يوضحه أن المحلية للنكاح باعتبار صفة المحل، ولهذا لا يجوز للمسلم نكاح المجوسية والمرتدة ولأخت من الرضاعة، والمسلمة ليست بمتحللة في حق الكافر فلانعدام المحل لا ينعقد النكاح ولكن يبقى لأن فوات المحل عارض على شرف الزوال فيمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع البقاء كالفوات بسبب العدة وكذلك القبض الذي يتم به العقد ليس فيه معنى الإذلال لأن ذلك يحصل بالتخلية وليس هذا نظير المحرم يشتري صيداً لأن الصيد في حق المحرم محرم العين قال الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فلم يكن مالا متقوما كالخمر في حق المسلم ولهذا لا يجوز بيعه أنه اشترى على ما ليس في ضمانه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وبيان ذلك أن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض فإذا عاد إليه الملك الذي زل عنه بعينه وبقي له بعض الثمن فهذا ربح حصل لا على ضمانه ولا يوجد هذا المعنى فيما إذا اشتراه بمثل الثمن الأول أو أكثر فالربح هناك يحصل للمشتري والمبيع قد دخل في ضمانه ولا كذلك فيما إذا باعه من غيره لأنه لا يحصل للمشتري هناك ربح إلا على ضمانه وكذلك إذا اشتراه البائع الأول من المشتري الثاني لأنه لم يعد إليه الملك المستفاد من جهته لأن اختلاف أسباب الملك بمنزلة اختلاف أسباب الأعيان وقد قررنا هذا وكذلك لو دخل في المبيع عيب ثم اشتراه البائع بأقل من الثمن الأول لأن الملك لم يعد إليه على الهيئة التي خرج عن ملكه فلا يتحقق فيه ربح ما لم يضمن ولكن يجعل النقصان بمقابلة الجزء والذي احتبس عند المشتري سواء كان النقصان بقدر ذلك أو دونه حتى إذا كان النقصان نقصان السعر فهو غير معتبر في العقود لأنه فتور في رغبات الناس فيه وليس فيه فوات جزء من العين فباعتباره لا يجوز شراؤه بأقل من الثمن الأول وكذلك لو اشتراه بجنس آخر غير جنس الثمن الأول فذلك جائز لأن الربح لا يظهر عند اختلاف الجنس فالفضل إنما(13/221)
يظهر في التقويم والبيع لا يوجب ذلك بخلاف ما إذا اشتراه بجنس الثمن الأول والفضل يظهر هناك من غير تقويم.
ولو كان العقد الأول بالدراهم فاشتراه بالدنانير وقيمتها أقل من الثمن الأول فهو جائز في القياس وهو قول زفر لأن الدراهم والدنانير جنسان بدليل أنه لا يجري الربا بينهما وفي الاستحسان هذا لا يجوز وهو مذهبنا لأنهما جنسان صورة وجنس واحد معنى فالمقصود منهما واحد وهو الثمنية ولهذا جعلا في أغلب الأحكام كجنس واحد فباعتبار أنهما جنسان(13/222)
ص -105- ... صورة يصح هذا العقد وباعتبار أنهما جنس واحد معنى لا يجوز هذا العقد وعند اجتماع المعنى الموجب للحل والموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إلا وقد غلب الحرام الحلال" ولأن ثبوت هذه الحرمة لأجل الربا وباب الربا مبنى على الاحتياط وكذلك لو اشتراه مملوك البائع الأول عبده أو مكاتبه بأقل من الثمن الأول لأن تصرف المملوك لمالكه من وجه فكسب العبد لمولاه وللمولى في كسب مكاتبه حق الملك فهو كشراء البائع بنفسه لمكان حقه في المقصود بالعقدين وإن اشتراه ولده أو والده أو زوجته فكذلك في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز لأن الاملاك بينهما متباينة فليس للولد في مال الوالد ملك ولا حق ملك فهو قياس ما لو اشترى أخوه وأبو حنيفة يقول إن كل واحد منهما يجعل بمنزلة صاحبه فيما يرجع إلى ملك العين ألا ترى أن شهادة أحدهما لصاحبه تجعل كشهادته لنفسه فكذلك شراء بن البائع وأبيه كشراء البائع بنفسه وهو نظير الخلاف الذي سبق أن الوكيل بالبيع عند أبي حنيفة لا يبيع ممن لا تجوز شهادته له كما لا يبيع من نفسه ومملوكه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز بيعه منه كما يجوز من أخيه وغيره من القرابات.(13/223)
قال: وإن اشترى وكيل البائع بأقل من الثمن الأول جاز في قول أبي حنيفة ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهو بناء على ما تقدم أن المسلم إذا وكل ذميا بشراء خمر له أو بيعها عند أبي حنيفة يجوز وينزل الوكيل في ذلك منزلة العاقد لنفسه فكذلك هنا الوكيل عنده كالعاقد لنفسه ثم الملك ينتقل إلى الموكل حكما فهو كما لو اشتراه لنفسه ثم مات فورثه البائع منه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هناك يعتبر حال الموكل ويجعل عقد الوكيل له كعقده لنفسه فهنا أيضا يجعل كذلك والموكل هنا بائع لا يجوز شراؤه بأقل من الثمن الأول فكذلك شراء الوكيل له إلا أن أبا يوسف يسوي بين الفصلين ويقول هناك التوكيل باطل والوكيل يصير في الشراء عاقدا لنفسه فهنا أيضا يصير الوكيل مشتريا لنفسه شراء صحيحا ومحمد يفرق بينهما فيقول هناك الوكيل يصير مشتريا لنفسه وهنا يصير مشتريا للموكل شراء فاسدا حتى يصير بقبض الوكيل مضمونا بالقيمة على الموكل لأن المسلم ليس من أهل العقد على الخمر حتى لو اشترى الخمر لنفسه لا يملك وإن قبض فكذلك توكيله بالشراء باطل أما البائع هنا فمن أهل مباشرة هذا العقد حتى لو اشتراه بنفسه انعقد شراؤه فاسدا فكذلك إذا وكل غيره فيه لأن التوكيل بالشراء الفاسد صحيح كالتوكيل بالشراء إلى الحصاد والدياس وبعد صحة الوكالة وبعد صحة الوكالة شراء الوكيل كشراء الموكل وقبض الوكيل للموكل فيصير مضمونا عليه بالقيمة ولكن أبو يوسف يقول متى أمكن تصحيح العقد لا يجوز إفساده إذ لا معارضة بين الفاسد والصحيح وهنا لو جعلناه مشتريا لنفسه كان الشراء صحيحا ولو جعلناه مشتريا للآمر كان الشراء فاسدا فينبغي أن يجعل مشتريا لنفسه شراء صحيحا وفيه شبهة على مذهب أبي حنيفة فإنه قال: إن البائع أو ابنه لا يشتريه لنفسه وما تحصل للبائع من(13/224)
ص -106- ... الملك بشراء الوكيل فوق ما تحصل بشراء ابنه لنفسه وإن جعل هذا نظير مسألة الخمر في الوكالة فكذلك ينبغي أن يجعل في شراء ابن البائع ومملوك البائع فإن المسلم إذا كان له عبد مكاتب أو عبد مأذون كافر فاشترى خمرا جاز شراؤه وكذلك لو كان له أب كافر فاشترى خمرا يجوز شراؤه فمن هذا الوجه يشكل مذهب أبي حنيفة.
قال الشيخ الإمام: الأصح عندي في إزالة هذا الأشكال أن المنع هنا لأجل العقد لا لأجل المعقود عليه بدليل أن أحد العقدين لو كان هبة كان كل واحد من العقدين صحيحا وكل من له الحق في العقدين جميعا لا يجوز منه الشراء كالبائع وليس للوكيل حق في العقد الأول فلهذا صح منه العقد الثاني وإن كان حكمه يثبت للبائع فأما الأب والابن فلهما حق في العقدين فنزلا منزلة البائع في ذلك بخلاف مسألة الخمر فهناك المنع لانعدام صفة المالية والتقوم في الخمر وإنما يعتبر ذلك في حق العاقد خاصة فإذا كان العاقد كافرا صح العقد سواء ثبت به حق الملك أو حقيقة الملك أو شبهة الملك لمسلم لأن ذلك يثبت بطريق الحكم.(13/225)
قال: ولو كان البائع والمشتري وكيلين في البيع الأول لم يجز للبائع أن يشتري بأقل من الثمن الأول قبل النقد لا من المشتري ولا من موكله لأن هذا المنع باعتبار العقد والعاقد لغيره في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه وكذلك ليس لموكل البائع أن يشتريه من المشتري ولا من موكله لأن وكيله إنما باع له فهو بمنزلة بيعه بنفسه في المنع من الشراء ألا ترى أن من باع أو بيع له لا يثبت له حق الأخذ بالشفعة فكذلك لا يجوز شراؤه بأقل من الثمن الأول قبل النقد وهذا لأن الربح لا على ضمانه الذي يحصل له قال: وإذا باع بألف درهم نسيئة سنة ثم اشتراه بألف درهم بنسيئة سنتين قبل قبض الثمن لم يجز لأن هذا في معنى شراء ما باع بأقل مما باع فإن الزيادة في الأجل تمكن نقصانا في مالية الثمن ألا ترى أن أصل الأجل يمكن نقصانا في المالية حتى يكون المؤجل أنقص من الحال ولهذا يثبت ربا النسأ شرعا فكذلك بزيادة الأجل يزداد النقصان في المالية فإن زاد على الثمن درهما أو أكثر جاز لأن الزائد في الثمن الثاني بمقابلة النقصان المتمكن بزيادة الأجل فينعدم النقصان به معنى والممتنع شراء ما باع بأقل مما باع فإذا لم يعلم أن الثمن الثاني أقل من الثمن الأول كان الشراء جائزا.
قال: وإذا باع الرجل طعاما بدراهم فلا بأس بأن يشتري بالثمن قبل أن يقبضه من المشتري ما بداله من العروض أو الطعام يدا بيد سواء كان أكثر من طعامه أو أقل إذا لم يكن طعامه بعينه لأن الثمن دين لا يستحق قبضه في المجلس ويجوز الإبراء عنه فيجوز الاستبدال به أيضا كبدل العروض والأصل في جواز الاستبدال بالثمن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أبيع الإبل بالنقيع وربما أبيعه بالدراهم وآخذ مكانها دنانير فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن افترقتما وليس بينكما عمل"(13/226)
قال: وإذا كان لرجل على رجل دين إلى أجل وهو من ثمن مبيع فحط عنه شيئا على أن يعجل له ما بقي فلا خير فيه ولكن يرد ما أخذ والمال كله إلى أجله وهو مذهب(13/227)
ص -107- ... عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يجوز ذلك ولسنا نأخذ بقوله لأن هذا مقابلة الأجل بالدراهم ومقابلة الأجل بالدراهم ربا ألا ترى أن في الدين الحال لو زاده في المال ليؤجله لم يجز فكذلك في المؤجل إذا حط عنه البعض ليعجل له ما بقي والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير فقالوا إن لنا ديونا على الناس فقال صلى الله عليه وسلم: "ضعوا وتعجلوا" فتأويل ذلك ضعوا وتعجلوا من غير شرط أو كان ذلك قبل نزول حرمة الربا وهذا بخلاف المولى إذا صالح مع مكاتبه من الألف المؤجلة على خمسمائة على أن يعجلها له فذلك يجوز لأن المكاتب ملكه ولا ربا بين المملوك وسيده فما فيه شبهة الربا لا يعتبر بين المملوك والسيد وإن كان يعتبر حقيقة الربا بينهما حتى لا يجوز بيع الدرهم بالدرهمين بينهما يوضحه أن المولى يقصد بالكتابة الرفق بالمكاتب فكذلك في حط بعض البدل مقصوده الرفق به لا مبادلة الأجل بالدراهم وكذا لو زاده في بدل الكتابة ليزيده في الأجل جاز وينعدم هذا المعنى فيما بين الحرين.(13/228)
قال: وإذا باع عبدا بنسيئة فباعه المشترى من رجل أو رهنه أو أوصى له به ثم اشتراه البائع من ذلك الرجل بأقل من الثمن الأول جاز لأن هذا ملك متجدد ثبت للثاني بسبب جديد فهو كعين آخر يشتريه بأقل من الثمن الأول منه وفرق بين الموصى له وبين الوارث فإن البائع لو اشتراه من وارث المشتري بأقل من الثمن الأول لا يجوز ذلك لأن الوراثة خلافة وإنما ينتقل إلى الوارث الملك الذي كان للمورث ولهذا يرده بالعيب ويصير مغرورا فيما اشتراه مورثه ويجوز إقالة الوارث مع البائع أما الموصى له فثبت له ملك بسبب متجدد ولهذا لا يرده بالعيب ولا يقبل العقد مع بائع الموصي ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي فلهذا جاز شراؤه منه بأقل من الثمن الأول وفرق بين ما إذا اشتراه له وارث البائع من المشتري بعد موت البائع وبين ما إذا اشتراه البائع من وارث المشتري وأبو يوسف يسوي بين الفصلين ويقول لا يجوز فيهما لأن وارث البائع يقوم مقامه بعده كوارث المشتري ووجه الفرق على ظاهر الرواية أن الوارث يقوم مقام المورث فيما كان للمورث وقد كان الملك في المبيع للمشتري فيخلفه وارثه فيه وما كان ملكه للوارث فيخلفه وارثه في ذلك ولكن هذا ملك يحصل لوارث البائع باكتسابه وهو ليس بخلف عن البائع في ذلك فيجعل شراؤه بعد موت البائع كشرائه في حياة البائع.
قال: وإن اشتراه البائع من المشتري مع عبد آخر بثمن حصته منه أقل من الثمن الذي باعه لم يجز الشراء فيه كما لو اشتراه وحده بأقل من الثمن الأول ويجوز في العبد الآخر بحصته لأنه لا مفسد للعقد في حصة العبد الآخر وقد بينا عذر أبي حنيفة في الخلافيات أن هذا فساد ضعيف خفي ولهذا خفي على زيد بن أرقم رضي الله عنه فلا يعدو حكمه محله بخلاف ما إذا كان الفساد ظاهرا بسبب الربا أو غيره ولا يقال ينبغي أن يجعل بمقابلة ما باع مثل الثمن الأول احتيالا لتصحيح العقد لأن هذا الوجه غير متعين للتصحيح فإنه وإن جعل(13/229)
ص -108- ... بمقابلة أكثر من الأول يجوز العقد أيضا ولا يقال قد جعل قبول العقد في ذلك شرطا لقبول العقد في الآخر وهو شرط فاسد فينبغي أن يفسد به العقد في الثاني كما هو مذهب أبي حنيفة في نظائر هذا لأن قبول العقد في ذلك العبد ليس بشرط فاسد ألا ترى أن ثمنه لو كان مثل الثمن الأول أو خلاف جنس الثمن الأول كان صحيحا وإنما الفساد لأجل الربح الحاصل لا على ضمانه وهذا المعنى يقتصر على العبد الذي باعه ولا يتعدى إلى العقد في العبد الثاني وإن اشتراه البائع مع رجل آخر جاز شراء الأجنبي في نصفه كما يجوز شراؤه في الكل إذا اشتراه لنفسه واعتبار البعض بالكل اعتبار صحيح.(13/230)
وإن كانت جارية فولدت عند المشتري ثم اشتراها منه بأقل من الثمن الأول جاز إن كانت الولادة نقصتها كما لو دخلها عيب آخر عند المشتري بسبب آخر ولا يجوز إن لم ينقصها لأن ما دخل في ملك المشتري على هيئته كما كان فإذا اشتراها البائع بأقل من الثمن الأول يحصل له ربح لا على ضمانه قال وإذ اشترى الرجل جارية فولدت عنده لأقل من ستة أشهر من يوم اشتراها فادعى البائع الولد وكذبه المشتري في ذلك لم تصح دعواه في القياس وهو قول زفر وصحت دعوته في الاستحسان وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله وجه القياس فيه أن البائع بهذه الدعوى يسعى في نقص ما تم به فلا يقبل ذلك منه كما لو زعم أنه كان أعتقها قبل البيع وكما لو جاءت بالولد لستة أشهر فصاعدا وكما لو مات الولد أو أعتق المشتري الولد ثم ادعى نسبه وهذا لأنه مناقض في كلامه فإقدامه على بيعها إقرار منه أنها ليست بأم ولد له فإذا زعم بعد ذلك أن الولد ولده وأنها أم ولد له كان مناقضا في ذلك والدليل عليه أن البائع لو ادعى نسب هذا الولد لم تصح دعواه باتفاق فلو جعل الحال بعد بيعها كالحال قبله في دعوى البائع فكذلك ينبغي أن يجعل في دعوى أبيه وجه الاستحسان أنا تيقنا أن العلوق حصل في ملكه لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر فلما وضعته لأقل من ستة أشهر عرفنا أن العلوق كان حاصلا قبل البيع وحصول العلوق في ملكه يثبت له حق استحقاق النسب بالدعوى وحق استلحاق النسب لا يحتمل الفسخ بحقيقة النسب فلا يبطل ذلك بالبيع وإذا لم يبطل كانت دعواه بعد البيع كدعواه قبله وهذا لأن الشيء لا ينقضه ما هو دونه وإنما ينقضه ما هو مثله أو فوقه والملك الثابت للمشتري دون حق استلحاق النسب للبائع فهذا يحتمل لرفعه وذلك لا يحتمل فلا ينتقض به بخلاف ما إذا وضعته لستة أشهر فصاعدا فإنا لا نتيقن هناك بحصول العلوق في ملك البائع وثبوت حق استلحاق النسب له والملك للمشتري متيقن به والمتيقن به أقوى مما لا يتيقن فيه وبخلاف ما(13/231)
إذا أعتق المشتري الولد لأن ولاءه يثبت للمشتري بالعتق والولاء لا يحتمل النقض لحق استلحاق النسب فتنقض به ما كان من حق استلحاق النسب لأن هذا مثله أو فوقه بخلاف ما إذا مات الولد لأن حق استلحاق النسب لمنفعة الولد وحاجته إلى النسب وهو بالموت قد استغنى عن ذلك وهو بخلاف ما لو ادعاه أبو البائع لأنه بمجرد حصول العلوق في ملك البائع لا يثبت لابنه حق استلحاق النسب إلا(13/232)
ص -109- ... بشرط وهو ولاية نقلها إلى نفسه ألا ترى أن حق الدعوى لا يثبت للجد حال حياة الأب ويثبت له بعد موت الأب لأن ولايته بعد موت الأب وهذا الشرط لا يوجد فيه بعد البيع لأنها صارت مملوكة للمشتري فليس للأب ولاية نقلها إلى نفسه بالدعوى فلهذا تصح دعواه ثم التناقض لا يمنع صحة استلحاق النسب ألا ترى أن الملاعن إذا اكذب نفسه يثبت النسب منه وهو مناقض في ذلك وهو لخفاء أثر العلوق قد يظن في الابتداء أنها لم تعلق منه فيبيعها ثم يتبين أنها علقت منه فيستدرك ذلك بدعوى النسب وحكم الحاكم باللعان وقطع النسب أقوى منه في بيعه إياها فإذا جاز إبطال حكم الحاكم بدعوى النسب وإن كان هو ساعيا في نقض ما تم به فلأن يجوز إبطال البيع أولى.(13/233)
وإن ادعاه المشتري أولا ثم ادعاه البائع لم تصح دعوى البائع لأن نسبه قد ثبت من المشتري فاستغنى به الولد عن النسب ولأن النسب الذي يثبت من المشتري لا يحمل النقض فهو أقوى من الولاء الثابت له بالعتق وقد بينا أن اعتبار الولاء يبطل حق الاستلحاق الثابت للبائع فاعتبار النسب أولى وإن ادعياه معا فإنه يثبت نسبه من البائع وتصير أم ولد للبائع وينتقض البيع فيها عندنا وقال إبراهيم النخعي يثبت نسبه من المشتري لأن للمشتري فيها حقية الملك وللبائع حق الملك وصاحب حقية الملك يترجح في الدعوى كما لو ولدت جارية رجل فادعى الولد هو وأبوه صحة دعوى المولى دون أبيه لهذا المعنى ولكنا نقول دعوى البائع سابقة معنى لأنها تستند إلى وقت العلوق فإن العلوق حصل في ملكه ودعوى المشتري لا تستند إلى تلك الحالة لأنه يملكها بعد ذلك ولو سبق البائع بالدعوى كان النسب ثابتا منه فكذلك إذا سبقت معنى بخلاف مسألة الأب لأن دعوى كل واحد منهما هناك تستند إلى ما تستند إليه دعوى الآخر إلا أن شرط دعوى الأب نقلها إليه ولا يمكن اتحاد هذا الشرط إذا اقترنت دعوى المولى بدعواه يوضح ما قلنا أن دعوى المشتري دعوى التحرير لأن العلوق لم يكن حاصلا في ملكه ودعوى التحرير كالإعتاق أما دعوى البائع فدعوى استيلاء ولأن العلوق كان في ملكه فيجعل هذا بمنزلة ما لو ادعاه البائع وأعتقه المشتري معا فتكون دعوى البائع أولى وأما إذا ولدته لأكثر من ستة أشهر فادعياه معا فدعوى المشتري أولى لأنا لم نتيقن بحصول العلوق في ملك البائع هنا ولو انفرد بالدعوى لم يصح إذا لم يصدقه المشتري فإذا اقترنت دعوى المشتري بدعوى البائع فأولى أن لا تصح دعوى البائع.(13/234)
قال: ولو أعتق المشتري الأم ثم ادعى البائع الولد وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر فنسبه يثبت من البائع لأنه يحتاج إلى النسب فحل له بعد عتق الأم ولكن لا ينقض عتق المشتري في الأم للولاء الذي لم يثبت له عليها وهو مما لا يحتمل النقض وقد يجوز أن يثبت نسب الولد وإن كانت لا تثبت حق أمية الولد للأم كما في ولد المغرور وهذا بخلاف ما لو أعتق الولد فإن هناك دعوى البائع لا تصح في حق الأم لأن الولد هو المقصود والأم تبع فإذا لم يمكن تصحيح دعواه فيما هو الأصل لا يشتغل بتصحيحه في البيع فأما حق الأم في(13/235)
ص -110- ... الاستيلاد فبيع وتعذر ثبوت الحكم في البيع لا يمنع ثبوت الحكم في الأصل فلهذا يثبت نسب الولد منه ويقسم الثمن على قيمتها وقيمة ولدها فيرد البائع حصة الابن من الثمن وإنما كان لهذا الولد حصة من الثمن وإن انفصل بعد القبض لأنه صار مقصودا بنقض العقد فيه فيكون بمنزلة الولد المقصود بالقبض فيكون له حصة من الثمن ولذلك لو كانت ولدت قبل أن يبيعها ثم ادعى النسب بعد ما باعها فهذا وما سبق سواء ولو اشتراها ثم باعها ثم ادعى المشتري الأول نسب الولد لم تصح دعواه لأن أصل العلوق لم يكن في ملكه فدعواه فيه كدعوى التحرير ولا يعمل بعد زوال الملك ولو ادعاه البائع الأول صحت دعواه لأن العلوق كان ملكه والبيع الثاني في احتمال النقض كالأول فباعتبار الدعوى ينقض العقدان جميعا.
ولو ولدت عنده ولدين في بطن واحد ثم باع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الولد الذي عنده ثبت نسبهما منه لحاجتهما إلى النسب وبقي أحد الولدين في ملكه على حاله ثم ينتقض عتق المشتري في الولد الآخر حكما لأنهما توأم خلقا من ماء واحد فمن ضرورة حرية الأصل لأحدهما حرية الأصل للآخر ومن ضرورة ثبوت حرية الأصل فيه انتقاض العتق والولاء الثابت للمشتري بخلاف ما سبق فيما إذا أعتق المشتري الأم لأنه ليس من ضرورة ثبوت النسب وحرية الأصل للولد انتقاض عتق المشتري الأم يوضحه أن هناك لو نقض عتق المشتري عادت أم ولد للبائع فيطؤها بالملك بعد ما حكم بحريتها وذلك لا يجوز أما هنا لو نقضنا عتق المشتري في الولد أثبتنا فيه ما هو أقوى وهو حرية الأصل فهذا هو الفرق بينهما والله أعلم.
باب بيوع أهل الذمة(13/236)
قال: وإذا اشتري الذمي مملوكا مسلما صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى من مسلم أو ذمي جاز شراؤه في قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله وقال الشافعي لا يجوز شراؤه لقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] وفي إثبات الملك للكافر على المسلم سبب يكسبه إثبات أقوى السبيل له عليه والمعنى فيه أن الكافر لا يقر على تحصيل مقصود هذا العقد لحرمة الإسلام فلا يصح استدامته كنكاح المسلمة وبيان الوصف أن المقصود استدامة الملك ولهذا لا يصح البيع إلا مؤبدا وهو ممنوع من استدامة الملك على المسلم لأنه يجبر على بيعه فإذا لم يصح منه استدامة الملك على المسلم لا يصح مباشرة سبب الملك الدليل عليه أن إسلام المملوك مع كفر المالك يمنع استدامة الملك إذا طرأ فيمتنع ثبوت الملك إذا اقترن بالسبب كما في النكاح وهذا لأن الكافر ممنوع من استذلال المسلم وفي إثبات الملك له عليه استذلال المسلم ولهذا لا يسترق الكافر المسلم فكذلك لا يشتريه لأن الثابت بالشراء له ملك متجدد بتجدد سببه ولهذا لا يرد بالعيب على بائعه فيكون هذا في المعنى كالاسترقاق بخلاف الإرث فإنه يبقى للوارث الملك الذي كان للمورث ولهذا يرث المسلم الخمر ولا يملك الخمر بالشراء وبخلاف البيع لأنه بالبيع يزول ملكه وذله(13/237)
ص -111- ... على المسلم واكتساب سبب إزالة الذل غير ممنوع منه إنما الممنوع منه اكتساب سبب الذل.
وهذا النهي لمعنى في المنهي عنه فيكون مفسدا للعقد ألا ترى أن الكافر يطلق امرأته المسلمة ولا يصح عقد النكاح من الكافر على المسلمة وهذا بخلاف الولد يشتري والده يجوز وإن كان الولد ممنوعا عن إذلال والده لأن بالشراء هناك تتم علة العتق فيتخلص به عن ذل الرق والأمور بعواقبها فباعتبار المال يصير هذا الشراء إكراما ا لا إذلالا ولهذا قلنا الابن الكافر إذا اشترى أباه المسلم يجوز وكذلك إذا قال الكافر لمسلم أعتق عبدك هذا على ألف درهم يجوز ويتملكه الكافر ثم يعتق عليه وهو نظير الفصد فهو جرح لا يجوز الإقدام عليه من غير حاجة وعند الحاجة يكون دواء والذي يحقق ما قلنا أنه بالشراء يتمكن من قبضه وفي إثبات اليد للكافر على المسلم على وجه يستفيد به ملك التصرف معنى الذل ولا يوجد ذلك في حق من يعتق عليه وإن قلتم أنه يمتنع من قبضه فيقول ما لا يتأتى فيه القبض بحكم الشراء لا يجوز شراؤه كالعبد الآبق وهذا لأن فوات القبض إذا طرأ بهلاك المعقود عليه قبل التسليم كان مبطلا للعقد فإذا اقترن بالعقد منع انعقاد العقد والدليل عليه المحرم إذا اشترى طيبا لا يملكه لأنه ممنوع من إثبات اليد عليه وكذا على الصيد لإحرامه فلا يملكه بالشراء كما لا يملكه بالاصطياد فكذلك الكافر في العبد المسلم وحجتنا في ذلك العمومات المجوزة للبيع من الكتاب والسنة والمعنى فيه أن الكافر يملك بيع عبده المسلم فيملك شراءه كالمسلم وهذا لأن صحة التصرف باعتبار أهلية التصرف وكون المحل قابلا للتصرف وما يصير به أهلا للتصرف يستوي فيه الكافر والمسلم وإنما يكون المحل محلا للتصرف لكونه مالا متقوما والعبد المسلم مال متقوم في حق المسلم والكافر جميعا حال المشتري مع البائع عند الفسخ كحال البائع معه عند العقد وقد كان للبائع على المشتري كر في ذمته يعطيه المشتري من أي موضع(13/238)
شاء فكذلك البائع يفعله عند الفسخ وكل ما يكال أو يوزن أو يعد في هذا الحكم سواء لما قلنا.
قال: ولو اشترى جارية بثوب ليس عنده لم يجز لأن الثياب لا تثبت دينا في الذمة إلا موصوفة ومؤجلة ذلك وإن كان الثوب بعينه فوجد بالجارية عيبا وقد استهلك البائع الثوب ردها وأخذ قيمة الثوب لأن الثوب ليس من ذوات الأمثال وقد لزمه رد عينه حين رد عليه الجارية فإذا تعذر رده بالاستهلاك يلزمه قيمته كما في المغصوب وإذا باع رجل شيئا بنقد أو نسيئة فلم يستوف ثمنه حتى اشتراه بمثل ذلك الثمن أو أكثر منه جاز وإن اشتراه بأقل من ذلك الثمن لم يجز ذلك في قول علمائنا رحمهم الله استحسانا وفي القياس يجوز ذلك وهو قول الشافعي لأن ملك المشتري قد تأكد في المبيع بالقبض فيصح بيعه بعد ذلك بأي مقدار من الثمن باعه كما لو باعه من غير البائع ألا ترى أنه لو وهبه من البائع جاز ذلك فكذلك إذا باعه منه بثمن يسير ولأنه لو باعه من إنسان آخر ثم باعه ذلك الرجل من البائع الأول بأقل من الثمن الأول جاز فكذلك إذا باعه المشتري منه إلا أنا استحسنا لحديث عائشة(13/239)
ص -112- ... رضي الله عنها فإن امرأة دخلت عليها وقالت إني بعت من زيد بن أرقم جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها منه بستمائة درهم قبل محل الأجل فقالت عائشة رضي الله عنها بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغى زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب فأتاها زيد بن أرقم معتذرا فتلت قوله تعالى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] فهذا دليل على أن فساد هذا العقد كان معروفا بينهم وأنها سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أجزية الجرائم لا تعرف بالرأي وقد جعلت جزاءه على مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد فعرفنا أن ذلك كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذار زيد رضي الله عنه إليها دليل ذلك لأن في المجتهدات كان يخالف بعضهم بعضا وما كان يعتذر أحدهم إلى صاحبه فيها ولا يجوز أن يقال إنما ألحقت الوعيد به للأجل إلى العطاء فإن مذهب عائشة رضي الله عنها جواز البيع إلى العطاء وقد كرهت العقد الثاني بقولها بئسما اشتريت وليس فيه هذا المعنى عرفنا أنها إنما كرهت لما قلنا وإنما كرهت العقد الأول لأنهما يطرقان به إلى الثاني والمعنى فيه
عندنا فكذلك شراؤه فإنما بطل ذلك التصرف لانعدام المحل بخلاف ما نحن فيه ولسنا نقول بأنه لا يقر على مقصود هذا العقد بل يقر على مقصوده إذا أسلم ثم موجب الشراء إثبات الملك.(13/240)
فأما استدامة الملك فليس من موجبات العقد ولا يمنع صحة الشراء لكونه ممنوعا من استدامة الملك فيه كالمسلم يشتري عبدا مرتدا فيصح شراؤه وإن كان ممنوعا من استدامة الملك فيه وعند التأمل في تصحيح هذا الشراء إظهار ذل الكافر دون المسلم لأن العبد المسلم يتسلط به على الكافر فيخاصمه ويجره إلى باب القاضي ويجبره على بيعه شاء أو أبى ولهذا يتبين أن هذا النوع من التصرف لم يدخل تحت قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] مع أن المراد بالآية أحكام الآخرة بدليل قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:141] وعلى هذا الخلاف الكافر إذا اشترى مصحفا لا يصح الشراء عند الشافعي لأنه يستخف به فيرجع ذلك إلى إذلال المسلمين وعندنا يصح شراؤه لأنه ليس في عين الشراء من إذلال المسلمين شيء وكلامنا في هذا الفصل أظهر فالكافر لا يستخف بالمصحف لأنه يعتقد أنه كلام فصيح وحكمه بالغة وإن كان لا يعتقد أنه كلام الله عز وجل فلا يستخف به ثم يجبر على بيع العبد من المسلمين لأنه لو ترك في ملكه استخدمه قهرا بملك اليمين وفيه ذل فيجبر على إزالة هذا الذل وذلك ببيعه من المسلمين ولا يترك ليبيعه من كافر آخر وإن كان لو باعه جاز ولكن المقصود لا يحصل به فلا يمكن منه وكذلك يجبر على بيع المصحف لأنه لا يعظمه كما يجب تعظيمه وإذا ترك في ملكه يمسه وهو نجس وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة28] وقال الله تعالى في القرآن: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] فلهذا يجبر على بيعه من المسلمين وكذلك إن أسلم مملوك الذمي فإنه يجبر على بيعه من المسلمين وذلك بعد أن يعرض عليه الإسلام فلعله يسلم فيترك العبد في ملكه فإن أبى ذلك(13/241)
ص -113- ... أجبر على بيعه كالكافر إذا أسلمت امرأته يعرض عليه الإسلام فإن أبى فرق بينهما إلا أن ملك النكاح ليس بمال متقوم فيجوز إزالته مجانا عند إباية الإسلام وملك اليمين مال متقوم محترم بعقد الذمة فلا يجوز إبطاله عليه بالعتق مجانا ولا بد من إزالة ملكه عن المسلم فيجبر على بيعه بقيمته ليستوفي المالية ويحصل المقصود وإن كان للذمي عبد وامرأة له أمة قد ولدت منه فأسلم العبد وولده منها صغير فإنه يجبر على بيع العبد وولده لأن الولد الصغير يصير مسلما بإسلام أبيه فيجبر على بيعه وإن كان ذلك تفريقا بينه وبين أمة لأن هذا تفريق بحق وجب فيه فهو كما لو جنى الابن الصغير جناية فدفع بها أو لزمه دين فبيع فيه يجوز ذلك وإن كان فيه تفريق بين الولد والأم ولكن لما كان بحق لزم ذلك في الولد خاصة واستقام ذلك فهذا مثله وعن أبي يوسف أن في كل موضع يجب بيع الولد تباع الأم معه لأنه لا ضرورة في التفريق بينهما إذا كان كل واحد منهما محلا للبيع.(13/242)
قال: وإذا أسلم العبد وهو بين مسلم وكافر أجبر الكافر على بيع حصته منه اعتبارا للبعض بالكل وإن أسلم عبد الذمي فكاتبه جازت الكتابة لأن ملكه فيه باق بعد إسلامه ونفوذ عقد الكتابة منه باعتبار ملكه ثم ما هو المقصود يحصل بالكتابة في الحال وهو إزالة ذله منه لأنه يصير بمنزلة الحر في حق اليد والمكاسب ولا يبقى له ولاية الاستخدام عليه قهرا بملك اليمين وربما يؤدي بدل الكتابة فيعتق ويتم المقصود به فإن عجز أجبر على بيعه لأن الكتابة انفسخت حين تحقق عجزه فظهر الحكم الذي كان قبل الكتابة وهو الإجبار على البيع وإن لم يكاتبه ولكنه رهنه عند مسلم أو كافر أجبر المولى على بيعه لأن المقصود بعقد الرهن لم يحصل فالراهن يستخدم المرهون بإذن الراهن ثم بعد الرهن هو محل للبيع فيبقى فيه حكمه وهو الإجبار على البيع فأما بعد الكتابة فلا يكون محلا للبيع ما بقيت الكتابة وإذا بيع المرهون فيكون ثمنه رهنا مكانه لأن عقد الرهن قد صح باعتبار ملكه في المحل فيتحول حكمه إلى بدله كما إذا قبل المرهون وأخذ المرتهن قيمته وكذلك لو آجره من مسلم أو كافر فالمقصود وهو إزالة اليد عن المسلم لا يحصل بالإجارة بل يتحقق فيه معنى الإذلال ويبقى هو محلا للبيع بعد الإجارة فيجبر على بيعه ثم تبطل به الإجارة بخلاف الرهن ألا ترى أن المؤجر إذا باع المؤاجر برضا المستأجر بطلت الإجارة والراهن إذا باع المرهون برضا المرتهن كان الثمن رهنا ولو كان رهنه أو أجره وهو كافر ثم أسلم في يد المرتهن أو المستأجر أجبرته على بيعه ولم أتركه يكون في ملك الكافر وهو مسلم كما بينا أن الإذلال هنا يتقرر إذا ترك في ملكه فيجب إزالته بالإجبار على بيعه.(13/243)
وإن كانت جارية فدبرها أو استولدها قبل الإسلام أو بعده جعلت عليها أن تسعى في قيمتها لأن بيعها متعذر لما يقر فيها من حق العتق فيجب إخراجها عن ملك الكافر بالاستسعاء في قيمتها وهي بمنزلة المكاتبة ما دامت تسعى وعند زفر هي حرة والسعاية دين عليها وعند الشافعي يجبر على بيع المدبرة وأم الولد بخارج وقد تقدم بيان هذا في كتاب العتاق.(13/244)
ص -114- ... وإذا باع الكافر عبدا على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم أسلم العبد فهو على خياره لأن إسلامه لا يمنع ابتداء البيع ولا يمنع بقاءه بطريق الأولى فإن نقض البيع أجبر على بيعه لأن الأول صار كأن لم يكن وإن أمضاه لكافر مثله أجزأه وأجبر ذلك الكافر على بيعه كما لو باعه منه ابتداء بعد ما أسلم العبد وكذلك إن كان الخيار للمشتري فإن فسخ العقد أجبر على بيعه إذا كان كافرا وإن أمضى العقد والمشتري مسلم فهو سالم له.
قال: وإذا اشترى الكافر عبدا مسلما شراء فاسدا وقبضه فإنه يجبر على رده على البائع سواء كان البائع مسلما أو كافرا ثم يجبر البائع على بيعه إن كان كافرا لأن فسخ البيع الفاسد مستحق شرعا ولا يفوت به ما يثبت من الحق للعبد بإسلامه فإن البائع يجبر على بيعه إذا كان كافرا ومع إمكان استيفاء الحقين لا يجوز ترك أحدهما فإن كان البائع غائبا فرفع العبد المشتري إلى القاضي أجبره على البيع إن كان شراء يجوز في مثله البيع منه لأنه مالك له وقد تعذر فسخ العقد الفاسد لغيبة البائع ولا يجوز أن يترك المسلم في ملك الكافر فيجبر على بيعه وهذا لأن في التأخير إلى أن يحضر البائع إضرارا بالعبد وإبقاء له في ذل الكافر وذلك ممتنع في الشرع وإن كان شراء لا يجوز في مثله البيع فهو غير مالك له ولا يمكن إجباره على بيعه ولكنه ملك الغير مضمون في يده أو أمانة بمنزلة المغصوب أو الوديعة.(13/245)
مسلم اشترى عبدا مسلما من كافر شراء فاسدا أجبرته على رده على الكافر لفساد العقد ثم يجبر الكافر على بيعه لأن استيفاء الحقين ممكن وإن كان الكافر غائبا فهو على حاله عند المسلم لأنه ليس في إبقاء المسلم في ملك المسلم معنى الإذلال ولو أن مسلما وهب عبدا مسلما لكافر أو تصدق به عليه جاز وأجبر الكافر على بيعه كما لو ملكه بسبب آخر ولو أراد المسلم أن يرجع في هبته كان له ذلك ما لم يبعه الكافر أو يعوض المسلم منه والكافر في حكم الهبة بمنزلة المسلم وكذلك لو كان الكافر هو الواهب للعبد المسلم من المسلم ثم رجع في هبته كان له ذلك لأن حقه في الرجوع كان ثابتا ما لم يصل إليه العوض فلا يبطل بإسلام العبد ولكن إذا رجع فيه أجبر على بيعه وإذا أسلم عبد النصراني فأجبره القاضي على بيعه فباعه ثم استحقه نصراني آخر ببينة مسلمين وقد أعتقه المشتري فإن عتقه باطل لأن بالاستحقاق قد ظهر أن المشتري لم يملك وإن عتقه لم ينفذ لأن بائعه لم يكن مالكا فيأخذه المستحق ويجبر على بيعه ولا يقال ينبغي أن ينفذ البيع بإجبار القاضي عليه في حق المستحق إذا كان نصرانيا لأن القاضي إنما أجبر عليه المالك الظاهر له حين أبى أن يسلم فلا يتعدى ذلك إلى المستحق لأنه لم يكن ظاهرا يومئذ ولعله يسلم لو عرض عليه الإسلام ولو أن نصرانية تحت مسلم لها مملوك مسلم فأجبرت على بيعه فباعته من زوجها واشتراه زوجها لولد له صغير فذلك جائز لأن المقصود قد حصل وهو إزالة ذل الكافر عن المسلم بخروجه من ملكها.
قال: ولو أن يتامى من النصارى أسلم عبد لهم أجبروا على بيعه لتقرر السبب وهو ملك(13/246)
ص -115- ... الكافر في العبد المسلم فإن كان لهم وصي باعه الوصي لأنه قائم مقامهم في البيع الذي ليس بمستحق ففي البيع المستحق أولى وإن لم يكن لهم وصي جعل القاضي لهم وصيا فباعه لهم لأنه إذا جاز للقاضي نصب الوصي نظرا منه لليتامى فلأن يجوز ذلك منه نظرا لليتامى ومراعاة لحرمة الإسلام أولى قال: وإذا كان للمسلم عبد نصراني تاجر فاشترى عبدا نصرانيا فأسلم ولا دين على العبد التاجر لم أجبره على بيعه لأن كسب العبد الذي لا دين عليه مملوك لمولاه وهو مسلم وإن كان عليه دين أجبرته على بيعه لأن المولى لا يملك من كسبه ما لم يقض عنه الدين كالأجنبي والعبد هو المستبد بالتصرف وهو نصراني فيجبر على بيعه كمكاتب نصراني لمسلم أسلم عبده.(13/247)
قال: وإذا اشتري النصراني عبدا مسلما فوجد به عيبا فقال أرده تركته حتى يرده لأنه يستوفي بالرد حقه ويدفع به الضرر عن نفسه وأكثر ما فيه أن يكون رده إياه بمنزلة البيع منه وذلك صحيح وإن وكل وكيلا يخاصم عنه في العيب جاز حتى يبلغ اليمين بالله ما رأى ولا رضي فإذا بلغ ذلك لم يستطع رده حتى يحضر الموكل فيحلف وفي هذا الحكم يستوي الكافر والمسلم ثم في ظاهر الرواية القاضي يحلف المشتري بهذه الصفة ما رأى ولا رضي طلب البائع ذلك أو لم يطلب ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول لا يحلف إلا بطلب البائع لأنه نصب لفصل الخصومة لا لإنشائها ولكنا نقول هو مأمور بأن يصون قضاءه عن أسباب الخطأ وليس كل خصم يهتدي إلى ذلك ليسأل أو يتجاسر على ذلك مع حشمة القاضي فيحتاط القاضي بذلك ويحلفه بالله ما رأى العيب ولا رضي به وفي موضع آخر قال ولا عرضه على بيع ثم يقضي بالرد فإن أقر الوكيل عند القاضي أن المشتري قد رضي بالعيب جاز ذلك على المشتري وإن وكل البائع وكيلا بالخصومة فإقرار وكيله عليه جائز في مجلس القاضي لأنه قائم مقام الموكل في جواب الخصم ولا يحلف لوكيل لأن النيابة في اليمين لا تجزئ ولكن يحضر الموكل فيحلف بالله لقد باعه وما هذا به وقد قررنا هذا في كتاب العيوب.(13/248)
قال: ولا يجوز بين أهل الذمة شيء من بيوع الصرف والسلم وغيرهما إلا ما يجوز بين أهل الإسلام ما خلا الخمر والخنزير فإني أجيز ذلك بينهم وأستحسن ذلك لأنهما أموال متقومة في حقهم والأثر الذي جاء فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها وقد تقدم بيان هذا الفصل في كتاب الغصب وأوضحنا الفرق بين الربا والتصرف في الخمر والخنزير باعتبار أن ذلك مستثنى من عقد الذمة ونذكر هنا حرفا آخر للفرق بينهما فنقول لما بقي الخمر والخنزير مالا متقوما في حقهم فلو لم نجز تصرفهم فيهما بالبيع والشراء لم تظهر فائدة المالية والتقوم فيكون إضرارا بهم ولو منعناهم عن عقود الربا لأدى ذلك إلى إبطال فائدة المالية والتقوم لأنهم قد لا يتمكنون من التصرف في ذلك المحل إلا بطريق الربا.(13/249)
ص -116- ... قال: ولا يحل للمسلم بيع الخمر ولا أكل ثمنها بلغنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه حديثان.
أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله في الخمر عشرة" وذكر في الجملة بائعها.
والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها".
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها" وإن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم بيعه وأكل ثمنه وبهذه الآثار تبين أن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم فلا يجوز بيعه إياها.(13/250)
قال: وإذا اشترى المسلم عصيرا فلم يقبضه حتى صار خمرا فالبيع فاسد لأنه تعذر قبضه بعد التخمر وبالقبض يتأكد الملك المستفاد بالعقد ويستفاد بملك التصرف وكما لا يجوز ابتداء العقد على الخمر من المسلم فكذلك لا يجوز قبض الخمر بحكم العقد فإن صارت خلا قبل أن يترافعا إلى السلطان فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أما عند محمد فالبيع باطل هكذا ذكر الكرخي لأن العقد فسد بالتخمر فلا يمكن تصحيحه على الخل إلا بالاستقبال وهذا لأن التخمر قبل القبض كالموجود عند العقد ولو اشترى المسلم خمرا فتخللت لا يصح العقد وجه قولهما أن أصل العقد كان صحيحا ثم بالتخمر فات القبض المستحق بالعقد العارض على شرف الزوال وهو انعدام المالية والتقوم فإذا زال صار كأن لم يكن كما لو أبق المبيع قبل القبض ثم عاد من إباقه إلا أن المشتري هنا مخير لتغيير صفة المبيع وهو في ضمان البائع ولهذا لو خاصمه فيها قبل أن يصير خلا فأبطل القاضي البيع ثم صارت خلا بعد ذلك لم يكن له عليها سبيل لأن العقد انفسخ بقضاء القاضي كما في الإباق إذا عاد بعد ما فسخ القاضي البيع بينهما وبه فارق ما لو كانت خمرا في الابتداء فإن هناك البيع ما انعقد صحيحا ألا ترى أنه لو باع العبد وهو آبق ثم رجع من إباقه لم يصح البيع وعلى هذا النصراني لو اشترى من نصراني خمرا ثم صارت خلا ثم أسلما فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك لتغير صفة المبيع وإن أسلما ثم صارت خلا فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا ثم ذكر مسألة اقراض النصراني نصرانيا خمرا وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الغصب.(13/251)
قال: وإذا اشترى النصراني من النصراني خمرا أو خنزيرا على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم أسلم المشتري قبل أن يختار وقد قبض كان البيع باطلا في قول أبي حنيفة ويتم البيع في قول صاحبيه بناء على اختلافهما في وقوع الملك للمشتري مع اشتراط الخيار وقد تقدم بيانه بفصوله ولو كان الخيار للبائع فأسلما أو أسلم البائع بطل البيع لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه فلا يمكن من إخراجه عن ملكه بالإجازة بعد إسلامه وإن أسلم المشتري وقد قبض ما اشترى لم يفسد البيع لأن البيع قد تم من قبله والبائع على خياره فإن أجاز البيع ملك المشتري الخمر حكما من غير عقد باشره بعد إسلامه وإسلامه لا يمنعه من ذلك وإذا(13/252)
ص -117- ... ارتهن نصراني من نصراني خمرا بدين له عليه فأسلم المرتهن بطل الرهن لأن المقصود بالرهن الاستيفاء ولا يتم ذلك إلا بهلاك الرهن فالإسلام الطارئ بعد العقد قبل حصول المقصود يجعل بمنزلة المقترن بالعقد فإن كان المرتهن هو الذي أسلم بقي مضمونا عليه حتى إذا هلك هلك على الراهن لأن خمر الكافر يجوز أن تكون مضمونة على المسلم بالغصب فكذلك بالقبض بحكم الرهن فإن كان الراهن هو الذي أسلم ثم هلك الرهن لم ينتقص من حق المرتهن شيء لأن خمر المسلم لا تكون مضمونة على الذمي بالغصب فكذلك بالقبض بحكم الرهن وهذا لانعدام المالية والتقوم في حق المالك هنا بخلاف الأول.
قال: وإذا وكل المسلم نصرانيا ببيع الخمر فباعها جاز في قول أبي حنيفة لأن العاقد نصراني ولم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن من وقع له العقد مسلم وقد تقدم بيان هذا الفصل وإذا كان للذمي عبدان أخوان لم أكره له أن يفرق بينهما في البيع لأن ما فيه من الشرك أعظم من التفريق يعنى أن المنع من التفريق لحق الشرع والكفار لا يخاطبون من حقوق الشرع بما هو أعظم من كراهة التفريق نحو العبادات فكذلك لا يظهر في حقهم حكم كراهة التفريق في البيع والله أعلم.
باب بيوع ذوي الأرحام(13/253)
قال: ليس ينبغي للرجل أن يفرق بين الجارية وولدها في البيع ولا في الهبة ولا في الصدقة ولا في الوصية إذا كان صغيرا لما روي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قدم بسبايا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصفحهم فرأى جارية والهة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأنها فقال زيد رضي الله عنه: احتجنا إلى نفقة فبعنا ولدها فقال صلى الله عليه وسلم: "أدرك أدرك لا توله والدة بولدها" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله تعالى بينه وبين الجنة" وفي رواية "فرق الله تعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة" وكذلك كل ذي رحم محرم والحاصل أنه إذا اجتمع في ملكه شخصان بينهما قرابة محرمة للنكاح وهما صغيران أو أحدهما صغير فليس له أن يفرق بينهما في الإخراج عن ملكه بالبيع عندنا وقال الشافعي في الوالدين والمولودين كذلك وفيما سوى ذلك لا بأس بالتفريق بناء على مذهبه في عتق أحدهما على الآخر عند دخوله في ملكه وحجتنا في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب لعلي كرم الله وجهه أخوين صغيرين ثم لقيه بعد ذلك فقال: "ما فعل الغلامان" فقال: بعت أحدهما فقال: "أدرك أدرك" والمعنى فيه أن الصغير يستأنس بالكبير والكبير يشفق على الصغير ويقوم بحوائجه ففي التفريق بينهما إيحاشهما وترك الترحم عليهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا" والكافر والمسلم في ذلك سواء لاستوائهما في الشفقة التي تنبني على القرابة ثم تمتد هذه الكراهة إلى البلوغ عندنا وقال الشافعي إلى أن يستغني الصغير عن الكبير في التربية.
واعتمادنا في ذلك ما ذكره الدارقطني في مسنده بالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجمعوا عليهم بين السبي والتفريق ما لم يبلغ الغلام وتحض الجارية" وقد قال بعض(13/254)
ص -118- ... مشايخنا رحمهم الله: إذا راهق الصغير ورضيا أن يفرق بينهما فلا بأس بالتفريق بينهما لأن كل واحد منهما من أهل النظر لنفسه وربما يريان مصلحة في ذلك فلا بأس بالتفريق عند ذلك برضاهما فأما بعد البلوغ فلا بأس بالتفريق بينهما لأن كل واحد منهما يقوم بحوائجه وربما لا يستأنس بعضهم ببعض بل يستوحش بعضهم من بعض إذا اجتمعوا في ملك رجل واحد حتى يؤدي إلى قطيعة الرحم ولهذا حرم الجمع بين الأختين نكاحا ولو كان مملوك لرجل وولده الصغير مملوك لابن الرجل وهو صغير في حجره كان له أن يفرق بينهما بالبيع لأنهما ما اجتمعا في ملك رجل واحد والأب في التصرف في ملك ولده قائم مقام الولد لو كان بالغا وكذلك إن كان كل واحد منهما لولد من أولاده ولو اشتراهما جميعا لنفسه فوجد بأحدهما عيبا كان له أن يرده ويمسك الباقي وعن أبي يوسف قال يردهما أو يمسكهما لأن في معنى كراهة التفريق بينهما أنها كشخص واحد وقاس بما لو اشترى مصراعي باب فوجد بأحدهما عيبا كان له أن يردهما أو يمسكهما.(13/255)
وجه ظاهر الرواية أن المثبت لحق الرد له هو العيب وهو مقصور على المعيب حقيقة وحكما ولا يتمكن من رد الآخر بعد تمام الصفقة ثم هذا تفريق بحق مستحق في أحدهما فيجوز كالدفع بالجناية والبيع بالدين ولو كان له من كل واحد منهما شقص لم أكره له أن يبيع شقصة من أحدهما دون الآخر لأنهما ما اجتمعا في ملكه وكراهة التفريق بناء على اجتماعهما في ملكه ولو كانا مملوكين له فباع أحدهما دون الآخر كان مسيئا والبيع جائز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف أستحسن إبطال البيع في الوالدين والمولودين ولا أبطله في الأخوين وهو قول الشافعي وروى الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله أن البيع في جميع ذلك باطل لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "أدرك أدرك" وقال صلى الله عليه وسلم ذلك لزيد بن حارثة رضي الله عنه وإنما يتمكن من الإدراك بالاسترداد لفساد البيع ففي إحدى الروايتين فيهما جميعا قال البيع فاسد وفي الرواية الأخرى فرق لقوة الولادة وضعف القرابة المتجردة عن الولادة وحمل قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "أدرك أدرك" على طلب الإقالة أو بيع الآخر ممن باع منه أحدهما وهو تأويل الحديثين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله والقياس لهما فإن النهي عن بيع أحدهما لمعنى في غير البيع غير متصل بالبيع وهو الوحشة وذلك ليس من البيع في شيء والنهي متى كان لمعنى في غير المنهي عنه لا يفسد البيع كالنهي عن البيع وقت النداء.(13/256)
قال: ولا بأس بأن يكاتب أحدهما دون الآخر لأن عقد الكتابة مآله العتق فهو كالإعتاق ولا بأس بأن يعتق أحدهما فكذلك يكاتبه لأنه لا تفريق بينهما في هذا التصرف بل يزداد الاستئناس ويمكن الكبير من القيام بحوائج الصغير إذا كوتب أو أعتق وربما يتمكن من شرائه بعد ذلك فيعتق عليه وكذلك لا بأس بأن يبيع أحدهما نسمة للعتق ويمسك الآخر وعن محمد أنه يكره له ذلك وهذا لأن بيع نسمة ليس ببيع بشرط العتق فإن البيع بهذا الشرط(13/257)
ص -119- ... لا يجوز ولكنه ميعاد بينهما فربما يفي به المشتري وربما لا يفي فيبقى التفريق بينهما متحققا في الحال وجه ظاهر الرواية أن الظاهر من حال من يشتري النسمة للعتق الوفاء بما يعد وإنما ينبني الحكم على الظاهر ما لم يتبين خلافه فبيع أحدهما نسمة كبيعه من قريبه ليعتق عليه وذلك غير مكروه.
قال: وإذا اجتمع في ملكه أختان فدبر إحداهما أو استولدها والأخرى صغيرة لم أكره له بيع الصغيرة وكذلك إن كاتب إحداهما لأن كراهة التفريق عند تمكنه من بيعها فإن عند ذلك يكون التفريق محالا على اختياره وهنا هو غير متمكن من بيع إحداهما فيجوز له له بيع الأخرى وعن أبي يوسف أن في التدبير والاستيلاد ليس له أن يبيع الأخرى لأن ملكه في المدبرة وأم الولد مطلق فيتحقق اجتماعهما في ملكه فيكره التفريق وفي الكتابة لا يكره لأن ملكه في المكاتب ثابت من وجه دون وجه فلم يجتمعا في ملك مطلق له فلا بأس بأن يبيع إحداهما.
قال: وإذا كان أحد المملوكين له والآخر لزوجته أو لمكاتبه فلا بأس بالتفريق بينهما لأنهما ما اجتمعا في ملك رجل واحد ولأنه غير متمكن من بيعهما من واحد إذ ليس له حق التصرف في كسب مكاتبه وملك زوجته وكذلك إن كانت إحداهما لعبد له تاجر وعليه دين لأنه غير متمكن من بيعها فإن تصرفه في كسب العبد المديون لا ينفذ وعن أبي حنيفة هو لا يملك كسبه فلم يجتمعا في ملكه وإن لم يكن على العبد دين فليس له أن يفرق بينهما لأنهما اجتمعا في ملكه وهو متمكن من بيعهما وإن كانت إحداهما لمضاربه فلا بأس بأن يبيع المضارب ما عنده منهما لأن المضارب غير مالك لهما ولا هو متمكن من بيعهما فله أن يبيع ما كان عنده منهما.(13/258)
قال: وإذا كان للرجل أمة فباعها على أن له الخيار ثلاثة أيام ثم اشترى ابنها كرهت له أن يوجب البيع في الأمة لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه فقد اجتمعا في ملكه وهو متمكن من أن لا يفرق بينهما بأن يفسخ البيع فيها ثم يبيعهما معا فإذا أوجب البيع في الأمة كان مفرقا بينهما باختياره وذلك مكروه وكذلك إن سكت حتى مضت المدة لأن سكوته عن الفسخ إلى مضي المدة كاختياره إمضاء البيع وإن كان الخيار للمشتري فلا بأس بأن يستوجبها لأن الأمة خرجت من ملك البائع مع خيار المشتري فلم يجتمعا في ملك رجل واحد ولو كان عنده ابن لها فاختار ردها لم يكن بذلك بأس أما عند أبي حنيفة فلأنهما لم يجتمعا في ملكه فإن خيار المشتري يمنع وقوع الملك له وعندهما لأن هذا التفريق لحق له في إحداهما فكان بمنزلة الرد بخيار العيب.
قال: ويكره للمكاتب والعبد التاجر من التفريق ما يكره للحر لأنهما مخاطبان وفي التمكن من بيعهما معا بمنزلة الحرين وكراهة التفريق لحق الشرع فيستوي فيه المملوك والحر ولا يكره التفريق من ذي محرم من غير النسب كالرضاع والمصاهرة لحديث عبد الله بن مسعود(13/259)
ص -120- ... رضي الله عنهما أن رجلا سأله فقال: أبيع جارية لي قد أرضعت ولدي فقال: قل من يشتري أم ولدي وهذا لأن الرضاع والمصاهرة بمنزلة النسب في حرمة النكاح خاصة وأما الأحكام المتعلقة بالقرابة سوى الحرمة لا يثبت شيء منها بالرضاع والمصاهرة قال: ولا بأس بالتفريق بين المملوكين الزوجين لأنه لا قرابة بينهما وعلى ذلك تنبني كراهية التفريق.
قال: وإذا اجتمع أخوان في ملك رجل لا ينبغي له أن يبيع أحدهما من ابن صغير له في عياله لأن هذا تفريق بينهما في البيع والملك ولو جاز هذا لجاز الذي باعه من ابنه الصغير بعد ذلك فيتحقق التفريق بهذا الطريق فإذا دخل الحربي دار الإسلام بغلامين أخوين صغيرين بأمان فأراد أن يبيع أحدهما فلا بأس بشرائه منه وإن كان فيه تفريق لأني إن لم أشتره منه لأعاده إلى دار الحرب ويتمكن من ذلك فشراؤه منه أقرب إلى النظر من مراعاة التفريق ولو كان قد اشتراهما في دار الإسلام كرهت للمسلم أن يشتري منه أحدهما لأنه يجبر على بيعهما ولا يمكن أن يدخل بهما في دار الحرب لأنه اشتراهما من أهل الإسلام أو من أهل الذمة وهو إن لم يكن مخاطبا بحرمة التفريق فالمسلم المشتري مخاطب بالتحرز عن اكتساب سبب التفريق إلا أن يكون اشتراهما في دار الإسلام من حربي مستأمن فلا بأس حينئذ بشراء أحدهما منه لأنه غير مجبر على بيعهما بل هو ممكن من أن يدخلهما دار الحرب كما كان البائع متمكنا من ذلك ولم يذكر في الكتاب ما إذا اجتمع في ملكه مع الصغير كبيران والجواب في ذلك أن الكبيرين إذا استويا في القرابة من الصغير وكان ذلك من جهة واحدة كالأخوين والخالين والعمين فلا بأس بأن يبيع أحد الكبيرين استحسانا.(13/260)
وفي القياس يكره ذلك وهو رواية عن أبي يوسف لأن الصغير يستأنس بكل واحد منهما وكل واحد منهما في حقه كالمنفرد به وفي الاستحسان قال: هذا يمنع لحق الصغير وحقه مراعى إذا ترك معه أحد الكبيرين فإنه يستأنس به ويقوم الكبير بحوائجه فلا بأس ببيع الآخر وإن كانت قرابتهما إليه من جهتين كالأب والأم فليس له أن يفرق بينهما وبينه ولا يبيع واحدا منهما لأن كل واحد منهما له نوع شفقة ليس للآخر وله بكل واحد منهما نوع استئناس لا يحصل ذلك بالآخر فإن كان أحدهما أبعد والآخر أقرب إليه في القرابة كالأم مع الجد في ظاهر الرواية لا بأس ببيع الأبعد ويمسك الأقرب مع الصغير لأن مقصود الصغير يحصل إذا أمسك الأقرب معه وشفقة الأقرب عليه أظهر والقرابة البعيدة عند المقابلة بالقريبة تكون البعيدة كالمعدومة وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يكره له أن يبيع واحدا منهما لأنه يستأنس بكل واحد منهما نوع استئناس كما إذا استويا في الدرجة.
باب بيع الأمة الحامل
قال رضي الله عنه: اعلم أنه أورد هذا الباب في كتاب الدعوى وقد بينا شرح مسائله هناك وهو بكتاب الدعوى أشبه وقد بينا بعض المسائل فيما تقدم هنا أيضا فمما زاد على ما تقدم بيانه أن الجارية المبيعة إذا ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر والآخر لأكثر من ستة(13/261)
ص -121- ... أشهر فادعاهما البائع فإنه يرد البيع لأنا تيقنا حصول العلوق بالتي ولدت لأقل من ستة أشهر في ملكه وهما توأم فمن ضرورة التيقن بعلوق أحدهما في ملكه التيقن بعلوق الآخر فهو كما لو ولدتهما لأقل من ستة أشهر وقد بينا أن بعد موت الولد لا تصح دعوى البائع وإن كان الولد خلف ولدا بخلاف ولد الملاعنة فإنه إذا مات عن ولد ثم أكذب الملاعن نفسه فإنه يثبت النسب منه وهذا لأن نسب ولد الملاعنة كان ثابتا من الزوج بالفراش وبقي بعد اللعان موقوفا على حقه حتى لا تنفذ دعوة الغير فيه فيظهر ذلك بالإكذاب إذا كان مقيدا وتقام حاجة ولده إلى ذلك مقام حاجته فأما نسب ولد الجارية المبيعة فلم يكن ثابتا منه قبل الدعوى وإنما تصح دعواه لحاجة الولد إلى النسب وقد استغنى عن ذلك بالموت فلا يمكن إقامة ولده مقامه في إثبات نسبة ابتداء فلهذا لا تصح دعواه وإن كان في يده صبي لا ينطق فزعم أنه عبده ثم أعتقه ثم زعم أنه ابنه فهو غير مصدق في ذلك في القياس لأنه مناقض في كلامه ويصدق في الاستحسان ويثبت نسبه منه لأن الإنسان قد يشتبه عليه هذا في الابتداء ثم يتبين له في الانتهاء فيريد أن يتدارك وقد بينا أن لخفاء أمر العلوق يعذر في التناقض فيه ثم لا منافاة بين الولاء الثابت له عليه وبين النسب ألا ترى أنه يشتري ابنه فيعتق عليه ويجتمع له ولاؤه ونسبه ولو كان عبدا كبيرا أعتقه ثم ادعاه ومثله يولد لمثله لم تجز دعوته إلا أن يصدقه لأنه بالعتق صار في يد نفسه فالتحق بسائر الأحرار فالدعوى من المولى بعد ذلك ومن غيره سواء لا تنفذ إلا بتصديقه بخلاف الصغير الذي لا يعبر عن نفسه لأنه في يد مولاه إذ هو ليس بمحل أن يعبر عن نفسه.(13/262)
قال في الكتاب: أستحسن في الصغير كما أستحسن في المدبر يكون بين اثنين إذا جاء بولد فادعاه أحدهما وقد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب العتاق قال وإذا ولدت الأمة ولدين في بطن واحد فباع المولى الأم مع أحدهما ثم ادعى المشتري الذي اشترى فإن نسبة يثبت منه لأنه ادعى مملوكه في حال حاجته إلى النسب ثم يثبت منه نسب الذي عند البائع لأنه توأم ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما منه ثبوت نسب الآخر وهو عند البائع على حاله لأن العلوق لم يكن في ملك المشتري فدعواه دعوى التحرير والتوأم ينفصل أحدهما عن الآخر في التحرير كما لو أعتق أحدهما وإن كان البائع ادعى الولد الذي عنده ثبت نسبهما منه وانتقض البيع في الآخر وإن كان اعتقه المشتري لأن أصل العلوق كان في ملك البائع فدعواه توجب حرية الأصل الذي بقي عنده والتوأمان خلقا من ماء واحد ولا يفصل أحدهما عن الآخر في حرية الأصل وقد بينا أنه يجوز نقض عتق المشتري لضرورة إثبات حرية الأصل له.
قال: وإذا باع أمة حاملا فخاف المشتري أن يدعي البائع حملها وأراد أن يتحرز عن ذلك فإنه يشهد عليه أن هذا الحمل من عبد له كان زوجا لها وليس هذا بتعليم للكذب ولا أمر به فإنه لا رخصة في الكذب ولكنه بيان لحكم أن البائع إن أقر بذلك كيف يكون الحكم فيه وقد بينا بقية هذه المسألة في كتاب الإعتاق أن المقر له إن صدقة أو لم يظهر منه تصديق(13/263)
ص -122- ... ولا تكذيب فليس للبائع أن يدعيه لنفسه وإن كذبه فكذلك عند أبي حنيفة لأن لإقراره حكمين إخراج نفسه عن نسب هذا الولد وإثبات من المقر له فإنما يبطل بتكذيب المقر له ما كان من حقه فأما ما هو من خالص حق المقر فإن إقراره فيه لا يبطل بتكذيب المقر له خصوصا فيما لا يحتمل الإبطال وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الإقرار بتكذيب المقر له يبطل من أصله فله أن يدعيه لنفسه بعد ذلك وقاسا النسب بالولاء فإن من اشترى جارية ثم زعم أن البائع كان أعتقها فكذبه البائع كان له أن يدعي ولاءها لنفسه بعد ذلك إلا أن أبا حنيفة يفرق بينهما فيقول الولاء قابل للتحول من شخص إلى شخص ألا ترى أن ولاء الولد يثبت لمولى الأم إذا كان الأب عبدا فإذا عتق الأب تحول ولاؤه إليه والنسب لا يحتمل التحول من شخص إلى شخص فعندما أخرج نفسه من نسب هذا الولد لا يصح دعواه لنفسه.(13/264)
قال: أمة بين اثنين باع أحدهما نصيبه من صاحبه ثم ولدت لأقل من ستة أشهر فادعاه البائع صحت دعواه وبطل البيع فيكون هذا كحكم الجارية المشتركة استولدها أحدهما ولو ادعياه معا ثبت نسبه منهما وبطل البيع لأن العلوق حصل في ملكيهما جميعا ولو دعاه البائع وأعتقه المشتري فدعوى البائع تستند إلى وقت العلوق ويثبت به حرية الأصل للولد فيكون عتق المشتري فيه باطلا ولو باع أحدهما نصيبه من رجل وهي حامل فادعى المشتري الحبل وادعاه البائع والذي لم يبع فإن ولدت لأقل من ستة أشهر فالبيع باطل ويثبت نسبه من البائع ومن شريكه لأن دعواهما تستند إلى وقت العلوق فالعلوق حصل في ملكهما ويأخذ المشتري ما نقد من الثمن ويرد على الذي لم يبع نصف العقد لإقراره بالوطء قال الحاكم أبو الفضل قوله ويرد على الذي لم يبع نصف العقد ليس بسديد والصواب أن يرد جميع العقد على الشريكين جميعا وهكذا في رواية أبي سليمان لأن إقراره بوطئها لا بد أن يكون سابقا على الشراء وقد حصل ذلك في ضمن دعوى النسب فيكون عليه جميع العقد للشريكين وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر ثبت نسبه من المشتري ومن الذي لم يبع لأنا لم نتيقن بحصول العلوق قبل البيع فلا يصح دعوى البائع ولكن على البائع نصف العقد للذي لم يبع لأنه أقر بوطئها وذلك يلزمه نصف العقد للذي لم يبع سواء كان وطؤه إياها قبل البيع أو بعد البيع بشبهة وليس للبائع على المشتري عقد لأنه ما أقر بوطئها قبل شرائه وإنما زعم أنه وطئها بعد شرائه في ضمن دعوى النسب فلهذا لا يغرم له شيئا من العقد والله أعلم.
باب الاستبراء(13/265)
قال رضي الله عنه: الأصل في وجوب الاستبراء قول النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالي من الفيء حتى يضعن حملهن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" وهذا خطاب للموالي فيفيد وجوب الاستبراء على المولى فإنه إذا قيل لا تضرب فلانا يكون ذلك نهيا للضارب عن الضرب لا خطابا للمضروب والمعنى في المسبية حدوث ملك الحل فيها لمن وقعت في سهمه بسبب ملك الرقبة فبهذه العلة يتعدى الحكم من المنصوص عليه إلى غير(13/266)
ص -123- ... المنصوص عليه وهي المشتراة أو الموهوبة ووجوب الاستبراء في المشتراة مروى عن علي وابن عمر رضي الله عنهما والحكمة في ذلك تعرف براءة الرحم وصيانة ماء نفسه عن الخلط بماء غيره والتحرز عن أن يصير ماؤه ساقيا زرع غيره ولكن الحكم يثبت بثبوت علته ولهذا قلنا إذا اشتراها من امرأة أو صبي باعها أبوه أو اشتراها وهي بكر أو اشتراها من مملوك لزمه الاستبراء لوجود العلة الموجبة وهي حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة.(13/267)
وعن أبي يوسف قال: إذا تيقن فراغ رحمها من ماء البائع فليس عليه فيها استبراء واجب لأن الاستبراء كاسمه تبين فراغ الرحم وقاس بالمطلقة قبل الدخول أنه لا يلزمها العدة لأن المقصود من العدة في حال الدخول تبين فراغ الرحم ولكنا نقول هذه حكمة الاستبراء والحكم متعلق بالعلة لا بالحكمة ثم اشتغال رحمها بالماء عند الشراء لا يمكن معرفته حقيقة فيتعلق الحكم شرعا بالعيب الظاهر وهو حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة فدار الحكم معه وجودا وعدما للتيسير على الناس وكذلك لا يقبلها ولا يباشرها ولا ينظر منها إلى عورة حتى يستبرئها لأن من الجائز أنها حملت من البائع وأن البيع فيها باطل وهذه التصرفات لا تحل إلا في الملك كالوطء ولأن الوطء حرام في مدة الاستبراء وهذا من دواعي الوطء فيحرم بحرمة الوطء كما إذا ظاهر من امرأته لما حرم عليه وطؤها حرم عليه دواعيه بخلاف الحيض فإن المحرم بسبب الحيض استعمال الأذى كما وقعت إليه الإشارة بالنص ولا يوجد ذلك في التقبيل والمس ثم الدواعي هناك لا توقعه في ارتكاب الحرام لنفرة في طبعه عنها بسبب الأذى والدواعي هنا موقعة في إرتكاب الحرام وهو الوطء لأنه راغب فيها غاية الرغبة ما لم يحصل مقصوده منها فإن كانت لا تحيض من صغر أو كبر فاستبراؤها بشهر لأن الشهر قائم مقام الحيض والطهر شرعا فكل شهر يشتمل على حيض وطهر عادة ألا ترى أن الله تعالى أقام ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة مقام ثلاثة قروء في العدة ومدة الاستبراء ثلث مدة العدة فيتقدر بشهر وإن كانت حاملا فاستبراؤها بوضع الحمل للنص كما روينا ولأن مدة الحمل لا تحتمل التحري لتعذر الاستبراء ببعضها فإذا وجب اعتبار جزء منها وجب اعتبار الكل والمقصود تبين فراغ الرحم ولا يحصل شيء من هذا المقصود قبل الوضع بل يزداد معنى الاشتغال بمضي بعض المدة فلهذا قدرنا الاستبراء في حقها بوضع الحمل وإذا ارتفع حيضها وهي ممن تحيض تركها حتى إذا استبان له أنها ليست(13/268)
بحامل وقع عليها لأن المقصود تبين فراغ الرحم من ماء البائع ليتيقن بصحة البيع ووقوع الملك للمشتري فيها وقد حصل ذلك إذا مضي من المدة ما لو كانت حبلى لظهر ذلك بها وليس في ذلك تقدير بشيء فيما يروى عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا يتبين ذلك بشهرين أو بثلاثة أشهر وكان محمد رحمه الله يقول أولا يستبرئها بأربعة أشهر وعشر اعتبارا بأكثر العدة وهي عدة الوفاة في حق الحرة ثم رجع وقال يستبرئها بشهرين وخمسة أيام لأن أطول مدة العدة في حق الأمة هذا فإذا كان بأقوى السببين وهو النكاح لا يجب على الأمة(13/269)
ص -124- ... الاعتداد إلا بهذه المدة ففي أضعف السببين وهو الملك أولى أن لا يجب في استبرائها زيادة على هذه المدة.
وقال زفر: يستبرئها بحولين أكثر مدة الحمل وكان أبو مطيع البلخي يقول يستبرئها بتسعة أشهر لأنها مدة الحبل في النساء عادة قال والأول أصح لأن نصب المقادير بالرأى لا يكون وليس في ذلك نص ولو ملكها بهبة أو صدقة أو وصية أو ميراث أو جناية وجبت عليه أو جعل كتابة أو خلع فعليه الاستبراء فيها لحدوث ملك الحل له بسبب ملك الرقبة وكذلك لو كان له في جارية شقص فملك الباقي منها بوجه من الوجوه لأن حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة يكون بعد ملكه جميع رقبتها فعند ذلك يلزمه الاستبراء وهذا لأن ملك بعض الرقبة بمنزلة بعض العلة وثبوت الحكم عند كمال العلة وأما ببعض العلة فلا يثبت شيء من الحكم.(13/270)
قال: وإذا اشتراها وهي حائض لم يحتسب بتلك الحيضة عليه وأن يستبرئها بحيضة أخرى وعن أبي يوسف أنها كما طهرت من هذه الحيضة فله أن يطأها لتبين فراغ رحمها بناء على أصله ولكنا نقول الشرع ألزمه الاستبراء بحيضة والحيضة لا تتجزأ وقد تعذر الاحتساب من الاستبراء بما مضى منها قبل الشراء فلا يحتسب بجميعها منه كما لو طلق امرأته في حالة الحيض لا يحتسب بهذه الحيضة من العدة ولأنه كان يحتسب بما بقي من الحيضة بعد الشراء من الاستبراء فعليه إكمالها من حيضة أخرى فإذا وجب جزء من الحيضة الثانية وجبت كلها وكذلك إن كانت حاضت حيضة مستقبلة بعد الشراء قبل القبض لم يحتسب بتلك الحيضة من الاستبراء إلا على رواية أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول تبين فراغ الرحم يحصل بالحيضة التي توجد في يد البائع كما يحصل بالحيضة التي توجد في يد المشتري ولكنا نقول ملك الوطء بسبب ملك الرقبة إنما يستفيده المشتري بالقبض لأن الوطء تصرف وملك التصرف يحصل للمشتري بالقبض فالحيضة التي توجد قبل هذا لا يحتسب بها ولكن الموجود بعد العقد قبل القبض كالمقترن بالعقد والموجود قبله بمنزلة الزوائد الحادثة والتخمر في العصير وكذلك إن وضعت على يدي عدل حتى ينقد الثمن فحاضت عنده لأن يد العدل فيها كيد البائع ألا ترى أنها لو هلكت انفسخ البيع وهلكت من مال البائع.(13/271)
قال: وإذا باع جارية ولم يسلمها حتى تاركه المشتري البيع فيها ففي القياس على البائع أن يستبرئها بحيضة وذكر أبو يوسف في الأمالي أن أبا حنيفة كان يقول أولا بالقياس ثم رجع إلى الاستحسان فقال ليس عليه أن يستبرئها وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجه القياس أنها بالبيع خرجت عن ملكه ثم عادت إليه بالإقالة فقد حدث له فيها ملك الحل بسبب ملك الرقبة وهي العلة الموجبة للاستبراء ووجه الاستحسان أنها في ضمان ملكه ما بقيت يده عليها بدليل أنها لو هلكت هلكت على ملكه فيجعل بقاؤه فيها كبقاء الملك فأما إذا سلمها إلى المشتري ثم تقايلا فعلى البائع أن يستبرئها في ظاهر الرواية لأنها خرجت من(13/272)
ص -125- ... ملكه ويده وثبت ملك الحل فيها لغيره وهو المشتري فإذا عادت إليه لزمه استبراء جديد كما لو استبرأها ابتداء بخلاف ما قبل التسليم وعن أبي يوسف قال: إذا لم يكن البائع فارق المشتري حتى تقايلا فليس عليه فيها استبراء لأنه تيقن بفراغ رحمها من ماء غيره.
قال: وإذا اشترى جارية لا تحيض فاستبرأها بعشرين يوما ثم حاضت بطل الاستبراء بالأيام لأن الشهر بدل عن الحيض وإكمال البدل بالأصل غير ممكن ولكن القدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل يسقط اعتبار البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت وإذا حاضت عند المشتري حيضة ثم وجد بها عيبا فردها لم يقربها البائع حتى تحيض عنده حيضة لأنها عادت إليه بعد ما حدث ملك الحل فيها لغيره بسبب ملك الرقبة فعليه أن يستبرئها سواء كان عودها إليه بسبب هو فسخ أو بمنزلة عقد جديد وكذلك لو باع شقصا منها ثم استقاله البيع فيها أو اشتراها لأن بيع البعض كبيع الكل في زوال ملك الحل في حق البائع وفي الوجهين تجدد الحل بعد زوال ملكه ويده فلزمه استبراء جديد.(13/273)
قال: وإذا رجعت الآبقة أوردت المغصوبة أو فكت المرهونة أو ردت عليه المؤجرة للخدمة قبل انقضاء العدة فليس عليه أن يستبرئها لأن ملك الحل ما زال عنه بما عرض من الأسباب فإن سببه ملك الرقبة ولم يختل ملك الرقبة بهذه الأسباب فبارتفاعها لا يتجدد ملك الحل له وكذلك لو كاتب أمته ثم عجزت فليس عليه أن يستبرئها عندنا وقال الشافعي عليه أن يستبرئها لأنها بالكتابة صارت كالخارجة عن ملكه حتى يغرم بوطئها العقد لها ويغرم الأرش لها لو عليه جنى عليها يوضحه أنها صارت بمنزلة الحرة يدا فتكون مملوكة له من وجه دون وجه فهو كما لو باع نصفها ثم اشترى الباقي والدليل عليه أنه لو زوجها من إنسان ثم فارقها الزوج وجب عليه أن يستبرئها لأن ملك المنفعة زال عنه بالتزويج فكذلك بالكتابة وجه قولنا أنها بعد الكتابة باقية على ملكه فقد قال صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" والعبد يكون مملوكا لمولاه فكيف يقال زال ملكه وانحل وإنما كاتبه ليعتق على ملكه إلا أن بعقد الكتابة يثبت لها ملك اليد في منافعها ومكاسبها وملك الحل لا ينبني على ذلك وإنما ينبني على ملك الرقبة وبسبب الكتابة لا يختل ملك الرقبة فلا يلزمه الاستبراء وإنما يغرم الأرش والعقد لأن ذلك بمنزلة الكسب وقد جعلها أحق بكسبها فإذا عجزت فإنما تقرر له الملك الذي كان باقيا فلم يحدث ملك الحل بسبب ملك الرقبة فلا يلزمه الاستبراء.(13/274)
فأما الزوجة إذا فارقها زوجها فإن كانت الفرقة بسبب يوجب عليها العدة فالعدة أقوى من الاستبراء وهو حق النكاح لا حق ملك اليمين وإن طلقها الزوج قبل الدخول ففيه روايتان أشار إليهما في هذا الكتاب في إحدى الروايتين يلزمه الاستبراء لأنها حلت لغيره فإذا حلت له كان ذلك حلا متجددا وفي الكتابة ما حلت لغيره حتى يجعل ذلك حلا متجددا له وفي الرواية الأخرى ليس له أن يستبرئها وهو الأصح لأنه لو لزمه الاستبراء لكان ذلك بسبب ملك النكاح الثابت للزوج والوظيفة في النكاح العدة دون الاستبراء فإذا لم يجب عند الطلاق قبل(13/275)
ص -126- ... الدخول ما هو وظيفة النكاح فلأن لا يجب أولى ألا ترى أن المطلقة قبل الدخول إذا كانت حرة كان لها أن تتزوج عقيب الطلاق ويطؤها زوجها بالنكاح فكذلك للمولى أن يطأ أمته بعد الطلاق بالملك ولو وهبها لولد له صغير ذكر أو أنثى ثم اشتراها لنفسه منه كان عليه أن يستبرئها لحدوث ملك الحل له بسبب تجدد ملك الرقبة ولو باعها على أنه بالخيار ثم نقض البيع لم يكن عليه أن يستبرئها لأنه لم يحدث ملك الحل له لأنها باقية على ملكه والحل الذي كان له باق في مدة خياره فبفسخ البيع لم يتجدد له ملك الحل فإن كان الخيار للمشتري فردها بعد القبض فليس على البائع أن يستبرئها في قول أبي حنيفة لأن المشتري لم يملكها مع بقاء خياره عنده وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن يستبرئها لأن المشتري قد ملكها ثم ردها بخيار الشرط كردها بخيار العيب والرؤية بعد القبض وإذا قبضها المشتري على شراء فاسد ثم ردها القاضي على البائع بفساد البيع فعليه أن يستبرئها لأن المشتري ملك رقبتها بالقبض فيحدث الحل للبائع بما عاد إليه من الملك.(13/276)
قال: وإذا غصب جارية فباعها من رجل وقبضها المشتري فوطئها ثم خاصم مولاها الأول فقضى القاضي له بها فعليه أن يستبرئها بحيضة استحسانا وفي القياس لا يلزمه الاستبراء لأن المشتري من الغاصب غاصب كالأول وقد بينا أن المغصوب منه إذا استرد المغصوبة فليس عليه فيها استبراء ولكنه استحسن فقال عليه أن يستبرئها لأنها حلت للمشتري حين اشتراها ومعنى هذا الكلام أن المشتري ما كان يعلم أن البائع غاصب وإنما قدم على شرائها باعتبار أن البائع مالك فيثبت له الحل من حيث الظاهر وإن لم يثبت له الحل فيها باطنا فلثبوت الحل له ظاهرا قلنا إذا وطئها ثم استردها البائع كان عليه أن يستبرئها ولعدم ثبوت الحل فيها باطنا قلنا إذا لم يطأها فليس على البائع استبراء وهذا لأن الوطء بشبهة النكاح في حكم العدة بمنزلة الوطء بحقيقة النكاح فكذلك الوطء بشبهة ملك اليمين بمنزلة الوطء بحقيقة الملك في حق وجوب الاستبراء على المالك وإن كان المشتري يعلم أن البائع غاصب فليس على المولى أن يستبرئها إذا استردها لأن الحل للمشتري لم يثبت فيها ظاهرا ولا باطنا ألا ترى أنه لا يثبت نسب الولد منه هنا وإن ادعى ذلك بعد ما وطئها وفي الأول يثبت نسب الولد منه وسقوط الحد عنه باعتبار صورة العقد الموقوف لا بثبوت الحل له فيها فلا يجب على المالك لأجل ذلك استبراء كما لو لم يطأها المشتري.
قال: وإذا زوج الرجل أمته وطلقها الزوج قبل الدخول كان للمولى أن يقر بها بعد ما يستبرئها بحيضة هذا في إحدى الروايتين في هذه المسألة وقد بينا وجه الروايتين وإن كانت تزوجت بغير إذنه ففرق بينهما قبل الدخول لم يكن عليه أن يستبرئها لأنها ما حلت لغيره والأمة لا تملك أن تزوج نفسها بغير إذن مولاها وإن فرق بينهما بعد الدخول لم يكن له أن يقربها حتى تنقضي عدتها لأنه دخل بها بنكاح فاسد فيجب عليها العدة بسببه والعدة أقوى من الاستبراء.(13/277)
ص -127- ... قال: وإذا وطئ جارية ولده ولم تعلق منه ثم اشتراها فعليه أن يستبرئها لأن ملك الحل له فيها حدث بالشراء ووطؤه إياها قبل الشراء كان حراما وارتكاب المحرم لا يمنع وجوب الاستبراء إذا تقرر سببه وكذلك إن اشترى جارية من أبيه أو أمة مكاتبة فعليه أن يستبرئها لحدوث ملك الحل له بسبب ملك الرقبة قال وإن اشتراها من عبد تاجر له فلا استبراء عليه إن كانت قد حاضت حيضة بعد ما اشتراها العبد ولا دين عليه لأن المولى ملك رقبتها من وقت شراء العبد وقد حاضت بعد ذلك حيضة فيكفيه ذلك عن الاستبراء كما لو اشتراها له وكيله فحاضت في يد الوكيل حيضة وإن كان على العبد دين يحيط برقبته وبما في يده فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن عندهما دين العبد لا يمنع ملك المولى في كسبه ولهذا لو أعتقها جاز عتقه فأما عند أبي حنيفة فالقياس كذلك لأن العبد ليس أهلا أن يثبت له عليها ملك الحل بسبب ملك الرقبة ولا يثبت ذلك للغرماء أيضا بسبب دينهم والمولى أحق بها حتى يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فإذا حاضت بعد ما صار المولى أحق بها يجتزئ بتلك الحيضة من الاستبراء ولكنه استحسن فقال عليه أن يستبرئها بعد ما يشتريها من العبد لأن قبل الشراء كان لا يملك رقبتها عنده حتى إذا أعتقها لم ينفذ عتقه فإنما حدث له ملك الحل بسبب ملك الرقبة حين اشتراها فعليه أن يستبرئها.(13/278)
قال: وإن وهب جاريته لرجل وسلمها ثم رجع في الهبة فعليه أن يستبرئها لأنها حلت للموهوب له فتجدد للواهب ملك الحل فيها بالرجوع بعد ما حلت لغيره وكذلك إذا أصاب المأسورة قبل القسمة أو بعدها لأن العدو قد كانوا ملكوها بالاحراز ألا ترى أنهم لو أسلموا عليها كانت لهم فتجدد له فيها ملك الحل حين استردها وإن أبقت إلى دار الحرب فأخذوها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنهم ملكوها وعند أبي حنيفة رحمه الله الآبق إذا دخل دار الحرب لا يملك بالأخذ فإذا ردت على المولى بغير شيء فهي باقية على ملكه كما كانت فلا يلزمه أن يستبرئها.
قال: وإذا باع أم ولده أو مدبرته وقبضها المشتري ثم ردها عليه فليس عليه أن يستبرئها لأن المشتري لم يملكها فإن حق الحرية الثابتة فيها كحقيقة الحرية في المنع من تملكها بالشراء ألا ترى أنها لو كانت امرأته لم يفسد نكاحها ولو أعتقها لم يجز عتقه فيها ولو ولدت عند المشتري لم يثبت نسب الولد من المشتري وإن ادعاه فإذا لم يثبت فيها ملك الحل لغيره لا يلزمه استبراء جديد قال: وإذا أراد الرجل أن يبيع أمته وقد كان يطؤها فليس ينبغي له أن يبيعها حتى يستبرئها بحيضة هكذا روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهذا الاستبراء في حق البائع مستحب عندنا وقال مالك: واجب لأنه يخرجها عن ملكه بعد وجوب السبب الشاغل لرحمها بمائة وهو الوطء فهو نظير ما لو طلق امرأته بعد الدخول فهناك العدة واجبة لا مستحبة فكذلك الاستبراء هنا وإن كان عند الشراء يجب عليه الاستبراء لتوهم سبب اشتغال الرحم فلأن يجب عند البيع وقد تقرر بسبب اشتغال رحمها أولى ولكنا نقول الاستبراء في(13/279)
ص -128- ... ملك اليمين نظير العدة في النكاح ثم وجوب العدة يختص بأحد الطرفين فكذلك وجوب الاستبراء عند حدوث الملك فلو أوجبنا عليه الاستبراء عند إزالة الملك لأوجبنا عليه الاستبراء في الطرفين جميعا يوضحه أن الاستبراء على المولى لصيانة ماء نفسه من أن يسقى به زرع غيره وإنما يتحقق هذا عند الشراء فأما عند البيع فلا يتحقق هذا في حق البائع ومعنى صيانة مائه يحصل بإيجاب الاستبراء على المشتري إلا أنه لا يأمن أن لا يستبرئها المشتري فيستحب له أن يستبرئها احتياطا وإذا فعل ذلك ثم باعها فليس للمشتري أن يجتزئ بذلك إلا في رواية شاذة عن أبي يوسف بناء على أصله في أن تبين فراغ رحمها يحصل به ولكنا نقول حدث ملك الحل فيها للمشتري بالشراء فعليه أن يستبرئها ولو أراد البائع أن يزوجها لم يكن له أن يزوجها حتى يستبرئها ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول لا فرق بين البيع والتزويج بل في الموضعين جميعا يستحب للمولى أن يستبرئها من غير أن يكون واجبا عليه ألا ترى أنه لو زوجها قبل أن يستبرئها جاز كما لو باعها قبل أن يستبرئها والأظهر أن عليه أن يستبرئها أن أراد أن يزوجها بعد ما وطئها صيانة لمائه لأنه لا يجب على الزوج أن يستبرئها ليحصل معنى الصيانة له بخلاف البيع فهناك يجب على المشتري أن يستبرئها فيحصل معنى الصيانة وإن زوجها قبل أن يستبرئها جاز لأن وجوب الاستبراء على المولى لا على الأمة ولا يمنع صحة تزويجها والأحسن للزوج أن لا يقربها حتى تحيض حيضة وليس ذلك بواجب عليه في القضاء وفي الجامع الصغير قال: للزوج أن يطأها قبل أن يستبرئها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد: أحب إلي أن لا يطأها حتى يستبرئها كي لا يؤدي إلى اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد لأن ذلك حرام قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجلين يؤمنان بالله واليوم الآخر أن يجتمعا على امرأة واحدة في طهر واحد" وجه قولهما أن الاستبراء وظيفة ملك(13/280)
اليمين كما أن العدة وظيفة ملك النكاح فكما لا ينقل وظيفة النكاح إلى ملك اليمين فكذلك لا ينقل وظيفة ملك اليمين إلى النكاح وكذلك إن أراد أن يزوج أم ولده أو مدبرته فهي في ذلك كالأمة.
قال: وإذا زنت أمة الرجل فليس عليه أن يستبرئها بحيضة لأنه لا حرمة لماء الزنى والشرع ما جعل للزاني إلا الحجر وليس في الزنى استبراء ولا عدة وقال زفر: عليه أن يستبرئها بحيضة صيانة لماء نفسه عن الخلط بماء غيره وفي الجامع الصغير ذكر عن محمد قال أحب إلي أن لا يطأها حتى يستبرئها بحيضة فإن حبلت من الزنى لم يقربها حتى تضع حملها لأنه لو وطئها كان ساقيا ماءه زرع غيره وقال عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره".
قال: أمة بين رجلين باع أحدهما كلها وسلم الآخر البيع بعد ما حاضت عند المشتري حيضة فعليه أن يستبرئها بعد جواز البيع كله لأن ملك الحل لا يثبت له ما لم يملك جميع رقبتها وذلك بعد إجازة البيع وكذلك لو باع أمة رجل بغير إذنه فقبضها المشتري وحاضت(13/281)
ص -129- ... عنده حيضة ثم أجاز المولى البيع كان عليه أن يستبرئها لأن ملك الحل إنما يثبت له بعد إجازة المالك البيع عندنا وأصل المسألة أن بيع الفضولي يتوقف على إجازة المالك عندنا ويجعل إجازته في الانتهاء كالإذن في الابتداء وعند الشافعي لا يتوقف بل يلغو بيع مال الغير بغير إذن المالك وكذلك كل ما له مجيز حال وقوعه من العقود والفسوخ والنكاح والطلاق فهو على هذا الخلاف واحتج الشافعي بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ومطلق النهي يوجب فساد المنهي عنه والفاسد من العقود عنده غير مشروع ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض فكون بيع ما يقبض ولم يملك منهيا عنه أولى والمعنى فيه أن تصرفه صادف محلا لا ولاية له على ذلك المحل فيلغو كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء فإنه لا ينعقد وإن أخذه بعد ذلك وهذا لأن انعقاد العقد يستدعي محلا ويختص بمحل للعاقد عليه ولاية فإذا انعدمت الولاية على المحل ينزل ذلك منزلة انعدام الأهلية في المتصرف عند العقد وذلك يوجب إلغاءه كالصبي والمجنون إذا طلق امرأته يلغو ذلك ولا ينعقد وإن أجازه بعد البلوغ فكذلك هذا وهذا بخلاف قول المشتري قبل إيجاب البائع قد اشتريت منك بكذا فإن ذلك تصرف في ذمة نفسه بالتزام الثمن إذا أوجب البائع البيع وهو محل ولايته والدليل عليه أن المشتري إذا باع المبيع قبل القبض ثم قبضه لا ينفذ ذلك البيع وكذلك لو أجازه البائع لانعدام ولاية العاقد على المحل يدا وكذلك لو باع الآبق ثم رجع من إباقه لم ينفذ ذلك البيع فإذا انعدمت ولايته ملكا ويدا على المحل أولى وكذلك لو باع مال الغير ثم اشتراه من المالك أو ورثه يبطل البيع ولا ينفذ فإذا لم يجز أن ينفذ هذا العقد من جهة العاقد باعتبار ملكه فلأن لا ينفذ من جهة غيره بإجازته أولى.(13/282)
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى حكيم بن حزام دينارا وأمره أن يشتري له أضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال صلوات الله عليه وسلامه: "بارك الله لك في صفقتك فأما الشاة فضح بها وأما الدينار فتصدق به" فقد باع ما اشترى له بغير أمره ثم أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعه ولا يجوز أن يقال كان هو وكيلا مطلقا بالبيع والشراء لأن هذا شيء لا يمكن إثباته بغير نقل ولو كان النقل على سبيل المدح له فالمنقول أمره أن يشتري له أضحية وبهذا لا يصير وكيلا بمطلق التصرف ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا إلى عروة البارقي رضي الله عنه وأمره أن يشتري أضحية فاشترى بالدينار شاتين ثم باع إحداهما بدينار وجاء بالأخرى مع الدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجوز عليه الصلاة والسلام ذلك ودعا له بالخير ولو لم يكن البيع موقوفا على إجازته لأمره بالاسترداد والمعنى فيه أن هذا تصرف صدر من أهله في محله فلا يلغو كما لو حصل من المالك وكالوصية بالمال ممن عليه الدين وبأكثر من الثلث ممن لا دين عليه وهذا لأن التصرف كلام وهو فعل اللسان فحده ما هو حد سائر الأفعال وتحقيق الفعل ينتقل من فاعل في محل ينفعل فيه فهذا يكون حد التصرف باللسان وإذا صدر من أهله في محله تحقق(13/283)
ص -130- ... به وجوده ثم قد يمتنع نفوذه شرعا لمانع فيتوقف على زوال ذلك المانع وبالإجارة يزول المانع وهو عدم رضا المالك به وبيان الأهلية في التصرف أن التصرف كلام والأهلية للكلام حقيقة بالتميز واعتباره شرعا بالخطاب وبيان المحلية أن البيع تمليك مال بمال فالمحل إنما يكون محلا بكونه مالا متقوما وبانعدام الملك للعاقد في المحل لا تنعدم المالية والتقوم ألا ترى أنه لو باعه بإذن المالك جاز وما ليس بمحل فبالإذن لا يصير محلا ولو باعه المالك بنفسه جاز والمحلية لا تختلف بكون المتصرف مالكا أو غير مالك فإذا قبل اعتبار التصرف شرعا لحكمه لا لعينه والمراد بالأسباب الشرعية أحكامها واشتراط الملك في المحل لأجل الحكم فالتمليك لا يتحقق إلا من المالك فإذا لم يكن المتصرف مالكا لغا تصرفه لانعدام حكمه ففي الجواب عن هذا السؤال طريقان:
أحدهما: أن نقول لا نسلم أن الحكم لا يثبت لهذا التصرف بل يثبت حكم يليق بالسبب فإنه يثبت بالسبب الموقوف ملك الموقوف كما يثبت بالسبب البات ملك بات ولهذا لو أعتق المشتري ثم أجاز المالك البيع نفذ عتقه وهذا لأنه لا ضرر على المالك في إثبات ملك موقوف بهذا السبب كما لا ضرر عليه في انعقاد السبب وإنما الضرر في زوال ملكه وبالملك الموقوف لا يزول ملكه البات.(13/284)
والثاني: أن السبب إنما يلغو إذا خلا عن الحكم شرعا فأما إذا تأخر عنه الحكم فلا لأن الحكم تارة يتصل بالسبب وتارة يتأخر كما في البيع بشرط الخيار وهنا الحكم يتأخر إلى إجازة المالك ولا ينعدم أصلا لأن انعدام الحكم في الحال لرفع الضرر عن المالك وفي تأخير الحكم إلى وجود الإجازة توفر المنفعة عليه فإنه إذا صار مستندا بالنظر إن شاء أجاز البيع وإن شاء أبطله فيكون فيه محض منفعة له فلهذا انعقد السبب في الحال على أن يجعل إجازته في الانتهاء كإذنه في الابتداء بخلاف بيع الطير في الهواء والسمك في الماء فهناك لغا العقد لانعدام محله والمحل غير مملوك أصلا ولا يكون قابلا للتمليك وكذلك طلاق الصبي امرأته إنما لغا لانعدام الأهلية في المتصرف فإن اعتبار عقل الصبي وتميزه لتوفير المنفعة عليه وما يتمحض ضررا ينعدم فيه هذا المعنى ولا يجعل أهلا باعتباره ودليل أن الطلاق يتمحض ضررا أن الولي لا يملك عليه هذا التصرف وإنما لغا لانعدام حكمه أصلا فامرأة الصبي ليست بمحل لوقوع الطلاق عليها بالايقاع ألا ترى أنه لا يقع عليها بإذن الولي ولا بإيقاعه فأما مال الغير فمحل الحكم البيع حتى يثبت فيه حكم البيع عند إذن المالك أو مباشرته بنفسه وهذا بخلاف بيع الآبق والمبيع قبل القبض فإن ذلك لا يصير لغوا بل ينعقد فاسدا لانعدام شرط الصحة وهو قدرة العاقد على تسليم المعقود عليه وبخلاف ما إذا اشترى العاقد ما باعه لأن حكم ذلك السبب لا يمكن إثباته باعتبار الملك الحادث له فحكم السبب ثبوت الملك للمشتري من وقت العقد وإنما يتأتى ذلك باعتبار ملك من كان مالكا وقت العقد وقد زال ذلك بإزالته فلو نفذ باعتبار الملك الحادث نفذ مقصورا على الحال وحكم السبب ليس هذا فأما عند الإجازة(13/285)
ص -131- ... فيثبت الملك للمشتري من وقت العقد ولهذا يستحق المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة وهذا هو تأويل النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أن المراد إذا باعه ثم اشتراه وأراد تسليمه بحكم ذلك العقد بدليل قصة الحديث فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن الرجل ليأتيني فيطلب مني سلعة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فأشتريها فأسلمها فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك".
إذا عرفنا هذا في بيان مسألة الاستبراء فالملك النافذ للمشتري لا يكون إلا بعد الإجازة والحل يبنى على ذلك ولا يحتسب بالحيضة التي توجد قبل الإجازة من الاستبراء فتلك دون الحيضة الموجودة في يد البائع بعد تمام البيع فإذا كان لا يحتسب بها من الاستبراء فهذا أولى ولو كان البائع هو المالك لها فسلمها وحاضت بعد ما قبضها المشتري قبل أن يتفرقا عن مجلس العقد فإنه يحتسب بهذه الحيضة من الاستبراء عندنا خلافا للشافعي وهو بناء على خيار المجلس فإن عندنا البيع يلزم بنفسه ويتم الملك للمشتري بالقبض وليس لواحد منهما أن ينفرد بالفسخ قبل الافتراق عن المجلس ولا بعده وعند الشافعي خيار ثابت لكل واحد منهما فما لم يفترقا فكل واحد منهما ينفرد بالفسخ إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر ويرضى به صاحبه وله في وقوع الملك للمشتري قولان.(13/286)
واحتج بحديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ولا يكونا متبايعين إلا بعد الإيجاب والقبول وقد نص على إثبات الخيار لكل واحد منهما ما لم يتفرقا والمراد التفرق عن المجلس بدليل ما ذكره في رواية أخرى "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا" عن مكانهما الذي تبايعا فيه وراوي الحديث ابن عمر رضي الله عنهما وقد فهم منه الافتراق عن المجلس على ما يروى أنه كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى هنية والمعنى فيه أن هذا عقد تمليك المال فلا يلزم بنفسه ما لم ينضم إليه ما يتأيد به كعقد الهبة فإنه لا يوجب الملك بنفسه ما لم ينضم إليه القبض وتأثيره أن المال مبتذل تكثر المعاملة فيه ويقع العقد عليه بعينه من غير نظر وروية والمقصود به الاسترباح ولا يحصل هذا المقصود إلا بعد نظر وروية فأثبت الشرع الخيار لكل واحد منهما به ما داما في المجلس ليتحقق به ما هو المقصود لكل واحد منهما بخلاف النكاح فإنه في العادة لا يقع بغتة وإنما يكون بعد تقدم الخطبة والمراودة ثم إنما تقدر هذا الخيار بالمجلس لأن حال المجلس جعل كحالة العقد ألا ترى أن في الصرف والسلم القبض الموجود في المجلس كالقبض المقترن بالعقد ثم حالة العقد وهو ما بعد الإيجاب قبل القبول يثبت الخيار لكل واحد منهما فكذلك يثبت ما داما في المجلس إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر فيستدل بهذا اللفظ على تمام النظر والرواية فيسقط به الخيار.
وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم" وقد شرط إمضاء العقد بينهما فيلزمهما الوفاء بظاهر الحديث وقال عمر رضي الله عنه: البيع صفقة أو خيار، والصفقة هي(13/287)
ص -132- ... النافذة اللازمة فتبين أن البيع نوعان لازم وغير لازم بشرط الخيار فيه فمن قال بأن الخيار يثبت في كل بيع فقد خالف هذا الحديث والمعنى فيه أن البيع عقد معاوضة فمطلقه يوجب اللزوم بنفسه كالنكاح وتأثير هذا الكلام أن العقد يتقوى بصفة المعاوضة وإنما يظهر فوته في حكمه حتى لا ينفرد أحدهما برفعه وبه فارق التبرع فهو ضعيف لخلوه عن العوض ولهذا لا يثبت الحكم به إلا بالقبض ثم لزوم هذه المعاوضة تعتمد تمام الرضا من المتعاقدين وبه يلزم بعد المجلس فكذلك في المجلس لأنه لا أثر لبقائهما في المجلس في المنع من تمام الرضا والدليل عليه أنه لو قال أحدهما لصاحبه اختر فإنه يلزم العقد مع بقائهما في المجلس لوجود الرضا وإيجاب العقد مطلقا أدل على الرضا من هذه الكلمة ثم الشرع مكن كل واحد منهما من دفع العين عن نفسه بشرط الخيار فإذا لم يفعل فهو الذي ترك النظر لنفسه ومن لم ينظر لنفسه لا ينظر له ثم الفسخ ضد العقد فما هو المقصود بالعقد لا يحصل بالفسخ بل هو متعين في إمضاء العقد فهذا يقتضي أن لا يثبت حق الفسخ لواحد منهما بحال إلا أن الشرع مكن كل واحد منهما من اشتراط الخيار لنفسه ليتمكن به من الفسخ إذا ظهر أن منفعته فيه فإذا لم يشترط الخيار عرفنا أنه إنما قصد تحصيل ما هو المطلوب بالعقد وهو الملك في البدل وفي لزوم العقد بنفسه يحصل هذا المقصود لا تفويته فأما الحديث فرواية مالك رحمه الله ومن مذهبه أنه لا يثبت خيار المجلس وفتوى الراوي بخلاف الحديث دليل ضعفه ثم المراد بالحديث إن صح المتساومان فإن حقيقة اسم المتبايعين لهما حالة التشاغل بالعقد لا بعد الفراغ منه كالمقابلين والمناظرين وبه نقول أن لكل واحد من المتساومين الخيار أو المراد بالتفرق التفرق بالقول دون المكان يعني أنهما جميعا بالخيار إن شاآ فسخا البيع بالإقالة ما لم يتفرق رأيهما في ذلك.(13/288)
وذكر أبو يوسف في الأمالي أن تأويل هذا الحديث إذا قال لغيره بعني هذه السلعة بكذا فيقول الآخر بعت وبه يتأول أن يعد هذا الكلام قبل قول المشتري اشتريت لكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا عن ذلك المجلس وهذا صحيح فهما متبايعان في هذه الحالة لوجود التكلم بالبيع منهما وعلى أصل الشافعي بهذا اللفظ ينعقد البيع بينهما ثم يثبت الخيار لكل واحد منهما ما لم يتفرقا عن المجلس إن شاء قال المشتري اشتريت حتى يتم البيع وإن شاء رجع البائع أو قام من المجلس قبل أن يقول المشتري اشتريت.
قال: وإذا ارتدت أمة لرجل ثم تابت لم يكن عليه أن يستبرئها لأنها لم تخرج عن ملكه ولم تحل لغيره إنما حرمت عليه لعارض الردة ثم زال ذلك بالتوبة فهو بمنزلة ما لو حرمت عليه بالحيض.
قال: وإذا اشترى أمة لها زوج ولم يدخل بها وطلقها قبل أن يقبضها المشتري فعلى المشتري أن يستبرئها لأن وقت وجوب الاستبراء على المشتري وقت القبض وهي فارغة عن حق الغير عند القبض فوجود النكاح عند العقد وعدمه سواء وإن طلقها الزوج بعد ما قبضها(13/289)
ص -133- ... المشتري فليس عليه أن يستبرئها لأنه حين قبضها لم يلزمه الاستبراء لكونها مشغولة بحق الزوج فحقه يمنع ثبوت ملك الحل له بملك الرقبة وإذا لم يلزمه الاستبراء عند القبض لا يلزمه بعد ذلك لأنه لو لزمه الاستبراء إنما يلزمه بالطلاق قبل الدخول والطلاق لا يوجب الاستبراء وهذه هي الرواية الأخرى في أن الزوج إذا طلقها قبل الدخول لا يجب على المولى به الاستبراء ولو استبرأها وقبضها ثم زوجها فإن مات عنها زوجها واعتدت عدة الوفاة ولم تحض ولا بأس بأن يطأها لما بينا أن العدة أقوى من الاستبراء فعند ظهور العدة لا يظهر حكم الاستبراء وإن طلقها الزوج قبل أن يدخل بها وقبل أن تحيض عنده لم يطأها المشتري حتى يستبرئها بحيضة لأن الاستبراء قد وجب هنا حين قبضها وهي فارغة وبالطلاق قبل الدخول ارتفع النكاح لا إلى أثر فيظهر ما كان من الحكم قبل النكاح والطلاق وهو الاستبراء الواجب على المشتري وإن كانت قد حاضت حيضة عند الزوج قبل الطلاق أجزأت تلك الحيضة عن الاستبراء لأنها حاضتها بعد ما وجب الاستبراء على المشتري بالقبض وبتلك الحيضة يتبين فراغ رحمها من ماء البائع فيجتزئ بها من الاستبراء لأنها حاضتها بعد ما وجب الاستبراء بالقبض.(13/290)
وفي كتاب الحيل قال: إن زوجها المشتري عبدا له قبل أن يقبضها ثم قبضها ثم طلقها العبد قبل أن يدخل بها وقبل أن تحيض فللمشتري أن يطأها من غير استبراء وهو صحيح فتزويجه إياها قبل القبض صحيح كالإعتاق لأن النكاح لا يمنع صحته بسبب الغرر أو أن وجوب الاستبراء بعد القبض وقد قبضها وهي مشغولة بالنكاح فلم يلزمه الاستبراء عند ذلك ولا بالطلاق بعد ذلك وهذه هي الحيلة لاسقاط الاستبراء في حق من كان تحته حرة لأنه لا يمكنه أن يتزوجها بنفسه وإن لم يكن تحته حرة فالحيلة أن يتزوجها قبل الشراء ثم يشتريها فيقبضها فلا يلزمه الاستبراء لأن بالنكاح يثبت له عليها الفراش فإنما اشتراها وهي فراشة وقيام الفراش له عليها دليل على تبين فراغ رحمها من ماء الغير شرعا ثم الحل لم يتجدد له بملك الرقبة لأنها كانت حلالا له بالنكاح قبل ذلك ولا بأس بالاحتيال لإسقاط الاستبراء بهذه الصفة إذا علم أن البائع لم يكن وطئها في هذا الطهر وفي قول أبي يوسف وقال محمد: يكره ذلك وهو نظير ما تقدم من الحيلة لإسقاط الزكاة فعند أبي يوسف هو يمتنع من التزام حكم مخافة أن لا يتمكن من الوفاء به إذا لزمه ومحمد يقول الفرار من الأحكام الشرعية ليس من أخلاق المؤمنين فيكره له اكتساب سبب الفرار وهكذا الخلاف في الحيلة لإسقاط الشفعة والله أعلم.
