وإن ارتفعا إلى القاضي بمكة فللقاضي في ذلك رأي فإن شاء لم ينظر فيما يقولان حتى يقيما عنده البينة لأن صاحب الفسطاط غائب وهما يدعيان على القاضي وجوب النظر عليه في حق الغائب في ماله فلا يلتفت إلى ذلك إذا لم يعرف سببه فإن فعل القاضي بذلك ولم يجدا بينة فدفعه البصري إلى الكوفي فهو على الجواب الأول الذي قلنا إذا لم يرتفعا إلى القاضي وإذا أقام البينة عنده على ما ادعيا قبلت البينة لأنهما أثبتا سبب وجوب ولايته في هذا المال ووجوب النظر للغائب وهذه بينة تكشف الحال فتقبل من غير الخصم أو القاضي كأنه الخصم في موجب هذه البينة ثم يحلف البصري على ما يريد من الرجعة إلى البصرة لأنه يدعي العذر الذي به يفسخ الإجارة في نصيبه وذلك شيء في ضميره لا يقف عليه غيره فيقبل قوله فيه مع يمينه وإن شاء نظر في حالهما من غير إقامة البينة احتياطا في حق الغائب وإذا حلف البصري فالقاضي يخرج الفسطاط من يده لأنها ليس من النظر للغائب ترك الفسطاط في يده ليذهب به إلى البصرة ولكنه يؤاجر نصيبه من كوفي مع الكوفي الأول ليتوصل صاحب الفسطاط إلى غير ملكه ويتوفر عليه الكراء بجميع الفسطاط في الرجوع وإن أراد الكوفي أن يستأجر نصيب البصري فهو أولى الوجوه لأن صاحب الفسطاط كان راضيا بكون الفسطاط في يده ولأن إجارته منه تجوز بالاتفاق لأنه إجارة المشاع من الشريك وذلك جائز وفعل القاضي فيما يرجع إلى النظر للغائب كفعل الغائب بنفسه وإن لم يرغب فيه حينئذ يؤاجره من كوفي آخر فيجوز ذلك على قول من يجوز إجارة المشاع وعلى قول من لا يجوز ذلك فهذا فصل مجتهد فيه فإذا أمضاه القاضي باجتهاده نفذ ذلك منه وإن لم يجد من يستأجره من أهل الكوفة يدفع الفسطاط إلى الكوفي وقال نصفه معك بالإجارة الأولى ونصفه معك وديعة حتى يبلغ صاحبه فهو جائز لما فيه من معنى النظر للغائب باتصال عين ملكه إليه وعلى الكوفي نصف الأجر في الرجوع لأنه استوفي المعقود عليه والشيوع طارئ فلا(16/56)
يمنع بقاء الإجارة ولا أجر على البصري في الرجعة لأنه استوفى المعقود عليه فسخ العقد بعذر عند القاضي ولا ضمان عليه أيضا لأن تسليمه إلى القاضي كتسليمه إلى صاحبه فالقاضي نائب عنه فيما يرجع عليه لذلك.(16/57)
ص -28- ... وإن تكار فسطاطا من الكوفة إلى مكة ذاهبا وجائيا وخرج إلى مكة فخلفه بمكة ورجع إلى الكوفة فعليه الكراء ذاهبا وهو ضامن لقيمة الفسطاط يوم خلفه لأنه تركه في غير الموضع الذي رضي صاحبه بتركه فيه وإن لم يختصما حتى حج من قابل فرجع بالفسطاط فلا أجر عليه في الرجعة لأنه كان استأجره في العام الماضي وقد انتهى العقد بمضي ذلك الوقت فيكون غاصبا ضامنا في استعماله في العام الثاني وكل من استأجر فسطاطا أو متاعا أو حيوانا إذا فسد ذلك حتى لا ينتفع به أو غصبه غاصب فلا أجر على المستأجر منذ يوم كان ذلك لانعدام تمكنه من استيفاء المعقود عليه وعليه أجر ما قبله والقول قول المستأجر إذا اختصما يوم اختصمنا وهو على ما وصفنا من الفساد أو الغصب مع يمينه لأن انعدام تمكنه من الاستيفاء في الحال يمنع البناء على استصحاب الحال فيما مضى والبينة بينة المؤاجر لأنه يثبت حقه ببينته ولا تقبل بينة المستأجر على خلاف ذلك لأنه ينفي بينته ما يثبته الآخر من الأجر.
رجل تكارى دابتين من رجل صفقة واحدة بعشرة دراهم ليحمل عليهما عشرين مختوما فحمل على كل واحدة منهما عشرة مخاتيم فإنما يقسم الأجر على أجر مثل كل واحدة منهما وذلك لصاحبهما لأن المسمى بمقابلة منفعة دابتين ولو كان بمقابلة عينهما بأن يتبعا وجب قيمته على قيمتهما فكذلك إذا كان بمقابلة منفعتهما وقيمة المنفعة أجر المثل فلهذا يقسم على ذلك ولا ينظر إلى ما حمل على كل دابة ألا ترى أنه لو ساقهما ولم يحمل عليهما شيئا وجب الأجر عليه والله أعلم.
باب الإجارة الفاسدة(16/58)
قال رحمه الله: رجل استأجر من رجل ألف درهم بدرهم كل شهر يعمل بها فهو فاسد وكذلك الدنانير وكل موزون أو مكيل لأن الانتفاع بها لا يكون إلا باستهلاك عينها ولا يجوز أن يستحق بالإجارة استهلاك العين ولا أجر عليه لأن العقد لم ينعقد أصلا لانعدام محله فمحل الإجارة منفعة تنفصل عن العين بالاستيفاء وليس لهذه الأموال منفعة مقصودة تنفصل عن العين وبدون المحل لا ينعقد العقد وهو ضامن للمال لأن العقد لما صار لغوا بقى مجرد الإذن فكأنه أعاره إياه وقد بينا أن العارية في المكيل والموزون قرض وإذا استأجر ألف درهم ليزن بها يوما إلى الليل بأجرة مسماة فهو جائز وكذلك لو استأجر حنطة مسماة يعبر بها مكاييل له يوما إلى الليل فهو جائز وذكر الكرخي رحمه الله في مختصره أنه لا يجوز قبل ما رواه الكرخي رحمه الله محمول على ما إذا استأجرها ليعبر بها مكيا لا بغير عينها وما ذكر في الكتاب محمول على ماذا استأجرها ليعبر بها مكيلا لا بعينه فيكون المعقود عليه معلوما وقيل بل فيه روايتان وجه ما قال الكرخي رحمه الله إن هذا النوع من الانتفاع غير مقصود بهذه الأعيان وإذا كان لا يجوز استئجارها للمنفعة التي هي مقصودة منها فلان لا يجوز استئجارها للمنفعة التي هي غير مقصودة منها أولى.(16/59)
ص -29- ... وجه ظاهر الرواية إن ما سمي عملا يعمل بالمستأجر مع بقاء عينه فإن الوزن بالدراهم عمل مقصود كالوزن بالحجر ولو استأجر حجرا ليزن به يوما جاز فكذلك الدراهم وهذا لأن المنافع عند إطلاق العقد كونه متضمنا استهلاك العين لو صح وقد انعدم ذلك بتسمية منفعة تستوفى مع بقاء العين وهو مقصود في الناس أو كالإناء يستأجره ليعمل به أو الثوب ليلبسه وإن استأجر نصيبا في أرض غير مسماة لم يجز وكذلك العبد والدابة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال هو جائز وهو بالخيار إذا علم النصيب وهو قول محمد رحمه الله وقد ذكر في آخر الشفعة أنه لو باع نصيبه من الدار والمشتري لا يعلم كم نصيبه لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله ثم رجع أبو يوسف وقال يجوز فأبو حنيفة استمر على مذهبه في الفصلين حيث لم يجوز البيع والإجارة في النصيب المجهول ومسئلة الإجارة له أيضا بناء على إجارة المشاع فإنه لا يجوز الإجارة في النصيب الشائع وإن كان معلوما فإذا كان مجهولا أولى وأبو يوسف رحمه الله استمر على مذهبه أيضا فإنه جوز البيع والإجارة في نصيب العاقد وإن لم يكن ذلك معلوما للأجير عند العقد لأن إعلامه ممكن بالرجوع إلى قول الموجب ومن أصله أيضا جواز الإجارة في الجزء الشائع ومحمد رحمه الله فرق بين البيع والإجارة وقال في البيع الثمن يجب بنفس العقد فلو صح العقد وجب الثمن بمقابلة مجهول وفي الإجارة لا يجب إلا عند استيفاء المنفعة وعند ذلك نصيب المؤاجر معلوم فإنما يجب البدل بمقابلة المعلوم ومن أصله جواز الإجارة في المشاع.(16/60)
وإن استأجر مائة ذراع مكسرة من هذه الدار أو أجر مائتين من هذه الأرض فإنه لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو جائز في قولهما وهو بناء على ما ذكرنا في البيوع إذا باع مائة ذراع من هذه الدار عند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز لأن الذراع اسم لبقعة معلومة يقع عليها الذرع وذلك يتفاوت في الدار فكما لا ينعقد البيع صحيحا بهذا اللفظ فكذلك الإجارة وعندهما ذكر الذراع كذكر السهم حتى ينعقد به البيع صحيحا فكذلك الإجارة وهو بناء على اختلافهم أيضا في إجارة المشاع ولا يجوز إجارة الشجر والكرم بأجرة معلومة على أن تكون الثمرة للمستأجر لأن الثمرة عين لا يجوز استحقاقها بعقد الإجارة فإنه يجوز بيعه بعد الوجود وإنما يستحق بقدر الإجارة مما لا يجوز بيعه بعد الوجود ولأن محل الإجارة المنفعة وهي عرض لا يقوم بنفسه ولا يتصور بقاؤها والثمرة تقوم بنفسها كالشجرة فكما لا يجوز أن يتملك الشجرة بعقد الإجارة فكذلك الثمرة ولأن المؤاجر يلتزم ما لا يقدر على إبقائه فربما تصيب الثمرة آفة وليس في وسع البشر اتخاذها وكذلك ألبان الغنم وصوفها وسمنها وولدها كل ذلك عين يجوز بيعه فلا يتملك بعقد الإجارة.
وإن استأجر أرضا فيها زرع ورطبة أو شجر أو قصب أو كرم أو ما يمنع من الزراعة(16/61)
ص -30- ... فالإجارة فاسدة لأن استئجار الأرض لمنفعة الزراعة وهذه المنفعة لا يمكن استيفاؤها مع هذه الموانع فقد التزم بالعقد تسليم ما لا يقدر على تسليمه وإن كان مقصود المستأجر ما فيها فهو عين لا يجوز استحقاقه بالإجارة ولا يجوز إجارة الآجام والأنهار للسمك ولا لغيره لأن المقصود استحقاق العين ولأن السمك صيد مباح فكل من أخذه فهو أحق به وإنما يستحق على المؤاجر بالإجارة ما كان مستحقا له ولأن المؤاجر يلتزم ما لا يقدر على إيفائه به فإن أجرها للزراعة فهي ليست بصالحة لذلك وإن أجرها للسمك فربما يجده المستأجر وليس في وسع الآخر أن يمكنه من تحصيل ذلك ولو استأجر بئرا شهرين ليسقي منها أرضه وغنمه لم يجز وكذلك النهر والعين لأن المقصود هو الماء وهو عين لا يجوز أن يتملك بعقد الإجارة ولأن الماء أصل الإباحة ما لم يحرزه الإنسان بآنائه وهو مشترك بين الناس كافة قال صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في الثلاث في الماء والكلاء والنار" فالمستأجر فيه والأجر سواء فلهذا لا يستوجب عليه أجر بسببه.(16/62)
وإن استأجر نهر ليجري فيه شربا له إلى أرضه روى عن أبي يوسف رحمه الله إن ذلك لا يجوز قال أرأيت لو استأجر مسيل ماء على سطح ليسيل ما أسطحه فيه أكان يجوز ذلك فهذا كله فاسد وهكذا ذكره محمد في ظاهر الرواية وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه إن استأجر موضعا معينا معلوما لذلك فهو جائز لأن الجهالة تزول بتعيين الموضع وهي منفعة مقصودة فالاستئجار لأجله يصح وجه ظاهر الرواية أنه مجهول في نفسه فإن الضرر يتفاوت بقلة الماء وكثرته وإعلام مقدار الماء غير ممكن فربما لا يأخذ الماء جميع الموضع الذي عينه وربما يزداد عليه فللجهالة قلنا لا يجوز الاستئجار ولو استأجر عبدا بأجر معلوم كل شهر بطعامه لم يجز لأن طعامه مجهول وهو على رب العبد فإذا شرطه على المستأجر كان فاسدا والمجهول متى ضم إلى المعلوم يصير الكل مجهولا به وكذلك استئجار الدابة بأجر مسمى وعلفها وكذلك كل إجارة فيها رزق أو علف فهي فاسدة إلا في استئجار الظئر بطعامها وكسوتها وإن أبا حنيفة رحمه الله قال أستحسن جواز ذلك وقد بيناه واشتراط تطيين الدار ومرمتها أو غلق باب عليها أو إدخال جذع في سقفها على المستأجر مفسد للإجارة لأنه مجهول فقد شرط الأجر لنفسه على المستأجر وكذلك استئجار الأرض بأجر مسمى واشتراط كرى نهرها أو ضرب مسناة عليها أو حفر بئر فيها أو أن يسرقها المستأجر فهذا كله مفسد للإجارة لأن أثر هذه الأعمال تبقى بعد انتهاء مدة الإجارة ويسلم ذلك للآجر فيكون في معنى شرط أجرة مجهولة على المستأجر لنفسه وكذلك لو اشترط عليه رب الأرض أنه يكون له ما فيها من ذرع إذا انقضت الإجارة وأن يردها عليه مكروبة فهذا كله مجهول ضمه إلى المعلوم وشرطه لنفسه يفسد العقد به.
رجل دفع أرضه إلى رجل يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك لأنه يكون مشتريا نصف الغراس منه بنصف الأرض(16/63)
ص -31- ... والغراس مجهول فلا يصح ذلك هكذا ذكره بعض مشايخنا رحمهم الله فأما الحاكم رحمه الله في المختصر يقول تأويل المسألة عندي أنه جعل نصف الأرض عوضا عن جميع الغراس ونصف الخارج عوضا لعمله فعلى هذا الطريق يقول اشترى العامل نصف الأرض بجميع الغراس وهي مجهولة فكان العقد فاسدا فإن فعل فالشجر لرب الأرض لأن العقد في الشجر كان فاسدا ومذرعته في أرضه بأمره فكأن صاحب الأرض فعل ذلك بنفسه فيصير قابضا للغراس باتصاله بأرضه مستهلكا بالعلوق فيجب عليه قيمة الشجر وأجر ما عمل لأنه ابتغى من عمله عوضا وهو نصف الخارج ولم ينل ذلك فكان عليه أجر مثله.(16/64)
فإن قيل كان ينبغي على قول أبي حنيفة رحمه الله أن يكون نصف الأرض للعامل لأنه اشترى نصف الأرض شراء فاسدا ومن اشترى نصف الأرض شراء فاسدا غرس فيها أشجارا فإنه ينقطع فيها حق البائع في الاسترداد عند أبي حنيفة رحمه الله قلنا هذا أنه لو غرس الأشجار لنفسه وهنا العامل في الغرس يقوم مقام رب الأرض ويعمل له بالأجر فكأن رب الأرض عمل ذلك بنفسه فلهذا لا يملك العامل شيئا من الأرض وإنما اختار هذا التأويل لإمكان إيجاب أجر العمل فإنه لو جعل مشتريا نصف الغرس كان عاملا فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الأجر فلذلك ألزمه قيمة الغرس حين علقت ولو كان مشتريا للنصف لكان يلزمه نصف قيمة الغرس حين علقت ونصف قيمة الشجر وقت الخصومة لأنها أشجار مشتركة بينهما في أرض أحدهما فإنما يتملك صاحب الأرض نصيب صاحبه عليه بالقيمة في الحال ثم قال ولا آمره بقلع الأشجار لما يدخل به من الفساد عليهما وبظاهر هذا يتمسك من يختار الطريقة الأولى أنه يكون مشتريا نصف الغرس لأنه أشار إلى أن الأشجار تكون مشتركة ولكنه لا يقلع لما يدخل به من الفساد عليهما قال الحاكم رحمه الله تأويل هذا اللفظ فساد القلع على رب الأرض وضياع عمل الأجير بالقلع وبطلان حقه في الأجر ولو كان قد أكل الغلة على هذا حسب على الغارس ما أكل من أجره لأن الشجرة ملك رب الأرض وإنما يملك الثمر بملك الشجر فما أكله العامل من ذلك يكون محسوبا عليه من أجره.(16/65)
قال رضي الله عنه والأصح عندي أن يقال في تقليل هذه المسألة أن صاحب الأرض استأجره ليجعل أرضه بستانا بآلات نفسه على أن يكون أجره بعض ما يحصل بعمله وهو نصف البستان فهو كما لو استأجر صباغا ليصبغ ثوبه بصبغ نفسه على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ وذلك فاسد لأنه في معنى قصر الطحان ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن الغرس آلة تصير الأرض بها بستانا كالصبغ للثوب فإذا فسد العقد بقيت الآلة متصلة بملك صاحب الأرض وهي متقومة فيلزمه قيمتها كما يجب على صاحب الثوب قيمة ما زاد الصبغ في ثوبه إلا أن الغراس أعيان تقوم بنفسها فلا يدخل أجر العمل في قيمتها فيلزمه مع قيمة الأشجار أجر مثل عمله لأنه أبقى من عمله عوضا ولم يسلم له ذلك فيستوجب أجر المثل ولو دفع الغزل إلى حائك لينسجه بالنصف فهو فاسد لأنه في معنى قفيز الطحان وقد(16/66)
ص -32- ... بينا اختلاف المشايخ رحمهم الله فيه وكذلك حمل الطعام في سفينة أو على دابة بنصفه غير جائز وهذا لأنه لو جاز صار شريكا بأول جزء من العمل يقع على العامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر فإذا لم يصح العقد لم يملك شيئا من المعمول فيبقى عمله مسلما إلى صاحبه بعقد فاسد فله أجر مثله لا يجاوز به نصف ذلك لتمام رضاه بذلك القدر ولو كان طعاما بين رجلين استأجر أحدهما صاحبه ليحمله أو يطحنه لم يجز ذلك عندنا وهو جائز عند الشافعي رحمه الله لأن هذا العمل في نصيب شريكه غير مستحق عليه فاستئجاره على ذلك كاستئجاره أجنبيا آخر وشركته في المحل لا تمنع صحة الاستئجار كما لو استأجر أحد الشريكين من صاحبه بيتا ليحفظ فيه الطعام المشترك أو دابة لينقل عليها الطعام المشترك صح الاستئجار فهذا مثله وحجتنا الحديث المشهور في النهي عن قفيز الطحان وقد بينا أن معنى النهي أنه لو جاز صار شريكا فذلك دليل على أن تقدم الشركة في المحل يمنع صحة الإجارة وهذا لأن العقد يلاقي العمل وهو عامل لنفسه من وجه وبين كونه عاملا لنفسه وبين كونه عاملا لغيره منافاة والأجير من يكون عاملا لغيره وفيما يكون عاملا لنفسه لا يصلح أن يكون أجيرا بخلاف البيت والدابة فالعقد هناك يرد على المنفعة والبدل بمقابلتها ولا شركة له في ذلك ألا ترى أنه لا يتعين عليه حفظ الطعام المشترك في البيت ولو سلم البيت إليه في المدة استوجب الأجر وإن لم يحفظ فيه شيئا بخلاف ما نحن فيه فالعقد هنا يرد على العمل في المشترك حتى لا يستوجب الأجر بدون العمل ولا يعمله في محل آخر ثم هنا وإن أقام العمل فلا أجر له بخلاف مذهب أبي حنيفة رحمه الله في إجارة المشاع فإن هناك باستيفاء المنفعة يجب أجر المثل وإن كان العقد فاسدا لأن فساد العقد هناك للعجز عن استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي أوجبه العقد لا لانعدام الاستيفاء أصلا فإذا تحقق استيفاء المعقود عليه وجب الأجر وهنا بطلان(16/67)
العقد لتعذر استيفاء المعقود عليه أصلا من حيث أنه في المحل المشترك عامل لنفسه وهو في العمل الواحد لا يكون عاملا لنفسه ولغيره في حالة واحدة وبدون الاستيفاء لا يجب الأجر في العقد الفاسد وعلى هذا نسج الغزل ورعي الغنم التي تكون بينهما فكل من يستوجب الأجر بالعمل فهو داخل في هذا الخلاف.
ولو استأجر رحا ماء على أنه إن انقطع الماء عنها فالأجر عليه لم يجز لأن هذا الشرط مخالف موجب العقد فهو فاسد مفسد للعقد لأن موجب العقد أن لا يجب الأجر إلا بالتمكن من استيفاء المعقود عليه وكل شرط يخالف موجب العقد مفسد للعقد ولأن عقد الإجارة لا يتناول وقت انقطاع الماء حتى لا يجب الأجر فيه وإن لم يفسخ فكأنه جعل جميع المسمى بمقابلة منفعة الرحا في وقت جريان الماء ولا يدري في كم يكون الماء جاريا وجهالة المنع تمنع صحة الإجارة.
ولو استأجر كتبا ليقرأ فيها شعرا أو فقها أو غير ذلك لم يجز لأن المعقود عليه فعل القارئ والنظر في الكتاب والتأمل فيه ليفهم المكتوب فعله أيضا فلا يجوز أن يجب عليه(16/68)
ص -33- ... أجر بمقابلة فعله ولأن فهم ما في الكتاب ليس في وسع صاحب الكتاب ولا يحصل ذلك بالكتاب ولكن لمعنى في الباطن من حدة الخاطر ونحو ذلك وكأن صاحب الكتاب يوجب له مالا يقدر على إيفائه فليس في عين الكتاب منفعة مقصودة ليوجب الأجر بمقابلة ذلك فكان العقد باطلا سمى المدة أو لم يسم ولا أجر له وإن قرأ وكذلك إجارة المصحف والكلام فيه أبين فإن قراءة القرآن من المصحف والنظر فيه طاعة وكان هذا كله نظيره ما لو استأجر كرما ليفتح له بابه فينظر فيه للاستيفاء من غير أن يدخله أو استأجر مليحا لينظر إلى وجهه فيستأنس بذلك أو استأجر جبا مملوأ من الماء لينظر فيه إذا سوى عمامته فهذا كله باطل لا أجر عليه بحكم هذه العقود فكذلك فيما سبق.(16/69)
ولا يجوز أن يستأجر رجلا ليعلم ولده القرآن أو الفقه أو الفرائض عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز ذلك فالمذهب عندنا أن كل طاعة يختص بها المسلم فالاستئجار عليها باطل وعلى قول الشافعي كل ما لا يتعين على الأجير إقامته فالاستئجار عليه صحيح وقد بينا الكلام فيه في كتاب المناسك في الاستئجار على الحج والدليل على أنه لا يجوز الاستئجار على تعليم القرآن حديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به" وقال صلى الله عليه وسلم لمدرس العلم: "إياك والخبز الرقاق" والشرط على كتاب الله تعالى ولما أقرأ أبي بن كعب رضي الله عنه رجلا سورة من القرآن أعطاه على ذلك قوسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار" فقال: لا قال صلى الله عليه وسلم "رد عليه قوسه" ولأن من يعلم غيره القرآن فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يعمل فإنه بعث معلما وهو ما كان يطمع في أجر على التعليم فكذلك من يخلفه وعمله ذلك قربة ومنفعة عمل يحصل له فذلك يمنعه من التسليم إلى غيره وبدون التسليم لا يجب الأجر وبعض أئمة بلخ رحمهم الله اختاروا قول أهل المدينة رحمهم الله وقالوا إن المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله بنوا هذا الجواب على ما شاهدوا في عصرهم من رغبة الناس في التعليم بطريق الحسبة ومروءة المتعلمين في مجازات الإحسان بالإحسان من غير شرط فأما في زماننا فقد انعدم المعنيين جميعا فنقول يجوز الإستئجار لئلا يتعطل هذا الباب ولا يبعد أن يختلف الحكم باختلاف الأوقات ألا ترى أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه حين منعهن من ذلك عمر رضي الله عنه وكان ما رواه من ذلك صوابا.(16/70)
ولو استأجروا من يؤمهم في رمضان أو غيره لم يجز لأن المصلي عامل لنفسه فلا يستوجب الأجر على غيره وكذلك إن استأجروا من يؤذن لهم فالمؤذن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء إلى الله تعالى ومنفعة عمله تحصل له لأن بكثرة الجماعة يزداد ثوابه على أداء الصلاة والأصل فيه ما ذكر من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال كان من آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "صل بالقوم صلاة أضعفهم وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على(16/71)
ص -34- ... الأذان أجرا" وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال إني أحبك فقال عمر رضي الله عنه إني أبغضك في الله قال ولم يا أمير المؤمنين قال بلغني أنك تأخذ على الأذان أجرا ولا تجوز الإجارة على شيء من الغنا والنوح والمزامير والطبل وشيء من اللهو لأنه معصية والاستئجار على المعاصي باطل فإن بعقد الإجارة يستحق تسليم المعقود عليه شرعا ولا يجوز أن يستحق على المرء فعل به يكون عاصيا شرعا وكذلك الاستئجار على الحداء وكذلك الاستئجار لقراءة الشعر لأن هذا ليس من إجارة الناس والمعتبر في الإجارة عرف الناس ولأن ما هو المقصود إنما يحصل بمضى في المستأجر وهو السماع والتأمل والتفهم فلا يكون ذلك موجبا للأجر عليه وإن أعطى المستأجر شيئا من اللهو يلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه لأنه قبضه واستعمله بإذن صاحبه فإن العقد وإن بطل فالإذن في الاستعمال باق.(16/72)
وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة يصلى فيها لم يجز لأنه معصية وكذلك إذا استأجرها ذمي من ذمي وكذلك الكنيسة وبيت النار فإنهم يعتقدون في هذه البقاع ما يعتقده في المساجد واستئجار المسلم من المسلم مسجدا يصلى فيه مكتوبة أو نافلة لا يجوز فكذلك لا يمكن تصحيح هذا العقد فيما بينهم بناء على اعتقادهم وفي اعتقادنا هذا منهم معصية وشرك فالاستئجار عليه باطل ثم استئجار المسجد من المسلم للصلاة فيه كاستئجار مسلم يصلي له وقد بينا أن ذلك باطل لأنه استئجار على الطاعة فهذا مثله وعلى هذا لو استأجر أهل الذمة ذميا ليصلي بهم أو ليضرب لهم الناقوس فهو باطل لأنه معصية وإذا استأجر الذمي من المسلم بيتا ليبيع فيه الخمر لم يجز لأنه معصية فلا ينعقد العقد عليه ولا أجر له عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز والشافعي رحمه الله يجوز هذا العقد لأن العقد يرد على منفعة البيت ولا يتعين عليه بيع الخمر فيه فله أن يبيع فيه شيئا آخر يجوز العقد لهذا ولكنا نقول تصريحهما بالمقصود لا يجوز اعتبار معنى آخر فيه وما صرحا به معصية وكذلك لو أن ذميا استأجر مسلما يحمل له خمرا فهو على هذا عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوزان العقد لأن الخمر يحمل للشرب وهو معصية والاستئجار على المعصية لا تجوز والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله في الخمر عشرا" وذكر في الجملة حاملها والمحمولة إليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول يجوز الاستئجار وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه لا يتعين عليه حمل الخمر فلو كلفه بأن يحمل عليه مثل ذلك فلا يستوجب الأجر ولأن حمل الخمر قد يكون للإراقة وللصب في الخل ليتخلل فهو نظير ما لو استأجره ليحمل ميتة وذلك صحيح فهذا مثله إلا أنهما يفرقان فيقولان الميتة تحمل عادة للطرح وإماطة الأذى فأما الخمر يحمل عادة للشرب والمعصية.(16/73)
وذكر هشام عن محمد رحمهما الله قال ابتلينا بمسئلة وهو أن مسلما استؤجر على أن ينقل جيفة ميتة من المشركين من بلد إلى بلد فكذلك قال أبو يوسف رحمه الله لا أجر له لأنه أنما يحمل حمل الجيفة إلى المقبرة لإماطة الأذى فأما حملهما من بلد إلى بلد فهو(16/74)
ص -35- ... معصية لا يجوز الاستئجار عليه وقلت أنا إن كان الأجير عالما بما أمر بحمله فلا أجر له أيضا وإن لم يعلم بذلك فله الأجر لمعنى الغرور واستئجار الذمي الدابة من المسلم أو السفينة لينقل عليها خمرا على الخلاف الذي بينا.
وإن استأجر ذمي ذميا لشيء من ذلك فهو جائز وكذلك لو استأجره يرعى له خنازير لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم بمنزلة الشاة والبعير في حقنا وإن استأجره ليبيع له ميتة أو دما لم يجز لأن هذا ليس بمال في حق أحد فحكمهم فيها كحكم المسلمين ولا بأس بأن يؤاجر المسلم دارا من الذمي ليسكنها فإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو دخل فيها الخنازير لم يلحق المسلم إثم في شيء من ذلك لأنه لم يؤاجرها لذلك والمعصية في فعل المستأجر وفعله دون قصد رب الدار فلا إثم على رب الدار في ذلك كمن باع غلاما ممن يقصد الفاحشة به أو باع جارية ممن لا يشتريها أو يأتيها في غير المأتى لم يلحق البائع إثم في شيء من هذه الأفعال التي يأتي بها المشتري وكذلك لو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو باع فيها الخمر بعد أن يكون ذلك في السواد ويمنعون من إحداث ذلك في الأمصار وقد بينا ذلك الكلام في هذا الفصل فيما سبق واستدل بحديث ثوبة بن نمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا إخصاء ولا كنيسة في الإسلام" ولحديث مكحول أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه صالحهم بالشام على أن يحصل عن كنائسهم القديمة وعلى أن لا يحدثوا كنيسة في مصر من أمصار المسلمين.(16/75)
وإن استأجر المسلم من المسلم بيتا ليصلي فيه المكتوبة أو التراويح لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد إقامة الطاعة ثم يحق على كل مسلم دينا تمكين المسلم من موضع يصلي فيه عند الحاجة فلا يجوز أن يأخذ على ذلك أجرا فلو استأجر رجلا ليقتل له رجلا أو يشجه أو يضربه ظالما لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد إقامة الطاعة ثم يحق على كل لأنه استئجار على المعصية ولو جاز العقد لصار إقامة العمل مستحقا عليه وفعل ما هو ظلم لا يكون مستحقا على أحد شرعا ولو أعطاه سلاحا لذلك فضاع أو انكسر لم يضمن لأنه قبضه بإذن صاحبه ولو أن قاضيا استأجر رجلا ليضرب حدا قد لزمه أو ليقبض من رجل أو ليقطع يد رجل أو ليقوم عليه في مجلس القضاء شهرا بأجر معلوم فالإجارة جائزة وله الأجر لأن المعقود عليه منافعه في المدة حتى يستوجب الأجر بتسلم النفس وهو معلوم ثم يحكم أنه ملك منافعه ليستعمله في إقامة الحدود وغير ذلك وإن استأجره لإقامة الحدود أو القصاص خاصة لم يجز ذلك لأنه مجهول في نفسه وإن فعل شيئا من ذلك كان له أجر مثله لأنه استوفى منافعه بعقد فاسد.
فإن قيل: إقامة الحد طاعة فكيف يستوجب الأجر على إقامته عند فساد العقد قلنا معنى الطاعة فيه غير مقصود ولهذا صح من الكافر والمسلم كبناء المسجد ونحوه.
ولو استصحبه على أن يجعل له رزقا كل شهر فهو جائز أما إن بين مقدار ما يعطيه(16/76)
ص -36- ... فالعقد جائز لأن المعقود عليه منافعه وهو معلوم وإن لم يبين مقدار ذلك فهو في هذا كالقاضي وللقاضي أن يأخذ رزقا بقدر كفايته من بيت المال وكذلك من ينوب عن القاضي في شيء من عمله وكذلك قسام القاضي إذا استأجره ليقسم كل شهر بأجر مسمى فهو جائز وفي حديث علي رضي الله عنه فإنه كان له قاسم يقسم بالأجر ولأنه لم يتعين إقامة هذا العمل على أحد دينا فيجوز الاستئجار عليه ولو قضى لرجل بالقصاص في قتل فاستأجر رجلا يقتل له لم أجعل له أجرا وفي السير الكبير قال إذا استأجر رجلا يقتل مرتدا أو حربيا أسيرا لم يجز عند أصحابنا رحمهم الله ولو استأجره ليقطع طريقا جاز وأما أنا فلا أفرق بينهما وأجوز العقد فيهما ومراده بقوله عند أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فالحاصل أن عند محمد يجوز الاستئجار على ذلك كله لأنه عمل معلوم بمحله وإقامته جائز شرعا فيجوز الاستئجار عليه كذبح الشاة وقطع الطرق وكسر الحطب وما أشبه ذلك ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله حرفان أشار إلى أحدهما في الكتاب فقال ما قيل إن هذا ليس بعمل يعني أن القتل ازهاق الروح وذلك ليس بصنع العباد كما أن إدخال الروح ليس من صنع العباد ولا يتصور الاستئجار عليه فكذلك الإزهاق بخلاف الذبح فهو عبارة عن تسييل الدم النجس ليتميز به الطاهر من النجس وذلك بقطع الحلقوم والأوداج وهو من صنع العباد والقطع كذلك فإنه إبانة الجزء من الجملة وذلك يحصل بصنع العبد ولأن القتل إيقاع الفعل في المحل مع التجافي ومثله منه ما يحل شرعا ومنه ما يحرم كالمثلة ولا يدري كيف يكون منه إيقاع الفعل والمقصود يتم بضربة أو بضربتين فللجهالة والتردد بين الحل والحرمة لم يجز الاستئجار عليه بخلاف القطع والذبح فإنه يكون بإمرار السلاح على المحل لا بصفة التجافي عنه وكسر الحطب بإيقاع الفعل على المحل بالتجافي ولكن الكل فيه سواء في صفة الحل شرعا فلهذا جاز الاستئجار عليه.(16/77)
ولو استأجر رجلا يغزو عنه لم يجز ذلك لأن الغزو طاعة فهو سنام الدين ولما حضر القتال افترض عليه الذب عن المسلمين وقتال المشركين فلا يجوز له أخذ الأجر على إقامة ما هو فرض عليه قال صلى الله عليه وسلم: "مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون على ذلك أجرا كمثل أم موسى عليه السلام كانت ترضع ولدها وتأخذ الأجر من فرعون". ولو شارط كحالا أن يكحل عينه شهرا بدرهم جاز ذلك وكذلك الدواء في كل داء لأنه عمل معلوم عند أهل الصنعة والاستئجار عليه متعارف بين الناس.
وإذا استأجر فحلا لينزيه لم يجز للأثر الذي جاء به النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيس ولأن المقصود الماء ولا قيمة له وصاحب الفحل يلتزم إيفاء ما لا يقدر على تسليمه ولا تجوز الإجارة على تعليم الغناء والنوح لأن ذلك معصية وإن سلم غلاما إلى معلم ليعلمه عملا وشرط عليه أن يحذقه فهذا فاسد لأن التحذيق مجهول إذ ليس لذلك غاية معلومة وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما وكذلك لو شرط في ذلك أشهرا مسماة لأنه يلتزم(16/78)
ص -37- ... إيفاء ما لا يقدر عليه فالتحذيق ليس في وسع المعلم بل ذلك باعتبار شيء في خلقة المتعلم ثم فيما سمى من المدة لا يدري أنه هل يقدر على أن يحذقه كما شرط أم لا والتزام تسليم ما لا يقدر عليه بعقد المعاوضة لا يجوز.
ولو أجر أرضه بدراهم وشرط خراجها على المستأجر فهذا فاسد لأن الخراج مجهول لا يعرف من أصحابنا رحمهم الله من يقول مراده في الأراضي الصلحية فالمال في ذلك يقسم على الجماجم والأراضي فتزداد حصة الأراضي إذا قلت الجماجم وتنقص بكثرة الجماجم فأما في جراح الوظيفة لا جهالة في المقدار وقيل إن مراده من هذا أن ولاة الظلمة ألحقوا بالخراج روادف يزداد ذلك تارة وينتقص أخرى فيكون مجهولا وقيل معناه أن الخراج بحسب الطاقة وريع الأرض كما أشار إليه عمر رضي الله عنه في قوله لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق وكذلك لو أعطاه بغير أجر إلا أن يشترط عليه أن يؤدي خراجها فإن الخراج على صاحب الأرض فإذا شرطه على المزارع يكون ذلك أجرة وجهالة الأجرة تفسد الإجارة وهذا لأن الواجب في كل جريب درهم وقفيز مما يخرجه وذلك مجهول الجنس في الصفة ولو أجرها وشرط العشر على المستأجر فالعقد فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله لأن العشر عنده على المؤاجر فإذا شرطه على المستأجر كان أجره وهو مجهول الجنس والقدر وعندهما العشر على المستأجر فلا يصير اشتراط ذلك عليه وخراج المقاسمة نظير العشر فيما ذكرنا وإذا كان الأجر كذا درهما ودينارا أو فلسا فهو جائز وله نقد البلد ووزنهم فإن كان وزنهم مختلفا فهو فاسد حتى يبين الوزن بمنزلة الثمن في البيع وقد بيناه وإن جعل الأجر دراهم مسماة عددا بغير وزن وبغير عينها فهو فاسد ومراده في الدراهم الموزونة فإنها تتفاوت في الوزن فأما ما يعد ولا يوزن كالعطر يفي فإذا سمى العدد فيه جاز كما في الفلوس وإن أشار إلى دراهم بعينها جازت الإجارة وإن لم تكن معلومة القدر كالثمن في البيع بخلاف السلم عند أبي حنيفة رحمه(16/79)
الله وقد بينا الفرق في البيوع فإن قال مائة درهم عددا مما يدخل في المائة خمسة كان جائزا لأنه قد سمى الوزن بما ذكر معناه فيما يزن خمسة وتسعين درهما فكأنه قال مائة إلا خمسة.
ولو استأجر رجلا يكتب له مصحفا أو فقها معلوما كان جائزا لأن الكتابة عمل معلوم وهو يتحقق من المسلم والكافر ثم الاستئجار عليه متعارف وقيل الاستئجار على الكتابة كالاستئجار على الصياغة لأن بعمله يحدث لون الحبر في البياض أو كالاستئجار على النقش وذلك جائز إذا كان معلوما عند أهل الصنعة قال الشيخ الإمام رحمه الله الأصح عندي أن المقصود هنا يحصل بعمل الأجير وهي الكتابة بخلاف التعليم فالمقصود هناك لا يحصل إلا بمعنى في المتعلم وإيجاد ذلك ليس في وسع المعلم بينهما ولو استأجر رجلا يعمل عملا فلا أجر له في ذلك بخلاف ما لو استأجر نصيبه من دار بينهما وقد بينا هذا ولو استأجر الوصي نفسه أو عبده يعمل لليتيم لم يجز أما عند محمد رحمه الله فلأن الوصي(16/80)
ص -38- ... لا ينفرد بالعقد لليتيم مع نفسه بحال كما في البيع وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يجوز ذلك إلا بمنفعة ظاهرة ولا منفعة هنا لأن من جهة الوصي مما ليس بمتقوم لنفسه ويشترط على اليتيم بمقابلته مالا متقوما فهذا لا يجوز ولم يذكر أنه لو استأجر اليتيم أو عبد اليتيم بمال نفسه ليعمل له هل يجوز أم لا قالوا وينبغي أن يجوز ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لما فيه من المنفعة الظاهرة لليتيم فإنه يدخل في ملكه مالا بإزاء ما ليس بمال.(16/81)
والأب يستأجر نفسه أو عبده لعمل يعمله لولده فيجوز ذلك ويستوجب الأجر لأن شفقة الأبوة تمنعه من ترك النظر له فيجوز عقده مع نفسه من غير اشتراط منفعة ظاهرة لولده فيه ولو استأجر الوصي من نفسه عبدا لليتيم ليعمل ليتيم آخر في حجرة وهو وصيهما فهذا لا يجوز لأنه إن نفع أحدهما أضر بالآخر وهو لا ينفرد بالتصرف إلا بمنفعة ظاهرة ولا يجوز للصبي أن يؤاجر نفسه لأنه عقد معاوضة كالبيع فلا يملكه المحجور عليه وإنما ذلك إلى وليه وله الأجر إن عمل استحسانا وفي القياس لا أجر له لأن العقد باطل ووجوب الأجر باعتباره فإذا بطل لم يجب الأجر وفي الاستحسان يجب الأجر لأن هذا العقد منه تمحض منفعة بعد إقامة العمل فإنا لو اعتبرنا العقد استوجب الأجر ولو لم يعتبره لم يجب له الأجر والصبي لا يكون محجورا عما يتمحض منفعة له كقبول الهبة والصدقة وكذلك العبد المحجور عليه لا يؤاجر نفسه فإن فعل وسلم من العمل وجب له الأجر استحسانا لما قلنا فإن مات من العمل تقرر الضمان على المستأجر لأنه غاصب له ثم الأجر له لأنه ملكه بالضمان من حين وجب عليه الضمان بخلاف الصبي الحر فإنه وإن هلك في العمل فله الأجر بقدر ما أقام من العمل لأن الحر لا يملك بالضمان وإذا أخذ العبد الأجر فهو لمولاه لأنه كسب عبده فإن أخذه الغاصب من يده فاستهلكه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله لأن إتلاف بدل منفعة كإتلاف منافعه وقد بينا هذا في الغصب.(16/82)
وإذا استأجر نهرا يابسا ليجرى فيه الماء بأرضه أو إلى رحا ماء فهذا فاسد لأن موضع النهر لا يصلح للسكنى واجراء الماء فيه ليس في وسعه ومقدار ما يجرى من الماء مجهول والضرر يختلف بقلته وكثرته وكذلك لو استأجر بالوعة ليصب فيها وضوءه وبوله أو مسيل ماء ليسيل فيه ماء ميزابه فهذا مجهول والضرر يختلف بقلته وكثرته وكذلك لو استأجر بئرا ليسقي منها غنمه وإن أراد الحيلة في ذلك فالوجه أن يؤاجره من حريم النهر والبئر موضعا معلوما ليكون عطنا لمواشيه ويبيح له سقي المواشي من البئر وكذلك إجارة المرعى لا تجوز والحيلة فيه أن يؤاجره موضعا معلوما ليضرب فيه خيمة فيسكن ويبيح له الانتفاع بالمرعى ولو أجره بكرة وحبلا ودلوا يسقي بها غنمه فهو فاسد للجهالة إلا أن يسمى وقتا فيجوز لأن العقد يرد على منفعة العين في المدة فإن استأجر من رجل موضع جزع يضعه على حائطه لم يجز عندنا وجاز عند الشافعي رحمه الله لأنه موضع استأجره لمنفعة معلومة ولو(16/83)
ص -39- ... استعاره لذلك جاز فكذلك إذا استأجره ولكنا أفسدناه للجهالة لأن الضرر يتفاوت بثقل الجذع وخفته وكثرة ما يبنى وقلته وكذلك لو استأجر حائطا ليبنى عليه سترة فهو فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله للجهالة وقد يفضي إلى المنازعة.
وإن استأجر طريقا في دار ليمر فيه كل شهر بأجر مسمى فهو فاسد وفي قول أبي حنيفة رحمه الله لجهالة الموضع الذي يتطرق فيه وللشيوع فإن عنده استئجار جزء من الدار شائعا لا يجوز فكذلك الطريق وعندهما استئجار جزء شائع صحيح فكذلك الطريق وهو معلوم بالعرف على وجه لا يكون فيه منازعة ولو استأجر علو منزل ليبني عليه لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قولهما لأن مقدار بناء العلو معلوم بالعرف وسطح السفل حق صاحب السفل كالأرض ولو استأجر أرضا ليبني عليه بيتا جاز فكذلك إذا استأجر سطح السفل ليبني عليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا استئجار الهواء والهواء ليس بمملوك لأحد ثم مقدار ما يبنى مجهول والضرر على حيطان السفل يتفاوت بقلة ذلك وكثرته وربما تفضي هذه الجهالة إلى المنازعة بخلاف الأرض فالضرر على الأرض لا يختلف بخفة البناء وثقله.
ولو استأجر موضع كوة ينقبها في حائط له يدخل عليه منها الضوء لم يجز لأن هذا ليس من إجاراة الناس ولأن المقصود الإنتفاع بما ليس من ملك المؤاجر وهو ضوء الشمس فكذلك لو استأجر موضعا ليتد في حائط يعلق عليه شيئا فإنه لا يجوز من قبل أنه ليس معه أرض وبهذا اللفظ يستدل من لا يجوز من أصحابنا رحمهم الله استئجار البناء بدون الأرض ففي تأمله تنصيص على هذا ثم الضرر على الحائط يختلف بخفة ما يعلقه على الوتد أو بثقله فهو مجهول على وجه لا يمكن إعلامه وكذلك لو استأجر موضع ميزاب في حائط لأن الضرر على الحائط يتفاوت بقلة الماء الذي يسيل في الميزاب وكثرته فأما إذا استأجر ميزابا مدة معلومة لينصبه في حائط يسيل فيه ماؤه فهذا جائز لأنه عين منتفع به استأجره لمنفعة معلومة.(16/84)
وإذا استأجر رجلا ليعمل له عمل اليوم إلى الليل بدرهم خياطة أو صباغة أو خبزا أو غير ذلك فالاجارة فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يجوز استحسانا ويكون العقد على العمل دون اليوم حتى إذا فرغ منه نصف النهار فله الأجر كاملا وإن لم يفرغ في اليوم فله أن يعمله في الغد لأن المقصود العمل وهو معلوم مسمى وذكر الوقت للاستعجال لا لتعليق العقد به فكأنه استأجره للعمل على أن يفرغ منه في أسرع أوقات الإمكان وهذا لأن المستأجر إنما يلتزم البدل بمقابلة ما هو مقصود له وذلك العمل دون المدة وأبو حنيفة رحمه الله يقول جمع في العقدتين تسمية العمل والمدة وحكمهما مختلف فموجب تسمية المدة استحقاق منافعه في جميع المدة بالعقد وموجب تسمية العمل أن يكون المعقود عليه الوصف الذي يحدثه في المعمول لا منافعه ويتعذر الجمع بينهما اعتبارا وليس أحدهما بالاعتبار(16/85)
ص -40- ... بأولى من الآخر فيفسد العقد بجهالة المعقود عليه وقد تفضي هذه الجهالة إلى المنازعة فإنه إذا فرغ من العمل قبل مضي اليوم فللمستأجر أن يقول منافعك في بقية اليوم حقى باعتبار تسمية الوقت وأنا استعملك وإذا لم يفرغ من العمل في اليوم فللأجير أن يقول عند مضى اليوم قد انتهى العقد بانتهاء المدة وإن كان العمل مقصود المستأجر فالمدة مقصود الأجير فليس البناء على مقصود أحدهما بأولى من البناء على مقصود الآخر ولأن الأجير يلتزم مالا يقدر عليه وهو إقامة جميع العمل المسمى في الوقت المسمى.
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه لو استأجره ليخيط له هذا القميص لا يجوز ولو قال في اليوم يجوز لأن بحرف في يظهر أن مراده من ذكر المدة الاستعجال لا تسمية المقدار المعقود عليه من المنفعة وحرف في للظرف والمظروف وقد يشغل جزءا من الظرف لا جميعه وعلى هذا الخلاف لو استأجر دابة من الكوفة إلى بغداد ثلاثة أيام بأجر مسمى فذكر المدة والمسافة والعمل وكذلك لو استأجره ينقل له طعاما معلوما من موضع إلى موضع من اليوم إلى الليل فهو على الخلاف الذي بينا.
وإن استأجر عبدا شهرا بأجر مسمى على أنه إن مرض فعليه أن يعمل بقدر الأيام التي مرض فيها من الشهر الداخل فهذا فاسد لجهالة مدة الإجارة فلا يدري في أي مقدار من الشهر يمرض ليدخل في العقد بقدر ذلك من الشهر الداخل ثم هذا الشهر يخالف مقتضى العقد لأن مقتضى العقد انتهاؤه بمضي المدة تمكن من استيفاء المعقود عليه أو لم يتمكن وهذا الشرط يخالف ذلك.(16/86)
وإن استأجر بيتا شهرا بعشرة دراهم على أنه إن سكنه يوما ثم خرج عليه عشرة دراهم فهذا فاسد لأن هذا الشرط مخالف لمقتضي العقد لأن مقتضى العقد أنه متى خرج بعذر لا يلزمه الأجر ثم مقدار أجر منفعة البيت في اليوم الأول مجهول أنه ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم وكذلك إن استأجر دابة بعشرة دراهم إلى بغداد على أنه إن بلغ قرية كذا ثم بدا له أن يرجع فله الأجر كاملا فهذا فاسد لجهالة مقدار الأجر إلى الموضع الذي سمي ولأن الشرط يخالف مقتضى العقد.
وإن استأجر دابة ليحمل عليها حمل كذا بأجر معلوم إلى موضع كذا على أنه إن حمل عليها كذا من الحمل فحمل غير ذلك إلى ذلك المكان ولم يحمل الأول فأجرها كذا فهو فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو جائز في قوله الآخر على ما شرطا وكذلك لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة بخمسين درهما وإن زرعها سمسما فأجرها مائة درهم فهو على هذا الخلاف وكذلك إن استأجر بيتا على أنه إن أسكنه بزازا فأجره خمسة وإن أسكنه قصارا فأجره عشرة وجه قوله الأول أن المعقود عليه مجهول والبدل بمقابلته مجهول فالضرر يختلف بسكن القصار والبزاز وهما عقدان في عقد ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعين في بيع أرأيت لو سلم إليه البيت فلم يسكنه أصلا حتى(16/87)
ص -41- ... مضت المدة فماذا يوجب عليه خمسة أو عشرة ووجه قوله الآخر أن كل نوع من المنفعة معلوم بالتسمية والبدل بمقابلته معلوم فيصح العقد وهذا لأن الأجر لا يجب بنفس العقد وإنما يجب باستيفاء المنفعة وعند ذلك لا جهالة في المعقود عليه ولا في البدل فأما إذا لم يسكنها فقال بعض مشايخنا رحمهم الله ينبغي على قياس قوله الآخر أن يلزمه نصف كل واحد من التسميتين لأن وجوب الأجر التمكن من الاستيفاء هنا وقد تمكن من استيفاء المنفعتين جميعا وليس أحد البدلين بالإيجاب عليه بأولى من الآخر فليزمه نصف كل واحد منهما والأصح أنه لا يلزمه إلا خمسة لأن أصل البدل بمقابلة منفعة البيت خمسة ثم التزم زيادة البدل بزيادة الضرر إذا سكنه قصارا لأن ذلك يوهن البناء فإذا لم يسكنها أحدا فقد انعدم ذلك الضرر ألا ترى أنه لو أسكن بزازا لا يلزمه إلا خمسة وقد كان متمكنا من أن يسكنه قصارا فإذا لم يسكنه أصلا أولى أن لا يلزمه إلا خمسة.
رجل استأجر دارا سنة بمائة درهم على أن لا يسكنها ولا ينزل فيها فالإيجارة فاسدة لأنه نفى موجب العقد بالشرط وذلك يضاد العقد وإن لم يسكنها فلا أجر عليه وفي هذا اللفظ تنصيص على أن الإجارة الفاسدة بالتمكن من الاستيفاء لا يوجب الأجر ما لم يوجب الاستيفاء حقيقة كما في النكاح الفاسد وإنما يتكلفون من الفرق بينهما غير معتمد وإن سكنها فعليه بأجر مثلها لا ينقص مما سمى لأنه إنما رضى بالمسمى بشرط أن لا يسكن فعند السكنى لا يكون راضيا به فيلزمه أجر مثلها بالغا ما بلغت وإن جعلت أجر الدار أن يؤذن لهم سنة أو يوما فالإجارة فاسدة وعليه أجر مثل الدار إن سكنها لأنه استوفى منافعها بعقد فاسد فإنما سمى إذا كان لا يصلح بدلا فهو في الحكم كما لو أجرها ولم يسم الأجر ولا أجر له في الأذان والإمامة لأن الإجارة لا تنعقد على هذا العمل لا صحيحا ولا فاسدا ولأنه عامل لنفسه فلا يكون مسلما عمله إلى غيره.(16/88)
وإن تكارى برذونا ليتعرض عليه فإن جاز فعليه عشرة دراهم وإن لم يجز فعليه خمسة فالإجارة فاسدة ومعنى المسألة أن المستأجر من أصحاب الديوان اسمه في ديوان الفرسان وقد يفق فرسه فطلب السلطان العرض فاستأجر الفرس على أنه إن لم يوقف على ضيعة فالأجر عشرة وإن وقف على ذلك فالأجر خمسة فهذا فاسد لجهالة الأجر فلا يدري الجواز ولا يجوز وعليه أجر مثلها فيما استوفى من المنفعة ولا ضمان عليه أن يفق في ركوبه أو أخذه السلطان لأن المقبوض بحكم إجارة فاسدة في حكم الضمان كالمقبوض بحكم إجارة صحيحة وإن تكارى بغلا على أنه كلما ركب الأمير ركب معه فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه وعليه من كل ركبة أجر مثله لأن أجر المثل بعقد فاسد بقدر المستوفى من المنفعة.
وإن تكارى دابة إلى بغداد على أنه إن رزقه الله تعالى من بغداد شيئا أو من فلان شيئا أعطاه نصف ذلك فهذا فاسد لجهالة الأجر والغرر المتمكن بسبب الشرط في أصل الأجر(16/89)
ص -42- ... وعليه أجر مثلها فيما يركب وإن تكاراها إلى بغداد على أنها إن بلغته إلى بغداد فله أجر عشرة دراهم وإلا فلا شيء له فالإجارة فاسدة وعليه أجر مثلها بقدر ما سار عليها لمعنى المخاطرة والضمان وقد تقدم نظيره في مسألة الخياطة والله أعلم بالصواب.
باب إجارة حفر الآبار والقبور
قال رحمه الله: وإذا استأجر حفارا ليحفر له بئرا في داره ولم يسم له موضعا ولم يصفها فهو فاسد لجهالة المعقود عليه فعمل الحفر يختلف باختلاف الموضع في الصلابة والرخاوة والسهولة والصعوبة ويختلف باختلافه البئر في العرض والعمق ولو سمى عشرة أذرع في الأرض ومما يدير هكذا ذراعا بأجر مسمى جاز لأن العمل صار معلوما بتسمية الذرعان عند أهل الصنعة والموضع معلوم بتسمية داره فإن حفر ثلاثة أذرع ثم وجد جبلا أشد عملا وأشد مؤنة فأراد ترك ذلك فليس له ترك ذلك ويجبر على الحفر إذا كان يطاق لأنه إن التزم العمل مع عمله على أن أطباق الأرض تختلف فليس في إبقاء العقد عليه ضرر فوق ما التزم بالعقد فلا يكون ذلك عذرا له في الفسخ وفي الكتاب قال إذا كان يطاق وما من موضع إلا ويطاق فيه حفرا ولكن مراده من هذا اللفظ إذا كان يطاق حفرا بآلة الحفارين ولا يحتاج الأجير إلى اتخاذ آلة أخرى لذلك لأنه إنما التزم إقامة العمل بآلة الحفارين فإذا كان يحتاج إلى اتخاذ آلة أخرى لذلك فهذا ضرر لم يلتزمه بالعقد فيكون عذرا له في الفسخ وإن شرط عليه أن كل ذراع في سهل أو طين بدرهم وكل ذراع في جبل أو ماء بدرهمين وسمى طول البئر خمسة عشر ذراعا فهو جائز لأنه ذكر نوعين من العمل وسمى بمقابلة كل واحد منهما بدلا معلوما ولا يبقى بعد ذلك للتسمية جهالة تفضي إلى المنازعة لأن وجوب الأجر عند الحفر وعند ذلك ما يلزمه من الأجر معلوم القدر.(16/90)
ولو استأجره ليحفر له بئرا عشرة أذرع في جبل مروة فحفر ذراعا ثم استقبل جبلا صما صفا فإن كان يطاق حفره فهو عليه والمروة اللين من الحجر الذي يضرب إلى الخضرة والصفا ما يضرب إلى الحمرة وقد بينا أنه التزم الحفر بآلة الحفارين فإذا كان بحيث يطاق الحفرة بتلك الآلة فلا عذر له في الترك وإن كان لا يطاق فله أن لا يترك الإجارة وله من الأجر بحساب ما حفر وكذلك النهر والقناة والسرداب والبالوعة إذا ظهر الماء فيه قبل أن يبلغ ما شرط عليه فإن كان لا يستطاع الحفر معه فهذا عذر لأن في إيفاء العقد يلحقه الضرر لم يلتزمه بالعقد.
ولو استأجره ليحفر له بئرا في داره فحفرها ثم انهارت قبل أن يفرغ منها فله من الأجر بحساب ما حفر لأنه يقيم العمل في ملك المستأجر فيصير عمله مسلما إليه بقدر ما يفرغ منه ويتقرر حقه في الأجر فلا يسقط حقه بالتلف بعد ما يخرج من ضمانه ولو كانت بئر ماء فشرط عليه مع حفرها طيها بالآجر والجص ففعل وفرغ منها ثم انهارت فله الأجر كاملا وإن انهارت قبل أن يطويها بالآجر فله الأجر بحساب ذلك لأن بنفس العمل يجب له الأجر ويصير العمل مسلما إلى صاحبه فيطالبه بالأجر بحساب ما أقام من العمل.(16/91)
ص -43- ... ولو استأجره ليحفرها في الجبانة في غير ملكه ولا في فنائه فحفرها فانهارت فلا أجر له حتى يسلمها إلى صاحبها بمنزلة العامل من الخياط والقصار في بيت نفسه وهذا لأن عمله ما اتصل بملك المستأجر ليصير المستأجر بذلك قابضا ولا بد لدخول العمل في ضمانه من أن يثبت يده عليه وذلك لا يكون إلا بالتسليم إليه وفي هذا اللفظ دليل على أن الفناء حق المرء ولكنه غير مملوك له ألا ترى أنه قال في غير ملكه ولا في فنائه والفناء في يده لكونه أحق بالانتفاع به فإذا كان الحفر فيه يصير العمل مسلما إليه بمنزلة الحفر في ملكه وكذلك لو استأجره ليحفر له قبرا ثم دفن فيه إنسان قبل أن يأتى المستأجر بجنازته لم يكن على المستأجر أجر لأنه حفر القبر في غير ملك المستأجر فما لم يسلم إليه لا يتقرر حقه في الأجر وإن جاء المستأجر فحال الأجير بينه وبين القبر فانهار بعد ذلك أو دفنوا فيه إنسانا آخر فله الأجر كاملا لأنه قد سلم المعقود عليه إلى صاحبه وإن دفن فيه المستأجر ميتة ثم قال للأجير أحث التراب عليه فأبى الأجير في القياس لا يلزمه ذلك لأنه التزم عمل الحفر وحثى التراب كنس وليس بحفر وهو ضد ما التزمه بعقد الإجارة ولكنى انظر إلى ما يضع أهل ملك البلاد فإن كان الأجير هو الذي يحثي التراب خيرته في ذلك وذلك يعمل بالكوفة وإن كان الأجير لم يفعل ذلك في تلك البلدة لم أجبره عليه وهذا لأن بمطلق العقد يستحق ما هو المتعارف والمعروف في كل موضع يجعل كالمشروط.(16/92)
وإن أراد أهل الميت أن يكون الأجير هو الذي يضع الميت في لحده وهو ينصب اللبن عليه لم يجبر الأجير على ذلك لأن هذا غير متعارف بل العرف ان أقرباء الميت وأصدقاءهم الذين يضعونه في لحده وترك ذلك إلى الأجير يعد من الاستخفاف به فإن وصف له موضع يحفر فيه فوافق فيه جبلا هو أشد من وجه الأرض فحفره لم يزد على أجره لأنه قد التزم عمل الحفر مع عمله باختلاف أطباق الأرض في الصلابة والرخاوة وإن استأجره بالكوفة يحفر قبرا ولم يسم له في أي المقابر يحفر فالعقد فاسد في القياس للجهالة التي تفضي إلى المنازعة ولكن أستحسن إذا حفر في الناحية التي يدفن فيها أهل ذلك الموضع أجعل له الأجر وهذا بناء على عادة أهل الكوفة فإن لكل درب فيهم مقبرة على حدة لأهلها فأما في ديارنا فلو انتقل من محلة إلى محلة فلا بد من تسمية المقبرة بناء على عرف ديارنا وإن سمى له موضعا معلوما فحفر في موضع آخر فلا أجر له إلا أن يدفنوا في حفرته فإن فعلوا ذلك فله الأجر حينئذ وكذلك إن أمروه بحفر القبر ولم يسموا موضعا فحفر في غير مقبرة أهل تلك البلدة أو تلك الناحية فلا أجر له إلا أن يدفنوا في حفرته فحينئذ يستوجب الأجر لوجود الرضاء منهم بعمله حين دفنوا الميتة فيه وإن أرادوا منه تطيين القبر أو تجصيصه فليس ذلك عليه لأنه التزم عمل الحفر والتجصيص ليس من ذلك في شيء وفي العادة الذي يطين القبر غير الذي يحفره.
وإن استأجروه ليحفر لهم القبر ولم يسموا له طوله ولا عرضه ولا عمقه في الأرض(16/93)
ص -44- ... فهو فاسد في القياس لأن القبور تختلف في الطول والعرض والعمق والعمل بحسبه يتفاوت ولكني أستحسن فأجبره فاقدره بوسط ما يعمل الناس لأن ذلك معلوم بالعرف فهو كالشروط بالنص وبمطلق العقد يستحق الوسط في المعاوضات فإنه فوق الوكس ودون الشطط وخير الأمور أوسطها وإن وصفوا له موضعا فوجد وجه الأرض لينا فلما حفر ذراعا وجد جبلا أجبره على أن يحفر إن كان ذلك مما يحفر الناس لأنه التزمه بمطلق العقد وإن لم يسموا له لحدا ولا شقا فهو على عادة أهل تلك الناحية فإن كان بالكوفة فعظم عملهم على اللحد وإن كان في بلد عظم عملهم على الشق فهو على الشق لأن بمطلق العقد يستحق المتعارف والمتعارف ما عليه عظم العمل.(16/94)
ولو استأجره ليكري له نهرا أو قناة فأراه مفتحها ومصبها وعرضها وسمى له كم يمكن في الأرض فهو جائز وإن اشترط طيها بالآجر والجص من عند الأجير فهو فاسد لأنه مشترى للآجر والجص فهذا بيع شرط في الإجارة وذلك مفسد للعقد وإن شرط الآجر والجص من عند المستأجر ولم يسم عدد الآجر فهو في القياس فاسد لجهالة ما شرط عليه من العمل وذلك يتفاوت بتفاوت الآجر وفي الاستحسان هو جائز على ما يعمل الناس لأن عدد ما يحتاج الناس إليه لذلك العمل من الآجر معلوم عند أهل الصنعة فيكون كالمشروط وإن سمى عدد الآجر وكيل الجص وعرض الطي وطوله في السماء فهو اوثق لانه عن المنازعة أبعد وان استأجر قوما يحفرون له سردابا لم يجز حتى يسمى طوله وعرضه وقعره في الأرض فالمعقود عليه لا يصير معلوما إلا بذلك وبعد الإعلام إذا عمل بعضهم أكثر من غيره فالأجر بينهم على عدد الرؤوس لأن استحقاق الأجر يقبل العمل وقد استووا في ذلك ولأنه اشتركوا مع عملهم أنه لا بد من تفاوت في عملهم فكان ذلك رضاء منهم بترك اعتبار ذلك التفاوت وإن لم يعمل واحد منهم لمرض أو عذر فإن كان بينهم شركة في الأصل فله الأجر معهم بعقد الشركة بينهم وإن لم يكن بينهم شركة فلا أجر له لأن استحقاق الأجر بالعمل لا يستحقه من لم يعمل سواء ترك العمل بعذر أو بغير عذر ويرفع عنهم من الأجر بحساب حصته ويكون عملهم في حصته تطوعا لأن كل واحد منهم يستحق الأجر عند العمل بالتسمية فإنما يستحق بقدر ما سمى له وإن زاد عمله على ما التزم بالعقد فهو متطوع في تلك الزيادة.(16/95)
رجل تكارى رجلا يحفر له بئرا عشرة أذرع طولا في عرض معلوم بعشرة دراهم وزعم الحفار أنه شرط أن يحفرها خمسة أذرع طولا ولم يعمل شيئا بعد فإنهما يتحالفان لاختلافهما في مقدار المعقود عليه في حال قيام العقد واحتماله للفسخ وإن كان قد حفر خمسة أذرع فالقول قول المستأجر مع يمينه ويعطيه من الأجر بحساب ما قال لأن الأجير يدعي عليه الزيادة وهو منكر ويحلف الأجير على دعوى المستأجر لأنه يدعي عليه حفر خمسة أذرع أخرى مما التزمه بالعقد وهو منكر فيحلف على ذلك ويتشاركان فيما بقى ولو قال احفر لي(16/96)
ص -45- ... في هذا المكان فحفر فانتهى إلى جبل لا يطاق أي لا يطاق بآلة الحفارين فالأجير بالخيار لما يلحقه من الضرر فوق ما التزمه بالعقد والله أعلم بالصواب.
باب إجارة البناء
قال رحمه الله: وإذا استأجر الرجل رجلا يبني له حائطا بالجص والآجر وأعلمه طوله وعرضه وعمقه وارتفاعه في السماء فهو جائز لأنه عمل معلوم يستأجر عليه عرفا ويقدر الأجير على ايفائه وإن سمى كذا كذا ألف آجرة من هذا الآجر وكذا كذا من الجص ولم يسم الطول والعرض فهو في القياس فاسد لجهالة المعقود عليه لأن المعقود عليه العمل دون الآجر والجص والعمل يختلف باختلاف صفة الحائط في الطول والعرض وفي أسفل الحائط يكون العمل أسهل وكل ما يرتفع من وجه الأرض كان العمل أشق ولكنه استحسن فقال هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة وبنيان مقدار الآجر والجص يصير الطول والعرض في الحائط الذي يبنى عليه معلوم عند أهل الصنعة فلو سمى مع ذلك الطول والعرض كان أجود لأنه عن الجهالة أبعد وإن سمى كذا كذا آجرا ولبنا ولم يسم الملبن ولم يره إياه فهو فاسد في القياس للجهالة ولكنه استحسن فقال إن كان ملبن ذلك البلد الآجر واللبن واحد معلوم فالمعلوم بالعرف كالمشروط بالنص وإن كان مختلف فحينئذ يفسد العقد إذا لم يبين فهو قياس النقد في ذلك .(16/97)
وإذا استأجر بناء ليبني له دارا الأساس والسراديب والسفل والعلو بالطاقات والاساطين والحيطان على مثل ما يبنى بالكوفة كل ألف آجرة وأربعة أكرار جص بكذا فهو في القياس فاسد لأن الأساس والسفل أهون من العلو والطاقات أشد من الحائط المستطيل فكان المعقود عليه مجهولا وربما تفضي هذه الجهالة إلى المنازعة فالبناء عند العقد لا يعرف مراد صاحب البناء ولكنه استحسن فقال صفة البناء معلوم بطريق الظاهر والإنسان إنما يبني داره على عادة أهل بلده وأهل محلته وإن كان يتكلف التفاوت فهو يسير لا تجزئ المنازعة باعتبار العادة قال واجعل الزنابيل والدلاء وآنية الماء على رب الدار للعرف ولأن البناء التزم بالعقد العمل وهذه الأشياء ليس من العمل في شيء فيكون على رب الدار كالآجر والجص ولا طعام على رب الدار في هذه الإجارة لأنه بالعقد التزم الأجر والطعام وراء الأجر ولأنه غير معتاد في تقبل العمل وإنما هو معتاد في استئجار العامل يوما بيوم وإن اشترط رب الدار الزنبيل وآنية الماء على المستقبل فهو عليه لأنه التزمه وقد استأجره للعمل بأداة نفسه وذلك جائز كاستئجار الخياط ليخيط بإبرة نفسه وأما الماء فهو على رب الدار بمنزلة الآجر والجص ولكن على المستقبل أن يسقيه إن كانت في الدار بئر أو كانت البئر قريبة من الدار باعتبار العرف ولكن المرء على المستقبل ولا فرق بين المرء والزنبيل من حيث المعنى ولكن العرف معتبر فيها وإلى ذلك أشار بقوله لأن عمل الناس بالكوفة على ذلك.(16/98)
ص -46- ... وإن تكارى رجلا يعمل له يوما إلى الليل فهو جائز فيعمل له من حين يصلي الغداة إلى غروب الشمس لأنه تكاراه يوما وأول اليوم من طلوع الفجر الثاني إلا أن ما قبل الفراغ من الصلاة صار مستثنى ولأنه يشتغل بالصلاة قبل أن يأخذ في العمل وآخر اليوم غروب الشمس بدليل امتداد الصوم إليه قال والعمال بالكوفة يعملون إلى العصر وليس لهم ذلك إلا أن يشترطوه لأن العرف لا يعارض النص وقد نص عند العقد على يوم ولا يكون له أن يترك العمل قبل غروب الشمس إلا عن شرط ولو اشترط رب الدار على وضع الجذوع والهوادي وكنس السطوح وتطيينها وسمى ذلك فهو جائز لأنه معلوم عند أهل الصنعة وإن استأجره ليبني له باللبن فعلى البناء بل الطين ونقله إلى الحائط إلا أن يكون مكانا بعيدا فيكون بالخيار إذا علم ذلك لأنه يلحقه زيادة ضرر لم يلتزمه بالعقد فإن كان أراه المكان فلا خيار له لالتزامه ذلك القدر من الضرر وإن استأجره ليبني له حائطا بالرهص وشرط عليه الطول والعرض والارتفاع فهو جائز لأن العمل بما سمى يصير معلوما عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت والله أعلم بالصواب.
باب إجارة الرقيق في الخدمة وغيرها(16/99)
قال رحمه الله: وإذ أستأجر عبدا للخدمة كل شهر بأجر مسمى فهو جائز لأنه عقد متعارف وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يباشروا ذلك فهو عمل مباح معلوم في نفسه فيجوز الاستئجار عليه وله أن يستخدمه من السحر إلا أن تنام الناس بعد العشاء الأخيرة لأن بمطلق التسمية يستحق ما هو المتعارف وابتداء الاستخدام من وقت السحر متعارف فمن يبتكر يحتاج إلى أن يسرج الخادم ويهيأ أمر طهوره ويرفع فراش نومه ويبسط ثوب تعبده وكذلك إلى ما بعد العشاء الأخيرة قد يجلسون ساعة خصوصا في زمن طول الليالي ثم يحتاج إلى خادم يبسط فراش نومه ويطوي ثيابه ويطفئ السراج فلهذا كان له أن يستخدمه إلى هذا الوقت وإنما يخدمه كما يفعل الناس فما يكون أعمال الخدمة معلوم عند الناس يطلبون ذلك من المماليك والخدم ولا يكلفونهم فوق ذلك فكذلك في وسط الليل الاستخدام غير متعارف ولا يكون له أن يكلفه ذلك.
ويكره له أن يستأجر امرأة حرة أو أمة يستخدمها ويخلو بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان" ولأنه لا يأمن من الفتنة على نفسه أو عليها إذا خلا بها ولكن هذا النهي لمعنى في غير العقد فلا يمنع صحة الإجارة ووجوب الأجر إذا عمل كالنهي عن البيع وقت النداء.
وإذا استأجر العبد كل شهر بكذا ففي قول أبي حنيفة رحمه الله الأول يطالبه بالأجر شهرا فشهرا وفي قوله الآخر يوما بيوم وقد بينا نظيره وإن دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهر مسماة في تعليم النسخ على أن يعطيه المولى كل شهر شيئا مسمى فهو جائز لأنه استأجره ليتعلم عنده وتعليم الأعمال معلوم عند أهل الصنعة فيصح الاستئجار عليه عند بيان(16/100)
ص -47- ... المدة وإن كان الأستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز لأنه يستخدم الغلام ويستعمله في حوائجه واستأجره مدة معلومة بما سمى من البدل وتعليم العمل وكل واحد منهما يصلح عوضا عند الانفراد فكذلك عند الجمع بينهما وكذلك تعليم سائر الأعمال وتعليم الخط والهجاء والحساب فإن شرط عليه أن يحذقه في ذلك فهو غير جائز لأن التحذيق ليس في وسع المعلم فالحاذقة لمعنى في المتعلم دون المعلم وإن أراد أن يدفع عبده إلى عامل بأجر مسمى سنة فأراد رب العبد أن يستوثق من الأستاذ فإنه يؤاجر الشهر الأول بجميع الأجرة إلا درهما وباقي السنة بنفسه حتى إذا أراد الأستاذ فسخ العقد بعد مضي الشهر لا يتضرر مولى العبد بذلك ويمتنع الأستاذ من ذلك لما لحقه من زيادة الأجر.
قال: وإن أراد الأستاذ أن يستوثق جعل السنة كلها إلا الشهر الأخير بدرهم والشهر الأخير ببقية الأجر وهذا العقد جائز لأنهما عقدا عقدين كل واحد منهما في مدة معلومة ببدل معلوم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يخالف الأجرين فيجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فهذا أقرب إلى التوثق وإنما قصدا بهذا التحرز عن جهل بعض الحكام كيلا يجعلوا عقدا واحدا لاتصال المدة بعضها ببعض واتحاد جنس الأجر.(16/101)
وإذا دفع غلامه إلى عامل ليعلمه عملا ولم يشترط واحد منهما على صاحبه أجرا أو دفعه على وجه الإجارة فلما علمه العمل قال الأستاذ لي الأجر وقال رب العبد لي الأجر فإني أنظر إلى ما تصنع أهل تلك البلاد في ذلك العمل فإن كان المولى هو الذي يعطي الأجر جعلت عليه أجر مثله للأستاذ وإن كان الأستاذ هو الذي يعطي الأجر جعلت على الأستاذ أجر مثله للمولى لأن العقد كان مطلقا بينهما فيجب حمله على المتعارف ولأن الظاهر شاهد لمن يوافق العرف قوله والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه قال رضي الله عنه كان شيخنا الإمام رحمه الله يقول العمل الذي يشترط للأستاذ فيه الأجر في ديارنا عمل المغازل فإنه يفسد الحسب حتى يتعلم وكذلك الذي ينقب الجواهر وما أشبه ذلك من الأعمال الذي يفسد المتعلم بعض ما هو متقوم حتى يتعلم فإذا كان بهذه الصفة فالأجر للأستاذ ولو لم يكن الأجر مسمى عند العقد فيصار إلى أجر المثل فإذا استأجر الرجل غلاما في عمل مسمى كل شهر بكذا فالعقد لازم على كل شهر واحد لأنه اضاف كلمة كل إلى ما لا يعرف منتهاه فيتناول أدناه وكل شهر يستعمله فيه بعد ذلك فله الأجر فإذا دخل من الشهر الثاني يوم واحد واستعمله فيه فقد لزمته الإجارة في ذلك لوجود الرضى منهما دلالة وبعد لزوم العقد لا يكون له أن يخرجه إلا من عذر وإذا أبق العبد من المستأجر فله أن يفسخ الإجارة لتعذر استيفاء المعقود عليه فإن لم يفسخها حتى رجع العبد فالإجارة لازمة له فيما بقي من المدة لزوال العذر وقد بينا أن الإجارة في حكم عقود متفرقة فيما يفسخ العقد في بعض المدة لفوات المعقود عليه فذلك لا يمنع لزومه فيما بقي من المدة.(16/102)
ص -48- ... وإذا استأجر عبدا شهرين شهرا بخمسة وشهرا بستة فهو جائز لأن كل واحد من العقدين يتناول مدة معلومة ببدل معلوم ثم الشهر الأول يجب فيه من البدل ما ذكر أولا إن كان ذكر الخمسة أولا ففي الشهر الأول يجب خمسة لأنه لو اقتصر على المذكور أولا يتعين له الشهر الأول فلا بد من أن يصرف المذكور آخرا إلى الشهر الثاني وإن استأجر ثلاثة أشهر شهرين بدرهم وشهرا بخمسة فالشهران الأولان بدرهم لأن الكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير وإنما بدأ بتفسيره بالشهرين الأولين بدرهم وإن استأجره للخدمة بالكوفة فليس له أن يسافر به لأن خدمة السفر أشق من خدمة الحضر فليس له أن يكلفه فوق ما التزم لأن السفر شقة من العذاب فليس له أن يكلفه بمطلق العقد.
فإن قيل: هو في ملك منافعه ينزل منزلة المولى في منافع عبده وللمولى أن يسافر بعبده فلماذا لا يكون له أن يسافر بأجيره للخدمة قلنا إنما يسافر المولى في منافعه بعبده لأنه يملك رقبته وهو لا يملك رقبة أجيره وإنما يملك منافعه بالعقد والمسمى في العقد استخدامه في الكوفة فلا يكون له أن يجاوز ذلك ألا ترى أنه يزوج عبده لملكه رقبته ولا يدل ذلك أن له أن يزوج أجيره.(16/103)
وأن سافر به فهو ضامن لمولاه لأنه صار غاصبا له بالإخراج والاستخدام لا على الوجه المستحق بالعقد ولا أجر عليه لأن الأجر والضمان لا يجتمعان ولأن المعقود عليه منافع العبد بالكوفة ولا يتصور وجود ذلك بعد إخراجه من الكوفة وإن استأجره بالكوفة ليستخدمه كل شهر بأجر مسمى ولم يشترط الخدمة بالكوفة فهو على الخدمة بالكوفة أيضا وليس له أن يسافر به لأن مطلق العقد ينصرف إلى المتعارف ولأنه بالعقد يستحق الاستخدام فقط والسفر به وراء الاستخدام وهو يلزم مولاه مؤنة الرد فلا يكون ذلك إلا عن شرط فإن سافر به بغير إذن مولاه فهو ضامن ولا أجر عليه لما قلنا وليس له أن يضرب العبد فإن ضربه بغير إذن صاحبه فعطب فهو ضامن ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله ظاهر فقد بيناه في الدابة إن استأجرها أنه لو ضربها فعطبت ضمن عنده ففي العبد أولى وهما يفرقان فيقولان العبد مخاطب يؤمر وينهى فيفهم ذلك ولا يحتاج إلى ضربه عند الاستخدام عادة فلا يصير مأذونا فيه بمطلق العقد بخلاف الدابة فإنها لا تفهم الأمر والنهي ولا تتفاوت في السير إلا بالضرب فيكون له أن يضربها ضربا متعارفا.
وإن دفع الأجر عند غرة الشهر الأول إلى العبد فإن كان المولى هو الذي أجره لم يبرأ من الأجر لأن حقوق العقد في الإجارة تتعلق بالعاقد والعبد ليس بعاقد ولا مالك للأجر فالدفع إليه كالدفع إلى أجنبي آخر وإن كان العبد هو الذي أجر نفسه فهو بريى ء من الأجر لأنه هو العاقد وإليه قبض البدل بحكم العقد وله أن يكلفه كل شيء من خدمة البيت ويأمره أن يغسل ثوبه وأن يخيط ويخبز ويعجن إذا كان يحسن ذلك ويعلق على دابته وينزل بمتاعه من ظهر بيت أو يرقى به إليه ويحلب شاته ويستقى له من ماء البئر فهذا كله يعد من الخدمة(16/104)
ص -49- ... وما يكون من الخدمة معلوم عند الناس باعتبار العادة وفي اشتراط تسمية كل ذلك عند العقد حرج والحرج مدفوع وليس له أن يقعده خياطا ولا في صناعة من الصناعات وإن كان حاذقا في ذلك لأنه استأجره للخدمة وهذا العمل من التجارة ليس من الخدمة في شيء وليس على المستأجر إطعامه إلا أن يتطوع بذلك أو يكون فيه عرفا ظاهرا فله أن يأمره بخدمة أضيافه لأن ذلك من خدمته فالإنسان يستأجر الخادم لينوب عنه فيما هو من حوائجه وخدمة أضيافه من جملة حوائجه وله أن يؤاجره من غيره للخدمة لأن هذا مما لا يتفاوت الناس فيه عادة كسكنى الدار ونحوه ولأن العبد عاقل لاينقاد إذا كلف فوق طاقته وبعد الطاقة لا فرق بين أن يستخدمه المستأجر الأول والثاني.(16/105)
وإن تزوج المستأجر امرأة فقال لها اخدميني وعيالي فله ذلك لأن خدمة العيال من حوائجه وإنما يستأجر الخادم في العادة لذلك وكذلك المرأة إن كانت هي المستأجرة فتزوجت فقالت اخدمني وزوجي فلها ذلك لأنه من حوائجها وهو أظهر فخدمة الزوج عليها فإنما استأجرته لينوب عنها فيما يحق عليها وإن استأجرت امرأة رجلا ليخدمها فهو جائز وأكره أن يخلو بها حرا كان أو عبدا لما فيه من خوف الفتنة وإذا استأجر الرجل امرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لم يجز لأن خدمة البيت مستحقة عليها دينا ومطلوب منها بالنكاح عرفا على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة من علي رضي الله عنهما جعل أمور داخل البيت عليها وأمور خارج البيت عليه ولأن الشرع ألزمه نفقتها لتقوم بخدمة بيته فلا تستحق مع ذلك أجرا آخر وإن سمى وإن استأجرها لترضع ولدا له من غيرها أو لترعى دوابه أو تعمل عملا سوى خدمة البيت فهو جائز لأن هذا العمل غير مستحق عليها ولا مطلوب بالنكاح منها وإن استأجرت المرأة زوجها ليخدمها فهو جائز لأن خدمتها غير مستحقة على الزوج وقال في كتاب الآثار له أن يمتنع من الخدمة لأنه يلحقه مذلة بأن يخدم زوجته وذلك عذر في فسخ الإجارة كالحرة إذا أجرت نفسها للظؤرة ولم تكن معروفة بذلك ولو خدمها كان له الأجر عليها وكذلك لو استأجرته يرعى غنمها أو يقوم على عمل لها فإنه في ذلك كأجنبي آخر.(16/106)
وإن استأجر الرجل ابنه ليخدمه في بيته لم يجز ولا أجر عليه لأن خدمة الأب مستحق على الابن دينا وهو مطالب به عرفا فلا يأخذ عليه أجرا ويعد من العقوق أن يأخذ الولد الأجر على خدمة أبيه والعقوق حرام وكذلك إن استأجرته الأم لأن خدمتها أوجب عليه فإنها أحوج إلى ذلك وأشفق عليه وإن كان أحدهما استأجره ليرعيه غنما أو يعمل غير الخدمة جاز فإن ذلك غير مستحق عليه ولا هو مطلوب في العرف وإن استأجر الابن أباه أو أمه أو جده أو جدته لخدمته لم يجز لأنه منهى عن استخدام هؤلاء لما فيه من الإذلال فلا يجوز أن يصير ذلك مستحقا له قبلهم بعقد الإجارة وكيف يستحق هو ولا يترك هو ليستخدم والده ولا الوالدة تخدمه ولكن إن عمل شيئا من ذلك فله الأجر لأن بعد(16/107)
ص -50- ... الاستخدام لو لم يوجب عليه الأجر كان معنى الإذلال فيه أكبر ولأنا لم نحكم بصحة العقد في الابتداء لكن لا تصير خدمته مستحقة عليه وقد زال هذا المعنى حتى أقام العمل.
وإن كان الابن مكاتبا فاستأجره أبوه لخدمته وأبوه حر غني عن خدمته أو محتاج إليها فهو جائز لأن المملوك لا يلزمه خدمة أحد من أقاربه سوى مولاه فهو في ذلك كأجنبي آخر ولأن خدمته لمولاه ولا سبب بين المولى وبين المستأجر والمكاتب بمنزلة العبد مملوك حتى لا تلزمه نفقة أبيه الحر وإن كان محتاجا فكذلك لا تلزمه خدمته وإن كان الأب عبدا والابن حرا فاستأجره من مولاه ليخدمه بطل ذلك ولم يجز لأن الابن ممنوع من إذلال أبيه وإن كان عبدا ولهذا يعتق عليه إذا ملكه وفي استخدامه إذلاله ولا يلحقه الذل في أن يخدم ابنه وليس للمرأ أن يذل نفسه فإن عمل جعلت له الأجر لما قلنا فإن كان الأب كافرا والابن مسلما أو الابن كافرا والأب مسلما فاستأجره لخدمته لم يجز لأن خدمة الأب مستحقة على الابن دينا مع اختلاف الدين ألا ترى أنه يلزمه نفقته فهو كاستئجار ابنه للخدمة إذا كان موافقا له في الدين.(16/108)
ويجوز الاستئجار للخدمة بين الأخوة وسائر الأقارب كما يجوز بين الأجانب بخلاف الاستخدام بملك اليمين فإن ذلك يثبت بطريق القهر من غير أن يرضي به الخادم والقرابة القريبة تصان عن مثله فأما هذا عقد يعتمد المراضاة والاستخدام عن تراض لا يكون سببا لقطيعة الرحم بينهما فإن استأجر الذمي أو المستأمن مسلما لخدمته حرا أو عبدا فهو جائز ولكن يكره للمسلم خدمة الكافر لما فيه من معنى الذل وليس للمؤمن أن يذل نفسه ولكن هذا النهي لمعنى وراء ما به يتم العقد وإن استأجر المسلم ذميا أو مستأمنا لخدمته كان جائزا ولكن لا ينبغي أن يستخدمه في أمور دينه من أمر الطهور ونحوه فربما لا يؤدي الأمانة فيه قال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي لا يقصرون في الإفساد من دينكم والله أعلم بالصواب.
باب الاستئجار على ضرب اللبن وغيره
قال رحمه الله: وإذا استأجر الرجل رجلا ليضرب له لبنا في داره فإن كان الملبن معلوما فهو جائز لأن العمل يتفاوت بحسب الملبن فإذا كان مجهولا فهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وبعد ما كان معلوما فلا منازعة بينهما فإن أسد لبنه المطر قبل أن يرفعه أو انكسر فلا أجر عليه لأنه لا يصير العمل مسلما إلى المستأجر ما لم يصر لبنا فما دام على الأرض فهو طين لم يصر لبنا بعد ألا ترى أنه لو ترك كذلك فسد وصار وجه الأرض فإن أقامه فهو بريى ء منه اللبان في قول أبي حنيفة رحمه الله وله الأجر وإن فسد بعد ذلك وعندهما لا حتى يجف فإذا جف وأشرح فحينئذ له الأجر ومذهبهما استحسان اعتبرا فيه العرف واللبان هو الذي يتكلف لذلك في العادة ومثل هذا يصير مستحقا بمطلق العقد كإخراج الخبز من التنور وغرف القدور في القصاع يكون مستحقا على الطباخ عند الاستئجار في الوليمة وأبو(16/109)
ص -51- ... حنيفة رحمه الله أخذ بالقياس فقال المستحق عليه يصير الطين لبنا وقد فعل فإنه لما أقام من وجه الأرض عرفنا أنه صار لبنا وخرج من أن يكون طينا فالطين ينتشر على وجه الأرض ولأن الإقامة لتسوية أطرافه وذلك من عمل اللبان فأما بعد ذلك الجفاف ليس من عمل اللبان والتشريح كذلك فإنه جمع اللبن وليس بعمل ليخدمه في العين فهو كالنقل إلى موضع البناء وذلك لا يستحق على اللبان.
توضيحه أن المستأجر قد ينقل اللبن إلى موضع العمل قبل أن يشرحه فلم يكن التشريح من المقاصد لا محالة بخلاف الإقامة فإنه لا ينقله إلى موضع العمل قبل الإقامة فصار ذلك مستحقا له على اللبان لما عرف من مقصود المستأجر وهذا كله إذا كان يقيم العمل في ملك المستأجر فأما في غير ملكه ما لم يشرحه ويسلمه إلى المستأجر لا يخرج من ضمانه حتى إذا فسد قبل أن يسلمه إليه لم يكن له الأجر إلا على قول زفر رحمه الله وقد بينا نظيره في الخياط والفرق بينما إذا كان يعمل في بيت نفسه أو في بيت المستأجر.(16/110)
ولو تكارى خبازا يخبز له لم يجب له الأجر حتى يخرجه من التنور وهذا على مذهبهما ظاهر وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بين هذا وبينما سبق فيقول لا بد من إخراج الخبز من التنور فالمستأجر لا يفعل ذلك بنفسه عادة ولا يستأجر لأجله غيره بخلاف التشريح بعد إقامة العمل فليس ذلك بمطلوب لا محالة لجواز أن ينقله إلى موضع العمل قبل التشريح توضيحه أن الخبز لو ترك في التنور يفسد وما يرجع إلى الإصلاح صار مستحقا على الخباز وذلك في الإخراج من التنور ووزانة الإقامة في اللبن فأما اللبن بعد الإقامة لو ترك ولم يفسد فلا يستحق التشريح على اللبان إلا بالشرط وإن استأجره يضرب له لبنا بملبن معلوم ويطبخ له أجرا على أن الحطب من عند رب اللبن فهو جائز لأنه استأجره لعمل معلوم من عند العامل بآلات المستأجر وإن أفسد اللبن بعد ما أدخله الأتون وتكسر لم يكن له الأجر لأنه لم يفرغ منه بعد فإنه ما لم يخرجه من الأتون لم يتم عمله في طبخ الآجر فما لم يفرغ من العمل لا يصير مسلما إلى صاحبه ولو طبخه حتى يصح ثم كف النار عنه فاختلف هو وصاحبه في الإخراج فإخراجه على الأجير بمنزلة إخراج الخبز من التنور لأنه لو تركه كذلك فسد وإن انكسر قبل أن يخرجه فلا أجر له لأن العمل لا يخرجه من ضمانه ما لم يفرغ منه وإن أخرجه من الأتون والأرض في ملك رب اللبن وجب له الأجر ويبرأ من ضمانه لوقوع الفراغ من العمل وتحصيل مقصود المستأجر بكماله وإن كان الأتون في ملك اللبان فلا أجر له حتى يدفعه إلى صاحبه لأنه ما اتصل عمله بملك المستأجر فلا بد من التسليم إليه حقيقة ليخرج من ضمانه.
وإذا شق رجل راوية رجل فهو ضامن لما شق منها ولما عطب بما سال منها لم يستوعبها صاحبها لأن المائع لا يستمسك إلا بوعاء فشق الرواية بمنزلة صب ما فيها ألا ترى أن قطع حبل القنديل بمنزلة مباشرة الإلقاء والكسر في إيجاب الضمان ولو صب ما فيها كان(16/111)
ص -52- ... متلفا ضامنا لها ولما عطب بما سال منها لأنه تسبب هو فيه متعديا بمنزلة حفر البئر وإلقاء الحجر في الطريق وكذلك إن كان شيئا يحمله رجل فشقه آخر فإن حمله صاحبه وهو ينظر إليه فهذا رضاء بما صنع استحسانا لأنه بعد العلم به لا يترك استئنافه إلا راضيا بصنعه والرضاء بدلالة العرف يثبت كسكوت البكر عند العلم بالعقد ومن باع مجهول الحال ثم قال له أذهب مع مولاك وهو ساكت والصغير والكبير في هذا سواء لأن وجوب هذا الضمان بمباشرة الإتلاف والصبي فيما يؤاخذ به من الأفعال كالبالغ وإذا شق رواية رجل فلم يسل ما فيها ثم مال الجانب الآخر فوقع وانخرق أيضا فهو ضامن لهما جميعا لأنه بمنزلة المباشر يصب ما في الرواية حين شقها وصب ما في إحدى الراويتين يكون إيقاعا للأخرى بطريق إزالة ما به كان الاستمساك وهو تسبب منه لإلقاء الأخرى وهو متعدي في هذا السبب فيكون ضامنا إلا أن يكون صاحبه قد مضى وساق بغيره مع ذلك فيكون ذلك منه دليل الرضى بفعله فلا ضمان عليه فيما يحدث بعد ذلك كما لو أمره في الابتداء حين فعل.
قال: أرأيت لو شق فيه ثقبا صغيرا فقال صاحبها بئسما صنعت ثم مضى وساقها فزلق رجل بما سال منه أكان يكون على الأول ضمان ذلك فلا شيء عليه من ذلك لوجود الرضاء من صاحبها حين ساق بعيره ولأن فعل الأول قد انتسخ بما أخذ به الثاني من سوق البعير ونحوه وهذه المسألة ليست من مسألة الإجارات ولعل محمدا رحمه الله عند فراغه من هذا الكتاب ذكر هذه المسألة قياسا في هذا الموضع كيلا يفوت وقد جعل مثله في كتاب البحر حين ذكر بابا من الإجارات في آخر التجزي وقد بينا شرح ذلك.(16/112)
ثم ذكر في نسخ أبي حفص رحمه الله زيادة مثله هنا قال إذا استأجر الرجل رجلا كل شهر بدرهم على أن يطحن له كل يوم قفيزا إلى الليل فهذا باطل إلا أن يسمى له قفيزا ولكن يقول على أن يطحن لي يوما إلى الليل فحينئذ يجوز وأضاف هذا الجواب إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا قبل هذا في الكتاب أنه متى جمع بين المدة والعمل فالعقد فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله وجائز عندهما وقد جمع هنا بين المدة والعمل ثم أجاب بفساد العقد عندهما فاستدلوا بهذا على رجوعهما إلى قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل بل اختلف الجواب على قولهما باختلاف الموضوع فهناك ذكر ما هو المقصود من العمل بكماله فعرفنا أن ذكر المدة للاستعجال لا لتعليق العقد به فيبقى العقد على العمل سواء فرغ من العمل في تلك المدة أو لم يفرغ وهنا لم يذكر جميع مقصوده في العمل وإنما استأجره مدة معلومة وشرط عليه في كل يوم من أيامه عملا لا يدري أيقدر على الوفاء به أو لا يقدر فلا بد من اعتبار المدة لتعليق العقد بها والعمل مقصود لا بد من اعتباره أيضا وعند اعتبارهما يصير المستحق بالعقد مجهولا على ما قررنا لأن باعتبار المدة المستحق هو الوصف الذي يجد به في المعمول وجهالة المستحق بالعقد مفسد للعقد والله أعلم بالصواب.(16/113)
ص -53- ... كتاب أدب القاضي
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء أعلم بأن القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى وهو من أشرف العبادات لأجله أثبت الله تعالى لآدم عليه السلام اسم الخلافة فقال جل جلاله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وأثبت ذلك لداود عليه السلام فقال عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [صّ: 26] وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] وقال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وهذا لأن في القضاء بالحق إظهار العدل وبالعدل قامت السماوات والأرض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل وإنصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ولأجله بعث الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وبه اشتغل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم.(16/114)
وقد دل على جميع ما قلنا الحديث الذي بدأ به محمد رحمه الله الكتاب ورواه عن أبي بكر الهذلي عن أبي المليح عن أسامة الهذلي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وما كتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [صّ: 20] الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد وقال قتادة الحكمة الفقه وفصل الخطاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقوله فإن القضاء فريضة محكمة أي مقطوع بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير الحكم هذا بيانه في قوله تعالى: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على كل حال فالسنة في اللغة الطريقة وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة.
قال: فافهم إذا أدلى إليك الخصمان والإدلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم إصابة الحق فمعناه عليك ببذل المجهول في إصابة الحق إذا أدلي إليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاضي لأنه لا يتمكن من تمييز الحق من(16/115)
ص -54- ... المطبل إلا بذلك وربما يجرى على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه إقرار بالحق لخصمه فإذا فهم القاضي ذلك أنفذه وإذا لم يفهم ضاع وإليه أشار في قوله فإنه لا ينفع تكلم بحق ولا نفاذ له وقيل المراد استمع إلى كلام الشهود وأفهم مرادهم فإنهم يتكلون بالحق بين يديك وإنما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضي إياه ثم قال أس بين الناس معناه سو بين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعز النفس عنهم بالتأسي(16/116)
وفيه دليل أن على القاضي أن يسوي بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت فاسم الناس يتناول الكل وإنما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال في وجهك ومجلسك وعدلك يعني في النظر إلى الخصمين والإقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى لا يقدم أحدهما على الآخر وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكي أن أبا يوسف رحمه الله قال في مناجاته عند موته اللهم إن كنت تعلم أني ما تركت العدل بين الخصمين إلا في حادثة واحدة فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط بقدر ما أمكنني ثم سمعت الخصومة قبل أن أسوي بينهما في المجلس فهذا كان جوري ليعلم أن هذا من أهم ما ينبغي للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار إليه في الحديث فقال "لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك" والحيف هو الظلم قال الله تعالى {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم قلب خصمه الضعيف فيخاف الجور وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز الضعيف عن إثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك بإقباله على أحدهما وتركه التسوية بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحوز عن ذلك بأقصى ما يمكنه.(16/117)
قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا" وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى قال "والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما" وهذا أيضا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل جواز الصلح وإشارة إلى أن القاضي مأمور بدعاء الخصمين إلى الصلح قد وصف الله تعالى الصلح بأنه خير فقال عز وجل {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وذلك دليل النهاية في الخيرية ويستدل الشافعي رحمه الله بظاهر الاستثناء في إبطال الصلح مع الإنكار قال هو صلح حرم حلالا وأحل حراما لأن المدعي إذا كان مبطلا فأخذ المال كان حرام عليه والصلح يحل له ذلك وإن كان محقا فالصلح يكون على بعض الحق عادة وما زاد على ذلك إلى تمام حقه(16/118)
ص -55- ... كان أخذه حلالا قبل الصلح حرم عليه ذلك بالصلح وكان حراما على الخصم منعه قبل الصلح أحل له ذلك بالصلح ولكنا نقول ليس المراد هذا ولكن المراد تحليل محرم العين أو تحريم ما هو حلال العين بأن وقع الصلح على خمر أو خنزير أو في الخصومة بين الزوجات صالح إحدى المرأتين على أن لا يطأ الأخرى أو صالح زوجته على أن يحرم أمته على نفسه فهذا هو الصلح الذي حرم حلالا أو أحل حراما وهذا باطل عندنا.
قال: ولا يمنعك قضاء قضيت بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل وفيه دليل أنه إذا تبين للقاضي الخطأ في قضائه بأن خالف قضاؤه النص أو الإجماع فعليه أن ينقضه ولا ينبغي أن يمنعه الاستحياء من الناس من ذلك فإن مراقبة الله تعالى في ذلك خير له وإلى ذلك أشار عمر رضي الله عنه حين ابتلى بالحديث في الصلاة الحديث إلى أن قال كدت أن أمضي في صلاتي استحياء منكم ثم قلت لأن أراقب الله تعالى خير من أن أراقبكم فمن ابتلي بشيء من ذلك فليراقب الله تعالى وهذا ليس في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ والمفتي والقاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليظهر رجوعه عن ذلك فزلة العالم سبب لفتنة الناس كما قيل إن زل العالم زل بزلته العالم ولكن هذا في حق القاضي أوجب لأن القضاء ملزم وقوله الحق قديم يعنى هو الأصل المطلوب ولأنه لا تنكتم زلة من زل بل يظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهره على نفسه كان أحسن حالا عند العقلاء من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل.(16/119)
ثم قال: الفهم مما يتلجلج في صدرك وقد بينا تفسير هذه اللفظ وفي تكراره مرة بعد مرة بيان أنه ينبغي للقاضي أن يصرف العناية إلى ذلك خصوصا إذا تمكن الاستيفاء في قلبه فإنه عند ذلك مأمور بالتثبت ممنوع عن المجازفة خصوصا فيما لا نص فيه من الحوادث وإليه أشار في قوله ما لم يبلغك في القرآن والحديث وفيه بيان أنه لا ينبغي للمرء أن يتقلد القضاء مختارا إلا إذا كان مجتهدا وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه وعلم السنة بطرقها ومتونها ووجوه معانيها وأن يكون مصيبا في القياس عالما بعرف الناس ومع هذا قد ابتلي بحادثة لا يجد لها في الكتاب والسنة ذكرا فالنصوص معدودة والحوادث ممدودة فعند ذلك لا يجد بدا من التأمل وطريق تأمله ما أشار إليه في الحديث فقال اعرف الأمثال والأشتباه وقس الأمور عند ذلك فهو دليل جمهور الفقهاء رحمهم الله على أن القياس حجة فإن الحوادث كلها لا توجد في الكتاب والسنة بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر.
ثم قال: واعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى وهذا هو طريق القياس أن ترد حكم الحادثة إلى أقرب الأشياء معنى ولكن إنما يعتبر السنة في المعنى الذي هو صالح لإثبات ذلك الحكم به ثم قال اجعل للمدعى أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذ بحقه،(16/120)
ص -56- ... وإلا وجهت القضاء عليه فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر وفيه دليل على أن القاضي عليه أن يهمل كل واحد من الخصمين بقدر ما يتمكن من إقامة الحجة فيه حتى إذا قال المدعي بينتي حاضرة أمهله ليأتي بهم فربما لم يأت بهم في المجلس الأول بناء على أن الخصم لا ينكر حقه لوضوحه فيحتاج إلى مدة ليأتي بهم وبعد ما أقام البينة إذا ادعى الخصم الدفع أمهله القاضي ليأتي بدفعه فإنه مأمور بالتسوية بينهما في عدله وليكن إمهاله على وجه لا يضر بخصمه فإن الاستعجال إضرار بمدعي الدفع وفي تطويل مدة إمهاله إضرار بمن أثبت حقه وخير الأمور أوسطها وقوله فإن أحضر بينته أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه إن كان مراده دعوى الدفع فهو أوضح لأنه إذا عجز عن إثبات ما ادعي من الدفع وجه القاضي إليه القضاء ببينة المدعي وما لم يظهر عجزه عن ذلك لا يوجه القضاء عليه لأن الحجة إنما تقوم عليه إذا ظهر عجزه عن الدفع بالطعن والمعارضة وإن كان مراده جانب المدعي فمعنى قوله وجهت القضاء عليه ألزمته الكف عن أذى الناس والخصومة من غير حجة وقوله فإن ذلك أجلى للعمى لإزالة الاشتباه وأبلغ في العذر للقاضي عند من توجه القضاء عليه لأنه إذا وجه القضاء عليه بعد ما أمهله حتى يظهر عجزه عن الدفع انصرف من مجلسه شاكرا له ساكتا وإذا لم يمهله انصرف شاكيا منه يقول مال إلى خصمي ولم يستمع حجتي ولم يمكني من إثبات الدفع عنده.(16/121)
ثم قال: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" وقد نقل هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله على جواز القضاء بشهادة المستور قبل السؤال عنه إذا لم يطعن الخصم وصفة العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار اعتقاده فإن دينه يمنعه من الإقدام على ما نعتقد الحرمة فيه فيدل على أنه صادق في شهادته فالكذب في الشهادة محرم في اعتقاد كل مسلم قال صلى الله عليه وسلم في خطبته "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله تعالى" ثم قرأ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ثم قال إلا مجلودا حدا قيل المراد من ظهر عليه ارتكاب كبيرة بإقامة حد تلك الكبيرة عليه فالحدود مشروعة في ارتكاب الكبائر وبظهور ذلك عليه تنعدم العدالة الثابتة ما لم تظهر توبته وانزجاره عنه وقيل المراد المحدود في القذف وقد ذكره في بعض الروايات إلا مجلودا حدا في قذف فهو دليل لنا على أن المحدود في القذف لا تقبل شهادته وإن تاب وإن العدالة المعتبرة لأداء الشهادة تنعدم بإقامة حد القذف عليه كما أشار الله تعالى إليه في قوله {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4] ثم قال أو محرما عليه شهادة زور فإنه إذا عرف منه شهادة الزور فقد ظهر منه الجناية في هذه الأمانة ومن ظهرت جنايته في شيء لا يؤتمن على ذلك ولأنه ظهر منه ارتكاب الكبيرة على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى وعقوق الوالدين ألا وقول الزور" فما زال يقول ذلك حتى قلنا ليته سكت.
ثم قال لوظننا في ولاء أو قرابة أي منهما بسبب قرابة أو ولاء وهو الموالات فهو دليل(16/122)
ص -57- ... على أن شهادة الوالد لولده لا تكون مقبولة وهو دليل لنا على أن شهادة أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل فالزوجية من أقوى أسباب الموالاة وهو مما يجعل كل واحد منهما مائلا إلى صاحبه وقد أشار إلى نفس الولاء والقرابة أنهما لا يقدحان في العدالة ولكن إذا تمكنت التهمة حينئذ يمتنع العمل بالشهادة حتى قيل في معناه إذا ظهر منه الميل إلى مولاه وقرابته في كل حق وباطل حتى يؤثره على غيره وهو تفسير القانع بأهل البيت كما ذكره في الحديث المرفوع.
ثم قال: فإن الله تعالى تولى منكم السرائر يعني أن المحق والمبطل ليس للقاضي طريق إلى معرفته حقيقة فإن ذلك غيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ولكن الطريق للقاضي العمل بما يظهر عنده من الحجة وإليه أشار في قوله ودرأ عنكم بالبينات يعنى درأ عنكم اللوم في الدنيا والإثم والعقوبة في الآخرة وهو معنى الحديث المروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين" يعنى شهادة الشاهدين.
ثم قال: إياك والضجر والقلق وهما نوعان من إظهار الغضب فالقلق الحدة والضجر رفع الصوت في الكلام فوق ما يحتاج إليه والقاضي منهى عن ذلك لأنه يكسر قلب الخصم به ويمنعه من إقامة حجته ويشتبه على القاضي بسببه طريق الإصابة وربما لا يفهم كلام أحد الخصمين عند ذلك قال والبادي بالناس يعني إظهار البادين بكثرة الخصوم بين يديه وإظهار الملال منهم والمراد البادي بما يسمع من بعض الخصوم مما لا حاجة به إليه فقد يطول أحد الخصمين كلامه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يظهر البادي بذلك ما لم يجاوز الحد فإذا تكلم بما يرجع إلى الاستخفاف بالقاضي أو يذهب به حشمة مجلس القضاء فحينئذ يمنعه عن ذلك ويؤدبه عليه.(16/123)
ثم قال: والتنكر للخصوم وهو أن يقطب وجهه إذا تقدم إليه خصمان فإن فعل ذلك مع أحدهما فهو جور منه وإن فعله معهما ربما عجز المحق عن إظهار حقه فذهب وترك حقه ألا ترى إلى قوله تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]؟ ثم قال في مواطن الحق التي يوجب الله تعالى بها الأجر ويحث بها على الذخر يعنى في مجالس الحكم فالحلم وترك الضجر والقلق وإظهار البشر مع الناس محمود في كل موضع وفي مجلس القضاء البشر وطلاقه الوجه أولى بعد أن يكون فعله ذلك لوجه الله تعالى كما قال فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس وإلى نحوه أشار في قوله صلى الله عليه وسلم "من أخلص سريرته أخلص الله علانيته" ثم قال ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه يسبه الله يعنى إذا راءى بعمله والمراءاة مذمومة حرام على كل أحد وهو في حق القاضي آكد لأنه غير محتاج إلى ذلك وإنما يفعل المرء ذلك عند حاجته ولأنه يقلد القضاء ليكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكم به بين الناس فينبغي أن يكون أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كان أبعد الناس عن المراآة والنفاق وقوله يسبه الله أي يفضحه الله(16/124)
ص -58- ... تعالى على رؤوس الأشهاد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به" ثم قال فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته معناه أي أن المرائي بعمله يقصد اكتساب محمد أو منال شيء مما في أيدي الناس وما يفوته به إذا ترك الإخلاص من ثواب الله تعالى فالعاقل إذا قابل ما هو موعود له من الله تعالى عند التقوى والإخلاص بما يطمع فيه من جهة الناس ترجح ما عند الله تعالى لا محالة وذلك عاجل الرزق كما قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] والمغفرة والرحمة كما قال الله تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] أي المتقين المخلصين فالحديث من أوله إلى آخره دليل على أن للقاضي أن يستشعر التقوى فيما يفعل فهو ملاك الأمر قال صلى الله عليه وسلم "ملاك دينكم الورع" وقال "التقي ملجم".(16/125)
وعن عامر: قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه أما بعد فإنني كتبت كتابا في القضاء ما لم آلك ونفسي فيه خيرا وفيه دليل أن الإمام ينبغي له أن يكتب إلى عماله في كل وقت يوصهم وقد كان معاوية رضي الله عنه عامله بالشام فكتب إليه في القضاء بهذا الكتاب وبين أنه لم يقصر بل بالغ في اكتساب الخير لنفسه وله ثم إن عمر رضي الله عنه قال الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بأفضل خطك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب فمن تمسك به سلم له دينه ونال أفضل الحظ من المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمعنى اليمين القاطعة للخصومة والمنازعة ثم قال وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي وإنما أراد الأمر بالمساواة لأن القوي يدنو بنفسه لقوته والضعيف لا يتجاسر على ذلك والقوي يتكلم بحجته وربما يعجز الضعيف عن ذلك فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوي قلبه وينبسط لسانه فيتكلم بحجته.
ثم قال: وتعاهد الغريب فإنك إن لم تعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء فإن الغريب قلبه مع أهله فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة ليرجع إلى أهله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتعاهد الغرباء وقيل مراده أن الغريب منكسر القلب فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن إظهار حجته فيترك حقه ويرجع إلى أهله والقاضي هو المسبب لتضييع حقه حين لم يرفع به رأسه ثم قال وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الأمر وبه كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول "ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن".(16/126)
وعن شريح رحمه الله أن عمر رضي الله عنه كتب إليه أن لا يشار ولا يضار ولا يبيع(16/127)
ص -59- ... ولا يبتاع في مجلس القضاء ولا ترتشي ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان أما قوله لا يشار منهم من يروي بالشين قالوا المراد المشورة أنه لا ينبغي للقاضي في مجلس القضاء أن يشتغل بالمشورة وليكن ذلك في مجلس آخر فإنه إذا اشتغل بالمشورة في مجلس القضاء ربما يشتبه طريق الفصل عليه وربما يظن جاهل أنه لا يعرف حتى يسأل غيره فيزدري به وقد وقع مثل هذا لعمر رضي الله عنه في حادثة بيناها في المناسك والأظهر بالشين لا يشار معناه لا يشار أحد الخصمين لأن ذلك يقصر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل من حيث إن خصمه يظن أنه فيما يشار بصابعه على رشوة ولذلك لا يشار غير الخصمين في مجلس القضاء لأن مجلس القضاء يجمع الناس ومشارة الاثنين في مثل هذا المجلس تؤدي إلى فتنة الآخرين قال صلى الله عليه وسلم "إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه" وقوله "لا يضار من الضرر" أي لا يقصد الإضرار بالخصوم في تأخير الخروج ولا ينغص الخصوم في استعجاله ليعجز عن إقامته حجته وفي رفع الصوت عليه أو في أخذه يسقط من كلامه إن زل فلمجالس القضاء من المهابة والحشمة ما يعجز كل أحد عن مراعاة جميع الحدود في الكلام فإذا لم يعرض القاضي عن بعض ما يسمع كان ذلك منه مضارة والقاضي منهي عن ذلك وفيه دليل على أنه لا يشتغل بالبيع والشراء في مجلس القضاء لأن بذلك ينقص حشمة مجلس القضاء ولأنه مجلس إظهار الحق وبيان أحكام الدين فلا ينبغي أن يخلط به شيئا من عمل الدنيا.(16/128)
وقوله: لا يرتشي المراد الرشوة في الحكم وهو حرام قال صلى الله عليه وسلم "الراشي والمرتشي في النار" ولما قيل لابن مسعود رضي الله عنه الرشوة في الحكم سحت قال ذلك الكفر إنما السحت أن ترشو من تحتاج إليه أمام حاجتك وفي قوله ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان دليل على أن القاضي ينبغي أن لا يشتغل بالقضاء في حال غضبه ولكنه يصبر حتى يسكن ما به فإنه مأمور بأن يقضي عند اعتدال حاله ولهذا ينهى عن القضاء إذا كان جائعا أو كظيظا من الطعام أو كان يدافع الأخبثين لأنه ينعدم به اعتدال الحال فكذلك بالغضب ينعدم اعتدال الحال وربما يجري على لسانه في غضبه ما لا ينبغي أن يسمع الناس ذلك منه وربما يتغير لونه على وجه لا ينبغي أن يراه الناس على تلك الصفة أو إذا ظهر به الغضب عجز صاحب الحق عن إظهار حقه بالحجة خوفا منه ولهذا قلنا يقوم أو ينحى الناس عن قربه حتى يسكن ما به وهذا إذا كان يعتريه ذلك في بعض الأوقات فإن كان ذلك من عادته وذلك نوع من الحدة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها تعتري خيار أمتي" فلا يكف عند ذلك عن القضاء لأنه يلتبس به عقله ويشتبه عليه وجه القضاء بخلاف ما يعتريه من الغضب في بعض الأوقات.
وعن عمر رضي الله عنه أنه دعا قاضيا كان بالشام حديث السن فقال له بم تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال فإذا لم تجد في كتاب الله تعالى قال أقضي بما(16/129)
ص -60- ... قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه دليل على أنه يجوز أن يقلد القضاء من هو حديث السن إذا كان عالما فقد كان عمر رضي الله عنه أكثر الناس نظرا في ذلك ثم قلده مع حداثة سنه وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة قاضيا وأميرا وكان حديث السن ويحكى أن المأمون قلد يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان بن ثمان عشرة سنة فطعن بعض الناس في ذلك لحداثة سنة فكتب إليه المأمون كم سن القاضي فكتب في جوابه أنا على سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر رضي الله عنه بلغه مثل هذا الطعن في مثل هذا القاضي لحداثة سنه فامتحنه بالعلم فقال بم تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى وأصاب في ذلك لأن كتاب الله تعالى إمام المتقين أنزل للعمل به قال فإذا لم تجد في كتاب الله قال أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصاب في ذلك أيضا قلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به قال فإذا لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقضي بما قضي به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد أصاب في ذلك أيضا فقد أمرنا بالاقتداء بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة خلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" قال فإذا لم تجد ذلك في قضائهم قال اجتهد رأيي وأصاب في ذلك فالقاضي مأمور بأن يجتهد رأيه فيما لا نص فيه وهو دليلنا على جواز العمل بالقياس فيما لا نص فيه فاجتهاد الرأى هو القياس يرد حكم الحادثة إلى أشباهها مما هو منصوص وإذا جاز اجتهاد الرأي في باب القبلة عند الاشتباه وانقطاع الأدلة وفي المعاملات من الحروب وغير ذلك فكذلك في القضاء فلما أصاب في جميع ما أجاب قال له عمر رضي الله عنه أنت قاضيها أي أني لا أعزلك عن(16/130)
القضاء ما دمت على هذه الطريقة وفيه دليل أن الإمام إذا علم من حال من قلده أنه صالح لذلك ينبغي أن يقرره على العمل ولا يعزله بطعن بعض المتعنتين ما لم يتبين له شيء مما لا يحمد من السيرة منه.
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال لقد أتى علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك ثم قضى الله تعالى إن بلغنا من الأمر ما يرون قيل هذا إشارة منه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الوحي ينزل وكان عليه الصلاة والسلام يبين لهم فكانوا لا يحتاجون فيه إلى بن مسعود رضي الله عنه وغيره وقيل بل مراده الإشارة إلى زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم متوافرين في ذلك الوقت وما كان يحتاج إلى بن مسعود رضي الله عنه وقيل هذا منه إشارة إلى حال صغره وجهله وإنما قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه لأنه قال هذا حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روي أنه لما قدم علي رضي الله عنه الكوفة وخرج إليه بن مسعود رضي الله عنه مع أصحابه حتى سدوا الأفق فلما رآهم علي رضي الله عنه قال ملأت هذه القرية علما وفقها قال فمن ابتلي منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى(16/131)
ص -61- ... وفي هذا إشارة إلى أن التحرز عن تقلد القضاء أولى فقد عده بن مسعود رضي الله عنه من البلوى بقوله فمن ابتلى منكم وهو اختيار أبي حنيفة رحمه الله فإنه تحرز عن تقلد القضاء بعد ما حبس وضرب لأجله مرارا حتى قال بعض أصحابه رحمهم الله لو تقلدت نفعت الناس فنظر إليه شبه المغضب وقال لو أمرت أن أقطع البحر سباحة أكنت أقدر على ذلك وكأني بك قاضيا ومن اختار تقلد القضاء قال هذا اللفظ من البلاء الذي هو نعمة قال الله تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً}[الأنفال: 17] وإنما أراد من أنعم الله تعالى عليه بهذه الدرجة فليقض بما في كتاب الله تعالى وبذلك كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي" وقيل أهل بيته الأقربون والأبعدون "فإن تمسكتم بهما لم تضلوا".(16/132)
قال فإن لم يجد ذلك في كتاب الله تعالى فليقض بما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك كان يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي رواحة رضي الله عنه في حادثة "أما كان لك في أسوة" فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال صلى الله عليه وسلم "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله" قال فإن لم يجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى الصالحون يعنى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما جاء في الحديث إذا ذكر الصالحون فحيعلا بعمر قال فإن لم يجد فليجتهد رأيه ولا يقولن إني أرى وإني أخاف وفيه دليل على أن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه وإنه لا ينبغي أن لا يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه فكما لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله "فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الحسن رحمه الله وفيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو مؤدي لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده أو أخطأ وهو ما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أي مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء وقد يخطى انتهاء فيما هو المطلوب بالاجتهاد ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه.(16/133)
وذكر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمين "بم تقضي يا معاذ" قلت بما في كتاب الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام "فإن لم تجد ذلك في كتاب الله تعالى" قلت أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم "فإن لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم" قلت أجتهد رأيي فقال صلوات الله عليه وسلامه "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله" وفيه دليل على أن الإمام إذا أراد أن يقلد الإنسان القضاء ينبغي له أن يجربه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك بمعاذ رضي الله عنه مع أنه كان معصوما فغيره بذلك أولى فكان هذا منه على وجه التعليم لأمته ثم حمد الله تعالى حين ظهر من(16/134)
ص -62- ... التجربة كما تفرس فيه وهكذا ينبغي للإمام إذا بلغه عن عامل له ما يرضى به أن يعد ذلك نعمة من نعم الله تعالى عليه فليقابلها بالشكر وفيه دليل جواز اجتهاد الرأى والعمل بالقياس فيما لانص فيه من العلماء رحمهم الله من يقول جواز العمل بالقياس والاجتهاد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يجوز ذلك في حياته لأن الوحي كان ينزل وهو كان يبين لهم ما كانوا يحتاجون إلى الاستنباط في ذلك الوقت والحكم يثبت بالنص مقطوعا به فلا يصار إليه في غير موضع الضرورة والصحيح عندنا أن كان ذلك جائز لهم في حياته صلى الله عليه وسلم كما بعده وحديث معاذ رضي الله عنه يدل عليه فإن لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله بين يديه اجتهد رأيى.
ولما قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: "أقض بين هذين" قال أقضي وأنت حاضر أو جالس قال صلى الله عليه وسلم "نعم" قال على ماذا أقضي قال صلى الله عليه وسلم "على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر واحد" فقد جوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد بحضرته وقد كان يشاورهم ألا ترى أنه شاورهم في أسارى بدر وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفداء وأخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاور السعدين رضي الله عنهما يوم الأحزاب في صلح بني فزارة على بعض ثمار المدينة وأخذ بما أشارا به ولما أشار إليه أسيد بن حضير في النزول عند الماء يوم بدر أخذ برأيه في ذلك وكان صوابا.(16/135)
وينبني على هذا الفصل الاختلاف بين العلماء رحمهم الله في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه فمنهم من يقول كان ينتظر الوحي وما كان يفصل بالاجتهاد والصحيح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد وما كان يقر على الخطأ بيانه أنه لما شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في حادثة قال صلى الله عليه وسلم "قولا فإني فيما لم يوح إلى مثلكما" وقال صلى الله عليه وسلم للخثعمية "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه" فقالت نعم قال صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق" وهذا قول بالاجتهاد وقال عليه السلام لعمر رضي الله عنه في القبلة "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم بججته أكان يضرك" وقال في بيان حرمة الصدقة على بنى هاشم "أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت شاربه" فهذا ونحوه دليل أنه كان يقضي باجتهاده وما كان يقر على الخطأ فقضاؤه يكون شريعة والخطأ لا يجوز أن يكون أصل الشريعة فعرفنا أنه ما كان يقر على الخطأ وبيان ذلك في قوله تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل وإن كان فيه أربع ولم يكن فيه واحدة ففيه وصمة وإن كان فيه ثلاث ولم يكن فيه اثنين ففيه وصمتان وهذا عبارة عن النقصان والوصم كسر يسير وفوقه القصم ونظيره القنص بالأنامل وفوقه القبض باليد وفوقه الأخذ وهو التناول قال فقال قائل ما هي يا أمير المؤمنين قال علم بما كان قبله وهو إشارة إلى ما بينا في حق المجتهد.
قال: ونزهة عن الطمع وهو مأخوذ من النزاهة فمن يتحرز عن شيء يقال هو يتنزه عن كذا والأظهر وتزهد عن الطمع من الزهادة فكل الفتنة للقاضي في طمعه فيما في أيدي(16/136)
ص -63- ... الناس ولما امتحن علي رضي الله عنه قاضيا قال له بم صلاح هذا الأمر قال بالورع قال فبما فساده قال بالطمع قال حق لك أن تقضي فينبغي للقاضي أن يكون منزها عن الطمع ليأمن الفتنة ويخلص عمله لله تعالى.
قال وحكم عن الخصم يعني أن يحكم في بعض ما يسمع من الخصوم مع قدرته على منعه وهو معنى قول عمر رضي الله عنه لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف.
قال واستخفاف باللائمة معناه لا ينبغي للقاضي فيما يفصل من القضاء أن يخاف اللائمة من الناس فإنه إذا خاب ذلك يتعذر عليه القضاء بالحق وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] وهذا لأنه لا بد أن ينصرف أحد الخصمين من مجلسه شاكيا يلوم القاضي مع أصدقائه على ما كان منه وإليه أشار شريح رحمه الله حيث قيل له كيف أصبحت قال أصبحت وشطر الناس علي غضبان فإذا تفكر القاضي واشتغل بالتحرز عن اللائمة يتعذر عليه فصل القضاء.
قال: ومشاورة أولى الرأى وفيه دليل على أن القاضي وإن كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه رضي الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم قال صلى الله عليه وسلم "المشورة تلقح العقول" وقال صلى الله عليه وسلم "ما هلك قوم عن مشورة قط" وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا إلي عليا وادعوا إلي زيد بن أبي كعب رضي الله عنهم فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن لا يدع المشاورة وإن كان فقيها ولكن في غير مجلس القضاء على ما بينا أن الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين فصل القضاء ويكون سببا لازدراء بعض الجهال به.(16/137)
وعن مسروق قال: لأن أقضي يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة فإن مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه وقد كان السلف رحمهم الله في ذلك مختلفين وابتلى مسروق بالقضاء ومن دخل في شيء فإنما يروي محاسن ذلك الشيء وقد بينا طريق أبي حنيفة رحمه الله في إيثار التحرز عن تقلد القضاء وإنما قال مسروق إن القضاء يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة لما في إظهار الحق من المنفعة للناس ودفع الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "عدل ساعة خير من عبادة سنة" وقال صلى الله عليه وسلم "لأن يقام حد في أرض خير من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا".
وعن علي رضي الله عنه قال: القضاة ثلاثة فاثنان في النار وواحد في الجنة فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم وأما الآخر أتاه الله علما فقضى به فذلك في الجنة ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فإنه أقدم على(16/138)
ص -64- ... النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود وفيه نزل قوله تعالى عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159] وقال الله تعالى {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وأما الجاهل فما كان ينبغي له أن يتقلد القضاء ويلتزم أداء هذه الأمانة لأنه لا يقدر على أدائها إلا بالعلم ففي التزام ما لا يقدر على القيام به ظلم نفسه وبعد التقلد لا ضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم أو يسأل العلماء ويقضي بفتواتهم فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه وأنصف المظلوم من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لا يعرف إلا بالرأي فإنما يحمل على أن عليا رضي الله عنه كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما يرسلون.(16/139)
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك أخذ بقفاه ثم يلتفت فإذا أقبل أدفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا وأهل الحديث يروون هذا الحديث يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجور في قوله وملك آخذ بقفاه إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيامة وإن كان عادلا في قضائه في الدنيا فإنما يفهم من الأخذ بالقفاء في عرف الناس الاستخفاف والذل وقيل في تأويله أنه وإن كان عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فلهذا له في الآخرة لما نال من الجاه في الدنيا بطريق هو طريق العمل للآخرة ومعنى قوله أدفعه في مهواة أربعين خريفا أي دفعه على وجهه في النار كما قال الله تعالى {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] وكان المراد من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه يلقى في النار على وجهه ولا يستقر إلا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا وهذا بيان في قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] قال وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكأنما يذبح نفسه بغير سكين" والحصاف رحمه الله يروي هذا من ابتلي بالقضاء فكأنما ذبح بغير سكين وفيه بيان التحريز عن طلب القضاء والتحرز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي صلى الله عليه وسلم كان للتقريب من الفهم.(16/140)
قال رحمه: وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول لا ينبغي لأحد أن يزدري بهذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي فقد حكي أن قاضيا روى له هذا الحديث فازدرى به وقال كيف يكون هذا ثم دعا في مجلسه بمن يسوى شعره فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه إذ عطس فأصابه الموسى فألقى رأسه بين يديه قال ومن ابتلي أن يقضي بين اثنين فلينصفهما في الكلام والنظر ولا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر وقد بينا فائدة هذا اللفظ وما يؤمر به للقاضي من التسوية.(16/141)
ص -65- ... وعن عامر أن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما اختصما في شيء فحكما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه في منزله قال زيد رضي الله عنه هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتي الحكم وفي هذا بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل وإنما كان يقع ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس والإنكار ولهذا كان القاضي يدعى مفتيا وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد بن ثابت رضي الله عنه وإنما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روي أن بن عباس رضي الله عنهما كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا فقبل زيد رضي الله عنه يده وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا وفيه دليل على أن الإمام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر رضي الله عنه في خصومة حكم زيد بن ثابت رضي الله عنه وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغي له أن يأتي العالم في منزله وإن كان وجيها في الناس ولا يدعوه إلى نفسه فإن وجاهته بسبب الدين فيبقى ذلك له إذا عظم الدين والذهاب إلى منزل العالم عند الحاجة إلى علمه من تعظيم الدين ولما استعظم ذلك زيد رضي الله عنه قال هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال في بيته يؤتى الحكم وتأويل استعظام زيد رضي الله عنه أنه خاف فتنة على نفسه بسبب الوجاهة حين أتاه عمر رضي الله عنه في منزله وظن أنه أتاه زائرا وما أتاه محكما له راغبا في علمه فلهذا استعظم ذلك ألا ترى أن عمر رضي الله عنه بين له أنه أتاه للتحكيم فقال في بيته يؤتى الحكم فأتى زيد لعمر رضي الله عنهما بوسادة وكان هذا منه امتثالا لما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" وقد بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رداءه حتى أتاه ولكن عمر رضي الله عنه لم(16/142)
يستحسن ذلك منه في هذا الوقت فقال هذا أول جورك وفيه دليل وجوب التسوية بين الخصمين في كل ما يتمكن القاضي منه وما كان ذلك يخفي على زيد رضي الله عنه ولكن وقع عنده أن الحكم في هذا ليس كالقاضي وأن الخليفة في هذا ليس كغيره فبين له عمر رضي الله عنه إن الحكم في حق الخصمين كالقاضي.
قال: وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه فقال لأبي بن كعب رضي الله عنه لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر رضي الله عنه لا ولكن احلف فترك له أبي رضي الله عنه ذلك وأهل الحديث يروون أن عمر رضي الله عنه قال لزيد رضي الله عنه وهذا أيضا يبين أن على الحكم أن يتحرز عن الميل إلى أحد الخصمين صريحا ودلالة وأن مجلس الشفاعة غير مجلس الحكومة ثم فيه دليل على أنه لا بأس للمرء أن يحلف إذا كان صادقا فقد رغب عمر رضي الله عنه في ذلك مع صلابته في الدين وإن تحرز عن ذلك فهو واسع له أيضا كما روي أن عثمان رضي الله عنه امتنع عن ذلك وقال أخشى أن يوافق قدر يمينى فيقال أصبت بذلك ففيه دليل أن اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه يستوفي بطلبه(16/143)
ص -66- ... ويترك إذا ترك ألا ترى أن أبيا رضي الله عنه ترك له ذلك وبيان هذا فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدعي "ألك بينة" فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم "ألك يمين".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا أحسد إلا في اثنين رجل أتاه الله مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل أتاه الله علما فهو يعلمه ويقضي به ومعناه الحسد يضر إلا في الاثنين فيكون في ذلك بيان أن الحسد مذموم يضر الحاسد إلا فيما استثناه فهو محمود في ذلك وهذا ليس بحسد في الحقيقة بل هو غبطة والغبطة محمودة فمعنى الحسد هو أن يتمنى الحاسد أن تذهب نعمة المحسود عنه ويتكلف لذلك ومعنى الغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير أن يتكلف ويتمنى ذهاب ذلك عنه وهذا في أمر الدنيا غير مذموم ففي أمر الدين أولى أن يكون محمودا والذي ينفق ماله في طاعة الله تعالى يكتسب الآخرة بدنياه والذي يعلم ويقضي به بالحق يكتسب المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمن يتمنى لنفسه مثل ذلك يكون محمودا على هذا المعنى فأما الحسد المذموم فهو ما قيل الحاسد جاحد لقضاء الواحد فهو أن يتكلف لذهاب ذلك عنه ويعتقد أن تلك نعمة في غير موضعها وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "لا ينجو أحدكم من الحسد والظن والطيرة" قيل وما المخلص من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "إذا حسدت فلا تبغ" أي لا تتكلف لإزالة النعمة عن المنعم عليه "وإذا ظننت فلا تحقق وإذا نظرت فلا ترجع".(16/144)
وعن سوار بن سعيد قال: شهدت أنا ورجل عند شريح رحمه الله بشهادة ففيه صاحبي عن حجته أي عجز عن إظهار حجة وغفل عن ذلك فقلت له أتفسد شهادتي إن أعربت عنه فقال لا فأعربت عنه فقضي له وإنما قال هذا لأن من يكون خصما في حادثة لا تقبل شهادته في تلك الحادثة فخاف إن أظهر حجته صاحبه أن يجعله خصما ويفسد شهادته فبين له شريح رحمه الله أنه لا يصير خصما بهذا القدر إذا لم يوكله صاحبه به بل هو متبرع فيما يظهر من حجة صاحبه وليس فيه أكثر من أن يعين المدعي وما حضر مجلس القاضي إلا لتعيين المدعي وتوصله إلى حقه فلا يفسد به شهادته.
وعن سوار قال: اختصم قوم عند شريح رحمه الله فذكرت له ذلك فقال ما رآه فهم وسأذكر ذلك له الليلة فذكر ذلك له فقال ما فهمت فمرهم أن يرجعوا لي فرجعوا إليه فقضي لهم وفيه دليل على أنه ينبغي لمن وقف على خطأ القاضي في قضائه أن ينبهه ولا يجاهره بذلك مراعاة لحشمته ولكنه يأمر أقرب الناس منه ليخبره بذلك في حال خلوته وفيه دليل أن القاضي إذا تبين له خطأ في قضائه ينبغي له أن يظهر رجوعه عن ذلك ولا يمنعه الاستيحاء عن الناس من ذلك ولا الخوف فالله تعالى يحفظه من الناس والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى.
وعن مكحول قال: لأن أكون قاضيا أحب إلي من أن أكون خازنا يعنى أن خازن بيت المال عامل للمسلمين والقاضي كذلك إلا أن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم والقاضي(16/145)
ص -67- ... يحفظ عليهم دينهم وتمكن الخازن من المال خوف الفتنة على نفسه بسببه أكثر من تمكن القاضي فلهذا آثر القضاء وقد بينا أن المتقدمين فيه من كان يؤثر تقلد القضاء على الامتناع منه.
وعن شريح رحمه الله قال: ما شددت على لهواة خصم أي ما منعته من إظهار حجته وما قويت أحد الخصمين على الآخر بتلقين شيء قط ولهذا بقي في القضاء مدة طويلة وعن علي رضي الله عنه أنه أضاف رجلا فلما مكث أياما قرب إليه في خصومة فقال له علي رضي الله عنه أخصم أنت فقال نعم فقال علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا أن يكون خصمه معه وفيه دليل أنه لا بأس للإمام أن يخص بعض الناس بالضيافة إذا لم يكن له خصومة وإنه لا ينبغي له أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل ولا بأس بأن يضيفهما جميعا لأن تهمة الميل تنتفى عنه إذا سوى بينهما.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه "اقض بين هذين" قال أأقضى وأنت حاضر أو جالس قال صلوات الله عليه وسلامه "نعم" قال علي ماذا أقضى قال سلام الله عليه "على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة" وفيه دليل لأهل السنة رحمهم الله المجتهد يصيب ويخطئ وعليه دل قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] والفهم هو إصابة الحق فقد خصه بذلك ففيه دليل على أنه معذور وإن أخطأ وهذا إذا لم يكن طريق الإصابة بينا وهو مثاب على اجتهاده فإن أصاب المطلوب بالاجتهاد فله ثواب الاجتهاد وثواب إظهار الحق بجهده وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "فلك عشر حسنات" وإن أخطأ فله حسنة على اجتهاده إذا كان مصيبا في طريق الاجتهاد وإن لم يصب المطلوب بالاجتهاد.(16/146)
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى مع القاضي ما لم يخف عملا يشدده للحق ما لم يرد غيره" وهذا في كل عامل يبتغى بعمله وجه الله تعالى فالله تعالى يعينه على ذلك ويوفقه قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه "لا تسأل الإمارة فإنك إن تعطيها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أمنت عليها" ثم هذا الوعد للقاضي ما لم يظلم عمدا فالحيف هو الظلم فإذا اشتغل به وكله الله إلى نفسه وكذلك إذا أراد بعمله غير الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن الله عز وجل "أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا وأشرك فيه غيري فهو كل لذلك الشريك وأنا منه بريء".
قال: وينبغي للقاضي أن ينصف الخصمين في مجلسهما وفي النظر إليهما وفي المنطق أي يسوى بينهما فالإنصاف عبارة عن التسوية مأخوذ من المناصفة ففي كل ما يتمكن من مراعاة التسوية فيه فعليه أن يسوي بينهما في ذلك إلا ما لا يكون في وسعه الامتناع منه من(16/147)
ص -68- ... النهى فعليه أن يظهر حجة أحدهما فهو غير مأخذ بذلك لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي في القسم بين نسائه ثم يقول "اللهم هذا في ما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعنى من الميل بالقلب إلى عائشة رضي الله عنها ولا ينبغي أن يرفع صوته على أحدهما ما لا يرفعه على الآخر لأن التسوية بينهما في ذلك ممكنة وتخصيص أحدهما برفع الصوت عليه تجر تهمة إليه وهو مكسر القلب من يرفع صوته عليه ولا ينطلق بوجهه إلى أحدهما في شيء من المنطق ما لا يفعله بالآخر لأنه يزداد به قوة وجراءة على الخصم ويطمع أن يميل بالرشوة إليه ولا ينبغي له أن يشد على عضد أحدهما ولا يلقنه حجته فإن ذلك نوع من الخصومة وبين كونه قاضيا وخصما منافاة وهو مكسر لقلب الخصم وسبب لجر تهمة الميل إليه وهو إنشاء الخصومة وإنما جلس لفصل الخصومة لا لإنشائها.(16/148)
وينبغي له أن لا يشتري شيئا ولا يبتع في مجلس القضاء لنفسه لأنه جلس للقضاء فلا يخلط به ما ليس من القضاء ومعاملته لنفسه في شيء ولأن الإنسان فيما يبيع ويشتري يماكس عادة وذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ويضع من جاهه بين الناس وفي قوله لنفسه إشارة إلى أنه لا بأس بأن يفعل ذلك في مجلس القضاء ليتيم أو ميت مديون فإن ذلك من عمل القضاة وإنما جلس لأجله ومباشرة ذلك في مجلس القضاء يكون أبعد عن التهمة منه إذا باشره في غير مجلس القضاء ولا بأس بأن يبيع ويشتري لنفسه في غير مجلس القضاء عندنا ومن العلماء رحمهم الله من كره ذلك للقاضي ويروون في ذلك حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يبيع القاضي ولا يبتاع" ولأن العادة أن الناس يسامحون في المعاملة مع القضاء بين أيديهم خوفا منهم أو طمعا فيهم فيكون من هذا الوجه في معنى من يأكل بدينه والمقصود يحصل إذا فوض ذلك إلى غيره ليباشر على وجه لا يعلم أنه يباشر ولكنا نقول نستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى سراويل بدرهمين الحديث فقد باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشراء لنفسه وكان رؤساء القضاء والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يباشرون ذلك بأنفسهم حتى أن أبا بكر رضي الله عنه بعد ما استخلف حمل متاعا من متاع أهله إلى السوق ليبيعه ولأنه بعد تقلد القضاء يحتاج لنفسه وعياله إلى ما كان محتاجا إليه قبل التقلد وبأن تقلد هذه الأمانة لا يمتنع عليه معنى النظر لنفسه والقيام بمصالح عياله وتهمة المساحة موهومة أو هو نادر فلا يمتنع عليه التصرف لأجله ولأن ذلك إذا لم تكن مباشرة هذا التصرف من عادة القاضي في كل وقت فأما إذا كان ذلك من عادته فقلما يسامح في ذلك فوق ما يسامح به غيره وتأويل النهي إن صح في مجلس القضاء.(16/149)
ولا يسار أحد الخصمين بشيء لأن ذلك يجر إليه تهمة الميل وينكسر بسببه قلب الآخر وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء فلا ينبغي أن يشتغل به وإذا تقدم إليه الخصمان فهو بالخيار إن شاء ابتدأهما فقال مالكما وإن شاء تركهما حتى يبتدآه بالمنطق وبعض القضاة يختار السكوت ليكون الخصم هو الذي يبتدئ بالكلام لأن القاضي إذا ابتدأهما كان(16/150)
ص -69- ... ذلك منه تهيجا للخصومة وإنما جلس لفصل الخصومة لا لتهيجها ولكنا نقول الرأى في ذلك إليه فحشمة مجلس القضاء قد تمنعهما من الكلام ما لم يبتدئ القاضي بالكلام فإذا كان بهذه الصفة كان له أن يبتدئ فيقول مالكما وما تقدم إليه إلا بعد المنازعة والخصومة بينهما فلا يكون هذا اللفظ منه تهيجا للخصومة ولكن لا يكلمهم بشيء آخر سوى ما تقدم لأجله فإن ذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ولهذا لا يسلمان عليه إذا تقدم بين يديه مع أن السلام سنة فإن تكلم صاحب الدعوى أسكت الآخر واستمع من صاحب الدعوى حتى يفهم حجته لأنه إذا تكلما معا لا يتمكن من أن يفهم كلام كل واحد منهما قال الله تعالى {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ولأن تكلمهما معا نوع شغب وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء قال ثم يأمره بالسكوت بعد ذلك ويستنطق الآخر وظاهر هذا اللفظ يدل على أنه يستنطق الآخر وإن لم يسأل المدعي ذلك.
واختيار بعض القضاء أنه لا يفعل ذلك إلا عند سؤال المدعي ولكنه إذا نظر في دعواه فإن لم تكن صحيحة يقول له قم فصحح دعواك لأن بالدعوى الفاسدة لا يستحق الجواب وإن صحت الدعوى قال أخبرتني فماذا أصنع فإن قال أريد جوابه فسأله عن ذلك حينئذ يستنطق الآخر والأصح عندنا أنه يستنطق الآخر وإن لم يلتمس المدعي ذلك لأنه ما تقدم بين يديه وما أحضر خصمه إلا ملتمسا لذلك فلا يحتاج بعد ذلك إلى التماس الآخر فإن سأله فأقر بحقه أمره بالخروج من حقه وإن أنكر قال للمدعي سمعت إنكاره أو هو منكر فما نقول فإذا قال حلفه يطلب المدعي بعد أن سأله بينة ولا يسأله ذلك ما لم يطلب يمينه لأنه نوع تلقين.(16/151)
ولا ينبغي للقاضي أن يلقن أحد الخصمين حجته ولكن إذا طلب يمينه فحينئذ جاء أوان الاستحلاف إذا لم يكن للمدعي بينة حاضرة فسأله عند ذلك ألك بينة ولا ينبغي للقاضي أن يقضي إلا وهو مقبل على الحجج مفرغ نفسه لذلك لأن القضاء أمر مهم فلا يتمكن من النظر فيه ومباشرته لما التزم ما لم يفرغ نفسه لذلك عن سائر الأشغال فإذا دخله هم أو غضب أو نعاس كف عن ذلك حتى يذهب ذلك لأن اعتدال حاله زال بما دخله فالهم يغلب على القلب حتى لا يجد شيئا آخر معه فيه مساغا والغضب كذلك والنعاس كذلك فالناعس لا يفهم بعض ما يذكر عنده ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلا يدري لعله يريد أن يدعو فيسب نفسه".
ثم يقبل على القضاء وهو متفرغ له مستمع غير معجل للخصوم عن حجتهم لأن الاستعجال يضر بالخصم كما أن ترك النظر فيما يقيم من الحجة يضربه فكل واحد منهما من نوع الشر والأضرار وقد روينا أن القاضي لا يشار ولا يضار قال ولا يخوفهم فإن الخوف مما يقطع حجة الرجل يعنى أن الخائف يعجز عن إظهار حجته وينبغي أن يكون القاضي مهيبا يحتشم منه ولكن لا ينبغي أن يكون مخيفا للناس يخافونه فإن ذلك يمنعهم من(16/152)
ص -70- ... إظهار الحق بالحجة والأصل في ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الفجر بمسجد الخيف فرأى رجلين لم يصليا معه فقال "علي بهما" فأتى بهما وفرائصهما ترتعد فقال صلى الله عليه وسلم "لا تخافا فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" الحديث.
فإن قيل: أليس أنه ذكر في سيرة عمر رضي الله عنه أن الناس كانوا يهابونه حتى قيل لابن عباس رضي الله عنهما لم لم يذكر قولك في القول لعمر فقال كان رجلا مهيبا فهبته أو قال خفت درته قلنا هذا لا يكاد يصح فإن عمر رضي الله عنه كان ألين من غيره في قبول الحق وكان يشاورهم وربما كان يقدم قول بن عباس رضي الله عنهما في الأخذ عند الشورى على قول بعض الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم.(16/153)
ثم كون القاضي مهيبا غير مذموم عندنا وإنما المذموم أن يتكلف لتخويف الخصوم إذا تقدموا بين يديه ولم ينقل ذلك عن عمر رضي الله عنه ولا عن غيره وإن كان خيرا للقاضي أن يقعد عنده أهل الفقه فقعدوا عنده فربما يحتاج إلى أن يستشيرهم وقد روينا أن عمر رضي الله عنه كان يفعل ذلك وربما يخفى عليه بعض ما يقف عليه غيره من أهل الفقه فينبهه عليه وربما يحتاج إلى أن يشهدهم فيكون أهل الفقه والصلاح عنده من نوع الاحتياط فإن دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله ذلك عن شيء من أمور المسلمين جلس وحده لأن طباع الناس في هذا تختلف فمنهم من يمنعه حشمة الفقهاء مما يريده من فصل القضاء ومنهم من يزداد قوة على ذلك والمقصود هو النظر للمسلمين فإذا كان هو ممن يدخله حصر بحضرة الفقهاء جلس وحده ولكن إنما يتمكن من ذلك إذا كان معروفا بالفقه والعدالة فبالفقه يؤمن غلطه وبالعدالة يؤمن جوره ولا ينبغي للقاضي أن يتعب نفسه في طول الجلوس لأن بذلك يزول اعتدال الحال وقد بينا أنه لا ينظر في الحجج إلا عند اعتدال الحال قال فإني أتخوف عليه أن يضر ذلك بنظره في الحجج والخصوم يعنى إذا أتعب نفسه ربما لا يفهم بعض كلام الخصوم وربما يضجر بسببه على بعض الخصوم وهذا أيضا في المدرس كذلك وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "إن النفس تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها ظرائف الحكمة" وأن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا مل من بيان أنواع العلم قال لأصحابه اخصموا أي خوضوا في ديوان العرب فتذكروا شيئا من الملح قال ولكنه يعقد في طرفي النهار أو ما أطاق من ذلك لأن عمل القضاء عبادة فالأولى أن يجلس له في طرفي النهار قال الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] ولأن اعتدال حال المرء يكون في طرفي النهار عادة أو ما أطاق من ذلك لأن الطاعة بحسب الطاقة ولكن لا ينبغي أن يتبكر للخصومة قبل طلوع الشمس فقد كان شريح رحمه الله إذا ابتكروا قبل حضوره(16/154)
قال: أتتظلمون بالليل فعرفنا أن ذلك غير محمود للقاضي. قال وينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة لأن الناس يزدحمون في مجلسه وفي اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح ما لا يخفى ولكن(16/155)
ص -71- ... هذا في خصومة يكون بين النساء فأما الخصومة التي تكون بين الرجال والنساء لا يجد بدا من أن يقدمهن مع الرجال وأن يجعل لكل فريق يوما على قدر ما يرى من كثرة الخصوم فلا بأس بذلك لأنه إذا تركهم يزدحمون على بابه وربما يقتتلون على ذلك وفيه من الفتنة ما لا يخفى فيجعل ذلك مناوبة بينهم بالأيام ليعرف كل واحد يوم نوبته فيحضر عند ذلك والحصاف رحمه الله ذكر في أدب القاضي أن الأولى أن يجعل ذلك على الرقاع فيجزئ الخصوم أجزاء ويكتب باسم كل فريق رقعة ثم يخرج الرقاق على الأيام للسبت والأحد إلى آخره وذلك حسن ولكن محمدا رحمه الله اختار في الكتاب أن يقدم الناس على منازلهم الأول فالأول ولا يبتدئ بأحد جاء قبله غيره وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "سبقك بها عكاشة" وهذا لأن الذي جاء أولا استحق النظر في حجته أن لو كان القاضي جالسا عند ذلك فتأخر جلوس القاضي لا يغير استحقاقه ولا يبطل بحضور غيره فلهذا تقدمه عملا بقوله تعالى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] قال ويضع على ذلك أمينا من قبله يقدمهم إليه لأنه لا يتمكن من يعرف ذلك بنفسه لكثرة أشغاله وفيما يعجل القاضي عن مباشرته يستعين بأمين من أمنائه وينبغي أن يبتكر ذلك الأمين إلى باب مجلس القاضي ليعلم منازل الناس في الحضور فلعلهم يكذبون في ذلك أو أن يلبسون عليه وإنما يجعل على ذلك أمينا لا يطمع ولا يرتشي فإن ذلك من عمل القضاة فكما لا يطمع هو فيما يقضي فكذلك ينبغي أن يكون أمينه.(16/156)
قال رحمه الله: وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول قد جرى الرسم في زماننا أن البواب على باب مجلس القضاء يأخذ من كل خصم قطعة ليمكنه من الدخول والقاضي يعلم ذلك ولا يمنعه منه وفيه فساد عظيم فليس لأحد أن يمنع أحدا من دخول المسجد ولا من أن يتقدم إلى القاضي في حاجته فهو يرتشي ليكف ظلمه عنه ويمكنه مما هو مستحق له والقاضي يعلم ذلك ولا يمنع منه فهو بمنزلة ما لو علم أن أمينه يشرب الخمر أو يزني على بابه فلا يمنعه عن ذلك وإن رأى أن يجعل الغرباء مع أهله المصر فعل وإن رأى أن يبدأ بهم فلا يضره ذلك بعد أن تكون الغرباء غير كثير فإن كثروا في كل يوم فشغلوه عن أهل المصر قدمهم على منازلهم مع الناس وقد بينا أن الغريب على جناح السفر فربما يضر التأخير به وقلبه مع أهله فإذا لم يقدمه القاضي ربما ترك حقه ورجع إلى أهله وقد أمر بتعاهد الغريب تعظيما لحق غربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا كان له أن يقدم الغرباء ولكن بشرط أن لا يضر بأهل المصر ضررا فإنهم جيرانه وإنما يقلد القضاء لينظر في حوائجه فإذا كان تقديم الغرباء يضر بأهل المصر قدمهم على منازلهم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
ولا بأس بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعده يفعلون ذلك ولأن هذا من حق المسلم على المسلم قال صلى الله عليه وسلم "للمسلم على المسلم ستة حقوق" وذكر في الجملة أن يشيع جنازته ويعوده إذا(16/157)
ص -72- ... مرض ولا يمتنع عليه القيام بحقوق الناس عليه بسبب تقلده القضاء ولا بأس بأن يجيب الدعوة الجامعة فذلك من السنة قال صلى الله عليه وسلم "من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" قال ولا تجب الدعوة الخاصة الخمسة والعشرة في مكان لأن ذلك يجر إليه تهمة الميل بأن يقول أحد الخصمين أن فلانا في دعوة فلان كلم القاضي وهو نائب عن خصمي وصانعه على رشوة ولأن إجابة الدعوة الخاصة مما يطمع الناس به في القاضي فعليه أن يحترز عن ذلك وأصح ما قيل في الفرق بين الدعوة الجامعة والخاصة أن كل ما يمتنع صاحب الدعوة من إيجاده إذا علم أن القاضي لا يجيبه فهو الدعوة الخاصة وإن كان لا يمتنع من إيجاده لذلك فهو الدعوة العامة لأنه عند ذلك يعلم أن القاضي لم يكن مقصودا بتلك الدعوة وإنما يمتنع من إجابة الدعوة الخاصة إذا لم يكن صاحب الدعوة ممن اعتاد إيجاد الدعوة له قبل أن يتقلد القضاء فإن كان ذلك من عادته قبل هذا فلا بأس بأن يجيب دعوته وإليه أشار في قوله ولا بأس بأن يجيب دعوة ذي القرابة لأن هذا بين القرابات ليس من جوالب القضاء عادة ولا صدق في ذلك كالأقارب إذا كان ذلك معروفا بينهم قبل تقلد القضاء ولا ينبغي له أن يضيف أحد الخصمين إلا أن يكون خصمه معه لما روينا من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.(16/158)
قال ولا يقبل الهدية وقبول الهدية في الشرع مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم: "نعم الشيء الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الأسكفة" وقال صلى الله عليه وسلم "الهدية تذهب وجر الصدر أو وغر الصدر" وقال صلى الله عليه وسلم "تهادوا تحابوا" ولكن هذا في حق لم يتعين لعمل من أعمال المسلمين فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كان لا يهدي إليه قبل ذلك لأنه من جوالب القضاء وهو نوع من الرشوة والسحت والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية على الصدقات فجاء بمال فقال هذا لكم وهذا مما أهدى إلي فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "ما بال قوم نستعملهم فيقدموا بمال ويقولون هذا لكم وهذا مما أهدي إلي فهلا جلس أحدكم عند حمش أمه فينظر أيهدى إليه أم لا".
واستعمل عمر رضي الله عنه أبا هريرة رضي الله عنه فقدم بمال فقال من أين لك هذا قال تناتجت الخيول وتلاحقت الهداية قال أي عدو الله هلا قعدت في بيتك فنظرت أيهدي إليك أم لا فأخذ ذلك منه وجعله في بيت المال فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كان بهذه الصفة ومن جملة الأكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة ويطمع فيه الناس فليتحرز من ذلك إلا من ذي رحم محرم منه فقد كان التهادي بينهم قبل ذلك عادة ولأنه من جوالب القرابة وهو مندوب إلى صلة الرحم وفي الرد معنى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم من الملاعن فأما في حق الأجانب قبول القاضي الهدية من جملة ما يقال إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الكوة ولا ينبغي له أن يخلو في منزله مع أحد الخصمين كما لا يسار أحد الخصمين ولا بأس بأن يقضي في منزله وحيث أحب لأن عمل القضاء لا يختص بمكان ولأنه في كونه طاعة لا يكون فوق الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا(16/159)
ص -73- ... وطهورا". فأحسن ذلك وأحب إلي أن يقضي حيث تقام جماعة الناس يعنى في المسجد الجامع أو غيره من مساجد الجماعات لأن ذلك يكون أبعد عن التهمة ولأنه يتمكن كل واحد من أن يحضر مجلسه عند حاجته ولا يشتبه عليه موضعه ولا يحتاج إلى من يهديه إلى ذلك من الغرباء كان أو من أهل المصر.
ولا يقضي وهو يمشي ويسير على الدابة فإني أتخوف عليه من ذلك الزلل لأنه عند ذلك لا يكون معتدل الحال فيكون قلبه مشغولا بما هو فيه من المشي أو السير فلا يتفرغ بالنظر في الحجج ولأنه نوع من الاستخفاف وهو مأمور بأن يصون قضاءه عن أسباب الاستخفاف ظاهرا وباطنا ولا بأس بأن يقضي وهو متكئ لأن التكأة نوع جلسة كالتربع ونحوه وطباع الناس في الجلوس تختلف فمنهم من يكون اتكاؤه أروح له واعتدال حاله عند ذلك أظهر والأصل فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في الرجلين اللذين اختصما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الحديث. إلى أن قال وكان متكئا فاستوى جالسا فقد نظر في خصومتهما حين كان متكئا فعرفنا أنه لا بأس بذلك.(16/160)
وينبغي له أن يقضي بما في كتاب الله فإن أتاه شيء لم يجده فيه قضي فيه بما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجده فيه نظر فيما أتاه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فقضي وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل أنه إذا صح له قول عن واحد من المعروفين من الصحابة رضي الله عنهم قضى به وقدمه على القياس لقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". ولأن فيما يبلغه عن الصحابي رضي الله عنه احتمال السماع فقد كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يفتون به تارة ويرون أخرى وفيه أيضا احتمال ترجيح الإصابة في نفس الرأي فقد وقفوا لما لم يوقف غيرهم بعدهم فإن كانوا اختلفوا فيه تخير مدة أقاويله أحسنها في نفسه وليس له أن يخالفهم جميعا ويبتدع شيئا من رأيه لأنهم لو اجتمعوا على قول لم يجز لأحد أن يخالفهم فإذا اختلفوا على أقاويل محصورة فذلك إجماع منهم على أن الحق لا يعد مما قالوا فلا يجوز لأحد أن يخالفهم ويبتدع شيئا من رأيه ولكنه يختار أحسن الأقاويل في نفسه لأنهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بينهم بالرواية فقد انقطع احتمال السماع وتعين القول بالرأي فتعارض أقاويلهم كتعارض الأقيسة وعند ذلك على القاضي أن يصير إلى الترجيح ويعمل بما ظهر الرجحان فيه فكذلك عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم يصير إلى الترجيح فإن لم يبين له وجه الترجيح فله أن يعمل بأي الأقاويل شاء لأن بالتعارض لا تنعدم الحجة في أقاويلهم فينبغي أن يعمل بأحسنها في نفسه ويكون ذلك عملا منه بالحجة.
فإن لم يجده في ما جاءه عن أحد منهم اجتهد رأيه في ذلك وقاسه بما جاء منه ثم قضى بالذي يجتمع رأيه عليه من ذلك ويرى أنه الحق لأنه مأمور بفصل القضاء والتكليف بحسب الوسع والذي في وسعه اجتهاد الرأي عند انقطاع سائر الأدلة عنه فينشغل به إذا كان من(16/161)
ص -74- ... أهله، كمن اشتبه عليه القبلة عند انقطاع الأدلة والأصل فيه قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والاعتبار رد الشيء إلى نظيره فالعبرة هو البيان قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] والبيان يرد الشيء إلى نظيره فإن أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه فيه وكذلك إن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يشاور الفقهاء لأنه يحتاج إلى معرفة الحكم ليقضي به وقد عجز عن إدراكه بنفسه فليرجع إلى من يعرف ذلك كما إذا احتاج معرفة قيمة شيء فإن اختلفوا فيه نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به كما بينا عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن هنا إن رأي خلاف رأيهم فإن استحسن وأشبه الحق قضي بذلك لأن إجماعهم لا ينعقد بدون رأيه وهو واحد منهم ولأن رأيه أقوى في حقه من رأي غيره فلو قضى برأيه كان قاضيا بما هو الصواب عنده وإذا قضي برأى غيره كان قاضيا بما عنده أنه خطأ وقضاؤه بما عنده إنه هو الصواب أولى.
وإن لم يكن من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل نظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضي بفتواه فهذا اجتهاد مثله ولا يعجل بالحكم إذا لم يبين له الأمر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة وقال صلى الله عليه وسلم: "التأني من الله والعجلة من الشيطان". والأصل في الباب حديث الشعبي رضي الله عنه قال كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه وربما يتأمل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه واليوم يفصل في المجلس ما به قضية وحديث بن مسعود رضي الله عنه في المفوضة معروف فإنه ردهم شهرا ثم قال أقول فيه برأيي فإن يك صوابا فمن الله ورسوله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان الحديث فعرفنا أنه ينبغي للقاضي أن يتأنى ويشاور عند اشتباه الأمر.(16/162)
وإذا قضى بقضاء ثم بدا له أن يرجع عنه فإن كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه رده وأبطله يعنى إذا كان مخالفا لنص أو لإجماع فالقضاء بخلاف النص والإجماع باطل وهو جهل من القاضي وفي الحديث: "ردوا الجهالات إلى السنة" فإن كان خطأ مما يختلف فيه أمضاه على حاله وقضي فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده ويرى أنه أفضل لأن القضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز إبطاله والأصل فيه ما روى أن عمر رضي الله عنه كان يقضي في حادثة بقضية ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها فكان إذا قيل له في ذلك قال تلك كما قضينا وهذه كما يقضي وقال الشعبي رحمه الله حفظت من عمر رضي الله عنه في الحد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضا وبهذا يتبين أن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله ولكنه فيما يستقبل يقضي بما أدى إليه اجتهاده وأصله في التحري للقبلة.
وذكر عن شريح رحمه الله أنه كان يقضي بالقضاء ثم يبدو له فيرجع عنه ولا يرجع فيما كان قضي به يعنى في المجتهدات كان إذا تحول رأيه بنى فيما يستقبل على ما أدى إليه(16/163)
ص -75- ... اجتهاده ولم ينقص ما كان قضى به وفيه دليل أن التابعي إذا أدرك من الصحابة رضي الله عنهم وسوغوا له الاجتهاد معهم فإن رأيه يعارض رأيهم لأن شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما ثم كان يبنى القضاء على رأيه ولا يرجع إليهما فيما كان يبدو له وقد سوغوا له ذلك حتى كان عليا رضي الله عنه يقول له قل لي يا أيها العبد ألا تنظر وقد رجع ابن عباس رضي الله عنهما إلى قول مسروق رحمه الله في مسألة نحر الولد.
وعن عامر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بالقضاء فينزل عليه القرآن بخلافه فيمضي ما قضى به ويستأنف القضاء وفي هذا دليل على أنه كان يقضي باجتهاده في ما لم يوح إليه فيه وقد بينا أنه كان لا يعجل بذلك ولكن كان ينتظر الوحي فإذا انقطع طمعه عن الوحي فيه قضى باجتهاده وصار ذلك شريعة ثم ينزل القرآن بخلافه بعد ذلك فيكون ناسخا له ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا ونظيره أمر القبلة فإنه صلى الله عليه وسلم بعد ما قدم المدينة كان يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم انتسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى الكعبة وكان يستأنف القضاء بالناسخ ولا يبطل ما قضى به لأن النسخ ينهي مدة الحكم ولا يبين أنه لم يكن حقا قبل نزول الناسخ واستدل بهذا الحديث على ما تقدم من المجتهدات فإنه لا ينقض ما كان قضي به إلا أنهما يفترقان من حيث أن الرأي لا ينسخ الرأي.(16/164)
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من مال أخيه بغير حق فإنما أقضي له بقطعة من النار". معنى قوله ألحن أفطن وأقدر على البيان فاللحن في اللغة هو الفطنة وفيه دليل لمن يقول أن بقضاء القاضي لا يحل ما كان حراما فيكون حجة لمحمد رحمه الله في مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ وأبو حنيفة رحمه الله يقول المراد الإملاك المرسلة والمراد بيان الوعيد لمن يدعي الباطل ويقيم عليه شهود الزور فالوعيد يلحقه بذلك عندنا وإن كان الملك يثبت له بقضاء القاضي بسببه.
قال: وأكره للقاضي أن يفتي للخصوم في القضاء كراهة أن تعلم الخصوم قوله فتحترز منه بالباطل لحديث شريح رحمه الله حين سأل عن مسألة الحبس قال إنما أقضي ولست أفتي وقد كره بعض الناس للقاضي أن يفتى في المعاملات أصلا وقالوا يفتي في العبادات وكره بعضهم أن يفتى في مجلس القضاء وقالوا لا بأس به في غير مجلس القضاء لأن كل واحد من الأمرين مهم فإذا جمع بينهما في مجلس يخاف الخلل فيهما والأصح أنه لا بأس بأن يفتى في المعاملات والعبادات في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتي ويقضي والخلفاء رضي الله عنهم بعده كذلك وللقضاء فتوى في الحقيقة إلا أنه ملزم وإنما الذي يكره له أن يفتي للخصم فيما خاصم فيه إليه لما قيل أن الخصم إذا وقف على رأيه ربما اشتغل بالتلبيس للتحرز عن ذلك فلا يفتي له في ذلك حتى تنقضي الخصومة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهما عالم(16/165)
ص -76- ... بالخصومة والآخر جاهل بها فلم يلبسه العالم أن قضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المقضي له وقعد المقضي عليه فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك السلام والله الذي لا إله غيره إن حقي لحق فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" فأتى به فأخبره بالذي حلف عليه فقال يا رسول الله إن شئت عاودته الخصومة فقال عليه الصلاة والسلام: "عاوده" فعاوده فلم يلبسه أن قضي له فقام المقضي له وقعد المقضي عليه فقال والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب بالحق إن حقي لحق يعلم ذلك نفسه فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" فأتى به فأخبره فقال إن شئت عاودته فقال عليه السلام: "لا ولكن أعلم أن من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فإنما يقتطع قطعة من نار" فقال الرجل ألحق حقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: "من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار". قال أبو هريرة رضي الله عنه فكانت هذه أشد من الأولى وفيه دليل على أنه لا ينبغي للقاضي أن يكف عن القضاء مخافة تلبيس بعض الخصوم عليه فقد كانوا يفعلون ذلك عند من كان ينزل عليه الوحي وهو معصوم.(16/166)
وفيه دليل أنه لا بأس للمرء أن يحلف مختارا فقد حلف الرجل مرتين من غير أن يطلب ذلك منه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وفيه دليل على أن القاضي إذا ارتاب في شيء من قضائه ينبغي له أن يتثبت في ذلك ويحتاط ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمعاودة حين حلف المقضى عليه أن حقه حق وكان ذلك احتياطا منه وفيه دليل أن مال الغير لا يحل للغير بقضاء القاضي فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اللفظين في الوعيد الثاني أشد من الأول كما قاله أبو هريرة رضي الله عنه وهذا لأن حرمة مال المسلم كحرمة نفسه قال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه". فكما أن من قصد قتل المسلم بغير حق فجزاؤه ما قال الله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] فكذلك إذا قصد أخذ ماله بالباطل والتلبيس.
قال وينبغي للقاضي أن لا يلقن الشاهد ولكن يدعه حتى يشهد بما عنده فإن كانت شهادته جائزة قبلها وإن كانت غير جائزة ردها ولا يقول له اشهد بكذا فإن هذا تلقين وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله لا أرى بأسا أن يقول أتشهدا بكذا وكذا وإنما قال هذا حين ابتلي بالقضاء فرآي ما بالشهود من الخبر عند أداء الشهادة بالحق فإن لمجلس القضاء هيبة وللقاضي حشمة ومن لم يعتد التكلم في مثل هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم يعينه القاضي على ذلك وأداء الشهادة بالحق من باب البر قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وأمرنا بإكرام الشهود قال صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيي بهم الحقوق". وهذا القدر من التلقين يرجع إلى إكرامه بأن يذكر ما يسمع منه فيقول أتشهد بكذا لما لم يسمع منه فهو التلقين المكروه وفي مذهبه نوع رخصة والعزيمة فيما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن القاضي منهي عن(16/167)
ص -77- ... اكتساب ما يجر إليه تهمة الميل وما يكون فيه إعانة أحد الخصمين إما صورة أو معنى وتلقين الشاهد لا يخلو من ذلك ود لم يجز له أن يلقن المدعى مع أن الدعوى لا تكون ملزمة فلأن لا يجوز له أن يلقن الشاهد أولى ولأن عادة بعض الناس أن المحتشم إذا لقن أحدهم شيئا ترك ما كان قصد التكلم به وتكلم بما لقنه تعظيما له فلا يأمر القاضي أن يفعل الشاهد مثل ذلك فيدع ما كان عنده من الشهادة ويتكلم بما لقنه القاضي والتلقين تعليم والقاضي إنما جلس لسماع الشهادة وفصل القضاء بالشهادة لا لتعليم الشاهد فلهذا أكره له أن يلقنه.(16/168)
ولا يضر القاضي أن يقدم الشهود جميعا أو واحدا واحدا لأن الثابت بالنص اشتراط العدد والعدالة في الشهود وبذلك يظهر جانب رجحان الصدق فالتفريق بينهم في المجلس يكون زيادة والقاضي لا يتكلف لها إلا أن يرتاب في أمرهم فعند ذلك عليه أن يحتاط لقوله صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ومن الاحتياط أن يفرق بينهم إلا أنه لا ينبغي له أن يتعنت معهم فإن التعنت يخلط على الرجل عقله وإن كان صحيحا في شهادته ولأن الشاهد أمين فيما يؤدي من الشهادة ولم يظهر خيانته للقاضي فلا يتعنت معهم وقد أمرنا بإكرامهم إلا أنه إذا اتهمهم وفرق بينهم فلا بأس أن يسأل كل واحد منهم أين كان هذا وكيف ومتى كان فهو من باب الاحتياط ودفع الريبة لا من باب التعنت وإن اختلفوا في ذلك اختلافا يفسد الشهادة أبطلها وإن كان لا يفسدها أجازها ولا يطرحها بالتهمة والظن فإن الظن لا يغني من الحق شيئا قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ظنت فلا تحقق". فما لم يعلم منهم سواء أو يسمع منهم عند السؤال اختلافا مفسدا لشهادتهم لم يمنع من القضاء بالشهادة بمجرد الظن وإذا لم يطعن الخصم في الشاهد فلا ينبغي أن يسأل عنه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولكنه يقضي بظاهر العدالة إلا أن يطعن الخصم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم وقيل هذا اختلاف عصر وزمان فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي في القرن الثالث وقد شهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والخيرية بقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني" الحديث وكانت الغلبة للعدول في ذلك الوقت فلهذا كان يكتفي بظاهر العدالة وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله بالكذب بقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد". وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول فقال لا بد للقاضي أن يسأل عن الشهود وحجتهما أن اشتراط العدالة في الشاهد(16/169)
للقضاء بشهادته ثابت بالنص قال الله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقيل السؤال عنهما صفة العدالة محتملة فيهما والشرط لا يثبت بما هو محتمل.
توضيحه أن على القاضي أن يصون نفسه عن القضاء بشهادة الفاسق فقد أمر بالتثبت في خبر الفاسق فإنما يسأل عن الشهود صيانة لقضائه فلا يتوقف على ذلك على طلب الخصم ولأن كان ذلك لحق الخصم فليس لكل خصم يبصر حجته فربما يهاب الخصم الشهود فلا يجاهر بالطعن فيهم والقاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه ألا ترى أنا في(16/170)
ص -78- ... الحدود يسأل عن الشهود وأن لم يطعن الخصم لهذا المعنى فكذلك في الأموال وأبو حنيفة رحمه الله استدل بظاهر الحديث: "المسلمون عدول بعضهم على بعض" فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم فتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكى ثم العدالة هي الاستقامة يقال للجادة طريق عدل وللبيان طريق عدل جائز وقد علم القاضي منهم الاستقامة واعتقد وذلك يحمله على الاستقامة في التعاطي فعليه أن يتمسك به ما لم يظهر خلافه فهذا دليل شرعي فوق خبر مزكي وإنما يعتمد هذا الدليل إذا لم يطعن الخصم فأما بعد طعنه يقع التعارض لأن الخصم مسلم ودينه يمنعه من أن يجازف بالطعن فيهم فللتعارض وجب على القاضي أن يسأل حتى يظهر المرجح لأحد الجانبين بخبر المزكي فأما في الحدود يسأل وإن لم يطعن الخصم احتيالا للدرء وقد أمر بدرء الحدود لأن الحدود إن وقع فيها غلط لا يمكن تداركه وبظاهر العدالة لا تنتفي الشبهة ففيما يندرئ بالشبهات لا يكتفي بذلك فأما المال مما يثبت مع الشبهات وإذا وقع الغلط فيه أمكنه التدارك فيكتفي بظاهر العدالة في ذلك ما لم يطعن الخصم وإذا سأل عن الشهود لم يقض بشهادتهم حتى تأتى مسألته مزكاة يعنى أن المزكي إن كتب في جوابه أنهم عدول لا يكتفي بذلك فالعدل قد لا يكون من أهل الشهادة كالعبد عدل في روايته وكذلك إن كتب عدول أحرار فالمحدود في القذف بعد التوبة حر عدل وكذلك إن كتب أنه نفذ فقد بطل هذا اللفظ على المستور الذي لا يعرف حاله فإن كتب أنه مزكي فهو تنصيص على وجوب العمل بشهادته ولأن القاضي إنما طلب من المزكي التزكية فينبغي أن يجيبه إلى ما طلب بلفظه كما أنه لما طلب من الشاهد أن يشهد فما لم يأت بلفظة الشهادة لا تقبل شهادته.(16/171)
وإذا اختصم إلى القاضي قوم يتكلمون بغير العربية وهو لا يفقه لسانهم فإنه ينبغي له أن يترجم عنهم له رجل مسلم ثقة واتخاذ الترجمان للحاجة قد كان عليه الناس في الجاهلية وبعد الإسلام ولما جاء سلمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم ترجم يهودي كلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخان في ذلك حتى نزل الوحي حديث فيه طول وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم العبرانية وكان يترجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمن كان يتكلم بين يديه بتلك اللغة ثم لا خلاف أنه يشترط في المترجم أن يكون عدلا مسلما لأن نفس الخبر محتمل للصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق بالعدالة ويشترط الإسلام أيضا لأن الكفار معادون للمسلمين فالظاهر أنهم يقصدون الجناية في مثل هذا قال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي لا يقصرون في إفساد أموركم فلهذا لا يقبل القاضي الترجمة إلا من مسلم عدل والواحد لذلك يكفي والمثنى أحوط في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يشترط في المترجم لكلام الخصم أو لشهود الشاهدين ما يشترط في الشهادة من العدد وذلك رجلان أو رجل وامرأتان وكذلك الخلاف في التزكية عندهما تزكية الواحد يكفي والمثنى أحوط وعند محمد رحمه الله:(16/172)
ص -79- ... لا بد من عدد الشهادة في ذلك وكذلك الخلاف في رسول القاضي إلى المزكي فمحمد رحمه الله يقول ما لم يفهم القاضي فكأنه لم يسمعه ومعنى هذا وهو إنه إنما يسمع من المترجم لأنه يفهم قول المترجم وعليه ينبني الحكم فكانت الترجمة في حقه بمنزلة الشهادة ألا ترى أنه يعتبر فيها ما يعتبر في الشهادة من الحرية والإسلام والعدالة فكذلك العدد وهذا لأنه يلزم على القاضي القضاء وهذا آكد ما يكون من الإلزام فيشترط العدد فيه لطمأنينة القلب كالشهادة إلا أنه لا يشترط لفظة الشهادة لأن اشتراط ذلك في الشهادة ليس لمعنى الإلزام بل هو ثابت بالنص بخلاف القياس أو لمعنى الزجر عن الشهادة بالباطل فقوله أشهد بمنزلة قوله أحلف ولهذا أعظم الوزر في شهادة الزور كما في اليمين الغموس والمدعي هو الذي يأتي بالشهود فلمكان احتمال المواضعة والتلبيس بينهم شرطنا لفظة الشهادة.
وأما المترجم بحيازة القاضي فينعدم في حقه مثل تلك التهمة فلهذا لا يشترط في حقه لفظة الشهادة وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قال المترجم مخير غير ملزم وخبر الواحد مقبول بشرط العدالة والإسلام وإن كان ملزما كما في رواية الأخبار وكما في الشهادة على رؤية هلال رمضان والدليل عليه أنه لا يعتبر لفظة الشهادة فيه ولو كان هذا في معنى الشهادة لاستوى فيما اختص به الشهادة كاختصاص الشهادة من بين سائر الأخبار بلفظ الشهادة فإذا لم يجعل هذا الخبر بمنزلة الشهادة فيه ففي العدد أولى واشتراط الإسلام والعدالة هنا بمنزلة اشتراط ذلك في رواية الأخبار واشتراط الحرية لأنه يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم شيئا فكان من باب الولاية والرق تبقي الولاية على الغير بخلاف رواية الأخبار والشهادة على هلال رمضان فإنه يلتزم ذلك بنفسه ثم يتعدى إلى غيره فلا تشترط الحرية فيه لذلك ومع أن الواحد يكفي لذلك كما في رواية الأخبار ولكن رجل وامرأتان أوثق لأنه في الاحتياط أقرب.(16/173)
قال: وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا من أهل العفاف والصلاح لأنه محتاج إلى أن يكتب ما جرى في مجلسه وربما يعجز عن مباشرة جميع ذلك بنفسه فيتخذ كاتبا لذلك والكاتب نائبه فينبغي أن يشبهه في العفاف والصلاح والكاتب من أقوى ما يعتمد عليه القاضي فلا يفوضه إلا إلى من هو معروف بالصلاح والعفاف حتى لا يخدع بالرشوة ثم لم يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع إما لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى ما في يده من المكتوب في كل حادثة فليكن بمرأى العين منه أو لأنه لا يأمن عليه من أن يخدعه بعض الخصوم بالرشوة إذا لم يكن بمرأى العين من القاضي ثم يكتب خصومة كل خصمين وما بينهما من الشهادة في صحيفة بيضاء وحدها ثم يطويها ويخرمها ويختمها بخاتمه للتوثق كيلا يزاد فيها ثم يكتب عليها خصومة فلان بن فلان وفلان بن فلان في شهر كذا في سنة كذا حتى يتيسر عليه تمييزها من سائر الصحائف إذا اختلفت بها ولا يحتاج في ذلك إلى فتح الخاتم فقد يشق عليه ذلك في كل وقت ويجعل خصومة كل شهر في قطمر على حدة لا يخالطها شيء(16/174)
ص -80- ... آخر والقطمر اسم لخريطة القاضي وفيه لغتان قمطرة وقطمر وإنما يتخذ لخصومة كل شهر خريطة على حدة ليتيسر عليه وجودها عند الحاجة إليها ويجدها بأدنى طلب ويكتب التاريخ لأنه قد يحتاج إليه عند منازعة الخصوم.
