجع على أحد بشيء منه وفي النصف الآخر وهو ثلاثمائة هو مؤد عن شركائه بحكم الكفالة عنهم بأمرهم فإن شاء رجع عليهم جميعا وإن لقي أحدهم رجع عليه بمائتي درهم لأن ثلث هذه الثلاثمائة وهو مائة أداها عنه فيرجع(20/62)
ص -32- ... هو بها عليه بقي مائتا درهم وهو مع هذا الذي لقيه كفيلان عن الآخرين بهما فيرجع عليه بمائة أخرى ليستويا في غرم الكفالة عن الآخرين فلهذا رجع عليه بمائتين وإن لقيا آخر كان لكل واحد منهما أن يرجع بستة وستين درهما وثلثين إما ليستووا في غرم المائتين أو لأن كل واحد منهما مؤد عنه خمسين فيرجع بذلك عليه بقي مائة أخرى هما مع هذا الثالث كفيلان بذلك عن الرابع وقد أديا فيرجعان عليه بثلث ذلك وهو ثلاثة وثلث كل واحد منهما بستة عشر وثلثين فصار حاصل ما يرجع به كل واحد منهما عليه ستة وستين وثلثين فإن لقوا الرابع بعد ذلك رجع كل واحد منهم عليه بثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم لأنهم أدوا عن الرابع قدر المائة فيرجع كل واحد منهما بثلثها ولو كان أدى النصف ولقي أحدهم فأخذ منه مائتي درهم ثم لقي صاحب المائتين أحد الباقين فإنه يأخذ منه خمسة وسبعين درهما لأنه يقول له إنما أديت المائة عن نفسي ومائة أخرى عنك وعن الرابع فإنما أديت نصفها عنك والنصف الآخر الذي أديته عن الرابع أنت معي فيه في الكفالة بذلك على السواء فأرجع عليك بنصف ذلك أيضا فلهذا يأخذ منه خمسة وسبعين فإن لقي الأول الثالث أيضا أخذه باثنين وستين درهما ونصف لأنه يقول له قد أديت عنك وعن الرابع مائة فارجع عليك بنصف ذلك وذلك خمسون لأني أديتها عنك وأما الخمسون التي أديتها عن الرابع فنصف ذلك قد أخذه منك الثاني وهو خمسة وعشرون فرجوعنا بذلك عليه بقي خمسة وعشرون فأرجع عليك بنصف ذلك وهو اثنا عشر ونصف لنستوي في غرم الكفالة عن الرابع فصار حاصل ما يرجع عليه به اثنين وستين درهما ونصف درهم فإن لقيهما الأوسط رجعا عليه بثمانية وثلث بينهما نصفين ليستووا في الغرم في حق الخمسين التي كفلوا بها عن الرابع فإن لقوا الآخر بعد ذلك أخذوه بمائة درهم لأنهم في الحاصل كفلاء عنه بالمائة وقد أدوا فيأخذون ذلك منه ويقتسمونه أثلاثا لأن حاصل ما غرم كل واحد منهم عنه بعد هذه(20/63)
المراجعات ثلاثة وثلاثون وثلث.
ولو كان الذي أدى النصف لقي الذي قبض الخمسة والسبعين فإنه يأخذ منه نصفها لأنا كنا قد التقينا مرة واستوينا في غرم الكفالة وقد بلغني أنه وصل إليه شيء من الثالث فلا بد من أن يعطيني نصف ذلك لنستوي في الغنم كما استوينا في الغرم فإذا أخذ منه نصفها ثم لقيا الذي أدى الخمسة والسبعين رجعا عليه بثمانية وخمسين وثلث بينهما نصفان لأنا قد بينا أنهما لو لقياه معا رجع كل واحد منهما عليه بستة وستين وثلثين فيكون جملة ما يرجعان به مائة وثلاثة وثلاثين وثلثا والآن قد استوفينا منه مرة خمسة وسبعين فيرجعان بما بقي إلى تمام مائة وثلاثة وثلاثين وثلث وذلك ثمانية وخمسون وثلث يأخذان ذلك بينهما نصفين ثم إذا لقوا الرابع اتبعوه بمائة كل واحد منهم بثلاثة وثلاثين وثلث لما بينا.
ولو كان لرجل على ثلاثة رهط ألف ومائتا درهم وبعضهم كفلاء عن بعض ضامنون لها فأدى أحدهم المال رجع على كل واحد من شريكيه بثلث ما أدى لأنه في مقدار الثلث(20/64)
ص -33- ... مؤد عن نفسه وفي الثلثين هو مؤد عن شريكيه بكفالته عنهما بأمرهما فيرجع بذلك عليهما فإن لقي أحدهما ورجع عليه بالثلث لأدائه ما يحمله عنه وبنصف الثلث الآخر أيضا لأنهما يستويان في الكفالة عن الثالث بهذا الثلث فيرجع عليه بنصفه ليستويا في غرم الكفالة فإن لقي أحدهم الغائب بعد ذلك وأخذ منه شيئا كان لصاحبه إذا لقيه أن يأخذ منه نصف ذلك بالمعنى الذي قلنا وهو أنهما حين التقيا قد استويا في غرم الكفالة عن الثالث فينبغي أن يستويا في الغنم أيضا والذي أخذه أحدهما من الثالث غنم بسبب تلك الكفالة فيرجع عليه بنصفه ليستويا في الغنم أو لتبقى المساواة بينهما في الغرم كما هو موجب الكفالة.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه رجل ثم أن آخر كفل بها عن الأصيل أيضا فهو جائز يأخذ الطالب أيهما شاء بجميع المال لأن كل واحد منهما التزم جميع المال بالكفالة عن الأصيل بعقد على حدة وذلك صحيح فإن أصل الدين باق على الأصيل بعد الكفالة الأولى كما كان قبلها فإن أخذ أحد الكفيلين فأداه لم يرجع على الآخر بشيء لأنه ما كفل عنه بشيء وإنما كفل عن الأصيل بعقد باشره وحده فيكون رجوعه عليه إن كان كفل بأمره ولا يرجع على الكفيل الآخر بشيء وإن لم يؤد واحد منهما شيئا حتى قال الكفيلان للطالب كل واحد منا كفيل عن صاحبه ضامن لهذا المال ثم أدى أحدهما المال فله أن يرجع على صاحبه بالنصف لأنهما بالعقد الثاني جعلا أنفسهما في غرم الكفالة سواء فإن كل واحد منهما كفيل بالمال عن الأصيل وقد كفل عن صاحبه أيضا بأمر صاحبه فإذا ثبتت المساواة بينهما في الكفالة فينبغي أن يستويا في الغرم أيضا وذلك في أن يرجع على الآخر بنصف ما أدى ثم يرجعان على الأصيل بجميع المال.(20/65)
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه بأمره رجل ثم أن الطالب أخذ الكفيل بها فأعطاه كفيلا آخر بها ثم أداها الآخر إلى الطالب لم يرجع بها على الأصيل لأنه ما تحمل بها عن الأصيل ولا أمره الأصيل بهذه الكفالة وثبوت حق الرجوع للكفيل عند الأداء بسبب الأصيل بالكفالة فإنما يرجع على من أمره به وهو الكفيل الأول ثم الكفيل الأول يرجع على الأصيل لأن أداء كفيله بأمره بمنزلة أدائه بنفسه ولأنه قد أسقط عن الأصيل مطالبة الطالب بهذا المال بما أداه من مال نفسه إلى الكفيل الآخر فكأنه أسقط ذلك بأدائه إلى الطالب وإن كان كفل عن الذي عليه الأصل رجلان ولم يقل كل واحد منهما كفلت عن صاحبي فإن الطالب يطالب كل واحد منهما بالنصف لأنهما التزما المال بعقد واحد فيكون كل واحد منهما ملتزما للنصف كالمشتريين أو المقرين لرجل عليهما بالمال وأيهما أدى النصف لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه ما التزم عن صاحبه شيئا إنما التزم عن الأصيل فيكون رجوعه عليه إن كان كفل عنه بأمره فإن لم يؤديا شيئا حتى قالا للطالب أينا شئت أخذت بهذا المال أو كل واحد منا كفيل ضامن بها فله أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال لأن هذه الزيادة ألحقتها بالكفالة الأولى وقد صحت منهما فصارت كالمذكور في أصل الكفالة الأولى(20/66)
ص -34- ... أخذ أيهما شاء بجميع المال وإن أداه أحدهما رجع على صاحبه بالنصف ليستويا في غرم الكفالة كما استويا في كفالة كل واحد منهما عن صاحبه.
فإن لقي الطالب أحدهما فاشترط ذلك عليه مثل ذلك بأمر صاحبه فهو سواء لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه وعن الأصيل ولا فرق بين أن يكون كفالة كل واحد منهما عن الأصيل ولو كتب ذكر حق على رجل بألف درهم وفلان وفلان كفيلان بهما وأيهما شاء أخذ بها وأقر المطلوب والكفيلان بذلك فهو جائز لأن إضافتهما الإقرار إلى المكتوب في ذكر الحق بمنزلة تصريحهما بالمكتوب فإن أدى أحد الكفيلين المال رجع على الذي عليه الأصل بجميع المال إن شاء وإن شاء رجع على الكفيل الآخر بنصفه ثم يرجعان على الأصيل بجميع المال لأن إقرار كل واحد منهم بالمكتوب في الصك بمنزلة أمر الأصيل لهما بالكفالة عنه وأمر كل واحد منهما لصاحبه بالكفالة عنه فثبتت المساواة بينهما في الكفالة بهذا الطريق.(20/67)
وإذا كان لرجل على عشرة رهط ألف درهم وجعل كل أربعة كفلاء عن أربعة بجميع المال فهو جائز لما قلنا وله أن يأخذ أي أربعة شاء بالمال كله لأنهم هكذا التزموا بالكفالة فإن أخذ واحدا منهم رجع بثلثمائة وخمسة وعشرين لأنه في المائة أصيل وفي الباقي وهو سبعمائة هو مع ثلاثة نفر كفيل عن الباقين فحظه ربع ذلك وذلك مائتان وخمسة وعشرون وإن أخذ اثنين أحدهما بستمائة لأنهما في المائتين أصيلان وفي الباقي وهو ثمانمائة هما مع آخرين كفيلان عن الباقين فحظهما النصف وهو أربعمائة وإن أخذ ثلاثمائة منهم أخذهم بثمانمائة وخمسة وعشرين أما مقدار ثلاثمائة بحكم الأصالة فإن كل واحد منهما أصيل في مائة والباقي وهو سبعمائة هم مع آخر كفلاء بذلك عن الباقين فعليهم ثلاثة أرباع ذلك وهو خمسمائة وخمسة وعشرون فإن أخذ واحدا منهم فأدى ربع الألف فإن مائة منها حصته لأنه أصيل فيها والأصيل فيما يؤدي عن نفسه لا يرجع على أحد وفي مائة وخمسين هو مؤد عن أصحابه حصة كل واحد منهم من ذلك التسع فإن لقيهم جميعا رجع على كل واحد منهم بقدر ذلك من تسعمائة وخمسين ستة عشر وثلثان وإن لقي أحدهم رجع أحدهم بستة عشر وثلثين لأنه أدى عنه هذا القدر ويرجع عليه بنصف ما بقي والباقي مائة وثلاثة وثلاثون وثلث نصفه ستة وستون وثلثان يرجع عليه بذلك ليستويا في غرم الكفالة فإنهما مستويان في الكفالة عن الباقين فينبغي أن يستويا في الغرم بسببه أيضا فإذا أدى ذلك إليه ثم لقي الآخر منهما أحد الباقين أخذه بنصف تسع الخمسين والمائة لأنه مع الأول قد أديا عنه التسع فنصفه من ذلك نصف التسع فيرجع عليه أيضا بنصف ثلاثة أتساع ونصف لأنه مع هذا الذي لقيه مستويان في الكفالة فينبغي أن يستويا في الغرم عن السبعة الباقين وهذا قد أدى عنهم ثلاثة أتساع ونصفا فيرجع عليه بنصف ذلك ليستويا في غرم الكفالة فإن لقي الأول الأوسط بعد ما قبض هذا رجع عليه بنصف ما أخذه كله للمعنى الذي بينا أنهما حين(20/68)
التقيا استويا في غرم(20/69)
ص -35- ... الكفالة ثم وصل إلى أحدهما بعد ذلك شيء وأخذ الآخر منه نصفه ليستويا في الغنم أيضا فإن لقيا الآخر بعد ذلك وهو الثالث رجعا عليه بتمام ثلاثة أتساع وثلث تسع حصته من ذلك التسع لأنهما تحملاه عنه وتسعان وثلث للمساواة في غرم الكفالة لأنهم مع آخر كفلاء عن الباقين فينبغي أن يستويا في غرم الكفالة.
ألا ترى أنهما لو لقيا الثالث معا كان رجوعهما عليه بتمام ثلاثة أتساع وثلث تسع فكذلك إذا أخذ أحدهما منه بعض ذلك ثم لقياه رجعا عليه بذلك وإذا كان لرجل على ثلاثة رهط ألف درهم وبعضهم كفلاء عن بعض بها فأدى أحدهم مائة درهم لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه في قدر ثلث المال أصيل فما يؤديه يكون أصيلا فيه فلا يرجع على أحد بشيء إذا كان المؤدى بقدر الثلث أو دونه.(20/70)
وإن قال إنما أديت هذا عن صاحبي أو عن أحدهما لم يكن له ذلك على وجهين أحدهما أن فيما هو أصيل المال ثابت في ذمته وفيما هو كفيل هو مطالب بما في ذمته غيره من المال والمؤدى ماله فيكون إيقاعه من المال الذي عليه ليسقط عنه به أصل المال أولى لأن هذا الطريق أقصر فإنه إذا جعل المؤدى من غيره احتاج إلى الرجوع وإذا جعل مؤديا عن نفسه لا يحتاج إلى الرجوع على أحد ولأنه إن جعل المؤدى عن صاحبيه كان لهما أن يقولا أداؤه بالكفالة بأمرنا بمنزلة أدائنا ولو أدينا كان لنا أن نجعل المؤدى عنك فلا يزال يدور هكذا فلهذا جعلناه إلى تمام الثلث مؤديا عن نفسه وهذا بخلاف ما إذا كاتب عبيدا له على ألف درهم على أن كل واحد منهم كفيل ضامن عن الآخرين ثم أدى أحدهم شيئا لا يكون المؤدى عن نفسه خاصة بل يكون عنهم جميعا لأن هناك لو جعلنا المؤدى عن المؤدي خاصة لكان يعتق إذا أدى مقدار نصيبه ببراءة ذمته عما عليه من البدل والمولى ما رضي بعتق واحد منهم إلا بعد وصول جميع المال إليه ففي جعله عن نفسه يعتبر شرط مذكور في العقد نصا وذلك لا يجوز فلهذا جعلنا المؤدى من نصيبهم ولا يوجد مثل ذلك هنا وهذا أيضا بخلاف ما إذا كان المال على واحد فكفل به ثلاثة على أن بعضهم كفلاء عن بعض ثم أدى أحدهم شيئا كان له أن يرجع على صاحبيه بثلثي ما أدى وإن شاء رجع على أحدهما بنصف ما أدى لأن هناك أصل المال على غيرهم وهم يلتزمون له بالكفالة فكان حالهم في ذلك على السواء ولو رجع على شريكيه بثلثي ما أدى لم يؤد ذلك إلى الدور لأنهما لا يرجعان في ذلك عليه بشيء من ذلك بخلاف ما نحن فيه على ما قدرنا فإن أدى زيادة على الثلث كانت الزيادة على صاحبيه نصفين لأنه في الزيادة على الثلث مؤد بحكم الكفالة وهو كفيل عنهما ولو رجع بذلك عليهما لم يكن لهما أن يرجعا عليه بشيء لفراغ ذمته عما عليه بأدائه وإن أراد أن يجعل الزيادة عن أحدهما دون صاحبه لم يكن له ذلك لأن المال واحد وهو(20/71)
دين في الذمة لا يتحقق فيه التمييز فتلغو نيته عن أحدهما.
فإن لقي أحدهما أخذه بنصيبه من الزيادة وهو النصف لأنه أدى عنه ذلك وبنصف ما(20/72)
ص -36- ... أدى عن الآخر أيضا لأنه مع هذا الذي لقيه كفيل عن الآخر بما عليه فينبغي أن يستويا في غرم الكفالة وذلك في أن يرجع عليه بنصف ما أدى عن الآخر وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه رجلان على أن يأخذ الطالب أيهما شاء فأدى أحدهما مائة فقال هذه من حصة صاحبي الكفيل معي لم يكن على ما قال ولكنها من جميع المال يرجع على صاحبه بنصفها لأن بهذا اللفظ يصير كل واحد منهما مطالبا بجميع المال ويصير كل واحد منهما ضامنا للأصيل عن صاحبه فإذا جعل المؤدي ما أدى عن صاحبه كان لصاحبه أن يجعل ذلك عنه فيؤدي إلى الدور ولكن الوجه فيه أنهما لما استويا في الغرم وذلك في أن يرجع على صاحبه بنصفها وإن شاء رجع على الأصيل بجميعها وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فلزم أحدهما فأعطاه بها كفيلا ثم أداها الكفيل فله أن يرجع بها على الذي أمره بالكفالة خاصة لأن الذي أمره بالكفالة مستقرض لذمته ابتداء بالتزام المطالبة فيها ولما له بأداء ما التزم وثبوت حق الرجوع للمقرض على المستقرض لا على غيره.(20/73)
والغريم الذي لم يأمره بالكفالة لم يستقرض منه شيئا ففي حقه يجعل كأنه لم يأمره أحد بالكفالة فلهذا لا يرجع المؤدي عليه ولكن إذا رجع على الذي أمره بالكفالة فأخذها منه كان للآمر أن يرجع على صاحبه بالنصف لأنه صار مؤديا المال بطريق الاستقراض الذي قلنا وقد تم ذلك بأدائه ما استقرض وهو في النصف كان كفيلا بأمره فيرجع عليه بعد الأداء كما لو كان أدى بنفسه إلى الطالب وإن كانا طلبا إليه أن يكفل بها عنهما ففعل ولم يشترط عليه أن بعضهم كفلاء عن بعض فأداها الكفيل عنهما رجع على كل واحد منهما بالنصف لأنه لما التزم بالكفالة المال عنهما جملة كان كفيلا عن كل واحد منهما بنصف المال كما هو قصد مطلق الإضافة إلى اثنين وعند الأداء إنما يرجع كل واحد منهما بما كفل عنه ولأن كل واحد منهما في النصف أصيل وكفالته عنه إنما تكون فيما هو أصيل فيه ولو كان في الشرط حين كفلوا بعضهم كفلاء عن بعض فأدى الآخر الألف فإن شاء رجع على كل واحد منهما بنصف ما أدى إذا لقياهما وإن شاء رجع على أحدهما إذا لقيه بثلاثة أرباع ما أدى.. أما النصف فلأنه كفل به عن هذا الذي لقيه وأداه فيرجع به عليه وأما النصف الآخر فلأن المؤدي مع الذي لقيه كفيلان به عن الآخر إذ هو موجب الشرط المذكور في قوله على أن بعضهم كفلاء عن البعض فينبغي أن يستويا في الغرم بسبب هذه الكفالة وذلك في أن يرجع بنصف ذلك ثم إذا لقيا الثالث رجعا عليه بنصف المال لأنهما أديا ذلك عنه بكفالة تلزمه فيكون ذلك بينهما نصفين.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه بها فأخذ الطالب أحدهما فأعطاه كفيلا بالمال كله ثم أخذ الآخر فأعطاه ذلك الكفيل بالمال ثم أدى الكفيل المال فله أن يرجع على أيهما شاء بالألف كلها لأن كل واحد منهما كان مطلوبا بجميع المال والكفيل كفيل عن كل واحد منهما بجميع المال بعقد على حدة فعند الأداء(20/74)
ص -37- ... كان حق البيان إليه يجعل أداؤه عن أيهما شاء فيرجع عليه بالكل وهو نظير ما لو كان لرجل على رجل ألف درهم في صك وبه رهن وألف في صك آخر وبه رهن آخر فأدى ألف درهم كان له أن يجعل ذلك عن أي الصكين شاء فيسترد ذلك الرهن فكذلك إذا أدى الكفيل هنا.
ألا ترى أنه بعد كفالته عنه لو أدى كان له أن يرجع بالكل عليه فلا يتغير ذلك الحكم بالكفالة عن الثاني ولكن يثبت في حق الثاني ما هو ثابت في حق الأول لاستوائهما في المعنى فإن لم يؤد شيئا حتى لزمهم الطالب فجعل بعضهم كفلاء عن بعض ثم أداها الكفيل ثم أخذ أحدهما رجع عليه بثلاثة أرباع المال لأن هذه الكفالة الأخيرة تنقض ما كان قبلها لأن التي كانت قبلها في عقدين مختلفين والكفيل كفيل عن كل واحد منهما بالكل وهذا الثاني عقد واحد وكل واحد منهم فيه كفيل مع صاحبه عن الآخر فإقدامهم على العقد الثاني يكون نقضا منهم لما كان قبله وتمام ذلك العقد كان بهم وإليهم نقضه أيضا بمنزلة ما لو باعه شيئا بألف درهم ثم جدد بيعا بألفين ينتقض البيع الأول بالبيع الثاني فإذا ثبت هذا صارت هذه المسألة بحالها والمسألة الأولى سواء لأن الكفيل الآخر يرجع على أحدهما بنصف ما أدى لكفالته عنه وبنصف النصف الآخر لأنهما مستويان في الكفالة عن الثالث بهذا النصف.(20/75)
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه رجلان على أن بعضهم كفيل عن بعض ثم أن الطالب لزم أحد الكفيلين فأعطاه كفيلا بالمال ثم لزم الآخر فأعطاه هذا أيضا كفيلا بالمال ثم أدى الكفيل الآخر فإنه يرجع به على أيهما شاء لأن الكفالة عن الكفيلين بمنزلة الكفالة عن الأصيلين وهنا كل واحد من الكفيلين مطالب بجميع المال وقد بينا أن هناك لتفرق العقد في كفالته عنهما له أن يرجع على أيهما شاء بجميع المال فهذا مثله وليس له أن يرجع على الأصيل بشيء لأنه ما أمره بالكفالة عنه ولا يقال أصل المال على الأصيل حتى لو بريء هو بريء الكفيل الآخر وهذا لأن الرجوع عليه عند الأداء ليس باعتبار أن أصل المال عليه بل بأمره إياه بالكفالة فإذا لم يأمره بالكفالة لم يكن له حق الرجوع عليه بشيء ولو لم يؤد شيئا حتى أخذ الطالب الكفلاء فجعل بعضهم كفيلا عن بعض ثم أدى الآخر المال كان له أن يرجع على أحد الكفيلين بثلاثة أرباع المال لما بينا أن هذه الكفالة تنقض الكفالة الأولى فيكون الحكم لهذه فإن قيل هذه الكفالة ينبغي لأحدهما أن يكون رجوعه على الآخر بنصف ما أدى لأن واحدا من الثلاثة ليس بأصيل بالمال فيكون بمنزلة ما لو كفل ثلاثة نفر عن الأصيل على أن بعضهم كفلاء عن بعض.
قلنا هذا أن لو صار الآخر كفيلا عن الأصيل مع الأولين بمنزلة ما لو كفلوا عنه في الابتداء ولم يصر كذلك هنا بل بقي كفيلا عن الأولين وإنما انتقض حكم الكفالة الأولى فيما بينهما وبين الكفيل الآخر لأنه قبل هذا كان كفيلا عن واحد منهما بجميع المال وحده والآن صار كفيلا عن كل واحد منهما بالنصف وهو مع صاحبه في الكفالة عن الآخر بالنصف سواء فلهذا كان رجوعه عليه بثلاثة أرباع ما أدى ولو لم يؤد حتى لقي الكفلاء الثلاثة والذي عليه(20/76)
ص -38- ... الأصل فجعل بعضهم كفلاء عن بعض بالمال ثم أدى الكفيل الآخر المال فإنه يرجع على صاحبه بالثلثين
وإن لقي أحدهما رجع عليه بالنصف لأن بهذه الكفالة انتقض ما كان قبلها في حق الكل وقد صار الكفيل الأول والآخر كفيلين عن الأصيل بهذه الكفالة كالأولين فكان هذا بمنزلة ما لو كفل عنه ثلاثة في الابتداء على أن بعضهم كفلاء عن بعض فهناك إذا أدى أحدهم رجع على صاحبيه بثلثي ما أدى وإن لقي أحدهما رجع عليه بنصف ما أدى فكذلك هنا.
وكذلك لو أدى المال أحد الكفيلين الأولين رجع على كل واحد منهما بالثلث وعلى أحدهما إن لقيه بالنصف لأن الأولين والآخر في هذه الكفالة التي هي ثابتة بينهم الآن سواء وإنما كان الاختلاف بينهم في الكفالة المتقدمة وتلك قد انتقضت وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه ثلاثة رهط وبعضهم كفلاء عن بعض بجميع الألف فأدى أحد الكفلاء المال ثم لقي أحدهم فأخذ منه نصف ما أدى ثم أن الأول لقي الذي لم يؤد شيئا وأخذ منه خمسين ومائتين فإنهما يؤديان إلى الأوسط مائة وستة وستين وثلثين لأنهم في غرم الكفالة سواء فينبغي أن يكون الغرم على كل واحد منهم بقدر ثلث الألف الأوسط قد غرم خمسمائة فيرد عليه مائة وستة وستين وثلثين حتى يبقى عليه غرم ثلث الألف ولم يتبين كيفية أدائهما هذا المقدار وهو الألف وإنما يؤديان نصفين كل واحد منهما ثلاثة وثمانين وثلثا لأن الآخر قد غرم مائتين وخمسين للأول فيدفع إلى الأوسط ثلاثة وثمانين وثلثا حتى يكون الغرم عليه بقدر ثلث الألف والأول قد أوصل إليه سبعمائة وخمسين فيدفع إلى الأوسط ثلاثة وثمانين وثلثا حتى يبقى العائد إليه ثلثا ما أدى ويكون الغرم عليه بقدر ثلث الألف فإذا فعلوا ذلك رجعوا جميعا على الأصيل بالألف بينهم أثلاثا.(20/77)
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها رجل ثم أن الكفيل طلب الرجل فضمنها عنه للطالب ثم أن الطالب أخذهم جميعا حتى جعل بعضهم كفلاء عن بعض ثم أن الكفيل الأول أدى المال فإنه يرجع على الكفيل الآخر بنصف المال لأن الكفالة الأخيرة نقضت الكفالة الأولى فإن موجب الكفالة الأولى الأخير كفيل عن الكفيل الأول دون الأصيل وهو في الكفالة الثانية يصير كفيلا عن الأصيل وعن الكفيل الأول وكذلك موجب الكفالة الأولى إن الكفيل الأول لا يكون كفيلا عن الآخر وفي هذه الكفالة الأخيرة الكفيل الأول يصير كفيلا عن الأخير وإذا انتقضت الكفالة الأولى كان الحكم للأخيرة وهما فيها مستويان في الكفالة عن الأصيل فيرجع المؤدي على صاحبه بنصف ما أدى ليستويا في الغرم بسبب الكفالة.
ولو كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما ضامن بذلك ثم أعطاه أحدهما كفيلا بالمال ثم أخذ الآخر فأعطاه أيضا ذلك الكفيل كفيلا بالمال ثم أدى الكفيل الألف رجع بها على أيهما شاء لأنه كفل كل واحد منهما بجميع المال بعقد على حدة وإن لم يؤد شيئا(20/78)
ص -39- ... حتى أخذهم الطالب فجعل بعضهم كفلاء عن بعض بالمال ثم أن الكفيل أدى الألف فإنه يرجع على أيهما شاء بثلاثة أرباع الألف لأن هذه الكفالة الأخيرة تنقض الكفالة الأولى وفي هذه الكفالة الأخيرة الكفيل يصير متحملا عن كل واحد منهما نصف المال ويكون هو مع الآخر في الكفالة عن الثالث بنصف المال سواء فلهذا رجع عند الأداء على أحدهما بثلاثة أرباع الألف فإن لقي الآخر بعد ذلك فأخذ منه مائتين وخمسين كان للذي أدى الثلاثة الأرباع أن يرجع عليه بنصف ما أخذ من هذا الآخر لأنهما قد كانا استويا في غرم الكفالة مع الآخر فينبغي أن يستويا في الغنم وهو المأخوذ من الباقي وإنما تتحقق المساواة في أن يؤدي إليه نصف ذلك ولو لم يؤد الكفيل شيئا ولكن أدى أحد الأولين المال فله أن يرجع على الكفيل بمائتين وخمسين لأنه في نصف المال أصيل مؤد عن نفسه فلا يرجع به على أحد وفي النصف الآخر هو مع الكفيل في الكفالة عن الثالث فيرجع عليه بنصف ذلك ليستويا في غرم الكفالة فإن لقي الأول صاحبه الذي كان معه في الألف فأخذ منه مائتين وخمسين أخرى رد على الكفيل نصفها ليستويا في الغنم ثم يتبع هو الكفيل الآخر الأول بمائتين وخمسين أخرى ويقتسمان ذلك نصفين.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه رجلان أحدهما مكاتب أو عبد فإنه يجوز على الحر وحده النصف لأنهما لما كفلا جميعا عنه بالمال فقد صار كل واحد منهما كفيلا بالنصف وكفالة المكاتب والعبد غير صحيحة في حال الرق كما لو تفرد بها فتبقى كفالته في نصيبه وهو النصف ولا يقال لما لم تتحقق المزاحمة فينبغي أن يجعل الحر كفيلا بجميع المال لأنا نقول المزاحمة في أصل الكفالة متحققة فإن كفالة العبد والمكاتب صحيحة في حق أنفسهما حتى يطالبان بذلك بعد العتق وإنما لا يصح في حق المولى فلهذا كان على الحر نصف المال وعلى العبد والمكاتب النصف بعد العتق.(20/79)
ولو كان اشترط أن كل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه فعتق العبد وأدى المال كله كان له أن يرجع على الحر بالنصف ثم يتبعان الذي عليه الأصل فما أدى إلى واحد منهما شركه فيه الآخر لأن العبد حين عتق فقد سقط حق المولى والمانع من كفالته قيام حق المولى في ماليته فإذا سقط ذلك كان هذا بمنزلة الكفالة من حرين عن ثالث بهذه الصفة ولو أن ثلاثة نفر كفلوا عن رجل بألف درهم وبعشرة أكرار حنطة ومائة دينار وبعضهم كفلاء ضامنون في ذلك فلقي الطالب أحد الكفلاء فأخذ منه خمسمائة درهم ثم لقي آخر فأخذ منه خمسة أكرار حنطة ثم غاب الطالب والمطلوب ولقي الكفيلان المؤديان الكفيل الثالث وأرادا أخذه بما أديا وأراد كل واحد منهما أخذ صاحبه فالذي أدى خمسمائة يرجع على صاحبيه بثلثيها لأنهم في الكفالة بالألف مستوون فينبغي أن يستووا في الغرم بسببها وذلك في أن يرجع بثلثي ما أدى عن صاحبيه على كل واحد منهما بمائة وستة وستين وثلثين وللذي أدى الطعام أن يرجع على صاحبيه بثلثي الطعام لهذا المعنى أيضا ولا يصير البعض قصاصا,(20/80)
ص -40- ... لأن الجنس مختلف والمقاصة بين الدينين عند اتحاد جنسهما وصفتهما لا عند الاختلاف ولو التقى هذان المؤديان ولم يلقيا الثالث فلكل واحد منهما أن يرجع على صاحبه بنصف ما أدى ليستويا في الغرم بسبب الكفالة.
وكذلك لو التقوا جميعا كان لكل واحد منهما أن يأخذ صاحبه بنصف ما أدى ليستويا في الغرم ثم يتبعان جميعا الذي لم يؤد شيئا بثلث ما أداه كل واحد منهما فإن لقيه أحدهما كان له أن يأخذه بنصف الغرم الذي حصل عليه يوم يلقاه ليستويا في الغرم بسبب الكفالة فإن لقي الثالث أحد هذين رجع عليه بنصف الفضل بثلث ما أدى كل واحد منهما فيرجع أكثرهما أداء على أقلهما أداء بنصف الفضل للحرف الذي قلنا وعليه يدور تخريج هذه المسائل في أنهما لما استويا في الكفالة ينبغي أن يستويا في الغرم بسببها.(20/81)
وإذا كفل رجل لرجل عن رجل بمال عليه فأداه الكفيل ثم لقي المكفول عنه فجحد أن يكون أمره بالكفالة أو أن يكون لفلان الطالب عليه شيء فأقام الكفيل البينة أن لفلان على فلان ألف درهم وأن فلانا هذا قد أمره فضمنها لفلان وأنه قد أداها لفلان إلى فلان فإن القاضي يقبل ذلك منه ويقضي بالمال على المكفول عنه لأنه يدعي لنفسه عليه مالا بسبب وهو لا يتوصل إلى إتيان ذلك إلا بإثبات سبب بينه وبين الغائب وهو أداء المال إليه فينصب الحاضر خصما عن الغائب كمن ادعى عينا في يد إنسان أنها له اشتراها مع فلان الغائب وأقام البينة على ذلك فإن القاضي يقضي ببينته على ذلك بهذا الطريق حتى إذا حضر الغائب فجحد أن يكون باعه لم يكلف المدعي إعادة البينة عليه فكذلك هنا إذا حضر المكفول له وجحد أن يكون قبض شيئا من الكفيل لم يكلف الكفيل إعادة البينة وكان الحكم عليه بوصول حقه إليه ماضيا وهذا لأن الأسباب مطلوبة لأحكامها فمن يكون خصما في إثبات الحكم عليه يكون خصما في إثبات سبب الحكم عليه أيضا ورجوع الكفيل على الأصيل لا يكون إلا بأمره إياه بالكفالة وأدائه إلى الطالب بعد الكفالة فما يكون المكفول عنه خصما لكفيل في إثبات الأمر عليه يكون خصما في إثبات الأداء إلى الطالب عليه والقضاء بالبينة على الحاضر يكون نافذا عليه وعلى الغائب جميعا.(20/82)
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أن الرجل إذا غاب عن امرأته فأتاها رجل وأخبرها أن زوجها قد أبانها ووكله أن يزوجها منه ويضمن المهر ففعلت ذلك ثم رجع الزوج وأنكر أن يكون طلقها وأن يكون أمر هذا الرجل بشيء فالقول قوله وليس للمرأة على الكفيل شيء في قول أبي يوسف رحمه الله لأن الطلاق لما لم يثبت كان العقد الثاني باطلا والكفالة المثبتة عليه كذلك بمنزلة أحد الوارثين وإذا أقر لمعروف نسب أنه أخوه لم يشاركه في الميراث وعلى قول زفر رحمه الله ترجع هي على الكفيل بالمال لأن الكفيل مقر بصحة العقد الثاني ووجوب المال عليه بسبب الكفالة وإقراره حجة في حقه فلو أقام الكفيل البينة على الزوج بما أدى من الطلاق وتوكيله إياه بالعقد الثاني والكفالة قبلت بينته(20/83)
ص -41- ... بذلك وكان لها أن ترجع بالمال على الكفيل ثم يرجع الكفيل على الزوج وإن شاءت رجعت على الزوج للمعنى الذي قلنا أن الكفيل لا يتمكن من الرجوع على الزوج إلا بإثبات هذه الأشياء عليه فصار خصما في ذلك كله والله أعلم وأحكم.
باب الكفالة على أن المكفول عنه بريء
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل مال فضمنه له على إبراء الذي عليه الأصل فهو جائز والكفيل ضامن للمال ولا يأخذ الطالب المكفول عنه بشيء لأنهما أتيا بمعنى الحوالة وإن لم يصرحا بلفظها والألفاظ قوالب المعاني والمقصود هو المعنى دون اللفظ كأن العقد الذي جرى بينهما حوالة لتصريحهما بموجب الحوالة كمن يقول لغيره ملكتك هذا الشيء بألف درهم فيكون بيعا وإن لم يصرح بلفظ البيع والكفالة والحوالة يتقاربان من حيث إن كل واحد منهما إقراض للذمة والتزام على قصد التوثق فكما أنه لو شرط في الحوالة أن يطالب بالمال أيهما شاء كانت الكفالة فإذا شرط في الكفالة أن يكون الأصيل بريئا كانت الحوالة وقوله ضمنت وإلي وعلي بمنزلة قوله كفلت إذا شرط براءة الأصيل في ذلك كله كانت حوالة بناء على أصلنا أن الحوالة توجب براءة المحيل وقد بينا هذه المسألة ولو توى المال على المحتال عليه عاد حق الطالب إلى المحيل وللتوى أسباب فمن ذلك أن يجحد المحتال عليه ويحلف على ذلك وليس للطالب بينة لأنه يتعذر على الطالب الوصول إلى حقه من جهة المحتال عليه على التأبيد وهذا أبلغ أسباب التوى كالدرة الواقعة في البحر والعبد الآبق ونحو ذلك ومن ذلك أن يموت المحتال عليه مفلسا فيتحقق به التوى عندنا.(20/84)
وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يعود المال إلى ذمة المحيل وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقول بأن الحوالة تبرئ المحيل براءة مطلقة فلا يعود المال إليه بحال كما لو بريء بالإبراء وبيان الوصف أنه لا يطالب بالمال ولا بشيء يشبهه وهذا موجب البراءة المطلقة وتقريره من وجهين أحدهما أن الحوالة ليست بمعاوضة لأن معاوضة الذمة بالذمة والدين بالدين باطلة فإذا لم يكن ما وجب في ذمة المحتال عليه عوضا عما في ذمة المحيل لم يكن تعذر الوصول إليه مبنيا على حق الرجوع له على المحيل بل بالحوالة يصير كالقابض من المحيل والمقرض من المحتال عليه لأنه لا يتحقق إسقاط المال على المحيل وإيجابه على المحتال عليه معاوضة إلا بهذا الطريق أو يجعل ما في ذمة المحتال عليه كأنه عين ما كان في ذمة المحيل تحول من ذلك المحل إلى هذا المحل حكما هو قضية لفظة الحوالة وفوات الشيء من المحل الذي تحول إليه لا يكون سببا لعوده إلى المحل الأول بل فواته عن المحل الذي تحول إليه كفواته في المحل الأول وذلك يكون على الطالب لا غير وعند الحوالة المحتال له بالخيار بين أن يقبل فيثبت حقه في ذمة المحتال عليه وبين أن يأتي فيكون حقه في ذمة المحيل والمخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما يتعين ذلك عليه وهو لا يعود إلى المحل الأول بعد ذلك قط كالغاصب الأول مع الثاني إذا اختار المغصوب منه تضمين(20/85)
ص -42- ... أحدهما ثم توى عليه لم يرجع على الآخر بشيء والمولى إذا عتق عبده المديون واختار الغرماء استسعاء العبد ثم توى ذلك عليه لم يرجعوا على المولى بشيء من الضمان.
وحجتنا في ذلك حديث عثمان رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا في المحتال عليه يموت مفلسا قال يعود الدين إلى ذمة المحيل لا توى على مال امرئ مسلم والمعنى فيه أن هذه براءة بالنقل فإذا لم يسلم له حقه من المحيل الذي انتقل إليه يعود حقه إلى المحل الذي انتقل حقه عنه كما لو اشترى بالدين شيئا أو صالح من الدين على عين وبيان الوصف أن حق الطالب كان في ذمة المحيل فنقله إلى ذمة المحتال عليه بالحق الذي له كما له أن ينقله إلى العين بالشراء ثم هناك إذا هلكت العين قبل القبض عاد حقه في الدين كما كان فكذلك هنا وكما أن ذلك السبب محتمل الفسخ فهذا السبب محتمل للفسخ حتى لو تراضيا على فسخ الحوالة انفسخت.
وتقريره أن ما في ذمة المحتال عليه ليس بعوض كما كان في ذمة المحيل كما قاله الخصم ولا هو واجب بطريق الإقراض كما زعم هو لأن القبض يكون بالمال لا بالذمة والحوالة التزام في الذمة فلا يمكن أن يجعل به قابضا ولأنه يثبت في ذمة المحتال عليه على الوجه الذي كان في ذمة المحيل حتى لو كان بدل صرف أو سلم لا يجوز الاستبدال به مع المحتال عليه كما لا يجوز مع المحيل ويبطل عقد الصرف والسلم بافتراق المتعاقدين قبل القبض من المحتال عليه ولو صار بالحوالة قابضا ثم مقرضا لا تثبت فيه هذه الأحكام ولا يمكن أن يجعل كأن عين ذلك المال تحولت من ذمة إلى ذمة لأن الشيء إنما يقدر حكما إذا تصور حقيقة وليس في الذمة شيء يحتمل التحول فلم يبق الطريق فيه إلا جعل الذمة الثانية خلفا عن الذمة الأولى في ثبوت الحق فيها كما في حوالة الفراش المكان الثاني يكون خلفا عن المكان الأول ويكون الثابت في المكان الثاني عين ما كان في المكان الأول.(20/86)
فإذا كان الطريق هذا فنقول إنما رضي الطالب بهذه الخلافة على قصد التوثق لحقه فيكون رضاه بشرط أن يسلم له في ماله في الذمة الثانية فإذا لم يسلم فقد انعدم رضاه فيعود المال إلى المحل الأول كما كان بمنزلة ما لو اشترى به عينا إلا أن هناك المحل الذي هو خلف في يد الغريم فكان مطالبا بتسليمه وهنا المحل الذي هو حق ليس في يد الغريم فلم يكن هو مطالبا بشيء ولكنه ليس في يد الطالب أيضا فلم يصر قابضا لحقه ولا يدخل في ضمانه فلا يكون التواء عليه وبه فارق الغاصب الأول مع الثاني والمولى مع العبد فإن إحدى الذمتين هناك ليست بخلف عن الأخرى ولكن صاحب الحق كان مخيرا ابتداء والمخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا فلسه الحاكم عاد الدين إلى ذمة المحيل لأن رضاه بالخلافة كان بشرط السلامة فإذا لم يسلم عاد الحق إلى المحل الأول ولا معتبر ببقاء المحل الثاني حقيقة كالعبد المشتري بالدين إذا أبق واختار الطالب فسخ العقد عاد حقه كما كان.(20/87)
ص -43- ... توضيحه أن الذمة تتعيب بالإفلاس أما عندهما حكما فمن حيث إن التفليس والحجر يتحقق من حيث العادة وهذا ظاهر فإن الناس يعدون الذمة المفلسة معيبة حتى يعدون الحق فيها ثاويا وكما أن فوات المحل موجب انفساخ السبب فتعيبه مثبت حق الفسخ كما إذا تعيب المشتري بالدين قبل القبض والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيل على مليء فليتبع". فقد قيد الأمر بالاتباع بشرط ملاء المحتال عليه فلا يكون مأمورا بالاتباع بدون هذا الشرط وأبو حنيفة رحمه الله يقول الإفلاس لا يتحقق لأن المال غاد ورائح فقد يصبح الرجل فقيرا ويمسى غنيا ثم عود المال إلى المحيل التوي لا يتعذر به الاستيفاء.
ألا ترى أنه لو تعذر استيفاؤه من المحتال عليه لعيبه لم يرجع على المحيل بشيء ولا تصور للتوي في الدين حقيقة وإنما يكون ذلك حكما بخروج محله من أن يكون صالحا للالتزام وبعد الإفلاس الذمة في صلاحيتها للالتزام كما كانت من قبل فلا يتحقق التوي ولا العيب بهذا السبب بخلاف ما لو كان بعد الموت مفلسا لأن الذمة خرجت من أن تكون محلا صالحا للالتزام فيثبت التوي بهذا الطريق حكما وأما ذات المحتال عليه فقال الطالب لم يترك شيئا وقال المطلوب قد ترك وفاء فالقول قول الطالب مع يمينه على علمه لأنه متمسك بالأصل وهو العسرة ولأنه بالحوالة لم يدخل في ملك المحتال عليه.(20/88)
ولو كان وهو حي يزعم أنه مفلس فالقول قوله فكذلك بعد موته إذا زعم الطالب أنه مفلس فالقول قوله مع يمينه على علمه توضيحه أن ذمته بالموت خرجت من أن تكون محلا صالحا للالتزام وبه يتحقق التوي إلا أن يكون هناك مال يخلف الذمة في ثبوت حق الطالب فيه فالمطلوب يدعي هذا الخلف والطالب منكر لذلك فجعلنا القول قوله لهذا ولو كفل بالمال من غير شرط البراءة ثم أن الطالب أبرأ الذي عليه الأصل من المال بعد الكفالة برئا جميعا لأن إبراء الكفيل إسقاط لأصل الدين وذلك موجب لبراءة الكفيل ضرورة فكما أن الكفالة لا تصح إلا باعتبار مال واجب في ذمة الأصيل فكذلك لا تبقى بعد سقوط المال عن ذمة الأصيل بالإبراء.
وهذا بخلاف ما لو كانت الكفالة بشرط الأصل لأن ذلك صار عبارة عن الحوالة واللفظ إذا جعل عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته في نفسه توضيح الفرق أن الكفالة بشرط براءة الأصيل لا تكون إسقاطا لأن أصل الدين يكون تحويلا إلى ذمة الكفيل بالطريق الذي قلنا فأما إبراء الأصيل بعد الكفالة فيكون إسقاطا لأصل الدين والمطالبة تنبني على وجوب أصل الدين فكما لا يبقى على الأصيل مطالبة بعد الإسقاط فكذلك على الكفيل والدليل على الفرق ما أشار إليه وهو أن الصبي التاجر إذا كان له على رجل مال فضمنه له آخر على أن أبرأ الأول أو كان عليه مال لرجل فضمنه لآخر بأمر صاحبه على أن أبرأ المكفول له فهو جائز ولو كان هذا إسقاطا لأصل الحق عن الأصيل ما ملك الصبي التاجر فيما له على غيره كإبراء الأصيل بعد الكفالة ولو كان هذا من المحتال عليه التزاما للمال في ذمته ابتداء ما ملكه الصبي التاجر فيما عليه وبهذا الفصل يتبين الفرق وكذلك في الصرف ورأس مال السلم(20/89)
ص -44- ... الحوالة تصح والكفالة بشرط براءة الأصيل تصح ولا يبطل به عقد السلم بخلاف ما إذا أبرأ الأصيل بعد الكفالة فقبله الأصيل حيث يبطل به عقد السلم.
ولو قال لرجل آخر ما أقر لك به فلان من شيء فهو علي فقامت عليه بينة أنه أقر بعد الكفالة بألف درهم لزم الكفيل الألف لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن شهدوا أنه أقر بذلك قبل
الكفالة لم يلزم الكفيل شيء لأن هذا اللفظ وإن كان في صورة الماضي فالمراد به المستقبل عادة فلا يصير به ملتزما لما سبق الإقرار به على العقد وإنما يكون ملتزما لما يقر به بعد العقد بمنزلة قوله ما يقر لك كما أن قوله ما ذاب لك في معنى ما يذوب فهذا قياسه والله أعلم.
باب ضمان ما يبايع به الرجل
قال رحمه الله: وإذا قال الرجل لرجل بايع فلانا فما بايعته به من شيء فهو علي فهو جائز على ما قال لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب المال على الأصيل وقد بينا أن ذلك صحيح والجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة لكونها مبنية على التوسع ولأن جهالة عينها لا تبطل شيئا من العقود وإنما الجهالة المفضية إلى المنازعة هي التي تؤثر في العقود وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأن توجه المطالبة على الكفيل بعد المبايعة وعند ذلك ما بايعه به معلوم ويستوي أن وقت لذلك وقتا أو لم يوقت إلا أن في الموقت يراعي وجود المبايعة في ذلك الوقت حتى إذا قال ما بايعته به اليوم فباعه غدا لا يجب على الكفيل شيء من ذلك لأن هذا التقييد مفيد في حق الكفيل ولكن إذا كرر مبايعته في اليوم فذلك كله على الكفيل لأن حرف ما يوجب العموم وإذا لم يوقت فذلك على جميع العمر.(20/90)
وإذا بايعته مرة بعد مرة فذلك كله على الكفيل ولا يخرج نفسه من الكفالة لوجود الحرف الموجب للتعميم في كلامه ويستوي إن بايعه بالنقود أو بغير النقود لأنه قال ما بايعته به من شيء وهو يجمع كل ذلك فإن قال الطالب بعته شيئا بألف درهم وقبضه مني فأقر به المطلوب وجحد الكفيل ففي القياس لا يؤخذ الكفيل بشيء حتى تقوم البينة على أنه بايعه بعد الكفالة وقد روى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أخذ بالقياس ووجه ذلك أن وجوب المال على الكفيل ناشئ عن مبايعته بعد الكفالة وذلك لا يظهر في حقه بإقرار المطلوب لأن قوله حجة عليه لا على الكفيل ولو أنكرا جميعا يعني المطلوب والكفيل لم يكن على كل واحد منهما شيء فإذا أقر به المطلوب لزمه دون الكفيل لأن الثبوت بحسب الحجة فإذا قامت البينة ثبت في حقهما لأن البينة حجة عليهما ولكن استحسن فقال الكفيل ضامن للمال لأن المطلوب مع الطالب تصادقا على المبايعة في حال يملكان إنشاءها فإنهما لو أنشآ المبايعة لزم ذلك الكفيل ومن أقر بما لا يملك إنشاءه يكون مقبول الإقرار في حق الغير لانتفاء التهمة بمنزلة التوكيل قبل العزل إذا أقر بالبيع والمطلق قبل انقضاء العدة إذا أقر بالرجعة.
توضيحه أنهما إن كانا صادقين فيما أقرا به من المبايعة فقد تحقق السبب في حق(20/91)
ص -45- ... الكفيل وإن كانا كاذبين فتصادقا بمنزلة إنشاء المبايعة فيلزم الكفيل أيضا ألا ترى أنه لو كان قال ما لزمه لك من شيء فأنا ضامن به لزمه ما أقر به المكفول عنه بهذا الطريق وعلى هذا لو قال بعه ما بينك وبين ألف درهم وما بعته من شيء فهو علي إلى ألف درهم فباعه متاعا بخمسمائة ثم باعه حنطة بخمسمائة لزم الكفيل المالان جميعا وإن باعه متاعا آخر بعد ذلك لم يلزم الكفيل من ذلك شيء لأنه قيد الكفالة بمقدار الألف فلا تلزمه الزيادة على ذلك.
ولو قال إذا بعته شيئا فهو علي فباعه متاعا بألف درهم ثم باعه بعد ذلك خادما بألف درهم لزم الكفيل الأول دون الثاني لأن كلمة إذا لا تقتضي العموم ولا التكرار وإنما تتناول المبايعة مرة فبوجود ذلك تنتهي الكفالة بخلاف ما لو قال كلما بايعته بيعا فأنا ضامن بثمنه لأن كلمة كلما تقتضي التكرار فيصير هو بهذا اللفظ ملتزما يجب بمبايعته مرة بعد مرة ولو قال بعه ولم يزد على هذا فباعه لم يلزم الآمر شيء لأنه مشير عليه وليس بضامن وكذلك لو قال أقرضه ولو قال متى بعته بيعا فأنا ضامن لثمنه أو إن بعته بيعا فباعه متاعا في صفقتين كل صفقة بخمسمائة ضمن الكفيل الأول منهما لما بينا أنه ليس في لفظه ما يقتضي التكرار لأن كلمة إن للشرط وكلمة متى للوقت بمنزلة كلمة إذا.(20/92)
ولو قال ما بايعته من زطي فهو علي فباعه ثوبا يهوديا أو حنطة لم يلزم الكفيل من ذلك شيء لأنه قيد الكفالة بمبايعته من الزطي خاصة فلا يتناول غيرها وكذلك لو قال ما أقرضته فهو علي فباعه متاعا أو قال ما بايعته فهو علي فأقرضه شيئا لم يلزم الكفيل من ذلك شيء لأنه قيد الكفالة بسبب فلا تتناول شيئا آخر والمبايعة غير الإقراض ألا ترى أن المبايعة تصح ممن لا يصح منه الإقراض كالأب والوصي ولو قال ما داينته اليوم من شيء فهو علي لزمه القرض وثمن المبيع لأن اسم المداينة يتناول الكل فإنه عبارة عن سبب وجوب الدين ألا ترى أن الآمر بالكتابة والشهود جاء به اسم المداينة وعلم الكل فلو رجع الكفيل عن هذا الضمان قبل أن يبايعه ونهاه عن مبايعته ثم بايعه بعد ذلك لم يلزم الكفيل شيء لأن لزوم الكفالة بعد وجوب المبايعة وتوجه المطالبة على الكفيل فأما قبل ذلك فهو غير مطلوب بشيء ولا ملتزم في ذمته شيئا فيصح رجوعه توضيحه أن بعد المبايعة إنما أوجبنا المال على الكفيل دفعا للغرر عن الطالب لأنه يقول إنما عقدت في المبايعة معه كفالة هذا الرجل وقد اندفع هذا الغرور حين نهاه عن المبايعة.
ولو قال ما بايعته اليوم من شيء فهو لك علي ثم جحد الكفيل والمكفول له المبايعة وأقام الطالب البينة على أحدهما أنه قد باع المكفول له ذلك اليوم متاعا بألف درهم لزمهما جميعا ذلك المال أيهما كان حضر لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة والمال الذي يطالبان به واحد فينصب الحاضر منهما خصما فيكون حضور أحدهما كحضورهما فلا يكلف إعادة البينة عند حضور الآخر إذا كان القاضي هو الأول لأنه عالم بسبب وجوب المال على الذي حضر إذ هو باشر القضاء به على الأول وعلمه يغني الطالب عن إعادة البينة.(20/93)
ص -46- ... ولو قال من بايع فلانا اليوم ببيع فهو علي فباعه غير واحد لم يلزم الكفيل شيء لأن المكفول له مجهول وجهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة كجهالة المقر له فإنه لو قال لواحد من الناس على شيء كان إقراره باطلا ولو قال لقوم خاصة ما بايعتموه أنتم وغيركم فهو علي كان عليه ما يبيع به أولئك القوم ولا يلزمه ما بايع غيرهم لأن في حقهم المكفول له معلوم فصحت الكفالة وفي حق غيرهم هو مجهول فلا تصح الكفالة ولكن ضم المجهول إلى المعلوم لا يمنع صحة الكفالة في حق المعلوم لأن ما يلتزمه لواحد بالكفالة منفصل عما يلتزمه للآخر ولو أذن لعبده في التجارة وقال لرجل ما بايعت به عبدي من شيء أبدا فهو علي أو لم يقل أبدا فهو سواء ولزمه كل بيع بايعه به لأن التزام المولى من عبده بحكم الكفالة صحيح كما يصح من الحر وقد بيناه فيما سبق.
وكذلك لو قال كل ما بايعته أو الذي بايعته بخلاف ما لو قال إذا بايعته أو إن بايعته فهذا على الأول خاصة وقد بينا الفرق بينهما في الحر فكذلك في العبد.
ولو قال ما بايعت فلانا من شيء فهو علي فأسلم إليه دراهم في طعام أو باعه شعيرا بزيت فذلك كله على الكفيل لأنه قد باعه فإن السلم نوع بيع ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إذا وكله بثوب يبيعه فأسلمه في طعام جاز على الموكل وعندهما لا يجوز لأن السلم غير البيع بل إن مطلق التوكيل بالبيع ينصرف إلى البيع بالنقود والله أعلم بالصواب.
باب الحوالة(20/94)
قال رحمه الله: ذكر عن شريح رحمه الله أنه قال في الحوالة إذا أفلس فلا توي على مال امرئ مسلم يريد به أن مال الطالب يعود فدليلهما أن بمجرد الإفلاس تبطل الحوالة قال وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فأحاله بها فقد بريء الأول منهما وقد بينا اختلاف العلماء رحمهم الله فيه ووجه الفرق بين الكفالة والحوالة ففي الكتاب أشار إلى حروف فإنك لا تكتب ذكر حق فلان بن فلان أن له على فلان ألف درهم وقد أحاله بها على فلان فإن هذا لا يحسن في الكتاب ولا في الكلام وكيف يكون عليه وقد حولها عنه إلى غيره ويحسن في الضمان أن يقول لفلان على فلان ألف درهم وقد ضمنها عنه فلان ثم وجوه التوي قد بيناها فيما سبق والجواب بين الأجانب والأقارب في جميع أصناف الديون من التجارات والمهر والجنايات وغير ذلك جائز لأنه تحويل الحق من الذمة الأولى إلى الذمة الثانية فيستدعي وجوب الحق في الذمة الأولى ليصح التحويل ولو أن المحتال عليه أحاله بالمال على غيره كان جائزا لأنه لما تحول المال إليه بالحوالة التحق بما كان واجبا عليه في الأصل وكما يصح التحويل من الذمة الأولى إلى ذمته يصح التحويل من ذمته إلى ذمة أخرى بالحوالة وليس للمحتال عليه أن يأخذ الأصيل بالمال قبل أن يؤديه ولكن يعامله بحسب ما يعامل به من الملازمة والحبس كما بيناه في فصل الكفيل وفي هذا نوع إشكال فإن في الكفالة مطالبة(20/95)
ص -47- ... الطالب على الأصيل باقية فلا تتوجه عليه مطالبة الكفيل ما لم يؤد وبعد الحوالة لا تبقى مطالبة المال على الأصيل فينبغي أن تتوجه عليه مطالبة المحتال عليه كالوكيل بالشراء يطالب الموكل قبل أن يؤدي ولكنا نقول ما سقطت مطالبة الطالب عن المحيل على الثبات بل يؤخر ذلك على المحتال عليه مفلسا فكان من هذا الوجه بمعنى التأجيل أو لما كانت المطالبة بعرض أن يتوجه عليه جعل كالمتوجه في الحال بمعنى الكفالة من هذا الوجه بخلاف الوكيل فإنه ليس للبائع على الموكل مطالبة بالثمن لا في الحال ولا في ثاني الحال بل مطالبته مقصورة على الوكيل فكان للوكيل أن يرجع على الموكل ولو قضى المحيل المحتال عليه المال قبل أن يؤديه فعمل به وربح كان ربحه له لأنه بنفس الحوالة قد استوجب المحتال عليه على المحيل ولكنه مؤجل لأدائه ومن استعجل الدين المؤجل وتصرف فيه وربح كان الربح له لأنه استربح على ملك صحيح.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فأحاله بها على آخر فقضاها إياه المحتال عليه فلما أراد الرجوع على الأصيل قال الأصيل كانت لي عليك وقال المحتال عليه ما كان لك علي شيء فإنه يقضي للمحتال عليه على الأصيل بالمال لأن السبب الموجب للمال له على الأصيل ظاهر وهو قبوله الحوالة بأمره وأدائه والمحيل يدعي لنفسه دينا على المحتال عليه ليجعل ما عليه قصاصا بذلك الدين ولم يظهر سبب ما يدعيه والمحتال عليه لذلك منكر فالقول قوله وليس في قبول الحوالة عنه إقرار بوجوب المال للمحيل عليه فإن الحوالة قد تكون مقيدة بما للمحيل على المحتال عليه وقد تكون مطلقة بل حقيقة الحوالة هي المطلقة فأما المقيدة من وجه فتوكيل بالأداء والقبض عرفنا أنه لم يوجد منه دلالة الإقرار بوجوب المال للمحيل عليه وكان القول قوله في الإنكار.(20/96)
ولو كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فأحاله أحدهما على رجل بألف درهم على أن أبرأه فللطالب أن يأخذ المحتال عليه بالألف لأنه التزمه بالحوالة والمحيل كان أصيلا في النصف الأول كفيلا في النصف الثاني والحوالة بكل واحد منهما صحيحة وإن شاء أخذ الذي لم يحله بخمسمائة لأن المحيل في هذه الخمسمائة كان كفيلا وقد بريء بالحوالة من غير أداء وقد بينا أن براءة الكفيل لا توجب براءة الأصيل فإن أداها المحتال عليه رجع بها على المحيل دون صاحبه لأنه هو الذي أمره بقبول الحوالة ورجوعه بذلك فإن أداها المحيل رجع بنصفها على صاحبه لأنه كان كفيلا عنه وأداء المحتال عليه بأمره كأدائه أداؤه بنفسه وإلى المحتال عليه كأدائه إلى الطالب له ولو أدى إلى الطالب رجع بنفسها على صاحبه فكذلك هنا.
ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فأحاله بها على رجلين فله أن يأخذ كل واحد منهما بنصفها لأنهما أضافا الحوالة في جميع ذلك المال إليهما إضافة على السواء فيقسم عليهما انقساما على السواء وقد بينا في الكفالة نظيره فإن اشترط أن كل واحد منهما كفيل عن(20/97)
ص -48- ... صاحبه أخذ بالألف أيهما شاء لأن كل واحد منهما التزم بجميع المال هنا في النصف عن الأصيل وفي النصف الآخر عن صاحبه بالكفالة فإذا أداها رجع على صاحبه بالنصف ليستويا في الغرم الثابت بسبب هذه الحوالة كما استويا في أصل الالتزام.