باب الاستبراء في الأختين
قال: وإذا وطئ الرجل أمة ثم اشترى أختها كان له أن يطأ الأولى وليس له أن يطأ الثانية لأنه إذا وطئ الثانية يصير جامعا بين الأختين وطئا بملك اليمين وذلك لا يحل لظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] وكان في هذا الفصل اختلاف بين عثمان وعلي رضي الله عنهما فكان عثمان رضي الله عنه يقول أحلتهما آية يعني قوله(13/291)
ص -134- ... تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وحرمتهما آية يعني قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} فكان يتوقف فيه وكان علي رضي الله عنه يرجح آية التحريم لأنه إن كان المراد الجمع بينهما وطأ فهو نص خاص وإن كان المراد الجمع بينهما نكاحا فالنكاح سبب مشروع للوطء فحرمة الجمع بينهما نكاحا دليل على حرمة الجمع بينهما وطئا وأخذنا بقول علي رضي الله عنه احتياطا لتغليب الحرمة على الحل والإباحة ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" وإن لم يكن وطئ الأولى حتى اشترى الثانية أو اشتراهما معا فله أن يطأ أيتهما شاء لأن كل واحدة منهما مملوكة له وبوطء إحداهما لا يصير مرتكبا لما هو المحرم وهو الجمع بينهما وطئا فله أن يطأ أيتهما شاء فإن وطئ إحداهما لم يكن له أن يطأ الأخرى لأنه لو وطئ الأخرى صار جامعا بينهما وطئا فإن وطئهما جميعا أو قبلهما أو نظر إلى فرجيهما بشهوة فقد أساء بارتكاب الجمع المحرم فكما يحرم الجمع بينهما في دواعي الوطء والتقبيل والنظر إلى الفرج بشهوة من جملة الدواعي كالنكاح ولهذا تثبت به حرمة المصاهرة كما تثبت بالوطء ثم ليس له أن يطأ واحدة منهما حتى يحرم على نفسه إحداهما ببيع أو نكاح أو تبرع لأنه إذا أراد أن يطأ إحداهما والآخرة موطوءته ولهذا لو كانت موطوءته على الخصوص لم يكن له أن يطأ أختها بالملك حتى يحرمها على نفسه فكذلك هذا الحكم بعد ما وطئهما فإن زوج إحداهما فله أن يطأ الباقية منهما لأن المنكوحة صارت فراشا للزوج وبثبوت الفراش الصحيح للزوج ينعدم أثر وطء المولى حكما ولهذا لو جاءت بالولد بعد ذلك لا يثبت النسب من المولى وإن ادعاه فيكون هذا بمنزلة الطلاق قبل الدخول ولو طلق إحدى الأختين قبل الدخول كان له أن يتزوج بالأخرى من ساعته فهنا أيضا له أن يجامع الأخرى غير أني لا أحب له أن يجامعها حتى تحيض أختها حيضة(13/292)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين" وكذلك الزوج يستحب له أن لا يقرب التي تزوج حتى تحيض حيضة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لرجلين يؤمنان بالله واليوم الآخر أن يجتمعا على امرأة في طهر واحد" فإن طلقها الزوج وانقضت عدتها لم ينبغ للمولى أن يطأ واحدة منهما حتى يزوج إحداهما أو يبيع لأن حق الزوج يسقط عنها بالطلاق ولم يبق له أثر بعد انقضاء العدة فعاد الحكم الذي كان قبل التزويج وكذلك لو باع إحداهما وسلم ثم اشتراها أو ردت عليه بعيب فليس له أن يطأ واحدة منهما حتى يحرم إحداهما على نفسه هكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وهذا لأنهما اجتمعا في ملكه وكل واحدة منهما موطوءته فكانت هذه الحالة كحاله قبل البيع في المنع.
قال: وإذا ارتدت إحداهما عن الإسلام والعياذ بالله لم يحل له أن يطأ الأخرى لأن المرتدة في ملكه بعد ولم يثبت فيها حل لغيره وحرمتها عليه بالردة كحرمتها بالحيض وكذلك الرهن والإجارة والتدبير فمباشرته في إحداهما لا يخرجها عن ملكه ولا يحرمها عليه ولا يحل له أن يطأ الأخرى باعتباره وكذلك إن لحق إحداهما دين أو جناية فإنها لم(13/293)
ص -135- ... تخرج من ملكه ما لم تدفع أو تبع فإذا دفعت أو بيعت في الدين فقد خرجت من ملكه وحل له وطء الأخرى عند ذلك.
قال: ولو كاتب إحداهما أو أعتق بعضها فقضى عليها بالسعاية أو لم يقض حل له أن يطأ الأخرى أما في معتقة البعض فهو غير مشكل لأن ملكه زال عنها بقدر ما أعتق وزوال ملكه عن بعضها في حكم الحرمة كزوال ملكه عن جميعها وفي الكتابة الجواب مشكل فقد ذكرنا في الباب المتقدم أنها بالكتابة لا تخرج عن ملك المولى حتى لا يلزمه استبراء جديد بعد العجز ولم يحل فرجها لغيره وكان ينبغي أن لا يحل له وطء الأخرى ولكن قال: ملك المولى يزول بالكتابة ولهذا يلزمه العقد بوطئها وجعل وطؤه إياها وطئا في غير ملك حتى لا ينفك عن عقوبة أو غرامة وقد سقطت العقوبة فتجب الغرامة فيجعل زوال ملك الحل عنها بالكتابة كزواله بتزويجها أو ببيع بعضها فيحل له أن يطأ الأخرى وكذلك لو وهب إحداهما أو وهب شقصا منها وسلم فهو والبيع سواء وكذلك لو أسرها العدو وأحرزوها بدارهم لأنهم ملكوها بالاحراز ولو أبقت إليهم لم يحل له وطء الباقية في قول أبي حنيفة لأنهم لم يملكوا الآبق بالأخذ فهي باقية على ملكه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أخذوها ملكوها بالاحراز فيحل له وطء الأخرى.(13/294)
قال: ولو زوج إحداهما نكاحا فاسدا فوطئها زوجها ثم فرق بينهما فله أن يطأ أختها لأن العدة وجبت على التي زوجها والعدة بمنزلة النكاح في حرمتها بها على المولى فيحل له أن يطأ أختها وإن كانت عند الزوج لم يفرق بينهما ولم يدخل بها أو فرق بينهما قبل الدخول لم يكن له أن يقرب الأخت لأن النكاح الفاسد لا يحرمها على المولى ولا يثبت للزوج عليها فراش فوجوده وعدمه سواء وإن باع إحداهما بيعا فاسدا وقبضها المشتري حل له وطء الأخرى لأن المشتري ملكها بالقبض وإن كان لا يحل له وطؤها لفساد البيع وبخروج إحداهما عن ملكه يحل له وطء الأخرى لأن المشتري ملكها بالقبض فإن ترادا البيع فليس له أن يطأ واحدة منهما حتى يحرم إحداهما عليه فإن باع التي لم يبع لم يقرب التي ردت عليه حتى يستبرئها بحيضة لخروجها عن يده وملكه بالتسليم بحكم البيع الفاسد.
قال: وإذا تزوج أخت جاريته التي وطئها لم يقرب واحدة منهما حتى يملك فرج أمته غيره لأن التي تزوجها صارت فراشا له بنفس النكاح حتى لو جاءت بالولد يثبت النسب منه فكانت كالموطوءة حكما فلهذا لا يقرب أمته ولا يقرب المنكوحة لأنه وطئ أختها بالملك فيصير بهذا الفعل جامعا بين الأختين وطئا وذلك حرام وقال مالك له أن يطأ أمته كما كان يطؤها قبل النكاح وجعل نكاحه أختها بمنزلة شرائه أختها والفرق بينهما ما ذكرنا فإنها بنفس الشراء ما صارت فراشا له حتى لو جاءت بالولد لا يثبت النسب ولو اشترى أخت امرأته وهي أمه كان له أن يطأ الأولى وهي المنكوحة لأن الثانية بنفس الشراء ما صارت فراشا له ويستوي إن كان وطئ المنكوحة أو لم يطأها لأن بالنكاح صارت فراشا له والتحقت(13/295)
ص -136- ... بالموطوءة. ولو اشترى عمة أمته التي وطئها أو خالتها أو بنت أختها أو بنت أخيها من نسب أو رضاع فهو بمنزلة شراء الأخت لأن الجمع بين هاتين في النكاح حرام فكذلك يحرم الجمع بينهما وطئا بملك اليمين.
قال: وإذا اشترى جارية وقبضها وعليها عدة من زوج من طلاق أو وفاة يوم أو أكثر من ذلك فليس عليه بعد مضي تلك المدة استبراء استحسانا لأن العدة من حقوق النكاح فتعمل عمل أصل النكاح في المنع من وجوب الاستبراء ولو كانت منكوحة عند القبض بالشراء لم يجب على المشتري فيها استبراء فكذلك إذا كانت معتدة ألا ترى أنها لو كانت حاملا فولدت بعد ما قبضها المشتري لم يلزمه استبراء آخر فكذلك إذا انقضت عدتها بغير ولد.
قال: وإذا اشترى جارية لها زوج وقبضها ثم طلقها الزوج قبل أن يدخل بها وقد كان البائع وطئها قبل أن يزوجها لم ينبغ للمشتري أن يقربها حتى تحيض حيضة استحسانا لأنه لو قربها أدى إلى اجتماع الرجلين على امرأة واحدة في طهر واحد وقيل هنا الاستبراء مستحب لا واجب كما يستحب للزوج أن يستبرئها قبل أن يطأها إذا علم أن المولى وطئها في هذا الطهر فكذلك حال المشتري بعد طلاق الزوج مثله وقيل بل في حق المشتري الاستبراء واجب وهو إحدى الروايتين في أن الطلاق قبل الدخول يوجب الاستبراء على المشتري فإن كانت قد حاضت حيضة بعد وطء البائع فلا بأس بأن يقربها المشتري ولا يستبرئها فبهذا تبين أن المنع في الفصل الأول لكيلا يؤدي إلى اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد لا لوجوب الاستبراء على المشتري عند الطلاق.(13/296)
قال: وإذا اشترى المكاتب جارية وقبضها فحاضت عنده ثم عتق حل له أن يطأها لأن المكاتب في حكم ملك التصرف بمنزلة الحر وبالشراء يثبت له حق الملك فتأكد ذلك بالعتق وبالحيضة التي توجد في يده بعد ذلك يتبين له فراغ رحمها من ماء الغير فيحتسب بها من استبرائه قال: ألا ترى أن مولاه إذا اشتراها منه قبل أن يعتق كان عليه أن يستبرئها بحيضة يعني أن المولى في كسب مكاتبه كالأجنبي والمعتبر ملك المكاتب فيها قبل العجز لا ملك المولى فإن عجز المكاتب لم يطأها المولى حتى يستبرئها بحيضة لأن المولى إنما ملكها بعد عجز المكاتب وهذا لأن ملك الحل بمنزلة ملك التصرف والمكاتب هو المستبد بالتصرف في ملكه قبل العجز وإنما يملك المولى التصرف بعد عجز المكاتب فيلزمه استبراء جديد ألا ترى أن المشتراة قبل القبض إذا حاضت ثم قبضها يلزمه استبراء جديد وإن كان هو قبل القبض مالكا رقبتها فهذا أولى فإن كانت أم المكاتب أو ابنته لم يكن على المولى أن يستبرئها لأنها تتكاتب عليه وكل من دخل في كتابته فهو مملوك المولى حتى ينفذ عتقه فيه كما ينفذ في المكاتبة فكما أن المكاتبة إذا عجزت لا يجب على المولى أن يستبرئها فكذلك لا يجب عليه الاستبراء متى صارت مكاتبة معه ولو كانت أخت المكاتب أو ذات رحم محرم منه فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنها قد تكاتبت عليه وعند أبي حنيفة: لا(13/297)
ص -137- ... يتكاتب ما سوى الوالدين والمولودين فيجب على المولى فيها الاستبراء بعد العجز كما في الأجنبية ألا ترى أن المولى لو أعتقها لم ينفذ عتقه فيها عنده ولا يمتنع عليه بيعها؟.
قال: ولو اشترى النصراني جارية فليس عليه أن يستبرئها لأن ما فيه من الشرك أعظم من ترك الاستبراء معناه أن وجوب الاستبراء لحق الشرع والكافر لا يخاطب بما هو أهم من الاستبراء كالعبادات فإن أسلم قبل أن يطأها وقبل أن تحيض حيضة ففي القياس ليس عليه أن يستبرئها لأن أوان وجوب الاستبراء عند القبض ولم يلزمه عند ذلك فلا يجب من بعد كما لو كانت منكوحة أو معتدة حين قبضها وفي الاستحسان عليه أن يستبرئها بحيضة لأن وقت الاستبراء من حين يقبضها إلى أن تحيض حيضة فإذا أسلم وقد بقي شيء من وقت الاستبراء يجعل ذلك لوجود الإسلام في أول الوقت كالكافر إذا أسلم في آخر وقت الصلاة يلزمه تلك الصلاة لهذا المعنى فإن وطئها قبل إسلامه ثم أسلم لم يكن عليه أن يستبرئها لأن وقت الاستبراء ما قبل الوطء لأنه يستبرئ رحمها من ماء غيره لا من ماء نفسه وبعد الوطء لو استبرأها إنما يستبرئها من ماء نفسه.
قال: وإذا اشترى جارية مجوسية فحاضت عنده حيضة ثم أسلمت حل له أن يطأها لأن تلك الحيضة وجدت بعد تمام الملك له فيها فيجتزئ بها من الاستبراء وكذلك إن كانت محرمة فحاضت في إحرامها ثم حلت.
قال: وإذا اشترى جارية هي أخت البائع من الرضاع أو كانت حراما عليه بوجه من الوجوه فعلى المشتري أن يستبرئها لأنه حدث له فيها ملك الحل بسبب ملك الرقبة فهو كما لو اشتراها من امرأة.
قال: وإن اشترى جارية فلم يقبضها حتى ردها بخيار أو عيب فليس على البائع أن يستبرئها لأنها لم تخرج من ضمان ملكه حين عادت إليه والله أعلم.(13/298)
ص -138- ... باب آخر من الخيار
قال: وإذا رأى الرجل عند رجل جارية فساومه عليها ولم يشترها ثم رآها بعد ذلك متنقبة فاشتراها بثمن مسمى ولم يعلم أنها تلك الجارية ولم يقع بينهما منطق يستدل به أنه قد عرفها فهو بالخيار إذا كشفت نقابها وهذا بمنزلة من اشترى شيئا لم يره لأن الرؤية السابقة لم تفد له العلم بأوصاف المعقود عليه لما لم يعلم أنها تلك الجارية وثبوت خيار الرؤية للجهل بأوصاف المعقود عليه فإنما يسقط خياره برؤية تفيده العلم بأوصاف المعقود عليه فما لم يفده بأوصاف المعقود عليه فوجوده كعدمه أرأيت لو رآها عنده ثم رآها متنقبة عند آخر ولا يعلم أنها تلك الجارية فاشتراها أما كان له الخيار إذا كشفت نقابها فكذلك إذا اشتراها من الأول.
قال: ولو نظر إلى جراب هروي فقلبه ثم إن صاحب الجراب قطع منه ثوبا ثم أخبره أنه قطع منه ثوبا ولم يره إياه ثانية حتى اشتراه فهو بالخيار إذا رآه لأن الثياب عدد متفاوت ولذا لا يجوز شراء ثوب من الجراب بغير عينه فإذا لم يكن ما قطع منه معلوما عند المشتري لم(13/299)
ص -139- ... يكن ما يتناوله العقد أيضا معلوم الوصف عنده فثبت له الخيار عند الرؤية ألا ترى أنه لو اشترى الجراب إلا ثوبا منها بغير عينه لم يجز الشراء فكذلك إذا كان لا يعلم ما قطع البائع منها بعد رؤيته فلعله قطع أجودها والمشتري يظن أنه قطع أردأها فلهذا كان له الخيار إذا رآه.
قال: ولو عرض رجل على رجل ثوبين فلم يشترهما ثم لف أحدهما في منديل ثم اشتراه منه ولم يره ولم يعلم أيهما هو فهو بالخيار إذا رآه لأن الرؤية المتقدمة لا تفيده العلم بأوصاف المعقود عليه فلعل المشتري يظن أنه أجودهما وهو أردؤهما ولو أتاه بالثوبين جميعا وقد لف كل واحد منهما في منديل فقال هذان الثوبان اللذان قد عرضت عليك أمس فقال أخذت هذا لأحدهما بعشرين درهما وهذا بعشرة في صفقتين أو صفقة ولم يرهما في هذه المدة فأوجبهما له فهو بالخيار لأنه لما خالف بينهما في الثمن فما هو المقصود لا يحصل له ما لم يعلم بأوصاف كل واحد منهما بعينه لجواز أن يظن أن الذي اشتراه بعشرين درهما أجودهما والذي اشتراه بعشرة أردؤهما والحال بخلاف ذلك فربما يهلك أحدهما أو يجد به عيبا يحتاج إلى رده فلا يندفع الغبن عنه ما لم يعرف كل واحد منهما بعينه ولو قال قد أخذت كل واحد منهما بعشرة أو بعشرين جاز ذلك ولا خيار له لأنه أخذهما صفقة واحدة ولم يفصل أحدهما في الثمن وقد كانا معلومي الوصف عنده بالرؤية المتقدمة فلأجله لا يثبت له خيار الرؤية فيهما.(13/300)
قال: رجل اشترى ثوبا ولم يره حتى رهنه أو أجره يوما أو باعه والمشتري بالخيار فهذا اختيار منه له وليس له أن يرده لأنه أوجب للغير فيه حقا لازما وذلك بعجزه عن الرد فإن البيع بشرط الخيار للمشتري لازم في جانب البائع واكتسابه ما يعجزه عن الرد مسقط لخياره حكما كما لو كان المبيع عبدا فدبره أو باعه والبائع بالخيار فنقض البيع كان له أن يرده لأن خيار البائع يمنع زوال ملكه والبيع بهذه الصفة لا يعجزه عن الرد فلا يكون مسقطا لخياره وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يسقط خياره بهذا البيع وقيل تلك الرواية أصح لأن البيع بشرط الخيار للبائع أقوى في إسقاط الخيار من العرض على المبيع ولو عرضه على المبيع سقط خياره فإذا باعه بشرط الخيار أولى ووجه ظاهر الرواية أن البيع تصرف من جهة القول فإذا كان بحيث لا يعجزه عن الرد لا يكون إسقاطا لخياره حكما ولكنه بمنزلة إسقاط خيار الرؤية بالقول قصدا وذلك لا يصح قبل الرؤية فكذلك إيجاب البيع بشرط الخيار له.
قال: ولو اشترى عبدا لم يره فكاتبه ثم عجز فرآه لم يكن له أن يرده بالخيار وكذلك خيار الشرط في ذلك لأن عقد اكتساب لازم في جانب المولى وهو يعجزه عن الرد بحكم الخيار فمباشرته تتضمن سقوط خياره حكما فخيار الشرط والرؤية في ذلك سواء ولو حم العبد ثم ذهبت الحمى عنه كان له أن يرده بخيار الرؤية والشرط لأن الحمى عنده بمنزلة عيب حادث وذلك غير مسقط لخياره وإنما يمنعه عن الرد بغير رضا البائع لدفع الضرر عن البائع،(13/301)
ص -140- ... فإذا أقلعت الحمى عنه فقد زال معنى الضرر فكان هو على خياره في الرد بخلاف ما تقدم فإن عجزه عن الرد هناك لإيجابه حقا لازما للغير فيه وذلك مسقط لخياره حكما ولو أشهد على نقض البيع في الثلاثة بحضرة البائع والعبد محموم وله خيار الشرط ثم ذهبت الحمى قبل مضي الثلاثة ولم يحدث ردا حتى مضت الثلاثة الأيام كان له أن يرده بذلك الرد لأن نقضه البيع بحضرة البائع صحيح في حقه وإنما امتنع ثبوت حكمه في حق البائع لدفع الضرر عنه فإذا ذهبت الحمى قبل مضي الثلاثة فقد انعدم معنى الضرر فتم البيع في حق البائع أيضا فلهذا كان له أن يرده بعد مضي الأيام الثلاثة وهذا لأن الحمى حين ذهبت مع بقاء مدة الخيار تجعل المشتري كالمجدد للفسخ في هذه الحالة لأنه مصر على الفسخ الذي كان منه كأنه جدده بعد زوال المانع ولو تمادت به الحمى عشرة أيام ليس له بذلك الرد ولا بغيره لأن مدة الخيار ذهبت والمانع قائم فبطل حكم الرد لاستغراق المانع في جميع المدة ولأنه حين أقلعت الحمى عنه يصير كالمجدد للفسخ وهو لا يملك الرد به بعد مضي مدة الخيار وإنما يملك ذلك في مدة الخيار ولو خاصمه في الثلاثة إلى القاضي فرده المشتري وأبى البائع أن يقبله وهو محموم فإن القاضي يجيز البيع ويبطل الرد لأنه يرده بعيب حادث عنده وإنما كان تمكنه من الرد بحكم الخيار له لدفع الضرر عن نفسه لا لإلحاق الضرر بالبائع فإذا أدى ذلك إلى الاضرار بالبائع أبطل القاضي رده ولزمه البيع بقضاء القاضي فإن صح العقد في الثلاث لم يكن له أن يرده لأن إلزام القاضي إياه أقوى من التزامه إسقاط الخيار ولو أسقط خياره لم يكن له أن يرده بعد ذلك فإذا ألزمه القاضي كان أولى وكذلك هذا في خيار الرؤية لأن قضاء القاضي ببطلان رده مسقط لخياره حكما وذلك حاصل قبل الرؤية وهذا بخلاف الرجوع في الهبة فإن الموهوب له إذا بنى في الدار الموهوبة ثم رجع الواهب فأبطل القاضي رجوعه ثم رفع الموهوب له بناءه(13/302)
كان للواهب أن يرجع فيها لأن حق الواهب في الرجوع لا يحتمل الإسقاط حتى لو أسقطه بنفسه كان إسقاطه باطلا فالقاضي إنما يمنع رجوعه بقضائه لأجل البناء لا أن يسقط حقه في الرجوع فإذا زال المانع كان له أن يرجع وهنا القاضي مسقط لخياره لأن خياره محتمل للسقوط فبعدما سقط خياره بقضاء القاضي لا يمكن من الرد بحكمه.
قال: ولو أشهد على رده في الثلاثة بحضرة البائع وهو صحيح ثم حم قبل أن يقبضه البائع ثم أقلعت عنه الحمى وعاد إلى الصحة في الثلاثة أو بعدها فهو لازم للبائع ولا خيار له فيه لأن المشتري فسخ البيع وهو صحيح فعاد فسخه إلى ذلك البائع ثم بحدوث العيب في ضمان المشتري يثبت للبائع الخيار فإذا أقلعت الحمى فقد زال ذلك العيب وسقط ما كان من الخيار للبائع كما لو حدث بالمبيع عيب في يد البائع ثم زال العيب قبل أن يقبضه المشتري كان لازما للمشتري ولا خيار له فيه فهذا مثله وكذلك خيار الرؤية ولو خاصمه والحمى به فأبطل القاضي الرد وألزم المشتري العبد فليس له أن يرده بعد ذلك لأن ذلك الفسخ بطل بقضاء القاضي بمنزلة البيع إذا أبطله القاضي للعيب الحادث عند البائع ثم زال العيب.(13/303)
ص -141- ... مملوكة للمشتري أمانة في يد البائع فهلاكها في يد الأمين كهلاكها في يد المشتري وفي خيار الشرط كذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن خيار الشرط عندهما لا يمنع ملك المشتري وعند أبي حنيفة في القياس كذلك لأن البيع لازم في جانب البائع والمبيع خارج من ملكه فإيداع المشتري إياه كإيداعه أجنبيا آخر فإذا هلك في يده هلك من مال المشتري وفي الاستحسان يهلك من مال البائع لأن خيار المشتري يمنع ملكه عند أبي حنيفة فتسليمه إياها إلى البائع لا يكون إيداعا فيه ملك نفسه ولكنه فسخ للقبض فكأنها هلكت في يد البائع قبل أن يقبضها المشتري فيهلك من مال البائع
باب بيع النخل وفيه ثمر أو لم يكن فيه ثمر
قال: وإذا اشترى الرجل أرضا ونخلا بألف درهم والأرض تساوي ألفا والنخل يساوي ألفا فأثمر النخيل بعد ذلك في يد البائع مرة أو مرتين كل مرة تساوي الثمرة ألفا فأكله البائع كله ثم جاء المشتري يطلب بيعه فالأصل في تخريج هذه المسألة أن الثمار الحادثة زيادة في الأرض والنخل في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله وفي قوله الآخر هو زيادة في النخل خاصة وجه قوله الآخر أن الثمار يخرجه النخيل دون الأرض فيكون زيادة فيهما يقسم الثمن على قيمة الأرض والنخل أولا ثم حصة النخيل تقسم على قيمتها وقيمة الثمار بمنزلة ما لو اشترى جاريتين فولدت إحداهما قبل القبض ثم قبضهما فإنه يقسم الثمن على قيمة الجاريتين أولا ثم ما أصاب التي ولدت يقسم على قيمتها وقيمة ولدها يوم يقبض المشتري الولد لهذا المعنى أن الولد انفصل عنها فتكون زيادة فيها خاصة.(13/304)
وجه قولهما أن النخيل في هذا البيع بيع بدليل أنها تدخل في البيع من غير ذكر والبيع لا يقع له فتكون الثمار الحادثة زيادة في الأصل بمنزلة ما لو اشترى جارية فولدت ابنة قبل القبض ثم كبرت الابنة وولدت ولدا فيجعل الولد الثاني زيادة في الجارية حتى يقسم الثمن على قيمتها وقيمة الولدين لأن الابنة تابعة في العقد فلا يكون ولدها تبعا لها فهذا مثله والثمار في الصورة يخرجها النخيل وفي المعنى زيادة في الأرض لأن النخيل تتشرب بعروقها من الأرض ألا ترى أن بقوة الأرض تزداد الثمار جودة فعرفنا أن من حيث المعنى الأصل هو الأرض للثمار وللنخيل جميعا فلهذا يقسم الثمن على قيمة الكل قسمة واحدة ثم يعتبر في القسمة قيمة الثمار حين أكلها البائع لأنها عند ذلك صارت مقصودة فالزيادة الحادثة إنما تصير لها خاصة من الثمن إذا صارت مقصودة بالتناول ألا ترى أن المشتري إذا قبضها يعتبر في الانقسام قيمتها وقت القبض فكذا إذا أكلها البائع فإن كانت أثمرت مرة واحدة فأكلها البائع وقيمتها ألف درهم انقسم الثمن أثلاثا ثلثه بإزاء الأرض وثلثه بإزاء النخيل وثلثه بإزاء الثمار ويسقط عن المشتري حصة الثمار من الثمن ويأخذ الأرض والنخيل بثلثي الثمن وفي قول أبي يوسف الآخر يقسم الثمن أولا على قيمة الأرض والنخيل نصفين ثم حصة النخيل تقسم على قيمتها وقيمة الثمار نصفين فيسقط عن المشتري ربع الثمن ويأخذ الأرض والنخيل(13/305)
ص -142- ... بثلاثة أرباع الثمن وإن كانت أثمرت النخيل مرتين أخذ المشتري الأرض والنخيل بنصف الثمن لأن القيم لما استوت فحصة ما تناول البائع من الثمار نصف الثمن الأول.
وقال أبو يوسف: يأخذ بثلثي الثمن لأن نصف الثمن بمقابلة الأرض والنصف الذي يقابله النخيل يقسم أثلاثا ثلثه يسقط عن المشتري بتناول البائع الثمار مرتين وثلث النصف حصة النخيل يتقرر على المشتري مع حصة الأرض فيأخذها بثلثي الثمن وإن كانت أثمرت ثلاث مرات أخذ الأرض والنخيل بخمسي الثمن وسقط عنه ثلاثة أخماس الثمن حصة الثمن ثلاث مرات وعند أبي يوسف يأخذ الأرض والنخيل بخمسة أثمان الثمن نصف الثمن حصة الأرض وربع النصف الآخر حصة النخل ويسقط عن المشتري ثلاثة أثمان الثمن وإن أثمرت أربع مرات فعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يأخذ الأرض والنخيل بثلث الثمن لأن الثمن ينقسم على ستة أسهم حصة الأرض والنخل سهمان وهو الثلث وعند أبي يوسف يأخذهما بثلاثة أخماس الثمن نصف الثمن حصة الأرض وخمس النصف الآخر حصة النخل فذلك ستة أجزاء من عشرة من جميع الثمن وإن أثمرت خمس مرات أخذ الأرض والنخل عندهما سبع الثمن لأن القسمة على الأسباع عندهما فيسقط حصة الثمار خمسة أسباع الثمن ويأخذ الأرض والنخل بسبعة أجزاء من اثني عشر جزءا من الثمن حصة الأرض نصف الثمن وحصة النخل سدس النصف الباقي وفي جميع ذلك الخيار للمشتري إن شاء أخذ الأرض والنخل وإن شاء فسخ البيع فيهما وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.(13/306)
فأما عند أبي حنيفة فلا خيار للمشتري في ذلك وإنما نص على الاختلاف في الباب الذي بعد هذا في الولد الحادث قبل القبض إذا أتلفه البائع ولا فرق بين الولد في الشاة وبين الثمار وجه قولهما أن الزيادة الحادثة قبل القبض لما صارت مقصودة تتناول البائع وكان لها حصة من الثمن فالتحقت بالموجود عند العقد ولو كانت موجودة فأتلفها البائع ثبت الخيار للمشتري فيما بقي لتفرق الصفقة عليه قبل الثمار فكذلك هنا وأبو حنيفة يقول المشتري عند القبض رضي بأخذ الأرض والنخيل بجميع الثمن فهو بأخذهما ببعض الثمن أرضي وثبوت الخيار لتمكن الخلل في رضا المشتري فإذا علمنا تمام الرضا منه هنا فلا معنى لإثبات الخيار له يوضحه أن هذه الزيادة لو هلكت من غير صنع البائع أخذ المشتري الأرض والنخل بجميع الثمن ولا خيار له ولأن يلزم الأرض والنخل ببعض الثمن عند إتلاف البائع الثمار كان أولى بخلاف الموجود عند العقد فإنه لو هلك من غير صنع البائع يخير المشتري فكذلك بصنع البائع وبهذا يتبين أن تفريق الصفقة إنما يحصل بهلاك الموجود عند العقد لا بهلاك الحادث بعد القبض فإن كان في النخل ثمرة تساوي ألفا يوم اشترى الأرض والنخل وقد اشتراهما معا فإن الثمار لا تدخل في البيع إلا بالذكر لأنه يعرض الفضل فهو والموضوعة في الأرض سواء بخلاف النخيل فإنها تابعة للأرض كالبناء فيدخل في البيع من غير ذكر فإذا أكلها البائع ثم أثمرت بعد ذلك مرارا فأكله البائع فالأصل في تخريج هذه المسألة أن ثلث(13/307)
ص -143- ... الثمن يسقط من المشتري بأكل البائع الثمار الموجودة لأن الثمار الحادثة بعد ذلك ليست بزيادة في الثمار الموجودة وهي مقصودة لا تدخل في العقد إلا بالذكر فيقسم الثمن أولا على قيمة الأرض وعلى قيمة النخل وقيمة الثمار الموجودة وقت العقد وقد استوت القيم فتقسم أثلاثا ويسقط عن المشتري ثلث الثمن حصة الثمار الموجودة وأما ثلثا الثمن حصة الأرض والنخيل في هذه المسألة فبمنزلة جميع الثمن في المسألة الأولى في حكم الانقسام على قيمتها وقيمة ما أكل البائع من الثمار الحادثة على نحو ما خرجنا في المسألة الأولى.
قال: فإن كانت الثمرة التي حدثت بعد البيع لم يأكلها البائع ولكن أصابتها آفة من السماء فذهبت بها ونقصت تلك النخل فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء تركها لأن الثمار الحادثة لما فاتت من غير صنع أحد لم يكن لها حصة من الثمن وصارت كأن لم تكن فنفي النقصان المتمكن فيتخير المشتري لأجل ذلك وإن لم ينقص النخل لم يكن للمشتري في البيع خيار وهو لازم له بجميع الثمن لأن الثمار الحادثة لما هلكت بغير صنع أحد صارت كأن لم تكن وأما الثمار الموجودة عند العقد فسواء هلكت بغير صنع أحد أو تناولها البائع سقط عن المشتري حصتها من الثمن لأنها كانت مقصودة بالعقد وقد فات القبض المستحق بهلاكها فينفسخ البيع فيها ويسقط عن المشتري حصتها من الثمن وله الخيار في أخذ الأرض والنخل سواء هلكت من صنع أحد أو تناولها البائع لتفرق الصفقة عليه قبل التمام بمنزلة ما لو اشترى جاريتين فهلكت إحداهما قبل القبض والله أعلم.
باب جناية البائع والمشتري على المبيع قبل القبض(13/308)
قال: رجل اشترى من رجل عبدا بألف درهم فلم يقبضه حتى قطع البائع يده فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ العبد بنصف الثمن وإن شاء تركه لأن المبيع تغير في ضمان البائع وتعيب بصنعه فتفرقت الصفقة على المشتري قبل التمام بفوات النصف فإن اليد من الآدمي نصفه وذلك مثبت الخيار له فإن اختار فسخ العقد سقط عنه جميع الثمن وإن اختار أخذ الأقطع فعليه نصف الثمن عندنا.
وقال الشافعي: عليه جميع الثمن ويضمن البائع نصف القيمة وكذلك لو قتله البائع قبل القبض سقط الثمن عن المشتري عندنا وعند الشافعي يغرم البائع القيمة إذا اختار المشتري إمضاء العقد لأن المبيع صار مملوكا للمشتري بالعقد قبل القبض والقاطع في الجناية عليه كأجنبي آخر وباعتبار أن اليد للبائع يثبت له حق الفسخ وبهذا لا يخرج من أن يكون مضمونا عليه بالقيمة إذا جنى عليه كالمرهون إذا جنى عليه المرتهن وحجتنا في ذلك أن المبيع مضمون بالثمن على البائع وضمان الثمن مع ضمان القيمة لا يلتقتان وهذا لأنه لو وجب بالجناية ضمان القيمة على البائع لزمه تسليمها بحكم العقد ولا يجوز أن يجب على البائع القيمة في ذمته على وجه يلزمه تسليمها بحكم العقد ولأن المبيع في ضمان ملك البائع حتى لو هلك كان هلاكه على ملكه فينزل ذلك منزلة المملوك له حقيقة في المبيع من وجوب(13/309)
ص -144- ... ضمان القيمة عليه بالجناية كما لو كانا في مجلس العقد أو كان البائع شرط الخيار لنفسه فإذا لم يلزمه ضمان القيمة سقط عنه من الثمن حصة ما أتلفه بجنايته لأن ذلك صار مقصودا بالتناول فيقابله حصة من الثمن وقد فات القبض المستحق فيه باستهلاك البائع فينفسخ العقد فيه في ذلك القدر وإن كانت يد العبد شلت من غير فعل أحد كان المشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه لتغير المعقود عليه في ضمان البائع فإن اختار الأخذ فعليه جميع الثمن هنا بخلاف الأول والشافعي يسوي بينهما فيقول في الموضعين جميعا على البائع ضمان نصف القيمة لأن المبيع في ضمانه قبل التسليم فلا فرق بين أن يفوت جزء منه بفعل الضامن أو بغير فعله كالمغصوب وقاس بما لو اشترى عبدين فتلف أحدهما قبل القبض بفعل البائع أو بغير فعله كان الجواب في ذلك سواء فهذا مثله ولكنا نقول الطرف من العبيد وصف ألا ترى أنه يدخل في البيع تبعا من غير ذكر ولا يجوز استثناؤه من العقد واسم العبد لا يتغير بفواته وبقائه والبيع يلاقي العين والثمن يكون بمقابلة الأصل دون الوصف فإذا كان الفائت وصفا قلنا إن فات بغير صنع أحد فقد فات تبعا لا مقصودا فلا يقابله شيء من الثمن وإن فات بجناية البائع فقد صار مقصودا بالجنس وفسخ العقد فيه فيقابله بعض الثمن لا محالة بخلاف العبدين وكل واحد منهما هناك يدخل في العقد مقصودا.(13/310)
يوضحه أن الوصف لا يفرد بالعقد فلا يفرد بضمان العقد أيضا والثابت ببقاء يد البائع ضمان العقد فلا يظهر ذلك في الوصف إذا فات من غير صنعه بخلاف المغصوب فهو مضمون بالتناول والوصف يفرد بالتناول فيفرد أيضا بضمان التناول وكذلك إن كان البائع هو الذي جنى عليه فسقوط حصته من الثمن هنا باعتبار تناول البائع إياه وحبسه إياه والوصف يفرد بذلك وكذلك إن قطع العبد يد نفسه فهو كما لو شلت يده بغير فعل أحد لأن فعله بنفسه هدر وإن قطع أجنبي يد العبد فالمشتري بالخيار فإن اختار إمضاء العقد فعليه جميع الثمن واتبع القاطع بنصف القيمة لأن جناية القاطع على ملكه والقيمة الواجبة عليه تقوم مقام الفائت فباعتبارها يبقى جميع الثمن على المشترى وهذا لأن وجوب ضمان القيمة على الجاني ليس بحكم العقد بل بسبب الجناية ألا ترى أنه يبقى عليه وإن فسخ المشتري العقد بالرد بخلاف ما إذا كان الجاني هو البائع فإنه لو لزمه ضمان القيمة إنما يلزمه بحكم العقد ألا ترى أنه لا يبقى بعد فسخ العقد بالرد فلا يجوز استحقاق القيمة في الذمة بحكم البيع فإذا أخذ من القاطع نصف القيمة تصدق بما زاد على نصف القيمة على نصف الثمن لأن هذا ربح حصل في ضمان غيره لا على ضمانه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن.
وعند الشافعي لا يلزمه التصدق بشيء وأصل الخلاف في القتل فإن العبد المبيع لو قتله أجنبي وقيمته ألفا درهم وقد اشتراه بألف درهم فاختار المشتري إمضاء العقد وأخذ القيمة من القاتل فعليه أن يتصدق بالفضل عندنا لأنه ربح حصل لأعلى ضمانه ولأن القبض له مشابهة بالعقد من حيث أنه يستفاد به ملك التصرف ومبادلة الألف بالألفين ربا فقبض الألفين(13/311)
ص -145- ... بحكم العقد بمقابلة الألف يتمكن من شبهة الربا فيلزمه التصدق وعند الشافعي لا يلزمه ذلك لأن حكم الربا عنده إنما يثبت باعتبار الشرط في العقد فإذا لم يكن مشروطا في العقد لا يتمكن باعتباره الربا والمشتري إنما يعطي الثمن بمقابلة العبد لا بمقابلة القيمة وإنما استوفى القيمة باعتبار أنه بدل ملكه فهو كما لو قتل بعد قبضه وإن اختار المشتري فسخ البيع فإن البائع يتبع الجاني بنصف القيمة أيضا لأن العقد انفسخ برد المشتري من الأصل فيبقى جناية القاطع على ملك البائع ورجع عليه بنصف القيمة ويتصدق أيضا بما زاد من نصف القيمة على نصف الثمن لأن أصل الجناية حصل لأعلى ملك البائع وإن كان باعتبار المال يجعل كالحاصل على ملكه وتأثير الملك في سلامة الربح أكثر من تأثير الضمان فإذا كان يلزمه التصدق بالربح الحاصل على ملكه دون ضمان فلأن يلزمه التصدق بالربح الحاصل لأعلى ملكه أولى ولو كان المشتري هو الذي قطع يد العبد صار قابضا لجميع العبد لأنه أتلف نصفه بقطع اليد وفي الإتلاف قبض وزيادة وغير ما بقي بفعله والمشتري بصنع معين للمعقود عليه يصير قابضا.(13/312)
يوضحه أنه لو تخلى به كان قابضا له وبقطع يده يكون متخليا بما بقي منه وزيادة فإن هلك العبد في يد البائع من القطع أو من غيره قبل أن يمنعه البائع من المشتري فعلى المشتري جميع الثمن لأنه صار قابضا لجميع العبد وبالقبض يتحول المبيع إلى ضمانه فإذا هلك قبل أن يمنعه البائع كان هالكا في ضمان المشتري فيتقرر عليه جميع الثمن سواء هلك بسراية القطع أو بسبب آخر وإن كان البائع منعه ثم مات من القطع فعلى المشتري جميع الثمن أيضا لأن القطع إذا اتصلت به السراية فهو قتل حكما ومنع البائع إياه لا يقطع السراية عن الجناية لأن هذا المنع لا يتبدل المالك والمستحق إنما يفوت يد المشتري وإذا كان حكم الجناية يثبت بدون يده فلأن يبقى بدون يده أولى وإن مات من غير القطع فعلى المشتري نصف الثمن لأن البائع لما منع الباقي بالثمن فقد صار مستردا له بحق فاسخا لقبض المشتري فيه ولو قبضه المشتري حقيقة قبل نقد الثمن فاسترده البائع وحبسه بالثمن انتقض به حكم المشتري فكذلك إذا صار قابضا لما بقي منه باعتبار الجناية وإذا انفسخ قبض المشتري فيه كان هالكا في ضمان البائع فسقط حصته من الثمن وهو النصف فأما نصف الثمن فقد تقرر على المشتري بقطع اليد لأن اليد من الآدمي نصفه ولا يتصور الاسترداد في الجزء الفائت فإن قطع البائع أولا يده ثم قطع المشتري رجله من خلاف ثم بريء منهما جميعا فالعبد لازم للمشتري بنصف الثمن ولا خيار له فيه لأن البائع بقطع اليد فوت نصفه فسقط نصف الثمن وثبت الخيار للمشتري بنصف الثمن فلما قطع المشتري رجله فقد صار مسقطا لخياره لأنه قابض لجميع ما بقي متلف لبعضه ومجرد قبضه بعد العلم بالعيب يسقط خياره فقبضه مع الإتلاف أولى أن يكون مسقطا لخياره.
ولو كان المشتري هو الذي قطع يده أولا ثم قطع البائع رجله من خلاف فبرئ منهما كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ العبد وأعطى ثلاثة أرباع الثمن وإن شاء تركه وعليه نصف(13/313)
ص -146- ... الثمن لأن بقطع اليد تقرر على المشتري نصف الثمن ثم البائع بقطع الرجل بعد ذلك صار مفوتا قبض المشتري في الباقي متلفا لنصف ما بقي فيسقط عن المشتري نصف ما بقي من الثمن وهو ربع جميع الثمن ويثبت له الخيار فيما بقي من العبد لأنه تغير المعقود عليه في ضمان البائع بفعله ولم يوجد من المشتري بعد ذلك ما يكون دليل الرضا منه فإن شاء فسخ العقد فيما بقي منه وعليه نصف الثمن بقطع اليد وإن شاء أخذ ما بقي وعليه نصف الثمن بقطع اليد وربعه بمقابلة ما بقى من العبد ولو كان المشتري نقد الثمن ولم يقبض العبد حتى قطع المشتري يده ثم قطع البائع رجله من خلاف فبريء منهما فالعبد للمشتري ولا خيار له فيه لأن المشتري صار قابضا لجميع العبد بإتلاف النصف بقطع اليد ثم بقطع البائع رجله لا ينتقض قبض المشتري في شيء لأن الثمن قد سلم للبائع وليس له بعد استيفاء الثمن حق نقض قبض المشتري فلهذا لا يجعل قطعه الرجل ناقضا قبض المشتري بخلاف ما تقدم في البائع هناك لم يستوف الثمن وله أن ينقض قبض المشتري ما لم يصل إليه الثمن وإذا بقي حكم قبض المشتري كان البائع في قطع الرجل كأجنبي آخر فعليه نصف قيمة قطع اليد وعلى المشتري جميع الثمن لبقاء حكم قبضه في جميع العبد ولا خيار للمشتري لأن المعقود عليه إنما تغير لعدم تمام قبض المشترى.
قال: ولو كان البائع أولا قطع يده ثم قطع المشتري رجله فالعبد لازم للمشتري بنصف الثمن لأن بقطع البائع يده يسقط نصف الثمن ويتخير المشتري إلا أن خياره يسقط بقطعه رجله فكان العبد لازما له بنصف الثمن ويرجع على البائع بنصف الثمن الذي أعطاه.(13/314)
قال: وإذا اشترى عبدا بألف درهم ولم ينقده الثمن حتى قطع البائع يده ثم قطع المشتري رجله من خلاف فمات من ذلك كله في يد البائع فعلى المشتري ثلاثة أثمان الثمن لأن البائع بقطع اليد صار متلفا نصفه ثم المشتري بقطع رجله صار متلفا نصف ما بقي وهو الربع تلف بسراية الجنايتين فنصفه يكون هالكا بسراية جناية البائع وإنما تعتبر السراية في الحكم بأصل الجناية وحكم أصل جناية البائع سقوط الثمن بحصة ما تلف به فكذلك حكم سراية جنايته وحكم أصل جناية المشتري تقرر الثمن عليه فكذلك حكم ما تلف بسراية جنايته فيحتاج إلى حساب تقسم ربعه نصفين وذلك ثمانية فقد تلف بأصل جناية البائع أربعة وبسراية جنايته سهم فلهذا سقط عن المشتري خمسة أثمان الثمن وتلف بجناية المشتري سهمان وبالسراية سهم فعليه ثلاثة أثمان الثمن فإن قيل فأين ذهب قولكم إن المشتري بجناية يصير قابضا لما أتلف ولما بقي منه قلنا هو كذلك ولكن للبائع حق الاسترداد فيما بقي ما لم يصل إليه الثمن فيكون مستردا لما تلف بسراية جنايته لأن تأثير سراية جنايته فوق تأثير حبسه وقد بينا أنه لو حبسه بعد جناية المشتري انتقض به قبض المشتري إلا فيما تلف بسراية جناية المشتري فلأن ينتقض حكم قبض المشتري فيما تلف بسراية جناية البائع كان أولى ولو كان المشتري هو الذي قطع يده أولا ثم قطع البائع رجله من خلاف فمات من ذلك فعلى المشتري خمسة أثمان(13/315)
ص -147- ... الثمن وبطل عنه ثلاثة أثمان الثمن لأنه تلف بجناية المشتري النصف وهو أربعة من ثمانية وبسراية جنايته سهم فيلزمه خمسة أثمان الثمن وتلف بجناية البائع سهمان وبسراية جنايته سهم فكما انتقض قبض المشتري فيما تلف بجناية البائع فكذلك ينقض فيما تلف بسراية جنايته فلهذا سقط عنه ثلاثة أثمان الثمن وإن كان الثمن منقودا والمشتري هو البادئ بالجناية فعليه جميع الثمن لأنه بقطع اليد صار قابضا لجميع العبد ولم ينتقض قبضه في شيء بجناية البائع لأنه لا حق للبائع في نقض قبضه بعد وصول الثمن إليه فلهذا كان عليه جميع الثمن وعلى البائع ثلاثة أثمان قيمته صحيحا لأنه تلف بأصل جنايته نصف ما بقي منه وهو ربع العبد وبسراية جنايته ربع ما بقي منه وذلك ثلاثة أثمان جميع العبد فيلزمه ثلاثة أثمان قيمته صحيحا والبائع في هذه الحالة كأجنبي آخر فإن كان البائع هو البادئ بالقطع رد البائع على المشتري نصف الثمن الذي أعطاه لأنه بقطع اليد أتلف نصفه قبل أن يصير المشتري قابضا له فينفسخ البيع في ذلك النصف ويجب عليه رد نصف الثمن ثم المشتري بقطع الرجل صار قابضا جميع ما بقي قبضا تاما فيتقرر عليه نصف الثمن إلا أن نصف ما بقي تلف بجناية المشتري والنصف بسراية الجنايتين فما تلف بسراية جناية البائع وهو الثمن فعلى البائع حصة ذلك من قيمة العبد لأن التالف بسراية الجناية كالتالف بأصل الجناية ولو تلف بجنايته بعد ما تم قبض المشتري فيه كان الواجب عليه ضمان القيمة فكذلك ما تلف بسراية جنايته فلهذا ألزمه ثمن قيمة العبد للمشتري.(13/316)
فإن قيل: قد قلتم إن للقبض مشابهة بالعقد وإذا كان بأصل العقد بعد الجناية ينقطع حكم السراية فإن قطع يد عبد نفسه ثم باعه فكذلك بقبض المشتري بعد جناية البائع ينبغي أن ينقطع حكم السراية قلنا عيب المبيع لا تقطع حكم السراية ولكن تبدل المستحق سبب للبيع هو القاطع للسراية لأن المستحق هو المالك وقد انتقل إلى ملك المشتري بالبيع وهذا المعنى لا يوجد في القبض وبه لا يتبدل المالك والمستحق فإن قيل معنى التبدل هنا يحصل حكما أيضا فإن ما تلف بأصل الجناية قبل القبض يتلف على ملك البائع وما تلف بسراية جنايته يتلف على ملك المشتري ويتبين ذلك بالموجب فإن باعتبار ما تلف بجناية البائع سقط الثمن عن المشتري وباعتبار ما تلف بجنايته يجب القيمة على البائع قلنا لا كذلك بل العبد بنفس العقد صار مملوكا للمشتري فجناية البائع تصادف ملك المشتري وهو سبب لضمان المتلف للمشتري عليه إلا أن قبض المشتري يفوت فيما تلف بأصل جنايته ومن ضرورة فوات قبضه إنفساخ البيع فيه فيسقط حصته من الثمن بذلك فأما ما تلف بسراية فلم يفت قبض المشتري فيه فلهذا كان مضمونا بالقيمة على البائع وتبين بهذا أن اختلاف الحكم لأجل فوت قبض المشتري لأن حكم السراية مخالف لحكم أصل العقد في حكم الضمان وهذا هو الجواب عن الإشكال الذي يرد على أبي حنيفة في مسألة سراية القصاص أن القطع مع السراية لا يكون قتلا من أصله إذا كان حكم أصل الفعل مخالفا لحكم السراية بدليل هذه المسألة.(13/317)
ص -148- ... ولو كان المشتري حين اشتراه نقد الثمن أو لم ينقده حتى قطع البائع يده ثم قبضه المشتري بإذن البائع أو بغير إذنه فمات في يد المشتري من جناية البائع عليه بطل على المشتري نصف الثمن بقطع البائع يده ولا ضمان على البائع فيما هلك في يد المشتري بجناية البائع لأن المشتري بإقدامه على القبض صار راضيا بما بقي منه وذلك قاطع لحكم سراية جناية البائع بمنزلة الرد فلهذا كان على المشتري نصف الثمن ولأن القبض مشابه بالعقد ولو اشتراه بعد قطع البائع يده انقطع به حكم السراية لأن المشتري صار راضيا بقبضه بحكم الشراء فكذلك في هذا الموضع ولا يشبه قبض المشتري في هذا الوجه قبضه في الوجه الأول بالجناية عليه أو بعيب يحدثه فيه وكل شيء يحدثه من جناية البائع بعد ما يحدث المشتري فيه جناية فإن كان الثمن غير منقود بطل عن المشتري من الثمن بحساب ما هلك منه بجناية البائع وإذا كان الثمن منقودا فعلى البائع فيه القيمة وإذا كان القبض بعد جناية البائع بأخذ المشتري إياه فلا ضمان على البائع فيما هلك من جنايته في يد المشتري من القيمة ولا يبطل عنه شيء من الثمن باعتباره لأن القبض بالجناية حكمي فإنما يظهر أثره فيما تلف به ولا تنقطع السراية التي انعقد سببها بجناية البائع فأما القبض بالأخذ فحتى يظهر في جميع ما بقي من العبد وله مشابهة بالعقد فينقطع به حكم سراية جناية البائع وهذا لأن بالقبض حسا يجعل راضيا بما بقي من العبد بعد جناية البائع وبالجناية لا يكون راضيا بتقرر ملكه فيما بقي بل هو متلف فإنما ينقطع حكم سراية جناية البائع فيما يتلف بجناية المشتري أو بسراية جنايته ضرورة ألا ترى أن رجلا لو قطع يد عبده ثم غصبه منه غاصب فمات في يده من جناية المولى كان على الغاصب قيمته يوم غصبه ولو لم يغصبه ولكنه جنى عليه فمات العبد من الجنايتين كان على الجاني ضمان ما تلف بجنايته وسراية جنايته ولو لم يكن عليه ضمان ما تلف بسراية جناية(13/318)
المالك فيه يتضح ما سبق من الفرق بين القبض حسا وبين القبض بحكم الجناية.
قال: وإذا اشترى الرجل عبدا من رجل فلم ينقده الثمن حتى قبض بغير إذن البائع فقطع البائع يده في يد المشتري ولم يأخذه حتى مات العبد من قطع اليد أو غير ذلك في يد المشتري فإن كان مات من قطع اليد فقد بطل البيع ولا شيء على المشتري فيه لأن حق البائع في الحبس لم يسقط بقبض المشتري إياه بغير إذنه والسراية إذا اتصلت بالجناية كانت قتلا من أصله فكأن البائع قتله في هذه الحالة في يد المشتري فيصير مستردا له ينفسخ العقد فيه فيسقط الثمن عن المشتري وإذا مات من غير قطعه فعلى المشتري نصف الثمن لأن البائع إنما صار مستردا لنصفه بقطع اليد فإنما انتقض قبض المشتري في ذلك النصف وبقي النصف الآخر هالكا في ضمان المشتري وهذا بخلاف ما تقدم إذا قطع المشتري يده في يد البائع ثم هلك لا من ذلك القطع ولم يحدث البائع فيه منعا فعلى المشتري جميع الثمن ويجعل قابضا لجميع المعقود عليه بإتلاف نصفه وهنا لم يجعل البائع مستردا لجميع العبد بإتلاف نصفه لأن في(13/319)
ص -149- ... الوجهين جميعا بقطع اليد يتمكن من قبض ما بقي منه فيجعل بمنزلة التخلي به والمشتري بالتخلية يصير قابضا فبالجناية أيضا يصير قابضا والبائع بالتخلي بالمبيع لا يصير مستردا فكذلك بالجناية لا يصير مستردا لما بقي منه وهذا لأن الملك للمشتري والملك ممكن له من القبض فيمكن أن يجعل قابضا للبعض بالإتلاف ولما بقي منه بالتخلي به لكونه مملوكا له فأما البائع فليس بمالك وإنما حقه في الحبس باعتبار يده ألا ترى أنه لو سلم المعقود عليه لم يكن له بعد ذلك أن يحبسه فكذلك استرداده لا يظهر إلا فيما ظهر فيه عمله بيده وذلك فيما يتلف بجنايته أو بسراية جنايته وإذا اشتراه ولم ينقده الثمن حتى أحدث المشتري فيه عيبا ينقصه من الثمن فهذا بمنزلة قطعه يده في أنه يصير قابضا لجميعه ويتقرر عليه جميع الثمن إن تلف بعد ذلك بآفة سماوية ولو باعه المشتري بعد ما أحدث فيه وقبضه الذي اشتراه منه كان بيعه جائزا وبه تبين أنه صار قابضا لجميع العبد بما أحدث وهو إشارة إلى ما ذكرنا أنه مالك للعبد والملك مطلق له حق القبض والتصرف.(13/320)
قال: وإذا اشترى جارية فلم يقبضها حتى زوجها رجلا كان النكاح جائزا لأن ولاية التزويج تثبت بملك الرقبة والملك حصل للمشتري بنفس العقد والتزويج من التصرفات التي لا يمتنع صحتها لأجل الغرر ألا ترى أن تزويج الآبقة والرضيعة يجوز فكان التزويج نظير العتق وإعتاق المشتري قبل القبض صحيح فكذلك تزويجه ولهذا يجوز من الراهن تزويج الجارية المرهونة كما ينفذ عتقه ثم في القياس يصير المشتري قابضا بنفس التزويج وهو رواية عن أبي يوسف حتى إذا هلكت بعد ذلك فهو من مال المشتري لأن التزويج عيب فيها والمشتري إذا عيب المعقود عليه يصير به قابضا أو يجعل التزويج كالإعتاق أو التدبير فكما يصير المشتري قابضا بذلك فكذلك بالتزويج ولكنه استحسن فقال لا يكون قابضا لها بنفس التزويج حتى إذا هلكت فهي من مال البائع لأنه لم يتصل من المشتري فعل بها وإنما التزويج عيب من طريق الحكم على معنى أنه تقل رغائب الناس فيها وينتقص لأجله الثمن فهو في معنى نقصان السعر أو التزويج لما كان عيبا من طريق الحكم فهو نظير الإقرار عليه بالدين والمشتري لو أقر عليها بدين لا يصير قابضا لها بخلاف العيب الحسي فذلك باعتبار فعل يتصل من المشتري بعينها وهو إتلاف لجزء من عينها فإما أن يصير قابضا لما بقي بالتخلي بها أو لأن المشتري لا يتمكن من قبض البعض دون البعض فمن ضرورة كونه قابضا لما أتلف أن يكون قابضا لما بقي منه وبه يفرق بين قبض المشتري واسترداد البائع فالبائع يملك استرداد البعض ليحبسه بالثمن دون القبض فلا يجعل بتفويت البعض مستردا لما بقي وهذا بخلاف الإعتاق لأنه إنهاء للملك وإتلاف للمالية ولهذا يثبت به الولاء فمن ضرورته أن يصير قابضا والتدبير نظير العتق في استحقاق الولاء وثبوت حق الحرية للمدبرة فإن وطئها الزوج ثم ماتت بعد ذلك ماتت من مال المشتري إن نقصها الوطء أو لم ينقصها لأن الزوج إنما وطئها بتسليط المشتري إياه على ذلك فيكون فعله كفعل المشتري ولو(13/321)
كان المشتري هو الذي وطئها بنفسه(13/322)
ص -150- ... ثم ماتت فعليه جميع ثمنها لأنه بالوطء قد تخلى بها والوطء بمنزلة إتلاف جزء منها فكذلك إذا وطئها الزوج بتسليط المشتري.
وإن كان البائع منعها من المشتري بعد وطء المشتري أو الزوج إياها ولم ينقصها الوطء شيئا ثم ماتت فلا شيء على المشتري من الثمن ولا من العقر لأن البائع صار مستردا لها بحبسه إياها بالثمن ومنع المشتري منها ولم يتلف بالوطء شيئا من ماليتها لأن المستوفي بالوطء وإن كان في حكم جزء من عينها فذلك جزء ليس بمال والثمن بمقابلة ما هو مال فلهذا لا يتقرر على المشتري شيء من الثمن ولا عقر عليه لأنه وطئها في ملكه ووطء الإنسان في ملك نفسه لا يلزمه العقر وإن كانت بكرا أو كان الوطء نقصها لم ينظر إلى العقر ولكن ينظر إلى ما ينقصها الوطء فيكون عليه حصة من الثمن لأنه فات جزء من ماليتها بفعل المشتري فيتقرر عليه حصة ذلك من الثمن كما لو فقأ المشتري عينها ثم استردها البائع فهلكت وهذا لأن البكارة في حكم جزء من المالية ولهذا يصير مستحقا بالبيع إذا اشترط فبوطء المشتري إن كانت بكرا يفوت جزء من المالية وقد بينا أن الوصف الذي هو مال يقابله حصة من الثمن إذا صار مقصودا بالتناول وإذا كان البائع هو الواطى ء لم ينظر إلى العقر ولكنه ينظر إلى النقصان فإن كان لم ينقصها شيئا أخذها المشتري بجميع الثمن وإن كان نقصها شيئا حط عنه حصة النقصان وأخذها بما بقي من الثمن في قول أبي حنيفة.(13/323)
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا لم ينقصها الوطء يقسم الثمن على العقر والقيمة فيسقط حصة العقر من الثمن عن المشتري فإن نقصها الوطء ينظر إلى الأكثر من العقر ومن النقصان فيقسم الثمن عليه وعلى قيمتها ويبطل على المشتري حصة ذلك الثمن ويأخذها بحصة القيمة من الثمن لأنها بالعقر صارت مملوكة للمشتري فوطء البائع حصل في ملك الغير والوطء في ملك الغير لا ينفك عن حد أو عقر وقد سقط الحد للشبهة فيجب العقر ولكن لا يمكن استيفاء العقر من البائع لأنها في ضمانه بالثمن فيعتبر العقر لإسقاط حصته من الثمن وهذا لأن الوطء في ملك الغير بمنزلة الجناية فكما أن جناية البائع عليها قبل التسليم تعتبر في إسقاط حصة من الثمن لا في إيجاب الضمان فكذلك وطؤه إياها إلا أنها إذا كانت بكرا فالممكن هنا اعتبار معنى نقصان البكارة والعقر بسبب الوطء ولكن يتعذر الجمع بينهما بسبب فعل واحد فيدخل الأقل في الأكثر ويعتبر الانقسام على القيمة وعلى الأكثر منهما وأبو حنيفة رحمه الله يقول الجارية قبل التسليم في ضمان البائع وقد جعل ذلك في حكم ضمان الفعل بمنزلة حقيقة الملك ألا ترى أنه لا يلزمه بالجناية أرش ولا بالوطء عقر يستوفي منه فكما أن وطأه إياها لو حصل في حال قيام ملكه فيها لم يكن موجبا للعقر أصلا فكذلك إذا حصل في ضمان ملكه وهذا لأن المستوفي بالوطء في حكم جزء من العين كما قال ولكنه جزء ليس بمال فإذا لم يمكن نقصانا في ماليتها والثمن بمقابلة المالية لا يمكن إسقاط شيء من الثمن باعتباره وبه فارق الجناية فإنه يمكنه نقصانا في المالية نقول إنه يسقط(13/324)
ص -151- ... بحصة ذلك النقصان من الثمن يوضحه أن الجارية في حكم الوطء إنما تصير مملوكة للمشتري بالقبض وقبل القبض هي كالمملوكة للبائع في حكم ضمان الوطء ولهذا لا يحتسب بالحيضة التي توجد في يد البائع من استبراء المشتري وأن المشتري لو زوجها ثم قبضها لم يكن عليه أن يستبرئها إذا طلقها الزوج فوطء البائع إياها قبل التسليم من هذا الوجه بمنزلة وطئه إياها قبل البيع وبهذا الطريق قال أبو حنيفة لا خيار للمشتري أيضا بمنزلة ما لو وطئها البائع قبل القبض ولم ينقصها الوطء ثم علم المشتري بذلك لم يكن له فيها خيار وإن كانت بكرا فنقصها الوطء ثبت الخيار للمشتري لفوات جزء من المالية بمنزلة ما لو ذهبت البكارة من غير صنع أحد.
يوضحه أن المستوفي بالوطء في حكم جزء هو ثمرة لأنه من حيث الصورة استيفاء منفعة والمنفعة تحدث شيئا فشيئا فإتلاف البائع جزءا مما هو ثمرة لا يثبت الخيار للمشتري عند أبي حنيفة إذا لم يتمكن نقصان في مالية العين كإتلاف ولد الشاة وثمرة الأشجار فإذا لم يمكن نقصانا في العين ثبت الخيار للمشتري لأجله كما لو ولدت الجارية فأتلف البائع ولدها وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله فيما إذا كانت بكرا تخريجا هو ألطف من هذا فقال ينظر إلى نقصان البكارة والعقر أيقسم الثمن أولا على نقصان البكارة وعلى قيمتها فيسقط نقصان البكارة من الثمن ثم يقسم ما بقي من الثمن على قيمتها وعلى ما بقي من العقر فسقط حصة العقر من الثمن وبيانه إذا اشتراها بمائة وقيمتها مائة ونقصان البكارة عشرون والعقر أربعون فإنه يسقط أولا باعتبار نقصان البكارة عشرين درهما ثم يقسم ما بقي من الثمن وذلك ثمانون درهما على قيمتها وهي ثمانون وعلى ما بقي من العقر وهو عشرون فيقسم أخماسا بأن يجعل كل عشرين سهما فيسقط عنه خمس ما بقي وذلك ستة عشر درهما وإنما يأخذها بما بقي وذلك أربعة وستون درهما.(13/325)
قال: وإذا اشترى عبدا بألف درهم فلم يقبضه ولم ينقد الثمن حتى قطع البائع يده ثم قطع المشتري وأجنبي رجله من خلاف فعلى المشتري ثلاثة أثمان الثمن وثلث ثمن الثمن حصة جنايته وجناية الأجنبي ويبطل عنه جناية البائع أربعة أثمان الثمن وثلثا ثلث الثمن لأن البائع بقطع اليد أتلف نصفه والمشتري مع الأجنبي بقطع الرجل أتلف نصف ما بقي ثم ما بقي وهو الربع تلف بجناية ثلثه فيكون ثلث ذلك الربع هالكا بجناية كل واحد منهم وأصل السهام من ثمانية ثم انكسر بالأثلاث فيضرب ثمانية في ثلاثة فيكون أربعة وعشرون ثم انكسر بالأنصاف لأن ما تلف بجناية المشتري والأجنبي يكون نصفين بينهما فتضعف أربعة وعشرون للكسر بالأنصاف فيكون ثمانية وأربعين التالف بجناية البائع أربعة وعشرون وبسراية جنايته أربعة فذلك ثمانية وعشرون وذلك أربعة أثمان العبد وثلثا ثمنه لأن سهام العبد ثمانية وأربعون كل ثمن ستة فأربعة وعشرون أربعة أثمان وأربعة ثلثا الثمن وجنايته موجبة سقوط الثمن فلهذا سقط أربعة أثمان الثمن وثلثا الثمن ويتقرر على المشتري ثلاثة أثمان الثمن وثلث الثمن(13/326)
ص -152- ... حصة ما تلف بجنايته وحصة ما تلف بجناية الأجنبي لأن الأجنبي ضامن للقيمة فيبقى البيع فيما تلف بجناية الأجنبي تبعا لبدله والتالف بجنايتهما وسراية جنايتهما في الحاصل عشرون وذلك ثلاثة أثمان العبد وثلث ثمنه ويرجع المشتري على الأجنبي بثمن القيمة وثلثي ثمنها لأن التالف بجناية الأجنبي نصف العشرين وهو عشرة وذلك ثمن العبد وثلثا ثمنه فيرجع المشتري عليه بثمن القيمة وثلثي ثمن القيمة ولا يتصدق بشيء منه وإن كان فيه فضل على حصة من الثمن لأن المشتري بجنايته يصير قابضا وجناية الأجنبي اقترنت بجناية المشتري ووجوب القيمة عليه بعد الجناية فعرفنا أن الوجوب على الأجنبي بعد قبض المشتري فكان ذلك ربحا على ملكه وضمانه.(13/327)
ولو كان البائع والأجنبي هما اللذان قطعا اليد أولا ثم قطع المشتري رجله من خلاف فمات من ذلك كله فهو على ما ذكرنا من التخريج يرتفع سهام العبد إلى ثمانية وأربعين والفائت بجناية البائع والأجنبي أربعة وعشرون وبسراية جنايتهما ثمانية وذلك اثنان وثلاثون بينهما نصفان فيكون الفائت بفعل كل واحد منهما ستة عشر وبجناية المشتري اثنى عشر وبسراية جنايته أربعة فذلك ستة عشر فأما ما تلف بفعل البائع فيسقط ثمنه عن المشتري وذلك ثمنا الثمن وثلثا ثمنه كل ثمن ستة وما سوى ذلك قيمته واجبة على المشتري أما حصة ما تلف بجنايته فغير مشكل وكذلك حصة ما تلف بجناية الأجنبي لأنه قد وجب عليه بدله وهو القيمة فعرفنا أنه يقرر على المشتري خمسة أثمان الثمن وثلث ثمن الثمن ويرجع المشتري على الأجنبي بثمن القيمة وثلثي ثمن القيمة فيكون ذلك على عاقلته في ثلاث سنين لأن الجناية على طرف المملوك إذا اتصلت بالنفس تتحملها العاقلة وكما أن بدل النفس كله يكون مؤجلا في ثلاث سنين فكذلك كل جزء من بدل النفس فعرفنا أنها على الأجنبي وذلك ثمنا القيمة وثلثا ثمنها يؤخذ من عاقلته في ثلاث سنين في كل سنة ثلث ذلك فإذا قبض المشتري ذلك فإنه يقابل مقدار ربع القيمة بربع الثمن فإن كان فيه فضل تصدق بالفضل لأن مقدار الربع وجب بأصل جناية الأجنبي وقد كان ذلك قبل قبض المشتري فهذا ربح حصل لا في ضمانه فيتصدق به بالفضل وأما ثلثا ثمن القيمة فهو سالم للمشتري لا يتصدق بشيء منه لأن وجوب ذلك على المشتري بسراية جنايته وقد كان ذلك بعد ما صار المشتري قابضا له بالجناية فهو ربح حصل في ضمانه ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا فلم يقبضه حتى قطع أجنبي يده ثم قبضه على ذلك ورضيه فمات في يده من جناية الأجنبي عليه فعلى عاقلة الأجنبي قيمة العبد في ثلاث سنين فإذا قبضها وفيها فضل تصدق بنصف الفضل لأن ذلك ربح ما لم يضمن واليد قطعت قبل دخول العبد في ضمانه ولا يتصدق بنصف الفضل لأن(13/328)
السراية كانت بعد دخول العبد في ضمان المشتري بالقبض.
قال: ولو قطع المشتري وأجنبي يده معا ثم قطع البائع رجله من خلاف فمات من ذلك كله فالمشتري بالخيار لوجود الجناية من البائع بعد جناية المشتري فقد انتقص قبض(13/329)
ص -153- ... المشتري فيما تلف بجناية البائع وصار ذلك كجنايته قبل قبض المشتري وذلك يثبت الخيار للمشتري للتغير ولم يوجد بعده من المشتري ما يكون دليل الرضا منه فلهذا يخير بين فسخ البيع وإمضائه فإن اختار البيع فعليه من الثمن خمسة أثمانه وثلث ثمنه وسقط عنه ثمنا الثمن وثلثا ثمنه حصة ما تلف بجناية البائع وبسراية جنايته وقد بينا على التخريج الأول أن التالف بجناية البائع اثنا عشر من ثمانية وأربعين وبسراية جنايته أربعة فذلك ستة عشر وهو ثمنا العبد وثلثا ثمنه ثم يرجع المشتري على الأجنبي بثمن القيمة وثلثي ثمن القيمة لأن التالف بجنايتهما أربعة وعشرون وسراية جنايتهما ثمانية فيكون اثنين وثلاثين نصف ذلك على الأجنبي وذلك ستة عشر فلهذا يرجع عليه بثمن القيمة وثلثي ثمن القيمة ولا يتصدق بالفضل إن كان في ذلك لأن جناية الأجنبي كانت مع قبض المشتري على ما بينا أن المشتري بجنايته يصير قابضا وإن اختار المشتري نقض البيع لزمه من الثمن حصة ما تلف بجنايته وسراية جنايته وذلك ثمنا الثمن وثلثا ثمن الثمن ويسقط عنه ما سوى ذلك لانفساخ البيع فيه ويرجع البائع على الأجنبي بثمن القيمة وثلثي ثمن القيمة لأنه ظهر أن جناية الأجنبي حصلت على ملك البائع حين انفسخ البيع فما تلف بجنايته وسراية جنايته يقابل ذلك بما يخصه من الثمن فإن كان فيه فضل يتصدق بالفضل لأنه ربح حصل لأعلى ملكه لما بينا أن أصل الجناية لم تكن على ملكه.(13/330)
قال: وإذا اشترى الرجل من الرجلين عبدا بألف درهم فلم ينقدهما الثمن حتى قطع أحد البائعين يد العبد ثم قطع الآخر رجله من خلاف ثم فقأ المشتري إحدى عينيه فمات من ذلك كله في يد البائعين فالمشتري مختار للبيع بجنايته بعد جناية البائعين لأن جنايتهما أوجبت الخيار له ولكن جنايته بعد جنايتهما تكون دليل الرضا منه والإسقاط لخياره فيكون عليه من الثمن للقاطع الأول ثمن الثمن وخمسة أسداس ثمن الثمن لأن للقاطع الثاني ثمنا الثمن وخمسة أسداس الثمن لأن القاطع الأول بجنايته أتلف النصف وذلك أربعة وعشرون من ثمانية وأربعين والقاطع الثاني بجنايته أتلف نصف ما بقي وذلك اثنا عشر ثم المشتري بفقء العين أتلف نصف ما بقي وهو ستة وما بقي وهو ستة تلف بثلاث جنايات فيكون على كل واحد منهم ثلث ذلك فكان حاصل ما تلف بجناية القاطع الأول وسراية جنايته ستة وعشرون نصف ذلك مما باع هو ونصف مما باع شريكه ففي حصة ما باع هو يسقط من الثمن وذلك ثلاثة عشر وكل ثمن ستة فالثلاثة عشر تكون ثمن الثمن وسدس الثمن وقد كان للقاطع الأول أربعة أثمان الثمن فإذا سقط ثمناه وسدس ثمنه بقي له ثمن الثمن وخمسة أسداس ثمنه فلهذا يغرم المشتري له ذلك والتالف بجناية القاطع الثاني وسراية جنايته أربعة عشر نصف ذلك مما باعه هو فيسقط بحصته من الثمن ونصفه فيما باع شريكه كالأجنبي فعرفنا أن الساقط من حقه ثمن الثمن وسدس ثمن الثمن بقي له ثمنا الثمن وخمسة أسداس ثمن الثمن فيغرم له المشتري ذلك ثم يرجع المشتري على القاطع الأول بثمني القيمة وسدس ثمن القيمة وذلك ثلاثة عشر سهما من ثمانية وأربعين سهما حصة ما تلف بجنايته وسراية جنايته مما باعه شريكه،(13/331)
ص -154- ... لأنه في الجناية على ذلك كأجنبي آخر فيلزمه القيمة ويكون ذلك على عاقلته في ثلاث سنين وعلى عاقلة القاطع الثاني ثمن قيمة العبد وسدس ثمن قيمة حصة ما تلف بجنايته وسراية جنايته مما باعه القاطع الأول وذلك سبعة أسهم ويكون ذلك في ثلاث سنين لأنه جزء من بدل النفس فيكون في حكم التأجيل يعتبر الجميع بدل النفس ويتصدق المشتري بما زاد من ذلك كله على ما غرم من الثمن الأفضل سدس ثمن قيمة العبد على ما كان بمقابلته من الثمن فإن ذلك يطيب له لأن ما وجب بأصل جناية كل واحد من البائعين إنما وجب قبل قبض المشتري فيلزمه التصدق بالفضل فيه وأما ما تلف بسراية جناية كل واحد منهما فإنما تلف بعد ما صار المشتري قابضا له فيطيب له الفضل في ذلك القدر.(13/332)
قال: وإذا اشترى الرجلان من رجل عبدا فلم ينقده الثمن حتى قطع أحد المشتريين يده ثم قطع الآخر رجله من خلاف فمات العبد من ذلك كله فالبيع لازم للمشتريين بالثمن كله لأن المبيع تلف بفعلهما وذلك قبض منهما وزيادة ويرجع القاطع الأول على القاطع الثاني بثمن القيمة ونصف ثمن قيمته ويرجع القاطع الثاني على القاطع الأول بثمن قيمته ونصف من قيمته فيكون ذلك على عاقلة كل واحد منهما في ثلاث سنين لأن القاطع الأول بجنايته أتلف النصف والقاطع الثاني أتلف نصف ما بقي ثم تلف ما بقي بسراية جنايتهما فيكون نصفه على كل واحد منهما فحاصل ما تلف بجناية القاطع الأول أربعة وعشرون وسراية جنايته ستة فذلك ثلاثون نصف ذلك مما اشتراه هو ونصفه مما اشتراه صاحبه فيجب عليه قيمة ذلك لصاحبه وذلك خمسة عشر سهما وخمسة عشر من ثمانية وأربعين ثمناه ونصف ثمنه فلهذا يجب على عاقلة القاطع الأول ثمنا القيمة ونصف ثمنها والتالف بجناية القاطع الثاني وبسراية جنايته ثمانية عشر نصفه مما اشتراه صاحبه وهو تسعة وذلك ثمن ونصف ثمن فلهذا يجب على عاقلة القاطع الثاني ثمن القيمة ونصف ثمن القيمة فإن كان البائع فقأ عينه بعد جنايتهما فمات من ذلك كله فللمشتريين الخيار لوجود الجناية من البائع ولم يوجد بعدها منهما ما يكون دليل الرضا فإن ختارا نقض البيع فللبائع على القاطع الأول ثمنا الثمن وسدس ثمنه وعلى الثاني ثمن الثمن وسدس ثمنه لأن التالف بجناية القاطع الأول أربعة وعشرون وبسراية جنايته سهمان ثلث ما بقي بعد جناية البائع فذلك ستة وعشرون نصف ذلك ثلاثة عشر مما اشتراه هو فيقرر عليه حصة من الثمن وذلك ثمنا الثمن وسدس ثمنه ونصف ذلك مما اشتراه شريكه فقد انفسخ البيع فيه بفسخه فيغرم للبائع ثمني القيمة وسدس ثمن القيمة لأنه فيما اشترى شريكه كالأجنبي والتالف بجناية القاطع الثاني اثنا عشر وبسراية جنايته سهمان نصف ذلك وهو سبعة مما اشتراه فلزمه حصة من الثمن وهو ثمن(13/333)
الثمن وسدس ثمن الثمن ونصفه مما اشتراه شريكه فينفسخ البيع فيه بفسخه ويغرم للبائع حصة من القيمة وذلك ثمن القيمة وسدس ثمنها فإن اختار إمضاء البيع كان على كل واحد منهما ثلاثة أثمان الثمن وثلث ثمنه لأنه إنما سقط من الثمن ما تلف بجناية البائع وسراية جنايته والتالف بجنايته سنة وبسراية جنايته سهمان فذلك(13/334)
ص -155- ... ثمن وثلث ثمن والباقي عليهما من الثمن ستة أثمان الثمن وثلثا ثمن على كل واحد منهما ثلاثة أثمان الثمن وثلث ثمنه ويرجع القاطع الثاني على الأول بثمني القيمة وسدس ثمنها لما بينا أن التالف بفعله مما اشتراه القاطع الثاني ثلاثة عشر سهما فيلزمه قيمة ذلك وذلك ثمنا القيمة وسدس ثمنها لأنه تلف بفعل الثاني مما اشتراه الأول سبعة أسهم وذلك ثمن وسدس ثمن فلا تقع المقاصة بينهما فيه لأن ما يجب على كل واحد منهما من ذلك يكون على عاقلته في ثلاث سنين فلا تقع المقاصة فيه مع اختلاف من يجب عليه.(13/335)
قال: وإذا اشترى عبدا بألف درهم ولم ينقده الثمن حتى قطع البائع يده ثم قطع المشتري يده الأخرى أو قطع رجله التي في جانب اليد المقطوعة فمات من ذلك كله فقد بطل على المشتري بقطع البائع يد العبد نصف الثمن لأن اليد من الآدمي نصفه ثم ينظر إلى ما نقص العبد من جناية المشتري عليه في قطع يده أو رجله بخلاف ما سبق وهو ما إذا قطع رجله من خلاف لأن فعله هناك ليس باستهلاك فإنه غير مفوت لجنس المنفعة فلهذا يجعل التالف بفعله نصف ما بقي وهنا فعله استهلاك حكما لأنه إن قطع اليد الأخرى فقد فوت منفعة البطش وتفويت منفعة الجنس يكون استهلاكا من طريق الحكم ولهذا لا يستحق ذلك في السرقة ولا يجوز إعتاق مقطوع اليدين في الكفارة فإن قطع الرجل التي من جانب اليد المقطوعة فقد فوت عليه منفعة المشي لأنه لا يمكنه أن يمشي بعصا بخلاف ما إذا قطع الرجل من خلاف فعرفنا أن هذا استهلاك وأن النقصان فيه أكثر فلهذا اعتبرنا النقصان فإن كانت هذه الجناية نقصته أربعة أخماس ما بقي بأن كانت قيمته بعد قطع اليد ألف درهم وتراجعت قيمته بجناية المشتري إلى مائتي درهم فقد تقرر على المشتري أربعة أخماس نصف الثمن ثم الباقي وهو خمس النصف تلف بجنايتهما فيكون نصف ذلك على المشتري فصار حاصل ما على المشتري من الثمن أربعة أعشار الثمن ونصف عشر الثمن وسقط عنه بجناية البائع وسراية جنايته خمسة أعشار ونصف عشر.(13/336)
قال: فإن بدأ المشتري فقطع يده ثم قطع البائع رجله من خلاف ثم مات من غير ذلك ولم يحدث البائع فيه منعا فعلى المشتري ثلاثة أرباع الثمن لأنه بقطع اليد صار قابضا لجميع العبد ثم إنما ينتقض حكم قبضه فيما تلف بفعل البائع خاصة والتالف بفعل البائع نصف ما بقي منه وهو ربع العبد فيسقط عن المشتري ربع الثمن ويلزمه ثلاثة أرباع الثمن نصف الثمن حصة ما تلف بجنايته وربع الثمن حصة ما بقي من العبد لأن حكم قبض المشتري بقي فيه وقد تلف لا بسراية جناية البائع فيتقرر ثمنه على المشتري ولو لم يمت العبد وبرأ كان المشتري بالخيار لأن حكم قبضه انتقض فيما تلف بجناية البائع وذلك يثبت الخيار للمشتري ولم يوجد منه بعد ذلك ما يدل على الرضا فكان على خياره إن شاء أخذه وأعطاه ثلاثة أرباع الثمن نصف الثمن حصة ما تلف بقطعه اليد وربع الثمن حصة الباقي من العبد وإن شاء تركه وأعطى نصف الثمن بقطعه اليد ولو أراد المشتري أخذه فمنعه البائع حتى يعطيه ثلاثة أرباع(13/337)
ص -156- ... الثمن فمات في يده من غير جنايتهما فليس على المشتري إلا نصف الثمن لأن حكم قبضه انتقض فيما بقي حين منعه البائع فإنما تلف ما بقي في ضمان البائع فلهذا لا يجب على المشتري من الثمن إلا حصة اليد وذلك نصف الثمن والله أعلم.
باب زيادة المبيع ونقصانه قبل القبض
قال: وإذا اشترى الرجل جارية بألف درهم وقيمتها ألف درهم فولدت عند البائع بنتا تساوي ألف درهم ونقصت الولادة الأم فالمشتري بالخيار إن شاء أخذهما بجميع الثمن وإن شاء تركهما لأنها تعيبت في ضمان البائع والعيب الحادث قبل القبض فيها يجعل كالمقترن بالعقد ونقصان الولادة وإن كان منجبرا بالولد فالخيار يثبت للتغير كما لو قطعت يدها وأخذ البائع الأرش فإن اختار المشتري أخذهما فلم يأخذهما حتى ولدت البنت بنتا تساوي ألفا وقد نقصتها الولادة فالمشتري أيضا بالخيار لأن الزيادة الحادثة قبل القبض كالموجودة عند العقد حتى يصير بمقابلتها حصة من الثمن إذا قبضت وأنه يثبت للمشتري فيها حق القبض كما يثبت في الأصل فكما أنه يستحق سلامة الأصل عن العيب ويثبت له الخيار إذا لم يسلم فكذلك يثبت الخيار للنقصان المتمكن في الزيادة بسبب الولادة لأنه إنما رضي بنقصانها على أن يسلم له الزيادة سليمة عن النقصان فإذا لم يسلم كان هو على خياره فإذا زادت الوسطى حتى صارت تساوي ألفين فقبضهن جميعها والأم قد رجعت قيمتها إلى خمسمائة ثم وجد بالأم عيبا ردها بربع الثمن وهذا لأن الوسطى والسفلى كلاهما زيادة في الأم فإن الوسطى تبع الأم في العقد ولا تبع للتبع فإذا لم يمكن جعل السفلى تبعا للوسطى جعلناهما كولدين للأم ثم الأصل في قسمة الثمن أنه يعتبر قيمة الأم وقت العقد وقيمة الولد وقت القبض لأن الزيادة إنما تصير مقصودة بالقبض وإنما يكون لها حصة من الثمن إذا صارت مقصودة فأما البيع فلا حصة له من الثمن ما لم يصر مقصودا كأطراف المبيع وقيمة الأم عند العقد ألف درهم وقيمة الوسطى عند القبض(13/338)
ألفان وقيمة السفلى ألف فجعلنا كل ألف سهما وإذا جعلنا كل ألف سهما انقسم الثمن على أربعة أسهم سهم بإزاء الأم فيردها بذلك إذا وجد العيب بها وسهمان بإزاء الوسطى فيردها بالعيب بنصف الثمن وسهم بإزاء السفلى فيردها بالعيب بربع الثمن لأن كل واحدة منهن لما صارت مقصودة بالقبض التحقت بالموجود عند العقد في استحقاق المشتري صفة السلامة فيها وعند وجود العيب إنما يرد المعيب خاصة بعد القبض وقد بينا هذا فيما سبق.
قال: وإذا اشترى أمتين بألف درهم قيمة إحداهما خمسمائة وقيمة الأخرى ألف درهم فولدت كل واحدة منهما ولدا يساوي ألفا ثم اعورت التي كانت تساوي ألفا فاختار المشتري أخذ ذلك كله بالثمن فقبضهن جميعا ودفع الثمن ثم وجد بالعوراء عيبا وقيمتها خمسمائة ردها بثلثمائة وثلاثة وثلاثين وثلث لأن ولد كل واحدة منهما يتبعها فيما يخصها من الثمن والانقسام أولا على قيمة الأمتين لأنهما مقصودتان بالعقد وولد كل واحدة منهما زيادة فيها(13/339)
ص -157- ... دون الأخرى فيقسم الثمن على قيمة الجاريتين وقت العقد وقيمة العوراء وقت العقد ألف درهم وقيمة الأخرى خمسمائة فكان ثلثا الثمن حصة العوراء ثم ينقسم حصتها من الثمن على قيمتها وقت العقد وقيمة ولدها وقت القبض وذلك ألف فانقسم نصفان نصفه حصة ولدها ونصفه حصة العوراء وذلك ثلث الألف فبذلك يردها بالعيب ولو وجد العيب بالأمة الأخرى ردها بمائة وأحد عشر درهما وتسع درهم لأن حصتها ثلث الثمن فانقسم ذلك على قيمتها وقت العقد وهو خمسمائة وقيمة ولدها وقت القبض وهو ألف درهم فيردها بذلك.(13/340)
قال: وإذا اشترى شاة فولدت قبل القبض فليس للمشتري أن يترك البيع لأن الولادة زيادة في البهائم فلا يتمكن بها نقصان في الأصل فالمشتري يجبر على قبضها لأنه لما كان راضيا بلزوم العقد قبل حدوث الزيادة فهو راض بلزومه بعد حدوثها فإن وجد بالأم عيبا قبل القبض فهو بالخيار إن شاء أخذهما بجميع الثمن وإن شاء تركهما جميعا وليس له أن يأخذ إحداهما دون الأخرى لأن الزيادة قبل القبض تبع في العقد لا حصة لها من الثمن وثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل ولأنه لو رد الأصل وحدها ردها بجميع الثمن إذ لا حصة للولد ما لم يصر مقصودا بالقبض وبعد ما ردها بجميع الثمن لو بقي العقد في الولد أخذه بغير شيء فيكون فضلا خاليا عن المقابلة مستحقا بالتبع مقبوضا به وهو الربا بعينه وإن وجد بالولد عيبا فلا خيار له فيه وهما لازمان له لأن بوجود العيب يظهر فوات جزء من الولد ولو مات الولد قبل القبض أخذ الأم بجميع الثمن ولا خيار له فيها فكذلك إذا فات جزء من الولد وهذا لأن الزيادة لما فاتت من غير صنع أحد صارت كأن لم تكن وقبل حدوثها كان العقد لازما له في الأصل بجميع الثمن فكذلك بعد فواتها وهذا بخلاف ما إذا وجد العيب بالولد بعد ما قبضهما لأن الولد بالقبض صار مقصودا فصار له حصة من الثمن فباعتبار العوض بمقابلته يستحق المشتري صفة السلامة فيه فإذا وجد المشتري به عيبا رده فأما قبل القبض فلا حصة له من الثمن واستحقاق صفة السلامة عن العيب باعتبار العوض ألا ترى أنه لا يستحق ذلك في الموهوب وإن كان البائع هو الذي قتل الولد فقد صار الولد مقصودا بإتلاف البائع إياه ولو صار مقصودا بقبض المشتري إياه كان له حصة من الثمن فكذلك إذا صار مقصودا بإتلاف البائع وقد قررنا هذا في طرف المبيع أنه إذا فات من غير صنع أحد لا يسقط شيء من الثمن وإذا أتلفه البائع يسقط حصته من الثمن فكذلك هذا في الولد الذي هو تبع فيقسم الثمن على قيمة الأم وقت البيع وعلى قيمة(13/341)
الولد يوم قتله البائع فما أصاب الولد بطل عن المشتري وأخذ الأم بما بقي ولا خيار له في ذلك عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له الخيار وهذه هي الخلافية التي ذكرناها في الثمار وتنصيصه على الخلاف هنا يكون تنصيصا ثمة إذ لا فرق بينهما.
قال: وإذا اشترى الرجل من الرجل جارية بألف درهم وإحدى عينيها بيضاء وقيمتها ألف درهم فولدت ولدا يساوي ألفا ثم ذهب البياض من عينها فصارت تساوي ألفين ثم إن البائع(13/342)
ص -158- ... ضرب العين التي كانت في الأصل صحيحة فابيضت ورجعت قيمتها إلى ألف درهم وبياض العين ينقصها أربعة أخماس القيمة الأولى لو كانت العين الأولى بيضاء على حالها فإني لست ألتفت إلى الزيادة لكي أنظر كم كان ينقصها البياض لو كان بياض العين الأولى على حاله فإذا كان ينقصها أربعة أخماس القيمة الأولى وذلك ثمانمائة درهم فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بستة أعشار الثمن وإن شاء تركها أما ثبوت الخيار فلأنها تغيرت في ضمان البائع بفعله ثم ذهاب البياض عن العين الأولى زيادة متصلة ولا معتبر بالزيادة المتصلة في عقود المعاوضات لما بينا أن المعتبر في الانقسام قيمتها وقت العقد فوجود هذه الزيادة كعدمها ولو لم يذهب البياض عن عينها حتى ضرب البائع العين الصحيحة فابيضت فإنه يعتبر فيه النقصان فيها لأنها عميت بفعله وذلك استهلاك حكما فيكون المعتبر فيه النقصان فلهذا قال ينظر إلى ما نقصها القيمة الأولى ثم الثمن ينقسم على قيمتها وقت العقد وقيمة ولدها وقت القبض وهما سواء فانقسم نصفان نصف الثمن حصة الولد ونصفه حصة الأم فإذا كان النقصان أربعة أخماس القيمة الأولى سقط عن المشتري أربعة أخماس النصف وتبين أن جميع الثمن صار على عشرة أسهم نصفه وهو خمسة حصة الولد وسهم واحد حصة ما بقي من الأم فإذا قبضهما ثم وجد بالأم عيبا ردها بحصتها من الثمن وهو سدس ما أخذهما به ولو وجد العيب بالولد رده بحصته وهو خمسه أسداس ما أخذهما به ولو لم يكن البائع ضرب العين الصحيحة ولكنه ضرب العين التي كان بها البياض بعد ما ذهب البياض فعاد إلى الحالة الأولى فالمشتري بالخيار في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن شاء أخذهما بثلثي الثمن وإن شاء تركهما ولأن ذهاب البياض كان زيادة متصلة فقد انفصلت بفعل البائع فهي كزيادة متصلة أتلفها البائع بأن ولدت ولدا آخر قيمته ألف فقتله البائع ولو كان كذلك لكان يقسم الثمن على قيمة الأم وقت العقد وقيمة الولد من(13/343)
حين يصير كل واحد منهما مقصودا والقيمة سواء فيقسم الثلث أثلاثا وحصة ما أتلف البائع ثلث الثمن فيسقط ذلك عن المشتري ويتخير فيما بقي عندهما.
وعند أبي حنيفة لا خيار له بمنزلة الزيادة المنفصلة في البهائم إذا أتلفها البائع لأن تلك الزيادة لا تمكن نقصانا في الأصل وهذه الزيادة مثل تلك فإن كان أخذهما ثم وجد بإحداهما عيبا رده بنصف ما أخذهما به لما بينا أن حصة كل واحد منهما ثلث الثمن وهذا بخلاف الأول وهو ما إذا كانت جناية البائع على العين الصحيحة لأن الزيادة هناك لم تزايل البدن فلا معتبر بها وهنا الزيادة زايلت البدن بصنع البائع فوجب اعتبارها.
قال: وإذا اشترى جارية بألف وقيمتها ألف وإحدى عينيها بيضاء فذهب البياض فصارت تساوي الفين ثم أن عبدا لأجنبي ضرب تلك العين فعاد بياضها ودفعه مولاه وقيمته خمسمائة درهم فأخذهما المشتري بجميع الثمن ثم إنه وجد بالعبد عيبا فإنه يرد بثلث الثمن لأن العبد المدفوع بالعين قائم مقامها وذهاب البياض عن تلك العين كان زيادة متصلة وقد انفصلت(13/344)
ص -159- ... فيجعل كولد ولدته الجارية وإنما ينقسم الثمن على قيمتها وقت العقد وقيمة الولد وقت القبض فكذلك يعتبر قيمة العبد المدفوع في الانقسام وقت القبض بحكم العقد لا وقت الدفع بالجناية لأن ذلك ليس من حكم العقد في شيء وقيمته وقت القبض خمسمائة فانقسم الثمن أثلاثا ثلثه بإزاء العبد يرده بذلك إن وجد به عيبا وثلثاه بإزاء الجارية إن وجد العيب بها يردها بذلك وإن كان المشتري لم يقبض العبد حتى زاد في يد البائع فصار يساوي ألف درهم ثم قبضهما المشتري فوجد بإحداهما عيبا رده بنصف الثمن لما بينا أن المعتبر قيمة العبد وقت القبض بحكم العقد وهي مساوية لقيمة الأمة وقت العقد فانقسم الثمن عليهما نصفين.
قال: وإذا اشترى جارية تساوي ألفا ففقأ البائع عينها ثم ولدت بعد الفقء ولدا يساوي ألفا أخذهما المشتري بنصف الثمن لأن البائع لما فقأ عينها فقد سقط عن المشتري نصف الثمن لأن العين من الآدمي نصفه ثم لما ولدت انقسم ما بقي من الثمن على قيمتها وقيمة ولدها فإن كان الفقء بعد الولادة أخذهما إن شاء بثلاثة أرباع الثمن لأنها حين ولدت وهي صحيحة فقد انقسم جميع الثمن على قيمتها وقيمة الولد بشرط بقاء الولد على هذه القيمة إلى وقت القبض وقد بقي فظهر أن نصف الثمن كان بمقابلة الولد ونصفه حصة الأم فلما فقأ البائع العين فإنما يسقط نصف حصتها من الثمن وذلك ربع الثمن فإما إذا كان الفقء قبل الولادة فقد كان جميع الثمن فيها حين فقأ البائع عينها فلهذا يسقط نصف الثمن.(13/345)
قال: ولا يشبه الرهن في هذا البيع يعني في الرهن في هذه الصورة لا فرق بين الولادة قبل ذهاب العين وبين الولادة بعد ذهاب العين ويكون الساقط ربع الدين في الموضعين جميعا وبالولادة بعد ذهاب العين هناك يعود بعض ما كان ساقطا وفي البيع لا يعود والفرق بينهما أن سقوط الثمن بفقء البائع العين إنما كان بطريق انفساخ العقد فيما أتلفه البائع والبيع بعد ما انفسخ لا يعود بحدوث الزيادة وأما في الرهن فسقوط الدين بطريق المرتهن صار مستوفيا والاستيفاء يقرر الدين ولا يسقطه فإذا حدثت الزيادة فقد حدثت في حال قيام الدين كله لكونه منتهيا بالاستيفاء فلهذا يعود باعتبار أن الزيادة بعض ما كان ساقطا وتجعل الزيادة الحادثة بعد ذهاب العين كالزيادة قبل ذهاب العين ألا ترى أنه لو اشترى شاة فماتت قبل القبض ثم دبغ البائع جلدها لا يعود العقد في حصة الجلد؟.
ولو أن الشاة المرهونة ماتت وحكم بسقوط الدين ثم دبغ المرتهن جلدها عاد من الدين ما يخص الجلد وكان الفرق ما ذكرنا وتحقيقه من حيث المعنى أن الفسخ ضد ما هو مقصود بالعقد فإنما يسقط بعض الثمن عن المشتري بما هو ضد المقصود بالعقد فلا يجعل العقد فيه كالقائم حكما وأما سقوط الدين بهلاك بعض المرهون فيحقق ما هو المقصود بالعقد لأن المقصود بعقد الرهن الاستيفاء أو إنما يتم ذلك بهلاك الرهن فلهذا يجعل كأن العقد في الكل قائم حكما حين حدثت الزيادة فيسقط نصف ما يخص الأم وذلك ربع الدين ثم الرهن والبيع يفترقان من وجه آخر وهو أن في البيع إذا ذهبت العين من غير صنع أحد لا يسقط شيء من(13/346)
ص -160- ... الثمن وفي الرهن بذهاب العين من غير صنع أحد يسقط نصف الدين لأن ضمان الرهن يثبت بالقبض والأوصاف تصير مضمونة بالقبض وإذا فاتت من غير صنع أحد وذلك كأوصاف المغصوبة وفي البيع الضمان بالعقد فإذا فاتت من غير صنع أحد قلنا لا يسقط شيء من الثمن بفواتها.
قال: وإذا اشترى جارية بألف درهم تساوي ألفا وهي بيضاء إحدى العينين ففقأ البائع العين الباقية فصارت تساوي مائة درهم أخذها المشتري بمائة درهم إن شاء لأن فعل البائع استهلاك لها حكما ويعتبر نقصان القيمة فيما يسقط من الثمن به فإذا لم يأخذها حتى ذهب بياض عينها الأولى فصارت تساوي ألفا فالمشتري على خياره إن شاء أخذها بمائة درهم وإن شاء تركها لأن ذهاب البياض عن العين الأخرى زيادة متصلة ولا معتبر بها في حكم البيع فإن ضرب عبد هذه العين التي برئت فعاد بياضها فمولى العبد بالخيار إن شاء دفعه بالجناية وإن شاء فداه بأرش الجناية وهو ثمانمائة درهم فإن دفعه وقيمته خمسمائة درهم أخذها المشتري بمائتي درهم لما بينا أن العقد انفسخ في أربعة أخماسها بفقء البائع عينها وكما لا يعود شيء من ذلك بولد تلده فكذلك لا يعود بالعبد المدفوع بالجناية لأنه قائم مقام الزيادة المتصلة وقد صارت منفصلة فهو كولد ولدته فلهذا يأخذهما المشتري بمائتي درهم إن شاء فإن قبضهما فوجد بالجارية عيبا ردها بسبعي الثمن الذي نقد وهو مائتا درهم وإن وجد بالعبد عيبا رده بخمسة أسباعه لأن ما بقي من الثمن وهو مائتا درهم انقسم على قيمة ما بقي منها وذلك مائتان وعلى قيمة العبد وقت القبض وهو خمسمائة درهم فإذا جعلت كل مائة سهما كانت القسمة أسباعا خمسة أسباعه حصة العبد فيرده به وسبعاه حصة الجارية فيردها بذلك وإنما اعتبرنا في الانقسام قيمة ما بقي منها ولم نعتبر قيمتها وقت العقد لأن العقد قد انفسخ في أربعة أخماسها وإنما يعتبر في الانقسام قيمة ما بقي حكم العقد فيه لا قيمة ما انفسخ العقد فيه.(13/347)
ولو كان البائع لم يفقأ عينها حتى ذهب بياض عينها فصارت تساوي ألف درهم ثم أن عبدا ضرب العين التي برئت فعاد بياضها ثم إن البائع فقأ العين الباقية فصارت تساوي مائتي درهم فمولى العبد بالخيار إن شاء دفعه وإن شاء فداه بألف درهم لأن الفداء يكون بأرش الجناية وأرش الجناية هنا ألف درهم فقد كانت قيمتها عند الجناية ألفي درهم فمات بذهاب العين نصفها وتراجعت قيمتها إلى ألف درهم فإن دفعه وقيمته خمسمائة أخذها المشتري إن شاء بخمسي الثمن وثلث خمس الثمن ويبطل عنه بفقء البائع عين الجارية خمسا الثمن وثلثا خمس الثمن لأن العبد مدفوع بما فوته من الزيادة المتصلة فهو بمنزلة ولد ولدته يساوي خمسمائة وعند ظهوره جميع العقد فيها قائم فانقسم الثمن على قيمتها وقت العقد وقيمة العبد وقت القبض أثلاثا ثلثه بإزاء العبد وثلثاه بإزاء الجارية ثم بفقء البائع عينها سقط أربعة أخماس ما فيها وبقي الخمس فإذا أردت تصحيح ذلك فالسبيل أن تضرب ثلاثة في خمسة فتكون خمسة عشر حصة الأم من ذلك عشرة والساقط ثمانية من هذه العشرة وثمانية من خمسة(13/348)
ص -161- ... عشر خمساه وثلثا خمسه لأن كل خمس ثلاثة فخمساه ستة وثلثا خمسه سهمان فيسقط ذلك عن المشتري ويأخذهما بما بقي وهو سبعة من خمسة عشر وذلك خمساه وثلث خمسه والله أعلم.
باب قبض المشترى بإذن البائع أو بغير إذنه
قال: وإذا اشترى الرجل من الرجل عبدا بألف درهم حالة فليس للمشتري أن يقبض العبد حتى يعطي الثمن عندنا وهو أحد أقاويل الشافعي وقال في قول على البائع تسليم المبيع أولا لأن ملك المشتري ثبت بالعقد في العين وملك البائع دينا في ذمة المشتري والملك في العين أقوى ووجوب التسليم بحكم الملك وفي قول آخر يسلم كل واحد منهما بيد ويقبض بيد لأن قبضه لمعاوضة التسوية فكما اقترن ثبوت الملك لأحدهما بثبوت الملك للآخر فكذلك القبض كما في بيع المقابضة ولكنا نقول قصة المعاوضة التسوية وقد عين البائع حق المشتري في المبيع فعلى البائع أن يعين حق البائع في الثمن ولا يتعين الثمن إلا بالقبض فلهذا كان أول التسليمين على المشتري بخلاف بيع المقابضة فهناك حق كل واحد منهما متعين وهذا هو الجواب عن قوله أن ملك المشتري أقوى فإنا إنما نوجب عليه تسليم الثمن أولا لهذا المعنى وهو أنه لما يقوى ملكه في المبيع فعليه أن يسوي جانب البائع في ملك الثمن بجانب نفسه ولا يكون ذلك إلا بالتسليم وكذلك نقده الثمن إلا درهما لأن سقوط حق البائع في الجنس متعلق بوصول الثمن إليه فما لم يصل إليه جميع الثمن لا يتم الشرط ويبقى حق البائع في الحبس إلا أن يكون الثمن مؤجلا فحينئذ ليس للبائع أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل ولا بعده لأن قبل حلول الأجل ليس له أن يطالب بالثمن وإنما يحبس المبيع بما له أن يطالبه من الثمن وأما بعد حلول الأجل فلأن حق الحبس لم يثبت له بأصل العقد فلا يثبت بعد ذلك تبعا بهذا الحق ما كان له من استحقاق اليد قبل البيع فإذا لم يبق ذلك بعد العقد لا يثبت ابتداء بحلول الأجل.(13/349)
وذكر هاشم عن محمد رحمهما الله في نوادره أنه إذا أجله في الثمن شهرا ثم لم يسلم البائع المبيع إلى المشتري حتى مضى شهر فعلى قول أبي حنيفة إن كان الأجل شهرا بعينه فيمضيه بحل الثمن وإن كان شهرا بغير عينه فعلى البائع أن يسلم المبيع وليس له أن يطالب بالثمن حتى يمضي شهر بعد التسليم وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يطالب بالثمن في الوجهين جميعا لأن مطلق الشهر في الأجل ينصرف إلى الشهر الذي يعقب العقد عيناه أو لم يعيناه كما في الإجارات والأيمان هذا هو القياس الظاهر وما ذهب إليه أبو حنيفة نوع استحسان بناء على مقصودهما فالمقصود أن يتصرف المشتري في المبيع في الشهر ويؤدي الثمن عند مضيه ويستفصل لنفسه ولا يحصل هذا المقصود إذا لم يسلم المبيع إليه فلهذا قال في الشهر المطلق يكون ابتداؤه من حين يسلم إليه المبيع فإن نقد المشتري الثمن وهو حال ولم يقبض المبيع حتى وجد البائع الدراهم زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا أو رصاصا أو(13/350)
ص -162- ... استحقت من يده فللبائع أن يمنع المشتري من قبض العبد حتى يعطيه الثمن مثل شرطه لأن الرد بهذه الأسباب ينقض القبض من الأصل فيلتحق بما لم ينقد الثمن وكذلك لو وجد بعض الثمن بهذه الصفة وإن كان ذلك درهما واحدا لأن القبض قد انتقض في ذلك المردود فكأنه لم يقبض ذلك القدر.
وإن كان المشتري قبض العبد من البائع بإذنه ثم إن البائع وجد الثمن أو بعضه على ما وصفنا فإن كان الذي وجد ستوقا أو رصاصا كان له أن يأخذ العبد حتى يدفع إليه المشتري مكان الذي وجد من ذلك جيادا على ما شرطه لأن المقبوض ليس من جنس الدراهم حتى لو تجوز به في الصرف والسلم لم يجز وإنما لم يسلم البائع المبيع إليه على أن المقبوض ثمن فإذا تبين أنه لم يكن ثمنا لم يكن هو راضيا بالتسليم فكان المشتري قبضه بغير إذنه وكذلك إن استحق المقبوض من يده لأن المستحق وإن كان من جنس الدراهم ولكن البائع إنما رضي بالتسليم بشرط أن يسلم له المقبوض فإذا لم يسلم كان هو على حقه في الحبس وإن كان وجد الثمن أو بعضه زيوفا أو نبهرجة استبدلها من المشتري لأن المستحق له بمطلق التسمية الدراهم الجياد فإن المعاملات عرفا بين الناس بالجياد وبمطلق عقد المعاوضة تستحق صفة السلامة عن العيب والزيافة عيب في الدراهم فكان له أن يستبدل الزيوف بالجياد وليس له أن يسترد العبد فيحبسه بالثمن عندنا.(13/351)
وقال: زفر له ذلك وهو رواية عن أبي يوسف لأنه إنما سلم المبيع على أن المقبوض من الثمن حقه وقد تبين أنه لم يكن حقا له لأن حقه في الجياد والمقبوض زيوف والثمن دين في الذمة فيختلف باختلاف الأوصاف وإذا لم يكن المقبوض حقه لم يتم رضاه بالتسليم فهو والستوق سواء يوضحه أن الرد بالعيب الزيافة ينقض القبض من الأصل ولهذا ينفرد به الراد ويرجع بموجب العقد لا بموجب تسليم الثمن مرتين فلا يتمكن من الرجوع بموجب العقد ما لم ينتقض القبض من الأصل وإذا انتقض عاد حقه في المجلس كما كان قبل استيفاء الثمن وجه قولنا أنه سلم المبيع قبل قبض الثمن فصح تسليمه وبعد صحة التسليم لا يعود حق البائع في الحبس لأن من ضرورة صحة التسليم سقوط حقه في الحبس والمسقط يكون مثلا شيئا لا يتصور عوده لهذا قلنا لو أعار المبيع من المشتري أو أودعه منه سقط حقه في الحبس وكذلك لو أجله في الثمن سقط حقه في الحبس ثم لا يعود بحلول الأجل.
وبيان لوصف أن الزيوف والنبهرجة من جنس الدراهم إلا أن بها عيبا والعيب بالشيء لا يبدل جنسه ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم جاز وكان مستوفيا لا مستبدلا فكان البائع بقبضها قابضا للثمن وتسليم المبيع بعد قبض الثمن صحيح ثم بالرد ينتقض قبضه من الأصل كما قال ولكن في الحكم الذي يحتمل النقض بعد الثبوت دون ما لا يحتمل ذلك ألا ترى أن المولى إذا قبض بدل الكتابة فوجده زيوفا فرده لا يبطل العتق؟ وكذلك لو حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فاستوفى حقه ثم وجد المقبوض زيوفا فرده لا يبطل به حكم(13/352)
ص -163- ... البر في اليمين فقد بينا أن حق البائع في الحبس بعد ما سقط لا يتصور عوده فلا يعود بانتقاض القبض بالرد أيضا بخلاف الستوق والرصاص فهناك يتبين أنه لم يقبض الثمن وإن تسليمه لم يكن صحيحا وبخلاف المستحق لأن قبض المستحق موقوف على إجازة المستحق فالتسليم الذي ينبني عليه يكون موقوفا أيضا ولا يكون صحيحا مطلقا.
وإن لم يرتجع البائع من المشتري العبد ولم يجد في الثمن شيئا مما ذكرنا حتى باع المشتري العبد أو وهبه وسلمه أو رهنه وسلمه أو أجره ثم وجد البائع في الثمن بعض ما ذكرنا فجميع ما صنع المشتري في العبد جائز لا يقدر البائع على رده ولا سبيل له على العبد لأن المشتري تصرف فيه بعد القبض وإنما تصرف فيه بتسليط البائع فالبيع والتسليم تسليط له على التصرف ألا ترى أن في البيع الفاسد لا يتمكن البائع من نقض تصرفه فلما حصل بتسليط صحيح كان أولى ولو كان المشتري قبض العبد بغير إذنه ثم صنع فيه بعض ما ذكرنا ثم وجد البائع بعض الثمن على ما ذكرنا كان له أن ينقض جميع ما صنع المشتري فيه ويسترده حتى يوفيه المشتري الثمن لأن تصرف المشتري حصل لا بتسليط من البائع فالقبض منه كان بغير إذن وذلك لا يسقط حق البائع في الحبس.
ولما ظهر أن الثمن كان على ما وصفنا فقد ظهر أن حق البائع باق في الحبس لم يسقط حكما بوصول حقه ولا أسقطه باختياره بتسليم المبيع إلى المشتري فكان له أن ينقض جميع ما تصرف فيه المشتري إذا كان محتملا للقبض بأن كان البائع لما علم بقبض المشتري العبد سلم ذلك ورضي به والمسئلة على حالها كان هذا مثل إذنه له في القبض لأنه أجاز قبضه في الانتهاء وتأثير إجازته في إسقاط حقه كتأثير إذنه في الابتداء.(13/353)
قال: ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فرهنه بها عبدا يساوي ألفا فقبضه المرتهن ثم قضاه لراهن دراهمه ولم يقبض الرهن حتى وجد المرتهن الدراهم أو بعضها زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا أو رصاصا أو استحقت من يده فاعلم أن الجواب في الرهن في جميع ما ذكرنا كالجواب في البيع لأن المرهون محبوس بالدين كما أن المبيع محبوس بالثمن إلا في خصلة واحدة وهي ما إذا وجد المرتهن المقبوض زيوفا فرده وقد كان الراهن قبض الرهن بإذنه فللمرتهن أن يسترده ويحبسه بالدين بخلاف البيع وزفر يستدل في الخلافية به والفرق أن تسليم المرتهن العين إلى الراهن ليس بمسقط حقه في الحبس وإن كان صحيحا في نفسه ألا ترى أنه لو سلم المرهون إلى الراهن على طريق العارية أو الوديعة كان له أن يسترده فكذلك إذا سلمه بعد قبض الزيوف فإنما المسقط لحقه كمال وصول حقه إليه ولم يوجد بخلاف المبيع فالتسليم الصحيح من البائع مسقط حقه في الحبس وهذا لأن الثابت للمرتهن بعقد الرهن بدل الاستيفاء فيبقى حقه ما لم يستوف حقه وقد تبين أنه لم يستوف حقه ألا ترى أن مع التأجيل في الدين يكون له أن يحبس الرهن فأما في البيع فحق الحبس للبائع باعتبار توجه المطالبة له بالثمن حتى لو أجله في الثمن لم يبق حقه في الحبس وبعد قبض(13/354)
ص -164- ... الزيوف ليس له حق المطالبة بالثمن ما لم يرد المقبوض فلهذا سقط حقه في الحبس إذا سلم المبيع قبل أن يرد المقبوض.