والأصل في كتاب التاريخ ما روى أن عمر رضي الله عنه لما اراد أن يكتب إلى الآفاق قيل له أن الملوك لا يقبلون الكتاب إذا لم يكن مؤخرا فجمع الصحابة وشاورهم في التاريخ ثم اتفقوا على أن جعلوا التاريخ من وقت الهجرة وبقي ذلك إلى يومنا هذا قال وليباشر هو بنفسه مسائل الشهود فيكتبها أو يكتب بين يديه ثم يبعث بها في السر إلى أهل الثقة عنده والعفاف والصلاح فيبعث كل مسألة مع رجلين كل واحد منهما ثقة ولا يطلع واحد منهما على ما يبعث به مع صاحبه لأن قضاءه ينبنى على الشهادة فلا يدع في بابها أقصى ما في وسعه من الاحتياط والمباشرة بنفسه وقد كانت التزكية في الابتداء علانية ثم أحدث شريح رحمه الله تزكية السر فقيل له أحدثت يا أبي أمية فقال أحدثتم فأحدثنا فكان يجمع بين تزكية السر وتزكية العلانية فيسأل عن حال الشهود في السر ثم يحضر الشهود والمزكون ليزكوهم علانية فيقول هؤلاء الذين زكيناهم وهو أتم ما يكون من الاحتياط غير أن القضاة تركوا بعد ذلك تزكية العلانية واكتفوا بتزكية السر إبقاء للستر على الناس وتحرزا عن الغيبة التي تقع بين المزكين وبعض الشهود في تزكية العلانية إذا ميزوا المجروح فلهذا يكتفي بتزكية السر في زماننا وإنما لا يطلع واحد من الرسولين على ما يبعث به مع صاحبه كيلا يتواضعا بينهما على شيء وإن استطاع أن لا يعرف له صاحب مسألة فليفعل لأنه إذا كان معروفا فيرجع إليه بعض الخصوم فيخدعه بالرشوة أو تخوفه بعض الشهود فيزكي المجروح لذلك ويلبس على القاضي فكان الاحتياط أن لا يعرف له صاحب مسألة ولكن في زماننا اتخذوا التزكية عملا فيشتهر المزكي لذلك لا محالة والاحتياط للقاضي أن يسأل عنه وعن غيره من العدول(16/175)
وأهل الصلاح ممن يقف عليه القاضي ولا يعرفه الخصوم وإذا أتاه تزكية رجل من ثقة وأتاه من ثقة آخر أنه غير عدل أعاد المسألة لوقوع التعارض بين الخبرين فإن النافي معارض للمثبت فيما طريقه الخبر وقد بينا في كتاب الاستحسان وذكرنا هناك أنه إذا اتفق رجلان على التزكية عمل بقولهما ولم يعمل بقول الواحد الذي خرج لأن المثنى حجة في الأحكام فلا يعارضه خبر الواحد وإذا اجتمع رهط على التزكية ورجلان عدلان على الحرج أخذ بقولهما لأن الذين زكوا اعتمدوا ظاهر الحال وخفي عليهم ما عرفه اللذان جرحا من العارض الموجب للجرح فيه وقد ثبت ذلك بحجة كاملة فإن خبر المثنى حجة في إثبات الحكم.
قال: وينبغي أن يكتب الشاهد اسمه ونسبه وحليته ومنزله في دار نفسه أو في دار غيره لأنه ما لم يصر معلوما عند من يسأل عن حاله لا يمكنه أن يسأل وإنما يصير معلوما بما ذكرنا وإنما يكتب منزله لأن أعرف الناس بحال المرء جيرانه ألا ترى أن ذلك الرجل لما(16/176)
ص -81- ... قال يا رسول الله عليك السلام كيف أنا قال صلى الله عليه وسلم: "سل جيرانك؟" وإنما يتمكن من أن يسأل جيرانه عن حاله إلا عرف منزله ولأنه قد يتسمى رجل باسم غيره للتلبيس على القاضي فيتحرز عن ذلك بأن يكتب منزله ويسأل عن التزكية في العلانية بعد التزكية في السر لأنه ربما يشتبه على المزكي أو يلتبس عليه فيزكي غير من شهد وينعدم هذا الوهم عند تزكية العلانية إلا أنه استحسن ترك ذلك في زماننا للتحرز عن الفتنة.(16/177)
وإذا وجد القاضي في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود لا يحفظ أنهم شهدوا عنده بذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن يتفكر في ذلك حتى يتذكر وليس له أن يقضي بذلك إن لم يتذكر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا وجد ذلك في قمطرة تحت خاتمه فعليه أن يقضي به وإن لم يتذكر وهذا منهما نوع رخصة فالقاضي لكثرة أشتغاله يعجز أن يحفظ كل حادثة ولهذا يكتب وإنما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب عند النسيان فإن الآدمي ليس في وسعه التحرز عند النسيان ألا ترى إلى ما ذكر الله تعالى في حق من هو معصوم فقال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6، 7] وفي تخصيصه بذلك بيان أن غيره ينسى وسمى الإنسان إنسانا لأنه ينسى قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] فلو لم يجز له الاعتماد على كتابه عند نسيانه أدى إلى الحرج والحرج مدفوع ثم ما كان في قمطرة تحت خاتمه فالظاهر أنه حق وإن لم يصل إليه يد معتبرة ولا زائدة فيه والقاضي مأمور باتباع الظاهر ومذهب أبي حنيفة رحمه الله هو العزيمة فالمقصود من الكتاب أن يتذكر إذا نظر فيه لأن الكتاب للقلب كالمرآة للعين وإنما تعتبر المرآة ليحصل الإدراك بالعين فإذا لم يحصل كان وجوده كعدمه فكذلك الكتاب للتذكر بالقلب عند النظر فيه فإذ لم يتذكر كان وجوده كعدمه وهذا لأن الكتاب قد يزور ويفتعل به والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم وليس للقاضي إن يقضي إلا بعلم وبوجود الكتاب لا يستفيد العلم مع احتمال التزوير والافتعال فيه وهذه ثلاثة فصول أحدهما مابينا.
والثاني: في الشاهد إذا وجد شهادته في صك وعلم أنه خطه وهو معروف ولكن لم يتذكر الحادثة.(16/178)
والثالث: إذا سمع الحديث فوجده مكتوبا بخطه ووجد سماعه مكتوبا غيره وهو خط معروف ولكنه لم يذكر في الفصول الثلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله ليس له أن يعتمد الكتاب ولهذا قلت له روايته لأنه كان يشترط في الرواية الحفظ من حين سمع إلى أن يروى وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من يسمعها" ومحمد رحمه الله في الفصول الثلاثة أخذ بالرخصة للتيسير على الناس وقال يعتمد خطه إذا كان معروفا وأبو يوسف رحمه الله في مسألة القاضي ورواية الحديث أخذ بالرخصة لأن المكتوب كان في يده وفي مسألة الشهادة أخذ بالعزيمة فقال:(16/179)
ص -82- ... الصك الذي فيه الشهادة كان في يد الخصم فلا يأمن الشاهد التغيير والتبديل فيه فلا يعتمد خطه في الشهادة ما لم يتذكر الحادثة.
وإن وجد القاضي سجلا في خريطته ولم يتذكر الحاجة فهو على الخلاف الذي بينا وإن نسي قضاءه ولم يكن سجل فشهد عنده شاهد أنك قضيت بكذا لهذا على هذا فإن تذكر أمضاه وإن لم يتذكر فلا إشكال أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك وقيل على قول أبي يوسف رحمه الله لا يعتمد ذلك وعند محمد رحمه الله يعتمد ذلك فيقضي به وعلى هذا من سمع من غيره حديثا ثم نسي ذلك راوى الأصل فسمعه ممن يروى عنده فعند أبي يوسف رحمه الله ليس له أن يعتمد رواية الغير عنه كما لا يفعل ذلك شاهد الأصلى إذا شهد عنده شاهد الفرع على شهادته وعند محمد رحمه الله له أن يعتمد ذلك للتيسير من الوجه الذي قلنا وعلى هذه المسائل التي اختلف فيها أبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الرواية في الجامع الصغير وهي ثلاث مسائل سمعها محمد من أبي يوسف رحمهما الله ثم نسي ذلك أبو يوسف رحمه الله فكان لا يعتمد رواية محمد رحمه الله بناء على مذهبه في ذلك ومحمد رحمه الله كان لا يدع الرواية مع ذلك بناء على مذهبه فحال القاضي كذلك.
وما وجد في ديوان القاضي بعد أن يعدل من شهادة أو قضاء أو إقرار فهو غير مأخوذ به ولا مقبول إلا أن تقوم بينة أنه قضي به وأنفذه وهو قاضي يومئذ لأن القاضي الثاني لا يعلم حقيقة شيء من ذلك وولاية القاضي فوق ولاية الشهادة فإذا كان لا يجوز للمرء أن يشهد بما لا يعلم فئلا يجوز له أن يقضي بما لا يعلمه أولى والأصل فيه قوله تعالى {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وقال صلى الله عليه وسلم للشاهد: "إذا رأيت مثل هذه الشمس فاشهد وإلا فدع". ثم طريق إثباته عند القاضي إقامة البينة ويشترط أن يشهدوا أنه كان قاضيا حين قضى بهذا فلعله أنفذه بعد العزل والقضاء منه بعد العزل لا يكون نافذا.(16/180)
ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا من أهل الذمة بلغنا أن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنهما فسأله عن كاتبه فقال هو رجل من أهل الذمة فغضب عمر رضي الله عنه من ذلك وقال لا تستعينوا بهم في شيء وأبعدوهم وأذلوهم فاتخذ أبو موسى كاتبا غيره ولأن ما يقوم به كاتب القاضي من أمر الدين وهم يخونون المسلمين في أمور الدين ليفسدوه عليهم قال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} [آل عمران: 118] الآية وأن عمر رضي الله عنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعي بجنس وقال لو كنت على ديننا لاستعنا بك في شيء من أمورنا ولأن كاتب القاضي يعظم في الناس وقد نهينا عن تعظيمهم. قال صلى الله عليه وسلم: "أذلوهم ولا تظلموهم ولا تتخذوا كاتبا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته". لأن الكاتب ينوب عن القاضي فيما هو من أهم أعماله فلا يختار لذلك إلا من يصلح للقضاء وربما يحتاج القاضي إلى الاعتماد على شهادته في بعض الأمور أو يحتاج بعض الخصوم إلى شهادته فلا يختار إلا من يصلح للشهادة ولا بأس بأن يكلف القاضي الطالب صحيفة يكتب(16/181)
ص -83- ... فيها حجته وشهادة شهوده لأن منفعة ذلك له والذي يحق على القاضي مباشرة القضاء فأما الكتبة ليست عليه فلا يلزمه اتخاذ الصحائف لذلك من مال نفسه ولكن لو كان في بيت المال سعة فرأى أن يجعل ذلك من بيت المال فلا بأس بذلك لأنه يتصل بعمله وكفايته في مال بيت المال فما يتصل به لا بأس بأن يجعل في مال بيت المال وعلى هذا أجر كاتب القاضي فإنه إن جعل كفايته في بيت المال لكفاية القاضي ليحتسب في عمله فهو حسن وإن رأى أن يجعل ذلك على الخصوم فلا بأس به لأنه يعمل لهم عملا لا يستحق على القاضي مباشرته وكذلك أجير قاسم القاضي.
وإذا هلك ذكر شهادة الشهود من ديوان القاضي فشهد عنده كاتبان له إن شهوده فلان وفلان وقد شهدوا عنده بكذا وكذا لم يقبل ذلك لأنهما ما أشهد الكاتبين على شهادتهما ولا يقبل شهادة الإنسان على شهادة غيره وإذا لم يشهده على شهادته وينبغي للقاضي أن يكتب شهادة الشاهدين بمحضر المشهود عليه أو وكيله حتى لا يغير شيئا من موضعه لأن الشهود إن زادوا شيئا أو حرفوه طعن فيه وخاصم ورفع ذلك إلى القاضي نائبه وكون الكاتب بمحضر منه أقرب إلى النظر له وإلى نفي التهمة عن القاضي وإن كتبها بغير محضر منه لم يضره ذلك لأنه يكتب ما سمع وهو أمين في ذلك ما لم تظهر خيانته وينبغي للقاضي أن يعرض كتاب الشهادة بعد ما يكتبها على الشاهد حتى يعرف هل زاد شيئا أو حرفه عن موضعه لأن حجة القضاء شهادة الشهود فيستقصي في الاحتياط فيه وذلك في العرض على الشاهد بعد ما يكتب ولهذا قيل إذا لم يكن ماهرا في العربية ينبغي له أن يكتب شهادة الشهود بلفظه ولا يحوله إلى لغة أخرى مخافة الزيادة والنقصان والله أعلم بالصواب.
باب كتاب القاضي إلى القاضي(16/182)
قال رحمه الله: اعلم بأن القياس يأبى جواز العمل بكتاب القاضي إلى القاضي لأن كتابه لا يكون أقوى من عبارته ولو حضر بنفسه مجلس القضاء المكتوب إليه وعبر بلسانه عما في الكتاب لم يعمل به القاضي فكذلك إذا كتب به إليه ولأن الكتاب قد يزور ويفتعل والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم فكان محتملا والمحتمل لا يصلح حجة للقضاء ولكنا جوزنا العمل بكتاب القاضي إلى القاضي فيما يثبت مع الشبهات لحديث علي رضي الله عنه أنه جوز ذلك ولحاجة الناس إلى ذلك فقد يكون الشاهد للمرء في حقه على بلدة وخصمه في بلدة أخرى فيتعذر عليه الجمع بينهما وربما لا يتمكن من أن يشهد في شهادتهما وأكثر الناس يعجزون عن أداء الشهادة على الشهادة على وجهها ثم يحتاج بعد ذلك إلى معرفة عدالة الأصول ويتعذر معرفة ذلك في تلك البلدة فتقع الحاجة إلى نقل شهادتهم بالكتاب إلى مجلس ذلك القاضي ليتعرف القاضي من الكتاب عدالتهم ويكتب ذلك إلى القاضي المكتوب إليه فللتيسير جوزنا ذلك ولكن فيما يثبت مع الشبهات لأنه لا ينفك عن شبهته كما أشرنا إليه في وجه القياس فلا يكون حجة فيما يندرئ بالشبهات ولأن ذلك نادر لا تعم البلوى به.(16/183)
ص -84- ... فلما جعل هذا حجة للحاجة اقتصر على ما تعم البلوى به لأن الحاجة تمشي إلى ذلك.
فإذا أتى القاضي كتاب قاضي سأل الذي جاء به البينة على أنه كتابه وخاتمه لأنه غاب عن القاضي علمه فلا يثبت إلا بشهادة شاهدين ثم يقرؤه عليهم ويشهدون على ما فيه فمن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن علم الشهود بما في الكتاب شرط لجواز القضاء بذلك وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع فقال إذا شهدوا أنه خاتمه وكتابه قبله وإن لم يعرف ما فيه وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله لأن كتاب القاضي إلى القاضي قد يستعمل على شيء لا يعجبهما أن يقف عليه غيرهما ولهذا يختم الكتاب ومعنى الاحتياط يحصل إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه ولكنا نقول ما هو المقصود لا بد من أن يكون معلوما للشاهد والمقصود ما في الكتاب لا عين الكتاب والختم وكتب الخصومات لا يستعمل على شيء سوى الخصومة فللتيسير يطلب كتابا آخر على حدة فأما ما يبعث على يد الخصم لا يشتمل إلا على ذكر الخصومة ولفظ الشهادة.
قال: ولا يفتح الكتاب إلا بمحضر من الخصم لأن ذلك في معنى الشهادة على الشهادة فإن الكاتب ينقل ألفاظ الشهادة كتابة إلى القاضي المكتوب إليه كما أن شاهد الفرع ينقل شهادة شاهد الأصل بعبارته ثم لا تسمع الشهادة على الشهادة إلا بمحضر من الخصم فكذلك لا يفتح الكتاب إلا بمحضر من الخصم فإذا قرأه عليه وعلم ما فيه فإنه ينبغي له أن يخرمه ويختمه لكيلا يغير شيئا منه ويكتب عليه اسم صاحبه لتيسير عليه وجوده في قمطره عند الحاجة إليه.(16/184)
وإذا وصل الكتاب إلى هذا القاضي بعد ما مات الكاتب أو عزل لم يعمل به لأنه ما أتاه كتاب القاضي لأن الكاتب قد انعزل حين عزل أو مات فإنما أتاه كتاب واحد من الرعايا وذلك لا يصلح حجة للقضاء وإن مات ذلك أو عزل بعد ما وصل الكتاب إلى هذا القاضي وقرأ ما فيه فإنه يعمل به لأن الذي أتاه كتاب القاضي وقد بينا أن الكتاب في معنى الشهادة على الشهادة والشاهد على الشهادة إذا مات بعد أداء الشهادة يجوز العمل بشهادته بخلاف ما إذا مات قبل الأداء فكذلك كتاب القاضي إلى القاضي لأن وصول الكتاب إليه وقراءته في معنى أداء الشهادة في مجلسه وإن مات المكتوب إليه أو عزل قبل أن يصل إليه الكتاب ثم وصل إلى الذي ولي بعده لم يعمل به لأن الكتاب إلى غيره فلا يكون حجة للقضاء في حقه وكذلك لو وصل إليه وقرأه ثم مات قبل أن يقضي به لم يعمل به من بعده بمنزلة ما لو شهد الشهود في مجلسه فمات قبل أن ينفذه إلا أن يكون الكتاب إلى كل من يصل إليه من حكام المسلمين فقد جوز ذلك مع جهالة المكتوب إليه لحاجة الناس إلى ذلك استحسانا إلا أنه يكلف الخصم إعادة البينة على الكتاب والختم بين يديه لأن ما قام من البينة في المجلس الأول قد بطل بموته قبل تنفيذه.
وإن كتب القاضي إلى قاضي في حق لرجل شهادة شهود شهدوا عنده عليه فإنه ينبغي(16/185)
ص -85- ... له أن يسمى الشهود في الكتاب وينسبهم إلى آبائهم وقبائلهم والأصل أن الغائب عن مجلس القضاء يجب تعريفه بأقصى ما يمكن ألا ترى أنه لا يعرف المحدودات إلا بذكر الحدود فيعرف الآدمي بالنسب والاسم لأن ذلك أقصى ما يمكن في تعريفه إذا تعذر إحضاره وتمام ذلك بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده فالمقصود تمييزه عن غيره والتميز يحصل بهذا فقل ما يتفق رجلان في الاسم والنسب بهذه الصفة ولأن كان فهو نادر ويذكر قبيلته أيضا ولو اكتفى بذكر اسمه واسم أبيه واسم قبيلته جاز أيضا فقل ما يتفق رجلان في قبيلة واحدة باسمهما واسم أبيهما ويقام ذكر القبيلة مقام ذكر الجد فهو الجد الأعلى وإن ذكر اسمه واسم أبيه فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله إن ذلك يكفي إذا عرفه بصناعة وهو معروف بها وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يكفي لأن ذكر الصناعة ليس بشيء فقد يتحول الإنسان من صناعة إلى صناعة فإن كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وإن لم يعرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لأن المقصود إعلام عدالتهم للقاضي المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وإن حلاهم فحسن وإن ترك التحلية لم يضر لأن المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم والنسب إلا أنه إذا كان من رأى الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك ما لا يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فإن أراد الذي جاء به من المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لأن شهادة الشهود تثبت عنده بالكتاب فكأنه تثبت بسماعه منهم وكما جوزنا الكتاب من القاضي الأول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لأن الخصم قد يهرب إلى بلدة أخرى قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه.(16/186)
وإذا سمع القاضي شهادة الشهود وكتب بها إلى قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه لم يحكم بذلك عليه لأن سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع إذا استقصى بعد ما شهد الأصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضي بذلك وهذا لأن جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لا بينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا يكون ذلك إلا بمحضر من الخصم بعد إنكاره أو سكوته القائم مقام إنكاره فإن أعاد المدعى تلك البينة بمحضر من الخصم فالآن يقضي له بها لأن شرط قبول البينة للقضاء إنكار الخصم وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الأداء وجوده كعدمه وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه إلا أن يكون من رأيه لأن الأول لم يحكم به وإنما نقل الشهادة بكتابه إلى مجلسه فلا يحكم به إلا إذا كان ذلك من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده على شهادة الأصول وهذا بخلاف ما إذا كان الأول قد قضي به وأعطى الخصم سجلا فالثاني ينفذ ذلك وإن لم يكن من رأيه لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ ألا ترى أنه ليس للأول أن يبطل قضاءه وإن تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب الأول ما قضى بشيء ألا ترى أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى(16/187)
ص -86- ... الثاني وإن الخصم لو حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيئا فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه إلا أن يكون ذلك من رأيه.
ولا يقبل كتاب القاضي في شيء من الحدود والقصاص لأن ذلك مما يندرئ بالشبهات وللشافعي رحمه الله قول أن ذلك مقبول إلا في الحدود التي هي لله تعالى خالصا وأصل ذلك في الشهادة على الشهادة وسيأتيك بيانه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى ولا يقبل كتاب قاضي رستاق ولا قرية ولا كتاب عاملها لأن المعمول به كتاب القاضي والقاضي الرستاق متوسط وليس بقاض فالمصر من شرائط القضاء في ظاهر الرواية لأن القضاء من إعلام الدين كالجمع والأعياد فيكون مختصا بالمصر وذلك في بعض النوادر أن قاضي القرية إذا قضي بشيء بعد تقليد مطلق فقضاؤه نافذ فعلى هذا إذا كان قاضي الرستاق بهذه الصفة يقبل كتابه وعلى هذا قالوا إذا خرج قاضي المصر إلى قرية وهي خارجة من فناء المصر فقضي هناك بالحجة لا ينفذ قضاؤه في ظاهر الرواية لانعدام شرط القضاء وهو المصر وعلى رواية النوادر ينفذ قضاؤه وكثير من المتأخرين رحمهم الله أخذوا بذلك قالوا أرأيت لو كانت الخصومة في ضيعة في بعض القرى فرأى القاضي الأحوط أن يحضر ذلك الموضع ليسمع الدعوى والشاهدة ويحكم عند الضيعة أما كان ينفذ حكمه بذلك ومن قال بهذا قال تأويل ما قال في الكتاب أنه لا حاجة إلى قبول كتاب القاضي الرستاق فإنه يتيسر إحضار الخصم مع الشهود في مجلس القضاء في المصر ولكن هذا بعيد فقد ذكر بعده أنه لا يقبل إلا كتاب قاضي مدينة فيها منبر وجماعة أو كتاب الأمير الذي استعمل القاضي لا له بما كفل كتاب من تلك تنفيذ القضاء والأمير الذي استعمل القاضي لو نفذ القضاء بنفسه جاز ذلك منه وكيف لا يجوز وإنما ينفذ قضاء القاضي بأمره فكذلك قاضي المدينة ينفذ قضاؤه لو قضى بنفسه فيقبل كتابه بخلاف قاضي الرستاق.(16/188)
ولا تجوز شهادة أهل الذمة على كتاب قاضي المسلمين لذمي على ذمي ولا على قضائه لأنهم يشهدون على فعل المسلم وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في إثبات فعل المسلم وهذا لأن قبول شهادة بعضهم على بعض كان للحاجة والضرورة فقل ما يحضر المسلمون معاملاتهم خصوصا الأنكحة والوصايا وهذا لا يتحقق في قضاء قاضي المسلمين وكتابه وخاتمه لأن الإشهاد على ذلك منه في مجلسه ومجلس قاضي المسلمين يحضره المسلمون دون أهل الذمة وإذا جاء بكتاب القاضي إن لفلان علي كذا وكذا من الدين لم يجز حتى ينسبه إلى أبيه وإلى فخذه التي هو بها أو بنسبه إلى تجارة يعرف بها مشهورة وقد بينا قول أبي حنيفة رحمه الله في النسبة إلى التجارة لأنها لا تقوم مقام النسبة إلى الفخذ إلا أن يكون شيئا مشهورا لا يخفى على أحد وإن كان في تلك الفخذ أو إلى التجارة اثنان كذلك لم يجز حتى ينسب إلى شيء يعرف به من الآخر لأنه لا بد من تميز المشهود عليه من غيره ألا ترى أنهما لو شهدا على أحد الرجلين بحضرتهما لم يقبل ذلك بدون التعيين؟ فكذلك في حق(16/189)
ص -87- ... الغائب لا بد من تمييز المشهود عليه من الآخر على وجه لا يبقى فيه شبهة وإن لم يكن كذلك إلا واحدا فأقام الخصم البينة أنه قد كان فيهم رجل على ذلك الاسم والنسب وأنه قد مات لم يقبل ذلك منه إذا كان موته قبل تاريخ الكتاب وإن كان بعده قبلته وأبطلت الكتاب الذي جاء به المدعي لأن الثابت بالبينة بمنزلة المعلوم للقاضي ولو كان معلوما عند القاضي وجوده وموته قبل تاريخ الكتاب لم يمتنع لأجله من العمل بالكتاب لأن في الكتاب ذكر الاسم والنسب مطلقا فإنما ينصرف ذلك إلى الحى دون الميت لأنه إذا كان المقصود الميت يذكر في الكتاب فلأن الميت وأما إذا كان موته بعد تاريخ الكتاب فكل واحد منهما كان حيا حين كتب القاضي الكتاب وليس في الكتاب ما يميز أحدهما عن الآخر أرأيت لو ادعي هذه الدعوى على ورثة الميت واحتج ورثة الميت بالحي أكان يتمكن القاضي من القضاء على ورثة الميت بشيء وليس في الكتاب ما يميز مورثهم من الآخر إلا أن يكون في الكتاب فلان بن فلان لفلان وقد مات فيعلم بذلك أن المشهود عليه الميت منهما دون الحي.
وإن كان نسبه في ذلك الكتاب إلى أبيه وإلى بكر بن وائل أو إلى تميم أو همدان لم أجزه حتى ينسبه إلى فخذه التي هو منها أدناها إليه بعد أن يقول قبيلته عليها العرافة لأن المقصود التعريف وذلك لا يحصل إلا بنسبته إلى أدنى الأفخاذ أرأيت لو قالوا فلان بن فلان العربي أو نسبوه إلى آدم صلى الله عليه وسلم أكان يحصل التعريف بذلك قال إلا أن يكون رجلا مشهورا أشهر من القبيلة فيقبل ذلك إذا نسبه إلى تلك الشهرة فالتمييز بينه وبين غيره يحصل بالشهرة فتقوم ذلك مقام ذكر الاسم والنسب.(16/190)
ولو جاء بكتاب قاض بشهادة شهود على دار ليس فيها حدود لم يجز ذلك كما لو شهدوا به في مجلسه وهذا لأن المشهود به مجهول ففيما لا يمكن إحضاره مجلس القاضي التعريف بذكر الحدود فيبقى مجهولا بدونه وكذلك لو كانوا حدوها بحدين إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال إذا ذكروا أحد حدي الطول وأحد حد العرض يجوز للقاضي أن يقضي ويكتفي به وهذا ليس بصحيح لأن بذكر الحدين لا يصير مقدار المشهود به معلوما فإن حدوها بثلاثة حدود جاز ذلك عندنا استحسانا وعلى قول زفر رحمه الله لا يجوز لبقاء بعض الجهالة حين لم يذكروا الحد الرابع وقياس هذا بما لو ذكروا الحدود الأربعة وغلطوا في أحدها ولكنا نقول قد ذكروا أكثر الحدود وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد إعلام الطول يصير معلوما أيضا وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفي بذكر الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لأن المشهود به بما ذكروا صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعي شراء شيء بثمن منقود فإن الشهادة على ذلك تقبل وإن سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن ولو ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وإن لم يحدوها ونسبوها إلى(16/191)
ص -88- ... اسم معروف لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن التعريف بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب في الآدمي ثم هناك الشهرة تغني عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فأما مقدار المشهود به لا يصير معلوما إلا بذكر الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا أن الدار المشهودة قد يزاد فيها وينقص منها ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيها ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى إعلام أصله وبالشهرة يصير معلوما.
ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان بن فلان الفلاني كذا كذا أجرته لأن المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة تتعطل بالرق وإنما ينسب إلى مالكه ألا ترى أن الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الأسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك إن نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية فكذلك في العبد وإن جاء بالكتاب أن العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل قال وقال محمد رحمه الله لا يجوز عندنا كتاب القضاة في شيء بعينه إلا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فأما فيما سوى ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لأن الإشارة إلى عينه عند الدعوى والشهادة شرط ولهذا لا بد من إحضاره بمجلس القضاء.(16/192)
وإذا أتى كتاب القاضي إلى القاضي وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه لأنه لو كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه وإنما يصير معلوما بشهادة الشهود فكذلك إذا لم يكن عليه عنوان وقد ترك بعض القضاة كتبه العنوان على ظاهر الكتاب لغرض له في ذلك وليس على عنوان الظاهر اعتماد فإنه ليس يجب الختم فإن فتح الكتاب فلم يكن في داخله اسم الكاتب والمكتوب إليه أو كان فيه اسمهما دون اسم أبيهما لم يقبله لأنه إنما يقبل كتاب القاضي إليه ولا يصير ذلك معلوما إلا بالعنوان في داخله على وجه يحصل به تعريف الكاتب والمكتوب إليه فإذا لم يكن ذلك لا يقبله.
والحاصل أن العنوان الداخل عليه الاعتماد لأنه تحت الختم يؤمن فيه تغيير ذلك فإذا كان فيه تعريفا تاما يقبل الكتاب وإلا فلا وإن كان فيه أسماؤهما واسما أبائهما قبله إذا شهدت الشهود على ما في جوفه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن كان فيه كنايتهما دون أسمائهما لم يقبله فالتعريف لا يحصل بذلك على ما قيل المكني باكنى إلا أن يكون مشهورا كشهرة أبي حنيفة رحمه الله فحينئذ يقبل ذلك للشهرة وإن كان فيه من فلان إلى بن فلان لم يجز لأنه لا يصير معلوما بهذا فقد ينسب الفلان إلى الأب الأدنى وقد ينسب إلى(16/193)
ص -89- ... من فوقه وقد يكون لابنه بنون سواه فإن كان مشهورا مثل بن أبي ليلى وبن شبرمة رحمهما الله جاز ذلك لحصول المقصود بذكر ما هو مشهور ولو كتب اسم القاضي ونسبه إلى جده ولم ينسبه إلى أبيه لم يجز لأن التعريف يحصل بالنسبة إلى الأب الأدنى فالنسبة إليه حقيقة وإلى الجد مجازا ألا ترى أنه ينفي عنه بإثبات غيره؟
ولو كان على عنوانه أسمائهما وأسماء أبائهما لم يجز ذلك إلا أن يكون ذلك في داخله لأن العنوان الظاهر ليس تحت الختم فوجوده وعدمه سواء ولو كتب القاضي إلى الأمير الذي استعمله وهو في المصر معه أصلح الله الأمير ثم اقتص القصة وجاء بكتابه معه فعرفه الأمير ففي القياس لا يقبل ذلك لأن كتاب القاضي لا يثبت عند الأمير موجبا للقضاء إلا بشهادة شاهدين كالمكتوب من مصر إلى مصر وكذا لا بد من ذكر اسم الكاتب واسم أبيه واسم المكتوب إليه واسم أبيه ولم يوجد ذلك ولأنه لا حاجة في المصر إلى هذا فإنه يتيسر عليه أن يحضر بنفسه فيخبر الأمير بما يريد إعلامه ولكن في الاستحسان يجوز للأمير أن يمضي هذا لأنه متعارف ويشق على القاضي أن يأتى الأمير بنفسه في كل حادثة ليخبر بها ولأنه لو أرسل إليه بذلك رسولا ثقة كان عبارة رسوله كعبارته في حق جواز العمل به فكذلك إذا كتب إليه بذلك رقعة ولم يجر الرسم بمثله في الكتاب من مصر إلى مصر آخر فشرطنا هناك شرائط كتاب القاضي إلى القاضي.(16/194)
ويجوز على كتاب القاضي الشهادة على الشهادة وشهادة امرأتين مع رجل لأنه مما يثبت مع الشبهات والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال حجة القضاء فيما يثبت مع الشبهات وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يرزق سليمان بن ربيعة الباهلي عن القضاء كل شهر خمسمائة درهم وفيه دليل على أن الإمام يعطي القاضي كفايته من مال بيت المال وأنه لا بأس للقاضي أن يأخذ ذلك لأنه فرغ نفسه لعمل المسلمين فيكون كفايته وكفاية عياله في مال المسلمين وإن كان صاحب ثروة فإن لم يأخذ واحتسب في عمل القضاء فهو خير له والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] والآية في الوصي وهو يعمل لليتيم كما أن القاضي يعمل للمسلمين وأن الصحابة رضوان الله عليهم فرضوا لأبي بكر رضي الله عنه مقدار كفايته من مال المسلمين إلا أنه أوصى إلى عائشة رضي الله عنها أن ترد جميع ذلك حتى قال عمر رضي الله عنه يرحمك الله لقد أتعبت من بعدك وعمر رضي الله عنه كان يأخذ كفايته من مال بيت المال وعلي رضي الله عنه كذلك كان يأخذ كما قال إن لي من مالكم كل يوم قصعة ثريد وعثمان رضي الله عنه كان لا يأخذ لثروته.
ثم ذكر عن شريح رحمه الله أنه قال ما لي لا أترزق وأستوفي منه وأوفيهم اصبر لهم نفسي في المجلس واعدل بينهم في القضاء وأن شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما وعمر رضي الله عنه كان يرزقه كل شهر مائة درهم وعلي رضي الله(16/195)
ص -90- ... عنه كان يرزقه كل شهر خمسمائة درهم وذلك لقلة عياله في زمن عمر رضي الله عنه ورخص سعر الطعام وكثرة عياله في زمن علي رضي الله عنه وغلاء سعر الطعام فإن رزق القاضي لا يتقدر بشيء لأن ذلك ليس بأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز وإنما يعطي كفايته وكفاية عياله وكان بعض أصدقاء شريح رحمه الله عاتبه في ذلك وقال لو احتسبت قال في جوابه وما لي لا أترزق فبين أنه فرغ نفسه لعمل القضاء ولا بد له من الكفاية فإذا لم يرتزق احتاج إلى الرشوة ففيه بيان أن القاضي إذا كان محتاجا ينبغي له أن يأخذ مقدار كفايته لكيلا يطمع في أموال الناس.
وذكر عبد الله بن يحيى الكندي كان يقسم لعلي رضي الله عنه الدور والأرضين ويأخذ على ذلك أجرا وفيه دليل أن القاضي يتخذ قاسما لأنه يحتاج إلى ذلك فإنه في المواريث إذا بين الأبصار بما يطالب بالقسمة ليتم بها انقطاع المنازعة وهو لكثرة أشغاله لا يتفرغ لذلك فيتخذ قاسما يستعين به عند الحاجة كما يتخذ كاتبا ثم الأولى أن يجعل كفاية قاسم القاضي في بيت المال ككفاية القاضي لأن عمله من تتمة ما انتصب القاضي له فإن لم يقدر على ذلك أمر الذين يريدون القسمة أن يستأجروه بأجر معلوم وذلك صحيح لأنه يعمل لهم عملا معلوما وذلك العمل غير مستحق عليه ولا على القاضي فالقضاء يتم ببيان نصيب كل واحد من الشركاء والقسمة عمل بعد ذلك فلا بأس بالاستئجار عليه كالكتابة ولا ينبغي له أن يكره الناس على قسامة خاصة لأن ذلك يلحق به تهمة المواضعة مع قسامه ولأنه إذا أكره الناس على ذلك يتحكم قسامه على الناس في الأجر وفيه ضرر عليهم وأيما قوم أصطلحوا على قسمة قاسم آخر جار بينهم بعد أن لا يكون فيهم صغير ولا غائب لأن الحق لهم وهم قادرون على النظر لأنفسهم فاصطلاحهم على قاسم آخر من جملة النظر منهم لأنفسهم.(16/196)
وإن كان فيهم صغير أو غائب فهم يحتاجون إلى رأي القاضي في ذلك لأن الصغير والغائب عاجزان عن النظر لأنفسهما والقاضي ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه فإن أمرهم بالقسمة وفيهم صغير أو غائب فاستأجروا قساما غير قاسمه بأرخص من ذلك بعد أن يكون عدلا يعرفه القاضي جاز ويأمره أن يقسم بينهم لأنه إن لم يفعل هذا وألزمهم استئجار قاسمه يحكم عليهم في الأجر ثم أجر القاسم على الصغير والكبير والذكر والأنثى وصاحب النصيب القليل والكثير سواء في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما الأجر عليهم على قدر الأنصباء وهذه مسألة كتاب القسمة.
وإن اتخذ القاضي جماعة من القسامين فذلك حسن ولكن الأولى أن لا يشرك بينهم فإنه أجدر أن لا يتحكموا على الناس لأنه إذا أشرك بينهم تواضعوا على شيء فتحكموا على الناس ولأنه إذا لم يشرك بينهم يؤمن عليهم الميل إلى الرشوة لأنه إن فعل ذلك أحدهم أظهره عليه صاحبه وإذا أشرك بينهم يفوت هذا المقصود وإن قاطعوا رجلا منهم على شيء بعينه لم يدخل بقسم معه في ذلك لأنه لا شركة بينهم وإذا شهد قاسمان على قسمة(16/197)
ص -91- ... قسماها بين قوم بأمره بأن كل إنسان قد استوفى نصيبه جازت شهادتهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله وفي قوله الأول لا تجوز شهادتهما وهو قول محمد رحمه الله لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما ولأنهما في الحقيقة يدعيان إيفاء العمل الذي استؤجر عليه وأداء الأمانة في ذلك بإيصال نصيب كل واحد منهم إليه والدعوى غير الشهادة وجه قولهما أنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما شيئا لأن الخصوم متفقون على أنهما قد وفيا العمل وأن العقد انتهى بينهم وبينهما ثم لا يشهدان على عمل أنفسهما لأن عملهما التمييز والمشهود به استيفاء كل إنسان نصيبه وذلك فعل المستوفى.
ولو شهد قاسم واحد على القسمة لم يجز لأن القاسم ليس بقاض والقاضي هو المخصوص بأن يكتفي بقوله في الإلزام فأما القاسم فيما يشهد به كغيره فلا تتم الحجة بقول الواحد وكذلك أمين القاضي إذا أمره القاضي أن يدفع مالا فقال قد دفعته وأنكر المدفوع إليه فالأمين يتصدق في نزاهة نفسه لأنه يذكر وجوب الضمان عليه ولا يصدق على الآخر أنه قبض لأنه ليس بقاض فالحجة لا تتم بقوله وأيما رجل ادعى غلطا في القسمة فإنه لا تعادله القسمة ولكنه يسأل البينة على ما يدعي من الغلط لأن الأصل هو المعادلة في القسمة والظاهر أن القاسم يؤدي الأمانة في ذلك فمن ادعى خلاف ذلك لم يصدق إلا بحجة.(16/198)
ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ قاسما ذميا ولا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أعمى ولا فاسقا ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته وقد بينا هذا في الكاتب فكذلك في القاسم لأن كل واحد منهما ينوب عن القاضي فيما يكون من تتمة عمله وقد تحتاج الخصوم إلى شهادة القاسم فلا يختار لذلك الأمر إلا من يكون أهلا لأداء الشهادة لأنه إذا كان بخلاف ذلك ولم يرد القاضي شهادته وجد الناس لذلك مقالا في القاضي يقولون لم اخترته إذا كنت لا تعتمد قوله وإذا رأى القاضي وهو في مجلس القضاء أو غيره رجلا يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن يقيم عليه الحد في القياس لأنه تيقن باكتسابه السبب الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده بمعاينة السبب فوق العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود لأن ذلك محتمل الصدق والكذب وفي الاستحسان لا يقيم عليه الحد حتى لو شهد الشهود عنده بذلك عليه أو يقر بذلك لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لو رأيت رجلا على حد ثم وليت هل تقيمه عليه قال لا حتى يشهد معي غيري فقال أصبت.
وعن الزهري عن أبي بكر رضي الله عنه يجوز ذلك ولأن الحدود التي هي من خالص حق الله تعالى يستوفيها الإمام على سبيل النيابة من غير أن يكون هناك خصم يطالب به من العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في الإقامة ربما يتهمه بعض الناس بالجور والإقامة بغير حق وهو مأمور بأن يصون نفسه عن ذلك وهذا بخلاف القصاص وحد القذف وغير ذلك من حقوق الناس لأن هناك خصم يطالب به من العباد وبوجوده تنتفى التهمة عن القاضي فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك.(16/199)
ص -92- ... توضيح الفرق أن المقر بالحدود التي هي من حقوق الله تعالى إذا رجع صح رجوعه ولم يكن للقاضي ولاية الإقامة لوقوع التعارض بين خبريه فكذلك إذا أخبر القاضي أنه رأى ذلك وأنكره الرجل لم يكن له أن يقيمه للتعارض بين الخبرين فكل مسلم أمين فيما يخبر به من حق الله تعالى ولهذا ضمنه في السرقة لأن ذلك حق المسروق منه ولا يعمل الرجوع فيه عن الإقرارفأما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعد الإقرار باطل وللقاضي أن يلزمه ذلك بإقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لأن معاينته السبب أقوى في إفادة العلم من إقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذي هو قاض فيه بعد ما قلد القضاء فأما إذا كان رأى ذلك قبل أن يتقلد القضاء ثم استقصى فليس له أن يقضي بعلمه في ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يقضي بعلمه في ذلك لأن علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقصى وقبله وهو أقوى من العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود فإن معاينة السبب تفيده علم اليقين وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلان يجوز له أن يقضي بعلم نفسه أولى ومذهب أبي حنيفة رحمه الله مروى عن الشعبي.(16/200)
وشريح رحمه الله سئل عن هذه المسألة فقال أتى شريح رحمه الله مثلها وأنا شاهد فقال أنت الأمير حتى أشهد لك فقال أنشدك بالله أن يذهب حقي وأنت تعلم فقال أنت الأمير حتى أشهد لك والمعنى فيه أنه حين عاين السبب فقد استفاد به علم الشهادة وبأن استقصى بعد ذلك لا يزداد علمه بذلك وعلم القضاء فوق علم الشهادة فإن علم القضاء ملزم والشهادة بدون القضاء لا تكون ملزمة بخلاف ما إذا رأى وهو قاض لأنه استفاد علم القضاء هناك بمعاينة السبب والدليل على الفرق أن ما يستفيد من العلم بمعاينة السبب وما يستفيده بشهادة الشهود عنده في الحكم سواء ثم شهادة الشهود عنده بعد ما استقصى تفيده علم القضاء وقبل أن يستقصي لا تفيد له ذلك حتى لو استقصى شاهد الفرع لم يكن له أن يقضي بما كان من شهادة الأصول عنده ما لم يشهدوا بذلك بعد ما استقصى فكذلك عند معاينة السبب وعلى هذا الخلاف لو عاين السبب بعد ما استقصى ولكن في غير مصره ثم لما انتهى إلى مصره خوصم في ذلك لأنه حين عاين السبب لم يكن له أن يقضي به في ذلك الموضع فهو وما لو علم قبل أن يستقصي سواء ولو عاين ذلك في مصره وهو قاض ثم عزل ثم أعيد على القضاء فلا شك أن عندهما له أن يقضي بعلمه ومن أصحابنا رحمهم الله من قال عند أبي حنيفة رحمه الله أيضا له أن يقضي بعلمه لأنه استفاد علم القضاء بمعاينة السبب حتى لو قضى به في ذلك الوقت جاز ذلك فكذلك إذا قضى به بعد ما قلد ثانيا والأصح أنه على الخلاف لأنه بعد ما عزل لم يبق له في تلك الحادثة إلا علم الشهادة فهو وما لو علم به بعد ما عزل سواء.
توضيحه أنه لو سمع شهادة الشهود فلم يقض بها حتى عزل ثم أعيد على القضاء لم يقض بتلك الشهادة بخلاف ما قبل العزل فكذلك إذا عاين السبب وكان ابن أبي ليلى(16/201)
ص -93- ... رحمه الله يقول إذا علم قبل أن يستقصي ثم استقصى فشهد عنده رجل وأخذ بذلك قضي به وذلك مروى عن شريح رحمه الله أنه قضي بشهادة رجل واحد وقد كان علم منها علما ولكنا نقول علمه بمعاينة السبب ليس من جنس ما يحصل له من العلم بشهادة الشهود عنده وإكمال أحدهما بالآخر لا يمكن والقاضي لا يتمكن من القضاء إلا بحجة فالطريق في ذلك أن يشهد مع الرجل الآخر لصاحب الحق عند الإمام الذي فوقه حتى يقضي هو بذلك.
وإذا دفع القاضي مال اليتيم إلى تأجر فجحده التأجر فالقاضي مصدق في ذلك على التأجر يقضي عليه بالمال لأنه قاض فيما يفعله في مال اليتيم وفيما يخبر به من القضاء هو مصدق لأنه يخبر بما يملك الإنسان وكذلك لو باع مال ميت في دينه فلا عهدة على القاضي في ذلك لأن فعله ذلك من القضاء وهو فيما يلحقه من العهدة يكون خصما لا قاضيا وإذا انتفت التهمة عنه كانت العهدة على من وقع عمله لهم فإن جحد المشتري منه البيع قاضاه عليه وأخذ منه اليمين لأنه علم أنه كاذب في ذلك فهو الذي باشر السبب وكذلك هو مصدق فيما ذكر أنه قضي به من قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق أو غير ذلك من حقوق الناس سواء أقر بذلك عندي أو قامت به بينة ويسمع للذي سمع من القاضي ذلك أن يعتمد قوله حتى في الرجم والنفس وما دونها وما يندرئ بالشبهات وما لا يندرئ بالشبهات في ذلك سواء وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه رجع عن هذا القول وقال في الحدود التي تندرى ء بالشبهات لا يسع السامع إقامة ذلك بمجرد قول القاضي ما لم يخبره بذلك غيره لأن القاضي غير معصوم عن الكذب فإن ذلك درجة الأنبياء صلوات الله عليهم ولا تبلغ درجة القاضي درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحرمة النفس عظيمة والغلط فيها لا يمكن تداركه فلا يسع الإقدام عليه بمجرد قول القاضي.(16/202)
وجه ظاهر الرواية أن مجرد قول القاضي ملزم ألا ترى أن مباشرته القضاء قول ملزم فكذلك إخباره بالقضاء والدليل عليه أنه لا يستقصى في كل بلدة أكثر من واحد فلو كانت الحجة لا تتم بمجرد خبر القاضي به لجرى الرسم بإيجاد القاضين في كل بلدة لصيانة الحقوق كما جرى الرسم به في الشهود وفي الاكتفاء بقاض واحد في كل بلدة دليل الإجماع من المسلمين على أن مجرد قول القاضي حجة تامة ولو عزل عن القضاء فخاصمه المقضي عليه في جميع ذلك فقال إنما قضيت به عليك كان مصدقا في ذلك غير مسؤول ببينة ولا مستحلف يمينا لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي تلك الحالة الخصومة والضمان عنه فيجب قبول قوله في ذلك كما لو أخبر به قبل أن يعزل قال مشايخنا رحمهم الله وإنما يجوز اعتماد قول القاضي في ذلك من غير أن يستفسر إذا كان فقيها ورعا فالورع يؤمننا من جوره وميله إلى الرشوة وفقهه يؤمننا من أن يغلط في ذلك فأما إذا لم يكن فقيها لا بد من أن يستفسر وإن كان ورعا لأنه ربما يغلط لقلة فهمه وكذلك إن كان فقيها ولم يكن ورعا فلا بد من أن يستفسر لأنه لقلة ورعه ربما جار في ذلك.(16/203)
ص -94- ... ولا ينبغي للقاضي أن يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا ولا يقتص لأحد من إحد عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك بشرط أن لا يلوث المسجد لأن فعل الإقامة قربة وطاعة والمساجد أعدت لذلك ثم هو من تتمة قضائه وإذا كان له أن يجلس في المسجد للقضاء كان له أن يتم القضاء بإقامة الحدود فيها وحجتنا في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد" وفي حديث مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم وبيعكم وشراءكم وطهروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر" وروي أن عمر رضي الله عنه أمر بأن يعذر رجل وقال للذي أمره بذلك أخرجه من المسجد ثم اضربه ولم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة حد على أحد في المسجد بين يديه وهذا لأنه لا يؤمن تلويث المسجد ورفع صوت المضروب بالأنين عند الضرب والمسجد يتنحى عن ذلك فإما أن يخرج القاضي ليقام بين يديه أو يبعث نائبا أو يجلس عند باب المسجد ويأمر بالإقامة بين يديه خارجا من المسجد وهو يرى ذلك.(16/204)
ولو أن قاضيا باع لنفسه شيئا أو اشترى لم يقبل قوله في شيء منه على خصمه وهو كغيره من الناس في هذا لأنه فيما يعمل لنفسه لا يكون قاضيا وفيما يفعله على غير سبيل الحكم هو كسائر الرعايا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أنكر الأعرابي استيفاء ثمن الناقة منه وقال هلم شاهدا قال لم يشهد لي حتى شهد خزيمة رضي الله عنه الحديث إذا كان هذا في حق من هو معصوم عن الكذب فما ظنك في القاضي ولا يجوز قضاؤه بشيء لنفسه ولا لولده ونوافله من قبل الرجال والنساء ولا لأبويه وأجداده من قبلهما ولا لزوجته ولا لمكاتبه ومماليكه لأن ولاية القضاء فوق ولاية الشهادة وإذا لم يجز شهادته لهؤلاء فلئلا يجوز قضاؤه لهم أولى وأما من سوى هؤلاء من القرابة وغيرهم فقضاؤه لهم جائز كما تجوز شهادته لهم.
وإذا عزل عن القضاء ثم قال كنت قضيت لهذا على هذا بكذا وكذا لم يقبل قوله في ذلك لأنه أخبر بما لا يملك استئناءه وهذا قول ملزم وهو بعد العزل كغيره من الرعايا فلا يكون قولا ملزما وإن شهد مع آخر لم تقبل شهادته في ذلك لأنه يشهد على فعل نفسه ولا شهادة للإنسان فيما يخبر به من فعل نفسه فلا بد من أن يشهد على قضائه شاهدان سواه ليتمكن المولى بعده من امضائه وإذا رفع قضاء القاضي بعد موته أو عزله إلى قاض يرى خلاف رأيه فإن كان مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه لإجماع الناس على نفوذ قضاء القاضي في المجتهدات فلو أبطله القاضي الثاني كان هذا منه قضاء بخلاف الإجماع وإن كان القضاء الأول خطأ لا يختلف فيه الفقهاء أبطله لأنه بخلاف الإجماع أو النص ألا ترى أن الأول لو وقف على ذلك من قضاء نفسه أبطله بخلاف ما إذا تحول رأيه في المجتهدات فكذلك يفعله المولى بعد موته.(16/205)
ص -95- ... ولا ينبغي للقاضي أن يكون فظا غليظا جبارا عنيدا لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضاء بين الناس فينبغي أن يتحرز عن ما هو منتفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى لم يجعلني جبارا عنيدا" وفي صفته في التوراة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق فصلوات الله عليه ولأن هذه أوصاف مذمومة فعلى القاضي أن يتحرز عنها وهو سبب لنفرة الناس عنه قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الآية والقاضي مندوب إلى اكتساب ما هو سبب لميل القلوب إليه والإجماع إليه في حوائجهم وينبغي له أن يشتد حتى يستنطق الحق فلا يدع من حق الله تعالى شيئا من غير جبر به وأن يلين حيث ينبغي ذلك في غير ضعف ولا يترك شيئا من الحق لما روينا عن عمر رضي الله عنه قال لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلين في الأمور ويرفق حتى ينتهك شيء من محارم الله فيكون من أشدهم في ذلك وينبغي له أن يتعذر إلى كل من يخاف أن يقع في نفسه عليه شيء إذا قضي عليه وأن يفسر للخصم ويبين له حتى يعلم أنه قد فهم عنه حجته وقضى عليه بعد ما فهم وبذلك تنتفي عنه تهمة الميل وينقطع عنه طمع الخصم والعالة فيه ولأنه يصون بذلك الخصوم عن الفتنة والشكاية منه وهو مندوب إلا أن لا يترك جهده في ذلك وإن كان لا يطمع في أمانته إلا نادرا فيتقدم القاضي إلى أعوانه والقوام عليه في ترك الحق والشدة على الناس ويأمرهم بالرفق واللين من غير أن يضعوا فيقصروا عن شيء مما ينبغي لأنهم ينوبون عنه فيما فوض إليهم فكما يفعل ذلك في حق نفسه يأمر به أعوانه ليكون ذلك سبب تأليف القلوب واجتماع الكلمة عليه.(16/206)
ولا ينبغي أن يستعمل على القضاء إلا الموثوق به في عفافه وصلاحه وعقله وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه التي يأخذ منها الكلام فإنه لا يستقيم أن يكون صاحب رأي ليس له علم بالسنة والأحاديث فمثله يضل الناس كما ورد به الأثر إياكم وأصحاب الرأي أعيتهم أن يحفظوها فيسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه فقد شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحب الحديث أن يعي ما سمعه أو لا يقوله قال صلوات الله عليه وسلامه: "نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فعرفنا أنه لا يستقيم واحد منهما إلا بصاحبه.
والإمام مأمور بأن لا يقلد أحدا شيئا من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "من قلد غيره عملا وفي رعيته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وخان جماعة المسلمين". وعمل القضاء من أهم أمور الدين وأعمال المسلمين فلا يختار له إلا من يعلم أنه صالح لذلك مؤدي الأمانة فيه وذلك عند اجتماع الخصال المذكورة فيه وإذا كان لا يؤتمن على شيء من المال من لا يعرف بالأمانة أو يعجز عن أدائها فلئلا يؤتمن على أمر(16/207)
ص -96- ... الدين أولى فكما لا يختار للقضاء إلا من يجتمع فيه هذه الشرائط فكذلك للفتوى فإن القاضي يفتي وقد كان القاضي في الصدر الأول يسمى مفتيا فلا ينبغي لأحد أن يفتي إلا من كان هكذا إلا أن يفتي شيئا قد سمعه فيكون حاكيا ما سمع من غيره بمنزلة الراوي لحديث سمعه يشترط فيه ما يشترط في الراوي من العقل والضبط والعدالة والإسلام لأن الخبر كلام فلا يتحقق بصورته ومعناه في الراوي من غير العاقل وما من موجود في الدنيا إلا وهو معتبر لصورته ومعناه فإذا كان المعنى المطلوب من الكلام البيان ولا يحصل ذلك إلا بالعقل عرفنا أن العقل في المخبر شرط والضبط كذلك لأن قبول الخبر منه باعتبار رجحان جانب الصدق فيه ولا يحصل ذلك الضبط والفهم والعدالة إلا بذلك فرجحان جانب الصدق بالعدالة يكون لأنه إذا لم ينزجر عما يعتقده حراما في دينه لا ينزجر عن الكذب أيضا واشتراط الإسلام لأن الكفر ينافي رجحان جانب الصدق في خبره لأن هذا من باب الدين وهم يعادون الدين الحق ويسعون في هدمه بما يقدرون عليه فشرطنا الإسلام لذلك.
وبعد ما استجمع في القاضي هذه الشرائط لا يولى القضاء ما لم يكن له علم بالقضاء والمراد من هذا اللفظ العلم المتعارف بين الناس ولسانهم من استعمال الحقيقة والمجاز فالقاضي لا يستغني عن ذلك ويتعذر عليه تنفيذ بعض القضاء إذا لم يكن عالما بذلك ولا يولى القضاء أعمى ولا محدود في قذف ولا مكاتب ولا عبد يسعى في شيء من قيمته لأن شهادة هؤلاء لا تقبل والقضاء أعظم من الشهادة ولا يولى أحد من أهل الذمة شيئا من أمر القضاء كتابة ولا مسائلة لظهور الخيانة منهم في أمور الدين والسعى في إفساده على المسلمين.(16/208)
ولا ينبغي للقاضي إذا سافر أو مرض أن يستخلف إلا بأمر الإمام الذي هو فوقه لأن من قلده إنما رضي برأيه والناس يتفاوتون في الرأى والقضاء لا بد له من الرأى فلا يستخلف إلا بأمر من قلده كالوكيل لا يوكل غيره إلا بأمر الموكل والفرق بين القاضي والمأمور بإقامة الجمعة في الاستخلاف قد بيناه في كتاب الصلاة فإذا استخلف بغير أمر الإمام لم يجز قضاء خليفته إلا أن ينفذ هو قضاء خليفته فحينئذ ينفذه كما لو قضى به بنفسه لأن نفوذه برأيه ألا ترى أن الوكيل إذا وكل غيره حتى باشر التصرف ثم أجاز الوكيل الأول نفذ ذلك منه وجعل أجازته كإنسائه وكذلك لو حكم حكما بين خصمين فهذا والاستخلاف سواء وقيل هذا كله إذا فعله خليفته لا بحضرته فإن فعله بحضرته جاز استحسانا لأن تمامه برأيه يكون بمنزلة الوكيل إذا وكل غيره حتى باع بحضرته وإن التبس عليه القضاء فاستشار فيه رجلا من أهل الصلاح والعفة وأخذ بقوله فانفذه بين الخصمين فهو جائز لما بينا أن القاضي فيما يعجز عنه يستعين بغيره ممن علم ذلك وإن طمع القاضي في أن يصلح الخصمين فلا بأس بأن يردهما ويؤخر تنفيذ الحكم بينهما لعلهما أن يصطلحا لحديث عمر رضي الله عنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن وفي رواية ردوا الخصوم من ذوي الأرحام ولا ينبغي له أن يردهم أكثر من مرة أو مرتين إن طمع في الصلح لأن في(16/209)
ص -97- ... الزيادة على ذلك إضرار بصاحب الحق وإن لم يطمع في الصلح أنفذ القضاء بينهم لأنه انتصب لذلك وإن أنفذ القضاء بينهم من قبل أن يردهم فهو في سعة من ذلك وليس بواجب عليهم ردهم إنما الواجب عليه ما قلد من العمل وهو القضاء بالحجة وقد أتى بذلك.
وليس ينبغي للقاضي أن يسمع من رجل واحد حجتين أو أكثر من حجتين في مجلس واحد لأنه مأمور بين الناس بالتسوية وإذا سمع في مجلس واحد من رجل واحد حجتين أو ثلاثا أضر بذلك بسائر الناس إلا أن يكون الناس قليلا ولا يشغله ذلك عنهم وكان يفرغ من حوائجهم قبل أن يقوم فلا بأس به حينئذ لأنه لا ضرر فيه على أحد ممن حضر مجلسه.(16/210)
ولا ينبغي للقاضي أن يقدم رجلا قد جاء رجل غيره قبله لفضل منزلته وسلطانه ولكن يقدمهم على منازلهم لأن الذي سبق بالحضور وقد استحق النظر في حاجته فلا يبطل حقه بحضور غيره كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه؟" ولأن القاضي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بما قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] الآية ونظر القاضي لهم بسبب الدين وفي ذلك السلطان وغيره سواء فإنما يقدمهم على منازلهم بما ذكر في بعض النسخ من أصل بعض مسائل التحكيم وتمام ذلك في كتاب الصلح فنذكر هنا مقدار ما ذكر فنقول الحكم فيما بين الخصمين بمنزلة الحاكم المولى حتى يشترط فيه الأهلية للشهادة فإذا كان أعمى أو محدودا في قذف أو عبد أو مكاتب لم يجز حكمه بين المسلمين وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه لأنه بتراضيهما صار حكما حتى أن لكل واحد منهما أن يرجع فيها ما لم يمض فيه الحكم والحكومة فإذا أمضاها فليس لواحد منهما أن يرجع فيها كما في الصلح ولو دفع حكم الحاكم إلى القاضي فإن وافق الحق ووافق رأيه أمضاه لأنه لو نقضه احتاج إلى إعادته في الحال وإن كان لا يوافق الحق أبطل وكذلك إن كان رأيه لا يوافق رأيه في المجتهدات فإنه يبطله بمنزلة إصلاح الخصمين لأن رضاهما بحكمه لا يكون حجة الالزام في حق القاضي وإن حكما رجلين فحكم أحدهما دون الآخر فإن ذلك لا يجوز لأنهما رضيا برأيهما ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى ولا يصدقان على ذلك الحكم بعد القيام من مجلس الحكومة حتى يشهد على ذلك غيرهما لأنهما كسائر الرعايا بعد القيام من مجلس الحكومة فلا تقبل شهادتهما على فعل باشراه.(16/211)
وليس ينبغي للحكم أن يقضي في إقامة حد أو تلاعن بين الزوجين لأن اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه وهذا لأن إقامة الحدود واللعان بين الزوجين في حق الشرع فلا يستحق فيه إلا من يعين ثانيا وعليه استيفاء حقوق الله تعالى وهم القضاة والأئمة ألا ترى أن من عليه الحد لا يقيمه على نفسه فكذلك ليس للحكم أن يقيم شيئا من ذلك لأنه ما تعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى والله تعالى أعلم بالصواب.(16/212)
ص -98- ... كتاب الشهادات
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن اشتقاق الشهادة من المشاهدة وهي المعاينة فمن حيث إن السبب المطلق للأداء المعاينة سمى الأداء شهادة وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للشاهد "إذا رأيت مثل هذا الشمس فاشهد وإلا فدع" وقيل هي مشتقة من معنى الحضور يقول الرجل شهدت مجلس فلان أي حضرت قال الله تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] ومن حيث إنه يحضر مجلس القاضي للأداء يسمى شاهدا وتسمى أداء شهادة ثم القياس يأبى كون الشهادة حجة في الأحكام لأنه خبر محتمل للصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة ملزمة ولأن خبر الواحد لا يوجب العلم والقضاء ملزم فيستدعي سببا موجبا للعلم وهو المعاينة فالقضاء أولى ولكنا تركنا ذلك بالنصوص التي فيها أمر للأحكام بالعمل بالشهادة من ذلك قول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقال الله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقال صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعي" وفيه معنيان:
أحدهما: حاجة الناس إلى ذلك لأن المنازعات والخصومات تكثر بين الناس وتتعذر إقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف بحسب الوسع.(16/213)
والثاني: معنى إلزام الشهود حيث جعل الشرع شهادتهم حجة لإيجاب القضاء مع احتمال الكذب إذا ظهر رجحان جانب الصدق وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيي الحقوق بهم". ولما خص الله تعالى هذه الأمة بالكرامات وصفهم بكونهم شهداء على الناس في القيامة قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وقد يجب العمل بما لا يوجب علم اليقين كالقياس في الأحكام بغالب الرأي في موضع الاجتهاد ثم القياس بعد هذا أن يكتفي بشهادة الواحد لأن رجحان جانب الصدق يظهر في خبر الواحد بصفة العدالة ولهذا كان خبر الواحد العدل موجبا للعمل وكما لا يثبت علم اليقين بخبر الواحد لا يثبت بخبر العدد ما لم يبلغوا حد التواتر فلا معنى لاشتراط العدد ولكن تركنا ذلك بالنصوص ففيها بيان العدد في الشهادات المطلقة كما لو تلونا من الآيات قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال الله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقال صلى الله عليه وسلم للمدعي: "ليس لك إلا شاهد شاهداك أو يمينه".
فإن قيل: هذه النصوص بيان جواز العمل بشهادة العدد وليس فيها بيان نفى ذلك بدون العدد قلنا لا كذلك فالمقادير في الشرع إما لمنع الزيادة والنقصان دون الزيادة كأقل مدة الحيض والسفر أو لمنع الزيادة دون النقصان كأكثر مدة الحيض وهنا التقدير ليس لمنع(16/214)
ص -99- ... الزيادة فلو لم يفد منع النقصان لم يبق لهذا التقدير فائدة وحاشا أن يكون التقدير المنصوص خاليا عن الفائدة ثم فيه معنى طمأنينة القلب وذلك عند إخبار العدد أظهر منه في خبر الواحد وفي الشهادة محض الإلزام وخبر الواحد لا يكفي لذلك بخلاف الديانات فإن في الديانات التزام السامع باعتقاده والمخبر يلزم نفسه ثم يتعدى إلى غيره فلم يكن ذلك إلزاما محضا فلهذا لا يشترط فيه العدد بخلاف الشهادة وفيه معنى التوكيد فالتزوير والتلبيس في الخصومات يكثر فيشترط العدد في الشهادات صيانة للحقوق المعصومة ثم يشترط فيها ما يشترط في الخبر من العقل والضبط والعدالة لأن البيان لا يحصل إلا باعتبار عقل المتكلم والشهادة بينة.(16/215)
ومعرفة عقل المرء باختياره فيما يأتي ويذر وحسن نظره في عاقبة أمره والمطلق من الشيء ينصرف إلى الكامل منه إلا أنه لا حد يرجع إليه في كمال معرفة العقل سوى ما جعله الشرع حدا وهو البلوغ والعقل تيسيرا للأمر على الناس ولهذا لم يكن الصبي والمعتوه أهلا للشهادة ومعنى الضبط حسن السماع والفهم والحفظ إلى وقت الأداء وتعتبر صفة الكمال فيه أيضا لما في النقصان من شبهة العدم ولهذا لم يجعل من اشتدت غفلته أو مجازفته فيما يقول ويسمع من أهل الشهادة إذا كان ذلك ظاهرا عند الناس وأما معرفة العدالة فلرجحان جانب الصدق فالحجة الخبر الذي هو صدق ولا طريق لمعرفة الصدق في خبر من هو غير معصوم عن الكذب إلا العدالة والعدالة هي الاستقامة وليس لكمالها نهاية فإنما يعتبر منه القدر الممكن وهو انزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولكن هذا شرط العمل بالشهادة لا شرط الأهلية للشهادة وباعتبار هذا المعنى لا يجعل المحدود في القذف أهلا لأداء الشهادة لأنه محكوم بكذبه شرعا فلا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره بعد الحكم بكذبه شرعا ولم يشترط الإسلام في الأهلية للشهادة لأن رجحان جانب الصدق يظهر في خبره مع كفره إذا كان منزجرا عما يعتقده حراما في دينه غير أن خبره لا يقبل في أمر الدين لأنه متهم في ذلك فإنه يعتقد السعي في هدمه ولهذا لا يجعل من أهل الشهادة في حق المسلمين لأنه يعتقد عداوة المسلمين وينعدم فيما بينهم فيكون بعضهم أهلا للشهادة في حق البعض.(16/216)
وسوى هذا يشترط في الشهادة أهلية للولاية حتى لا يكون المملوك أهلا للشهادة وإن كان خبره في الديانات مقبولا لما في الشهادات من محض الإلزام وإلزام الغير لا يكون إلا عن ولاية فشرطنا الأهلية للولاية في الشهادة كما شرطنا العدد وجعلنا النساء أحط رتبة في الشهادة من الرجال لنقصان الولاية بسبب الأنوثة وبيان ذلك في الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن شريح رحمه الله تعالى قال لا تجوز شهادة النساء في الحدود وذكر بعد هذا عن الزهري قال مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود وبه نأخذ لأن في شهادة النساء ضرب من الشبهة فإن الضلال والنسيان يغلب عليهن ويقل معهن معنى الضبط والفهم بالأنوثة إلى ذلك أشار الله تعالى في قوله عز وجل:(16/217)
ص -100- ... {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين والحدود تندرئ بالشبهات وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة تيسيرا للتحرز عنها ولا يقال فالشبهة في شهادة الرجال قائمة ما لم يبلغوا حد التواتر ولهذا لا يثبت علم اليقين بخبرهم لأن تلك الشبهة لا يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فسقط اعتبارها.
ولا يجوز أقل من شاهدين في الحقوق بين الناس ولا في الجراحات يعني عند إمكان اشتراط العدد من غير جرح وذلك فيما يطلع عليه الرجال للإناث التي بلونا في اشتراط العدد في الشهود قال ولو كان يجوز شهادة رجل واحد لم يكن لخزيمة بن ثابت رضي الله عنه فضل في شهادته وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين خصه بذلك وقصة هذا الحديث ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه الثمن ثم جحد الأعرابي استيفاء الثمن وجعل يقول واغدراه هلم به شهيدا فقال صلى الله عليه وسلم: "من يشهد لي؟" فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد لك يا رسول الله أنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف تشهد لي ولم تحضرنا؟" فقال يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم: "من شهد له خزيمة فحسبه". ثم هذا النوع من الشهادة ينقسم ثلاثة أقسام في اشتراط العدد فقسم يشترط فيه عدد الأربعة في الشهود وهو الزنى الموجب للحد ثبت ذلك بقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ولا يشترط عدد الأربعة فيما سوى الزنى العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء وليس في ذلك معنى سوى أن الله تعالى يحب الستر على العباد ولا يرضي بإشاعة(16/218)
الفاحشة فلذلك شرط في الزنى زيادة العدد في الشهود ولهذا جعل النسبة إلى هذه الفاحشة في الأجانب موجبا للحد وفي الزوجات موجبا للعان بخلاف سائر الفواحش لستر العباد بعضهم على بعض وبيان ذلك في حديث ماعز رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه: "هلا سترته بثوبك" وفي بعض الروايات: "شين وإلى اليتيم أنت" وفي قسم يشترط فيه شهادة رجلين وهو القصاص والعقوبات التي تندرئ بالشبهات وقسم يشترط فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وذلك فيما يثبت مع الشبهات بيانه في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] معناه فإن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان شهيدان ليكون تفسيرا لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] والآية في المداينات ولكن ذلك مما لا يندرئ بالشبهات فيكون ذلك دليلا على جواز العمل بشهادة رجل وامرأتين فيما لا يندرئ بالشبهات والنكاح والطلاق والعتاق والنسب من هذه الجملة عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: المعنى في المداينات كثرة المعاملات فيما بين الناس فإنما يجعل شهادة النساء مع الرجال حجة في ذلك خاصة وهي الأموال وحقوقها فإما فيما سوى ذلك فلا بد من شهادة رجلين وقد بينا المسألة في كتاب النكاح.
والشهادة على الشهادة جائزة في كل شيء ما خلا القصاص والحدود وذلك مروى عن(16/219)
ص -101- ... إبراهيم رحمه الله تعالى وهذا لأن الشهادة على الشهادة فيها ضرر شبهة ينعدم ذلك بجنس الشهود من حيث أن الخبر إذا تداولته الألسنة يمكن فيه زيادة ونقصان فهو بمنزلة شهادة الرجال مع النساء تكون حجة فيما يثبت مع الشبهات دون ما يندرئ بالشبهات بل أولى فإن الشهادة على الشهادة حلف حقيقة حتى لا يصار إليها إلا عند العجز عن شهادة الأصول وشهادة النساء مع الرجال في صورة الحلف قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وليس بحلف حقيقة حتى يجوز العمل بشهادة رجل وامرأتين مع القدرة على استشهاد رجلين عرفنا أن ذلك أقوى من الشهادة على الشهادة ولأنا نتيقن أن شاهد الفرع لم يعاين السبب ولا يتيقن في ذلك شهادة النساء إنما فيه تهمة الضلال والنسيان فإذا لم تكن شهادة النساء مع الرجال حجة في الحدود والقصاص فالشهادة على الشهادة أولى.(16/220)
والشافعي رحمه الله تعالى يجعل الشهادة على الشهادة حجة في حقوق العباد أجمع العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء لأنه حجة أصلية فيما هو المشهور به وهو شهادة الأصول فإثبات ذلك بشهادتهم في مجلس القضاء كثبوته بأدائهم لو حضروا بأنفسهم بخلاف شهادة النساء مع الرجال فشهادة النساء حجة ضرورية لأن النساء لا يحضرن محافل الرجال عادة فلا تجعل حجة إلا فيما تكثر فيه المعاملة لأن الضرورة تتحقق في ذلك وفي الحدود التي هي لله تعالى له قولان في أحد القولين يقول الشهادة على الشهادة لا تكون حجة في ذلك لأن شهادتهم على شهادة الأصول بمنزلة شهادتهم على إقرار المقر وذلك غير مقبول في الحدود التي هي لله تعالى ومقبول في حقوق العباد فكذلك الشهادة على الشهادة وهذا لتحقيق الحاجة والضرورة للعباد وذلك ينعدم فيما هو لله تعالى وفي قول آخر يقول الشهادة على الشهادة حجة في ذلك إلا في الرجم فالشاهد على الزنى في جملة من يرجم يشترط حضوره لا محالة وفيما سوى ذلك من الحدود الإمام هو الذي يقيم إذا ظهر السبب عنده وظهر بالشهادة على الشهادة لأنها حجة أصلية وفيما ذكرنا جواب عن كلامه إذا تأملت.
ولا يجوز في شيء شهادة من لم يعاين ولم يسمع لأنه لا علم له بالشهود به وبدون العلم لا يجوز له أن يشهد قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقال الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وهذا لأن الشاهد يعلم القاضي حقيقة الحال ويميز الصادق المخبر من الكاذب ولا يتحقق ذلك منه إذا لم يعلم به وطريق العمل المعاينة إذا كان المشهود به مما يعاين والسماع إذا كان ذلك مما يسمع كإقرار المقر والله أعلم بالصواب.
باب الاستحلاف(16/221)
قال رحمه الله تعالى: اعلم بأن المدعي عليه يستحلف في الخصومات ثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على ما أنكر" إلا أنه لا يستحلف إلا بطلب المدعي لأن اليمين حقه قال صلى الله عليه وسلم للمدعي: "لك يمينة" وكما لا يستحضر ولا يطلب الجواب إلا بطلب المدعي فكذلك لا يستحلف إلا بطلبه ومعنى جعل الشرع اليمين حقا للمدعي قبل المدعي عليه أن الغموس من(16/222)
ص -102- ... اليمين مهلكة على ما روى في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع بيمينه وجد له مال امرئ مسلم حرم الله تعالى عليه الجنة". قيل فإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال صلوات الله عليه: "وإن كان قضيبا من أراك".
وعن بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان". فعرفنا أنه يمين مهلكة والمدعي يزعم أن المنكر أتلف حقه بجحوده فجعل له الشرع يمينه حتى تكون مهلكة له إن كان كما زعم المدعي فالإهلاك بمقابلة الإهلاك جزاء مشروع كالقصاص وإن كان كما زعم المدعي عليه فلا يضره اليمين الصادقة فهذا تحقيق معنى العدل في شرع اليمين حقا للمدعي قبل المدعي عليه ثم له رأى في تأخير الاستحلاف فربما يرجو أن يحضر شهوده ولا يأمن أن تكون خصومته عند قاض لا يرى قبول البينة بعد الاستحلاف فيؤخر استحلافه لذلك فلهذا لا يحلف إلا بطلب المدعي ولأن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يحلف الخصم إذا زعم المدعي أن شهوده حضور وعندهما إذا كان الشهود في مجلس القضاء والمدعي هو الذي يعرف ذلك فلهذا لا يستحلف إلا بطلبه ثم شرط أبو حنيفة رحمه الله تعالى للاستحلاف أن لا يكون للمدعي شهود حضور لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي: "ألك بينة؟" فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إذن لك يمينه" ولأن المنكر إنما يكون متلفا حق المدعي بإنكاره إذا لم يكن له شهود حضور ولو استحلف القاضي الخصم مع حضور الشهود لكان في ذلك افتضاح المسلم إذا أقام المدعي البينة بعد ذلك.(16/223)
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله: قالا إذا كان الشهود في مجلس الحكم فكذلك يتمكن المدعي من إثبات حقه بالشهادة في الحال فأما إذا لم يكونوا في مجلس الحكم فله غرض صحيح في الاستحلاف وهو أن يقصر المؤونة والمسافة عليه بإقرار المدعي عليه أو نكوله عن اليمين فيتوصل إلى حقه في الحال فكان له أن يطلب يمينه ثم قد بينا في كتاب الدعوى أن المقصود نكول المدعى عليه وأن الاستحلاف في كل ما يجوز فيه القضاء بالنكول ولهذا لا يستحلف في الحدود لأنه لا يقضي فيها بالنكول والنكول قائم مقام الإقرار وفي الحدود التي هي لله تعالى خالصا لا يجوز إقامتها بالإقرار بعد الرجوع فكيف يقام بالنكول والنكول قائم مقام الإقرار وفي حد القذف النكول قائم مقام الإقرار ولا يجوز إقامته بما هو قائم مقام الغير كما لا يقام بالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي إلا أنه يستحلف في السرقة ليقضي عند النكول بالمال دون القطع وهذا لأن المدعي يدعي أخذ المال بجهة السرقة فيستحلف الخصم في الأخذ وعند نكوله يقضي بذلك لا بجهة السرقة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع وكما في الشهادة على الشهادة وشهادة الرجال مع النساء في السرقة فإنه يثبت بها الأخذ الموجب للضمان دون السرقة الموجبة للقطع فكذلك في النكول ولهذا لا يستحلف في النكاح والرجعة والفيء في الإتلاف والرق والنسب والولاء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا يجوز(16/224)
ص -103- ... القضاء فيها بالنكول والنكول عنده بمنزلة البدل وهما يقولان يستحلف في هذه الأشياء ويقضي بالنكول فالنكول عندهما قائم مقام الإقرار وقد بينا هذا في الدعوى.
وفي دعوى القصاص يستحلف لا للقضاء بالنكول بل لتعظيم حرمة النفوس ألا ترى أن الأيمان في القسامة شرعت مكررة لذلك وإن كلمات اللعان أيمان مشروعة لتعظيم حرمة النسبة إلى الفاحشة ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا امتنع عن اليمين في دعوى النفس حبس حتى يحلف أو يقر وفيما دون النفس يستحلف للقضاء بالنكول لأن البدل عامل في الأطراف كهو في الأموال فإذا كان مفيدا يعمل في الإباحة وإذا كان غير مفيد يعمل في إسقاط الضمان فعند النكول يقضي بالقصاص الذي هو عين المدعا كما يقضي بالمال وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قال النفس وما دونها سواء إذا نكل عن اليمين قضينا عليه بالأرش وهو قول أبو حنيفة الأول رحمه الله تعالى وقد بينا هذا في كتاب الدعوى أيضا.(16/225)
قال: ولا يستحلف الرجل مع شهادة شاهدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر". والألف واللام للجنس فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم جنس اليمين في جانب المدعي عليه فلم يبق يمين في جانب المدعي ولأن شرع اليمين في جانب المنكر لمعنى الإهلاك كما بينا ولا يتحقق ذلك في جانب المدعي ولأنها مشروعة للحاجة إلى قطع المنازعة ولا حاجة إلى ذلك بعد إقامة المدعي البينة ولأنها مشروعة في جانب المنكر للنفي والمدعي محتاج إلى الإثبات وإلى هذا أشار في الأصل فقال لا نرد اليمين ولا نحولها عن موضعها وقد قررنا هذا المعنى في كتاب الدعوى في مسألة رد اليمين ومسئلة القضاء بشاهد ويمين وكان علي رضي الله عنه يرى استحلاف المدعي مع شهادة شاهدين ويرى استحلاف الشاهد واستحلاف الراوي إذا روى حديثا كما روى عنه أنه قال ما روى لي أحد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حلفته غير أبي بكر رضي الله عنه فإنه حدثني أبو بكر رضي الله عنه ولم أحلفه ولم نأخذ بقوله في هذا لما فيه من الزيادة على النص ففي النصوص أمر الحكام بالتماس شاهدين من المدعي فاليمين بعد ذلك زيادة على النص وذلك بمنزلة النسخ ثم الحق قد ثبت بما أقام من الحجة فالبينة سميت بينة لأن البيان يحصل بها ولو ثبت حقه بإقرار الخصم لم يجز استحلافه مع ذلك فإذا ثبت بالبينة فهو مثل ذلك أو أقوى فإن كانت اليمين على الرجل فإن القاضي يحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وإن اكتفى بالأول أجزأه لأن المشروع اليمين بالله تعالى قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] وقال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] فعرفنا أن المشروع في بيعه نصرة الحق والإنكارات اليمين بالله تعالى إلا أن المقصود في المظالم والخصومات هو النكول وأحوال الناس تختلف فمنهم من(16/226)
يمتنع إذا غلظ عليه اليمين ويتجاسر إذا حلف بالله فقط وإذا كان كذلك فالرأي في ذلك إلى القاضي إن شاء اكتفى باليمين بالله وإن شاء غلظ بذكر الصفات.(16/227)
ص -104- ... والأصل فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن الذي حلف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب وقد بينا ذلك في آداب القاضي ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا أن تغليظ اليمين بذكر الصفات حسن بعد أن لا يحلفه أكثر من يمين واحدة ولهذا لم يذكر حرف العطف عند ذكر الصفات ولا يحلفه بغير الله تعالى لأن ذلك منهى عنه قال صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر" وقال صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك" ولا يستقبل به القبلة ولا يدخله المسجد وحيثما يحلفه فهو مستقيم لأن المقصود تعظيم المقسم به وذلك حاصل سواء حلفه في المسجد أو في غير المسجد استقبل به القبلة أو لم يستقبل.(16/228)
والشافعي رحمه الله تعالى يقول: في المال العظيم يستحلف بمكة عند البيت وبالمدينة بين الروضة والمنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلاد في الجوامع لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فإنه رأى قوما يستحلفون عند البيت قال أعلى دم أم أمر عظيم من المال لقد خفت أن يتهيأ الناس لهذا البيت وهذا نوع مبالغة للاحتياط فقد يمتنع الإنسان من اليمين في هذا الموضع ما لا يمتنع منها في سائر المواضع ولسنا نأخذ بهذا لما فيه من الزيادة على النصوص الظاهرة وهي تعدل النسخ عندنا وقد ظهر عمل الناس بخلافه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وفيه أيضا بعض الحرج على القاضي فإن حلف المدعي عليه فقد انقطعت المنازعة لأنه لا حجة للمدعي فحجته البينة أو إقرار الخصم أو نكوله وقد انعدم ذلك كله وليس له أن يخاصم بغير حجة يقول فإن أبرأه القاضي أي منعه من أن يخاصمه بغير حجة لا أن يسقط حق الطالب عنه بقضائه ثم إن أقام الطالب البينة عليه بالحق فإنه يأخذه منه وبعض القضاة من السلف رحمهم الله تعالى كان لا يسمعون البينة بعد يمين الخصم وكانوا يقولون كما يترجح جانب الصدق في جانب المدعي بالبينة ويتعين ذلك حتى لا ينظر إلى يمين المنكر بعده فكذلك يتعين الصدق في جانب المدعي عليه إذا حلف فلا يلتفت إلى بينة المدعي بعد ذلك ولسنا نأخذ بذلك وإنما نأخذ فيه بقول عمر رضي الله عنه فقد جوز قبول البينة من المدعي بعد يمين المدعي عليه ويقول عمر رضي الله عنه حيث قال اليمين الفاجرة أحق أن يرد من البينة العادلة ولسنا نقول بيمين المدعي عليه يتعين معنى الصدق في إنكاره ولكن المدعي لا يخاصمه بعد ذلك لأنه لا حجة له فإذا وجد الحجة كان له أن يثبت حقه بها ولا يحلف الشاهد إلا بأمرنا لإكرام الشهود وليس من إكرامه استحلافه ثم الاستحلاف ينبني على الخصومة ولا خصم للشاهد وكما يستحلف المسلم في الخصومات تستحلف أهل الذمة لأن المقصود النكول وهم(16/229)
يمتنعون عن اليمين الكاذبة ويعتقدون حرمة ذلك كالمسلمين.
قال: ويحلف النصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام واليهود بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والأصل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الرجم(16/230)
ص -105- ... حيث قال لابن صور يا الأعور: "أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى إن حكم الزنى في كتابكم هذا". وهذا لأنه قد يمتنع من اليمين عند التغليظ بهذه الصفة ما لا يمتنع بدونه وذكر عن محمد رحمه الله تعالى أنه يستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار لأنهم يعظمون النار وليس عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى خلاف ذلك في الظاهر إلا أنه روى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في النوادر قال لا يستحلف أحد إلا بالله خالصا فلهذا قال بعض مشايخنا لا ينبغي أن يذكر النار عند اليمين لأن المقصود تعظيم المقسم به والنار كغيرها من المخلوقات فكما لا يستحلف المسلم بالله الذي خلق الشمس فكذلك لا يستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار وكأنه وقع عند محمد رحمه الله تعالى أنهم يعظمون النار تعظيم العبادة فالمقصود النكول قال بذكر ذلك في اليمين.(16/231)
فأما المسلمون لا يعظمون شيئا من المخلوقات تعظيم العبادة فلهذا لا يذكر شيء من ذلك في استحلاف المسلم وغير هؤلاء من أهل الشرك يحلفون بالله فإنهم يعظمون الله تعالى كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وإنما يعبدون الأصنام تقربا إلى الله تعالى بزعمهم قال الله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فيمتنعون من الحلف بالله كاذبا ويحصل به المقصود وهو النكول ولا يستحلف المجوسي في بيت النار لأن الاستحلاف عند القاضي والقاضي ممنوع من أن يدخل ذلك الموضع وفي ذلك معنى تعظيم النار وإذا كان لا يدخله المسجد مع أنا أمرنا بتعظيم هذه البقعة فلئلا يدخل المجوسي بيت النار عند الاستحلاف وقد نهينا عن تعظيمها أولى والحر والمملوك والرجل والمرأة في اليمين سواء لأن المقصود هو القضاء بالنكول وهؤلاء في اعتقاد الحرمة في اليمين الكاذبة سواء وإذا أرادت المرأة أن تحلف زوجها على الدخول بها لتؤاخذه بالمهر وقالت تزوجني وطلقني بعد الدخول أو قالت تزوجني وطلقني قبل الدخول فعليه نصف المهر أستحلفه بالله على ذلك فإن نكل عن اليمين لزمه المال ولا يثبت النكاح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها تدعي المال والعقد والبدل يعمل في المال ولا يعمل في النكاح فيستحلف لدعوى المال وعند النكول يقضي بذلك دون النكاح وقد بينا نظيره في دعوى السرقة والله أعلم بالصواب.
باب من لا تجوز شهادته
قال الشيخ الإمام رحمه الله: الأصل أن الشهادة ترد بالتهمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لمتهم" ولأنه خبر محتمل للصدق والكذب فإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق فيه وعند ظهور سبب التهمة لا يترجح جانب الصدق ثم التهمة تارة تكون لمعنى في الشاهد وهو الفسق لأنه لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاد حرمته متهم بأنه لا ينزجر عن شهادة الزور.(16/232)
وقد بينا أن العدالة شرط للعمل بالشهادة والعدالة هي الاستقامة وذلك بالإسلام(16/233)
ص -106- ... واعتدال العقل ولكن يعارضهما هوى يضله أو يصده وليس لهذه الاستقامة حد يوقف على معرفته لأنه بمشيئة الله تعالى تتفاوت أحوال الناس فيها فجعل الحد في ذلك ما لا يلحق الحرج في الوقوف عليه وقيل كل من ارتكب كبيرة يستوجب بها عقوبة مقدرة فهو لا يكون عدلا في شهادته ففي غير الكبائر إذا أصر على ارتكاب شيء مما هو حرام في دينه يخرج من أن يكون عدلا وإن ابتلي بشيء من غير الكبائر ولم يظهر منه الإصرار على ذلك فهو عدل في الشهادة لأنه إذا أصر على ذلك فقد أظهر رجحان الهوى والشهوة على ما هو المانع وهو عقله ودينه وإذا ابتلي بذلك من غير إصرار عليه فإنما ظهر رجحان دينه وعقله على الهوى والشهوة وقد تكون التهمة لمعنى في المشهود له وهو وصله خاصة بينه وبين الشاهد يدل على إيثاره على المشهود عليه وذلك شيء يعرف بالعادة فقد ظهر من عادة الناس العدول منهم وغير العدول الميل إلى الأقارب وأبنائهم على الأجانب فتتمكن تهمة الكذب بهذا الطريق في الشهادة وقد يكون ذلك في الشاهد لا يقدح في عدالته وولايته وهو العمى فليس للأعمى آلة التمييز بين الناس حقيقة وذلك تمكن تهمة الغلط في الشهادة وتهمة الغلط وتهمة الكذب سواء وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعي وهو في حق المحدود في القذف بعد التوبة فقد جعل الله تعالى عجزه عن الإتيان بأربعة من الشهداء دليل كذبه بقوله عز وجل: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].(16/234)
إذا عرفنا هذا فنقول ذكر عن شريح رحمه الله تعالى قال لا تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده ولا المرأة لزوجها ولا الزوج للمرأة ولا العبد لسيده وبذلك نأخذ ويخالفنا في الولد والوالد مالك رحمه الله تعالى فهو يجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه وهذا لأن دليل رجحان الصدق في خبره انزجاره عما يعتقد حرمته ولا فرق في هذا بين الأجانب والأقارب وحرمة شهادة الزور بسبب الدين يتناول الموضعين ولهذا قبلت شهادة الأخ لأخيه فكذلك شهادة الوالد لولده ولا معتبر بالميل إليه طبعا بعد ما قام دليل الزجر شرعا ولكنا نستدل بحديث هشام بن عروة عن أبي عن عائشة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمرة على أخيه المسلم ولا شهادة الولد لوالده ولا شهادة الوالد لولده". وكذلك رواه عمر بن شعيب عن أخيه عن جده زاد فيه: "ولا شهادة المرأة لزوجها ولا شهادة الزوج لامرأته". وفي الحديثين ذكر "ولا مجلود حد" يعني في القذف.
وروي أن الحسن شهد لعلي رضي الله عنهما مع قنبر عند شريح رحمه الله تعالى بدرع له قال شريح رحمه الله تعالى ائت بشاهد آخر فقال علي رضي الله عنه مكان الحسن أو مكان قنبر قال لا بل مكان الحسن رضي الله عنه قال علي رضي الله عنه أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن والحسين: "هما سيدا شباب أهل الجنة؟" فقال قد سمعت ولكن إئت بشاهد آخر فعزله عن القضاء ثم أعاده عليه وزاد في رزقه فدل أنه كان ظاهرا فيما بينهم أن(16/235)
ص -107- ... شهادة الولد لوالده لا تقبل إلا أنه وقع لعلي رضي الله عنه في الابتداء أن للحسن رضي الله عنه خصوصية في ذلك لما خصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيادة ووقع عند شريح رحمه الله تعالى أن السبب المانع وهو الولاد قائم في حقه ولا طريق لمعرفة الصدق والكذب حقيقة في حق من هو غير معصوم عن الكذب فيبني الحكم على السبب الظاهر وهو كما وقع عند شريح رحمه الله تعالى وإليه رجع علي رضي الله عنه والمعنى فيه تمكن تهمة الكذب فإن العدالة تدل على رجحان جانب الصدق عند استواء الخصمين في حقه ولا تدل على ذلك عند عدم الاستواء ألا ترى أن في شهادة المرء لنفسه أو فيما له فيه منفعة لا يظهر رجحان جانب الصدق باعتبار العدالة لظهور ما يمنع من ذلك بطريق العادة فكذلك في حق الآباء والأولاد إما لشبهة البعضية بينهما أو لمنفعة الشاهد في المشهود به والمنافع بين الآباء والأولاد متصلة قال الله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء: 11] بخلاف الإخوة وسائر القرابات فدليل العادة هناك مشترك متعارض فقد تكون القرابة سببا للتحاسد والعداوة وأول ما يقع من ذلك إنما يقع بين الأخوة بيانه في قوله تعالى: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27] وبيان ذلك في حال يوسف عليه السلام وإخوته فمكان التعارض يظهر رجحان جانب الصدق في الشهادة له بظهور عدالته ومثل هذه المعارضة لا توجد في الآباء والأولاد ولا يشكل هذا على من نظر في أحوال الناس عن إنصاف.(16/236)
فأما في شهادة أحد الزوجين لصاحبه يخالفنا الشافعي رحمه الله تعالى فيقول تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه لأنه ليس بينهما بعضية والزوجية قد تكون سببا للتنافر والعداوة وقد تكون سببا للميل والإيثار فهي نظير الأخوة أو دون الأخوة فإنها تحتمل القطع والأخوة لا تحتمل ودليل هذا الوصف جريان القصاص بينهما في الطريقين في النفس وأن كل واحد منهما لا يعتق على صاحبه إذا ملكه ولأن هذه وصلة بينهما باعتبار عقد لا يؤثر في المنع من قبول الشهادة كالصداق والإظهار والأختان وهذا لأن عقد النكاح يثبت أحكاما مشتركة بينهما ففيما وراء ذلك ينزل كل واحد منهما من صاحبه منزلة الأجنبي كشريكي العنان.
وحجتنا في ذلك أن ما بينهما من وصلة الزوجية يمكن تهمة في شهادة كل واحد منهما لصاحبه وبيان ذلك من وجوه أحدها أن عقد النكاح مشروع لهذا وهو أن يألف كل واحد منهما بصاحبه ويميل إليه ويؤثره على غيره وإليه أشار الله تعالى في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] وهو مشروع لمعنى الاتحاد في القيام بمصالح المعيشة ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور داخل البيت على فاطمة رضي الله عنها وأمور خارج البيت على علي رضي الله عنه وبهما تقوم مصالح المعيشة فكان في ذلك كشخص واحد ولا يقال هذا الاتحاد بينهما في حقوق النكاح خاصة لأن معنى الاتحاد في حقوق النكاح مستحق شرعا وفيما وراء ذلك ثابت عرفا فالظاهر ميل كل واحد منهما إلى صاحبه وإيثاره على غيره كما في الآباء والأولاد بل أظهر فإن الإنسان قد يعادي والديه لترضى(16/237)
ص -108- ... زوجته وقد تأخذ المرأة من مال أبيها فتدفعه إلى زوجها والدليل عليه أن كل واحد منهما يعد منفعة صاحبه منفعته ويعد الزوج غنيا بمال الزوجة قيل في تأويل قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أي غني بمال خديجة رضي الله عنها ولما جاء إلى عمر رضي الله عنه رجل فقال إن عبدي سرق مرآة امرأتي فقال مالك سرق بعضه بعضا والدليل على أن الزوجة بمنزلة الأولاد حكما استحقاق الإرث بها من غير حجب بمن هو أقرب.
توضيح الفرق ما قلنا إن الزوجة بمنزلة الأصل للولاد فإن الولاد تنشأ من الزوجية والحكم الثابت للفرع يثبت في الأصل وإن انعدم ذلك المعنى فيه ألا ترى أن المحرم إذا كسر بيض الصيد يلزمه الجزاء وليس في البيض معنى الصيدية ولكنه أصل الصيد فيثبت فيه من الحكم ما يثبت في الصيد إلا أن هذا الأصل إنما يلحق بالولاد في حكم يتصور قيام الزوجية عند ثبوت ذلك الحكم دون ما لا يتصور كالقصاص فإنه يجب بعد القتل ولا زوجية بعد قتل أحدهما صاحبه والعتق إنما يثبت بعد الملك ولا زوجية بعد الملك فأما حكم الشهادة يكون في حال قيام الزوجية فيلحق الزوجية فيه بالولاد.
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول شهادة الزوج لزوجته تقبل وشهادة المرأة لزوجها لا تقبل لأنها في حكم المملوك له المقهور تحت يده فيتمكن تهمة الكذب في شهادتها له وذلك تنعدم في شهادته لها واعتمد فيه حديث علي رضي الله عنه فإنه شهد لفاطمة رضي الله عنها في دعوى فدك مع امرأة بين يدي أبي بكر رضي الله عنه فقال لها أبو بكر رضي الله عنه ضمي إلى الرجل رجلا أو إلى المرأة امرأة فهذا اتفاق منهما على جواز شهادة الزوج لزوجته.(16/238)
ولكنا نقول: دليل التهمة تعم الجانبين من الوجه الذي قررنا فربما يكون ذلك في جانب الزوج أظهر لأنها لما كانت في يده فما لها في يده من وجه أيضا فهو يثبت اليد لنفسه في المشهود به وكذلك بكثرة ما لها تزداد قيمة ملكه فإن قيمة المملوك بالنكاح تختلف بقلة ما لها وكثرة ما لها بيان ذلك في مهر المثل فمن هذا الوجه يكون الزوج شاهدا لنفسه ولا حجة في حديث علي رضي الله عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يعمل بتلك الشهادة بل ردها وكان للرد طريقان الزوجية ونقصان العدد فأشار إلى أبعد الوجهين تحرزا عن الوحشة وكذلك علي رضي الله عنه علم أن أبا بكر رضي الله عنه لا يعمل بتلك الشهادة لنقصان العدد وكره انحسامها بالامتناع من أداء الشهادة فلهذا شهد لها وقد قيل إن شهادة علي رضي الله عنه لها لم تشتهر وإنما المشهور أنه شهد لها رجل وامرأة.
وأما قول شريح ولا العبد لسيده فهو مجمع عليه لأن شهادة العبد لا تقبل لسيده ولا لغير سيده وحكى عن محمد بن سلمة رضي الله عنه قال كان يحيى بن أكثم رحمه الله تعالى أعلم الناس باختلاف العلماء رحمهم الله تعالى وكان إذا قال في شيء اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على كذا نزل أهل العراق على قوله وقد قال اتفق العلماء على أن العبد لا شهادة له وقد يروى(16/239)
ص -109- ... أن عليا وزيدا رضي الله عنهما اختلفا في المكاتب إذا أدى بعض بدل الكتابة فقال علي رضي الله عنه يعتق بقدر ما أدى منه وقال زيد رضي الله عنه لا يعتق ما بقي عليه درهم فقال زيد لعلي رضي الله عنهما أرأيت لو شهد أكان تقبل بعض شهادته دون البعض فهذا دليل الاتفاق منهما على أن لا شهادة للعبد واختلف عمر وعثمان رضي الله عنهما في العبد إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعتق فأعادها فقال عثمان رضي الله عنه لا تقبل وقال عمر رضي الله عنه تقبل فذلك اتفاق منهما على أنه لا شهادة للعبد وعن بن عباس رضي الله عنهما قال لا شهادة للعبد وهذا لأن في الشهادة معنى الولاية فإنه قول ملزم على الغير ابتداء وليس معنى الولاية إلا هذا والرق يبقي الولاية فالأصل ولاية المرء على نفسه فإذا كان الرق يخرجه من أن يكون أهلا للولاية على نفسه فعلى غيره أولى وقد استدلوا في الكتاب على أن العبد ليس من أهل الشهادة بقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] والعبد لا يدخل في هذا الخطاب لأن خدمته ومنفعته لمولاه فلا يجب عليه الحضور لأداء الشهادة وإن دعي إلى ذلك بل لا يحل له ذلك لأن منافعه في هذا الزمان غير مستثنى من حق المولى.(16/240)
وذكر عن شريح رحمه الله تعالى أنه قبل شهادة الأخ لأخيه وقد بينا الفرق بين هذا وبين شهادة الولد لوالده واستدل في الكتاب بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فمطلق هذه الإضافة يدل على أن الولد كالمملوك لوالده وأن مال الولد لوالده وقد دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وأن ولده من كسبه". ومثل ذلك لا يوجد في الأخوة وسائر القرابات ويجوز شهادة الرجل لوالده من الرضاعة ووالدته لأن الرضاع تأثيره في الحرمة خاصة وفيما وراء ذلك كل واحد منهما من صاحبه كالأجنبي ألا ترى أنه لا يتعلق به استحقاق الإرث واستحقاق النفقة حالة اليسار والعسرة وبه يفرق بين الأخوة والولاد فالأخوة لا يتعلق بها استحقاق النفقة عند عدم اليسار بخلاف الولادة والزوجية فإنه يتعلق بهما استحقاق حالتي اليسار والعسرة ويجوز شهادة الرجل لأم امرأته ولزوج ابنته لأن المصاهرة التي بينهما تأثيرها في حرمة النكاح فقط فأما ما سوى ذلك لا تأثير للمصاهرة فهي بمنزلة الرضاع أو دونه.
وعن إبراهيم رحمه الله: قال لا تجوز شهادة المحدود في القذف وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله تعالى وعن شريح رحمه الله تعالى مثله وبذلك يأخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى وهو قول بن عباس رضي الله عنهما فإنه كان يقول إنما يؤتيه فيما بينه وبين الله تعالى فأما نحن فلا نقبل شهادته وقال الشافعي رحمه الله تعالى تقبل شهادته بعد التوبة وهو قول عمر رضي الله عنه وقد كان يقول لأبي بكرة تب تقبل شهادتك واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بظاهر الآية فإن الله تعالى قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] والاستثناء متى يعقب كلمات منسوقة بعضها على البعض ينصرف إلى جميع ما تقدم إلا ما قام الدليل عليه كقول القائل: امرأته(16/241)
ص -110- ... طالق وعبده حر وعليه حجة إلا أن يدخل الدار ثم قام الدليل من حيث الإجماع على أن الاستثناء لا ينصرف إلى الجلد فيبقى ما سواه على هذا الظاهر مع أن عندنا الاستثناء ينصرف إلى الجلد أيضا إلا أن الجلد حق المقذوف فتوبته في ذلك أن يستعفيه فلا جرم إذا استعفاه فعفى عنه سقط الجلد والمعنى فيه أن الموجب لرد الشهادة فسقه وقد ارتفع بالتوبة وإنما قلنا ذلك لأن الموجب لرد شهادته إما أن يكون نفس القذف أو إقامة الحد عليه أو سمة الفسق لا جائز أن يكون الموجب لرد شهادته نفس القذف لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب فباعتبار الصدق لا يكون موجبا رد الشهادة ولا ترد الشهادة على التأبيد وكذلك باعتبار الكذب فلا تأثير للكذب في رد الشهادة على التأبيد ولأن هذا افتراء منه على عبد من عباد الله فلا يكون أعظم من افترائه على الله تعالى وهو الكفر وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد ولأنه نسبة الغير إلى الزنى فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنى وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد وهذا على أصلكم أظهر فإنكم تقولون قبل إقامة الحد عليه تقبل شهادته وإن لم يتب وبالاتفاق إذا تاب قبل إقامة الحد عليه تقبل شهادته ولا جائز أن يكون الموجب لرد الشهادة إقامة الحد عليه فإن ذلك فعل الغير به وتعتبر إقامة هذا الحد بإقامة سائر الحدود وهذا لأن الحد من وجه يقام تطهيرا قال صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارات لأهلها". فلا يصلح أن تكون سببا لرد شهادته على التأبيد وحاله إذا تاب بعد إقامة الحد عليه أحسن من حاله قبل إقامة الحد عليه فإذا بطل الوجهان صح أن الموجب لرد شهادته سمة الفسق وقد ارتفع ذلك بالتوبة بدليل قبول خبره في الديانات ولهذا قلت قبل إقامة الحد عليه لا تقبل شهادته عليه إذا لم يتب لأن الفسق ثبت بنفس القذف لما فيه من هتك ستر العفة على المسلم ولهذا لزمه الحد به والحد لا يجب إلا بارتكاب جريمة موجبة للفسق ولأن هذا محدود في قذف(16/242)
حسنت توبته فتقبل شهادته كالذمي إذا أسلم بعد إقامة الحد عليه.
وحجتنا في ذلك من حيث الظاهر قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4] وإلا بدا لا نهاية له فالتنصيص عليه في بيان رد شهادته دليل على أنه يتناول الشهادة على التأبيد ومعنى قوله لهم أي للمحدود في القذف وبالتوبة لا يخرج من أن يكون محدودا في قذف بخلاف قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] ومعناه من المنافقين وبالتوبة يخرج من أن يكون منافقا والمراد بالآية شهادته في الحوادث لا ما يأتي به من الشهود على صدق مقالته فالصحيح من المذهب عندنا أنه إذا أقام المحدود أربعة من الشهداء على صدق مقالته بعد إقامة الحد عليه تقبل ويصير هو مقبول الشهادة وقوله تعالى: {لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] بمنزلة قوله شهادتهم كما يقال هذه دارك وهذه دار لك وفي التنكير ما يدل على أن المراد ما قلنا دون أربعة يشهدون له فإنه لو كان المراد ذاك لقال ولا تقبلوا لهم الشهادة فإن المنكر إذا أعيد يعاد معرفا قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً . فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15- 16] ولا كلام في المسألة من طريق القياس فإن مقادير الحدود لا تعرف بالقياس(16/243)
ص -111- ... ولكن الكلام على طريق الاستدلال بالمنصوص فنقول إن رد الشهادة من تمام حده وأصل الحد لا يسقط بالتوبة فما هو متمم له لا يسقط أيضا.
وبيان هذا أن نفس القذف لا يكون موجبا للحد كما قاله الخصم ولأن القذف متمثل بين الصدق والكذب وربما يكون حسبه من القاذف إذا علم إضراره ووجد أربعة من الشهداء ليقيم عليه الحد ولهذا يتمكن من إثباته بالبينة ولكن وجوب الحد عليه بالقذف مع عجزه عن الإتيان بأربعة من الشهداء وإليه أشار الله تعالى في قوله عز وجل: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فالمعطوف على الشرط شرط ثم العجز عن ذلك يظهر بما يظهر به العجز عن الدفع في سائر الحوادث فعند ذلك يصير القذف موجبا جلدا مؤلما محرما لقبول الشهادة وذلك منصوص عليه في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] والفاء للتعقيب وقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ} [النور: 4] معطوف على الجلد والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه حدا كان المعطوف من تمام الحد كما قال الشافعي رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: "وتغريب عام" أنه من تمام حد البكر ولكن نقول هناك التغريب لا يصلح أن يكون حدا لما فيه من الإغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر وهنا رد الشهادة صالح لتتميم الحد لأنه مؤلم قلبه كما أن الجلد مؤلم بدنه ففيه معنى الزجر ثم حرمة القاذف باللسان ورد شهادته حد في المحل الذي حصل به الجريمة وذلك مشروع كحد السرقة والمقصود من هذا الحد دفع الشين عن المقذوف وذلك في إهدار قوله أظهر منه في إقامة الحد عليه فلهذا جعلنا رد الشهادة متمما للحد وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم للسارق: "اقطعوه ثم احسموه" فإن الحسم لا يكون متمما للحد لأنه دواء فلا يصلح أن يكون متمما للحد ثم حرف النفي في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] لا يمنع العطف فقد يعطف النهي على الأمر(16/244)
كما يقول لغيره اجلس ولا تتكلم وأما قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ليس بعطف بل هو ابتداء بحرف الواو وقد يكون ذلك لحسن نظم الكلام كقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] وقوله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] وبيان أنه ليس بعطف أن قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] أمر بفعل وهو خطاب الأمة وقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ} [النور: 4] نهي عن فعل وهو خطاب الأمة أيضا وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] إثبات وصف لهم فكيف تتحقق المشاركة بينه وبين ما تقدم ليكون عطفا ولأن قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} بيان لجريمتهم وإزالة الإشكال أنهم لما آذوا استوجبوا هذه العقوبة وما تقدم بيان الواجب بالجريمة ولا يتحقق عطف الجريمة على الواجب بها والدليل عليه أنه لو كان هذا عطفا لكان من الحد أيضا فينبغي أن لا يرتفع بالتوبة كما لا يرتفع بالحد فلا تأثير للتوبة في الحد وإنما يسقط عنده بعفو المقذوف ويستوي في ذلك إن تاب القاذف أو لم يتب وكان ينبغي أن يقال إذا تاب حتى حرم بفسقه أن لا يقام عليه الحد لأن الحد لا يحتمل الوصف بالتحري.(16/245)
ص -112- ... والذي يوضح ما قلنا أن الثابت بالنص هو التوقف في خبر الفاسق كما قال الله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والمنصوص عليه هنا حكم آخر وهو الرد دون التوقف فعرفنا أنه ليس بسبب الفسق بل هو متمم للحد كما قررنا ولو كان رد الشهادة بسبب الفسق لكان في الآية عطف العلة على الحكم وذلك لا يحسن في البيان ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه وإن لم يتب لأنه من تمام حده أو أنه بعد إقامة الحد وهذا لأن بإقامة الحد يصير محكوما بكذبه والمتهم بالكذب لا شهادة له فالمحكوم بالكذب أولى ويستدل بهذا في تعيين المسألة فإنه بعد إقامة الحد عليه في جميع الحوادث بمنزلة الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته فتلك الشهادة لا تقبل منه بعد ذلك وإن تاب لأنه صار محكوما بكذبه فيها فكذلك المحدود في جميع الشهادة.
وبيان ما قلنا فيما روي أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء قال المسلمون الآن يجلد هلال فتبطل شهادته في المسلمين فذلك دليل على أنه لا تبطل شهادته قبل إقامة الحد وأن بطلان الشهادة من تمام الحد وتأويل قول عمر رضي الله عنه لأبي بكرة تقبل شهادتك في الديانات ألا ترى أن ما روي إن أبا بكرة كان إذا استشهد في شيء قال وكيف تشهدني وقد أبطل المسلمون شهادتي وهو أعلم بحاله من غيره.(16/246)
فأما الذمي إذا أقيم عليه حد القذف سقطت شهادته وتم به حده لأنه كان من أهل الشهادة ثم بالإسلام استفاد شهادة لم تكن موجودة عند إقامة الحد وهذه الشهادة لم تصر مردودة وبه فارق العبد إذا أقيم عليه الحد ثم عتق لأن العبد لم يكن أهلا للشهادة وتمام الحد يرد الشهادة فيتوقف على ما بعد العتق فإن عتق الآن ثم حده ترد شهادته وهذا الفرق على الرواية التي يقول إن خبر المحدود في القذف في الديانات تقبل وأما على الرواية التي يقول لا يقبل خبره في الديانات وهو رواية المنتفى فوجه الفرق بينهما أن الكافر بالإسلام استفاد عدالة لم تكن موجودة عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة بخلاف العبد فهو بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن موجودة من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد عليه فلا تقبل شهادته بحال فإن قال القاذف عندي لا يكون أهلا للشهادة عند إقامة الحد عليه لأنه فاسق وإنما يستفيد الأهلية بعد ذلك بالتوبة قلنا لا كذلك فقد قامت الدلالة لنا على أن الفاسق من أهل الشهادة وفي قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] ما يدل على ذلك ثم مذهبه هذا من أقوى دليل لنا عليه فإن عنده قبل التوبة لا شهادة له فلا تتصور رد شهادته ويتبين بهذا أن المراد من قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور: 4] رد لشهادته بعد وجودها بالأهلية وذلك بعد التوبة.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه شهد عنده أعمى فقالت أخت المشهود عليه أنه أعمى فذكر ذلك لعلي رضي الله عنه فرد شهادته وبه نأخذ وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن شهادة الأعمى مقبولة لأن الأعمى لا يقدح في الولاية والعدالة فباعتبارهما يجب(16/247)
ص -113- ... قبول الشهادة بيانه أنه من أهل الولاية على نفسه فتتعدى ولايته إلى غيره عند وجود سبب التعدي وهو أهل للعدالة لانزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولهذا قبلت رواية الأعمى فقد كان في الصحابة رضوان الله عليهم من هو أعمى وقد كان في الأنبياء عليهم السلام من ابتلي بذلك فدل أن الأعمى لا يقدح في العدالة وفوات العينين كفوات الرجلين واليدين فلا يؤثر في المنع من قبول شهادته ونحن نسلم هذا كله ولكن نقول يحتاج في تحمل الشهادة وأدائها إلى التمييز بين من له الحق وبين من عليه وقد عدم آلة التمييز حقيقة لأن الأعمى لا يميز بين الناس إلا بالصوت والنغمة فتتمكن من شهادته شبهة يمكن التحرز عنها بجنس المشهود وذلك مانع من قبول الشهادة.
وقال زفر رحمه الله: فيما لا يجوز الشهادة عليه إلا بالمعاينة لا شهادة للأعمى فأما فيما تجوز الشهادة فيه بالتسامع تقبل شهادة الأعمى لأنه في السماع كالبصير وإنما عدم آلة العينين ولكنا نقول في أداء الشهادة هو محتاج إلى الإشارة إلى المشهود له والمشهود عليه ولا يتمكن من ذلك إلا بدليل مشتبه وهو الصوت والنغمة وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله عنهما إذا تحمل الشهادة وهو بصير ثم أداها وهو أعمى تقبل شهادته لأن تحمله قد صح بطريق ثبت له العلم به وبعد صحة العلم إنما يحتاج إلى الحفظ والأعمى في ذلك كالبصير ويحتاج إلى الأداء باللسان والأعمى في ذلك كالبصير فتعريف المشهود له والمشهود عليه بذكر الاسم والنسب والإشارة إليهما بالطريق الذي يعلم أنه مصيب في ذلك يكفي لأداء الشهادة ألا ترى أن الأعمى يباح له وطء زوجته وجاريته ولا يميزهما من غيرهما إلا بالصوت والنغمة وأن البصير إذا شهد على ميت أو غائب يقام ذكر الاسم والنسب مقام الإشارة إلى العين في صحة أداء الشهادة فهذا مثله.(16/248)
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: قالا لا تقبل شهادته لحديث علي رضي الله عنه فإنه لا يستفسر أنه وقت التحمل كان بصيرا أو أعمى وفي هذا الحديث دليل أن ذلك معروفا بينهم حتى لم يخف على النساء ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول يحتمل أن ذلك كان في الحد وأنا أقول في الحدود إذا عمى قبل الأداء أو بعد الأداء قبل الإمضاء فإنه لا تعمل بشهادته لأن الحدود تندرئ بالشبهات والصوت والنغمة في حق الأعمى تقام مقام المعاينة في حق البصير والحدود لاتقام بما يقوم مقام الغير بخلاف الأموال والمعنى فيه أن في شهادة الأعمى تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود وذلك يمنع قبول الشهادة كما في شهادة الأب لولده وبيان الوصف أنه يحتاج عند أداء الشهادة إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه والإشارة إليهما وإلى المشهود به فيما يجب إحضاره وآلة هذا التمييز البصير وقد عدم الأعمى ذلك المعنى وإنما يميز بالصوت والنغمة أو بخبر الغير فكما لا يجوز له ولا للبصير أن يشهد بخبر الغير فكذلك لا تقبل شهادته إذا كان تمييزه بخبر الغير.
والأعمى في أداء الشهادة كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب وهذا بخلاف الوطء فإنه(16/249)
ص -114- ... يجوز أن يعتمد فيه على خبر الواحد إذا أخبره أن هذه امرأته وقد زفت إليه وهذا لأن الضرورة تتحقق فيه فالأعمى يحتاج إلى قضاء الشهوة والنسل كالبصير ولا ضرورة هنا ففي الشهود كثرة وهذا بخلاف الموت فإن ذلك لا يمكن التحرز عنه بجنس الشهود فالمدعي وإن استكثر من الشهود يحتاج إلى إقامة الاسم والنسبة مقام الإشارة عند موت المشهود عليه أو غيبته على أن هناك الإشارة تقع إلى وكيل الغائب ووصي الميت وهو في ذلك قائم مقامه ولا يقال بأنه ما كان يعلم عند الاستشهاد أن الشاهد يبتلى بالعمى لأن هذا المعنى يضعف بما إذا فسق الشاهد بعد التحمل فإن شهادته لا تقبل والمدعي ما كان يعلم أن الشاهد يفسق بعد التحمل ثم هذا في القصاص والحدود التي فيها حق العباد موجود وكم يعتبر مع عظم حرمتها فلأن لا يعتبر في الأموال مع خفة حرمتها أولى ثم بماذا يعرف أنه كان بصيرا وقت التحمل فإن قول الشاهد في ذلك غير مقبول وقول المدعي كذلك والمدعى عليه منكر للمشهود به أصلا قال ويتصور هذا فيما إذا جاء وهو بصير ليؤدي الشهادة فلم يتفرغ القاضي لسماع شهادته حتى عمي أو كان القاضي يعرف الوقت الذي عمي هو فيه وتاريخ المدعي سابق على ذلك.(16/250)
ولا تجوز شهادة الأخرس لأن أداء الشهادة يختص بلفظ الشهادة حتى إذا قال الشاهد أخبر وأعلم لا يقبل ذلك منه ولفظ الشهادة لا يتحقق من الأخرس ثم شهادة الأخرس مشتبه فإنه يستدل بإشارته على مراده بطريق غير موجب للعلم فتتمكن في شهادته تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود ولا تكون إشارته أقوى من عبارة الناطق لو قال أخبر ولا تقبل شهادة الفاسق لأن الله تعالى أمر بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: 6] والأمر بالتوقف يمنع العمل بالشهادة وهذا لأن رجحان جانب الصدق لا يظهر في شهادة الفاسق لأن اعتبار اعتقاده يدل على صدقه واعتبار تعاطيه يدل أنه كاذب في شهادته فلتعارض الأدلة يجب التوقف ثم لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاده حرمته فالظاهر أنه لا ينزجر عن شهادة الزور مع اعتقاده حرمته.
وعن أبي يوسف رحمه الله: يقول إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في شهادته فلوجاهته لا يتجاسر أحد من استئجاره لأداء الشهادة ولمروءته يمتنع من الكذب من غير منفعة له في ذلك.
والأصح أن شهادته لا تقبل لأن قبول الشهادة في العمل بها لإكرام الشهود كما قال صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيى الحقوق بهم". وفي حق الفاسق أمر بخلاف ذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيت الفاسق فالقه بوجه مكفهر" ومن يكون معلنا للفسق فلا مروءة له شرعا فلهذا لا تقبل شهادته ولا شهادة آكل الربا المشهور بذلك والمعروف به المقيم عليه فإنه فاسق محارب قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ولكنه(16/251)
ص -115- ... شرط أن يكون مشهورا به مقيما عليه لأن العقود الفاسدة كلها ربا قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] والإنسان في العادة لا يمكنه أن يتحرز عن الأسباب المفسدة للعقد في جميع معاملاته فقد لا يهتدي إلى بعض ذلك فلهذا لا تسقط عدالته إذا لم يكن مشهورا بأكل الربا مصرا عليه ولا شهادة مدمن الخمر ولا مدمن السكر لأنه مرتكب للكبيرة مستوجب للحد على ذلك وذلك تسقط عدالته وإنما شرط الإدمان ليكون ذلك ظاهرا منه فإن من يتهم بالشرب ولكن لا يظهر ذلك لا يخرج من أن يكون عدلا وإنما تسقط عدالته إذا كان يظهر ذلك أو يخرج سكرانا يسخر منه الصبيان فلا مروءة لمثله ولا يبالي من الكذب عادة ولا شهادة المخنث لأنه فاسق ومراده إذا كان مخنثا في الردي من أفعاله فأما إذا كان في كلامه لين وفي أعضائه تكسر ولم يشتهر بشيء من الأفعال الردية فهذا عدل مقبول الشهادة ألا ترى أن هبت المخنث كان يدخل بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم منه كلمة شنيعة أمر بإخراجه ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرهن لشدة غفلته فالظاهر أن يكون قبله مع ذلك في عامة أحواله وأنه يقل نظره في سائر الأمور ثم هو مصر على نوع لعب وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أنا من در ولا الدر مني". والغالب أنه ينظر إلى العورات في السطوح وغيرها وذلك فسق فأما إذا كان يمسك الحمام في بيته يستأنس بها ولا يطيرها عادة فهو عدل مقبول الشهادة لأن إمساك الحمام في البيوت مباح ألا ترى أن الناس يتخذون بروج الحمامات ولم يمنع من ذلك أحد ولا شهادة صاحب الغناء الذي يخادن عليه ويجمعهم والنائحة لأنه مصر على نوع فسق ويستخف به عند الصلحاء من الناس ولا يمتنع من المحازقة والإقدام على الكذب عادة فلهذا لا تقبل شهادته.(16/252)
وأما المحدود في الخمر والزنا والسرقة إذا تابوا فإن شهادتهم مقبولة لحديث شريح رحمه الله تعالى أنه أجاز شهادة أقطع من بني أسد فقال أتجيز شهادتي فقال نعم وأراك لذلك أهلا وكان أقطع في سرقة وهذا لأن التوقف في شهادته كان لفسقه وقد زال ذلك بالتوبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وليس هذا كالمحدود في القذف لأن رد الشهادة هناك من تمام الحد فلو جعلنا رد الشهادة هنا من تمام الحد كان بطريق القياس ولا مدخل للقياس في مقادير الحدود والزيادة على النص بالقياس لا تجوز مع أن هذا الحد ليس في معنى ذلك الحد لأن بإقامة حد القذف تتحقق جريمته وجريمة هؤلاء تتحقق قبل إقامة الحد فإقامة الحد في حقهم تكون تطهيرا إذا انضم إليه التوبة وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] الآية وقد قال صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
وإذا أعمى الشاهد أو خرس أو ذهب عقله أو ارتد عن الإسلام والعياذ بالله بعد ما شهد قبل أن يقضي القاضي بشهادته فإن القاضي لا يقضي بشهادته لأن اقتران هذه الحوادث بأداء الشهادة تمنع العمل بها فكذلك اعتراضها بعد الأداء قبل القضاء لأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء والقاضي لا يقضي إلا بحجة فاعتراض هذه المعاني قبل القضاء يخرج(16/253)
ص -116- ... شهادته من أن تكون حجة بخلاف الموت فإن اقترانه بالأداء لا يمنع العمل بشهادته ألا ترى أن شاهد الفرع إذا شهد بعد موت الأصول يقبل والقضاء يكون بشهادة الأصول فكذلك اعتراض الموت لا يمنع القضاء بشهادته.
وقال أبو حنيفة وبن أبي ليلى رحمهما الله: تعالى شهادة أصحاب الأهواء جائزة وهو مذهب جميع أصحابنا رحمهم الله تعالى وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تقبل شهادة أهل الأهواء ومنهم من يفصل بين من يكفر في هواه وبين من لا يكفر في هواه لأنهم فسقة ولا شهادة للفاسق والفسق من حيث الاعتقاد أغلظ من الفسق من حيث التعاطي ألا ترى أن أخبار أهل الأهواء في الديانات لا يقبل وهو أوسع من الشهادة فلان لا تقبل شهادتهم أولى.(16/254)
وفي الكتاب استدل بما كان من الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم فإنهم اختلفوا واقتتلوا وقتل بعضهم بعضا ولا شك أن شهادة بعضهم على بعض كانت جائزة مقبولة وليس بين أصحاب الأهواء من الاختلاف أشد مما كان بينهم من القتال وفي موضع آخر علل فقال إنهم للتعمق في الذين ضلوا عن سواء السبيل ووقعوا في الهوى وذلك لا يلحق تهمة الكذب بهم في الشهادة فمن أهل الأهواء يعظم الذنب حتى يجعله كفرا فلا يتهم باعتبار هذه الاعتقاد أن يشهد بالكذب ومنهم من يقول بالفسق يخرج من الإيمان فاعتقاده هذا يحمله على التحرز عن الكذب الموجب لفسقه وقد بينا أن شهادة الفاسق إنما لا تقبل لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل على ذلك فهو نظير شرب المثلث معتقدا إباحته أو يتناول متروك التسمية عمدا معتقدا إباحة ذلك فإنه لا يصير به مردود الشهادة إلا الخطابية من أهل الأهواء وهم صنف من الروافض يستجبرون أن يشهدوا للمدعي إذا حلف عندهم أنه محق ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا فاعتقاده هذا يمكن تهمة الكذب في شهادته قالوا وكذلك من يعتقد أن الإلهام حجة موجبة للعلم لا تقبل شهادته لأن اعتقاده ذلك يمكن تهمة الكذب فربما أقدم على أداء الشهادة بهذا الطريق فأما رواية الأخبار عن أهل الأهواء فقد اختلف فيه مشايخنا رحمهم الله تعالى والأصح عندي أنه لا تقبل لأن المعتقد للهوى يدعو الناس إلى اعتقاده ومتهم بالنقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم لإتمام مراده فلا تقبل روايته لهذا ولا يوجد مثل ذلك منه في الشهادة في المعاملات.(16/255)
وعلى هذا شهادة العدو على عدوه لا تقبل عند الشافعي رحمه الله تعالى لأن العداوة بينهما تحمله على التقول عليه ولهذا لم يجوز شهادة أهل الأهواء على أهل الحق فأما عندنا إذا كانت العداوة بينهما بسبب شيء من أمر الدين فشهادة بعضهم على بعض تقبل لخلوها عن تهمة الكذب فأما من يعادي غيره لمجاوزته حد الدين يمتنع من الشهادة بالزور وإن كان يعاديه بسبب شيء من أمر الدنيا فهو أمر موجب فسقه فلا تقبل شهادته عليه إذا ظهر ذلك منه وشهادة أهل الإسلام جائزة على أهل الشرك كلهم لأن الله تعالى أثبت للمؤمنين شهادة على الناس بقوله عز وجل: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ولما قبلت شهادة المسلم(16/256)
ص -117- ... على المسلم فعلى الكافر أولى ومن عرف منهم بالخيانة لم تجز شهادته أهل الأهواء وغير أهل الأهواء في ذلك سواء فالمجون نوع جنون قال القائل في هذا المعنى:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود
ما لم يعاص كان جنونا
ثم لما جن تشتد غفلته على وجه ينعدم به الضبط أو يقل وتظهر منه المجازفة فيما يقول ويفعل فيتهم بالمجازفة في الشهادة أيضا وشهادة أهل الشرك بينهم جائزة بعضهم على بعض عندنا وقال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لا شهادة لهم على أحد وكان بن أبي ليلى رحمه الله يقول إذا اتفقت مللهم تقبل شهادة بعضهم على بعض وإن اختلفت لا تقبل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لأهل ملة على ملة أخرى إلا المسلمين فشهادتهم مقبولة على أهل الملل كلها" ولأن عند اختلاف الملة يعادي بعضهم بعضا وذلك يمنع من قبول الشهادة كما لا تقبل شهادتهم على المسلمين وعلى هذا كان ينبغي أن لا تقبل شهادة المسلمين عليهم إلا أنا تركنا ذلك لعلو حال الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" ولأنهم يعادون أهل الشرك بسبب المسلمون فيه محقون وهو إصرارهم على الشرك فلا يقدح ذلك في شهادتهم بخلاف أهل الملل فاليهود يعادون النصارى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه غير محقين قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْء} [البقرة: 113] وقال الشافعي رحمه الله تعالى الكافر فاسق ولا تقبل شهادته كالفاسق المسلم وبيان فسقه قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} [السجدة: 18] وقال الله تعالى والكافرون هم الفاسقون والفسق عبارة عن الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها وسمي المسلم بذلك لخروجه عن حد الدين تعاطيا والكافر لخروجه عن حد الدين اعتقادا فإذا ثبت أنه فاسق وجب التوقف في خبره بالنص(16/257)
والشرط في الشاهد بالنص أن يكون مرضيا قال الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والكافر لا يكون مرضيا والدليل عليه أن شهادته على المسلمين لا تقبل وكل من لا يكون من أهل الشهادة على المسلمين لا يكون من أهل الشهادة على أحد كالعبيد والصبيان بل أولى فالعبد المسلم أحسن حالا من الكافر ألا ترى أن خبره في الديانات يقبل ولا يقبل خبر الكافر ولأن الرق من آثار الكفر فإذا كان أثر الكفر يخرجه من الأهلية للشهادة فأصل الكفر أولى وقاس بالمرتد واستدل ببطلان شهادته على قضاء قاض المسلمين وعلى شهادة المسلم فلو كان من أهل الشهادة لقبلت شهادته في هذا إذا كان الخصم كافرا.
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أي من غير دينكم وهو بناء على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ} إلى قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ففيه تنصيص على جواز شهادتهم على وصية المسلم ومن ضرورة جواز شهادتهم على وصية المسلم جوازها على وصية الكافر وما يثبت بضرورة النص فهو(16/258)
ص -118- ... كالمنصوص ثم انتسخ في لك في حق المسلم بانتساخ حكم ولا يتهم على المسلمين فبقي حكم الشهادة فيما بينهم على ما ثبت بضرورة النص فليس من ضرورة انتساخ شهادتهم على المسلمين انتساخ شهادة بعضهم على بعض كالولاية ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودين دينا بشهادة أربعة منهم.
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض وعن عمر وعلي رضي الله عنهما في ذميين دينا قالا يدفعان إلى أهل دينهما ليحكم بينهما ومن ضرورة جواز حكم بعضهم على بعض والسلف رحمهم الله تعالى كانوا مجمعين على هذا حتى قال يحيى بن أكثم رحمه الله تعالى تتبعت أقاويل السلف فلم أجد أحدا منهم لم يجوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إلا أني رأيت لربيعة فيه قولين والمعنى فيه أن الكافر من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة كالمسلم وبيان الوصف في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] والمراد منه الولاية دون الموالاة فإنه معطوف على قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] والدليل عليه أنها تصح إلا نكحة فيما بينهم ولا نكاح إلا بولي والمسلم إذا خطب إلى كتابي ابنته الصغيرة فزوجها منه جاز النكاح ولأن الكافر من أهل الولاية على نفسه وماله على الاطلاق فيكون من أهل الولاية على غيره عند وجود شرط تعدي ولايته إلى الغير والشهادة نوع ولاية فإذا ثبتت الأهلية للولاية تثبتت الأهلية للشهادة ثم المقبول يترجح جانب الصدق وذلك في انزجاره عما يعتقده حراما في دينه والكافر منزجر عن ذلك فتقبل شهادته واسم العدالة والرضاء ثبت في حق الكافر في المعاملات بصفة الأمانة فقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] ولا يقال إنهم أظهروا الكفر عنادا كما قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا(16/259)
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] لأن هذا كان في الأحبار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تواطئوا على كتمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته فلا شهادة لأولئك عندنا فأما من سواهم يعتقدون الكفر لأن عندهم أن الحق ما هم عليه قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] وقال عز وجل: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146] وبهذا التحقيق يتبين أن فسقهم فسق اعتقاد وقد بينا أن هذا لا يمكن تهمة الكذب في الشهادة وإنما لا تقبل شهادتهم على المسلمين لانقطاع ولايتهم عن المسلمين وإنما لا تقبل شهادة العبد والصبي لانعدام الأهلية والولاية وبه يتبين أن أثر الرق فوق تأثير الكفر في حكم الولاية ثم هم يعادون المسلمين بسبب باطل فيحملهم ذلك على التقوى على المسلمين فلهذا لا تقبل شهادتهم على المسلمين.
وأما المرتد فلا ولاية له على أحد ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول في قبول شهادة بعضهم على البعض ضرورة ولأن المسلمين قل ما يحضرون معاملات أهل الذمة خصوصا الأنكحة والوصايا فلو لم تجز شهادة بعضهم على البعض في ذلك أدى إلى إبطال حقوقهم(16/260)
ص -119- ... وقد أمرنا بمراعات حقوقهم ودفع ظلم بعضهم عن بعض فلهذه الضرورة قبلنا شهادة بعضهم على بعض كما قبلنا شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال ولا تتحقق هذه الضرورة في شهادتهم على المسلمين ولا في شهادتهم على شهادة المسلم أو على قضاء قاض مسلم وهذا على أصل مالك رحمه الله تعالى أظهر فإنه يجوز شهادة الصبيان في الجراحات وتمزيق الثياب التي بينهم في الملاعب فقل أن يتفرقوا قال لأن العدول لا يحضرون ذلك الموضع وبعد التفرق لا تقبل لأن الظاهر أنهم يلقنون الكذب وقد أمرنا أن لا نمكنهم من الاجتماع للعب فيحصل المقصود بالزجر عن ذلك فلا حاجة إلى قبول شهادة الصبيان في ذلك وكذلك جراحات النساء في الحمامات لأنا أمرنا بمنعهن من الاجتماع لما في اجتماع النساء من الفتنة وكذلك الفسقة من أصحاب السجون لأنهم حبسوا بأسباب منع الشرع من ذلك فيحصل المقصود بالمنع.(16/261)
فأما هنا فقد أمرنا بمراعاة حقوق أهل الذمة وأن نجعل دماءهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا مع أن أصحاب السجون لا يخلون عن أمناء السلطان عادة وبناء الأحكام معلى عرف الشريعة دون عادة الظلمة ولا حجة لابن أبي ليلى رحمه الله تعالى في الحديث لأن عندنا الكفر كله ملة واحدة قال الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] وقال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] فعابد الحجر وعابد الوثن أهل ملة واحدة وإن اختلفت نحلهم كالمسلمين هم أهل ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبهم ثم اليهود يعادون النصارى بسبب هم فيه محقون وهو دعواهم الولد لله تعالى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه محقوق وهو إنكارهم نبوة عيسى عليه السلام والفريقان يعادون المجوس بسبب هم فيه محقون وهو إنكارهم التوحيد ظاهرا ودعواهم الاثنين فشهادة بعضهم على البعض كشهادة المسلمين على الكفار ولأن كان بعضهم يعادي البعض بسبب باطل فلم يصر بعضهم مقهور بعض ليحملهم ذلك على التقول بخلاف الكفار فقد صاروا مقهورين من جهة المسلمين وذلك يحملهم على التقول عليهم فلهذا لا تقبل شهادتهم على المسلمين.(16/262)
فأما شهادة العبيد فقد بينا الإجماع فيها بين الفقهاء رحمهم الله تعالى وأما شهادة المكاتب والمدبر وأم الولد لقيام الرق فيهم ومعتق البعض كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه بمنزلة المكاتب ولا يجوز شهادة المولى لأحد من هؤلاء لأن شهادته لملكه كشهادته لنفسه باعتبار قيام الملك والحق له في المشهود به وكذلك شهادة أبي المولى وابنه وامرأته لهؤلاء بمنزلة شهادته للمولى وكذلك شهادة الزوج لامرأته الأمة وشهادة المرأة لزوجها المملوك لأن وصلة الزوجة كوصلة الولاد في المنع من قبول الشهادة وإذا شهد المكاتب أو العبد أو الصبي عند القاضي بشهادة فردها ثم شهد بها بعد العتق والكبر جازت شهادته لأن المردود لم يكن شهادة فالشهادة لا تتحقق إلا ممن هو أهل بخلاف الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة فإنها لا تقبل لأن المردود كان شهادة والفسق لا يخرجه من أن(16/263)
ص -120- ... يكون أهلا للولاية فلا يخرجه من أن يكون أهلا للشهادة وإنما لا تقبل شهادته لتهمة الكذب فإذا كان المردود شهادة فهي شهادة حكم الحاكم ببطلانها بدليل شرعي فليس له أن يصحها بعد ذلك وبعضهم يشير إلى فرق آخر فيقول لعل الفاسق قصد بالتوبة ترويج شهادته فلا يوجد ذلك في الرقيق والصغير فإنه ليس إليه إزالة الرق والصغر ولكن هذا ليس بقوي فالكافر إذا شهد على مسلم فردت شهادته ثم أدعاها بعد الإسلام تقبل وهذا المعنى موجود فيه فعرفنا أن الاعتماد على كون المؤدى شهادة كما قررنا.
وإذا تحمل المملوك شهادة لمولاه فلم يؤدها حتى عتق ثم شهد بها جاز لأن التحمل بالمعاينة والسماع والرق لا ينافي ذلك وعند الأداء هو أهل لشهادته ولا تهمة في شهادته فهو نظير الصبي إذا تحمل وشهد بعد البلوغ وكذلك الزوج إذا أبان امرأته ثم أدى الشهادة لها جازت شهادته لأن التحمل كان صحيحا مع قيام الزوجية وعند الأداء ليس بينهما سبب التهمة ولو شهد الحر لامرأته بشهادة فردها القاضي ثم أبانها ونكحت غيره ثم شهد لها تلك الشهادة لم يجز لأن المردود شهادة فالزوج أهل للشهادة في حق زوجته وكذلك لو شهدت المرأة لزوجها ولو شهد العبد لمولاه فرده القاضي ثم شهد له بها بعد العتق جازت شهادته لأن المردود لم يكن شهادة فالعبد ليس بأهل للشهادة في حق أحد وإذا شهد المولى لعبده بنكاح فردت شهادته ثم شهد له بها بعد العتق لم يجز لأن المردود كان شهادة فالمولى من أهل الشهادة ولو شهد كافر على مسلم فردها القاضي بها ثم أسلم فشهد بها جازت شهادته لأن المردود لم يكن شهادة بخلاف ما إذا شهد كافر لكافر فردها القاضي لتهمة ثم ادعاها بعد ما أسلم لأن هناك المردود شهادة وإنما ردها لتهمة الكذب فبعدما ترجح جانب الكذب في تلك الشهادة بحكم الحاكم لا يجوز العمل بها قط كما في شهادة الفاسق من المسلمين والله أعلم بالصواب.
الشهادة على الشهادة(16/264)
قال رحمه الله: تعالى ولا يجوز على شهادة رجل أو امرأة أقل من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى تجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد لأن الفرع قائم مقام الأصلي معبر عنه بمنزلة رسول في اتصال شهادته إلى مجلس القاضي وكأنه حضر وشهد بنفسه واعتبر هذا برواية الأخبار فإن رواية الواحد على الواحد مقبولة ومذهبنا مروي عن علي رضي الله عنه والمعنى فيه أن شهادة الأصلي غابت عن مجلس القاضي فلا يثبت عنده إلا بشهادة شاهدين كإقرار المقر وهذا لأنها شهادة ملزمة فيما يجب على القاضي القضاء بشهادة الأصول والعدد شرط في هذه الشهادة إذا كان متمكنا بخلاف رواية الأخبار.
وإن شهد رجلان على شهادة رجلين جاز عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز إلا أن يشهد رجلان على شهادة كل واحد منهما لأن الفرعين يقومان مقام أصل واحد فلا تتم حجة القضاء بهما كالمرأتين لما قامتا مقام رجل واحد لم تتم حجة القضاء بشهادتهما(16/265)
ص -121- ... والدليل عليه أن أحد الفرعين لو كان أصليا فشهد على شهادة نفسه وعلى شهادة صاحبه مع غيره لا تتم الحجة بالاتفاق فكذلك إذا شهدا جميعا على شهادة الأصلين وحجتنا في ذلك أنهما يشهدان جميعا على شهادة كل واحد منهما وكما يثبت قول الواحد في مجلس القاضي بشهادة شاهدين يثبت قول الجماعة كالإقرار وهذا لأن الفرعين عدد تام لنصاب الشهادة وهما يشهدان على شهادة الأصول إلا على أصل الحق فإذا شهدا على شهادة أحدهما تثبت شهادته في مجلس القضاء كما لو حضر فشهد بنفسه ثم إذا شهد على شهادة الآخر تثبت شهادته أيضا في مجلس القضاء إذ لا فرق بين شهادتهما على شهادته وبين شهادة رجلين آخرين بذلك بخلاف شهادة المرأتين فذاك ليس بنصاب تام للشهادة ولكن كل امرأة بمنزلة شطر العلة والمرأتان شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتم نصاب الشهادة وليس هذا كما لو شهد أحدهما على شهادة نفسه لأن الشاهد على شهادة نفسه لا يصلح أن يكون شاهد الفرع في تلك الحادثة لمعنيين:
أحدهما: أنه عنده علم المعاينة في هذه الحادثة فلا يستفيد شيئا بإشهاد الآخر إياه على شهادته.
في الثاني: أن شهادة الفرع في حكم البدل ولهذا لا يصار إليه إلا عند العجز عن حضور الأصل بموته أو مرضه أو غيبته والشخص الواحد في الشهادة لا يكون أصلا وبدلا في حادثة واحدة.
توضيحه أن شاهدة الأصلي تثبت نصف الحق فلو جوزنا مع ذلك شهادته وشهادة الآخر لكان فيه إثبات ثلاثة أرباع الحق بشهادة الواحد وذلك لا يجوز فأما إذا شهدا جميعا على شهادة الأصلين فلا يثبت في الحاصل بشهادة كل واحد منهما إلا نصف الحق وذلك جائز.(16/266)
والشهادة على الشهادة في كتب القضاة جائزة لأن ذلك يثبت مع الشبهات وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال فكذلك الشهادة على الشهادة وإن شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلانا حدا في قذف فهو جائز لأن المشهود به فعل القاضي لا نفس الحد وفعل القاضي مما يثبت مع الشبهات وإنما الذي يندرئ بالشبهات الأسباب الموجبة للعقوبة وإقامة القاضي حد القذف ليست بسبب موجب للعقوبة فإن قيل أليس أن إقامة الحد مسقطة لشهادته عندكم بطريق العقوبة قلنا ولكن رد شهادته من تمام حده فيكون سببه هو السبب الموجب للحد وهو القذف إلا أنه ترتب عليه ليكون متمما له فلا يظهر قبله فأما في الحقيقة القذف مع العجز عن أربعة من الشهداء يوجب جلدا مؤلما ويبطل شهادته بناء عليه.
وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهد وقد خرس المشهود على شهادته أو عمى أو ارتد أو فسق أو ذهب عقله لم تجز الشهادة على شهادته وإن كان الفرعيان عدلين لأن القضاء إنما(16/267)
ص -122- ... يكون بشهادة الأصول فأما الفرعي ينقل إلى مجلس القاضي بعبارته شهادة الأصول فكأن الأصلي حضر بنفسه وشهد ثم ابتلى بشيء من ذلك قبل قضاء القاضي فكما لا يجوز للقاضي أن يقضي بشهادته هناك لأنه لو قضى بها كان قضاء بغير حجة فكذلك هنا وشهادة أهل الذمة على المستأمنين جائزة بخلاف شهادة المستأمنين على أهل الذمة لأن الذمي من أهل دارنا حتى لا يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بخلاف المستأمن فشهادة الذمي على المستأمن كشهادة المسلم على الذمي وشهادة المستأمن على الذمي كشهادة الذمي على المسلم وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض تقبل إذا كانوا من أهل دار واحدة وإن كانوا من أهل دارين كالرومي والتركي لا تقبل لأن الولاية فيما بينهم تنقطع بخلاف المنعتين ولهذا لا يجري التوارث بينهم بخلاف دار الإسلام فإنها دار حكم فيه اختلاف المنعة لا يختلف بالدار فأما دار الحرب ليس بدار أحكام فيه اختلاف المنعت تختلف بالدار وهذا بخلاف أهل الذمة فإنهم صاروا من أهل دارنا فتقبل شهادة بعضهم على بعض وإن كانوا من منعاة مختلفة فأما المستأمنون ما صاروا من أهل دارنا ولهذا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب ولا يمكنون من إطالة المقام في دار الإسلام.(16/268)
قال: ومن ترك من المسلمين الصلوات في الجماعة والجمع مجانة لم تقبل شهادته لأنه مرتكب لما يفسق به ولأن الجماعة من أعلام الدين فتركها ضلالة ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال يوما لأصحابه قد خرج من بيننا من كان ينزل عليه الوحي وخلف فيما بيننا علامة يميز بها المخلص من المنافق وهي الجماعة فكل من لقيناه في جماعة المسلمين شهدنا بإيمانه ومن لقيناه يتخلف عن الجماعة شهدنا بأنه منافق وإن كان ترك ذلك سهوا وهي لا تتم شهادته أجزت شهادته لأن ترك الجماعة سهو لا يوجب فسقه لأن الساهي معذور في بعض الفرائض دونه أولى وإذا شهد كافران على شهادة مسلمين لكافر على كافر بحق أو على قضاء قاضي المسلمين على كافر لمسلم أو كافر لم تجز شهادتهما لأن المشهود به فعل المسلم ولا حاجة إلى فعل بيان المسلم بشهادة الكافر لأن فعل المسلم يتيسر إثباته بشهادة المسلمين.
وشهادة العبد والأمة في هلال رمضان جائزة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله: وحجتنا فيه حديث الأعرابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما اعتبر في ذلك إلا الإيمان حيث قال "أتشهد أن لا إله إلا الله" الحديث وقد بينا في كتاب الصوم الفرق بين هذا وبين الشهادة على هلال الفطر والأضحى وأن الشهادة على هلال رمضان ليست بإلزام للغير ابتداء بل هو التزام والتزام المسلم الصوم في رمضان بإيمانه فبهذه الشهادة تبين الوقت ولا يكون الالتزام فيها ابتداء.
ولو شهد مسلمان على شهادة كافر جازت الشهادة لأنه إذا كان يثبت بشهادة المسلمين شهادة المسلم فلان يثبت بشهادتهما شهادة الكافر وهي دون شهادة المسلم أولى وإن كان كافرا في يده أمة اشتراها من مسلم فشهد عليه كافران أنها لكافر أو مسلم لم تجز شهادتهما،(16/269)
ص -123- ... وكذلك لو كانت في يده بهيمة من مسلم أو صدقة وهذا في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله تعالى ثم رجع فقال أقضي بها على الكافر خاصة ولا أقضي بها على غيره وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لأن الملك في هذا للكافر في الحال وشهادة الكافر حجة في استحقاق الملك عليه وليس من ضرورة استحقاق الملك عليه الاستحقاق على البائع أو بطلان البيع كما لو أقر المشتري بها لإنسان فإن الملك يستحق عليه بإقراره ولا يبطل به البيع ولا فرق بينهما فإن القضاء بحسب الحجة والإقرار حجة على المقر دون غيره فكذلك شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم ولأبي حنيفة ومحمد رحمهم الله تعالى طريقان:
أحدهما: أن الملك بحجة البينة يستحق من الأصل فلهذا يستحق بزوائده ويرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين وإذا كان أصل الملك للمسلم فهذه الشهادة إنما تقوم على استحقاق الملك على المسلم وشهادة الكافر ليست بحجة في ذلك كما قيل التمليك من غيره وهذا لأن القاضي لا يتمكن من القضاء بملك حادث بعد شراء الكافر لأنه لا بد للملك الحادث من سبب حادث ولم يثبت عنده ولا يتمكن من القضاء بالملك من الأصل لأن هذه الشهادة ليست بحجة فيه بخلاف الإقرار فإن الإقرار يجعل في الحكم بمنزلة إيجاب الملك للمقر له ابتداء ولهذا لا تستحق به الزوائد المنفصلة فيتمكن القاضي من القضاء بملك حادث بعد الشراء.(16/270)
والثاني: إن هذه البينة تقوم على إبطال تصرف المسلم من البيع والهبة ألا ترى أن الشهود لو كانوا مسلمين بطل بها تصرف البائع والواهب وشهادة الكفار على إبطال تصرف المسلم لا تقبل بخلاف الإقرار فإنه لا يتضمن إبطال تصرف المالك ولكن المقر يصير مبلغا بإقراره وإتلافه لا يتضمن انتقاض قبضه وبطلان تصرف البائع فأما هنا بهذه البينة تصير يد الكافر مستحقة من الأصل وبهذا الاستحقاق يفوت قبضه ضرورة وفوات القبض المستحق بالعقد يبطل التصرف ولو مات كافرا وترك اثنين وألفي درهم فاقتسماها ثم أسلم أحدهما فشهد كافران على أبيهما بدين أخرت ذلك في حصة الكافر خاصة لأن شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم وبثبوت الدين على الميت يستحق تركته وتركته مال الاثنين في الحال فيثبت الدين بهذه الحجة في استحقاق نصيب الكافر من التركة دون نصيب المسلم كما لو أقر أحد الاثنين بالدين على الأب وجحد الآخر.
ولو مات كافر فادعى مسلم وكافر دينا عليه وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر أخذت ببينة المسلم وأعطيته حقه فإن بقي شيء كان للكافر وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى إن التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما لأن كل واحد منهما يثبت ببينته دينه على الميت فإن أقام كل واحد منهما حجة على الميت فكان الدينين يثبت بإقرار الميت بخلاف ما تقدم فإن الوارث مستحق عليه باعتبار الحال فأما كل واحد من الفرعين لا يستحق(16/271)
ص -124- ... على صاحبه شيئا وإنما يستحق كل واحد منهما على الميت وعلى ورثته ووجه ظاهر الرواية أن دين المسلم ثبت في حق الميت وفي حق غريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت ولم يثبت في حق الغريم المسلم لأن بينته ليست بحجة في حقه والمزاحمة بينهما لا تكون إلا عند المساواة ولا مساواة بينهما إذا كان دين أحدهما ثابتا في حق الآخر ودين الآخر ليس بثابت في حقه فهو بمنزلة الدين المقر بة في الصحة مع الدين المقر بة في المرض تقدم دين الصحة فإن فضل شيء فهو للمقر له في المرض فهذا مثله.
ولو مات الكافر فأوصى إلى رجل مسلم فادعى رجل على الميت دينا وأقام شهودا من أهل الكفر جازت شهادتهم استحسانا وفي القياس لا تقبل لأنها لا تقوم على المسلم في إلزام قضاء الدين فالوصي يلزمه قضاء الدين والتركة في يده في الحال فبهذه البينة تستحق عليه يده وشهادة الكفار في ذلك ليست بحجة كما لو كان الوارث مسلما ووجه الاستحسان أن الثابت بهذه الشهادة تصرف وليه الكافر وشهادة الكفار حجة في ذلك والوصي نائب عنه بعد موته فيكون بمنزلة الوكيل في حياته.
ولو وكل كافر مسلما بخصومة فشهد عليه كافران بالدين قبلت البينة يوضحه أن قضاء الدين من حق الميت وهو إنما نصب الصبي ليتدارك به ما فرط في حياته وإنما يتم له هذا المقصود إذا اعتبرنا حاله فيما يقام عليه من الحجة لا حال الوصي فكذلك تجوز شهادة الكافر على المكاتب الكافر والعبد المأذون الكافر وإن كان مولاه مسلما يتصرفان لأنفسهما ولهذا لا يرجعان بعهدة التصرف على أحد فالاستحقاق بهذه الشهادة يقتصر عليهما ثم المولى بالإذن وإيجاب الكتابة فقد صار راضيا بالاستحقاق عليهما بشهادة الكفار لما باشر العقد مع علمه بحالهما كما صار راضيا باستحقاق الكسب بإقرارهما ولو كان العبد المأذون له مسلما ومولاه كافرا لم تجز شهادة الكفار على العبد لأنه يقوم الاستحقاق على المسلم.(16/272)
ولو وكل كافرا مسلما بشراء أو بيع لم يجز على الوكيل في ذلك شهادة الكفار لأن الوكيل بالشراء والبيع في حقوق العقد كالعاقد لنفسه فإنما تقوم هذه البينة على المسلم ولو وكل مسلم كافرا بذلك جازت شهادة الكفار على الوكيل لأنه بمنزلة العاقد بنفسه ثم إيجابه العقد كلامه فيثبت بهذه الشهادة كإقراره ولو شهد على إقراره بذلك قبلت الشهادة وجعلت بمنزلة ما لو ثبت إقراره بالمعاينة فكذلك إذا شهد على العقد والله أعلم بالصواب.
باب شهادة النساء
قال رحمه الله:ولا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا فيما ينظر إليه الرجال الولادة والعيب يكون في موضع لا ينظر إليه إلا النساء لأن الأصل أن لا شهادة له للنساء فإنهن ناقصات العقل والدين كما وصفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالنقصان يثبت شبهة العدم ثم الضلال والنسيان غلب عليهن وسرعة الانخداع والميل إلى الهوى ظاهر فيهن وذلك يمكن تهمة في الشهادة وهي تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فلا تكون شهادتهن على الانفراد حجة(16/273)
ص -125- ... تامة لذلك ولكنا تركنا القياس فيما لا يطلع عليه الرجال بالأثر وهو حديث مجاهد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس رضي الله عنهم قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" ولأن الضرورة تتحقق في هذا الموضع فإنه يتعلق به أحكام يحتاج إلى بيانه في مجلس القاضي ويتعذر إثباته بشهادة الرجال لأنهم لا يطلعون عليه فلا بد من قبول شهادة النساء فيه لأن الحجة لإثبات الحقوق مشروعة بحسب الإمكان ثم يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة إذا كانت حرة مسلمة عدلا عندنا والمثنى والثلاث أحوط وعند الشافعي لا تثبت إلا بشهادة أربع نسوة وعند بن أبي ليلى شهادة امرأتين فالشافعي يقول كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال.
توضيحه أن حال الرجال في الشهادة أقوى من حال النساء وإذا كان لا يجوز إثبات شيء مما يطلع عليه الرجال بشهادة رجل واحد لمعنى الإلزام فلان لا يجوز إثباته بشهادة امرأة واحدة أولى ولا معنى لقول من يقول أن هذا خبر وليس بشهادة فإن الحرية فيه شرط بالاتفاق.(16/274)
قال في الكتاب: لو شهدت أمة أو كافرة لا تقبل وكذلك لفظ الشهادة لا بد منه فعرفنا أنه بمنزلة الشهادة في الحقوق وبهذا يستدل بن أبي ليلى رحمه الله تعالى أيضا إلا أنه يقول المعتبر في الشهادات شيئان العدد والذكورة وقد تعذر اعتبار أحدهما وهو الذكورة هنا ولو لم يتعذر اعتبار العدد فيبقى معتبرا كما في سائر الشهادات ولا معنى لقول من يقول إن نظر الواحدة أحق من نظر المثنى لأنه بالاتفاق المثنى والثلاث أحوط فلو كان هذا معتبرا لما جاز النظر إلا لامرأة واحدة وحجتنا في ذلك حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة على الولادة. وقال: "شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال". والنساء اسم جنس فيدخل فيه أدنى ما يتناوله الاسم والمعنى فيه أن هذا خبر لا يشترط في قبوله الذكورة ولا يشترط فيه العدد كرواية الأخبار وحقيقة المعنى فيه أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع ولكن نظر الجنس إلى الجنس أحق فإذا أمكن تحصيل المقصود بشهادة النساء سقط اعتبار صفة الذكورية لهذا المعنى وهذا موجود في العدد فإن نظر الواحدة أحق من نظر الجماعة فسقط اعتبار العدد بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية فيه لأن نظر المملوكة ليس بأخف من نظر الحرة ولهذا لا يسقط اعتبار الإسلام فيه لأن نظر الكافرة ليس بأخف من نظر المسلمة فينعدم من الشرائط ما يمكن اعتباره ولا يعتبر ما لا يمكن اعتباره فعلى هذا الحرف نسلم أنه شهادة ولكن يدعي أنه سقط اعتبار العدد فيه بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة.
وفي الحاصل هذا أحد شبهها من الأصلين من الشهادة لمعنى الإلزام ومعنى الإخبار لأن صفة الذكورة فيه لا تشترط فوفرنا خطه على الشبهين وقلنا لشبهه بالإخبار يسقط اعتبار(16/275)
ص -126- ... العدد فيه شرطا ويبقى معتبرا احتياطا كما في رواية الأخبار الواحد يكفي والمثنى والثلاث أحوط لزيادة طمأنينة القلب ولاعتباره بالشهادات فيه شرطنا الحرية والإسلام ولفظ الشهادة وهذا لأنه مختص بمجلس القاضي فلهذا يشترط فيه لفظ الشهادة.
ولم يذكر في الكتاب أنه لو شهد بذلك رجل بأن قال فاجأتها فاتفق نظري إليها والجواب أنه لا يمنع قبول الشهادة إذا كان عدلا في هذا الموضع ثم الصحيح أنه لا يشترط العدد لأن شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة فإذا كان ثبت المشهود به هنا بشهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أنه قال وإن قال تعمدت النظر تقبل شهادته في ذلك كما في الزنى واستدلوا عليه بقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن النسب لا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين على الولادة إن لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار الزوج بالحبل وقد بينا هذا في كتاب الطلاق فأما الاستهلاك فإني لا أقبل فيه شهادة النساء عليه إلا في الصلاة عليه فأما في الميراث فلا أقبل في ذلك أقل من رجلين أو رجل وامرأتين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة عدل لحديث علي رضي الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال والمعنى فيه أن استهلال الصبي يكون عند الولادة وتلك حالة لا يطلع عليها الرجال وفي صوته عند ذلك من الضعف ما لا يسمعه إلا من شهد تلك الحالة وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل كشهادة الرجال فيما يطلعون عليه ولهذا يصلي عليه بشهادة النساء فكذلك يرث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الاستهلال صوت مسموع وفي السماع من رجال يشاركون النساء فإذا كان المشهود به مما يطلع عليه الرجال لا تكون شهادة النساء فيه حجة تامة وإن وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كالشهادة على جراحات النساء في الحمامات بخلاف الولادة(16/276)
فهو انفصال الولد من الأم والرجال لا يشاركون النساء في الاطلاع عليه وحديث علي رضي الله عنه محمول على قبول شهادة النساء في الصلاة وإنما قبلنا ذلك في حق الصلاة عليه لأن ذلك من أمر الدين وخبر المرأة الواحدة حجة تامة في ذلك كشهادتهما على رؤية هلال رمضان بخلاف الميراث فإنه من حقوق العباد فلا يثبت بشهادة النساء في موضع يكون المشهود به مما يطلع عليه الرجال والله أعلم.
باب شهادة الزور وغيرها
قال رحمه الله: ذكر عن شريح رحمه الله تعالى أنه كان إذا أخذ شاهد الزور بعث به إلى أهل سوقه إن كان سوقيا وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا فيقول إن شريحا رحمه الله تعالى يقرئكم السلام ويقول إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس وبهذا أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال القاضي يكتفي في شهادة الزور بالتشهير ولا يعزره وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعاقبه بالتعزير والحبس على قدر ما يرى حتى يظهر(16/277)
ص -127- ... توبته ولا يبلغ بالتعزيرات سبعين سوطا وقال أبو يوسف بعد ذلك يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا وقد بينا الكلام في مقدار التعزير في كتاب الحدود فأما الكلام في التعزير في حق شاهد الزور فهما استدلا بحديث عمر رضي الله عنه حيث قال في شاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم وجهه ويطاف به إلا أن الدليل قد قام على انتساخ حكم التسخيم للوجه فإن ذلك مثله ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور فبقي حكم التعزير والتشهير بأن يطاف به ثم التشهير لإعلام الناس حتى لا يعتمد وإشهاده بعد ذلك والتعزير لارتكابه كبيرة فشهادة الزور من أعظم الكبائر فإنها عدلت بالشرك بالله تعالى قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وفيه إشارة إلى عظم حرمة المسلم فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بالزور كالشهادة على نفسه بالزور وإذا ثبت أنه مرتكب للكبيرة قلنا يعذر على ذلك.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بقول شريح رحمه الله تعالى فإنه كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما فما يشتهر من قضاياه كالمروي عنهما ثم التشهير لمعنى النظر للمسلمين وذلك من حقهم فأما التعزير لحق الله تعالى وذلك يسقط بالتوبة وشاهد الزور من يقر على نفسه بذلك وإقراره على نفسه بذلك دليل توبته فلهذا لا يعزر ويكتفي بالتشهير ثم في التشهير نوع تعزير وهو تعزير لائق بجريمته لأن بالشهادة لا يحصل له سوى ماء الوجه وبالتشهير يذهب ماء وجهه عند الناس فكان هذا تعزيرا لائقا بجريمته فيكتفي به وما نقل عن عمر رضي الله عنه محمول على معنى السياسة إذا علم الإمام أنه لا ينزجر إلا به ألا ترى أنه ذكر تسخيم الوجه وذلك بالاتفاق بطريق السياسة إذا علم المصلحة فيه فكذلك التقرير.(16/278)
قال: وشاهد الزور عندنا المقر على نفسه بذلك لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في إقراره على نفسه فلا طريق إلى ثبات ذلك بالبينة عليه لأنه نفي لشهادته والبينة حجة للإثبات دون النفي وكذلك من ردت شهادته لتهمة أو للدفع عن نفسه أو بالاختلاف في الشهادة أو بتكذيب الذي شهد له فإنه لا يكون شاهد الزور فيما ذكرنا من الحكم لأني لا أدري أيهما الصادق المشهود له أو الشاهد فلعل المشهود له أراد بالشاهد العقوبة والتهمة فقصر في دعواه عما شهد به شاهده وكذلك من ردت شهادته للتهمة فلعله صادق في شهادته وإذا اختلف الشاهدان في الشهادة فلا يعرف الكاذب منهما فلهذا لا يعزر واحد من هؤلاء والرجال والنساء وأهل الذمة في شهادة الزور سواء لقيام الأهلية في حقهم جميعا فيما تعلق بشهادة الزور.
وإذا شهد أحد الشاهدين على قتل أو جراحة عمدا أو خطأ وشهد الآخر على الإقرار بذلك لم تجز شهادتهما لاختلاف المشهود به فأحدهما يشهد بفعل معاين والآخر يقول مسموع والقول غير الفعل وكذلك لو اختلفا في الوقت أو في المكان الذي كان به القتل فأما في البيع اختلاف الشهود في المكان والزمان والإنشاء والإقرار لا يمنع قبول الشهادة إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول لا تقبل لاختلافهما في المشهود به فالموجود في مكان غير(16/279)
ص -128- ... الموجود في مكان آخر كالأفعال ولكنا نقول القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول في الحكم فبهذا الاختلاف لا يتحقق بينهما اختلاف في المشهود به وكذلك صيغة الإقرار والإنشاء في البيع واحدة بخلاف الأفعال فإنها لا تحتمل التكرار ولو شهد أحدهما في قرض مائة درهم وشهد الآخر على الإقرار بذلك جاز كما في البيع لأن البيع والقرض كلام كله وقال بعضهم هنا الجواب في القرض غلط فإن الإقراض فعل فإنه لا يتحقق إلا بتسليم المال والقبض بحكم القرض موجب ضمان المثل كالغصب وكما أن اختلاف الشهود في الغصب في الإقرار والإنشاء يمنع قبول الشهادة فكذلك في القرض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن حكم القرض إنما يثبت بقوله أقرضتك لا بتسليم المال إليه فإن تسليم المال إليه بدون هذا القول يكون إيداعا وقوله أقرضتك صيغة الإقرار والإنشاء فيه واحد كما في البيع.(16/280)
ولو شهد أحدهما على مائة والآخر على خمسين لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لاختلاف الشاهدين في المشهود به لفظا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقبل على الأقل إذا كان المدعي يدعي الأكثر حتى لا يصير مكذبا أحد شاهديه وقد بينا في كتاب الطلاق في التطليقة والتطليقتين ولا يجوز شهادة دافع عن نفسه مغرما أو جار إليها مغنما لأنه متهم في شهادته وقال صلى الله عليه وسلم: "لا شهادة لمتهم" ولأنه في معنى الشاهد لنفسه وشهادة المرء لنفسه دعوى ولا تجوز شهادة المفاوض لشريكه في شيء ما خلا الحدود والقصاص والنكاح فذاك ليس من شركة ما بينهما فنزل كل واحد منهما في المشهود به من صاحبه منزلة الأجنبي وأما في الأموال هما بعقد المفاوضة صار في ذلك كشخص واحد فكل واحد منهما فيما يشهد به لصاحبه بمنزلة الشاهد لنفسه وشهادة الشريك لشريكه وإن كانا غير متفاوضين لا تجوز في تجارتهما للتهمة لأن فيما يكون من تجارتهما الشاهد يثبت الحق لنفسه وصاحبه كالوكيل عنه فهو كشهادة الموكل لوكيله فيما وكله به فأما فيما ليس من تجارتهما فهو كسائر الأجانب لأن تهمة الميل بسبب عقد الشركة لا تتمكن عند ظهور العدالة فإن بسبب الشركة يحصل بينهما الصداقة والصديق إذا كان عدلا عاقلا يمنع صديقه من أكل الحرام ولا يحمله على ذلك بالشهادة وكذلك شهادة أجير أحد الشريكين للشريك الآخر.(16/281)
وشهادة الأجير لأستاذة لا تجوز في شيء وإن كان عدلا أخذ في ذلك بالثقة واستحسن لما بلغنا في ذلك عن شريح رحمه الله تعالى ولحالة الناس التي هم عليها اليوم والمراد الإشارة إلى التهمة فالأجير هنا هو التلميذ الخاص وقد ظهر مثله إلى أستاذه وإيثاره على غيره فكان بمنزلة الزوجية في المنع من قبول الشهادة ولأنه هو الذي يقبض ما يجب لأستاذه فكأنه يثبت حق القبض لنفسه بشهادته وقد ورد الحديث بأن "لا شهادة للقانع بأهل بيته". ومعنى ذلك أنه يعد خيرهم خير نفسه وشرهم شر نفسه والأجير في حق أستاذه بهذه الصفة.(16/282)
ص -129- ... وقيل مراده أجيرا استأجره مسانهة أو مشاهرة فإنما يستوجب الأجر بتسليم نفسه وفي الزمان الذي يسلم نفسه لأداء الشهادة له يستوجب الأجر فكان بمنزلة من استؤجر على أداء الشهادة فلهذا لا تقبل شهادته لأستاذه في شيء.
ولو أن رجلا كان عليه مال فشهد ابناه أن الطالب أبرأ أباهما واحتال به على فلان والطالب منكر لم تجز شهادتهما لأنهما يسقطان بشهادتهما مطالبة الطالب عن أبيهما فدفعهما عن أبيهما كدفعهما عن أنفسهما ولو كان المال على غير أبيهما فشهدا أن الطالب احتال به على أبيهما والطالب ينكر والمطلوب يدعي الحوالة والبراءة جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما بالمال ويلزمانه المطالبة بشهادتهما وإنما يسقطان بها مطالبة الطالب عن المطلوب وهو أجنبي عنهما فلهذا قبلنا شهادتهما ولو شهد رجلان أن لهما ولفلان على فلان كذا لم تجز شهادتهما لأنهما شاهدان لأنفسهما وهذا لأنهما يشهدان بدين مشترك أو ينصرف واحد يثبت به المال لهما ولفلان فإذا لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما وكان مدعيين في ذلك فكذلك في حق الثالث كما لو شهدا أنه قذف هذا وأمنا في كلمة واحدة وكذلك لو شهدا أن فلانا أبرأهما وفلانا من مال كان له عليهما وعليه لأن المشهود به كلام واحد وهو في حقهما دعوى لا شهادة وبين الدعوى والشهادة مغايرة فإذا كان كلامهما دعوى في البعض لا تكون شهادة معتبرة في الباقي وكذلك شهادة ولدهما لأنهما في البعض يشهدان لوالديهما ولا يجوز شهادة الأجير لمعلمه يريد به التلميذ وقد بينا المعنى فيه.(16/283)
وإذا ادعى رجل دابة في يد رجل فقال هي دابة فلان دفعها إلى وديعة فردها عليه وجاء أحد الورثة فخاصمه في ذلك وقال هي دابتي تصدق بها على أبي فجاء الذي كانت في يده أولا وشهد أنها دابته قال إن كان يعلم أن هذا أودعها أباه ثم ردها عليه فشهادته جائزة وإلا فلا تجوز شهادته لأن هذا دافع مغرم ومعنى هذا أنه إذا علم أنه هو الذي أودعها إياه وأنه قد ردها عليه فقد خرج من ضمانها بيقين لأن المستودع يستفيد البراءة بالرد على من أودعه غاصبا كان أو مالكا فلا تتمكن تهمة في شهادته بالملك للمدعي بعد ذلك وأما إذا لم يعلم ذلك فقد صار هو مقرى على نفسه بثبوت يده عليها وذلك موجب للضمان عليه لمالكها ما لم تصل يده إليها فهو بهذه الشهادة يريد اتصالها إلى يده ليبرئ نفسه عن ضمانها فتتمكن تهمة في شهادته قال وكذلك الدار قيل هذا على قول من يقول العقار يضمن بالغصب وقيل بل هو قول الكل لأنه يخاف أن يرفع إلى قاض يرى العقار كالمنقول في إيجاب الضمان على مثبت اليد عليها فيقضي عليه بالضمان فهو بهذه الشهادة يدفع المغرم على نفسه أيضا.
رجل معه شاة فمر رجل فقال اذبحها فذبحها ثم جاء رجل فأقام البينة أن هذا أغصبها منه وأقام شاهدين أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح لأنه دافع المغرم عن نفسه فالمدعي إذا ثبت ملكه يتمكن من تضمين الذابح والذابح بشهادته يصير مقرى بالضمان له عن نفسه فإنما يقصد بإخراج الكلام مخرج الشهادة دفع المغرم عن نفسه بأن يتوصل صاحبها(16/284)
ص -130- ... إلى حقه في تضمين الغاصب ولأن ضمان الغصب إذا تقرر أوجب الملك للغاصب فهو بهذه الشهادة يريد أن يقرر الضمان على من أمره بالذبح ليثبت الملك له فيعتبر عند ذلك أمره في إسقاط الضمان عن الذابح فكان دافع المغرم من هذا الوجه والثاني يحتمل أن المالك غيره وغيره يضمنه وهو لا يضمنه باعتبار أن بينهما محبة ومودة فقد تمكنت التهمة في هذه الشهادة.
قال: ومن التهاتر أن يشهد الشاهدان أن هذا الشيء لم يكن له لأن هذا نفي والشهادة للإثبات دون النفي فإن النفي مما لا يعرف لأن الإنسان ما لم يصحب غيره أناء الليل وأطراف النهار لا يعلم أن هذا الشيء ليس له وهو وإن صحبه لا يعلم ذلك أيضا فقد لا يعرف الإنسان ذلك من نفسه بأن يكون ورث شيئا فيكون مملوكا له وهو لا يعلم بذلك فإذا كان لا يعرف هذا من نفسه فكيف يعرف غيره منه وكذلك لو شهد أنه لم يكن لفلان على فلان دين لأنه لا طريق إلى معرفة ما شهد به من نفي الدين عن ذمته وكذلك كل شهادة هكذا أنها لم تكن وأن فلانا لم يصنع كذا وأنه لم يحضر مكان كذا وإن كان بمكان كذا فهو كله باطل لأن القاضي يعلم أنه مجازف في شهادته إذ لا طريق له إلى معرفة ذلك حقيقة فإذا علم الحاكم أن الشاهد كاذب أو مجازف في شهادته لا تقبل شهادته وكذلك قولهم إنه لم يحضر يومئذ ذلك المكان فهذا نفي وكذلك قولهم إنه كان يومئذ بمكان كذا وكذا لأن المقصود ليس هو إثبات كونه في ذلك المكان وإنما المقصود نفي كونه في المكان الذي يدعيه المدعي يومئذ والمعتبر ما هو المقصود.(16/285)
ومن التهاتر أن يقيم الرجل البينة على حق فيقضي له به فيقول المقضي عليه أنا أقيم بينة أنه لي فهذا لا يقبل منه لأنه يقيم البينة لإبطال قضاء القاضي عليه ودعواه ذلك غير مسموع فكيف تقبل بينة عليه وهذه البينة لو كانت قائمة له عند القضاء يمتنع القاضي من القضاء للمدعي فلان لا يبطل القضاء بها أولى قال ولو قبلت مثل هذا لقبلت من الآخر مثلها فيؤدي إلى ما لا يتناهى وذكر في الأصل المسألة التي بيناها في كتاب الحدود إذا شهد أربعة على شهود الزنى أنهم التزماه وقد بيناها ثمة والله أعلم.
باب الشهادة في النسب وغيره
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل أنه فلان بن فلان الفلاني وأن الميت فلان بن فلان بن عمه وورثته لا يعلمون له وارثا غيره ولفلان ذلك الميت دار في يد رجل وهو مقر أنها له غير أنه لا يعرف له وارثا فأنا أجيز شهادة هؤلاء على النسب وأدفع إليه الدار وإن كانوا لم يذكروا أباه استحسانا وهذه فصول أربعة النسب والنكاح والقضاء والموت وفي القياس لا تجوز الشهادة في شيء منها بالتسامع لأن الشهادة لا تجوز إلا بعلم وإنما يستفيد العلم بمعاينة السبب أو بالخبر المتواتر فأما بالتسامع لا يستفيد العلم وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وحكم المال أخف من حكم(16/286)
ص -131- ... النكاح فإذا كانت الشهادة على المال بالتسامع لا تجوز ففي النكاح أولى وفي التسامع القاضي والشاهد سواء ثم لا يجوز للقاضي أن يقضي بالتسامع فكذلك لا يجوز للشاهد إلا أنا استحسنا جواز الشهادة على هذه الأشياء الأربعة لتعامل الناس في ذلك واستحسانهم ألا ترى أنا نشهد أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا ولم ندرك شيئا من ذلك ونشهد أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي رضي الله عنه وأن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه ونشهد أن شريحا رضي الله عنه كان قاضيا ونشهد أنهم قد ماتوا ولم ندرك شيئا من ذلك ثم هذه أسباب يقضون بها على ما يشتهر فإن النسب يشتهر فيها بالتهنئة والموت بالتعزية والنكاح بالشهود والوليمة والقضاء بقراءة المنشور فنزلت الشهرة منزلة العيان في إفادة العلم بخلاف الأموال وغيرها.(16/287)
يوضحه أن هذه الأمور قل ما يعاين سببها حقيقة فسبب النسب الولاة ولا يحضرها إلا القابلة وسبب القضاء تقليد السلطان ولا يعاين ذلك إلا الخواص من الناس والميت أيضا قل ما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك إنما يحضره الخواص من الناس فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع أدى إلى الحرج بخلاف البيوع وغيرها فإنه كلام يسمعه كل واحد وسبب الملك هو اليد وهو مما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك إنما يحضره الخواص فلهذا لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع ثم الأحكام التي تتعلق بهذه الأشياء الأربعة تبقى بعد انقضاء قرون فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع لتعطلت تلك الأحكام بانقضاء تلك القرون ولهذا قلنا في الصحيح من الجواب أن الشهادة على أصل الوقف بالتسامع جائزة ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشهادة بالتسامع لأن أصل الوقف يشتهر فأما شرائطه لا تشتهر ولا بد للشاهد من نوع علم ليشهد فإن كان الشاهد لا يعرف الرجل إلا أن المدعي أخبره بذلك أو شهد به عنده رجل ما ينبغي له أن يشهد حتى يكون النسب مشهورا أو شهد به عنده رجلان عدلان لئلا يقول المدعي بشهادة رجل واحد عنده لا يحصل الاشتهار ولا يتم شرعا وإنما ثبت له العلم هنا بالاشتهار عرفا أو شرعا فالاشتهار عرفا بأن يعلمه أكثر الناس والاشتهار شرعا بشهادة رجلين ألا ترى أن الإعلان في النكاح شرط ويكون ذلك شرعا بشهادة رجلين إلا أن فيما يتردد بين الصدق والكذب لا بد من عدالة الرجلين كما في الشهادة عند القاضي فإذا شهد بذلك عنده رجلان فقد وجد الإشهاد عنده شرعا وولاية الشهادة دون ولاية القضاء فإذا كان يجوز للقاضي أن يقضي بشهادة رجلين عنده فلان لا يجوز له إذا شهد عنده به رجلان عدلان أولى.(16/288)
ولو قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب له وأقام معه دهرا لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يلقى من أهل بلده رجلين عدلين ممن يعرفه يشهدان له على ذلك ثم يسعه الشهادة عليه لأنه يحصل له بذلك نوع علم وذلك كاف فيما لا يشترط عليه معاينة السبب ولو نظر إلى رجل مشهود باسمه ونسبه غير أنه لم يخالطه ولم يتكلم معه وسعه أن يشهد أنه فلان(16/289)
ص -132- ... ابن فلان لحصول نوع علم له بالاشتهار وكذلك إذا رأى إنسانا في مجلس القضاء يقضي بين المسلمين فهو في سعة من الشهادة على أنه قاضيا لحصول العلم له بذلك الإشهاد والشهادة إنما تجب عليه بالعلم لا بالتكلم والمخالطة فإذا حصل العلم له بالإشهاد حل له أداء الشهادة.