ولو كان لرجل على مكاتب مال فأحاله المكاتب به على رجل عليه مال فهو جائز لأن هذا أمر من المكاتب به على رجل له عليه مال فهو جائز لأن هذا أمر من المكاتب للطالب في أن يقبض ماله من غريمه له أولا ثم لنفسه وأمر للغريم بأن يؤدي ما عليه إلى الطالب وذلك صحيح من المكاتب وهذا التكلف غير محتاج إليه في هذا الفصل فإن المكاتب لو أحال الطالب حوالة مطلقة يجوز فكذلك الحوالة من المكاتب المقيدة وإنما يحتاج إليه في الفصل الثاني وهو ما إذا كان المكاتب هو المحتال عليه لأن قبول الحوالة من المكاتب مطلقا لا يجوز بمنزلة الكفالة ولكن يجوز مقيدا بالمال الذي عليه لأنه لا فرق في حقه بين أن يؤدي ذلك المال إلى المحيل أو إلى المحتال والعبد التاجر والصبي التاجر في هذا كالمكاتب وكذلك لو كان المال على رجلين كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فأحالاه على واحد جازت الحوالة منهما كما تجوز من الواحد إذا كان مطلوبا بالمال وكذلك الوصي يحتال بدين اليتيم على رجل أملأ من غريمه الأول فاحتال بذلك فهو جائز لأن في هذا قربان ماله بالأحسن فإن حياة الدين بملاءة ذمة من عليه وفي قبول الحوالة على من هو أملأ إظهار للزيادة في حقه وتيسر الوصول إلى ماله وكان ذلك منهما نظرا من حقه والله أعلم.
باب الأمر بنقد المال(20/98)
قال رحمه الله: وإذا أمر رجل رجلا بأن ينقد عنه فلانا ألف درهم فنقدها رجع بها على الآمر لأن هذا من الآمر استقراض من المأمور وإنه لا يتحقق نقده عنه إلا بعد أن يكون المنقود ملكا له ولا يصير ملكا له بالاستقراض منه فكأنه استقرض منه الألف ووكل صاحب دينه بأن يقبض له ذلك أولا ثم لنفسه ولأنه أمره أن يملكه ما في ذمته بمال يؤديه من عنده فكان بمنزلة ما لو أمره أن يملكه عين الغير في يده بأن يشتريها له فيؤدي الثمن من عنده وهناك يثبت للمأمور حق الرجوع على الآمر بما يؤدي فكذلك هنا.
وكذلك لو قال انقد فلانا ألف درهم له علي أو قال اقضه عني كذا أو قال اقضه ماله علي أو ادفع إليه الذي له علي أو ادفع عني كذا أو اعطه عني ألف درهم أو أوفه ماله علي فهذا كله باب واحد وكله إقرار من الآمر أن المال عليه لفلان أما لقوله عني أو لقوله اقضه عني فإن القضاء لا يكون إلا بعد الوجوب أو لقوله علي أو لقوله أوفه عني فإن الإيفاء يكون بعد الوجوب ولو قال انقده عني ألف درهم على أني ضامن لها أو على أني كفيل بها أو علي أنها لك علي أو إلي أو قبلي فهو سواء وإذا نقدها إياه رجع بها على الآمر لأنه صرح بالتزام ضمان المنقود له أو أتى بلفظ يدل عليه ويستوي إن نقده الدراهم أو نقده بها مائة درهم أو باعه بها جارية أو غير ذلك لأن بالبيع يجب الثمن للبائع على المشتري ولم(20/99)
ص -49- ... يصر قابضا الدراهم التي وجبت له عليه كما أمر به فكان هذا وما لو دفع إليه دراهم في الحكم سواء.
ألا ترى أن الطالب يصير مستوفيا حقه بهذه الطريق إذا حلف ليستوفين ماله عليك قبل أن يفارقك
وإذا قال الرجل للرجل ادفع إلى فلان ألف درهم قضاء ولم يقل عني أو قال اقض فلانا ألف درهم ولم يقل على أنها لك علي فدفعها المأمور فإن كان خليطا للآمر رجع بها عليه لأن الخلطة القائمة بينهما دليل ظاهر على أن أمره بالقضاء عنه بمنزلة التصريح بهذا اللفظ وهذا لأن كل واحد من الخليطين ينوب عن صاحبه في قضاء ما عليه وإن أداه بناء على الخلطة السابقة وتلك الخلطة تثبت له حق الرجوع بما يؤدي بأمره كما يثبت له حق الرجوع عليه بما يؤدى إليه وإن لم يكن خليطا له لم يرجع بها عليه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله وإنما رجوعه على المدفوع إليه وقول أبي يوسف الآخر رحمه الله يرجع على الآمر خليطا كان أو غير خليط لوجهين.
أحدهما أن أمره بالدفع إلى غيره بمنزلة أمره بالدفع إليه ولو قال ادفعه إلي كان له أن يرجع عليه فكذلك إذا أمره بالدفع إلى غيره ولأن فعله في الدفع يترتب على أمره في الفصلين وإذا اعتمد في الأداء أمره فلو لم يرجع صار مغررا من جهته والغرر مدفوع كما في الخليطين.(20/100)
الثاني: أنه قال ادفعها إليه قضاء والقضاء ينبني على الوجوب ولم يكن على المأمور شيء واجب للمدفوع إليه ولا يعتبر أمر الآمر بذلك بل أمره إنما يعتبر في قضاء ما هو واجب على الآمر وكان إقرارا بوجوب المال عليه من هذا الوجه وهذا وقوله اقض عني سواء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا إن قوله اقض أو ادفعه إليه قضاء كلام محتمل يجوز أن يكون المراد اقضه ماله عليك فيكون هذا منه أمرا بالمعروف ويجوز أن يكون المراد اقضه ماله علي والمحتمل لا يكون حجة فلا يثبت به المال على الآمر للمدفوع إليه وإذا لم يثبت المال عليه لا يكون هذا منه استقراضا ولا أمرا بأن يملكه ما في ذمته وطريق الرجوع عليه هذا أن بخلاف ما لو قال قضاء عني إذا كان قضاء لما له علي لأن الاحتمال قد زال هناك بما صرح به من الإضافة إلى نفسه ولا يجوز أن يعتبر أمره بالدفع إلى غيره بالدفع إلى نفسه لأن قوله ادفعه إلي لا يثبت له حق الرجوع عليه بهذا الأمر بل يقضه المال منه.
وهذا المعنى يوجب أن يكون رجوعه هنا إلى المدفوع إليه لأنه هو القابض للمال منه دون الآمر ولو كان أمر بذلك ولده أو أخاه وهو ليس في عياله فهذا وأمره للأجنبي بذلك سواء إلا أن يكون أمره بذلك بعض من في عياله فيكون ذلك بمنزلة ما لو أمر خليطا له بذلك استحسانا لأن الإنسان يقضي ما عليه بيد من في عياله ويد هؤلاء بمنزلة يده ولو دفع بنفسه قضاء كان ذلك قضاء لما هو واجب فكذلك إذا أمر بعض من في عياله حتى أدى وكذلك الزوجة إذا أمرت بذلك زوجها فإن ما بينهما من الزوجية بمنزلة الخلطة أو أقوى منه وكذلك لو أمر به أجيرا له وإنما أراد به التلميذ الخاص الذي استأجره مسانهة أو مشاهرة فإنه بمنزلة من في عياله.(20/101)
ص -50- ... وكذلك لو أمر به شريكا له لأن قيام الشركة بينهما بمنزلة الخلطة أو أقوى منها وهذا كله استحسان وحمل لمطلق الكلام على ما هو معتاد بين الناس.
ولو قال لرجل: ادفع إلى فلان ألف درهم فإن كان المأمور خليطا للآمر أو بعض من في عياله رجع المأمور على الآمر باعتبار الخلطة التي بينهما فإن ذلك بمنزلة الغرر من جهته لو لم يثبت له حق الرجوع عليه لم يرجع الآمر على القابض وإن لم يكن له عليه شيء يصير قصاصا به فأما إذا لم يكن المأمور خليطا للآمر فلا إشكال على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنه لا يرجع على الآمر وإنما يرجع به على القابض وإنما اختلفوا على قول أبي يوسف الآخر رحمه الله فعلى قياس الطريقة الأولى يرجع على الآمر بمنزلة ما لو قال ادفعه إلي وعلى قياس الطريقة الثانية يكون رجوعه على القابض لأنه ليس في لفظه ما يدل على أن القابض يستوفي حقا واجبا له بخلاف ما إذا قال ادفعها إلى فلان قضاء ولو أمر خليطا له أن ينقد فلانا عنه ألف درهم نجية فنقد عنه ألف درهم غلة أو نبهرجة لم يرجع على الآمر إلا بمثل ما أعطي بخلاف الكفيل بالنجية إذا أدى بالغلة فإنه يرجع بالنجية فإن رجوع الكفيل بحكم الالتزام ألا ترى أنه لو وهب المال منه رجع على الأصيل وإنما التزم في ذمته النجية فاستوجب مثلها في ذمة الأصيل ثم إن سامحه الطالب فتجوز بالغلة لا يجب أن يسامح الأصيل بشيء فأما المأمور فهو غير ملتزم في ذمته شيئا وإنما يثبت له حق الرجوع بالأداء ألا ترى أنه لو وهب المال منه لم يصح فإن كان رجوعه بالأداء رجع المؤدي ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فأحال بها عليه رجلا فلما استوفاها المحتال قال المحتال للمحيل كان المال لي عليك فإنما استوفيت حق نفسي وقال المحيل بل كنت وكيلي في قبض مالي لم يكن لك علي شيء فالقول قول المحيل لأن وجوب المال له على المحتال عليه كان ظاهرا كالمقبوض بذلك السبب فيكون ملكا له ثم القابض يدعي لنفسه دينا(20/102)
عليه حتى يحبس ماله بذلك ولم يظهر ذلك الدين له عليه فإن إحالته عليه لا تكون دليلا على وجوب المال للمحتال على المحيل فيكون القول قول المنكر ويؤمر بدفع المال إليه إلا أن يثبت دين نفسه عليه ولو أراد المحتال عليه أن يمنع المال من الذي أحال به عليه ورب المال غائب لم يكن له عليه ذلك بعد الحوالة لأنه قد التزم دفع المال إليه فعليه الوفاء بما التزم.
وكذلك لو قال رب المال: اضمن له هذا المال فهو مثل الحوالة بخلاف ما لو قال اضمن له هذا المال عني فإنه يكون إقرارا من رب المال بالمال لهذا لأنه أمره بأن يضمن عنه ولا يتحقق ذلك إلا بعد وجوب المال عليه ولأن قوله اضمن عني له بمنزلة التصريح منه أن القابض عامل لنفسه وليس بوكيل من جهته وإنما يكون ذلك عند وجوب المال للطالب على الأصيل وكذلك الحوالة إذا قال يحتال إليك بالألف التي لي عليك لم يكن هذا إقرارا بأن المال عليه.
ولو قال: هو محتال عليك بألف درهم لتؤديها عني من المال الذي لي عليك فهذا إقرار منه بوجوب المال عليه للمحتال وإذا قال يحتال عليك بألف درهم لم يكن هذا إقرارا(20/103)
ص -51- ... منه بالمال ولكن المحتال عليه لا يستطيع الامتناع من أداء المال إلى المحتال لأنه التزمها له ولأن كلامه محتمل وبالمحتمل لا يكون له أن يمتنع من إيفاء ما التزم وإن أداها وكان خليطا للآمر رجع بها عليه ورجع بها الآمر على المضمون له بعد أن يحلف أنها ليست عليه وقد بينا في الحوالة نظيره فكذلك في الضمان ولو لم يكن خليطا له لم يرجع بها عليه لأنه ليس في لفظه ما يدل على الأمر بالضمان فلا يثبت له حق الرجوع عليه ولكنها تسلم للمضمون له بخلاف ما سبق من قوله ادفع لأنه ليس هناك من المأمور التزام شيء للمدفوع إليه ألا ترى أن له أن يمتنع من الدفع إليه فكذلك بعد الدفع له أن يرجع بها عليه وهنا بقبول الحوالة والضمان قد التزم المال للمضمون له حتى لا يكون له أن يمتنع من الدفع إليه في الابتداء فكذلك بعد الدفع إليه لا يكون له أن يرجع عليه بشيء مما أدى إليه والله أعلم بالصواب.
باب صلح الكفالة(20/104)
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم وبها كفيل عنه بأمره فصالح الكفيل الطالب على مائة درهم على إبراء الأصيل من الألف جاز كما لو صالحه الأصيل بنفسه وهذا ظاهر لأن الطالب استوفى عشر حقه وأبرأه من سوى ذلك وكل واحد من الأمرين صحيح في الكل فكذلك في البعض لم يرجع الكفيل على المكفول عنه بمائة درهم لأن رجوع الكفيل باعتبار ثبوت الملك له وذلك مقصور على ما أدى دون ما أبرأه الأصيل عنه لأن الإبراء إسقاط فلا يتضمن التمليك من الكفيل ولا يتحول به أصل الدين إلى ذمة الكفيل بخلاف الإيفاء فإنه يتضمن تحول أصل الدين إلى ذمة الكفيل ليتملك بأدائه ما في ذمته فيستوجب الرجوع به على الأصيل ولو صالحه على مائة درهم على أن يبرئ الكفيل خاصة من الباقي رجع الكفيل على الأصيل بمائة درهم ورجع الطالب على الأصيل بتسعمائة لأن إبراء الكفيل يكون فسخا للكفالة ولا يكون إسقاطا لأصل الدين فيبقى له في ذمة الأصيل ما أبرأه الكفيل منه وتسعمائة وهذا لأن الكفيل يلتزم المطالبة وإبراء الكفيل يكون تصرفا في تلك المطالبة دون أصل الدين وبالإبراء لا يتحول الدين إلى ذمة الكفيل.
ولو صالحه على مائة درهم على أن وهب التسعمائة للكفيل كان للكفيل أن يرجع بالألف كلها على المكفول عنه لأنه ملك جميع الأصل وهو الألف بعضها بالأداء وبعضها بالهبة منه والبعض معتبر بالكل وهذا لأن الهبة تمليك في الأصل فمن ضرورة تصحيحه تحول الدين إلى ذمة الكفيل فلا يبقى للطالب في ذمة الأصيل شيء ويتحول الكل إلى ذمة الكفيل ثم يتملكها بالهبة والأداء فيرجع بها على الأصيل.(20/105)
ولو صالح الكفيل الطالب على عشرة دنانير أو باعه إياه بعشرة دنانير كان للكفيل أن يرجع على الأصيل بجميع الألف لأنه بهذا الصلح والشراء يتملك جميع الألف ومن ضرورة صحتها تحول الدين إلى ذمة الكفيل فإن الصلح في غير جنس الحق يكون تمليكا كالبيع وكذلك كل ما صالحه عليه من مكيل أو موزون بعينه أو حيوان أو عرض أو متاع فالجواب(20/106)
ص -52- ... في الكل سواء ولو كان معه كفيل آخر وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه كان له أن يرجع على صاحبه بنصف ذلك لأن هذا الصلح أو البيع بمنزلة الأداء في حق الرجوع على الأصيل فكذلك في حق الرجوع على الكفيل معه ولو أدى جميع المال كان له أن يرجع بنصفه على شريكه في الكفالة فكذلك هنا.
ولو كفل رجلان عن رجل بألف درهم وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فأدى أحدهما ثم أخذ صاحبه في الكفالة معه بالنصف فصالحه من ذلك على مائة درهم على أن أبرأه خاصة مما بقي فهو جائز واستوجب الرجوع على صاحبه بنصف المؤدي وهو خمسمائة ليستوي معه في الغرم فإذا استوفى منه بعض ذلك وأبرأه عن الباقي جاز كما لو عامل الأصيل بمثل ذلك ثم براءة الكفيل بالإبراء لا تكون براءة للأصيل وقد كان للمؤدي أن يرجع على الأصيل بجميع الألف فإنما وصل إليه من جهة صاحبه مائة فيبقى حقه في الرجوع على الأصيل بتسعمائة ويثبت للكفيل الآخر حق الرجوع على الأصيل بمائة فأيهما أخذ منه شيئا اقتسما المأخوذ اعتبارا على قدر شركتهما فيما في ذمته لأحدهما تسعة أعشاره وللآخر عشره ولو صالح المؤدي صاحبه من الخمسمائة على عشرة دنانير أو كر حنطة أو عرض جاز ذلك كما يجوز صلحه مع الطالب عن الخمسمائة على هذا المقدار ويملك الكفيل الآخر خمسمائة بهذا الصلح بمنزلة ما لو أداها بعينها إلى المؤدي فيتبع كل واحد منهما الأصيل بخمسمائة وأيهما أخذ شيئا كان لصاحبه نصفه على حسب حقهما في ذمته ولو كان الدين طعاما وبه كفيل فصالح الكفيل الطالب منه على عشرة دراهم رجع بالطعام كله على المكفول عنه لأن ما أداه الكفيل يصلح أن يكون عوضا عن جميع الطعام فيصير به متملكا بجميع الطعام.(20/107)
ألا ترى أنه لو باعه بالطعام ثوبا كان به متملكا جميع الطعام حتى يرجع به على الأصيل فهذا مثله ولو كان الدين ألف درهم وبه كفيلان كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فصالح أحد الكفيلين صاحبه على مائة درهم على أن يبرئه من حصته من الكفالة وقبضها منه ثم أن الكفيل الذي قبض المائة أدى المال كله إلى الطالب رجع على المكفول عنه بتسعمائة ولم يرجع على الكفيل معه بشيء ويرجع المؤدي للمائة على المكفول عنه بالمائة لأن كل واحد منهما كفيل عن الأصيل بجميع المال وعن صاحبه بنصف المال صلح الكفيل مع الأصيل قبل أدائه إلى الطالب صحيح كما يجوز صلحه مع الطالب فإذا صالح أحدهما صاحبه على مائة فقد صار مبرئا له عما زاد على المائة مما استوجب الرجوع عليه وهو كان كفيلا عن الأصيل وإبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل فإذا أدى القابض للمائة جميع الألف فإنما أدى عن الأصيل تسعمائة فيستوجب الرجوع بها عليه ويصير مؤديا عن الكفيل معه مقدار ما كفل عنه وذلك مائة درهم فيرجع المؤدي للمائة على الأصيل بتلك المائة لأن أداء كفيله عنه كأدائه بنفسه ولو لم يكن هكذا ولكن الطالب أخذ الكفيل الذي أدى المائة واستوفى منه الألف كلها فله أن يرجع على شريكه بتسعمائة لأنه دفع إليه المائة على أن(20/108)
ص -53- ... يؤديها عنه إلى الطالب فإذا لم يفعل حتى أداها بنفسه كان له أن يرجع عليه بتلك المائة وقد كان كفل عنه خمسمائة وأداها فله أن يرجع عليه بتلك الخمسمائة أيضا ولو كان الكفيل صالح صاحبه على كر حنطة ودفعه إليه على أن أبرأه من حصته من الكفالة فهذا جائز فيما بينهما لأنه كفل بالخمسمائة وما أدى إليه يصلح أن يكون عوضا عن الخمسمائة ويكون هذا التصرف منهما غير جائز في حق الطالب فله أن يأخذ بجميع المال أيهما شاء.
فإن أخذ الطالب الكفيل الذي أدى بالألف فأداها فإنه يرجع بها تامة على الكفيل الذي معه وبخمسمائة مع ذلك على الذي عليه الأصل إن شاء إلا أن يشاء الكفيل القابض للطعام أن يرد عليه الطعام ويرد عليه خمسمائة مع ذلك لأن المؤدي للألف استوجب الرجوع على شريكه في الكفالة بنصف ما أدى وهو خمسمائة لأنه تحمل ذلك عنه بأمره وبالنصف الآخر لأنه دفع إليه الطعام على أن يؤدي عنه ما يقابله وهو خمسمائة إلى الطالب فإذا لم يفعل حتى أدى بنفسه كان له أن يرجع عليه بتلك الخمسمائة أيضا إلا أن القابض للطعام قبضه بطريق الصلح على أن يبرئ المؤدي من رجوعه عليه لا على أن يرجع المؤدي عليه بخمسمائة فإذا آل الأمر إلى ذلك خير لأن مبني الصلح على التجوز بدون الحق فإن شاء نقض الصلح ورد عليه الطعام وإن شاء أمسك الطعام ورد عليه عوضه وهو خمسمائة وإن شاء المؤدي للألف رجع بخمسمائة على الأصيل لأنه أداها عنه بعد ما تحملها بأمره ورجع بخمسمائة على الكفيل الذي قبض الطعام إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه الطعام لما بينا.(20/109)
وحاصل فقه هذه المسألة أن الخمسمائة التي هي عوض عن الطعام لا يستوجب المؤدي الرجوع بها على الأصيل لأنه صار مملكا إياها من المؤدي للطعام فيكون رجوعه بذلك على القابض للطعام خاصة إلا أن يشاء القابض للطعام أن يرد عليه الطعام لأنه قبضه منه على سبيل الحط والإغماض ولو صالح أحد الكفيلين صاحبه على عشرة دنانير ودفعها إليه على أن أبرأه من حصته من الكفالة ثم أن الطالب صالح الكفيل الذي قبض الدنانير على تلك الدنانير بأعيانها عن جميع المال وأداها إليه كان جائزا لأنه ملك الدنانير وتم ملكه فيما قبضه من صاحبه فالتحق تعيينها من دنانيره في جواز الصلح مع الطالب عليها من جميع المال ويكون هذا الصلح تمليكا منه لانعدام معنى الربا عند اختلاف الجنس ثم يكون للكفيل الذي صالح الطالب أن يرجع على الأصيل بخمسمائة درهم ويرجع الكفيل الآخر على الأصيل بخمسمائة أيضا لأن الذي صالح الطالب قد يملك جميع الألف بهذا الصلح بمنزلة ما لو أدى إليه جميع الألف وكان له أن يرجع على شريكه بخمسمائة لولا صلحه معه وقد صح صلحه معه عن الخمسمائة على الدنانير فيجعل ذلك الصلح بينهما كأنه كان بعد إذنه فيتقرر كل واحد منهما في الرجوع عن الأصيل بخمسمائة لأن أداء الكفيل المصالح الأول عنه كأدائه بنفسه وأيهما أخذ شيئا من الأصيل شاركه فيه صاحبه لأن الدين الذي في ذمة الأصيل مشترك بينهما وما يقبض أحد الشريكين من دين مشترك بينهما شاركه فيه صاحبه.(20/110)
ص -54- ... ولو لم يكن هكذا ولكن أحد الكفيلين أدى المال كله إلى الطالب ثم صالح الكفيل معه على مائة درهم على أن أبرأه أو على عشرة دنانير على أن أبرأه وقبض ذلك فهو جائز لأنه بالأداء استوجب الرجوع على شريكه في الكفالة بخمسمائة والصلح من الخمسمائة على مائة درهم أو على عشرة دنانير جائز وهما يتبعان الأصيل بالألف تامة لأنهما صارا مؤديين عنه جميع الألف فإن كان الصلح بينهما على الدنانير فالألف بينهما نصفان لأن مؤدي الدنانير يصير متملكا للخمسمائة بما أدى فالصلح يصح بطريق التمليك إذا أمكن والإمكان موجود عند اختلاف الجنس فيكون رجوع كل واحد منهما على الأصيل بخمسمائة بمنزلة ما لو أدى إلى صاحبه خمسمائة وإن جرى الصلح بينهما على مائة درهم فالألف بينهما على عشرة أسهم لأن صحة الصلح عنهما هنا بطريق الإسقاط فإن مبادلة الخمسمائة بالمائة ربا فالمؤدي للمائة لا يأخذ إلا مقدارها وإبراء مؤدي الألف صاحبه عما زاد على المائة لا يكون إبراء الأصيل فيكون له أن يرجع على الأصيل بتسعمائة وللآخر أن يرجع عليه بالمائة فإذا اقتضاه شيئا منها يكون المقبوض بينهما على مقدار حقهما اعتبارا ولو صالحه على عرض أو حيوان كان مثل الصلح على الدنانير لأن تصحيحه بطريق التمليك ممكن والصلح قبل الأداء وبعد الأداء جائز لأن الدين يجب للكفيل عن الأصيل بالكفالة كما يجب للطالب على الكفيل بعين في حق المطالبة.(20/111)
ألا ترى أن الكفيل يطالب الأصيل بحسب ما تعامله الطالب مع الكفيل ويجوز صلح الكفيل مع الأصيل قبل الأداء وبعده وإذا كان الدين طعاما قرضا أو غصبا فصالح أحد الكفيلين صاحبه على دراهم مسماة على أن أبرأه من خصومته فهو مثل الباب الأول لما بينا أن تصحيح هذا الصلح بينهما بطريق المبادلة ممكن فإن أدى الذي قبض الدراهم والطعام كله كان لهما أن يتبعا الأصيل بذلك نصفين لأن المؤدي للدراهم كان أصيلا في حق صاحبه وأداء كفيله كأدائه بنفسه وقد تم ملكه في حصته من الطعام بما أدى من الدراهم إلى صاحبه فيرجع على الأصيل بذلك والمؤدي للطعام كفيل عن الأصيل بالطعام وقد أدى فيرجع عليه بما لم يصل إليه عوضه من صاحبه وذلك نصف الطعام فلهذا رجعنا عليه بالطعام نصفين وإن أدى الطعام الذي دفع الدراهم اتبع صاحب الأصل بالجميع لأنه كان كفيلا عنه بجميع الطعام وقد أدى فيرجع على الكفيل الذي قبض الدراهم بنصف ما أدى الطعام لأنه دفع إليه الدراهم عوضا عن نصف الطعام الذي كان كفل به عنه ليؤديه إلى الطالب ولم يفعل فيرجع عليه بذلك إلا أن يشاء القابض للدراهم أن يرد الدراهم لأنه قبضها بطريق الصلح ومبنى الصلح على التجوز بدون الحق فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه رد نصف الطعام ويكمله عليه كان له أن يلتزم هذا الضرر ويرد عليه المقبوض من الدراهم إن شاء.
وإن شاء الكفيل الذي أدى الطعام اتبع صاحبه في الكفالة بجميع الطعام ليؤديه عنه إلى الطالب فإذا لم يفعل حتى أدى بنفسه كان له أن يرجع عليه بذلك أيضا إلا أن يشاء القابض(20/112)
ص -55- ... للطعام أن يرد عليه دراهمه مكان نصف الطعام فحينئذ يكون له ذلك فيدفع إليه دراهمه مع نصف الطعام فالمقبوض منه يكون مشتركا بينهما على قدر حقيهما وإن كانا كفيلين عن رجل بمائة درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بها ثم أن أحد الكفيلين صالح الآخر على عشرة دراهم على أن أبرأه ثم صالح الطالب الذي قبض العشرة على خمسة دراهم وأداها إليه فإنه يرد تسعة ونصفا على الكفيل الذي معه ثم يرجعان جميعا على الأصيل بخمسة لأن المؤدي للعشرة إنما أداها إلى صاحبها على أن يؤدي عنه العشرة وهو ما أدى إلى الطالب مما كفل عنه إلا درهمين ونصفا لأنه أدى إليه خمسة وهي شائعة في النصفين نصف ذلك مما هو فيه متحمل عن صاحبه فعرفنا أنه أدى إلى الطالب مما تحمل عن صاحبه درهمين ونصفا وصاحبه إنما بريء مما بقي بإبراء الطالب لأن عند اتحاد الجنس يتعدد تصحيح الصلح بطريق المبادلة فلهذا رجع المؤدي للعشرة على صاحبه بسبعة ونصف ثم كل واحد منهما يؤدي عن الأصيل درهمين ونصفا حكما فيرجعان عليه بالخمسة كذلك.(20/113)
ولو لم يكن هكذا ولكن الذي عليه الأصل صالح أحد الكفيلين على عشرة دراهم ودفعها إليه فهو جائز بطريق الإسقاط لما وراء العشرة مما استوجب الرجوع به عليه عند الأداء فإن أدى الكفيل الذي أخذ العشرة إلى الطالب المائة درهم لم يرجع على الأصيل ولا على صاحبه بشيء وقد صالح الأصيل على ما أخذ منه من العشرة وصار مبرئا له عما زاد على ذلك فلا يرجع عليه بشيء عند الأداء والكفيل معه إنما استفاد البراءة ببراءة الأصيل لا بأدائه لأن براءة الأصيل على أي وجه تكون تتضمن براءة الكفيل ولو أدى الكفيل الآخر المائة كان له أن يرجع على الكفيل الذي معه بخمسين درهما وعلى الأصيل بمثل ذلك لأنه صار مؤديا عن الكفيل الذي معه مقدار الخمسين ولو لم يجر بين الكفيل الآخر وبين الأصيل صلح كان لهذا المؤدي أن يرجع على الكفيل الآخر بما أدى عنه بالكفالة وهو مقدار الخمسين فبعد صلحه أولى وقد كان كفيلا عن الأصيل بالخمسين الأخرى وأداها عنه ثم يرجع الأصيل على الكفيل الذي صالحه بخمسة دراهم لأنه كان صالحه على عشرة دراهم ونصف ذلك مما كان هو الذي كفل به عنه ونصفه مما كفل به صاحبه على أن يكون هو المؤدي عنه فإذا لم يفعل كان له أن يرجع عليه بنصف تلك العشرة وهو خمسة وتسليم الخمسة الأخرى للمصالح لأن الكفيل الآخر لما رجع عليه بخمسين كان له أن يرجع بذلك على الأصيل لولا صلحه معه على هذه الخمسة وإبراؤه إياه عما زاد عليها إلى تمام الخمسين.
ولو صالح الأصيل الكفيلين جميعا على عشرة دراهم من جميع الكفالة فهو جائز وأيهما أدى بالكفالة المائة إلى الطالب فإنه لا يرجع على الأصيل بشيء إلا بخمسة لأن كل واحد منهما بالصلح قد أبرأه عما زاد على الخمسة إلى تمام ما كفل عنه ولو أبرأه عن ذلك بعد الأداء سقط حقه في الرجوع عليه فكذلك قبل الأداء وإن شاء رجع على صاحبه بالخمسة التي قبضها من الأصيل لأنه إنما كان قبض تلك الخمسة ليؤدي إلى الطالب ما(20/114)
ص -56- ... تحمل عن الأصيل ولم يؤد شيئا وإنما أداه الآخر فيكون هو أحق بتلك الخمسة يقبضها منه ولا يتبعان بشيء لما بينا أو المراد بقوله لا يرجع المؤدي على الأصيل إلا بخمسة سوى الخمسة التي قبضها صاحبه في الكفالة لأن المؤدي أدى تلك الخمسة بحكم الكفالة عن الأصيل وهو ما أبرأه منها فيرجع بها على الأصيل إن شاء ثم يرجع بها الأصيل على القابض منه وإن شاء رجع بها على صاحبه لما بينا وإن لم يؤد واحد من الكفيلين المال ولكن أدى الأصيل رجع على الكفيلين بعشرة دراهم بعينها لأنهما استوفيا العشرة منه ليؤديا عنه ما تحملا من الدين ولم يوجد ذلك حين أدى هو المال بنفسه فكان له أن يرجع عليهما بتلك العشرة ولا يرجع بما زاد على ذلك لأن رجوعه عليهما بحكم استيفائهما منه لا بحكم إسقاطهما عنه.(20/115)
ولو صالحهما على ثوب ودفعه إليهما ثم أنه أدى المائة إلى الطالب رجع على كل واحد منهما بقبض نصف الثوب منه في حكم المستوفي الخمسين بطريق المبادلة وإنما استوفى على أن يؤدي عنه حق الطالب فإذا لم يفعل ولكن أداها صاحبه وقد كان كفيلا عنه بها كان له أن يرجع بتلك الخمسين عليه وإن شاء رجع بها على الأصيل لأنه يتحمل تلك الخمسين عن الأصيل وقد أداها فإن رجع بها على الأصيل رجع بها الأصيل على الكفيل الذي لم يؤد شيئا إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه نصف الثوب الذي صالحه عليه لأنه استوفاها عنه ليؤديها عنه فإذا لم يفعل حتى أدى هو بنفسه إلى الكفيل المؤدي عنه كان ذلك بمنزلة أدائه إلى الطالب فيرجع بها على الذي لم يؤد شيئا إذ الذي لم يؤد شيئا صار مستوفيا بطريق التجوز بدون الحق فيتخير لذلك ولو لم يؤد مائة درهم ولكنه أدى عشرة دراهم فصالحه عليها الطالب فإنه لا يرجع على شريكه في الكفالة بخمسة دراهم ولكن الأصيل يرجع على الكفيل المؤدي للعشرة إلى الطالب بأربعين درهما وعلى الكفيل الآخر بخمسين لأن كل واحد منهما بقبض نصف الثوب منه صار قابضا للخمسين على أن يؤدي عنه ذلك إلى الطالب ولم يفعل ذلك الذي لم يؤد إلى الطالب شيئا وإنما بريء هو عن تلك الخمسين بإبراء الطالب إياه فكان للأصيل أن يرجع عليه بتلك الخمسين إلا أن يشاء هو رد نصف الثوب عليه والمؤدي للعشرة كان في حكم القابض للخمسين منه أيضا على أن يؤدي ذلك عنه وإنما أدى إليه عشرة فما زاد على العشرة إنما بريء الأصيل عنه بإبراء الطالب فيكون له أن يرجع على المؤدي للعشرة بقدر الأربعين لذلك ولا رجوع للمؤدي للعشرة على شريكه بنصف العشرة لأنه قد استوفى من الأصيل هذه العشرة وزيادة فكيف يرجع بشيء منها على شريكه ولو لم يؤد شيئا ولكن الأصيل صالح الطالب على عشرة دراهم فإنه يرجع على كل واحد من الكفيلين بخمسين درهما إلا أن يشاء رد الثوب عليه لأن كل واحد منهما في حكم المستوفي(20/116)
للخمسين منه ولكن بطريق التجوز بدون الحق.
ولو كان الأصيل صالح الكفيلين على عشرة دراهم وكان أحد الكفيلين صالح الطالب على أربعة دراهم فإنه لا يرجع على صاحب الدرهمين اللذين أدى عنه لما بينا أنه قبض(20/117)
ص -57- ... ذلك من الأصيل وزيادة ولكن يرد درهما على الأصيل لأنه قبض من الأصيل خمسة وما أدى عنه إلى الطالب إلا أربعة فإنما بريء عما زاد على الأربعة بإبراء الطالب ويرد صاحبه خمسة دراهم على الأصيل لأن صاحبه استوفى من الأصيل خمسة دراهم ولم يؤد عنه شيئا وإنما بريء هو من حصة صاحبه بإبراء الطالب ولو كان الأصيل صالحهما على ثوب ثم أن أحدهما صالح الطالب على دراهم على أن أبرأه من جميع المال لم يرجع على شريكه بشيء لأنه إنما أدى إلى الطالب درهما وقد صار مستوفيا من الأصيل مقدار الخمسين بالصلح على الثوب فلهذا لا يرجع على شريكه بشيء ولكن المصالح مع الطالب يرد على الأصيل تسعة وأربعين درهما وصاحبه يرد على الأصيل خمسين درهما لأن كل واحد منهما صار مستوفيا للخمسين درهما من الأصيل على أن يستفيد الأصيل البراءة من حق الطالب بأدائهما ولم يوجد ذلك فالذي صالح الطالب على الدراهم إنما أدى عنه الدراهم فقط فيرد عليه ما زاد على ذلك إلى تمام الخمسين والآخر لم يؤد عنه شيئا إلى الطالب فيرد عليه ما صار مستوفيا منه وذلك خمسون درهما.
وإذا كفل رجل بمال مؤجل ثم فاوض رجلا ثم حل الأجل لم يلزم شريكه من ذلك شيء أما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فلأن عقد المفاوضة لا يوجب المساواة بينهما في ضمان الكفالة أن لو كانت الكفالة بعد الشركة فإذا كانت قبلها أولى وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن كل واحد من المتفاوضين يكون كفيلا عن صاحبه فيما يجب على صاحبه بسبب يباشره بعد الشركة وهذا المال إنما لزمه بسبب باشره قبل الشركة لأن وجوب المال عليه بسبب الكفالة لا بحلول الأجل والأجل الذي كان مانعا من المطالبة يرتفع بمضي المدة فيبقى المال عليه بسبب الكفالة وقد كان قبل الشركة فهو بمنزلة ما لو اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم فاوض رجلا.(20/118)
ولو كفل بالمال مؤجلا وهو معاوضة ثم فارقه أو صار شريكه فإنه يلزم شريكه جميع الكفالة في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المال إنما لزمه بسبب باشره في حال قيام الشركة بينهما وإنما كان زوال المانع بعد انقطاع الشركة وكما وجب المال بمباشرة السبب على الذي باشره وجب على الآخر بحكم الكفالة عنه فيفسخ الشركة وانفساخها بالموت لا يسقط عنه ما كان لزمه كما لو اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم تفاسخا الشركة فإن أداها الشريك قبل الفرقة أو بعدها كان له أن يرجع على الذي أمر شريكه بالكفالة لأنه كما قام مقام الشريك في وجوب المال عليه والأداء إلى الطالب فكذلك في الرجوع على الأصيل وهذا لأن بالكفالة كما وجب المال للطالب على كل واحد من الشريكين وجب أيضا لكل واحد منهما على الأصيل الذي أمر أحدهما بالكفالة لأن أمره أحدهما كأمره إياهما فإنهما بعقد المفاوضة صارا كشخص واحد.
كذلك لو أداه بعد موت الكفيل لأنه مطالب بالمال بعد موته كأن مات قبله فإن مات(20/119)
ص -58- ... المفاوض الذي لم يكفل قبل حل الأجل فالمال يحل عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحل على الحي منهما لأن الأجل كان ثابتا في حق كل واحد منهما إلا أن الميت استغنى عن الأصيل بموته والحي يحتاج إلى ذلك والميت لا ينتفع ببقاء الأجل بل يتضرر بذلك لأن يد الوارث لا تنبسط في التركة والحي ينتفع بالأجل فيبقى الأجل في حق الحي منهما دون الميت وحلول المال على الميت منهما بعد الموت لا يوجب حلوله على الآخر لأن الشركة قد انقطعت بموته فأما في شركة العنان والمضاربة إذا كفل أحدهما بمال أو نفس لم يلزم شريكه منه شيء لأن الشركة بينهما تتضمن الوكالة في التجارة دون الكفالة فالدين الذي يجب على أحدهما بمباشرة سببه يكون الآخر كالأجنبي فيه فلا يطالب بشيء منه.
وإذا كان لرجل على رجل حنطة سلم وبه كفيل فأداه الكفيل ثم صالح المكفول عنه على دراهم أو عرض أو مكيل أو موزون يدا بيد فهو جائز لأن ما يرجع به الكفيل على الأصيل ليس بسلم فإن السلم اسم لما يجب بعقد السلم وهذا إنما يجب للكفيل على الأصيل بعقد الكفالة وهو عقد آخر سوى السلم
ألا ترى أنه لو كفل ببدل الصرف أو برأس مال السلم وأداه في المجلس ثم فارق الأصيل قبل أن يرجع به عليه جاز ذلك لأن ما يرجع به الكفيل على الأصيل بمنزلة بدل القرض فإن الكفيل يصير مقرضا ذمته من الأصيل بالالتزام للمطالبة بالكفالة ثم يصير مقرضا ماله منه بالأداء عنه فما يرجع به عليه يكون بدل القرض والاستبدال ببدل القرض صحيح ولو كان شيء من ذلك نسيئة لم يجز إلا الطعام لأن ذلك يكون دينا بدين فأما إذا صالحه بكر من حنطة إلى أجل فهو جائز لأنه لا مبادلة هنا بل هو تأجيل في عين ما استوجب الرجوع به عليه.(20/120)
فإن قيل فأين ذهب قولكم إنه بمنزلة القرض والأجل في القرض لا يلزم قلنا هو في حكم القرض وأما في الحقيقة فليس بقرض بل هو واجب بعقد مآلا وهو الكفالة والأجل في القرض إنما لم يلزم بمنزلة الإعارة وهو غير موجود فيما وجب بعقد الكفالة فلهذا صح تأجيله فيه ولو صالحه على شيء قبل أن يؤدي كان جائزا لأنه بنفس الكفالة وجب الدين للكفيل على الأصيل كما وجب للطالب على الكفيل ولكنه مؤجل على أن يؤدي عنه والصلح عن الدين المؤجل قبل حلول الأجل صحيح فإن أدى الأصيل الطعام إلى الطالب رجع على الكفيل بطعام مثله في ذلك كله ما خلا خصلة واحدة وهي ما إذا كان صالحه على طعام أقل من ذلك فإنه لم يرجع إلا بمثل ما أعطاه لأن هذا كان منه إسقاطا لبعض حقه واستيفاء للبعض فلا يرجع عليه إلا بقدر ما أوفاه وفيما سواه كان الصلح بينهما مبادلة وكان الكفيل كالمستوفي منه جميع الطعام بما أخذه من عوضه وإنما استوفى ذلك ليقضي عنه ما عليه للطالب فإذا لم يفعل كان للأصيل أن يرجع عليه بما استوفى منه كما إذا أوفاه الطعام حقيقة.
ولو أخذ الكفيل الطعام من الأصيل قبل أن يؤديه ثم أداه كان التأجيل صحيحا لأنه(20/121)
ص -59- ... استوجب المال عليه بعقد الكفالة قبل الأداء والتأجيل في الدين بعد وجوبه صحيح ولو صالح الكفيل الأصيل على دراهم ثم افترقا قبل أن يقبضها فالصلح باطل لأنه استوجب عليه الطعام دينا فإذا صالحه على دراهم كان دينا بدين فلا يكون عفوا بعد المجلس والدراهم لا تتعين بالتعيين ما لم تقبض وكذلك لو صالحه على شيء بغير عينه مما يكال أو يوزن ما خلا الطعام فإنه إن صالحه على نصف كر حنطة إلى أجل فهو جائز لأنه لا مبادلة بينهما في هذا الصلح وإنما حط عنه نصف الكر وأجله في ذلك النصف وذلك مستقيم والله أعلم.
باب الكفالة والحوالة إلى أجل
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل مائة درهم إلى أجل مسمى فضمنها رجل عنه إلى أجل دون ذلك أو أكثر منه أو مثله فهو جائز على ما سمى أما إذا لم يسم الكفيل شيئا فالمال عليه إلى ذلك الأجل لأنه بالكفالة إنما يلتزم المطالبة التي هي ثابتة على الأصيل والمطالبة بهذا المال على الأصيل بعد حل الأجل فيثبت ذلك على الكفيل أيضا وأما إذا كفل به إلى مثل ذلك فقد صرح بما هو مقتضى مطلق الكفالة والتصريح بمقتضى العقد لا يزيده إلا وكادة وأما إذا كفل به إلى أجل دون ذلك فلأنه لو كفل به حالا لزمه المال في الحال لأن الأصيل لو أسقط الأجل لزمه المال في الحال فكذلك الكفيل وكفالته على أن يؤديه حالا بمنزلة إسقاط الأجل فإذا جاز في جميع الأجل جاز في بعضه وإن كفل به إلى أجل أكثر من ذلك فلأنه لو كان المال حالا على الأصيل فكفل به الكفيل إلى أجل مسمى صح ولم يطالب الكفيل إلا بعد حل الأجل.(20/122)
فكذلك إذا كفل به إلى أجل أكثر من الأجل في حق الأصيل فإن كان أصل المال حالا فأخذ الطالب المطلوب حتى أقام له به كفيلا إلى سنة فهو جائز والتأخير عنهما جميعا لأنه أضاف التأجيل إلى أصل المال وأصل المال ثابت في ذمة المطلوب فيثبت الأجل فيه ثم يثبت في حق الكفيل بثبوته في حق الأصيل وهذا بخلاف ما إذا أجل الكفيل سنة لأن التأجيل هنا غير مضاف إلى أصل المال بل هو مضاف إلى المطالبة التي التزمها الكفيل بالكفالة فيبقى أصل المال حالا على الأصيل ولو أن الكفيل أخر المطلوب بعد الحل إلى أجل مسمى كان التأخير عن المطلوب للكفيل دون الطالب لأنه أضاف التأخير إلى ما استوجبه على الأصيل بالكفالة وذلك في حكم دين آخر سوى دين الطالب ولأن التأخير تصرف من الكفيل بإسقاط حق المطالبة إلى مدة وذلك صحيح منه على نفسه دون الطالب ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب أو أبرأه عن بعضه جاز ذلك عليه دون الطالب ولم يرجع به على المكفول عنه حتى يمضي الأجل كما لو أجله بعد الأداء ولو أجل المال عليهما ثم أخر الطالب الأصيل سنة فهو تأخير عنهما ولو أخر الكفيل سنة كان له أن يأخذ الأصيل بها حالة اعتبارا للتأجيل بالإبراء فكما أن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل وإبراء الأصيل يوجب براءة الكفيل فكذلك التأخير وبعد ما أخر الأصيل إذا أدى الكفيل المال قبل الأجل لأن(20/123)
ص -60- ... إسقاط الكفيل الأجل صحيح منه فيما بينه وبين الطالب ودعواه غير صحيحة منه في حق المطلوب
وإن كان أخر الكفيل سنة ثم أداه الكفيل قبل الأجل كان له أن يرجع على الأصيل في الحال لأن المال حال على الأصيل ألا ترى أن الطالب كان يطالبه به حالا فكذلك الكفيل يطالبه حالا بعد الأداء بخلاف ما سبق والكفالة بالقرض إلى أجل مسمى جائزة لأن بدل القرض مضمون تجري النيابة في أدائه فتصح الكفالة به وهو على الكفيل إلى أجل وعلى المكفول عنه حالا لما بينا أن الكفيل إنما التزم المطالبة بالعقد وذلك يقبل التأخير بالتأجيل.
ولو كفل رجل مالا عن رجل ثم كفل به عن الكفيل كفيل آخر وأخر الطالب عن الأصيل سنة فهو تأخير عن الكفيلين لأن أصل المال في ذمة الأصيل فإذا صار ما في ذمته مؤجلا ثبت الأجل فيما هو بناء عليه ألا ترى أنه لو أبرأ الأصيل منها بريء الكفيلان جميعا وإن أخر عن الكفيل الأول فهو تأخير عنه وعن الكفيل الآخر والمال على الأصيل حال اعتبار التأجيل بالإبراء وهذا لأن المطالبة التي التزمها الكفيل الثاني بناء على المطالبة التي هي على الكفيل الأول فالتأجيل في حق الكفيل الأول يكون تأجيلا في حق الثاني دون الأصيل ولو كفل رجل عن رجل بألف درهم إلى سنة ثم أن الكفيل باع الطالب بها عبدا قبل الأجل وسلمه إليه فاستحق العبد فالمال على الكفيل إلى أجله بمنزلة ما لو كانت هذه المعاملة للطالب مع الأصيل وهذا لأن الأجل إنما سقط حكما للعقد وقد انتقض العقد من الأصيل باستحقاق العبد فكان المال عليه إلى أجله.
وكذلك لو رده المشتري بعيب بقضاء قاض لأن الرد بالعيب بقضاء القاضي فسخ للعقد من الأصل(20/124)
ولو رد بغير قضاء قاض ولم يسم أجلا فالمال حال على الكفيل لأن هذا بمنزلة الإقالة بمنزلة العقد الجديد فإنها تعتمد التراضي إلا أنها جعلت فسخا فيما بين المتعاقدين فيما هو من أحكام العقد الذي جرى بينهما والأجل ليس من ذلك في شيء فكان في حكم الأجل هذا بمنزلة عقد مبتدأ فلا يثبت الأجل في بدله إلا بالشرط ولو كان قضاه الألف معجلة نبهجرة فوجدها ستوقة فردها عليه كان المال عليه إلى أجله لأنه تبين أنه ما صار قابضا لدينه وسقوط الأجل من حكم قبضه فإذا لم يصر قابضا كان المال مؤجلا عليه.
وكذلك إن وجدها زيوفا فردها بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض لأن الرد بعيب الزيافة فسخ للقبض من الأصل بدليل أن الراد ينفرد به وأن يرجع بموجب العقد والعقد لا يوجب التسليم مرتين فلو لم ينتقض القبض من الأصل ما كان له أن يرجع بموجب العقد وهذا لأن الزيوف غير الجياد التي هي دين في الذمة فالمقبوض إنما يكون حقا له على أن يتجوز به فإذا لم يتجوز به ورده عرف أن المقبوض لم يكن حقا له وسقوط الأجل كان باعتبار أنه قبض حقه فإذا انعدم ذلك بقي الأجل كما كان وإن كان حين أعطاه المال أعلمه أنها زيوف فهو جائز لأنه تجوز بدون حقه فيصير الكفيل به قابضا دينه ولا يجعل هذا مبادلة للأجل(20/125)
ص -61- ... بالصفة لأنه كان من غير شرط بينهما وإنما تتحقق المبادلة إذا كان شرط ثم يرجع الكفيل على الأصيل بالجياد لأنه بالكفالة استوجب ذلك عليه.
ولو أن الكفيل أحاله بالمال على رجل إلى أجل أو حال فمات المحتال عليه مفلسا رجع المال على الكفيل إلى أجله لأن الحوالة تنفسخ بموت المحتال عليه مفلسا على ما بينا فإنما يعود الحكم الذي كان قبل الحوالة وهو أن المال عليه إلى أجله ولو كفل رجل عن رجل بألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه على أن المال على أحدهما إلى سنة وعلى الآخر إلى سنتين فهو جائز لأن هذا هو الشرط لما جاء في الحديث الشرط أملك أي يجب الوفاء به إذا أمكن وهو ممكن هنا لما بينا أن ما يلتزمه كل واحد من الكفيلين ينفصل عما يلتزمه الآخر في حكم الأجل فإن حل الأجل على صاحب السنة بأدائه رجع به على الأصيل لأن المال عليه حال وقد كفل هذا الكفيل عنه بأمره وأداؤه لا يرجع به على الكفيل الآخر حتى تمضي سنة أخرى لأن المال عليه مؤجل إلى سنتين وهو كفيل عنه إلى سنة فكما أن الطالب لا يطالبه بذلك إلا بعد سنتين فكذلك المؤدي عنه بحكم الكفالة لا يطالبه بشيء منه حتى تمضي السنتان ولو كان الأصيل باع الطالب عبدا بالمال وسلمه إليه بريء الكفيل من الكفالة لبراءة الأصيل فإن رد الطالب العبد عليه بعيب بغير قضاء قاض لم يرجع المال على الكفيل لأن هذا الرد بمنزلة عقد مبتدأ في حق الكفيل وإن رده بقضاء قاض أو استحق العبد من يده رجع المال على الكفيل لأن بهذا السبب ينفسخ العقد من الأصل في حق الكل فيعود ما كان قبل العقد وهو المال على الأصيل والكفيل جميعا.(20/126)
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم حالة أو إلى سنة فأحاله بها على رجل إلى سنة ثم مات المحيل وهي على المحتال عليه إلى الأجل لأن بالحوالة تحول أصل المال إلى ذمة المحتال عليه وثبت الأجل حقا له وهو حي محتاج إلى الأجل فيبقى الأجل في حقه بعد موت المحيل وإن مات المحتال حل المال عليه لأنه استغنى عن الأجل بموته فإن لم يترك وفاء رجع المال إلى المحيل فإن كان إلى أجل فهو عليه إلى ذلك الأجل وإن لم يكن له أجل فهو حال عليه لأن الحوالة تنفسخ بموت المحتال عليه مفلسا فعاد ما كان من الحكم قبل الحوالة ولو كان لرجل على رجل ألف درهم قرض وللمطلوب على آخر ألف درهم قرض فأحال المطلوب الطالب بالألف التي للمطلوب على الآخر إلى سنة فهو جائز وهي له إلى سنة لأنها إنما تجب للطالب على المحتال عليه بعقد الحوالة والواجب بعقد الحوالة كالواجب بعقد الكفالة في صحة اشتراط الأجل فيه وليس للمحيل أن يأخذ المحتال عليه بالألف التي كانت له عليه لأنه إنما قبل الحوالة مقيدة بذلك المال فصارت مشغولة بحق الطالب ولا يبقى للمحيل سبيل على أخذها لو كانت عينا له في يد المحتال عليه فكذلك إذا كانت دينا في ذمته وإن أبرأه منها أو وهبها له لم يجز لأن حق الطالب تعلق بها وذلك يوجب الحجر على المحيل عن التصرف فيها ولو صح منه هذا التصرف بطل حق الطالب قبل المحتال(20/127)
ص -62- ... عليه لأنه ما التزم الحوالة بالمال مطلقة وإنما التزمها مقيدة بذلك المال فإذا سقطت عنه بالإبراء أو الهبة لم يبق عليه مطالبة بشيء.
ألا ترى أن الحوالة لوكانت مقيدة بوديعة في يد المحتال عليه فهلكت تلك الوديعة بطلت الحوالة فإن مات المحيل وعليه دين فما كان قبض المحتال له في حياته فهو له وما لم يقبضه فهو بينه وبين الغرماء وعلى قول زفر رحمه الله الطالب أحق به من الغرماء لأنه بمنزلة المرهون وقد تقدم بيان هذه المسألة فيما أمليناه من شرح الزيادات ولو أحال رجل رجلا على رجل بألف درهم إلى سنة ثم أن المحتال عليه ترك الأجل وجعلها حالة كان ذلك جائزا لأن الأجل حقه فيسقط بإسقاطه كما لو أسقط الأصيل الأجل قبل الحوالة فإن أداها لم يرجع بها على الأصيل المحيل حتى يمضي الأجل لأن إسقاط الأجل صحيح في حقه لا في حق المحيل ولو كان دينا للمحيل على المحتال عليه ثم أن المحيل قضى المال من عنده كان له أن يرجع بها على المحتال عليه وليس هذا بتطوع عنه لأن أصل دينه بقي على المحتال عليه إلا أنه كان لا يطالبه به لاشتغاله بحق الطالب فإذا زال ذلك الشغل بأن قضاه المال من عند نفسه كان له أن يرجع بها على المحتال عليه وإنما لم يجعل هذا تطوعا منه لأنه قصد به تخليص ذمته عن حق الغرماء بخلاف ما إذا قضاه عنه غيره فإنه يكون متطوعا في ذلك لأنه ما قصد هذا المؤدي تخليص شيء لنفسه وهو نظير المعير للرهن إذا قضى الدين لم يكن متبرعا فيه بخلاف ما إذا قضاه غيره.(20/128)
وإذا كان المؤدي متطوعا كان المال الذي عليه له لا سقوط دين الطالب عنه بإبراء المتطوع كسقوطه بأداء نفسه ولو أحال رجل بمال لابنه الصغير على رجل إلى رجل لم يجز وكذلك الوصي لأن الحوالة إبراء الأصيل والأب والوصي لا يملكان الإبراء في دين الصغير وكذلك الوكيل إذا لم يفوض إليه الموكل ذلك والمراد الوكيل بالقبض لأنه ثابت في الاستيفاء وقبول الحوالة إبراء للأصيل وليس باستيفاء فأما الوكيل بالعقد إذا أحال رجل على رجل بمال إلى أجل ثم أن المحتال عليه أحاله على آخر إلى أجل مثل ذلك أو أكثر أو أقل لم يكن له أن يرجع على الطالب حتى يقبض الطالب ماله لأن بالحوالة لم يصر الطالب مستوفيا شيئا والمال بعرض العود على الأصيل فإنه تنفسخ الحوالتان بموت المحتال عليه عليهما مفلسين.
ولو احتال رجل على رجل بمال إلى أجل ثم مات المحتال عليه وترك وفاء وعليه دين فكان في طلب الغرماء وقسمته تأخير بعد الأجل لم يكن للطالب أن يرجع على الأصيل حتى ينظر إلى ما يصير أمره لأن الحوالة باقية بعد موت المحتال عليه مليا فإن تركته خلف فيما هو المقصود وهو قضاء الدين منه ومع بقاء الحوالة لا سبيل للطالب على المحيل في المطالبة بشيء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(20/129)
ص -63- ... باب الأمر بالضمان
قال رحمه الله: وإذا أمر رجل رجلا أن يضمن لرجل ألف درهم وليس بخليط له فضمنها له فهي لازمة الكفيل يأخذه بها الطالب لأنه التزمها وهو من أهله والمضمون ما يكون لازما في ذمته ويكون هو مجبرا على أدائه فإذا أداها لم يرجع بها على الآمر لأنه لم يأمره أن يضمن عنه ولم يشترط الكفيل لنفسه ضمانها عليه وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله ثم رجع فقال يرجع بها على الذي أمره لأن أمره إياه بالضمان بمنزلة الاعتراف منه أن المال عليه وأنه يلتزم المطالبة عليه من المال ويسقط المطالبة عنه بالأداء وقد بينا هذه المسألة فأعادها في الفروع ولم يذكرها فيما سبق.
وقال إن قال الكفيل إني لم أضمن لك دينا كان لك على أحد وإنما ضمنت لك مالا لم يكن علي ولا على غيري فإن الطالب لا يكلف شيئا ولا يطلب منه تفسير وجه هذا المال من أين كان وكيف كان ولكن كان الكفيل يؤخذ بالضمان بإقراره أو بالبينة التي قامت للطالب عليه بالضمان والكفيل هو الذي ضيع حقه حين كفل على وجه لا يستطيع الرجوع به على أحد وهذا لأن مطلق العقود الشرعية محمولة على الصحة وقد باشر الكفيل الكفالة ظاهرا ووجه صحتها أن يكون ملتزما للمطالبة بما هو واجب على الأصيل فيصير هو مقرا بذلك ثم هو بالكلام الثاني رجع عما أقر به أولا فيكون رجوعه باطلا وإقراره وإن لم يكن حجة على غيره فهو حجة عليه بمنزلة ما لو قال لفلان على فلان ألف درهم وأنا بها كفيل عنه بأمره وأنكر الأصيل ذلك كله فإن المقر يطالب بالمال ولا يرجع به على أحد إذا أدى.(20/130)
وكذلك لو قال رجل لآخر أكفل لفلان بألف درهم ففعل أو قال احتال عليك فلان بألف درهم فأشهد له الآخر أنه قال احتال عليه بألف درهم فالمال لازم للكفيل لمباشرته سبب الالتزام وهو الكفالة والحوالة وليس على الآمر من ذلك شيء لأنه أمره بالكفالة عنه وليس من ضرورة أمره إياه بالكفالة والحوالة وجوب أصل المال عليه لأن الكفالة والحوالة من المباشر كما تجوز بالمال الذي على الآمر لفلان تجوز بالمال الذي على غيره لفلان ويحتمل أن يكون الآمر رسول ذلك المطلوب إليه أو فضوليا أمره بذلك ومع الاحتمال لا يثبت المال عليه وكذلك لو كان الآمر عبدا أو مكاتبا أو صبيا.
وإن كان المأمور صبيا تاجرا لم يجب عليه الضمان لأنه ليس من أهل الالتزام بالكفالة سواء كان المال على الآمر أو غيره وإن كان المأمور مرتدا فإن أسلم فضمانه جائز عليه وإن قتل على الردة فضمانه باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله كسائر تصرفاته وإن لحق بالدار فذلك بمنزلة موته فنقول إن رجع مستأمنا أخذناه بالضمان هكذا في بعض النسخ من الأصل والصحيح فإن رجع مسلما لأن المرتد لا يعطي الأمان وإذا خرج مستأمنا قتل على الردة إن لم يسلم وكان الضمان باطلا عند أبي حنيفة رحمه الله.(20/131)
ص -64- ... وإذا قال رجل لآخر: أضمن لفلان ألف درهم التي له علي أو قال أحلت لفلان عليك بألف درهم له علي أو قال اضمن لفلان ألف درهم على أنها لك علي أو قال على أني ضامن لها أو قال علي أني كفيل بها أو قال على أن أؤديها إليك أو قال على أن أؤديها عنه فضمن له فهو جائز ويرجع به الكفيل على الآمر إذا أداه لأن في كلام الآمر تصريحا بوجوب المال عليه للطالب فيكون هذا أمرا منه للمأمور في ذمته مما يؤديه من ماله أو التزاما له ضمان ما يؤديه إلى الطالب وذلك يثبت حق الرجوع له عليه إذا أدى وإذا أمر رجل خليطا له أن يضمن لفلان ألف درهم فضمنها له والآمر مقر بأن الألف عليه فأدى الكفيل المال رجع به على الآمر استحسانا لأن الخلطة بينهما تقوم مقام تصريحه بالأمر بالكفالة عنه فإن الخلطة بينهما مقصودة لهذا وهو أن يؤدي عنه ما عليه ليرجع به عليه فنزل ذلك منه منزلة قوله اضمن لفلان عني(20/132)
والخليط عندنا هو الذي يأخذ منه ويعطيه ويداينه ويضع المال عنده وكل من في عياله فهو بمنزلة الخليط نحو ابنه الكبير إذا كان في عياله لأنه يحفظ ماله في يده ولهذا لو وضع الوديعة عنده لم يكن ضامنا وكذلك إن أمر الابن أباه والابن كبير في عيال أبيه أو المرأة زوجها فهو مثل ذلك كل واحد منهما يحفظ ماله بيد صاحبه فذلك بمنزلة الخلطة بينهما وإذا أحال رجل رجلا على رجل بألف درهم كانت للمحيل على المحتال عليه فأداها فقال المحيل المال لي وقال المحتال المال لي فالقول للمحيل لأن وجوب المال للمحيل على المحتال عليه معلوم ووجوب المال للمحتال غير معلوم وفي هذه الحوالة احتمال يجوز أن يكون المحتال وكيلا له في قبضها من المحتال عليه ويجوز أن يكون مقصوده إسقاط مطالبة المحتال عن نفسه بمال كان له عليه فلا يجب المال بالشك للمحتال على المحيل ولا يثبت مع الاحتمال إلا أدنى الأمرين وهو أن يكون المحتال وكيلا للمحيل في قبض المال فإذا قبضها أمر بتسليمها إليه حتى يثبت دين نفسه على المحيل.(20/133)
وكذلك لو قال له: اضمن له ألفي التي لي عليك أو اكفل له بألفي التي لي عليك لأنه ليس في كلامه إقرار بوجوب المال للطالب على الآمر ويحتمل أن يكون وكيلا له في قبضه من مديونه ولو أن رجلا أتى خليطا له فقال اضمن لفلان ألف درهم فضمنها له وأداها إليه فللآمر أن يأخذها من المضمون له وهو وكيل للآمر في ذلك وليس للكفيل أن يمتنع من دفعها إلى المكفول لأنه ليس في كلامه إقرار بوجوب المال المضمون له عليه والخلطة بين الآمر وبين الضامن لا بينه وبين المضمون له وتلك الخلطة لا تكون دليل وجوب المال المضمون له على الآمر فلهذا كان المضمون له وكيل الآمر إذا قبض المال أمر بالدفع إليه وليس للضامن أن يمتنع عليه من دفعها إلى المضمون له لأنه التزمها له بعقد الكفالة إلا أن يحضر الآمر فإن حضر وادعى أن المال له على المأمور كلف إقامة البينة على ذلك وإلا حلف المأمور وبرئ منهما فإذا حلف بريء من حق الآمر والمضمون له وكيل من جهته(20/134)
ص -65- ... وبراءته عن مطالبة الموكل توجب البراءة من مطالبة الوكيل ضرورة لأنه ادعى لنفسه دينا عليه فيحتاج إلى إثباته بالبينة وإذا لم يكن له بينة فالقول قول المنكر مع يمينه.