قال: وإذا اشترى الرجل من الرجل عبدا بألف درهم فلم يقبضه حتى وكل رجلا يقبضه فقبضه الوكيل بغير أمر البائع ولم ينقد البائع الثمن فهلك العبد في يد الوكيل فللبائع أن يضمن الوكيل قيمة العبد فيكون في يده حتى يعطيه المشتري الثمن لأن بالبيع المبيع صار مملوكا للمشتري ولكنه محبوس في يد البائع ما لم يصل إليه الثمن فقبض الوكيل في حق البائع جناية بمنزلة الغصب ولو غصبه منه غاصب فهلك في يده كان للبائع أن يضمنه القيمة وهذا نظير المرهون إذا قبضه وكيل الراهن بغير رضا المرتهن فهلك في يده يكون ضامنا حقا للمرتهن وهذا بخلاف ما لو كان المشتري قبضه بنفسه فهلك عنده فإنه لا يكون ضامنا للقيمة لأن قبض المشتري يقرر عليه ضمان الثمن فلا يوجب عليه ضمان القيمة إذ لا يجوز أن يجتمع الضمانان على واحد بسبب قبض واحد فأما قبض الوكيل فلا يوجب عليه ضمان الثمن فيكون موجبا ضمان القيمة لحق البائع ثم استرداد البائع القيمة منه كاسترداد العبد لو كان باقيا إذ القيمة تقوم مقام العين وإنما سميت قيمة لقيامها مقام العين فإذا أعطاه الثمن رجعت القيمة إلى الوكيل لأن الوكيل في حق المشتري كان أمينا ممتثلا لأمره وإنما كان ضمان القيمة عليه لحق البائع فإذا سقط حقه رجعت القيمة إلى الوكيل كما لو أوفى المشتري الثمن قبل أن يضمن البائع الوكيل ولو نويت القيمة عند البائع سقط الثمن عن المشتري لأن استرداد القيمة كاسترداد العين ولو استرد العين فهلك عنده انفسخ البيع وسقط الثمن فكذلك إذا استرد القيمة ثم يتبع الوكيل المشتري في القيمة لأنه في القبض كان عاملا له بأمره وقد لحقه فيه ضمان فيرجع به عليه.(13/355)
ولو كان المشتري أعتق المبيع قبل القبض لم يكن عليه ضمان القيمة لأن إعتاقه إياه بمنزلة القبض ولو قبضه فهلك في يده لم يكن عليه ضمان القيمة فكذلك إذا أعتقه ولو كان الوكيل هو الذي قبض العبد بإذن المشتري ثم أعتقه المشتري فهذا وموت العبد في يد الوكيل سواء في حق البائع لأنه تعذر عليه استرداده بهذا السبب فهو كتعذر الاسترداد بالموت في يده وهذا لأن أمر المشتري الوكيل بالقبض غير معتبر في حقه لأنه لا يملك قبضه بنفسه لحق البائع في الحبس فكذلك لا يملك أن يأمر غيره به.
قال: ولو أن المشتري أمر رجلا بعتق العبد وهو في يد البائع فأعتقه المأمور ففي قول أبي يوسف الأول هذا وأمره بالقبض سواء في جميع ما ذكرنا من التفريع لأن إعتاق المبيع بمنزلة القبض فكذلك إذا وكل الغير به فهو والوكيل بالقبض سواء ألا ترى أن المشتري لو باشره بنفسه كان ذلك بمنزلة قبضه فكذلك إذا وكل الغير به فهو والوكيل بالقبض سواء ثم رجع وقال لا ضمان على الوكيل في هذا الفصل ولكن يرجع البائع على المشتري بالثمن وهو قول محمد وهو رواية عن أبي حنيفة ووجه ذلك أن الوكيل بالإعتاق معبر عن المشتري(13/356)
ص -165- ... فيكون ذلك كإعتاق المشتري بنفسه وذلك يقرر عليه الثمن فلا يوجب ضمان القيمة كما لو أعتقه بنفسه وتقرير هذا أنه بكلمة الإعتاق إذا جعله مقصورا عليه لا يحصل به الإتلاف ولا يبطل به حق البائع وإنما يحصل به الإتلاف إذا انتقلت عبارته إلى المشتري ألا ترى أنه لو أعتقه بغير إذن المشتري كان إعتاقه باطلا ولا يجب على المعتق له ضمان وإذا نقلنا عبارته إلى المشتري كان هذا مقررا للثمن عليه فلا يكون موجبا ضمان القيمة فأما القبض ففعل محسوس يوجب الحكم على القابض إذا جعل مقصورا عليه ألا ترى أنه لو قبضه بغير إذن المشتري كان موجبا عليه ضمانه فكذلك إذا قبضه بإذنه لأنه لا معتبر بإذنه في حق البائع وإذا اقتصر حكم القبض على القابض في حق البائع كان هو ضامنا للقيمة ولو أعتق المشتري المبيع قبل القبض وهو معسر فليس للبائع أن يستسعي العبد في شيء رجع أبو يوسف عن هذا وقال له أن يستسعي العبد في الأقل من قيمته من الثمن وذكر هذا القول في نوادر هشام وجعله قياس المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر ووجه الفرق بينهما على ظاهر الرواية أن بعقد الرهن يتثبت للمرتهن حق الاستيفاء من مالية الرهن وتلك المالية احتبست عند العبد بإعتاق الراهن إياه فكان له أن يستسعي العبد إذا تعذر عليه الوصول إلى حقه لعسرة الراهن فأما البائع فما كان له حق استيفاء الثمن من مالية المبيع ولكن كان له ملك العين واليد فأزال ملك العين بالبيع وبقي له اليد إلى أن يصل إليه الثمن وبإعتاق المشتري العبد فات محله ومجرد اليد ليس يقوم على العبد فلا يستسعيه لأجل ذلك.(13/357)
يوضحه أن حق البائع في الحبس ضعيف ولهذا يسقط بإعارة المبيع من المشتري بخلاف حق المرتهن ثم يعود تصرف المشتري بتسليط البائع إياه على ذلك فيمتنع هذا التسليط بثبوت حقه في استسعاء العبد بخلاف تصرف الراهن في المرهون فإن لم يعتقه المشتري ولكنه أفلس بالثمن فإن لم يكن البائع سلم المبيع إليه فله أن يحبسه إلى أن يستوفي الثمن وإن كان سلم المبيع إليه فله أن يسترده ولكنه أسوة غرماء المشتري فيه وليس له أن يفسخ البيع عندنا.
وقال الشافعي: إذا أفلس المشتري بالثمن فللبائع أن يفسخ البيع وهو أحق بالمبيع إن كان سلمه بفسخ العقد ويعيده إلى ملكه ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أفلس بالثمن فوجد رجل متاعه عنده بعينه فهو أحق به" والمعنى فيه أن البيع عقد معاوضة فمطلقه يقتضي التسوية بين المتعاقدين ثم لو تعذر على المشتري قبض المبيع بالإباق ثبت للمشتري حق الفسخ فكذلك إذا تعذر على البائع قبض الثمن لإفلاس المشتري وكما أن المالية في الآبق كالثاوي حكما فكذلك الدين في ذمة المفلس بمنزلة الثاوي حكما لاستبداد طريق الوصول إليه ولا فرق بين المبيع والثمن إلا من حيث إن الثمن دين والمبيع عين وكما أن تعذر القبض في العين يثبت حق الحبس فكذلك تعذر القبض في الدين ألا ترى أن المسلم فيه دين فإذا تعذر قبضه بانقطاعه من أيدي الناس يثبت لرب السلم حق الفسخ فكذلك الثمن ولا فرق بينهما سوى أن الثمن مفقود والمسلم به والمسلم فيه معقود عليه(13/358)
ص -166- ... ولكن حق الفسخ يثبت بتعذر قبض المعقود به كما ثبت بتعذر قبض المعقود عليه ألا ترى أن المكاتب إذا عجز عن أداء بدل الكتابة تمكن المولى من فسخ العقد وبدل الكتابة معقود به كالثمن والدليل عليه أن هلاك الثمن قبل القبض يوجب انفساخ العقد كهلاك المبيع فإن من اشترى بفلوس شيئا فكسدت قبل القبض بطل العقد لأن الثمن فلوس رائجة فإذا كسدت الفلوس فقد هلك الثمن وما ينقص العقد بهلاك إذا تعذر قبضه ثبت للعاقد حق الفسخ كالمبيع.(13/359)
وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] والمشتري حين أفلس بالثمن قد استحق النظرة شرعا ولو أجله البائع لم يكن له أن يفسخ العقد قبل مضي الأجل فإذا صار منظرا بإنظار الله تعالى أولى أن يتمكن البائع من فسخ العقد وأما الحديث الذي استدلوا به فقد ذكر الخصاص بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده متاعه فهو في ماله بين غرمائه" أو قال: "فهو أسوة غرمائه فيه" وتأويل الرواية الأخرى أن المشتري كان قد قبضه بغير إذن البائع أو مع شرط الخيار للبائع وبه نقول إن في هذا الموضع للبائع حق الاسترداد والمعنى فيه إن لم يتعين على البائع شرط عقده فلا يتمكن من فسخ العقد كما لو كان المشتري مليا وبيان ذلك أن موجب العقد ملك اليمين فإن اليمين يجب بالعقد ويملك به وإنما يملك بالعقد دينا في الذمة وبقاء الدين ببقاء محله والذمة بعد الإفلاس على ما كانت عليه قبل الإفلاس محل صالح لوجوب الدين عليه فأما حق الاستيفاء فثابت للبائع بسبب ملكه لا بحكم العقد ألا ترى أنه يجوز إسقاطه بالإبراء وبالاستبدال وقبض البدل إذا صار مستحقا بالبيع لا يجوز إسقاطه بالاستبدال وقبض البدل إذا صار مستحقا بالبيع لا يجوز إسقاطه بالاستبدال كما في البيع عينا كان أو دينا فعرفنا أن حق قبض الثمن له بحكم الملك لا أن يكون موجب العقد فبتعذره لا يتغير شرط العقد والدليل على هذا أن قدرة المشتري على تسليم الثمن عند العقد ليس بشرط لجواز العقد فلو كان تسليم الثمن يستحق بالعقد لكانت القدرة على تسليمه شرطا لجواز العقد كما في جانب المبيع فإنه إذا كان عينا لا يجوز العقد إلا أن يكون مقدور التسليم للبائع وإن كان دينا كالتسليم لا يجوز العقد إلا على وجه تثبت القدرة على التسليم به للعاقد وهو الأجل ولما جاز الشراء بالدرهم حالا وإن لم يكن في ملكه عرفنا أن وجوب تسليم الثمن ليس من حكم(13/360)
العقد وبهذا الحرف يستدل في المسألة ابتداء فإن العجز عن تسليم الثمن إذا طرأ بالإفلاس لا يكون أقوى من العجز عن تسليم الثمن إذا اقترن بالعقد والمفلس إذا اشترى شيئا والبائع يعلم أنه مفلس صح العقد ولزم فبالافلاس الطارئ لأن لا ترتفع صفة اللزوم أولى بخلاف جانب المبيع فهناك ابتداء العقد مع العجز عن التسليم لإباق العبد لا يجوز فإن رضي به المشتري فكذلك إذا طرأ العجز فإنه يثبت للمشتري حق الفسخ.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد قلتم إن أول التسليمين على المشتري فلو لم يكن تسليم الثمن مستحقا بالعقد لم يتأخر حقه في قبض المبيع إلا أن يؤدي الثمن؟ قلنا وجوب(13/361)
ص -167- ... أول التسليمين عليه لتحقيق معنى التسوية بينهما لأن ذلك موجب العقد على ما قررنا أن العقد عقد تمليك فيقتضي التسوية بين المتعاقدين في الملك وقد حصل الملك لكل واحد منهما بالعقد إلا أن الملك في العين أكمل منه في الدين فعلى المشتري تسليم الثمن أولا ليتقوى به ملك البائع فكان ذلك من حكم الملك لا أن يكون موجب العقد ولئن سلمنا أنه من حكم العقد لاقتضى التسوية ولكن هذا المعنى قد انعدم بتسليم البائع لما بيع طوعا فهو كما لو انعدم بالتأجيل في الثمن فلا يبقى له بعد ذلك حق فسخ البيع وإن تعذر عليه استيفاء الثمن لإفلاس المشتري وهذا بخلاف الفلوس إذا كسدت لأنه تغير هناك موجب العقد فيتغير فموجب العقد ملك فلوس هي ثمن وبعد الكساد لا يبقى له في ذمة المشتري فلوس بهذه الصفة فأما بعد إفلاس المشتري فيبقى الثمن في ذمته مملوكا للبائع كما استحقه بالعقد وهذا بخلاف الكتابة لأن هناك يعجز المكاتب بغير موجب العقد فموجب ملك المولى بدل الكتابة عند حلول الأجل ولا يملكه إلا بالقبض لأن المكاتب عبد له والمولى لا يستوجب دينا في ذمة عبده ولهذا لو كفل له إنسان ببدل الكتابة عن المكاتب لم تصح الكفالة وللمكاتب أن يعجز نفسه فإذا لم يكن له ذلك دينا حقيقة قلنا الملك للمولى إنما يثبت بالقبض وإذا عجز المكاتب عن الأداء فقد تغير ما هو موجب العقد عليه فلهذا يمكن من فسخ العقد وهنا بإفلاس المشتري لا يتغير ملك البائع في الثمن فإنه مملوك دينا في ذمة المشتري ولسنا نسلم أن الدين في ذمة المفلس ثاو فإن المديون إذا كان مقرى بالدين فهو قائم حقيقة وحكما مفلسا كان أو مليا ولهذا قال أبو حنيفة يجب على صاحب الدين الزكاة بمعنى إذا قبضه فإذا لم يتغير موجب العقد لا يتمكن من فسخ العقد والله أعلم.
تم الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر
وأوله كتاب الصرف(13/362)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الرابع عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(14/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصرف
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء الصرف اسم لنوع بيع وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض والأموال أنواع ثلاثة نوع منها في العقد ثمن على كل حال وهو الدراهم والدنانير صحبها حرف الباء أو لم يصحبها سواء كان ما يقابلها من جنسها أو من غير جنسها ونوع منها ما هو مبيع على كل حال وهو ما ليس من ذوات الأمثال من العروض كالثياب والدواب والمماليك ونوع هو ثمن من وجه مبيع من وجه كالمكيل والموزون فإنها إذا كانت معينة في العقد تكون مبيعه وإن لم تكن معينة فإن صحبها حرف الباء وقابلها مبيع فهو ثمن وإن لم يصحبها حرف الباء وقابلها ثمن فهي مبيعة وهذا لأن الثمن ما يثبت دينا في الذمة قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20](14/2)
قال الفراء في معناه: الثمن عند العرب ما يثبت دينا في الذمة والنقود لا تستحق بالعقد إلا دينا في الذمة ولهذا قلنا أنها لا تتعين بالتعين وكان ثمنها على كل حال والعروض لا تستحق بالعقد إلا عينا فكانت مبيعة والسلم في بعضها رخصة شرعية لا تخرج به من أن تكون مبيعة والمكيل والموزون يستحق عينا بالعقد تارة ودينا أخرى فيكون ثمنا في حال مبيعا في حال والثمن في العرف ما هو المعقود به وهو ما يصحبه حرف الباء فإذا صحبه حرف الباء وكان دينا في الذمة وقابله مبيع عرفنا أنه ثمن وإذا كان عينا قابله ثمن كان مبيعا لأنه يجوز أن يكون مبيعا يحال بخلاف ما هو ثمن بكل حال ومن حكم الثمن أن وجوده في ملك العاقد عند العقد ليس بشرط لصحة العقد وإنما يشترط ذلك في المبيع وكذلك فوات التسليم فيما هو ثمن لا يبطل العقد بخلاف المبيع والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز بخلاف المبيع والأصل فيه حديث ابن عمر رضي الله عنه حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أني أبيع الإبل بالبقيع فربما أبيعه بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم أو على عكس ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل" وإذا ثبت جواز الاستبدال بالثمن قبل القبض ثبت أن فوات التسليم فيه لا يبطل العقد لأن في الاستبدال تفويت التسليم فيما استحق بالعقد وبهذا ثبت أن ملكه عند العقد ليس بشرط لأن اشتراط الملك عند العقد إما لتمليك العين والثمن دين في الذمة أو للقدرة على التسليم ولا أثر للعجز عن تسليم الثمن في العقد والحكم الذي يختص به الصرف من بين سائر البيوع وجوب قبض البدلين في المجلس وإنه لا يكون فيه شرط خيار(14/3)
ص -4- ... أو أجل وذلك ثابت بالحديث الذي رويناه فإنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل" أي مطالبة بالتسليم لوجود القبض قبل الافتراق ولأن هذا العقد اختص باسم فيختص بحكم يقتضيه ذلك الاسم وليس ذلك صرف ما في ملك كل واحد منهما إلى ملك صاحبه لأن البدل من الجانبين يجب ابتداء بهذا العقد لا أن يكون مملوكا لكل واحد منهما قبله ولأن ذلك ثابت في سائر البيوع عرفنا أنه يسمى صرفا لما فيه من صرف ما في يد كل واحد منهما إلى يد صاحبه ولم يسم به لوجوب التسليم مطلقا لأن ذلك يثبت في سائر البيوع عرفنا أنه إنما سمى به لاستحقاق قبض البدلين في المجلس ولأن هذا العقد مبادلة الثمن بالثمن والثمن يثبت بالعقد دينا في الذمة والدين بالدين حرام في الشرع لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ فما يحصل به التعيين وهو القبض لا بد منه في هذا العقد وكان ينبغي أن يشترط مقرونا بالعقد لأن حالة المجلس تقام مقام حالة العقد شرعا للتيسير وإذا وجد التعيين بالقبض في المجلس يجعل ذلك كالموجود عند العقد وليس أحد البدلين في ذلك بأولى من الآخر فشرطنا القبض فيهما لهذا المعنى.(14/4)
ولسنا نعني بالمجلس موضع جلوسهما بل المعتبر وجود القبض قبل أن يتفرقا حتى لو قاما أو مشيا فرسخا ثم تقابضا قبل أن يتفرقا أي يفارق أحدهما صاحبه حال العقد وكذلك لو ناما في المجلس أو أغمى عليهما ثم تقابضا قبل الافتراق روى ذلك بشر عن أبي يوسف ولهذا لا يجوز شرط الخيار في هذا العقد لأن الخيار بعدم الملك فيكون أكثر تأثيرا من عدم القبض قبل الافتراق وبشرط الخيار يمتنع استحقاق ما به يحصل التعيين وهو القبض ما بقى الخيار وكذلك شرط الأجل ينعدم استحقاق القبض الذي يثبت به التعيين فلهذا كان مبطلا لهذا العقد وقد دل ما قلنا على الأخبار التي بدئ الكتاب بها فمنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الفضة بالفضة وزن بوزن يد بيد والفضل ربا" إلى آخره وقد بدأ بهذا الحديث كتاب البيوع.
وبينا تمام شرحه في كتاب البيوع ومن ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأناء خسرواني قد احكمت صنعته فبعثني به لا بيعه فاعطيت به وزنه وزيادة فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فقال أما الزيادة فلا وهذا الإناء كان من ذهب أو فضة وفيه دليل على أنه لا قيمة للصنعة في الذهب والفضة عند المقابلة بجنسها لأنه لم يجوز الاعتياض عنها وما كان مالا متقوما شرعا فالاعتياض عنه جائز فعرفنا أنه إنما لم يجوز لأنه لا قيمة للصنعة في هذه الحالة شرعا كما لا قيمة للصنعة في المعازف والملاهى شرعا وفيه دليل أن الذهب والفضة بالصنعة لا تخرج من أن تكون وزنية وإن اعتاد الناس بيعها بغير وزن بخلاف سائر الموزونات لأن صنعة الوزن فيها ثابتة بالنص فلا تتغير بالعرف بخلاف سائر الأشياء وإلى ذلك أشار ابن سيرين حين سئل عن بيع إناء من حديد بأناءين فقال قد كانوا يبيعون الدرع بالأدرع يعني أن مالا يعتاد الناس وزنه من هذا الجنس لا يكون موزونا ثم ذلك الإناء كان(14/5)
ص -5- ... لبيت المال وإنما قصد عمر رضي الله عنه ببيعه أن يصرف الثمن إلى حاجة المسلمين ثم وكل به أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه دليل على جواز التوكيل بالصرف.
وعن أبي جبلة قال سألت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقلت أنا نقدم أرض الشام ومعنى الورق الثقال النافقة وعندهم الورق الخفاف الكاسدة أفنبتاع ورقهم العشرة بتسعة ونصف فقال: لا تفعل ولكن بع ورقك بذهب واشتر ورقهم بالذهب ولا تفارقه حتى تستوفي وإن وثب من سطح فثب معه وفيه دليل رجوع ابن عمر رضي الله عنهما عن قوله في جواز التفاضل كما هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما وأنه لا قيمة للجودة في النقود وإن المفتي إذا تبين جواب ما سئل عنه فلا بأس أن يبين للسائل الطريق الذي يحصل به مقصوده مع التحرز عن الحرام ولا يكون هذا مما هو مذموم من تعليم الحيل بل هو اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعامل خيبر: "هلا بعت تمرك بسلعة ثم اشتريت بسلعتك هذا التمر" وفيه دليل أن القليل من الفضل والكثير في كونه ربا سواء لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "والفضل ربا" وأن التقابض قبل الافتراق في الصرف مستحق وأن القيام عن المجلس من غير افتراق لا يمنع بقاء العقد فإنه قال وإن وثب من سطح فثب معه للتحرز عن مفارقة أحدهما صاحبه قبل القبض وعليه دل حديث كليب بن وائل قال سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن الصرف فقال من هذه إلى هذه يعني من يدك إلى يده وإن استنظرك إلى خلف هذه السارية فلا تفعل وإنما كني بهذا اللفظ عن مفارقة أحدهما صاحبه قبل القبض لأن بالمفارقة يغيب عن بصره وبالاستتار بالسارية يغيب عن بصره أيضا فذكر ذلك على وجه الكتابة عن المفارقة لا أن يكون حقيقة السارية بينهما موجبا للافتراق فإن ابتداء العقد بينهما صحيح في هذه الحالة وكون السارية بينهما لا يعد افتراقا عرفا.(14/6)
وعن محمد بن سيرين أنه كان يكره أن يباع السيف المحلى بالفضة بالنقرة مخافة أن تكون الفضة التي أعطى أقل مما فيه ويكره أن يبيعه بالنسيئة ولا يرى بأسا بأن يبيعه بالذهب وبه نأخذ فنقول بيعه بالذهب جائز بالنقد لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفت النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" ولا يجوز بيعه بالنسيئة سواء باعه بالذهب أو بالفضة لأن العقد في حصة الحلية صرف فاشتراط الأجل فيه مفسد ولا ينزع الحلية من السيف إلا بضرر ففساد العقد فيها يفسد في الكل دفعا للضرر أما بيعها بالفضة فعلى أربعة أوجه أن كان يعلم أن فضة الحلية أكثر فهو فاسد وكذلك أن كانت الحلية مثل النقد في الوزن لأن الجفن والحمائل فضل خال عن العوض فإن مقابلة الفضة بالفضة في البيع تكون بالإجزاء وأن كان يعلم أن الفضة في الحلية أقل جاز العقد على أن يجعل المثل بالمثل والباقي بازاء الجفن والحمائل عندنا خلافا للشافعي وإن كان لا يدري أيهما أقل فالبيع فاسد عندنا لعدم العلم بالمساواة عند العقد وتوهم الفضل وعند زفر هذا يجوز فإن الأصل الجواز والمفسد هو الفضل الخالي عن العوض فما لم يعلم به يكون العقد مملوكا بجوازه وقد بينا هذا في البيوع.(14/7)
ص -6- ... وعن أبي بصرة قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن الصرف قال: لا بأس به يدا بيد وسألت ابن عباس رضي الله عنهما فقال مثل ذلك فقعدت في حلقة فيها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فأمرني رجل فقال سله عن الصرف فقلت أن هذا يأمرني أن أسألك عن الصرف فقال لي الفضل ربا فقال سله أمن قبل رأيه يقول أو شيء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال أبو سعيد رضي الله عنه بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل يكون في نخله برطب طيب فقال صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا" فقال: أعطيت صاعين من تمر ردئ وأخذت هذا فقال صلى الله عليه وسلم" "أربيت" فقال: أن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا فقال صلى الله عليه وسلم: "أربيت" ثم قال صلوات الله عليه: "هل بعته بسلعة ثم ابتعت بسلعتك تمرا" فقال أبو سعيد رضي الله عنه: الفضل في التمر ربا والدراهم مثله فقال أبو بصرة فلقيت بعد ذلك ابن عمر رضي الله عنهما فقال: لا خير فيه وأمرت أبا الصهباء فسأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الصرف فقال: لا خير فيه وفي هذا دليل رجوع ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما عن فتواهما بجواز التفاضل وقد روى أن عليا رضي الله عنه لما سمع هذه الفتوى عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أنك رجل تائه.(14/8)
وعن الشعبي قال حدثني بضعة عشر نفرا من أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما الخبر فالخبر أنه رجع عن فتواه فقال الفضل حرام وقال جابر بن زيد رضي الله عنه ما خرج ابن عباس رضي الله عنه من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فعلم أن حرمة التفاضل مجمع عليه في الصدر الأول وإن قضاء القاضي بخلافه باطل وفيه دليل أنهم كانوا يسمعون حكما في حادثة فيلحقون بها ما في معناها فإن أبا سعيد رضي الله عنه ذكر أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم روى الحديث في التمر وبين أن الدراهم مثله وفيه دليل على أن النص في شيء يكون نصا فيما هو في معناه من كل وجه لأنه لو كان هذا قياسا فالقياس استنباط بالرأي وما كان يقول بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل أنه لا بأس للمستفتي أن يطالب المفتي بالدليل إذا كان أهلا لذلك فإن أبا سعيد رضي الله عنه لم ينكر عليه ذلك وأنه لا بأس للإنسان أن يأمر غيره بالاستفتاء وإن كان هو المحتاج إليه كما فعله هذا الرجل وإن كان احتشم أبا سعيد رضي الله عنه فلم يسأله بنفسه كما روى أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجلسون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهم الطير وكان يعجبهم أن يدخل إعرابي ليسأله ليستفيدوا بسؤاله أو علم هذا الرجل بقول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ولم يعجبه أن يظهر الانكار عليهما فأمر غيره حتى سأل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فيطالبه بالدليل ليتبين ما هو الصواب فيحصل المقصود من غير أن يستوحش أحد وهذا أقرب إلى حسن العشرة.
وعن شريح أن رجلا باع طوق ذهب مفضض بمائة دينار فاختصما إلى شريح رضي الله عنه فأفسد البيع وهذا عندنا لأنه لم يكن يدري مقدار الذهب الذي في الطوق أو(14/9)
ص -7- ... علم أنه مائة مثقال أو أكثر أما إذا علم أنه دون مائة مثقال فالبيع جائز على أن تكون الزيادة بمقابلة الفضة إلا أن تكون الفضة تمويها فيه بحيث لا يستخلص فحينئذ لا يعتبر ذلك ولا يحصل بمقابلتها شيء فيكون بمقابلة الصنعة ولا قيمة للصنعة عند إتحاد الجنس.
وعن عبد الله بن أبي سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يوم خيبر سعد بن سعد بن مالك وسعدا آخر رضي الله عنهما ليبيعا غنائم بذهب فباعاها كل أربعة مثاقيل ذهب تبرا بثلاث مثاقيل عينا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربيتما فردا" وفيه دليل أن للإمام ولاية بيع الغنائم وقسمة الثمن بين الغانمين إذا رأى النظر فيه وإن له أن يوكل غيره في ذلك وإن التفاضل حرام في بيع الغنائم ومال بيت المال كغيرها وإن العقد الفاسد يستحق فسخه ورده لأن مباشرته معصية والإصرار على المعصية معصية فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أربيتما فردا" ولم يعاتبهما على ما صنعا لأن نزول تحريم الربا كان يومئذ لم يكن اشتهر بعد فعذرهما بالجهل به.
وعن سليمان بن بشير قال: أتاني الأسود بن يزيد فصرفت له الدراهم وافية بدنانير ثم دخل المسجد فصلى ركعتين فيما أظن ثم جاءني فقال: اشتر بها غلة فجعلت أطلب الرجل الذي صرفت عنده فقال لا عليك أن لا تجده وأن وجدته فلا أبالي وفيه دليل جواز التوكيل بالصرف وإن التفاضل حرام عند اتفاق الجنس لأنه كان مقصود الأسود أن يشتري بالدراهم الجياد الغلة وعلم أن الفضل حرام فأمره أن يشتري بها دنانير ثم أمره بأن يشتري بالدنانير الغلة وكان هذا الوكيل اشتغل بطلب ذلك الرجل لأنه ظهر عنده أمانته ومسامحته في المعاملة وبين له الأسود أنه كغيره فيما هو مقصودي فلا يتكلف في طلبه.(14/10)
وعن أبان ابن عباس عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعت جام فضة بورق بأقل من ثمنه فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: ما حملك على ذلك قلت الحاجة قال: رد الورق إلى أهلها وخذ أناءك وعارض به ففيه دليل حرمة الفضل وجوب الرد عن فساد العقد وإن بسبب الحاجة لا يحل الربا لأن الحاجة ترتفع من غير ارتكاب الحرام كما هداه عمر رضي الله عنه بقوله وخذ أناءك وعارض به ولكنه عذره للحاجة ولم يؤد به وكان قصده بالسؤال في الإبتداء أن يعلم سبب إقدامه على هذا العقد حتى إذا باشره مع العلم به من غير حاجة أدبه عليه وقد كان مؤدبا يؤدب على ما هو دون ذلك.
وعن أبي رافع قال سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الصوغ أصوغه فأبيعه قال: وزنا بوزن فقلت أني أبيعه وزنا بوزن ولكن آخذ فيه أجر عمل فقال: أنما عملك لنفسك ولا تردد شيئا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نبيع الفضة إلا وزنا بوزن ثم قال: يا أبا رافع أن الآخذ والمعطي والشاهد والكاتب شركاء وفيه دليل حرمة الفضل وأنه لا قيمة للصنعة فيما هو مال الربا فإن عمر رضي الله عنه بين له أنه في الابتداء عمل لنفسه فلا يستوجب الأجر به على غيره ثم ما يأخذه من الزيادة عوضا عن الصنعة ولا قيمة للصنعة في البيع ثم بين شدة الحرمة في الربا بقوله: "الآخذ والمعطي والكاتب والشاهد فيه سواء" أي في المأثم.(14/11)
ص -8- ... وهو نظير ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله في الخمر عشرة" وقال صلى الله عليه وسلم: "الراشي والمرتشي والرايش في النار ولعن الله من أعان الظلمة أو كتب لهم" والأصل في الكل قوله ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وعن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب الكفة بالكفة والفضة بالفضة الكفة بالكفة ولا خير فيما بينهما" فقلت أني سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول ليس في يد بيد ربا فمشي أليه أبو سعيد رضي الله عنه وأنا معه فقال له أسمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع فقال لا فحدثه أبو سعيد رضي الله عنه الحديث فقال ابن عباس رضي الله عنهما لا أفتي به أبدا وفيه دليل على أن بيع الذهب والفضة بجنسهما إذا اعتدل البدلان في كفة الميزان جاز البيع وإن لم يعلم مقدار كل واحد منهما لتيقننا بالمماثلة وزنا والمماثلة إذا وزن أحدهما بصاحبه أظهر منه إذا وزن كل واحد منهما بالصنجات وفيه دليل رجوع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن فتواه في إباحة التفاضل وإن الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد انقاد لهم ابن عباس رضي الله عنهما وهذا لأن أبا سعيد رضي الله عنه كان من كبار الصحابة رضوان الله عليهم معروفا بينهم بالعدالة والورع وإنما مشي إلى ابن عباس رضي الله عنهما بطريق الخشية لاظهار الشفقة وإن كان لو دعاه إلى نفسه لأتاه وهذا هو الاحسن للكبير في معاملة من هو أصغر منه.(14/12)
وعن عمر رضي الله عنه قال: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الربا" وقد نقل هذا اللفظ بعينه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأني أخاف عليكم الإرباء" وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يبيع بقايا بيت المال يدا بيد بفضل فخرج خرجة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال هو ربا وكان ابن مسعود رضي الله عنه استخلف على بيت المال عبد الله بن سخبرة الأسدي فلما قدم ابن مسعود رضي الله عنه نهاه عن بيع الدراهم بالدراهم بينهما فضل وكان ابن مسعود رضي الله عنه عامل عمر رضي الله عنه بالكوفة على بيت المال فكان من مذهبه في الإبتداء أن اختلاف الصنعة كاختلاف النوع وكان يجعل البقاية مع الجيد نوعين فيجوز التفاضل بينهما عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" ثم سأل عمر رضي الله عنه بين له أن الكل نوع واحد فإن الكل فضة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الفضة بالفضة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا" فرجع ابن مسعود إلى قوله لأنه بين له الحق في مقالته ومن هذا يقال عالم الكوفة كان يحتاج إلى عالم المدينة يراد به ابن مسعود رضي الله عنهما وقد نقل نحو هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن أبا صالح السمان يقول سألت عليا رضي الله عنه عن الدراهم تكون معي لا تنفق في حاجتي فأشترى بها دراهم تنفق في حاجتي واهضم منها قال لا ولكن بع دراهمك بدنانير ثم اشتر بالدنانير دراهم تنفق في حاجتك وفيه دليل على أن الجياد والزيوف نوع واحد فحرم التفاضل بينهما وهذا لأنه لا قيمة للجودة هنا مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جيدها ورديئها سواء" فلا يجوز الاعتياض عنها.(14/13)
ص -9- ... وعن القاسم بن صفوان قال أكريت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أبلا بدنانير فأتيته أتقاضاه وبين يديه دراهم فقال لمولى له انطلق معه إلى السوق فإذا قامت على سعر فإن أحب أن يأخذ وإلا فاشتر له دنانير فأعطها إياه فقلت يا أبا عبد الرحمن أيصلح هذا قال نعم لا بأس بهذا أنك ولدت وأنت صغير وفيه دليل جواز استبدال الآخر قبل القبض والآخر كالثمن وقد بينا أن ابن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استبدال الثمن قبل القبض فجوز له ذلك فلهذا جواز ابن عمر الاستبدال بالأجر ولكن بشرط أن يرضي به صاحب الحق ولكن لما أشكل علي صاحب الحق سأله بقوله أيصلح هذا فقال نعم أنك ولدت وأنت صغير أي جاهل لا تعلم حتى تعلم وهكذا حال كل واحد منا فإنه لا يعلم حتى يعلم فكانه ما زحه بهذه الكلمة وكنى بالصغر عن الجهل ثم ذكر حديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه في الربا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأشياء الستة وقال في آخره: "إذا اشتريتم بعضه ببعض فاشتروه كيف شئتم يدا بيد" يعني بذلك إذا اختلف النوعان وقال معاوية رضي الله عنه: ما بال أقوام يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لم نسمعها فقال عبادة رضي الله عنه أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد الحديث ثم قال لأحدثن به وإن رغم أنف معاوية وكان معاوية رضي الله عنه ممن يجوز التفاضل في الإبتداء ثم رجع إلى الحديث فلهذا قال ما قال وقيل أنه أراد أن يستثبته في روايته ومعاوية رضي الله عنه من رواة حديث الربا فيحتمل أن يكون مراده بقوله أحاديث لم نسمعها ما ذكره في آخر الحديث وإن اشتريتم بعضه ببعض فأكد عبادة رضي الله عنه روايته بيمينه فإن قوله أشهد بمعنى أحلف ثم قال لأحدثن به لأني أتيقن بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ فلا أدعه بقول معاوية رضي الله عنه بل أحدث به وإن رغم(14/14)
أنف معاوية.
وعن أبي الأشعث الصنعاني قال خطبنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه بالشام فقال: أيها الناس إنكم أحدثتم بيوعا لا يدري ما هي ألا وإن الذهب بالذهب وزنا بوزن تبره وعينه ألا وإن الفضة بالفضة تبرها وعينها سواء ولا بأس ببيع الذهب بالفضة يدا بيد والفضة أكثر ولا يصلح نسيئة ألا وأن الحنطة بالحنطة مدين بمدين ألا وأن الشعير بالشعير مدين بمدين ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يدا بيد والشعير أكثرهما ولا يصلح نسيئة ثم ذكر في التمر والملح مثل ذلك ثم قال من زاد أو استزاد فقد أربي وفيه دليل أن الفاسد بيع فإنه قال إنكم أحدثتم بيوعا ومراده ما كانوا يباشرونه من عقود الربا وفيه دليل على أن ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نصف صاع لأن قوله مدين بمدين عبارة عن ذلك وفيه دليل أنه كما يحرم أخذ الربا يحرم إعطاؤه فالمستزيد آخذ والزائد معطي وقد سوى بينهما في الوعيد.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: الذهب بالذهب مثل بمثل والورق بالورق مثل بمثل لا تفضلوا بعضها على بعض لا يباع منها غائب بناجز فإني أخاف عليكم الرما والرما هو(14/15)
ص -10- ... الربا وإن استنظرك إلى أن تدخل بيته فلا تنتظره ومعنى قوله لا يباع غائب بناجز أي نسيئة بنقد وفيه دليل الربا كما يثبت بالتفاوت في البدلين في القدر يثبت بتفاوتهما بالنقد والنسيئة وإن القبض قبل الافتراق لا بد منه في عقد الصرف وكنى عنه بقوله فإن استنظرك إلى أن يدخل بيته.
وعن الشعبي رضي الله عنه قال: لا بأس ببيع السيف المحلي بالدراهم لأن فيه حمائله وجفنه ونصله ومراده إذا كان وزن الحلية أقل من وزن الدراهم ليكون الفضل بإزاء الجفن والحمائل وعن الحسن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم كانوا يتبايعون فيما بينهم السيف المحلى والمنطقة المفضضة وبه نأخذ فنقول يجوز بيع ذلك بالعروض وبالنقد بخلاف الجنس بشرط قبض حصة الحلية في المجلس وبالنقد من جنس الحلية بشرط أن يكون وزنه أكثر من وزن الحلية.
وعن إبراهيم قال الإقالة بيع وهكذا عن شريح معناه كالبيع في الحكم وبه نأخذ فنقول الإقالة في الصرف كالبيع يعني يشترط التقابض من الجانبين قبل الإفتراق كما في عقد الصرف وهو معنى قول علمائنا رحمهم الله أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما ووجوب التقابض في المجلس من حق الشرع فالإقالة فيه كالبيع.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سمعت عمر رضي الله عنه على المنبر يقول: أيها الناس لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإن ذلك ربا العجلان ولكن من كان عنده سحق درهم فليخرج به إلى السوق وليقل من يبتاع سحق هذا الدرهم فليبتع به ما شاء والمراد بقوله فإن ذلك ربا العجلان أي ربا النقد وهو إشارة إلى أن الربا نوعان في النقد والنسيئة والمراد بقوله سحق درهم البقاية التي لا تنفق في حاجة يقال ثوب سحق أي خلق وفيه دليل أنه لا بأس بالشراء بالزيوف ولكن بعد بيان عينها لينتفي الغرر والتدليس كما ذكره عمر رضي الله عنه.(14/16)
وعن إبراهيم أنه لم يكن يرى بأسا باقتضاء الورق من الذهب والذهب من الورق بيعا كان أو قرضا أو كان بسعر يومه وبه نأخذ فيجوز الاستبدال بثمن المبيع وفي بدل القرض قبل القبض وذكر الطحاوي أن الاستبدال قبل القبض لا يجوز وكأنه ذهب بذلك إلى أنه لما كان لا يثبت فيه الأجل فهو بمنزلة ما لا يجوز الاستبدال به قبل القبض وبمنزلة دين لا يقبل الأجل كبدل الصرف وهو وهم منه فإن القرض إنما لا يقبل الأجل لأنه بمنزلة العارية وما يسترد في حكم عين المقبوض على ما نبينه في بابه والاستبدال بالمستعار قبل الاسترداد جائز وعن إبراهيم أنه كان يكره أن يشتري الرجل الثوب بدينار إلا درهم وبه نأخذ فإن الدرهم إنما يستثنى من الدينار بالقيمة وطريق معرفة القيمة الحزر والظن فكان المستثنى مجهولا وبجهالته يصير المستثنى منه مجهولا أيضا والبيع بثمن مجهول لا يجوز وإذا اشترى الرجل الدراهم بدراهم أجود منها ولا يصلح له إلا وزنا بوزن جيدها ورديئها ومصوغها وتبرها وأبيضها(14/17)
ص -11- ... وأسودها في ذلك سواء للأحاديث التي رويناها فقد ذكر فيها صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم مقابلة الفضة بالفضة واسم الفضة يتناول كل ذلك وكذلك الذهب بالذهب جيده ورديئه وتبره ومصوغه نافقه وغير نافقه في ذلك سواء لأنه لا قيمة للجودة والصنعة فيها عند مقابلتها بجنسها فوجود ذلك كعدمه ولا يجوز فيه شيء من الأجل لما بينا أن التقابض واجب في مجلس العقد وترك أحد البدلين في المجلس مبطل للعقد فالتأجيل مناف لما هو مقتضى هذا العقد واشتراط ما ينافي مقتضي العقد مبطل له وإذا اشتري فضة بيضاء جيدة بفضة سوداء بأكثر منها ومع البيضاء ذهب أو فلوس أو عروض فهو جائز عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز لأن الانقسام على مذهبه باعتبار القيمة فيصيب البيضاء أكثر من وزنها من الفضة السوداء وعندنا يجعل من السوداء بازاء البيضاء مثل وزنها والباقي بإزاء ما زاد ترجيحا لجهة الجواز على جهة الفساد وقد قررنا هذا الفصل في البيوع وعلى هذا لو اشتري منطقة أو سيفا محلى بدراهم أكثر منها وزنا يجوز عندنا ولا يجوز عند الشافعي واستدل فيه بحديث فضالة بن عبيد قال: أصبت قلادة يوم خيبر فيها خرز وذهب فبعتها باثنى عشر دينارا ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا حتى يفصل" وتأويل ذلك عندنا إذا كان يعلم أيهما أكثر وزنا أو يعلم أن وزن الذهب الذي في القلادة أكثر أو مثل المنفصل وفي هذه الوجوه عندنا لا يجوز العقد.(14/18)
وإذا اشترى لجاما مموها بفضة بدراهم بأقل مما فيه أو أكثر فهو جائز لأن التمويه لون الفضة وليس بعين الفضة ألا ترى أنه لا يتخلص منه شيء فلا يجري الربا باعتباره وعلى هذا لو اشترى دارا مموهة بالذهب بثمن مؤجل فإنه يجوز وأن كان بسقوفها من التمويه بالذهب أكثر من الفضة أو الذهب لأنه لا يتخلص منه شيء فلا يعتبر ذلك في حكم الربا ولا في وجوب التقابض في المجلس وإذا اشترى الرجل عشرة دراهم بدينار من رجل فانتقد أحدهما وأخذ الآخر رهنا بحقه فيه فهلك الرهن قبل الافتراق فهو جائز والرهن بما فيه لأن عقد الرهن يثبت يد الاستيفاء ويتم ذلك بهلاك الرهن من المالية دون العين حتى كانت العين هالكة على ملك الراهن فيجعل استيفاؤه قبل الافتراق بهلاك الرهن بمنزلة الاستيفاء حقيقة وقد بينا في السلم الاختلاف في الرهن والكفالة برأس المال فهو كذلك يبدل في الصرف.
وإذا كان حلى ذهب فيه لؤلؤ وجوهر لا يستطيع أن يخلصه منه إلا بضرر فاشتراه رجل بدينار لم يجز حتى يعلم أن الدينار فيه أكثر مما فيه من الذهب وعلى قول زفر إذا لم يعلم أيهما أكثر فالعقد جائز أيضا وقد بينا نظيره في السيف المحلى فإن باعه بدينار نسيئة لم يجزفان في حصة الحلية العقد صرف فيفسد شرط الأجل واللؤلؤ والجوهر لا يمكن تخليصه وتسليمه إلا بضرر فإذا فسد العقد في بعضه فسد في كله ولا يجوز شراء الفضة بالفضة مجازفة لا يعرف وزنها أو وزن أحدهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفضة بالفضة مثل بمثل" والمراد المماثلة في الوزن فأما أن يكون المراد أن يكون مثلا بمثلا عند الله أو عند المتعاقدين ونحن نعلم أن الأول ليس بمراد فالأحكام لا تبني على ما لا طريق لنا إلى معرفته عرفنا أن المراد العلم.(14/19)
ص -12- ... بالمماثلة عند المتعاقدين فصار هذا شرط جواز العقد وما هو شرط جواز العقد إذا لم يقترن بالعقد يفسد العقد فإن وزنا بعد العقد وكانا متساويين فإن كانا بعد في مجلس العقد فجواز العقد استحسانا لأن مجلس العقد جعل كحالة العقد ألا ترى أن انعدام الدينية في البدلين شرط جواز العقد ثم إذا انعدم ذلك بالتقابض في المجلس جعل كالمقترن بالعقد فكذلك العلم بالمماثلة وإن وزنا بعد الافتراق عن المجلس جعل كالمقترن بالعقد فكذلك العلم بالمماثلة فالعقد فاسد عندنا.
وقال زفر: أن كانا متساويين فالعقد جائز لأنه قد تبين أن شرط الجواز وهي المماثلة كان موجودا عند العقد فإنه لا تأثير للوزن في إحداث المماثلة وإنما يظهر به مماثلة كانت موجودة وعلم المتعاقدين بوجود شرط جواز العقد ليس بشرط لصحة العقد كما لو تزوج امرأة بمحضر من الشاهدين ولا يعلم بهما المتعاقدان ولكنا نقول قد بينا أن العلم بالمماثلة شرط الجواز هنا وذلك لا يحصل إلا بالوزن فيصير الوزن الذي هو فعل المتعاقدين من شرط جواز العقد كالإيجاب والقبول شرط انعقاد العقد فكما يفصل هناك بين المجلس وما بعده فكذلك يفصل هنا ثم الفصل موهوم والموهوم فيما يبني على الاحتياط كالمتحقق وتأثير الفضل في إفساد العقد كتأثير عدم القبض وأقوى فكما أن ترك القبض حتى افترقا مفسد لهذا العقد فكذلك توهم الفضل بترك الوزن حتى افترقا يكون مفسدا.(14/20)
وإن اشترى سيفا محلى بفضة بدراهم بأكثر مما فيه ثم تفرقا قبل التقابض فسد البيع كله لأنه شيء واحد لا يتبعض معناه أن العقد فسد في حصة الحلية بترك التقابض ولا يمكن إبقاؤه صحيحا في حصة الجفن والحمائل كما لا يجوز ابتداء البيع في الجفن والحمايل والنصل دون الفضة فإن قبض السيف ونقد من الثمن حصة الحلية في المجلس جاز لأن قبض حصة الحلية في المجلس مستحق وقبض حصة الجفن والحمايل غير مستحق فيصرف المقبوض إلى ما كان القبض فيه مستحقا لأن ما ليس بمستحق لا يعارض المستحق وإذا انصرف إليه فإنما وجد الافتراق بعد التقابض فيما هو صرف وكذلك أن أجر البقية إلى أجل معلوم فهو جائز لأنه ثمن مبيع لا يشترط فيه القبض في المجلس فيصح التأجيل فيه وإذا اشترى عشرة دراهم بدينار فتقابضا ثم وجد فيها درهما ستوقا أو رصاصا فإن كانا لم يتفرقا استبدله لأن المقبوض ليس من جنس حقه فكانه لم يقبضه أصلا وتأخير القبض إلى آخر المجلس لا يصير وإن كانا قد افترقا فليس له أن يتجوز به لأن الستوق والرصاص ليسا من جنس الدراهم فيكون مستبدلا به لا مستوفيا ولكن يرده وكان شريكا في الدينار بحصته لانه تبين أنه كان قبض في المجلس تسعة دراهم ولم يقبض درهما حتى افترقا طعن عيسى في هذا اللفظ فقال قوله كان شريكا في الدينار بحصته غلط والصحيح أنه شريك في مثل ذلك الدينار بالعشر لأن النقود عندنا لا تتعين في العقود والفسوخ ألا ترى أنهما بعد التقابض لو تفاسخا العقد لم يجب على واحد منهما رد المقبوض من النقد بعينه ولكن أن شاء رده وإن.(14/21)
ص -13- ... شاء رد مثله فكذلك هنا لا يصير شريكا في عين ذلك الدينار وإنما له عشر الدينار دينا في ذمته إلا أن يتراضيا على أن يرد عليه عشر ذلك الدينار ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن بالافتراق قبل القبض يفسد العقد من الأصل لوجود شرط الفساد وهو الدينية لأن الدين بالدين حرام ولكن إذا وجد القبض في المجلس جعل كالموجود عند العقد فإذا لم يوجد كان العقد فاسدا من أصله فتبين أن حصته من الدينار مقبوضة بحكم عقد فاسد فيجب رده بعينه لأن وجوب الرد من حكم القبض هنا لا من حكم العقد والنقود تتعين بالقبض كما في القبض بحكم الهبة.
وإذا اشترى الرجل من الرجل ألف درهم بمائة دينار وليس عند كل واحد منهما درهم ولا دينار ثم استقرض كل واحد منهما مثل ما سمى ودفعه إلى صاحبه قبل أن يتفرقا جاز لأن كل واحد منهما يلتزم المسمى في ذمته بالعقد وذمته صالحة للإلتزام فصح العقد ثم الشرط التقابض قبل الإفتراق وقد وجد.(14/22)
قال: ولا يشبه هذا العروض والحيوان وحقيقة المعنى في الفرق أن السلع مستحقة بالعقد مبيعا وحكم البيع في المبيع وجوب الملك والتسليم فما لم يكن موجودا في ملكه لا يمكن إثبات حكم البيع فيه واضافة السبب إلى محل لا يفيد حكمه لا يجوز وأما النقود فمستحقة بالعقد وحكم العقد في الثمن وجوبه ووجوده به معا وذلك متحقق بالذمة الصالحة للإلتزام وإن لم يكن موجودا في ملكه عينا فلهذا كان العقد صحيحا قال وليس هذا مثل بيع الرجل ما ليس عنده لأن الدراهم والدنانير ثمن وهو أشارة إلى ما بينا وفيه بيان أيضا أن المنهى عنه بيع ما ليس عند الإنسان فالبيع محله المبيع وذلك في السلع دون الإثمان فلذلك جوزنا الشراء بثمن ليس عنده وكل واحد من المتعاقدين بهذه الصفة وكذلك شراء تبر الذهب بتبر الفضة أو تبر الفضة بتبر الذهب وليس ذلك عند واحد منهما ثم استقرضه كل واحد منهما ودفعه إلى صاحبه فهو جائز لأن الذهب والفضة ثمن بأصل الخلقة فالتبر والمضروب في كونه ثمنا سواء وهذا إذا كان التبر يروج بين الناس رواج النقود وقد بينا الكلام في الشركة بالتبر في كتاب الشركة ولو اشترى إناء مصوغا أو قلب فضة بذهب أو بفضة تبر ثم استحق الإناء أو القلب بطل البيع وأن كانا في المجلس بخلاف الدراهم والدنانير فإنها إذا استحقت قبل الفرقة فعليه أن يعطي مشتريها مثلها ولا يبطل الصرف لأن القلب يتعين بالتعيين والدراهم والدنانير لا تتعين فباستحقاق المقبوض من الدراهم والدنانير ينعدم القبض وترك القبض إلى آخر المجلس لا يضر أما استحقاق القبض فينعدم بتسليم المعقود عليه وذلك مبطل للعقد ألا ترى أن حكم العقد في القلب وجوب الملك ولهذا يشترط وجوده في ملك العاقد عند العقد وقدرته على التسليم فعرفنا أنه مبيع فباستحقاقه يبطل البيع بخلاف النقود على ما نبينه وهذا إذا لم يجز المستحق العقد أما إذا أجازه جاز العقد لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء.(14/23)
ص -14- ... وعن أبي يوسف قال أن قال المستحق أثبت ملكي لا جيز العقد فله أن يجيزه وإن لم يقل ذلك فاستحقاقه إبطال منه للبيع لأنه يطلب من القاضي أن يقضي له بملك متقرر وذلك مناف لسبب الإزالة فليس له أن يجيز العقد بعد ذلك والنقود لا تتعين في عقود المعارضات بالتعيين عندنا ويتعين عند زفر والشافعي حتى لو اشترى شيئا بدراهم معينة فحبسها وأعطى البائع مثلها فليس له أن يأتي ذلك عندنا ولو هلكت تلك الدراهم أو استحقت لا يبطل البيع عندنا ويبطل عند زفر والشافعي رحمهما الله لأن هذا تصرف صدر من أهله في محله فيصح به التعين كما في السلع وهذا بدل في عقد معاوضة فيتعين بالتعين كالمبيع وبيان الوصف أن النقود تملك أعيانها وموجب عقد المعاوضة الملك فيما يملك عينه من المال فيكون محلا لموجب العقد وكان هذا التعيين مصادفا محله والدليل عليه أن النقود تتعين بالقبض حتى أن الغاصب لو أراد حبس الدراهم المغصوبة ورد مثلها لم يكن له ذلك وكذلك في الهبة تتعين حتى يكون للواهب الرجوع في عينها وفي الصدقة والوصية كذلك وكذلك في عقود المعاوضات وهذا لأن في التعيين فائدة لهما أما للبائع فلانة إذا ملك العين كان أحق به من سائر غرماء المشتري بعد موته ولا يملك المشتري ابطال حقه بالتصرف فيه وربما يكون ذلك من كسب حلال فيرغب فيه ما لا يرغب في غيره وأما منفعة المشتري فمن حيث أنه لا يطالب بشيء آخر إذا هلكت تلك العين في يده وإن تكون ذمته خالية عن الدين وبهذا الطريق تتعين الدراهم في الوكالة حتى لو دفع إليه الدراهم ليشتري بها شيئا فهلكت بطلت الوكالة ويتعين في النذر أيضا والدليل على أنها تتعين في البيع أن الغاصب إذا اشترى بالدراهم المغصوبة بعينها طعاما ونقدها لا يباح له تناولها ولو لم تتعين لحل له ذلك كما لو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم.(14/24)
وقال في الجامع إذا قال إن بعت هذا العبد بهذا الألف وبهذا الكر فيهما صدقة فباعه بهما يلزمه التصدق بالكر فلو لم تتعين تلك الدراهم لما لزمه التصدق كما لو باعه بألف مرسلة وبذلك الكر ولا جل هذه المسألة كان الكرخي يقول النقود تتعين في العقود جوازا لا استحقاقا حتى لا يملك عينها بالعقد ولهذا لا يلزمه التصدق بالدراهم وتعتبر بعينها حتى يتصدق بالكر وحجتنا في ذلك أن الاستبدال بالنقود قبل القبض يجوز وأن عينت ولو تعينت حتى ملك عينها لصار قبضها مستحقا وفي الاستبدال تفويت القبض المستحق بالعقد فلا يجوز ذلك كما في السلع ولو كان العقد يبطل بهلاكها بعد التعيين لم يجز الصرف فيها قبل القبض لبقاء الغرر في الملك المطلق للتصرف كما في السلع فإن منع الشافعي هذا الفصل يستدل بحديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا نبيع الإبل بالبقيع فربما نبيعها بالدراهم ونأخذ مكانها دنانير فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل" ولم يستفسره أنهم يبيعون بالدراهم المعينة أو غير المعينة وفيه طريقان من حيث المعنى:
أحدهما: أن تعيين النقد غير مقيد فيما هو المقصود بالعقد فيكون لغوا كتعيين الصنجات(14/25)
ص -15- ... والمكيال وهذا لأنه إنما يراعى في العقد ما يكون مفيدا ألا ترى أن أصل العقد إذا لم يكن مقيدا لا يعتبر فكذلك الشرط في العقد وبيان الوصف أن التعيين لا يفيد جواز العقد فإن العقد جائز بتسمية الدراهم المطلقة من غير تعيين والمقصود بالعقد الربح وذلك بقدر الدراهم لا بعينها وليس في غير الدراهم والدنانير مقصود إنما المقصود المالية وما وراء ذلك هي والإحجار سواء والمالية باعتبار الرواج في الأسواق ومثلها وعينها لا يختلف في هذا المعنى فعرفنا أن التعيين غير مفيد فيما هو المطلوب بالعقد وبه فارق المكيل والموزون فالتعيين هناك مفيد لجواز العقد لأن بدون التعيين لا يجوز العقد إلا بذكر الوصف وربما يعجز عن إعلام الوصف فيسقط ذلك عن نفسه بالتعيين ولأن أعيانها مقصودة وهي تتفاوت في الربع فكان تعيينها مفيدا في الجملة أما ما ذكر من الفوائد فليس من مقاصد العقد وإنما يطلب فائدة التعيين فيما هو المقصود بالعقد وفيما هو المقصود وهو ملك المال الدين أكمل من العين لأن بدون التعيين لا ينتقد العقص وبالتعيين ينتقض فإنه إذا استحق المعنى أو هلك بطل ملكه فيه وإذا ثبت دينا في الذمة لا يتصور هلاكه ولا بطلان الملك فيه بالاستحقاق.
والطريق الآخر وهو: أن التعيين لو اعتبر في النقد يبطل به العقد وبالإجماع العقد صحيح فعرفنا أن التعيين لغو وبيان هذا من وجهين:
أحدهما: وهو أن النقود لا تستحق في عقود المعاوضات إلا ثمنا والثمن ما يكون في الذمة كما قاله الفراء فإذا اعتبر ثبوت التعيين امتنع ثبوت المسمى في الذمة ثمنا وذلك ينافي موجب العقد فيكون مبطلا للعقد.(14/26)
والثاني: وهو أن حكم العقد في الثمن وجوبه ووجوده معا بالعقد بخلاف السلع فحكم العقد فيها وجوب الملك للمشتري فيما كان مملوكا للبائع ولهذا يشترط للعقد على السلع قيامها في ملك البائع إلا في موضع الرخصة وهو السلم فلا يشترط ذلك في السلم حتى يجوز الشراء بثمن ليس عنده من غير ضرورة ولا يتعين إلا في موضع الرخصة وهو السلم فهناك يتعين بالقبض دون التعيين حتى لو افترقا بعد تعيين رأس المال قبل القبض لا يجوز ولا ينجبر ذلك النقص بقبض ما يقابله في المجلس وهو المسلم فيه فعرفنا أن تعيين الدراهم هناك بالقبض باعتبار الضرورة وإن ذلك لا يثبت بالتعيين فكذلك في باب الصرف بعد التعيين من الجانبين يبطل بالافتراق قبل القبض وأظهر من هذا كله جواز الاستبدال برأس مال السلم قبل القبض بخلاف المبيع عينا كان أو دينا فكان التعيين في الثمن ابطالا لحكمه وجعلا لما هو الحكم شرطا وهذا تغيير محض فيكون مبطلا للعقد وبالإجماع العقد صحيح فعرفنا أن التعيين لغو وبهذا ظهر الجواب عن قوله أن التعيين يصرف في محله.
والفرق بين الثمن والسلعة واعتبار العقد بالقبض ساقط لأن القبض لا يرد إلا على العين فكأن التعيين ركنا فيه والعقد لا يرد على الثمن إنما يجب الثمن بالعقد ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان دينا في الذمة وفي الوكالة عندنا لا يتعين حتى لو اشترى الوكيل بمثل تلك الدراهم(14/27)
ص -16- ... في ذمته كان مشتريا للموكل ولو هلك بعد الشراء رجع على الموكل بمثلها أما قبل الشراء إذا هلكت فإنما بطلت الوكالة عندنا لأنها غير لازمة في نفسها والموكل لم يرض بكون الثمن في ذمته عند الشراء فلو بقيت الوكالة لا ستوجب الوكيل بالشراء الدين في ذمة الموكل وهو لم يرض به وفي مسألة الشراء بالدراهم المغصوبة لا تتعين تلك الدراهم حتى لو أخذها المغصوب منه كان على الغاصب مثلها دينا ولكنه استعان في العقد والنقد بما هو حرام فيتمكن فيه الخبث فلهذا لا يحل له تناوله وفي مسألة الجامع لم تتعين الدراهم أيضا بدليل أنه لا يلزمه التصدق بها ولكنه لما أضاف النذر إليهما مع أن الدراهم لا تتعين في عقود المعاوضات صار تقدير كلامه كأنه قال أن سميت هذه الدراهم وهذا الكر في بيع هذا العبد فهما صدقة وقد وجد ذلك وملك الكر بنفس العقد والشروط في الأثمان تعتبر بحسب الأمكان.
قال: وإذا اشترى الرجل ألف درهم بعينها بمائة دينار والدراهم بيض فأعطاه مكانها سودا ورضى بها البائع جاز ذلك لأن هذا ليس باستبدال والسود والبيض من الدراهم جنس واحد وإنما أبرأه عن الصفة حتى يجوز بالسود فكان مستوفيا بهذا الطريق لا مستبدلا ومراده من السود المضروب من النقرة السوداء إلا الدراهم التجارية حتى أنه لو باع دينارا بدراهم بيض وقبض مكان الدراهم البيض التجارية فإنه لا يجوز لانه يكون استبدالا لاختلاف الجنس وكذلك لو قبض الدراهم فأراد أن يعطيه ضربا آخر من الدنانير سوى ما عينه لم يجز ذلك إلا برضاه فإن رضى به كان مستوفيا لا مستبدلا لكون الجنس واحدا وقد بينا أن ما عينه لم يتعين وإنما استوجب كل واحد منهما في ذمة صاحبه مثل المسمى وقيل هذا إذا أعطاه ضربا هو دون المسمى فإن أعطاه ضربا هو فوق المسمى فلا حاجة إلى رضا مشتري الدنانير به لأنه أوفاه حقه وزيادة الأعلى قول زفر فإنه يقول هو متبرع عليه بزيادة صفة فله أن لا يقبل تبرعه وقد بينا هذا في السلم.(14/28)
ولو اشترى ألف درهم بمائة دينار ولم يسم كل واحد منهما شيئا فلكل واحد منهما نقدا لناس في ذلك البلد لأن المتعارف فيما بين الناس هي المعاملة بالنقد الغالب وإليه ينصرف مطلق التسمية والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص يقول وإذا كان بالكوفة فهو على دنانير كوفية لأن الدراهم والدنانير في البلدان تختلف وتتفاوت في العيار والظاهر أن في كل بلدة إنما يتصرف الإنسان بما هو النقد المعروف فيها فإذا كان ببلد نقد مختلف متفاضل فالبيع فاسد إلا أن يسمى ضربا من ذلك معلوما والضرب المعلوم أن يذكر من الدينار نيسا بوريا أو كوفيا ونحوه ومن الدراهم عطر بعثا أو مؤيديا ونحوه إذا كانت النقود في الرواج سواء لأنه لا يمكن ترجيح بعضه عند اطلاق التسمية فيبقى المسمى مجهولا وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة فالمطالب يطالب بأعلى النقود والمطلوب بأدنى النقود وكل واحد منهما يحتج بمطلق التسمية فلهذا فسد العقد إذا لم يسميا ضربا معلوما وإن كان نقدا من ذلك معروفا وشرطا في العقد(14/29)
ص -17- ... نقدا آخر فالعقد ينعقد على النقد المشروط لأن تعيين النقد الغالب بالعرف ويسقط اعتبار العرف عند التنصيص بخلافه ألا ترى أن تقديم المائدة بين يدي الإنسان أذن بالتناول للعرف ثم يسقط اعتباره إذا قال لا تأكل فإن اختلفا فقال أحدهما شرطت لي كذا لشيء أفضل من النقد المعروف وقال الآخر لم اشترط لك ذلك فعليهما الثمن لأن اختلافهما في صفة الثمن كاختلافهما في مقداره لأن الثمن دين والدين يعرف بصفته والجيد منه غير الرديء حتى إذا حضرا كان أحدهما غير الآخر واختلاف المتبايعين في الثمن يوجب التحالف بالنص فأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله كإقراره وإن تحالفا ترادا وإن قامت لهما البينه أخذت بينة الذي يدعي الفضل منهما لاثبات الزيادة فيها.(14/30)
قال وإذا ابتاع الرجل سيفا محلى بفضة بعشرة دنانير فقبض السيف ولم ينقد الدنانير لم يتفرقا حتى باع المشتري السيف من آخر وقبضه المشتري الآخر ولم ينقد الثمن حتى افترقوا فإنه يرد السيف إلى المشتري الأول لأن كل واحد من العقدين صرف فيبطل بالافتراق قبل القبض وإذا بطل العقد الثاني رجع السيف إلى المشتري الأول على الملك الذي كان له قبل البيع وقد فسد شراؤه بالافتراق أيضا فلزمه رد المقبوض إلى البائع ولو لم يفارق الآخر الاوسط حتى فارق الاول ثم نقده الآخر جاز بيع الاوسط في السيف لانه باعه بعدم تمام ملكه بعد القبض وقد تم العقد الثاني بالتقابض قبل الافتراق وفسد العقد الأول فوجب على الأوسط رد السيف وقد عجز عن رده بإخراجه عن ملكه فيضمن قيمته للبائع وإن فارقه الأول ثم أن الأوسط باع السيف من الآخر جاز بيعه أيضا لأن العقد وإن فسد بالافتراق فقد بقى ملكه ببقاء القبض لأن فساد السبب لا يمنع ابتداء الملك عند القبض فلا يمنع بقاؤه بطريق الأولى ثم بتقرر بيعه عجز عن رده فيكون ضامنا قيمة السيف لصاحبه وإن باع الأوسط نصف السيف ثم فارقه الأول ثم قبض من الآخر الثمن ودفع إليه نصف السيف أو لم يدفع حتى جاء الأول وخاصمهم فإنه يدفع إلى الأول نصفه لأن ملكه باق في نصف السيف وقد فسد السبب فيه فعليه رده وقد جاز البيع في نصفه فيضمن الأوسط نصف قيمة السيف للأول من الذهب كيلا يؤدي إلى الربا إذا ضمن قيمته من الدراهم.(14/31)
قال وإذا اشترى ألف درهم بمائة دينار فنقد الدنانير وقال الآخر اجعل الدراهم قصاصا بالدراهم التي لي عليك فهو جائز وأن أبي لم يجبر على ذلك ولم يكن قصاصا والحاصل أن المقاصة بدل الصرف بدين سبق وجوبه على عقد الصرف يجوز عندنا استحسانا إذا اتفقا عليه وفي القياس لا تجوز وهو قول زفر لأن بالعقد المطلق يصير قبض البدلين في المجلس مستحقا وفي المقاصة تفويت القبض المستحق بالعقد فلا يجوز بتراضيهما كما لا يجوز الإبراء عن بدل الصرف والاستبدال به وهذا لأن في المقاصة يكون آخر الدينين قضاء عن أولهما ولا يكون أولهما قضاء عن آخرهما لأن القضاء يتلو الوجوب ولا يسبقه فلو جوزنا هذه المقاصة صار قاضيا ببدل الصرف الدين الذي كان واجبا وبدل الصرف يجب قبضه ولا(14/32)
ص -18- ... يجوز قضاء دين آخر به والدليل عليه رأس مال السلم فإنهما لو جعلاه قصاصا بدين سبق وجوبه لم يجز فكذلك بدل الصرف لأن كل واحد منهما دين مستحق قبضه في المجلس ووجه الاستحسان أنهما لما اتفقا على المقاصة فقد حولا عقد الصرف إلى ذلك الدين ولو أضافا العقد إليه في الابتداء جاز بأن يشتري بالعشرة التي عليه دينارا ويقبض الدينار في المجلس فكذلك إذا حولا العقد إليه في الإنتهاء لأنهما قصد تصحيح هذه المقاصة فلا طريق له سوى هذا وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به يكون مقصود الكل واحدا ولهذا شرطنا تراضيهما على المقاصة وإن كان في سائر الديون المقاصة تقع بدون التراضي لأن هذا تحويل العقد إلى ذلك الدين والعقد قد تم بهما فالتصرف به بالتحويل لا يكون إلا بتراضيهما وعند التراضي العقد القائم بينهما حقهما ويملكان استدامته ورفعه فيملكان التصرف فيه بالتحويل من محل إلى محل وهذا خير مما يقوله العراقيون رحمهم الله أن عند اتفاقهما على المقاصة يجعل كأنهما فسخا العقد الأول ثم جداده مضافا إلى ذلك الدين لأنه لو كان الطريق هذا لم يجز لأنه بالإقالة يصير رد المقبوض مستحقا في المجلس والدليل عليه أنهما لو جعلا بدل الصرف قصاصا بدين تأخر وجوبه عن عقد الصرف لا يجوز في ظاهر الرواية ولو كان التصحيح بطرق الفسخ للعقد الأول لجاز والدين المتقدم والمتأخر في ذلك سواء وإنما الفرق بينهما على الطريق الأول أنهما يملكان تحويل العقد إلى ما كان يصلح منهما اضافة العقد إليه في الإبتداء وذلك في الدين الذي سبق وجوبه على عقد الصرف دون ما تأخر وجوبه عنه.(14/33)
وأشار في الزيادات إلى أن المقاصة أيضا تقع بالدين المتأخر عن عقد الصرف وذكر في رواية أبي سليمان مثل ما ذكر في الزيادات ولكن المعتمد هو الأول وبهذا فارق رأس مال السلم فإنهما لو أضافا عقد السلم إلى رأس مال هو دين على المسلم إليه لم يجز ذلك إذا افترقا قبل قبض رأس المال فكذلك إذا حولا العقد إليه في الإنتهاء بخلاف عقد الصرف وهذا لأن ما يقابل رأس المال هناك دين وبالمقاصة لا يتعين رأس المال فيكون دينا بدين وهنا ما يقابل الدين غير مقبوض في المجلس والافتراق عن عين بدين جائز فإن أدى بعض الدراهم ثم فارقه قبل أن يؤدي البقية انتقص من الصرف بقدر ما بقى اعتبارا للبعض بالكل والفساد لمعنى طارئ في بعض العقد لا يتعدى إلى ما بقي.
ولو وكل أحدهما وكيلا بالدفع والقبض جاز بعد أن يقبض الوكيل قبل أن يفترق المتعاقدان ولا معتبر بذهاب الوكيل لأن القبض من حقوق العقد فيتعلق بالمتعاقدين وفعل وكيل أحدهما له كفعله بنفسه وليس لواحد منهما أن يشتري من صاحبه شيئا بثمن الصرف قبل أن يقبضه لما في الاستبدال من تفويت القبض المستحق بالعقد في المجلس ولأن القبض معتبر التعيين ولا يحصل ذلك فيما يتناوله عقد الصرف بطريق الاستبدال وكذلك لا يشتري به من غيره شيئا لأن التصرف في الدين مع من عليه أقرب إلى النقود منه مع غيره فإذا لم يجز الاستبدال ببدل الصرف مع من عليه الدين فمع غير من عليه الدين أولى أن لا يجوز.(14/34)
ص -19- ... وإذا اشترى إبريق فضة وزنه ألف درهم بألف درهم ونقد خمسمائة وقبض الإبريق ثم افترقا فإنه يلزم نصف الإبريق ويبطل نصفه اعتبارا للبعض بالكل ولا يتخير في الرد بسبب عيب التبعيض لأنه حصل بفعله حين لم ينقد بعض البدل بخلاف ما إذا استحق نصف الإبريق فإنه يتخير فيما بقى منه لأن التبعيض في الأملاك المجتمعة عيب فإن تقاصا قبل الافتراق ثم وجد بالإبريق عيبا كثيرا أو هشيما غير نافذ فله أن يرده بالعيب لأنه بمطلق العقد استحق صفة السلامة وقد فات ذلك بوجود العيب والقلب والطوق والمنطقة والسيف المحلى بمنزلة الإبريق في جميع ما ذكرنا وإن كان حين وجد العيب بالإبريق لم يرده حتى انكسر عنده لم يستطع رده لأنه بالرد يدفع الضرر عن نفسه وليس له أن يلحق الضرر بالبائع وفي الرد بعد حدوث العيب الحاق الضرر به ولا يرجع بنقصان العيب أيضا لأن نقصان العيب من الثمن فإذا رجع به يصير العقد ربا لأنه يبقى بمقابلة الإبريق أقل من وزنه من الفضة إلا أن يكون الثمن دنانير فيرجع بنقصان العيب لأنه لاربا عند اختلاف الجنس وإن لم يجد به عيبا ولكنه استحق نصفه ولم يرد النصف الباقي على البائع حتى انكسر الإبريق لزمه النصف الباقي بالعيب الحادث عنده فيه ورجع بنصف الثمن لأن العقد في النصف المستحق قد بطل.(14/35)
وإذا اشترى الرجل عشرة دراهم بدينار ونقده الدينار ثم اشترى منه ثوبا بعشرة دراهم فتراضيا على أن تكون العشرة قصاصا ببدل الصرف لا يجوز لأن هذا دين تأخر وجوبه عن عقد الصرف ولأنه في معنى الاستبدال وإن استقرض عشرة دراهم من بائع الدينار ثم قضاها إياه بعد ما قبضها جاز ذلك لأن المقرض صار مملوكا له بالقبض وصار كسائر أمواله فهو كما لو استقرض من غيره سواء لأن الإفتراق عن مجلس عقد الصرف قد حصل بعد قبض البدلين وإنما الباقي لأحدهما على صاحبه بدل القرض وإذا اشترى عشرة دراهم بدينار وتقابضا إلا درهما واحدا بقى من العشرة فأراد الذي اشتري منه الدراهم أن يأخذ منه عشر الدينار حين لم يكن عند الآخر الدرهم فله ذلك لأن العقد فسد في عشر الدينار بالافتراق قبل قبض الدرهم وهذه مطعونة عيسى وقد بيناها فإن اشترى منه بعشر الدينار فلوسا أو عرضا مسمى جاز لأن عقد الصرف لما فسد فيه بقى ملكا له في يد صاحبه أو دينا له على صاحبه واجبا بسبب القبض دون عقد الصرف فيجوز الاستبدال به كبدل القرض وإن كان قبل الافتراق فالدراهم مستحق له بعقد الصرف والاستبدال ببدل الصرف قبل القبض لا يجوز .
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم من قرض أو غيره فباع دينه من رجل آخر بمائة دينار وقبض الدنانير لم يجز وعليه أن يرد الدنانير لأن البيع لا يرد إلا على مال متقوم وما في ذمة زيد لا يكون ما لا متقوما في حق عمرو فلا يجوز بيعه منه ولأن البائع لا يقدر على تسليمه حتى يستوفى ولا يدري متى يستوفي وهذا على قول من يقول النقد المضاف إليه يتعين في العقد وكذلك بيع الدين من غير من عليه الدين والشراء بالدين من غير من عليه الدين سواء كل ذلك باطل وعلى قول زفر الشراء بالدين من غير من عليه الدين صحيح كما(14/36)
ص -20- ... يصح ممن عليه الدين لأن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه ألا ترى أنه لو اشترى بالدين المظنون شيئا ثم تصادقا على أن لا دين كان الشراء صحيحا بمثل ذلك الثمن في ذمته فكذلك هنا يصح الشراء بمثل ذلك الدين في ذمة المشتري وهذا لأنه إذا أضاف العقد إلى عين فإنه إنما يتعين ذلك لتتميم الملك فيه ولا يحصل هذا المقصود عند إضافة الشراء إلى الدين ولكنا نقول ملك الدين من غير من عليه الدين بالبدل وإذا ملك بغير بدل لم يجز فإذا ملكه ببدل أولى ثم للفساد هنا طريقان
أحدهما: أنه بإضافة الشراء إلى ذلك الدين يصير كأنه شرط لنفسه الأجل إلى أن يخرج ذلك الدين فيتمكن من أداء الثمن ولا يدري متى يخرج وشرط الأجل المجهول مفسد للبيع.
والثاني: أنه شرط أن يكون ثمن المشتري في ذمة غير المشتري مستحقا بالشراء وذلك لا يجوز وبه فارق ما إذا اشترى بالدين ممن عليه أو اشترى بالدين المظنون شيئا(14/37)
وإذا كانت الدراهم أو الدنانير وديعة عند رجل فباع الدراهم بالدنانير أو الدنانير بالدراهم وتقابضا فجاء صاحبها فأخذها من البائع فإن كانا لم يتفرقا كان له عليه مثلها لأن المقبوض استحق فكأنهما لم يتقابضا إلى آخر المجلس وإنما انعقد العقد بمثل ما عينه دينا في ذمته وإن كانا قد افترقا يبطل الصرف إذا أخذها المستحق لانتقاص القبض بالاستحقاق من الأصل وإن لم يقبضها المستحق ولكنه أجاز البيع جاز ذلك عندنا وكان له مثلها على المودع وقال زفر الصرف باطل لأن الافتراق حصل قبل الملك فإن المستحق لا يملك قبل الإجازة وقبل تمام القبض فإن الموقوف لا يكون تاما فلا ينفذ العقد بعد ذلك بالإجازة كما لو افترقا ولأحدهما شرط خيار ثم أسقط الخيار ولكنا نقول افترقا بعد تمام السبب وبعد تمام القبض لأن العقد الموقوف سبب ملك تام فالقبض الذي ينبني عليه يكون تاما أيضا وإنما فيه خيار حكمى للمستحق وذلك لا يمنع تمام العقد والقبض كخيار الرؤية والعيب فإذا أسقط هذا الخيار بالإجازة تبين أن الافتراق حصل عن قبض تام فالإجازة في الإنتهاء كالأذن في الإبتداء بخلاف شرط الخيار فإنه يجعل العقد في حق الحكم كالمتعلق بالشرط على ما بينه في بابه إن شاء الله
وإن كانت الوديعة إبريق فضة فباعه بمائة دينار وتقابضا فأجاز صاحبه البيع كان الثمن له لأن المودع هنا بائع الإبريق فإنه بمنزلة العروض ومن باع ملك العير بغير أمره فأجاز صاحبه كان الثمن له وفي الأول المودع مشتري الدنانير لنفسه بالدراهم ثم نقد دراهم الوديعة دينا عليه فكان مستقرضا فإذا أجازه صاحبه كان له عليه مثل دراهمه وإن اشترى رجل عشرة دراهم ودينارا باثنى عشر درهما فهو جائز عندنا على أن تكون العشرة بالعشرة والفضل بالدينار ولو اشترى دينارا أو درهما بدينارين أو درهمين فهو جائز عندنا استحسانا على أن يصرف الجنس إلى خلاف الجنس وقد بيناه في السلم والله أعلم.(14/38)
ص -21- ... باب الخيار في الصرف
قال وإذا اشترى الرجل من الرجل ألف درهم بمائة دينار واشترط الخيار فيه يوما فإن بطل الخيار قبل أن يتفرقا جاز البيع وإن تفرقا قبل أن يبطله وقد تقابضا فالبيع فاسد لأنهما تفرقا قبل تمام القبض وهذا لأن الخيار يدخل على حكم العقد فيجعله متعلقا بالشرط لأن قوله على أني بالخيار شرط ولا يمكن إدخاله على نفس السبب فالبيع لا يحتمل التعليق بالشرط فيجعل داخلا على الحكم ولو دخل على السبب كان داخلا على الحكم أيضا ومعنى الغرر أن إدخاله على الحكم دون السبب أقل والقبض من حكم العقد والحكم المتعلق بالشرط معدوم قبله فإذا سقط الخيار قبل أن يتفرقا فإنما افترقا بعد قبض تام وإذا افترقا قبل اسقاط الخيار فإنما افترقا قبل تمام القبض وهذا بناء على أصلنا أن المفسد إذا زال قبل تقرره يصير كأنه لم يكن خلافا لزفر وقد بيناه في البيوع وكذلك أن كان الخيار للبائع أو لهما طالت المدة أو قصرت وكذلك الإناء بالمصوغ والسيف المحلى والطوق من الذهب فيه لؤلؤ وجوهر لا يتخلص إلا بكسر الطوق لأن العقد في حصة الطوق يفسد بشرط الخيار فيفسد في الكل لأنه لا ينفصل البعض عن البعض في التسليم إلا بضرر فأما اللجام المموه وما أشبهه فإن شرط الخيار في بيعه صحيح لأن التمويه لا يتخلص ولا يكون العقد باعتباره صرفا واشتراط الخيار فيما سوى الصرف والسلم من البيوع صحيح(14/39)
وإذا اشترى جارية وطوق ذهب فيه خمسون دينارا بألف درهم واشترط الخيار فيهما يوما فالعقد فاسد كله عند أبي حنيفة وعندهما يجوز في الجارية بحصتها من الثمن لأن فساد العقد عندهما في بعض ما تناوله العقد لا يتعدى إلى ما بقى بل يقتصر على ما وجد فيه العلة المفسدة وعند أبي حنيفة يتعدى إلى ما بقى لأن قبول العقد فيما فسد فيه العقد شرط لقبوله فيما بقى وهذا شرط فاسد وقد بينا هذا الأصل في البيوع وهما يفرقان بين هذا والأول فيقولان هناك يتعذر تصحيح العقد في حصة المبيع لما في تميز البعض من البعض من الضرر ولا يوجد ذلك هنا لأنه لا ضرر في تمييز الجارية من الطوق في التسليم وكذلك لو اشتراهما بمائة دينار وشرط الأجل فاشتراط الأجل هنا كاشتراط الخيار وأبو حنيفة فرق بين هذا وبين ما إذا ترك التقابض حتى افترقا فإنه يبطل العقد في حصة الطوق دون الجارية لأن المقيد هناك طارئ وقد وجد في البعض وهو حصة الصرف فلا يتعدى إلى ما بقى وعند اشتراط الخيار أو الأجل المفسد مقارن للعقد وقد تقرر في الكل معنى من حيث أن قبول العقد في البعض يكون شرطا لقبوله في الباقي وإن اشتراهما بحنطة أو عرض واشترط الخيار فهو جائز لأن العقد بينهما بيع وليس بصرف وكذلك لو اشترى رطلا من نحاس بدرهم واشترط الخيار فيه فهو جائز لأنه ليس بصرف والخيار جائز في كل ما ليس بصرف يعني كل بيع لا يشترط فيه القبض في المجلس فالصرف مبادلة الاثمان بعضها ببعض اتفق الجنس أو اختلف وقد بينا هذا والله أعلم.(14/40)
ص -22- ... باب البيع بالفلوس
وإذا اشترى الرجل فلوسا بدراهم ونقد الثمن ولم تكن الفلوس عند البائع فالبيع جائز لأن الفلوس الرابحة ثمن كالنقود وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معا ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد كما لا يشترط ذلك في الدراهم والدنانير وإن استقرض الفلوس من رجل ودفع إليه قبل الإفتراق أو بعده فهو جائز إذا كان قد قبض الدراهم في المجلس لأنهما قد افترقا عن عين بدين وذلك جائز في عين الصرف وإنما يجب التقابض في الصرف بمقتضي اسم العقد وبيع الفلوس بالدراهم ليس بصرف وكذلك لو افترقا بعد قبض الفلوس قبل قبض الدراهم وعلى ما ذكر بن شجاع عن زفر رحمهما الله لا يجوز هذا العقد أصلا لأن من أصل زفر أن الفلوس الرائجة بمنزلة المكيل والموزون تتعين في العقد إذا عينت وإذا كانت بغير عينها فإن لم يصحبها حرف الباء لا يجوز العقد لأنه بيع ما ليس عند الإنسان وإن صحبها حرف الباء وبمقابلتها عوض يجوز العقد لأنها ثمن وإن كان بمقابلتها النقد لا يجوز العقد لأنها تكون مبيعة إذا قابلها ما لا يكون إلا ثمنا أما عندنا فالفلوس الرائجة بمنزلة الأثمان لاصطلاح الناس على كونها ثمنا للأشياء فإنما يتعلق العقد بالقدر المسمى منها في الذمة ويكون ثمنا عين أو لم يعين كما في الدراهم والدنانير وإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد لأنه دين بدين والدين بالدين لا يكون عقدا بعد الافتراق(14/41)
وذكر في الإملاء عن محمد لو اشترى مائة فلس بدرهم على أنهما بالخيار وتفرقا بعد القبض فالبيع باطل لأن العقد لا يتم مع اشتراط الخيار فكانهما تفرقا قبل التقابض وإذا كان الخيار مشروطا لأحدهما فتفرقا بعد التقابض فالبيع جائز لأن التسليم يتم ممن لم يشترط الخيار في البدل الذي من جانبه وقبض أحد البدلين هنا يكفي بخلاف الصرف ولكن هذا التفريع إنما يستقيم على قول من يقول المشروط له الخيار يملك عرض صاحبه أما عند أبي حنيفة فالمشروط له الخيار كما لا يملك عليه البدل الذي من جانبه لا يملك البدل الذي من جانب صاحبه فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع تمام القبض فيهما جميعا
وإن اشترى خاتم فضة أو خاتم ذهب فيه فص أو ليس فيه فص بكذا فلسا وليست الفلوس عنده فهو جائز أن تقابضا قبل التفرق أو لم يتقابضا لأن هذا بيع وليس بصرف فإنما افترقا عن عين بدين لأن الخاتم يتعين بالتعين بخلاف ما سبق فإن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين فلهذا شرط هناك قبض أحد البدلين في المجلس ولم يشترط هنا وكذلك ما اشترى من العروض بالفلوس لو اشترى بها فاكهة أو لحما أو غير ذلك بعد أن يكون المبيع بعينه لأن الفلوس ثمن كالدراهم ولو اشترى عينا بدرهم جاز العقد وإن تفرقا قبل القبض فهذا مثله وسواء قال اشتريت مثل كذا فلسا بدرهم أو درهما بكذا فلسا لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقد عندنا صحبها حرف الباء أو لم يصحبها وقيام الملك في الثمن عند العقد ليس بشرط وأن اشترى متاعا بعشرة أفلس بعينها فله أن يعطي غيرها مما يجوز بين الناس وأن أعطاها بعينها(14/42)
ص -23- ... فوجد فيها فلسا لا ينفق استبدله كما يستبدل الزيف في الدراهم لأنه ما دام ثمنا فإنما يثبت في الذمة فلا يتعين بالتعيين ثم ذكر بيع فلس بعينه بفلسين بأعيانهما وقد تقدم بيان هذه الفصول في البيوع إلا أنه هناك ذكر قول أبي يوسف رحمه الله وهنا ذكر قول أبي حنيفة رحمه الله وقول أبي يوسف وعلل لهما فقال لا يوزن معناه أنه مصنوع من النحاس لا يعتاد وزنه فيكون بمنزلة الأواني التي لا تباع وزنا وبيع قمقمة بعينها بقمقمتين باعيانهما يجوز فكذلك الفلوس وإذا اشترى مائة فلس بدرهم فنقد الدرهم وقبض من الفلوس خمسين وكسدت الفلوس بطل البيع في الخمسين النافقة لأنها لو كسدت قبل أن يقبض منها شيئا بطل العقد في الكل فكذلك إذا كسدت قبل أن يقبض بعضها اعتبارا للبعض بالكل وعلى قول زفر إذا كانت معينة حتى جاز العقد لا يبطل العقد بالكساد لأن العقد يتناول عينها والعين باقية بعد الكساد وهو مقدور التسليم ولكنا نقول العقد تناولها بصفة الثمينة لما بينا أنها ما دامت رائجة فهي تثبت في الذمة ثمنا وبالكساد تنعدم منها صفة الثمنية ففي حصة ما لم يقبض انعدام أحد العوضين وذلك مفسد للعقد قبل القبض وكان صفة الثمنية في الفلوس كصفة المالية في الإعيان ولو انعدمت المالية بهلاك المبيع قبل القبض أو بتخمر العصير فسد العقد فهذا مثله ثم يرد البائع النصف درهم الذي قبضه لفساد العقد فيه وللمشتري أن يشتري منه بذلك النصف الدرهم ما أحب لأنه دين له في ذمته وجب بسبب القبض فكان مثل بدل القرض ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت لم يفسد البيع لأن صفة الثمنية قائمة في الفلوس وإنما تعتبر رغائب الناس فيها وبذلك لا يفوت البدل ولا يتعيب وللمشتري ما بقي من الفلوس ولا خيار له في ذلك.(14/43)
ولو اشترى مائة فلس بدرهم فلم يقبضها حتى باعها من آخر بدرهم لم يجز لأنه استحق الفلوس دينا فإنما باع الدين من غير من عليه وقد بينا أن المبادلة بالدين من غير من عليه لا يجوز وكذا لو باع الآخر الدرهم قبل أن يقبضه من رجل بفلوس أو غيرها لم يجز لهذا المعنى.
قال وإذا اشترى مائة فلس بدرهم فلم يقبضها حتى باع من رجل تسعين فلسا بدرهم ثم قبض تلك الفلوس ونقد منها تسعين واستفصل عشرة فهو جائز مستقيم كما لو قبض المائة وهذا لأنه بالعقد الثاني يلتزم الفلوس في ذمته ولا يضيف العقد إلى دين في ذمة غيره فيكون صحيحا والربح إنما يحصل له على ملكه وضمانه فيكون طيبا له وإن اشترى فاكهة أو غيرها بدانق فلوس أو بقيراط فلوس فهو جائز لأن ذلك معلوم ولو اشترى شيئا من ذلك بدرهم فلوس كان مثل ذلك في القياس وهو في الدرهم أفحش ولم ينص على حكم الجواز والفساد هنا وروى هشام عن محمد فيما دون الدرهم أنه يجوز وإن قال بدرهم فلوس أو بدرهمين لا يجوز وهو اختيار الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري وعن أبي يوسف أنه يجوز في الكل وعند زفر لا يجوز ما لم يبين عدد الفلوس لأن العقد لا يتعلق(14/44)
ص -24- ... بالدانق ولا بالدرهم وإنما يتعلق بالفلوس فلا بد من أن تكون معلومة العدد ولا يحصل ذلك بتسمية الدانق والدرهم لأن الناس قد يستقصون في بيع الفلوس وقد يتسامحون ولأن الدانق والدرهم ذكر للوزن والفلوس عددي فيلغو اعتبار ذكر الوزن فيه بنفي ذكر الفلوس فلا يجوز العقد إلا ببيان العدد ولا يحصل ذلك بتسمية الدانق والدراهم وأبو يوسف يقول بذكر الدانق والدرهم يصير عدد الفلوس معلوما لأن قدر ما يوجد بالدرهم من الفلوس معلوم في السوق فتسمية الدرهم كتسمية ذلك العدد في الإعلام على وجه لا تمكن المنازعة فيه بينهما ومحمد يقول فيما دون الدرهم يكثر الاستعمال بين الناس للعبارة عما يوجد به من عدد الفلوس فيقام مقام تسمية ذلك العدد وفي الدرهم وما زاد على ذلك قلما يستعمل هذا اللفظ يوضح الفرق أن الدانق والدانقين لا يكون معلوم الجنس إلا بالإضافة وقد يكون ذلك من الذهب والفضة وغيرهما من الموزونات فإنما يصير معلوما بذكر الفلوس فاقمنا ذلك مقام تسمية العدد وأما الدرهم فمعلوم بنفسه غير مضاف إلى شيء فلا يجعل عبارة عن العدد من الفلوس فلهذا قال هو في الدرهم أفحش.(14/45)
رجل أعطى لرجل درهما فقال أعطني بنصفه كذا فلسا وأعطني بنصفه درهما صغيرا وزنه نصف درهم فهو جائز لأنه جمع بين عقدين يصح كل واحد منهما بالإنفراد قال فإن افترقا قبل أن يقبض الفلوس والدرهم الصغير بطل في الدرهم الصغير لأن العقد فيه صرف وقد افترقا قبل قبض أحد البدلين ولم يبطل العقد في الفلوس لأن العقد فيه بيع وأن افترقا قبل قبض أحد البدلين ولم ينقد الثمن حتى افترقا بطل الكل لأنهما افترقا عن دين بدين وإن كان دفع إليه الدرهم وقال أعطنى بنصفه كذا فلسا وأعطني بنصفه درهما صغيرا يكون فيه نصف درهم إلا حبة ففي قياس قول أبي حنيفة يفسد البيع كله وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز في الفلوس ويبطل في حصة الصرف لأن العقد في الدرهم الصغير يفسد لمعنى الربا فإن مقابلة نصف الدرهم بنصف درهم إلا حبة يكون ربا وعند أبي حنيفة إذا فسد العقد في البعض لمعنى الربا يفسد في الكل وقد بيناه في البيوع قال رضي الله عنه الأصح عندي أن العقد يجوز في حصة الفلوس عندهم جميعا على ما وضع عليه المسألة في الأصل فإنه قال وأعطني بنصفه الباقي درهما وإذا تكرر الإعطاء يتفرق العقد به وفساد أحد العقدين لا يوجب فساد الآخر ألا ترى أن على هذا الوضع لا يكون قبول العقد في أحدهما شرطا للقبول في الآخرألا أن يكون وضع المسألة على ما ذكر الحاكم في المختصر وفي النصف الباقي درهم صغير فحينئذ يكون العقد واحدا لأنه لم يتكرر ما به ينعقد العقد وهو قوله أعطني ولو قال أعطني كذا فلسا ودرهما صغيرا وزنه نصف درهم إلا قيراطا كان جائزا كله إذا تقابضا قبل أن يتفرقا لأنه قابل الدرهم هنا بما سمى من الفلوس ونصف درهم إلا قيراطا فيكون مثل وزن الدرهم الصغير من الدرهم بمقابلته والباقي كله بإزاء الفلوس.
رجل باع درهما زائفا لا ينفق من رجل قد علم عيبه بخمسة دوانيق فلس فهو جائز لأن(14/46)
ص -25- ... خمسة دوانيق فلس اسم لمائة فلس إذ كان كل عشرين بدانق وبيع الدرهم بمائة فلس صحيح وكذلك إن باعه بنصف درهم فلوس ودرهم صغير وزنه دانقان إذا تقابضا قبل التفرق لأنه يقابل الدرهم الصغير من الدرهم الزيف مثل وزنه والباقي كله بإزاء الفلوس وإن باعه إياه بخمسة دوانيق فضة أو بدرهم غير قيراط فضة لم يجز لأنه باع الفضة بالفضة متفاضلا في النبهرجة والزيوف من جنس الفضة بخلاف الستوق ولو قال بعنى بهذه الفضة كذا فلسا فهو جائز لأنهما نوعان مختلفان وإن باعه إياه بخمسة أسداس درهم أو بنصف درهم لم يجز لأن حقيقة ما سمى يقع على الفضة دون الفلوس وإن كان قد يراد به الفلوس مجازا ولكن ذاك لا يثبت إلا بالتنصيص على الفلوس لأن المجاز لا يعارض الحقيقة وعلى هذا لو اشترى شيئا بدانق أو بدانقين أو بنصف درهم فهذا كله يقع على الفضة إلا أن يقرن بكلامه ذكر الفلوس فحينئذ تكون عبارة عن عدد من الفلوس مجازا.(14/47)
وإن اشترى بدرهم فلوسا وقبضها ولم ينقد الدرهم حتى كسدت الفلوس فالبيع جائز والدرهم دين عليه لأن العقد في الفلوس قد انتهى بالقبض وصفة الدرهم لم تتغير بكساد الفلوس فبقي دينا على حاله وإن نقد الدرهم ولم يقبض الفلوس حتى كسدت في القياس هو جائز أيضا لأن بالكساد لا تتغير عينها ولا يتعذر تسليمها إلا بالعقد وفي الاستحسان بطل العقد لفوات صفة الثمنية في الفلوس قبل القبض وعليه أن يرد الدرهم لأنه مقبوض في يده بسبب فاسد وكذلك لو اشترى فاكهة بالفلوس وقبض ما اشترى ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها فالبيع ينتقض استحسانا لأنها تبدلت معنى حين خرجت عن أن تكون ثمنا وماليتها كانت بصفة الثمنية ما دامت رائجة فبفوتها تفوت المالية فلهذا يبطل العقد ويرد ما قبضه أن كان قائما أو قيمته أن كان هالكا وبعض المتأخرين رحمهم الله يقول معنى قوله البيع ينتقض أنه يخرج من أن يكون لازما ويتخير البائع في نقضه لما عليه من الضرر عند كساد الفلوس وقد حصل ذلك قبل قبضه فيخير أما أصل المالية فلا ينعدم بالكساد فيبقى العقد كذلك والأول أصح لأن انعقاد هذا العقد لم يكن باعتبار مالية قائمة بعين الفلوس وإنما كان باعتبار مالية قائمة بصفة الثمنية فيها وقد انعدم ذلك.
وعن أبي يوسف أن هنا البيع لا ينتقض بخلاف ما إذا اشترى بدرهم فلوسا لأن هناك بعد الكساد لا يجوز ابتداء ذلك العقد لأنها بالكساد تصير مبيعة وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز وهنا ابتداء البيع بعد الكساد يجوز لأن ما يقابلها من الفاكهة مبيع فالفلوس الكاسدة بمقابلة المبيع يجوز أن تجعل ثمنا باعتبار أنه عددي متقارب كالجوز وغيره.(14/48)
وأن اشترى فاكهة بدانق فلس والدانق عشرون فلسا فلم يرد الفلوس حتى غلت أو رخصت فعليه عشرون فلسا لأن بالغلاء والرخص لا ينعدم صفة الثمنية وصار هو عند العقد بتسمية الدوانق مسميا ما يوجد به من الفلوس وذلك عشرون ولو صرح بذلك القدر لم يتغير العدد بعد ذلك بغلاء السعر ورخصه فهذا مثله.(14/49)
ص -26- ... وإن اشترى فلوسا بدرهم فوجد فيها فلسا لا ينفق وقد نقد الدرهم فإنه يستبدله لأنه بمطلق العقد استحق فلوسا نافقة وإن لم يستبدله حتى افترقا لم يبطل العقد فيه لأن ما بازائه من الدرهم مقبوض كما في الصرف لأنه لو اشترى دينارا بعشرة دراهم ثم وجد بعض الدراهم زيوفا قبل الافتراق كان له أن يستبدله وإن لم يستبدله حتى تفرقا لم يبطل العقد فهذا قياسه وإن لم يكن نقد الدراهم استبدله أيضا ما لم يتفرقا لأن الدينية إلى آخر المجلس في البدلين عفو وإن كانا قد تفرقا وهو فلس لا يجوز مع الفلوس رجع بحصته من الدراهم كما في الصرف وإذا وجد بعض البدل ستوقا بعد الافتراق ينتقض القبض فيه من الأصل وما بإزائه غير مقبوض فكان دينا بدين بعد المجلس وإن كان يجوز معها في حال ولا يجوز في حال استبداله في المجلس قبل أن يتفرقا لأنه بمنزلة الزيوف في الدراهم وقد بينا في الصرف والسلم أنه إذا وجد القليل زيوفا فاستبدل به في مجلس الرد جاز العقد فجعل اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما في مجلس العقد فهذا قياسه وإن استحق منها شيء رجع بحصته من الدرهم يعني إذا كان نقد الدرهم بعد الافتراق لأنه بالاستحقاق ينتقض القبض فيه من الأصل فتبين أن الافتراق في ذلك القدر كان عن دين بدين.(14/50)
وإن استقرض عشرة أفلس ثم كسدت تلك الفلوس لم يكن عليه إلا مثلها في قول أبي حنيفة قياسا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله قيمتها من الفضة استحسانا لأن الواجب عليه بالاستقراض مثل المقبوض والمقبوض فلوس هي ثمن وبعد الكساد يفوت صفة الثمنية بدليل مسألة البيع فيتحقق عجزه عن رد مثل ما التزم فيلزمه قيمته كما لو استقرض شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل عن أيدي الناس بخلاف ما إذا غلت أو رخصت لأن صفة الثمنية لا تنعدم بذلك ولكن تتغير بتغير رغائب الناس فيها وذلك غير معتبر كما في البيع وأبو حنيفة يقول الواجب في ذمته مثل ما قبض من الفلوس وهو قادر على تسليمه فلا يلزمه رد شيء كما إذا غلت أو رخصت وهذا لأن جواز الاستقراض في الفلوس لم يكن باعتبار صفة الثمنية بل لكونها من ذوات الأمثال ألا ترى أن الاستقراض جائز في كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب كالجوز والبيض وبالكساد لم يخرج من أن يكون من ذوات الأمثال بخلاف البيع فقد بينا أن دخولها في العقد هناك باعتبار صفة الثمنية وقد فات ذلك بالكساد يوضحه أن بدل القرض في الحكم كأنه عين المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وذلك لا يجوز فيصير من هذا الوجه كأنه غصب منه فلوسا فكسدت وهناك بريء برد عينها فهنا أيضا يبرأ برد مثلها ثم عند أبي يوسف إذا وجبت القيمة فإنما تعتبر قيمتها من الفضة من وقت القبض وعند محمد إذا وجبت القيمة فإنما يعتبر قيمتها بآخر يوم كانت فيه رائجة فكسدت وهذا بناء على مإذا أتلف شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل عن أيدي الناس فهناك عن أبي يوسف يعتبر قيمته وقت الاتلاف وعند محمد بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع وقد بينا هذا في كتاب الغصب.(14/51)
ص -27- ... وإن استقرض دانقا فلوسا أو نصف درهم فلوس فرخصت أو غلت لم يكن عليه إلا مثل عدد الذي أخذ لأن الضمان يلزمه بالقبض والمقبوض على وجه القرض مضمون بمثله وكذلك لو قال أقرضني دانق حنطة فاقرضه ربع حنطة فعليه أن يرد مثله باعتبار القبض ولا معتبر بتسمية الدانق فيه وكذلك لو قال أقرضني عشرة دراهم بدينار فأعطاه عشرة دراهم فعليه مثلها ولا ينظر إلى غلاء الدراهم ولا إلى رخصها وكذلك كل ما يكال أو يوزن فالحاصل وهو أن المقبوض على وجه القرض مضمون بالمثل وكل ما كان من ذوات الأمثال يجوز فيه الاستقراض والقرض لا يتعلق بالجائز من الشروط فالفاسد من الشروط لا يبطله ولكن يلغو شرط رد شيء آخر فعليه أن يرد مثل المقبوض وكذلك ما يعد من الجوز والبيض وإن اقترض الجوز بالكيل فهو جائز لأنه يكال تارة ويعد أخرى.(14/52)
وقد بينا جواز السلم في الجوز كيلا وعددا وما فيه من خلاف زفر فكذلك حكم القرض فيه والإقراض جائز مندوب إليه لقوله صلى الله عليه وسلم "القرض مرتين والصدقة مرة" وقال صلى الله عليه وسلم: "الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر" وقيل معناه أنه لا يستقرض إلا المحتاج وقد يتصدق على غير المحتاج ثم الأصل فيه أن ما يكون مضمونا بالمثل على الغاصب والمستهلك له يجوز استقراضه لأن المقبوض بحكم القرض مضمون بالمثل من غير احتمال الزيادة والنقصان وما يكون مضمونا بالقيمة لا يجوز الاستقراض فيه لأن طريق معرفة القيمة الحزر والظن فلا تثبت به المماثلة المعتبرة في القرض كما لا تثبت به المماثلة المشروطة في مال الربا وأصل آخر وهو أن القرض في معنى العارية لأن ما يسترده المقرض في الحكم كأنه عين ما دفع أذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وذلك حرام فكل ما يحتمل حقيقة الإعارة مما ينتفع به مع بقاء عينه لا يجوز اقراضه لأن اعارته لا تؤثر في عينه حتى لا تملك به العين ولا يستحق استدامة اليد فيه فكذلك اقراضه لا يثبت ملكا صحيحا في عينه وكل ما يتأتى فيه الإعارة حقيقة مما لا ينتفع به إلا مع بقاء عينه فاقراضه واعارته سواء لأن منافعه لا تنفصل عن عينه فاقراضه واعارته تمليك لعينه.(14/53)
وإذا ثبت هذا فنقول الاقراض جائز في كل مكيل أو موزون وكذلك في العدديات المتقاربة كالجوز والبيض لأنها مضمونة بالمثل وإنما يختلفون في أقراض الخبز فالمروى عن أبي حنيفة أن ذلك لا يجوز وزنا ولا عددا وعن أبي يوسف يجوز وزنا ولا يجوز عددا وعند محمد أنه يجوز عددا قال هشام فقلت له وزنا فرأيته نفر من ذلك واستعظمه وقال من يفعل ذلك وأما السلم في الخبز فلا يجوز عند أبي حنيفة ولا يحفظ عنهما خلاف ذلك ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول يجوز عندهما على قياس السلم في اللحم ومنهم من يقول لا يجوز لما علل به في النوادر عند أبي حنيفة قال لأنه لا يوقف على حده معناه إنه يتفاوت بالعجن والنضج عند الخبز ويكون منه الخفيف والثقيل وفي كل نوع عرف لا يحصل ذلك بالآخر وما لا يوقف على حده لا يجوز السلم فيه ثم لهذه العلة أفسد أبو حنيفة الاستقراض(14/54)
ص -28- ... فيه لأن السلم أوسع من القرض حتى يجوز السلم في الثياب ولا يجوز الاستقراض فإذا لم يجز السلم في الخبز لهذا المعنى فلأن لا يجوز الاستقراض أولى وأبو يوسف يقول الخبز موزون عادة والاستقراض في الموزونات وزنا يجوز وقد بينا في البيوع أن استقراض اللحم وزنا يجوز فكذلك الخبز ولا يجوز عددا لأنه متفاوت فيه الكبير والصغير ومحمد جوز استقراضه عددا لأنه صنع الناس وقد اعتادوه وقد نقل ذلك عن إبراهيم إنه سئل عمن استقرض رغيفا فرد أصغر منه أو أكبر قال لا بأس به وهو عمل الناس قال الكرخي وإنما استعظم محمد قول من يقول لا يجوز استقراضه إلا وزنا لأنه لا يجوز الاستقراض فيه وزنا وهذا لأن إعلامه بالوزن أبلغ من إعلامه بذكر العدد فإذا جاز عنده الاستقراض فيه عددا فلان يجوز وزنا أولى ومن أصحابنا رحمهم الله من قال بل استعظم جواز استقراضه وزنا لأن القياس فيه ما قاله أبو حنيفة أنه لا يوقف على حده وإنما ترك هذا القياس محمد لتعارف الناس وذلك في استقراضه عددا فبقى استقراضه وزنا على أصل القياس.(14/55)
وأما الحيوان فلا يجوز استقراض شيء منه عندنا وقال الشافعي يجوز ذلك إلا في الجواري لما روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض بكرا ورد رباعيا وقال: "خيركم أحسنكم قضاء" ولأن الحيوان مما يثبت دينا في الذمة أما عندي في السلم وعند الكل في النكاح والخلع والصلح في دم العمد فيجوز استقراضه كالمكيل والموزون وهذا لأن القرض موجبه ملك المقبوض بعينه وثبوت مثله في الذمة والحيوان محتمل فلما كان ذلك محلا لموجب القرض كان الاستقراض جائزا إلا أن في الجواري لا أجوز الاستقراض كما لا أجوز السلم على أحد القولين وعلى القول الذي يجوز السلم فيه الفرق أن المقصود في الجواري ملك المتعة وعقد المعاوضة مشروع لإثبات ملك المتعة وأما القرض فبذل بطريق التبرع وملك المتعة لا يثبت بطريق التبرع ولا مدخل للتبرع فيه فلهذا لا يجوز فيه الاستقراض بخلاف سائر الحيوانات فإنما هو المقصود لما يعمل فيه البدل ويثبت بطريق التبرع فيجوز استقراضه.(14/56)
وحجتنا في ذلك أن هذا غير مضمون بالقيمة على مستهلكه فلا يجوز استقراضه كالجواري ولهذا تبين أنه لا يمكن إثبات الحيوان دينا في الذمة بمقابلة ما هو مال مع اعتبار المعادلة في المالية لأنه لا يصار في المستهلكات إلى القيمة إلا عند تعذر ايجاب المثل وموجب القرض ثبوت المثل في الذمة بشرط المعادلة في المماثلة فإذا تعذر ذلك في الحيوان لم يجز استقراضه وبه فارق ثبوت الحيوان في الذمة بدلا عما ليس بمال لأن ذلك ليس شرط المعادلة في المماثلة مع أنه لا يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا حتى لو أتاها بالقيمة أجبرت على قبوله ولا مدخل لذلك في القرض ابتداء وعذره في الجواري فاسد لأن المقصود ملك العين والمالية وذلك يعمل فيه البدل ويثبت بطريق التبرع ألا ترى أن ملك العين والمالية يثبت فيها بدون ملك المنفعة وهو ما إذا كانت أخته من الرضاعة أو منكوحة الغير ولأن الحيوان تنفصل منفعته عن عينه والاستقراض لا يجوز في مثله كالحر وتحقيقه ما قلنا أن الإقراض(14/57)
ص -29- ... بمنزلة الإعارة ففيما تنفصل المنفعة فيه عن العين تتأتى حقيقة الإعارة فلا حاجة إلى تصحيح الإقراض فيه وأما الحديث فإنما استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيت المال حتى روى أنه قضاه من أبل الصدقة وما كان يقضي ما استقرضه لنفسه من أبل الصدقة وبيت المال يثبت له وعليه حقوق مجهولة وقيل كان استسلف في الصدقة بكرا فإن الاستسلاف والاستقراض يتفاوت ثم لم تجب الزكاة على صاحبه المال فرده بعد ما صار رباعيا وقيل هذا كان في وقت كان الحيوان مضمونا بالمثل ثم انتسخ ذلك كما بيناه في أول الغصب فإن قبض الحيوان بحكم القرض وجب عليه رده ولو باعه نفذ بيعه وعليه ضمان قيمته لأن المقبوض بحكم قرض فاسد بمنزلة المقبوض بحكم بيع فاسد إذ الفاسد معتبر بالجائز لأنه لا يمكنه أن يجعل الفاسد أصلا في معرفة حله لأن الشرع لا يرد به فلا بد من اعتباره بالجائز وكذلك العقار والثياب الاستقراض فيها كالاستقراض في الحيوان.