ولو مات رجل فأقام آخر البينة أن الميت فلان بن فلان وأنه فلان بن فلان حتى يلتقوا إلى أب واحد وهو عصبته وأقاربه لا يعلمون له وارثا غيره قضيت له بالميراث لأنه أثبت سبب الوراثة مفسرا بالحجة فإن جاء آخر وأقام البينة أن الميت ابنه ولد على فراشه وأن هذا أبوه لا وارث له غيره جعلت الميراث لهذا وأبطلت القضاء للأول لأن البينة الثابتة طاعنة في البينة الأولى دافعة لها فإنه يتبين بها أن الأول لم يكن خصما في إثبات نسب الميت وأنه كان محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه ولا تقبل البينة من غير خصم فلهذا يبطل القضاء الأول وإن أقام الثاني البينة أن الميت فلان بن فلان ونسبه إلى أب آخر وقبيلة أخرى وأنه فلان بن فلان عمه إلى أب واحد لا وارث له غيره لم أحول النسب بعد أن يثبت من فخذ ومن أب إلى أن يجيء من هو أقرب من الذي جعلت له الميراث لأن البينة الثانية ليست بطاعنة في الأولى ولكنها معارضة للأولى وعند المعارضة الأولى ترجح الأولى لاتصال القضاء بها فلا تقبل البينة الثانية لأن الجمع بينهما متعذر والقضاء النافذ لا يجوز إبطاله بدليل مشتبه وهو كمن ادعى دابة في يد إنسان أنها له ثم أقام البينة فقضي القاضي بها له ثم أقام ذو اليد البينة أنها له لم يقبل ذلك منه ولو أقام البينة على النتاج قبل ذلك منه لأن هذه البينة طاعنة في البينة الأولى دافعة لها وكذلك إن أقام رجل البينة على نكاح امرأة بتاريخ وقضى القاضي له بذلك ثم أقام آخر البينة على نكاحه بذلك التاريخ أيضا لم تقبل ولو أقام البينة على النكاح بتاريخ سابق قبلت بينته لأنها طاعنة في البينة الأولى.(16/290)
وإذا شهد شاهدان أن هذا أعتق فلانا وأنه مولاه وعصبته لا وارث له غيره فإن كان قد أدرك المعتق وسمع العتق منه فشهادتهما جائزة وإن كان لم يدركاه ولم يسمعا العتق منه لم تجز شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى فلا وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهما الله تعالى ثم رجع أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال إذا شهدوا على ولاء مشهور فهو كشهادتهم بالنسب وإن لم يسمعوا ذلك منه ولم يدركوه لأن الولاء كالنسب ثم الشهادة على النسب بطريق التسامع والشهرة جائزة فكذلك على الولاء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بينهما فقال "الولاء لحمه كلحمة النسب" ألا ترى أنا نشهد أن قنبر مولى علي رضي الله عنه وعكرمة مولى بن عباس رضي الله عنهما وإن لم ندرك ذلك ثم الحكم المتعلق بالولاء يبقى بعد مضي قرن كالحكم المتعلق بالنسب فلو لم تجز الشهادة عليه بالتسامح تعطلت الأحكام المتعلقة بالولاء والشرع جعل الولاء كالنسب في حق وجوب الانتماء فقال صلى الله عليه وسلم "من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا".(16/291)
ص -133- ... وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن العتق إزالة ملك اليمين بالقول فلا تجوز الشهادة عليه بالتسامع كالبيع وبيانه فيما قررنا أن العتق كلام يسمعه الناس كالبيع وليس كالولادة فلا حاجة إلى إقامة التسامع فيه مقام البينة ثم لا يقترن لسبب الولاء ما يشتهر به فالإنسان يعتق عبده ولا يعلم به غيره فكان هذا دون البيع لأن البيع لا ينعقد ما لم يعلم به المشتري والعتق نافذ وإن لم يعلم المعتق بخلاف الطلاق وما تقدم لأنه مقترن بأسبابها ما يشتهر من الوجه الذي قررنا.(16/292)
وكذلك لو شهدوا أن فلانا أعتق أبا فلان وأن فلان بن فلان عصبة فلان الذي أعتق وعصبة فلان المعتق فإني لا أجيز شهادتهما حتى ينسبا الذي أعتق وعصبته إلى أب واحد يلتقيان إليه وإن لم يدركا ذلك لم يضرهما بعد أن يشهدا على سماع العتق من المعتق ثم أن المعتق مات وترك ابنه ثم مات ابنه ولا يعلمان له وارثا غيره وأنه لا ينسب له ولا ولاء سواه فحينئذ تقبل شهادتهم لأن القاضي لا يقضي بالميراث ما لم يفسروا بنسب الوراثة وإنما يسير مفسرا معلوما عنده بما ذكر غير أن في النسب شهادتهم بالتسامع مقبولة وفي الولاء لا تقبل شهادتهم ما لم يسمعوا العتق من المعتق إلا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما بينا قال ولست أكلفهم في المواريث أنه لا وارث له غيره وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى ما لم يشهدوا بذلك لا يقضي القاضي بالميراث له لأن سبب استحقاقه لا يصير معلوما للقاضي إلا به لجواز أن يكون هناك من يزاحم أو يترجح عليه فلا يكون هو وارثا مع ثبوت ما فسر الشهود من السبب ولكنا نقول قولهم لا وارث له غيره نفي لا طريق لهم إلى معرفة ذلك فلو كلفهم القاضي أن يشهدوا بذلك لكلفهم على ذلك شططا وحملهم على الكذب وإليه أشار في الكتاب فقال من قبل أن هذا عيب يحملهم القاضي عليه أو قال عنت يحملهم القاضي عليه وهو يعلم أنهم يشهدون بما لا يعلمون وإن قالوا لا نعلم له وارثا غيره فهذا يكفي.(16/293)
وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله: لا يكفي لأن هذا ليس من الشهادة في شيء فإنهم يشهدون بما يعلمون لا بما لا يعلمون وكما أنهم لا يعلمون ذلك فالقاضي لا يعلم ونحن نسلم أن المشهود به لا يثبت بهذا اللفظ ولكن استحقاق الميراث له بالسبب الذي أثبته الشهود مفسرا إلا أنهم إذا لم يذكروا هذه الزيادة كان على القاضي أن يتلوم فربما يظهر وارث آخر مزاحم له أو مقدم عليه فهم بهذا اللفظ كفوا القاضي مؤنة التلوم ونظروا في ذلك لأنفسهم فتحرزوا عن الكذب والمجازفة لأنهم لو قالوا لا وارث له غيره كانوا مجازفين في ذلك فتحرزوا بقولهم لا نعلم له وارثا غيره وفي الحقيقة مرادهم هو الأول فما يكون من سباب التحرز عن الكذب لا يكون قدحا في شهادتهم.
ولو شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثا بأرض كذا وكذا غير فلان جاز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يجز ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حتى يقولوا مبهمة لا نعلم له وارثا غيره لأن في تخصيصهم مكانا إيهاما أنهم يعلمون له وارثا في غير ذلك(16/294)
ص -134- ... المكان أرأيت لو قالوا لا نعلم له وارثا سواه في هذا المجلس أكان يقتضي بالميراث لهم وأبو حنيفة يقول هذا اللفظ مبهم للمبالغة في بيان أنه لا وارث له غيره ومعناه أن بلده كذا ومولده كذا ومسقط رأسه كذا ولا نعلم له بها وارثا غيره فأحرى أن لا يكون له وارثا آخر في مكان آخر ثم تخصيصهم هذا المكان بالذكر في هذا اللفظ لغو لأن ما لا يعلم المرء لا يختص بمكان دون مكان فهو وما لو أطلقوا سواء وقولهما أن هذا إيهام فلان كان كذلك فهو مفهوم والمفهوم لا يقابل المنطوق والأصل في ذلك ما روي أن ثابت بن الدحداح لما مات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قبيلته: "هل تعرفون له فيكم نسبا؟" قالوا لا إلا أن بن أخت له فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه لابن أخته بن لبانة بن عبد المنذر رضي الله عنه فقد ذكروا أنهم لا يعرفون له فيهم وارثا ونسبا ولم نكلفهم أكثر من ذلك.
ولو ادعى رجلان ولاء رجل واحد فأقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه وهو يملكه ولا يعلمون له وارثا غيره جعلت الولاء بينهما والميراث لأنهما استويا في سبب الاستحقاق والولاء إما أن يعتبر بالنسب ولو أقاما البينة على نسبه كان الميراث بينهما لاستوائهما في النسب أو يجعل الولاء كالملك لأنه أثر من آثار الملك وإذا استويا في إقامة البينة على الملك يقضي بالملك بينهما نصفان فإن أقام أحدهما بينة قبل صاحبه وقضيت له ثم أقام الآخر بعد ذلك بينة لم تقبل منه ولم يشارك الأول لأن الولاء كالنسب من حيث أنه لا يحتمل النقض والفسخ ولا يحتمل النقل من شخص إلى شخص ثم في النسب إذا ترجحت البينة الأولى بالقضاء لم تقبل الثانية بعد ذلك فكذلك في الولاء.(16/295)
ولو شهد رجل على رجل أن مولاه أعتق أمه ثم ولدت بعد العتق لستة أشهر من فلان وهو عبد لفلان فقضى القاضي له بالولاء ثم جاء مولى العبد وأقام البينة أنه كان أعتق أباه فلانا قبل موته وهو لا وارث له غيره جعلت له الميراث والولاء لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا ذلك حكمنا بجر الولاء إلى قوم الأب فكذلك إذا ثبت بالبينة وهذا لأنه ليس في هذه البينة إبطال القضاء الأول فإن القضاء الأول كان قضاء بالولاء لمعتق الأم لأنه لا ولاء له من قبل الأب وهو صحيح ثم بقي ذلك الولاء عند الموت لعدم الدليل المحول لا لوجود الدليل المنفي فإذا ثبت الثاني الدليل المحول ببينته وجب القضاء بالولاء والميراث له بخلاف الأول فهناك البينة الثانية تقوم لإبطال القضاء الأول بطريق المعارضة وقد بينا أن عند المعارضة الأولى يترجح بالقضاء فإن نقض القضاء بدليل محتمل لا يجوز.
وإذا شهدا على موت رجل وأقر أنهما لم يعاينا ذلك لم تجز إلا أن يكون مشهور الموت لأنه إذ لم يكن مشهورا وأقر أنهما لم يعانيا فقد أقر أنهما يشهدان بغير علم وإذا كان مشهور الموت فإنما يشهدان بما يعلمانه بالشهرة وإن قالا نشهد بأنه مات أجزت ذلك وإلا استفسرهما لأن مطلق الشهادة يجب حملها على سبب صحيح كما لو شهد بمطلق الملك قبلت شهادتهما ولا يستفسران أنهما يشهدان بذلك بظاهر اليد أو غيره وكذلك إن(16/296)
ص -135- ... قال: نحن دفناه أو شهدنا جنازته فهذا منهما شهادة بموته لأن الحي لا يدفن ولا يصلي على جنازته وإذا أخبر الرجل المديون به أو المرأة أنه عاين موت فلان فالذي انتهى إليه الخبر في سعة من يشهد على موته قيل معنى هذا إذا اشتهر عند الناس حتى سمعه الشاهد من واحد بعد واحد فأما إذا لم يسمعه إلا من هذا الواحد فإنه لا يجوز له أن يشهد بموته كما في النسب والنكاح وقد بينا وقيل بل في الموت يسعه ذلك إذا كان المخبر ثقة موثوقا به لأن أمر الناس هكذا يكون فالميت إنما يعاينه من يغسله ثم يخبر الناس بذلك فيتعمدون خبره ويعلمون أنه صادق في مقالته فيجوز له أن يعتمد هذا الخبر في الشهادة على موته وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى فصنع أهله ما يصنعون على الميت فإنه لا يسع أحد أن يشهد على موته حتى يخبر به من شهده ممن يثق به لأن مثل هذا الخبر قد يكون حقا وقد يكون باطلا والغالب عند بعد المسافة أنه باطل فلا يعتمده حتى يخبره من يثق به عن معاينة فإذا أخبره بذلك وسعه أن يشهد ألا ترى أنه لو مات ميت فأخرجت جنازته حتى يدفن وسع الجيران أن يشهدوا بموته وإن لم يعاينوا ذلك لأنهم سمعوا ذلك مما عاين.
وإذا تزوج امرأة نكاحا ظاهرا ودخل بها علانية وأقام معها أياما ثم ماتت فإنه يسع الجيران أن يشهدوا على أنها امرأته وإن لم يشهدوا النكاح لأنه اقترن بالنكاح ما أوجب تشهيره أرأيت لو كان بينهما ولد أما كان يسعهم أن يشهدوا أنه ولدهما وإن لم يعاينوا الولادة فإذا كان يجوز هذا فيما ينبني على النكاح فكذلك في النكاح.(16/297)
وإذا شهد شاهدان أن فلانا مات وترك هذه الدار ميراثا لفلان ابنه هذا لا يعلمون له وارثا غيره ولم يدركوا فلانا الميت وترك هذه الدار ميراثا لفلان ابنه هذا لا يعلمون له وارثا غيره ولم يدركوا فلانا الميت فشهادتهم باطلة لأنهم يشهدون بالملك للميت فإن الوراثة خلافة فما لم يثبت الملك للميت لا يخلفه وارثه فيه ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع وإذا كان القاضي يعلم أنهم لم يدركوا فلانا الميت فقد علم أنهم جازفوا في هذه الشهادة وبهذا يستدل أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في مسألة الولاء فيقولان إن الولاء بالعتق لا يثبت للعتق إلا أن يكون مالكا فهم يشهدون بالملك له أو لا ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع ولهذا قال كثير من مشايخنا رحمهم الله تعالى في الوقف أن الشهادة عليه بالتسامع ممن لا يدرك الواقف لا تقبل لأنه ما لم يثبت الملك للواقف لا يثبت الوقف من جهته والشهادة على الملك بالتسامع لا تجوز إلا أن أكثرهم على جواز ذلك في الوقف استحسانا للضرورة الداعية إلى ذلك وتحقيق مقصود الواقف وهو التأبيد في صدقته.
ولو شهدوا على دار في يدي رجل أنها دار جد هذا المدعي وخطته وقد أدركوا الحد لم تجز شهادتهما حتى يجيزوا المواريث لأن المدعي يحتاج إلى إثبات سبب انتقال الملك إليه من الجد وبثبوت الملك للجد لا يحصل هذا المقصود ولا يتمكن القاضي من القضاء له حتى يجيزوا المواريث ولو شهد على إقرار الذي في يديه أنها دار جد هذا أجزت ذلك وجعلتها له إن لم يكن له وارث غيره لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وهذا(16/298)
ص -136- ... لأن الإقرار موجب بنفسه قبل أن يتصل به القضاء بخلاف الشهادة فإنها لا توجب شيئا إلا بقضاء القاضي ولا يتمكن القاضي من القضاء إلا بسبب ثابت عنده ونظير هذه المسألة ما بينا في كتاب الدعوى أنهم إذا شهدوا أنها كانت لابنه وقد مات أبوه لا يقضي له بشيء إلا في قول أبي يوسف الآخر بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار ذي اليد بأنها كانت لابنه وكذلك لو شهدوا أنها كانت من يد المدعي لا يستحق بهذا شيئا بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت في يد المدعي وفي الكتاب أشار إلى الفرق وقال إذا أقر ذو اليد بهذا فقد أخرجها من نصيبه فيخرجها من يده إلا أن يأتي ببينة بحق له فيها وإذا أخرجناها من يده فلا مستحق لها سوى المدعي فتدفع إليه وإذا شهد الشهود بغير إقرار فهم لم يثبتوا للمدعي شيئا إذا لم يجيزوا المواريث إليه وهذا في الحقيقة إشارة إلى ما ذكرنا أن الإقرار موجب بنفسه والشهادة لا توجب شيئا بدون قضاء القاضي.(16/299)
وإذا كانت الدار في يد رجل فأقام بن أخيه البينة أنها دار جده مات وتركها ميراثا لابن الابن وعمه ولا يعلمون له وارثا غيرهما وأن أباه مات وترك نصيبه منها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره وإن أقام الآخر البينة أن أخاه مات قبل أبيه وأن أباه قد ورث منه السدس ثم مات أبوه فورثه هذا فإني أقبل شهادة شهود بن الأخ لأنه هو المدعي ومعنى هذا أنه هو يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينته وذو اليد لا يثبت لنفسه شيئا عليه ولكن يبقى ببينته ما أثبت هو من نصف الدار لنفسه والبينات للإثبات لا للنفي يوضحه أنا إذا قبلنا بينة بن الأخ صار ذو اليد بها مقضيا عليه في نصف الدار وإذا قبلنا بينة ذي اليد لا يصير بن الأخ مقضيا عليه في شيء والقضاء يستدعي مقضيا عليه وكانت بينة بن الأخ أولى بذلك فإن كان لأب الغلام ميراث من تركة سوى الدار لم أقبل بينة واحد منهما على صاحبه لأن كل واحد منهما هنا يثبت لنفسه ببينته شيئا في يد بن الأخ وهو نصف الدار والآخر سدس تركه أخيه التي كانت في يد أبيه بطريق الميراث له من أبيه وكل واحد منهما يصير مقضيا عليه لو قبلنا بينة صاحبه عليه فاستويا من هذا الوجه والأصل أن كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا ألا ترى أن الأب والابن إذا غرقا جميعا في سفينة أو وقع عليهما بيت ولا يعلم أيهما مات أولا لم يرث واحد منهما صاحبه فكذلك هنا لما تحققت المساواة بينهما في التاريخ جعلا كأنهما ماتا معا فيكون ميراث كل واحد منهما لابنه فلا يرث كل واحد منهما من صاحبه.(16/300)
ولو أقام رجل البينة على ميراث رجل أنه مات يوم كذا وهو ابنه لا وارث له غيره وأقامت امرأة البينة أنه تزوجها يوم كذا بعد ذلك اليوم ثم مات بعد ذلك فإني آخذ ببينة المرأة لأنها تثبت المهر والميراث فلا بد من قبول بينتها على ذلك ثم بينتها طاعنة في بينة الابن على تاريخ الموت فمن ضرورة الحكم بصحة النكاح منه بعد ذلك الحكم بحياته ولو أقامت امرأة أخرى البينة بعد ما قضيت بموته في يوم وورثت امرأته أنه تزوجها بعد ذلك الوقت(16/301)
ص -137- ... الذي ذكروا فيه موته قبلت ذلك أيضا لأن هذه الأخرى مدعية مثبتة المهر والميراث لنفسها ثم بينتها طاعنة في البينة الأخرى على تاريخ الموت ولو كان الوارث أقام البينة أن فلانا قتل أباه يوم كذا قضيت بذلك ثم أقامت المرأة البينة أنه تزوجها بعد ذلك اليوم ثم الفت إلى بينتها قال لأن القتل حق لازم والموت ليس فيه حق لازم ومعنى هذا الكلام أن الابن بإثبات فعل القتل على القاتل يثبت لنفسه موجبه من قصاص أو دية فكانت بينته مثبتة وبينة المرأة على النكاح أيضا مثبتة للمهر والميراث لها فلما استويا في الإثبات وترجحت بينة الابن باتصال القضاء بها لم تقبل بينة المرأة بعد ذلك لأن القضاء النافذ لا يجوز إبطاله بطريق المعارضة فأما في الموت الابن لا يثبت لنفسه في إقامة البينة على تاريخ الموت حقا فإن الميراث مستحق له بالموت لا بالتاريخ فإنما بقي هو بتلك البينة النكاح بعده وبينة المرأة تثبت وقد بينا أن النافي من البينتين لا يعارض المثبت فيترجح بينتها ويتبين به بطلان الطلاق الأول كما إذا أثبت سبب إرث مقدم على ما قضى القاضي به.(16/302)
يوضح الفرق أن القتل فعل يتعلق به حكم شرعا والفعل لا يتحقق من العبد إلا في زمان فكان الابن متمكنا من إثبات الفعل عليه في ذلك الزمان بالبينة لإثبات حكمه فأما الموت ليس بفعل من العبد يتعلق به حكم ليتمكن الابن من إثباته في زمان بالبينة وإنما يمكنه من إثبات الخلافة لنفسه بعد موته وفي ذلك لا فرق بين موته في وقت دون وقت ثم الأصل أن بعد المساواة في الإثبات إذا تيقن القاضي بالكذب في إحدى البينتين وقد اتصل القضاء بأحدهما فإنه يعين الكذب في الأخرى ألا ترى أنه لو قامت عليه بينة أنه تزوج هذه المرأة يوم النحر بملكة فقضى القاضي بها ثم شهد شاهدان آخران أنه تزوج هذه الأخرى يوم النحر في ذلك اليوم بخراسان لم تجز الشهادة الثانية لأنا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح جانب الصدق في البينة الأولى باتصال القضاء بها فيتعين الكذب في البينة الثانية فكذلك فيما تقدم من مسألة القتل والله أعلم.
باب طعن الخصم في الشاهد
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهد أن لرجل حقا من الحقوق فقال المشهود عليه هما عبدان فإني لا أقبل شهادتهما حتى أعلم أنهما حران لأن الناس أحرار إلا في أربعة الشهادة والحدود والقصاص والعقل كذا مروى عن علي رضي الله عنه وتفسيره في الشهادة هذا وفي الحد إذا قذف إنسان ثم زعم القاذف أن المقذوف عبد فإنه لا يحد القاذف حتى يثبت المقذوف حريته بالحجة وفي القصاص إذا قطع يد إنسان ثم زعم القاطع أن المقطوعة يد عبد فإنه لا يقضي بالقصاص حتى يثبت حريته بالحجة وفي القتل إذا قتل إنسان خطأ وزعمت العاقلة أنه عبد فلان فإنه لا يقضي عليهم بالدية حتى تقوم البينة على حريته وهذا لأن ثبوت الحرية لكل أحد باعتبار الظاهر إما لأن الدار دار حرية أو لأن الأصل في الناس الحرية فإنهم أولاد آدم وحواء عليهما السلام وقد كان حرين إلا أن الظاهر يدفع به(16/303)
ص -138- ... الاستحقاق ولكن لا يثبت به الاستحقاق لأن الاستحقاق لا يثبت إلا بدليل موجب له ويقال ما عرف ثبوته ليس بدليل منفي بل لعدم الدليل المزيل.
والدليل عليه أن ظاهر اليد يدفع به استحقاق المدعي ولا يستحق به حتى إذا كانت في يده جارية ولها ولد في يد غيره لا يستحق ولدها باعتبار يده فيها إذا عرفنا هذا فنقول في الشهادة إثبات الاستحقاق على المشهود عليه بقول الشاهد الظاهر ولا يكفي لذلك وكذلك في القذف إلزام الحد على القاذف في القصاص وإيجاب العقوبة على القاطع وفي العقل إيجاب الدية على العاقلة وذلك لا يكون إلا باعتبار الحرية فما لم تثبت الحرية بالحجة لا يجوز القضاء بشيء من ذلك فإن قال الشهود نحن أحرار لم نملك قط لم يقبل قولهما حتى يأتيا بالبينة على ذلك وإنما أراد به أنه لا تقبل شهادتهما فأما في قولهما أنا أحرار لم نملك مصدقان في حقهما بطريق الظاهر ولكن لا نقضي بشهادتهما حتى يقيم البينة على حريتهما وإن سأل القاضي عنهما فأخبر أنهما حران فقبل ذلك وأجاز شهادتهما كان حسنا لأن حريتهما من الأسباب التي تعمل شهادتهما إلا بها بمنزلة العدالة فكما أن العدالة تصير معلومة عند القاضي بهذا الطريق فكذلك الحرية.
قال: والباب الأول أحب إلي وأحسن يعني الإثبات بالبينة لأن الأهلية للشهادة لا تثبت بدون الحرية وتثبت بدون العدالة ولأن الحرية والرق من حقوق العباد تجري فيهما الخصومة وطريق الإثبات في مثله البينة فأما العدالة لا تجري فيها الخصومة فيمكن معرفتها بالسؤال عن حاله والحاصل أن الحرية في هذه الحالة أخذت شبهين من أصلين من العدالة لأنها من أسباب قبول الشهادة ومن الملك لأنها لا تجري فيها الخصومة وفيها حق العباد فيوفر حظه عليهما فلشبهها بالعدالة تصير معلومة بالسؤال ولشبهها بالملك تصير معلومة بالبينة وهذا الوجه أقوى وأحسن لأن الحرية تصير مقضيا بها.(16/304)
ولو قالا: قد كنا عبدين فأعتقنا المولى لم نصدقهما إلا ببينة لأن الملك يثبت للمولى عليهما بإقرارهما وإزالة الملك الثابت لا يكون إلا بحجة البينة فإن جاء بالبينة على ذلك قبلت ذلك وأعتقهما وإن كان المولى غائبا لأن المشهود عليه انتصب خصما عن المولى فإنه لا يتمكن من دفع المشهود به عن نفسه إلا بإنكار حريتهما والأصل أن حق الحاضر متى كان متصلا بحق الغائب فإن الحاضر ينتصب خصما عن الغائب ومتى قضى القاضي بالبينة على خصم حاضر فذلك قضاء على من انتصب لهذا الحاضر خصما عنه فإذا جاء المولى وأنكر ذلك لم يلتفت إلى إنكاره وكان من القضاء بالعتق ماضيا لأن الحاضر بمنزلة الوكيل عن الغائب وهذا عندنا.
وقال زفر رحمه الله: لا يقضي بالعتق حتى يحضر المولى ويقام عليه البينة لأن المعتق مدعى عليه واستدل على زفر رحمه الله تعالى بما قال أرأيت لو ادعى قتل رجل أنه قطع يده عمدا أو ادعى عليه قذفا وميراثا وأقام البينة أن مولاه أعتقه وأن هذا قطع يده بعد ذلك أو(16/305)
ص -139- ... قدمه ألم أحكم عليه بما حكم به الحر على الحر فيكون ذلك قضاء على مولاه وإن كان غائبا وكذلك لو أقام رجل البينة على عبد أن مولاه أعتقه وأنه قطع يده بعد ذلك لو استدان منه دينا أو باعه أجزت ذلك وإن جاء المولى فأنكر عتقه لم أكلفه إعادة البينة وزفر رحمه الله تعالى في هذا كله مخالف إلا أن من عادة محمد رحمه الله تعالى الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الشراء والبيع
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل شراء دار في يد رجل وشهد شاهدان وإن لم يسميا الثمن والبائع ينكر ذلك فشهادتهما باطلة لأن الدعوى إن كانت بصفة الشهادة فهي فاسدة وإن كانت مع تسمية الثمن فالشهود لم تشهد بما ادعاه المدعي ثم القاضي يحتاج إلى القضاء بالعقد ويتعذر عليه القضاء بالعقد إذا لم يكن الثمن مسمى لأنه كما لا يصح البيع ابتداء بدون تسمية الثمن فكذلك لا يظهر بالقضاء بدون تسمية الثمن ولا يمكنه أن يقضي بالثمن حين لم تشهد به الشهود وكذلك لو سمى الثمن واختلفا في جنسه أو في مقداره لأن المدعي يكذب أحدهما لا محالة ولأن كل واحد منهما يشهد بعقد غير ما يشهد به صاحبه فالبيع بالدنانير غير البيع بالدراهم ولا يتمكن القاضي من القضاء بواحد من العقدين لانعدام شهادة شاهدين عليه وكذلك إذا شهد أحدهما بالبيع بألف والآخر بالبيع بألف وخمسمائة ويستوي إن كان البائع هو المدعي للبيع أو الشراء.
وفي الخلع إن كانت المرأة هي التي تدعي فكذلك الجواب لأنها تكذب أحد الشاهدين وإن كان الزوج هنا المدعي في الخلع فشهد أحد الشاهدين على ألف والآخر على ألف وخمسمائة فشهادتهما مقبولة في مقدار الألف لأن الفرقة وقعت بإقرار الزوج وهذا منه دعوى الدين عليها في الحاصل وقد اتفق الشاهدان على الألف لفظا ومعنى.(16/306)
وفي النكاح لو كان الزوج هو المدعي للعقد فالشهادة لا تقبل لأن النكاح بألف غير النكاح بألف وخمسمائة والزوج يكذب أحد شاهديه وإن كانت المرأة هي التي تدعي النكاح بألف وخمسمائة فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقبل شهادتهما على مقدار الألف لأن دعواها دعوى المال وقد اتفق الشاهدان على الألف لفظا ومعنى كما في الخلع وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تقبل الشهادة لأن عقد النكاح معاوضة المرأة بالمال كالبيع فكما أن اختلاف الشاهدين في مقدار البدل في البيع يمنع قبول الشهادة فكذلك في النكاح وفرق أبو حنيفة رحمه الله تعالى بينهما وهو أن صحة النكاح تستغني عن تسمية المهر بخلاف البيع فمن هذا الوجه المال كالزائد في النكاح ودعواها فيه دعوى الدين وتمام بيان هذا الفصل في الجامع الصغير وإن اتفق في جميع ذلك غير أنهما اختلفا في المكان والوقت في البيع أو في الإقرار والإنشاء فشهادتهما جائزة وقد بينا هذا.
وإن شهدا على إقرار البائع بالبيع ولم يسميا ثمنا ولم يشهدا بقبض الثمن فالشهادة(16/307)
ص -140- ... باطلة لأن حاجة القاضي إلى القضاء بالعقد ولا يتمكن من ذلك إذا لم يكن الثمن مسمى وإن قال أقر عندنا أنه باعها منه واستوفى الثمن ولم يسم الثمن فهو جائز لأن الحاجة إلى القضاء بالعقد بالملك للمدعي دون القضاء فقد انتهى حكم العقد باستيفاء الثمن ولأن الجهالة إنما تؤثر لأنها تقضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم ألا ترى أن ما لا يحتاج إلى قبضه فجهالته لا تضر وهو المصالح عنه بخلاف ما يحتاج إلى قبضه وهو المصالح عليه فإذا أقر باستيفاء الثمن فلا حاجة هنا إلى تسليم الثمن فجهالته لا تمنع القاضي من القضاء بحكم الإقرار وإذا لم يقبض الثمن لا يجب على البائع تسليم البيع ما لم يصل إليه الثمن فجهالة الثمن في هذه الحالة تمنع القضاء بموجب إقراره وفي الموضعين جميعا الثابت من الإقرار بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو قال بعتها منه ولم استوف الثمن لم يؤمر بتسليمها إليه ولو قال بعتها منه واستوفيت الثمن أمر بتسليمها إليه فكذلك إذا ثبت بالبينة.(16/308)
وإذا ادعى شراء دار وأقام شاهدين عليها غير أنهما لا يعرفان الدار والحدود ولم يسميا شيئا من ذلك فهو باطل لأن المشهود به مجهول ولأن المدعي غير المشهود به فالمدعي شراء دار معينة معلومة والمشهود به شراء دار مجهولة فإن قالا قد سمى البائع والمشتري موضع الدار وحدودها ثم وصفوا ذلك وسموه فهو جائز لأنهم شهدوا بمعلوم وهو الشراء في دار معلومة بذكر الحدود والموضع غير أني أسأل المدعي البينة على ما سمى الشهود من موضع الدار والحدود لأن القاضي يقول للمدعي قد يثبت عندي أنك اشتريت منه دارا حدودها ما سمى الشهود ولكن لا أدري أن هذه الدار المعينة التي يدعيها هي تلك الدار وأن حدودها ما سمى الشهود فثبت ذلك عندي بالبينة فإذا أقام البينة على ذلك حينئذ يتمكن القاضي من القضاء له بالمدعي له بالبينة السابقة وكذلك لو حددوها بثلاثة حدود فقد بينا في أدب القاضي إن ذكر أكثر الحدود وذكر الجميع عندنا سواء استحسانا وأن الشهرة لا تقوم مقام ذكر الحدود في العقار عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك لو ادعى البائع وجحد المشتري في جميع هذه الوجوه لأن الحاجة إلى القضاء بالعقد لا فرق بين أن يكون المدعي هو البائع أو المشتري.(16/309)
دار في يد رجل فأقام رجل عليها شاهدين أنها داره اشتراها من فلان وأقام ذو اليد البينة أنها داره اشتراها من فلان ذلك أيضا فهي للذي في يده لأنهما تصادقا على أن أصل الملك فيهما كان للبائع وادعى كل واحد منهما سبب انتقال الملك إليه وسبب ذي اليد أقوى لأن الشراء مع القبض أقوى من الشراء بدون القبض ولأن تمكنه من القبض دليل سبق عقده فهو أولى إلا أن يؤرخا وتاريخ الخارج أسبق فحينئذ يقضي بها له لأنه أثبت الشراء في وقت لا ينازعه الآخر فيه ولو أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من رجل آخر قضيت بها للمدعي لأن كل واحد منهما هنا يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه أو لا فكأن البائعين حضرا وادعيا الملك المطلق وبينة الخارج في ذلك أولى عندنا فأما في الأول الملك ثابت للبائع بتصادقهما وإنما يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات سبب الانتقال إليه.(16/310)
ص -141- ... يوضح الفرق أن هناك الخارج محتاج إلى إثبات الاستحقاق على البائع وعلى ذي اليد في تثبته ما يثبت له الاستحقاق على البائع وليس فيها مال يثبت الاستحقاق على ذي اليد من غير المالك حادث لجواز أن يكون شراء ذي اليد سابقا وحاجة ذي اليد إلى إثبات الاستحقاق على البائع خاصة ولا حاجة له إلى إثبات الاستحقاق على صاحبه لأن صاحبه غير مستحق لها بيد له فيها وفي بينته ما يثبت له ذلك فأما هنا كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الاستحقاق لبائعه أولا ليترتب عليه استحقاقه بالشراء وفيما هو المقصود بينة الخارج أولى من بينة ذي اليد.(16/311)
دار في يد رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة أنه اشتراها منه بألف درهم فإن وقت أخذ بأول الوقتين لأن صاحب أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه بالشراء في وقت لا ينازعه فيه غيره والآخر بينة إنما أثبت الشراء من غير المالك وإن وقت أحد البينتين دون الأخرى فهي لصاحب الوقت لأن الشراء من غير المالك حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات حتى يثبت سبق التاريخ فالذي لم توقت شهوده إنما أثبت شراءه في الحال وصاحبه أثبت الشراء من حين أرخت شهوده فهو أولى إلا أن تكون الدار في يد الآخر فهي لصاحب اليد حينئذ لأن تمكن ذي اليد من القبض دليل سبق عقده وهذا دليل معاين وفي حق الآخر التاريخ مخبر به وليس الخبر كالمعاينة ولأن حاجة الخارج إلى إثبات الاستحقاق على ذي اليد وليس في بينته ما يوجب ذلك وإن أرخت شهوده لجواز أن يكون شراء ذي اليد سابقا فإن لم يوقتا فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وإن شاء ترك لأن استواء الحجتين الحكم هو القضاء بها بينهما نصفان فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما وببعض الملك قبل البعض والتبعيض في الأملاك المجتمعة عيب فيخير كل واحد منهما إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وإن شاء ترك وكذلك لو كان أحدهما بن البائع أو مكاتبة لأنه في حكم الشراء منه هو كأجنبي آخر فكذلك في دعوى الشراء عليه.(16/312)
دار في يد رجل فأقام رجل البينة أنه اشتراها من ذي اليد وأقام ذو اليد البينة أنه اشتراها من المدعي ولا يدري أي ذلك أول فإنه يقضي بها لذي اليد وتبطل البينتان جميعا لأن كل واحد منهما أثبت إقرار صاحبه بالملك له فكل مشتري مقر بالملك لبائعه وكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري فيجعل هذا بمنزلة إقامة كل واحد منهما البينة على إقرار صاحبه بالملك له وهنا تتهاتر البينتان كما لو سمعنا الإقرار منهما معا ولم يذكر في المسألة اختلافا هنا وقد ذكر في الجامع أن هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله تعالى فإن عند محمد رحمه الله تعالى يقضي بالبينتين جميعا فيجعل كأن ذي اليد اشتراها أو لا وقبضها ثم باعها فيؤمر بتسليمها إلى الخارج لأن القضاء بالعقدين ممكن بهذا الطريق وقد بينا المسألة بفروعها في الجامع قال ألا ترى أن كل واحد منهما لو أقام البينة أن القاضي قضى له بهذه الدار على صاحبه أنه يترك في يد ذي اليد وتتهاتر البينتان إلا أن محمدا رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول
يوضح الفرق أن هناك الخارج محتاج إلى إثبات الاستحقاق على البائع وعلى ذي اليد في تثبته ما يثبت له الاستحقاق على البائع وليس فيها مال يثبت الاستحقاق على ذي اليد من غير المالك حادث لجواز أن يكون شراء ذي اليد سابقا وحاجة ذي اليد إلى إثبات الاستحقاق على البائع خاصة ولا حاجة له إلى إثبات الاستحقاق على صاحبه لأن صاحبه غير مستحق لها بيد له فيها وفي بينته ما يثبت له ذلك فأما هنا كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الاستحقاق لبائعه أولا ليترتب عليه استحقاقه بالشراء وفيما هو المقصود بينة الخارج أولى من بينة ذي اليد.(16/313)
دار في يد رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة أنه اشتراها منه بألف درهم فإن وقت أخذ بأول الوقتين لأن صاحب أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه بالشراء في وقت لا ينازعه فيه غيره والآخر بينة إنما أثبت الشراء من غير المالك وإن وقت أحد البينتين دون الأخرى فهي لصاحب الوقت لأن الشراء من غير المالك حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات حتى يثبت سبق التاريخ فالذي لم توقت شهوده إنما أثبت شراءه في الحال وصاحبه أثبت الشراء من حين أرخت شهوده فهو أولى إلا أن تكون الدار في يد الآخر فهي لصاحب اليد حينئذ لأن تمكن ذي اليد من القبض دليل سبق عقده وهذا دليل معاين وفي حق الآخر التاريخ مخبر به وليس الخبر كالمعاينة ولأن حاجة الخارج إلى إثبات الاستحقاق على ذي اليد وليس في بينته ما يوجب ذلك وإن أرخت شهوده لجواز أن يكون شراء ذي اليد سابقا فإن لم يوقتا فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وإن شاء ترك لأن استواء الحجتين الحكم هو القضاء بها بينهما نصفان فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما وببعض الملك قبل البعض والتبعيض في الأملاك المجتمعة عيب فيخير كل واحد منهما إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وإن شاء ترك وكذلك لو كان أحدهما بن البائع أو مكاتبة لأنه في حكم الشراء منه هو كأجنبي آخر فكذلك في دعوى الشراء عليه.(16/314)
دار في يد رجل فأقام رجل البينة أنه اشتراها من ذي اليد وأقام ذو اليد البينة أنه اشتراها من المدعي ولا يدري أي ذلك أول فإنه يقضي بها لذي اليد وتبطل البينتان جميعا لأن كل واحد منهما أثبت إقرار صاحبه بالملك له فكل مشتري مقر بالملك لبائعه وكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري فيجعل هذا بمنزلة إقامة كل واحد منهما البينة على إقرار صاحبه بالملك له وهنا تتهاتر البينتان كما لو سمعنا الإقرار منهما معا ولم يذكر في المسألة اختلافا هنا وقد ذكر في الجامع أن هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله تعالى فإن عند محمد رحمه الله تعالى يقضي بالبينتين جميعا فيجعل كأن ذي اليد اشتراها أو لا وقبضها ثم باعها فيؤمر بتسليمها إلى الخارج لأن القضاء بالعقدين ممكن بهذا الطريق وقد بينا المسألة بفروعها في الجامع قال ألا ترى أن كل واحد منهما لو أقام البينة أن القاضي قضى له بهذه الدار على صاحبه أنه يترك في يد ذي اليد وتتهاتر البينتان إلا أن محمدا رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول(16/315)
ص -142- ... في الشراء إثبات الترتيب بين العقدين ممكن باعتبار اليد لأني إن جعلت شراء ذي اليد سابقا جاز بيعه بعد القبض وإن جعلت شراء الخارج سابقا لم يجز بيعه من البائع قبل القبض ومثل هذا الترتيب في القضاء غير ممكن ولأن الشراء يتأكد بالقبض ولهذا يستفاد به ملك التصرف العقار في ذلك والمنقول عندي سواء فيستقيم أن يجعل قبض ذي اليد صادرا عند عقده أو يجعل ذلك دليل سبق عقده فأما القضاء لا يتأكد بالقبض بل متأكد بنفسه فتتحقق فيه المعارضة بين البينتين.
دار في يد رجل فأقام البينة أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان وأقام فلان البينة أنه اشتراها منه في شوال بخمسمائة درهم لأن القضاء بالعقدين ممكن والبينات حجج فعند إمكان العمل بهما لا يجوز إلغاء أحدهما فيجعل كأنه باعها في رمضان بألف ثم باعها في شوال بخمسمائة فيكون العقد الثاني فاسخا للعقد الأول ولو عاينا الشرائين كان الشراء الثاني فاسخا للأول والدار له بالثمن الثاني وكذلك لو أقام فلان البينة أنه وهبها له في شوال على أن يعوضه خمسمائة وقبضها جميعا لأن الهبة بشرط العوض بعد التقاضي بمنزلة البيع فهذا وإقامة البينة على الشراء في شوال بخمسمائة سواء ويكون العقد الثاني فاسخا للأول ولو كان أقام البينة أنه ارتهنها منه في شوال بخمسمائة أمضيت البيع بألف في رمضان وقضيت له من ذلك بخمسمائة سواء الذي أثبت أنه أعطاه في شوال وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.(16/316)
وقال محمد رحمه الله تعالى بينة المرتهن أولى والرهن في شوال ينقض دعوى البائع البيع في رمضان ومعنى هذا الكلام أن المرتهن أثبت ببينته إقرار الراهن بالرهن منه في شوال فكأنا سمعنا منه هذا الإقرار لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أقر هو بذلك لم يصح منه بعد ذلك دعوى البيع في رمضان للتناقض فالبائع لا يرهن المبيع من المشتري وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا البيع أقوى من الرهن لأن البيع يوجب الملك في البدلين والرهن لا يوجب ذلك فعند تعذر العمل بالبينتين يترجح الأقوى وهو البيع وكما أن المرتهن أثبت إقرار الرهن بالرهن فالبائع أثبت إقرار المشتري بالشراء منه في رمضان وذلك يمنعه من دعوى الرهن في شوال فلما وقع التعارض في هذا رجحنا أقوى الحجتين وهو حجة البيع.
وفي الكتاب قال: ليس الرهن كالهبة بالعوض لأن الهبة بالعوض بيع والرهن ليس ببيع فقد يرهنك الرجل دارك ولا يبيعك دارك ومعنى هذا أن الرهن دون البيع فلا يكون ناقضا للبيع ألا ترى أنا لو عاينا العقدين لم ينتقض البيع بالرهن وهو معنى قوله قد يرهنك دارك ولو عاينا البيعين انتقض الأول بالثاني فبانتقاض الأول الدار تعود إلى البائع فهذا معنى قوله لا يبيعك دارك.
دار في يد رجل فادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة أنه اشتراها بألف وكفل عنه صاحبه المدعي معه فإن علم الأول منهما قضى له بها وإن لم يعلم فلكل واحد منهما(16/317)
ص -143- ... أن يأخذ نصفها بنصف الألف إن شاء لاستواء الحجتين فإن أخذاها فالكفالة لازمة لكل واحد منهما على صاحبه من قبل أنهما ليسا بشريكين ومعنى هذا أنه يقضي لكل واحد منهما بنصف الدار بشراء يفرد هو به بلا شركة بينهما في العقد ولو عاينا الشرائين بهذه الصفة بشرط الكفالة من كل واحد منهما على صاحبه وكفالة صاحبه له بذلك كانت الكفالة لازمة فكذلك إذا قضى بذلك بالبينة.
وإذا أقام رجل البينة أنه اشترى دارا في يد رجل بألف درهم وقال ذو اليد لم أبع ثم أقام البائع البينة على أنه قد رد عليه الدار فإني أقبل ذلك منه وانقض البيع ولا يبطل إنكاره البيع ببينة لأن إنكاره ليس بإكذاب منه لشهوده وأنه في الإنكار يقول لا بيع بيننا فيها وبعد ما رد عليه الدار لا بيع بينهما فيها ولو قال لم يجر بيننا بيع فهو متمكن من دعوى الدار مع إصراره على الكلام الأول بأن يقول لم يكن بيننا بيع ولكنه ادعى هذه الدعوى مرة ثم بدا له فيها فرد الدار علي فعرفنا أن هذا الإنكار ليس بإكذاب منه لشهوده.(16/318)
وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل وأقام البينة أن اباه اشتراها منه بألف وقد مات أبوه والبائع ينكر فإني لا أكلفه البينة انه مات وتركها ميراثا ولكن أسأله البينة أنه لا يعلم لابنه وارثا غيره فإذا أقام على ذلك بينة أمرته أن ينقد الألف ويقبض الدار لأن الإبن قائم مقام الأب بعد موته ولو حضر الأب في حياته وأقام البينة أنه اشتراها منه بألف درهم أمر بتسليم الثمن وقبض الدار وكذلك الابن إذا ثبت ذلك بعد موت أبيه إلا أن من الجائز أن معه من يزاحمه في الميراث فيؤمر بإقامة البينة على أنه لا يعلم له وارثا غيره وإن لم يقم البينة على ذلك تلوم القاضي فيه زمانا فقد بينا هذا في كتاب الدعوى ولو كانت الدار في يد رجل غير البائع سأله البينة أن أباه مات وتركها ميراثا له لأن هنا لو حضر الأب في حياته وأقام البينة على ذي اليد أنه اشترى هذه الدار من فلان بألف وذو اليد غير البائع لا يستحق به شيئا ما لم يثبت الملك لمورثه وذلك بأن يشهد الشهود أنه تركها ميراثا كما لو أقام الأب البينة أنها ملكه اشتراها من فلان قال في الكتاب وليس هذا كالأولى لأن الأولى هي في يده رهن بالثمن بمنزلة رجل أقام البينة أن أباه رهن هذه الدار عند هذا بألف درهم وقد مات الأب ولا وارث له غيره وجاء بالألف ينقدها ومعنى هذا أن الدار إذا كانت في يد البائع فالوارث بإقامة البينة على الشراء أثبت إقرار ذي اليد بالملك لمورثه ولكنها محبوسة في يده بالثمن كالمرهونة فيؤمر بأداء الثمن وقبضها وإذا كانت في يد غير البائع فالوارث بإقامة البينة على الشراء ما أثبت إقرار ذي اليد بالملك لمورثه إنما أثبت إقرار البائع بذلك والملك للبائع غير ثابت فيها حتى يثبت بإقراره الملك لمورثه فلا بد له من إقامة البينة على ملك مورثه عند موته وذلك بأن يشهد الشهود أنه تركها ميراثا.(16/319)
وإذا ادعى رجل دارا في يد رجلين فأقام البينة أن أحدهما باعه الدار وسلم الآخر ولا يعرف الشهود الذي باع من الذي سلم فشهادتهم باطلة لأن المشهود عليه بالبيع مجهول(16/320)
ص -144- ... والمشهود عليه بالتسليم كذلك وما لم يبين الشاهد المشهود عليه بالبيع فهو مجهول والمشهود عليه بالتسليم كذلك وما لم يبين الشاهد المشهود عليه في شهادته لا تكون شهادته حجة ولأنهم تحملوا الشهادة على معين منهما ثم منعوا تلك الشهادة حين لم يعرفوا البائع بعينه وكذلك دار في يد رجل أقام البينة أنه باعها من أحد هذين الرجلين ولا يعرفونه بعينه فشهادتهم باطلة لجهالة المشهود عليه.
دار في يد رجل فادعى رجل أنه اشتراها كلها بألف وادعى آخر أنه اشترى نصفها بخمسمائة وادعى آخر أنه اشترى ثلثها بستمائة درهم وأقاموا البينة فهم بالخيار إن شاؤوا أخذوها وإن شاؤوا تركوها لأن عند تعارض البينات لا بد من أن تتفرق الصفقة على كل واحد منهم فيما أثبت شراءهم فيه فالخيار كذلك فإن أخذوها كان لصاحب الجميع المثلث خاصة وكان السدس بينه وبين صاحب الثلثين نصفين وكان النصف بينهم أثلاثا ولزم كل واحد منهم حصة ما أخذ من الثمن في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصل هذه المسألة أن القسمة في هذا الفصل على طريق المنازعة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى على طريق العول وقد بينا هذا الفصل في شرح كتاب الدعوى وجمعنا فيها نظائر هذه المسألة وأضدادها فنقول في تخريج قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا منازعة في الثلث لمدعي النصف ومدعي الثلثين ومدعي الجميع يدعي ذلك فيسلم له الثلث ثم ما زاد على النصف إلى تمام الثلثين وهو السدس لا منازعة فيه لصاحب الثلث وقد استوى فيه حجة صاحب الثلثين وصاحب الجميع فيقضي بينهما نصفان وفي النصف استوى حجة صاحب الكل والثلثين والنصف فيقضي به بينهم أثلاثا وسهام الدار في الحاصل اثني عشر لحاجتنا إلى سدس يقسم نصفين فصاحب الجميع أخذ مرة أربعة ومرة سهما ومرة سهمين فإنه ما يسلم له سبعة أسهم من اثني عشر سهما وذلك نصف الدار ونصف سدسها فيلزمه ذلك القدر من الثمن وصاحب(16/321)
الثلثين أخذ مرة سهما ومرة سهمين وذلك ثلاثة وهو ربع الدار وصاحب النصف ما أخذ إلا سهمين وهو سدس الدار فأما عندهما القسمة على طريق العول وأصل سهام الدار ستة فصاحب الجميع يضرب بستة وصاحب الثلثين بأربعة وصاحب النصف بثلاثة فتكون جملة هذه السهام ثلاثة عشر ويقسم الدار بينهم على ذلك.
فإن ادعاها رجلان وأقام أحدهما البينة على شراء الجميع والآخر البينة على شراء النصف ولصاحب الجميع ثلاثة أرباع الدار لأن النصف سالم له بلا منازعة ونصف النصف الآخر بالمنازعة ولصاحب النصف ربعها في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما القسمة على طريق العول فتكون الدار بينهما أثلاثا وإن ادعى أحدهما الرهن والقبض والآخر الشراء بألف والقبض وأقام البينة فإن عرف الأول فهي للأول لأن مدعي الرهن إذا أثبت حقه في وقت لا ينازعه الآخر فيه فشراء الآخر بعد لا يجوز بدون إجازته وإن لم يعلم فصاحب الشراء أولى لأن الشراء أقوى من الرهن لأن الشراء موجب الملك في البدلين(16/322)
ص -145- ... والرهن لا يوجب لأن الشراء يلزم بنفسه وإن لم يتصل به القبض والرهن لا يتم إلا بالقبض والشراء يلزم من الجانبين والرهن لا يلزم في جانب المرتهن لتمكنه من الرد متى شاء والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي.
فإن أقام أحدهما البينة على الشراء والآخر على الهبة والصدقة فصاحب الشراء أولى لأن الشراء عقد معاوضة يلزم بنفسه وموجب الملك في البدلين فيكون أقوى من التبرع الذي لا يتم بالقبض فإن أثبت صاحب التبرع قبضه سابقا فهو أولى لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه الآخر فيه وكذلك إن كانت الدار في يد صاحب الصدقة ولا يدري أيهما أول فصاحب الصدقة أولى لأن تمكنه من القبض دليل سبق عقده فيكون هو أولى إلا أن يقيم صاحب الشراء البينة أنه أولى وإن أقام كل واحد منهما البينة أنه ارتهنها بألف ففي القياس لا يكون رهنا لواحد منهما وبهذا نأخذ وفي الاستحسان يكون لكل واحد منهما نصفها رهنا لأن كل واحد منهما أثبت الرهن منه بالبينة والقضاء بالبينتين ممكن فإن رهن الدار الواحدة من رجلين بدين لهما عليه صحيح.
ووجه القياس أن الحجتين لما استوتا فلا بد من القضاء لكل واحد منهما بالنصف وإثبات حكم الرهن لكل واحد منهما في النصف شائعا غير ممكن فتبطل البينتان كما لو أقام رجلان كل واحد منهما البينة على نكاح امرأة واحدة وأخذنا بالقياس لأن وجه القياس أقوى فإن في الرهن من رجلين العقد واحد وكل واحد منهما راض بثبوت حق صاحبه في الحبس فأمكن إثبات ملك اليد الذي هو موجب الرهن لهما في المحل من غير شيوع بأن يجعل كأن العين كلها محبوسة بدين كل واحد منهما ولا يتأتى ذلك هنا لأن كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه بعقد على حدة ولا يرضى كل واحد منهما بثبوت حق صاحبه معه فلا بد من القضاء لكل واحد منهما بالنصف وإن رهنها من رجلين النصف من هذا بدينه والنصف من هذا بدينه لم يجز فلهذا نأخذ بالقياس.(16/323)
فإن ادعى أحدهما الرهن والقبض وادعى الآخر الهبة على عوض والتقابض فأقام البينة فإنه يقضي بهذا للذي يدعي الهبة على عوض لأن الهبة بشرط العوض بعد التقابض بمنزلة البيع وقد بينا أنه يترجح دعوى الشراء على دعوى الرهن عند تعارض الحجج ولو كانت هبة بغير عوض قضيت بها لصاحب الرهن من قبل أنه قد نفذ ماله فيه وقد كان ينبغي في قياس القول الذي قلنا قبل هذا أن يكون لصاحب الهبة ومعنى هذا أن صاحب الهبة في القياس أولى لأنه يثبت ببينته مالك العين لنفسه والمرتهن لا يثبت ذلك ببينته وكل واحد من العقدين لا يتم إلا بالقبض فيترجح الموجب للملك في العين منهما.
وفي الاستحسان الرهن أولى لأنه عقد ضمان فالمقبوض بحكم الرهن بما يقابله من الدين والمقبوض بحكم الهبة لا يكون مضمونا أقوى من عقد التبرع فلهذا كانت بينة صاحب الرهن أولى وللقياس وجه آخر وهو أن الرهن لا يرد على الهبة والهبة ترد على الرهن(16/324)
ص -146- ... فإنه بعد الهبة منه لو رهنه كان بإطلاق وبعد الرهن لو وهبه من المرتهن كان صحيحا فعند التعارض يترجح الوارد لكن في الاستحسان قال لا بد من إثبات حق المرتهن فثبوت الملك للمرهون له لا يمنع ثبوت حق المرتهن فيها فإن الواهب إذا رهن الموهوب بدينه برضاء الموهوب له جاز ولا يمكن إثبات الهبة مع ثبوت حق المرتهن فإنه بعد الرهن لو وهب برضاء المرتهن وسلم يبطل حق المرتهن فلهذا جعلنا الرهن أولى من الهبة وإن أقام كل واحد منهما البينة أنه تصدق بها عليه وقبضها لم يقض لواحد منهما لأنه إنما يقضي لكل واحد منهما بنصفها والهبة لا تتم في المشاع الذي يحتمل القسمة وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما ينبغي أن يقضى بها بينهما نصفان بمنزلة هبة الدار من رجلين والأصح أن هذا قولهم جميعا لأنهما يجوزان ذلك عند اتحاد العقد والاتحاد في جانب الواهب فأما إذا وهب النصف من كل واحد منهما في عقد على حدة لا يجوز وهنا كل واحد منهما أثبت ببينته الهبة منه في عقد على حدة فلهذا لا يقضى لكل واحد منهما بنصفها فإن شهدت أحدهما أنه أول فهي له لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه الآخر فيه وإن لم يشهدوا بذلك وهي في يد أحدهما فهي لذي اليد لأن تمكنه من القبض دليل سبق عقده.(16/325)
وإذا كانت الدار في يد ثلاثة رهط فادعى أحدهم الجميع والآخر النصف وادعى الثالث الثلثين وليست لهم بينة فلكل واحد منهم ما في يده لأن في يد كل واحد منهم ثلث الدار فدعوى كل واحد منهم ينصرف إلى مافي يده ولأن قوله مقدم فيه على قول الخارج لأنه مستحق لما في يده باعتبار ظاهر اليد ويحلف كل واحد منهما على دعوى الآخر لأن صاحب الجميع يدعي لنفسه جميع مافي يد صاحبيه وهما ينكران ذلك وصاحب الثلثين يدعي نصف ما في يد كل واحد من صاحبيه وهما ينكران ذلك فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبيه فإن حلفوا فلكل واحد منهم الثلث باعتبار يده وإن نكلوا عن اليمين في دعوى صاحب الجميع وحلف صاحب الجميع لهما فالدار كلها له لأن نكولهما كإقرارهما له بذلك أو كبدلهما له ما في أيديهما ولكن هذا إذا حلف صاحب الجميع لهما وحلف كل واحد منهما لصاحبه أيضا.
وإن نكلوا عن اليمين لصاحب الثلثين وحلفوا لصاحب الجميع والنصف كان لصاحب الثلثين الذي في يده ويأخذ نصف ما في يد كل واحد من صاحبه لأنه يدعي ثلثي الدار ونصف ذلك وهو الثلث في يده ونصفه في يد كل واحد منهما سدس الجميع وذلك نصف ما في يد كل واحد منهما ونكولهما بمنزلة الإقرار وإن نكلوا عن اليمين لصاحب النصف وحلفوا لصاحب الثلثين وصاحب الجميع فصاحب النصف يأخذ ربع ما في يد كل واحد من صاحبيه لأنه يدعي نصف الدار فثلثا ذلك النصف في يده والثلث في يد صاحبيه وذلك السدس في يد كل واحد منهما نصف سدس الجميع وهو ربع الثلث الذي في يده فكل واحد منهما بالنكول صار مقرا له بذلك.(16/326)
ص -147- ... وإن نكل صاحب الجميع عن اليمين لصاحب النصف وحده وحلف بعضهم لبعض فصاحب النصف يأخذ مما في يد صاحب الجميع ربع ما في يده وهو نصف سدس جميع الدار لأنه بالنكول صار مقرى له بالقدر الذي ادعاه في يده نصف سدس جميع الدار وإن قامت لهم جميعا البينة فلصاحب النصف الثمن ولصاحب الثلثين الربع ولصاحب الجميع خمسة عشر وسهما من أربعة وعشرين سهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن بينة كل واحد منهم لم تقبل فيما في يده وتقبل فيه بينة الآخر ثم القسمة عنده على طريق المنازعة في الثلث الذي في يد صاحب النصف تقبل فيه بينة صاحب الجميع وصاحب الثلثين ثم نصف ذلك الثلث يسلم لصاحب الجميع بلا منازعة والنصف الآخر بينهما نصفان للمنازعة فيحتاج إلى حساب ينقسم ثلاثة أرباع وذلك اثنا عشر فصارت سهام الدار على اثني عشر سهما ففي يد صاحب الجميع ثلث الدار وصاحب الثلثين يدعي نصف ذلك وصاحب النصف يدعي ربع ذلك فيقضي لكل واحد منهما بمقدار ما ادعى من ذلك وفي يد صاحب الثلثين أربعة صاحب الجميع يدعي جميع ذلك وصاحب النصف ربع ذلك وثلاثة أرباعه يسلم لصاحب الجميع والربع وهو سهم واحد استوت منازعتهما فيه فكان بينهما نصفان فانكسر بالأنصاف فاضعف السهام فلهذا صارت الدار سهام أربعة وعشرين في يد كل واحد منهم ثمانية ثم سلم لصاحب الجميع ما في يد صاحب النصف ستة وما في يد صاحب الثلثين سبعة وبقي له مما كان في يده سهمان فجملة ذلك خمسة عشر سهما وصاحب الثلثين أخذ من يد صاحب النصف سهمين ومن يد صاحب الجميع أربعة فذلك سنة وهو ربع جميع الدار وصاحب النصف أخذ من يد صاحب الجميع سهمين ومن يد صاحب الثلثين سهما فذلك ثلاثة وهو ثمن الدار وقد بينا تخريج المسألة على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في كتاب الدعوى في اعتبار القسمة على طريق العول فإن السهام عندهما ترتفع إلى مائة وثمانين فلم يعد هنا كراهة التطويل وكذلك إذا لم يكن بينة ونكلوا عن(16/327)
اليمين فهو وما لو أقام البينة في حكم الاستحقاق والتخريج سواء.
وإذا كانت الدار في يد رجلين وعبد أحدهما والعبد مأذون عليه دين وكل واحد منهم يدعي الدار كلها فهي بينهم أثلاثا لأن المولى من كسب عبده المديون كالأجنبي فإن حق غرمائه في كسبه مقدم على حق المولى فتظهر يده في معارضة يد المولى كيد المكاتب فإن لم يكن على العبد دين فالدار بين الحرين نصفان لأن كسب العبد هنا حق مولاه ويده من وجه كيد مولاه فلا معتبر بيده في معارضة يد المولى وإنما يبقى المعتبر في الدار يد المولى ويد الأجنبي فهي بينهما نصفان بمنزلة ثوب ينازع فيه رجلان وفي يد أحدهما عامة الثوب وفي يد الآخر طرف الثوب فإنه يقضي به بينهما نصفان.
دار في يد رجل يدعي رجل أنه اشتراها من آخر وهو يملكها يوم باعها وأقام البينة وذو اليد يقول ليست لي فإني أقضي بالدار للمدعي لأنه أثبت الملك لنفسه بإثباته الشراء(16/328)
ص -148- ... ممن كان مالكها وذو اليد لم يخرج من خصومته بقوله ليست لي فإنه كان خصما له باعتبار يده فيها وبهذا اللفظ لا يتبين أن يده فيها ليست بيد خصومة فقضى بالدار للمدعي إلا أن يقيم ذو اليد البينة أنها عارية في يده أو بإجارة أو بوكالة بالقيام عليها من رجل غير البائع فإن أقام على ذلك بينة فلا خصومة بينهما لأنه أثبت بأن يده فيها يد حفظ لا يد خصومة وهذه مخمسة كتاب الدعوى فإن جاء المشتري ببينة أن ذلك الرجل سلطه على قبضها من هذا الساكن قبضها وقضى له بذلك لأنه أثبت ببينته أنه أحق بحفظها منه وأنه ثبت له حق نقلها من يد ذي اليد إلى يد نفسه بأمر صاحبها إياه بذلك ولو عاين ما أثبته البينة كان له حق قبضها فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة والله أعلم.
باب ما يكون بين الرجلين فيه خصومة
قال رحمه الله: دار في يد رجل رهن والراهن غائب فادعاها رجل وأقام البينة فإن أقام المرتهن البينة أنها رهن في يده فلا خصومة بينهما لأنه أثبت ببينته أن يده فيها يد حفظ لا يد خصومة فالمرهون عينه أمانة في يد المرتهن بمنزلة الوديعة ولئن كان مضمونا فهو ضمان لا يوجب الملك له في العين بحال ولو كان مضمونا ضمانا يوجب الملك له إذا تقرر كالمغصوب لم يكن خصما فيه لمدعي الملك فإذا كان دون ذلك أولى وكذلك لو كان المرتهن الذي الدار في يده غائبا والراهن حاضرا فلا خصومة بينه وبين المدعي لأن دعوى الملك لا تسمع في العين إلا على ذي اليد واليد فيها مستحقة للمرتهن وهو غائب والإجارة والعارية في ذلك كالرهن وإن لم يقم ذو اليد البينة على ذلك فهو خصم لظهور يده فيها ومنفعة المدعي منها بيده فلا يخرج من خصومته بمجرد قوله وكذلك لو قال إنها ليست لي ولم ينسبها إلى أحد فهو خصم فيها لأن بينته على هذا لا تقبل وبدون البينة لا يخرج من خصومته.(16/329)
يوضحه أنه إنما يخرج ذو اليد من الخصومة إذا أحال المدعي على رجل معروف يتمكن من الخصومة معه حتى لو قال هو لرجل عارية عندي وأقام البينة على ذلك لم تندفع الخصومة عنه فلان لا تندفع بقوله ليست لي أولى.
وإن أقر المدعي أنها في يده بإجارة أو عارية أو رهن فلا خصومة بينهما فيها لأن إقراره ملزم إياه وقد أقر أنه ليس بخصم له وإن كان المدعي ادعى أنه اشتراها من فلان وادعى ذو اليد أن فلانا ذلك أسكنها إياه ولم يقم البينة على ذلك فلا خصومة بينهما لأنهما تصادقا على أن أصل الملك فيها لفلان فتكون أصولها إلى يد ذي اليد من جهة فلان وفلان ذلك لو حضر لم يكن بينه وبين ذي اليد خصومة لإقرار ذي اليد له بها عليه فكذلك لا خصومة بينه وبين من يدعي تلقي الملك من جهة فلان إلا أن يقيم المدعي البينة أن البائع وكله بقبضها منه فإذا أقام البينة على ذلك يجب على ذي اليد دفعها إليه لأنه أثبت البينة أنه أحق بإمساكها وإثبات اليد عليها من ذي اليد والعروض في جميع ما ذكر كالعقار.(16/330)
ص -149- ... وإذا كانت الدار بين شريكين فغاب أحدهما فادعى رجل أنه اشترى من الغائب نصيبه لم يكن الشريك خصما له في ذلك لأنه ادعى سبب ملك جديد بينه وبين الغائب في نصيبه والحاضر ليس بخصم عن الغائب فيما يدعي قبله ولأن ذا اليد مقر أن يده في نصيب الغائب من جهته فلا يكون خصما لمن يدعي بملكه عليه وإن ادعى أنه اشتراها أو بعضها من الميت الذي ورثوها منه كان الحاضر خصما عن نفسه وعن الغائب لأنه يدعي سبب الاستحقاق على الميت وأحد الورثة خصم عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت كدعوى الدين ويستوي إن كانوا قسموا الدار أو لم يقسموا لأن قسمتهم في حق المدعي إذا ثبت فشراؤه باطل.
دار في يد رجل بشراء فاسد فادعاها آخر فالمشتري خصم فيها لأن المشتري يملك رقبتها وكل من يملك الرقبة أو يدعيها خصم له وهذا بناء على أصلنا أن الشراء الفاسد موجب للملك بعد القبض وإنما نص على حكم الملك هنا.(16/331)
دار في يد رجل فادعاها آخر وأقام كل واحد منهما البينة أنه اشتراها من يد رجل واحد والمدعي هو الأول ولم ينقد الثمن والبائع غائب فإني أقضي بها للمدعي لأن ذا اليد زعم أنها ملكه فيكون خصما فيها للمدعي وإنما يزعم أنه يملكها من جهة البائع فيكون خصما عنه في إثبات سبب الملك عليه وقد أثبت المدعي تقدم شرائه بالبينة فيقضي بالدار له ويستوفي منه الثمن فإن كان ذو اليد قد نقد الثمن أعطيته الثمن قصاصا لأنه استحق الرجوع على البائع بما أدى إليه من الثمن وقد ظفر بماله من جنس حقه فيأخذ مقدار حقه من ذلك وللقاضي أن يعينه عليه لما يثبت حق الأخذ وإن كان فيه فضل أمسكه على البائع لأنه مال الغائب فيحفظه عليه وهذا إذا كان البائع أقر عند القاضي بقبض الثمن من ذي اليد قبل غيبته فإن لم يكن كذلك وأقام ذو اليد البينة على أنه كان أعطاه الثمن لم يقض القاضي بشيء لأنه يقيم البينة على الغائب ولا يقضي القاضي على الغائب بالبينة إذا لم يحضر عنه خصم وإن كان ذو اليد لم ينقد للبائع الثمن أو كانت الدار في يده بهبة أو صدقة دفعتها إلى المدعي لإثباته سبب الملك فيها بتاريخ سابق وأخذت الثمن منه للبائع لأنه مال الغائب فيحفظ عليه والحاصل أن المشتري يحتاج إلى إثبات الملك على البيع ينتفع به ويتصرف فيه ولا يتمكن من ذلك إلا بنقد الثمن فالقاضي ينظر لهما فيستوفي الثمن منه لمراعاة حق الغائب ويسلم الدار إليه ليتوصل الانتفاع بملكه.
رجل باع جارية من رجل ثم غاب المشتري ولا يدري أين هو فأقام البائع على ذلك بينة فإن القاضي يسمع بينته لأنه يزعم أنه قد وجب على القاضي النظر له وللمفقود في ماله فإذا أثبت ذلك بالحجة قبل القاضي ذلك منه وباع الجارية على المشتري بطريق حفظ ملكه عليه لأن عين الملك لا تبقى له بدون النفقة وحفظ الثمن أيسر عليه من حفظ العين فإذا باعها نقد البائع الثمن لأنه ظفر بجنس حقه من مال غريمه واستوثق منه بكفيل نظرا منه(16/332)
ص -150- ... للغائب لجواز أن يكون قد استوفى الثمن وإبراء المشتري من ذلك فإن كان فيه فضل أمسك الفضل للمشتري وإن كان وضيعه فذلك على المشتري لأن قبض القاضي له الجارية كقبض المشتري إياها بنفسه فيه يتقرر عليه جميع الثمن ويطالبه البائع بمقدار الوضيعة إذا حضر وإن كان أبرأه المشتري لم يبع القاضي الجارية لأن ثبوت الولاية للقاضي بطريق النظر منه لهما وذلك عند الضرورة إذا كان لا يوقف على موضع المشتري فأما إذا كان يعرف ذلك فالبائع متمكن من أن يبيعه ويطالبه بالثمن وملكه مضمون على البائع بالثمن فليس للقاضي أن يبطل عليه عين ملكه لاتصال البائع إلى حقه والله أعلم بالصواب.
باب اختلاف الشهادة
قال رحمه الله: شاهدان شهدا أن فلانا طلق امرأته فشهد أحدهما أنه طلقها يوم الجمعة بالبصرة والآخر أنه طلقها في ذلك اليوم بعينه بالكوفة لم تقبل شهادتهما لأنا تيقنا بكذب أحدهما فإن الإنسان في يوم واحد لا يكون بالبصرة والكوفة ألا ترى أنه لو شهد بكل واحد من اللفظين رجلان لم تقبل الشهادة لهذا فإذا شهد لكل واحد منهما رجل واحد أولى بخلاف ما إذا شهد أحدهما أنه طلقها بالكوفة والآخر أنه طلقها بالبصرة ولم يوقتا وقتا فهناك الشهادة تقبل لأن الطلاق كلام يتكرر فلا يختلف المشهود به باختلاف الشاهدين في المكان.(16/333)
رجل يدعي دارا في يد رجل أنها له وشهد له بها شاهدان أحدهما بالشراء والآخر بالهبة فالشهادة باطلة لأن المدعي لا بد أن يدعي أحد السببين وبه يكون مكذبا أحد الشاهدين لا محالة ولأن الهبة غير البيع وليس على واحد من السببين حجة تامة وكذلك لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالصدقة أو الرهن أو الميراث أو الوصية فهو باطل للمعنيين وكذلك لو شهد أحدهما بالميراث والآخر بالوصية فهو باطل للمعنيين وإذا ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له وأنه لم يتصدق بها عليه وأقام شاهدين على الصدقة وقال لم يهبها لي قط وقد ادعى الهبة عند القاضي فهذا إكذاب منه لشاهديه وهو تناقض منه في الكلام فقد زعم مرة أنه لم يتصدق بها عليه ثم ادعى الصدقة بعد ذلك وزعم مرة أنه وهبها له ثم قال لم يهبها لي قط ولا تناقض أظهر من هذا ومع التناقض لا يسمع دعواه والبينة لا تقبل إلا بعد دعوى صحيحة ثم إكذاب المدعي شاهدة تخرج شهادته من أن تكون حجة له وكذلك لو ادعى أنها ميراث لم يشترها قط ثم جاء بعد ذلك فقال هي بشراء ولم أرثها قط وجاء بشاهدين على الشراء منذ سنة فهو باطل لمعنى التناقض والإكذاب فإن ادعاها هبة ولم يقل لم يتصدق بها علي قط ثم جاء بعد ذلك بشهود على الصدقة وقال لما جحدني الهبة سألته أن يتصدق بها علي ففعل أجزت هذا لأنه وفق بين كلاميه بتوفيق صحيح فينعدم له الإكذاب والتناقض ألا ترى أنا لو عاينا ما أخبر به كان الملك ثابتا له بجهة الصدقة فكذلك إذا أخبر به وأثبته بالبينة وكذلك لو قال ورثتها ثم قال جحدني الميراث فاشتريتها منه وجاء بشاهدين على الشراء لأن معنى التناقض والإكذاب انعدم بتوفيقه وهذا بخلاف ما لو كان ادعى الشراء(16/334)
ص -151- ... أولا ثم جاء بشاهدين يشهدان على أنه ورثه من أبيه لأن هذا في هذه المواضع لا وجه للتوفيق لأنه لا يمكنه أن يقول اشتريتها منه كما ادعيت ثم جحدني الشراء فورثتها من أبي.
وإذا اختلف شاهدا الرهن في جنس الدين أو مقداره فالشهادة لا تقبل لإكذاب المدعي أحد الشاهدين ولأن الدين مع الرهن يتحاذيان محاذاة الثمن للمبيع ثم اختلاف الشاهدين في الثمن يمنع قبول شهادتهما على البيع فكذلك في الرهن فإن اتفقا على ذلك واختلفا في الأيام والبلدان وهما يشهدان على معاينة القبض فالشهادة جائزة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وفي القياس لا تقبل وهو قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى وعلى الخلاف الهبة والصدقة وإن شهدوا على إقرار الرهن والواهب والمتصدق بالقبض جازت الشهادة بالإتفاق وجه القياس أن تمام هذه العقود بالقبض والقبض فعل واختلاف الشاهدين في الوقت والزمان في الأفعال يمنع قبول الشهادة كالغصب والقتل وهذا لأن المشهود به مختلف فالفعل الموجود في مكان غير الموجود في مكان آخر بخلاف ما إذا شهدوا على الإقرار فالإقرار كلام مكرر.(16/335)
يوضحه أنه لو شهد أحدهما بمعاينة القبض والآخر بإقرار الراهن به لم تقبل الشهادة وجعل الرهن في هذا كالغصب ولم يجعل كالبيع فكذلك إذا اختلفا في المكان والزمان وللاستحسان وجهان أشار إلى أحد الوجهين هنا فقال لأن القبض قد يكون غير مرة وأشار إلى الوجه الآخر في كتاب الرهن فقال لأنه لا يكون رهنا ولا قبضا إلا بإقرار الراهن ومعنى ما ذكر هنا أن القبض بحكم الرهن فعل صورة ولكنه بمنزلة القول حكما لأنه يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول ألا ترى أن المرتهن إذا قبض الرهن ثم استرده الراهن منه غصبا أو أعاره المرتهن إياه ثم قبضه منه ثانية فهذا يكون هو القبض الأول حتى يكون مضمونا باعتبار قيمته عند القبض الأول فعرفنا أنه مما يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلاف الشاهدين في وقته بخلاف الغصب والقتل ولما أخذ شبها من أصلين توفر حظه عليهما فنقول لشبهه بالأفعال صورة إذا اختلف الشاهدان في الإنشاء والإقرار لا تقبل الشهادة ولشبهه بالأقوال حكما لا يمتنع قبول الشهادة باختلاف الشاهدين فيه في الوقت والمكان ومعنى ما ذكر في كتاب الرهن أن حكم ضمان الرهن لا يثبت إلا بإقرار الراهن أنه مرهون عندك بالدين فإن بدون هذا القول إذا قبضه المرتهن بغير إذن الراهن فهو غاصب وإذا سلمه الراهن إليه فهو مودع فعرفنا أن حكمه لا يثبت إلا بإقرار الراهن فباعتبار حكمه جعلناه كالأقوال وجعل شهادة الشاهدين على المعاينة فيه وشهادتهما على الإقرار به سواء فكما أن في الشهادة على الإقرار اختلافهما في الوقت والزمان لا يمنع العمل بشهادتهما فكذلك في الشهادة على المعاينة.
وإذا طلب الرجل شفعة في دار وأقام شاهدين على الشراء واختلفا في الثمن أو في البائع فشهادتهما باطلة لاختلافهما في المشهود به لأن المدعي مكذب أحدهما لا محالة.(16/336)
ص -152- ... ولو اتفقا على الإقرار بالشراء من واحد بمال واختلفا فقال إحداهما كنا جميعا في مكان كذا وقال الآخر كنا فرادى أو قال أحدهما كنا في البيت وقال الآخر في المسجد أو قال أحدهما كان ذلك بالغداة وقال الآخر كان بالعشي فشهادتهما جائزة لأنهما اتفقا في المشهود به وهو الإقرار واختلفا فيما لم يكلفا حفظه وفعله في الوقت والمكان فلا يقدح ذلك في شهادتهما كما لو اختلفا في الثياب التي كانت عليهما أو المراكب أو فيمن حضرهما وبيان الوصف أنهما لو سكتا عن بيان الوقت والمكان والوصف لم يسألهما القاضي عن ذلك ولو سألهما فقالا لا نحفظ ذلك لا تبطل شهادتهما.
ثم ذكر بعض مسائل أدب القاضي وروى فيه حديث الشعبي رحمه الله تعالى في كتاب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما في القضاء وقد تقدم بيان ذلك في أدب القاضي وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الحزم أن يستشير أولي الرأي ثم يطيعهم". وفيه دليل أنه لا ينبغي للقاضي أن يترك الاستشارة وكذلك غير القاضي إذا حزبه أمر فالمشورة تلقيح للعقول وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما هلك امرؤ عن مشورة". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه رضي الله عنهم في كل شيء حتى في قوت أهله وإدامهم وفيه دليل على أنه إنما يستشار أولي الرأي الكامل ويتحرز عن مشورة ناقصات العقل من النسوان وأن من استشار أولى الرأي الكامل من الرجال فعليه أن يطيعهم إذا لم يتهمهم فيما أشاروا عليه لأن فائدة المشورة لا تظهر إلا بالطاعة.
وإذا شهد شاهدان أن فلانا أقر أن هذا الثوب ثوب فلان وهو في يده وشهد آخر أن فلانا الذي شهدا له أقر بها لفلان الذي شهد عليه فهو لذي اليد لأن البينتين تعارضتا في الإقرار فيها رأيا كما لو عاين الإقرارين ويبقى الثوب في يد ذي اليد مستحقا له بيده وإن كان في يدهما فهو بينهما نصفان لاستوائهما في استحقاقه باليد.(16/337)
دار بين رجلين فأقام كل واحد منهما البينة أن فلانا أقر له بها ووقتا فهي لصاحب الوقت الآخر ولا نسبة لهذا البيع يعني إذا أقام كل واحد منهما البينة أن فلانا باعها منه ووقتا فهي لصاحب الوقت الأول والفرق بينهما أن كل واحد منهما يدعي أن وصولها إليه من جهة فلان ففي مسألة الإقرار الذي أقام البينة على الوقت الآخر أثبت إقرار فلان بها له منذ شهر وذلك يمنع دعوى فلان الملك لنفسه فيها منذ سنة فكذلك يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه ببينته منذ سنة بإقرار فلان له بها منذ سنة وذلك يمنع فلانا من أن يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر بإقرار فلان له بها فلهذا رجحنا صاحب الوقت الآخر وفي البيع ثبوت الشراء منذ شهر لا يمنع فلانا من دعوى الملك فيها لنفسه منذ سنة فكذلك لا يمنع من يدعي تملكها من جهته من أن يثبت بيعها منه منذ سنة وإذا وجب قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الآخر فيه فإنما أثبت الآخر بعد ذلك الشراء من غير المالك وعلى هذا لو أقام البينة أنه باع هذه الدار من فلان منذ سنة وأقام الآخر البينة منذ سنتين فهي للذي أقام البينة على سنتين لأن كل واحد منهما مثبت الملك لنفسه بإقامته البينة على تمليكها من فلان(16/338)
ص -153- ... بالبيع فيترجح أسبق التاريخين لانعدام منازعة الآخر معه في ذلك الوقت وإذا لم يوقتا فهي لذي اليد لاتفاقهما على أنها مملوكة مسلمة إليه وإنما يدعي كل واحد منهما الثمن في ذمته لنفسه وقد أثبته بالبينة وفي الذمة سعة.
وإذا ادعى على رجل الفي درهم أو ألفا وخمسمائة وشهد له شاهد بالألف والآخر بألف وخمسمائة قضى له بالألف لاتفاق الشاهدين على الألف لفظا ومعنى فالألف وخمسمائة جملتان أحدهما معطوفة على الأخرى فبعطف أحدهما الخمسمائة على الألف لا يخرج من أن يكون شاهدا له بألف لفظا بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا شهد أحدهما بعشرة والآخر بخمسة عشر لأن هناك اختلفا في المشهود به لفظا فخمسة عشر اسم واحد لعدد ألا ترى أنه ليس فيه حرف العطف فهو نظير الألف والألفين فإن كان المدعي يدعي ألفا فقد أكذب الذي شهد على ألف وخمسمائة فلا تقبل شهادتهما له إلا أن يوفق فيقول كان أصل حقي ألفا وخمسمائة لكني استوفيت خمسمائة أو أبرأته منها ولم يعلم به هذا الشاهد فحينئذ تقبل شهادتهما على الألف لأنه وفق بتوفيق صحيح محتمل وإن اختلفا في جنس المال فشهادتهما باطلة لأن المدعي يكذب أحدهما ولأن المشهود به مختلف وليس على واحد من المالين شهادة شاهدين.
ولو شهدا على قتل أو قطع أو غصب أو عمل واختلفا في الوقت أو المكان أو فيما وقع به القتل كانت الشهادة باطلة لاختلافهما في المشهود به وكذلك إن شهد أحدهما على الفعل والآخر على الإقرار به فهذا اختلاف في المشهود به وإن شهد على إقرار القائل به في وقتين مختلفين أو في مكانين مختلفين قبلت الشهادة لأن الإقرار قول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في الوقت والمكان به.(16/339)
ولو ادعى ثوبا في يد رجل أنه رهنه منه منذ عشرة أيام فجاء بشاهدين فشهد أحدهما أنه وهبه منه منذ عشرة أيام والآخر منذ خمسة عشر يوما فالشهادة باطلة لأن المدعي مكذب أحد شاهديه وقد أقر بأنه كان مملوكا للواهب قبل عشرة أيام وذلك يمنع دعواه ما شهد به هذا من هبته منذ خمسة عشر يوما ولو لم يوقت المدعي جازت الشهادة لأنه غير مكذب واحدا منهما والمشهود به قول أو ما هو كالقول حكما فاختلاف الشاهدين في الوقت لا يمنع قبول الشهادة فيه.
وإذا شهد الوصي على الميت بدين أو على رجل بدين للميت فشهادته بالدين على الميت صحيحة وبالدين للميت مردودة لأنه فيما شهد به للميت يثبت حق القبض لنفسه فيكون متهما ولا تهمة فيما شهد به على الميت إلا أن يكون قد قضاه من التركة فحينئذ هو متهم في شهادته من حيث أنه يقصد به إسقاط الضمان عن نفسه وإذا شهد الوصي على الميت بدين لبعض الورثة فإن ذلك جائز للكبار لخلوها عن التهمة ولايجوز للصغار لتمكن التهمة في شهادته فحق القبض في ذلك إليه وكذلك لو شهد لبعض الورثة على البعض بحق في(16/340)
ص -154- ... شهادته للكبار جائزة وللصغار مردودة لأنه لا يقبض للكبار شيئا وهو يقبض ما يجب للصغار فيكون في معنى الشاهد لنفسه.
وإذا قضى القاضي على رجل بأرض أو دار في يديه ببينة قامت عليه بذلك ودفعها إلى المقضى له ببنائها ثم أن المقضى له أقر ببنائها للمقضى عليه فإنه يدفع ذلك إليه بإقراره ولا يكون هذا الإقرار إكذابا منه لشهوده في الأرض لأن المشهود به الأرض والبناء إنما يدخل تبعا كما يدخل في البيع تبعا من غير ذكر وليس من ضرورة كون البناء للمشهود عليه إلا أن يكون الأرض للمدعي كما شهد به الشهود وكذلك إن أقام المقضى عليه البينة أنه قد بنى فيها هذا البناء فهو له لما بينا أنه إنما صار مقضيا عليه بالأصل والبناء تبع في ذلك فكذلك القضاء لا يمنعه من إثبات حق نفسه في البناء وإن كان المدعي حين أقام البينة شهد الشهود أن هذه الدار لهذا المدعي ببنائها فأقر هو بالبناء للمقضي عليه أبطلت الشهادة لأنه أكذب شهوده لأنهم صرحوا في شهادتهم بملك البناء له مقصودا وقد كذبهم في ذلك والمدعي متى أكذب شاهدة في بعض ما شهد له به بطلت شهادته في الكل كما إذا ادعى ألفا وشهد له بألف وخمسمائة.
وإذا وكلت امرأة رجلين بأن تزوجاها ثم شهد أن الزوج طلقها ثلاثا وهي تدعي أو تنكر جازت الشهادة لخلوها عن التهمة وكذلك إن كان عمين فزوجا ابنة أخ لهما وهي صغيرة ثم شهدا على الطلاق أو كانا أخوين لها زوجاها ثم شهدا بالطلاق قبلت الشهادة لأنهما يثبتان الحرمة حقا لله تعالى ولا يجران إلى أنفسهما شيئا فوجب العمل بشهادتهما والله أعلم.(16/341)
ص -155- ... كتاب الرجوع عن الشهادة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن أداء الشهادة بالحق مأمور به شرعا قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] أمروا به للوجوب وقال الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] والنهي عن الإباء عند الدعاء أمر بالحضور للأداء وقال الله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] واستحقاق الوعيد بترك الواجب وقال صلى الله عليه وسلم: "كاتم الشهادة بالحق كشاهد الزور وشهادة الزور من الكبائر" قال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أيها الناس عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله تعالى". ثم تلا قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وفي هذا بيان كرامة المؤمن فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بما لا أصل له بمنزلة شهادة الكافر على ذاته بما لا أصل له من شريك أو صاحب أو ولد وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" قالوا نعم قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فاستوى جالسا ثم قال: "ألا وقول الزور" فجعل يكررها حتى قلنا ليته يسكت.(16/342)
وفي رواية سأله رجل عن الكبائر فقال صلى الله عليه وسلم: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس بغير حق وقول الزور". وفي حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشاهد بالزور لا يرفع قدميه من مكانهما حتى تلعنه الملائكة في السماوات الأرض". فيحق على كل مسلم الاجتناب عنها بجهده والتوبة عنها متى وقع فيها خطأ أو عمدا وذلك بأن يرجع عن الشهادة وليكن رجوعه في مجلس القضاء لأنه فسخ للشهادة التي أداها وقد اختصت الشهادة بمجلس القضاء فالرجوع عنها كذلك وهذا لأن التوبة بحسب الجريمة قال صلى الله عليه وسلم: "السر بالسر والعلانية بالعلانية". فإذا كانت جريمته في مجلس القضاء جهرا فلتكن توبته بالرجوع كذلك ولا يمنعه الاستحياء من الناس وخوف اللائمة من إظهار الرجوع في مجلس القضاء فلأن يراقب الله تعالى خيرا له من أن يراقب الناس ورجوعه صحيح مقبول في حقه وإن كان مردودا فيما يرجع إلى حق غيره حتى إذا رجع قبل القضاء لم يقض القاضي بشهادته لبطلانها بالرجوع وإذا رجع بعد القضاء لم يبطل برجوعه حق المقضى له.
والأصل فيه الحديث الذي بدأ الكتاب به ورواه عن الشعبي رحمه الله تعالى أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم أتيا بعد ذلك بآخر فقال أوهمنا إنما السارق هذا فقال علي رضي الله عنه لهما لا أصدقكما على هذا الآخر وأضمنكما دية يد الأول ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما ففيه دليل أن(16/343)
ص -156- ... الرجوع عن الشهادة صحيح في حقه وأنه عند الرجوع ضامن ما استحق بشهادته وأنه غير مصدق في حق غيره للتناقض في كلامه والمناقض لا قول له في حق غيره ولكن التناقض لا يمنع إلزامه حكم كلامه ثم الشافعي رحمه الله تعالى يستدل بالحديث في فصلين:
أحدهما: في وجوب القصاص على الشهود إذا رجعوا بعد ما استوفى العقوبة بشهادتهم وزعموا أنهم تعمدوا ذلك في شهادتهم وفي أن اليدين يقطعان بيد واحدة فقد قال ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما فإذا جاز قطع اليدين في يد واحدة بطريق الشهادة فبالمباشرة أولى ولكنا نقول هذا اللفظ منه على سبيل التهديد بدون التحقيق وقد تهدد الإمام بما لا يتحقق قال عمر رضي الله عنه ولو تقدمت في المتعة لرجمت والمتعة لا توجب الرجم بالاتفاق ثم لم يكن من علي رضي الله عنه هكذا كذبا لأنه علق بما لا طريق إليه وهو العلم بأنهما فعلا ذلك عمدا فلم يكن هذا كذبا بهذا التعليق ويحصل المقصود وهو الزجر وهو نظير قوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الانبياء: 63] ثم لم يكن هذا الكلام من إبراهيم صلوات الله عليه كذبا لأنه علقه بما لا يكون ومعناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم والدليل عليه أن من مذهب علي رضي الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة فقد روي ذلك عنه في الكتاب فبهذا تبين أن مراده التهديد وذكر عن حماد رضي الله عنه أنه كان يقول في الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة بعد قضاء القاضي فإنه ينظر إلى حالهما يوم رجعا فإن كان حالهما أحسن منه يوم شهدا صدقهما القاضي في الرجوع ورد القضاء وأبطله وإن كان حالهما يوم رجعا مثل حالهما يوم شهدا دون ذلك لم يصدقهما القاضي ولم يقبل رجوعهما ولم يضمنهما شيئا وكان القضاء الأول ماضيا وبهذا كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا ثم رجع فقال لا أبطل القضاء بقولهما الآخر وإن كان أعدل منهم يوم شهدا ولكن(16/344)
أضمنهما المال الذي شهدا به وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وجه قوله الأول أن كل واحد من الخبرين متردد بين الصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق فيه بالعدالة وحسن حال المخبر فإذا كانت عدالته عند الرجوع أظهر وحاله عند ذلك أحسن فرجحان جانب الصدق في هذين الخبرين بين والظاهر أن رجوعه توبة واستدرك لما كان منه من التفريط والقاضي يتبع الظاهر لأنه ما وراء ذلك غيب عنه وإذا كان حاله عند الرجوع دون حاله عنه الشهادة فرجحان جانب الكذب في الرجوع أبين والظاهر أنه بالرجوع قاصد إلى الإضرار بالمقضى له وإن كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند أداء الشهادة فعند المساواة يترجح الأول بالسبق واتصال القضاء به فإن الشيء لا ينقضه ما هو مثله أو دونه وينقضه ما هو فوقه ولا ضمان عليه لأنه ما يتناول شيئا إنما أخبر بخبر وذلك لم يكن موجبا للإتلاف بدون القضاء والقاضي يختار في قضائه فذلك يمنع إضافة الإتلاف إلى الشهادة فلهذا لا يضمن الشاهد شيئا.(16/345)
ص -157- ... وجه قوله الآخر: أن ظاهر العدالة ترجح جانب الصدق في الخبر ولكن لا ينعدم به معنى التناقض في الكلام وهو بالرجوع مناقض في كلامه فعدالته عند الرجوع لا تعدم التناقض وكما أن القاضي لا يقضي بالكلام المتناقض فكذلك لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض ثم جانب الصدق يعين في الشهادة وتأكد ذلك بقضاء القاضي في حق المقضى له فيه بتعين جانب الكذب في الرجوع وإذا كانت تهمة الكذب عند الرجوع لفسقه يمنع القاضي من إبطال القضاء فتعين الكذب فيه بدليل شرعي لأنه يمنعه من إبطال القضاء أولى فلو أبطل القضاء باعتبار هذا المعنى أدى إلى ما لا يتناهى لأنه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع فيجب إعادة القضاء الأول ولكن يجب الضمان عليه لإقراره عند الرجوع أنه أتلف المال على المشهود عليه بشهادته بغير حق والتناقض لا يمنع ثبوت حكم إقراره على نفسه والإتلاف وإن كان يحصل بقضاء القاضي فسبب القضاء شهادة للشهود وإنما يحال بالحكم على أصل السبب وهذا لأن القاضي بمنزلة الملجأ من جهتهم فإن بعد ظهور عدالتهم يحق عليه القضاء شرعا ثم السبب إذا كان تعديا بمنزلة المباشرة في إيجاب ضمان المال وقد أقر بالتعدي في السبب الذي كان منهما وبهذا السبب سلط المشهود له على مال المشهود عليه ولو تسلطا عليه بإثبات اليد لأنفسهما ضمنا فكذلك إذا سلطا الغير عليه لأن وجوب الضمان للحاجة إلى الجيران ودفع الضرر والخسران عن المتلف عليه وقد تحققت الحاجة إلى ذلك ولا يمكن إيجاب الضمان على القاضي لأنه غير متعد في القضاء بل هو مباشر لما فرض عليه ظاهرا فتعين الشهود لإيجاب الضمان عليهم.(16/346)
وعن إبراهيم رحمه الله قال: إذا شهد شاهدان على قطع يد فقضي القاضي بذلك ثم رجعا عن الشهادة فعليهما الدية وإن رجع أحدهما فعليه نصف الدية وبه نأخذ لأنهما سببا لقطع اليد بطريق هو تعدي منهما وهو سبب معتاد في الناس فقد يقصد المرء الإضرار بغيره في نفسه أو ماله بالشهادة الباطلة عند عجزه عن تحصيل مقصوده بالمباشرة والتسبب بهذه الصفة موجب ضمان الدية كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق إلا أن ضمان الدية في مالهما لأن وجوبه بقولهما وهو إقرارهما على أنفسهما عند الرجوع وقولهما ليس بحجة على العاقلة وإذا كان ضامنين للدية إذا رجعا كان أحدهما ضامنا لنصف الدية إذا رجع لأن بشهادة كل واحد منهما يقوم بنصف الحجة فببقاء أحدهما على الشهادة تبقى الحجة في النصف أيضا فيجب على الراجح من الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وذلك النصف وكذلك لو شهد بمال فقضى القاضي به ثم رجع أحدهما فعليه نصف المال فإن رجعا جميعا فعليهما المال كله وهذا بخلاف ما إذا رجع قبل قضاء القاضي حتى امتنع القاضي من القضاء للمشهود له لأنهما لم يتلفا عليه شيئا مستحقا له فالشهادة قبل القضاء(16/347)
ص -159- ... بين المتلاعنين وبيعة التركة في الدين الثابت بشهادة الزور لأنه قصد الإنشاء هنا وما ظهر عنده من الحجة يصلح للإنشاء أيضا وكذلك في المجتهدات يثبت له ولاية الإنشاء بما لاح عنده من الدليل وقضاؤه إن شاء أيضا بطريق القصد منه إلى ذلك فأما هنا إنما قصد الإمضاء فلا يمكن أن يجعل منشئا ألا ترى أن رجلا وامرأة لو أقرا بالنكاح وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما لم يثبت النكاح بينهما باطنا بهذا الإقرار وهما يملكان الإنشاء ولكنهما بالإقرار أظهرا عقدا قد كان بينهما فلا يجعل ذلك إنشاء منهما ولأن المدعي متيقن بما لو تبين القاضي به امتنع من القضاء فلا ينفذ قضاؤه في حقه وإن كان القاضي معذورا لخفاء هذه الحقيقة عليه كما لو كانت امرأة مجوسية أو مرتدة أو منكوحة الغير أو أخته من الرضاعة والدليل على أن قضاءه ليس بإنشاء أنه لا يستدعي شرائط الإنشاء من الشهود والمهر والولي.(16/348)
وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي: أن رجلا ادعى على امرأة نكاحا بين يدي علي رضي الله عنه وأقام شاهدين فقضى علي رضي الله عنه بالنكاح بينهما فقالت المرأة إن لم يكن بدا يا أمير المؤمنين فزوجني منه فإنه لا نكاح بيننا فقال علي رضي الله عنه شاهداك زوجاك فقد طلبت منه أن يعفها عن الزنى بل يعقد النكاح بينهما فلم يجبها إلى ذلك ولا يقال إنما يجبها إلى ذلك لأن الزوج لم يرض بذلك لأنا نقول ليس كذلك بل الزوج راض لأنه يدعي النكاح والمرأة رضيت أيضا حيث قالت فزوجني منه وكان يتيسر عليه ذلك فقد كان الزوج راغبا فيها ثم لم يشتغل به وبين أن مقصودهما قد حصل بقضائه فقال شاهداك زوجاك أي الزماني القضاء بالنكاح بينكما فثبت النكاح بقضاء وما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة بالرأي ويتبين بهذا أن ما استدلوا به من الآية والحديث في الأملاك المرسلة وبه يقول والمعنى فيه أنه قضى بأمر الله تعالى فيما له فيه ولاية الإنشاء وقضاؤه بأمر الله تعالى يكون نافذا حقيقة لاستحالة القول بأن يأمر الله تعالى بالقضاء ثم لا ينفذ ذلك القضاء منه وبيان الوصف أنه لما تفحص عن أحوال الشهود وزكوا عنده سرا وعلانية وجب عليه القضاء بشهادتهم حتى لو امتنع من ذلك يأثم ويخرج ويعزل ويعذر فعرفنا أنه صار مأمورا بالقضاء وهذا لأنه لا طريق له إلى معرفة حقيقة الصدق والكذب من الشهادة لأن الله تعالى لم يجعل لنا طريقا إلى معرفة حقيقة الصدق من خبر من هو غير معصوم عن الكذب ولا يتوجه عليه شرعا لوقوف على ما لا طريق له إلى معرفته لأن التكليف بحسب الوسع والذي في وسعه التعرف عن أحوال الشهود فإن استقصى ذلك غاية الاستقصاء فقد أتى بما في وسعه وصار مأمورا بالقضاء لأن ماوراء هذا ساقط عنه باعتبار أنه ليس في وسعه ثم إنما يتوجه عليه الأمر بحسب الإمكان والمأمور به أن يجعلها بقضائه زوجته فلذلك طريقان إظهار(16/349)
ص -160- ... نكاح إن كان وإن شاء عقد بينهما فإذا لم يسبق منهما عقد تعذر إظهاره بالقضاء فيتعين الإنشاء إذا ليس هنا طريق آخر فيثبت له ولاية الإنشاء بهذا النوع من الدليل الشرعي ويجعل إنشاءه كإنشاء الخصمين فيثبت الحل به بينهما حقيقة بل قضاؤه أولى وأقوى من إنشاء الخصمين عن اتفاق ألا ترى أن في المجتهدات صفة اللزوم يثبت بإنشاء القاضي ولا يثبت بإنشاء الخصمين؟ فعرفنا أن قضاءه أقوى من إنشاء الخصمين.
وشرط صحة الإنشاء الشهادة والمحل القابل له ولا شك أن المحل شرط حتى إذا كانت المرأة منكوحة الغير أو محرمة عليه بسبب لا ينفذ قضاؤه لانعدام المحل فكذلك الشهادة شرطه إلا أن مجلس القضاء لا يخلو عن شاهدين فلهذا لم يذكر الشهادة فأما الولي ليس بشرط عندنا ولا حاجة إلى ذكر المهر ويجب هذا التحقيق حكمه بالفة وهو أن لا يجتمع رجلان على امرأة واحدة أحدهما بنكاح ظاهر له والآخر بنكاح باطن له ففي ذلك من القبح ما لا يخفى والدين مصون عن مثل هذا القبح ولا يكون القاضي بقضائه ممكنا من الزنى ففيه من الفساد ما لا يخفى وإذا كان يثبت له ولاية إنشاء التفريق بين المتلاعنين وبين امرأته لنفيها به عن الزنى ويثبت له ولاية تزويج الصغير والصغيرة لمعنى النظر لهما فلأن يثبت له ولاية انعقاد العقد هنا لنفيها به عن الزنى ويصون قضاؤه به عن التمكين من الزنى أولى وكذلك يثبت له ولاية إنشاء التفريق بين المتلاعنين لقطع المنازعة مع يقينه بكذب أحدهما كما قال صلى الله عليه وسلم: "الله يعلم أن أحدكما لكاذب" فكذلك يثبت له ولاية الإنشاء مع كذب الشهود لتوجه الأمر بالقضاء عليه شرعا وأمر القبلة على هذا فإنه لما توجه عليه الأمر بالصلاة إلى جهة القبلة وأتى بما في وسعه في طلب القبلة يثبت له ولاية نسب القبلة حتى أن الجهة التي أدى إليها اجتهاده تنتصب قبلة في حقه فتجوز صلاته إليها وإن تبين له الخطأ بعد ذلك.(16/350)
وبهذا يتبين فساد ما قالوا أن المدعي عالم بما لو علمه القاضي امتنع من القضاء ففي اللعان الكاذب منهما عالم بما لو علمه القاضي امتنع من التفريق ومع ذلك نفذ القضاء في حقه لتوجه الأمر على القاضي وتوجه الأمر بالانقياد واتباع أمر القاضي في حق الناس وهذا بخلاف ما إذا ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في قذف فإن هذه أسباب يمكن الوقوف عليها عند الاستقصاء ولكن ربما يلحقه الحرج في ذلك فللحرج تعذر بترك الاستقصاء ولكن لم يسقط الخطاب باصابتها حقيقة فلا يتوجه الأمر بالقضاء بدونها حقيقة فأما حقيقة الصدق فلا طريق إلى الوقوف عليه والأمر بالقضاء يتوجه بدونه وهو بمنزلة ما لو توضأ بماء أو صلى في ثوب لم يتبين أنه كان نجسا فإنه يلزمه الإعادة لهذا المعنى أو هو بمنزلة ما لو قضى باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه فأما الأملاك المرسلة فليس للقاضي هناك ولاية الإنشاء لأن تمليك المال من الغير بغير سبب ليس فيه ولاية القاضي(16/351)
ص -161- ... ولا لصاحب المال أيضا وفي أسباب تمليك المال كثرة فلا يمكن تعيين شيء منها فعرفنا أنه ليس له في ذلك الموضع إلا ولاية إظهار الملك فإذا لم يكن هناك ملك سابق فلا تصور لإظهاره بالقضاء والتكليف بحسب الوسع فبهذا تبين أنه لم يكن مأمورا بالقضاء باطنا فأما هنا له ولاية الإنشاء وطريقه متعين من الوجه الذي قلنا فباعتباره يصير مأمورا بالقضاء بالنكاح بينهما حقيقة.
يوضحه أن هناك القاضي لا يقول للمدعي ملكتك هذا المال وإنما يقصر يد المدعى عليه عن المال ويأمره بالتسليم إليه ليأخذه على أنه ملكه كما يدعيه وقضاؤه بهذا نافذ فأما هنا نقول قضيت بالنكاح بينكما وجعلتها زوجة لك فينبغي أن يثبت النكاح بينهما بقضائه إذا عرفنا هذا فنقول إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وأقامت على ذلك شاهدي زور فقضى القاضي بالفرقة بينهما فتزوجها أحد الشاهدين بعد انقضاء العدة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحل للثاني أن يطأها ولا يحل للأول ذلك لأن الفرقة وقعت بينهما وبين الأول حقيقة وصلح النكاح بينهما وبين الثاني بعد انقضاء العدة وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس للأول أن يطأها لقضاء القاضي بالفرقة بينهما وكيف يطؤها ولو فعل ذلك كان زانيا عند القاضي وعند الناس فلا يجوز للمرء أن يعرض نفسه لهذه التهمة ولا يحل للثاني أن يطأها لأنه يعلم أنها منكوحة الغير وأنه كان كاذبا فيما يشهد به من الطلاق وذلك كان كبيرة منه فلا يحل له ما كان حراما عليه.
وقال محمد رحمه الله: ليس للثاني أن يطأها لهذا ويحل للأول أن يطأها ما لم يدخل بها الثاني فإذا دخل بها الثاني لا يحل للأول أن يطأها بعد ذلك لوجوب العدة عليها من الثاني بالوطء بالشبهة والمنكوحة إذا وجبت عليها العدة من غير الزوج حرم على الزوج وطؤها.(16/352)
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب عليها العدة من الثاني لأنهما زانيان في هذا الوطء يعلمان حقيقة الأمر فهو يقول يطؤها الأول سرا بنكاح باطن له والثاني علانية بنكاح ظاهر له وهذا قبيح فإنه يؤدي إلى اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلا أنهم يقولون معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ونحن ننهي كل واحد عن مثل هذا التلبيس وهو نظير ما يقولون فيما إذا كان ادعى جارية في يد رجل أنها له وقضى القاضي له بشهادة شاهدي زور فإنها في الباطن مملوكة للأول يطؤها سرا وفي الظاهر مملوكة للثاني يطؤها علانية وهذا القبح يتقرر فيه ولكن معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ثم التمكن من هذا الظاهر يلتبس والناس أطوار وقليل منهم الشكور وما ذهب إليه أبو يوسف فيه نوع ضرر أيضا فإن المرأة تبقى معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة إذ هي لا تحل للأول ولا للثاني وليس لها أن تتزوج بزوج آخر ولدفع هذا الضرر أمر الشرع بالتفريق بين العنين وامرأته فعرفنا أن الوجه بطريق الفقه ما(16/353)
ص -162- ... ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله واتبع فيه عليا رضي الله عنه وأن قضاء القاضي ينفذ وأنها تحل بالنكاح للثاني.
رجل ادعى على رجل أنه باع منه جاريته هذه بألف درهم والمشتري يجحد ذلك فأقام عليه شاهدين فألزمه القاضي البيع والمشتري يعلم أنه لم يشترها منه ثم رجعا عن شهادتهما لم يصدقا على نقض البيع لأن شهادتهما ما تأدت بحكم الحاكم وتناقض كلامهما في الرجوع ولا ضمان عليهما لأنهما أتلفا على المشتري الثمن بعوض يعدله وهو الجارية فإن ماليتها مثل مالية الثمن والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتلف لأن وجوب الضمان للجبران والنقصان هنا منجبر بعوض يعدله المشتري في حل من وطئها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن القاضي له ولاية الإنشاء في البيوع فإنه يبيع التركة في الدين ويبيع مال اليتيم والغائب لمعنى النظر فيكون قضاؤه كإنشاء البيع لمعنى النظر للخصمين في ذلك وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى لا يحل له أن يطأها لأن قضاءه إمضاء لبيع كان فإذا لم يكن بينهما بيع كان باطلا في الباطن.(16/354)
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه قذف امرأته بالزنى والرجل يعلم أنهما شهدا بباطل فأمره القاضي بأن يلتعن هو وامرأته وفرق بينهما لم يسع للزوج أن يطأها ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ظاهر وعندهما لأن للقاضي هنا إنشاء التفريق بينهما فينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده وقد بينا نظيره في بيع التركة في دين ثبت بشهادة الزور قال ألا ترى أن الزوج لو قذفها وهو يعلم أنه كاذب فكره أن يكذب نفسه فلاعن القاضي بينهما وفرق لم يسع الزوج أن يطأها وإن كان يعلم أنها لم تزن ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك وإن كانت تعلم أن الزوج كاذب فيما رماها به لما أن للقاضي إنشاء التفريق وهو قضاء منه في موضعه لولاية التفريق له بسبب اللعان عند اشتباه الحال حتى إذا كان الحال معلوما لا يفرق بينهما فالاشتباه لا يؤثر في المنع من نفوذ قضائه على الوجه الذي قصده في اللعان وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في هذا كله بعد قضائه لأنه مأمور باتباع الظاهر وما سوى ذلك مما لا طريق له إلى معرفته ساقط عنه ألا ترى أنه لو خلا بامرأته ولم يدخل بها ثم طلقها وأقرت هي بذلك أن لها المهر كاملا يسعها أن تأخذه وإن كانت قد علمت أن الزوج لم يقر بها ولكن لما سقط عنها ما ليس في وسعها وأتت بما عليها من التسليم تقرر حقها في المهر ولزمها العقد فلا يسعها أن تتزوج قبل انقضاء عدتها ولا يسع الزوج أن يتزوج أختها في عدتها فيه يتضح مما سبق من فصول اللعان والشهادة وكذلك لو قذف امرأته بالزنى وهو صادق فجحدته المرأة ولاعن القاضي بينهما وفرق وانقضت عدتها فهي في سعة من أن تتزوج غيره وله أن يتزوج أختها وإن كانا يعلمان من زناها ما لو علمه القاضي لم يفرق بينهما.(16/355)
ص -163- ... وإذا شهد شاهدان على رجل أنه اعتق أمته هذه فأجاز القاضي ذلك وأعتقها وتزوجت ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمتها للمولى لأن ملك المولى فيها كان مالا متقوما وقد أبطلا ذلك بشهادتهما فإذا زعما بالرجوع أنهما أتلفاه بغير حق صدقا على أنفسهما وضمنا قيمتها للمولى ولم يسع المولى وطؤها لأنها عتقت بحكم الحاكم ومن ضرورة سلامة الضمان للمولى أن لا تبقى هي على ملكه وبدون ملك الرقبة لا يثبت له عليها ملك الحل بغير سبب.
ولو أن صبيا وصبية سبيا وكبرا وعتقا وتزوج أحدهما الأخرى ثم جاء حربي مسلما وأقام بينة أنهما ولداه فقضى القاضي بذلك وفرق بينهما ثم رجعا عن شهادتهما لم يقبل رجوعهما ولا يسع الزوج أن يطأها وإن علم أنهما شهدا بزور وكيف يطؤها وقد جعلها القاضي أخته ولم يضمن الشاهدان شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يضمنان له مهر مثلها وهذا بناء على أصل نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وهو أن البضع عند خروجه من ملك الزوج لا يتقوم عندنا فلم يتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتقوم بمهر المثل عند خروجه من ملكه كما يتقوم عند دخوله في ملكه.(16/356)
ولو كانت صبية في يدي رجل يزعم أنها أمته فشهد شاهدان أنه أقر أنها ابنته فقضى بذلك القاضي لم يسع المولى أن يطأها وإن علم أنهما شهدا زور لأن القاضي حكم بأنها ابنته فإن رجعا ضمنا قيمتها لأنهما أقرا بالرجوع أنهما أتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وهو ملكه في رقبتها ولو ماتت وتركت ميراثا وسعه أن يأكل ميراثها وكذلك لو مات الأب كانت في سعة من أكل ميراثه أما في جانبها فهو واضح لأنه لا علم لها بحقيقة الأمر فحالة العلوق غيب عنها وفي مثله عليها اتباع قضاء القاضي فيسعها أن تأكل ميراثه وأما في جانبه فهو مشكل لأن الميراث والنسب مما ليس للقاضي فيه ولاية الإنشاء وهو يعلم أنها ليست بابنته حقيقة فينبغي أن لا يسعه أن يأكل ميراثها حتى قيل تأويله أنه يأكل ميراثها بسبب الولاء لأن القاضي قضى بالعتق وله فيه ولاية الإنشاء فيثبت الولاء له والأصح أن يقال لما كان للقاضي ولاية الإنشاء في قطع النسب باللعان فكذلك له ولاية الإنشاء في القضاء بالنسب إذا صادف محله فقد صادف محله وهنا فإنه ليس لها نسب معروف فلهذا يسعه أن يأكل ميراثها.
ولو شهدا على مال فقضى به القاضي فقبضه أو لم يقبضه ثم رجعا ضمنا المال إذا أخذه المقضي له من المقضي عليه وقبل الأخذ لا يضمنهما المقضي عليه شيئا لأن تحقق النقصان عند تسليم المال إلى المقضي له فأما ما بقيت يده على ماله فلا يتحقق الخسران في حقه ولأن الضمان مقدر بالمثل وهما أتلفا عليه دينا حين ألزماه ذلك بشهادتهما فلو ضمنهما عينا قبل الأداء كان قد استوفى منهما عينا مماثلة الدين ولا مماثلة بين العين(16/357)
ص -164- ... والدين وفي الأعيان يثبت الملك للمقضي له بقضاء القاضي ولكن المقضي عليه يزعم أن ذلك باطل لأن الملك في يده ملكه فلا يكون له أن يضمن الشاهدين شيئا ما لم يخرج المال من يده بقضاء القاضي وكذلك هذا في العقار فإن بالشهادة الباطلة يضمن العقار كالمنقول لأن فيها إتلاف الملك واليد على المقضي عليه والعقار يضمن بمثل هذا السبب فإن إتلاف الملك يتحقق فيها بخلاف الغصب على قول من يقول العقار لا يضمن بالغصب.
ولو شهد ثلاثة نفر على رجل بمال وقضى به القاضي ثم رجع أحدهم لم يضمن شيئا لأن الأصل في ضمان الرجوع أنه يعتبر بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع وقد بقي على الشهادة حجة تامة فلا يضمن الراجع شيئا وهذا لأن الراجع وإن زعم أنه متلف بشهادته عليه فما أتلفه يستحق عليه بشهادة غيره واستحقاق ذلك عليه بالحجة يمنعه من الرجوع عليه على المتلف بالضمان كمن غصب مال إنسان أو أتلفه ثم استحق رجل ذلك المال بالبينة فلا ضمان للمتلف عليه إذا لم يضمنه المستحق شيئا.
ولو رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال لأنه بقي على الشهادة لم يثبت نصف المال بشهادته وإنما انعدمت الحجة في النصف خاصة فيضمن الراجعان ذلك.(16/358)
ولو شهد رجل وامرأتان ثم رجعت امرأة فعليها ربع المال لأن الثابت بشهادتهما ربع المال ولأنه قد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المال فعلى الراجع ربع المال وإن رجعت المرأتان فعليهما النصف وإن رجع الرجل وحده فعليه نصف المال وإن رجع رجل وامرأة فعليهما ثلاثة أرباع المال على الرجل النصف وعلى المرأة الربع وإن رجعوا جميعا فعلى الرجل نصف المال وعلى المرأتين النصف لأن الثابت بشهادة الرجل مثل ما ثبت بشهادة المرأتين فقد قامتا في الشهادة مقام رجل واحد كما قال صلى الله عليه وسلم في نقصان عقل النساء "عدلت شهادة اثنتين منهن شهادة رجل" فإن شهد رجل وعشر نسوة فقضى القاضي ثم رجعوا جميعا فعلى الرجل سدس المال وعلى النساء خمسة أسداس المال في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى على الرجل النصف وعلى النساء النصف لأن النساء وإن كثرن في الشهادة لا يقمن إلا مقام رجل واحد ألا ترى أن الحجة لا تتم ما لم يشهد معهن رجل فكان الثابت بشهادته نصف المال وبشهادتهن نصف المال يوضحه أن الرجل متعين في هذه الشهادة للقيام بنصف الحجة ولهذا لا تتم الحجة إلا بوجوده فلا يتغير هذا الحكم بكثرة النساء وإذا ثبت نصف الحق بشهادته ضمن ذلك عند الرجوع والنصف الآخر يثبت بشهادة النساء فعليهن ضمانه عند الرجوع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كل امرأتين في الشهادة يقومان مقام الرجل الواحد فعشر نسوة بخمسة من الرجال وهذه المسألة بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجعوا(16/359)
ص -165- ... فيكون الضمان عليهم أسداسا ودليل صحة هذا الكلام أن حكم الشهادة كحكم الميراث وفي الميراث عند كثرة البنات مع الإبن يجعل كل اثنتين كإبن واحد ولم يجعل حالة الاختلاط كحالة انفراد البنات فعند الانفراد لا يزاد لهن على الثلثين ثم عند الاختلاط يجعل كل اثنتين كإبن فكذلك في الشهادة وهذا لأن النقصان على أدنى العدد في الشهادة يمنع القضاء فأما الزيادة على النصاب معتبر في أن القضاء يكون بشهادة الكل فبكثرة النساء عند وجود الرجل يزداد النصاب ويكون القضاء بشهادة الكل على أن كل امرأتين كرجل واحد فعند الرجوع كذلك يقضي بالضمان.
ولو رجع ثمان نسوة لم يكن عليهن شيء لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت الاستحقاق بشهادته وهو رجل وامرأتان فإن رجعت امرأة بعد ذلك كان عليها وعلى الثمان ربع المال لأن الحجة إنما بقيت في ثلاثة أرباع الحق فيجب الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وليس البعض بأولى من البعض في وجوب ذلك عليه فلهذا ضمن التسع ربع المال عليهن بالسوية وإن رجعت العاشرة فعليها وعلى التسع نصف المال أما عندهما ظاهر لأن الثابت بشهادتهن نصف المال وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه بقي على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجع خمسة.
ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا كان الضمان على الرجلين دون المرأة لأن المرأة الواحدة لا تكون شاهدة فإن المرأتين شاهد واحد فالمرأة الواحدة شطر العلة في كونها شاهدا وبشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم فكان القضاء بشهادة رجلين دون المرأة فلا يضمن عند الرجوع شيئا.(16/360)
ولو شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع رجل وامرأة ضمن الرجل نصف المال لأن الحجة بقيت في نصف المال فقد بقي امرأتان على الشهادة ثم هذا النصف عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى على الرجل خاصة لما بينا أن عندهما نصف المال متعين في أنه ثابت بشهادة الرجل ونصف ثابت بشهادة النساء وقد بقي من النساء على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته فعرفنا أن الحجة انعدمت في النصف الذي هو ثابت بشهادة الرجل خاصة فيكون الضمان عليه دون المرأة وينبغي في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن يكون النصف أثلاثا على الرجل والمرأة لأن القضاء هنا بشهادة الكل فكل امرأة منهن إذا ضمتها إلى الأخرى كانتا شاهدا فلا يكون القضاء محالا به على شهادة البعض دون البعض وقد بقيت الحجة في نصف الحق فيجب ضمان نصف الحق على الراجعين أثلاثا لأن الثابت بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة ولو رجعوا جميعا كان على الرجل النصف وعلى النسوة النصف في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى على الرجل خمسا المال وعلى النسوة ثلاثة أخماسه كما ذكرنا في الفصل الأول.(16/361)
ص -166- ... وإذا شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا فالضمان أثلاث لأن المرأتين قامتا مقام رجل واحد فكأنه شهد ثلاثة بالمال ثم رجعوا وإذا شهد شاهدان بمال قضى به القاضي ثم ادعى المشهود عليه أنهما رجعا وأراد يمينهما فلا يمين عليهما في ذلك ولا تقبل عليهما به بينة لأنه ادعى عليهما رجوعا باطلا لما بينا أن الرجوع فسخ للشهادة فيختص بمجلس الحكم كالشهادة فلما أن شهادتهما في غير مجلس القاضي باطلة فكذلك رجوعهما والحدود والقصاص في هذا كالأموال.
وإذا رجعا عن شهادتهما وأشهدا بالمال على أنفسهما من قبل الرجوع ثم جحدا ذلك فشهدت عليهما شهود بالمال عليهما قبل الرجوع والضمان لم يقبل ذلك لأن الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فإنما أشهدا على أنفسهما بالمال بسبب باطل وذلك لا يلزمهما شيء وكذلك لو شهدوا على زنا واحصان فرجمه القاضي بذلك ثم أشهد الشهود عليهم بالرجوع لم يكن عليهم بالرجوع حد ولا ضمان لأنهم بالرجوع ما صاروا قاذفين له ولكن الشهادة تنفسخ بالرجوع فيصير كلام الشاهدين قذفا عند ذلك وفسخ الشهادة بالرجوع مختص بمجلس الحكم قال ولو أوجبت عليهما الحد لأوجبت عليهما الضمان وقد بينا أنهم لا يضمنون بالرجوع في غير مجلس الحكم فلا يحدون أيضا وإذا لم يقض القاضي بشهادة شاهدين حتى رجعا عنها لم يقض بها لأن القضاء يستدعي قيام الحجة عنده ولم تبق الحجة حين رجعا ولأن شهادتهما تتأكد بالقضاء فبالرجوع قبل التأكد يبطل بحيث لا يبقى له أثر ولا ضمان عليهما لأنهما لم يتلفا شيئا على أحد أما المشهود عليه فقد بقي المال على ملكه وأما المشهود له فلم يثبت له استحقاق قبل القضاء.(16/362)
ولو اشترى رجل دارا بألف درهم وهي قيمتها ونقده الثمن فشهد شاهدان أن هذا الرجل شفيعها وأن هذه الدار التي هي في يديه ملزقة بداره فقضى القاضي له بالشفعة ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما أتلفا على المشتري ملكه فيها بعوض يعد له وهو الثمن الذي أخذه من الشفيع فإن كان المشتري قد بنا فيها بناء فأمره القاضي بنقضه ضمن الشاهدان له قيمة بنائه لأنه كان مستحقا لقرار البناء بملكه الدار وقد شهد أن الشفيع أحق بملكها منه فكانا متلفين للبناء عليه فيضمنان له قيمة البناء مبنيا ويكون النقض لهما بالضمان بمنزلة ما لو هدماه بأيديهما وإذا رجع الشاهدان عن شهادة شهدا بها عند غير القاضي الذي شهدا عنده فإنه يقضي عليهما بالضمان لأن شرط صحة الرجوع مجلس القاضي لا مجلس ذلك القاضي الذي شهدا عنده فرجوعهما في مجلس القاضي الآخر كرجوعهم في مجلس القاضي الذي شهدا عنده أرأيت لو مات الأول أو عزل فرجع في مجلس القاضي الذي قام مقامه أليس يقضي عليهما بالضمان فكذلك إذا رجعا في مجلس القاضي الآخر فإن قضى بذلك عليهما فلم يؤديا حتى تخاصما إلى القاضي الذي شهدا(16/363)
ص -167- ... عنده أول مرة وجحدا الرجوع فقامت عليهما البينة بالرجوع وبقضاء القاضي عليهما بالضمان فإنه ينفذ ذلك عليهما ويضمنها المال لأن المدعي أثبت المال عليهما بالحجة بسبب صحيح فيضمنهما المال به وكذلك لو رجعا عند القاضي الذي شهدا عنده فيضمنهما ذلك ثم اختصموا إلى غيره وكذلك لو شهد عليهما شاهدان بإقرارهما أنهما رجعا عند قاض من القضاة وأنه ضمنهما ذلك فالثابت من إقرارهما بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو سمع القاضي إقرارهما بذلك ضمنها المال فكذلك إذا أثبت المدعي ذلك بالحجة ولو رجع عند غير قاض وضمنهما المال وكتبا به على أنفسهما صكا وبسبب المال إلى الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند القاضي لم يقض بذلك عليهما لأنهما كتبا على أنفسهما الصك بمال بسبب باطل وهو رجوعهما عند غير القاضي وكذلك لو أقر بذلك ضمنهما المال فكذلك إذا أثبت المدعي ذلك بالحجة ولو رجعا عند غير قاض وضمنهما المال على الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند القاضي لم يقض بذلك عليهما لأنهما كتبا على أنفسهما الصك بسبب باطل وهو رجوعهما عند غير القاضي وكذلك لو أقر بذلك عند صاحب الشرط أو عامل كورة ليس القضاء إليه لأن الرجوع معتبر بالشهادة فكما أن الشهادة عند هؤلاء كالشهادة عند غيرهم من الرعايا فكذلك الرجوع.(16/364)
وإذا شهدا على رجل أنه باع عبده هذا من فلان بألف درهم والبائع يجحد والمشتري يدعي ثم رجعا عن الشهادة فإن كانت قيمة العبد ألف درهم أو أقل فلا ضمان على الشاهدين لأنهما أدخلا في ملك البائع ما يعدل ما أخرجاه عن ملكه أو يزيد عليه وهو الثمن الذي استوفاه من المشتري وإن كانت قيمة العبد أكثر من ألف ضمنا الفضل لأنهما أتلفا الفضل عليه بغير عوض يعد له والبعض معتبر بالكل وكذلك كل بيع أو صرف شهدا به وإن أخر المقضي عليه الضمان عنهما جاز لأن هذا تأجيل دين واجب في الذمة وهو وسائر الديون سواء ثم إذا أجل رب الدين للمدين صح هذا التأجيل فكذا هنا ولأن الواجب عليهما ليس ببدل الصرف وإنما هو بدل الغصب أو مال مستهلك وقد تقدم بيان صحة التأجيل به.
وإذا كان لرجل على رجل دين فشهد شاهدان أنه وهبه أو تصدق به عليه أو أبرأه منه أو حلله أو أوفاه ثم رجع ضمنا المال لأنهما أتلفا عليه المال بشهادتهما فإن قيل قد أتلفا عليه الدين فكيف يضمنان له العين قلنا قد أتلفا عليه دينا يتعين بالقبض فيضمنان له مثل ذلك دينا في ذمتهما يتعين بالقبض منهما وإن شهدا أنه أجله سنة فقضي بذلك ثم رجع قبل الحل أو بعده ضمنا المال للطالب لأنهما فوتا عليه حق القبض بالشهادة بالتأجيل إلى انقضاء الأجل وذلك موجب للضمان عليهما وهذا لأن التأجيل في الحكم كالإبراء ألا ترى أن المريض إذا أجل في دين له يعتبر خروجه من الثلث كما لو(16/365)
ص -168- ... أبرأ ثم هذا يتضح في رجوعهما قبل حل الأجل وكذلك لو رجعا بعد حل الأجل لأن الضمان عليهما عند الرجوع بالشهادة لا بالرجوع فالإتلاف بالشهادة يحصل وإذا صار ضامنين بها لا يسقط الضمان عنهما بحلول الأجل كالوكيل بالبيع بثمن حال إذا باع بثمن حال ثم أجل عن المشتري كان ضامنا للموكل قبل حلول الأجل وبعده لهذا المعنى ولأن الضامن كان ضامنا للموكل قبل حلول الأجل وبعده ولأن الضمان إنما وجب عليهما بسبب الإتلاف لما بينا أنهما بشهادتهما فوتا عليه حق القبض وبحلول الأجل لم يتبين أن ذلك لم يكن إتلافا فلهذا كان له حق الرجوع عليهما وكان الخيار له إن شاء أخذ المطلوب وإن شاء أخذ الشاهد فإذا أخذ الشاهد كان لهما حق الرجوع به على المطلوب إلى أجله لأنهما ملكا ذلك المال بالضمان في ذمة المطلوب ولأن الطالب حين ضمنهما فقد أقامهما مقام نفسه في الرجوع على المطلوب فإن نوى على المطلوب بريء من الشاهدين لأنهما قاما في ذلك مقام الطالب لو اختار الرجوع على المطلوب ولا يكون لهما حق الرجوع على الطالب لأنهما قاما مقامه ثم إذا أدى للطالب لا يكون له حق الرجوع على أحد فكذلك للذي قام مقامه بخلاف الحوالة فإنه إذا نوى المال على المحتال عليه يرجع به على المحيل لأن تحول الحق إلى ذمة المحتال عليه كان بشرط سلامة المال للطالب من المحتال عليه فإذا لم يسلم عاد إلى ذمة المحيل وهنا أصل المال صار للشاهدين بالضمان مطلقا فإن خرجا كانا لهما وإن نوى كانا عليهما لأنهما قاما في ذلك مقام الطالب.(16/366)
ولو شهدا على رجل أنه وهب عبده لهذا الرجل وقبضه وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا ضمنا قيمة العبد لأنهما أتلفا ملكه بغير عوض ولا رجوع للمولى في الهبة إذا أخذ القيمة إما لأن القيمة عوض له من هبته أو لأنه يزعم أنه ملك العبد من الشاهدين بما أخذ منهما من الضمان فلا سبيل له على الموهوب له ولا للشاهدين لأن رجوعهما فيما يرجع إلى إبطال قضاء القاضي باطل والقاضي بقضائه جعل العبد هبة للموهوب له من جهة المقضي عليه لا من جهة الشاهدين وليس لغير الواهب حق الرجوع في الهبة ولو لم يضمن المقضي عليه للشاهدين فله الرجوع في العبد بقضاء القاضي لأنه هو الواهب للعبد بحكم القاضي وللواهب أن يرجع في الهبة ما لم يصل إليه العوض فإن قيل فإذا ضمن الشاهدان القيمة ينبغي أن يكون لهما حق الرجوع في الهبة باعتبار أنهما قاما مقام الواهب في ذلك كما في مسألة الدين قلنا الدين في الذمة مال وهو يحتمل التمليك بعوض ولهذا جاز الاستبدال بالدين مع من عليه الدين فيمكن أن يجعل مملكا ولك من الشاهدين بما استوفى منهما فأما في حق الرجوع في الهبة ليس بمال محتمل للاعتياض فيه فلا يكون مملكا ذلك من الشهود بالرجوع عليهما بالضمان ولا يمكن إثبات حق الرجوع لهما باعتبار(16/367)
ص -169- ... أنهما يقومان مقامه لأنه بعد ما وصل إليه العوض لا يكون له حق الرجوع في الهبة فلا يكون ذلك لمن قام مقامه أيضا.
ولو شهدا على عبد في يد رجل أنه لهذا الرجل فقضى له به وهو أبيض العين ثم ذهب البياض عنه وازداد خيرا أو مات عند المقضي له ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمته يوم قضى به ولا يلتفت إلى ما كان فيه بعد ذلك من زيادة أو نقصان لأن وجوب الضمان عليهما بالإتلاف بسبب الشهادة ففي القضاء بالضمان يعتبر القيمة وقت الشهادة كما في المغصوب والمستهلك والقول قولهما في القيمة لأن الضمان يجب عليهما فالقول في مقداره قولهما ولو شهدا على رجل أنه وكل هذا الرجل بقبض دينه الذي على فلان وفلان مقر بالدين فقضى القاضي به للوكيل وقبضه واستهلكه ثم قدم صاحب الدين فأنكر الوكالة ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما لم يتلفا المال بشهادتهما إنما بصناعته ثانيا يقبض المال فيحفظ له والوكيل ضامن لما استهلكه من ذلك لأن المال بقضاء القاضي حصل في يده أمانة للموكل وقد تعدى بالاستهلاك وكذلك هذا في قبض كل وديعة وغلة وميراث وغير ذلك.
ولو شهد رجل وامرأتان على ألف درهم ورجل وامرأتان عليهما وعلى مائة دينار فقضى القاضي بذلك ثم رجع رجل وامرأتان عن شهادتهم على الدراهم دون الدنانير لم يضمنوا شيئا لأنه قد بقي على الدراهم من تتم الحجة بشهادته ورجوع هؤلاء في حق الدراهم لا يكون رجوعا منهم عن الشهادة في الدنانير فلهذا لا يضمنون شرعا ولو رجعوا جميعا عن الدراهم والدنانير فضمان الدنانير على الذين شهدوا بها خاصة وضمان الدراهم جميعا عند أبي حنيفة أرباع على كل امرأتين ربع وعلى كل رجل ربع وعندهما ثلاث على كل رجل الثلث وعلى النسوة الثلث وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة في مرض الموت فذلك منهما بمنزلة الإقرار بالدين على أنفسهما في مرضهما فيبدآن بدين الصحة.(16/368)
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه باع عبده هذا بألف درهم وهو يساوي ألفين على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقضى القاضي بذلك ثم مضت الثلاثة فوجب البيع ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا فضل ما بين القيمة والثمن لأنهما أتلفاه بشهادتهما بغير عوض فإن قيل لا كذلك فالبيع بشرط خيار البائع لا يزيل ملكه عن المبيع وقد كان متمكنا من دفع الضرر عن نفسه بفسخ البيع في المدة فإذا لم يفعل كان راضيا بهذا البيع فينبغي أن لا يضمن الشاهدان شيئا قلنا زوال الملك وإن كان يتأخر إلى سقوط الخيار فالسبب هو البيع المشهود به ولهذا استحق المشتري المبيع بزوائده فكان الإتلاف حاصلا بشهادتهم والبائع كان منكرا لأصل البيع فمع إنكاره لا يمكن أن يتصرف بحكم الخيار لأنه إذا تصرف بحكم الخيار يصير مقرى بالبيع ويتبين للناس كذبه والعاقل يتحرز عن ذلك بجهده فلهذا(16/369)
ص -170- ... لا يعتبر تمكنه من الفسخ في إسقاط الضمان عن الشهود ولو أوجب البيع في الثلاثة لم يضمن له الشاهدان شيئا لأنه صار مقرى بالبيع مزيلا ملكه باختياره فلا يكون الشاهد متلفا عليه بشهادته وكذلك لو كان شرط الخيار للمشتري وهو منكر للشراء وفي قيمة العبد نقصان عن الثمن فإن سكت المشتري حتى مضت المدة ضمن المشهود له النقصان عند الرجوع وإن اختار البيع قبل الثلاثة لم يضمنا له شيئا لما بينا في جانب البيع.
ولو شهدا برهن عبده والراهن مقر بالدين جاحد للرهن فقضى القاضي بالعبد رهنا ثم رجعا فإن لم يكن في قيمة العبد فضل على الدين فلا ضمان عليهما لأنهما شهدا بثبوت يد الاستيفاء للمرتهن ولو شهد على المطلوب بحقيقة إيفاء الدين بمال في يده هو مثل الدين لم يضمنا عند الرجوع فكذلك إذا شهدا بثبوت يد الاستيفاء للمرتهن في ماله وإن كان في قيمته فضل على الدين لم يضمنا أيضا مادام العبد حيا لأنه باق على ملك المطلوب وهو متمكن من أخذه بقضاء الدين وهو مقر بالدين فإذا مات عند المرتهن ضمنا ذلك الفضل لأنهما أتلفا الفضل عليه بغير عوض حين أثبتا حق الحبس فيه للمرتهن ولم يسقط شيء من الدين عنه باعتباره ولو كان الراهن هو الذي ادعى الرهن وجحد المرتهن ذلك فقضى القاضي بشهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما ما أتلفا على المرتهن شيئا فإن حقه في المطالبة بالدين بعد الرهن كما كان من قبل وهو متمكن من رد الرهن لأن عقد الرهن لا يتعلق به اللزوم في جانب المرتهن فإن قيل فلماذا تقبل البينة عليه بذلك وهي لا تلزم شيئا قلنا إثبات السبب بالبينة صحيح وإن كان لا يتعلق به اللزوم في الحال كما في البيع بشرط الخيار للبائع أو للمشتري إلا أن يكونا شهدا عليه برهن هالك في يده فحينئذ هذا بمنزلة شهادتهما عليه باستيفاء الدين لأن الاستيفاء يتم بملك الرهن فيكونان متلفين للمال عليه فيضمنان له ذلك عند الرجوع.(16/370)
وإذا عمل المضارب بالمال وربح فادعى أنه أخذه مضاربة بالنصف وشهد له شاهدان ورب المال يقول بالثلث وأخذ المضارب نصف الربح ورد الباقي ثم رجع الشاهدان ضمنا السدس الذي شهدا به لأن القول قول رب المال لولا شهادتهما فما زاد على الثلث إلى إتمام النصف إنما استحقه المضارب على رب المال بشهادتهما وقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق ولو كان الربح كله دينا لم يضمنا شيئا حتى يقبض فما قبض منه اقتسماه نصفين ويضمن الشاهدان سدسه لرب المال لأن وجوب الضمان عليهما بتفويت اليد على نفس المال ولا يتحقق ذلك ما لم يخرج الدين وتصل إلى المضارب حصته فعند ذلك يتم التفويت عليه بسبب شهادتهما ولو شهدا أنه أعطاه الثلث فلا ضمان عليهما في هذا الوجه إذا رجعا لأن القول قول رب المال بغير شهود فلم يتلفا على المضارب شيئا بشهادتهما إذ الاستحقاق لم يثبت له بمجرد دعواه النصف بخلاف الأول فرب المال هناك مستحق للربح باعتبار أنه ماله فهما أتلفا عليه بشهادتهما ما كان(16/371)
ص -171- ... مستحقا له فيضمنان إذا رجعا ولو نوى رأس المال في الوجهين لم يضمنا شيئا لأنهما ما شهدا في رأس المال بشيء إنما شهادتهما في الربح ولم يظهر الربح.
ولو شهدا أنهما اشتركا ورأس مال كل واحد منهما ألف درهم على أن الربح بينهما أثلاثا وصاحب الثلث يدعي النصف وقد ربحا قبل الشهادة فقسمه القاضي بينهما أثلاثا ثم رجعا ضمنا لصاحب الثلث ما بين الثلث والنصف في كل ربح كان قبل الشهادة لأن كل واحد منهما مستحق لنصف الربح عند تساويهما في رأس المال والقول قول مدعي النصف لولا شهادتهما فما زاد على الثلث إلى النصف أتلفاه بشهادتهما على من أخذ الثلث بغير حق وما ربحا فيما اشتريا بعد الشهادة فلا ضمان عليهما فيه لأن كل واحد منهما متمكن من فسخ الشركة بغير رضا صاحبه فإقدامهما على التصرف بعد قضاء القاضي بأن الربح أثلاث يكون رضا منهما بذلك ورضا المتلف عليه يمنع وجوب الضمان على المتلف بطريق المباشرة فبالشهادة أولى.
ولو كان في يدي رجل مال فشهد شاهدان لرجل أنه شريكه شركة مفاوضة فقضى القاضي له بنصف ما في يده ثم رجعا ضمنا ذلك النصف للمشهود عليه لأن القول قول المنكر للشركة وهو ذو اليد لولا شهادتهما فإنما صار نصف ما في يده مستحقا عليه بشهادتهما وقد أقر أنهما أتلفاه بغير حق ولو شهدا على رجل بوديعة فجحدها أو عارية أو بضاعة فضمنه القاضي ذلك رجعا ضمنا له ما غرم من ذلك لأنهما شهدا عليه بدين فالوديعة المجحودة دين على المودع وقد أقرا بالرجوع أنهما ألزماه بغير حق فيضمنان له ما استوفى منه بذلك السبب.(16/372)
ولو ركب رجل بعير رجل إلى مكة فعطب فقال رب البعير غصبني وقال الراكب استأجرته منك بكذا وأقام عليه شاهدين فأبرأه القاضي من الضمان وأنفذ عليه ما وجب من الأجر ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة البعير إلا مقدار ما أخذ صاحبه من الأجر لأن ركوب بعير الغير موجب للضمان على الراكب لولا شهادتهما لكان ضمان القيمة دينا على الراكب بما ظهر منه فهما بشهادتهما أثبتا له سبب البراءة وقد أقر عند الرجوع أنهما أتلفا ذلك على رب البعير فكانا ضامنين له إلا أنهما عوضاه مقدار ما شهدا له من الأجر فيطرح عليهما ذلك ولأن صاحب البعير مقر أن الراكب غاصب لا أجر له عليه وأن ما استوفى منه استوفاه بحساب ضمان القيمة وزعمه معتبر في حقه فلا يرجع على الشاهدين إلا بالفضل ولو كان البعير أول يوم ركبه يساوي مائتي درهم وآخر يوم عطب فيه يساوي ثلاثمائة درهم لزيادة في يده والأجر خمسون فإنهما يضمنان مائتين وخمسين درهما بحساب يوم عطب من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول هذا في قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما يضمنان بحساب قيمته يوم ركب وقالوا هذا نظير الجارية المغصوبة إذا ازدادت في بدنها(16/373)
ص -172- ... ثم باعها الغاصب وسلمها إليه فإنه كما لم يذكر الخلاف هنا لم يذكر هناك وإنما ذكر قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في تلك المسألة في النوادر وحكم هذه وحكم تلك سواء والأصح أن هذا قولهم جميعا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول ضمان البيع والتسليم ضمان غصب ولهذا لا يضمن به إلا ما يضمن بالغصب والغصب بعد الغصب في الأصل لا يتحقق من واحد والزيادة المتصلة لا تفرد عن الأصل فأما ضمان الركوب إذا عطبت الدابة ضمان إتلاف ألا ترى أن الحر يضمن به والإتلاف الحقيقي بعد الغصب يتحقق في الأصل مع الزيادة فكان الراكب ضامنا قيمتها حين عطبت لولا شهادتهما فيضمنان عند الرجوع قيمتها باعتبار تلك الحال.
رجل له على رجل ألف درهم وهو مقر بها وفي يد الطالب ثوب يساوي مائة درهم يدعي أنه له فأقام المطلوب شاهدين أنه رهنه إياه بالمال وقضى به ثم هلك الثوب فذهب بمائة درهم ثم رجعا ضمنا مائة درهم للطالب لأن القول قوله في الثوب أنه ملكه باعتبار يده فهما أتلفا عليه ملك الثوب بشهادتهما أنه للمطلوب فيضمنان له عند الرجوع فإن قيل كيف يضمنان ولم يخرج الثوب من يده حتى هلك قلنا عين الرهن أمانة في يد المرتهن فيده في ذلك كيد الراهن ثم أثبتا بشهادتهما يد الاستيفاء للمرتهن في مقدار المائة وقد تم ذلك بهلاك الرهن فكأنهما شهدا عليه أنه استوفاه مائة ثم رجعا ولو كان ذو اليد مقرى بالثوب للراهن غير أنه يقول هو عندي وديعة وقال الراهن بل هو رهن عندك وأقام شاهدين عليه فقضى به ثم هلك ثم رجعا فلا ضمان عليهما لأنهما لم يتلفا على ذي اليد عين الثوب لأنه لا يدعي ملكه لنفسه وقد كان متمكنا من رده على الراهن بعد قضاء القاضي فالرهن لا يكون لازما في جانب المرتهن فيجعل امساكه الثوب بعد قضاء القاضي بأنه رهن عنده رضا منه بما شهدا عليه فلا يضمنان له عند الرجوع شيئا بخلاف الأول فقد أتلفا عليه ملكه في الثوب هناك.(16/374)
ولو شهد شاهدان على رجل أنه أسلم عشرة دراهم في كر حنطة إلى رجل يجحد ذلك ولم يعترفا فقضى القاضي به وأمر بدفع العشرة إليه وأوجب الكر عليه ثم رجعا فلا ضمان عليهما حتى يقبض الكر لأنهما ألزما المسلم إليه الكر دينا فلو ضمنا له يضمنان العين والعين فوق الدين في المالية وضمان الإتلاف يتقدر بالمثل فإذا قبضه منهما فهما ضامنان لطعام مثله إلا عشرة دراهم ينقص من ذلك الكر لأن مقدار العشرة حصل الإتلاف فيه بعوض فلا يجب ضمانه عليهما عند الرجوع وما زاد على ذلك أتلفاه بغير عوض فإن كان رأس المال مثل الكر لم يضمنا شيئا لأنهما عوضاه مثل ما أتلفا عليه والإتلاف بعوض يعدل المتلف ولا يوجب الضمان على المتلف.
ولو شهدا على رجل أنه أكرى شق محمل إلى مكة بمائة درهم فقضى له القاضي وحمله وقبض الأجر ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما إذا كان المستأجر هو المدعي وإن كان الأجر ضعف ذلك لأنهما أتلفا المنفعة على رب الإبل والمنفعة ليست(16/375)
ص -173- ... بمال يضمن بالاستهلاك عندنا ولو أتلفاه مباشرة بأن ركبا لم يضمنا فإذا أتلفاه بشهادتهما أولى وإن كان ادعاه صاحب الإبل وجحده المستأجر ضمنا له مما أدى ما زاد على أجر مثل البعير لأنهما أتلفا عليه ما التزماه بشهادتهما من الأجر وعوضاه من ذلك منفعة البعير والمنافع تتقوم بالعقد وتأخذ حكم المالية ولهذا لا يثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلته فلا يضمنان مقدار ما أتلفاه بعوض ويضمنان ما سوى ذلك لأنه لولا شهادتهما لكان القول قول الراكب ولم يضمن شيئا فإنما لزمه الأجر بشهادتهما ولو أقر عند الرجوع أنهما أتلفا ذلك بغير حق فيضمنان له مالا يقابله من ذلك عوض يعدله.(16/376)
ولو ادعى رجل على رجل ألف درهم وأقام بما عليه شاهدين وأقام المشهود عليه بالألف شاهدين أنه أبرأه منها أو شهدوا أنه أبرأه من كل قليل وكثير يدعي ذلك فعدلوا واجتمعت البينتان عند القاضي فإنه لا ينبغي له أن لا يسمع من الشهود الذين شهدوا على المال لأن هنا من يشهد على البراءة والبراءة مسقطة مفرغة للذمة فكيف يقضي بإشغال الذمة بالمال وقد ظهر عنده ما يفرغ الذمة ثم الإبراء في معنى الناسخ بحكم وجوب الدين والقضاء بالمنسوخ بعد ظهور الناسخ لا يجوز فإن أخذ بشهادة شهود البراءة فقضى بها ثم رجعوا فإن القاضي يكلف المشهود له بالألف بالبينة المثبتة ولا يلتفت إلى ما مضى لأنه لم يقض بشهادتهم على أصل المال والشهادة التي لم يتصل القضاء بها لا تكون موجبة شيئا فلا بد من إعادتهم إذا أراد تضمين شهود البراءة لأنهم يضمنون بإتلافهم عليه ما كان مستحقا له وإنما يثبت هذا الاستحقاق بإعادة البينة وإن أعادهم فخصمهم في ذلك شهود البراءة الذين رجعوا لأنه يدعي عليهم الضمان فهم خصماؤه في ذلك ولا يتمكن من أن يلزم المدين شيئا بهذه الشهادة لأن رجوع شهود البراءة بعد قضاء القاضي بشهادتهم لا يكون معتبرا في حقه فلهذا لا تقوم شهود البراءة مقام المدين في إعادة هذه البينة عليهم فإن شهد الشهود على الألف أنها على المدعي عليه في الأصل فقضي بها على شهود البراءة لأنه يتحقق إتلافهم ذلك المال على الطالب بشهادتهم عليه بالبراءة فيضمنان له ولا يرجعان بها على المشهود له بالبراءة لأنهما يضمنان عند الرجوع ورجوعهما ليس بحجة في حق المشهود له بالبراءة وقال وإنما يأمر القاضي مدعي المال بإعادة شهوده بعد رجوع شاهدي البراءة بمحضر منهما لأن المال إنما وجب عليهما ساعة رجعا وهو مال حادث وجب عليهما فلا يجبرا بشهادة الشهود الذين شهدوا به قبل وجوب المال عليهما لأنهما كأنهما غصبا المال ساعة يقضي القاضي له ورجعا والله أعلم.(16/377)
تم الجزء السادس عشر ويليه السابع عشر أوله الرجوع عن الشهادة في الطلاق والنكاح(16/378)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء السابع عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(17/1)
ص -3- ... باب الرجوع عن الشهادة في الطلاق والنكاح
قال رحمه الله: وإذا شهد رجل وامرأتان على طلاق امرأة ورجل وامرأتان على دخوله بها فقضى القاضي بالصداق والطلاق ثم رجعوا فعلى شهود الدخول ثلاثة أرباع المهر وعلى شهود الطلاق ربع المهر لأن شهود الطلاق ألزموه نصف المهر بدليل أنهم لو انفردوا قضى القاضي على الزوج بنصف المهر وشهود الدخول ألزموه جميع المهر بدليل أنهم لو انفردوا قضى القاضي عليه بجميع المهر فنصف المهر اختص بشهود الدخول بإيجابه على الزوج فعند الرجوع ضمانه عليهم ونصف المهر اشتركوا فيه فضمانه عند الرجوع على كلا الفريقين نصفان
فإن قيل: لا كذلك بل جميع المهر واجب على الزوج بالعقد فما ألزمه واحد من الفريقين شيئا من المهر بما شهدوا به قلنا نعم وجب جميع المهر بالعقد ولكن بمقابلة البضع على أنه فوت تسليم البضع على وجه لا ينتهي به النكاح فلا شيء على الزوج منه وقد تحقق ذلك بالفرقة بينهما ولولا شهادة شهود الطلاق لم يكن عليه نصف المهر ولولا شهادة شهود الدخول لم يكن عليه جميع المهر ولكنهما حين شهدا بوجود التسليم قبل ظهور الفرقة فكأنهما ألزماه جميع المهر وحين شهدا الآخران بالفرقة قبل التسليم مضافا إلى الزوج فكأنهما ألزماه نصف المهر فيجب ضمان ذلك عند الرجوع عليهم لأنهم حالوا بينه وبين المهر بشهادتهم فكأنهم غصبوه ذلك أحد الفريقين النصف والفريق الآخر الكل(17/2)
ولو رجع شاهد الدخول وحده ضمن ربع المهر لأن النصف الذي اختص شهود الدخول بإلزامه بقي فيه امرأتان على الشهادة وببقائهما يبقى نصف ذلك النصف فيجب على الراجع نصف ذلك النصف وفي النصف الآخر قد بقي على الشهادة حجة تامة. ولو رجع شاهد الطلاق وحده لم يضمن شيئا لأن في النصف الذي لزم بشهادة شهود الطلاق قد بقي على الشهادة حجة كاملة ولو رجع شهود الدخول كلهم ضمنوا النصف لأن النصف الآخر قد بقي على الشهادة حجة كاملة ولو كان شهود الطلاق هم الذين رجعوا لم يضمنوا شيئا لأنه بقي على الشهادة بجميع المهر حجة تامة وهم شهود الدخول
ولو رجعت امرأة من شهود الطلاق وامرأة من شهود الدخول فعلى الراجعة من شهود الدخول ثمن المهر لأن النصف الذي اختص به شهود الدخول بقي على الشهادة فله رجل(17/3)
ص -4- ... وامرأة فبقي الحجة في ثلاثة أرباعه بتفاوتهما ويجب على الراجعة ربع ذلك النصف ولا ضمان على شاهد الطلاق لأنه بقي على الشهادة في ذلك النصف حجة كاملة بعد رجوعها .
ولو شهد شاهدان أنه طلق امرأته واحدة وآخران أنه طلقها ثلاثا ولم يكن دخل بها فقضى بالفرقة وبنصف المهر لها ثم رجعوا جميعا فضمان نصف المهر على شهود الثلث ولا ضمان على شهود الواحدة لأن أصحاب الثلث هم الذين قطعت بشهادتهم.
ألا ترى أنها لا تحل له قبل الزوج ومعنى هذا أن بالثلث يثبت في المحل صفة الحرمة وشيء من تلك الحرمة لا يثبت بالواحدة لأن حرمة المحل لا تحتمل التجزي وإنما قضي القاضي بحرمة المحل وذلك من موجبات ما شهد به شهود الثلث خاصة فعرفنا أن القضاء كان بشهادتهم فالضمان عند الرجوع عليهم وهو نظير ما ذكر بعده ولو شهد شاهدان أنه حلف لا يقربها يوم النحر وآخران أنه طلقها يوم النحر فأبانها القاضي منه ولم يكن دخل بها وألزمه نصف المهر ثم رجعوا فالضمان على شهود الطلاق دون شهود الإيلاء لأنه إنما قضي بالفرقة بشهادة شهود الطلاق دون شهادة شهود الإيلاء وهذه المسألة حجة لأبي حنيفة رحمه الله في أن الثلاث غير الواحدة وقد بيناه فيما إذا شهد أحد الشاهدين بتطليقة والآخر بثلاث
وإذا شهد على رجل أنه تزوج امرأة على ألف درهم وهي مهر مثلها قضي بذلك ونقدها الألف ثم رجعا لم يضمنا شيئا أيهما كان المدعي في ذلك لأنه إن كانت المرأة هي المدعية فقد ألزما الزوج الألف وأدخلا في ملكه البضع بمقابلته والبضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم لأنه يتملك البضع ومن ضرورة التملك يقوم المملوك به كالاستيلاء لما كان يتملك به الحربي يتقوم به نفسه وقد بينا أن الإتلاف بعوض يعدله لا يوجب الضمان.(17/4)
ولو كان الزوج هو المدعي فقد أثبتنا عليه الملك وعوضاها بمقابلته ما يعدله وهو الألف فإن كان مهر مثلها خمسمائة وكان الزوج منكرا ضمنا له الفضل لأنهما ألزماه الألف وعوضاه ما يتقوم بخمسمائة فقيمة البضع مهر المثل فالخمسمائة الأخرى أتلفاها عليه بغير عوض وإن كان المدعي هو الزوج فلا ضمان عليهما سواء كان مهر مثلها أقل أو أكثر لأنهما أتلفا البضع عليهما بغير عوض دون قيمة البضع ولكن البضع لا يتقوم على المتلف وإنما يتقوم على المتملك لضرورة التملك فلم يضمن الشاهدان لهما شيئا وعند الشافعي رحمه الله يضمنان ما زاد على الألف إلى تمام مهر مثلها .
وأصل المسألة ما إذا شهد شاهدان بالتطليقات الثلاث بعد الدخول ثم رجعا بعد القضاء بالفرقة لم يضمنا شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يضمنان للزوج مهر المثل وكذلك إن قتل المرأة رجل لم يضمن القاتل للزوج شيئا من المهر عندنا وعند الشافعي يضمن مهر المثل وكذلك لو ارتدت المرأة بعدالدخول لم يغرم للزوج شيئا عندنا وعند الشافعي للزوج مهر المثل على القاتل وعليها وإن ارتدت لأن البضع متقوم بدليل أنه متقوم عند دخوله في(17/5)
ص -5- ... ملك الزوج فيقوم عند خروجه من ملكه أيضا لأنه إنما يخرج من ملكه عين ما دخل في ملكه فمن ضرورة التقوم في إحدى الحالتين التقوم في الحالة الأخرى كملك اليمين فإنه يتقوم عند ثبوته ابتداء ويتقوم أيضا عند الإزالة بطريق الإبطال وهو العتق حتى يضمن شهود العتق القيمة إذا رجعوا والدليل عليه أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا ضمنوا نصف المهر فلو لم يكن البضع متقوما عند الطلاق لما ضمنوا شيئا وإذا ثبت التقوم قلنا المتقوم مضمون بالإتلاف مالا أو غير مال كالنفس.
وحجتنا في ذلك أن البضع غير متقوم بالمال عند الإتلاف لأن ضمان الإتلاف يتقدر بالمثل ولا مماثلة بين البضع والمال صورة ومعنى فأما عند دخوله في ملك الزوج المتقوم هو المملوك دون الملك الوارد عليه وكان تقومه لإظهار خطر ذلك المحل حتى يكون مصونا عن الابتدال ولا يملك مجانا فإن ما يملكه المرء مجانا لا يعظم خطره عنده وذلك محل له خطر مثل خطر النفوس لأن النسل يحصل به وهذا المعنى لا توجد في طرف الإزالة فإنها لا تتملك على الزوج شيئا ولكن يبطل ملك الزوج عنها .
ألا ترى أن ما هو مشروط لمعنى الخطر عند التملك كالشهود والولي لا يشترط شيئا منه عند الإزالة وأن الأب لو زوج ابنه الصغير بماله يصح ذلك ولو خلع ابنته الصغيرة بمالها من زوجها لم يصح ذلك وهذا بخلاف ملك اليمين فهو ملك مال والمال مثل المال صورة ومعنى فعند الإتلاف يضمن بالمال وهذا بخلاف ما إذا شهدا بالطلاق قبل الدخول لأنهما لا يغرمان هناك قيمة البضع فقيمة البضع مهر المثل ولا يغرمان شيئا من ذلك عندنا وإنما يغرمان نصف الصداق لأنهما أكدا على الزوج ما كان على شرف السقوط فإن المرأة إذا ارتدت يسقط عنه المهر وكذلك إذا قتلت بن زوجها فهما أكدا عليه ما كان على شرف السقوط فكأنهما ألزماه ذلك هو عبارة المتقدمين رحمهم الله.(17/6)
والأوجه أن تقول وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط جميع الصداق إذا لم يكن مضافا إلى الزوج ولا كان متهيئا للنكاح للفقه الذي ذكرنا في أول الباب فهما بإضافة الفرقة منعا العلة المسقطة من أن يعمل عليها في النصف فكأنهما ألزما الزوج ذلك النصف بشهادتهما فيضمنان له ذلك عند الرجوع وفي هذا أيضا نوع من الشبهة فإن الابن إذا أكره امرأة أبيه حتى زنا بها قبل الدخول يغرم الأب نصف المهر ويرجع به على الابن ولم يوجد منه ما تصير به الفرقة مضافة إلى الأب ولكنا نقول هو بإكراهه إياها منع صيرورة الفرقة مضافة إليها وذا موجب نصف الصداق على الأب فكأنه ألزمه ذلك وعلى هذا الخلاف شهود العفو عن القصاص إذا رجعوا لم يضمنوا شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يضمنون الدية لأن القصاص ملك متقوم للولي.
ألا ترى أن القاتل إذا صالح في مرضه على الدية يعتبر ذلك من جميع المال وقد أتلفوا عليه ذلك بشهادتهم فيضمنون عند الرجوع وإن لم يكن مالا كما تضمن النفس بالإتلاف(17/7)
ص -6- ... حالة الخطأ ولكنا نقول ملك القصاص كملك البضع للزوج من حيث إنه لا يظهر إلا في حق الاستيفاء وقد بينا أن ملك البضع غير متقوم وإنما المتقوم المحل المملوك فكذلك ملك القصاص إلا أن بالصلح القاتل إنما يلتزم الدية بمقابلة ما هو من أصول حوائجه فهو محتاج إلى هذا الصلح لإبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث فيعتبر من جميع المال لهذا .
والمريضة إذا اختلعت فإنما التزمت المال لا بمقابلة ما هو من أصول حوائجها فاعتبر من الثلث كذلك ولأنه يسلم للقاتل المحل المملوك وهو نفسه وذلك متقوم وهنا بالطلاق بطل ملك الزوج من غير أن يسلم لها شيء كان قد أشرف على الزوال عنها وقد بينا أنه لا قيمة للملك الوارد على المحل فأما تقوم النفس بالدية عند الإتلاف فللصيانة عن الهدر وإظهار خطر المحل وهذا لا يوجد في ملك القصاص فالعفو مندوب إليه فيكون إهداره حسنا بهذا الطريق لأن القصاص حياة حكما وفي العفو حياة حقيقة فلا يمكن إيجاب الضمان على المتلف هنا بمعنى الصيانة ولو لم يكن فرض الزوج لها مهرا فشهدا بالطلاق قبل الدخول وقضى القاضي لها بالمتعة ثم رجعا غرما المتعة له لأن المتعة في نكاح لا تسمية فيه بمنزلة نصف الصداق في نكاح فيه تسمية فكما أن هناك عند الرجوع يغرمان للزوج ما قضي به القاضي وهو نصف المهر فكذلك هنا يغرمان له ما قضي به القاضي وهو المتعة.
وزفر رحمه الله يقول في الفصلين: لا يغرمان شيئا لأن جميع المهر وجب على الزوج بالعقد وإنما يسقط عنه نصفه بالطلاق قبل الدخول فهما أسقطا عنه البعض وما أوجبا عليه شيئا وإنما ضمنا فإنما ينبغي أن يضمنا لها لأنهما أتلفا ملكها في بعض الصداق وفيما قررنا جواب عن كلام زفر رحمه الله.(17/8)
ولو شهد شاهدان على رجل أنه تزوج امرأة على ألف والزوج يجحد ومهر مثلها خمسمائة وشهد آخران أنه طلق قبل الدخول فقضي بذلك ثم رجعوا فعلى شاهدي النكاح مائتان وخمسون وعلى شاهدي الطلاق مائتان وخمسون لأن ما زاد على الخمسمائة إلى تمام ألف ألزمه شهود العقد من غير عوض بمقابلته وقد سقط عنه نصف ذلك بالطلاق وبقي النصف فيغرمان له ذلك عند الرجوع وذلك مائتان وخمسون ومقدار الخمسمائة ألزماه بعوض فلا ضمان عليهما في ذلك ولكن شهود الطلاق قبل الدخول كأنهما ألزماه نصف ذلك النصف تمنعهما العلة المسقطة من أن يعمل عملها حين أضافا الفرقة إلى الزوج فيضمنان ذلك عند الرجوع
ولو شهد آخران أيضا بالدخول فألزمه القاضي ألف درهم ثم رجعوا فعلى شاهدي النكاح خمسمائة الفضل على مهر مثلها لأنهما ألزماه ذلك بغير عوض وأما الخمسمائة الأخرى ألزماه بعوض يعدله فلا يضمنان له شيئا من ذلك ولكن بقي في ذلك شاهدا الدخول وشاهدا التطليق فثلاثة أرباعه على شاهدي الدخول وربعه على شاهدي الطلاق بمنزلة جميع المسمى في مسألة أول الباب على ما قررنا(17/9)
ص -7- ... وإذا شهد شاهدان على امرأة أنها اختلعت من زوجها قبل أن يدخل بها على أن برأته من المهر والزوج يدعي ذلك وهي تجحد فقضي بذلك ثم رجعا ضمنا نصف المهر لأنه لولا شهادتهما لكان لها نصف المهر لوقوع الفرقة قبل الدخول بإقرار الزوج فهما أتلفا عليهما ذلك النصف بشهادتهما ولو كان دخل بها بعد الزوج والمهر عليه ضمنا لها جميع المهر لأنه لولا شهادتهما لكان لها جميع المهر على الزوج لأن الفرقة وقعت بإقراره بعد الدخول فهما أتلفا جميع المهر عليها بشهادتهما بالخلع والإبراء من المهر فيضمنان ذلك لها عند الرجوع كشاهدي الإبراء في سائر الديون.
ولو ادعى رجل أنه تزوج امرأة على مائة درهم وقالت المرأة بل تزوجني على ألف درهم وذلك مهر مثلها فأقام الزوج شاهدين بما ادعى وقضى بذلك وقد دخل بها ثم رجعا ضمنا لها تسعمائة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولم يضمن لها شيئا في قول أبي يوسف رحمه الله وهو بناء على مسألة كتاب النكاح إذا اختلف الزوجان في المهر ومهر المثل مثل ما تقوله المرأة فعندهما القول قولها وعنده القول قول الزوج ولولا شهادة الشاهدين لكان يقضي لها على الزوج بالألف فهما أتلفا عليها بشهادتهما مقدار تسعمائة فيضمنان لها ذلك عند الرجوع .(17/10)
وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الزوج في المهر فالشاهدان لم يتلفا على المرأة شيئا فبهذا يتبين أن الصحيح في معنى المستنكر عند أبي يوسف رحمه الله أن يدعي الزوج دون العشرة فأما إذا ادعى نقصانا كثيرا عن مهر المثل فالقول قوله كما فسره في هذه المسألة ولو طلقها قبل الدخول لم يضمنا لها شيئا بالاتفاق لأن القول قول الزوج بعد الطلاق كما ذكره في كتاب النكاح فلا يضمنان لها شيئا لذلك وذكر في بعض نسخ الأصل يضمنان لها أربعمائة وخمسين درهما وهذا إن صح فهو بناء على ما ذكره في الجامع من تحكيم المتعة بعد الطلاق عندهما أن تكون متعتها خمسمائة فقد أتلفا عليها ما زاد على الخمسين وذلك أربعمائة وخمسون فيضمنان ذلك لها وكذلك إن كانت لم تقر بالنكاح لم يضمنا لها شيئا لأنهما ما أتلفا عليها شيئا من المال إنما أتلفا عليها ملك البضع بشهادتهما وقد بينا أن البضع لا يتقوم على غير المتملك
ولو ادعت امرأة على زوجها أنه صالح من نفقتها على عشرة دراهم كل شهر فقال الزوج صالحتك على خمسة فشهد شاهدان أنه صالحها على عشرة فقضي بها ثم رجعا فإن كانت نفقة مثلها عشرة أو أكثر فلا ضمان عليهما لأن القول قولها في مقدار نفقة مثلها فالشهود ما ألزموا الزوج شيئا بغير عوض وإن كانت نفقة مثلها أقل من عشرة ضمنا الفضل للزوج فيما مضى لأنه لولا شهادتهما لكان القول قول الزوج في إنكاره الفضل على نفقة مثلها فإنما ألزماه ذلك بشهادتهما.
وإذا قضى القاضي لامرأة بمهر أو متعة أو نفقة فمضت مدة ثم شهد شاهدان عليها(17/11)
ص -8- ... بالاستيفاء وقضى به ثم رجعا ضمنا ذلك للمرأة لأن ذلك كان دينا مستحقا لها على الزوج فنفقة الزوجة تصير دينا بقضاء القاضي وقد بينا أن الشهادة باستيفاء الدين موجب الضمان عند الرجوع وكذلك الولد وكل ذي رحم محرم ممن فرض له القاضي النفقة وهذا على رواية الجامع حيث يقول أن نفقة ذوي الأرحام تصير دينا بقضاء القاضي فأما على رواية كتاب النكاح يقول لا تصير ذلك دينا بعد مضي المدة وإن قضي القاضي فعلى تلك الرواية شهود الاستيفاء لا يضمنون شيئا وقد بينا وجه التوفيق بين الروايتين فيما أملينا من شرح الجامع.
ولو شهد رجلان على الطلاق ورجلان على الدخول ثم رجع شاهد الطلاق وأحد شاهدي الدخول ضمنوا جميعا نصف المهر على شاهد الدخول من ذلك نصفه والنصف الباقي عليهم أثلاثا لأن في النصف الذي لزمه بشهادة شاهدي الدخول خاصة بقي أحدهما على الشهادة فتبقى الحجة في نصف ذلك النصف ببقائه فعلى الراجع منهما نصف ذلك النصف وفي النصف الباقي يبقى نصفه أيضا ببقائه على الشهادة وإنما انعدمت الحجة في نصف ذلك النصف وقد كان ثبت بشهادتهم جميعا فعند الرجوع يجب ضمان ذلك النصف عليهم أثلاثا.
وإذا طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها مهر فشهد شاهدان أنه صالحها من المتعة على عبد ودفعه إليها وقبضته وهي تنكر ذلك ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما يضمنا المتعة لها وهي ثلاثة أثواب مثل كسوتها في بيتها ولا يضمنان لها العبد لأن أصل حقها هو المتعة وقد أتلفا بشهادتهما ذلك عليها فأما العبد كان ملكا للزوج لولا شهادتهما فلا يضمنان لها العبد وإن شهدا عليها بقبضه لأن وجوب ذلك لها بشهادتهما وهي تنكر فلا يكون لها أن تضمنهما قيمة العبد مع ما سبق من إنكارها وإنما تضمنهما أصل حقها وهو المتعة فإن كان مهر مثلها عشرة دراهم ضمنا له خمسة دراهم لأنه لا يراد بالمتعة على نصف مهر المثل فلولا شهادتهما كان لها هذه الخمسة فلهذا ضمنا لها عند الرجوع الخمسة.(17/12)
ولو شهد شاهدان على الطلاق وشاهدان على الدخول ولم يكن سمى لها مهرا فقضي بذلك ثم رجعوا ضمن شاهدا الطلاق نصف المتعة وشاهدا الدخول بقية المهر لأن المتعة في نكاح لا تسمية فيه كنصف المسمى في نكاح فيه تسمية المهر وقد بينا أن هناك شهود الطلاق يغرمون ربع المسمى فكذلك هنا يغرمون نصف المتعة وما زاد على ذلك إلى تمام مهر المثل ثابت بشهادة شهود الدخول فيغرمون ذلك عند الرجوع.
ولو شهد شاهدان على مائة درهم بعينها في يد رجل أنها لرجل آخر وآخران على مائة منها أنها له فقضي له بذلك ثم رجع أحد شاهدي المائتين ضمن خمسين لأن مقدار المائة استحق بشهادته وشهادة صاحبه خاصة وقد بقي نصفه ببقاء صاحبه على الشهادة فيغرم نصفه وذلك خمسون وإن رجع أحد شاهدي المائة أيضا لم يضمن شيئا لأن مقدار المائة ثبت بشهادة الأربع وقد بقي اثنان على الشهادة بتلك المائة فلا يغرم الراجعان شيئا من ذلك والله أعلم بالصواب(17/13)
ص -9- ... باب عن الرجوع عن الشهادة أيضا
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان ذميان لذمي على ذمي بمال أو خمر أو خنزير فقضي بذلك ثم رجعا ضمنا المال وقيمة الخمر مثل قيمة الخنزير لأن ضمان الرجوع بمنزلة ضمان الغصب والإتلاف وأهل الذمة في ذلك يستوون بالمسلمين ويضمنون في الخمر المثل وفي الخنزير القيمة وإن كان الشاهدان أسلما ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة الخنزير لأن الخنزير ليس من ذوات الأمثال وكان الواجب عليهما ضمان القيمة بنفس الإتلاف وإسلامهما لا يمنع نفوذ ذلك وفي الخمر عند محمد رحمه الله يضمنان القيمة وعند أبي يوسف رحمه الله لا يضمنان شيئا بناء على إسلام المسلمين المطلوب بعد إتلاف الخمر وقد بيناه في الغصب ولو لم يسلم الشاهدان وأسلم المشهود عليه ثم رجعا ضمنا قيمة الخنزير ولم يضمنا الخمر لأن الواجب عليهما مثل الخمر وإسلام الطالب يسقط الخمر لا إلى بدل فالمشهود عليه في حقهما طالب فأما إتلاف الخنزير يوجب القيمة وإسلام الطالب لا يمنع بقاءها واستيفاءها.
ولو شهد ذميان بمال على ذمي وأسلم المشهود عليه قبل أن يقضي القاضي بشهادتهما لم يقض بها أن إسلام المشهود عليه لو اقترن بشهادتهما منع العمل بها فكذلك إذا طرأ قبل القضاء وهذا لأن القاضي لا يقضي إلا بحجة وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين.(17/14)
وإذا شهد محدودان بقذف بشهادة ولم يعلم القاضي بذلك حتى قضي بشهادتهما ثم علم بذلك وليس من رأيه إمضاؤه فإنه يرد القضاء ويأخذ المال من المقضي له لأنه ظهر له الخطأ في قضائه وهذا بناء على أن قضاء القاضي في المجتهدات إنما ينفذ إذا صدر عن اجتهاد فأما إذا لم يكن عن اجتهاد وإنما كان عن تلبيس واشتباه لم ينفذ وهو ظاهر المذهب على ما أشار إليه في الجامع ذكره الخصاف وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن قضاءه في المجتهدات نافذ وإن لم يكن عن اجتهاد منه لأنه لا ينقض قضاءه ما لم يتبين له الخطأ بيقين وفي الاجتهاد لا يتبين ذلك فعلى تلك الرواية لا ينقض القضاء هنا أيضا .
قال وكذلك لو علم أنهما عبدان أو كافران أو أعميان أما في العبدين والكافرين فقد ظهر أن قضاءه كان بخلاف الإجماع فهو باطل وفي الأعميين الجواب مثل الجواب في المحدودين في القذف لأن قضاءه حصل فيما هو مجتهد فيه وإن لم يقصد الاجتهاد وقد نص على أنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله يعني رد القضاء وأخذ المال من المقضي له .
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وقضى القاضي بذلك ثم رجعا ضمنا قيمة العبد لأنهما أتلفا عليه ملكا هو مال متقوم ولا يمنع وجوب الضمان عليهما بثبوت الولاء للمولى لأن الولاء ليس بمال متقوم بل هو كالنسب فلا يكون عوضا عما أتلفا عليه من ملك(17/15)
ص -10- ... المال ولو شهدا عليه أنه دبره فقضى القاضي بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير لأنهما أوجبا حق العتق للعبد بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير لأنهما أوجبا حق العتق للعبد وبذلك ينقض ملك المالية للمولى فيضمنان ذلك النقصان وقد بينا في كتاب العتاق مقدار نقصان التدبير فإن مات المولى يخرج العبد من ثلثه عتق وضمن الشاهدان قيمته مدبرا لأن تلف ما بقي من المال عند موت المولى حصل بشهادتهما فالتدبير موجب حق العتق في الحال وحقيقة العتق في الثلث بعد الموت وقد كان ضمنا ما أتلفاه معجلا وما زاد على ذلك كان مؤجلا فيضمنان ذلك عند تحقق الإتلاف وذلك بعد موت المولى.
وإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته ويضمن الشاهدان ثلث القيمة إذا عجل العبد الثلثين فإن بدل ما زاد على الثلث قد سلم للورثة من جهة العبد فإتلاف الشاهدين لذلك حصل بعوض فلا يضمنانه عند الرجوع فأما مقدار الثلث أتلفاه على الورثة بغير عوض فيضمنان ثلث قيمته مدبرا ولا يرجعان بذلك الثلث على العبد لأن رجوعهما غير مقبول في حق العبد وإن لم يعجل العبد الثلثين من القيمة وعجز عنها فللورثة أن يرجعوا به على الشاهدين لأنهما حالا بين الورثة وبين ذلك القدر من ماليته بشهادتهما والعوض في ذمة المفلس فكأنهما أتلفا ذلك بغير عوض فيضمنان للورثة كالثلث ويرجع الشاهدان بذلك على العبد لأنهما قاما مقام الورثة حين ضمنا ذلك وقد كان للورثة حق الرجوع على العبد بذلك فكذلك لمن قام مقامه بخلاف ثلث القيمة وحالهما في الثلثين كحال شهود الكتابة فإنهما لو شهدا عليه أنه كاتب عبده على ألف درهم إلى سنة فقضي بذلك ثم رجعا وهو يساوي ألفين أو ألفا فإنهما يضمنان قيمته لأنهما حالا بين المولى وبين مالية العبد بشهادتهما عليه بالكتابة فكانا بمنزلة الناصبين ضامنين للقيمة ثم يتبعان المكاتب بالمكاتبة على نحوهما لأنهما قاما مقام المولى في ذلك حين ضمنا قيمته.(17/16)
ولا يعتق المكاتب حتى يؤدي ما عليه لأنه قبل رجوع الشاهدين ما كان يعتق إلا بعد أداء جميع الألف إلى المولى فكذلك حاله مع الشاهدين بعد ما ضمنا القيمة فإذا أداه عتق والولاء للذي كاتبه لأن الشاهدين قاما مقام المولى في قبض بدل الكتابة منه فأداؤه إليهما كأدائه إلى المولى وهذا لأن رجوعهما في حق المكاتب غير صحيح وقد استحق المكاتب أن يعتق على المولى ويكون ولاؤه له فلا يبطل ذلك الحق برجوع الشاهدين وإن عجز ورد في الرق كان لمولاه لأن رقبته لم تصر مملوكة للشاهدين فالمكاتب ليس بمحل النقل من ملك إلى ملك فرجوعهما غير صحيح في حقه ويرد المولى ما أخذ من الشهود عليهم لأن الحيلولة قد زالت بعجز المكاتب فهو نظير غاصب المدبر إذا ضمن القيمة بعد ما أبق ثم رجع فيكون مردودا على مولاه ويرد المولى على الغاصب ما أخذ منه.
ولو شهد شاهدان أنه حلف بعتقه إن دخل هذه الدار وشهد آخران أنه قد دخلها فقضى بعتقه ثم رجعوا جميعا ضمن شاهد اليمين قيمة العبد ولا ضمان على شاهدي الدخول عندنا(17/17)
ص -11- ... وقال زفر رحمه الله الضمان عليهم جميعا لأن تلف المال حصل بشهادة الفريقين جميعا ولكنا نقول شهود اليمين أثبتوا بشهادتهم العلة الموجبة للعتق وهو قوله أنت حر وشهود الدخول إنما أثبتوا شرط العتق والشرط لا يعارض العلة في إحالة الحكم عليه فالحكم يضاف إلى علته حقيقة لأنه واجب بها شرعا وإلى الشرط مجازا لأنه موجود عند الشرط لا به والمجاز لا يعارض الحقيقة بل متى كانت العلة صالحة لإضافة الحكم إليها لا يضاف شيء إلى الشرط وهو نظير حافر البئر مع الملقي فإن الضمان على الملقى دون الحافر وعلى القائد دون الممسك لهذا المعنى وقد بينا هذا في مسألة شهود الإحصان في كتاب الحدود.
ولم يذكر هنا أن اليمين لو كانت ثابتة بإقرار المولى وشهد شاهدان بالشرط ثم رجعا ظن بعض مشايخنا رحمهم الله أنهما يضمنان في هذا الفصل وقالوا إن العلة لا تصلح لإضافة الحكم إليها هنا فإنها ليست تتعدى فيكون الحكم مضافا إلى الشرط على أن الشرط يجعل حلفا عن العلة هنا باعتبار أن الحكم يضاف إليه وجودا عنده وشبه هذا حفر البئر وهو غلط بل الصحيح من المذهب أن شهود الشرط لا يضمنون بحال نص عليه في الزيادات وهذا لأن قوله أنت حر مباشرة الإتلاف للمالية وعند وجود مباشرة الإتلاف الحكم يضاف إليه دون الشرط سواء كان بطريق التعدي بخلاف مسألة الحفر فالعلة هناك ثقل الماشي وذلك ليس من مباشرة الإتلاف في شيء فلهذا يجعل الإتلاف مضافا إلى الشرط وهو إزالة المسكة بحفر البئر الذي في الطريق.(17/18)
ولو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده عن مدبر منه وآخران أنه أعتق عبده ألبتة فقضى به ثم رجعوا فضمان القيمة على شاهدي العتق ولا ضمان على شاهدي التدبير لأن القضاء كان بشهادة شاهدي العتق فمنع جر العتق المضاف إلى ما بعد الموت ولو شهد شاهدا التدبير فقضى القاضي به ثم شهد شاهدا العتق فقضى به ثم رجعوا فعلى شاهدي التدبير لأن ضمان ما نقصه التدبير ذلك الجر تلف بشهادتهما حين قضى بها القاضي ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبرا لأنهما أتلفا مالية المولى بشهادتهما وعند شهادتهما كان هو مدبرا فيضمنان ذلك عند الرجوع ولو كان شاهدا العتق على الثياب شهدا أنه أعتقه قبل التدبير فأعتقه القاضي ثم رجعوا ضمن شاهد العتق قيمته ولا ضمان على شاهدي التدبير لأنه تبين أن شاهدي التدبير ما أتلفا عليه شيئا وأن القاضي أخطأ في قضائه بالتدبير حين قامت الحجة على الحرية قبل ذلك فإنما حصل تلف المالية بشهادة شاهدي العتق فالضمان عليهما عند الرجوع:
ألا ترى أنهما لو شهدا أنه باع عبده من هذا بألف درهم ووقتا لذلك وقتا قبل التدبير فإن القاضي يبطل التدبير وينفذ البيع فإن رجعوا بعد ذلك لم يضمن شهود التدبير شيئا وضمن شهود البيع فضل القيمة على الثمن لأن الإتلاف في الفضل حصل بشهادتهم بغير(17/19)
ص -12- ... عوض وإن كانت القيمة أقل من الثمن والمشتري هو المنكر ضمنا للمشتري فضل الثمن على القيمة لأنهما أتلفا عليه الفضل بغير عوض ولو كان سواء وشهدا أنه نقد الثمن والبائع منكر ثم رجعا عن البيع ولم يرجعا عن نقد الثمن لم يضمنا شيئا لأنهما بالشهادة على البيع أزال ملكه عن العبد بعوض يعدله وهما ثابتان على شهادتهما بنقد الثمن فهو وما لو شهد به غيرهما سواء ولو رجع عن نقد الثمن ضمن الثمن لأنهما أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ملك البائع في الثمن بشهادتهما عليه بالاستيفاء ولو كان البائع هو المدعي والمشتري يجحد لم يضمنا شيئا لأنهما أدخلا في ملك المشتري ما يعدل ما ألزماه من الثمن.(17/20)
ولو شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده على ألف درهم إلى سنة وقيمته خمسمائة فأجاز القاضي ذلك ثم رجعا فاختار المولى ضمان الشاهدين فله ذلك لأنهما حالا بينه وبين مالية العبد بشهادتهما وبدل الكتابة في ذمة العبد المفلس كالتأوي فإن قبض المولي منهما القيمة لم يعتق المكاتب حتى يؤدي ألف درهم إلى الشاهدين لأنهما قاما مقام المولي في استيفاء بدل الكتابة حين ضمنهما القيمة ويتصدقان بالفضل لأن ذلك ربح حصل لهما بكسب خبيث وهو شهادة الزور وإن لم يجبر المولى يضمنهما ولكن جعل يتقاضى المكاتب حتى قبض منه مائة درهم أو لم يقبضها غير أنه علم برجوع الشاهدين فهذا اختيار للمكاتبة ولا يضمن الشاهدان شيئا أبدا ما خلا خصلة واحدة وهي أن تكون المكاتبة أقل من القيمة فإن هنا له أن يأخذ المكاتب بالمكاتبة ويرجع على الشاهدين بفضل القيمة لأنه بعد ما علم برجوع الشاهدين كان مخيرا بين تضمين الشاهدين القيمة ومطالبة المكاتب ببدل الكتابة فاختاره اتباع المكاتب بالتقاضي منه يتضمن براءة الشاهدين كما في الغصب مع غاصب الغاصب ولكن هذا في مقدار بدل الكتابة فأما ما زاد عليه إلى تمام القيمة فحقه فيه قبل الشاهدين خاصة فلا يكون اختياره اتباع المكاتب ببدل الكتابة أبرأ الشاهدين عن ذلك الفضل فلهذا يرجع عليهما به.