ولو كان المأمور ليس بخليط للآمر كان الضمان جائزا لأنه التزمه بعقد الكفالة والمال للمكفول له دون الآمر لأن المكفول له لا يمكن أن يجعل وكيلا للآمر هنا فإن ذلك لا يكون إلا بعد وجوب المال للآمر على المأمور وليس في لفظه ما يدل على ذلك ولا يثبت بينهما بدل على أنه إنما ضمن المال له وكان هذا التزاما من المأمور للمكفول له خاصة ولو كان الكفيل خليطا للمكفول له لم يرجع على الآمر بشيء لأنه لا سبب بين الآمر وبين المأمور والخلطة التي بين الكفيل والمكفول له لا تكون دليلا على أن الآمر إنما أمر المأمور بالضمان عنه فلهذا لا يرجع عليه بشيء إلا في قول أبي يوسف الآخر رحمه الله على ما بينا والله أعلم بالصواب.
باب تكفيل القاضي في الدعوى(20/135)
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل على رجل مالا عند القاضي فأنكره وسأل المدعي أن يأخذ له كفيلا منه بنفسه وادعى أن له بينة حاضرة أخذ له منه كفيلا معروفا بنفسه ثلاثة أيام وفي القياس لا يأخذ كفيلا لآخر بنفس الدعوى لا يجب شيء على الخصم لكون الدعوى خبرا محتملا للصدق والكذب وفي الإجبار على إعطاء الكفيل إلزام شيء أباه وإنما تركنا القياس للتعامل من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا فإن القضاة يأمرون بأخذ الكفيل من الخصوم من غير نكير منكر ولا زجر زاجر وفيه نظر للمدعي لأنه إذا أحضر شهوده فلا بد من حضور الخصم ليشهدوا عليه وربما يهرب أو يخفي شخصه فيعجز المدعي عن إثبات حقه عليه وفي أخذ الكفيل بنفسه ليحضره نظر للمدعي ولا ضرر فيه على المدعى عليه فهو نظير الاستخلاف والخصم يستحلف عند طلب المدعي بعد إنكاره وإن لم تتوجه له حق في تلك الدعوى ولكن فيه منفعة للمدعي من غير ضرر فيه على الخصم إذا كان محقا في إنكاره وكذلك الأشخاص إلى بابه يثبت بنفس الدعوى بما لها من النظر للمدعي فكذلك أخذ الكفيل وشرط أن يكون الكفيل معروفا لأن مقصود المدعي لا يحصل بالمجهول فقد يهرب ذلك المجهول مع الخصم والتعذير بثلاثة أيام ليس بلازم ولكن يأخذ كفيلا إلى المجلس الثاني.
وقد كان القاضي فيهم يجلس بنفسه كل ثلاثة أيام وإن كان يجلس في كل يوم فربما يعرض للمدعي عارض فيتعذر الحضور في المجلس أو المجلسين وإنما أخذ الكفيلين لنظر المدعي فيؤخذ الكفيل على وجه لا يؤدي إلى التعنت في حق المدعي وإن قال بينتي غيب لم يأخذ له منه كفيلا لأنه لا فائدة في أخذ الكفيل هنا فالغائب كالهالك من وجه وليس كل غائب يؤوب وإن أراد المدعي استحلاف الخصم يمكن منه في الحال فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل وكذلك إن أقام شاهدا واحدا لأن بالشاهد الواحد لا يثبت للمدعي شيء كما(20/136)
ص -66- ... يثبت بنفس الدعوى وإن قال لا بينة لي وأنا أريد أن أحلفه فخذ لي منه كفيلا لم يأخذ منه كفيلا ولكنه يستحلفه مكانه لأن حكم اليمين لا يختلف باختلاف الأوقات والقاضي مأمور بفصل الخصومة في أول أحوال الإمكان وذلك في أن يستحلفه للحال بكون المدعي طالبا لذلك فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل وإن قال بينتي حاضرة فخذ لي منه كفيلا فقال المطلوب له ولي كفيل فإنه يأمر الطالب أن يلزمه إن أحب حتى يحضر شهوده لأن الملازمة فعل متعارف قد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يلازم غريما له الحديث وليس تفسير الملازمة أن يقعده في موضع ويقعد إلى جنبه فإن ذلك حبس وليس له ذلك قبل أن يثبت دينه عليه ولكن تفسير الملازمة أن يدور معه حيثما دار فإذا دخل على أهله قعد من يلازمه على باب داره وإن كان يخاف أن يهرب من جانب آخر فإما أن يقعد معه على باب داره حيث يراه أو يأذن له في أن يدخل معه ليلازمه إذ المقصود هو الأمن من هروبه والتمكن من إحضاره إذا أحضر شهوده ولا يحصل إلا بذلك وإن أحب أن يستحلفه فعل لأن اليمين حق الدعوى قبل المدعى عليه وله فيه غرض صحيح وهو التوصل إلى حقه في أقرب الأوقات بنكوله وفيه اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهما الله وموضع بيانه شرح أدب القاضي للخصاف رحمه الله ولا ينبغي أن يسجنه لأن الحبس أقوى العقوبات في دعوى المال فلا يثبت بمجرد الدعوى قبل أن يثبت المال عليه.(20/137)
وإن قال الطالب: خذ لي منه كفيلا بالعين التي ادعيتها في يده أخذ له كفيلا بها أيضا لأنه لا يتمكن من إقامة البينة إلا بإحضار العين وربما يخفيها الخصم ولا وجه لإخراجها من يده قبل إقامة المدعي حجته وكان أخذ الكفيل بها وأخذ الكفيل بنفسه سواء وإن كان الكفيل بنفسه وبذلك الشيء واحدا جاز لأن المقصود حاصل وإن أراد الطالب كفيلا بنفسه ووكيلا في خصومته فإن القاضي يأمر المطلوب أن يعطيه ذلك ثلاثة أيام هكذا قال هنا لأن الخصم ربما لا يبالي بالكفيل بالنفس ويهرب فلا يتمكن المدعي من إثبات حقه بالبينة على الكفيل وفي الزيادات قال لا يجبر على إعطاء الوكيل في خصومته هذا هو الأصح لأن المدعى عليه يقول أنا أهدي إلى الخصومة من غيري خصوصا في هذه الحادثة وربما لا ينظر الوكيل ولا يشتغل بالدفع بما أشتغل به إذا حضرت ففي الإجبار على إعطاء الكفيل إضرار به والقاضي ينظر لأحد الخصمين على وجه لا يضر بالآخر فإذا أراد الطالب أن يكون ضامنا لما قضى له عليه فإن القاضي لا يجبر المطلوب على ذلك لأن بعد إثبات الدين لا يجبر الخصم على إعطاء الكفيل به فقبل إثباته أولى وهذا بخلاف ما إذا كان المدعي عينا فإن هناك لا يتمكن من إثبات المدعي إلا بإحضار العين وهنا يتمكن من إثبات الدين عند إحضار الخصم وإنما الكفيل بالمال هنا للتوثق لجانب المطالبة ولم تتوجه له مطالبة بالمال قبل إثباته فكيف يجبر على إعطاء الكفيل به وإن بعث القاضي مع الطالب رسولا يأخذ له(20/138)
ص -67- ... كفيلا فكفل به الكفيل الطالب أو أحضره القاضي فكفل عنده ثم رده الكفيل إلى الطالب بريء لأن الكفالة كانت له وقد أوفاه حقه حين سلم نفس الخصم إليه.
وإن كانت الكفالة للقاضي أو لرسوله الذي كفل له به وقال زفر رحمه الله يبرأ لأن الكفالة للطالب في الوجهين جميعا فإنها تنبني على دعواه ولكنا نقول المقصود لا يعتبر مع التصريح بخلافه وقد صرح الكفيل بالتزام النفس إلى القاضي أو إلى رسوله فلا يبرأ بدونه وإن كفل له بنفسه إلى ثلاثة أيام فتغيب الطالب فالكفيل على كفالته حتى يدفع صاحبه إليه ويبرأ منه لأن التزام التسليم إليه لا يبرأ بمضي الوقت بدون الوفاء بما التزم والعبد التاجر والمكاتب والصبي التاجر مطلوبا كان أو طالبا والمستأمن والذمي والمرتد في جميع ذلك بمنزلة الحر المسلم لأن الكفالة بالنفس تنبني على الدعوى والدعوى صحيحة من هؤلاء وعليهم.
وإن قدم رجل مكاتبه إلى القاضي وادعى مضي أجل الكتابة وقال بينتي حاضرة فخذ لي منه كفيلا بنفسه لم يأخذه لأنه عبده والمولى لا يستوجب على عبده حقا قويا يصح التزامه بالكفالة ألا ترى أنه لو كفل عن المكاتب لمولاه ببدل الكتابة الذي عليه لم يجز ذلك وكذلك لا يأخذ كفيلا بنفسه في دعوى ذلك قبله ألا ترى أن المكاتب يتمكن من أن يعجز نفسه فلا يطالب بشيء من ذلك وكذلك لو ادعى على عبد له تاجر دعوى وعليه دين أو لا دين عليه فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا ولو ادعى المكاتب قبل مولاه دينا فإنه يؤخذ للمكاتب كفيل بنفس المولى لأنه يستوجب قبل مولاه من الحق ما يستوجبه قبل غيره ألا ترى أنه لو كفل كفيل بالدين الذي له على مولاه جاز فكذلك يؤخذ له الكفيل بنفسه وكذلك العبد التاجر يدعي قبل مولاه دينا وعلى العبد دين لأن كسبه حق غرمائه فهو يستوجب قبل مولاه حق غرمائه وإن لم يكن على العبد دين لم يؤخذ له من مولاه كفيل لأن كسبه خالص حق المولى ولا حق له قبل مولاه إذا لم يكن عليه دين.(20/139)
وإن ادعى رجل دعوى والمدعى عليه محبوس في حق رجل فأراد الطالب أن يخرجه من السجن حتى يخاصمه فقال الذي حبسه خذ لي منه كفيلا بنفسه فيما لي عليه فإنه يخرجه له ويخاصمه وهو معه حتى يرده إلى محبسه ولا يأخذ منه كفيلا بنفسه لأنه في يده وهو محبوس معناه إنما يخرجه مع أمينه وهو في السجن محبوس في يد أمينه فكذلك إذا أخرجه ولا غرض للطالب هنا في المطالبة بالكفيل سوى التعنت فلا يحبسه القاضي إلى ذلك وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في الكفالة بالنفس لا يجعل لها أجلا إنما ذلك على قدر خلوصه إلى القاضي حتى إذا كان يمكنه من التقدم إلى القاضي في أكثر من ثلاثة أيام جاز ذلك على أكثر من ثلاثة أيام وهذا عندهم جميعا لأن المعتبر توفير النظر على المدعي وإذا كانت الدعوى في شيء بعينه فخفت أن يغيبها المطلوب وكانت غير معينة وضعتها على يدي عدل ولم أجعل لذلك وقتا وجعلته بمنزلة الكفالة لأن في التعديل هنا معنى النظر(20/140)
ص -68- ... للمدعي وليس فيه كثير ضرر على المدعي وقد بينا أنه يأخذ كفيلا بتلك العين ولكن المقصود ربما لا يتم بأخذ الكفيل بأن يغيبها الخصم ولم يعرف الشهود أوصافها فلا يتمكنون من أداء الشهادة فإن كان ذلك مما يعرفه الشهود أو مما لا يمكن تعيينه أصلا لم يصفه على يدي عدل لأن النظر يتم بأخذ الكفيل بمحضر من ذلك الشيء وأما العقار فليس فيه كفالة ولا يوضع على يدي عدل حتى يقيم البينة لأن تعيينه غير ممكن ولا حاجة إلى إحضارها لإقامة البينة وإنما إقامة البينة بذكر الحدود فإن قامت بينة وكانت أرضا فيها نخيل تمر فلا بد من أن يوضع هذا على يدي عدل إذا خيف على المطلوب استهلاكه لأنه لما أقام البينة فقد ثبت حقه من حيث الظاهر.(20/141)
ألا ترى أنه لو قضى القاضي له قبل أن تظهر عدالة الشهود بعد قضائه فمن تمام النظر له أن يوضع على يدي عدل لكيلا يتمكن المطلوب من استهلاكه ويؤخذ الكفيل في دعوى الدين وفي العتق والطلاق وجميع أجناس حقوق العباد مما لا يندرئ بالشبهات وإذا ادعى المدعي ألف درهم وقال سله أيقر بمالي أو ينكره فإنه ينبغي للقاضي أن يسأله عن ذلك ليعلم المدعي أنه بماذا يعامله الناس فإن أنكر قال للمدعي أحضر بينتك وإن لم يقر ولم ينكر قال للمدعي أحضر البينة لأن الساكت بمنزلة المنكر وإن لم يكن للمدعي بينة وطلب يمينه فإن كان أنكر استحلفه القاضي له وإن لم يقر ولم ينكر فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن القاضي لا يستحلفه ولكن يحبسه ليتجنب خصمه لأن الاستحلاف لترجح جانب الصدق في إنكار المدعى عليه فلا معنى للاشتغال به قبل إنكاره وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن القاضي يستحلفه لأن سكوته قائم مقام الإنكار شرعا حتى يقبل عليه البينة بعد سكوته فكذلك يعرض اليمين على الساكت حتى يقضي عليه بالنكول لحق المدعي ولا ينبغي للقاضي أن يحبسه حتى يقر أو ينكر ولا يجبره على ذلك لأنه ما ثبت عليه شيء بمجرد سكوته فلا يعاقبه بالحبس والمقصود حاصل من غير أن يجبره على الإنكار لأن سكوته قائم مقام إنكاره فإن المنكر ممتنع والساكت كذلك.(20/142)
وإن قال المطلوب للقاضي سل الطالب من أي وجه يدعي علي هذا المال سأله من غير أن يجبره على ذلك فإن أبى أن يبين وجهه سأله البينة لأنه بدعوى المال قد تم ما كان محتاجا إليه من جانبه وربما يضره بيان الجهة وليس للقاضي أن يجبر أحدا على ما يضره ولا أن يحبسه إذا امتنع من ذلك ولكن يسأله البينة فإن لم تكن له بينة استحلف المطلوب بالله ماله قبله هذا الحق ولا شيء منه فإن حلف دعا المدعي ما على شهوده وفي هذا بيان ما أن للمدعي أن يستحلف الخصم وإن كان شهوده حضورا وهو قولهما أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يستحلفه إذا زعم المدعي أن شهوده حضور هكذا ذكره في النوادر لأن مقصود المدعي من ذلك هتك ستر المدعى عليه وافتضاحه.
وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم فقال أحدهما هي بيض وقال(20/143)
ص -69- ... الآخر سود وللبيض صرف على السود فإن ادعى الطالب البيض أو ادعى المالين جميعا قضيت له بالسود لاتفاق الشاهدين على ذلك لفظا ومعنى فإن البياض صفة زائدة لا تثبت بشهادة أحدهما وتبقى شهادتهما على أصل الألف فيقضي بالقدر المتيقن وهو الشهود وإن ادعى المدعي السود بطلت شهادة الشاهد على البيض لأنه أكذبه في ذلك ولا يقضي له بالسود حتى يحضر شاهدا آخر عليها وكذلك لو أشهد بكر حنطة فقال أحدهما جيد والآخر رديء أو شهد أحدهما بكر حنطة والآخر بكر شعير لم يقض القاضي بشيء لأن لكل واحد من الجنسين شاهدا واحدا والمدعي إنما يدعي أحدهما فيكون مكذبا أحد شاهديه.
ولو ادعى عليه مائة درهم فشهد له بها شاهد والآخر بمائتين لم تقبل الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما تقبل على مقدار المائة وهذا بناء على ما سبق أن عندهما الموافقة بين الشاهدين معنى يكفي لقبول الشهادة وعند أبي حنيفة رحمه الله يعتبر اتفاقهما في اللفظ والمعنى جميعا ولو ادعى مائة وخمسين فشهد له أحدهما بمائة والآخر بمائة وخمسين جازت شهادتهما على المائة لأنهما اتفقا عليها لفظا ومعنى وإنما تفرد أحدهما بزيادة الخمسين وهما اسمان أحدهما معطوف على الآخر.
ولو ادعى خمسة عشر فشهد له شاهد بعشرة والآخر بخمسة عشر لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله في شيء لأن هذا كله اسم واحد لقدر معلوم بدليل أنه خلا عن حرف العطف فهو كالمائة والمائتين وعندهما تقبل الشهادة على الأقل في جميع ذلك وهو قول شريح رحمه الله فإنه شهد عنده شاهدان أحدهما بتسعمائة والآخر بثمانمائة فقضى شريح رحمه الله بالأقل وروي نحو ذلك عن الحسن وإبراهيم رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله سمعت ابن أبي ليلى رحمه الله يقول شهادة أهل الأهواء جائزة(20/144)
وقد بينا هذا في كتاب الشهادات أنه قول علمائنا رحمهم الله وبين المعنى فيه فقال إنما الهوى شيء افتتن به رجل فأخطأ في ذلك فلا ينبغي أن تبطل به شهادته وإنما دخلوا في الهوى لشدة المبالغة في الدين فإنهم عظموا الذنوب حتى جعلوها كفرا فيؤمن عليهم شهادة الربا.
ألا ترى أن أعظم الذنوب بعد الكفر القتل ثم دماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أعظم الدماء وقد قتل بعضهم بعضا فلو شهد بعضهم على بعض أما كان تجوز شهادتهم إلا الخطابية وهم صنف من الروافض فإنهم بلغني أن بعضهم يصدق بعضا بما يدعي ويشهد له به إذا حلف عنده أنه محق فهذا متهم في شهادته فلا أقبل شهادته لهذا.
وإذا ادعى رجل قبل رجل ألف درهم وقال خمسمائة منها من ثمن عبد قد قبضه وخمسمائة من ثمن متاع قبضه وجاء بشاهدين فشهد أحدهما على خمسمائة ثمن عبد وشهد الآخر على خمسمائة ثمن متاع قد قبضه فإنه يجوز من ذلك خمسمائة لأن البيع انتهى بتسليم المعقود عليه وإنما دعواه دعوى الدين فهو كما لو ادعى ألفا وشهد له الشاهدان بخمسمائة.(20/145)
ص -70- ... ولو شهد شاهدان أن لرجل على رجل ألف درهم وشهد أحدهما أنه قبض منها خمسمائة وأنكر الطالب قبضها فشهادتهما بألف جائزة لأنهما اتفقا على وجوبها وإنما تفرد أحدهما بالشهادة بشيء آخر وهو أنه قضاه خمسمائة ولو قضاه جميع المال لم يبطل به أصل الشهادة فهذا مثله وعن زفر رحمه الله أن هذه الشهادة لا تقبل لأن المدعي مكذب أحد شاهديه ولكنا نقول هو غير مكذب له فيما شهد له به وإنما كذبه فيما شهد عليه وذلك لا يضره فكل أحد يصدق الشاهد فيما شهد له به ويكذبه فيما شهد عليه.
أرأيت لو شهد أحدهما أنه أجره سنة أكنت تبطل شهادته على أصل المال بذلك ولو شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم فقال الطالب إنما لي عليك خمسمائة وقد كانت ألفا فقبضت منها خمسمائة ووصل الكلام أو لم يصل فإن شهادتهما جائزة بخمسمائة لأنه لم يكذبهما بل وفق بين دعواه وشهادتهما بتوفيق محتمل فقد يستوفي المدعي بعض حقه ولا يعرف الشاهد بذلك ولو قال لم يكن لي عليك قط إلا خمسمائة أبطلت شهادتهما لأنه قد أكذبهما فيما يشهدان له من الزيادة ولو شهدا على رجل لرجل بألف درهم من ثمن جارية قد قبضها المشتري فقال البائع قد أشهدهم المشتري بهذه الشهادة والدين باق عليه من ثمن الدين متاع أجزت شهادتهما لما بينا أن المبيع إذا كان مقبوضا فالعقد فيه منتهى وإنما دعواه دعوى الدين وقد صدق الشهود في ذلك.(20/146)
ولو قال لم يشهدهما بهذا ولكن أشهدهما أنه من ثمن متاع أبطلت شهادتهما لأنه أكذبهما فيما شهدا له به وأقر عليهما بالغفلة والنسيان ولو شهد أنه كفل له بألف درهم عن فلان كان له أن يأخذه بالمال لأنه ما أكذبهما في الشهادة ويجعل ما ثبت بشهادتهما كالثابت بإقرار الخصم ولو قال لم يقر بهذا وإنما أقر أنها كانت عن فلان بطلت شهادتهما لأنه قد أكذبهما ولو أنكر المطلوب أن يكون للطالب عليه شيء فشهد له شاهدان بألف درهم فجاء المطلوب بشاهدين يشهدان بالبراءة منها والدفع إليه أجزت ذلك لأنه لا منافاة بين إنكاره للمال في الحال وبين ما ادعى من الإبراء والإيفاء وكذلك لو قال لم يكن له علي شيء قط ثم أقام البينة على الإبراء والإيفاء وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول هنا لا تقبل بينته لكونه مناقضا في دعواه ولكنا نقول هو غير مناقض لأنه يقول ما كان له علي شيء قط ولكن افتديت نفسي من المال الذي ادعاه علي أو سألته أن يبرئني ففعل ذلك والبينة حجة فلا يجوز إبطالها مع العمل بها.
ولو كان قال لم أدفع إليه شيئا أو لم أقبضه شيئا أو لم أعرفه أو لم أكلمه أو لم أخالطه لم أقبل منه البينة بعد ذلك على دفع المال لأن ما تقدم من كلامه إكذاب منه لشهوده وشهادة الشاهدين على البراءة في دين أو كفالة وقد اختلفا في الوقت أو المكان جائزة لأن البراءة جائزة بإقرار من الطالب فلا يضرهم الاختلاف في المكان أو الزمان ولو كانوا كفلاء ثلاثة بعضهم كفيل عن بعض فشهد اثنان على واحد أنه دفع المال الذي عليهم لم(20/147)
ص -71- ... تجز شهادتهما لأنهما ينفعان أنفسهما بذلك وهو إسقاط مطالبة الطالب عنهما ولم يرجع عليهما المشهود له بشيء لأنهما لم يبرآ من شيء من حق الطالب وإنما يرجع الكفيل على الأصيل إذا استفاد الكفيل البراءة من حق الطالب فإذا لم يوجد ذلك لم يرجع عليهما بشيء والله أعلم.
باب ما يصدق فيه الدافع من قضاء الدين
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجل ثلاثمائة درهم كل مائة منها في صك فصك منها قرض وصك كفالة عن رجل وصك كفالة عن آخر فدفع المطلوب مائة درهم إلى الطالب وأشهد أنها من صك كذا فهي من ذلك الصك لأنه هو المعطي وقد صرح في الإعطاء بالجهة التي أعطي بها المال فتصريحه بذلك نفي منه الإعطاء بسائر الجهات ولا معارضة بين النافي والمثبت وكذلك إن لم يشهد عند الإعطاء فوقع الاختلاف بينه وبين الطالب في الجهة التي أعطي بها فالقول قول المطلوب لأنه هو المالك لما أدى من الطالب والقول في بيان جهة الطالب للتمليك قول المملك لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما يقوله البائع" وهذا لأنه لو أنكر التمليك أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أقر بالتمليك من جهة دون جهة وهذا لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه والإنسان مطلق التصرف في ملك نفسه مقبول البيان فيه في الانتهاء كما في الابتداء إذا كان مفيدا له وهذا بيان مفيد فربما يكون ببعض المال رهن فتعين المدفوع مما به الرهن ليسترد الرهن وربما يكون ببعض المال كفيل فتعجل المكفول له من ذلك ليبرئ كفيله وإن مات الدافع قبل أن يقول شيئا من ذلك كانت المائة من كل صك ثلاثة لأنه ليس جعل المدفوع من بعضها بأولى ببعض ولا بيان في ذلك لورثته لأنهم إنما يخلفونه فيما صار ميراثا لهم والمال الذي قضى به دينه لم يصر ميراثا لهم لأنه مجرد رأي كان له في التعيين فلا يصير ميراثا وهو حق البيان لما أراده عند الإعطاء ولا طريق لورثته إلى معرفة ذلك فلا يقومون فيه مقامه كحق البيان(20/148)
في العتق المبهم وكذلك إن مات الدافع والمدفوع إليه واختلفت الورثة فإنها من كل صك ثلاثة إلى أن تقوم البينة على شيء كان من الدافع قبل موته فبها تعين بعض الجهات فيجعل الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو يتصادق الورثة كلهم على شيء يعني ورثة الدافع والمدفوع إليه لأن الحق لهم فإذا تصادقوا على شيء كان ذلك كالثابت بالبينة أو يكون القابض حيا فيقول شيئا فتصدقه ورثة الدافع في ذلك.
ولو كان لرجل على رجلين ألف درهم في صك ثم أن أحدهما كفل عن صاحبه بأمره ثم أدى خمسمائة مما في الصك فجعله من حصة المكفول عنه عند الدافع أو بعد الدفع فذلك صحيح والقول فيه قوله ويرجع بها المكفول عنه لأنه هو المالك لما أدى وهذا البيان منه مفيد فإذا قبل منه كان مؤديا دين الكفالة فيرجع على الأصيل لأنه كفل عنه بأمره ولو لم يؤد شيئا حتى كفل الآخر عنه أيضا بأمره فصار كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه أو كانت(20/149)
ص -72- ... الكفالة على ذلك في أصل الصك في عقد البيع أو القرض فأيهما قضى شيئا فهو من حصته خاصة دون حصة صاحبه حتى يؤدي حصته لأنه لا فائدة له في أن يجعل المؤدى عن صاحبه لا من جهة صاحبه بأن يقول أنا كفيل عنك بأمرك وأداؤك عني كأدائي بنفسي فكان لي أن أجعل المؤدى عنك فأنا أجعله الآن عنك فلا يزال يدور كذلك بخلاف ما سبق فالمؤدي هناك إذا جعل المؤدى عن صاحبه لا يكون لصاحبه أن يعارضه فيجعل المؤدى عنه لأن صاحبه ليس بكفيل عنه فإن أدى زيادة على مقدار حقه كانت مما كفل به عن صاحبه لأن صاحبه لا يتمكن في معارضته من هذه الزيادة وقد استفاد البراءة عن حصته بأدائه وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل.
وكذلك إن شرط عند الأداء للنصف أن يؤدي ذلك من حصة صاحبه فإنه لا يكون من حصته حتى يؤدي زيادة على النصف لأن هذا الشرط حق لا يفيده شيئا فإن صاحبه يعارضه بجعل المؤدى عنه.(20/150)
ولو كان ثلاثة نفر عليهم ألف درهم من ثمن بيع وبعضهم كفلاء عن بعض كان ما أدى أحدهم من حصته إلى الثلاث فإذا جاوز الثلاث كانت الزيادة من حصة صاحبه لا يستطيع أن يجعلها من حصة أحدهما دون الآخر لأن كل واحد من الآخرين كفيل عن صاحبه كما أنه كفيل عنهما فإذا جعل الزيادة من حصة أحدهما كان للمجعول ذلك من حصته أن يجعله من حصة الآخر بالطريق الذي بينا فتحققت المعارضة بينهما فلهذا كانت الزيادة من النصيبين جميعا فيرجع على كل واحد منهما بنصف ذلك كما هو قضية المعارضة والمساواة ولو كانوا مكاتبين ثلاثة بعضهم كفلاء عن بعض فأدى بعضهم طائفة من الكتابة كان ذلك من حصتهم جميعا قل المؤدي أو كثر ولو جعلها المؤدي من حصته أو حصة صاحبيه أو أحدهما يجوز ذلك لأنهم كشخص واحد في حكم هذه المكاتبة إذ لو لم يجعلهم كذلك لم يصح فإن الكفالة من المكاتب والكفالة ببدل الكتابة لا تكون صحيحة والمكاتب الواحد لو أراد أن يجعل المؤدى عن بعض نفسه دون بعض لم يكن ذلك شيئا فهذا مثله بخلاف ما سبق فهناك كل واحد منهم أصل في بعض المال كفيل في البعض لأن ذلك في ثمن المبيع صحيح من الأحرار.
توضيح الفرق أن في جعل المؤدي من نصيب المؤدي خاصة في باب الكتابة إبطال شرط المولى لأنه شرط أن لا يعتق واحد منهم حتى يصل إليه جميع المال فإذا أدى أحدهم الثلث وجعلنا ذلك من نصيبه خاصة عتق هو لأنه بريء مما عليه من بدل الكتابة وبراءة المكاتب على أي وجه كان توجب العتق وفي هذا إبطال شرط المولى فلهذا كان المؤدى عنهم جميعا وذلك لا يوجد في ثمن المبيع لأنا وإن جعلنا المؤدي هناك من نصيب المؤدي خاصة يبقى البائع في حبس المبيع إلى أن يصل إليه الثمن فجعلنا ذلك من حصته ما لم يزد المؤدي على الثلث ولو كان لرجل دين مائة درهم وله عنده وديعة مائة درهم فدفع إليه مائة(20/151)
ص -73- ... درهم فقال الطالب هي وديعتي وقال المطلوب هلكت الوديعة وهي من الدين الذي كان لك فالقول قول الدافع مع يمينه لأن الاختلاف بينهما في الملك المدفوع وقد كان ذلك في يد الدافع فيكون القول قوله في أنه ملكي ولأنه أمين في الوديعة مسلط على ما يخبر به من هلاكها فيثبت القول بهلاك الوديعة ويبقى الدين وقد دفع إلى الطالب مثل الدين على جهة قضاء الدين فتبرأ ذمته من ذلك بعد أن يحلف على ما يدعي من هلاك الوديعة والكفالة بالمال في المرض بمنزلة الوصية حتى يبطل لمكان الدين المحيط بالتركة ويبطل إذا وقعت لوارث أو عن وارث ويبطل فيما زاد على الثلث إذا كان لأجنبي لأنه التزم المال على وجه التبرع فيكون بمنزلة تمليك المال في مرضه على وجه التبرع إلا أن يبرأ من مرضه فحينئذ يكون صحيحا على كل حال لأن المرض يتعقبه برؤه بمنزلة حال الصحة فإن مرض الموت ما يتصل به الموت وما لا يكون مرض الموت لا يكون مغيرا للحكم فإنما لا تصح الكفالة من المريض للوارث وعن الوارث لأن فيه منفعة للوارث وهو محجور عن القول الذي فيه منفعة لوارثه فيما يرجع إلى المال.(20/152)
ولو كفل المريض عن رجل بألف درهم وأقر بدين يحيط بماله فلا شيء للمكفول له لأن الكفالة تبرع واصطناع معروف كالهبة والدين مقدم على الهبة في المرض سواء كان بالإقرار أو بالبينة ولو كان له ثلاثة آلاف درهم فكفل بألف درهم ثم مات جاز ذلك وأخذ من ماله ألف لخروج المكفول به من ثلث ماله ثم يرجع ورثته على المطلوب إذا كان كفيلا بأمره كما لو أدى بنفسه في حياته وإذا كانت الكفالة منه في الصحة بألف درهم فمات الكفيل وعليه دين فضرب المكفول له بدينه مع غرمائه فأصابه خمسمائة ثم مات المكفول عنه وعليه دين ضرب المكفول له في ماله بالخمسمائة التي بقيت له لبقاء ذلك القدر له في ذمة الأصيل بعد ما استوفى الخمسمائة من تركة الكفيل وضرب وارث الكفيل بالخمسمائة دراهم التي أدى لأنه كان أدى بحكم الكفالة عنه بأمره فكان ذلك دينا عليه فما أصاب وارث الكفيل فإنه يقسم بين غرماء الكفيل بالحصص ويضرب المكفول له بما بقي له أيضا.
وهذه هي المسألة التي بينا فيما سبق أن في هذا جذر الأصم وأنه لا وجه لتخريجها إلا بطريق التقريب فإن ما يستوفي المكفول له ثانيا مما في يد الوارث للكفيل يرجع به وارث الكفيل في تركة المكفول عنه أيضا فتنتقض القسمة الأولى ولا يزال يدور هكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا يمكن ضبطه.
ولو أن متفاوضين عليهما ألف درهم ماتا جميعا وتركا ألفا وعلى كل واحد منهما ألف درهم مهر امرأته قسم المال بينهما نصفين ولم يضرب الطالب في مال أيهما شاء بألف درهم لأن كل واحد منهما مطلوب بجميع الألف بعضها بجهة الأصالة وبعضها بجهة الكفالة فيضرب بجميع الألف في تركة أيهما شاء وتضرب امرأته بمهرها أيضا ثم يضرب مع امرأة الآخر بما بقي وتضرب هي بألف درهم هكذا ذكره شيخ الإسلام جواهر زاده.(20/153)
ص -74- ... وتضرب هي بالذي بقي لها من مهرها ولا ترجع الورثة بالذي أخذ منه أول مرة في مال الثاني بشيء إلا أن يكون الطالب أصاب من ماله أكثر من النصف لأنه في مقدار النصف هو أصيل فإن كان المقبوض النصف أو ما دونه لا ترجع ورثته في تركة الآخر بشيء من ذلك وإن كان أكثر من النصف فحينئذ يضربون بالفضل لأنهم أدوا ذلك بجهة كفالة صاحبهم عن شريكه بأمره فإذا قبضوا شيئا من ذلك كان المقبوض لامرأته وللطالب إن بقي له شيء بالحصص ثم عند ذلك يعود الجذر الأصم وما لا طريق إلى معرفته إلا من الوجه الذي قدرنا أن كل ما يستوفيه الطالب يثبت لهم حق الرجوع به في تركة الشركة فتنتقض به القسمة الأولى والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب ادعاء الكفيل أن المال من ثمن خمر أو ربا
قال رحمه الله: وإذا كفل رجل عن رجل بألف درهم بأمره ثم غاب الأصيل فادعى الكفيل أن الألف من ثمن خمر فإنه ليس بخصم في ذلك لأنه التزم المطالبة بكفالة صحيحة والمال يجب على الكفيل بالتزامه بالكفالة وإن لم يكن واجبا على الأصيل ألا ترى أنه لو قال لفلان علي ألف درهم وأنا بها كفيل بأمره وجحد الأصيل ذلك فإن المال يجب على الكفيل وإن لم يكن على الأصيل شيء فبهذا تبين أنه ليس في ادعائه أن المال من ثمن خمر أو ما يسقط المال عنه فلا يكون خصما في ذلك وهو مع هذا مناقض في دعواه لأن التزامه بالكفالة إقرار منه أن الأصيل مطالب بهذا المال والمسلم لا يكون مطالبا بثمن خمر فيكون مناقضا في قوله أن المال من ثمن خمر والدعوى مع التناقض لا تصح حتى أنه لو جاء بالبينة على إقرار الطالب بذلك لم يقبل بعد أن يكون الطالب يجحد ذلك ولو أراد استحلاف الطالب لم يكن عليه يمين لأن توجه اليمين وقبول البينة تنبني على دعوى صحيحة إلا أن يقر الطالب بذلك فحينئذ هو مناقض ولو صدقه خصمه في ذلك والتصديق من الخصم صحيح مع كونه مناقضا في دعواه.(20/154)
ثم أن أصل سبب التزام المال جرى بين المطلوب والطالب والكفيل ليس بخصم في ذلك العقد ويدعي معنى كان في ذلك العقد حتى إذا ثبت ذلك ترتب عليه خروجه من أن يكون مطالبا بالمال ولا يمكن إثبات ذلك بالبينة لأنها بينة تقوم للغائب والبينة للغائب وعلى الغائب لا تقبل إذا لم يكن عنه خصم حاضر وهو بمنزلة المشتري للجارية إذا ادعى أنها زوجة لفلان الغائب وأراد إقامة البينة على ذلك ليردها بالعيب لا يكون خصما في ذلك فهذا مثله والحوالة في هذا كالكفالة وكذلك إن كان كل واحد منهما ضامنا عن صاحبه لأن أصل المال على غير هذا الكفيل فهو لا يكون خصما فيما على غيره فهذا تنصيص على ما أشرنا إليه في أن الطريق الأصح في الكفالة أن الكفيل يلتزم المطالبة بما على الأصيل ولا يلتزم أصل المال في ذمته.
ولو أدى الكفيل المال إلى الطالب وغاب الطالب وحضر المكفول عنه فقال المال(20/155)
ص -75- ... من ثمن خمر وجاء بالبينة لم يكن بينه وبين الكفيل خصومة في ذلك ويدفع المال إلى الكفيل لأنه التزم المال بأمره وأدى فيرجع عليه كيف كان ذلك المال ويقال للمكفول عنه اطلب صاحبك فخاصمه وهذا لما بينا أنه يدعي سببا في تصرف جرى بينه وبين الغائب وهذا الحاضر ليس بخصم عن الغائب أو لأنه مناقض فإنه أمره أن يلتزم المطالبة التي هي متوجهة عليه بجهة الكفالة.
ولو أقر الطالب عند القاضي أن ماله عنده من ثمن خمر فهذا مثله وهو إقرار ببراءة الأصيل وهو بمنزلة ما لو قال لم يكن لي على الأصيل شيء وذلك يوجب براءة الكفيل والأصيل ألا ترى أنه لو أبرأ الأصيل بريء الكفيل فإذا بقي أصل المال من الأصيل بإقراره أولى أن يبرأ الكفيل فإن أقر الطالب بذلك وأبرأ القاضي الكفيل ثم حضر المكفول عنه فأقر أن المال الذي عليه قرض لزمه المال إن صدقه الطالب بذلك لتصادقهما على أن وجوب المال له عليه بسبب صحيح ولا يصدقان على الكفيل لأن قولهما ليس بحجة على الكفيل وقد استفاد الكفيل البراءة بما سبق من إقرار الطالب ويجعل هذا من المطلوب بمنزلة إقراره للطالب ابتداء بدين آخر سوى الدين كان كفل به الكفيل.(20/156)
ولو أن مسلما باع مسلما خمرا بألف درهم ثم أحال مسلما عليه بها بطلت الحوالة ولو أحاله بألف درهم فجعلها له بذلك ثم غاب المحيل وقال المحتال عليه المال الذي علي من ثمن خمر وأقام البينة فلا خصومة بينه وبين الطالب في ذلك لأنه التزم المال بالحوالة فعليه أداء ما التزم وهو إنما يدعي سببا مبطلا بعقد جرى بينه وبين الغائب وهذا الحاضر ليس بخصم عنه في ذلك فإذا دفع المال ثم حضر المحيل خاصمه إن أقام عليه بينة بذلك رجع عليه بالمال لأنه قبل الحوالة بأمره وأدى واستوجب الرجوع عليه فكان تقع المقاصة بما للمحيل عليه فإذا تبين أنه لم يكن للمحيل عليه شيء كان له أن يرجع عليه بالمال وإن لم يؤد المال حتى يحضر المحيل فخاصمه وجاء بالبينة أنها من ثمن خمر أبطلها القاضي عن المحتال عليه لأنه قبل الحوالة مقيدة بالمال الذي للمحيل عليه وقد تبين أنه لم يكن للمحيل عليه شيء فكانت الحوالة باطلة وإن كان أحاله عليه حوالة مطلقة بألف درهم لم يبرأ منها ولكنه يؤديها ويرجع بها لأن الحوالة المطلقة لا تستدعي مالا للمحيل على المحتال عليه ولا في يده إلا أنه إذا كان للمحيل على المحتال عليه لم يرجع به عليه وإذا كانت مطلقة يؤدي المال ثم يرجع بمثلها عليه.
وإذا باع الرجل رجلا عبدا بألف درهم ثم أحال البائع غريمه على المشتري بالمال الذي باعه به العبد ثم استحق العبد أو وجد حرا فإن القاضي يبطل الكفالة والحوالة لأنه ظهر أنه أحال عليه بمال ولا مال
ولو رد بعيب بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي لم تبطل الحوالة والكفالة وكذلك لو مات العبد قبل القبض وهذا عندنا وقال زفر رحمه الله تبطل الحوالة(20/157)
ص -76- ... إذا كانت مقيدة وجه قوله أن الثمن الذي تقيدت به الحوالة بطل من الأصل لانفساخ العقد من الأصيل ولو ظهر بطلانه تبطل الحوالة فكذلك إذا بطل من الأصيل إلا أنا نقول أن الحوالة لما صحت مقيدة بمال واجب عنده ولم يتبين أنه لم يكن واجبا أو بطل إنما يبطل ببطلانه أن لو كان له تعلق بالدين بها أما من حيث الوجوب فلا يشكل لأن تعلق الدين بالذمة لا بالدين ولا تتعلق به استيفاء لأن تعلقه به استيفاء إنما يستقيم إذا كان قابلا للاستيفاء والدين لا يقبل استيفاء دين آخر منه إلا بعد خروجه فقبل خروجه منه لم يكن لدين الحوالة تعلق به بوجه من الوجوه فصار كالحوالة المطلقة في حالة البقاء فلا تبطل ببطلانه ولا يلزم إذا أحال على مودعه ليستوفي دينه من الوديعة ثم هلكت الوديعة حيث تبطل الحوالة لأن ثمة للدين تعلق به استيفاء لكونه قابلا للاستيفاء منه فجاز أن يبطل ببطلانه.
وإذا أحال رجل رجلا على رجل بألف درهم كانت للمحتال على المحيل وكان مثلها للمحيل على المحتال عليه ثم مات المحيل وعليه دين كان ماله الذي على المحتال عليه بين غرمائه وبين المحتال له بالحصص ولا يختص المحتال له بذلك عندنا وعند زفر رحمه الله يختص به لأنه اختص به في حال حياته حتى كان أحق به من المحيل حتى لو حجر المحيل عن استيفائه فيختص به بعد موته بمنزلة المرتهن في حق الراهن ولكنا نقول أن ما في ذمة المحتال عليه مال المحيل لأنه بعقد الحوالة لا يصير للمحتال له لأن الدين لا يقبل التمليك من غير من عليه الدين ومتى كان باقيا على ملكه كان بين غرمائه بالحصص لما مر أنه لا تعلق لحقه بالدين قبل الخروج فصار هو وسائر غرمائه سواء وإنما منع المحيل من التصرف فيه باعتبار عرضة الخروج لأنه لو خرج يكون المحتال له أحق بها ولهذا كان التوي على المحيل لأن الحوالة كانت مقيدة به وقد استحقت فصار بمنزلة الاستحقاق من الأصيل فيعود الدين على المحيل والله أعلم.(20/158)
باب الحبس في الدين
قال رحمه الله: ويحبس الرجل في كل دين ما خلا دين الولد على الأبوين أو على بعض الأجداد فإنهم لا يحبسون في دينه أما في دين غيرهم فيحبس لأنه بالمطل صار ظالما والظالم يحبس وأنه عقوبة مشروعة ولهذا كان حدا في الزنى في ابتداء الإسلام قال الله تعالى: في حق قطاع الطريق {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[سورة المائدة, آية: 33] والمراد به الحبس وكذلك حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بالتهمة وكذلك علي كرم الله وجهه اتخذ سجنين سمى أحدهما نافعا والآخر محبسا وكذلك شريح رحمه الله كان يحبس الناس وحبس ابنه بسبب الكفالة عن رجل ولا يحبسه في أول ما يتقدم إلى القاضي ولكنه يقول له قم فأرضه لأن الظلم لا يتحقق من أول وهلة فإن عاد إليه مرة أو مرتين يحبسه والقياس في دين الولد على والديه هكذا إلا أنا استحسنا في دين الوالدين ومن كان في معناهم أنه لا يعاقب الوالد بسبب الجناية على ولده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد الوالد لولده(20/159)
ص -77- ... ولا يعاقب بسبب الجناية على ماله لأن له ضرب تأويل في ماله" وذكر حديث علي كرم الله وجهه أنه اتخذ سجنين وقال فيه:
ألا تراني كيسا مكيسا ... يثبت بعد نافع محبسا
وعن الشعبي رحمه الله أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أجرني فقال مم قال من دين قال عمر رضي الله عنه السجن ثم قال عمر رضي الله عنه كأنك بالطلبة حلو ذكر هذا لبيان أن الحبس مشروع قال أبو حنيفة رحمه الله لا يباع مال المديون المسجون في دين عليه إلا أن يكون عليه دنانير أو يكون عليه دراهم فاصطرفها بدراهم وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يباع ماله وهي مسائل الحجر ثم ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس ثم قال في أسفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال له سبق الحاج فأدان معرضا حتى دين به فمن كان له عليه شيء فليفد علينا فأنا بائع ماله قاسم ثمنه بين الغرماء وإياك والدين فإن أوله هم وآخره حرب ونعم ما قال فإن الدين سبب العداوة خصوصا في زماننا فيؤدي إلى إهلاك النفوس ويكون سببا لهلاك المال خصوصا مداينة المفاليس والحرب هو الهلاك ثم إذا حبس المديون ولم يدع الإعسار فظاهر أنه لا يخلى عنه أما إذا ادعى الإعسار فإن كان ذلك في ديون وجبت بسبب المبايعات فينبغي أن لا يصدق لأن الظاهر يكذبه لأنه يكون واحدا باعتبار بدله وإن كان بأسباب مشروعة سوى المبايعات كالمهر وبدل الخلع والكفالة وبدل الصلح.(20/160)
اختلف مشايخنا رحمهم الله فقال بعضهم يصدق ولا يحبس لأنه متمسك بالأصل وهو العدم فالقول قوله وقال بعضهم لا يصدق لأن التزامه المال اختيارا دليل قدرته ولو كان دينا وجب حكما باستهلاك مال ونحوه ينبغي أن يصدق ثم قال أبو حنيفة رحمه الله إذا حبس الرجل شهرين يسأل عنه وإن شاء سأل عنه في أول ما يحبسه والرأي فيه إلى القاضي إن أخبر بعد أويقات أنه معسر خلى سبيله وإن قالوا واجد أمر بحبسه حتى يذوق وبال أمره لأنه من الجائز أنه أخفى ماله فيشهد الناس على ظاهر حاله فتبطل حقوق الناس وإذا أخبروه أنه معسر أخرجه ولم يحل بين الطالب وبين لزومه عندنا وقال زفر رحمه الله يمنعه من ملازمته لأنه منظر بإنظار الله تعالى ولو كان منظرا بإنظاره لا يكون له حق الملازمة هكذا كنا نقول بأنه منظر إلى زمان الوجود ووجود ما يقدره على أداء الدين موهوم في كل ساعة فيلازمه إذا وجد مالا أو اكتسب شيئا فوق حاجته الدراة يؤخذ منه والكفيل بالمال والذي عليه الأصل سواء لأن خطاب الأداء متوجه على الكفيل كما هو متوجه على الأصيل وذكر عن الكلبي ومحمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس بني قريظة حتى نزلوا في حكم سعد رضي الله عنه في دار بنت الحارث حتى ضرب رقابهم فإذا تبين أن الحبس مشروع وإذا حبس الكفيل بالدين فللكفيل أن يحبس المكفول عنه حتى يخلصه إذا كان بأمره وكذلك لو لازمه الطالب كان له أن يلزم الذي عليه الأصل لأنه التزم الأداء من مال المطلوب بأمره,(20/161)
ص -78- ... فكان الأصيل ملتزما تخليصه فله أن يلازمه وليس للكفيل أن يأخذ المال حتى يؤديه لأنه إنما يرجع عليه بحكم الإقراض وإنما يتحقق هذا المعنى عند الأداء.
وإذا حبس رجل بدين فجاء غريم له آخر يطالبه فإن القاضي يخرجه من السجن ويجمع بينه وبين هذا المدعي فإن أقر له بالدين أو قامت له عليه بينة كتب اسمه فيمن حبس له مع الأول لأنه لو لم يكتب ربما يشتبه على القاضي أنه محبوس بدين واحد فيخلي سبيله فيكتبه حتى لا يخلي سبيله إلا بقضائهما وإن كان القاضي قد فلس المحبوس جاز إقراره لأشخاص في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال تفليس القاضي إياه جائز ولا يجوز إقراره بعد ذلك ولا بيعه ولا شراؤه ولا بشيء يضيفه في ماله ما خلا العتق والطلاق والنكاح والإقرار بالسبب فإنا ندع القياس فيه ونجوزه وهو قول محمد رحمه الله وقول شريح وإبراهيم وبن أبي ليلى رحمهما الله ويعني بالتفليس أن يحكم بعجزه عن الكسب فيجعله كالمريض مرض الموت فيحكم بتعلق حق غرمائه في مال هذا وهذا نوع حجر وإن كان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى ذلك وهما يجوزان ذلك وليس الحبس بتفليس لأنه دلالة القدرة على أداء الدين لا دلالة العجز ولا يضرب المحبوس في الدين ولا يقيد ولا يقام ولا يؤاجر لأن هذه عقوبات زائدة ما ورد الشرع بها وإنما قلنا بالحبس ليكون حاملا له على قضاء الدين وإن كان فيه ضرب عقوبة بالنصوص ولا نص في الزيادة عليه فإنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال ليس في هذه الأمة صفد ولا قيد ولا غل ولا تجريد والصفد ما تقيد به الأيدي أراد بقوله لا يقام يعني لا يؤمر بالقيام بين يدي صاحب المال إهانة له فإن ذلك مع عقوبة ولا يؤاجر من غير اختياره لأن ذلك نوع حجر عليه ولا يجوز ذلك في ماله فلأن لا يجوز في نفسه بطريق الأولى ويحبس الأبوان في نفقة الولد ولا تشتبه النفقة بالدين لأن الإنفاق على الولد إنما شرع صيانة للولد(20/162)
عن الهلاك والممتنع كالقاصد الهلاك ومن قصد إهلاك ولده يحبس بخلاف الدين فإنه ليس فيه قصد إهلاك نفسه ولا يخرج المحبوس في الدين بجمعة ولا عيد ولا حج ولا جنازة قريب أو بعيد لأن الواجب أن يحبس على وجه لا يخلص بعد زمان حتى يضجر قلبه عند ذلك فيسارع في قضاء الدين فلو خرج أحيانا لا يضيق قلبه حينئذ ولهذا قالوا ينبغي أن يحبس في موضع خشن لا يتبسط له في فراش ولا وطاء ولا أحد يدخل عليه ليستأنس ليضجر قلبه بذلك.
وإذا سأل القاضي عن المحبوس بعد شهرين أو أكثر في السر فأخبره ثقة بعدمه خلى سبيله ولم يخل بين غريمه وبين لزومه وإن شهد عليه شهود أنه موسر أو أن له مالا أجزت شهادتهم ويترك المسألة في السر لأن السؤال للاختبار ومتى ظهرت حاله بالشهادة لا تقع الحاجة إلى الاختبار وإن أدى دين أحد الغريمين لم يخرج من السجن حتى يؤدي دين الآخر لأن الظلم قائم ويحبس الرجل في الدرهم وفي أقل منه لأن مانع الدرهم وما دونه ظالم,(20/163)
ص -79- ... وينبغي أن يكون محبس النساء في الدين على حدة ولا يكون معهن رجل حتى لا يؤدي إلى فتنة ولا يمنع المحبوس من دخول إخوانه وأهله عليه لأنه يحتاج إلى ذلك حتى يشاورهم في توجيه ديونه ولكن لا يمكنون من المكث عنده حتى يستأنس بهم ولا يحبس المكاتب لمولاه بالمكاتبة لأنه عبد ولا يليق به الحبس.
ألا ترى أنه لو عجز نفسه عن ذلك يسقط ويحبس بدين غير الكتابة قالوا أراد به في حق غير المولى وقال بعضهم يحبس بدين المولى وهو ملحق بالأجانب في المعاملات مع مولاه والأول أصح وإن كان للمكاتب على مولاه طعام ومكاتبته دراهم فإن المولى يحبس في دين المكاتب لأن مطالبته متوجهة على مولاه وهو ملحق بالأجانب في حق أكسابه وكذلك العبد التاجر الذي عليه الدين يكون له على مولاه دين ولا يحبس لحقه ولكن لحق الغرماء والصبي التاجر في السجن مثل الرجل يعني يحبس لأنه يؤاخذ بحقوق العباد فيتحقق ظلمه والغلام الذي يستهلك المتاع فيضمن قيمته وله أب أو وصي وليس بناجز مثل ذلك يريد به في حق الحبس ولم يذكر أنه يحبس الصبي أو أبوه أو وصيه والصحيح أنه يحبس وليه وفي الكتاب ما يدل عليه حيث قيده بهذا اللفظ وهذا لأن الظلم إنما يتحقق ممن يخاطب بأداء المال ووليه هو الذي يخاطب بذلك لا هو.(20/164)
وبعضهم قال الحبس للصبي بطريق التأديب حتى لا يتجاسر على مثله ولكن هذا إنما يكون فيما يباشر من أسباب التعدي قصدا أما ما وقع خطأ منه فلا ولا يحبس العاقلة في الدية ولا في شيء منها من الأرش بقضائه عليهم ولكنه يؤخذ من الأعطية وإن كرهوا ذلك لأن الدية إنما تعطى من عطائهم لا مما في أيديهم من الأموال حتى يتحقق المنع من قبلهم حتى لو كانوا من أهل التأدية وليس لهم عطاء يفرض ذلك عليهم في أموالهم فإذا امتنعوا من أدائه حبسوا وكذلك الذعار يحبسون أبدا حتى يتوبوا والذاعر الذي يخوف الناس ويقصد أخذ أموالهم فكان في معنى قطاع الطريق قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[سورة المائدة, آية: 33] الآية. ولو أن غلاما استهلك لرجل مالا وله دار ورقيق وعروض وليس له أب ولا وصي لم يحبس ولكن القاضي يرى رأيه فيه إن شاء جعل وكيلا ببيع بعض ماله فيوفي الطالب حقه وإن كان له أب أو وصي يجوز بيعه فإنه لا يحبس والصحيح أنه يحبس من يخاطب بقضاء دينه لما مر ولا يحبس الصبي إلا بطريق التأديب ويحبس المسلم للذمي بدينه والذمي للمسلم ويحبس الحربي المستأمن ويحبس له لأن معنى الظلم يتحقق في حق الكل والله أعلم بالصواب.
باب الإبراء والهبة للكفيل
قال رحمه الله: وإذا قال الطالب للكفيل قد برئت إلي من المال الذي كفلت به من فلان فهذا إقرار بالقبض وللكفيل أن يرجع به على المكفول عنه لأنه أخبر عن البراءة بفعل متعد من المطلوب والكفيل إلى الطالب وذلك بفعل الأداء لأن الإبراء متعد من المطلوب(20/165)
ص -80- ... إلى الطالب وكذلك قوله قد دفعت إلي المال أو نقدتني أو قبضته منك وكذلك الحوالة وإذا قال أبرأتك لم يكن هذا إقرارا بالقبض وللطالب أن يأخذ الذي عليه الأصل لأنه أضاف الفعل إلى نفسه متعديا إلى المطلوب وذلك إنما يكون بإسقاط الدين عنه.
ولو قال برئت من المال ولم يقل إلي فهذا إقرار بالقبض في قول أبي يوسف رحمه الله لأنه وصفه بالبراءة فينصرف إلى ذلك السبب المعهود والسبب المعهود الإيفاء وعند محمد رحمه الله هو بمنزلة قوله أبرأتك لأنه يحتمل الوجهين فكان الحمل على الأدنى أولى ألا ترى أن الحاجة إلى الرجوع على الأصيل لا تثبت بالشك وقد مر هذا في الجامع والتحليل بمنزلة الإبراء لأن الدين لا يوصف بالتحليل أما المال الذي يراد به الدين فيوصف بهذا وذلك بمنزلة الموضوع الديون فمتى حلله أسقط حقه عن ذلك أصلا فكأنه قال لا حق لي في مالك ولو قال له هكذا كان إبراء مطلقا فهذا كذلك والمحتال عليه في جميع هذا بمنزلة الكفيل
ولو وكل الطالب وكيلا بقبض ماله فقال الوكيل للكفيل برئت إلي كان هذا إقرارا بالقبض فيصح.
ولو قال الوصي للكفيل قد أبرأتك أو أنت في حل منه لم يجز لأن ذلك معروف منه وليس له ذلك وكذلك الصبي التاجر والعبد التاجر والمكاتب إذا قالوا ذلك للكفيل لا يصح لما مر وإذا أبرأ الطالب الكفيل من المال فأبى أن يقبل ذلك فهو بريء ولا يشبه هذا الهبة لأن الإبراء إسقاط محض في حقه لأنه ليس في حقه إلا مجرد المطالبة فصار كسائر الإسقاطات فلا يرتد بالرد بخلاف الذي عليه الأصل لأن أصل الدين عليه فيكون ذلك تمليكا منه لأن الحق الذي هو واجب له في ماله غير عين فصار هذا تصرفا بإسقاط الفعل عنه ويجعل الواجب له إسقاطا من وجه وتمليكا من وجه فوفرنا على السهمين حظهما(20/166)
فعلى هذا يصح من غير قبول لشبهه بالإسقاط ويرتد بالرد لشبهه بالتمليكات ومثله لو وهب من الكفيل فإنه يرتد بالرد كما لو وهب من الأصيل لأن الهبة لفظ وضع للتمليك ويمكن تحقيق الهبة في حق الكفيل كما في حق الأصيل لأن هبة الدين من غير من عليه الدين جائزة فإذا سلطه عليه فهو مسلط عليه في الجملة أو يجعل ذلك نقلا للدين منه بمقتضى الهبة منه فيصير هبة الدين ممن عليه الدين لو أمكن ذلك لأن له ولاية نقل الدين إليه قصدا بإحالة الدين عليه فيثبت ذلك بمقتضى تصرفهما تصحيحا له وإذا استقام تحقيق الهبة كما في حقه وجب الجري على مقتضى الهبة كما في حق الأصيل.
وقد مر أنه لو أبرأ الذي عليه الأصل من الدين يصح من غير قبول ولكنه يرتد بالرد لما فيه من معنى التمليك فكذلك لو وهب منه فلو مات قبل أن يعلم فهو بريء منه في الهبة والإبراء جميعا لأنه تام في نفسه ولكنه يرتد بالرد فمتى مات وقع اليأس عن الرد فانبرم بمنزلة لو تصرف له فيه جاز وكذلك لو كان ميتا فأبرأه منه وجعله في حل منه فهو جائز لأن الدين قائم عليه حكما فاحتمل الإسقاط فإن قالت الورثة لا تقبل فلهم ذلك ويقضون(20/167)
ص -81- ... المال والكفيل منه بريء في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال محمد رحمه الله ليس للورثة في ذلك قول فمحمد رحمه الله يقول بأن هذا في حق الورثة إسقاط محض لأنه لا دين عليهم حقيقة إنما عليهم مجرد المطالبة فأشبه الكفيل ثم في حق الكفيل لا يرتد بالرد فكذا في حقهم وأبو يوسف رحمه الله يقول إن الدين قائم وقد أخذ شبها بالأعيان بعد الموت لتعلقه بالتركة فكان أقبل للتمليك في هذه الحال والملك بهذا التمليك واقع لهم فيرتد بردهم كما لو أضاف الإبراء إليهم تنصيصا وإذا وهب الطالب المال الذي عليه للأصيل فأبى أن يقبل كان المال عليه وعليه فضله لأن الهبة منه كالهبة من كفيله ولو وهبه من كفيله فأبى أن يقبل كان المال عليه بخلاف ما إذا أبرأه فأبى أن يقبل لأنه لا يعود الدين على الكفيل لأنا نجعل إبراءه كإبراء الكفيل لا يرتد بالرد فكذلك هنا.