وفرق علماؤنا رحمهم الله بين السلم والقرض في الثياب فقالوا الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتا صحيحا إلا مؤجلا والقرض لا يكون إلا حالا وحقيقة المعنى فيه أن المعتبر في المسلم فيه اعلام المالية على وجه لا يبقي فيه تفاوت إلا يسيرا ليكون المقصود بالعقد معلوما للعاقد وذلك في الثياب بذكر الوصف ممكن أما في باب القرض فالشرط اعتبار المماثلة في العين المقبوضة وصفة المالية وذلك لا يوجد في الثياب بدليل أنها لا تضمن بالمثل عند الاستهلاك فلهذا لا يجوز الاستقراض فيها وكذلك لا يجوز اقراض الخشب والحطب والقصب والرياحين الرطبة والبقول لأنها مضمونة بالقيمة عند الاستهلاك فأما الحناء والوسمة والريا حين اليابسة التي تكال لا بأس باستقراضها لأنها مضمونة بالمثل عند الاستهلاك.(14/58)
ولا يجوز الأجل في القرض معناه أنه لو أجله عند الإقراض مدة معلومة أو بعد الإقراض لا يثبت الأجل وله أن يطالبه به في الحال وعند مالك يثبت الأجل في القرض لأنه دين لا يستحق قبضه في المجلس فيجوز التأجيل فيه كالثمن والأجرة يدل عليه أن التأجيل أسقاط المطالبة إلى مدة وأسقاط المطالبة ببدل القرض لا إلى غاية بالأبراء صحيح فالتأجيل فيه أولى أن يصح ولنا فيه طريقان أحدهما أن المقرض متبرع ولهذا لا يصح الإقراض ممن لا يملك التبرع كالعبد والمكاتب فلو لزم الأجل فيه لصار التبرع ملزما المتبرع شيئا وهو الكف عن المطالبة إلى مضي الأجل وذلك يناقض موضوع التبرع وشرط ما يناقض موضوع العقد به لا يصح وكذلك الحاقه به لا يصح فلهذا لا يلزم الأجل فيه وإن ذكر بعد العقد والثاني أنالقرض بمنزلة العارية على ما قررنا والتوقيت في العارية لا يلزم حتى أن المعير وأن وقته سنة فله أن يسترده من ساعته فكذلك الأجل في القرض وبه يتبين الجواب عن قوله هو دين لأن بدل القرض في الحكم عين المقبوض إذ لو جعل دينا على الحقيقة كان بدلا عن المقبوض في الحكم فيكون مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وهذا بخلاف الإبراء لأنه بالإبراء يزيل ملكه وازالة الملك بالتبرع صحيح فأما بالقرض فلا يزيل ملكه فلو لزم الأجل فيه لكان يلزمه(14/59)
ص -30- ... الكف عن المطالبة بملكه إلى مضي الأجل وهو مخالف لموضوع التبرع.
فأما التأجيل في بدل الغصب والمستهلك فيجوز عندنا ولا يجوز عند زفر والشافعي رحمهما الله أما مع الشافعي فالكلام ينبني على أصل وهو أن عنده الأجل لا يثبت في شيء من الديون إلا بالشرط في عقد المعاوضة حتى قال لو أجله في الثمن بعد البيع لا يثبت الأجل لأن الشرط إنما يعتبر في ضمن العقد اللازم إما منفردا عن العقد فلا يتعلق به اللزوم ولكنا نقول ما كان دينا على الحقيقة إذا لم يكن مستحق القبض في المجلس فاسقاط القبض فيه بالإبراء صحيح فكذلك بالتأجيل أما زفر فهو يقول المستهلك مضمون بالمثل كالمستقرض فكما لا يلزم الأجل في القرض فكذلك في بدل الغصب وهذا لأن المعتبر فيهما المعادلة في صفة المالية وبين الحال والمؤجل تفاوت في المالية معنى فالتأجيل فيه بمنزلة التزام رد أجود مما قبض أو أزيف أو اردأ منه وذلك لا يكون ملزما.(14/60)
وجه قولنا: أن بدل المستهلك دين في الذمة على الحقيقة فاشتراط الأجل فيه يلزم كسائر الديون بخلاف المستقرض فإنه في حكم العين والقرض بمنزلة العارية كما بينا ولهذا قال أبو يوسف أن الملك لا يثبت للمستقرض في العين بنفس القبض والمقرض أحق باسترداده ما لم يخرجه المستقرض عن ملكه ولكنا نقول المستقرض يملك العين بالقبض لأنه يملك المنفعة ومنفعة المكيل والموزون لا تنفصل عن العين فإذا يملك العين التحق بسائر أملاكه وكان الخيار في تعيين ما يرده إلى المستقرض وهذا لأنه دين في ذمته صورة وقد جعل كالعين حكما فلا عتبار أنه دين صورة جعلنا اختيار محل القضاء إلى من في ذمته ولاعتبار أنه عين حكما قلنا لا يلزم فيه الأجل وعارية الدراهم والدنانير قرض للأصل الذي قلنا أن القرض بمنزلة العارية والعارية في كل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك لعينه يكون قرضا وهذا لأن المعير مسلط المستعير على الانتفاع بالمستعار على أن يرده عليه وفيما يجوز فيه القرض المنفعة لاتنفصل عن العين فيكون بالإعارة مسلطا له على استهلاك العين في حاجته على أن يرد عليه مثله وذلك اقراض.
قال: ألا ترى أن المستعير للدراهم لو اشترى جارية كانت له وعليه مثلها وهو أشارة لما بينا فإنه إذا اشترى جارية وجب ثمنها في ذمته وقد جوز له المعير الانتفاع بتلك الدراهم في حاجته وقضاء الدين من حاجته فكان له أن يقضي الدين بها على أن يضمن مثلها فأما الأواني من الذهب والفضة والجواهر وغيرها فليست بقرض ولكنها عوار لأن منافعها تنفصل عن عينها ولا يتعذر حكم الإعارة فيها حتى لو باعها المستعير لم يجز بيعه فيها وكذلك اللاليء وإلا كارع والرؤوس لا يجوز اقراضها والله أعلم.
باب القرض والصرف فيه
قال رحمه الله: روى عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وخمسين وسقا من تمر خيبر وعشرين وسقاً من شعير فقال لي(14/61)
ص -31- ... عاصم بن عدي: أعطيك تمرا هنا وآخذ تمرك بخيبر فقالت لا حتى أسئل عن ذلك فسألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنهاني عنه وقال كيف بالضمان فيما بين ذلك؟ وبه نأخذ فإن هذا إن كان بطريق البيع فاشتراط إيفاء بدل له حمل ومؤنة في مكان آخر مبطل للبيع وهو مبادلة التمر بالتمر نسيئة وذلك لا يجوز وإن كان بطريق الاستعراض فهذا قرض جر منفعة وهو إسقاط خطر الطريق عن نفسه ومؤنة الحمل ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة وسماه ربا.(14/62)
وعن محمد بن سيرين قال أقرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب رضي الله عنه عشرة آلاف درهم وكانت لأبي رضي الله عنه نخل بعجل فأهدى أبي بن كعب رضي الله عنه رطبا لعمر رضي الله عنه فرده عليه فلقيه أبي فقال أظننت أني أهديت إليك لأجل مالك؟ أبعث إلى مالك فخذه فقال عمر لأبي رضي الله عنهما: رد علينا هديتنا. وبه نأخذ فإن عمر رضي الله عنه إنما رد الهدية مع أنه كان يقبل الهدايا لأنه ظن أنه أهدى إليه لأجل ماله فكان ذلك منفعة القرض فلما أعلمه أبي رضي الله عنه أنه ما أهدى إليه لأجل ماله قبل الهدية منه وهذا هو الأصل ولهذا قلنا أن المنفعة إذا كانت مشروطة في الإقراض فهو قرض جر منفعة وإن لم تكن مشروطة فلا بأس به حتى لورد المستقرض أجود مما قبضه فإن كان ذلك عن شرط لم يحل لأنه منفعة القرض وإن لم يكن ذلك عن شرط فلا بأس به لأنه أحسن في قضاء الدين وهو مندوب إليه بيانه في حديث عطاء قال استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل دراهم فقضاه وأرجح له فقالوا أرجحت فقال صلى الله عليه وسلم أنا كذلك نزن فإذا جاز الرجحان له من غير شرط فكذلك صفة الجودة قالوا وإنما يحل ذلك عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه عرف ظاهر أما إذا كان يعرف أنه فعل ذلك لأجل القرض فالتحرز عنه أولى لأن المعروف كالمشروط والذي يحكي أنه كان لأبي حنيفة على رجل مال فأتاه ليطالبه فلم يقف في ظل جداره ووقف في الشمس لا أصل له لأن أبا حنيفة كان أفقه من ذلك فإن الوقوف في ظل جدار الغير لا يكون انتفاعا بملكه كيف ولم يكن مشروطا ولا مطلوبا؟(14/63)
وذكر عن الشعبي أنه كان يكره أن يقول الرجل للرجل أقرضني فيقول لا حتى أبيعك وإنما أراد بهذا إثبات كراهة العينة وهو أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسة عشر ليبيعه المستقرض بعشرة فيحصل للمقرض زيادة وهذا في معنى قرض جر منفعه والأقراض مندوب إليه في الشرع والغرر حرام إلا أن البخلاء من الناس تطرقوا بهذا إلى الإمتناع مما يدنوا إليه والأقدام على ما نهوا عنه من الغرور وبنحوه ورد الأثر إذا تبايعتم بالعين واتبعتم أذناب البقر ذللتم حتى يطمع فيكم وعن ابن عمر والحسن رضي الله عنهما قال في الرجل يكون له على الرجل دراهم فيعطيه دنانير يأخذها بقيمتها في السوق وهذا لأن عند اختلاف الجنس لا يظهر الربا بخلاف ما إذا كان الجنس واحدا كما ذكر ذلك عن الشعبي.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد(14/64)
ص -32- ... رضي الله عنه إلى مكة وقال: "أنههم عن شرطين في بيع وعن بيع وسلف وعن بيع ما لم يقبض وعن ربح ما لم يضمن" وبه نأخذ وصفة الشرطين في البيع أن يقول بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا وذلك غير جائز والبيع مع السلف أن يبيع منه شيئا ليقرضه أو يؤجله في الثمن ليعطيه على ذلك ربحا وبيع ما لم يقبض عام دخله الخصوص في غير المبيع من الصداق وغيره وظهر أن المراد النهي عن البيع مع بقاء الغرور في الملك المطلق للتصرف وذلك في المنقول دون العقار وقد بيناه في البيع وعن ربح ما لم يضمن هو في معنى هذا فإن المبيع قبل القبض ليس في ضمان المشتري فما يحصل فيه من الربح لا يطيب له وزاد في بعض الروايات عن بيع ما ليس عنده يعني ما ليس في ملكه بيانه في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله اني ربما أدخل السوق فاستجيد السلعة ثم أذهب فابيعها ثم ابتاعها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك".
وعن الشعبي قال أقرض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلا دراهم فقضاه الرجل من جيد عطائه فكره ذلك ابن مسعود رضي الله عنه فقال لا إلا من عرضه مثل دراهمي وعن عامر رحمه الله لا بأس بأن يقضي أجود من دراهمه إذا لم يشترط ذلك عليه وقد روى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعله وبه نأخذ وتأويل كراهة ابن مسعود رضي الله عنه أن الرجل إنما فعل ذلك لأجل القرض فلهذا كرهه وقد رد عمر رضي الله عنه الهدية بمثل هذا.(14/65)
وعن صلة ابن زفر قال جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه على فرس بلقاء فقال أنه أوصى إلى في يتيم فقال عبد الله رضي الله عنه لا تشتر من ماله شيئا ولا تستقرض منه شيئا وبه نأخذ فنقول ليس للوصي أن يستقرض من مال اليتيم لأنه لا يقرض غيره فكيف يستقرضه لنفسه وهذا لأن الاقراض تبرع فلا يحتمله مال اليتيم وبظاهر الحديث يأخذ محمد رحمه الله فيقول إذا اشترى الوصي من مال اليتيم لنفسه شيئا لا يجوز ولكن أبا حنيفة يقول مراده إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل على وجه لا يكون فيه منفعة ظاهرة لليتيم لأن مقصوده من هذا الأمر له أن ينفي التهمة عن نفسه وعن عطاء رحمه الله أن ابن الزبير رضي الله عنه كان يأخذ بمكة الورق من التجار فيكتب لهم إلى البصرة وإلى الكوفة فيأخذون أجود من ورقهم قال عطاء فسألت ابن عباس رضي الله عنه عن أخذهم أجود من ورقهم فقال لا بأس بذلك ما لم يكن شرطا وبه نأخذ فنقول المنهى عنه هي المنفعة المشروطة أما إذا لم تكن مشروطة فذلك جائز لأنه مقابلة الإحسان بالإحسان وإنما جزاء الإحسان الإحسان وكذلك قبول هديته وإجابة دعوته لا بأس به إذا لم يكن مشروطا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأخذ الورق بمكة على أن يكتب لهم إلى الكوفة بها وتأويل هذا عندنا أنه كان عن غير الشرط فإما إذا كان مشروطا فذلك مكروه والسفاتج التي تتعامله الناس على هذا أن أقرضه بغير شرط وكتب له سفتجة بذلك فلا بأس به وإن شرط في القرض ذلك فهو مكروه لأنه يسقط بذلك خطر الطريق عن نفسه فهو قرض جر منفعة.(14/66)
ص -33- ... رجل باع من رجل عبدا بثمن مسمى إلى شهر على أن يوفيه إياه بمصر آخر عينه فالبيع جائز لأن الثمن معلوم والأجل معلوم بالمدة إلا أن فيما لا حمل له ولا مؤنة يطالبه بالتسليم حيث يجده بعد مضي الأجل وفيما له حمل ومؤنة لا يطالبه به إلا في الموضع المشروط لأن الشرط معتبر إذا كان مقيدا غير معتبر إذا لم يكن مقيدا وهذا بخلاف القرض فإن المستقرض مضمون بالمثل فلا يجوز فيه شرط الإيفاء في مكان آخر ولأن اشتراط مكان التسليم كاشتراط زمان التسليم لأن التسليم لا يتأتى إلا بمكان وزمان وشرط الزمان في القرض للتسليم لا يلزم وهو الأجل فكذلك شرط المكان بخلاف البيع فإن لم يبين في البيع مدة الأجل والمسألة بحالها ففيما له حمل ومؤنة العقد فاسد وصورته أن يبيعه العبد بحنطة موصوفة بالكوفة على أن يسلمها بالبصرة فهذا شرط أجل مجهول لأن تعيين مكان التسلم فيما له حمل ومؤنة معتبر ولا يلزمه التسليم ما لم يأتيا ذلك المكان وأما ما لا حمل له ولا مؤنة فكذلك الجواب في ظاهر الرواية لاشتراطه الأجل المجهول لنفسه إلا أن يأتي ذلك المكان وعن أبي يوسف أنه يجوز العقد ويطالبه بالتسليم في الحال لأن التسليم فيما لا حمل له ولا مؤنة لا يتقيد بالمكان المذكور ومعنى الأجل في ضمنه فإذا لم يثبت كان الثمن حالا.(14/67)
وإذا أقرض الرجل الرجل الدراهم ثم صالحه منها على أقل من وزنها فهو جائز لأنه قبض البعض وابرأه عن البعض وكل واحد منهما صحيح في الكل فكذلك في البعض فإن فارقه قبل أن يعطيها لم يبطل الصلح لأنه لا يتمكن في هذا التصرف معني المبادلة وصحة الإبراء لا تستدعي القبض وهذا بخلاف ما لو صالحه على أن أجله فيها شهرا لأن التأجيل بعد الإقراض كالمقرون بالإقراض والمعنى الذي لأجله لا يلزم الأجل إذا اقترن بالإقراض أنه بمنزلة العارية فهو موجود في التأجيل بعد الإقراض وإن صالحه على عشرة دنانير فهو جائز إذا كان يدا بيد لتمكن معنى المبادلة في هذا الصلح بسبب اختلاف الجنس فإن افترقا قبل قبض الدنانير بطل الصلح وإن افترقا بعد ما قبض بعضها يبرأ من حصة المقبوض وعليه رد ما بقى من الدراهم اعتبارا للبعض بالكل وأن صالحه منها على ذهب تبر أو مصوغ لا يعلم وزنه جاز أن قبضه قبل الافتراق لأن ربا الفضل ينعدم عند اختلاف الجنس بخلاف ما إذا صالحه على فضة لا يعلم وزنها فهناك لاتحاد الجنس ربا الفضل يجرى وتوهم الفضل كتحققه فيما ينبني أمره على الاحتياط ووقع في بعض نسخ الأصل لو صالحه على ذهب تبر جزافا بعينه أو ورق قيل قوله أو ورق زيادة من الكاتب وقيل بل هو صحيح لأن في لفظ الصلح ما يدل على أن ما وقع عليه الصلح من الورق أقل من الدين لأن مبنى الصلح على التجوز بدون الحق فيجوز إلا أن يعلم أنه أكثر من حقه وزنا.
وإن أقرضه درهما ثم اشترى به فلوسا بعينها أو بغير عينها فهو جائز أن قبضها قبل أن يتفرقا لأن الفلوس الرائجة لا تتعين عند المقابلة بخلاف جنسها فإن فارقه قبل القبض بطل لأنه دين بدين فإن قيل ليس كذلك لأنه قابض للدرهم بذمته ولهذا يسقط عنه فكان هذا(14/68)
ص -34- ... عينا بدين. وقد بينا في بيع الفلوس بالدراهم أن قبض أحد البدلين قبل الافتراق يكفي قلنا نعم صار قابضا له بذمته ولكن دينا لا عينالأن الدين لا يتعين إلا بقبض مال عين وذلك لا يحصل بالقبض بالذمة فلا يخرج به من أن يكون دينا بدين فيكون هذا افتراقا عن دين بدين.
وإن أقرضه ألف درهم فأخذ بها كفيلا ثم صالح الكفيل الطالب على عشرة دنانير وقبضها جاز لأن الكفيل قائم مقام الأصل ويثبت في ذمته ما هو في ذمة الأصيل وصلحه مع الأصيل جائز على الدنانير بشرط القبض في المجلس فكذلك مع الكفيل ثم الكفيل يرجع على الأصيل بالدراهم لأنه بالصلح ملك ما في ذمته ولو ملكه بالأداء أو بالهبة رجع به على الأصل فكذلك إذا ملكه بالصلح ولو صالحه على مائة درهم لم يرجع على المكفول عنه إلا بمائة درهم لأن الطالب هنا يتبرأ عما زاد على مائة والكفيل لا يتملك المكفول به بالإبراء فلا يرجع إلا بقدر ما أدى والطالب له أن يرجع بتسعمائة على المكفول عنه.
قال الشيخ الإمام الأجل أبو بكر محمد بن الفضل لم يذكر فضل رجوع الطالب على المطلوب هنا وإنما ذكره في موضع آخر ووجه ذلك أن الصلح مع الكفيل على مائة درهم بمنزلة إبراء الطالب عن الباقي وبراءة الكفيل لا توجب براءة الأصيل فكان للطالب أن يرجع بالتسعمائة الباقية لهذا بخلاف الأول ففي الصلح هناك معنى المبادلة لاختلاف الجنس فيصير به متملكا جميع الألف ولا مبادلة هنا فإن مبادلة المائة بالألف ربا.(14/69)
قال: ولو أن المكفول عنه صالح الكفيل قبل أن يؤدي الكفيل المال إلى الطالب على عشرة دنانير ودفعها إليه كان جائزا لأن بالكفالة كما وجب المال للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الأصيل ولكنه مؤجل إلى أن يؤدى والصلح عن الدراهم المؤجلة على دنانير صحيح بشرط القبض في المجلس فإن أدى المكفول عنه الدراهم بعد ذلك رجع به على الكفيل إلا أن يشاء الكفيل أن يرد الدنانير التي أخذ لأنه إنما أعطاه ليسقط مطالبة الطالب عنه ولم تسقط فله أن يرجع به عليه كما لو أعطاه جنس المال ثم الكفيل صار مستوفيا منه الدراهم بطريق الصلح ومبنى الصلح على الأغماض والتجوز بدون الحق فإذا من لزمه الرد تخير بين أن يرد المقبوض بعينه وبين أن يرد ما صار مستوفيا بالمقاصة من الدراهم ولو كان صالحه على مائة درهم لم يرجع عليه إلا بها لأن ما زاد على المائة الكفيل مبرئ للأصيل وفي المائة مستوف فلا يلزمه إلا رد ما استوفى وإذا أقرض الرجل الرجل ألف درهم وقبضها منه وأمره أن يصرفها له فصرفها له بالدنانير فلا يجوز على الطالب لأنه لا دين عليه فإن رضى الطالب أن يأخذ الدنانير ففعل ذلك فهو جائز كما لو استبدل معه دراهم القرض بالدنانير هكذا في رواية أبي سليمان من غير تنصيص على الخلاف فيه وفي رواية أبي حفص قال هذا قول أبي حنيفة أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فهو جائز على الطالب سواء صرف الدراهم بالدنانير أو الدنانير بالدراهم وسواء قبضه الطالب في المجلس أو بعده وهو الصحيح والمسألة تنبني على ما بينا في كتاب البيوع.(14/70)
ص -35- ... وإذا قال الطالب للمطلوب أسلم مالي عليك في كر حنطة وقد قررنا الخلاف في تلك المسألة فكذلك في هذه إذ لا فرق بين أن يأمره بالصرف مع غير المعين أو السلم عندهما يصح في الوجهين جميعا باعتبار أنه أضاف الوكالة إلى ملكه فالدين في ذمة المديون ملك الطالب وعند أبي حنيفة لا يجوز في الوجهين لأنه أمره بدفع الدين إلى من يختاره لنفسه وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فدفع المطلوب إلى الطالب دنانير وقال اصرفها وخذ منها فقبضها فهلكت قبل أن يصرفها هلكت من مال الدافع والمدفوع إليه مؤتمن لأنه قبض الدنانير بحكم الوكالة والوكيل أمين فيما دفعه الموكل إليه من ماله فإن صرفها وقبض الدراهم فهلكت قبل أن يأخذ منها حقه هلكت من مال الدافع أيضا لأنه في القبض بحكم العقد عامل للأمر فهلاكه في يده كهلاكه في يد الآمر حتى يأخذ منها حقه فإذا أخذ حقه وضاع ما أخذه فهو من ماله لأنه في هذا الأخذ عامل لنفسه وإنما يصير آخذا حقه بأحداث القبض فيه لأجل نفسه ولو دفعه إليه المطلوب قضاء لحقه كان داخلا في ضمانه فكذلك إذا قبضه بأمره وإن قال بعها بحقك فباعها بدراهم مثل حقه وأخذها فهو من ماله لأنه بالبيع ممتثل أمره وإنما يكون ذلك إذا كان في القبض عاملا لنفسه حتى يتحقق كونه تابعا بحقه بخلاف الأول فإن هناك أمره بالبيع للأمر فكان في القبض عاملا للآمر ما لم يستوف حقه من المقبوض.(14/71)
وإذا اشترى بيعا على أن يقرضه فهذا فاسد لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط والمراد شرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين لا يقتضيه العقد وقد وجد ذلك وإذا أقرض المرتد أو استقرض فقتل على ردته فقرضه الذي عليه دين في ماله أما لأن تصرفه قد بطل فبقى هو قابضا مال الغير على وجه التملك وذلك موجب الضمان عليه أو لأن تصرفه من حيث الاستقراض صحيح فإن توقف تصرفه لحق الورثة واستقراضه لا يلاقي محلا فيه حق الورثة فإن قيل أليس العبد المحجور إذا استقرض واستهلك لم يلزمه ضمانه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ما لم يعتق فكذلك المحجور بسبب الردة ينبغي أن لا يكون ضامنا ما استقرض في ماله الذي هو حق الورثة.
قلنا: العبد يصح منه التزام الضمان بالاستقراض في حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد العتق فكذلك من المرتد يصح الإلتزام في حق نفسه ثم حقه في المال يقدم على حق الورثة ولهذا يقضي سائر الديون من ماله فكذلك هذا الدين وما أقرضه المرتد فهو دين على صاحبه لأنه قبضه بشرط الضمان وذلك موجب عليه في حق المرتد وفي حق ورثته واقراض المرتدة واستقراضها جائز كما يجوز سائر تصرفاتها ولا يجوز اقراض العبد التاجر والمكاتب والصبي والمعتوه لأنه تبرع وهؤلاء لا يملكون التبرع.
وإذا أقرض الرجل صبيا أو معتوها فاستهلكه لا ضمان عليه هكذا أطلق في نسخ أبي حفص وفي نسخ أبي سليمان قال وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أما في قول أبي يوسف فهو ضامن لما استهلك وهو الصحيح لأنه بمنزلة الوديعة لأنه سلطه على(14/72)
ص -36- ... الاستهلاك بشرط الضمان وتسليط الصبي على الاستهلاك صحيح وشرط الضمان عليه باطل وقد قررنا هذه الطريقة في كتاب الوديعة فهي في القرض أظهر.
وإن أقرض عبدا محجورا عليه فاستهلكه لم يأخذه به حتى يعتق وهو على الخلاف الذي بينا وإن لم ينص عليه وعند أبي يوسف يؤاخذ به في الحال كما في الوديعة وإن وجد المقرض ماله بعينه عند واحد من هؤلاء فهو أحق به لأنه عين ملكه.
وإذا باع الرجل دراهم بدراهم إلى أجل وقبض فهو فاسد لوجود المجانسة والقدر والنسا حرام عند وجود أحد الوصفين فعند وجودهما أولى والمقبوض بمنزلة القرض حال عليه فإن وجد دراهمه بعينها فللآخر أن يعطيه غيرها لأنه قرض عليه واختيار محل قضاء بدل القرض إلى من عليه وقد بينا فيه خلاف أبي يوسف وفي نسخة أبي سليمان ليس للآخر أن يعطيه غيرها وهذا هو الأصح لأنها مقبوضة بحكم عقد فاسد فيجب ردها بعينها على ما بينا أن الدراهم تتعين بالقبض وإن كانت لا تتعين بالعقد والله أعلم بالصواب.
باب الرهن في الصرف(14/73)
قال رحمه الله: وإذا اشترى عشرة دراهم بدنانير ونقده الدنانير وأخذ بالعشرة رهنا يساويها فهلك الرهن في يده قبل أن يتفرقا فهو بما فيه وقد بينا في البيوع حكم الرهن برأس مال السلم فبدل الصرف فيه مثله ثم بقبض الرهن تثبت له يد الاستيفاء ويتم ذلك بهلاك الرهن ويصير بهلاك الرهن مستوفيا عين حقه من مالية الرهن لا مستبدلا فلهذا بقى عقد الصرف وكذلك لو اشترى سيفا محلى بدنانير أو بمائة درهم وقبض السيف وأخذ ثمنه رهنا فيه وفاء فهلك قبل أن يتفرقا ولو نقده الثمن وأخذ رهنا بالسيف وفيه وفاء فهلك الرهن عنده قبل أن يتفرقا فإنه يقضي له بالسيف لأن أخذ الرهن بالأعيان لا يجوز لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء واستيفاء العين من العين غير ممكن فيبقى السيف على ملكه بعد هلاك الرهن ويقضي عليه بالأقل من قيمة السيف ومن قيمة الرهن لأنه قبض الرهن على جهة الاستيفاء والمقبوض على جهة الشيء كالمقبوض على حقيقته في حكم الضمان وكذلك لو كان مكان السيف منطقة أو سرج مفضض أو أناء مصوغ أو فضة تبر وهذا دليل على أن التبر يتعين بالتعيين في العقد في أنه جعله كالسيف في أنه لا يجوز أخذ الرهن بعينه فإن هلك الرهن بعد ما تفرقا قبل القبض فقد بطل عقد الصرف بالافتراق لأن تمام الاستيفاء بهلاك الرهن فالافتراق قبله مبطل لعقد الصرف ولكن المرتهن ضامن الأقل من قيمة الرهن ومما رهن به سواء كان رهنا بالثمن أو بالمثمن لأن الضمان حكم يثبت بالقبض والقبض باق بعد ما بطل عقد الصرف بالافتراق فعند هلاك الرهن يتم الاستيفاء فيما انعقد ضمانه بالقبض وقد بطل العقد الموجب للاستيفاء فيلزمه رد المستوفي كما لو استوفاه حقيقة والله أعلم.(14/74)
ص -37- ... باب الصرف في المعادن وتراب الصواغين
قال رحمه الله: ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال كان أهل الجاهلية إذا هلك الرجل في البئر جعلوها عقله وإذا جرحته دابة جعلوها عقله وإذا وقع عليه معدن جعلوه عقله فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال "العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" قالوا وما الركاز قال "الذهب الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقها" والمراد بالعجماء الدابة لأنها بهيمة لا تنطق ألا ترى أن الذي لا يفصح يسمى أعجميا والجبار الهدر وفيه دليل أن فعل الدابة هدر لأنه غير صالح بأن يكون موجبا على صاحبها ولا ذمة لها في نفسها وفي بعض الروايات قال "والرجل جبار" والمراد أن الدابة إذا رمحت برجلها فلا ضمان فيه على السائق والقائد لأن ذلك لا يستطاع الإمتناع منه بخلاف ما لو كدمت الدابة أو ضربت باليد حيث يضمن لأن في وسع الراكب أن يمنعه بأن يرد لجامه وأما البئر والمعدن فجبار لأن سقوطه بعمل من يعالجه فيكون كالجاني على نفسه وفيه دليل لنا على وجوب الخمس في المعدن فقد أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس في الركاز ثم فسر الركاز بالمعدن وهو الذهب المخلوق في الأرض حين خلقت فإن الكنز موضوع العباد واسم الركاز يتناولهما لأن الركز هو الإثبات يقال ركز رمحه في الأرض وكل واحد منهما مثبت في الأرض خلقة أو وضعا.(14/75)
وعن عامر رحمه الله قال: وجد رجل ألف درهم وخمسمائة درهم في قرية خربة فقال علي رضي الله عنه سأقضي فيها قضاء بينا أن كنت وجدتها في قرية يؤدي خراجها قوم فهم أحق بها منك وإن كنت وجدتها في قرية ليس يؤدي خراجها أحد فخمسها لبيت المال وبقيتها لك وسنتمها لك فجعل الكل له وفيه دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله على أن واجد الكنز في ملك الغير لا يملكه ولكن يردها على صاحب الخطة وهو أول مالك كان لهذه الأرض بعد ما افتتحت وفيه دليل وجوب الخمس في الكنز وإن للإمام أن يضع ذلك في الواحد إذا رآه محتاجا إليه وله أن يضع ذلك في بيت المال كما رواه عن علي رضي الله عنه في الحديث الآخر قال إن كانت قرية خربت على عهد فارس فهم أحق به وإن كانت عادية خربت قبل ذلك فهو للذي وجده فوجدوها كذلك فأدخل خمسه بيت المال وأعطي الرجل بقيته.
وعن مسروق: أن رجلا وجد كنزا بالمدائن فدفعه إلى عامله فأخذه كله فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت بفيه الكثكث يعني التراب فهلا أخذ أربعة أخماس المال ودفع إليه خمسة وهذا مثل في العرب معروف للجانب المخطئ في عمله وهو مراد عائشة رضي الله عنها بما قالت يعني أنه خاب وخسر لخطئه فيما صنع في دفعه الكل إلى العامل فقد كان له أن يخفي مقدار حقه في ذلك ولا يدفع إلى العامل إلا قدر الخمس وعن جبلة بن حميد عن رجل منهم خرج في يوم مطير إلى دير خربة فوقعت فيه ثلمة فإذا استوقة أو جرة(14/76)
ص -38- ... فيها أربعة آلاف مثقال ذهب قال فأتيت بها عليا رضي الله عنه فقال أربعة أخماسها لك والخمس الباقي منه أقسمه في فقراء أهلك وهذا دليل على جواز وضع الخمس في قرابة الواحد وإن للإمام أن يفوض ذلك إليه كما له أن يفعله بنفسه لأن خمس الركاز في معنى خمس الغنيمة ووضع ذلك في قرابة الغانمين جائز إذا كانوا محتاجين إليه
وعن الحارث الأزدي قال وجد رجل ركازا فاشتراه منه أبي بمائة شاة تبيع فلامته أمي وقالت اشتريته بثلثمائة أنفسها مائة وأولادها مائة وكفايتها مائة فندم الرجل فاستقا له فأبي أن يقيله فقال لك عشر شياه فأبى فقال لك عشرة أخرى فأبى فعالج الركاز فخرج منه قيمة ألف شاه فأتاه الآخر فقال خذ غنمك واعطني مالي فأبى عليه فقال لأضرنك فأتى عليا رضي الله عنه فذكر ذلك له فقال علي رضي الله عنه إذ خمس ما وجدت للذي وجد الركاز فأما هذا فإنما أخذ ثمن غنمه وفيه دليل على أن بيع المعدن بالعروض جائز.
وقوله: بمائة شاة تبيع أي كل شاة يتبعها ولدها وهي حامل بأخرى وهذا معنى ملامها إياه حيث قالت اشتريتها بثلاثمائة والمراد بقولها وكفايتها حملها وقيل المراد لبنها وفيه دليل على أن المتصرف لا ينبغي له أن يبني تصرفه على رأي زوجته فإنه ندم بناء على رأيها ثم خرج له منه قيمة ألف شاة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "شاوروهن وخالفوهن". وفيه دليل على أن خمس الركاز على الواجد دون المشتري وأن بيع الواجد قبل أداء الخمس جائز في الكل فيكون دليلا لنا على جواز بيع مال الزكاة بعد وجوب الزكاة فيه وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمرء أن يقصد الإضرار بالغير فيكون ذلك سببا للحوق الضرر به كما ابتلى به هذا الرجل وهذا معنى ما يقال من حفر مهواة وقع فيها ويقال المحسن يجزى بإحسانه والمسيء ستلقيه مساويه.(14/77)
وعن الشعبي قال: لاخير في بيع تراب الصواغين وهو غرر مثل السمك في الماء وبه نأخذ فالمقصود ما في التراب من الذهب والفضة لا عين التراب فإنه ليس بمتقوم وما فيه ليس بمعلوم الوجود والصفة والقدر فكان هذا بيع الغرر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر ولكن هذا إذا لم يعلم هل فيه شيء من الذهب والفضة أم لا فإن علم وجود ذلك فبيع شيء منه معين بالعروض جائز على ما بينه إن شاء الله
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجد في الطريق العام فقال صلوات الله عليه: "عرفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك" وفيه دليل على أن الملتقط عليه التعريف في اللقطة وبظاهره يستدل الشافعي ويقول له أن يتملكها بعد التعريف وإن كان غنيا ولكنا نقول مراده فاصرفها إلى حاجتك لأنه صلى الله عليه وسلم علمه محتاجا وعندنا للفقير أن ينتفع باللقطة بعد التعريف قال فإن وجدها في الخرب العادي ففيها وفي الركاز الخمس والمراد بالركاز المعدن لأنه عطفه على الكنز وإنما يعطف الشيء على غيره لا على نفسه وكل من احتفر من المعدن فعليه خمس ما وجد وله أربعة أخماسه لما(14/78)
ص -39- ... روينا من الأثر قال وأكره أن تتقاسموا التراب ولا أجيزه وإن فعلوا حتى تخلص تقاسمونه على ما يخلص من ذلك لما بينا أن المقصود ما في التراب وحقهم في ذلك سواء وعند قسمة التراب لا يعلم مقدار ما يصل من المقصود إلى كل واحد منهم فهم في معنى قسمة الذهب والفضة مجازفة وذلك لا يجوز كما لا يجوز البيع فيه مجازفة بجنسه.
ولو اشترى معدن فضة بفضة لم يجز لأنه لا يدري أن ما في تراب المعدن من الفضة مثل الفضة الأخرى أو أقل أو أكثر والأخذ بالاحتياط في باب الربا واجب قال ابن مسعود رضي الله عنه كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام وقال صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا وقد غلب الحرام الحلال" وقال في الربا: "من لم يأكله أصابه من غباره" وكذلك أن اشتراه بذهب أو فضة فلعل ما في التراب من الفضة مثل المنفصل فيكون الذهب ربا لأنه فضل خال عن العوض فالتراب ليس بمتقوم وإن اشتراه بذهب جاز لأن ربا الفضل لا يجوز عند اختلاف الجنس وكان بالخيار إذا خلص ذلك منه ورأى ما فيه لأنه إنما كشف له الحال الآن ولا يتم رضاه إلا بذلك فكان الخيار إليه كمن اشترى شيئا لم يره وكذلك لو اشتراه بعرض وكذلك تراب معدن من الذهب إذا اشتراه بذهب لم يجز وإن اشتراه بفضة أو عرض جاز لانعدام الربا بسبب اختلاف الجنس وإذا احتفر موضعا من المعدن ثم باع تلك الحفرة فإن بيعه باطل لأنه باع ما لا يملك فإن تلك الحفرة لم يملكها بمجرد الحفر لأن الملك إنما يثبت بالإحراز وهو لم يحرزه فإن احرازه فيما رفع من التراب دون الباقي في مكانه فهو كبيع صخرة من الجبل قبل أن يحرزها ويخرجها وتأويل حديث علي رضي الله عنه أن الرجل كان أحرز بعضها فباع ذلك المحرز بمائة شاة وباع له الباقي ولهذا قال علي رضي الله عنه أد خمس ما وجدت من الركاز يعني ما أحرزته وكذلك أن أعطاها رجلا على أن يعوضه منها عوضا فهو باطل لأنه ملك ما لا يملك واشتراط العوض عليه في(14/79)
إخراج المباح وذلك باطل فرجع في عوضه وما احتفر الرجل من الحفرة فأحرزه فهو له بالإحراز وعليه الخمس في ذلك.
وإن استأجر الرجل الأجير يعمل معه بتراب معدن معروف فهو جائز إذا كان يعلم أن فيه شيئا من الذهب أو الفضة لأن جهالة مقداره لا تفضي إلى المنازعة لما كان التراب معينا معروفا وله الخيار إذا رأى ما فيه كمن أجر نفسه بعوض لم يره فهو بالخيار إذا رآه.
وإن استأجره بوزن من التراب مسمى بغير عينه لم يجز لأن المقصود ما في التراب وذلك لا يصير معلوما بذكر وزن التراب فقد يكثر ذلك في البعض ويقل في البعض الآخر وينعدم في البعض وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وكذلك لو اشترى عرضا بوزن من التراب بغير عينه فهو باطل لما قلنا وإن كان لرجل على رجل دين فاعطاه به ترابا بعينه يدا بيد فإن كان الدين فضة فاعطاه تراب فضة لم يجز لتوهم الفضل فيما أعطاه وإن أعطاه تراب ذهب أو تراب جاز لاختلاف الجنس وهو بالخيار إذا رأى ما فيه.(14/80)
ص -40- ... وإذا استقرض الرجل من الرجل تراب ذهب أو تراب فضة فإنما عليه مثل ما يخرج من ذلك التراب من الذهب والفضة بوزنه لأن المقصود ما فيه واستقراضه جائز فيكون مضمونا بالمثل والقول فيه قول المستقرض لأنه منكر للزيادة التي يدعيها المقرض وإن كان استقراض التراب على أن يعطيه ترابا مثله لم يجز معناه أن الشرط لا يجوز لأن في هذا الشرط زيادة أو نقصانا فيما استقرضه مما هو المقصود ومثل هذا الشرط في القرض باطل وكذلك لو اشتراه شراء فاسدا واستهلك التراب فعليه مثل ما فيه من ذهب أو فضة والقول في مقداره قول الضامن لأن العقد لا يتناول عين التراب لأنه ليس بمتقوم وإنما يتناول ما فيه وإن اشترى تراب فضة بتراب فضة أو تراب ذهب بتراب ذهب لم يجز تساويا أو تفاضلا لأن المعقود عليه ما في التراب وبالمساواة في وزن التراب لا تحصل المماثلة فيما هو المقصود وهو شرط جواز العقد وإن اشترى تراب ذهب بتراب فضة جاز كما يجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة وكل واحد منهما بالخيار إذا رأى ما فيه لأن المقصود صار معلوما له الآن والله أعلم.
باب صرف القاضي(14/81)
قال رحمه الله: وحكم القاضي في الصرف وحكم وكيله وأمينة كحكم سائر الناس لأنه فيما يباشر من العقود ليس بقاض وإن كان قاضيا فمباشرة العقد على وجه القضاء تستدعي من الشرائط ما تستدعيه مباشرته لا على وجه القضاء وإن كان لليتيم دراهم فصرفها الوصي بدنانير من نفسه بسعر السوق لم يجز لأنه ليس في هذا الصرف منفعة ظاهرة لليتيم وهو شرط نفوذ تصرف الوصى فيما يعامل نفسه وكذلك لو كان في حجره يتيمان لأحدهما دراهم وللآخر دنانير فصرفها الوصي بينهما لم يجز لأنه أن نفع أحدهما فقد أضر بالآخر وهو لا ينفرد بالتصرف إلا بشرط منفعة ظاهرة وإذا اشترى من مال اليتيم شيئا لنفسه نظرت فيه فإذا كان خيرا لليتيم امضيت البيع فيه وإلا فهو باطل وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله وفي قوله الأول وهو قول محمد لا يجوز أصلا للاثر الذي روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه والمسألة مذكورة في كتاب الوصايا أما أبو الصبي أو جده أبو أبيه بعد موت الأب فلا يملك التصرف مع نفسه بمثل القيمة لأن شفقته تحمله على أن لا يترك النظر له فلا حاجة فيه إلى المنفعة الظاهرة لليتيم بخلاف الوصي.
وإن اشترى تراب الصواغين بذهب أو فضة أو بذهب وفضة فلا خير فيه لأنه لا يدري لعل فيه من أحد النقدين خاصة مثل الذي بمقابلته من ذلك النوع فيكون النوع الآخر ربا وأن اشتراه بغير الفضة والذهب جاز وله الخيار إذا رآه وعلم ما فيه لأن المقصود الآن صار معلوما له وكذلك إذا كان يعلم أن فيه ذهبا وفضة فاشتراه بذهب وفضة يجوز على أن يصرف الجنس إلى خلاف الجنس وقد بينا نظيره في بيع الجنسين بجنسين وإن اشتراه بسيف محلى أو منطقة مفضضة أو قلادة فيها ذهب ولؤلؤ وجوهر فلا خير فيه لأن من الجائز أن ما في التراب مثله الحلية فيبقي السيف ربا وإن علم أن فيه ذهبا وفضة فلا بأس بأن يشتريه بفضة(14/82)
ص -41- ... وجوهر أو بذهب وعرض من العروض على ما بينا أن تصحيح العقد هنا ممكن بأن يصرف المثل إلى المثل والباقي بإزاء العروض والحكم في تراب معدن فضة ومعدن ذهب يشتريهما رجل جميعا على ما بينا في تراب الصواغين لاشتمال التراب على الذهب والفضة جميعا وشرط الخيار في ذلك كله مفسد للبيع وكذلك التفرق قبل القبض لأن العقد صرف باعتبار المقصود وهو ما في التراب.
ولو اشتري ذهبا وفضة لا يعلم وزنهما بفضة وذهب لا يعلم وزنهما جاز بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس ولا يجوز بيع العطاء والرزق فالرزق اسم لما يخرج للجند من بيت المال عند رأس كل شهر والعطاء اسم لما يخرج له في السنة مرة أو مرتين وكل ذلك صلة يخرج له فلا يملكها قبل الوصول إليه وبيع ما لا يملك المرء لا يجوز وكذلك أن زيد في عطائه فباع تلك الزيادة بالعروض أو غيرها فهو باطل وهو قول الشعبي وبه نأخذ وكان شريح يجوز بيع زيادة العطاء بالعروض ولسنا نأخذ بهذا الآن زيادة العطاء كأصله في أنه لا يملكه قبل القبض ولو كان مملوكا له كان دينا وبيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز فإذا لم يجز هذا فيما هو دين حقيقة فكيف يجوز في العطاء ولكن ذكر عن إبراهيم وشريح رحمهما الله أنهما كانا يجوزان الشراء بالدين من غير من عليه الدين وقد بينا أن زفر أخذ بقولهما في ذلك والله أعلم.
باب الإجارة في الصياغة(14/83)
قال رحمه الله: وإن استأجر أجيرا بذهب أو فضة يعمل له في فضة معلومة يصوغها صياغة معلومة فهو جائز وكذلك الحلى والآنية وحلية السيف والمناطق وغيرها لأنه استأجره لعمل معلوم ببدل معلوم فلا تشترط المساواة بين الأجرة وبين ما يعمل فيه من الفضة في الوزن لأن ما يشترط له من الأجرة بمقابلة العمل لا بمقابلة محل العمل وكذلك إذا استأجره ليخلص له ذهبا أو فضة من تراب الصواغين أو تراب المعادن إذا اشترط من ذلك شيئا معلوما لأن مقدار عمله بعد تعيين المحل معلوم عند أهل الصنعة على وجه لا تمكن فيه منازعة وكذلك أن استأجره ليفضض له حليا أو ينقش بنقش معروف فذلك جائز لأن العمل معلوم والبدل بمقابلته معلوم وكذلك أن استأجره ليموه له لجاما فإن اشترط ذهب التمويه على الذي يأخذ الأجر فلا خير فيه لأن مقدار ما يحتاج إليه من الذهب للتمويه غير معلوم ولأن العقد في ذلك صرف فلا بد من التقابض في المجلس ولم يوجد وإن استأجره بدراهم ليموه له حرزا بقيراط ذهب فهذا باطل إلا أن يقبض الدراهم ويقبض ذلك القيراط ثم يرده إليه ويقول موه به وكذلك أن استأجره بذهب أكثر من ذلك فإنه لا يجوز إلا أن يتقابضا لأن العقد في الذهب صرف.
ولو استأجره بعرض أو بشيء من المكيل أو الموزون بعينه على أن يموه له ذلك بذهب أو فضة مسمى فهو جائز لأن بعض العرض بمقابلة الذهب المسمى يكون تبعا والقبض في(14/84)
ص -42- ... المجلس ليس بشرط في بيع العين بالدين وبعضه بمقابلة العمل وهي أجارة صحيحة فإن عمله فقال المستأجر لم يدخل فيه ما شرطت لي وقال الآخر قد فعلت فالقول قول المستأجر مع يمينه لانكاره القبض في بعض ما استحقه بالبيع ثم يعطي المموه قيمة ما زاد التمويه في متاعه إلا أن يرضى أن يأخذ بقوله لأنه أقام أصل العمل ولكنه غيره عن الصفة المشروطة عليه فإن رضي بأن يأخذ بقوله فقد وجد إبقاء المشروط وإلا فعليه قيمة ما زاد التمويه في متاعه وقد بينا نظائره في باب الاستصناع من كتاب الإجارات في مسألة الصياغ
وإن استأجره يحمل له مالا من أرض إلى أرض أو ذهبا أو فضة مسماة فهو جائز وكذلك تراب المعادن أو تراب الصياغة لأنه عمل معلوم ببيان المسافة والمحمول وكذلك لو استأجره يبيع له ذلك شهرا فالمعقود عليه منافعه وهي معلومة ببيان المدة بخلاف ما لو استأجره ليبيع هذا العبد بعينه حيث لا يجوز لأن الإجارة وردت على البيع والبيع ليس في وسعه فهو بمنزلة ما لو استأجر إنسانا للتذرية ولم يبين المدة حيث لا يجوز ولو استأجره يحفر له في هذا المعدن عشرة أذرع بكذا فهو جائز ولو استأجره لينقي تراب المعدن أو تراب الصياغة بنصف ما يخرج منه كان فاسدا لأن الأجر مجهول ووجوده على خطر وهو استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون بمعنى قفيز الطحان فله أجر مثله لأنه أوفي المنفعة بعقد فاسد.(14/85)
وإن استأجر إناء فضة أو حلى ذهب يوما بذهب أو فضة جاز لأن المستأجر منتفع به لبسا أو استعمالا والبدل بمقابلة المنفعة دون العين فلا يتحقق الربا فيه ولو استأجر منه ألف درهم أو مائة دينار بدرهم أو ثوب لم يجز قال لأنه ليس بإناء يريد أنه لا ينتفع به مع بقاء عينه ومثله لا يكون محلا للأجارة وإنما يرد عقد الإجارة على ما ينتفع به مع بقاء عينه وقد بينا أن الإعارة في الدراهم والدنانير لا تتحقق ويكون ذلك قرضا فكذلك الإجارة ولو استأجر سيفا محلى أو منطقة أو سرجا مدة معلومة بدراهم أكثر مما فيه أو أقل فهو جائز لأن الانتفاع بهذه الأعيان مع بقاء العين ممكن والبدل بمقابلة المنفعة دون الحلية ولو استأجر صائغا يصوغ له طوق ذهب بقدر معلوم وقال زد في هذا الذهب عشرة مثاقيل فهو جائز لأنه استقرض منه تلك الزيادة وأمره أن يخلطه بملكه فيصير قابضا كذلك ثم استأجره في إقامة عمل معلوم في ذهب له ولأن هذا معتاد فقد يقول الصائغ لمن يستعمله أن ذهبك لا يكفي لمن تطلبه فيأمره أن يزيد من عنده وإذا كان أصل الاستصناع يجوز فيما فيه التعامل فكذلك الزيادة فإن قال قد زدت فيه عشرة مثاقيل وقال رب الطوق إنما زدت فيه خمسة فإن لم يكن محشوا بوزن الطوق ليظهر به الصادق منهما فإن كان محشوا فالقول قول رب الطوق مع يمينه لانكاره القبض في الزيادة على خمس مثاقيل إلا أن يشأ الصائغ أن يرد عليه مثل ذهبه ويكون الطوق للصائغ لأن الطوق في يده وهو غير راض بإزالة يده عنه ما لم يعطه عشرة مثاقيل وقد تعذر ذلك بيمين رب الطوق فكان للصائغ أن يمسك الطوق ويرد عليه مثل ذهبه قال وهذا لا يشبه الأول يريد به مسألة الحرز فقد بينا هناك أن الخيار لصاحب الحرز لأن ذهب(14/86)
ص -43- ... التمويه صار مستهلكا لا يتخلص من الحرز بمنزلة الصبغ في الثوب فكان الخيار لصاحب الحرز وهنا عين ما زاد من الذهب قائم في الطوق فالصائغ فيه كالبائع فيكون له أن يمتنع من تسليمه ما لم يصل إليه كمال العوض.
وإن أمر الصائغ أن يصوغ له خاتم فضة فيه درهم بنصف درهم وأراه القدر وقال لتكون الفضة علي قرضا من عندك لم يجز لأن الفضة للصائغ كلها والمستقرض لا يصير قابضا لها فيبقى الصائغ عاملا في ملك نفسه ثم بائعا منه الفضة بأكثر من وزنها وذلك لا يجوز بخلاف الأول فهناك المستقرض يصير قابضا للذهب يخلطه بملكه فإنما يكون الصائغ عاملا له في ملكه فلهذا يستوجب الأجر عليه وفي مسألة الخاتم يفسد أيضا لعلة أخرى وهو أنه صرف بالنسيئة وذلك لا يجوز سواء كان بمثل وزنة أو أكثر والله أعلم
باب الغصب في ذلك
قال رحمه الله: رجل غصب رجلا قلب فضة أو ذهب فاستهلكه فعليه قيمته مصوغا من خلاف جنسه عندنا وعند الشافعي عليه قيمته من جنسه بالغة ما بلغت لأن من أصله أن للجودة والصنعة في الذهب والفضة قيمة وإن قوبلت بجنسها وعندنا لا قيمة للجودة والصنعة عند مقابلتها بجنسها فلو ضمن قيمتها من جنسها بالغة ما بلغت أدى إلى الربا وإن ضمن مثل وزنها ففيه إبطال حقه في الصنعة فلمراعاة الجانبين قلنا يعتبر قيمتها من خلاف جنسها وعند الشافعي رحمه الله يضمن قيمتها من جنسها بالغة ما بلغت لأن للصنعة عنده قيمة وإن قوبلت بجنسها والربا إنما يكون شرطا في العقد فأما في ضمان المغصوب والمستهلكات فلا يتمكن الربا بناء على أصله أن ضمان الغصب لا يوجب الملك في المضمون وعندنا يوجب الملك وقد تقدم بيان الأصلين في كتاب البيوع والغصب.(14/87)
والقول في الوزن والقيمة قول الغاصب مع يمينه لأنه منكر للزيادة والطالب مدع لذلك فعليه البينة وكذلك الرجل يكسر إناء فضة أو ذهب لرجل فعليه قيمة من خلاف جنسه سواء قل النقصان بالكسر أو كثر لأن إيجاب ضمان النقصان عليه متعذر فإن الوزن باق بعد الكسر ولا قيمة للصنعة بانفرادها ولو رجع بضمان النقصان كان آخذا عين ماله وزنا مع زيادة وتلك الزيادة ربا فلمراعاة حقه في الصنعة قلنا يضمنه القيمة من خلاف جنسه ويدفع المكسور إليه بالضمان وإن شاء أمسك المكسور ولم يرجع بشيء لأن شرط التضمين تضمين المكسور إليه فإذا أتى ذلك كان مبرئا له بخلاف الثوب إذا أحرقه فهناك بالحرق اليسير يضمنه النقصان فقط وفي الحرق الفاحش له أن يمسك الثوب ويضمنه النقصان لأن الثوب ليس بمال الربا فكانت الصنعة فيه متقومة فايجاب ضمان النقصان فيه لا يؤدي إلى الربا فإن قضي القاضي عليه بالقيمة وافترقا قبل أن يقبضها فذلك لا يضر عندنا وعلى قول زفر رحمه الله يبطل قضاء القاضي بافتراقهما قبل القبض لأن ما جرى بينهما صرف فإن تمليك الفضة المكسوة بالذهب والتقابض في المجلس شرط في الصرف ولأجله يثبت حكم الربا فيه حتى لا يقوم(14/88)
ص -44- ... بجنسه فكذلك يثبت حكم التقابض وبأن كان يجبر عليه في الحكم لا ينعدم معنى الصرف فيه في حكم التقابض في المجلس كمن اشترى دارا بعبد وفي الدار صفائح من ذهب ثم حضر الشفيع وقضى القاضي له بالشفعة بقيمة العبد يشترط قبض حصة الصفائح في المجلس لأن العقد فيه صرف.
وحجتنا في ذلك أن استرداد القيمة عند تعذر رد العين كاسترداد العين فإن القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين ولو قضى القاضي على الغاصب برد عين القلب لا يشترط القبض في المجلس فكذلك إذا قضى برد القيمة عند تعذر رد العين وهذا لأن الغصب ليس بسبب موجب للملك وإنما هو موجب للضمان ثم ثبوت الملك في المضمون شرطا لتقرر حقه في القيمة وشرط الشيء يتبعه وإذا كان باعتبار ما هو الأصل لا يجب التقابض فكذلك باعتبار البيع بخلاف البيع فإنه سبب الملك في البدلين وهو نظير ما لو قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فقال اعتقت لا يشترط القبول فيه وإن كان ذلك شرطا في البيع أن كان مقصودا لأن اندراج البيع هنا بطريق إنه شرط للعتق وبه فارق الشفعة فالشفيع يتملك الدار ابتداء بما يعطى من قيمة العبد بدل الدار في حقه فلو جود المبادلة مقصودا شرطنا قبض حصة الصفائح في المجلس يوضح ما قلنا أن اشتراط القبض في الصرف للتعيين من حيث أن كل واحد من العوضين فيه يجوز أن يكون غير معين في الابتداء وهذا لا يوجد في الغصب فالغصب والاستهلاك لا يردان إلا على معين فلا معنى لاشتراط القبض هنا للتعيين ومعنى المبادلة فيه غير مقصودة يوضحه إنه لو انتقض القضاء بالافتراق عن المجلس احتاج القاضي إلى إعادته بعينه من ساعته فيكون اشتغالا بمالا يفيد وكذلك أن اصطلحا على القيمة فهو على الخلاف لأنهما فعلا بدون القاضي عين ما يأمر به القاضي أو رفعا الأمر إليه ولو أجل القيمة عنه شهرا جاز ذلك أيضا عندنا خلافا لزفر وقد بينا هذا الخلاف في التأجيل في الغصوب والمستهلكات أنه يلزمه عندنا خلافا لزفر فعنده(14/89)
هذا التأجيل باطل لمعنيين.
أحدهما: أن قبض القيمة في المجلس عنده واجب.
والثاني: أن بدل المغصوب والمستهلك عنده كبدل القرض فلا يثبت فيه الأجل وعندنا قبض القيمة في المجلس ليس بواجب والقيمة دين حقيقة وحكما فبالتأجيل يلزم كالثمن في البيع.
وإذا استهلك أناء من نحاس أو حديد أو رصاص كان ضامنا لقيمته دراهم أو دنانير لأن الإناء ليس من ذوات الأمثال بخلاف تبر الحديد والنحاس فهو موزون من ذوات الأمثال فيكون مضمونا بالمثل على المستهلك وفي الآنية يقضي القاضي بالقيمة أن شاء من الدراهم وإن شاء من الدنانير لأن الأشياء بهما تقوم وبأيهما قوم هنا لا يؤدي إلى الربا ولكنه ينظر إن كان يباع ذلك بالدراهم يقضي بقيمته دراهم وإن كان بالدنانير فبالدنانير وكذلك السيف والسلاح وكذلك لو كسره أو هشمه هشما يفسده فإن كان هشما لا يفسده ضمنه النقصان إن(14/90)
ص -45- ... كان لا يباع وزنا لأنه ليس بمال الربا حتى يجوز بيع الواحد منه بالاثنين يدا بيد مكان كالثوب وقد بينا الفرق بين هذا أو الأواني المتخذة من الذهب والفضة أن بالصنعة هناك لا تخرج من أن تكون موزونة باعتبار النص فيهما والمعتبر فيما سواهما العرف.
وإذا كسر إناء فضة لرجل واستهلكه صاحبه قبل أن يعطيه إياه فلا شيء لصاحبه على الذي كسره لأن شرط التضمين تسليم المكسور إليه وقد فوته بالاستهلاك ولو غصب إناء فضة فكسره وصاغه شيئا آخر فللمغصوب منه أن يأخذه عند أبي حنيفة وعندهما لا يأخذه ولكن يضمنه قيمة الأول مصوغا وقد بينا المسألة في كتاب الغصب وإن غصبه دراهم أو دنانير فأذا بها كان لصاحبها أن يأخذها إن شاء وإن شاء ضمن الغاصب مثل ما غصبه لأنه بالأذابة ما أحدث فيها صنعة وإنما فوت الصنعة وبه لا يملك المغصوب كما لو قطع الثوب ولم يخطه وإذا غصب درهما فالقاه في دراهم له فعليه مثله لأنه خلط المغصوب بماله خلطا يتعذر على صاحبه الوصول إلى عينه فيكون مستهلكا ضامنا لمثله والمخلوط يصير مملوكا له عند أبي حنيفة وعندهما لصاحبه الخيار بين التضمين والشركة وكذلك الخلاف في كل ما يخلط وقد بيناه في الغصب(14/91)
وإن غصب فضة وسبكها في فضة له حتى اختلطا فعليه مثل ما غصب وكذلك لو غصب دراهم لرجل ودراهم لآخر فخلطهما خلطا لا يمكن تمييزه أو سبك ذلك كله فهو ضامن لمال كل واحد منهما والمخلوط له بالضمان وعندهما لكل واحد منهما الخيار بين التضمين والشركة ولو غصب دراهم أو دنانير فجعلها عروة في قلادة فهذا استهلاك وعلى الغاصب مثلها لأنه صيرها وصفا من أوصاف ملكه حتى يدخل في بيع ملكه من غير ذكر وقد غصبها مقصودا بنفسه فإذا صار ذلك مستهلكا بفعله وجب عليه ضمان المثل فهو نظير الساحة إذا أدخلها الغاصب في بنائه وإذا رد الغاصب أجود مما غصب أو أردأ منه ورضى به المغصوب منه جاز لأنه أبراه من صفة الجودة حين رضي بالأردأ ولو أبرأه عن بعض القدر جاز فكذلك عن الصفة وفي الأجود أحسن الغاصب في قضاء ما عليه وذلك مندوب إليه كما لو أرجح ولا يشترط رضا المغصوب منه بالأجود إلا على قول زفر وقد بيناه في البيوع.
وإن غصبه ألف درهم ثم اشتراها منه بمائة دينار ونقده الدنانير والدراهم قائمة في منزل الغاصب أو مستهلكة فهو سواء وهو جائز أما بعد الاستهلاك فلأنه قابض لبدل الدنانير بذمته، وفي حال قيام العين هو قابض لها بيده لأنها مضمونة في يده بنفسها وهذا القبض ينوب عن قبض الشراء. وكذلك لو كان الذي غصبه إناء فضة وكذلك لو صالحه عنه على مثل وزنه من جنسه وأعطاه جاز وكذلك لو كان الإناء مستهلكا لأن ما أشرنا إليه من المعنى يعم المفصول فإن صالحه من الفضة على ذهب بتأخير أو على فضة مثلها بتأخير كان جائزا عندنا خلافا لزفر وقد بينا أنه لا فرق بين قضاء القاضي بالقيمة عليه وبين تراضيهما عليه بالصلح وهذا لأن المغصوب في حكم المستهلك إذا كان لا يتوصل إلى عينه فما يقع(14/92)
ص -46- ... الصلح عليه يكون بدل المغصوب المستهلك وليس هذا كالشيء القائم بعينه يبيعه إياه يعني لو كان قائما بعينه قد أظهره فباعه منه كان هذا صرفا ولا يجوز إلا يدا بيد لأن حقه في استرداد العين إذا كان قائما بعينه فيبيعه منه بخلاف الجنس يكون معاوضة مبتدأة وإن كان الإناء غائبا عنه فقال اشتريته منك بنسيئة فإني أكره ذلك إذا وقع عليه اسم البيع كرهت منه ما أكره من الصرف لأن البيع مبادلة مال بمال قائم فلفظهما دليل على كون الإناء قائما فلا يختلف الجواب بكونه حاضرا أو غائبا والقياس في الصلح هكذا إلا إني استحسن في الصلح إذا كان الإناء مغيبا عنه لأنه ليس في نفس الصلح ما يدل على قيامة وما لا يتوصل إلى عينه فهو مستهلك حكما أما إذا كان ظاهرا أو هو مقر به فأني أكره الصلح والبيع في ذلك إلا على ما يجوز في الصرف فإن ما يجري بينهما صرف بزعمهما فيؤاخذان بأحكام الصرف فيه والله أعلم.
باب الصرف في الوديعة
قال رحمه الله وإذا استودع رجل رجلا ألف درهم فوضعها في بيته ثم التقيا في السوق فاشتراها منه بمائة دينار ونقد الدنانير لم يجز أن فارقه قبل أن يقبض الوديعة من بيته لأن الوديعة أمانة في بيته والقبض المستحق بالعقد قبض ضمان فقبض الإمانة لا ينوب عنه لأنه دونه بخلاف قبض الغصب ولأن يد المودع كيد المودع ألا ترى أن هلاكها في يد المودع كهلاكها في يد المودع فإذا لم يحدد القبض فيها لنفسه حتى افترقا فإنما افترقا قبل قبض البدلين.(14/93)
وإن أودعه سيفا محلى فوضعه في بيته ثم التقيا في السوق فاشتراه منه بثوب وعشرة دراهم ودفع إليه العشرة والثوب ثم افترقا انتقض البيع كله لأن السيف في حكم شيء واحد وقد انتقض العقد في حصة الحلية بترك القبض في المجلس لأنه صرف فينتقض في الكل لما في تمييز البعض من البعض في التسليم من الضرر وكذلك لو اشتراه بسيف محلى فدفعه إليه ولم يقبض الوديعة من بيته حتى افترقا فإن حلية السيف بحلية السيف لا يجوز لأنه صرف وقد انتقض ذلك كله لأنه شيء واحد.
قال: وكان ينبغي أن يكون نصل السيف وحمائله وجفنه بنصل الآخر وحمائله وجفنه فإن كان في حلية أحدهما فضل أضيف ذلك إلى النصل والحمائل وكان ذلك كله بحمائل هذا ونصله ولكن دع هذا وأفسد البيع كله.
وحاصل هذا الكلام أن الحلية بمثل وزنها من الحلية ولا تجعل الحلية بمقابلة النصل في العقد لأن العقد في الوجهين صحيح وصرف الجنس إلى خلاف الجنس لترجيح جهة الجواز على جهة الفساد وإذا جاز العقد في الوجهين فإنما يقابل الفضة مثل وزنها وهنا العقد جائز ولكن بالافتراق قبل القبض يفسد وإنما يحتال لتصحيح العقود لا لإلغائها بعد صحتها وإذا فسد العقد في حصة الصرف يفسد فيما بقى أيضا لما يكون على كل واحد منهما من(14/94)
ص -47- ... الضرر في تمييز البعض من البعض في التسليم ولو قبض كل واحد منهما قبل أن يفترقا كان جائزا وتكون فضة كل واحد منهما بفضة الأخر وحمائل كل واحد منهما ونصله بحمائل الآخر ونصله فإن كان في الحلية فضل أضيف الفضل إلى الحمائل من الجانب الأخر والنصل وهذا مثل رجل باع لرجل ثوبا ونقرة فضة بثوب ونقرة فضة فالثوب بالثوب والفضة بالفضة لأن الفضة يقابلها في العقد مثل وزنها من الفضة وذلك حكم ثابت بالنص فيكون أقوى من شرط المتعاقدين فإن كان فيه فضل من أحد الجانبين فهو مع الثوب بالثوب الآخر كرجل اشتري نقرة وزن عشرة دراهم وثوبا بشاة وأحد عشر درهما فعشرة بعشرة ودرهم ومساواة بالثوب فإن تفرقا قبل القبض انتقض من ذلك عشرة بعشرة وجاز في الشاة والدرهم والثوب لأن العقد في ذلك ليس بصرف وتمييز البعض عن البعض ممكن من غير ضرر فالفساد لمعنى طارئ في البعض لا يتعدى إلى ما بقي.
ولو باع ثوبا ودينارا بثوب ودرهم فالثوب بحصة من الثوب والدرهم والثوب الآخر بحصة من الثوب والدينار لأنهما جنسان قوبلا بجنسين فليس صرف البعض إلى البعض بأولى من البعض فللمعاوضة يثبت الانقسام باعتبار القيمة فإذا افترقا قبل التقابض بطلت حصة الذهب من الفضة وحصة الفضة من الذهب لأن العقد في ذلك الجزء صرف وجاز البيع في كل واحد من الثوبين بصاحبه بالحصة التي سميت له ولا خيار له في ذلك لأن عيب التبعيض بفعل كل واحد منهما وهو ترك القبض والتسليم في بدل الصرف فيكون كل واحد منهما راضيا بعيب التبعيض فلهذا لا خيار لهما في ذلك والله أعلم بالصواب.
باب الصرف في الوزنيان(14/95)
قال رحمه الله: رجل اشتري من رجل درهما معه لا يعلم وزنه بدرهم مثل وزنه أجود منه أو أردأ منه فهو جائز لأن شرط الجواز المساواة في الوزن دون العلم بمقدار الوزن ولا معتبر بالجودة والرداءة في المساواة المشروطة في العقد وكذلك لو قال بعنى بهذا الدرهم فضة مثل وزنه لأن الفضة تثبت دينا في الذمة وشرط جواز العقد وهو المساواة وزنا موجود ولو اشترى مثقالي فضة ومثقالي نحاس بمثقال فضة وثلاثة مثاقيل حديد كان جائزا بطريق أن الفضة بمثلها وزنا وما بقي من الفضة والنحاس بالحديد فلا يمكن فيه الربا وكذلك مثقال صفر ومثقال حديد بمثقال صفر ومثقال رصاص فالصفر بمثله والرصاص بمابقى لأن الصفر موزون وقد بينا أن الحكم في مال الربا أنه يقابل الشيء مثله من جنسه فالحاصل أن حكم الربا في الفروع يثبت على الوجه الذي يثبت في الأصل لأنه إنما يتعدى إلى الفرع حكم الأصل فكما أن في الذهب والفضة تثبت المقابلة بهذه الصفة عند اطلاق العقد فكذلك في الفروع وعلى هذا نقول الحديد كله نوع واحد ما يصلح أن يصنع منه السيف وما لا يصلح كذلك ولا يجوز إلا وزنا بوزن لأن الحكم في الفرع يثبت على الوجه الذي يثبت في الأصل وفي الذهب والفضة تجعل أنواع النقرة جنسا واحدا البيضاء والسوداء في ذلك سواء وأنواع(14/96)
ص -48- ... الذهب كذلك فكذلك الحديد وإن افترقا قبل التقابض لم يبطل البيع لأن الحديد يتعين بالتعيين بخلاف الذهب والفضة وقد بينا في البيوع الفرق بين الصرف وغيره من البيوع في الأموال الربوية في اشتراط القبض وكذلك الرصاص القلعى بالأسرب فهذا رصاص كله يوزن ولكن بعضه أجود من بعض وبالجودة والرداءة لا يختلف الجنس ولا بأس بالنحاس الأحمر بالشبه والشبه واحد والنحاس اثنان يدا بيد من قبيل أن الشبه قد زاد فيه الصبغ فيجعل زيادة النحاس من أحد الجانبين بزيادة الصبغ الذي في الشبه.
قال: ولا خير فيه نسيئة لأنه نوع واحد وبزيادة الصبغ في الشبه لا يتبدل الجنس ولأنه موزون متفق في المعنى والوزن بهذه الصفة يحرم النساء ولا بأس بالشبه بالصفر الأبيض يدا بيد الشبه واحد والصفر اثنان لما في الشبه من الصبغ ولا خير فيه نسيئة لأنه موزون متفق في المعنى وكذلك الصفر الأبيض لا بأس به واحدا منه باثنين من النحاس الأحمر لأن الصفر الأبيض فيه رصاص قد اختلط به فباعتباره يجوز العقد ولا خير فيه نسيئة لأنه موزون كله.
وإن افترقا في جميع ذلك وهو قائم بعينه ولم يتقابضا لم يفسد البيع لأنهما افترقا عن عين بعين وكل ما لم يخرج بالصنعة من الوزن في المعاملات لم يبع بجنسه إلا وزنا بوزن سواء لأن المصوغ الذي يباع وزنا بمنزلة التبر.(14/97)
وإن اشترى إناء من نحاس برطل من حديد بغير عينه ولم يضرب له أجلا وقبض الإناء فهو جائز أن دفع إليه الحديد قبل أن يتفرقا لأن الحديد موزون فإذا صحبه حرف الباء وبمقابلته عين كان ثمنا وترك التعيين في الثمن عند العقد لا يضر وإن تفرقا قبل أن يدفع إليه الحديد فإن كان ذلك الإناء لا يباع في العادة وزنا فلا بأس به لأنهما افترقا عن عين بدين وأن كان الإناء بوزن فلا خير فيه لأنه بيع موزون بموزون والدينية فيه عفو في المجلس لا بعده وإذا افترقا وأحد العوضين دين فسد العقد كما لو كان أحدهما مؤجلا فلو قبض الحديد في المجلس ولم يقبض الإناء حتى افترقا لم يفسد العقد لأن ما كان دينا قد تعين بالقبض قبل الافتراق والإناء عين فترك القبض في المجلس فيه لا يضر وكذلك أن اشترى رطلا من حديد بعينه برطلين من رصاص جيد بغير عينه فالعقد فاسد تقابضا في المجلس أو لم يتقابضا لأن أحد العوضين مبيع وهو ما لم يصحبه حرف الباء فيكون بائعا ما ليس عنده لا على وجه السلم ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ومطلق النهي يوجب الفساد والله أعلم.
باب الصرف في دار الحرب
قال رحمه الله: ذكر عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب" وهذا الحديث وإن كان مرسلا فمكحول فقيه ثقة والمرسل من مثله مقبول وهو دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب وعند أبي يوسف والشافعي رحمهما الله لا يجوز.(14/98)
ص -49- ... وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالا بالقمار فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وحجتهما حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه وقع للمشركين جيفة في الخندق فاعطوا بذلك للمسلمين ما لا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا معنى لقول من يقول كان موضع الخندق من دار الإسلام لأنا نقول عندكم هذا يجوز بين المسلم والحربي الذي لا أمان له سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب والمعنى فيه أن المسلم من أهل دار الإسلام فهو ممنوع من الربا بحكم الإسلام حيث كان ولا يجوز أن يحمل فعله على أخذ مال الكافر بطيبة نفسه لأنه قد أخذه بحكم العقد ولأن الكافر غير راض بأخذ هذا المال منه إلا بطريق العقد منه ولو جاز هذا في دار الحرب لجاز مثله في دار الإسلام بين المسلمين على أن يجعل الدرهم بالدرهم والدرهم الآخر هبة.(14/99)
وحجتنا في ذلك ما روينا وما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته "كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب" وهذا لأن العباس رضي الله عنه بعد ما أسلم رجع إلى مكة وكان يربي وكان يخفي فعله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز وإنما جعل الموضوع من ذلك ما لم يقبض حتى جاء الفتح وبه نقول وفيه نزل قوله تعالى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا}[البقرة:278] قال محمد وبلغنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى {الم غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2] قال له مشركو قريش يرون أن الروم تغلب فارس فقال نعم فقالوا هل لك أن تخاطرنا على أن نضع بيننا وبينك خطرا فإن غلبت الروم أخذت خطرنا وإن غلبت فارس أخذنا خطرك فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه على ذلك ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: "أذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد في الأجل" ففعل أبو بكر رضي الله عنه وظهرت الروم على فارس فبعث إلى أبي بكر رضي الله عنه أن تعال فخذ خطرك فذهب واخذه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم به فأمره بأكله وهذا القمار لا يحل بين أهل الإسلام وقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر رضي الله عنه وهو مسلم وبين مشركي قريش لأنه كان بمكة في دار الشرك حيث لا يجري أحكام المسلمين.(14/100)
ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركانة بأعلى مكة فقال له ركانة: هل لك أن تصار عني على ثلث غنمى فقال صلوات الله عليه وسلم: "نعم" وصارعه فصرعه الحديث إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردها عليه تكرما وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين المسلم والحربي وهذا لأن مال الحربي مباح ولكن المسلم بالاستئمان ضمن لهم أن لا يخونهم وأن لا يأخذ منهم شيئا إلا بطيبة أنفسهم فهو يتحرز عن الغدر بهذه الأسباب ثم يتملك المال عليهم بالأخذ لا بهذه الأسباب وهذا لأن فعل المسلم يجب حمله على أحسن الوجوه ما أمكن وأحسن الوجوه ما قلنا والعراقيون يعبرون عن هذا الكلام ويقولون حل لنا دماؤهم طلق لنا أموالهم فما عدا عذر الأمان يضرب سبعا في ثمان.(14/101)
ص -50- ... وتأويل حديث ابن عباس أنه نهاهم عن ذلك لما رأى فيه من الكبت والغيظ للمشركين ولئلا يظنوا بنا أنا نقاتلهم لطمع المال وأما التاجران من المسلمين في دار الحرب فلا يجوز بينهما إلا ما يجوز في دار الإسلام لأن مال كل واحد منهما معصوم متقوم وإن ذلك يثبت بالإحراز بدار الإسلام ولا ينعدم معنى الإحراز بالاستئمان إليهم ولهذا يضمن كل واحد منهما مال صاحبه إذا أتلفه وإنما يتملك كل واحد منهما على صاحبه بالعقد الذي باشره ولا يجوز إثبات عقد لم يباشراه بينهما من هبة أو غيرها وإن كان أسلما ولم يخرجا حتى تبايعا بالربا كرهته لهما ولم أرده له وهو قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرده والحكم فيها كالحكم في التاجرين أما على أصل أبي يوسف فقط فظاهر لأنه لا يجوز هذا العقد بين المسلم والحربي فكيف يجوز بين المسلمين ومحمد يقول مال كل واحد منهما معصوم عن التملك بالأخذ ألا ترى أن المسلمين لو ظهروا على الدار لا يملكون ما لهما بطريق الغنيمة وإنما يتملك أحدهما مال صاحبه بالعقد بخلاف مال الحربي وأبو حنيفة يقول بالإسلام قبل الإحراز تثبت العصمة في حق الإمام دون الإحكام ألا ترى أن أحدهما لو أتلف مال صاحبه أو نفسه لم يضمن وهو آثم في ذلك وإنما تثبت العصمة في حق الأحكام بالإحراز والإحراز بالدار لا بالدين لأن الدين مانع لمن يعتقده حقا للشرع دون من لا يعتقده وبقوة الدار يمنع عن ماله من يعتقد حرمته ومن لم يعتقده فلثبوت العصمة في حق الإثم قلنا يكره لهما هذا الصنيع ولعدم العصمة في حق الحكم قلنا لا يؤمر أن يرد ما أخذه لأن كل واحد منهما إنما يملك مال صاحبه بالأخذ فأما إذا ظهر المسلمون على الدار فإنما لا يملكون مال الذي أسلم لأنه صار محرزا ماله بيده ويده أسبق إليه من يد الغانمين فإن دخل تجار أهل الحرب دار الإسلام بأمان فاشترى أحدهم من صاحبه درهما بدرهمين لم أجز ذلك إلا ما أجيزه بين أهل الإسلام وكذلك أهل(14/102)
الذمة إذا فعلوا ذلك لأن مال كل واحد منهم معصوم متقوم ولا يتملكه صاحبه إلا بجهة العقد وحرمة الربا ثابتة في حقهم وهو مستثنى من العهد فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى نصارى نجران: "من أربي فليس بيننا وبينه عهد" وكتب إلى مجوس هجر: "إما أن تدعوا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله" فالتعرض لهم في ذلك بالمنع لا يكون غدرا بالأمان وهذا لأنه يثبت عندنا أنهم نهوا عن الربا قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: من الآية161] فمباشرتهم ذلك لا تكون عن تدين بل لفسق في الاعتقاد والتعاطي فيمنعون من ذلك كما يمنع المسلم.
وإذا تبايع أهل الحرب بالربا في دار الحرب ثم خرجوا فأسلموا أو صاروا ذمة قبل أن يتقابضوا أو يقبض أحدهما ثم اختصموا في ذلك أبطلته لأن العصمة الثابتة بالإحراز كما تمنع ابتداء العقد تمنع القبض بحكم العقد وفوات القبض المستحق بالعقد مبطل للعقد والأصل فيه قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: من الآية278] وسببه مروى عن مكحول قال أسلم ثقيف بشرط أن لا يدعوا الربا وكان بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة وبنو(14/103)
ص -51- ... المغيرة يربون ذلك فلما كان بعد الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة أميرا فطلب بنو عمرو بن عوف ما بقى لهم من الربا وأبي ذلك بنو المغيرة فاختصموا إلى عتاب رضي الله عنه فكتب فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب رضي الله عنه وأمره أن يأمرهم بأن يدعوا لهم ما بقي من الربا أو يستعدوا للحرب فعرفنا أن الإسلام يمنع القبض كما يمنع ابتداء العقد وكذلك لو اختصموا بعد التقابض في دار الإسلام فإنهم يؤمرون برد ذلك لأن التقابض بعد العصمة بالإحراز كان باطلا شرعا وكذلك المسلم يبايع الحربي بذلك في دار الحرب ثم أسلم الحربي وخرج إلى دارنا قبل التقابض فإن خاصمه في ذلك إلى القاضي أبطله وإن كانا تقابضا في دار الحرب ثم اختصما لم انظر فيه ويستوي أن كان المسلم أخذ الدرهمين بالدرهم أو الدرهم بالدرهمين لأنه طيب نفس الكافر بما أعطاه قل ذلك أو كثر وأخذ ماله بطريق الإباحة كما قررنا والله أعلم.
باب الصرف بين المولى وعبده(14/104)
قال رحمه الله: وليس بين المولى وعبده ربا لقوله صلى الله عليه وسلم لا ربا بين العبد وسيده ولأن هذا ليس ببيع لأن كسب العبد لمولاه والبيع مبادلة ملك بملك غيره فأما جعل بعض ماله في بعض فلا يكون بيعا فإن كان على العبد دين فليس بينهما ربا أيضا ولكن على المولى أن يرد ما أخذه على العبد لأن كسبه مشغول بحق غرمائه ولا يسلم له ما لم يفرغ من دينه كما لو أخذه لا بجهة العقد وسواء كان اشترى منه درهما بدرهمين أو درهمين بدرهم لأن ما أعطى ليس بعوض سواء كان أقل أو أكثر فعليه رد ما قبض لحق الغرماء وكذلك أم الولد والمدبر لأن كسبهما للمولي ولا يجوز أن يشتري من مكاتبه إلا مثل ما يجوز له مع مكاتب غيره لأن المكاتب أحق بمكاسبه وقد صار بعقد الكتابة كالحر يدا وتصرفا في كسبه فيجري الربا بينه وبين مولاه كما يجري بينه وبين غيره الوالدان والولد والزوجان والقرابة وشريك العنان فيما ليس من تجارتهما والوصي في الربا بمنزلة الأجانب لأن المبايعة تتحقق بين هؤلاء والمماليك بمنزلة الأحرار في ذلك لأنهم يخاطبون بذلك كما يخاطب الأحرار فأما المتفاوضان إذا اشترى أحدهما درهما بدرهمين من صاحبه فليس ذلك منهما بيعا وهو مالهما كما كان قبل هذا البيع لأنهما كشخص واحد في التجارة كما يجري بينهما لا يكون بيعا والله أعلم
باب الوكالة في الصرف
قال رحمه الله: وإذا تصارف الوكيلان لم ينبغ لهما أن يفترقا حتى يتقابضا كما لو باشرا العقد لأنفسهما لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد ولا يختلف في ذلك مباشرته لغيره ومباشرته لنفسه ألا ترى أنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره ولا يضرهما غيبة الموكلين لأنهما من حقوق العقد كسائر الأجانب وإن وكل رجل رجلين بالصرف لم يكن لأحدهما أن ينفرد به لأنه فوض إليهما ما يحتاج فيه إلى الرأي ورأى الواحد لا يكون كرأي المثنى فإن عقدا(14/105)
ص -52- ... جميعا ثم ذهب أحدهما قبل القبض بطلت حصته وحصة الباقي جائزة كما لو باشرا العقد لأنفسهما وإن وكلا جميعا رب المال بالقبض أو الإداء وذهبا بطل الصرف لوجود الافتراق من العاقدين قبل التقابض ورب المال في حقوق العقد كأجنبي أخر وإن وكله في أن يصرف له دراهم بدنانير فصرفها وتقابضا وأقر الذي قبض الدراهم بالاستيفاء ثم وجد فيها درهما زائفا فقبله الوكيل وأقر أنه من دراهمه وجحده الموكل فهو لازم للموكل لأنه لا قول للقابض فيما يدعي من الزيافة بعد ما أقر باستيفاء حقه وإنما يرده على الوكيل بإقراره وإقراره لا يكون حجة على الموكل فلهذا كان لأزما للوكيل.
قال وإن رده القاضي على الوكيل ببينة أو بأداء يمين ولم يكن القابض أقر بالاستيفاء لزم الآمر وفي هذا نظر فإن القابض إذا لم يقر باستيفاء حقه ولا باستيفاء الجياد فالقول قوله فيما يدعى أنه زيوف لأنه ينكر قبض حقه ولا حاجة له إلى إقامة البينة ولا يمين على الوكيل الذي عاقده إنما اليمين عليه فإن من جعل القول قوله شرعا يتوجه عليه اليمين وإنما يرد إذا حلف لا إذا أتى اليمين فعرفنا أن هذا الجواب مختل والصحيح أنه إذا حلف ورده على الوكيل فهو لازم للآمر لأنه رده عليه بغير اختياره فيما هو حجة في حق الآمر.(14/106)
وإذا وكله بإن يصرف له هذه الدراهم بدنانير فصرفها فليس للوكيل أن يتصرف في الدنانير لأن الوكالة قد انتهت والدنانير المقبوضة أمانة في يده للموكل فلا يتصرف فيها بغير أمر وإن وكله أن يشتري له إبريق فضة بعينه من رجل فاشتراه بدراهم أو دنانير جاز على الآمر وجاز أن نواه لنفسه لأن مطلق التوكيل بالشراء ينصرف إلى الشراء بالنقد فهو بنيته قصد عزل نفسه في موافقة أمر الآمر وليس له أن يخرج نفسه من الوكالة إلا بمحضر من الآمر وإن اشتراه بشيء مما يكال أو يوزن بعينه أو بغير عينه لم يجز على الآمر لأن مطلق التوكيل بالشراء يتقيد بالشراء بالنقد وقد بينا ذلك في البيوع فإذا اشتراه بشيء آخر كان مخالفا وكان مشتريا لنفسه فإن وكله بفضة له بيعها ولم يسم له الثمن فباعها بفضة أكثر منها لم يجز كما لو باعها الموكل بنفسه ولا يضمن الوكيل لأنه لم يخالف والوكيل إنما يضمن بالخلاف لا بفساد العقد والموكل أحق بهذه الفضة من الوكيل يقبض منها وزن فضته لأن فضته صارت دينا على القابض وقد ظفر بجنس حقه من مال المديون فكان له أن يأخذ من ذلك مقدار حقه والباقي في يد الوكيل حتى يرده إلى صاحبه.
وإذا وكل الرجل رجلا ببيع تراب فضة فباعه بفضة لم يجز لأنه يقوم مقام الموكل في ذلك فبيعه كبيع الموكل فإن علم المشتري أن الفضة في التراب مثل الثمن وزنا فرضيه قبل أن يفترقا جاز ذلك لأنه لا قيمة للتراب والعلم بالمساواة وزنا في المجلس كالعلم به عند العقد وله الخيار في ذلك لينكشف الحال له كمن اشترى شيئا لم يره ثم رآه فإن رده بغير حكم جاز على الآمر بمنزلة الرد بخيار الشرط والرؤية وإن تفرقا قبل أن يعلم ذلك فالبيع فاسد لأن العلم بالمساواة شرط هذا العقد كالقبض وكما أن القبض بعد الافتراق لا يصلح(14/107)
ص -53- ... العقد فكذلك العلم بالمساواة ولو وكله أن يزوجه امرأة على هذا التراب وهو تراب معدن فزوجه به كان جائزا أن كان فيه عشرة دراهم فضة أو أكثر وكذلك إن كان تراب ذهب وفيه قيمة عشرة دراهم أو أكثر وإن لم يكن فيه عشرة يكمل لها عشرة كما لو فعل الموكل ذلك بنفسه وهذا لأن أدنى الصداق عندنا عشرة دراهم وإن وكله بأن يبيع له سيفا محلى فباعه بنسيئة فالبيع فاسد للأجل المشروط في الصرف ولا ضمان على الوكيل لأنه لم يخالف فالبيع عادة يكون بالنقد والنسيئة وإنما يضمن الوكيل بالخلاف لا بالفساد وكذلك أن شرط فيه الخيار وباعه بأقل مما فيه نقدا فهو فاسد كما لو باعه الموكل بنفسه ولا ضمان على الوكيل لأنه لم يخالفه ولو وكله بحلى ذهب فيه لؤلؤ وياقوت يبيعه له فباعه بدراهم ثم تفرقا قبل قبض الثمن فإن كان اللؤلؤ والياقوت ينزع منه بغير ضرر يبطل البيع في حصة الصرف لعدم القبض في المجلس وجاز في حصة اللؤلؤ لتمكن التسليم فيه من غير ضرر والبيع في حقه بيع عين بدين ولا يشترط فيه القبض في المجلس وإن كان لا ينزع إلا بضرر لم يجز شيء منه لتعذر تسليم المبيع بغير ضرر ألا ترى أن بيعه ابتداء في هذا الفصل لا يجوز فكذلك لا يبقى بخلاف الأول.(14/108)
وإن وكله أن يشتري له فلوسا بدرهم فاشتراها وقبضها فكسدت قبل أن يسلمها إلى الآمر فهي للآمر لأنه بقبض الوكيل صار قابضا فإن الوكيل في القبض عامل له وبالقبض ينتهي حكم العقد فيه فالكساد بعده لا يؤثر فيه ولو كسدت قبل أن يقبضها الوكيل كان الوكيل بالخيار أن شاء أخذها وإن شاء ردها وقد ذكر قبل هذا أن العقد يفسد بكساد الفلوس قبل القبض استحسانا فقبل التفريع المذكور هنا على جواب القياس وقيل مراده من قوله هناك أن العقد يفسد أنه لا يجبر على قبض الفلوس الكاسدة فإما إذا اختار الأخذ فله ذلك كما فسره هنا فقال الوكيل بالخيار فإذا أخذها فهي لازمة له دون الآمر إلا أن يشاء الآمر من قبل أنها ليست بفلوس حتى كسدت إنما هي الآن صفر معناه ليست بفلوس رائجة هي ثمن وذلك مقصود الآمر .
وإن وكله أن يشتري له عبدا بعينه فاشتراه ثم وجد به عيبا قبل أن يقبضه الوكيل فللوكيل أن يرده لأن الرد بالعيب من حقوق العقد والوكيل فيه كالعاقد لنفسه فما دامت العين في يده فهو متمكن من ردها بدون استطلاع رأى الموكل فإن أخذه ورضيه وكان العيب غير مستهلك له فهو لازم للآمر وإن كان العيب فاحشا يستهلك العبد فيه لزم الوكيل دون الآمر استحسن ذلك إلا أن يشاء الآمر وذكر في السير الكبير أن على قول أبي حنيفة رضي الله عنه العيب اليسير والفاحش فيه سواء وهو لازم للآمر إن اشتراه بمثل قيمته لأن أخذه مع العلم بالعيب كشرائه ابتداء مع العلم بالعيب ومن أصل أبي حنيفة رضي الله عنه أن العيب المستهلك لا يمنع الوكيل من الشراء للآمر بمثل قيمته فكذلك لا يمنعه من القبض والرضا به عند الأخذ ومن أصلهما أن ذلك يمنع شراءه للآمر ابتداء لأن الموكل لم يقصد ذلك وهو معلوم عرفا،(14/109)
ص -54- ... فكذلك رضاه عند الأخذ وهذه مسألة كتاب الوكالة وقد بينا هناك ولئن كانت المسألة في قولهم كما أطلق في الكتاب فوجهه أن الرضا بالعيب اليسير من الوكيل بالشراء ملزم للآمر بخلاف العيب الفاحش فكذلك الرضا بالعيب اليسير يكون ملزما للآمر بخلاف الرضا بالعيب الفاحش إلا أن يشاء الآمر وإن لم يجد بالعبد عيبا ولكنه قتل عند البائع فالوكيل بالخيار أن شاء فسخ البيع وإن شاء أجازه كما لو اشتراه لنفسه وهذا لأن المبيع تحول من جنس إلى جنس وتأثير ذلك في إثبات الخيار فوق تأثير العيب فإن أجازه كانت القيمة له دون الآمر لأن مقصود الآمر تحصيل العبد له ولا يحصل ذلك بالقيمة فرضا الوكيل بها لا يلزم الآمر إلا أن يشاء أخذ ذلك فيكون أحق به من المشتري لأنها بدل ملكه فالملك في العبد بالشراء وقع له فإذا رضي أن يأخذه فهو أحق به.(14/110)
وإذا وكله بطوق ذهب يبيعه فباعه ونقد الثمن وقبض الطوق ثم قال المشتري وجدته صغيرا مموها بالذهب فأقر به الوكيل لزم الوكيل لأن المشتري غير مقبول القول فيما يدعي من غير حجة فإنه قبض عين ما يتناوله العقد ثم ادعى بعد ذلك فساد العقد لسبب لا يعرف في مثله لا يقبل قوله إلا بحجة وإقرار الوكيل حجة في حقه دون الآمر غير أن له أن يستحف الآمر لأن الآمر لو أقر بذلك لزمه فإذا أنكر كان له أن يحلفه عليه وإن أنكر الوكيل فرده عليه القاضي بالبينة لزم الآمر لأن البينة حجة في حق الآمر وكذلك أن رد عليه باباء اليمين عندنا خلافا لزفر فإنه يجعل إباء الوكيل اليمين كإقراره بذلك ولكنا نقول الوكيل مضطر في هذا لأنه لا يمكنه أن يحلف كاذبا وهذه الضرورة له يعمل بها للموكل وكان له أن يرجع به عليه فإن وكله أن يشتري له به طوق ذهب بعينه فيه مائة دينار فاشتراه بألف درهم ونقد الثمن ولم يقبض الطوق حتى كسره رجل قبل أن يتفرقا فاجبار الوكيل تضمين الكاسر قيمته مصوغا من الفضة جاز ذلك على الوكيل لأن المعقود عليه فات واختلف بدلا والوكيل في اختيار قبض البدل كالعاقد لنفسه في حقه ولا يجوز ذلك على الآمر لأن المقصود للآمر تحصيل الطوق له ولا يحصل ذلك بالقيمة وتصرف الوكيل على الأمر إنما ينفذ فيما يرجع إلى تحصيل مقصوده.
قال: ويبرأ منه بائع الطوق لأنه حقه تعين في ضمان القيمة في ذمة الكاسر فإذا أخذ الوكيل الضمان من الكاسر يصدق بالفضل إن كان فيه لأنه غرم في الثمن حسن ما عاد إليه فيظهر الربح وهو ربح حصل لا على ضمانه فيلزمه التصدق به.(14/111)
وأكره للمسلم توكيل الذمي أو الحربي بأن يصرف له دراهم أو دنانير وأجيزه أن فعل لأن مباشرة هذا العقد منه تصح لنفسه فكذلك لغيره بأمره ولكنه لا يتحرز عن الحرام أما لا ستحلاله ذلك أو لجهله به أو قصده إلى توكيل المسلم حراما فلهذا أكره له ذلك وإذا وكله أن يصرف له الدراهم فصرفها مع عبد الموكل والوكيل يعلم أو لا يعلم فلا ضمان على الوكيل سواء كان على العبد دين أو لم يكن لأنه مال الموكل صرف بعضه في بعض ولا يكون الوكيل بتصرفه مفوتا على الموكل شيئا وإذا وكله بألف درهم يصرفها له فباعها بدنانير(14/112)
ص -55- ... وحط عنه ما لا يتغابن في مثله لم يجز على الآمر لأنه في معنى الوكيل بالشراء وكل واحد من المتصارفين في العوض الذي من جهة صاحبه مشتر ولأن تصرف الوكيل بالشراء بالمعين إنما لا ينفذ على الموكل للتهمة فإنه من الجائز أنه عقد لنفسه فلما علم بالعين أراد أن يلزم ذلك الموكل وهذا المعنى موجود هنا فإن الوكيل يملك عقد الصرف لنفسه وإن صرفها بسعرها عند مفاوض للوكيل أو شريك له في الصرف أو مضارب له من المضاربة لم يجز لكونه متهما في ذلك كما لو صرفها مع نفسه فإن من يحصل بتصرف من عامله يكون مشتركا بينهما وإن صرفها عند تفاوض الآمر لم يجز كما لو صرفها الآمر بنفسه وهذا لأنه لا فائدة في هذا العقد فما يقبض ويعطي يكون مشتركا بينهما وإن صرفها عند شريك الآمر في الصرف غير مفاوض فهو جائز وكذلك مضاربه لأن الآمر لو فعل ذلك بنفسه جاز لكونه مفيدا وهو أنه يدخل به في الشركة والمضاربه ما لم يكن فيه ويخرج به منه ما كان فيه فكذلك الوكيل إذا فعل ذلك.(14/113)
وإذا وكله بألف درهم يصرفها له وهما في الكوفة ولم يسم له مكانا ففي أي ناحية من الكوفة صرفها فهو جائز لأن نواحي المصر في حكم مكان واحد ومقصوده أن التوكيل لا يتقيد بالسوق لأن المقصود سعر الكوفة لا سوق الكوفة وكذلك لو خرج بها إلى الحيرة أو إلى البصرة أو إلى الشام فصرفها هناك جاز ولا ضمان عليه لأن الآمر مطلق ولا يتقيد بمكان إلا بدليل يفيده به وفيما لا حمل له ولا مؤنة لا يوجد دليل المقيد لأن ماليته لا تختلف باختلاف الأمكنة ففي أي مكان صرفها له كان ممتثلا أمره ولو وكله ببيع عبد له أو عرض له حمل ومؤنة فاستأجر وخرج بها من الكوفة إلى مكة فباعها هناك أجزت البيع لأن الأمر بالبيع مطلق ففي أي موضع باعه فهو ممتثل ولا ألزم الآمر من الآخر شيئا لأنه لم يأمر بالاستئجار فهو متبرع فيما التزم من ذلك وقال في رواية أبي حفص أجزت البيع إذا باعه بمثل ثمنه في الموضع الذي أمره ببيعه فيه وهذا مستقيم على أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن عندهما التوكيل بالبيع مطلقا يتقيد بالبيع بمثل القيمة لو باعه في ذلك الموضع فكذلك في موضع آخر وعند أبي حنيفة لا يتقيد بذلك إذا باعه في ذلك الموضع فكذلك في موضع آخر وأعاد هذه المسألة في كتاب الوكالة وقال في جوابها لم أجز البيع لأنه لم يأمره بالخروج به اتفق على ذلك رواية أبي سليمان ورواية أبي حفص وهو الأصح لأنه لو اعتبر مطلق الأمر حتى يجوز بيعه في مكان آخر لكانت مؤنة النقل إلى ذلك المكان على الموكل كمالو أمره بالبيع في ذلك المكان وهذا لأن احضار السلعة على البائع ليستوفي الثمن ويسلم المبيع ولا يمكن ايجاب هذه المؤنة عليه وربما يبلغ ذلك ثمن السلعة أو يزيد عليه فهذا دليل مقيد لمطلق الأمر بالمصر الذي يباع فيه المتاع فلهذا لا يجوز بيعه في مكان آخر بخلاف مالا حمل له ولا مؤنة وبمثل هذا قال في الكتابين لو ضاع أو سرق قبل أن يبيعه فهو ضامن له وبهذا تبين أنه لا يكون مأذونا من جهته في(14/114)
الإخراج إلى ذلك الموضع وكذلك لو خرج به(14/115)
ص -56- ... ولم يتفق له بيعه كانت مؤنة الرد عليه دون الآمر فعرفنا أنه كالغاصب في غير ذلك الموضع وإن دفع إليه دراهم يشتري بها ثوبا سماه ولم يسم له المكان فاشتراه بغير الكوفة كان جائزا إذا لم يكن له حمل ولا مؤنة لأن الأمر بالشراء وجد مطلقا فإن وكله بألف درهم يصرفها له ثم أن الموكل صرف تلك الألف فجاء الوكيل إلى بيت الموكل فأخذ ألفا غيرها فصرفها فهو جائز لأن التوكيل إنما حصل بالصرف بدراهم في الذمة إذ النقود لا تتعين في العقود ألا ترى أنه لو صرف تلك الدراهم كان للموكل أن يمنعها ويعطي غيرها فصرف الموكل تلك الألف بنفسه لا يكون تصرفا منه فيما تتناوله الوكالة فلا يوجب عزل الوكيل وكذلك لو كانت الأولى باقية وأخذ الوكيل غيرها فصرفها لأن الصرف انعقد بدراهم في ذمته سواء أضافه إلى تلك الألف أو غيرها فيكون ممتثلا أمره في ذلك وكذلك الدنانير والفلوس.
فإن قيل أليس أن تلك الألف لو هلكت بعد التسليم إلى الوكيل قبل أن يصرفها بطلت الوكالة ولو لم تتعلق الوكالة بها لما بطلت الوكالة بهلاكها.
قلنا: الوكالة لا تتعلق بعينها حتى لو صرفها ثم هلكت قبل التسليم كان له أن يطالب الموكل بألف أخرى فأما إذا هلكت قبل أن يصرفها إنما بطلت الوكالة لمعنى دفع الضرر عن الموكل فربما يشق عليه أداء ألف أخرى بعد هلاك تلك الألف ولا ضرر على الوكيل في إبطال الوكالة إذا هلكت قبل أن يصرفها وهذا لا يوجد إذا كانت قائمة في يد الموكل أو صارف بها لأنه لا ضرر عليه في إبقاء الوكالة على الوجه الذي انعقدت في الإبتداء وهو الصرف بدراهم في الذمة ولو أمره ببيع فضة بعينها وذهب بعينه أو عرض من العروض فباع غيره لم يجز له لأن الوكالة تعلقت بتلك العين فإنها أضيفت إليه بعينه وهو مما يتعين بالتعيين في العقد.(14/116)
وإذا وكله بألف درهم يصرفها له بدنانير فصرفها الوكيل بدنانير كوفية فهو جائز في قول أبي حنيفة لأن وزن الكوفية كوفية وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أما اليوم فإن صرفها بكوفية مقطعة لم يجز لأن وزن الكوفية اليوم على الشامية الثقال وإنما جاز قبل اليوم فإن صرفها بكوفية مقطعة لم يجز لأن وزن الكوفية كان على الكوفية المقطعة النقص وهذا اختلاف عصرنا فأبو حنيفة أفتى بما كانت عليه المعاملة في عصره وهما كذلك
والحاصل أنه يعتبر في كل مكان وزمان ما هو المتعارف لأنه يعلم أن مقصود الموكل ذلك بغالب الرأى ولو قال اشتر لي بهذه الدنانير غلة ولم يسم له غلة الكوفة أو بغداد فاشترى له غلة الكوفة جاز وإن اشترى له غير ذلك من غلة البصرة أو بغداد أو دراهم غير الغلة لا يجوز إلا أن يكون مثل غلة الكوفة لأن الوكيل إنما يصير ممتثلا إذا حصل مقصود الموكل ومقصوده غلة الكوفة فإن كان ما اشترى مثل غلة الكوفة فقد حصل مقصوده وإن قال له بع هذه الألف درهم بدنانير شامية فباعها بالكوفية فإن كانت الكوفية غير مقطعة وكان وزنها شامية فهو جائز على الأمر لحصول مقصوده قال وليس الدنانير في هذا كالدراهم فإن مقصوده من شراء الغلة(14/117)
ص -57- ... الانفاق في حوائجه وإنما يحصل ذلك بغلة الكوفة أو مثلها ومقصوده من الدنانير الربح وذلك يختلف باختلاف الوزن فإن كان وزن الكوفية مثل وزن الشامية فقد حصل مقصوده ولو قال بعها بدنانير عتق فباعها بالشامية لا يجوز على الآمر لأن المقصود لا يحصل بهذا لما للعتق من الصرف على الشامية والله تعالى أعلم.
باب العيب في الصرف
قال رحمه الله: وإذا اشترى سيفا محلى بدراهم أكثر مما فيه وتقابضا وتفرقا ثم وجد بالسيف عيبا في نصله أو جفنه أو حمائله أو حليته فله أن يرده لفوات وصف السلامة المستحقة له بمطلق العقدفان رده وقبله منه صاحبه بغير قضاء قاض فلا ينبغي له أن يفارقه حتى يقبض الثمن لأن الرد بعد القبض بغير قضاء قاض كالإقالة من حيث أنه يعتمد التراضي والإقالة في الصرف بمنزلة البيع الجديد في وجوب التقابض به في المجلس لأن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما فكان بمنزلة البيع الجديد في حق الشرع واستحقاق القبض في الصرف من حق الشرع فإذا فارقه قبل التقابض انتقض الرد في حصة الحلية لأنه صرف وفيما وراء ذلك لأن في تمييز البعض من البعض ضررا وله أن يرده عليه بالعيب كما له ذلك قبل الرد لأن ما كان منه ليس بدليل الرضا بالعيب ولو رده بقضاء قاض لم يضره أن يفارقه قبل قبض الثمن لأن الرد بالقضاء فسخ من الأصل فإن للقاضي ولاية الفسخ بسبب العيب وليس له ولاية العقد المبتدأ فهو بمنزلة الرد بخيار الرؤية ولا يضره أن يفارقه قبل قبض الثمن. ألا ترى أن البائع لو كان اشتراه من غيره كان له أن يرده على بائعه في هذا الفصل دون الأول.(14/118)
قال: وله أن يؤاجره بالثمن لأنه دين له في ذمته بسبب القبض فإن عقد الصرف قد انفسخ والتأجيل صحيح في مثله كبدل الغصب والمستهلك بخلاف بدل القرض فإنه في حكم العين فإن كان حلى ذهب فيه جوهر مفضض فوجد بالجوهر عيبا فإن أراد أن يرده دون الحلى لم يكن له ذلك إلا أن يرده كله أو يأخذه كله لأن الكل كشيء واحد لما في تمييز البعض من البعض من الضرر ولأن الانتفاع بالبعض متصل بالبعض فهو نظير ما لو اشترى زوج خف فوجد بإحداهما عيبا وهناك ليس إلا له أن يردهما أو يمسكهما وكذلك لو اشترى خاتم فضة فيه فص ياقوت فوجد بالفص أو الفضة عيبا ولو اشترى إبريق فضة فيه ألف درهم بألف درهم أو بمائة دينار وتقابضا وتفرقا ثم وجدت الدراهم رصاصا أو ستوقة فردها عليه كان له أن يفارقه قبل قبض الثمن وقبل استرداد الإبريق لأن العقد قد انتقض من الأصل حين تبين افتراقهما قبل قبض أحد البدلين فإن الستوقة والرصاص ليسا من جنس الدراهم وكذلك الزيوف في قول أبي حنيفة لأن عنده إذا رد الكبير بعيب الزيافة ينتقض القبض فيه من الأصل وقد بينا ذلك في السلم وعندهما في الزيوف يستبد له قبل أن يتفرقا من مجلس الرد وذكر عن المسور بن مخرمة قال وجدت في المغنم يوم القادسية طشتا لا أدري أشبه هي أو ذهب،(14/119)
ص -58- ... فابتعتها بألف درهم فأعطاني بها تجار الحيرة ألفي درهم فدعاني سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال لا تلمني ورد الطشت فقلت لو كان سهاما قبلتها مني فقال إني أخاف أن يسمع عمر رضي الله عنه أني بعتك طشتا بألف درهم فأعطيت بها ألفي درهم فيرى أني قد صانعتك فيها قال فأخذها مني فأتيت عمر رضي الله عنه فذكرت له ذلك فرفع يديه وقال الحمد لله الذي جعل رعيتي تخافني في آفاق الأرض وما زادني على هذا وفيه دليل أن لصاحب الجيش ولاية بيع المغانم وأنه ليس له أن يبيع بغبن فاحش وإن تصرفه فيه
كتصرف الأب والوصي في مال الصغير ولهذا استرده سعد رضي الله عنه لما ظهر أنه باع بغبن فاحش وفيه دليل على أن الإمام إذا بلغه عن عامله ما رضى به من عدل أو هيبة فعله فإنه ينبغي له أن يشكر الله تعالى على ذلك فإن ذلك نعمة له من الله تعالى وكان عمر رضي الله عنه بهذه الصفة تهابه عماله في آفاق الأرض وذلك لحسن سريرته على ما جاء في الحديث "من خاف الله خاف منه كل شيء".(14/120)
وإذا اشترى الرجل طشتا أو إناء لا يدري ما هو ولم يشترط له صاحبه شيئا فهو جائز لأن العقد تناول العين والمشار إليه معلوم العين مقدور التسليم فيجوز بيعه ودل على صحة هذا حديث المسور بن مخرمة وإذا اشترى إناء فضة فإذا هو غير فضة فلا بيع بينهما لأن المشار إليه ليس من جنس المسمى والعقد إنما يتعلق بالمسمى لأن انعقاده بالتسمية والمسمى معدوم فلا بيع بينهما ولو كانت فضة سوداء أو حمراء فيها رصاص أو صفر وهو الذي أفسدها فهو بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء ردها لأن المشار إليه ليس من جنس المسمى فإن مثله يسمى إناء فضة في الناس إلا أنه معيب لما فيه من الغش فيجوز العقد على المشار إليه بالتسمية ويتخير المشتري للعيب وإن كانت رديئة من غير غش فيها لم يكن له أن يردها لأن الرداءة ليست بعيب فالعيب ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة وصفة الرداءة بأصل الخلقة ألا ترى أن بالرداءة تنعدم صفة الجودة وبمطلق العقد لا يستحق صفة الجودة وإنما تستحق السلامة؟
ولو اشترى سيفا محلى على أن فيه مائة درهم بمائة درهم وتقابضا وتفرقا فإذا في السيف مائتا درهم فإنه يرد السيف لفساد العقد بالفضل الخالي عن المقابلة وهو الجفن والحمائل وإن اشترى ابريق فضة بألف درهم على أن فيه ألف درهم وتقابضا وتفرقا فإذا فيه ألفا درهم كان الخيار للمشتري إن شاء قبض نصفه بألف درهم لأنه إنما يكون مشتريا مقدار ما سمى منه وقد تبين أن ذلك نصف الإبريق ولا يمكن أن يجعل مشتريا للكل بألف درهم لأنه ربا ولا بألفين لأنه ما التزم إلا ألف درهم فجعلناه مشتريا نصفه بالألف وأثبتنا له الخيار لتبعيض الملك عليه فيما يضره التبعيض بخلاف السيف فهناك لا يمكن تصحيح العقد في نصف الحلية مع السيف لأنه لو صرح بذلك لم يجز العقد لأن الحلية صفة لا يجوز بيع بعضها دون البعض بخلاف الإبريق ولو كان اشترى الإبريق بمائة دينار كان جائزا له كله(14/121)
ص -59- ... بالدنانير لأن الربا ينعدم عند اختلاف الجنس والإبريق مما يضره التبعيض فيكون الوزن فيه صفة فإنما يتعلق العقد بعينه إذا أمكن دون الوزن المذكور.
وإن اشترى نقرة فضة بمائة درهم على أن فيها مائة درهم وتقابضا فإذا فيها مائتا درهم كان للمشتري نصفها لا خيار له فيها وكذلك لو اشتراها بعشرة دنانير لأن النقرة لا يضرها التبعيض فالوزن فيها يكون قدرا لا صفة فإنما ينعقد العقد على القدر المسمى من وزنها بخلاف الإبريق فإنه يضر التبعيض فالوزن يكون صفة فيه ألا ترى أن باختلاف الوزن تختلف صفته فيكون أثقل تارة وأخف تارة ولا يتبدل اسم العين وهو الإبريق فكان ذلك كالذرع في الثوب يكون صفة والبيع يتعلق بالعين دون الذرعان المذكورة .