ولو شهدا أنه باع عبده من رجل بألف درهم إلى سنة وقيمته خمسمائة والمشتري يدعي ذلك والبائع يجحد فأجاز القاضي ثم رجعا فهو مخير بين أن يبيع المشتري الثمن وبين أن يضمن الشاهدين القيمة لإتيانهما الحيلولة بينه وبين ملكه في الحال والبدل لا يصل إليه إلا بعد مضي الأجل فإن ضمن الشاهدين القيمة قاما مقامه في الرجوع على المشتري بالثمن وتصدقا بالفضل لأنه حصل لهما بكسب خبيث ولأنه من وجه كالملك للثمن منهما فإن استوفي منهما من القيمة وتمليك الألف بالخمسمائة ربا فلشبهة بالربا يلزمهما التصدق بالفضل.(17/21)
وإن اختار المولى اتباع المشتري بالثمن لم يرجع على الشاهدين بشيء أبدا لأن ذلك منه رضا بالبيع بالثمن المؤجل وكذلك لو تقاضى المشتري بعد رجوعهما فذلك منه رضا بالثمن في ذمة المشتري فيكون مبرئا لهما باختيار اتباع المشتري فلا يتبع الشاهدين بشيء بعده أبدا نوي ماله على المشتري أو خرج(17/22)
ص -13- ... وإذا شهد رجلان على رجل أنه حلف بعتق عبده أن في قيده عشرة أرطال وحلف الرجل بعتقه بين يدي القاضي أن لا يحل القيد أبدا فشهد شاهدان على المولى أن في قيده خمسة أرطال فأعتقه القاضي بشهادتهما ثم أطلقه من القيد ثم نظر إلى القيد فإذا فيه عشرة أرطال فإن أبا حنيفة رحمه الله قال على الشاهدين قيمة العبد وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله وفي قوله الآخر لا ضمان على الشاهدين وهو قول محمد رحمه الله وهو بناء على ما تقدم من اختلافهم في نفوذ قضاء القاضي شهادة الزور باطنا فعند أبي حنيفة رحمه الله لما نفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا فإنما عتق بشهادتهما قبل أن يحل القيد وعندهما لم ينفذ قضاؤه باطنا فإنما عتق بحل القيد لا بشهادتهما والشهود في الصورة يشهدون بالشرط ولكن في المعنى يشهدون بتنجيز العتق لأن تعليق العتق بشرط موجود تنجيز ولا يقال كيف ينفذ قضاء القاضي باطنا وظاهرا هنا وقد تيقنا بكذبهم بمعرفة وزن القيد فيكون هذا بمنزلة ما لو ظهر نص بخلاف قضاء القاضي أو ظهر أن الشهود عبيد أو كفار وهذا لأن القاضي حين قضى بالعتق لم يكن مخاطبا بمعرفة وزن القيد حقيقة لأنه لا طريق إليه ما لم يحل القيد وحل القيد معتق للعبد وقضاؤه إنما ينفذ باطنا باعتبار أنه سقط عنه تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهذا موجود هنا ولو لم يحله وعلم أنهما شهدا بباطل رد في الرق عندهما لأن قضاء القاضي لم ينفذ باطنا وكذلك لو هلك العبد وأقر أنهما شهدا بزور فهو وما سبق سواء لأنهما رجعا عن شهادتهما في مجلس القاضي فذلك كمعرفة القاضي كذبهما أو أقوى منه في إيجاب الضمان عليهما.(17/23)
ولو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده عام أول في من رمضان فأجاز القاضي شهادتهما وأعتقه ثم رجعا وضمنهما القيمة أو لم يضمنهما حتى شهد شاهدان أنه أعتقه عام أول في شوال فإنه لا تقبل شهادة الآخرين لأنه حكم بعتقه بشهادة الأولين في أول يوم من رمضان ألا ترى أن حكمه في ذلك الوقت في جزاء جنايته وحدوده وغير ذلك حكم الأحرار فالفريق الثاني إنما شهدوا بإعتاق من هو محكوم بحريته وذلك لغو وعلى الأولين ضمان القيمة يوم أعتقه القاضي لأنهما بالرجوع أقرا أنهما أتلفا عليه ماليته حين أعتقه القاضي بشهادتهما بالزور وإقرارهما حجة عليهما فيضمنان قيمته في ذلك الوقت وكذلك لو شهدا على أن مولاه أقر به حين ولد أنه لهذا الرجل وأنكر المولى وشهد يوم شهدوا والعبد رجل شاب ثم قضي به القاضي ثم رجعا ضمنا قيمته يوم قضي القاضي لأنهما أتلفا عليه ماليته فيه يومئذ.
ولو شهدا عليه أنه أعتق عبده عام أول في رمضان فقضي به القاضي ثم رجعا ثم شهد آخران أنه أعتقه أول يوم من رمضان أول من عام الأول فإن شهادة الآخرين مقبولة ولا ضمان على الأولين وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل شهادة الفريق الثاني لأن من أصله أن الشهادة على عتق العبد لا تقبل من غير دعوى(17/24)
ص -14- ... ولا مدعي لما شهد به الفريق الثاني لأن العبد محكوم بحريته فلا يمكنه أن يدعي بشهادتهما والفريق الأول لا تصح منهم الدعوى لأن كلامهم متناقض وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الشهادة على عتق العبد مقبولة من غير دعوى فيثبت بشهادة الفريق الثاني في عتقه في وقت سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الأول ويتبين به أنهما شهدا بأنه أعتق حرا فيسقط الضمان عنهما كذلك بخلاف ما إذا كانت شهادة الفريق الثاني بالعتق بعد وقت العتق الأول حتى قالوا إذا كان هناك من يدعي حريته في وقت سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الأول بأن كان يدعي عليه حدا أو قصاصا في الطريق فإن شهادة الفريق الثاني مقبولة ويسقط به الضمان عن الفريق الأول لوجود المدعي لما شهد به الفريق الثاني.
ولو شهدوا عليه أنه طلق امرأته عام أول في رمضان قبل أن يدخل بها فقضي به القاضي وألزمه بنصف المهر ثم رجعا فضمنهما القاضي بنصف المهر ثم شهد شاهدان أنه طلقها عام أول في شوال قبل أن يدخل بها لم يقبل ذلك ولم ينتفع به الأولان لأنها صارت مطلقة بقضاء القاضي في وقت سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الثاني فإنما شهد به الفريق الثاني بطلاق من هي أجنبية منه في الحكم فكان ذلك لغوا ولو أقر الزوج بذلك عند القاضي لم يكن على الشاهدين ضمان ورد عليهما ما كان ضمنا له.(17/25)
وكذلك إقرار المولى في العتق لأن المولى بإقراره يزعم أنه تلف المالية عليه وتقرر نصف الصداق كان بمباشرته الطلاق والعتاق لا بشهادتهما ومباشرة ذلك رضا منه ضرورة وإقراره حجة عليه فتبين به أن الشهود ما أتلفوا عليه شيئا حين قضي القاضي بشهادتهم بخلاف البينة فإنها لا تكون إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني بعد ما قضي بالطلاق والعتاق في وقت متقدم بشهادة الفريق الأول ولو شهد الفريق الثاني بالطلاق في وقت متقدم على الوقت الذي شهد به الفريق الأول قبلت الشهادة لأن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعوى وتبين بهذه الشهادة أن الفريق الأول ما أكد عليه شيئا من الصداق بشهادتهما فيسقط الضمان عنهما.
ولو شهدا عليه أنه حلف بعتق عبده أنه لا يدخل هذه الدار وأنكر ذلك المولى ثم دخل العبد الدار فقضي القاضي بعتقه ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمته لأنهما أثبتا سبب إتلاف المالية بشهادتهما وهو اليمين فعند وجود الشرط إنما يعتق العبد باليمين لا بوجود الشرط ولو ادعى العبد أن مولاه كاتبه على ألف درهم وهي قيمته وقال المولى كاتبته على ألفين وأقام البينة فقضي القاضي بذلك على المكاتب فأداها ثم رجعا فإن القاضي يضمنهما ألف درهم للمكاتب لأنه لولا شهادتهما لكان القول قول المكاتب لإنكاره الزيادة في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر فما زاد على الألف إنما لزمه بشهادتهما فيضمنان له ذلك عند الرجوع ولو كان المكاتب لم يدع المكاتبة وقال مولاه كاتبته على ألفين فجحد المكاتب ذلك وأقام المولى بينة فإنه لا تقبل بينته على ذلك لأن البينة إنما تقبل إذا كانت ملزمة وهذه بينة لا يلزم(17/26)
ص -15- ... العبد شيئا فإنه يتمكن من أن يعجز نفسه ليفسخ الكتابة فلا معنى لقبول البينة من المولى على ذلك ولكن يقال للمكاتب إن شئت فامض على الكتابة وإن شئت فدعها وكن رقيقا بخلاف الأول فهناك يدعي العبد الكتابة فند دعواه الكتابة إنما يلزمه مقدار الألفين بشهادتهما فلهذا وجب قبول شهادتهما فإن كان المكاتب يدعي أنه حر فجاء المولى بشاهدين فشهدا أنه كاتبه على ألفين فقضي عليه بذلك وأدى المال ثم رجعا ضمنا الألفين للمكاتب وإن كانت قيمته أقل من ذلك لأنهما ألزماه الألفين بشهادتهما فإنه لولا شهادتهما لكان القول قول من يدعي أنه حر وقد أقر بالرجوع أنهما ألزماه الألفين بغير حق بشهادتهما فيضمنان له ذلك.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه عبد لهذا الرجل فقضي القاضي به ثم أعتقه على مال ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا للمشهود عليه شيئا لأنهما ما ألزماه مالا بالشهادة إنما أبطلا حريته وألزماه الرق بشهادتهما وذلك ليس بمال وقد بينا أن ما ليس بمال لا يضمن بالمال بالشهادة الباطلة ثم العبد التزم المال باختياره حين قبل العتق بجعل وذلك لا يوجب الضمان على الشهود بخلاف الأول فقد ألزمه المال هناك يوضحه أنهما لو ضمنا إنما يضمنان باعتبار قضاء القاضي برقه فذلك الضمان يكون للمولى لأنه محكوم بأنه عبده فماله يكون لمولاه والمولى يكذبهما في الرجوع بخلاف مسألة المكاتب فهناك إنما يضمنان المال للمشهود عليه لا لمولاه وهو مصدق لهما في الرجوع.
ولو شهدا على رجل أنه أعتق عبده على خمسمائة وقيمته ألف درهم فأعتقه القاضي ثم رجعا فالمشهود عليه مخير إن شاء ضمن الشاهدين الألف ويرجعان على العبد بخمسمائة لأنهما قاما مقام المولى في ذلك إن شاء رجع على العبد بخمسمائة وأيهما ما اختار ضمانه لم يكن له أن يرجع على الآخر بعد ذلك بشيء أبدا بمنزلة الغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما والله أعلم بالصواب.(17/27)
باب الرجوع عن الشهادة في النسب والولاء والمواريث
قال رحمه الله: وإذا ادعى رجل أنه بن رجل والأب يجحد فأقام البينة أنه ابنه ولد على فراشه وأنه وارثه فقضي بذلك ثم رجعوا عن شهادتهم فلا ضمان عليهم لأنهم لم يشهدوا عليه بمال إنما ألزموه النسب بشهادتهم والنسب ليس بمال ولا يدري أيهما يموت قبل الآخر فيرثه الآخر وكذلك لو أقام شاهدين أن هذا مولاه أعتقه وهو يملكه وقال المشهود عليه أنا حر الأصل ثم رجعوا بعد القضاء بشهادتهم لم يضمنوا شيئا لأنهم ألزموه الولاء بشهادتهم والولاء كالنسب ليس بمال ولو مات فورثه ثم رجعوا عن شهادتهم لم يضمنوا شيئا أبدا لأن شهادتهم بالنسب أو الولاء كانت في حال الحياة وذلك لا يكون شهادة بالميراث وهذا لأن استحقاق الميراث بالنسب والموت جميعا فكان حكما متعلقا بعلة ذات وصفين فإنما يحال به على آخر الوصفين وجودا لأن العلة تتم به وثبوت الحكم باعتبار(17/28)
ص -16- ... كمال العلة وهذا بخلاف ما إذا شهد واحد ثم آخر فقضي القاضي ثم رجعا فإنهما يضمنان ولا يحال بالإتلاف على شهادة الثاني لأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء وإنما يقضي القاضي بشهادتهما جميعا فهو وما لو شهدا معا سواء وهنا السبب قد ثبت قبل الموت ثم الموت لم يكن مشهودا به استحقاق الميراث به لأنه آخر الوصفين وجودا.
ولو شهدا على رجل أنه بن هذا القتيل لا وارث له غيره والقاتل يقر أنه قتله عمدا فقضي القاضي بالقصاص وقتله الابن ثم رجعوا عن شهادتهم فلا ضمان عليهم في القصاص لأن القصاص ليس بمال فلا يضمنونه للورثة المعروفين وإن أتلفوه بشهادتهم عليهم كما لو شهدوا بالعفو عن القصاص على المولى يضمنون كل مال ورثه هذا الابن من القتيل لورثته المعروفين لأنهم شهدوا بالنسب بعد الموت فكان المشهود به متمما علة استحقاق الميراث فإنما يحال باستحقاق الميراث على شهادتهم وقد أقروا بالرجوع ثم أنهم أتلفوه على الورثة المعروفين بغير حق ولو رجع شهود العفو قبل أن يقضي القاضي بها كان القصاص واجبا على حاله لأن الشهادة لا توجب شيئا ما لم يقض القاضي بها ولا يتمكن القاضي من القضاء بها بعد ما رجعوا .
ولو شهدوا لرجل مسلم كان أبوه كافرا أن أباه مات مسلما وللميت بن كافر فقضي القاضي بمال ابنه للمسلم ثم رجعوا عن شهادتهم ضمنوا الميراث كله للكافر لأنه لولا شهادتهم لكان القول قول الابن الكافر والميراث كله له لأنه عرف كفر أبيه في الأصل فإنما صار الميراث كله مستحقا للابن المسلم بشهادتهما فعند الرجوع يضمنان ذلك.(17/29)
ولو أسلم كافر ثم مات وله ابنان مسلمان كل واحد منهما يدعي أنه أسلم قبل موت أبيه وأقام كل واحد منهما شاهدين فورثهما القاضي ثم رجع شهود أحدهما ضمنوا جميع ما ورثه الآخر لأن الآخر ببينته أثبت استحقاق جميع الميراث لنفسه لولا شهادتهما فالمشهود له إنما أخذ نصف ذلك بشهادتهما له وقد أقر بالرجوع أنهما شهدا بغير حق وكذلك إن مات رجل عن أخ معروف فادعى آخر أنه ابنه وشهد له به شاهدان وحكم له بالميراث ثم رجعا ضمنا جميع ذلك للأخ لأن الأخ كان مستحقا بجميع الميراث لولا شهادتهما بنسب الابن وقد أقر بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق.
ولو كان صبي في يد رجل لا يعرف أنه حر أو عبد فشهد شاهدان على إقراره أنه ابنه فأثبت القاضي نسبه منه ثم مات الرجل فقضي له بميراثه ثم رجعا لم يضمنا شيئا لأنهما شهدا بالنسب في حياته واستحقاق الميراث إنما يحال به على آخر الوصفين وجودا وهو الموت دون ما شهدا به وكذلك لو شهدا لامرأة بالنكاح على مهر مثلها فقضي به ثم مات الرجل فورثت منه ثم رجعا فلا ضمان عليهما ولو كانت الشهادة بعد الموت ضمنا جميع ما أخذته المرأة لأن آخر الوصفين ما شهد به الشهود هنا وبه يتم علة استحقاق الميراث ولو كان في يد رجل عبد صغير وأمة فشهد شاهدان أنه أقر أن الصبي ابنه وشهد آخران أنه أعتق(17/30)
ص -17- ... هذه الأمة ثم تزوجها على ألف درهم وهو يجحد ذلك فقضي القاضي بجميع ذلك ثم مات الرجل عن بنتين سوى الصبي فقضي القاضي للمرأة بالمهر وقسم المال بينهم على الميراث ثم رجع الشهود عن شهادتهم فإن شهود الابن يضمنون قيمة الابن للورثة إلا نصيب الابن منها لأنهم أتلفوا ملكه في العبد بشهادتهم فإنه لولا شهادتهم لكان القول قوله أن الصغير عبده فإنه لا يعبر عن نفسه وقد أقر عند الرجوع أنهما أتلفا عليه ذلك بغير حق فيضمنان قيمته للمولى ويصير ذلك ميراثا عنه لورثته لا أنه يطرح عنهما حصة الابن المشهود له لأنه يكذبهما في الرجوع ويزعم أنهما كانا صادقين في الشهادة بنسبه وأنه لا ضمان عليهما وزعمه معتبر في نصيبه ويضمن شهود الأمة قيمة الأمة إلا ميراث الأمة منها لهذا المعنى لا يضمنون غير ذلك إلا أن يكون المهر أكثر من مهر مثلها فيضمنون الفضل لإقرارهم أنهم ألزموه ذلك الفضل بغير عوض ولكن يطرح من ذلك حصتها منه بميراثها لأنها تكذبهم في الرجوع وتصدقهم في الشهادة فيعتبر زعمها في حصتها ولا ضمان على أحد من الشهود فيما أخذ المشهود له من الميراث لما بينا أنهم شهدوا بالنسب والنكاح في حالة الحياة.
وإذا مات الرجل فادعى رجل أنه أوصى له بالثلث من كل شيء وأقام شاهدين فقضي له ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الثلث لأن المشهود له استحق الثلث بشهادتهما فكذلك لو شهدوا أنه أوصى له بالثلث في حياة الميت ولم يختصموا في ذلك حتى مات وفي هذا نوع إشكال فالوصية أخت الميراث وقد بينا أنهم لو شهدوا بالنسب في حال الحياة لم يضمنوا شيئا بعد الموت وإذا شهدوا بالوصية ضمنوا لأن استحقاق الوصية عند الموت بالعقد لا بالموت فإن الملك للموصى له ملك متجدد ثابت بالعقد بخلاف الميراث فإنه خلافه على معنى أنه يبقى للوارث من الملك ما كان ثابتا للمورث وهذه الخلافة لا تتحقق إلا بالموت .(17/31)
يوضح الفرق أن الشهادة بالنسب في حالة الحياة وإن كانت توجب الميراث بعد الموت ففيها معنى المعاوضة لجواز أن يموت المشهود له أولا فيرثه المشهود عليه فلهذا لا يجب الضمان على الشهود ولا تتحقق مثل هذه المعاوضة في الشهادة بالوصية بالثلث فكان هذا بمنزلة الشهادة على النسب بعد الموت فيكون موجبا للضمان عليهما إذا رجعا ولو شهدا بعد موته أنه أوصى بهذه الجارية لهذا المدعي وهي تخرج من ثلثه فقضي له بها فاستولدها ثم رجعا عن الشهادة ضمنا قيمتها يوم قضي بها ولم يضمنا العقر ولا قيمة الولد لأنهما أتلفا ملك الرقبة على الورثة بشهادتهما الملك للموصي له فيضمان قيمة الرقبة كذلك بمنزلة ما لو شهدا بالهبة والتسليم في حياة صاحبها وكذلك لو ولدت من غيره لم يضمنا للورثة شيئا من قيمة الولد لأنهم ما استحقوا الولد فالاستحقاق لا يثبت إلا بعد الوجود وعند وجود الولد هي مملوكة للموصي له يحكم الحاكم دون الورثة وإن كانت ميتة فالقول في قيمتها قول الشاهدين في قيمتها لإنكارهم الزيادة وإن كانت حية فقال الشاهدان قد ازدادت قيمتها لم يصدقا على ذلك وضمنا قيمتها اليوم إلا أن يقيما البينة على ما قالا لأن قيمتها في الحال(17/32)
ص -18- ... دليل ظاهر على قيمتها فيما مضى والبناء على الظاهر واجب وعلى من يدعي خلاف الظاهر إقامة البينة
فإن أقام البينة أخذ بذلك إلا أن تقيم الورثة البينة على أن قيمتها يوم شهدا أكثر مما قال شهودهما فيؤخذ ببينة الورثة لما فيها من إثبات الزيادة.
ولو شهدا أن الميت أوصى إلى هذا في تركته فقضي القاضي بذلك ثم رجعا لم يضمنا شيئا لأنهما ما أتلفا على الميت ولا على الورثة شيئا بشهادتهما إنما نصبا من يحفظ المال عليهم ويقوم التصرف فيه لهم وذلك غير موجب إتلاف شيء عليهم فإن استهلك الوصي المال فهو ضامن لأنه كان أمانة في يده ولا ضمان على الشاهدين لأنهما لم يشهدا على استحقاق في علمه المال بعينه وإنما أتلف المال باستهلاك الوصي باختياره فيكون ضمانه عليه والله أعلم.
باب الرجوع عن الشهادة على الشهادة
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على شهادة أربعة وشاهدان على شهادة شاهدين بحق فقضى به ثم رجعوا فعلى الشاهدين الذين شهدوا على شهادة الأربعة الثلثان وعلى الشاهدين الآخرين الثلث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله الضمان على الفريقين نصفين لأن شهادة كل فريق على شهادة غيره في حكم الضمان عند الرجوع بمنزلة شهادته على شهادة نفسه .(17/33)
ألا ترى أن الإتلاف يحصل بشهادة كل فريق إذا انفرد سواء شهد على شهادة نفسه أو على شهادة غيره وسواء شهد على شهادة شاهدين أو شهادة أربعة فلما استويا في علة الإتلاف يستويان في الضمان عند الرجوع وهذا لأن شهادة الاثنين على شهادة الأربعة أضعف من شهادتهما على الحق بعينه لأنهما في الشهادة على الحق بعينه يشهدان على معاينة وفي الشهادة على شهادة الأربعة يشهدان عن خبر ثم لو شهدا على الحق بعينه وشهد آخران كذلك ثم رجعوا كان الضمان على الفريقين نصفين كذا هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا اللذان شهدا على شهادة الأربعة في الصورة اثنان وفي المعنى أربعة لأن القضاء يكون بشهادة الأصول لا بشهادة الفروع ولهذا يعتبر عدالة الأصول وهذا لأن الفروع ينقلون شهادة الأصول إلى مجلس القاضي فكان الأصول حضروا بأنفسهم وشهدوا وإذا ثبت هذا كان بمنزلة ما لو شهد أربعة على الحق واثنان على الحق ثم رجعوا جميعا بعد القضاء فيكون الضمان عليهم أسداسا ثم ما يجب على الأربعة لو حضروا وشهدوا يقضى به على من أثبت شهادتهم في مجلس القاضي بشهادته وهما اللذان شهدا على شهادة الأربعة.
قال ألا ترى أن أربعة لو شهدوا على شهادة اثنين وشهد اثنان على شهادة اثنين ثم رجعوا بعد القضاء أن نصف الضمان على الأربعة ونصفه على الاثنين وما كان ذلك إلا باعتبار عدد الأصول دون الفروع وكذلك في الفصل الأول إلا أن محمدا رحمه الله يفرق بينهما ويقول شهادة الأربعة على شهادة المثني أضعف من شهادتهم على الحق بعينه فلهذا لا يجب(17/34)
ص -19- ... عليهم ما يلزمهم أن لو شهدوا على الحق بعينه وفي الأول كذلك يقول شهادة الاثنين على شهادة الأربعة أضعف من شهادتهما على الحق فلا يجوز أن يلزمهما به أكثر مما يلزمهما أن لو شهدوا على الحق بعينه فإنما أنظر في الوجهين إلى الأقل مما يلزم الشهود بشهادتهم وشهادة من شهدوا على شهادته فألزمهم الأقل من ذلك وهذا نوع استحسان فيه والقياس ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله.
وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين وشاهدان على شهادة شاهدين فقضي القاضي بذلك ثم رجع واحد من هؤلاء وواحد من هؤلاء فعلى الراجعين ربع المال لأن ببقاء أحد الشاهدين من أحد الفريقين يبقى نصف المال فإنه مع صاحبه كان حجة تامة في جميع المال فيبقى ببقائه نصف المال وكذلك بقاء الواحد من الفريق الآخر يبقى نصف المال إلا أن هذا النصف شائع نصفه مما هو باق بشهادة الواحد من الفريق الأول فإنما يعتبر بقاء نصف هذا النصف ببقائه على الشهادة وإنما انعدمت الحجة في ربع المال فيضمن الراجعان ذلك.(17/35)
وقع في بعض النسخ: فعلى كل واحد من الراجعين ربع المال ووجهه أنهم لو رجعوا جميعا ضمن كل واحد منهم ربع المال وبقاء المثنى هنا على الشهادة لم تبق الحجة بجميع المال فيجب على الراجعين ما يلزمهما لو رجعوا وذلك نصف المال وقيل هذا قول أبي يوسف رحمه الله فأما عند محمد رحمه الله على الراجعين ثمنان ونصف على ما ذكره في الجامع وهي مسألة الفئة معروفة بناء على اعتبار حال من بقي على الشهادة في القوة والضعف فقد ذكر هناك مسألة الرجوع لا كمال الحجة فيها وجه واحد وأوجب على الراجعين ثلاثة أثمان المال وذكر مسألة لإكمال الحجة فيها ثلاثة وجوه وأوجب على الراجعين ثمني المال ثم قال في هذه المسألة لإكمال الحجة وجهان أن يشهد واحد على شهادة هذين أو يشهد واحد على شهادة الآخرين فكان حال من بقي على الشهادة في هذا الفصل دون حاله في الوجه الثاني وفوق حاله في الوجه الأول فباعتبار ذلك أوجب على الراجعين ثمنين ونصفا وقد بينا ذلك فيما أمليناه من شرح الجامع.
وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين فقضي به القاضي ثم أن الشاهدين الأولين أتيا القاضي فقالا لم نشهدهم على شهادتنا فقضاء القاضي ماض على حاله لأن إنكارهما الإشهاد خبر متمثل بين الكذب والصدق فلا يبطل قضاء القاضي كما لو شهدا بأنفسهما وقضي القاضي ثم رجعا ولكن لا ضمان عليهما هنا لأنهما ينكران سبب الإتلاف وهو الإشهاد على شهادتهما ولو قال كنا أشهدناهم على شهادتنا ولكنا رجعنا عن ذلك فكذلك الجواب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله هما ضامنان للمال لأن الفرعين قاما مقامهما في نقل شهادتهما إلى مجلس القاضي فأما القضاء حصل بشهادة الأصلين ولهذا تعتبر عدالتهما فكأنهم حضرا بأنفسهما وشهدا ثم رجعا فيلزمهما الضمان وهما قالا الموجود منهما شهادة في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء لا(17/36)
ص -20- ... تكون سببا لإتلاف شيء فلا يلزمهما الضمان وإن رجعا عن ذلك لأن الشهادة تختص بمجلس القضاء كالرجوع وقد بينا أن الرجوع في غير مجلس القضاء لا يوجب الضمان على الشهود فكذلك الشهادة في غير مجلس القضاء ولا نقول أن الفروع نائبون عن الأصول في نقل شهادتهم إلى مجلس القاضي فإنهم بعد الإشهاد لو منعوهم عن أداء الشهادة كان عليهم الأداء إذا طلب المدعي ولو كانوا نائبين عن الأصول لما كان لهم ذلك إذا منعهم الأصول عن الأداء ولكنهم يشهدون على ما تحملوا وهو إشهاد الأصول إياهم على شهادتهم ولو شهدوا على الحق بعينه ما كانوا نائبين فيه عن أحد فكذلك إذا شهدوا على شهادة الأصول.
ولو رجع الفروع والأصول جميعا فالضمان على الفروع خاصة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لما بينا أن سبب الإتلاف الشهادة القائمة في مجلس القاضي وإنما وجد ذلك من الفروع دون الأصول فالضمان عليهم عند الرجوع وعند محمد رحمه الله المشهود عليه بالخيار إن شاء ضمن الفروع وإن شاء ضمن الأصول لأن كل واحد من الفريقين لو رجع وحده كان ضامنا للمال المقضي به عند محمد رحمه الله فإذا رجع الفريقان يجعل في حق كل فريق كأنه هو المنفرد بالرجوع ويتخير المشهود عليه لأنه لا يجانس بين شهادة الفريقين فقد كانت شهادة الأصول على أصل الحق وشهادة الفروع على شهادة الأصول ولا مجانسة بينهما ليجعل الكل في حكم شهادة واحدة فيكون الضمان عليهم جميعا بل يجعل كل فريق كالمنفرد للمشهود عليه بالخيار يضمن أي الفريقين شاء كالغاصب مع غاصب الغاصب للمغصوب منه أن يضمن أيهما شاء والله أعلم.
باب الرجوع عن الشهادة في الحدود وغيرها(17/37)
قال رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بسرقة ألف درهم بعينها فقطعت يده ثم رجعا ضمنا دية اليد في مالهما ولا قصاص عليهما عندنا لأن لوجوب منهما بسبب القصاص والقصاص يعتمد المساواة ولا مساواة بين المباشرة والسبب ولأن اليدين لا يقطعان بيد واحدة هكذا ذكره إبراهيم رحمه الله عن علي رضي الله عنه قال لا يقطع يدان بيد فإذا امتنع وجوب القود عليهما ضمنا دية اليد في مالهما لأن رجوعهما عن الشهادة قول وهو ليس بحجة في حق العاقلة وضمنا الألف أيضا لأنهما أتلفاه على المشهود عليه وكذلك كل قصاص في نفس أو دونها والشافعي رحمه الله يوجب القود على الشهود عند الرجوع والمسألة في الديات .
ولو شهد أربعة على رجل بالزنى ولم يحصن فجلده الإمام وجرحته السياط ثم رجعوا عن الشهادة فعند أبي حنيفة رحمه الله ليس عليهم أرش الجراحة خلافا لهما وقد بينا في الحدود ولو لم تجرحه السياط فلا ضمان عليهم بالإتلاف كما لو باشروا ضربا غير مؤثر وعلى هذا حد القذف وحد الخمر والتعزير .
ولو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده وشهد عليه أربعة بالزنى والإحصان فأجاز .(17/38)
ص -21- ... القاضي شهادتهم وأعتقه ورجمه ثم رجعوا فعلى شهود العتق قيمة العبد لمولاه لأنهم أتلفوا مالية المولى فيه بشهادتهم بالعتق وعلى شهود الزنى الدية لمولاه أيضا إن لم يكن له وارث غيره لأنهم أتلفوا نفسه بشهادتهم عليه بالزنى والإحصان بغير حق فإن قيل المولى كان جاحدا للعتق فكيف يضمنون الشهود الدية قلنا لأن القاضي حكم بعتقه وزعم المولى بخلاف ما قضي القاضي بعد قضائه غير معتبر فإن قيل كيف يجب للمولى بدلان عن نفس واحدة قلنا وجوب القيمة على شهود العتق بدل عن المالية ووجوب الدية باعتبار النفسية ثم الدية لا تجب للمولى ولكن للمقتول حتى تنفذ منه وصاياه ويقضي ديونه.
ألا ترى أنه لو كان له بن حر كانت الدية له دون مولاه أرأيت لو شهدوا أنه ابنه وشهد آخرون بالزنى والإحصان ثم رجعوا أما كان على شهود النسب القيمة وعلى شهود الزنى الدية وكذلك لو كان شاهدا العتق بعض شهود الزنى فعليهما من القيمة حصتهما من الدية لأن المشهود به مختلف فاتحاد الشهود في ذلك واختلافهم سواء وكذلك لو كان شهود العتق رجلا وامرأتين لأن العتق ليس بسبب للحد وهما مما يثبت مع الشبهات فشهادة رجل وامرأتين به كشهادة رجلين ولو شهد أربعة على العتق والزنا والإحصان فأمضى القاضي ذلك كله ثم رجعوا عن العتق ضمنوا القيمة لإقرارهم بالرجوع لأنهم أتلفوا مالية المولى فيه بغير حق ولا شيء عليهم من الدية لأنهم مصرون على الشهادة عليه بالزنى وفي حق العتق هم بمنزلة شهود الإحصان ورجوع شهود الإحصان لا يوجب الضمان عليهم عندنا ولو رجع اثنان عن الزنى واثنان آخران عن العتق فلا ضمان على شهود العتق لأنه قد بقي على العتق حجة كاملة وعلى اللذين رجعا عن الزنى نصف الدية لأن الباقي على الشهادة في حكم الرجم نصف الحجة فيجب على الراجعين نصف الدية وحد القذف.(17/39)
ولو شهد أربعة على رجل بالزنى والإحصان فقضي القاضي بذلك وأمر برجمه فرجعوا عن الشهادة وقد جرحته الحجارة وهو حي فإن القاضي يدرأ عنه الرجم بمنزلة ما لو رجعوا قبل أن يأخذوا في رجمه وهذا لأن الإمام لا يتمكن من استيفاء الحد إلا بحجة قائمة ولم تبق الحجة بعد رجوعهم وهم ضامنون أرش جراحته لأن ذلك مما استحق بشهادتهم فضمانه عليهم عند الرجوع.
ولو شهدا أنه صالحه من دم عمدا على ألف درهم ثم رجعا لم يضمنا شيئا أيهما كان المنكر للصلح لأنه إذا كان المنكر للصلح هو المولى فقد شهدا عليه بسقوط حقه بعوض وقد بينا أنهما لو شهدا عليه بالعفو بغير عوض ثم رجعا لم يضمنا فهذا أولى وإن كان المنكر هو القاتل فقد سلم له بنفسه وما ألزماه من العوض دون بدل نفسه وقد بينا تقوم النفس في حقه ولهذا لو صالح في مرضه على قدر الدية أو دونه اعتبر من جميع المال فلا يضمنان له شيئا لذلك.(17/40)
ص -22- ... ولو شهدا أنه صالحه على عشرين ألفا والقاتل يجحد ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الفضل على الدية لأنهما ألزماه ما زاد على الدية بغير عوض وكذلك هذا فيما دون النفس إن شهدوا على الصلح على مقدار الأرش أو دونه لم يضمنا عند الرجوع شيئا وإن شهدا على الصلح على أكثر من الأرش ضمنا الفضل للجارح إذا كا ن جاحدا لذلك ولو قال الطالب صالحتك على ألف درهم وقال المدعي عليه بل على خمسمائة فالقول قوله مع يمينه لإنكاره الزيادة فإن أقام الطالب بينة على ألف درهم فقضى له بها ثم رجع شهوده ضمنوا الخمسمائة التي وجبت بشهادتهم لأنه لولا شهادتهم لكان القول قول المنكر فإنما لزمته تلك الزيادة بشهادتهم .
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه عفا عن دم خطأ أو جراحة خطأ أو عمدا فيها أرش فقضى بذلك ثم رجعا ضمن الدية وأرش تلك الجراحة لأنهما أتلفا على المشهود عليه المال بشهادتهما فالخطأ موجب للضمان فيضمنان ذلك عند الرجوع ولكن بال 4 صفة التي كانت واجبة وقد كانت الدية واجبة مؤجلة في ثلاث سنين فيجب عليهما ضمانها في ثلاث سنين أيضا وما بلغ من أرش الجراحة خمسمائة فصاعدا إلى ثلث الدية في سنة وما زاد على ذلك إلى الثلث ففي سنة أخرى وإن كان الأرش أقل من خمسمائة ضمناه حالا وكذلك الدية إن كانت قد وجبت حالة ولم يؤخذ منها شيء فشهدا أنه أبرأه منها وقضى بالبراءة ثم رجعا ضمنا ذلك حالا لأنهما كذلك أتلفاه بشهادتهما على المشهود عليه ألا ترى أنهما يضمنان الجيد بمثله والرديء بمثله وهذا لأن وجوب الضمان عليهما بطريق الجبران وإنما يتحقق ذلك إذا كان الضمان نصفه الفائت .(17/41)
وإذا شهد شاهدان على عبد في يد رجل أنه لفلان فقضى القاضي له به والذي في يده العبد يجحد ذلك ثم رجعا وضمنهما القاضي القيمة فأدياها أو لم يؤدها حتى وهب المشهود له العبد من المشهود عليه وقبضه فإن الشاهدين يبرآن من الضمان ويرجعان فيما أديا لأن وجوب الضمان عليهما لأجل الجبران وقد انعدمت الحاجة إلى ذلك برجوع العبد إلى يد المولى من غير عوض وهو يزعم أن العبد سلم له بملكه القديم لا بالهبة التي باشرها المشهود له فزعمه معتبر في حقه فإن رجع الواهب في العبد وقبضه رجع المشهود عليه بالضمان على الشاهدين لأن فوات ملكه ويده كان بسبب شهادتهما لولا ذلك لما تمكن المشهود له من استرداد العبد منه ولأن الهبة لما انفسخت بالرجوع صارت كان لم تكن.
وإن مات المشهود له فورث المشهود عليه منه العبد رجع عليه الشاهدان بما أعطياه من القيمة لأنه يزعم أن وصول العبد إلى يده بقديم ملكه لا بالموت وكذلك لو كان العبد قتل فأخذ المشهود له القيمة فورث المشهود عليه منه تلك القيمة لأن عود بدل العبد إليه كعود عينه وكذلك لو ورث مثلها من تركته لأن في زعمه أن القيمة دين له على المشهود وأنه استوفى تركته بحساب الدين دون الميراث وكذلك إن كان معه وارث آخر وفي حصته من(17/42)
ص -23- ... تركة الميت وفاء بالقيمة ففي حقه يجعل ذلك سالما له بجهة دينه كما يزعم وينعدم النقصان بسببه فلا يجب ضمانه على المشهود بطريق الجبران.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه تزوج هذه المرأة على ألف درهم وهي مهر مثلها والزوج يجحده فقضى القاضي بذلك ثم طلقها عند القاضي ثم رجعا فلا شيء عليها لأنهما أدخلا في ملكه ما هو مثل لما ألزماه فالبضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم ثم تقرر نصف الصداق على الزوج كان بإيقاعه الطلاق باختياره .
ولو كان الزوج قال تزوجتها بغير تسمية مهر كان على الشاهدين فضل ما بين المتعة إلى الخمسمائة التي غرمها الزوج لأن النكاح قد ثبت هنا بتصادقهما والقول قول المنكر للتسمية لولا شهادتهما ولا يلزمه أكثر من المتعة عند الطلاق فما زاد على المتعة إلى تمام الخمسمائة إنما لزمه بشهادتهما فيضمنان ذلك له عند الرجوع ولو شهد آخران على الدخول قبل الطلاق ثم رجعوا فعلى شهود الدخول خمسمائة خاصة لأن تلك الخمسمائة إنما لزمته قبل الطلاق بشهادتهما عليه بالدخول وعليهما وعلى الشاهدين بالألف فضل ما بين المتعة والخمسمائة نصفان لأن لزوم ذلك القدر إياه بشهادة الفريقين جميعا.
ولو شهد آخران أيضا على الطلاق فقضى القاضي بجميع ذلك ثم رجعوا فعلى شاهدي الدخول خمسمائة لأن لزوم ذلك بشهادتهما خاصة وعليهما أيضا وعلى شاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى نصف الأول وعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية وشاهدي الطلاق قدر المتعة أثلاثا على كل شاهدين ثلث ذلك لأن تقرر ذلك القدر كان بشهادتهم جميعا.
ولو شهد شاهدان على رجل أنه تزوج امرأة على ألف درهم ومهر مثلها خمسمائة وشهد آخران على الدخول وآخران على الطلاق والزوج يجحد ذلك كله ثم رجعوا فعلى شاهدي النكاح خمسمائة لأنهما ألزماه ألفا وعوضاه من ذلك ما يساوي خمسمائة فما زاد على ذلك أتلفاه بغير عوض فيضمنان ذلك له وليس عليهما غير ذلك(17/43)
ألا ترى أنهما لو شهدا عليه بالنكاح بخمسمائة لم يضمنا شيئا فأما في الخمسمائة الباقية فيضيف ذلك على شاهدي الدخول خاصة لأن ذلك إنما لزمه بشهادتهما على الدخول فالخمسمائة التي ضمنهما شهود العفو شائعة فكذلك الخمسمائة الأخرى تكون شائعة نصف ذلك مما يتقرر عليه بالدخول فيجب ضمان ذلك على شاهدي الدخول ونصف هذه الخمسمائة عليهما وعلى شاهدي الطلاق نصفان لأن تقرر ذلك عليه بشهادة الفريقين .
وإذا شهد أربعة نفر على رجل بحق فشهد عليه اثنان بخمسمائة واثنان بألف فقضى به القاضي ثم رجع أحد شاهدي الألف فعليه ربع الألف لأن نصف الألف ثبت بشهادته وشهادة صاحبه على الشهادة وإنما انعدمت الحجة في نصفه فإن رجع معه شاهد الخمسمائة(17/44)
ص -24- ... كان على شاهدي الألف ربع الألف كما بينا وعليه أيضا وعلى الآخرين ربع سهم أثلاثا لأن الشهود على النصف الآخر كانوا أربعة وقد بقي نصفه ببقاء الواحد على الشهادة فيجب على الذين رجعوا نصف ذلك النصف بينهم أثلاثا وإن رجع أحد شاهدي الخمسمائة وحده أو هما جميعا فلا شيء عليهما لأنه قد بقي على الشهادة بتلك الخمسمائة من يتم الحجة بشهادته وإن رجعوا جميعا كان على شاهدي الألف خمسمائة خاصة لأن ذلك يستحق بشهادتهما خاصة والخمسمائة الأخرى عليهم أثلاثا أرباعا لأنها ثابتة بشهادة الأربعة فعند الرجوع ضمانها عليهم أرباعا وإن رجع شاهدا الألف وأحد شاهدي الخمسمائة فنصف الألف على شاهدي الألف خاصة والربع عليهم أثلاثا لأن الحجة بقيت في ربع الألف ببقاء أحد شاهدي الخمسمائة على شهادته وإذا شهد على مجهول الحال أنه عبد لهذا الرجل فقضى بشهادتهما ثم رجعا فلا شهادة عليهما للعبد لأنهما أبطلا عليه الحرية الثابتة له باعتبار الظاهر والحرية ليست بمال ولأنهما لو ضمنا إنما يضمنان للعبد وما يكون للعبد فهو لمولاه منكرا لرجوعهما فإن كان العبد كاتب نفسه على مال أو اشترى نفسه بمال ثم رجع فلا شيء له على الشاهدين لأنهما لو رجعا قبل العتق والمكاتبة لم يضمنا شيئا فكذلك بعده ولأن هذا المال التزمه العبد باختياره فلا يستوجب الرجوع به على الشاهدين.(17/45)
رجل مات وترك عبدين وأمة ومالا فشهد شاهدان أن هذا الرجل أخوه لأبيه وأمه ووارثه لا وارث له غيره فقضى بالمال له والعبدين والأمة ثم شهد شاهدان بعد ذلك أن أحد العبدين بعينه بن الميت فأجاز القاضي شهادتهما وأعطاه الميراث كله ثم شهد آخران أن العبد الثاني بن الميت فقضى به أيضا ثم شهد آخران أن الميت أعتق هذه الأمة وتزوجها في حياته وصحته فقضى بذلك وجعلها وارثة معهم ثم رجع اللذان شهدا للعبد الأول ضمنا قيمته بين الابن الآخر والمرأة أثمانا لأنه لولا شهادتهما لكانت رقبة المشهود له بين الآخر والمرأة على ثمانية فإنما تلف ذلك عليهما بشهادتهما فقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك بغير عوض وكذلك لو لم يرجع ورجع شهود الابن الثاني ضمنا قيمته بين الابن الأول والمرأة أثمانا لما قلنا ويضمنان ميراثه لأخته دون المرأة لأن جميع الميراث كان مستحقا له بقضاء القاضي قبل شهادتهما فإنما أتلفا عليه ذلك بشهادتهما وما أتلفا شيئا من الميراث على المرأة بشهادتهما لأن استحقاقها عند الشهادة لم يكن ثابتا وإنما ثبت بالبينة على نكاحها بعد ذلك.
ولهذا في الفصل الأول لا يضمن الشهود شيئا مما يورث الابن الأول لأنهما لم يثبتا استحقاق ذلك على الابن الثاني والمرأة بشهادتهما فالاستحقاق لم يكن ظاهرا عند شهادتهما وإنما ثبت بثبوت سببه بعد ذلك ولا يضمنان للأخ أيضا لأن ما استحق بشهادتهما على الأخ مستحق عليه بشهادة غيرهما ففي حق الأخ بقيت الشهادة حجة تامة في حق استحقاق الميراث عليه ولو لم يرجع هذان ورجع شاهد المرأة ضمنا قيمتها وميراثها بين الابنين لأنهما أتلفا بشهادتهما ملك الابنين في رقبتها وأثبت استحقاقها الميراث عليهما بشهادتهما بالنكاح وقد أقرا(17/46)
ص -25- ... بالرجوع أنهما شهدا بذلك كله بغير حق وإن كان الشاهدان للمرأة هما الشاهدان على نسب الابن الأول والابن الآخر ثم رجعوا عن الشهادة كلها كان الضمان عليهم كذلك لأن المشهود به مختلف فلا فرق بين اتحاد المشهود واختلافهم في ذلك وسواء رجعوا معا أو متفرقين لأن أصل الشهادة كان مختلفا بعضها قبل بعض والضمان عليهم عند الرجوع باعتبار الشهادة السابقة ولو شهد شاهدان على ذلك كله معا وبعضهم لا يصدق بعضا ثم رجعا ضمنا ثمن المرأة وقيمتها بين الاثنين لأنهما أتلفا على الاثنين فلولا شهادتهما بذلك لكان ذلك مستحقا للاثنين بقضاء القاضي بينهما ويضمنان من قيمة كل بن لصاحبه سبعة أسهم من ثمانية أسهم وللمرأة الثمن كما لو شهد بكل شيء شاهدان آخران وكذلك لو رجعا عن الشهادة واحد بعد واحد كان الحكم كما بينا والله أعلم .
باب من الرجوع أيضا(17/47)
قال رحمه الله: رجل له جاريتان لكل واحدة منهما ولد ولدته في ملكه فشهد شاهدان لأحد الابنين أن الرجل أعاده وهو منكر وشهد آخر أن للولد الآخر بمثل ذلك فقضى القاضي بأيهما أتياه وجعل الأمتين كالولد ثم رجعوا عن شهادتهم والولد حي ضمن كل شاهدين منه قيمة الولد الذي شهدوا له وبين قيمتها أمة إلى قيمتها أم ولد لأنهما أتلفا عليه ذلك القدر بشهادتهما فالثابت في شهادتهما في حياته حرية الولد ونقصان الاستيلاء في الأم فإذا غرما ذلك واستهلكه الأب ثم مات ولا وارث له غيرهما وكل واحد من الاثنين يجحد صاحبه ضمن كل شاهدين للولد الآخر نصف قيمة أم الولد الذي شهدوا له لأنها عتقت عند الموت بشهادتهما فيضمنان ما بقي من قيمتها إلا أن ذلك ميراث بين الابنين نصفان والابن المشهود له يصدقهما في الشهادة ويكذبهما في الرجوع فسقطت حصته من ذلك فإنما يبقى على كل فريق حصة الابن الآخر لأنه مدعي لذلك عليهما ويرجع شاهدا كل ولد في الميراث الذي ورثه الولد الذي شهدا له بجميع ما أخذ منهما الوالد في حياته لأن المشهود له يقران ذلك دينا لهما على الأب وأنه قد استوفى ذلك منهما بغير حق لأنهما صادقان في الشهادة وأحد الوارثين إذا أقر بدين على الميت يستوفي جميع ذلك من نصيبه ولا يرجعان في نصيبه بما ضمنهما أخوه من نصف قيمة أمه لأنهما يزعمان أنهما شهدا بغير حق فكانا ضامنين جميع ذلك له .
وإذا شهد شاهدان على الرجل بطلاق وهو يجحده فقضى القاضي بالفرقة وبنصف المهر لها ثم مات الرجل ثم رجعا عن شهادتهما غرما لورثة الزوج نصف المهر الذي أخذته المرأة لأنهما لو رجع في حياة الزوج كانا ضامنين ذلك له وقد نبه بعد موته أنهم يحلفونه فيضمنون ذلك للورثة إذا رجعوا بعد الموت أيضا.(17/48)
ولا ميراث للمرأة منه إن كانت ادعت الطلاق أو لم تدع إن أقر الورثة أنه طلقها أو لم يطلقها لأنها قد بانت في حياته وإنما تستحق الميراث بالنكاح إذا انتهى بالوفاة فإذا بانت في حياته وصحته بقضاء القاضي لم تكن(17/49)
ص -26- ... هي وارثة له فلا ينفعها قول الورثة والشهود ما أتلفوا عليها شيئا من الميراث لأنهم شهدوا بالفرقة في حياة الزوج ولم تكن هي مستحقة للميراث عند ذلك لجواز أن تموت قبله.
ولو كان شهدا بذلك بعد موت الزوج وادعى ذلك الورثة فقضى القاضي لها بنصف المهر في ماله ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا للمرأة نصف المهر والميراث لأن حقها في جميع المهر قد تقرر بموت الزوج واستحقت الميراث أيضا فإنما بطل حقها عن نصف المهر وعن الميراث بشهادتهما بالفرقة في حال الحياة فيضمنان ذلك عند الرجوع ولا يضمنان لسائر الورثة شيئا لأنهما لم يتلفا على سائر الورثة شيئا قد تقرر حقها في جميع المهر بموت الزوج قبل ظهور الفرقة فهما نفعا للورثة بإسقاط نصف مهرها وميراثها عنهم فلهذا لم يضمنا للورثة شيئا والله أعلم بالصواب .(17/50)
ص -27- ... كتاب الدعوى
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخي إملاء اعلم بأن الله تعالى خلق الخلق أطوارا علومهم شتى متباينة ولتباين الهمم تقع الخصومات بينهم فالسبيل في الخصومة قطعها لما في امتدادها من الفساد والله تعالى لا يحب الفساد وطريق فصل الخصومات للقضاة بما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وهذا وإن كان من اختيار الآحاد فقد تلقته العلماء رحمهم الله بالقبول والعمل به فصار في حيز التواتر وعد هذا من جوامع الكلم على ما قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم" واختصر لي الحديث اختصارا فقد تكلم كلمتين استنبط العلماء رحمهم الله منهما ما بلغ دفاتر فقال قتادة في قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[صّ:20] إن الحكمة النبوة وفصل الخطاب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فهذا دليل على أن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كان في شريعة من قبله وفي هذا الحديث بيان أن المدعي غير المدعى عليه لأنه صلى الله عليه وسلم ميز بينهما وذلك تنصيص على المغايرة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" يكون تنصيصا على أن العاهر غير صاحب الفراش
والمدعي لغة من يقصد إيجاب حق على غيره فالمدعى فعل يتعدى مفعوله فيكون المدعى اسما لفاعل الدعوى كالضارب والقاتل إلا أن إطلاق اسم المدعي في عرف اللسان يتناول من لا حجة له ولا يتناول من له حجة فإن القاضي يسميه مدعيا قبل إقامة البينة فأما بعد إقامة البينة يسميه محقا لا مدعيا ويقال لمسيلمة مدعي النبوة ولا يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي النبوة لأنه قد أثبته بالمعجزة فعرفنا أن إطلاق الاسم على من لا حجة له عرفا.(17/51)
وهذا الحديث يشتمل على أحكام بعضها يعرف عقلا وبعضها شرعا فقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" يدل على أنه لا يستحق بمجرد الدعوى وهذا معقول لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة فدل على أنه يستحق بالبينة وهذا شرعي وفي خبر الشهود الاحتمال قائم ولا يزول بظهور العدالة لأن العدل غير معصوم عن الكذب أو القصد إلى الكذب فحصول البينات أو الاستحقاق بشهادتهم شرعي وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه" ففيه دليل على أن القول قوله وهذا معقول لأنه متمسك بالأصل فالأصل براءة ذمته وانتفاء حق الغير عما في يده وفيه دليل توجه اليمين عليه وهذا شرعي وكان المعنى فيه والله أعلم أن المدعي يزعم أنه صار متويا حقه بإنكاره فالشرع جعل له حق استحلافه حتى إن كان الأمر كما زعم فاليمين العمومي مهلكة للمدعى عليه(17/52)
ص -28- ... فيكون أتوا بمقابلة اتواء وهو مشروع وإن كان بخلاف ما زعم نال المدعى عليه الثواب بذكر اسم الله تعالى على سبيل التعظيم صادقا ولا يتضرر به.
وفيه دليل على أن حبس البينات في جانب المدعيين لإدخال الألف واللام في البينة فلا تبقى بينة في جانب المدعى عليه لأن مطلق التقسيم يقتضي انتقاء مشاركة كل واحد منهما عن قسم صاحبه فيكون حجة لنا أن بينة ذي اليد على إثبات الملك لنفسه غير مقبولة في معارضة بينة الخارج ويدل على أن جنس الأيمان في جانب المدعى عليه ولا يمين في جانب المدعي فيكون دليلا لنا في أنه لا يرد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه وهكذا ذكره عن إبراهيم رحمه الله في الكتاب فقال كان لا يرد يعني عملا بالحديث كان لا يرد اليمين ويكون حجة لنا في أنه لا يجوز القضاء بشاهد واحد مع يمين المدعي إذ لا يمين في جانب المدعي ولأنه جعل الفاصل للخصومة سببين بينة في جانب المدعي ويمينا في جانب المدعى عليه والشاهد واليمين ليست بينة ولا يمين المدعى عليه فكون إثبات طريق ثالث وهو مخالف لهذا الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم المدعي عام لم يدخله خصوص فالمدعي لا يستحق بنفس الدعوى ويستحق بالبينة في الخصومات كلها وقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على المدعى عليه" عام دخله خصوص وهو ما لا يجري فيه الاستحلاف من الحدود وغيرها.(17/53)
قال: وإذا كانت الدار في يدي رجل فادعى رجل كلها أو طائفة منها فالبينة على المدعي واليمين على من الدار في يديه ويحتاج هنا إلى معرفة أشياء أحدها أن الدعوى نوعان صحيحة وفاسدة فالصحيحة ما يتعلق بها أحكامها وهو احتضار الخصم والمطالبة بالجواب واليمين إذا أنكرو مثل هذه الدعوى يمكن إثباتها بالبينة والدعوى الفاسدة ما لا يتعلق بها للأحكام التي بيناها وفساد الدعوى بأحد معنيين إما أن لا يكون ملزما لخصم شيئا وإنما ثبتت كمن ادعى على غيره أنه وكيله أو أن يكون مجهولا في نفسه فالمجهول لا يمكن إثباته بالبينة فإن القاضي لا يتمكن من القضاء بالمجهول بينة المدعي ولا بنكول المدعى عليه ثم الدعوى الصحيحة لا توجب استحقاق المدعي للمدعى بنفسها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وفي رواية: على من أنكر.
ولأن على القاضي تحسين الظن بكل واحد فلو جعلنا نفس الدعوى موجبة استحقاق المدعي للمدعى فيه إساءة الظن بالآخر وذلك لا يجوز ولكن على المدعي البينة لإثبات استحقاقه بها فيطالبه القاضي بذلك لا على وجه الإلزام عليه بل على وجه التذكير له فلعله يغفل عن ذلك وفيه نظر للآخر أيضا فإنه لو حلفه ثم أقام المدعي البينة افتضح باليمين الكاذبة فلهذا بدأ بطلب البينة من المدعي فإذا لم يكن له بينة فاليمين على ذي اليد لأنه منكر واليمين على من أنكر وهذه اليمين حق المدعي فإذا لم يكن له بينة فاليمين على ذي اليد وهذه حق لا يستوفى إلا بطلبه هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الحضرمي والكندي(17/54)
ص -29- ... للمدعي منهما ألك بينة فقال لا قال عليه الصلاة والسلام لك يمين فقال يحلف ولا يبالي فقال صلوات الله عليه ليس لك إلا هذا شاهداك أو يمينه فذلك تنصيص على أن اليمين حق المدعي.
فإن قيل: كيف يستحقها بنفس الدعوى؟ قلنا كما يستحق الإحضار والجواب وذلك ثابت بالنص قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية.
فقد ألحق الوعيد بمن امتنع من الحضور بعد ما طولب به وذلك دليل أن الحضور مستحق عليه والضرر عليه في الحضور والانقطاع عن أشغاله فوق الضرر عليه في الجواب واليمين فإذا ثبت ذلك بالنص ثبت هذا بطريق الأولى مع أن دعوى المدعي وإنكار المدعى عليه خبران قد تعارضا ولا يتمكن القاضي من تركهما على ذلك لما فيه من امتداد الخصومة بينهما فلا بد من طلب رجحان جانب الصدق في خبر أحدهما وذلك في بينة المدعي أو يمين المدعى عليه وهذا يدل على أن هذه اليمين حق للمدعى عليه لأن ما ترجح صدقه يكون حقا له إلا أنه لما كان لا يستحق إلا بطلب المدعي فذلك دليل على أنه حق المدعي ومعنى حقه فيه أنه يوصله إلى حقه عند نكول المدعى عليه ويرجح معنى الصدق في جانبه فلهذا يصير القاضي إليه بمجرد طلب المدعي ويستوى فيما ذكرنا صنوف الأملاك وأنواع المدعيين من حر أو عبد مسلم أو ذمي مستأمن أو مرتد فالقاضي مأمور بالعدالة والإنصاف في حق كل واحد.(17/55)
وكذلك إذا ادعاه شراء من ذي اليد أو هبة أو صدقة أو إجارة أو رهنا لأنه يدعي استحقاق ملك العين أو المنفعة واليد على ذي اليد ببعض هذه الأسباب فكان مدعيا ولا يتوصل إلى إثبات ما ادعاه إلا بإثبات سببه فيصير السبب مقصودا بالإثبات بالبينة لأن ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا به يكون مقصودا قال وأصل معرفة المدعي من المدعى عليه أن ينظر إلى المنكر منهما فهو المدعى عليه والآخر المدعي وهذا أهم ما يحتاج إلى معرفته في هذا الكتاب وما ذكره في الكتاب كلام صحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المدعى عليه المنكر بقوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر" ولكن تمام بيان الحد لا يحصل بها فقد يكون مدعيا صورة واليمين في جانبه كالمودع يدعي رد الوديعة أو هلاكها وذو اليد إذا قال العين لي فهو مدع صورة ولا يخرج من أن يكون مدعيا عليه.
ولكن الفرق بينهما على ما قاله بعض أصحابنا رحمهم الله أن المدعي من يستدعي على الغير بقوله وإذا ترك الخصومة يترك والمدعى عليه من يستدعي عليه بقول الغير وإذا ترك الخصومة لا يترك وقيل المدعي من يشتمل كلامه على الإثبات ولا يصير خصما بالتكلم بالنفي فإن الخارج لو قال لذي اليد هذا الشيء ليس لك لا يكون خصما مدعيا ما لم يقل هو لي والمدعى عليه من يشتمل كلامه على النفي فيكتفي به منه فإن ذا اليد إذا قال ليس هذا لك كان خصما بهذا القدر وقوله هو لي فصل من الكلام غير محتاج إليه وقيل(17/56)
ص -30- ... المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد فإنه إذا قال هو لي كان مستحقا له ما لم يثبت الغير استحقاقه فأما المودع يدعي رد الوديعة أو هلاكها فهو مقبول القول في ذلك لأن الخصم سلطه على ذلك فيثبت بمجرد قوله فكان مدعى عليه أو لأنه منكر الضمان في ذمته فكان مدعى عليه فعلى الوجه الأول يحلف لنفي التهمة وعلى الوجه الآخر يحلف لإنكاره الضمان.
ألا ترى أن الرد لا يثبت يمينه حتى لو ادعى الرد على الوصي لا يكون الوصي ضامنا وإن كان الذي في يديه ادعى أنه باعه من هذا الرجل أو أجره فهو المدعي وعليه البينة لأنه يدعي سبب نقل الملك في العين أو المنفعة إليه واستحقاقه العوض عليه فيكون مدعيا محتاجا إلى إثبات صدقه وعلى الآخر اليمين لإنكاره.
قال: وإن ادعى دينا على رجل بوجه من الوجوه فأنكر الآخر فالبينة على المدعي بدعواه أمرا عارضا وهو اشتغال ذمة الغير بحقه والمدعى عليه هو المنكر لتمسكه بالأصل وهو براءة ذمته فإن أقر بالدين وقال قد قبضته إياه كان هو المدعي لأن القضاء يعترض الوجوب فهو الذي يدعي الآن أمرا عارضا وكذلك إن ادعى الإبراء أو التأجيل فهو المدعي لأن الإبراء مفرغ لذمته بعد اشتغالها باتفاقهما والتأجيل يؤخر المطالبة بعد تقرر السبب بوجه المطالبة باتفاقهما فهو الذي يدعي أمرا عارضا فعليه البينة ويدعي الآخر اليمين.
قال دار في يد رجلين كل واحد منهما يدعي أنها له وكل واحد منهما يدعي لما في يد صاحبه لأن في يد كل واحد منهما نصف الدار فكأن الدار الواحدة بمنزلة دارين في يد كل واحد منهما أو أحدهما وكل واحد منهما يدعيها فكان كل واحد منهما مدعيا لما في يد صاحبه فعليه البينة ومنكر الدعوى صاحبه فيما في يده فإن أقاما البينة قضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه فرجحنا بينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق.(17/57)
فلو لم يقم لهما بينة يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وأيهما حلف بريء منهما وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله قائم مقام إقراره لما ادعاه صاحبه فقد أسلمت هذه البينة على فصلين أحدهما أن بينة الخارج وبينة ذي اليد إذا تعارضتا على الملك المطلق فبينة الخارج أولى بالقبول عندنا وفي أحد قولي الشافعي تتهاثر البينتان ويكون المدعي لذي اليد كان في يده لإقضائه له وفي القول الآخر ترجح بينة ذي اليد فيقضي به لذي اليد فقضاء ملك بالبينة وطريقه على القول الأول أن بينة الخارج حجة يجوز دفعها بالطعن فيها فيجوز دفعها بالمعارضة كالأدلة الشرعية فإذا تحقق التعارض فالقاضي تيقن بكذب أحدهما لأن العين الواحدة في وقت واحد لا تكون كلها ملكا لكل واحد منهما فبطلت البينتان وبقي اليمين في يد ذي اليد بحكم يده وطريقه على القول الآخر أن ذا اليد له نوعان من الحجة اليد والبينة وللخارج نوع واحد وذو الحجتين يترجح على ذي حجة واحدة كما في دعوى النكاح وما في معناه وكما لو ادعيا تلقى الملك من واحد وأحدهما(17/58)
ص -31- ... قابض فأقاما البينة وهذا لأن بينة ذي اليد وجب قبولها الآن لصيرورته محتاجا إلى إقامتها بإقامة الخارج البينة
ولنا في المسألة طريقان: أحدهما أن بينة ذي اليد تقوم على ما شهد له الظاهر به فلا تكون حجة كبينة المدين على أن لا دين عليه ألا ترى أنه لو أقامها قبل إقامة الخارج البينة لم تقبل وهو محتاج إليها في إسقاط اليمين عن نفسه والبينة تقبل لهذه الحاجة كما لو أقام المودع البينة على رد الوديعة أو هلاكها فكذلك بعد إقامة الخارج البينة وهذا لأن شهود ذي اليد يشهدون له باعتبار يده القائمة ولا طريق لمعرفة الملك إلا اليد وبينة الخارج لا تندفع بيد ذي اليد وإن كان القاضي يعاينها فكذلك لا تندفع ببينة تعتمد تلك اليد بخلاف النتاج فإن باعتبار اليد لا يجوز لهم الشهادة على النتاج وإنما اعتمدوا سببا آخر ذلك غير ظاهر عند القاضي فلا بد من قبول البينة عليه وبخلاف بينة مجهول الحال على حريته لأن الشهود لا يجوز لهم أن يشهدوا بحريته بسبب الدار فإنما اعتمدوا شيئا آخر ذلك غير ظاهر عند القاضي وكذلك شهود الشراء لذي اليد الذي اعتمدوا سببا ذلك غير ظاهر أيضا عند القاضي فوجب قبول بينته ثم يترجح بيده.(17/59)
والطريق الآخر أن البينات تترجح بزيادة الإثبات والإثبات في بينة الخارج أكثر لأنه يثبت الملك على خصم هو مالك وبينة ذي اليد لا يثبت الملك على خصم هو مالك لأن بمجرد إقامة الخارج البينة لم تثبت الاستحقاق له قبل القضاء فلا يصير هو مقضيا عليه لو قضي ببينة ذي اليد وإذا قضى ببينة الخارج صار ذو اليد مقضيا عليه فلزيادة الإثبات رجحنا بينة الخارج بخلاف دعوى الخارج فإن كل واحد من البينتين هناك يثبت أولية المالك لصاحبه وذلك لا يكون استحقاقا على غيره ولهذا لا يصير ذو اليد مقضيا عليه إذا أقام البينة على النتاج حتى لو أقام ذو اليد البينة على النتاج بعد قضاء القاضي للخارج وجب قبول بينته فلما استويا في الإثبات رجحنا بينة ذي اليد.
وكذلك إذا دعيا تلقى الملك من واحد فقد استوت البينات في الإثبات لأن استحقاق كل واحد منهما على البائع فرجحنا بينة ذي اليد لتأكيد شرائه بالقبض وهذا بخلاف الأدلة الشرعية فإنها حجة في النفي والإثبات فيتحقق التعارض وهنا البينتان للإثبات لا للنفي وحاجة ذي اليد إلى استحقاق الخارج فلم يتحقق التعارض
والفصل الثاني أن يكون المدعى عليه عن اليمين موجب للقضاء عليه بالمال عندنا ولكن ينبغي للقاضي أن يعرض عليه اليمين ثلاث مرات ويخبره في كل مرة أن من رأيه القضاء بالنكول إيلاء لعذره فإن لم يحلف قضي عليه وعند الشافعي رحمه الله يرد اليمين على المدعي فإن حلف أخذ المال وإن أبى انقطعت المنازعة بينهما وحجته في منع القضاء بالنكول أنه سكوت في نفسه فلا يكون حجة للقضاء عليه كسكوته عن الجواب في الابتداء وهذا لأنه محتمل قد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة كما فعله عثمان رضي الله عنه وقال خشيت أن يوافق قدر يميني فيقال أصيب بيمينه(17/60)
ص -32- ... والمحتمل لا يكون حجة وحجته في رد اليمين على المدعي على ما روي أن عثمان رضي الله عنه ادعى مالا على المقداد بن الأسود الكندي رضي الله عنه بين يدي عمر رضي الله عنه الحديث إلى أن قال المقداد رضي الله عنه ليحلف عثمان رضي الله عنه ليحلف عثمان رضي الله عنه ويأخذ حقه فقال عمر رضي الله عنه لقد أنصف المقداد وعن علي رضي الله عنه أنه حلف المدعي بعد نكول المدعى عليه والمعنى فيه أن اليمين في جانب المدعى عليه في الابتداء لكون الظاهر شاهد له وبنكوله صار الظاهر شاهدا للمدعي فيعود اليمين إلى جانبه ولهذا بدأنا في اللعان بأيمان الخروج لشهادة الظاهر له فإنه لا يلوث فراشه كاذبا وبدأت أنا في القيامة بيمين الولي للشهادة الظاهرة فإن المسألة فيما إذا كانت العداوة ظاهرة بين القيل وأهل المحلة وكان العهد قريبا بدخولهم في محلتهم إلى أن وجد قتيلا ولنا في المسألة حديث عمر رضي الله عنه فإنه قضى على الزوج بالطلاق في قوله حملك على غاربك عند نكوله عن اليمين على إرادة الطلاق .
وقضى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لصحة الرجعة عند نكولها عن اليمين على أنها كانت بعد حل الصلاة لها وقال بن مليكة رضي الله عنه كنت قاضيا بالبصرة فاختصم إلي امرأتان في سوار فطلبت البينة من المدعية فلم أجد وعرضت اليمين على الأخرى فنكلت فكتبت إلى أبي موسى رضي الله عنه فورد كتابه أن أحضرهما واتل عليهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [آل عمران: 77] ثم أعرض اليمين على المدعية عليها فإن نكلت فاقض عليها وقضى شريح رحمه الله بالنكول بين يدي علي رضي الله عنه فقال له قالون وهي باللغة العربية أصبت وما روي عن علي رضي الله عنه أنه حلف المدعي فبناء على مذهبه لأنه كان يحلف مع تمام حجة القضاء بالبينة ولسنا نأخذ بذلك.(17/61)
وتأويل حديث المقداد رضي الله عنه أنه ادعى الإيفاء على عثمان رضي الله عنه وبه نقول ومن حيث المعنى إما طريقان أحدهما أن حق المدعي قبل المدعى عليه هو الجواب وهو جواب يوصله إلى حقه وهو الإقرار فإذا فوت عليه ذلك بإنكاره حوله الشرع إلى اليمين خلفا عن أصل حقه فإذا منعه الحلف يعود إليه أصل حقه لأنه لا يتمكن من منع الحلف شرعا إلا بإيفاء ما هو أصل الحق وهذا الطريق على قولهما وأنهما يجعلان النكول بمنزلة الإقرار والطريق الآخر أن الدعوة لما صحت من المدعي يخير المدعى عليه بين بدل المال وبين اليمين فإذا امتنع منهما وأحدهما تجري فيه النيابة دون الآخر ناب القاضي منابه فيما تجري فيه النيابة وهذا لأن تمكنه من المنازعة شرعا بشرط أن يحلف فإذا أبى ذلك صار تاركا للمنازعة بتفويت شرطها فكأنه قال لا أنازعك في هذا المال فيتمكن المدعي من أخذه لأنه يدعيه ولا منازع له فيه.
وهذا الطريق على أصل أبي حنيفة رحمه الله حيث جعل النكول بدلا ولا عبرة للاحتمال في النكول لأن الشرع ألزمه التورع عن اليمين الكاذبة دون الترفع عن الصادقة(17/62)
ص -33- ... فيترجح هذا الجانب في نكوله ولأنه لا يتمكن من الترفع عن اليمين إلا ببدل المال فإنه إنما يرتفع ملتزما الضرر على نفسه لا ملحقا الضرر بالغير يمنع الحق والذي قال من شهادة الظاهر للمدعي عند نكول المدعى عليه لا يكون ذلك إلا بترجح جانب الصدق في دعوى المدعي وذلك موجب للقضاء ثم اليمين مشروعة للنفي لا للإثبات وحاجة المدعي إلى الإثبات فلا تكون اليمين حجة له هذا معنى تعليل محمد رحمه الله لا أحول اليمين عن موضعه وهذا لأنها في النفي لا توجب النفي حتى تقبل بينة المدعي بعد يمين المدعى عليه ففي غير موضعه وهو الإثبات أولى أن لا يوجب الإثبات والشهادات للإثبات ثم لا يستحق المدعي بشهادته لنفسه شيئا بحال فلان لا يستحق يمينه لنفسه وهو في غير موضع الإثبات كان أولى.
وإذا تنازع رجلان في دار كل واحد منهما يدعي أنها في يده فعلى كل واحد منهما البينة لأن دعوى اليد مقصودة كما أن دعوى الملك مقصودة لأن باليد يتوصل إلى الانتفاع بالملك والتصرف فيه فإن أقام كل واحد منهما البينة أنها في يديه جعل يد كل واحد منهما نصفها لتعارض البينتين وتساويهما فالمساواة في سبب الاستحقاق توجب المساواة في الاستحقاق فإن كان المدعي قابلا للاشتراك يقضي لكل واحد منها بالنصف لمعنى الضيق والمزاحمة في المحل قال فإذا أقام أحدهما البينة أنها له قضيت بها له لأنه استحق بالبينة الملك فيما في يد صاحبه ولم يعامله صحابه بمثله ولا منافاة بين القضاء باليد لصاحبه والملك له بالبينة.
وقد كان أصحابنا رحمهم الله يقولون إذا قال المدعي هذا الشيء ملكي وفي يدي لم يسمع القاضي دعواه وقال له إذا كان ملك في يدك فماذا تطلب مني فتأويل تلك المسألة أن الخصم لا يدعي إليه لنفسه وهنا الخصم يدعي اليد لنفسه فلهذا قبل دعوى اليد لنفسه وقضى له بها عند إقامة البينة .(17/63)
وذكر الخصاف رحمه الله أن من ادعى دارا في يد غيره وأنها له وأقام البينة فما لم يشهد الشهود أنها في يد المدعى عليه تقبل بينته لجواز أن يكون تواضعا في محدود في يد ثالث على أن يدعيه أحدهما ويقر الآخر بأنه في يده ليقيم البينة عليه بذلك وهو في يد غيرهما ولكن تأويل تلك المسألة أن الخصم الآخر لم يثبت يده بالبينة وهنا قد أثبت كل واحد منهما يد البينة فلهذا قبلنا بينة أحدهما على صاحبه بإثبات الملك له وإن لم يقم لهما بينة على اليد وطلب كل واحد منهما يمين صاحب ما هي في يده فعلى كل واحد منهما أن يحلف البينة ما هي في يد صاحبه لأنه لو أقر لصاحبه بما ادعى لزمه حقه فإذا أنكر حلف عليه وإن لم يجعلها القاضي في يد واحد منهما لأن حجة القضاء باليد لم تقم لواحد منهما ولكن يمنعهما من المنازعة والخصومة من غير حجة فأيهما نكل عن اليمين لم يجعلها في يده لأن صاحبه قد حلف ولم يجعلها في يد الذي حلف بنكول هذا الناكل أيضا لجواز أن تكون في يد ثالث وأنهما تواضعا للتلبيس على القاضي وذلك يمنع الناكل عن منازعة الآخر لأن(17/64)
ص -34- ... نكوله حجة عليه فإن وجدها في يد آخر لم ينزعها من يده الذي أنفذه بين هذين لأن نكولهما ليس بحجة على غيرهما والقضاء بحسب الحجة .
قال عبد في يدي رجلين ادعاه آخر وأقام البينة أنه كان في يده أمس لم يقبل ذلك منه لأنهم شهدوا بعد عرف القاضي زوالهما ولم يثبت سبب الزوال ومثل هذه الشهادة لا تكون مقبولة لأن الشهادة على ما كان في الزمان الماضي إنما تقبل بطريق أن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه واستصحاب الحال إنما يجوز بقاؤه والعمل به فيما لم يتيقن بزواله وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله أن الشهادة تقبل بناء على أصله أنهم لو شهدوا أنه كان في ملكه أمس عنده تقبل ولكن هذا القياس غير صحيح فإن الملك غير معاين ولا يتيقن القاضي بزوال ما شهدوا به في الحال فكان لاستصحاب الحال طريقان بخلاف اليد فإنه معاين قد علم القاضي انفساخ يده باليد الظاهر للغير فلا طريق لاستصحاب الحال فيه.(17/65)
ولو أقر ذو اليد أنه كان في يد المدعي أمس أمر بالرد عليه لأن الإقرار ملزم بنفسه قبل اتصال القضاء به فيظهر بإقراره يد المدعي أمس فيؤمر بالرد عليه ما لم يثبت حقا لنفسه فأما الشهادة لا توجب الحق إلا باتصال القضاء بها ويتعذر على القاضي القضاء بشيء يعلم والحال خلافه وكذلك لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنه كان في يد المدعي أمس أمر بالرد عليه لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أقام المدعي البينة أن هذا العبد أخذه منه هذا أو انتزعه منه أو غصبه منه أو غلبه عليه فأخذه منه أو أرسله في حاجته فاعترضه هذا في الطريق أو أبق مني هذا فأخذه هذا الرجل فهذه الشهادة جائزة ويقضي بالعبد له لأنهم أثبتوا سبب زوال يده فصار ذلك كالمعاين للقاضي وأثبتوا أن وصوله إلى يد ذي اليد كان بأخذ المدعى عليه منه فعليه رده لقوله صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت" حتى ترد واحدة من غير حق ظاهر له في المأخوذ عدوان والفعل الذي هو عدوان واجب الفسخ شرعا وذلك بالرد .
قال ولو ادعى عينا في يد رجل أنه له وقال الذي هو في يديه أودعنيه فلان أو أعارنيه أو وكلني بحفظه لم يخرج من خصومة المدعي إلا أن يقيم البينة على ما قال عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله يخرج من خصومته بمجرد قوله من غير بينة وقال بن شبرمة لا يخرج من خصومته وإن أقام البينة على ما قال أما بن أبي ليلى رحمه الله فإن كلام ذي اليد إقرار منه بالملك للغائب والإقرار يوجب الحق بنفسه لقوله تعالى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] ولأنه لا تهمة فيما يقر به على نفسه فيثبت ما أقر به بنفس الإقرار ويتبين أن يده يد حفظ لا يد خصومة والدليل على صحة هذه القاعدة أن من أقر بعين لغائب ثم أقر به لحاضر فرجع الغائب وصدقه يؤمر بالتسليم إليه وكذلك لو أقر لغيره بشيء ثم مرض فصدقه المقر له كان إقراره إقرار صحة .(17/66)
وأما بن شبرمة رحمه الله فقال إنه بهذه البينة يثبت الملك للغائب وهو ليس بخصم في إثبات الملك لغيره لأنه لا ولاية لأحد على غيره في إدخال شيء في ملكه بغير رضاه ثم(17/67)
ص -35- ... خروجه عن الخصومة في ضمن إثبات الملك لغيره فإذا لم يثبت ما هو الأصل لا يثبت ما في ضمنه كالوصية بالمحاباة إذا ثبت في ضمن البيع فيبطلان البيع بطلب الوصية ولنا أن هذه البينة تثبت أمرين أحدهما الملك للغائب والحاضر ليس بخصم فيه والثاني دفع خصومة المدعى عنه وهو خصم في ذلك فكانت مقبولة فيما وجدت فيكون خصما فيه كمن وكل وكيلا بنقل امرأته أو أمته وقامت البينة أن الزوج طلقها ثلاثا وأن المولى أعتقها تقبل هذه البينة في أقصر يد الوكيل عنها ولا تقبل في وقوع الطلاق والعتاق ما لم يحضر الغائب وهذا لأن مقصود ذي اليد ليس هو إثبات الملك للغائب إنما مقصوده إثباته أن يده يد حفظ وليست بيد خصومة وفي هذا المدعي خصم له فيجعل إثباته عليه بالبينة بمنزلة إقرار خصمه به وهذا بخلاف ما إذا ادعى غصبا على ذي اليد حيث لا تندفع الخصومة عنه بهذه البينة لأن هناك إنما صار خصما بدعوى الفعل عليه دون اليد فأما في الملك المطلق إنما صار خصما بيده.
ألا ترى أن دعوى الغصب مسموعة على غير ذي اليد ودعوى الملك غير مسموعة فإذا أثبت أن يده غيره التحق في الحكم بما ليس في يده فلهذا قلنا أن بمجرد قوله قبل إقامة البينة لا تندفع الخصومة عنه لأن المدعي استحق عليه الجواب فصار هو خصما له بظهور الشيء في يده فلا يملك إسقاطه بمجرد قوله وهو لا يثبت إقراره بالبينة كما زعم هو إنما يثبت عليه إسقاط حق مستحق عليه عن نفسه وهو جواب الخصم .(17/68)
وعن أبي يوسف رحمه الله إن كان ذو اليد رجلا معروفا بالحيل لم تندفع الخصومة عنه بإقامة البينة وإن كان صالحا تندفع الخصومة عنه رجع إلى هذا حين ابتلى بالقضاء وعرف أحوال الناس فقال قد يحتال المحتال ويدفع ماله إلى من يريد شراء ويأمر من يودعه علانية حتى إذا ادعاه إنسان يقيم البينة على أنه مودع ليدفع الخصومة عن نفسه ومقصوده من ذلك الإضرار بالمدعي ليتعذر عليه إثبات حقه بالبينة فلا تندفع الخصومة عنه إذا كان متهما بمثل هذه الحيلة فإن شهد شهود ذي اليد أنه أودعه رجل لا يعرفه لم تندفع الخصومة عنه فلعل ذلك الرجل هو الذي حضر ينازعه وليس في هذه الشهادة ما يوجب دفع الخصومة.
والثاني أن الخصومة إنما تندفع عن ذي اليد إذا حوله إلى غيره بالبينة والتحويل إنما يتحقق إذا أحاله على رجل يمكنه اتباعه ليخاصمه فإذا أحاله إلى مجهول ولا يمكنه اتباع المجهول كان ذلك باطلا لا يجوز وإن قال الشهود أودعه رجل نعرفه بوجهه إذا رأيناه ولا نعرفه باسمه ونسبه فعلى قول محمد رحمه الله لا تندفع الخصومة عنه وعند أبي حنيفة رحمه الله تندفع الخصومة عنه ذكره في الجامع وجه قول محمد رحمه الله أنه أحاله على مجهول لا يمكنه اتباعه ليخاصمه فكان هذا بمنزلة قولهم أودعه رجل لا نعرفه وهذا لأن المعرفة بالوجه لا تكون معرفة على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل "أتعرف فلانا" فقال نعم قال صلى الله عليه وسلم "هل يعرف اسمه" قال لا قال صلوات الله عليه" إذا لا تعرفه"(17/69)
ص -36- ... ومن حلف لا يعرف فلانا وهو يعرف وجهه دون اسمه ونسبه لا يحنث وأبو حنيفة رحمه الله قال قد أثبت ببينته أنه ليس بخصم للمدعي فإنا نعلم أن مودعه ليس هو المدعي لأن الشهود يعرفون المودع بوجهه ويعلمون أنه غير هذا المدعي ومقصود ذي اليد إثبات أن يده يد حفظ وأنه ليس بخصم لهذا الحاضر وهذه البينة كافية في هذا المقصود ثم أن تضرر المدعي بأن لم يقدر على اتباع خصمه فذلك الضرر يلحقه من قبل أنه جهل خصمه لا من جهة ذي اليد ونحن نسلم أن المعرفة بالوجه لا تكون معرفة تامة فإن الغائب لا يمكن استحضاره به ولكن ليس على ذي اليد تعريف خصم المدعي له وإنما عليه أن يثبت أنه ليس بخصم له وهذا كله بناء على أصلنا أن القضاء على الغائب بالبينة لا يجوز فلا بد من خصم حاضر للمدعي ليقيم عليه البينة(17/70)
فأما عند الشافعي رحمه الله القضاء على الغائب بالبينة جائز ويستوي في ذلك إن كان غائبا عن البلدة أو عن مجلس الحكم حاضرا في البلدة وهو الصحيح من قوله وإنما يحضره القاضي لرجاء إقراره حتى يقصر به المسافة عليه ولا يحتاج المدعي إلى تكلف البينة واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" فاشتراط حضور الخصم لإقامة البينة تكون زيادة ولما قالت هند لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال صلوات الله عليه وسلامه "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف من مال أبي سفيان" فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفقة وهو غائب ولأن هذه بينة عادلة مسموعة فيجب القضاء بها كما لو كان الخصم حاضرا وبيان الوصف أن عندكم تسمع هذه البينة للكتاب بها وتأثيره أن بغيبة الخصم ما فات إلا إنكاره وإنكاره غير مؤثر في إيصال المدعي إلى حقه ولأن الأصل هو الإنكار فيجب التمسك به وإذا ثبت إنكاره بهذا الطريق قبلت البينة عليه ولو كان مقرى كان القضاء متوجها عليه لإجماعنا أن القضاء على الغائب بالإقرار جائز فعليه نقيس فعله أنه إحدى حجتي القضاء(17/71)
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه :"لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر فإنك إذا سمعت كلام الآخر علمت كيف تقضي" فبين أن الجهالة تمنعه من القضاء وأنها لا ترتفع إلا بسماع كلامهما فأما قوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي فدليلنا أن البينة اسم لما يحصل به البيان وليس المراد في حق المدعي لأنه حاصل بقوله ولا في حق القاضي لأنه حاصل بقول المدعي إذا لم يكن له منازع إنما الحاجة إلى البيان في حق الخصم الجاحد وذلك لا يكون إلا بحضوره ألا ترى أنه جعل البينة على المدعي في حال لو ادعى عدمها استحلف الخصم فقال "واليمين على من أنكر" وذلك لا يكون إلا بمحضر منه وهذا لأن البينة اسم للحجة ولا تكون حجة عليه ما لم يظهر عجزه عن الدفع والطعن والقرآن صار حجة على الناس حين ظهر عجزهم عن المعارضة وظهور عجزه لا يكون إلا بمحضر منه ولا حجة في حديث هند لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عالما بسبب استحقاق النفقة على أبي سفيان وهو النكاح الظاهر(17/72)
ص -37- ... ألا ترى أنها لم تقم البينة والمعنى فيه أنه أحد المتداعين فيشترط حضوره للقضاء بالبينة كالمدعي بل أولى فإن المدعي ينتفع بالقضاء والمدعى عليه يتضرر به وتأثيره أن دعوى المدعي وإن كان الخصم شرط للعمل بالبينة حتى لا يسمع البينة على المقر ولا يقضي بها إذا اعترض الإقرار قبل القضاء بها وبغيبة المدعي يفوت أحد الشرطين وهو الدعوى وبغيبة المدعى عليه يفوت الشرط الآخر وهو الإنكار وفوات شرط الشيء كفوات ركنه في امتناع العمل به وإنكاره إن كان ثابتا بطريق الظاهر .
فالشرط بطريق الظاهر لا يثبت عندنا ما لم يتيقن به ولهذا إذا قال لعبده إن لم أدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم فقال قد دخلت وقال العبد لم تدخل لم يعتق وإن كان عدم الدخول ثابتا بطريق الظاهر وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله لو حضر وأنكر فأقيم عليه البينة ثم غاب يقضي عليه لأن إنكاره سمع نصا وقال محمد رحمه الله لا يقضي عليه لأن إصراره على الإنكار إلى وقت القضاء شرط وذلك ثابت بعد غيبته باستصحاب الحال لا بالنص وقوله أنها مسموعة عندنا غير مسموعة للقضاء حتى أن الخصم وإن حضر لا يجوز القضاء بها إنما هي مسموعة لنقلها إلى قاضي تلك البلدة بالكتاب بمنزلة شهادة الأصول عند الفروع مسموعة لنقل شهادتهم لا للقضاء بها واعتبار البينة بالإقرار فاسد لأن الإقرار موجب للحق بنفسه دون القضاء بخلاف البينة(17/73)
ألا ترى أن الإقرار للغائب صحيح بخلاف البينة وهذا لأنه ليس للمقر حق الطعن في إقرار نفسه فليس في القضاء عليه مع غيبته بالإقرار تفويت حق الطعن عليه بخلاف البينة قال دار في يد رجل ادعاها رجل أنها له آجرها من ذي اليد وادعى آخر أنها له أودعها إياه وأقام البينة قضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما أثبت ببينته أن وصولها إلى يد ذي اليد من جهته فتتحقق المساواة بينهما في سبب الاستحقاق وذلك يوجب المساواة في الاستحقاق عندنا على ما نبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
قال وإذا كان العبد في يد رجل ادعى أنه غصبه إياه أو أقام البينة وادعى آخر أنه له وديعة في يد ذي اليد قضى به لصاحب الغصب لأن بينته طاعنة في البينة الأخرى فإنه يثبت بها أن يد ذي اليد كانت غصبا من جهته وذلك يتقي كونه وديعة للآخر فلهذا رجحنا بينة الغصب وقضينا به لصاحبها والله أعلم.
باب الدعوى في الميراث
قال رحمه الله عبد في يد رجل فأقام رجل البينة أن أباه مات وتركه ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره وأقام آخر البينة أن أباه مات وتركه ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره فإنه يقضي بالعبد بينهما نصفان لأن كل واحد من الوارثين خصم عن مورثه فكأن المورثين حيان وأقام البينة على ملك مطلق لهما في يد ثالث وفي هذا يقضي بالملك بينهما نصفان عندنا وعلى قول مالك رحمه الله يقضي بأعدل البينتين وعند الأوزاعي رحمه الله يقضي(17/74)
ص -38- ... لأكثرهما عددا في الشهود وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تتهاتر البينتان وفي القول الآخر يقرع بينهما ويقضي لمن خرجت قرعته فمالك يقول الشهادة إنما تصير حجة بالعدالة فالأعدل في كونه حجة أقوى والضعيف لا يزاحم القوي والأوزاعي رحمه الله يقول طمأنينة القلب إلى قول الجماعة أكثر منه إلى قول المثني فيترجح أكثرهما شهودا بزيادة طمأنينة القلب في قولهم.
والشافعي على القول الذي يقول بالتهاتر يقول قد تيقن القاضي بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب فيمتنع العمل بهما كما لو شهد شاهدان أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة آخران أنه أعتق عبده بالكوفة في ذلك اليوم وهذا لأن تهمة الكذب تمنع العمل بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى واستدل بملك النكاح فإنه لو تنازع اثنان في امرأة وأقام كل واحد منهما البينة أنها امرأته لم يقض القاضي بواحدة منهما.
وعلى القول الذي يقول بالقرعة استدل بحديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رجلين تنازعا في أمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام كل واحد منهما البينة أنها أمته فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: "اللهم أنت تقضي بين عبادك بالحق" ثم قضى بها لمن خرجت قرعته.(17/75)
وروي أن رجلين تنازعا في بغلة بين يدي علي رضي الله عنه فأقام أحدهما شاهدين والآخر خمسة من الشهود فقال علي رضي الله عنه لأصحابه ماذا ترون فقالوا يعطى لأكثرهما شهودا فقال فلعل الشاهدين خير من خمسة ثم قال في هذا قضاء وصلح أما الصلح أن يجعل البغلة بينهما سهاما على عدد شهودهما وأما القضاء أن يحلف أحدهما ويأخذ البغلة فإن تشاحا علي الحلف أقرعت بينهما وقضيت بها لمن خرجت قرعته ولأن استعمال القرعة لتعيين المستحق أصل في الشرع كما في قسمة المال المشترك ولنا حديث تميم بن طرفة رضي الله عنه أن رجلين تنازعا في عين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام البينة فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلين اختصما في شيء بين يديه وأقام البينة فقال ما أحوجكما إلى سلسلة كسلسلة بني إسرائيل كان داود عليه السلام إذا جلس لفصل الخصومات نزلت سلسلة من السماء فأخذت بعنق الظالم ثم قضى بينهما نصفين وما روي من استعمال القرعة فقد كان في وقت كان القمار مباحا ثم انتسخ ذلك بحرمة القمار لأن تعيين المستحق بمنزلة الاستحقاق ابتداء فكما أن تعليق الاستحقاق بخروج القرعة يكون قمارا فكذلك تعيين المستحق بخلاف قسمة المال المشترك فللقاضي هنا ولاية التعيين من غير قرعة وإنما يقرع تطييبا لقلوبهما ونفيا لتهمة الميل عن نفسه فلا يكون ذلك في معنى القمار .
وحديث علي رضي الله عنه يعارضه ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في رجلين تنازعا في ولد أنهما قضيا بأنه ابنيهما ولم يستعملا القرعة فيه وقد كان علي رضي الله عنه استعمل القرعة في مثل هذه الحادثة واليمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل أنه عرف انتساخ(17/76)
ص -39- ... ذلك الحكم بحرمة القمار والمعنى فيه أنهما استويا في سبب الاستحقاق والمدعي قابل للاشتراك فيستويان في الاستحقاق كالغريمين في التركة إذا كانت التركة بقدر حق أحدهما والموصي لهما كل واحد منهما بالثلث يقتسمان الثلث بينهما نصفين وبيان الوصف أن المدعي يقبل الاشتراك وهو ملك العين بخلاف ملك النكاح فإنه لا يحتمل الاشتراك وهذا لأن البينات حجج فيجب العمل بها بحسب الإمكان وكيف يترك في يد ذي اليد وقد اتفق الفريقان على استحقاق الملك عليه .
وقوله القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين ضعيف فكل واحد منهما اعتمد سببا أطلق به أداء الشهادة وهو معاينة اليد لمن شهد له وبه فارق مسألة مكة والكوفة فقد علمنا هناك أن أحدهما كاذب بيقين لأن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة والكوفة وقد تتوالى يدان لشخصين على عين واحدة في وقتين فلهذا أوجبنا القضاء هنا بحسب الإمكان وكذلك لو وقت شهود أحدهما سنة ولم يوقت شهود الآخر فقضى به بينهما نصفين لأن تنصيص أحدهما على التوقيت لا يدل على سبق ملكه على الآخر فلعل ملك الآخر أسبق منه وإن لم نؤقت شهوده وذكر المسألة في النوادر في دعوى الملك من خارجين إذا وقت شهود أحدهما ولم يوقت شهود الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله يقضي به بينهما نصفين وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي به للذي وقت شهوده وعند محمد رحمه الله يقضي به للذي لم يوقت شهوده.(17/77)
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ما بينا أن التاريخ ليس بسبب للملك وتنصيص أحدهما عليه لا يبقى مساواة الآخر أو سفه عليه فكان ذكره وجودا وعدما بمنزلة وأبو يوسف يقول قيام المنازعة بينهما في الملك للحال والذي وقت شهوده ثبت الملك له من حين أرخ شهوده ولا منازعة له في ذلك الوقت فلا يستحق عليه الملك بعد ذلك إلا بسبب من جهته كما لو أقام البينة على النتاج ومحمد رحمه الله يقول البينة على الملك المطلق تثبت الاستحقاق من الأصل ولهذا تستحق به الزوائد ويرجع الباعة بعضهم على البعض بالثمن فكان التاريخ الذي لم يوقت شهوده أسبق من هذا الوجه ولكن يبطل هذا بفصلين أحدهما إذا أقام أحدهما البينة على النتاج والآخر على الملك المطلق فصاحب النتاج أولى فلو كانت البينة على الملك المطلق تثبت الاستحقاق من الأصل لاستويا والثاني إذا ادعى عبد على مولاه أنه مملوكه أعتقه وادعى رجل أنه ملكه وأقام البينة فبينة العتق أولى.
ولو كان الاستحقاق يثبت لمدعي الملك المطلق من الأصل لصار هو أولى من مدعي العتق وإن وقتت بينة أحدهما سنة وبينة الآخر سنتين قضي بالعبد لصاحب السنتين في قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله وفي قوله الأول العبد بينهما نصفان والوقت وغير الوقت في ذلك سواء هكذا ذكر في نسخ أبي حفص رحمه الله.
وقال في نسخ أبي سليمان رحمه الله على وقت أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله يقضي به لصاحب(17/78)
ص -40- ... السنتين وعلى قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله يقضي به بينهما نصفين فاشتبه مذهب محمد رحمه الله لاختلاف النسخ.
وجه قول أبي يوسف الآخر أن صاحب التاريخ السابق أثبت الملك لنفسه في وقت لا منازع له فيه فيثبت ملكه في ذلك الوقت ثم لا يستحق عليه الملك إلا لسبب من جهته والآخر لا يدعي الملك بسبب من جهته وهو نظير ما لو ادعى الملك بالشراء كل واحد منهما من رجل أو من واحد وأرخا وأحدهما أسبق تاريخا كان صاحب أسبق التاريخين أولى فهذا مثله.
وجه قوله الأول أن التاريخ ليس بسبب للملك فوجود ذكره كعدمه ثم كل واحد منهما ينتصب خصما عن مورثه في إثبات الملك له ولا تاريخ في ملك المورثين فيقضي به بينهما نصفين حتى لو أرخا ملك المورثين وتاريخ أحدهما أسبق كان هو أولى هكذا ذكر هشام في نوادره عن محمد رحمهما الله فأما مسألة الشراء فقد ذكر في الإملاء عن محمد رحمه الله أنهما إذا لم يؤرخوا ملك البائعين يقضي به بينهما نصفين فعلى هذه الرواية لا فرق بين الفصلين فأما على ظاهر الرواية الفرق بينهما أن ملك المشتري لا ينبني على ملك البائع ولكن يحدث للمشتري ملك جديد بسبب جديد وهو الشراء فاسبقهما تاريخا أثبت ملكا متجددا لنفسه في وقت لا ينازعه فيه غيره فكان هو أولى فأما ملك الوارثين ينبني على ملك المورثين لأن الوراثة خلافة ولا تاريخ في ملك المورثين فاستويا لهذا .(17/79)
قال وإن أقام رجل البينة أن أباه مات وتركه ميراثا منذ سنة وأقام ذو اليد البينة أن أباه مات وتركه ميراثا له منذ سنة أو لم يوقتوا وقتا أو وقتوا أقل من سنة فإنه يقضي به للخارج أما إذا وقت شهود ذي اليد أقل مما وقت شهود الخارج أو لم يوقتوا فلا شك فيه لأن الخارج أثبت ملكه في وقت لا ينازعه فيه ذو اليد وإن وقت شهود ذي اليد مثل ما وقت شهود الخارج فقد استوت البينتان ومن أصلنا أن بينة الخارج تترجح على بينة ذي اليد عند التساوي في دعوى الملك وذكر التاريخ لم يفد شيئا هنا فكأنهما لم يذكراه.
وإن وقت شهود ذي اليد سنتين فهو لذي اليد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهم الله.
وفي قوله الأول هو للمدعي وهذا الخلاف بناء على الفصل الأول وقد ذكرنا هناك أن على قول أبي يوسف الأول لا غيره للتاريخ وكأنهما لم يذكراه فكذلك هنا لأن غيره للتاريخ فيقضي به للخارج وفي قوله الآخر صاحب أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه فيه غيره فهو أولى خارجا كان أو صاحب يد وهذا لأن يد ذي اليد تدل على الملك ولكن لا تدل على سبق التاريخ فوجب قبول بينته على التاريخ كما يجب قبول بينته على النتاج وإذا وجب قبول بينته وتاريخه أسبق كان هو أولى.
وذكر بن سماعة رحمه الله في نوادره أن محمدا رحمه الله رجع عن هذا القول بعد(17/80)
ص -41- ... انصرافه من الرقة قال لا أقبل من ذي اليد بينة على تاريخ ولا غيره إلا النتاج وما في معناه لأن التاريخ ليس بسبب لأولية الملك بخلاف النتاج قال ولو كانت أرض في يد رجل أقام رجل البينة أن أباه مات وهي في يديه لا يعلمون له وارثا غيره وأقام آخر البينة أن أباه مات وتركها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره قضى بها بينهما نصفين لأن شهادة شهود الأول أنه مات وهي في يديه مثل شهادتهم أنه مات وتركها ميراثا له فإنهم شهدوا بيد مجهولة له عند الموت والأيدي المجهولة عند الموت تنقلب يد ملك ولهذا إذا مات المودع مجهولا للوديعة صار متملكا ضامنا والملك إذا ثبت له عند الموت ينتقل إلى ورثته فكان هو وشهادتهم بأنه تركها ميراثا له سواء(17/81)
وكذلك إن أقام أحدهما البينة بأن أباه مات وتركها ميراثا وأقام آخر البينة أنها له قضى بها بينهما نصفين لأن الوارث ينتصب خصما عن مورثه فكأن مورثه كان حيا مدعيا للملك والآخر خصما عن نفسه في دعوى الملك فاستويا فكان المدعي بينهما نصفين فإن أقام أحدهما البينة أن أباه مات وتركها ميراثا له وأقام آخر البينة أنه اشتراها من أب المدعي بمائة درهم ونقده الثمن قضي بها للمشتري لأن الوارث خصم عن مورثه في إثبات الشراء عليه وما يثبت شراؤه منه في حياته لا يصير ميراثا لوارثه بعد موته إنما يخلفه الوارث في ملك قائم عند الموت فكان بينة مدعي الشراء طاعنة في بينة مدعي الميراث فجعل هو أولى فكذلك لو ادعى صدقة أو هبة مقبوضة من الميت في صحته فأقام البينة لما بينا أنه أثبت خروجه عن ملك مورثه في حياته إليه وكذلك لو أقام البينة أن أب هذا تزوج أمة عليها وأن أمه ماتت وتركها ميراثا له لأنه خصم عن أمه وقد أثبت سبب تملكها على أب آخر في حياته وهو النكاح فلا يتصور أن يكون ميراثا له عن أبيه وقد ثبت خروجه من ملك أبيه في حياته قال وإن ادعاها أنها له فشهد شاهدان أنها لأبيه ولم يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لم يقض له بها لأن الدعوى خالفت الشهادة فإنه ادعى الملك لنفسه والشهود شهدوا بالملك لابنه وهذا اللفظ يوجب أن الأب حي فالميت ليس بأهل للملك ولا حق له في ملك الأب في حياته وإن كان الأب ميتا فقد شهدوا بملك عرف القاضي زواله فلا تقبل شهادتهم لهذا وكذلك لو شهدوا أنها كانت لأبيه حين مات في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله ثم رجع فقال شهادتهم مقبولة لأنهم أثبتوا ملك الأب في الزمان الماضي وما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه إلا أن يتبين سبب زواله ولم يتبين لزوال ملكه سببا سوى الموت وهو ناقل إلى الوارث فكانت هذه الشهادة بالملك له من هذا الوجه فيجب قبولها كما لو صرحوا بهذا لأن الثابت لمقتضى الكلام فيما يرجع إلى تصحيح(17/82)
الكلام كالمصرح به.
يوضحه أنه لو أقر ذو اليد أنها كانت لأبيه أو قامت البينة على إقراره بذلك أمر بالتسليم إليه فكذلك إذا ثبت بالبينة وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنهم شهدوا بملك عرف(17/83)
ص -42- ... القاضي زواله ولم يبينوا سبب الزوال فلا تقبل شهادتهم كما لو ادعى ملكا بالشراء فشهدوا أنها كانت لبائعه وهذا لأن القاضي لا يتمكن في الحال من أن يقضي بالملك لابنه لعلمه بزوال ملكه فلا يمكنه أن يقضي بالملك للمدعي لأن خلافته لأبيه بطريق الميراث إبقاء له ما كان ثابتا لأبيه لا أن يوجب إثبات الملك ابتداء ولأن قيام ملك الأب وقت الموت شرط الانتقال إلى الوارث وقد بينا أن الشرط لا يثبت بالظاهر بل بالنص فإذا نص الشهود على انتقاله بالميراث يثبت بالشرط وإن لم ينصوا عليه لم يثبت ما هو الشرط والملك الذي كان له في حياته لا يكون دليل ملكه عند الموت نصا بخلاف الإقرار فإنه يوجب الحق بنفسه وقد بينا هذا الفرق في اليد للمدعي أمس فكذلك هنا ثم على قول أبي يوسف الآخر رحمه الله ما لم يقم المدعي البينة على عدد الورثة لم ينفذ القضاء لاحتمال أن تكون الورثة عددا فلا يرث هو الكل.
ولو أقام البينة أن أباه مات وتركها ميراثا ولم يعرفوا الورثة فإن القاضي يقول قد ثبت بهذه البينة الملك لفلان وقت الموت وذلك يوجب الانتقال إلى ورثته ولكن لم يثبت عندي أنكم ورثته فهاتوا بينة أنكم ولده وأنه لا وارث للميت غيركم فإذا أقاموا البينة على هذا قضي بها لهم ولو لم يقيموا البينة على أنهم لا يعلمون له وارثا غيرهم يتأنى القاضي في ذلك ثم يدفع إليهم لأن وراثتهم قد ثبتت ووجود مزاحم لهم في الميراث محتمل فعلى القاضي أن يتأنى لكيلا يبتلى بالخطأ ولا يحتاج إلى نقض قضائه ولم يتبين في الكتاب مدة التأني وذلك على حسب ما يراه القاضي لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الميت في الشهرة والخمولة وباختلاف أحوال ورثته في الغيبة والحضور.
وذكر الطحاوي أن التقدير لمدة التأني الحول فإن المقصود إيلاء العذر في حق وارث غائب يمسي والحول مدة تامة لإيلاء العذر قال القائل:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما.
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر.(17/84)
وهو نظير أجل العنين ويأخذ منهم كفيلا بما دفع إليهم وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا يأخذ منهم كفيلا وقال في الجامع الصغير هذا شيء احتاطته القضاة وهو ظلم وجه قولهما أن القاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه ومن الجائز أن للميت غريما أو وارثا غائبا فلو لم يأخذ من الحاضر كفيلا بما يدفع إليه يفوت حق الغائب ففي أخذ الكفيل نظر للغائب ولا ضرر فيه للحاضر وهو نظير الآبق واللقطة إذا دفعها القاضي إلى رجل أثبت عنده أنه صاحبها أخذ منه كفيلا بها لهذا المعنى ولأن عليه صيانة قضاء نفسه وهذه الصيانة إنما تتحقق بأخذ الكفيل حتى إذا حضر غريم أو وارث لا يتعذر عليه إيصاله إلى حقه.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول حق الحاضر ثابت معلوم وحق الغائب موهوم ولا يقابل الموهوم المعلوم فلا يؤخر القاضي تسليم حقه إليه إلى إعطاء الكفيل أرأيت لو لم يجد(17/85)
ص -43- ... كفيلا أكان يمنعه حقه هذا ظلم منه وما ذكر في الآبق واللقطة قولهما لا قول أبي حنيفة رحمه الله ولأنه لو أخذ الكفيل إنما يأخذ المجهول والكفالة للمجهول لا تصح ولا يقال يأخذ الكفيل لنفسه لأنه ليس بخصم ولا يقال يأخذه للميت لأن حق الميت في تسليم ماله إلى وارثه وقد أثبت الحاضر ورثته فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل.
ولو أقام البينة أنها كانت لجده مات وتركها ميراثا له لم يقض له حتى يشهدوا أنه وارث جده لا يعلمون له إرثا غيره ولو شهدوا أن الجد مات وتركها ميراثا لابنه لم يقض له حتى يشهدوا أنه وارث وجده لا يعلمون له وارثا غيره أو شهدوا أن الجد مات وتركها ميراثا لأبيه ثم مات أبوه وتركها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف أقضي بها للجد وأضعها على يدي عدل حتى يصححوا عدد ورثة الجد وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله .
وهذا نظير الفصل الأول أن عند أبي يوسف رحمه الله يجب القضاء بما لو قامت البينة عليه وعندهما لم يجيزا الميراث إليه لا يظهر استحقاقه وكونه خصما في إثبات ملك الجد فلا يقضي القاضي بشيء إلا أن يخيروا الميراث كما بينا.
قال دار في يدي رجل أقام رجل البينة أن أباه مات وتركها ميراثا له ولأخيه فلأن لا وارث له غيرهما وأخوه غائب قضى القاضي بحصته لأنه أثبت استحقاقه بالحجة وهو خصم عن الميت في إثبات ملكه فأما نصيب الغائب يترك في يدي ذي اليد حتى يحضر في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو القياس في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن كان ذو اليد منكرا أخرج القاضي نصيب الغائب من يده ووضعه على يد عدل ولو كان مقرى ترك نصيب الغائب في يده وهذا استحسانا .(17/86)
ووجهه أن القاضي مأمور بالنظر للغائب فإذا كان ذو اليد مقرى فالنظر في تركه في يده لظهور أمانته عنده وإذا كان منكرا فليس من النظر تركه في يده لأنه قد ظهرت خيانته مرة بالجحود فلا يأمن بأن يجحده فيتعذر على الغائب إذا حضر استيفاء حقه منه لأن الحجة لا توجد في كل وقت فكان النظر في إخراجه من يده ووضعه على يدي عدل ولأن ذا اليد إذا كان منكرا لا يمتنع من التصرف فيه عدلا كان أو غير عدل فإنه يزعم أنه مالك والعدل لا يمتنع من التصرف فيما عنده أنه ملكه وإذا كان مقرى يمتنع من التصرف فيه فيجوز تركه في يده .
وأبو حنيفة رحمه الله يقول الحاضر ليس بخصم عن الغائب في استيفاء ملكه فيجعل في حق الغائب وجود حضوره كعدمه وقد عرفها القاضي في يد ذي اليد فلا يتعرض لها إلا بخصم يحضر لأنه لو أخرجها من يده احتاج إلى وضعها في يد آخر مثل هذا أو دونه ولأن هذا مختار الميت في حفظها والذي يضعه على يده ليس بمختار الميت ولا مختار وارثه فصار هذا نظير الإقرار والفرق الذي ذكره ساقط فإنه بعد ما صار مسجلا مبينا في(17/87)
ص -44- ... خريطة القاضي يؤمن جحود ذي اليد لعلمه أنه لا يلتفت إلى ذلك ويؤمن بتصرفه فيه لعلمه أن القاضي لا يمكنه فيه بخلاف ما إذا كان في الابتداء ثم إذا تركها في يد ذي اليد والمدعي منقول بقي مضمونا عليه والعقار كذلك على قول من يرى الضمان فيها بالغصب ويضمن بالجحود عند الكل وإذا وضعه على يد عدل كان العدل أمينا فيه والنظر في تركه في يد ذي اليد للغائب أكثر فيترك في يده فإذا حضر الغائب قال بعض مشايخنا رحمهم الله يحتاج على قول أبي حنيفة رحمه الله إلى إعادة البينة بالقياس على مسألة القصاص والأصح أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن الحاضر أثبت الملك للميت في الكل بما أقام من البينة فإن أحد الورثة خصم عن الميت فيما يدعي له وعليه فلا يحتاج الثاني إلى إقامة البينة بخلاف القصاص فإنه يثبت للوارث بعد موت المورث فمن هذا الوجه كان الحق يثبت فيه للوارث ابتداء فلا بد للذي يحضر من إعادة البينة على حقه ألا ترى أن هناك لم يتمكن الحاضر من استيفاء نصيبه بما أقام من البينة وهنا قد تمكن من ذلك.(17/88)
قال دار في يدي رجل وبن أخيه فادعى العم أن أباه مات وتركها ميراثا ولا وارث له غيره وادعى بن الأخ أن أباه مات وتركها ميراثا له لا وارث له غيره وأقام البينة قضى بها بينهما نصفان لأن كل واحد منهما خصم عن مورثه فكأنهما حيان أثبت كل واحد منهما الملك لنفسه والأب مع الابن في الخصومة في الملك بمنزلة الأجنبيين فإذا تساويا في سبب الاستحقاق وجب القضاء بينهما نصفان وإن قال كانت الدار بين أخي وأبي نصفين وصدقه بن الأخ بذلك ثم أقام البينة أن أخاه مات قبل ابنه وأقام بن الأخ البينة أن جده مات قبل أبيه ثم مات أبوه فورثه فإنه يقضي لكل واحد منهما بالنصف الذي كان لأبيه لأن معنى هذه المنازعة أن العم يقول مات أخي أولا عن بن وأب فللأب السدس من نصيبه والباقي للابن ثم مات أبي عن بن وبن بن فكان ماله لابنه فلي سبعة أسهم من اثني عشر سهما من سهم الدار وبن الأخ يقول مات الجد أولا عن ابنين فصار نصيبه بينهما نصفين ثم مات أبي عن بن وأخ فصار نصيبه لي وذلك ثلاثة أرباع الدار فإذا ظهرت هذه المنازعة بينهما ووقع التعارض بين البينتين في إثبات التاريخ لموت كل واحد منهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر يجعل كأنهما ماتا معا لتعذر إثبات والترتيب التاريخ من غير حجة ولو ماتا معا لم يرث واحد منهما من صاحبه لأن بقاء الوارث حيا بعد موت المورث شرط لإثبات الخلافة في ملكه فصار نصيب كل واحد منهما لوارثه الحي فلهذا قضي بالدار بينهما نصفين والله أعلم بالصواب.
باب شهادة أهل الذمة في الميراث
قال رحمه الله رجل مات وله ابنان أحدهما مسلم والآخر كافر فزعم كل واحد منهما أن الأب مات على دينه وأن ميراثه له فالقول قول المسلم لأنه يخبر بأمر ديني وهو وجوب الصلاة عليه ووجوب دفنه في مقابر المسلمين والدعاء له بالخير وخبر الواحد في(17/89)
ص -45- ... أمور الدين حجة كما روي خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا صلينا عليه فقد حكمنا بإسلامه عند موته وذلك يمنع كون ميراثه للابن الكافر فلهذا قضينا بالميراث للابن المسلم ولما ترجح جانبه بهذا السبب كان بمنزلة ترجح جانبه بشهادة الظاهر له والقول قوله مع يمينه على ما ادعاه خصمه وأيهما أقام البينة على ما ادعاه وجب قبول بينته لأنه نور دعواه بها والبينة العادلة لا تعارضها الدعوى ممن شهد له الظاهر أو لا يشهد فإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة المسلم عندنا .
وقال الشافعي رحمه الله تبطل البينات للمنافاة بينهما كما هو أصله لأن كل واحد منهما يدعي خلافة الميت عن أمواله ملكا وفي دعوى الملك لا تترجح البينة بالدين كما لو ادعى كافر ومسلم ملكا في يد ثالث فأقام كل واحد منهما البينة لا يترجح المسلم ولنا أن إحدى الحجتين توجب إسلام الميت عند موته والأخرى توجب كفره فيترجح الموت الموجب للإسلام كالمولود بين مسلم وكافر يجعل مسلما عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" ولأنه لا بد من الصلاة لأن هذا الحكم ثبت بخبر الواحد فكيف لا يثبت بالحجة وإن وقع التعارض بين البنتين بقي خبر المدعي بالإسلام حجة في الصلاة عليه وذلك يوجب ترجيح بينة المسلم وانقطاع منازعة الكافر عن ميراثه.(17/90)
فإن قيل من أصلكم أن البينة تترجح بزيادة الإثبات وبالحاجة إليها وهذا في بينة الكافر لأن المسلم متمسك بما هو الأصل وهو أن من كان في دار الإسلام فالظاهر أنه مسلم ولا حاجة به إلى البينة لأنا جعلنا القول قوله فينبغي أن تترجح بينة الآخر قلنا موضوع هذه المسألة فيما إذا كان الأب في الأصل كافرا فإن أحد وارثيه مقر على الكفر ولا يقر الولد الآخر على الكفر بخلاف ما إذا كان الأب في الأصل مسلما لأنه حينئذ إذا يكون مرتدا وإذا كان في الأصل كافرا فشهود الكافر يتمسكون بالأصل وشهود المسلم يثبتون إسلامه العارض فكان زيادة الإثبات من هذا الجانب وإنما جعلنا القول قوله عند عدم البينة لا للتمسك بالأصل بل لإخباره بأمر ديني ولو كان شهود الذمي مسلمين وشهود المسلم ذميين جعلتها للمسلم أيضا لأن كل واحد منهما أقام من الحجة ما هو حجة على خصمه فكان هذا بمنزلة ما لو كان الفريقان مسلمين .
وهذه المسائل إنما تنبني على قولنا إن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة ولا تقبل على المسلمين اعتبارا بالولاية وعند بن أبي ليلى رحمه الله كذلك إذا اتفقت مللهم وإن اختلفت لا تقبل شهادة بعضهم على بعض فإنهم عنده أهل ملل مختلفة والولاية تنقطع بينهم باختلاف الملل وعند الشافعي رحمه الله لا شهادة لبعضهم على البعض لنقصان الكفر الذي هو أكثر تأثيرا من نقصان الرق والصغر وهي مسألة الشهادات.
ولو قال أحد الابنين كنت مسلما وكان أبي مسلما وقال الآخر صدقت وقد كنت أيضا أسلمت في حياته وكذبه الآخر وقال أسلمت بعد موته فالميراث الذي اجتمعا على(17/91)
ص -46- ... إسلامه في حياته لأن الابن الآخر في حياته أقر بسبب حرمانه وهو كفره في حياة أبيه ثم ادعى ما يزيله وهو إسلامه قبل موت الأب فلا يصدق في ذلك إلا بحجة وهذا لأن إسلامه حادث والحوادث إنما يحال بحدوثها على أقرب الأوقات فمن ادعى تاريخا سابقا فعليه إثباته بالحجة.
والأصل في جنس هذه المسائل أن سبب الاستحقاق متى ثبت بتصادقهما وادعى أحدهما ما يزيله وأنكر الآخر فالقول قول المنكر ومتى أقر بسبب الحرما ن ثم ادعى زواله بسبب حادث لم يقبل قوله إلا بحجة والقول قول خصمه ومن ادعى الاستحقاق وسبب الحرمان فيه قائم في الحال لا يثبت استحقاقه إلا بحجة والقول قول خصمه كمن جاء وهو مرتد يطلب ميراث أبيه المسلم ويزعم أنه ارتد بعد موته لا يقبل قوله لأن ما يحرمه الإرث وهو الردة قائمة فيه في الحال فمتى وقع الاشتباه في الزمان الماضي بحكم الحال كالمستأجر مع صاحب الرحا إذا تنازعا في جريان الماء في المدة فإن كان الماء للحال جاريا فالقول قول من يدعي أنه كان جاريا فيما مضى وإن كان للحال منقطعا فالقول قول من يدعي أنه كان منقطعا فيما مضى.
فإن قيل فإذا كان الابن مسلما في الحال ينبغي أن يجعل مسلما فيما مضى حتى يرث أباه المسلم قلنا هذا ظاهر يعارضه ظاهر آخر وهو أنه لما ثبت كفره فيما مضى فالظاهر بقاؤه حتى يظهر إسلامه ثم موافقته إياه في الدين عند الموت شرط للإرث والشرط لا يثبت فالظاهر إنما يثبت بالنص لأن الاستحقاق يثبت عند وجوده والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا لإثباته ألا ترى أن ذا اليد يستحق الملك لما في يده بالظاهر ولا تثبت به الزوائد التي في يد غيره وكذلك لو كان الاختلاف في العتق والميراث الذي اجتمعا على عتقه في حياة الأب لأن عتق الآخر بعد ثبوت رقه حادث على ما بينا .(17/92)
قال دار في يد ذمي أقام مسلم بينة من أهل الذمة أن أباه مات وتركها ميراثا له لا وارث له غيره وأقام ذمي بينة من أهل الذمة على مثل ذلك فإنه يقضي بها للمسلم لأن المسلم أقام ما هو حجة على ذي اليد وعلى خصمه الذمي وأقام الذي ما هو حجة على ذي اليد وليس بحجة على خصمه المسلم فلا تتحقق المعارضة بين الحجتين فصار في حق المسلم كأنه لا حجة للذمي فلهذا قضي للمسلم وإن كانت بينة الذمي مسلمين فهو بينهما نصفين لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على ذي اليد وعلى خصمه فاستويا فيقضي بينهما نصفان فإن قيل الاستحقاق بشهادة المسلمين ثبت للذمي في الكل فلو بطل في النصف إنما يبطل بشهادة أهل الذمة والاستحقاق بشهادة المسلمين لايجوز إبطالها بشهادة أهل الذمة قلنا نحن لا نبطل شيئا من ذلك الاستحقاق فكل واحد منهما يستحق الكل كما شهد به شهوده ولكن القضاء نصفين لضيق المحل ثم هذا إنما يستقيم أن لو كانت الشهود خصما فيها وليس كذلك فالخصم لا يكون شاهدا(17/93)
ص -47- ... قال دار في يد مسلم فقال مات أبي وهو مسلم فتركها ميراثا لي وقال أخو الميت مات أخي وهو على ديني فالقول قول الابن والميراث له لأنه لو كان مدعي الكفر إبنا آخر كان القول قول المسلم فكيف إذا كان أخاه ولو كان الأخ هو المسلم المدعي لإسلامه والابن كافر يدعي كفره فالقول قول الابن لأن الأخ محجوب بالابن فهو كأجنبي آخر فإن قيل أليس أنه يخبر بالصلاة عليه وهو ديني قلنا إخباره بهذا كإخبار أجنبي آخر حين لم يكن هو من ورثته ظاهرا فلا يكون من ضرورته استحقاقه للميراث وإن أقاما البينة أخذت بينة الابن المسلم لأن فيها إثبات إسلامه وإن أقام الأخ بينة من أهل الذمة على ما قال ولم يقم الابن بينة لم أجز شهادتهم على المسلم لأن الأخ ببينته يبطل استحقاق المسلم لميراثه بعد أن ثبت استحقاقه بقوله وبينة أهل الذمة على الاستحقاق الثابت للمسلم لا تكون مقبولة.(17/94)
وإن قالت امرأة الميت وهي مسلمة مات زوجي وهو مسلم وقال أولاده وهم كفار بل توفي أبونا وهو كافر وصدق أخو الميت المرأة وهو مسلم قضيت بالميراث للمرأة والأخ لأن المرأة لا تحجب عن الميراث بأحد فهي وارثة على كل حال فكانت بمنزلة بن وابنة تدعي إسلامه فالقول قوله وإذا حكمنا بإسلامه بقولها وجعلنا الميراث لها والأولاد كفار لا يرثون منه شيئا فلا يحجبون الأخ فكان الباقي للأخ وقد سعد بالمرأة فإنها لو لم تكن ما كان قول الأخ مقبولا وكذلك لو ترك ابنا وابنتا وأخا فقالت الابنة وهي مسلمة مات أبي مسلما وصدقها الأخ وهو مسلم وقال الابن وهو كافر مات أبي كافرا فالميراث للابنة والأخ لأنها غير محجوبة بالابن فترجح قولها في دعوى الإسلام سعد الأخ بها كما بينا فإن كان له ابنة وأخ أحدهما مسلم والآخر كافر فالقول قول المسلم منهما أيهما كان لأن كل واحد منهما وارث مع صاحبه بخلاف الابن والأخ فالأخ محجوب بالابن لا قول له وهذا كله إذا لم يقر المسلم أن الأب كان كافرا فإن أقر بذلك وادعى أنه أسلم قبل موته لم يصدق إلا بحجة لأن ما ثبت من كفره يبقى إلى أن يظهر ما يزيله ولم يظهر ذلك بمجرد قوله لأنه عارض يدعيه ولا ميراث له .
ولو أقرت زوجة الرجل بعد موته أنه طلقها في الصحة واحدة وأقرت بانقضاء العدة وزعمت أنه راجعها وكذبتها الورثة فالقول قول الورثة لأنها أقرت بسبب الحرمان وهو ارتفاع النكاح بانقضاء العدة ثم ادعت بعد ذلك سببا حادثا للاستحقاق فلا يظهر السبب بمجرد قولها بخلاف ما إذا ادعت الورثة أنه طلقها وانقضت عدتها وهي تنكر فالقول قولها لأن سبب استحقاقها ثابت باتفاقهم فالورثة يدعون عليها سبب الحرمان حادثا وهي تنكر وهذا الفصل إنما أورده إيضاحا لما سبق فيما إذا لم يقر الابن المسلم بكفر أبيه أو أقربه وادعى إسلامه بعد موته(17/95)
قال زوجان ذميان مات بن لهما عن بن فقالا مات ابننا كافرا وقال الابن وهو مسلم مات أبي مسلما فالقول قوله الابن ولا ميراث للأبوين لأن الولد مع الأبوين وارث(17/96)
ص -48- ... غير محجوب فكان القول قوله في إسلام الميت كما لو كانت المنازعة بين اثنين وقد قررناه فيما سبق.
قال رجل مات وترك ميراثا في يدي رجل فأقام ابنه البينة أنه ابنه ووارثه ولم تشهد شهوده أنه لا وارث له غيره وقال ذو اليد له ولد غير هذا أو قال لا أدري أله ولد سوى هذا أم لا تلوم القاضي في ذلك زمانا رجاء أن يحضر وارث آخر فإذا لم يحضر قضي بالميراث له لأن سبب استحقاقه قد ثبت بالحجة وقد تيقنا بكونه وارثا خليفة للميت في ملكه فيدفع ماله إليه ويستوثق منه بكفيل من أصحابنا رحمهم الله من قال أخذ الكفيل هنا قولهم جميعا بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله فيما سبق لأن هنا الشهود لم يشهدوا بانتفاء وارث آخر فكان الموضع موضع الاحتياط لأخذ الكفيل والأصح أنه على الخلاف كما بينا وقد ذكرنا أيضا مدة التلوم وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قدر ذلك بشهر لأن ما وراء الشهر في حكم الأجل فيتضرر به الوارث بتأخير حقه وفيما دون الشهر ليس له كثير ضرر .(17/97)
وكذلك لو كان الابن كافرا وقال مات أبي كافرا وكذلك هذا الجواب في كل من لا يحجب عن الميراث بآخر إذا ثبتت قرابته يقضي له بالمال بعد التلوم إذا لم تشهد الشهود أنه لا وارث له غيره حتى لو كانت أما أو بنتا يقضي لها بجميع ماله لأنه لا عصبة للميت ظاهرا فكان جميع الميراث لها فرضا وردا فأما إذا كان من يثبت وراثته ممن يحجب بغيره كالجد والجدة والأخ والأخت فإنه لا يعطي شيئا ما لم تقم البينة على عدد الورثة أو يشهدوا أنهم لا يعلمون له وارثا غير هذا لأن استحقاق الأخ للميراث يتعلق بشرط أن يكون الميت كلالة قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً } [النساء: 12] وقال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}[النساء: 176] والكلالة من ليس له ولد ولا والد فما لم يثبت هذا الشرط بالنص من الشهود لا يكون هو وارثا وما لم يثبت وارثته لا يدفع المال إليه بخلاف ما سبق فإنه وارث بنسبة غير محجوب بأحد.
فإن قيل كيف يثبت استحقاقه بقول الشهود لا وارث له غيره أو لا نعلم له وارثا غيره وهذه شهادة على النفي
قلنا أما إذا قالوا لا وارث له غيره فعند بن أبي ليلى رحمه الله هذا لا تقبل لتيقن القاضي أنهم جازفوا إذ لا طريق لهم إلى معرفة نفي الوارث وعندنا تقبل بناء على العادة أن مراد الناس من هذا لا نعلم له وارثا غيره وهذه شهادة منهم على إثبات شرط الوراثة إلا أن الشرط نفي والشرط يجوز إثباته بالبينة نفيا كان أو إثباتا كما لو قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فأقام العبد البينة أنه لم يدخلها فأما الزوج والزوجة إذا أثبت أحدهما سبب إرثه بالبينة ولم يثبت أنه لا وارث للميت غيره فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يقضي لهما بأكثر النصيبين بعد البلوغ للزوج بالنصف وللمرأة بالربع وعند أبي يوسف رحمه الله يقضى لهما بأقل النصيبين للزوج بالربع وللمرأة بالثمن.(17/98)
قال لأن استحقاق الزوج والزوجة لأكثر النصيبين يتعلق بشرط عدم الولد بالنص قال(17/99)
ص -49- ... الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] وقد بينا أن الشرط لا يثبت باعتبار الظاهر وإنما يثبت بنص من الشهود فإذا لم يوجد لا يقضى لهما إلا بالمتيقن ولأن الزوجية في استحقاق الميراث بها دون الأخوة فبالأخوة تستحق جميع المال ولا تستحق ذلك بالزوجية بحال ثم الأخ لا يستحق شيئا ما لم يقم البينة أنه لا وارث له غيره لأنه لا تيقين باستحقاق شيء له فكذلك الزوج فيما لا يتيقن باستحقاقه بمنزلة الأخ في الكل أو دونه وحجتهما في ذلك أنه أثبت سبب الوراثة من لا يحجب عن الميراث بأحد فيستحق جميع ميراثه بعد التلوم كالأب والولد وهذا لأن حرمانه عن أكثر النصيبين بولد يحجبه وهذا الحاجب غير ظاهر فيبقى مستحقا بما أثبت من السبب وصار الزوج في استحقاق ما زاد على الربع كالأبوين في استحقاق ما زاد على السدس وكل واحد منهما يتعلق بشرط عدم الولد قال الله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] الآية ثم هناك يقضي لهما بالجميع لأن الولد الحاجب غير ظاهر هناك كذلك هنا(17/100)
وعن أبي يوسف رحمه الله يعطى للمرأة ربع الثمن لأن أقل نصيبها هذا فلعل للمرء ثلاث نسوة سواها وهذا ليس بقوي فالزوجية سبب تام لاستحقاق الثمن لها بيقين وإنما يقسم الثمن بين الزوجات للمزاحمة ولا مزاحم لها هنا فكيف ينقص حقها من الثمن وعن الحسن بن زياد رحمه الله قال يقضى لها بربع التسع وللزوج بالخمس لأن المتيقن هذا المقدار فمن الجائز أن الرجل مات عن أبوين وابنين وأربع نسوة وهي المتبرأة التي قال فيها علي رضي الله عنه في البديهية حين سئل وهو على المنبر انقلب ثمنها تسعا فإن أصل الفريضة من أربعة وعشرين للنسوة الثمن ثلاثة وللأبوين الثلث لكل واحد سدس ثمانية وللابنتين الثلثان ستة عشر تعول بثلاثة فكانت من سبعة وعشرين فللنسوة ثلاثة وهي التسع حظ الواحدة الربع من ذلك فيقضي لها بهذا القدر واليقين في جانب الزوج في الخمس لجواز أن يكون تركة أبوين وابنتين وزوجا فللزوج الربع وللأبوين السدسان وللابنتين الثلثان أصله من اثني عشر وتعول بثلاثة فللزوج ثلاثة من خمسة عشر وذلك الخمس ولكن هذا ليس بقوي فإن اعتبار العول لمعنى المزاحمة والضيق في المحل فكيف يثبت ذلك عند عدم ظهور وارث آخر سوى الزوج أو الزوجة والمعلوم لا يقابل الموهوم فدل أن الصحيح ما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله والله أعلم
باب اختلاف الأوقات في الدعوى وغير ذلك
قال رحمه الله دار في يدي رجل فادعى رجل أنها له منذ سنتين وأقام البينة وادعى ذو اليد أنها في يده منذ سنتين وأقام البينة ولم يشهدوا أنها له قضيت بها للمدعي لأن شهود المدعي شهدوا له بالملك نصا وشهود ذي اليد إنما شهدوا له باليد والأيدي تنوعت إلى يد أمانة ويد ضمان ويد ملك فلا تعارض بينته بينة الخارج ولأن الثابت من يده بالبينة كالثابت(17/101)
ص -50- ... بالمعاينة وذلك لا يمنع القضاء بالملك للمدعي إذا أثبتها بالبينة في الحال فكذلك في الوقت الذي أسند شهوده إليه.
قال دابة في يد رجل فأقام آخر البينة أنها له منذ عشر سنين فنظر القاضي في سنها فإذا هي أبنة ثلاث سنين يعرف ذلك فبينته باطلة لأن القاضي تيقن بمجازفة الشهود في شهادتهم فإنهم شهدوا بالملك له فيها في وقت يتيقن أنها لم تكن موجودة فيه والملك لا يسبق الوجود ولأنه لا يمكنه القضاء بالملك في الحال لأنه خلاف الشهادة ولا في الوقت المضاف إليه لأنه محال.
قال وإذا كانت الدار في يدي رجل أقام آخر البينة أنها له منذ سنة وأقام آخر البينة أنها له اشتراها من آخر منذ سنتين وهو يملكها يومئذ فإني أقضي بها لصاحب الشراء لأنه أسبق تاريخا وقد أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه الآخر فيه وهو خصم عن بائعه في إثبات الملك له في الوقت الذي أرخ شهوده فكان هو أولى بها وكذلك لو شهدوا أنها له اشتراها من فلان منذ سنتين فشهادتهم بالملك للمشتري بمنزلة شهادتهم بالملك للبائع إذا شهدوا بالشراء وكذلك لو لم يشهدوا بالملك للبائع ولا للمشتري ولكن شهدوا أن فلانا باعها منه وسلمها إليه من سنتين أو أنه اشتراها من فلان منذ سنتين وقبضها فهذا وشهادتهم بالملك له سواء لأن البائع في الظاهر إنما يتمكن من التسليم إذا كان مالكا للمبيع وكذلك المشتري إنما يتمكن من القبض إذا اشتراها من المالك ولأن سبب الملك يتأكد بالتسليم فشهادتهم على سبب ملك متأكد بمنزلة الشهادة على الملك.(17/102)
ولو شهدوا أن فلانا باعها منه واستوفى الثمن أو أنه اشتراها ونقد البائع الثمن ولم يشهدوا بالقبض والتسليم لم يقض لمدعي الشراء بشيء لأنهم شهدوا بمجرد العقد وذلك يتحقق من غير المالك موقوفا على إجازة المالك فلا يوجب الملك للمشتري قبل الإجازة فلم يكن في هذه الشهادة إثبات الملك للمشتري نصا ولا دلالة فلا يقضي بها له وفي كل موضع قضينا بالملك للمشتري إذا حضر البائع وأنكر أن يكون باعه لم يلتفت إلى إنكاره لأن ذا اليد انتصب خصما عن البائع في إنكاره للبائع البيع والمشتري لا يتوصل إلى إثبات الملك لنفسه إلا بإثبات سببه وهو الشراء من الغائب ومتى كان حق الحاضر متصلا بحق الغائب انتصب الحاضر خصما عن الغائب فقد اتصل القضاء ببينة قامت على خصم فلا حاجة إلى إعادتها بعد ذلك.
قال دار في يدي رجل أقام رجل البينة أنها له ولم يوقت شهوده وأقام ذو اليد البينة أنها له منذ سنة فإني أقضي بها للمدعي لأن تاريخ ذي اليد ليس بدليل سبق ملكه فلعل شهود المدعي لو أرخوا ذكروا تاريخا سابقا فلا يستحق ذو اليد الترجيح بما هو محتمل في نفسه والتحق بما لو لم يذكر الوقت فتترجح بينة المدعي ولو أقام المدعي البينة أنها له منذ سنة أو سنتين شك الشهود في ذلك وأقام ذو اليد البينة أنها له منذ سنتين قضيت بها لذي(17/103)
ص -51- ... اليد لأن شهود الخارج شكوا فيما زاد على السنة ومع الشك لا يمكن إثبات التاريخ فإنما يثبت من تاريخهم ما يتفقوا به وذلك سنة فصار تاريخ ذي اليد أسبق فتترجح بينته وقد بينا اختلاف الروايات فيه فيما سبق ولووقت شهود المدعي سنة ووقت شهود ذو اليد سنة أو سنتين شكوا في ذلك فهو للمدعي لأن ما شك فيه شهود ذي اليد لم يثبت وفيما يتفقوا فيه استوى تاريخ ذي اليد والخارج فتترجح بينة المدعي ولو شهد شهود المدعي أنها كانت له عام أول وشهود ذي اليد أنها له منذ العام قضيت بها للمدعي لأن تاريخ شهوده أسبق ولو شهد شهود المدعي أنها له منذ العام وشهود ذي اليد أنها له عام أول قضيت بها لذي اليد لأن شهوده شهدوا بتاريخ أسبق من تاريخ المدعي فثبت ملكه في ذلك الوقت وبعد ثبوت ملكه لا يستحقه الغير إلا من جهته .
قال دار في يد رجلين أقام أحدهما البينة أنها له منذ سنة وأقام الآخر البينة أنها له منذ سنتين قضيت بها لصاحب السنتين لأن في يد كل واحد منهما نصف الدار ففي النصف الذي في يد من أرخ شهوده سنة بينة الخارج قامت بتاريخ سابق فكان هو أولى وفي النصف الذي في يد من أرخ شهوده بسنتين بينة ذي اليد قامت على تاريخ سابق على بينة الخارج فيستحق الترجيح به أيضا ولو أقام أحدهما البينة أن له ثلثها منذ سنة وأقام الآخر البينة أن له ثلثها منذ سنين فإني أقضي بالثلثين لصاحب السنتين لأن دعواه تنصرف إلى ما في يده أولا ثم فيما يفضل على ما في يده ينصرف دعواه إلى ما في يد صاحبه لأن يده يدا محقة تحسينا للظن بالمسلم وحملا لفعله على الصحة .(17/104)
ولو صرفنا دعواه إلى ما في يد غيره لم تكن يده يدا محقة وفي يده نصف الدار فما زاد على النصف إلى تمام الثلثين وهو السدس اجتمع فيه بينة الخارج وبينة ذي اليد وتاريخ الخارج أسبق فهو أولى ولأن الآخر ليس يدعي إلى الثلث ودعواه منصرفة إلى ما في يده فما زاد على الثلث هو لا ينازع الآخر فيه وقد أثبت الآخر استحقاقه بالبينة على ما في يده فيقضي له به وترك الثلث في يد صاحب الثلث فيكون ذلك له قضاء ترك لأن بينته لم تقم على منازع له فيه يد ولا ملكا فهذا الطريق فيما إذا كان من أرخ سنة يدعي ثلثها والطريق الأول فيما إذا كان يدعي نصفها وقد اختلفت النسخ في وضع هذه المسألة.
قال أمة في يد رجل فأقام رجل البينة أنها أمته منذ ستة أشهر وأنه أعتقها ألبتة منذ شهر وأقام آخر البينة أنها أمته منذ سنة وأنه أعتقها عن دبر منه منذ سنة فإنه يقضي بها مدبرة لمدعي التدبير لأن تاريخ شهوده أسبق فإنهم أثبتوا الملك والتدبير له منذ سنة والملك المتأكد بالتدبير لا يحتمل النقض فشهود الآخر إنما شهدوا بالعتق فيمن لا يملكها وذلك غير مفيد ذكره في بعض النسخ وفي قول أبي يوسف رحمه الله الأول البينة بينة مدعي العتق وهي حرة ألبتة وهذا بناء على ما سبق أن الخارجين إذا أرخا الملك بتاريخين في قوله الأول يقضي بها بينهما نصفان ولا يترجح أحدهما لسبق التاريخ وقد بينا هذا في(17/105)
ص -52- ... باب دعوى الميراث فهنا لما استويا في إثبات الملك على هذا القول بقي الترجيح بما أثبتوا من العتق والعتق والتدبير إذا اجتمعا يترجح العتق لاستحالة أن يوطأ بملك اليمين وقد قامت البينة على حريتها من جهة من أثبت ملكه فيها بالحجة.
قال دار في يد رجل ادعى رجل أنه اشتراها منه بمائة درهم ونقده الثمن وادعى آخر أنه اشتراها منه بمائتي درهم ونقده الثمن ولم توقت واحدة من البينتين وقتا فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفه بنصف الثمن الذي بين شهوده وإن شاء ترك لأنهما تصادقا على أن الملك في الأصل كان لذي اليد وادعى كل واحد منهما التملك عليه بسبب الشراء وقد استويا في ذلك ولو استويا في إقامة البينة على الملك المطلق عليه قضي به بينهما نصفان فكذلك هنا فإن قيل قد تيقن القاضي بكذب أحد الفريقين لأن التعين على دار واحدة من رجلين من كل واحد منهما بكماله لا يتصور في وقت واحد فينبغي أن تبطل البينتان.(17/106)
قلنا الشهود شهدوا بنفس البيع لا بصحته ولم يشهدوا بوقوع البيعين معا ويتصور بيعان في وقتين من واحد لعين واحدة من كل واحد منهما وكل واحد منهما اعتمد سببا أطلق له الشهادة فيجب العمل بها بحسب الإمكان ولأن البيعين يتصور وقوعهما في وقت واحد من وكيل المالك ويضاف عقد الوكيل إلى الموكل مجازا فلعل الوكيلين باعا معا فيقضي لكل واحد من المشتريين بنصفها ويخير كل واحد منهما لتفرق الصفقة عليه فإنه أثبت عقده في الكل فلتبعض الملك حين لم يسلم له إلا النصف خيرهما فإن رضيا به فعلى كل واحد منهما من الثمن بقدر ما يسلم له من البيع وذلك النصف فإن رضي به أحدهما وأبى الآخر فليس للذي رضي به إلا نصفه لأن القاضي حين خيرهما فقد فسخ بيع كل واحد منهما في النصف حين قضي به لصاحبه فلا يعود بيع أحدهما بترك صاحبه المزاحمة معه إلا أن يكون ترك المزاحمة قبل أن يقضي القاضي بشيء فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن فإنه أثبت شراءه في الكل ولم يفسخ القاضي بيعه في شيء وإنما كان القضاء له بالنصف لمزاحمة صاحبه معه فإذا زالت المزاحمة قضي له بالكل كالشفيعين إذا أسلم أحدهما قبل قضاء القاضي لهما يقضي للآخر بجميع الدار بخلاف ما لو كان تسليمه بعد القضاء فإنه لا يكون للآخر إلا نصف الدار
ولو وقتت كل واحدة من البينتين وقتا قضيت بها لصاحب الوقت الأول لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه الآخر فيه فاستحقها من ذلك الوقت فيتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك فكان شراؤه باطلا وإن وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى قضيت بها لصاحب الوقت لأن شراءهما حادث فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات ما لم يثبت التاريخ فإنما يثبت شراء الذي لم توقت شهوده في الحال وقد أثبت الآخر شراءه سابقا فكان هو أولى وهذا بخلاف ما إذا ادعى الشراء من رجلين ووقته أحدهما ولم يوقت الآخر يقضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما هناك خصم عن تابعه في إثبات الملك له وتوقيت(17/107)
ص -53- ... أحدهما لا يدل على سبق ملك بائعه فلعل ملك البائع الآخر أسبق فلهذا قضينا به بينهما فأما هنا اتفقا على الملك لبائع واحد فإنما حاجة كل واحد منهما إلى إثبات سبب الانتقال إليه لا إلى إثبات الملك للبائع وسبب الملك في حق الذي وقت شهوده أسبق فكان هو بالدار أحق.
وإن لم يوقت واحد منهما وكانت الدار في يد أحدهما وقد قبضها قضيت بها لذي اليد لأن قبضه صادر عن العقد الذي أثبته بالبينة حملا لفعله على الصحة فكان شراؤه متأكدا بالقبض فيترجح به لمعنيين أحدهما أنه قبضه اقترن بعقد الآخر وهو صادر عن عقده فلا بد من أن يكون عقد سابقا ولأنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على البائع فقط وذلك في بينته فأما الخارج يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على ذي اليد كما يحتاج إلى إثباته على البائع وليس في بينته ما يوجب الاستحقاق على ذي اليد لجواز أن يكون عقد ذي اليد سابقا وهذا بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من اثنين واحدهما قابض فإن الخارج أولى هناك لأن كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه أولا فاجتمع في حق البائعين ببينة الخارج وبينة ذي اليد فكانت بينة الخارج أولى فأما هنا لا يحتاج إلى إثبات الملك للبائع بل هو ثابت بتصادقهما عليه إنما حاجتها إلى إثبات سبب الاستحقاق وسبب القابض أقوى فكان هو أولي فإن شهد شهود الخارج على وقت لم ينتفع به لأن تمكن القابض من القبض دليل سبق عقده وهو دليل معاين والتاريخ في حق الخارج مخبر به وليس الخبر كالمعاينة ثم يد ذي اليد ثابتة بيقين فلا ينقض إلا بيقين مثله وبذكر الوقت من شهود الخارج لا يزيل احتمال سبق عقد ذي اليد فلا ينقض قبضه إلا أن يشهدوا أن بيع الخارج كان قبل بيع ذي اليد فحينئذ يكون بيع الخارج أولى لأن تقدم العقد ثبت بنص من شهوده وتبين أن القابض اشترى من غير المالك.(17/108)
وإن كان المدعيان أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من رجل آخر والدار في يد المدعى عليه قضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما ثبت الملك لبائعه أولا وقد استوت البينتان في إثبات الملك للبائع فيقضي بها بينهما نصفين ويتخير كل واحد من المشتريين لما بينا وإذا اختار الأخذ رجع كل واحد منهما على بائعه بنصف الثمن إن كان نقده إياه لأنه لم يسلم له إلا نصف المبيع ولو وقتا وقتين كان صاحب الوقت الأول أولى لإثباته الملك لبائعه في وقت لا ينازعه الآخر فيه ويرجع الآخر بالثمن على بائعه لاستحقاق المبيع من يده .
ولو أقام أحدهما البينة أنه اشتراها من فلان بثمن مسمى وهو يملكها وأقام الآخر البينة أن فلانا آخر وهبها له وقبضها منه وهو يومئذ يملكها قضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما ينتصب خصما عمن ملكه في إثبات الملك له أولا ثم لنفسه فالحجتان في إثبات الملك لهما سواء فيقضي بها بينهما نصفين وكذلك لو أقام ثالث البينة على الصدقة من ثالث مع(17/109)
ص -54- ... القبض وأقام رابع البينة على إرثه من أبيه قضي بينهم أرباعا لما بينا أن كل واحد منهما خصم عمن ملكه .
فإن قيل إنما وضع المسألة في الدار فكيف يجوز القضاء بالهبة والصدقة في جزء منهما مشاعا قلنا قيل موضوع هذه المسألة في الدابة ولئن كان في الدار فكل واحد منهما أثبت استحقاقه في الكل إلا أنه لأجل المزاحمة يسلم له البعض وهذه المزاحمة بعد القبض فكان شيوعا طارئا وذلك لا يبطل الهبة والصدقة وهذا بخلاف ما إذا كانت الدار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه اشتراها من فلان بثمن مسمى وتقابضا وأقام آخر البينة أن فلانا ذلك وهبها منه وقبضها قضي بها لصاحب الشراء لأنهما لا يحتاجان هنا إلى إثبات الملك لمن ملكها فإنه ثابت بتصادقهما وإنما الحاجة إلى إثبات سبب الملك عليه والشراء أقوى من الهبة لأنه عقد ضمان يوجب الملك في العوضين والهبة تبرع لأن الشراء يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك إلا بعد القبض فكان ملك مدعي الشراء سابقا فلهذا جعل أولى.
وكذلك لو ادعى أحدهما الشراء والآخر الصدقة وادعى أحدهما الشراء والآخر الرهن فالشراء أولى لما بينا وإذا ادعى رجل الشراء وادعت المرأة أن فلانا ذلك تزوجها عليها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله يقضي لكل واحد منهما بالنصف ثم للمرأة نصف القيمة على الزوج ويرجع المشتري بنصف الثمن إن كان نقده إياه وقال محمد رحمه الله يقضي بها لصاحب الشراء وللمرأة على الزوج قيمة الدابة وجه قول محمد رحمه الله أن تصحيح البينات والعمل بها واجب ما أمكن لأنها حجج وهنا يمكن تصحيح البينتين بأن يجعل الشراء سابقا فإن تسمية ملك الغير صداقا تسمية صحيحة موجبة لقيمة المسمى عند تعذر تسليم عينه فلهذا جعلنا الشراء سابقا ولأن الشراء مبادلة مال بمال موجب الضمان في العوضين والنكاح مبادلة مال بما ليس بمال غير موجب للضمان في المنكوحة فكان الشراء أقوى من هذا الوجه فجعل أولى.(17/110)
وأبو يوسف رحمه الله يقول كل واحد من البينتين يثبت الملك لنفسهما فتتحقق المساواة بينهما في الاستحقاق كما في دعوى الشرائين ومن وجه النكاح أقوى لأن الملك في الصداق يثبت بنفس العقد متأكدا حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم بخلاف الملك في المشتري ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض بخلاف المشتري فإن لم يترجح جانب النكاح بهذا فلا أقل من المساواة وفيما قال محمد رحمه الله إثبات تاريخ لم يشهد به الشهود والتاريخ بين العقدين يثبت من غير حجة فإذا قضينا به بينهما نصفين استحق على المرأة نصف الصداق فيرجع بقيمة المستحق واستحق على المشتري نصف المبيع فيرجع بثمنه وإن ادعى أحدهما الرهن والقبض والآخر الهبة والقبض فالرهن أولى .
وذكر في كتاب الشهادات أن الهبة أولى في القياس ووجهه أن الهبة تفيد ملك العين.(17/111)
ص -55- ... والرهن لا يوجب فكان السبب الموجب لملك العين أقوى وجه الاستحسان أن الرهن عقد ضمان والهبة عقد تبرع وعقد الضمان أقوى من عقد التبرع ولأنه يثبت بدلين المرهون والدين والهبة لا تثبت إلا بدلا واحدا فكان الرهن أولى من الهبة وكذلك الرهن أولى من الصدقة والنكاح أولى من الهبة والصدقة لأنه يوجب الملك بنفسه كالشراء فأما الهبة والصدقة سواء حتى لو ادعى أحدهما الهبة والآخر الصدقة يستويان لأن كل واحد منهما تبرع لا يتم إلا بالقبض فإن قيل الصدقة لا رجوع فيها بخلاف الهبة فكانت الصدقة أقوى قلنا امتناع الرجوع لحصول المقصود بها وهو الثواب لا لقوة السبب ولو حصل المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لم يرجع فيها أيضا .(17/112)
قال: دار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم ونقده الثمن وأقام ذو اليد البينة أنه اشتراها من المدعي ونقده الثمن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تتهاتر البينتان جميعا سواء شهدوا بالقبض أو لم يشهدوا ويترك الدار في يد ذي اليد وعند محمد رحمه الله يقضي بالبينتين جميعا فإن لم تشهد الشهود بالقبض يجعل شراء ذي اليد سالما فيأمن بتسليمه إلى الخارج وإن شهدوا بالقبض يجعل شراء الخارج سابقا فيسلم لذي اليد وجه قول محمد رحمه الله أن البينات حجج فمهما أمكن العمل بالبينتين لا يجوز إبطال شيء منها كالحجج الشرعية وهنا العمل بالبينتين ممكن أما إذا لم تشهد الشهود بالقبض فإمكان العمل بها في جعل شراء ذي اليد سابقا لأنا لو جعلنا شراء الخارج سابقا لم يصح بيعه من بائعه قبل القبض ولأن قبض ذي اليد صادر عن عقده الذي أثبته بالبينة وذلك دليل سبق عقده فإن شهد الشهود بالقبض يجعل عقد الخارج سابقا لأن انقضاء قبضه دليل سبق عقده وقيام قبض الآخر دليل تأخر عقده ولأنا لو جعلنا عقد ذي اليد سابقا كان قبضه غصبا حراما ولو جعلنا عقده متأخرا كان قبضه بحق فلهذا أثبتنا التاريخ بين العقدين بهذه الصفة وهذا عمل بالدليل(17/113)
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قال: كل واحد منهما بدعوى الشراء أثبت إقرار صاحبه بالملك له فكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري فكان هذا بمنزلة ما لو أقام كل واحد منهما البينة على إقرار صاحبه بالملك له ولو كان كذلك تهاتر الإقرار لأن الثابت من الإقرارين بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاين إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه معا بطل الإقرار أن جميعا فهذا مثله لمعنى أن شهود كل واحد منهما لم يشهدوا بالتاريخ فكل أمرين ظهرا ولا يعرف سبق أحدهما جعل كأنهما وقعا معا فلا يجوز إثبات التاريخ بينهما لأنه قضاء بما لم تشهد به الشهود فإذا جعلنا كالواقع معا بطلا للمنافاة بينهما وإنما يعتبر إمكان العمل بالبينتين بما شهدوا به دون ما لم يشهدوا به فإن وقت الشهود وقتين فهذا على وجهين إما أن يكون وقت الخارج سابقا أو وقت ذي اليد وكل وجه على وجهين إما أن تشهد الشهود(17/114)
ص -56- ... بالقبض أو لم يشهدوا به فإن كان وقت الخارج سابقا فإن لم تشهد الشهود بالقبض قضي بها لذي اليد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن شراءه ثبت سابقا ثم اشتراه منه ذو اليد قبل التسليم وبيع العقار قبل القبض عندهما جائز.
وعند محمد رحمه الله: يقضي بها للخارج لأنه لا يجوز بيع العقار قبل القبض وإن شهد الشهود بالقبض يقضي بها لذي اليد عندهم جميعا لأن الخارج باعها من بائعه بعد ما قبضها وذلك صحيح وإن كان وقت ذي اليد سابقا يقضي بها للخارج سواء كان الشهود شهدوا بالقبض أو لم يشهدوا أما إذا شهدوا بالقبض فلا إشكال وكذلك إن لم يشهدوا به لأن ذا اليد قابض وقد ثبت شراؤه سابقا فيجعل قبضه صادرا لا عن عقده ثم الخارج إنما اشتراها منه بعد قبضه فيؤمر بتسليمها إليه.
قال: أمة في يد رجل فأقام رجل البينة على الشراء منه وأقامت الأمة البينة على العتق أو التدبير فإن بينتها أولى لأن كل واحد من البينتين موجب للحق بنفسه والعتق أقوى فإنه لا يحتمل النقض بعد وقوعه وكذلك التدبير بخلاف الشراء ولأن العبد بالعتق يصير قابضا لنفسه ولأن العتق ينفرد به المعتق والشراء لا يتم إلا بالإيجاب والقبول وكان العتق والتدبير سابقا من هذا الوجه ولو استويا لم يمكن القضاء بالشراء لإقران العتق به فإن معتق البعض لا يحتمل البيع فلهذا جعلنا بينتها أولى وإن وقتت البينتان فأولهما أولاهما إن كان العتق أولا فغير مشكل وإن كان الشراء أولا فلأن المشتري أثبت الملك لنفسه في وقت لا تنازعه الأمة فيه ثم هي أثبتت العتق والتدبير من غير المالك وذلك لا يوجب لها حقا ولو وقتت بينة الشراء ولم توقت بينة العتق أو التدبير كان العتق والتدبير أولى لما بينا أن العتق والتدبير يقع مسلما بنفسه فوجد القبض في أحد الجانبين والوقت في الجانب الآخر وكان القبض أولى.(17/115)
فإن كان المشتري قد قبضه فهو أولى لأن تمكنه من القبض دليل سبق عقده ولأن قبضه معاين وقبض الآخر ثابت حكما فكان المعاين أولى وحمل فعل المسلم على الصحة والحل واجب ما أمكن إلا أن تقوم البينة أن العتق أول أو وقتوا وقتا يعرف أنه أول فحينئذ يكون العتق أولي لانعدام مزاحمة المشتري في ذلك الوقت وكذلك إن لم يوقت بينة الشراء إلا أن المشتري قد قبضه فهو أولى لما بينا أن قبضه دليل تقدم عقده إلا أن تقوم البينة أن العتق أول وكذلك الهبة والصدقة مع العتق في جميع ما ذكرنا من التفريع لأن الهبة والصدقة مع القبض موجبة للملك كالشراء.
ولو كانت الدار أو الأمة في يد رجل فأقام آخر البينة أن ذا اليد وهبها له وقبضها منه وأقام ذو اليد البينة على المدعي بمثل ذلك فإنه يقضي بها لذي اليد أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لتهاتر البينتين كما بينا وعند محمد رحمه الله لأن الشهود شهدوا بالقبض فانقضا وقبض الخارج دليل سبق عقده وقيام قبض ذي اليد دليل بآخر عقده .
ولو ادعى رجل أنه اشترى الأمة من ذي اليد بألف درهم وأنه أعتقها وأقام البينة، وأقام(17/116)
ص -57- ... آخر البينة على الشراء منه أيضا فإنه يقضي بها لصاحب العتق لأن سببه يتأكد بالعتق حتى لا يحتمل النقض ولأن العتق قبض منه فإن المشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا وقد بينا أن أحد المشتريين إذا أثبت القبض كان هو أولى ولو ادعى رجل هبة مقبوضة وادعى الآخر صدقة مقبوضة وأقام البينة فإن وقتت إحدى البينتين ولم توقت الأخرى قضيت بها لصاحب الوقت لأن كل واحد منهما أثبت سبب ملك حادث فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات وقد أثبت أحدهما تاريخا سابقا بالتوقيت فيقضي بها له.
وإن كانت في يد من لم يوقت شهوده قضيت بها له لأن قبضه دليل سبق عقده وهو دليل معاين والوقت في حق الآخر مخبر به وليس الخبر كالمعاينة إلا أن يقيم الآخر البينة أنه أول فحينئذ يكون هو أولى لإثبات الملك في وقت لا ينازعه فيه صاحبه وإن لم يكن هناك تاريخ ولا قبض معاين لأحدهما ففيما لا يقسم يقضي بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق وفيما يحتمل القسمة كالدار ونحوه تبطل البينتان جميعا إذا لم يكن فيها ما يرجح إحداهما من قبض أو تاريخ لأنا لو عملنا بها قضينا لكل واحد منهما بالنصف الآخر والهبة والصدقة في مشاع تحتمل القسمة لا تجوز قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ينبغي أن يقضي لكل واحد منهما بالنصف على قياس هبة الدار من رجلين وقيل ينبغي على قولهم جميعا أن يقضي لكل واحد منهما بالنصف لأن كل واحد منهما أثبت قبضه في الكل ثم الشيوع بعد ذلك طارى ء وذلك لا يمنع صحة الهبة والصدقة والأصح أن المذكور في الكتاب قولهم جميعا لأنا لو قضينا لكل واحد منهما بالنصف إنما يقضي بالعقد الذي شهد به شهوده وعند اختلاف العقدين لا تجوز الهبة من رجلين عندهم جميعا وإنما يثبت الملك بقضاء القاضي ويكون الشيوع في الملك المستفاد بالهبة مانع صحتها.(17/117)
وإذا اختصم رجلان في دابة أو عرض من العروض كائنا ما كان وهو قائم بعينه فإن القاضي لا يسمع من واحد منهما البينة والدعوى حتى يحضرا ذلك الذي اختصما فيه لأن إعلام المدعي شرط لصحة الدعوى والشهادة وتمام الإعلام بالإشارة إلى العين وإحضار ما ينقل بيسر فيؤمر ذو اليد بإحضاره .
ولا يقال كيف كلف إحضاره ولم يثبت الاستحقاق عليه لأن بالإجماع يكلف الحضور بنفسه وإن لم يثبت عليه شيء بعد نظرا للمدعي ليتمكن من إثبات حقه فكذلك يكلف بإحضار العين إذ ليس عليه فيه كثير ضرر إلا أن يكون المدعي عقارا فحينئذ إحضاره متعذر فيقام ذكر الحدود في الدعوى والشهادة مقام الإشارة إلى العين لأنه هو المتيسر والواجب من التعريف في كل محل القدر المتيسر وهو نظير ذكر الاسم والنسب في حق الغائب والميت وإن كان العين المدعي مستهلكا فحينئذ يتعذر إحضاره فيقام ذكر الوصف والقيمة مقام الإشارة إلى العين في صحة الدعوى والشهادة ولأن المدعي هنا في الحقيقة دين في الذمة وهو القيمة فإعلامه بذكر صفته وقيمته والله أعلم.(17/118)
ص -58- ... باب الدعوى في النتاج
قال رحمه الله: دابة في يد رجل ادعاها آخر أنها دابته نتجها عنده وأقام البينة على ذلك وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك قضي بها لذي اليد استحسانا وفي القياس يقضي بها للخارج وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله ووجهه أن مقصود كل واحد منهما إثبات الملك حتى لا يصير خصما إلا بدعوى الملك لنفسه وفيما هو المقصود بينة ذي اليد لا تعارض بينة الخارج كما بينا في دعوى الملك المطلق ولا فرق بينهما فإن إقامة البينة على الملك المطلق توجب الاستحقاق من الأصل كإقامة البينة على النتاج إلا أنا استحسنا للأثر وهو ما رواه أبو حنيفة رحمه الله عن الهيثم عن رجل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلا ادعى ناقة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وأقام البينة أنها ناقته نتجها وأقام ذو اليد البينة أنها دابته نتجها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها للذي هي في يديه ولأن يد ذي البينة لا تدل على أولوية الملك فهو يثبت ببينته ما ليس بثابت فوجب بظاهر يده فوجب قبول البينة ثم تترجح بيده بخلاف الملك المطلق فإن هناك لا يثبت ببينته إلا ما هو ثابت له بظاهر يده فوجب قبول بينته.(17/119)
ومعنى هذا الكلام وهو أن حاجة ذي اليد إلى دفع بينة الخارج وفي إقامته البينة على النتاج ما يدفع بينة الخارج لأن النتاج لا يتكرر فإذا أثبت أنه نتجها اندفع استحقاق الخارج ضرورة فأما في الملك المطلق فليس في بينته ما يدفع بينة الخارج لأن ملكه في الحال لا يبقى ملكا كان للخارج فيه من قبل فلهذا عملنا بينة الخارج هناك وكان عيسى بن إبان رحمه الله يقول الطريق عندي في النتاج تهاتر البينتين لتيقن القاضي بكذب أحدهما إذ لا تصور لنتاج دابة من دابتين فإنما يقضي بها لذي اليد فصار ترك لتهاتر البينتين وهذا ليس بصحيح فقد ذكر في الخارجين أقام كل واحد منهما البينة على النتاج إنما يقضي بها بينهما نصفين ولو كان الطريق ما قال لكان يترك في يد ذي اليد وكذلك لو كانت الشاة المذبوحة في يد أحدهما وسقطها في يد الآخر وأقام كل واحد منهما البينة على النتاج فيما يقضي بها وبالسقط لمن في يده أصل الشاة ولو كان الطريق تهاتر البينتين لكان يترك في يد كل واحد منهما ما في يده ولا معنى لقوله بأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين لأن الشهادة على النتاج ليس بمعاينة الانفصال في الأم بل بدونه الفصيل يتبع الناقة فكل واحد من الفريقين اعتمد سببا صحيحا لأداء الشهادة فيجب العمل بها ولا يصار إلى التهاتر بمنزلة شهادة الفريقين على الملكين
وكذلك لو كانت الدعوى في العبد والأمة وأقام كل واحد منهما البينة على الولادة في ملكه فهذا والنتاج في الدابة سواء وكذلك إذا أقام كل واحد منهما البينة أنه ثوبه نسجه فإن النسج في الثوب يوجب أولوية الملك فيه وهو لا يتكرر كالنتاج في الدابة إلا أن يكون الثوب بحيث ينسج مرة بعد مرة كالخز ينسج ثم ينكث فيغزل ثانيا فحينئذ يقضي به(17/120)
ص -59- ... للخارج والحاصل أن النتاج مخصوص من القياس بالسنة فلا يلحق به إلا ما في معناه من كل وجه فأما ما ليس في معناه إلا من بعض الوجوه لا يلحق به لأنه لو ألحق به كان بطريق القياس ولا يقاس على المخصوص من القياس لأن قياس الأصل يعارضه وكل قياس لا ينفك عما يعارضه فهو باطل إذا ثبت هذا فنقول ما لا يتكرر فهو في معنى النتاج من كل وجه فيلتحق به ويكون إثبات الحكم فيه بدلالة النص وما يتكرر ليس في معنى النتاج من كل وجه فيعاد فيه إلى أصل القياس .
قال: ولو ادعى الدابة خارجان أقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها عنده ويقضي بها بينهما نصفين لاستوائهما في سبب الاستحقاق فإن وقتت بينة أحدهما ولم توقت بينة الآخر وهي مشكلة السن قضي بها بينهما نصفين لأن الذي لم يوقت أثبت ملكه فيها من حين وجدت والملك لا يسبق الوجود فلم يكن التوقيت مفيدا شيئا في حق من وقته إذا كانت مشكلة السن فكان ذكره كعدم ذكره.
فإن كان السن على أحد الوقتين وقد وقتت بينة كل واحد منهما وقتا قضيت بها لمن وافق توقيته سن الدابة ولا عبرة بالأول والآخر لأن علامة الصدق ظهرت في شهادة من وافق سن الدابة توقيته وعلامة الكذب تظهر في شهادة الفريق الآخر فيقضي بالشهادة التي ظهر فيها علامة الصدق وإن كانت على غير الوقتين أو كانت مشكلة قضيت بها بينهما نصفين.(17/121)
من مشايخنا رحمهم الله من قال: جمع في السؤال بين الفصلين ثم أجاب عن أحدهما وهو ما إذا كانت مشكلة فأما إذا كان سنها على غير الوقتين يعلم ذلك ظهر بطلان البينتين على قياس ما تقدم إذا كان المدعي واحدا ووقت شهوده الملك منذ عشر سنين وهي بنت ثلاثين سنة أن بينته باطلة فكذلك هنا إذا كان سنها على غير الوقتين فقد علم القاضي بمجازفة الفريقين وكذبهما في الشهادة وقد فعل محمد رحمه الله مثل هذا في الكتب جمع بين السؤالين ثم أجاب عن أحدهما وترك الآخر في النكاح والإجارات وغيرهما أو يكون معنى قوله أو كانت مشكلة أو تأتي بمعنى الواو قال الله تعالى:{أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] معناه ويزيدون فهنا أيضا معناه إذا كان على غير الوقتين وكانت مشكلة فحينئذ الجواب صحيح والأصح أن يقول جوابه صحيح للفصلين أما إذا كانت مشكلة فلا شك فيه.
وكذلك إذا كانت على غير الوقتين لأن اعتبار ذكر الوقت لحقهما وفي هذا الموضع في اعتباره إبطال حقهما فيسقط اعتبار ذكر الوقت أصلا وينظر إلى مقصودهما وهي إثبات الملك في الدابة وقد استويا في ذلك فوجب القضاء به بينهما نصفان لأنا لو اعتبرنا التوقيت بطلت البينتان وبقيت في يد ذي اليد وقد اتفق الفريقان على استحقاقهما على ذي اليد فكيف يترك في يده مع قيام حجة الاستحقاق عليه وإن أقام ذو اليد البينة على النسج والثياب والنتاج والملك له وأقام الخارج البينة على مثل ذلك قضيت بها لذي اليد على(17/122)
ص -60- ... المدعي لأن البينتين استويا فيترجح ذو اليد بحكم يده وإن وقتت البينتان في الدابة وقتين فإن كانت الدابة على وقت بينة المدعي قضيت بها له لأن علامة الصدق ظهرت في شهادة شهوده وعلامة الكذب ظهرت في شهادة شهود ذي اليد وإن كانت الدابة على وقت بينة ذي اليد أو كانت مشكلة قضيت بها لذي اليد إما لظهور علامة الصدق في شهوده أو لسقوط اعتبار التوقيت إذا كانت مشكلة.
قال: وإذا كان الثوب في يد رجل فأقام خارج البينة أن ثوبه نسجه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك فإن كان يعلم أن مثل هذا لا ينسج إلا مرة فهو لذي اليد وإن كان يعلم أنه ينسج مرة بعد مرة فهو للخارج لأن هذا ليس في معنى النتاج وإن كان مشكلا لا يستبين أنه ينسج مرة أو مرتين قضيت به للمدعي وهذا قول محمد رحمه الله وفي بعض نسخ الأصل قال وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ولا خلاف بينهم في الحاصل وكان المعنى فيه أنه ليس في معنى النتاج لأن النتاج يعلم أنه لا يكون إلا مرة فما يكون إلا مشكلا لا يكون في معنى ما هو معلوم حقيقة من كل وجه فيؤخذ فيه بأصل القياس ويقضي به للمدعي.
وكذلك إن كانت المنازعة في نصل سيف وأقام كل واحد منهما البينة أنه سيفه ضربه فإنه يسأل أهل العلم بذلك من الصياقلة لأن هذا مشكل على القاضي فيسأل عنه من له علم به لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل: من الآية43] وقال النبي الله صلى الله عليه وسلم "لا تنازعوا الأمر أهله" فإن قالوا لا يضرب إلا مرة يقضى به لذي اليد وإن قالوا يضرب مثله مرتين أو أشكل عليهم فلم يعرفوا يقضي به للمدعي لأن هذا ليس في معنى النتاج من كل وجه(17/123)
قال: ولو كانت الدعوى في غزل بين امرأتين يقضي به للذي هو في يديها لأن القطن لا يغزل إلا مرة فكان هذا في معنى النتاج وبهذه المسألة استدلوا على أن من غصب قطنا فغزله بملكه فإن المذكور في كتاب الغصب إذا غزله ونسجه ولم يذكر هذا الفصل ولما جعله هنا في معنى النتاج من كل وجه والنتاج سبب لأولية الملك في الدابة عرفنا أن الغزل سبب لا ولية الملك في المغزول للذي غزله وفي الشعر إذا كان مما ينقض ويغزل يقضي به للمدعي وكذلك المرعزي لأنه ليس في معنى النتاج وكذلك في الحلى يقضي به للمدعي لأنه يصاغ مرتين فإن أقاما البينة على خطة الدار قضيت بها للمدعي لأن الخطة قد تكون غير مرة فإنه عبارة عن قسمة الإمام عند الفتح يخط لكل واحد من الغانمين خطا في موضع معلوم يملكه ذلك بالقسمة فيكون خطه له وهذا وهذا قد يكون غير مرة بأن يرتد أهلها وتصير محكومة بأنها دار الشرك لوجود شرائطها ثم يظهر عليها المسلمون ثانية فيقسمها الإمام بالخط لكل واحد منهم كما بينا
قال: وإن كانت الدعوى في صوف فأقام كل واحد منهما البينة أن له جزة من غنمه فإنه يقضي به لذي اليد لأن الجز لا يكون إلا مرة واحدة وكذلك المرغزي والجز والشعر,(17/124)
ص -61- ... فكان هذا في معنى النتاج فإن قيل كيف يكون الجز في معنى النتاج وهو ليس بسبب لأولية الملك فإن الصوف وهو على ظهر الشاة كان مملوكا له فكان مالا ظاهرا قبل الجز قلنا نعم ولكن كان وصفا للشاة ولم يكن مالا مقصودا إلا بعد الجز ولهذا لا يجوز بيعه قبل الجز وأن ما تنازعا فيه مال مقصود .
قال :وإذا كانت الأرض والنخل في يد رجل فأقام آخر البينة أنه نخله وأرضه وأنه غرس هذا النخل فيها وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك يقضي بها للمدعي وكذلك الكروم والشجر لأن أصل المنازعة في ملك الأرض فإن النخل بمنزلة البيع للأرض حتى يدخل في بيع الأرض من غير ذكر وليس لواحد منهما في الأرض معنى النتاج ولأن النخل يغرس غير مرة فقد يغرس الثالثة إنسان ثم يقلعها غيره ويغرسها فلم يكن في معنى النتاج وإن كانت الدعوى في الحنطة وأقام كل واحد منهما البينة أنها حنطة زرعها في أرضه قضيت بها للمدعي لأن الزرع قد يكون غير مرة فإن الحنطة قد تزرع في الأرض ثم يغربل التراب فيميز الحنطة ثم تزرع ثانية فلم يكن هذا في معنى النتاج.(17/125)
وكذلك لو كانت أرض فيها زرع فأقام كل واحد منهما البينة أن الأرض والزرع له وأنه زرعها يقضي بها للمدعي لأن أصل المنازعة في ملك الأرض وليس لواحد منهما فيها معنى النتاج وكذلك قطن أو كتان في يد رجل أقام هو مع خارج كل واحد منهما البينة أنه له زرعه في أرضه فإنه يقضي به للمدعي لما بينا أن الزرع قد يكون غير مرة وكذلك كل ما يزرع مما يكال أو يوزن قال وهذا لا يشبه الصوف والمرعزي لأن الرجل قد يزرع في أرض غيره ويكون للزارع ولا يستحقه رب الأرض بخروجه من أرضه وأما الصوف والمرعزي لا يكون إلا لصاحب الغنم فمن ضرورة كون الشاة التي في يد ذي اليد مملوكة له أن يكون الذي جز منها مملوكا له وليس من ضرورة كون الزرع في أرض هي مملوكة لذي اليد أن يكون الزرع مملوكا له ولأن الجز في معنى النتاج والزرع ليس في معناه لاحتمال التكرر فلهذا قضينا به للمدعي .
قال: ولو كان القطن شجرا ثابتا في أرض في يد رجل فأقام آخر البينة أنها أرضه وأنه زرع هذا القطن فيها وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك يقضي بها للمدعي لأن أصل المنازعة في الأرض وليس لواحد منهما فيها معنى النتاج وكذلك لو كانت هذه المنازعة في دار وأقام كل واحد منهما البينة أنها داره بناها بماله يقضي بها للمدعي لأن البناء يكون مرة بعد مرة ولم يكن في معنى النتاج .
قال :ولو كانت أمة في يد رجل ادعاها آخر أنها أمته وأنها ولدت عنده في ملكه من أمته في يديه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك يقضي بها لذي اليد لأن الولادة في بني آدم كالنتاج في البهائم ولو كان المدعي أقام البينة على أمها التي عند المدعى عليه أنها أمته وأنها ولدت هذه في ملكه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك قضيت بها وبأمها للمدعي لأن(17/126)
ص -62- ... أصل الدعوى في الأم وليس لواحد منهما فيها معنى النتاج فوجب القضاء بها للمدعي ثم الولد يملك بملك الأم وكان من ضرورة القضاء بالأم للمدعي القضاء بالولد له وكذلك لو كانت الدعوى في صوف فأقام المدعي البينة أنه جزة من شاته هذه وهي في ملكه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك من شاة أخرى في يده قضيت بها لذي اليد ولو أقام المدعي البينة على الشاة أنها في يد المدعى عليه أنها شاته وأنه جز هذا الصوف في ملكه منها وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك قضيت بها للمدعي لأن الدعوى في أصل الشاة فإنما أثبت كل واحد منهما بالبينة الملك المطلق فيها فتترجح بينة المدعي ثم الصوف يملك بملك الأصل.
فإن قيل: قد يكون الصوف والولد لغير صاحب الأصل بأن يوصي بما في بطن جاريته للإنسان وبرقبتها لآخر أو يوصي بالشاة لإنسان وبصوفها لآخر قلنا لا كذلك فالولد والصوف يملك بملك الأصل إلا أن يملك غيره بسبب ينشئه مالك الأصل من وصية أو غيره .
قال: عبد في يدي رجل فأقام آخر البينة أنه عبده ولد في ملكه من أمته هذه ومن عبده هذا وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك فإنه يقضي به للذي هو في يديه لإثباته أولية الملك لنفسه فيه فيكون بن عبده وأمته دون بن عبد الآخر وأمته لأن بينته لما ترجحت بالقضاء بالملك صارت البينة الأخرى مدفوعة لا يقضى بها بالنسب كما لا يقضى بها بالملك وإن أقام الخارج البينة أنه عبده اشتراه من فلان وأنه ولد في ملك بائعه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده اشتراه من فلان آخر وأنه ولد في ملكه قضي به لذي اليد لأن كل واحد منهما خصم في إثبات نتاج بائعه كما هوخصم في إثبات ملك بائعه ولو حضر البائعان وأقام البينة على النتاج كان ذو اليد أولى فهذا مثله وكذلك لو أقام الخارج البينة على نتاج بائعه وأقام ذو اليد البينة على النتاج في ملكه فبينة ذي اليد أولى لما بينا.(17/127)
وكذلك لو أقام البينة على وراثة أو وصية أو هبة مقبوضة من رجل وأنه ولد في ملك ذلك الرجل لأنه يتلقى الملك من جهة مورثه وموصيه فيكون خصما عنه في إثبات نتاجه.
ولو كان عبد في يدي رجل فأقام آخر البينة أنه عبده ولد في ملكه ولم يسموا أمه وأقام آخر البينة أنه عبده ولد عنده من أمه هذه فإنه يقضي للذي أمه في يديه لأن البينات تترجح بزيادة الإثبات وفي بينة من عين أمه زيادة وهو إثبات نسبه من أمه فيترجح بذلك فإن شهد الشهود لذي اليد أنه له ولد في ملكه من أمته هذه لأمة أخرى قضي به لذي اليد لأن بينة الخارج في الولادة لا تعارض بينة ذي اليد سواء حصل من واحدة أو من اثنتين فأما أمه فإنه يقضى بها للذي العبد في يده الذي أقام البينة عليه لأنه لامزاحم له في الأم بحجة يقيمها على إثبات الملك فيه فلهذا قضيت بها للذي العبد في يديه الذي أقام البينة .
قال: وإن كان عبد في يد رجل فأقام آخر البينة أنه عبده ولد في ملكه من أمته هذه ومن عبده هذا وأقام آخر البينة على مثل ذلك فإنه يقضي بها بينهما نصفان لاستوائهما في الحجة على الولادة في الملك ثم قال ويكون الابن من الأمتين والعبدين جميعا فأما ثبوت(17/128)
ص -63- ... نسبه من العبدين فهو على قول علمائنا وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يثبت نسب الولد من رجلين بحال حرين كانا أو عبدين ادعيا لقيطا أو ولد جارية بينهما ولكنه يرجع إلى قول القائف فإن قال القائف أنه ابنه يثبت النسب منه.