وإذا وهب للكفيل وقبله رجع به على الذي عليه الأصل لأنه ملكه بالهبة فصار كما لو ملكه بالأداء والتمليك منه صحيح لأنه قابل للملك في حق ما في ذمة الأصل ولهذا يملكه بالأداء وإذا ملكه رجع عليه وكذلك المحتال عليه وإذا كانت الكفالة على أن المكفول عنه بريء أو كانت حوالة فوهب الطالب الذي كان عليه الأصل فالهبة باطلة لأنه ليس في ذمته شيء لانتقال الدين إلى ذمة غيره وعلى رواية الجامع ينبغي أن يصلح ولو وهب الكفيل الذي عليه للأصيل فهو جائز لانعقاد سبب وجوب الدين له في الحال فإن أدى الكفيل لم يرجع به عليه لأنه يقرر ملكه ما في ذمته فصحت الهبة فصار كما لو وهبه بعد الأداء فإن أدى الذي عليه الأصل لم يرجع به على الكفيل لأنه تبين أن هبته باطلة لانتقاض سبب وجوب الدين بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب إقرار أحد الكفيلين بأن المال عليه(20/168)
قال رحمه الله: وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بالمال فأقر أحد الكفيلين بأن المال كله عليه وأداه وأراد أن يرجع بنصفه على صاحبه وقال إنما عنيت بإقراري أنه علي لأني كفلت عنك كل حصتك فله أن يرجع عليه بنصفه لأنه صادق في قوله أنه كله عليه لكن بعضه بحكم الكفالة وبعضه بحكم الأصالة ولو أقر أن كله عليه وأن صاحبه كفل عنه بأمره لم يكن له أن يرجع على صاحبه بشيء لأنه قد صرح أنه أصيل في كله وصاحبه كفيل عنه فيجري على قضية قوله.
ولو أن رجلين كان عليهما خمسون دينارا لرجل قرضا وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ضامن له فأشهد أحدهما على صاحبه أني معك دخيل في هذا المال ولو أقر الآخر بذلك ثم ادعى أن المال كله على صاحبه فإنه يرجع على صاحبه بنصفه لأن قوله أنت دخيل معي ليس بإقرار بشيء لم يكن عليه خاصة دون الآخر يريد به أنه أخبر بكونهما دخيلين في هذا المال وهذا يقتضي أن يكونا أصيلين في بعضه فمن ادعى أن كله على صاحبه فقد ناقض فيما أخبر فلا يلتفت إلى ذلك وإن أقر أحدهما أن هذا المال عليه خاصة دون الآخر,(20/169)
ص -82- ... ثم أدى المال لم يرجع على صاحبه بشيء لأنه نص أنه كفيل أصيل في الكل ولو أداه صاحبه كان له أن يرجع بكله عليه.
ولو كان لرجل على ثلاثة نفر ألف درهم في صك باسمه وبعضهم كفلاء عن بعض ضامنون للمال كله فأقر الطالب أن أصل المال على أحدهم وأن الآخرين كفيلان عنه ولم يقر بهذه الكفالة التي نسبت إليه في الصك ثم أدى المال أحدهم فله أن يرجع على صاحبه بالثلثين لأنه أقر على غيره فلم يعتبر ولو لم يقر الطالب بذلك ولكن أحد الكفلاء قال أصل المال علي وصاحباي منه بريئان ثم أدى المال لم يرجع على صاحبيه بشيء لأن زعمه معتبر في حقه وإن أداه صاحباه رجعا بالكل عليه لإقراره أنه أصيل في جميع المال وإقراره ملزم إياه ولو كان لرجل على رجل ألف درهم في صك باسمه وفلان بها كفيل فأقر الكفيل أن أصل المال عليه وأن فلانا كفيل عنه وأنه إنما قدمه في الصك لشيء خافه فأدى المقدم في الصك المال كله فله أن يرجع بذلك على الكفيل مؤاخذا بما أقر به على نفسه ويجعل ذلك في حقه كالثابت بالبينة ولو كان أصل المال قرضا في الصك أو من ثمن بيع ونسبه إلى الذي في صدر الصك ثم أقر الكفيل بهذه المقالة كان إقراره على نفسه أصدق مما في الصك لأن إقراره على نفسه حجة ملزمة والصك ليس بحجة ملزمة ما لم يشهد الشهود بما فيه وشهادة الشهود بما فيه لا تكون مقبولة مع تكذيبه إياهم بإقراره.(20/170)
فلهذا كان المقبول ما أقر به على نفسه ولو لم يقر الكفيل بهذه المقالة ولكنه أقر أنه هو القابض للمال من صاحب الصك أو أنه قد اشترى المبيع من صاحب الصك وقبضه وقال الذي عليه الصك وهو الذي اسمه في أوله أجل أو صدق ثم ادعى المقر له المال فله أن يرجع على صاحبه المقر لأن إقراره بمباشرة سبب التزام المال يكون إقرارا منه بأنه أصيل في جميع المال وأن صاحبه كفيل به وإقراره حجة عليه ولو لم يقر الكفيل بذلك ولكنه أقر أنه قبض المال من المكفول عنه فهو جائز لأنه بالكفالة قد استوجب المال على المكفول عنه وإن كان مؤجلا وإقراره بقبض الدين المؤجل صحيح فإن أداه المكفول عنه إلى الطالب رجع على الكفيل بسبب إقراره لأن ثبوت قبضه منه بإقراره كثبوته بالبينة أو بالمعاينة في حقه.
وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بجميع المال فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه كفيل عنه لم يصدق واحد منهما على ذلك إلا بحجة لأنه يدعي خلاف المعلوم بطريق الظاهر فعلى كل واحد منهما البينة على ما ادعى فإن لم يكن له بينة يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لأنه يدعي على صاحبه ما لو أقر به لزمه وأيهما نكل عن اليمين فنكوله بمنزلة إقراره فيثبت بنكوله أن أصل المال عليه وإن حلفا جميعا ثم أدى أحدهما المال رجع على صاحبه بنصفه لأن دعوى كل واحد منهما تنفي عن صاحبه نصيبه وقيل هذه الدعوى إذا كان أدى أحدهما المال رجع على صاحبه بالنصف لاستوائهما في الضمان إن قامت البينة من الأصيل أن المال على أحدهما والآخر(20/171)
ص -83- ... كفيل ولم يعرفوا ذلك فهذا بمنزلة من لم تقم عليه بينة لأن المشهود عليه بالأصالة منهما مجهول والشهادة على المجهول لا تكون مقبولة ولا تبطل هذه الشهادة حق الطالب ولا توهنه لأنها لا تمس حقه.
وإن أقر الطالب أن الأصل على أحدهما والآخر كفيل لم يصدق على ذلك لأن إقراره ليس بحجة لأحدهما على صاحبه وشهادته في ذلك لا تكون مقبولة لأن المال له فإنما يشهد لنفسه على أحدهما بأن جميع المال عليه وكذلك لو كان للطالب ابنان فشهدا بذلك لأنهما يشهدان لأبيهما وهذا إذا لم يكن على أصل المال بينة أنه عليهما وكل واحد منهما ضامن فإن كان على أصل المال بينة بذلك فشهادة ابني الطالب جائزة لأنهما لا يثبتان بشهادتها حق أبيهما وإنما يشهدان لأحد الغريمين على الآخر أنه هو الأصيل وأن صاحبه كفيل فلا تتمكن التهمة في هذه وكذلك إن كان الغريمان مقرين بالمال لأن حق الطالب عليهما ثابت بإقرارهما فشهادة ابني الطالب على هذا لا تكون لأبيهما وإنما تكون لأحدهما على الآخر ولو شهد ابنا أحدهما أن الأصل على أبيه والآخر كفيل عن أبيه جاز لأنهما يشهدان على أبيهما
ولو شهدا أن الأصل على الآخر وأن أباهما كفيل به عنه لم تجز شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أبيهما مغرما ويجران إليه المنفعة فكانا متهمين فيه والله تعالى أعلم بالصواب.
باب بطلان المال عن الكفيل من غير أداء ولا إبراء(20/172)
قال رحمه الله: وإذا كفل الرجل بمال عن رجل من ثمن مبيع اشتراه فاستحق المبيع من يده بريء الكفيل من المال لأن باستحقاق المبيع انفسخ البيع وبرئ الأصيل من الثمن وبراءة الأصيل منه توجب براءة الكفيل لأن الكفيل يلتزم المطالبة التي هي على الأصيل ولا تبقى المطالبة على الأصيل بعد استحقاق المبيع فكذلك على الكفيل وكذلك لو رده بعيب بقضاء أو بغير قضاء أو بإقالة أو بخيار شرط أو رؤية أو بفساد البيع لأن الأصيل يبرأ عن الثمن بهذه الأسباب وكذلك المهر يبطل عن الزوج كله بفرقة من جهتها قبل الدخول أو بعضه بالطلاق ببراءة الكفيل به مما بطل عن الزوج لبراءة الأصيل وكذلك الكفيل بطعام السلم إذا صالح الأصيل الطالب على رأس المال فهو بريء عما كفل به لبراءة الأصيل وليس عليه شيء من رأس المال لأنه دين آخر سوى ما كفل به وهو ليس ببدل عن المكفول به وكيف يكون بدلا ووجوب المسلم فيه بعقد السلم ووجوب رأس المال بانفساخ عقد السلم والبدل ما يجب بالسبب الذي وجب به الأصل.
فلو ضمن المشتري ثمن المشترى لغريم البائع يعني أحال البائع غريما له على المشتري حوالة مقيدة بالثمن أو كفل المشتري لغريم الكفالة البائع كفالة مقيدة بالثمن ثم استحق العبد بطلت الحوالة والكفالة لأن بانفساخ العقد من الأصل ينتفي الثمن عن المشتري من الأصل وقد كان التزاما مقيدا به وكذلك لو وجد العبد حرا أو رده المشتري بعيب بقضاء أو بغير قضاء أو بخيار رؤية أو هلك العبد قبل القبض لم تبطل الحوالة عندنا ولا الكفالة لأن بما(20/173)
ص -84- ... اعترض من الأسباب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجبا على الأصيل وعلى قول زفر رحمه الله تبطل الكفالة والحوالة لأن البيع ينفسخ من الأصيل بهذه الأسباب ويسقط الثمن عن المشتري وقد كان التزامه مقيدا به واستشهد في الكتاب بالصرف فقال لو باعه بالدراهم مائة دينار وقبضها ثم انفسخ البيع بهذه الأسباب رجع على البائع بألف درهم لأن صرفها وأصلها صحيح بخلاف ما إذا استحق العبد أو وجد حرا فإنه يرجع بالدنانير لأنه تبين أن الدراهم لم تكن واجبة من الأصيل وعلى هذا لو ضمن الزوج مهر المرأة لغريمها ثم وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول من قبلها لم يبرأ الزوج عن الكفالة إلا على قول زفر رحمه الله ثم إذا أداها رجع بها على المرأة لأنه كفل عنها بأمرها فيستوجب الرجوع عليها عند الأداء إلا أنه كانت تقع المقاصة قبل الفرقة بمهرها وقد انعدم ذلك بسقوط المهر عنه فيرجع عليها بالمؤدى وكذلك لو طلقها قبل أن يدخل بها غير أنه يرجع عليها بنصف المؤدى لأن المقاصة وقعت بالنصف الثاني من مهرها.(20/174)
ولو كاتب رجل عبده على ألف درهم ثم أمره فضمنها لغريم له على المولى ألف درهم وقبل الحوالة بها فذلك صحيح لأن هذا ليس بكفالة ولا حوالة في الحقيقة ولكنه بمنزلة توكيل المولى غريمه باستيفاء بدل الكتابة من المكاتب ولا فرق في حق المكاتب بين أن يكون يطالبه المولى بالبدل وبين أن يطالبه غريم المولى فإن أعتق المولى المكاتب عتق ولم يبرأ من الضمان وفي بعض نسخ الأصل قال وبرئ من الكفالة لأنه كان بمنزلة التوكيل وبإعتاق المكاتب يسقط عنه بدل الكتابة حتى لا يطالبه المولى بشيء منه فكذلك وكيله ووجه الرواية الأخرى أن الغريم كان يطالبه بدينه قبل العتق ولم يتغير حكم دينه بإعتاق المكاتب وإنما كان هذا بمنزلة التوكيل وحكم توجه المطالبة للغريم على المكاتب بالتزامه فأما المطلوب في حق الغريم دينه وما اعترض من العتق لا يبقي التزام المطالبة ابتداء فلأن لا ينفي بقاءه بطريق الأولى ثم إذا أدى رجع على المولى لأنه قبل العتق كانت تقع المقاصة بدين الكتابة وقد انعدم ذلك حين سقط عنه دين الكتابة بالعتق وكذلك لو مات المولى والمكاتب مدبر يعتق وعتق من ثلثه أم ولد فعتقت لأن البراءة عن بدل الكتابة يحصل بهذا السبب كما يحصل بإعتاق المولى إياه.
ولو كفل عبد عن مولاه بألف درهم بأمره ثم أعتقه المولى فأداه لم يرجع على المولى فأما بعد العتق فإنه يطالبه بذلك المال لأنه كان مطالبا في حال رقه بالعتق وهو لا يزيده إلا وكادة ولأن المولى شغله به حين أمره بالكفالة عنه فهو بمنزلة ما لو أقر بالدين عليه ثم أعتقه فلا يرجع العبد بها على المولى وإن أدى من كسب هو خالص حقه لأن الكفالة حين وقعت لم تكن موجبة لرجوع الكفيل على الأصيل فلا يصير موجبا للرجوع بعد ذلك بخلاف المكاتب فإن هناك أصل الكفالة كانت موجبة لرجوع المكاتب على المولى عند الأداء لأن المكاتب يستوجب على مولاه دينا إلا أنه كانت تقع المقاصة ببدل(20/175)
ص -85- ... الكتابة وهنا أصل الكفالة لم يكن موجبا لرجوع العبد على المولى فإن العبد لا يستوجب على مولاه دينا.
ولو أن رجلا له على رجل ألف درهم فأمره أن يضمنها الغريم له ثم أن الآمر وهبها للكفيل أو أبرأه منها لم يجز ذلك وكان للمكفول له أن يأخذه بالمال لأن الكفالة أو الحوالة المقيدة قد اشتغلت بما للآمر في ذمة الكفيل لحق الطالب وذلك يمنع الآمر من التصرف فيه بمنزلة الراهن إذا تصرف في المرهون بالهبة أو البيع من إنسان فإنه لا ينفذ لحق المرتهن ولو مات الآمر وعليه دين ولم يقتض المكفول له الدراهم كانت الدراهم بين سائر غرماء الميت ولم يكن المكفول له أحق بها منهم استحسانا وكان ذلك القياس أن يكون للمكفول له خاصة وهو قول زفر رحمه الله لأنه صار كالمرهون به ولأن سائر الغرماء يثبت حقهم من جهة الأصل وقد كان مقدما على الأصل في هذا المال في حياته ووجه الاستحسان أن المكفول له لم يصر أحق بغرم هذا المال حتى لو بريء مما في ذمة الكفيل لم يبطل حق المكفول له ولا يكون أحق بالغنم وبه فارق الرهن فقد صار المرتهن أحق بغرم الرهن هناك.
يوضحه أن يد الاستيفاء ثبتت للمرتهن بقبض الرهن وعلى ذلك ينبني اختصاصه به دون سائر الغرماء وهنا يد الاستيفاء لم تثبت للمكفول له فيما في ذمة الكفيل بل هو مال الأصيل فيقسم بعد موته بين غرمائه بالحصص ولو كان المكفول عنه حيا فأقام رجل البينة أن هذا المال له وأنه أمر فلانا فباع المبيع الذي هذا المال ثمنه لم يكن له أن يبطل الكفالة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولكنه يضمنه للبائع(20/176)
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تبطل الكفالة وهو بناء على مسألة كتاب البيوع أن الوكيل بالبيع عندهما في نفوذ تصرفه في الثمن بمنزلة العاقد لنفسه ويضمن للموكل وعند أبي يوسف رحمه الله بمنزلة الثابت لا ينفذ من تصرفه إلا ما يرجع إلى القبض ولو كان المال إلى أجل وبه كفيل فإن مات الأصيل فقد حل المال عليه ولا يحل على الكفيل حتى يمضي الأجل لأن الأصيل استغنى بموته عن الأجل والكفيل محتاج إليه وحلوله على الأصيل لا يمنع كونه مؤجلا على الكفيل كما لو كفل الكفيل بمال هو حال على الأصيل مؤجلا إلى سنة ولو كان الميت هو الكفيل فقد حل المال عليه لوقوع الاستغناء عن الأجل ويؤخذ من تركته في الحال ثم لا يرجع ورثته على الأصيل قبل أن يحل الأجل عندنا.
وقال زفر رحمه الله يرجعون على الأصيل في الحال لأنهم أدوا دينا عليه بعد توجه المطالبة فيه شرعا بحكم الكفالة عنه بأمره فيرجعون إليه وهذا لأن الكفيل يصير بمنزلة المقرض لما أدى عن الأصيل فيستوجب الرجوع به عليه في الحال إلا إذا قصد إثبات حق الرجوع لنفسه بتعجيله قبل حل الأجل ولم يوجد إذا كان سقوط الأجل حكما لموته ولكنا نقول بالكفالة كما وجب المال للطالب على الكفيل مؤجلا والأصيل باق منتفع بالأجل فكما(20/177)
ص -86- ... بقي المال مؤجلا في حق الطالب بعد موت الكفيل فكذلك في حق الكفيل للطالب قبل حل الأجل فإنه لا يرجع على الأصيل حتى يحل الأجل فهذا مثله ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه ثلاثة رهط بعضهم كفلاء عن بعض بالمال وهو حال من ثمن مبيع فأخر الطالب أحد الكفلاء إلى سنة فهو جائز وله أن يأخذ أيهم شاء سواء بجميع المال بمنزلة ما لو كان أحدهم كفل به مؤجلا في الابتداء فإن المال يكون حالا على الباقين وهذا لأن كل واحد منهم كفيل بجميع المال وإبراء أحد الكفلاء لا يوجب البراءة للباقين كما لا يوجب براءة الأصيل فكذلك التأخير عن أحد الكفلاء إلى سنة فإن أدى المال أحد الكفيلين الآخرين كان له أن يأخذ صاحبه بالنصف ليستوي به في غرم الكفالة كما هو مساو له في الالتزام بأصل الكفالة ولا يأخذ الذي أخره حتى يحل الأجل لأن الأجل ثابت في حقه فكما لا تتوجه مطالبة الطالب عليه بشيء لمكان الأجل فكذلك مطالبة الكفيل الآخر فإذا حل الأجل وقد كان أخذ من صاحبه النصف بيعا جميعا ذلك الكفيل بالثلث لأنه كان مساويا لهما في الكفالة وقد كان المانع لهما من الرجوع عليه الأجل وقد انعدم فيرجعان عليه بقسطه وهو الثلث ليستووا في غرم الكفالة ثم يرجعون على الأصيل بجميع المال فلو كان الطالب أخر المال على الأصيل سنة كان ذلك تأخيرا عن جميع الكفلاء بمنزلة ما لو أبرأ الأصيل وكان ذلك موجبا براءة الكفيل أو لو كان أخر كفيلا منهم شهرا وآخر شهرين وآخر ثلاثة أشهر كان جائزا على ما سمي فإن حل على صاحب الشهر أخذه من سهمه ولا يرجع هو على الآخرين لقيام المانع وهو الأجل.(20/178)
وإن أخر الذي عليه الأصل بعد هذا سنة كان المال عليهم إلى سنة ودخلت الشهور تحت السنة لأن التأجيل في حق الأصيل فهو في حق الكفيل ولو كان أخر الكفيل شهرا ثم أخره سنة دخل الشهر في السنة فهذا مثله وإن كان المال من ثمن مبيع أو غصب وبه كفيل فأخر الطالب الأصيل إلى سنة فأبى أن يقبل ذلك فالمال عليه وعلى الكفيل حال كما كان لأن تأخير المطالبة بالتأجيل في حق الأصيل بمنزلة إسقاطه بالإبراء وإبراء الأصيل يرتد بالرد فكذلك التأخير عنه يرتد برده فيبقى المال عليه حالا.
وكذلك على الكفيل لأن التأجيل في حق الأصيل يجعل في حق الكفيل بمنزلة ما لو أجل الكفيل ولو أجل الكفيل فأبى أن يقبل المال أن يثبت حالا فكذلك إذا أجل الأصيل وهذا لأن التأجيل لا يوجب انفساخ الكفالة سواء أجل الكفيل أو الأصيل وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها ثلاثة نفر وبعضهم كفلاء عن بعض ثم أن الطالب وهب المال لواحد منهم فأبى أن يقبل فالمال عليهم كما كان لأن الهبة من الكفيل تمليك فيرتد برد الكفيل كما يرتد برد الأصيل إذا وهب منه وإن قبل فقد تملك المال بقبول الهبة فهو بمنزلة ما لو وهبه تملكه بالأداء فإن شاء رجع على الأصيل بجميع المال وإن شاء رجع على صاحبيه بالثلثين إن وجدهما أو على أحدهما بالنصف إن وجده دون الآخر بمنزلة ما لو(20/179)
ص -87- ... أدى المال فإن كان الموهوب له غائبا فلم يقبل ولم يرد ولم يعلم به حتى مات فالهبة جائزة ويرجع ورثته على أيهم شاء ولما بينا أن هبة الدين إسقاط يتضمن التمليك فإن ضمنه معنى التمليك يرتد برده ما دام حيا ولكونه إسقاطا يتهم بموته قبل الرد ويجعل تمامه كتمامه بقبوله وورثته قائمون مقامه فيرجعون على أيهم شاء كما بينا.
ولو وهبه لرجلين من الكفلاء فقبلا جاز ورجعا به على الأصيل وإن شاءا رجعا على الكفيل الثالث بالثلث بمنزلة ما لو أديا وليس لواحد منهما أن يرجع على صاحبه بشيء من أجل أن كل واحد منهما صار متملكا خمسمائة وهما يستويان في ذلك وإن أخذا الكفيل الثالث فأدى إليهما الثلث ثم أراد هذا الكفيل الغارم أن يرجع على أحدهما بنصف ما أدى إلى الآخر لم يكن له ذلك لأن كل واحد منهما متملك للثلث فيكون بمنزلة ما لو أدوا جميعا المال إلى الطالب وإنما يتبعون الأصل بالألف كلها فإذا أخذوها كان لكل واحد منهم ثلث المقبوض ولو أن الطالب حين وهب المال لهذين الكفيلين قبل أحدهما الهبة وأبى الآخر أن يقبل فللذي قبل أن يأخذ ثلث هذا النصف من الكفيلين الآخرين لأن تملكه نصف المال بقبول الهبة كتملكه بأداء النصف فإن شاء رجع على الكفيلين معا بثلثي ذلك النصف وإن شاء على أحدهما بنصف ذلك الثلث ويأخذ الطالب بالنصف الآخر أي الكفلاء شاء وإن شاء رجع على الأصيل لأن الهبة بطلت في هذا النصف برد الموهوب له فعاد الحكم كما كان قبل الهبة فإن قبض الطالب من الذي عليه الأصل شيئا فهو له خاصة وللطالب أن يأخذ الموهوب له بما بقي من ذلك لأن النصف الباقي ما وهبه منه فهو فيه كغيره من الكفلاء.(20/180)
ولو وهب الطالب نصف المال لأحد الكفلاء كان بهذه المنزلة فإن رجع الموهوب له على الكفيلين بثلثي ذلك النصف فأخذه منهما لم يتبعه واحد منهما بشيء من ذلك لأنه لو كان له حق الاتباع بعد الأداء كان له أن يمنع ذلك منه في الابتداء ولكن لو أديا إلى الطالب خمسمائة كان للموهوب له أن يرجع عليهما بثلث خمسمائة أخرى فيرجع عليهما بتلك الخمسمائة حتى يكون الأداء عليهم أثلاثا وكذلك الصدقة والنحلة والعطية فأما البراءة فليست كذلك ولا يرجع المبرأ من الكفلاء على أحد بشيء لأن إبراء الكفيل فسخ للكفالة وليس بتملك شيء منه والله تعالى أعلم.
باب الحلف في الكفالة
قال رحمه الله: وإذا حلف الرجل لا يضمن لفلان شيئا فضمن له بنفس أو مال فهو حانث لأنه قد ضمن له فالمفهوم من هذا اللفظ التزام المطالبة بتسليم شيء مضمون له وقد وجد ذلك وكذلك لو كفل أو قبل الحوالة له وقال في الحوالة ضمان وزيادة والكفالة والضمان عبارتان عن عقد واحد ولو اشترى شيئا بأمره فهذا ليس بضمان وإنما هذا التزام لعقد الشراء وعقد الشراء لا يسمى كفالة عرفا وفي الأيمان يعتبر العرف ولو ضمن لعبده أو مضاربه أو شريك له مفاوض أو عنان لم يحنث لأن الضمان وقع لغيره فإن المضمون ما(20/181)
ص -88- ... تجب به المطالبة قبل الضامن بعقد الضمان وهو غير المحلوف عليه فأما المحلوف عليه إن توجهت له المطالبة فذلك باعتبار سبب آخر دون عقد الضمان.
ألا ترى أن الرد والقبول إنما يعتبران ممن ضمنه له دون المحلوف عليه وعلى هذا لو ضمن الرجل فمات فورثه المحلوف عليه لم يحنث وإن صار الضمان له في الانتهاء لأن الأصل كان لغيره وإنما يثبت له باعتبار سبب آخر وهو الخلافة عن المورث ولو حلف لا يضمن لأحد شيئا فضمن إنسان ما أدركه من درك في دار اشتراها أو عبد حنث لأنه قد ضمن للمشتري ألا ترى أنه يسمى في الناس ضامنا من كان ضامنا للدرك وهو بمنزلة ما لو قال إن لم يوفك فلان مالك إذا حل أو إن مات فلان قبل أن يوفيك فهو علي أو فأنا له ضامن فإنه يكون ضامنا له ويكون حانثا في يمينه وإن كانت المطالبة متأخرة عنه إلى أن يوجد ما صرح به ولا يخرج به من أن يكون ضامنا في الحال فكذلك في الدرك.(20/182)
ولو ضمن لرجل غائب لم يخاطب عنه أحد لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويحنث في قول أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على ما سبق أن الكفالة للغائب إذا لم يقبل عنه أحد باطل في قولهما فلا يحنث في يمينه وهو صحيح في قول أبي يوسف رحمه الله والضمان لازم للكفيل فيكون حانثا في يمينه ولو خاطبه عنه مخاطب حنث في قولهم جميعا لأن الضمان صحيح في حق الضامن وإن كان للمضمون له الخيار إذا بلغه بين أن يرضي به وبين أن يرده فيتم به شرط الحنث في حقه ولو ضمن لصبي لأن أباه أو وصيه لو أجاز ذلك جاز فهو بمنزلة ما لو ضمن الغائب فيتم في حقه إذا خاطبه به مخاطب وكذلك العبد المحجور عليه يحلف أنه لا يضمن شيئا فضمن فهو حانث لأن يمين المحجور عليه ينعقد لكونه مخاطبا والالتزام بالضمان صحيح في حقه وإن كان المال يتأخر عنه إلى ما بعد العتق لحق مولاه فهو بمنزلة ما لوضمن الغائب وعنه مخاطب أو ضمن لإنسان بعد ما حلف وهو مفلس ولو حلف لا يكفل بفلان أو لا يضمن فلانا فكفل عنه بمال لم يحنث لأن الكفالة بفلان إذا أطلقت فإنما يفهم منها الكفالة بالنفس ومطلق اللفظ في اليمين محمول على ما يتفاهمه الناس في مخاطباتهم فإن عنى المال كان ذلك على ما عنى لأنه شدد على نفسه بلفظ يحتمله وقد تقدم بيان هذا الجنس في كتاب والله أعلم.
باب الكفالة بما لا يجوز
قال رحمه الله: ولا يجوز الكفالة بشجة عمد فيها قصاص ولا بدم عمد فيه قصاص حتى لا يؤاخذ الكفيل بشيء من القصاص ولا من الأرش لأن الكفالة إنما تصح بمضمون تجري النيابة في إيفائه والقصاص عقوبة لا تجري النيابة في إيفائها فلا يصح التزامها بالكفالة والأرش لم يكن واجبا على الأصيل بالفعل الذي هو موجب للقصاص والكفيل لم يكفل به أيضا وكذلك الكفالة بحد القذف باطلة لأنه عقوبة لا تجري النيابة في إيفائها ولأن المغلب فيه حق الله تعالى فيكون على قياس سائر الحدود وكذلك لا تجوز الكفالة بشيء(20/183)
ص -89- ... من الأمانات لأنها غير مضمونة على الأصيل ولا هو مطالب بإيفائها من عنده وإنما يلتزم الكفيل المطالبة بما هو مضمون الإيفاء على الأصيل فإذا استهلكها بعد ذلك من هي في يده أو خالف فيها لم يلزم الكفيل ضمانها لأن أصل الكفالة لم يصح والضمان إنما لزم الأصيل بسبب حادث بعد الكفالة وهو ما أضاف الكفالة إلى ذلك السبب.
وكذلك في القصاص لو صالح الطالب المطلوب على مال لم يلزم الكفيل من ذلك المال شيء لأنه وجب بعقد بعد الكفالة والكفالة ما أضيفت إليه وكما لا تصح الكفالة بهذه الأشياء فكذلك الرهن لأن جواز الرهن يختص بما يمكن استيفاؤه من الرهن فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء وكذلك الكفالة بالرهن عن المرتهن الرهن باطل لأن عين الرهن أمانة في يد المرتهن والكفالة بتسليم الأمانة لا تصح كالوديعة والعارية والمضاربة وكذلك الكفالة للمولى مملوكة وهو في بيت مولاه أو قد أبق عنه باطلة لأنه غير مضمون للمولى على العبد فإن المولى لا يستوجب على عبده حقا مضمونا وهذه الكفالة دون الكفالة ببدل الكتابة للمولى عن مكاتبه وذلك باطل فهذا أولى ولو دفع ثوبا إلى قصار ليقصره وضمنه رجل فضمانه باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله وكذلك من يشبهه من الصناع لأن العين عنده أمانة في يد الأجير المشترك ولهذا لو هلك من غير صنعه لم يضمن وأما في قول من يضمن الأجير المشترك ما هلك عنده بسبب يمكن التحرز عنه وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فالكفيل ضامن لأن العين عندهما مضمونة في يد القابض بنفسها وهو بمنزلة المغصوب في يد الغاصب فتصح الكفالة به.
ولو كفل بعبد رجل إن هو أبق من مولاه فهو باطل لأنه ما أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان فالإباق ليس بسبب يوجب ضمانا للمولى على عبده وكذلك لو كفل بدابته إن انفلتت منه أو بشيء من ماله إن تلف لأن الكفيل يلتزم مطالبة هي على الأصيل وذلك ينعدم هنا.(20/184)
ولو استودع رجلا وديعة على أن هذا كفيل بها إن أكلها أو جحدها فهو جائز على ما شرط لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز وكذلك لو قال أنا كفيل بما صالحته عليه من مال من القصاص الذي تملك عليه في نفس أو من مال لك عليه لأنه أضاف الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها وكذلك لو قال إن قتلك فلان خطأ فأنا ضامن لديتك فقتله فلان خطأ فهو ضامن أرشه لأنه أضاف الكفالة بالأرش إلى سبب موجب له وهو مما تجري النيابة في إيفائه.
ولو قال إن أكلك سبع أو ذئب فأنا ضامن لديتك فهذا باطل لأنه ما أضاف الضمان إلى سبب موجب له ولو قال إن غصبك إنسان فأنا ضامن له فغصبه إنسان شيئا فلا ضمان عليه لأنه عم معناه أن المكفول عنه مجهول جهالة متفاحشة وذلك يمنع انعقاد الكفالة مضافا كان أو مجردا ولو خص إنسانا أو قوما لزمه ذلك لأن المكفول عنه معلوم ولو دفع(20/185)
ص -90- ... ثوبا إلى قصار يقصره بأجرة وكفل به رجل إن أفسده كان جائزا لأن الأجير المشترك ضامن لما جنت يده فقد أضاف الكفالة إلى سبب موجب الضمان فصحت الكفالة لهذا ولو ادعى قبل رجل قصاصا في نفس أو دونها أو حدا في قذف وسأل القاضي أن يأخذ له كفيلا بنفسه وقال بينتي حاضرة لم يجبه القاضي إلى ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجيبه إلى ذلك لأن تسليم النفس مستحق على الأصيل الطالب في هذا الموضع فتصح الكفالة به كما في دعوى المال وهذا لأن تسليم النفس تجري فيه النيابة فالكفيل إنما يلتزم ما يقدر على إيفائه وأبو حنيفة رحمه الله يقول تسليم النفس هنا لمقصود لا تصح الكفالة به وهو الحد والقصاص فلا يجبر على إعطاء الكفيل بالنفس فيهما بخلاف المال وهذا لأن العقوبات تدرأ بالشبهات فلا ينبغي للقاضي أن يسلك فيها طريق الاحتياط بالإجبار على إعطاء الكفيل بالنفس لأن ذلك يرجع إلى الاستيثاق وهو ضد موضوع العقوبات ولكن السبيل أن يقول له ألزمه ما بينك وبين قيامي فإن أحضر البينة قبل أن يقوم القاضي وإلا خلي سبيله ولو أقام شاهدا واحدا لا يعرفه القاضي فإن أقام شاهدين أو واحدا عدلا يعرفه القاضي فإن القاضي يحبسه في السجن حتى يسأل الشهود لأنه صار متهما بارتكاب الحرام الموجب للعقوبة حين تم أحد شطري الشهادة والحبس مشروع في حق مثله.(20/186)
ألا ترى أن الداعر يحبس ولا يكفل حتى يأتي بشاهد آخر لأن الكفيل للاستيثاق بالحدود والقصاص وذلك غير مشروع فأما الحبس للتعزير فهو مشروع في حق من هو متهم بارتكاب الحرام وعلى قولهما لا يحبسه قبل تمام الحجة الموجبة للقضاء ولكنه يكفله ثلاثة أيام كما في دعوى المال ولو ادعى قبل رجل مالا بسرقة منه وقال بينتي حاضرة فإنه يؤخذ له منه كفيل بنفسه ثلاثة أيام لأن المدعي مال والاستيثاق بالكفالة فيه مشروع فإن قال قبضت منه السرقة لكني أريد أن أقيم عليه الحد لا يؤخذ منه كفيل لأن الحد يجب لله تعالى وهو ينبني على البرء والإسقاط فلا يستوثق بأخذ الكفيل بالنفس فيه وكذلك حد الزنى فإن طلب المشهود عليه من الذي شهد عليه بالزنى حد القذف فقال الشاهد عندي بذلك أربعة شهداء أجل فيه إلى قيام القاضي ليظهر عجزه بهذا الإمهال عن إقامة أربعة من الشهداء فإن لم يحضرهم أقام عليه حد القذف لأن السبب الموجب للحد قد تقرر وهو القذف مع العجز عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يحل عنه ولا يكفل لأن ذلك يرجع إلى الاستيثاق ولكن الطالب يلزمه إلى قيام القاضي مراعاة لحقه حتى لا يهرب.
فإن قال الشاهدان المشهود عليه عبد فالقول قوله لأن ثبوت حريته بطريق الظاهر وبمثله يدفع الاستحقاق ولا يستحق الحد وإن طلب المقذوف من القاضي أن يأخذ له منه كفيلا حتى يحضر البينة أنه حر لم يؤخذ لأن هذا استيثاق لإقامة الحد ولكن القاذف يحبس على وجه له فقد استوجب ذلك بإشاعة الفاحشة حرا كان المقذوف أو عبدا ويؤجل(20/187)
ص -91- ... المقذوف أياما بمنزلة ما لو أقام رجل عليه البينة بالرق فزعم أن له بينة حاضرة على الحرية وكما يؤجل هناك أياما ليتمكن من إثبات حريته بالبينة فكذلك هنا وإن أقام رب السرقة شاهدين على السارق وعلى السرقة وهي بعينها في يديه لم يؤخذ منه كفيل ولكنه يحبس وتوضع السرقة على يدي عدل حتى يزكي الشهود لأن في الاشتغال بأخذ الكفيل بنفسه أو بالعين المسروقة استيثاقا لإقامة الحدود ذلك غير مشروع ولكنه يحبس على وجه التعزير وتوضع السرقة على يدي عدل لأن السارق غير مأمون على العين المسروقة والمدعى عليه المال إذا كان يخاف منه أن يتلف المال فللقاضي أن يضعه على يدي عدل بعد إقامة البينة حتى يزكي الشهود وإخراج العين فيه نوع تعزير له.
وإذا ادعى عبد على حر قذفا وأراد أن يعذر له أو ادعى رجل قبل رجل مسألة فيها تعزير وقال بينتي حاضرة أخذ له منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام لأنه ليس بحد وإنما هو تعزير وهو من حقوق العباد حتى يجوز العفو عنه وهو مما لا يندرئ بالشبهات التي هي في معنى البدل بمنزلة الأموال ولو ادعت امرأة على زوجها أنه قذفها والزوج حر أو عبد لم يؤخذ منه كفيل في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن اللعان في قذف الزوج زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبي وقد بينا الخلاف هناك بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله فكذلك هنا ولو ادعى الولد قبل الوالد قذفا لم يؤخذ منه كفيل ولم يترك أن يلزمه لأن الابن لا يستوجب على والده شيئا من نوع العقوبة تعزيرا كان أو حدا أو قصاصا وكذلك لا يستوجب عليه الحبس في دين له واجب عليه وكذلك لا يستوجب الملازمة في دعواه قبله.(20/188)
وكذلك لو ادعاه قبل والدته أو جده أو جدته وكذلك لو ادعى عبد أن مولاه قذف أمه وهي حرة مسلمة لأن حقوق الملك في إخراج المملوك من أن يكون أهلا لاستيجاب العقوبة على مالكه بمنزلة الولادة ولو ادعى حر قبل عبد قذفا فأراد أن يأخذ منه كفيلا بنفسه أو نفس مولاه وخاف أن لا يقام عليه الحد إلا بمحضر من مولاه لم يؤخذ له الكفيل من واحد منهما ولكنه يؤمر بتلازمهما إلى أن يقوم القاضي في قول أبي حنيفة رحمه الله ولو أقام البينة عليه بذلك بمحضر من مولاه فإن العبد يحبس له ويؤخذ له من مولاه كفيل في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يحبس العبد ولكن يؤخذ له كفيل بنفس العبد خاصة دون نفس المولى وفي قول محمد رحمه الله يؤخذ له الكفيل بنفس العبد ونفس مولاه والذي قال في الكتاب أن قول محمد رحمه الله مثل قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يريد به أخذ الكفيل من المولى فأما حبس العبد فقوله كقول أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على مسألتين إحداهما ما بينا من أخذ الكفيل بنفس المدعي قبله حد القذف والأخرى ما تقدم بيانه في الآبق أن حد القذف بالبينة لا يقام على العبد إلا بمحضر من مولاه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يقام عليه وإن لم يحضر المولى.
فقال أبو يوسف رحمه الله لا يأخذ الكفيلين بنفس المولى لأنه لا حاجة إلى حضوره(20/189)
ص -92- ... في إقامته الحد ويؤخذ الكفيل بنفس العبد ولا يحبس قبل إقامة البينة ولا بعدها قبل ظهور عدالة الشهود لأن هذا بمنزلة المال عنده في حكم الكفالة بالنفس وقال محمد رحمه الله كذلك إلا أنه قال يؤخذ الكفيل بنفس المولى لأنه لا بد من حضرة المولى لإقامة الحد على العبد عنده وعند أبي حنيفة رحمه الله في دعوى حد القذف لا يجبر على إعطاء الكفيل بالنفس قبل إقامة البينة ولكن يصار فيه إلى الملازمة ولا بد من حضرة المولى عنده لإقامة البينة فيكون للمدعي أن يلازمهما وبعد إقامة البينة يحبس العبد تعزيرا كما يحبس الحر إذا قامت البينة عليه بالقذف ويؤخذ من مولاه كفيل لأنه لا بد من حضرة المولى لإقامة الحد ولا سبيل إلى حبسه لأنه ما ارتكب حراما فيؤخذ منه كفيل نظرا للمدعي لأنه ليس في أخذ الكفيل من المولى هنا توثق بحد عليه إذ لا حد على المولى.(20/190)
ولو ادعى رجل على رجل حدا في قذف فأقام شاهدين على شهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين لم يكفل ولم يحبس وكذلك هذا في القصاص لأنه لا مدخل لهذا النوع من الحجة في حد أو قصاص ولو كان هذا في سرقة أخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود لأن المال يثبت بهذه الحجة فإن زكوا قضى عليه بالمال وكذلك كل جراحة لا قصاص فيها لا في دعوى المال وبمثل هذه الشهادة يثبت المال فإذا ادعى رجل دم عمد على ثلاثة نفر فأقر اثنان منهم بذلك وشهدا على الثالث أنه قتل معهما عمدا فإنهما يحبسان فإقرارهما على أنفسهما بمباشرة السبب الموجب للعقوبة ولا يحبس الآخر بشهادتهما ولا يكفل لأن شهادتهما ليست بمقبولة على الثالث فإنهما فاسقان ولأنهما يشهدان بفعل كان مشتركا بينه وبينهما ولا شهادة لهما في مثله فإنما يبقى في حق الثالث مجرد دعوى المدعي وبه لا يثبت الحبس ولا التكفيل ولو كان أولياء الدم ثلاثة فادعى أحدهم على رجل وادعى الآخر على الشريك قتل العمد وكل واحد منهما يدعي بينة حاضرة لم يحبس أحد منهم ولكن يؤخذ من كل واحد منهم كفيل ثلاثة أيام لأنه لا قصاص في هذه الدعوى وإنما إنهاء المال بشيء واحد منهما على من بينته عليه في دعوى المال يكفل بالنفس ثلاثة أيام.(20/191)
ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ثم أبرأه وادعاه على آخر لم يكفل الثاني ولا تقبل بينة عليه لوجود التناقض منه في الدعوى فإن أقر الثاني بذلك قضى عليه لأنه مناقض صدق خصمه في ذلك إلا أنه لا يقضي عليه بالقصاص لأن ما تقدم من الدعوى منه على غيره يمنعه من استيفاء القصاص منه فيصير ذلك شبهة في حق القصاص دون المال وهذا مشكل فإن تعذر استيفاء القصاص لمعنى من جهة من له الحق وهو تناقضه في الدعوى وفي مثله لا يقضي بالدية كما لو قال قتلت وليك عمدا فقال لا بل قتلته خطأ لا يقضي بالمال وكل ما لا قصاص فيه فهو بمنزلة الخطأ في حكم الكفالة حتى إذا ادعى على رجلين قطع يد عمدا أخذ له منهما الكفيل بالنفس لأن هذا غير موجب للقصاص وإنما الدعوى فيه دعوى المال ولو أقام شاهدين عدلين على قتل خطأ قضى له بالدية ولا حبس على القاتل في ذلك(20/192)
ص -93- ... ولا كفالة لأن الخاطئ معذور والخطأ موضع رحمة من الشرع علينا فالخاطئ لا يستوجب التعزير إلا أن يكون داعرا فيحبس للدعارة لأن في حبس الداعر تسكين الفتنة.
ولو أن رجلا قطع يميني رجلين فاجتمعا وطلبا كفيلا بنفسه لا يؤخذ لهما منه كفيل بنفسه من قبل أن كل واحد منهما يدعي القصاص ألا ترى أن أحدهما إذا أقام البينة قضى له بالقصاص وإذا أقاما جميعا البينة قضى لهما بالقصاص حتى إذا بادر أحدهما واستوفى كان مستوفيا لحقه إلا أنهما إذا استوفيا القصاص يقضي لهما حينئذ بأرش اليد وقضى بنصف طرفه حقا مستحقا عليه لكل واحد منهما وإذا ثبت أن دعوى كل واحد منهما دعوى القصاص لم يؤخذ الكفيل بنفسه في قول أبي حنيفة رحمه الله.
ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ويد القاطع شلاء فقال المدعي أنا أختار الدية فخذ لي منه كفيلا بنفسه أخذ له الكفيل لأن باختياره يتعين حقه في المال وفي دعوى المال تجري الكفالة بالنفس
وإذا ادعى رجل قبل رجل شتمة فاحشة وأقام عليه شاهدين بالشتمة لم يحبس المدعى عليه ولكن يؤخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود ولما بينا أن دعوى التعزير كدعوى المال وفي دعوى المال لا يحبس ما لم تظهر عدالة الشهود ثم الحبس نهاية العقوبة في هذه الدعوى ألا ترى أن بعد عدالة الشهود لو رأى القاضي أن يحبسه أياما عقوبة ولا يعزر بالسوط كان له ذلك فلما كان الحبس له نهاية العقوبة هنا لا يمكن إقامتها قبل ظهور العدالة بخلاف القصاص والحدود وأشار في الحدود والقصاص إلى أن على قولهما بعد إقامة البينة قبل ظهور عدالة الشهود يحبس ولا يؤخذ الكفيل ولكن يبرأ الكفيل إن كان أخذه منه تأويله بعد ظهور العدالة فأما قبل ذلك فلا يشتغل بحبسه عندهما على ما فسره في دعوى الحد على العبد.(20/193)
وإن كان المدعى عليه الشتمة رجلا له مروءة وخطر استحسنت أن لا أحبسه ولا أعزره إذا كان ذلك أول مرة لأن إحضاره مجلس القاضي فيه نوع تعزير في حقه فيكتفي به في أول مرة ويؤخذ بما رواه الحسن رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجافوا عن ذوي المروءة إلا في الحد" وإذا ادعى رجل قبل رجل شيئا يجب عليه فيه عقوبة فأخذ منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام فهرب المكفول به وقدم الطالب الكفيل إلى القاضي فإنه يحبسه حتى يجيء به لأنه التزم تسليم نفسه فيحبس لإيفاء ما التزمه.
ولو ادعى قبل رجل أنه ضربه وخنقه وشتمه وأن له بينة حاضرة أخذت له منه كفيلا ثلاثة أيام فإن أقام على ذلك شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو شاهدين على شهادة شاهدين عزر به لأن التعزير بمنزلة المال يثبت مع الشبهات وقد بينا في كتاب الحدود أنه لا يبلغ بالتعزير أربعين سوطا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا إذا كان في أمر متفاحش وتعزير العبد في مثل ذلك تسعة وثلاثون سوطا عنده ذكر هذه الزيادة هنا لأن الأربعين حد في حق العبد وقد قال صلى الله عليه وسلم:(20/194)
ص -94- ... "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" ولو ادعت امرأة قبل زوجها أنه ضربها ضربا فاحشا وادعت بينة حاضرة أو ادعى رجل ذلك قبل ولده الكبير أو قبل أخيه يؤخذ منه كفيل ثلاثة أيام وكذلك الذمي يدعي الشتمة قبل المسلم أو الذمي أو العبد يدعيها قبل الحر لأن الدعوى في هذا كله دعوى التعزير والكفالة فيه مشروعة وإذا مات الرجل وعليه دين ولم يترك شيئا فكفل ابنه أجنبي للغريم بما له على الميت لم تجز الكفالة في قول أبي حنيفة رحمه الله وهي جائزة في قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله.(20/195)
وإذا كان الميت ترك وفاء جازت الكفالة عندهم جميعا وإن ترك شيئا ليس فيه وفاء فإنه يلزم الكفيل بقدر ما ترك الميت في قوله وفي قولهما يلزمه جميع ما كفل به وحجتهم في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل من الأنصار ليصلي عليه فقال صلى الله عليه وسلم: "هل على صاحبكم دين" فقالوا نعم درهمان أو ديناران فقال صلوات الله عليه وسلامه: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة هما علي يا رسول الله وفي رواية قال ذلك علي كرم الله وجهه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو لم تصح الكفالة عن الميت المفلس لما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الكفالة وعن عبد الحميد بن أبي أمية عن رجل من الأنصار أنه قال لأصحابه من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل فإني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بجنازة رجل من الأنصار فقال صلى الله عليه وسلم: "هل على صاحبكم دين" فقالوا نعم فقال صلوات الله عليه وسلامه: "وما ينفعكم صلاتي عليه وهو في قبره مرتهن بدينه" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فمن ضمنه قمت فصليت عليه" فهذا تنصيص على تصحيح الضمان عن الميت المفلس والمعنى فيه أنه كفل بدين واجب فيصح كما في حال حياة المديون وهذا لأن الدين كان واجبا عليه في حال حياته فلا يسقط إلا بإيفاء أو إبراء أو انفساخ سبب الوجوب وبالموت لا يتحقق شيء من ذلك ألا ترى أنه مؤاخذ به في الآخرة مطلوب به ولو تبرع إنسان بقضائه جاز التبرع إلا أنه تعذرت مطالبته به في الدنيا بموته وبهذا لا يخرج الحق من أن يكون مطلوبا في نفسه كما لو أفلس في حال الحياة وكالعبد إذا أقر على نفسه بدين ثم كفل عنه كفيل به صح وإن كان هو لا يطالبه في حال رقه لأن الحق مطلوب في نفسه وهذا لأن ذمته باقية بعد الموت حكما لأنها كرامة اختص بها الآدمي وبموته لا يخرج من أن يكون محترما مستحقا لكرامات بني آدم.(20/196)
ألا ترى أنه لو مات مليا بقي الدين ببقاء ذمته حكما لا للانتقال إلى المال وليس بمحل لوجوب الدين فيه وإنما هو محل القضاء الواجب منه.
ولو كان بالدين رهن بقي الرهن على حاله وإن كان مات عن إفلاس بأن كان الرهن مستعارا من إنسان وبقاء الرهن لا يكون إلا باعتبار بقاء الدين ولو قتل عمدا وهو مفلس فكفل به كفيل بالدين الذي عليه صح والقصاص الواجب ليس بمال ولو لم تكن الذمة باقية حكما لما صحت الكفالة هنا وهذا بخلاف دين الكتابة فالحق هناك غير مطلوب وكذلك الديون الواجبة لله تعالى فإنها غير مطلوبة في الحكم في الدنيا والكفالة تكون بالحق فيشترط(20/197)
ص -95- ... كون الحق مطلوبا في نفسه على الإطلاق وهناك الحق مطلوب في نفسه وبموته لم يتغير الحكم فبقي مطلوبا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الحق قد توى وإنما تصح الكفالة بالقائم مثلا من الدين دون التاوي وبيان ذلك هو أنه لا يتصور قيام الحق بدون محله ومحل الدين الذمة وقد خرجت ذمته بموته من أن يكون محلا صالحا لوجوب الحق فيها فإن الذمة عبارة عن العهدة ومنه يقال أهل الذمة.
وأصل ذلك من الميثاق المأخوذ على الذرية المأخوذة من ظهر آدم صلوات الله عليه قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}[سورة الإسراء, آية: 13] وذلك باعتبار صفة الحياة قبله فأما بالموت فخرج من أن يكون أهلا لالتزام شيء من الحقوق في أحكام الدنيا فعرفنا أنه لم يبق له ذمة صالحة تكون محلا للحق ولكنه في أحكام الآخرة معد للحياة فتبقى الذمة في أحكام الآخرة ولهذا كان مؤاخذا به وهو معد للحياة في الدنيا عادة فلا تبقى الذمة في أحكام الدنيا وباعتبار المطالبة في أحكام الآخرة لا يمكن تصحيح الكفالة كما في ديون الله جلت قدرته والدليل عليه أن الذمة لم تبق محلا لوجوب الحق فيها بعد الموت وكما يشترط المحل لابتداء الالتزام فكذلك يشترط المحل لبقاء الحق ولم يبق المحل فلا يبقى في أحكام الدنيا أيضا والكفيل إنما يلتزم المطالبة بما على الأصيل ولا يلتزم أصل الدين في ذمته ولم يبق في ذمة الأصيل شيء في أحكام الدنيا فلا تصح الكفالة وهذا الدين في حكم المطالبة دون دين الكتابة فالمكاتب يطالب بالمال وإن كان لا يحبس فيه ثم هناك الكفالة به لا تصح فهنا أولى بخلاف المفلس في حال الحياة فإن ذمته محل صالح لوجوب الحق فيها ابتداء فبقي الواجب وبخلاف العبد أيضا فإن له ذمة صالحة لوجوب الحق فيها وإن ضعفت ذمته بسبب الرق وبخلاف ما إذا مات مليا فالمال هناك خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو المطالبة والاستيفاء لأن الاستيفاء يكون من المال بجعل(20/198)
الأصل قائما حكما وهنا لم يبق حلف بعد موته مفلسا وتوهم أن يتبرع إنسان بماله فيقضي عنه الدين لا يجعل مال الغير خلفا عن ذمته قبل جعل صاحبه وبخلاف ما إذا كان بالدين كفيل لأن ذمة الكفيل هنا خلف عن ذمته وبعد صحة الكفالة قد يتحول الدين إلى ذمة الكفيل عند الضرورة وهو عند أداء الكفيل أو الهبة وقد تحققت الضرورة هنا فلهذا بقي الكفيل في الكفالة.
وكذلك الرهن خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو استيفاء الدين منه بقدر استيفائه من محل آخر
وإذا قتل عمدا فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله لا تصح الكفالة عند أبي حنيفة رحمه الله وبعد التسليم يقول القصاص الواجب بفرض أن يصير مالا بعفو بعض الشركاء أو تمكن الشبهة فتوهم توجه المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل الذمة باقية حكما فتصح الكفالة لهذا المعنى والحديث المروي في الباب يحتمل أن يكون ذلك من أبي قتادة أو علي رضي الله عنهما إقرارا بكفالة سابقة فإن لفظ الإقرار والإنشاء في الكفالة سواء والعموم بحكاية الحال لا يثبت ويحتمل أن يكون وعدا منهما لا كفالة وقد كان(20/199)
ص -96- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتنع من الصلاة على الميت ليظهر طريق لقضاء ما عليه فلما ظهر الطريق لوعدهما صلى عليه لهذا.
ألا ترى أنه ما روي أنه كان يقول لعلي رضي الله عنه بعد ذلك ما فعل الديناران حتى قال يوما قضيتهما فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت عليه جلدته ولم يجبره على الأداء." وبه يتبين أنه كان وعدا لا كفالة والحديث الآخر شاذ ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن لذلك الرجل مالا ولكنه ما كان ظاهرا عند الناس فلهذا ندبهم إلى الضمان عنه ليصلي عليه ثم هذا حكم منسوخ لاجماعنا على جواز الصلاة على المديون المفلس والاستدلال بالمنسوخ لا يقوى والله أعلم بالصواب.
باب كتاب القاضي في الكفالة
قال رحمه الله: وإذا كتب القاضي إلى القاضي في كفالة بنفس رجل كفل به بأمره فأراد أن يقبل معه حتى يوافيه به فأقام على كتاب القاضي شاهدي عدل وكتب أنه قد قامت عنده البينة العادلة أنه كفل بنفسه بأمره فإن القاضي يأمره بالخروج معه حتى يوفي مكانه ويخلصه مما أدخله فيه لأن الكفالة بالنفس تثبت مع الشبهات فيثبت كتاب القاضي إلى القاضي ثم الثابت بالبينة عند القاضي المكتوب إليه كالثابت بإقرار الخصم ولو أقر الخصم بذلك في الذمة بالخروج معه لأنه هو الذي أوقعه في هذه الورطة حين أمر أن يكفل بنفسه فعليه أن يخلصه ها هنا كما لو أمر بالكفالة بالمال كان عليه تخليصه مما يلزمه به.(20/200)
فإن كفل بالبصرة وجاء بالكتاب من قاضي البصرة إلى قاضي الكوفة بذلك فإنه يؤمر أن يوافيه حتى يبرئه من ذلك لأنه إنما يلزمه تسليمه في الموضع الذي التزم التسليم فيه ولا يقدر على ذلك إلا بموافاة الآمر معه إلى ذلك الموضع وكذلك لو كان كفل به بالكوفة على أن يوافي به بالبصرة فأخذ الطالب بالكوفة فإنه يأمره القاضي أن يوافي معه بالبصرة حتى يبرئه لما قلنا ولو كفل بنفسه بالكوفة على أن يدفعه بالكوفة وأخذه الطالب بالبصرة فطلب كتاب قاضي البصرة إلى قاضي الكوفة بذلك ليأمره بأن يوافي معه البصرة لم يجبه إلى ذلك ولو كتب له يجبر قاضي الكوفة المكفول به على الذهاب معه إلى البصرة لأن مطالبة الطالب بالبصرة لا تلزم الكفيل شيئا فإنه ما التزم تسليمه إليه بالبصرة ولو طلب الكفيل كتاب قاضي البصرة ببينة بالكفالة بأمره فإنه يكتب له بذلك حتى إذا قدم الكوفة وطالب الطالب بالتسليم فامتنع الأصيل وجحد الآمر بالكفالة كان كتاب قاضي البصرة حجة له عليه.
ولو كتب القاضي إلى القاضي كتابا في كفالة بنفس رجل ولم يبين في كفالته أنه كفل بأمره فإنه لا يؤخذ له بذلك بمنزلة ما لو أقر أنه كفل بغير أمره وهذا لأنه لو كفل عنه بمال بغير أمره لم يكن عليه أن يخلصه من ذلك لأنه التزمه باختياره فكذلك إذا كفل بنفسه بغير أمره وإذا كان الكفلاء بالمال ثلاثة وبعضهم كفلاء عن بعض فأدى المال أحدهم والكفيلان الآخران في بلدين وصاحب الأصل في بلد آخر فأقام البينة بذلك عند القاضي وسأله أن(20/201)
ص -97- ... يكتب له به فإنه يكتب له بثلاثة كتب إلى كل بلد بصفة الكفالة وحالها وأداء المال لأنه يحتاج إلى ذلك كله فربما يقصد أخذ الثلاثة فلا بد من أن يعطيه ما يكون حجة له عليه إلا أنه يكتب إلى كل قاض بما كتب به إلى القاضي الآخر على سبيل النظر فيه للخصوم لكيلا يلتبس المدعي ويأخذ مالا على حده كل كتاب عن كل خصم ولا بد من أن يسمي في كتابه الشهود وآباءهم وقبائلهم لأن هذا الكتاب لنقل الشهادة فلا بد من إعلام الشاهد فيه وإعلامه بذكر اسمه واسم أبيه وقبيلته فإن أخذ أحد الكفلاء فقال قد أخذت من الكفيل معي نصف المال أو من الأصيل المال فعليه البينة لأن الأصيل لو ادعى ذلك بنفسه كان عليه أن يبينه بالبينة فكذلك إذا ادعى ذلك الكفيل.(20/202)
وهذا لأن السبب الموجب للرجوع له بنصف المال على الذي أخذه ظاهر وهو يدعي مانعا أو مسقطا فعليه إثباته بالبينة فإن لم يكن له بينة حلف الذي ادعى المال وأخذ منه نصفه وإذا أدى الكفيل المال وأخذ به كتاب قاض إلى قاض فلم يجد صاحبه هناك فإن القاضي الذي أتاه بالكتاب يكتب له إلى قاض آخر بما أتاه من قاضي كذا لأن على المكتوب إليه أن ينظر له ويقبضه على ما يتوصل به إلى حقه كما هو على الكتاب ولأن شهوده قد ثبت في مجلس القاضي المكتوب إليه بالكتاب فهو كما لو ثبت بأدائهم الشهادة في مجلسه فعليه أن يكتب له إلى قاضي البلدة التي فيها خصمه وإن رجع القاضي الذي كتب له أول مرة فقال اكتب لي كتابا آخر فإني لم أجد خصمي في البلد الذي كتب إلى قاضيه لم يكتب له حتى يرد إليه كتابه الأول نظرا منه لخصمه لأن من الجائز أن يقصد المدعي التلبيس ليأخذ مالا بكل كتاب وإنما حقه في مال واحد وإن كتب له قبل أن يرد إليه كتابه فقد أساء في ترك النظر لأي الخصمين وميله إلى أحدهما وتمكينه من التلبيس وليبين في كتابه أنه قد كتب له في هذه النسخة إلى قاضي كذا وكذا فبهذا يندفع بعض التلبيس ويحصل للقاضي الكاتب التحرز عن التمكين من الظلم.(20/203)
وإذا كتب للقاضي بمال أداه كفيل عن كفيل فهو جائز ويؤخذ به الكفيل الأول للثاني إذا كان هو الذي أمره به ولا يؤخذ به الذي عليه الأصل ولم يأمره بالكفالة عنه وإنما أمره الكفيل الأول والتخليص إنما يجب على من أوقعه بأمره إياه بالكفالة في الورطة فإن كان الأصل هو الذي أمر الثاني أن يضمن من لم يأمره بشيء وأصل المال على الأصيل فلا فرق بين أن يأمره أن يكفل بذلك المال عنه وبين أن يأمره بأن يكفل به عن كفيله وإذا ادعى الكفيل المال وكتب له القاضي بذلك ولم يكتب في كتابه أنه كفل بأمره فإن الذي أتاه الكتاب لا يرد الكفيل بالمال لأن الأصيل لو أقر بكفالته عنه وجحد أن يكون أمره بذلك لم يكن له أن يرجع عليه بشيء فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة وإن جاء الكفيل بكتاب من قاض آخر أنه كفل عنه بأمره فهو مستقيم ويؤخذ له بالمال بمنزلة ما لو أقر الخصم بذلك أو شهد عليه شاهدان والله تعالى أعلم بالصواب.(20/204)
ص -98- ... باب الشهادة واليمين في الحوالة والكفالة
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل على رجل كفالة بنفس رجل وشهد له شاهدان فاختلفا في الوقت أو في البلد الذي وقعت الكفالة فيه أو في الأجل بأن قال أحدهما إلى شهر وقال الآخر إلى شهرين أو قال أحدهما حال وقال الآخر إلى شهر فالكفالة لازمة في ذلك كله لأنه قول يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به وهو أصل الكفالة باختلافهما في هذه الأشياء ولو شهدا أن هذا كفل لهذا بنفس رجل لا نعرفه ولكن نعرف وجهه إن جاء به فهو جائز لأنهما يشهدان على قول الكفيل ويجعل ما ثبت من قوله بشهادتهما كالثابت بإقراره فيقضي القاضي به ويأمره أن يأتي به على معرفتهما ولو قالا لا نعرف وجهه أيضا فإنه يؤخذ بالكفالة بمنزلة ما لو أقر عند القاضي بأنه كفل بنفس رجل لهذا ثم يقال له أي رجل أتيت به وقلت هو هذا وحلفت عليه فأنت بريء من الكفالة وهذا لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار فالقول في بيانه قول المقر بمنزلة ما لو أقر أنه غصب من فلان شيئا أو شهد الشهود على إقراره بذلك.