وعن أبي رافع قال خرجت بخلخال فضة لامرأتي أبيعه فلقيني أبو بكر رضي الله عنه فاشتراه مني فوضعته في كفة الميزان ووضع أبو بكر رضي الله عنه دراهمه في كفة الميزان وكان الخلخال أثقل منها قليلا فدعا بمقراض ليقطعه فقلت يا خليفة رسول الله هو لك فقال يا أبا رافع أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الذهب بالذهب وزنا بوزن والزائد والمستزيد في النار" وفيه دليل تحريم الفضل عند اتحاد الجنس وإن القليل من الفضل والكثير فيما يضره التبعيض أولا يضره سواء وفيه دليل أن مبادلة الفضة بالفضة الكفة بالكفة تجوز وإن لم يعلم مقدارهما لوجود المساواة في الوزن(14/122)
وإذا اشترى الرجل عشرة دراهم فضة بعشرة دراهم فضة فزادت عليها دانقا فوهبه له هبة ولم يدخله في البيع فهو جائز لأن المحرم الفضل الخالي عن المقابلة إذا كان مستحقا بالبيع وهذا مستحق بعقد التبرع وهو غير مشروط في البيع ولا يؤثر في البيع فإن قيل فلماذا لم يقبله أبو بكر رضي الله قلنا كأنه احتاط في ذلك أو علم أن أبا رافع رضي الله عنه كان وكيلا في بيع الخلخال والوكيل بالبيع لا يملك الهبة وإن كان السيف المحلى بين رجلين فباع أحدهما نصيبه وهو النصف بدينار من شريكه أو من غيره وتقابضا فهو جائز لأن عقد البيع على خالص ملكه وإن كان باعه من شريكه ونقده الدينار والسيف في البيت ثم افترقا قبل أن يقبض السيف انتقض البيع لأن البيع في حصة الحلية صرف وقد افترقا قبل التقابض لأن حصة البائع ما كان في يد المشتري فلا يصير قابضا له بالشراء ما لم يسلمها إليه ولا بأس ببيع الفضة جزافا بالذهب أو بالفلوس أو بالعروض لانعدام الربا بسبب اختلاف الجنس.
وإذا اشترى سيفا محلى فضته خمسون درهما بمائة درهم وقبض السيف ونقده من الثمن خمسين درهما ثم افترقا فالبيع جائز لأن المنقود ثمن الفضة خاصة فإن قبض حصة الحلية في المجلس مستحق وقبض حصة الجفن غير مستحق والمعاوضة لا تقع بين المستحق وغير المستحق بل يجعل النقود ثمن المستحق خاصة فالافتراق وجد بعد التقابض في المجلس في حصة الصرف وكذلك لو أجله في الخمسين الباقية إلى شهر لأنه ثمن مبيع لو أبرأه عنه جاز فكذلك إذا أجله فيه وكذلك لو كان الثمن عشرة دنانير فنقد منها حصة الحلية(14/123)
ص -60- ... وصالحه من الباقي على دراهم أو على ثوب وتقابضا فهو جائز لأن الباقي ثمن المبيع والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز والله أعلم.
باب الصلح في الصرف
قال رحمه الله: رجل اشترى عبدا بمائة دينار وتقابضا وتفرقا ثم وجد بالعبد عيبا فاقر البائع به أو أنكره ثم صالحه على دينار وتفرقا قبل القبض فالصلح جائز لأن ما وقع عليه الصلح حصة الجزء الفائت بالعيب وإنما استرده لفساد العقد فيه بفوات ما يقابله والقبض في المجلس ليس بشرط في مثله وإن كان الدينار أكثر من قيمة العيب أو أقل فهو فاسد لأنهما قدرا حصة العيب به وإليهما ذلك التقدير كما كان التقدير في أصل بدل العبد إليهما ولأنه لما صالحه على دينار فكان بائع العبد حط من ثمن العبد الدينار فإن الفائت بالعيب وصف والثمن لا يقابل الوصف والحط تارة يكون بسبب العيب وتارة يكون لا بسبب العيب يثبت على سبيل الالتحاق بأصل العقد ويلزمه رد قدر المحطوط دينا في ذمته ولا يضرهما ترك القبض فيه في المجلس ويصح التأجيل فيه إن أجله ولو صالحه على دراهم مسماة وقبضها قبل أن يتفرقا جاز وإن افترقا قبل القبض انتقض الصلح أما على الطريق الأول فما وقع عليه الصلح من الدراهم يكون بدلا عن حصة العيب وذلك من الدنانير ومبادلة الدراهم بالدنانير يكون صرفا وعلى الطريق الثاني إنما يصح بطريق الحط والحط من الثمن وهو الدنانير فالدراهم بدل عنه ثم ما وقع عنه الصلح كان دينا فإذا لم يقبض بدله حتى افترقا كان دينا بدين فإذا بطل الصلح استقبل الخصومة في العيب كما كان عليه قبل الصلح لأن الصلح مع الإنكار لا يتضمن الإقرار بالعيب وكذلك إن ضرب للدراهم أجلا ثم فارقه قبل أن يقبضها أو اشترطا في الصلح خيارا ثم افترقا قبل أن يبطل صاحب الخيار خياره.(14/124)
وإذا ادعى على رجل مائة درهم فأنكره أو أقر به ثم صالحه منها على عشرة دراهم حالة أو إلى أجل أو بشرط خيار ثم افترقا فالصلح جائز لأن صحة هذا العقد بطريق الإبراء دون المبادلة فيكون في الإبراء محسنا من وجهين بترك ما زاد على العشرة وبالتأجيل في العشرة.
وإن صالحه على خمسة دنانير ثم افترقا قبل أن يقبضها انتقض الصلح لأن صحة هذا الصلح باعتبار المبادلة لأن ما وقع عليه الصلح ليس من جنس الدين ومبادلة الدراهم بالدنانير صحيحة بشرط القبض في المجلس فيبطل بالافتراق قبل القبض وكذلك إن كانت إلى أجل أو فيها شرط خيار وافترقا على ذلك فهو فاسد لأن العقد صرف أما عند إقرار المدعي عليه فلا إشكال وكذلك عند جحوده لأن صحة الصلح مع الإنكار بناء على زعم المدعي.
وإذا ماتت المرأة وتركت ميراثا من رقيق وعروض وحلى وذهب وتركت أباها وزوجها وميراثها عند أبيها فصالح زوجها من ذلك على مائة دينار ولا يعلم مقدار نصيبه من الذهب فالصلح باطل لجواز أن يكون نصيبه من الذهب هذا المقدار أو أكثر فيبقى نصيبه من سائر الأشياء خاليا عن المقابلة وكذلك لو صالح على خمسمائة درهم ولا يعلم أن نصيبه من الفضة(14/125)
ص -61- ... أكثر منها أو أقل وإن صالحه على خمسمائة درهم وخمسين دينارا وتقابضا قبل أن يفترقا جاز ذلك لأنه وإن كان نصيبه في كل واحد من النقدين فوق هذا المقدار فتصحيح العقد ممكن بأن يجعل ما أخذ من الذهب بالفضة وحصته من العروض وما أخذ من الفضة بالذهب وحصته من العروض وإن تفرقا قبل أن يقبض شيئا انتقض الصلح لوجود الافتراق والميراث قبل القبض في عقد الصرف فإن قبض الزوج الدراهم والدنانير ثم افترقا والميراث في منزل الأب انتقض من الصلح حصة الذهب والفضة لأن الأب بيده السابقة لا يصير قابضا ما كان حصة الزوج من الذهب والفضة لأن يده كانت يد أمانة والعقد فيها صرف فيبطل بالافتراق قبل القبض وفيما سوى ذلك العقد بيع فلا يبطل بترك قبض المعقود عليه في المجلس وإن قبض الأب ذلك وقبض الزوج بعض الدراهم والدنانير فإن كان ما قبض بقدر حصة الذهب والفضة فالصلح ماض لما بينا أن المقبوض مما كان قبضه مستحقا في المجلس وهو حصة الذهب والفضة وإن كان النقد أقل من ذلك بطل من الذهب والفضة حصة ما لم ينقد وجاز في حصة ما انتقض اعتبارا للبعض بالكل وجاز ما سوى ذلك من غير الحلى لأن العقد فيه بيع لا صرف.(14/126)
وإذا ادعى الرجل سيفا محلى بفضة في يد رجل فصالحه منه على عشرة دنانير وقبض منها خمسة دنانير ثم افترقا أو اشترى بالباقي منه ثوبا قبل أن يتفرقا وقبضه فإن كان نقد من الدنانير بقدر الحلية وحصتها فالصلح ماض لأن النقود حصة الحلية فإن قبضه مستحق في المجلس والباقي حصة السيف وترك القبض فيه لا يضر والاستبدال به قبل القبض صحيح وإن كان نقد أقل من حصة الحلية فالصلح فاسد لأن بقدر ما لم ينقد من ثمن الحلية يبطل الصلح فيه والكل في حكم شيء واحد فإذا بطل العقد في بعضه بطل في كله وشراء الثوب فاسد أيضا لأنه دخل بعض ثمن الحلية فيه والاستبدال ببدل الصرف قبل القبض لا يجوز فإذا بطل في ذلك الجزء بطل في الكل وهذا على الأصل الذي قلنا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي.
وإذا اشتري الرجل إبريق فضة فيه ألف درهم بمائة دينار وتقابضا ثم وجد بالإبريق عيبا فله أن يرده لفوات ما صار له مستحقا بعقد المعاوضة وهو السلامة عن العيب فإن صالحه البائع على دينار وقبض فهو جائز وإن كان الدينار أقل أو أكثر من قيمة العيب في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا كان الفضل مما لا يتغابن الناس في مثله فهو غير جائز وهذا بناء على مسألة كتاب الصلح عن المغصوب المستهلك على أكثر من قيمته يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه ولا يجوز عندهما لأن عندهما الحق في القيمة وهي مقدرة شرعا فالفضل على ذلك يكون ربا إلا أنه لا يتيقن بالفضل فيما يتغابن الناس في مثله لأن ذلك يدخل من تقويم المقومين فهنا أيضا حقه في بدل الجزء الفائت فإذا صالحه على أكثر من ذلك القدر بما لا يتغابن الناس في مثله كان الفضل ربا وعند أبي حنيفة رضي الله(14/127)
ص -62- ... عنه: يصح الصلح على أن يكون المقبوض عوضا عن أصل ملكه وإن كان مستهلكا فكذلك هنا يصح الصلح على أن يكون المقبوض عوضا عن الجزء الفائت الذي استحقه بالعقد ولا ربا بين الدراهم والدنانير ولأنه يصح الصلح بطريق الحط وهو أن يجعل كأنه حط من ثمن الإبريق هذا المقدار ولكن الأول أصح لأن القبض في المجلس شرط وإنما يشترط ذلك إذا جعلنا بدل الصلح عوضا عن الجزء الفائت حتى لا يكون دينا بدين وإن صالحه على عشرة دراهم فهو جائز
وإن كانت الدراهم أكثر من قيمة العيب عندهم جميعا لأن حصة العيب من الذهب ولا ربا بين الدراهم والدنانير وهذا على قولهما ظاهر وكذلك عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه في الفصل الأول إنما يجعل بدل الصلح عوضا عن الجزء الفائت لتصحيح العقد وتصحيح العقد هنا في أن يجعل عوضا عما يخص الجزء الفائت من الذهب والفضة ويشترط القبض فيه قبل الافتراق فإن افترقا قبل القبض أو على شرط أجل أو خيار بطل الصلح لكون العقد صرفا بينهما وإن ادعى على رجل عشرة دراهم وعشرة دنانير فأنكر ذلك المدعي عليه أو أقر ثم صالحه على خمسة دراهم نقدا أو نسيئة فهو جائز لأن صحة هذا العقد بطريق الإبراء وهو أنه أبرأه عن جميع الدنانير ونصف الدراهم، ثم أجله في الباقي من الدراهم فيكون الإحسان كله من جانبه وذلك جائز.
قال وإن اشترى قلب ذهب فيه عشرة دنانير بمائة درهم وتقابضا واستهلك القلب أو لم يستهلكه ووجد به عيبا قد كان دلسه له فصالحه على عشرة دراهم نسيئة فهو جائز لأن صحة هذا الصلح بطريق الحط أو بطريق أن ما وقع عليه الصلح حصة العيب فيكون ذلك دينا على البائع واجبا بالقبض دون عقد الصرف والتأجيل صحيح في مثله ولو صالحه على دينار لم يجز إلا أن يقبضه قبل التفرق لأن الدينار عوض عن حصة العيب وذلك من الدراهم فيكون صرفا فيشترط القبض فيه قبل التفرق.(14/128)
وإن اشترى قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار وتقابضا ثم وجد في القلب هشما ينقصه فصالحه من ذلك على قيراطي ذهب من الدينار على أن زاده مشترى القلب ربع حنطة وتقابضا فهو جائز لأن ما زاد مشترى القلب يلتحق بأصل العقد وما زاد الآخر من القيراطين يكون حط بعض البدل وذلك جائز من كل واحد منهما ويجعل بعض القيراطين ثمن الحنطة وبعضه بحصة العيب وذلك جائز وإن كانت الحنطة بعينها وتفرقا قبل التقابض فهو جائز أيضا لأن في حصة الحنطة افترقا عن عين بدين وفي حصة العيب وجوب الرد بحكم القبض دون العقد فلا يضرهما ترك القبض في المجلس وإن تقابضا ثم وجد في الحنطة عيبا ردها ورجع بثمنها ومعرفة ذلك أن يقسم القيراطان على قيمة الحنطة وقيمة العيب فما يخص قيمة الحنطة فهو ثمن الحنطة يرجع به والله أعلم.
باب الصرف في المرض
قال رحمه الله: مريض باع من أبيه دينارا بألف درهم وتقابضا قال لا يجوز ذلك عند(14/129)
ص -63- ... أبي حنيفة رضي الله عنه لأن نفس البيع من وارثه وصية له عند أبي حنيفة رحمه الله ولا وصية للوارث وعندهما مضى الوصية في الحط لا في نفس البيع كما في حق الأجنبي فإذا كان البيع بمثل القيمة أو أكثر فلا وصية فيه ولا تهمة وبيان هذا يأتي في كتاب الشفعة إن شاء الله تعالى.
ولو اشترى من أبيه ألف درهم بمائتي دينار فإن أجاز ذلك بقية الورثة فهو جائز لأن المانع من الوصية للوارث حق الورثة فإن أجازوا ذلك جاز وإن ردوا فهو مردود كله في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن شاء الإبن أخذ مثل قيمة الدراهم من الدنانير وإن شاء نقض البيع لأن الوصية عندهما بالمحاباة فيبطل ذلك بالرد من جهة الورثة ويتخير الإبن لأنه ما رضي بزوال ملكه في الدراهم حتى يسلم له الدنانير كلها فإذا لم يسلم تغير عليه عقده فإن شاء رضي به وإن شاء نقض البيع وسوى هذا رواية أخرى عنهما أن أصل العقد يبطل إذا حابى المريض وارثه بشيء ويأتي بيان ذلك في الشفعة إن شاء الله تعالى.(14/130)
وإذا باع المريض ألف درهم بدينار وتقابضا ثم مات المريض والدينار عنده ولا مال له غير ذلك فللورثة أن يردوا ما زاد على الثلث لأن المحاباة في المرض تبرع بما له بمنزلة الوصية فإنما يجوز من ثلثه ولا يزيد على الثلث فيبطل ذلك إذا لم تجز الورثة ثم يتخير المشتري فإن شاء أخذ ثلث الألف كاملا بطريق الوصية وما بقي قيمة الدينار بطريق المعاوضة لأن الدينار في يد الورثة ويرد عليهم ما بقي من الألف وإن شاء أخذ ديناره ويرد ألفا لأنه ما رضي أن يتملك عليه ديناره حتى يسلم له جميع الألف ولم يسلم وإذا اختار أخذ ديناره فلا شيء له من الألف بطريق الوصية لأن الوصية بالمحاباة كانت في ضمن عقد الصرف وقد بطل العقد فيبطل به ما في قيمته أيضا وإن كان المريض قد استهلك الدينار كان للمشتري أن يأخذ قيمة الدينار من الألف بجهة المعاوضة وثلث ما بقي من الألف بطريق الوصية ولم يجزه هنا لأن الدينار مستهلك فلا فائدة في إثبات الخيار له لأنه لا يعود إليه ما خرج من ملكه بعينه وكذلك لم يعطه بالوصية ثلث الألف كاملا هنا بخلاف الأول لأن هناك الدينار مستهلك فلو أعطيناه بالوصية ثلث الألف كاملا لا يسلم للورثة ضعف ذلك فلهذا قال يأخذ قيمة الدينار من الألف أولا ثم له بالوصية ثلث ما بقي وكذلك إذا باع المريض سيفا قيمته مائة درهم وفيه من الفضة مائة درهم وقيمة ذلك كله عشرون دينارا بدينار وتقابضا فأبت الورثة أن يجيزوا كان للمشترى الخيار إن شاء أخذ قدر قيمة الدينار من السيف وحليته وثلث السيف تاما بعد ذلك وإن شاء رد كله وأخذ ديناره لأن المريض حاباه بأكثر من ثلث ماله وهذا وما سبق في التخريج سواء وما تختص به هذه المسألة قيمة الدينار له من السيف والحلية جميعا لأن الكل كشيء واحد لا يتأتى إثبات المعاوضة في أحدهما دون الآخر.
وإن كان المريض قد استهلك الدينار كان المشتري بالخيار هنا إن شاء أخذ دينارا مثل(14/131)
ص -64- ... ديناره ورد البيع فيكون ذلك دينا في تركة الميت ويباع السيف حتى ينقد الدينار وإن شاء كان له من السيف وحليته قيمة الدينار وثلث ما بقي لأن السيف مما يضره التبعيض فيثبت الخيار لما لحقه من عيب التبعيض وإن كان الدينار مستهلكا لأن المعقود عليه وهو السيف قائم يمكن فسخ العقد فيه بخلاف الأول فالتبعيض في الألف الأول ليس بعيب فلهذا لم يجعل له الخيار بعد ما استهلك الدينار وإن كان المشتري أيضا قد استهلك ما قبضه جاز له منه قيمة الدينار وثلث الباقي وغرم ثلثي الباقي للورثة لأن فسخ العقد تعذر باستهلاك المعقود عليه فعليه ضمان حصة الورثة من ذلك وهو قيمة ثلثي الباقي وغرم ثلثي الباقي بعد قيمة الدينار لأنه لو كان قائما كان لهم حق استرداد ذلك منه فإذا كان مستهلكا فهو غارم قيمة ذلك لهم.(14/132)
مريض له تسعمائة درهم ولا مال له غيرها فباعها بدينار وقبضه وقبض الآخر مائة درهم وتسعمائة ثم افترقا ومات المريض والمال قائم والدينار قيمته تسعه فأجازه الورثة وردهم هنا سواء وله المائة الدرهم بتسع الدينار ويرد عليه ثمانية اتساع الدينار لأن عقد الصرف قد بطل في ثمانية اتساع الدينار بترك قبض ما يقابله في المجلس وإنما بقي العقد في مقدار المائة والوصية بالمحاباة كانت في ضمن العقد فإنما يبقى فيما بقي فيه العقد وهو المائة وذلك دون ثلث مال الميت فلا حاجة فيه إلى إجازة الورثة فإن لم يكن قبض شيئا رد عليه ديناره بعينه لأن العقد قد بطل بالافتراق قبل التقابض فيرد عليه ديناره ولا شيء له من الوصية لأنها بطلت ببطلان العقد وإن لم يتفرقا حتى زاد المشتري تسعة وخمسين دينارا وتقابضا فهو جائز كله لأن ما زاد يلتحق بأصل العقد فيصير كأنه في الابتداء إنما باعه بستين دينارا فتكون المحاباة بقدر الثلث من ماله وذلك جائز قال الحاكم رحمه الله وإنما صح جواب هذه المسألة إذا زيد في سؤالها إن قيمة الدينار عشرة دراهم وهو كما قال فإن حق الورثة في ستمائة درهم لأن جملة مال المريض تسعمائة وانما تكون المحاباة بقدر الثلث إذا كانت قيمة كل دينار عشرة.(14/133)
وإن كان المريض وكل وكيلا فباعها من هذا الرجل بدينار ثم مات المريضقبل أن يتقابضا فقال المشتري أنا آخذ تسعمائة بتسعين دينارا قبل أن يتفرقا فله ذلك لأن البيع قد وجب له قبل موت الميت ولم يتفرقا فلم يبطل بموت الموكل بعد ذلك والمعتبر بقاء المتعاقدين في المجلس فإذا أراد المشتري إلى تمام تسعين دينارا للحق ذلك بأصل العقد وانعدمت المحاباة وكان ذلك سالما له وإذا اشترى من المريض ألف درهم بمائة درهم وتقابضا ثم مات المريض من مرضه فهذا ربا وهو باطل من الصحيح والمريض جميعا وللذي أعطى المائة أن يمسك المائة من الألف بمائة ويرد الفضل لأن حقه في المائة التي أعطى وقد صار دينا والذي في يده مال الميت فيكون له أن يمسك من ذلك مقدار حقه ويرد الفضل ولا وصية له هنا لأن الوصية في ضمن العقد والعقد باطل وإن كان أعطى من المائة ثوبا أو دينارا كان ذلك بيعا صحيحا على أن تكون المائة بمائة والباقي بإزاء الثوب والدينار.
وإن مات المريض وأبت الورثة أن يجيزوا يخير صاحب الدينار والثوب فإن شاء نقض(14/134)
ص -65- ... البيع لتغير شرط عليه وإن شاء كان له من الألف مائة مكان مائة وقيمة الدينار أو العرض بطريق المعاوضة وثلث الألف بطريق الوصية إذا كان الدينار والألف قائمة في يد الورثة كما بينا وإذا كان للمريض إبريق فضة فيه مائة درهم وقيمته عشرون دينارا فباعه بمائة درهم وقيمتها عشرة دنانير ثم مات وأبت الورثة أن يجيزوا فالمشتري بالخيار إن شاء رده لتغير شرط عقده عليه وإن شاء أخذ ثلثي الإبريق بثلثي المائة وثلثه للورثة لأن الوصية بالمحاباة إنما تنفذ في مقدار الثلث ويتعذر هنا جعل شيء من الإبريق له بطريق الوصية واعتبار المفاوضة فيما بقي لأن ذلك يؤدي إلى الربا لأن مبادلة الدراهم بجنسها لا يجوز إلا وزنا بوزن ولا قيمة للصنعة والجودة في هذه المبادلة إلا أنها متقومة في حق الورثة لأن لها قيمة تبعا للأصل ولا يملك المريض إسقاط حق الورثة عنها مجانا فإذا تعذر الوجهان كان الطريق كان الطريق ما قال لأن حق الورثة في ثلثي مال المريض وماله عشرون دينارا وثلثاه ثلاثة عشر وثلث فإذا أخذ الورثة ثلث الإبريق وقيمة ذلك ستة دنانير وثلثا دينار وأخذوا ثلثي المائة وقيمة ذلك ستة دنانير وثلثا دينار حصل لهم ثلاثة عشر دينارا وثلث كمال حقهم وسلم للمشتري ثلثا الإبريق وقيمته ثلاثة عشر دينارا وثلث بثلثي المائة وقيمته ستة وثلثان فيسلم له بطريق الوصية ثلث مال المريض ستة دنانير وثلثا دينار وقد سلم للورثة ضعف ذلك فيستقيم الثلث والثلثان والله أعلم.
باب الإجارة في عمل التمويه(14/135)
قال رحمه الله: وإذا دفع لجاما أو حرزا إلى رجل ليموهه له بفضة وزنا معلوما يكون قرضا على الدافع ويعطيه أجرا معلوما فهو جائز ويلزمه الأجر والقرض لأنه استقرض منه الفضة وأمره بأن يصرفها إلى ملكه فيصير قابضا لها بإبطاله تملكه وعليه مثلها ثم استأجره لعمل معلوم ببدل معلوم وقد أوفى العمل فله الأجر وإن اختلفا في مقدار ما صنع من الفضة فالقول قول رب اللجام مع يمينه لأن الصانع يدعي زيادة فيما أقرضه وهو ينكر ذلك ويحلف على عمله لأنه استحلاف على فعل الغير فإن قال موهه بمائة درهم فضة على أن أعطيك منها أجر عملك ذهبا عشرة دنانير بذلك كله وتفرقا على ذلك كله فهو فاسد لأن العقد في حصة الفضة صرف ولم يوجد القبض في المجلس فكان فاسدا فإن عمله كان له فضة مثل وزنها لأنه صار قابضا الفضة حين اتصلت بملكه بإذنه بسبب عقد فاسد وقد تعذر رد عينها فعليه رد مثلها وكان له أجر مثل عمله من الدنانير لا يجاوز به ما سمى أي تقسم الدنانير على أجر مثله وعلى المائة الدرهم فتعتبر حصة أجر مثله من الدنانير لأن العقد واحد لما فسد في حصة الصرف فسد في الإجارة أيضا ويلزمه أجر مثله وعلى المائة الدرهم فيعتبر حصة أجر مثله هكذا ذكر الحاكم رحمه الله: وهو مشكل لأن فساد العقد في حصة الصرف طارئ بالافتراق قبل القبض وذلك لا يوجب فساد الإجارة.
قال رضي الله عنه وقد تأملت في الأصل فوجدته يعتبر أجر المثل لبيان الحصة فإنه يقول وكان له مقدار أجره من الدنانير لأنه إذا قسمت الدنانير على أجر مثله وعلى المائة(14/136)
ص -66- ... درهم فعلمت أنه حكم بصحة العقد في حصة الإجارة واعتبر أجر المثل للانقسام ثم جعل له بمقابلة العمل المسمى لصحة العقد في حصة الإجارة واعتبر أجر المثل للانقسام ثم جعل له بمقابلة العمل المسمى لصحة العقد وإن دفع إليه ثوبا يكتب عليه كتابا بذهب معلوم بأجر معلوم من الفضة في ذلك فهو فاسد لأن العقد في حصة الذهب صرف وكذلك لو شرط عليه أجرة وثمنه ذهبا فإن ذهب الكتابة يكون مبيعا لا مستقرضا لأنه سمى ما يقابله ثمنا فيكون العقد فيه صرفا أيضا فأن قال أقرضني مثقال ذهب واكتب به على هذا الثوب كذا وكذا على أن أعطيك أجرك نصف درهم أو قيراط ذهب فهو جائز لأنه مستقرض للدينار وهو قابض له لاتصاله بملكه فكأنه قبضه بيده ثم استأجره لعمل معلوم ببدل معلوم.
وإذا دفع إليه عشرة دراهم فضة وقال اخلط فيها خمسة دراهم فضة ثم صقها قلبا ولك كذا ففعل فهو جائز لأنه استقرض منه قدر خمسة دراهم فضة وقد صار قابضا لها بالاختلاط بملكه ألا ترى أنها لو هلكت بعد الخلط هلكت من مال الآمر ثم استأجره للعمل في ملكه ببدل معلوم وهذا بخلاف ما إذا لم يدفع إليه فضة وقال صغ لي من عندك عشرة دراهم فضة قلبا على أن أعطيك أجر كذا فهو باطل لأن فضة العامل في يده ألا ترى أنها لو هلكت تكون من ماله فيكون فيه عاملا لنفسه ولو اختلفا فقال الدافع كانت فضتي اثني عشر درهما وأمرتك أن تزيد فيها ثلاثة فقال المدفوع إليه بل كانت عشرة وأمرتني فزدت خمسة وفي القلب خمسة عشر فالقول قول المدفوع إليه أنه زاد خمسة لأن الخلاف في مقدار ما دفع إليه من الفضة فالدافع يدعي عليه الزيادة.(14/137)
والمدفوع إليه ينكر فالقول قوله مع يمينه ثم المدفوع إليه يدعي أنه أمره أن يزيد فيها خمسة والدافع ينكر الأمر فيما زاد على الثلاثة فالقول قوله فيها مع يمينه فتبين أنه زاد درهمين فوق ما أمره به فكان مخالفا لأمره ضامنا للدافع مثل فضته فيكون له ذلك لأنه أقام العمل المشروط عليه وزاد فإذا رضي بالزيادة استوجب العامل كمال أجره ولو كان القلب محشوا لا يعلم وزنه ولا يعرف واتفقا أنه أعطاه عشرة وأمره أن يزيد فيه خمسة فقال الدافع لم تزد فيه شيئا وقال العامل قد زدت فيه خمسة فالقول قول الدافع لأنه ينكر القبض بحكم القرض فإن شاء العامل سلم القلب له وأعطاه الآمر من الأجر بحساب ذلك وإن شاء أعطاه فضة مثل فضته لأن اليد له فيه فله أن لا يخرج القلب من يده إذا كان ما زاد فيه وهو الخمسة بزعمه لا تصل إليه فإذا احتبس عنده ضمن للدافع فضة مثل فضته بعد أن يحلف الآخر ما يعلم أنه زاد فيه خمسة لأنه لو أقر بذلك لزمه فإذا أنكر فيستحلف عليه ولو اتفقا على أنه زاد فيه خمسة فقال الآمر كانت فضتي بيضاء وأمرتك أن تزيد فيها فضة بيضاء وقال العامل كانت سوداء وأمرتني أن أزيد فيها فضة سوداء فالقول قول العامل لأن الاختلاف في صفة المدفوع إليه ولو اختلفا في مقداره فالقول قوله فكذلك في صفته وإن اختلفا في الأجر في المقدار بأن قال الدافع عملته بغير أجر فالقول قول الدافع لأنكاره وجوب الأجر في ذمته أو الزيادة على ما أقر به.(14/138)
ص -67- ... رجل اشترى من رجل عشرة دراهم بدينار وتقابضا ثم وجدها زيوفا بعد ما تفرقا فاستبدلها منه ثم استحق تلك الدراهم الزيوف لم يبطل العقد لأنه حين استبدلها بالجياد قبل أن يستحق فإنما استقر حكم العقد على الجياد دون الزيوف المردودة واستحقاق ما ليس فيه حكم العقد لا يؤثر في العقد وهذا إنما يتأتى على قولهما وكذلك عند أبي حنيفة إن كان الرد بعيب الزيافة والاستبدال به قبل افتراقهما عن مجلس العقد أو بعد الافتراق والمردود قليل.
رجل استقرض من رجل كر حنطة وقال اطحنها لي بدرهم فطحنها قبل أن يقبضها كان هذا باطلا ولا أجر له لأن المستقرض لم يصر قابضا وإنما طحن صاحب الحنطة حنطة نفسه فلا يستوجب الأجر على غيره ولكن إن أعطاه الدقيق فعليه دقيق مثله لأنه إنما أقرضه الدقيق ولو دفع إليه كر حنطة وقال أقرضني نصف كر واخلطه به ثم اطحنها لي بنصف درهم كان هذا جائزا لأنه صار قابضا لما استقرضه بالاختلاط يملكه بأمره فيكون الطحان عاملا له في حنطته فيستوجب الأجر ولو دفع إليه لجاما وذهبا فقال موهه به وما فضل فهو لك أجر لم يجز لجهالة مقدار الأجر فإن عمله كان له أجر مثله لاستيفاء المنفعة بعقد فاسد وما بقي من الذهب فهو مردود على صاحبه.(14/139)
ولو اشترى قلب فضة بدينار ودفع الدينار ثم إن رجلا أحرق القلب في المجلس فللمشتري الخيار لتغير المعقود عليه فإن اختار إمضاء العقد واتباع المحرق بقيمة القلب من الذهب فإن قبضه منه قبل أن يفارق المشتري البائع فهو جائز لأن قبض بدل القلب في المجلس كقبض عينه ويتصدق بالفضل على الدينار وإن كان فيه لأنه ربح حصل لا على ضمانه وإن تفرقا قبل أن يقبض القيمة بطل الصرف وعلى البائع رد الدينار واتباع المحرق بقيمة القلب في قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال لا يبطل الصرف بافتراقهما بعد اختيار المشتري تضمين المحرق قبل القبض منه وهو وقول أبي حنيفة كقول أبي يوسف الآخر رحمهما الله وإن لم يذكره هنا فقد نص عليه في نظيره في الجامع إذا قتل المبيع قبل القبض فإن اختار المشتري تضمين القاتل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله يصير قابضا بنفس الاختيار حتى لو نوى ذلك على القاتل يكون من مال المشتري وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله لا يصير قابضا بنفس الاختيار ووجه هذا القول أن قبض بدل الصرف لا يكون إلا بعين تصل إلى يده وكذلك قبض المبيع إذا كان عينا وباختياره تضمين المحرق والقاتل لا تصل يده إلى شيء فلا يصير قابضا لأن عين القلب لم تقبض وقيمته دين في ذمة المحرق ولا يتصور أن يكون قابضا لما في ذمة غيره وليس في اختياره أكثر من أن تتوجه له المطالبة على المحرق ببدل الصرف وهذه المطالبة نظير المطالبة التي تتوجه بالعقد على من عامله فكما لا يصير قابضا هناك بتوجه المطالبة له فكذلك هنا وصار هذا كما لو أحاله ببدل الصرف على إنسان في المجلس فقبل الحوالة لا يصير قابضا وإن توجهت له المطالبة على المحتال عليه وتحول بدل الصرف إلى ذمته وجه قوله الآخر أن(14/140)
ص -68- ... المحرق قابض متلف والمشتري حين اختار تضمينه قد صار راضيا بقبضه ملزما إياه الضمان بإتلافه ولو كان أمره بالقبض في الابتداء كان يتم عقد الصرف بقبضه فكذلك إذا رضي بقبضه في الانتهاء بخلاف الحوالة فالمحتال عليه هناك لم يقبض شيئا حتى يجعل قبضه كقبض الطالب.
والإشكال على هذا الحرف أن على المشتري أن يتصدق بالفضل ولو كانت طريق هذا لم يلزمه التصدق بالفضل لأن وجوب الضمان بالإتلاف بعد القبض فيكون ربحا على ضمانه ولكن أبو يوسف يقول إنما يصير قبضه له باختياره تضمينه وذلك بعد الإتلاف وبعد ما وجب التصدق بالفضل فلا يظهر في إبطال حق الفقراء مع أن باب التصدق مبني على الاحتياط وهذا شيء يقدر اعتبارا لإتمام قبضه فيظهر في حقه لا في حق الفقراء ولأن قيمة المبيع صارت دينا على المتلف ولا يتصور أن تكون قيمة المبيع دينا للمشتري على الأجنبي إلا بعد القبض فلا بد من إدراج القبض في هذا الاختيار يقرره أنه لايمكن أن يجعل ذمة المتلف قائمة مقام ذمة البائع في إيجاب ضمان المبيع فيها فإن قيمة المبيع لا تجب على البائع قبل القبض بحال ألا ترى أنه لو أتلف المبيع قبل القبض لا يلزمه قيمته فعرفنا أنه واجب للمشتري ابتداء في ذمة المتلف ولا يكون ذلك إلا بعد القبض بخلاف الحوالة فذمة المحتال عليه هناك تقوم مقام ذمة المحيل فيما كان ثابتا فيه من بدل الصرف.(14/141)
وإن اشترى سيفا محلى فيه خمسون دينارا بمائة درهم أو بعشرة دنانير فنقد الثمن ولم يقبض السيف حتى أفسد رجل شيئا من حمائله أو جفنه فاختار المشتري أخذ السيف وتضمين المفسد قيمة ما أفسده فله ذلك لأنه جنى على ملكه فإن قبض السيف ثم فارق البائع قبل أن يقبض من المفسد ضمان ما أفسده لم يضره ذلك في البيع لأن الواجب على المفسد بدل المبيع والقبض فيه ليس بشرط في المجلس إنما ذلك في الصرف خاصة وهذا بمنزلة ثوب اشتراه فأحرقه إنسان قبل القبض فاختار المشتري إمضاء العقد وأتباع المحرق لا يشترط قبض ذلك في المجلس وإن كان المفسد أفسد السيف كله واختار المشتري إمضاء العقد وتضمين المفسد ونقد البائع الثمن ثم فارقهم المفسد قبل أن يؤدي القيمة لم يفسد البيع لأن المفسد ليس من العقد في شيء لا يضرهما ذهابه كالمحتال عليه وإن فارق البائع المشتري قبل قبض القيمة فهو على الخلاف عند أبي يوسف آخرا لا يبطل الصرف وهو قول أبي حنيفة وعند محمد ينتقض البيع كله في حصة الحلية للافتراق قبل القبض وفي حصة السيف لأن الكل شيء واحد.
ولو أسلم ثوبا في كر حنطة أو باع قلبا بدينار فهشم رجل القلب وشق الثوب باثنين فاختار مشتري القلب والمسلم إليه أخذ الثوب والقلب وقال يتبع المفسد بضمان ذلك وتقابضا قبل أن يفترقا فذلك جائز وإن لم يقبض القيمة حتى تفرقا فإنه قبض القلب بعينه وقبض رأس المال بعينه فلا يضرهما عدم قبض النقصان من الهاشم في المجلس لأن ذلك مقابلة الوصف والمعقود عليه العين وإنما يشترط قبض المعقود عليه في المجلس.(14/142)
ص -69- ... رجل اشترى سيفا محلي فيه خمسون درهما فضة بمائة درهم فأحرق رجل بكرة من حليته فاختار المشتري إمضاء البيع وتضمين المحرق فنقد الثمن وقبض السيف ثم فارق البائع قبل أن يقبض قيمة البكرة فالبيع ينتقض في البكرة خاصة دون السيف عند محمد لأنه باختيار تضمين المحرق لا يصير قابضا فالبكرة قد زايلت السيف فانتقاض العقد فيها بالافتراق قبل القبض لا يوجب الانتقاض فيما بقى وفي قول أبي يوسف الآخر لا ينتقض البيع في البكرة أيضا لأنه صار قابضا باختياره تضمين المحرق وكذلك القول في السلم إذا استهلك الرجل رأس المال قبل التسليم فاختار المسلم إليه تضمين المستهلك ثم فارق رب السلم قبل القبض بطل البيع في قول محمد ولم يبطل في قول أبي يوسف وهو بناء على الأصل الذي بينا.
وإن اشترى سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون درهما وتقابضا ثم باعه المشتري مرابحة بربح عشرين درهما أو بربح ده يازده أوبربح ثوب بعينه أو بوصفه نحو ذلك لم يجز لأن للحلية في السيف حصة من الربح والخسران فيكون بمقابلتها أكثر من وزنها من الفضة أو أقل وذلك ربا وبفساد العقد في الحلية يفسد في جميع السيف.
فإن قيل: كان ينبغي أن يجعل مثل وزن الحلية من الثمن بمقابلتها والباقي كله بمقابلة السيف كما لو لم يذكر المرابحة.(14/143)
قلنا: لا يجوز أن يصح العقد على غير الوجه الذي صرح به المتعاقدان وقد صرحا بأن العقد في حصة الحلية مرابحة أو وضيعة وذلك ينعدم إذا جعل بمقابلتها مثل وزنها ولأنهماجعلا الربح في ثمن السيف ده دوازده فإذا جعلنا جميع الربح بإزاء السيف يكون الربح في ده دوازده ولا يمكن أن يقال تثبت حصة السيف من الربح وتبطل حصة الحلية لأن البائع لم يرض أن يملك عليه السيف حتى يسلم له جميع ما سمى من الربح وإن البيع حينئذ يكون تولية في الحلية ولم يقصدا ذلك وإن رابحه فيما سوى الفضة جاز لأنهما صرحا بكون العقد تولية في حصة الحلية مرابحة في حصة السيف وذلك مستقيم فأما اللجام المموه فلا بأس بالمرابحة فيه لأن التمويه لا يتخلص فلا يتمكن فيه الربا باعتباره.
وإن اشتري قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار وتقابضا ثم باعه مرابحة بربح نصف دينار أو بربح درهم فلا بأس بذلك أما إذا باعه بربح نصف دينار فإن الجنس مختلف فيه والفضل لا يظهر عند اختلاف الجنس فيكون تابع القلب بدينار ونصف درهم وذلك جائز وإن باعه بربح درهم فكذلك الجواب في ظاهر الرواية لأنه يصير تابع القلب بدينار ودرهم وذلك جائز وعن أبي يوسف لا يجوز لأن الدرهم يقابله مثل وزنه من القلب على ما عليه الأصل فإن الفضة بمثل وزنها مقابلة ثابتة شرعا ولو جوزنا هذا كان الدينار بمقابلة تسعة أعشار القلب والدرهم بمقابلة عشر القلب فيكون بعض ما سمياه رأس المال ربحا فيه تسعة أعشار القلب وبعض ما سمياه ربحا رأس المال في عشر القلب وذلك تصحيح على غير الوجه الذي صرح به المتعاقدان ولو كان قام عليه بعشرة دراهم فباعه بربح درهم لم يجز لأنه بيع العشرة بأحد(14/144)
ص -70- ... عشر ولو ضم معه ثوبا قد قام معه بعشرة دراهم وقال قد قام على هذا بعشرين درهما فباعهما بربح درهم أو بربح ده يازده فعلى قول أبي حنيفة العقد يفسد كله لأنه فسد في حصة القلب لأجل الربا أو العقد صفقة واحدة وعندهما يجوز في حصة الثوب لأن أحدهما منفصل عن الآخر وبفساد العقد في أحدهما لا يتمكن المفسد في الآخر وكذلك لو اشترى جارية وطوق فضة عليها فيه مائة درهم بألف درهم وتقابضا ثم باعها مرابحة بربح مائة درهم أو بربح ده يازده فالعقد فاسد في قول أبي حنيفة وعندهما يجوز في الجارية دون الطوق لأن أحدهما يتميز عن الآخر بغير ضرر وقد ذكر الكرخي رحمه الله رجوع أبي يوسف رحمه الله إلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه في مسألة الطوق فاستدلوا به على رجوعه في نظائره وقد ذكرنا هذا في كتاب البيوع.(14/145)
ولو اشترى سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون درهما وتقابضا ثم حط عنه درهما فهو جائز لأن الحط ليس من ثمن الفضة فإنه يثبت على سبيل الالتحاق بأصل العقد ويخرج قدر المحطوط من أن يكون ثمنا فكأنه في الابتداء اشترى السيف بتسعة وتسعين درهما فيكون بمقابلة الحلية مثل وزنها والباقي بمقابلة السيف ولو ابتاع قلب فضة وزنه عشرة بعشرة دراهم وتقابضا ثم حط عنه درهما وقبل الحط وقبضه بعد ما افترقا من مقام البيع أو قبل أن يفترقا فسد البيع كله في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف الحط باطل ويرد الدرهم عليه والعقد الأول صحيح وفي قول محمد رحمه الله العقد الأول صحيح والحط بمنزلة الهبة المبتدأة له أن يمتنع منه ما لم يسلمه ولو زاده في الثمن درهما وسلمه إليه فسد العقد في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الزيادة باطلة والعقد الأول صحيح وكذلك لو شرطا بعد العقد لأحدهما خيارا أو أجلا يفسد به العقد في قول أبي حنيفة وعندهما يبطل هذا الشرط والعقد الأول صحيح وكذلك في البيع إذا ذكر فيه شرطا فاسدا بعد العقد وعند أبي حنيفة يلتحق ذلك بأصل العقد حتى يفسد العقد وعندهما يبطل هذا الشرط وحجتهما في ذلك أن الشرط والزيادة بيع في العقد ولا يجوز أن يكون البيع في الشيء مبطلا لأصله ولأن في إثبات الزيادة والشرط المذكور إبطاله لأن صحة ذلك بصحة العقد فإذا أثبتنا ذلك على سبيل الالتحاق بأصل العقد يبطل العقد به وببطلان العقد تبطل الزيادة فيكون هذا اشتغالا بمالا يفيد.(14/146)
وأبو حنيفة يقول: المعنى الذي لأجله يلتحق الشرط الصحيح والزيادة بأصل العقد موجود هنا وذلك المعنى هو أنهما قصدا تغيير وصف العقد يجعل الخاسر رابحا واللازم غير لازم والتصرف في العقد إليهما ألا ترى أنهما يملكان فسخه وإبقاءه فكذلك يملكان تغيير وصفه لأن صفة الشيء تملك بملك أصله وهذا المعنى موجود هنا فإنهما غيرا وصف العقد من الجواز إلى الفساد وإليهما ذلك فما وقع عليه الإتفاق بعدالعقد يجعل كالمذكور في أصل العقد ولو ذكر في أصل العقد ثبت وإن فسد به العقد فكذلك إذا ذكر بعد العقد ألا ترى أن(14/147)
ص -71- ... أحد المتصارفين إذا وهب بدل الصرف قبل القبض من صاحبه وقبل فإنه يفسد به العقد بالطريق الذي قلنا فكذلك إذا رده في بدل الصرف ومحمد فرق بين الحط والزيادة فقال في الحط إيفاء العقد الأول مع أن تصحيح الحط ممكن بأن يجعل ذلك هبة مبتدأة فيصار إليه كما لو اشترى ثوبا بعشرة فحط البائع عنه الثمن كله بعد القبض وقبله فإنه يصح الحط بطريق الهبة المبتدأة ويجعل البيع صحيحا بخلاف الزيادة لأنه لا وجه إلى ذلك فصرف إلى إلغاء الزيادة وتصحيح العقد الأول ولكن هذا ليس بصحيح فإن حط جميع الثمن يتعذر إلحاقه بأصل العقد لأنه يخرج به العقد من أن يكون بيعا ويصير هبة ولم يقصد المتعاقد إن ذلك بأصل السبب فلهذا جعلناه هبة وهنا لو ثبت حط البعض على وجه الالتحاق بأصل العقد لم يخرج العقد به من أن يكون صرفا كما باشراه وإنما يفسد به العقد والفاسد من جنس الزائد ألا ترى أن الوكيل لايضمن بالفساد والوكيل بالبيع إذا وهب كان ضامنا يوضح الفرق أن الحط لإخراج العين من العقد أو لإدخال الرخص فيه والإنسان لا يصير مغبونا بجميع الثمن فعرفنا أنه بحط الجميع قصد البر المبتدأ فجعلناه هبة كذلك وهو يصير مغبونا ببعض الثمن في عقد الصرف كما يصير مغبونا في عقد البيع فيكون الحط لإدخال الرخص فيه ولا يحصل ذلك بجعله هبة مبتدأة فلهذا التحق بأصل العقد إلا أنه يشترط قبول الآخر هنا بخلاف الحط في سائر البيوع لأن في صحة هذا الحط إفساد هذا العقد ولا ينفرد أحد المتعاقدين بإفساد العقد وهناك في تصحيح الحط إسقاط ذلك القدر من الثمن والإسقاط يتم بالمسقط وحده.(14/148)
ولو اشترى قلب فضة وثوبا بعشرين درهما وفي القلب عشرة دراهم وتقابضا ثم حط عنه درهما من ثمنها جميعا فإن نصف الحط في الثوب وينتقض البيع في القلب في قول أبي حنيفة لأنه يثبت الحط فيهما جميعا فإنه نص على ذلك بقوله حططت عنك درهما من ثمنهما جميعا فيفسد العقد في حصة القلب لأنه يكون بمقابلته أقل من وزنه ولكن هذا فساد طارئ فلا يفسد به العقد في حصة الثوب بخلاف المقترن بالعقد وهذا بخلاف الأول عند أبي حنيفة فإن الحط هناك لما ثبت على سبيل الالتحاق بأصل العقد يظهر الفضل الخالي عن المقابلة في الكل وهنا إنما يظهر الفضل الخالي عن المقابلة في القلب دون الثوب فلهذا جاز البيع في الثوب مع نصف الحط ولو كان المبيع سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون درهما فحط عنه من ثمنه درهما أجزت ذلك وجعلت الحط على غير الفضة لأن الحط يلتحق بأصل العقد ويخرج القدر المحطوط من أن يكون ثمنا فيكون البيع كان في الابتداء بتسعة وتسعين درهما وهذا بخلاف الأول فإن القلب مع الثوب شيئان مختلفان وقد جعل الحط من ثمنهما والسيف مع الحلية كشيء واحد وقد جعل الحط من ثمنه فلو جعلنا ذلك في حصة السيف خاصة لا يكون في هذا تغيير ما نص عليه المتصرف.
ولو باع قلب فضة بعشرين دينارا وتقابضا ثم حط عنه بعد ما افترقا عشرة دنانير فهو جائز سواء قبضها أو فارقه قبل الحط لأنه بالتحاق القبض بأصل العقد لا يظهر الربا هنا(14/149)
ص -72- ... لاختلاف الجنس والقدر المحطوط يخرج من أن يكون ثمنا فيجب رده باعتبار أنه قبض فوق حقه وترك القبض في المجلس في مثله لا يضر وعلى هذا لو زاد أحدهما صاحبه في البدل الذي من قبله فعند اتحاد الجنس يبطل العقد عند أبي حنيفة إذا قبل الآخر الزيادة وعندهما الزيادة تبطل وعند اختلاف الجنس الزيادة تثبت على سبيل الالتحاق بأصل العقد لأنه ليس في إثبات الزيادة في هذا الموضع إفساد أصل العقد لأن الزيادة إن كانت ثوبا فتفرقا قبل قبضه لم يضرهما شيئا كما لو كان مذكورا في أصل العقد لأن العقد فيه بيع وإن كانت الزيادة من النقود يشترط قبضها في المجلس لأنه وجب في هذا المجلس والتحق بأصل العقد فكان بدل الصرف فشرط قبضه في المجلس إلا أن اجتماعهما في مجلس العقد في أصل بدل الصرف وإن افترقا قبل قبض الزيادة بطل العقد في حصة الزيادة خاصة كما لو كان مذكورا في أصل العقد ولم يقبض حتى افترقا.
ولو اشترى سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون درهما وتقابضا ثم زاد مشترى السيف درهما أو دينارا فهو جائز وإن تفرقا قبل القبض لأن الزيادة ليست في الحلية إنما هي في ثمن السيف فإن الزيادة تلتحق بأصل العقد ولو كانت مذكورة في العقد كانت بمقابلة السيف دون الحلية ولو كان بائع السيف زاده دينارا أو قبضه قبل الافتراق جاز وإن فارقه قبل أن يقبض انتقض من الثمن بحصة الدينار لأن الزيادة تلتحق بأصل العقد فيصير كأنه صارف سيفا محلى ودينارا بمائة درهم فخمسون درهما من الثمن بمقابلة الحلية وتقسم الخمسون الباقية على قيمة الدينار وقيمة السيف بغير حلية فما يخص الدينار يجب رده لأن العقد قد يبطل فيه بترك قبض الدينار في المجلس.(14/150)
ولو اشترى قلب فضة فيه عشرة دراهم بعشرة واشترى هو أو غيره ثوبا بعشرة ثم باعهما بربح ده يازده أو بوضيعة عشر أحد عشر جازت حصة الثوب ولا تجوز حصة القلب لمعنى الربا وهذا قولهما أما عند أبي حنيفة رضي الله عنه فيفسد العقد كله لاتحاد الصفقة ولو قال أبيعكهما بوضيعة درهم من عشرين أو بزيادة درهم على عشرين درهما كان جائزا وكانت الفضة بمثلها والثوب بما بقي لأنه لم ينسب العشرين إلى رأس المال ولا إلى ما قام عليه به فكان هذا بيع مساومة وفي بيع المساومة يقابل الفضة مثل وزنها والباقي بمقابل الثوب بخلاف الأول فهناك نص على بيع المرابحة فيهما وفي بيع المرابحة لا بد من اعتبار الثمن الأول وذلك يمنع من أن يجعل جميع الربح بمقابلة الثوب.
ولو اشترى فضة بخمسين درهما وزنها كذلك واشترى شيئا بخمسين درهما وزنها كذلك واشترى سيفا بخمسين درهما بجفنه وحمائله ثم أنفق عليه خمسة دراهم وعلى الصياغة خمسة دراهم ثم قال يقوم على بمائة وعشرة فباعه مرابحة على ذلك بربح عشرة أحد عشر أو بربح عشرين درهما كان ذلك كله فاسدا لأنه صرح بجعل بعض الربح بمقابلة الفضة والكل في حكم شيء واحد فإذا فسد العقد في بعضه فسد في كله ولو كان الثمن والنفقة دنانير جاز(14/151)
ص -73- ... لأن عند اختلاف الجنس لا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة ولو اشترى فلسا بعشرة دراهم وفيه عشرة دراهم وقبض القلب وغصبه الآخر عشرة دراهم أو استقرض منه ذلك ثم افترقا فهو ضامن ثمن القلب لأن شرط بقاء العقد قبض البدل في المجلس وقد وجد فإنه مستوف لحقه وإن أخذ على سبيل الغصب والقرض لأنه ظفر من جنس حقه من مال غريمه فيكون بالقبض مستوفيا لحقه لا مستقرضا ولا قابضا ولا يشترط اتفاقهما على المقاصة هنا بخلاف الدين الواجب قبل عقد الصرف إذا جعلا بدل الصرف قصاصا به وقد بيناه.(14/152)
ولو اشترى القلب مع ثوب بعشرين درهما وقبض القلب ونقد عشرة دراهم ثم افترقا كان المنقود من القلب خاصة استحسانا لأن قبضه مستحق في المجلس وقبض ثمن الثوب ليس بمستحق وفي سائر البيوع إنما يجعل المنقود من ثمنهما لأجل المعاوضة والمساواة ولا معاوضة بين المستحق وبين ما ليس بمستحق ولأن في جعل ذلك من ثمنهما هنا نقض البيع في نصف القلب ولما كان يستحسن لتصحيح العقد فيه في الابتداء فالاستحسان للتحرز عن فساده بعد الصحة أولى ولو نقده العشرة وقال هي من ثمنهما جميعا فهو مثل الأول لأن الشيء يضاف إلى الشيئين والمراد أحدهما قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد أحدهما وهو المالح وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: من الآية130] فالمراد به الإنس خاصة فهنا وإن قال هو من ثمنهما فقد قصد إيفاء الحق المستحق عليه وإيفاء ثمن القلب في مجلس العقد مستحق بخلاف ثمن الثوب فيصرف ذلك إلى ثمن القلب وإن قال هي من ثمن الثوب خاصة وقال الآخر نعم أو قال لا وتفرقا على ذلك انتقض البيع في القلب لأن الترجيح بالاستحقاق عند المساواة في العقد أو الإضافة ولا مساواة بعد تصريح الدافع بكون المدفوع من ثمن الثوب خاصة والقول في ذلك قوله لأنه هو المالك فالقول في بيان جهته قوله.(14/153)
ولو كان اشترى سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون درهما وقبض السيف ونقده خمسين وقال هي من ثمن السيف دون الحلية ورضى بذلك القابض أو لم يرض فهو سواء وفي القياس هو لما صرح به يبطل العقد بافتراقهما كما في الفصل الأول ولكنه استحسن فجعل المنقود من الجاهلية هنا لأنا لو جعلنا المنقود ثمن الحلية يصح القبض والدفع ولو جعلناه ثمن السيف يبطل ذلك كله لأن العقد في حصة الحلية يبطل بالافتراق قبل القبض ويبطل العقد ببطلانه في حصة السيف فيجب رد المقبوض فكان هذا تصريحا بما لا يفيد فيسقط اعتباره بخلاف الثوب فإن هناك لو جعلنا المنقود من ثمن الثوب سلم للقابض بذلك الطريق يوضحه أن الحلية والسيف شيء واحد وفي الشيء الواحد لا يعتبر تعيينه في المنقود أنه ثمن هذا الجانب دون الجانب الآخر بخلاف القلب والثوب وكذلك لو كان الثمن دنانير ولو اشترى فضة بخمسة دنانير واشترى سيفا وجفنا وحمائل بخمسة دنانير وأنفق على صناعته وتركيبه دينارا ثم باعه مرابحة على ذلك بربح ده يازده وتقابضا كان ذلك جائزا لأن الجنس(14/154)
ص -74- ... مختلف لا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة وكذلك لوكان قلب فضة يقوم عليه بدينار وثوب لآخر يقوم بدينارين فباعاهما مرابحة بربح دينار أو بربح ده يازده فإن الربح بينهما على قدر رأس كل واحد منهما لأن الثمن الباقي في بيع المرابحة مقسوم على الثمن الأول وقد كان الثمن الأول بينهما أثلاثا.
وإن كان قلب فضة لرجل وعشرة دراهم وثوب لآخر قيمته عشرة دراهم فباعاه من رجل بعشرين درهما باع كل واحد منهما الذي له إلا أن البيع صفقة واحدة ثم نقد المشتري صاحب القلب عشرة فهي له خاصة لأن كل واحد منهما تولى بيع ملكه بنفسه فإليه قبض ثمنه ولا شركة بينهما في المقبوض لأنه لم يكن بينهما شركة في المبيع ولا ينتقض البيع إن تفرقا قبل أن ينقد الباقي لأن الباقي ثمن الثوب ولو باعا جميعا الثوب وباعا جميعا القلب فنقد صاحب القلب عشرة ثم تفرقا انتقض البيع في نصف القلب بخلاف ما تقدم إذا كان بائعهما واحدا لأن هناك جعلنا المنقود استحسانا لعدم التسوية بين المستحق وغير المستحق وهذا لا يوجد هنا لأن كل واحد منهما استحق قبض نصف ثمن القلب فإن استحقاق القبض للعاقد سواء باشره لنفسه أو لغيره وقد باعا جميعا القلب والقابض أحدهما فلا يمكن جعل نصف المنقود عوض ما باعه الآخر من القلب فإن قالا كذلك فإن قبض الموكل من ثمن القلب كقبض الوكيل فصاحب القلب إذا قبض ثمن القلب وهو في النصف عاقد وفي النصف موكل أمكن جعل المنقود كله ثمن القلب قلنا نعم ولكن الترجيح باعتبار الاستحقاق وقبض الموكل غير مستحق له بالعقد فانعدم المعنى الذي لأجله رجحنا ثمن القلب.(14/155)
ولو باع لؤلؤة بمائة دينار على أن فيها مثقالا فإذا فيها مثقالان كان البيع جائزا لأن الوزن في اللؤلؤ صفة والعقد إنما ينعقد على عينه لا على صفته وكذلك لو باع دارا بألف درهم على أنها ألف ذراع فإذا هي ألف وخمسمائة ذراع كان البيع جائزا على جميعها لأن الذرعان في الدار صفة ألا ترى أن باختلافها تختلف صفة العين في الضيق والسعة ولا يتبدل الاسم ولو كان باعها على أنها ألف ذراع كل ذراع بدرهم كان بالخيار إن شاء أخذها بألف وخمسمائة وإن شاء ترك لأنه صرح بجعل كل درهم بمقابلة كل ذراع وقد تغير على المشتري شرط عقده فإنه اشتراها على أن تسلم له بألف درهم والآن لا تسلم له إلا بألف وخمسمائة فلزمه زيادة في الثمن ولم يرض بالتزامه فيثبت له الخيار وكذلك قلب فضة اشتراه بعشرة دراهم على أن فيه عشرة فإذا فيه عشرون درهما فهذا كله درهم بدرهم سواء قال درهم بدرهم أو لم يقل فلم يأخذه بعشرين درهما إن لم يكن تفرقا عن المجلس وإن شاء تركه عندنا وقال الحسن بن زياد وزفر رحمهما الله البيع باطل لأنهما نصا على عقد الربا بتسمية العشرة بمقابلة قلب وزنه عشرون درهما ولكنا نقول مثل وزنها في البيع وذلك حكم ثابت بالشرع فيكون بمقابلة كل درهم درهما صرحا بذلك أو لم يصرحا وعند التصريح بذلك جاز البيع في جميع القلب بمثل وزنه فكذلك عند الإطلاق لأن المستحق شرعا يكون أقوى من(14/156)
ص -75- ... تنصيص المتعاقدين عليه بخلاف الذرعان في الدار ثم إن لم يتفرقا يخير لأنه لزمه زيادة في ثمن القلب لم يرض بها فإن كان تفرقا جاز له نصف القلب لأنه ما قبض إلا ثمن نصف القلب فكأنه باعه القلب بعشرين درهما ونقد في المجلس عشرة ولهذا لا يتخير لأن العيب بفعله وهي المفارقة قبل أن يقبض بعض الثمن فإن كان اشتراه بدينار فهو كله بدينار لأن المسمى هنا بمقابلة عين القلب والوزن في القلب صفة فإن القلب مما يضره التبعيض وفيما يضره التبعيض الوزن صفة فإن باختلاف الوزن تختلف صفتة فيكون أثقل أو أخف ولكن لا يتبدل اسم العين ولو كان قال كل درهم بعشر دينار أخذه بدينارين إن شاء لأنه أعقب منهم كلامه تفسيرا فيكون الحكم لذلك التفسير ويصير بائعا كل درهم من القلب بعشر دينار فيتخير المشتري لما يلزمه من الزيادة وعلى هذا لو كان القلب أنقص وزنا في الفصلين جميعا وثبوت الجواز هنا وإن انتقص عنه الثمن لتغير شرط عقده وقد يرغب الإنسان في قلب وزنه عشرة مثاقيل ولا يرغب فيما إذا كان وزنه خمسة مثاقيل.(14/157)
ولو باع قلب فضة فيه عشرة وثوبا بعشرين درهما فنقده منها عشرة وقال نصفها من ثمن القلب ونصفها من ثمن الثوب وتفرقا انتقض البيع في نصف القلب لأنه نص على أن نصف المنقود من ثمن الثوب ولو نص على أن جميع المنقود من ثمن الثوب جعل من ثمنه خاصة فكذلك نصفه وهذا بخلاف ما لو قال المنقود من ثمنهما جميعا فإنه يجعل كله من ثمن القلب لأن هناك ما صرح به بقي فيه بعض الاحتمال فقد يضاف الشيء إلى شيئين والمراد أحدهما كما في قوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] وقوله تعالى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] أما هنا بعد التصريح على التنصيف لا يبقى احتمال جعل الكل بمقابلة القلب وأما في السيف إذا سمى فقال نصفها من ثمن الحلية ونصفها من ثمن السيف ثم تفرقا لم يفسد البيع لأنه لو صرح بأن الكل بمقابلة السيف لم يعتبر تصريحه إما لأن السيف مع الحلية شيء واحد وتصريحه على أن المنقود عوض جانب منه دون جانب غير معتبر أو لأن المقبوض لا يسلم له بالطريق الذي نص عليه لأن العقد يبطل في السيف ببطلانه في الحلية أو في بعضها ونحن نعلم أن قصدهما أن يسلم المقبوض للقابض ولا وجه لذلك إلا أن يجعل بمقابلة الحلية.
ولو قال أبيعك السيف بمائة درهم وخمسين نقدا من ثمن السيف والحلية وخمسين نسيئة من ثمن السيف والحلية ثم تفرقا كان البيع فاسدا لأنه شرط الأجل في بعض ثمن الحلية وذلك مفسد للعقد والسيف شيء واحد فإذا فسد العقد في بعضه فسد في كله ولو كان هذا في القلب والثوب فسد البيع أيضا في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما يجوز في الثوب وقد تقدم نظائره.
ولو اشترى سيفا بمائة درهم على أن حليته خمسون درهما وتقابضا فإذا حليته ستون درهما ولم يتفرقا فالمشتري بالخيار إن شاء زاده عشرة دراهم وأخذ السيف وإن شاء نقض(14/158)
ص -76- ... البيع لأنه لما سمى وزن الحلية خمسين درهما فقد صرح بتسمية الخمسين بمقابلة السيف فإذا ظهر أن الحلية ستون درهما وبمقابلة كل درهم درهم شرعا ظهر أن ثمن الحلية ستون درهما ويكون ثمنها مائة وعشرة ويتخير المشتري لأنه لزمه زيادة في الثمن وإن كانا تفرقا فالبيع منتقض لأن ثمن سدس الحلية لم يقبض في المجلس وبانتقاض العقد في الحلية ينتقض في جميع السيف وكذلك لو كان في حلية السيف مائة درهم فإن لم يتفرقا فإن شاء زاده خمسين درهما وأخذ السيف وإن شاء ترك لأن بمقابلة السيف خمسين وبمقابلة الحلية مثل وزنها وهذا بخلاف الإبريق لأن بيع نصف الإبريق جائز فيمكن إيفاء العقد في نصف الإبريق بعد الافتراق وبيع نصف الحلية لا يجوز وكذلك بيع السيف مع نصف الحلية لا يجوز لأن فيه ضررا في التسليم فإذا بطل العقد في البعض بطل في الكل.
ولو اشترى سيفا محلى وزن حليته خمسون درهما بعشرة دنانير وتقابضا وافترقا فإذا في السيف مائة درهم فالبيع جائز لأنه يصير بتسمية وزن الحلية مسميا بمقابلة السيف خمسة دنانير وبمقابلة الحلية خمسة دنانير فلا يضره زيادة وزن الحلية بعد ذلك وقد بينا في القلب نظيره.(14/159)
ولو اشترى قلب فضة بدينار على أن فيه عشرة دراهم فإذا فيه عشرون درهما كان البيع جائزا في الكل ولو كان مكان القلب نقرة رد نصفها لأن النقرة لا يضرها التبعيض والعقد إنما يتعلق بالمسمى من الوزن ألا ترى أنه لو قال بعت منك وزن عشرة دراهم من هذه النقرة يجوز ولو قال من هذا القلب لا يجوز ولو باع قلب فضة لرجل وكله ببيعه ووكله آخر ببيع الثوب فباعهما جميعا صفقة واحدة بدينار أو عشرة دراهم على أن ثمن الثوب الدينار وثمن القلب الدراهم كان جائزا وإن دفع القلب وقبض ثمنه فهو جائز ولا يشركه صاحب الثوب في ثمن القلب لأن كل واحد منهما مسمى على حدة وبيع الوكيل بثمن منفصل كبيع الموكل بنفسه وكذلك لو كان الثمن عشرين درهما عشرة بيض ثمن القلب وعشرة سود ثمن الثوب فهذا التفصيل وتفصيل العشرة والدينار سواء ولو باعهما بعشرين درهما صفقة واحدة ولم يبين أحدهما من صاحبه ثم نقده عشرة دراهم كان المنقود ثمن القلب لأن البائع واحد وهو المستحق بقبض جميع الثمن فهذا وما لو باعهما لنفسه سواء وإذا كان المنقود من ثمن القلب شرعا كان ذلك لصاحب القلب لأن اليد تملك الأصل ولا يشركه صاحب الثوب فيها لانعدام الشركة بينهما في أصل القلب ألا ترى أنه لو كان البيع بعشرين درهما عشرة نقد وعشرة نسيئة فقبض النقد وقبض الثوب والقلب كان جائزا وكان المنقود من القلب خاصة والنسيئة في ثمن الثوب فكذلك إذا قبض البعض في المجلس دون البعض والله أعلم بالصواب.(14/160)
ص -77- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الشفعة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء الشفعة مإخوذة من الشفع الذي هو ضد الوتر لما فيه من ضم عدد إلى عدد أو شيء إلى شيء ومنه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمذنبين فإنه يضمهم بها إلى العابدين وكذلك الشفيع بأخذه يضم المأخوذ إلى ملكه فيسمى لذلك شفعة وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له بغير رضاه وذلك لا يجوز فإنه من نوع الأكل بالباطل وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه وليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره ولكنا نقول تركنا هذا القياس بالأخبار المشهورة في الباب.(14/161)
والأصح أن نقول الشفعة أصل في الشرع فلا يجوز أن يقال أنه مستحسن من القياس بل هو ثابت وقد دلت على ثبوته الأحاديث المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم من ذلك ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة في كل شيء عقارا وربع" ومن ذلك ما بدأ محمد بن الحسن الكتاب به ورواه عن المسور بن مخرمة عن رافع بن خديج أن سعد بن مالك رضي الله عنه عرض بيتا له على جار له فقال خذه بأربعمائة أما أني قد أعطيت به ثمانمائة ولكني أعطيكه بأربعمائة لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه" وفيه دليل على أن من أراد بيع ملكه فإنه ينبغي له أن يعرضه على جاره لمراعاة حق المجاورة قال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" ولأنه أقرب إلى حسن العشرة والتحرز عن الخصومة والمنازعة فلهذا فعله سعد رضي الله عنه وحط عنه نصف الثمن لتحقيق هذا المعنى وقيل لإتمام الإحسان وإن تمام الإحسان أن يحط الشطر لما روى أن الحسن بن علي رضي الله عنه كان له دين على إنسان فطالب غريمه فقال أحسن إلي يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهبت لك النصف فقيل له النصف كثير فقال وأين ذهب قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195] سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من تمام الإحسان أن يحط الشطر" فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بسقبه" فقد روي هذا الحديث بالسين والمراد القرب وبالصاد والمراد الأخذ والانتزاع يعني لما(14/162)
ص -78- ... جعله الشرع أحق بالأخذ بعد البيع فهو أحق بالعرض عليه قبل البيع أيضا وهو دليل لنا على أن الشفعة تستحق بالجوار فإنه ذكر اسما مشتقا من معنى والحكم متى علق باسم مشتق فذلك المعنى هو الموجب للحكم خصوصا إذا كان مؤثرا فيه كما في قوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور:2] وقوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}[المائدة:38] وهذا المعنى مؤثر لأن الأخذ بالشفعة لدفع الضرر فإن الضرر مدفوع لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وذلك يتحقق بالمجاورة يعني الضرر البادي إلى سوء المجاورة على الدوام من حيث إبعاد النار وإعلاء الجدار وإثارة الغبار ومنع ضوء النهار والشافعي يقول المراد بالجار الشريك فقد يطلق اسم الجار على الشريك قال الأعشى:
أيا جارتي بيني فإنك طالق ... كذاك أمور الناس عاد وطارقه
والمراد زوجته وهي شريكته في الفراش ولكنا نقول في هذا ترك الحقيقة إلى المجاز من غير دليل ثم الزوجة تسمى جارة لأنها مجاورة في الفراش تتصرف عنه لا لأنها تشاركه وفي الحديث ما يدل على بطلان هذا التأويل وأن سعدا رضي الله عنه عرض بيتا له على جار له وروى الحديث فذلك دليل على أن جميع البيت كان له وإنه فهم من الحديث الجار دون الشريك حين استعمل الحديث فيه.
وعن الحسن في الشفعة لليتيم قال وصيه بمنزلة أبيه إن شاء أخذوا الغائب على شفعته وفيه دليل أن الشفعة تثبت للصغير وأن وليه يقوم مقامه في الأخذ له لأنه أخذ بطريق التجارة وفيه دفع الضرر عن اليتامى وتوفير المنفعة عليهم ولهذا المقصود أقام الشرع وليه مقامه وفيه دليل أن الشفعة تثبت للغائب لأن السبب المثبت لحقه قائم مع غيبته ولا تأثير للغيبة في إبطال حق تقرر سببه فإذا حضر وعلم به كان على شفعته لأن الحق بعد ما يثبت لا يسقط إلا بإسقاطه والرضا بسقوطه صريحا أو دلالة وبترك الطلب عند الجهل به والغيبة لا يتحقق هذا المعنى لانعدام تمكنه عن الطلب(14/163)
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخليط أحق من الشفيع والشفيع أحق من غيره" والخليط هو الشريك في نفس المبيع والشفيع هو الشريك في حقوق المبيع كالشرب والطريق وقيل على عكس ذلك فقد روى بعض الرواة أن الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الشفيع فالشريك يكون في نفس المبيع والخليط يكون في حقوق المبيع سمى خليطا لاختلاط بينهما فيما يتأتى به الانتفاع مع تميز الملك
والشفيع هو الجار وفيه دليل أن حق الشفعة على مراتب وأن البعض مقدم على البعض بقوة سببه وهذا إنما يتأتي على مذهبنا فأما الشافعي فلا يوجب الشفعة إلا للشريك فلا يتأتى هذا الترتيب على مذهبه والحديث يدل عليه وعن عبد الملك بن مروان عن عطاء عن جابر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجار أحق بصقبه ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" وهذا من أقوى ما يستدل به فإنه لا شبهة في صحة هذا الحديث لأن عبد(14/164)
ص -79- ... الملك بن مروان كان من أهل الحديث وعطاء بن أبي رباح إمام مطلق في الحديث وجابر رضي الله عنه من كبار الصحابة رضوان الله عليهم فلا طعن في إسناد هذا الحديث ولا وجه بحمل الحديث على الشريك فإنه إذا حمل على الشريك كان هذا لغوا وإنما يكون مفيدا إذا كان المراد جارا هو شريك في الطريق.
قال كان شيخنا الإمام يقول العجب منهم يزعمون أنهم من أصحاب الحديث ثم يتركون العمل بمثل هذا الحديث مع شهرته فلا يبقى بعد هذا الحديث لهذا اللقب معنى سوى أنهم يتركون العمل بمثل هذا الحديث فلأجله سموا أصحاب الحديث لا لعلمهم بالحديث.(14/165)
وعن الشعبي قال من بيعت شفعته وهو حاضر فلم يطلب فلا شفعة له وبه نأخذ لأن سكوته عن الطلب بعد علمه وتمكنه من الطلب دليل الرضا منه بمجاورة الجار الحادث فيلتحق بالجار القديم باعتبار رضاه وذلك يبطل شفعته ضرورة وعليه دل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة لمن واثبها" أي لم يقعد عن طلبها وقال صلى الله عليه وسلم: "الشفعة كحل العقال" فكنى بهذا عن سرعة سقوطها وعن شريح قال الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الجار والجار أحق من غيره وهو الصحيح علي التفسير الذي قلنا أن الشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع وعن عمرو بن الشريد عن أبيه لشريد بن سويد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعته ما كان" والشريد هذا ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ثم روى عنه أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنشدني من أشعار الجاهلية فكلما أنشدت شيئا قال صلى الله عليه وسلم "إيه" حتى أنشدت مائة بيت. وأهل الحديث يرون حديثه هذا في الشفعة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أرض بيعت ليس لأحد فيها شركة ولا قسم إلا الجوار فقال صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعته ما كان" فهذا يدل على أن المراد حقيقته لأنه نفي الشركة في السؤال وأثبت الجوار فقال صلى الله عليه وسلم: "ما كان" وله معنيان.
أحدهما: أن المراد من كان فإن ما تذكر بمعنى من قال الله تعالى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:5] فهو دليل على أن الشفعة للذكر والأنثى والحر والمملوك والصغير والكبير والمسلم والذمي.(14/166)
والثاني: أن المراد بقوله ما كان أي ما كان أي يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة فيكون دليلا لنا على الشافعي حيث يقول لا تثبت الشفعة إلا فيما يحتمل القسمة وبظاهره يستدل من أوجب الشفعة في بعض المنقولات كالسفن ونحوها وهو قول أصحاب الظواهر ولكن ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم "الشفعة في كل ربع أو عقار" تبين أن المراد بقوله ما كان العقار دون المنقول.
وعن شريح أنه قضى للنصراني بالشفعة وكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجازها وبهذا نأخذ دون ما رواه بعد هذا عن شريح أنه قال لا شفعة ليهودي ولا لنصراني ولا لمجوسي وبقوله الثاني كان يأخذ ابن أبي ليلى فيقول الأخذ بالشفعة رفق(14/167)
ص -80- ... شرعي فلا يثبت لمن هو منكر لهذه الشريعة ولكنا نأخذ بما قضي به شريح فقد تأيد ذلك بإمضاء عمر رضي الله عنه ثم أهل الذمة التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والأخذ بالشفعة من المعاملات وهو مشروع لدفع الضرر والضرر مدفوع عنهم كما هو مدفوع عن المسلمين وعن الحسن رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة والجوار وفي بعض الروايات بالجوار وهو دليل لنا على استحقاق الشفعة بسبب الجوار فأما معنى اللفظ الآخر أن الجار كان منازعا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجوار وبالشفعة فهو دليل على أن الجوار يستحق به الشفعة حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الخصومة فقضي به وبالشفعة وعن الحسن قال إذا اقتسم القوم الأرضين ورفعوا سربا بينهم فهم شفعاء وبه نأخذ فنقول الشركة في السرب تستحق به الشفعة لأنها شركة في حقوق المبيع فيثبت باعتباره حق الشفعة كالشركة في نفس المبيع لأن الحاجة إلى دفع الضرر البادي لسوء المجاورة يتحقق في الموضعين جميعا.
وعن شريح قال الشفعة بالأبواب فأقرب الأبواب إلى الدار أحق بالشفعة ولسنا نأخذ بهذا وإنما الشفعة عندنا للجار الملاصق فأما الجار المحاذي فلا شفعة له بالمجاورة سواء كان أقرب بابا أو أبعد وإنما يعتبر قرب الباب في التقديم في الشفعة على ما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارين فإلى أيهما أبر قال صلى الله عليه وسلم: "إلى أقربهما منك بابا" وهذا لأن إطلاعه وإطلاع أولاده على ما يدخل منزله من النعمة أكثر فهو بالهدية أحق وهذا تأويل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الهدايا: "ابدءوا بجارنا اليهودي" فأما في الشفعة فالمعتبر هو القرب واتصال أحد الملكين بالآخر وذلك في الجار الملاصق دون الجار المحاذي فإن بين الملكين طريقا نافذا.(14/168)
وذكر عن علي وابن عباس رضي الله عنهما قالا لا شفعة إلا لشريك لم يقاسم وهذا قول أهل المدينة وليس يأخذ به أهل الكوفة إلا أنه قد رجع إليه ابن أبي ليلى فإنه كان في الابتداء يقضي بالشفعة للجار حتى كتب إليه أبو العباس المهدي يأمره بأن لا يقضي بالشفعة إلا لشريك لم يقاسم فأخذ بذلك لأنه كان عاملا له ونحن أخذنا بقول عمر رضي الله عنه فقد أثبت الشفعة للجارحين قال لبني عذرة أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود في حديث طويل وأخذنا بالآثار المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الحديث متى صح عنه كان حجة على كل صحابي رضوان الله عليهم.
والحاصل أن الشفعة عندنا على مراتب يقدم الشريك فيها في نفس المبيع ثم الشريك في حقوق المبيع بعده ثم الجار الملاصق بعدهما وعن ابن أبي ليلى والشافعي لا تجب الشفعة إلا للشريك في نفس المبيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وحديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة فيما لم يقسم" وإدخال الألف واللام في الكلام(14/169)
ص -81- ... للمعهود فإن لم يكن فللجنس وليس هنا معهود ينصرف إليه فكان للجنس فيقتضي أن جنس الشفعة فيما لم يقسم وفي رواية إنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما لتقرير المذكور ونفيه عما عداه قال الله تعالى {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: من الآية171] فهو تنصيص على نفي الشفعة بعد القسمة والمعنى فيه أن هذا تملك المال بغير رضا المتملك عليه فيختص به الشريك دون الجار كالمتملك بالاستيلاد وملك أحد الجارين متميز عن ملك الآخر فلا يستحق أحدهما ملك الآخر بالشفعة كالجار المقابل وهذا لأن حق الأخذ بالشفعة لدفع ضرر مؤنة القسمة لأنه لو لم يأخذ طالبه المشتري بالقسمة فيلحقه بسببه مؤنة القسمة فالشرع مكنه من الأخذ بالشفعة ليدفع به ضرر مؤنة القسمة فيما لا طريق له لدفع ذلك إلا بأن يخرج عن ملكه بالأخذ بالاستيفاء والملك فيه وهذا لا يوجد في حق الجار ولهذا لا يوجب الشفعة فيما لا يحتمل القسمة لأنه لا يدفع بالأخذ مؤنة القسمة عن نفسه. ولهذا لا يوجب الشفعة في المنقولات أيضا لأنه متمكن من دفع مؤنة القسمة هناك ببيع نصيبه والبيع والشراء في المنقول معتاد في كل وقت فأما العقار فيتخذ لاستيفاء الملك فيه وليبقى ميراثا بالعاقبة فهو يحتاج إلى الأخذ بالشفعة لدفع ضرر مؤنة المقاسمة عن نفسه.(14/170)
وحجتنا في ذلك ما روينا من الإخبار ولا يعارضها ما رووا ففيها بيان أن للشريك شفعة ونحن نقول به وتخصيص الشيء بالذكر عندنا لا يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه ثم المراد بالشفعة بسبب الشركة فيما لم يقسم والمراد بيان أن مع الشريك الذي لم يقاسم لا مزاحمة لأحد في الشفعة الشفعة بل هو مقدم وبه نقول واللفظ المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق" دليلنا أنه علق نفي الشفعة بالأمرين جميعا فذلك دليل على أنه إذا وقعت الحدود ولم تصرف الطرق بأن كان الطريق واحدا أن تجب الشفعة وعندكم لا تجب ثم معنى هذا اللفظ فلا شفعة بوقوع الحدود وصرف الطرق وكان الموضع موضع إشكال لأن في القسمة معنى المبادلة فربما يشكل أنه هل يستحق بها الشفعة فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يستحق الشفعة بالقسمة والمعنى فيه أنه متصل بالملك اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الأخذ بالشفعة كالشريك.
وتحقيق هذا الكلام أن استحقاق الشفعة بالمجاورة دون الشركة فإن الشركة تتحقق في المنقولات ثم لا تجب الشفعة إلا في العقار فلا بد من معنى يظهر به الفرق بينهما وليس ذلك إلا أن الشركة في العقار تفضي إلى المجاورة لأنهما إذا اقتسما كانا جارين والشركة في المنقولات لا تفضي إلى المجاورة لأنهما إذا اقتسما لا يبقى بينهما مجاورة في الملك فإذا كان باعتبار الشركة التي تفضي إلى المجاورة يستحق الشفعة فتحقيقه المجاورة أولى وهذا لأن المقصود دفع ضرر المتأذى بسوء المجاورة على الدوام ولهذا لا يثبت لجار السكني كالمستأجر أو المستعير لأن جواره ليس بمستدام ولهذا لا يثبت في المنقول وضرر التأذي بسوء المجاورة على الدوام باتصال أحد الملكين بالآخر على وجه لا يتأتى الفصل فيه والناس(14/171)
ص -82- ... يتفاوتون في المجاورة حتى يرغب في مجاورة بعض الناس لحسن خلقه وعن جوار البعض لسوء خلقه فلمكان أنه يتأذى بالجار الحادث يثبت له حق الأخذ بالشفعة لا لدفع ضرر مؤنة المقاسمة فإن ذلك لا يحتاج إليه في المنقولات.
ولا شفعة فيما إذا باع أحد الشركاء نصيبه وهنا بالأخذ تزداد مؤنة المقاسمة على الباقين وإنما يندفع عنهم سوء مجاورة المشتري ولهذا لا تثبت للجار المقابل لأن سوء المجاورة لا يتحقق إذا لم يكن ملك أحدهما متصلا بملك الآخر ولا شركة بينهما في حقوق الملك على أنا نقول حق الأخذ بالشفعة له ليترفق به من حيث توسع الملك والمرافق وهذا في الجار الملاصق يتحقق لا مكان جعل إحدى الدارين من مرافق الدار الأخرى أولا يتحقق ذلك في الجار المقابل لعدم إمكان جعل إحدى الدارين من مرافق الدار الأخرى بطريق نافذ بينهما حتى إذا كانتا في سكة غير نافذة تثبت الشفعة للكل لا مكان جعل بعضها من مرافق البعض بأن تجعل الدور كلها دارا واحدة ولكن مع هذا الشريك مقدم عندنا لأن سبب الاستحقاق القرب والاتصال وذلك في حقه أقوى لوجود الاتصال بكل جزء من المبيع بجزء من ملكه ثم بعده للشريك في الطريق لزيادة الاتصال في حقه على الجار وقوة السبب توجب الترجيح ولأن الشريك يدفع بالأخذ ضرر سوء المجاورة ومؤنة المقاسمة عن نفسه وقد بيننا أن الحاجة إلى دفع ضرر مؤنة المقاسمة لا يصلح علة للاستحقاق فتكون علة للترجيح لأن الترجيح أبدا بما لا يكون علة الاستحقاق ألا ترى أن الأخ لأب وأم مع الأخ لأب إذا اجتمعا يترجح الأخ لأب وأم في العصوبة بسبب قرابة الأم والعصوبة لا تستحق بقرابة الأم ثم الترجيح يقع بها فهذا مثله.(14/172)
وتفسير ما قلنا في منزل مشترك بين اثنين في دار هي في سكة غير نافذة إذا باع أحد الشريكين نصيبه من المنزل فالشريك في المنزل أحق بالشفعة فإذا سلم فالشركاء في الدار أحق بالشفعة من الشركاء في السكة لأنهم أميز قربا للشركة بينهم في صحن الدار فإن سلموا فأهل السكة أحق بالشفعة في الشركة في الطريق فإن سلموا فالجار الملاصق وهذا الذي على ظهر هذا المنزل وباب داره في سكة أخرى وقد روى عن أبي يوسف أن مع وجود الشريك لا شفعة لأحد سواء سلم أو استوفى لأنهم محجوبون لحق الشريك وقد ثبت حقه سواء استوفي أو سلم ولكن في ظاهر الرواية الشريك مقدم وقد ثبت حق الجار مع الشريك لتقرر السبب في حقه إلا أن حق الشريك كان مقدما فإذا سلم كان للجار أن يستوفي كحق غرماء الصحة مع غرماء المرض في التركة فإنه إذا استحق أسقط حقهم بالإبراء كانت التركة لغرماء المرض بديونهم لأن سبب استحقاقهم ثابت ولهذا قلنا ينبغي للجار أن يطلب الشفعة إذا علم بالبيع مع الشريك تمكن من أخذه فإن لم يطلب بعد علمه حتى يسلم الشريك فلا حق له بعد ذلك وإن كان فناء منفرج من الطريق الأعظم راجعا عن الطريق أو زقاق أو درب غير نافذ فيه دور فبيعت دار منها فأصحاب الدور شفعاء جميعا لأنهم شركاء في الفناء والطريق، فإن سلم(14/173)
ص -83- ... هؤلاء الشفعة فالجار الملاصق أحق منهم بالشفعة وقد قال بعض أصحابنا فناء الدار مملوك لصاحب الدار والأصح أنه حقه وليس بمملوك له لأن ملكه في الدار والدار ما أدير عليه الحائط والفناء اسم لصحن وراء ذلك يكون معدا لإيقاف الدواب وكسر الحطب وغير ذلك فإن كان ذلك في سكة غير نافذة فهو حق أصحاب السكة بمنزلة الطريق الخاصة لهم أو ملك مشترك بينهم وفي هذه الشركة الجار الملاصق والمقابل سواء ولهذا كانت الشفعة عندنا على عدد الرءوس دون مقادير الأنصباء والدور.(14/174)
وقال الشافعي على مقدار النصب وبيانه في دار بين ثلاثة نفر لأحدهم نصفها ولآخر ثلثها ولآخر سدسها باع صاحب النصف نصيبه وطلب الآخر أن الشفعة قضى بالشفعة في المبيع بينهما نصفين عندنا وعند الشافعي رحمه الله أثلاثا بقدر ملكيهما وإن باع صاحب السدس ملكه وطلب الآخران الشفعة قضى بينهما أخماسا عنده وإن باع صاحب الثلث نصيبه قضي به بين الآخرين أرباعا عنده بقدر ملكيهما وعندنا يقضى به نصفين فكذلك على أصلنا إذا بيعت دار ولها جاران أحدهما جار من ثلاث جوانب والآخر من جانب آخر واحد وطلبا الشفعة فهي بينهما نصفين فالشافعي رحمه الله استدل بحديث عمر رضي الله عنه لما أجلى يهود من وادي القرى قال لبني عذرة أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود الحديث إلى أن جعل الوادي بين بني عذرة وبين الإمارة نصفين فقد اعتبر مقدارالنصيب ولم يقسم بين المسلمين وبين بني عذرة وإن هذا رفق من مرافق الملك فيكون على قدر الملك كالربح أو ثمرة تستحق بالملك فيكون على قدر الملك كالأولاد والألبان والأثمار في الأشجار المشتركة يوضحه المنفعة أن التي تستحق بسبب الملك يعتبر بالغرم الذي يلحق المالك بسبب الملك وذلك بقدر الملك فإذا كان الحائط مشتركا بين اثنين أو ثلاثا وأشهد عليهما فيه فسقط وأصاب مالا أو نفسا كان الضمان عليهما أثلاثا بقدر الملك فهذا مثله وهذا على أصله مستقيم فإن حق الشفعة عنده لدفع ضرر مؤنة المقاسمة وحاجة صاحب الكثير إلى ذلك أكثر من حاجة صاحب القليل لأن مؤنة القسمة عنده على الشركاء بقدر الملك فكذلك ما شرع لدفع هذه المؤنة.(14/175)
وجه قولنا أنهما استويا في سبب الاستحقاق فيستويان في الاستحقاق وبيان ذلك أن سبب استحقاق الشفعة إما الجوار أو الشركة وقد استويا في أصل ذلك فإن صاحب القليل شريك كصاحب الكثير وجار الاتصال ملكه بالمبيع كصاحب الكثير ثم تحقيق هذا الكلام أن علة الاستحقاق أصل الملك لا قدر الملك ألا ترى أن صاحب الكثير لو باع نصيبه كان لصاحب القليل أن يأخذ الكل بالشفعة كما لو باع صاحب القليل نصيبه كان لصاحب الكثير أن يأخذ جميع المبيع فملك كل جزء علة تامة لاستحقاق المبيع بالشفعة فإذا اجتمع في حق صاحب الكثير علل وفي حق صاحب القليل علة واحدة والمساواة لا تتحقق بين العلة الواحدة والعلل ألا ترى أن أحد المدعيين لو أقام شاهدين وأقام الآخر عشرة من الشهداء تثبت المعارضة والمشاركة بينهما وكذلك لو أن رجلا جرح رجلا جراحة واحدة وجرحه آخر(14/176)
ص -84- ... جراحات فمات من ذلك استويا في حكم ذلك القتل وهذا لأن الترجيح بقوة العلة لا بكثرة العلة وعند ظهور العلة الترجيح المرجوح مدفوع بالراجح وهنا لا يبطل حق صاحب القليل أصلا فعرفنا أنه لا ترجيح في جانبه من حيث قوة العلة وكثرة العلة لا توجب الترجيح لأن ما يصلح بانفراده علة لا يصلح مرجحا وملك كل جزء بانفراده علة فمن هذا الطريق تتحقق المساواة بينهما بخلاف الغرماء في التركة فإن حق كل واحد منهم في دينه في ذمة المديون ألا ترى أن عند الانفراد لا يستحق من التركة إلا قدر دينه فإذا ظهر التفاوت بينهما في مقدار الدين وعليه يترتب استحقاق التركة قلنا كل واحد منهم يستحق بقدر دينه وكذلك الربح فإنه إنما يحصل بقدر المال ألا ترى أن عند الانفراد يحصل الربح لكل واحد منهما بقدر ماله؟.
وكذلك الولد واللبن والثمار فإنها متولدة من العين فإنما تتولد بقدر الملك والشافعي رحمه الله غلط في اعتبار حكم العلة بالمتولد من العلة وقسمة الحكم على أجزاء العلة فأما الحائط المائل إذا مات من وقع عليه الحائط فإن جرحه الحائط فالضمان عليهما نصفين لاستوائهما في العلة وإن مات بنقل الحائط فالضمان عليهما أثلاثا لأن التساوي بينهما في العلة لم يوجد فإن نقل نصيب صاحب القليل لا يكون كنقل نصيب صاحب الكثير ولا يدخل على شيء مما ذكرنا الفارس مع الراجل في الغنيمة لأن تفصيل الفارس بفرسه حكم عرف شرعا بخلاف القياس مع أن الفرس بانفراده لا يكون علة للاستحقاق فيصلح مرجحا في استحقاق بعض الغنيمة وهنا ملك كل جزء علة كاملة لاستحقاق الجميع فلا تصلح مرجحة.(14/177)
ولا شفعة إلا في الأرضين والدور لأنها عرفت شرعا وقد نص الشرع على الشفعة في العقار خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة في كل عقار أو ربع" والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة إلا على قول ابن أبي ليلى فإنه كان يقول لا شفعة للصغير لأن وجوبها لدفع التأذي بسوء المجاورة وذلك من الكبير دون الصغير ولأن الصغير في الجوار تبع فهو في معنى المعير والمستأجر ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير وهو الشركة أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه بالمبيع على وجه التأبيد فيكون مساويا للكبير في الاستحقاق به أيضا ثم هو محتاج إلى الأخذ لدفع الضرر في الآتي عن نفسه وإن لم يكن محتاجا إلى ذلك في الحال وبمثل هذه الحاجة جاز للمولى تزويج الصغير والصغيرة فكذلك يثبت له حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا في استيفاء حقوقه وهو أبوه ثم وصى أبيه ثم جده أبو أبيه ثم وصى الجد ثم وصي نصبه القاضي فإن لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك لأن الحق قد ثبت له ولا يتمكن من استيفائه قبل الإدراك لأن الاستيفاء يبنى على طلب ملزم ولا يكون طلبه ملزما قبل الإدراك فتركه الطلب قبل الإدراك لعدم تمكنه من ذلك لا يكون مسقطا حقه كالبائع إذا ترك الطلب لأنه لم يعلم به والغائب على شفعته إذا علم لهذا المعنى فإنه لا يتمكن من الطلب ما لم يعلم به وترك الطلب إنما يكون دليلا على الرضا أو التسليم بعد التمكن منه لا قبله والذكر والأنثى والحر والمملوك والمسلم والكافر في حق(14/178)
ص -85- ... الشفعة سواء لأنه من المعاملات وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء وثبوت الحكم بثبوت سببه.
وإذا اشترى الرجل دارا وقبضها ونقد الثمن واختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الشفيع يتملك الدار على المشتري كما أن المشتري يتملكها على البائع ولو كان الاختلاف بين البائع والمشتري في الثمن كان القول قول البائع كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما يقوله البائع" فكذلك المشتري مع الشفيع ولأن الشفيع يدعي على المشتري وجوب تسليم الدار إليه عند إحضار الألف والمشتري منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وأيهما أقام البينة قبلت بينته لأنه يؤيد دعواه بالحجة وليس في معارضة حجته سوى مجرد الدعوى من الآخر والدعوى لا تعارض الحجة ثم الشفيع إن أقام البينة فقد أثبت ما ادعى من وجوب تسليم الدار إليه عند أداء الألف والمشتري إن أقام البينة فقد أثبت زيادة في الثمن ببينته وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف البينة بينة المشتري لأنه يثبت زيادة في الثمن ببينته والشفيع ينفي تلك الزيادة والمثبت للزيادة من البينتين أولى بالعمل بها كما لو اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن وأقاما البينة كانت بينة البائع أولى بالقبول لما فيها من إثبات الزيادة وكذلك لو اختلف البائع والمشتري والشفيع فقال البائع ثلاثة آلاف وقال المشتري ألفان وقال الشفيع ألف وأقاموا البينة كانت بينة البائع أولى بالقبول وكذلك الوكيل بالشراء مع الموكل إذا اختلفا في مقدار الثمن وأقاما البينة كانت البينة بينة الوكيل لأنها تثبت الزيادة.(14/179)
وأظهر من هذا كله المشتري من العدو مع المولى القديم إذا اختلفا في ثمن العبد المأسور وأقاما البينة كانت البينة بينة المشتري من العدو لما فيها من إثبات الزيادة ولأبي حنيفة طريقتان إحداهما حكاها محمد عنه والأخرى حكاها أبو يوسف فالتي حكاها محمد أن المشتري صدر منه إقرار أن أحدهما له والآخر عليه فكان للشفيع أن يأخذ بما عليه كما لو أقر عند القاضي بالأمرين جميعا وبيان ذلك أن الشفيع أثبت ببينته إقرار المشتري بالشراء بألف وهذا عليه والمشتري أثبت ببينته إقراره بالشراء بالغين وهذا له وبه فارق البائع مع المشتري لأن هناك كل واحد منهما صدر منه إقرار أن أحدهما ما أثبته ببينة وهو له والآخر ما أثبته صاحبه وهو عليه فاستويا من هذا الوجه فلهذا صرنا إلى الترجيح بالزيادة والأولى أن نقرر هذا الكلام من وجه آخر فنقول لا تنافي بين البينتين في حق الشفيع ألا ترى أنه لو اشترى مرتين مرة بألف ومرة بألفين كان للشفيع أن يأخذ بأيهما شاء فعرفنا أنه لا تنافي بينهما في حقه.
والاشتغال بالترجيح عند تعذر العمل بهما أولى فأما مع إمكان العمل بالبينتين فلا معنى للمصير إلى الترجيح فيجعل في حق الشفيع كان الشراءين جميعا ثابتان فله أن يأخذ بأيهما شاء وهو نظير المولى مع العبد إذا اختلفا فقال المولى قلت لك إذا أديت إلى ألفين فأنت(14/180)
ص -86- ... حر وقال العبد قلت لي إذا أديت إلى ألفا فأنت حر وأقاما البينة فإن البينة بينة العبد بهذا الطريق وهو أنه لا منافاة بينهما في حقه فيجعل كان الكلامين صدرا من المولى ويعتق العبد بأداء أي المالين شاء بخلاف البائع مع المشتري إذا اختلفا لأن هناك العمل بالبينتين غير ممكن فالعقد الثاني في حقهما ناسخ للأول فلهذا صرنا إلى الترجيح بالزيادة وكذلك إن اختلفوا جميعا لأنه ما دام الاختلاف قائما بين البائع والمشتري فلا معتبر باختلاف الشفيع وأما الوكيل مع الموكلي إذا اختلفا فقد روى ابن سماعة عن محمد أن البينة بينة الموكل لأن الوكيل صدر منه إقرار إن كما بينا في ظاهر الرواية فالوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري ولهذا يجري التحالف بينهما عند الاختلاف في الثمن وقد بينا العذر فيما إذا كان الاختلاف بين البائع والمشتري فأما المولى القديم مع المشتري من العدو إذا اختلفا فقد نص في السير الكبير على أن البينة بينة المولى القديم ولم يذكر فيه قول أبي يوسف لما بينهما من الوحشة حين نص السير ولئن سلمنا فهناك العمل بالبينتين غير ممكن في حق المولى القديم لأن الشراء الثاني ناسخ للأول فصرنا إلى الترجيح بالزيادة لهذا والطريقة التي حكاها أبو يوسف إن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة والبينتان للإلزام فالملزم من البينتين يترجح كما في بينة العبد مع بينة المولى في مسألة التعليق.(14/181)
وبيان هذا أنه إذا قبلت بينة الشفيع وجب على المشتري تسليم الدار إليه بألف شاء أو أبى وإذا قبلت بينة المشتري لا يجب على الشفيع شيء ولكنه يتخير بين أن يأخذ أو يترك وبه فارق بينة البائع والمشتري لأن كل واحدة من البينتين هناك ملزمة وكذلك بينة الوكيل مع الموكل كل واحدة منهما ملزمة فلهذا صرنا إلى الترجيح بالزيادة وفي مسألة المشتري مع العبد من العدو ويقول على هذه الطريقة البينة بينة المولى القديم لأنها ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة وإذا أخذ الشفيع الدار من المشتري فعهدته وضمان ماله على المشتري لأنه يتملك الدار عليه ويدفع الثمن إليه فهو في حقه بمنزلة البائع مع المشتري.
فإن قيل حق الشفيع مقدم على حق المشتري شرعا فينبغي أن يجعل أخذ الشفيع من يده بمنزلة الاستحقاق عليه لأنه يأخذ بحق مقدم على حقه.
قلنا نعم حقه مقدم ولكن ثبوت حقه بالسبب الذي يثبت به حق المشتري وهو الشراء إذ بأخذه لا يبطل ذلك السبب بخلاف الاستحقاق بدعوى الملك فإذا بقي السبب وتأكد بقبض المشتري لم يمكن أن يجعل الشفيع متملكا على البائع لأنه لا ملك له ولا يد حتى قضي له بالشفعة فلا بد أن يجعل متملكا على المشتري مستحقا عليه يده فلهذا كانت عهدته على المشتري كما لو اشتراها ابتداء منه.
وإن أخذها من البائع ودفع الثمن إليه فعهدته وضمان ماله على البائع عندنا وقال ابن أبي ليلى عهدته على البائع في الوجهين جميعا لأن الشفيع لما تقدم على المشتري قام مقامه ثم عهدة المشتري على البائع فكذلك عهده الشفيع وللشافعي قولان في أحد القولين: ليس(14/182)
ص -87- ... للشفيع أن يأخذ من البائع ولكن البائع يسلمه إلى المشتري وعهدته عليه لأنه يتملك على المشتري بعوض والمبيع قبل القبض عنده لا يحتمل التملك على المشتري بعوض عقارا كان أو منقولا وعلى القول الآخر يأخذ من يد البائع وعهدته على المشتري وإليه يدفع الثمن وهو رواية عن أبي يوسف لأن حق الشفعة يثبت بالشراء فكان من حقوق الشراء وما يكون من حقوق الشيء لا يكون ناسخا له وكيف يكون أخذ الشفيع ناسخا للبيع وهو مبطل حقه كما لو ظهر بطلان البيع من الأصل وإذا نفى الشراء كان الشفيع متملكا على المشتري فعهدته عليه كما لو أخذ من يده وعن أبي يوسف قال إن كان المشتري نقد البائع الثمن فالشفيع يدفع الثمن إلى المشتري وعهدته عليه لأن البائع لا يتمكن من استيفاء الثمن مرتين وإن لم يكن المشتري نقد البائع الثمن فالشفيع يدفع الثمن إلى البائع ويسقط حق البائع من الثمن قبل المشتري وعهدة الشفيع على البائع فأما وجه ظاهر الرواية فهو أن حق الشفيع ثبت بالبيع قبل ملك المشتري ويده ألا ترى أنه لو قال كنت بعت هذه الدار من فلان وقال فلان ما اشتريت كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة لثبوت البيع بإقرار البائع وإن لم يثبت ملك المشتري لإنكاره فإذا ثبت تمكنه من الأخذ قبل ملك المشتري فقبل قبضه أولى وإذا أخذ بالشفعة فات بأخذه الشفعة القبض المستحق بالعقد في حق المشتري وذلك يوجب انفساخ البيع كما لو هلك المبيع قبل القبض وهذا لأن يد الشفيع لا يمكن جعلها نائبة عن يد المشتري لتقدم حقه على حق المشتري بخلاف ما إذا باعها المشتري من غيره لأن يد الثاني هناك يمكن جعلها نائبة عن يد الأول فلا يفوت قبض المشتري الأول معنى ثم أن حضر الشفيع والدار في يد المشتري فهو الخصم للشفيع يأخذه من يده ولا يشترط حضرة البائع لأن حكم العقد في حق البائع قد انتهى بالتسليم إلى المشتري وصار هو كأجنبي آخر فالشفيع بعد ذلك يستحق على المشتري ملكه ويده وكان هو الخصم.(14/183)
وإن كانت الدار في يد البائع فلا بد من حضرة البائع والمشتري جميعا لخصومة الشفيع في الأخذ لأن الملك للمشتري واليد للبائع والشفيع يريد استحقاقهما جميعا فيشترط حضورهما لذلك ولأنه لا بد من حضور البائع لأن الدار في يده والشفيع لا يأخذ بالشفعة من غير من في يده واحدة من يد البائع موجب انفساخ العقد بين البائع والمشتري وذلك لا يتم إلا بمحضر من المشتري فيشترط حضورهما لذلك وإذا أخذ الشفيع من المشتري الدار بالشفعة وأراد أن يكتب عليه كتب عليه نحو ما ذكره في الكتاب والمقصود من الكتاب التوثق والاحتياط فالسبيل أن يكتب على أحوط الوجوه ولهذا قال يكتب على إقراره كتابا أنه كان اشتراها وإن هذا كان شفيعها فطلب أخذها بالشفعة فسلمها إليه لشفعته فيها وقبض منه الثمن ودفع إليه الدار وضمن له الدرك وأشهد عليه الشهود ويأخذ أيضا من المشتري كتاب الشراء الذي عنده فذلك أحوط له فإن أبى أن يعطيه فله ذلك لأن القابض ملكه ثم الاحتياط للشفيع أن يشهد على شهادة الشهود فيه حتى أذا جحد البائع البيع يتمكن هو من إثبات حقه(14/184)
ص -88- ... بالحجة وإن أخذ الدار من البائع كتب أيضا عليه نحو ذلك وزاد فيه وقد سلم فلان بن فلان المشتري جميع ما في هذا الكتاب وأجازه وأقر أنه لا حق له في هذه الدار ولا في ثمنها وإن شاء كتب الكتاب عليهما بتسليم الدار بالشفعة إليه وقبض البائع الثمن برضاهما وضمان البائع الدرك لأنه في الأخذ من يد البائع يحتاج إلى حضرتهما وكل واحد منهما يصير مقتضيا عليه من وجه فأما أن يكتب الكتاب عليهما أو على البائع ويذكر فيه تسليم المشتري أيضا ليكون ذلك أحوط للشفيع.
وإذا اشترى دارا بألف درهم إلى سنة وطلبها الشفيع إلى ذلك الأجل لم يكن له ذلك عندنا وقال زفر والشافعي له ذلك لأن الأجل صفة الدين يقال دين مؤجل ودين حال وللشفيع حق الأخذ بالثمن الذي يملك به المشتري بصفته كما لو اشتراه بألف زيوف ولكنا نقول الأجل مدة يلحقه بالشرط بالعقد شرطا فلا يثبت في حق الشفيع كالخيار وهذا لأن تأثير الأجل في تأخير المطالبة وبه تبين أنه ليس بصفة للمال لأن الثمن للبائع والأجل حق للمشتري على البائع فكيف يكون صفة للثمن ثم الناس يتفاوتون في ملاة الذمة فبرضا البائع يكون ماله في ذمة المشتري لا يكون رضا منه بكونه في ذمة الشفيع ولأن الشفيع يتملك بمثل ما يتملك به المشتري من المال فلا يثبت الأجل في حقه من غير ذكر كالمولى فإن من اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه غيره لا يثبت الأجل في حق المولى بدون الذكر إذا ثبت هذا فنقول الشفيع بالخيار إن شاء أخذها بالثمن حالا وإن شاء انتظر حلول الأجل فإذا حل أخذها بالثمن حالا وإذا اختار الانتظار فعليه أن يطلب الشفعة في الحال حتى إذا لم يطلب لم يكن له أن يأخذها بعد حلول الأجل في قول أبي حنيفة ومحمد وذكر ابن أبي مالك أن أبا يوسف كان يقول هكذا أولا ثم رجع فقال له أن يأخذها.(14/185)
وجه ظاهر الرواية أن حقه في الشفعة قد ثبت بدليل أنه لو أخذه بثمن حال كان له ذلك والسكوت عن الطلب بعد ثبوت حقه يبطل شفعته ووجه قول أبي يوسف الآخر أن الطلب غير مقصود لعينه بل للآخذ وهو في الحال لا يتمكن من الأخذ على الوجه الذي يطلبه لأنه إنما يريد الأخذ بعد حلول الأجل أو بثمن مؤجل في الحال ولا يتمكن من ذلك فلا فائدة في طلبه في الحال وسكوته لأنه لم ير فيه فائدة لا لإعراضه عن الأخذ وإن اختار أخذها من يد المشتري ودفع إليه الثمن في الحال كان الثمن للبائع على المشتري إلى أجله لتقرر العقد بينهما وإذا كان للدار شفيعان فسلم أحدهما لم يكن للآخر إلا أن يأخذها كلها أو يدعها لأن مزاحمة المسلم قد زالت فكأنه لم يكن الشفيع في حقه إلا واحدا. وليس للشفيع أن يأخذ البعض دون البعض لما في الأخذ من تفريق الصفقة والإضرار بالمشتري في تبعيض الملك عليه والشفيع بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه فلا يتمكن من الأخذ على وجه يكون فيه إلحاق الضرر بغيره ثم حق كل واحد من الشفيعين ثابت في جميع المبيع لتكامل العلة في حق كل واحد منهما إلا أنهما إذا طلبا قضى القاضي لكل واحد منهما بالنصف للمزاحمة ونفى الضيق(14/186)
ص -89- ... في المحل فإذا سلم أحدهما قبل القضاء بقي حق الآخر في الكل كما لو قتل رجلين عمدا فعفا عنه ولى أحدهما كان للآخر أن يقتص منه لهذا المعنى.
وإذا كان البائع اثنين في صفقة واحدة والمشتري واحدا لم يكن للشفيع أن يأخذ بعضها دون بعض وإن كان البائع واحدا والمشتري اثنين فله أن يأخذ حصة أحدهما دون الآخر لأنه يأخذ ملك المشتري بالشفعة فإن كان المشتري واحدا لو تمكن من أخذ البعض تضرر به المشتري من حيث أنه يتبعض عليه الملك وإذا كان المشتري اثنين فإنما ملك كل واحد منهما النصف وليس في أخذ الشفيع نصيب أحدهما إضرارا بالآخر يوضحه إن أخذه لدفع ضرر الجار الحادث وبأخذ البعض عند اتحاد المشتري لا يندفع ضرر مجاورته فعرفنا أنه لم يقصد إلا الإضرار به وإن كان المشتري اثنين فقد يكون أحدهما ممن ينتفع بجواره والآخر ممن يتضرر بجواره فهو يقصد دفع ضرر جار السوء بأخذ نصيب أحدهما.
وروى الحسن عن أبي حنيفة قال إذا كان البائع اثنين فأراد الشفيع الأخذ قبل قبض المشتري فله أن يأخذ نصيب أحد البائعين لأنه بالأخذ يتملك على البائع ولهذا كانت عهدته على البائع والملك في حق البائعين متفرق وبعد القبض إنما يتملك على المشتري والملك في حقه مجتمع وإن كان البائع واحدا والمشتري اثنين فقبل القبض ليس له أن يأخذ نصيب أحد المشتريين لاجتماع الملك في حق البائع وبعد القبض له ذلك ولكن هذا قوله الأول فأما قوله الآخر كما ذكر في الكتاب فإن المعتبر جانب المشتري قبل القبض وبعد القبض ويستوى إن كان اشتراه لنفسه أو لغيره فسره هشام عن محمد إن الواحد إذا اشترى دار الرجلين فليس للشفيع أن يأخذ نصيب أحد الأمرين ولو اشترى رجلان لواحد كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة النصف لأن المشتري اثنان والعاقد لغيره في باب الشراء بمنزلة العاقد لنفسه في أحكام العقد.(14/187)
وإن كان البائع اثنين والمشتري واحدا فطلب نصيب أحدالبائعين لم تبطل بذلك شفعته وله أن يأخذها كله مقسومة كانت أو غير مقسومة لأنه ما أعرض عن الطلب ولكنه أظهر الطلب والرغبة ثم اشتغل بتقسيم لم يجعل الشرع له ذلك فيبطل تقسيمه ويبقى حقه في جميع الدار يأخذه إن شاء ولو أخبر الشفيع أن المشتري فلان فقال قد سلمت له فإذا المشتري غيره فهو على شفعته لما بينا أن الناس يتفاوتون في المجاورة فرضاه بمجاورة إنسان لا يكون رضا منه بمجاورة غيره وهذا التقيد منه مفيد كانه قال إن كان المشتري فلانا فقد سلمت الشفعة فإذا تبين أن المشتري غيره فهو على حقه وإن تبين أنه اشتراه فلان وآخر معه صح تسليمه في نصيب فلان وهو على شفعته في نصيب الآخر لأنه رضي بمجاورة أحدهما فلا يكون ذلك منه رضا بمجاورة الآخر والبعض معتبر بالكل.