وإن كان موضعا لا يوجد القائف فيه يقرع بينهما ويقضي بالنسب لمن خرجت قرعته واحتج في المنع من ثبوت النسب من اثنين أن ثبوت نسب المولود من الوالد بكونه مخلوقا من مائه ونحن نتيقن أنه غير مخلوق من ماء رجلين لأن كل واحد منهما أصل للولد كالأم بمنزلة البيض للفرخ والحب للحنطة فكما لا يتصور فرخ واحد من سنبلة واحدة من حبتين فكذلك لا يتصور ولد واحد من مائين وهذا لأن وصول المائين إلى الرحم في وقت واحد لا يتصور وإذا وصل أحد المائين في الرحم ينسد فم الرحم فلا يخلص إليه الماء الثاني فإذا تعذر القضاء بالنسب منهما جميعا يرجع إلى قول القائف لحديث عائشة رضي الله عنها قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسارير وجهه تبرق من السرور وقال: "أما ترين يا عائشة أن مجزر المدلجي مر بأسامة وزيد وهما نائمان تحت لحاف واحد قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال هذه الأقدام بعضها من بعض" فسرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول القائف دليل على أن قوله حجة في النسب ولأن القائف يعتبر الشبه وللشبه في الدعاوي عبرة كما قلتم في متاع البيت إذا اختصم فيه الزوجان فما يصلح للرجال فهو للرجل وما يصلح للنساء فهو للمرأة وكذلك إذا اختلف الآجر والمستأجر في ملك لوح موضوع في الدار فإن كان تصاويره تشبه تصاوير ما في السقف وموضعه ظاهر فالقول قول الآجر وإن كان يخالف ذلك فالقول قول المستأجر وفي الموضع الذي لا يوجب القائف يسار إلى الإقراع كما هو مذهبه في جواز استعمال القرعة لتعيين المستحق عند الإقرار وقد استعمله علي رضي الله عنه في دعوى النسب حين كان باليمن .(17/129)
وحجتنا في إبطال المصير إلى قول القائف أن الله تعالى شرع حكم اللعان بين الزوجين عند نفي النسب ولم يأمر بالرجوع إلى قول القائف فلو كان قوله حجة لأمر بالمصير إليه عند الاشتباه ولأن قول القائف رجم بالغيب ودعوى لما استأثر الله عز وجل بعلمه وهو ما في الأرحام كما قال الله تعالى {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:34] ولا برهان له على هذه الدعوى وعند انعدام البرهان كان في قوله قذف المحصنات ونسبة الأولاد إلى غير الآباء ومجرد الشبه غير معتبر فقد يشبه الولد أباه الأدنى وقد يشبه الأب الأعلى الذي باعتباره يصير منسوبا إلى الأجانب في الحال وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه رجل فقال أنا أسود شديد السواد وقد ولدت امرأتي ولدا أبيض فليس مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل لك من إبل"؟ فقال نعم فقال الله صلى الله عليه وسلم "ما لونها"؟ قال حمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل فيها من أورق"؟ فقال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من ذاك"؟ فقال لعل عرق نزع أو فقال صلى الله عليه وسلم: "ولعل هذا عرقا نزع" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا عبرة للشبه وفي متاع البيت عندنا الترجيح بالاستعمال لا بالشبه وفي اللوح الترجيح بالظاهر لا بالشبه(17/130)
ص -64- ... ألا ترى أن إسكافا وعطارا لو تنازعا في أداة الأساكفة لا يترجح الإسكاف بالشبه وثبوت نسب أسامة رضي الله عنه كان بالفراش لا بقول القائف إلا أن المشركين كانوا يطعنون في ذلك لاختلاف لونهما وكانوا يعتقدون أن عند القافة علم بذلك وإن بني المدلج هم المختصون بعمل القيافة ومجز ريشهم فلما قال ما قال كان قوله رد الطعن المشركين فإنما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا لا لأن قول القائف حجة في النسب شرعا فأما الدليل على إثبات النسب منهما حديث عمر وعلي رضي الله عنهما حين قال في هذه الحادثة إن لبسا فلبس عليهما ولو بينا لبين لهما هو أبنهما يرثهما ويرثانه وهو للباقي منهما والمعنى فيه أنهما استويا في سبب الاستحقاق والمدعي قابل للاشتراك فيستويان في الاستحقاق وبيان ذلك أن ثبوت النسب من الرجل باعتبار الفراش لا بحقيقة انخلاقه من مائة لأن ذلك لا طريق إلى معرفته ولا باعتبار الوطء لأنه سر عن غير الواطئين فأقام الشرع الفراش مقامه تيسيرا فقال صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" وكل واحد من البينتين يعتمد على ما علم به من الفراش.
والحكم المطلوب من النسب الميراث والنفقة والحضانة والتربية وهو يحتمل الاشتراك فيقضي به بينهما وهو الجواب عن قوله أنه لا يتصور خلاق الولد من المائين فإن السبب الظاهر متى أقيم مقام المعنى الخفي تيسيرا سقط اعتبار معنى الباطن مع أن ذلك يتصور بأن يطأها أحدهما فلا يخلص الماء إلى أحدهما حتى يطأها الثاني فيخلص الماآن إلى الرحم معا ويختلط الماآن فيتخلق منهما الولد بخلاف البيضتين والحبتين لأنه لا تصور للاختلاط فيهما.(17/131)
قال: وإن كان المدعي للنسب أكثر من اثنين فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يثبت منهم وإن كثروا أخذا بالقياس كما قررنا وعند أبي يوسف رحمه الله لا يثبت فيما زاد على المثني لأن ثبوته من اثنين بحديث عمر وعلي رضي الله عنهما ففيما زاد على ذلك يوجد بأصل القياس الذي قرره الخصم لاستحالة إثبات نسب من عشرة أو أكثر ومحمد رحمه الله يقول يثبت من ثلاثة لأنها أدنى الجمع ولا نهاية للزيادة على الثلاثة فالقول به يؤدي إلى التفاحش فاعتبرت أدنى الجمع وقلت يثبت من ثلاثة ولا يثبت من أكثر من ذلك فأما في الأمتين يثبت النسب عند أبي حنيفة رحمه الله وكذلك من الحرتين إذا ادعتا لقيطا وأقامتا البينة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يثبت النسب من المرأتين بحال وحجتهما في ذلك أن ثبوت النسب من المرأة بسبب انفصال الولد عنها ولهذا يثبت من الزانية وهذا سبب معاين يوقف عليه فيعتبر حقيقته ولا تصور لانفصال ولد واحد من المرأتين فيتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب فتبطل البينتان بخلاف الرجلين فسبب ثبوت النسب من الرجل الفراش على ما قررنا.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: نعم حقيقة هذا النسب من امرأتين محال ولكن المقصود من النسب حكمه لا عينه وهو الحضانة والتربية من جانب الأم وهذا الحكم قابل للاشتراك فيقبل البينتان لإثبات الحكم ويكون ذكر السبب كناية عن الحكم مجازا وهو نظير ما قاله أبو(17/132)
ص -65- ... حنيفة رحمه الله فيمن قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه وإن كان صريح كلامه محالا ولكن يجعل كناية عن حكمه مجازا وما قالا يبطل بدعوى النتاج فإن ولادة شاة واحدة من شاتين حقيقة محال ومع ذلك إذا أثبت الخارجان ذلك بالبينة يقضي بالحكم المطلوب وهو الملك لأنه قابل للاشتراك فهذا مثله.
قال: وإذا كان قباء محشوا في يد رجل فأقام رجل البينة أنه له قطعه وحشاه وخاطه في ملكه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك فإنه يقضي به للمدعي لأن الحشو والخياطة قد تكون غير مرة فلم تكن في معنى النتاج وكذلك الحبة المحشوة والفرو وكل ما يقطع من الثياب والبسط والأنماط والوسائد لأن هذا مما يتكرر وكذلك الثوب المصبوغ بالعصفر أو الزعفران أو الورس إذا أقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة على أن له صبغه في ملكه لأن الثوب يصبغ غير مرة وقد يصبغ على لون ثم يصبغ على لون آخر فلم يكن ذلك في معنى النتاج وكذلك أواني الصفر والحديد يقضي به للمدعي إلا أن يعلم أنه لا يصبغ إلا مرة فحينئذ يكون في معنى النتاج وكذلك الأبواب والسرر والكراسي إذا أقام كل واحد منهما البينة أنه يجره في ملكه فإن كان ذلك لا يكون إلا مرة واحدة يقضي به لذي اليد لأنه يكون في معنى النتاج فإن كان يكون غير مرة أو لا يعلم يقضي بها للمدعي لأنه ليس في معنى النتاج وعلى هذا الخفاف والنعال والقلانس.
قال: ولو كانت الدعوى في سمن أو زيت أو دهن وأقام كل واحد منهما البينة أنه له عصره وسلاه في ملكه فإنه يقضي به لذي اليد لأن هذا لا يكون إلا مرة واحدة فهو في معنى النتاج وكذلك السويق والعصير والخل والجبن وأشباه ذلك وأما الشاة المسلوقة إذا أقام كل واحد منهما البينة أنها شاته ضحى بها وسلخها فإنه يقضي بها للمدعي لأن الذبح والسلخ ليس بسبب للملك ألا ترى أن الغاصب لا يملك به فلم يكن هذا في معنى النتاج في إثبات أولية الملك به فلهذا قضينا به للمدعي.(17/133)
قال: وإن أقام خارجان البينة دعوى الدابة أحدهما على الملك المطلق والآخر على النتاج فإنه يقضي بها لصاحب النتاج لإثباته أولية الملك لنفسه فإنها لا تتملك إلا من جهته والآخر لا يدعي تملكها من جهته وفي الكتاب قال عن شريح رحمه الله الناتج أحق من العارف يعني بالعارف الخارج الذي يدعي ملكا مطلقا ولو كانت الدعوى في لحم مشوي أو سمكة مشوية وأقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة أنه شواه في ملكه يقضي بها للمدعي لأن الشي قد يكون غير مرة فإن اللحم يشوى ثم يعاد ثانيا فلم يكن في معنى النتاج وكذلك المصحف إذا أقام كل واحد منهما البينة أنه مصحفه كتبه في ملكه يقضي به للمدعي لأن الكتابة ليست بسبب للملك ولكنه قد يتكرر يكتب ثم يمحي ثم يكتب فلهذا قضينا به للمدعي .
قال ولو كانت الدعوى في أمة فأقام أحد الخارجين البينة أنها أمته ولدت في ملكه وأقام آخر البينة أنها أمته سرقت منه فإنه يقضي بها لصاحب الولادة وكذلك لو شهد شهود(17/134)
ص -66- ... السرقة أنها أمته أبقت منه أو غصبها إياه ذو اليد فهي لصاحب الولادة لأن في بينته إثبات أولية الملك وليس في البينة الأخرى ذلك فكان استحقاقه سابقا وكذلك في الدابة إذا شهد شهود أحدهما بالنتاج وشهود الآخر أنها دابته أجرها من ذي اليد أو أعارها أو رهنها إياه فهي لصاحب النتاج لأن في شهادة شهوده دليل سبق ملكه.
قال: وإذا كان الثوب في يد رجل فأقام آخر البينة أنه نسجه ولم يشهدوا أنه له لم يقض له به لأنه لم يشهدوا له بالملك نصا فقد ينسج الإنسان ثوب الغير بإذنه ولا يملكه كالنساج ينسج ثياب الناس وكذلك لو أقام البينة في دابة أنها نتجت عنده أو في أمة أنها ولدت عنده فليست هذه اللفظة شهادة بالملك للمدعي فلا يستحق به شيئا وكذلك لو شهدوا أنها ابنة أمته فليس في هذا اللفظ شهادة بالملك له إنما فيه شهادة بالنسب ألا ترى أنه قد يشتري أمة ولها ابنة في يد غيره فهي ابنة أمته ولا تكون مملوكة له أو بشيء بعد الانفصال عنها فهي ابنة أمته ولا تكون مملوكة له وكذلك لو شهدوا على ثوب أنه غزل من قطن فلان ونسج لم يقض له به لأن ملك القطن لا يكون سببا لملك الغزل والثوب وأن الغاصب إذا غزل القطن ونسجه كان الثوب مملوكا له وإن لم يكن مالكا للقطن والمغصوب منه كان مالكا للقطن ولا يملك الثوب به فليس في هذا اللفظ شهادة بالملك له نصا فإن قال أنا أمرته أن يغزل وينسج قضي له بالثوب لأن عمل الغير بأمره كعمله بنفسه والذي غزله ونسجه بإنكاره الأمر يدعي بملكه عليه فلا يصدق إلا بحجة.(17/135)
ولو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع حصد من أرض فلان فأراد صاحب الأرض أخذ الحنطة لم يكن له ذلك وفي رواية أبي حفص رحمه الله قال له أن يأخذ الحنطة لأنهم أضافوا الأرض إليه ملكا ويدا فما في أرضه من الزرع يكون في يده وهذا بمنزلة شهادتهم أنه أخذها من يده فيؤمر بالرد عليه وجه رواية أبي سليمان رحمه الله أنهم ما شهدوا بالملك له في الزرع إنما أضافوا الأرض إليه بالملكية وقد تكون الأرض مملوكة له والزرع الذي فيها لغيره كمن غصب أرضا فزرعها وكذلك ما شهدوا باليد في الزرع ولا في الأرض نصا فإنه ليس من ضرورة كون الأرض مملوكة له أن تكون في يده فلهذا لا يستحق شيئا .
وكذلك لو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع كان في أرضه أو أن هذا التمر من نخل كان في أرضه وأن هذا الزبيب من كرم كان في أرضه لأنهم ما أضافوا ما وقع فيه الدعوى إليه ملكا ولا يدا وقد يكون النخل والكرم في الأرض لغير صاحب الأرض ملكا ويدا ولو أقر بذلك الذي في يديه أخذ به لإقراره بالأخذ من ملكه والإقرار بالأخذ من ملكه بمنزلة الإقرار بالأخذ من يده فيؤمر بالرد عليه وهذا لأن الإقرار يوجب الملك بنفسه قبل أن يتصل به القضاء فنوع احتماله فيه لا يمنعنا من العمل بظاهره فأما الشهادة لا توجب الحق إلا بقضاء القاضي وإنما يقضي القاضي بالمشهود به فإذا لم يكن في الشهادة تنصيص على ملك أو يد للمدعي فالمدعي لا يقضى به له(17/136)
ص -67- ... توضيح الفرق أن في إقراره بيان أنه كان في يده فكأنه قال كان في يد هذا أمس فيؤمر بالرد عليه وفي الشهادة كذلك ولكن لو شهدوا أنه كان في يده أمس لا يستحق به شيئا قال وإن شهدوا أن هذا التمر أخذه هذا من نخل فلان قضي له به بمنزلة ما لو شهدوا أنه أخذه من يد فلان لأن المتصل بنخله من التمر يكون في يده ولو شهدوا أنه خرج من نخل فلان وهو يملكه أو أن هذا العبد ولدته أمة فلان وهو يملكها قضي له بجميع ذلك لأنهم صرحوا بالولد من ملكه والمتولد من ملك الإنسان يكون مملوكا له إلى أن يتملكه الغير بسبب عارض من وصية أو غيرها فكان هذا وشهادتهم بالملك له في المدعى سواء وكذلك لو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع هذا لأنهم أضافوا إليه بالملكية وشهدوا أن هذه الحنطة جزء منه فإن من للتبعيض فكان هذا تنصيصا على الشهادة بالملك له في الحنطة وكذلك لو شهدوا أن هذا الزبيب من كرم هذا وهذا التمر من نخل هذا قضي له به لشهادتهم بالتولد من ملكه .
ولو شهدوا أن فلانا غزل هذا الثوب من قطن فلان وهو يملك القطن ونسج الثوب فإني أقضي على الذي غزل مثل ذلك القطن لما بينا أن ملك القطن ليس بسبب لملك الثوب ولكن من غزل قطن الغير ونسجه فالثوب له وهو ضامن لمثل ذلك القطن وإن قال صاحب القطن أمرته بذلك أخذ الثوب لأنهما اتفقا على أنه كان مالكا للقطن والذي غزل ونسج يدعي تملكه عليه بالضمان وهو منكر لذلك فكان القول قوله كما لو ادعى التملك عليه بالبيع فأنكره وكذلك لو شهدوا أن فلانا طحن هذا الدقيق من حنطة فلان وهو يملكها قضي عليه بحنطة مثلها وإن قال رب الحنطة أنا أمرته أخذ الدقيق لما بينا .(17/137)
قال:وإذا كان الدجاج أو الشيء من الطيور في يد رجل فأقام رجل البينة أنه له فرخ في ملكه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك قضي به لذي اليد لأن هذا في معنى النتاج لا يتكرر ولو أقام المدعي البينة أن البيضة التي خرجت هذه الدجاجة منها كانت له لم يقض له بالدجاجة ولكن يقضي على صاحب الدجاجة ببيضة مثلها لصاحبها لأن ملك البيضة ليس بسبب لملك الدجاجة فإن من غصب بيضة وحضنها ذلك تحت دجاجة كان الفرخ للغاصب وعليه بيضة مثل المغصوبة وهذا لا يشبه الولادة والنتاج لأن من غصب أمة أو دابة فولدت عنده لا يملك الولد بل هو لصاحب الأصل وهذا لأن البيضة بالحضانة تصير مستهلكة فيحال بحدوث الفرخ على عمل الحضانة بخلاف الدابة والأمة فإنها لا تصير مستهلكة بالولادة فيكون مملوكا لصاحب الأصل لتولده من ملكه.
قال ولو غصب دجاجة فباضت عنده فالبيضة لصاحبها لتولدها من ملكه فإن باضت بيضتين فحضنت الدجاجة نفسها على أحدهما فخرج منها فرخ وحضنها الغاصب على الأخرى فخرج منها فرخ فالفرخ الأول للمغصوب منه مع الدجاجة والفرخ الآخر للغاصب لأن ماحصل بفعله يصير مملوكا له وما حصل بفعل الدجاجة نفسها لا صنع للغاصب فيه فلا يملكه بل يكون لمالك الأصل كما قلنا فيمن غصب حنطة وزرعها كان(17/138)
ص -68- ... الزرع له ولو هبت الريح بالحنطة فجعلتها مزروعة في الأرض كان الزرع لصاحب الحنطة لأن بناء الحكم على فعل الريح غير ممكن فيجعل مملوكا لصاحب الأصل ولأن ما حضنها الغاصب صار مستهلكا بفعله فيكون ضامنا لمثله ويصير مملوكا له بالضمان فإنما يتولد الفرخ من ملكه فأما ما حضنت الدجاجة بنفسها لم تصر مضمونة على الغاصب فلا يملكها فبقي ذلك الفرخ لصاحب الأصل.
قال:ثوب مصبوغ بعصفر في يد رجل فشهد شاهدان أن هذا العصفر الذي في هذا الثوب لفلان صبغ به هذا الثوب فلا يدري من صبغه وجحد ذلك صاحب الثوب فادعى صاحب العصفر أن رب الثوب الذي فعل ذلك فإنه لا يصدق عليه لأنه يدعي ضمان قيمة العصفر دينا في ذمته وهو منكر وليس في شهادة شهوده ما يوجب ذلك فإن ثوب الغير إذا هبت به الريح والقته في صبغ إنسان فانصبغ كان الصبغ لصاحبه في الثوب الآخر وليس له أن يضمن صاحب الثوب شيئا ولكن يقوم الثوب أبيض ويقوم مصبوغا فإن صاحب الثوب يضمن له ما زاد العصفر في ثوبه وإلا بيع الثوب فيصرف فيه صاحب الثوب بقيمة ثوبه أبيض وصاحب العصفر ما زاد العصفر في ثوبه لأنهما شريكان في الثوب المصبوغ أحدهما بالثوب والآخر بالعصفر ولكن الثوب أصل والعصفر فيه وصف فكان الخيار لصاحب الأصل دون صاحب الوصف.
قال وإن كانت الدعوى في لبن فأقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة أنه له ضربه في ملكه يقضي به للمدعي لأن اللبن يضرب غيره مرة بأن يضرب ثم يكسر ثم يضرب فلم يكن في معنى النتاج فلهذا قضي به للمدعي .
قال:وإن كانت الدعوى في جبن فأقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة أنه جبنه صنعه في ملكه فهو للذي في يديه لأن الجبن لا يصنع إلا مرة وهو سبب لأولية الملك بمنزلة النتاج.(17/139)
فهذه المسألة على خمسة أوجه أحدها ما بينا والثاني إذا أقام كل واحد منهما البينة أن اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ملكه فيقضي به للمدعي لأن أصل المنازعة في اللبن وبينة كل واحد منهما فيه قامت على الملك المطلق والثالث أن يقيم كل واحد منهما البينة أن حلب اللبن الذي صنع منه هذا الجبن من شاته في ملكه فيقضي لذي اليد لأن الحلب في اللبن لا يتكرر فكان في معنى النتاج والرابع إذا أقام كل واحد منهما البينة أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ملكه فيقضي به للمدعي لأن المنازعة في ملك الشاة وبينة كل واحد منهما فيها قامت على المطلق والخامس أن يقيم كل واحد منهما أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع منه هذا الجبن شاته ولدت في ملكه من شاته فالبينة بينة ذي اليد لأن الحجتين قامتا على النتاج في الشاة التي كانت المنازعة فيها.
قال:ولو كانت الدعوى في آجر أو جص أو نورة وأقام كل واحد منهما البينة أنه له صنعه في ملكه قضيت به لذي اليد وكان ينبغي أن يقضي بالآجر للخارج ويجعل هذا بمنزلة(17/140)
ص -69- ... الشيء في اللحم ولكنه قال طبخ الآجر لا يتكرر فإنه بالطبخ الأول يحدث له اسم الآجر فإن أعيد طبخه بعد ذلك لا يحدث به اسم آخر فعرفنا أنه مما لا يتكرر وكذلك طبخ الجص والنورة فكان هذا في معنى النتاج.
قال: فإن كانت الدعوى في جلد شاة وأقام كل واحد منهما البينة أنه جلده سلخه في ملكه قضي به لذي اليد لأن سلخ الجلد لا يتكرر فكان في معنى النتاج ولو لم يقم البينة على ذلك لهما ولكن المدعي أقام البينة أنه جلد شاته ولم يشهدوا له به لم يقض له بالملك وكذلك لو شهدوا على صوف أنه صوف شاته أو على لحم أنه لحم شاته قال عيسى رحمه الله هذا غلط وأرى جواب محمد رحمه الله في هذه الفصول لا يستمر على أصل واحد وقد قال قبل هذا إذا قالوا هذه الحنطة من زرع هذا أو هذا الزبيب من كرمه أو هذا التمر من نخلة قضي له به وأي فرق بين تلك المسائل وبين هذه المسائل بل الجلد والصوف واللحم في كونه مملوكا بملك الأصل أبلغ من ملك الزرع والتمر والزبيب بملك الأصل فإن قيل أن هنا قد ينفصل ملك الصوف عن ملك الأصل بالوصية فكذلك في تلك المسائل ولكن ما ذكره محمد رحمه الله صحيح لأنهم ما جعلوا المدعى هنا في شهادتهم من ملكه إنما نسبوه إلى شاة ثم نسبوا إليه الشاة بالملكية فلم يكن شهادة بالملك في المدعى نصا فأما هناك شهدوا أن المدعاة من ملكه وذلك شهادة بالملك له في المدعا نصا .(17/141)
قال ولو كانت شاة مسلوخة في يد رجل وجلدها ورأسها وسقطها في يد آخر فأقام ذو اليد في الشاة البينة أن الشاة والجلد والرأس والسقط له وأقام الذي في يديه السقط البينة على مثل ذلك فإنه يقضى لكل واحد منهما بما في يدي صاحبه لأن كل واحد منهما أثبت فيما في يد صاحبه ملكا مطلقا بالبينة وبينة الخارج في دعوى الملك المطلق تترجح ولو أقام كل واحد منهما البينة أن الشاة شاته نتجت عنده في ملكه فذبحها وسلخها وأن له جلدها ورأسها وسقطها يقضي بالكل للذي الشاة في يده لأنه أثبت ببينته النتاج في الشاة فاستحق القضاء بأولية الملك له فيها وجلدها ورأسها وسقطها ببيعها فلهذا قضينا بالملك لذي اليد.
قال: ولو كانت شاة في يدي رجل وشاة أخرى في يد آخر فأقام كل واحد منهما البينة على شاة صاحبه الذي في يديه أنها شاته ولدت في ملكه من هذه الشاة القائمة في يده فإنه يقضي لكل واحد منهما بشاة صاحبه التي في يديه وتأويل هذه المسألة فيما إذا كان سن الشاتين مشكلا فأما إذا كان معلوما واحدهما تصلح أما للأخرى والأخرى لا تصلح أمالها وكانت علامة الصدق ظاهرة في شهود أحدهما وعلامة الكذب ظاهرة في شهادة شهود الآخر يقضي بها بما ظهر فيه علامة الصدق فأما عند الإشكال لا تظهر علامة الصدق ولا الكذب في شهادة أحدهما وكل واحد منهما فيما في يده أقام البينة على الملك المطلق وصاحبه أقام البينة على النتاج وبينة الخارج على النتاج أولي من بينة ذي اليد في الملك المطلق فلهذا قضينا لكل واحد منها بما في يد صاحبه(17/142)
ص -70- ... وعن أبي يوسف رحمه الله :أنه يبطل البينتان جميعا لتيقننا بكذب أحدهما فإن كل واحد منهما لا يتصور أن تكون والدة لصاحبتها ومولودة منهما ولو أقام البينة أن الشاة التي في يده شاته ولدت في ملكه وأن شاة صاحبه ولدتها شاته هذه في ملكه وأقام الآخر البينة على مثل ذلك يقضى لكل واحد منهما بما في يديه لأن كل واحد منهما فيما في يده أقام البينة على النتاج وبينة ذي اليد على النتاج مقدمة على بينة الخارج ولو أقام أحدهما البينة أن الشاة التي في يده شاته ولدت في ملكه وأن شاة صاحبه له ولدتها شاته في ملكه وأقام الآخر البينة على مثل ذلك فهذا والأول سواء يقضي لكل واحد منهما بما في يده لإثباته النتاج فيها .
قال: ولو كانت شاتان في يد رجل أحدهما بيضاء والأخرى سوداء فادعاهما رجل وأقام البينة أنهما له وأن هذه البيضاء ولدت هذه السوداء في ملكه وأقام ذو اليد البينة أنهما له وأن هذه السوداء ولدت هذه البيضاء في ملكه فإنه يقضى لكل واحد منهما بالشاة التي ذكر شهوده أنها ولدت في ملكه لأنه أثبت النتاج فيها بالبينة وصاحبه أثبت فيها ملكا مطلقا والبينة على النتاج أولى من البينة على الملك المطلق سواء كان من ذي اليد الخارج.
قال: وإذا كانت شاة في يد رجل فأقام رجل البينة أنها شاته ولدت في ملكه فقضى القاضي له بهائم جاء آخر وأقام البينة أنها شاته ولدت في ملكه وقال ذو اليد للقاضي قد قضيت لي بالولادة بالبينة فإن اكتفيت بذلك وإلا أعدتها فإنه يأمره أن يعيد بينته لأن القضاء بالبينة الأولى كان على خصمه خاصة فيجعل إقامتها في حق الثاني وجودا وعدما بمنزلة لأن المقضي به للملك وثبوت الملك بالبينة في حق شخص لا يقتضي ثبوته في حق شخص آخر .(17/143)
ألا ترى أن في الملك المطلق يصير ذو اليد مقضيا عليه دون غيره من الناس فإن إعادة بينة قضي بها له تقديما لبينة ذي اليد على بينة الخارج في النتاج وإن لم يعدها قضي بها للمدعي فإن قضي بها للمدعي ثم أقام المقضى له الأول شهوده على الولادة فإن القاضي يقبل بينته ويبطل قضاءه للآخر وهذا استحسان وفي القياس لا تقبل بينته لأنه صار مقضيا عليه بالملك فلا تقبل بينته إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له ووجه الاستحسان أن من يقيم البينة على النتاج يثبت أولية الملك لنفسه وأن هذا العين حادث على ملكه فلا يتصور استحقاق هذا الملك على غيره فلم يصر ذو اليد به مقضيا عليه وقد تبين بإقامة البينة أن القاضي أخطأ في قضائه وأن أولية الملك لذي اليد فلهذا انقضى قضاؤه بخلاف الملك المطلق.
فإن قيل القضاء ببينة الخارج مع بينة ذي اليد على النتاج مجتهد فيه فعند بن أبي ليلى رحمه الله بينة الخارج أولى فينبغي أن لا ينقض قضاء القاضي لمصادقته موضع الاجتهاد قلنا إنما يكون قضاؤه عن اجتهاد إذا كانت بينة ذي اليد قائمة عنده وقت القضاء فتترجح باجتهاده بينة الخارج عليها وهذه البينة ما كانت قائمة عند قضائه فلم يكن قضاؤه على(17/144)
ص -71- ... اجتهاد بل كان لعدم ما يدفع من ذي اليد فإذا أقام حجة الدفع انتقض القضاء الأول وعلى هذا لو أقام الخارج البينة على الملك المطلق وقضي القاضي بها له ثم أقام ذو اليد البينة على النتاج يقضي بها له وينتقض القضاء الأول لما بينا .
قال: أمة في يد رجل أقام رجل البينة أن قاضي بلد كذا قضي له بها على هذا الرجل بشهادة شهود شهدوا عنده وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت في ملكه فهذه المسألة على ثلاثة أوجه في وجه منها يقضي القاضي بها للمدعي بالاتفاق وهو إذا شهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضي له بها مطلقا ولم يزيدوا على هذا شيئا لأن من الجائز أن ذلك القاضي إنما قضي له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنه اشتراها من ذي اليد أو وهبها له فلا تكون بينة ذي اليد على الولادة في ملكه مبطلا لذلك وكذلك القضاء بل يكون مقررا له وكذلك إن فسر شهود القضاء بهذا التفسير فهو آكد في تنفيذ ذلك القضاء والوجهان الآخران أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضي له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنها مملوكته أو بشهادة شهود شهدوا عنده أنها أمته ولدت في ملكه فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بينة المدعي أولى في هذين الفصلين ولا ينقض القاضي الثاني قضاء الأول وعلى قول محمد رحمه الله بينة ذي اليد على الولادة في ملكه أولى فيقضى بها له.
وجه قوله أن ذا اليد لو أقام هذه البينة عند القاضي الأول نقض الأول قضاءه وقضى بها لذي اليد فكذلك إذا أقامها عند الثاني لأن ثبوت قضاء الأول عند الثاني بالبينة لا يكون أقوى من مباشرته القضاء بنفسه وهذا لأن الشهود لما بينوا سبب العقار إلى احتمال التملك على اليد بسبب من جهته.(17/145)
وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن قضاء القاضي الأول نفذ بيقين فليس للثاني أن يبطله مع الاحتمال كما في الفصل الأول وبيان الاحتمال هنا إذا قالوا بشهادة شهود شهدوا عنده أنها مملوكته فيحتمل أنها مملوكته اشتراها من ذي اليد ولكنهم تركوا هذه الزيادة للتلبس على القاضي بأن قالوا بشهادة شهود شهدوا عنده أنها ولدت في ملكه فيحتمل أن ذي اليد كان أقام هذه البينة عند ذلك القاضي فتترجح شهادة بينة الخارج وقضي بها له وكان ذلك قضاء نافذا لا يجوز إبطاله بعد ذلك فلهذا لا ينقض الثاني قضاء الأول مع الاحتمال ومثل هذا الاحتمال لا يوجد إذا أقام ذو اليد بينة على الولادة عند القاضي الأول وكذلك لو تنازعا فيها خارجان أقام كل واحد منهما البينة أنها أمته قضي له بها قاضي بلد كذا بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له على هذا وأقام آخر البينة أنها أمته ولدت في ملكه فعند محمد رحمه الله يقضى بها لصاحب الولادة وعندهما يقضى بها لصاحب القضاء لأن مع الاحتمال لا يجوز نقض القضاء كما بينا.
قال محمد رحمه الله :عبد في يد رجل فأقام آخر البينة أنه عبده ولد في ملكه ووقتوا وقتا فكان العبد أكثر من ذلك أو أصغر معروف فشهادة الشهود باطلة ليتقن القاضي بمجازفتهم(17/146)
ص -72- ... فيها وهذا يبين لك أن الصواب في القضاء نصفان في قوله فإن كانت الدابة على غير الوقتين أو كانت مشكلة أنه في أحد الفصلين فأما إذا كانت على غير الوقتين فالجواب بطلان الشهادتين والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الولادة والنسب
قال رحمه الله: عبد صغير في يد رجل يدعى أنه عبده فالقول قوله لأن من لا يعبر عن نفسه بمنزلة المتاع وقول ذي اليد فيما في يده حجة للدفع فإن ادعى آخر أنه ابنه فعليه البينة لأنه يدعي نسب ملك الغير فلا يقبل قوله إلا بحجة .
فإن أقام البينة أنه ابنه قضي أنه بن له لإثباته دعواه بالحجة وجعل حرا لأن في الحكم بثبوت النسب حكما بأنه مخلوق من مائه وماء الحر جزء منه فيكون حراما لم يتصل برحم الأمة وحين لم يسموا أمة في الشهادة لم يظهر اتصال مائه برحم الأمة فبقي على الحرية فهذه موجبة البينة حرية الولد فلا يعارضها قول ذي اليد في إثبات رقه.
وكذلك لو كان الذي في يديه يدعي أنه ابنه فالمدعي الذي أقام البينة أولى بالقضاء بالنسب له لأن البينة لا يعارضها اليد ولا قول ذي اليد وكذلك لو كان المدعي ذميا أو عبدا يثبت النسب منه لإثباته دعواه بالحجة والعبد والذمي من أهل النسب كالحر المسلم فإن أقام ذو اليد البينة أنه ابنه وأقام الخارج البينة أنه ابنه قضيت بنسبه لذي اليد لأن هذا في معنى النتاج وقد بينا أن بينة ذي اليد هناك تترجح على بينة الخارج وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه من امرأته هذه قضي بنسبه من ذي اليد ومن امرأته وإن جحدت هي ذلك لأن السبب هو الفراش بينهما قائم والحكم متى ظهر عقيب سبب ظاهر يحال به على ذلك السبب وذلك الفراش بينهما يثبت النسب منهما فمن ضرورة ثبوته من أحدهما بذلك السبب ثبوته من الآخر فلا ينتفي بجحودها وكذلك لو جحد الأب وادعت الأم .(17/147)
قال ولو كان الصبي في يد عبد وامرأته الأمة وأقاما البينة أنه ابنهما وأقام آخر من العرب أو من الموالي أو من أهل الذمة أنه ابنه من امرأته هذه وهي مثله فإنه يقضي بينة الخارجين لأن في بينتهما زيادة إثبات الحرية للولد والبينات للإثبات فتترجح بزيادة الإثبات.
قال ولو كان الصبي في يد رجل فأقام رجل البينة أنه ابنه من امرأته هذه وهما حران وأقام ذو اليد البينة أنه ابنه ولم ينسبوه إلى أمه فإنه يقضى به للمدعي لزيادة الإثبات في بينته وهو ثبوت النسب من أمه فصارت الزيادة في إثبات النسب كزيادة إثبات الحرية وكذلك إن كانت الأم هي المدعية فإن ثبوت النسب بالفراش بينهما فيكون أحدهما خصما عن الآخر فلا إثبات ولو أقام الخارج البينة أنه ابنه وشهد شهود ذي اليد على إقراره أنه ابنه قضي به للمدعي لأن ثبوت إقرار ذي اليد بالبينة لا يكون أقوى من سماع القاضي إقراره وذلك يندفع ببينة الخارج ثم أعاد مسألة الرجلين والمرأتين وقد بيناه.
فرع عليه ما لو وقت كل واحد منهما وقتا قال ينظر إلى سن الصبي فإن كان مشكلا(17/148)
ص -73- ... فهو وما لم يوقتا سواء يقض به لهما وإن كان مشكلا في أحدهما وهو أكبر سنا من الآخر أو أصغر معروف قضيت به للمشكل لأن علامة الكذب ظهرت في شهادة الآخرين ولم تظهر في شهادة هؤلاء لكونه محتملا للوقت الذي وقتوه .
قال ولو كان الصبي في يد رجل فأقامت امرأة شاهدين أنه ابنها قضيت بالنسب منها لإثباتها الدعوى بالحجة وإن كان ذو اليد يدعيه لم يقض له به لأن مجرد الدعوى لا يعارض البينة فإن قيل لا منافاة بين ثبوته منه ومنها قلنا نعم ولكن لا يمكن إثبات النسب منهما إلا بالقضاء بالفراش بينهما ومجرد قوله ليس بحجة عليها في إثبات الفراش في النكاح بينهما ولو لم تقم المرأة إلا امرأة واحدة شهدت أنها ولدت فإن كان ذو اليد يدعي أنه ابنه أو عبده لم يقض للمرأة بشيء لأن الاستحقاق الثابت باليد لا يبطل بشهادة المرأة الواحدة فإنها ليست بحجة في إبطال حق ثابت للغير وإن كان الذي في يديه لا يدعيه فإني أقضي به للمرأة بشهادة امرأة واحدة وهذا استحسان وفي القياس لا يقضى لأن اليد في اللقيط مستحق لذي اليد حتى لو أراد غيره أن ينزعه من يده لم يملك فلا يبطل ذلك بشهادة امرأة واحدة وفي الاستحسان تمحض هذا منفعة للولد في إثبات نسبه وحريته وليس فيه إبطال حق لذي اليد لأنه لا يدعي في الولد شيئا إنما يده فيه صيانة عن ضياعه فلهذا أثبتنا النسب منها بشهادة القابلة.(17/149)
قال :عبد في يد رجل أقام رجل البينة أنه عبده ولد في ملكه وأنه أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه فإني أقضي به للذي أعتقه لأن في هذه البينة زيادة الحرية فلو رجحنا بينة ذي اليد جعلناه مملوكا له وكيف يجعل مملوكا وقد قامت البينة على الحرية ولو كان المدعي دبره أو كاتبه لم يستحق بهذا شيئا أما في الكتابة لا إشكال لأنه عقد محتمل للفسخ كالبيع والإجارة فكأنه أقام البينة على تصرفه فيه ببيع أو إجارة فلا يترجح به وأما في التدبير فقد أعاد المسألة في آخر الكتاب وجعله كالعتق ففيه روايتان.
وجه تلك الرواية أن بالتدبير يثبت له حق عتق لا يحتمل الفسخ فكان معتبرا بحقيقة العتق لأنه يثبت الولاء على العبد ببينته في الموضعين جميعا وإذا كان الولاء هو المقصود والملك بيع فتترجح بينة الخارج لهذا وجه هذه الرواية أن التدبير لا يخرجه من أن يكون مملوكا كالكتابة فكان الملك هو المقصود بالإثبات لكونه قائما فتترجح بينة ذي اليد لإثبات الولادة في ملكه بخلاف العتق فإن الملك لا يبقى بعد العتق فيكون المقصود هناك إثبات الولاء ولو أقام الخارج البينة أنه ابنه ولد في ملكه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه قضي به للمدعي لأن في بينته إثبات الحرية فإن المولود من أمته في ملكه حر الأصل وإذا كان يترجح عنده إثبات حرية العتقفعند إثبات حرية الأصل أولى.
قال صبي في يد امرأة فأقامت شاهدة أنه ابنها وأقامت التي هو في يديها شهادة أنه ابنها قضيت به للذي هو في يديها لأن الحجتين استويا في دعوى النسب فيترجح جانب(17/150)
ص -74- ... ذي اليد وكذلك لو شهد لكل واحدة منهما رجلان وللتي هو في يديها امرأة قضيت به للمدعية لأن شهادة المرأة الواحدة لا تقابل شهادة رجلين لأن شهادة رجلين حجة تامة على الإطلاق وشهادة المرأة حجة ضرورية
قال: ولو كان الصبي في يد رجل وامرأة يدعيان أنه ابنهما فشهدت لهما امرأة واحدة وأقام رجل آخر شاهدين أنه ابنه من امرأته هذه قضيت به للمدعي لأن شهادة المرأة الواحدة لا تقابل شهادة رجلين لأن شهادة رجلين حجة تامة على الإطلاق وشهادة المرأة حجة ضرورية.
قال: ولو كان الصبي في يد رجل وامرأتان تدعيان أنه ابنهما فشهدت لهما امرأة واحدة وأقام رجل آخر شاهدين أنه ابنه من امرأته هذه قضيت به للمدعي لأن شهادة المرأة الواحدة لا تعارض شهادة رجلين فسقط اعتباره وبقي اليد في أحد الجانبين والبينة في الجانب الآخر واليد لا تعارض البينة قال ولو كان صبي في يد ذمي فشهد له ذميان أنه ابنه وأقام مسلم شاهدين مسلمين أنه ابنه قضيت به للمسلم لأن بينة المسلم حجة على خصمه الذمي وبينة الذمي ليست بحجة على خصمه المسلم.
وكذلك لو كان شهود المسلم من أهل الذمة فإن كان شهود الذمي من المسلمين وشهود المسلم من أهل الذمة أو من أهل الإسلام قضيت به لذي اليد لأن بينة كل واحد منهما حجة على خصمه فلما استويا ترجح ذو اليد بهذه البينة لأن هذا في معنى النتاج لا يتكرر وإن كان الصبي في يد ثالث مسلم أو ذمي قضيت به للمسلم لأن في بينته إثبات الزيادة وهو إسلام الولد ولأن أحد البينتين يوجب كفره والأخرى توجب إسلامه فيترجح الموجب للإسلام على الموجب للكفر.(17/151)
قال :ولو كان الصبي في يد رجل وامرأته فقال الرجل هو ابني من فلانة لامرأة غيرها وقالت المرأة هو ابني من زوج فلان وأقام كل واحد منهما البينة جعلته بن هذين اللذين في يدهما لأن سبب النسب فيما بينهما ظاهرا وهو الفراش فيحال به على هذا السبب ويثبت النسب منهما ولأن أكثر ما في الباب أن كل واحد من الحاضرين ينصب خصما عن كل واحد من الغائبين والغائبان الخارجان لو أقاما البينة بأنفسهما ترجحت بينة ذي اليد على بينتهما فكذلك هنا .
قال: صبي في يد رجل فأقام مسلم البينة أنه ابنه من امرأته هذه الحرة وأقام عبد البينة أنه ابنه ولد على فراشه من هذه الأمة وأقامت مكاتبة البينة أنه ابنه ولد على فراشه من هذه المكاتبة فإني أقضي به للحر لأن البينات استوت في إثبات النسب وفي الحر زيادة إثبات الحرية للولد فإن لم يدعه الحر وإنما ادعاه العبد والمكاتب فإني أقضي به للمكاتب لأن في بينته زيادة فإن ولد المكاتبة يكون مكاتبا والكتابة تفسد العتق ويثبت به للمكاتب ملك اليد والمكاتب فكان المثبت للزيادة من البينتين أولى(17/152)
ص -75- ... قال: ولو ادعى نصراني ويهودي ومجوسي وأقام كل واحد منهم البينة قضيت به لليهودي والنصراني لأن دين اليهودي والنصراني إذا قوبل بدين المجوسي فدين المجوسي شر منه ألا ترى أن ذبائح اليهود والنصارى تحل وكذلك مناكحتهن ولا تحل ذبائح المجوسي ومناكحتهن للمسلمين فكان حال اليهودي والنصراني مع المجوسي كحال المسلم مع اليهودي ولهذا قلنا أن المولود بين المجوسي والكتابي يكون بمنزلة الكتابي تحل ذبيحته وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله لا تترجح البينة في هذه المواضع بالدين اعتبارا لدعوى النسب بدعوى الملك ولو ادعى مسلم وكافر ملكا وأقاما البينة أو كتابي أو مجوسي وأقاما البينة لم تترجح أحدهما ولكنا نقول في دعوى الملكين ليس في بينة أحدهما زيادة لأن المسلم والكافر يستويان فأما في النسب في إحدى البينتين زيادة منفعة للولد فتترجح تلك البينة لهذا.
قال: ولو ادعى عبد مسلم أنه ابنه ولد على فراشه من هذه الأمة وادعى حر ذمي أنه ابنه ولد على فراشه من امرأته هذه يقضى للحر الذمي لأن في بينته إثبات الحرية للولد وذلك منفعة عاجلا ولأنه إذا بلغ لا يمكنه اكتساب الحرية لنفسه ولعل الله تعالى يهديه فيسلم بنفسه وكان ترجيح جانب الحرية أولى في حقه.
قال :صبي في يد رجل لا يدعيه فأقامت امرأة البينة أنه ابنها ولدته وأقام رجل البينة أنه ابنه ولد على فراشه ولم يسموا أمه جعلته بن الرجل والمرأة لأن العمل بالبينتين ممكن فإن الولد يكون ثابت النسب من الرجل والمرأة جميعا وكذلك لو كان في يد المرأة وليس في قبول بينتها ما يدفع بينة الرجل فقضينا بالنسب منهما ومن ضرورته القضاء بالفراش بينهما وما ثبت لضرورة الشهادة فهو كالمشهود به والله أعلم بالصواب .(17/153)
ص -76- ... لم تجز الورثة ومما اتفقوا على أن القسمة فيه بطريق المنازعة فضولي باع عبد رجل بغير أمره وباع فضولي آخر نصفه فأجاز المولى البيعين فالقسمة بين المشتريين بطريق المنازعة أرباعا.
وأصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن قسمة العين متى وجبت بسبب حق في العين كانت القسمة على طريق العول فالتركة بين الورثة ومتى وجبت بسبب حق كان في العين كالأصل فالقسمة على طريق المنازعة كما في بيع الفضولي فإن حق كل واحد من المشتريين كان في الثمن يتحول بالشراء إلى المبيع وفي مسألة الدعوى حق كل واحد من المدعيين في العين فكانت القسمة على طريق العول لمعنى أن حق كل واحد منهما شائع في العين فما من جزء منه إلا وصاحب القليل مزاحم فيه صاحب الكثير بنصيبه فلهذا كانت القسمة بطريق العول والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أن كل واحد منهما إذا كان يدلي بسبب صحيح معلوم فالقسمة على طريق العول كالورثة في التركة وإذا كان يدلي لا بسبب صحيح ثابت فالقسمة على طريق المنازعة وما لا منازعة فيه لصاحب القليل يسلم لصاحب الكثير في بيع الفضولين فإن بيع كل واحد منهما غير صحيح قبل إجازة المالك وهذا لأن المضاربة إنما يصار إليها عند الضرورة وذلك عند قوة السبب واستواء السببين في صفة الصحة ففي مسألة الدعوى سبب استحقاق كل واحد منهما الشهادة وهي لا توجب شيئا قبل اتصال القضاء فلم يكن كل واحد من السببين معلوم الصحة فلهذا كانت القسمة على طريق المنازعة وما قال يبطل بحق الغرماء في التركة فإن قسمة العين بسبب حق كان في الذمة ومع ذلك كانت القسمة عوليا.(17/154)
قال: فإن كان المدعون ثلاثة يدعي أحدهم جميعها والآخر نصفها والآخر ثلثها وأقاموا البينة فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله القسمة بطريق العول فتكون أصل المسألة من ستة يضرب مدعي الكل بسهام الدار ستة ومدعي الثلثين بسهام الثلثين أربعة ومدعي النصف بثلاثة فيقسم الدار بينهم على ثلاثة عشر سهما وعند أبي حنيفة رحمه الله القسمة بطريق المنازعة ولا منازعة لصاحب النصف والثلثين فيما زاد على الثلثين وصاحب الجميع يدعي ذلك فيسلم له بلا منازعة وما زاد على النصف إلى تمام الثلثين لا منازعة فيه لصاحب النصف فيكون بين صاحب الجميع والثلثين نصفين يبقى ستة استوت منازعتهم فيه فكان بينهم أثلاثا فيسلم لمدعي النصف سدس الدار ولمدعي الثلثين ربع الدار ولمدعي الجميع ما بقي وذلك سبعة أسهم من اثني عشر.
قال : ولو كانت الدار في يد رجلين فادعى أحدهما نصفها والآخر جميعها فالبينة على مدعي الجميع لأن دعوى كل واحد منهما منصرف إلى ما في يده أولا ليكون يده محقة في حقه وهذا لأن حمل أمور المسلمين على الصحة واجب فصاحب النصف لا يدعي شيئا مما في يد صاحب الجميع وصاحب الجميع يدعي شيئا مما في يد صاحب النصف فعليه إثباته(17/155)
ص -77- ... بالبينة فإن أقاما البينة فالدار كلها لصاحب الجميع لأنه إن اجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد فيما في يد صاحب النصف فبينة الخارج أولى بالقبول.
قال: ولو كانت الدار في يد ثلاثة نفر فادعى أحدهم جميعها والآخر ثلثيها والآخر نصفها وأقاموا البينة واستحلف كل واحد منهم ونكل فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله القسمة على طريق المنازعة بينهم فتكون من أربعة وعشرين سهما لأن في يد كل واحد منهم ثلث الدار ودعوى كل واحد منهم ينصرف إلى ما في يده ثم فيما فضل في ذلك إلى ما في يد صاحبه لأنه ليس أحدهما بأولى به من الآخر ولا بينة لكل واحد منهم فيما في يده فأما الثلث الذي في يد صاحب النصف لا بينة له في ذلك وصاحب الجميع يدعي الجميع وصاحب النصف يدعي الثلثين لأنه يدعي الثلثين ثلث في يده وثلث في يد صاحبه فيكون دعواه فيما في يد كل واحد منهما نصف الثلث فيسلم نصف هذا الثلث لصاحب الجميع بلا منازعة والنصف الآخر بينهما نصفان لاستواء منازعتهما فيه فصار هذا الثلث على أربعة والثلث الذي في يد صاحب الثلثين صاحب الجميع يدعي جميعه وصاحب النصف يدعي ربعه لأنه يدعي النصف والثلث في يده فإنما بقي الثلث في يد صاحبه فكان دعواه في يد كل واحد منهما نصف السدس وذلك ربع ما في يديه فثلاثة أرباع ما في يده سالم لصاحب الجميع.(17/156)
واستوت منازعتهما في الربع فكان بينهما نصفين وما في يد صاحب الجميع يدعي صاحب الثلثين نصفه وصاحب النصف ربعه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما بقدر ما ادعاه فإن جعلت سهام الدار على أربعة وعشرين كان في يد كل واحد منهم ثمانية والسالم لصاحب الجميع مما في يد صاحب النصف ستة ثلاثة أرباع ما في يده وله مما في يد صاحب الثلثين سبعة ويبقى له مما كان في يده سهمان فجملة ما سلم له خمسة عشر وصاحب الثلثين أخذ مما في يد صاحب الجميع أربعة ومما يد صاحب النصف سهمين وذلك ستة فهو له وصاحب النصف أخذ مما في يد صاحب الجميع سهمين ومما في يد صاحب الثلثين سهما فإذا جمعت بين هذه السهام كانت أربعة وعشرين وعندهما القسمة على طريق العول.
فصاحب الجميع يضرب فيما في يد صاحب النصف بالجميع وصاحب الثلثين بالنصف فصار هذا الثلث أثلاثا وصاحب الجميع فيما في يد صاحب الثلثين بالجميع وصاحب النصف بالربع فصار هذا الثلث أخماسا وصاحب النصف يأخذ مما في يد صاحب الجميع الربع وصاحب الثلثين يأخذ النصف فصار هذا الثلث أرباعا فقد وقع الكسر بالأثلاث والأرباع والأخماس فاضرب خمسة في ثلاثة فيكون خمسة عشر ثم في أربعة فيكون ستين فصار كل ثلث من الدار على ستين سهما فيكون جميعها مائة وثمانين فما في يد صاحب النصف وذلك ستون سهما لصاحب الجميع ثلثاه أربعون وصاحب الثلثين(17/157)
ص -78- ... عشرون وما في يد صاحب الثلثين لصاحب النصف خمسة وذلك اثنا عشر ولصاحب الثلث أربعة أخماسه ثمانية وأربعون ويأخذ صاحب النصف مما في يد صاحب الجميع ربعه خمسة عشر وصاحب الثلثين النصف ثلاثين فيبقى في يد صاحب الجميع خمسة عشر وقد وصل إليه من يد الآخرين ثمانية وثمانون وذلك مائة وثلاثة أسهم فذلك نصيبه.
وصاحب الثلاثين أخذ من يد صاحب الجميع ثلاثين ومن يد صاحب النصف عشرين وذلك خمسون وصاحب النصف أخذ من يد صاحب الثلثين اثني عشر ومن يد صاحب الجميع خمسة عشر فيكون سبعة وعشرون فإذا جمعت بين هذه السهام كانت مائة وثمانين مثل سهام الدار فاستقام .
قال :دار في يد رجل منها منزل وفي يد آخر منها منزل فادعى أحدهما الدار بينهما نصفين وقال الآخر هي كلها لي وأقاما البينة فلمدعي الكل المنزل الذي في يده ونصف المنزل الذي في يد الآخر لأن دعوى الآخر في نصف شائع فإنما يدعي هو نصف ما في يده ولا دعوى له في النصف الآخر ومدعي الجميع يدعي ذلك لنفسه فيأخذه لأنه لا منازع له ومدعي النصف يدعي نصف المنزل الذي في يد مدعي الجميع وهو ينازعه في ذلك فلا يستحقه إلا بحجة.
قال :ولو كانت الدار كلها في أيديهما ولم يعرف شيء منها في يد واحد منهما فهي بينهما نصفان لأن مدعي النصف تنصرف دعواه إلا ما في يده فلا يستحق الآخر عليه شيئا من ذلك إلا بحجة وإن كان سفلها في يد رجل وعلوها في يد آخر وطريق العلو في الساحة فادعى كل واحد منهما أن الدار له فالدار لصاحب السفل إلا العلو وطريقه فإنه لصاحب العلو لأن العلو في يد صاحب العلو وكذلك طريقه في السفل فإنه مستعمل له بالتطرق فيه إلى علوه فأما السفل والساحة ففي يد صاحب السفل لأن هو المستعمل للساحة بوضع أمتعته وصب وضوئه وكسر حطبه فيه فالقول فيه قوله وإن أقاما البينة فلكل واحد منهما ما في يد صاحبه ترجيحا لبينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك.(17/158)
قال :ولو كانت الدار في يد ثلاثة فادعي أحدهم النصف والآخر الثلث والثالث السدس وجحد بعضهم دعوى البعض فإن في يد كل واحد منهم الثلث فالثلث الذي في يد مدعي السدس له نصفه لأنه لا يدعي أكثر من ذلك والنصف الآخر موقوف عنده فإن قامت البينة لصاحب النصف أخذ من يد كل واحد من صاحبيه نصف سدس الدار لأنه يدعي النصف وفي يده الثلث فما زاد عليه إلى تمام النصف وهو السدس يدعيه وفي يد صاحبيه إذ ليس أحدهما يصرف دعواه إلى ما في يده بأولى من الآخر فإذا أثبت ذلك بالبينة أخذ من يد كل واحد منهما نصف السدس ولا يقال أن نصف ما في يد مدعي السدس هو لا يدعيه فينبغي أن ينصرف دعوى مدعي النصف إليه حتى يأخذ كل ذلك السدس من غير إقامة البينة عليه لوجهين أحدهما أنه يدعي بعض ذلك في يد صاحب الثلث فكيف يأخذه من يد مدعي(17/159)
ص -79- ... السدس وهو إنما يدعيه في يد غيره والثاني أن باعتبار دعواه شيئا مما في يد صاحب الثلث كان صاحب الثلث منازعا له في هذا السدس الذي في يد صاحب السدس وهو لا يدعيه ومع تمكن المنازعة لا يتمكن من أخذه إلا بحجة والله أعلم بالصواب.
باب دعوى الحائط والطريق
قال رحمه الله: وإذا كان الحائط بين دارين فادعاه صاحب كل واحد من الدارين فإن كان لأحدهما عليه جذوع وليس للآخر عليه جذوع فهو لصاحب الجذوع عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يستحق بوضع الجذوع ترجيحا على صاحبه لأن وضع الجذوع محتمل قد يكون عن ملك وقد يكون عن استعارة وقد يكون عن غصب والمحتمل لا يكون حجة ولنا أن واضع الجذوع مستعمل للحائط بوضع حمله عليه والاستعمال يد وعند تعارض الدعوتين القول قول صاحب اليد كما لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل كان هو أولى بها ولأن الظاهر شاهد له ولأن وضعه الجذوع دليل على أنه بنى الحائط لحاجته إذا وضع حمله عليه ومثل هذه العلامة تثبت الترجيح كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت يجعل ما يصلح للرجل للرجل وما يصلح للنساء للمرأة وإن كان لأحدهما عليه هوادي أو بواري لا يستحق به شيئا لأن هذا ليس بجهل مقصود بني الحائط لأجله فلا يثبت به الترجيح كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليه مخلاة علقها لا يستحق به الترجيح بخلاف الجذوع فإنه حمل مقصود يبني الحائط لأجله فيثبت له اليد باعتباره وكذلك إن كان لأحدهما عليه جذوع أو أنصال وللآخر بواري فهو لصاحب الجذوع والأنصال وإن كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر أنصال فصاحب الجذع أولى ومراده من هذا مداخلة إنصاف اللبن بعضها في بعض إذا كان من أحد الجانبين هذا النوع من الاتصال ببناء أحدهما لأن وضع الجذوع استعمال للحائط والاتصال مجاورة واليد تثبت بالاستعمال دون المجاورة فكان صاحب الجذوع أولى كما لو تنازعا في دابة واحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى.(17/160)
وذكر الطحاوي رحمه الله: أن صاحب الاتصال أولى لأن الكل صار في حكم حائط واحد فهذا النوع من الاتصال في بعضه متفق عليه لأحدهما فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه ولأن الظاهر أنه هو الذي بناه مع حائطه فمداخلة إنصاف للبن لا يتصور إلا عند بناء لحائطين معا فكان هو أولى قال في الكتاب إلا أن يكون اتصال تربيع بيت أو دار فيكون لصاحب الاتصال حينئذ وكان الكرخي رحمه الله يقول صفة هذا الاتصال أن يكون هذا الحائط المتنازع من الجانبين جميعا متصلا بحائطين لأحدهما والحائطان متصلان بحائط له بمقابلة الحائط المتنازع حتى يصير مربعا شبه القبة فحينئذ يكون الكل في حكم شيء واحد فصاحب الاتصال أولى.
والمروي عن أبي يوسف رحمه الله :أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع بحائطين(17/161)
ص -80- ... لأحدهما فأما اتصال الحائطين بحائط أخرى غير معتبر وعليه أكثر مشايخنا رحمهم الله لأن الترجيح إنما يقع له يكون ملكه محيطا بالحائط المتنازع من الجانبين وذلك يتم بالاتصال بجانبي الحائط المتنازع ولصاحب الجذوع موضع جذوعه لأن استحقاق صاحب الاتصال بالظاهر وهو حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير فلا يستحق به على صاحب الجذوع رفع جذوعه.
فإن قيل :لما قضي بالحائط لصاحب الاتصال فينبغي أن يأمر الآخر برفع الجذع لأنه حمل موضوع له في ملك الغير بغير سبب ظاهر لاستحقاقه كما لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل وللآخر مخلاة يقضى لصاحب الحمل ويؤمر الآخر برفع المخلاة قلنا لأن وضع المخلاة على دابة الغير لا يكون مستحقا له في الأصل بسبب فكان من ضرورة القضاء بالدابة لصاحب الحمل أمر الآخر برفع المخلاة فأما هنا فقد يثبت له حق وضع الجذوع على حائط لغيره بأن كان ذلك مشروطا في أصل القسمة فليس من ضرورة الحكم لصاحب الاتصال استحقاق رفع الجذوع على الآخر وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة وقضي له به يؤمر الآخر برفع جذوعه لأن البينة حجة للاستحقاق فيستحق صاحبها رفع جذوعه عن ملكه وإن لم يكن متصلا ببناء أحدهما ولم يكن عليه جذوع فهو بينهما نصفان لاستوائهما فيه في اليد حكما فإنه بكونه بين داريهما يثبت لكل واحد منهما عليه اليد حكما وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات وللآخر عليه خشبة واحدة فلكل واحد منهما ما تحت خشبته ولا يكون بينهما نصفان استحسن ذلك في الخشبة والخشبتين وهكذا ذكر في كتاب الصلح.(17/162)
وقال في كتاب الإقرار :الحائط كله لصاحب عشر خشبات إلا موضع الخشبة فإنه لصاحبها وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن الحائط بينهما نصفان وهو قول أبي يوسف رحمه الله وهو القياس ووجهه أن الاستعمال بموضع الخشبة يثبت يد صاحبها عليه فصاحب القليل فيه يستوي بصاحب الكثير كما لو تنازعا في ثوب عامته في يد أحدهما فطرف منه في يد الآخر كان بينهما نصفين ووجه رواية كتاب الإقرار لصاحب العشر خشبات عليه حمل مقصود يبني الحائط لأجله وليس لصاحب الخشبة الواحدة مثل ذلك ولأن الحائط لا يبنى لأجل خشبة واحدة عادة وإنما ينصب لأجلها أسطوانة فكان صاحب العشر خشبات أولى به كما في الدابة إذا كان لأحدهما عليها حمل مقصود وللآخر مخلاة يقضى بها لصاحب الحمل إلا أنه لا يرفع خشبة الآخر لأن استحقاق صاحب الخشبات باعتبار الظاهر يستحق به رفع الخشبة على الآخر.
وأما وجه رواية كتاب الدعوى أن الاستحقاق باعتبار وضع الخشبة فيثبت لكل واحد منهما الملك فيما تحت خشبته لوجود سبب الاستحقاق به في ذلك الموضع فأما ما بين الخشبات لم يذكر في الكتاب أنه يقضي به لأيهما لأن من أصحابنا رحمهم الله من قال يقضي بالكل بينهما على إحدى عشر سهما عشرة لصاحب الخشبات وسهم لصاحب الخشبة(17/163)
ص -81- ... الواحدة اعتبار لما بين الخشبات بما هو تحت كل خشبة من الحائط وأكبرهم على أنه يقضي به لصاحب العشرخشبات لأن استحقاق الآخر بالخشبة لا بعلامة يستدل بها على أنه هو الذي بنى الحائط أو للآخر عليه علامة يستدل بها على أنه هو الذي بنى الحائط فإن الحائط يبنى لوضع عشر خشبات لا لوضع خشبة واحدة فلهذا كان الكل لصاحب الخشبات إلا موضع الخشبة الواحدة لضرورة استعمال صاحبها والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات وللآخر ثلاث خشبات فصاعدا قضي به بينهما نصفان اعتبارا لأدنى الجمع بأقصاه وهذا لأن لكل واحد منهما عليه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله فلا يعتبر التفاوت بعد ذلك في القلة والكثرة.
كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليه خمسون منا وللآخر مائة من كانت بينهما نصفين وإن كان لأحدهما عليه خشب وللآخر عليه حائط سترة فالحائط الأسفل لصاحب الخشب لكونه مستعملا له بوضع حمل مقصود عليه ولصاحب السترة السترة على حالها لأن بالظاهر لا يستحق رفعه سترة الآخر بمنزلة سفل لأحدهما وعليه علو لآخر وإن كان لأحدهما عليه سترة وليس للآخر عليه شيء يقضي به لصاحب السترة لأن الحائط قد يبنى لأجل السترة فكانت هذه علامة لاستحقاق صاحبها وهذا بخلاف الهوادي فإن الحائط لا يبنى لأجله فلا يستحق صاحبه به الترجيح .(17/164)
قال :وإذا كان جص بين دارين يدعيه كل واحد من صاحبي الدارين والقمط إلى أحدهما قضي به بينهما نصفان في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقضي لمن عليه القمط واستدل بحديث دهيم بن قران أن رجلين اختصما في جص فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليقضي بينهما فقضى بالجص لمن إليه القمط ثم أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصوبه وأبو حنيفة رحمه الله احتج فقال نفس القمط متنازع فيه فلا يجوز أن يجعل ذلك دليل الملك لأحدهما وهو المتنازع فيه بعينه ولأن الإنسان قد يتخذ جصا ويجعل القمط إلى جانب جاره ليكون جانبه مستويا فيطينه ويجصصه وتأويل الحديث أن صاحب القمط أقام البينة حين تحاكما فقضى له حذيفة رضي الله عنه بالبينة وذكر القمط على سبيل التعريف كما يقال قضي لصاحب العمامة والطيلسان وكذلك لو اختلفا في حائط ووجهه إلى أحدهما وظهره إلى الآخر فهو بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقضى لمن كان إليه ظهر البناء وإنصاف اللبن لأن العادة أن الإنسان يجعل ظهر البناء إلى جانب نفسه ليكون مستويا وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه العادة مشتركة قد يجعلها إلى جانب جاره وقد يجعلها إلى الطريق فلا يكون ذلك دليل انعدام ملكه في الحائط وكذلك إن كانت الطاقات إلى أحدهما فالحاصل أن ظهر البناء كله متنازع فلا يمكن جعله دليلا للحكم به لأحدهما .
قال: وإذا كان سفل الحائط لرجل وعلوه لآخر فأراد صاحب السفل أن يهدم السفل(17/165)
ص -82- ... فليس له ذلك لأن السفل فيه حق لصاحب العلو من حيث قرار بنائه عليه فلا يكون له أن يبطل حق الغير عن ملك نفسه وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله ليس له أن يفتح فيه بابا ولا كوة ولا يدخل فيه جذعا لم يكن قبل ذلك إلا برضاء صاحب العلو وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يفتح ذلك إذا كان لا يضر بصاحب العلو فإن كان شيء من ذلك يضر به لم يكن له أن يفعله وكذلك لم يحفر في سفله بئرا وكذلك لو أراد صاحب العلو أن يحدث على علوه بناء أو يضع عليه جذوعا أو يشرع فيه كنيفا لم يكن له ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله أضر بالسفل أو لم يضر وعندهما إن أضر بالسفل منع من ذلك أو لم يضر بالسفل لم يمنع.
حجتهما :أن كل واحد منهما إنما يتصرف في خالص حقه فلا يمنع من ذلك إلا أن يلحق الضرر بمن له فيه حق كالموصى له بالخدمة على الموصي له بالرقبة فإنه لا يمنع الموصى له بالرقبة من التصرف في ملكه إلا ما يضر بالموصي له بالخدمة وأبو حنيفة رحمه الله يقول لصاحب العلو حق بناء قدر معلوم على بناء السفل وإذا أراد أن يزيد على ذلك منع منه كما لو استأجر دابة ليحمل عليها حملا معلوما فليس له أن يحمل أكثر من ذلك وإن لم يضر بالدابة .
وكذلك صاحب العلو له حق في بناء السفل من حيث قرار علوه عليه وفتح الباب والكوة يوهن البناء وكذلك حفر البئر في ساحة السفل يوهن البناء فلا يكون له أن يفعل ذلك إلا برضا صاحب العلو .
ألا ترى أن كل واحد منهما يمنع من التصرف الذي يضر بصاحبه فلو كان الملك لكل واحد منهما خالصا لم يمنع أحدهما من التصرف وإن أدى إلى الإضرار بصاحبه كالجارين.(17/166)
قال :وإذا كان الحائط بين رجلين فأقام رجل البينة على أحدهما أنه أقر أن الحائط له قضيت له بحصته من الحائط لأن ثبوت إقراره بالبينة كثبوته بالمعاينة وإقرار أحد الشريكين في نصيب نفسه صحيح لأن لا ضرر فيه على الشريك فلا فرق في حقه بين أن يشاركه في الحائط المقر أو المقر له فإن كان الحائط في يد رجل وله جذوع شاخصة فيه على دار رجل آخر فأراد أن يجعل الدار فكما لا يكون لغيره أن يحدث في ساحة داره عليه كنيفا فلصاحب الدار أن يمنعه من ذلك لأن هواء الدار حق لصاحبها كساحة بناه بغير رضاه فكذلك لا يكون له إحداث البناء في هواء داره بغير رضاه والجذوع الشاخصة نوع ظاهر يدفع به الاستحقاق فلا يستحق به شيئا وليس لصاحب الدار أن يقطع الجذوع لأنها وجدت كذلك ويحتمل أن تكون حجة لذلك إلا أن تكون نفس الجذوع بحق مستحق لصاحبها فلا يكون لصاحب الدار أن يقطعها إلا بحجة والظاهر لا يصلح حجة كذلك إلا أن تكون جذوعا لا يحمل على مثلها شيئا إنما هو أطراف جذوع خارجة في داره فحينئذ يكون له أن يقطعها لأن عين الجذوع غير مقصودة بعينها إنما المقصود هو البناء عليها فما لا يبنى على مثله لا يجوز أن يكون مستحقا له في ملك الغير فكان لصاحب الدار أن يقطعها وما يبنى(17/167)
ص -83- ... عليه يجوز أن يكون مستحقا له بسبب فلا يكون له قطعها ما لم يتبين أنه أحدث نصبها غصبا قال وإذا كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم لم يجبر صاحب السفل على بناء السفل لأنه ملكه ولا يجبر صاحب الملك على بناء ملكه فله حق التدبير في ملك نفسه كإنشاء بيع أو بناء بخلاف ما إذا كان صاحب السفل هو الذي هدمه لأنه صار متعديا بالهدم لما لصاحب العلو في بناء السفل من حق قرار العلو عليه فيجبر على بنائه بحقه كالراهن إذا قبل المرهون أو المولى قبل عبده المديون فأما عند الانهدام لم يوجد من صاحب السفل فعل هو عدوان ولكن لصاحب العلو أن يبني السفل ثم يبني عليه العلو لأنه لا يتوصل إلى بناء ملكه إلا ببناء السفل فكان له أن يتطرق ببناء السفل ليتوصل إلى حقه ثم يمنع صاحب السفل من أن يسكن سفله حتى يرد على صاحبه العلو قيمة البناء لأنه مضطر إلى بناء السفل ليتوصل إلى منفعة ملكه فلا يكون متبرعا فيه والبناء ملك الثاني فكان له أن يمنعه من الانتفاع بالبناء حتى يتملكه عليه بأداء القيمة وذكر الخصاف رحمه الله أنه إنما يرجع على صاحب السفل بما أنفق في بناء السفل ووجهه أنه مأذون في هذا الانفاق شرعا فيكون كالمأمور به من صاحب السفل لأن للشرع عليه ولاية .
ووجه هذه الرواية أن البناء ملكه فيتملكه عليه صاحب السفل بقيمته كثوب الغير إذا انصبغ بصبغ غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذ ثوبه يعطي صاحب الثوب ما زاد الصبغ في الثوب لأن الصبغ ملك صاحب الصبغ في ثوبه
وذكر في الأمالي عن أبي يوسف رحمه الله أن السفل كالمرهون في يد صاحب العلو ومراده من ذلك منع صاحب السفل من الانتفاع بسفله بمنزلة الرهن .(17/168)
قال: ولو كان بيت بين رجلين أو دار فانهدمت لم يكن لأحدهما أن يجبر صاحبه على البناء لأن تمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر بقسمة الساحة ممكن فإن بناها أحدهما لم يرجع على شريكه بشيء لأنه غير مضطر في هذا البناء فإنه يتمكن من مطالبة صاحبه بالقسمة ليبني في نصيب نفسه بخلاف العلو والسفل وكذلك الحائط إن لم يكن عليه جذوع لأن أس الحائط محتمل للقسمة بينهما إلا أن يكون بحيث لا يحتمل القسمة نحو الحائط المبني بالخشبة فحينئذ يجبر أحدهما على بنائه وإذا بناه أحدهما مع صاحبه من الانتفاع به حتى يرد عليه قيمة نصيبه كالعبد المشترك إذا كان عاجزا عن الكسب وامتنع أحد الشريكين من الانفاق عليه كان لصاحبه أن يجبره على ذلك.
وإن كان على الحائط جذوع لهما فلأحدهما أن يجبر صاحبه على المساعدة معه في بنائه وإن لم يساعده على ذلك بناه بنفسه ثم يمنع صاحبه من وضع جذوعه عليه حتى يرد عليه قيمة حصته من البناء لأن لكل واحد منهما حق في نصيب صاحبه من حيث وضع الجذوع عليه وذلك يبطل بقسمة أس الحائط بينهما فإن كان الجذوع على الحائط لأحدهما دون الآخر فلصاحب الجذوع أن يبني الحائط ولا يشاجر صاحبه على المطالبة بقسمة الحائط(17/169)
ص -84- ... لأن له حق وضع الجذوع على نصيب صاحبه فإن كان هو الذي يطالب بالقسمة فليس له أن يمتنع من ذلك لأن ترك القسمة كان لحقه وقد رضي هو بسقوط حقه وصار هو في حق الآخر كأنه ليس لواحد منهما عليه جذوع وكذلك الحمام المشترك إذا انهدم فهو بمنزلة الدار لأن قسمة الساحة ممكن فإذا بناه أحدهما لم يرجع على صاحبه بشيء.
قال :وإذا كان لرجل باب من داره في دار رجل فأراد أن يمر في داره من ذلك الباب فمنعه صاحب الدار فصاحب الباب هو المدعي للطريق في دار الغير فعليه إثباته بالبينة ورب الدار هو المنكر فالقول قوله مع يمينه وبفتح الباب لا يستحق شيئا لأن فتح الباب رفع جزء من الحائط ولو رفع جميع حائطه لا يستحق به في ملك الغير شيئا فكذلك إذا فتح بابا وقد يكون فتح الباب لدخول الضوء والريح وقد يكون للاستئناس بالجار والتحدث معه فلا يكون ذلك دليلا على طريق له في الدار فإن أقام البينة أنه كان يمر في هذه الدار من هذا الباب لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لأنهم شهدوا بيد كانت له في هذا الطريق فيما مضى وبهذه الشهادة لا يستحق المدعي شيئا(17/170)
ألا ترى أنا لو عايناه مر فيه مرة لم يستحق به شيئا إلا أن يشهدوا أن له فيها طريقا ثابتا فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم والطريق يجوز أن يكون مستحقا له في دار الجار في أصل القسمة أو أوصى له به فتقبل البينة على إثباته وإن لم يجدوا الطريق ولم يسموا ذرع العرض والطول بعد أن يقولوا أن له طريقا في هذه الدار من هذا الباب إلى باب الدار فالشهادة مقبولة ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويله إذا شهدوا على إقرار الخصم بذلك فالجهالة لا تمنع صحة الإقرار فأما إذا شهدوا على الثبات لا تقبل شهادتهم لجهالة في المشهود به والأصح أنها تكون مقبولة لأن الجهالة إنما تمنع قبول الشهادة إذا تعذر على القاضي القضاء بها وهنا لا يتعذر فإن عرض الباب يجعل حكما فيكون عرض الطريق له بذلك القدر وطوله إلى باب الدار
قال في بعض النسخ :فإن لم يجدوا الطريق فذلك أحور للشهادة وفي بعضها قال وإن سموا الطول والعرض فذلك أحور للشهادة وهذا ظاهر لأن الجهالة ترتفع به وأما اللفظ الأول فوجهه أنه لا حاجة إلى التحديد للعمل بالشهادة وربما يمتنع بذكرها العمل بها فإن من العلماء من يقدر الطريق بسبعة أذرع لحديث روى فيه فلو بين الشهود عرض الطريق ربما يذكرون أقل من ذلك أو أكثر والقاضي يذهب إلى ذلك المذهب فيرد شهادتهم وإذا أطلقوا عمل القاضي بشهادتهم فكان ترك التحديد أنفذ للشهادة ومعنى قوله أحور أي نفذ وكذلك لو قالوا مات أبوه وترك هذا الطريق ميراثا لأنهم بينوا سبب ملكه وذلك لا يقدح في شهادتهم.
قال :ولو كان لرجل ميزاب في دار رجل فأراد أن يسيل فيه الماء فمنعه رب الدار فليس له أن يسيل فيه الماء حتى يقيم البينة أن له في هذه الدار مسيلا لأن الميزاب مركب في(17/171)
ص -85- ... ملكه كالباب فلا يستحق به حقا في دار الغير إلا بحجة فإن أقام البينة أنهم قد رأوه يسيل فيه الماء لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لما بينا أنهم شهدوا بيد كانت له فيما مضى وقد ذكر في كتاب الشرب أنهما لو تنازعا في نهر وأحدهما يسيل فيه ماءه فالقول قوله لأن يده قائمة في النهر باستعماله بتسييل الماء فيه فأما هنا ليست له يد قائمة في الدار بتسييل الماء في الميزاب في وقت سابق.
وبعض مشايخنا من المتأخر رحمهم الله قالوا إذا كان مسيل الماء إلى جانب الميزاب ويعلم أنه قديم لم يحدث صاحب السطح فإنه يستحق تسييل الماء فيه من غير بينة لأن الظاهر شاهد له فإن الإنسان لا يجعل سطحه إلى جانب ميزاب إلا بعد أن يكون له حق تسييل الماء فيه بعمله أما إذا امتنع من تسييل الماء فيه يتعذر عليه تغييره إلى جانب آخر فإن شهد الشهود أن له مسيل ماء فيها من هذا الميزاب قبلت الشهادة لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم في حقه فإن شهدوا أنه لماء المطر فهو لماء المطر وإن شهدوا أنه لصب الوضوء فيه فهو لذلك لأنهم بينوا صفة ما شهدوا به من الحق وإن لم يفسروا شيئا من ذلك فالقول قول رب الدار في ذلك مع يمينه لأن أصل الحق ثابت بالشهادة ولا يثبت صفته فالقول قول صاحب الدار لأن ضرر ذلك يختلف في حقه فإن المسيل لماء المطر يكون ضرره في وقت خاص ولصب الوضوء فيه يكون الضرر في كل وقت فيكون القول في البيان قول صاحب الدار وعليه اليمين على جحوده دعوى صاحبه اعتبارا للصفة بالأصل.(17/172)
وإن كانت الدار التي ادعى الطريق أو المسيل فيها بين الورثة فأقر بعضهم بالطريق والمسيل وجحد ذلك البعض لم يكن للمدعي أن يمر فيه ولا يسيل ماءه بقول بعضهم لأنه لا يتوصل إلى الانتفاع إلا بنصيب الجاحدين وإقرار المقر ليس بحجة في حقهم فلا يتمكن من التطرق أو بسيل الماء في نصيب المقر خاصة لأنه غير متميز عن نصيب شركائه وهذا بخلاف الإقرار بالملك فإن إقرار أحد الشركاء في نصيبه يجعل المقر أحق بنصيب المقر من حيث التصرف فيه والانتفاع به لتمكنه من ذلك في نصيب المقر على أن يكون قائما مقامه وقد ذكر في موضع آخر فإن وقع ذلك الموضع في نصيب المقر تطرق فيه المقر له ويسيل ماءه وإن وقع في نصيب غيره يضرب المقر له بالطريق أو المسيل في نصيب المقر بقدر ذلك ويضرب المقر بحصته سوى الطريق والمسيل فيكون بينهما على ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله إن كانت الورثة ثلاثة ضرب المقر بثلث المسيل وإنما أراد به إذا أقر له بملك الطريق أو المسيل وأصله فيما ذكر في كتاب الإقرار دار مشتركة بين اثنين أقر أحدهما ببيت بعينه لإنسان وسنذكر ذلك في موضعه في كتاب الإقرار إن شاء الله تعالى.
قال :وإذا كان مسيل الماء في قناة فأراد أن يجعله ميزابا لم يكن له ذلك إلا برضاء أصل أهل الدار الذين عليهم المسيل وكذلك لو كان ميزابا فأراد أن يجعله قناة لم يكن له(17/173)
ص -86- ... ذلك إلا برضاهم لأن في القناة الماء لا يفيض على وجه الأرض ولكنه مغور يسيل الماء في بطنه وفي الميزاب يسيل الماء على وجه الأرض فإذا أراد أن يجعل القناة ميزابا ففيه زيادة ضرر على أهل الدار بأن يفيض الماء في ساحة الدار وإذا أراد أن يجعل الميزاب قناة يحتاج إلى حفر ساحة الدار وفيه ضرر على صاحب الدار وإنما يثبت له من الحق قدرا معلوما فلا يكون له أن يلحق الضرر بهم في الزيادة إلا برضاهم وقيل هذا إذا لم يكن ذلك الموضع مملوكا له وإنما له حق تسييل الماء فيه فأما إذا كان الموضع مملوكا له فله أن يجعل القناة ميزابا والميزان قناة لأنه يتصرف في خالص ملكه فلا يمنعه منه ضرر يلحق جاره.
قال :أرأيت لو جعل ميزابا أطول من ميزابه أو أعرض كان له ذلك لأنه إن جعله أطول كان انصباب الماء فيه من غير الموضع الذي كان حقه فيه وإن جعله أعرض ينصب الماء فيه أكثر مما هو حقه ولو أراد أن يسيل فيه ماء سطح آخر لم يكن له ذلك لأنه لم يكن لذلك السطح حق تسييل الماء في هذا الدار وفيه زيادة ضرر على صاحب الدار وكذلك لو أراد أن ينقل الميزاب عن موضعه لأنه ينصب الماء فيه في غير الموضع الذي هو حقه وكذلك لو أراد أن يرفعه أو يسفله ففي كل ذلك نوع ضرر على صاحب الدار سوى ما كان مستحقا لصاحب الميزاب فلا يملكه إلا برضاه.(17/174)
قال :ولو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطا ليسد مسيله لم يكن لهم ذلك لأنهم قصدوا منع حق مستحق للغير في دارهم وإن أرادوا أن يبنوا بناء يسيل ميزابه على سطحه كان لهم ذلك لأنه لا ضرر فيه على صاحب الميزاب إذ لا فرق في حقه بين أن ينصب ماء المطر في ساحة الدار أو على ظهر بيت يبنونه في ذلك الموضع وليس لهم أن يبنوا في ساحة الدار ما يمنع صاحب الطريق من التطرق فيه ولكنهم إذا أرادوا أن يبنوا الساحة ينبغي لهم أن يتركوا من الساحة بقدر الطريق ويثبتون ما سوى ذلك لأنه لا حق له إلا في موضع الطريق فإن وقعت المنازعة بينهم في عرض ما يتركون له من الطريق جعلوه قدر عرض باب الدار لأن ذلك متفق عليه فيرد عليهم المختلف فيه ولأنه لا منفعة لصاحب الطريق في الزيادة على ذلك فإنه لا يحمل مع نفسه في الطريق إلا ما يتمكن من إدخاله في باب الدار ويتمكن لذلك في طريق عرضه مثل عرض باب الدار والله أعلم.
باب الدعوى في شيء واحد من وجهين
قال رحمه الله: دار في يد رجل ادعى رجل أن أباه مات وتركها ميراثا له منذ سنة جاء بشاهدين فشهدا أنه اشتراها من ذي اليد منذ سنتين لم تقبل هذه البينة لأن شرط قبول البينة تقديم الدعوى فإن حقوق العباد إنما يجب بقاؤها عند طلب صاحب الحق أو من يقوم مقامه وما شهد به شهوده لم يتقدم الدعوى به منه ولا يتمكن من أن يدعيه لأن دعواه الأول يناقض دعواه الثاني فإن بما ورثه عن أبيه منذ سنة لا يتصور أن يكون مشتريا له من ذي اليد منذ سنتين والتناقض يعدم ميراثا قد أكذب شهوده على الشراء فلهذا لا تقبل شهادتهم له.(17/175)
ص -87- ... وكذلك لو شهدوا بهبة أو صدقة له من ذي اليد منذ سنتين ولو كان المدعي ادعى أن ذي اليد تصدق بها عليه منذ سنة وشهد الشهود على الشراء منذ سنتين لم تقبل أيضا لأن بعد دعواه الأولى لا يمكنه دعوى الشراء منذ سنتين فلانعدام الدعوى أولا كذلك شهوده تمنع العمل بشهادتهم.
وكذلك لو ادعى الشراء أولا منذ سنة ثم أقام البينة على الصدقة منذ سنتين ولو ادعى الصدقة منذ سنة ثم أقام البينة على الشراء منذ شهر لم تقبل إلا أن يوفق فيقول جحدني الصدقة فاشتريتها منه فحينئذ يقضي بها له لأن من حيث الظاهر الشهادة مخالفة للدعوى إلا أن التوفيق ممكن فقد يجحد المتصدق الصدقة فيشتريها منه المتصدق عليه بعد ذلك فتقبل البينة عند التوفيق كما لو ادعى ألفا وشهد له الشهود بألف وخمسمائة لم تقبل إلا أن يوفق المدعي فيقول كان حقي ألفا وخمسمائة ولكني استوفيت منه خمسمائة ولم يعلم به الشهود بخلاف ما تقدم فإن هناك لا يمكنه أن يوفق فيقول جحدني الصدقة منذ سنة فاشتريتها منه منذ سنتين.(17/176)
وكذلك لو ادعى الشراء منذ سنة ثم أقام البينة على الصدقة منذ شهر وقال جحدني الشراء فسألته فتصدق علي بها بعد ذلك فهذا توفيق صحيح ينعدم به التناقض وإكذاب الشهود وكذلك لو ادعى الميراث من أبيه منذ سنة وشهد الشهود على شرائها من ذي اليد منذ شهر فقال جحدني ذلك ولم يكن له بينة فاشتريتها منه منذ شهر فهذا توفيق صحيح وكذلك لو ادعى أمة في يدي رجل فقال اشتريتها منه بعبدي هذا منذ سنة ثم جاء بالبينة أنه اشتراها منذ سنة وجاء بشاهدين فشهدا أنه اشتراها منه بألف درهم مطلقا أو منذ شهر تقبل الشهادة إذا وفق أو قال حين جحدني الشراء بالعبد فاشتريتها بألف درهم بعد ما قمنا من مجلسك أيها القاضي والبيع الثاني ينقض البيع الأول فيتمكن القاضي من القضاء بالعقد الذي شهدوا به عند هذا التوفيق ولو شهدوا أنه اشتراها بألف درهم منذ سنة أو أكثر لم أقبل شهادتهما لأن اختلاف اليد يوجب اختلاف العقد فالتوفيق غير ممكن أن شهدوا بالشراء منه منذ سنة لأنه لا تاريخ بين العقد المدعا والمشهود به وإن شهدوا بالشراء بألف منذ أكثر من سنة لا يتمكن القاضي من القضاء بالعقد الذي شهدوا به لأن العقد المدعا كان بعده بزعم المدعي وهو ينقض العقد الأول فلا يمكنه القضاء بالعقد المدعا لأن الحجة لم تقم به فلهذا لا تقبل الشهادة .
قال :فإن ادعى عينا في يد رجل أنه له وشهد شهوده أنه اشتراه من ذي اليد ونقده الثمن أو وهبه ذو اليد أو تصدق به عليه أو أنه ورثه من أبيه قبلت الشهادة لأن المعتبر الموافقة بين الدعوى والشهادة معنى لا لفظا
ألا ترى أن المدعي يقول ادعى عليه كذا والشاهد يقول أشهد عليه بكذا والموافقة معنى موجود هنا لأنه ادعى الملك وقد شهدوا له بالملك مع بيان سببه ولا بد للملك من سبب فبيان سبب الملك من الشهود في الشهادة إن(17/177)
ص -88- ... لم يؤكد شهادتهم بالملك لا تندفع بها وهذا بخلاف ما إذا ادعى الشراء من ذي اليد وشهد له الشهود بالملك مطلقا لأن الشهادة هناك أزيد من الدعوى فإن الملك بالشراء حادث والشهادة على الملك المطلق تثبت الاستحقاق من الأصل حتى يرجع الباعة بعضهم على بعض بالثمن فأما إذا ادعى ملكا مطلقا وشهد الشهود بالشراء فالملك به دون المدعا فذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو ادعى ألفا وشهد له الشهود بخمسمائة تقبل ولو ادعى خمسمائة وشهد له الشهود بألف لا تقبل.
وكذلك لو ادعى أنه له ثم ادعى أنه لفلان وكله بالخصومة فيه وأقام البينة على ذلك تقبل بينته لأنه لا منافاة بين الدعوتين فالوكيل بالخصومة قد نصف العين إلى نفسه على معنى أن له حق المطالبة به فيتمكن القاضي من القضاء بما شهد به الشهود بعد دعواه الأول ولو ادعى أول مرة أنه لفلان وكله بالخصومة فيه ثم أقام البينة أنه له لم أقبل بينته لأن ما هو مملوك له لا يضاف إلى غيره عند الخصومة فلا يتمكن القاضي من القضاء بالمشهود به وهو الملك له بعد ما أقر أنه وكيل فيه بالخصومة بما ادعاه الأول ولا يتمكن من القضاء بالملك لأن الشهود لم يشهدوا به وكذلك إن أقام البينة أنه لفلان آخر وكله بالخصومة فيه لا أقبل ذلك منه لأن الوكيل بالخصومة في العين من جهة زيد لا بصفة إلى غيره فيتمكن من التناقض بين الدعوتين على وجه لا يمكن التوفيق بينهما.(17/178)
قال :ولو ادعاه لرجل زعم أنه وكله فيه بالخصومة ثم قال بعد ذلك أنه باعه من فلان وهو يملكه وكلني فلان المشتري بالخصومة وجاء بالبينة على ذلك قبلت بينته وقضيت به للموكل الآخر لأنه وفق بين الدعوتين بتوفيق ممكن لو عاينا ذلك صححنا دعواه الثانية فكذلك إذا وفق بتلك الصفة ويقضي به للموكل الآخر وتأويل هذا إذا شهدوا الشهود بالملك بالشراء فأما إذا شهدوا بالملك المطلق لا تقبل الشهادة قال ولو ادعى القاضي في صك جاء باسمه ثم جاء بالبينة أن ذلك المال لغيره وأنه قد وكله بالخصومة فيه قبلت ذلك منه لما بينا أن الوكيل بالخصومة قد يضيف المال إلى نفسه على معنى أن له حق المطالبة به فيتمكن القاضي من القضاء بالشهادة والله أعلم بالصواب .
باب ادعاء الولد
قال رحمه الله :ذكر عن شريح رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه إذا أقر الرجل بولده لم يكن له أن ينفيه وهكذا عن علي رضي الله عنه وبقولهما نأخذ أنه متى ثبت النسب بإقراره لم يكن له أن ينفيه بعد ذلك لأن النسب لا يحتمل النقض والنسخ ولا يتصور تحويله من شخص إلى شخص وبإقراره ثبت منه لكون الإقرار حجة عليه فإن قيل أليس أن النسب يثبت من الزوج بفراش النكاح ثم يملك نفيه باللعان قلنا لأن ثبوته هناك بحكم الفراش على احتمال أن لا يكون منه فيتصور نفيه أما هنا بثبوت النسب منه بتنصيصه على أنه مخلوق من مائه فلا يبقى بعده احتمال النفي كالمشتري إذا أقر بالملك(17/179)
ص -89- ... للبائع ثم استحق من يده ورجع بالثمن لم يبطل إقراره حتى إذا عاد إلى يده يوما يؤمر بتسليمه إلى البائع بخلاف ما إذا اشتراه ولم يقر له بالملك لأن نفس الشراء وإن كان إقرار بالملك فالاحتمال فيه باق بخلاف الإقرار به نصا.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه :قال مر عمر رضي الله عنه على جارية تسقي مع رجل من بئر فقال لمن هذه فقالوا لفلان قال ولعله يطأها قالوا نعم قال أما أنها لو ولدت ألزمته ولدها وبظاهره يأخذ الشافعي رحمه الله فنقول الأمة تصير فراشا بنفس الوطء ولا حجة له فيه لأن عنده الفراش إنما يثبت بإقرار المولى وهنا الإقرار في الأجانب وبه لا يثبت الفراش فأما أن يحمله على أنه عرف أنها أم ولده أو يحمل على أن مراده من ذلك حث الناس على تحصين الجواري ومنعهن عن الاختلاط بالرجال فقد ظهر أن عمر رضي الله عنه ما يخالف هذا على ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان له جارية وكان يطأها فجاءت بولد ونفاه وقال اللهم لا يلحق بآل عمر من لا يشبههم فأقرت أنه من فلان الراعي.(17/180)
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنه كان يطأ جاريته فجاءت بولد فنفاه فقال كنت أطأها ولا أبغي ولدها أي أعزل عنها وهكذا نقل عن بن عباس وبن عمر رضي الله عنهما والذي ذكر في الكتاب عن بن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال من وطى ء وليدة له فضيعها فالولد منه والضياع عليه لا حجة فيه للخصم لأن الوليدة اسم لأم الولد فإنه فعيل بمعنى فاعل أي والده وذكر عن عمر رضي الله عنه قال حصنوهن أو لا تحصنوهن أيما رجل وطى ء جارية فجاءت بولد ألزمته إياه وإنما قال ذلك على سبيل الحث للناس على تحصين السراري ومنعهن عن الخروج ثم لا خلاف بين العلماء رحمهم الله أن النسب يثبت بالفراش والفراش تارة يثبت بالنكاح وتارة يثبت بملك اليمين فأما الفراش في النكاح الصحيح يثبت بنفسه إذا جاءت بالولد لمدة يتوهم أن العلوق بعد النكاح ثبت النسب على وجه لا ينتفي إلا باللعان إذا كان من أهل اللعان وكذلك النسب يثبت بشبهة النكاح إذا اتصل به الدخول وهذه الشبهة تثبت بالنكاح الفاسد تارة وبإخبار المخبر أنها امرأته تارة لأن الشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما هو مبني على الاحتياط وأمر النسب مبني على الاحتياط.
ألا ترى أن في حق وجوب المهر والعدة جعلت الشبهة بمنزلة حقيقة النكاح فكذلك في النسب ومتى ثبت النسب بالشبهة لا يمكن نفيه بحال لأن نفي النسب بعد ثبوته لا يكون إلا باللعان ولا يجري اللعان في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة وأما بملك اليمين لا خلاف أن لنسب لا يثبت بنفس الملك ولا بالوطء بشبهة الملك بدون الدعوة وإنما الخلاف في أن بنفس الوطء بملك اليمين لا خلاف أن النسب لا يثبت بنفس الملك ولا بالوطء بشبهة الملك بدون الدعوة وإنما الخلاف في أن بنفس الوطء بملك اليمين هل يصير فراشا حتى لا يثبت النسب به عندنا إلا أن يقر المولى بالنسب وعند الشافعي يثبت بنفس الوطء ولكن إذا كان المولى يطأها ويمنعها من الخروج(17/181)
ص -90- ... فالأولى له أن يدعي ولدها ولا ينفيه فإن الميرة في هذا ولكن لا يلزمه حكما إلا بالدعوة واحتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن زمعة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما اختصما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد ولدته زمعة فقال عبد ولد أبي ولد على فراش أبي وقال سعد رضي الله عنه بن أخي عهد إلي فيه أخي وأمرني أن أضمه إلى نفسي فقال صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الولد للفراش وللعاهر الحجر" فقد أثبت النسب من زمعة بإقرار من يخلفه بوطئه إياها ولم يسبق من زمعة دعوة النسب فدل أن الفراش يثبت بنفس الوطء والمعنى فيه أنه وضع ماءه حيث له وضعه فيثبت النسب منه كما في فراش النكاح وهذا لأن الوطء بملك اليمين ينزل منزلة عقد النكاح.
ألا ترى أنه تثبت به حرمة المصاهرة كما يثبت بالنكاح بل أقوى فحرمة الربيبة تثبت بالوطء ولا يثبت بنفس النكاح وكذلك يحرم الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين كما يحرم الجمع بينهما نكاحا ثم الفراش في حق النسب يثبت بالنكاح فكذلك بالوطء بملك اليمين ولنا أن وطء الأمة كملكها وبملكها لا يثبت الفراش لأنه محتمل قد يكون لبيعها وقد يكون لوطئها فكذلك وطئه إياها محتمل قد يكون للاستفراش وقد يكون لقضاء الشهوة وتحقيق ذلك بالعزل عنها عادة وينفرد بذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة فلا يثبت النسب منه إلا بالدعوة التي لا يبقى بعدها احتمال بخلاف النكاح فإنه لا يكون إلا للفراش عادة.(17/182)
ألا ترى أن التمكن من الوطء هناك جعل بمنزلة حقيقة الوطء وهنا بالتمكن من الوطء لا يثبت النسب بالاتفاق للاحتمال فكذلك بحقيقة الوطء ولأن هناك لا يبطل بثبوت النسب ملكا باتا للزوج وهنا يبطل ملك المالية والتصرف فيها بثبوت نسب ولدها والمحتمل لا يكون حجة في إبطال الملك المتحقق به وبه فارق حرمة المصاهرة فليس في إثباتها إبطال الملك بل باب الحرمة مبني على الاحتياط فيجوز إثباته مع الاحتمال ولأن ثبوته باعتبار الاتحاد بين الواطئين حسا حتى تصير أمهاتها وبناتها كأمهاته وبناته وذلك حاصل بملك اليمين.
ألا ترى أن الرضاع في إثبات الحرمة جعل كالنسب ولم يجعل كهو في إبطال الملك به يعني بالعتق عليه وكذلك حرمة الجمع بين الأختين نكاحا للتحرز عن قطيعة الرحم بينهما وذلك يحصل بالوطء بملك اليمين فأما حديث عبد فقد ذكر أبو يوسف رحمه الله في الأمالي أن وليدة زمعة كانت أم ولد له وفي بعض الروايات في الحديث زيادة قال ولد أبي ولد على فراش أبي لأني أقربه أبي وعندنا إذا أقر المولى بالنسب يثبت النسب منه على أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد" ليس بقضاء بالنسب بل هو قضاء بالملك له لكونه ولد أمة أبيه ثم أعتقه عليه بإقراره بنسبه .
ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال لسودة: "فأما أنت يا سودة فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك" والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" تأكيد(17/183)
ص -91- ... نفي النسب عن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه لأنه كان عاهرا لا إلحاق النسب بزمعة.
قال :وإذا حبلت الأمة عند رجل ثم باعها وقبض ثمنها فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فادعاه البائع ثبت النسب منه وقضي بأنها أم ولد له ولدها حر الأصل وعليه رد الثمن على المشتري عندنا استحسانا وفي القياس لا يثبت النسب منه ما لم يصدقه المشتري وبه أخذ زفر والشافعي رحمهما الله.
وجه القياس في ذلك أن البائع مناقض في كلامه ساع في نقض ما قد تم به وهو البيع فلا يقبل قوله كما لو قال كنت أعتقتها أو دبرتها قبل أن أبيعها وهذا لأن إقدامه على بيعها إقرار منه أنها ليست بأم ولد له ولنا أنا تيقنا بحصول العلوق في ملكه وذلك ينزل منزلة البينة في إبطال حق الغير عنها كالمريض إذا جاءت جاريته بولد في ملكه فادعى نسبه نزل ذلك منزلة البينة في إبطال حق الغرماء والورثة عنها وعن ولدها وتفسير الوصف أن أدنى مدة الحبل ستة أشهر فإذا جاءت بولد من ذلك فقد تيقنا بحصول العلوق قبل البيع وتأثيره وهو أن بحصول العلوق في ملكه يثبت له حق استلحاق النسب بالدعوة وذلك لا يحتمل الإبطال وإنما يبطل البيع ما كان محتملا للإبطال فأما فيما لا يحتمل إلا إبطال الحال بعد البيع وقبله سواء فإذا بقي حق استلحاق النسب له بقي ما كان ثابتا وهو التفرد به من غير حاجة إلى تصديق المشتري وخفاء أمر العلوق يكون عذرا له في إسقاط اعتبار التناقض وقبول قوله في إبطال البيع كما أن الزوج إذا كذب نفسه بعد قضاء القاضي بنفي النسب ثبت منه وبطل حكم الحاكم ولا ينظر إلى التناقض.(17/184)
وهذا لأن الإنسان قد يعلم تدينا أن العلوق ليس منه ثم يتبين له أنه منه ولا يوجد مثل هذا في دعوى العتق والتدبير فلهذا لا يقبل قول البائع فيه فإن ادعاه المشتري بعد ذلك فعلى طريق القياس يثبت النسب منه لأن دعوة البائع لم تصح وعلى طريقة الاستحسان لما ثبت النسب من البائع لا تصح دعوة المشتري لأن البيع قد انتقض فصار هو كأجنبي آخر ولأن الولد قد استغنى عن النسب بثبوت نسبه من البائع وإن كان المشتري ادعاه أولا ثبت النسب منه لأنها مملوكته في الحال يملك إعتاقها وإعتاق ولدها فتصح دعوته أيضا لحاجة الولد إلى النسب والحرية ويثبت لها أمية الولد بإقراره ثم لا تصح دعوة البائع بعد ذلك لأن الولد قد استغنى عن النسب حين ثبت نسبه من المشتري ولأنه قد يثبت فيه ما لا يحتمل الإبطال وهو حقيقة النسب فيبطل به حق الاستلحاق الذي كان ثابتا للبائع ضرورة فإن ادعياه معا ثبت النسب من البائع عندنا .
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: يثبت النسب من المشتري لأن للمشتري حقيقة الملك فيها وفي ولدها وللبائع حق والحق لا يعارض الحقيقة كما لو جاءت جارية رجل بولد فادعاه هو وأبوه معا ثبت النسب من المولى لأن له حقيقة الملك فيها وللأب حق فيسقط اعتبار الحق في مقابلة الحقيقة ولنا أن دعوة البائع دعوة استيلاء لأن أصل العلوق في ملكه(17/185)
ص -92- ... ودعوة المشتري دعوة تجويز فإن أصل العلوق لم يكن في ملكه ولا يعارض دعوة التجويز دعوة الاستيلاد كما لا يعارض نفس الإعتاق دعوة الاستيلاد بمعنى أن دعوة الاستيلاد لا تقتصر على الحال بل تستند إلى وقت العلوق ودعوة التحرير تقتصر على الحال فدعوة البائع سابقة معنى فكأنها سبقت صورة بخلاف دعوة المولى مع أبيه فإن شرط صحة دعوة الأب بملك الجارية من وقت العلوق إذ ليس له في مال ولده ملك ولا حق الملك فاقتران دعوة المولى بدعوة الأب يمنع تحصيل هذا الشرط فلهذا أثبتنا النسب من المولى دون أبيه ولو أن المشتري أعتق الأم أو استولدها أو دبرها ثم ادعى البائع الولد ثبت نسبه منه لأن الولد يحتاج إلى النسب بعد عتق الأم وهو مقصود بالدعوة.
وحق الاستيلاد في الأم يثبت تبعا فلا يمتنع ثبوت الأصل بامتناع ثبوت البيع إذ ليس من ضرورة ثبوت نسب الولد ثبوت أمية الولد للأم كما في ولد المغرور يثبت نسب الولد ولا تصير الأم أم ولد للمغرور ثم يرد البائع حصة الولد من الثمن دون الأم لأنه تعذر فسخ البيع في الأم لما جرى فيها من عتق المشتري فإنه لا يجوز أن يرد أمه توطأ بالملك بعد ما نفذ العتق فيها ولم يتعذر الفسخ في الولد وقد صار الولد مقصودا بهذا الاسترداد فتصير له حصة من الثمن فلهذا يسترد المشتري حصة الولد من الثمن.(17/186)
ولو ماتت الأم ثم ادعى البائع نسب الولد صحت دعوته لما بينا ويرد البائع جميع الثمن في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يمسك حصة الأم من الثمن لأنه تعذر فسخ البيع فيها بالموت كما في الفصل الأول وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على المسألة الخلافية المعروفة بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله في مالية أم الولد فعند أبي حنيفة رحمه الله لا قيمة لرقها حتى لا يضمن بالغصب فكذلك لا يكون لها حصة من الثمن وقدزعم البائع أنها أم ولد وزعمه حجة عليه وعلى قولهما لرقها قيمة حتى يضمن بالغصب فيمسك حصتها من الثمن ثم الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين هذا والأول أن هناك القاضي كذب البائع فيما زعم حين جعلها معتقة من جهة المشتري أو مدبرة أو أم ولد فلم يبق لزعمه غيره فأما هنا بموتها لم يجز الحكم بخلاف ما زعم البائع فبقي زعمه معتبرا في حقه فلهذا رد جميع الثمن.
ولو كان المشتري باع الأم أو وهبها أو رهنها أو أجرها أو كاتبها أبطلت جميع ذلك ورددتها على البائع لأن هذا التصرفات محتملة للنقض كالبيع الأول فكما يجوز نقض البيع الأول بدعوة الاستيلاء من البائع فكذلك يجوز نقض هذه التصرفات ولو كان المشتري أعتق الولد أو دبره ثم ادعى البائع نسبه لم يصدق في ذلك إذا أكذبه المشتري لأن الولد مقصود بالدعوة وقد ثبت المشتري فيه ما لا يحتمل النقض وهو الولاء فيبطل به حق الاستلحاق الذي كان للبائع لأن الولاء كالنسب وقد بينا أنه لو ثبت النسب من المشتري لم يكن للبائع حق الدعوة بعد ذلك فكذلك إذا ثبت الولاء له وكذلك لو قبل الولد عنده وأخذ قيمته ثم(17/187)
ص -93- ... ادعاه البائع لم تصح دعوته كما لو مات الولد وهذا لأنه بالموت أو القتل قد استغنى عن النسب وصحة دعوة البائع لحاجة الولد إلى النسب ثم لا يرد الأم على البائع لأن حقها تبع لحق الولد في النسب ولم يثبت ما هو الأصل فلا يثبت ما هو بيع لأنه لو ثبت كان مقصودا لا تبعا ولو قطعت يد الولد فأخذ المشتري نصف قيمته ثم ادعاه البائع صحت دعوته لأن الولد إلا قطع محتاج إلى النسب محل لانتقاص البيع فيه ولكن الأرش يبقى سالما للمشتري لأن إبانة اليد كانت على حكم ملكه ودعوة البائع إنما تعمل في القائم دون اليد المبانة.(17/188)
وليس من ضرورة ثبوت نسب الولد بطلان حق المشتري عن الأرش لأنه ينفصل عنه في الجملة لأن الأرش مال ليس من النسب في شيء فيرد الجارية مع ولدها على البائع بجميع الثمن إلا حصة اليد فقد احتبس بدلها عند المشتري فلا يسلم له مجانا ولكن حصته من الثمنتسلم للبائع كما ذكرنا فيما إذا احتبست الأم عنده وكذلك لو كان القطع في الأم لأن المعنى الذي أشرنا إليه يجمع الكل ولو فقأ رجل عيني الولد فدفعه المشتري إلى الجاني وأخذ قيمته ثم ادعى البائع نسبه صحت دعوته لأن المفقوءة عيناه يحتاج إلى النسب ودفعه بالجناية محتمل للنقض فلا يمنع صحة دعوة البائع فيرد الأم والولد على البائع ويرد جميع الثمن على المشتري عند أبي حنيفة رحمه الله لأن من أصله أن الجاني يرجع على المشتري بجميع القيمة فإن الجثة العمياء إذا لم تسلم للجاني لا يلزمه شيء عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لو أعاد المولى إمساك الجثة والرجوع بنقصان القيمة لم يكن له ذلك عنده فإذا لم يسلم للمشتري شيء من بدل العينين رد البائع جميع الثمن وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المشتري يرجع على الجاني بنقصان العينين لأن في الابتداء لو أراد إمساك الجثة والرجوع بنقصان العينين كان له ذلك فكذلك في الانتهاء وإذا كان للمشتري نقصان العينين رد البائع عليه جميع الثمن إلا حصة النقصان وكذلك لو فقئت عينا الأم فهو على ما بينا .(17/189)
قال :ولو ادعى البائع نسب الولد وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر وكذبه المشتري ثم قتل الولد بعد ذلك أو قطعت يده فعلى الجاني من ذلك ما عليه بالجناية على الأحرار لأن بمجرد الدعوى ثبت النسب وصار الولد حرا فإنه لا عبرة لتكذيب المشتري فإنما حصلت الجناية بعد ذلك على حر وإن كانت الجناية على الأم كان عليه ما في جناية أم الولد لأن حق أمية الولد قد ثبت له بثبوت نسب الولد وحاصل هذا أنه لا حاجة إلى قضاء القاضي في إبطال هذا البيع وعودهما إلى البائع لأنه قد ثبت فيها وفي ولدها بنفس الدعوة ما هو مناف للبيع وإن جني الولد كانت جنايته كجناية الحر وجناية أمه كجناية أم الولد لثبوت ذلك فيها بنفس الدعوة وإن كانت الجناية منهما قبل الدعوة فهو على البائع دون المشتري لأن البائع بالدعوة قد صار مبطلا ملك المشتري فيهما بغير صنع من المشتري فليس على(17/190)
ص -94- ... المشتري من موجب جنايتهما شيء ولكن البائع مختار إن كان عالما بالجناية لأنه بالدعوة أثبت الحرية للولد وحق الحرية للأم فيكون كالمنشى ء لذلك بعد الجناية فلهذا صار مختارا.
ولو كانت الجارية لم تلد بعد فادعى البائع أن حبلها منه وقال المشتري ليس بها حبل وأراها النساء فقلنا هي حبلى أو قال المشتري بها حبل ولكنه ليس منك فالبائع لا يصدق في الدعوة حتى تضع لأنه لا طريق لمعرفة الحبل حقيقة فإنه مما استأثر الله تعالى بعلمه لقوله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] ولأن شرط صحة دعوة البائع أن تلد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع حتى يعلم يقينا أن العلوق كان في ملكه ولا يدري أنها هل تضع لأقل من ستة أشهر أم لا فلعلها تسقط سقطا غير مستبين الخلق أو يضع الولد أكثر من ستة أشهر فلهذا لا تصح دعوة البائع فإن جاء به لأقل من ستة أشهر الآن تصح تلك الدعوة كما لو أنشأها بعد الوضع لأن تيقنا أن العلوق حصل في ملكه فلو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر فأدعاه البائع وقال أصل الحبل كان عندي وقال المشتري لم يكن عندك إنما كان العلوق قبل شرائك فالقول قول البائع لأنهما تصادقا على اتصال العلوق بملك البائع فكان الظاهر شاهدا للبائع ولأن المشتري يدعي تاريخا سابقا في العلوق على ملك البائع فلا يصدق على ذلك فإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة البائع لأنه يثبت تاريخا سابقا في ملكه على العلوق وملكه حقه فبينته على سبق التاريخ فيه مقبولة ولا شك في هذا عند أبي يوسف رحمه الله.(17/191)
واختلف المشايخ على قول محمد رحمه الله :منهم من يقول قوله هكذا ومنهم من يقول البينة بينة المشتري عنده لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة وأصل هذا فيما إذا قال المشتري اشتريتها منك منذ سنة وقال البائع إنما بعتها منك منذ شهر فالقول قول البائع لأن المشتري يدعي زيادة تاريخ في شرائه فلا يصدق على ذلك إلا بحجة فإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة البائع عند أبي يوسف رحمه الله لأنه يثبت بينته حصول العلوق في ملكه وثبوت حق استلحاق النسب له وعند محمد رحمه الله البينة بينة المشتري لأنه هو المحتاج إلى إثبات التاريخ في شرائه بالبينة فيثبت بينته أن شراءه كان منذ سنة وذلك مانع من صحة دعوة البائع فلهذا قبلت بينته.
قال: وإن كانت ولدت الجارية المبيعة بنتا لأقل من ستة أشهر ثم ولدت ابنتها ابنا فأعتق المشتري الابن ثم ادعى البائع الابنة فهي ابنته لأن العلوق بها كان في ملكه ودعوته فيها دعوة استيلاد ويثبت حرية الأصل فيها ومن ضرورته إبطال عتق المشتري على ابنها لأن العتق يطرأ على الرق ومن ضرورة كونها حرة الأصل أن ينفصل الولد منها حرا وكذلك إن كانت الابنة ولدت بينته
قال: ألا ترى أن رجلا لو ولدت جاريته عنده غلاما ثم ولد للغلام بن فباع المولى بن(17/192)
ص -95- ... الولد الذي ولد عنده فأعتقه المشتري ثم ادعى الولد الذي كان العلوق به في ملكه صحت دعوته ويبطل بيع الابن وعتق المشتري إياه لأنه تبين بصحة دعوته حرية الأصل للأب وذلك يوجب حرية الابن لأن الابن مولود من أمة كانت لمدعي الأب فتبين أنه كان ملك بن ابنه وعتق عليه قبل أن يبيعه وبطل به بيع المشتري وعتقه قال وهذا بمنزلة التوأم وفي بعض النسخ التوأمين وكلاهما صحيح عند أهل اللغة منهم من قال التوأم أفصح كما يقال هما زوج ومنهم من قال التوأمان أفصح كما يقال هما كفوان وأخوان وبيانه جارية ولدت ولدين في بطن واحد من علوق كان في ملك مولاها فباع المولى أحدهما وأعتقه المشتري ثم أن البائع ادعى نسب الذي عنده يثبت نسبهما منه لأنهما خلقا من ماء واحد فلا ينفصل أحدهما عن الآخر نسبا وقد كان العلوق بهما في ملكه فيثبت حرية الأصل للذي عند البائع ومن ضرورته ثبوت حرية الأصل للآخر وكان ذلك بمنزله إقامة البينة في إبطال عتق المشتري وشرائه في الآخر فكذلك فيما سبق .
وهذا بخلاف ما تقدم إذا أعتق المشتري الأم ثم ادعى البائع نسب الولد لم يبطل عتق المشتري في الأم لأنه ليس من ضرورية حرية الأصل للولد ثبوت أمية الولد للأم في ولد المغرور ولأن هناك لو أبطلنا عتق المشتري فيها رددناها من حالة الحرية إلى حالة الرق وذلك لا يجوز لأن العتق أسقط الرق والمسقط متلاشي لا يتصور عوده وهنا لو أبطلنا عتق المشتري رددناه إلى حال حرية الأصل وذلك مستقيم ولأن فيه إبطال الولاء الثابت للمشتري والولاء أثر من آثار الملك فلم يجز إسقاطه إلا عند قيام الحجة فلهذا أبطلنا عتق المشتري في هذه الفصول.(17/193)
ولو لم يبع بن الابن ولكنه باع الابن فأعتقه المشتري ثم ادعاه لم تجز دعوته لأن المقصود بالدعوة الابن وقد اتصل به من جهة المشتري ما لا يحتمل النقض وهو الولاء فيبطل به حق الاستلحاق الذي كان ثابتا للبائع فيه وعتق بن الابن الذي في يده لأنه أقر له بالحرية حين زعم أنه بن ابنه والإقرار بالنسب وإن لم يعمل في إثبات النسب لمانع كان عاملا في الحرية كما لو قال لعبده وهو معروف النسب من الغير هو إبني يعتق عليه وكذلك لو مات عند المشتري لأنه بالموت استغنى عن النسب وخرج البيع من أن يكون محتملا للنقض فيه فلم يعمل دعوة البائع في حقه وعتق بن الابن بإقراره كما بينا.
ولو كان مكان الابن ابنة فماتت عند المشتري ثم ادعى البائع نسبها لم تصح دعوته في حقها ولا في حق ابنتها وهذا والملاعنة سواء في قول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان ولد الملاعنة ابنتا فولدت ابنا ثم ماتت الأم ثم أكذب الملاعن نفسه لم يعمل إكذابه في إثبات نسبها مع بقاء بن يخلفها فكذلك هنا والمعنى فيهما سواء وهو أن ينسب الولد القائم إلى أبيه دون أمه فيجعل أمه كالميتة لا عن ولد وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله يفرقان بين هذه وولد الملاعنة فإن عندهما هناك ولدا لابنه كولد الابن في قيامه مقام ولد الملاعنة حتى(17/194)
ص -96- ... يصح إكذاب الملاعن نفسه ويثبت نسب ولد الملاعنة وإن كان ميتا لأن هناك أصل النسب كان ثابتا بالفراش فاستتر باللعان وبقي موقوفا على حقه حتى لو ادعاه غيره لم يصح فيجعل بقاء ولده كبقائه في صحة الإظهار بالدعوة وأما نسب ولد المبيعة ما كان ثابتا من البائع ولا موقوفا على حقه حتى لو ادعاه المشتري ثبت نسبه منه فلا تعمل دعوته في الإثبات ابتداء إلا في حال بقائه أو بقاء من ينسب إليه وولد الابن ينتسب إليه بالبنوة دون ولد الابنة فلهذا لا يثبت النسب بعد موت إلا بنت بالدعوة .
قال :وإذا حبلت الأمة فولدت في يد مولاها ثم باعها فزوجها المشتري من عبده فولدت له ولدا ثم مات العبد عنها فاستولدها المشتري ثم ادعى البائع الولد الذي عنده ثبت نسبه منه لأن العلوق به كان في ملكه فدعوته فيه دعوة استيلاد ويرد إليه بن العبد بحصته من الثمن لأنه ولد أم ولد في حقه وهو ثابت النسب من غيره وولد أم الولد بمنزلة أمه ولو لم يستولد المشتري الأم كانا جميعا مردودين عليه فاستيلاده الأم يثبت فيها ما لا يحتمل النقض وهو حق العتق للمشتري فنزل ذلك منزلة حقيقة العتق وذلك لا يمنع رد الولد إليه لأن أحدهما ينفصل عن صاحبه.
فإن قيل: هذا الولد في حكم أمية الولد تبع للأم ولا يثبت البائع حق أمية الولد في الأم فكيف يثبت في ولدها قلنا لا كذلك بل هما جميعا بائعان للولد الذي عنده لأن الأم بيع ولا بيع للتبع فتعذر رد أحدهما عليه لا يمنع رد الآخر بحصته من الثمن ويعتبر في الانقسام قيمتها وقت البيع وقيمة الولد الثاني وقت الانفصال لأنه كما حدث فحق أمية الولد فيه ثابت للبائع إلا أنه لما صار متقوما عند الانفصال فيعتبر في الانقسام قيمته في ذلك الوقت ويعتق بموت البائع من جميع ماله لأنه بن أم ولده فإن ادعى البائع بن العبد أنه ابنه عتق عليه ولم يثبت نسبه منه لأنه يملكه ولكنه معروف النسب من الغير فدعوته إياه كإعتاقه.(17/195)
قال :ولو باعها وهي حبلى فولدت عند المشتري بعد البيع بيوم ثم ولدت ولدا آخر بعد سنة من غير زوج فادعى البائع والمشتري الولدين معا فهما ابنا البائع أما الأكبر منهما فلأن العلوق به كان في ملك البائع يثبت نسبه منه ويبطل البيع فيه وفي أمه لأنه تبين أنها أم ولده من حين علقت والولد الثاني مردود عليه أيضا لأنه بن أم ولده فهو إنما يدعي ملك نفسه والمشتري يدعي ملك الغير فلهذا كان دعوة البائع أولى فيهما ولو بدأ المشتري فادعى الولد الآخر أنه ابنه ثبت نسبه منه لأن العلوق به حصل في ملكه وهو محتاج إلى النسب وصارت الجارية أم ولد له فإن ادعى البائع بعده الولد الأول ثبت نسبه منه بحصول العلوق به في ملكه ويرد إليه الولد خاصة بحصته من الثمن لأنه تعذر فسخ البيع في الأم لما ثبت للمشتري فيها من حق أمية الولد ولو لم يدع واحد منهما شيئا حتى لو ادعى البائع الولد الآخر لم يصدق لأن العلوق بالولد الآخر لم يكن في ملكه وهو للحال مملوك للمشتري(17/196)
ص -97- ... فلا دعوة له فيه مقصودة وكذلك لو مات الأول ثم ادعاهما البائع لأن دعوته في الذي مات لم تصح لاستغنائه عن النسب فلو صح كان الآخر مقصودا والعلوق به لم يحصل في ملكه .
قال :وإن ولدت الأمة المبيعة ولدين في بطن واحد كلاهما أو أحدهما لأقل من ستة أشهر فجنى على أحد الولدين جناية وأخذ المشتري الأرش ثم ادعاهما البائع فدعوته جائزة فيهما لأنا تيقنا بحصول العلوق بهما في ملكه فإنهما خلق من ماء واحد والتي ولدت لأقل من ستة أشهر يتيقن أن العلوق كا ن في ملكه فيتبين أيضا أن العلوق الثاني كا ن في ملكه وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر فلهذا ثبت نسبهما وبطل البيع فيهما وفي الأم ولكن الأرش يبقى سالما للمشتري لما بينا في الولد الواحد أن الدعوة في اليد المبانة لا تعمل فيبقى الأرش للمشتري كما كان قبل الدعوة وكذلك إن اكتسب أحدهما كسبا فقد كان قبل الدعوة الكسب ملكا للمشتري وليس من ضرورة صحة الدعوة بطلان ملكه في الكسب فيبقى سالما له ولو كان قتل أحدهما ثم ادعاه البائع كان قيمة الموصول لورثة المقتول لأن بثبوت حرية الأصل لأحدهما يثبت مثله للآخر فيكون بدله لورثته ضرورة.(17/197)
وهذا بخلاف الأرش والكسب لأن التوأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في النسب والحرية وأعمال ذلك في الأقطع ممكن فلا حاجة بنا إلى إعماله في إبطال ملك المشتري في الأرش والكسب فأما الواجب على القاتل بدل النفس ومن ضرورة إبطال البيع فيه عند بقاء ما يخلفه أنه لا يبقى للمشتري حقا في بدل نفسه فكان ذلك لورثة المقتول قال في بعض النسخ ويصدق البائع في بدل النفس وفي بعض النسخ قال لا يصدق في بدل النفس وليس هذا باختلاف الرواية ولكن حيث قال يصدق يعني في حق المشتري حتى يبطل حقه عن القيمة لأن من ضرورة ثبوت الحرية للمقتول في الأصل أن لا يملك بدل نفسه بملك الأصل وحيث قال لا يصدق يعني في حق الجاني حتى لا يجب عليه الدية بل يكون الواجب عليه القيمة كما كان لأنه ليس من ضرورة ثبوت الحرية فيه وجوب الدية على قاتله فكم من قتل غير موجب للدية وما كان ثبوته بطريق الضرورة تعتبر فيه الجملة دون الأحوال .
قال :ولو كان المشتري أعتق أحدهما ثم قتل وترك ميراثا وأخذ المشتري ديته وميراثه بالولاء ثم ادعى البائع الولدين ثبت نسبهما منه وأخذ الدية والميراث من المشتري لأن حرية الأصل قد ثبت للمقتول ضرورة ثبوتها في الآخر وذلك مناف لولاء المشتري فإنما أخذ ميراثه بالولاء فإذا ظهر المنافي للولاء وجب رده ولو أعادهما المشتري أولا فإنهما إبناه لأنهما مملوكان له محتاجان إلى النسب فإن ادعاهما البائع بعد ذلك لم يصدق لوقوع الاستغناء لهما عن النسب بثبوت نسبهما من المشتري
قال :أمة حبلت في ملك رجل فولدت غلاما وكبر فزوجه المولى أمة له فولدت غلاما ثم باع الأسفل وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الابن الأول فهو ابنه لأن العلوق به كان في ملكه وينتقض بيع المشتري وعتقة في بن الابن لأنه تبين أنه كان حرا قبل بيعه(17/198)
ص -98- ... فإنه إنما ولد من أمة المولى ومن ملك بن ابنه فعتق عليه وكان ذلك سابقا على بيعه فيبطل به البيع وعتق المشتري إياه ضرورة وهو بمنزلة التوأم كما قررنا ولو لم يدع البائع الذي عنده ولكن ادعى الذي باع أنه ابنه كانت دعوته باطلة لأنه وإن حصل العلوق في ملكه فقد نفذ فيه من جهة المشتري ما لا يحتمل الإبطال وهو العتق فلهذا لا تصح دعوته فيها.
قال :أمة ولدت ولدين في بطن واحد ولم يكن أصل الحبل عند هذا المولى فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعاهما البائع فهما ابناه لأنه لما بقي أحد الولدين عنده فدعوته فيه صادفت ملكه فيثبت نسبه منه ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر ولكن لا ينتقض عتق المشتري ولا البيع لأن أصل العلوق بهما لم يكن في ملك البائع فدعوته دعوة التحرير فينزل منزلة الإعتاق والتوأمان ينفصل أحدهما عن الآخر في الإعتاق فليس من ضرورة عتق أحدهما بدعوة البائع إبطال البيع وعتق المشتري في الآخر بخلاف ما إذا كان العلوق بهما في ملك البائع فإن دعوته هناك دعوة استيلاد يستند إلى وقت العلوق فيثبت به حرية الأصل للذي بقي عنده ومن ضرورته حرية الأصل للآخر فلهذا بطل البيع والعتق.
ألا ترى أن الجارية المشتركة بين اثنين إذا ولدت فادعاه أحدهما فإن كان أصل العلوق في ملكهما لم يضمن من قيمة الولد لشريكه شيئا وإن لم يكن أصل العلوق في ملكهما ضمن نصف قيمة الولد لشريكه إن كان موسرا لأن دعوته دعوة تحرير فيجعل بمنزلة إعتاقه الولد مقصودا .(17/199)
قال :أمة في يد رجل وفي يده ولد لها وفي يد رجل آخر ولد لها فادعى الذي في يده الولد أن الولدين جميعا إبناه ولد من هذه الأمة في بطن واحد أو في بطنين وأن الأمة أمته وأقام البينة على ذلك وادعى الذي في يديه مثل ذلك وأقام البينة على ذلك فإنه يقضي بالأمة والولدين جميعا للذي الأمة في يديه لأن كل واحد منهما يدعي حق العتق فيها بسبب أمية الولد فكان دعواه حقيقة العتق فيها والبينة بينة ذي اليد لأن كل واحدة من البينتين قامت لإثبات الولاء والولاء بمنزلة النسب فيترجح بينة ذي اليد فإذا قضينا بالأمة له أثبتنا نسب الولدين منه لأنهما ولد أم ولده قد ادعاهما وأجنبي ادعى نسب ولد أم ولد الغير وهذا لأن استحقاق الأصل بالبينة توجب استحقاق الزوائد المنفصلة.
قال :ولو كانت أمة في يد رجل وفي يديه ولد لها فجاء آخر يدعيها ولا يدعي ولدها وفي يده ولد لها آخر يدعيه وأقام البينة على دعواه وأقام الذي هو في يديه البينة أن الأمة أمته ولدت الابن الذي في يديه منه ولا يعرف أي الولدين أكبر وقد ولدتهما في بطنين قضيت بالأمة للذي في يديه لدعواه أمته الولد فيها وقضيت لكل واحد منهما بالابن الذي ادعاه وهو في يديه لأن كل واحد منهما يدعي نسب أحد الولدين وخصمه لا ينازعه في ذلك وكل واحد من الولدين محتاج إلى النسب وذلك كاف للقضاء بنسبه منه بمجرد(17/200)
ص -99- ... الدعوة فكيف إذا أثبته بالبينة بخلاف ما سبق فإن المنازعة بينهما هناك في نسب الولدين فرجحنا المقضي له بالجارية لأن استحقاقه الأصل شاهد له فيما يدعي من نسب الولد ولأنا قضينا له بالفراش حين قضينا بأمية الولد من جهته في الأم وثبوت النسب باعتبار الفراش فإذا ادعاه كان أولى به وإذا نفاه ثبت من الذي ادعاه لإقامة البينة عليه واحتمال أن يكون لما ادعاه سببا صحيحا .
قال :أمة في يد رجل له منها ولد فادعى آخر أن الذي الأمة في يديه زوجها منه وولدت على فراشه هذا الولد وأقام الذي في يديه البينة الأمة أن الأمة لهذا المدعي وأنه زوجها منه وولدت على فراشه هذا الولد فالأمة بمنزلة أم موقوفة في يدعي الذي هي في يديه لا يطأها واحد منهما لأن كل واحد منهما أقر بولادتها منه والملك فيها لأحدهما فيثبت أمية الولد فيها ثم كل واحد منهما ينفيها عن نفسه ويقول أنها في ملك صاحبي وقد ادعى نسب ولدها فصارت بمنزلة أم الولد له فبقيت موقوفة لا يطأها واحد منهما كمن اشترى عبدا ثم أن البائع أعتقه وجحد البائع ذلك كان موقوفا الولاء فأيها مات عتقت هي لأن الحي منهما قد أقر بعتقها بموت صاحبه وصاحبه كان مقرى بأن إقرار الحي فيهما كان نافذا فلهذا تعتق بموت أحدهما والولد للذي هو في يديه لأن دعواهما فيه دعوى النسب وبينة ذي اليد في دعوى النسب تترجح على جانب الخارج .
قال :أمة في يدي رجل وفي يده ولد لها فادعى آخر أنه تزوجها بعد إذن مولاه فولدت له على فراشه هذا الولد الذي في يد مولاها وأقام البينة على ذلك وأقام المولى البينة أنه ابنه ولد على فراشه من أمته هذه فإني أقضي بالولد للزوج وأثبت نسبه منه لأن ثبوت النسب باعتبار الفراش وفراش النكاح أقوى في إثبات النسب من فراش الملك.(17/201)
ألا ترى أن النسب الذي يثبت بالنكاح لا ينتفي بمجرد النفي والذي يثبت بملك اليمين ينتفى بمجرد النفي والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي فلهذا أثبتنا النسب من الزوج ولكنه يعتق بإقرار المولى لأنه قد أقر بحريته حين ادعى نسبه وكذلك الأمة بمنزلة أم الولد للمولى لأنه كما أقر للولد بالحرية فقد أقر لها بحق الحرية بسبب هو محتمل في نفسه فيثبت لها حق أمية الولد حتى إذ مات المولى عتقت وهذا لأنه إنما يمتنع العمل بإقراره في إبطال ما صار مستحقا لغيره وهو النسب فأما فيما وراء ذلك يجعل هو كالمقر بالحق لأنه ليس فيه إبطال حق لأحد.
قال حرة ولدت ولدين في بطن واحد فكبرا واكتسبا مالا ثم مات أحدهما عن ابنين ثم ادعى رجل أنه تزوج المرأة وأنهما ابناه منها وأقرت المرأة وحدها بذلك فإنها لاتصدق على غيرها لأن الولد الثاني كبير يعبر عن نفسه فلا يثبت نسبه من الغير بدعواه إلا عند تصديقه وكذلك الميت منهما ابناه قائمان مقامه فلا يثبت نسبه بدعواه إلا بتصديقهما ولم يوجد وإقرار المرأة ليس بحجة على أحد منهم ولكنه حجة عليها فيشركها في نصيبها من(17/202)
ص -100- ... ميراث ابنها لأنها زعمت أن الميت منهما خلف ابنين وأبوين فللابوين السدسان والباقي للابنين فقد أقرت بأن حق الأب وحقها في تركته سواء فيقسم ما في يدها بينهما نصفان وليس من ضرورة الشركة في الميراث في نصيب المقر ثبوت النسب فإن المال يستحق بأسباب وأصله في أحد الأخوين إذا أقر بأخ ثالث فإن أقر الابن الثاني بذلك ثبت نسبهما جميعا منه لأن نسب المقر قد ثبت بتصديقه ومن ضرورة ثبوت نسب الآخر فإنهما توأم وإن أقر بن الميت بذلك وهو محتمل ثبت نسبهما منه لأن بن الميت قائم مقام الميت وهو في حياته لو صدق ثبت نسبهما منه فكذلك إذا صدقه من يخلفه .
قال :أمة ولدت غلاما فأقر المولى أن هذا الولد من زوج حر أو عبد معروف فإن صدقه المقر له أو كان ميتا أو غائبا ثم ادعى المولى أنه ابنه عتق بدعواه لإقراره بحريته ولا يثبت نسبه منه لأنه ثابت من المقر له بحكم إقراره وعند التصديق غير مشكل وعند غيبته وهو موقوف على حقه فلا يملك أن يدعيه على نفسه وإن كان المقر له حاضرا فكذبه ثم ادعاه المقر بعد ذلك لنفسه قال أبو حنيفة رحمه الله لا يثبت نسبه منه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت نسبه منه لأن إقرار المقر قد بطل بتكذيب المقر له وبقي الولد محتاجا إلى النسب فإذا ادعاه المولى في حال حاجته وليس فيه إبطال حق غيره يثبت منه .(17/203)
ألا ترى أن المشتري للعبد إذا أقر بالولاء للبائع وكذبه البائع ثم ادعاه لنفسه ثبت الولاء منه والولاء بمنزلة النسب في أنه لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته ثم هناك بالتكذيب يبطل إقراره لغيره ويصير كأن لم يكن فكذلك هنا وأبو حنيفة رحمه الله يقول في كلامه الأول إقرار بشيئين أحدهما ثبوت النسب من الغير والآخر خروجه من دعوى هذا النسب أصلا وبتكذيب المقر له إنما يبطل ما هو من حقه فأما ما لا حق له فيه لا يبطل الإقرار فيه بتكذيب وخروج المقر من دعوى هذا النسب ليس بحق للمقر له فيبقى الحال فيه بعد التكذيب على ما كان قبله والدليل عليه أن بتكذيبه لا يبطل الإقرار لأن النسب مما لا يحتمل الإبطال أصلا بل بقي موقوفا على حقه حتى لو ادعاه ثبت منه فلا يملك المولى دعواه لنفسه في حال توفقه على حق الغير كولد الملاعنة إذا ادعى غير الملاعن نسبه لا يثبت منه لأنه يبقى موقوفا على حق الملاعن فيمنع ذلك صحة دعوة غيره وهذا بخلاف الولاء فإنه أثر من أثر الملك وأصل الملك محتمل النقل من شخص إلى شخص فكذلك أثره إلا أنه إنما لا يحتمل الإبطال بعد تقرر سببه وهو العتق من واحد لعدم تصور ذلك السبب من غيره حتى لو تصور بأن كانت أمة فارتدت ولحقت بدار الحرب وسبيت فملكها رجل وأعتقها كان ولاؤها له دون الأول وهنا السبب كان موقوفا لم يتقرر للبائع ويحتمل تقرره من قبل المشتري بدعواه لنفسه فلهذا يثبت الولاء له بخلاف النسب ولو لم يقر المولى بشيء منه من ذلك ولكن أجنبي قال هذا الولد بن المولى فأنكره المولى ثم اشتراه الأجنبي أو ورثه فادعى أنه ابنه عتق ولم يثبت نسبه منه في قول أبي حنيفة رحمه الله وهذا والأول سواء لأن(17/204)
ص -101- ... الإقرار بالنسب في حق المقر يعتبر فيما لا يتناول حق المقر مالكا كان أو أجنبيا وكذلك لو شهد شاهدين بنسب لغيره ثم ادعى لنفسه ثم لم يثبت نسبه في قول أبي حنيفة رحمه الله لما بينا أن بشهادته لغيره قد أخرج نسبه من ذلك النسب فلا يمكنه أن يدعيه لنفسه بعد ذلك .
قال: ولو شهدت امرأة على صبي أنه بن هذه المرأة ولم تقبل شهادتهما بالنسب ثم ادعت الشاهدة أن الصبي ابنها وأقامت على ذلك شاهدين لم يقبل ذلك منها لأنها بشهادتها قد أخرجت نفسها من دعوى نسب هذا الولد فإن الولد لا يثبت نسبه من المرأة إلا بانفصاله عنها وبعد ما زعمت أنه انفصل من المشهود لها لا يمكنها أن تدعي انفصاله منها والبينة على النسب بدون الدعوى لا تكون مقبولة ولوكبر الصبي فادعى أنه ابنها وأقام على ذلك شاهدين قضي القاضي بنسبه منها لأن الابن يدعي ما هو من حقه فإن نسبه وإن كان ثابتا إلى أبيه فإذا كان ثابت النسب من أمه يكون كريم الطرفين ولم يسبق منه ما يناقض ويمنعه من هذه الدعوى فوجب قبول بينته .
ألا ترى أن الأم لو كانت جاحدة أصلا قبلت بينة الابن عليها فكذلك إذا كانت مناقضة في قولها وكذلك لو ادعى رجل صبيا في يد امرأة أنه ابنه وهي تنكر فشهد له شاهد فلم يقبل القاضي شهادته ثم أن الشاهد ادعى الصبي أنه ابنه وأن المرأة امرأته وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته لأن بشهادته صار مخرجا نفسه من هذه الدعوى ولو ادعته المرأة عليه وأقامت البينة قبلت بينتها لأنها تدعي ما هو من حقها فإن في ثبوت نسب ولدها من رجل دفع تهمة الزنى عنها حتى تكون محصنة ولم يسبق منها ما يمنعها من هذه الدعوى فوجب قبول بينتها عليه.(17/205)
قال: ولو ادعى رجلان صبيا في يد امرأة كل واحد منهما يقول هو ابني منها بنكاح وهي تنكر ثم ادعت المرأة على آخر أنه تزوجها وهذا الصبي لها منه وشهد لها بذلك الرجلان المدعيان للصبي لم أقبل شهادتهما لأنهما بالدعوى الأولى صارا مناقضين في هذه الشهادة وتأثير التناقض في الشهادة أكثر منه في الدعوى فإذا كان هذا النوع من التناقض يمنعه الدعوى فلان يمنعه من الشهادة كان أولى وكذلك صبي في يد امرأة شهد رجل أنه بن فلان ورد القاضي شهادته ثم شهد هو وآخر أنه بن رجل آخر لم تقبل هذه الشهادة لكونه أحد الشاهدين متناقضا فيها.
قال: وإذا أقر الرجل أن أمته حبلى من رجل قد مات ثم ادعى أنه منه فولدت لأقل من ستة أشهر عتق لإقراره بحريته ولم يثبت نسبه منه لأنا تيقنا بوجوده في بطن الأم حين أقر بنسبه لغيره وثبوت النسب من وقت العلوق والإقرار به حال كونه موجودا في البطن والإقرار به بعد الانفصال سواء فلا تسمع منه الدعوى لنفسه بعد الإقرار الأول وهذه هي الحيلة أن يشتري جارية حاملا إذا أراد أن يتحرز عن دعوى البائع بأمره بأن يقر أن الحبل بها من فلان الميت ثم يشتريها المشتري فإذا ادعاه البائع بعد ذلك لنفسه لا يسمع دعواه ولا يبطل ملك(17/206)
ص -102- ... المشتري فيها ولا في ولدها ولو أقر أن الحبل بها من زوج ثم مكث سنة ثم قال هي حامل مني فولدت لأقل من ستة أشهر من الإقرار الآخر فهو بن المولى ثابت النسب منه لأنه لم يسبق منه ما يخرجه من دعوى نسبه الآخر فإنه لم يكن موجودا في البطن عند كلامه الأول إنما هو من علوق حادث.
فإن قيل: هو مالك لأم الولد وقد أقر أنها منكوحةالغير وفراش النكاح للغير عليها يمنع المولى من دعوى نسبها قلنا ذلك الإقرار ليس بموجب لنكاح الغير عند العلوق بالثاني لأن بقاء ما عرف ثبوته لعدم الدليل المزيل لا لوجود الدليل المنفي ودعواه نسب الولد الثاني تنصيص منه على كونها فراشا له حين علقت بالثاني فهذا دليل موجب لفراشه فلا يعارضه ما كان ثابتا لعدم الدليل المزيل حتى يكون دافعا له.
قال: رجل قال لأمته الحامل إن كان حملها غلاما فهو مني وإن كان جارية فهو من زوج زوجتها إياه أو قال إن كانت جارية فليست مني فولدت غلاما وجارية لأقل من ستة أشهر فهما ولداه لأن كلامه يشتمل على شيئين أحدهما معتبر والآخر لغو فالمعتبر دعواه نسب ما في بطنها واللغو التقسيم فيما بين الغلام والجارية نفيا وإثباتا فإن هذا رجم بالغيب ولا طريق له إلى معرفته فاعتبر من كلامه ما أمكن اعتباره وقد تيقنا بوجودهما في البطن حين ادعى نسب أحدهما وهما توأم فدعواه نسب أحدهما كدعواه نسبهما فلهذا قضى بأنهما ولداه ولو أقر أنه زوج أمته رجلا غائبا وهو حي لم يمت ثم جاءت بولد بعد قوله لستة أشهر فادعاه المولى لم يصدق لأن إقراره بالنكاح بزوج معروف إقرار صحيح فيثبت به نكاح الغائب في حقه فدعواه بعد ذلك في إبطال حق ذلك الغائب غير مسموع بخلاف ما تقدم من إقراره أنه من زوج لأن ذلك إقرار بالنكاح للمجهول والإقرار للمجهول باطل وليس في دعواه نسب ولد علق بعد ذلك في إبطال حق ثابت لغيره فلهذا أثبتنا النسب منه.(17/207)
قال: ولو أقر أنه ولد مكاتبه من زوج ثم ادعى هو نسبته لم يصدق عليه لأن بالكلام الأول أخرج نفسه من دعوى نسب هذا الولد ولكن يعتق عليه لأن ولد المكاتبة مكاتب مع أمه فكان مملوكا للمولى كالأمة حتى يملك إعتاقه فكذلك يملك إقراره فيه بما يوجب الحرية ولا يضمن للمكاتبة شيئا لأنه حصل بعض مقصودها فإنها إنما تسعى لتحصيل الحرية لنفسها ولأولادها وكذلك ولد المدبرة وأم الولد فيما ذكرنا وكذلك أمة بين رجلين ولدت فأقر كل واحد منهما أنه بن الآخر ثم ادعاه أحدهما بعد ذلك لم يصدق على النسب لأنه أقر بأنه بن لشريكه وذلك يخرجه من دعوى نسبه فلا تصح دعواه لنفسه بعد ذلك وقد عتق الولد بقول الأول منهما لاتفاقهما على حريته سواء كان ابنها لهذا أو لذاك وصارت الأم بمنزله أم الولد موقوفة لتصادقهما على ثبوت حق أمية الولد لها ونفي كل واحد منهما ذلك عن نفسه فأيهما مات عتقت لأن الحي منهما يزعم أنها أم ولد للميت وقد عتقت بموته والميت كان مقرى بنفوذ إقرار الحي فيها لأنها أم ولده فلهذا عتقت بموت أحدهما.(17/208)
ص -103- ... قال رجل علقت جاريته في ملكه فولدت فادعى الولد أبوه ثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له وعليه للمولى قيمة الولد للجارية لأن الشرع أضاف مال الولد إلى الأب بقوله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك" وأثبت له حق تملك المال على ولده عند الحاجة ولهذا كان له أن ينفق من ماله بالمعروف وحاجته إلى النفقة لإبقاء نفسه إلى الاستيلاد لإبقاء نسله فإن بقاءه معني ببقاء نسله إلا أن الحاجة إلى إبقاء النفس أصلي فيثبت له ولاية صرف مال الولد إلى حاجته من غير عوض وحاجته إلى إبقاء نسله ليس من أصول الحوائج فلا يبطل حق الولد عن مالية الجارية فكان له أن يتملكها بضمان القيمة نظرا من الجانبين وروي عن بشر رحمه الله أنه قال آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله أن الجارية لا تصير أم ولد للأب ولكن الولد حر بالقيمة بمنزلة ولد المغرور فيغرم الأب عقرها وقيمة ولدها لأن حق ملك الأب في مال ولده لا يكون أقوى من حق ملك المولى في كسب مكاتبه فإنه يملك رقبة المكاتب ولا يملك رقبة ولده ثم لو ادعى ولد جارية مكاتبة لا تصير الجارية أم ولد له ولكن إن صدقه المكاتب فالولد حر بالقيمة فكذلك هنا إلا أن هناك يحتاج إلى تصديق المكاتب لأن المولى حجر على نفسه عن التصرف في كسب مكاتبه ودعوة النسب تصرف منه فلا ينفذ إلا بتصديقه.
ووجه ظاهر الرواية أن للمولى في كسب المكاتب حق الملك وذلك كاف لثبات النسب فلا حاجة به إلى تملك الجارية وإذا لم يتملكها لا تصير أم ولد له وليس للوالد في مال ولده حق الملك بدليل أنه يباح للابن أن يطأ جارية نفسه فلا يمكن إثبات النسب فيه إلا بتقديم بملك الجارية فيه على الاستيلاد صيانة لمائه من الضياع وإذا صار متملكا لها فإنما استولد ملك نفسه فتصير أم ولد له فلهذا لا يلزمه قيمة الولد لأنه علق حر الأصل ولا عقر عليه عندنا.(17/209)
وقال زفر والشافعي رحمهما الله عليه العقر لأن وطأه حصل في ملك الغير فلا يخلو عن إيجاب حد وعقر وقد سقط الحد لشبهة فيجب العقر كما لو وطئها فلم تحبل وهذا لأن ملكه إياها أن يقدم على العلوق ولكن لا يضيع ماؤه فيبقى أصل الوطء حاصلا في ملك الغير .
ألا ترى أنه يسقط به إحصان الأب ولنا أن ملكه إياها مقدم على فعل الاستيلاد وأصل الوطء إذا اتصل به العلوق يكون استيلادا كالجرح إذا اتصل به زهوق الروح يكون قتلا من الأصل فإذا تقدم ملكه إياها على فعل الاستيلاد كان واطئا ملك نفسه فلا يلزمه العقر غير أن تقديم هذا الملك ضرورة تصحيح الاستيلاد فلا يعد وموضع الضرورة ففي حكم الإحصان لا يظهر هذا الملك لانعدام الضرورة فيه ولأن المستوفي في حكم جزء من عينها وقد غرم بفعله جميع بدل نفسها ويسقط اعتبار بدل الجزء كمن قطع يد إنسان خطأ ثم قتله خطأ قبل البرء أما إذا اشتراها الابن حاملا فولدت بعد الشراء بيوم فادعاه أبوه لم يثبت النسب منه إذا أكذبه الابن لأن ثبوت النسب من الأب بشرط تملكها على الابن من وقت(17/210)
ص -104- ... العلوق وقد تعذر إيجاد هذا الشرط هنا لأنها عند العلوق ما كانت في ملك الابن ولا كان للأب فيها ولاية النقل إلى نفسه لحاجة ولأن دعوته هنا دعوة التحرير فيقتصر على الحال ولا كان للأب فيها ولاية ويكون بمنزلة الإعتاق وليس للأب ولاية الإعتاق في مال ولده بخلاف الأولى فإن دعوته دعوة الاستيلاد.
وإلى هذا أشار فقال: لو جعلته ابنه لم أضمنه قيمة الأم لتعذر تملكه عليه إياها من وقت العلوق وكل ولد لا يضمن الأب فيه قيمة الأم فهو غير مصدق عليه إلا أن يصدقه الابن فحينئذ يثبت النسب منه بمنزلة أجنبي آخر إذا ادعاه فصدقه المولى وهذا لأن الحق لهما فما تصادقا عليه محتمل فيجعل كأنه حق وكذلك إن باعها الابن قبل أن تلد ثم ولدت فادعاه أب البائع لم تصح دعوته لتعذر إيجاد شرطه وهو يملك الأم عليه حين لم يكن في ملك الولد وقت الدعوة وكذلك إن باعها بعد العلوق ثم اشتراها فولدت لأن شرط صحة دعوته تملكها عليه مستند إلى وقت العلوق وقد تعذر ذلك لما تخلل من زوال ملك الابن وكذلك المدبرة بحبل في ملك مولاها وتلد فادعا الولد الأول أبوه لم يثبت نسبه منه لأن ما هو الشرط وهو النقل إلى ملك الأب بضمان القيمة متعذر في المدبرة وكذلك أم الولد إذا ولدت ولدا فنفاه المولى فادعاه أبوه.(17/211)
وروى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في المدبرة أن دعوة الأب صحيحة يثبت نسب الولد منه يضمن عقرها وقيمة الولد مدبرا وهذا على الأصل الذي ذكرنا لأبي يوسف رحمه الله أنه لا يتملك الجارية ولكنه بمنزلة المغرور في دعوى النسب وفي هذا القنة والمدبرة سواء إلا أنه يضمن قيمته مدبرا لأنه كما انفصل عن أمه انفصل مدبرا فإنما يضمن قيمته على الوجه الذي أتلفه بدعوته وفرق على هذه الرواية بين ولد المدبرة وولد أم الولد فقال ولد أم الولد ثابت النسب من مولاها لماله عليها من الفراش فيمنع ذلك صحة دعوة الأب وإن نفاه المولى كما في ولد الملاعنة فأما ولد المدبرة غير ثابت النسب من مولاها فتصح دعوة أبيه فيه وكذلك ولد المكاتبة يدعيه أب مولاها فإنه غير مصدق على ذلك لتعذر شرط صحة الدعوة وهو يملكها عليه بضمان القيمة فإن ولدته وهي مكاتبة أو كاتبها بعد ما ولدت أو كاتب الولد لم تصح دعوة الأب في الفصول كلها لأن الولد هو المقصود وقد تقرر فيه من جهة الابن ما يمنع نقله إلى الأب فلهذا لم تصح دعوته وإن كاتب الأم بعد الولادة ثم ادعى الأب نسب الولد قال في هذا الموضع لا تصح دعوته وقال بعد هذا تصح دعوته ويثبت نسب الولد منه ولا يصدق في حق الأم وما ذكر هنا قول محمد رحمه الله وما ذكر بعد هذا قول أبي يوسف رحمه الله نص على الخلاف في الجامع في البيع إذا باع الأم بعد الولادة ثم ادعى أبوه نسب الولد يثبت نسبه في قول أبي يوسف ولم يثبت في قول محمد فكذلك إذا كاتبها.
وجه قول محمد رحمه الله أن شرط صحة الدعوة يملكها عليه بضمان القيمة وقد تعذر(17/212)
ص -105- ... ذلك حين كاتبها أو باعها فلم تصح دعوته كولد المدبرة وأم الولد وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الولد هو المقصود بالدعوة وقد ثبت الأب حق استلحاق نسبه بالدعوة قبل كتابة الأم فلا يتعين بذلك كتابة الأم بخلاف ولد المدبرة وأم الولد فإن المانع هناك في الولد موازاته ما نحن فيه أن لو كاتبها جميعا قال وإن ادعى ولد جارية ابنه والابن حر مسلم والأب عبد أو مكاتب أو كافر لم تصح دعوته لأن شرط ثبوت النسب ولاية النقل فيها إلى نفسه بضمان القيمة والرقيق والكافر لا ولاية له على ولده فلم تصح دعوته لتعذر اتحاد شرطه فلو كان الأب مسلما والابن كافرا صحت دعوته.
وطعن عيسى رحمه الله في هذا الحرف فقال كما ليس للكافر ولاية على ولده المسلم فليس للمسلم ولاية على ولده الكافر حتى لا يرث أحدهما صاحبه ولا يثبت له ولاية التزويج والتصرف في ماله في صغره فلا يتملكه بالاستيلاد والصحيح ما ذكر في بعض ظاهر الرواية والفرق من وجهين أحدهما أن التملك بالاستيلاد إبقاء أثر الولاية التي كانت ثابتة في حال الصغر فإذا كان الأب مسلما فلا يكون الابن مقرى على كفره إلا بعد أن يكون إسلام الأب طارئا وقد كانت ولايته قبل إسلامه فيبقى أثره حق الملك بالاستيلاد فأما الابن إذا كان مسلما فهو مسلم أصلي بإسلام أمه ولم يكن للكافر عليه ولاية قط فلا يبقى أثر ولابنه في الاستيلاد ولأن التملك بالاستيلاد لكرامة الأب فيثبت للمسلم على الكافر الولاية التي يرجع إلى كرامة المسلم كولاية الشهادة ولا يثبت للكافر على المسلم مثل هذه الولاية فلهذا افترقا ولو كانا جميعا من أهل الذمة ومللهما مختلفة جازت دعوة الأب فيه لأن لبعضهم على البعض ولاية مع اختلاف الملل .(17/213)
قال ولا تجوز دعوة الجد إذا كان الأب حيا لأنه ليس له ولاية على النافلة ولا في ماله في حياة الأب فكان هو كسائر الأجانب فإن كان الأب ميتا، فالجد في الولاية قائم مقام الأب بعد وفاته، لصحة دعوة النسب منه. وإن كان الجد من قبل الأم لم تجز دعوته في الوجهين جميعا،لأنه لا ولاية له على ولد ابنته ولا في ماله، فلا يمكن إيجاد شرط الدعوة، وهو تملك الجارية عليه بالاستيلاد.وإن كان قد وطئ جاريته ثم ولدت فلم تدعه وادعاه أبوه، جازت دعوته لأن موطوءة الابن محتملة للنقل إلى الأب بالعوض،وإن كانت لا تحل له فيتحقق فيها ما هو شرط الدعوة.
قال: وإذا ادعى الأب نسب ولد جارية الابن،فضمن قيمتها للابن،ثم استحقها رجل بالبينة،فإنه يأخذها وعقرها وقيمة ولدها،لأن الأب هنا بمنزلة المغرور، لأنها مملوكة الابن ظاهرا، وللأب حق الاستيلاد في ملك الابن.فإذا ظهر الاستحقاق تبين أنه كان مغرورا فيغرم عقرها وقيمة ولدها،ويرجع على الابن بما أدى إليه من قيمتها.لأنه تبين أنه لم يتملكها على أبيه، وأنه استوفى القيمة منه بغير حق، وكذلك لو وطء أمة مكاتبة فولدت وادعاه المولى، وصدقه المكاتب،ثم استحقها رجل قضي للمستحق عليه بالعقر وقيمة الولد. لأنه بمنزلة(17/214)
ص -106- ... المغرور فإن له في كسب المكاتب حق ملك يكفي لصحة استيلاده، وبالاستحقاق تبين أنه كان مغرورا، فيغرم للمستحق عقرها وقيمة ولدها، ويرجع على المكاتب بما غرم له من العقر وقيمة الولد، لأنه ما أتلف على المكاتب شيئا، فلا يسلم للمكاتب شيء من قيمته، والله أعلم.
باب الحميل والمملوك والكافر
قال رضي الله عنه: الأصل أن إقرار الرجل يصح بأربعة نفر بالأب والإبن والمرأة ومولى العتاقة وإقرار المرأة يصح من ثلاثة نفر بالأب والزوج ومولى العتاقة ولا يصح إقرارها بالولد لأن إقرار المرء على نفسه مقبول. قال الله تعالى:{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14]وعلى الغير مردود للتهمة، فالرجل بالإقرار مقر بالولد على نفسه،لأن الولد ينسب إليه والمرأة تقر على الغير، وهو صاحب الفراش لأن الولد ينسب إليه لا إليها، فلم يصح إقرارها بالولد لهذا, وفي الثلاثة هي مقرة على نفسها كالرجل، فيصح الإقرار والإقرار بما سوى هذه الأربعة من القرابات كالأحوال والأعمام لا يصح، لأنه يحمل نسبه على غيره، فإن ثبوت النسب بينهما لا يكون إلا بواسطة، وفي تلك الواسطة إقرار على الغير، فلم يكن صحيحا. والأصل فيه حديث عمر رضي الله عنه: لا يورث الحميل إلا ببينة.(17/215)
وأصل هذا ما روي عن الشعبي رحمه الله أن امرأة سبيت ومعها صبي فاعتقا وكبر الصبي واكتسب مالا ثم مات فقالوا للمرأة خذي ميراث ابنك فقالت ليس هو ابني ولكنه بن دهقان القرية وكنت ظئرا له فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب أن لا يورث الحميل إلا ببينة قال محمد رحمه الله الحميل عندنا كل نسب كان في أهل الحرب وليس هذا بشيء يختص بأهل الحرب فإن الحميل من يحمل النسب على الغير فعيل بمعنى فاعل أو من يحمل نسبه على الغير فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى مقتول إلا أنه إنما وضعه في أهل الحرب بناء على العادة لأنه لا يمكن إثبات أنسابهم بالبينة في دار الإسلام وقل ما يتعذر ذلك فيما بين المسلمين فلهذا وضعه في أهل الحرب فقال إذا سبي صبيان فاعتقا وكبرا فأقر كل واحد منهما أن الآخر أخوه لأبيه وأمه لم يصدقا في ذلك لأنهما يحملان النسب على الأب فالأخوة بينهما لا تثبت إلا بواسطة الأب والأم لأن الأخوة عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم.
وكذلك لو كان مع المسبي امرأة فأعتقت وادعت أنه ابنها وصدقها في ذلك لم يصدقا بخلاف ما إذا كان مع المسبي رجل فاعتق ثم ادعا أن الصبي ابنه يثبت نسبه منه لأنه يقر بالنسب على نفسه ولأن سبب ثبوت النسب من الرجل خفي لا يقف عليه غيره فمجرد قوله فيه مقبول وسبب ثبوت النسب من المرأة ولادة يطلع عليها غيرها فلا يقبل بمجرد قولها فإن كان الصبي ممن يعبر عن نفسه أو كان بالغا لم يثبت النسب إلا بتصديقه لأن الإقرار يتوقف على تصديق المقر له إذا كان التصديق متأتيا ولأنه من وجه يدعي عليه وجوب(17/216)
ص -107- ... الانتساب إليه قال صلى الله عليه وسلم: "من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" فلا يثبت المدعى عليه إلا بتصديقه وإنما يثبت عند التصديق إذا كان محتملا في نفسه وإن لم يكن الولد معروف النسب من غيره ثم إذا أقرت المرأة بولد وصدقها لم يثبت النسب ولكنهما يتوارثان إن لم يكن لهما وارث معروف لأن المقر يعامل في حق نفسه كان ما أقر به حق وإنما لا يصدق في حق الغير لتمكن التهمة فإذا كان هناك وارث معروف تتمكن بينهما تهمة المواضعة على إبطال حق الوارث المعروف وإذا لم يكن هناك وارث معروف لا تتمكن تهمة المواضعة بينهما لأن كل واحد منهما متمكن من إنشاء سبب يجعل ماله لصاحبه كالوصية في عقد الموالاة فلا تتمكن فيه التهمة وقد ينفصل حكم الميراث عن النسب.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لم يستحلف في النسب ويستحلف في المال المدعا به وهو الميراث فإن شهدت لها امرأة على ذلك وقد صدقها الولد ثبت نسبه منها لأن شهادة القابلة تظهر النسب وهو الولادة فإنه مما لا يطلع عليه الرجال ولكن يشترط تصديق الولد لأنه إذا كان مكذبا لهما لم يثبت النسب إلا بحجة تامة وشهادة المرأة الواحدة ليست بحجة تامة وإن لم يشهد لها امرأة وصدقها زوجها أنه منه ثبت النسب منهما أما من الزوج بإقراره فإنه يقر على نفسه وإذا ثبت منه ثبت منهما تبعا لأن الفراش له عليها وهو سبب لثبوت النسب منهما وإنما يحال النسب على هذا النسب الظاهر.(17/217)
قال وإذا اشترى العبد المأذون أمه فوطئها فولدت فادعى ولدها ثبت نسبه منه لأن كسب العبد مضاف إليه شرعا قال صلى الله عليه وسلم "من باع عبدا وله مال" وهذه الإضافة تؤثر في تصحيح الدعوة كما في دعوة الأب ولد جارية ابنه ولأن من العلماء من يقول كسب العبد مملوكا له لأنه يملك التصرف فيه وملك التصرف باعتبار ملك محله ولأن حق صاحبه فيه مقدم على حق المولى حتى يصرف إلى ديته ولا يسلم للمولى ما لم يفرغ من دينه فيصير هذا شبهة وأدنى الشبهة تكفي لتصحيح دعوة النسب وكذلك مولاه لو سبق بالدعوة ثبت النسب منه لأنه مالك لكسب العبد حقيقة إن لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فهو يملك استخلاصها لنفسه بقضاء القاضي فيصير بدعوة النسب كأنه استخلصها لنفسه .
قال ولو زوج المولى هذه الأمة من عبده صح النكاح كما لو زوجه أمة أخرى له وثبت النسب منه إذا ولدت وكذلك لو تزوجها بغير إذن المولى ثبت نسب الولد منه إذا أقر به لأنه بدون شبهة النكاح يثبت النسب عند إقراره فعند شبهة النكاح أولى وكذلك لو تزوجها المولى فولدت لأن النكاح لغو منه فيها فيثبت النسب عند إقراره بالولد كما لو لم يسبق النكاح وكذلك لو ادعى العبد ولد امرأة حرة بنكاح فاسد أو جائز لأن العبد من أهل أن يثبت النسب منه وإقراره بالنسب لا يمس حق المولى وفيما لا يتناول حق المولى إقرار العبد به كإقرار الحر كما في الإقرار بالقود والطلاق وفي كل شيء لا يصدق فيه الحر ما لم(17/218)
ص -108- ... يملك الولد فكذلك العبد لا يصدق فيه ما لم يملك بعد عتقه فإذا ملكه بعد العتق عتق وثبت نسبه منه لأن الإقرار بمال لايحتمل الإبطال يبقى موقوفا على ظهور حكمه بملك المحل وعند ذلك يصير كالمجدد للإقرار فيثبت حكمه في حقه.
وكذلك العبد المديون إذا ادعى ولد أمة اشتراها يثبت النسب منه لأنه كسبه وليس في إقراره إبطال حق الغرماء فإنه متمكن من بيعها وبيع ولدها بعد ثبوت النسب وكذلك لو ادعى أن مولاها أحلها له وكذبه المولى لأن لا معتبر بإحلال المولى فيما هو كسب العبد فعند تكذيب المولى تصير دعوى الإحلال كالمعدوم وبدونه يثبت النسب من العبد .(17/219)
قال :وإن ادعى ولدا من أمة لمولاه لم يكن من تجارته فادعى أن مولاه أحلها له أو زوجها إياه فإن كذبه المولى في ذلك لم يثبت النسب منه لأنه لا حق له في جارية المولى فهو في هذه الدعوة كأجنبي آخر إلا أنه إذا أعتق فملكه يثبت النسب منه بمنزلة حر يدعيه ثم يملكه يثبت النسب منه في دعوى النكاح قياسا واستحسانا وفي دعوى الاستحلال استحسانا وفي القياس دعوى الاستحلال ليس بشيء لأن هذا المحل غير قابل للإحلال والإحلال ليس بعقد بل هو بمنزلة الرضا فكأنه ادعى أنه زنا بها برضاء مولاها وبهذا لا يثبت النسب ولكنه استحسن فقال الإحلال من وجه كالنكاح فإن ملك النكاح يسمى ملك الحل ولا يثبت له بالنكاح ملك عينها ومنافعها إنما يحل له أن يطأها فكان الإحلال مورثا شبهة من هذا الوجه والنسب يثبت في موضع الشبهة فإن صدق المولى عبده في ذلك ثبت النسب منه إلا أن في دعوى النكاح يحتاج إلى التصديق في النكاح خاصة وفي دعوى الإحلال يحتاج إلى التصديق في شيئين في أنه أحلها له وأنها ولدت منه لأن الإحلال أضعف من المتعة والمتعة عقد والإحلال ليس بعقد فلضعفه قلنا لا يثبت النسب منه إلا بإقرار بهما وهذا لأن العقد ثبت في المحل فبعد ثبوته لا يحتاج إلى إقرار المولى بالولادة فأما الإجلال لا يثبت في المحل فلا يثبت النسب ما لم ينضم إليه الإقرار بأن الولد منه.
قال: ودعوة المكاتب ولد أمته جائزة لأن حقه في كسبه أقوى من حق العبد المأذون فإن للمكاتب حق الملك في كسبه وينقلب ذلك حقيقة الملك بعتقه وليس للعبد المأذون مثله فإذا صحت الدعوة من المأذون فدعوة المكاتب أولى ولا يحتاج المكاتب إلى تصديق المولى إياه بخلاف المولى إذا ادعاه فإنه لا يثبت النسب منه إلا بتصديق المكاتب.(17/220)
وإن كان لكل واحد منهما حق الملك لوجهين أحدهما أن المكاتب مستند بملك التصرف في كسبه والدعوى من باب التصرف وهو مما يحتاج إليه لصيانة مائه مستند به والثاني أن المولى حجر على نفسه عن التصرف في كسب المكاتب فلا تنفذ دعوته بسبب الحجر الذي ألزمه نفسه ما لم يصدقه المكاتب ولم يوجد مثل ذلك الحجر في جانب المكاتب فيثبت النسب منه بالدعوة وإن لم يصدقه المولى وكذلك لو ادعى ولدا من امرأة حرة بنكاح فاسد أو جائز وصدقته المرأة لأنه في دعوى النسب كالحر.(17/221)
ص -109- ... قال: ولو ادعى ولد أمة رجل بنكاح أو ملك وكذبه الرجل لم يصدق المكاتب كالحر إذا ادعاه فإن عتق فملكه يوما ثبت نسبه منه وكان كالمجدد لإقراره حين ملكه قال وإذا باع المكاتب أمة فولدت لأقل من ستة أشهر فادعى الولد صحت دعوته لأنه في حق استلحاق النسب كالحر وإذاحصل العلوق في ملكه كان له حق الدعوة ويرد إليه الولد مع أهله لأن استيلاده في كسبه يمنعه من بيع الأم والولد فإن الولد يدخل في كتابته تبعا له وثبوت حق الأم بثبوت حق الولد فيمنع بيعها فكان هو كالحر في هذا بخلاف العبد المأذون فإن هناك بثبوت النسب الولد منه لا يمتنع بيع الأم والولد عليه فكذلك لا يرد إليه الولد ولا أمه إذا ادعى نسبه.
قال: وإن وطى ء المكاتب أمة ابنه وهو حر أو مكاتب بعقد على حدة لم يثبت النسب منه إذا كذبه الابن لأن ثبوت دعوة الأب شرطه ولأنه نقل الجارية إلى نفسه بضمان القيمة وليس للمكاتب هذه الولاية فإن ملكه يوما ثبت نسبة لأن امتناع ثبوت النسب منه بدعوته لعدم ملك المحل وقد زال ذلك حين ملكه وإن كانت الجارية لابن له ولد في مكاتبته أو اشتراه فولدت فادعاه المكاتب جازت دعوته وصارت الأم أم ولد له ولم يضمن مهرا ولا قيمة لأن كسب المولود في كتابته ومن يكاتب عليه بشرائه بمنزلة كسبه ألا ترى أنه يتمكن من أخذ ذلك كله ليستعين به على أداء المكاتبة وكانت هذه الأمة في حقه بمنزلة أمته فلهذا ثبت النسب منه ولم يضمن عقرا ولا قيمة.(17/222)
قال: رجل إذا ادعا ولد جارية مكاتب له لم يصدق إلا بتصديق المكاتب لأنه بعقد الكتابة جعل نفسه في التصرف في كسبه بمنزلة الأجنبي والدعوة من باب التصرف فإن صدقه المكاتب ثبت النسب وكان حرا بالقيمة استحسانا وفي القياس هو عبد للمكاتب لأن المولى في هذه الدعوة كالأجنبي لأنه لو اشترى بن مولاه وهو معروف لم يمتنع عليه بيعه فكذلك إذا ادعى نسب ولد جاريته ولكنه استحسن فقال المولى بمنزلة المغرور لأن له في كسب مكاتبه حق الملك وحق الملك من وجه بمنزلة حقيقة الملك فكانت بمنزلة الثابت للمغرور في الجارية المستحقة ولا ولد هناك يكون حرا بالقيمة نظرا من الجانبين فهذا مثله.
قال: ولو ادعى الحر ولد مكاتبته وكذبته فهو ابنه لأن رقبة المكاتب مملوكة لمولاها فكذلك ولدها يكون مملوكا له ودعوته في ملك نفسه دعوة صحيحة بخلاف ولد أمه المكاتب فإن المولى غير مالك للأمة ولا لولدها ألا ترى أن عتقه هناك لا ينفذ فيها ولا في ولدها وهنا ينفذ عتقه فيها وفي ولدها ولأن الأمة مع ولدها موقوفة على أن يتم الملك فيهما للمكاتب بالعتق فلا ينفرد المولى بإبطال ذلك على المكاتب بالدعوة فأما ولد المكاتبة ليس بموقوف على أن يتم الملك فيه للمكاتبة وليس في تصحيح دعوته إبطال حق المكاتب بل فيه تحصيل بعض مقصود ها فلهذا ثبت النسب وعتق الولد ولا ضمان على المولى في ذلك.
قال: ولو ادعى ولد ومكاتبه لم تصح دعوته إلا بتصديق المكاتبة لأنها أبعد من المولى(17/223)
ص -110- ... من أمة المكاتب فإن سبب بعدها عن المولى عقد الكتابة وفي أمة المكاتب للعبد سبب واحد في مكاتبة المكاتب بعدها من المولى بسببين فإذالم تصح دعوته في أمة المكاتب إلا بالتصديق ففي مكاتبة المكاتب أولى غير أن التصديق يكون إلى المكاتبة دون المكاتب الأعلى لأن المكاتبة صارت أحق بنفسها وولدها والمكاتب حجر على نفسه عن التصرف فيها وفي ولدها فلهذا كان التصديق إليها دون المكاتب .
قال: وإن ادعى ولد أمة مكاتب مكاتبة وكذبه مولاها وصدقه المكاتب الأعلى لم يصدق لأن الحق في هذه الأمة وولدها للمكاتب الأسفل والمكاتب الأعلى منها كالأجنبي ألا ترى أنه لو كان هو المدعي للولد لم تصح دعوته إلا بتصديق الأسفل فكذلك إذا كان المدعي هو المولى لم تصح إلا بتصديق الأسفل فإن عجز الأسفل صارت الأمة للمكاتب الأعلى فيعمل تصديقه الآن لأن المولى مدع لولد أمته وقد صدقته في ذلك فيثبت النسب منه ويكون حرا بالقيمة وإن صدقه المكاتب الأسفل ثبت النسب ولا يأخذه المولى بالقيمة لأن معنى الغرور لا يتمكن هنا فإنه غير مالك لرقبة الأمة ولا لرقبة مولاها بخلاف أمة مكاتبه فإن هناك يملك رقبة مولاها والكسب يملك الأصل فيتمكن الغرور بملكه رقبة مولاها وهنا لا يتمكن الغرور ولأن أسباب بعدها عن المولى هنا قد كبرت وكان هو منها بمنزلة الأجنبي وفي أمة المكاتب سبب البعد واجب فبقيت الشبهة المثبتة لحكم الغرور(17/224)
وهو نظير ما قيل في بن الأخ مع بن العم فإن قرابة بن الأخ قرابة قريبة لأن البعد سبب الشغب في بن الأخ من جانب واحد وفي بن العم التشغب من الجانبين فنزل كل واحد منهما من صاحبه بمنزلة الأجنبي ولو ادعى ولد مكاتبته ولها زوج لم يصدق على النسب صدقها زوجها أو كذبه لأن النسب قد ثبت من الزوج بالفراش الثابت له عليها وملك الرقبة غير معتبر في إثبات النسب مع فراش النكاح ولكن الولد يعتق بإقراره لأن ولد المكاتبة مثل أمه فإنه داخل في كتابتها لو أعتقه المولى نفذ عتقه فيه فكذلك إذا ادعى نسبه كان إقرارا منه بالحرية وإن لم يثبت النسب لثبوته من الزوج ويستوي إن كان الزوج حرا أو مكاتبا للمولى أو عبدا له لأن فراش النكاح مثبت للنسب من هؤلاء بصفة واحدة .
قال: أمة بين رجلين علقت فباع أحدهما نصيبه من صاحبه ثم وضعت لأقل من ستة أشهر فادعاه المشتري ثبت نسبه وبطل البيع لأن دعوته دعوة استيلاد فيستند إلى وقت العلوق ويثبت لها حق أمية الولد من ذلك الوقت فتبين أنه اشترى أم ولده من غيره وكذلك يثبت للولد حقيقة الحرية من ذلك الوقت فيتبين أنه اشتراها من صاحبها وفي بطنها ولد حر فكان الشراء باطلا والثمن منه ثم يغرم له نصف قيمتها ونصف عقرها لأن الشراء صار كأن لم يكن وأحد الشريكين إذا استولد الجارية المشتركة يتملك على صاحبه نصيبه لأن أمية الولد لا يحتمل بالتجزي فإن سببه نسب الولد وهو غير متجزي فصار متملكا نصيب شريكه من حين علقت بنصف القيمة لأن تملك مال الغير عليه لا يكون مجانا وضمان التملك لا(17/225)
ص -111- ... يختلف باليسار والإعسار ويغرم نصف عقرها أيضا لأنه حين وطئها كان النصف مملوكا للشريك فيلزمه ضمان نصف العقر له وهو بخلاف ما تقدم في الأب يدعي نسب جارية إبنه لأنه ليس للأب في جارية إبنه مما يمكن تصحيح الاستيلاد باعتباره فلا بد من تقديم الملك على الاستيلاد وإذا قدمناه صار وطؤه في ملك نفسه فلا يجب العقر وهنا المستولد ملك نصفها عند الاستيلاد وذلك كاف لتصحيح الاستيلاد فلا يقدم الملك في نصيب شريكه له على الاستيلاد فيبقى وطؤه حاصلا في ملك الشريك.
وحقيقة المعنى أن يملك الأب رقبة الجارية هناك شرط الاستيلاد وشرط الشيء يسبقه وهنا يملك نصيب شريكه بحكم الاستيلاد لأن أمية الولد لا يحتمل التجزي وحكم الشيء يعقبه ولا يقترن به وكذلك لو كان البائع هو الذي ادعاه لأن قيام الملك له في نصفها عند العلوق كقيام الملك في جميعها في حق استلحاق النسب به فلا يبطل ذلك بالبيع ولكن البيع يبطل بدعوته فصار كأن لم يكن فهو يدعي نسب ولد جارية مشتركة بينهما وقد بينا الحكم فيها فيه.(17/226)
قال: أمة بين مسلمين أو بين مسلم وذمي كاتب أحدهما نصيبه ثم جاءت بولدها فادعاه الآخر ثبت نسبه منه لأنه مالك لنصيبه منها بعد كتابة الشريك وقد عرف الجواب في الكتابة من أحد الشريكين أنها تتجزى عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كان بإذن الشريك وبغير إذنه ولا تتجزى عندهما سواء كان بإذن الشريك أو بغير إذنه إلا أنه إذا كان بغير إذنه فله حق النقض لأنه يتضرر به في الثاني وهو عند الأداء وعقد الكتابة محتمل للفسخ فإذا تصرف أحد الشريكين تصرفا يحتمل النقض وفيه ضرر على شريكه كان له أن ينقضه لدفع الضرر عن نفسه وإن لم ينقضه حتى اتصل بها الأداء عتقت لوجود شرط العتق ولا يتمكن الشريك من الفسخ بعد ذلك لأن العتق لا يحتمل الفسخ بعد الوقوع إذا عرفنا هذا فنقول نصيب المدعي منها يصير أم ولد له فأما نصيب المكاتب لا يصير أم ولد له في قول أبي حنيفة رحمه الله ما بقيت الكتابة وعندهما الكل صار أم ولد المستولد وأصل في مكاتبته بين شريكين استولدها أحدهما عند أبي حنيفة رحمه الله يقتصر الاستيلاد على نصيبه لأن المكاتبة لا تحتمل النقل من ملك إلى ملك وإثبات أمية الولد في نصيب الشريك غير ممكن إلا بالنقل إليه فإذا تعذر ذلك لا تثبت أمية الولد في نصيب الشريك كالمدبرة بين اثنين استولدها أحدهما يقتصر الاستيلاد على نصيبه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يصير الكل أم ولد للمستولد لأن التملك بالاستيلاد حكمي والمكاتب محلا له.
ألا ترى أن مكاتب المكاتب ينقل إلى المولى عند الأداء حتى يكون ولاؤه للمولى إذا أدى قبل أداء المكاتب الأعلى وكذلك المرتد إذا عاد من دار الحرب مسلما وقد كاتب الوارث عبدا له يعاد ذلك العبد إليه مكاتبا ولأن الكتابة محتملة للفسخ فيفسخ في نصيب الشريك لضرورة الحاجة إلى تحليل الاستيلاد لأن إبقاءها لحقها وفي هذا توفير الحق عليها(17/227)
ص -112- ... بخلاف التدبير فإنه غير محتمل للفسخ فلهذا صار الكل أم ولد للمستولد عندهما إذا عرفنا هذا فنقول فيما نحن فيه إذا كاتب الكتابة بإذن المستولد فإن شأت عجزت نفسها فكانت أم ولد لمدعي الولد لأن بالعجز انفسخت الكتابة فزال المانع من تملك المستولد نصيب شريكه وإن شاءت مضت على الكتابة فإذا أدت عتق نصيب الذي كاتب منها ومن ولدها لأنه يلقيها جهة حرية أحدهما عاجل بعوض والآخر آجل بغير عوض فكان لها أن تختار أي الجهتين شاءت فإذا عتقت عتق نصيب المستولد أيضا من الجارية والولد ولا يسعى له في شيء لأن نصيبه منها أم ولد له ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن رق أم الولد لا يتقوم وأنها لا تسعى لمولاها عند العتق في شيء كما قال: في أم ولد بين شريكين أعتقها أحدهما فإن كانت الكتابة بغير إذنه ينقضها القاضي لما بينا أنها غير لازم في حق الشريك فإذا نقضها صارت أم ولد للمستولد لأنه يملك نصيب شريكه منها بسبب الاستيلاد عند زوال المانع وإن لم ينقضها حتى أدت عتق نصيب المكاتب منها ومن ولدها لوجود الشرط وهو الأداء ويعتق نصيب المستولد منها أيضا ولا يسعى له في شيء لما بينا في الفصل الأول وإقدام الشريك الآخر على الاستيلاد لا يكون نقضا منه لكتابة شريكه وإن كان له حق النقض لأنه لا منافاة بينهما فكل واحد منهما تصرف من المتصرف في نصيب نفسه فلا يكون تعرضا منه لنصيب شريكه.(17/228)
قال: أمة بين مسلم وذمي علقت ثم أسلم الذمي ثم ادعيا الولد معا فهو ابنهما كما لو كانا مسلمين في الأصل لأن ترجيح دعوة المسلم لما فيه من إسلام الولد فيكون ذلك عند الدعوة والشريك عند ذلك مسلم فدعوته توجب إسلام الولد وإن لم يكن مسلما وقت العلوق كدعوة شريكه فلما استويا من كل وجه ثبت نسب الولد منهما وصارت الجارية أو ولد لهما وإن كانت بين مسلمين علقت ثم ارتد أحدهما ثم ادعيا الولد فهو بن المسلم لأن المرتد كافر ودعوة الكافر لا تعارض دعوة المسلم ولأن الدعوة تصرف وتصرف المسلم في ملكه أنفذ من تصرف المرتد ألا ترى أن إعتاق المرتد نصيبه يتوقف عند أبي حنيفة رحمه الله فلهذا دعوة المسلم ترجح
قال: ولو كانت بين مسلم وذمي فارتد المسلم ثم ادعيا الولد فهو بن المرتد لأنه أقرب إلى أحكام الإسلام من الذمي ألا ترى أنه يجبر على الأسلام غير مقر على ما يعتقده وأن تصرفه في الخمر والخنزير لا ينفذ بخلاف الذمي فلقربه من الإسلام جعل في حكم الدعوة كالمسلم فتترجح دعوته على دعوة الذمي ولأن ترجيح دعوة المسلم لما فيه من ثبوت حكم الإسلام للولد وهذا موجود في دعوة المرتد فالدعوة من التصرفات التي لا توقف من المرتد فإنها لا تستدعي حقيقة الملك وتوقف تصرفه لتوقف ملكه فإذا كان هو في الدعوة كالمسلم ترجح على الذمي فصارت الجارية أم ولد له لأن الاستيلاد ينبني على ثبوت نسب الولد وقد ثبت ذلك بدعوته ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه(17/229)
ص -113- ... ويضمن الذمي أيضا له نصف العقر لإقراره بوطئها فصار نصف العقر بنصف العقر قصاصا .