ولو قال أحدهما كفل بنفس فلان وقال الآخر كفل بنفس فلان الآخر لم تجز الشهادة لاختلافهما في المشهود به على وجه لا يمكن التوفيق فيه ولو ادعى رجل كفالة بنفس رجلين فأقام شاهدين فأثبتا كفالة أحدهما واختلفا في الآخر فأثبته أحدهما وشك الآخر فيه فإنه يؤخذ بالكفالة التي اجتمعا عليها لأن الحجة فيها قد تمت وفي الآخر لم تتم الحجة حين شك فيه أحدهما والكفالة بأحدهما تنفصل عن الكفالة بالآخر.
ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل لأبيهما ولرجل بنفس فلان كانت شهادتهما باطلة لأنهما يشهدان بلفظ واحد وقد بطلت شهادتهما في حق أبيهما فتبطل في حق الآخر أيضا إذ المشهود به لفظ واحد
ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل لفلان بنفس فلان فإن لم يواف به غدا فعليه ما عليه وهو ألف درهم فهو جائز لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو إقرار الخصم.(20/205)
فإن اختلفا في الوقت أو المكان أو الأجل فشهادتهما جائزة إذا ادعى الطالب أقرب الأجلين فإن ادعى أبعد الأجلين لم تقبل الشهادة لأنه قد أكذب الذي شهد بإقرارهما حين ادعى الأبعد وإنما أكذبه فيما شهد له به وإكذاب المدعي شاهده فيما شهد له يبطل شهادته بخلاف الأول فهناك إنما أكذب الشاهد بأبعد الأجلين فيما شهد عليه به وذلك لا يضره وهو بمنزلة ما لو ادعى ألفا وشهد له أحد الشاهدين بألف وخمسمائة لا تقبل ولو ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له أحد الشاهدين بألف قبلت شهادتهما على مقدار الألف لهذا المعنى ولو اختلفا في المال فشهد أحدهما بدراهم والآخر بدنانير لم تجز شهادتهما في شيء من ذلك إذا ادعى الطالب النصفين وقال لم يشهد لي بالنصف الآخر لأنه أكذب أحدهما فيما شهد له به فتبطل شهادتهما في جميع ما شهدا به وإن ادعى النصفين جميعا جازت شهادتهما في الكفالة(20/206)
ص -99- ... بالنفس وبطلت في المال لأنه ما أكذب واحدا منهما فيقضي بشهادتهما فيما اتفقا عليه ويتعذر القضاء فيما تفرد به كل واحد منهما فإن اتفقا في المال أنه ألف درهم فقال أحدهما قرض وقال الآخر ثمن مبيع وقال لم تشهد لي على القرض فقد أكذب الشاهد بالقرض فلا تجوز شهادته له في شيء من ذلك.
وإن ادعى الطالب ألفين ألف قرض وألف ثمن مبيع فهو ما أكذب واحدا منهما فتجوز شهادتهما له في الكفالة بالنفس وفي ألف درهم لا يقبلها على وجوب الألف واختلافهما في الجهة لا يمنع القضاء بالمال لأنهما اختلفا ولم يختلفا بقلة ولأن الجهة غير مطلوبة بعينها وإنما المقصود المال بخلاف الأول فقد اختلفا هنا في جنس المال الذي هو مقصود وإن كان الشاهدان كفيلين بالمال عن صاحب الأصل لم تجز شهادتهما لأنهما يجران بها إلى أنفسهما مغنما فإن الطالب إذا أخذ المال من المشهود عليه استفاد البراءة به وكذلك لا تجوز شهادة ولدهما ووالدهما لأنه ينفعهما بشهادته وكذلك لا تجوز شهادة ابن الأصيل على الكفيل بذلك لأنه ينفع أباه فإن الطالب إذا استوفى المال من الكفيل بريء الأصيل وكذلك تجوز شهادة ابن الكفيل إذا أقر به الكفيل وأنكره الأصيل لأنه شهد لأبيه في ثبوت حق الرجوع على الأصيل عند الأداء وإن جحد الكفيل وأقر به الأصيل جازت شهادة ابن الكفيل لأنه يشهد على أبيه للطالب بإلزام المال وإذا ادعى رجل على رجل أنه كفل له بنفس رجل وبألف درهم له عليه إن لم يواف به غدا وشهد له بذلك شاهدان وشهدا أن المكفول به أمر الكفيل بذلك والكفيل والمكفول به ينكران المال والأمر فقضى القاضي بتلك الشهادة على الكفيل ولم يواف به فأخذ المال وأداه رجع به على المكفول به عندنا.(20/207)
وقال زفر رحمه الله لا يرجع لأنه أقر عند القاضي أنه أمره بالكفالة عنه بشيء وإقراره حجة عليه ولأنه بزعمه مظلوم فيما أخذ منه المال وليس للمظلوم أن يظلم غيره ولكنا نقول القاضي أكذبه في إقراره وزعمه حين ألزمه المال بشهادة الشهود والمقر متى صار مكذبا في إقراره حكما سقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا كان أقر بالملك لبائعه فاستحق المبيع من يده بالبينة رجع على بائعه بالثمن ولم يعتبر إقراره بذلك ولو أقر الكفيل بالكفالة بالنفس والمال وقال لم يأمرني بذلك فقضى عليه القاضي بذلك ثم جاء الكفيل بالبينة أن المكفول عنه أمره بالكفالة لم تقبل بينته على ذلك لأنه مناقض في دعواه حين أقر أنه لم يأمره بذلك والمناقض لا يقبل بينة على خصمه ولأن القاضي إنما قضى عليه بالكفالة بالمال بإقراره على نفسه بذلك وإقراره ليس بحجة على الأصيل بخلاف الأول فالقضاء هناك كان بحجة البينة وقد قامت على الكفيل والأصيل جميعا.
وإذا كفل بنفسه بأمره فإن لم يواف به غدا فعليه المال ولو ادعى الكفيل أنه وافى به لم يصدق إلا ببينة لأنه ادعى مانعا أو مسقطا بعد ما ظهر سبب وجوب المال عليه وهو الكفالة فإن أقام البينة على ذلك بريء من الكفالة بالنفس والمال جميعا لأن الثابت بالبينة كالثابت(20/208)
ص -100- ... بالمعاينة ويستوي إن شهدا على الموافاة أو على إقرار الطالب بذلك فإن اختلفا في مكان إقراره أو وقته جازت الشهادة لأن الإقرار قول يكرر وإن شهد أحدهما أنه دفعه إليه غدوة بمحضر منه بغير إقراره وشهد الآخر أنه دفعه إليه عشية بمحضر منه بغير إقرار والمدعي يدعي أحدهما أو كلاهما وقال دفعته إليه غدوة أو عشية لم تجز شهادتهما لاختلافهما في المشهود به فإن الفعل الموجود في مكان أو زمان غير الفعل الموجود في مكان أو زمان آخر ولو أقر الكفيل أنه لم يدفع الرجل إليه وأن المال قد لزمه والشهود شهدوا بباطل وقد اتفقت شهادتهما فالمال لازم للكفيل لإكذابه الشاهدين فيما شهدا به له ولا يرجع به إذا أداه على المكفول عنه لأنه قد أقر به فلزمه ذلك بإقراره بعد ما ظهرت حجة براءته وإقراره ليس بحجة على الأصيل.(20/209)
وإذ كفل رجل بنفس رجل فإن لم يواف به غدا فعليه المال فشهد عليه شاهد بذلك معاينة وآخر بإقراره والكفيل يجحد ذلك لزمه ذلك لأن الكفالة قول وصيغة الإقرار والإنشاء فيه واحدة وفي مثله اختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء لا يضر كالبيع وإن شهدا على رجل أنه كفل لرجل بألف درهم عن فلان واختلفا في اللفظ فقال أحدهما كفل بها وقال الآخر ضمنها أو قال أحدهما هي لي وقال الآخر هي علي فالشهادة جائزة لاتفاقهما فيما هو المقصود وهو الكفالة والألفاظ قوالب المعاني فعند اتفاقهما على العقد المشهود به لا يضرهما اختلاف العبارة كما لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالنحلة وإن قال أحدهما احتال بها عليه وقال الآخر ضمنها له على أن أبرأ الأول أو لم يذكر البراءة وادعى الطالب الضمان أو الحوالة والبراءة فإنه يأخذ المحتال عليه بالمال لاتفاق الشاهدين على الحوالة وإن اختلفا في العبارة أو لاتفاقهما على التزام المشهود عليه للمال كما إذا شهد أحدهما بالضمان ولم يذكر البراءة وهذا لأن في الحوالة ضمانا وزيادة فيقضي بما اتفقا عليه والأصيل بريء بإقرار الطالب لا بشهادة أحد الشاهدين بالحوالة.(20/210)
ولو ادعى الطالب الضمان بغير براءة وقال لم أحل عليه فإنه يأخذ أيهما شاء بالمال لاتفاق الشاهدين على مقدار الالتزام بالضمان والطالب ما أكذب الذي شهد له بالحوالة في شهادته له وإنما أكذبه في شهادته عليه وهو براءة الأصيل وذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهدا له بالمال وشهد أحدهما أنه استوفاه أو أنه أبرأ المطلوب منه قال ألا ترى أنه لو شهد شاهدان أنه كفل له بالمال على أن أبرأ الأول والطالب يقول لم أبرئ الأول والكفيل يجحد الكفالة قضيت للطالب بالكفالة وأبرأت الأصيل إذا كان هو يدعي شهادتهما على البراءة وبهذا يتبين أنهما في الشهادة على البراءة يشهدان على الطالب لا له وكذلك لو شهدا بالحوالة وقال الطالب إنما كفل لي فهو ما أكذبهما فيما شهدا له من ضمان المال.
ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل بألف درهم لرجل فقال أحدهما إلى سنة وقال الآخر حالة وادعى الطالب حالة وجحد الكفيل أو أقر وادعى الأجل فالمال عليه في(20/211)
ص -101- ... الوجهين من قبل أن الطالب لم يكذب شاهده فيما شهد له به وإنما أكذبه فيما شهد به عليه والشاهد بالأجل للكفيل واحد وقد بينا فيما سبق أن زفر رحمه الله يخالفنا في جميع هذه الفصول وأنه لا يفصل بين الإكذاب فيما شهد به له أو عليه ولو ادعى رجل قبل رجلين كفالة بألف درهم وكل واحد منهما كفيل ضامن بها وشهد له شاهدان فشهد أحدهما بذلك عليهما وشهد الآخر على أحدهما فإن الطالب يأخذ الذي اجتمعا عليه بالألف لأن كل واحد منهما بحكم هذه الكفالة مطالب بجميع المال وقد تمت الحجة على أحدهما.
ولو شهد شاهد عليهما وشهد آخر على أحدهما وشهد الآخر على الآخر كان للطالب أن يأخذهما جميعا بالمال لأن الحجة قد تمت في حق كل واحد منهما في حق أحدهما لشهادة الأولين وفي حق الآخر بشهادة الآخر أخذ الأولين مع الثالث.(20/212)
وإن شهد اثنان على أحدهما أنه كفل له هو وفلان عن فلان بألف درهم على أن يأخذ أيهما شاء وشهد له الآخران على كفيل الآخر بمثل ذلك كان له أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال لأن الحجة قد تمت في حق كل واحد منهما بالتزامه جميع المال ولو شهد له شاهدان بالمال حالا على الأول وشهد له آخران على الآخر بالمال إلى أجل على مثل شهادة الأول كان جائزا وأخذ الطالب صاحب الأجل بالمال إلى أجله والآخر بالمال حالا اعتبارا للثابت بالبينة بالثابت بالمعاينة وكذلك إن اختلف الفريقان في مبلغ المال أخذ الطالب أيهما شاء بما شهد به الشاهدان عليه اعتبارا بما لو أقر كل واحد منهما بذلك القدر وإذا ادعى رجل كفالة ألف درهم له على رجل قد سماه فشهد شاهدان أنه كفل له بألف درهم عن رجل وقالا رأيناه ولم نعرفه أو لم نره ولكن الكفيل أشهدنا على ذلك فالمال لازم للكفيل لأنهما يشهدان على قوله فهو بمنزلة شهادتهما على إقراره والمشهود له معلوم إذا أدى الكفيل المال لم يرجع على المكفول عنه إلا أن يشهد له شاهدان أنه أمره بذلك وإن أراد الطالب أن يأخذ الأصيل دون الكفيل لم يكن له ذلك إذا جحد لأن البينة الأولى ليست بحجة على الأصيل حين لم يعرفه الشهود أو لم يروه.(20/213)
وإذا ادعى الرجل على الرجل ألف درهم أحال بها فلان الغائب وأقام البينة فأدى إليه المحتال عليه رجع بها على المحيل ولم يكلف إعادة البينة عليه لأن المحتال عليه التزم بالحوالة بالمال الذي هو على الأصيل وإنما يتحول إلى ذمته ما كان في ذمة الأصيل على أن يكون هو خلفا عن الأصيل ولهذا لو مات مفلسا عاد المال إلى الأصيل فانتصب هو خصما عنه ومن ضرورة القضاء عليه بالحوالة بالأمر القضاء بالمال على المحتال عليه ولو كان الطالب غائبا فأقام المحتال عليه البينة على الأصيل أنه كان لفلان عليك ألف درهم وأحلته بها علي وأديتها إليه قضيت بها له عليه وهو قضاء على الطالب بالاستيفاء لأنه ادعى لنفسه المال على الأصيل ولا يتوصل إلى ذلك إلا بإثبات الأداء إلى الطالب ولا يتوصل الأصيل إلى دفع(20/214)
ص -102- ... ذلك عن نفسه إلا بإنكار قبض الطالب بالاستيفاء فلا يلتفت إلى جحوده بعد ذلك إذا حضر والكفالة في هذا قياس الحوالة.
ولو ادعى رجل على رجل كفالة بنفس أو مال أو حوالة ولا بينة له استحلف المدعى عليه فإن نكل عن اليمين لزمه ذلك وإن حلف بريء ورجع المدعي على صاحب الأصيل بالمال وهذا ظاهر في الكفالة فإن الكفالة لا توجب سقوط مطالبة الطالب عن الأصيل وكذلك في الحوالة لأن الأصيل إنما يبرأ إذا ثبتت الحوالة ولم نثبت حين حلف المحتال عليه ولأنه حين جحد وحلف قد تحقق التوى وذلك يوجب عود المال إلى الأصيل كما لو مات المحتال عليه مفلسا فإن نكل عن اليمين وأدى المال رجع على الأصيل إن كان مقرى أو قامت بينة عليه بالأمر وجحود المحتال عليه لا يبطل تلك الحوالة لأنه صار مكذبا في ذلك حين قضى القاضي به عليه ولم يجعل نكوله هنا بمنزلة إقراره بل جعله بمنزلة البينة لأنه مضطر إلى هذا النكول وإنما لحقته هذه الضرورة في عمل باشره لغيره فهو نظير الوكيل بالبيع إذا نكل عن اليمين في دعوى العيب فرد عليه كان ذلك ردا على الموكل.
ولو كان قضى بالمال على الكفيل أو المحتال عليه ببينة قامت عليه بذلك وإن فلانا أمره به فأدى المال وصاحب الأصل جاحد للآمر فإنه يرجع عليه بالمال لأنه صار مكذبا شرعا بالبينة التي قامت عليه بذلك(20/215)
ولو كان قضى عليه بالمال بنكوله عن اليمين وأداه فله أن يستحلف الأصيل بالله ما أمره بذلك لما بينا أنه مضطر إلى النكول إلا أن نكوله ليس بحجة على الأصيل في الأمر فيحلفه على ذلك ولو ادعى قبل رجل كفالة بنفس أو مال فقال الكفيل لم أكفل له بشيء وقد أبرأني من هذه الدعوى فاستحلفه ما أبرأني وقال الطالب بل استحلفه ما كفل به لي فإني استحلفه بالله ماله قبله ذلك لأن القاضي إنما يشتغل بالاستحلاف على ما هو المقصود وهو قيام الكفالة بينهما في الحال فيحلف على ذلك فإن حلف بريء وإن نكل لزمته الكفالة ولم يستحلف الطالب بالله ما أبرأه لأن الكفيل يدعي عليه البراءة فيحلف على ذلك لحقه فإن نكل عن اليمين بريء الكفيل من كفالته كما لو أقر ببراءته وإن ادعى الكفيل بالنفس أنه دفعه إلى وكيل الطالب حلف الطالب على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير بخلاف ما إذا ادعى الدفع إليه فإنه استحلاف على فعل نفسه فيكون على البتات.
ولو ادعى رجل قبل رجل كفالة فقال أخذك غلامي حتى كفلت لي بفلان وجحد الكفيل ذلك فإنه يحلف على ذلك لأنه لو أقر به لزمه تسليم النفس إليه وإن كانت الكفالة له بحضرة غلامه دونه فإن أنكر يستحلف عليه لرجاء النكول وإذا طلب مدعي الكفالة بنفس أو مال أن يحلف الكفيل بالله ما كفل لم يحلف كذلك ولكنه يحلف بالله ماله قبلك هذه الكفالة لأن الإنسان قد يكفل لغيره ثم يبرأ من كفالته بسبب فلو حلفه القاضي ما كفل يضر به لأنه لا يمكنه أن يحلف وإن كان هو محقا في إنكاره الكفالة في الحال والقاضي مأمور(20/216)
ص -103- ... بالنظر للخصمين فلهذا يحلفه بالله ماله قبلك هذه الكفالة وكذلك هذا في كل دين ومال وديعة وعارية وشراء وإجارة فإنه لا يحلف ما اشتريت ولا استودعك ولا أعارك ولا استأجرت منه ولكن يحلف بالله ماله قبلك ما ادعى به وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال هذا إذا عرض المدعى عليه فقال أيها القاضي قد يكفل الإنسان ثم يبرأ منه فلا يلزمه شيء فأما إذا لم يشتغل بهذا التعريض فإنه يحلف بالله ما كفلت لأنه إنما يستحلف على جحوده وقد جحد الكفالة أصلا فيحلف على ذلك فإذا عرض فقد طلب من القاضي أن ينظر له فعلى القاضي إجابته إلى ذلك وإن لم يعرض فهو الذي لم ينظر لنفسه فلا ينظر القاضي له ولكنه يحلفه على جحوده وفي ظاهر الرواية قال هذا التعريض لا يهتدي إليه كل خصم وعلى القاضي أن يصون قضاء نفسه عن الجور ونفسه عن الظلم فيحلفه على ما بينا عرض الخصم أو لم يعرض.
ولو قال الكفيل للقاضي حلف الطالب أن له قبلي هذه الكفالة فإني أرد عليه اليمين فإنه لم يرد عليه اليمين لأن الشرع جعل اليمين على المنكر فإذا رددت اليمين على المدعي فقد خالفت الأثر وقد بينا هذا في الدعوى ولو جاء الطالب بشاهديه على قوله فقال المطلوب استحلفه بالله لقد شهدت شهوده على حق لم أستحلفه على ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي فإذا جعلت عليه مع البينة يمينا فقد جعلت ما لم يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ممتنع والله أعلم بالصواب.
باب كفالة الرجلين على شرط لزوم المال بترك الموافاة(20/217)
قال رحمه الله: وإذا كفل رجل لرجلين بنفس رجل فإن لم يواف به أدى ما ادعيا به عليه فعليه مالهما عليه وسمى لكل إنسان منهما الذي له عليه وهو مختلف فهو جائز لأنه نجز الكفالة بالنفس لكل واحد منهما وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة إذا دعياه وذلك صحيح في حق كل واحد منهما عند الانفراد في حقهما فإن دعاه أحدهما ولم يواف به لزمه ماله عليه لوجود الشرط في حقه ولم يلزمه مال الآخر حتى يدعوه به وبهذا يتبين أن هذا في المعنى ليس بتعليق للكفالة بالمال بالشرط ولكنه بمنزلة الكفيل بالمال بشرط إبرائه من مال كل واحد منهما بموافاته به إذا دعياه لأنه لو كان هذا تعليقا بالشرط لم يجب شيء من المال بوجود بعض الشرط وإذا دعاه أحدهما فلم يوافه به فالموجود بعض الشرط وقال يلزمه المال عرفنا أنه إنما يلزمه لأن الموافاة كانت مبرئة له ولم توجد ولو بدأ بالمال فضمنه لكل واحد منهما وقال إن وافيتكما بنفسه إذا دعوتماني به فأنا بريء من المال فهو مثل الأول وتقديم المال في هذا وتأخيره سواء لأنه وإن أخر الكفالة بالمال في لفظه فهو في المعنى مقدم وإنما هو شرط البراءة عند الموافاة بنفسه إذا دعياه به ولكل واحد منهما أن يأخذ بكفالته دون الآخر لأنه في المعنى كفيل لكل واحد منهما على حدته ويلزمه ذلك دون الآخر وإن جمع بينهما في العقد لفظا بمنزلة ما لو أقر لهما بمال فلكل واحد منهما أن يأخذ حصته دون الآخر.(20/218)
ص -104- ... ولو كان الطالب رجلين متفاوضين لهما على رجل ألف درهم فكفل لهما رجل بنفس المطلوب فإن وافاهما به غدا فهو بريء من المال فوافى به أحدهما ودفعه إليه فهو بريء من كفالته بالنفس والمال لهما جميعا لأن المتفاوضين كشخص واحد ما بقيت المفاوضة بينهما وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في استيفاء ما وجب لصاحبه كما هو قائم مقام صاحبه في كونه مطالبا بما على صاحبه ولو كانا شريكين شركة عنان بريء من حصة الذي وافاه به ولم يبرأ من الكفالة للآخر لأنه فيما هو واجب لصاحبه بمنزلة الأجنبي في الاستيفاء حتى لا يكون له أن يطالب الغريم به فكذلك لا يبرأ عن كفالة صاحبه بموافاته به.
ولو كفل رجلان بنفس رجل على أن يوافيا به غدا فإن لم يفعلا فالمال عليهما فوافى به أحدهما عنه وعن صاحبه ولم يحضر الآخر فهما بريئان لأنهما التزما التسليم بعقد واحد ولو التزما مالا فأداه أحدهما برئا منه جميعا فكذلك الكفالة بالنفس ولو مات أحدهما ثم مضى الأجل ولم يوافيا به لزم الحي منهما نصف المال وفي تركة الميت نصف المال لوجود الشرط وهو عدم الموافاة به ولو كان وافى به بعض ورثة الميت قبل الأجل برئا جميعا لأن الوارث قائم مقام المورث في التسليم.
ولو كان كفل به كل واحد منهما على حدة فاشترط الطالب على كل واحد منهما أنه إن لم يواف به إلى وقت كذا فعليه المال فوافى به أحدهما فدفعه فإنه يبرأ من كفالته ولا يبرأ الآخر لأن الكفالة هنا مختلفة وكل واحد منهما أجنبي عن عقد صاحبه إلا أن يقول الذي جاء به دفعته عن نفسي وعن صاحبي ويقبله الطالب على ذلك بمنزلة ما لو جاء به أجنبي آخر فدفعه عنهما جميعا وقبله الطالب ولو دفع المكفول به نفسه إلى الطالب عنهما جميعا كانا بريئين سواء قبله الطالب أو لم يقبله بمنزلة ما لو دفعاه إليه لأنه أصيل في هذا التسليم غير متبرع به بخلاف الأجنبي والله أعلم بالصواب.
باب الكفالة بالأعيان(20/219)
قال رحمه الله: وإذا ادعى عبدا في يدي رجل فلم يقدمه إلى القاضي وأخذ منه كفيلا بنفسه وبالعبد فمات العبد في يدي المطلوب وأقام المدعي البينة أن العبد عنده فإن القاضي يقضي له بقيمة العبد على المطلوب وإن شاء على الكفيل لأنه ثبت بالبينة أن العبد كان مغصوبا والكفالة بالعين المغصوبة توجب على الكفيل رد القيمة عند تعذر رد العين كما أنها واجبة على الأصيل وإن لم يقم البينة ولكن المطلوب نكل عن اليمين فقضى عليه القاضي بالعبد فمات العبد قبل أن يقبضه فإنه يقضي له بقيمته على الأصيل دون الكفيل لأن نكوله كإقراره أو كبدله فلا يكون حجة على الكفيل إلا أن يقر الكفيل بمثل ذلك أو يأبى اليمين فيلزمه مثل ما يلزم المطلوب.
ولو غصب رجل عبدا فضمنه رجل لصاحبه فهو ضامن له حتى يأتي به فإن هلك فعليه قيمته لأنه التزم المطالبة بما على الأصيل والقول قول الكفيل في قيمته لإنكاره الزيادة(20/220)
ص -105- ... كالأصيل فإن أقر الغاصب بأكثر من ذلك لزمه الفضل بإقراره ولا يصدق على الكفيل ولو اشترى رجل جارية من رجل فقبضها وجاء آخر فادعاها وأخذ بها كفيلا وأقام البينة أنها جاريته فقضى له بها فقال المطلوب قد ماتت أو أبقت وقال الطالب كذبت فإني أحبس الكفيل حتى يأتي بها كما أحبس فلانا الأصل حتى يثبت إباقها فإن طال ذلك يعني مدة الحبس ضمنهما قيمتها مراعاة لحق الطالب إذا طلب.
وإن قال هي بمائة درهم وحلفا عليها وقال الطالب ألف درهم ضمنهما مائة درهم لأن الزيادة انتفت أن تكون قيمتها ما لم يقم البينة بها ويأخذ بها أيا شاء فإذا ظهرت الجارية بعد ذلك فهو بالخيار إن شاء أخذ الجارية ورد القيمة وإن شاء سلم الجارية وسلمت المائة له وقد بينا هذا في كتاب الغصب قال ولا يسع الغاصب أن يطأها ما كان للمغصوب منه فيها خيار لأن المغصوب منه يملك الجارية من الغاصب بالقيمة فيكون بمنزلة تمليكها بالبيع وما بقي له الخيار يعني للبائع فليس للمشتري أن يطأها فهذا مثله ولو كانوا تصادقوا على القيمة أو قامت لهما بينة أو نكلا عن اليمين فأخذها المغصوب منه ثم ظهرت الجارية لم يكن للمغصوب منه عليها سبيل لأن قبضه القيمة رضا منه بخروجها عن ملكه فإن البدل والمبدل لا يجتمعان في ملك وكان للغاصب أن يطأها بعد أن يستبرئها بحيضة لتمام التملك فيها.(20/221)
وإذا كان عبد في يدي رجل فادعاه رجل وأخذ منه كفيلا به ووكل في خصومته ولم يغب المطلوب وغيب العبد فإن الكفيل يحبس حتى يجيء به بعينه لأنه التزم بالكفالة إحضاره وكذلك لو ظهر المطلوب وغيب العبد حبس حتى يأتي به لأنه في تغييبه قاصدا الإضرار بالمدعي فإنه لا يتمكن من إقامة البينة على استحقاق العين إلا بمحضر منه فإن قال المدعي أنا آتي بالبينة أنه عبدي قبل ذلك منه ليستحق به العين إن قدر عليه والقيمة إن لم يقدر على العبد فإن شهد شاهداه أنه العبد الذي ضمن هذا به وسمياه وجلياه عند فلان قضيت له بالعبد على الكفيل فإن أتى به وإلا قضيت له بقيمته بعد أن يحلف المدعي بالله ما خرج من ملكه بوجه من الوجوه قيل إنما يحلف على هذا عند طلب الكفيل وقيل بل يحلف عليه وإن لم يطلب الكفيل على وجه النظر من القاضي للغائب والصيانة لقضائه.
وإن شهد شاهداه أن العبد الذي يقال له فلان الفلاني وجلياه لفلان لم أقبل ذلك لأن الاسم يوافق الجلية فلا يثبت بهذه البينة أنه ضامن للعبد المشهود به أنه ملك للمدعي ولكن الكفيل يحبس حتى يأتي به لأنه التزم إحضاره بالكفالة قبل هذه البينة فإن مات الكفيل أخذ به المدعى عليه إن ظهر العبد حتى يأتي به بعد أن يوافق جلية العبد الذي ظهر بشهادة الشهود ليتمكن المدعي من إثبات ملكه بالبينة فإن لم يأت المولى بالعبد جليت عنه لأن المولى ما ضمن شيئا ولم يثبت عليه شيء بالبينة التي قامت على الاسم والجلية وليس المولى في هذا كالكفيل لأن الكفيل التزم الإحضار بكفالته فلا بد من أن يأتي به والمولى لم يضمن شيئا فلا يحبسه القاضي ولا يلزمه شيئا من غير حجة.(20/222)
ص -106- ... وإذا كان العبد في يد رجل فادعاه آخر وكفل به رجلان فأقام المدعي البينة أنه عبده حبس الكفيلان حتى يدفعاه إليه وإن لم يكن له بينة أخذ الكفيلان بإحضار ما التزما إحضاره بالكفالة فإن قالا قد مات العبد أو أبق وأقاما على ذلك بينة فإني أخرجهما من السجن لأنهما حبسا لإحضاره وقد ثبت بهذه البينة عجزهما عن إحضاره ولكن لا أبرئهما من الكفالة لأن بتلك الكفالة هما ضامنان للقيمة إذا ثبت ملك الطالب في العبد بالحجة وادعى الطالب بشهوده أن العبد عبده فإن أقام على ذلك بينة أخذ كل واحد من الكفيلين بنصف القيمة وإن لم يكن له بينة فلا ضمان على الكفيلين لأن الحق لم يثبت على الكفيل ويؤجل الكفيلان في الإباق أجلا حتى يأتيا به وقد بينا هذا الحكم في الكفالة بالنفس إذا غاب الأصيل عن البلدة.
وإذا ادعى الرجل في يدي الرجل أرضا أو حماما أو بستانا وقال بينتي حاضرة أخذ له منه كفيل بالمدعى به لأن العقار لا يغيب ولا يحرك ولا يحول ولأنه لا حاجة إلى إحضاره مجلس الحكم لتقع الإشارة إليه في الدعوى والشهادة ولو استودع رجل رجلا عبدا فجحده ذلك وأخذ منه كفيلا بنفسه وبالعبد فمات العبد وأقام رب العبد البينة أنه استودعه وقال لا يدري ما كانت قيمته يوم كفل به الكفيل فالمستودع ضامن لقيمته يوم استودعه على ما شهدت الشهود لأنه ثبت وصوله إلى يده وعلى هذه القيمة والجحود موجب عليه ضمان تلك القيمة باعتبار تلك اليد ولا يضمن الكفيل من قيمته إلا ما يقر به بعد أن يحلف لأن الكفيل إنما يضمن بعقد الكفالة لاعتبار يد المستودع ولم يثبت بالبينة مقدار قيمته عند الكفالة ولكن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه وهذا نوع من الظاهر يصلح حجة لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق فلهذا لا يضمن الكفيل من قيمته إلا ما يقر به بعد أن يحلف.(20/223)
ولو كان العبد يوم اختصموا فيه أعمى وجحده المستودع فشهد الشهود أنه استودعه وهو صحيح يساوي ألفا فكفل به الكفيل وهو أعمى فرفعوه إلى القاضي وهو كذلك ثم مات في يد المستودع وزكى شهوده فالمستودع ضامن قيمته أعمى على الحال الذي جحد فيها وكذلك الكفيل لأن المستودع إنما يصير ضامنا عند الجحود وقد علم القاضي تغيره عن القيمة التي شهدت بها الشهود فلا تعتبر تلك القيمة في القضاء عليه بخلاف الأول ألا ترى أنه لو علم هلاكه قبل الجحود لم يضمنه شيئا ولو لم يعلم بذلك ضمنه قيمته فكذلك إذا علم فوات جزء منه وكذلك لو لم يعلم ولكن السوق اتضعت وجحده يوم جحده وهو يساوي خمسمائة وعلم ذلك القاضي لم يضمنه إلا قيمته خمسمائة ولو لم يعلم ذلك ضمن المستودع ألف درهم كما شهد به الشهود ولم يقبل منه بينة على اتضاع السوق لأن المقصود بهذه البينة النفي والبينات للإثبات لا للنفي ألا ترى أنه بعد ما جحد لو قال قد مات العبد لم ألتفت إلى قوله ولم أقبل منه بينة عليه لأن المقصود بهذه البينة نفي الضمان عنه إلا أن يعلم القاضي أنه مات قبل جحوده أو يقر الخصم به ولو استعار دابة من رجل إلى مكان معلوم فجاوز ذلك المكان ضمنها ولو أعطاه كفيلا بها جاز لأنه صار غاصبا ضامنا.(20/224)
ص -107- ... بالمجاوزة وكذلك المستودع إذا جار في بعض الوديعة جازت الكفالة بقدر ما جار فيها لأنها أمانة في يد المودع ولو اشترى عبدا من رجل ونقده الثمن وأخذ منه كفيلا بالعبد حتى يدفعه إليه فمات العبد لم يكن على الكفيل شيء لأن العقد قد انفسخ بموته قبل القبض وبرئ الأصيل عن تسليم عينه فكذلك الكفيل والكفيل ما ضمن الثمن فلا يطالب بشيء منه وكذلك لو كان ضمن الدرك في العبد لأن الهلاك قبل التسليم ليس يدرك وإنما الدرك للاستحقاق ولو قبضه ثم وجد به عيبا فرده لم يكن على الكفيل شيء لأن العيب ليس يدرك ولو لم يجد به عيبا ولكن استحق بصفة فرد المشتري النصف الباقي لم يضمن الكفيل إلا ثمن النصف المستحق لأن الدرك تحقق في ذلك النصف الآخر فإنما رده المشتري بعيب التبعيض وذلك ليس بدرك.(20/225)
وإذا كفل رجل بالرهن وفيه فضل على الدين فهلك عند المرتهن لم يكن على الكفيل شيء لأن عين الرهن أمانة في يد المرتهن والزيادة على مقدار الدين من مالية الرهن أمانة فلا يضمن الكفيل شيئا من ذلك بالكفالة ولو كان ضمن لصاحب الدين ما نقص الرهن من دينه وكان الرهن قيمته تسعمائة والدين ألفا ضمن الكفيل مائة درهم لأنه التزم بالكفالة دينا مضمونا في ذمة الأصيل ولو أن جارية بين رجلين أخذها أحدهما بغير أمر صاحبه فكفل رجل لصاحبه بنصيبه منها جاز لأن الآخذ غاصب ضامن لنصيب شريكه ولو كان أخذها برضاه لم يجز لأن نصيبه أمانة في يد القابض ولو استعار الرهن من المرتهن على أن أعطاه كفيلا به فهلك عند الراهن كان خارجا من الرهن لأن ضمان الاستيفاء باعتبار يد المرتهن ولم يبق بعد ما استعاره الراهن ولم يلزم الكفيل شيء لأنه لا ضمان للمرتهن على الأصيل بسبب هذا القبض فلا يضمن الكفيل أيضا شيئا ولو كان أخذه بغير رضا المرتهن جاز ضمان الكفيل وأخذ به لأن الراهن ضامن مالية العين هنا ألا ترى أنه لو هلك في يده يضمن قيمته للمرتهن فيكون هذا بمنزلة الكفالة بالمغصوب ولو استقرض من رجل مالا على أن يعطيه فلانا عنده رهنا وكفل له بذلك الرهن كفيل فلا ضمان على الكفيل لأن الرهن لا يكون إلا بالقبض فقبل القبض ليس هنا شيء مضمون على الأصيل لتصح الكفالة به.
ولو أجر عبدا أو دابة وعجل الأجر ولم يقبض العبد ولا الدابة وكفل له كفيل بذلك حتى يدفعه إليه فالكفيل يؤخذ به ما دام حيا لأن التسليم مستحق على الأصيل وهو مما تجري فيه النيابة فتصح الكفالة به(20/226)
فإن هلك ما استأجره لم يكن على الكفيل شيء لأن الإجارة انفسخت وخرج الأصيل من أن يكون مطالبا بتسليم العين وإنما عليه رد الأجر والكفيل ما كفل بالأجر ولو أوصى لرجل بأمة وهي حبلى ولآخر بما في بطنها وهي تخرج من الثلث فأخذ صاحب الحبل من صاحب الأمة كفيلا بما في بطنها لم يجز لأن ما في البطن غير مضمون على صاحب الأمة وكذلك لو دفع الأمة إلى صاحب الولد تكون عنده على أن أعطاه بها كفيلا لم تجز لأنه أمين فيها حين قبضها بإذن صاحبها ولو أخذها بغير أمره(20/227)
ص -108- ... وأعطاه بها كفيلا جاز لأنه غاصب لها ضامن ولو أخذ صاحب الأمة الأمة بغير رضا صاحب الولد وأعطاه كفيلا بالولد لم يجز لأنه بأخذ الأم لا يصير غاصبا ضامنا لما في بطنها.
ولو أوصى لرجل بخادم ولآخر بخدمتها فإنها تكون عند صاحب الخدمة فإن أخذ منه صاحب الرقبة كفيلا بها وقد أخذها صاحب الخدمة بإذنه لم يكن على الكفيل شيء لأنه أخذها بحق مستحق له تبرعا فلا يكون ذلك الأخذ موجبا عليه ضمانا فلا يلزم الكفيل ذلك بالكفالة ولو أخذها صاحب الرقبة بغير إذن صاحب الخدمة ثم أعطاه كفيلا بها حتى يسلمها إليه أخذ بها الكفيل لأن تسليم العين إلى صاحب الخدمة مستحق على صاحب الرقبة هنا وهو مما تجري فيه النيابة فيصح التزامه بالكفالة فإن ماتت بريء الكفيل لأن حق صاحب الخدمة بطل بموتها وسقطت المطالبة عن صاحب الرقبة بالتسليم وكذلك لو كانت الوصية بالغلة مكان الخدمة.
ولو أن رجلا باع من رجل عينا فادعى رجل فيه دعوى فأراد المشتري أن يأخذ من البائع كفيلا بنفسه أو بما أدركه في ذلك لم يكن له ذلك لأن بمجرد الدعوى على المشتري لا يستحق المدعي على البائع شيئا فلا يجبر على إعطاء الكفيل ولكنه لو أعطاه كفيلا بما أدركه في ذلك جاز بمنزلة ما لو أعطاه ذلك عند الشراء أو بعده قبل دعوى المدعي ولو ادعى ذمي قبل ذمي خمرا أو خنزيرا بعينه فأخذ منه به كفيلا من أهل الذمة جاز وإن كفل به مسلم لم يجز لأن الخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم فلا يصح منه التزام تسليمه بالكفالة كما لا يصح في سائر العقود وإن هلك ذلك عنده ثم ضمنه المسلم له ثم أقام المدعي على ذلك شهودا مسلمين ضمن قيمة الخنزير ولم يضمن الخمر لأن الخنزير مضمون بالقيمة عند الهلاك وقيمته دراهم أو دنانير فتصح الكفالة بها من المسلم وأما الخمر فإنها مضمونة بالمثل فلا تصح الكفالة بها من المسلم كما لا تصح الكفالة بالعين حال قيامها.(20/228)
ولو تقبل من رجل بناء دار معلوم أو كراب أرض معلوم أو كرى نهر معلوم فأعطاه بها كفيلا كان جائزا لأن هذا عمل مستحق على الأصيل مضمون بالعقد وهو مما تجري النيابة في إيفائه وكذلك لو أكراه إبلا إلى مكة فأعطاه كفيلا بذلك جاز لأن تسليمها مستحق على الأصيل ولو كانت الإبل بأعيانها فأعطاه كفيلا بها كان جائزا ما دامت قائمة بأعيانها لأن الأصيل مطالب بتسليمها بالعقد فإذا هلكت فقد انفسخ العقد وبرئ الأصيل عن التسليم فلا ضمان على الكفيل فلو أعطاه كفيلا بالحمولة لم يجز فيما كان بعينه لأنه لا تجري النيابة فيه فإن إبل الكفيل لا تقوم مقام تلك الحمولة المعينة في إيفاء المعقود عليه وجاز فيما كان بغير عينه لأنه مستحق على الأصيل بالعقد وهو مما تجري فيه النيابة بإيفائه وإنما يلتزم الكفيل تسليم ما يقدر على تسليمه وإذا كتب ذكر حق على رجل وكتب فيه وكل واحد منهما ضامن له وأيهما شاء فلان أخذه بهذا المال إن شاء أخذهما جميعا وإن شاء شتى كيف(20/229)
ص -109- ... شاء وكلما شاء حتى يستوفي منهما هذا المال وإنما يكتب ذلك احتياطا لصاحب الحق من اختلاف القضاة فإن المذهب عندنا أنه إذا كفل بمال فللطالب أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال كيف شاء وكلما شاء وقال بن أبي ليلى رحمه الله بريء الأصيل والمال على الكفيل إلا أن يشترط على كل واحد منهما كفيل عن صاحبه أجزته وأيهما أجاز أبرأت الآخر إلا أن يشترط أن يأخذهما جميعا أو شتى فأدخلا في الصك جميعا أو شتى لذلك وقال شريك بن عبد الله رحمه الله إن أدخلا جميعا أو شتى أجزته فإن اختار أحدهما لم يكن له أن يأخذ الآخر إلا أن يفلس هذا أو يموت ولا يترك شيئا فأدخلا في الصك كيف شاء وكلما شاء حتى يكون له الاختيار كل مرة وهذا لأن الكتاب للتوثق فينبغي لكل من يكتب الكتاب أن يحتاط لصاحبه بكل ما يقدر عليه من التوثق ويحتاط للتحرز عن اختلاف القضاة عملا بقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}[سورة البقرة, آية:283] والله أعلم بالصواب.
باب من الكفالة أيضا(20/230)
قال رحمه الله:وإذا أقرض الرجل الرجل قرضا على أن يكفل به فلان كان جائزا حاضرا كان فلان أو غائبا ضمن أو لم يضمن وكذلك لو شرط أن يحيله به على فلان لأن القرض لا يتعلق بالجائز من الشروط فلا يفسده الباطل بخلاف البيع فإنه لو شرط فيه كفالة أو حوالة من مجهول أو معلوم غير حاضر لم يرض بذلك فالبيع فاسد لأن الفاسد من الشروط مبطل للبيع فإنه يتعلق بالجائز من الشروط فأما ضمان القرض فإنه يثبت بالقبض شرعا ولا أثر للشروط فيه كضمان الغصب والتزويج والخلع والصلح من دم عمد وجراحة فيها قصاص حالا أو مؤجلا وجناية الوديعة والعارية إذا ضمنها فشرط له في ذلك كفالة أو حوالة فهو بمنزلة القرض لأن هذا كله لا يبطل بالشرط الفاسد وكذلك العتق على مال ولو قبل الكفيل الكفالة أو الحوالة في جميع ذلك جاز لأنه دين لازم يطالب به الأصيل وتجري النيابة في إيفائه وبدل العتق بمال ليس كبدل الكتابة في حكم الكفالة لأن ذلك ليس بدين قوي ومن الدليل على أن فساد شرط الكفالة لا يبطل هذه العقود ما قال في العتق لأنه لا يرد ومعنى هذا أن الشرط الفاسد لا يمنع انعقاد العقد ولكن يستحق به الفسخ بعد الانعقاد وهذه العقود لا تحتمل الفسخ بعد التمام فلا يؤثر فيها الشرط الفاسد.
ولو كان لرجل على رجل دين حال من ثمن بيع أو قرض أو غصب فسأله أن يؤخره عنه نجوما على أن يضمنه له فلان الغائب فصالحه على ذلك فقدم الكفيل فأبى أن يضمن فالصلح منتقض لأن الصلح على التنجيم في المال يعتمد تمام الرضا وهو ما رضي بذلك إلا بكفالة الكفيل فإذا أبى أن يكفل كان المال حالا عليه كما كان وإن ضمن الكفيل بعد ما حضر جاز الصلح لتمام الرضا به ولا يشترط حضوره في مجلس الصلح لأنه ليس في هذا العقد من التمليك شيء فلا فرق بين أن يتم الرضا به في المجلس وبعد المجلس بخلاف البيع فإنه مال بمال مبني على الضيق فإذا لم يحضر الكفيل في المجلس صار اشتراط كفالته شرطا(20/231)
ص -110- ... فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد وهذا لأن البيع لا يجوز أن يتوقف على القبول بعد المجلس فكذلك لا تتوقف صحته على قبول الكفالة المشروط فيه بعد المجلس ولو كان حاضرا فأبى أن يضمن لم يجز الصلح لانعدام تمام الرضا به وإن ضمن فهو جائز وإن اشترط في التأخير أنه إن أخره عن محله فالمال كله حال أو إن أخر نجما عن محله عشرة أيام فالمال كله حال فهو جائز على ما اشترطا لأنه ليس في هذا الصلح من معنى التمليك شيء وهذا الشرط في الصلح متعارف.
ولو أعطاه كفيلا على أن جعل له أجلا معلوما كان جائزا في جميع الديون إلا القرض فإنه حال على الأصيل لأن القرض حق الأصيل كالعارية لا يلزم فيه الأجل وهو مؤجل على الكفيل لأن المال إنما يجب على الكفيل بعقد الكفالة والدين الواجب بالعقد يقبل الأجل وإذا كفل المريض بمال ثم مات ولا دين عليه لزمه من ثلثه لأن الكفالة تبرع وتبرعات المريض تصح من ثلثه إذا لم يكن عليه دين وإن أقر أنه كفل به في الصحة لزمه ذلك في جميع ماله إذا لم يكن لوارث ولا عن وارث لأن الكفالة في الصحة سبب لوجوب الدين عليه وإقراره في المرض بسبب وجوب الدين مضافا إلى حال الصحة يكون إقرارا بالدين وإقرار المريض للأجنبي بالدين صحيح وللوارث باطل وإن كان عن وارث فهذا قول من المريض فيه منفعة وارثه والمريض محجور عن مثله.(20/232)
وإن كان عليه دين يحيط بماله لم يجز إقراره بذلك لأن دين الصحة متقدم على ما أقر به في المرض فما بقي دين الصحة لم يعتبر إقراره بالدين في المرض وإذا كفل في الصحة بما أقر به فلان لفلان ولم يسمه ثم مرض وعليه دين يحيط بماله فأقر المكفول عنه أن لفلان عليه ألف درهم لزم المريض ذلك في جميع ماله لأن سبب وجوب المال قد تم منه في حال الصحة وهو الكفالة والدين الواجب عليه بذلك السبب بمنزلة دين الصحة وكذلك إن أقر بعد موته فإن المقر له يخلص غرماء الكفيل بذلك لأن أصله كان في الصحة وكان قد لزم على وجه لا يملك الرجوع عنه وإبطاله وكذلك لو كفل بما ذاب لفلان على فلان أو بما صار له عليه وكذلك لو كان لوارث أو عن وارث أو لوارث عن وارث لأنه كان في الصحة وهو بمنزلة ضمان الدرك فإنه لو كفل في صحته بما أدركه من درك في دار اشتراها ثم استحقت الدار في مرض الكفيل أو بعد موته فإن المشتري يضرب مع غرماء الكفيل الميت بالثمن لأن أصل الدين كان في الصحة بخلاف الكفالة في المرض.
وإن كفل في المرض وليس عليه دين ثم استدان دينا يحيط بماله ثم مات فالكفالة باطلة لأن ما لزمه في المرض من الدين بسبب معاين بمنزلة دين الصحة وقد بينا أن الكفالة في المرض لا تصح إذا كان دين الصحة محيطا بماله وإذا كفل رجل لرجلين وقال قد كفلت لفلان بماله على فلان أو كفلت لفلان الآخر بماله على فلان فهذا باطل سواء كان المالان من جنس واحد أو من جنسين لأن المكفول له والمكفول عنه مجهول فتكون(20/233)
ص -111- ... الجهالة متفاحشة وقد بينا أن مثل هذه الجهالة تمنع الكفالة ولو كان الحق لرجل واحد على رجلين على كل واحد منهما ألف درهم فقال كفلت لك بمالك على فلان فهذا جائز سواء كان المالان من جنس واحد أو من جنسين لأن الجهالة هنا يسيرة مستدركة وهي جهالة المكفول عنه ومثل هذه الجهالة لا تؤثر في العقد المبني على التوسع وهذا لأن الطالب معلوم فتتوجه المطالبة من جهته على الكفيل وإنما بقي الخيار في حق الكفيل في أن يؤدي أي المالين شاء ولو كفل عن واحد بأحد المالين جاز فهذا مثله بخلاف الأول فالمطالبة هناك لا تتوجه من المجهول على الكفيل والكفالة بالنفس في هذا مثل الكفالة بالمال وكذلك لو جمع بينهما فقال كفلت لك بنفس فلان فإن لم أوافك به غدا فعلي مالك عليه وهو المائة دينار أو بنفس فلان فإن لم أوافك به غدا فعلى مالك عليه وهو ألف درهم فلم يواف به غدا فهو ضامن لأحدهما أحد المالين أي ذلك شاء لأن الطالب واحد معلوم وإن دفع أحدهما في ذلك اليوم بريء من الكفالة كلها لأن اشتغاله بدفع أحدهما اختيار منه لكفالته فتبطل عنه كفالته عن الآخر بهذا الاختيار وقد وجدت الموافاة في حق الذي اختار فيبرأ من كفالته أيضا.(20/234)
ولو كان لرجلين لكل واحد منهما على رجل مال فقال رجل لأحدهما كفلت بنفس غريمك فلان فإن لم أوافك به غدا فما لفلان على فلان فهو علي جازت الكفالة بالنفس لأنه كفل بها لمعلوم مطلقا وبطلت الكفالة بالمال لأنها مخاطرة فإن الحق ليس للمكفول له بالنفس وما كان صحة الكفالة بالنفس باعتبار هذا المال لتثبت الكفالة بها تبعا للكفالة بالنفس فيكون هذا تعليق التزام المال بمحض الشرط وهو باطل كما لو علقه بدخول الدار وكذلك الرجل يقول للرجل كفلت لك بنفس فلان فإن لم أوافك به غدا فأنا كفيل بنفس فلان لإنسان آخر فالكفالة الثانية باطلة لأنها ليست من توابع الكفالة الأولى فيكون تعليقا لالتزام التسليم بمحض الشرط ولو كانت الكفالة عن واحد فقال كفلت لك بنفس فلان فإن لم أوافك به غدا فما لفلان عليه وهو ألف علي فرضي بذلك الآخر فالكفالة الأولى جائزة والنيابة باطلة لأن صحة الكفالة بالنفس ما كانت باعتبار هذا المال فلا يمكن تصحيح الكفالة بالمال تبعا للكفالة بالنفس.
ولو قال كفلت لك بنفس فلان أو فلان بماله عليه أو بنفسه فهذا باطل كله لجهالة المكفول له ولو قال كفلت لك بأحد غريميك هذين أو بأحد ماليك على هذين كان جائزا لأنه المكفول له والمطالبة تتوجه من جهته والخيار في تعيين ما التزمه الكفيل إليه وإذا كفل عن رجل بمال بأمره فرهنه المكفول عنه رهنا به وفاء فهو جائز لأن بنفس الكفالة كما وجب المال للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الأصيل وإن كان مؤجلا والرهن بالدين المؤجل صحيح فإن هلك الرهن عند الكفيل صار مستوفيا دينه بهلاك الرهن فكأنه استوفى حقيقة حتى إذا أدى الكفيل المال لم يرجع به وإن أداه الأصيل إلى الطالب رجع على الكفيل بمثله بمنزلة ما لو استوفاه منه حقيقة ولو كفل عن رجل بألف درهم بأمره على أن يعطيه(20/235)
ص -112- ... بها هذا العبد رهنا فوقعت الكفالة بهذا بغير شرط من الكفيل على المكفول له ثم أن المكفول عنه أبى أن يدفع إليه العبد فإن العبد لا يكون رهنا لأن الكفيل لم يقبضه والرهن لا يتم إلا بالقبض ولا يجبر المكفول عنه على دفعه لأن ذلك كان وعدا من جهته والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم والكفالة لازمة للكفيل لأنه التزم المال للطالب بالكفالة المطلقة عند شرط بينهما فإن كان الكفيل اشترط على الطالب فقال له أكفل لك بهذا المال عن فلان على أن رهن به فلان هذا العبد فإن لم يدفعه إلي فأنا بريء من الكفالة فكفل له على هذا الشرط فهو جائز وإن لم يدفع إليه الرهن بريء الكفيل من الكفالة والمال لأنه لما رضي بالتزام المال بدون هذا الشرط والتزام المال بالكفالة يعتمد تمام الرضا ولأنه شرط البراءة إذا لم يعطه الرهن والشرط أملك وكذلك لو كفل عنه بالمال على أن يعطيه بذلك المطلوب كفيلا فوقعت الكفالة للطالب على غير شرط ثم أن المكفول عنه أبى أن يعطي الكفيل كفيلا فإن الكفالة على الكفيل جائزة.
وإن كان الكفيل شرط على الطالب إن لم يعط كفيلا بهذا المال فأنا بريء من كفالتي فهو على شرطه إن لم يعطه كفيلا بريء من الكفالة لأن الكفالة بمنزلة الرهن وقد بينا في الرهن أن هذا الشرط مع الطالب يجب الوفاء به فكذلك في الكفالة وهذا لأن مقصود الكفيل بكل واحد منهما التوثق والنظر لنفسه حتى لا يلحقه غرم وإن كتب الكفيل على دار المكفول عنه شراء بالمال فهو جائز لأنه شراء بالدين المؤجل وهذا قضاء من المكفول عنه للكفيل بطريق المقاصة فكأنه أوفاه الدين حقيقة.(20/236)
ولو كفل بنفس رجل على أنه للكفيل إن لم يواف به إلى سنة فعليه المال الذي عليه وهو ألف درهم ثم أعطي المكفول عنه رهنا بالمال قبل السنة فالرهن باطل لأن المال لم يجب على الكفيل بعد لأنه علق التزام المال بشرط عدم الموافاة فلا يكون واجبا قبل الشرط ألا ترى أنه لو دفع نفسه إليه قبل الأجل لم يكن عليه من المال شيء فإن قيل فأين ذهب قولكم إن في كلامه تقديما وتأخيرا أو أنه التزم المال ثم جعل الموافاة بنفسه صرفا له عن المال قلنا ذلك طريق صار إليه بعض مشايخنا رحمهم الله لتوجه المطالبة بالمال عند عدم الموافاة بالنفس فأما في الحقيقة فإنما يلزمه المال بالتزامه وهو ما التزم المال إلا بعد عدم الموافاة بالنفس غدا فلا يكون المال واجبا عليه في الحال ولا يجوز الرهن في الكفالة بالنفس على وجه من الوجوه لأن الرهن يختص بحق يمكن استيفاؤه من الرهن فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء ولا ضمان على المرتهن إن هلك الرهن في يده لأنه أخذه رهنا بغير مال وضمان الرهن ضمان استيفاء وذلك لا يكون بدون الدين.
وإذا كفل رجل عن رجل بما لم يحل عليه بعد فقال إذا حل المال فهو علي وأعطي المكفول عنه الكفيل رهنا كان جائزا لأنه التزم المال بعقد الكفالة وجعل مطالبة الطالب عنه متأخرة إلى ما بعد حلول الأجل ذلك غير مانع وجوب أصل المال على الأصيل فكذلك(20/237)
ص -113- ... على الكفيل وإذا وجب المال على الكفيل وجب للكفيل على المكفول عنه أيضا فيجوز الرهن به.
ولو قال إن توى مالك عليه فهو علي وأعطاه بذلك رهنا لم يجز الرهن لأن المال لم يجب بعد فإنه علق التزام المال بالشرط وكذلك لو قال إن مات ولم يوفك المال فهو علي فأعطاه المكفول عنه به رهنا فالرهن باطل لأن المال لم يجب بعد والكفالة جائزة على هذا الشرط لأنه شرط متعارف في الكفالات
ولو أخذ الكفيل بالدرك رهنا فالرهن باطل والكفالة جائزة لأن المال غير واجب على الكفيل قبل لحوق الدرك فلا يكون واجبا على الأصيل فلا يصح الرهن به ولا ضمان على المرتهن فيه لأنه قبضه بإذن صاحبه وكل ما أبطلنا فيه الرهن بالمال فكان الرهن في يدي الكفيل حتى يحل عليه المال ويؤخذ به فإن أراد أن يمسك الرهن بذلك فليس له ذلك لأن أصل الرهن لم يكن صحيحا لم يثبت بقبضه يد للاستيفاء فلا يكون له أن يمسكه بعد ذلك وإن وجب الدين عليه ولو آجر منه إبلا إلى مكة وكفل عنه رجل بالأجر وبالحمولة فأخذ الكفيل منه بذلك رهنا فإن الرهن في ذلك جائز لأن الكفيل مأخوذ بالكفالة وقد وجبت عليه أما على أصل محمد رحمه الله فلأن الأجر بنفس العقد مؤجلا وعند أبي يوسف رحمه الله سبب الوجوب متقرر وإن تأخر وجوب المال ألا ترى أن الإبراء عنه صحيح فيجوز الرهن به سواء ارتهن من الكفيل أو ارتهن الكفيل من المكفول عنه بخلاف ما سبق.(20/238)
ولو أن رجلا أحال على رجل بمال وأعطاه به رهنا جاز لأن المال بالحوالة يجب للمحتال عليه على المحيل كما يجب للطالب على المحتال عليه وإن كان رجوعه عليه يتأخر إلى حين أدائه المال وإذا ادعى مسلم على كافر مالا وأدى كفالة مسلم بذلك وأقام بينة من الكفار بذلك ثبت المال بهذه البينة على الأصيل دون الكفيل المسلم وشهادة الكفار لا تكون حجة على المسلم وكذلك لو كان أصل المال على كافر فشهد كافران على مسلم وكافر أنهما كفلا عنه بهذا المال وبعضهم كفلاء عن بعض جازت الشهادة على الأصيل وعلى الكفيل الكافر ولا يجوز على الكفيل المسلم لأن بعض هذه الكفالة تنفصل عن البعض فإنما يقضي بقدر ما قامت الحجة به.
وإذا ادعى مسلم على مسلم مالا وجحده المطلوب وادعى الطالب كفالة رجل من أهل الذمة عنه بالمال بأمره وجحد الكفيل وشهد له بذلك ذميان جازت شهادتهما على الكفيل ولم تجز على المسلم حتى أن الكفيل إذا ادعى لم يكن له أن يرجع على المسلم بشيء لأن شهادة الكفار لا تكون حجة على المسلم فكما لا يثبت بهذه الشهادة الدين للطالب على المسلم فكذلك لا يثبت بها أمر الكفيل بالكفالة وكذلك لو كان المال عليهما في الصك والمسلم في صدر الصك والذمي كفيل بعده أو كان الصك عليهما وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه لأن وجوب المال على أحدهما ينفصل عن وجوب المال على الآخر فإنما(20/239)
ص -114- ... يقضي القاضي بقدر ما قامت الحجة به وهذه البينة حجة على الكافر دون المسلم وإذا كان الدين لرجلين على رجل فكفل أحدهما لشريكه بحصته عن المطلوب لم يجز من قبل الشركة التي بينهما معناه أن أصل المال كان مشتركا بينهما فلا يمكن أن يجعل هو كفيلا بنصيب صاحبه خاصة لأن ذلك يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض ولا يمكن أن يجعل كفيلا بالنصف من المال المشترك بينهما لأن هذا يؤدي إلى أن يكون ضامنا نفسه عن نفسه وذلك لا يجوز.
ألا ترى أن أحدهما لو استوفى نصيبه من المطلوب أو من غيره كان للآخر أن يشاركه فيه فكذلك إذا استوفاه من شريكه الكفيل ولا يمكن أن يجعل هو بهذه الكفالة مسقطا حقه في المشاركة معه لأن الإسقاط قبل وجوب سبب الوجوب باطل والسبب الموجب للشركة له في المقبوض القبض والكفالة يستحق ذلك فلهذا بطلت الكفالة وليست الكفالة في هذا بمنزلة التبرع بالأداء فإن أحد الشريكين لو تبرع بأداء نصيب شريكه عن المديون جاز لأن ذلك إسقاط لحق المشاركة في المقبوض مقترنا بالسبب وهو صحيح وهذا بمنزلة الوكيل بالبيع إذا كفل باليمين عن المشتري للموكل لم يجز ولو ادعى عنه جاز
وكذلك لو كفل بنفس إنسان ببدل الكتابة لا يجوز ولو تبرع بأداء بدل الكتابة عن المكاتب جاز وكذلك لو كان الدين لواحد فمات فورثه ابناه فكفل أحدهما لصاحبه بحصته لأن الدين كان مشتركا بينهما إرثا فهو قياس دين مشترك بسبب آخر.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم كفل بها عنه رجل بأمره أو بغير أمره ثم مات الطالب والمطلوب وارثه لم يكن له على الكفيل شيء لأن المطلوب ملك ما في ذمته بالميراث فسقط عنه وبراءته توجب براءة الكفيل فإن كان معه وارث آخر للطالب فإنما يسقط عن الكفيل حصة المطلوب وللوارث الآخر أن يطالب الكفيل بحصته لأنه في حصته قائم مقام الطالب وإنما يبرأ الكفيل من كل شيء يبرأ به الأصيل(20/240)
ولو كان احتال بها عليه فكفل بها على أن أبرأ الطالب المطلوب ثم مات الطالب والمطلوب وارثه وكانت الحوالة بأمره لم يكن على الكفيل شيء لأن المال صار مملوكا للمطلوب بموت الطالب فلو رجع به على الكفيل والمحتال عليه بذلك أيضا لأن الحوالة والكفالة كانت فاسدة فلا يكون مقيدا بقضاء فإن كان بغير أمره رجع بها على المحتال عليه أو الكفيل لأنه قائم مقام الطالب بعد موته وهذا رجوع مفيد فإن الكفيل والمحتال عليه إن كانا متطوعين هنا لا يستوجبان الرجوع عند الأداء على أحد بشيء وهذا بخلاف الأول فإن أصل المال هناك في ذمة المطلوب فهو إنما يملك بالإرث ما في ذمة نفسه فسقط عنه.