ولو أخبر أن الثمن بألف درهم فسلم الشفعة فإن كان أكثر من ألف فتسليمه صحيح وإن كان أقل فله الشفعة عندنا وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له في الوجهين لأنه أسقط حقه بعد ما وجبت له الشفعة ورضي بمجاورة هذا المشتري فلا يكون له أن يأتي ذلك بعد الرضا به.(14/188)
ص -90- ... ولكنا نقول: إنما أسقط حقه بشرط أن يكون الثمن ألف درهم لأنه بنى تسليمه على ما أخبر به والخطاب السابق كالمعاد فيما بنى عليه من الجواب فكأنه قال سلمت إن كان الثمن ألفا وإنما أقدم على هذا التسليم لغلاء الثمن أو لأنه لم يكن متمكنا من تحصيل الألف ولا يزول هذا المعنى إذا كان الثمن أكثر من ألف بل يزداد فأما إذا كان الثمن أقل من الألف فقد انعدم المعنى الذي كان لأجله رضي بالتسليم فيكون على حقه وهذا لأن الأخذ بالشفعة شراء وقد يرغب المرء في شراء شيء عند قلة الثمن ولا يرغب فيه عند كثرة الثمن ولو سلم الشفعة قبل الشراء كان ذلك باطلا لأن وجوب حقه بالشراء والإسقاط قبل وجود سبب الوجود يكون لغوا كالإبراء عن الثمن قبل البيع.
ولو أخبر أن الثمن شيء مما يكال أو يوزن فسلم الشفعة فإذا الثمن من صنف آخر أقل مما يسمى له أو أكثر فهو على شفعته لأن الإنسان قد يتيسر عليه جنس دون جنس وكان هذا التقييد مفيدا في حقه فكأنه قال سلمت إن كان الثمن كرا من شعيرا فإذا ظهر أن الثمن كر من حنطة فهو على حقه لو أخبر أن الثمن عبد أو ثوب أو دابة ثم ظهر أنه كان مكيلا أو موزونا فهو شفعته لأن ما له مثل من جنسه الشفيع يأخذ بمثل ما اشتراه المشتري وفيما لا مثل له يأخذ بقيمته دراهم وقد يتيسر عليه تحصيل جنس من المكيل والموزون ويتعذر عليه تحصيل الدراهم فكان هذا التقييد مفيدا في حقه.(14/189)
ولو أخبر أن الثمن ألف درهم فسلم ثم تبين له أن الثمن مائة دينار قيمتها ألف درهم أو أقل أو أكثر فعندنا هو على شفعته إن كان قيمتها أقل من الألف وإلا فتسليمه صحيح وعلى قول زفر هو على شفعته على كل حال لأن الدراهم والدنانير جنسان ولهذا حل التفاضل بينهما فكأنه قال سلمت إن كان الثمن ألف درهم فإذا تبين أن الثمن دنانير فهو على شفعته كما في المكيلات والموزونات ولكنا نقول الدراهم والدنانير جنسان صورة ولكنهما جنس واحد في المعنى والمقصود هو المالية والثمنية ومبادلة أحد النقدين بالآخر يتيسر في العادة فلا يتقيد رضاه بالصورة وإنما يتقيد بالمعنى وهو مقدار المالية فيكون تسليمه صحيحا إذا كانت مالية الثمن أقل مما أخبر به وهذا لأن من لا يرغب في شراء الشيء بألف درهم لا يرغب في شرائه أيضا بمائة دينار قيمتها ألف درهم ومالا يكون مقيدا من التقييد لا يعتبر.
ولو قيل له اشتراها بعبد أو ثياب قيمة ألف درهم فسلم فإذا الثمن دراهم أو دنانير فهو على شفعته لأن هذا التقييد مفيد في حقه لأنه وإن كان يأخذها بالقيمة فقد يصير مغبونا في ذلك لأن تقويم الشيء بالظن يكون قائما أقدم على التسليم لهذا وينعدم هذا المعنى إذا كان الثمن دراهم ولو قيل له أنه اشتراها بعبد قيمته ألف درهم فسلم الشفعة فإذا قيمة العبد أكثر من ذلك فلا شفعة له وإن كانت قيمته أقل من ألف درهم فله الشفعة لأن الثمن إذا كان مما لا مثل له من جنسه فإنما يأخذ الشفيع بقيمته فكان هذا في حقه بمنزلة البيع بتلك القيمة فإذا كان لثمن أقل مما أخبر به لم يكن هو راضيا بسقوط حقه.(14/190)
ص -91- ... وإذا كانت الدار بين ثلاثة رجال إلا موضع بئر أو طريق فيها فباع الشريك في الجميع نصيبه من جميع الدار فالشريك الذي له في جميع الدار نصيب أحق من الآخر الذي له في بعض الدار نصيب لأن شركته أعم وقد بينا أن من يكون أقوى سببا فهو مقدم في الاستحقاق ولأن الموضع الذي هو مشترك بين البائع وبينه لاحق للثالث فيه وهو موضع البئر أو الطريق لابد أن يكون هو أحق في ذلك الموضع بالأخذ بالشفعة وذلك في حكم شيء واحد فإذا صار أحدهم أحق بالتبعيض كان أحق بالجميع وإن اختلفا البائع والمشتري والشفيع في الثمن قبل نقد الثمن والدار مقبوضة أو غير مقبوضة فالقول قول البائع في الثمن ويثبت حكم التحالف بين البائع والمشتري بالنص وللشفيع أن يأخذ بما قال البائع إن شاء لأن الشرع لما جعل القول قول البائع ظهر مقدار الثمن في حقه بخبره وإنما لم يظهر في إلزام المشتري وليس في جانب الشفيع إلزام بل هو مخير فيأخذه بما قال البائع إن شاء وإن كانت الدار في يد المشتري فقال البائع بعتها بألف درهم واستوفيت الثمن وقال المشتري اشتريتها بألفين فللشفيع أن يأخذ بألف درهم ولو قال البائع بعتها إياه واستوفيت الثمن وهو ألف درهم وقال المشتري اشتريتها بألفين ونقدته الثمن لم يأخذها الشفيع إلا بألفين لأن حكم البيع في حق البائع ينتهي بوصول الثمن إليه فإذا بدا فأقر بجميع قبض الثمن قبل أن يبين مقداره فقد انتهى حكم العقد في حقه وصار هو كأجنبي آخر فلا قول له بعد ذلك في بيان مقدار الثمن وبقي الاختلاف بين الشفيع والمشتري فيكون القول قول المشتري فأما إذا بدا ببيان مقدار الثمن قبل أن يقر بقبضه فقد ظهر أن الثمن ذلك القدر بخبره لأن الشرع جعل القول قوله ما لم يصل إليه الثمن وثبت للشفيع حق الأخذ بذلك الثمن فلا يبطل ذلك عليه بإقرار البائع بقبض الثمن بعد ذلك وهو نظير ما لو قال الوصي استوفيت جميع ما للميت على غريمه فلان وهو ألف درهم وقال الغريم بل(14/191)
كان علي ألف درهم وقد أوفيتك جميع ذلك فالوصي ضامن للألفين ولا شيء له على الغريم ولو قال استوفيت من الغريم ألف درهم وهو جميع مال الميت عليه فقال فلان كان على ألفا درهم وقد أوفيتك الكل فللوصي أن يرجع عليه بألف أخرى والفرق ما بينا.
وفرع أبو يوسف رحمه الله في الأمالي على هذا فقال: لو كانت الدار في يد البائع فقال بعتها إياه بألف درهم واستوفيت الثمن وأخذها الشفيع من يده بألف فالمشتري على حجته فيما بينه وبين البائع يرجع عليه بألفين إن أثبت أن الثمن ألفا درهم وهو صحيح لأن البيع انفسخ فيما بين البائع والمشتري فيرجع بما أوفاه من الثمن ولو قال البائع بعتها بألفين ولم أنقد إلا ألف درهم ولم يأخذها المشتري ولا الشفيع إلا بألفين لأن القول في إثبات مقدار الثمن قول البائع ما لم يصل إليه كمال الثمن وإذا كان البيع بألف درهم فحط البائع عن المشتري تسعمائة فللشفيع أن يأخذها بمائة درهم عندنا وعند الشافعي لا يأخذها إلا بالألف وأصل المسألة في كتاب البيوع إن الزيادة والحط في بعض الثمن يثبت على سبيل(14/192)
ص -92- ... الالتحاق بأصل العقد عندنا وعند الشافعي هو بمنزلة الهبة المبتدأة فإذا كان عندنا الحط يلتحق بأصل العقد فالمحطوط خرج من أن يكون ثمنا وإنما ثمن الدار ما بقي فيأخذه الشفيع بذلك.
ولو كان الشفيع أخذها بألف ثم حط البائع عن المشتري تسعمائة فإنه ينحط ذلك القدر عن الشفيع أيضا حتى يرجع بذلك القدر على المشتري لأنه ظهر منه أنه أخذ منه فوق حقه وعلى هذا قالوا لو أخبر أن الثمن ألف درهم فسلم الشفعة ثم حط البائع عن المشتري مائة فهو على شفعته لأن المحطوط خرج من أن يكون ثمنا فهو بمنزلة ما لو تبين أن الثمن كان أقل من ألف ولو وهب البائع الثمن كله للمشتري قبل قبضه أو بعده لم يحط المشتري عن الشفيع شيئا لأن هبة جميع الثمن لا تلتحق بأصل العقد فإن التحاق الحط بأصل العقد ليدفع العين ويعتبر صفة العقد فيه ليصير عدلا بعد أن كان رابحا أو خاسرا وهذا لا يتحقق في هبة جميع الثمن لأن الإنسان لا يصير مغبونا بجميع الثمن فعرفنا أنه مبتدأ يوضحه إن حط جميع الثمن لو التحق بأصل العقد فإما أن يصير العقد هبة ولا شفعة للشفيع في الهبة أو يصير بيعا بغير ثمن فيكون فاسدا ولا شفعة في البيع الفاسد فعرفنا أنه لا يمكن إلحاق الجميع بأصل العقد في حق الشفيع بخلاف حط البعض فإن زاد البائع المشتري في الثمن زيادة بعد العقد أخذ الشفيع الدار بالثمن الأول لأنه قد استحق أخذها بالثمن الأول قبل الزيادة والمشتري لا يملك إبطال الحق الثابت له فلا يملك غيره أيضا.(14/193)
يوضحه أن بهذه الزيادة يلزم نفسه شيئا للبائع ويلزم الشفيع مثل ذلك وله الولاية على نفسه دون الشفيع فيعمل التزامه في حقه ولا يعمل في حق الشفيع ألا ترى أنه لو جد بيعا مع البائع بأكثر من الثمن الأول صح ذلك في حقه وكان للشفيع أن يأخذ بالثمن الأول فقد فرق بين الزيادة والحط في حق الشفيع وسوى بينهما في بيع المرابحة غير مستحق على المشتري فليس في التزامه الزيادة في حكم بيع المرابحة إبطال حق مستحق عليه بخلاف الشفعة ولو باعها المشتري من آخر بثمن أكثر من الثمن الأول كان للشفيع الخيار لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت حق الآخذ له بالشفعة فإن اختار الأخذ بالشراء الثاني يأخذها من يد المشتري الثاني ولا يشترط حضرة المشتري الأول وإن اختار الأخذ بالثمن الأول بحكم الشراء الأول كان ذلك له لأن المشتري الأول لا يمكن من إبطال حق الشفيع بتصرفه وإذا أخذها بالشراء الأول دفع الثمن إلى المشتري الأول وعهدته عليه ويرجع المشتري الثاني على المشتري الأول وإنما أوفاه من الثمن لأن البيع الثاني قد انفسخ فإن الشفيع أخذها بحق مقدم على البيع الثاني ولم يشترط حضرة المشتري الأول إذا أراد أخذها بالثمن الأول في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يشترط وكذلك لو كان المشتري وهبها من إنسان ثم حضر الشفيع فلا خصومة بينه وبين الموهوب له في قول أبي حنيفة ومحمد حتى يحضر المشتري وعند أبي يوسف هو خصم لأنه يدعي حقه في العين(14/194)
ص -93- ... الذي يزعم ذو اليد أنه ملكه فيكون هو خصما له في ذلك كما إذا ادعى ملك العين لنفسه وهما يقولان: الشفيع لا يدعي حقا على الموهوب له ولا في ملكه وإنما يدعي حقه على المشتري الأول في ملكه فما لم يعد ملكه لا يتبين محل حقه وإنما يعود ملكه إذا انفسخ العقد الثاني وفسخ العقد عليه لا يجوز إلا بحضرته وتمام بيان هذه المسألة في المأذون.
وكذلك لو تصرف المشتري في الدار تصرفا آخر بأن رهنها أو تزوج عليها فللشفيع أن يبطل ذلك كله ويأخذها بالشفعة الأولى وليس لأحد من هؤلاء على الشفيع شيء من الثمن إنما الثمن للمشتري الأول ولا يأخذ الشفيع الدار حتى ينقد الثمن كما لا يأخذ المشتري الدار من البائع حتى ينقده ثمنها ثم قد يبطل الرهن والهبة بالاستحقاق وترجع المرأة على الزوج بقيمة الدار لأن المسمى من الصداق قد استحق فإذا اشترى الرجل شقصا من دار فقاسم شريكه بحكم أو بغير حكم ثم حضر الشفيع كان له أن يأخذ ما أصاب المشتري بالقسمة أو يتركه وليس له فسخ القسمة لأن القسمة من تتمة القبض فالمقصود من القبض الحياز وتمام الحيازة تكون بالقسمة وليس للشفيع أن ينقض قبل المشتري فكذلك لا يكون له أن ينقض قسمته ولأنه لو نقض القسمة احتاج إلى إعادتها في الحال لأن البائع مطالب بالقسمة ولا يشتغل بنقض شيء يحتاج إلى إعادته في الحال.(14/195)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه قال: هذا إذا قسم بأمر القاضي فإن كانت القسمة بينهما بالتراضي فللشفيع أن ينقض تلك القسمة لأن في القسمة بالتراضي معنى المبادلة فهي كتصرف آخر من المشتري فللشفيع أن ينقضه وقد يفيده هذا النقض فربما يقع نصيبه في القسمة الثانية فيما يجاوز ملكه فأما إذا كان القاضي هو الذي قسم فليس في هذه القسمة معنى المبادلة ولكنه تعين المبيع بقضاء القاضي وهو ما سلمه إلى المشتري فيأخذ الشفيع ذلك من يده إن شاء وإن شاء ترك وإذا قضي القاضي للشفيع بالشفعة بثمن مسمى فهي لازمة لا يتخلص منها إلا برضا المشتري أو يحدث في الدار عيب لأن بقضاء القاضي ثبت الملك للشفيع بالثمن المسمى ويؤكد فيكون حاله مع المشتري بمنزلة حال المشتري مع البائع وبعد البيع ليس للمشتري أن يتخلص منها إلا بالأقالة برضاء البائع أو بعيب يجده في الدار فكذلك حال الشفيع فإن كانت في يد البائع فقضي القاضي بها عليه ثم سأل البائع أن يقيله فأقاله جازت الإقالة وهي للبائع وقد بريء منها الشفيع والمشتري أما المشتري فلان البيع انفسخ بينه وبين البائع حين قضى القاضي بها للشفيع على البائع وأما الشفيع فلانه قام مقام المشترى بعد ما قضى القاضي له بها بذلك البيع وإقالة المشتري مع البائع كانت تصح قبل أخذ الشفيع فكذلك إقالة الشفيع مع البائع توضيحه أن الشفيع لما تقدم على المشتري في ثبوت الملك له بالعقد الذي باشره المشتري صار المشتري في معنى الوكيل له وإقالة الموكل مع البائع صحيحة فكذلك إقالة الشفيع مع البائع وكذلك لو كانت في يدي المشتري فقضى بها عليه ثم ردها الشفيع على البائع فهو جائز والشفيع والمشتري بريان منه في قول أبي حنيفة.(14/196)
ص -94- ... أما على الطريق الثاني قد بينا أن الشفيع كالموكل وإقالة الموكل مع البائع صحيحة في حق براءة المشتري فكذلك إقالة الشفيع مع البائع وإن كان أخذها من يد المشتري وأما على الطريق الأول ففيه بعض الإشكال لأن أخذ الشفيع من يد المشتري بمنزلة عقد مبتدإ فيما بينهما ولهذا كانت عهدته على المشتري فينبغي أن لا تجوز إقالة الشفيع مع البائع في حق براءة المشتري حتى قال بعض مشايخنا هذه الإقالة بينهما في حكم البيع المبتدإ فيجوز في قول أبي حنيفة رضي الله عنه هذه الإقالة بينهما في حكم البيع المبتدإ فيجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قول محمد وأبي يوسف الأول لا يجوز بناء على اختلافهم في بيع العقار قبل القبض وبتلك المسألة استشهد في الكتاب وقد بيناها في كتاب البيوع.
ومنهم من يقول بل إقالة الشفيع مع البائع صحيحة في حق الكل لأن عند اتفاقهم على هذه الإقالة يتبعض حق المشتري ويصير كان الشفيع أخذها من يد البائع ولأن حق الشفيع يثبت سابقا على ملك المشتري عنده فإذا قضي القاضي بحقه فملكه لا ينبني على ملك المشتري بل هو يقوم مقام المشتري في الإقالة مع البائع وملك الإقالة بملك المبيع لا بالعقد ألا نرى أن الوارث يملك الإقالة بعد موت المورث لأنه يخلفه في ملكه فإذا قام الشفيع مقام المشتري في الملك بقضاء القاضي ملك الإقالة مع البائع غير أن للمشتري لا يخرجها من يده حتى يرد عليه البائع الثمن كما لو كان هو الذي أقاله بنفسه وهذا لأنه بعد ما انفسخ عقده يكون حاله في الحبس كحال البائع عند العقد وقد كان للبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي الثمن فكذلك المشتري بعد الفسخ حتى يرد عليه الثمن.(14/197)
وإذا اشترى دارا لرجل غائب فللشفيع أن يأخذها منه بالشفعة لأنها في يده وهو نائب عن الموكل فيها ثم العاقد لغيره فيما هو من حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه وكذلك إن كان البائع وكيلا لغائب فهو بمنزلة العاقد لنفسه فللشفيع أن يأخذ الدار منه بالشفعة إذا كانت في يده وكذلك إن كان البائع وصيا للميت لأن الورثة إذا كانوا كبارا كلهم وليس على الميت دين ولم يوص بشيء تباع فيه الدار حتى ينقد ذلك لم يجز بيع الوصي لأن الملك للورثة وهم متمكنون من النظر بأنفسهم وإن كان فيهم صبي صغير جاز بيع الوصي في جميع الدار وكذلك إن كان عليه دين أو أوصى بوصية من ثمن الدار وهو وهو استحسان ذهب إليه أبو حنيفة وفي القياس لا يجوز بيعه إلا في نصيب الصغير خاصة أو بقدر الدين والوصية اعتبارا للبعض بالكل ولكن استحسن أبو حنيفة فقال الولاية بالوصاية لا تتجزى فإذا ثبت في بعض الدار ثبت في كلها وفي بيع الكل منفعة لجميع الورثة فالجمل يشتري بما لا يشتري به الأشقاص وإذا بلغ الشفيع شراء نصف الدار فسلم الشفعة ثم علم أنه اشترى جميعها كان له الشفعة لأن سلم النصف وكان حقه في أخذ الكل والكل غير النصف فلا يكون إسقاط النصف إسقاطا للكل ولو أخبر بيع الكل فسلم ثم علم أنه إنما اشترى النصف فلا شفعة له لأن من ضرورة تسليم الكل تسليم النصف الذي هو حقه يوضح الفرق أن الأشقاص لا يرغب فيها كما يرغب(14/198)
ص -95- ... في الجمل وإنما سلم حين أخبر بشراء النصف لأنه لم يرغب فيه مع عيب الشركة فهو على حقه إذا تبين له أنه لم يكن معيبا فأما إذا سلم ولم يرغب في الأخذ بدون عيب الشركة فأولى أن لا يكون راغبا فيه مع عيب الشركة.
وذكر عن أبي يوسف على ضد هذا فقال إذا أجبر بشراء النصف فسلم ثم علم أنه اشترى الجميع فلا شفعة له وإذا أخبر بشراء الجميع ثم علم أنه اشترى النصف فله الشفعة لأنه قد يتمكن من تحصيل ثمن النصف ولا يتمكن من تحصيل ثمن الجميع وقد يكون له حاجة إلى النصف ليتم به مرافق ملكه ولا يحتاج إلى الجميع.
وإذا اشترى الرجل دارا فعلم الشفيع وقال قد سلمتها أو سلمت نصف الشفعة كان مسلما لجميعها أما إذا سلم الكل فلأنه أسقط الحق بعد الوجوب وأما إذا سلم النصف فلأن حق الشفعة لا يتجزى ثبوتا واستيفاء فلا يتجزى إسقاطا أيضا وما لا يتجزى فذكر بعضه كذكر كله كما لو طلق نصف امرأته وعن أبي يوسف أن تسليم النصف لا يصح لأنه لا حق له في أخذ النصف وإنما يعتبر إسقاطه فيما له حق الاستيفاء فيه ولأن هذا منه إظهارا لرغبة فيما يحتاج إليه من الدار وهو النصف وإنما يسقط شفعته باعراضه عن الطلب لا باظهار الرغبة فيه ولكن هذه الرواية فيما إذا كان طلب أولا ثم سلم النصف أما إذا قال كما سمع سلمت نصف الشفعة فلا شك أنه تسقط شفعته كما لو سكت عن الطلب.(14/199)
وإذا اشترى الرجل دارا فغرق بناؤها أو احترق وبقيت الأرض لم يكن للشفيع أن يأخذها إلا بجميع الثمن ولو أحرق البناء بيده فللشفيع أن يأخذ الأرض بحصتها من الثمن إذا قسم الثمن على قيمة الأرض وقيمة البناء وقت العقد وللشافعي في الفصلين جميعا قولان في أحد القولين لا يأخذ إلا بجميع الثمن وفي القول الآخر يأخذ الأرض بحصتها في الوجهين وأصل المسألة في البيوع فإن المذهب عندنا أن الثمن بمقابلة الأصل دون الأوصاف حتى أن فوات الوصف في يد البائع من غير صنع أحد لا يسقط شيئا من الثمن وعند الشافعي يسقط في أحد القولين فكذلك فوات الوصف في يد المشتري من غير صنع أحد لا يمنعه من البيع مرابحة على جميع الثمن عندنا وعند الشافعي يمنعه من ذلك ثم البناء وصف وبيع ولهذا دخل في بيع الأرض من غير ذكر وهذا لأن قوام البناء بالأرض كقيام الوصف بالموصوف فإذا فات البناء من غير صنع أحد فقد فاته ما هو بيع فلا يسقط شيء من الثمن فإذا فوته المشتري فقد صار مقصودا يتناوله فلا بد من أن يكون بعض الثمن بمقابلته كما لو فوت البائع طرف المبيع قبل التسليم فيسقط حقه من الثمن عن الشفيع قال ألا ترى أنه لو احترق منها جذع أوباب أو وهي منها حائط كان له أن يبيعها مرابحة فكذلك للشفيع أن يأخذها بجميع الثمن إن شاء.
وإن هدم البناء بيده ثم جاء الشفيع قسم الثمن على قيمة الأرض وقيمة البناء يوم وقع الشراء فيأخذ الأرض بحصتها من الثمن ولا حق له في البناء لأنه قد زايل الأرض وهو في(14/200)
ص -96- ... نفسه منقول لا يستحق بالشفعة وإنما كان ثبوت حقه فيه لاتصاله بالأرض فإذا زال ذلك لم يكن له في البناء حق ولو انهدم البناء بنفسه فإنه يقسم الثمن على قيمة الأرض يوم وقع العقد وقيمة النقص لأن الانهدام لم يكن بصنع المشتري فالمعتبر هو الاحتباس عنده والمحتبس هو النقص لأنه زايل البناء بخلاف الأول فهناك المشتري هو الذي قسم البناء فلهذا قسمنا الثمن على قيمة الأرض وقيمة البناء يوم وقع الشراء حتى لو كانت الدار تساوي ألفا والثمن ألف وقيمة النقص مائة وقيمة الأرض خمسمائة وقيمة التأليف أربعمائة ففي الانهدام يسقط عنه قيمة النقص وفي الهدم يأخذ بحصة الأرض لا غير وذلك خمسمائة وكذلك إن كان المشتري قد استهلك البناء وكذلك لو استهلكه أجنبي فأخذ المشتري قيمته فأن سلامة بدل البناء للمشتري بمنزلة سلامة البناء له أن لو هدم بيده ولم يذكر ما إذا نوى القيمة على الذي هدم البناء.(14/201)
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الشفيع يأخذ الدار بجميع الثمن إن شاء كما لو احترق البناء من غير صنع أحد فإن خرج بعد ذلك ما على الذي هدم البناء من القيمة رجع الشفيع على المشتري بحصة البناء من الثمن فإن اختلفا في قيمته فالقول قول المشتري لأن الشفيع يدعي عليه حقا بملك الأرض بثلث الثمن والمشتري ينكر ذلك ويزعم أن له حق التملك بنصف الثمن والقول في مثل هذا قول المشتري مع يمينه كما لو اختلفا في مقدار الثمن فإن أقاما البينة فعلى قول أبي يوسف البينة بينة المشتري لإثبات الزيادة في قيمة البناء كما هو مذهبه فيما إذا اختلفا في مقدار الثمن وعلى الطريقة التي حكاها أبو يوسف عن أبي حنيفة هناك البينة بينة الشفيع هنا لأنها ملزمة دون بينة المشتري وعلى الطريقة التي حكاها محمد هناك البينة بينة المشتري وهو قول محمد لأن هناك إنما جعلنا البينة بينة الشفيع باعتبار أن المشتري صدر منه إقرار إن ولا يوجد ذلك المعنى هنا فبقي الاختلاف بينهما في قيمة البناء وفي بينة المشتري إثبات الزيادة فكانت أولى كذلك وإن اختلفا في قيمة الأرض يوم وقع الشراء نظر إلى قيمته اليوم فيقسم الثمن عليهما لأن الظاهر شاهد لمن يوافق قوله القيمة في الحال ولأن تمييز الصادق من الكاذب بالرجوع إلى قيمته في الحال ممكن فيستدل بقيمتها في الحال على قيمتها فيما مضى.(14/202)
وإذا اشترى دارا فوهب بناءها لرجل أو باعها منه أو تزوج عليها وهدم لم يكن للشفيع على البناء سبيل لأنه زايل الأرض وهو في نفسه منقول فلا يستحق بالشفعة ولكن يأخذ الأرض بحصتها من الثمن لأن هدم البناء كان بتسليط من المشتري فهو كما لو هدم بنفسه وإن كان لم يهدم فله أن يبطل تصرف المشتري ويأخذ الدار كلها بجميع الثمن لأن حقه في البناء ما دام متصلا بالأرض ثابت وللشفيع حق نقض تصرفات المشتري ألا ترى أنه لو تصرف في الأصل والهبة كان للشفيع أن ينقض ذلك ويأخذ بالشفعة فكذلك إذا تصرف في البناء ولأنه يأخذ الكل بالشفعة بحق تقدم ثبوت تصرف المشتري فهو بمنزلة الاستحقاق في إبطال تصرف(14/203)
ص -97- ... المشتري فيه وإذا سلم الشفيع الشفعة للمشتري وهو لا يعلم بالشراء فهو تسليم وإن صدقه المشتري أنه لم يعلم لأنه صرح بإسقاط حقه بعد الوجوب وعلمه بحقه ليس بشرط في صحة الإسقاط باللفظ الموضوع له كالأبراء عن الدين وإيقاع الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص وهذا بخلاف ما إذا ساومه وهو لا يعلم أنه اشتراه لأن المساومة غير موضوعة لإسقاط الشفعة وإنما تسقط الشفعة بها لما فيها من دليل الرضا من الشفيع ولا يتحقق ذلك إذا لم يعلم الشفيع به.
وإذا اتخذ المشتري الدار مسجدا ثم حضر الشفيع كان له أن ينقض المسجد ويأخذ الدار بالشفعة وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ليس له ذلك وهو مذهب الحسن ووجهه أن المسجد يتحرر عن حقوق العباد فيكون بمنزلة إعتاق العبد وحق الشفيع لا يكون أقوى من حق المرتهن في المرهون ثم حق المرتهن لا يمنع حق الراهن فكذلك حق الشفيع لا يمنع صحة جعل الدار مسجدا ووجه ظاهر الرواية أن للشفيع في هذه البقعة حقا مقدما على حق المشتري وذلك يمنع صحة جعله مسجدا لأن المسجد يكون لله تعالى خالصا ألا ترى أنه لو جعل جزأ شائعا من داره مسجدا أو جعل وسط داره مسجدا لم يجز ذلك لأنه لم يصر خالصا لله تعالى فكذلك ما فيه حق الشفعة إذا جعله مسجدا وهذا لأنه في معنى مسجد الضرار لأنه قصد الإضرار بالشفيع من حيث إبطال حقه فإذا لم يصح ذلك كان للشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة ويرفع المشتري بناءه المحدث.(14/204)
ولو اشترى دارا فهدم بناءها ثم بنى فأعظم المنفعة فإن الشفيع يأخذها بالشفعة ويقسم الثمن على قيمة الأرض والبناء الذي كان فيها يوم اشترى وتسقط حصة البناء لأن المشتري هو الذي هدم البناء وينقض المشتري بناءه المحدث عندنا وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن الشفيع لا ينقض بناء المشتري ولكنه يأخذ بالثمن وقيمة البناء مبنيا إن شاء وهو قول الشافعي وجه قولهما أن المشتري بنى في ملك صحيح له فلا ينقض بناؤه لحق الغير كالموهوب له إذا بنى في الأرض الموهوبة وتأثير هذا الكلام أنه محق في أصل البناء فيستحق قرار البناء إذ ليس في إبقاء بنائه إبطال حق الشفيع فإنه يتمكن من أخذه مبنيا بالشفعة ولو نقضنا بناءه تضرر المشتري بإبطال ملكه ولو لم ينقض لا يتضرر الشفيع بإبطال حقه وإن لزم الشفيع زيادة ثمن قيمة فبمقابلته يدخل في ملكه ما يعد له والضرر ببدل أهون من الضرر الذي يلحقه بغير بدل فكان مراعاة جانب المشتري أولى ألا ترى أنه لو زرع الأرض لم يكن للشفيع أن يقلع زرعه لهذا والبناء تبع للأرض بمنزلة الصبغ في الثوب ومن صبغ ثوب إنسان فأراد صاحب الثوب أن يأخذ ثوبه كان عليه أن يعطي الصباغ ما زاد الصبغ فيه وهذا بخلاف سائر تصرفات المشتري لأن في إبقائها إبطال حق الشفيع فلذلك يمكن من نقضها.
وحجتنا في ذلك أنه بنى في بقعة غيره أحق بها منه من غير تسليط من له الحق فينتقض عليه بناؤه كالراهن إذا بنى في المرهون وبيان الوصف أن حق الشفيع في هذه البقعة حق قوي(14/205)
ص -98- ... متأكد وهو متقدم على حق المشتري وتصرف المشتري فيما يرجع إلى الإضرار بالشفيع يكون باطلا لمراعات حق الشفيع ويجعل ذلك لتصرفه في غير ملكه ألا ترى أن تصرفه بالبيع والهبة ينقض هذا المعنى فكذلك بناؤه وفي البناء هو مضر بالشفيع من حيث إنه يلزمه زيادة في الثمن لم يرض هو بالتزامها وهو مبطل للحق الثابت له يعني حق الأخذ بأصل الثمن فلا ينفذ ذلك منه كما لا ينفذ سائر التصرفات وهذا بخلاف المشتري شراء فاسدا إذا بنى لأنه بنى هناك بتسليط من له الحق ثم حق البائع في الاسترداد ضعيف لا يبقى بعد البناء ألا ترى أنه لا يبقى بعد تصرف آخر من المشتري بخلاف حق الشفيع وكذلك حق الواهب ضعيف لا يبقى بعد تصرف الموهوب له بخلاف حق الشفيع والاشتغال بالترجيح لدفع أعظم الضررين بالأهون إنما يكون بعد المساواة في أصل الحق ولا مساواة فحق الشفيع مقدم على حق المشتري ثم البناء الذي يدخل في ملك الشفيع ربما لا يكون موافقا له فيحتاج إلى مؤنة ذلك لرفع البناء ثم يبني على الوجه الذي يوافقه وفي الزرع قياس واستحسان في القياس بقلع زرعه وفي الاستحسان لا يقلع لأن لإدراكه نهاية معلومة وليس في الانتظار كثير ضرر على المشتري بخلاف الغراس والبناء وأصله في المستعير يقلع بناؤه وغرسه لحق المعير ولا يقلع زرعه استحسانا.(14/206)
وإذا اشترى دارا فغرق نصفها فصار مثل الفرات يجري فيه الماء ولا يستطاع رد ذلك عنها فللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن إن شاء لأن حقه ثابت في الكل وقد تمكن من أخذ البعض فيأخذه بحصته من الثمن اعتبارا للبعض بالكل والشافعي في كتابه يدعي المناقضة علينا في هذا الفصل ويقول إنهم زعموا أنه إذا احترق البناء لم يسقط شيء من الثمن عن الشفيع وإذا غرق بعض الأرض سقط حصته من الثمن فكأنهم اعتبروا فعل الماء دون النار وإنما قال ذلك لقلة الفقه والتأمل فإن البناء وصف وتبع وليس بمقابلة الوصف شيء من الثمن إذا فات من غير صنع أحد فأما بعض الأرض ليس يتبع للأرض فلا بد من إسقاط حصة ما أغرق من الثمن عن الشفيع أو تأخر ذلك إلى أن يتمكن من أخذه والانتفاع به فإن قال المشتري ذهب منها الثلث وقال الشفيع ذهب النصف فالقول قول المشتري ويأخذها الشفيع بثلثي الثمن إن شاء فإن أقاما البينة فهذا ومسألة قيمة البناء سواء في التخريج على ما بينا.
وكذلك لو استحق رجل بعضها وسلم الشفعة وطلبها الجار بالشفعة أخذ ما بقي بحصته من الثمن والقول قول المشتري في مقدار المستحق من الباقي لأن الشفيع يدعي حق التملك عليه في الباقي بثمن ينكره المشتري ولا شفعة في الشراء الفاسد لأن وجوب الشفعة تعتمد انقطاع حق البائع وعند فساد البيع حق البائع لم ينقطع ولأن في إثبات حق الأخذ للشفيع تقرير للبيع الفاسد وهو معصية والتقرير على المعصية معصية فإن سلمها المشتري للشفيع بالثمن الذي أخذها به وسماه له جاز ذلك لأن التسليم بالشفعة سمى بغير قضاء في حكم البيع(14/207)
ص -99- ... المبتدا ولو باعه المشتري ابتداء جاز بيعه وكان عليه قيمة الدار فكذلك إذا سلمها للشفيع ألا ترى أنه لو ورث دارا فسلمها للشفيع بألف درهم كان ذلك بيعا منه ولو اشترى بيعا منقولا فطلب الشفيع بالشفعة فسلم كان ذلك بيعا مبتدأ فهذا مثله.
وإذا مات الشفيع بعد البيع قبل أن يأخذ بالشفعة لم يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا وعند الشافعي: له ذلك والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في خيار الشرط وقد بيناه في البيوع فإن عنده كما تورث الإملاك فكذلك تورث الحقوق اللازمة ما يعتاض عنها بالمال وما لا يعتاض في ذلك سواء بطريق أن الوارث يقوم مقام المورث وإن حاجة الوارث كحاجة المورث ونحن نقول مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ أو يترك ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة تزول بموته وهو ملكه وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له ألا ترى أنه لو أزاله باختياره بأن باع ملكه قبل أن يأخذ البعض المشفوع لم يكن له أن يأخذ بالشفعة فكذلك إذا زال بموته والثابت للوارث جوازا أو شركة حادثة بعد البيع فلا يستحق به الشفعة وهذا لأن استحقاق الشفعة بسبب ينبني على صفة الملكية ولهذا لايثبت حق الأخذ بالشفعة لجار السكنى وصفة الملكية تتجدد للوارث بانتقال ملك المورث إليه فلا يجوز أن يستحق الشفعة بهذا السبب ولو كان بيع الدار بعد موته كان له فيها الشفعة لأن الملك انتقل بالموت إلى الوارث بسبب الاستحقاق وهو الجوار عند بيع الدار كان للوارث والمعتبر قيام السبب عند البيع لا قبله.(14/208)
وإذا مات المشتري والشفيع حى فله الشفعة لأن المستحق باق وبموت المستحق عليه لم يتغير سبب الاستحقاق ولم يبع في دينه ووصيته لأن حق الشفيع مقدم على حقه فيكون مقدما على حق من ثبت حقه من جهته أيضا وهو الغريم والموصي له فإن باعها القاضي أو الوصي في دين الميت فللشفيع أن يبطل البيع ويأخذها بالشفعة كما لو باعها المشتري في حياته ولا يقال بيع القاضي حكم منه فكيف ينقضه الشفيع لأن القاضي إنما باعها إما لجهله بحق الشفيع أو بناء على أنه ربما لا يطلب الشفعة فإذا طلبها كان بيعه باطلا ولأن هذا منه قضاء بخلاف الإجماع فقد أجمعوا على أن للشفيع حق نقض تصرف المشتري وإنما يبيعه القاضي في دين المشتري ووصيته بطريق النيابة عنه وكذلك لو أوصى فيه بوصية أخذها الشفيع وبطلت الوصية لأنه لو تبرع بها في حياته بالهبة كان للشفيع أن يبطل ذلك كله فكذلك إذا تبرع بها بعد موته بالوصية وإذا علم الشفيع بالبيع فلم يطلب مكانه فلا شفعة له وفي هذا اللفظ إشارة إلى أن طلب الشفعة يتوقت بمجلس علم الشفيع به وهو اختيار الكرخي.
وذكر ابن رستم في نوادره عن محمد أنه إذا سكت عن الطلب بعد ما علم بالبيع يبطل شفعته وعلى هذا عامة مشايخنا إلا أن هشاما ذكر في نوادره إنه إذا سكت هنيهة ثم طلب فهو على شفعته ما لم يتطاول سكوته وكذلك قال كما إن سمع سبحان الله أو قال: الله أكبر أو(14/209)
ص -100- ... قال خلصني الله من فلان ثم طلب الشفعة فهو على شفعته وكذلك إذا قال بكم باعها أو متى باعها أو متى اشتراها بهذا القدر من الكلام لا تبطل شفعته وهو على حقه إذا طلب وقال ابن أبي ليلى إن طالت إلى ثلاثة أيام فله الشفعة وقال سفيان له مهلة يوم من حين سمع وقال شريك هو على شفعته ما لم يبطلها صريحا أو دلالة بمنزلة سائر الحقوق المستحقة له وابن أبي ليلى كان يقول يحتاج الشفيع إلى النظر والتأمل حتى يعلم أنه ينتفع بجوار هذا الجار فلا يطلب الشفعة أو يتضرر به بطلت الشفعة ومثل هذا لا يوقف عليه إلا بالتأمل فيه مدة فيجعل له من المدة ثلاثة أيام بمنزلة خيار الشرط فلهذا قدرها سفيان بيوم.(14/210)
واستدل علماؤنا في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة لمن وثبها" وفي رواية "الشفعة كنشطة العقال إن أخذ بها ثبتت وإلا ذهبت" ولأنه إذا سكت عن الطلب فذلك منه دليل الرضا بمجاورة الجار الحادث ودليل الرضا كصريح الرضا ولو لم يجعل هذا منه دليل الرضا تضرر به المشتري فإنه يسكت حتى يتصرف المشتري فيه ثم يبطل تصرفه عليه وفيه من الضرر ما لا يخفى إلا أن الكرخي جعل له المجلس في ذلك لحاجته إلى الرأي والتأمل فهو كالمخيرة لها الخيار ما دامت في مجلسها ولأن الشرع أوجب له حق التملك ببدل ولو أوجب البائع له ذلك بإيجاب البيع كان له خيار القبول ما دام في مجلسه فهذا مثله ولفظة الطلب لم يذكرها في الكتب والظاهر أنه بأي لفظ طلب فهو صحيح منه كسائر الحقوق إلا أنه روى عن أبي يوسف أنه يذكر في طلبه البيع والسبب الذي يطلب به الشفعة من جوار أو شركة فإن طلبها فأبى المشتري أن يدفعها إليه وخاصمه وأشهد الشفيع شهودا على طلبه الشفعة كان على شفعته لأنه أظهر بطلبه رغبته في الأخذ لدفع الضرر عن نفسه فإذا علم بالبيع وهو بمحضر من المشتري فالجواب واضح وكذلك إن كان بمحضر من الشهود ينبغي له أن يشهدهم على طلبه ثم يتوجه إلى من في يده الدار أو إلى موضع الدار فيشهد على الطلب أيضا على ما نبينه إن شاء الله تعالى وكذلك لو لم يكن بحضرته أحد حين سمع ينبغي له أن يطلب الشفعة فالطلب صحيح من غير إشهاد والإشهاد لمخافة الجحود فينبغي له أن يطلب حتى إذا حلفه المشتري أمكنه أن يحلف أنه طلبها كما سمع ثم يأتي إلى موضع الشهود فيشهدهم على الطلب ويسمى هذا طلب المواثبة ثم يأتي إلى من في يده الدار فيشهد على الطلب عنده أيضا ويسمى هذا طلب التقرير وهو على حقه بعد هذا وإن طالت الخصومة بينهما وإن أثبت ذلك في ديوان القاضي فهو أبلغ في العذر فإن شغله شيء أو عرض له سفر بعد إشهاده على طلب التقرير فهو على شفعته وهذا قول أبي حنيفة وهو القياس لأن حقه قد تقرر(14/211)
بالطلب فلا يسقط بعد ذلك إلا بإسقاطه صريحا أو دلالة.
وعن محمد أنه إذا ترك ذلك شهرا بطلت شفعته استحسانا لأنه لو لم يسقط حقه تضرر به المشتري فإنه يتعذر عليه التصرف مخافة أن ينقض الشفيع تصرفه والضرر مدفوع وإنما قدر ذلك بالشهر لأن الشهر في حكم الأجل وما دونه عاجل بدليل مسألة اليمين لتقصير حقه عاجلا(14/212)
ص -101- ... فقضاؤه فيما دون الشهر بر في يمينه وعن أبي يوسف إذا ترك الخصومة في مجلس من مجالس القاضي تبطل شفعته حتى إن كان القاضي يجلس في كل ثلاثة أيام فإذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم الشفيع فيه اختيارا بطلت شفعته وإن سلم الشفعة على مال فالتسليم جائز ويرد المال على صاحبه لأنه أسقط حقه مختارا ورضي بجواره ولكنه طمع في غير مطمع وهو المال فإنه لا يستحق المال إلا بمقابلة ملك له وحق الشفعة ليس بملك له فلا يستوجب بمقابلة إسقاطه المال وتسليم الشفعة لا تتعلق بالشرط فالشرط الفاسد وهو المال فيه لا يمنع صحة التسليم أيضا وكذلك لو باع شفعته بمال لأن البيع تمليك مال بمال وحق الشفعة لا يحتمل التمليك فيصير كلامه عبارة عن الإسقاط مجازا كبيع الزوج زوجته من نفسها وفي الكتاب لا بل لا قيمة للشفعة على كل حال ولا يجوز أن يؤخذ عنها مال بمنزلة الكفالة بالنفس وقد بيناه في شرح كتاب الكفالة أنه لو أبرأ الكفيل بالنفس على مال لا يجب المال وفي براءة الكفيل هناك روايتان وإنما استشهد بالكفالة لبيان أنه لا يستحق العوض عن الحق الذي ليس بملك متقوم وهذا بخلاف الاعتياض عن ملك النكاح في زوجته بالخلع وعن القصاص بالصلح وعن إسقاط الرق بالعتق فذلك كله ملك متقرر له في المحل شرعا وكما يجوز أن يلتزم العوض ليثبت الملك له يجوز أن يأخذ العوض ليبطل ملكه فأما الشفيع ليس يتملك على المشتري شيئا قبل الأخذ فتسلمه الشفعة ترك التعرض منه للمالك في ملكه وليس فيه إبطال ملك ثابت فلا يستحق بمقابلته عوضا عليه ثم هذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يسلم على مال مسمى
والثاني: أن يصالح المشتري على أن يأخذ منه نصف الدار بنصف الثمن فهذا صحيح ويكون مسقطا لحقه فيما زاد على النصف لأنه أخذ بعض حقه بما يخصه من البدل وذلك جائز اعتبارا للبعض بالكل.(14/213)
والثالث :لو صالحه على بيت بعينه من الدار بحصته من الثمن فهذا الصلح باطل لأن حصة البيت من الثمن غير معلومة وهو على شفعته لأنه ما رضى بإسقاط حقه وإنما أظهر الرغبة في أخذ مقدار ما يحتاج إليه من الدار فكان على شفعته في جميع الدار.
ولو قضى القاضي للشفيع بالدار لشفعته ثم مات قبل نقد الثمن وقبض الدار فالبيع لازم لورثته لأن الشفيع يملكها ببدل بقضاء القاضي فكان حكمه كحكم ما لو اشترى بنفسه وفي هذا إشارة إلى أن القاضي يقضي له بشفعة قبل أن يحضر الثمن وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فأما محمد لا يقضي له بالشفعة حتى يحضر الثمن لأن تمكنه من الأخذ إذا أدى الثمن فلا يقضي القاضي له بالملك قبل ذلك دفعا للضرر عن المشتري ولكنا نقول ما لم يجب الثمن عاجلا لا يطالب بإحضاره ووجوب الثمن عليه بقضاء القاضي له بالدار فالقاضي يقضي له بحقه قبل إحضار الثمن ويجعل المشتري أحق بإمساكها إلى أن يستوفي الثمن فيدفع الدار إليه كما هو الحكم فيما بين البائع والمشتري.(14/214)
ص -102- ... وإذا اشترى دارا والشفيع غائب فعلم بالشراء فله من الأجل بعد العلم على قدر المسير ومعنى هذا أنه كما علم بالبيع ينبغي له أن يطلب الشفعة ويشهد على الطلب والغيبة لا تمنع صحة الإشهاد على الطلب كما لا يمنع ثبوت حقه ثم بعد الإشهاد حاله كحال الحاضر فكما أن هناك عليه أن يتوجه إلى من في يده الدار من غير تأخير ليطلب عنده فهنا عليه أن يتوجه أو يبعث نائبا عنه من غير تأخير ولكن لبعد المسافة يحتاج إلى مهلة هنا فلهذا جعل له الأخذ بقدر المشتري وكما يتمكن من استيفاء حقه بنفسه يتمكن من ذلك بنائبه وربما لا يتمكن من أن يتوجه بنفسه لعذر له في ذلك فيكون له أن يبعث من يطلب فإذا مضى ذلك الأجل قبل أن يطلب أو يبعث من يطلب فلا شفعة له فإن قدم فطلب فتغيب المشتري عنه أو خرج من البلد فأشهد على طلب الشفعة فهو على شفعته وإن طالت مدة ذلك لأنه أتى بما كان مستحقا عليه في طلب التقرير إذ ليس في وسعه أن يتبع المشتري فربما لا يظفر به أو يلحقه ضرر عظيم فيه فإذا ظهر المشتري ببلد ليس فيه الدار فليس على الشفيع أن يطلبه في غير البلد الذي فيه الدار لأنه لا فائدة في اتباعه فإنه لا يتمكن من الأخذ إلا في البلد الذي فيه الدار فإذا حضر هذا البلد فقد أتى بما كان يحق عليه ثم المشتري قصد أن يلحقه زيادة ضرر حين هرب منه فرد عليه قصده ويكون الشفيع على حقه إذا رجع المشتري وإذا اشترى من امرأة فأراد أن يشهد عليها فلم يجد من يعرفها إلا من لهم الشفعة فإن شهادتهم لا تجوز عليها إن أنكرت ذلك بعد أن يطلبوا الشفعة وإن سلموا الشفعة جازت شهادتهم عليها لأن في إثبات البيع عليها إثبات حقهم ما لم يسلموا الشفعة وكانوا خصما في ذلك والخصم في الحادثة لا يكون شاهدا فيها.(14/215)
وإذا اشترى دارا والقاضي شفيعها أو ابنه أو أبوه أو زوجته فإن قضاءه لا يجوز لأحد من هؤلاء لأن ولاية القضاء فوق ولاية الشهادة فإذا لم تجز شهادته لنفسه أو لأحد من هؤلاء فكذلك قضاؤه وإذا قضي القاضي للشفيع بالشفعة فسأله المشتري أن يردها عليه على أن يزيده في الثمن كذا ففعل ذلك فردها عليه فإن ذلك رد لا يكون له الزيادة لأن هذا بمنزلة الإقالة ومن أصل أبي حنيفة أن الإقالة فسخ بالثمن الأول وما سمى فيها من زيادة أو جنس آخر من الثمن فهو باطل لأن الإقالة لا تتعلق بالجائز من الشروط وهو تسمية الثمن فالفاسد من الشرط في الثمن لا يبطله وعلى قول محمد الإقالة فسخ إذا كان بالثمن الأول أو أقل منه فإن كان بأكثر من الثمن الأول أو بجنس آخر سوى الثمن الأول فهو بيع مبتدأ إذا أمكن وإذا تعذر الإمكان كان فسخا بالثمن الأول ولا إمكان ها هنا بجعل الإقالة بيعا مبتدأ مع تسميتها زيادة في الثمن لأن الشفيع لم يقبض الدار بعد ومن أصل محمد أن بيع المبيع قبل القبض لا يجوز من البائع ولا من غيره العقار والمنقول في ذلك سواء وكذلك في قول أبي يوسف الأول فأما على قول الآخر بيع العقار قبل القبض جائز ومن أصله أن الإقالة بمنزلة البيع المبتدأ إذا أمكن وهنا يمكن جعله بيعا مبتدأ وإن لم يكن قبض فلهذا كان له الزيادة عند أبي يوسف،(14/216)
ص -103- ... والذي يقول في الكتاب إذا كان قد قبض قبل المناقضة بناء على قوله الأول فأما على قوله الآخر لا يعتبر بهذا الشرط وكذلك لو طلب إليه المشتري أن يسلمه للبائع على أن يرد عليه من الثمن شيئا مسمى لأنه إقالة وقد بينا أن إقالة الشفيع كما تجوز مع المشتري تجوز مع البائع لأنه قام مقام المشتري بعد ما قضى القاضي له بالشفعة والله تعالى أعلم بالصواب.
باب الشهادة في الشفعة
قال رحمه الله: ولا تجوز شهادة الشفيعين بالبيع على البائع الجاحد إن طلبا الشفعة لأنهما يشهدان لأنفسهما فبثبوت البيع ثبت حقهما في الشفعة وإن سلماها جازت شهادتهما للمشتري لانتفاء التهمة عن شهادتهما بعد تسليم الشفيع فإنهما يثبتان سبب الملك للمشتري ولا شفعة لهما في ذلك بعد ما سلما الشفعة وإن جحد المشتري الشراء والدعاه البائع لم تجز شهادتهما أيضا إن طلبا الشفعة لأنهما يثبتان لأنفسهما حق الأخذ على المشتري وإلزام العهدة إياه إذا أخذا من يده فلا تقبل شهادتهما غير أنهما يأخذانها بإقرار البائع لأن إقراره بالبيع موجب حق الشفعة للشفيع وإن جحده المشتري كما لو قال كنت بعت هذه الدار من فلان وجحد المشتري وحلف كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ولو شهد ابنا الشفيع أو أبوه أو إمرإته بذلك كانت الشهادة باطلة لأنه يثبت بشهادته الحق للشفيع وهو متهم في حقه بالولادة أو الزوجية فيكون كالمتهم في حق نفسه وإن شهد ولد الشفيع ووالده على الشفيع بالتسليم جازت شهادتهما لانتفاء التهمة فإنهما أسقطا حق الشفيع بهذه الشهادة ولا يتهم الإنسان بالإضرار بولده أو والده والقصد إسقاط حقه.(14/217)
وكذلك شهادة المولى على مكاتبه وعبده المأذون بالتسليم جائزة لانتفاء التهمة من وجه كشهادته على نفسه وشهادة المرء على نفسه من أصدق الشهادات وإن شهد المولى على البيع والعبد والمكاتب يطلبان الشفعة لم تجز شهادته لأن كسب العبد لمولاه وله في كسب مكاتبه حق الملك فشهادته بما يوجب الشفعة لعبده أو مكاتبه بمنزلة شهادته لنفسه فكذلك شهادة ولد المولى ووالده لما فيها من الحق للولي.
وإذا كانت الدار لثلاثة نفر فشهد اثنان منهم أنهم جميعا باعوها من فلان وادعى ذلك فلان وجحد الشريك لم تجز شهادتهم على الشريك لأنهما بهذه الشهادة يثبتان صفة اللزوم في بيعهما فإن للمشتري حق الفسخ إذا لم يثبت البيع في نصيب الثالث لأنهما يشهدان على فعل باشراه فإنهم باشروا البيع صفقة واحدة وهم في ذلك كشخص واحد والإنسان فيما يباشر يكون خصما لا شاهدا وللشفيع أن يأخذ ثلثي الدار بالشفعة لأن البيع في نصيبهما ثبت بإقرارهما وإن أنكر المشتري الشراء وأقر به الشركاء جميعا فشهادتهم أيضا باطلة لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم ويثبتون الثمن لهم في ذمة المشتري وللشفيع أن يأخذ الدار كلها بالشفعة لثبوت البيع في جميعها عند إقرارهم بذلك ولا شفعة للوكيل فيما باع لأن البائع لغيره في حكم العقد كالبائع لنفسه ولا شفعة للبائع فإن أخذه بالشفعة يكون سعيا في نقض ما قد تم(14/218)
ص -104- ... به وهو الملك واليد للمشتري ومن سعى في نقض ما قد تم به يبطل سعيه ولأنه لو ثبت له حق الشفعة امتنع من تسليمها إلى المشتري بعد ما التزم ذلك بالعقد يكون حق الشفيع مقدما وكذلك لا شفعة لمن بيع له وهو الموكل لأن تمام البيع به فإنه لولا توكيله ما جاز البيع فإن شهد الآمر بالبيع مع أجنبي أن المشتري ردها على البائع بالشفعة لم تجز شهادة الآمر في ذلك لكونه متهما في شهادته فالمشتري قبل هذا إذا وجد بها عيبا ردها على الوكيل وكان ذلك ردا على الموكل ويمتنع ذلك إذا قبلت شهادته على أنه ردها على البائع بالشفعة فيكون في هذا تبعيد الخصومة عنه لأن البائع لما لم يكن له الشفعة فيردها عليه كابتداء البيع منه وشهادة الآمر بالبيع على المشتري أنه باعها من غيره لا تقبل فأما الوكيل بالشراء له أن يأخذ ما اشترى بالشفعة لأن شراءه لغيره كشرائه لنفسه وشراؤه لنفسه لا يكون إبطالا للشفعة حتى إن أحد الشفعاء إذا اشترى الدار فهو على شفعته فيها يظهر ذلك عند مزاحمة الآخرين فكذلك شراؤه لغيره وهذا لأن الشفعة إنما تبطل بإظهار الشفيع الرغبة عن الدار لا بإظهار الرغبة فيها والشراء إظهار الرغبة في المشتري فلا يكون إبطالا للشفعة ولأن البائع يلتزم العهدة بالبيع فلو أخذ بالشفعة كان مبطلا ما التزم به من العهدة والمشتري يلتزم الثمن بالشراء وهو بالأخذ بالشفعة يقرر ما التزم بالشراء.
ولو شهد ابنا الشفيع أنه قد سلم الشفعة لم تجز شهادتهما لأنهما يشهدان لأبيهما بتقرر الملك واليد فيها.(14/219)
وإذا باع الرجل دارا وله عبد تاجر هو شفيعها فإن كان عليه دين فله الشفعة وإن لم يكن عليه دين فلا شفعة له لأن ماله لمولاه إذا لم يكن عليه دين وكما أن البائع لا يأخذ ما باع بالشفعة فكذلك عبده لا يأخذ وإذا كان عليه دين فالغرماء أحق بكسبه وللغرماء حق الأخذ بالشفعة في هذه الدار فكذلك للعبد أن يأخذ بالشفعة يوضحه أن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وشراءالعبد من مولاه إذا لم يكن عليه دين باطل بخلاف ما إذا كان عليه دين فكذلك حكم الأخذ بالشفعة وعلى هذا لو باع العبد ومولاه شفيعها فإن لم يكن عليه دين فلا شفعة للمولى لأن بيع العبد وقع له وإن كان عليه دين فله الشفعة لأن بيعه كان لغرمائه والمولى من كسب عبده المديون كسائر الأجانب فإن شهد إبنا المولى على العبد أنه سلم الدار للمولى بالشفعة فشهادتهما باطلة لأنهما يشهدان لأبيهما بالملك واليد في الدار.
قال وكذلك لو شهدا عليه بتسليم الشفعة في الوجه الأول والدار في يد المولى البائع لأن للعبد حق الأخذ بالشفعة من يده فهما يشهدان بما يسقط حقه عن أبيهما فكانا متهمين في ذلك وإذا باع المولى داره ومكاتبه شفيعها فله الشفعة لأنه لا حق للمكاتب في ملك مولاه وهو في البيع الذي باشره مولاه كأجنبي آخر وإن شهد أبنا المولى أن المكاتب سلم الشفعة للمشتري فشهادتهما باطلة لأنهما لو شهدا عليه بتسليم الشفعة حين كانت الدار في يد المولى لم تكن شهادتهما مقبولة فكذلك إذا شهدا به بعد ما سلمها إلى المشتري وقيل تأويل هذه(14/220)
ص -105- ... المسألة أن الدار في يد البائع بعد فشهدا على المكاتب بأنه سلم الشفعة للمشتري ليسقط حقه به في الأخذ من أبيهما فأما إذا كانت الدار في يد المشتري فالشهادة تقبل لخلوها عن التهمة فقد خرج أبوهما من خصومة الشفيع بتسليمها إلى المشتري وإن كان البائع المكاتب ومولاه شفيعها والدار في يد البائع كان له الشفعة لأنه من كسب مكاتبه أبعد منه من كسب العبد المديون وقد بينا هناك أنه يستحقها بالشفعة فهنا أولى فإن شهد ابنا المولى أنه سلم الشفعة للمشتري جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما بإسقاط حقه.
فإن قيل: الدار في يد المكاتب فهما يشهدان في المعنى لمكاتب أبيهما وشهادتهما لمكاتب أبيهما وعبد أبيهما لا تقبل.
قلنا: نعم ولكن هذا إذا لم يكن المشهود عليه الأب فأما إذا كان المشهود عليه الأب فلا تتمكن التهمة في شهادتهما ألا ترى أن شهادتهما لمكاتب أبيهما بدين على أبيهما تقبل وعلى الأجنبي لا تقبل وهذا لأنهما يؤثران مكاتب أبيهما على الأجنبي لا على أبيهما.
وإذا باع الرجل دارا فشهد ابنا البائع أن الشفيع سلم الشفعة للمشتري فشهادتهما باطلة لأن أباهما خصم فيه ما دامت الدار في يده وللشفيع أن يأخذها منه ويلزمه العهدة فهما يشهدان لأبيهما وإن كان المشتري قد قبض الدار فخاصمه الشفيع ثم شهد الابنان بذلك جازت شهادتهما لأن الأب خرج من هذه الخصومة بتسليمها إلى المشتري فهما يشهدان للمولى على الشفيع.
فإن قيل: أليس أن البائع لو يشهد على الشفيع بذلك بعد ما سلمها إلى المشتري لم تقبل شهادته كما قبل التسليم فكذلك ابنا البائع.(14/221)
قلنا: امتناع قبول شهادته يكون خصما فيه ومن كان خصما في حادثة مرة لا تقبل شهادته فيها وإن خرج من الخصومة فأما امتناع قبول شهادة إلابنين لمنفعة أبيهما في المشهود به وذلك قبل أن يسلمها إلى المشتري فأما بعد التسليم فلا منفعة لأبيهما فقبلت شهادتهما بذلك وكذلك العبد والمكاتب إذا باعا دارا وقبضها المشتري ثم شهد ابنا المولى على الشفيع بالتسليم فهو جائز لأن الأب لو كان هو البائع كانت شهادتهما مقبولة فإذا كان العبد والمكاتب هو البائع أولى أن تقبل الشهادة وبهذه المسألة يتضح ما بينا من التأويل في المسألة الأولى.
وإذا شهد رجلان للبائع والمشتري على الشفيع أنه قد سلم الشفعة وشهد رجلان للشفيع أن البائع والمشتري سلما الدار قضيت بها للذي هي في يده وهذا بمنزلة رجلين اختصما في دار كل واحد منهما يدعي أنه اشتراها من صاحبه بألف درهم ونقد الثمن فأني أقضي بها للذي هي في يده وهذه مسألة التهاتر وقد بينا في كتاب الدعوى أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف تتهاتر البينتان وعند محمد يقضي بالبينتين بحسب الإمكان فمن أصحابنا من يقول مسألة الشفعة على الخلاف أيضا وإن لم ينص عليه لأن كل واحد منهما يثبت بينة الملك لنفسه على صاحبه بسبب يصرح به شهوده.(14/222)
ص -106- ... قال الشيخ الإمام: والأصح عندي أن جواب مسألة الشفعة قولهم جميعا وإن هذا ليس نظير مسألة التهاتر فإن هناك محمد يقضي بالبينتين بتاريخ بينة بين الشراءين واليد دليل ذلك التاريخ ولا يتأتى مثل ذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف يقولان بالتهاتر لأن كل واحد منهما يثبت إقرار صاحبه بالملك له وكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري وذلك لا يوجد هنا فالشفيع بتسليم الشفعة لا يصير مقرى بالملك للبائع ولا للمشتري ولكن وجه هذه المسألة أن تسليم المشتري الدار بالشفعة للشفيع يحتمل الفسخ وتسليم الشفيع الشفعة لا يحتمل الفسخ بحال فإنه بعد ما سلم الشفعة لا يعود حقه وإن اتفقا عليه والبينتان متى تعارضتا وأحداهما تحتمل الفسخ والأخرى لا تحتمل الفسخ كما لا يحتمل الفسخ يترجح كما لو أقام البينة على أنه اشترى هذا العبد من مولاه وأقام العبد البينة إن مولاه أعتقه يوضحه إنما يجعل كأن الأمرين كانا فإن كان الشفيع سلم الشفعة أولا ثم سلمها المشتري له فما لم يخرجه من يده لا يتم التسليم وبعد الإخراج يكون هذا بمنزلة البيع المبتدإ فيقضي بها للشفيع إذا كانت في يديه وإن كان المشتري سلمها إلى الشفيع أولا وقبضها الشفيع ثم سلم شفعته فتسليمه باطل لأن استيفاء حقه قد تم فلهذا قضى بالدار لذي اليد.
وإن كان المشتري قد قبض الدار فشهد ابنا البائع أن المشتري قد سلمها للشفيع وهي في يدي المشتري وشهدا أجنبيان ان الشفيع قد سلمها للمشتري فإني أسلمها للمشتري واختيار شهادة الشهود على تسليم الشفعة لوجهين:
أحدهما: ما بينا أن تسليم الشفعة لا يحتمل الفسخ بخلاف تسليم الدار إلى الشفيع.
والثاني: إن بنى البائع يتهمان في شهادتهما بتبعيد الخصومة والعهدة عن أبيهما لأن المشتري يخاصم أباهما في عيب يجده بالدار قبل أن يسلمها إلى الشفيع ولا يخاصمه في ذلك بعد ما سلمها بالشفعة إلى الشفيع فلهذا لا تقبل شهادة ابني البائع هنا.(14/223)
وإذا سلم الشفيع الشفعة ثم وجد المشتري بالدار عيبا بعد ما قبضها فردها بغير قضاء قاض أو قال البائع البيع في الدار بغير عيب كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة قبل القبض وبعده عندنا.
وقال زفر: ليس له أن يأخذها لأنه سلمها ولم يتجدد حقه بما أخذنا من السبب لأن وجوب الشفعة يختص بمعاوضة مال بمال ابتداء والرد بالعيب والإقالة فسخ للعقد وليس بمعاوضة مبتدأة ولا يجوز أن يقال يجعل ذلك كبيع مبتدأ لأن التصرف إنما يصح على قصد المتصرف وهما قصدا الفسخ لا العقد ولكنا نقول الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء القاضي بمنزلة البيع المبتدأ في حق غيرهما لأنه تم بتراضيهما في محلين كل واحد منهما مال متقوم ولا صورة للمعاوضة إلا هذا غير أنهما سمياه فسخا ولهما الولاية على أنفسهما فكان فسخا في حقهما ولا ولاية لهما على غيرهما فكان بمنزلة ابتداء المعاوضة في حق غيرهما فيتجدد به حق الشفيع وإن كان ردها بالعيب بقضاء قاض لم يكن للشفيع فيها شفعة لأن قضاء القاضي(14/224)
ص -107- ... بالرد فسخ وليس بعقد فإن للقاضي ولاية فسخ العقد الذي جرى بينهما لا إنشاء العقد وكذلك إن لم يكن قبضها المشترى حتى ردها بالعيب بقضاء أو بغير قضاء فلا شفعة فيها لأن الرد قبل القبض فسخ من كل وجه ألا ترى أن الراد ينفرد به من غير أن يحتاج إلى رضاء أو قضاء القاضي فهو نظير الرد بخيار الرؤية أو خيار الشرط.
والحرف الذي تدور عليه هذه المسائل أنه متى عاد بالرد إلى قديم ملك البائع لا يتجدد للشفيع الشفعة لأن حقه لم يكن ثابتا في قديم ملكه وإذا لم يعد إلى قديم ملكه كان هذا في معنى ملك حدث له بسبب مبتدأ فيتجدد به حق الشفيع والرد بعد القبض بالعيب أو بالإقالة بهذه الصفة حتى لو كان موهوبا لا يرجع فيه الواهب ولو كان مشترى شراء فاسدا لا يسترده البائع بخلاف الرد بخيار الشرط والرؤية قبل القبض أو بعده بقضاء القاضي.
وإذا كان لرجل على رجل دين يقربه أو يجحده فصالحه من ذلك على دار أو اشترى منه دارا وقبضها فللشفيع فيها الشفعة أما في الشراء فلأنه صار مقرى بالدين حين أقدم على الشراء به وفي الصلح المذهب عندنا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعى في حقه وفي زعمه أنه ملك الدار بعوض هو مال فللشفيع أن يأخذها بالشفعة بناء على زعم المدعى فأن أختلف هو والشفيع في مبلغ ذلك الدين وحبسه فهو بمنزلة اختلاف المشتري والشفيع في الثمن وقد بينا ذلك ولا يلتفت إلى قول الذي كان عليه الحق لأنه صار قابضا لما عليه بدينه وقد بينا أن البائع بعد ما قبض الثمن لا قول له في بيان المقدار.(14/225)
وإذا أقر الرجل أنه اشترى دارا بألف درهم فأخذها الشفيع بذلك ثم ادعي البائع أن الثمن الفان وأقام البينة فإنه يؤخذ ببينته لأنه يثبت بها حقه ويرجع الشفيع على المشتري بألف أخرى لأن الشفيع إنما يأخذها بالألف الذي سلمت به للمشتري وقد تبين أنها سلمت له بألفين ولا معتبر بإقرار المشتري أن الثمن كان ألف درهم لأنه صار مكذبا في اقراره بقضاء القاضي فيسقط اعتبار اقراره كمن أقر بعين لإنسان واشتراه منه ثم استحق من يده ما أثبته يرجع على البائع بالثمن وكذلك لو ادعى البائع أنه باعها إياه بمائتي دينار أو عرض بعينه قيمته أكثر من ألف درهم وأقام البينة فإنه يقضي له بذلك على المشتري ويسلم الدار للشفيع بذلك فيحسب له المشتري بقدر ما قبض منه ويرجع بالفضل عليه وإن كان قيمته أقل من ألف رجع الشفيع على المشتري بالفضل على قيمة العرض لأن الواجب للمشتري على الشفيع قيمة العرض الذي وقع الشراء به وقد تبين أنه أخذ منه أكثر من ذلك فيلزمه رد الفضل.
وإذا اختلف البائع والمشتري في ثمن الدار تحالفا ويبدأ باليمين على المشتري وقد بينا هذا في البيوع فأيهما نكل عن اليمين وجب البيع بذلك الثمن ويأخذها الشفيع به وإن اختلفا تراد البيع وأخذها الشفيع بما قال البائع إن شاء لأنهما اتفقا على صحة البيع بينهما وثبوت حق الأخذ للشفيع فلا يبطل ذلك بفسخ البيع بينهما بالتحالف ألا ترى أن المشتري بعد التحالف لو صدق البائع كان أحق بالدار بما ادعاه البائع من الثمن فكذلك الشفيع إذا صدق البائع وإن(14/226)
ص -108- ... أقاما جميعا البينة كانت البينة بينة البائع ويأخذها الشفيع به وقد بينا فرق أبي حنيفة ومحمد بين هذا وبين ما إذا كان الاختلاف بين المشتري والشفيع وكذلك لو ما ادعى البائع أن الثمن كانت هذه الدار فقال المشتري بل اشتريتها بهذا العرض وأقاما البينة فبينة البائع أولى بالقبول لأنه يثبت به حق نفسه فإن كان الشفيع شفيعا للدارين جميعا أخذ كل واحدة منهما بقيمة الأخرى لأن المعاوضة في الدارين تثبت بقضاء القاضي فهو كالثابت بالمعاينة ولو كان لكل واحد منهما شفع أخذها بقيمة الأخرى فكذلك إذا اتخذ شفيعهما.
وإن كان للدار شفيعان فشهد شاهدان أن إحداهما قد سلم الشفعة ولا يدريان أيهما هو فشهادتهما باطلة لأن المشهود عليه مجهول ولا يتمكن القاضي من القضاء على المجهول ولأنهما ضيعا شهادتهما فإنهما عند التحمل إنما تحملا الشهادة على معلوم فإذا لم يعرفاه كان ذلك منهما تضييعا للشهادة وإن كان أحد الشفيعين غائبا كان للحاضر أن يأخذ جميع الدار لأن حق كل واحد منهما ثابت في جميع الدار ولأن حق الحاضر قد تأكد بالطلب ولا ندري أن الغائب يطلب حقه أو لا يطلب فلا يجوز أن يتأخر حق الحاضر بغيبة الآخر ولا يتمكن من أخذ البعض لما فيه من الأضرار بالمشتري من حيث تبعيض الملك عليه فقلنا بأنه يأخذ أو يدع وإذا أراد أن يأخذ النصف ورضي المشتري بذلك فله ذلك لأن المانع حق المشتري وإن قال المشتري لا أعطيك إلا النصف كان له أن يأخذ الكل لما بينا أن حقه ثابت في جميع الدار وأكثر ما في الباب أن الغائب قد سلم له شفعته فللحاضر أن يأخذ الكل.(14/227)
وإذا كفل للمشتري كفيل بالدرك فأخذ الشفيع الدار منه بالشفعة ونوى الثمن عليه لم يكن للمشتري على كفيل الدرك سبيل لأن المشتري ما لحقه فيها درك فالدرك هو الاستحقاق بحق متقدم على البيع وذلك لا يوجد عند أخذ الشفيع بالشفعة وإن لحق الشفيع درك لم يكن له على الذي كفل للمشتري بالدرك سبيل لأنه ضمن للمشتري الدرك والشفيع غير المشتري والضامن لإنسان شيئا لا يكون ضامنا لغيره والدليل على أن الأخذ بالشفعة ليس بدرك أن المشتري لو كان بنى فيها فنقض الشفيع بناءه لم يكن له أن يرجع على البائع بقيمة البناء بخلاف ما إذا استحقها مستحق.
وإذا كفل رجلان للمشتري بالدرك ثم شهدا عليه بتسليم الدار إلى الشفيع بالشفعة فشهادتهما باطلة لأن الكفيل بالدرك بمنزلة البائع وقد بينا أن شهادة البائع بذلك غير مقبولة ولا شهادة إبنيه فكذلك شهادة الكفيلين بالدرك وشهادة ابنيهما وهذا لأنهما ينقلان العهدة عن أنفسهما بهذه الشهادة وكذلك أن شهدا أن الشفيع سلم الشفعة فهما بمنزلة البائعين في ذلك لا تقبل شهادتهما لأن صحة الشراء وتمام الملك للمشتري كان بقبولهما ضمان الدرك فهما بهذه الشهادة يقران ما يصح بهما وإذا أشهد الشفيع شهودا أنه يأخذها بالشفعة ولم يجئ إلى المشتري ولا البائع ولا إلى الدار ولم يطلبها فلا شفعة له لأنه ترك الطلب المقرر لحقه بعد ما تمكن منه ولو ترك طلب المواثبة بعد ما تمكن منه سقط حقه فهنا أولى فإن شهد على(14/228)
ص -109- ... الطلب قبلهما ولم يسم له الثمن فهو بالخيار إذا علم للثمن ليكشف الحال له عند ذلك ولأن بمجرد الطلب لا يتم الأخذ وهو على خياره ما لم يتم أخذه بالشفعة.
وإذا شهد البائعان على المشتري أن الشفيع قد طلب الشفعة حين علم بالشراء والشفيع مقر أنه علم به منذ أيام وقال المشتري ما طلب الشفعة فشهادة البائعين باطلة وكذلك شهادة أولادهما كما لو شهدا على المشتري بتسليم الدار إلى الشفيع وهذا لأنهما يقرران حق الشفيع في الأخذ وفيه تنفيذ العهدة والخصومة عنهما وإن قال الشفيع لم أعلم بالشراء إلا الساعة فالقول قوله مع يمينه لأن علمه بالشراء حادث فعلى من ادعى تاريخا سابقا فيه أن يثبته بالبينة وهو منكر للتاريخ فالقول قوله مع يمينه فإن شهد البائعان أنه علم منذ أيام فشهادتهما باطلة إن كانت الدار في أيديهما أو في يد المشتري لأن هذا في المعنى شهادة على الشفيع بتسليم الشفعة وقد بينا أن البائع لا يكون شاهدا في هذا أما لأنه خصم فيه أو لأنه كان خصما فيه في وقت.
وإذا كان الشفعاء ثلاثة فشهد اثنان منهم على أحدهم إنه قد سلم الشفعة فإن قال قد سلمناها معه فشهادتهما جائزة لخلوها عن التهمة فيها وإن قال نحن نطلب فشهادتهما باطلة لأنهما متهمان فيها وإنما يدفعان بشهادتهما مزاحمة الثالث معهما وإن قالا قد سلمناها معه ولابن أحدهما شفعة أو لابنه أو لمكاتبه أو لزوجته فشهادتهما باطلة لأنه متهم في حق هؤلاء كما في حق نفسه وكما لا تقبل شهادته إذا زال بها المزاحمة عن نفسه فكذلك لا تقبل إذا زال المزاحمة عن مكاتبه أو ابنه لأنه يجر إليهما بشهادته منفعة والله أعلم
باب الشفعة بالعروض(14/229)
قال رحمه الله: وإذا اشترى دارا بعبد بعينه فللشفيع أن يأخذها بالشفعة بقيمة العبد عندنا وقال أهل المدينة يأخذها بقيمة الدار لأن المبيع مضمون بنفسه أو بما يقابله من المسمى وقد تعذر هنا إيجاب المسمى في حق الشفيع لأنه لا مثل له من جنسه فوجب المصير إلى الضمان الأصلي وهو قيمة نفسه ولأن دفع الضرر من الجانبين واجب وإنما يندفع الضرر عن المشتري بوصول قيمة ملكه إليه وملكه عند الأخذ رقبة الدار وحجتنا في ذلك أن الشفيع يتملك بمثل ما يملك به المشتري والمثل أما أن يكون من حيث الصورة أو في معنى المالية فإذا كان الثمن مما له مثل من جنسه يأخذه بمثله صورة وإن كان مما لا مثل له من جنسه يأخذه بمثله في صفة المالية وهو القيمة كالغاصب عند تعذر رد العين برد المثل فيما له مثل والقيمة فيما لا مثل له توضيحه أنه إن أخذها من المشتري فقد صار متقدما عليه في تملكها بهذا السبب وفي معنى التلف على المشتري ما غرم فإنما يأخذها بما غرم من الثمن وإن أخذها من البائع فقد صار متلفا حقه فيما استوجب قبل المشتري من الثمن ولو أتلف ذلك حقيقة ضمن المثل فيما له مثل والقيمة فيما لا مثل له فكذلك هنا فإن مات العبد قبل أن يقبضه البائع انتقض الشراء لفوات القبض المستحق بالعقد فإن العبد معقود عليه وقد(14/230)
ص -110- ... هلك قبل التسليم وللشفيع أن يأخذها بقيمة العبد عندنا وقال زفر ليس له أن يأخذها بالشفعة لأن العقد انتقض من الأصل بهلاك العبد قبل التسليم فيكون بمنزلة ما لو انتقض من استحقاقه وهذا لأنه لو كان العقد فاسدا في الابتداء لم يجب فيها للشفيع الشفعة فكذلك إذا فسد بهلاك المعقود عليه قبل التسليم ولأن المقصود بالأخذ دفع ضرر الجار الحادث وقد اندفع ضرره حين بطل البيع وحجتنا في ذلك أن بدل الدار في حق الشفيع قيمة العبد وهو قادر على أخذها به بعد هلاك العبد كما قبله وليس في هلاك العبد إلا انفساخ البيع بين البائع والمشتري وذلك لا يمنع بقاء حق الشفيع على ما بينا أنه يتمكن من أخذها من البائع وأن يضمن ذلك فسخ البيع بينه وبين المشتري وهذا لأن البيع مثبت حق الشفيع وبقاؤه ليس بشرط لبقاء حق الشفيع ألا ترى أنهما لو تقابلا لا يبطل به حق الشفيع وهذا بخلاف الاستحقاق فإنه يتبين به أن أصل البيع لم يكن صحيحا وأن حقه لم يثبت وكذلك إذا تبين فساد البيع من أصله فأما ها هنا بهلاك العبد لا يتبين أن حق الشفيع لم يكن ثابتا ولا يتعذر عليه الأخذ بما هو البدل في حقه وكذلك أن أبطل البائع البيع بعيب وجده بالعبد وإن لم يكن شيء من ذلك وأخذ الشفيع الدار من البائع أخذها بقيمة العبد والعبد لصاحبه لا سبيل للبائع عليه لأن العقد قد انفسخ بين البائع والمشتري بأخذ الشفيع من يد البائع فيبقى العبد على ملكه لأن خروجه عن ملكه كان بحكم البيع ولأن بدل الدار وهو قيمة العبد قد سلم للبائع من جهة الشفيع فلا يبطل حقه في بدل آخر فإنه لا يستوجب بدلين عن ملك واحد.(14/231)
وإن أخذها من المشتري بقيمة العبد بقضاء أو بغير قضاء ثم مات العبد قبل القبض أو دخله عيب فإن القيمة للبائع وعلى قول زفر ان كان أخذها بقضاء القاضي فالدار ترد على البائع وقيمة العبد على الشفيع وإن كان أخذها بغير قضاء فعلى المشتري قيمة الدار للبائع لأن بموت العبد قبل القبض انفسخ العقد بين البائع والمشتري فبقيت الدار في يد المشتري بحكم عقد فاسد وقد تعذر عليه رد عينها حين أخرجها من ملكه باختياره فيلزمه قيمتها كالمشتراة شراء فاسدا ولكنا نقول لما مات العبد قبل القبض وجب على المشتري رد الدار على البائع وقد تعذر ردها فيجب رد مثلها ومثلها بحكم العقد قيمة العبد يوضحه أن حق البائع بالعقد كان في العبد أو في قيمته بدليل أن الشفيع يأخذها من البائع بقيمته وقد قدر المشتري على تسليم القيمة التي هي حقه عند أخذ الشفيع فلا يلزمه شيء آخر وهذا لأن دفع الضرر عن المشتري واجب وربما تكون الدار قيمتها عشرة آلاف وقيمة العبد ألف فإنما سلم للمشتري مقدار الألف درهم فإذا لزمه للبائع عشرة آلاف كان عليه في ذلك من الضرر ما لا يخفى وتسليمها بالشفعة إلى الشفيع لا يكون بمنزلة البيع منه ألا ترى أنه فعل بدون القاضي غير ما يأمر به القاضي لو رفع الأمر إليه فكما لا يجعل بيعا مبتدأ إذا أخذ ما كان واجبا له من الشفعة بقضاء القاضي فكذلك إذا أخذ بغير قضاء.
ولو استحق العبد بطلت الشفعة لأن بالاستحقاق يتبين بطلان البيع من الأصل ويأخذ(14/232)
ص -111- ... البائع الدار من الشفيع إن كان المشتري دفعها إليه بقضاء قاض وإن كان دفعها بغير قضاء قاض فقضاء قاض بقيمة العبد وسماها وقبضها الشفيع فهذا بمنزلة البيع فيما بينهما وهي جائزة للشفيع بتلك القيمة لأن بدل المستحق يملك بالقبض وتصرف المشتري فيه باعتبار ملكه نافذ وقد بينا أن في الموضع الذي لا تكون الشفعة واجبة يجعل التسليم بغير قضاء بمنزلة المبيع المبتدأ بخلاف ما تقدم فقد كانت الشفعة هناك واجبة حين أخذها الشفيع فلهذا جعلنا القضاء وغير القضاء هناك سواء وفرقنا بينهما هنا ثم على المشتري للبائع قيمة الدار لأنه لما استحق العبد وجب عليه رد ما قبض من الدار وقد تعذر ردها باخراجه إياها عن ملكه باختياره فيلزمه قيمتها وكذلك لو كان المشتري باع الدار ووهبها وقبضها الموهوب له أو تزوج عليها ثم استحق العبد ضمن قيمة الدار لأنه كان مالكا للدار حين التصرف فنفذ تصرفه ثم لزمه رد عينها حين استحق العبد وقد تعذر عليه ذلك فيلزمه رد قيمتها.(14/233)
وإذا اشترى دارا بعرض بعينه وتقابضا فاختلف الشفيع والمشتري في قيمة العرض فإن كان قائما بعينه يقوم في الحال فيتبين بقيمته في الحال قيمته عند العقد وإن كان هالكا فالقول فيها قول المشتري لأنهما اختلفا في مقدار ما يلزم الشفيع من الثمن وإن أقاما البينة فعلى طريقة أبي يوسف عن أبي حنيفة البينة بينة الشفيع لأنها ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة وعلى قياس طريقة محمد عن أبي حنيفة البينة بينة المشتري في هذه المسألة وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن ما صدر من المشتري ها هنا اقراران وهذا نظير ما إذا اختلفا في قيمة البناء الذي أحرقه المشتري وإن اشتراها بشيء مما يكال أو يوزن أخذها الشفيع بمثله من جنسه لأن الشفيع يأخذ بمثل الثمن الأول وللمكيل والموزون مثل من جنسه كما في ضمان الاتلاف وإن اشترى دارا بعبد ثم وجد بالعبد عيبا فرده أخذها الشفيع بقيمة العبد صحيحا لأن العبد دخل في العقد بصفة السلامة وإنما يقوم في حق الشفيع على الوجه الذي صار مستحقا بالعقد ولو اشترى عبدا بدار فهذا وشراء الدار بالعبد سواء لأن كل واحد منهما معقود عليه فلا فرق بين أن يضيف العقد إلى العبد أو إلى الدار.(14/234)
وإذا اشترى بناء دار على أن يعلقه فلا شفعة فيه من قبل أنه لم يشتر معه الأرض والبناء بدون الأرض منقولا ولا يستحق المنقول بالشفعة وهذا لأن حق الشفيع يثبت لدفع الضرر البادي بسوء المجاورة على الدوام وذلك لا يتحقق في شراء البناء بدون الأرض فإن اتصال أحد الملكين بالآخر لا يكون اتصال تأييد وقرار والدليل عليه أنه إنما يستحق بالشفعة ما يستحق به الشفعة وبملك البناء بدون الأرض لا يستحق بالشفعة فأما من له بناء على أرض موقوفة إذا بيعت دار بحبسه لا يستحق الشفعة فكذلك لا يستحق البناء بالشفعة إلا تبعا للأرض وكذلك لو اشترى نصيب البائع من البناء وهو النصف فلا شفعة في هذا والبيع فيه فاسد لأنه يريد أن ينقضه والشريك يتضرر به فإن قسمته لا تتأتى ما لم ينقض الكل وفيه من الضرر على الشريك ما لا يخفي وكذلك لو كان البناء كله لإنسان فباع نصفه لأنه لا يقدر على(14/235)
ص -112- ... التسليم إلا بضرر يلحقه فيما ليس بمبيع وذلك مفسد للبيع كما لو باع جذعا في سقف.
وإذا أراد أن يشتري دارا بخادم فخاف عليها الشفيع وقيمة الخادم ألف درهم فباع الخادم بألفين من رب الدار ثم اشترى الدار بالألفين لم يأخذها الشفيع إلا بالألفين لأن المشتري يملك الدار بألفين فبذلك يأخذها الشفيع إن شاء وهذا نوع حيلة لتقليل رغبة الشفيع في الأخذ لسبب كثرة الثمن ومن ذلك أن يشتري الدار بالفين ثم يعطيه بها خمسين دينارا أو يعطيه ألف درهم وثوبا لا يساوي الألف فلا يتمكن الشفيع من أخذها إلا بالفين وقل ما يرغب في ذلك إذا كان ثمنها ألف درهم ومن هذا النوع يحتال لتقليل رغبه الجار بإن تباع عشر الدار أولا بتسعة أعشار الثمن ثم تسعة أعشارها بعشر الثمن فلا يرغب الجار في أخذ العشر لكثرة الثمن ولا حق له فيما بقي لأن المشتري صار شريكا والشريك مقدم على الجار ومن الحيلة لابطال حقه أن يتصدق البائع بقطعة من الدار صغيرة وطريقها إلى باب الدار عليه فيسلمها إليه ثم يشتري منه بقية الدار فلا شفعة للجار لأن المشتري شريك في الطريق وهو مقدم على الجار أو يهب منه قدر ذراع من الجانب الذي هو متصل بملك الجار ثم يبيع ما بقى منه فلا يجب للجار شفعة لأن ملكه لا يلازق المبيع أو يوكل الشفيع ببيعها فإذا باعها لم يكن له فيها شفعة أو يبيعها بشرط الخيار ثلاثة أيام للشفيع فلا شفعة له قبل أسقاط الخيار وإذا سقط الخيار بطلت شفعته أو يبيعها بشرط أن يضمن الشفيع الدرك فإذا ضمن بطلت شفعته أو يقول المشتري للشفيع أنا أبيعها منك بأقل من هذا الثمن فإذا رضى بذلك وساومه بطلت شفعته والاشتغال بهذه الحيل لا بطال حق الشفيع لا بأس به أما قبل وجوب الشفعة فلا إشكال فيه وكذلك بعد الوجوب إذا لم يكن قصد المشتري الإضرار به وإنما كان قصده الدفع عن ملك نفسه وقيل هذا قول أبي يوسف فأما عند محمد يكره ذلك على قياس اختلافهم في الاحتيال لاسقاط الإبراء(14/236)
وللمنع من وجوب الزكاة وقد بينا ذلك في البيوع والزكاة.
وإن اشترى دارا بعبد فاستحقه مستحق وأجاز الشراء كان للشفيع الشفعة لأن الإجازة في الانتهاء كالأذن في الابتداء ولو وجد العبد حرا فلا شفعة فيها لأن البيع كان باطلا والحر ليس بمال متقوم والبيع مبادلة مال بمال فانعدام المالية في أحد البدلين يمنع انعقاد العقد.
وإذا اشترى دارا بدار ولكل واحدة منهما شفيع فلكل شفيع أن يأخذ الدار بقيمة الآخرى لأنه لا مثل للدار من جنسها فيكون الواجب على كل شفيع بمقابلة ما يأخذ قيمة الدار الأخرى فإن كان أحد الرجلين شفيعا أيضا يعني أحد المشتريين أخذ الشفيع نصف الدار بنصف القيمة لأن إقدامه على الشراء لا يسقط شفعته بل ذلك منه بمنزلة الأخذ بالشفعة فلا يكون للشفيع الآخر أن يأخذ منه إلا مقدار حصته وإذا اشترى بيتا من دار علوه لآخر وطريق البيت الذي اشترى في دار أخرى فإنما الشفعة للذي في داره الطريق لأنه شريك في البقعة بالطريق والشريك مقدم على الجار وصاحب العلو إنما له الشفعة بالجوار فإن سلم صاحب(14/237)
ص -113- ... الدار فحينئذ لصاحب العلو الشفعة بالجوار وعن أبي يوسف في الأمالي إن هذا استحسان وفي القياس لا شفعة لصاحب العلو وكذلك إذا بيع العلو فلا شفعة لصاحب السفل في القياس ولا لصاحب علو آخر بجنبه لأن العلو بناء وقد بينا أن بالبناء لا يستحق بالشفعة إذا لم يكن معه أرض والأرض وسقف السفل كله لصاحب السفل ووجه الاستحسان أن لصاحب العلو حق قرار البناء وبه يستحق اتصال أحد الملكين بالآخر على وجه التأييد والقرار فكانا بمنزلة جارين بخلاف ملك البناء على الأراضي الموقوفة فإن الاتصال هناك غير متأيد ألا ترى أن عند انقضاء مدة الإجارة يؤمر برفع البناء وهنا ليس لصاحب السفل أن يكلف صاحب العلو رفع البناء بحال واتصال أحد الملكين بالآخر بهذه الصفة يثبت للشفيع الشفعة والله أعلم.
باب الشفعة في الأرضين والأنهار(14/238)
قال رحمه الله: والشريك في الأرض أحق بالشفعة من الشريك في الشرب كما أن الشريك في نفس المنزل أحق بالشفعة من الشريك في الطريق لقول علي وابن عباس رضي الله عنهما لا منفعة إلا لشريك لم يقاسم يعني عند وجوده لا شفعة إلا له ثم الشرب من حقوق المبيع كالطريق وقد جاء الحديث في استحقاق الشفعة بالشريك في الطريق قال صلى الله عليه وسلم "إذا كان طريقهما واحدا" فكذلك يستحق بالشركة في الشرب والشريك في الشرب أحق بالشفعة من الجار كالشريك في الطريق قال والشركاء في النهر الصغير كل من له شرب أحق من الجار الملاصق وإن كان نهرا كبيرا تجرى فيه السفن فالجار أحق لأن هؤلاء ليسوا شركاء في الشرب معنى هذا القول أن الشركة في الشرب بمنزلة الشركة في الطريق ففي النهر الصغير الشركة خاصة بمنزلة سكة غير نافذة وفي النهر الكبير الشركة عامة بمنزلة الطريق النافذ لا يستحق الشفعة باعتباره والمروي عن أبي يوسف في حد النهر الصغير أن يستقي منه قراحين أو ثلاثة فإن جاوز ذلك فهو النهر الكبير والمذهب عند أبي حنيفة ومحمد أن النهر الكبير بمنزلة الدجلة والفرات تجري فيه السفن وكل ماء يجري فيه السفن من الأنهار في معنى ذلك وما لا يجري فيه السفن فهو في حكم النهر الصغير حتى روى ابن سماعة عن محمد أن الشركاء في النهر وإن كانوا مائة أو أكثر فإن كان بحيث لا تجري فيه السفن يستحق الشفعة باعتباره ومنهم من يقدر بعدد الأربعين أو بعدد الخمسين ولا معنى للمصير فيه إلى التقدير من حيث العدد لأن المقادير بالرأي لا تستدرك وليس في ذلك نص فالمعتبر ما قلنا أن يكون بحيث تجري فيه السفن.(14/239)
وإذا زرع المشتري الأرض ثم جاء الشفيع فله أن يأخذها بالشفعة ويقلع الزرع في القياس لأنه زرع في أرض غيره فهو أحق بها منه فهو كالغاصب إذا زرع الأرض المغصوبة ولأن المشتري كما لا يتمكن من إبطال حق الشفيع لا يتمكن من تأخير حقه لأن التأخير من وجه إبطال وفي الاستحسان لا يأخذها بالشفعة حتى يحصد الزرع ثم يأخذها لأن المشتري زرع في ملك نفسه وما كان يتيقن بأن الشفيع يطلب الشفعة قبل ادراك زرعه فلا يكون متعديا(14/240)
ص -114- ... فيما صنع بخلاف الغاصب ولأن لا دراك الزرع نهاية معلومة فلو انتظر ذلك لم يبطل حق الشفيع وأن تأخر قليلا وإذا قلع زرع المشتري تضرر بإبطال ملكه وماليته وضرر التأخير دون ضرر الإبطال فإن كان غرس فيها كرما أو شجرا أو رطبة فله أن يقلع ذلك ويأخذ الأرض لأنه ليس لفراغ الأرض منها نهاية معلومة وقد بينا في البناء نظيره يوضحه إنه قد يتأخر حق الشفيع لدفع الضرر عن المشتري حتى إذا طلب الشفعة تأخر التسليم إليه إلى احضار الثمن فيجوز أن يتأخر أيضا للدفع عن المشتري في زرعه ولكن لا يجوز إبطال حق الشفيع لدفع الضرر عن المشتري وفي التأخير لا إلى غاية معلومة إبطال.
وإذا اشترى نخلا ليقطعه فلا شفعة فيه وكذلك إذا اشتراه مطلقا لأن الأرض لا تدخل في هذا الشراء والنخل بدون الأرض كالبناء لا يستحق بالشفعة فإن اشتراها بأصولها ومواضعها من الأرض ففيها الشفعة لأنها تابعة للأرض في هذا الحال وكذلك أن اشترى زرعا أو رطبة ليجزها لم يكن في ذلك شفعة وإن اشتراها مع الأرض وجبت الشفعة في الكل استحسانا وفي القياس لا شفعة في الزرع لانه ليس من حقوق الأرض وتوابعها ولهذا لا يدخل في البيع إلا بالذكر فهو كالمتاع الموضوع في الأرض لا يستحق بالشفعة وإن اشترى مع الأرض ووجه الاستحسان أن الزرع متصل بالأرض ما لم يحصد وما كان من المنقول متصلا بالعقار يستحق بالشفعة تبعا كالأبواب والشرب المركبة يوضحه أن الشفيع يقدم على المشتري شرعا وقبل الحصاد يمكنه أخذ الكل من الوجه الذي أوجبه العقد للمشتري بخلاف ما إذا لم يحصد حتى حصد الزرع لأنه لا يمكنه أخذ الزرع بعد الحصاد على الوجه الذي أوجبه العقد للمشتري فلو أخذه كان أخذا للمنقول بالشفعة مقصودا وذلك ممتنع.(14/241)
وإذا اشترى أرضا فيها نخل ليس فيها ثمر فاثمرت في يده فأكلها سنين ثم جاء الشفيع فله أن يأخذها بالشفعة بجميع الثمن أن شاء وكان أبو يوسف يقول أولا يحط من الثمن حصة ما أكل المشتري من الثمر لأن حال المشتري مع الشفيع كحال البائع مع المشتري قبل التسليم إليه ولو أكل البائع الثمار الحادثة بعد العقد يحط عن المشتري حصتها من الثمن كما يحط حصة الثمرة الموجودة عند العقد فكذلك في حق الشفيع يوضحه أن تناول الثمار الحادثة تمنع المشتري من بيعها مرابحة حتى يبين وهي في ذلك كالثمار الموجودة فكذلك في حق الشفيع فأما وجه ظاهر الرواية وهو الذي رجع إليه أبو يوسف أن المشتري يملك الأرض والنخل بجميع الثمن والشفيع إنما يأخذها بمثل ما يملك به المشتري وهذا لأن الحادث من الثمار بعد القبض لاحصة له من الثمن فإنه لم يكن موجودا عند العقد ولا عند القبض وانقسام الثمن يكون باعتبارها ولو كانت قائمة في يد المشتري بعد الجذاذ لا يثبت حق الشفيع فيها فتناوله إياها لا يحل لها حصة من الثمن أيضا بخلاف بيع المرابحة فالمتولد من العين هناك لو كان قائما في يد المشتري كان يضمه إلى الأصل ويبيع الكل مرابحة فإذا تناول ذلك لم يكن له أن يبيعه مرابحة من غير بيان إلا أن يكون أنفق عليه مثل ما أكل وقد بينا هذا في(14/242)
ص -115- ... البيوع وهذا بخلاف الثمار الموجودة عند العقد إذا أخذها المشتري فللثمار الموجودة حصة من الثمن ولا حق للشفيع فيها بعد الجذاذ فيطرح عن الشفيع حصتها من الثمن ألا ترى أن الثمار الموجودة عند العقد لو بلغت عنده من غير صنع أحد سقط عن المشتري حصتها من الثمن بخلاف الثمار الحادثة فكذلك في حق الشفيع وإن حضرالشفيع قبل أن يجذها المشتري أخذها مع الأشجار بجميع الثمن استحسانا وهذا والزرع سواء وبعد الجذاذ هنا والحصاد في الزرع عند أبي يوسف يقسم الثمن على قيمة الأرض وعلى قيمة الثمار والزرع وقت العقد لأن انقسام الثمن عليهما بالعقد فتعتبر القيمة عند ذلك وعند محمد تقوم الأرض مزروعة وغير مزروعة والأشجار مثمرة وغير مثمرة فربما لا يكون للزرع والثمر في ذلك الوقت قيمة إلا شيئا يسيرا فلو اعتبرنا قيمته محصودا تضرر به الشفيع فلدفع الضرر قال اقسم الثمن على قيمة الأرض مزروعة وغير مزروعة فما يخص قيمتها غير مزروعة فهو حصة الأرض يأخذها الشفيع بذلك.(14/243)
وإذا اشترى أرضا فيها شجر صغار فكبرت فاثمرت أو كان فيها زرع فأدرك فللشفيع أن يأخذ جميع ذلك بالثمن لأن حقه ثبت فيها بطريق الاتصال بالأرض والشجر بيع ما بقى الاتصال وإذا اشترى بيتا ورحا ماء فيه ونهرها ومتاعها فللشفيع الشفعة في ذلك كله إلا ما كان من متاعها ليس بمركب في البناء لأن ما كان مركبا متصل بالأرض فهو بمنزلة البناء فيستحق بالشفعة تبعا ألا ترى أن الحمام يباع ويأخذه الشفيع بقدر الحمام لأنه في البناء فكذلك الرحا واستحقاق الشفعة في الحمام والرحا قولنا فأما عند الشافعي ما لا يحتمل القسمة لا يستحق الشفعة لأن من أصله أن الأخذ بالشفعة لدفع ضرر مؤنة المقاسمة وذلك لا يتحقق فيما لا يحتمل القسمة وعندنا لدفع ضرر البادي بسوء المجاورة على الدوام وذلك فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد الملكين بالآخر على وجه التأييد والقرار وحجتنا في ذلك ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الشفعة في كل شيء ربع أو حائط" ولأن الحمام لو كان مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك الشفعة وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق بالشفعة مثبتا كالشقص من الدار وبهذا يتبين أن مؤنة المقاسمة أن كانت لا تلحقه في الحال فقد تلحقه في الثاني وهو ما بعد الانهدام إذا طلب أحدهما قسمة الأرض بينهما ولو اشترى أجمة فيها قصب وسمك يؤخذ بغير صيد أخذ الإجمة والقصب بالشفعة ولم يأخذ السمك لأن القصب متصل بالأرض فأما السمك فلا اتصال له بالأرض بل هو كالمتاع الموضوع في الدار والأرض فلا يستحق بالشفعة.(14/244)
وإذا اشترى عينا أو نهرا أو بئرا بأصلها فللشفيع فيها الشفعة لاتصال ملكه بالمبيع على وجه التأييد وكذلك أن كانت عين قير أو نفط أو موضع ملح أخذ جميع ذلك بالشفعة لوجود الاتصال معنى فإنه يبيع من ذلك الموضع بمنزلة ما يتولد منه بخلاف السمك إلا أن يكون المشتري قد حمل ذلك من موضعه فلا يأخذ ما حمل منه بمنزلة الزرع والتمر بعد الحصاد(14/245)
ص -116- ... والجذاذ وإن اشترى شربا من نهر بغير أرض ولا أصل من نهر فلا شفعة فيه لأن بيع الشرب فاسد فإنه من حقوق المبيع بمنزلة الأوصاف فلا يفرد بالبيع ثم هو مجهول في نفسه غير مقدور التسليم لأن البائع لا يدري أيجري الماء أم لا وليس في وسعه إجراؤه.
قال وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يفتي بجواز بيع الشرب بدون الأرض ويقول فيه عرف ظاهر في ديارنا بنسف فإنهم يبيعون الماء فللعرف الظاهر كان يفتي بجوازه ولكن العرف إنما يعتبر فيما لا نص بخلافه والنهي عن بيع الغرر نص بخلاف هذا العرف فلا يعتبر وإذا اشترى الرجل أرضا فله ما فيها من نخل أو شجر لأنها بمنزلة البناء متصله بالأرض للقرار وليس له ما فيها من زرع أو ثمر لأن الاتصال فيها ليس للتأييد والقرار بل للإدراك فهو اتصال يعرض الفصل فيكون بمعنى المتاع الموضوع فيها لا تدخل في البيع إلا بالذكر والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى أرضا فيها نخل فالثمر للبائع إلا أن يشترط المبتاع" ولو اشترى الأرض بكل قليل أو كثير هو فيها أو منها فله الثمر والزرع وفي غير هذا الموضع يقول لا يدخل الثمر والزرع بهذا اللفظ وتأويل ما قال هناك إذا اشتراها بكل قليل أو كثير هو فيها أو منها بحقوقها فعند هذا التقييد لا تدخل الثمرة والزرع لأنهما ليسا من حقوقها وتأويل ما ذكر هنا أنه لم يقيد بقوله من حقوقها وعند الاطلاق يتناول لفظ الثمر والزرع لأنهما من القليل والكثير الذي هو فيها أو منها لاتصاله في الحال والامتعة الموضوعة تدخل بهذا اللفظ أيضا أن كان قال أو منها لأنها من القليل أو الكثير الذي فيها وإن كان قال ومنها لم تدخل لأنها ليست من الأرض وأما ما لا يدخل في البيع كالزوجة والولد للبائع إذا كان فيها في القياس يدخل ويفسد البيع وفي الاستحسان لا يدخل لعلمنا أنهما لم يقصدا ذلك وإذا اشتراها بكل حق هو لها بمرافقها لم يدخل فيها الثمر الزرع لأنهما ليسا من حقوق الأرض(14/246)
ومرافقها فإنما يطلق هذا اللفظ على مابه يتأتى الانتفاع بالأرض كالشرب والطريق الخاص في ملك إنسان فذلك الذي يدخل في الشراء عند ذكر هذا اللفظ والثمر والزرع ليسا من هذا في شيء فلا يدخل بذكر الحقوق والمرافق.
وإذا اشترى دارا فله البناء سواء اشترط كل حق هولها أو لم يشترط وهذه ثلاثة فصول الدار والمنزل والبيت فإذا عقد العقد باسم الدار يدخل فيه العلو والسفل والكنيف والشارع وإن لم يقل بكل حق هو له لأن الدار هو اسم لما أدير عليه الحائط والعلو والسفل مما أدير عليه الحائط ولا يدخل الطريق الخاص في ملك إنسان إلا أن يقول بكل حق هولها لأن الطريق خارج مما أدير عليه الحائط ويكون من حقوق الدار فالانتفاع بالدار يتأتى به فإنما يدخل عند ذكر الحقوق والمرافق فأما الظلة التي على ظهر الطريق عليها منزل إلى الدار لا يدخل عند أبي حنيفة إلا أن يشترط الحقوق والمرافق فحينئذ تدخل إذا كان مفتحها إلى الدار وعند أبي يوسف ومحمد تدخل إذا كان مفتحها إلى الدار وإن لم يشترط الحقوق والمرافق لأنها من بناء الدار بمنزلة العلو والكنيف والشارع وأبو حنيفة يقول هي خارجة مما(14/247)
ص -117- ... أدير عليه الحائط ولكنها من مرافق الدار إذا كان مفتحها إلى الدار فإنما تدخل بذكر الحقوق والمرافق والطريق الخاص وهذا لأن أحد جانبي الظلة على حائط الجار المحاذي والجانب الآخر على بناء الدار وكانت من جملة الدار من وجه دون وجه فلا تدخل عند اطلاق اسم الدار بخلاف كنيف الشارع فإنه متصل ببناء الدار لا اتصال له بشيء آخر فيكون داخلا فيما أدير عليه الحائط من البناء.
وإن كان اشترى بيتا وعليه علو لم يدخل العلو في البيت سواء ذكر الحقوق والمرافق أو لم يذكر ما لم ينص على العلو لأن البيت اسم لما يبات فيه والعلو في هذا كالسفل وكان نظير بيتين أحدهما بجنب الآخر وهذا لأن الشيء لا يكون من حقوق مثله فإما إذا اشترى منزلا لم يكن له علوه إلا أن يقول بكل حق هو له أو بمرافقه فيدخل العلو فيه لأن العلو من حقوق المنزل فيدخل عند ذكر الحقوق والبيت اسم لمسقف واحد له دهليز والمنزل اسم لما يشتمل على بيوت وصحن مسقف ومطبخ ليسكنها الرجل بعياله والدار اسم لما يشتمل على بيوت ومنازل وصحن غير مسقف فكان المنزل فوق البيت ودون الدار فلكونه فوق البيت قلنا يدخل العلو عند ذكر الحقوق والمرافق ولكونه دون الدار قلنا لا يدخل العلو فيه إذا لم يذكر الحقوق والمرافق ومشتري المنزل من الدار وإن ذكر الحقوق والمرافق لاحق له في الدار إلا الطريق ومسيل الماء فإن ذلك من حقوق المنزل فأما المخرج والمربط والمطبخ وبئر الماء فلا حق له فيها إلا أن يسمى شيئا من ذلك لأن ذلك من حقوق الدار ومرافقها ليس من حقوق المنزل فالانتفاع بالمنزل يتأتى بدونه بخلاف الطريق والمسيل وفي شراء الدار إذا كان لها طريقان أحدهما في السكة والآخر في دار فإن اشترط الحقوق والمرافق استحق ذلك كله وإن لم يشترط لم يستحق الطريق الذي في الدار الأخرى لأن ذلك خارج مما أدير عليه الحائط والقرية مثل الدار وإن كان في الدار أو في القرية باب موضوع أو خشب أو آجر أو جص لم يدخل(14/248)
ذلك في البيع بذكر الحقوق والمرافق وإن اشترط كل قليل وكثير هو فيها أو منها أو اشترط كل حق هو لها لأن الانتفاع يتأتى بدون هذه الأشياء وهي بمنزلة متاع موضوع فيها.
وإذا اشترى الرجل أرضا فاستأجرها الشفيع منه أو أخذها مزارعة أو كان فيها نخيل فأخذها معاملة بعد علمه بالشراء أو ساوم بها فقد بطلت شفعته لأن إقدامه على هذه التصرفات دليل الرضا بتقرر ملك المشتري فيها ودليل الرضا كصريح الرضا والاستيام دليل ابطال حق الشفعة لأنه طلب التملك منه بسبب يباشره باختياره ابتداء وذلك يتضمن تقرره على مباشرة هذا السبب فيكون اسقاطا للشفعة دلالة.
وإذا اشترى نخلا ليقطعه ثم اشترى بعد ذلك الأرض وترك النخيل فيها فلا شفعة للشفيع في النخيل لأنها كانت مقصودة بالعقد وهي من النقليات لا تستحق بالشفعة وكذلك لو اشترى الثمرة ليجذها والبناء ليهدمه ثم اشترى الأرض لم يكن للشفيع الشفعة إلا في الأرض(14/249)
ص -118- ... خاصة لأن استحقاق البناء بالشفعة لمعنى التبعية للأرض وذلك لا يتحقق إذا ملكه بسبب غير السبب الذي ملك الأرض به.
وإذا اشترى قرية فيها بيوت ونخيل وأشجار ثم باع المشتري شجرها ونخلها ليقطع ثم جاء الشفيع وقد قطع بعضها فله أن يأخذ الأرض وما لم يقطع من الشجر بحصته من الثمن وليس له أن يأخذ ما قطع من ذلك وللشافعي قول أن حق الشفيع متى كان ثابتا في البناء والشجر فله أن يأخذ ذلك بعد القطع والهدم اعتبارا للحق بالملك فكما لا يبطل ملك المالك بالقطع فكذلك حق الشفيع ولكنا نقول ثبوت حقه في الآخذ كان لمعنى الاتصال بالأرض فإذا زال ذلك قبل الأخذ لا يكون له فيه حق الأخذ كما لو زال جوازه ولكن يطرح حصته من الثمن عن الشفيع لأنه صار مقصودا بالحبس والتناول فيكون له حصته من الثمن يطرح عن الشفيع.