قال: أمة بين رجلين ولدت فادعياه جميعا وقد ملك أحدهما نصيبه منذ شهر والآخر منذ ستة أشهر أو أكثر فالدعوة دعوة المالك الأول لأن دعوته دعوة استيلاد فيستند إلى حالة العلوق ودعوة الآخر دعوة الإعتاق لأن أصل العلوق لم يكن في ملكه فتكون دعوة الاستيلاد سابقة معنى ويضمن نصف عقرها ونصف قيمتها لأنه قد يملك نصيب صاحبه بدعوة الاستيلاد ولم يتبين أنه لمن يغرم قالوا وأنها يغرم ذلك للبائع لا لشريكه المشتري لأن دعوته استندت إلى حالة العلوق والملك فيها في ذلك الوقت كان للبائع فإنما يصير متملكا عليه فيضمن له نصف قيمتها ونصف عقرها ويرجع المشتري على البائع بالثمن لبطلان البيع فيما اشترى وإن لم يعلم صاحب الملك الأول فهو ابنهما والجارية أم ولدهما لأنهما استويا في الدعوة فكان العلوق حاصلا في ملكهما ولا عقر على واحد منهما أما لصاحبه فغير مشكل لأنا نتيقن بأن الوطء من كل واحد منهما حصل في ملك شريكه وأما لغيره فلأن وجوب العقر على من كان ملكه فيها ثابتا وقت العلوق لبائع شريكه ومن وجب عليه العقر منهما مجهول والمال لا يجب على المجهول.
قال: أمة لذمي باع نصفها من مسلم ثم ولدت لأقل من ستة أشهر فادعياه فهو بن الذمي ويبطل البيع لأن بيعه نصفها لا يكون أعلى من بيعه جميعها وهو أولى بالدعوة بعد بيع الجميع لتيقننا بحصول العلوق في ملكه فبعد بيع النصف أولى.(17/230)
قال: أمة بين رجل وامرأة صغيرة أو كبيرة فولدت فادعاه الرجل وأب المرأة فإن النسب يثبت من صاحب الرقبة لأنه يملك نصفها حقيقة وأب المرأة ليس له فيها حقيقة ملك ولا حق ملك إنما له مجرد التأويل والتأويل لا يعارض حقيقة الملك ولأن صحة دعوة أبي المرأة باعتبار تملك نصيب ولده عليها من وقت العلوق وذلك متعذر لثبوت أمية الولد من الشريك فيها من وقت العلوق ودعوة الشريك دعوة صحيحة من غير شرط تقديم الملك فكان هو أولى.
قال: أمة بين رجلين ولدت ولدا ميتا فادعاه أحدهما فهو ابنه وهي أم ولد له لأن ثبوت النسب من وقت العلوق وفي هذا المنفصل ميتا والمنفصل حيا سواء والولد الميت كالحي في أن الجارية تصير أم ولد كما لو كانت لرجل واحد فكذلك لو أسقطت سقطا قد استبان خلقه أو بعض خلقه ولمثله حكم الولد ألا ترى أن العدة تنقضي به والمرأة تصير به نفساء فكذلك الجارية تصير به أم ولد.
قال: ولو كانت جارية بين رجل وابنه فولدت فادعياه فهو بن الأب استحسانا وفي القياس يثبت النسب منهما لأن كل واحد منهما يملك نصفها حقيقة وصحة الدعوة هنا باعتبار ملك الرقبة وقد استويا في ذلك والحق غير معتبر في معارضة الحقيقة كما لو كانت الجارية كلها للابن فادعيا الولد كان دعوة الابن أولى من دعوة الأب وجه الاستحسان في(17/231)
ص -114- ... ذلك أن جانب الأب يترجح لأن له في نصفها حقيقة الملك وفي النصف الآخر حق التملك على ولده بالاستيلاد وليس للابن في نصيب الأب ملك ولا حق ملك ولا تأويل ملك فكان جانب الأب أرجح والترجيح عند المعارضة يحصل بما لا يكون عليه الإثبات ابتداء كالأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب ترجح الأخ لأب وأم في العصوبة بقرابة الأم وهي ليست بعلة الاستحقاق للعصوبة فإذا صحت دعوة الأب وصارت أم ولد له ضمن نصف قيمتها ونصف عقرها بخلاف ما إذا كان الكل للابن لما بينا أن تملك الأب نصيب الابن هنا حكم الاستيلاد لا شرطه فإن قيام الملك له في النصف كاف لصحة الاستيلاد فلهذا غرم نصف عقرها وضمن الابن نصف العقر لابنه أيضا لإقراره بوطئها فكان نصف العقر بنصف العقر قصاصا والجد أب الأب بعد موت الأب في هذا بمنزلة الأب فأما الأخ والعم والأجنبي فهم كلهم سواء لأنه ليس للبعض هنا تأويل الملك في مال البعض ولا حق التملك بالاستيلاد.
قال: وإذا كان أحد الأبوين مسلما فالولد الصغير مسلم هكذا روي عن عمر رضي الله عنه وشريح وإبراهيم رحمهما الله وكان المعنى فيه أن اعتبار جانبه يوجب إسلام الولد واعتبار جانب الذمي يوجب كفره فيترجح موجب الإسلام توفيرا لمنفعة الولد وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلا عليه" .(17/232)
قال: وإن كانت الأمة بين رجلين ولدت فادعياه فهو ابنهما فإن ولدت بعد ذلك آخر لم يثبت نسبه منهما ولا من أحدهما إلا بالدعوة لأن قيام الشركة بينهما في رقبتها تمنع الفراش المثبت للنسب لهما أو لأحدهما عليها فإن ثبوت نسب ولد أم الولد من مولاها لتحسين الظن بها حتى لا تكون مقدمة على التمكن من فعل حرام وهذا غير موجود هنا فإن وطئها غير مملوك لواحد من الشريكين فلهذا لا يثبت النسب منهما ولا من أحدهما إلا أن يدعيه أحدهما فحينئذ يثبت النسب منه بالدعوة لقيام الملك في نصفها ونصف ولدها ويغرم لشريكه نصف عقرها ولا يغرم من قيمة الولد شيئا في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يغرم لشريكه نصف قيمته إن كان موسرا وإن كان معسرا سعى الولد للشريك في نصف قيمته وهذا لأن ولد أم الولد بمنزلة أمه فدعوة أحدهما للولد كإعتاقه ولو أعتق الأم أحد الشريكين لم يضمن لشريكه شيئا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يضمن إن كان موسرا ويسعى له إن كان معسرا فكذلك في الولد لما صار المدعي نسبه كالمعتق له جارية بين مسلم وذمي ولدت فادعياه فهو بن المسلم عندنا وقال: زفر رحمه الله هو ابنهما ولكن يكون مسلما لأن صحة دعواهما باعتبار الملك وهما في الملك يستويان فكذلك فيما ينبني عليه إلا أن الولد يكون مسلما لأن تبعية أحد الوالدين يوجب إسلامه فيحكم بإسلامه وإن كان النسب ثابتا منهما كالمولود بين كافر ومسلم وحجتنا في ذلك أن دعوة المسلم أنفع للولد لأنه يثبت له النسب والإسلام وعند تعارض الدعوة يترجح أحد الجانبين لمنفعة الولد كما لو كان في أحد الجانبين حرية الولد يترجح به فكذلك هنا.(17/233)
ص -115- ... قال: وإذا التقط الرجل لقيطا فادعاه عبد أنه ابنه من زوجته هذه الأمة وصدقه المولى وقال: هو عبدي ثبت النسب منهما وكان عبدا للمولى عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله يثبت النسب منهما وكان حرا أما ثبوت النسب بدعواهما استحسانا وفي القياس لا يثبت لأن اليد ثابت للملتقط فهما بمجرد الدعوى يريدان إبطال اليد الثابت له فلا يصدقان على ذلك وفي الاستحسان قال: اعتبار يد الملتقط لمنفعة الولد حتى يكون محفوظا عنده لا لحق الملتقط وفي إثبات النسب ممن ادعا توفير المنفعة على الولد وقد بينا أن العبد في دعوة النسب كالحر فلهذا ثبت النسب من العبد والأمة بالدعوة فأما حجة محمد رحمه الله أن اللقيط حر باعتبار الدار وفي إثبات نسبه من المملوكين توفير المنفعة على الولد وفي إثبات الرق إضرار بالولد وليس من ضرورة ثبوت النسب ثبوت الرق فبقي على ما كان من الحرية فسقط اعتبار قولهما فيما يضر بالولد كما لو ادعاه ذمي وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين يثبت النسب منه بالدعوة ويكون مسلما دفعا للضرر عن الولد وتوفيرا للمنفعة عليه في ثبوت نسبه وحجة أبي يوسف رحمه الله أنه لما حكمنا بثبوت النسب منهما فقد حكمنا بأنه مخلوق من ماء رقيقين والمخلوق من ماء رقيقين لا يكون حرا لأن الولد من الأصلين فإذا كانا رقيقين وليس هنا سبب يمكن الحكم بحرية الولد بذلك السبب ولا وجه لإثبات الحكم بدون السبب يكون الولد رقيقا يقرره أن ولد الأمة مملوك لمولاها لأنه جزء من أجزائها إلا إذا تمكن هناك غرور في جانب الفحل وهو حر فحينئذ يبقى صفة الحرية لمائه ولا غرور هنا فكان الولد رقيقا وفي الحقيقة هذه المسألة نظير ما ذكرنا في كتاب النكاح العبد إذا صار مغرورا بأمة فولدت يكون الولد رقيقا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خلافا لمحمد رحمه الله ونظير ما في كتاب الإقرار مجهولة الحال إذا أقرت بالرق ثم ولدت لأكثر من ستة أشهر بعد إقرارهما كان(17/234)
الولد رقيقا عند أبي يوسف خلافا لمحمد رحمه الله .
قال: فإن ادعى اللقيط رجلان كل واحد منهما يدعي أنه ابنه ووصف أحدهما علامات في جسده ولم يصف الآخر شيئا جعلته بن صاحب الصفة لأن الترجيح عند تعارض الدعوة تقع بالعلامة كما إذا وقع الاختلاف بين الزوجتين في متاع البيت ولأن إصابة العلامة دليل سبق يده إليه ودليل كونه ابنا له لأن الإنسان أعرف بعلامات ولده من غيره وهو نظير مدعي اللقطة إذا أصاب في العلامات يوم الملتقط فيما بينه وبين ربه بالدفع إليه ولو أصاب في بعض العلامات وأخطأ في البعض فهذا وما لم يذكر شيئا من العلامة سواء لأن اعتبار ما أصاب يدل على صدقه واعتبار ما أخطأ يدل على كذبه فإذا وقع التعارض بينهما صار كأنه لم يذكر من العلامات شيئا وإذا لم يصف واحد منهما من العلامات فهو ابنهما لاستوائهما في الدعوى ولو قال أحدهما هو غلام من صفة جسده كذا وقال الآخر هي جارية من صفة جسدها كذا فأيهما أصاب ذلك فهو أحق به لظهور علامة الصدق في كلامه وظهور دليل(17/235)
ص -116- ... الكذب في كلام خصمه ولو ادعاه واحد وقال هو غلام فإذا هي جارية لم يصدق على ذلك لظهور دليل الكذب في دعواه ولو كان سبب قضاء الشهادة لم يقض بها مع ظهور دليل الكذب فكذلك إذا كان سبب القضاء الدعوى لا يقضي بها مع ظهور دليل الكذب ولأنه يدعي نسب الغلام وليس هنا غلام حاضر ودعوة المعدوم باطل.
قال: فإن كان اللقيط في يد مسلم وادعاه ذمي فالقياس لا يثبت النسب منه وهذا غير القياس الأول في دعوة اللقيط لأنا قد حكمنا بإسلام الولد هنا باعتبار الدار ولا قول للذمي في دعوة نسب الولد المسلم ولكنه استحسن فقال في دعواه شيئان أحدهما ثبوت نسب الولد وفيه منفعة والآخر كفر الولد وفيه ضرر عليه فتصح دعوته فيما ينفع الولد دون ما يضره إذ ليس من ضرورة النسب تبعة الأبوين في الدين كالصغير إذا سبي وليس معه واحد من أبويه يكون ثابت النسب من الحربي بيقين محكوم بإسلامه ثم المسألة على أربعة أوجه إما أن يكون الملتقط مسلما وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين فيكون محكوما له بالإسلام أو وجده ذمي في بيعة أو كنيسة أو قرية من قرى أهل الذمة فيكون كافرا فأما إذا وجده مسلم في بيعة أو كنيسة أو وجده ذمي في مسجد من مساجد المسلمين قال في كتاب اللقيط العبرة للمكان وقال في كتاب الدعوى العبرة للواحد وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه يحكم لذي اللقيط وسماه وجه رواية كتاب اللقيط أن المكان إليه أسبق من يد الواحد والحكم للسابق لأن الظاهر أن أهل الذمة يضعون أولادهم في مساجد المسلمين وأن المسلمين لا يضعون أولادهم في البيع والكنائس والحكم بالظاهر واجب عند تعذر الوقوف على الحقيقة .(17/236)
ووجه رواية هذا الكتاب أن اللقيط في حكم المباح فمن سبقت يده إليه صار محرزا له وكان الحكم ليده إذ ليس للمكان يد معتبرة ألا ترى أن المباح يملك بالإحراز باليد دون المكان ووجه رواية بن سماعة رحمه الله أن الحكم بالزي والسيما واجب كالبالغ الذي يوجد في دار إذا قال أنا مسلم فإن كان عليه سيما المسلمين قبل قوله والأصل فيه قوله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41]وتفسير هذه الرواية ذكره بن سماعة رحمه الله أنه إذا كان في عنقه صليب وعليه ثوب ديباج ووسط رأسه محرز فالظاهر أنه من أولاد النصارى فلا يحكم له بإسلامه يقول في الكتاب فإن كان في يد مسلم فدعاه ذمي وأقام شاهدين ذميين فإني استحسن أن أجعله ابنه وأجعله مسلما وإذا وجد في بيعة أو كنيسة وهذه الرواية وهو قوله واجعله مسلما ذكره في رواية أبي سليمان رحمه الله ولم يذكر في رواية أبي حفص رحمه الله والحاكم رحمه الله في المختص صحح رواية أبي حفص رحمه الله وقال الحاكم بإسلامه عند مجرد الدعوى فأما مع إقامة البينة فلا يحكم بإسلامه ولكن ما ذكره في نسخ أبي سليمان رحمه الله وقال هو الأصح لأنا إذا حكمنا بإسلامه على هذه الرواية باعتبار التبعية للواحد وشهادة أهل الذمة ليست بحجة على الواحد ولا على من حكم(17/237)
ص -117- ... بإسلامه تبعا للواحد فكان وجوده كعدمه فلهذا جعلناه مسلما وإن أثبتنا نسبه من الذمي.
قال: وإذا وجدته في مصر من أمصار المسلمين جعلته حرا مسلما ولا أقبل شهادة أهل الذمة عليه يريد به في حق الدين فأما في حق النسب فهو ثابت من الذمي كما بينا وإن أقام رجل البينة أنه ابنه وأقام آخر البينة أنه عبده قضيت به للذي يدعي أنه ابنه لأن في بينته إثبات نسبه وحريته وفي بينة الآخر إثبات رقه فتترجح بينة الحرية لمنفعة الصبي فإن أقام أحدهما البينة أنه ابنه من امرأته هذه الحرة وأقام آخر البينة أنه ابنه من هذه الأمة قضيت به أنه بن الحر والحرة لأن المولود من الأمة بالنكاح يكون رقيقا فتترجح بينة المثبت للحرية ولو أقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه من امرأته الحرة ووقت كل واحد منهما وقتا فإن عرف أن الصبي على أحدهما فهو لصاحب ذلك الوقت لظهور علامة الصدق في شهوده باعتبار سن الصبي وإن لم يعرف أنه على أي الوقتين فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقضي به لأسبق الوقتين لأنه لما تعذر الوقوف على سن الصغير ليعرف به الصادق من الكاذب بقيت العبرة للتاريخ فصاحب أسبق التاريخين يثبت النسب منه في وقت لا ينازعه الآخر فيه وبعد ما ثبت النسب منه لا يمكن إثباته من غيره وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقضي به بينهما لأن كل واحد منهما يثبت النسب منه من وقت العلوق والنسب لا يسبق وقت العلوق فلا فائدة في اعتبار سبق التاريخ بعد ذلك وصار كأن الشهود لم يوقتوا شيئا فيقضي به للرجلين هكذا ذكر هذا الخلاف في رواية أبي سليمان رحمه الله وفي رواية أبي حفص رحمه الله قال جعلته ابنهما في قولهم جميعا وإنما أشار إلى الخلاف في كونه بن المرأتين وقد بيناه فيما سبق .(17/238)
قال: وإن أقام أحدهما البينة أنه ابنه وادعى الآخر أنها ابنته وأقام البينة على ذلك فإذن اللقيط خنثى فإن كان يبول من مبال الرجال حكم بأنه بن فيثبت نسبه من أثبت بنوته وإن كان يبول من مبال النساء يثبتالنسب من الآخر وإن كان يبول منهما فالعبرة لأسبقهما خروجا وإن كان يخرج منهما جميعا معا فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله العبرة لأكثرهما وعند أبي حنيفة رحمه الله لا عبرة لكثرة البول وقلته فيكون ثبوت النسب منهما لأنه لا يترجح جانب أحدهما على صاحبه بإصابة العلامة فاستويا .
قال: فإن ادعى اللقيط مسلم وذمي وأقام البينة قضيت به للمسلم لأن في بينته إثبات إسلام الولد وهو منفعة في حقه وكذلك إن كان شهود المسلم من أهل الذمة وشهود الذمي مسلمين لأن بينة كل واحد منهما حجة على صاحبه فيترجح ما كان موجبا إسلام الولد.
قال: وإذا ارتد أحد الزوجين والعياذ بالله فإن الولد يلزم الزوج إلى سنتين لأن الفرقة وقعت بردة أحدهما بعد الدخول وهو موجب للعدة عليها فإذا جاءت بولد في مدة يتوهم أن العلوق حصل في حال النكاح يثبت النسب منه كما لو وقعت الفرقة بالطلاق وكذلك لو لحق بدار الحرب مرتدا لأن المرأة لما بقيت في دارنا فهي مؤاخذة بأحكام الإسلام فعليها(17/239)
ص -118- ... العدة إلا أن نسب ولدها لا يثبت من الزوج عند أبي حنيفة رحمه الله بشهادة القابلة ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان لأن المقصود هو الميراث ولا يثبت الميراث بشهادة المرأة الواحدة وعندهما شهادة القابلة كافية وأصله في مسألة كتاب الطلاق إذا لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل لا يثبت النسب عند أبي حنيفة رحمه الله إلا بشهادة شاهدين وعندهما يثبت بشهادة امرأة واحدة وكذلك إن حلف المرتد اللاحق بدار الحرب بأنها أم ولد هنا فإن لحوقه بدار الحرب موت حكمي تعتق به أم الولد عند قضاء القاضي ويجب عليها العدة والجواب فيه وفي ولد المنكوحة سواء ولو كانت هي المرتدة اللاحقة بدار الحرب لم يلزم الزوج إلا أن يأتي به لأقل من ستة أشهر منذ يوم ارتدت لأن العدة لم تجب عليها فلا يثبت النسب إلا عند التيقن بحصول العلوق في حالة النكاح كالمطلقة قبل الدخول وهذا لأنها صارت حربية فلا تؤاخذ بأحكام المسلمين وكما لا يكون للمسلم على الحربية عصمة النكاح فكذلك لا يكون له عليها عصمة العدة.
قال: ولو أسلمت امرأة الحربي فدخلت دار الإسلام لم يلزم الحربي ولدها إلا بأن يأتي به لأقل من ستة أشهر في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يلزمه إلى سنتين وهي فرع مسألة النكاح أن المهاجرة لا عدة عليها عنده وعندهما يلزمه العدة وإن سبيت المرتدة وهي حامل فولدت لأقل من ستة أشهر منذ سبيت يثبت نسبه من الزوج المسلم لتيقننا بحصول العلوق قبل السبي والتقدير لستة أشهر لأن السبي كما يبطل عصمة النكاح يبطل العدة والولد رقيق مع المرأة وإن كان مسلما تبعا لأبيه لأنه ما دام في البطن فهو جزء منها وهي صارت رقيقة بجميع أجزائها بالسبي فكذلك الولد الذي في بطنها عندنا.(17/240)
قال :وإذا تزوج المرتد مسلمة أو تزوجت المرتدة مسلما فولدت منه يثبت نسبه منهما لأن النكاح الفاسد إذا اتصل به الدخول فهو بمنزلة الصحيح في إثبات النسب أو أقوى ويرثهما هذا الولد بمنزلة المولود قبل الردة لأنه مسلم تبعا للمسلم منهما والمرتد يرثه وارثه المسلم وهذا لأن ابتداء سبب التوريث وإن كان هو الردة فتمامه يكون بالموت فيجعل الحادث بعد انعقاد السبب لإتمامه كالموجود عند ابتداء السبب اعتبارا بولد المبيعة قبل القبض يجعل كالمولود عند ابتداء العقد في انقسام الثمن عليه.
قال: وإذا تزوج المرتد كتابية فولدت لا يرث الولد واحدا منهما لأن هذا الولد غير محكوم بإسلامه فإن واحدا من أبويه ليس بمسلم وكونه في يد الأبوين يمنع ثبوت تبعية الدار في حقه كالصغير إذا سبي مع أحد الأبوين والمرتد إنما يرثه وارثه المسلم والكتابية لا يرثها المرتد وهذا الولد بمنزلة المرتد لأنه أقرب إلى حكم الإسلام فيجعل الولد تبعا له وكذلك إن ولدت أمة المرتد منه وهي مرتدة أو كتابية لأن النسب وإن ثبت منه بالدعوة لم يثبت حكم الإسلام لهذا الولد وإن كانت الأمة مسلمة ورث الولد أباه لأنه مسلم تبع لها قال رجل مات وترك امرأة وأم ولد له فأقرت الورثة أن كل واحدة منهما قد ولدت(17/241)
ص -119- ... هذا الغلام من الميت أثبت نسبه بعد أن تكون الورثة ابنته أو إخوته أو ابنا وابنتين لأنهم لو شهدوا بهذا النسب في حالة الحياة عليه كانت شهادتهم حجة تامة فإذا أقروا به بعد الموت يكون قولهم أيضا حجة تامة في إثبات النسب إلا أن في حالة الحياة هناك خصم جاحد فلا بد من لفظة الشهادة وليس بعد الموت خصم جاحد فلا حاجة إلى لفظة الشهادة ولأن في حالة الحياة كلامه إلزام للغير والملزوم للغير شرعا الشهادة فلا بد من لفظ الشهادة فيه فأما بعد الموت كلامه إلزام للغير من وجه والتزام من وجه لأنه يشاركهم في الميراث المستحق لهم وما أخذ شبها من أصلين توفر حظه عليهما فلشبهه بالإلزام شرطنا العدد فيه حتى لا يثبت النسب بإقرار الوارث الواحد ولشبهه بالالتزام أسقطنا اعتبار لفظة الشهادة .
قال: وإذا تزوج المجوسي أمه أو ابنته أو أخته فولدت له ولدا فهو ابنه ادعاه أو نفاه لأن هذه الأنكحة فيما بينهم حكم الصحة عند أبي حنيفة رحمه الله ولهذا لا يسقط به الإحصان عنده وعندهما هو فاسد والنكاح الفاسد والصحيح يثبت النسب بهما ثم لا ينتفي إلا باللعان ولا لعان بينهما لأن الكافرة غير محصنة وكذلك العبد يتزوج الأمة أو المسلم يتزوج المجوسية فإن النسب يثبت لهذا النكاح مع فساده لأن مجرد الشبهة يكفي لإثبات النسب ثم لا ينتفي إلا باللعان ولا لعان بينهما هنا .(17/242)
قال: وإذا أسلم الزوجان الكافران وأعتق المملوكة ثم جاءت بولد فنفاه الزوج يلاعنها لأنه قذفها وهي محصنة وهما من أهل الشهادة في الحال فيجري اللعان بينهما فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ عتقا أو أسلما لزم الولد أباه لأنا تيقنا بحصول العلوق في حال لم يكونا من أهل اللعان فيلزمه النسب على وجه لا ينتفي بالنفي ثم لا يتغير ذلك بصيرورتهما من أهل اللعان وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لزم الولد أمه لتوهم أن العلوق حصل بعد صيرورتها من أهل اللعان فإن قيل فكذلك يتوهم حصول العلوق قبل العتق والإسلام لأن الولد قد يبقى في البطن إلى سنتين قلنا نعم ولكن قطع النسب باللعان في موضع الاشتباه والاشتباه يمنع قطع النسب وهذا لأن سبب قطع النسب هو اللعان وقد تحقق فما لم يظهر المانع وجب العمل به ولأن الحل قائم بينهما ومتى كان الحل قائما يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وإن كان للمسلم امرأة كتابية فولدت فنفاه فهو ابنه ولا حد عليه ولا لعان لأنها غير محصنة ونسب الولد قد يثبت بالنكاح فلا ينقطع بدون اللعان.
قال: وإن أسلمت المرأة والزوج كافر ثم بقي ولده فعليه الحد لأنها محصنة وقد قذفها بالزنى ولا لعان بينهما لأنه ليس من أهل الشهادة فمتى تعذر جريان اللعان بينهما من جهة الزوج يلزم الحد ولا يقطع النسب عنه لتقرر سببه وهو العلوق وإن أسلما جميعا ثم طلقها ثم تزوجها ثم جاءت بولد فنفاه فنقول هذه المسألة تشتمل على فصلين أحدهما حكم إثبات النسب والآخر حكم النفي أما حكم إثبات النسب فهو على ثلاثة أوجه إن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها أخيرا ثبت النسب منه بحصول العلوق في النكاح الثاني وإن(17/243)
ص -120- ... نفاه لاعنها ولزم الولد أمه لكونهما من أهل اللعان عند العلوق وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها أخيرا أو لأقل من سنتين منذ فارقها ثبت النسب منه لتوهم أن العلوق كا ن قبل الطلاق فإن نفاه لاعنها ولزم الولد أباه لأن حصول البينونة بعد العلوق يمنع قطع النسب باللعان وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها أخيرا ولسنتين فصاعدا منذ طلقها لم يثبت النسب منه لأن حصول العلوق كان بعد الطلاق قبل النكاح الثاني ويصح النكاح الثاني عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله وهي فرع مسألة الجامع الصغير أن الحبل من الزنى لا يمنع من النكاح عندهما ويمنع عند أبي يوسف رحمه الله وكذلك أم الولد إذا أعتقها مولاها ثم تزوجها قبل الإقرار بانقضاء العدة فهو على الأوجه الثلاثة كما بيناه.
قال: ولو ولدت امرأة الرجل غلاما وأمته غلاما ثم ماتتا فقال أحدهما ابني لم يثبت نسب واحد منهما لأن النسب في المجهول لا يمكن إثباته والمقصود هو الشرف بالانتساب وذلك لا يحصل في المجهول ولأنه صادق في مقالته فإن أحدهما ابنه وهو ولد المنكوحة فإذا لم يكن معينا لم يثبت نسب واحد منهما بعينه ويعتقان ويسعى كل واحد منهما في نصف قيمته لأن أحدهما حر وعند الاشتباه ليس أحدهما بأولى من الآخر فيعتق كل واحد منهما نصفه ومعنى قوله أن أحدهما حر أن ولد المنكوحة حر فأما ولد الأمة لا يعتق إلا إذا ادعاه بعينه ولم يوجد وكذلك رجل له عبدان فقال أحدهما ابني أو قال هذا ابني أو هذا لم يثبت نسب واحد منهما للجهالة ولكن لا يعتق أحدهما بغير عينه لأن دعوة النسب إقرار بالحرية والإقرار بالعتق للمجهول صحيح فيسع العتق فيهما عند فوت البيان بالموت والله أعلم.
باب نفي الولد من زوجة مملوكة وغيرها(17/244)
قال رحمه الله: رجل تحته أمة فأعتقت ثم جاءت بولد لستة أشهر بعد العتق فنفاه فلم يلاعنها حتى اختارت نفسها فالولد لازم له ولا حد عليه ولا لعان لأن نسب الولد قد ثبت منه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وباختيارها نفسها بالعتق ثابت منه فلا يجري اللعان بينهما بعد البينونة كما لو أبان امرأته بعد ما قذفها لأن المقصود باللعان قطع النكاح الذي هو سبب المنازعة بينهما وقد انقطع ولا حد عليه لأن قذفه إياه كان موجبا للعان بكونهما من أهل اللعان حين قذفها فلا يكون موجبا للحد لأنهما لا يجتمعان بقذف واحد.
قال: رجل اشترى امرأته وهي أمة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فنفاه فهو لازم له لأنا تيقنا أن العلوق بهذا الولد حصل من فراش النكاح فلزمه نسبه على وجه لا ينتفي بنفيه وصار ارتفاع النكاح بينهما بالشراء كارتفاعه بالطلاق قبل الدخول وهناك إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر لزمه نسبه فكذلك هنا وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا فله أن ينفيه وهذا بمنزلة أم الولد له أن ينفيه ما لم يقر به ثم قال بعد هذا بأسطر لا يثبت نسبه منه إلا أن(17/245)
ص -121- ... يقر به فوجهه ما قال بعد هذا أالنكاح بالشراء ارتفع لا إلى عدة لأن العدة حق من حقوق النكاح فكما ينافي ملك اليمين أصل النكاح فكذلك ينافي حقوقه فكان هذا نظير الفرقة بالطلاق قبل الدخول وقد جاءت بالولد من مدة يتوهم أن الولد من علوق حادث فلا يثبت نسبه منه وفي الكتاب علل فقال لأنها أمة يحل فرجها بالملك وحل فرجها بملك اليمين مع حق النكاح لا يجتمعان فيتبين أنه لا عدة عليها وصار كأنه لم يدخل بها في فراش النكاح ونسب ولد الأمة لا يثبت من المولى إلا بالدعوة .
ووجه هذه الرواية أنها كانت فراشا له وملك اليمين لا ينافي الفراش فيبقى بعد الشراء من الفراش بقدر ما يجامع ملك اليمين لأن الارتفاع بالمنافي فبقدر المنافي يرتفع وملك اليمين إنما ينافي الفراش الملزم المثبت للنسب فإن أم الولد مملوكة وللمولى عليها فراش مثبت للنسب إلا أن ينفيه فيبقى ذلك القدر هنا له .(17/246)
قال: فإن أعتقها بعد ما اشتراها وقد كان دخل بها فجاءت بولد لزمه ما بينه وبين سنتين من يوم اشتراها وإن نفاه فعليه الحد وهذا قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله وفي قول أبي يوسف الآخر رحمه الله إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها فكذلك الجواب وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يلزم إلا أن يدعيه فإن ادعاه لزمه وإن كذبته المرأة أما وجوب الحد عليه فلأنه قذفها وهي في الحال محصنة ثم وجه قول محمد رحمه الله أن يقول بأن النكاح ارتفع بالشراء بعد الدخول فيكون موجبا العدة إلا أن هذه العدة لا تظهر في حقه لأنها تحل له بالملك وهي ظاهرة في حق الغير حتى لو أراد أن يزوجها من غيره لم يجز فإذا أعتقها زال المانع من ظهور العدة في حقه وظهرت العدة في حقه أيضا والمعتدة إذا لم تقر بانقضاء العدة حتى جاءت بالولد لأقل من سنتين يثبت النسب ولأنا قد بينا أن قدر الفراش الذي يثبت للمولى على أم ولده باق بعد الشراء وبالعتق زال هذا الفراش وزوال الفراش بالعتق يوجب العدة كما في حق أم الولد فكان ينبغي على هذا الطريق أنها إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ أعتقها أنه يثبت النسب كما في أم الولد ولكن هذا الفراش أثر الدخول الحاصل في النكاح لا في الملك فاعتبرنا مدة السنتين من وقت انقطاع النكاح بالفراش .(17/247)
ووجه قول أبي يوسف الآخر رحمه الله: أن النكاح ارتفع بالشراء لا إلى عدة لما بينا أن ملك اليمين ينافي حقوق النكاح ألا ترى أن قبل العتق لو جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر لا يلزمه نسبه فبعد العتق كذلك لا يلزمه لأنها بالعتق ازدادت بعد أمته ولهذا لو ادعاه ثبت نسبه منه وإن كذبته المرأة لأن هذا القدر كان ثابتا قبل العتق فيبقى بعده ودعواه بقاء الفراش بعد الشراء ليس بقوي لأنه لا بد للفراش من سبب وملك اليمين بدون الدخول فيه لا يوجب الفراش وكذلك بعد الدخول ما لم يدع نسب الولد وفراش النكاح من حقوقه فلا يبقى بعد الشراء وإن كان لم يدخل بها فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الشراء فهو(17/248)
ص -122- ... ابنه لتيقننا بحصول العلوق في النكاح وإن نفاه فعليه الحد لأنها محصنة بعد العتق وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه نسبه لجواز أن يكون من علوق حادث بعد ارتفاع النكاح وهذا والطلاق قبل الدخول سواء وإن نفاه فلا حد عليه لأنه صادق في ذلك ولأن في حجرها ولدا لا يعرف له والد فلا تكون محصنة ولو لم يعتقها حين اشتراها ولكنه باعها وقد كان دخل بها في النكاح فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها لزمه الولد وبطل البيع لأنا تيقنا بحصول العلوق في النكاح وأنها صارت أم ولد له حين اشتراها لأن في بطنها ولدا ثابت النسب منه فإنما باع أم ولد وبيع أم الولد باطل وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها ولأقل من ستة أشهر منذ باعها فإن ادعاه ثبت نسبه منه وبطل البيع أيضا لأنه لو لم يسبق النكاح كان هذا الحكم ثابتا بدعوته فعند سبق النكاح أولى وإن جاءت به لأقل من سنتين منذ اشتراها ولأكثر من ستة أشهر منذ باعها فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله.(17/249)
وفي قول أبي يوسف الآخر: لا يثبت النسب منه ولا يبطل البيع وهذا بناء على الفصل الأول فإن زوال ملكه بالبيع عنها كزواله بالعتق وقد بينا هناك أن عند أبي يوسف لا يثبت النسب إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر فهنا كذلك إلا أن هناك لم يثبت فيها حق لغيره فإذا ادعى ثبت النسب منه وهنا قد ثبت فيها حق لغيره وهو المشتري الثاني فلا يثبت النسب منه وإن ادعاه لأن في ثبوته إبطالا للبيع وقوله غير مقبول في إبطال البيع وعلى قول محمد رحمه الله هناك حكم ثبوت النسب منه يبقى إلى سنتين وإن زال الملك بالعتق لظهور العدة في حقه على ما بينا فكذلك هنا يبقى حكم ثبوت النسب منه وإن زال الملك بالبيع وإذا ثبت النسب منه انتقض البيع ضرورة لأنه تبين أنه باع أم ولده إلا أن محمدا رحمه الله هنا يشترط الدعوة منه لأن إقدامه على البيع دليل النفي والقدر الباقي من الفراش بعد الشراء مثبت للنسب على وجه ينتفي بالنفي فلا بد من الدعوى بعد ذلك ليبطل به دليل حكم النفي بخلاف العتق فإنه ليس لدليل النفي وإن كان المشتري الآخر قد أعتق الولد ثم ادعاه المشتري الأول فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الأول بطل بيع المشتري وعتقه لتيقننا بأنه باع أم ولده وأن الولد كان حرا قبل بيعه وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا بعد الشراء الأول لم تصح دعوة الشراء الأول لما بعد عتق المشتري الآخر فيه فقد بينا أن عتق المشتري الولد يمنع صحة دعوة البائع وإن لم يكن أعتق الولد ولكنه أعتق أمة فقد بينا أن إعتاق الأم لا يمنع صحة دعوة البائع في الولد فكان هذا وما لم يعتقها سواء في حق الولد على ما بينا من الخلاف
قال: وإذا أعتق أم ولده ثم تزوجها فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا فإن نفاه لاعن ولزم الولد أمه لأنها إنما جاءت به من علوق بعد النكاح فإن الحل قائم بينهما فيستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهما من أهل اللعان في الحال فيقطع النسب عنه باللعان وإن جاءت به(17/250)
ص -123- ... لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها لاعن ولزم الولد أباه أما اللعان فإنهما من أهل اللعان في الحال وأما النسب فلأنا تيقنا أن العلوق حصل قبل النكاح فلا يمكن قطع النسب باللعان وتأويل هذه المسألة إذا كان لأقل من سنتين منذ عتقها حتى يثبت النسب من المولى باعتبار زوال الفراش إلى عدة .
قال: رجل أعتق أمة ولها زوج حر فجاءت بولد بعد العتق لستة أشهر فنفاه الزوج لاعن ولزم الولد أمه وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لاعن ولزم الولد أباه لأنهما لم يكونا من أهل اللعان حين علق وولاء الولد لمولى الأم في الوجهين جميعا أما إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر فلأنه لا نسب له فهو لمولى الأم وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر فلأنه كان مقصودا بالعتق لأنا حكمنا بوجوده في البطن حين أعتقت.
قال: رجل طلق امرأته تطليقة بائنة وهي أمة ثم أعتقت بالولد فإن جاءت بالولد إلى سنتين من وقت الطلاق فالنسب ثابت من الزوج لا ينتفي بنفيه ويضرب الحد لأنه قذفها وهي محصنة ونسب الولد ثابت لتوهم حصول العلوق بالنكا ح فإنها لم تقر بانقضاء العدة وولاء الولد لموالي الأم لأنا حكمنا بوجوده في البطن في حين أعتقت فصار الولد مقصودا بالعتق ولو مات الأب فجاءت بالولد ما بينها وبين سنتين وقد أعتقت بعده بيوم فالولد ثابت النسب وولاؤه لموالي الأم إذ لا فرق بين ارتفاع النكاح بالموت وبين ارتفاعه بالطلاق البائن فإنه يعقب العدة في الوجهين جميعا.(17/251)
قال: وإذا اشترى امرأته وقد ولدت فأعتقها وتزوجها ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها فنفاه لاعن ولزم الولد أمه وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها أخيرا أو لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها فنفاه لاعن ولزم الولد أباه لأنها بالشراء صارت أم ولد له وبالعتق صارت محصنة فإذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من النكاح الآخر عرفنا أن العلوق كان سابقا على هذا النكاح فلا ينقطع السبب باللعان ولكن يجري اللعان بينهما لكونها محصنة في الحال ولو لم يتزوجها لزمه الولد ما بينها وبين سنتين من وقت العتق لأنها معتدة فإن نفاه ضرب الحد لأنه قذفها وهي محصنة.
قال: وإن كانت هذه الأمة كتابية فحكم النسب على ما بينا ولكن لا حد عليه بالنفي لأنها غير محصنة وإن صدقته أن الولد ليس منه لم يصدقا على الولد لأن النسب من حق الولد فإنه يتصرف به فلا يصدقان على إبطال حقه قال رجل مات عن أم ولده فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين فنفاه الورثة لم يثبت النسب في قول أبي حنيفة رحمه الله من الميت ولم يرث بشهادة القابلة ما لم يشهد به شاهدان لأنه ليس هنا حبل ظاهر ولا فراش قائم إلا أن يكون المولى قد أقر بأنها حبلى منه فحينئذ يثبت النسب بشهادة القابلة وإن أقر به الورثة وإقرارهم كإقرار الميت لأنهم خلفاؤه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت النسب في جميع ذلك بشهادة القابلة وقد بينا هذا الخلاف في المنكوحة بعد موت الزوج فكذلك في أم(17/252)
ص -124- ... الولد فإن كان المولى كافرا فشهادة الكتابية في ذلك مقبولة وإن كان مسلما لم تقبل إلا شهادة مسلمة لأن هذه الشهادة تقوم على حق المسلم فإن النسب يلزمه فيراعى فيه شهادة شرائطه.
باب من دعوة البائع أيضا وغيره
قال رحمه الله: رجل اشترى أمة وولدها أو اشتراها وهي حامل ثم باعها ثم اشتراها من ذلك الرجل أو من غيره فادعى ولدها فالدعوة جائزة إذا كان الولد يوم يدعي في ملكه لأنه ادعى نسب مملوكه في حال حياته إلى النسب فيثبت النسب منه ولا ينفسخ شيء من البيوع والعقد الذي جرى فيه وفي أمه لأن أصل العلوق لم يكن في ملكه فكانت دعوته دعوة التحرير بمنزلة الإعتاق فلو أعتقه لم يبطل به شيء من العقود المتقدمة فكذلك هنا وإن كان أصل الحبل عنده بطلت العقود كلها لأن دعوته دعوة استيلاد فيستند إلى وقت العلوق فيتبين به أن البيوع والأشرية كانت في أم ولده فكانت باطلة.
قال: رجل اشترى عبدين توأمين ولدا في ملك غيره فباع أحدهما ثم ادعى نسبهما ثبت نسبهما منه ولأن أحدهما في ملكه فيصح دعوة النسب فيه ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر لأنهما توأم ولكن لا ينقض البيع في الآخر لأن دعوة التحرير بمنزلة الإعتاق وأحدهما ينفصل عن الآخر في العتق وكذلك لو ادعاهما المشتري ثبت نسبهما منه لقيام ملكه في المشتري وقت الدعوة والذي عند البائع يبقى مملوكا له كما كان.
قال: ولو اشترى رجل عبدا واشترى أبوه أخ ذلك العبد وهما توأم فادعى أحدهما الذي في يديه ثبت نسبهما منه لأن أحدهما في ملكه فصحت دعوته فيه وبثبوت نسب أحدهما ثبت نسب الآخر ضرورة ويعتق الذي في يد الآخر إن كان الأب هو المدعي فلأن الابن ملك أخاه وإن كان الابن هو المدعي فلأن الأب ملك بن ابنه فيعتق عليه بالقرابة ولا ضمان لواحد منهما على صاحبه لأن عتقه كان بسبب مقصود عليه غير معتد إلى صاحبه(17/253)
قال:ولو اشترى جارية على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام فولدت عنده في الثلاثة ولدا فادعاه المشتري صحت دعوته لأنه صار أحق بها حق ينفذ عتقه فيها وفي ولدها فكذلك يثبت نسب الولد منه بالدعوة ويسقط خياره لأن الولد قد عتق وصارت أم ولد له فتعذر ردها بحكم الخيار فلهذا سقط خياره كما لو أعتقها ولو كان الخيار للبائع فادعى المشترى الولد فالبائع على خياره لأنها باقية على ملكه في مدة خياره فإن أجاز البيع أثبت النسب من المشتري كما لو جدد الدعوة بعد الإجازة فانقض البائع البيع بطلت دعوة المشتري لأنه لم يملكها ولا ولدها ودعوة التحرير بمنزلة الإعتاق.
فإن قيل أليس أنه لو أعتقها المشتري ثم أجاز البيع لم ينفذ عتقه فلماذا لا يجعل دعوة التحرير مثله قلنا ذاك إن شاء العتق فإذا بطل لعدم تمام السبب في المحل لا ينفذ باعتبار ملك يحدث وهذا إقرار بالعتق فيتوقف على وجود الملك في المحل كمن أقر بحرية عبد(17/254)
ص -125- ... إنسان ثم أخذ الرجل من الرجل أمتين على أنه بالخيار يأخذ أيتهما شاء بألف درهم فولدتا عنده وأقر بأنهما منه فإقراره صحيح في أحدهما وهو الذي تناوله البيع منهما لأن خيار المشتري لا يمنع صحة دعوته ولكن بالبيع تناول أحدهما بغير عينها ويتبين باختيار المشتري فيؤمر بالبيان بعد هذا إلا أنه قبل الاستيلاد كان متمكنا من ردها والآن لا يملك رد المشتراة لثبوت أمية الولد فيها فإن لم يتبين أيتهما أولى حتى مات فالبيان إلى الورثة لأنهم قائمون مقامه وعليهم بمن مات أصاب أم ولد للمشتري من تركته فكان بيانها إليهم فإن قالوا لا ندري أيتهما كان عتق نصف كل واحدة منهما ونصف ولدهما وتسعى كل واحدة منهما ومن ولدهما في نصف القيمة للبائع لأنه ليس لأحدهما ثبوت الحرية فيه ولا إحدى الأمتين لثبوت أمية الولد فيها بأولى من الأخرى فيسع فيهما ويجب على الورثة نصف ثمن كل واحد منهما من التركة وإن اختلفت الورثة في الأول منهما فالقول قول الأول منهم لأن كل واحد وارث قائم مقام مورثه لتمام علة الخلافة له فالذي قال منهم أولا هذه التي كانت استولدها المشتري أولا تعينت للاستيلاد ووجب قيمتها في التركة وتعينت الأخرى للرد وترد هي وولدها إلى البائع .
واستدل فيه بحديث قروة بن عمير قال زوج أبي عبدا له يقال له كيسان أمة له فولدت فادعاه ثم مات أبي فكتب إلى عثمان رضي الله عنه أن يوافي بأبي الموسم فكتب إليه أن أبي قد مات فكتب أن ابعثوا بابنه إلي فذهب به إليه فقال ما يقول بن كيسان فقالت قد ادعاه أبي فإن كان صدق فقد صدق وإن كان كذب فقد كذب فقال لو قلت غيرها لأوجعتك وأعتقه بالدعوة وجعله بن العبد بالفراش فيما يعلم أبو يوسف رحمه الله وإنما أورد هذا الحديث ليبين أن إقرار أحد الورثة بدعوة الأب كإقرار الأب به فكذلك تعيين أحد الورثة كتعيين الموروث بنفسه.(17/255)
قال: مكاتب اشترى عبدا فادعاه المولى لم تجز دعوته فيه لأن دعوة التحرير كالإعتاق والمولى لا يملك إعتاق كسبه فلا تصح دعوته وكذلك لو اشترى الابن عبدا لم تجز دعوة الأب فيه لهذا قال زوج أمته عبده بشهود فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا فهو بن الزوج لأنها أتت به على فراشه وإن نفاه لم ينتف عنه لأن النسب متى يثبت بفراش النكاح لا ينقطع إلا باللعان ولا لعان بين المماليك ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت نسبه من الزوج لأنا تيقنا أن العلوق سبق فراش النكاح لأن دعوة المولى استندت إلى حال العلوق فتبين أنه تزوجها وفي بطنها ولد ثابت النسب من المولى وكان النكاح باطلا ولو كان زوجها من عبد غيره بإذن مولاه أو من حر فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا فادعاه المولى صدقه الزوج أو كذبه فهو بن الزوج لأنها علقت في فراشه ولكنه يعتق على المولى بإقراره أنه ابنه وإن لم يثبت النسب وتكون أمه بمنزلة أم ولد له لأنه أقر لها بحق الحرية كما أقر الولد بحقيقة الحرية ولو زوجها ثم باعها ثم جاءت بالولد لستة أشهر بعد النكاح ولأقل من ستة أشهر بعد(17/256)
ص -126- ... البيع فادعاه البائع أو المشتري لم يصدقا على ذلك لثبوت النسب من صاحب الفراش ولم يبطل البيع لأن دعوة النسب إذا لم تعمل في إثبات النسب كان بمنزلة الإقرار بالعتق وإقرار البائع بالعتق بعد البيع غير مقبول في إبطال البيع .
قال ولو تزوجت أمته بغير إذنه ثم ولدت لستة أشهر فادعاه الزوج والمولى لأن النكاح الفاسد عند اتصال الدخول في حكم النسب كالنكاح الصحيح فكما أن هناك يثبت النسب من الزوج دون المولى فكذلك هنا ألا ترى أن النسب يثبت بفراش النكاح على وجه لا ينتفى بمجرد النفي فاسدا كان النكاح أو جائزا بخلاف ملك اليمين ولكنه يعتق بدعوة المولى لأنه صار مقرى بحريته وكذلك أم ولد رجل تزوجت بغير إذنه ودخل بها الزوج فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا فادعياه أو نفياه أو نفاه أحدهما وادعاه الآخر فهو بن الزوج على كل حال لأن فراش النكاح وإن كان فاسدا فهو أقوى من فراش الملك على ما بينا وكذلك لو تزوج أمة ابنه بغير إذنه فولدت فادعاه الزوج والمولى فهو بن الزوج لماله عليها من فراش النكاح وهو أقوى من إثبات النسب من فراش الملك والله أعلم.(17/257)
ص -127- ... منافاة وكذلك بين حرية الأصل وحرية العتق منافاة ولا يمكن اعتبار الجهتين جميعا فلهذا يعتق من كل واحد منهم ثلثه.
وقد روي عن أبي يوسف مثل قول محمد رحمهما الله إلا في حرف واحد وهو أنه قال يعتق من الأكبر نصفه لأن حاله تتردد بين شيئين فقط إما أن يكون ثابت النسب من المولى فيكون حرا كله أو لا يكون ثابت النسب منه فلا يعتق منه شيء فلهذا عتق نصفه ويسعى في نصف قيمته ثم استشهد بقول أبي حنيفة رحمه الله بما لو كان لها ولد واحد فقال المولى قد ولدت هذه الأمة مني ولدا ولم يتبين هذا هو أو غيره لا يثبت نسب هذا معرف والمولى إنما أقر بنسب المنكر والمنكر غير المعرف وتصير الجارية بمنزلة أم الولد لإقراره بأمية الولد لها فيكون الولد عبدا لا يعتق بعتق أمه لأنه ما أقر بنسبه ولا بانفصاله عن الأم بعد أمية الولد فيها والرق فيها ثابت بيقين فلا يبطل بالاحتمال ومن قال بقول محمد رحمه الله يلزمه أن يقول هنا بعتق من الولد نصفه باعتبار الأحوال وهذا قبيح من طريق المعنى أرأيت لو قال قد أسقطت هذه الأمة مني سقطا مستبين الخلق أكان يعتق به شيئا من ابنه الكبير لا يعتق شيء منه فكذلك ما سبق وكذلك لو كان كل واحد من هؤلاء الأولاد لأم معروف كان لها فإنه يعتق من كل ولد ثلثه لأن النسب لما لم يثبت بدعوته كان هذا إقرارا بالعتق لأحدهم فيعتق من كل واحد منهم ثلثه وهذا على أصل الكل لأن اعتبار الأحوال هنا غير ممكن .(17/258)
قال: وإذا ولدت أمة ولدا من غير زوج فلم يدعيه المولى حتى كبر وولد له ولد من أمه للمولى ثم مات الابن الأول ثم ادعى المولى أحدهما فقال أحد هذين ابني يعني الميت وابنه فإنه يعتق الأصل كله على اختلاف الأصلين أما عند أبي حنيفة رحمه الله لأن دعوته لما لم يعمل في حق النسب انقلب إقرارا بالعتق فكأنه قال أحدهما حر ومن جمع بين حي وميت وقال أحدهما حر عتق الحي منهما عنده وأما عند محمد رحمه الله فلأنا تيقنا بحرية الأسفل لأنه إن كان هو المقصود فهو حر وإن كان المقصود الأكبر عتق الأسفل أيضا لأنه من أمة المولى فيكون مملوكا له ومن ملك بن ابنه عتق عليه وتسعى أمة في نصف قيمتها لأنه إن كان المقصود هو الأسفل فأمه أم ولد يعتق بموت المولى وإن كان هو الأكبر لم يعتق هذه فلهذا عتق نصفها وسعت في نصف قيمتها وكذلك الجدة تسعى في نصف قيمتها لهذا.
قال: أمة لرجل ولدت ابنتا ثم ولدت ابنتها ابنتا فقال المولى في صحته إحدى هؤلاء الثلاثة ولدى ثم مات قبل أن يبين فإنه يعتق نصف العليا وجميع الوسطى وجميع السفلى لأن العليا تعتق في حالين فإنها إذا كانت مقصودة بالدعوة فهي حرة وإن كان المقصود ابنتها فهي أم ولد تعتق بموت المولى وإن كان المقصود أسفلها فهي أمة فلهذا عتق نصفها فأما الوسطى فهي حرة بيقين إن كانت هي المقصودة فهي حرة بالنسب وإن كانت(17/259)
ص -128- ... ابنتهما فهي حرة بأمية الولد وإن كان المقصود أمها فهي حرة فهي ابنة ابنة المولى وكذلك السفلى حرة بيقين ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل وقيل على قوله يعتق ثلث كل واحدة منهن لأن هذا عنده بمنزلة قوله إحداكن حرة وقيل بل الجواب قولهم لأن العتق هنا بجهة النسب كيف ما كان وهو مقصود فيه سواء كان بأمية الولد فوجب اعتبار الجهات هنا بخلاف الفصل الأول على ما بيناه .
قال: ولو ولدت الأمة ابنتا من غير زوج ثم ولدت ابنتين في بطن آخر ثم ولدت إبنا في بطن آخر ثم نظر المولى إلى الأكبر وإلى إحدى الابنتين في صحته فقال أحد هذين ولدي ثم مات قبل أن يبين لم يثبت نسب واحدة منهما وعتقت الأمة بجهة أمية الولد لما بينا ويعتق من الكبرى نصفها ويسعى في نصف قيمتها ويعتق من الأوسطين نصف كل واحد منهما في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة رحمه الله وفي غير الأصول قال يعتق عبده من كل واحدة منهما ربعها وجه هذه الرواية أنه لما لم يثبت النسب بدعوته انقلب إقرارا بالحرية فكأنه قال أحدهما حر ويعتق نصف الكبرى في نصف الحرية وحط الأوسطين فيه على السواء لأنهما توأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر فيصير هذا النصف بينهما نصفين فيعتق من كل واحد ربعها وجه ظاهر الرواية أن تعلق الحرية الذي بقي العتق من وسطين ولكن أحدهما لم ينفصل عن الآخر في حرية الأصل ولا في النسب والإقرار بالنسب لأحدهما بمنزلة الإقرار به لهما فما يعتق به من أحدهما بحكم هذا الإقرار وهو نصف رقبته يعتق من الثاني مثله وأما الأصغر فهو حر كله لأنا تيقنا بأنه ولد أم الولد فيعتق بموت المولى من جميع المال كما تعتق أمته.(17/260)
قال: ولو نظر المولى إلى الأصغر فقال أحد هذين ابني ثم مات قبل أن يبين يعتق من الأكبر نصفه ومن الأصغر أيضا نصفه في قول أبي حنيفة لأن كلامه صار إقرارا بالحرية لهما فكأنه قال أحدهما حر فيعتق من كل واحد منهما نصفه وعلى قول محمد رحمه الله يعتق الأصغر كله لأنه حر بيقين إما لأنه ابنه أو لأنه ولد أم ولده فيعتق بموته.
وقال: يعتق من الأوسطين نصف كل واحد منهما ويسعى في نصف قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل هذا قول محمد رحمه الله فإنه إن كان المقصود الأكبر فهما حران بالاستيلاد وإن كان المقصود الأصغر لم يعتق واحد منهما فيعتق من كل واحد منهما نصفه فأما عند أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن لا يعتق من الأوسطين شيء لأن كلام المولى لم يتناولهما وقيل بل الجواب صحيح في قول أبي حنيفة لأن جهة العتق لهما واحدة وهو التبعية فيعتبر الحالان في حقهما فلهذا يعتق من كل واحد منهما نصفه
قال :رجل له أمة لها ثلاثة أولاد ولدتهم في بطون مختلفة من غير زوج فقال المولى للأكبر منهم هو ابني ثبت نسبه منه للدعوة وصارت الأم أم ولد له ولم يثبت نسب الآخرين منه عندنا وقال زفر رحمه الله يثبت نسب الآخرين منه أيضا لأنه تبين أنها أم ولد ولدتهما(17/261)
ص -129- ... على فراشه فإنها صارت أم ولد له من حين علقت بالأكبر ونسب ولد أم الولد ثابت من المولى من غير دعوة إلا أن ينفيه وتخصيصه الأكبر بالدعوة لا يكون دليل النفي ولا الإثبات ولنا أن تخصيصه الأكبر بدعوة النسب دليل النفي في حق الآخرين هنا لأنه يجب على المولى شرعا إظهار النسب الذي هو ثابت منه بالدعوة فكان تخصيصه الأكبر بعد وجوب الإظهار عليه بهذه الصفة دليل النفي في حق الآخرين ودليل النفي كصريح النفي ونسب ولد أم الولد ينتفي بالنفي فكذلك بدليل النفي وهذا نظير ما قيل أن سكوت صاحب الشرع صلوات الله عليه عن البيان بعد وقوع الحاجة إليه بالسؤال دليل النفي لأن البيان وجب عند السؤال فكان تركه بعد الوجوب دليل النفي ولكن يعتق الآخران بموت المولى لأنهما ولدان لأم الولد فيعتقان بموت المولى فإن ولدت بعد إقراره ولدا لستة أشهر فصاعدا فلم ينفه المولى ولم يدعه حتى مات فهو ابنه لأنها علقت على فراشه فإنها بالدعوة صارت فراشا للمولى ولهذا ثبت نسب هذا الولد منه وفي الكتاب أشار إلى أن الفراش إنما يثبت لها من وقت الدعوة وهذا يكون طريقا آخر في المسألة الأولى أن انفصال الولدين الأولين كان قبل ظهور الفراش فيها فلا يثبت نسبهما إلا بالدعوة .(17/262)
قال :ولو أقر أن أمته قد ولدت منه أو أسقطت منه سقطا مستبين الخلق ثم ولدت بعد ذلك لستة أشهر وهو غائب أو مريض فإنه يثبت النسب منه ما لم ينفه لأنها جاءت به على فراشه فإن نفاه انتفى بمجرد نفيه عندنا وقال الشافعي إذا أقر بوطئها ثم جاءت بالولد قبل أن يشتريها بحيضة لا ينتفي النسب منه وإن نفاه وإن جاءت بالولد بعد ما اشتراها بالحيضة لم يثبت النسب منه إلا بالدعوة لأن عنده بالوطء تصير فراشا له ولا ينقطع حكم ذلك الفراش إلا بالاستبراء فإذا ولدت قبل أن يشتريها ثبت النسب منه باعتبار الفراش فلا ينتفي بنفيه كما لو ثبت بفراش النكاح ولكنا نقول للمولى على أم الولد فراش مجوز لا ملزم ألا ترى أنه يملك نقل فراشه إلى غيره بالتزويج فكما أنه يثبت الفراش على وجه ينفرد بنقلها إلى غيره فكذلك النسب بحكمه يثبت على وجه ينفرد بنفيه بخلاف فرش المنكوحة والله أعلم بالصواب
باب دعوة القرابة
قال رحمه الله: قال جارية لرجل ادعى ابنه أن أباه زوجها منه فولدت له هذا الولد وأنكره الأب لم يصدق على ذلك ولم يثبت نسبه منه إلا أن بينته تقوم على النكاح. لأنه ليس للابن في جارية أبيه تأويل ملك ولا له حق بملكها على أبيه فكان هو في هذه الدعوة كسائر الأجانب لا يثبت نسبه منه ما لم يثبت سببه بالحجة وهو النكاح لأن ثبوت الحكم ينبني على ثبوت النسب .
قال وإذا ادعى الأب ولد جارية ابنه والابن عبد أو مكاتب فدعوته باطلة لأنه ليس له ولاية نقلها إلى نفسه لانعدام ولايته على العبد والمكاتب ولما كان للمولى فيها من ملك أو(17/263)
ص -130- ... حق ملك وشرط صحة دعوة الأب نقلها إلى ملكه كما ذكرنا وكذلك لو كان الابن مسلما والأب ذميا أو مستأمنا لأنه لا ولاية للكافر على مسلم .
قال:وإذا لو ولدت أمة الرجل فادعاه آخر أنه ابنه من نكاح أو شبهة وأنكره المولى لم يصدق على ذلك العم والخال وسائر القرابات لأنه لا حق لبعضهم في مال البعض فهم كسائر الأجانب فإن ملكه يوما وقد ادعاه من جهة نكاح صحيح أو فاسد أو من جهة ملك يثبت نسبه منه لأنه عند الملك كالمجدد لذلك الإقرار فإن النسب لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته والإقرار به قبل الملك يتوقف على وجود الملك وكذلك لو ادعى أنه ابنه ولم يذكر أنه تزوجها لأن مطلق إقراره محمول على سبب صحيح شرعا والأسباب المثبتة للفراش الذي يبنى عليها النسب كثيرة ولو مالك أمه معه أو دونه صارت أم ولد له لأنه أقر لها بأمية الولد حين أقر بالولد والنسب فإن إقراره بالنسب مثبت لها الفراش والفراش ثابت بالملك أو بالنكاح فاسدا كان أو صحيحا وذلك موجب أمية الولد لها إذا ملكها.
وإن ملك الولد أب المدعي وهو يجحد مقالة ابنه لم يثبت نسبه من الابن ولا يعتق لأنه لو كان في ملك الأب حين ادعاه الابن لم يثبت نسبه مع جحود الأب فإذا اعترض ملك الأب أولى أن لا يثبت نسبه بتلك الدعوة وإذا لم يثبت النسب لم يعتق على الأب لأن عتقه عليه باعتبار أنه بن ابنه وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت نسبه من الابن .(17/264)
قال:رجل تزوج امرأة على خادم فولدت في يد الزوج فادعى الزوج الولد وكذبته المرأة فإن كانت ولدت لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها وكان أصل الحبل عند الزوج فهو مصدق لأنا تيقنا أن العلوق حصل في ملكه فتكون دعوته دعوة استيلاد فبطل به تمليكها من المرأة صداقا ويضمن قيمتها للمرأة لأن التسمية بطلت بعد صحتها فوجب على الزوج القيمة كما لو استحقت وهذا لأنه تعذر تسليمها مع بقاء السبب الموجب للتسليم وهو النكاح وإن لم يكن أصل الحبل عنده لم يصدق لأن دعوة التحرير بمنزلة الإعتاق وهو لو أعتقها في هذه الحالة لم تصح منه وكذلك إن وضعته لأكثر من ستة أشهر لأنا لا نتيقن بحصول العلوق في ملكه فلا يصدقه على إبطال ملكها عن عين الخادم حين كذبته فإن طلقها قبل أن يدخل بها وقبل التسليم إليها ثبت نسب الولد منه لأن بالطلاق قبل الدخول ينتصف الأصل مع الزيادة وهو الخادم المقبوض فكان نصفها ونصف ولدها للزوج وذلك يكفي لصحة الدعوة فلهذا ثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له ويضمن نصف قيمتها للمرأة لأنه صار متملكا نصيبها عليها بما سبق منه من الدعوة وضمان التملك لا يعتمد وجود الصنع ولو لم يصنع في عينها شيئا بالطلاق قبل الدخول صار ضامنا لها نصف قيمة الجارية ويسعى الولد في نصف قيمته لها لأن نصف الولد مملوك لها وقد احتبس عنده فيجب عليه السعاية في نصف القيمة ولا ضمان على الزوج فيه وإن كان موسرا لأن صفة الدعوة حين ادعى لم يكن مفسرا عليها شيئا من الولد وإنما فسد نصيبها من الولد بعد الطلاق وكان ذلك(17/265)
ص -131- ... سببا حكميا وهو ينصف الصداق بينهما وذلك أمر حكمي ولا يقال بأن سببه الطلاق لأن الطلاق يصرف منه في المنكوحة لقطع النكاح لا في الصداق فلا يكون موجبا للضمان عليه ثم إن كان الزوج أقر أنه وطئها قبل النكاح لم يضمن من العقر شيئا وإن أقر أن وطأه إياها كان بعد النكاح ضمن نصف العقر لها وإن لم يبين ذلك فالقول قوله فيه إلا إذا جاءت به لأكثر من سنتين منذ تزوجها فحينئذ يعلم أن وطأه إياها كان بعد النكاح فيلزمه نصف العقر لها لأن بالوطء قد لزم جميع العقر فإنه وطىء ملك الغير وقد سقط الحد عنه لشبهة فيجب العقر والعقر زيادة كالولد فينصف بالطلاق.
قال: وتأويل هذه المسألة إذا كان ادعى نسب الولد بنكاح أو شبهة أو لم يبين السبب فأما إذا بين أنه وطئها من غير شبهة النكاح لا يثبت النسب منه لأن الجارية في يده مملوكة له مضمونة عليه بالقيمة كالمغصوبة فيكون وطؤه إياها زنا غير مثبت النسب وإن كانت ولدت في يدي المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها لم يرجع إليه من الخادم والولد سبي لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض تمنع بنصف الأصل إلا أن تكون جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فيكون ابنه بدعوته والجارية أم ولد له ويضمن المرأة نصف قيمتها لتيقننا بحصول العلوق في حال ملكه وذلك بمنزلة البينة تقوم وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر بعد القبض ولم يطلقها ولكن المرأة ماتت فورثها ضمن نصيب شركائه فيها لأنه صار متملكا لنصيب شركائه من الجارية حين صارت أم ولد له وضمان التملك لا يستدعي صنعا من جهته ويسعى الولد في حصتهم لأن نصيب الأب منه قد عتق بالدعوة السابقة فيحتبس نصيب الشركاء عند الولد فعليه السعاية.(17/266)
قال :وكذلك كل ميراث يقع في مثل هذا وحاصل هذه المسألة إن ملك جزءا من ولد بطريق الميراث من غيره فهو على وجهين إما أن يكون شريكه ذا رحم محرم من الولد أو أجنبيا منه وكل وجه على وجهين إما أن تكون دعوة الأب فيه قبل الملك أو بعده وكل وجه من ذلك على وجهين إما أن يصدقه الشريك أو يكذبه ثم الحاصل عند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن كان الشريك ذا رحم محرم من الولد والدعوة قبل الملك أو بعده صدقه الشريك في ذلك أو كذبه فالولد حر كله ولا ضمان على الأب ولا سعاية على الولد لأنه إنما عتق نصيب الشريك عليه بقرابته فلا يكون ذلك موجبا للسعاية على الولد ويكون موجبا للضمان على الأب أما إذا انعدمت الدعوة على الملك فلأن تمام علة العتق بالملك الحاصل بالميراث لا صنع له فيه فإن تأخرت الدعوة عن الملك فإنما كان عتق نصيب الشريك محالا به على القرابة الثانية بينهما حكما فلا يكون موجبا للضمان على الأب.
وإن كان الشريك أجنبيا فإن كانت الدعوة قبل الملك وصدقه الشريك فيه أو كذبه أو كانت الدعوة بعد الملك وصدقه الشريك فيه فلا ضمان على الأب لانعدام صنع موجب للضمان إما بتقدم الدعوة على الملك الذي هو متمم لعلة العتق وإما التصديق من شريكه إياه(17/267)
ص -132- ... في الدعوة فإنه حينئذ يلتحق بالابن المعروف ومن ملك ابنه المعروف بالميراث مع غيره لم يضمن لشريكه شيئا ولكن على الولد أن يسعى في نصيب الشريك لأنه احتبس نصيب الشريك عنده فتجب السعاية له ولو كانت الدعوة بعد الملك وكذبه شريكه فالحكم فيه كالحكم في عبد بين اثنين يعتقه أحدهما لأن نصيب الأب إنما يعتق عليه بعلة ذات وصفين الملك ولقرابة فيحال به على آخر الوصفين وجودا وهو الدعوة هنا وذلك منه بمنزلة الإعتاق في حق الشريك حين كذبه فلهذا كان الحكم فيه كالحكم بين اثنين يعتقه أحدهما.(17/268)
وأما في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فإن كانت الدعوة قبل الملك وكان الشريك ذا رحم محرم من الولد وصدقه في ذلك فلا ضمان عليه ولا سعاية على الولد لأن نصيب الشريك إنما يعتق عليه بقرابته حين صدقه في الدعوة وإن كانت الدعوة قبل الملك وكذبه شريكه أو كان الشريك أجنبيا والدعوة قبل الملك فصدقه أو كذبه أو كانت الدعوة بعد الملك وصدقه ففي هذه الوجوه الأربعة لا ضمان على الأب لأن تتميم علة العتق بالملك إذا كانت الدعوة قبله ولا صنع له في ذلك وإن كانت الدعوة بعده وصدقه فهو كالابن المعروف في حقه فلا يكون الأب ضامنا لشريكه في ظاهر الرواية عنهما وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله يصير ضامنا لشريكه في الابن المعروف وإن ملكه بالإرث لأن ضمان العتق على هذه الرواية ضمان التملك بناء على أصلهما أن المعتق إذا كان موسرا يكون الولاء كله له فيكون بمنزلة ضمان الاستيلاد الواجب بسبب تملك الأم ولكن هذه الرواية غير صحيحة فإنه لا خلاف أنه لا يجب هذا الضمان عند العسر وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار ولكن العبد يسعى في قيمة نصيب شريكه لإحصاء منه عنده فإن القرابة بينه وبين الولد لم تثبت عند تكذيبه في حقه وإن كانت الدعوة بعد الملك وكذبه الشريك وهو ذو رحم محرم من الأب أو أجنبي فالجواب في الفصلين واحد عندهما والحكم فيه كالحكم في عبد بين اثنين يعتقه أحدهما لما بينا أن القرابة لا تثبت في حق الشريك مع تكذيبه إياه فذا الرحم المحرم والأجنبي فيه سواء.(17/269)
قال: أمة في يدي رجل فولدت فادعى رجل أنه تزوجها وأن الولد منه وقال المولى بل بعتها بألف درهم والولد منه فالولد من الزوج بتصادقهما على الفراش المثبت للنسب له عليها مع الاختلاف في سببه ويعتق بإقرار المولى لأن الأب مقر أن الولد ملكه لأنه ولد أمته والمولى مقر أنه حر لأنها علقت به في ملك الأب فكان حرا بإقرار المولى وأمه بمنزلة أم الولد لأن المولى مقر لها بأمية الولد والمستولد مقر بأن إقرار المولى فيها نافذ فلهذا كانت بمنزلة أم الولد موقوفة لا تحل لواحد منهما لأن كل واحد منهما ينفيها عن نفسه ولا يسع الزوج أن يقربها لأن إباحة الفساد باعتبار ملك المتعة وملك المتعة لا يثبت له عليها إلا بثبوت سببه ولم يثبت هنا سبب لملك المتعة فإن المولى منكر للزوجية والزوج منكر للشراء وباب الحل مبني على الاحتياط فلهذا لا يسعه أن يقربها فإذا مات أب الولد(17/270)
ص -133- ... عتقت لأن المولى مقر أنها أم ولد له يعتق بموته والزوج مقر بصحة إقرار المولى فيها وعلى الزوج العقر قصاص من الثمن لأن مقدار العقر تصادقا على وجوبه على الزوج وإن اختلفا في سببه ولا عبرة لاختلاف السبب في ضمان المال كمن يقول لغيره لك على ألف درهم قرض وقال المقر له بل هو غصب كان له أن يأخذ المال فهنا كذلك الزوج يعطي بحساب العقر والمولى يأخذ بحساب ما ادعاه من الثمن.
قال: وهذا الجواب بخلاف ما ذكرنا في كتاب العتاق وإنما أراد به ما ذكره في نسخ أبي سليمان رحمه الله من كتاب العتاق أن على الزوج قيمتها للمولى وهذا غلط بل الصحيح ما ذكره في نسخ أبي حفص ونوادر هشام رحمهما الله أن على الزوج العقر يأخذه المولى قصاصا من الثمن كما فسره هنا.
قال ولو ادعى الزوج أنه اشتراها فولدت منه هذا الولد وقال المولى بل زوجتك ثبت النسب لتصادقهما عليه ولم يعتق الولد لأن الشراء لم يثبت بقول الزوج فكان الولد مملوكا للمولى بملكه الأم كما عرف بثبوته فلهذا لا يعتق .
قال: أمة في يدي رجل فولدت فادعى ولدها وقال لرجل هي أمتك زوجتنيها وصدقه الآخر ولا يعرف أن أصلها كان للآخر فالولد حر ثابت النسب من ذي اليد وأمه أم ولد له لأنها كانت في يده والظاهر أنها مملوكة فصحت دعوته وثبت للولد حقيقة الحرية وللأم حق الحرية بهذه الدعوة فهو بإقراره بعد ذلك أنها لغيره يريد إبطال الحق الثابت لها قبله فلا يقبل قوله في ذلك ولكن يضمن قيمتها للمقر لأن إقراره حجة في حقه وقد زعم أنها مملوكته احتبست عنده بالدعوة السابقة فيضمن قيمتها له ولو عرف أن أصلها كان للمقر له ثبت النسب منه وكان مملوكين له لأن بدعوة النسب هنا لم تثبت الحرية فيها ولا في ولدها لكون الملك فيها ظاهرا لغير المستولد وإن كان الأصل لا يعرف لهذا فقال هذا بعتكها وقال أب الولد زوجتني ضمن أب الولد قيمتها لأن احتباسها عنده لم يكن بإقرار المقر له بالبيع .(17/271)
ألا ترى أنه وإن أنكر ذلك لم يكن له عليه أولا على ولدها سبيل بثبوت أمية الولد بالدعوة السابقة فلهذا ضمن أب الولد قيمتها ولم يضمن العقر لأنه وطى ء ملك نفسه ولأنه ضمن جميع بدل النفس وكذلك لو قال أب الولد بعتني هذه الجارية وقال الآخر بل زوجتك فهذا والأول سواء لما بينا وإن كان يعرف أن الأصل لهذا فإنه يأخذ الأم وولدها مملوكين ما خلا خصلة واحدة وهي أن تقر بأنه باعها منه فحينئذ لا سبيل له عليها لإقراره بخروجها عن ملكه بالبيع ولا يغرم أب الولد القيمة في هذا الفصل لأن احتباسها بإقرار المقر له ببيعها ألا ترى أنه لو أنكر ذلك لم يمكن من أخذها وأخذ ولدها فلهذا لا يضمن أب الولد القيمة ولكن عليه العقر لما بينا فيما سبق وكانت هي بمنزلة أم الولد موقوفة لإقرار مولاها بذلك(17/272)
ص -134- ... قال:رجل تزوج امرأة فولدت ولدا فادعى أحدهما النكاح منذ شهر وقال الآخر منذ سنة فالنسب ثابت منهما لأنها فراش له في الحال فيثبت النسب باعتبار ظاهر الفراش في الحال ومن ادعى أن النكاح منذ شهر فقد ادعى خلاف ما يشهد به الظاهر فلا يقبل قوله فإن قيل بل صاحبه يدعي سبق التاريخ بالنكاح وهو منكر له فينبغي أن يكون القول قول المنكر قلنا التاريخ غير مقصود لعينه فلا ينظر إليه وإنما ينظر إلى الحكم المقصود وهو نسب الولد فيجعل القول قول من يشهد الظاهر له في حق النسب مع أن هذا المنكر مناقض لأنه قد تقدم منه الإقرار لصحة النكاح والآن يدعي فساده بإنكار التاريخ فلا يقبل قوله وكذلك لو طلقها ثلاثا فولدت بعده بيوم فأحبلها فهو وما سبق سواء لما بينا ولو اجتمعا على أن النكاح منذ شهر والولد صغير صدقا ولم يثبت النسب من الزوج لأن الصغير لا قول له في نفسه فبقي الحق لهما وما تصادقا عليه يجعل كالمعاين في حقهما فلهذا لا يثبت النسب من الزوج فإن قامت البينة أنه تزوجها منذ ستة أشهر ثبت النسب لقيام حجة البينة عليه فإن قيل كيف تقبل هذه البينة وليس هنا من يدعيها قلنا من أصحابنا رحمهم الله من قال ينصب القاضي عن الصغير قيما ليقيم هذه البينة لأن النسب حقه وهو عاجز عن إثباته بنفسه فينصب القاضي عنه قيما لإثباته وقيل بل في هذا حق الشرع وهو ثبوت النكاح بينهما والحكم بصحته حتى لا تتزوج بغيره فيكون ابنه وإن لا ينسب الولد إلى غير أبيه فإن ذلك حرام لحق الشرع وإذا تعلق به حق الشرع قبلت الشهادة عليه حسبة من غير دعوى كما في عتق الأمة والله أعلم.
باب إقرار المريض بالولد(17/273)
قال رحمه الله: رجل له عبد في صحته وأقر في مرض موته أنه ابنه وليس له نسب معروف ومثله بولد لمثله فإنه ابنه يرثه ولا يسعى في شيء سواء كان أصل العلوق به في ملكه أو لم يكن في ملكه لأن النسب من حاجته وهو مقدم على حق ورثته في ماله فيثبت نسبه منه بالدعوة لكونه غير محجور عنه ويكون بمنزلة بن معروف له ملكه في صحته فيكون عتقه من جميع المال لا بطريق الوصية فلهذا لا يسعى في شيء.
قال:وكذلك إن كان عليه دين يحيط بماله لأن حاجته مقدمة على حق غرمائه بدليل الجهاز والكفن ولأنه ليس في إثبات النسب إبطال حق الغرماء والورثة لأنه يلاقي محلا لا حق لهم فيه وإنما ذلك فيما ينبني عليه من الحكم والذي ينبني على هذا السبب عتق في صحته ولا حق للغرماء والورثة في ماله في صحته وكذلك لو كانت له جارية ولدت في صحته فأقر في مرضه أنه ابنه سواء كان أصل العلوق في ملكه أو لم يكن لأن الذي ينبني على دعوة النسب هنا حقيقة الحرية للولد في صحته وحق الحرية للأم ولا حق للغرماء والورثة فيهما في حالة الصحة فأما إذا كان ملكه في مرضه فادعاه قبل الملك أو بعده ثم مات فإن كان عليه دين محيط فعليه السعاية في جميع القيمة لأن الذي ينبني على دعوته هنا(17/274)
ص -135- ... عتق في المرض وذلك يلاقي محلا مشغولا بحق الغرماء فلا يكون مصدقا في حقهم إلا أن الرق قد فسد بإقراره فعليه السعاية في جميع القيمة وإن لم يكن له مال سواهما ولا دين عليه كان عتقه من ثلثه وعليهما السعاية فيما زاد على الثلث من قيمته ولا يرثه الولد في قول أبي حنيفة لأن المستسعى في بعض قيمه عنده بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يرث.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المستسعى حر مديون فيكون من جملة الورثة ولا وصية للوارث ولكن عليه السعاية في قيمته ويرثه وإن كان للمولى ابنان بحيث تخرج رقبته من الثلث فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الجواب كذلك يسعى الولد في قيمته لأنه صار وارثا ولا وصية للوارث وأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا سعاية على الولد في شيء ويرثه فقد جمع له بين الوصية والميراث لضرورة الدور فإنه لو لم يجز الوصية له وألزمه السعاية في قيمته كان مكاتبا والمكاتب غير وارث فتصح الوصية له سقطت السعاية فصار وارثا فلا يزال يدور هكذا والسبيل في الدور أن يقطع فلهذا جمع بين الوصية والميراث وهو نظير ما قالوا في تنفيذ الوصية في خمسي المال في بعض مسائل الهبة لضرورة الدور وإن كانت الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث وهذا لأن مواضع الضرورة مستثنى في الأحكام الشرعية فأما أم الولد فلا سعاية عليها عندهم جميعا لأنه إذا كان معها ولد يثبت نسبه فهو شاهد لها بمنزلة إقامة البينة فلهذا لا يلزمه السعاية في شيء وكذلك لو وهب للمريض ابنه المعروف ولا مال له غيره فإن كان عليه دين سعى في قيمته للغرماء وإن كان الدين أقل من قيمته سعى في الدين وفي ثلثي ما بقي للورثة وله الثلث وصية في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله سعى فيما بقي من قيمته بينه وبين الورثة ولا وصية له لأنه من جملة الورثة.(17/275)
قال:ولو كان وهب للمريض أم ولد له معروفة عتقت ولم يسع في شيء لأن ثبوت نسب الولد شاهد لها وعتق أم الولد من حوائج الميت فيكون مقدما على حق الغرماء والورثة قال:ولو أن مريضا له ألف درهم اشترى به ابنه ثم مات ولا مال له غيره فعند أبي حنيفة رحمه الله يسعى في قيمته للورثة والثلث وصية له ويسعى في جميع قيمته لأنه وارث فلا وصية له وإن كان عليه دين سعى في الدين وثلثي ما بقي في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما في جميع القيمة لما بينا قال ولو كان اشترى أم ولد له معروفة لم يسع في شيء للغرماء ولا للورثة لأن نسب الولد شاهد لها وإن كان قد حابى البائع في شيء فإن كانت أقل من ألف فالمحاباة في المرض وصية فإن كان عليه دين فعلى البائع رد بيع الفضل وإن لم يكن عليه دين فعليه رد ثلثي الفضل على الورثة والثلث يسلم له بطريق الوصية.
قال:ولو أن صبيا وأمة مملوكان لرجل لا يعرف له نسب فاشتراهما رجلان أو ملكاهما بهبة أو صدقة أو ميراث أو وصية ثم ادعى أحدهما أن الولد ابنه وكذبه الآخر فهو ابنه لأن قيام الملك له في النصف كقيام الملك له في الكل في صحة الدعوة والولد محتاج إلى النسب(17/276)
ص -136- ... ويضمنه حصة شريكه من قيمة الأم غنيا كان أو فقيرا لأنه صار متملكا لنصيبه عليه حين صارت أم ولد له قال ويضمن حصة شريكه من قيمة الولد إن كان موسرا ويسعى الولد إن كان معسرا لأن دعوة التحرير بعد الملك بمنزلة الإعتاق إذا كذبه الشريك وكان أجنبيا وإن كان الشريك ذا رحم محرم من الولد فعند أبي حنيفة رحمه الله لا سعاية عليه وعندهما يلزمه السعاية وقد بينا هذه الفصول في الباب المتقدم .
قال:ولو اشترى المكاتب ابنه مع رجل آخر صارت حصته مكاتبا معه لأنه لو ملك كله صار الكل مكاتبا معه فكذلك إذا ملك النصف اعتبارا للبعض بالكل فإذا ادعى المكاتب عتقا وسعى الولد لشريكه في نصف قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله ولا ضمان على المكاتب لأن من أصله أن الحر لو اشترى ابنه مع غيره لم يضمن لشريكه شيئا ولكن تجب السعاية على الولد فكذلك المكاتب وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله صار الولد كله مكاتبا مع ابنه لأن عندهما الكتابة لا تجزئ ويضمن المكاتب نصف قيمة ابنه لشريكه لأنه صار متملكا عليه نصيبه فيضمن له قيمة نصيبه موسرا كان أو معسرا ولو كان مجهولا فادعاه المكاتب بعد ما ملكاه كان للشريك أن يضمنه نصف قيمته إن كان غنيا وإن شاء استسعى الابن وإن كان فقيرا استسعى الابن لأن المكاتب في الدعوة كالحر وكذلك في ضمان الإعتاق وهو بمنزلة الحر.(17/277)
وقد بينا أن هذه الدعوة عند تكذيب الشريك بمنزلة الإعتاق ولو كانت أمه معه ضمن المكاتب نصف قيمتها غنيا كان أو فقيرا لأنه تعذر بيعها بما ثبت للمكاتب من الملك فيها وصارت بمنزلة أم الولد فيضمن لشريكه نصف قيمتها لأنه صار متملكا على كل حال وإن كان الذي ملك مع المكاتب ذا رحم محرم من الصبي ونسب الصبي من المكاتب معروف عتق نصيب ذا الرحم المحرم بالقرابة عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه أثبت له حقيقة الملك وكان نصيب المكاتب موقوفا فإن عتق عتق معه وإن عجز سعى لمولاه فيه وعند أبي يوسف ومحمد يعتق الكل لأن عندهما العتق لا يتجزى ء ولا ضمان لواحد منهما على صاحبه ولا سعاية على الولد لأن فيه تحصيل مقصود المكاتب فإنه إنما يسعى لتحصيل الحرية لنفسه ولولده فلهذا لا يجب الضمان له ولا السعاية والله أعلم .
باب دعوة الولد من الزنى والنكاح الصحيح
قال رحمه الله :رجل أقر أنه زنا بامرأة حرة وأن هذا الولد ابنه من الزنى وصدقته المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ولا فراش للزاني وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حظ الزاني الحجر فقط وقيل هو إشارة إلى الرجم وقيل هو إشارة إلى الغيبة كما يقال للغيبة الحجر أي هو غائب لا حظ له والمراد هنا أنه لا حظ للعاهر من النسب وبقي النسب من الزاني حق الشرع إما بطريق العقوبة ليكون له زجرا عن الزنى إذا علم أن ماءه يضيع به أو لأن الزانية نائبها غير واحد فربما يحصل فيه نسب(17/278)
ص -137- ... الولد إلى غير أبيه وذلك حرام شرعا ولا يرتفع هذا المعنى بتصديق المرأة أو كان نفي النسب عن الزاني لحق الولد فإنه يلحقه العار بالنسبة إلى الزاني وفيه إشاعة الفاحشة وهذا المعنى قائم بعد تصديق المرأة وإذا لم يثبت منه النسب لم يثبت منهما أيضا لأن مجرد قولها ليس بحجة في إثبات نسب الولد منهما فإن شهدت القابلة ثبت بذلك نسب الولد من المرأة دون الرجل لأن ثبوت النسب منها الولادة وذلك يظهر بشهادة القابلة ولا صنع لها في الولادة ليستوجب العقوبة بقطع النسب عنها ولأن المعنى في جانب الرجل الاشتباه وذلك لا يتحقق في جانبها فإن انفصال الولد عنها معاين فلهذا ثبت النسب منها.(17/279)
قال: وإن أقر الرجل أنه زنا بامرأة حرة أو أمة فولدت هذا الولد وادعت المرأة نكاحا فاسدا أو جائزا لم يثبت النسب منه وإن ملكه لأن ما ادعت من الفراش لم يثبت بقولها عند جحوده فبقي في حقه ما أقر به من الزنى وهو غير مثبت للنسب سواء ملكه أو لم يملكه إلا أنه إذا ملكه يعتق عليه لأنه جزء منه وإن كان غير منسوب إليه فكما لا يثبت الرق للمرء على نفسه لا يثبت على جزئه وإنما أورد هذا الفصل لإزالة الإشكال فإن بدعوها النكاح خرج الفعل من أن يكون زنا محضا لا يجب الحد على واحد منهما ويجب العقر لها عليه ولكنه غير مثبت النسب لأن سببه الفراش وذلك غير ثابت في حق الرجل فكذلك إن أقامت شاهدا واحدا بما ادعت لأن الفراش لم يثبت بالشاهد الواحد فإنه ليس بحجة تامة وعليها العدة لإقرارها على نفسها بالتزام العدة ولأنها أخذت المهر من الرجل حين سقط الحد عنه وإن ادعى الرجل النكاح وأقرت المرأة بالزنى فعليه العقر لسقوط الحد عنه بما ادعى من الشبهة ولم يثبت فراشه عليها عند جحودها فلا يثبت نسب ولدها منه في الحال وإن ملك يوما ثبت نسبه منه وإن ملك أمه كانت أم ولد له ولا ينظر إلى جحودها وجحود سيدها لأن إقراره حجة في حقه وإنما امتنع العمل به لكون المحل مملوكا لغيره وإذا صار مملوكا له كان كالمجدد لذلك فيثبت نسب الولد ويثبت أمية الولد للأم وكذلك لو أقام شاهدا واحدا أو شاهدين ولم يعدلا لأن ما أقام ليس بحجة تامة وعلى المرأة العدة لأنها قد استوجبت المهر ولأن العدة مثبتة للاحتياط .
قال:وإذا ولدت امرأة الرجل على فراشه فقال الزوج زنا بك فلان وهذا الولد منه وصدقته المرأة وأقر فلان بذلك فإن نسب الولد ثابت من الزوج لأنه صاحب الفراش وثبوت النسب باعتبار الفراش وبعد ما ثبت بفراش النكاح لا ينقطع إلا باللعان ولا لعان بينهما لإقرارها على نفسها بالزنى وكذلك لو كان النكاح فاسدا لأن الفاسد ملحق بالصحيح في حكم النسب.(17/280)
قال:ولو تزوج امرأة لا تحل له فأغلق عليها بابا أو أرخى حجابا ثم فرق بينهما لم يكن عليه مهر لأن الخلوة في العقد الصحيح إنما كان مقرى للمهر باعتبار ما فيه من التمكن من الاستيفاء وذلك لا يوجد في النكاح الفاسد فإنه غير متمكن من الاستيفاء شرعا فلهذا(17/281)
ص -138- ... سقط اعتبار الخلوة فإن جاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها ثبت النسب منه وفي بعض النسخ قال منذ أغلق عليها الباب وهذا لأن الفاسد من النكاح معتبر بالجائز في حكم النسب لأن الشرع لا يرد بالفاسد ليتعرف حكمه من نفسه فلا بد من اعتباره بالجائز وفي النكاح الجائز إذا جاءت بالولد لستة أشهر منذ تزوجها ثبت النسب منه فكذلك في الفاسد وإذا ثبت النسب منه فقد حكمنا بأنه دخل بها وكان عليه المهر واعتباره بستة أشهر منذ أغلق الباب لإشكال فيه لأن التمكن من الوطء حقيقة يحصل به وإن انعدم التمكن حكما واعتباره بستة أشهر منذ تزوجها صحيح أيضا لاعتبار الفاسد بالجائز ومن أصلنا في النكاح الجائز أن النسب ثبت بمجرد الفراش الثابت النكاح ولا يشترط معه التمكن من الوطء .(17/282)
وعلى قول الشافعي بمجرد النكاح بدون التمكن من الوطء لا يثبت النسب فكذلك في الفاسد حتى قالوا فيمن تزوج امرأة وبينهما مسيرة سنة فجاءت بولد لستة أشهر عندنا يثبت النسب وعنده لا يثبت ما لم يكن لأكثر من ستة أشهر حتى يتحقق التمكن من الوطء بعد العقد وحجته في ذلك أنا نتيقن بأنه غير مخلوق من مائه فلا يثبت النسب منه كما لو كان الزوج صبيا وهذا لأن سبب ثبوت النسب حقيقة كونه مخلوقا من مائه وذلك خفي لا طريق إلى معرفته وكذلك حقيقة الوطء تكون شراء على غير الواطئين وفي تعليق الحكم به خرج ولكن التمكن منه سبب ظاهر توقف عليه فوجب اعتباره لأن ما سقط إنما كان لأجل الضرورة فتقدر بقدر الضرورة ولأنها جاءت به على فراشه في حال يصلح أن يكون منسوبا إليه فيثبت النسب منه كما لو تمكن من وطئها وتصادقا أنه لم يطأها وهذا لأن النكاح ما شرع إلا للاستفراش ومقصود النسل فيثبت الفراش بنفسه ولكن في حق من يصلح أن يكون والدا والصغير لا يصلح أن يكون والدا فلم يعمل في النسب لانعدام المحل له فأما الغائب يصلح أن يكون والدا كالحاضر فيثبت له الفراش المثبت للنسب بنفس النكاح وكما أن حقيقة العلوق من مائه لا يتوقف عليها فكذلك التمكن من الوطء حقيقة لا يمكن الوقوف عليه لاختلاف طبائع الناس فيه وفي الأوقات فيجب تعليق الحكم بالنسب الظاهر وهو النكاح الذي لا يعقد شرعا إلا لهذا المقصود ومتى قام النسب الظاهر مقام المعنى الخفي سقط اعتبار المعنى الخفي ودار الحكم مع النسب الظاهر وجودا وعدما وهو أصل كبير في المسائل كما أقيم السفر المريد مقام حقيقة المشقة في إثبات الرخصة بسبب السفر وأقيم تجدد الملك في الأمة مقام اشتغال رحمها بماء الغير في تجدد وجوب الاستبراء ولأن الوطء والتمكن إنما كان معتبرا لمعنى الماء وقد سقط اعتبار حقيقة الماء لإثبات النسب فيسقط ما كان معبرا لأجله أيضا(17/283)
قال: وإذا قال الرجل لصبي في يدي امرأة هو ابني من زنا وقالت المرأة من نكاح ثم قال الرجل بعد ذلك هو من نكاح ثبت نسبه منه لأن كلامه الأول نفي للنسب عن نفسه وكلامه الثاني دعوة للنسب بعد النفي صحيح لأنه غير محتمل للانتفاء بعد ثبوته(17/284)
ص -139- ... فيبقى بعد النفي على ما كان عليه من قبل ولأن المرأة قد أقرت له بالنكاح وصدقها في ذلك فيثبت النكاح بينهما وبثبوته يثبت نسب ولدهما منه وكذلك لو قال الرجل هو ابني منك من نكاح وقالت هو ابنك من الزنى لم يثبت نسبه لإنكارها ما ادعاه من الفراش فإن قالت بعد ذلك هو ابني من نكاح ثبت نسبه لأنها أقرت له بالنكاح بعد ما أنكرت والإقرار بعد الإنكار صحيح فإذا ثبت النكاح بينهما ثبت نسب الولد منهما.
قال: امرأة رجل ولدت وهما حران مسلمان فادعى الزوج أنه ابنه وكذبته المرأة أو ادعت وكذبها الزوج وقد جاءت به لستة أشهر منذ تزوجها فهو ابنه منها لظهور النسب فيما بينهما وهو الفراش وكذلك لو قال الزوج هذا الولد من زوج كان لك قبلي وقالت المرأة بل هو منك فهو منه لأن السبب بينهما ظاهر وما ادعاه الرجل غير معلوم وإنما يحال بالحكم إلى السبب الظاهر دون ما لا يعرف ولو قال الزوج من زنا فإن صدقته المرأة بذلك فهو ابنه لأن السبب ثبت منه بفراش النكاح فلا يقطع إلا باللعان ولا لعان بينهما إذا صدقته فيما ادعى من الزنى وإن أنكرت ذلك وجب اللعان فيما بينهما ويقطع النسب عنه باللعان .(17/285)
قال: وإذا نفى الرجل ولد امرأته بعد ما مات أو كان حيا قبل اللعان فهو ابنه لا يستطيع أن ينفيه لأن النسب ثبت منه بالفراش وتقرر ذلك بموت الولد فلا يتصور بعد تقرره وهذا لأن الميت لا يكون محلا لإثبات نسبه بالدعوة ابتداء فكذلك لا يكون محلا لقطع نسبه الذي كان ثابتا باللعان فإن كل واحد من الحكمين يستدعي المحل فكذلك لو قبل الولد لأنا حكمنا للأب بالميراث عنه أما بدل نفسه أو مال إن كان له والنسب بعد ما صار محكوما به لا يحتمل القطع وإذا كان للمرأة ولد وليس في يدي زوجها فقالت تزوجتك بعد ما ولدت هذا من زوج قبلك وقال الزوج بل ولدتيه مني في ملكي فهو بن الزوج لما بينا أن النسب بينهما ظاهر وهو الفراش وما ادعت غير معروف فيحال بالولد على السبب الظاهر فلو كان الصبي في يدي الرجل دون المرأة فقال ابني من غيرك وقالت هو ابنك مني فالقول قول الزوج ولا تصدق المرأة بخلاف ما سبق.
والفرق من وجهين أحدهما أن قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشا آخر له على غيرها إما بنكاح أو بملك يمين فإذا كان الولد في يده كان نسبه إليه من أي فراش حصل له وأما ثبوت الفراش له عليها ينافي فراش آخر عليها لغيره وكان هذا الفراش في حقها متعينا وباعتباره يثبت النسب منه من هذا الزوج ولأن المرأة في يد الرجل والولد الذي في يدها من وجه كأنه في يده فأما الزوج ليس في يد امرأته فما في يده لا يكون في يدها فلهذا لا يقبل قولها وإذا نفي الرجل ولد امرأته وفرغا من اللعان عند القاضي فقيل أن يفرق بينهما ويقطع النسب من الأب فإذا مات أحدهما فالولد ثابت النسب من الزوج لأن نفس اللعان لا يقطع النسب ما لم يقطعه القاضي إذ ليس من ضرورة اللعان قطع النسب فإذا مات أحدهما إذن(17/286)
ص -140- ... اعترض قبل قطع النسب ما لو كان موجودا في الابتداء منع اللعان بينهما فكذلك يمنع قطع النسب به.
وكما يتقرر حكم النسب بموت الولد فكذلك بموت الأب لاستحقاق الولد الميراث منه ولو كانت ولدت ولدين توأم فعلم أحدهما فنفاه ولاعن وألزمه القاضي أمه يفرق بينهما ثم علم بالآخر فهما ابناه لأن نسبهما ثبت منه باعتبار الفراش وإنما جرى اللعان بينهما في الولد الذي نفاه فبقي نسب الآخر ثابتا كما كان وقد فرق القاضي بينهما فلا يمكنه أن ينفي نسب الآخر باللعان بعد الفرقة ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر لأنهما توأم يقرره وأنه لا بد من جعل أحدهما أصلا وإلحاق الآخر به والذي انقطع نسبه منه باللعان محتمل للثبوت منه بالإكذاب والذي نفي ثابت النسب منه بعد الفرقة تسمية لا تحتمل النفي عنه فجعل هذا أصلا أولى ولأن النسب يثبت في موضع الشبهة فلا ينتفي بمجرد الشبهة فترجح الجانب الذي فيه شبهة أولى.
فإن علم بالثاني قبل أن يفرق بينهما فنفاه أعاد اللعان وألزم الولدين الأم لأن النكاح بينهما قائم عند نفي الولد الثاني فيجري اللعان بينهما لقطع نسبه كالولد الأول وإن أكذب الملاعن نفسه بالدعوة بعد ما فرق القاضي بينهما ثبت النسب منه لأنه نفي موقوفا على حقه حتى لو ادعاه غيره لم يثبت منه فإذا أقر به بعد الإنكار صح إقراره وعليه الحد لأنه أقر بأنه قذفها وهي محصنة فعليه حد القذف عند خصومتها وهذا إذا كان الابن حيا سواء كانت الأم حية أو ميتة فإن كان الولد قد مات وترك ميراثا ثم أعاده الأب لم يصدق لأن الأب مدع للمال لا مقر بالنسب فإن الولد بالموت قد استغنى عن الشرف بالنسب وبمجرد الدعوى لا يستحق المال إذا لم يكن مناقضا في الدعوى فإذا كان مناقضا أولى إلا أن يكون ترك بن الملاعنة ولدا أو أنثى فحينئذ صدق الأب لأنه الآن مقر بالنسب فإن ولد الابن ينسب إليه كولد الملاعنة نفسه فإذا صح الإقرار ضر بالجد وأخذ الميراث.(17/287)
والحاصل أن النسب أصل عند إكذابه نفسه فإذا أمكن القضاء به إن كان المنفي نسبه حيا أو ميتا عن خلف يقضي بالنسب ثم يترتب عليه حكم الميراث وإذا كان ميت إلا عن خلف لا يمكن القضاء بالنسب فلو قضي بالمال كان قضاء بمجرد الدعوى والمال لا يستحق بمجرد الدعوى ولو كانت المنفية بنتا فماتت عن بن وأكذب الملاعن نفسه ولم يصدق به لم يرث في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يصدق ويضرب الحد ويرث.
وجه قولهما أنها ماتت عمن يخلفها فإن الولد كما ينسب إلى أبيه ينسب إلى أمه وكما يتشرف بشرف الأب يتشرف بشرف الأم ويصير كريم الطرفين وأب الأم يسمى أبا مجازا كأب الأب فكما في الفصل الأول جعل بقاء الولد كبقائه فكذلك هنا وأبو حنيفة رحمه الله يقول كلامه الآن في دعوى المال لا إقرار بالنسب لأن نسب الولد إلى قوم أبيه دون قوم أمه ألا(17/288)
ص -141- ... ترى أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قرشيا لا قبطيا وأن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة وفيه يقول القائل:
فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأنساب آباء
فإذا لم يكن هذا الولد منتسبا إلى الملاعن صار وجوده كعدمه فلا يعمل إكذابه نفسه بخلاف بن الابن على ما بينا فلو أراد بن الملاعن أن يتزوج المنفية نسبها لم يكن له ذلك ولو فصل فرق بينهما لأنها قبل اللعان كانت أختا له ولم ينتف ذلك بمجرد اللعان من كل وجه حتى لو أكذب الملاعن نفسه ثبت النسب منه وكانت أختا له وشبهة الأختية كحقيقتها في المنع من النكاح وكذلك الملاعن نفسه لو قال لم أدخل بالأم وتزوج البنت فرق بينهما لأنها كانت ابنة له وبعد اللعان قطع النسب عنه فبقي موقوفا على حقه لو أعادها صحت دعوته وشبهة البينة كحقيقتها في المنع من النكاح وللشافعي رحمه الله في هذا الفصل قولان أحدهما أن له أن يتزوجها بمنزله ابنته من الزنى على مذهبه وهي معروفة في النكاح والآخر كمذهبنا لأن النسب هنا موقوف على حقه لو ادعاه يثبت منه بخلاف المخلوق من مائه بالزنى.(17/289)
قال: وإذا طلق الرجل امرأته فجاءت بولدين فهذه المسألة على أوجه إما أن يكون الطلاق رجعا أو بائنا وكل وجه على ثلاثة أوجه إما أن يأتي بالولدين لأقل من سنتين أو يأتي بهما لأكثر من سنتين أو يأتي بأحدهما لأقل من سنتين بيوم ولم يقر بانقضاء العدة فبقي أحدهما حين ولدته ثم ولدت الثاني وهما ابناه ولا حد عليه ولا لعان لأنه حين نفي المولود منهما كان النكاح بينهما قائما فوجب اللعان بينهما فحين وضعت الولد الآخر فقد انقضت عدتها بوضع جميع ما في بطنها ولا يتأتى جريان اللعان فيما بينهما بعد ما صارت أجنبية والقذف الموجب للعان لا يكون موجبا للحد فلهذا ثبت نسب الولدين منه وإن جاءت بينهما لأكثر من سنتين فنفاهما يجري اللعان بينهما ويقطع نسب الولدين عنده لأنا تيقنا أن علوق الولدين من علوق حادث بعد الطلاق فصار مراجعا لها ولا تنقضي العدة بوضع الولدين فإذا نفي وهي منكوحته جرى اللعان بينهما .
فإن قيل: لما حكمنا بالرجعة فقد حكمنا بثبوت نسب الولدين منه فكيف يمكن قطع النسب باللعان بعد ذلك قلنا ليس من ضرورة الحكم بالرجعة الحكم بكون الولد منه فالرجعة تثبت بمجرد العين عن شهوة بدون الوطء والإعلاق وإن كان نفي الولد منهما ثم أقر بالثاني فهما ابناه وعليه الحد لأنهما توأم فأقراره بأحدهما كإقراره بهما وهذا منه إكذاب لنفسه بعد التفرق فعليه الحد وإن جاءت بأحد الولدين لأقل من سنتين وبالآخر لأكثر من سنتين فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هذا والفصل الأول سواء وعلى قول محمد رحمه الله هذا والفصل الثاني سواء.
وجه قوله أنا تيقنا بأن الولد الثاني من علوق حادث بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في(17/290)
ص -142- ... البطن أكثر من سنتين وشككنا في الولد الأول فيحتمل أن يكون العلوق به بعد الطلاق أيضا ويحتمل أن يكون العلوق به قبل الطلاق فاتبع الشك لا التيقن فإن المتيقن به يجعل أصلا ويرد المشكوك إليه وهما قالا لما ولدت الأول لأقل من سنتين فقد حكمنا بأنه من علوق قبل الطلاق ألا ترى أنها لو لم تلد غيره كان محكوما بأن العلوق به كان قبل الطلاق فلا يتغير ذلك الحكم بتأخير الولادة الثانية ولكن يجعل السابق منهما أصلا ويجعل كأنها وضعتهما قبل السنتين لأن الولد إنما لا يبقى في البطن أكثر من سنتين إذا لم يكن هناك من يزاحمه في الخروج فأما عند وجود المزاحم قد يتأخر خروجه عن أوانه فلا يكون ذلك دليلا على أن العلوق به كان بعد الطلاق فلهذا جعلنا السابق أصلا وإذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا فإن جاءت بهما لأقل من سنتين فعليه الحد بالنفي فهما ابناه لأنه حين قذفها فلا نكاح بينهما فيلزمه الحد وقد جاءت بالولدين لمدة يتوهم أن يكون العلوق بهما سابقا على الطلاق فيثبت نسبهما منه وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين لم يثبت نسبهما منه لأنهما من علوق حادث بعد الفرقة وإن نفاهما فلا حد عليه ولا لعان لأنه صادق في مقالته وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم وبالآخر لأكثر من سنتين بيوم فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هذا والفصل الأول سواء وعند محمد رحمه الله هذا والفصل الثاني سواء على ما بينا .(17/291)
قال: وإذا طلقها واحدة بائنة بعد ما دخل بها ثم تزوجها فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فنفاه لاعنها لقيام النكاح بينهما في الحال ويلزم الولد أباه لأنا تيقنا أن العلوق به سبق النكاح الثاني فكان حاصلا في النكاح الأول وبالفرقة بعده تقرر النسب على وجه لا ينتفي بحال وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها النكاح الثاني لاعن ولزم الولد أمه لأن الحل قائم فيستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهو ما بعد النكاح الثاني فإذا نفاه يقطع النسب عنه باللعان والله أعلم
باب الولادة والشهادة عليها
قال رحمه الله: أمة ولدت فادعت أن مولاها قد أقر به فجحد المولى فشهد عليه شاهد أنه أقر بذلك وشهد آخر أنه ولد على فراشه لم تقبل شهادتهما لاختلافهما في المشهود به فإن أحدهما يشهد بالقول وهو الإقرار وشهد الآخر بالفعل وهو الولادة على الفراش وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين فإن اتفق رجلان على الشهادة على الإقرار وعلى الولادة على فراشه فهو جائز لأنهما إن شهدا على الإقرار فثبوت الإقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة وإن شهدا على الولادة فقد شهدا بالسبب المثبت للنسب منه.
قال: ولو كان المولى ذميا والأمة مسلمة فشهد ذميان عليه بذلك جاز لأن هذه الشهادة تقوم على المولى وشهادة أهل الذمة على أهل الذمة حجة فإن كان المولى هو المدعي والأمة جاحدة لم تجز شهادة الذميين عليها لكونها مسلمة وتأويل هذه المسألة أنها تجحد المملوكية للمولى فإنها إذا كانت تقر بذلك ينفرد المولى بدعوة نسب ولدها ولا عبرة(17/292)
ص -143- ... بتكذيبها ولو كانا مسلمين فشهد على الدعوة أب المولى وجده لم تجز الشهادة لأنهما يشهدان بالسبب للولد وهو بن ابنيهما وشهادة المرء لابن ابنه لا تقبل وإن شهد بذلك بن المولى جازت الشهادة إذا كان المولى جاحدا لذلك لأنهما يشهدان لأخيهما على أبيهما وشهادة المرء لأخيه على أبيه مقبولة إنما لا تقبل شهادته لأبيه.
وإذا طلقت امرأة من زوجها فاعتدت ثم تزوجت وولدت من الزوج الآخر ثم جاء الولد حيا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الولد للزوج الأول سواء جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها أو لأكثر من ذلك لأنه صاحب الفراش الصحيح فإن نفيه لا يفسد فراشه والزوج الثاني صاحب الفراش الفاسد ولا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجه بل الفاسد مدفوع بالصحيح والمرأة مردودة على الزوج الأول والولد ثابت النسب منه كمن زوج أمته فجاءت بولد ثبت النسب من الزوج دون المولى وإن ادعاه المولى لأن ملك اليمين لا يعارض النكاح في الفراش بل الفراش الصحيح لصاحب النكاح بل أولى فإن هناك ملك اليمين عند الانفراد غير مثبت للحل والنكاح الفاسد عند الانفراد غير مثبت للحل فإن نفي الأول والآخر الولد أو نفاه أحدهما أو ادعيا أو ادعاه أحدهما فهو للأول على كل حال ولا حد عليه ولا لعان لأنها غير محصنة حين دخل الزوج الثاني بنكاح فاسد فلا يجري اللعان بينها وبين الأول والنسب إذا ثبت بالنكاح لا ينتفى إلا باللعان .(17/293)
وكان بن أبي ليلى يقول الولد للثاني لأن الفراش الفاسد يثبت النسب كالفراش الصحيح أو أقوى حتى يثبت النسب به على وجه لا ينتفي بالنفي ثم الثاني إليها أقرب يدا والولد مخلوق من مائه حقيقة فيترجح جانبه بالقرب واعتبار للحقيقة وذكر أبو عصمة عن إسماعيل بن حماد عن عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة رحمهم الله أن النسب يثبت من الزوج الثاني كما هو قول بن أبي ليلى وفيه حديث الشعبي ذكره في الكتاب أن رجلا من جعفي زوج ابنته من عبيد الله بن الحر ثم مات ولحق عبيد الله بمعاوية رضي الله عنه فزوج الجارية أخوتها فجاء بن الحر فخاصم زوجها إلى علي رضي الله عنه فقال علي رضي الله عنه أما أنك الممالي علينا عدوانا فقال أيمنعني ذلك من عدلك فقال لا فقضى بالمرأة له وقضي بالولد للزوج الآخر إلا أن أبا حنيفة رحمه الله قال الحديث غير مشهور فلا يترك به القياس الظاهر ولو ثبت وجب القول به.
وكان أبو يوسف رحمه الله يقول: إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني فهو من الزوج الأول وإن جاءت به لستة أشهر منذ تزوجها الثاني فهو من الزوج الأول وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني سواء ادعياه أو نفياه لأن النكاح الفاسد يلحق بالصحيح في حكم النسب فباعتراض الثاني على الأول ينقطع الأول في حكم النسب ويكون الحكم للثاني والتقدير فيه بأدنى مدة الحبل اعتبارا للفاسد بالصحيح وإنما قلنا أن الأول ينقطع بالثاني لأن بدخول الثاني بها يحرم على الأول ويلزمها العدة من الثاني(17/294)
ص -144- ... ووجوب العدة ليس إلا لصيانة الماء في الرحم فلو لم يكن النسب بحيث يثبت من الثاني لم يكن لوجوب العدة عليها من الثاني معنى وعلى قول محمد رحمه الله إن جاءت به لأكثر من سنتين منذ دخل بها للثاني فهو الثاني وإن جاءت به لأقل من سنتين منذ دخل بها الثاني فهو للأول لأن وجوب العدة عليها من الثاني بالدخول لا بالنكاح والحرمة إنما ثبت على الأول بوجوب العدة من الثاني فكانت حرمتها عليه بهذا السبب كحرمتها بالطلاق والتقدير بأدنى مدة الحبل عند قيام الحل ولا حل بينهما فالعبرة للمكان فإذا جاءت به لأقل من سنتين منذ دخل بها الثاني يتوهم أن يكون هذا من علوق كان قبل دخول الثاني بها في حال حلها للأول فكان النسب ثابتا منه وإن جاءت به لأكثر من سنتين فقد انقطع هذا التوهم فكان النسب من الثاني وكذلك لو سبيت المرأة فتزوجت رجلا من أهل الحرب فولدت فهو على هذا الخلاف وكذلك لو ادعت الطلاق واعتدت وتزوجت والزوج الأول جاحد لذلك فهذا كله في المعنى سواء.
قال: أمة ولدت لرجل فلم ينفه حتى لو مات فهو لازم له لا يستطيع أن ينفيه وتأويل هذه المسألة في أم الولد لأن نسب ولدها ثابت بالفراش فيتقرر ذلك بالموت قبل النفي فأما الأمة القنة لا يثبت نسب ولدها إلا بالدعوة فإذا مات قبل الدعوة لا يثبت النسب إلا أن يكون هنى ء بالولادة فقبل التهنئة يكون ذلك بمنزلة الدعوة منه وكذلك إن جنى جناية فقضى به القاضي على عاقلته لم يستطع نفيه بعد ذلك وكذلك لو جني عليه فحكم فيه بقصاص أو أرش فهذا كله يتضمن الحكم بثبوت نسبه من المولى وبعد ما صار النسب محكوما به لا يستطيع أن ينفيه لأن قوله ليس بحجة في إبطال الحكم .(17/295)
قال: وإذا زوج أم ولده فمات عنها زوجها أو طلقها وانقضت عدتها ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ انقضت عدتها فهو بن المولى لأن بانقضاء عدتها حل للسيد غشيانها فعادت فراشا له كما كانت قبل النكاح فإن بانقضاء العدة قد ارتفع النكاح بحقوقه وهو المانع من ظهور حكم فراشه فإذا عادت فراشا للمولى ثم جاءت بالولد في مدة يتوهم أن يكون من علوق بعد الفراش ثبت نسبه وله أن ينفيه لما قلنا إلا أن يتطاول ذلك أو يجري فيه حكم وتفسير هذا التطاول مذكور في كتاب الطلاق أو ما فيه من الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله من التقدير بسبعة أيام عنده وبمدة النفاس عندهما .
قال:ولو حرم أم ولده على نفسه بأن حلف أن لا يقربها فجاءت بولد لزمه ما لم ينفه لأن فراشها لم يبطل بتحريمها على نفسه كما لا يبطل به فراش النكاح وهو مندوب شرعا إلى أن يحنث نفسه ويغشاها وفيه نزل قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فلهذا كان النسب ثابتا منه ما لم ينفه قال ولو كانت أم ولد المسلم مجوسية أو مرتدة لم يلزمه ولدها إلا أن يدعيه أو جاءت به لأقل من ستة أشهر بعد الردة وقال زفر رحمه الله يثبت نسب الولد منه ما لم ينفه لأن سبب الفراش قيام الملك وهو باق بعد الردة وإن حرم(17/296)
ص -145- ... عليه غشيانها بالردة وثبوت النسب لا يعتمد حل الغشيان كما في المنكوحة نكاحا فاسدا وهذا بخلاف ما زوجها لأن فراشها قد انقطع باعتراض فراش الزوج.
ألا ترى أنه لو ادعاه لم يثبت النسب منه بخلاف ما نحن فيه ولنا أن تحسين الظن بالمولى واجب وفي إثبات النسب منه حكم بإقدامه على وطء حرام وذلك لا يجوز بدون الحجة فإن ادعاه فقد صار مقرى بذلك فيثبت النسب منه حينئذ وإلا فلا وكذلك إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ ارتدت لأنا تيقنا أن العلوق سابق على ردتها فلا يكون فيه حمل أمر المولى على الفساد.
قال:وإذا أقر بصبي في يده أنه ابنه من أمته هذه ولد على فراشه ثم مات الرجل فادعى أولاده أن أباهم قد كان زوج هذه الأمة عنده قبل أن تلد بثلاث سنين وأنها ولدت هذا الغلام على فراش العبد والعبد والغلام والأمة ينكرون ذلك لم تقبل بينتهم على ذلك والغلام بن الميت لأن نسبه ثبت من المولى بإقرار المولى به وهذه البينة من الورثة تقوم على النفي فلا تكون مقبولة وبيان ذلك أنهم لا يثبتون بهذه الشهادة لأنفسهم حقا إنما يثبتون النسب للعبد وهو جاحد مكذب للشهود وقصد الورثة من هذا نفي النسب عن الميت حتى لا يزاحمهم في ميراثهم والشهادة على النفي لا تقبل ثم الورثة خلفاء الميت وهو لو أقام هذه البينة بنفسه لم يقبل منه فكذلك ممن يخلفه .(17/297)
قال: ولو ادعى العبد ذلك وأقام البينة ثبت نسبه منه لأنه يثبت حق نفسه بهذه البينة من الفراش عليها ونسب ولدها فوجب قبول بينته للإثبات ثم من ضرورته انتفاء النسب عن المولى لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ويعتق بإقرار المولى لإقراره بحريته حين ادعى نسبه فإن كان الإقرار منه في المرض فالمعتق من الثلث في حق الغلام والأمة جميعا لأن نسب الولد لما لم يثبت لم يكن لها شاهد على ما أقر به المولى من حق الحرية لها فكان معتبرا من الثلث كما يعتبر عتق الغلام من الثلث وجعل ذلك كإنشاء العتق منه فيهما ولو كان العبد غائبا توقف حكم هذه البينة حتى يحضر العبد فيدعي وينكر لأن حكم البينة يختلف بدعوى العبد وإنكاره فلا بد من أن يجعل وقوفا على حضوره ولو ادعت الأم النكاح أو ادعاه الغلام قبلت بينة التزويج لأنها تقوم للإثبات فإن النسب من حق الغلام فإذا البينة بالبينة من العبد كان مثبتا حق نفسه والأم تثبت النكاح بينهما وبين العبد وذلك حقها.
قال: رجل طلق امرأته تطليقة بائنة فأقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا لم يثبت نسبه منه لأن انقضاء العدة قد ظهر بخبرها فإنها أمه شرعا فإذا جاءت بعدذلك لمدة يتوهم أن يكون من علوق حادث لم يثبت نسبه منه إلا أن يدعيه فإن ادعاه ثبت نسبه منه معناه إذا صدقته المرأة فإن الحق لهما فيثبت بتصادقهما عليه فأما إذا كذبته لم يثبت النسب منه وإن ادعاه لأنه صار أجنبيا عنها وعن أولادها وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ انقضاء العدة ثبت نسبه منه لأنا تيقنا أن العلوق به كان قبل إقرارها وأنها كانت(17/298)
ص -146- ... حبلى حين أقرت بانقضاء العدة فكان خبرها مستنكرا مردودا وإن كانت تزوجت ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها الآخر فهو للآخر لأن تزويجها نفسها إقرار منها بانقضاء العدة وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يثبت نسبه من الثاني لأن العلوق سبق نكاحه وإن كانت جاءت به لسنتين أو أكثر منذ طلقها الأول لم يثبت النسب من الأول أيضا لأنه من علوق حادث بعد الفرقة فلا يثبت النسب منه إلا أن يدعيه وتصدقه المرأة في ذلك وإن جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها الأول فهو ثابت النسب من الأول ولا يبطل النكاح بينها وبين الثاني وتأويل هذا فيما إذا لم يقر بانقضاء العدة أو أقرت به ثم جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ أقرت.(17/299)
قال: رجل طلق امرأته الصغيرة ومات عنها فجاءت بولد فهذا على ثلاثة أوجه إما أن تدعي الحبل أو تقر بانقضاء العدة أو كانت ساكتة فإن ادعت حبلا ثم جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ مات الزوج أو فارقها ثبت النسب من الزوج لأن دعواها الحبل إقرار منها بالبلوغ فهي والكبيرة سواء وإن أقرت بانقضاء العدة عند مضي ثلاثة أشهر من الفرقة أو أربع أشهر وعشر منذ مات الزوج ثم جاءت بالولد لستة أشهر فصاعدا منذ أقرت لم يثبت النسب منه لأنها عند الإقرار إن كانت بالغة فقد ظهر انقضاء العدة بإقرارها وإن كانت صغيرة فقد تيقنا بانقضاء عدتها بثلاثة أشهر في الفرقة وبأربعة أشهر وعشر في الموت فإنما ولدت لمدة حبل تام بعد ذلك فلا يثبت النسب منه وإن كانت ساكتة فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إن جاءت به لستة أشهر فصاعدا منذ فارقها ولعشرة أشهر وعشرة أيام فصاعدا منذ مات لم يثبت النسب منه وعلى قول أبي يوسف رحمه الله إذا جاءت به لأقل من سنتين كان النسب ثابتا منه لأنها جاءت به لمدة يتوهم أن يكون من علوق في حال قيام النكاح وهذا لأن المراهقة بلوغها موهوم ولا يعرف ذلك إلا من جهتها فإذا لم يقر بانقضاء العدة فهي والكبيرة سواء لأن انقضاء عدتها بالشهور أن لا تكون حاملا وهذا الشرط لا يعلم إلا من قبلها.(17/300)
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: عرفناها صغيرة وما عرف ثبوته وجب التمسك به حتى يقوم الدليل على زواله وعدة الصغيرة تنقضي في الفرقة بثلاثة أشهر بالنص وفي الموت بأربعة أشهر وعشر فإذا جاءت بالولد لمدة حبل تام بعد ظهور انقضاء عدتها لم يثبت النسب منه كما لو أقرت بانقضاء العدة فأما المرأة الكبيرة إذا مات عنها زوجها فإن ادعت حبلا ثبت نسب الولد منه إذا جاءت به لأقل من سنتين وإن أقرت بانقضاء العدة بعد أربعة أشهر وعشر لم يثبت نسب ولدها منه بعد ذلك إذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا منذ أقرت وإن كانت ساكتة ثبت نسب ولدها منه إذا جاءت به لأقل من سنتين عندنا وقال زفر رحمه الله لا يثبت النسب منه إذا جاءت به لعشرة أشهر وعشرة أيام فصاعدا منذ مات الزوج لأن يمضي أربعة أشهر وعشر حكمنا بانقضاء عدتها بالنص إذا لم يكن بها حبل ظاهر فإذا جاءت بالولد لمدة حبل تام بعد ذلك لم يثبت النسب منه في الصغيرة ولكنا نقول انقضاء عدتها بالشهور(17/301)
ص -147- ... متعلق بشرط وهو أن لا تكون حاملا فإن قوله عز وجل {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق:4] ناسخة لقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:228] على ما قال بن مسعود رضي الله عنه من شاء بأهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة النساء الطولى وهذا الشرط لا يعرف إلا من قبلها فما لم يقر بانقضاء عدتها لا تجعل منقضية العدة بمضي أربعة أشهر وعشر بخلاف الصغيرة فإن الصغر ينافي الحبل فانقضاء عدتها بمضي المدة مطلقا يجب الحكم به ما لم يدع حبلا فلهذا فرقنا بين الفصلين ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إنما يثبت النسب ولد الكبيرة من الزوج الميت إذا شهد بالولادة رجلان أو رجل وامرأتان فأما بمجرد شهادة القابلة لا يثبت لأنه ليس هنا حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل وعندهما يثبت النسب بشهادة القابلة وهي معروفة.(17/302)
وإن أقرت بانقضاء العدة بعد موت الرجل بيوم بسقط قد استبان خلقه فالقول قولها لأنها أمنية أخبرت بما هو محتمل فإن جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر لم يثبت النسب منه لإقرارها بانقضاء العدة ولو جاءت بولد مثبت فقلت الورثة ولدته مساء وقالت هي كان فمات فشهدت على استهلاك الولد القابلة يقبل في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في حكم الأرث الصلاة عليه وعند أبي حنيفة رحمه الله في حكم الصلاة عليه كذلك فأما في الميراث فلا تقبل إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين واستدل بقول علي رضي الله عنه إذا استهل الصبي ورث فصلى وعليه فقد جمع بين الحكمين ثم أحد الحكمين هنا يثبت بشهادة القابلة لأن الرجال لا يطلعون على تلك الحالة فكذلك الحكم الآخر وأبو حنيفة يقول لأن الاستهلال صوت تسمعه الرجال فلا يكون شهادة النساء فيه حجة تامة وإن اتفق وقوعه في موضع لا يحضره الرجال كجراحات النساء في الحجامات إلا أن الصلاة عليه من أمور الدين وخبر الواحد حجة في أمور الدين فأما الميراث من باب الأحكام فتستدعي حجة كاملة وذلك شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
قال: رجل طلق امرأته تطليقة رجعية فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا فأنكر الزوج أن تكون ولدت وقال انقضت عدتك وشهدت امرأة على الولادة لم يلزمه في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه ليس بينهما فراش قائم فلا تكون شهادة القابلة حجة لإثبات النسب عنده وعندهما يلزمه النسب بشهادة القابلة ولو قال الزوج للمطلقة الرجعية أخبرك أن عدتك قد انقضت وكذبته فله أن يتزوج أربعة سواها وهي معروفة فإن جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الطلاق ثبت النسب من الزوج وبطل نكاح الأربع لأنه غير مقبول القول في حق الولد ولا في حق المرأة والنسب من حقها فصار في حق النسب كأن الإخبار منه لم يوجد.(17/303)
وإذا ثبت النسب تبين أنها كانت حاملا حين أخبر الزوج بانقضاء عدتها فصار ذلك الخبر مستنكرا وتبين أنها كانت فراشا له فإنما تزوج الأربع وفراشه على الأول قائم فلا يجوز الجمع بين خمس نسوة في الفراش بحكم النكاح فلهذا بطل نكاح الأربع(17/304)
ص -148- ... وإن جاءت به لأكثر من سنتين من يوم طلقها فإن كانت لأقل من ستة أشهر منذ أقرت بانقضاء العدة يلزمه النسب أيضا لأن إقراره لا يكون أقوى من إقرارها ولو أقرت هي بانقضاء العدة ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت النسب وصار مراجعا لها فكذلك هنا ومن ضرورة ضرورته مراجعته لها بطلان نكاح الأربع فكذلك لو طلقها واحدة رجعية ثم أبانها أو بغيرها فهو مثل ذلك إلا أن هذا لا تكون رجعة بحال فإن قوله أخبرتني أن عدتها قد انقضت إقرار بأن ذلك الواقع صار ثابتا ولكن ليس بإنشاء للإبانة فإذا بطل ذلك الإقرار يجوز أن يجعل مراجعا لها بخلاف ما إذا أنشأ الإبانة فهذه مسألة خلاف أنه إذا جعل الواقع نصفه الرجعة ثانيا أو ثلاثا عند أبي حنيفة رحمه الله يصح ذلك كله منه وعند أبي يوسف رحمه الله يملك أن يجعلها ثانيا ولا يملك أن يجعلها ثلاثا وعند محمد رحمه الله لا يملك أن يجعلها ثانيا ولا يملك أن يجعلها ثلاثا فمحمد رحمه الله يقول الواقع من الطلاق قد خرج من ملكه وملك الصفة تملك الأصل فإذا لم يبق أصلها في ملكه لم يبق صفتها في ملكه أيضا وتصرفه فيما هو ليس بمملوك باطل وأبو يوسف رحمه الله يقول ذلك الواقع بغرض أن يصير ثانيا بانقضاء العدة فكذلك ثانيا يجعله إياه ثابتا ولكن الواحد قط لا يصير ثلاثا فكان جعله الواحدة ثلاثا تصرفا في غير محله فلهذا كان لغوا وأبو حنيفة رحمه الله يقول لا يملك جعل الواحدة ثلاثا حقيقة ولكن يملك ضم البينتين إلى الواحدة بالإيقاع لتصير ثلاثا كناية عن قوله أوقعت اثنتين على سبيل المجاز لتصحيح مقصوده كما جعلنا لفظة الخلع مجازا عن إيقاع الطلاق في الحال لتحصيل مقصوده بحسب الإمكان.(17/305)
قال: غلام محتلم ادعى على رجل وامرأة أنهما أبواه وأقام البينة على ذلك وادعى رجل آخر وامرأته أن هذا الغلام ابنهما وأقام البينة فبينة الغلام أولى بالقبول لأن النسب حقه فهو يثبت ببينته ما هو حق له على من هو جاحد والأخوان يثبتان بالبينة ما هو حق الغلام وبينة المرء على حق نفسه أولى بالقبول من بينة الغير على حقه ولأن الغلام في يد نفسه وبينة ذي اليد في مثل هذا تترجح على بينة الخارج وكذلك لو كان الغلام نصرانيا واللذان ادعي الغلام أنهما أبواه نصرانيان إذا كان شهوده مسلمين لأن ما أقام من الشهود حجة على الخصمين الآخرين وإن كانا مسلمين فإن قيل: كان ينبغي أن تترجح بينة الآخرين لما فيه من إثبات الإسلام على الغلام قلنا اليد أقوى من الدين في حكم الاستحقاق.
ألا ترى أن اليد تثبت الاستحقاق ظاهرا ولا يثبت ذلك بإسلام أحد المدعيين فلهذا رجحنا جانب اليد ولو ادعى الغلام أنه بن فلان ولد على فراشه من أمته فلانة وأقام البينة وقال فلان هو عبدي ولد من أمتي هذه زوجتها من عبدي فلان وأقام البينة على ذلك فهو بن العبد لأن العبد والمولى يثبتان نسبه بفراش النكاح وهو إنما أثبت النسب بفراش الملك وفراش النكاح أقوى في إثبات النسب من فراش الملك(17/306)
ص -149- ... ألا ترى أن النسب متى ثبت به لم يثبت بمجرد النفي وإذا ثبت بفراش الملك انتفى بمجرد النفي والضعيف لا يظهر بمقابلة القوى والترجيح بما ذكرنا يكون عند المساواة فعند عدم المساواة جعلنا النسب من أقوى الفراشين وكذلك لو أقام العبد البينة أنه ابنه من هذه الأمة وهي زوجته وأقام المولى البينة أنه ابنه منها فالبينة بينة العبد لما فيه من زيادة إثبات النكاح ولكون فراش النكاح أقوى من فراش الملك في حكم النسب إلا أنه يعتق بإقرار المولى بحريته وتصير الجارية بمنزلة أم الولد.
قال: ولو كان العبد والمولى ميتين فأقام الغلام البينة أنه بن المولى من أمته وهي ميتة وأقام ورثة المولى البينة على أنه بن العبد من أمة المولى زوجها المولى منه فإنه يثبت النسب من المولى لأنه ليس في بينة الورثة هنا إثبات النكاح فقد انقطع ذلك بموتهما وكذلك لا يثبتون النسب لأنفسهم إنما يثبتون للعبد ومقصودهم بذلك نفي النسب عن المولى والبينة على النفي لا تقبل وفي بينة العبد إثبات النسب والحرية والميراث فكان هو أولى.(17/307)
قال: ولو أن رجلا مات وترك مالا فأقام الغلام المحتلم بينة أنه بن الميت من أمته فلانة ولدته في ملكه وأقر بذلك وأقام رجل آخر البينة أن الغلام عبده وأمه أمته زوجها من عبده فلان فولدت هذا الغلام على فراشه والعبد حي يدعي قضيت للعبد بالنسب وقضيت بالأمة إن كانت حية للمدعي لأن في الأمة البينتين قامتا على مطلق الملك فبينة الخارج أولى وفي حق النسب الخارج والعبد بينتان يشبه بفراش النكاح وهو أنه إنما يثبت نسب نفسه بفراش الملك وفراش النكاح أقوى فلهذا كان العبد به أولى ولأن العبد يثبت النكاح على الأمة لنفسه بالبينة فوجب قبول بينته على ذلك وإذا ثبت النكاح كان الولد ثابت النسب منه وإن كان العبد ميتا أثبت نسب الغلام من الحر وهو الميت الذي أقام الغلام البينة على أنه ابنه من أمته هذه لأن الخارج ليس يثبت النسب لنفسه إنما يثبت للعبد والابن يثبت حق نفسه ولأنه ليس في بينة الخارج هنا النكاح لأن الزوج ميت والنكاح بموته مرتفع فبقي الترجيح من حيث أن في أمية الغلام إثبات الحرية والميراث فهو أولى بالقبول وكذلك حق الأمة تترجح هذه البينة للمدعي إثبات الملك فقط وفي هذه البينة إثبات الحرية لها بجهة أمية الولد فكان أولى.
قال: غلام وأمة في يدي رجل فأقام الحر البينة أن هذه الأمة أمته ولدت هذا الولد منه على فراشه وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا الغلام على فراشه فبينة ذي اليد أولى بالقبول لأن البينتين استويا في إثبات حقيقة الحرية للولد وحق الحرية للأم وفي مثله تترجح بينة ذي اليد لأن إثبات الولاء عليها دون الملك وقد استوى البينتان في الإثبات عليها فيترجح جانب ذي اليد وهذا إذا كان الغلام صغيرا أو كبيرا مصدقا لذي اليد فإن كان كبيرا يدعي أنه بن الآخر فإني أقضي بالغلام والأمة للمدعي لأنه في يد نفسه فإذا صدق المدعي(17/308)
ص -150- ... كان هو كالمقيم لتلك البينة فيترجح جانبه لحقيقة اليد ولكونه مثبتا حق نفسه بالبينة فإن النسب من حقه
قال حرة لها ولد وهما في يد رجل فأقام آخر البينة أنه تزوجها فولدت منه هذا الغلام وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك والغلام يدعي أن ذا اليد أبوه فإني أقضي ببينة ذي اليد أنه يترجح باعتبار يده في دعوى النكاح عليها وفي دعوى النسب يدعي الغلام لأنه ابنه لأنه في يد نفسه فإنما أثبت حق نفسه بتلك البينة وكذلك لو كان ذو اليد ذ ميا وشهوده مسلمون لما بينا أن ما أقام من البينة حجة على الخصم المسلم ولو أقام البينة أنه تزوجها في وقت وأقام ذو اليد البينة على وقت دونه فإني أقضي بها للمدعي لأن تاريخه أسبق وقد أثبت نكاحه في وقت لا ينازعه الآخر فإنما أثبت الآخر بعد ذلك نكاح المنكوحة وهو باطل ولو أقام ذو اليد البينة أنها امرأته تزوجها فولدت هذا الولد على فراشه وأقام الخارج البينة أنها أمته ولدت هذا الغلام على فراشه منه فإني أقضي به للزوج وأثبت نسبه منه لما بينا أن فراش النكاح يترجح على فراش الملك في حكم النسب.
ألا ترى أن الحر أثبت ببينته ملك نفسه في المرأة وليس بمقابلته ما يوجب حريتها من الحجة فيقضي بالأمة ملكا للمدعي فيكون الولد حرا بالقيمة إن شهد شهود الزوج أنها عرية من نفسها وإن لم يشهدوا بذلك جعلت الأمة وابنها مملوكين للمدعي لأن الولد يتبع الأم في الملك والموجب لحرية الولد الغرور فإذا لم يثبت الغرور كان مملوكا للمدعي ثابت النسب من الزوج لأن المدعي أقر أنه ابنه فيعتق عليه بإقراره فتكون أمة بمنزلة أم الولد ولا يقال عند إثبات الغرور ينبغي أن لا يغرم الزوج قيمة الولد عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بمنزلة ولد أم الولد وإنما عتق بإقرار المدعي بحريته فإن هذا يكون بعد ثبوت الرق فيه ولم يثبت فإن ولد المغرور يكون حرا من الأصل فلهذا كان على الزوج قيمة الولد لمولاها.(17/309)
قال: أمة مع ولدها في يد رجل فأقام آخر البينة أنها أمة أبيه ولدت هذا الغلام على فراش أبيه في ملكه وأبوه ميت وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا الولد منه على فراشه في ملكه قضيت بالولد للميت الذي ليس في يديه لأن في هذه البينة إثبات حقيقة الحرية لها وفي بينة ذي اليد إثبات رقها لأن أم الولد لا تعتق إلا بموت المولى والترجيح بالحرية أقوى من الترجيح باليد فكيف يستقيم أن تكون أمة لذي اليد يطؤها بالملك وقد قامت البينة على حريتها فلهذا قضينا بولائها للميت ويكون الولد ثابت النسب منه لأن وارثه يقوم مقامه في إثبات ما هو من حقه والله أعلم بالصواب.
باب دعوى العتاق
قال رحمه الله: أمة ادعت أنها ولدت من مولاها وأقامت البينة وأقام آخر البينة أنه اشتراها من مولاها أخذ بينة الولادة لأن فيه إثبات حق الحرية لها وحق الحرية كحقيقة الحرية فإذا اقترن بالشراء منع صحة الشراء وإن كان المشتري قد قبضها فالجواب كذلك(17/310)
ص -151- ... لأن بينة الولادة سابقة معنى فإن ثبوت أمية الولد لها من وقت العلوق وذلك كان سابقا على الشراء والقبض ولأن في هذه البينة زيادة إثبات نسب الولد وحريته وإن وقتت بينة المشتري وقتا للشراء قبل الحبل بثلاث سنين أجزت الشراء وأبطلت النسب لأنه ثبت الملك فيها للمشتري من وقت الذي أرخ شهوده فتبين أنه استولد مالا يملكه فلهذا لا يثبت النسب وكذلك الوقت في البيع والعتق والتدبير يؤخذ بالوقت الأول لأنه لا مزاحمة للآخر معه في ذلك الوقت.
قال: وإذا أقام عبد البينة أن فلانا أعتقه وفلان ينكر أو يقر وأقام آخر البينة أنه عبده قضيت به للذي أقام البينة أنه عبده لأن شهود العبد ما شهدوا بالملك للمعتق إنما شهدوا بالعتق فقط والعتق يتحقق من المالك وغير المالك ولكن لا عتق فيما لا يملكه بن آدم ألا ترى أن هذه البينة لا تعارض يد ذي اليد فإن من ادعى عبدا في يد إنسان أنه أعتقه وأقام البينة على ذلك لا يقضي له بشيء فلئلا يكون معارضة لبينة الملك كان أولى وكذلك لو شهدوا أنه أعتقه وهو في يديه إذ ليس في هذه الشهادة ما يوجب نفوذ العتق لأن نفوذه بملك المحل لا باليد وكذلك لو شهدوا أنه كان في يده أمس لم تقبل هذه الشهادة لما ذكرنا ولو شهدوا أنه أعتقه وهو يملكه يومئذ أخذت ببينة العتق لأن البينتين استوتا في إثبات الملك وفي أحدهما زيادة العتق فكان أولى
قال: ولو كان العبد في يد رجل فادعى آخر أنه له وأقام العبد البينة أن فلانا كاتبه وهو يملكه وفلان جاحد لذلك أو مقر به فإنه يقضي به للذي أقام البينة أنه عبده لأن بينته تثبت الملك لنفسه والعبد إنما يثبت الملك لغيره ومن يثبت الملك لنفسه فبينته أولى بالقبول.(17/311)
فإن قيل العبد يثبت حق العتق لنفسه بإثبات الكتابة قلنا لا كذلك فعقد الكتابة عندنا لا يوجب حق العتق للمكاتب ولهذا جاز عتق المكاتب عن الكفارة ولهذا احتمل عقد الكتابة الفسخ وإنما الثابت للمكاتب بعقد الكتابة ملك اليد والبينة التي تثبت ملك اليد لا تعارض البينة التي تثبت ملك الرقبة.
قال: وإن أقام الخارج البينة أنه عبده غصبه منه ذو اليد وأقام ذو اليد البينة أنه عبده دبره أو أعتقه وهو يملكه فإنه يقضي به عبدا للمدعي لأن في بينة المدعي ما يدفع بينة ذي اليد وهو إثبات كونه غاصبا لا مالكا والإعتاق والتدبير من الغاصب لا يكون صحيحا وبينة ذي اليد على أصل الملك لا تكون معارضة لبينة المدعي وكذلك لو كان المدعي أقام البينة أنه عارية له في يد ذي اليد أو وديعة أو إجارة أو رهن قضي بالملك له لما بينا.
قال: عبد في يدي رجل أقام آخر البينة أنه عبده أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه فبينة المدعي أولى لأنها تثبت الحرية وبينة ذي اليد ثبت الرق فالمثبت للحرية من البينتين أولى ألا ترى أنه لو ادعى الخارج أنه ابنه ترجحت بينته لما فيها من إثبات النسب والحرية فكذلك هنا تترجح بينة لما فيها من إثبات الولاء الذي هو مشبه بالنسب مع الحرية(17/312)
ص -152- ... وكذلك لو أقام الخارج البينة أنه له ودبره فهو أولى لما في بينته من إثبات حق الحرية وقد ذكر قبل هذا بخلاف هذا وقد بينا وجه الروايتين ثمة ولو كان شهود ذي اليد شهدوا أنه أعتقه وهو يملكه فهو أولى من بينة الخارج على العتق لأن المقصود هنا إثبات الولاء على العبد والولاء كالنسب وإنما يثبت كل واحد منهما على العبد فلما استوت البينات في الإثبات ترجح جانب ذي اليد بيده وإن شهد شهود ذي اليد بالتدبير وشهود المدعي بالعتق الثابت قضيت بالعتق الثابت لأن فيها إبطال الرق والملك في الحال ويترجح أرأيت لو كان أمة لكانت توطأ مع قيام البينة على حريتها وكذلك لو أقام أحد الخارجين البينة على العتق الثاني والآخر على التدبير فبينة العتق أولى بالقبول لما بينا ولو أقام الخارج وذو اليد كل واحد منهما البينة أن الأمة له كاتبها قضيت بها بينهما نصفان لأن المكاتبة ليست في يد واحد منهما بل هي في يد نفسها فتحققت المساواة بين البينتين فقضي بها بينهما .
فإن قيل: كان ينبغي أن يرجع إلى قولها قلنا المكاتبة أمة ولا قول للأمة في تعيين مالكها بعد ما أقرت بالرق وإن شهد شهود أحدهما أنه دبرها وهو يملكها وشهود الآخر أنه كاتبها ويملكها فالتدبير أولى لأنه يثبت حق الحرية وهو لازم لا يحتمل الفسخ بخلاف الكتابة.(17/313)
قال: ولو ادعت أمة أن ولدها من مولاها وأنه أقر بذلك وأرادت يمينه فلا يمين على المولى في ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما عليه اليمين وهذه من المسائل المعدودة فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يرى الاستحلاف في النكاح والنسب والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والولاء لأن النكول عنده بمنزلة البدل فما لا يعمل فيه البدل لا يجري فيه الاستحلاف وعندهما النكول بمنزلة الإقرار ولكن فيه ضرب شبهة فكل ما يثبت بالشبهات يجري فيه الاستحلاف والقضاء بالنكول وهي مسألة كتاب النكاح وهنا دعواه على المولى دعوى النسب فلهذا قال أبو حنيفة لا يستحلف وكذلك لو ادعت أنها أسقطت من المولى سقطا مستبين الخلق لأن حق أمية الولد لها تبع لنسب الولد فكما لا يستحلف المولى عند دعوى النسب فكذلك في دعوى أمية الولد عنده وعندهما يستحلف في ذلك كله لأنه مما يثبت مع الشبهات ولو أقر المولى بذلك لزمه فيستحلف فيه إذا أنكر.
وكذلك لو جاءت الزوجة بصبي فادعت أنها ولدته وأنكر الزوج ففي استحلافه خلاف كما بينا وكذلك لو أن المولى أو الزوج جاء بصبي والدعى أنها ولدته منه وأراد استحلافها فلا يمين عليها عنده وكذلك لو كان الابن هو الذي ادعى النسب على الأب أو الأب على الابن وطلب يمين المنكر فلا يمين في الوجهين إلا أن يدعي بذلك ميراثا قبل صاحبه فحينئذ يستحلف على الميراث دون النسب لأن المال مما يعمل فيه البدل فيجوز القضاء فيه بالنكول بخلاف النسب وإذا استحلفه فنكل قضي بالمال دون النسب لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر وعند النكول إنما يقضي بما جرى فيه الاستحلاف ألا ترى أنه(17/314)
ص -153- ... لو ادعى سرقة مال على رجل فاستحلف فنكل يقتضي بالمال دون القطع فهذا مثله وكذلك لو ادعى ميراثا بالولاء فهو ودعواه الميراث بالنسب سواء فيما ذكرناه.
قال: ولو أن رجلا ورث دارا من أبيه فادعى آخر أنه أخوه لأبيه قد ورث أباه معه هذه الدار وجحد ذو اليد ذلك لم يستحلف على النسب هنا بالاتفاق أما عند أبي حنيفة لا يشكل وأما عندهما كل نسب لو أقر به لم يصح لا يستحلف على ذلك إذا أنكره لما بينا أن النكول عندهما قائم مقام الإقرار والأخوة لا تثبت بإقراره لو أقر بها فكذلك لا يستحلف عليه بخلاف الأبوة والبنوة ولكنه يستحلف بالله العظيم ما يعلم له في هذه الدار نصيبا كما يدعي المال والاستحلاف يجري في المال إلا أنه استحلاف على فعل الغير لأنه يدعي الإرث من الميت بسبب بينهما والاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم لا على الثبات.(17/315)
قال: جارية بين رجلين ولدت ولدين في بطنين فادعى أحدهما الأكبر ثم ادعى الآخر الأصغر لم تجز دعوة صاحب الأصغر لأن العلوق بهما حصل في ملكهما فحين ادعى أحدهما الأكبر صارت الجارية أم ولد له من حين علقت بالأكبر ثم الأصغر ولد أم ولده والشريك أجنبي عنه ومن ادعى ولد أم ولد الغير لم تصح دعوته ولو كان صاحب الأصغر ادعى الأصغر أولا يثبت نسبه منه لأنها مشتركة بينهما مع الولدين حين ادعى مدعي الأصغر وما ادعاه يحتاج إلى النسب فيثبت نسب الأصغر منه وصارت الجارية أم ولد له وضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه وتصح دعوة مدعي الأكبر للأكبر لأنه نفي مشترك بينهما فإن أمية الولد لها إنما يثبت من حين علقت بالأصغر والأكبر منفصل عنها قبل ذلك فلهذا بقي مشتركا بينهما فإن ادعاه مدعي الأكبر وهو محتاج إلى النسب ثبت نسبه منه وضمن نصف قيمته لشريكه إن كان موسرا لأنه مقصود بالدعوة والإتلاف فتكون دعوته إياه بمنزلة إعتاقه ولم يذكر أن مدعي الأكبر هل يغرم شيئا من العقر وينبغي أن يغرم نصف العقر لأنه أقر بوطء الأمة حال ما كانت مشتركة بينهما فيغرم نصف العقر لشريكه وإن لم يثبت أمية الولد لها من جهته .
قال: ولو كانت الدعوى منهما معا وهي أم ولد المدعي الأكبر لأنه سابق بالدعوة معنى فإن العلوق بالأكبر كان سابقا فصارت أم ولد له من حين علقت بالأكبر وفي القياس لا تصح دعوة مدعي الأصغر لأنه ادعى ولد أم ولد الغير كما في الفصل الأول ولكنه استحسن فقال بينة الأصغر من مدعي الأصغر لأن وقت الدعوة كان الأصغر مشتركا بينهما في الظاهر محتاجا إلى النسب وكذلك الجارية حين علقت بالأصغر كانت مشتركة بينهما في الظاهر فبعد ذلك أنها كانت أم ولد لمدعي الأكبر صار مدعي الأصغر بمنزلة المغرور وولد المغرور حر بالقيمة فكان جميع قيمة الأصغر لمدعي الأكبر وذكر في بعض النسخ أن عليه جميع قيمة الأصغر لمدعي الأكبر وذكر في بعض النسخ أن عليه نصف العقر وليس بينهما(17/316)
ص -154- ... اختلاف ولكن حيث قال عليه نصف العقر إنما أجاب بالحاصل فإن نصف العقر بنصف العقر قصاص وإنما يبقى في الحاصل نصف العقر على مدعي الأصغر لمدعي الأكبر .
قال: رجل مات وترك ابنين وجارية فظهر بها حبل فادعى أحدهما أن الحبل من أبيه وادعى الآخر أن الحبل منه وكانت الدعوة منهما معا فالحبل من الذي ادعاه لنفسه لأنه يحمل نسب الولد على نفسه وأخوه إنما يحمل نسب الولد على أبيه ومجرد قوله ليس بحجة في إثبات النسب من أبيه فلهذا كان الذي ادعاه لنفسه أولى فإن قيل الذي ادعى الحبل من أبيه كلامه أسبق معنى فينبغي أن يترجح بالسبق قلنا هذا إن لو كان قوله حجة في إثبات العلوق من أبيه في حياته وقوله ليس بحجة في ذلك ويغرم الذي ادعاه لنفسه نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه لأنه يملكها بالاستيلاد على شريكه فإن قيل كيف يضمن لشريكه وقد أقر الشريك أنها حرة من قبل الميت قلنا لأن القاضي كذبه في هذا الإقرار حين جعلها أم ولد للآخر والمكذب في إقراره حكما لا يبقى إقراره حجة عليه كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ثم استحق من يده رجع عليه بالثمن وكذلك إن كان الذي ادعاه لنفسه سبق بالدعوة وإن كان الذي ادعى الحبل للأب بدا بالإقرار لم يثبت من الأب بقوله ولكن يعتق عليه نصيبه من الأم ومما في بطنها لإقراره بحريتها ويجوز دعوة الآخر ويثبت نسب الولد منه لأنه محتاج إلى النسب والنصف منه باق على ملكه فإن إقرار الأول ليس بحجة في إبطال ملكه وأكثر ما فيه أنه صار كالمستسعى عند أبي حنيفة رحمه الله فتصح دعوته فيه ولا يضمن من قيمة الأم شيئا لأنه لا يتملك على شريكه نصيبه من الأم فقد عتق نصيبه من الأم بالإقرار السابق ويضمن نصف عقر ها إن طلب ذلك أخوه لأنه أقر بوطئها سابقا على إقرار أخيه وهي مشتركة بينهما في ذلك الوقت فيكون مقرى بنصف العقر لأخيه بسبب لم يبطل ذلك السبب بإقرار أخيه فكان له أن يصدقه فيستوفي ذلك منه إن شاء.(17/317)
قال عبد صغير بين رجلين أعتقه أحدهما ثم ادعاه الآخر فهو ابنه في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن عنده العتق يتجزى ء قضيت للآخر بادعاء ملكه فلهذا صحت دعوته ونصف ولائه للمعتق بإعتاقه فإن ثبوت نسبه من الآخر لا ينتفي ما صار مستحقا من الولاء للأول ويستوي إن كان ولد عندهما أو لم يولد وإن كان الغلام كبير فأقر بذلك فهو ثابت النسب من المدعي فإذا ادعاه الذي أعتقه الآخر فإن جحد ذلك لم يجز دعوة الذي لم يعتقه لأن نصيبه باق على ملكه وهو بمنزلة المكاتب له فإما عند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله العتق لا يتجزى ء فلا يجوز دعوة واحد منهما إلا بتصديق الغلام له في ذلك.
قال وإذا تصادق الرجل والمرأة الحرة في يد أحدهما أنه ابنهما والمرأة امرأة الرجل لأن مطلق إقرارهما بنسب الولد محمول على ولد صحيح بينهما شرعا وهو النكاح فكان تصادقهما على نسب الولد تصادقا منهما على النكاح بينهما ومطلقة ينصرف إلى النكاح الصحيح فإن كانت المرأة لا تعرف أنها حرة فقالت أنا أم ولد لك وهذا ابني منك وقال(17/318)
ص -155- ... الرجل هو ابني منك وأنت امرأتي فهو ابنهما لتصادقهما على نسب الولد ولكنها أقرت له بالرق وهو كذبها في ذلك فلم يثبت الرق عليها وهو قد ادعى عليها النكاح وهي قد كذبته فلا يكون بينهما نكاح ولكن بتكاذبهما في السبب المثبت للفراش لا يمنع العمل بما تصادقا عليه مما هو حكم الفراش وهو ثبوت نسب الولد منهما وكذلك لو ادعت أنها زوجته وقال الرجل هي أم ولدي فهذا والأول سواء لما بينا ولو قال الرجل هذا ابني منك من نكاح وقالت صدقت هو من نكاح فاسد لا يقبل قولها في ذلك لأن حقيقة الاختلاف بينهما في دعوى صحة النكاح وفساده وتصادقهما على أصل النكاح يكون إقرارا منهما بصحته فلا يقبل قول من يدعي الفساد بعد ذلك لكونه مناقضا ولو قال الزوج هو من نكاح فاسد وقالت المرأة هو من نكاح صحيح فنسب الولد ثابت وسئل الزوج عن الفساد ما هو فإذا أخبر بوجه من وجوه الفساد فرق بينهما بإقراره بأنها محرمة عليه في الحال وجعل ذلك بمنزلة إيقاعه الطلاق البائن حتى يكون لها نفقة العدة لأن قوله في فساد أصل العقد غير مقبول لما بينا ولكنه متمكن من أن يفارقها فيجعل إقراره بذلك كإنشاء التفريق والله أعلم بالصواب.
باب الغرور(17/319)
قال رحمه الله: ذكر عن يزيد بن عبد الله بن قصيط قال: بعت أمة فأبت بعض القبائل فانتمت إلى بعض قبائل العرب فتزوجها رجل من بني عذرة فنثرت له ذا بطنها ثم جاء مولاها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى بها لمولاها وقضى على أن الوالد أن يفدي الأولاد الغلام بالغلام والجارية بالجارية وفي هذا دليل أن ولد المغرور يكون حرا بعوض يأخذه المستحق من المغرور فأخذ بعض العلماء رحمهم الله بظاهره فقالوا مضمون بالمثل الغلام بالغلام والجارية بالجارية وعندنا هو مضمون بالقيمة وتأويل الحديث الغلام بقيمة الغلام والجارية بقيمة الجارية والمراد المماثلة في المالية لا في الصورة فإنه ثبت بالنص أن الحيوان لا يكون مضمونا بالمثل كما قال صلى الله عليه وسلم "في العبد بين اثنين يعتقه أحدهما إن كان موسرا ضمن نصف قيمته نصيب شريكه" وهكذا روي عن عمر رضي الله عنه وهو تأويل حديث علي رضي الله عنه الذي ذكره بعد هذا عن الشعبي رحمه الله أن رجلا اشترى جارية فولدت منه فاستحقها رجل ورفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالجارية لمولاها وقضى للمشتري على البائع أن يفيك ولده بما عز وهان.
ولم يرد بقوله: قضي بأولادها لمولاها أن يسلم الأولاد إليه وإنما المراد جعل الأولاد في حقهم كأنهم مملوكين له حيث أوجب له القيمة على المغرور وأضاف ذلك إلى البائع بطريق أن قود الضمان عليه فإن المشتري يرجع على البائع بما غرم من قيمة الأولاد ومعنى قوله بما عز وهان بالقيمة بالغة ما بلغت وهو الأصل عندنا وفي ولد المغرور فإنه في حق المغرور هو حر الأصل وفي حق المستحق كأنه رقيق مملوك له بملك الأصل وهو الجارية لأنه لا وجه لإيجاب الضمان له إلا هذا فإن الماء غير متقوم ليضمن بالإتلاف وإنما يضمن(17/320)
ص -156- ... المملوك بالمنع فيصير المغرور مانعا للولد بما ثبت فيه من الحرية حقا له وهذا لأن النظر من الجانبين واجب والنظر في جانب المغرور في حرية الولد لأنه لم يرض برق مائه والنظر في جانب المستحق في رق الولد لكنه لا يبطلملكه عما هو جزء من ملكه فيجب ضمان المالية على المغرور يمنعه بعد الطلب ولهذا اعتبر قيمته وقت الخصومة حتى أن من مات من الأولاد قبل الخصومة لم يضمن من قيمته شيئا لأن المنع إنما يتحقق بعد الطلب.
إذا عرفنا هذا فنقول: أمة غرت رجلا فأخبرته أنها حرة فتزوجها على ذلك فولدت ولدا ثم أقام مولاها البينة أنها أمته وقضي بها له فإنه يقضي بالولد أيضا لمولى الجارية لأن استحقاق الأصل سبب لاستحقاق المتولد منه فإنه في حكم الجزء له وقد ظهر هذا السبب عند القاضي ولم يظهر ما يوجب حرية الولد وهو الغرور إلا أن يقيم الزوج بينة أنه تزوجها على أنها حرة فإن أقام البينة على هذا فقد أثبت حرية الأولاد فكان الولد حرا لا سبيل عليه وعلى أبيه قيمته وادعى ماله حالا وقت القضاء به دون مال الولد لأن السبب هو المنع وجد من الأب دون الولد.(17/321)
ولا ولاء للمستحق على الولد لأنه علق جزء الأصل وإنما قدرنا الرق فيه لضرورة القضاء بالقيمة والثابت بالضرورة لا يعد وموضع الضرورة وإن مات الولد قبل الخصومة فليس على الأب شيء من قيمته لأن الولد لو كان مملوكا على الحقيقة لم يكن مضمونا فإن ولد الغصب أمانة عندنا فإن لم يكن مملوكا أولى أن لا يكون مضمونا وإن قبل الابن فأخذ الجارية فعليه قيمته للمستحق الدية بدل نفسه ومنع البدل كمنع الأصل فيتحقق به السبب الموجب للضمان وإن قضي له بالدية فلم يقبضها لم يوجد بالقيمة لأن المنع لا يتحقق فيما لم يصل إلى يده من البدل فإن قبض من الدية قدر قيمة المقبول قضي عليه بالقيمة للمستحق لأن المنع تحقق بوصول يده إلى البدل ويكون منعه قدر قيمة الولد كمنع الولد في القضاء للمستحق عليه بالقيمة فلو كان للولد ولد يحرز ميراثه وديته فخرج من الدية أو دونها قضيت على الأب بمثل ذلك لتحقق المنع في البدل ولا يقضي به في الدية ولا في تركة الابن لأن هذا الضمان مستحق على الأب يمنعه الولد بالحرية وإنما يقضي من تركة الابن ما يقرر دينا على الابن فإن كان الأب ميتا قضي به في تركته لأنه دين على الأب فيستوفي من تركته وإن كان على الأب دين خاص مستحق للغرماء بقيمة الولد لأن دينه مثل دينهم وإن لم يكن للأب بينة أنه تزوجها على حرة فطلب يمين المستحق على علمه حلفته على ذلك لأنه يدعي ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف عليه ولكنه استحلاف على فعل الغير وكان على العلم لا على الثبات.
قال ولو استولدها على شراء أو هبة أو صدقة أو وصية أخذ المستحق الجارية وقيمة الولد لأن الموجب للغرور ملك مطلق للاستيلاد لهفي الظاهر وهو موجود وما هو الظاهر ولو كان حقيقة كان الولد حرا فباعتبار الظاهر يثبت حرية الولد أيضا ويرجع الأب على البائع(17/322)
ص -157- ... بالثمن وقيمة الولد لأن المبيع لم يسلم له وبعقد المعاوضة استحق سلامتها له سليمة عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق فيكون له أن يرجع بما يغرم بهذا السبب على البائع ولا يرجع عليه بالعقد عندنا وعند الشافعي يرجع بالعقر كما يرجع عليه بقيمة الولد لأنه ضمان لزمه بسبب فوت السلامة المستحقة له بالعقد ولكنا نقول إنما لزمه العقر عوضا عما استوفى من منافع البضع فلو رجع به سلم المستوفي له مجانا.
والوطء في ملك الغير لا يجوز أن يسلم للواطى ء مجانا ولا يرجع على الواهب والمتصدق والوصي بشيء من قيمة الأولاد عندنا وعند الشافعي له ذلك لأنه الغرور قد تحقق منه بإيجابه الملك له في المحل واختار أنها مملوكته سواء كان بعوض أو بغير عوض ولكنا نقول مجرد الغرور لا يكفي لإثبات حق الرجوع فإن من أخبر إنسانا أن هذا الطريق آمن وسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه لم يرجع على المخبر وإنما ثبوت حق الرجوع باعتبار عقد المعاوضة لأن صفة السلامة تصير مستحقة به فأما بعقد التبرع لا تصير صفة السلامة مستحقة به ولهذا لا يثبت فيه حق الرد بالعيب فلم يكن له أن يرجع على المتبرع بقيمة الأولاد وهذا لأن عقد التبرع لا يكون سببا لوجوب الضمان على المتبرع للمتبرع عليه ألا ترى أن الملك لا يحصل به قبل التسليم.(17/323)
قال: وإن كان المشتري باعها من غيره فولدت منه ثم استحقها رجل يرجع المشتري الثاني على بائعه بقيمة الولد وللمشتري الأول أن يرجع على بائعه بالثمن وليس له أن يرجع بقيمة الولد عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد أن يرجع بقيمة الولد على بائعه حجتهما في ذلك أن المشتري الأول أوجب الملك فيها للغير فيجعل الاستيلاد على من أوجب له الملك فيها بمنزلة استيلاده بنفسه وهذا لأن الرجوع يفوت صفة السلامة الذي صار مستحقا بالعقد وهذا كما تقرر بين المشتري الأول والثاني فقد تقرر بين المشتري الأول والبائع ألا ترى أن المشتري الأول والثاني لو ردها بالعيب كان للمشتري الأول أن يردها على بائعه فكذلك إذا رجع عليه بقيمته وأبو حنيفة رحمه الله يقول أن المشتري الأول إن شاء بإيجابه الملك فيها لغيره بالبيع فرجوع المشتري عليه بما أنشأه من الغرور لا بالغرور الذي سبق من البائع فصار ما أنشأه من الغرور ناسخا لغرور البائع الأول وهو نظير من حفر بئرا على قارعة الطريق فألقي إنسان غيره فيه كان الضمان على الملقي ولا يرجع به على الحافر فهذا مثله.
يوضحه أنالرجوع بقيمة الولد بمنزلة الخصومة في العيب والمشتري إنما يخاصم البائع في العيب إذا كان المستفاد من قبله فإنما له وهنا قد انفسخ ذلك الملك بملك المشتري الثاني ولم يعد إليه بالرجوع بقيمة الولد عليه بخلاف ما إذا رد عليه بالعيب لأن الملك المستفاد له من جهة البائع قد عاد إليه ونظير هذه المسألة ما ذكر في آخر الصلح أن المشتري الثاني إذا وجد بالمبيع عيبا وقد تعذر رده بعيب حديث عنده ورجع على بائعه بنقصان العيب لم يكن لبائعه أن يرجع بالنقصان على البائع في قول أبي حنيفة لأن المستفاد(17/324)
ص -158- ... له من قبله لم يعد إليه وعندهما يرجع على البائع الأول بما غرم للمشتري الثاني من نقصان العيب لأن الرجوع بالنقصان عند تعذر رد العين بمنزلة الرد بالعيب عند الإمكان.
قال: رجلان اشتريا جارية فوهب أحدهما نصيبه من شريكه فولدت ثم استحقها رجل فإنه يأخذها وعقرها وقيمة ولدها ولم يرجع الأب بنصف الثمن ونصف قيمة الولد على البائع لأنه يملك نصفها من جهته بحكم المعاوضة والجزء معتبر بالكل ولا يرجع على الواهب بشيء من قيمة الولد لأنه يملك النصف من جهته بعقد التبرع ولكن الواهب يرجع بنصف الثمن على البائع لأن استحقاقها على من استفاد الملك فيها من جهة الواهب يكون استحقاقا على الواهب فيرجع بثمن ما استحق عليه على البائع ولم يغرم الواهب من قيمة الولد شيئا ليرجع به على البائع .
قال: ولو كانت أمة بين رجلين فولدت فادعاه أحدهما وغرم نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه ثم استحقها رجل قضي له بها وبقيمة الولد والعقر للمستحق لأن الغرور يتحقق بقيام الملك له في نصفها ظاهرا فإن الاستيلاد باعتبار هذا القدر صحيح في إثبات حرية الأصل للولد ثم يرجع على البائع بنصف الثمن ونصف قيمة الولد لما بينا ويرجع على شريكه بما أعطاه من نصف قيمتها ونصف عقرها لأنه تبين أنه لم يتملك على شريكه نصيبه ولم يحصل وطؤه في ملكه ولا يرجع على شريكه بشيء من قيمة الولد لأنه ما كان مغرورا من جهة شريكه فإن تملكه على شريكه ما كان باختيار منه ويرجع الشريك على بائعه بنصف الثمن لاستحقاق المبيع عليه .(17/325)
قال :وإذا تزوج المكاتب أو العبد امرأة حرة بإذن مولاه فولدت له ثم استحقت وقضي بها للمستحق فالولد رقيق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله حر بالقيمة وهي مسألة كتاب النكاح أن العتق بسبب الغرور عند محمد وذلك متحقق في حق العبد كما هو في حق الحر وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله المخلوق من ماء رقيقين لا يكون حرا وقد بينا بعض هذا فيما سبق قال وكذلك إذا صار المكاتب مغرورا بالشراء فهو على هذا الخلاف إلا أن عند محمد هناك الولد يكون حرا وهنا يكون بمنزلة أبيه مكاتبا.
قال: رجل اشترى أم ولد لرجل أو مكاتبة أو مدبرة من أجنبي فوطئها فولدت ثم استحقها مولاها قضي له بها وعلى أب الولد قيمة الولد لمولى المدبرة وأم الولد بسبب الغرور ولا يقال ولد أم الولد لا مالية فيه عند أبي حنيفة رحمه الله كأمه فكيف يضمن بالغرور لأن هذا بعد ثبوت أمية الولد ولم يثبت في الولد لأنه علق حر الأصل فلهذا كان مضمونا بالقيمة وعلى الأب قيمة الولد للمكاتبة قال لأن الذي غره منها وإنما أراد به أنه إذا كان الغرور منها لا يستوجب قيمة الولد وفيه قولان لأبي يوسف معروف في كتاب العتاق فأما إذا كان الغرور من غيرها وجب على الأب قيمة الولد ويكون ذلك للمكاتبة لأنها كانت أحق بولدها لكونه جزءا منها فكذلك ببدل ولدها.(17/326)
ص -159- ... قال: مكاتب أو عبد مأذون باع أمة فاستولدها المشتري ثم استحقت رجع أب الولد بقيمة الولد على بائعه لأن الرجوع بقيمة الولد لاستحقاق صفة السلامة له بعقد المعاوضة على البائع والمكاتب والمأذون في هذا كالحر لأن ضمان التجارة بمنزلة الرد بالعيب والرجوع بنقصان العيب عند تعذر الرد عليه قال رجل ورث أمة من أبيه فاستولدها ثم استحقت كان الولد حرا بالقيمة لتحقق الغرور في حق الوارث فإنما استولدها على أنها مملوكة إذا لم يكن عالما بكونها مستحقة ثم يرجع بالثمن وبقيمة الولد على الذي كان باعها من المورث لأنه يخلف المورث في ملكه فإنما يصل إليه الملك الذي كان لمورثه لا أن يكون ذلك ملكا جديدا له ألا ترى أنه يرده بالعيب ويكون فيه كالمورث فكذلك الرجوع بسبب الغرور وهذا بخلاف الموصي له ثم استولدها ثم استحقت لا يرجع على بائع الموصي له بعقد متجدد وذلك الملك غير الملك المستفاد من البائع ببيعه ولهذا لا يرده عليه بالعيب فكذلك لا يرجع عليه بضمان الغرور.(17/327)
قال :رجل أقر في مرضه أن هذه الجارية وديعة عنده لفلان وعليه دين يحيط بماله أو ليس عليه دين فاستولدها الوارث بعد موته وقد علم بإقرار الأب ثم استحقت ببينة فإنه يقضي للمستحق بها وبولدها مملوكين له لأن الوارث غير مغرور هنا فإنه أقدم على استيلادها مع علمه أنها غير مملوكة له لأنها لم تكن مملوكة لمورثه فصار راضيا برق مائه وكان الولد ملكا للمستحق وإن لم يقر المريض بها لغيره وكان عليه دين يحيط بماله فاستولدها الوارث قيمة الولد والعقر لأنه بمنزلة المغرور فيها فإن الاختلاف بين العلماء رحمهم الله ظاهر في وقوع الملك للوارث في التركة المستغرقة بالدين فمن يقول لا يملك يقول سبب الملك له فيها تام حتى يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر ولو أعتقها ثم سقط الدين نفذ عتقه ولو كانت أمه فتزوجها لم يصح النكاح فعرفنا أن الغرور قد تحقق فكان ولده حرا بالقيمة وتباع الأمة في الدين أن استغرقت التركة بالدين يمنع عتق الوارث فيها فكذلك يمنع ثبوت حق الحرية من جهة الوارث فيها ووجوب العقر عليه لأن هذا وطء حصل في غير ملكه وقد سقط الحد لشبهة فيغرم العقر فإن أقام رجل البينة أنها له قضيت بها له وبقيمة الولد والعقر لما بينا ولو كانت الأمة للميت وعليه دين لا يحيط بقيمتها فوطئها الوارث فولدت منه وضمن قيمتها وعقرها لأن الدين إذا لم يكن محيطا بالتركة لا يمنع ملك الوارث فيصح استيلاده فيها ولكن حق الغريم مقدم على حقه ويغرم قيمتها لحق الغريم لأنه صار مستهلكا لماليتها على الغريم بالاستيلاد قال ويغرم عقرها .(17/328)
قال عيسى رحمه الله: هذا غلط فإن الاستيلاد حصل في ملكه فلا يكون موجبا للعقر عليه إذا كان في قيمتها وفاء بالدين وزيادة فلم يغرم العقر ولماذا يغرم ولكنا نقول تأويل المسألة أن الورثة كانوا عددا فكان هذا استيلاد الشركاء للجارية المشتركة وهو موجب للعقر والقيمة باعتبار ملك الشركاء وفي بعض الروايات وهو قول بشر يقدر الدين ولا يصير ملكا للوارث أيضا فلهذا لزمه قيمتها وعقرها يقضي من ذلك الدين أولا وما بقي فهو ميراث(17/329)
ص -160- ... بين الورثة يسقط عنه من ذلك بقدر حصته ولا يضمن قيمة الولد هنا لأنها بمنزلة الجارية المشتركة وقد بينا أن أحد الشركاء إذا استولد الجارية المشتركة لم يغرم من قيمة الولد شيئا .
قال:رجل اشترى جارية مغصوبة وهو يعلم أن البائع غاصب أو تزوج امرأة أخبرته أنها حرة وهو يعلم أنها كاذبة فاستولدها كان الولد رقيقا لانعدام الغرور حين كان عالما بحقيقة الحال ولأنه رضي برق مائه حين استولدها مع علمه أنها مملوكة لغيره ولو اشتراها من رجل وهو يعلم أنها لغيره فقال البائع أن صاحبها وكلني ببيعها أو مات وقد أوصى إلي فاستولدها ثم جاء صاحبها وأنكر الوكالة والوصايا فإنه يأخذها جاريته لأن ملكه فيها معلوم وإذنه في بيعها لم يصح حين أنكره ويأخذ عقرها وقيمة ولدها لأن الغرور قد تحقق بما أخبره البائع به فإن ما أخبر به لو كان حقا كانت هي مملوكة للمشتري فهذا وقوله أنها ملكي سواء في أنه يلتزم سلامتها له فإذا غرم قيمة الولد رجع به على البائع مع الثمن لأنه لم يسلم له ما التزم ولو اشترى الوكيل لموكله جارية فاستولدها الموكل ثم استحقت أخذها الموكل المستحق وعقرها وقيمة ولدها من المستولد ويرجع بالثمن وقيمة الولد على البائع والوكيل هو الذي يلي خصومته في ذلك لأن البائع التزم بالعقد صفة السلامة والوكيل له اليد .(17/330)
ألا ترى أن الخصومة في العيب للبائع دون الموكل فكذلك الخصومة في الرجوع بالثمن وقيمة الولد على الوكيل فإن قال البائع لم أبع من أب الولد شيئا أو قال لم أشتر هذا مني له فأقام الوكيل البينة أنه اشتراها لفلان بأمره فالثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وإن لم يشهدوا بأمره ولكن شهدوا على إقرار المشتري أنه اشتراها لفلان بماله فإن كان إقراره بهذا قبل الشراء وشهد الشهود بذلك فهو وما سبق سواء لأنا لو سمعنا إقراره في ذلك الوقت كان الشراء موجبا الملك للموكل فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة وإن شهدوا أنه أقر بذلك بعد الشراء قبل أن تلد وبعده لم يصدق على البائع لأن شراءه موجب الملك له فكل أحد عامل لنفسه بتصرفه حتى يقوم الدليل على أنه يعمل لغيره بإقراره بعد ذلك في حق البائع بمنزلة الإيجاب المبتدأ لأنه غير مصدق في هذا الإقرار في حقه ولو ملكه ابتداء من هذا المستولد لم يكن له خصومة مع البائع في الرجوع بقيمة الولد عليه بعد ذلك فكذلك هنا.
ولو استولد جاريته فاستحقها رجل فقال المستولد اشتريتها من فلان بكذا وصدقه فلان وكذبهما المستحق فالقول قول المستحق لأن سبب ملك الولد ظاهر وهو استحقاق الجارية والآخران يريدان إبطال ملكه في الولد بقولهما فلا يصدقان على ذلك ولكن يحلف المستحق بالله ما يعلم أنه اشتراها منه لأنه لو أقر بذلك كان الولد حرا فإذا أنكر يستحلف عليه ولو أنكر البائع وصدقه المستحق فالولد حر لإقرار المستحق بحريته وعلى الأب قيمته لإقراره على نفسه بالقيمة للمستحق ولا رجوع لهما على البائع لأن قولهما ليس بحجة عليه ولو أنكر البائع والمشتري وأقر به المستحق عتق الولد بإقراره لأنه ملكه في الظاهر ولا قيمة له على الأب لأنه مدع لنفسه عليه بالقيمة فلا يستحقه إلا بحجة(17/331)
ص -161- ... قال: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف فاشترى بها جارية تساوي ألفي درهم فاستولدها المضارب ثم استحقت فالولد حر بالقيمة لأن المضارب كان مالكا نصفها في الظاهر قدر حصته من الربح فيتحقق الغرور بسبب ثم يرجع المضارب على البائع بالثمن فيكون على المضاربة كما كان ويرجع عليه أيضا بربع قيمة الولد لأن رجوعه باعتبار ملكه الظاهر وذلك كان بقدر الربع فيرجع به على البائع ويكون ذلك له خاصة ولا يكون على المضاربة لأنه عوض عما أدى والمؤدي لم يكن من مال المضاربة ولو لم يكن في الأم فصل أحد المستحق الولد مع الأم ولم يثبت نسبه من المضارب لأنه استولدها ويعلم له أنه لا يملك شيئا منها فكان لا يثبت به النسب والولد رقيق لانعدام التوارث حين كان عالما بحالها وإن كان هو الذي استولدها فإن لم يكن فيها فصل كان الولد حرا وعليه قيمته للمستحق لأنها مملوكة لرب المال في الظاهر والمضارب اشتراها له بأمره فهذا وفصل الوكيل سواء فيكون الولد حرا بالقيمة ويرجع على البائع بالثمن وقيمة الولد والذي يلي خصومة البائع في ذلك المضارب فيكون الثمن على المضاربة وقيمة الولد على رب المال وإن كانت الجارية تساوي ألفين فالرجوع على البائع بثلاثة أرباع قيمة الولد لأن المملوك للمستولد من جهته كان هذا المقدر وهو قدر رأس المال وحصته من الربح فإنما يرجع بهذا القدر من قيمة الولد فيكون لرب المال خاصة ويرجع بالثمن فيكون على المضاربة.(17/332)
قال: رجلان اشتريا من وصي يتيم أمة فاستولدها أحدهما ثم استحقت قضي له بها وبقيمة الولد على الأب ويرجع الأب بنصف تلك القيمة على الوصي لأنه يملك نصفها من جهة الوصي ببيعه فبقدره يرجع عليه من قيمة ولدها ثم يرجع به الوصي في مال اليتيم لأنه كان عاملا لليتيم في ذلك فإذا لحقه عهدة يرجع به عليه وكذلك لو كان البائع أب الصبي فهو والوصي في حكم الرجوع سواء وكذلك لو كان البائع وكيلا أو مضاربا إذا كان في المضاربة فصل لم يرجع على رب المال من قيمة الولد إلا بقدر رأس المال وحصته من الربح لأنه في ذلك القدر عامل له وفي حصة نفسه من الربح عامل لنفسه فلا رجوع به له على رب المال.
قال: ولو كفل رجل للمشتري بما أدركه من درك لم يرجع المشتري على الكفيل بقيمة الولد لأن هذا ليس بدرك في الجارية إنما يفوت بهذا ما التزم بصفة السلامة فكان بمنزلة عيب يجده بها فيردها وهناك لا يرجع على الكفيل بشيء كذلك هنا لا يرجع على الكفيل بشيء من قيمة الولد قال وإذا غرت الأمة من نفسها رجلا أخبرته أنها أمة لهذا الرجل فاشتراها منه واستولدها ثم استحقت رجع أب الولد بالثمن وقيمة الولد على البائع دون الأمة لأن الرجوع باعتبار التزام صفة السلامة بعقد المعاوضة والبائع هو الذي التزم ذلك للمشتري دون الأمة إنما الأمة أخبرته بخبر كذب ومجرد هذا الخبر لا يلزمه ضمان قيمة الولد كما بيناه.
قال: حرة ولدت ولدين في بطن واحد وكبرا واكتسبا مالا ثم مات أحدهما وترك ابنا ثم جاء رجل وادعى أنه زوج المرأة وأنهما إبناه فأقرت المرأة بذلك جحد الابن الباقي(17/333)
ص -162- ... وبن الابن فإن الرجل والمرأة يصدقان على أنفسهما دون غيرهما فيثبت النكاح بينهما بتصادقهما ويدخل في نصيب المرأة من الميراث لإقرارهما أنهما يستويان في ذلك فإن من ترك أبوين وابنا فللابوين السدسان فلهذا قسم ما في يدها بينهما نصفان فإن أقر بن المرأة بدعوة الرجل ثبت نسبه بإقراره ومن ضرورة ثبوت نسبه ثبوت نسب الآخر لأنهما توأم فيثبت نسبهما ولكنه لا يرث بهذا مع بن الميت شيئا لأن الابن الباقي غير مستحق لشيء من ميراث الميت فتصديقه في حكم الميراث وتكذيبه سواء لأن الميراث مال ينفصل عن النسب في الاستحقاق ثبوتا وسقوطا.