ولا يرجع الكفيل بشيء سواء كفل بأمره أو بغير أمره وهنا أصل المال تحول إلى المحتال عليه فالأصيل إنما يملك ما في ذمة غيره فيكون له أن يطالبه به إذا كان دينا مفيدا وإذا كفل الرجل لعبده بدين على رجل وعلى عبده دين فهو جائز لأن كسب العبد المديون(20/241)
ص -115- ... لغرمائه فهذه الكفالة في الصورة للعبد وفي المعنى للغرماء والعبد المديون يستوجب على مولاه الدين بسائر الأسباب فكذلك بالكفالة فإن قضى العبد الدين بطلت الكفالة عن المولى لأن كسب العبد صار له ولا يكون كفيلا لنفسه عن نصيبه وكان الدين للعبد على المكفول عنه على حاله يأخذه به لأن براءة المولى هنا بمنزلة الفسخ للكفالة فلا توجب براءة الأصيل.
وإذا كفل رجل لرجل بألف درهم ثم مات الطالب والكفيل وارثه بريء الكفيل منه والمال على المكفول عنه على حله يأخذه به إن كان كفل عنه بأمره وإن كان كفل عنه بغير أمره فلا شيء على المكفول عنه أيضا لأن المال صار للكفيل ميراثا بموت الطالب فيكون بمنزلة ما لو صار له بهبة الطالب منه أو بقضائه إياه ولو قضاه أو وهبه له في حياته رجع على المكفول عنه إن كان كفل بأمره وإن كان كفل بغير أمره لم يرجع عليه بشيء فهذا مثله وكذلك لو كان الطالب أبرأ منه المطلوب على أن ضمنه هذا بأمر المطلوب أو على أن احتال به على هذا ثم مات الطالب والكفيل وارثه كان له أن يأخذ الأصيل بذلك ولو كان ذلك بغير أمر المطلوب لم يرجع عليه بشيء لأن تملكه ما في ذمته بالإرث بمنزلة تملكه بالأداء.
وإذا كفل العبد بأمر سيده لرجلين بألفين أو ثلاثة آلاف وقيمته ألف درهم ثم استدان ألفا ثم بيع بألف كان ثمنه بينهم يضرب صاحب الكفالة بجميعها لأن جميع دينه ثبت على العبد بكفالته بإذن مولاه حين كان فارغا عن الدين فلو كان استدان أولا ألفا وكانت الكفالة بعد ذلك فالثمن للمدين خاصة لأن الكفالة منه كانت بعد ما اشتغلت ماليته بالدين فكفالته بأمر المولى إقرار للمولى في الفصلين عليه جميعا(20/242)
ولو كان كفل بألف ثم استدان ألفا ثم بيع بألف كانت الألف الوسطى باطلة لأنه كفل بها وماليته اشتغلت بالكفالة الأولى وهو بمنزلة ما لو أقر المولى عليه بألف درهم ثم استدان ألفا ثم بيع بألف وتمام بيان هذه الفصول في كتاب المأذون والله أعلم بالصواب.
تم كتاب الكفالة ولله المنة(20/243)
ص -116- ... كتاب الصلح
قال رحمه الله: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن الصلح عقد جائز عرف جوازه بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}[سورة النساء, آية:128] وفي هذا بيان أنه نهاية في الخيرية وأما السنة فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى رجلين يتنازعان في ثوب فقال لأحدهما: "هل لك إلى الشطر هل لك إلى الثلثين" فدعاهما إلى الصلح وما كان يدعوهما إلا إلى عقد جائز وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" وهكذا كتب علي رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كل صلح جائز بين الناس إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما وهذا اللفظ من الأول لكتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري قد اشتهر فيما بين الصحابة رضوان الله عليهم فما ذكر فيه فهو كالمجمع عليه منهم وبظاهر هذا الاستثناء استدل الشافعي رحمه الله لإبطال الصلح على الإنكار فإنه صلح حرم حلالا لأن المدعي إن كان محقا كان أخذ المال حلالا له قبل الصلح وحرم بالصلح وإن كان مبطلا فقد كان أخذ المال على الدعوى الباطلة حراما عليه قبل الصلح فهو صلح حرم حلالا وأحل حراما.(20/244)
ولكنا نقول ليس المراد هذا فإن الصلح عن الإقرار لا يخلو عن هذا أيضا لأن الصلح في العادة يقع على بعض الحق فما زاد على المأخوذ إلى تمام الحق كان حلالا للمدعي أخذه قبل الصلح وحرم بالصلح وكان حراما على المدعى عليه منعه قبل الصلح وحل بالصلح فعرفنا أن المراد غير هذا والصلح الذي حرم حلالا وهو أن يصالح إحدى زوجتيه على أن لا يطأ الأخرى أو يصالح زوجته على أن لا يطأ جاريته والصلح الذي أحل حراما هو أن يصالح على خمر أو خنزير وهذا النوع من الصلح باطل عندنا وحمله على هذا أولى لأن الحرام المطلق ما هو حرام لعينه والحلال المطلق ما هو حلال لعينه ثم ذكر عن علي كرم الله وجهه أنه أتى في شيء فقال إنه لجور ولولا أنه صلح لرددته وفيه دليل جواز الصلح ومعنى قوله لجور أي هو مائل عما يقتضيه الحكم أو عما يستقر عليه اجتهادي من حكم الحادثة والجور هو الميل قال الله تعالى {وَمِنْهَا جَائِرٌ}[سورة النحل, آية:9] أي مائل وفيه قال إن الصلح على خلاف مقتضى الحكم جائز بين الخصمين لأنه يعتمد التراضي منهما وبالتراضي ينعقد بينهما السبب الموجب لنقل حق أحدهما إلى الآخر بعوض أو بغير عوض,(20/245)
ص -117- ... فهذا لم يرده علي رضي الله عنه وذكر عن شريح رحمه الله أنه قال أيما امرأة صولحت على ثمنها لم يتبين لها كم ترك زوجها فتلك الريبة وفي بعض الروايات الربية ومعنى اللفظ الأول الشك يعني إذا لم يتبين لها كم ترك زوجها فذلك يوقعها في الشك لعل نصيبها أكثر مما أخذت وقوله الربية تصغير الربا يعني إذا لم يتبين لها كم ترك زوجها يتمكن في هذا الصلح شبهه الربا بأن يكون نصيبها من جنس ما أخذت من النقد مثل ما أخذت أو فوقه وفيه دليل أنه يجوز للورثة أن يصالحوا بعضهم على شيء يخرجوه بذلك من مزاحمتهم.
وإن جهالة ما يصالح عنه لا يمنع جواز الصلح لأن الجهالة إنما تفسد العقد لتعذر التسليم معها والمصالح عنه لا يستحق تسليمه بالصلح فجهالته لا تمنع جواز الصلح ثم إذا صولحت المرأة على ثمنها فإن كان بعض تركة الزوج دينا على الناس فصالحوها عن الكل فهو باطل لأنها تصير مملكة نصيبها من الدين من سائر الورثة بما تأخذ منهم من العين وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز فإذا فسد العقد في حصة الدين فسد في الكل وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله في مسألة البيوع أن العقد الواحد إذا فسد في البعض المعقود عليه فسد في الكل وهما يقولان حصة العين هنا من البدل المأخوذ غير معلومة والدين ليس بمال أصلا ما لم يقبض فلا يكون محلا للتمليك ببدل فهو كما لو جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد فهذا يفسد العقد في الكل.(20/246)
وإن صالحوها من حصتها من العين خاصة وإن لم يكن في التركة دين فهو على ثلاثة أوجه أحدها أن يصالحوها على أحد النقدين أما الدراهم أو الدنانير فهو جائز إلا أن يكون في التركة من جنس ذلك النقد مقدار ما يكون نصيبها من ذلك الجنس أكثر مما أخذت فحينئذ لا يجوز لأن مبادلة مال الربا بحصته لا يجوز إلا بطريق المماثلة فإن كان نصيبها أكثر مما أخذت كان الفضل في هذا الجنس من نصيبها من سائر التركة ربا وكذلك إن كان نصيبها ثمن هذا الجنس مثل ما أخذت فنصيبها من سائر التركة يكون فضلا خاليا عن العوض وهو الربا بعينه وإن وقع الصلح عن الدراهم والدنانير فذلك جائز وإن كان في التركة من النقدين ما يكون نصيبها من كل جنس أكثر مما أخذت بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس فتصحيح العقود بحسب الإمكان واجب والصلح أولى بذلك من غيره لأن المقصود به قطع المنازعة لما في امتدادها من الفساد والله لا يحب الفساد فإن صالحوها على عرض فهو جائز لأنه وقع عليه الصلح بنفس مال الربا فسواء كان في التركة من جنس ما وقع عليه الصلح ما يكون نصيبها أكثر مما أخذت أو لم يكن فذلك لا يؤدي إلى الربا.
قال الحاكم رحمه الله إنما يبطل الصلح على أقل من نصيبها من الربا في حال التصادق وقد بينا ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب فأما حال المناكرة فالصلح جائز لأن مع الإنكار ليس لها حق مستقر وفي ذلك الجنس أكثر مما أخذت وعند الإنكار المعطي يؤدي المال لقطع المنازعة والخصومة ويفدي به يمينه فلا يتمكن فيه الربا على ما بينه.(20/247)
ص -118- ... وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بينهم الضغائن وفيه دليل أن القاضي لا ينبغي له أن يعجل وأنه مندوب إلى أن يرد الخصوم ليصطلحوا على شيء ويدعوهم إلى ذلك فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب إلى بقاء المودة والتحرز عن النفرة بين المسلمين ولكن هذا قبل أن يستبين وجه القضاء فأما بعد ما استبان ذلك فلا يفعله إلا برضا الخصمين ولا يفعله إلا مرة أو مرتين لما في الإطالة من الإضرار بمن ثبت الاستحقاق له في تأخير حقه ولأن ذلك يجر إليه تهمة الميل.(20/248)
وعلى القاضي أن يتحرز عن ذلك بما يقدر عليه وعن عمرو بن دينار أن إحدى نساء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صالحوها على ثلاثة وثمانين ألفا على أن أخرجوها من الميراث وهي تماضر كان طلقها في مرضه فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في ميراثها منه ثم صالحوها على الشطر وكان له أربع نسوة فحظها ربع الثمن وهو جزء من اثنين وثلاثين جزءا فصالحوها على نصف ذلك وهو جزء من أربعة وستين جزءا وأخذت بهذا الحساب ثلاثة وثمانين ألفا ولم يشر لذلك في الكتاب وذكر في كتب الحديث ثلاثة وثمانون ألف دينار فهذا دليل ثروة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ويساره وكان قد قسم لله تعالى ماله أربع مرات في حياته تصدق في كل بالنصف وأمسك النصف فهو دليل على أنه لا بأس بجمع المال واكتساب الغني من حله فابن عوف من الصحابة العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأيد هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح". ولكن مع هذا ترك الجمع والاستكثار وإنفاق المال في سبيل الله تعالى أولى وهو الطريق الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين". وفي حديث عبد الرحمن رضي الله عنه ما يدل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما أبطأ بك عني يا عبد الرحمن؟" قال وما ذاك يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك آخر أصحابي لحوقا بي بعد القيامة. وأقول أين كنت فيقول منعني عنك المال كنت محبوسا ما تخلصت إليك حتى الآن".
وذكر عن بن عباس رضي الله عنهما قال يتخارج أهل الميراث يعني يخرج بعضهم بعضا بطريق الصلح وذلك جائز لما فيه من تيسير القسمة عليهم فإنهم لو اشتغلوا بقسمة الكل على جميع الورثة ربما يشق(20/249)
عليهم ويدق الحساب أو تتعذر القسمة في البعض كالجوهرة النفيسة ونحوها فإذا أخرجوا البعض بطريق الصلح تيسر على الباقين قسمة ما بقي بينهم فجاز الصلح لذلك وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال ما رأيت شريحا رحمه الله أصلح بين الخصمين إلا امرأة استودعت وديعة فاحترق بيتها فناولتها جارة لها فضاعت فأصلح بينهما على مائة وثمانين درهما وفيه بيان أنه كان من عادة شريح رحمه الله الاشتغال بطلب الحجة التي يفصل الحكم بها وما كان يباشر الصلح بين الخصمين بنفسه وكان يقول إنما حبس القاضي لفصل القضاء ولأجله تقدم إليه الخصمان وللصلح غير القاضي فينبغي(20/250)
ص -119- ... للقاضي أن يشتغل بما تعين له ويدع الصلح لغيره إلا أنه في هذه الحادثة لأجل الاشتباه وتعارض الأدلة دعاهما إلى الصلح فإن المودع إذا وقع الحريق في بيته فناول الوديعة جارا له كان ضامنا في القياس وفي الاستحسان لا يكون ضامنا لأن الدفع إلى الغير في هذه الحال من الحفظ ولكنه عادة بخلاف النص فأن المودع أمره بأن يحفظ بنفسه نصا وأن لا يدفع إلى الغير فهذه الحال من الحفظ ولكنه عادة بخلاف النص فإن المودع أمره بأن يحفظ بنفسه نصا وأن لا يدفع إلى أجنبي فلاشتباه الأدلة أصلح بينهما على مال. وذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهما أن بريرة رضي الله عنها أتتها تسألها فقالت إن شئت عددتها لأهلك عدة واحدة وأعتقتك فذكرت ذلك لأهلها فقالوا لا إلا أن يكون الولاء لنا فذكرت ذلك عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوات الله عليه وسلامه: "الولاء لمن أعتق" فاشترتها وأعتقتها. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى شروط الله أوثق وكتاب الله أحق وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ما بال أقوام يقول أحدهم أعتق يا فلان والولاء لي وإنما الولاء لمن أعتق". وقد تقدم بيان فوائد هذا الحديث في كتاب الولاء وإنما ذكرناه هنا ليتبين أن الزيادة التي تؤدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "اشترى واشترطي فإنما الولاء لمن أعتق". وهم من هشام بن عروة كما ذكره أبو يوسف رحمه الله في الأمالي فإن ذلك من الغرور وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أحدا بالغرور ومقصوده من إيراد الحديث هنا بيان أنه يجوز بطريق الصلح والتراضي ما لا يجوز بدونه فإن بريرة رضي الله عنها كانت مكاتبة وقد اشترتها عائشة رضي الله عنها برضاها ولولا ذلك ما جاز شراؤها وفيه دليل أنه إنما يجوز أن يشترط في الصلح ما لا يكون مخالفا لحكم الله تعالى فأما(20/251)
الذي يكون مخالفا لحكم الله تعالى لا يجوز اشتراطه في الصلح لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط". معناه ليس في حكم الله تعالى فالمراد بالكتاب الحكم كما قال الله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}وذكر عن علي كرم الله وجهه أنه أتاه رجلان يختصمان في بغل فجاء أحدهما بخمسة رجال فشهدوا أنه أنتجه وجاء الآخر بشاهدين شهدا أنه أنتجه فقال علي كرم الله وجهه للقوم ما ترون فقالوا افض لأكثرهما شهودا فقال علي رضي الله عنه لعل الشاهدين خير من الخمسة ثم قال علي رضي الله عنه فيها قضاء وصلح وسأنبئكم بذلك أما الصلح فإنه يقسم بينهما على عدد الشهود وأما القضاء فيحلف أحدهما ويأخذ البغل فإن تشاحا على اليمين أقرعت بينهما بخمسة أسهم ولهذا سهمين فأيهما خرج سهمه استحلفته وغلظت عليه اليمين ويأخذ البغل وفي هذا دليل على أن البينة على النتاج مقبولة في الحيوان وأن القاضي ينبغي له عند الاشتباه أن يستشير جلساءه كما فعله علي رضي الله عنه ثم أشاروا عليه بالقضاء لأكثرهما شهودا لنوع من الظاهر وهو أن طمأنينة القلب إلى قول الخمسة أكثر من طمأنينة القلب إلى المثنى ورد علي رضي الله عنه ذلك عليهم لفقه خفي وهو أن طمأنينة(20/252)
ص -120- ... القلب باعتبار معنى العدالة فلذلك ترجح جانب الصدق في الخبر ولعل الشاهدين في ذلك خير من الخمسة ثم الترجيح عند التعارض يكون بقوة العلة لا بكثرة العلة وفي حق من أقام خمسة زيادة عدد في العلة فشهادة كل شاهدين حجة تامة يثبت الاستحقاق بها والترجيح بما لا يثبت الاستحقاق به ابتداء فأما ما يثبت به ابتداء الاستحقاق لا يقع الترجيح به فلهذا لم يرجح أكثرهما شهودا.
ثم قال فيها قضاء وصلح وهو دليل على أن الصلح جائز على غير الوجه الذي يقتضيه الحكم وأن الصلح بين الخصمين مع الإنكار جائز ثم بين وجه الصلح وهو أن يكون بينهما على عدد الشهود لأحدهما خمسة أسباعه وللآخر سبعاه وكأنه اعتبر هذا الظاهر الذي أشار إليه القوم ولكن لما كان لا يؤخذ به إلا عند اتفاق الخصمين عليه سماه صلحا وأما القضاء لأحدهما بأخذ البغل فهذا مذهب لعلي رضي الله عنه فقد كان يستحلف المدعي مع البينة وكان يحلف الشاهد والراوي فكأنه جعل يمين أحدهما مرجحة لجانبه باعتبار أن الاستحقاق باليمين لا يثبت ابتداء فيقع الترجيح بها كقرابة الأم في استحقاق العصوبة فإن الأخ لأب وأم يقدم في العصوبة على الأخ لأب لأن العصوبة لا تثبت بقرابة الأم ابتداء فتقوى بها عليه العصوبة على الأخ لأب ولسنا نأخذ بهذا فقد ثبت عندنا أنه لا معتبر بيمين المدعي وقد قررنا ذلك فيما سبق ثم قال فإن أداها على اليمين أقرعت بينهما لهذا بخمسة ولهذا بسهمين وهو عود منه إلى وجه الصلح وبهذا يستدل الشافعي رحمه الله في استعمال القرعة عند تعارض الحجج في دعوى الملك ولسنا نأخذ بهذا لأنه في معنى القمار ففيه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة وإنما يستعمل القرعة عندنا فيما يجوز الفصل فيه من غير إقراع وقد بيناه في كتاب القسمة وحكم الحادثة عندنا أن يقضي بالمدعى بينهما نصفين لاستوائهما في الحجة وقد بينا ذلك في كتاب الدعوى وروينا فيه من الأثر والمعنى ما يكون الأخذ به أولى من الأخذ بقول(20/253)
علي رضي الله عنه فإنه بناه على مذهبه الذي تفرد به وهو استحلاف المدعي مع الحجة والأمة قد اجتمعت على خلافه والله أعلم بالصواب.
باب الصلح في العقار
قال رحمه الله:وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل فأنكرها الذي هي في يديه ثم صالحه على دراهم أو دنانير مسماة فهو جائز واعلم بأن الصلح أنواع ثلاثة صلح بعد الإقرار وصلح بعد الإنكار وصلح مع السكوت بأن لم يجب المدعى عليه بالإقرار ولا بالإنكار ويجوز مع الإنكار وقال الشافعي رحمه الله يجوز الصلح مع الإقرار والسكوت ولا يجوز مع الإنكار وقال الشافعي رحمه الله يجوز الصلح مع الإقرار ولا يجوز مع الإنكار والسكوت وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله يقول لم يعمل الشيطان في إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين مثل من عمل في إبطال الصلح على الإنكار لما في ذلك من امتداد المنازعات بين الناس ولسنا نأخذ بهذا فمن أبطل ذلك إنما أبطله احتياطا للتحرز عن(20/254)
ص -121- ... الحرام وللرشوة والأعمال بالبينات وإنما نقول كما قال أبو حنيفة رحمه الله أجود ما يكون الصلح على الإنكار وأما الشافعي رحمه الله فإنه استدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[سورة البقرة, آية:233] والصلح على الإنكار لا يكون إلا بالتجارة عن تراض فذلك ينبني على ثبوت ملك المدعي على المدعي وبدعواه لا يثبت ذلك مع إنكار المدعى عليه فكان أكل المال بالباطل وهو المعنى في المسألة فإنه يأخذ المال بطريق الرشوة والرشوة حرام وبالصلح لا يحل ما هو حرام وقاس بصلح الشفيع مع المشتري بمال يأخذه ليسلم الشفعة أو يصلح القائل مع الإنكار ليقبضه منه الولي بمال يعطيه ويصلح معروف النسب مع مدعي الرق على مال ليسترقه
وبيان الوصف أن بدل الصلح إما أن يكون عوضا عن المال أو عن الدعوى والخصومة أو عن اليمين ولا يجوز أن يجعل عوضا عن المدعي لأن بمجرد الدعوى لا يثبت الملك في المدعي للمدعي قال صلى الله عليه وسلم: "لو أعطى الناس بدعواهم" الحديث. والدليل عليه أنه لو استحق بدل الصلح لا يرجع بالمال المدعي ولكن يعود على رأس الدعوى ولو كان المال بدلا عن المدعي لكان يعود به عند الاستحقاق كما لو كان الصلح بعد الإقرار ولو كان المصالح عنه دارا لا يجب للشفيع فيها الشفعة أو كان المال بدلا عن المدعي والخصومة لأن ذلك ليس بمال فلا يجوز الاعتياض عنه بالمال ولأنه كما لا يستحق بنفس الدعوى أخذ المال المدعي فكذلك لا يستحق أخذ المال بطريق الصلح ولا جائز أن يكون بدلا عن اليمين لأن اليمين مشروعة لقطع الخصومة فلا يجوز الاعتياض عنها بالمال كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أو هلاكها كان القول قوله مع اليمين.(20/255)
ولو صالح من هذه اليمين على ما كان باطلا فعرفنا أن المدعى عليه إنما يبذل المال ليدفع به أذى المدعي عن نفسه والمدعي يأخذ المال ليكف عن الخصومة معه بغير حجة وخصومته بغير حجة ظلم منه شرعا وأخذ المال ليكف عن الظلم رشوة فيكون حراما لقوله صلى الله عليه وسلم: "الراشي والمرتشي في النار" ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش". وبنحو هذا يستدل بن أبي ليلى رحمه الله إلا أنه يقول المدعي بنفس الدعوى يصير حقا للمدعي ما لم يعارضه المدعى عليه بإنكاره ألا ترى أنه لو لم بنازعه في ذلك لتمكن من أخذه وهذا لأن الدعوى خبر محتمل بين الصدق والكذب ولكن الصدق يترجح فيه من حيث إن دينه وعقله يدعوانه إلى الصدق ويمنعانه من الكذب إلا أن المدعى عليه إذا عارضه بإنكاره فإنكاره أيضا محتمل بين الصدق والكذب فلتحقق المعارضة تخرج دعواه من أن تكون موجبة للاستحقاق ما لم يظهر الترجيح في جانبه بالبينة وإذا كان المدعى عليه ساكتا فالمعارض لم يوجد فتبقى دعوى المدعى معتبرة في الاستحقاق فلهذا يجوز الصلح في هذه الحال فأما بعد المعارضة بالإنكار لم يبق للدعوى سبب الاستحقاق فأخذ المال بطريق الصلح يكون رشوة.
وأصحابنا رحمهم الله استدلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}[سورة النساء,آية:128] فالتقييد(20/256)
ص -122- ... بحال الإقرار يكون زيادة على النص المغيا؟؟ فيه أن المدعي أحد الخصمين في دعوى العين لنفسه فيجوز له أن يأخذ المال بطريق الصلح من صاحبه كالمدعى عليه فإنه لو وقع الصلح بينهما على أن يسلم العين إلى المدعي بمال يأخذه منه جاز ذلك بالاتفاق وتأثيره أن كل واحد منهما يدعي العين لنفسه وخبره في حقه محمول على الصدق وإنما لا يكون حجة على خصمه ثم المدعى عليه إنما يأخذ المال بطريق الصلح باعتبار قوله إن العين لي وإني أملكه من المدعي بما استوفى منه لا باعتبار يده ألا ترى أن المودع باعتبار يده بدون هذا القول لا يأخذ العوض عن الوديعة من المودع والمدعي قد وجد منه القول مثل ما وجد من المدعى عليه فكما يجوز للمدعى عليه أن يأخذ المال صلحا باعتبار قوله فكذلك يجوز للمدعي وفي هذا بيان أن المال عوض من المدعي في حق من يأخذه فإن كانت قد انقطعت الخصومة في حق صاحبه ومثله جائز كمن اشترى عبدا أقر بحريته فما يعطي من الثمن بدل ملك الرقبة في حق البائع وهذا فداء في حق المشتري حتى يعتق العبد فهذا مثله ولأن الصلح مع الإنكار إبراء بعوض ولو أبرأه بغير عوض صح ذلك فكذلك إذا أبرأه بعوض كما لو صالح بعد الإقرار.(20/257)
ومعنى ذلك أن المدعي يسقط حقه عن المال المدعي دينا كان أو عينا ثم إنكار المدعى عليه لا يمنع صحة إبرائه بغير عوض حتى لو أبرأه عن الدين ثم أقر المدعي عليه بأنه كان واجبا كان الإبراء صحيحا وهذا لأن الإبراء إسقاط والإسقاط يتم بالمسقط وحده وإنما يحتاج إلى مراعات الجانب الآخر في التملكات فأما في الإسقاطات فلا كالطلاق والعتاق وهذا لأن المسقط يكون متلاشيا ولا يكون داخلا في ملك أحد ولهذا صح الإبراء عن الدين قبل قبول المديون وإن كان يرتد برده لتضمنه معنى التمليك ولكن ذاك تبع وإنما يعتبر ما هو المقصود وهو الإسقاط فشرط صحته ثبوت الحق في جانب المسقط وذاك ثابت بخبره وإنما لم يجعل الدعوى سببا للاستحقاق على الغير ثم بنفس الدعوى يستحق الجواب والحضور على المدعى عليه ويستحق اليمين بعد المعارضة بالإنكار حتى يستوفي بطلبه وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لك يمينه" فعرفنا أن جانب الصدق ترجح في حقه قبل المعارضة بالإنكار وبعد المعارضة وإنما لا يعطي بنفس الدعوى المال المدعي لما قال صلى الله عليه وسلم: "لو أعطى الناس بدعواهم" الحديث فإذا ترجح معنى الصدق في حقه ثبت الحق في جانبه فيملك التصرف فيه بالإسقاط وهذا النوع من الإسقاط مما يجوز أخذ العوض عنه كما بعد الإقرار فيأخذ المال بطريق الصلح عوضا عن إسقاط حق ثابت في حقه والمدعى عليه ليس يتملك شيئا فلا يشترط ظهور الحق في جانبه ألا ترى أن الزوج إذا خالع امرأته على مال مع أجنبي ضمنه أو من له القصاص إذا صالح مع أجنبي على مال ضمنه يصح ذلك ويستحق المال عوضا عن الإسقاط.
وإن كان من يعطي المال لا يتملك به شيئا.(20/258)
ص -123- ... وأظهر من هذا كله صلح الفضولي فإنه لو قال للمدعي أن المدعى عليه قد أقر معي سرا وأنت محق في دعواك فصالحني على كذا من المال وضمن له ذلك فصالحه صح الصلح بالاتفاق ومعلوم أن بإقراره لا يثبت المال على المدعى عليه وإنما صح هذا الصلح بطريق الإسقاط لظهور الحق في جانب المدعي دون المدعى عليه فكذلك إذا صالح مع المدعى عليه بل أولى لأن المدعى عليه ينتفع بهذا الصلح والفضولي لا ينتفع به ووجوب المال عوضا عن الإسقاط على من ينتفع به أسرع ثبوتا منه على من لا ينتفع به ألا ترى أنه لو خالع امرأته على مال وجب المال عليها وإن لم يضمن بخلاف ما لو كان الخلع مع أجنبي
يقرره أن الفضولي لا يتملك بهذا الصلح شيئا ثم يلزمه دفع المال عوضا عن الإسقاط فكذلك المدعى عليه إذا كان منكرا فهو لا يتملك بهذا الصلح شيئا ولكن يلزمه دفع المال عوضا عن الإسقاط كما لو التزمه.
وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله أن بدل الصلح كالمقر به يكون عوضا عن المدعى عليه ويصير المدعى عليه بالإقدام على الصلح كالمقر به لأن القاضي يقول له أي ضرورة ألجأتك إلى الصلح وكان من حقك أن ترفع الأمر إلي لأمنع ظلمه عنك فلما اخترت الصلح صرت كالمقر لما ادعى ولكن هذا إقرار ثبت ضمنا للصلح فإذا بطل الصلح بالاستحقاق يبطل ما كان في ضمنه كالوصية بالمحاباة لما ثبت ضمنا للبيع يبطل ببطلان البيع فلهذا يعود على رأس الدعوى ولما كان هذا الإقرار في ضمن الصلح لا يظهر حكمه في غير عقد الصلح واستحقاق الدعوى بالشفعة حكم وراء ذلك فلا يظهر في حقه كما لو كان الصلح مع فضولي ومنهم من يقول المدعي يستحق المال عوضا في حقه عن المدعي فأما في حق المدعى عليه فإنه قد التمسه لأن اليمين حق للمدعي قبله مستحق الهلاك على ما بيناه في الدعوى فيكون بمنزلة القصاص والعفو عن القصاص على مال يأخذه صحيح فكذلك فداء المال باليمين صحيح نص عليه في الجامع الصغير.(20/259)
قال ولو فدى يمينه بعشرة دراهم يجوز وذلك مروي عن حذيفة رضي الله عنه أن رجلا ادعى عليه مالا وطلب يمينه وقال لا تحلفني ولك عشرة فأبى فقال لا تحلفني ولك عشرون فأبى فقال لا تحلفني ولك ثلاثون فأبى فقال لا تحلفني ولك أربعون فأبى فحلف ومن هذا وقع في لسان العوام أن اليمين الصادقة يشتري بأربعين درهما فأما المودع إذا ادعى الرد فمحمد رحمه الله يقول بجواز الصلح هناك أيضا فداء لليمين وأبو يوسف رحمه الله لا يجوز ذلك لأنه إنما استفاد البراءة بمجرد قوله رددت وهو تسلط على ذلك من جهة المودع وإنما اليمين لنفي التهمة ألا ترى أنه لو مات قبل أن يحلف كان بريئا وهنا اليمين حق للمدعي قبل المدعى عليه لمعنى الإهلاك على ما قد قررنا فيجوز أخذ العوض عنها وبهذا يتبين أن هذا ليس بأكل المال بالباطل ولكنه بمنزلة التجارة عن تراض على أحد الطريقين وهو ثبوت الإقرار في ضمن الصلح وعلى الطريق الآخر هو ليس بتجارة(20/260)
ص -124- ... عن تراض ولا أكل بالباطل ولكنه بذل مقيد بمنزلة الهبة والصدقة ونحوهما وفي الحقيقة الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله ينبني على الإبراء عن الحقوق المجهولة بعوض وهو لا يجوز عنده لأن معنى التمليك يغلب في الصلح فيكون كالبيع وجهالة المبيع تمنع صحة البيع فكذلك جهالة المصالح عنه وعندنا ذلك جائز بعوض وبغير عوض واعتمادنا فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خالدا إلى بني جذيمة داعيا لا مقاتلا وبلغه ما صنع خالد أعطى عليا رضي الله عنه مالا وقال ائت هؤلاء القوم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك وأدهم كل نفس ذا مال فأتاهم علي رضي الله عنه ووداهم حتى ميلغة الكلب فبقي في يده مال فقال هذا لكم مما لا تعلمونه أنتم ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال صلوات الله عليه وسلامه: "أصبت وأحسنت" فذلك تنصيص على جواز الإبراء عن الحقوق المجهولة بعوض.(20/261)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين اختصما إليه: "إذهبا تحريا وأقرعا وتوخيا واستهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه" وهذا إبراء عن الحق المجهول والدليل عليه أن الجهالة إنما تؤثر لأنها لا تمنع التسليم والمصالح عنه لا يحتاج فيه إلى التسليم فالجهالة فيه لا تمنع صحة الصلح ففي بيان قول أبي حنيفة رحمه الله أجوز ما يكون الصلح على الإنكار قد طعن في هذا اللفظ بعض الناس وقال الاختلاف في الصلح على الإنكار اختلاف ظاهر فكيف يكون المختلف فيه أجوز من المتفق عليه ولكنا نقول مراده أنه أنفذ وألزم فالصلح مع الإقرار يفسد بأسباب لا يفسد الصلح مع الإنكار بذلك السبب أو مراده أنه أكثر ما يكون بين الناس لأنه إذا وقع الإقرار استوفى المدعي حقه فلا حاجة إلى الصلح وإنما الحاجة إلى ذلك عند الإنكار ليتوصل به المدعي إلى بعض حقه أو مراده أن ثمرة الصلح قطع المنازعة وذلك عند الإنكار أظهر لأن مع الإقرار لا تمتد المنازعة بينهما والعقد الذي يفيد ثمرته يكون أقرب إلى الجواز مما لا يكون مفيدا ثمرته ثم الصلح على الإقرار تمليك مال بمال فيكون بيعا وهذا العقد اختص باسم فلا بد لاختصاصه بالاسم من أن يكون مختصا بحكم وذلك الحكم لا يكون إلا جوازه مع الإنكار فهو معنى كلام أبي حنيفة رحمه الله.(20/262)
ثم اعلم بأن ما وقع عليه الصلح يكون عوضا من المدعي في حق المدعي بمنزلة العوض في البيع فكل ما يصلح أن يكون عوضا في البيع يصلح أن يكون عوضا في الصلح وقد بينا ذلك في البيوع والمصالح عليه يحتاج إلى قبضه فلا بد من إعلامه على وجه لا تبقى فيه منازعة بينهما ولهذا لا يثبت الحيوان فيه دينا في الذمة ولا يثبت الثياب فيه دينا إلا موصوفا مؤجلا كما في البيع والمصالح عليه إذا كان عينا لا يجوز التأجيل فيه كما في البيع لا يجوز التأجيل في العين ثم الصلح عقد هو فرع فيعتبر بنظائره مما هو أصل حتى إذا كان على دين في الذمة فحكمه حكم اليمين في البيع وإن كان على غير دين فحكمه حكم البيع وإذا كان على منفعة فحكمه حكم الإجارة وكل منفعة يجوز استحقاقها بعقد الإجارة يجوز(20/263)
ص -125- ... استحقاقها بالصلح وما لا فلا حتى إذا صالح على سكنى ثبت بعينه إلى مدة معلومة يجوز وإن قال أبدا أو حتى يموت لم يجز وكذلك إن صالح على أن يزرع له أرضا بعينها سنين مسماة يجوز وبدون بيان المدة لا يجوز كما في الإجارة.
ولو كان لرجل ظلة أو كتف شارع على طريق نافذ فخاصمه رجل فيه وأراد طرحه فصالحه من ذلك على عشرة دراهم كان الصلح باطلا ويخاصمه في طرحه متى شاء لأن هذا الطريق النافذ حق جماعة المسلمين فلا يمكن واحد منهم أن يعتاض عنه شيئا فصاحب الظلة لا يستفيد بهذا الصلح حق الإقرار لأن لكل مسلم أن يخاصمه في طرحه والذي خاصمه كان محتسبا في ذلك فارتشى لترك الحسبة وذلك حرام وهذا لأن من أصل أبي حنيفة رحمه الله أن لكل مسلم أن يمنع من وضع الظلة على طريق المسلمين وأن يطالب الرفع بعد الوضع سواء كان فيه ضرر أو لا ضرر فيه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن كان فيه ضرر فكذلك الجواب وإن لم يكن فيه ضرر فلكل مسلم حق المنع في الابتداء وليس له أن يخاصم في الرفع بعد الوضع لأنه قاصد إلى الإضرار بصاحب الظلة غير دافع الضرر عن المسلمين وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله لا يمنع في الابتداء إذا لم يكن فيه ضرر كما لا يرفع بعد الوضع.(20/264)
وأبو حنيفة رحمه الله يقول الطريق مشترك بين جميع الناس وكل واحد منهم بمنزلة الشريك في الطريق الخاص فكما لا يعتبر هناك الضرر في ثبوت حق المنع والرفع فكذلك هنا ولو كان على طريق غير نافذ فخاصمه رجل من أهل الطريق وصالحه على دراهم مسماة كان جائزا لأن شركة أصحاب الطريق شركة ملك ولهذا يستحقون به الشفعة فهذا المصالح ملك نصيبه من صاحب الظلة وتمليك ما هو مملوك له بعوض صحيح فإن قيل صاحب الظلة لا يستفيد بهذا الصلح شيئا لأن لسائر الشركاء أن يخاصموه في الطريق قلنا لا كذلك بل يستفيد من حيث إن سائر الشركاء لو صالحوه أيضا لم يكن له أن يخاصمه في الطريق وهذا لأنه بالصلح يتملك نصيبه فيصير كأحد الشركاء في وضع الظلة على هذه الطريق حتى إذا رضي شركاؤه بذلك كان له حق قرار الظلة وبعض المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله كان يقول تأويل هذه المسألة أن الظلة على ما هي على الطريق فالمصالح يصير مملكا نصيبه من وضع أصل البناء وذلك جائز فأما إذا لم يكن كذلك فينبغي أن لا يجوز لأنه يصير مملكا نصيبه من هواء الطريق وتمليك الأهواء بعوض لا يجوز والأصح هو الأول لأن هواء الطريق الخاص مشترك بينهم كأصل الطريق وإسقاط الحق عن نصيبه من هواء الطريق بعوض صحيح كما يصح إسقاط الحق فيه بغير عوض ولو صالحه على مائة درهم على أن يطرح الظلة عن هذا الطريق كان جائزا لأن فيه منفعة لأهل الطريق فكأن المفيد للمال صالح عن نفسه ليوصل المنفعة إليهم بإزالة الشاغل عن هواء طريقهم وذلك جائز.
وتأويل هذا أن الظلة كانت على بناء مبني على الطريق وصاحب الظلة يدعي ملك ذلك(20/265)
ص -126- ... الوضع لنفسه أو يدعي حق قرار الظلة بسبب صحيح فسقط حقه بما يأخذ من المال بطريق الصلح على الإنكار وذلك جائز من أحد الشركاء عن نفسه وعن أصحابه بطريق التبرع كصلح الفضولي ولو ادعى حقا في دار في يدي رجل فصالحه من ذلك على خدمة عبد بعينه شهرا فهو جائز لأن المصالح عليه مقدور التسليم معلوم فإن مات العبد قبل أن يخدمه بطل الصلح لتحقق فوات المعقود عليه لا على عوض فيعود على رأس الدعوى وإن مات بعد ما خدمه نصف الشهر كان على دعواه في النصف اعتبارا للبعض بالكل ولو قتله أجنبي فعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يبطل الصلح ولكن للمدعي الخيار إن شاء أبطل الصلح وعاد على رأس الدعوى وإن شاء أمضى الصلح واشترى له بالقيمة عبدا آخر ليخدمه.
وقال محمد رحمه الله الصلح باطل وجه قوله أن الصلح على المنفعة بمنزلة الإجارة ولو قتل العبد المستأجر بطل عقد الإجارة فكذلك إذا قتل العبد الذي وقع الصلح على خدمته وهذا لأن حق المصالح في المنفعة والقيمة الواجبة على القاتل بدل العين لا بدل المنفعة فقد فات المعقود عليه لا إلى عوض وهو نظير موت العبد ولأن الصلح عقد محتمل للفسخ ودفع الضرر عن المدعي ممكن بالإعادة إلى رأس الدعوى فلا حاجة بنا إلى أن نقيم بدل العين مقام بدل المنفعة في إيفاء هذا العقد بخلاف الوصية فإن العبد الموصى بخدمته إذا قتل لا تبطل الوصية لأن دفع الضرر عن الموصى له هناك غير ممكن بإعادة عوضه إليه فلأجل الضرورة أقمنا بدل العين مقام بدل المنفعة ولأن العبد من وجه كأنه موصى به ولهذا يعتبر خروجه من الثلث.(20/266)
وأبو يوسف رحمه الله يقول المصالح ملك المنفعة بعقد يجوز أن يملك به العين فإذا هلكت العين وأخلفت بدلا لا يبطل الصلح كالعبد الموصى بخدمته إذا قتل لا تبطل الوصية ولكن يشتري بقيمته عبدا آخر ليخدم الموصى له بخلاف الإجارة وهي ملك المنفعة بعقد لا يجوز أن تملك به العين فلا يمكن إقامة بدل العين هناك مقام بدل المنفعة في الاستحقاق بحكم ذلك العقد وإذا كان العقد بحيث يجوز أن يملك به العين يمكن إقامة بدل العين فيه مقام بدل المنفعة في إيفاء العقد ثم الصلح على الإنكار في معنى الوصية لأنه ليس بإزاء المنفعة بدل يستقر وجوبه باستيفاء المنفعة كما في الوصية بخلاف الإجارة فإن قيل كيف يستقيم هذا والمصالح هناك له أن يؤاجر العبد من غيره وفي الوصية الموصى له بالخدمة لا يملك أن يؤاجره من غيره قلنا إنما ملك ذلك لأن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وهو يزعم أنه ملك المنفعة بعوض فالصلح على الإنكار بمنزلة عقد المفاوضة فإذا تملك المنفعة به ملك أن يؤاجره من غيره وإن كان لا يستقر وجوب البدل باستيفاء المنفعة كما إذا ملك المنفعة بالخلع أو النكاح أو الصلح عن القود.
توضيحه أن هذا العقد من وجه يشبه الإجارة وهو أن المنفعة تملك بعوض ومن وجه يشبه الوصية وهو أن باستيفاء المنفعة لا يستقر وجوب عوض فلشبهه بالإجارة قلنا يملك أن(20/267)
ص -127- ... يؤاجره من غيره ولشبهه بالوصية قلنا لا يبطل بالقتل وتقوم قيمته مقام عينه لأن المقصود بهذا العقد قطع المنازعة بينهما وذلك واجب بحسب الإمكان ابتداء وبقاء لما في امتدادها من الفساد وإنما أثبت الخيار للمدعي لحصول التغير لا في ضمانه فالمنفعة لا تدخل في ضمانه قبل الاستيفاء وعلى هذا لو كان القاتل هو المدعى عليه تجب القيمة أيضا لأنه وإن كان مالكا للعبد فالمصالح قد صار أحق به منه فهو في وجوب القيمة عليه بالقتل كأجنبي آخر عند أبي يوسف رحمه الله كالراهن إذا قتل المرهون أو الوارث إذا قتل العبد الموصى بخدمته وإن كان المصالح هو الذي قتل العبد فهو على الخلاف أيضا لأنه أجنبي من الرقبة فيلزمه من القيمة بالقتل ما يلزم غيره.
واختلف مشايخنا رحمهم الله في ثبوت الخيار للمصالح في هذا الفصل عند أبي يوسف رحمه الله فمنهم من يقول يثبت كما إذا قتله أجنبي آخر والأوجه أن لا يثبت لأن التغيير حصل بفعله هنا وهو راض بفعله لا محالة وهذا على أصل أبي يوسف رحمه الله مستقيم.
فقد قال إذا جنى البائع على المبيع وهو في يد المشتري فهو غير ثابت لا محالة وهذا على أصل أبي يوسف رحمه الله لا يسقط به خيار المشتري بخلاف ما إذا جنى عليه غيره وعلى هذا لو صالحه على لبس هذا الثوب شهرا أو على أن يركب دابته هذه إلى بغداد فإن هذه منفعة يجوز استحقاقها بالإجارة والوصية فكذلك بالصلح فإن مات المدعي أو المدعى عليه وقد استوفى نصف المنفعة فإنه يبطل الصلح بقدر ما بقي ويرجع في دعواه بقدره وهذا في قول محمد رحمه الله بناء على أصله أن الصلح على المنفعة كالإجارة والإجارة تبطل بموت أحد المتعاقدين وهذا لأنه إن مات المدعي فلو أبقينا الصلح أدى إلى توريث المنفعة والمنفعة لا يجري فيها الإرث ألا ترى أن الموصى له بالخدمة إذا مات لا يخلفه وارثه في استيفاء المنفعة وأكثر ما فيه أن يجعل الصلح كالوصية.(20/268)
وإن مات المدعى عليه فالعين صارت لوارثه والمنفعة بعد ذلك تحدث على ملكه ويستحق عليه منفعة ملكه بغير رضاه فأما عند أبي يوسف رحمه الله فإن مات المدعى عليه لم يبطل الصلح وإن مات المدعي ففي سكنى الدار وخدمة العبد كذلك الجواب فأما في لبس الثوب وركوب الدابة يبطل الصلح وهذا الجواب عنه محفوظ في الأمالي ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويله إذا ادعى عبدا في يد غيره ثم صالحه على خدمته شهرا أو ادعى بيتا ثم صالحه على سكناه شهرا فإن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وفي زعمه أنه يستوفي المنفعة بملكه الأصلي لا أن يتملكها بعقد الصلح بعوض فلا يبطل ذلك بموته ولا بموت المدعى عليه فأما إذا كان الصلح على خدمة عبد للمدعى عليه فينبغي أن يبطل بموت أحدهما كما ذكره في الكتاب مطلقا ومنهم من حقق الخلاف في الفصول كلها ووجه قول أبي يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن المقصود بالصلح قطع المنازعة وفي إبطال هذا الصلح بموت أحدهما إعادة المنازعة بينهما فلوجوب التحرز عن ذلك قلنا بأنه يبقى الصلح بعد(20/269)
ص -128- ... موت أحدهما لأنه إن مات المدعى عليه فوارثه ينتفع بإيفاء هذا الصلح مثل ما كان المورث انتفع به وهو سقوط منازعة المدعي فلو أبطلنا الصلح ربما لا يتمكن من تحصيل هذه المنفعة لنفسه بخلاف الإجارة وإن مات المدعي فوارثه يقوم مقامه فيما لا يتفاوت الناس في استيفائه كخدمة العبد وسكنى البيت وربما لا يتمكن من تحصيل ذلك لنفسه بعقده فأبطلنا الصلح فأما فيما يتفاوت الناس فيه كلبس الثوب وركوب
الدابة لا يمكن إقامة الوارث فيه مقام المورث للضرر الذي يلحق المالك فيه ولم يرض بالتزامه فلهذا أبطلنا الصلح ويشبه هذا بالمنفعة إذا جعلت بدلا في الخلع أو الصلح من دم العمد والنكاح فإنه لا يسقط الحق عنها بموت أحدهما ولكن يستوفي المنفعة أو بدلها بعد الموت على حسب ما تكلموا فيه فكذلك هنا.
وإن صالحه على سكنى بيت فانهدم لم يبطل الصلح لأن الأصل باق والانتفاع به من حيث السكنى ممكن إلا أن تمام المنفعة بالبناء فإذا رضي المدعى عليه بأن يبني البيت بماله فيه ليسكنه بقي الصلح بينهما ولكن للمدعي الخيار للتغيير وإن شاء أبطل الصلح وعاد على دعواه وإن شاء أمضى الصلح وهذا قولهم جميعا والجواب في إجارة البيت هكذا ولو صالحه من دعواه على كذا كذا ذراعا مسماة من هذه الدار لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قولهما بمنزلة ما اشترى كذا ذراعا من الدار وقد بيناه في التبرع فإن الصلح على عين يكون بمنزلة البيع وكذلك إن صالحه على كذا كذا جريبا من الأرض.(20/270)
ولو ادعى أذرعا مسماة في الدار فصالحه منها على دراهم مسماة كان جائزا عندهم جميعا لأن جهالة المصالح عنه لا تمنع صحة الصلح كما لو ادعى حقا في دار ولم يسمه ثم صالح منه على شيء معلوم وهذا لأن المصالح عنه لا يستحق تسليمه بالصلح فجهالته لا تفضي إلى المنازعة ولو ادعى كل واحد منهما في دار في يدي صاحبه حقا ثم اصطلحا على أن يسلم كل واحد منهما لصاحبه ما في يده بغير تسمية ولا إقرار فهو جائز لأن كل واحد منهما قابض لما شرط له بالصلح فلا حاجة إلى التسليم والجهالة إنما تمنع إذا كانت تفضي إلى منازعة مانعة من التسليم ولو ادعى رجل في أرض رجل دعوى فصالحه على طعام بعينه مجازفة فهو جائز لأن الطعام المعين يجوز بيعه وإن لم يكن معلوم القدر فكذلك الصلح عليه وكذلك لو صالح على دراهم بعينها بغير ذكر الوارث لأن مثله يصلح ثمنا في البيع فيصلح بدلا في الصلح أيضا. ولو صالحه على عبد بعينه لم يره فهو بالخيار إذا رآه لأن المصالح عليه إذا كان عينا فهو كالمشتري بطريق البناء على زعم المدعي ولهذا يستحق بالشفعة لو كانت دارا ومن اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه وكذلك الرد بالعيب في الصلح بمنزلة الرد بالعيب في البيع حتى يرد المصالح عليه بالعيب اليسير والفاحش بطريق البناء على زعم المدعي وإذا تعذر الرد بالعيب رجع بحصة العيب في الدعوى لأن رأس ماله في حق المدعى عليه هو الدعوى والخصومة فكما أن عند الرد بالعيب يرجع في ذلك فكذلك عند تعذر الرد بالعيب من(20/271)
ص -129- ... الدعوى ولو استحق نصف العبد من يده كان بالخيار فيما بقي لعيب التبعيض فإن رد ما بقي كان على دعواه فإن أمسك ما بقي منه كان على نصف دعواه اعتبارا لاستحقاق البعض بالكل.
ولو ادعى رجل في دار لرجل دعوى فصالحه عنه آخر بأمره أو بغير أمره بإنكار أو إقرار فإن ذلك جائز ولا شيء للمصالح من حقوق المدعي إنما يكون ذلك للذي في يده الدار ولا يجب المال على المصالح إلا أن يضمنه الذي صالحه لأن الصلح على الإنكار معاوضة بإسقاط الحق فيكون بمنزلة الطلاق بجعل والعفو عن القصاص بمال وذلك جائز مع الأجنبي كما يجوز مع الخصم إلا أن الأجنبي إن ضمن المال فهو عليه بالالتزام ولا يدخل في ملكه بإزاء ما التزم شيء لأن المسقط يكون متلاشيا ولا يكون داخلا في ملكه وإن لم يلزمه المال بمطلق العقد ولكن إن كان الصلح بأمر المدعى عليه فالمال عليه لأن الأجنبي يعبر عنه(20/272)
ألا ترى أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إليه وإن كان بغير إذنه فهو موقوف على إجازته لأن المال لم يجب للمصالح ولا يمكن إيجابه على المدعى عليه بغير رضاه والمدعي لم يرض سقوط حقه إلا بعوض يجب له فيتوقف على رضا المدعى عليه ولو لم يكن في صلح الأجنبي إلا العرف الظاهر وحاجة الناس إلى ذلك لأن المدعى عليه يتحرز من قبول ذلك مخافة أن يجري على لسانه ما هو إقرار لكان هذا كائنا لجواز هذا العقد فإن صالحه على عبد بعينه فوجد به عيبا فرده أو استحق أو وجد حرا أو مدبرا أو مكاتبا عاد في دعواه ولم يكن له على المصالح شيء لأن هذا الصلح لو كان مع المدعى عليه كان يبطل بهذه العوارض ويعود المدعي على دعواه فكذلك إذا كان مع الأجنبي وهذا لأن العقد انفسخ بهذه الأسباب والتزام المصالح كان بالعقد فإذا انفسخ العقد عاد الحكم الذي كان قبله وهو خصومة المدعي مع المدعى عليه. ولو صالحه على دراهم مسماة وضمنها له فدفعها إليه فاستحقت أو وجد منها زيوفا أو ستوقا فله أن يرجع بذلك على الذي صالحه دون الذي في يديه الدار كما لو كان هذا الصلح مع المدعى عليه وهذا لأن المصالح التزم بالمال بالعقد دينا في ذمته حين ضمنه وبالرد بهذه الأسباب ينتقض القبض لا أصل العقد فيعود الحكم الذي كان قبل القبض وهو أنه مطالب بتسليم المال بسبب التزامه في ذمته ولو صالحه على دراهم وضمنها ثم قال لا أؤديها أجبرته على أن يؤديها إليه لأنه التزم بالضمان والزعيم غارم وشرط على نفسه أن يؤدي المال والوفاء بالشرط لازم خصوصا إذا كان الشرط في عقد لازم ولو لم يكن ضمنه لم يكن عليه شيء ولكن الصلح موقوف عليه فإن قبل لزمه المال وإن رد فالصلح باطل ولو ادعى في دار رجل حقا فصالحه على دراهم ودفعها إليه ثم استحقت الدار من يد المدعى عليه كان له أن يرجع بدراهمه لأن هذا الصلح مبني على زعم المدعي وفي زعمه أنه أخذ الدراهم عوضا عن الدار فإذا استحقت كان عليه رد المقبوض من البدل(20/273)
كالمبيع إذا استحق وإن جعلناه مبنيا على زعم المدعى عليه ففي زعمه أنه أعطى المال بغير عوض وأن له حق الاسترداد.(20/274)
ص -130- ... وكذلك لو صالح عنه غيره وضمن المال رجع المصالح بدراهمه لأن بعد الاستحقاق ثبوت حق الرجوع بسبب أداء المال وإنما يثبت لمن أدى ولو استحق نصفها أو ثبت معلوم فيها أو جميعها إلا موضع ذراع لم يكن للمصالح أن يرجع بشيء من الدراهم لأني لا أدري لعل دعواه فيما بقي دون ما استحق وهذا الصلح مبني على زعم المدعي وهو يتمكن من أن يقول إنما كان حقي ما بقي وقد صالحتك عنه فلهذا لا يرجع بشيء من الدراهم بخلاف ما إذا استحق جميع الدار وإن ادعى في بيت في يدي رجل دعوى فصالحه من ذلك على أن يبيت على سطحه سنة فهو جائز لأن في زعم المدعي أنه يستوفي ملك المنفعة باعتبار ملك الأصل ولم يذكر ما إذا صالحه على أن يبيت آخر بعينه سنة والجواب في ذلك أنه يجوز أيضا لما استشهد به فقال ألا ترى أنه لو استأجره جاز وقد بينا أن ما يستحق من المنفعة بعقد الإجارة يجوز استحقاقه بعقد الصلح.(20/275)
قال الحاكم رحمه الله وقد تأوله بعض مشايخنا رحمهم الله على السطح المحجر لأنه إذا كان بهذه الصفة فهو موضع السكنى عادة فيجوز استئجاره لمنفعة السكنى قال رضي الله عنه والأصح عندي أنه يجوز على كل حال لأن السطح مسكن كالأرض ولو استأجر أرضا معلومة من الأرض لينزل فيه مدة معلومة جاز فكذلك السطح وهذا لأنه يتمكن من السكنى عليه بنصب خيمة فيه أو نحوها ولو ادعى نصف الدار وأقر بأن نصفها لذي اليد فصالحه ذو اليد على دراهم مسماة ودفعها إليه ثم استحق نصف الدار رجع عليه بنصف الدراهم لأن في زعم المدعي أن الدار كانت بينه وبين المدعى عليه نصفين والمستحق نصف شائع فيكون من النصيبين وبه تبين أنه استحق نصف ما وقع الصلح عليه فيرجع بنصف الدراهم لو كان المدعي لم يقر لذي اليد بحق فيها أو قال نصفها لي ونصفها لفلان وقال المدعي كذبت بل نصفها لي والنصف الآخر لا أدري لمن هو أو قال كلها لي ونصفها لفلان لم يرجع عليه بشيء من الدراهم لأنه لم يستحق شيئا وقع الصلح عنه بزعم المدعي فهو يقول إنما صالحت عن النصف الذي بقي في يدك وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي.
وإذا كانت الدار وديعة في يد المدعي فصالح المدعي من دعواه فيها على شيء لم يرجع به على المودع لأنه كأجنبي آخر في التزام المال بالصلح فقد كان متمكنا من أن يثبت بالبينة أنه مودع فيها لتندفع الخصومة عنه إلا أن يكون أمره بذلك فحينئذ يرجع عليه لأنه عامل له بأمره فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة وإذا صالح الرجل من دعواه في دار لم يعاينها الشهود ولا عرفوا الحدود أو صالحه من دعواه في دار بغير عينها ثم خاصمه في دار وزعم أنها غير التي صالحه عنها وقال المدعى عليه هي تلك تحالفا وترادا الصلح وعادا في الدعوى لأن الصلح عقد محتمل للفسخ بالإقالة فإذا اختلفا في عين ما تناوله العقد تحالفا وترادا كالمتبايعين إذا اختلفا في عين المبيع.(20/276)
ص -131- ... ولو أن دارا في يدي ورثة ادعى رجل فيها حقا وبعضهم غائب فصالح الشاهد منهم المدعي على شيء مسمى من جميع حقه فهو جائز لأنه في حصة شركائه متبرع بالصلح وقد ذكرنا أن صلح المتبرع جائز إذا التزم العوض والدار الموروثة على حالها لأن المدعي مسقط لحقه بما يأخذ من العوض غير متملك شيئا ممن يأخذ منه العوض فلا يرجع هذا الصلح عليهم بشيء لأنهم لم يأمروه بدفع شيء ولو كان صالح على أن يكون حقه له خاصة دون الورثة فهو جائز أيضا لأن المدعي يملك ما يدعيه لنفسه من الذي يصالحه بما يستوفي من العوض والصلح مبني على زعمه فيجوز ثم يقوم هذا المصالح مقام المدعي فيما بينه وبين شركائه على حجة المدعي فإن أثبت له ملك شيء معلوم بالحجة ثبت ملكه في ذلك بالشراء وإذا لم يكن له بينة فله أن يرجع على المدعي بحصة شركائه التي لم يسلم له لأن المدعي عاجز عن تسليم ذلك إليه والصلح مبني على زعمه فيتحقق عجزه عن التسليم في ذلك القدر فيبطل الصلح فيه ويرجع بما يقابله من البدل ألا ترى أن رجلا لو ادعى دارا في يدي رجل فصالحه رجل منها على عبد على أن تكون الدار له ثم خاصمه الذي في يديه الدار فلم يظفر بشيء كان له أن يرجع على المدعي بالعبد أو بقيمته إن كان هلك عنده لأن العقد ينفسخ بينهما لتعذر تسليم المعقود عليه بزعمهما.(20/277)
ولو أن رجلين ادعيا دارا في يدي رجل وقالا ورثناها عن أبينا وجحدهما الرجل ثم صالح أحدهما عن حصته من هذه الدعوى على مائة درهم فأراد شريكه أن يشركه في هذه المائة لم يكن له ذلك لأن الملك لو كان ظاهرا لهما في الدار فباع أحدهما نصيبه لم يكن للآخر أن يشاركه في ثمنه فكذلك إذا صالح أحدهما من نصيبه مع إنكار ذي اليد وليس للآخر أن يأخذ من الدار شيئا إلا أن يقيم البينة لأن ذا اليد بقبوله الصلح مع الإنكار لا يصير مقرى بحق المصالح فيما صالحه عنه فكيف يصير مقرى بحق غيره فيما لم يقع الصلح عنه وذكر ابن رستم رحمه الله في نوادره أن أبا يوسف رحمه الله قال يشاركه وقال محمد رحمه الله لا يشاركه وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن المصالح يزعم أنه يأخذ بجهة الميراث عن أبيه ولهذا كان مصروفا إلى دين الأب لو ظهر عليه دين ولا يختص أحد الابنين بشيء من ميراث الأب فللآخر حق المشاركة معه في المقبوض باعتبار زعمه ولو صالح أحدهما من جميع دعواهما على مائة درهم وضمن له تسليم أخيه فإن سلم الأخ ذلك له جاز وأخذ نصف المائة لأن الصلح في نصيب أخيه كان موقوفا على إجازته فإذا أجازه جاز ويجعل كأنهما باشرا الصلح فالبدل بينهما نصفان وإن لم يجز فهو على دعواه ورد المصالح على الذي في يديه الدار نصف المائة لأن الصلح قد بطل في نصيب أخيه برده.