وإذا اشترى الرجل نهرا بأصله ولرجل أرض في أعلاه إلى جنبه ولآخر أرض في أسفله إلى جنبه فلهما جميعا الشفعة في جميع النهر من أعلاه إلى أسفله لأن ملك كل واحد منهما متصل بالمبيع اتصال تأييد وقرار فلكل واحد منهما الشفعة بالجوار وكذلك القناة والعين والبئر فهي من العقارات يستحق فيها الشفعة بالجوار وكذلك القناة يكون مفتحها في أرض ويظهر ماؤها في أرض أخرى فجيرانها من مفتحها إلى مصبها شركاء في الشفعة لاتصال ملك كل واحد منهما بالمبيع وبالاتصال في جانب واحد يتحقق الجوار وصاحب النصيب في النهر أولى بالشفعة ممن يجري النهر في أرضه لأنه جار باتصال أرضه بالنهر والشريك في المبيع مقدم على الجار.(14/250)
وإذا كان نهر أعلاه لرجل وأسفله لآخر ومجراه في أرض رجل آخر فاشترى رجل نصيب صاحب أعلا النهر فطلب صاحب النهر وصاحب الأرض وصاحب أسفل النهر الشفعة فالشفعة لهم جميعا بالجوار لأنهم أستووا في سبب الاستحقاق فملك كل واحد منهم متصل بالمبيع إلا أن اتصال صاحب الأسفل بمقدار عرض النهر واتصال صاحب الأرض بمقدار طول النهر من أرضه ولو عبرة بزيادة الجوار كما لا عبرة بزيادة الشركة وليس لصاحب مسيل الماء حق لمسيل الماء يعني أن صاحب أسفل النهر له في المبيع حق سيل الماء فما لم يسل الماء في أعلا النهر لا ينتهي إليه ولكن لا يصير به شريكا لرقبة النهر ولا في حقوقه وإنما يترجح على الجار الشريك في نفس المبيع أو في حقوقه وكذلك لو اشترى رجل نصيب صاحب أسفل النهر فالشفعة لصاحب الأعلا بالجوار لاتصال ملكه بالمبيع وكذلك لو كانت قناة مفتحها بين رجلين إلى ما كان معلوم وأسفل منذلك لأحدهما فباع صاحب الأسفل ذلك الأسفل فالشريك والجيران فيه سواء لأن بالشركة في أعلا القناة لا يكون شريكا في المبيع فإن المبيع أسفل القناة وذلك كان ملكا خالصا للبائع فلهذا كان شريكه في أعلا القناة والجيران في الشفعة سواء.(14/251)
ص -119- ... وإذا كان نهر لرجل فطلب إليه رجل ليكري منه النهر إلى أرضه ثم بيع النهر الأول ومجراه في أرض رجل آخر فصاحب الأرض أولى بالشفعة لأن الآخر مستعير ولا حق للمستعير في الشفعة إذ لا ملك له متصل بالمبيع على وجه التأييد والقرار وإذا كان نهر لرجل في أرض لرجل عليه رحى ماء في بيت فباع صاحب النهر النهر أو الرحاء والبيت فطلب صاحب الأرض الشفعة في ذلك كله فله الشفعة لاتصال ملكه بالمبيع وإن كان بين أرضه وبين موضع الرحاء أرض لرجل آخر وكان جانب النهر الآخر لرجل آخر فطلبا الشفعة فلهما أن يأخذ ذلك بالشفعة لأنهما سواء في الجوار من النهر وإن كان بعضهم أقرب إلى الرحاء لأن الرحاء لا تستقيم إلا بالنهر فهو الآن شيء واحد ألا ترى أن موضع الرحاء لو كان أرضا لها في ذلك النهر شرب فبيعت كان الشركاء في الشرب سواء في الشفعة ولا يكون أقربهم إليها أولى بالشفعة وهذا إشارة إلى أن باعتبار ملك الرحاء تثبت الشركة في الشرب لأن الانتفاع بالرحاء لا يتأتى إلا بالماء كما لا يتأتى في الانتفاع بالأرض إلا بالماء.(14/252)
وإذا كان نهر لرجل خالصا له عليه أرض ولآخر عليه أراضي ولا شرب لهم فيه فباع رب الأرض النهر خاصة فهم شركاء في الشفعة فيه لايصال ملكهم بالمبيع وإن باع الأرض خاصة دون النهر فالملازق للأرض أولاهم بالشفعة لأنه لا شركة بينهم في النهر والمبيع الأرض وهم جيران المبيع يعني من يلازق أرضه الأرض المبيعة فالشفعة للجار الملازق خاصة وإن باع النهر والأرض جميعا كانوا شفعاء في النهر لاتصال ملك كل واحد منهم بالنهر وكان الذي هو ملازق الأرض أولاهم بالشفعة في الأرض لاتصال ملكه بالأرض بمنزلة طريق في دار لرجل فباع الطريق والطريق خالص له فجار الطريق أولى به من جار الأرض دون الطريق وهذان بمنزلة دارين ليميز أحدهما عن الآخر لأن جوار هذا غير جوار هذا ولو كان شريكا في الطريق أخذ شفعته من الدار لأن الشريك مقدم على الجار فكذلك أن كان شريكا في النهر أخذ بحصته من الأرض وكان أحق بهما جميعا من جيران الأرض والطريق والنهر سواء في كل شيء وقد بينا ذلك في أول الباب والله أعلم.
باب الشفعة في الهبة
قال رحمه الله: أعلم بأن الموهوب لا يستحق الشفعة إلا على قول ابن أبي ليلى فإنه يقول يستحق بالشفعة إذا كان مما لا يقسم ويأخذه الشفيع بقيمة نفسه إن لم يعوض الموهوب له الواهب وإن عوضه فبقيمة العوض وكذلك إذا عوض الغير من هبته شقصا من غير شرط وفي استحقاقه بالشفعة خلاف على ما بينا هو يقول ثبوت حق الشفعة لحاجته إلى دفع ضرر البادي بسوء مجاورة الجار الحادث وذلك لا يختلف باختلاف سبب الملك فتجب له الشفعة متى تجدد الملك للجار الحادث بأي سبب كان من هبة أو صدقة أو وصية إلا الميراث فالملك لا يتجدد به وإنما يبقي الوارث ما كان ثابتا للمورث ثم يدفع الضرر عن نفسه بالأخذ على وجه لا يلحق الضرر بالمتملك فإن كان المتملك دفع بمقابلته عوضا فعليه قيمة(14/253)
ص -120- ... ذلك العوض وإن لم يدفع بمقابلته عوضا فعليه قيمة ما يأخذ لأن الضرر بذلك يندفع عنه ولكنا نقول حق الشفعة إنما يثبت له إذا تمكن من الأخذ بمثل السبب الذي به يملك المتملك فأما إذا عجز عن ذلك لا يثبت له حق الشفعة كالميراث وفي الهبة لا يقدر على أن يأخذ بمثل ذلك السبب لأن الموهوب له يملكه بطريق التبرع وإنما يأخذها الشفيع بطريق المعاوضة فيكون هذا إن شاء سبب آخر وبحق الشفعة لا تثبت هذه الولاية يوضحه أن الشرع قدم الشفيع على المشتري في حكم السبب الذي باشره وذلك يتأتى في المعاوضات ولا يتأتى في التبرع لأن الملك الذي يثبت للشفيع لا يكون حكم التبرع ولأن الشفيع في المعاوضة كان أحق بالعرض عليه قبل البيع فإذا لم يفعل ذلك البائع جعله الشرع أحق بالأخذ ليندفع الضرر عنه وهذا لا يوجد في التبرع فإن من أراد أن يهب ملكه من إنسان فليس عليه أن يعرض بيعه أولا على جاره ولا أن يهبه من جاره فلهذا لا يستحق الشفعة بهذا السبب فإن وهب لرجل دارا على أن يهبه الآخر ألف درهم شرطا فلا شفعة للشفيع فيه ما لم يتقابضا وبعض التقابض يجب للشفيع فيه الشفعة وعلى قول زفر تجب الشفعة قبل التقابض وهو بناء على ما بينا في كتاب الهبة إن الهبة بشرط العوض عنده بيع ابتداء وانتهاء وعندنا ابتداء وهو بمنزلة البيع إذا اتصل به القبض من الجانبين.
فأما الوصية على هذا الشرط إذا قبل الموصي له ثم مات الموصي فهو بيع لازم له وإن لم يقبض لأن الملك في الوصية بعد القبول يحصل بالموت ألا ترى أنه لو كان بغير شرط العوض يملك قبل القبض فكذلك إذا كان بشرط العوض فهو على وجهين إن قال قد أوصيت بداري بيعا لفلان بألف درهم ومات الموصي فقال الموصي له قد قبلت فللشفيع الشفعة وإن قال أوصيت له بأن يوهب له على عوض ألف درهم فهذا وما لو باشر الهبة بنفسه بشرط العوض سواء في الحكم.(14/254)
وإن وهب نصيبا من دار مسمى بشرط العوض وتقابضا لم يجز ولم يكن فيه الشفعة عندنا لأنه بر ابتداء والشيوع فيما يحتمل القسمة يمنع صحته وتأثير الشيوع كتأثير عدم القبض فيه وكذلك إن كان الشيوع في العوض فيما يقسم وإن وهب دار الرجل على ان ابراءه من دين له عليه ولم يسمه وقبض كان للشفيع فيها الشفعة لأن المديون قابض للدين بدينه فبقبض الدار تتم المعاوضة بينهما فيجب للشفيع فيها الشفعه والقول في مقدار العوض قول الذي عوض لأن الشفيع يملك الدار عليه وقد بينا أن القول في مقدار الثمن قوله وكذلك لو وهبها بشرط الإبراء مما يدعي في هذه الدار الآخرى وقبضها فهو مثل ذلك في الاستحقاق بالشفعة لأن التملك فيها تم بجهة المعاوضة.
وإذا وهب الرجل دار ابنه الصغير لرجل على عوض مثل قيمتها وتقابضا فهو جائز وللشفيع فيها الشفعة في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد وفي قول أبي يوسف الآخر لا يجوز ولا شفعة فيها وكذلك الوصي والعبد والمأذون والمكاتب والمضارب في(14/255)
ص -121- ... قول أبي يوسف الأول كل من يملك البيع يملك الهبة بشرط العوض إذا لم يكن فيه محاباة وهو قول محمد وفي قوله الآخر كل من لا تجوز هبته بغير عوض لا تجوز هبته بشرط العوض وجه قوله الأول أن هذا تمليك مال بمال يعادله شرطا فيصح من الأب والوصي كما لو كان بلفظ البيع أو بلفظ التمليك وتحقيقه أن حق الصبي في المال لا في اللفظ وتصرف الأب والوصي مقيد شرعا بالأحسن والإصلح لليتيم وذلك في أن يتوفر عليه المالية لا في لفظ المعاوضة ألا ترى أن البيع منهما لما لم يجز بالتعاطي من غير لفظ فإذا أسقط اعتبار اللفظ قلنا توفير المالية عليه في الهبة بشرط العوض كما في البيع بل أظهر لأن في الهبة بشرط العوض لا يزول المال عن ملكه ما لم يصل العوض إلى يد ثانية وبالبيع تزول العين عن ملكه قبل وصول العوض إليه وبهذا التحقيق يظهر أن الهبة بشرط العوض من الأب والوصي بمنزلة الكتابة وهما يملكان الكتابة في غير الصبي بخلاف العتق على مال فالملك هنا يزول بنفس القبول والبدل في ذمة مفلسه لا يدري أيصل إليه أم لا بمنزلة التأدي.
وجه قوله الآخر أن الهبة عقد تبرع وليس للأب والوصي ولاية التبرع في مال اليتيم فباشتراط العوض لا تثبت له هذه الولاية كالعتق فإنه لو اعتق عبده بمال هو أضعاف قيمته وتبرع إنسان بادائه لم يجز وبه يبطل ما اعتبر محمد من توفير المالية عليه وتحقيق هذا الكلام أنه لما لم يكن من أهل التبرع وهذا العقد عقد تبرع باعتبار أصله فهو عقد صدر من غير أهله وكما يلغوا السبب إذا حصل في غير محله فكذلك إذا صدر من غير أهله وحكم المعاوضة ينبني على صحة السبب عند اتصال القبض به من الجانبين فإذا لم يصح أصل السبب لما قلنا لا ينقلب بالتقابض بيعا صحيحا ألا ترى أنه لو حصل ذلك في مشاع يحتمل القسمة لا يصير بيعا صحيحا بالتقابض فكذلك إذا حصل ممن لا يمكن الهبة بغير عوض لا يصير بيعا صحيحا بالتقابض فلا تجب فيه الشفعة والله أعلم.(14/256)
باب الخيار في الشفعة
قال رحمه الله وإذا كان المشتري شرط الخيار لنفسه ثلاثا في الشراء فللشفيع الشفعة أما عند أبي يوسف ومحمد لأنه صار مالكا للدار وعندهما خيار الشرط كخيار الرؤية والعيب للمشتري فلا يمنع وجوب الشفعة وعند أبي حنيفة المشتري أن لم يملك الدار بشرط الخيار فقد خرجت الدار من ملك البائع وانقطع حقه عنها لكون البيع باقي في جانبه ووجوب الشفعة تعتمد انقطاع حق البائع لا ثبوت الملك للمشتري حتى إذا أقر بالبيع وأنكر المشتري يجب للشفيع فيه الشفعة ولأن المشتري صار أحق بالتصرف فيها فباعتباره يتحقق الضرر المحوج للشفيع إلى الدفع عن نفسه.
وإذا اشترى المرتد دارا فللشفيع فيها الشفعة أن قبل على الردة أو أسلم في قول أبي يوسف ومحمد لأن الشراء من المرتد صحيح عندهما وعند أبي حنيفة لأن البيع قد تم في جانب البائع وصار المشتري أحق بها لو أسلم فكان للشفيع حق الشفعة وهو بمنزلة خيار(14/257)
ص -122- ... ثابت للمشتري ولو كان المشتري بالخيار أبدا لم يكن للشفيع فيها الشفعة لأن البيع فاسد وفي البيع الفاسد حق البائع في الاسترداد ثابت وما لم ينقطع حق البائع في الاسترداد لا يجب للشفيع الشفعة فإن أبطل المشتري خياره وأوجب البيع قبل مضي الأيام الثلاثة وجبت الشفعة لزوال المفسد قبل تقرره وكذلك عندهما بعد مضي الأيام الثلاثة لأن العقد عندهما ينقلب صحيحا متى أسقط خياره وهذا إذا شرط الخيار أبدا فإن كان شرط الخيار شهرا فعندهما هذا البيع صحيح لازم وللشفيع حق الأخذ بالشفعة وقد بينا المسألة في البيوع وإن كان الخيار ثلاثة فأخذها الشفيع من البائع في الثلاثة فقد وجب البيع وليس للشفيع من الخيار ما كان للمشتري لأن خيار الشرط كاسمه لا يثبت إلا لمن شرط له والشرط كان للمشتري دون الشفيع.(14/258)
وإذا كان الخيار للبائع فلا شفعة فيها حتى يوجب البيع لأن خيار البائع يمنع خروج المبيع من ملكه وبقاء حق البائع يمنع ثبوت حق الشفيع فبقاء ملكه أولى فإن بيعت دار إلى جنبها فللبائع فيها الشفعة دون المشتري لأن الملك في الدار المبيعة عندهما في هذا البيع للبائع وإذا أخذها بالشفعة فهذا نقض منه للبيع لأنه قرر ملكه وجواره حين أخذ المبيعة بالشفعة باعتباره فاقدام البائع على ما يقرر ملكه في مدة الخيار يكون نقضا للبيع وهذا لأنه لو لم يجعل ناقضا لكان إذا أجاز البيع فيها ملكها المشتري من وقت العقد حتى يستحق بزوائدها المتصلة والمنفصلة فتبين أنه أخذها بالشفعة من غير حق له وإن كان الخيار للمشتري فبيعت دار بجنب هذه الدار كان له فيها الشفعة لأنه صار أحق بها مع خياره وذلك يكفي لثبوت حق الشفعة له كالمأذون والمكاتب إذا بيعت دار بجنب داره وكان البلخي يدعي بهذا الفصل المناقضة على أبي حنيفة فيقول أنه إذا كان من أصله أنه لا يملك المبيع في مدة خياره واستحقاق الشفعة باعتبار الملك ولهذا لا يستحق المستأجر والمستعير فكيف تثبت للمشتري الشفعة في هذه الدار ولكن عذره ما بينا فإذا أخذها بالشفعة كان هذا منه أجازة للبيع بوجود دليل الرضا لتقرر ملكه فيها وهذا يؤيد كلام البلخي فإنه لو لم يكن الملك معتبرا في استحقاق الشفعة لما صار مخيرا للبيع بأخذها بالشفعة ولكنا نقول لو لم يسقط خياره بذلك لما كان إذا فسخ البيع انعدم السبب في حقه من الأصل فتبين أنه أخذها بالشفعة من غير حق له فللتحرز عن ذلك جعلناه مخيرا للبيع فإذا جاء الشفيع وأخذ منه الدار الأولى بالشفعة لم يكن له على الثانية سبيل لأنه إنما يتملكها الآن فلا يصير بها جارا للدار الآخرى من وقت العقد إلا أن يكون له دار إلى جنبها والدار الثانية سالمة للمشتري لأن أخذ الشفيع من يده لا ينفي ملكه من الأصل ولهذا كانت عهدة الشفيع عليه فلا يتبين به انعدام السبب في حقه من الأصل(14/259)
حين أخذ بالشفعة.
وإذا اشترى دارا بعبد واشترط الخيار ثلاثا لمشتري الدار فللشفيع فيها الشفعة فإن أخذها من يد مشتريها فقد وجب البيع له لأنه عجز عن ردها وذلك موجب له البيع فيها فإن(14/260)
ص -123- ... سلم المشتري البيع وأبطل خياره سلم العبد للبائع فإن أبى أن يسلم البيع أخذ عبده ودفع قيمة العبد الذي أخذها من الشفيع إلى البائع ولا يكون أخذ الشفيع الدار بالشفعة اختيارا من المشتري للبيع واسقاطا لخياره في العبد بخلاف ما إذا باعها المشتري فذلك اختيار منه لأن البيع تصرف ببينته واختياره فيكون دليل الرضا به وأسقاط خياره فأما أخذ الشفيع من يده يكون بغير رضاه واختياره وإنما يأخذها الشفيع بحق يثبت له قبل قبض المشتري ألا ترى أنه كان له حق الأخذ من البائع فلا يكون ذلك اختيارا من المشتري وهذا بخلاف ما لو حدث بها عيب عنده أو عرفت لأن تعذر الرد عليه في هذه المواضع بسبب حادث بعد قبضه فيجعل ذلك بمنزلة اختياره فأما عند أخذ الشفيع تعذر الرد عليه بحق كان سابقا على قبضه فلهذا لا يجعل ذلك اختيارا منه ويبقي هو في العبد على خياره فإذا فسخ العقد في العبد يجعل هذا بمنزلة ما لو انفسخ العقد فيه بالهلاك في يده قبل القبض فعليه أن يدفع إلى البائع القيمة المقبوضة من الشفيع لأنها هي التي سلمت له بسبب يده على الدار فيردها على البائع كما يرد الدار لو كانت في يده.(14/261)
ولو كانت الدار في يد البائع كان للشفيع أن يأخذها منه بقيمة العبد ويسلم العبد للمشتري لانتقاض البيع بينهما حين أخذها الشفيع من يد البائع ولو كانت الدار في يد المشتري فهلك العبد في يد البائع انتقض البيع ورد المشتري الدار وللشفيع أن يأخذها بقيمة العوض لما بينا أن حق الشفعة ثبت له بقيمة العوض وهو قادر على أداء ذلك بعد هلاك العوض في يد مشتري الدار ولو كان الخيار لبائع الدار فيها أو في العبد لم يكن للشفيع فيها شفعة حتى يوجب البيع لأن أحد المتعاقدين إذا شرط الخيار لنفسه في أحد العوضين فذلك منه شرط للخيار في العوض الآخر وإن كان الخيار أربعة أيام فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة ولا شفعة في ذلك إلا أن يسقط خياره قبل مضي ثلاثة أيام وعند أبي يوسف ومحمد البيع جائز ولكن بخيار البائع لا تجب الشفعة حتى يسقط خياره أو يسقط ذلك بمضي المدة فحينئذ يجب للشفيع فيه الشفعة والله أعلم بالصواب.
باب ما لا تجب فيه الشفعة من النكاح وغيره
قال رحمه الله: قال قد بينا في النكاح أن المهور لا تستحق بالشفعة عندنا وتستحق عند الشافعي والحاصل عندنا أن الشفعة تختص بمقابلة مال بمال مطلقا لأن الشفيع لا يتمكن من الأخذ إلا بمثل السبب الذي يملك به الجار الحادث وأخذه لا يكون إلا مبادلة مال بمال مطلقا وعلى هذا الأصل لا شفعة في المجعول بدلا في الخلع والصلح في القصاص في نفس أو عضو لأن الشفيع لا يتمكن من الأخذ بمثل ذلك السبب ولا يمكن إقامته مقام المتملك في حكم ذلك السبب فهو نظير الموهوب لا يستحق بالشفعة وكذلك لو استأجر إبلا بدار لأن الأجرة غير مملوكة بإزاء مال مطلقا لأن الشفعة ليست بمال في الحقيقة وإنما يجعل لها حكم المالية في جواز العقد عليها للحاجة.(14/262)
ص -124- ... ثم قد بينا في كتاب النكاح ما إذا تزوج امرأة على دار على أن ردت عليها ألفا وذكرنا إن عند أبي يوسف ومحمد تجب الشفعة في حصة الألف بمنزلة ما لو أفرد كل واحد من العقدين وعند أبي حنيفة لا تجب الشفعة في شيء لأن البيع هنا بيع للنكاح وإذا تعذر إيجاب الشفعة فيما هو الأصل لا يوجب فيما هو بيع ولو تزوج امرأة بغير مهر ثم فرض لها داره مهرا أو صالحها على أن يجعلها مهرا لها أو أعطاها إياها مهرا لم يكن فيها شفعة لأن هذا منه تعيين لمهر المثل ومهر المثل مملوك لها بمقابلة ما ليس بمال فلا يستحق بالشفعة ولأن أكثر ما فيه أن يجعل المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد وهذا بخلاف ما لو باعها بمهر مثلها دارا لأن البيع اسم خاص لمبادلة مال بمال ففي لفظ البيع دليل على أنه ملكها الدار عوضا عن مهر المثل وكذلك أن صالحها من مهرها على الدار أو مما وجب لها من المهر علي الدار فللشفيع فيها الشفعة لأن في لفظهما ما يدل على أنهما لم يقصدا تعيين مهر المثل بالدار فإنه ملكها ذلك عوضا عن المهر الذي استوجب عليه والذي استوجب عليه من المهر مال فكان مبادلة مال بمال وكذلك لو تزوجها على مهر مسمى فباعها به هذه الدار أخذها الشفيع بالشفعة وكذلك لو فرض القاضي لها مهرا ثم اشترى به الدار أخذها الشفيع بالشفعة بخلاف ما لو أعطاها الدار مهرا فإن هناك لو طلقها قبل الدخول وجب عليها أن ترد الدار وتطالبه بالمتعة وهنا لو طلقها قبل الدخول لم يلزمها رد شيء من الدار على الزوج وإنما لزمها من الدار ما فرض القاضي مهرا لها يحسب من ذلك مقدار المتعة ويعطيه الفضل على ذلك وفي المسمى في العقد يعطيه نصف المسمى.(14/263)
وإذا صالح من دم عمد على دار على أن يرد عليه صاحب الدم ألف درهم فلا شفعة في الدار في قول أبي حنيفة لأن الأصل فيه الصلح وما يقابل من دم العمد بالدار لا يستحق بالشفعة فكذلك ما يتبعه وعند أبي يوسف ومحمد يأخذ منها جزءا من إحدى عشر جزء بألف درهم لأن الدار تقسم على الألف وعلى دم العمد وقيمة الدية ألا ترى أنه إذا تعذر استيفاء القود يجب المصير إلى الدية والدية عشرة آلاف فإذا جعلت كل ألف جزءا كانت حصة الدم من الدار عشرة أجزاء من إحدى عشر جزءا وحصة الألف جزء من احدى عشر جزءا فيأخذ الشفيع ذلك بالشفعة وكذلك الصلح من شجاج العمد التي فيها القود وإن صالحه من موضحتين أحداهما عمد والآخرى خطأ على دار فلا شفعة فيها في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد يأخذ الشفيع نصفها بخمسمائة لأن موجب موضحة الخطأ خمسمائة درهم وموجب العمد القود فإذا صالح عنهما على دار كان نصفها بدلا عن القود ونصفها بدلا عن الخمسمائة وأبو حنيفة يقول المقصود بهذا الصلح القود لأن المال لا يعارض النفس ألا ترى أن موجب موضحة العمد وهو القود على صاحب الدار خاصة وإن موجب الخطأ عليه وعلى عواقله وإذا لم تجب الشفعة فيما هو الأصل لا تجب في البيع أيضا أما لأنه صار شريكا بما هو الأصل أو قياسا على المضارب إذا باع دارا من مال المضاربة ورب المال(14/264)
ص -125- ... شفيعها بدار له وفي المال ربح فإنه لا يأخذ بالشفعة نصيب المضارب من الربح لأن الشفعة لم تجب له فيما هو الأصل باعتبار أن البيع كان له فلا تجب الشفعة في البيع أيضا.
وإن صالح من كفالة بنفس رجل على دار فلا شفعة فيها لأن هذا الصلح باطل فإنه بإسقاط حقه عن الكفالة بالنفس لا يملك الكفيل شيئا فلا يستحق عليه عوضا وإن كان هذا الصلح صحيحا لم يجب فيها الشفعة لأن الدار ملكت بإزاء ما ليس بمال فالكفالة بالنفس ليست بمال وسواء كانت الكفالة بنفس رجل في قصاص واحد أو مال ففي حكم الشفعة وبطلان الصلح في الكل سواء ولو صالحه من المال الذي يطلب به فإن قال على أن يبرأ فلان من المال كله فهو جائز وللشفيع فيها الشفعة لأن صلح الأجنبي عن الدين على ملكه صحيح كصلح المديون ولو كان المديون هو الذي صالح على ذلك جاز الصلح ووجب للشفيع فيها الشفعة فكذلك إذا فعله أجنبي هو كفيل بالنفس وإن قال أقبضتكها عنه فالصلح باطل لأنه ملكه الدار بمقدار قيمتها من الدين فقضاء الدين بالدار يكون بهذه الصفة وذلك مجهول لأنه يعلم أنه جميع الدين أو بعضه فكان الصلح فاسدا ولا شفعة في العوض في الصلح الفاسد كما لا شفعة في البيع الفاسد.(14/265)
وإذا زوج الرجل ابنته وهي صغيرة على دار فطلبها الشفيع بالشفعة فسلمها الأب له بثمن مسمى معلوم بمهر مثلها أو بقيمة الدار فهذا بيع وللشفيع فيها الشفعة لأن الصداق لا يستحق بالشفعة والتسليم فيه إلى الشفيع سمحا بغير قضاء بمنزلة الشفيع المبتدأ وللأب ولاية البيع في دار ابنته الصغيرة وهو بيع صحيح لأن الثمن فيه مسمى معلوم وكذلك لو كانت الابنة كبيرة فسلمت فهو بيع وللشفيع فيها الشفعة ولا شفعة في البيع الفاسد أن قبضها المشتري أو لم يقبضها أما قبل القبض فلبقاء ملك البائع فيها وأما بعد القبض فلبقاء حقه في استردادها ووجوب الشفعة بغير انقطاع حق البائع عن الدار فإن كان قد قبضها فبيعت دار إلى جنبها فللمشتري أن يأخذها بالشفعة لأنه ملكها بالقبض فهو جار للدار المبيعة حين بيعت بملك هذه الدار وقيام حق البائع في الاسترداد لا يمنع وجوب هذه الشفعة لها كقيام حق المرتهن في الدار المرهونة لا يمنع وجوب الشفعة للراهن إذا بيعت دار بجنبها فإن لم يأخذها حتى رد هذه الدار بطلت شفعته في تلك الدار لأنه زال جواره قبل أن يأخذها بالشفعة وقيام السبب له إلى وقت الأخذ بالشفعة شرط للقضاء له بالأخذ ولا شفعة للبائع فيها لأنه لم يكن جارا حين بيعت هذه الدار وهو بمنزلة مالو باع الشفيع داره التي يطلب بها الشفعة قبل أن يخاصم بالشفعة فإنه لا يستحق المبيعة بالشفعة لأنه زال جواره ولا المشتري منه لأن جواره حادث بعد ملكه الدار.
وإذا اشترى دارا شراءا فاسدا وقبضها وبناها فللبائع قيمتها وينقطع حقه في الاسترداد عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا ينقطع حقه في الاسترداد ولكن يهدم بناء المشتري فيرد الدار على البائع لأنه بنى في بقعة غيره أحق بتملكها منه فينقض بناءه للرد على صاحب الحق كالمشتري إذا بنى في الشقص المشفوع وهذا لأن البناء بيع لحق الثابت في(14/266)
ص -126- ... الأصل بصفة التأكيد لا يبطل بمعنى في البيع ثم حق البائع في الاسترداد أقوى من حق الشفيع ألا ترى أنه لا يبطل بالسكوت ولايسقط بإسقاط البائع وإن ذلك مستحق له وعليه شرعا ثم بناء المشتري في ملكه ينقض لحق الشفيع مع ضعفه فلأن ينقض بحق البائع في الاسترداد كان أولى أرأيت لو هدم المشتري بناءه ألم يكن للبائع أن يسترده وهذا لاوجه لمنعه فالمشتري إذا وجد بها عيبا بعد ما رفع بناءه كان له أن يردها بالعيب فلأن يردها بفساد البيع كان أولى وهذا بخلاف حق الواهب في الرجوع فهو حق ضعيف فيسقط بمعنى في البيع كما يسقط بحدوث الزيادة المتصلة وبموت أحدهما وأبو حنيفة يقول بنى في ملك نفسه بتسليط من له الحق فلا ينقض بناؤه لحقه كالموهوب له يبني في الدار الموهوبة وبيان الوصف أن الحق في الاسترداد للبائع فهو الذي سلط المشتري على هذا البناء بإيجاب الملك له فيها والبيع وإن فسد شرعا فالتسليط من البائع بقي معتبرا في حقه والدليل عليه أن سائر تصرفات المشتري من البيع والهبة والصدقة لا تنقض لحق البائع في الاسترداد وما كان ذلك إلا باعتبار تسليطه إياه على ذلك وبه فارق الشفيع فإنه لم يوجد منه تسليط المشتري على التصرف ولهذا ينقض سائر تصرفات المشتري لحق الشفيع فكذلك ينقض بناؤه.(14/267)
وإذا عرفنا هذا فنقول عندهما لا يجب للشفيع فيها الشفعة لبقاء حق البائع في الاسترداد وعند أبي حنيفة يجب للشفيع فيها الشفعة لأن حق البائع في الاسترداد قد انقطع فيأخذها الشفيع بقيمتها وينقض بناء المشتري لحق الشفيع وهما بهذا الحرف يستدلان على أبي حنيفة فيقولان لإقرار لهذا البناء بالاتفاق بل رفعه مستحق أما لحق البائع أو لحق الشفيع وأبو حنيفة يقول لهذا البناء قرار في حق البائع فإنه حصل بتسليطه فينقطع به حق البائع في الاسترداد ولكن لاقرار له في حق الشفيع فيكون له أن ينقضه للأخذ بالشفعة وهو بمنزلة تصرف آخر من المشتري فيها كالبيع والهبة والصدقة فإنه يقطع حق البائع في الاسترداد ثم ينقض ذلك التصرف لحق الشفيع يقول فإن باعها المشتري بيعا صحيحا فللشفيع الخيار أن شاء أخذها بالبيع الثاني بالثمن المسمى وإن شاء أبطل البيع الثاني وأخذها بالبيع الأول بالقيمة لاجتماع سببين فيها لثبوت حق الأخذ له فيأخذ بأي السببين شاء وهما يفرقان بين هذا وبين البناء ويقولان تصرف المشتري هنا حصل في غير ما هو مملوك له بالعقد الفاسد وفي البناء حقه في البيع لأن البناء بيع للأصل وفي هذا القول اشكال فالشفيع إذا نقض البيع الثاني فقد صار ذلك كان لم يكن وقيل البيع الثاني يرد على البائع الأول ولا شفعة فيها فكذا بعد ما انتقض البيع الثاني من الأصل ولكنا الجواب عنه أن البيع الثاني من الأصل الثاني صحيح مزيل لملك المشتري وإنما ينقض لحق الشفيع فما يكون من مقتضيات حق الشفيع لا يصلح أن يكون مبطلا حقه في الأخذ بالشفعة.
و إن اشتراها شراءا فاسدا ولم يقبضها حتى بيعت دار إلى جنبها فللبائع أن يأخذ هذه الدار بالشفعة لأن الأول في ملكه بعد فيكون جارا بملكه الدار الأخرى فإن سلمها إلى(14/268)
ص -127- ... المشتري بطلت شفعته لأنه أزال جواره باختياره قبل الأخذ بالشفعة ولا شفعة فيها للمشتري لأن جواره محدث بعد بيع تلك الدار وإن اشتراها بخمر أو خنزير والمتعاقدان مسلمان أو أحدهما وشفيعها نصراني فلا شفعة فيه لأن البيع فاسد والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم منهما وفي البيع الفاسد لا تجب الشفعة لمسلم ولا كافر.
وإن اشتراها كافر من كافر وشفيعها مسلم فالبيع صحيح لأن الخمر والخنزير في حقهم مال متقوم كالبعير والشاة في حق المسلمين فإن كان شفيعها نصراني أخذها بمثل الخمر المشترى بها أو بقيمة الخنزير لأن الخمر من ذوات الأمثال فيأخذها الشفيع بمثل ما يملك به المشتري صورة ومعنى وفي الخنزير يأخذها بقيمته ولو كان الشفيع مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير لأن المسلم عاجز عن تمليك الخمر قصدا فعليه قيمتها وهو معتبر بالاستهلاك فإن خمر النصراني عند الاستهلاك مضمون على النصراني بالمثل وعلى المسلم بالقيمة فكذلك في حق الشفيع وطريق معرفة القيمة والرجوع فيها إلى من أسلم من أهل الذمة أو من تاب من فسقة المسلمين فإن وقع الاختلاف في ذلك فالقول قول المشتري بمنزلة ما إذا اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن.(14/269)
وإذا اشترى أرضا شراءا فاسدا فزرعها وغرس فيها الشجر فنقضها ذلك ثم جاء الشفيع والبائع فللشفيع أن يأخذها بقيمتها في قياس قول أبي حنيفة لأن الغرس كالبناء فكما لا ينقض بناء المشتري لحق البائع عنده فكذلك لا تقلع أشجاره وإذا انقطع حق البائع في الاسترداد وجب للشفيع فيها الشفعة بقيمتها إلا أنه يطرح عنه من ذلك بقدر ما نقض الأرض من عمل المشتري لأنه في معنى المتلف لجزء منها وقد بينا أن لما يتلفه المشتري حصة من الثمن في حق الشفيع يطرح عنه بقدره كالبناء إذا أحرقه وعند أبي يوسف ومحمد يقلع الشجر كما يهدم البناء ويرد على البائع ولا شفعة فيها وكذلك أن اتخذها مسجدا ثم خاصمه البائع فيها فله القيمة في قياس قول أبي حنيفة لأن تصرف المشتري بتسليط البائع فلا ينقض لحقه وعندهما يرد على البائع كما لو بنى فيها المشتري بناء آخر وذكر هلال في كتاب الوقف أن حق البائع في القيمة عندهم جميعا لأن المسجد يتحرر عن حق العباد ويصير خالصا لله تعالى فهو نظير العتق في العبد الذي اشتراه شراءا فاسدا ثم هذا تصرف من المشتري في عين ما يملكه بالعقد الفاسد ولو تصرف فيه بنقل الملك إلى غيره لم ينقض تصرفه لحق البائع في الاسترداد فإذا تصرف فيه بإبطال الملك أولى فإن باع نصفها بيعا صحيحا يرد النصف الثاني على البائع اعتبارا للبعض بالكل ويأخذ الشفيع النصف الآخر بالثمن الآخر هكذا قال والصحيح أنه يتخير بين أن يأخذ النصف بنصف القيمة بحكم البيع الأول لما انقطع حق البائع في الاسترداد فيه وبين أن يأخذه بالبيع الثاني بالثمن المسمى اعتبارا للبعض بالكل وإذا أخذه بالثمن الآخر يصدق المشتري بفضل نصف الثمن على نصف القيمة فإنه إنما يغرم للبائع نصف القيمة فالفضل حصل له بكسب خبيث فيؤمر بالتصدق به والله أعلم.(14/270)
ص -128- ... باب الشفعة في المريض
قال رحمه الله: مريض باع دارا بألفى درهم وقيمتها ثلاثة الآف درهم ولا مال له غيرها ثم مات وابنة شفيع الدار فلا شفعة للابن فيها لأنه لو باعها من أبيه بهذا الثمن لم يجز وقد بينا أن الشفيع يتقدم على المشتري شرعا في ثبوت الملك له بالسبب الذي يملك به المشتري وقد تعذر ذلك في هذا الموضع يوضحه أما أن يأخذها بالفين كما أخذها المشتري فيكون ذلك وصية من المريض لوارثه خصوصا إذا أخذها من يد البائع ولا وصية لوارث أو يأخذها بثلاثة آلاف وذلك لا يستقيم لما فيه من إثبات ثمن في حق الشفيع ليس ذلك بثابت في حق المشتري فإذا تعذر الوجهان قلنا لا شفعة له أصلا وذكر في كتاب الوصايا أن على قولهما له أن يأخذها بقيمتها إن شاء والأصح ما ذكرنا هنا فإنه نص في الجامع على أنه قولهم جميعا ولو كان الابن هو المشتري للدار من أبيه وأجنبي شفيعها فإن كان اشتراها بمثل القيمة فلا شفعة للشفيع فيها في قول أبي حنيفة وفي قولهما للشفيع فيها الشفعة وهذا بناء على أن بيع المريض من وارثه بمثل قيمته لا يجوز في قول أبي حنيفة ويجوز في قولهما لأنه ليس في تصرفه إبطال حق الورثة عن شيء مما تعلق حقهم به وهو المالية والوارث والأجنبي في مثل هذا التصرف سواء كما لو أعانه ببدنه.(14/271)
يوضحه أنه ممنوع من الوصية للوارث كما أنه ممنوع من الوصية بما زاد على الثلث للأجنبي ثم البيع بمثل القيمة من المريض صحيح في حق الأجنبي في جميع ماله ولا يكون ذلك وصية بشيء فكذلك مع الوارث يوضحه أنه إذا كان عليه دين مستغرق فباع بعض ماله من آخر بمثل قيمته يجوز وهو ممنوع في هذه الحال من الوصية بشيء من ماله ثم لم يجعل بيعه بمثل قيمته وصية منه فكذلك في حق الوارث وأبو حنيفة يقول آثر بعض ورثته بعين من أعيان ماله بقوله وهو محجور عن ذلك لحق سائر الورثة كما لو أوصى بأن يعطي أحد ورثته هذه الدار بنصيبه من الميراث وهذا لأن حق الورثة يتعلق بالعين فيما بينهم كما يتعلق بالمالية وعلى هذا لو أراد بعضهم أن يجعل شيئا لنفسه بنصيبه من الميراث لا يملك ذلك إلا برضا سائر الورثة فكما أنه لو قصد ايثار البعض بشيء من ماله رد عليه قصده فكذلك إذا قصد إيثاره بالعين وهذا لأن للناس في الأعيان أغراضا فقد يفتخر الإنسان بخطه إياه فوق ما يفتخر بكثرة ماله وإنما نفي الشرع وصية المريض لبعض الورثة دفعا للغضاضة عن سائر الورثة وذلك المعنى يتحقق هنا فلهذا يمتنع بيعه منه بمثل قيمته وبأكثر بخلاف الأجنبي فإنه غير ممنوع من التصرف مع الأجنبي فيما يرجع إلى العين وإنما يمنع من أبطال حق الورثة عن ثلثي ماله وليس في البيع بمثل القيمة من الأجنبي إبطال حق الورثة عن شيء من ماله.
والدليل على الفرق إن إقرار المريض للأجنبي بالدين أو بالعين وإقراره باستيفاء الدين منه صحيح في حق الورثة وشيء من ذلك لا يصح مع الوارث ويجعل وصية منه فكذلك البيع بمثل القيمة وهذا بخلاف بيعه من الأجنبي إذا كان عليه دين مستغرق لأن المنع لحق الغرماء(14/272)
ص -129- ... وحقهم في ديونهم لا في عين مال المريض ألا ترى أن للوارث أن يستخلص العين لنفسه بقضاء الدين من مال آخر فإذا لم يكن في البيع بمثل القيمة إبطال حقهم عن شيء مما تعلق به حقهم كان صحيحا بخلاف ما نحن فيه والدليل على الفرق أنه لو كان باع عينا في صحته من أجنبي ثم أقر باستيفاء الثمن منه في مرضه صح إقراره في حق الغرماء وبمثله لو باعه من دار به لم يصح إقراره باستيفاء الثمن منه في مرضه في حق سائر الورثة والفرق ما ذكرنا إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي حنيفة لا شفعة للشفيع لأن البيع فاسد وعند أبي يوسف ومحمد لما صح البيع كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ولو كان باعها من ابنه بألفى درهم وقيمتها ثلاثة آلاف فلا أشكال عند أبي حنيفة أن البيع فاسد ولا شفعة للشفيع وعندهما للشفيع أن يأخذها بثلاثة آلاف درهم أن شاء في رواية كتاب الشفعة لأن الشفيع قائم مقام المشتري وقد كان للابن أن يزيل المحاباة ويأخذها بثلاثة آلاف إن شاء فكذلك للشفيع أن يأخذها بذلك وذكر في موضع آخر أن الشفيع لا يأخذها بالشفعة هنا لأن عندهما بيع المريض من وارثه إنما يجوز باعتبار أنه لاوصية في تصرفه وفي البيع بالمحاباة وصية ألا ترى أنه لو حصل مع أجنبي آخر كان معتبرا من الثلث ولا وصية لوارث فكان البيع فاسدا ولا شفعة في البيع الفاسد وبأن كان المشتري يتمكن من آزالة المفسد فذلك لا يوجب الشفعة للشفيع كما لو اشتراها بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد.(14/273)
وقد روى عن أبي يوسف أن للشفيع أن يأخذها بالقيمة لأنه يتقدم على المشتري شرعا فيجعل كأن البيع من المريض كان منه بهذا الثمن والأصح ما ذهب إليه أبو حنيفة فإن نفس البيع وصية ألا ترى أنه لو أوصى بأن تباع داره من فلان بمثل قيمتها يجب تنفيذ الوصية بعد موته إذا طلب الموصي له وإن الموصى له بالبيع يزاحم سائر أصحاب الوصايا فإذا ثبت أن نفس البيع وصية وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية للوارث قلنا لا يجوز منه البيع أصلا.
وإذا اشترى المريض دارا بألفى درهم وقيمتها ألف درهم وله سوى ذلك ألف درهم ثم مات فالبيع جائز وللشفيع فيها الشفعة لأنه إنما حاباه بقدر الثلث وذلك صحيح منه في حق الأجنبي فيجب للشفيع فيها الشفعة ولو كان باع دارا بقيمتها أو أكثر ووارثه شفيعها فلا شفعة له في قول أبي حنيفة لأن بيعه من الوارث لا يجوز عند أبي حنيفة وكذلك بيعه من الأجنبي لا يكون مثبتا حق الأخذ بالشفعة للوارث وعند أبي يوسف ومحمد للوارث أن يأخذها بالشفعة لأنه لو باعها منه بذلك الثمن جاز البيع فكذلك إذا باعها من أجنبي آخر والوارث شفيعها لأن الشفيع يتقدم على المشتري في تملكها بالسبب الذي باشره المشتري إذا أخذها بالشفعة.
وإن باعها بألفين وقيمتها ثلاثة آلاف درهم وشفيعها أجنبي فله أن يأخذها بالفين لأن المحاباة بقدر الثلث وذلك صحيح منه في حق الأجنبي فإن قيل كيف يأخذها الشفيع بالفين والوصية كانت منه للمشتري دون الشفيع ومن أوصى لإنسان بشيء من ماله لا يجوز تنفيذ الوصية لغير من أوصى له به قلنا هو كذلك في وصية مقصودة فالوصية هنا لم تكن(14/274)
ص -130- ... مقصودة وإنما كانت في ضمن البيع ألا ترى أنها لا تبقى بعد ما بطل البيع وفي حق البيع الشفيع صار مقدما على المشتري شرعا فكذلك فيما هو من متضمنات البيع ولما أوجب البيع له بما سمى من الثمن مع علمه أن الشفيع يتمكن من الأخذ بمثل ما اشترى به المشتري فكأنه أوجب الوصية بالمحاباة للمشتري أن سلم الشفيع له وللشفيع أن يأخذها بالشفعة.
وإن كان للدار شفيعان أحدهما وارث فلا شفعة للوارث لأنه لو لم يكن لها شفيع سواه لم يستحقها بالشفعة في هذا البيع فإذا كان معه شفيع آخر أولي أن لا يستحقها وإذا انعدمت مزاحمته كان للأجنبي أن يأخذ الكل بالشفعة بمنزلة ما لو سلم أحد الشفيعين شفعته وإن باعها بألف درهم وهي تساوي ألفين وليس له مال غيرها قيل للمشتري أن شئت فخذها بثلثي الألفين وإن شئت فدع لأنه حاباه بنصف ماله ولا يمكن تنفيذ المحاباة إلا في مقدار الثلث والمشتري يتمكن من آزالة المانع بأن يلتزم إلى تمام ثلثي الألفين إلا أنه يتخير في ذلك لأنه يلزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها فإن شاء فسخ البيع لاجله ولا شيء له لأن الوصية كانت في ضمن البيع وقد بطل البيع وإن شاء التزم ذلك فيسلم له الوصية بقدر الثلث كما لو كان اشتراها في الابتداء بثلثى الألفين وأي ذلك فعل كان للشفيع فيها الشفعة أما عند إمضاء البيع فلا أشكال وأما عند الرد فلان البيع كان صحيحا موجبا للشفعة حتى إذا ظهر للميت مال آخر فالبيع سالم للمشتري وباعتبار صحة البيع وجبت الشفعة للشفيع ثم الرد من المشتري يعمل في إبطال حقه لا في إبطال حق الشفيع كما لو تفاسخا البيع ولكن الشفيع يأخذها بثلثى الألفين لأنها ما كانت تسلم للمشتري إلا بهذا القدر من الثمن فكذلك الشفيع.(14/275)
وإن باعها بالفين إلى أجل وقيمتها ثلاثة آلاف فالأجل باطل لأن المحاباة بالقدر استغرقت ثلث المال فلا يمكن تنفيذ الوصية بالأجل في شيء ولكن يتخير المشتري بين أن يفسخ البيع أو يؤدي الألفين حالة ليصل إلى الورثة كمال حقهم وأي ذلك فعل فللشفيع أن يأخذها بالشفعة لأنه قائم مقام المشتري في حكم هذا البيع كما في الفصل الأول وهذا أظهر من ذلك فالأجل في الثمن لا يثبت في حق الشفيع وقد بينا أن خيار المشتري لا يمنع وجوب الشفعة للشفيع.
وإن باعها بثلاثة آلاف إلى سنة وقيمتها ألفان قيل للمشتري أن شئت فعجل ألفين وأن شئت فدع في قول أبي يوسف وهو قياس قول أبي حنيفة وقال محمد أن شاء عجل ثلثى قيمتها ويكون الباقي عليه إلى أجل وإن شاء تركه وقد تقدم بيان نظير هذه المسألة في كتاب العتاق وذكرنا أن من أصل محمد أن تأجيل المريض صحيح مطلقا فيما له أن لا يتملكه أصلا كما في الصداق وبدل الصلح عن القصاص وعند أبي يوسف جميع المسمى مملوك بإزاء مال تعلق به حق الورثة فلا يصح تأجيله فيه إلا بقدر الثلث لأن التأجيل بمنزلة الإسقاط من حيث إن الحيلولة تقع بين الورثة وبين المال في الحال بسبب الأجل ولهذا لو رجع شهود التأجيل ضمنوا كما تضمن شهود الأبراء فعلى ذلك الأصل تنبني هذه المسألة وقد قررنا هذا(14/276)
ص -131- ... الكلام فيما أمليناه من شرح الجامع في هذه المسألة بعينها وأما الشفيع فالأجل لا يثبت في حقه ولكنه بالخيار إن شاء عجل المال كله وأخذ الدار كله وإن شاء كف حتى يحل المال وقد بينا هذا في الصحيح ببيع داره بثمن مؤجل أن الأجل لا يثبت في حق الشفيع فهو مثله في حق المريض.
وإذا باع المريض دارا أو حابى فيها ثم برأ من مرضه والشفيع وارثه فإن لم يكن علم بالبيع حتى الأن فله أن يأخذها بالشفعة لأن المرض إذا تعقبه برأ فهو بمنزلة حال الصحة وإن كان قد علم بالبيع وقد بطلت الشفعة حتى بريء من مرضه فلا شفعة له لأن السبب الموجب للشفعة له البيع وقد سكت عن الطلب بعد ما علم بالسبب فتبطل شفعته به وإن لم يكن متمكنا من الأخذ عند ذلك كالجار إذا سكت عن الطلب بعد علمه بالبيع لمكان الشريك ثم سلم الشريك لم يكن له أن يأخذ بالشفعة فهذا مثله والله أعلم بالصواب.
باب تسليم الشفعة
قال رحمه الله: وإذا سلم الشفيع الشفعة بعد وقوع البيع والمشتري حاضر أو غائب فتسليمه جائز لأنه أسقط الحق الواجب له والإسقاط يتم بالمسقط وأنه تصرف منه على نفسه ولا يتعدى تصرفه إلى محل هو حق غيره ولهذا لا يشترط القبول فيه من غيره وكذلك أن ساوم الشفيع المشتري بالدار لأنه ساومه بها ليشتريها منه ابتداءا وذلك دليل الرضا بتقرر ملكه فيها وكذلك لو سأله أن يوليها إياه لأن حاجته إلى ذلك بعد سقوط حقه في الأخذ بالشفعة فالتماسه دليل أسقاط شفعته ودليل الإسقاط كصريحه وكذلك أن قال المشتري للشفيع أنفقت عليها كذا في بنائها وإني أوليكها بذلك وبالثمن فقال نعم فهو تسليم منه لأن قوله نعم في موضع الجواب فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه ومعناه ولنى بذلك.(14/277)
وإذا وكل وكيلا بطلب الشفعة فسلم الوكيل الشفعة أو أقر بأن موكله قد سلم الشفعة فنقول أما عند أبي حنيفة يصح ذلك منه في مجلس القضاء ولا يصح في غير مجلس القضاء وكان أبو يوسف يقول أولا لا يصح ذلك منه في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء وهو قول زفر ثم رجع فقال إقراره على الموكل بالتسليم صحيح في مجلس القضاء ومحمد يقول في إقراره على الموكل بالتسليم بقول أبي حنيفة وقال يجوز تسليم الشفعة في مجلس القضاء ولا يجوز في غير مجلس القضاء ذكر قوله هذا في كتاب الوكالة ولا يحفظ جواب أبي يوسف الآخر فيما إذا أسلم الوكيل الشفعة وقيل ذلك صحيح منه كما يصح إقراره على الموكل بالتسليم.
وأصل المسألة في كتاب الوكالة فإن الوكيل بالخصومة إذا أقر على موكله في القياس لا يجوز إقراره وهو قول زفر وأبي يوسف وفي الاستحسان يجوز إقراره في مجلس القاضي وهو قول أبي حنيفة ومحمد وفي قول أبي يوسف الآخر إقراره صحيح في غير مجلس القاضي وفي مجلس القاضي كإقرار الموكل فالوكيل بطلب الشفعة وكيل الخصومة فإذا أقر(14/278)
ص -132- ... على موكله بالتسليم كان على هذا الخلاف فإما إذا سلم بنفسه فمن أصل أبي حنيفة وأبي يوسف أن من ملك طلب الشفعة والخصومة فيها يصح تسليمة إلا أن الوكيل قائم مقام الموكل في الخصومة ومجلس الخصومة مجلس القاضي فيصح تسليمه في مجلس القاضي عند أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف الوكيل قائم مقام الموكل فيصح منه التسليم في مجلس القاضي وغير مجلس القاضي وعند محمد وزفر لا يصح منه التسليم أصلا لأن ذلك ضد ما فوض إليه فإنه أمر باستيفاء الحق لا بإسقاطه الحق.(14/279)
وأصل هذه المسألة في الأب والوصي إذا سلما شفعة الصبي جاز ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف وليس للصبي أن يطالب بحقه بعد البلوغ لأنهما قاما مقامه في استيفاء حقه والإسقاط ضد الاستيفاء فلا يثبت لهما الولاية في الاسقاط كالإبراء عن الدين والعفو عن القصاص الواجب له وهذا لأن تصرفهما مقيد بالنظر وليس في إسقاط حق الصبي معنى النظر له ولأن حق الأخذ بالشفعة يثبت شرعا لدفع الضر فيهما بالإسقاط كأنهما يلزمانه الضرر وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا تسليم الشفعة ترك الشراء والاب والوصي كما يجوز منهما الشراء على الصبي يجوز ترك الشراء ألا ترى أنه لو أوجب صاحب الدار البيع فيها من الصغير فرده الأب والوصي صح ذلك منهما وبيان الوصف أن الشفيع بالأخذ يتملك العين بالثمن وهذا هو الشراء وتأثيره أن في تسليم الشفعة يبقى أحد العوضين على ملك الصبي وهو الثمن فإن كان فيه إسقاط حقه فهو إسقاط بعوض يعد له فلا يعد ذلك ضررا كبيع ماله بخلاف الإبراء عن الدين وإسقاط القود يوضحه أنه لو أخذها بالشفعة ثم باعها من هذا الرجل بعينه جاز ذلك فكذلك إذا سلمها إليه بل أولى لأنه إذا أخذها ثم باعها منه تتوجه العهدة فيها على الصغير وفي التسليم لا تتوجه عليه العهدة وإذا ثبت هذا قلنا سكوت من يملك التسليم عن الطلب بمنزلة التسليم فإذا سكت الأب والوصي عن طلب الشفعة من الأجنبي فذلك مبطل لحق الصبي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف بمنزلة تسليمها وفي قول محمد وزفر لا يبطل حق الصبي.(14/280)
ولو اشترى الأب للصبي دارا وهو شفيعها فله أن يأخذها بالشفعة عندنا وقال زفر ليس له ذلك وهو بناء على شراء الأب مال الصبي لنفسه وإن كان مكان الأب وصيا لم يملك أخذها لنفسه بالشفعة لأن ذلك بمنزلة الشراء منه والوصي لا يشتري مال اليتيم لنفسه بمثل القيمة ولو اشترى الأب لنفسه دارا والصبي شفيعها فليس للصبي إذا بلغ أن يأخذها بالشفعة لأن الأب متمكن من الأخذ فسكوته يكون مبطلا شفعة الصبي بخلاف ما إذا باع الأب دارا والصبي شفيعها لأن البائع لا يملك الأخذ بالشفعة والسكوت عن الطلب ممن يملك الأخذ يكون مبطلا للشفعة فأما ممن لا يملك الأخذ لا يكون مبطلا.
ولو كان المشتري اشترى الدار بأكثر من قيمتها بما لا يتغابن الناس في مثله والصبي شفيعها فسلم الأب ذلك من أصحابنا من قال يصح التسليم هنا عند محمد وزفر لما فيه من(14/281)
ص -133- ... النظر للصبي والأصح أنه لا يصح التسليم عندهم جميعا لأنه لا يملك الأخذ لكثرة الثمن وسكوته عن الطلب وتسليمه إنما يصح إذا كان مالكا للأخذ فيبقى الصبي على حقه إذا بلغ وتسليم أحد المتعاوضين شفعة صاحبه في دار له خاصة من ميراث جائز لأن الأخذ بالشفعة شراء والمتعاوضان في ذلك كشخص واحد لأن كل واحد منهما في ذلك قائم مقام صاحبه فيصح تسليمة ألا ترى أنه لو أخذ بالشفعة كانت الدار بينهما وكان الثمن عليهما فكما يجعل أخذ أحدهما في الحكم كأحدهما فكذلك التسليم.
ولو كان المضارب هو الشفيع بدار من المضاربة فيها ربح وليس في يده من مال المضاربة غيرها فسلم المضارب الشفعة كان لرب المال أن يأخذها لنفسه وإن سلم رب المال كان للمضارب أن يأخذها لنفسه لأن المضارب لا يأخذها بالشفعة للمضاربة فإنه يكون ذلك استدانة على المضاربة والمضارب لا يملك ذلك فيبقى حق كل واحد منهما في الأخذ لنفسه بحكم الجوار لأن المضارب شريك في دار المضاربة إذا كان فيها ربح وإذا بيعت دار بجنب الدار المشتركة فلكل واحد من الشريكين فيها الشفعة وتسليم أحدهما يصح في حق نفسه دون حق شريكه.
ولو باع المضارب دارا من المضاربة ورب المال شفيعها فلا شفعة له لأن المضارب في بيعها عامل لرب المال ألا ترى أنه لو لحقه في ذلك عهدة رجع على رب المال ولا شفعة لمن وقع البيع له وكذلك لو باعها رب المال وهي من المضاربة وفي يد المضارب دار أخرى من المضاربة وهو شفيعها لم يكن له فيها شفعة لأنه لو أخذها أخذها لرب المال فإن الأصل في مال المضاربة حق رب المال ورب المال بائع لا يملك الأخذ بالشفعة فكذلك لا يأخذ غيره له بالشفعة.(14/282)
ولو باع المضارب دارا من غير المضاربة كان لرب المال أن يأخذها بالشفعة بدار من المضاربة وتكون له خاصة دون المضارب لأن المضارب في بيع داره من غير المضاربة عامل لنفسه لا لرب المال فهو في ذلك كأجنبي آخر وباعتبار دار المضاربة رب المال جار للدار فله أن يأخذها بالشفعة والأخذ بمنزلة الشراء ولو اشتراها كانت له خاصة دون المضاربة ولو باع رب المال دارا له خاصة والمضارب شفيعها بدار من المضاربة فإن كان فيها ربح فله أن يأخذها لنفسه لأنه جار باعتبار شركته في الربح وهو في الأخذ لنفسه غير عامل لرب المال فيكون في ذلك كأجنبي آخر وإن لم يكن فيها ربح لم يأخذها لأنه لو أخذها أخذها للمضاربة ففي مال المضاربة حق رب المال هو الأصل ورب المال هو البائع فكما لا يثبت للبائع حق الاخذ بالشفعة فكذلك لا يأخذ الغير له.
وإذا باع المفاوض دارا له خاصة من ميراث وشريكه شفيعها بدار له خاص من ميراث فلا شفعة له فيها لأنه لو أخذها كانت بينهما بمنزلة ما لو اشتراها وإذا كان بائعها شريكه لو ثبت لواحدمنهما فيها شفعة كانت ثابتة للبائع لأنهما فيما يأخذان بالشفعة كشخص واحد وإذا(14/283)
ص -134- ... وجبت الشفعة للعبد المأذون فسلمها فهو جائز أن كان عليه دين أو لم يكن عليه دين لأن هذا بدل الشراء وهو من صنيع التجار ثم هو إسقاط حق بعوض يعدله فإن الثمن يبقى كسبا له وإن سلمها مولاه جاز أن لم يكن عليه دين لأن العبد لو أخذها تصير مملوكة للمولى وهو من هذا الوجه كالنائب عنه فيصح التسليم من المولى كما يصح من الموكل وإن كان عليه دين لم يجز تسليم المولى عليه لأن العبد في الأخذ عامل لغرمائه للمولى والمولى من كسب عبده المديون كسائر الأجانب ألا ترى أنه بعد الأخذ لو باعها المولى جاز بيعه إذا لم يكن عليه دين ولم يجز بيعه إذا كان على العبد دين فكذلك تسليمه.
وتسليم المكاتب شفعته جائز لأنه منفك الحجر عنه فيما هو من صنيع التجار وقد بينا أن تسليم الشفعة من صنيع التجار كالأخذ بالشفعة وتسليم المرتد شفعته جائز أيضا وذكر في بعض نسخ الأصل إذا مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب فهو باطل في قياس قول أبي حنيفة وهذا لا معنى له لأن الشفعة لا تورث فلا يقوم وارثه مقامه في الآخذ بالشفعة وبهذا الطريق يقول لا يتوقف فيه تسليم الشفعة بخلاف سائر التصرفات لأنه لا فائدة في هذا التوقف أن أسلم فتسليمه صحيح وإن مات فالشفعة لا تورث إلا أن يكون موضوع هذا فيما إذا كان اشترى المرتد دارا فطلبها الشفيع بالشفعة فسلمها إليه فهذا يتوقف منه عند أبي حنيفة بمنزلة بيعه.(14/284)
وإذا اشترى دارا بعبد وسلم الشفيع الشفعة ثم رأى صاحب الدار العبد فلم يرضه ورده وأخذ داره وقد كان دفعها أو لم يدفعها فلا شفعة للشفيع في ذلك لأن الرد بخيار الرؤية فسخ من الأصل ولهذا ينفرد به الراد من غير قضاء ولا رضاء والشفعة تجب بالعقود لا بالفسوخ وما كان وجب له بالعقد فقد أسقطه ولو اشترى دارا لم يرها ثم بيعت دار بجنبها فأخذها بالشفعة لم يسقط به خيار رؤيته في الدار المشتراة بخلاف خيار الشرط لأنه أخذه إياها بالشفعة بمنزلة التصريح بإسقاط خياره والتصريح بإسقاط خيار الشرط صحيح من المشتري وبإسقاط خيار الرؤية باطل قبل أن يراها فكذلك إذا أخذ دار بالشفعة بيعت بجنبها.
وإذا اشترى المضارب دارين بمال المضاربة وهو ألف درهم تساوي كل واحد منهما ألف درهم فبيعت دار إلى جنب أحدهما فلا شفعة للضارب فيها فالشفعة لرب المال لأن كل واحدة منهما مشغولة برأس المال والمضارب شريك في الربح ولا ربح في واحدة منهما فلا يأخذها المضارب بالشفعة وهذا لأن الدور لا تقسم قسمة واحدة لما فيها من التفاوت في المنفعة فتعتبر كل واحدة منهما على الإنفراد ألا ترى أنه لو كان مكان الدارين عبدين لم ينفذ عتق المضارب في واحد منهما ولو كان في إحديهما ربح كان له الشفعة مع رب المال لأنه شريك فيها بحصته من الربح.
وإذا سلم الشفيع الشفعة على أن يعطى نصف الدار بنصف الثمن فهو جائز على ما اشترط لأنه أسقط بعض حقه واستوفى البعض وذلك صحيح عند تراضيهما اعتبارا للبعض(14/285)
ص -135- ... بالكل وإن اشترط بيتا بعينه لنفسه فهذا باطل لجهالة حصة البيت من الثمن ويأخذ الدار كلها أو يدع لأنه بما صنع غير مسلم شفعته بل هو مظهر رغبته فيما يحتاج إليه منها فيكون على شفعته فيها وإذا شهد شاهدان على تسليم الشفعة واختلفا في الوقت والمكان فالشهادة جائزة لأن تسليم الشفعة قول يعاد ويكرر فاختلاف الشاهدين في المكان والزمان لا يوجب اختلافا بينهما في المشهود به وإذا سلم الشفعة في منزل وهو شريك في الطريق على أن يأخذ نصف المنزل بنصف الثمن فذلك جائز لما بينا أنه أسقط بعض حقه واستوفى البعض وذلك جائز بتراضيهما وللجار أن يأخذ النصف الآخر بالشفعة لأن حق الجار كان ثابتا في جميع المنزل إلا أن الشريك في الطريق كان مقدما عليه ففيما أسقط الشريك حقه زال المانع فللجار أن يأخذه كما لو سلم في جميع المنزل.
وإذا اشترى الرجل دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم أقر المشتري أن البيع كان يلجئة لم يكن للشفيع في ذلك شفعة لأن هذا إقرار منه بفساد البيع الأول من الأصل بخلاف الأقالة فإنه يتضمن معنى المبادلة ابتداء وباعتباره تجب الشفعة ألا ترى أنه لو فسخ البيع من الأصل بخيار الرؤية أو الشرط لم يتجدد به حق الشفيع بعد ما سلم الشفعة فإذا أقر بفساد البيع من الأصل أولى وإذا سلم الشفيع الشفعة في هبة بعوض بعد التقابض ثم أقر البائع والمشتري أنها كانت بيعا بذلك العوض لم يكن للشفيع فيها الشفعة لأن الهبة بشرط العوض بعد التقابض بمنزلة البيع في حق الشفعة فكان التسليم صحيحا من الشفيع سواء أقر في البيع أنه كان هبة بعوض أو في الهبة بشرط العوض أنه كان بيعا وإن سلمها في هبة بغير عوض ثم تصادقا أنها كانت بشرط عوض أو كانت بيعا فللشفيع أن يأخذها بالشفعة لأنه لم يوجد منه الرضا بسقوط حقه ولكنه ترك الطلب أو سلم بناء على أن الشفعة لم تجب له فإذا ظهر أنها كانت واجبة له فهو على حقه في الشفعة.(14/286)
وإذا وهب الرجل دارا على عوض بألف درهم فقبض أحد العوضين دون الآخر ثم سلم الشفيع الشفعة فهو باطل حتى إذا قبض العوض الآخر كان له أن يأخذ الدار بالشفعة لأنه أسقط حقه قبل الوجوب فالهبة بشرط العوض إنما تصير كالبيع بعد التقابض وتسليم الشفعة قبل تقرر سبب الوجوب باطل كما لو سلمها قبل البيع.
وإذا وهب الرجل لرجلين دارا على عوض ألف درهم وتقابضوا فذلك باطل في قول أبي حنيفة جائز في قولهما لأن الشيوع في الهبة بشرط العوض كهو في الهبة بغير عوض وقد بينا هذا الخلاف في الهبة من رجلين بغير عوض في كتاب الهبة فكذلك في الهبة بشرط العوض ولو وهب رجلان من رجل دارا على ألف درهم وقبضا منه الألف مقسومة بينهما وسلما إليه الدار جاز ذلك وللشفيع فيها الشفعة لانعدام الشيوع في الدار فالملك فيها واحد وانعدام الشيوع في الألف حين قبض كل واحد منهما نصيبه مقسوما ولو كانت الألف غير مقسومة لم يجز في قول أبي حنيفة لأن الشيوع فيما يحتمل القسمة يمنع صحة التعويض كما يمنع صحة الهبة والألف محتمل للقسمة.(14/287)
ص -136- ... وإذا اشترى الرجل دارين صفقة واحدة وشفيعهما واحد فأراد أخذ إحديهما دون الأخرى فليس له ذلك وكذلك لو كانت أرضين أو قرية وأرضها أو قريتين وأرضيهما وهو شفيع ذلك كله بأرض واحدة أو بأرضين أو بدار واحدة أو بدور فانما له أن يأخذ ذلك كله أو يدع وقال زفر له أن يأخذ أحديهما دون الآخرى والدور المتلازقة وغير المتلازقة في مصر واحد أو مصرين في ذلك سواء بعد أن يكون ذلك صفقة واحدة فزفر يقول يثبت له حق الأخذ في كل واحدة منهما وليس في أخذ إحديهما ضرر على المشتري لأن إحديهما تنفصل عن الآخرى فهو كما لو كان العقد في كل واحدة منهما صفقة علي حدة ولكنا نقول المشترى ملكهما صفقة واحدة وفي أخذ احديهما تفريق الصفقة عليه وكما لا يملك المشتري في حق البائع تفريق الصفقة بقبول العقد في إحديهما دون الآخرى فكذلك لا يملك الشفيع ذلك في حق المشتري بخلاف ما إذا كان العقد في صفقتين وهذا لأن الإنسان قد يشتري دارين ورغبته ومنفعته في إحديهما فإذا أخذ الشفيع تلك دون الآخرى تضرر المشتري باختيار الشفيع والشفيع لا يملك الحاق الضرر بالمشتري فيما يأخذ بالشفعة ولم يذكر في الكتاب أنه إذا كان شفيعا لإحديهما دون الأخرى فكان أبو حنيفة أولا يقول في هذه المسألة له أن يأخذهما جميعا أو يدع لأن الشفعة تثبت له في إحديهما ولو أخذها وحدها تفرقت الصفقة على المشتري فيثبت حقه في الآخرى حكما لدفع الضرر عن المشتري ثم رجع فقال لا يأخذ واحدة منهما لأنه لا يمكن إثبات الشفعة له في إحديهما بدون السبب وفي الآخرى لما فيه من تفريق الصفقة على المشتري ثم رجع فقال يأخذ الذي هو شفيعها خاصة وهو قول أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما لو اشترى عبدا ودارا صفقة واحدة كان للشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة دون العبد وهذا لأن تفرق الصفقة هنا لم يكن باختيار الشفيع بل هو بمعنى حكمي وهو أنه لم يتمكن من إحديهما لانعدام السبب في إحديهما بخلاف ما إذا كان شفيعا لهما(14/288)
جميعا والله أعلم بالصواب.
باب شفعة أهل البغى
قال رحمه الله: الباغي والعادل في استحقاق الشفعة وتسليمها سواء لأن أهل البغي مسلمون وهم من جملة أهل دار الإسلام وقد بينا أن لأهل الذمة الشفعة في دار الإسلام وأنهم في ذلك كالمسلمين فأهل البغي في ذلك أولى إلا أن العادل في عسكر أهل العدل والباغي في عسكر أهل البغي فكان بمنزلة الغائب إن علم فلم يبعث وكيلا بطلت شفعة وإن لم يعلم حتى اصطلحوا فهو على شفعته إذا علم وإذا كان الشفيع في غير المصر الذي فيه الدار المبيعة فجاء إلى هذا المصر فطلب الشفعة وأشهد عليها ولم يقصد البلد الذي فيه البائع والمشتري فهو على شفعته لأنه أتى بما يحق عليه وهو عاجز عن اتباعهما مع أنه لا فائدة له في ذلك لأنه إنما يتمكن من الأخذ في الموضع الذي فيه المبيع وكذلك إن قصد المصر الذي فيه البائع والمشتري فطلب الشفعة وأشهد ولم يقصد المصر الذي فيه الدار فهو على شفعته.
وحاصل الكلام أنه بعد طلب المواثبة عليه أن يأتي بطلب التقرير وذلك بالإشهاد عند(14/289)
ص -137- ... الدار وعند المشتري أو البائع إن كانت الدار في يده وإن كان قد سلمها فقد خرج البائع من الوسط ثم عند اختلاف الأمصار والقرى عليه أن يأتي أقرب الثلاثة منهم فيشهد فإن ترك الأقرب وجاء إلى الأبعد بطلت شفعته كما لو ترك الطلب بعد العلم بالبيع حتى قام عن مجلسه وإذا كانوا في مصر واحد فإن ترك الأقرب وأتى الأبعد فأشهد عنده ففي القياس كذلك تبطل شفعته لأن القليل من الإعراض والكثير في الحكم سواء وفي الاستحسان لا تبطل شفعته لأن المصر في حكم مكان واحد ولهذا لو شرط في السلم التسليم في المصر يكفي وإذا اتخذ المكان حكما فلا معتبر بالأقرب والأبعد في ذلك.
وإذا اشترى رجل من أهل البغي دارا من رجل في عسكره والشفيع في عسكر أهل العدل لا يستطيع أن يدخل في عسكر البغي فلم يطلب بعد العلم بالشراء أو لم يبعث وكيلا فلا شفعة له لأنه كان متمكنا من أن يبعث وكيلا فإن كان لا يقدر على أن يبعث الوكيل أو على أن يدخل فله الشفعة لأنه ما ترك الطلب بعد التمكن منه فهو بمنزلة ترك الطلب قبل أن يعلم بالبيع ألا ترى أنهم لو كانوا في غير عسكر ولا حزب غير أن الشفيع في بلد آخر وبينهما قوم محاربون فلم يقدم وهو يقدر على أن يبعث وكيلا يأخذ الشفعة أبطلت شفعته أرأيت لو كان بينهما نهر مخوف أو أرض مسبعة كنت أجعله على شفعته وقد ترك الطلب بعد ما تمكن من ذلك بنفسه أو بوكيل يبعثه في هذا كله تبطل شفعته بالإعراض عن الطلب والله أعلم بالصواب.
باب الوكالة في الشفعة(14/290)
قال رحمه الله: ويجوز للشفيع أن يوكل بطلب الشفعة والخصومة فيها وكيلا كما يجوز أن يوكل بطلب سائر حقوقه فقد يحتاج إلى التوكيل في ذلك لقلة هدايته في الخصومات أو لكثرة اشتغاله ولا يقبل من وكيله البينة على الوكالة إلا وخصمه معه لأنه يقيم البينة ليقضي له بالوكالة ولا يقضي بينة قامت لا على خصم حاضر وإذا أقر المشتري بشراء الدار وهي في يده وجبت الشفعة للشفيع فيها وخصمه الوكيل ولا أقبل من المشتري بينة أنه اشتراها من صاحبها إذا كان صاحبها غائبا لأن القضاء عليه بالشفعة بإقراره لا يكون قضاء على الغائب بالبيع فإن من في يده عين إذا أقر بحق فيه لغيره قضى عليه بإقراره والوكيل الذي حضر ليس بخصم عن صاحب الدار فالقضاء على الغائب بالبينة لا يجوز إلا بمحضر من الخصم حتى إذا أجرت الدار فأنكر ذلك أبطلت البيع والشفعة وردت الدار عليه لتصادقهم على أن أصل الملك كان له بعد أن يحلف بالله ما باعه إلا أن تقوم عليه بينة بمحضر منه وهذه البينة مقبولة من الشفيع والمشتري جميعا لأن المشتري يثبت عقده بالبينة والشفيع يثبت حقه في الشفعة وإذا طلب وكيل الشفيع له الشفعة فقال المشتري أريد يمين الشفيع ما سلم لي فإنه يقضي عليه بالدار بهذا ويقال له انطلق فاطلب يمين الأمر وعن أبي يوسف قال لا يقضي بها حتى يحضر الشفيع ويحلف وهذه ثلاثة فصول.
أحدها: ما بينا.(14/291)
ص -138- ... والثاني: وكيل صاحب الدين إذا طالب المديون بإيفاء الدين وقال المديون أريد يمين الموكل ماأبرأني فأنه يقضي عليه بالمال ويقال له انطلق فاطلب يمين الطالب.
والثالث: وكيل المشتري إذا أراد الرد بالعيب فقال البائع أريد يمين الموكل ما رضى بالعيب فله ذلك ولا يرد حتى يحضر المشتري فيحلف.
فأبو يوسف يجعل مسألة الشفعة نظير مسألة العيب لأن في فصل الشفعة قضاء بالملك والعقد فإن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء كما أن الرد بالعيب قضاء بفسخ العقد وإعادة المبيع إلى ملك البائع وفي ظاهر الرواية سوى بين الشفعة وقضاء الدين لأن بالتسليم سقط الحق بعد الوجوب ولا ينعدم السبب كما في الإبراء عن الدين بخلاف الرد بالعيب فهناك ينعدم السبب المثبت لحق الرد وهو حق المشتري في المطالبة بتسليم الجزء الفائت يوضح الفرق أن هناك لو فسخ العقد نفذ قضاؤه بالفسخ لقيام السبب وهو العيب فيتضرر به البائع ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه لأنه لا يطالب المشتري باليمين بعد ذلك لخلوه عن الفائدة فإنه وإن نكل لا يعود العقد وفي مسألة قضاء الدين لو أمر المديون بقضاء الدين لا يتضرر بذلك ضررا إبطال حقه في اليمين بل هو على حقه من استحلاف الطالب ومتى نكل رد عليه المال وكذلك في مسألة الشفعة فالمشتري لا يتضرر بالقضاء بالشفعة من حيث إبطال حقه في اليمين بل هو على حقه في استحلاف الشفيع وإذا نكل رد عليه الدار فلهذا لا يتأخر القضاء بالشفعة لأجل يمين الموكل.(14/292)
وإذا قضي القاضي للوكيل بالشفعة فأبى المشتري أن يكتب له كتابا كتب القاضي بقضائه كتابا وأشهد عليه الشهود كما أنه يقضي له بالشفعة وإن كان المشتري ممتنعا من التسليم والانقياد له فكذلك يكتب له حجة بقضائه ويشهد على ذلك نظرا له وإذا كان في سائر الخصومات يعطي القاضي المقضى له سجلا إذا التمس ذلك ليكون حجة له فكذلك في القضاء بالشفعة يعطيه ذلك وإذا أقر المشتري بالشراء وقال ليس لفلان فيها شفعة سألت الوكيل البينة عن الحق الذي وجبت له بالشفعة من شركة أو جوار لأنه لا يتوصل إلى إثبات حق الموكل إلا بإثبات سببه فإذا أقامها قضيت له بالشفعة وذلك بأن يقيم البينة على أن الدار التي إلى جنب الدار المبيعة ملك لموكله فلان فإذا أقام البينة أن الدار التي إلى جنب الدار المبيعة في يد موكله لم أقبل ذلك منه لأن الملك لا يثبت له فيها بهذه البينة فالأيدي تتنوع ولو علم القاضي أنها في يده لم يقض له بالشفعة بذلك فكذلك إذا أثبت اليد بالبينة وأصل هذه المسألة إن المشتري أنكر كون الدار التي في يد الشفيع ملكا له ففي ظاهر الرواية لا يقضي القاضي للشفيع بالشفعة حتى يثبت ملكه بالبينة وعن أبي يوسف أن القول قول الشفيع في ذلك فيقضي له بالشفعة وهو قول زفر لأن طريق معرفة الملك اليد ولهذا تجوز الشهادة بالملك لذي اليد باعتبار يده وكما أن القاضي لا يقضي إلا بعلم فالشاهد لا يجوز أن يشهد إلا بعلم ثم باعتبار ظاهر اليد يجوز للشاهد أن يشهد بالملك فكذلك يجوز للقاضي أن يقضي(14/293)
ص -139- ... بالملك لذي اليد وبقضائه بهذا يظهر استحقاق الشفعة وإذا كان يقضي لذي اليد بالملك إذا حلف مع وجود خضم ينازعه فيها ويدعيها لنفسه فلأن يجوز له القضاء بذلك في موضع ليس هناك خصم يدعيها لنفسه أولى وجه ظاهر الرواية أن الملك باعتبار اليد يثبت من حيث الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير ولهذا جعلنا اليد حجة للمدعي عليه ليدفع بها استحقاق المدعي وحجة في حق الشاهد ليدفع بها استحقاق من ينازعه وحاجة ذي اليد هنا إلى إثبات الاستحقاق فيما في يد الغير والظاهر لا يكفي لذلك فلا بد من أن يثبت الملك بالبينة وهو نظير ما لو طعن المشهود عليه في الشاهد أنه عبد يحتاج إلى إقامة البينة على الحرية لأن ثبوت حريته باعتبار الظاهر فلا يصلح للإلزام وإذا وجد قتيل في دار إنسان فأنكر على عاقلته كون الدار له يحتاج إلى إثبات الملك بالبينة ليقضي بالدية على عاقلته فهذا نظيره.
قال: ولا أقبل في ذلك شهادة ابني الوكيل وأبويه وزوجته ولا شهادة ابني الموكل وأبويه وزوجته ولا شهادة المولى إذا كان الوكيل والموكل عبدا له أو مكاتبا لأنهم متهمون في ذلك فإنهم يشهدون لحق الموكل ويثبتون حق الأخذ للوكيل فلهذا لا تقبل في ذلك شهادة الفريقين وإن أقام البينة أن لفلان نصيبا من الدار ولم يبين كم هو لم أقض له بالشفعة لأن القاضي لا يتمكن من القضاء بالمجهول فالنصيب المشهود به مجهول وما لم يقض له بالملك في الدار أو في بعضها لا يتمكن من القضاء بالشفعة.(14/294)
فإن قال المشتري حلف الوكيل ما يعلم أن صاحبه سلم الشفعة فلا يمين عليه لأن التسليم مدعي على الموكل ولو استحلف الوكيل في ذلك كان بطريق النيابة ولا نيابة في الإيمان وكذلك لو قال حلفه ما سلم هو لأن تسليمه عند غير القاضي باطل فلا معنى للاستحلاف في دعوى تسليم باطل ولو شهد رجلان على الوكيل أنه سلم عند غير القاضي ثم عزل قبل أن يقضي عليه لم يجز ذلك لانهم شهدوا بتسليم باطل فإن تسليم الوكيل الشفعة عند محمد باطل وعند أبي حنيفة لا في مجلس القضاء باطل وما يختص بمجلس القضاء إذا عزل القاضي قبل أن يقضي به فهو باطل وهو ما لو وجد في غير مجلس القاضي في الحكم سواء كرجوع الشاهد عن الشهادة فإنه كما لا يصح في غير مجلس القاضي فكذلك لا يصح إذا وجد في مجلس القاضي وعزل قبل أن يقضي به.
ولو أقر هذا الوكيل في مجلس هذا القاضي أنه سلم عند فلان القاضي ثم عزل أو أنه سلم عند غير القاضي جاز ذلك عليه بمنزلة الرجوع عن الشهادة في قول أبي حنيفة ومحمد لأن هذا يجعل بمنزلة ابتداء التسليم منه فإن كان من أقر بشيء يملك إنشاءه يجعل كالمنشئ لذلك ومراده من ذكر قول محمد مسألة الرجوع لا مسألة تسليم الشفعة فقد بينا أن عند محمد تسليم الوكيل باطل وإذا شهد ابنا الوكيل أو ابنا الموكل أن الوكيل قد سلم الشفعة أجزت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما ولا يجوز شهادته ابنى الموكل على الوكالة ولا(14/295)
ص -140- ... شهادة ابني الوكيل لأن ابني الوكيل يثبتان صدق أبيهما في دعوى الوكالة ويثبتان له حق الأخذ بالشفعة وابني الموكل ينصبان نائبا عن أبيهما ليأخذ الدار بالشفعة وليس للوكيل بطلب شفعة في دار أن يخاصم في غيرها لأن الوكالة تنفذ بالتقييد وقد بينا قيد الوكالة بالدار التي عينها وهو يثبت الوكيل فيه مناب نفسه وقد يرضى الإنسان بكون الغير نائبا عنه في بعض الخصومات دون البعض ولو وكله بالخصومة في كل شفعة تكون له كان ذلك جائزا لأنه عمم التوكيل والوكالة تقبل التعميم وله أن يخاصم في كل شفعة تحدث له كما يخاصم في كل شفعة واجبة له لعموم الوكالة بمنزلة التوكيل بقبض غلاته ولا يخاصم بدين ولا حق سوى الشفعة لتقييد الوكالة بالشفعة إلا في تثبيت الوكيل الحق الذي يطلب به الشفعة لأنه لا يتوكل إلى الخصومة بالشفعة إلا بذلك فتتعدى الوكالة إليه ضرورة.
وإذا وكل رجل رجلا يأخذ له دارا بالشفعة ولم يعلم الثمن فأخذها الوكيل بثمن كثير لا يتغابن الناس فيه بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض فهو للموكل أما إعلام الثمن ليس بشرط في صحة التوكيل بالشراء مع أن ذلك لا بد منه في الشراء فلأن لا يشترط ذلك في التوكيل بالأخذ بالشفعة وهو ليس بشرط في الأخذ بالشفعة أولى ثم الشفيع إنما يأخذ بالثمن الذي يملك المشتري الدار به فالتوكيل بالأخذ بمنزلة التنصيص على ذلك والوكيل ممتثل سواء كان بقضاء أو بغير قضاء قل الثمن أو كثر يوضحه أن الوكيل بالشراء إذا اشترى بأكثر من قيمته إنما لا ينفذ شراؤه على الموكل لتمكن التهمة فمن الجائز أنه اشترى لنفسه فلما علم بغلاء الثمن أراد أن يلزم الأمر وهذا المعنى لا يوجد في حق الوكيل بالأخذ بالشفعة لأنه لا يملك أن يأخذها لنفسه.(14/296)
وإذا وكل رجل غير الشفيع أن يأخذ الدار له بالشفعة فأظهر الشفيع ذلك فليس له أن يأخذها لنفسه وإذا وكل رجل غير الشفيع طلبه لغيره تسليم منه للشفعة كإنما يطلب البيع من الموكل ولو طلب البيع لنفسه كان به مسلما لشفعته فإذا طلبها لغيره أولى ولما كان إظهاره بذلك بمنزلة التسليم للشفعة استوى فيه أن يكون المشتري حاضرا أو غير حاضر فإن أسر ذلك حتى أخذها ثم علم بذلك فإن كان المشتري سلمها إليه بغير حكم فهو جائز وهي للأمر لأنه ظهر أنه كان مسلما شفعته ولكن تسليم المشتري إليه سمحا بغير قضاء بمنزلة البيع المبتدأ فكأنه اشتراها للأمر بعد ما سلم الشفعة وإن كان القاضي قضى بها فإنها ترد على المشتري الأول لأنه لما ظهر أنه كان مسلما شفعته تبين أن القاضي قضي على المشتري الأول بغير سبب فيكون قضاؤه باطلا فيرد الدار عليه.
وإذا كان للدار شفيعان فوكل رجلا واحدا يأخذها لهما فسلم شفعة أحدهما عند القاضي وأخذها كلها للآخر فهو جائز لأن كل واحد منهما أقامه مقام نفسه فتسلمه شفعة أحدهما عند القاضي كتسليم الموكل وبعد ما سقط حق أحدهما يبقى حق الآخر في جميع الدار فإذا أخذها الوكيل له جاز وإن قال عند القاضي قد سلمت شفعة أحدهما ولم يبين أيهما هو. أو(14/297)
ص -141- ... قال إنما أطلب شفعة الآخر لم يكن له ذلك حتى يبين أيهما سلم نصيبه ولأيهما يأخذ أما تسليمه شفعة أحدهما له صحيح لأن تسليم الشفعة إسقاط مبني على التوسع فالجهالة المحصورة في مثله لا تمنع الصحة ولكنه لا يتمكن من أخذها للمجهول منهما لأن بالأخذ ثبت الملك للموكل والقضاء بالملك للمجهول لا يجوز فلهذا لا بد للوكيل من أن يبين لأيهما يأخذ.
وإذا وكل الشفيع المشتري بالأخذ بالشفعة لم يكن له وكيلا في ذلك لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء والإنسان لا يكون وكيلا عن غيره في الشراء من نفسه لما فيه من تضاد أحكام الأحكام ولو وكل البائع بالأخذ بالشفعة جاز ذلك في القياس لأن البائع بتسليم الدار إلى المشتري قد خرج من هذه الخصومة والتحق بأجنبي آخر وفي الاستحسان لا يجوز ذلك لأن البائع لا يأخذ الشفعة لنفسه ومن لا يملك شراء شيء لنفسه لا يملك ذلك لغيره وهذا لأنه توكيل في بعض ما قد تم به وهو البيع.
وإذا وكل الذمي المسلم بطلب الشفعة لم تقبل شهادة أهل الذمة على الوكيل المسلم بتسليم الشفعة لأنهم يشهدون على المسلم بقول منه وهو منكر لذلك وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلم وإن كان الذمي هو الوكيل وقد أجاز الشفيع ما صنع الوكيل قبلت شهادتهما وأبطلت الشفعة لأن الوكيل لو أقر بذلك جاز إقراره فإن الموكل أجاز صنعه على العموم مطلقا فكذلك إذا شهد عليه بذلك أهل الذمة لأن شهادتهم على الذمي في إثبات كلامه حجة.(14/298)
وإذا وكل رجل رجلا بطلب شفعة له فأخذها ثم جاء مدعي يدعي في الدار شيئا فالوكيل ليس بخصم له لأن الوكالة قد انتهت بالأخذ بالشفعة فبقيت الدار في يده أمانة والأمين لا يكون خصما للمدعي ولو وجد بالدار عيبا كان له أن يردها به ولا ينظر في ذلك إلى غيبة الذي وكله لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وما دام المبيع في يد الوكيل بالشراء فهو في حكم الرد بالعيب كالمشتري لنفسه وإذا قال قد وكلتك بطلب الشفعة بكذا درهما وأخذه فإن كان الشراء وقع بذلك أو بأقل فهو وكيل وإن كان بأكثر فليس بوكيل لأن الأخذ بالشفعة يكون بالثمن الذي وقع الشراء به والوكيل بشراء عين بعشرة يملك الشراء بأقل من عشرة ولا يملك الشراء بأكثر بعشرة للموكل فإذا كان الثمن أكثر مما سمى فقد وكله بما لا يقدر عليه وعلى الوكيل القيام به فيصح التوكيل وكذلك إن قال وكلتك بطلبها إن كان فلان اشتراها لأن هذا مقيد فالإنسان قد يتمكن من الخصومة مع شخص ولا يتمكن من الخصومة مع غيره وقد يرغب الشفيع في الأخذ إذا كان المشتري إنسانا بعينه ولا يرغب إذا كان المشتري غيره فلهذا اعتبرنا تقييده.
وإذا كانت الشفعة لورثة منهم الصغير والكبير والحمل الذي لم يولد بعد فهم في الشفعة سواء لأن الجنين من أهل الملك بالإرث فباعتبار الملك يتحقق سبب استحقاق الشفعة(14/299)
ص -142- ... من جوار أو شركة وإذا وضعت الحبلى حملها وقد ثبت نسبه من الميت شاركتهم في الشفعة وإن كان الوضع بعد البيع لأكثر من ستة أشهر لأنا لما حكمنا بثبوت نسبه من الميت فقد حكمنا بالإرث له وبكونه موجودا عند البيع فهو بمنزلة ما لو كان بعض الشركاء في الدار غائبا أخذ الحاضر الدار المبيعة ثم حضر الغائب فله أن يأخذ حصته في ذلك.
وإن اشترى دارا بجارية وتقابضا ثم ولدت الجارية لأقل من ستة أشهر بعد الشراء وادعاه البائع أبطلت البيع والشفعة وإن كتب قد وصيت بها قبل ذلك لأن حصول العلوق من ملك بائعها يثبت له حق استحقاق النسب وذلك ينزل منزلة البينة في إبطال ما يحتمل النقض والقضاء بالشفعة يحتمل النقض كنفس البيع ثم بدعوى النسب يتبين أن البيع كان فاسدا من الأصل لأنه باعها بأم الولد وبالبيع الفاسد لا يستحق الشفعة وقد بينا في الاستحقاق نظيره فكذلك إذا أثبت الولد لأمته.(14/300)
وإذا وكل الرجل رجلا بطلب كل دين له بالخصومة فيه فله أن يتقاضى ما كان له من دين وما حدث له بعد ذلك لأن مطلق التوكيل ينصرف إلى المتعارف وفي العرف يراد جميع ذلك ألا ترى أنه لو وكله بتقاضي كل علة له أو يبتعها دخل فيه ما يحدث وكذلك لو وكله بالخصومة في كل ميراث له وإذا وكله بماله ولم يرد على هذا ففي القياس التوكيل باطل لأن ما وكله به مجهول جهالة مستديمة له والوكيل يعجز عن تحصيل مقصود الموكل في ذلك وفي الاستحسان هذا توكيل بالحفظ لأن هذا القدر متيقن به لأن المال محفوظ عند كل مالك فإذا أطلق المال عند ذكر التوكيل علمنا أن مراده الحفظ فيما وراء ذلك من الخصومة والبيع وتقاضي الدين شك بلا بينة وإن قال تقاضى ديني أو أرسله يتقاضاه أو وكله فهو سواء لأن التوكيل بالتقاضي معبر عن موكله ولا يلحقه في ذلك عهدة كالرسول وله أن يتقاضاه ولا يشتري به شيئا ولا يوكل بقبضه أحدا من غير عياله لأنه تصرف فيه سواء أمره به وله أن يوكل به عبده أو ابنه أو أجيره الذي هو في عياله بمنزلة ما لو قبض بنفسه ثم دفع إلى أحد من هؤلاء وهذا لأنه أمين فيما يقبض كالمودع في الوديعة.(14/301)
وإذا وكله بتقاضي دين له على رجل بعينه وسمى له ما عليه لم يكن له أن يطالبه بما يحدث له عليه لأنه قيد التوكيل بما سمى له وهو تقييد مقيد فقد يأتمن الإنسان غيره على القليل من ماله دون الكثير وإذا وكله بتسليم شفعة له فجاء الوكيل وقد عرف بناء الدار أو احترق نخل الأرض فأخذ بجميع الثمن فلم يرض به الموكل فهو جائز على الموكل لا يستطيع رده لأنه ممتثل أمره فإنه لا يتمكن من الأخذ بعد ما احترق البناء إلا بجميع الثمن فيكون فعله في الأخذ كفعل الموكل ولأنه غير متهم في هذا إذ لا يتمكن من أخذها لنفسه بالشفعة وبه يستدل أبو حنيفة في الوكيل بشراء شيء بعينه إذا اشتراه بأكثر من قيمته وكذلك لو جعله حرا أو وصيا في الخصومة في حياته وطلب الشفعة فهذه عبارات عن الوكالة والمعتبر المعنى دون العبارة فله أن يقبضها وينفذ الثمن ويرجع به على الموكل.(14/302)
ص -143- ... وإذا وكل رجلين بالشفعة فلأحدهما أن يخاصم بمنزلة الوكيلين بالخصومة لأنهما لو حضرا مجلس القاضي لم يتكلم إلا أحدهما فإنهما لو تكلما جميعا لم يفهم القاضي كلامهما ولا يأخذ أحدهما دون الآخر بمنزلة الوكيلين بالشراء وإذا سلم أحدهما الشفعة عند القاضي جاز على الموكل لأن صحة التسليم من الوكيلين بطريق أنه من الخصومة معنى ولهذا اختص بمجلس القاضي وكل واحد منهما وكيل تام في الخصومة كأنه ليس معه غيره وإذا وكله بغيره بطلب الشفعة لم يكن له أن يوكل غيره إلا أن يكون الأمر أجاز له ما صنع بمنزلة ما لو وكله بالشراء وإن كان قال له ذلك فالتوكيل من صنعه فإن وكل وكيلا وقال له مثل ذلك لم يكن للوكيل الثاني أن يوكل غيره لأن الموكل أجاز صنع الوكيل الأول ولم يجز صنع الوكيل الثاني وهذا اللفظ يعتبر في تصحيح التوكيل من الوكيل الأول لأن ذلك من صنعه ولا يعتبر في تنفيذ إجازة الأول ما صنع الوكيل الثاني على الأمر لأن ذلك وراء إجازة ما صنع الوكيل الأول والحاصل أن الإنسان في حق الغير لا يسوي غيره بنفسه ولهذا لا يوكل عند إطلاق التوكيل فلو جوزنا من الأول إجازته ما صنع الثاني كان مسويا له بنفسه في حق الغير وذلك لا يجوز.
وإذا طلب المشتري من الوكيل أن يكف عنه شهرا أو سنة على أنه على خصومته وعلى شفعته ففعل الوكيل ذلك لم تبطل به شفعة صاحبه لأنه لو طلب هذا من الموكل فأجابه إليه لم تبطل به شفعته وهذا لأن التأخير إنما جعله محمد مبطلا للشفعة لدفع الضرر عن المشتري وينعدم ذلك عند التماس المشتري بطلبه وإن مات الوكيل قبل الأجل ولم يعلم صاحبه بموته فهو على شفعته فإذا مضى الأجل وعلم بموته فلم يطلب أو يبعث وكيلا آخر يطلب له فلا شفعة له كما كان الحكم في الابتداء قبل أن يبعث هذا الوكيل ومقدار المدة له في ذلك مقدار المشتري من حيث هو على سير الناس لأنه لا يتمكن من الطلب إلا بذلك وإنما يلزمه الطلب بحسب الإمكان والله أعلم.(14/303)
باب شفعة أهل الكفر
قال رحمه الله: وإذا اشترى الكافر دارا بخمر أو خنزير وشفيعها كافر أخذها بخمر بمثل تلك الخمر وبقيمة الخنزير لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم فالبيع بهما صحيح بينهم ثم الشفيع يأخذ بمثل ما يملك به المشتري صورة ومعنى فيما له مثل فالخمر بهذه الصفة فهي مكيلة أو موزونة وبالمثل معنى فيما لا مثل له من جنسه والخنزير من هذه الصفة فإنه حيوان ليس من ذوات الأمثال فيأخذها بقيمته وإن اشتراها بميتة أو دم فلا شفعة فيها لأنها ليست بمال متقوم في حقهم فالشراء بها يكون باطلا وبالعقد الباطل لا تجب الشفعة وإن اشتراها بخمر وشفيعها مسلم وكافر فهما سواء في الشفعة لأن الأخذ بالشفعة من المعاملات وهم في ذلك يستوون بالمسلمين والمقصود دفع ضرر سوء المجاورة وحاجة الذمي إلى ذلك كحاجة المسلم فيأخذ الذمي نصفها بمثل نصف الخمر والمسلم نصفها بنصف قيمة الخمر(14/304)
ص -144- ... اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأنه يعجز المسلم عين تمليك عن الخمر وقدر الكافر على ذلك فإن أسلم الشفيع الكافر قبل أن يأخذها لم تبطل شفعته لأن الإسلام سبب لتأكد حقه لا لإبطاله ولكن يأخذ بقيمة الخمر لأنه قد عجز عن تمليك عين الخمر بعد إسلامه فيأخذ بالقيمة كما لو كان مسلما عند العقد ألا ترى أن المسلم لو اشترى دارا بكر من رطب فجاء الشفيع بعد ما انقطع الرطب من أيدي الناس فإنه يأخذها بقيمة الرطب بهذا المعنى؟.
وإذا أسلم أحد المتبايعين والخمر غير مقبوضة والدار مقبوضة أو غير مقبوضة انتقض البيع لفوات القبض المستحق بالعقد فالإسلام يمنع قبض الخمر بحكم البيع كما يمنع العقد على الخمر ولكن لا يبطل حق الشفيع في الشفعة لأن وجوب الشفعة بأصل البيع وقد كان صحيحا وبقاؤه ليس بشرط لبقاء حق الشفيع في الشفعة كما لو اشترى دارا بعبد فمات العبد قبل التسليم في الخمر بينه وبين الآخر بسبب إسلامه وذلك انتقض البيع ولم يبطل به حق الشفيع فيأخذها الشفيع بقيمة الخمر إن كان هو مسلما أو كان المأخوذ منه مسلما لتعذر تمليك عين الخمر بينهما وإن كانا كافرين أخذها بمثل تلك الخمر لأن من أسلم من المتعاقدين قد تعذر القبض والتسليم في الخمر بينه وبين الآخر بسبب إسلامه وذلك غير موجود بين الشفيع والمأخوذ منه ولو كانا كافرين.(14/305)
وإذا كان إسلام أحد المتعاقدين بعد قبض الخمر قبل قبض الدار فالبيع بينهما يبقى صحيحا لأن حكم العقد في الخمر ينتهي بالقبض والإسلام لا يمنع قبض الدار فإذا اشترى الدار بيعة أو كنيسة أو ثبت بان ثم حضر الشفيع فله أن يأخذها بالشفعة لأن حقه مقدم على حق المشتري وهو متمكن من بعض ما للمشتري وتصرفه ألا ترى أن المسلم لو كان جعل الدار مسجدا ثم حضر الشفيع كان له أن يأخذها بالشفعة فهذا أولى لأن اتخاذ البيعة معصية ليس فيها معنى الطاعة ولو مات المشتري فبيعت الدار في دينه ثم حضر الشفيع كان له أن يأخذها بالبيع الأول ويبطل البيع الثاني كما لو كان المشتري هو الذي باعها بنفسه ولو كان المشتري للدار بالخمر ذميا فأسلم وارثه بعد موته كان للشفيع أن يأخذها بقيمة الخمر كما لو كان المشتري هو الذي أسلم بنفسه.
وإذا اشترى الذمي من الذمي دارا بخمر وتقابضا ثم صارت خلا وأسلم البائع والمشتري ثم استحق نصف الدار فنقول إن كان المشتري هو الذي أسلم ولم يسلم البائع أو أسلم البائع بعد إسلام المشتري أو أسلما معا بقي النصف المستحق ويأخذ المشتري نصف الخل فقط لأن بالاستحقاق ينتقض العقد من الأصل وخمر المسلم لا يكون مضمونا على الكافر فهو كما لو غصب من مسلم خمرا فتخللت فإنه يأخذ الخل ولا شيء له غيره فأما في النصف الذي لم يستحق المشتري بالخيار لبعض الملك عليه فإن اختار فسخ العقد رجع بنصف الخل لما بينا أن الخمر لا تكون مضمونة له على أحد وهذا إذا كانت الخمر بعينها فإن كانت بغير عينها فلا خيار له في النصف الباقي لأنه لو ردها ردها بغير شيء ولا سبيل له(14/306)
ص -145- ... على الخل لأن العقد ما يتناول هذا بعينه وإنما تناول خمرا في الذمة فعند الفسخ يعود حقه في ذلك والخمر لا يجوز أن يكون دينا للمسلم على آخر فأما إذا كان البائع هو الذي أسلم دون المشتري أو أسلم البائع أولا ثم المشتري فكذلك الجواب عند أبي يوسف فأما على ما رواه زفر وعاقبه عن أبي حنيفة من الفرق بين إسلام الطالب والمطلوب فنقول في النصف المستحق بالخيار إن شاء أخذ نصف الخل وإن شاء ضمن البائع نصف الخمر لأنه يتبين أن البيع في هذا النصف كان باطلا والخمر تكون مضمونة للكافر على المسلم وقد تغير المقبوض في يده حين تخللت فإن شاء رضي بالتغير ويأخذ نصف الخل وإن شاء ضمنه نصف قيمة الخمر وفي النصف الذي لم يستحق يتخير لبعض الملك فإن فسخ العقد وكانت الخمر بعينها تخير بين أن يأخذ بنصف الخل وبين أن يرجع بنصف قيمة الخمر للتغير في ضمان البائع وإن كان الخمر بغير عينها فإذا فسخ العقد رجع بنصف قيمة الخمر لا غير لأن العقد ما يتناول هذا العين وعند الفسخ إنما يرجع بما يتناوله العقد فلهذا يرجع بنصف قيمة الخمر فإن كان البائع قد استهلك الخل ففي المعين له أن يرجع عليه بمثله لأن الخل من ذوات الأمثال وإن لم يقدر على مثله فالرجوع بقيمته وهو على التخريج الذي بينا.
وإذا باع الذمي كنيسة أو بيعة أو بيت نار فالبيع جائز وللشفيع فيها الشفعة لأنهم أعدوا هذه البقعة للمعصية فلا تزول عن ملكهم بذلك وجواز البيع فيها كجوازه في دارهم بخلاف المساجد في حق المسلمين فالمسجد يتجرد عن حقوق العباد ويصير لله تعالى خالصا وهذا لأن صيرورة البقعة لله تعالى يجعلها معدة لطاعة الله تعالى فيها لا للشرك والمعصية.(14/307)
قال: وصاحب الطريق أولى بالشفعة من صاحب مسيل الماء لأن عين الطريق مملوك لصاحبه وصاحب الطريق شريك في حقوق المبيع فأما صاحب المسيل له حق سيل الماء في ملك الغير ولا شيء له من ملك ذلك الموضع والشفعة لا تستحق بمثله كجار السكنى وصاحب المسيل باعتبار ملكه جار لا تصار ملكه بالدار المبيعة والشريك في حقوق المبيع مقدم على الجار وكذلك صاحب العلو والسفل إذا لم يكن طريقه في الدار فكل واحد منهما جار لصاحبه بمنزلة بيتين متجاورين على الأرض وقد تقدم بيان الكلام في استحقاق العلو بالشفعة وصاحب الجذع في حائط من حيطان الدار أو الهوادي بمنزلة الدار لأنه في معنى المستعير بوضع الهوادي على ملك الغير فلا تستحق الشفعة باعتباره وقد بينا الفرق بينه وبين الشريك في أصل الحائط فإن الشريك في أصل الحائط شركته في نفس المبيع فهو أولى من الشريك في الطريق لأن شركته في حقوق المبيع.
وإذا اشترى مسلم من مسلم أرض عشر ولها شفعاء ثلاثة مسلم وذمي وثعلبي فأخذوها جميعا بالشفعة فعلى المسلم العشر في حصته ويضاعف على الثعلبي العشر ويؤخذ من الذمي الخراج في حصته عند أبي حنيفة بمنزلة ما لو اشترى كل واحد منهم مقدار نصيبه ابتداء وهذا على ما بينا على ما تقدم بيانه في كتاب الزكاة أن الذمي إذا اشترى أرض عشر(14/308)
ص -146- ... فإنها تصير خراجية عند أبي حنيفة ولكن هذا إذا انقطع حق المسلمين عنها حتى لو كان البيع فاسدا أو كان شفيعها مسلما فأخذها بالشفعة فهي عشرية كما كانت فأما إذا انقطع حق المسلم عنها فإنها تكون خراجية وفي الكتاب يقول سواء وضع عليها الخراج أو لم يوضع حتى إذا وجد بها عيبا ليس له أن يردها وفي غير هذا الموضع ذكر أنه إن وضع عليها الخراج فليس له أن يردها بالعيب لأن الخراج في الأرض عيب وإنما يتقرر فيها بالوضع فإذا وضع فهذا عيب حدث فيها في يد كما انقطع المشتري إذا لم يوضع عليها الخراج فله أن يردها بالعيب وتكون عشرية كما كانت فأما في هذه الرواية كما انقطع حق المسلم عنها صارت خراجية لأن الأراضي في دار الإسلام إما أن تكون عشرية أو خراجية وهي في ملك الكافر لا تكون عشرية فتكون خراجية سواء وضع عليها الخراج أو لم يوضع فليس له أن يردها ولكن يرجع بنقصان العيب بخلاف ما إذا كان البيع فاسدا أو كان لمسلم فيها شفعة لأنها بقيت عشرية لبقاء حق المسلم فيها والحق كالملك في بعض الفصول.(14/309)
وإذا اشترى الرجل أرضا أو دارا فوجد فيها حائطا واهيا أو جذعا منكسرا أو نخلة منكسرة أو عيبا ينقص الثمن فردها كان الشفيع على شفعته لأن أصل البيع كان صحيحا واستحقاق الشفعة به وقد بينا أن بقاء المبيع ليس بشرط لبقاء حق الشفيع ألا ترى أن البيع قد ينفسخ بأخذ الشفيع وهو ما إذا أخذوها من يد البائع وقال أبو يوسف إذا اشترى الذمي أرض عشر فعليه العشر مضاعفا وإن وجد بها عيبا ردها لأن التضعيف فيها ليس بلازم ألا ترى أنه لو باعها من مسلم عادت إلى عشر واحد بمنزلة الثعلبي يشتري سائمة فالتضعيف لا يكون لازما فيها وإذا كان بالرد يعود إلى عشر واحد كما كان لا يمتنع الرد بالعيب ولهذا قال لو باعها من مسلم عادت إلى عشر واحد بخلاف قول أبي حنيفة في الخراج فإن صفة الخراج في الأرض تلزم على وجه لا يتبدل بتبدل المالك بعد ذلك فإذا باع المرتد دارا فقتل أو مات أو لحق بدار الحرب بطل البيع ولم يلزمه فيه الشفعة في قول أبي حنيفة بخلاف ما إذا اشترى المرتد دارا لأن توقف العقد عنده لحق المرتد فإذا كان المرتد هو البائع فهذا في معنى بيع بشرط الخيار للبائع فلا تجب به الشفعة وإذا كان المرتد هو المشتري فهذا في معنى بيع بشرط الخيار للمشتري فتجب الشفعة فيه للشفيع سواء نقض البيع أو تم.
وإن أسلم المرتد البائع قبل أن يلحق بدار الحرب جاز بيعه وللشفيع فيها الشفعة لأن البيع تم وخياره سقط بإسلامه ولو كان إسلامه بعد ما لحق بدار الحرب وبعد قسمة ماله لم يكن للشفيع فيها شفعة لأن انتقاض البيع تأكد بقضاء القاضي وعند أبي يوسف ومحمد بيعه جائز وللشفيع فيها الشفعة أسلم أو لحق بدار الحرب.
وإذا اشترى المسلم دارا والمرتد شفيعها وقتل في ردته أو مات أو لحق بدار الحرب فلا شفعة فيها له ولا لورثته لأن لحاقه كموته والشفعة لا تورث ولو كانت امرأة مرتدة وجبت لها الشفعة فلحقت بدار الحرب بطلت شفعتها لأن لحاقها كموتها من حيث أنه لا(14/310)
ص -147- ... تستحق نفسها بإلحاق حتى يسترق وإن كانت لا تقبل وإن كانت المرتدة بائعة للدار فللشفيع الشفعة لأن بيعها صحيح لازم أسلمت أو ماتت وإن كان الشفيع مرتدا أو مرتدة فسلم الشفعة جاز أما في المرتدة فظاهر ولا المرتد لا فائدة في توقف تسليم الشفعة لأنه إن أسلم فتسليمه صحيح وإن مات فالشفعة في تورث وإنما يوقف من تصرفاته ما يكون في توقفه فائدة ولو لم يسلم وطلب أخذ الدار بالشفعة لم يقض له القاضي بذلك إلا أن يسلم لأن هذا منه إصرار على الردة إلا أن يقضي له بالشفعة وليس للإمام أن يقره على الردة في شيء من الأوقات ثم القضاء بالشفعة لدفع الضرر عن الشفيع والمرتد يلحق به كل ضرر فلا يشتغل القاضي بدفع الضرر عنه ما لم يسلم فإن أبطل القاضي شفعته ثم أسلم فلا شفعة له لأن الإبطال من القاضي صحيح على وجه الإضرار به وحرمانه الرفق الشرعي فيكون ذلك لتسليمه بنفسه أو أقوى منه وإن وقفه القاضي حتى ينظر ثم أسلم فهو على شفعته لأن القاضي لم يبطل حقه وإنما امتنع من القضاء له بها فإذا أسلم فهو على حقه وهذا إذا كان طلب الشفعة حين علم بالشراء فإن لم يكن طلب إلى أن أسلم فلا شفعة له لتركه طلب المواثبة بعد علمه بالشراء ولو لحق المرتد بدار الحرب ثم بيعت الدار قبل قسمة الميراث ثم قسم ميراثه كان لورثته الشفعة لأن الملك لهم في الميراث من حين لحق المرتد ولهذا يعتبر قيام الوارث في ذلك الوقت حتى أن من مات من ورثته بعد لحاقه يكون نصيبه ميراثا عنه ومن أسلم من أولاده بعد لحاقه لم يكن له ميراث فعرفنا أن الميراث له من حين لحق المرتد والبيع وجد بعد ذلك فالشفعة فيها للوارث بمنزلة التركة المستغرقة بالدين إذا بيعت دار بجنب دار منها ثم سقط الدين كان للوارث فيها الشفعة.(14/311)
وإذا اشترى المرتد دارا من مسلم أو ذمي بخمر فالبيع باطل ولا شفعة فيها لأن المرتد مجبر على العود إلى الإسلام فهو في التصرف في الخمر كالمسلم فإن نفوذ تصرف الكافر في الخمر باعتبار البناء على اعتقاده والمرتد غير مقر على ما اعتقده فلا ينفذ تصرفه فيها والحربي المستأمن في وجوب الشفعة له وعليه في دار الإسلام سواء بمنزلة الذمي لأنه من جملة المعاملات وهو قد التزم حكم المعاملات مدة مقامه في دارنا فيكون بمنزلة الذمي في ذلك فإن اشترى المستأمن من دار الحرب أو لحق بدار الحرب فالشفيع على شفعته متى لحقه بدار الحرب لأن لحاقه بدار الحرب كموته وموت المشتري لا يبطل شفعة الشفيع فإن كان وكل بالدار من يحفظها ويقوم عليها فلا خصومة بينه وبين الشفيع لأنه أمين فيها والأمين لا يكون خصما لمن يدعي حقا في الأمانة كما لا يكون خصما لمن يدعي رقبتها.