ألا ترى أن عبد الرق واختلاف الدين والنسب ثابت ولا ميراث وإذا أقر أحد الأخوين بأخ آخر فالشركة في الميراث ثابتة ولا نسب وما كان طريق ثبوته الضرورة فالمعتبر فيه الجملة فإذا كان أحد الحكمين ينفصل عن الآخر في الجملة لم يستحق الميراث بإقراره وإن ثبت نسبه وإن أقر بن الميت بدعوة الرجل وقد احتلم ثبت نسبهما جميعا منه لأنه في هذا التصديق قائم مقام أبيه وثبوت نسب أخيه يقتضي ثبوت نسب الآخر ضرورة ويرث معه الرجل لأن الحق في الميراث له وقد أقر بأن سدسا من الميراث وهو خمس ما في يده للأب فيؤمر بتسليمه إليه.(17/334)
قال ولو أن أمة ولدت ولدين في بطن واحد فاشترى رجل أحدهما وأعتقه ثم مات المعتق فورثه مولاه ثم اشترى رجل آخر الابن الباقي مع أمه فادعى أنه ابنه ثبت نسبه منه وإن كان كبيرا لا يقر بذلك إلا عبد له فلا حاجة إلى تصديقه في إثبات النسب منه ويثبت نسب ولد الميت أيضا منه ولا يكون له الميراث الذي أخذه المولى لما بينا أنه ليس من ضرورة ثبوت النسب استحقاق المال وإنما أورد هذا الفصل إيضاحا لما سبق فإنا لو قلنا يستحق المال على المولى بهذا الطريق كان يقدر كواحد على إبطال حق المولى عن الميراث المستحق له بأن يشتري الابن الآخر فيدعي نسبه وهذا بعيد وفيه من الضرورة ما لا يخفى فقلنا لا يستحق المال وإن ثبت نسب الآخر منه ضرورة والله أعلم بالصواب.
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن الإقرار خير متمثل متردد بين الصدق والكذب فكان محتملا باعتبار ظاهره والمحتمل لا يكون حجة ولكنه جعل حجة بدليل معقول وهو أنه ظهر رجحان جانب الصدق على جانب الكذب فيه لأنه غير متهم فيما يقر به على نفسه ففي حق الغير ربما تحمله النفس الامارة بالسوء على الإقرار به كاذبا وربما يمنعه عن الاقرار بالصدق وفي حق نفسه النفس الامارة بالسوء على الإقرار به كاذبا وربما ينفعه عن الإقرار بالصدق وفي حق نفسه النفس الإمارة بالسوء لا تحمله على الإقرار بالكذب وربما يمنعه على الإقرار بالصدق فلظهور دليل الصدق فيما يقر به على نفسه جعل إقراره حجة وإليه أشار الله تعالى في قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة:14](17/335)
ص -163- ... قال بن عباس رضي الله عنهما أي شاهد بالحق وادليل على أنه حجة شرعا قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}[البقرة:282] البقرة 282 فأمر من عليه الحق بالإقرار بما عليه دليل واضح على أنه حجة والنهي عن الكتمان في قوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة:282] دليل على أن إراره حجة كما أن الله تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة كان ذلك دليلا على أن الشهادة حجة في الأحكام ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا رضي الله عنه حين أقر على نفسه بالزنى وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العسف "واغد يا أنيس إلى امرأة هذه فإن اعترفت فارجمها" فيكون الإقرار حجة في الحدود التي تندرى ء بالشبهات دليل على أنه حجة فيميا لا يندرى ء بالشبهات بالطريق الأولى ثم الإقرار صحيح بالمعلوم والمجهول بعد أن يكون المعلوم لأنه إظهار لما عليه من الحق وقد يكون ما عليه مجهولا فيصح إظهار بالمجهول كالمعدوم بخلاف الشهادة فإن أداء الشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به.
قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] وقال صلى الله عليه وسلم للشاهد :"إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع" فمع الجهل لا حجة إلى الشهادة بل هو ممنوع عن أدائها فأما من عليه الحق محتاج إلى إظهار ما عليه بإقراره معلوما كان عنده أو مجهولا فقد يعلم أصلب الوجوب ويجله قدر الواجب وصفته ولهذا صح إقراره بالمجهول ولأن الشهادة لا توجب حقا إلا بانضمام القضاء إليها والقاضي لا يتمكن من القضاء إلا بالمعلوم فأما الإقرار موجب بنفسه قبل اتصال القضاء به وإذا احتمل بالمجهول أمكن إزالة الجهالة بالإجبار على البيان فلهذا صح الإقرار ولهذا لا يعمل بالرجوع عن الإقرار ويعمل بالرجوع عن الشهادة قبل اتصال القضاء بها .(17/336)
إذا عرفنا هذا فنقول رجل قال غصبت من فلان شيئا فالإقرار صحيح ويلزمه ما بينة ولا بد من تبيين أي شيء هو لأن الشيء حقيقة اسم لما هو موجود مالا كان أو غيره إلا أن لفظ الغصب دليل على المالية فيه فالغصب لا يرد إلا على ما هو مال وما ثبت بدلالة اللفظ فهو كالملفوظ كقوله اشتريت من فلان شيئا يكون إقرارا بشراء ما هو مال لأن الشراء لا يتحقق إلا فيه ولا بد من أن يبين ما لا يجري فيه التمانع بين الناس حتى لو فسره بحبة حنطة لم يقبل ذلك منه لأن إقراره بالغصب دليل على أنه كان ممنوعا منه من صاحبه حتى غلب عليه فغصبه وهذا مما يجري فيه التمانه فإذا تبين شيئا بهذه الصفة قبل بيانه لأن هذا بيان مقرر لأصل كلامه وبيان التقرير صحيح موصولا أو مفصولا فإن ساعده المقر على ما بينه أخذ وإن ادعى غيره فالقول قول المقر مع يمينه لأنه حرج عن موجب إقراره بما بين فإذا كذبه المقر له فيه صار رادا إقراره بنفي دعواه شيئا آخر عليه وهو لذلك منكر فالقول قوله مع يمينه ويستوي إن بين شيئا يضمن بالغصب أو يضمن بعد أن يكون بحيث يجري فيه التمانع حتى المغصوب فالقول قوله مع يمينه وكذلك إن بين أن المغصوب دار فالقول قوله وإن كانت الدار لا يضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله.
واختلف المشايخ رحمهم الله فيما إذا بين المغصوب زوجته أو ولده الصغير فمنهم من(17/337)
ص -164- ... يقول بيانه مقبول لأنه موافق لمبهم كلامه فإن لفظ الغصب يطلق على الزوج والولد عادة والتمانع فيه يجري بين الناس أكثر مما يجري في الأموال وأكثرهم على أنه لا يقبل بيانه بهذا لأن حكم الغصب لا يتحقق إلا فيما هو مال فبيانه ما ليس بمال يكون إنكار الحكم الغصب بعد إقراره بسببه وذلك غير صحيح منه وفرق بين هذا وبين الخلع فإن من خالع امرأته على ما في بيتها من شيء فإنه ليس في البيت شيء كالخلع مجازا وله أن يجعل تسمية الشيء فيه دليلا على المالية بخلاف تسيمة المتاع لأن الخلع من أسباب الفرقة والفرقة قد تكون بغير بدل في العادة فلا يكون فيما صرح دليلا على المالية في الشيء المذكور فأما الغصب لا يطلق في العادة إلا فيما هو مال ولا يثبت حكمه شرعا إلا فيما هو مال فالتنصيص عليه دليل على المالية في الشيء المذكور والعصر قبل الخمر كان مالا فسد تقومه بالتخمر شرعا وصار المسلم ممنوعا من تموله من غير انعدام أصل المالية فيه.
ألا ترى أنه بالتخلل يصير مالا متقوما وهو ذلك الغير فلهذا صح بيانه ثم الخمر محل لحكم الغصب ولهذا كان غاصب الخمر من الذمي ضامنا لهذا قبل بيانه وكذلك لو أقر أنه غصب عبدا فهذه الجهالة دون الأول لأن جنس المقر به صار معلوما هنا ثم التوسع في الإقرار أكثر منه في الخلع والصلح عن دم العمد والنكاح وتسمية العبد مطلقا صحيح في هذه العقود ففي الإقرار الأول أن في هذه العقود ينصرف إلى الوسط لأنه عقد معاوضة فيجب النظر فيه من الجانبين وذلك بتعين الوسط الذي هو فوق الوكس ودون الشطط والإقرار لا يقابله شيء فلا يتعين فيه الوسط بل يكون المقر فيه مقبولا إذا لم يخالف ما يلفظ به سواء بين الرديء أو المعيب فاسم العبد أولى.(17/338)
توضيح الفرق أن الغصب فعل يستدعي محلا هو مفعول به ولأن يستدعي صفة السلامة فيه ومن حيث العادة أيضا ليس للغاصبين اختيار الوسط والتسليم وإنما يغصب الغاصب ما يقدر عليه فأما في عقود المعاوضات لها موجب شرعا في اقتضاء صفة السلامة وكذلك للناس عادة في إيراد عقد المعاوضة على التسليم دون المعيب فلهذا يصرف مطلف العقد فيه إلى التسليم فإن كان العبد الذي بعينه منصوبا في يده قائما رده وإن كان هالكا فعليه قيمته لأن ضمان الأصل في الغصب رد العين قال صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد وإنما يصار إلى القيمة عند عدم رد العين ليكون خلفا عن الضمان الأصلي وسميت قيمة لقيامها مقام العين فإن وقعت المنازعة بينهما في مقدار القيمة فالقول قول المقر لإنكاره الزيادة مع يمينه وكذلك لو أقر بغصب شاة أو بقرة أو ثوب أو عرض وكذلك لو أقر أنه غصبه دار فالقول قوله في تعيينها سواء عينها في هذه البلدة أو في بلدة أخرى لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط وذاك لا يختلف باختلاف البلدان فكان بيانه مطابقا للفظه
ولو قال هي هذه الدار التي في يدي هذا الرجل وذو اليد منكر يقول الدار داري فالقول في تلك الدار قول ذي اليد لأن دعوى المقر أنها لغيره كدعواه أنها له فلا يصدق في ذلك بغير(17/339)
ص -165- ... حجة لكنه خارج عن عهدة إقراره بما بين فإن بيانه مطابق للفظه لأن ما في يد الغير مال محل للغصب ثم لا يضمن المقر شيئا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله يصير ضامنا لقيمتها لأنه أقر ببعضها ومن أصل أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر أن العقار لا يضمن بالغصب وهي مسألة معروفة في كتاب الغصب ولو قال غصبته هذه الأمة أو هذا العبد فادعاهما جميعا المقر له فإنه يقال للغاصب قر بأيهما شئت وتخلفت عن الآخر لأنه أدخل حرف أو في موضع الإثبات فيتناول بعض المذكورين فإذا أقر بأحدهما خرج به عن عهدة ذلك الإقرار وقد صدقه المقر له في ذلك حين ادعاهما جميعا فيأخذ المقر له ذلك الشيء عينه وتبقي دعواه الآخر في يده فيكون القول الآخر قول المنكر مع يمينه.(17/340)
وإن ادعى المقر له أحدهما بعينه لم يستحق ذلك إذا زعم المقر أن المغصوب هو الآخر لأنه أقر بغصب في منكر ولأن ادعاء المقر له معين والمعين عند المنكر فلم يتناول إقراره هذا المحل بعينه فلا يستحق به ثم هو بالتعيين قصد إبطال حق البيان الثابت للمقر فإنه هو المبهم ومن أبهم شيئا فإليه بيانه وهو لا يملك إبطال الحق الثابت له فإن بين المقر الآخر صح بيانه لأنه موافق لمبهم كلامه ولكن المقر له كذبه في ذلك والإقرار يرتد بالرد فيبطل إقراره به بنفي دعوى المقر له الآخر عليه وهو جاحد فالقول قوله مع يمينه ولو أقر أنه غصب هذا العبد من هذا أو من هذا وكل واحد منهما يدعيه فإن اصطلحا على أخذه أخذه وإن لم يصطلحا استحلف كل واحد منهما أو لا نقول فرق بين هذا والأول فقال هناك يقال له قر بأيهما شئت واحلف على الآخر وهنا لا يقال له قر لأيهما شئت وأحلف للآخر لأن هناك الإقرار صحيح ملزم فإن المستحق معلوم إنما الجهالة في المستحق فيمكن إجباره على البيان لما صح إقراره وهنا إقرار غير صحيح لأن المقر له مجهول وجهالة المقر له تمنع صحة الإقرار لأن الحق لا يثبت للمجهول ولأن المغصوب عند الغصب قد بينه حاله على الغاصب أنه عبد أو أمة ولكن المغصوب منه لا يشتبه عليه عادة فلم يكن إقراره للمجهول حجة تامة في الاستحقاق حتى يجبر على البيان ولكنهما إن اصطلحا على أن يأخذه أمر بالتسليم إليهما لأن المغصوب جهالة من يجب عليه تسليمه إليه وقد يزال ذلك باصطلاحهما فإن أحدهما مالك والآخر نائب عنه وكما يؤمر الغاصب بالرد على نائبه ولأنه كان مقرى أنه لا حق له في العبد منهما فإن الحق فيه لا يعدوهما وإنما لم يصح إقراره في التزام التسليم إلى أحدهما بعينه فلا يجبر على البيان لأن ذلك غير ثابت بإقراره فإذا اصطلحا فقد ثبت بإقراره أن المستحق منهما يأمره بالتسليم إليه فإن لم يصطلحا استحلف لكل واحد منهما بعينه لأن كل واحد منهما يدعي الحق لنفسه عينا وهو لم(17/341)
يقر بذلك وإنما أقر لمنكر منهما والمنكر في حق المعين كالمعدوم وللقاضي الخيار في البداية بالاستحلاف لأيهما شاء وقيل هذا بالاستحلاف لمن سبق بالدعوى وقيل يقرع بينهما تطمينا لقلوبهما فإن نكل عن اليمين أحدهما يأمره بالتسليم إليه ما لم يحلفه الآخر بخلاف ما إذا أقر لأحدهما(17/342)
ص -166- ... بعينه فإنه يأمره بالتسليم إليه لأن الإقرار موجب الحق لنفسه فأما النكول لا يوجب الحق إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضي إلا بعد النظر لكل قسم ومن حجة الآخر أن يقول القاضي إنما نكل له لأنك بدأت بالاستحلاف له ولو بدأت بالاستحلاف لي لكان ينكل لي وفي الإقرار لا يمكن الآخر أن يحتج بمثل هذا.
وقد زعم أن المقر له أحق بالعين منه فيأمره بالتسليم إليه فإن حلف لأحدهما ونكل للآخر قضى القاضي به للذي يحل له لأنه حق من حلف له وقد انتفى يمينه ما لم يأت بحجة ولا حجة له ونكوله في حق الآخر قائم مقام إقراره فيأمره بالتسليم إليه وإن نكل لهما قضي القاضي بالعبد بينهما وبقيمته أيضا بينهما لأن بنكوله صار عقرا له وغصب من كل واحد منهما جميعه وما لو قدر إلا على النصف يرده على كل واحد منهما وليس أحدهما أولى به من الآخر فيلزمه رد نصف القيمة على كل واحد منهما اعتبارا للجزء بالكل إذا تعذر رده ولو حلف لهما لم يكن لهما عليه شيء لأن حق كل واحد منهما قد انتفى بيمينه إلى أن يجد الحجة فإن أراد أن يصطلحا بعد ذلك لم يكن لهما ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وكان يقول أولا لهما ذلك وهو قول محمد رحمه الله .(17/343)
وجه قوله الأول أن حق الأخذ عند الاصطلاح ثبت لهما بهذا الإقرار بدليل أنهما لو اصطلحا قبل الاستحلاف فإن لهما أن يأخذاه والحق الثابت بالإقرار لا يبطل باليمين والمعنى الذي فات لهما أن يأخذاه قبل الاستحلاف إذا اصطلحا على أن أحدهما مالك والآخر نائب عنه وهذا موجود بالاستحلاف ولأن الاستحلاف هو غير محل للإقرار لأن الإقرار كان لأحدهما بغير عينه والاستحلاف كان استحقاق كل واحد منهما بعينه فلا يتغير به حكم ذلك الإقرار فالقاضي يتيقن أنه صادق في يمينه أو كاذب ولا تأخير لليمين الكاذبة في إبطال الاستحقاق وجه قول أبي يوسف الآخر رحمه الله أن يمين المقر يبطل حق من حلف له كما لو حلف لأحدهما يبطل حقه ومزاحمته ثم التفقه فيه من وجهين أحدهما أن أصل الإقرار وقع فاسدا لجهالة المقر له لما بينا أن الغصب يوجب رد العين والمستحق للرد عليه بهذا الإقرار غير معلوم أو كان الإقرار فاسدا ولكن أراد منعه العباد برفع المفسد بالاصطلاح ممكن فإن أزال ذلك قبل تقرر الفساد صح الإقرار وأمر بالتسليم إليهما وإن تقرر الفساد بقضاء القاضي لا يمكن إزالته بعد ذلك برفع كالبيع الفاسد بخيار مجهول أو بعمل مجهول إذا تقررت صفة الفساد بالقضاء وهنا لما استحلفه القاضي لكل واحد منهما فقد حكم بفساد ذلك الإقرار فلا ينقلب صحيحا بعد ذلك باصطلاحهما .
الثاني: أن لكل واحد منهما لما طلب يمينه فقد عاملة المنكرين فصار راد الإقرار يرتد برد المقر له فلم يبق لهما حق الاصطلاح بعد ذلك بخلاف ما قبل الاستحلاف والثابت بالإقرار أحد الأمرين إما الاصطلاح أو الاستحلاف فكما لو أقر على الاصطلاح كانا قابلين لإقراره فلا يبقى لهما حق الاستحلاف بعد ذلك فكذلك لو أقر على الاستحلاف كانا رادين(17/344)
ص -167- ... لإقراره فلا يبقى لهما حق الاصطلاح بعد ذلك وقوله الاستحلاف في غير محل لإقراره قلنا محل الإقرار لا يعدوهما فإذا وجد الاستحلاف منهما فقد تيقن بوجوده ممن وقع الإقرار له فكان ذلك مبطلا لحق الإقرار ولو قال غصبت العبد من هذا لا بل من هذا فهو للأول وللآخر قيمته لأن كلمة لا بل للاستدراك بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه إثبات والرجوع عما أقر به للأول باطل وإثبات ما أقر به للأول في حق الثاني صحيح فيبقى العبد مستحقا للأول بصدر كلامه وقد صار مقرى ببعضه من الثاني وهو عاجز عن رد عينه حين سلمه إلى الأول بحكم الحاكم فكان عليه للثاني قيمته والدليل على أن كلمة لا بل موضوعة لما قلنا مثل قول الرجل جاءني زيد لا بل عمر ويفهم منه الأخبار بمجيء زيد وهو بخلاف ما لو قال هذا العبد لفلان بل لفلان حيث يؤمر بتسليمه إلى الأول ولا شيء للثاني عليه لأنه ما أقر على نفسه بفعل موجب للضمان في حق الثاني إنما شهد له بالملك فيما صار مملوكا لغيره بصدر كلامه والشاهد بالملك إذا أردت شهادته لم يضمن شيئا وهنا أقر بغصبه من الثاني وهو فعل موجب للضمان عليه وإذا أقر بغصب شيء من الأشياء كائنا ما كان من قريب أو بعيد صغير أو كبير مسلم أو كافر أو مرتد أو مستأمن أو حر أو عبد محجور عليه أو تاجر فهو ضامن له في جميع ذلك إن كان فائتا وإن كان قائما رده إلى الذي أخذه منه صغيرا كان المغتصب منه أو كبيرا لأن رد المغصوب يفسخ من الغاصب لفعله فيه وحقيقة انفساخ فعله برده على من أخذه منه فكانت جنايته بإزالة يد محترمة للغير في هذه العين وإثبات اليد في نفسه فإذا أعاده إلى من أخذه منه فقد صار به معيدا لما أخذ.(17/345)
ألا ترى أن من أخذ منه خصم له في الاسترداد فيبرأ بالرد عليه على أي صفة كانت وهو نظير من انتزع خاتما من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه قبل أن ينتبه بريء منه لأنه أعاده كما كان بخلاف ما إذا انتبه ثم نام ثانيا لأنه لما انتبه وجب عليه رده على المنتبه فلا يبرأ بعد ذلك بإعادته إلى أصبع النائم كما لو غصبه وهو منتبه ثم جعله في أصبعه في حال نومه قال خلا الولد الصغير مع أبيه الغني فلأن الأب فيما يأخذ من مال ولده الصغير لا يكون غاصبا ولكنه إن كان محتاجا إليه فله أن يأخذه ليصرفه إلى حاجته وإن لم يكن محتاجا فله أن يأخذه لحفظه له فلا يلزمه رده على الصبي حتى يبلغ ولا يكون جانيا في حقه إلا أن يستهلكه من غير حاجة فحينئذ يكون ضامنا له وكذلك وصي الصغير فيما يأخذ من ماله لا يكون غاصبا لأن ولاية الأخذ لحفظه ثابتة وإن غصب المولى من مكاتبه أو عبده المأذون المديون فهو يرده أو الضمان عند هلاكه لأنه ممنوع من أخذه أما كسب المكاتب صار أحق به وصار المكاتب كالحر يدا في مكاسبه.
فإذا أبق به عليه صار ضامنا وأما العبد المديون لأن كسبه حق غرمائه والمولى ممنوع من أخذه ما لم يسقط الدين فكان ضامنا وإن لم يكن على العبد دين فكسبه خالص حق المولى فلا يكون هو في أخذه منه غاصبا وكذلك يغصب من مولاه لأنه لا حق له في مال المولى وله ذمة معتبرة في إيجاب الدين لمولاه فيكون ضامنا غصبه منه والعبد فيما يغصب(17/346)
ص -168- ... من مولاه مأمور بالرد عليه ولكنه غير ضامن لأن للعبد ذمة معتبرة في إيجاب الدين فيها للمولى فإن الدين لا يجب على العبد إلا شاغلا مالية رقبته ومالية حق مولاه ولو قال غصبتك هذا العبد أمس إن شاء الله تعالى لم يلزمه شيء استحسانا وفي القياس استثناؤه باطل لأن ذكر الاستثناء بمنزلة الشرط وذلك إنما يصح في الإنشآت دون الإخبارات ولكنه استحسن فقال الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة إلا أن يكون في معنى الشرط فإن الله تعالى أخبر عن موسى عليه السلام حيث قال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:69] ولم يصبر على ذلك والوعد من الأنبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم فدل أن الاستثناء مخرج للكلام من أن يكون عزيمة.(17/347)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من استثنى فله ثنياه" والإقرار لا يكون ملزما إلا كلام هو عزيمة لكن إنما يعمل هذا الاستثناء إذا كان موصولا بالكلام لا إذا كان مفصولا إلا على قول بن عباس رضي الله عنه فإنه قال يعمل بالاستثناء وإن كان مفصولا استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزون قريشا" ثم قال بعد سنة: "إن شاء الله تعالى" ولنا نقول الاستثناء مخرج لكلامه من أن يكون عزيمة فكان مغيرا لموجب مطلق الكلام والتعبير إنما يصح موصولا بالكلام لا مفصولا فإنه بمنزلة الفسخ والتبديل والمقر لا يملك ذلك في إقراره فكذلك لا يملك الاستثناء المفصول وهذا بخلاف الرجوع من الإقرار فإنه لا يصح وإن كان موصولا لأن رجوعه نفي لما أثبته فكان تناقضا منه والتناقض لا يصح مفصولا كان أو موصولا أما هذا بيان فيه تعبير فإن الكلام نوعان لغو وعزيمة فبالاستثناء تبين أن كلامه ليس بعزيمة وبيان التعبير يصح موصولا لا مفصولا بمنزلة التعليق بالشرط فإنه متبين إن صدر كلامه لم يكن إيقاعا بعد أن كان ظاهرا مقتضيا للإيقاع فصح ذلك موصولا لا مفصولا وأما الحديث قلنا قوله صلى الله عليه وسلم :"بعد سنة إن شاء الله تعالى" لم يكن على وجه الاستثناء إنما كان على وجه الامتثال لما أمر به قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] ولو قال غصبتك هذا العبد أمس إلا نصفه صدق فيه لأن الكلام إذا قيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى لا أن يكون رجوعا عن القدر المستثنى قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] معناه تسعمائة وخمسين فأما لو جعلناه في معنى الرجوع كان ذلك قولا بالغلط فما أخبر الله تعالى به حتى تداركه بالاستثناء وذلك لا يجوز ثم هذا بيان فيه تعبير لأن صدر كلامه إقرار بغصب ما سمي عبدا وبالاستثناء تبين أن المغصوب لم يكن عبدا فلما كان تعبيرا صح موصولا لا مفصولا وكذلك لو قال(17/348)
إلا ملبسه إلا على قول القرار رحمه الله فإنه لا يجوز استثناء الأكثر مما تكلم به لأن العرب لم تتكلم بذلك ولكنا نجوزه استدلالا بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً}[المزمل:2-3] ولأن طريق صحة الاستثناء أن يجعل عبارة عما وراء المستثنى ولا فرق بين الاستثناء في الأقل والأكثر وإن لم تتكلم به العرب لم يمتنع صحته إن كان موافقا لطريقهم كاستثناء الكسور لم تتكلم به العرب وكان صحيحا.
ولو قال: إلا العبد كله كان الاستثناء باطلا لأنه لا يمكن تصحيحه بأن جعل عبارة عما(17/349)
ص -169- ... وراء المستثني، فإنه لا يبقى وراء المستثني شيء فكان هذا رجوعا لا استثناء والرجوع عن الإقرار باطل موصولا كان أو مفصولا ولو قال غصبتك كذا وكذا فهو إقرار بغصبهما فإن حرف الواو للعطف والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر فيقول الرجل جاءني زيد وعمر فيكون إخبارا بمجيئهما فإذا قال غصبته عبدا أو جارية كان إقرارا بغصبهما لأنه خبر المذكور أو لأنه مغصوب ولم يذكر للثاني خبر يستقل به فكان الخبر الأول خبر له وكذا خبر أن يقول دابة مع سرجها لأن كلمة مع للقران فقد قرن بينهما في الإقرار بفعل الغصب فيهما إذ لا تتحقق المقارنة منه إلا في هذا.
وكذلك لو قال: كذا بكذا نحو أن يقول غصبته فرسا بلجامه أو عبدا بمنديله فهو إقرار بغصبهما لأن الباء للإلصاق فيصير هو ملصقا الثاني بالأول فيما أخبر به من فعل الغصب ويكون مبنيا أن عند غصبه كان اللجام ملصقا بالدابة ولن يتحقق الإلصاق إلا بعد أن يكون غاصبا لهما وكذلك لو قال كذا فكذا نحو أن يقول غصبت عبدا فجارية فإن الفاء للوصل وفيه معنى العطف على سبيل التعقيب ولن تتحقق هذه المعاني إلا بعد أن كان غاصبا لهما وكذلك لو قال كذا وعليه كذا نحو أن يقول غصبته دابة عليها سرجها لأنه جعل المغصوب محلا لما ذكره آخرا فيقتضي أن يكون غاصبا لهما وإن قال كذا من كذا بأن قال غصبت منديلا من غلامه أو سرجا من دابته كان إقرارا بالغصب في الأول خاصة لأن كلمة من للتبعيض فإنه يفهم منه الانتزاع فعلى أنه انتزع ما أقر بغصبه أولا من ملكه .(17/350)
ألا ترى أنه يقول منديلا من رأسه أو ثوبا من بدنه فلا يفهم الإقرار بغصب الثوب والمنديل وكذلك لو قال كذا علي يجوز أن يقول غصبته إكافا على حماره فيكون إقرارا بغصب الإكاف خاصة والحمار مذكور لبيان محل المغصوب حين أخذه وغصب الشيء من محللا يكون مقتضيا غصب المحل ولو قال كذا في كذا وإن كان الثاني مما يكون وعاء للأول كالماء نحو ثوب في منديل أو طعام في سفينة وما أشبه ذلك لأن في حقيقة للظرف فهو مخبر بأن الثاني كان ظرفا للأول مع غصبه ولن يكون ذلك إلا إذا كان غصبه لهما وكذلك قوله تمرا في قوصرة أو حنطة في جوالق وإن كان الثاني هما لا يكون وعاء للأول نحو قوله غصبتك درهمين في درهم لم يلزمه الثاني لأنه غير صالح أن يكون ظرفا لما أقر بغصبه أولا فلغى آخر كلامه.
فإن قيل كان ينبغي أن يجعل حرف في بمعنى حرف مع لأن الكلام معمول بمجازه عند تعذر العمل بحقيقته قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] قلنا إذا آل الأمر إلى المجاز فكما يحتمل معنى مع يحتمل معنى علي قال الله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي على جذوع النخل فإن حمل عليه لم يلزم الثاني وإن حمل على معنى مع لزمه والذمة في الأصل بريئة فلا يجوز شغلها بالشك وإن كان الثاني مما يكون الأول وسطه نحو(17/351)
ص -170- ... أن يقول غصبتك ثوبا في عشرة أثواب لم يلزمه إلا ثوب واحد في قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة رحمهما الله ويلزمه في قول محمد رحمه الله أحد عشر ثوبا.
وجه قول محمد رحمه الله: أن العشرة قد تكون وعاء للثوب الواحد فإن الثوب النفيس قد يلف عادة في الثياب فكان هذا بمنزلة قوله حنطة في جوالق أو يحمل كلامه على التقديم والتأخير فيصير كأنه قال عشرة أثواب في ثوب والثوب الواحد يكون وعاء للعشرة فوجب العمل بما صرح به بحسب الإمكان وعلل لأبي يوسف رحمه الله في الجواب وقال إن العشرة لا تكون وعاء معناه أن الوعاء غير الموعا والثوب إذا لف في ثياب فكل ثوب يكون موعا في حق ما وراءه فلا يكون وعاء إلا الثوب الذي هو ثوب ظاهر فإذا كان لا يتحقق كون العشرة وعاء للثوب الواحد كان آخر كلامه لغوا وحمله على التقديم والتأخير لا معنى له فإنه اشتغال بإيجاب المال في ذمته بالمحتمل وبتأويل هو مخالف للظاهر وذلك لا يجوز ولو قال غصبته كرباسا في عشرة أثواب حرير عند محمد رحمه الله يلزمه الكرباس وعشرة أثواب حرير لأن الحرير لا يجعل وعاء للكرابيس عادة ولو قال غصبتك طعاما في بيت كان هذا بمنزلة قوله طعاما في سفينة لأن البيت قد يكون وعاء للطعام فيكون إقرارا بغصب البيت والطعام إلا أن الطعام يدخل في ضمانة بالغصب والبيت لا يدخل في ضمانه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لأنه مما لا ينقل ولا يحول والغصب الموجب للضمان لا يكون إلا بالنقل والتحويل وإن قال لم أحول الطعام من موضعه لم يصدق في ذلك لأنه أقر بغصب تام وفي الطعام يتحقق ذلك بالنقل والتحويل فكان هو في قوله لم أنقله راجعا عما أقر به فلم يصدق وكان ضامنا للطعام .(17/352)
وفي قول محمد رحمه الله هو ضامن للبيت أيضا ومسئلة غصب العقار معروفة ولو قال غصبته يوما ورددته عليه لم يصدق على الرد وإن كان كلام موصول لأنه ليس إلى بيان صدر الكلام بل هو دعوى مبتدأ أي أوفيته ما لزمني من ضمان الغصب وإقراره صحيح فأما دعواه بغير حجة لا تكون صحيحة ولكن القول قول المنكر للرد كالمقر بالدين إذا ادعى الإيفاء والإبراء كلام موصول ولو قال غصبته ثوبا من عينه أو تمرا من قوصرة أو طعاما من بيت أو ظهر دابة ضمن التمر والثوب والطعام خاصة لما بينا أن آخر كلامه كان لبيان أن انتزاع المغصوب كان بين هذا فهو بمنزلة قوله غصبته ثوبا من يده يكون إقراره بالغصب في الثوب دون يده فكذلك ما سبق والله أعلم
باب إقرار المفاوضة بالدين
قال رحمه الله: وإذا أقر أحد المتفاوضين بدين في مرض موته من تجارتهما يوحد شريكه به في الحال. وفيه طريقان لنا أحدهما أن المتفاوضين في حقوق التجارة صارا بمنزلة شخص واحد ومباشرة أحدهما سبب وجوب الدين كمباشرتهما والإقرار من باب التجارة فوجوده من أحدهما كوجوده منهما والأصح أن يقول وجوب الدين بمباشرة السبب على من(17/353)
ص -171- ... باشره ولكن الشريك مطالب به بسبب التحمل الثابت بمقتضي صدر المفاوضة بينهما لأن عقد المفاوضة يقتضي الوكالة العامة والكفالة العامة لكل واحد منهما عن صاحبه في ديون التجارة فإنها تقتضي المساواة بهذا فالمفاوض المقر وإن كان مريضا فقد وجب عليه الدين بإقراره حتى إذا لم يكن عليه دين في الصحة كان مطالبا به في الحال وإن كان عليه دين في الصحة فحق غريم الصحة مقدم ولكن حق المقر له في المرض ثابت أيضا حتى إذا فرغت التركة من حق غريم الصحة صرف المقر له في المرض وإذا ثبت الوجوب في حق المقر صار الشريك مطالبا به بحكم الكفالة وتأخره في حق المقر لمكان دين الصحة لا يوجب التأخير في الشريك كالعبد المحجور يقر على نفسه بدين ويكفل البيان عنه يؤاخذ الكفيل في الحال به وإن كان مؤخرا في حق الأصل إلى ما بعد العتق وهذا لا تأجيل في أصل المال إنما التأخير لضرورة انعدام محل القضاء ولا ضرورة في حق الكفيل فيكون مطالبا في الحال بإيفائه ولو كان المفاوض المريض أقر لوارثه بدين لم يلزم شريكه.
وبهذا تبين أن الصحيح هو الطريق الثاني دون الأول فإنه لو جعل إقرار أحدهما لصار الشريك الآخر مطالبا بالمال هنا ولكن إقرار المريض لوارثه باطل فلم يجب به المال في ذمة المقر والوجوب على الشريك بحكم الكفالة فإذا لم يكن المال واجبا على الأصيل لا يجب على الكفيل خلاف الأول فإن إقراره للأجنبي صحيح وإن كان مؤخرا عن حق غرماء الصحة فوجب به المال على الأصيل وصار الكفيل مطالبا به بحكم الكفالة وكذلك لو كفل لوارثه بشيء لأن كفالة المريض لوارثه باطلة غير موجبة المال عليه فأما إذا كفل للأجنبي فعند أبي حنيفة رحمه الله يؤاخذ به شريكه سواء كفل بأمر الأصيل أو بغير أمره وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يؤاخذ الشريك به وكذلك إن أقر أحد المتفاوضين بكفالة في صحته أو مرضه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يؤاخذ به شريكه وعندهما لا يؤاخذ بشيء من ذلك.(17/354)
حجتهما أن دين الكفالة ليس من دين التجارة لأن سببه لا ينزع ما هو تبرع ألا ترى أنه لو حصل من المريض كان معتبرا من الثلث ولو حصل من العبد المأذون والمكاتب لم يكن صحيحا وما وجب على أحد المتفاوضين لا بجهة التجارة لا يكون شريكه مطالبا به كما يجب من مهر امرأته وأرش الجناية بجنايته وكلامهما يتضح في الكفالة بغير الأصل فإنه تبرع محض حتى لا يستوجب الكفيل الرجوع على الأصيل عند الأداء ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان الأول أن هذا الدين وجب بما هو من متضمنات عقد المفاوضة فيكون الشريك مطالبا به كالواجب بطريق الوكالة إذا توكل أحدهما عن الغير بالشراء وبيانه فيما قلنا أن عقد المفاوضة يقتضي الوكالة العامة والكفالة العامة وبهذا تبين أنه من جنس التجارة لأن عقد المفاوضة يتضمن ما هو من جنس التجارة الثاني أن في الكفالة معنى البيوع في الابتداء ولكنه مفاوضة أيهما خصوصا في الكفالة بالأمر فإنه يرجع بما يؤدي إلى الأصيل ففي حق العبد المأذون والمكاتب والمريض اعتبرنا معنى التبرع فيه في الابتداء فلم يكن صحيحا وفي(17/355)
ص -172- ... حق المفاوض اعتبرنا معنى المفاوضة في الانتهاء لأنه صحيح في حق من باشر سببه فإذا صح انقلبت مفاوضة فعند صيرورة الشريك الآخر مطالبا له في الحال وتأخر في حق المريض عن حق غرماء الصحة لأن إقرار الشريك عليه لا يكون العبد من إقراره بنفسه وهو لو أقر بنفسه تأخر عن حق غرماء الصحة فكذلك ما لزم بإقرار شريكه أو يجعل هذا كإقرارهما جميعا.
فإن قيل: كان ينبغي أن يكون هذا في حق المريض من ثلث ماله لأن الوجوب عليه كان لسبب الكفالة عن شريكه وكفالة المريض معتبرة من ثلثه قلنا هذا إذا لو كانت مباشرة الكفالة في المرض وهنا الكفالة بمقتضى عقد المفاوضة فإنما كان في حال الصحة فالوجود وإن حصل في حالة المرض لما كان سببه موجودا في حال الصحة فالواجب كان معتبرا من جميع ماله فإن قيل إذا كان سببه في حال الصحة ينبغي أن لا يتأخر عن حق غرماء الصحة قلنا وجوب الدين عليه بذلك السبب إنما حصل في المرض فكان ذلك مزيد المرض لهذا المريض ولأن إقرار الغير عليه لا يكون أبعد من إقراره على نفسه ولو أقر الصحيح لوارث المريض بدين لزم الصحيح كله دون المريض لأن إقرار الصحيح في حق المريض كإقراره بنفسه وإقراره لوارثه باطل فكذلك إقرار الصحيح في حقه وليس من ضرورة امتناع وجوب المال على الكفيل أن لا يجب على الأصيل فلهذا وجب المال على الصحيح .(17/356)
فإن قيل: إقرار المريض لوارثه إنما لا يصح لتهمة الإيثار وهو غير موجود في حق إقرار شريكه قلنا ليس كذلك بل يتمكن تهمة المواضعة هنا من حيث إنه لما علم أن إقراره لوارثه بنفسه لا يصح لشريكه لتقربه له ثم يستوفي من مال المريض فليمكن هذه التهمة قلنا لا يصح الإقرار في حق المريض ولا تهمة في ما يقر له الشريك على نفسه في حقه فكان هو مطالبا بالمال ولو كان المفاوض قال لرجل ما ذاب لك على فلان فهو على أو ما وجب لك عليه أو ما قضي لك عليه ثم مرض ثم أقر فلان بألف درهم لذلك الرجل وقضي بها له عليه لزم المريض ذلك من جميع المال لأن وجوب هذا المال عليه وإن كان بطريق الكفالة ولكن صح سببه في حال الصحة ولزم حتى لو أراد الرجوع عنه لم يملك ذلك فكان بمنزلة سائر الديون في كونه معتبرا من جميع المال ألا ترى أن الصحيح لو ضمن الدرك عن رجل في دار باعها ثم مرض فلزم الدرك كان مطالبا من جميع المال لأن سببه لزم في حال الصحة على وجه لا يمكنه الرجوع عنه فكان معتبرا من جميع المال لأن سببه لزم في حال الصحة هنا لأن الوجوب مستند إلى سببه ولما تم السبب هنا ولزمه في حال الصحة استند حكم الوجوب إليه فلهذا كان مزاحما لغرماء الصحة والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار لما في البطن
قال رضي الله عنه: الإقرار لما في البطن على ثلاثة أوجه أحدها أن يبين سببا صالحا مستقيما بأن يقول لما في بطن فلانة علي ألف درهم من جهة ميراث ورثه عن أبيه فاستهلكته أو وصية أوصى بما له فاستهلكته فهذا صحيح لأنه بين سببا مستقيما لو عاينه حكمنا بوجوب(17/357)
ص -173- ... المال عليه فكذلك إذا ثبت بإقراره هذا لأن هذا الإقرار في الحقيقة للمورث والموصي فإن المال منفي على حقه ما لم يصرفه إلى وارثه أو إلى من أوصى له به وكذلك المورث والموصي من أهل الإقرار له فهو نظير ما لو قال لدابة فلان علي ألف درهم أوصى له بالعلف فاستهلكته ثم إن ولدت ولدا حيا فالمقر به له وإن ولدته ميتا فالمال مردود على ورثة الميت والموصي وإن جاءت بولدين أحدهما ذكر والآخر أنثى ففي الوصية يقسم بينهما نصفين وفي الميراث يكون بينهما {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[النساء:11] لأن قول المقر في بيان السبب مقبولا وهذا إذا وضعته لأقل من ستة أشهر من حين مات الموصي والمورث حتى علم أنه كان موجودا في ذلك الوقت وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر لم يستحق شيئا إلا أن تكون المرأة معتدة فحينئذ إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين حتى حكم بثبوت السبب في ذلك حكما بوجوده في البطن حين مات الموصي والمورث.(17/358)
الوجه الثاني أن يبين سببا بمستحيل بأن يقول لما في بطن فلانة علي ألف درهم ثمن بيع بايعته أو قرض أقرضته فهذا باطل لأن المبايعة والإقراض لا يتصور من الجنين حقيقة ولا حكما أما الحقيقة فلا يشكل وأما الحكم فلأنه لا ولاية لأحد على الجنين حتى يكون تصرفه بمنزلة تصرف الجنين فيصير مضافا إليه من هذا الوجه وإذا كان ما سببه من السبب محالا صار كلامه لغوا فلا يلزمه شيء فإن قيل هذا يكون رجوعا عن إقراره بإذن والرجوع عن الإقرار لا يصح وإن كان موصولا قلنا لا كذلك بل هو بيان السبب محتمل فقد نسبه على الجاهل فيظن أن الجنين يثبت عليه الولاية كالمنفصل فيعامله ثم يقر بذلك المال للجنين بناء على ظنه وتبين سببه ثم يعلم أن ذلك السبب كان باطلا فكان كلامه بيانا لا رجوعا فلهذا كان مقبولا منه والثالث أن يقر للجنين بمال مطلق من دين أو عين فيقول لما في بطن فلانة علي ألف درهم أو هذا العين ملك لما في بطن فلانة فولدت لمدة يعلم أنه كان في البطن وقت الإقرار فالإقرار باطل في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله الإقرار صحيح.
وجه قول محمد أن مطلق كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن لأن عقله ودينه يدعو به إلى التكلم بما هو صحيح لا بما هو لغو فيجعل مطلق إقراره صحيحا بمنزلة ما لو بين سببا صحيحا لإقرارهما وهذا لأن الإقرار حجة مهما أمكن إعماله لا يجوز إبطاله والجنين جعل في حكم المنفصل حتى يصح الإقرار سببه ويصح إعتاقه والإقرار يعتقه ويرث ويوصي له فكما أن الإقرار للمنفصل بالمال مطلقا يكون إقرارا صحيحا فكذلك الإقرار به للحنين ولأبي يوسف رحمه الله أن مطلق الإقرار بالمال محمول على الالتزام بالعقد فكأنه أقر به وهذا لأن دينه وعقله يمنعانه من الاستهلاك ويدعو به إلى الالتزام بالعقد فيجب حمل مطلق إقراره عليه.(17/359)
ألا ترى أن أحد المتفاوضين إذا أقر بمال مطلق يلزم شريكه والعبد المأذون إذا أقر بالمال مطلقا يصح إقراره ويؤخذ به في الحال وكان ذلك باعتبار حمل مطلق الإقرار على جهة التجارة فكذلك هنا يحمل مطلق إقراره على جهة التجارة فكأنه بين جهة التجارة ولأن الإقرار ابتداء هنا(17/360)
ص -174- ... يقع للجنين وهو ليس من أهل أن يثبت له حق ابتداء ما لم ينفصل ولهذا لا يلي عليه أحد لأنه ما دام مختبئا في البطن فهو في حكم الإجراء والأبعاض فأما العتق والوصية مما يحتمل التعليق بالشرط فيجعل كالمضاف إلى ما بعد الانفصال والإقرار بالسبب ليس بإيجاب حق له ابتداء بل إخبار بأنه علق من مائه والإقرار باستهلاك ميراث أو وصية له لا يكون إيجابا للجنين ابتداء بل يكون إقرار للمورث والموصي ثم ينتقل إليه بسبب الإرث والوصية إن انفصل حيا أما هذا إيجاب الحق للجنين ابتداء وهو ليس بأهل لذلك فلهذا بطل إقراره والله أعلم .
باب الخيار(17/361)
قال رحمه الله: رجل أقر لرجل بدين من قرض أو غصب أو وديعة أو عارية قائمة أو مستهلكة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فالإقرار جائز والخيار باطل أما جواز الإقرار فلوجود الصيغة الملزمة بقوله علي أو عندي لفلان وأما الخيار فباطل لأن الإقرار باطل إن اختار ولا يليق به الخيار لأن الخبر إن كان صادقا فصدق اختاره أو لم يختره وإن كان كذبا لم يتعين باختياره وعدم اختياره وإنما ما يبر يشترط الخيار في العقود بالشرط ليتغير به صفة العقد ويتخير من له بين فسخه وإمضائه ولأن الخيار في معنى التعليق بالشرط فما دخل عليه وهو حكم العقد والإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط فكذلك لا يحتمل اشتراط الخيار إلا أن التعليق يدخل على أصل السبب فمنع كون الكلام إقرارا والخيار يدخل على حكم السبب فإذا لغى بقي حكم الإقرار وهو اللزوم ثانيا وهذا كما أن التعليق بالشرط يمنع وقوع الطلاق واشتراط الخيار لا يمنعه ويستوي إن صدقه صاحبه في الخيار أو كذبه وهذا بخلاف ما إذا أقر بدين من ثمن بيع على أنه فيه بالخيار ثلاثة أيام فإن هناك يثبت الخيار إذا صدقه صاحبه لأن سبب الوجوب عقد يقبل الخيار فإذا تصادقا عليه صار ذلك كالمعاين في حقهما وإن كذبه صاحبه لم يثبت الخيار لأن مقتضى مطلق البيع اللزوم فمن ادعى عدوة معتبرة باشتراط الخيار فيه لا يقبل قوله إلا بحجة فأما ما سبب وجوب المال فعلا من فرض أو غصب أو استهلاك وذلك لا يليق به الخيار ولو عاين اشتراط الخيار فيه كان لغوا فلهذا لم يثبت وإن تصادقا عليه وإن أقر بالدين من كفالة على شرط مدة معلومة طويلة أو قصيرة فإن صدقه المقر له فهو كما قال والخيار ثابت له إلى آخر المدة لأن الكفالة عقد يصح اشتراط الخيار فيه فيجعل ما تصادقا عليه كالمعاين في حقهما وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين البيع وبين الكفالة فقال في البيع لا يجوز اشتراط الخيار أكثر من ثلاثة أيام وفي الكفالة يجوز ذلك وإن طالت المدة لأن الكفالة عقد مبين(17/362)
على التوسع.
ألا ترى أنه يحتمل التعليق ببعض الأخطار نحو قوله ما ذاب لك عن فلان فهو علي ونحو الكفالة بالدرك فإنه تعليق بخطر الاستحقاق فإذا كان هو محتملا للتعليق كان الخيار ملائما له بأصله فيجوز اشتراطه مدة معلومة قصرت أو طالت فأما البيع مبني على العتق حتى لا يحتمل التعليق بالشرط أصلا فلم يكن الخيار ملائما له باعتبار أصله فقلنا لا يجوز(17/363)
ص -175- ... اشتراطه إلا بقدر ما ورد به الشرع بخلاف القياس وذلك ثلاثة أيام وإن كذبه صاحبه بالخيار لزمه المال ولم تصدق على شرط الخيار لأن مقتضى عقد الكفالة اللزوم كما هو مقتضى مطلق البيع وهذا بخلاف الأجل فإنه إذا ادعى الكفالة بالمال إلى أجل فالقول قوله وإن لم يصدقه صاحبه لأن الأجل من مقتضيات الكفالة.
ألا ترى أن من كفل بمال موجد مطلقا يثبت الأجل في حق الكفيل وكذلك الكفالة توجب المال للكفيل على الأصيل إذا كان يأمره كما يوجب للطالب على الكفيل وما يكون للكفيل على الأصيل مؤجل أن يؤديه عنه فلما كان الأصل من مقتضيات الكفالة جعل القول فيه قول من يدعيه بخلاف الخيار فإنه ليس من مقتضيات الكفالة فلا يقبل قول من يدعيه إلا بحجة وإقرار الصبي التاجر جائز في جميع تجاراته لأن الإقرار من صيغ التجار وهو مما لا يستغنى التاجر عنه فإنه يتعذر على من يعامله إشهاد الشاهدين عليه كل معاملة فإذا علم أن إقراره له لا يكون صحيحا يتحذر عن المعاملة معه فلهذا جوزنا إقراره وبخلاف إقرار الأب والوصي عليه فإنه لا يكون صحيحا لعدم التصور فإن الإقرار ما يقر المرء به على نفسه فأما ما يقر به على غيره يكون شهادة فمن الأب لا يتحقق الإقرار على الصبي ويتحقق من الصبي المأذون الإقرار على نفسه ويستوي إن أقر دين أو عين مما اكتسبه بتجارته أو كان موروثا له عن أبيه لأن إقراره فيه باعتبار ملكه والكل في حكم الملك سواء.(17/364)
ألا ترى أن سائر تصرفاته يجوز فيهما فكذلك إقراره وذكر في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله أن إقراره فيما يرثه من أبيه لا يكون صحيحا لأن صحة إقراره فيما اكتسبه بتجارته لوقوع الحاجة إليه وذلك غير موجود فيما ورثه عن أبيه والأصح ما ذكره في الكتاب لأن انفكاك الحجر عنه فيما هو من جملة التجارة بالإذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه فيما هو من جملة التجارة بالإذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالبلوغ وقد بينا أن الإقرار من التجارة وكذلك لو أقر الصبي المأذون على أبيه بدين جاز إقراره لأنه في حكم جواز الإقرار فصار انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالبلوغ ولو أقر بدين أبيه بعد البلوغ صح إقراره واستوفى جميع الدين من نصيبه إن أنكر شركاؤه فكذلك إذا أقر به بعد الإذن ولو أقر على نفسه بالمهر وأرش الجناية ودين الكفالة لم يصح إقراره بشيء من ذلك لأن هذه الأسباب ليست بتجارة وقد نفى الحجر عليه بقيام الصغر فيما ليس بتجارة ألا ترى أن أحد المتفاوضين لو أقر بالمهر وأرش الجناية يؤاخذ به شريكه بخلاف ما إذا أقر بالدين مطلقا فهذا مثله فالكفالة في حق الصبي بمنزلة المهر وأرش الجناية لأنه ينزع ابتداء بخلاف المفاوض على ما بينا والله أعلم بالصواب.(17/365)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الثامن عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(18/1)
ص -3- ... باب الإقرار بالعارية
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل أن هذا الثوب أو هذه الدار عنده عارية بملك فلان أو بميراثه أو بحق فلان هذا كله إقرار لأن الباء في الأصل للإلصاق فقد جعل المقر به ملصقا بملك فلان وميراثه وحقه ولم يتحقق هذا الإلصاق إلا بعد أن يكون مما له وكالة وقد تكون الباء صلة كما في قوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20] وإن حملناه على معنى الصلة هنا كان إقرارا أيضا لأنه يصير تقدير كلامه أنه ملك فلان أو ميراث فلان أو حق فلان وقد تكون الباء للتبعيض أيضا عند بعضهم كما في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] اقتضى المسح ببعض الرأس وإذا حمل على هذا كان إقرارا أيضا لأنه جعل المقر به بعض ملكه وميراثه وحقه
وكذلك لو قال: عارية عندي من ملك فلان أو من ميراثه أو من حقه لأن من في الأصل للتبعيض فذلك إقرار يكون المقر به بعض ملكه وقد تكون من صلة كما في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } [الأحقاف:31] وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30] وإذا كانت بمعنى الصلة فهو إقرارا أيضا وقد تكون بمعنى الباء قال الله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}[الرعد:11] يعني بأمر الله فعلى هذا المعنى هذا والأول سواء وقد تكون من للتمييز كما يقال سيف من حديد وخاتم من فضة وعلى هذا يكون إقرارا أيضا لأنه ميز المقر به عن سائر ما في يده بإقراره أنه للمقر ولو قال عارية عندي لملك فلان أو لميراثه كان إقرارا أيضا ولو قال والثوب والدابة عارية عندي لحق فلان لا يكون إقرار لأن اللام قد تكون للتأكيد وقد تكون للوقت كما في قوله تعالى:{مِنْ رَبِّك}[الاسراء: 87] وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقد تكون للتمليك وقد تكون للتعليل فعلى هذه الوجوه حمل قوله لملك فلان أو لميراث فلان إقرارا مؤكدا.(18/2)
وأما إذا قال لحق فلان فنقول اللام قد تكون بمعنى المجازاة كقول الرجل لغيره أكرمتك لتكرمني وزرتك لتزورني وقد تكون لبيان الحرمة كالرجل يريدان يضرب عبده فنهاه الغير فيقول تركته لك أي لحرمتك وشفاعتك فهنا قوله لحق فلان يحتمل معنى الشفاعة والحرمة يعنى لأجل شفاعته وحرمته إعادة صاحبه فهنا قوله مني فلما احتمل هذا المعنى لم يجعل إقرارا له بالشك بخلاف قوله لملك فلان أو لميراثه فإن ذلك لا يحتمل(18/3)
ص -4- ... معنى الحرمة والشفاعة وكذلك لو قال هذا الألف مضاربة عندي لحق فلان لم يكن إقرارا لأنه محتمل لمعنى الحرمة والشفاعة أي إنما رفعها صاحبها إلى مضاربه لأجل شفاعة فلان وحرمته بخلاف مالو أقر بالقرض لحق فلان فإنه يكون إقرارا لأن القرض لا تجزئ فيه الشفاعة عادة إنما تجزئ فيه الكفالات فإذن انتفى معنى الشفاعة في القرض فبقى إقرار لملكه بخلاف العواري والمضاربة فإنه تجزئ فيهما الشفاعات عادة ولو قال هذه الدراهم عندي عارية لحق فلان فهذا إقرار له بها لان العارية في الدراهم قرض فكان هذا والإقرار بالقرض سواء بخلاف الدابة والثوب.
ولو قال: أخذت هذا الثوب منك عارية وقال المقر له بل أخذته مني بيعا فالقول قول الآخذ مع يمينه لأنهما تصادقا على أن الأخذ حصل بإذن المالك وذلك لا يكون سببا لوجوب الضمان على الآخذ باعتبار عقد الضمان وهو منكر له فكان القول قوله وهذا إذا لم يلبسه فإن لبسه فهلك كان ضامنا له لأن لبس ثوب الغير سبب لوجوب الضمان على اللابس إلا أن يكون بإذن من صاحبه واللابس وصاحبه منكران .
فإن قيل: لا كذلك فإن بيع الثوب من الغير تسليط منه على لبسه فلما أقر صاحبه بالبيع فقد ثبت الإذن في اللبس فينبغي أن لا يضمن اللابس كما قلنا في الآخذ قلنا التسليط بإيجاب البيع من حيث التمليك ليلبس ملك نفسه فإذا لم يثبت الملك له لإنكاره لم يثبت تسليط صاحبه إياه على لبسه وهو في اللبس عامل لنفسه وذلك سبب موجب الضمان عليه في ملك الغير بخلاف الآخذ فقد يكون في الآخذ عاملا للمأخوذ منه كالمودع في أخذ الوديعة ليحفظها فلا يتقرر الضمان عليه بالإقرار بالأخذ إذا لم ينكر صاحبه أصل الأذن.(18/4)
ولو قال :أقرضني ألف درهم فقال المقر له لا بل غصبني فالمقر ضامن لها لأنهما تصادقا على كون المال مضمونا عليه للمقر له وإن اختلفا في سببه والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فعند التصادق على الحكم لا ينظر إلى اختلاف السبب وهذا لأن قول المقر له لا بل غصبني لا يكون ردا لأصل الواجب إنما يكون ردا للسبب فيبقي إقراره معتبرا في وجوب المال لتصديق المقر له إياه في أنه واجب وإن كانت الدراهم بعينها فللمقر له أن يأخذها لأنهما تصادقا على ملك العين للمقر له فبعد ذلك المقر بدعوى القرض يدعي ملكها عليه فلا يصدق إلا بحجة ولو قال هذه الدراهم في يدي عارية لفلان أو من فلان أي أو من قبل فلان فهذا إقرار له بها لما بينا أن العارية في الدراهم قرض فإن الانتفاع بها لا يتأتى فيما هو المقصود إلا باستهلاك عينها فكانت الإعارة فيها تسليطا بشرط ضمان الرد وذلك حكم القرض وإن قال هذه الدراهم عارية بيدي على يدي فلان فليس هذا بإقرار وذكر بعد هذا أنه إقرار وجه هذه الرواية أن قوله على يدي فلان معناه أرسلها صاحبها إلى عارية على يدي فلان فإنما إقراره فلانا كان رسولا فيها فلا يصير مقرا بالملك له.
ووجه الرواية الأخرى أنه أقر بأن وصولها إلى يده كان من يد فلان والمتعين إنما يلزمه(18/5)
ص -5- ... الرد على من أخذ منه كما يلزم الرد المكاري الذي أخذ منه فوجب عليه بحكم هذا الإقرار ردها على فلان فلهذا كان منه إقرار لفلان.
باب الإقرار بالدراهم عددا
قال رحمه الله: رجل قال لفلان: على مائة درهم عددا ثم قال بعد ذلك هي وزن خمسة أو ستة وكان الإقرار منه بالكوفة فعليه مائة درهم وزن سبعة ولا يصدق على النقصان إلا أن بين الوزن موصولا بكلامه لأن ذكر الدراهم عبارة عن ذكر الوزن فإنه لا طريق لمعرفة الوزن فيه إلا بذكر العدد من الدراهم ومطلق ذكر الوزن ينصرف إلى المتعارف منه فإذا كان إقراره بالكوفة فالمتعارف بها في الدراهم سبعة وكما ينصرف مطلق البيع والشراء بالدراهم إليه فكذلك مطلق الإقرار ينصرف إليه فقوله وزن خمسة بيان معتبر لما اقتضاه مطلق إقراره فقد بينا بيانه والتعبير يصح موصولا بالكلام ولا يصح مفصولا ومعنى قولنا وزن سبعة أن كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل وكل درهم أربعة عشر قيراطا وإذا كان الدرهم أربعة عشر قيراطا تبنى عليه أحكام الزكاة ونصاب السرقة وغيرها.(18/6)
وأصل المسألة أن الأوزان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبى بكر رضي الله عنه كانت مختلفة فمنها ما كان الدرهم عشرين قيراطا ومنها ما كان عشرة قراريط وهو الذي يسمى وزن خمسة ومنها ما كانت اثني عشر قيراطا وهو الذي يسمى وزن ستة فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه طلبوا منه أن يجمع الناس على نقد واحد فأخذ من كل نوع من الأنواع الثلاثة درهما وكان الكل اثنين وأربعين قيراطا وأمر أن يضرب من ذلك ثلاثة دراهم متساوية فكل درهم أربعة عشر قيراطا وهو وزن سبعة التي جمع عمر رضي الله عنه عليها الناس وبقي كذلك إلى يومنا هذا وإن كان في بلد يتبايعون على دراهم معروفة الوزن بينهم ينقص من وزن سبعة صدق في ذلك لأن تعيين وزن سبعة لم يكن نص من لفظه إنما كان بالعرف الظاهر في معاملة الناس به وذلك يختلف باختلاف البلدان والأوقات فيعتبر في كل موضع عرف ذلك الموضع كما في سائر التصرفات سوى الإقرار وإن ادعى وزن دون المتعارف كما في تلك البلدة لم يصدق إلا إذا ذكره موصولا بكلامه وإن كان في البلد نقود مختلفة فإن كان الغالب منها نقدا بعينه ينصرف مطلق الإقرار إليه .
وإن لم يكن البعض غالبا على البعض ينصرف إقراره إلى الأقل لأن الأقل متيقن به وعند التعارض لا يقضى إلا بقدر المتيقن وهذا لأن المقر بين الأول لأن الأقل متيقن به وعند التعارض لا يقضى إلا بقدر المتيقن وهذا لأن المقر بين الأول لا محالة وهذا بيان التفسير حين استوت النقود في الرواج وبيان التفسير صحيح مفصولا كان أو موصولا كبيان الزوج في كنايات الطلاق ولو قال بالكوفة علي مائة درهم بيض عددا .
ثم قال: هي تنقص دانقا لم يصدق لأن مطلق لفظه انصرف إلى الإقرار بوزن سبعة فدعواه النقصان بمنزلة الاستثناء لبعض ما أقر به والاستثناء لا يصح إلا موصولا ولو قال:(18/7)
ص -6- ... علي مائة درهم اسبهبديه عددا ثم قال عنيت هذه الصغار فعليه مائة درهم وزن سبعة من الأسبهبدية لأن قوله اسبهبديه يرجع إلى بيان النوع كقوله سود يرجع إلى بيان الصفة فلا يتغير به الوزن والأسبهبديه فارسية معربة معناه إسبه سالادية والصغار هو الذي تسميه الناس مهرا تكون ستة منه بوزن درهم ولكنه غير مصدق فيما يدعى من نقصان الوزن مفصولا على ما بينا .
ولو قال له: على مائة درهم من السود الخيار ثم قال هي وزن سبعة وقال الطالب هي مثاقيل فالقول قول المقر مع يمينه لما بينا أن تسمية الدراهم بيان للوزن وقوله من السود بيان للصفة وقوله الخيار بيان العرض وبه لا يزداد الوزن فإن ادعى المقر له زيادة عليه فالقول قول المنكر مع يمينه وكذلك لو قال له على درهم صغير فهو على وزن سبعة ووصفه بالصغر إما للأثقال أو لصغر الحجم وبه لا ينتقص الوزن وكذلك لو قال علي درهم كبير ولو قال على دراهم فعليه ثلاثة دراهم لأنه أقر بلفظ الجمع وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة ولا غاية لأقصاه فينصرف إلى الأدنى لأنه متيقن به وقد بينا أن الإقرار إيجاب لا يقابله الاستيجاب فيكون بمنزلة الوصية في أنه يؤخذ بالأقل مما يلفظ به وكذلك لو قال له علي دريهمات فهو تصغير بجمع الدراهم وهذا التصغير لا ينقض الوزن فعليه ثلاثة دراهم وكذلك لو قال له على فليس أو قفيز أو رطيل فهو وقوله فلس وقفيز ورطل سواء ينصرف ذلك إلى التمام من ذلك وزنا وكيلا.(18/8)
ولو قال له: علي مائة درهم مثاقيل كما قال: وكان عليه مائة مثقال عن الدراهم لأنه نص على وزن هو أكثر مما اقتضاه مطلق كلامه ولو نص على وزن هو دونه قبل منه إذا كان موصولا فكذلك إذا نص على وزن هو أكثر إلا أن في هذا لا يلحقه التهمة فيصح سواء ذكره موصولا أو مفصولا ولو قال له على ربع حنطة فعليه ربع حنطة بربع البلد الأكبر وإن قال عنيت الربع الصغير لم يصدق والربع اسم لمكيال كالقفيز والصاع والمتعارف في المعاملات به الأكبر فينصرف مطلق الإقرار إليه على قياس ما بينا في الوزن.
ثوب في يدي رجل فقال: وهبه لي فلان فقال: نعم أو أجل أو بلى أو صدقت أو قال ذلك بالفارسية فهو إقرار لأن ما ذكره في موضع الجواب غير مستقل بنفسه فانه ليس بمفهوم المعنى وهو مما يصلح أن يكون جوابا وما تقدم من الخطاب يصير كالمعاد للجواب قال الله تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ }[الأعراف:44} أى نعم قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وقال الله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:172] أي بلى أنت ربنا فهنا أيضا يصير ما تقدم من عقد الهبة معادا في الجواب فيثبت العقد بإقراره والقبض موجود فيجعل صادرا عن ذلك العقد وإن لم يكن الثوب في يد الموهوب له ولكنه في يد الواهب فادعى الموهوب له الهبة والتسليم وجحد ذلك الواهب فإن شهد الشهود بمعاينة القبض قبل بالاتفاق وكان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن شهدوا على إقرار الواهب بالتسليم كان(18/9)
ص -7- ... أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولا لا يقبل لأن تمام الهبة يقبض بحكم والقبض فعل لا يصير موجودا بالإقرار به كاذبا فإن المخبر عنه إذا كان باطلا فبالإخبار عنه لا يصير حقا كقرية المقرين وجحود المبطلين فإذا لم يشهدوا بهبة تامة لا تقبل الشهادة ثم رجع وقال الشهادة مقبولة وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله: لأن ثبوت إقراره بالبينة كثبوته بالمعاينة والقبض وإن كان فعلا هو يثبت في حق المقر بإقراره كالقتل والغصب في حق المقر بإقراره فهذا مثله فإن أقر الواهب بالهبة والقبض ثم أنكر التسليم بعد ذلك وأراد استحلاف الموهوب له لم يحلفه القاضي في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ويحلفه في قول أبى يوسف رحمه الله استحسانا.
وأصل المسألة البائع إذا أقر بقبض الثمن ثم جحدوا أراد استحلاف المشتري لم يكن له ذلك عندهما وهو لأنه مناقض في كلامه راجع عما أقر به من القبض والمناقض لا قول له والاستحلاف ينبني على دعوى صحيحة واستحسن أبو يوسف رحمه الله بما عرف من العادة الظاهرة أن البائع يقر بالثمن للأشهاد وإن لم يكن قبضه حقيقة فاللاحتياط لحقه يستحلف الخصم إذا طلب هو ذلك والله أعلم بالصواب.
باب من الإقرار بألفاظ مختلفة(18/10)
قال رحمه الله: رجل قال لفلان على عشرة دراهم فعليه عشرة دراهم عندنا وقال زفر رحمه الله عشرون وقال الحسن بن درج عليه مائة درهم وجه قول الحسن رحمه الله أن العشرة في العشرة عند أهل الحساب تكون مائة فإقراره بهذا اللفظ محمول على ما هو معلوم عند أهل الحساب ولنا أن نقول أن حساب الضرب في الممسوحات لا في الموزونات مع أن عمل الضرب في تكثير الآخر لا في زيادة المال وعشرة دراهم وزنا وإن تكثرت أجزاؤها لا تصير أكثر من عشرة وزفر رحمه الله يقول حرف في بمعنى حرف نون وقال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}[الفجر:29] أي مع عبادي فيحمل على هذا تصحيحا لكلامه وكنا نقول حرف في للظرف والدراهم لا تكون ظرفا للدراهم وجعله بمعنى مع مجاز والمجاز قد يكون بمعني حرف مع وقد يكون بمعنى حرف على قال الله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه:71] أي على جذوع النخل فليس أحدهما بأولى من الآخر بقي المعتبر حقيقة كلامه فيلزم عشرة بأول كلامه وما ذكره في آخره لغو وكذلك لو قال وعشرة دنانير إلا أن يقول عنيت هذه وهذه فحينئذ يعمل بيانه بين أنه استعمل في بمعنى مع أو بمعنى واو العطف وفيه تسديد عليه فيصح بيانه.
ولو قال له: على درهم في قفيز حنطة لزمه الدرهم والقفيز باطل لأنه لا يجعل وعاء للدرهم عادة فلا يمكن إعبار حقيقة حرف الظرف فيه فيلغو آخر كلامه ولأن الوجوب عليه بقوله على وقد أقر به وبالدرهم ولم يعطف عليه القفيز ليعتبر كالمقترن به حكما فلهذا لم يلزمه إلا الدرهم وكذلك لو قال على قفيز حنطة في درهم لزمه القفيز وبطل الدرهم لأن(18/11)
ص -8- ... الدرهم لا يكون ظرفا للقفيز وكذلك لو قال له علي فرق زيت في عشرة مخاتيم حنطة لزمه الزيت والحنطة باطلة لأن الحنطة لا تكون ظرفا للزيت ولو أقر أن عليه خمسة دراهم في ثوب يهودي ثم قال بعد ذلك الثوب اليهودي هو الدين والخمسة دراهم أسلمها إلى فيه فهذا بيان ولكن فيه يعتبر لأن موجب أول كلامه كون الخمسة دينا عليه وبما ذكره الآن تبين أن الثوب دين عليه دون الخمسة لأن رأس المال لا يكون دينا على المسلم إليه حال قيام العقد وبيان التعبير لا يصح مفصولا إلا أن يصدقه الطالب في ذلك فإن صدقه قلنا الحق لا يدينهما فيثبت ما تصادقا عليه.
وإن جحد كان للمقر أن يحلفه وليه لأنه يدعي عليه عقد السلم ولو أقر به لزمه فإن أنكر استحلف عليه فإن حلف كان له أن يأخذ المقر بخمسة دراهم كما أقر به ولو قال له علي درهم مع درهم فالأصل في جنس هذه المسائل أنه متى ذكر الوصف بين الاثنين فإن ألحق به حرف الهاء يكون الوصف منصرفا إلى المذكور آخرا وإن لم يقرن به حرف الهاء يكون نعتا للمذكور أولا كالرجل يقول جاءني زيد قبل عمرو يكون نعتا لمجيء زيد(18/12)
ولو قال: جاءني زيد قبله عمر ويكون قبل نعتا لمجيء عمرو إذا عرفنا هذا فنقول إذا قال له على ألف درهم مع أو معه درهم فكلمة مع الضم والقران سواء جعل نعتا للمذكور أولا أو آخرا وصار مقرا بهما لضمه أحدهما إلى الآخر في الإقرار ولو قال له على درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد لأن قبل نعت للمذكور أولا فكأنه قال قبل درهم آخر يجب علي ولو قال قبله درهم فعليه درهمان لأنه نعت للمذكور آخرا أي قبله درهم قد وجب علي ولو قال درهم بعد درهم أو بعده درهم يلزمه درهمان لأن بعد درهم قد وجب علي أو بعده درهم قد وجب لا يفهم من الكلام إلا هذا وكذلك لو سمى أحدهما دينارا أو قفيز حنطة وفي قوله بعده درهم الإقرار مخالف للطلاق قبل الدخول لأن الطلاق بعد الطلاق هناك لا يقع والدرهم بعد الدرهم يجب دينا وكذلك لو قال درهم لأن الواو للعطف وموجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر فصار مقرا بهما ولو قال درهم فدرهم يلزمه درهمان عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يلزمه إلا درهم واحد لأن الفاء ليست للعطف فلا يثبت به الاشتراك بل معنى قوله فدرهم أي فعلي ذلك الدرهم وكنا نقول ألفا للوصل والتعقيب فقد جعل الثاني موصولا بالأول ولا يتحقق هذا الوصل إلا بوجوبهما وكان هذا الوصل في معنى العطف وكذلك التعقيب يتحقق في الوجوب بينهما إن كان لا يتحقق في الواجب فكان معنى كلامه أن وجوب الثاني بعد الأول في هذا عمل بحقيقة كلامه فهو أولى من الإضمار الذي ذكره الخصم لأن الإضمار في الكلام للحاجة ولا حاجة هنا ولو قال درهم درهم لزمه درهم واحد لأنه كرر لفظه الأول والتكرار لا يوجب المغايرة إذا لم يتخللها حرف العطف بخلاف ما إذا تخللها حرف الواو فإن المعطوف غير المعطوف عليه(18/13)
ص -9- ...
وكذلك لو قال درهم بدرهم فعليه درهم واحد لأن حرف الباء يصحب الأعواض فكان معنى كلامه بدرهم استقرضته أو بدرهم اشتريته منه فلا يلزمه إلا درهم واحد
ولو قال له: علي درهم على درهم لزمه درهم واحد منهم من يذكر هذه المسألة على درهم على درهم والأصح ما قلنا أن المسألة علي درهم علي درهم وقد أعاد في بعض النسخ قوله له في الكلام الثاني فقال له علي درهم وبهذا ترتفع الشبهة ولا يلزمه إلا درهم واحد لأنه كرر كلامه الأول وبالتكرار لا يزداد الواجب لأن الإقرار خبر والخبر يكرر ويكون الثاني هو الأول قال الله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}[القيامة:35] ولو قال له :علي درهم ثم درهمان لزمه ثلاثة دراهم لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي.
وقد بينا أن التعقيب في الوجوب بين المذكورين يتحقق وإن كان لا يتحقق في الواجب فصار مقرا بهما على أن وجوب الدرهمين عليه كان بعد وجوب الدرهم فيلزمه ثلاثة ولو قال مائة درهم لا بل مائتان في القياس يلزمه ثلاثمائة وبه قال زفر رحمه الله وفي الاستحسان يلزمه مائة درهم وجه القياس أن كلمة لا بل لاستدراك الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقام الأول فرجوعه عن الإقرار بالمائة باطل وإقراره بالمائتين على وجه الإقامة مقام الأول صحيح فيلزمه المالان كما لو قال له علي مائة درهم لا بل مائة دينار أو قال لامرأته أنت طالق واحدة لا بل اثنين يقع ثلاث تطليقات وجه الاستحسان أن الإقرار إخبار والغلط يتمكن في الخبر والظاهر أن مراده بذكر المال الثاني استدراك الغلط بالزيادة على المال الأول لا ضم الثاني إلى الأول.(18/14)
ألا ترى أن الرجل يقول سني خمسون لا بل ستون كان إخبار الستين فقط ويقول حججت حجة لا بل حجتين كان إخبارا بحجتين فقط بخلاف ما إذا اختلف جنس المالين لأن الغلط في مثل هذا يقع في القدر عادة لا في الجنس وعند اختلاف الجنس لا يمكن أن يجعل كأنه أعاد القدر الأول فزاد عليه لأن ما أقر به أولا غير موجود في كلامه الثاني بخلاف ما إذا اتفق الجنس.
ألا ترى أنه لا يقول حججت حجة لا بل عمرتين ويقول حججت حجة لا بل حجتين وهذا بخلاف الطلاق فإنه وإن كان بصيغة الإخبار فهو إيقاع وإنشآت وفي الإنشاءات لا يقع الغلط فلا يمكن حمل الثاني على الاستدراك حتى لو خرج الكلام هنا مخرج الإخبار وقال كنت طلقتها أمس واحدة لا بل اثنتين كان إقرارا باثنتين استحسانا كما في هذه المسألة وعلى هذا لو قال له علي مائتان لا بل مائة فعليه أزيد المالين وهو المائتان لأنه قصد استدراك الغلط بالرجوع عن بعض ما أقر به أولا فلم يعمل.
وفي القياس يلزمه المالان وعلى هذا لو قال له علي مائة جياد لا بل زيوف أو قال له علي مائة زيوف لا بل جياد في جواب الاستحسان يلزمه أفضل المالين فقط وفي القياس يلزمه المالان لأن الجنس واحد والتفاوت في الجنس بمنزلة التفاوت في العدد وإذا أقر الرجل على نفسه بمائة درهم في موطن وأشهد شاهدين ثم أقر له بمائة درهم في موطن آخر(18/15)
ص -10- ... وأشهد شاهدين آخرين فعند أبى حنيفة رحمه الله يلزمه المالان جميعا وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يلزمه إلا مال واحد وذكر في بعض نسخ أبى سليمان أن أبا يوسف رحمه الله كان يقول أولا بقول أبى حنيفة ثم يرجع على قول محمد رحمهما الله .
وجه قولهما أن الإقرار خبر وهو مما يتكرر ويكون الثاني هو الأول فلا يلزمه بالتكرار مال آخر بل قصده من هذا التكرار أن يؤكد حقه بالزيادة في الشهود ألا ترى أن الإقرارين لو كانا في مجلس واحد وكذلك لو كان أشهد على كل إقرار شاهدا واحدا أو لم يشهد على واحد من الإقرارين لم يلزمه إلا مال واحد وكذلك لو أراد صكا على الشهود وأقر به عند كل فريق منهم أو أقر بالمائة وأشهد شاهدين ثم قدمه إلى القاضي فأقر به لا يلزمه إلا مال واحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول ذكر المائة في كلامه منكر والمنكر إذا أعيد منكرا كان الثاني غير الأول قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6]
وبخلاف ما إذا أراد الصك على الشهود لأن الإقرار هنا كان معرفا بالمال الثابت في الصك وقد ذكرنا أن المنكر إذا أعيد معرفا كان الثاني عين الأول فأما إذا كان الإقرار في مجلس واحد في القياس على قول أبى حنيفة رحمه الله يلزمه مالان ولكنه استحسن فقال للمجلس أن يتبصر في جميع الكلمات المتفرقة وجعلها في حكم كلام واحد.(18/16)
ألا ترى الأقارير في الزنى في مجلس واحد بخلاف ما إذا اختلف المجلس فكذلك هنا وعلى هذا الخلاف لو أقر بمائة في مجلس وأشهد شاهدين ثم ثمانين وأشهد شاهدين في مجلس آخر أو بمائتين ثم بمائة عند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه المالان وعندهما يدخل الأقل في الأكثر فعليه أكثر المالين فقط ولو قال لفلان عندي مائة درهم بضاعة قرضا فهذا دين عليه لأن عنده عبارة عن القرب وهو يحتمل القرب من يده فيكون إقرارا بالأمانة ومن ذمته فيكون إقرارا بالدين بقي لفظان أحدهما للأمانة وهو قوله بضاعة والآخر للدين خاصة وهو القرض ومتى جمع بين لفظين أحدهما يوجب الأمانة والآخر الدين يترجح الدين لأن صيرورته دينا يعترض على كونه أمانة فإن المودع إذا استهلك أو خالف واستقرض صار دينا عليه والأمانة لا تطرى على الدين فإن ما كان دينا في ذمته لا يصير أمانة عنده بحال فإذا اجتمعا يرد على صاحبه وإن قال له علي مائة درهم فهذا إقرار بالدين لأن كلمة علي خاصة للإخبار واستحقاقه من وإنما يعلوه إذا كان دينا في ذمته لا يجد بدا من قضائه ليخرج عنه وكذلك لو قال قبل فهو إقرار بالدين لأن هذه عبارة عن اللزوم .
ألا ترى أن الصك الذي هو حجة الدين يسمى مالا وأن الكفيل يسمى به قبيلا لأنه ضامن للمال وإن قال عندي فهذا إقرار بالوديعة لأنه لما كان محتملا كما بينا لم يثبت به الأقل وهو الوديعة وكذلك لو قال معي أو في يدي بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهذا كله إقرار بالوديعة لأن هذه المواضع إنما تكون محتملا للعين لا للدين فإن الدين محله الذمة ولو قال له في مالي مائة درهم فهذا إقرار له ولم يبين في الكتاب أنه إقرار بمادي(18/17)
ص -11- ... وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول إن كان ماله محصورا فهو إقرار له بالشركة بذلك القدر وإن لم يكن ماله محصورا فهو إقرار بالدين لأنه جعل ماله ظرفا لما أقر به فقد خلطه بمال كان مستهلكا له فكان دينا عليه وإن لم يخلطه فقوله في مالي بيان أن محل قضاء ما أقر به ماله وإنما يكون ماله محلا لقضاء ما هو دين في ذمته والأصح أنه إقرار بالدين على كل حال سواء كان ماله محصورا أو غير محصور لأن المال المشترك لا يضاف إلى أحد الشريكين خاصة فلا يحمل قوله في مالي إلا على بيان محل القضاء.
ولو قال له :من مالي ألف درهم أو من دراهمي هذه درهم فهذه هبة لا تتم إلا بالقبض والدفع إليه لأن كلمة من للتبعيض فإنما جعل له بعض ماله كلامه وذلك لا يكون إلا بإنشاء الهبة ولا يتم إلا بالقبض والقسمة وإن قال من مالي ألف درهم لا حق لي فيها فهذا إقرار بالدين لأنه بين تأخير كلامه أن مراده من أوله ليس الهبة فأخبر بانتهاء حقه عنه ولا ينتفى حقه عن الموهوب مالم يسلم فعرفنا بآخر كلامه أن مراده من أوله الإقرار وإن من للتميز لا للتبعيض فجعل ذلك القدر مميزا من ماله بإقراره لفلان لا حق لي فيه وإن قال له عندي مائة درهم وديعة قرض أو مضاربة قرض فهو قرض لما بينا أن الوديعة والمضاربة قد تنقلب قرضا فأما القرض لا تنقلب وديعة ولا مضاربة.
ولو قال لفلان: علي أو قبلي ألف درهم وديعة فهي وديعة لأن آخر كلامه تفسير للأول وهو محتمل لما فسره فإن قوله علي أي حفظها لا عينها لأن المودع ملتزم حفظ الوديعة ومتى فسر كلامه بما يحتمل كان مقبولا منه وإن قال له عندي ألف درهم دين لأن قوله عندي محتمل وقد فسره بأحد المحتملين فكان وإن قال قبلي له مائة درهم دين وديعة أو وديعة دين فهو دين لما بينا أن أحد اللفظين إذا كان للأمانة والآخر للدين فإذا جمع بينهما في الإقرار يترحج الدين والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بالزيوف(18/18)
قال رحمه الله: رجل قال لفلان علي درهم من ثمن متاع إلا أنها زيوف أو نبهرجة لم يصدق في دعوي الزيافة وصل أو فصل في قول أبى حنيفة رحمه الله وعلى قولهما يصدق إن وصل ولا يصدق إن فصل وجه قولهما أن الزيوف من جنس الدراهم حتى يحصل بها الاستيفاء في الصرف والسلم فكان آخر كلامه بيانا ولكن فيه تعبير لما اقتضاه أول الكلام من حيث العادة. لأن بياعات الناس تكون بالجياد دون الزيوف ومثل هذا البيان يكون صحيحا إذا كان موصولا كقوله لفلان علي ألف درهم وفلان خمسة.
توضيحه أن قوله: إلا أنها زيوف استثناء للوصف وكان بمنزلة استثناء بعض المقدار بأن قال الأمانة وذلك صحيح إذا كان موصولا فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول الزيافة في الدراهم عيب ومطلق العقد لا يقتضي سلامة الثمن عن العيب فلا يصدق هو في دعوى كون الثمن المستحق بالعقد معينا كما لو ادعى البائع أن المبيع معيب وقد كان المشتري(18/19)
ص -12- ... عالما به فلم يقبل قوله في ذلك إذا أنكره المشترى وهذا لأن دعواه العيب رجوع عما أقر به لأن بإقراره بالعقد مطلقا يصير ملتزما ما هو مقتضى لمطلق العقد وهو السلامة عن العيب.
وفي قوله: كان معيبا يصير راجعا والرجوع عن الإقرار غير صحيح موصولا كان أو مفصولا وليس هذا من باب الاستثناء لأن الصفة مما يتناوله اسم الدار مطلقا حتى يستثنى من الكلام ولكن ثبوت صفة الجودة بمقتضى مطلق العقد بخلاف استثناء بعض المقدار لأن أول كلامه يتناول القدر واستثناء الملفوظ صح ليصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى ولأن الصفة بيع للأصل فثبوته بثبوت الأصل فأما بعض المقدار لا يتبع النقض فيصح استثناء بعض القدر وهذا بخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة فإن ذلك ليس ببيان للعيب بل هو في معنى استثناء بعض المقدار على ما قدمناه ولو قال له على ألف درهم من قرض إلا أنها زيوف فهو على الخلاف أيضا في ظاهر الرواية لأن المستقرض مضمون بالمثل فكان هو وثمن البيع سواء والاستقراض متعامل به بين الناس كالبيع وذلك في الجياد عادة وذكر في غير رواية الأصول عن أبى حنيفة رحمه الله إن هنا يصدق إذا وصل لأن المستقرض إنما يصير مضمونا على المستقرض بالقبض فهو بمنزلة الغصب ولو أقر بألف ردهم غصب فادعى أنها زيوف كان القول قوله فكذلك هنا إلا أن هنا لا يصدق إذا فصل لما فيه من شبه البيع من حيث المعاملة بين الناس بخلاف الغصب .(18/20)
ولو قال له: علي ألف درهم زيوف فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله هو على الخلاف أيضا لأن مطلق الإقرار بالدين ينصرف إلى الالتزام بطريق التجارة فهو ما لو بين سبب التجارة سواء ومنهم من قال هنا يصدق إذا وصل بالاتفاق لأن صفة الجودة إنما تصير مستحقة بمقتضى عقد التجارة فإذا لم يصرح في كلامه بجهة التجارة لا تصير صفة الجودة مستحقة عليه وهذا لأنا لو حملنا مطلق إقراره على جهة التجارة لم يصح قوله إلا أنها زيوف ولو حملناه على جهة أخرى يصح ذلك منه فحمل كلامه على الوجه الذي يصح أولى وإذا أقر بالمال غصبا أو وديعة وقال هو نبهرجة أو زيوف صدق وصل أم فصل لأنه ليس للغصب والوديعة موجب في الجياد دون الزيوف ولكن الغاصب يغصب ما يجد والمودع إنما يودع غيره مما يحتاج إلى الحفظ.
فلم يكن في قوله إنها زيوف معتبر في أول كلامه فلهذا صح موصولا كان أو مفصولا ولو قال في الغصب والوديعة إلا أنها ستوقة أو رصاص فإن قال موصولا صدق وإن قال مفصولا لم يصدق لأن الستوقة ليست من جنس الدارهم حقيقة ولهذا لا يجوز التحور بها في باب الصرف والسلم فكان في هذا البيان تعبيرا لما اقتضاه أول كلامه من تسمية الدراهم لأن ذلك اللفظ يتناول الدراهم صورة وحقيقة وتأخير كلامه يتبين أن مراده الدراهم صورة لا حقيقة وبيان التعبير صحيح موصولا لا مفصولا بخلاف ما سبق فإن الزيوف دراهم صورة وحقيقة فليس في بيانه تعبير لأول كلامه.(18/21)
ص -13- ... ولو قال له: كر حنطة من ثمن بيع أو قرض ثم قال هو رديء فالقول قوله في ذلك وصل أم فصل لأن الرداءة في الحنطة ليست بعيب فإن العيب ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة والحنطة قد تكون رديئة في أصل الخلقة فهو في معنى بيان النوع وليس لمطلق العقد مقتضي في نوع دون نوع ولهذا صح الشراء بالحنطة ما لم يبين إنها جيدة أو وسط أو رديئة فليس في بيانه هذا تعبير موجب أول كلامه فيصح موصولا كان أو مفصولا وكذلك سائر الموزونات والمكيلات على هذا فالرداءة ليست بعيب في شيء من هذا وإن كان الجيد أفضل في المالية لزيادة الرغبة فيه ولكن تلك الزيادة لا تصير مستحقة بمطلق التسمية وكذلك لو أقر بكر حنطة غصب أو وديعة ثم قال هو رديء فالقول قوله لأنه لما صدق في ثمن البيع ففي الغصب والوديعة أولى وكذلك لو أتى بطعام فقد أصابه الماء وعفن فقال هذا الذي غصبته أو أودعته فالقول قوله في ذلك لما بينا أنه ليس للغصب والوديعة موجب في التسليم منه دون العيب ولكنه بحسب ما يتفق فكان بيانه مطلقا للفظه.
ألا ترى أنه لو قال غصبته يوما يهوديا ثم جاء بثوب منخرق خلق فقال هو هذا كان مصدقا في ذلك وكذلك لو قال استودعني عبدا ثم جاء بعبد معيب فقال هو هذا فالقول قوله في ذلك لأن الاختلاف متى وقع في صفة المقبوض فالقول قول القابض أمينا كان أو ضمينا وكذلك إذا وقع الاختلاف في عينه لأن القابض ينكر قبضه في شيء منه سوى ما عينه والقبض على وجه العيب والوديعة يتحقق فيما عينه فيخرج به عن عهدة إقراره وإذا خرج به عن عهدة إقراره كان القول في إنكار قبض ما عينه في قوله.(18/22)
ولو قال لفلان: علي عشرة أفلس قرض أو ثمن بيع ثم قال هي من الفلوس الكاسدة لم يصدق في قول أبي حنيفة وصل أم فصل لأن المعاملات فيما بين الناس في الفلوس الرائجة فدعواه الجياد في الفلوس كدعوى الزيافة في الدراهم وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في القرض هو مصدق إذا وصل كما لو ادعى الزيافة في الدراهم فإن الكاسدة من جنس الفلوس وبالجياد نقل رغائب الناس فيها كما نقل بالزيافة في الدراهم فأما في البيع كان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا لا يصدق وإن وصل لأن هذا بيان يفسد البيع فإن من اشترى بفلوس فكسدت قبل القبض فسد البيع وإقراره بمطلق البيع يكون إقرار الصحة فلا يصدق في دعوى الفساد موصولا كان أو مفصولا كما لو ادعى الفساد لجياد أو أجل مجهول بخلاف الزيافة في الدراهم فليس في هذا دعوى فساد البيع لأنه إذا كان يدعي فساد البيع فكأنه قال ليس له علي فلوس وبأول كلامه صار مقرا بوجوبها عليه وكان رجوعا وبه فارق القرض لأن بدعوى الكساد هناك لا يصير مدعيا أنه لا فلوس عليه فإن بالكساد لا يبطل القرض ثم رجع أبو يوسف رحمه الله فقال يصدق في البيع إذا وصل وعليه قيمة المبيع وهو قول محمد رحمه الله لأن الكاسدة من الفلوس من جنس الرائجة منها وإنما ينعدم صفة الثمينة ليثبت الكساد فهو ودعواه الزيافة في الدراهم سواء ثم فساد البيع وسقوط(18/23)
ص -14- ... الفلوس هنا كان لمعنى حكمي لا بسبب من جهة المقر فلا يصير كلامه به رجوعا بخلاف ما إذا ادعى شرطا مفسدا لأن فساد العقد هناك بالشرط الذي ذكره وإذا صدق هنا صار الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة ولو عايناه استوى بفلوس ثم كسدت قبل القبض كان عليه رد المبيع إن كان قائما وإن هلك في يده فعليه قيمته كذلك هنا.
وكذلك الاختلاف في قوله له علي عشرة دراهم ستوقه من قرض أو ثمن بيع لأن الستوقة كالفلوس فإنه مموه من الجانبين وقوله ستوقة فارسية معربة سرطاقة الطلق الأعلى والأسفل فضة والأوسط صفر والزيوف اسم لمازيفه بيت المال والنبهرجة التجارة ولو قال غصبته عشرة أفلس أو قال أودعتها ثم قال من الفلوس الكاسدة كان مصدقا في ذلك وصل أم فصل لأن الكاسدة من الفلوس من جنس الفلوس حقيقة وصورة وليس للغصب والوديعة موجب في الرائجة فلم يكن في بيانه تعبير لأول كلامه فصح منه موصولا كان أو مفصولا والله أعلم بالصواب.
باب ما يكون الإقرار(18/24)
قال رحمه الله: رجل قال لآخر: اقضي الألف التي عليك فقال نعم فقد أديتها. لأن قوله نعم لا يستقل بنفسه وقد أخرجه مخرج الجواب وهو صالح للجواب فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه فكأنه قال نعم أعطيك الألف التي لك علي وعلى هذا الأصل ينبني بعض مسائل الباب وبعض المسائل مبينة على أنه متى ذكر في موضع الجواب كلاما يستقل بنفسه ويكون مفهوم المعنى يجعل مبتدئا فيه لا محالة إلا أن يذكر فيه ما هو كناية عن المال المذكور فحينئذ لا بد من أن يحمل على الجواب وبيان ذلك إذا قال ساعطيكها أو غدا أعطيكها أو سوف أعطيكها فإن الهاء والألف كناية عن الألف المذكورة فصارت إعادته بلفظ الكناية كإعادته بلفظ الصريح بأن يقول سأعطيك الألف التي لك علي وكذلك إذا قال فأقعدها فأثر بها فانتقدها فأقبضها أو لم يقل أقعد ولكن قال أبرها أو انتقدها أو خذها لأن الهاء والألف في هذا كله كناية عن المال المذكور فلا بد من حمل كلامه على الجواب بخلاف ما إذا قال أثرن أو انتقد أو خذ فلهذا لا يكون إقرارا لأن هذا الكلام يستقل بنفسه وليس فيه ما هو كناية عن المال المذكور فيحمل على الابتداء وهذا لأنه مبتدئ بالكلام حقيقة فترك هذه الحقيقة إلى أن يجعل كلامه للجواب لضرورة ولا ضرورة هنا فجعلنا ابتداء ومعنى قوله أثرن أي اقعد وأرث للناس واكتسب به ولا تؤذيني بدعوى الباطل.
وكذلك قوله ابتعر وقوله خذ أي خذ حذرك مني فلا أعطيك شيئا بدعوى الباطل فلهذا جعلناه ابتداء ولو قال لم تحل بعد فهذا إقرار فإن التاء في قوله لم تحل كناية عن الألف فكان كلامه جوابا وهذا اللفظ منه دعوى التأجيل ولن يكون الأجل إلا بعد وجوب أصل المال فلهذا كان مقرا بأصل المال وكذلك لو قال غدا لأن هذا غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب وهذا استمهال للقضاء إلى الغد وهذا لا يكون(18/25)
ص -15- ... إلا بعد وجوب المال وكذلك لو قال أرسل غدا من يزنها أو من يقبضها لأن الهاء والألف كناية عن الألف فلا بد من حمل كلامه على الجواب ومطالبته بإرسال من يستوفى منه لا يكون إلا بعد وجوب المال عليه وكذلك لو قال ليست اليوم عندي لأن التاء كناية عن المال المذكور والتعلل بالعشرة لا يكون إلا بعد وجوب المال فكان مقرا بها وكذلك لو قال ليست بمهيأة اليوم بمسرة اليوم وفي بعض النسخ ليست بمسرة اليوم فهو جواب لأن التاء كناية عن الألف.
وكذلك لو قال: أجلني فيها فطلب التأجيل لا يكون إلا بعد وجوب المال والهاء والألف كناية عن المال المذكور فكان كلامه جوابا وكذلك لو قال ما أكثر ما يتقاضا بها وكذلك لو قال أعممتني بها أو أبرمتني بها أو أديتني فيها لأن التبرم من كثرة المطالبة لا يكون إلا بعد وجوب المال فإنه لا يتحمل هذا الأذى ولا انتقاد لهذه المطالبة إلا إذا كان المال واجبا وكذلك لو قال والله لا يكون لا أفضكها ولا أزنها لك اليوم أولا يأخذها مني اليوم الكناية المذكورة في حرف الجواب لأنه بقي القضاء والوزن والأخذ في وقت بعينه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب أصل المال فإذا لم يكن أصل المال واجبا فالقضاء يكون منتفيا أبدا فلا يحتاج إلى تأكد نفي القضاء باليمين لأنه في نفسه منتفي.(18/26)
ولو قال: حتى يدخل علي مالي أو حتى يقدم على غلامي فهذا إقرار لأن كلامه غير مستقل بنفسه فإن حتى للغاية فلا بد من شيء آخر ليكون ما ذكر غاية له وليس ذلك إلا بالمال المدعى فكأنه قال لأفضكها حتى يدخل علي مالي ولو قال اقضي المائة التي لي عليك فإن غرمائي لا يدعوني فقال أحل علي بها بعضهم أو من تسبب منهم أو ائتني منهم أضمنها له أو احتال علي بها فهذا كله إقرار بذكر حرف الكناية في موضع الجواب ولأنه أمر بالحوالة المقيدة وذلك لا يتحقق إلا بعد وجوب الدين في ذمة المحتال عليه للمحيل أو يكون ملك له في يده له بتقيد الحوالة بها ولو قال قد قضيتها فهذا إقرار بذكر حرف الكناية ولأنه ادعى القضاء وقضاء الدين لا يسبق وجوبه فصار به مقرا بالوجوب وكذلك لو قال أبرأتني منها لأن الإبراء إسقاط وهو يعقب الوجوب ولا يسبقه فدعواه الإسقاط يتضمن الإقرار بوجوب سابق.
وكذلك لو قال: قد حسبتها لك لأن هذا في الحقيقة دعوى القضاء وكذلك لو قال قد حللتني منها فهذا بمعنى دعوى الإبراء وكذلك لو قال قد وهبتها إلي أو تصدقت بها علي فهذا دعوى التمليك منه ولا يكون ذلك إلا بعد وجوب المال في ذمته وكذلك لو قال قد أحلتك بها لأن الحوالة تحويل الدين من ذمة المحتال عليه فدعواه الحوالة يتضمن الإقرار بوجوبها لا محالة وكذلك لو قال غصبتني هذا العبد فادفعه إلي أو قال هذا العبد وديعة في يدك أو عارية فادفعه إلي أو قال هذا العبد وديعة في يدك أو عارية فادفعه إلي فقال غدا فقد أقر له به لأن ما ذكره في موضع الجواب غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب(18/27)
ص -16- ... وكذلك لو قال: سأعطيكها لأن الهاء كنايه عن العبد فمع ذكر حرف الكناية لا بد من حمل كلامه على الجواب ولو قال بيع مني عبدي هذا أو استأجره مني أو قال أكريتك داري هذه أو أعرتك داري هذه فقال نعم فهذا كله إقرار له بالملك لأن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فيكون محمولا على الجواب ما تقدم يصير معادا فيه وكذلك لو قال ادفع إلي حلة عبدي هذا أو أعطني ثوب عبدي هذا فقال نعم فقد أقر له بالثوب والعبد لأن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فكان محمولا على الجواب فكأنه قال أعطيك ثوب عبدك وذلك إقرار له بالملك في العبد نصا وفي الثوب دلالة لأنه أضاف الثوب إلى العبد الذي أضافه إليه بالملكية فترك إضافته إلى مملوكه يصير بمنزلة إضافته إليه فصار بهما.
وكذلك لو قال :افتح باب داري هذه أو خصص داري هذه أو أسرج دابتي هذه أو الجم بغلي هذا أو أعطني سرج بغلي هذا أو لجام بغلي هذا فقال نعم فهذا إقرار لما بينا أن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب لأنه لو لم يحمله عليه صار لغوا وكلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن ولا يحمل على اللغو إلا إذ تعذر حمله على الصحة ولو قال لا في جميع ذلك لم يكن إقرارا وفي بعض نسخ كتاب الإقرار قال يكون إقرارا أما إذا قال لا أعطيكها اليوم أو قال لا أعطيكها أبدا فهذا إقرار منصوص عليه في بعض روايات كتاب الإقرار لأنه صرح بنفي الإعطاء إما مؤبدا أو مؤقتا والكناية المذكورة في كلامه تنصرف إلى ما سبق فكأنه قال لا أعطيك سرج بغلك أو لجام بغلك ولو صرح بهذا كان إقرارا بملك العين له وأما إذا أطلق حرف لا ففي بعض النسخ قال هذا نفي لما طلبه منه وإنما طلب منه الإعطاء فكان هذا نفيا للإعطاء فيجعل إقرارا بملك العين له كما في الفصل الأول.(18/28)
ووجه ما ذكر في عامة النسخ أن لا جواب هو نفي فيكون موجبه ضد موجب جواب هو إثبات وهو قوله نعم فإذا جعل ذلك إقرارا عرفنا أن هذا لا يكون إقرارا وهذا لأنه نفي جميع ما سبق ذكره فكأنه قال لا أعطيك وليس البغل والسرج واللجام لك لأن هذا اللفظ صالح لنفي جميع ذلك بخلاف قوله لا أعطيكها ولو قال الآخر إنما لك علي مائة درهم فهذا إقرار بالمائة لأن كلمة إنما لتقرير الحكم في المذكور ونفيه عما عداه قال الله عز وجل:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء:171] ولو لم يذكر حرف التقرير في المائة ولكن قال لك علي مائة درهم كان إقرارا فعند ذكر حرف التقرير أولي ولو قال ليس لك علي مائة ولكن درهم فلم يقر له بشيء لأن كلمة ليس للنفي فلا يكون موجبا للإثبات ولا يقال لما خص المائة بالنفي لأنه كان دليلا على أن ما دونه ثابت لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل علي نفي ما عداه عندنا والمفهوم ليس بحجة فلا يجعل هذا اللفظ إقرارا بشيء باعتبار المنظوم ولا باعتبار المفهوم.
ولو قال: فعلت كذا إذا كان لك على مائة درهم كان إقرارا بالمائة لأن كلمة إذا(18/29)
ص -17- ... للماضي وكلمة أذا للمستقبل ومعناه في الوقت الذي كان لك علي مائة فقد عرف وقت فعليه بالمال الذي له عليه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب المال فصار مقرا بوجوبها وكذلك لو قال فعلت كذا يوم أقرضتني مائة درهم فقد عرف الوقت الذي أخبر عن الفعل فيه بالزمان الذي أقرضه فيه مائة درهم وذلك إقرار بالإقراض لا محالة وهو سبب لوجوب المال عليه ولو قال أقرضتك مائة درهم فقال لا أعود لها ولا أعود بعد ذلك فهذا إقرار لوجود حرف الكناية في كلامه وهو الهاء ولا يكون العود إلا بعد البدء فيضمن هذا الإقرار بابتداء إقراضه مائة درهم ثم في هذا إظهار سوء معاملته وقلة مسامحته مع غرمائه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب المال.
وكذلك لو قال: أخذت منى مائة درهم فقال لا أعود لها فهذا بيان للأخذ عند نفي العود علي من أخذ ضمان المأخوذ إلى أن يرده قال صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد" ولو قال لم أغصبك إلا هذه المائة كان إقرارا بالمائة لأن الاستثناء من النفي إثبات قال الله تعالى:{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] 66 والاستثناء من النفي آكد ما يكون من الإثبات دليله كلمة لا إله إلا الله فيكون مقرا بغصب المائة بما هو آكد الألفاظ وغير وسوى من حروف الاستثناء بمنزلة قوله إلا وكذلك لو قال لا أغصبك بعد هذه المائة شيئا فهذا إقرار بالمائة لأن معنى كلامه بعد غصبي منك هذه المائة لا أغصبك شيئا فهذا إظهار للتوبة من غصب باشره ووعد من نفسه أن لا يعود إلى مثله وكذلك لو قال لم أغصبك مع هذه المائة شيئا لأن مع للضم والقرآن فقد نفى انضمام شيء إلى المائة في حال غصبه إياها وذلك لا يتحقق إلا بعد غصب المائة وكذلك لو قال لم أغصب أحدا بعدك أو قبلك أو معك فهذا كله إقرار بأنه غصبه إياه لما بينا.(18/30)
ولو قال: أقرضتك مائة درهم فقال ما استقرضت من أحد سواك أو من أحد غيرك أو من أحد قبلك أو لا استقرض من أحد بعدك أو لم أستقرض من أحد مع فهذا كله إقرار بأنه غصبه إياه لما بينا.
ولو قال: أقرضتك مائة درهم فقال ما استقرضت من أحد سواك أو من أحد غيرك أو من أحد قبلك أو لا استقرض من أحد بعدك أو لم أستقرض من أحد بعدك فليس شيء من هذا كله إقرار لأن معنى كلامه لا استقرضت منك ولو صرح بهذا اللفظ لم يلزمه شيء فكذلك إذا أتى بما يدل عليه هذا لأن الاستقراض طلب القرض فإن أهل النحو يسمون هذه السين سين السؤال وليس كل من طلب شيئا وجده ولا من سئل شيئا أعطى فلم يكن في كلامه ما يكون إقرارا بالسبب الموجب وهذه من أعجب المسائل فإن إقراره بفعل الغير بهذا اللفظ موجب للمال عليه بأن يقول أقرضني مائة درهم وإقراره بفعل نفسه لا يكون موجبا بأن يقول استقرضت منك.
ولو قال: مالك على مائة درهم أو سوى مائة درهم فهذا إقرار بالمائة لأنه استثناء من النفي وذلك دليل الإثبات وكذلك لو قال مالك على أكثر من مائة درهم لأن نفيه الزيادة(18/31)
ص -18- ... علي المائة دليل على وجوب المائة وما ثبت بالدلالة فهو كالثابت بالنص ولو قال مالك علي أكثر من مائة درهم ولا أقل لم يكن هذا إقرار وكان ينبغي أن يجعل هذا إقرارا بالمائة لأنه نفى أن يكون الواجب عليه أكثر من مائة أو أقل من مائة وذلك إقرار بالمائة ولكنه اعتبر الفرق الظاهر وقال في العادة نفي القليل والكثير يكون مبالغة في النفي كمن يقول أليس لك علي قليل أو كثير ولا قليل ولا كثير فهذا لا يكون مساسا ثم في كلامه تصريح بنفي أن يكون ما دون المائة واجبا وذلك بنفي أن يكون المائة واجبه ضرورة لأن المائة إذا وجبت كان ما دونها واجبا .
وإنما قلنا أنه تصريح بنفي وجوب ما دون المائة لأن قوله ولا أقل عطف وحكم العطف حكم المعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه نفيا للوجوب فكذلك المعطوف ولو قال لي عليك ألف درهم فقال بل تسعمائة كان إقرارا بتسعمائة لأن كلامه لا يستقل بنفسه فلا بد من حمله على الجواب معناه بل الواجب تسعمائة وكلمة بل لاستدراك الغلط فقد استدرك غلطه في الزيادة على هذا القدر في دعواه وذلك لا يكون إلا بعد وجوب هذا المقدار فلهذا كان مقرا بتسعمائة رجل قال لآخر أخبر فلانا أن لفلان على ألف درهم كان هذا إقرار لأن قوله لفلان على ألف درهم إقرار تام من غير أن ينضم إليه الآمر بالأخبار فكذلك إذا انضم إليه الآمر بالأخبار وفائدته طمأنينة قلب صاحب الحق أنه غير جاحد لحقه بل هو يظهر لذلك عند الناس حين أمرهم بأن يخبروه بذلك الإقرار وكذلك لو قال أعلم فلانا أن لفلان علي ألف درهم أو بشره أو قل له أو أشهد فلانا أن لفلان على ألف درهم هذا فهذا مثل الأول بل أظهر فإن الخبر قد يكون صدقا وقد يكون كذبا والإعلام والبشارة والإشهاد لا يكون إلا بما هو صدق.(18/32)
وكلمة الإقرار في هذا كله قوله لفلان على ألف درهم ولو قال أخبر فلانا أن لفلان عليك ألف درهم أو أعلمه أو أبشره أو أقول له أو اشهد فقال نعم فهذا كله إقرار لأن قوله نعم ليس بمفهوم المعنى بنفسه وهو مذكور في موضع الجواب فصار ما سبق من الخطاب معادا فيه فلهذا كان إقرارا ولو قال وجدت كتابي أن لفلان علي ألف درهم أو وجدت في ذكري أو حسابي أو بخطي أو قال كتبت بيدي أن لفلان علي ألف درهم فهذا كله باطل لأنه حكى ما وجده في كتابه وما وجده مكتوبا في كتابه قد يكون غيره كاتبا له وقد يكون هو الكاتب لتجزئة الخيط والعلم والبياض فلا يتعين جهة الإقرار في شيء من هذه الألفاظ بخلاف ما سبق لأن قوله هناك لفلان علي ألف درهم كلام إنشاء والتكلم به من غير أنه حكى عن غيره أو عن موضع وجده فيه وكان إقرارا .
وجماع أئمة بلخ رحمهم الله قالوا في بذكار الباعة: إن ما يوجد فيه مكتوبا بخط البياع فهو لازم عليه لأنه لا يكتب في يذكاره إلا ما له على الناس وما للناس عليه ليكون صيانة له عن النسيان كذلك بقلمه والنباء في العادة الظاهرة واجب فعلى هذا إذا كان قال البياع:(18/33)
ص -19- ... وجدت في يذكارى بخطي أو كتبت في يذكاري بيدي أن لفلان علي ألف درهم كان هذا إقرارا ملزما إياه وإن قال بيدي لفلان على صك بألف درهم فهذا إقرار لأن الصك اسم خاص لما هو وثيقة بالحق الواجب وقد عابوا على محمد رحمه الله في قوله كتبت بيدي فقالوا الكتابة لا تكون إلا باليد فأي فائدة في هذا اللفظ وكنا نقول مثل هذا يذكر للتأكيد قال الله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}[الأنعام:38] وقال الله تعالى: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت:48] وهذا لأن الكتابة قد تضاف إلى الآمر بها عادة وإن لم يكتب بنفسه فكان قوله بيدي بيانا يزول به هذا الاحتمال ولو كتب لفلان على نفسه صكا بألف درهم والقوم ينظرون إليه فقال لهم اشهدوا علي بهذا كان إقرارا جائزا لأنه أشهدهم على ما أظهره ببيانه فكأنه أشهدهم ببيانه ولا يكون الإشهاد إلا ما هو الوثيقة بالحق الواجب .(18/34)
رجل قال لآخر: لا تشهد علي لفلان بألف درهم لم يكن هذا إقرارا لأنه لو قال اشهد علي بألف درهم كان إقرارا وقوله لا تشهد ضد لقوله اشهد فكان موجبه ضد موجب قوله اشهد وكان المعنى فيه أنه نهاه عن الشهادة بالزور ومعناه أنه ليس له علي شيء فلا يشهد له بالزور علي بألف درهم فيكون هذا نفيا للمال على نفسه لا إقرارا به وكذلك لو قال ما لفلان علي شيء فلا يخبره أن له علي ألف درهم أو لا يقل له أن له على ألف درهم لم يكن هذا إقرارا لأنه صرح به في الابتداء بالنفي وبين انه له على انه لا شيء له عليه فكان مراده بعد ذلك لا يخبره بما هو باطل ولا يقل له ما هو زور لا أصل له وآخر الكلام مبني على أوله خصوصا إذا وصله بحرف الفاء فإذا كان أوله نفيا عرفنا أن آخره ليس بإقرار ولو ابتداء فقال لا يخبر فلانا أن له علي ألف درهم أولا يقل لفلان أن له علي ألف درهم كان هذا إقرارا لأنه لما لم يذكر النفي في الابتداء كان قوله لا يخبر ولا يقل اسكتاما منه له فيكون إقرارا ومعناه أن وجوب المال له على سر بيني وبينك فلا تظهره باختيارك أو قولك لفلان.(18/35)
ثم ذكر بعد هذا في آخر الباب قوله لا يخبر بخلاف قوله أخبروا وعلل فقال لا تخبر نفي وقوله أخبر إقرار فحصل في قوله آخبر روايتان وفي قوله لا تشهد أي لفلان علي ألف درهم الرواية واحدة أنه لا يكون إقرارا بخلاف قوله أشهد فمن أصحابنا رحمهم الله من قال الصحيح في الإخبار هكذا أن قوله لا تخبر لا يكون إقرارا كما فسره في آخر الباب والذي وقع هنا غلط ومنهم من صحح هذه الرواية وفرق بين قوله لا تخبر ابتداء وبين قوله لا تشهد فقال الشهادة سبب لوجوب الحق قوله لا تشهد معناه ليس له على شيء فإياك أن يكتسب سبب الوجوب بالشهادة له علي بالزور فأما الخبر ليس بسبب لوجوب المال فلا يكون قوله لا يخبر نهيا عن اكتساب سبب الوجوب ولكنه استكتما ذلك ودليل على وجوب المال عليه ولو قال لفلان علي ألف درهم لحقه أو بحقه أو من حقه أو لميراثه أو بميراثه أو من ميراثه أو لملكه أو بملكه أو من ملكه أو لأجله أو من أجله(18/36)
ص -20- ... أو لشركته أو بشركته أو من شركته أو لبضاعته أو ببضاعته أو من بضاعته فهذا كله إقرار لأن قوله لفلان على ألف درهم إقرار تام بالدين وهذا كله يرجع إلى تأكيد ما عليه وقد بينا فيما تقدم أن هذا التأكيد لا ينفي أصل الإقرار وأن الشفاعات لا تجيء في الديون ليحمل معنى اللام على الشفاعة فلهذا جعلناه إقرارا بالمال وإذا قال لفلان علي ألف درهم من ثمن متاع اشتريته منه ولم اقبضه فقال ذلك موصولا بإقراره لم يصدق في قول أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهم الله يصدق إذا كان موصولا ولا يصدق إذا كان مفصولا ثم رجع عن حرف منه وقال إذا كان مفصولا يسأل المقر له عن المال أهو ثمن بيع أم لا فإن قال من ثمن البيع فالقول قول المقر أني لم أقبضه وإن قال من جهة أخرى سوى البيع فالقول قول المقر له.
وهذا في الحقيقة ليس برجوع ولكنه تفصيل فيما أجمله من الابتداء وهو قول محمد رحمه الله وجه قولهما أن قوله لفلان على ألف درهم إقرار بوجوب المال عليه وقوله من ثمن بيع اشتريته منه بيان لسبب الوجوب فإذا صدقه المقر له في هذا السبب ثبت السبب بتصادقهما ثم المال بهذا السبب يكون واجبا قبل القبض وإنما يتأكد بالقبض فصار البائع مدعيا عليه تسليم المعقود عليه وهو منكر لذلك فجعلنا القول قول المنكر في إنكاره القبض وإن كذبه في السبب فهذا بيان معبر لمقتضى مطلق الكلام لأن مقتضى أول الكلام أن يكون مطالبا بالمال في الحال ولكن على احتمال أن لا يكون مطالبا به حتى يحضر المتاع فكان بيانه معبر إلى هذا النوع من الاحتمال.(18/37)
وبيان التغيير صحيح إذا كان موصولا ولا يكون صحيحا إذا كان مفصولا توضيحه إن هذا بيان يتضمن إبطال ما يجب بالكلام الأول لو لا هذا البيان لأن ثمن المتاع الذي هو غير معين لا يكون واجبا قبل القبض والبيان الذي فيه معنى الإبطال صحيح إذا كان موصولا ولا يصح إذا كان مفصولا كالاستثناء وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا رجوع عما أقر به والرجوع باطل موصولا كان أو مفصولا وبيان ذلك انه أقر بوجوب ثمن متاع بغير عينه عليه وثمن متاع يكون بغير عينه لا يكون واجبا على المشتري إلا بعد القبض لأن مالا يكون بعينه فهو في حكم المستهلك إذ لا طريق للتوصل إليه فإنه ما من متاع يحضره إلا وللمشترى أن يقول المبيع غير هذا وتسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه وفرقنا أنه في حكم المستهلك وثمن المبيع المستهلك لا يكون واجبا إلا بعد القبض فكأنه أقر بالقبض ثم رجع عنه توضيحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلا إلى غاية وهو إحضار المتاع ولا طريق للبائع إلى ذلك ولو ادعى أجل ذلك شهرا ونحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل.
فإذا ادعى أجلا مؤبدا أولى أن لا يكون مصدقا في ذلك وعلى هذا لو قال لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير لم يصدق في قول أبى حنيفة رحمه الله وصل أم فصل لأنه رجوع فثمن الخمر والخنزير لا يكون واجبا على المسلم وعلى قول أبى يوسف ومحمد(18/38)
ص -21- ... رحمهما الله يصح إذا وصل لأنه بيان السبب وفيه معنى الإبطال فيصح موصولا كالاستثناء ولأن الخمر متمول يجري فيه الشح والضنة وقد اعتاد الفسقة شراءها وأداء ثمنها فيحتمل أنه بنى إقراره على هذه العادة فكان آخر كلامه بيانا هو من محتملات كلامه ولكن فيه تعبير فيصح موصولا كما في الفصل الأول على قولهما ولو قال ابتعت منه شيئا بألف درهم ثم قال لم أقبضه فالقول قوله لأنه أقر بمجرد العقد وإقراره بالعقد لا يكون إقرارا بالقبض فهو في قوله لم أقبضه منكر لما ادعاه صاحبه لا راجعا عما أقر به.
ولو قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن هذا العبد الذي هو في يد المقر له فإن أقر الطالب وسلمه له أخذه بالمال لأن ما ثبت بتصادقها كالثابت بالمعاينة وإن قال العبد عبدك لم ابعكه إنما بعتك غيره فالمال لازم له لأن المقر اخبر بوجوب المال عليه عند تسليم العبد له وقد سلم العبد له حين اقر ذو اليد أنه ملكه فيلزمه المال ثم الأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فلا يعتبر التكاذب في السبب بعد اتفاقهما على وجوب أصل المال فلهذا لزمه المال ولو قال العبد عبدي ما بعته منك إنما بعتك غيره لم يكن عليه شيء لأنه إنما أقر له بالمال بشرط أن يسلم له العبد ولم يسلم له العبد والمتعلق بالشرط معدوم قبله.
وقد ذكر في آخر هذا الباب أن أبا حنيفة رحمه الله قال: يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وهو قولهما وإذا حلفا لم يلزمه المال وهو صحيح لأن المقر ادعي عليه البيع في هذا العبد وهو منكر فيحلف عليه والمقر له يدعى وجوب المال لنفسه بسبب بيع متاع قد سلمه إليه والمقر لذلك منكر فيحلف على دعواه ولأن هذا الاختلاف بينهما في المبيع والاختلاف في المبيع يوجب التحالف كالاختلاف في الثمن فإذا تحالفا انتفت دعوى كل واحد منهما عن صاحبه فلهذا لا يقضى عليه بشيء من المال والعبد أسلم لمن هو في يده .(18/39)
ولو قالوا: لفلان عندي وديعة ألف درهم ثم قال اقبضها فهو لها ضامن لأن أول كلامه صريح بإقراره بالقبض لأنه لا يصير مودعا ولا يحصل المال عنده ما لم يقبضه فكان قوله لم أقبضها رجوعا وكذلك لو قال له علي ألف درهم قرض ثم قال لم أقبضها لم يصدق وهذا رجوع كما بينا ولو قال أقرضتني ألف درهم أو أودعتني ألف درهم أو أسلفتني ألف درهم أو أعطيتني ألف درهم ولكنى لم أقبضها فإن قال موصولا كلامه فالقول قوله لأن أول كلامه إقرار بالعقد وهو القرض والسلم والسلف والعطية فكان قوله لم أقبضها بيانا لا رجوعا وإن قال ذلك مفصولا في القياس القول في ذلك قوله أيضا لما بينا أنه إقرار بالعقد فكان هذا وقوله ابتعت من فلان بيعا سواء
توضيحه أنه أقر بفعل الغير فإنه أضاف الفعل بهذه الألفاظ إلى المقر له فيكون القول في إنكاره القبض الموجب للضمان عليه قوله لأن فعل الغير ليس بسبب موجب للضمان عليه ولكنه استحسن فقال لا يقبل قوله لأن القرض لا يكون إلا بالقبض وكذلك السلم والسلف أخذ عاجل بآجل وكذلك الإعطاء فعل لا يتم إلا بالقبض فكان كلامه إقرارا بالقبض على(18/40)
ص -22- ... احتمال أن تكون هذه الألفاظ عبارة عن العقد مجازا فقوله بيان تعبير فيصح موصولا لا مفصولا.
ولو قال: نقدتنى ألف درهم أو دفعت إلي ألف درهم ولكن لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد رحمة الله لأن الدفع والإعطاء سواء كما ثبت في قوله أعطيتني فكذلك في قوله دفعت إلي وبعدتني لأنه إخبار بفعل الغير وهذا لا يكون سببا لوجوب الضمان عليه وإذا قال موصولا لم أقبضه كان منكرا إلا راجعا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصدق وإن وصل لأن النقد لا يتصور إلا بالقبض وكذلك الدفع يستدعي مدفوعا فقوله لم أقبض رجوع فلهذا لا يكون إلا صحيحا بخلاف قوله أعطيتني فإن هذا اللفظ يستعار للعقد ألا ترى أن الهبة تسمى عطية فجعلنا كلامه عبارة عن العقد إذا قال موصولا لم أقبضه ولا يوجد مثل ذلك في النقد والدفع والله أعلم بالصواب
باب الإقرار في المرض(18/41)
قال رحمه الله: روي عن بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إذا أقر الرجل في مرضه بدين لرجل غير وارث فإنه جائز وإن أحاط ذلك بما له وإن أقر لوارث فهو باطل إلا أن تصدقه الورثة وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى في الفصلين وقالوا إقرار المريض للأجنبي من جميع المال صحيح وإقراره للوارث باطل وهذا الباب لبيان إقراره للأجنبي فيقول أن الإقرار من جنس التجارة ولهذا يصح إقرار المأذون له في التجارة بسبب المرض ولا يلحقه الحجر عن التجارة مع الأجانب فكان إقراره للأجنبي بدين أو بعين في المرض بمنزلته في الصحة فيكون من جميع ماله وهذا لأنه من حوائج الميت فإنه يحتاج إلى إظهار ما عليه بإقراره ليفك رقبته وحاجته مقدمة على حق ورثته ولهذا اعتبر استيلاده من جميع ماله واعتبر الجهاز والكفن من جميع ما له لأنه من أصول حوائجه أو يقول صحة إقراره للأجنبي على قياس صحة وصيته له فإن الأصل أن كل تصرف يتمكن المرء من تحصيل المقصود به آنسا لا تتمكن التهمة في إقراره فيكون صحيحا ومتى لم يقدر على تحصيل مقصوده بطريق الإنساء كان متهما في الإقرار به فلا يصح إقراره في حق الغير .
ألا ترى أن الوكيل بالبيع قبل العزل إذا قال كنت بعت كان إقراره صحيحا بخلاف ما بعد العزل والمطلق قبل انقضاء العدة إذا أقر أنه راجعا صح إقراره بخلاف ما بعد انقضاء العدة والمولى قبل انقضاء المدة إذا قال فئت إليها كان إقراره صحيحا بخلاف ما بعد انقضاء المدة إذا عرفنا هذا فنقول هو مالك لإيجاب مقدار الثلث للأجنبي بطريق الهبة والوصية فتنتفي التهمة عن الإقرار له في ذلك القدر وإذا صح إقراره بين ان ذلك القدر ليس من جملة ماله فيصح إقراره في ثلث ما بقي باعتبار أنه يملك الحق فيه بطريق الاستثناء ثم لا يزال يدور هكذا حتى يأتي على جميع المال أنى مالا يمكن ضبطه فلهذا صححنا إقراره للأجنبي بجميع المال(18/42)
ص -23- ... وإذا أقر المريض بدين ثم مات في مرضه ذلك تحاص الغرماء في ماله سواء كان الإقرار منه في كلام متصل أو منفصل لأن الإقرارين تجمعهما حالة واحدة وهي حال المرض فكأنهما وجدا معا لأن حق الغرماء إنما يتعلق بماله بموته ويستند إلى أول المرض لأنه سبب الموت والحكم إذا انفرد استند إلى سببه فهنا تعلق الدينان جميعا بماله في وقت واحد وهو عند الموت واستند إلى سبب واحد وهو المرض فاستويا فيه والدليل عليه إنه كما يصير بسبب الدين الأول محجورا عليه عن التبرع عند الإقرار الثاني يصير بسبب الإقرار الثاني محجورا عليه عن التبرع عند الإقرار الأول لأنه لو أقر بدين أولا ثم وهب شيئا لم تصح هبته حتى يقضي الدين.
وكذلك لو وهب أولا في مرضه ثم أقر بدين لم يصح هبته حتى يقضي الدين فيتبين بهذا أن الدينين استويا في القوة وإن سبب كل واحد منهما يثبت الحجر عن التبرع عند الإقرار الآخر فيتحاصان وكذلك لو أقر بدين ثم بوديعة لأنه لما سبق الإقرار بالدين فقد ثبت في ذمته على أن يتعلق بتركته عند موته وما في يده تركته من حيث الظاهر فإقراره بعد ذلك بوديعة بعينها لا يكون صحيحا في إبطال ما كان بفرض الثبوت فهو كالثابت لتقرر سببه وتعلق الدين بالمال عند الموت لخراب الذمة وسبب الموت هو المرض فيستند حكم الخراب إلى أول المرض ويصير كأن الدين كان متعلقا بهذه العين حين أقر بأنه وديعة فلا يقبل إقراره في إبطال حق الغريم عنه وإذا لم يقبل إقراره بذلك صار هو مستهلكا للوديعة بتقديم الإقرار بالدين عليها والإقرار بالوديعة المستهلكة إقرار بالدين فكأنه أقر بدينين فيتحاصان .(18/43)
ولو أقر بالوديعة أولا ثم بالدين فالوديعة أولى لأنه حين أقر بها لم يكن لأحد فيها حق ثابت ولا كان يعرض الثبوت فصح إقراره بالعين مطلقا وتبين أنها ليست بتركته ثم إقراره بالدين بعد ذلك إنما يكون شاغلا لتركته لا لما لم يكن من جملة ملكه وهذا بخلاف ما إذا وهب عينا وسلم ثم أقر بالدين لأن الهبة وإن نفذها في مرضه صار كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى تعتبر من ثلثه ولا يتبين بالهبة أن الموهوب لم يكن مملوكا له فيتعلق به حق الغريم المقر به بعد ذلك فكان هو أولى من الموهوب له فأما إقراره بالوديعة لم يصر كالمضاف إلى ما بعد الموت بل ثبت بنفسه كما أقر به ويتبين أن هذه العين لم تكن ملكا له فلهذا لا يثبت حق المقر له بالعين بعد ذلك فيه ولو كان عليه دين في الصحة وأقر في مرضه بدين أو وديعة كان دين الصحة مقدما على ما أقر به في المرض عندنا وقال بن أبى ليلي رحمه الله ما أقر به في الصحة والمرض من الدين فهو سواء وهو قول الشافعي رحمه الله.
وحجتهما في ذلك أن الإقرار من جنس التجارة وبسبب المرض إنما يلحقه الحجر عن التبرع لا عن التجارة ألا ترى أن سائر تصرفاته من البيع والشراء صحيح في مرضه على الوجه الذي يصح في صحته وكذلك إقراره وهذا لأن الإقرار إظهار للحق الواجب عليه(18/44)
ص -24- ... وذلك من أصول حوائجه وقد بينا أن حاجته مقدمة في ماله بخلاف التبرع فإنه ليس من حوائجه ولهذا كان معتبرا من ثلث ماله والإقرار يكون معتبرا في جميع ماله والدليل عليه أن الإقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإنما جعل حجة ليترجح جانب الصدق باعتبار أن عقله ودينه يدعو أنه إلى الصدق ويمنعانه من الكذب وكذلك شفقته على نفسه وماله تحمله على الصدق وتمنعه من الكذب وهذا المعنى لا تختلف بين الصحة والكذب بل يزداد معنى رجحان جانب الصدق والكذب ولأن في حال الصحة كان الأمر موسعا عليه فربما يؤثر هواه على ما هو المستحق عليه فيقر بالكذب وبالمرض يضيق الأمر عليه في الخروج عن المستحق عليه فلا يؤثر هواه على صرف المال على ما هو المستحق عليه وهو معنى ما قيل أن المرض حال النوبة والإنابة يصدق فيه الكاذب ويبر فيه الفاجر فتنتفي تهمة الكذب عن إقراره ويكون الثابت بالإقرار في هذه الحال كالثابت بالبينة فكان مزاحما لغرماء الصحة.(18/45)
وحجتنا في ذلك أن أحد الإقرارين وجد في حال الإطلاق والأخر في حال الحجر فيقدم ما وجد في حال الإطلاق على ما وجد في حال الحجر وإنما قلنا ذلك لأن بسبب المرض يلحقه الحجر ليتعلق حق الغرماء والورثة بماله حتى لا يجوز تبرعه بشيء إذا كان عليه دين محيطا وبما زاد على الثلث إذا لم يكن عليه دين لتعلق حق الورثة بماله ولأنا نقول بأن الحجر يلحقه عن التبرع لأنه تبرع بل لأنه مبطل حق الغرماء عن بعض ماله وكما يبطل حقهم عن بعض ما له بالتبرع فكذلك يبطل حقهم بإثبات المزاحمة للمقر له في المرض معهم فكان مجحورا عن الإقرار لحقهم بخلاف سائر التجارات فإنه ليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء مما يتعلق حقهم به فإنه تعلق حقهم بالمالية والتجارة لا سيما المال فليس فيه إبطال شيء من حقهم حتى لو كان البيع بمحاباة لم تصح المحاباة في حقهم لما فيه من إبطال حقهم عن بعض المالية ولأنا قد بينا أن حق الغرماء وإن كان يتعلق بالموت بماله يستند حكم التعليق إلى أول المرض لأنه سبب الموت كالبيع بشرط الخيار إذا أخبر استند حكم الملك إلى أول البيع حتى يستحق المشترى الزوائد فيتبين بهذا أن حق الغرماء الصحة تعلق بماله بأول المرض وصار ماله كالمرهون في حقهم فبعد ذلك إقراره في المرض غير صحيح فيما يرجع إلى إبطال حقهم لأن إقرار المقر محمول على الصدق في حقه حتى يكون حجة عليه فأما في حق الغير هو محمول على الكذب لكونه متهما في حق الغير وهذا بخلاف السبب المعاين من غصب أو استهلاك لأنه لا تمكن فيه التهمة فيظهر السبب في حق غرماء الصحة كما يظهر في حق المريض فيكون ذلك بمنزلة الدين الثابت بالبينة في مرضه.(18/46)
وقوله بأن المرض دليل على صدقه في إقراره قلنا هذا في حق من ترجح أمر دينه على هواه على أمر دينه فهذه الحال حال المبادرة إلى ما كان يريده ويهواه ما كان قدم بعينه فيها فلما آيس من نفسه أثر من يهواه على ما هو المستحق بماله وليس معتاد كندر تمييز إحدى الحالين عن الأخرى فجعلنا الدليل معنى شرعيا وهو إذا كان ممكنا من تحصيل(18/47)
ص -25- ... مقصوده بطريق الإنساء لا تتمكن التهمة في إقراره ففي حال الصحة كان متمكنا من تحصيل مقصوده لطريق الإنساء فلا تتمكن التهمة في إقراره فأما إذا مرض وعليه دين فهو غير متمكن من تحصيل مقصوده ما لإنساء لأن الدين مقدم على تبرعه فيحمله ذلك على الإقرار كاذبا لتحصيل مقصوده بهذا الطريق فلهذا لا يصدقه في حق غرماء الصحة ولو استقرض في مرضه مالا أو اشترى شيئا وعاين الشهود قبضه ذلك فهذا يحاص غرماء الصحة لأنه لا يتمكن التهمة فيما يثبت بمعاينة الشهود وليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء بل فيه تحويل حقهم من محل إلى محل بعدله فظهر هذا السبب في حقهم وكان صاحبه مزاحما لهم في الشركة ولو لم تكن التركة إلا عين المال الذي أخذه قرضا أو بيعا فهو كذلك لأن بالقبض تم ملكه فكان من جملة تركته عند موته يتعلق به حق جميع غرمائه والبائع إنما يكون أحق بالمبيع مالم يسلم فأما إذا سلم فقد أبطل حقه في الاختصاص كالمرتهن إذا رد الرهن كان مساويا لسائر الغرماء فيه ولما التحق ما وجب بالسبب المعاين في المرض بالواجب في حال الصحة حتى استوى به كان مقدما على ما أقر به في المرض بمنزلة دين الصحة وهذا لأن السبب المعاين أو الثابت بالبينة يكون أقوى من الثابت بالإقرار والحكم يثبت بحسب السبب والحقوق تترتب بحسب القوة والضعف.(18/48)
ألا ترى أن الكفن مقدم على الدين في التركة لقوة سببه ثم الدين مقدم على الوصية والميراث فكذلك هنا ولو قضى دين هذا الذي أخذ منه في المرض كان جائزا وهو له دون غرماء الصحة لأنه حول حق الغرماء من محل إلى محل بعدله فليس في هذا القضاء لفظا إبطال حقهم عن شيء فكانت مباشرته في المرض والصحة سواء أرأيت لو ردما استقرض بعينه أو فسخ البيع ورد المبيع بعيب أكان يمتنع سلامته للمردود عليه لحق غرماء الصحة لا يمتنع ذلك فكذلك إذا رد بدله لأن حكم البدل حكم المبدل ولو قضى بعض غرماء الصحة دينه ثم مات لم يسلم المقبوض القابض بل يكون ذلك بين الغرماء بالحصص عندنا .
وعند الشافعي رحمه الله: يسلم له وهو بناء على أصله أن بسبب المرض لا يلحقه الحجر عن السعي في فكاك رقبته وقضاء الدين سعي منه في فكاك رقبته فكان فعله في المرض والصحة سواء وهذا لأنه ناظر لنفسه فيما يصنع فإنه قضى دين من كان حاجته أظهر ومن يخاف أن لا يسامحه بالإبراء بعد موته بل يخاصمه في الآخر وتصرفه على وجه النظر منه لنفسه يكون صحيحا لا يرد ولنا أن حق سائر الغرماء تعلق بماله بالمرض فهو بقضاء دين بعضهم مبطل حق سائر الغرماء عما دفعه إلى هذا وهو لا يملك إبطال حق الغرماء عن شيء مما تعلق حقهم به كما لو وهب شيئا بخلاف ما تقدم من قضاء الثمن وبدل القرض لأنه ليس فيه إبطال حق الغرماء عن شيء من المالية كما قدرنا .
توضيحه أن هذا إيثار منه لبعض الغرماء بعد ما تعلق حقهم جميعا بماله فهو نظير إيثاره بعض الورثة بالهبة والوصية له بعد ما تعلق حق الورثة بماله وذلك مردود عليه مراعاة لحق(18/49)
ص -26- ... سائر الورثة فكذلك هذا ولو قرض وفي يده ألف درهم وليس في يده ألف درهم وليس عليه دين الصحة فأقر بدين ألف درهم ثم أقر بأن الألف التي في يده وديعة لفلان ثم أقر بدين ألف درهم ثم مات قسمت الألف بينهم أثلاثا لأنه لما قدم الإقرار بالدين فإقراره بالوديعة بعده بمنزلة الإقرار بالدين فكأنه أقر بثلاثة ديون في مرضه فيقسم ما في يده بينهم بالسوية ولو قال صاحب الدين الأول لا حق لي قبل الميت أو قد أبرأته من ديني كانت الألف بين صاحب الوديعة وبين الغريم الآخر نصفين لأن مزاحمة الثالث قد زالت فيتحاصان فيه ولا يبطل حق الغريم الآخر بما قال الغريم الأول أما إذا أبرأه فظاهر لأن بالإبراء لم يتبين أن دينه لم يكن واجبا.
وكذلك إن قال لا حق لي على الميت لأن إقراره كان صحيحا ملزما ما لم يرده المقر له وذلك كان مانعا من سلامة العين للمقر بالوديعة وقد تثبت المزاحمة للغريم الآخر معه فإذا رد المقر له الأول ورده عامل في حقه لا في إبطال حق الغريم الأول فكان في حقه وجود هذا الرد وعدمه بمنزلة واحدة فلهذا كانت الألف بين صاحب الوديعة والغريم الآخر نصفين .(18/50)
رجل قال لفلان: على أبي ألف درهم وجحد ذلك وجحد المقر عليه ثم مرض المقر ومات الجاحد والمقر وارثه وعلى المقر دين في الصحة ثم مات وترك ألفا ورثها عن الجاحد قال غرماء المقر في صحته أحق بهذا الألف من غرماء الجاحد لأن أصل الإقرار من المقر لم يكن صحيحا لكونه حاصلا على غيره ولا ولاية له على الغير فإذا مات الجاحد والمقر وارثه الآن صح إقراره باعتبار أن تركته صارت مملوكة للمقر إرثا ويجعل هو كالمحدود لإقراره في هذه الحال وهو في هذه الحال مريض لو أقر على نفسه لم يكن المقر له مزاحما لغرماء الصحة فإذا أقر على مورثه أولا أن يكون المقر له مزاحما لغرماء الصحة ولأن صحة إقراره على مورثه لما كان باعتبار ما في يده من التركة صار هذا بمنزلة الإقرار منه بالعين وإقرار المريض يصح في حق غرماء الصحة فكذلك إقراره على مورثه والدليل على أنه جعل كالمحدد للإقرار في الحال أنه لو كان أقر على مورثه بعتق عبده ثم مات المورث حتى نفذ إقراره كان معتبرا من ثلث مال المريض وجعل كأنه آنسا للإقرار بالعتق في الحال فكذلك هنا يجعل كأنه الإقرار فلا يزاحم المقر له الغرماء في حال الصحة وإذا أقر المريض بألف درهم بعينها أنها لقطة عنده ليس له مال غيرها فأنه يصدق بثلثها فيتصدق بالثلث في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله إن لم تصدقه الورثة فهي ميراث كلها لا يتصدق بشيء منها.
وجه قوله أنه أقر بالملك فيها لمجهول والإقرار للمجهول باطل كما لو أقر لواحد من الناس بعين أو دين وإذا بطل الإقرار صار كأن لم يوجد ثم إقراره بأنها لقطة لا يتضمن الأمر بالتصدق بها لأن التصدق باللقطة ليس بلازم وللملتقط أن يمسكها ولا يتصدق بها وإن(18/51)
ص -27- ... طالت المدة وإنما يرخص له في التصدق بها إن بينا حفظا على المالك لأنه لما تعذر عليه اتصال عينها إليه يوصل ثوابها إليه بالتصدق بها وليس ذلك بمستحق عليه شرعا.
ألا ترى أنه لو حضر المالك بعد ما تصدق بها كان له أن يضمنه فيثبت أن إقراره باللقطة لا يتضمن الأمر بالتصدق بها لا محالة فلهذا لا يجب على الورثة التصدق بشيء منها ولأبي يوسف رحمه الله أنه أقر أن ملكه عن هذا المال مستحق والإرث عنه منتف لقربه تعلقت به حقا للشرع فوجب تقييد تلك القربة عند إقراره من ثلث ماله كما لو أقر بمال في يده أنه صدقه للمساكين بزكاة واجبة عليه أو عشر أو نذر وجب تقيده من الثلث وإنما قلنا ذلك لأن السبيل في اللقطة التصدق بها عند تعذر اتصالها إلى مالكها هكذا نقل عن بن مسعود رضي الله عنه أنه تصدق بمال في يده لغائب ثم قال هكذا يصنع باللقطة ولاية في التصدق بها في الملتقط لأنه يخرج به عما لزمه عن عهدة الحفظ وإقرار المريض معمول به فيما يرجع إلى حاجة خروجه عما لزمه من العهدة ولا طريق له إلى ذلك إلا بالتصدق بها فصار إقراره كالأمر للورثة أن يتصدقوا به دلالة وما يثبت بدلالة النص فهو كالمنصوص عليه فعليهم أو يتصدقوا به من ثلثه .
يقرره أنهم لو صدقوه في ذلك كان عليهم أن يتصدقوا بها وفي مقدار الثلث المريض مستغن عن تصديق الورثة فيما هو موجب تصرفه فإذا كان عند تصديقهم يجب التصدق به بحكم ذلك الإقرار فكذلك عند عدم تصديقهم يجب التصديق من ثلث ماله.(18/52)
وإذا تزوج المريض امرأة على ألف درهم وهي مهر مثلها كانت المرأة استوت لغرماء الصحة في مهرها لأن وجوب دينها بسبب لا تهمة فيه وهو النكاح ثم هذا السبب من حوائج المريض لأن النكاح في الأصل عقد مصلحة مشروع للحاجة وبمرضه تزداد حاجته إلى ما يتعاهده وهو غير محجور عن التزام الدين بمباشرة ما هو من حوائجه كاستئجار الأطباء وشراء الأدوية ثم مهر المثل لا يجب بالتسمية بل إنما يجب شرعا بصحة النكاح ألا ترى إنه بدون التسمية يجب فلا يكون المريض بالتسمية قاصدا إلى إبطال حق الغرماء عن شيء مما يتعلق حقهم به فلهذا صح منه وكانت مزاحمة غرماء الصحة مقدمة على ما أقر ما به في مرضه من دين أو وديعة لقوة سبب حقها ولو أوفاها المهر وعليه دين في الصحة لم يسلم لها ما قبضت لأنه خصها بقضاء دينها وقد بينا أن المريض لا يملك تخصيص بعض غرماء الصحة بقضاء الدين وهذا لأن المهر بمقابلة البضع والبضع ليس بمال متقوم يتعلق به حق الغرماء فكان في حق الغرماء إبطالا لحقهم بإيثارها بقضاء دينها بخلاف بدل المستقر أو المستقرض لأن ما وصل إليه بمقابلة مال يتعلق به حق الغرماء فلم يكن في تصرفه إبطال حقه عن شيء معين فلهذا كان صحيحا والله أعلم.
باب الإقرار للوارث وغيره من المريض
قال رحمه الله: ولا يجوز إقرار المريض لوارثه بدين أو عين عندنا وقال الشافعي: رحمه(18/53)
ص -28- ... الله: يجوز بناء على أصله بأكثر من الثلث فكان قدر الثلث في حق الوارث بمنزلة ما زاد عليه في حق الأجنبي والدليل عليه أن إقراره بالوارث صحيح فكذلك إقراره للوارث لأن في كل واحد من الإقرارين إصرار بالوارث المعروف وحجتنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا لا وصية للوارث ولا الإقرار بالدين" إلا أن هذه الزيادة سائرة غير مشهورة وإنما المشهور قول بن عمر رضي الله عنه لما روينا وقول الواحد من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم عندنا مقدم على القياس والمعنى فيه أنه أثر بعض ورثته بشيء من ماله بمجرد قوله فلا يصح منه كما لو أوصي له بشيء وهذا لأن محل الوصية هو الثلث فإنه خالص حق الميت قال صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم" ثم لم يجز وصيته به للوارث مع أنه خالص حقه فيكون ذلك دليلا على أنه محجور عن اتصال المنفعة إلى الوارث وإقرار المحجور لا يصح كإقرار الصبي والمجنون إلا أن هذا الحجر لحق الورثة فإذا صدقوه نفذ كما إذا أجازوا وصيته .(18/54)
توضيحه أن جميع المال محل الإقرار بالدين كما أن الثلث محل الوصية ثم لم يجز تصرفه مع الوارث بالوصية في محلها وكذلك لا يجوز مع الوارث بالإقرار في ماله وهذا لأن حق الورثة قد تعلق بما له بمرضه فيكون إقراره لبعضهم إيثارا منه للمقر له بعد ما تعلق حقهم جميعا به فلا يصح ويجعل إقراره محمولا على الكذب في حقهم ولأن الإقرار وإن كان إخبارا في الحقيقة فقد جعل كالإيجاب من وجه حتى أن من أقر لإنسان بجارية لا يستحقق أولادها فإذا كان كالإيجاب من وجه فهو إيجاب مال لا يقابله مال والمريض ممنوع عن ميله مع الوارث أصلا فرجحنا هذا الجانب في حق الوارث ورجحنا جانب الإقرار في حق الأجنبي وصححناه في جميع المال وقد بينا في الباب المتقدم أن صحة إقراره للأجنبي باعتبار وصيته له وهذا لا يوجد في حق الوارث فأما الإقرار بالوارث فلم يلاق محلا يتعلق به حق الورثة لأن حق الورثة إنما يتعلق بالمال قال صلى الله عليه وسلم "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ولأن الإقرار بالسبب من حوائج الميت كيلا يضيع ماؤه فكان مقدما على حق ورثته .
ألا ترى أن الحجر بسبب المرض وكما لا يصح إقرار المريض بالدين لوارثه فكذلك إقراره باستيفاء دينه من وارثه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه فرق بينهما فقال الوارث لما عامله في الصحة فقد استحق براءة ذمته عند إقراره باستيفاء الدين منه فلا يتغير ذلك الاستحقاق بمرضه ألا ترى أنه لو كان دينه على أجنبي فأقر باستيفائه في مرضه كان صحيحا في حق غرماء الصحة وإن كان إقراره بالدين لا يصح في حق غرماء الصحة.
وحجتنا في ذلك أن إقراره بالاستيفاء في الحاصل إقرار بالدين لأن الديون يقضى بأمثالها فيجب للمديون على صاحب الدين عند القبض مثل ما كان له عليه ثم يصير قصاصا بدينه فكان هذا بمنزلة الإقرار بالدين للوارث ليس بصحيح فكذلك إقراره بالاستيفاء منه(18/55)
ص -29- ... وهذا بخلاف إقراره بالاستيفاء من الأجنبي لأن المنع هناك لحق غرماء الصحة وحق الغرماء عند المرض لا يتعلق بالدين إنما يتعلق بما يمكن استيفاء ديونه منه والدين ليس بمال على الحقيقة ولا يمكن استيفاء ديونه منه فإقراره بالاستيفاء لم يصادف محلا يتعلق حقهم به فأما حق الورثة يتعلق بالعين والدين جميعا لأن الورثة خلافة والمنع من الإقرار للوارث إنما كان لحق الورثة وإقراره بالاستيفاء في هذا كالإقرار بالدين لأنه يصادف محلا هو مشغول بحق الورثة وإذا أقر المريض لوارثه بدين فلم يمت المريض حتى صار الوارث غيره بأن كان أقر لأخيه فولد له بن أو كان ابنه كافرا أو رقيقا فأسلم أو عتق وصار هو الوارث دون الأخ جاز إقراره له لأن المانع من صحة الإقرار كونه وارثه والوراثة إنما تثبت عند المورث فإذا لم يكن من ورثته عند الموت كان هو والأجانب سواء.
ألا ترى أنه لو تبرع عليه بهبة أو وصية جاز من ثلثه ولأن الإقرار من المقر صحيح في حقه حتى إذا لم يكن له وارث سوى المقر له جاز الإقرار وكان هو مؤاخذا بما أقر به ما لم يمت لأن بطلان إقراره بمرض الموت ولا يدرى أيموت في هذا المرض أو يبرأ فعرفنا أن إقراره للحال صحيح إنما يبطل عند موته باعتبار صفة الوراثة في المقر له فإذا لم يوجد نفي صحيحا وجعل خروج المقر له من أن يكون وارثا بمنزلة من لم يقر في مرضه وإن كان أقر له وهو غير وارث ثم صار وارثا يوم موته بأن أقر لأخيه وله بن ثم مات الابن قبله حتى صار الأخ وارثا بطل إقراره له عندنا وقال زفر رحمه الله إقراره له صحيح لأن الإقرار موجب الحق بنفسه فإنما ينظر إلى حال الإقرار وقد حصل لمن ليس بوارث فلا يبطل بصيرورته وارثا بعد ذلك كما لو أقر له في صحته ثم مرض وكما لو أقر لأجنبية ثم تزوجها وبهذا فارق الهبة والوصية لأنها مضافة إلى ما بعد الموت حقيقة أو حكما .(18/56)
ألا ترى أنه لو وهب لأجنبية ثم تزوجها ثم مات لم تصح الهبة ونظر فيه إلى وقت الموت لا إلى وقت الهبة بخلاف الإقرار فكذلك هنا ولنا أنه ورث بسبب كان يثبت قائما وقت الإقرار فيتبين أن إقراره حصل لوارثه وذلك باطل وهذا لأن الحكم مضاف إلى سببه فإذا كان السبب قائما وقت الإقرار تثبت صفة الوارثة للمقر له من ذلك الوقت بخلاف الأجنبية إذا تزوجها لأنها صارت وارثة بسبب حادث بعد الإقرار والحكم لا يسبق سببه فلا يتبين أن الإقرار حين حصل كان للوارث وبخلاف ما لو أقر في الصحة ثم حصل له مرض حادث بعد الإقرار فالحجر بسببه لا يستند إلى وقت الإقرار ثم الفرق بين الإقرار والوصية أو الهبة في حق من صار وارثا بسبب حادث من موالاته أو زوجته أن الإقرار ملزم بنفسه ويتبين أن المقر به ليس من تركته فالوراثة الثابتة بسبب حادث بعده لا يكون مؤثرا فيه فأما الهبة والوصية كالمضاف إلى ما بعد الموت فإذا صار من ورثته بسبب حادث كان المانع قائما وقت لزومه فلهذا لا يصح وهو نظير إقرار المريض بالوديعة مع الهبة على ما بينا في الباب المتقدم وإن كان يوم أقر له وارثه بموالاة أو زوجته ويوم مات وارثه وقد خرج فيما بين ذلك من أن يكون(18/57)
ص -30- ... وارثه يثبتونه أو فسخ الموالاة فالإقرار باطل في قول أبي يوسف رحمه الله وهو دائر في قول محمد رحمه الله
وجه قوله: أنه إنما ورث بسبب حادث بعد الإقرار فلا يؤثر ذلك في إبطال الإقرار كما في الفصل المتقدم وهذا لأن عقد الأول قد ارتفع ولم يرث به فكان وجوده عند الإقرار كعدمه والعقد الثاني متجدد وهو غير الأول ولا أثر له في إبطال الإقرار وهو قياس ما لو أقر به في مرضه ثم صح ثم مرض ومات وأبو يوسف رحمه الله يقول الإقرار حصل للوارث وتثبت له هذه الصفة عند الموت وكان الإقرار باطلا كما لو ورث بأخوة كانت قائمة وقت الإقرار وهذا لأن الإقرار إنما لا يصح ليمكن تهمة الإيثار فإذا كان سبب الوراثة موجدا وقت الإقرار كانت هذه التهمة متمكنة والعقد المتجدد قام مقام العقد الأول في تقرر صفة الوراثة عند الموت فيجعل كأن الأول قائم له بخلاف ما إذا انعدمت صفة الوارثة عند الإقرار لأن تهمة الوارثة غير متقررة ثمة فصح الإقرار مطلقا ولو أقر لوارثه أو لأجنبي ثم مات المقر له ثم مات المريض ووارث المقر له من ورثة المريض لم يجز ذلك الإقرار في قول أبي يوسف الأول رحمه الله وهو جائز في قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله .
وجه قوله الأول أن الإقرار حصل وسبب الوراثة بينه وبين المقر له قائم وحكمه عند الموت فإنما يتم لمن هو وارثه فلم يجز الإقرار ليمكن نهمة لإيثار ووارث المقر له حلف عنه قائم مقامه فيما هو حكم الإقرار فإذا كان هو وارثا للمقر جعل بقاؤه عند موت المقر كبقاء المقر له بنفسه وجه قوله الآخر أن حياة الوارث عند موت المورث شرط ليتحقق له صفة الوراثة وهنا المقر له لما مات قبله فقد تبين له أن الإقرار حصل لغير الوارث فيكون صحيحا ووارث لنقر له ليس بملكه من جهة المقر إنما يملكه بسبب الوراثة بينه وبين المقر وذلك غير مبطل للإقرار(18/58)
ألا ترى أنه لو أقر بعين لأجنبي فباعه الأجنبي من وارث المقر أو وهبه له أو تصدق به عليه كان الإقرار صحيحا فكذلك هنا وكذلك إقرار المريض بعبد في يديه أنه لأجنبي فقال الأجنبي بل هو لفلان وارث المريض لم يكن لي فيه حق على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إقرار المريض باطل لأن المقر له لما حوله إلى وارث المريض صار كأن المريض أقر لوارثه ابتداء وهذا بخلاف ما إذا ملكه بسبب أنساه لأن ذلك ملك آخر يحدث للوارث بسبب متجدد غير الملك الحاصل بإقرار المريض فأما هنا إنما يحصل له ذلك الملك الثابت بإقرار المريض لأنه حوله بعينه إلى وارث المريض ونفاه عن نفسه.
وفي قوله الآخر يقول: الإقرار صحيح لأن وارث المريض لم يملكه بإقرار المريض وإنما يملكه بإقرار الأجنبي له بالملك وإقراره له بالملك صحيح وقوله الآخر أقرب إلى القياس من قوله الأول آخذا بالاحتياط لتمكن تهمة المواضعة بين المريض والأجنبي على أن يقر المريض له ليقر هو لوارثه فيحصل مقصوده في الإيثار بهذا الطريق ولو أقر الأجنبي أن(18/59)
ص -31- ... العبد حر الأصل وأن المريض كان أعتقه في صحته عتق ولا شيء عليه في القولين جميعا أما على قوله الآخر فغير مشكل وعلى القول الأول كذلك لأن إعتاقه من جهة المريض هنا غير ممكن فإنه يعقب الولاء وليس للمقر له فلا بد من أن يجعل كالقاتل لإقراره ثم العتق بخلاف الإقرار فهناك يمكن تحويل الملك الثابت له بالإقرار إلى الوارث على أن يتقدم عليه فيحصل الملك له بإقرار المريض من غير أن يحصل للمقر له الأول وإقراره بالتدبير والكتابة بمنزلة إقراره بالعتق من حيث أن يجعل كالقابل لإقرار المريض ثم المستثنى للكتابة والتدبير من جهته ولا يجوز إقرار المريض لقاتله بدين إذا مات في ذلك من جنايته لأن الإقرار للقاتل بمنزلة الإقرار للوارث فإنه عاجز عن اتصال النفع إليه بانساء التبرع لأن الهبة والوصية للقابل لا تصح كما لا يصح للوارث فيكون متهما في إخراج الكلام مخرج الإقرار.
فإن قيل: العاقل لا يؤثر قاتله على ورثته بالإقرار له كاذبا فتنتفي تهمة الكذب عن إقراره هنا قلنا: قد بينا أن الصدق والكذب في إقراره لا يعرف حقيقة فإنما يعتبر فيه الدليل الشرعي وهو تمكنه من تحصيل مقصوده بانساء التبرع وعدم تمكنه من ذلك وهذا لأن أحوال الناس مختلفة في هذا فقد يؤثر الشخص قابله لمثل في قلبه إليه أو قصده إلى مجازات إساءته بالإحسان فتتمكن التهمة باعتبار هذا المعنى ولكن الشرط أن يموت من جنايته لأنه إذا مات من غير جنايته لم يكن قابلا له بل يكون خارجا له .(18/60)
وعلى قول الشافعي رحمه الله: الإقرار للقاتل صحيح على قياس مذهبه في الإقرار للوارث وإن لم يكن يوم أقر صاحب فراش جاز إقراره لأن المريض إنما يفارق الصحيح بكونه صاحب فراش فإن الإنسان قل ما يخلو عن نوع مرض عادة ولا يعطى له حكم المريض ما لم يكن صاحب فراش فإذا صار بجنايته صاحب فراش فهو مريض وإذا لم يصر صاحب فراش فهو صحيح والإقرار الصحيح جائز لقائله ولوارثه كما يجوز تبرعه عليه وبهذا تبين فساد قول من يقول من مشايخنا رحمهم الله إذا كان خطا بنفسه ثلاث خطوات أو أكثر فهو ليس بمريض في حكم التصرفات لأنه اعتبر أن يكون صاحب فراش وصاحب الفراش قد يمشي بنفسه لجنايته وقد يتكلف بخطوات يخطوها فلا يخرج به من أن يكون مريضا ولا يجوز إقرار المريض لعبد وارثه ولا لعبد قائله ولا لمكاتب لأن كسب العبد لمولاه فإنه يخلفه في الملك بذلك السبب بخروج العبد من أن يكون أهلا للملك فكان الإقرار للعبد بمنزلة الإقرار لمولاه وكذلك للمولى في كسب المكاتب حق الملك وينقلب ذلك حقيقة ملك بعجزة فمن هذا الوجه إقراره للمكاتب بمنزلة إقراره لمولاه.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين الهبة فقال إذا وهب لعبد أخيه لم يجعل بمنزلة الهبة لأخيه في المنع من الرجوع وهنا جعله كالإقرار للمولى في أنه باطل والفرق أن المبطل للإقرار هنا انتفاع الوارث بإقرار المريض ومنفعة المالية ويمكن تهمة الإيثار له على سائر الورثة وهنا متحقق في الإقرار للعبد والمكاتب وهناك المثبت لحق الرجوع قصده عند(18/61)
ص -32- ... الهبة إلى العوض والمكافآت وعدم سلامة هذا المقصود له وذلك قائم إذا كان القائل للهبة أجنبيا وإن كان الملك يحصل لذي لرحم المحرم فلهذا يثبت له حق الرجوع فيه ولو اقر المريض بدين لوارثه ولأجنبي بإقراره باطل لما فيه من منفعة الوارث فإن ما يحصل للأجنبي بهذا الإقرار يشاركه الوارث فيه بخلاف ما إذا أوصي لوارثه ولأجنبي فإن الوصية تصح في نصب الأجنبي لأن ذلك أنسا عقدا فإذا صححناه في حق الأجنبي لم ينتفع به الوارث والإقرار إخبار بدين مشترك بينهما فإذا صححناه في نصب الأجنبي انتفع الوارث بالمشاركة معه في ذلك فإن كان كاذبا بالشركة بينهما أو أنكر الأجنبي الشركة وقال لي عليه خمسمائة ولم يكن بيني وبين وارثه هذا شركة لم يصح إقراره أيضا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وصح في قول محمد رحمه الله تعالى في نصب الأجنبي وجه قوله أنه لمهما بالمال وادعي عليهما الشركة في المقر به وقد صدقاه فيما أقر وكذباه فيما ادعي عليهما أو أنكر الأجنبي الشركة التي ادعاها إليه فلم تثبت الشركة بقوله وإذا لم تثبت الشركة بقي إقراره للأجنبي صحيحا لأن المانع من صحة الإقرار كان منفعة الوارث وعند انتفاع الشركة لا منفعة للوارث في صحة إقراره للأجنبي.(18/62)
وجه قولهما أن الإقرار وقع فاسدا بمعنى من جهة المقر وهو قصده إلى اتصال المنع وإلى وارثه فلا ينقلب صحيحا لمعنى من جهة المقر له لأن فساده مانع من صيرورته دينا في ذمة المقر وليس للمقر له ولاية على ذمته في إلزام شيء فلا نقدر على تصحيح إقراره لما فيه من إلزام الدين في ذمته بخلاف ما إذا أقر بعبد في يده لهذا أو هذا فاصطلحا كان لهما أن يأخذاه لأن فساد الإقرار هناك ليس بمعنى من جهة المقر وهو عجز المجهول عن المطالبة به وقد زال ذلك باصطلاحهم وإذا كان المفسد معنى من جهتهما ولهما ولاية على أنفسهما صح منهما إزالة المفسد بالاصطلاح وكلام محمد رحمه الله تعالى ليس بقوي لأنه ما أقر لهما بالمال إلا بصفة الشركة بينهما ولا يمكن إثباته مشتركا لما فيه من منفعة الوارث ولا يمكن إثباته غير مشترك لأن ذلك غير ما أقر به وهذا بخلاف مالو أقر بالمال مؤجلا لأن الأجل ليس بصفة للمال وكيف يكون صفة للمال وهو حق من عليه المال.
ألا ترى أن بعد حلول الأجل يبقي المال كما كان فأما هنا كونه مشتركا بينهما صفة لهذا الدين فلا يمكن إثباته بدون هذه الصفة لأن الدين إنما وجب بسبب وإذا وجب مشتركا بذلك السبب لا يصير غير مشترك مع بقاء ذلك السبب ما دام دينا لأن إيقاع الشركة يكون بالقسمة وقسمه الدين لا تجوز فإذا ثبت أنه لا يمكن إثباته غير مشترك كان تجاحدهما وتصادقهما على الشركة سواء ولو استقرض المريض من وارثه مالا بمعاينة الشهود كان هو بمنزلة الأجنبي في ذلك لأنه لا تهمة للسبب المعاين ولو أقر بمهر لامرأته يصدق فيما بينه وبين مثلها ويحاص غرماء الصحة لأنه لا تهمة في إقراره فوجب مقدار مهر المثل بحكم صحة النكاح لا بإقراره(18/63)
ص -33- ... ألا ترى أن عند المنازعة في المرض يجعل القول قولهما لها بزيادة على مهر مثلها فالزيادة باطلة لأن وجوبها باعتبار إقراره وهو متهم في حقها لأنها من ورثته ولو أقرت المرأة في مرضها بقبض مهرها من زوجها لم يصدق لأنه أقر باستيفاء الدين من وارثها فقد بينا بطلان إقرار المريض باستيفاء الدين من وارثه ولو باع المريض من أجنبي شيئا ثم باعه المشتري من وارث المريض أو وهبه له أو مات فورثه فهو جائز كله لأن خروج العين من ملك المريض كان إلى من اشتراه منه لا إلى وارثه ثم وارثه إنما يملكه من جهة المشتري إما بسبب متجدد أو بطريق الخلافة لوارثه فلم يمكن مانع من صحة تصرف المريض وإذا كان دين الصحة يحيط بمال المريض وأقر أنه أقرض رجلا ألف درهم ثم قال استوفيتها لم يصدق على ذلك لأن إقراره بالاستيفاء بمنزلة إقراره بالدين في المرض وهذا بخلاف ما إذا كان البيع في الصحة لأن حق الغرماء هناك ما لم يكن متعلقا بالمنع فلا يتعلق ببدله ما دام دينا وقد استحق المشتري براءة ذمته عند إقراره بالاستيفاء منه إذا كانت المبائعة في الصحة فلا يبطل استحقاقه بمرض المستحق عليه.
وإذا كان المبيع في المرض فحق الغرماء كان متعلقا بالمبيع فتحول إلى بدله وما استحقاق المشتري هنا براءة ذمته إلا بتسليم مال يقوم مقام المبيع في حق تعلق حق الغرماء به فلهذا لا يصدق في إقراره وكذلك لو كان عليه دين في مرضه ولم يكن الدين في صحته فإن كان مراده دينا وجب في مرضه بسبب معاين فهو ودين الصحة سواء وإن كان مراده دينا وجب بإقراره فمعناه أن إقراره بالاستيفاء لا يكون صحيحا في براءة المشتري ولكنه صحيح في إثبات المحاصة بين المشتري وبين الغرماء الأخر إلا أنه صار مقرا له بمثل ما عليه بالمقاصة فيصير كأنه حصة بقضاء دينه وتخصيص المريض بعض غرماء بقضاء دينه لا يصح والله أعلم بالصواب.
باب المقتول عمدا وعليه دين(18/64)
قال رضي الله عنه الأصل في مسائل هذا الباب أن نفس المقتول من جملة تركته في قضاء ديونه وتنفيذ وصاياه منه سواء كان واجبا بنفس القتل أو عند عفو بعض الشركاء عن القصاص لأن البدل يملك بملك الأصل والحق في نفسه له فكذلك فيما يجب بدلا عن نفسه وأصل آخر وهو أن الدين يقضى عن أيسر المالين قضاء لأن حق الغريم مقدم على حق الوارث فلا يسلم الوارث شيء من التركة إلا بعد الفراغ من الدين وأصل آخر أن التركة يقسم بعد قضاء الدين وتنفذ الوصية على الورثة على ما كان يقسم عليه إن لم يكن هناك دين أو وصية لأن ضرر قضاء الدين وتنفيذ الوصية يكون على الورثة بقدر أنصابهم ويجعل المستحق بالدين والوصية كالمتأدي من التركة والأصل في المال المشترك أن ما ينوى منه ينوى على الشركة وما يبقي على الشركة إذا عرفنا هذا.
فنقول رجل قتل عمدا وترك ألف درهم وترك ابنين فعفي أحدهما وعلى المقتول دين(18/65)
ص -34- ... ألف درهم فقد سقط القود عن القاتل بعفو أحد الابنين لأنه لا حق للغريم في القصاص فإن حقه في المال والقصاص ليس بمال فصار عفو أحد الابنين كما لو لم يكن على المقتول دين وانقلب نصيب الآخر مالا وذلك خمسة آلاف درهم لأنه تعذر على الآخر استيفاء القصاص لمعني من جهته مع بقاء المحل فإذا قبض الخمسة آلاف ضم ذلك إلى الألف المتروكة فيكون تركته ستة آلاف يقضي منها دين المقتول وهو ألف درهم ويقسم ما بقي بين الاثنين على اثني عشر سهما سهم للمعافي واحد عشر سهما للذي لم يعف لأنه لو لم يكن هنا دين كان قسمة التركة سهما هكذا فإن الخمسة آلاف كلها حق الذي لم يعف والألف المتروكة بينهما نصفان للمعافى من ذلك خمسمائة درهم فإذا جعلت كل خمسمائة سهما صار حق الذي لم يعف أحد عشر سهما وللمعافي سهم واحد فذلك بعد قضاء الدين فقسم ما بقي بينهما على هذا.(18/66)
وكذلك لو كان الدين أكثر من ذلك بأن كان الدين ثلاثة آلاف وقد أوصى لرجل بألف أيضا فإنه بعد قضاء الدين فيأخذ الغريم كمال حقه من التركة بعد قضاء الدين ثلاثة آلاف ومقدار وصيته خارج من ثلثه فينفذ له ثم ما بقي بين الابنين على اثني عشر سهما لما بينا وهذا لأن حق الغريم والموصى له لا يتعلق بالقصاص لأنه ليس بمال فإذا انقلب مالا تعلق به حقهما لكونه محلا لإيفاء حقهما منه ولو كان ترك عبدا يساوي ألف درهم لا مال له غيره وعليه ألف درهم فخاصم الغريم القاضي فيباع العبد في دينه لأنه هو المحل الصالح لقضاء الدين منه في الحال فإن عفا أحد الابنين عن الدم بعد ذلك وأخذ الآخر نصف الدية فإن العافي يتبعه ويأخذ منه نصف سدسها لأنه ظهر أن التركة ستة آلاف وأن ضرر قضاء الدين يكون عليهما بحسب حقهما وقد صرف نصيب جميع العافي من العبد إلى الدين وأن ما كان عليه نصف سدس الدين الدين بقدر نصيبه من التركة فيما زاد على ذلك استوى من نصيبه وكان قضاؤه واجبا على شريكه لأنه لم يكن متبرعا في ذلك القضاء إنما ألزمه القاضي بغير اختياره فلهذا رجع على شريكه فله أن يرجع به على شريكه بنصف سدس خمسة الألف وهو أربعمائة وستة عشر وثلثان.(18/67)
وإن لم يبع العبد وقضي الدين حتى قبض الذي لم يعف خمسة آلاف للغريم أن يأخذ منه جميع دينه لأن أيسر المالين لقضاء الدين منه هذا فإنه من جنس الدين فإن الدية من الخمسة الآلاف كان العبد سهما وكان العبد بينهما نصفين ميراثا عن الميت والأربعة آلاف الباقية للذي لم يعف ويرجع الذي لم يعف على العافي بثلاثة وثمانين درهما وثلث وذلك نصف سدس الدين استوفي جميع الدين مما هو خالص حق الذي لم يعف فيرجع على صاحبه بحصة نصيبه من التركة ونصيبه من التركة نصف سدسها فلهذا رجع عليه بنصف سدس الدين فأما أن يؤديها إليه ليسلم له نصف العبد وأما أن يباع نصيبه من العبد فيها لأن الدين متعلق بالتركة وهو غير مستحق في ذمة الوارث فكان هو بمنزلة دين واجب في نصيبه(18/68)
ص -35- ... من العبد فيه وإنما قسمنا العبد هنا نصفين لأنه ليس من جنس الدية والأجناس المختلفة لا تقسم قسمة واحدة بل يقسم كل جنس على حدة بخلاف الأول فإن نصف الدية مع المتروك من المال جنس واحد فلهذا ضمنا البعض إلى البعض في القسمة.
رجل قتل عمدا وله بن وامرأة وترك عبدا يساوي ألفا وعليه دين ألف درهم فعفت المرأة عن الدم سقط نصيبها وانقلب نصيب الابن مالا فيقضى له بسبعة أثمان الدية مقدار ذلك ثمانية آلاف وسبعمائة وخمسون فإذا جاء الغريم قبض دينه مما في يد الابن لأنه من جنس حقه والعبد بين المرأة والابن بالميراث على ثمانية أسهم للمرأة الثمن وللابن سبعة أثمانه ثم ضرر قضاء الدين لا يكون على الابن خاصة فيكون له أن يرجع على المرأة بمقدار حصتها من التركة وذلك جزء من ثمانية وسبعين جزءا من الألف لأن التركة في الحاصل تسعة آلاف وسبعمائة وخمسون وحق المرأة ثمن العبد فاجعل كل ألف على ثمانية فما قبض الذي لم يعف من الدين وهو ثمانية آلاف وسبعمائة وخمسون فإذا جعلت على كل ألف مائة يكون سبعين سهما والعبد ثمانية وسبعون سهما سهم واحد من ذلك نصيب المرأة والباقي كله للابن فضرر قضاء الدين عليهما يكون بهذه الصفة أيضا جزء من ثمانية وسبعون جزءا من الدين في نصيبها وقد استوفى مما هو خالص حق الابن فيرجع عليها بذلك فأما أن يدفعه ليسلم لها ثمن العبد أو يباع ثمن العبد.(18/69)
ولو قتل وله ألف درهم وعليه ألف درهم دين وترك ابنا وبنتا وامرأة فعفى الابن عن الدم فللابنة والمرأة حصتهما من الدية وذلك عشرة أسهم من أربعة وعشرين سهما فالسبيل أن نصحح الفريضة أولا فنقول للمرأة الثمن سهم من ثمانية والباقي وهو سبعة بين الابن والابنة أثلاثا فاضرب ثلاثة في ثمانية فيكون أربعة وعشرين للمرأة ثلاثة وللابنة سبعة وللابن أربعة عشر فظهر أن نصيب المرأة والابنة من الدم عشرة من أربعة وعشرين فينقلب ذلك مالا فيعفو الابن ومقداره بالدراهم أربعة الألف ومائة وستة وستون درهما وثلثا درهم لأن جميع الدية عشرة آلاف فإذا قسمته على أربعة وعشرين كان كل سهم من ذلك أربعة وستة عشر وثلثين وعشر مرات أربعمائة وستة عشر وثلثان يكون أربعة الألف ومائة وستة وستين وثلثين لأن عشر مرات أربعمائة فيكون أربعة آلاف وعشر مرات ستة عشر وثلثان يكون مائة وستة وستين وثلثين فيضم ذلك إلى الألف المتروكة فتكون جملة التركة خمسة آلاف ومائة وستة وستين وثلثين يقضي جميع الدين من ذلك أولا وما بقى يقسم بينهم بالحصص يضرب فيه الابنة بنصيبها من التركة والدية وهي ثلاثة آلاف درهم ومائتا درهم وثمانية دراهم وثلث وتضرب المرأة بألف وثلاثمائة وخمسة وسبعين درهما ويضرب الابن بنصيبه وهو خمسمائة وثلاثة وثمانين وثلث فإنما يضرب بهذا القدر فقط.
وإذا أردت تصحيح الحساب بالسهام والسبيل أن تجعل كل مائة على اثني عشر سهما فنصيب الابن يكون أربعة وستين ونصيب المرأة مائة وخمسة وستين سهما ونصيب الابنة(18/70)
ص -36- ... ثلاثمائة وخمسة وثمانين سهما فإذا ضمت إليه نصيب المرأة مائة وخمسة وستين يكون خمسمائة وخمسين ثم إذا ضممت إليه نصيب الابن وهو أربعة وستون يكون ستمائة وأربعة عشر سهما فينقسم ما بقي من التركة بعد قضاء الدين بينهم على هذه السهام ليكون ضرر قضاء الدين على كل واحد منهم بقدر نصيبه.
مريض في يديه ألف درهم أقر أنها وديعة بعينها لرجل ثم قتل عمدا قله وليان فعفى أحدهما فإنه يقضي للأخر بنصف الدية ويأخذ صاحب الوديعة وديعته ولا شيء للمعافى لأن إقراره بالوديعة في المرض للأجنبي صحيح ويتبين به أن الوديعة ليست من تركته بل هي للمودع يأخذها وإنما ترك الدم فقط وقد عفى أحد الابنين فانقلب نصيب الآخر مالا والعافي مسقط لنصيب نفسه فلا شيء له وكذلك لو لم يقر بوديعة ولكنه أقر لرجل بدين ألف درهم في مرضه وقضاها إياه قبل أن يقتل لأن إقراره بالدين في المرض للأجنبي وقضاؤه إياه صحيح إذا لم يكن عليه دين في صحته فخرج المدفوع من أن يكون من تركته وإنما تركته عند الموت الدم فقط هذا والأول سواء فإن لحق الميت دين بعد ذلك فإن اتبع صاحب الدين الابن الذي لم يعف فله ذلك لأن ما في يده من نصف الدية تركة الميت فيكون له أن يستوفي دينه فإذا استوفاه بقي المقبوض سالما للغريم الأول ولا شيء للذي عفى .(18/71)
وإن اتبع الغريم الثاني الغريم الأول استرد منه المقبوض لأن دينه كان واجبا في صحته فله ذلك لأن ما ظهر من دينه الآن لو كان ظاهرا كان حقه مقدما على حق المقر له في المرض ولاثم للمقر له في المرض شيء مما قبض فكذلك هنا له أن ينقض قبضه وإذا نقض قبضه أخذ الألف كلها بدينه واتبع المقر له في المرض الابن الذي لم يعف وأخذ منه ألفا لأن ما في يده من نصف الدية تركة الميت ثم يتبع الابن ألفا في الابن الذي لم يعف ويأخذ منه نصف سدس أربعة آلاف درهم لأن قبض الأول لما انتقض صار كأن الميت لم يعطه شيئا ولكنه مات وترك ألف درهم وعليه دين ألفا درهم وجملة تركته ستة آلاف الألف المتروكة مع نصف الدية فيقضى الدين أولا من جميع التركة ويبقى أربعة آلاف فتقسم بين الاثنين على ما كان يقسم عليه جميع التركة إن لو لم يكن هناك دين وذلك على اثني عشر سهما سهم منه للعافي وأحد عشر للذي لم يعف بخلاف ما إذا لم يتبع الغريم الثاني الغريم الأول لأن هناك المقبوض يبقى سالما له فلا يكون محسوبا من تركة الميت ولا شيء للعافي فصار رجوع الغريم الثاني على الغريم الأول نافعا للابن العافي مضرا للغريم الأول في نقض قبضه كما قيل مصائب قوم عند قوم فوائد.
مريض وهب عبدا له لرجل وقبضه وقيمته ألف درهم ولا مال له غيره ثم قتل العبد المريض عمدا وله ابنان فعفى أحدهما للموهوب له فله الخيار بين الدفع والفداء لأن الموهوب بالقبض صار مملوكا له قائما حتى ملكه على الواهب وفي جناية المملوك إذا وجب المال كان المالك بالخيار بين الدفع والفداء وقد وجب المال هنا يعفو أحد الابنين إن اختار(18/72)
ص -37- ... إن يفديه بنصف الدية وهو خمسة آلاف يسلم العبد كله له لأن نصف الدية مع رقبته من تركه الميت فكانت الرقبة دون الثلث فتنفذ الهبة في جميعه ويكون نصف الدية بين الاثنين للعافي منها نصف سدسها لأن العبد إنما يسلم للموهوب له بطريق الوصية وضرر تنفيذ الوصية يكون على جميع الورثة لحصتهم فيقسم ما بقي من التركة بين الابنين على ما كان يقسم عليه إن لو لم يكن هناك وصية بخلاف ما تقدم من مسألة الوديعة والدين لأن الوديعة وما قضي به الدين ليس من جملة تركته عند الموت فلا يثبت فيه حق العافي وهنا ما ينفذ فيه الهبة لا يخرج من أن يكون من جملة التركة لأن الهبة في المرض وصية والوصية إنما تنفذ من التركة فيثبت باعتبار حق العافي.(18/73)
فلهذا يقسم ما بقي بعد تنفيذ الوصية بينهما على اثني عشر سهما وإن اختار الدفع رد ثلاثة أخماس العبد بحكم بعض الهبة فيها ويدفع خمس العبد بالجناية إلى الذي لم يعف ويبقي في يده خمس هو سالم له ثم ما اجتمع في يد الابنين وهو أربعة أخماس بينهما على اثني عشر سهما للعافي منها خمسة أسهم وللذي لم يعف سبعة فكان ينبغي أن تنفذ الهبة في ثلث العبد لأن الوصية لا تنفذ في أكثر من الثلث ولكن نفذها في خمسي العبد هنا لضرورة الدور وبيان ذلك أن العبد في الأصل يجعل على ستة لحاجتنا إلى ثلث ينقسم نصفين حتى يدفع النصف بالجناية إلى الذي لم يعف فتنفذ الهبة في سهمين وهو الثلث ثم يدفع بالجناية أحدهما إلى الذي يعف فيصير في يد الورثة خمسة وإنما حقهم في أربعة فيظهر زيادة سهم في حق الورثة وهذا غائر لأنك كلما زدت في تنفيذ الهبة يزداد المدفوع بالجناية فلا يزال يدور كذلك والسبيل في الدور أن يقطع وطريق القطع طرح السهم الزائد من جانب من خرج من قبله لأن هذا السهم يباع بالفساد فالسبيل نفيه فيطرح من أصل حق الورثة سهما فترجع سهام العبد فتنفذ الهبة في سهمين ثم يدفع أحدهما بالجناية فحصل عند الورثة أربعة وقد نفذنا الهبة في سهمين فيستقيم الثلث والثلثان.(18/74)
وإنما قسمنا أربعة أخماس العبد بين الابنين على اثني عشر سهما لأن سهام العبد لما صارت على خمسة فحق كل واحد منهما في سهمين ونصف إن لو لم يكن هناك وصية ثم الذي لم يعف أخذ سهما آخر أيضا فيصير حقه في ثلاثة ونصف وحق الآخر في سهمين ونصف فما بقي بعد تنفيذ الهبة يقسم على أصل حقهما وقد انكسر بالأنصاف فأضعفه ليزول الكسر فالذي كان له ثلاثة ونصف صار حقه سبعة والذي كان له سهمين ونصف صار حقه خمسة فلهذا كانت القسمة بينهما على اثني عشر سهما وطريق الدينار والدرهم في تخريج هذه المسألة أن يجعل العبد دينارا أو درهمين ثم تنفذ الهبة في درهمين ويدفع أحدهما إلى الذي لم يعف فيصير في يد الورثة دينارا ودرهما وحاجتهم إلى أربعة دراهم فاجعل الدرهم قصاصا بمثله يبقى في يدهم دينار يعدل ثلاثة دراهم فاقلب الفضة واجعل آخر الدراهم آخر الدنانير فتصير الدينار بمعنى ثلاثة والدرهم بمعنى واحد ثم عد إلى الأصل فتقول كما جعلنا(18/75)
ص -38- ... العبد دينارا وذلك بمعنى ثلاثة ودرهمين كل واحد فذلك خمسة ثم نفذنا بالهبة في درهمين وذلك خمسا العبد والذي حصل للورثة دينار وبمعنى ثلاثة ودرهم بمعنى واحد وذلك أربعة فيستقيم الثلث والثلثان.