ولو ادعى دارا في يدي رجل فقال هي لي ولأخوتي فأقر ذو اليد بذلك ثم اشترى منه نصيبه لم يكن لإخوته أن يشاركوه في شيء من الثمن لأنه إنما يأخذ العوض عن نصيبه خاصة وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين الصلح فيقول هنا بقية الورثة يتمكنون من(20/278)
ص -132- ... أخذ نصيبهم من الميراث أو أخذ العوض عنه بالبيع فالقول بقطع الشركة لا يؤدي إلى تخصيص بعض الورثة في بدل شيء من الميراث بخلاف الصلح على ما قررنا ولو ادعى دارا في يدي رجل فاصطلحا فيها على أن يسكنها ذو اليد سنة ثم يدفعها إلى المدعي فهذا جائز بمنزلة ما لو اصطلحا على أن يسكنها المدعي سنة ولم يسلمها لذي اليد وهذا في جانب المدعي ظاهر لأنه يزعم أن رقبتها ومنفعتها له فهو بهذا الصلح يبطل ملكه عن رقبتها ويبقى ملكه في مقدار ما شرط لنفسه من المنفعة فإنما يستوفي ذلك بحكم ملكه وذلك جائز وكذلك إن كان يستوفيها بحكم عقد الصلح كما لو صالحه على سكنى دار أخرى سنة وأما في جانب المدعى عليه ففيه بعض إشكال لأنه يزعم أن رقبتها ومنفعتها له وأنه يملكها من المدعي بعد سنة والتمليك لا يحتمل التعليق بالشرط ولا الإضافة ولكنا نقول هذا الصلح مبني على زعم المدعي وفي زعمه أنه يعيرها من ذي اليد سنة ثم يأخذها منه والمدعى عليه يجعل مملكا رقبتها منه في الحال مبقيا منفعتها سنة على ملكه وهو إنما يستوفي بحكم ملكه وذلك جائز.
ألا ترى أن من أوصى لغيره بسكنى داره سنة ثم مات صارت الدار لورثته وبقيت السكنى على حكم ملك الموصى يستوفيها الموصي له بإخلائها له وكذلك لو باع الدار المؤجرة والمشتري يعلم بالإجارة فإنه يملك رقبتها وتبقى منفعتها على حق البائع حتى يمتلكها المستأجر عليه بالاستيفاء ويكون الأجر للبائع فهذا مثله وإن كان للمدعي فيها شركاء لم يجز صلحه عليهم وهم على حجتهم في إثبات أنصبائهم لأنه لا ولاية للمدعى عليه على شركاء المدعي لتملك أنصبائهم منه وكذلك لو كان هذا الصلح في أرضه على أن يزرعها ذو اليد خمس سنين على أن رقبتها للمدعي فهو جائز لما قلنا.(20/279)
ولو اشترى دارا فاتخذها مسجدا ثم ادعى رجل فيها دعوى فصالحه الذي بنى المسجد والذين بين أظهرهم المسجد فهو جائز لأنهم ينتفعون بهذا الصلح ولو صالحه من لا ينتفع به كالفضولي والتزم المال كان الصلح جائزا فإذا صالحه من ينتفع به كان إلى الجواز أقرب وكذلك لو باع الدار أو وهبها لابن صغير أو جعلها مقبرة أو غيرها عن حالها ثم صالح عنها المدعي فهو فيما يلتزم من المال بالصلح لا يكون دون فضولي فيجوز ذلك منه وإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي بعد الإقرار ثم صالحه جاز الصلح لأنه لا معتبر بإنكاره بعد الإقرار فهذا صلح على الإقرار وهو جائز بالاتفاق وإن أنكر في الابتداء وصالح ثم أقر أنه كان محقا في دعواه فالصلح ماض وهو آثم بالجحود لكونه كاذبا فيه ظالما ولكن الصلح من المدعي إسقاط لحقه بعوض وقد بينا أن جحود الخصم لا يمنع صحة الإسقاط من المسقط بغير عوض.
ألا ترى أن الطالب لو أبرأ المديون وهو جاحد للدين كان إبراؤه صحيحا فكذلك جحوده لا يمنع صحة الإسقاط بعوض وهذا لأن الإسقاط تصرف من المسقط في حقه ألا(20/280)
ص -133- ... ترى أن إنكار المرأة للنكاح لا يمنع صحة الطلاق من الزوج بعوض كان أو بغير عوض وكذلك إنكار القاتل لا يمنع صحة العفو من الولي لهذا المعنى.
ولو ادعى دارا في يد رجل فصالحه منها على خدمة عبد سنة ثم أعتقه صاحبه جاز عتقه لأن العبد باق على ملكه وإن صارت خدمته للمدعي وإعتاقه في ملك نصيبه نافذ كالوارث إذا أعتق العبد الموصي بخدمته نفذ وكان صاحب الخدمة على حقه لأن خدمته صارت مستحقة له بعقد لازم والعتق لا ينافي بقاءها ولو أعتقه المدعي لم ينفذ عتقه لأنه مالك للخدمة ونفوذ العتق باعتبار ملك الرقبة وهو من رقبته كأجنبي آخر فلا ينفذ عتقه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم". ولو أن رب العبد باعه لم يجز بيعه لأنه عاجز عن تسليمه فلا ينفذ بيعه فيه لحق صاحب الخدمة كالآجر إذا باع العبد المؤجر أو الوارث إذا باع العبد الموصي بخدمته أو الراهن إذا باع المرهون ولصاحب الخدمة أن يؤجره للخدمة لما بينا أنه ملك خدمته بعقد معاوضة فهو كالمستأجر يملك أن يؤاجر قال وله أن يخرج بالعبد من المصر إلى أهله وقد ذكرنا في كتاب الإجارات أن من استأجر عبدا ليخدمه فليس له أن يسافر به قال رضي الله عنه وكان شيخنا رحمه الله يقول تأويل ما قال في كتاب الصلح إن أهل المدعي إذا كانوا في بعض القرى القريبة من المصر والمدعى عليه يعلم ذلك أو كان هو على جناح السفر والرجوع إلى أهله وقد علم ذلك المدعى عليه فحينئذ يكون هو راضيا بإخراجه العبد إلى أهله لأن الإنسان إنما يستخدم العبد في أهله وتأويل ما قال في كتاب الإجارات أنه إذا لم يكن ذلك معلوما للآجر عند عقد الإجارة فلا يكون راضيا بإخراج العبد وتكليفه خدمة السفر لأن الخدمة في السفر أشق منها في الحضر.(20/281)
قال رحمه الله:والذي يتراءى لي من الفرق بين الفصلين أن في باب الإجارة مؤنة الرد على الآجر بعد انتهاء العقد لأن المنفعة في النقل كانت له من حيث أنه يقر حقه في الآجر والمستأجر إذا سافر بالعبد فهو يريد أن يلزم المؤاجر ما لم يلزمه من مؤنة الرد فأما هنا فمؤنة الرد ليست على المدعى عليه لأنه زعم أنه يملك الخدمة بغير شيء فهو كالموصى له بالخدمة فإن مؤنة الرد عليه دون الوارث فالمدعي هنا بإخراجه إلى أهله يلتزم مؤنة الرد لا أن يلزم المدعى عليه شيئا فلهذا كان يخرجه.
ولو ادعى رجل في حائط رجل موضع جذوع أو ادعى في داره طريقا أو مسيل ماء فجحده ثم صالحه على دراهم معلومة جاز لأن المصالح عليه معلوم وجهالة المصالح عنه لا تمنع صحة الصلح فإن تسلمه بالصلح لا يصير مستحقا ولو ادعى رجل حقا فصالحه من ذلك على طريق في داره أو على مسيل ماء أو على أن يضع على حائط من داره جذعا فالصلح على الطريق جائز لأن المصالح عليه إذا كان عينا فهو كالمبيع وبيع الطريق جائز لأن المصالح عليه إذا كان مما لا يقع فيه منازعة يجوز وبيع المسيل لا يجوز لأنه مجهول فإن كان مسيل ماء الميزاب فذلك يختلف بقلة المطر وكثرته والضرر بحسبه يختلف وإن كان(20/282)
ص -134- ... مسيل ماء الوضوء فذلك يختلف أيضا بقلة الحاجة إليه وكثرتها فكذلك بيع موضع الجذع من الحائط لا يجوز للجهالة فاستئجار الحائط لوضع الجذع عليه لا يجوز أيضا وقد بينا أن من لا يستحق بالبيع والإجارة فالصلح عليه لا يجوز ولو صالحه على شرب نهر شهرا لم يجز لأن بيع الشرب بدون الأرض جائز فكذلك الصلح عليه لأن ما هو المقصود يختلف بقلة الماء وكثرته وجريان أصل الماء في النهر على خطر ومقداره غير معلوم.
ولو صالحه على أن يسيل ماء فيها لم يجز لأن مقدار ذلك لا يستحق بالإجارة فكذلك لا يستحق بالصلح عليه بخلاف ما إذا صالحه على عثر نهر بأرضه أو على عثر بئر أو عين فالمصالح عليه هنا جزء معلوم رقبة النهر واستحقاقه بالبيع جائز فكذلك بالصلح عليه وكذلك لو ادعى عثر نهر أو بئر فصالحه منها على مال معلوم فهذا إلى الجواز أقرب.(20/283)
ولو ادعى في دار في يد رجل دعوى فصالحه من ذلك على عبد ومائة درهم وقيمة العبد مائة درهم ثم استحق العبد رجع في نصف دعواه لأنه لو استحق جميع ما وقع الصلح عليه بطل الصلح في الكل وعاد على رأس الدعوى فكذلك إذا استحق نصف ما وقع الصلح عليه وإن كان الذي في يديه الدار أخذ من المدعي ثوبا رجع المدعي في نصف الدعوى ونصف الثوب لأن من جانب المدعي شيئين المدعي وهو مجهول والثوب وهو معلوم والمعلوم إذا ضم إلى المجهول فلا طريق إلى الانقسام سوى المناصفة والمدعى عليه بدل المائة والعبد فكان بإزاء العبد نصف الثوب ونصف المدعي بإزاء المائة فكذلك عند استحقاق العبد يرجع المدعي بما يقابله وهو نصف الدعوى ونصف الثوب ولو كان استحق الثوب رجع الذي في يديه الدار بحصة الثوب من قيمة العبد والدراهم ثم ينظر كم ادعى من الدار فيعود ذلك إن كان معلوما ويقوم الثوب فإن كانت قيمتهما سواء رجع بنصف العبد ونصف المائة لأن الثوب والمدعي من جانب المدعي فيتوزع عليهما المائة والعبد فإذا استوفى القيمة كان بمقابلة الثوب ونصف المائة وقد استحق الثوب فيرجع بما يقابله وإن اختلفا في قدر الحق في الدار فقال الطالب كان لي نصف الدار وقال المدعى عليه بل كان لك عشرها فالقول قول الذي الدار في يديه مع يمينه لإنكاره الزيادة وأصل المدعي وهو الدار والصلح كان باعتباره فإذا وقعت الحاجة إلى معرفة مقداره كان القول قول المنكر مع الزيادة.(20/284)
ألا ترى أنه لو باع من رجل طعاما بمائة درهم ودفعها وقبض الطعام ثم وجد به عيبا فرده فقال البائع كان طعامي الذي بعتك كر حنطة وقال الرجل كان نصف كر فالقول قول المشتري مع يمينه ومعنى هذا الاستشهاد أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وفي زعمه أن المدعى عليه اشترى منه نصيبه من الدار بما أعطاه من بدل الصلح فإذا وقع الاختلاف في مقدار المشتري جعل القول قول المشتري كما في مسألة الطعام وكذلك لو اشترى شقصا في دار بعبد فاستحق العبد فقال الذي قبض الشقص كان المبيع ثلث الدار وكان للآخر نصف الدار فالقول قول الذي في يديه الدار لأن الاختلاف بينهما(20/285)
ص -135- ... في مقدار المشتري فالحاصل أن المشتري قابض للمشتري بالعقد ومتى وقع الاختلاف في مقدار المقبوض يجعل القول قول القابض لأنه لو أنكر القبض أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أنكر قبض الزيادة.
ولو كانت دار في أيدي ثلاثة نفر في يد كل واحد منهم منزل منها وساحتها على حالها واختصموا فيها فلكل واحد منهم ما في يده والساحة بينهم أثلاثا لأن ما في يد كل واحد منهم الظاهر يشهد له والبناء على الظاهر واجب ما لم يتبين خلافه وحقهم في الساحة على السواء لأن كل واحد منهم مستعمل للساحة في حوائجه وللاستعمال يد فلهذا قضى بالساحة بينهم أثلاثا فإن اصطلحوا قبل أن يقضي بينهم على أن لفلان نصف الساحة وكل واحد من الآخرين ربعها فهو جائز لأنه صلح عن تراض فيما لا يتمكن فيه معنى الربا فيجوز كيفما اتفقوا عليه وكذلك إن اشترط أحدهم لنفسه نصف المنزل الذي في يد صاحبه جاز لأن ذا اليد يصير مملكا نصف منزله منه بعوض معلوم وذلك صحيح قل العوض أو كثر.(20/286)
ولو كانت الدار في يد رجل منها منزل وفي يد آخر منزل وقال أحدهما الدار بيني وبينك نصفان وقال الآخر بل هي كلها لي فللذي ادعى جميعها ما في يده ونصف ما في يد صاحبه والساحة بينهما نصفين لأن صاحبه يدعي النصف من جميع الدار شائعا فيكون مدعيا نصف كل جزء بعينه من الدار والقول للذي في يده جزء معين منها فهو يدعي نصف ذلك ولا مدعي للنصف الآخر سوى من يدعي جميعها ولا منازع له في ذلك فيأخذ نصف ما في يده والساحة كذلك موضع معين منهما في يد كل واحد منهما نصفه شائعا فمدعي النصف مدع جميع ما في يده من الساحة فالقول في ذلك قوله فلهذا كانت الساحة بينهما نصفين والمنزل الذي في يد مدعي الجميع صاحبه يدعي نصفه ولا يستحق ما في يد الغير بمجرد الدعوى ما لم يقم البينة وذو اليد يدعي جميع ذلك المنزل فلهذا كان له جميع ما في يده فإن اصطلحوا قبل القضاء على أن تكون الدار بينهما نصفين أو على الثلث والثلثين فهو جائز لوقوع الإتفاق والتراضي على شيء معلوم وكذلك لو اصطلحوا بعد القضاء فهو جائز بطريق التمليك من كل واحد منهما من صاحبه بعد ما قضى له به بعوض.
ولو كان أحدهما نازلا في منزل من الدار والآخر في علو ذلك المنزل وادعى كل واحد منهما جميعها فلكل واحد منهما ما في يده والساحة بينهما نصفان لأن العلو مسكن على حدة كالسفل فهما كبيتين من الدار أحدهما متصل بالآخر وقد بينا في البيتين والمنزلين أن لكل واحد منهما ما في يده والساحة بينهما نصفان لثبوت يدهما عليها بالاستعمال ولا يقال الساحة أرض من جنس حق صاحب السفل فينبغي أن يكون هو أولى بها لأن ثبوت اليد لا تكون بالمجانسة بل بالاستعمال وصاحب العلو مستعمل لها كصاحب السفل فإن اصطلحا قبل القضاء أو بعده على أن لصاحب السفل العلو ونصف الساحة ولصاحب العلو السفل ونصف الساحة جاز لوجود المبادلة بينهما في العلو والسفل بالتراضي والساحة بينهما نصفان(20/287)
ص -136- ... كما هو قضية الحكم وإذا كان الحائط بين داري رجلين وكل واحد منهما يدعي أنه له ولكل واحد منهما عليه جذوع وجذوع أحدهما أكثر من جذوع الآخر كان للآخر أن يزيد في جذوعه حتى تكون جذوعه مثل جذوع صاحبه لأن يد كل واحد منهما ثابتة على الحائط وأنه مستعمل له بوضع حمل مقصود عليه ينبني الحائط لأجله فإن الحائط تبنى لوضع ثلاثة جذوع عليه كما يبنى لوضع عشرة من الجذوع عليه فكان الحائط بينهما نصفين لاستوائهما في اليد عليه ولأحد الشريكين أن لا يسوي نفسه بصاحبه في الانتفاع بالملك المشتري وللمساواة هنا طريقان إما رفع فضل جذوع صاحبه أو بأن يزيد في جذوعه والرفع غير ممكن بهذا النوع من الظاهر لأن الظاهر حجة لدفع الاستحقاق على الغير وكان له أن يزيد في جذوعه حتى تكون جذوعه مثل جذوع صاحبه ولكن هذا إذا كان الحائط يحتمل ذلك فإن كان لا يحتمل فالوضع يكون بمنزلة هدم الحائط وليس له أن يهدم الحائط المشترك وقد تقدم بيان هذه الفصول وما فيها من اختلاف الروايات في كتاب الدعوى والإقرار.
وليس لواحد منهما أن يبني على هذا الحائط ويفتح فيه كوة وجمعه كوى ولا بابا لأن أصل الحائط مشترك بينهما وفتح الباب والكوة يكون رفعا لبعض الحائط وهو لا يتمكن من أن يرفع جميع الحائط بغير رضا صاحبه فكذلك لا يتمكن من رفع البعض وهذا لأن فتح الباب والكوة يوهن البناء ويظهر أثر ذلك في الثاني إن كان لا يظهر في الحال ولا كذلك بناء الحائط عليه لأن فيه وضع حمل زائد على حائط مشترك وفيه ضرر على الحائط لا محالة.(20/288)
ولو أراد أن يبني في حائط ساحة مشتركة لم يملك ذلك بغير إذن صاحبه فهذا أولى. ولو اصطلحا على أن يكون الحائط بأصله لأحدهما وعلى أن يكون للآخر موضع جذوعه وعلى أن يبني عليه حائطا مسمى معروفا يحمل عليه جذوع علو مسمى فهو باطل لأنه إنما يستحق بالصلح ما يجوز استحقاقه بالبيع أو الإجارة ومثل هذا لا يصير مستحقا بالبيع والإجارة لمعنى الجهالة على ما قررنا فكذلك لا يجوز أن يقع عليه الصلح وإذا اختصما في حائط وكان مخوفا فاصطلحا على أن يهدماه أو على أن يبنياه على أن لأحدهما ثلثه وللآخر ثلثيه فالنفقة عليهما على قدر ذلك وعلى أن يحملا عليه من الجذوع قدر ذلك فهو جائز لأنهما تراضيا على ما هو معلوم في نصيبه على ما يجوز أن يكون مبيعا فكذلك الصلح عليه.
ولو كان بيت في يد رجل له سطح فادعى رجل فيه دعوى فاصطلحا على أن يكون البيت لأحدهما ويكون سطحه للآخر فهذا لا يجوز إذ سطحه لا بناء عليه وبيعه لا يجوز فإنه بيع الهواء فكذلك لا يجوز الصلح عليه وقد ذكرنا قبل هذا أنه لو صالح على أن يبيت على سطح سنة فهو جائز فمن حمل ذلك الجواب على سطح محجر فهو لا يحتاج إلى الفرق بين الفصلين والفرق أن هناك المصالح عليه السطح دون المنفعة فإذا لم يكن عليه بناء فهو عبارة عن الهواء وهو لا يملك بالصلح كما لا يملك بالبيع ولو كان عليه بناء أو حجزة,(20/289)
ص -137- ... فاصطلحا على أن يكون لأحدهما علوه وللآخر سفله جاز لأن كل واحد من البيتين يجوز استحقاقه بالبيع فكذلك بالصلح عليه ولو كانت دار في يد قوم في يد كل واحد منهم ناحية منها فاختصموا في درج فيها معقود بازج سفلها وهو في يد أحدهما وظهر الدرج طريق للآخر إلى منزله فإنه يقضي بالدرج كلها لصاحب السفل لأن الظاهر شاهد له فإنها في يده غير أن لصاحب العلو طريقا عليها على حاله لأن صاحب اليد بالظاهر يدفع الاستحقاق ولا يستحق ابتداء وقد عرفنا طريق صاحب العلو على هذا الدرج فلا يكون له أن يمنعه طريقه بالظاهر كما لو كان لإنسان حائط وللآخر عليه جذوع فإن كان متصلا ببناء أحدهما اتصال وضع فاختلفا فيه فالحائط لصاحب الاتصال ولكن تترك جذوع الآخر على حالها لأنه بالظاهر لا يستحق رفع جذوع الآخر.
ولو كان روشن على رأس هذه الدرجة منهم من يقول روشني وهو على منزل صاحب السفل وهو طريق لصاحب العلو وعرف ذلك فاختصموا فيه فالروشن كله لصاحب العلو لا السفل لأنه بمنزلة سقف منزله فيكون في يده ولكن صاحب العلو المحجر عليه على حاله لما بينا أن بالظاهر لا يمنعه الممر الذي كان معروفا له ولو كان بيت سفل في يد رجل وبيت علو عليه في يد آخر فسقف السفل وهواديه وجذوعه وبواريه كله لصاحب السفل لأن صاحب السفل مستحق للبيت والبيت إنما يكون بيتا بسقف والظاهر أن الذي يبني البيت يجعله مسقفا ولصاحب العلو سكناه في ذلك كله لأنه بالظاهر لا يمنعه ما كان معلوما بالسكنى فكذلك الدرج والروشن ولو اصطلحا على أن يكون الدرج والروشن بينهما نصفين جاز ذلك قبل القضاء وبعده لتراضيهما عليه.(20/290)
ولو أن بيتا في يد رجل وفوقه بيت في يد آخر وكل واحد منهما مقر لصاحبه بما في يده فوهى البنيانان جميعا فاصطلحا على أن ينقض كل واحد بيته على مثل ما كان عليه فهو جائز لأنهما اصطلحا على ما يوافق الشرع فإن على كل واحد منهما اصلاح ملكه شرعا ويؤمر صاحب السفل بالبناء هنا لأنه هدم بناء السفل ولو هدمه بغير شرط أجبر على بنائه لحق صاحب العلو فإذا كان عن شرط فهو أولى بخلاف ما إذا سقط بناء السفل فإنه لا يجبر صاحب السفل على بنائه لأنه يلحقه فيه مؤنة لم يرض بالتزامها ولكن يبني صاحب العلو السفل ثم يبني عليه علوه ولا يسكنه صاحب السفل حتى يؤدي إليه قيمة البناء وقد بينا هذا في الدعوى وإذا كان لرجل نخلة في ملكه فخرج سعفها إلى ملك غيره فأراد الآخر قطع سعفها فله ذلك لأنه شاغل لهواء ملكه وكان له أن يطالبه بالتفريغ فهذا مثله إلا أنه إنما يتمكن من قطعه إذا كان لا يتمكن صاحب النخلة من أن يجوز إلى هواء ملكه فإن كان يتمكن من ذلك أمره به لأن مقصوده تفريغ هواء ملكه وذلك يحصل بهذا الطريق فليس له أن يلحق الضرر لصاحب النخلة في قطع سعفها فإن صالحه رب النخلة على أن يترك السعف على دراهم مسماة لم يجز لأن هذا لا يجوز استحقاقه من هواء ملك الغير بالبيع والإجارة,(20/291)
ص -138- ... فكذلك لا يجوز استحقاقه بالصلح وهذا لأنه تمليك جزء من الهواء بعوض وهو غير معلوم في نفسه إذ أن السعف يطول بمضي الوقت.
ولو إن نهرا بين قوم فاصطلحوا على كريه أو بوضع ممشاة أو قنطرة عليه على أن يكون النفقة عليهم بحصصهم فهذا جائز كله عليهم لأنهم يجبرون على ذلك لو لم يصطلحوا إذا كان فيه ضرر عام فإن رفع الضرر واجب فإذا اصطلحوا كان إلى الجواز أقرب فإن كان بحيث لا يضرهم تركها ففي القنطرة والممشاة لا يجبرون على ذلك لأنه تدبير في الملك وهو مفوض إلى رأي الملاك وإنما يجبرون على إزالة الضرر العام فما ليس فيه ضرر عام لا يجبرون عليه وأما الكري فإني أجبر عليه لأن في تركه ضررا عاما فإن للناس في النهر حق السقي فيتضررون بانقطاع ذلك عنهم ولا يصل إليهم ملك المنفعة إلا بالكري وللإمام أن يجبر الشركاء فيه على الكرى وتمام هذا في كتاب الشرب.(20/292)
ولو ادعى زرعا في أرض رجل فصالحه من ذلك الزرع على دراهم فهو جائز لأنه صلح على الإنكار وقد بينا أن المدعي بنفس الدعوى صار حقا للمدعي في جواز الاعتياض عنه ولم يعارضه المدعى عليه بإنكاره فلا يبطل عليه هذا الحق بمعارضته إياه بإنكاره لأن ذلك ليس بحجة في حق المدعي في إبطال حقه وكذلك لو ادعى نصفه وإن كان بيع نصف الزرع قبل الإفراك يجوز لأن امتناع جواز البيع لما على البائع من الضرر في التسليم وهذا لا يوجد هنا ولأن النصف الآخر من الزرع لصاحب الأرض وبيع نصف الزرع من شريكه قبل الإدراك جائز ولو كانت أرض لرجلين فيها زرع لهما فادعاه رجل فجحداه ثم صالحه أحدهما على أن أعطاه مائة درهم على أن يسلم نصف الزرع للمدعي لم يجز لأن المدعى عليه يصير مملكا نصف الزرع قبل الإدراك من غير شريكه بعوض وذلك لا يجوز ولأن نصف الزرع والأرض للذي هما في يديه فلو جوزنا هذا الصلح صار نصف الزرع للمصالح فيجبر على قلعه وتفريغ أرض الآخر منه ولا يتأتى ذلك إلا بقلع الكل وفيه من الضرر على الآخر ما لا يخفى وكذلك هذا في البيع وكذلك النخل والشجر إذا كان مشتركا بين اثنين فباع أحدهما نصيبه من غير شريكه لم يجز ذلك وقد بينا هذا في البناء في كتاب الشفعة فهو مثله في النخل والشجر.
ولو ادعى رجل سقفا في دار في يد رجل فصالحه منه على سكنى بيت من هذه الدار معلوم عشر سنين فهو جائز لأن ما وقع عليه الصلح منفعة معلومة ببيان المدة فإن أجره من الذي صالحه جاز في قول أبي يوسف رحمه الله ولم يجز في قول محمد رحمه الله وهذا بناء على الفصل المتقدم أن عند محمد رحمه الله استحقاق هذه المنفعة بالصلح كاستحقاقها بالإجارة ولهذا قال يبطل الصلح بموت أحدهما كما تبطل الإجارة ثم المستأجر إذا أجر المؤجر من الآجر لا يجوز فكذلك هنا إذا أجره من الذي صالحه لا يجوز وعند أبي يوسف رحمه الله استحقاقه هذه المنفعة باعتبار ملكه بناء على زعمه لا باعتبار العقد فكما يملك(20/293)
ص -139- ... الاعتياض عنه مع غير الذي صالحه بالإجارة منه فكذلك يملك مع الذي صالحه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله أن وارثه يخلفه بعد موته في استيفاء هذه المنفعة ولا يبطل الصلح بموت أحدهما ثم على قول محمد رحمه الله إذا استأجر الذي كان في يديه فكان عنده حتى مضي الأجل لم تجب عليه الأجرة ولكن يبطل الصلح ويعود المدعي على دعواه لفوات المعقود عليه في ضمانه.
قال ولو باع هذا السكنى بيعا من رجل لم يجز بيع السكنى وهذا فصل مشترك فإن لفظ البيع يملك به الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة فكان ينبغي أن يجوز استعارة لفظ البيع لتمليك المنفعة به مجازا كما أنه يجوز النكاح بلفظ الهبة والبيع بهذا الطريق وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن تأويل هذه المسألة فيما إذا أطلق البيع في السكنى وبين المدة وإنما يفسد لترك بيان المدة كما لو صرح بلفظ الإجارة.(20/294)
قال رحمه الله:والأصح عندي أن الجواب مطلق على ما قال في الكتاب وإنما امتنع جواز بيع السكنى لانعدام المحل لا لفساد الاستعارة فالمنفعة معدومة في الحال وإيجادها ليس في مقدور البشر والمعدوم لا يكون محلا لإضافة العقد إليه فالشرع أقام الموجود وهو الدار المنتفع بها مقام المنفعة في جواز إضافة عقد الإجارة إليها فأما لفظ البيع إن أضيف إلى الدار فهو تمليك لعينها وإن أضيف إلى المنفعة فالمعدوم لا يكون محلا لإضافة العقد إليه سواء كانت الإضافة بلفظ الإجارة أو بلفظ البيع حتى لو قال الحر لرجل بعتك نفسي شهرا بكذا لعمل فهذه إجارة صحيحة قال فكذلك لو صالحه الذي كانت الدار في يده من هذه السكنى على دراهم فهو جائز لأنه لو صالحه في الابتداء على الدراهم يجوز فكذلك إذا صالحه على سكنى معلومة ثم منها على دراهم وهذا على أصل أبي يوسف رحمه الله ظاهر لأنه لو استأجره منه بدراهم جاز فكذلك إذا صالحه ومحمد رحمه الله يقول الصلح يمكن تصحيحه بطريق إسقاط الحق فأما الإجارة فلا يمكن تصحيحها إلا بطريق التمليك وإذا كان يتملك هو عليه المنفعة بجهة المعاوضة فيملك أن يملكه منه بمثل تلك الجهة وكذلك لو صالحه من الدراهم على دنانير وقبضها فهو جائز لأن المصالح عليه إذا كان نقدا فهو كالثمن والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز لكن بشرط قبض الدنانير قبل الافتراق لأن النقد صرف ولأنه لو فارقه قبل القبض كان افتراقا عن دين بدين ولو قبض البعض ثم تفرقا جاز بمقدار ما قبض ويرجع بحصة ما بقي من الدراهم اعتبارا للبعض بالكل.(20/295)
قال والإقرار من المدعي للذي في يديه الشيء به على وجه الصلح لا يمنعه من الدعوى إذا بطل الصلح بوجه من الوجوه لما بينا أن الإقرار إن ثبت فإنما يثبت ضمنا للصلح وما يثبت ضمنا للشيء يبقى ببقائه ويبطل ببطلانه كالوصية بالمحاباة في ضمن البيع والإقرار به من الذي هو في يديه عند الصلح للمدعي يوجب رده عليه إذا بطل الصلح لأنه إقرار مقصود وكان يجب العمل به قبل تمام الصلح فكذلك بعد بطلان الصلح قال وكل(20/296)
ص -140- ... شيء وقع الصلح عليه مما لو استحق رجع بقيمته فله أن يبيعه قبل أن يقبضه بمنزلة الصداق وبدل الخلع والصلح عن دم العمد لأنه لم يبق في الملك المطلق للتصرف عذر يمكن التحرز عنه فإن ملكه لا يبطل بالهلاك ولكن يتحول إلى القيمة وكل شيء يرجع فيه على دعواه فليس له أن يبيعه قبل القبض لبقاء الغرر في الملك المطلق للتصرف كما في البيع وفي العقار الخلاف معروف في جواز البيع قبل القبض وقد بيناه في البيوع فكذلك إذا وقع الصلح عليه ولو ادعى دارا في يدي رجل حقا فصالحه من ذلك على عبدين فدفع إليه أحدهما ومات الآخر في يده فالمدعي بالخيار إن شاء رد العبد الذي قبضه وعاد في دعواه وإن شاء أمسك ورجع في حصة العبد الميت لأن الصفقة تفرقت عليه قبل القبض والتمام فإن تمام الصفقة بقبضها وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وهو كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض.
ولو كان ادعى في أرض حقا فصالحه منها على أرض أخرى بإقرار فغرقت الأرض التي وقع الصلح عليها فإن شاء المدعي رضي بها وإن شاء تركها إن كان قد نقصها الغرق لأن ما وقع عليه الصلح بمنزلة المبيع وقد تعيب قبل التسليم فإن غرقت الأرض التي كان ادعى فيها قبل أن يصل إليها المصالح ونقصها الغرق فهو بالخيار أيضا لأن الصلح على الإقرار محض معاوضة فكان المدعى عليه مشتر للمدعي به وقد تعيب قبل القبض فله الخيار وإن كان الصلح وقع على الإنكار لم يكن له فيها خيار لأن في زعم المدعي أن المدعى عليه غاصب بجحوده وأنه بالصلح كالمشتري فصار قابضا بنفس الشراء وإنما تعيب بعد ذلك.(20/297)
ولو ادعى سكنى في دار وصية من رب الدار فجحده أو أقر به ثم صالحه منه على شيء جاز وإن كان الموصى له بالسكنى لا يؤاجر لأن تصحيح الصلح بطريق إسقاط الحق بعوض ممكن والأصل فيه أن الصلح صحيح بطريق المعاوضة إن أمكن وإن تعذر ذلك تصحح بطريق الإسقاط كما لو صالح من الألف على خمسمائة وكذلك لو صالحه على سكنى دار أخرى فإنه يصح هذا الصلح بطريق الإسقاط لما تعذر تصحيحه بطريق التمليك فإن مبادلة السكنى لا تجوز ولو ادعى دارا في يد رجل فصالحه منها على دراهم مسماة أو على شيء من الحيوان على أن يزيد الآخر كر حنطة لمدة وليس عنده طعام لم يجز لأن ما يقع عليه الصلح مبيع وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز قال ألا ترى أنه لو باع عبدا بدراهم واشترط للمشتري مع العبد طعاما يعطيه إياه وليس عنده كان البيع فاسدا لهذا المعنى.
ولو ادعى في دار رجل طريقا فصالحه منها على دراهم أو على طريق في دار أخرى كان جائزا بعد أن يبين أن الطريق بمنزلة البيع ولو كان له باب في غرفة أو كوة وآذاه جاره وخاصمه فافتدى من خصومته بدراهم وصالحه عليها فالصلح باطل وله أن يترك بابه وكوته على حالهما قال لأنهما في غير ملك أحد ومعنى هذا أن الباب والكوة يكون برفع بعض الحائط والحائط خالص ملكه ولو رفعه كله لم يكن لجاره أن يمنعه من ذلك فكذلك إذا(20/298)
ص -141- ... رفع بعضه وبهذا يتبين أن الجار ظالم له مدع بالباطل وأنه أخذ منه مالا ليكف عن ظلمه وذلك حرام فلهذا لزمه رده والله أعلم بالصواب.
باب الصلح في الشفعة
قال رحمه الله: قد ذكرنا في كتاب الشفعة أن صلح الشفيع مع المشتري على ثلاثة أوجه في وجه يصح على أخذ نصف الدار بنصف الثمن وفي وجه لا يصح ولا تبطل شفعته وهو أن يصالح على أخذ بيت بعينه من الدار بحصته من الثمن لأن حصته مجهولة ولا تبطل شفعته لأنه لم يوجد منه الإعراض عن الأخذ بالشفعة بهذا الصلح وفي وجه تبطل شفعته ولا يجب المال وهو أن يصالح على أن يترك الشفعة بمال يأخذه من المشتري فهنا تبطل شفعته لوجود الإعراض منه عن الأخذ بالشفعة ولا يجب المال لأن ملك المشتري في الدار لا يتغير بهذا الصلح بل يبقى على ما كان قبل الصلح وترك الشفعة ليس بمال ولا يؤول مالا بحال فالاعتياض عنه بالمال لا يجوز بخلاف القصاص فإن نفس القاتل كانت مباحة في حق من له القصاص وبالصلح تحدث له العصمة في حقه فيجوز أن يلزمه بمقابله ولو صالح المشتري الشفيع على أن أعطاه الدار وزاده الشفيع على الثمن شيئا معلوما فهو جائز لأن تسليم الدار بالشفعة بثمن بغير قضاء يكون بيعا مبتدأ والثمن الذي وقع عليه التراضي معلوم فكأنه باعه منه مرابحة بما سميا من الثمن وإذا اختصم في الشفعة شريك وجار فاصطلحا على أن أخذاها نصفين وسلمهما المشتري جاز كما لو باعها منهما ابتداء.(20/299)
وإذا اشترى الرجل دارا فخاصمه رجل في شقص منها وطلب الشفعة فيما بقي ثم صالحه المشتري على نصف الدار بنصف الثمن على أن يبرأ من الدعوى فهو جائز بمنزلة البيع المبتدأ فإن بيع نصف الدار منه بالثمن ابتداء صحيح وشرط البراءة من الدعوى لا يبطل البيع أما إذا لم يكن مشروطا فتصحيح هذا بعقد ممكن بأن كان للمدعي جزء من هذا النصف فيكون المدعي تاركا للدعوى فيه بإقدامه على الشراء ابتداء وقابضا لذلك الشقص بحقه مشتريا لما زاد عليه بما سمي من الثمن أو مصالحا في ذلك الشقص بعوض يؤديه مشتريا فيما زاد عليه ولو ادعى في دار في يد رجل حقا أو ادعاها كلها فصالحه على دارهم فلا شفعة للشفيع فيها لأن المدعى عليه يزعم أن الدار له على قدم ملكه وزعمه فيما في يده معتبر فكما لا يتمكن المدعي من أخذ ما في يده باعتبار زعمه فكذلك الشفيع وقد بينا أن بإقدامه على الصلح لا يصير مقرى للمدعي بالدار وإنما التزم البدل فداء ليمينه.
وإن خاصمه في الشفعة فسلم له نصف الدار بنصف الثمن الذي صالح عليها المدعي جاز كما لو باعه منه ابتداء ولو اشترى أرضا فسلم الشفيع الشفعة ثم جحد التسليم وخاصمه فصالحه على أن أعطاه نصف الدار بنصف الثمن جاز وهذا والبيع المبتدأ منه سواء وكذلك لو مات الشفيع ثم صالح الورثة المشتري على نصف الدار بنصف الثمن جاز كالبيع المبتدأ وإذا ادعى الرجل شفعة في دار فصالحه المشتري على أن يسلم له دارا أخرى(20/300)
ص -142- ... بدراهم مسماة على أن يسلم له الشفعة فهذا فاسد لا يجوز لأنه بائع الدار الأخرى منه وقد شرط فيه تسليم الشفعة وهو شرط ينتفع به أحد المتعاقدين فإذا شرط في البيع فسد العقد كما لو باعه عبدا بألف درهم على أن يسلم له الشفعة ولو ادعى شفعة في عبد فصالحه المشتري على أن يسلم نصف العبد بنصف الثمن وهو معلوم عندهما جاز لأنه بيع مبتدأ والبيع ينعقد بلفظ التسليم وبفعل التسليم وإن لم يكن هناك لفظ كما هو مذهبنا في انعقاد البيع صحيحا بالتعاطي والله أعلم بالصواب.
باب الصلح الفاسد
قال رحمه الله:وإذا ادعى الرجل في دار حقا فصالحه ذو اليد على عبد إلى أجل فالصلح فاسد لأن تصحيح الصلح على الإنكار بطريق البناء على زعم المدعي وفي زعمه أنه يتملك العبد بغير عينه بعوض هو مال وذلك فاسد فإن قيل الحيوان يثبت دينا في الذمة في العقود المبنية على التوسع في البدل كالنكاح والخلع والصلح على الإنكار بهذه الصفة قلنا لا كذلك ولكن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال وإنما يثبت بدلا عما ليس بمال ألا ترى أن الغرة وجبت شرعا في جنين الحرة دون جنين الأمة وهذا لأن مقابلة ما ليس بمال بمال لا يثبت ثبوتا صحيحا بل يردد بين الحيوان والقيمة وبمقابلة ما هو مال لا يمكن إثباته بهذه الصفة ثم الصلح على الإنكار في المصالح عليه غير مبني على التوسع ألا ترى أنه لا يثبت في الذمة مع جهالة الصفة وأنه يرد بالعيب اليسير والفاحش فكذلك لا يثبت الحيوان فيه دينا فإن كان صالحه من حقه فقد أقر له بالحق ولكن لم يبين مقداره فالقول فيه قول المدعى عليه بعد أن يقر بشيء لإنكاره الزيادة بمنزلة ما لو قال لفلان علي حق.(20/301)
وإن كان صالحه من دعواه لم يكن ذلك إقرارا لأن الدعوى قد تكون حقا وقد تكون باطلا ألا ترى أنه لو قال لفلان علي دعوى لا يصير مقرى له بشيء بهذا اللفظ بخلاف قوله لفلان علي حق فكذلك لو صالحه على دراهم مسماة إلى الحصاد وما أشبهه لأن الصلح فيما يقع عليه الصلح كالبيع واشتراط هذه الآجال المجهولة مفسد للبيع ولو ادعى رجل في عبد رجل دعوى فصالحه على غلته شهرا فهذا فاسد بخلاف ما إذا صالحه على خدمته شهرا لأن الخدمة معلومة ببيان المدة وهي مقدورة التسليم لصاحب العبد فأما الغلة فمجهولة المقدار في نفسها غير مقدورة التسليم لصاحب العبد لأنه ما لم يؤاجره من غيره لا تحصل الغلة له وذلك لا يتم به وحده وبعد ما أجره لا تجب الغلة إلا بسلامة العبد في الشهر ولعله يمرض أو يموت فلهذا بطل الصلح وكذلك الصلح على غلة الدار وثمرة النخل فاسد لأنه مجهول وهو على خطر الوجود بخلاف الوصية فإنها أخت الميراث فمثل هذه الجهالة لا تمنع صحتها أما الصلح فهو بمنزلة البيع والإجارة فيما يقع الصلح عليه ومثل هذه الجهالة تمنع الاستحقاق بالبيع والإجارة وعلى هذا لو صالح من دعواه على شرب يوم من هذا النهر في الشهر من غير أن يكون له حق في رقبته فإنه لا يجوز والوصية بمثله تجوز لما قلنا.(20/302)
ص -143- ... ولو ادعى قبل رجل ألف درهم دينا فصالحه منها على عشرة دنانير إلى أجل لم يجز مقرا كان أو جاحدا أما إذا كان مقرا فلأن هذا صرف بالنسيئة وكذلك لو صالحه منها على طعام موصوف مؤجل أو غير مؤجل وفارقه قبل القبض فهو باطل لأنه دين بدين والدين بعد المجلس حرام لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ وكذلك لو صالحه من غيره فهو في هذا المعنى وصلح المدعى عليه سواء ولو ادعى عليه ألف درهم سودا فصالحه منها بعد الإنكار على ألف درهم بخية إلى سنة لم يجز لأن البخية لها فضل فالبخية الجياد التي هي نقد بيت المال سميت بذلك لأنه يقال لمن يتملكها بخ بخ ثم جعل هذا الفضل عوضا عن الأجل ومعاوضة المال بالأجل لا يجوز وفي نظيره نزل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً}[سورة آل عمران,آية:130] ولو ادعى عليه بخية فصالحه على سود مثلها أو أقل حالا أو مؤجلا فهو جائز لأن صاحب الحق هو المحسن إليه من كل وجه حيث أبرأه عن فضل الجودة ولو أبرأه عن بعض المقدار وأجله فيما بقي جاز أيضا وإذا كان الإحسان كله من جهته لا يتحقق معنى المعاوضة بينهما ولو باع عبدا بألف درهم سود ثم صالحه على ألف ومائة نبهرجة أو زيوف حالة أو إلى أجل كان ذلك باطلا لأن ما شرط من زيادة القدر عوض عن الأجل أو عن صفة الجودة فإن الزيوف دون السود في الجودة ومثل هذه المعاوضة ربا شرعا وكذلك لو صالحه منها على شيء مما يكال أو يوزن بغير عينه لم يجز لأن المكيل والموزون إذا قابلته الدراهم يكون مبيعا وهو بيع ما ليس عند الإنسان وذلك باطل قبض في المجلس أو لم يقبض ولا يمكن تصحيحه سلما وإن ذكر شرائط السلم لأن رأس المال دين وعقد السلم برأس مال هو دين لا يجوز.(20/303)
ولو كان لرجل قبل رجل ألف درهم غلة فصالحه منها على خمسمائة بخية نقدا ونقدها إياه فهو جائز في قول أبي يوسف رحمه الله الأول باعتبار أنه يجعل كل واحد منهما محسنا إلى صاحبه بطريق الإسقاط فصاحب الحق أبرأه عن خمسمائة والمديون أعطى ما بقي أجود مما عليه وهذا منه إحسان في قضاء الدين وذلك مندوب إليه وإذا كان المقصود بالصلح قطع المنازعة فإذا أمكن تصحيحه لا يجوز إبطاله وهنا تصحيحه بطريق ممكن فلا يحل على المعاوضة وإن تفرقا قبل أن يقبض فله خمسمائة من غلة الكوفة لأنه أبرأه عما بقي وإنما تبقى الخمسمائة في ذمته بالصفة التي كانت قبل الإبراء والمجازاة على الإحسان مطلوبة بطريق ولكن غير مستحق دينا ثم رجع فقال الصلح باطل وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنهما صرحا بالمعاوضة فإنه أبرأه عن الخمسمائة بشرط أن يسلم له بصفة الجودة فيما بقي ومعاوضة الدراهم بالجودة لا يجوز ومع التصريح بالمعاوضة لا يمكن حمله على البراءة المبتدأة كما إذا باع درهما بدرهمين لا يجعل أحد الدرهمين هبة ليحصل مقصودهما.
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم على أن يبيعه بها(20/304)
ص -144- ... هذا الثوب أو على أن يؤاجره بها هذه الدار أو صالحه منها على عبد بعينه على أن يشتريه منه فهذا فاسد لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة وقد بينا أن الصلح في معنى البيع واشتراط بيع أو إجارة في البيع يكون مفسدا له وكذلك لو صالحه منها على دار وشرط أن يسكنها الذي عليه الدين سنة أو على عبد وشرط خدمته سنة فهو فاسد لأنه شرط الأجل في تسليم العين أو شرط أحد المتعاقدين منفعة لنفسه من ملك صاحبه وذلك مفسد للبيع والإجارة فكذلك يفسد الصلح.(20/305)
ولو ادعى رجل في غنم رجل دعوى فصالحه منها على صوفها الذي على ظهرها أن يجزه من ساعته فهو جائز في قول أبي يوسف رحمه الله ولا يجوز في قول محمد رحمه الله لأن المصالح عليه إذا كان معينا فهو كالمبيع وبيع الصوف على ظهر الغنم باطل فكذلك الصلح ألا ترى أنه لو صالحه على صوف على ظهر شاة أخرى بعينها لم يجز لهذا المعنى وأبو يوسف رحمه الله يقول تصحيح هذا الصلح باعتبار زعم المدعي ممكن لأنه يزعم أن الصوف والشاة ملكه وأنه يترك للمدعي عليه بعض ملكه ويبقى في الصوف لا أن تملكه ابتداء وذلك جائز وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وأن من أصل أبي يوسف رحمه الله أنه إذا أمكن تصحيح الصلح بوجه ما يجب تصحيحه لقطع المنازعة بخلاف ما إذا صالحه على صوف على ظهر شاة أخرى ولو صالحه على ألبانها التي في ضروعها أو على ما في بطونها من الولد فهو باطل أما عند محمد رحمه الله فلأن هذا بمنزلة البيع وأما عند أبي يوسف رحمه الله فلأنه إنما يمكن تصحيح هذا الصلح بطريق إبقاء ملكه في بعض العين واللبن في الضرع والولد في البطن ليس بعين مال متقوم ووجوده على خطر فربما يكون انتفاخ البطن والضرع بالريح بخلاف الصوف على ظهر الغنم فهو مال متعين متقوم مملوك فتصحيح الصلح بطريق إبقاء الملك فيه ممكن ولو ادعى في أجمة في يدي رجل حقا فصالحه على أن يسلم صيدها للمدعي سنة فهذا فاسد لأنه مجهول ووجوده على خطر.(20/306)
وكذلك لو صالحه على ما فيها من الصيد إذا كان ذلك لا يوجد إلا بصيد وإن كان محظورا لأنه غير مملوك لأحد وبيعه لا يجوز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ضرية القانص ونهى عمر وبن مسعود رضي الله عنهما عن بيع السمك في الماء وإذا كان الصيد محظورا وهو يؤخذ بغير صيد كان الصلح جائزا وله الخيار إذا رآه بمنزلة البيع وقيل تأويله إذا أخذتم السمك في الماء أو دخل الأجمة مع الماء ثم منع من الخروج بسد فوهة الأجمة فيكون ذلك بمنزلة الأخذ الموجب للملك ولكنه غير مرئي فأما إذا دخل الأجمة مع الماء ولم يسد فوهة الأجمة فلا يجوز بيعه لأنه لم يصر مملوكا لصاحب الأجمة بالدخول في أجمته ما لم يأخذه.
ولو ادعى في عبد دعوى فصالحه من ذلك على مخاتيم دقيق معلومة من دقيق هذه الحنطة أو على أرطال من لحم شاة حية لم يجز لأنه لا يجوز بيع شيء من ذلك إما لأنه معدوم في الحال أو لأنه يحتاج في تسليمه إلى بضع البنية وذلك مانع من جواز العقد.(20/307)
ص -145- ... وكذلك لو صالحه على عبد آبق فإن الآبق لا يجوز بيعه لأن ماليته تاوية بالإباق وهو غير مقدور التسليم فكذلك الصلح عليه ولو ادعى قبل رجل مائة درهم وكر حنطة سلما فصالحه من ذلك على عشرين دينارا لم يجز إذا كان رأس المال دراهم لأن في حصة الحنطة هنا استبدال بالمسلم فيه فيبطل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تأخذ إلا سلمك" أو رأس مالك والعقد صفقة واحدة فإذا بطل بعضه بطل كله عند أبي حنيفة رحمه الله ظاهر وأما عندهما فالصلح كذلك وقد بيناه في الكتاب وهذا لأن مبني الصلح على الحط والإغماض والتجوز بدون الحق وربما يكون ذلك في البعض دون البعض فبعد ما بطل في البعض لا يمكن تصحيحه فيما بقي وإن كان رأس المال خمسة دنانير فصالحه منها على عشرين دينارا خمسة منها رأس مال السلم جاز لأن في حق السلم هذا صلح على رأس المال وما وراء ذلك بمقابلة المائة وهو صرف مقبوض في المجلس فيكون جائزا وذكر عن أبي إسحاق الشيباني رحمه الله قال سألت عبد الله بن مغفل
وفي رواية معقل عن رجل كان لي عليه عشرة أكرار حنطة فاشتريت بها منه أرضا فقال لي خذ رأس مالك وإنما أورد هذا لبيان أن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز ثم عندنا يبقى عليه طعام السلم بحاله آن الشراء والصلح إذا بطل صار كالمعدوم وكأنه ذهب إلى أنهما قصدا إسقاط طعام المسلم إلى عوض فيعتبر قصدهما بحسب الإمكان ورد رأس المال متعين لذلك ولكن ما ذكرنا أقوى.(20/308)
وعن طاوس رحمه الله قال أسلم رجل إلى رجل في حلل دق فأراد أن يعطيه حلل جل كل حلتين بحلة فسأله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فكرهه وبه نأخذ فإن هذا استبدال بالمسلم فيه لأن الثياب من أنواع مختلفة وأجناس مختلفة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما في بطون الأنعام وعن بيع ما في ضروعها إلا مكيلا يعني إلا مكيلا بعد الحلب وعن بيع العبد الآبق وعن بيع ضرية القانص وعن بيع الصدقة حتى تقبض وعن بيع المغنم حتى يقسم وبذلك كله نأخذ فإن بيع نصيبه قبل القسمة باطل لأنه بيع قبل الملك وكذلك بيع الصدقة قبل القبض وبيع ضرية القانص وبيع العبد الآبق باطل للعجز عن التسليم وبيع ما في بطون الأنعام وما في ضروعها باطل للغرر والجهالة وعن محمد بن زيد قال سألت بن عمر رضي الله عنهما فقلت إني أسلمت إلى رجل ألف درهم وقال إن أعطيتني برا فبكذا وإن أعطيتني شعيرا فبكذا فقال سم في كل نوع وزنا فإن أعطاك فذاك وإلا فخذ رأس مالك وبه نقول إذ مثل هذه الجهالة والتردد يمنع صحة السلم وإنه لا يأخذ بطريق الصلح إلا سلمه أو رأس ماله.
وعن بن عباس رضي الله عنهما أنه نهى عن بيع اللبن في الضرع والحمل في البطن وإن صالحه عن سلمه على رأس ماله ثم صالحه من رأس المال على شيء آخر يدا بيد لم يجز ذلك لأن حال رب السلم مع المسلم إليه بعد الإقالة كحال المسلم إليه مع رب السلم قبل قبض رأس المال وكما أن الاستبدال برأس المال قبل القبض لا يجوز فكذلك بعد(20/309)
ص -146- ... الإقالة قبل الرد إلا أنهما يفترقان من حيث أن قبض رأس المال واجب في المجلس وبعد الإقالة لا يجب قبض رأس المال في المجلس وكان ذلك بمعنى الدينية فإن الدين بالدين حرام أو لمقتضى لفظ السلم فهو أخذ عاجل بآجل وذلك غير موجود في الإقالة وليس من ضرورة كونه غير مستحق القبض في المجلس جواز الاستبدال به كالمسلم فيه وعن زفر رحمه الله الاستبدال بعد الإقالة جائز لأنه دين سبب وجوبه القبض فيجوز الاستبدال به كبدل القرض والغصب وهذا هو القياس ولكنا تركناه لما بينا ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" فلو جوزنا الاستبدال برأس المال بعد الإقالة كان آخذا غير سلمه وغير رأس ماله وذلك ممتنع شرعا.
ولو أسلم رجل إلى رجل دراهم في شيء سلما فاسدا وتفرقا كان له أن يأخذ بدراهمه ما بدا له يدا بيد لأنه دين سبب وجوبه القبض وعقد السلم كان باطلا في الأصل وإنما يلزمه رد المقبوض باعتبار القبض والاستبدال ببدل القرض فإن جعله في شيء من الوزن إلى أجل مسمى فهو فاسد لأنه دين بدين فالمقبوض صار مملوكا له مع فساد العقد بالقبض ومثله صار دينا في ذمته فالسلم يضاف إلى ذلك الدين.(20/310)
ولو ادعى عبدا في يد رجل ثم صالحه منه على دراهم أو دنانير مؤجلة والعبد قائم أو هالك فهو جائز لأنه إن كان قائما بعينه فهو بيع العبد بثمن مؤجل في زعم المدعي وإن كان هالكا فالواجب هو القيمة والقيمة دراهم أو دنانير فهذا تأجيل في بدل المغصوب وذلك جائز وقد بيناه في الصرف وإن صالحه على طعام مؤجل جاز إن كان العبد قائما بعينه لأن الطعام متى كان دينا بمقابلة العبد يكون ثمنا ولم يجز إن كان هالكا أما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فظاهر لأن الواجب هو القيمة فيكون بائعا ما ليس عنده لأن الطعام إذا قوبل بالدراهم والدنانير يكون مبيعا وعند أبي حنيفة رحمه الله ما يقع الصلح عليه يكون بدلا عن العبد على ما بيناه في الصلح عن المغصوب الهالك على أكثر من قيمته أنه جائز عنده ولكن العبد الهالك في معنى الدين لأن ما لا يمكن الوقوف على عينه فهو دين فيكون ذلك دينا بدين فلهذا كان فاسدا ولو لم يكن فيه أجل جاز إن كان بعينه أو بغير عينه فدفعه إليه قبل أن يتفرقا عن عين بدين وذلك جائز وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله فإنه لو كان ما يقع عليه الصلح بدلا عن القيمة لم يجز وإن قبض في المجلس إذا كان دينا عند العقد لأنه بيع ما ليس عند الإنسان وإن فارقه قبل أن يقبضه ولم يكن بعينه والعبد هالك بطل لأنهما افترقا عن دين بدين وكذلك إن صالحه على ثياب مؤجلة والعبد هالك لم يجز لأنه دين بدين وهو فاسد شرعا والله أعلم بالصواب.
باب المهايأة
قال رحمه الله: اعلم بأن القياس يأبى جواز المهايأة لأنها مبادلة المنفعة بجنسها وكل واحد من الشريكين في نوبته ينتفع بملك شريكه عوضا عن انتفاع الشريك بملكه في نوبته.(20/311)
ص -147- ... ولكن تركنا القياس وجوزناه للكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[سورة الشعراء, آية:155] وهذا هو المهايأة وأما السنة فما روي أن الرجل الذي خطب تلك المرأة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوات الله عليه: "ماذا تصدقها" قال نصف إزاري هذا قال صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء" وهذا تفسير المهايأة ولأن المنافع يجوز استحقاقها بالعقد بعوض وبغير عوض كالأعيان ثم القسمة في الأعيان المشتركة عند إمكان التعديل جائزة فكذلك في المنافع المشتركة ولهذا يجبر القاضي الشركاء على المهايأة إذا طلب ذلك بعضهم وأبى البعض والذي أبى لم يطلب قسمة العين والأصل أن اختصاص العقد باسم لاختصاصه بحكم يدل عليه معنى ذلك الاسم فقسمة المنافع لما اختصت باسم المهايأة فذلك دليل على اختصاصها بمعنى يدل عليه هذا الاسم وهو أن وصول نصيب أحدهما إليه يسبق وصول نصيب الآخر إليه بخلاف قسمة العين.(20/312)
وهذا العقد ليس كالإجارة في جميع الأحكام لأن في الإجارة يستحق منفعة العين بالعقد وهنا ما يستوفيه كل واحد منهما بل يجعل في الحكم كأنه منفعة ملكه على ما هو موضوع القسمة من العين وكون معنى المعاوضات فيه بيعا وليس في عين الجارية أيضا لهذا المعنى ولأن العارية لا يتعلق بها الاستحقاق ويتعلق بالمهايأة فمن هذا الوجه تشبه الإجارة ولكن الاستحقاق في المهايأة دون الاستحقاق في الإجارة على معنى أن هناك لا ينفرد أحدهما بالفسخ بغير عذر وهنا يملك أحد الشريكين فسخ المهايأة بطلب القسمة لأن الأصل فيما هو المقصود وهو تمييز الملك قسمة العين والمهايأة خلو عنه ألا ترى أن في الابتداء لو طلب أحدهما قسمة العين لم يشتغل القاضي بينهما بالمهايأة فكذلك في الانتهاء إذا طلب ما هو الأصل وهو قسمة العين لا تستدام المهايأة بينهما ثم العارية والإجارة تبطل بموت أحدهما وقسمة الشركة تبطل بموت أحدهما عند محمد وعند أبي يوسف رحمه الله لا تبطل والمهايأة لا تبطل بموت أحد الشريكين لأنا لو أبطلناها احتجنا إلى إعادتها فالشريك الحي أو وارث الميت طالب لذلك ولا فائدة في نقض شيء يحتاج إلى إعادته في الحال ثم المهايأة قد تكون بالمكان وقد تكون بالزمان فصورة المهايأة بالمكان فيما بدئ الباب به.(20/313)
قال دار بين رجلين تهايآ فيها على أن يسكن كل واحد منهما منزلا معلوما وأن يؤاجر كل حصة منزله فهو جائز ولا حاجة إلى بيان المدة في صحة هذا العقد لأن المهايأة قسمة المنفعة المشتركة وفي قسمة العين لا حاجة إلى بيان المدة فكذلك في قسمة المنفعة المشتركة ولأن الحاجة إلى بيان المدة في الإجارة لمعرفة مقدار ما يستحق من المنفعة من تلك العين على وجه به تنقطع المنازعة وكل واحد منهما هنا يستوفي المنفعة باعتبار أنه ملكه والمنازعة تنقطع ببيان منزل لكل منهما ثم إن كانا شرطا في المهايأة أن يؤاجر كل واحد منهما منزله فذلك جائز وإن لم يشترطا ففي ظاهر المذهب لكل واحد منهما أن يفعل ذلك في نصيبه وما يستوفي من الغلة حلال له وكان أبو علي الشاشي رحمه الله يقول ليس(20/314)
ص -148- ... لكل واحد منهما إلا ما شرط لأن كل واحد منهما منتفع بنصيب صاحبه حقيقة فالمنزل الذي في يده مشترك بينهما وليس ذلك بحكم المعاوضة بينهما لأن معاوضة المنفعة بجنسها لا يجوز فعرفنا أن ذلك بطريق الإباحة والإعارة والمستعير لا يؤاجر بمطلق العقد.
ووجه ظاهر الرواية أن المهايأة قسمة المنفعة فما يصيب كل واحد منهما من المنفعة يجعل مستحقا له باعتبار قديم ملكه لأن المنفعة جنس واحد لا يتفاوت بمنزلة القسمة في المكيل والموزون وهو يملك الاعتياض عن المنفعة المملوكة له لا من جهة غيره سواء شرط ذلك أو لم يشترط وليس لأحدهما أن يحدث في منزله بناء ولا ينقضه ولا يفتح بابا في حائط ولا كوة إلا برضا صاحبه لأن العين تبقى مشتركة بينهما كما كانت قبل المهايأة وأحد الشريكين لا يستبد بشيء من هذه التصرفات في الملك المشترك ما لم يرض به صاحبه وبالمهايأة إنما تثبت القسمة في المنفعة ففيما ليس من المنفعة حالهما بعد المهايأة كما قبلها وكذلك لو تهايآ على أن يكون السفل في يد أحدهما والعلو في يد الآخر لأن كل واحد منهما مسكن بمنزلة المنزلين في علو أو سفل وكذلك التهايؤ في الدارين على السكنى والغلة جائز وكان الكرخي رحمه الله يقول المراد إذا تراضيا عليه فأما عند طلب بعض الشركاء فالقاضي لا يجبر على ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة القسمة للعين وقد بينا في كتاب القسمة أن قسمة الجبر لا تجري في الدور عند أبي حنيفة رحمه الله بهذه الصفة فكذلك التهايؤ والأظهر أن القاضي يجبر عليه عند طلب بعض الشركاء لأن القسمة في المهايأة تلاقي المنفعة دون العين ومنفعة السكنى تتقارب ولا تتفاوت إلا يسيرا بخلاف قسمة العين فالمعادلة في المالية هناك معتبرة والدور تختلف في المالية باختلاف المكان والجيران ولهذا كان لكل واحد منهما أن يؤاجر ما في يده ويأكل غلته لأن المنفعة سالمة له بهذه القسمة باعتبار قديم ملكه ألا ترى أن في الدارين إذا غلت ما(20/315)
في يد أحدهما أكثر مما غلت ما في يد الآخر فليس لواحد منهما أن يرجع على صاحبه بشيء بخلاف الدار الواحدة فهناك إذا تهايآ فيها على الاستغلال فكانت غلة نصيب أحدهما في نوبته أكثر فذلك الفضل بينهما لأن في الدارين معنى القسمة والتميز بالتراجع على معنى أن كل واحد منهما يصل إلى المنفعة والغلة في الوقت الذي يصل إليه صاحبه فما يستوفيه كل واحد منهما عوض عن قديم ملكه يستوجبه بعقده فيسلم له وفي الدار الواحدة كل واحد منهما بمنزلة الوكيل من صاحبه في إجارة نصيبه في نوبته إذا تهايئا على الاستغلال فإنما يكون ذلك بالزمان وأحدهما يصل إلى الغلة قبل وصول الآخر إليها وذلك لا يكون قضية القسمة فلا بد أن يجعل كل واحد منهما بمنزلة وكيل عن صاحبه وما يقبضه كل واحد منهما عوض عما يقبض صاحبه من عوض نصيبه فعند التفاضل يثبت التراجع فيما بينهما ليستويا.
ويوضح هذا أن الفرق على ما ذهب إليه الكرخي رحمه الله أن في المهايأة في الدارين يعتمد التراضي عند أبي حنيفة رحمه الله ظاهر وعندهما قسمة الجبر في الدارين عند أبي حنيفة(20/316)
ص -149- ... رحمه الله لا تجري إلا إذا رأى القاضي المصلحة فيه وعند التراضي يسلم لكل واحد منهما ما رضي به صاحبه وفي الدار الواحدة لا يعتبر التراضي في المهايأة فلا بد من اعتبار المعادلة فيما هو المقصود بالمهايأة فلهذا يتراجعان فضل الغلة والمهايأة في النخل والشجر على كل الغلة باطل لأن غلة النخل والشجر لا يجوز استحقاقها بعقد الإجارة فلا تستحق بالمهايأة أيضا وهذا لأنها عين تبقى بعد حدوث ويتأتى فيها قسمة العين وإنما جواز المهايأة فيما لا يتأتى فيها القسمة بعد الوجود حقيقة أو ما يكون عوضا منه كغلة الدار ونحوها ولهذا لا تجوز المهايأة في الغنم على الأولاد والألبان والأصواف لأنها عين تحتمل القسمة بعد الوجود حقيقة.(20/317)
ولو ادعى في دار حقا فتهايآ على أن ينزل بيتا منها من غير صلح على أن يكف عن الخصومة حتى يبدو له أن يخاصم على أنه لا يستحق من سكنى البيت شيئا ولا يلزمه بخروجه حق فذلك جائز لأن ذا اليد أعاره البيت والآخر ترك الخصومة زمانا ومثل هذا يجوز بالتراضي فيه ولا يتعلق به اللزوم وكل واحد منهما على حجته إذا بدا له والتهايؤ على الخدمة في العبد الواحد تجوز على الزمان هذا شهر وهذا شهر لأن اعتبار المعادلة في قسمة الخدمة بالزمان ممكن وذلك في العبدين إذا تهايآ على أن يخدم هذا العبد أحدهما والعبد الآخر الآخر فذلك جائز أما عندهما فلأن قسمة الجبر في الرقيق تجري فكذلك في خدمة الرقيق وأما عند أبي حنيفة رحمه الله في الرقيق لا تجري قسمة الجبر لأن اعتبار المعادلة في المالية غير ممكن فإنها تختلف بمعان باطنة لا يوقف على حدها وذلك لا يوجد في الخدمة والمهايأة في خدمة العبدين والمهايأة في خدمة العبد الواحد سواء ولو تهايآ على الغلة في العبدين لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وفي العبد الواحد لا تجوز المهايأة في الغلة بالاتفاق فهما يقولان معنى القسمة والتمييز يترجح في غلة العبدين لأن كل واحد منهما يصل إلى نصيبه في الوقت الذي يصل إلى صاحبه فيجوز ذلك كما في المهايأة في الخدمة وفي غلة الدارين فأما في العبد الواحد فمعنى المعاوضة يغلب لأنه يصل أحدهما إلى الغلة قبل أن يصل الآخر إليه وفيه معنى الخطر وربما يمرض العبد في نوبة أحدهما فيعجز عن الخدمة وربما يمتنع من الخدمة بدعوى الحرية ومعنى الخطر في المعاوضة مبطل له وبه فارق غلة الدار الواحدة لأن باعتبار العادة هناك الغلة تسلم لكل واحد منهما في نوبته والغالب هو السلامة.(20/318)
توضيحه أن المهايأة في الغلة من وجه كالمهايأة في الخدمة لأن الغلة بدل المنفعة ومن وجه كالمهايأة في غلة النخل لأن ما يسلم لكل واحد منهما به عين فلشبهه بالمهايأة في الخدمة جوزنا ذلك في العبدين لترجح معنى القسمة فيها ولشبهه بالمهايأة في غلة النخل أبطلنا ذلك في العبد الواحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقصود بهذه المهايأة سلامة سبب ملك الحيوان فلا يجوز كالمهايأة في غلة العبد الواحد وكالمهايأة في أولاد الغنم وألبانها وهذا لأن التهايؤ على الاستقلال لو كان يجوز في الرقيق لكان جوازه في العبد الواحد أولى,(20/319)
ص -150- ... لأن معنى المعادلة والتمييز فيه أظهر منه في العبدين فإذا لم يجز ذلك في العبد الواحد فأولى أن لا يجوز في العبدين وهذا لأن الآدمي في يد نفسه وربما لا ينقاد في الاستعمال وكل واحد منهما لا يتمكن من تحصيل ما هو المقصود بنفسه في نوبته أو فيما في يده من العبد.
وقيل هذه المسألة تنبني على اختلافهم في قسمة الرقيق فالمقصود لكل واحد منهما المالية هنا فأبو حنيفة رحمه الله لا يرى قسمة الجبر في الرقيق وهما يريان قسمة الجبر في الرقيق فكذلك في غلة الرقيق ولهذا لا تجوز المهايأة في غلة العبد الواحد عندهم جميعا لأن القسمة لا تجري فيه بخلاف المهايأة للخدمة فالمقصود هناك المنفعة دون المالية فجاز ذلك في العبد الواحد والعبدين.
وإذا كانت جارية بين رجلين فخاف كل واحد منهما صاحبه عليها فقال أحدهما تكون عندك يوما وعندي يوما وقال الآخر بل نضعها على يدي عدل فإني أجعلها عند كل واحد يوما ولا أضعها على يدي عدل إلا بتراضيهما لأن اليد مستحقة لكل واحد منهما كالملك فكما لا يجوز إبطال ملك العين عليهما بطلب أحدهما فكذلك إبطال ملك اليد وفي التعديل إبطال اليد على كل واحد منهما ولأن ما يخاف كل واحد منهما موهوم والموهوم لا يعارض المتحقق وباعتبار الملك المتحقق لكل واحد منهما يستحق العبد في نوبته فلا يجوز إبطاله عن يد ما هو موهوم فإن تنازعا فيمن يبدأ به في هذه المهايأة فالرأي في ذلك إلى القاضي يبدأ بأيهما شاء كما في القسمة والمهايأة في الخدمة والسكنى للقاضي أن يبدأ بأيهما شاء على وجه النظر دون الميل والأولى أن يقرع بينهما نفيا لتهمة الميل عن نفسه وقد بينا أن فيما للقاضي أن يفعله بغير إقراع يستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه التهايؤ على الركوب أو الغلة في الدابتين لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله فيما يعلمه أبو يوسف رحمه الله.(20/320)
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز في الغلة كالركوب جميعا أما في الغلة فهو بناء على التهايؤ في غلة العبدين وقد بينا ذلك وإنما صحت الراوية هنا عن أبي حنيفة رحمه الله فقال فيما يعلم أبو يوسف رحمه الله لأن الدابتين في القسمة ليستا كالعبدين عند أبي حنيفة رحمه الله فقسمة الجبر في الدابتين تجوز ولا تجوز في العبدين ولكن لما كان المقصود أن ما يملكه كل واحد منهما بسبب ملك الحيوان يشبه هذا التهايؤ في الغنم على الأولاد والألبان فكذلك لا يجوزه أبو حنيفة رحمه الله وأما الكلام في المهايأة في ركوب الدابتين فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقولان منفعة الركوب في الدواب كمنفعة الخدمة في العبيد والسكنى في الدار ألا ترى أن استحقاق ذلك بالإجارة يجوز وكذلك استيفاؤه بالإعارة فكما لا تجوز المهايأة في خدمة العبدين فكذلك في ركوب الدابتين وأبو حنيفة رحمه الله يقول جواز المهايأة في خدمة العبدين باعتبار معنى المعادلة والتمييز وذلك في ركوب الدابتين غير ممكن فالناس يتفاوتون في ركوب الدابة فرب راكب يروض الدابة(20/321)
ص -151- ... ويثقلها الآخر ولهذا لو استأجر دابة أو استعارها ليركبها هو لم يكن له أن يركب غيره وبهذا الطريق يتعذر اعتبار معنى المعادلة بين الشريكين في الانتفاع بالدابتين ركوبا بخلاف الخدمة والسكنى وذلك لا يختلف باختلاف المستوفي.
ألا ترى أن من استأجر عبدا للخدمة كان له أن يؤاجره من غيره وإذا ثبت بهذا الطريق أن التهايؤ على الدابتين في الركوب لا يجوز ثبت في الغلة بالطريق الأولى لأن استقلال الدواب بالإجارة ممن يركبها وذلك غير معلوم عند المهايأة والضرر على كل دابة يختلف باختلاف من يركبها فلهذا لا يجوز وعلى هذا الخلاف التهايؤ في ركوب دابة واحدة لأنهما لا يجوز أن التهايؤ في غلة دابة واحدة كما لا يجوز أن في غلة عبد واحد والتهايؤ في الغنم على الألبان والأولاد لا يجوز لأن ذلك يزيد وينقص ووجود أصله على خطر وكل واحد منهما لا يتمكن من تحصيل ما هو المقصود لنفسه فيما في يده والتهايؤ في دار وعبد على السكنى والخدمة جائز لأن ما هو المقصود لكل واحد منهما يجوز استحقاقه بالمهايأة عند اتحاد الجنس فعند اختلاف الجنس أولى وعلى الغلة باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو جائز في قولهما لأن عند أبي حنيفة رحمه الله غلة العبد لا تستحق بالتهايؤ واعتبار هذا الجانب يبطل العقد واعتبار جانب غلة الدار يصححه ويتمكن المفسد من أحد الجانبين بفساد العقد.(20/322)
كما لو باع دارا بألف درهم ورطل من خمر ولو تهايئا في أرض على أن يزرع كل واحد منهما طائفة منها معلومة ويؤاجرها جاز بمنزلة السكنى في الدار ولهما أن يبطلا المهايأة ويقتسما إذا بدالهما أو لأحدهما لما بينا أن قسمة العين هو الأصل في الباب وتمام التمييز به يحصل وورثتهما في ذلك بمنزلتهما لقيام الوارث مقام المورث فيما هو من حقه وكذلك المهايأة في دار وأرض على أن يسكن هذا الدار ويزرع هذا الأرض وكذلك المهايأة في دار وحمام لأن كل واحدة من المنفعتين يجوز استحقاقها بالمهايأة ولو كانت المهايأة في منزل واحد على أن يسكن أحدهما سفله والآخر علوه فانهدم العلو كان لصاحبه أن يسكن مع صاحب السفل لأنه إنما رضي بسقوط حقه عن سكنى السفل بشرط سلامة سكنى العلو له ولم يسلم له حين انهدم فكان هو على حقه في سكنى السفل باعتبار ملك نصيبه وورثته في ذلك بمنزلته
وإن كانا تهايئا على الخدمة في عبد أو أمة أو في عبد وأمة على أن تخدم الأمة أحدهما والعبد الآخر واشترطا على كل واحد منهما طعام خادمه ففي القياس هذا لا يجوز لأن مقدار ما يتناول من الطعام في نوبة كل واحد منهما غير معلوم والآدمي قد ينشط للأكل في وقت ولا ينشط في وقت آخر والطعام عليهما سواء لاستواء ملكيهما فيه فلا تمكن في هذا الشرط معاوضة بينهما فيما هو مجهول.
وفي العبد والأمة هذا القياس أوضح ولكن استحسن جواز ذلك لقلة التفاوت واعتبار ما عليه عادة الناس من المساهلة في أمر الطعام وإن اشترطا الكسوة بهذه الصفة لم يجز لكثرة(20/323)
ص -152- ... التفاوت في الكسوة ولأنه لا يجري في الكسوة من المساهلة ما يجري في الطعام ثم كل واحد منهما بما يتناول يتقوى على الخدمة فالظاهر أن كل واحد منهما لا يمنعه من التناول بقدر الكفاية لماله فيه من المنفعة والجهالة إذا كانت لا تفضي إلى المنازعة لا تفسد العقد ولا يوجد ذلك في الكسوة إذ ليس للكسوة تأثير في إحداث القوة على زيادة الخدمة فإن أقتا من الكسوة شيئا معروفا لم يجز ذلك لأن التفاوت يقل وينعدم بعدم بيان الوصف والمنازعة تنقطع به ولأن معنى المعاوضة هنا فيما لا يتم معنى اللزوم فيه فإنه بناء على المهايأة وقد بينا أن حكم اللزوم لا يتم بالمهايأة وفي مثله البيان الموصوف يثبت بالقسمة كما في الصداق ونحوه.
ولو كانت غنم بين رجلين فتهايئا على أن يرعاها كل واحد منهما شهرا أو على أن يستأجر لها أجيرا جاز لأن الرعي في الدواب بمنزلة الطعام في بني آدم أو أظهر منه فالتفاوت ينعدم هنا والحر والعبد في ذلك سواء وولي الصغير بمنزلة الصغير في ذلك لأنه من جملة حوائجه يرجع إلى إصلاح ملكه وهو من صنع التجار ولو تهايئا على الخدمة في الأمتين ثم وطى ء أحدهما الأمة التي عنده فعلقت فسدت المهايأة لأنه تملك نصيب شريكه حين استولدها بضمان نصف القيمة وكما لا يصح ابتداء المهايأة إلا بعمل مشترك فكذلك ما لا يبقى ولا شركة بينهما فيها بعد ما استولدها أحدهما وكذلك لو ماتت أو أبقت انتقضت المهايأة لأنه إنما رضي بسلامة خدمة الأخرى لشريكه بشرط أن يسلم له خدمة التي هي في يده وقد فات ذلك بموتها أو بإباقها ولو استخدمها الشهر كله إلا ثلاثة أيام في أول الشهر ثم مرضت أو أبقت نقصت الآخر من شهره ثلاثة أيام باعتبار المعادلة فيما يستوفيه كل واحد منهما من منفعة الملك المشترك ثم يستقبلان المهايأة.(20/324)
ولو لم ينقص الثلاثة أيام حتى تم الشهر في خدمته لم يكن له عليه في ذلك شيء لأنه إنما فضل صاحبه في استيفاء بعض الخدمة والخدمة لا تتقوم إلا بالعقد بالتسمية وكذلك لو أبقت إحداهما الشهر كله واستخدم الآخر الأخرى الشهر كله لم يكن عليه في تلك الخدمة ضمان ولا أجر لأن المنفعة لا تتقوم بالإتلاف ألا ترى أنه لو استخدم الأمة المشتركة أحدهما من غير رضا الشريك لا على وجه المهايأة لم يلزمه في ذلك ضمان لصاحبه بمنزلة الغاصب ولو عطبت إحداهما في الخدمة لم يضمنها صاحبها لأن كل واحد منهما أمين في نصيب صاحبه مما في يده وإنما يستخدمها بإذن صاحبه فيكون هو في ذلك كالمستعير أو المستأجر.
ولو زوجها من هي في يده لم يجز ذلك لأن التزويج تصرف يعتمد الولاية وثبوت الولاية بملك الرقبة وملك الرقبة لكل واحد منهما غير تام فما في يده بعد المهايأة كما قبلها فإن وطئها الزوج فالمهر بينهما لأن المهر بدل المستوفي بالوطء وذلك في حكم جزء من العين كالأرش فأما الذي زوج فله الأقل من نصف المسمى ومن نصف مهر مثلها لأنه رضي بسقوط حقه في ما زاد على المسمى ورضاه معتبر في حقه وأما الذي لم يزوج فله نصف مهر(20/325)
ص -153- ... مثلها لأنه لم يرض بسقوط حقه عن شيء منه بالقسمة وعلى هذا السكنى في المنزل فإنه لو انهدم من سكنى أحدهما أو احترق من نار أو قدها فيه لم يضمن لأنه بمنزلة المستعير أو المستأجر ولو توضأ فيها فزلق رجل بوضوئه أو وضع شيئا فيها أو جلس فيها أو ربط فيها دابة فعبر به إنسان من أهل الدار أو غيرهم لم يضمن لأن هذا كله من توابع السكنى.
ألا ترى أن للمستعير والمستأجر أن يفعل ذلك ففعل كل واحد منهما بتسليط شريكه كفعلهما جميعا ولو بنى فيها بناء أو احتفر فيها بئرا فهو ضامن ويرجع عليه بقدر حصته لأن هذا التصرف ليس من توابع السكنى فلا يستحقه بالمهايأة فكان هو متعديا في نصيب شريكه والسبب متى كان بطريق التعدي فهو كالمباشرة في إيجاب الضمان وإنما يتحقق ذلك في نصيب شريكه دون تضييع فلهذا يرجع بقدر حصته وإذا تهايأ الرجلان في خادمين على أن يخدم أحدهما هذا سنة لفضل خدمتها والأخرى هذا الآخر سنتين فهو جائز لوجود التراضي منهما وحصول المقصود وهو المعادلة في الخدمة فإن ولدت إحداهما ولدا ومدة المهايأة طويلة فشب الولد فيها كانت خدمته بينهما لأن استحقاق الخدمة بالمهايأة لا يسري إلى الولد بمنزلة استحقاق ذلك بالوصية أو الإجارة فالولد تولد من العين فيكون مشتركا بينهما كالأصل ولم تتناوله المهايأة مقصودا ولا تبعا فكانت خدمته بينهما كخدمة الأصل.(20/326)
قيل وإذا مات أحد الشريكين وعليه دين لم يكن لورثته أن ينفذوا المهايأة ولكن نصيبه يباع في دينه لأن حق الغرماء يتعلق بمالية نصيبه بموته وهو مقدم على حق ورثته فكما لا يجوز للورثة مباشرة ابتداء المهايأة مع قيام الدين على الميت فكذلك لا يكون لهم استدامة المهايأة ولو باع أحدهما نصيبه من إحدى الخادمين أو أعتقه نفذ تصرفه وبطلت المهايأة لأن شركته لم تبق بعد ما نفذ بيعه فيه وعتقه وإذا كاتب أحدهما نصيبه فلشريكه أن يبطل المكاتبة لدفع الضرر عن نفسه فإن لم يعلم بها حتى أدت بطلت المهايأة ولو باع أحدهما نصيبه بيعا فاسدا ولم يسلم لم تبطل المهايأة وهو الشركة في الأصل وإن سلم بطلت المهايأة لزوال ملكه عن نصيبه وفي البيع الجائز بنفس العقد يزول ملكه فتبطل المهايأة سلم أو لم يسلم.
وكذلك لو كان المشتري بالخيار لأن ملك البائع يزول مع خيار المشتري وإن كان البائع بالخيار لم تبطل المهايأة إلا أن يمضي البيع لأن خيار البائع يمنع زوال ملكه عن البيع في المدة ما لم يسقط الخيار والله تعالى أعلم بالصواب.
باب صلح الأب والوصي والوارث
قال رحمه الله: وإذا كان للصغير دار أو عبد فادعى رجل فيه دعوى فصالحه أبوه على شيء من مال الصبي ينظر في ذلك فإن كان للمدعي بينة وكان ما أعطى الأب من مال الصبي مثل حق المدعي أو أكثر مما يتغابن الناس فيه جاز لأن سبب الاستحقاق للمدعي ظاهر شرعا فالأب بهذا الصلح يصير كالمشتري لتلك العين لولده بماله والأب غير متهم في حق ولده فعند ظهور الحق للمدعي بالبينة إنما يقصد الأب النظر للصبي وربما يكون له في(20/327)
ص -154- ... aالعين منفعة لا يحصل ذلك بقيمته وإن لم يكن له بينة لم يجز الصلح من الصبي لأن المدعي ما استحق شيئا على الصبي بمجرد دعواه سوى الاستحلاف ولا يستحلف الأب ولا الصبي في حال الصغر وإنما يستحلف إذا بلغ فالأب يفدي هذه اليمين بمال الصغير وإلا فاليمين ليست بمتقومة وليس للأب ولاية دفع مال الصبي بإزاء ما ليس بمتقوم فإن صالح من مال نفسه فهو جائز بمنزلة أجنبي آخر صالح على مال نفسه وضمن ولو ادعى الأب حقا للصبي في مثل ذلك ثم صالحه منه على شيء وقبضه وهو مثله أو أقل مما يتغابن الناس فيه جاز كما لو باعه ممن هو في يده.
وإن كان أقل منه بشيء كثير لم يجز إن كانت له بينة لأن سبب استحقاق الصبي ظاهر شرعا بالحجة فهو بهذا الصلح كأنه يبيع ماله بغبن فاحش وإن لم تكن له بينة على حقه فالصلح جائز لأن الصبي ما استحق قبل ذي اليد شيئا سوى اليمين ولا منفعة للصبي فالأب جعل مالا بمقابلة ما ليس بمال وهو غير متهم في هذا بل هو ناظر للصبي بتصيير ما ليس بمال في حقه مالا ووصي الأب في هذا بعد موت الأب كالأب وكذلك الجد ووصي الجد ولا يجوز صلح غير هؤلاء كالأم والأخ على الصبي ولا عنه لأنه لا ولاية له عليه فهو في الصلح في حقه كالأجنبي والمعتوه بمنزلة الصبي لأنه مولى عليه.
ولو كان للصبي دين على رجل فصالحه أبوه على بعض وحط عنه بعضا فإن كان الأب هو الذي ولي مبايعته جاز الحط في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ضامن لما حطه ولا يجوز في قول أبي يوسف رحمه الله وهو نظير اختلافهم في الوكيل بالبيع وإن لم يكن ولي مبايعته لم يجز حطه وكذلك الوصي لأن ثبوت الولاية لهما مقيد بشرط النظر للصبي وليس من النظر إسقاط شيء من حقه بالحط فهما في ذلك كأجنبي آخر.(20/328)
ولو ادعى الوصي شقصا في دار فجحده رب الدار فصالحه على دراهم قبضها جاز ذلك إن لم يكن لهم بينة على الأصل وكانوا صغارا وكبارا لأن الوصي قائم مقام الموصي وفي هذا الصلح نظر للموصى عليه فهو بالدعوى ما استوجب على الخصم إلا اليمين ولأن منفعته في مال يقضي به دينه ويستغنى به ورثته
وإن كانت لهم بينة عليه وكان ما قبض مثل قيمة ذلك أو أقل مما يتغابن الناس فيه جاز عليهم جميعا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قولهما على الكبار في حصتهم إلا برضاهم وهو نظير اختلافهم في بيع الوصي شيئا من التركة وفي الورثة صغار وكبار وقد بينا ذلك في الشفعة ويستوي عندهما إن كانت لهم بينة أو لم تكن لأنه لا ولاية للوصي على الكبار من الورثة فهو في حقهم كأجنبي آخر وصلح وصي الأم والأخ على الصبي مثل صلح وصي الأب في غير العقار لأن فيما سوى العقار للوصي ولاية البيع في تركة الموصي فكذلك له ولاية الصلح فأما في العقار فليس له ولاية البيع فيما صار للصغير من هذه التركة كما لم يكن للموصي ذلك في ملك الصبي ولا يجوز صلحه فيه أيضا.(20/329)
ص -155- ... وكذلك لو كانت الورثة كبارا وصغارا فصلح الوصي فيما سوى العقار جائز عليهم بشرط النظر كما لا يجوز بيعه فيه للحفظ عليه وإذا كان على الميت دين أو أوصى بوصية فصالح الوصي من دعوى له في دار فهو على ما ذكرنا في الورثة إذا كانوا صغارا لأن باعتبار الدين والوصية يثبت للوصي في الولاية للميت حتى يجوز بيعه في جميع التركة عند أبي حنيفة رحمه الله فكذلك الصلح وإذا ادعى الوارث الكبير على الوصي ميراثا من صامت أو رقيق أو أمتعة فجحده ثم صالحه من جميع ذلك على عبد أو ثوب معلوم جاز لوجود التراضي منهما على ما اصطلحا عليه وكذلك لو قال افتدي منك يميني بذلك لأن الصلح على الإنكار فداء لليمين بالمال ولا فرق بين لفظ الفداء وبين لفظ الصلح فيه وإن كانا وارثين ادعيا ذلك قبله فصالح أحدهما على عرض من غير إقرار لم يكن للآخر أن يرجع على الوصي بشيء لأنه بالصلح على الإنكار لم يصر مقرى له بشيء وإنما فدى يمينه وللآخر أن يستحلفه إن شاء لأن حق الاستحلاف كان ثابتا لهما فأسقط ذلك أحدهما بالمال فصح ذلك في حقه وفي حق الآخر لا يصح إلا برضاه فإن أبى فهو على حقه في الاستحلاف.(20/330)
وإن أراد أن يشارك أخاه فيما قبض فله ذلك باعتبار أنه صار راضيا بالصلح فكأنهما صالحاه وهذا إذا كان ما ادعياه مستهلكا لأن الصلح مبني على زعمهما في حقهما وفي زعمهما أن قيمة ذلك دين على الوصي مشترك بينهما وأحد الشريكين في الدين إذا صالح على شيء كان للآخر أن يشاركه في المقبوض إلا أن يعطيه نصف ما ادعى من ذلك فإن كانت الورثة صغارا وكبارا وصالح الوصي الكبار من دعواهم ودعوى الصغار على دراهم وقبضها الكبار وأنفقوا على الصغار حصتهم من ذلك فإن ذلك لا يجري على الصغار لأنه لا ولاية للكبار على الصغار وللصغار أن يرجعوا بحصتهم على الوصي إذا أدركوا ويرجع الوصي على الكبار بحصة الصغار مما أخذوا لأنهم يزعمون أنهم أخذوا المال عوضا عن الكل وقد استحق الصغار نصيبهم على الوصي فكان لهم أن يرجعوا بحصة ذلك من المأخوذ من الكبار.
وإذا أقر الوصي أن لأحد الورثة عنده من ميراثه كذا وكذا درهما فأراد بقية الورثة أن يرجعوا على الوصي بحصتهم كما أقر لهذا لم يكن لهم ذلك ولكن ما أقر به لهذا فهو بينهم على المواريث لأن الوصي أمين فيما في يده من التركة والقول قول الأمين في براءة نفسه ولكن لا يقبل قوله فيما يدعي من وصول المال إلى غيره كالمودع إذا ادعى الرد على الوصي فهنا أيضا قول الوصي فيما يرجع إلى براءته مقبول سواء ذكر أنه سلم نصيب الكبار إليهم أو أن ذلك لم يصل إلى يده ولكن لا يقبل قوله في إسقاط حق الكبار عما أقر به للصغير لأن ذلك جزء من التركة وهو مشترك بينهم باعتبار الأصل فلا يقبل قول الوصي في تخصيص أحدهم به ولكن يجعل ما سوى هذا من التركة كالناوي فتبقى الشركة بينهم في هذا.
وإذا أقر الوصي أن عنده للميت ألف درهم وللميت ابنان ثم صالح أحدهما من حصته(20/331)
ص -156- ... على أربعمائة درهم من مال الوصي لم يجز لأنه أعطاه أقل من حصته وقد بينا في الدين أن مثل هذا الصلح يجوز بطريق الإسقاط وهنا لا يمكن تصحيحه بطريق الإسقاط لأنه عين في يد الوصي أمانة فلا بد من حمله على معنى المعاوضة ومبادلة الخمسمائة بأربعمائة لا يجوز وكذلك لو كان مع الألف متاع فالعلة المفسدة هنا أظهر ولو أن الوصي استهلك ذلك جاز الصلح على أربعمائة لأن ما استهلك صار دينا في ذمته فهذا حط عنه بعض حقه واستوفى البعض فيصح الصلح بطريق الإسقاط.
وإذا مات الرجل وترك ابنا وامرأة وترك رقيقا وعقارا وأمتعة فقبضها الابن واستهلكها أو لم يستهلكها ثم صالحته المرأة بعد إقرار أو إنكار على دراهم مؤجلة أو حالة جاز ذلك وصلحها معه مثل صلح الأجنبي مع الأجنبي في الدعاوى لأنها تدعي ميراثا قبله فإن كان مقرى بذلك فالصلح على الإقرار جائز وما يعطيها عوض نصيبها إن كان قائما في يد الابن وإن كان مستهلكا فهي قد استوفت بعض حقها وأبرأته عما بقي وإن كان منكرا لحقها فالصلح مع الإنكار صحيح بطريق الفداء لليمين وقد بينا وجوه صلح بعض الورثة مع البعض واستوفينا جميع ذلك.
وقال فإن كان في الميراث عين ودين فصالح الابن المرأة من ذلك كله ما خلا المال العين والدين فهو جائز لأن ما جعل مستثنى لم يتناوله عقد الصلح فكان ذلك غير موجود في التركة أصلا فكما يجوز الصلح من جميع المدعي يجوز من بعضه فيصح وهي إنما صالحته عن نصيبها من العروض والعقار خاصة وذلك جائز
وإن كتب في كتاب البراءة أني دفعت إليك جميع حصتك من المال العين فهو جائز إذا أقرت بالقبض(20/332)
وإن كتب أني عجلت لك ميراثك من كل مال دينا على الناس من غير أن شرطتيه علي فهو جائز لأن إقرارها على نفسها حجة شرعا وما أقرت به كالمعاين في حقها فيبرأ الغريم من حصتها من الدين لأن تبرع أحد الورثة بقضاء ذلك الوارث الآخر كتبرع أجنبي آخر ومطلق هذا التبرع يوجب براءة الغريم عنه وإذا مات الرجل فأوصى بثلثه لرجل وترك ورثة وفيهم الصغير والكبير فطلب الموصى له موصيه فصالحه بعض الورثة على دراهم مسماة على أن يسلم له ذلك خاصة دون بقية الورثة فإن كان الميراث ليس فيه مال غائب ولا عين حاضرة يكون ثلثه مثل ذلك فإني أجيز الصلح إذا كان المال المعين في يد المصالح أو كان الميراث رقيقا أو عقارا لأن الموصى له شريك الوارث في التركة فصلح الوارث معه كصلح أحد الوارثين مع الآخر وفي نظير هذا صلح أحد الوارثين مع الآخر على أن يكون نصيبه له صحيحا فكذلك صلح الوارث مع الموصى له فإن كان في الميراث دين لم يجز ذلك لأن ثلث ذلك الدين صار للموصى له بالثلث فهو يملك ذلك من الوارث يأخذ منه عوضه وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز.
وإن كان عين ثلثه مثل ما أعطي أو أكثر لم يجز الصلح مراده بالعين النقد من الذهب \(20/333)
ص -157- ... والفضة وإذا وقع الصلح على جنس ذلك ومقدار حقه من ذلك الجنس مثل ما استوفى أو أكثر فهذا الصلح يكون ربا وقد بينا فساد ذلك فيما بين الورثة فكذلك فيما بين الوارث والموصى له وإذا كان المال المعين في يد الوصي وكان ما أعطي الوارث الموصى له أكثر من ثلثه جاز ذلك إذا قبض الوارث ذلك من الوصي قبل أن يتفرقا وإن تفرقوا قبل أن يقبض الوارث المال المعين من يد الوصي ينقص من الصلح حصة المال المعين لأن العقد في تلك الحصة قد صرف ويد الوصي يد أمانة فلا يصير الوارث قابضا بحكم الصرف بيد الوصي وإذا افترقا قبل أن يقبض ذلك منه فقد افترقا من المجلس قبل قبض بدل الصرف فيبطل الصلح في حصة ذلك ويجوز فيما سواه.
وكذلك إن صالحه على دنانير لأن في حكم الصرف ووجوب القبض في المجلس لا فرق بين أن يكون العقد متنا ولا لجنس واحد من النقود أو جنسين وإن صالحه على مكيل أو موزون بعينه جاز لأنه مشتر لما وقع عليه الصلح بنصيبه من التركة والمشتري معلوم معين وإن كان بغير عينه لم يجز لأنها صفقة واحدة وفي حصة العين من التركة يبطل هذا الصلح لأنه بيع ما ليس عند الإنسان فالمكيل والموزون بالدراهم يكون مبيعا وإذا فسد في البعض فسد في الكل وإذا صالحه على ثياب موصوفة أو مؤجلة ثم تفرقا قبل أن يقبض الوارث حصة الموصى له من المال المعين بطل من الثياب حصة المال المعين لأن صفة العقد في معنى السلم فيشترط قبض رأس المال في المجلس وإلا يكون دينا بدين وإن تفرقا قبل القبض بطل العقد في ملك الحصة ولكن هذا فساد طارئ فطريان المفسد في البعض لا يفسد العقد في الباقي بخلاف المقارن وقد بينا نظيره في كتاب الصرف.(20/334)
ولو كان هذا الصلح في مال الوارث على أن يسلم الموصى له جميع موصيه من الورثة على سهامهم كان القول فيه مثل ذلك في جميع ما بينا لأنه في الصلح في نصيب سائر الورثة هو متبرع عنهم بأداء المال وذلك يصح منهم كما يصح من الفضولي فكأنهم صالحوه جميعا على ذلك وصلح الوارث الموصى له وصلح الوارث سواء في جميع ما ذكرنا لأنهم في التركة شركاء وكذلك لو كان الميراث في يد الموصى له فصالح الوارث على أن أعطاه دراهم على أن يسلم الوارث ميراثه لأن الوارث يملك نصيبه من الموصى له بما يقبض منه من العوض فكما يجوز فيه صلح الوارث مع الموصى له إذا كانت التركة في يده يجوز فيه صلح الموصى له مع الوارث أيضا ولو كان الميراث مالا معينا ومتاعا وحليا وفيه جوهر لا يخلص إلا بضرر والوارث رجلان كبيران وصغير له وصي ورجل موصى له فاصطلحوا على أن قوموا ذلك قيمة عدل وسموا لأحد الكبيرين حليا بعينه ومتاعا ومالا وكذلك للآخر وللصغير والموصى له وأنفذوا ذلك فيما بينهم وجعلوه لمصالحهم بتلك القيمة ولم يتقابضوا لم يجز لأن العقد فيما يخص الحلي صرف وترك القبض في المجلس يفسد فيه وذلك مفسد للعقد في حصة الجوهر أيضا لأنه لا يمكن تخليصه إلا بضرر ومثل هذا كما لا يجوز البيع(20/335)
ص -158- ... فيه ابتداء فكذلك لا يبقى العقد فيه بعد ما فسد في حصة الحلي وقد بينا نظيره في الصرف في السيف المحلي.
ولو كان وارث منهم اشترى رقيقا ومتاعا بألف درهم ثم أن الوارث الآخر اشترى منهم حليا فيه جوهر بألف درهم على أن يحسب له من نصيبه لم يجز ذلك من قبل أن العقد فيه صرف ولم يوجد التقابض في المجلس ولأن حصته مما على أخيه داخلة في ذلك وهو دين ولو كان بعض التركة دينا على أجنبي لم يجز مثل هذا الصلح بين الورثة فيه فكذلك إذا كان دينا على بعض الورثة قال غيره أنه يجوز من ذلك الجوهر بحصته إذا كان مميزا وإن كان غير مميز لم يجز شيء منه أما إذا كان غير مميز فالجواب ظاهر لأن فساد العقد من حصة الحلي فالافتراق مفسد في حصة الجوهر أيضا وإن كان مميزا فإن كان صلحه مع جميع الورثة والموصى له فإنه يجوز من حصة الجوهر لأن فساد العقد هنا بترك القبض في المجلس في حصة الحلي وذلك فساد طارئ لا باعتبار أن نصيبه دين فإنه ما صالح عن نصيبه على هذا الحلي وإنما اشترى هذا الحلي منهم بألف درهم على أن يحسب لهم من نصيبه فكان فساد العقد باعتبار أن الحلي غير مقبوض في المجلس وأن الوارث الصغير والموصى له يقبضان حصتهما مما هو دين على الأخ الآخر في المجلس وكل ذلك يفسد العقد لترك القبض في المجلس من غير أن يتبين فيه فساد العقد من الأصل فلهذا يبقى الصلح في حصة الجوهر إذا كان مميزا والله تعالى أعلم بالصواب.(20/336)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الحادي والعشرون
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(21/1)
ص -3- ... باب الصلح في الوصايا
قال رحمه الله: وإذا أوصى الرجل بخدمة عبده سنة لرجل وهو يخرج من ثلثه فصالحه الوارث من الخدمة على دارهم أو على سكنى بيت أو على خدمة خادم آخر أو على ركوب دابة أو على لبس ثوب شهرا فهو جائز استحسانا وفي القياس لا يجوز لأن الموصي له بالخدمة في حكم الاعتياض كالمستعير ولهذا لا يملك أن يؤاجره كالمستعير وهذا لأنه يملك الخدمة بغير عوض في الموضعين ثم المستعير لا يعتاض عن الخدمة مع المعير فكذلك الموصي له وجه الاستحسان أن الصلح يصح بطريق الإسقاط إذا تعذر تصحيحه بطريق المبادلة كما لو صالح من الألف على خمسمائة وهنا تصحيحه بطريق إسقاط الحق بعوض ممكن لأنه استحق على الورثة تسليم العبد له في المدة ليستوفي خدمته وهو حق لازم لا يملك الوارث إبطاله فيجوز إسقاطه بعوض بخلاف المستعير فإنه لا يستوجب على المعير حقا لازما فلا يمكن تصحيح الصلح معه اعتياضا عن إسقاط الخدمة فكذلك لو فعل ذلك وصي الوارث الصغير وربما يكون هذا التصرف نظرا للصغير والوصي في ذلك يقوم مقامه إسقاطا كان أو تمليكا.(21/2)
فإن مات العبد الموصي له بخدمته بعد ما قبض الموصي له ما صالحوه عليه فهو جائز لأنه الذي من جانبه إسقاط الحق فيتم بنفسه لأن المسقط يكون متلاشيا والوارث بعد ذلك يستوفي خدمته بملكه لا بالتملك على الموصي له بعوض فبقاؤه ومؤنته في حكم الصلح سواء وإن صالحوه على ثوب فوجد به عيبا كان له أن يرده ويرجع في الخدمة لأن ما وقع عليه الصلح بمنزلة المبيع وإذا كان ما يقابله إسقاط الحق كما في الصلح على الإنكار والمبيع يرد بالعيب اليسير والفاحش وبرده ينفسخ البيع فهذا مثله وإذا انفسخ رجع في الخدمة وليس له بيع الثوب قبل أن يقبضه لبقاء الغرر في الملك المطلق التصرف كما في البيع ولو صالحه على دراهم كان له أن يشتري بها ثوبا قبل أن يقبضها بمنزلة الثمن يجوز الاستبدال به قبل القبض ولو أن الوارث اشترى منه الخدمة ببعض ما ذكرنا لم يجز لأن الشراء لفظ خاص وضع لتمليك مال بمال والموصي له بالخدمة لا يملك تمليكه من الوارث بخلاف لفظ الصلح.
ألا ترى أن المدعى عليه بعد الإنكار لو صالح المدعي على شيء لم يصر به حتى إذا استحق عاد على رأس الدعوى ولو اشترى منه المدعي صار مقرا له بالملك حتى لو(21/3)
ص -4- ... استحق البدل لرجع بالمدعي ولو قال أعطيك هذه الدار مكان خدمتك أو عوضا عن خدمتك أو بدلا من خدمتك أو مقاصة بخدمتك أو على أن تترك خدمتك كان جائزا لأنه ذكر معنى الصلح وتصحيحه بطريق إسقاط الحق ممكن من الوجه الذي قلنا في الصلح ولو قال أهب لك هذه الدار على أن تهب لي خدمتك كان جائزا إذا قبض الدراهم لأن لفظة الهبة في معنى لفظ الصلح حتى يستعمل في الإسقاطات كما في التمليكات بخلاف لفظ البيع ألا ترى أن هبة المبيع من البائع قبل القبض يكون إقالة إذا قبله البائع بخلاف البيع وقد طعن بعض مشايخنا رحمهم الله في هذا الفصل فقال الهبة بشرط العوض تتم تبعا فتصير عند القبض بمنزلة ما لو صرحا بلفظ البيع وقد بينا أن ذلك لا يجوز وكما يستعمل الهبة في الإسقاطات مجازا فكذلك البيع.
ألا ترى أنه يبيع العبد من نفسه ويبيع المرأة من نفسها ويكون ذلك إسقاطا بعوض بعبارة البيع ولكنا نقول الهبة بشرط العوض يثبت فيها حكم البيع ولا يعتبر لفظة البيع والبطلان هنا باعتبار لفظ البيع ولكنا نقول لا يحكم بالبيع لأن موضوعه لفظ خاص بتمليك مال والثاني أن لفظ الهبة إنما يعتبر بيعا بالتقابض من الجانبين وذلك غير متحقق هنا فالقبض لا يجري من الوارث للخدمة هنا في الحال ولا فيما بعده لأنا لو صححنا هنا بطريق الإسقاط والمسقط بلا شيء فلا يتصور القبض فيه ليصير به بيعا ولو كان الوارث اثنين فصالحه أحدهما وصرحا بتمليك الخدمة منه بعوض ولا يمكن تصحيحه إسقاطا ولكنه بمنزلة الإجارة والموصي له بالخدمة لا يؤاجر من الوارث ولا من غيره وإنما استحسنا إذا كان جميع الورثة لأن الخدمة تبطل ويصير العبد بينهم على الميراث وهو إشارة إلى طريق إسقاط الحق بقبض كما بينا.(21/4)
ولو باع الورثة العبد فأجاز صاحب الخدمة البيع بطلت خدمته ولم يكن له في الثمن حق لأن حقه في الخدمة لا يكون أقوى من حق المستأجر والبيع ينفذ من المالك برضا المستأجر ولا يثبت حق المستأجر في الثمن فهذا مثله وهذا بخلاف حق المرتهن فإنه يثبت في الثمن إذا نفذ بيع الراهن برضاه لأن حق الموصي له في المنفعة والثمن بدل العين دون المنفعة وحق المرتهن في العين لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء له من مالية العين والثمن بدل العين وبالبيع يتحقق وصوله إلى مقصوده وهو الاستيفاء فلهذا يتحول حقه إلى الثمن.
وكذلك لو دفع بجناية برضا صاحب الخدمة جاز لأن الملك للورثة والمنفعة لصاحب الخدمة فيجوز دفعه بجناية بتراضيهما ويبطل به حق الموصي له لفوات محل حقه ولو قتل العبد خطأ وأخذوا قيمته كان عليهم أن يشتروا بها عبدا فيخدم صاحب الخدمة لأن القيمة بدل العبد فيثبت فيه حق صاحب الخدمة كما كان ثابتا في المبدل وهذا لأن الوصية بالخدمة وإن كانت بالمنفعة فهي تتعدى إلى العين حتى يستحق على الوارث تسليم العين إلى الموصي(21/5)
ص -5- ... له ويعتبر خروج العين من الثلث والموصي له لم يرض بسقوط حقه هنا لأن القتل ما كان برضاه ليقوم البدل مقام الأصل في إيفاء حقه باعتباره بخلاف البيع فإن هناك نفوذه كان بإجازته وذلك منه إسقاط لحقه في الخدمة فلهذا يثبت حقه في الثمن.
ولو صالحوه على دراهم مسماة أو طعام أجزت ذلك بطريق إسقاط الحق بعوض لأن حقه بعد القتل باق كما كان قبله ولو قطعت إحدى يدي العبد فأخذوا أرشها فهو مع العبد يثبت فيه حق الموصي له بالخدمة اعتبار البدل الطرف ببدل النفس وإن اصطلحوا منها على عشرة دراهم على أن يسلم له بعينها والعبد أجزت ذلك بطريق إسقاط الحق بعوض ولو أوصى لرجل بسكنى داره سنة أو حياته ثم مات وهو يخرج من الثلث فصالحوا الوارث منها على سكنى دار أخرى سنين مسماة فهو جائز بطريق الحق إسقاط بعوض لا بطريق المبادلة فإن مبادلة السكنى بالسكنى لا تجوز ولو صالحه على سكنى دار أخرى حياته لم يجز لأن المصالح عليه يتملك عوضا وسكنى الدار من غير بيان العوض لا يجوز استحقاقها عوضا بالبيع ولا بالإجارة فكذلك الصلح بخلاف الموصي له فإن السكنى هناك تتملك بالوصية تبرعا بمنزلة العارية في حال الحياة فإن صالحه على سكنى دار مسماة فانهدمت بطل الصلح لفوات ما وقع عليه الصلح قبل دخوله في ضمانه ويرجع في داره الأولى فيسكنها حتى يموت إن كانت وصيته كذلك وإن كانت سنة رجع بحساب ما بقي.(21/6)
ولو كان أوصى له بغلة عبد مدة فصالحه الورثة من ذلك على دراهم مسماة فهو جائز وإن كانت غلته أكثر من ذلك لأن تصحيح هذا الصلح بطريق إسقاط الحق دون المبادلة فلا يتمكن فيه الربا ولو صالحه أحد الورثة على أن تكون الغلة له خاصة لم يجز وإن كانت الوصية له بغلته سنة أو أبدا لأنهما صرحا بالتمليك وتمليك غلة العبد بعوض لا يجوز من أحد ولو استأجر منه العبد مدة معلومة جاز كما لو استأجره غيرالوارث بخلاف ما تقدم من السكنى والخدمة لأن الموصي له بالغلة يملك أن يؤاجر فالغلة لا تحصل إلا به وإجارته من الوارث ومن غيره سواء بخلاف الموصي له بالخدمة والسكنى وهذا بخلاف الأول فهناك بالصلح يملك الغلة من الوارث إذا وجدت وكانت عينا فلا يجوز تمليكها قبل الوجود وهنا إنما يملك المنفعة بالإجارة وذلك صحيح كما لو كان المملك في الوجهين مالك العبد فإن أجره المستأجر بأكثر مما استأجره به تصدق بالفضل إن كان من جنسه فيما يكال أو يوزن وقد بينا هذا في الإجارات .
ولو استأجره بثوب يهودي بعينه فأجر بثوبين يهوديين طاب له الفضل لأن الثوب ليس بمال الربا فلا يتحقق في هذا التصرف الفضل الخالي عن العوض والوصية بغلة الدار بمنزلة الوصية بغلة العبد في جميع ما ذكرنا ولو كانت الوصية بغلة نخلة بعينها أبدا فصالحه الورثة بعد ما خرجت ثمرتها وبلغت منها ومن كل غلة تخرج أبدا على حنطة وقبضها جاز بطريق تمليك الغلة الخارجة بعوض وإسقاط الحق عما يخرج بعد ذلك بعوض وإذا كان يجوز كل(21/7)
ص -6- ... واحد منهما بانفراده فكذلك إذا جمع بينهما وإن صالحوه على حنطة سنة لم يجز لأن ما في رؤوس النخيل ثمر مكيل وبوجود أحد وصفي علة ربا الفضل يحرم النساء فإذا بطل في حصة الموجود بطل في الكل لاتحاد الصفقة ولو صالحه على شيء من الوزن نسيئة فهو صحيح لأنه لم يجمع البدلان أحد وصفي علة ربا الفضل ولو صالحوه على تمر لم يجز حتى يعلم أن التمر أكثر مما في رؤوس النخيل ليكون بمقابلة ما في رؤوس النخيل مثلها والباقي عوض عن إسقاط الحق في المستقبل فإذا لم يعلم ذلك تمكنت فيه شبهة الربا فلا يجوز.
وإن صالحوه من غلة هذا النخل على غلة نخل آخر أبدا أو سنين معلومة لم يجز لأن ما وقع الصلح عليه في معنى المبيع وتمليك غلة النخيل قبل خروجها بالبيع لا يجوز وكذلك لو صالحوه على غلة عبد سنين معلومة لأن الغلة مجهولة وهي للحال معدومة فلا يجوز استحقاقها عوضا بالبيع وبالإجارة فكذلك بالصلح ولو أوصى لرجل بما في بطن أمته وهي حامل فصالحه الورثة على دراهم معلومة جاز بطريق إسقاط الحق المستحق له بعوض ولو باعه منهم أو من غيرهم لم يجز لأن البيع تمليك مال متقوم بمال وما في البطن ليس بمال متقوم وهو غير مقدور التسليم فلا يجوز تمليكه بالبيع من أحد ولو صالحه أحد الورثة على أن يكون له خاصة لم يجز لتصريحهما بتمليكه ما في البطن بعوض ولو صالحه الورثة منه على ما في بطن جارية أخرى لم يجز لأن ما يقع عليه الصلح في حكم الصلح المبيع ولو صالحوه على دراهم مسماة ثم ولدتالجارية غلاما ميتا فالصلح باطل لأنه تبين إنه لم يكن له حقا مستحقا يحتمل الإسقاط بعوض وإنما كنا نصحح الصلح بطريق إسقاط الحق المستحق بعوض ولو ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا كان أرش ذلك لهم والصلح جائز لأن الحق كان للموصي له.(21/8)
ألا ترى إنه قبل الصلح كان الأرش يسلم له بطريق الوصية فصح إسقاط الحق بعوض بخلاف ما إذا ولدته ميتا فإنه يتبين بطلان الوصية فيه ولو مضت السنتان قبل أن تلد شيئا كان الصلح باطلا لأنه قد تبين بطلان الوصية فالجنين لا يبقى في البطن أكثر من سنتين والوصية كانت بالموجود في البطن فالوصية بما تحمل هذه الأمة لا تكون صحيحة وكذلك الوصية بما في بطون الغنم وضروعها في جميع ما ذكرنا ولو أوصى لرجل بما في بطن أمته فصالحه رجل من غير الورثة على أن يكون ذلك له خاصة على دراهم مسماة لم يجز كما لا يجوز صلح أحد الورثة على ذلك لأنه تمليك لما في البطن بعوض فإن قبض الرجل الأمة ثم أعتق ما في بطنها لم يجز لأن ما في البطن ليس بمال متقوم ومثله لا يملك بالبيع وإن قبض مع أن قبض الأمة ليس بقبض لما في البطن.
ألا ترى أن الوارث إذا أعار الجارية أو أجرها من إنسان لا يحتاج في التسليم إلى رضا الموصي له بما في البطن وإن الغاصب للأمة الحامل لا يصير ضامنا لما في بطنها فدل أن بقبض الأمة لا يصير قابضا لما في بطنها وبدون القبض لا ينفذ التصرف في البيع الفاسد ولو(21/9)
ص -7- ... أعتق الورثة ما في بطنها لم يجز لأنهم لم يملكوا ما في البطن لكونه مشغولا بحاجة الميت وحق الموصي له ولو أعتقوا الأمة جاز لأنهم يملكون رقبتها فإن صالحهم بعد عتق الأمة مما في بطنها على دراهم جاز لأن تصحيح هذا الصلح بطريق إسقاط الحق ولو لم يبطل حقه بإعتاقهم الأمة حتى إذا ولدت ولدا حيا كانت الورثة هنا ملزمين له بقيمة الولد فإسقاطه الحق بعوض بطريق الصلح معهم جائز ولا يتمكن فيه معنى الربا سواء وقع الصلح على أقل من قيمته أو أكثر من قيمته لأنه إسقاط لا تمليك وفي الإسقاطات لا يجري الربا وإن ولدته ميتا بطل الصلح لأنه تبين بطلان الوصية حين انفصل ميتا وإنه لم يكن له قبلهم حق مستحق.
ولو أوصى بما في بطن غنمه فذبحها الورثة قبل أن تلد فلا ضمان عليهم فيما في بطونها أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر لأن ذكاة الأم لا تكون ذكاة للجنين عنده فلم يوجد من الورثة صنع في الجنين وأما عندهما فإنما يكون ذكاة الأم ذكاة للجنين إذ انفصل ميتا وإذا انفصل ميتا فلا حق للموصي له فلهذا لا يضمنون له شيئا ولأنه يتوهم انفصال الجنين حيا بعد ذبح الأم فلا يكون هذا من الورثة إتلافا لحق الموصي له بطريق المباشرة والتسبب وإذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان بخلاف العتق فإنه لا يتصور انفصال الولد رقيقا بعد عتق الأم فكان ذلك منه إتلافا لحق الموصي له بطريق المباشرة وإن صالحوه بعد الذبح على شيء لم يجز لأنه لم يكن للموصي له حق استحقاق وكذلك الأمة لو قتلوها هم أو غيرهم كانت القيمة للورثة ولا شيء للموصي له لأن قتل الأم لا يكون قتلا للجنين ويتوهم انفصال الجنين حيا قبل الأم فلهذا لا شيء للموصي له من قيمة الولد.(21/10)
ولو أوصي له بما في ضروع غنمه فصالحه الورثة على لبن أقل من ذلك أو أكثر لم يجز لأنه مبادلة اللبن باللبن مجازفة ولا يقال ينبغي أن يصحح الصلح بطريق الإسقاط كما لو صالحوه على دراهم لأنا وإن جعلناه إسقاطا للحق حكما فمن حيث الحقيقة اللبن موجود في الضرع والوصية لا تصح إلا باعتبار هذه الحقيقة وباعتبار هذه يكون تمليك اللبن بلبن هو أقل منه أو أكثر وباب الربا ينبني على الاحتياط فلهذا لا يجوز وكذلك الصوف لأنه مال الربا كاللبن وهذا بخلاف ما سبق فيما إذا صالح الموصي له الورثة عما في بطن الأمة بعد عتق الأم على أكثر من قيمته لأنا لا نتيقن بوجوب القيمة وإن تيقنا به فالقيمة ليست من جنس ما قبض لا محالة فالتقويم تارة بالدراهم وتارة بالدنانير فيمكن تصحيح ذلك الصلح بطريق الإسقاط بخلاف ما نحن فيه ولو أوصى لصبي بما في بطن أمته أو لمعتوه فصالح أبوه أو وصية الورثة على دراهم جاز بطريق إسقاط حقه بعوض فوليه في ذلك يقوم مقامه لما فيه من النظر ولكن لو كانت الوصية لمكاتب فصالح جاز لأن إسقاط الحق بعوض من باب اكتساب المال والمكاتب فيه كالحر.
ولو أوصى بشيء لما في بطن فلانة لم تجز له الوصية إلا أن تضعه لأقل من ستة أشهر فحينئذ تيقن إنه كان موجودا حين أوجب الوصية له وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا(21/11)
ص -8- ... يتيقن بوجوده حين وجبت الوصية له والوصية أخت الميراث والجنين إذا كان موجودا في البطن يجعل في حكم الميراث كالمنفصل وكذلك في حكم الوصية وإن أقر الموصي أنها حامل ثبتت الوصية له إن وضعته ما بينه وبين سنين من يوم أوصى لأن وجوده في البطن عند الوصية ثبت بإقرار الموصي فإنه غير متهم في هذا الإقرار لأنه يوجب له ما هو من خالص حقه بناء على هذا الإقرار وهو الثلث فيلحق بما لو صار معلوما هنا بأن وضعته لأقل من ستة أشهر فإن صالح عنه أبوه على شيء لم يجز فعل الأب على ما في البطن فإن ثبوت الولاية لحاجة المولي عليه إلى النظر ولا حاجة للجنين إلى ذلك ولأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم ما دام متصلا بها من وجه فكما لا يثبت للأب الولاية على الأم فكذلك على ما هو من أجزائها وكذلك الأم لو كانت هي التي صالحت لأن الأبوة في إثبات الولاية أقوى من الأمومة فإذا كان لا تثبت الولاية على ما في البطن للأب فللأم أولى والجنين وإن كان بمنزلة جزء منها من وجه فهو أولى في الحقيقة في نفس مودعة فيها ولاعتبار معنى النفسية صحت الوصية فالوصية للأجزاء لا تصح ولا يمكن تصحيح هذا الصلح من الأم باعتبار الحرية لهذا المعنى فإن ولدت غلاما وجارية فالوصية بينهما نصفان لأن استحقاق الوصية بالإيجاب بالعقد والذكر والأنثى في ذلك سواء وإنما التفاوت بينهما فيما يستحق ميراثا وإن ولدت أحدهما ميتا وهو للحي منهما بمنزلة ما لو أوصى لحي وميت فإن ولدتهما ميتين أو لأكثر من سنتين حييين فالوصية باطلة وإن ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا فالوصية تبطل أيضا لأن الأرش لا يقوم مقامه أن لو انفصل حيا في استحقاق الوصية كما لا يقوم مقامه في استحقاق الميراث والوصية له في هذا الوجه مخالفة للوصية به لأن البدل لا يقوم مقام الأصل في الحكم الذي يصلح أن يكون مبادلة والأرش يجوز أن يكون مستحقا بالوصية كالأصل أن لو انفصل حيا فقام مقامه في ذلك والأرش لا(21/12)
يجوز أن يكون مستحقا بالوصية فلا يقوم مقامه الأصل في حكم تصحيح الوصية له فلهذا بطلت وصيته.
ولو كان الحمل عبدا فصالح مولاه عليه لا يجوز لأن الولاية كما لا تثبت على ما في البطن باعتبار الأبوة فكذلك لا تثبت باعتبار الملك بل أولى فإن المالكية على القدرة والاستيلاء وذلك يتحقق على ما في البطن فإن صالح مولى الابن الحمل بعد موت المريض على صلح ثم أعتق المولي الأمة الحامل عتق ما في بطنها ثم ولدت غلاما فالغلام حر لأنه انفصل منها وهي حرة ولا وصية له والوصية لمولاه لأن وجوب الوصية بالموت وعند الموت كان مملوكا فصار الموصي به ملكا للمولي ثم عتق بعد ذلك بإعتاق الأم وهو لا يبطل ملكه عما صار مستحقا له من كسبه ولا يجوز الصلح أيضا لأنه لا يمكن تصحيح الصلح بطريق الولاية على ما في البطن ولا باعتبار حقه لأن ثبوت حقه بطريق الخلافة فالمولي يخلف العبد في استحقاق كسبه خلافة الوارث المورث وما لم يتم سبب الاستحقاق للمملوك لا يخلفه المولي في ذلك وإنما يتم السبب إذا انفصل حيا والصلح قبل ذلك فلهذا(21/13)
ص -9- ... لم يجز وكذلك لو باع الأمة وكذلك لو دبر ما في بطنها وهذا أظهر فالتدبير لا يخرج المولي من أن يكون مستحقا لكسب المدبر.
ولو كان الموصي له حيا ثم أعتق المولي الأمة والولد أو أعتق الأمة دون الولد ثم مات الموصي كانت الوصية للغلام دون المولي لأنه صار حرا سواء أعتقه مقصودا أو أعتق أمه وإنما وجبت الوصية بالموت ولو كان حرا يومئذ فكانت الوصية له دون المولي ولو صالح الورثة من الوصية قبل موت الموصي لم يجز لأن استحقاق الوصية بالموت والصلح قبل ثبوت الاستحقاق لا يصح لأن صحته على وجه إسقاط الحق بعوض فإذا لم يكن العوض مستحقا كان الصلح باطلا.
باب الصلح في الجنايات(21/14)
قال رحمه الله: والصلح من كل جناية فيها قصاص على ما قل من المال أو كثر فيها فهو جائز لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] ومعناه من أعطى له من دم أخيه شيء وذلك بطريق الصلح ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فأدوا" والمفاداة بالصلح تكون ولا يتعذر بدل الصلح بالأرش عندنا خلافا للشافعي رحمه الله وهي مسألة الديات واعتمادنا فيه على ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضي بالقصاص على القاتل" ولما رأى الصحابة رضي الله عنهم الكراهية في ذلك من وجهه صلوات الله وسلامه عليه صالحوا أولياء القتيل على ديتين واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن حق استيفاء القود قد يؤول إلى المال عند تعذر الاستيفاء فيجوز إسقاطه بمال بطريق الصلح كحق الرد بالعيب بخلاف حد القذف فإنه لا يؤول ما لا بحال ثم البدل يكون في مال الجاني حالا لأنه التزمه بالعقد ولأنه وجب باعتبار فعل هو عمد وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعقل العاقلة عمدا ولا عيبا" ولو صالحه من الجرح أو الجراحة أو الضربة أو القطع أو الشجة أو اليد على شيء ثم برأ فالصلح جائز لأنه أسقط بهذه الألفاظ حقه بعوض وإن مات بطل الصلح في قول أبي حنيفة رحمه الله وعليه القصاص في القياس وفي الاستحسان عليه الدية في ماله وإن آل الجرح إلى قتل كانت الدية على عاقلته. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الصلح ماض ولا شيء عليه لأنه أسقط الحق الواجب له بالجراحة بالصلح وبعد الموت سبب حقه الجراحة كما بعد البرء وعند أبي حنيفة رحمه الله هو إنما أسقط بالصلح قطعا أو شجة أوجبت له قصاصا وبالموت يتبين أن الواجب له القصاص في النفس لا القطع والشجة فكان هذا إسقاطا لما ليس بحقه فيكون باطلا ولهذا كان عليه القصاص في النفس في القياس ولكنه استحسن فقال(21/15)