وطريق الجبر والمقابلة فيه أن تنفذ الهبة في شيء من العبد ثم يدفع نصفه بالجناية إلى الذي لم يعف فيحصل في يد الورثة عبد إلا نصف شيء وهو حاجتهم إلى ستين لأنا نفذنا الهبة في شيء فاجبر العبد بنصف شيء ورد فيما يعدله نصف شيء يتبين أن العبد الكامل بمعنى ستين ونصف وقد نفذنا الهبة في شيء وشى ء من ستين ونصف خمساه فتبين أن الهبة جازت في خمسي العبد وطريق الخطأين فيه أن يجعل العبد على ستة تنفذ الهبة في سهمين ويدفع بالجناية فيحصل في يد الورثة خمسة وحاجتهم إلى أربعة ظهر الخطأ بزيادة سهم فعد إلى الأصل ونفذ الهبة في ثلاثة ثم تدفع بالجناية سهم ونصف فيصير في يد الورثة أو بعفو نصف وحاجتهم إلى ستة ضعف ما نفذنا فيه الهبة فظهر الخطأ الثاني نقصان سهم ونصف
وكان الخطأ الأول بزيادة سهم فلما زدنا في الهبة سهما ذهب ذلك الخطأ وجلب خطأ سهم ونصف فعرفنا أن كل سهم يؤثر في سهمين ونصف فالسبيل أن يزيد في الهبة ما يذهب الخطأ ولا يجلب إلينا خطأ آخر وذلك خمسا سهم فتنفذ الهبة في سهمين وخمسين فتبقى في يد الورثة ثلاثة وثلاثة أخماس ثم يدفع بالجناية نصف ما نفذنا فيه الهبة وهو سهم وخمس فيصير في يد الورثة أربعة وأربعة أخماس وهو ضعف ما نفذنا فيه الهبة فيستقيم الثلث والثلثان وسهمان وخمسان من ستة يكون خمساها فيتبين أن الهبة إنما جازت في خمسي العبد وطريق الجامع الأصغر أن يأخذ المال الأول وهو ستة ويضربه في الخطأ الثاني وهو سهم ونصف فيصير تسعة ويأخذ المال الثاني وهو ستة ويضربه في الخطأ الأول وهو سهم فيكون ستة ثم يجمع بينهما لا أن أحد الخطأين إلى الزيادة والآخر إلى النقصان.(18/76)
والطريق في مثله الجمع لا الطرح فصار خمسة عشر فهو جملة المال وبيان معرفة ما جاز فيه الهبة أن يأخذ ما نفذها فيه الهبة أولا وذلك سهمان فيضرب ذلك في الخطأ الثاني وهو سهم ونصف فيكون ثلاثة ثم يضرب ما جاز فيه الهبة ثانيا وهو ثلاثة في الخطأ الأول وهو واحد فيكون ثلاثة ثم يجمع بينهما فتكون ستة فظهر أن ما نفذنا فيه الهبة ستة من خمسة عشر وذلك خمساها لأن كل خمس ثلاثة وطريق الجامع الأكبر أنه لما ظهر الخطأ الأول كان يسهم فأضعف المال سوى النصيب والمال سوى النصيب أربعة فإذا ضعفته كان ثمانية وجملة سهام العبد عشر تنفذ الهبة في سهمين يدفع بالجناية أحدهما فيحصل في يد الوارث تسعة وحاجته إلى أربعة ظهر الخطأ بزيادة خمسة فضرب المال الأول وهو ستة في الخطأ الثاني وهو خمسة فيكون ثلثين واضرب المال الثاني وهو عشرة في الخطأ الأول وهو واحد فيكون عشرة واطرح الأقل من الأكثر يبقى عشرون فهو المال ومعرفة ما نفذنا فيه الهبة أن(18/77)
ص -39- ... تأخذ سهمين وتضربهما في الخطأ الثاني وهو خمسة فيكون عشرة ثم تأخذ سهمين وهو ما نفذنا فيه الهبة ثانيا وتضربه في الخطأ الأول وهو واحد فيكون اثنين اطرح الأقل من الأكثر يبقى ثمانية فهو القدر الذي جاز فيه الهبة وثمانية من عشرين يكون خمسها كل خمس أربعة فتبين أن الهبة إنما جازت في خمسي العبد على الطرق كلها والله أعلم بالصواب .
باب إقرار الوارث بالدين
قال رحمه الله: رجل مات وترك ألف درهم وابنا فقال الابن في كلام واحد موصول لهذا على أبي ألف درهم ولهذا ألف درهم فالألف بينهما نصفان لأنه عطف الثاني على الأول وموجب العطف الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر ثم في آخر كلامه مما تغير موجب أوله لأن أول كلامه تصير الألف كلها للأول لو سكت عليه وبآخر كلامه به تبين أن الألف بينهما نصفان ومتى كان في آخر الكلام ما يغير موجب أوله يوقف أوله على آخره كما لو ألحق به شرطا أو استثناء ثم إقرار الوارث على مورثه إنما يصح باعتبار ما في يده من التركة فيصير كقوله هذه العين لفلان ولفلان ولو أقر للأول وسكت ثم أقر للثاني فالأول أحق بالألف لأنه صار مستحقا بجميع الألف حين أقر له وسكت فإقراره للثاني صادف محلا مستحقا لغيره لأن صحة إقراره بالدين علي المورث باعتبار العين التي في يده وهو بمنزلة مالو أقر بعين في يده لزيد وسكت ثم أقر بها لعمرو وهذا بخلاف المريض يقر على نفسه بدين ثم بدين لأنه يلاقى ذمته فبوجوب الدين الأول عليه لا تتغير صفة الذمة وهنا صحة إقراره باعتبار ما في يده من التركة فإقراره للأول صادف محلا فارغا فصح ثم إقراره للثاني صادف محلا مشغولا فلم يصح في حق الأول.(18/78)
فإن دفع الألف إلى الأول بقضاء لم يضمن للثاني شيئا وان دفعها بغير قضاء ضمن للثاني خمسمائة لأنه بالكلام الثاني صار مقر بأن نصف الألف حق الثاني وقد دفعه إلى الأول باختياره وإقراره حجة عليه فلهذا ضمن للثاني نصفه ولو قال في كلام موصول هذه الألف وديعة لهذا ولهذا الآخر على أبي ألف درهم دين كان صاحب الوديعة أحق بالألف لأنه لما قدم الإقرار بالوديعة صارت هي بعينها مستحقة للمقر له فإقراره بالدين بعد ذلك إنما يصح في تركة الميت والوديعة من التركة في شيء فقد جعل في هذا الفصل الكلام الموصول والمقطوع سواء لأنه ليس في آخر كلامه ما يغير موجبه أو له بأن موجب أول الكلام أن الوديعة ليست من تركة الميت ولم تكن مملوكة له فظاهر وهذا لا يتغير بإقراره بالدين فلا يتوقف أول الكلام علي آخره كمن يقول لامرأته قبل الدخول بها أنت طالق وطالق بخلاف الأول فإن موجب أول الكلام هناك استحقاق الأول جميع التركة ويتغير ذلك بآخر كلامه فيتوقف أوله على آخره.
توضيح الفرق أن الإقرار بالوديعة نفسها ليس من جنس إقراره بالدين لأن موجب أحدهما استحقاق ملك الغير وموجب الآخر استحقاق الدين في الذمة على أن يكون مستوفيا(18/79)
ص -40- ... من العين فلعدم المحاسبة لم يتحقق العطف فكان الموصول والمقطوع سواء بخلاف الأول فالمجانسة بين الكلامين هناك ثابتة
ولو قال لفلان: على أبي ألف درهم وهذه الألف وديعة لفلان تحاصا فيه لأنه لما قدم الإقرار صارت الألف كلها مستحقة للغريم بالدين فإقراره بالوديعة صادف محلا مشغولا فمنع ذلك الاختصاص المودع بالعين لما فيه من إبطال حق الأول وانقلب هذا إقرار بالدين لأنه أقر بوديعة مستهلكة أو بوديعة جهلها المودع عند موته فهو والإقرار بالدين سواء وقد بينا أنه لو أقر بدينين في كلام موصول تخاصا فيه ولو قال لهذا على أبي ألف درهم لا بل لهذا فالألف للأول لأنه استدرك غلطه بالرجوع عن الإقرار للأول والإقرار به للثاني والرجوع عن الإقرار للأول باطل فيبقى الألف كلها له ولا شركة للثاني معه لأن الاشتراك من حكم العطف والوصل فكلمة لا بل للرجوع لا للعطف فلا يثبت به الاشتراك بينهما فإن دفعها إلى الأول بعضا لم يضمن للثاني شيئا لأن صحة إقراره بالدين على ابنه باعتبار ما في يده من التركة ولم يبق في يده شيء حقيقة ولا حكما فإن المدفوع بقضاء القاضي لا يكون مضمونا عليه وإن دفع إلى الأول بغير قضاء القاضي ضمن للثاني مثلها لأن إقراره على نفسه صحيح وقد أقر بأن الألف كلها للثاني وإنه غلط في الإقرار للأول إذا لم يكن له دين على الأب ودفعها إليه باختياره فيكون ضامنا المدفوع بناء على زعمه .(18/80)
ولو قال له رجل: هذه الألف التي تركها أبوك وديعة لي وقال آخر لي على أبيك ألف درهم فقال صدقتما فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى الألف بينهما نصفان وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله صاحب الوديعة أولى بها وجه قولهما أن الإقرار بالوديعة أقوى حتى يصح في كلام موصول تقدم أو تأخر والإقرار بالدين لا يصح إذا تقدم ذكر الوديعة فعند الاقتران يجعل الأقوى مقدما كدعوى الاستيلاد مع دعوة التحرير وتقديره من وجهين أحدهما أن شرط صحة الإقرار بالدين السبق ولم يوجد ذلك عند الاقتران والسبق ليس بشرط في صحة الإقرار بالوديعة فكان هو الصحيح في حال الاقتران والثاني أن استحقاق العين بالإقرار بالوديعة يسبق لأنه يثبت استحقاق العين بنفسه فأما الإقرار بالدين يثبت الدين في الذمة ولم يستحق به العين فكان سبق الوديعة في الموجب كسبق الإقرار بها نصا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما ظهر الإقرار بالوديعة إلا والدين ظاهر معه فيمنع ظهور الدين اختصاص المودع بالوديعة لأن ما يرفع الشيء إذا سبقه فإذا اقترن به لمنعه أيضا كنكاح الحرة مع الأمة وهنا إن سبق الإقرار بالدين رفع حق اختصاص المدفوع الوديعة فإذا اقترن به مع ثبوت حق الاختصاص له وصار الوارث كالمستهلك الوديعة فصح الإقرار بالدين وبالإقرار بالدين يصير مستهلكا للوديعة فيصير إقرارا بدينين فيتحاصان فيه
رجل مات وترك ثلاثة بنين وثلاثة آلاف درهم فأخذ كل واحد نصيبه وادعى رجل على أيهم ثلاثة آلاف درهم فصدقه الأكبر فيها وصدقه الأوسط في ألفين منها وصدقه(18/81)
ص -41- ... الأصغر في ألف منها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يأخذ المقر له من الأكثر جميع ما في يده ومن الأوسط خمسة أسداس ما في يده ومن الأصغر ثلث ما في يده وعند محمد رحمه الله تعالى يأخذ من الأوسط جميع ما في يده وباقي الجواب كقول أبي يوسف رحمه الله .
وجه قول محمد رحمه الله: تعالى أن المقر له يبدأ بالأكثر لإقراره أنه لا حق له في التركة وأن جميع ما في يده للمقر له فهو موافق له من كل وجه فيأخذ ما في يده وهو الألف ثم يثني بالأوسط لأنه أقرب إلى موافقته من الأصغر فيقول للأوسط قد أقررت لي بدين العين وما وصل إلى الألف فقد بقي من دينى ألف بزعمك والدين مقدم على الميراث فيقضى من أيسر المالين قضاء فهات جميع ما في يدك فلا يجد بدا من قوله نعم فيأخذ منه جميع ما في يده ثم يأتي الأصغر بقول أنا أقررت أن دينك ألف درهم ثلثه في يدي وثلثاه في يد شريكي وقد وصل إليك ذلك من جهته وزيادة فلا أعطيك إلا ما أقررت لك به وهو ثلث ما في يدي فلهذا يأخذ منه ثلث الألف .
ووجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المعتبر المال المقر به لأن المأخوذ هو المال فيقول ألف من الجملة وهو ما أقر به الأصغر اتفقت الثلاثة على كونها دينا فيبدأ المقر له باستيفاء تلك الألف من ثلاثتهم من كل أحد منهم ثلثها ثم لم يبق له سبيل على الأصغر ويأتي الأوسط فيقول الأوسط أنا قد أقررت لك بألف أخرى وقد ساعدني فيه الأكبر وهو بيننا نصفان نصفه في يدي ونصفه في يد الأكبر وهو يسلم لك من جهته فيعطيه نصف الألف فإذا استوفى منه ثلث الألف مرة ونصف الألف مرة أخرى وذلك خمسة أسداس الألف ثم يأتي إلى الأكبر ويقول إنك قد أقررت أن الدين يحيط بالتركة ولا ميراث لك وأخذ منه جميع ما في يده بحكم إقراره .(18/82)
قال تفرقوا عليه فلقي الأصغر أولا وقدمه إلى القاضي أخذ منه جميع ما في يده لأن الدين مقدم على الميراث فيقضي من أيسر الأموال وأيسر الأموال في حقه هو ما في يد الأصغر وهو مقر له بدين ألف فيأخذ منه جميع ما في يده فإن لقي الأوسط بعد ذلك أخذ منه جميع ما في يده أيضا لأنه مقر له بدين ألفين وقد وصل إليه ألف واحد جميع ما في يده بحساب ما بقي من دينه بزعمه فإن لقي الأكبر بعد ذلك أخذ منه جميع ما في يده أيضا لإقراره أنه قد لقي من دينه ألف درهم وأن دينه محيط بالتركة فيتوصل إلى جميع حقه بهذا الطريق فإن لقي الأكبر أول مرة أخذ منه جميع ما في يده لما قلنا فإن لقي الأوسط بعده أخذ منه جميع ما في يده أيضا لأنه مقر بأنه قد بقي من دينه إلف.
وإن لقي الأصغر بعدهما فهو على وجهين إن أقر الأصغر بأن أخويه قد أقرا له بما ذكرنا قضى عليه بثلث الألف الذي في يده لأنه يقول حقك في ألف ثلثها في يدي كل واحد منا فما أخذت من الأول والثاني زيادة على حقك إنما أخذته بإقرارهما لك بالباطل فلا تأخذ مني إلا قدر ما أقررت لك به وهو ثلث الألف وإن جحد فقال لم يقر لك أخواي إلا(18/83)
ص -42- ... بالألف لم يقض له عليه بشيء لأنه يقول له ما أقررنا لك إلا بألف درهم دين وقد وصل إليك ذلك القدر من التركة وزيادة فليس لك أن ترجع علي بشيء ولا يتمكن المقر له من دفع حجته هذا إلا أن يثبت بالبينة إقرارهما له بما ذكرنا فحينئذ يكون الثابت بالبينة في حق الأصغر كالثابت بإقرار الأصغر به وإن لقي الأوسط أول مرة قضى عليه بالألف كلها لما بينا فإن لقي الأصغر بعده فالجواب ما ذكرنا من إقرار الأصغر وإنكاره في الأول.
ومراده من هذا العطف حال إنكاره خاصة فإنه إذا أقر لك الأوسط بإلف كما أقررت به لم يقض له عليه بشيء لأنه يحتج عليه فيقول أقررنا لك بألف وقد وصل إليك من التركة ألف فأما عند إقراره بأن الأوسط أقر له بألفين فهذا نظير الأول ولكن في هذا الوجه يأخذ منه الخمسمائة لأنه يقول قد استوفيت منه الألف باعتبار إقرار كان هو صادق في نصفه كاذبا في نصفه ففي النصف وهو الخمسمائة أنت مستوف حقك منه وفي النصف الآخر أنت ظالم عليه فإنما يبقى من دينه بزعمه خمسمائة فيدفع إليه مما في يده خمسمائة ثم إذا لقي الأكبر بعد ذلك قضي له عليه بالألف كلها لإقراره أن الدين محيط بالتركة وأنه لا ميراث له منها .(18/84)
رجل مات وترك ابنين وألفين فأخذ كل واحد منهما ألفا ثم ادعى رجل على أبيهما ألف درهم وادعى آخر ألف درهم فأقرا جميعا لأحدهما وأقر أحدهما للآخر وحده فكان الإقرار معا فالذي اتفقا عليه يأخذ من كل واحد منهما خمسمائة لأنهما متصادقان على دينه فيبدأ به لقوة حقه فيأخذ من كل واحد منهما نصف دينه حتى يصل إليه كمال حقه كأنه ليس معه غيره ثم يأخذ الآخر من الذي أقر له ما بقي في يده وهو خمسمائة لأنه مقر بدينه وإقرار أحد الورثة بالدين يلزمه قضاء الدين من نصيبه ولم يبق في يده من نصيبه إلا خمسمائة فيدفعها إليه ولأنه مقر أنه لا ميراث له لأنه مثل التركة فيؤمر بتسليم جميع ما في يده إليه بإقراره فإن غاب الذي أقرا له وحصل الذي أقر له أحدهما فقدم المقر بحقه إلى الحاكم فقال لي على أب هذا ألف درهم وقد أقر لي بها وصدقه الابن وأوهم أن يجبره بما أقر به لغيره أي سمي بذلك فإن القاضي يقضي له عليه بالألف التي في يده لأنه مقر له بدين ألف والدين يقضى من أيسر الأموال قضاء وهو ما في يده فيلزمه أن يدفع كله إلى المقر له بدينه وإن جاء الذي أقر له جميعا وقدم أخاه قضي له عليه بجميع الألف التي في يديه لأنه مقر له بدين ألف درهم ولم يصل إليه شيء من دينه فيستوفي منه جميع ما في يده ولا يرجع واحد من الأخوين على أخيه بشيء لأن كل واحد منهما لم يتلف على أخيه شيئا وما أخذ من يده إنما أخذه بحكم إقراره وكذلك لو كان الذي أقر له حضر أولا فقدم الذي أقر له وحده إلى القاضي قضي له عليه بما في يده مقر له بدين ألف درهم فإن جاء الآخر وقدم أخاه قضي عليه بالألف ولا يرجع واحد من الأخوين على أخيه بشيء لأن ما أخذ من كل واحد منهما إنما أخذه بحكم إقراره وكذلك لو كان الميراث مائتي دينار أو كان الميراث شيئا مما يكال أو يوزن والدين مثله فهذا والدراهم سواء على ما بينا.(18/85)
ص -43- ... رجل مات وترك عبدين قيمة كل واحد منهما ألف درهم وترك ابنين واقتسما ذلك فأخذ كل واحد منهما عبدا ثم أقرا جميعا أن أباهما أعتق أحد العبدين بعينه وهو الذي في يد الأصغر منهما في صحته وأقر الأكبر أن أباه أعتق العبد الذي في يده في صحته والإقرار بجميع ذلك منهما معا فهما حران أما الذي اتفقا عليه فظاهر وأما الآخر فلأن من هو في يده مالك له وقد أقر بعتقه وإقرار المالك في ملكه صحيح فإذا أعتق ضمن الأكبر للأصغر نصف قيمة العبد في يده لأنه أقر أنه ما أعطاه شيئا فإن الذي أعطاه كان حرا باتفاقهما والذي أخذ الأكبر في الظاهر مملوك لهما والأكبر بالإقرار بعتقه صار متلفا نصيب الأصغر منه لأن إقراره ليس بحجة عليه فلهذا ضمن له نصف قيمته وهذا الضمان ليس بضمان العتق حتى يختلف باليسار والإعسار ولكنه ضمان إتلاف لأنه كان ماله بالقسمة وقد ظهر فساد القسمة ولكن إن تعذر عليه رد عليه نصيبه بعينه بإقراره بخلاف مسألة الدين فإن كل واحد من الابنين هناك أخذ ألفا كما أخذ صاحبه ثم استحق ما في يد كل واحد منهما بإقراره فلهذا لا يتبع واحد منهما صاحبه بشيء وكذلك الإقرار بالوديعة في العبدين بأن أقر بأحدهما بعينه أنه وديعة فلان وأقر الآخر بما في يده أنه وديعة لفلان فهذا والإقرار بالعتق سواء كما بينا والمعنى هنا أظهر لأن من أقر بما في يده خاصة فهو مقر أنه أعطى صاحبه بدلا مستحقا وقد تعذر عليه رد نصيبه مما في يده لإقراره به لغيره فيضمن له قيمته.(18/86)
ولو كانت التركة ألفي درهم فاقتسماها وأخذ كل واحد منهما ألفا ثم أقر أحدهما لرجل بدين خمسمائة على أبيه وقضى القاضي به عليه ثم أقرا جميعا أن على أبيهما ألفا دينا فإنه يقضى عليهما أثلاثا لان المقر له الأول استحق مقدار خمسمائة مما في يد المقر بدينه ويخرج ذلك القدر من أن تكون تركة الميت تبقى ألفا وخمسمائة إلف في يد الجاحد وخمسمائة في يد المقر فالدين الذي ثبت باتفاقهما يجب عليهما قضاؤه بقدر ما في يديهما من التركة بمنزلة ما لو ترك ابنا وامرأة وأقرا بدين الميت فعليهما قضاؤه من نصيبهما أثمانا بقدر نصيبهما فهنا أيضا يلزمهما قضاء الدين بحساب ما في يديهما من التركة فتكون أثلاثا ولو كان الأول أقر بألف ودفعها بقضاء قاض ثم أقرا جميعا بالألف الثانية قضى بالألف كلها مما في يد الجاحد لأن الدين مقضي من التركة وباقي التركة في يد الجاحد والمقر الأول لا يصير ضامنا شيئا لأنه دفع بقضاء القاضي فلا يكون للجاحد أن يتبع أخاه بشيء منه لأن الاستحقاق عليه كان بقضاء القاضي.
وهذه المسألة تبين ما سبق من فصول الدين ولو كانا أقرا أولا لرجل بدين مائة درهم ثم أقر أحدهما للآخر بدين مائة درهم فالمائة الأولى عليهما نصفين لأنهما حين أقرا به كان في يد كل واحد منهما من التركة مثل ما في يد صاحبه فعليهما قضاء تلك المائة نصفين ثم إن أقر أحدهما بدين بعد ذلك لآخر فإنما يصح فيما بقي في يده من التركة فإن أخذ المتفق عليه المائة من أحدهما رجع على أخيه بنصفها لأن هذا الدين ثبت في حقهما فالمؤدي(18/87)
ص -44- ... منهما لا يكون متبرعا بل هو قاضي دين أبيه فيرجع على شريكه بحصته منه ولو بدأ أحدهما فأقر لرجل بمائة درهم ثم أقر بعد ذلك لآخر بمائة درهم فالأول يأخذ من المقر مائة درهم مما في يده لإقراره له به والمائة التي هي حق المتفق عليه في مالهما على تسعة عشر سهما لأن الباقي من التركة في يد المقر تسعمائة وفي يد الجاحد ألف وقضاء الدين عليهما بقدر ما في يديهما من التركة فإذا جعل كل مائة سهما كان علي تسعة عشر سهما فإن أخذ المائة من أحدهما رجع على صاحبه بحصته منها.
وكذلك لو كان الإقرار منهما جميعا فالمائة التي أقر بها أحدهما عليه في نصيبه خاصة والمائة الأخرى عليهما على تسعة عشر سهما وقضية هذه المسائل أن الوارث إذا أقر بدين وقضاه من نصيبه لا يصير ضامنا شيئا مما قضاه لأنه بإقراره قصد تفريغ ذمة مورثه وما أتلف عليه بعد شيئا ثم دفعه بعد ذلك بقضاء القاضي لا يصيره ضامنا وإذا لم يضمن صار ذلك القدر كأنه لم يكن أصلا فما يثبت من الدين بعد ذلك كان عليهما بقدر ما في أيديهما من التركة والله أعلم.
باب الإقرار بترك اليمين
قال رحمه الله: رجل ادعى عبدا في يد رجل ولم يكن له بينة وطلب يمينه فنكل المدعى عليه عن اليمين فإنه يقضى بالعبد للمدعى وقد بينا هذا في كتاب الدعوى. قال: وهذا بمنزلة الإقرار وهو بناء على قولهما فإن النكول عندهما يدل على الإقرار لأن أصل حق المدعى عليه في الجواب وحقه في الجواب هو الإقرار ليتوصل إلى حقه ألا ترى أن القاضي يقول له ماذا تقول ولا يقول ماذا تفعل فإذا منعه ذلك الجواب فإنكاره حق إلى الشرع وحقه اليمين فإذا نكل يعاد إليه أصل حقه وهو والإقرار سواء وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة البدل لأن به يتوصل المدعى إلى حقه مع بقاء المدعى عليه محقا في إنكاره فلا يجوز أن يجعله مبطلا في إنكاره من غير حجة وضرورة .(18/88)
وقد بينا هذا الخلاف في مسألة الاستحلاف في النكاح ونظائره فإن أقر بعد ذلك أن العبد كان لآخر لم يصح إقراره لأنه صادف ملك الغير ولا ضمان عليه في ذلك لأنه ما أتلف شيئا ولكنه تحرز عن اليمين ودفع إلى الأول بأمر القاضي وقضاؤه لا يضمن للثاني شيئا وإن أقر قبل أن يستحلف أن العبد لفلان الغائب لم تندفع عنه الخصومة بهذه المقالة ما لم يقم البينة وهي المسألة المخمسة التي ذكرناها في كتاب الدعوى فإن استحلف المدعى عليه فأبى أن يحلف دفعه إلى المدعي فإن جاء المقر له الأول كان له أن يأخذه من المقضي له لأنه أقر له بالملك قبل نكوله للمدعى دون اتصال تصديقه بذلك الإقرار فكان له أن يأخذه كمن أقر بعين لغائب ثم أقر بها لحاضر وسلمه إياه ثم رجع الغائب فصدقه كان هو أولى بها ثم المدعى على حجته مع المقر له فإن أقام البينة وإلا استحلفه على دعواه.
ولو ادعى غصب العبد على ذي اليد فاستحلف فنكل فقضي له به ثم جاء مدع آخر به(18/89)
ص -45- ... على الغاصب الذي كان العبد في يده وطلب منه فإنه يستحلف له أيضا لأنه بدعوى الغصب عليه يدعي ضمان القيمة في ذمته ولو اقر به لزمه فإذا أنكر استحلف له بخلاف ما إذا ادعي عليه ملكا مطلقا لأن دعوى الملك المطلق دعوى العين فلا تصح إلا على من في يده والعين ليست في يد المقضي عليه فأما دعوى الغصب فدعوى الفعل الموجب للضمان وهو صحيح سواء كان العبد في يده أو لم يكن وكذلك هذا في الوديعة والعارية لأنه يدعي عليه فعلا موجبا للضمان فإن المودع والمستعير بالتسلم يصير ضامنا إلى رد الملك وجميع أصناف الملك في هذا سواء ما خلا العقار فإنه لا يضمن شيئا للثاني في قول أبى حنيفة رحمه الله وفي قول أبى يوسف رحمه الله الآخر ولا يمين له عليه وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله يتوجه عليه اليمين ويصير ضامنا إذا لم يحلف وهذا بناء على مسألة غصب العقار وهي معروفة.(18/90)
رجل مات وترك ابنا وفي يده عبد فادعى رجل أنه استودع العبد أباه فإن الابن يستحلف له على علمه لأنه قام مقام المورث فجحوده الوديعة كجحود المورث ولو أقر به أمر بالتسلم إليه فإذا أنكر يستحلف عليه غير أن هذا استحلاف على فعل الغير فيكون على العلم فإن أبى أن يحلف دفع العبد إليه لأنه بالنكول صار باذلا أو مقرا فإن ادعى آخر مثل ذلك لم يستحلف له الابن لأنه لو أقر للثاني لم يلزمه شيء فكيف يستحلف عند جحوده وإنما لا يصير ضامنا شيئا لان الوديعة لم يباشرها هو حتى يكون ملتزما حفظها بعقده ثم بالنكول لا يكون تاركا للحفظ بل هو رجل امتنع من اليمين وأمره القاضي بتسليم ما في يده عند ذلك فلا يصير ضامنا شيئا بخلاف ما إذا كان يدعي عليه إنه أودعه إياه فان هناك لو أقر به لزمه الضمان بسبب ترك الحفظ الذي التزمه بالعقد حين أقر وعند أبي حنيفة أنه يحلف للأول وهذا يكون على قول محمد رحمه الله أيضا فإنه يصير ضامنا للثاني فأما عند أبى يوسف رحمه الله فلا يصير ضامنا للثاني وإن كان يدعي عليه الإيداع إذا كان الدفع حصل بقضاء القاضي ولا يمين عليه وكذلك ما ادعى على الأب من غصب أو عارية فلا ضمان للثاني على الابن لما بينا وتأويل هذا إذا لم يكن في يد الابن شيء من التركة سوى ما قضي به للأول فإن كان في يده شيء استحلف للثاني وإذا أبى اليمين صار مقرا بالدين على أبيه للثاني في الغصب بلا شبهة وفي الوديعة والعارية بموته مجهلا وصار متملكا غاصبا فيؤمر بقضاء الدين من التركة.(18/91)
قال: والرجل والمرأة والعبد والتاجر والمكاتب والصبي المأذون في ذلك سواء وفي هذا بيان أن الصبي المأذون يستحلف في الدعوى لأن هذه اليمين حق المدعي وفي حقوق العباد الصبي المأذون كالبالغ وهذا الا يستحلف لرجاء النكول الذي هو قائم مقام الإقرار فكل من كان إقراره صحيحا يستحلف إذا جاء نكوله وعند أبي حنيفة النكول بمنزلة البذل والبذل المقيد صحيح من المملوك والصبي فإن أبى أن يحلف ثم قال قبل قضاء القاضي أنا(18/92)
ص -46- ... أحلف يقبل ذلك منه لأن النكول في نفسه محتمل فقد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة فلا يوجب به ما لم يقض شيئا القاضي ويصح الرجوع عنه قبل القضاء كالشهادة فأما بعد القضاء عليه إذا قال أحلف لا يقبل ذلك منه لأن الحق قد لزمه بالقضاء وتعين حقه بالإقرار في نكوله بالقضاء فلا رجوع بعد ذلك منه وإذا استمهل القاضي ثلاثة أيام أو أقل فلا بأس أن يمهله وأن طلب النظرة وهو محتاج إلى التأمل في حسابه ومعاملته مع المدعي فينبغي أن يمهله وإن فعل وأمضى عليه الحكم جاز لأن سبب القضاء وهو امتناعه عن اليمين قد تقرر وقضاء القاضي بعد تقرر السبب الموجب نافذ والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار في العروض بين الرجلين
قال رحمه الله تعالى: رجلان أقر أحدهما ببيت بعينه منها لرجل وأنكر صاحبه لم يجز إقراره في الحال إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال: يجوز إقراره ويكون نصف البيت للمقر له لأن كل جزء من الدار مشترك بينهما فإقراره في نصف البيت لا في ملك نفسه فيكون صحيحا وشريكه وإن كان يتصور عند القسمة بتفرق ملكه ولكن هذا الضرر لا يلحقه بالإقرار إنما يلحقه بالقسمة مع إقرار المقر في ملكه وهو صحيح وإن أدى إلى الإضرار بالغير في الباقي كالراهن يقر بالمرهون لإنسان فيعتقه المقر له والإقرار منه كسائر التصرفات وإعتاق أحد الشريكين العبد صحيح وإن كان يتضرر به شريكه فكذلك هنا .(18/93)
وجه ظاهر الرواية أنا لو صححنا الإقرار في الحال تضرر به الشريك لأنه يحتاج إلى قسمتين قسمة البيت مع المقر له وقسمة بقية الدار مع المقر فيتفرق عليه ملكه وهذا الضرر يلحقه من جهة المقر لان المطالبة بالقسمة بسبب الملك الثابت بالإقرار فما يبتنى عليه من الضرر ويضاف إلى أول السبب وإقرار المقر ليس بحجة في الأمر بالغير ولكن المقر له لأن إقراره في النصف الذي هو مملوك له إنما لم يكن صحيحا لدفع الضرر عن شريكه وقد زال ذلك وفي النصف الآخر لم يكن صحيحا لعدم ملكه وقد زال ذلك ومن أقر بما لا يملك ثم ملكه يؤمر بتسليمه ويصير كالمجدد للإقرار بعد الملك.
وإن وقع البيت في نصيب الشريك فنصيب المقر يقسم بينه وبين المقر له ويضرب المقر له فيه بذرعان جميع البيت والمقر بذرعان نصف الدار سوى البيت وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يضرب له بذرعان نصف البيت والمقر بذرعان نصف الدار سوى نصف البيت حتى إذا كانت الدار مائة ذراع والبيت عشرة أذرع فعند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله المقر له يضرب بعشرة أذرع والمقر بخمسة وأربعين ذراعا فيكون بينهما على أحد عشر سهما سهمان للمقر له وتسعة للمقر وعند محمد رحمه الله يضرب المقر له بخمسة أذرع والمقر بخمسة وأربعين ذراعا فيكون المقر له عشر نصيب المقر.(18/94)
ص -47- ... وجه قول محمد رحمه الله: أن إقراره في نصف البيت صادف نصيب الشريك ولم يملك ذلك حين وقع البيت بالقسمة في نصيب الشريك فلم يصح إقراره إلا بقدر ملكه وذلك نصف البيت ثم القسمة إذا وقع هذا النصف في نصيب الشريك فعوضه وقع في نصيب المقر والمقر به إذا أخلف عوضا يثبت حق المقر له في ذلك العوض فلهذا ضرب بنصيبه بذرعان نصف البيت والمقر بجميع حقه وهو ذرعان نصف الدار سوى البيت بخلاف ما إذا وقع البيت في نصيب المقر لأن إقراره في الكل قد صح باعتبار تعين ملكه في جميع البيت فيأخذه المقر له.(18/95)
ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أن القسمة في العقار فيها معنى المعاوضة ولهذا لا ينفرد به أحد الشريكين ولو اشتريا دارا واقتسماها لم يكن لأحدهما أن يبيع نصيبه مرابحة فالبيت وان وقع في نصيب الآخر فعوضه وقع في نصيب المقر وحكم العوض حكم الأصل فيما أنه لو وقع البيت في نصيبه أمر بتسليم كله إلي المقر له فكذلك إن وقع عوضه في نصيبه يثبت الحق المقر له في جميعه فلهذا ضرب بذرعان جميع البيت وهذا لان الإقرار الحاصل في غير الملك كما يصح بملكه يصح في عوضه الذي هو قائم مقامه ولأن في زعم المقر أن الشريك ظالم بجحوده حق المقر له في البيت فيجعل الشريك مع ما أخذ في حقهما فإن لم يكن لأن ضرر ظلمه لا يكون على أحد الشريكين دون الآخر فيبقى حق المقر له بزعم المقر في ذرعان البيت وحق المقر في ذرعان نصف الدار سوى البيت فيضرب كل واحد منهما بجميع ذلك وكذلك لو أقر أحد الشريكين في الدار بطريق لرجل أو بحائط معلوم أو أقر بذلك في البنيان والأرض فهو على ما ذكرنا في البيت وعلى هذا لو أوصى أحد الشريكين في الدار ببيت منها لإنسان ثم مات فهو على ماذكرنا وإنما نص على قول محمد رحمه الله في مسألة الوصية بعد هذا وجوابه في الوصية والإقرار واحد إلا في حرف واحد وهو ما إذا اقتسما فوقع البيت في نصيب الورثة للموصى له هنا نصف البيت بخلاف مسألة الإقرار فإن المقر له هناك أخذ جميع البيت لأن وصية الموصي في نصف البيت صادفت ملكه وفي نصفه صادفت نصيب شريكه.(18/96)
ومن أوصى بعين لا يملكها ثم ملكها لا تصح وصيته فيها فلهذا أمر الورثة بتسليم نصف البيت إلى الموصى له وفي الإقرار أقر بما لا يملك ثم ملكه يؤمر بتسليمه إلى المقر له فلهذا أخذ المقر له جميع البيت وفيما سوى هذا مسألة الوصية والإقرار سواء فيما اتفقوا عليه وإذا كان حمام بين رجلين فأقر أحدهما أن البيت الأوسط منه لرجل لم يجز ذلك لما فيه من الإضرار بشريكه بأن كان لا يقسم في الحال فإذا انهدم الحمام يحتمل الفرصة فلو صححنا إقرار المقر تضرر به الشريك لأنه يحتاج إلى قسمين وإذا لم يجز الإقرار هنا فللمقر له أن يضمن نصف قيمة البيت لأن تصحيح الإقرار بالقسمة هنا غير ممكن فإن الحمام لا يقسم لأن الجبر على القسمة لتحصيل المنفعة لكل واحد منهما وفي قسمة الحمام تعطيل(18/97)
ص -48- ... المنفعة فإذا لم يكن محتملا للقسمة بقي نصف الحمام في يد كل واحد منهما في زعم المقر أن البيت الأوسط للمقر احتبس نصفه في يده ونصفه في يد شريكه فيكون ضامنا لما احتبس منه في يده لان ملك الغير إذا احتبس منه في يده وتعذر عليه رده لا يكون مجانا بل يكون مضمونا عليه بقيمته ولو أقر له بنصف الحمام أو بثلثه كان إقراره جائزا لأنه لا ضرر على شريكه في إقرار المقر بجزء شائع للمقر له لا في الحال ولا في المآل.
ولو كان عدل زطى بين رجلين فأقر أحدهما بثوب منه بعينه لرجل كان نصيبه من ذلك للمقر له لأن كل ثوب مشترك بينهما فإقراره في نصيب الثوب الذي عينه صادف ملكه ولا ضرر فيه على شريكه فصح بخلاف الدار الواحدة لأن المرافق هناك متصلة بعضها ببعض ففي تصحيح الإقرار إضرار بالشريك وهنا بعض الثياب غير متصلة بالبعض وليس في تصحيح الإقرار إضرار بالشريك إذ لا فرق في حقه بين أن يكون شريكه في هذا الثوب المقر أو المقر له والرقيق والحيوان قياس على الثياب في ذلك .(18/98)
ولو كانت دار بين رجلين فأقر أحدهما ببيت بعينه لرجل وأنكر شريكه وأقر بيت لآخر وأنكر صاحبه ذلك فالدار تقسم بينهما نصفين وإن وقع البيت الذي أقر به في نصيبه يسلمه إلى المقر له وإن لم يقع في نصيبه قسم ما أصابه بينه وبين المقر له على البيت وعلى نصف ما بقي من الدار بعد البيت لما ذكرنا في الفصل الأول من قسمة نصيبه بينه وبين المقر له على الاختلاف الذي ذكرنا في إقرار أحدهما به ولو أن طريقا لقوم عليها باب منصوب أقر واحد منهم بطريق فيه لرجل لم يجر إقراره على شركائه ولم يكن للمقر له أن يمر فيه حتى يقتسموها لأن مروره في نصيب المقر لا يتحقق قبل القسمة فإن وقع موضع الطريق بالقسمة في نصيب المقر جاز ذلك عليه لأن الضرر قد اندفع عن شركائه وإن وقع في نصيب غيره كان للمقر له أن يقاسم المقر به نصيبه بحصة ذلك الطريق على ما بينا في البيت وقد تقدم بيان مسألة الطريق في كتاب الدعوى وأعادها هنا للفرق بينها وبين النهر إذا كان بين قوم وأقر أحدهم بشرب فيه لرجل لم يجر على شركائه لما قلنا فإن كانوا ثلاثة فأقر أحدهم أن عشر النهر لهذا الرجل دخل عليه في حصته فكانت بينه وبين المقر له على مقدار نصيبه وعلى عشرة ولو قال: له عشر الطريق لم يكن للمقر له أن يمر فيه لأن الطريق لا تقسم بينهم وعند المرور في النهر يتحاصون فيه بقدر شربهم فيكون ذلك قسمة بينهم في الماء قال الله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر:28] وقال الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] 155 فيمكن إدخال المقر مع المقر له في نصيبه من غير أن يكون فيه ضرر على شركائه.(18/99)
وكذلك لو كانت عين أو ركى بين ثلاثة نفر أحدهم أقر أن عشرها لرجل دخل المقر في حصته فإن قال: المقر له العشر ولي الثلث فحصته تكون مقسومة على ذلك يضرب المقر له فيه بسهم والمقر بثلاثة وثلث فإذا أردت تصحيح السهام فالقسمة بينهما على ثلاثة عشر(18/100)
ص -49- ... سهما للمقر له ثلاثة وللمقر عشرة وإن قال: له العشر ولم يزد على هذا فقسمة نصيبه بينهما على أربعة للمقر له سهم وللمقر ثلاثة.
ولو أن سيفا بين رجلين حليته فضة أقر أحدهما أن حليته لرجل لم يجز ذلك على شريكه وضمن المقر للمقر له نصف قيمة الحلية مصوغة من الذهب أو ما كانت لأن تصحيح الإقرار بالقسمة غير ممكن وفي زعم المقر أن الحلية للمقر له احتبس نصفها في يد كل واحد منهما فيكون هو ضامنا لما احتبس عنده من ملك المقر له وإنما ضمن قيمته من الذهب للتحرز عن الربا وكذلك أحد الشريكين في الدار إذا أقر بجذع في سقف منها لرجل ضمن نصف قيمة الجذع للمقر له لاحتباس هذا النصف في يده من ملك المقر له بزعمه .
وكذلك لو أقر بالآجر في حائط منها أو بعود من قبة أو بلوح من باب بينه وبين آخر لأن تصحيح الإقرار في هذه المواضع بالقسمة غير ممكن فإن المقر به وإن وقع في نصيب المقر لا يلزمه تسليمه لما في نزعه من الضرر ولو كانت دار لرجلين باع أحدهما نصف بيت منها بعينه لم يجز بيعه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله يقول إن بيعه صادف ملكه وتسليمه بالتخلية ممكن فكان بيعه صحيحا .
وجه ظاهر الرواية إنه لو جاز بيعه لنصف البيت لتضرر به شريكه لأنه يحتاج إلى قسمتين قسمة مع المشترى في البيت وقسمة مع الشريك في بقية الدار فيتضرر بتفرق ملكه والبيع إذا وقع على وجه يتضرر به البائع لم يجز فإذا وقع على وجه يتضرر به شريكه أولى.(18/101)
رجل قال لآخر: لك علي أو على مكاتبي فلان ألف درهم لم يلزمه شيء في الحال لأن المكاتب في حقه كالحر لا يملك الإقرار عليه بالدين فكأنه قال: لك علي أو على فلان الحر ألف درهم وفي هذا لا يلزمه شيء لأن حرف أو في موضع الإثبات عمله في إثبات أحد المذكورين فلا يكون ملتزما للمال بهذا الإقرار حين جعله مترددا بينه وبين غيره فإن عتق المكاتب فقد ازداد بعدا من مولاه فيكون الإقرار باطلا وإن عجز ورد في الرق ولا دين عليه فالإقرار جائز كما لو جدده في الحال لأن الحق في رقبته خلص له ولو استأنف الإقرار فقال لك علي أو على عبدي هذا ألف درهم ولا دين على العبد يصح إقراره وتخير بين أن يلزمه لنفسه أو عبده لأن كلامه الآن صار التزاما بيقين فإن الدين لا يجب على العبد بل يكون شاغلا مالية رقبته وذلك خالص حق المولى بمنزلة ذمة نفسه ولأنه لو أقر على عبده صح الإقرار ولو أقر علي نفسه صح أيضا فإذا جعل إقراره مترددا بينهما كان صحيحا وبه فارق حال قيام الكتابة فإنه لو أقر على مكاتبه خاصة لم يكن الإقرار صحيحا إلا أن يعجز ولا دين عليه فحينئذ يصح الإقرار فكذلك إذا جعله مترددا بينه وبين نفسه ولو أقر على عبده التاجر بدين والعبد يجحده وعليه دين يحيط بقيمته فإقراره باطل لأن ماليته وكسبه حق غرمائه فلا يملك المولى إبطال حقهم ولا إثبات مزاحم لهم بقوله كالمرهون لما(18/102)
ص -50- ... صار حقا للمرتهن لا يملك الراهن إبطال حقه وإثبات مزاحم له بإقراره وصحة إقرار المولى على عبده باعتبار ماليته دون ذمته فإنه في حق الذمة مبقي على أصل الحرية فإن بيع العبد لغرمائه في دينهم لم يلزمه الدين الذي أقر به المولى وكذلك إن عتق لأنه ازداد بعدا عن مولاه لهذه الأسباب.
ولو أقر أن لفلان ألف درهم عليه أو على فلان ألف درهم ثم مات فلان والمقر وارثه وترك مالا فالإقرار يلزمه إرثا كان عليه وإرثا كان في مال الميت لأنه لو جدد الإقرار في هذه الحال كان ملتزما إياه وهذا لأن موجب الإقرار بالدين يوجه المطالبة بقضائه من ماله وقد صار هو المطالب بقضاء هذا الدين من ماله عينا لأنه إن كان مراده الإقرار على نفسه فعليه قضاؤه وإن كان مراده الإقرار على مورثه فعليه قضاؤه من تركته وتركة المورث حق الوارث فلهذا حكم بصحة إقراره وجعل البينة على المقر في ذلك.(18/103)
وإذا أقر أن لفلان علي ألف درهم ثم مات فلان والمقر وارثه فالدين في تركة الميت بمنزلة مالو وجد الإقرار بعد موته لان الإقرار في حق المقر خبر ملزم غير محتمل للفسخ وأن جهة الصدق منفية فيه في حق المقر وفسخه في تعين جهة الكذب فيه وبعد ما تعينت جهة الصدق فيه لا يتصور تعيين جهة الكذب فيه فلهذا جعلناه كمجدد الإقرار في هذه الفصول بعد ما خلص الحق له فإن كان على الميت دين في صحته أو في مرضه فدينه واجب في تركته من هذا لأن صحة إقرار الوارث باعتبار التركة وذلك حين يخلص حقا له وما دام على الميت دين أقر به في صحته أو في مرضه فلا حق للوارث في تركته فتجعل هذه الحال كحال حياة المورث لو قال: له علي ألف درهم لا بل على فلان لزم المقر المال لأنه التزمها بإقراره ثم أراد الرجوع عنه وإلزام غيره بقوله لا بل على فلان لأن كلمة لا بل للاستدراك بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقام الأول وليس له ولاية الرجوع ولا ولاية إلزام المقر به غيره فيلغى آخر كلامه ويبقي المال عليه باعتبار أول كلامه لأنه يخالف ما سبق فإن حرف أو للتشكيك فلا يكون مع ذكره ملتزما للمال بإقراره دار بين رجلين أقر أحدهما أنها بينهما وبين فلان وأقر الآخر أنها بينه وبين هذا المقر له وبين آخر أرباعا فإنا نسمي الذي أقر له متفقا عليه والذي أقر له أحدهما محجورا والذي أقر لهما مقرا وشريكه مكذبا.(18/104)
فنقول على قول أبي يوسف رحمه الله: يأتي المتفق عليه إلى المقر فيأخذ منه ربع ما في يده ويضمه إلى ما في يد المكذب فيقسمانه بينهما نصفين وما بقي في يد المقر يكون بينه وبين المجحود نصفين فيحتاج إلى حساب ينقسم نصفين ثم ربع نصفه ينقسم نصفين وأقل ذلك ستة عشر فيجعل سهام الدار ستة عشر في يد كل واحد منهما ثمانية ثم يأخذ المتفق عليه من المقر ربع ما في يده سهمين فيضمه إلى ما في يد المكذب وهو ثمانية فيصير عشرة أسهم نصفين لكل واحد منهما خمسة وما بقي في يد المقر وهو ستة بينه وبين المجحود نصفين(18/105)
ص -51- ... قال: وهذا قول أبى يوسف رحمه الله الذي قاسه على قول أبي حنيفة رحمه الله فأما على قول محمد رحمه الله على قياس قول أبي حنيفة المتفق عليه يأخذ من المقر خمس ما في يده والباقي كما قال أبو يوسف رحمه الله.
وأصل المسألة ما قال في كتاب الفرائض رجل مات وترك ابنين فأقر أحدهما بابنين آخرين للميت وصدقه أخوه في أحدهما وكذبه في الآخر فعلى قول أبي يوسف رحمه الله الذي قاسه على قول أبي حنيفة رحمه الله يأخذ المتفق عليه من المقر ربع ما في يده وعلى قول محمد رحمه الله خمس ما في يده ووجه قول أبي يوسف رحمه الله ظاهر لأن المتفق عليه بقول للمقر قد أقررت بأن الدار بيننا أرباعا فلي ربع كل نصف من الدار وفي يدك النصف فأعطني ربع ما في يدك لإقرارك لي به فإنه لا يجد بدا من قوله نعم فإذا أخذ منه ربع ما في يده ضمه إلى ما في يد المكذب لأنه يقول له قد أقررت بأن حقنا في الدار على السواء وإقراره ملزم في حقه.
وجه قول محمد رحمه الله: أن المقر يقول للمتفق عليه أنا قد أقررت بأن حقي في سهم وحق المجحود في سهم وحقك في سهم ولكن السهم الذي هو حقك نصفه في يدي ونصفه في يد شريكي وهو مقر لك بذلك وزيادة فلا يضرب بما في يدي إلا بما أقررت لك به وذلك نصف سهم فأنت تضرب بما في يدي بنصف سهم وأنا بسهم والمجحود بسهم فلهذا أخذ منه خمس ما في يده وضمه إلى ما في يد المكذب فاقتسما نصفين لاتفاقهما على أن حقهما في الدار.(18/106)
سواء وإذا تنازع الرجلان في حائط ووجه البناء إلى أحدهما فهو بينهما نصفين على قول أبي حنيفة رحمه الله وتحكيم وجه البناء لبس وعندهما الحائط لمن إليه وجه البناء وإنصاف اللبن وقد بينا هذا في كتاب الدعوى في الحائط والحصن جميعا فإعادته هنا لفروع ذكرناها على سبيل الاحتجاج لأبي حنيفة رحمه الله وقال: قد يجعل الرجل وجه الحائط إلى الطريق فلا يكون ذلك دليلا على أن الحائط غير مملوك له وقد يكون أحد جانبي الحائط مجصصا فلا يكون دليلا على القضاء بالحائط لمن يكون جانبه مجصصا وكذلك قد يكون في أحد الوجهين من الحائط روازن أو طاقات فلا يكون ذلك دليلا على ترجيح أحدهما فكذلك وجه البناء.
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقولان في الحصن والروازن كذلك فأما إذا كان الحائط مبنيا بطاقات فالحائط للذي إليه الطاقات عندهما لأن الطاقات بمنزلة وجه البناء والظاهر أن الذي يبني الحائط يجعل الطاقات إلى جانب نفسه لأن الجانب الذي يكون فيه الطاقات يبنى مستويا وإنما يعتبر الحائط من جانب نفسه لا من جانب جاره ولهذا جعل وجه البناء حكما فكذلك الطاقات وقال: وإن كانت الروازن في البناء من الآجر فهي مثل الطاقات فهذا اللفظ دليل على أنهما إنما لم يعتبرا الروازن الموجودة في الحائط فقد يحفر ذلك(18/107)
ص -52- ... صاحب الحائط وقد يحفر جاره ليدخل فيه الضوء فأما ما كان يعلم أنه مبنى مع الحائط من الروازن فإنه يجعل حكما عندهما بمنزلة الطاقات ويقضي بالحائط لمن إليه استواء تلك الروازن لان الباني للحائط يراعى الاستواء من جانب نفسه لا من جانب جاره.
وإن كان الباب في حائط فادعاه كل واحد منهما وغلق الباب إلى أحدهما فالباب والحائط بينهما نصفين في قول أبى حنيفة رحمه الله وفي قولهما الحائط بينهما نصفين والباب الذي إليه الغلق اعتبرا فيه العادة فإن الذي يركب الباب على الحائط يجعل الغلق في جانبه وأبو حنيفة اعتبر القياس أن الغلق متنازع فيه كالباب والعادة مشتركة قد يجعل الغلق إلى جانبه وقد يجعل إلى جانب جاره فكان بينهما نصفين فإن كان له غلقان من كل جانب واحد فهو بينهما نصفين عندهم جميعا لاستوائهما في الدعوى والشاهد بالعلامة ولما تعارض الغلقان جعل كأنه لا غلق على الباب فيقضى به بينهما نصفين كالحائط والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بشيء بغير عينه(18/108)
قال رحمه الله: وإذا أقر الرجل لرجل بشاة من غنمه صح إقراره لأن المقر له معلوم ولا تأثير لجهالة المقر به بالمنع من صحة الإقرار لأنها جهالة مستدركة بإجبار المقر على البيان فإذا ادعى المقر له شاة بعينها فإن ساعده المقر على ذلك أخذها وإن أبى ذلك لم يأخذها إلا بإقامة البينة لأن المقر بها منكر والمدعي معين والمنكر غير المعين فلا يأخذها إلا بإقامة البينة عليه أو سكوت المدعى عليه بعد استحلافه ولكنه بدعوى هذه الشاة صار كالراد لإقراره فيما سواه فإذا حلف المدعى عليه في هذه الشاة لم يبق للمدعي خصومة بسبب ذلك الإقرار فإن ادعى المقر له شاة بغير عينها أعطاه المقر أي شاة شاء من غنمه بذلك لأنه أبهم الإقرار فكان الخيار إليه وبيانه مطابق للفظه فكان مقبولا منه وإن حلف المقر علي كلهن لم يقبل ذلك ويجبر على أن يعطيه شاة منها لأن الاستحقاق بالإقرار ثم بتصديق المقر له فيما أقر به فلا يبطل ذلك باليمين الكاذبة بخلاف الأول فإن المقر له هناك صار رادا لإقراره فيما سوى التي عينها وإقراره غير موجب استحقاق تلك الشاة بعينها وإن لم يعين واحد منهما شيئا منها وقال: لا أدري أو رجع المقر عن إقراره وجحد فهو شريكه فيها فقد جمع في السؤال بين الفصلين وأجاب عن أحدهما وهو ما إذا قال: لا أدري فهناك تكون الشركة بينهما ثابتة لاختلاط ملك أحدهما بالآخر على وجه يتعذر تمييزه حتى إذا كانت الغنم عشرا فله عشر كل شاة .
وإن ماتت شاة منها ذهبت من مالهما وإن ولدت شاة منها كان لهما جميعا على ذلك الحساب هذا هو الحكم في المال المشترك أن الزيادة لهما والهلاك عليهما فأما إذا جحد المقر أصلا ومنع الغنم فهو ضامن لنصيب المقر له حتى إذا هلكت شاة منها ضمن مقدار نصيب شريكه منها وهو العشر وإن مات المقر فورثته في ذلك بمنزلته لأنهم خلفاؤه في(18/109)
ص -53- ... ملكه وإنما كان الشأن للمقر لاختلاط ملكه بملك غيره وورثته في ذلك بمنزلته إلا أنهم يستحلفون على العلم لأن يمينهم على فعل الغير وأنواع الحيوان والرقيق والعروض في هذا مثل الغنم.
ولو قال: له في دراهمي عشرة دراهم وهي مائة فللمقر له منها عشرة دراهم وزن سبعة لما بينا أن الدراهم عبارة عن الوزن والمعيار فيه وزن سبعة فينصرف مطلق الإقرار إليه والإقرار به في ما له وفي ذمته سواء وإن كان في الدراهم صغار نقص وكبار ومال المقر هي عشرة نقص لم يصدق لأن هذا بيان فيه تغيير موجب كلامه فلا يقبل منه مفصولا وإن كان فيها زيوف فقال: هي منها صدق لأنه ليس في هذا بيان تغيير موجب كلامه بل فيه تقريره وهذا بمنزلة الإقرار بالغصب أو الوديعة لما عين له محلا سوى ذمته وقد بينا في الغصب والوديعة أنه إذا قال: هي زيوف صدق وإن كان مفصولا ولو قال: له في طعامي هذا كر حنطة ولم يبلغ الطعام كرا فهو كله له لأنه أقر بحقه في محل عين ولكنه غلط في العبارة عند مقداره والزيادة على ذلك القدر لو لزمته إنما تلزمه في ذمته وهو ما أقر له بشيء في ذمته ولكنه يحلف أنه ما استهلك من هذا الطعام شيئا وهذا إذا ادعاه المدعي لأنه يدعي عليه السبب الموجب للضمان في الزيادة على الموجود إلى تمام الكر وهو لذلك منكر فيتوجه عليه اليمين.(18/110)
ولو قال: له هذه الشاة أو هذه الناقة ثم جحد ذلك وحلف ماله منهما شيء وادعاهما الطالب فإنه يقضى له بالشاة لأنه حين ادعاهما صار مصدقا له فيما أقر به وهو أحدهما بغير عينه مدعيا في الزيادة على ذلك فتم استحقاقه في المقر به ولا يبطل ذلك باليمين الكاذبة فالأوكس متيقن به وهو الشاة فلهذا لزمه ذلك ولا يكون المقر له شريكا في الناقة لأنه بجحوده نفى حقه عنهما ولو نفى حقه عن الناقة وحدها بأن عين الشاة كان مقبولا منه فكذلك هنا يقبل منه نفي حق المقر له عن الناقة فلا يكون شريكا فيها ولو شهد الشهود على إقراره بذلك وقالوا سمى لنا إحداهما فنسيناها لم تجز شهادتهما لإقرارهما على أنفسهما بالغفلة ولأنهما ضيعا ما تحملا من الشهادة فإنهما تحملاها على الإقرار بالعين وقد ضيعا ذلك بالنسيان.
وإذا أقر لرجل بحق دار في يده فإنه يجبر على أن يسمي ذلك ما شاء لأنه أبهم الإقرار بجزء له من الدار فعليه بيان ما أبهم فإن أقر بالعشر وادعى المقر له أكثر من ذلك حلفه على الزيادة لأنه خرج عن عهدة إقراره بما بين فالقول قوله في إنكار الزيادة مع يمينه وإن أبى أن يسمي سمى له الحاكم ثم وقفه على شيء من ذلك حتى إذا انتهى إلى أقل ما يقر به له عادة استحلفه ماله فيه إلا ذلك لأن قدر الأقل متيقن به وذلك معلوم بالعادة وعليه ينبني مطلق الإقرار فيستحلفه على الزيادة إذا ادعاها الطالب ثم يقضى له بذلك القدر والأعيان المملوكة كلها على هذا(18/111)
ص -54- ... ولو أقر أن لفلان حقا في هذه الغنم قال: هو عشر هذه الشاة فالقول قوله مع يمينه لأن بيانه مطابق لإقراره فقد يضاف المقر به إلى محله الخاص تارة وإلى العام من جنسه تارة فيقبل بيانه وعليه اليمين إن ادعى المقر له الزيادة .
ولو أقر أن لفلان حقا في هذه الدار ثم قال: هو هذا الجذع أو هذا الباب المركب أو هذا البناء بغير أرض لم يصدق في ذلك لأن بيانه مغير لموجب كلامه فإن موجب إقراره ثبوت حق المقر له في رقبة الدار وهذا البيان ينفي حقه عن رقبتها فلا يصدق في ذلك إلا موصولا وحقيقة المعنى في الفرق بين هذا وبين الغنم أن في الدار بيعا للأصل ولهذا يدخل في البيع من غير ذكر ويستحق بالشفعة وقوام البناء بأصل الدار وقد أضاف إقراره إلى أصل الدار فلا يقبل بيانه في الصفة والبيع بعد فأما في الغنم بعض ليس بيعا للبعض فبيانه في أصل الغنم كإقراره فلهذا قبل منه قال: أرأيت لو عنيت به الثوب أو الطعام الذي في الدار أكنت أصدقه وهذا إشارة إلى ما قلنا أن الموضوع في الدار ليس من رقبة الدار في شيء وإقراره يتناول رقبتها.
ولو أقر أن له في هذا البستان حقا ثم قال: هو ثمرة هذه النخلة لم يصدق لأن إقراره تناول أصل البستان والثمرة ليست من أصله في شيء وإن أقر بالنخلة بأصلها فالقول قوله لأنه أقر له بجزء من الأرض فكان بيانه مطابقا لإقراره وإن قال: هي له بغير أرض لم يصدق لأن بيانه غير مطابق لإقراره فإن حرف في حقيقة للظرف واسم البستان لأصل البقعة والأشجار فيه وصف وتبع لأن قوامها بالبقعة وإنما يتناول أصل إقراره شيئا من البقعة أو جعل البقعة لما أقر به من الحق فإذا فسره بالنخلة من غير أرض لم يكن التفسير مطابقا للفظه.(18/112)
فإن قيل الظرف غير المظروف فإنما جعل البستان محل حقه فإذا فسره بالنخلة فالبستان محل حقه قلنا لا كذلك فأنه إذا فسره بالنخلة فمحل حقه موضعها من الأرض وذلك الموضع لا يتناوله اسم البستان فإنما يتحقق كون البستان ظرفا لحقه إذا كان المقر به جزءا منها ولو قال: له في هذه الأرض حق ثم قال: حقه فيها إني أجرتها إياه سنة ليزرعها لم يصدق لأنه أقر له بالحق في رقبتها ثم فسره بالمنفعة فلم يكن تفسيره مطابقا للفظه وكذلك لو أقر أن له في الدار حقا ثم قال: سكني شهر فتفسيره غير مطابق للفظه وكذلك لو أقر أن له في هذه الدار ميراثا أو شراء ثابتا أو بابا أو ملكا ثابتا ثم قال: هو هذا الباب المغلق لم يصدق لأنه جعل رقبة الدار ظرفا لما أقر له به فلا بد من أن يفسره بجزء من رقبتها .
ولو قال: له في دار والدي هذه وصية من والدي ثم قال: له سكني هذا البيت سنة لم يصدق حتى يقر له بشركة في أصل الدار لأنه جعل الدار ظرفا للموصى به والمنافع أعراض تحدث شيئا فشيئا فلا يكون تفسيره مطابقا لإقراره ما لم يقر بشيء من أصل الدار ولو وصل المنطق في جميع ذلك كان مقبولا لأن ظاهر إقراره منصرف إلى شيء من أصل(18/113)
ص -55- ... الدار على احتمال أن يكون المقر به منفعتها لأن المنافع محل الأعيان فإذا بينه موصولا قبل بيانه وإن كان مغيرا لموجب مطلق كلامه.
وكذلك لو قال: له فيها ميراث بسكنى شهر وفي هذا نوع إشكال فإن المنافع لا تورث عندنا فينبغي أن لا يقبل بيانه هذا موصولا وكذا يكون بيانه من محتملات كلامه فإن توريث المنفعة مجتهد فيه ولو قضى به القاضي نفذ قضاؤه فلعله أقر له بذلك بعد ما قضى له به قاض فكان هذا بيانا من هذا الوجه وقيل هو على الخلاف وينبغي أن يكون هذا الجواب عندهما بناء على ما تقدم وإذا قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر لم يصدق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن وصل لأن ثمن الخمر لا يجب للمسلم شرعا وعندهما يصدق وكان ذلك بيانا منه على ظنه وكذلك هذا ولو كان في يده عشرة من الغنم فقال: لفلان فيها شرك شاة ثم ماتت الغنم كلها فقال: المقر له أنت خلطت شاتي بغنمك لم يصدق على ذلك ولم يضمن المقر شيئا إذا حلف لأن إقراره بالشركة في العين لا يتضمن الإقرار بوجود السبب الموجب للضمان عليه فإن نصيب كل واحد من الشريكين في يد صاحبه أمانة والاختلاط يحصل من غير خلط فدعواه الخلط دعوى السبب الموجب للضمان عليه ابتداء فلا يصدق في ذلك إلا بحجة .(18/114)
ولو قال: في زيتي هذا لفلان رطل من زئبق وقال: كل واحد منهما أنت خلطته لم يصدق واحد منهما في دعواه إلا بحجة لأنه يدعي السبب الموجب للضمان علي شريكه ابتداء ولكنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وإذا حلفا فهما شريكان في الزيت يباع فيضرب صاحب الزئبق فيه بقيمة رطل من زيت لا بقيمة رطل من زئبق ويضرب الآخر بقيمة ما بقي من الزيت قال: لأنه قد صار زيتا كله ومعنى هذا أن الزيت هو الغالب والزئبق يصير كالمستهلك فيه وقيمة الزئبق تنتقص بالاختلاط وهذا النقصان حصل من غير فعل أحد فيكون على صاحب الزئبق وإنما يضرب كل واحد منهما في الثمن بقيمة ملكه كما يتناوله العقد وعقد الكل زيت فلهذا ضرب بقيمة رطل من زيت.
ولو كان لرجل خمسون رطلا من زئبق فأقر أن فيه لرجل رطلا من بنفسج بعته وقسمت الثمن بينهما يضرب فيه صاحب البنفسج بقيمة رطل منه وصاحب الزئبق بقيمة زئبقة لأن البنفسج بالاختلاط بالزئبق تزداد قيمته وهذه الزيادة حصلت من ملك صاحب الزئبق فلا يضرب بها مع صاحب الزئبق وإنما يكون ضربه بقيمة ملكه وهو رطل بنفسج وإن شاء صاحب الزئبق أعطي صاحبه رطلا من البنفسج والزئبق كله له والخيار إليه دون صاحب البنفسج لأن البنفسج صار مستهلكا بالزئبق فإن الزئبق هو الغالب وعند الاختلاط الأقل يصير مستهلكا بالأكثر والحكم للغالب فيكون الخيار لمن كان حقه قائما من كل وجه في أن يتملك على صاحبه نصيبه بضمان المثل.
ألا ترى أن ثوب إنسان لو وقع في صبغ غيره فانصبغ به كان لصاحب الثوب أن يعطي(18/115)
ص -56- ... لصاحب الصبغ قيمة الصبغ لأن الثوب قائم من كل وجه والصبغ فيه مستهلك من وجه فكان الخيار لصاحب الثوب فهذا مثله رجل في يده ثوب مصبوغ بعصفر فقال: لرجل في ثوبي هذا لك قفيز من عصفر في صبغه فصاحب الثوب بالخيار إن شاء رد عليه مازاد قفيزا من عصفر في ثوبه لأن ملك المقر له صار وصفا لملكه فكان له أن يتملكه بضمان بدله وأن أبى بيع الثوب ويضرب به صاحب العصفر بقيمة ملكه وهو مازاد قفيز من عصفر في ثوبه وصاحب الثوب بقيمة ثوبه فان كان صبغه أكثر من قفيز ضرب صاحب الثوب بالفضل مع قيمة الثوب الأبيض لأن المقر له ما استحق إلا مقدار قفيز من العصفر الذي في الثوب لأن استحقاقه بإقراره وإنما أقر له بهذا المقدار وإن اختلفا فقال: المقر له ليس في هذا الثوب زيادة على قفيز من عصفر وقال: صاحب الثوب بل فيه زيادة على ذلك سأل القاضي أهل العلم بذلك من الصباغين لأنه يحتاج إلى معرفة المحق منهما فيرجع فيه إلى من له نظر في ذلك الباب كما إذا احتاج إلى معرفة قيمة العين سأل عنه من له نظر فيه فإن اتفقوا على شيء يعرف في ذلك أخذ بقولهم وإلا القول فيه قول صاحب الثوب لأنه صاحب الأصل والمقر له إنما يستحق من جهته فيكون القول في بيان مقدار ما يستحق المقر له قول صاحب الثوب .(18/116)
ولو أن رجلا في يديه عبد فقال: لفلان في هذا العبد شرك أو قال: شركة فله النصف في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقال: محمد رحمه الله تعالى القول قول المقر في بيان مقدار ما أقر به واتفقا أنه لو قال: فلان شريكي في هذا العبد أو مشترك بيني وبين فلان أو هو لي ولو كان بينهما نصفين لأن لفظه الشركة تقتضي المساواة قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] ثم يستوي فيه ذكورهم وإناثهم وكذلك لفظ بين يقتضي المناصفة بين المذكورين ومطلق الإضافة إليهما تقتضي التسوية بينهما فأما في قوله شرك أو شركة في العبد فكذلك يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى لأن لفظ الشركة يقتضي التسوية وقال محمد رحمه الله تعالى إذا ذكر الشرك منكرا فهو عبارة عن النصيب قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}[فاطر:40] وقال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ }[سبأ:22] أي من نصيب فهذا وقوله لفلان في عبدي نصيب سواء.
وهناك البيان فيه إلى المقر له وإلى نفسه فيقتضي المساواة وهنا جعله صفة للمقر به فلا يتحقق فيه اعتبار معنى المساواة فلهذا كان هو وذكر النصيب سواء وإن فصل الكلام فقال: هو شريكي فيه بالعشر أو هو معي شريك بالعشر فالقول قوله لأن الإقرار بالشركة يقتضي المساواة ولكن على احتمال التفاوت فكان بيانه مغايرا لما اقتضاه مطلق كلامه فيصح موصولا لا مفصولا وكذلك لو قال: هذا العبد لي ولفلان لي الثلثان ولفلان الثلث وإذا أقر أن لفلان وفلان معه شركا في هذا فهو بينهم أثلاثا في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو قال: فلان وفلان فيه شركائي وعند محمد رحمه الله تعالى البيان فيه إلى المقر كما في الفصل الأول(18/117)
ص -57- ... وإذا قال: قد أشركت فلانا في نصف هذا العبد ففي القياس له ربعه لأنه لو قال: أشركت فلانا في هذا العبد كان له نصفه فإذا قال: في نصف العبد كان له نصف ذلك النصف وهو الربع لأن الإشراك يقتضي التسوية بين الموجب والقابل فيما أضيف الإيجاب إليه وقد أضيف هنا إلى نصف العبد ولكنه استحسن فقال: له النصف لأن معنى قوله أشركت فلانا في نصف العبد أي بنصف العبد فقد يستعار حرف في لمعني الباء مجازا لأن الباء للإلصاق وفي للظرفية وبين الظرف والمظروف نوع إلصاق فأمكن أن يستعار حرف في لمعنى الباء وإنما حملناه على هذا النوع من المجاز لعدم إمكان اعتبار الحقيقة فأنه وإن جعل له ربع العبد كان شريكا في جميع العبد لا في نصفه فأن صاحب القليل مشارك لصاحب الكثير في جميع العين.
وإذا قال له: علي حق ثم قال: عنيت حق الإسلام لم يصدق ولا بد من أن يقر له بشيء لأن كلمة على للالتزام في الذمة ومطلق هذا اللفظ إنما يفهم منه في العادة الدين فتفسيره بحق الإسلام معتبر لمطلق لفظه فلا يقبل منه مقصوده ثم خص نفسه بالتزام الحق الذي أقر به وحق الدين على كل واحد منهما لصاحبه ففي تخصيصه نفسه دليل على أنه مراده من ذلك(18/118)
وإن قال: لفلان على عبدي هذا حق ثم قال: عنيت به الدين فالقول قوله لأن كلمة على للالتزام في الذمة فإنه مشتق من العلو ومعناه علاه ما أقر نفيا للوجوب في ذمته حتى صار مطلقا فإنه وإن ادعى المقر له الشركة في الرقبة لم يصدق إلا بحجة لأنه ليس في لفظ المقر ما يوجب ذلك ولو قال: له في رقبة عبدي هذا العتق أو قال: في عبدي فهذا تنصيص على الإقرار بما يوجب الشركة في الرقبة والقول في مقدارها قول المقر وإن قال: لفلان حق في عبدي هذا أو في أمتي هذه فادعى الطالب حقه في الأمة فإن المقر يحلف عليه لأن المدعي غير ما أقربه فإنه أقر بحقه في غير معين وهو إنما ادعاه في معين فيصير ذلك الإقرار فيما سوى المحل الذي عينه ومدعيا في ذلك المحل فالقول قول المنكر مع يمينه وإذا حلف لم يكن له في واحد منهما شيء لأنه خرج عن موجب إقراره بما تضمن دعواه من رد إقراره الحق في العبد وإن ادعى فيهما يجبر المقر على أن يقر في أيهما شاء بطائفة منه لأنه صدقه فيما أقر به وادعى زيادة عليه والاستحقاق بحكم إقراره يتم بتصديقه فالقول في مقداره قول المقر وإن حلف عليهما جميعا فباليمين الكاذبة لا يبطل استحقاقه في مقدار ما تناوله إقراره فيجبر على بيان ذلك ويحلف على دعوى الطالب إن ادعي زيادة على ذلك .
وإن أقر بحائط لرجل وقال: عنيت البناء دون الأرض لم يصدق ويقضي عليه بالحائط بأرضه لأن الحائط اسم للمبنى ولا يتصور ذلك إلا بالأرض فأما غير المبنى يكون آجرا وخشبا ولبنا وتدا وهو لا يكون حائطا فكان في إقراره ما يدل على استحقاق الأرض والثابت بدلالة النص كالمنصوص عليه فكان بيانه هذا مغايرا لمقتضى مطلق كلامه وكذلك(18/119)
ص -58- ... لو أقر باسطوانة في داره وإنما أراد به المبنى من الاسطوانة بالآجر وأنه لا يكون اسطوانة ما لم يكن مبنيا كالحائط فأما إذا كانت الاسطوانة من خشب فللمقر له الخشبة دون الأرض لأنه يسمى اسطوانة قبل البناء عليه كما يعده فليس في لفظ المقر ما يدل على استحقاق موضعه من الأرض فإن كان يستطاع رفعها بغير ضرر أخذها المقر له وإن كان لا يؤخذ إلا بضرر ضمن المقر قيمتها للطالب بمنزلة من غصب من آخر ساجة وبنى عليها فإن حق صاحب الساجة ينقطع عن الساجة ويقرر فيه ضمان القيمة دفعا للضرر عن صاحب البناء عندنا وهي مسألة معروفة.
ولو أقر له بنخلة أو شجرة في بستانه فهي له بأصلها من الأرض لأن المقر به النخل والشجر وإنما يسمى بهذا الاسم إذا كان ثابتا في الأرض فأما إذا لم تكن ثابتة فتسمى خشبة فكان في لفظه ما يدل على دخول موضعها من الأرض ولا خلاف في هذا في إقراره وإنما الخلاف في البيع إذا باع نخلة أو شجرة فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه باعها بأصلها فله موضعها من الأرض وإن باعها ليقطعها المشتري فليس له موضعها من الأرض وإن باعها مطلقا فليس له موضعها من الأرض.(18/120)
وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه إذا باعها مطلقا فله موضع أصلها من الأرض وله الموضع الذي ينتهي إليه عروقها من الأرض فمحمد رحمه الله تعالى سوى بين البيع والإقرار وقال: الإيجاب من البائع كان في النخلة والشجرة ولا تكون نخلة وشجرة إلا وهي ثابتة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول البيع تمليك مبتدأ فلا يتناوله إلا ما وقع التنصيص عليه والتنصيص إنما وقع على النابت دون موضعه الذي نبت عليه وموضعه الذي نبت عليه ليس مانعا للنابت فلا يستحقه المشتري باستحقاقه النابتة وبالبيع لا يستحق المشتري استدامته على حاله بخلاف الإقرار فإنه إخبار عن ملك سابق للمقر له وفيه إشارة إلى استدامته ولا يكون ذلك إلا بموضعها من الأرض فاستحق موضعها من الأرض بدلالة كلامه والمدلول عليه في الإقرار كالمنصوص عليه ولو أقر بثمرة في نخل لم تكن النخلة له لأن اسم الثمرة لا يختص بحال الاتصال بالنخل بخلاف اسم الحائط والنخلة ولأن اتصال الثمار بالنخل ليس بأصل بل هو للإدراك حتى تجد بعد الإدراك ويفسد إذا ترك ولهذا لا يدخل في بيع النخل من غير ذلك فكذلك لا يدخل في الإقرار بالثمرة أما اتصال البناء بالأرض والنخل بالأرض فللقرار ولهذا دخلا في بيع الأرض من غير ذكر فكذلك الإقرار بهما يتضمن الإقرار بموضعهما من الأرض.
ولو أقر له بكرم في أرض كان له الكرم بأرضه كلها لأن اسم الكرم يجمع الشجر والأرض عادة ومطلق اللفظ في الإقرار ينصرف إلى المعتاد وما ثبت بدلالة النص عادة فهو كالمنصوص عليه وكذلك لو أقر له بالبستان كان له الشجر والأرض والنخل لأن اسم البستان عند الإطلاق يجمع الكل فأصل الاسم للأرض والأشجار والنخيل فيه بمنزلة الوصف فيكون الاسم جامعا للكل(18/121)
ص -59- ... ولو أقر أن هذا النخيل لفلان فأراد المقر له أن يأخذ الأرض كلها لم يكن له ذلك وإنما له النخل بأصوله من الأرض ولا يستحق الطريق ولا ما بين النخيل من الأرض لأن النخيل اسم للشجر ولكن لا يسمى نخلا إلا وهو ثابت فأما بعد القلع فيسمى جذوعا فدخول موضعه من الأرض لضرورة التنصيص على اسم النخل في إقراره وهو لا يعد وموضع أصولها من الأرض فلا يستحق شيئا من ذلك وكذلك ليس في لفظه ما يدل على استحقاق الطريق ولا يدخل الطريق في البيع من غير ذكر فكذلك الإقرار والحاصل أنه بنى هذه المسائل على معنى كلام الناس وما يطلقونه في عباراتهم في كل موضع.(18/122)
ولو أقر له بأصول عشرة من هذا الكرم معروفة كان له تلك العشرة بأصولها ولا يكون له ما بين الشجر من الأرض والكرم في هذا الموضع كالنخل لأنه ما أقر له بالكرم وإنما أقر له بأشجار معروفة منها فتدخل أصولها لدلالة لفظه ولا يدخل ما سوى ذلك من الأرض ولو قال: بناء هذه الدار لفلان كان له البناء دون الأرض لأنه نص في لفظه على البناء والأرض ليست من البناء في شيء بخلاف الحائط فإنه اسم للبناء في موضع من الأرض وفرق بين البناء والنخل فقال: النخل يخرج من الأرض والبناء لا يخرج من الأرض ومعنى هذا الكلام أن اسم البناء يثبت بفعل العبد وذلك فيما ارتفع من وجه الأرض لا في الأرض فلا يستحق شيئا من الأرض بذكر البناء فأما اسم النخل فلا يحدث بفعل العباد بل بالنبات من الأرض ولا يسمى نخلا إلا وهو نابت فلهذا استحق بتسمية النخل موضعه من الأرض وكذلك لو قال: له بناء هذا الحائط لم يستحق الأرض لما قلنا وإذا أقر له بجزء من داره يصح وبيان المقدار إلى المقر لأن لفظ إقراره يحتمل الكثير والقليل فالجزء من الجزأين يكون نصفا ومن عشرة أجزاء يكون عشرا فكان بيانه مقررا لما أقر به لا مغيرا فصح موصولا كان أو مفصولا وكذلك النصف والنصيب والحق والطائفة البيان في ذلك كله إلى المقر ويقبل بيانه في القليل والكثير لأنه من محتملات كلامه وليس فيه تغيير للفظ عن ظاهره فكان بمنزلة كنايات الطلاق إذا نوى الزوج بها شيئا انصرف إليه ولو أقر له بسهم في داره فكذلك الجواب عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله: له السدس.(18/123)
وأصل المسألة في الوصايا وهو ما إذا أوصى بسهم من ماله عند أبي حنيفة رحمه الله ينصرف السهم إلى السدس أخذا بقول بن مسعود رضي الله عنه واحتج بقول إياس بن معاوية رضي الله عنه وجماعة من أهل اللغة رحمهم الله أن السهم هو السدس وعندهما السهم يتناول القليل والكثير فإن سهما من سهمين يكون النصف ومن عشرة يكون العشر فهو والجزء والنصيب سواء وإذا أقر لرجل بنقض الحائط فله البناء دون الأرض لأن النقض اسم لما يبنى به الحائط من لبن وآجر وخشب فليس في لفظه ما يدل على استحقاق موضعه من الأرض وكذلك لو أقر بجذع هذه النخلة فله الجذع دون الأرض والله أعلم .(18/124)
ص -60- ... باب إضافة الإقرار إلى حال الصغر وما أشبهها
قال رحمه الله تعالى: رجل أقر أنه كان أقر وهو صبي لفلان بألف درهم وقال: الطالب بل أقررت بها لي بعد البلوغ فالقول قول المقر مع يمينه لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي الوجوب به فإن قول الصبي هدر في الإقرار والصبا حال معهودة في كل أحد فكان هو في المعنى منكرا للمال لا مقرا به فإن قيل هو قد ادعى تاريخا سابقا في إقراره والمقر له منكر لذلك التاريخ فينبغي أن يكون القول قوله قلنا المصير إلى هذا الترجيح بعد ثبوت السبب ملزما وإذا كان الإقرار في حال الصبا غير ملزم أصلا فلم يكن هو مدعيا للتاريخ بالإضافة إليه بل يكون منكرا لأصل المال عليه كمن يقول لعبده أعتقتك قبل أن أخلق أو قبل أن تخلق فكذلك لو قال: أقررت له بها في حال نومي لأن النوم حال معهودة تنافي وجوب المال بالإقرار فيها فإن أصل القصد ينعدم من النائم والقصد المعتبر ينعدم من الصبي فإذا كان إضافة الإقرار إلى حال الصبا لا يكون إقرارا فإضافته إلى حال النوم يكون إنكارا بطريق الأولى.
وكذلك لو قال: أقررت بها قبل أن أخلق لأنه مستحيل في نفسه فكان منكرا لا مقرا ومثل هذا اللفظ إنما يذكر للمبالغة في الإنكار عادة ولو قال: أقررت له وأنا ذاهب العقل من برسام أو لمم فإن كان يعرف أن ذلك إصابة لم يلزمه شيء لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي صحة الإقرار فيها وإن كان لا يعرف أن ذلك أصابه كان ضامنا للمال لأنه لم يضف الإقرار إلى حال معهودة فيه فكان هو في الإضافة إلى الحال التي هي غير معهودة مدعيا لما يسقط عنه بعد إقراره بها فلا يقبل قوله في ذلك وهذا لأن الإقرار في الأصل ملزم فيجب العمل بهذا الأصل مالم يظهر المانع منه والمانع إضافته إلى حال معهود تنافي صحته فالإضافة إلى حال غير معهودة لا يصلح مانعا بل تكون دعوى المسقط بعد ظهور السبب الملزم فلا يقبل ذلك إلا بحجة .(18/125)
ولو قال: أخذت منك ألف درهم وأنا صبي أو ذاهب العقل من مرض يعرف أنه كان أصابه فهو ضامن للمال لأن الأخذ فعل موجب للضمان على الآخذ صبيا كان أو بالغا مجنونا أو عاقلا فإن الحجر بسبب الصبا والجنون عن الأقوال لا عن الأفعال لأن تحقق العقل بوجوده فلا يكون الصبا والجنون مؤثرا في حكمه وظهور الفعل بإقراره فإذا كان إقراره ملزما حين أقر به والفعل ملزوما فيه في حال الصغر تقرر السبب الموجب للضمان عليه بخلاف ما تقدم فإن قوله في حال الصغر والجنون ليس بملزم إياه ولو أقر الحر أنه كان لفلان عليه ألف درهم وهو عبد لزمه المال لأن الرق لا ينافي وجوب المال في ذمته فإن للعبد ذمة صحيحة لأن صحة الذمة لكونه آدميا وبالرق لا يخرج من ذلك وكذلك لو أقر أنه كان أقر له وهو عبد بألف درهم لأن إقرار العبد ملزم في حق نفسه لكونه مخاطبا وإنما لا يقبل في حق مولاه فكان مؤاخذا به بعد العتق(18/126)
ص -61- ... وكذلك الحربي يسلم ثم يقر أنه كان قد أقر لفلان في دار الإسلام بألف درهم في دخلة دخلها بأمان أو قال: دخل علينا بأمان فأقررت له وأنا في دار الحرب وهو في دار الإسلام أو المسلم يقر أنه كان أقر به لفلان حين كان حربيا فذلك كله ملزم إياه لأنه أضاف الإقرار إلى حال لا تنافي صحة الإقرار ووجوب المال بها فإنا لو عاينا إقراره في ذلك الوقت كان مؤاخذا به بعد الإسلام فكذلك إذا ظهر ذلك بإقراره ولو أنه كان أقر بإلف درهم لفلان قبل أن يعتق وقال: فلان أقررت لي بها بعد ما أعتقت لزمه المال له لأنه أضاف الإقرار إلى حال رق المقر له وذلك لا ينفي كون الإقرار ملزما فكان ملتزما المال بإقراره قاصدا إلى تحويله من المقر له إلى مولاه بإسناده الإقرار إلى حال رقه من المقر له إلى غيره ولو أقر مسلم قد كان حربيا أنه أخذ في حال حرابته من فلان ألف درهم في حال ما كان حربيا أو قطعت يده حال ما كان حربيا وقال: المقر له بل فعلت ذلك بعد إسلامك فإن كان المال قائما بعينه فعليه رده وهو غير مصدق في الإضافة إلى حال الحرب لأنه أقر أن هذه العين في الأصل كانت مملوكة له وادعى تملكها عليه بإضافة الأخذ حال كونه حربيا فلا يصدق فيه إلا بحجة كما لو ادعى التملك عليه بشراء أو هبة ولو كان مستهلكها فهو ضامن له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.(18/127)
وقال محمد رحمه الله: القول للمقر ولا ضمان عليه في ذلك وكذلك لو قال: لمعتقه أخذت منك ألف درهم حال ما كنت عبدا لي أو قطعت يدك حال ما كنت عبدا لي وقال: المقر له لا بل فعلت ذلك بعد ما أعتقتني فالقول قول المقر له والمقر ضامن في قولهما وعند محمد رحمه الله تعالى القول قول المقر وجه قوله أنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي وجوب الضمان عليه بالأخذ والقطع في تلك الحال فيكون منكرا لا مقرا كما لو قال: لمعتقته وطئتك حال ما كنت أمة لي أو قال: لمعتقه أخذت منك الغلة شهر كذا حين كنت عبدا لي أو قال: القاضي بعد ما عزل قضيت عليك بكذا في حال ما كنت قاضيا وأخذته فدفعته إلى المقضي له فالقول قوله وإن كذبه المقر له في هذه الإضافة وكذلك لو قال: المعتق قطعت يدك وأنت عبد وقال: المقر له بل قطعتها بعد العتق فالقول قول المقر للمعنى الذي بيناه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا أقر على نفسه بالفعل الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط الضمان فلا يصدق في ذلك كما لو قال: فقأت عينك اليمنى وعيني صحيحة ثم ذهبت وقال: الآخر بل فقأتها وعينك ذاهبة كان القول قول المقر له والمقر ضامن للأرش
وبيانه هو أنه أقر بالأخذ وهو سبب موجب للضمان عليه كما قال: صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" وأضاف الإقرار إلى حال رق المقر له وذلك غير مناف للضمان عليه بسبب الأخذ والقطع في الجملة فإن العبد إذا كان مديونا كان أخذ المولى كسبه سببا لوجوب الضمان عليه وكذلك قطع يده موجب للضمان عليه وكذلك أخذه من الحربي قد يكون(18/128)
ص -62- ... موجبا للضمان عليه في الجملة إذا كان الحربي مستأمنا في دارنا فلم يكن هو في إقراره منكرا لأصل الالتزام بل كان مدعيا لما يسقط الضمان عنه بخلاف ما استشهد به فإن وطء المولى أمته غير موجب عليه المهر سواء كانت مديونة أو غير مديونة وكذلك قضاء القاضي في حال ولايته غير موجب للضمان عليه بحال فإنما أضاف الإقرار في هذه المواضع إلى حال معهودة تنافي الضمان أصلا فكان منكرا لا مقرا فلهذا لا يلزمه شيء والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بالاستفهام
قال رحمه الله: رجل قال: لآخر أليس قد أقرضتني ألف درهم أمس فقال: الطالب بلى فجحده المقر فالمال يلزمه لأن قوله أليس قد أقرضتني استفهام فيه معنى التقرير كما قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36] ومعنى التقرير أنك قد أقرضتني قول الطالب بلى تصديق له في الإقرار وكذلك لو قال: أما أقرضتني أمس أو قال: ألم تقرضني أمس فهذا استفهام فيه معني التقرير قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}[الأنعام:130] تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172} معناه بلى أنت ربنا وهذا على ما قال أهل اللغة أن كلمة بلى جواب الابتداء بل هو نفي وقد قرن به الاستفهام وكلمة نعم جواب الاستفهام المحض وكان المعنى فيه أن الاستفهام متى كان بحرف الإثبات فقول نعم جواب صالح له ومتى كان بحرف النفي فجواب ماهو إثبات بعد النفي وهو كلمة بلى يقال في تبدل الكلام لا بل كذا فلهذا كانت كلمة بلى جوابا للاستفهام بلفظ النفي وهو قوله ألست .(18/129)
ثم ذكر مسائل تقدم بيانها في قوله: أقرضتني وأعطيتني إذ قال: بعد ذلك لم أقبض وزاد هنا لو قال: أخذت منك ألف درهم فلم تتركني أذهب بها لم يصدق في ذلك وإن وصل كلامه لأنه أقر على نفسه بفعل موجب للضمان وهو الأخذ فكان هو مدعيا إسقاط الضمان عن نفسه بعد ما تقرر سببه فلا يصدق إلا بحجة كالغاصب يدعي الرد وكذلك لو قال: غصبت منك إلف درهم فانتزعتها مني لم يصدق وإن كان موصولا لأن دعوى الانتزاع منه دعوى إسقاط الضمان بعد تقرر سببه بمنزلة دعوى الرد وهذا لأن الوصل بالكلام إنما يكون معتبرا فيما هو بيان فأما دعوي الفعل المسقط للضمان فليس يرجع إلى بيان أول كلامه والموصول والمفصول فيه سواء ولو أقر قصار أن فلانا سلم إليه ثوبا يقصره ثم قال: لم أقبضه فإن وصله بكلامه صدق وإن قطعه لم يصدق وفي بعض النسخ قال: أسلم إليه وهما سواء فإن الإسلام والتسليم لغة في الفعل الذي يكون تمامه بالقبض ولكن على احتمال أن يكون المراد به العقد دون القبض فإذا قال: لم أقبضه كان هذا بيانا معتبرا لموجب ظاهر كلامه فيصح موصولا لا مفصولا.
ولو قال: لرجل أعطيتني أمس ألف درهم وهل هي ألف فهذا استفهام لا يلزمه به(18/130)
ص -63- ... شيء ولو لم ينقد الألف كان إقرارا لأنه إذا لم ينقد الألف كان إخبارا بالفعل فيكون إقرارا بموجبه وإذا نقد الألف فقد ضم صيغة الإخبار للفعل بألف الاستفهام فيخرج من أن يكون إخبارا قال الله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}[المائدة:116] ولم يكن هذا إخبارا عن قوله ذلك لأنه لو كان هذا إخبارا لكان تبرؤه منه بقوله:{سُبْحَانَكَ} [النور:16] تكذيبا فعرفنا مثل هذا إذا قرن به حرف الاستفهام يخرج من أن يكون إخبارا بخلاف قوله أليس قد أعطيتني وفي الحقيقة لا فرق فإن ألف الاستفهام يدل على نفي ما قرن به فإذا قرن بحرف النفي وهو ليس يدل على نفي ذلك النفي فيكون تقريرا وإذا قرن بالفعل كان دليلا على نفي ذلك الفعل فلم يكن مقرا بالإعطاء.
وإذا أقر أن لفلان عليه مائة درهم أو لا شيء عليه أو قال: أو لا فالقول قوله لأن أو للتخيير بين أحد المذكورين وقد دخلت بين نفي الإقرار وإثباته فكان القول قوله لأن أو للتخيير في اختيار أيهما شاء ولأن حرف أو إذا دخل بين الشيئين كان مقتضاه إثبات أحد المذكورين بغير عينه وقولنا أنه للتشكيك مجاز فإن التشكيك لا يكون مقصودا ليوضع له لفظ ولكن لما كان مقتضاه أحد المذكورين بغير عينه عبر عنه بالتشكيك مجازا فهنا لما كان عمله في إثبات أحد المذكورين أما الإقرار وإما الإنكار لم يتعين الإقرار فيه .(18/131)
وكذلك لو قال: غصبتك عشرة دراهم أو لم أغصبك وكذلك لو قال: أودعتني عشرة دراهم أو لم تودعني لم يلزمه شيء لما قلنا وكذلك لوقال: علي عشرة دراهم أو على فلان قال: مقتضى كلامه أن المال على أحدهما بغير عينه فلا يكون به ملتزما للمال عينا وما لم يكن كلامه التزاما لا يكون إقرارا وكذلك لو كان فلان ذلك عبدا أو صبيا أو حربيا أو مكاتبا لان لهؤلاء ذمة صالحة لالتزام الدين فإدخاله حرف أو بين نفسه وبينه فيه يقتضي أحدهما بغير عينه وكذلك لو قال: غصبتك أنا أو فلان وكذلك لو قال: لك علي عشرة دراهم أو قال: علي هذا الحائط أو الحمار لزمه المال في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يلزمه في قولهما وهو نظير اختلافهم في مسألة كتاب العتاق إذا جمع بين عبده وحائط أو بين حي وميت وقال: أحدكما حر على سبيل الابتداء في هذه المسألة هما يقولان عمل حرف أو في شيئين ضم المذكور عليه آخر إليه ونفي الالتزام عن نفسه عينا وهنا إعماله في أحدهما ممكن وهو نفيه الالتزام عن نفسه فكان عاملا في ذلك بمنزلة قوله أو ليس لك علي شيء .
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: قوله لك على التزام تام وإنما ينعدم معني الالتزام بالتردد بينه وبين المذكور آخرا وإنما يحصل هذا التردد إذا كان المذكور آخرا محلا لالتزام المال فإذا لم يكن محلا لذلك كان ذكره في معنى الالتزام لغوا يبقى هو ملتزما المال بأول كلامه عينا وهو نظير مالو قال: أوصى بثلث ما له لفلان وفلان واحدهما ميت كان الثلث كله للحي ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم أو لفلان آخر علي دينار لم يلزمه شيء لأنه ذكر(18/132)
ص -64- ... حرف أو بين شيئين أو شخصين أقر لهما فمنع ذلك تعين أحد المالين أو تعين أحد الشريكين مقرا له فلا يكون هو بهذا الكلام ملتزما شيئا.
وكذلك قوله :لك على عشرة دراهم أو لفلان على دينار ولو قال: لك علي عشرة دراهم أو على عبدي فلان فإن لم يكن على العبد دين فالمال لازم والخيار إليه إن شاء عين ذمته وإن شاء عبده لأنه هو الملتزم لما في ذمته أو كسب عبده وهو ملكه وإن كان على عبده دين يحيط بقيمته لم يلزمه شيء لأن كسب عبده وماليته حق غرمائه فكان بمنزلة ما لو ذكر غريم العبد مع نفسه في الإقرار وأدخل حرف أو بينهما فإن سقط دين العبد بسبب من الأسباب وهو عبد على حاله لم يلزمه حكم إقراره لأنه جعل عند سقوط الدين عن العبد كالمجدد لإقراره والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بقبض شيء من ملك إنسان والاستثناء في الإقرار
قال رحمه الله: وإذا أقر أنه قبض من بيت فلان مائة درهم ثم قال: هي لي أو قال: هي لفلان آخر تلزمه لصاحب البيت لأن ما في بيت فلان في يده فإن أصل البيت في يده ويده الثابتة علي مكان تكون ثابتة على ما فيه .
ألا تري أنه لو نازعه إنسان في شيء من متاع بيته أو في زوجته وهي في بيته كان القول قوله باعتبار يده ويترجح بالبينة في الزوجة فإقراره بالقبض من بيته بمنزلة الإقرار بالقبض من يده فعليه أن يرده مالم يثبت لنفسه حقا بالبينة ولا قول له فيما أقربه لغيره بعد أن صار مستحقا لصاحب البيت فإن زعم أنه لآخر وأنه قبضه منه ضمن له مثله لأن إقراره صحيح وقبضه مال الغير موجب للضمان عليه مالم يرده بمنزلة قوله غصبته منه أو أخذته.(18/133)
وقال الشافعي رحمه الله: إقراره بالقبض من الغير لا يكون موجبا للضمان بخلاف إقراره بالأخذ والغصب لأن لفظ الأخذ يطلق على قبض بغير حق ولفظ القبض يطلق على قبض بحق كقبض المبيع ونحوه وهذا ليس بصحيح فإن لفظ الأخذ قد يطلق على ما يكون بحق قال الله تعالى:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145] وقال الله تعالى: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:144] ومع ذلك كان الإقرار به موجبا للضمان عليه فكذلك في لفظة القبض وكذلك لو قال: قبضت من صندوق فلان ألف درهم أو من كيس فلان أو من سفط فلان ثوبا أو من قرية فلان كر حنطة أو من نخل فلان كر تمر أو من زرع فلان كر حنطة فهذا كله إقرار بالقبض من يده أو جعل المقبوض جزءا من ملكه فيكون مقرا بالملك .
وكذلك لو قال: قبضت من أرض فلان عدل زطي فإنه يقضي بالزطي لصاحب الأرض لأن ما في أرضه في يده ثم المقر بما بين يدعي لنفسه يدا في أرضه ولم يعرف سبب ذلك فلا يثبت بمجرد دعواه وإذا لم يثبت ما ادعى بقي إقراره بالقبض من يده فعليه رده وعلى هذا لو قال: أخذت من دار فلان مائة درهم ثم قال: كنت فيها ساكنا أو كانت(18/134)
ص -65- ... معي بإجارة لم يصدق لأنه مدع فيما ذكره من سبب ثبوت يده في الدار فلا يصدق في ذلك إلا بحجة فإن جاء بالبينة أنها كانت في يده بإجارة وأنه نزل أرض فلان أبرأته من ذلك لأنه أثبت سبب ثبوت يده في المكان بالحجة ولأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فلو علم كون الدار في يده بإجارة أو كونه نازلا في أرض وعايناه أنه أخلاها متاعا كان ذلك القول قوله في أن هذا ملكه.
فكذلك إذا أثبت بالبينة دارا في يد رجل فأقر أنها لفلان إلا بيتا معلوما فإنه لي فهو على ما قال: لأن الكلام إذا قرن به الاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثني فكأنه قال: هذه الدار ما سوى هذا البيت من الدار لفلان وهذا لأن اسم الدار يتناول ما فيها من البيوت والمستثنى إذا كان مما يتناوله لفظه كان استثناؤه صحيحا لأن عمل الاستثناء في إخراج ما يتناوله لولاه لكان الكلام متناولا له وكذلك لو قال: إلا ثلثها لي أو قال: إلا تسعة أعشارها لما بينا أن الاستثناء صحيح إذا كان يبقى بعد المستثنى شيء قل ذلك أو كثر.
ولو قال: الدار لفلان وهذا البيت لي كانت كلها لفلان لأن قوله وهذا البيت لي دعوى وليس باستثناء فان الواو للعطف ولا يعطف المستثنى علي المستثنى منه فصار جميع الدار مستحقا للمقر له بإقراره وكان المقر مدعيا بيتا في دار غيره فلا يصدق إلا بحجة وكذلك لو قال: الدار لفلان ولكن هذا البيت لي أو قال: الدار لفلان وبناؤها لي أو الأرض لفلان ونخلها لي أو النخل بأصولها لفلان والثمرة لي لا يصدق في شيء من ذلك إلا بحجة لأن البناء تبع للأصل والنخل تبع للأرض والثمر يملك بملك الأصل فكان هو في آخر كلامه مدعيا لنفسه شيئا من ملك الغير فلا يستحقه إلا بحجة .(18/135)
ولو قال: هذه الدار لفلان إلا بناؤها فإنه لي لم يصدق أيضا على البناء والبناء تابع وليس هذا باستثناء ومعنى هذا الكلام أن اسم الدار لا يتناول البناء مفصولا فإن اسم الدار لما أدير عليه الحائط من البقعة والبناء يدخل فيه تبعا والاستثناء إنما يكون مما تناوله الكلام نصا لأنه إخراج ما لولاه لكان الكلام متناولا له فإن الاستثناء يصرف في جميع الكلام يجعله عبارة عما وراء المستثنى فما لم يتناوله الكلام نصا لا يتحقق فيه عمل الاستثناء فهذا معني قوله وليس هذا باستثناء وهذا لأن المعني الذي لأجله كان يدخل البناء لولا هذا الاستثناء لا ينعدم بهذا الاستثناء فإن معنى كونه تبعا للأصل أن هذه التبعية قائمة بعد الاستثناء وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى هذا الاستثناء صحيح بناء على أصله في أن عمل الاستثناء في منع ثبوت الحكم في المستثنى فدليل المعارضة بمنزلة التخصيص في العموم وهذا يتحقق فيما يدخل في الحكم تبعا كما يتحقق فيما يتناوله اللفظ قصدا وبيانه يأتي في باب الاستثناء إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا لوقال: هذا البستان لفلان إلا نخلة بغير أصلها فإنها لي أو قال: هذه الحلية لفلان إلا بطانتها فإنها لي أو قال: هذا السيف لفلان إلا حليته فإنها لي أو هذا الخاتم لفلان(18/136)
ص -66- ... إلا فصه فإنه لي أو هذه الحلقة لفلان إلا فصها فإنه لي ففي هذا كله ما جعله مستثنى لم يتناوله الكلام نصا وإنما كان دخوله تبعا فلا يعمل استثناؤه وإن كان موصولا بل هو والدعوى المبتدئة سواء فلا يستحقه إلا بحجة ولو قال: هذه الدار لفلان ثم قال: بعد ذلك لا بل لفلان فهي للأول وليس للآخر شيء لأنه رجع عن الإقرار به للأول وأقام الثاني مقامه في الإقرار ورجوعه عن الإقرار باطل.
وكذلك لو قال: الدار لفلان ثم قال: بعد ذلك له ولفلان أو لي ولفلان فالدار كلها للأول ورجوعه عن بعض ما أقربه للأول باطل كما في جميعه وإن قال: ابتداء أنها لفلان ولفلان فوصل المنطق فهو بينهما نصفين لأنه عطف الثاني على الأول والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر وفي آخر كلامه ما يغاير موجب أوله فيتوقف أوله على آخره وصار كقوله هي لهما فإن وصل ذلك فقال: لفلان الثلثان ولفلان الثلث فهو كما قال: لأن مقتضي أول كلامه المناصفة بينهما على احتمال التفاوت فكان آخر كلامه بيانا مغايرا وذلك صحيح منه موصولا وإذا ولدت الجارية في يد رجل ثم قال: الجارية لفلان والولد لي فهو كما قال: لأنه لو سكت عن ذكر الولد لم يستحقه المقر له فكذلك إذا نص المقر على أن الولد له بخلاف ما سبق من البناء وهذا لان الولد بعد الانفصال ليس تبعا للأم بخلاف النخل والبناء فإنه تبع للأرض ثم فرق بين الإقرار والبينة بأنه لو أقام رجل البينة أن الجارية له به استحق ولدها معها والفرق أن الاستحقاق بالبينة يوجب الملك للمستحق من الأصل.(18/137)
ألا تري أن الباعة يرجع بعضهم على البعض باليمين فيتبين أن الولد انفصل من ملكه فكان مملوكا له فأما الاستحقاق بالإقرار فلا يوجب الملك للمقر له من الأصل حتى لا يرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين ولكن استحقاق الملك له مقصور على الحال ولهذا جعل الإقرار كالإيجاب في بعض الأحكام فلا يتبين به انفصال الولد من ملكه فلهذا لا يستحقه وللشافعي رحمه الله تعالى في الفصلين قولان في قول يستحق الولد فيهما وفي قول لا يستحق الولد فيهما وعلى القولين لا يفصل بين البينة والإقرار وعلى هذا ولد سائر الحيوانات والثمار المجدودة من الأشجار.
ولو كان في يده صندوق فيه متاع فقال: الصندوق لفلان والمتاع الذي فيه لي أو قال: هذه الدار لفلان وما فيها من المتاع لى فالقول قوله لأنه لو لم يذكر فيه كان لا يستحقه المقر له فكذلك إذا ذكره لنفسه نصا وهذا لأن ما في الصندوق ليس بتبع للصندوق فالصندوق وعاء لما فيه والموعى لا يكون تبعا للوعاء وكذلك المتاع يكون في الدار ليس بتبع للدار ولو قال: بناء هذه الدار لي وأرضها لفلان كانت الأرض والبناء لفلان لأن أول كلامه وهو قوله هذه الدار لي غير معتبر فإنه قد كان له ذلك قبل أن يذكره ففي قوله وأرضها لفلان إقرار بالأصل والإقرار بالأصل يوجب ثبوت حق المقر له في البيع كما لو(18/138)
ص -67- ... قال: أرض هذه الدار لفلان لاستحق الأرض والبناء جميعا ولو قال: البناء لفلان والأرض للآخر كان البناء للأول والأرض للثاني كما أقر به لأن أول كلامه هنا إقرار معتبر بالبناء للأول فهب أن آخر كلامه إقرار بالأرض والبناء ولكن إقراره فيما صار مستحقا لغيره لا يصح فان للثاني الأرض خاصة فأما في الأول فآخر كلامه بالإقرار بالأرض والبناء وهما جميعا ملكه.
توضيح الفرق أن البناء لما صار للمقر له الأول خرج من أن يكون تبعا للأرض فإقراره بالأرض للثاني بعد ذلك لا يتعدى إلى البناء وفي الأول البناء باق على ملكه فكان تبعا للأرض فإقراره بالأرض يثبت الحق للمقر له في البناء والأرض معا ولو قال: غصبت هذا العبد من فلان لا بل من فلان فالعبد للأول لأن رجوعه عن الإقرار باطل والثاني قيمته لأنه أقام الإقرار للثاني بالغصب فيه مقام الإقرار للأول وذلك منه صحيح في حق نفسه فإذا صار مقرا بالغصب من الثاني وتعذر رده عليه ضمن له قيمته سواء دفعه إلى الأول بقضاء أو بغير قضاء قال: وكذلك الوديعة والعارية وهو قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الوديعة والعارية إن دفع إلى الأول بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا وإن دفع بغير قضاء فهو ضامن للثاني.(18/139)
وبيانه إذا قال: هذه الألف بعينها وديعة عندي لفلان ثم قال: مفصولا أو موصولا لا بل هي وديعة لفلان أودعها فلان فالألف للأول وإن دفعها إليه بغير قضاء قاض ضمن للثاني مثلها لأن إقراره حجة عليه وقد أقر أنه صار متلفا لها على الثاني بالإقرار والدفع إلى الأول فهو والغصب سواء وإن دفعها بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه بمجرد إقراره لم يتلف على الثاني شيئا والدفع حصل بقضاء القاضي فلا يوجب الضمان عليه كما لو قال: هذه الألف لفلان لا بل لفلان ودفع إلى الأول بقضاء قاض لم يضمن للثاني شيئا وعند محمد رحمه الله تعالى يقول المودع ملتزم حفظ الوديعة للمودع وقد صار بالإقرار للأول تاركا ما التزمه من الحفظ للثاني بزعمه فيكون ضامنا له كما لو دل سارقا على السرقة وهذا بخلاف الإقرار بالمال مطلقا لأن هناك لم يلتزم الحفظ للثاني ولكنه شاهد بالملك للثاني على الأول والشاهد إذا ردت شهادته لم يضمن شيئا.
ولو قال: هذا العبد الذي في يدي وديعة لفلان إلا نصفه فإنه لفلان كان كما قال: لأنه استثناه بعد ما تناوله الكلام نصا فبقي مقرا للأول بماوراء المستثنى وذلك لا يمنع إقراره بالمستثنى للثاني توضيحه أنه قال: إلا نصفه فإنه لي كان صحيحا فكذلك إذا قال: فإنه لفلان وكذلك لو قال: هذان العبدان لفلان إلا هذا فإنه لفلان لأن المستثنى بعض ما تناوله الكلام نصا .
ولو قال: هذا العبد لفلان المقر له الأول إلا الأول فإنه لي لم يقبل قوله ولا يصدق وكانا جميعا لفلان لأنه متكلم بكلامين أحدهما معطوف على الآخر بحرف الواو ثم استثنى(18/140)
ص -68- ... جميع ما تناوله أحد الكلامين واستثناء الكل باطل لما بينا أن عمل الاستثناء في جميع الكلام عبارة عما وراء المستثنى فإن كان لا يبقى وراء المستثنى شيء لم يكن هذا استثناء بل يكون رجوعا بخلاف الأول فإن الإقرار بالعبدين كلام واحد وكان استثناء أحدهما صحيحا.
ولو قال: هذا العبد لفلان أو أنه لفلان عندي وديعة كان للأول يغرم للثاني قيمته وعلى هذا الخلاف الذي ذكرنا إذا دفعه إلى الأول بقضاء القاضي ولو قال: هذا العبد لفلان وهذا لفلان إلا نصفه فإنه لفلان وإلا نصف الآخر فإنه لفلان جاز على ما قال: لأن الكلام موصول بعضه ببعض وقد استثني من كل كلام بعضه فكان صحيحا على أن يجعل عبارة عما وراء المستثنى وكذلك هذا في الحنطة والشعير والذهب والفضة والدار والأرض والله أعلم بالصواب.
باب الإقرار بالمجهول أو بالشك
قال رحمه الله: أقر أن لفلان عنده وديعة ولم يبين ما هي فما أقر به من شيء فهو مصدق فيه وقد تقدم نظيره في الغصب ففي الوديعة أولى لأن المودع أمين فيكون مقبول القول فيما بين بعد أن يكون ما بين سببا يقصد به الإيداع وإن ادعي المقر له شيئا آخر فعلى المقر اليمين لإنكاره ما ادعاه وكذلك لو أقر بثوب وديعة وجاء به معيبا وأقر أنه حدث به عنده هذا العيب فلا ضمان عليه في ذلك لأنه لو هلك في يده لم يضمن شيئا وإذا أنكر صاحبه أن يكون استودعه فالجواب كذلك لأن ما في يده لم يقر على نفسه بالسبب الموجب للضمان عليه وإنما أقر بأنه وديعة في يده فصاحبه يدعي عليه السبب الموجب للضمان وهو الأخذ بغير رضاه وذو اليد منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه.(18/141)
قال: ألا تري أنه لو قال: وضعت خاتمك في يدي فضاع كان القول قوله لأنه لم يضف إلى نفسه في ذلك فعلا يضمن به وإنما أراد بهذه الإشارة إلى الفرق بين هذا وبين مالو قال: أخذته منك وديعة فإن هناك إذا أنكر صاحب الإيداع كان المودع ضامنا لإقراره بالفعل الموجب للضمان عليه وهو الأخذ فأما هنا فقد أضاف الفعل إلى صاحبه بقوله أودعني أو وضعه في يدي ولو كانت الوديعة ثوبا فلبسه المودع أو دابة فركبها ثم قال: هلكت بعد أن نزلت عنها وكذبه صاحبه فهو ضامن لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان وهو اللبس والركوب في ملك الغير ثم ادعى ما يبرئه عن الضمان فلا يقبل قوله إلا أن يقيم البينة على ما ادعى وكذلك لو قال: ركبتها بإذن المودع وأنكر المودع الإذن فهو ضامن إلا أن يقيم البينة على الإذن لإقراره بالفعل الموجب للضمان عليه وكذلك لو دفعها إلى غير صاحبها ثم أقر أنه دفعها بإذنه فهو ضامن إلا أن يقيم البينة على ذلك وعلى صاحبها اليمين في ذلك كله لدعوى الرضا والإذن عليه وهو مسقط للضمان عنه ولو أقر به.
ولو قال: لفلان علي إلف درهم أو لفلان علي ألف درهم ولفلان مائة دينار أو لفلان فالألف للأول لأنه أقر له بها عينا حين لم يقرن به حرف التخيير وذكر حرف التخيير(18/142)
ص -69- ... بين الآخرين في مائة دينار فيكون الجواب في حقهما مثل الجواب في المسألة الأولى من حكم الاصطلاح والاستخلاف.
ولو قال: لفلان علي مائة دينار ولفلان علي كر حنطة أو لفلان كر شعير والمائة الدينار للأول ثابتة لأنه أقر له بها عينا ولا شيء للآخرين لأنه ما عين في الإقرار لواحد منها شيئا حين أدخل بينهما حرف أو وقد بينا أن حرف أو يمنع عينا في حق من اقترن به ولكن لكل واحد منهما أن يحلفه على ما يدعيه عليه كأنه لم يقر لهما بشيء ولو قال: له لك علي مائة درهم ولفلان أو لفلان فللأول نصف المائة والنصف الباقي يحلف لكل واحد من الآخرين عليه إلا أن يصطلحا على شيء فيكون بينهما فإنه عطف أحد الآخرين علي الأول فيما هو موجب حرف أو فكأنه قال: لفلان علي مائة درهم ولأحد هذين الآخرين فنصف المائة للأول لأنه لا يزاحمه من الآخرين إلا أحدهما والنصف الآخر متردد بين الآخرين والمستحق منهما غير معين والحكم فيه الاصطلاح أو الاستحلاف
وإن قال: لفلان قبلي مائة درهم أو لفلان وفلان فالنصف للثالث والنصف الباقي بين الأولين كما بينا في المسألة الأولى بين الآخرين لأنه عين الإقرار للثالث هنا حين لم يقرن به حرف أو وأثبت المزاحمة لأحد هذين ولهذا علي مائة درهم فنصف المائة للثالث وفي النصف الآخر حكم الاصطلاح بين الأولين أو الاستحلاف قال: وقوله علي وقبلي دين وقوله عندي وديعة وقوله من ملكي وديعة وقوله في ملكي أو في ما لي شركة لأن كل لفظ محمول على ماهو المتعارف بين الناس في مخاطباتهم وقد بينا هذا وإن قال: لفلان علي مائة درهم وإلا فلفلان ففي قول أبي يوسف رحمه الله هذا مثل قوله لفلان أو لفلان وفي قول محمد رحمه الله تعالى الألف للأول ولا شيء للثاني.(18/143)
وجه قول محمد رحمه الله: تعالى أنه أقر للأول بالمال عينا وفي حق الثاني علق الإقرار بالشرط فإن قوله وإلا فلفلان يعني أن لم يكن لفلان علي مائة درهم وهذا تعليق بالشرط والإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط فيبقى إقراره للأول ملزما وفي حق الثاني باطلا ألا ترى أنه لو قال: لفلان علي مائة درهم وإلا فعبدي حر أو فامرأتي طالق أو فعلى حجة لزمته المائة دون ما سواها لأن كلامه الثاني تعليق بشرط عدم وجوب المال وفي هذا الفصل دليل من وجهين أحدهما أنه لو لم يكن المال واجبا بإقراره للأول لكان يلزمه العتق والطلاق ويلزمه الحج لوجود شرطه والثاني أنه جعل هناك آخر كلامه تعليقا فلم يؤثر في الإقرار السابق فكذلك هنا.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: مثل هذا اللفظ إنما يذكر عند التردد بين المذكورين على أن يكون أولى الوجهين في ظنه الأول فإن الرجل يقول هذا القادم زيد وإلا فعمرو وكل هذا الطعام وإلا فهذا يكون المراد أحدهما على أن يكون أولى الوجهين للأول فهنا أيضا يكون بهذا اللفظ مقرا لأحدهما بمنزلة قوله لفلان أو لفلان وهذا بخلاف قوله وإلا فعبدي حر(18/144)
ص -70- ... أو فعلي حجة فإنه لا مجانسة بين الإقرار وبين إنشاء العتق والتزام الحج حتى يحمل كلامه على معنى التردد فكان آخر كلامه محمولا على معنى اليمين ولأن العتق والطلاق والحج معلق بالشرط فيمكن تصحيح آخر الكلام تعليقا فأما الإقرار فلا يحتمل التعليق بالشرط ففي جعلنا إياه شرطا إلغاؤه من كل وجه فلهذا جعلناه بمعنى أو ليكون مقرا لأحدهما بغير عينه.
وإن قال: لفلان علي مائة درهم بل لفلان أولا بل لفلان فهو سواء ولكل واحد منهما مائة درهم لأن آخر كلامه لاستدراك الغلط بالرجوع عن الإقرار للأول وإقامة الثاني مقامه في الإقرار له بالمائة والرجوع في حق الأول باطل والإقرار للثاني بالمائة صحيح ولو قال: لفلان علي مائة درهم بل علي حجة لزمته المائة والحجة نفسه بمنزلة المتاع وقول ذي اليد فيما في يده حجة للدفع فإن ادعى آخر أنه ابنه فعليه البينة لأنه يدعي نسب ملك الغير فلا يقبل قوله إلا بحجة فإن أقام البينة أنه ابنه قضي أنه بن له لإثباته دعواه بالحجة وجعل حرا لأن في الحكم بثبوت النسب حكما بأنه مخلوق من مائة وماء الحر جزء منه فيكون حراما لم يتصل برحم الأمة وحين لم يسموا أمة في الشهادة لم يظهر اتصال مائة برحم الأمة فبقي على الحرية فهذه موجبة البينة حرية الولد فلا يعارضها قول ذي اليد في إثبات رقه.(18/145)
وكذلك لو كان الذي في يديه يدعي أنه ابنه فالمدعي الذي أقام البينة أولى بالقضاء بالنسب له لأن البينة لا يعارضها اليد ولا قول ذي اليد وكذلك لو كان المدعي ذميا أو عبدا يثبت النسب منه لإثباته دعواه بالحجة والعبد والذمي من أهل النسب كالحر المسلم فإن أقام ذو اليد البينة أنه ابنه وأقام الخارج البينة أنه ابنه قضيت بنسبه لذي اليد لأن هذا في معنى النتاج وقد بينا أن بينة ذي اليد هناك تترجح على بينة الخارج وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة أنه ابنه من امرأته هذه قضى بنسبه من ذي اليد ومن امرأته وإن جحدت هي ذلك لأن السبب هو الفراش بينهما قائم والحكم متى ظهر عقيب سبب ظاهر يحال به على ذلك السبب وذلك الفراش بينهما يثبت النسب منهما فمن ضرورة ثبوته من أحدهما بذلك السبب ثبوته من الآخر فلا ينتفي بجحودها وكذلك لو جحد الأب وادعت الأم.
قال: ولو كان الصبي في يد عبد وامرأته الأمة وأقاما البينة أنه ابنهما وأقام آخر من العرب أو من الموالي أو من أهل الذمة أنه ابنه من امرأته هذه وهي مثله فأنه يقضي ببينة الخارجين لأن في بينتهما زيادة إثبات الحرية للولد والبينات للإثبات فتترجح بزيادة الإثبات قال: ولو كان الصبي في يد رجل فأقام رجل البينة أنه ابنه من امرأته هذه وهما حران وأقام ذو اليد البينة أنه ابنه ولم ينسبوه إلى أمه فإنه يقضي به للمدعى لزيادة الإثبات في بينته وهو ثبوت النسب من أمه فصارت الزيادة في إثبات النسب كزيادة إثبات الحرية وكذلك إن كانت الأم هي المدعية فإن ثبوت النسب بالفراش بينهما فيكون أحدهما خصما عن الآخر في لا أثبات ولو أقام الخارج البينة أنه ابنه وشهد شهود ذي على إقراره أنه ابنه قضى به للمدعى(18/146)
ص -71- ... لأن ثبوت إقرار ذي اليد بالبينة لا يكون أقوى من سماع القاضي إقراره وذلك يندفع ببينة الخارج ثم أعاد مسألة الرجلين والمرأتين وقد بيناه.
فرع عليه ما لم وقت كل واحد منهما وقتا قال: ينظر إلى سن الصبي فإن كان مشكلا فهو وما لم يوقتا سواء يقض به لهما وإن كان مشكلا في أحدهما وهو أكبر سنا من الآخر أو أصغر معروف قضيت به للمشكل لأن علامة الكذب ظهرت في شهادة الآخرين ولم تظهر في شهادة هؤلاء لكونه محتملا للوقت الذي وقتوه قال: ولو كان الصبي في يد رجل فأقامت امرأة شاهدين أنه ابنها قضيت بالنسب منها لإثباتها الدعوى بالحجة وإن كان ذو اليد يدعيه لم يقض له به لأن مجرد الدعوى لا يعارض البينة فإن قيل لا منافاة بين ثبوته منه ومنها قلنا نعم ولكن لا يمكن إثبات النسب منهما إلا بالقضاء بالفراش بينهما ومجرد قوله ليس بحجة عليها في إثبات الفراش في النكاح بينهما ولو لم تقم المرأة إلا امرأة واحدة شهدت أنها ولدت فإن كان ذو اليد يدعي أنه ابنه أو عبده لم يقض للمرأة بشيء لأن الاستحقاق الثابت باليد لا يبطل بشهادة المرأة الواحدة فإنها ليست بحجة في إبطال حق ثابت للغير وإن كان الذي في يديه لا يدعيه فإني أقضي به للمرأة بشهادة امرأة واحدة وهذا استحسان وفي القياس لا يقضى لأن اليد في اللقيط مستحق لذي اليد حتى لو أراد غيره أن ينزعه من يده لم يملك فلا يبطل ذلك بشهادة امرأة واحدة وفي الاستحسان تمحض هذا منفعة للولد في إثبات نسبه وحريته وليس فيه إبطال حق لذي اليد لأنه لا يدعي في الولد شيئا إنما يده فيه مصيانة عن ضياعه فلهذا أثبتنا النسب منها بشهادة القابلة.(18/147)
قال: عبد في يد رجل أقام رجل البينة أنه عبده ولد في ملكه وأنه أعتقه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه فإني أقضى به للذي أعتقه لأن في هذه البينة زيادة الحرية فلو رجحنا بينة ذي اليد جعلناه مملوكا له وكيف يجعل مملوكا وقد قامت البينة على الحرية ولو كان المدعي دبره أو كاتبه لم يستحق بهذا شيئا أما في الكتابة لا إشكال لأنه عقد محتمل للفسخ كالبيع والإجارة فكأنه أقام البينة على تصرفه فيه ببيع أو إجارة فلا يترجح به وأما في التدبير فقد أعاد المسألة في آخر الكتاب وجعله كالعتق ففيه روايتان.
وجه تلك الرواية أن بالتدبير يثبت له حق عتق لا يحتمل الفسخ فكان معتبرا بحقيقة العتق لأنه يثبت الولاء على العبد ببينته في الموضعين جميعا وإذا كان الولاء هو المقصود والملك بيع فتترجح بينة الخارج لهذا وجه هذه الرواية أن التدبير لا يخرجه من أن يكون مملوكا كالكتابة فكان الملك هو المقصود بالإثبات لكونه قائما فتترجح بينة ذي اليد لإثبات الولادة في ملكه بخلاف العتق فإن الملك لا يبقى بعد العتق فيكون المقصود هناك إثبات الولاء ولو أقام الخارج البينة أنه ابنه ولد في ملكه وأقام ذو اليد البينة أنه عبده ولد في ملكه قضي به للمدعي لأن في بينته إثبات الحرية فإن المولود من أمته في ملكه حر الأصل.(18/148)
ص -72- ... وإذا كان يترجح عنده إثبات حرية العتق براءة الكفيل على كل حال وكذلك براءة الكفيل بالاستيفاء منه توجب براءة الأصيل فكان في هذا الإقرار منفعة الوارث ببراءة ذمته.
وكذلك لو أقر بالقبض من أجنبي تطوع به عن الوارث أو أقر بحوالة أجنبي عن الوارث فهذا باطل لتضمنه الإقرار ببراءة الوارث وإن كان قبض المال من الوارث أو ممن أدى عنه بمعاينة الشهود جاز لانتفاء التهمة عن القبض المعاين وإنما فارق المريض الصحيح لعدم تمكن الصحة في تصرف المريض وفيما لاتهمة فيه المريض كالصحيح(18/149)
ولو وكل رجل رجلا ببيع عبده فباعه من بن الآمر ثم مرض الآمر فأقر بقبض الثمن منه أو أقر الوكيل بقبضه ودفعه إلى المريض لم يصدق في ذلك لما في هذا الإقرار من منفعة الوارث ببراءة ذمته عن اليمين فإن قيل أليس أن الوكيل بمنزلة العاقد لنفسه وهو صحيح قلنا في حقوق العقد نعم فأما في الواجب من اليمين فلا حق له بل هو للموكل وفي هذا الإقرار إذا صح سلامة اليمين للوارث وسقوط مزاحمة سائر الورثة عنه فلهذا لا يصدق الوكيل على ذلك فإن كان المريض هو الوكيل صدق وإن جحد الآمر ذلك لأن المشترى أجنبي من الوكيل وإقرار المريض باستيفاء دين واجب له على أجنبي صحيح فلأن يصح إقراره باستيفاء دين واجب لغيره كان أولى وحال مرض الوكيل في هذا الدين كحال صحته لأنه تصرف ليس مع وارثه ولا في محل فيه حق غرمائه أو ورثته وإن كان المشترى وارثا للوكيل والآمر وهما مريضان لم يصدق الوكيل علي ذلك لأن مجرد مرض الآمر يمنع صحة هذا الإقرار فمرضهما أولى وإن كان المشترى وارثا للوكيل دون الآمر فإن أقر الوكيل أنه قبضه ودفعه إلى الآمر أو هلك المقبوض في يده فهو مصدق على ذلك وإن أقر بقبضه فقط لم يصدق على ذلك لأنه إذا أقر في الدين بالقبض لزمه ضمان المقبوض إذا مات مقرا به فكان هذا الإقرار منه إنما يبرئ ذمة وارثه ويلزمه المال فهو بمنزلة قبول الحوالة والكفالة عن وارثه بالمال أو تبرعه بالقضاء عنه وأما إذا قال: دفعته إلى الآمر أو ضاع مني فليس فيه التزام شيء في ذمته لأنه أمين في المقبوض فالقول قوله ولئن كان فيه منفعة للوارث فليس في مال تعلق به حق الورثة والمريض في ذلك والصحيح سواء.(18/150)
ولو أن مريضا عليه دين يحيط بماله أقر بقبض دين له على أجنبي فإن كان ذلك جائزا إذا كان وجوب الدين في الصحة لأن الغريم استحق براءة ذمته عند إقرار الطالب بالقبض منه فلا يبطل استحقاقه بمرض الطالب ولأن حق الغرماء لا يتعلق في مرضه بالدين وإنما تعلق حقهم بما لا يمكن استيفاء الدين منه واستيفاء الدين من المدين غير ممكن وكان إقراره باستيفاء ما لم يتعلق به حق غرمائه في المرض والصحة سواء بخلاف ما إذا كان الدين على الوارث لأن بطلان إقراره هناك لحق الوارث وحقهم يتعلق بالدين والعين فإن كان الغريم أخا له وله بن فمات الابن قبل الأب حتى صار الأخ من ورثته لم يجز إقراره بقبض الدين منه وقد بينا هذه الفصول في إقراره بالدين لمن لم يكن وارثا ثم صار وارثا بسبب قائم وقت(18/151)
ص -73- ... الإقرار فصار غير وارث فكذلك هذه الفصول في الإقرار بالاستيفاء إن أقر بالدين إذ الإقرار بالاستيفاء بالدين على ما بينا .
ولو خلع امرأته في مرضه على جعل وانقضت عدتها فأقر باستيفائه منها وليس عليه دين في الصحة ولا في المرض كان مصدقا لأنها بانقضاء العدة خرجت من أن تكون وارثة بيقين فإقراره باستيفاء الدين منها ومن أجنبي آخر سواء واشتراطه انقضاء العدة صحيح لأن إقراره قبل العدة تتمكن فيه تهمة المواضعة فإنها لو لم تساعده على الخلع حتى فارقها لا تخرج عن أن تكون وارثة فيحتمل أنها ساعدته على الخلع ليتضح إقراره باستيفاء الدين منها فلزوال هذه التهمة شرط انقضاء العدة وكذلك اشتراطه أن لا دين عليه في الصحة لأن دين الصحة مقدم على ما يقر به في المرض فأما اشتراطه أن لا دين عليه في المرض فسبب معاين صحيح
وإن كان المراد بسبب الإقرار فالمراد في حكم الاختصاص أنها إنما تختص بما في ذمتها إذا لم يكن على المقر دين في مرضه وكذلك لو صالح عن قصاص في مرضه على مال ثم أقر بقبضه وهو على غير وارثه صدق في ذلك بخلاف ما إذا كان على وارثه لأن بالصلح قد انقلب الواجب مالا ففي إقراره بقبضه من الوارث اتصال منفعة المالية إليه والمريض لا يملك ذلك في حق وارثه بخلاف عفوه عن القصاص فإن ذلك ليس بمال وإنما يمنع المريض من أن يقر لوارثه بما هو مال وإن أقر العبد التاجر بقبض دين كان له على مولاه فإن لم يكن عليه دين جاز لأن كسبه خالص حق مولاه ولأن العبد لا يستوجب على مولاه دينا إذ لم يكن عليه دين فبراءة المولى لا تكون بإقراره وإن كان عليه دين لم يجز إقراره بذلك لأن المولى يخلف عبده في كسبه خلافة الوارث حتى تتعلق سلامته له بشرط الفراغ عن الدين للعبد فيكون إقراره لمولاه في مرضه إذا مات منه بمنزلة إقرار المورث لوارثه وكما تمكن هناك تهمة إيثاره على سائر الورثة تمكن هنا تهمة إيثاره مولاه على غرمائه.(18/152)
وكذلك المكاتب إذا أقر بقبض دينه من مولاه وهو مريض ثم مات وعليه دين والمولى وارثه فإقراره باطل وإن لم يكن عليه دين أثلاثا ولهذا نظائر وأضداد ومن نظائرها الموصى له بجميع المال وبنصفه عند إجازة الورثة والموصى له بعين مع الموصى له بنصف ذلك العين إذا لم يكن للميت سواه ومن أضدادها العبد المأذون المشترك إذا أدانه أحد الموليين مائة وأجنبي مائة ثم بيع بمائة فالقسمة بين المدين والأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق العول أثلاثا وعندهما بطريق المنازعة أرباعا وكذلك المدبر إذا قتل رجلا خطأ وفقأ عين آخر وغرم المولى قيمته لهما.
وكذلك العبد إذا قتل رجلا عمدا وآخر خطأ وللمقتول عمدا ابنان فعفا أحدهما ثم دفع العبد بالجنايتين ومما اتفقوا على أن القسمة فيه بطريق العول التركة بين الورثة والغرماء(18/153)
ص -74- ... وضاقت التركة عن إيفاء حقوقهم والموصى له بالثلث والموصى له بالسدس إذا لم تجز الورثة ومما اتفقوا على أن القسمة فيه بطريق المنازعة فضولي باع عبد رجل بغير أمره وباع فضولي آخر نصفه فأجاز المولى البيعين فالقسمة بين المشتريين بطريق المنازعة أرباعا وأصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن قسمة العين متى وجبت بسبب حق في العين كانت القسمة على طريق العول فالتركة بين الورثة ومتى وجبت بسبب حق كان في العين كالأصل فالقسمة على طريق المنازعة كما في بيع الفضولي فإن حق كل واحد من المشتريين كان في الثمن يتحول بالشراء إلى المبيع.
وفي مسألة الدعوى حق كل واحد من المدعيين في العين فكانت القسمة على طريق العول لمعنى أن حق كل واحد منهما شائع في العين فما من جزء منه إلا وصاحب القليل مزاحم فيه صاحب الكثير بنصيبه فلهذا كانت القسمة بطريق العول والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن كل واحد منهما إذا كان يدلي بسبب صحيح معلوم فالقسمة على طريق العول كالورثة في التركة وإذا كان يدلي لا بسبب صحيح ثابت فالقسمة على طريق المنازعة وما لا منازعة فيه لصاحب القليل يسلم لصاحب الكثير في بيع الفضوليين فإن بيع كل واحد منهما غير صحيح قبل إجازة المالك وهذا لأن المضاربة إنما يصار إليها عند الضرورة وذلك عند قوة السبب واستواء السببين في صفة الصحة ففي مسألة الدعوى سبب استحقاق كل واحد منهما الشهادة وهي لا توجب شيئا قبل اتصال القضاء فلم يكن كل واحد من السببين معلوم الصحة فلهذا كانت القسمة على طريق المنازعة وما قال: يبطل بحق الغرماء في التركة فإن قسمة العين بسبب حق كان في الذمة ومع ذلك كانت القسمة عوليا.(18/154)
قال: فإن كان المدعون ثلاثة يدعى أحدهم جميعها والآخر نصفها والآخر ثلثها وأقاموا البينة فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله القسمة بطريق العول فتكون أصل المسألة من ستة يضرب مدعي الكل بسهام الدار ستة ومدعي الثلثين بسهام الثلثين أربعة ومدعى النصف بثلاثة فيقسم الدار بينهم على ثلاثة عشر سهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى القسمة بطريق المنازعة ولا منازعة لصاحب النصف والثلثين فيما زاد على الثلثين وصاحب الجميع يدعي ذلك فيسلم له بلا منازعة وما زاد على النصف إلى تمام الثلثين لا منازعة فيه لصاحب النصف فيكون بين صاحب الجميع والثلثين نصفين يبقي ستة استوت منازعتهم فيه فكان بينهم أثلاثا فيسلم لمدعي النصف سدس الدار ولمدعى الثلثين ربع الدار ولمدعي الجميع ما بقي وذلك سبعة أسهم من اثني عشر.
قال: ولو كانت الدار في يد رجلين فادعى أحدهما نصفها والآخر جميعها فالبينة على مدعي الجميع لأن دعوى كل واحد منهما منصرف إلى ما في يده أولا ليكون يده محقة في حقه وهذا لأن حمل أمور المسلمين على الصحة واجب فصاحب النصف لا يدعي شيئا مما في يد صاحب الجميع وصاحب الجميع يدعي شيئا مما في يد صاحب النصف فعليه إثباته(18/155)
ص -75- ... بالبينة فإن أقاما البينة فالدار كلها لصاحب الجميع لأنه إن اجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد فيما في يد صاحب النصف فبينة الخارج أولى بالقبول.
قال: ولو كانت الدار في يد ثلاثة نفر فادعى أحدهم جميعها والآخر ثلثيها والآخر نصفها وأقاموا البينة واستحلف كل واحد منهم ونكل فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى القسمة على طريق المنازعة بينهم فتكون من أربعة وعشرين سهما لأن في يد كل واحد منهم ثلث الدار ودعوى كل واحد منهم ينصرف إلى ما في يده ثم فيما فضل في ذلك إلى ما في يد صاحبه لأنه ليس أحدهما بأولى به من الآخر ولا بينة لكل واحد منهم فيما في يده فأما الثلث الذي في يد صاحب النصف لا بينة له في ذلك وصاحب الجميع يدعى الجميع وصاحب النصف يدعي الثلثين لأنه يدعي الثلثين ثلث في يده وثلث في يد صاحبه فيكون دعواه فيما في يد كل واحد منهما نصف الثلث فيسلم نصف هذا الثلث لصاحب الجميع بلا منازعة والنصف الآخر بينهما نصفان لاستواء منازعتهما فيه فصار هذا الثلث على أربعة والثلث الذي في يد صاحب الثلثين صاحب الجميع يدعي جميعه وصاحب النصف يدعي ربعه لأنه يدعي النصف والثلث في يده فإنما بقي الثلث في يد صاحبه فكان دعواه في يد كل واحد منهما نصف السدس وذلك ربع ما في يديه فثلاثة أرباع ما في يده سالم لصاحب الجميع واستوت منازعتهما في الربع فكان بينهما نصفين وما في يد صاحب الثلثين صاحب الجميع يدعى صاحب الثلثين نصفه وصاحب النصف ربعه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما ثم مات المشتري وأحد الغرماء وارثه واكتسب العبد مالا في مرضه ثم مات فإن ماله يقسم بين غرمائه الثلاثة الباقين كل منهم يضرب بدينه ويضرب الوارث بدينه ولا يضرب الذي أعتقه بدينه لأن الديون كلها واجبة في ذمته لم يقض شيء منها من ثمنه.(18/156)
والدين الواجب في ذمة العبد يقضى من كسبه بعد موته إلا أن دين المشتري قد سقط عنه لأنه ملك رقبته والمولى لا يستوجب على عبده دينا وقد كان يحول حقه إلى الثمن الذي قبضه القاضي فلما هلك ذلك فات محل حقه أصلا فسقط دينه فلهذا لا يضرب في الكسب الذي بعد العتق بشيء وأما وارث المشتري فهو أجنبي عن العبد فدينه ثابت في ذمته بعد العتق كدين الآخرين وهو وإن صار وارثا للعبد بموت المشتري فإنما صار وارثا بسبب حادث بعد الإقرار وهو الولاء فلا يبطل ذلك إقراره فلهذا يضرب مع الآخرين بدينه.
وكذلك إن كان أحد غرماء الدين أقر لهم وارث العبد لأنه حين أقر له لم يكن وارثه فلا يبطل إقراره له وإن صار وارثا بعد ذلك ولو أن مريضا أقر لابنه بدين وابنه عبد ثم عتق ثم مات الأب وهو وارثه فإقراره بالدين جائز لأن كسب العبد لمولاه فهذا الإقرار حصل من المريض في المعنى للمولى والمولى أجنبي منه فبان صار العبد من ورثته لا يبطل ذلك الإقرار وهذا هو المعنى في الفصل الأول أن الدين الواجب على العبد بإقراره يتعلق برقبته وكسبه وذلك لمولاه دونه فبأن صار المقر له وارثا له بعد ذلك لا يبطل به الإقرار المتقدم(18/157)
ص -76- ... وإن وجب قضاء من كسب هو خالص حق العبد بعد العتق لأن هذا حكم يثبت بسبب حادث وهو الإعتاق وقد بينا أن من صار وارثا بسبب حادث بعد الإقرار لا يبطل الإقرار به بخلاف من ورث بسبب قائم وقت الإقرار وإن كان العبد تاجرا وعليه دين والمسألة بحالها فالإقرار باطل لأن كسب العبد التاجر لا يكون لمولاه ففي هذا الإقرار منفعة للعبد من حيث أنه يقضى به دينه وقد صار وارثا بسبب كان قائما وقت الإقرار فلهذا بطل إقراره فأما إذا لم يكن عليه دين فكسبه يكون ملكا لمولاه ويجعل هذا كالإقرار للمولى ولو أقر المريض لابنه وهو مكاتب ثم مات الأب والابن مكاتب على حاله فإقراره له جائز لأن المكاتب ليس من جملة الورثة فإنما كان مقرا بهذا الدين لأجنبي وإن عتق المكاتب قبل موت الأب لم يجز إقراره له لأنه صار وارثا بسبب كان قائما وقت الإقرار وكسبه بعد العتق له فكان هذا الإقرار موجبا إيصال النفع إلى وارثه فلهذا لم يصح.
ولو أقر المكاتب في مرضه لابنه الحر بدين ثم مات مكاتبا ولم يترك وفاء أو ترك وفاء بالدين دون المكاتبة فالإقرار جائز لأنه مات عبدا عاجزا فلا يكون ابنه من ورثته فكان الإقرار له كالإقرار للأجنبي وهذا لأن الدين مقدم على المكاتبة لأنه أقوى ألا ترى أنه لا يملك إسقاطه عن نفسه بخلاف بدل الكتابة فإذا كان الدين مقدما فهو لم يترك وفاء ببدل الكتابة وإن ترك وفاء بذلك كله كان إقراره بالدين باطلا لأنه يؤدي كتابته ويحكم بعتقه مستندا إلى حال حياته فيكون ابنه من ورثته وموجب إقراره قضاء الدين من كسبه وكسبه حقه فإذا حصل إقراره لمن يرثه بسبب قائم وقت الإقرار كان الإقرار باطلا والله أعلم بالصواب.
باب الاستثناء(18/158)
قال: رحمه الله: وإذا أقر الرجل أن لفلان عليه ألف درهم إلا تسعمائة وخمسين درهما فاستثناؤه جائز وعليه خمسون لأنه عطف الخمسين على التسعمائة وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه مستثنى فكذلك المعطوف وقد بينا أن الاستثناء صحيح إذا كان يبقى ما وراء المستثنى شيء فجعل الكلام عبارة عنه قل ذلك أو كثر والباقي وراء المستثنى فكان مقرا بها بهذه العبارة بخلاف ما لو قال: إلا ألف درهم فإنه لا يبقى وراء المستثنى شيء مما تناوله كلامه ليصير الكلام عبارة عنه فيكون هذا رجوعا عن الإقرار لا استثناء والرجوع باطل وإن كان موصولا لأنه إنما يصلح موصولا ما يكون فيه معنى البيان لأول كلامه والإبطال ليس من البيان في شيء فلم يصح وإن كان موصولا .
ولو قال: له علي ألف درهم إلا دينارا فالاستثناء جائز ويطرح من الألف قيمة الدينار وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف استحسانا وفي القياس لا يصح هذا الاستثناء وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وكذلك لو قال: إلا فلسا أو كر حنطة أو استثنى شيئا مما يكال أو يوزن أو يعد عدا فهو على هذا الخلاف فأما إذا قال: إلا شاة أو ثوبا أو عرضا من(18/159)
ص -77- ... العروض فالاستثناء باطل عندنا وقال الشافعي: رحمه الله تعالى صحيح ويطرح عنه بقدر قيمة المستثنى أما الكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى بناء على الاختلاف في موجب الاستثناء فعنده موجب الاستثناء امتناع ثبوت الحكم في المستثنى لقيام الدليل المعارض بمنزلة دليل الخصوص في العموم فإذا قال: لفلان علي عشرة إلا درهم يصير كأنه قال: إلا درهم فإنه ليس علي فلا يلزم الدرهم للدليل المعارض لأول كلامه لأنه يصير كالاستثناء الدعوتين القول قول صاحب اليد كما لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل كان هو أولى بها ولأن الظاهر شاهد له ولأن وضعه الجذوع دليل على أنه بنى الحائط لحاجته إذا وضع حمله عليه ومثل هذه العلامة تثبت الترجيح كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت يجعل ما يصلح للرجل للرجل وما يصلح للنساء للمرأة وإن كان لأحدهما عليه هو أدى أو يواري لا يستحق به شيئا لأن هذا ليس بجهل مقصود بني الحائط لأجله فلا يثبت به الترجيح كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليه مخلاة علقها لا يستحق به الترجيح بخلاف الجذوع فإنه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله فيثبت له اليد باعتباره.(18/160)
وكذلك إن كان لأحدهما عليه جذوع أو اتصال وللآخر بواري فهو لصاحب الجذوع والاتصال وإن كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر اتصال فصاحب الجذوع أولى ومراده من هذا مداخله إنصاف اللبن بعضها في بعض إذا كان من أحد الجانبين هذا النوع من الاتصال ببناء أحدهما لأن وضع الجذوع استعمال للحائط والاتصال مجاورة واليد تثبت بالاستعمال دون المجاورة فكان صاحب الجذوع أولى كما لو تنازعا في دابة واحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن صاحب الاتصال أولى لأن الكل صار في حكم حائط واحد فهذا النوع من الاتصال في بعضه متفق عليه لأحدهما فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه ولأن الظاهر أنه هو الذي بناه مع حائطه فمداخله أنصاف للبن لا يتصور إلا عند بناء لحائطين معا فكان هو أولى.
قال في الكتاب: إلا أن يكون اتصال تربيع بيت أو دار فيكون لصاحب الاتصال حينئذ وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول صفة هذا الاتصال أن يكون هذا الحائط المتنازع من الجانبين جميعا متصلا بحائطين لأحدهما والحائطان متصلان بحائط له بمقابلة الحائط المتنازع حتى يصير مربعا شبه القبة فحينئذ يكون الكل في حكم شيء واحد فصاحب الاتصال أولى والمروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع بحائطين لأحدهما فأما اتصال الحائطين بحائط أخرى غير معتبر وعليه أكثر مشايخنا رحمهم الله لأن الترجيح إنما يقع له يكون ملكه محيطا بالحائط المتنازع من الجانبين وذلك يتم بالاتصال بجانبي الحائط المتنازع ولصاحب الجذوع موضع جذوع على الآخر وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة وقضى له به يؤمر الآخر بدفع جذوعه لأن استحقاق صاحب الاتصال بالظاهر وهو حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير فلا يستحق به على صاحب الجذوع رفع جذوعه.(18/161)
ص -78- ... فإن قيل لما قضى بالحائط لصاحب الاتصال فينبغي أن يأمر الآخر برفع الجذع لأنه حمل موضوع له في ملك الغير بغير سبب ظاهر لاستحقاقه كما لو تنازعا في دابة ولأحدهما عليها حمل وللأخر مخلاة يقضى لصاحب الحمل ويؤمر الآخر برفع المخلاة قلنا لأن وضع المخلاة على دابة الغير لا يكون مستحقا له في الأصل بسبب فكان من ضرورة القضاء بالدابة لصاحب الحمل أمر الآخر برفع المخلاة فأما هنا فقد يثبت له حق وضع الجذوع على حائط لغيره بأن كان ذلك مشروطا في أصل القسمة فليس من ضرورة الحكم لصاحب الاتصال استحقاق رفع الجذوع على الآخر وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة وقضي له به يؤمر الآخر برفع جذوعه لأن البينة حجة للاستحقاق فيستحق صاحبها رفع جذوعه عن ملكه وإن لم يكن متصلا ببناء أحدهما ولم يكن عليه جذوع فهو بينهما نصفان لاستوائهما فيه في اليد حكما فإنه بكونه بين داريهما يثبت لكل واحد منهما عليه اليد حكما وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات وللآخر عليه خشبة واحدة فلكل واحد منهما ما تحت خشبته ولا يكون بينهما نصفان استحسن ذلك في الخشبة والخشبتين وهكذا ذكر في كتاب الصلح.(18/162)
وقال في كتاب الإقرار: الحائط كله لصاحب عشر خشبات إلا موضع الخشبة فإنه لصاحبها وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن الحائط بينهما نصفان وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو القياس ووجهه أن الاستعمال بموضع الخشبة يثبت يد صاحبها عليه فصاحب القليل فيه يستوي بصاحب الكثير كما لو تنازعا في ثوب عامته في يد أحدهما فطرف منه في يد الآخر كان بينهما نصفين ووجه رواية كتاب الإقرار لصاحب العشر خشبات عليه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله وليس لصاحب الخشبة الواحدة مثل ذلك ولأن الحائط لا يبنى لأجل خشبة واحدة عادة وإنما ينصب لأجلها اسطوانة فكان صاحب العشر خشبات أولى به كما في الدابة إذا كان لأحدهما عليها حمل مقصود وللآخر مخلاة يقضى بها لصاحب الحمل إلا أنه لا يرفع خشبة الآخر لأن استحقاق صاحب الخشبات باعتبار الظاهر يستحق به رفع الخشبة على الآخر وأما وجه رواية كتاب الدعوى أن الاستحقاق باعتبار وضع الخشبة فيثبت لكل واحد منهما الملك فيما تحت خشبته لوجود سبب الاستحقاق به في ذلك الموضع فأما ما بين الخشبات لم يذكر في الكتاب أنه يقضى به لأيهما لأن من أصحابنا رحمهم الله من قال: يقضى بالكل بينهما على إحدى عشر سهما عشرة لصاحب الخشبات وسهم لصاحب الخشبة الواحدة اعتبارا لما بين الخشبات بما هو تحت كل خشبة من الحائط وأكبرهم على أنه يقضى به لصاحب العشر رحمهم الله وعليه كر حنطة وقفيز شعير.
وجه قولهما أن الكلام موصول وفي حق الشعير إنما استثنى بعض ما أقر به فيكون صحيحا كما لو بدأ باستثناء الشعير فقال: إلا قفيز شعير وكر حنطة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول استثناؤه كر حنطة باطل فيكون ذلك لغوا من الكلام وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه في الشعير ومتى تخلل بين المستثنى والمستثنى منه كلام لغو كان الاستثناء(18/163)
ص -79- ... باطلا لأن شرط صحة الاستثناء الوصل والكلام اللغو فاصل بمنزلة السكوت أو أبلغ منه فإن التكلم باللغو إعراض عن الجد وليس في السكوت إعراض وهذا باطل نظير اختلافهم فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله أو قال لعبده أنت حر وحر إن شاء الله وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الاستثناء باطل ويقع الطلاق والعتاق جميعا لأن كلامه الثاني لغو فصار فاصلا وعندهما الاستثناء صحيح لكون الكلام موصولا ظاهرا ولو قال: لفلان على ألف درهم ولفلان مائتا دينار إلا ألف درهم كان الاستثناء جائزا من الدنانير لأن المقر له إذا كان مختلفا فالاستثناء من المال الذي وصله به وإنما وصل الاستثناء بالدنانير هنا واستثناء ألف درهم من مائتي دينار صحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأنه استثناء بعض ما تكلم به بطريق المستثنى المعين.
ولو قال: لفلان ألف درهم استغفر الله إلا مائة درهم كان الاستثناء باطلا لأنه فصل بينه وبين الإقرار بما ليس من جنسه ولا هو راجع إلى تأكيد الإقرار فكان بمنزلة الفصل بالسكتة وكذلك لو ذكر بين المستثنى والمستثنى منه تهليلا أو تكبيرا أو تسبيحا لأن هذه كلمة ليست من الإقرار في شيء فيتحقق الفصل بها كما يتحقق بالسكوت وشرط صحة الاستثناء الوصل ولو قال: لفلان علي مائة يا فلان إلا عشرة دراهم كان الاستثناء جائزا لأن قوله يا فلان نداء للمخاطب لينبهه فيستمع كلامه فكان كلامه راجعا إلى تأكيد الإقرار فلا يوجب الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بخلاف ما سبق.(18/164)
ولو قال: لفلان علي مائة درهم فاشهدوا علي بذلك إلا عشرة دراهم كان الاستثناء باطلا لوجهين: أحدهما أنه أمرهم أن يشهدوا على ألف ولا يكون ذلك مع صحة الاستثناء والثاني أن قوله: فاشهدوا على ذلك كلام آخر أعقب الإقرار به بحرف التعقيب وهو الفاء ولو عطف على الإقرار بحرف الواو كان فاصلا بين المستثنى والمستثنى منه فكذلك إذا أعقبه به وهذا لأنه كلام مفيد مفهوم المعنى بنفسه فلا يكون تابعا للكلام الأول بل يصير فاصلا بخلاف قوله يا فلان فإنه ليس بكلام مفهوم المعنى بنفسه فكان من تتمة المراد بالكلام الأول فلا يوجب الفصل بين المستثنى والمستثنى منه
ولو قال: لفلان علي ألف درهم إلا عشرة دراهم أقبضتها إياه كانت عليه الألف كلها لأن قوله أقبضتها صفة العشرة وقوله إلا عشرة ظاهره استثناء العشرة على أن لا يكون واجبا أصلا ويحتمل أن يكون المراد الاستثناء على أنها ليست بواجبة في الحال لسقوطها عنه بالقضاء فكان بيانه المذكور بقوله أقبضتها من محتملات كلامه فيصح منه وإذا صح كان منه دعوى القضاء في العشرة ودعوى القضاء منه غير مقبول من غير حجة سواء ادعاه في بعض المال أو في كله لأن صحة الاستثناء بطريق أنه يكون عبارة عما وراء المستثنى وذلك لا يتحقق هنا لأنه لا يبقى أصل الوجوب فيما زعم أنه قضاه من المال وكذلك لو قال: إلا عشرة دراهم قد أقبضتها إياه لأن حرف قد حرف التأكيد فدعواه القضاء في العشرة مع حرف التأكيد وبدون حرف التأكيد سواء.(18/165)
ص -80- ... ولو قال: إلا عشرة دراهم وقد أقبضتها إياه كان عليه الألف إلا عشرة لأن قوله وقد أقبضتها كلام معطوف على المستثنى فلا يكون للمستثنى إذ ليس بين الوصوف والموصف حرف العطف فيكون هذا منه دعوى القضاء في أصل المال فيبقى استثناؤه العشرة صحيحا بخلاف الأول فإنه لم يذكر حرف العطف هناك بين العشرة وذكر القضاء ألا ترى أنه إذا قال: زيد عالم كان صفة لزيد وإذا قال: زيد وعالم لا يكون قوله وعالم صفة لزيد لأن الوصف لا يعطف على الموصوف.(18/166)
ولو قال: له علي ألف درهم إلا درهما أقبضتها إياه كانت عليه ألف درهم لأن قوله أقبضتها لا يمكن أن يجعل صفة للمستثنى فإنه ذكر فيه حرف التأنيث فيكون صفة لما يعبر عنه بعبارة التأنيث والمستثنى يعبر عنه بعبارة التذكير فعرفنا بهذا أن قوله أقبضتها دعوى القضاء منه في أصل المال فبقي استثناؤه الدراهم صحيحا ولو قال: علي درهم غير دانق من ثمن بقل قد أقبضته إياه كان عليه درهم هكذا ذكره في نسخ أبي سليمان رحمه الله لأن قوله قد أقبضته صفة للدانق الذي استثناه فكان هذا منه دعوى القضاء في الدانق لا الاستثناء على الحقيقة فلزمه درهم وقال في نسخ أبي حفص رحمه الله عليه درهم إلا دانقا قال الحاكم رحمه الله هذا أقرب إلى وفاق ما اعتل به في المسألة لا في تعليل المسألة قال: لأنه قطع بين الاستثناء وبين القضاء بكلام فصار القضاء على ألف درهم ومعنى هذا التعليل أن دعوى القضاء إنما يصير صفة للدانق إذا وصله به وقد تخلل بينهما كلام آخر هنا وهو قوله من ثمن بقل فصار دعوى القضاء منه على درهم وبهذا التعليل يتبين أن الجواب الصحيح ما ذكره في نسخ أبى به شيئا وليس لصاحب الدار أن يقطع الجذوع لأنها وجدت كذلك ويحتمل أن تكون حجة لذلك إلا أن تكون نفس الجذوع بحق مستحق لصاحبها فلا يكون لصاحب الدار أن يقطعها إلا بحجة والظاهر لا يصلح حجة كذلك إلا أن تكون جذوعا لا يحمل على مثلها شيئا إنما هو أطراف جذوع خارجة في داره فحينئذ يكون له أن يقطعها لأن عين الجذوع غير مقصودة بعينها إنما المقصود هو البناء عليها فما لا يبنى على مثله لا يجوز أن يكون مستحقا له في ملك الغير فكان لصاحب الدار أن يقطعها وما يبنى عليه يجوز أن يكون مستحقا له بسبب فلا يكون له قطعها ما لم يتبين أنه أحدث نصبها غصبا .(18/167)
قال: وإذا كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم لم يجبر صاحب السفل على بناء السفل لأنه ملكه ولا يجبر صاحب الملك على بناء ملكه فله حق التدبير في ملك نفسه كإنشاء بيع أو بناء بخلاف ما إذا كان صاحب السفل هو الذي هدمه لأنه صار متعديا بالهدم لما لصاحب العلو في بناء السفل من حق قرار العلو عليه فيجبر على بنائه بحقه كالراهن إذا قبل المرهون أو المولى قبل عبده المديون فأما عند الانهدام لم يوجد من صاحب السفل فعل هو عدوان ولكن لصاحب العلو أن يبني السفل ثم يبني عليه العلو لأنه لا يتوصل إلى بناء ملكه إلا ببناء السفل فكان له أن يتطرق ببناء السفل ليتوصل إلى حقه ثم يمنع صاحب(18/168)
ص -81- ... السفل من أن يسكن سفله حتى يرد علي صاحب العلو قيمة البناء لأنه مضطر إلى بناء السفل ليتوصل إلى منفعة ملكه فلا يكون متبرعا فيه والبناء ملك الثاني فكان له أن يمنعه من الانتفاع بالبناء حتى يتملكه عليه بأداء القيمة وذكر الخصاف رحمه الله أنه إنما يرجع على صاحب السفل بما أنفق في بناء السفل ووجهه أنه مأذون في هذا الإنفاق شرعا فيكون كالمأمور به من صاحب السفل لأن للشرع عليه ولاية.
ووجه هذه الرواية أن البناء ملكه فيتملكه عليه صاحب السفل بقيمته كثوب الغير إذا انصبغ بصبغ غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذ ثوبه يعطي صاحب الثوب ما زاد الصبغ في الثوب لأن الصبغ ملك صاحب الصبغ في ثوبه وذكر في الأمالى عن أبي يوسف رحمه الله أن السفل كالمرهون في يد صاحب العلو ومراده من ذلك منع صاحب السفل من الانتفاع بسفله بمنزلة الرهن .(18/169)
قال: ولو كان بيت بين رجلين أو دار فانهدمت لم يكن لأحدهما أن يجبر صاحبه على البناء لأن تمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر بقسمة الساحة ممكن فإن بناها أحدهما لم يرجع على شريكه بشيء لأنه غير مضطر في هذا البناء فإنه يتمكن من مطالبة صاحبه بالقسمة ليبني في نصيب نفسه بخلاف العلو والسفل وكذلك الحائط إن لم يكن عليه جذوع لأن أس الحائط محتمل للقسمة بينهما إلا أن يكون بحيث لا يحتمل القسمة نحو الحائط المبني بالخشبة فحينئذ يجبر أحدهما على بنائه وإذا بناه أحدهما منع صاحبه من الانتفاع به حتى يرد عليه قيمة نصيبه كالعبد المشترك إذا كان عاجزا عن الكسب وامتنع أحد الشريكين من الإنفاق عليه كان لصاحبه أن يجبره على ذلك وإن كان على الحائط جذوع لهما فلأحدهما أن يجبر صاحبه على المساعدة معه في بنائه وإن لم يساعده على ذلك بناه بنفسه ثم يمنع صاحبه من وضع جذوعه عليه حتى يرد عليه قيمة حصته من البناء لأن لكل واحد منهما حقا في نصيب صاحبه من حيث وضع الجذوع عليه وذلك يبطل بقسمة أس الحائط بينهما فإن كان الجذوع على الحائط لأحدهما دون الآخر فلصاحب الجذوع أن يبين الحائط ولا يشاجر صاحبه على المطالبة بقسمة الحائط لأن له حق وضع الجذوع على نصيب صاحبه فإن كان هو الذي يطالب بالقسمة فليس له أن يمتنع من ذلك لأن ترك القسمة كان لحقه وقد رضي هو بسقوط حقه وصار هو في حق الآخر كأنه ليس لواحد منهما عليه جذوع وكذلك الحمام المشترك إذا انهدم فهو بمنزلة الدار لأن قسمة الساحة ممكن فإذا بناه أحدهما لم يرجع على صاحبه بشيء .(18/170)
قال: وإذا كان لرجل باب من داره في دار رجل فأراد أن يمر في داره من ذلك الباب فمنعه صاحب الدار فصاحب الباب هو المدعي للطريق في دار الغير فعليه إثباته بالبينة ورب الدار هو المنكر فالقول قوله مع يمينه وبفتح الباب لا يستحق شيئا لأن فتح الباب رفع جزء من الحائط ولو رفع جميع حائطه لا يستحق به في ملك الغير شيئا فكذلك إذا فتح بابا وقد(18/171)
ص -82- ... يكون فتح الباب لدخول الضوء والريح وقد يكون للاستئناس بالجار والتحدث معه فلا يكون ذلك دليلا على طريق له في الدار فإن أقام البينة أنه كان يمر في هذه الدار من هذا الباب لم يستحق بهذه الشهادة شيئا لأنهم شهدوا بيد كانت له في هذا الطريق فيما مضى وبهذه الشهادة لا يستحق المدعي شيئا .
ألا ترى إنا لو عايناه مر فيه مرة لم يستحق به شيئا إلا أن يشهدوا أن له فيه طريقا ثابتا فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم والطريق يجوز أن يكون مستحقا له في دار الجار في أصل القسمة أو أوصى له به فتقبل البينة على إثباته وإن لم يجدوا الطريق ولم يسموا ذرع العرض والطول بعد أن يقولوا أن له طريقا في هذه الدار من هذا الباب إلى باب الدار فالشهادة مقبولة ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويله إذا شهدوا على إقرار الخصم بذلك فالجهالة لا تمنع صحة الإقرار فأما إذا وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا الإقرار والشهادة كل واحد منهما خبر عن أمر ماض وما كان ماضيا فليس بمتيقن عنده في الحال لا في حق نفسه ولا في حق غيره لجواز أن يكون عنده أن الدين واجب عليه وليس بواجب لإبراء الطالب إياه واستيفائه منه تبرأ من ماله أو تبرع أجنبي بالقضاء عنه أو لمفسد يمكن في أصل السبب فيمتنع وجوب المال به وكان قوله فيما أعلم استثناء لليقين في الفصلين جميعا وعلى هذا الخلاف.
لو قال: له علي ألف درهم في علمي وإن قال: قد علمت أن له علي ألف درهم فهذا إقرار بالاتفاق وبه يستدل أبو يوسف رحمه الله والفرق هنا أن حرف قد للتأكيد فقد أكد علمه بما أخبر به فكان ذلك منه تأكيدا لإقراره والشاهد لو قال: قد علمت فأنا أشهد عليه بما قد علمت لم يكن ذلك قدحا في شهادته فكذلك لا يكون قدحا في إقراره.(18/172)
ولو قال: له علي ألف درهم فيما أظن أو فيما ظننت أو فيما أحسب أو فيما حسبت أو فيما أرى أو فيما رأيت فهو كله باطل لأن هذه الألفاظ إنما تذكر في العادة لبيان شكه فيه واستثناء بقية وفرق بين قوله فيما رأيت أو حسبت وبين قوله فيما قد علمت لأن مطلق العلم يطلق على ما يتيقن به بخلاف الحسبان والظن والرؤية فقد يتراءى شيء للإنسان وإن لم يكن له حقيقة كالظمآن يرى السراب من بعيد فيتراءى أنه ماء ولا حقيقة لذلك.
ولو قال: له علي ألف درهم في شهادة فلان أو في علم فلان لم يلزمه شيء لأن هذه اللفظة في العادة إنما تذكر لبيان أن الأمر بخلاف ما يشهد به فلان أو يعلمه ويكون هذه إنكارا لا إقرارا بخلاف ما لو قال: بشهادته أو بعلمه لأن الباء للإلصاق ولا يتحقق إلصاق بشهادة فلان وعلمه بما أقر به إلا بعد وجوبه فكان مقرا بوجوب المال عليه مؤكدا لذلك بعلم فلان وشهادته وإن قال: في قوله أو بقوله أو بحسابه أو في حسابه أو في كتابته أو في كتابه لم يلزمه شيء لأن قوله فلان لا أثر له في وجوب المال ولا حسابه فمقصودة من هذه الألفاظ بيان أن الأمر بخلاف ما يقوله فلان ويحسبه ويكتب به بخلاف الشهادة والعلم فإن الشهادة(18/173)
ص -83- ... مما يؤكد بها الواجب والعلم يطلق على ما يتيقن به فلهذا فرق بين هذه الألفاظ ولو قال: بصكة أو في صكة أو في صك ولم يضفه إلى أحد فالمال واجب عليه لأن الصك اسم خالص لما هو وثيقة بالحق الواجب فهذا منه تأكيد لما أقر به من المال.
ألا ترى أنه لو قال: في سجل أو سجله كان المال لازما له وكذلك لو قال: في كتاب أو من كتاب بيني وبينه أو من حساب أو في حساب بيني وبينه فهذا كله إقرار لأن مثل هذا اللفظ يذكر لبيان سبب وجوب المال وبيان المحل الذي أثبت فيه وجوب المال عليه فلا يكون قدحا في إقراره وكذلك لو قال: علي صك بألف درهم أو كتاب أو حساب بألف لزمه المال لأن الباء للإلصاق ولا يتحقق إلصاق الألف بالصك والكتاب والحساب إلا بعد وجوبه .
ولو قال: له علي ألف درهم من شركة بيني وبينه أو من شركة ما بيني وبينه أو من تجارة بيني وبينه أو من خلطة لزمه الألف في جميع ذلك لأن حرف من للتبعيض ولا يتحقق كون الألف من الشركة والتجارة والخلطة بينهما إلا بعد وجوبها ولو قال: له علي ألف درهم في قضاء فلان وهو قاض أو في فلان الفقيه أو هنا أو في فقهه لم يلزمه شيء لأن قوله في قضاء فلان كقوله في شهادة فلان أو في علم فلان وقد بينا أن المراد من هذا اللفظ بيان الأمر بخلاف ما في علمه فكذلك هنا وقوله شهادة بمنزلة قوله بقول فلان لأن شهادته قوله فإن قال: بقضاء فلان وفلان قاض يلزمه المال كقوله بشهادة فلان وبعلمه لأنه ألصق القضاء بالمال فالمال المقضي به لا يكون إلا واجبا وإن لم يكن فلان قاضيا فقال الطالب حاكمته إليه فقضى لي عليه لزمه المال لأن قضاء الحكم في حق الخصمين كقضاء القاضي في حق الناس كافة فكان قوله بقضائه بيانا لتأكيد المال عليه بهذا السبب وإن تصادقا على أنه لم يحاكمه إليه لم يلزمه شيء لأنه لم ينتصب قاضيا في حقهما قط فلا يكون قضاؤه ملزما إياه شيئا فهذا وقوله يقين فلان سواء .(18/174)
وإن قال: لفلان علي ألف درهم في ذكره أو بذكره لم يلزمه شيء بمنزلة قوله في حسابه أو بحسابه أو في كتابه أو بكتابه لأنه ذكر كتابه وذلك غير ملتزم فكيف يلزم غيره وإن قال: لفلان علي كر حنطة من سلم أو بسلم أو بسلف أو من سلف لزمه ذلك لأن السلف والسلم عبارتان عن شيء واحد وهذا أخذ العاجل بالآجل فكان هذا منه بيانا لسبب وجوب الكر عليه وعلى هذا لو قال له علي مائة درهم من ثمن بيع أو ببيع أو لبيع أو من قبل بيع أو من قبل إجارة أو بإجارة أو بكفالة أو لكفالة أو على كفالة لزم المال لأن هذا كله بيان وسبب وجوب المال منه وهو سبب صحيح فيلزمه المال به .
ولو قال: لفلان علي ألف درهم إلا شيئا يلزمه خمسمائة وزيادة بقدر ما بينه لأن الجهالة في المستثنى لا تكون أكثر ما يبرأ من الجهالة في المقر به فكما أن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار فكذلك جهالة المستثنى لا تمنع صحة الاستثناء بل أولى لأن المقر به مثبت والمستثنى غير مثبت فإذا صح الاستثناء مع الجهالة كان ينبغي أن يجعل القول قوله في(18/175)
ص -84- ... بيان المستثنى سواء بينه بقدر النصف أو أكثر أو أقل ولكنا تركنا هذا القياس فيه للعادة فإن العادة جارية أن المستثنى يكون أقل من النصف وأنه إنما يختار العادة عن الواجب بذكر حمله مع الاستثناء إذا كان المستثنى أقل من الواجب وتتضح هذه العادة في هذا الفصل فإن قوله إلا شيئا إنما يعبر به عن القليل عادة فهو وقوله إلا قليلا سواء فلهذا لزمه خمسمائة وزيادة ولا طريق لنا إلى معرفة تلك الزيادة سوى الرجوع إلى بيانه بخلاف إلا تسعمائة فإن هناك نص على بيان قدر المستثنى ولا معنى للعادة مع النص بخلافه.
وكذلك لو قال: له على زهاء ألف درهم أو عظم ألف درهم أو جل ألف درهم أو قريب من ألف درهم فهذا وما سبق سواء لأنه وصف الواجب بأنه عظم الألف ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان أكثر من النصف وقدر الزيادة على النصف لا طريق لنا إلى معرفته سوى الرجوع إلى بيانه فإن مات المقر كان القول فيما زاد على خمسمائة إلى ورثته لأنهم قائمون مقامه وقضاء المال من التركة واجب عليهم فلما كان بيانه مقبولا فكذلك بيانهم بعده وكذلك هذا في الغصب الوديعة وغيرهما وكذلك هذا في المكيل والموزون والثياب وكل شيء يجوز فيه السلم.(18/176)
ولو قال: له على ما بين درهم إلى مائتي درهم فتسعه وتسعون درهما في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله مائتا درهم وفي قول زفر رحمه الله عليه مائة وثمانية وتسعون درهما والقياس ما قاله زفر رحمه الله فإنه جعل الدرهم الأول والآخر حدا ولا يدخل الحد في المحدود كمن يقول لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط أو بين هذين الحائطين لا يدخل الحائطان في الإقرار فكذلك هنا لا يدخل الحدان لأن الحد غير المحدود وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا هذا كذلك في حد هو قائم بنفسه كما في المحسوسات فأما فيما ليس بقائم بنفسه فلا لأنه إنما يتحقق كونه حدا إذا كان واجبا فأما ما ليس بواجب لا يتصور حدا لما هو واجب وأبو حنيفة رحمه الله يقول الأصل ما قاله زفر رحمه الله أن الحد غير المحدود وما لا يقوم بنفسه ذكرا وإن لم يكن واجبا إلا أن الغاية الأولى لا بد من إدخالها لأن الدرهم الثاني والثالث واجب ولا يتحقق الثاني بدون الأول لأن الكلام يستدعي ابتداء فإذا أخرجنا الأول من أن يكون واجبا صار الثاني هو الابتداء فيخرج هو من أن يكون واجبا ثم الثالث والرابع هكذا بعده فلأجل هذه الضرورة أدخلنا فيه الغاية الأولى ولا ضرورة في إدخال الغاية الثانية فأخذنا فيها بالقياس.
ولو قال: له على ما بين كر شعير إلى كر حنطة فعليه في قول أبي حنيفة رحمه الله كر شعير وكر حنطة إلا قفيز حنطة لأن القفيز الآخر من الحنطة هو الغاية الثانية وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يلزمه الكران.
ولو قال: له علي ما بين عشرة دراهم إلى عشرة دنانير فعند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه الدراهم وتسعة دنانير وعندهما يلزمه الدراهم وعشرة دنانير وكذلك لو قال: له على ما بين(18/177)
ص -85- ... عشرة دنانير إلى عشرة دراهم فعليه الدراهم وتسعة دنانير في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وقع في بعض نسخ أبي حفص رحمه الله في هذا الفصل أن عليه عشرة دنانير وتسعة دراهم وهو ظاهر عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الغاية الثانية من الدراهم هنا ولكن الأصح هو الأول وإليه أشار بعد هذا فقال: وكذلك الكيل والوزن سواء اختلف النوعان أو اتفقا فهو سواء والواحد من الأكثر هو الغاية فهذا بيان أن ما ينتقص باعتبار الغاية عنده من الأفضل أو آخره لأنه لا يلزمه إلا القدر المتيقن وإحدى الغايتين لما صار خارجا وجب الأخذ بالاحتياط فيه وجعل ذلك من الأفضل حتى لا يلزمه إلا المتيقن به وقوله من كذا إلى كذا بمنزلة قوله ما بين كذا وكذا في جميع ما ذكرنا والله أعلم.
باب الإقرار بشيء غير مسمى المبلغ
قال رحمه الله تعالى: وإذا أقر أن لفلان عليه دراهم ولم يسميها لزمه ثلاثة دراهم لأن إقراره حصل بصيغة الجمع وأدنى الجمع المتيقن دراهم ثلاثة والشافعي رحمه الله قال: أنه يلزمه درهمان بناء على أصله أن أدنى الجمع المثنى لأن في المثنى معنى الاجتماع ولكنا نقول لكلام العرب مبان ثلاثة الفرد والتثنية والجمع فذلك دليل على أن الجمع غير التثنية ومن حيث المعقول في المثنى يتعارض الإقرار من الجانبين فلا يترجح فيه أحد الجانبين وفي الثلاثة إنما يعارض فرض المثنى فيغلب فيه معنى الجمع على معنى المفرد ولم يرد في الكتاب على هذا وذكر بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله إذا قال: له علي دراهم مضاعفة لزمه ستة لأن أدنى الجمع ثلاثة وأدنى التضعيف مرة .(18/178)
ولو قال: له علي دراهم إضعافا مضاعفة يلزمه ثمانية عشر درهما لأن إضعاف لفظه الجمع فيصير تسعة فبالمضاعفة مرة يصير ثمانية عشر وكذلك لو قال: مضاعفة إضعافا لأن بالمضاعفة يصير ستة والإضعاف جمع وكذلك لو أقر فقال: له علي عشرة دراهم وإضعافها مضاعفة يلزمه ثمانون درهما لأن قوله وإضعافها ثلاثون وهي غير العشرة بحرف العطف فصارت أربعين وبالمضاعفة تصير ثمانين
وإن قال: له علي دراهم كثيرة لزمه عشرة في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن أكثر ما يتناول هذا اللفظ مقرونا بالعدد عشرة فقال: عشرة دراهم ثم قال: بعده أحد عشر درهما وعندهما يلزمه مائتا درهم لأن الكثير من الدراهم ما يحصل به الغنى لصاحبه وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة وأبو حنيفة رحمه الله يبني الجواب على اللفظ وهما على المعنى المقصود باللفظ وكذلك لو قال: له علي دنانير كثيرة فعليه عشرة دنانير عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما عشرون دينارا باعتبار نصاب الزكاة ولو قال: له علي كذا كذا درهما يلزمه أحد عشر درهما لأنه ذكر عددين مبهمين مركبين غير معطوفين وأدنى العددين المفسرين بهذه الصفة أحد عشر ولو قال: كذا وكذا درهما يلزمه أحد وعشرون درهما لأنه ذكر عددين مبهمين أحدهما معطوف على الآخر وأدنى ذلك في المفسرين أحد وعشرون فكذلك المبهم(18/179)
ص -86- ... يعبر به وعلى هذا الدنانير والكيل والوزن حتى إذا قال: كذا وكذا محتوما من حنطة كان عليه أحد عشر محتوما.
ولو قال: له علي كذا كذا درهما وكذا وكذا دينارا لزمه من كل واحد منهما أحد عشر اعتبارا لحالة الجمع بحالة الإقرار بخلاف ما لو قال: كذا كذا دينارا أو درهما يلزمه أحد عشر منهما بمنزلة ما لو فسره في الفصلين جميعا ولو قال: أحد عشر دينارا أو درهما يلزمه من كل واحد منهما النصف بخلاف ما إذا قال: أحد عشر دينارا أو درهما فكذلك عند إبهام العددين.
ولو قال: له علي مال عظيم من الدراهم فعليه ما تجب فيه الزكاة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو مائتا درهم على قياس مذهبهما عند الوصف بالكثرة ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله هنا وقيل مذهبه في هذا الفصل كمذهبهما لأنه في الفصل الأول بنى على لفظ الدراهم وذلك غير موجود هنا والأصح أن قوله بني على حال المقر في الفقر والغنى فإن القليل عند الفقير عظيم وإضعاف ذلك عند الغني ليس بعظيم وكما أن المائتين مال عظيم في حكم الزكاة فالعشرة مال عظيم في قطع السرقة وتقدير المهر بها فيتعارض فيرجع إلى حال الرجل وعلى حاله يبنى فيما بينه وعلى قول الشافعي رحمه الله البيان إلى المقر في ذلك فأي مقدار بين يؤخذ به لأن الإبهام حصل من جهته وهذا بعيد فإنه لو قال: علي مال ثم بينه بشيء يقبل ذلك منه ولا يجوز إلغاء قوله عظيم ولو قبلنا بيانه في القليل والكثير كناقد ألغينا تنصيصه على وصف العظيم وذلك لا يجوز .(18/180)
ولو قال: علي مال فالقول في بيان مقداره قوله قال: والدرهم مال وهذا إشارة إلى أن فيما دون الدرهم لا يقبل بيانه لأن ما دون الدرهم من الكسور لا يطلق اسم المال عليه عادة قال الحسن لعن الله الدانق ومن دنق الدانق ولو قال: له علي حنطة فالقول في ذلك ما قال ربع حنطة فما فوقه فإن الربع أدنى المقادير في الحنطة كالدرهم في الفصل الأول ولو قال: له علي عشرة دراهم ونيف فالقول في النيف ما قال درهم أو أقل منه أو أكثر لأن النيف عبارة عن الزيادة يقال: جبل منيف إذا كان مشرفا على الجبال ومنه سمي الأنف لزيادة خلقته في الوجه فكأنه قال: عشرة وزيادة واسم الزيادة يتناول الدانق وما زاد فإذا كان بيانه مطابقا للفظه كان مقبولا منه وإن قال: له علي بضعة وخمسون درهما فالبضعة ثلاثة دراهم فصاعدا ليس له أن ينقصه عن ثلاثة لأن البضع من ثلاثة إلى سبعة على ما روي أنه لما نزل قوله تعالى: {سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم:4] خاطر أبو بكر رضي الله عنه قريشا على أن الروم تغلب فارسا في ثلاث سنين وأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوات الله عليه: "كم تعدون البضع فيكم"؟ قال: من ثلاث إلى سبع فقال صلى الله عليه وسلم: "زد في الخطر وأبعد في الأجل" فهذا دليل على أن البضع ثلاثة.
ولو قال: له علي حق أوله قبلي شيء فالقول في بيان مقداره وجنسه قوله لأن ما(18/181)