وإذا اشترى المسلم في دار الحرب دارا وشفيعها مسلم بدار له ثم أسلم أهل الدار فلا شفعه للشفيع لأن حق الشفعة من أحكام الإسلام وحكم الإسلام لا يجري في دار الحرب ولأن المشتري مستول عليها واستيلاؤه على ملك المسلم في دار الحرب يزيل ملك المسلم فعلى حقه أولى أن يكون مبطلا حق المسلم.(14/312)
ص -148- ... وإذا اشترى المسلم في دار الإسلام دارا وشفيعها حربي مستأمن فلحق بدار الحرب بطلت شفعته لأن لحوقه بدار الحرب كموته كمن هو من أهل دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت وبموته تبطل شفعته علم بالشراء أو لم يعلم ولأن تباين الدارين يقطع العصمة ويبطل من الحقوق المتأكدة ما هو أقوى من الشفعة كالنكاح ثم المسلم المشتري مستول على الدار ولو استولى على ملك الحربي بطل به ملكه فلأن يبطل به حقه أولى.
وإذا اشترى الحربي المستأمن دارا وشفيعها حربي مستأمن فلحقا جميعا بدار الحرب فلا شفعة للشفيع فيها لأن لحاق الشفيع بدار الحرب كموته فيما هو في دار الإسلام وإن كان المشتري مع الشفيع في دار الحرب فإن كان الشفيع مسلما أو ذميا فدخل دار الحرب فهو على شفعته إذا علم لأن المسلم والذمي من أهل دار الإسلام فدخوله دار الحرب غيبة منه وغيبة الشفيع لا تبطل شفعته إذا لم يكن عالما بها فإن دخل وهو يعلم فلم يطلب حتى غاب بطلت شفعته لتركه الطلب بعد ما تمكن منه لا لدخوله دار الحرب وإذا بطلت الشفعة ثم عرض له سفر إلى دار الحرب أو إلى غيرها فهو على شفعته إذا كان على طلبه لأن حقه قد تقرر بالطلب وقد بينا اختلاف الرواية في هذا الفصل فإن كان المشتري أخره مدة معلومة فهو على شفعته عندهم جميعا لأن عند محمد بمضي شهر إنما تبطل شفعته لدفع الضرر عن المشتري فإذا كان هو الذي أخره فقد رضي بهذا الضرر وإن كان الشفيع حربيا مستأمنا فوكل بطلب الشفعة ولحق بدار الحرب فلا شفعة له كما لو مات بعد التوكيل بطلب الشفعة وإن كان الشفيع مسلما أو ذميا فوكل مستأمنا من أهل الحرب ثم دخل الوكيل دار الحرب بطلت وكالته والشفيع على شفعته لأن لحاق الوكيل بدار الحرب كموته وموت الوكيل يبطل الوكالة ولا يبطل شفعة الموكل فكذلك لحاقه والله أعلم.
باب الشفعة في الصلح(14/313)
قال رحمه الله: وإذا ادعى الرجل في دار دعوى من ميراث أو غيره فصالحه بعض أهل الدار على صلح على أن جعل ذلك له خاصة فطلب بقية أهل الدار بالشفعة فإن كان الصلح على إقرار فلهم الشفعة في ذلك لأن المعطى في المال متملك في نصيب المدعي بما أعطى من العوضين فهو كما لو تملكه بالشراء فتجب عليه الشفعة فيه للشركاء وإن كان الصلح على الإنكار فلا شفعة فيه لأن في زعم المعطي للمال أنه رشاه ليدفع عنه أذاه ولم يتملك عليه شيئا من الدار بهذا الصلح وفيما في يده ينبني الحكم على زعمه وهو بالإقدام على الصلح لا يصير مقرى بثبوت الملك للمدعي في المدعي ولو صالحه بغير إقرار سئل المصالح بينة على دعوى الذي صالحه فإن أقامها فالثابت بالبينة كالثابت بالإقرار فيأخذ المعطي للمال نصيب المدعي ويكون للشركاء أن يطلبوا بحصتهم من الشفعة وهذا لأن المعطي للمال يقوم مقام المدعي وقد كان المدعي متمكنا من إثبات نصيبه بالبينة فالمعطي للمال يتمكن من ذلك أيضا ولو صالحه على سكنى دار له أخرى سنين مسماه لم يكن للشفيع في ذلك شفعة لأن المصالح(14/314)
ص -149- ... عليه منفعة والدار المملوكة عوضا عن المنفعة بلفظ الشراء لا تستحق بالشفعة فبلفظ الصلح أولى وهذا لما بينا أن الشفعة لا تجب إلا بمعاوضة مال بمال مطلقا والمنفعة ليست بمال مطلقا.
وإذا ادعى حقا في دار فصالحه منه على دار فللشفيع فيها الشفعة لأن في زعم المدعي أنه يملك هذه الدار عوضا عن ملكه في الدار الأخرى بالصلح والصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي في حقه فللشفيع فيها الشفعة بقيمة حقه في الدار الأخرى والقول فيه قول المصالح الذي أخذ الدار بمنزلة ما إذا اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن فإن القول في ذلك قول المشتري ولو كان ادعي دينا أو وديعة أو خراجة خطأ فصالحه على دار أو حائط من دار فللشفيع فيها الشفعة باعتبار البناء على زعم المدعي وإذا صالح من سكنى دار أوصى له بها أو من خدمة عبد على بيت فلا شفعة فيه لأن أصل المدعي لم يكن مالا فهو كما لو صالح عن القصاص على البيت.
وإذا ادعى على رجل مالا فصالحه على أن يضع جذوعه على حائط أو يكون له موضعها أبدا وسنين معلومة ففي القياس هذا جائز لأن ما وقع عليه الصلح معلوم عينا كان أو منفعة ولكن ترك هذا القياس فقال الصلح باطل ولا شفعة للشفيع فيها لأن المصالح عليه ليس برقبة الحائط ولا منفعة معلومة فالضرر على الحائط يختلف باختلاف الجذوع في الغلظ والدقة في مدة المنفعة لا تستحق بالإجارة فإن استئجار الحائط مدة معلومة أو أبدا لوضع الجذوع عليه لا يجوز فكذلك إذا وقع الصلح عليه أرأيت لو صالحه على أن يضع عليها هوادي أو على أن يضع جذعا له في حائط أكان يكون فيه الشفعة لا شفعة في شيء من ذلك وكذلك لو صالحه على أن يصرف مسيل مائه إلى دار لم يكن لجار الدار أن يأخذ مسيل مائه بالشفعة لأنه ما ملكه بالصلح شيئا من العين وإنما أثبت له حق مسيل الماء في ملكه وذلك لا يستحق بعقد مقصود ولهذا لا يجوز استئجاره فلا يكون للشفيع فيها الشفعة.(14/315)
وفي الكتاب أشار إلى حرف آخر قال ألا ترى أن المسيل لا يحول عن حاله ولو أخذها الشفيع بالشفعة لم يستفد به شيئا لأنه لا يستطيع أن يسيل فيه ما أراده فإنه لا يسيل فيه إلا من حيث وجب أول مرة وقد كان ينبغي في القياس أن يأخذه بالشفعة ولكنا نقول تركنا القياس وأبطلنا الصلح والشفعة لما قلنا.
ولو صالحه على طريق محدود معروف في دار كان للجار الملاصق أن يأخذ ذلك بالشفعة وليس الطريق فيها كمسيل الماء لأن عين الطريق تملك فيكون شريكا بالطريق ولا يكون شريكا بوضع الجذع في الحائط والهوادي ومسيل الماء والقياس في الكل سواء وعلى معنى الاستحسان قد أوضحنا الفرق بينهما.
وإذا ادعى الرجل على الرجل ألف درهم فصالحه منها على دار بعد الإقرار أو الإنكار فسلم الشفيع الشفعة ثم تصادقا على أنه لم يكن عليه شيء فرد الدار عليه بحكم أو بغير حكم،(14/316)
ص -150- ... فلا شفعة فيها لأن ما وجب له من الشفعة بالصلح قد أبطله بالتسليم والرد بهذا التصادق ليس بعقد فلا تتجدد به الشفعة كما لو تصادقا على أن البيع كان تلجئة بينهما أو رهنا بمال وقد سلم الشفيع الشفعة وإن لم يكن الشفيع سلم الشفعة فله أن يأخذها ولا يصدقان على إبطال حقه إلا على قول زفر وهو رواية عن أبي يوسف وأصله فيما لو تصادقا فإن البيع كان تلجئة أو بخيار البائع ففسخ البيع وجه قول زفر أنهما ينكران وجوب الشفعة للشفيع وإنما يستحق الشفيع الشفعة عليهما فإذا أنكراه كان القول في ذلك قولهما كما لو أنكر البيع ووجه ظاهر الرواية أن السبب الموجب للشفعة قد ظهر وثبت حق الشفيع باعتبار الظاهر على وجه لا يملكان إبطاله فتصادقا عما يكون معتبرا في حقهما ولا يكون معتبرا في إبطال حق الشفيع ولو كان باعه بالمال المدعي دارا ثم تصادقا على أنه لم يكن له عليه شيء لم يرد الدار على البائع ولكن المشتري يضمن له الثمن لأن البيع لا يتعلق بالدين المضاف إليه بل بمثله دينا في الذمة بخلاف الصلح إلا أنه كان بيع المقاصة به فإذا تصادقا على أن لا دين لم تقع المقاصة فبقي الثمن للبائع على المشتري والشفيع على شفعته إن لم يكن سلمها وهذا ظاهر لأن البيع لم يبطل بهذا التصادق هنا وفي الأول بطل الصلح في حقهما ثم كان الشفيع هناك على شفعته فهنا أولى والله أعلم.
باب شفعة اللقيط(14/317)
قال رحمه الله: وليس للملتقط أن يطالب بشفعة واجبة للقيط لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وليس له عليه ولاية الشراء إلا أن يكون القاضي جعله قيما له في البيع والشراء فيكون بمنزلة الوصي حينئذ في طلب الشفعة لوكيل اليتيم وتسليمه وإن اشترى الملتقط للقيط دارا بماله فللشفيع فيها الشفعة لأن شراء الملتقط صحيح لنفسه وهو ضامن لما أدى فيه من مال الملتقط فإن أدرك اللقيط فلا سبيل له على الدار إلا أن يكون شفيعها بدار أخرى له فيأخذها بالشفعة حينئذ فإن كان الملتقط اشترى الدار بعين من أعيان مال اللقيط فلا شفعة للشفيع فيها لفساد شرائه والإشهاد على الملتقط في الحائط المائل للقيط باطل لأنه غير متمكن من الهدم وإن أشهد على اللقيط بعد ما أدرك فلم يهدمه حتى سقط وأصاب إنسانا فإن ذلك على بيت المال لأن عاقلته بيت المال كما في جنايته بيده وإن لم يسقط حتى أخذ الشفيع منه الدار بالشفعة ثم سقط فلا ضمان على أحد لأن تمكنه من الهدم قد زال ولم يوجد الإشهاد على الشفيع وإن أخذ الشفيع نصف الدار بأن كان اللقيط معه شفيعا في هذه الدار فحكم الإشهاد يبطل في النصف دون النصف اعتبارا للجزء بالكل والله أعلم.
باب الشفعة في البناء وغيره
قال رحمه الله وإذا اشترى الرجل دارا بألف درهم ثم اختلف الشفيع والمشتري فقال المشتري أحدثت فيها هذا البناء وكذبه الشفيع فالقول قول المشتري لأنكاره الشراء في البناء(14/318)
ص -151- ... ولو أنكر الشراء في أصل الدار كان القول قوله فكذلك في البناء وإن أقاما البينة فالبينة بينة الشفيع لأنه ثبت حقه في البناء بسبب ثبوت حقه فيها وهو الشراء ولأن الشفيع يثبت إقرار المشتري بأنه اشترى البناء وذلك إكذاب منه لشهوده وعلى هذا اختلافهما في شجر الأرض ولكن إنما يقبل قول المشتري إذا كان محتملا حتى إذا قال أحدثت فيها هذه الأشجار أمس لم يصدق على ذلك لأن كل أحد يعلم أنه كاذب فيما يقول وكذلك فيما أشبهه من البناء وغيره وإن قال اشتريتها منذ عشر سنين وأحدثت فيها هذا فالقول قوله لأن خبره محتمل وهو منكر لثبوت حق الشفيع فيما زعم أنه أحدثه ولا قول للبائع في شيء من ذلك لأنه بالتسليم خرج من الوسط والتحق بأجنبي آخر.(14/319)
وإن قال المشتري اشتريت البناء بخمسمائة ثم اشتريت الأرض بعد ذلك بخمسمائة أو قال الشفيع اشتريتهما معا ففي القياس القول للمشتري اشتريت البناء بخمسمائة ثم اشتريت الأرض بعد ذلك بخمسمائة أو قال اشتريت الأرض بغير بناء بخمسمائة ثم اشتريت البناء بعد ذلك فلا شفعة لك في البناء وقال الشفيع اشتريتهما معا ففي القياس القول قول المشتري لأنه ينكر ثبوت حق الشفيع في البناء ألا ترى أنه لو قال وهب لي البناء واشتريت الأرض كان القول في ذلك قوله فكذلك هنا ولكنه استحسن فقال القول قول الشفيع هنا لأن المشتري أقر بالسبب المثبت لحق الشفيع في الأرض والبناء وهو الشراء ثم ادعى تفريق الصفقة ليسقط به حقه في البناء وذلك حادث يدعيه فلا يقبل قوله في ذلك ولكن القول قول الشفيع لأنكاره ولا قول للبائع في شيء من ذلك فأما في الهبة هو لم يقر بالسبب المثبت لحق الشفيع فالسائل الشفيع يدعي ذلك وهو منكر فالقول قوله ويأخذ الشفيع الأرض بغير بناء وإن قال البائع لم أهب لك البناء فالقول قوله مع يمينه ويأخذ بناءه وإن قال قد وهبته لك كانت الهبة جائزة وكذلك لو قال اشتريت النصف ثم النصف وقال الجار اشتريت الكل بعقد واحد فالقول قول الشفيع استحسانا لما قلنا فإن أقاما جميعا البينة فعلى قول أبي يوسف البينة بينة المشتري لأنه هو المحتاج إليها لإثبات تفريق الصفقة وإثبات شيء بخلاف الظاهر وعند محمد البينة بينة الشفيع لأنه يثبت استحقاق جميع الدار ولأنا نجعل كأن الأمرين كانا إذ لا تنافى بينهما.(14/320)
ولو اشترى النصف ثم النصف ثم اشترى الكل أو على عكس ذلك كان للشفيع أن يأخذ الكل بالشفعة فكذلك هنا وإن ادعى المشتري أنه اشترى جميع ذلك معا وادعى الشفيع أنه اشتراه متفرقا فالقول قول المشتري لإنكاره تفريق الصفقة وإنكاره ما ادعى الشفيع من ثبوت حق الأخذ له في النصف دون النصف فإن قال المشتري وهب لي هذا البيت بطريقه إلى باب الدار وباعني ما بقي من الدار بألف درهم وقال الشفيع بل اشتريت الدار كلها بألف درهم فالقول قول المشتري في البيت لإنكاره سبب ثبوت حق الشفيع فيه ويأخذ الشفيع الدار كلها غير البيت وطريقها إن شاء لأن المشتري أقر بوجود السبب الموجب لحق الشفيع(14/321)
ص -152- ... فيما سوى البيت وادعى لنفسه حق التقدم عليه بالشركة في الطريق فلا يثبت ما ادعاه بغير حجة فلهذا كان للشفيع أن يأخذ ما سوى البيت وإن جحد البائع هبة البيت فالقول قوله مع يمينه وإن أقربها فالبيت للموهوب له ولكن لا يصدقان على إبطال شفعة الشفيع في سائر الدار لأن شركته في الطريق سابقا على الشراء لا يظهر بقولهما حق الشفيع إلا أن تقوم البينة على الهبة قبل الشراء فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم فيصير هو أولى بالدار من الجار.
ولو ادعى الشفيع أن المشتري هدم طائفة من بناء الدار وكذبه المشتري فالقول قول المشتري لأن الشفيع يدعي سببا مسقطا لبعض الثمن عنه بعد أخذه الدار والمشتري منكر لذلك والبينة بينة الشفيع لأنه يثبت ببينته سقوط بعض الثمن عنه.
رجل أقام البينة أنه اشترى هذه الدار من فلان بألف درهم وأقام آخر البينة أنه اشترى منه هذا البيت بطريقه بمائة درهم منذ شهر قضيت بالبيت لصاحب الشهر لأن الشراء حادث وإنما يحال بشرائه بحدوثه على أقرب الأوقات مالم يصرح الشهود بسبق التاريخ وقد صرح به شهود صاحب البيت فيقضي له بالبيت لتقدم عقده فيه ثم له الشفعة فيما بقي من الدار لأن شركته في الطريق تثبت قبل ثبوت شراء الآخر فيما بقي من الدار فهو مقدم على الجار ولو لم يوقت شهود صاحب البيت قضيت بالبيت بينهما نصفين لاستواء الدعوى والحجة منهما في البيت وقضيت ببقية الدار للذي أقام البينة على أنه اشترى كلها لأنه أثبت شراءه بالبينة ولا مزاحم له في بقية الدار ولا شفعة لواحد منهما قبل صاحبه لأنه لم يثبت سبق شراء أحدهما وكلا الأمرين ظهرا ولا يعرف تاريخ بينهما فيجعل كأنهما وقعا معا.(14/322)
ولو كانت الداران متلازقتين فأقام رجل البينة أنه اشترى أحدهما منذ شهر بألف درهم وأقام آخر البينة أنه اشترى الآخر منذ شهرين قضيت له بشراء هذه الدار منذ شهرين فمن وقت شهوده جعلت له الشفعة في الدار الأخرى لأنه يثبت جواره سابقا على بيع الدار الأخرى ولو لم يوقتا قضيت لكل واحد منهما بداره ولم أقض بالشفعة له لأنه لما لم يثبت تاريخ في الشرائين يجعل كأنهما وقعا معا وكذلك لو كان أحدهما قبض الدار ولم يقبض الآخر لأن القبض يصلح حجة لدفع الاستحقاق إذا زاحمه غيره فيماهو في يده ولا يكون حجة لإثبات الاستحقاق في الدار الأخرى ولو وقت أحدهما ولم يوقت الآخر قضيت لصاحب الوقت بالشفعة لأن شراء الآخر حادث فإنما يحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات وكذلك لو ادعى هبة مقبوضة موقتة فالهبة مع القبض في إفادة الملك كالشراء.
وإذا كان درب غير نافذ وفيه دور لقوم فباع رجل من أرباب تلك الدور بيتا شارعا في السكة العظمى ولا طريق له في الدار فلأصحاب الدرب أن يأخذوا البيت بالشفعة لشركتهم في الطريق فإن سلموها ثم باع المشتري البيت بعد ذلك فلا شفعة لأهل الدرب فيه لأنه لا طريق للبيت في الدرب فبالبيع الأول قد انقطعت شركة الطريق لصاحب البيت مع أصحاب(14/323)
ص -153- ... الدرب وإنما الشفعة في البيت للجار الملاصق وكذلك لو باع قطعة من الدار بغير طريق لها فلهم الشفعة لقيام شركتهم في الطريق وقت البيع فإن سلموها ثم باع المشتري فلا شفعة فيها إلا لمن يجاورها لانقطاع الشركة في الطريق عند البيع الثاني وإذا كان الدرب غير نافذ وفي أقصاه مسجد خطبة وباب المسجد في الدرب وظهر المسجد وجانبه الآخر إلى الطريق الأعظم فباع رجل من أهل الدرب داره فلا شفعة لأهل الدرب فيها إلا لمن يجاورها بالجوار لأن المسجد بمنزلة الطريق النافذ ألا ترى أن موضع المسجد ليس بمملوك لأهل الدرب وأن أهل الطريق الأعظم لو أرادوا أن يكون لهذا المسجد باب إلى الطريق الأعظم ليدخلوه للصلاة كان لهم ذلك إذا لم يضر ذلك بأهل الدرب ولهم أن يدخلوا في ذلك الدرب ليصلوا في المسجد ثم يخرجوا من جانب الطريق الأعظم فعرفنا أنه بمنزلة الطريق الأعظم النافذ فلا تستحق الشفعة إلا بالجوار وعلى هذا حكم السكك التي في أقصاها الوادي المجتاز.(14/324)
ولو كان حول المسجد دور يحول بينه وبين الطريق الأعظم كان لأهل الدرب الشفعة بالشركة لأن المسجد الآن ليس بطريق نافذ ألا ترى أنه لو رفع بناء المسجد لم يصر الطريق نافذا بخلاف الأول فإنه لو رفع بناء المسجد صار الدرب طريقا نافذا إلى الطريق الأعظم وفي الموضعين جميعا يجعل المسجد بمنزلة فناء ولو كان في أقصى الدرب باب نافذ إلى السكة العظمى كان ذلك طريقا نافذا وإن كان الفناء إلى دور قوم لم تكن سكة نافذة ولو كان موضع المسجد دارا فيها طريق إلى الدرب يخرج من باب آخر منها إلى الطريق الأعظم فإن كان طريقا للناس ليس لأهل الدرب أن يمنعوه فلا شفعة لأهل الدرب إلا بالجواز وإن كان طريقا لأهل الدار خاصة فأهل الدار شفعاء بالشركة في الطريق لأن الطريق الذي لهم خاصة ملك لهم وأن أرادوا سده لم يكن لأحد أن يمنعهم من ذلك وفي الأول الطريق للعامة ولو أراد أهل الدرب سده منعوا من ذلك فلهذا لا يستحقون الشفعة بالشركة في الطريق.(14/325)
وإن كان درب غير نافذ ليس فيه مسجد فاشترى أهل الدرب من رجل من أهله دارا وظهرها إلى الطريق الأعظم فاتخذوها مسجدا وجعلوا بابه في الدرب ولم يجعلوا له إلى الطريق الأعظم بابا أو جعلوا ثم باع رجل من أهل الدرب داره فلأهل الدرب الشفعة بالشركة في الطريق لأن قبل بناء المسجد كان الطريق مملوكا لهم وكانت شركتهم فيها شركة خاصة فباتخاذ المسجد لا ينتقض حقهم وشركتهم في الطريق بخلاف مسجد الخطبة فذلك الموضع لم يكن مملوكا لهم قط بل كان ذلك مصلى لجماعة المسلمين فيمنع ذلك ثبوت الشركة الخاصة لهم في الدرب وهذا لأن صاحب هذا الموضع قبل بناء المسجد كان شريكا في الطريق شركة خاصة فبناء المسجد لايغير ما كان من الحق في الطريق لهذا الموضع بخلاف مسجد الخطبة وإذا اشترى دارا هو شفيعها ولها شفيع آخر غائب ثم إن المشتري تصدق ببيت منها وطريقه على رجل وسلمه إليه ثم باعه ما بقي ثم قدم الشفيع الغائب فطلب الشفعة فإنه تنتقض الصدقة والبيع الآخر ويأخذ نصف جميع الدار بالبيع الأول لأن حق(14/326)
ص -154- ... الشفيع مقدم على حق المشتري فباعتبار حقه يتمكن من نقض تصرف المشتري وحقه في النصف لأن المشتري شفيع معه فإذا أخذ نصف جميع الدار بالشفعة كان النصف الباقي للمشتري الأول بمنزلة دار بين رجلين باع أحدهما منها موضعا مقسوما أو وهب لم يجز ذلك لما في تصرفه من الضرر على الشريك فإنه يحتاج إلى قسمتين وربما يتفرق نصيبه في موضعين وإن لم يخاصم حين باع ما بقي من الدار من المشتري الأول جاز بيعه في نصيبه كما لو باعها صفقة واحدة يجوز البيع في نصيبه وإن باع من غيره فالبيع الأول والثاني باطل لدفع الضرر عن الشريك على ما بينا وشبه هذا بما لو باع جذعا في حائط على أن يقلعه ويسلمه فالبيع باطل لما على البائع من الضرر في التسليم فإن سلمه للمشتري جاز البيع لزوال المانع فكذلك البيع الأول في المشترك لم يجز لدفع الضرر عن الشريك فإذا باع ما بقي من المشتري الأول فقد زال ذلك المعنى.
وإذا كانت دارا لرجل إلى جنبها دار فتصدق بالحائط الذي يلي دار جاره على رجل وسلمه إليه ثم باعه ما بقي من الدار فلا شفعة فيها للجار لأن ملكه غير متصل بالمبيع فالحائط الموهوب حائل بين المبيع وبين ملك الجار ولو اشترى رجل حائطا باصلة كان للشفيع فيه الشفعة لأن ملكه متصل بالمبيع اتصال تأييد فموضع الحائط من الأرض داخل في البيع.(14/327)
وإذا كان منزل لرجل في دار إلى جنبه في تلك الدار منزل آخر لرجل آخر وحائط المنزلين بين الرجلين نصفان وفي الدار منازل سوى هذين المنزلين وللمنازل كلها طريق في الدار إلى باب الدار الأعظم والدار في درب غير نافذ وفي الدرب دور آخر غير هذه الدار فباع رب أحد المنزلين منزله فالشريك في الحائط أحق بالشفعة في جميع المنزل لأن شركته أعم فهو شريك في نفس المبيع لأن حصة البائع من الحائط دخل في البيع وعن زفر أنه قال هو أحق بالشفعة في الحائط سوى ذلك من المنزل هو وأهل الدار سواء وكذلك روى عن أبي يوسف لأن شركته في موضع معين وليس بشريك في جميع المبيع فإنما يترجح هو بالشركة في ذلك الموضع خاصة ألا ترى أنه لو جمع في البيع بين نصيبه من دار ودار أخرى كان شريكه في تلك الدار أحق بالشفعة في تلك الدار خاصة دون الأخرى وجه ظاهر الرواية أن الشركة في الحائط أظهر من الشركة في الطريق وإذا كان بالشركة في الطريق يتقدم الشريك على الجار فبالشركة في الحائط أولى وهذا لأن الحائط من مرافق جميع المنزل بخلاف الدارين المتفرقتين فإن سلم هو الشفعة فالشركاء في الطريق الذي في الدار أحق لشركة بينهم في الدار لأن نصيب البائع من الصحن صار مبيعا ولا شركة لأهل الدرب في صحن الدار فإن سلموا فالشركاء الملاصقون في الطريق الذي قلنا أحق لوجود الشركة بينهم في طريق خاص في درب غير نافذ فإن أسلموا فالجيران الملازقون للدار إلى هذا المنزل فيه شركاء في شفعة هذا المنزل والملاصق منهم لهذا المنزل والملاصق لأقصى الدار سواء لأن ملك كل(14/328)
ص -155- ... واحد منهم متصل بالمبيع فحصة البائع من صحن الدار داخل في البيع فقيام الاتصال في طريق واحد يكفي للجوار فلهذا أستووا في استحقاق الشفعة.
وقال أبو حنيفة في السكة التي ليس لها منفذ باع رجل منهم دارا فهم جميعا شفعاء فيها للشركة بينهم في طريق خاص في الطريق فإن كان زقاقا فيه عطف بدور فكذلك أيضا وإن كان العطف مربعا فباع رجل فيه دارا فالشفعة لأصحاب العطف دون أصحاب السكة لأن موضع العطف المربع لأصحاب العطف خاصة دون أصحاب السكة وفي العطف المدور حقهم جميعا في ذلك الصحن ثابت ولأن المربع من العطف بمنزلة سكة في سكة ولو كانت سكة في سكة فبيعت دار في السكة الأقصى فأصحاب تلك السكة أحق بالشفعة من أصحاب السكة الأولى وإن بيعت دار في السكة الأولى كانت الشفعة لأصحاب السكتين جميعا للشركة الخاصة بينهم في طريق السكة الأولى واختصاص أصحاب السكة الأولى بالطريق في السكة الأقصى وإذا أقر البائع ببيع داره من هذا الرجل وأنه قد قبض منه ثمنها أو لم يقبض الثمن فللشفيع أن يأخذها بالشفعة من البائع لإقراره بثبوت حق الشفيع وإن قال بعتها منه وسلمتها إليه ثم أودعتها فللشفيع أن يأخذها بالشفعة لأنه أقر بثبوت حق الشفيع فإن كان خصما له ثم ادعى بعد ذلك ما يخرجه من الخصومة وهو التسليم ثم الإيداع فلا يقبل قوله فيما ادعى وللشفيع أن يأخذها وإن جحد المشتري الشراء وإن كان أقر أنه باعها من رجل غائب بألف درهم فلا خصومة بين الشفيع وبينه حتى يحضر المشتري لأن الشفيع مصدق فيما أقر له به والدار وإن كانت في يد البائع فهي مملوكة للمشتري فلا يأخذها الشفيع إلا بمحضر منها.(14/329)
رجل ادعى أنه باع من هذه الأرض خمسين جرينا من رجل فلم يدع الشفيع الشفعة ثم خاصم فيها إلى القاضي فأبطل شفعته لتركه الطلب ثم اختصم البائع والمشتري في مقدار المبيع وقضى القاضي بينهما بالبينة ثم ادعى الشفيع شفعته قال إن وقع القضاء على ما كان بلغ الشفيع أو أقل منه فلا شفعة له وإن وقع على أكثر منه فله الشفعة لأن تسليمه الشفعة خمسين جرينا بالثمن الذي بلغه تسليم فيما دون ذلك بطريق الأولى ولا يكون تسليما في أكثر من ذلك فقد يرغب الإنسان في الأخذ عند الكثرة بما لا يرغب فيه عند القلة.
وإذا اشترى قوم أرضا فاقتسموها دورا وتركوا منها سكة ممشى لهم وهي سكة ممدودة غير نافذة فبيعت دار من أقصاها فهم جميعا شركاء في شفعتها للشركة الخاصة بينهم في الطريق الذي رفعوه بينهم ومن كانت داره أسفل من الدار المبيعة أو أعلى في الشفعة هنا سواء لأن شركتهم في الطريق من أول السكة إلى آخرها وليس لبعضهم أن يمنع البعض من الانتفاع بشيء من السكة فلهذا كانوا في الشفعة سواء وكذلك إن كانوا ورثوا الدور عن آبائهم ولا يعرفون كيف كان أصلها فهذا والأول سواء لأنهم شركاء في الفناء وهو الطريق الذي في السكة فيستوون في استحقاق الشفعة قال في الكتاب والشريك في الفناء أحق من الجار فإن كان مراده فناء مملوكا لهم ملكا خاصا فهو ظاهر وإن كان المراد فناء غير مملوك(14/330)
ص -156- ... فمع ذلك هم أخص بالانتفاع بذلك الفناء ولهم أن يمنعوا غيرهم من الانتفاع به فهو بمنزلة الطريق الخاص بينهم في استحقاق الشفعة.
رجل باع دارا فرضي الشفيع ثم جاء يدعي أنه لم يعلم أن حدها إلى موضع كذا أو ظن أنها أبعد أو أقرب ويدعي شفعته حين علم فلا شفعة له علم أو لم يعلم لأنه أسقط حقه بعد الوجوب وجهله بوجوب حقه لا يمنع صحة تسليمه فجهله بمقدار حقه أولى.
رجل أقام البينة أنه اشترى من رجل كل حق هو له في هذه الدار فإن كان المشتري يعلم كم نصيب البائع من الدار جاز البيع علم البائع أو لم يعلم إلا في رواية عن أبي حنيفة قال ما لم يعلما جميعا كم نصيب البائع لا يجوز البيع لأن البيع مشروع للاسترباح وجهل البائع بمقدار نصيبه ربما يفوت مقصوده من البيع كجهل المشتري وفي ظاهر الرواية قال المشتري يتملك بالشراء فلا بد من أن يعلم بمقدار ما يتملكه لأنه يحتاج إلى القبض فإذا لم يكن معلوما له لا يتمكن من القبض وأما البائع إنما يتملك الثمن ويقبض بحكم العقد الثمن ومقداره معلوم له فلا يضر جهله بمقدار نصيبه ألا ترى أن عدم الرؤية من المشتري يثبت الخيار له ومن البائع لا يثبت الخيار له وإن لم يعلم المشتري كم نصيب البائع وعلم البائع ذلك أو لم يعلم فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة جائز في قول أبي يوسف والمشتري بالخيار إذا علم وقول محمد مضطرب فيه ذكره في بعض النسخ مع أبي يوسف وفي البعض مع أبي حنيفة وجه قوله قول أبي يوسف إن انعقاد البيع يكون المبيع مالا متقوما وهما يعلمان أن نصيب البائع من الدار مال متقوم قل ذلك أو كثر فيجوز البيع يوضحه أن قلة نصيبه وكثرته يؤثر في الشفعة من حيث الشفعة والجهل بأوصاف المبيع لا يمنع صحة البيع ولكن يثبت الخيار للمشتري إذا علم به ويجب للشفيع فيه الشفعة وجه قول أبي حنيفة أن هذه جهالة تفضى إلى تمكن المنازعة بينهما أما في الحال إن احتاج المشتري إلى قبض المبيع أو في ثاني الحال إن(14/331)
تقايلا البيع أو رده بالعيب أو أخذه الشفيع.
والجهالة في المعقود عليه إذا كانت تفضى إلى المنازعة تمنع صحة العقد كبيع شاة من القطيع وإذا أخذ الشفيع الدار بالشفعة فله أن يردها بخيار الرؤية وبخيار العيب على من أخذها منه وإن كان المشتري قد رآها ويبرأ من عيوبها عند الشراء لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء والمشتري لم يكن نائبا عن الشفيع فرؤيته ورضاه بالعيب لا تعتبر في حق الشفيع وإذا بنى الشفيع في الدار ثم استحقت من مدة رجع الشفيع بالثمن على من كانت عهدته عليه ولم يرجع بقيمة البناء بخلاف المشتري إذا بنى ثم استحقت الدار ونقض بناؤه فإنه يرجع بقيمة البناء على البائع لأن المشتري مغرور فالبائع أوجب له العقد باختياره وضمن له السلامة من عيب الاستحقاق فإذا ظهر الاستحقاق كان له أن يرجع على البائع بحكم الغرور فأما الشفيع لم يصر مغرورا من جهة أحد لأنه أجبر المأخوذ منه على تسليم الدار إليه فلا يصير مغرورا يوضح الفرق أن البائع بإيجاب البيع مسلط للمشتري على البناء والمأخوذ منه بالشفعة غير(14/332)
ص -157- ... مسلط للشفيع على شيء بل هو مجبر على تسليمها إليه فلا يرجع بقيمة البناء عليه ولكنه يهدم بناءه وينقله إلى حيث أحب.
ونظير هذا الفرق من اشترى جارية واستولدها ثم استحقت فالمشتري يرجع بالثمن وبقيمة الولد على البائع للغرور وبمثله الجارية المأسورة إذا وقعت في سهم رجل فأخذها مولاها بالقيمة واستولدها ثم أقام رجل البينة أنها جاريته دبرها قبل أن تؤسر ردت عليه لأن المدبرة لا تملك بالأحراز فيضمن الواطئ عقرها وقيمة الولد لأنه وطئها بشبهة ثم يرجع على الذي وقع في سهمه بالقيمة التي أعطاها إياها ولا يرجع بالعقر ولا بقيمة الولد لأنه لم يصر مغرورا من جهته فقد كان من وقعت في سهمه مجبرا على تسليمها إليه بالقيمة والغرور ينعدم بهذا ويعوض الذي كانت وقعت في سهمه قيمتها من بيت المال لأن نصيبه من القسمة استحق فيثبت له حق الرجوع على شركائه ويتعذر ذلك عليها لتصرفهم فيعوض له من بيت المال لأنه لو تعذر قسمة شيء بين الغانمين كالدرة النفيسة يجعل ذلك في بيت المال فكذلك إذا لحقه غرم يجعل ذلك على بيت المال لأن الغنم بمقابلة الغرم وإن لم يشهد شهود المدعي بالتدبير لم يكن له على الجارية سبيل لأن المشركين ملكوها بالأحراز وقد ملكها من وقعت في سهمه ثم تسليمها بالقيمة إلى المدعي بمنزلة البيع المبتدأ فكأنه اشتراها واستولدها ثم حضر المأسور منه وفي هذا لا سبيل له عليها بخلاف المدبرة فإنها لا تملك بالأحراز لثبوت حق العتق لها بالتدبير والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء الرابع عشر من كتاب المبسوط
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله كتاب القسمة(14/333)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء الخامس عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(15/1)
ص -3- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب القسمة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء: القسمة من الحقوق اللازمة في المحل المحتمل لها عند طلب بعض الشركاء وجوازها بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: الآية28] والسنة: ما اشتهر من قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين الصحابة رضوان الله عليهم وقسمة المواريث وغير ذلك والناس يعاملون من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإنما تجب بعد طلب بعض الشركاء لأن كل واحد من الشريكين قبل القسمة منتفع بنصيب صاحبه فالطالب للقسمة يسأل القاضي أي يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير من الانتفاع بملكه فيجب على القاضي إجابته إلى ذلك وفي القسمة شيئان المعادلة في المنفعة وتمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر وهي تتنوع نوعين:
أحدهما تمييز محض وهو القسمة في المكيلات والموزونات ولهذا ينفرد بعض الشركاء حتى أن المكيل والموزون من جنس واحد إذا كان مشتركا بين اثنين وأحدهما غائب كان للحاضر أن يتناول من ذلك من مقدار نصيبه وبعد ما اقتسما نصيب كل واحد منهما عين ما كان مملوكا له قبل القسمة ولهذا يبيعه مرابحة على نصف الثمن.
ونوع هو تمييز فيه معنى المبادلة كالقسمة فيما يتفاوت من الثياب والحيوانات فإنما يتميز عند اتحاد الجنس وتقارب المنفعة ولهذا يجبر القاضي عليها عند طلب بعض الشركاء وفيها معنى المبادلة على معنى أن ما يصيب كل واحد منهما مما يصفه كان مملوكا له ونصفه عوض عما أخذه صاحبه من نصيبه ولهذا لا ينفرد به أحد الشريكين ولا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة.(15/2)
إذا عرفنا هذا فنقول: بدأ الكتاب بحديث يسير بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قسم جبريل على ستة وثلاثين سهما جمع ثمانية عشر للمسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وثمانية عشر سهما فيها أرزاق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونوائبه.
واعلم أن خيبر كانت ستة حصون الشق والنطاة والكيبة والسلاليم والغموس والوطيخة إلا أن الأموال والمزارع كانت في ثلاثة حصون منها والنسق والنطاة والكيبة وقد افتتح بعض الحصون منها عنوة وقهرا وبعضها صلحا على ما روي أن كنانة من أبي(15/3)
ص -4- ... الحقيق مع قومه صالح على النزول وذلك معروف في المغازي فما افتتح منها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا فإنهم إنما خرجوا لما وقع في قلوبهم من الرعب.
وقد خص الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنصرة بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه قال صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر". وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله: {وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: الآية6] إلى قوله:{وَلَكِنَّ الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: من الآية6] فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحصة مع الخمس في الشطر وقسم الشطر بين الغانمين وقد فسر ذلك محمد بن إسحاق والكلبي على ما ذكر بعد هذا عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر على ثمانية عشر سهما جميعا وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل مائتي فرس وكان على كل مائة رجل فكان علي رضي الله عنه على مائة وكان عبيد السها على مائة وكان عاصم بن عدي رضي الله عنه على مائة وكان القاسم في النسق والنطاة وكانت النسق ثلاثة عشر سهما والنطاة خمسة أسهم وكانت الكتيبة فيها خمس الله وطعام أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاياه وكان أول سهم خرج من النسق سهم عاصم رضي الله عنه وفيه سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث إلى آخره.(15/4)
فهذا الحديث: يبين معنى الحديث الأول ففي الحديث الأول ذكر الشطرين وأن أصل القسمة كانت على ستة وثلاثين سهما وفي الحديث الآخر ذكر مقدار ما قسم بين الغانمين أنه قسم على ثمانية عشر سهما وفيه دليل على أن للإمام في المغانم قسمين قسمة على العرفاء وأصحاب الرايات وقسمة أخرى على الرؤوس الذين هم تحت كل راية وإنما يفعل ذلك لأن اعتبار المعادلة بهذا الطريق أيسر فإنه لو قسم ابتداء على الرؤوس ربما يتعذر عليه اعتبار المعادلة ثم لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم نفسه سهما ولكن كان سهمه مع سهم بن عاصم بن عدي رضي الله عنه فقيل أنه تواضع بذلك وقيل إنما فعل ذلك لأنه ما كان يساوي اسمه اسم في المزاحمه عند خروج القرعة ولهذا خرج سهم عاصم بن عدي رضي الله عنه أولا لأن فيه سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أولى مما يقوله بعض مشايخنا أن العرافة مذمومة في الجملة فيتحرز من ذلك فإن في الجهاد وقسمة الغنائم العرافة غير مذمومة ألا ترى أنه اختار لذلك الكبار من الصحابة كعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم؟
ثم بظاهر الحديث استدل أبو يوسف ومحمد في أن سهم الفرس ضعف سهم الرجل لأنه قال وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل أربعمائة فرس فعرفنا أنه كان لكل مائة من الرجال سهم وعرفنا أنه كان لكل مائة من الرجال سهم ولكل مائة من الخيل سهمان ولكن أبو حنيفة يقول المراد بالرجال الرجالة قال الله تعالى: { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: من الآية27] والمراد بالخيل الفرسان يقال عارت الخيل قال الله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الاسراء: من الآية64] أي بفرسانك ورجالتك فهذا يتبين أن الرجال كانوا ألفا وستمائة وأنه أعطى(15/5)
ص -5- ... الفارس سهمين والراجل سهما وفيه دليل أنه لا بأس باستعمال القرعة في القسمة فقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قسمة الغنيمة مع نهيه صلوات الله عليه عن القمار فدل أن استعماله ليس من القمار.
وذكر عن مسروق رحمه الله أنه لم يأخذ عن القضاء رزقا ففيه دليل أنه من ابتلي بالقضاء وكان صاحب يسار فالأولى له أن يحتسب ولا يأخذ كفايته من مال بيت المال وإن كان لو أخذ جاز له وبيانه بما روي عن عمر رضي الله عنه فيه قال ما أحب أن يأخذ قاضي المسلمين أجرا ولا الذي على الغنائم ولا الذي على المقاسم ولم يرد به حقيقة الأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز ولا يستوجب الأجر على القضاء وإن شرط ولكن مراده الكفالة التي يأخذها القاضي من بيت المال فالمستحب له عند الاستغناء أن لا يأخذ ذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: من الآية6] وقد بينا الكلام في هذا الفصل فيما أمليناه من شرح أدب القاضي والذي على الغنائم يحفظها والذي على المقاسم من وجد كالقاضي لأنه عامل للمسلمين ولكنه ليس بمنزلة القاضي في الحكم حتى يجوز استئجاره على ذلك إن لم يكن له فيه نصيب وتأويل الحديث إذا كان له نصيب في ذلك فاستئجار أحد الشركاء على العمل في المال المشترك لا يجوز كما لا يجوز استئجار القاضي على القضاء ذكر عن يحيى بن جزار أن عبد الله بن يحيى كان يقسم لعلي رضي الله عنه الدور والأرضين ويأخذ على ذلك الأجر وقد بينا فوائد هذا الحديث في أدب القاضي وجواز الاستئجار لعمل القسمة بخلاف عمل القضاء.
وعن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن فأتى بركاز فأخذ منه الخمس وترك أربعة أخماسه للواجد وأتاه ثلاثة يدعون غلاما كل واحد يقول ابني فأقرع بينهم وقضى بالغلام للذي خرجت قرعته وجعل عليه الدية لصاحبيه قال الراوي فقلت لعامر هل رفع عنه بحصته قال لا أدري.(15/6)
أما حكم الخمس في الركاز فقد بيناه في كتاب الزكاة وأما حكم القرعة فالشافعي رحمه الله يستدل بظاهر هذا الحديث في المصر على القرعة في دعوى النسب عند الاشتباه ولسنا نأخذ بذلك أن فعله هذا كان بعد حرمة القمار أم قبله وأنه عرض ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي به أو لم يرض عليه ثم لعل القضاء له بحجة أقامها وكان استعماله القرعة ليطيب القلوب وإنما رجحه في القضاء لترجيح في حجته من يد أو غيره وقوله فقضى للذي خرجت قرعته مذكور على سبيل التعريف لا لأن الاستحقاق كان بالقرعة كما يقال قضى القاضي لصاحب الطيلسان وما ذكر في آخره من أنه جعل عليه الدية لصاحبيه مشكل لا يتضح فالحي الحر لا يتقوم بالدية وإن كان هذا الغلام مملوكا لهم أو من جارية مشتركة بينهم فإقرار كل واحد منهم أنه ابنه يوجب حرية نصيبه ويسقط حقه في التضمين وكذلك ما أشكل على السائل حيث قال هل رفع عنه بحصته فإن الدية اسم يجمع بدل(15/7)
ص -6- ... النفس وقد كان في ذلك حصة الذي قرع فلا بد من أن يرفع عنه بحصته في الموضع الذي يجب كأحد الشركاء في العبد إذا قبله إلا أن عامر لم يحارف ألم يرد ما سمع فقال لا أدري فكأنه لم يتكلف لذلك لعلمه أن هذا ليس بحكم مأخوذ به فبهذا يتبين ضعف هذا الحديث في استعمال القرعة في النسب.
وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: خاصمت أخي إلى الشعبي في دار صغيرة أريد قسمتها ويأبى ذلك فقال الشعبي رضي الله عنه لو كانت مثل هذه فخط بيده مقدار آجرة قسمتها بينكم فقال وخطها على أربع قطع وفيه دليل على أن القاضي يقسم المشترك عند طلب بعض الشركاء وإن أبى ذلك بعضهم لأن الذي طلب القسمة متظلم من صاحبه أنه يشفع بملكه ولا ينصفه في الانتفاع والذي يتعنت وإنما يبني القاضي قضاءه على التماس المتظلم الطالب للإنصاف دون المتعنت ولهذا لا تجب القسمة فيما لا يحتملها عند طلب بعض الشركاء لأن الطالب هنا متعنة فإنه قبل القسمة ينتفع بنصيبه وبالقسمة تنقطع عنه المنفعة وأما قول الشعبي في مقدار آجرة خطها على الأرض قسمتها بينكم على وجه التمثيل دون التحقيق للمبالغة في دار الذي يأتي القسمة منهما فيما يحتمل لأن مقدار الآجرة يحتمل القسمة وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجدا لله كمفحص قطاه بنى الله له بيتا في الجنة" والمسجد لا يكون كمفحص القطاة وإنما قال ذلك للمبالغة في بيان الميل.(15/8)
وقال أبو حنيفة: رحمه الله أجرة القسام إذا استأجره الشركاء للقسمة بينهم على عدد الرؤوس لا على مقدار الإنصباء وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله على مقدار الإنصباء ويستوي في ذلك قاسم القاضي وغيره وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وجه قولهم أن هذه مؤنة تلحق الشركاء بسبب الملك فيكون بينهم على وجه النفقة على قدر الملك كالنفقة وأجرة الكيال والوزان إن استأجروه ليفعل ذلك فيما هو مشترك بينهم وهذا لأن المقصود هنا بالقسمة أن يتوصل كل واحد منهم إلى الانتفاع بنصيبه ومنفعة نصيب صاحب الكبير أكبر من منفعة نصيب صاحب القليل أو لأن الغرم مقابل بالغنم ثم الغنم بين الشركاء على قدر الملك يعني الثمار والأولاد فكذلك الغرم عليهم بقدر الملك ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن عمله لهم سواء وإنما يستحق الأجر بذلك فيكون الأجر عليهم بالتسوية كما إذا استوت الإنصباء.
وبيان الوصف أن القسام لا يستحق الأجر بالمساحة ومد الإطناب والمشي على الحدود فإنه لو استعان في ذلك بأرباب الملك استوجب كمال الأجر إذا قسم بنفسه فعرفنا أنه لا يستوجب الأجر بالقسمة وهي تمييز نصيب كل واحد منهم ولا تفاوت بينهم في ذلك فكما يتميز نصيب صاحب الكبير بعمله عن نصيب صاحب القليل يتميز نصيب صاحب القليل عن نصيب صاحب الكبير وربما يكون عمله في نصيب صاحب القليل أكبر والحساب لا يدق إذا استوت الانصباء وإنما يدق عند تفاوت الانصباء وتزداد دقته بقلة بعض الانصباء فلعل تمييز(15/9)
ص -7- ... نصيب صاحب القليل أسوأ من تمييز نصيب الكبير ولكن لا يعتبر ذلك لأن التمييز حصل بعمل واحد وهما في ذلك العمل سواء بخلاف الزوائد فإنها تتولد من الملك فإنما تتولد بقدر الملك وبخلاف النفقة فإنها لإبقاء الملك وحاجة الكبير إلى ذلك أكثر من حاجة صاحب القليل ولا معنى لما قال أن منفعة صاحب الكثير هنا أكثر لأن ذلك لكثرة نصيبه لا للعمل الذي استوجب الأجر به فأما أجر الكيال والوزان فقد قال بعض مشايخنا هو على الخلاف فإن المكيل والموزون يقسم بذلك والكيال والوزان بمنزلة القسام والأصح أن أبا حنيفة رضي الله عنه يفرق بينهما فنقول هنا إنما لا يستوجب الأجر بعمله في الكيل والوزن ألا ترى أنه لو استعان في ذلك بالشركاء لم يستوجب الأجر وعمله في ذلك بالشركاء لم يستوجب الأجر وعمله في ذلك لصاحب الكثير أكثر فكل عاقل يعرف أن كيل مائة قفيز يكون أكثر من كيل عشرة أقفزة فلهذا كانت الأجرة عليهما بقدر الملك بخلاف القسام فذكر أن الأولى أن يجعل لقاسم الأرضين رزقا من بيت المال حتى لا يأخذ من الناس شيئا وإن لم يجعل رزقا له فقسم بالأجر فهو جائز لأن القسمة ليست كعمل القضاء فالقضاء فرض هو عبادة والقاضي في ذلك نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقسمة ليست من ذلك في شيء ولكنها تتصل بالقضاء لأن تمام انقطاع المنازعة يكون بالقسمة فمن هذا الوجه القسام نائب عن القاضي فالأولى أن يجعل كفايته في مال بيت المال ومن حيث إن عمله ليس من القضاء في شيء يجوز له أخذ الأجر على ذلك والقسام بمنزلة الكاتب للقاضي في ذلك وقد قررنا هذا في أدب القاضي.(15/10)
وكذلك ما ذكر بعده من حديث شريح رحمه الله وما لي لا أرتزق استوفي منهم وأوفيهم أصبر لهم نفسي في المجلس وأعدل بينهم في القضاء فقد بينا أن شريحا رحمه الله كان يأخذ كفايته من بيت المال على ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرزقه مائة درهم على القضاء فزاده علي رضي الله عنه وذلك لكثرة عياله حتى جعل له في كل شهر خمسمائة درهم ولعل عاتبه بعض أصدقائه على أخذ الأجر وقال له احتسب فقال شريح في جوابه ما قال ومراده أني فرغت نفسي عن أشغالي لعمل المسلمين فآخذ كفايتي من مال المسلمين وكأنه بهذا الكلام أشار إلى الاستدلال بما جعل الله تعالى من النصيب في الصدقات للعامين عليها فإنهم لما فرغوا أنفسهم لعمل الفقراء استحقوا الكفاية في مال الفقراء.
وذكر عن محمد بن إسحاق والكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر أقرع بين نسائه قالت عائشة رضي الله عنها فاصابتني القرعة في السفرة التي أصابني فيها ما أصابني تريد به حديث الإفك واعلم بأن المرأة لا حق لها في القسم عند سفر الزوج فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسافر بواحدة منهن وأن يسافر بمن شاء منهن من غير قرعة ولكنه كان يقرع بينهن تطييبا لقلوبهن فاستعمال القرعة في مثل هذا الموضع جائز عند العلماء أجمع رحمهم الله وبهذا الحديث قلنا إذا تزوج أربع نسوة فله أن يقرع بينهن لابدائه بالقسم لأن له أن يبدأ بمن شاء منهن فيقرع بينهن تطييبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه.(15/11)
ص -8- ... وإنما أورد الحديث للحكم المذكور بعده أنه لا بأس للقسام أن يستعجل القرعة في القسمة بين الشركاء قاسم القاضي وغيره في ذلك سواء وهو استحسان وفي القياس هذا لا يستقيم لأنه في معنى القمار فإنه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة والقمار حرام ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمال القرعة في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق ثم هذا في معنى الاستقسام بالإزلام الذي كان بعبادة أهل الجاهلية وقد حرم الله تعالى ذلك ونص على ذلك أنه رجس وفسق ولكنا تركنا بالسنة والتعامل الظاهر فيه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ثم هذا ليس في معنى القمار ففي القمار أصل الاستحقاق يتعلق بما يستعمل فيه وفي هذا الموضع أصل الاستحقاق بكل واحد منهم لا يتعلق بخروج القرعة ثم القاسم لو قال عدلت أنا في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت هذا الجانب كان مستقيما إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه وذلك جائز ألا ترى أن يونس عليه السلام في مثل هذا استعمل هذا القرعة مع أصحاب السفينة كما قال صلى الله عليه وسلم ل الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] وهذا لأنه علم أنه هو المقصود ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما ينسب إلى مالا يليق بالأنبياء عليهم السلام فاستعمل القرعة لذلك وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم عليها السلام إلى نفسه وقد كان علم أنه أحق بها منهم لأن خالتها كانت تحته ولكن استعمل القرعة تطييبا لقلوبهم. قال الله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: من الآية44](15/12)
ثم إن كان القاضي هو الذي يقسم بالقرعة أو نائبه فليس لبعض الشركاء أن يأتي ذلك بعد خروج بعض السهام كما لا يلتفت إلى إباء بعض الشركاء قبل خروج القرعة وإن كان القاسم يقسم بينهم بالتراضي فرجع بعضهم بعد خروج بعض السهام كان له ذلك إلا إذا خرجت السهام كلها إلا واحدا لأن التمييز هنا يعتمد التراضي بينهم فلكل واحد منهم أن يرجع قبل أن يتم وبخروج بعض السهام لا يتم فكان هذا كالرجوع عن الإيجاب قبل قول المشتري فأما إذا خرج جميع السهام إلا واحدا فقد تمت القسمة لأن نصيب ذلك الواحد تعين خرج أو لم يخرج فلا يملك بعضهم الرجوع بعد تمام القسمة.
دار بين ورثة اقتسموها وفضلوا بعضا على بعض بفضل قيمة البناء على بعض بفضل قيمة البناء والموضع فهو جائز لأنه يعتبر في القسمة المعادلة في المالية والمنفعة ولا يتأتى ذلك في المساواة في الزرع والبناء يكون في جانب دون جانب وبعض العرصة تكون أفضل قيمة من البعض وأكثر منفعة فإن مقدم الدار يرغب فيه ما لا يرغب في مؤخره وفي اعتبار هذه المعادلة لا بد من تفضيل البعض على البعض في المساحة وإن اقتسموا الأرض مساحة والبناء والقيمة قيمة بقيمة عدل فهو جائز عند التراضي لا يشكل وكذلك إذا قضى القاضي به لأن المعادلة في الأرض باعتبار المساحة تتسر وقد يتعذر ذلك في البناء لما بين الأبنية من التفاوت العظيم في القيمة فقسمة البناء بالتقديم تكون أعدل وإذا جاز قسمة الكل باعتبار القيمة فقسمة البعض كذلك وإن كان(15/13)
ص -9- ... البناء حين اقتسموا الأرض غير معروف القسمة فهذا في القياس لا يكون لأن البناء والأرض تتناولهما قسمة واحدة وإذا لم تعرف قيمة البناء فقد تعذر تصحيح القسمة في البناء للجهالة فلا تصح القسمة في الأرض أيضا كما هو الأصل في العقد الواحد إذا فسد في بعض المعقود عليه فسد في الكل ولكنا استحسنا وجوزنا هذا لمعنيين:
أحدهما: أنهم ميزوا البناء عن الأرض في هذه القسمة حين خالفوا بينهما في طريق القسمة فاعتبروا في الأرض المعادلة في المساحة وفي البناء المعادلة في القيمة فصار بمنزلة أرضين يقسم كل واحدة منهما قسمة على حدة وفي ذلك تصح القسمة في أحديهما قبل ظهور المساحة في الأخرى فكذلك هنا تجوز القسمة في الأرض قبل أن يظهر قيمة البناء.
والثاني:أن حكم القسمة في الأرض لا يتم بالمساحة ولكن يتوقف تمام القسمة فيها على معرفة قيمة البناء وقسمتها بالقيمة لا تتم القسمة إلا بعد ظهور المعادلة في الكل ومعرفة كل واحد من الشركاء نصيبه وإنما يعتبر حال تمام العقد وإذا كان يتم في المعلوم لم تضرهم الجهالة في الابتداء كما لو اشترى أحد الثياب الثلاثة على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء ويسمى لكل واحد ثمنا.(15/14)
وإذا كانت الدار ميراثا بين قوم حضور كبار تصادقوا عند القاضي عليها وأرادوا القسمة بها فإن فعلوا ذلك عن تراضي منهم لم يمنعهم القاضي من ذلك لأن هذا تصرف منهم فيما بقي في أيديهم بطريق مشروع ولو تصرفوا في ذلك ببيع أو هبة لم يمنعوا منه فكذلك بالقسمة وإن سألوا القاضي أن يقسمها بينهم فإن أبا حنيفة قال القاضي لا يقسم العقار بينهم بإقرارهم حتى تقوم البينة على أصل الميراث وقال أبو يوسف ومحمد يقسمها بينهم ويشهد أنه قسمها بإقرارهم وقضى بذلك عليهم دون غيرهم لأن اليد فيها لهم ومن في يده شيء فقوله مقبول فيه ما لم يحضر خصم ينازعه في ذلك وليس هنا خصم ينازعهم فلا حاجة لهم إلى إقامة البينة لإثبات ملكهم فيها وإذا كان الملك ثابتا لهم بقولهم إنما سألوا القاضي أن يقسم بينهم ملكهم فعليه أن يجيبهم إلى ذلك كما لو زعموا أن الدار مملوكة لهم ولم يذكروا ميراثا ولا غيره وسألوه أن يقسمها بينهم قسمهم القاضي بطلبهم وأشهدوا أنه قضى بذلك عليهم دون غيرهم نظرا منه لغائب عسى يحضر فيدعي لنفسه فيها حقا فكذلك هنا والدليل عليه أنه لو كانت في أيديهم عروض أو منقول سوى العقار فأقروا أنها ميراث بينهم وطلبوا قسمتها قسمها القاضي بإقرارهم وأشهد على أنه قسمها بإقرارهم لاعتبار يدهم فكذلك في العقار لأن اليد تثبت على العقار كما تثبت على المنقول وكذلك لو كان في أيديهم دار فأقروا أنها دارهم اشتروها من فلان الغائب وسألوا القاضي قسمتها أجابهم القاضي إلى ذلك بهذا الطريق فكذلك في الميراث إذ لا فرق بينهما لأنهم في الموضعين أقروا بأصل الملك لغيرهم ثم أخبروا بانتقال الملك إليهم بسبب محتمل مشروع فإذا جاز له أن يعتمد القسمة على قولهم فكذلك في الشراء وكذلك في الميراث ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان: أحدهما(15/15)
ص -10- ... على قولهم في أن قضاء القاضي هنا يتناول الميت ويصير هو مقضيا عليه بقسمة القاضي وقولهم ليس بحجة عليه فلا بد لهم من إقامة البينة ليثبت بها حجة القضاء على الميت وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن التركة قبل القسمة مبقاة على ملك الميت بدليل أن حقه يثبت في الزوائد التي تحدث حتى يقضي منه ديونه وينفذ وصاياه وبالقسمة ينقطع حق الميت عن التركة حتى لا يثبت حقه فيما يحدث بعد ذلك من الزوائد فكان فيه قضاء على الميت يقطع حقه.
والثاني: أن القاضي يثبت له الولاية على الميت في تركته فيما يرجع إلى النظر وينفذ تصرفه إليه إذا كان فيه نظر للميت فبم يخبرون القاضي بثبوت ولايته على الميت ليلزم الميت قضاؤه فيما يرجع إلى النظر وذلك أمر وراء ما في أيديهم فلا يكون قولهم في ذلك حجة فيكلفهم إقامة البينة على ذلك وتقبل هذه البينة من غير خصم لأنها تقوم لإثبات ولاية النظر للقاضي في حق من هو عاجز عن النظر لنفسه وهذا بخلاف ما إذا اقتسموا بأنفسهم لأن فعلهم لا يلزم الميت شيئا وبخلاف العروض لأن معنى النظر للميت هناك في القسمة من وجهين:
أحدهما: أن العروض يخشى عليها النوى والتلف وفي القسمة تحصين وحفظا لها فأما العقار محصنة بنفسها لا يخشى عليها التلف ففي القسمة قضاء على الميت يقطع حقه عنها.
والثاني: أن في العروض ما يأخذه كل واحد منهم بعد القسمة يصير مضمونا عليه بالقبض في حق غيرهم ففي جعل ذلك مضمونا عليهم معنى النظر للميت وذلك لا يوجد في العقار فإنها لا تصير مضمونة على من أثبت يده فيها عند أبي حنيفة رحمه الله وهذا بخلاف ما زعموا أنها مملوكة لهم لأن القضاء بالقسمة هناك لا يقتصر عليهم ولا يتعدى إلى غيرهم إذ لم يثبت فيها أصل الملك لغيرهم.(15/16)
فأما في الشراء فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير الأصول أن القاضي لا يقسمها بينهم وسوى بين الشراء والميراث ولكن على هذا الطريق نسلم كما هو ظاهر الرواية فنقول قضاؤه بالقسمة في المشتري لا يتضمن قطع حق البائع لأن بعد البيع والتسليم لا يبقى المبيع على حكم ملك البائع بخلاف الميراث ولأنه لا يثبت للقاضي الولاية على الغائب بالتصرف في أمواله فهم ما أخبروا القاضي بثبوت ولايته على البائع الغائب بخلاف الميراث على ما قررنا والطريق الآخر لأبي حنيفة أنه لا يتمكن من القضاء بالقسمة حتى يقضي بموت المورث ويتعلق بموته أحكام غير مقصودة على ما في أيديهم من وقوع التفريق بينه وبين زوجته وعتق أمهات أولاده ومدبراته وحلول آجاله وقولهم ليس بحجة في شيء من ذلك فلا يشتغل القاضي بالقسمة حتى تقوم البينة عنده على الموت وأصل الميراث بخلاف العروض فالقسمة فيها للتحصين لا لتحصيل الملك ألا ترى أن القسمة في العروض تجري(15/17)
ص -11- ... بين المودعين للحفظ فلا يتضمن القضاء بموته فأما في العقار القسمة لتحصيل الملك ولا يكون ذلك إلا بعد القضاء بموته وعلى هذا الطريق يأخذ في مسألة الشراء برواية النوادر لأنه لا يتمكن من القضاء بالقسمة حتى يقضي بالبيع وزوال ملك البائع وقولهم ليس بحجة عليه ولئن سلمنا فنقول الحكم المتعلق بالبيع هناك مقصود على ما في أيديهم فيستقيم أن يجعل ذلك نائبا في حقهم بإقرارهم بخلاف الميراث.
وإذا كان في الورثة صغير أو كبير غائب والدار في أيدي الكبار الحضور فكذلك الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله لا يقسمها القاضي بينهم حتى تقوم البينة على أصول المواريث لأنها لما لم يقسم في الفصل الأول مع أن الورثة كلهم كبار حضور ففي هذا الفصل أولى أن لا يقسم لأن في قسمته قضاء على الغائب والصغير بقولهم وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقسمها بينهم ويعزل حق الغائب والصغير ويشهد أنه قسمها بإقرار الحضور الكبار وأن الغائب والصغير على حجتهما كما في الفصل الأول لأن الدار كلها في يد الكبار الحضور وليس في هذه القسمة قضاء على الصغير والغائب بإخراج شيء من يدهما بل فيها نظر لهما بظهور نصيبهما مما في يد الغير فإنه بالقسمة يعزل نصيب الغائب والصغير وكان هذا محض نظر في حق الغائب والصغير وللقاضي هذه الولاية.(15/18)
وإن كان شيء من العقار في يد الصغير أو الغائب لم أقسمها بإقرار الحضور حتى تقوم البينة على أصل الميراث لأن في هذه القسمة قضاء على الغائب والصغير بإخراج شيء مما كان في يده عن يده وكذلك إن كان الكبير أودع ما كان في يده منها رجلا حين غاب لأن المودع أمين فلا يكون خصما في ذلك ولا يجوز للقاضي أن يقضي على الغائب بحضور أمينه فلهذا لا يقسم حتى تقوم البينة فإذا قامت البينة قبلها القاضي لأنها تقوم لإثبات ولاية القاضي في تركة الميت ولأن الورثة يخلفون الميت في الميراث فينتصبون خصما عنه وينصب بعضهم خصما عن بعض فقل ما تخلو تركة عن هذا فإن الورثة يكثرون وقل ما يحضرون فلو لم يقبل القاضي البينة ولم يقسمها لمكان غائب أو صغير أدى إلى الضرر والضرر مدفوع.
وكذلك إذا حضر القاضي اثنان من الورثة والعقار في أيديهما وأقاما البينة على أصل الميراث فإن القاضي يقسمها بينهم ويوكل بنصيب الغائب والصغير من يحفظه لأنه يجعل أحد الحاضرين خصما عن الميت وعن الصغير والغائب والآخر خصما عن نفسه فيتمكن من قبول هذه البينة والعمل بها بحضور مدع ومدعى عليه وإذا كان الحاضر واحدا لم يقسمها القاضي ولم يقبل منه البينة لأنه ليس معه خصم فإن الحاضر لو كان خصما عن نفسه فليس هنا خصما عن الميت وعن الغائب وإن كان هذا الحاضر خصما عنهما فليس هنا من يخاصم عن نفسه ليقيم البينة عليه بذلك بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين من الورثة والثاني أن الحاضر إذا كان واحدا فهو غير متظلم في طلب القسمة ولا طالب للإنصاف إذ ليس معه من ينتفع بملكه حتى(15/19)
ص -12- ... يقول للقاضي: أقسمها بيننا لكيلا ينتفع بملكي غيري فإذا حضر اثنان فكل واحد منهما يطلب القسمة ليسأل القاضي أن يمنع صاحبه من الانتفاع بنصيبه وذلك مستقيم وإن كان فيهم خصم صغير جعل له القاضي وصيا لأن للقاضي ولاية النظر للصبي في نصيب الوصي ووصي الصغير قائم مقام الصغير فكأنه بالغ حاضر فتقبل البينة حينئذ ويأمر بالقسمة باعتبار أنه يجعل أحدهما مدعيا والآخر مدعى عليه وأحدهما خصما عن نفسه والآخر عن الميت والغائب.
وإن كان العقار شراء بينهم ومنهم غائب لم أقسمها بينهم وإن أقاموا البينة على الشراء حتى يحضر الغائب لأن في الميراث إنما قسمها عند حضور جماعة منهم لتعذر اشتراط حضورهم عند القسمة بطريق العادة وهذا لا يوجد في الشراء فقد كانوا حاضرين عند الشراء فتيسر اشتراط حضورهم عند القسمة أيضا ولأن الحاضر من المسيرين لا ينتصب خصما عن الغائب لأن النائب بالشراء لكل واحد منهم ملك جديد بسبب باشره في نصيبه ولا يجوز القضاء على الغائب بالبينة إذا لم يكن عنه خصم حاضر فأما في الميراث لا يثبت للورثة ملك متجدد بسبب حادث وإنما ينسب إليهم ما كان من الملك للمورث بطريق الخلافة ولهذا يثبت لهم حق الرد بالعيب على بائع المورث ويصح إقالتهم معه فيستقيم أن يجعل بعضهم خصما عن البعض في ذلك لاتحاد السبب في حقهم وهو الخلافة عن الميت.
وإذا كانت الدار ميراثا وفيها وصية بالثلث وبعض الورثة غائب وبعضهم شاهد فأراد الموصى له بالثلث القسمة وأقام البينة على المواريث والوصية فإن الدار تقسم على ذلك لأن من حضر من الورثة ينتصب خصما عن الميت. وعن سائر الورثة فتقبل بينة الموصى له بذلك عليهم وإذا قبلت بينته قسمت الدار بينهم على ذلك.(15/20)
ولو أن بيتا في دار بين رجلين أراد أحدهما قسمته وامتنع الآخر وهو صغير لا ينتفع واحد منهما بنصيبه إذا قسم لم يقسمه القاضي بينهما لأن الطالب للقسمة بينهما متعنت فإن قبل القسمة يتمكن كل واحد منهما من الانتفاع بنصيبه وبالقسمة يفوت ذلك فالطالب منهما إنما يقصد التعنت والإضرار بشريكه فلا يجيبه القاضي إلى ذلك وكذلك لا يقسم الحائط والحمام بين رجلين لأن في قسمته ضررا والمقصود بالقسمة اتصال منفعة الملك إلى كل واحد من الشركاء وفي الحائط والحمام تفوت المنفعة بالقسمة لأن كل واحد منهما لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة كما كان ينتفع قبل القسمة فلا يقسمه القاضي بينهم لأنه لا يشتغل لما لا يفيد ولا بما فيه إضرار ولو اقتسموا بينهم بالتراضي لم يمنعهم من ذلك لأنهم لو أقدموا على إتلاف الملك لم يمنعهم من ذلك في الحكم فكذلك إذا تراضوا القسمة فيما بينهم فإن كانت دار بين رجلين ولأحدهما فيها بعض قليل لا ينتفع به إذا قسم فأراد صاحب الكثير القسمة قسمها بينهم وإن أبى ذلك صاحب القليل عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله لا يقسمها وكذلك إن كان سائر الشركاء لا ينتفعون بانصبائهم إلا هذا الواحد الطالب للقسمة فإنه يقسمها بينهم وإن كان الطالب صاحب القليل لم يقسمها إذا كان هو لا ينتفع بنصيبه بعد(15/21)
ص -13- ... القسمة وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله لا يقسمها عند إباء بعضهم إلا إذا كان كل واحد منهم ينتفع بنصيبه بعد القسمة لأن المقصود بالقسمة تحصيل المنفعة لا تفويتها والمعتبر في القسمة المعادلة بين الشركاء في المنفعة فإذا كان بعضهم لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة فهذه قسمة تقع على ضرر والقاضي لا يجبر الشركاء على مثله كما لو كان الطالب من لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة ولنا أن الطالب للقسمة يطلب الإنصاف من القاضي ولا يتعنت لأنه يطلب منه أن يخصه بالانتفاع بملكه ويمنع غيره من الانتفاع بملكه وهذا منه طلب للأصناف فعلى القاضي أن يجيبه إلى ذلك بخلاف ما إذا كان الطالب للقسمة من لا ينتفع بنصيبه لأنه متعنت في طلب القسمة والقاضي يجيب المتعنت بالرد.
يوضحه أن بعد القسمة وإن تعذر على صاحب القليل الانتفاع بنصيبه فذلك لقلة نصيبه لا لمعنى من جهة صاحب الأكبر وذلك لا يعتبر في حق صاحب الكبير فيصير هذا في حقه وما إذا كان كل واحد منهما ينتفع بنصيبه بعد القسمة سواء والحاكم في المختصر قال إذا كان الضرر على أحدهما دون الآخر قسمتها أيهما طلب القسمة وهذا غير صحيح والصحيح أنه إنما يقسم إذا طلب ذلك صاحب الكبير خاصة ومنهم من صحح ما ذكره الحاكم رحمه الله وقال صاحب القليل رضي بالضرر حين طلب القسمة وصاحب الكبير منتفع بالقسمة فيقسمه القاضي بينهم لهذا ولكن الأول أصح لأن رضاه بالتزام الضرر لا يلزم القاضي شيئا وإنما الملزم طلبه الإنصاف من القاضي واتصاله إلى منفعة ملكه وذلك لا يوجد عند طلب صاحب القليل.
ألا ترى أن كل واحد منهما إذا كان بحيث لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة وطلبا جميعا القسمة من القاضي لم يقسمها القاضي بينهما فكذلك إذا كان الطالب من لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة والرجال والنساء والحر والمملوك وأهل الإسلام وأهل الذمة في القسمة سواء لأنها من حقوق الملك والمقصود التوصل بها إلى منفعة الملك وهم في ذلك سواء.(15/22)
وإذا اقتسم الرجلان دارا ورفعا بينهما طريقا فهو جائز لأنهما قسما بعض المشترك وبقيا شركتهما في البعض وهو موضع الطريق فيجوز ذلك اعتبارا للبعض بالكل ولأن المقصود بالقسمة أن ينتفع كل واحد منهما بنصيبه وإنما يتم ذلك إذا رفعا طريقا بينهما وما يرجع إلى تتميم المقصود بالقسمة لا يكون مانعا صحتها وإن كان نصيب أحدهما أكثر من نصيب الآخر ينبغي أن يبين ذلك في كتاب القسمة ويذكر كيف الطريق بينهما لأنه بقي في موضع الطريق ما كان لهما من الشركة في جميع الدار وقد كانت شركتهما فيها على التفاوت فإنما يحصل التوثق أن يبين ذلك في كتاب القسمة لأنهما إذا لم يبينا ذلك فربما يدعي صاحب الأقل المساواة بينهما في رقبة الطريق ويحتج على ذلك بأنه مساو في استعماله بالتطرق فيه وإنما يكتب الكتاب بينهما للتوثق فينبغي أن يكتب على وجه يحصل به معنى التوثق لهما.
وإذا كانت الدار بين رجلين وفيها صفة فيها بيت وباب البيت في الصفة ومسيل ماء ظهر(15/23)
ص -14- ... البيت على ظهر الصفة فاقتسما فأصاب الصفة أحدهما وقطعه من الساحة ولم يذكر طريقا ولا مسيل ماء وصاحب البيت يقدر أن يفتح بابه فيما أصابه من الساحة ويسيل ماءه في ذلك فأراد أن يمر في الصفة على حاله ويسيل ماءه على ما كان فليس له ذلك سواء اشترط كل واحد منهما أن له ما أصابه بكل حق له أو لم يشترط ذلك والقسمة في هذا بخلاف البيع فإنه لو باع البيت وذكر في البيع الحقوق والمرافق دخل الطريق ومسيل الماء وإن لم يذكر الحقوق والفرق أن المقصود بالبيع إيجاب الملك وقصد المشتري أن يتمكن من الانتفاع وذلك يتم بالطريق والمسيل لا أن ذلك خارج من المحدود فلا يدخل في البيع بمطلق التسمية للبيت إلا بذكر الحقوق والمرافق. فالمقصود بالقسمة تمييز أحد الملكين من الآخر وأن يختص كل واحد منهما بالانتفاع بنصيبه على وجه لا يشاركه الآخر فيه وإنما يتم هذا المقصود إذا لم يدخل الطريق والمسيل لتمييز نصيب أحدهما عن الآخر من كل وجه فلهذا لا يدخل مع ذكر الحقوق والمرافق.(15/24)
توضيح الفرق أن المقصود بالبيع الاسترباح وذلك باعتبار المالية والمالية تختلف بدخول الطريق والمسيل في البيع فعند ذكر الحقوق والمرافق عرفنا أنهما قصدا ذلك فأما في القسمة المقصود التميز دون الاسترباح فبذكر الحقوق والمرافق لا يتبين أنهما لم يقصدا التمييز في أن لا يبقى لأحدهما في نصيب الآخر طريق ميسل ماء ولو لم يكن له مفتتح للطريق ولا مسيل ماء فإنه ذكر في كتاب القسمة أن لكل واحد منهما ما أصابه بكل حق له جازت القسمة وكان طريقه في الصفة ومسيل مائة على طريق سطحه كما كان قبل القسمة وإن لم يذكر الحقوق والمرافق فالقسمة فاسدة بخلاف البيع فإنه يكون صحيحا وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لأن المقصود بالبيع ملك العين وهذا المقصود يتم للمشتري وإن كان يتعذر عليه الانتفاع لعدم الطريق والمسيل له كمن اشترى مهرا صغيرا أو أرضا سبخة فإنه يجوز وإن كان لا ينتفع بالمشتري وهذا لأنه ترك النظر لنفسه حين لم يذكر الحقوق والمرافق ليدخل الطريق والمسيل فلا يشتغل بالنظر له فأما في القسمة المقصودة اتصال كل واحد منهما إلى الانتفاع بنصيبه فإذا لم يكن له مفتتحا إلى الطريق ولا مسيل ماء فهذه قسمة وقعت على ضرر فلا يجوز إلا أن يذكر الحقوق والمرافق فيستدل بذلك على أنهما قصد إدخال الطريق والمسيل لتصحيح القسمة لعلمها أن القسمة لا تصح بدونهما في هذا الموضع بخلاف ما سبق توضيحه أن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة وإذا لم يكن له طريقا ولا مسيل ماء لا يحصل معنى المعادلة في المنفعة فلا تصح القسمة كما لو استأجر مهرا صغيرا أو أرضا سبخة للزراعة لم يجز لفوات ما هو المقصود وهو المنفعة.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يدخل الطريق والمسيل وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتصحيح القسمة كما إذا استأجر أرضا دخل الشرب والطريق وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتحصيل المنفعة.(15/25)
ص -15- ... قلنا: هناك موضع الشرب والطريق ليس مما تتناوله الإجارة ولكن يتوصل به إلى الانتفاع بالمستأجر والأجير إنما يستوجب الأجرة إذا تمكن المستأجر من الانتفاع ففي إدخال الشرب توفير المنفعة عليهما وأما هنا موضع الطريق والمسيل داخل في القسمة وموجب القسمة اختصاص كل واحد منهما بما هو نصيبه فلو أثبتنا لأحدهما حقا في نصيب الآخر تضرر به الآخر ولا يجوز إلحاق الضرر به بدون رضاه وإنما دليل الرضا اشتراطه الحقوق والمرافق. فلهذا لا يدخل الطريق والمسيل بدون ذكره الحقوق المرافق.
ولو رفعا طريقا بينهما وكان على الطريق ظلة وكان طريق أحدهما على تلك الظلة وهو يستطيع أن يتخذ طريقا آخر فأراد صاحبه أن يمنعه من المرور على ظهر الظلة لم يكن له ذلك لأن أصل الطريق مشترك بينهما وكما أن أسفله ممر لهما فكذلك أعلاه فهو لا يريد بهذا أن يحدث لنفسه حقا في نصيب شريكه وإنما يريد أن يستوفي حقه فلا يمنع من ذلك بخلاف ما تقدم فهناك إنما يريد اتخاذ طريق ومسيل لنفسه في ملك خص به صاحبه وليس له ذلك.(15/26)
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: في العلو الذي لا سفل له وفي السفل الذي لا علو له يحسب في القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف رحمه الله يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف ثم ينظر كم جملة ذرع كل واحد منهما فيطرح من ذلك النصف وقال محمد رحمه الله يقسم ذلك على القيمة قيمة العلو أو قيمة السفل وقيل إن أبا حنيفة رحمه الله أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو وأبو يوسف رحمه الله أجاب بناء على ما شاهده من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى ومحمد شاهد اختلاف العادات في البلدان فقال إنما يقسم على القيمة وقيل بل هو بناء على أصل آخر وهو أن عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لصاحب السفل منفعتان منفعة السكنى ومنفعة البناء فإنه لو أراد أن يحفر في سفله سردابا لم يكن لصاحب العلو منعه من ذلك فلصاحب العلو منفعة واحدة وهي منفعه السكنى فإنه لو أراد أن يبني على علوه علوا آخر كان لصاحب السفل منعة من ذلك والمعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة فلهذا جعل بمقابلة ذراع من السفل ذراعين من العلو.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: لصاحب العلو أن يبني على علوه إذا كان ذلك لا يضر بالسفل كما أن لصاحب السفل أن يحفر سردابا في السفل إذا كان لا يضر بصاحب العلو فاستويا في المنفعة فيحصل ذراع من السفل بذراع من العلو وحجته لإثبات هذا الأصل أن صاحب العلو يبني على ملكه كما أن صاحب السفل يتصرف في ملكه واتصال العلو بالسفل كاتصال بيتين متجاورين فلكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه على وجه لا يلتحق الضرر لصاحبه وأبو حنيفة رحمه الله يقول صاحب السفل بحفر السرداب يتصرف في الأرض وهي خالص ملكه وصاحب العلو يحمل ما يبنى على حائط السفل أيضا وهو مملوك لصاحب(15/27)
ص -16- ... السفل وزيادة البناء تصير بحائط صاحب السفل لا محالة ويتبين ذلك في الثاني إن كان لا يتبين في الحال ولا يكون له أن يفعل ذلك بدون رضاء صاحب السفل ومحمد في هذا الفصل وافق أبا يوسف ولكن في القسمة يقول تعتبر القيمة لأن العلو والسفل بناء والمعادلة في قسمة البناء تتيسر ولأن في بعض البلدان تكون قيمة العلو أكثر من قيمة السفل وهو كذلك بمكة وبمصر وفي بعض البلدان قيمة السفل أكثر من قيمة العلو كما هو بالكوفة قيل في كل موضع تكثر النداوة في الأرض يختار العلو عن السفل وفي كل موضع يشتد البرد ويكثر الريح يختار السفل على العلو وربما يختلف ذلك أيضا باختلاف الأوقات فلا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالقيمة فاستحسن القسمة في العلو والسفل باعتبار القيمة ثم تفسير المسألة في فصلين:
أحدهما: أن يكون بينهما سفل علوه لغيرهما وعلو سفله لغيرهما فأراد القسمة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يجعل بمقابلة كل ذراع ذراع.
والثاني: أن يكون المشترك بين الشركاء بيتا لسفله علو وسفل لا علو له بأن كان العلو لغيرهم وعلو لا سفل له فعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل بإزاء مائة ذراع من العلو الذي لا سفل له ثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا من البيت الكامل وبأزاء مائة ذراع من السفل الذي لا علو له ستة وستين ذراعا وثلثي ذراعا من البيت الكامل لأن العلو عنده مثل نصف السفل كما في الفصل الأول.
وعند أبي يوسف رحمه الله يجعل بأزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل الذي لا علو له ومائة ذراع من العلو الذي لا سفل له لأن السفل والعلو عنده سواء فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل وخمسون منها علو ومحمد رحمه الله في ذلك كله يعتبر المعادلة بالقيمة وعليه الفتوى.(15/28)
وإذا كانت الدور بين قوم فأراد أحدهم أن يجمع نصيبه منها في دار واحدة وأتى ذلك بعضهم قسم القاضي كل دار بينهم على حدة ولم يضم بعض انصبائهم إلى بعض إلا أن يصطلحوا على ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الرأي في ذلك إلى القاضي وينبغي أن ينظر في ذلك فإن كانت انصباء أحدهم إذا جمعت في دار كان أعدل للقسمة جمع ذلك لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة والمالية والمقصود دفع الضرر وإذا قسم كل دار على حدة ربما يتضرر كل واحد منهم لتفرق نصيبه وإذا قسم الكل قسمة واحدة يجتمع نصيب كل واحد منهم في دار وينتفع بذلك والقاضي نصب ناظرا فيمضي قضاءه على وجه يرى النظر فيه كما يمضي قضاءه في المجتهدات على ما يؤدي إليه اجتهاده ولأن الدور في حكم جنس واحد لاتحاد المقصود بها وهو السكنى والجنس الواحد يقسم بين الشركاء قسمة واحدة كالغنم والثياب الهروية إلا أنها تتفاوت منفعة السكنى باختلاف البلدان وباختلاف المحال فمن هذا الوجه نسبه البلدان الأجناس المختلفة فعند تعارض الأدلة الرأي للقاضي فيرجح بعضها بطريق النظر.(15/29)
ص -17- ... وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الدور أجناس مختلفة بدليل أنها لا تثبت صداقا بمطلق التسمية حتى إذا تزوج امرأة على دار فهو بمنزلة ما لو تزوجها على ثوب وكذلك لو وكل وكيلا بشراء دار لم يصح التوكيل وبعد إعلام الجنس جهالة الوصف لا نمنع صحة الوكالة فعرفنا أنها أجناس مختلفة والأجناس المختلفة لا تقسم قسمة واحدة إلا باصطلاح الشركاء على ذلك وهذا لأن في الأجناس المختلفة معنى المعاوضة يغلب على معنى التمييز والمعاوضة تعتمد التراضي وفي الجنس الواحد معنى التمييز يغلب وذلك داخل تحت ولاية القاضي ففي الدور معنى المعاوضة يغلب لأن قبل القسمة يتيقن بأن نصيب كل واحد منهم في أمكنة متفرقة فإذا جمعها في مكان واحد يكون ذلك بطريق المعاوضة وإذا قسم كل ذراع على حدة فمعنى التمييز فيه يغلب لأن نصيب كل واحد منهم يكون في أمكنة متفرقة بعد القسمة كما كان قبلها ثم المقصود بالقسمة تمكين كل واحد منهم من الانتفاع بملكه فلا بد من اعتبار المعادلة في المنفعة.(15/30)
والتفاوت في المنفعة في الدور تفاوت عظيم فإنما يختلف باختلاف البلدان وباختلاف المحال وباختلاف الجيران وبالقرب من الماء وبالبعد عنه وبالقرب من الربط والبعد عنه والظاهر أنه يتعذر عليه اعتبار المعادلة في المنفعة إذا قسمها قسمة واحدة وأن قسمة كل دار على حدة أعدل ثم هي ثلاثة فصول عنده الدور والبيوت والمنازل فالدور سواء كانت متفرقة أو متلازقة لا يقسم عنده قسمة واحدة إلا برضاء الشركاء والبيوت تقسم قسمة واحدة سواء كانت متفرقة أو مجتمعة في مكان واحد لأنها تتفاوت في منفعة السكنى فالبيت اسم لمسقف واحد له دهليز فلا يتفاوت في المنفعة عادة ألا ترى أنها تؤجر بأجر واحد في كل محلة فتقسم قسمة واحدة والمنازل إن كانت مجتمعة في دار واحدة متلازقة بعضها ببعض تقسم قسمة واحدة وإن كانت متفرقة تقسم كل منزلة على حدة سواء كانت في محال أو في دار واحدة بعضها في أقصاها وبعضها في أدناها لأن المنزل فوق البيت ودون الدار فالمنازل تتفاوت في منفعة معنى السكنى ولكن التفاوت فيها دون التفاوت في الدور فهي تشبه البيوت من وجه والدور من وجه فلشبهها بالبيوت قلنا إذا كانت متلازقة تقسم قسمة واحدة لأن التفاوت فيها تقل في مكان واحد ولشبهها بالدور قلنا إذا كانت في أمكنة متفرقة لا تقسم قسمة وهما في الفصول كلها يقولان ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه فتمضي القسمة على ذلك.(15/31)
ولو اختلفوا في قيمة البناء فقال بعضهم يجعل البناء بذرع من الأرض وقال بعضهم يجعلها على الدراهم والصحيح أن القاضي يجعلها على الذرع إذا تيسر عليه ذلك لأن الدراهم ليست من الميراث والثابت لقاضي ولاية قسمة الميراث بينهم فإذا جعل على ذلك الذرع كان ذلك تصرفا في محل ولايته وإذا جعل ذلك على الدراهم كان ذلك تصرفا منه وراء محل ولايته وربما لا يقدر كل أحد على تحصيل الدراهم وأدائها فليس للقاضي أن يكلفه ذلك توضيحه أنه إذا جعل ذلك على الدراهم فالذي وقع البناء في نصيبه الدرهم دين عليه وربما(15/32)
ص -18- ... ينوي ذلك عليه وإن كان يخرج فنفس القسمة يتعجل نصيب من وقع البناء في نصيبه ويتأخر نصيب الآخر إلى خروج الدين منه فتنعدم المعادلة بذلك وإذا جعل ذلك على الذرع يتعجل وصول نصيب كل واحد منهم إليه ويتم القسمة ولا حق لبعضهم على بعض فهذا أولى الوجهين وإذا تعذر عليه اعتبار المعادلة على الذرع فله أن يقسم على الدراهم عندنا.
وقال مالك رحمه الله: ليس له ذلك إلا أن يصطلحوا عليه أو تكون الدراهم يسيرة لأن في القسمة على الدراهم محض المعاوضة وهو بيع نصيب أحدهما من البناء بما يوجب له من الدراهم على صاحبه وليس للقاضي ولاية المعاوضة إلا عند تراضي الخصمين عليه إلا أن اليسير من الدراهم ربما يتحقق فيه الحاجة والضرورة فيتعدى إليه حكم ولايته للحاجة وأصحابنا رحمهم الله يقولون هذه الحاجة تتحقق في الكثير كما تتحقق في القليل لأن قيمة نصيب أحدهما من البناء ربما يكون أضعاف جميع قيمة الأرض فتتعذر عليه القسمة بطريق مقابلة قيمة البناء بالذرع من الأرض أو يقع جميع الساحة لأحدهما فلا يتمكن صاحب البيت من الانتفاع بالبناء بدون الأرض وإذا كلف نقل البناء تنقطع المنفعة عنه فلهذا قلنا عند الضرورة يجوز له أن يجعل القسمة في البناء على الدراهم وهذا لأن ولاية القسمة تثبت له فلا يتعدى فيتعدى ولايته إلى ما لا يتأتى له القسمة إلا به كالجد مع موصي الأب يصح منه تسمية الصداق في النكاح وإن كان التصرف في المال إلى الوصي دون الجد وكذلك الأخ ليس له ولاية التصرف في المال ثم له ولاية التسمية في الصداق باعتبار ثبوت الولاية في التزويج.(15/33)
ولو اختلفوا في الطريق فقال بعضهم يرفع طريقا بيننا وقال بعضهم لا يرفع نظر فيه الحاكم فإن كان يستقيم لكل واحد منهم طريقا يفتحه في نصيبه قسمه بينهم بغير طريق يرفع كما بين عنهم وإن كان لا يستقيم رفع طريقا بينهم لأن المقصود بالقسمة توفير المنفعة على كل واحد منهم ثم موضع الطريق مشترك بينهم كغيره فإذا كان يستقيم لكل واحد منهم طريق يفتحه في نصيبه فالذي يقول لا يرفع طريقا بطلب القسمة في جميع المشترك وذلك ممكن مع اعتبار المعادلة في المنفعة فيجيبه القاضي إلى ما التمس وإذا كان لا يستقيم ذلك ففي قسمة موضع الطريق قطع المنفعة عنهم وذلك ضد ما هو المقصود بالقسمة والقائل لا يرفع طريقا في هذا الموضع متعنت توضيحه أنه لو كان المشترك بينهم موضع الطريق فقط فطلب بعضهم قسمته وفيه ضرر على كل واحد منهم لم يجبه القاضي إلى ذلك وإن كان فيه منفعة للطالب أجابه القاضي إلى ذلك فكذلك إذا كان المشترك موضع الطريق وغيره.
ولو اختلفوا في سعة الطريق وضيقه جعل الطريق بينهم على عرض باب الدار وطوله على أدنى ما يكفيهم لأن باب الدار متفق عليه والمختلف فيه يرد إلى المتفق عليه ثم لا فائدة في جعل الطريق أعرض من باب الدار لأنه ما لم يدخل الحمل من باب الدار لا يحمله في ذلك الطريق وإذا جعل الطريق أضيق من باب الدار يتضرر به الشركاء ومقصود كل واحد(15/34)
ص -19- ... منهم أن يحمل إلى مسكنه في ذلك الطريق ما يدخله في باب الدار فلهذا يجعل الطريق بينهم على عرض الدار وطوله.
وإذا وقع الحائط لأحد القسمين وعليه جذوع للآخر ووقعت القسمة على أن يكون هكذا أو لم يذكرا ذلك في القسمة فإنه يترك على حاله لأنه وجد كذلك عند تمام القسمة ويجوز أن يكون ملك الحائط لأحدهما وللآخر عليه حق وضع الجذوع فيترك على حاله إلا أن يشترط قلع الجذوع عنه فحينئذ يجب الوفاء به للحديث الشرط أملك وكذلك لو كان أزج وقع على حائط على هذه الصفة أو درجة وكذلك أسطوانة وقع عليها جذوع وكذلك روشن وقع على صاحب العلو مشرف على نصيب الآخر فأراد صاحب السفل أن يقطع الروشن ليس له ذلك إلا أن يشترط قطعة لأن حق قرار هذه الأشياء تجوز أن تكون مستحقا لإنسان في حائط غيره فإذا تمت القسمة بينهما على هذه الصفة يجب تركها كذلك ألا ترى أنه لو أصاب أحدهما ثبت علو والآخر السفل لم يكن لصاحب السفل أن يهدم العلو؟.
فأما إذا وقعت الساحة لأحدهما وللآخر أطراف جذوع شاخصة فيها فأراد صاحب الساحة قطع تلك الجذوع فإن كانت أطراف الجذوع بحيث يمكن البناء عليها فليس له أن يقطع ذلك لأن هذا لجواز أن يكون قراره مستحقا لإنسان في ساحة غيره وإن كان بحيث لا يمكن البناء عليها فلصاحب الساحة أن يجبره على قطع ذلك أو تفريغ هواء الساحة عنه بما يقدر عليه لأن ذلك لا يجوز أن يكون حقا مستحقا له في ملك الغير إذ هو لا ينتفع به من حيث البناء عليه ولو وقعت شجرة في نصيب أحدهما وأغصانها متدلية إلى نصيب الآخر فقد ذكرني رستم عن محمد رحمه الله أن له أن يجبره على قطع تلك الأغصان وهذا مما لا يستحق إقراره في ملك الغير بسبب من الأسباب وذكرني سماعة عن محمد رحمه الله أنه يترك كذلك لأنه بالقسمة استحق الشجرة بأغصانها فترك الأغصان على ما كانت عليه عند تمام القسمة بمنزلة الأزج والدرجة.(15/35)
وإذا أصاب رجلا مقصورة من الدار وأصاب من الآخر منزل طريق علو هذا المنزل في هذه المقصورة ولم يذكروا ذلك عند القسمة فلا طريق له في المقصورة لأنه يقدر على أن يجعل طريقه في حقه من غير ضرر والقسمة لتمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر وتمام التمييز إذا لم يبق لأحدهما حق في نصيب الآخر فإذا أمكن ذلك من غير ضرر يجب إمضاء القسمة عليه وإذا أصاب أحدهما قسمة ساحة في القسمة فأراد أن يبني فيها ويرفع بناء وأراد الآخر منعه وقال إنك تسد علي الريح والشمس فله أن يرفع بناء ما بدا له لأن الساحة ملكه والساحة حق خالص له وللإنسان أن يتصرف في ملك نفسه بما يبدوا له وليس للجار أن يمنعه عن ذلك وله أن يتخذ فيها حماما أو تنورا أو مخرجا لأنه يتصرف في خالص ملكه أرأيت لو أراد أن يجعل فيها رحا أو حدادا أو قصارا كان للآخر أن يمنعه من ذلك والحاصل أن من تصرف في خالص ملكه لم يمنع منه في الحكم وإن كان يؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير ألا ترى أن من أتجر في حانوته نوع تجارة لم يمنع من ذلك وإن كانت تكسد بسببه(15/36)
ص -20- ... تجارة؟ وأن أصحاب الحوانيت يتأذون بغبار سنابك الدواب المارة وأن يتأذى المارة بدخان نيرانهم التي يوقدونها في حوانيتهم ثم ليس للبعض منع البعض من ذلك وللإنسان أن يسقي أرضه وليس لجاره أن يمنعه من ذلك مخافة أن يقل ماء بئره فعرفنا أن المالك مطلق التصرف فيما هو خالص حقه وإن كف عما يؤذي جاره كان أحسن له قال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل عليه السلام يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" والتحرز عن سوء المجاورة مستحق دينا ولكنه لا يجبر على ذلك في الحكم.
والحيلة للجار أن يتصرف في ملك على وجه يدفع به ضرورة عن نفسه ويحول بينه وبين مقصوده على ما حكي أن رجلا جاء إلى أبي حنيفة رضي الله عنه فقال أن جاري اتخذ مجمدة بجنب حائطي فقال اتخذ أنت أتونا بجنب الحائط ليذيب هو ما يجمع من الجمد وعلى هذا قال في الكتاب لو فتح صاحب البناء في علو بنائه بابا أو كوة فتأذى بذلك صاحب الساحة فليس له أن يمنعه من ذلك لأن اتخاذ الباب والكوة يرفع نقص الحائط ولو رفع جميع البناء لم يكن للآخر أن يمنعه منه فلهذا أولى ولكنه يبنى في ملكه ما يستره إن شاء وليس لصاحب الكوة أن يمنعه عن ذلك وكذلك هذا الحكم في الدارين والجارين.
ولو اتخذ رجل بئرا في ملكه كرياسا أو بالوعة أو بئر ماء فنز منها حائط جاره وطلب تحويل ذلك لم يجبر على تحويله لأن تصرفه في خالص ملكه وإن سقط الحائط من ذلك لم يلزمه ضمانه لأنه غير متعدي في هذا السبب والمسبب إذا كان غير متعدي في تسببه فهو غير ضامن لما تلف به كما لو سقط إنسان في بئره هذا.(15/37)
وإذا قسم رجلان دارا فأخذ أحدهما حيزا والآخر حيزا فوقع لأحدهما حائط للظاهر منه على آجرتين وأسه على أربع وقد دخل في نصيب صاحبه من ذلك آجرة فقال صاحب الحائط أنا آخذ من نصيبك ما دخل فيه من أس حائطي لم يكن له ذلك وإنما له ما ظهر من الحائط على وجه الأرض لأنه بالقسمة استحق الحائط والحائط اسم للبناء المرتفع من وجه الأرض فأما الآس الذي ليس عليه بناء مرتفع عن وجه الأرض فهو أرض لا حائط والأرض واقع في قسم الآخر فلو استحقه صاحب الحائط إنما يستحقه حريما لحائطه وليس للحائط حريم وإذا قسم الشريكان دارا أو دارين بينهما لم يكن للجار في ذلك شفعة لأن كل واحد منهما شريك لصاحبه والشريك مقدم على الجار ألا ترى أن أحدهما لو باع نصيبه من صاحبه لم يكن للجار فيه الشفعة ثم في دار واحدة معنى التمييز في القسمة تغلب على معنى المعاوضة والشفعة تختص بمعاوضة مال بمال.
وإذا اقتسم الرجلان دارا ورفعا طريقا بينهما ثم أراد قسمة الطريق بعد ذلك فإن كانت قسمته تستقيم بغير ضرر قسمته بينهما وإن كانت لا تستقيم ولا يكون لأحدهما طريق لم أقسمه ثم لأن في القسمة هنا معنى الضرر والمقصود بالقسمة توفير المنفعة على كل واحد منهما لا تفويتها وإذا اصطلح الرجلان في القسمة على أن أخذ أحدهما دارا والآخر منزلا في(15/38)
ص -21- ... دار أخرى أو على أن أخذ أحدهما دارا والآخر نصف دار أخرى أو على أن أجر كل واحد منهما سهاما معلومة من دار على حدة أو على أن أخذ أحدهما دارا والآخر عبدا أو ما أشبهه ذلك من الاصطلاح في الأجناس المختلفة فذلك جائز لأن هذه معاوضة تجري بينهما بالتراضي ولا ربا في شيء مما تناوله تصرفه ولو اصطلحا في دار واحدة على أن يأخذ أحدهما الأرض كلها والآخر البناء كله فهو جائز للتراضي فإن الأرض والبناء كل واحد منهما مال متقوم مبادلة نصيب أحدهما من الأرض بنصيب الآخر من البناء صحيح فإن شرط على أن يكون البناء له ينقضه وتكون الأرض للآخر فهو جائز وإن اشترط أن لا يقلع بناءه فهذا فاسد لأن صاحب الأرض لا يتوصل بهذه القسمة إلى الانتفاع بالأرض ولأن هذا في معنى بيع شرط فيه إعارة أو إجارة فإن صاحب البناء لما شرط ترك البناء في أرض الآخر فإن كان بمقابلة هذا الترك شيء من العوض فهو إجارة فاسدة شرطت في بيع وإن لم يكن بمقابلتها شيء من العوض فهو إعارة مشروطة في البيع.(15/39)
وإذا كانت الدار في طريق ليس بنافذ لها فيه باب فاقتسمها أهلها على أن يفتح كل إنسان منهم في ذلك الزقاق لنفسه فهو جائز وليس لأهل الزقاق منعهم من ذلك لأن كل واحد منهم يفتح الباب برفع بعض الحائط ولو رفعوا جميع الحائط لم يكن لأهل الزقاق منعهم عن ذلك ولأن لكل واحد منهم يفتح الباب برفع بعض الحائط ولو رفعوا جميع الحائط لم يكن لأهل الزقاق منعهم عن ذلك ولأن لكل واحد من الشركاء حق المرور في هذا الطريق إلى أن يتوصل إلى ملكه وكل واحد منهم يفتح الباب يريد أن يستوفي حق نفسه ولا يريد الزيادة على ذلك ولو كانت مقصورة بين ورثة بابها في دار مشتركة ليس لأهل المقصورة فيها إلا طريقهم فاقتسموا المقصورة على أن يفتح كل واحد منهم بابا من نصيبه في الدار العظمى لم يكن لهم ذلك لأن لهم طريقا واحدا في موضع معلوم من عرصة الدار فهم يريدون هذه الزيادة في ذلك بأن يجعلوا جميع صحن الدار ممرا فيكون لأهل الدار منعهم من ذلك ومن أصحابنا من يقول لا يمنعون من فتح الباب لأن ذلك رفع بعض الحائط والحائط خالص حقهم وإنما يمنعون من التطرق في غير الموضع المعروف طريقا لهم في صحن الدار ولكن في ظاهر الجواب قال يمنعون من فتح الأبواب لأنهم إذا تمكنوا من ذلك فربما يدعي كل واحد منهم بعد تقادم الزمان لهم طريقا خاصا في صحن الدار ويستدل على ذلك بالباب المركب وقد يعتمد ذلك بعض القضاة فيفصل الحكم به فلهذا منعوا من فتح الأبواب ولأهل الدار أن يبنوا ما بدا لهم في صحن الدار بعد أن يتركوا لهم طريقا واحدا بقدر عرض باب الدار العظمى لأن ذلك القدر من حقهم متفق فيرد عليه ما وراء ذلك الموضع وما سوى ذلك من صحن الدار فهو ملك خاص لأهل الدار فلهم أن يبنوا فيها ما أحبوا ويفتح أهل المقصورة ما بدا لهم من الأبواب في ذلك الموضع لأنهم بفتح هذه الأبواب لا يبنون لأنفسهم زيادة على مقدار حقهم.(15/40)
ص -22- ... وإن كان لأهل هذه المقصورة دارا أخرى إلى جنب هذه المقصورة فوقعت هذه الدار في قسم رجل منهم فأراد أن يفتح بابا في هذا الطريق المرفوع بينهم فليس له ذلك لأنه لا طريق لهذه الدار فيها فساكنها يريد إثبات طريق لنفسه في طريق مشترك الشركة فيها خاصة والطريق الخاص بمنزلة الملك فكما لا يمكن من إحداث طريق لنفسه في ملك الغير فكذلك في الطريق الخاص وإن اشترى الذي أصابته المقصورة هذه الدار فأراد أن يجعل طريقها في مقصورته ثم يمر في ذلك الطريق المشترك فله إذا كان الدار والمقصورة واحدا لأن الكل في حكم منزل واحد.
وإن كان ساكن المقصورة غير ساكن الدار لم يكن له ذلك لأنهما منزلان وكما أنه ليس لساكن الدار أن يتطرق في هذا الطريق من داره فكذلك لا يكون له أن يتطرق فيه من المقصورة لأن لصاحب المقصورة أن يرضى بتطرقه فما هو خالص ملكه وهو المقصورة ولا يعتبر رضاه بذلك في ملك الغير وهو الطريق وفرق بين هذا وبين الشرب فإن من له أرض بجنب نهر شربها من ذلك النهر إذا اشترى بجنب أرضه أرضا أخرى وأراد أن يسقي الأرض الأخرى من هذا النهر بإجراء الماء في أرضه لم يكن له ذلك وفي الطريق له ذلك إذا كان ساكن الدار والمقصورة واحدا لأن هناك يستوفي من الماء فوق حقه فإن حقه في هذا النهر مقدار ما يسقي به أرضه فإذا سقى به أرضين فهو يستوفي أكثر من حقه فيمنع من ذلك وفي الطريق هو الذي يتطرق سواء دخل المقصورة فقط أو يحول من المقصورة إلى الدار فلهذا لا يمنع من ذلك إذا كان ساكن الدار والمقصورة واحدا.(15/41)
وإذا اقتسم الرجلان دارا فأخذ أحدهما طائفة وفي نصيب الآخر ظلة على الطريق وكنيف شارع فالقسمة في هذا كالبيع وقد بينا في كتاب الشفعة أن كنيف الشارع يدخل في بيع الدار سواء ذكر الحقوق والمرافق أو لم يذكر والظلة عند أبي حنيفة لا يدخل إلا بذكر الحقوق والمرافق وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يدخل إذا كان مفتحها في الدار سواء ذكر الحقوق والمرافق أو لم يذكر فكذلك في القسمة فإن هدم أهل الطريق تلك الظلة لم تنتقض القسمة لأنه إنما استحق البناء بالقسمة أما الأرض من طريق المسلمين وإنما يستحق بالقسمة ما كان مشتركا بينهم قبل القسمة والمشترك البناء دون الأرض ولا يرجع على شريكه بشيء لأنهما كانا يعلمان أن الظلة على الطريق فإن لهم منها نفس البناء لا حق القرار وذلك سالم له.
وإذا اقتسما دارا فلما وقعت الحدود بينهما إذا أحدهما لا طريق له ولا يقدر على طريق فالقسمة مردودة لأنها وقعت على الضرر والمقصود تحصين كل واحد منهما بالانتفاع بملكه لا قطع ملك المنفعة عنه وقد تبين أن في هذه القسمة قطع منفعة الملك عن أحدهما فكانت مردودة وإن كان له حائط يقدر على أن يفتح بابا يمر فيه رجل ولا تمر فيه الحمولة فالقسمة جائزة لتمكنه من الانتفاع بنصيبه بالتطرق إليه من هذا الجانب فالأصل في الطريق(15/42)
ص -23- ... مرور الناس فيه فأما مرور الحمولة فيه لا يكون إلا نادرا ويتعذر ذلك لا يمتنع عليه استيفاء ما هو المقصود وإن كانت بحيث لا يمر فيه رجل فليس هذا بطريق ولا تجوز القسمة لما فيها من قطع منفعة الملك عن أحدهما وإن كان اقتسما على أن لا طريق لفلان وهو يعلم أنه لا طريق له فهو جائز بتراضيهما لأنه رضي بذلك لنفسه وإنما لم تصح القسمة لدفع الضرر عنه فإذا رضي بالتزام الضرر سقط اعتبار ذلك الضرر.
وإذا اقتسما دارا على أن يستوفي أحدهما من الآخر دارا له بألف درهم فالقسمة على هذا الشرط باطلة لأن فيها معنى البيع واشتراط هذا في البيع مبطل له لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة وكذلك كل قسمة على شرط هبة أو صدقة فهي فاسدة كالبيع وكذلك كل شراء على شرط قسمته فهو باطل لأن اشتراط القسمة في الشراء كاشتراط الشراء في القسمة وإذا كانت القسمة على أن يزيد شيئا معروفا فهو جائز لأنه لو شرط في البيع زيادة في الثمن مقدار مسمى أو زيادة في المبيع شيئا بعينه جاز ذلك فكذلك في القسمة والله أعلم.
باب قسمة الدور بالدراهم يريدها(15/43)
قال رحمه الله أحدهما: وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسماها على أن يرد أحدهما على الآخر دراهم مسماة فهو جائز لأن في حصة الدراهم المشروطة العقد بيع وقد تراضيا عليه وجواز البيع يعتمد المراضات وقد بينا أن الشريكين عند القسمة يحتاجان إلى ذلك عادة إلا أن القاضي لا يفعله إلا عند الضرورة فأما إذا تراضيا على القسمة فذلك مستقيم منهما ثم كل ما يصلح أن يكون عوضا مستحقا بالبيع يجوز اشتراطه في هذه القسمة عند تراضيهما عليه فالنقود حالة كانت أو مؤجلة والمكيل والموزون معينا أو موصوفا مؤجلا أو حالا يجوز استحقاقه عوضا في البيع فكذلك في القسمة فإن كان لشيء من ذلك حمل ومؤنة فلا بد من بيان مكان الإيفاء فيه عند أبي حنيفة رحمه الله كما في السلم والإجارة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إن بينا للتسليم مكانا جاز ذلك وإن لم يبينا جازت القسمة ويتعين للتسليم موضع الدار وكان ينبغي في القياس أن يتعين موضع العقد كما في السلم عندهما ولكنهما استحسنا فقالا تمام القسمة يكون عند الدار وإنما يجب عند تمام القسمة فيتعين موضع الوجوب فيه للتسليم كما في الإجارة عندهما يتعين موضع الدار لا موضع العقد لأن وجوب الآخر باستيفاء المنفعة وذلك عند الدار يكون وإن كانت الزيادة شيئا من الحيوان بعينه فهو جائز وإن كان بغير عينه لم يجز موصوفا كان أو غير موصوف مؤجلا كان أو حالا لأن الحيوان لا يستحق في الذمة عوضا عما هو مال وإن كان بعينه وشرط أن لا يسلمه إلى شهر فهو فاسد لأنه شرط الأجل في العين وذلك مفسد للبيع لكونه غير منتفع به بل فيه ضرر على المتملك للعين بالعقد من غير منفعة للآخر فيه فكذلك في القسمة. ولو كانت الزيادة ثيابا موصوفة إلى أجل معلوم فهو جائز وإن لم رب له أجلا لم يجز كما في البيع وهذا لأن الثياب تثبت في الذمة سلما ولا تثبت في الذمة قرضا والسلم لا(15/44)
ص -24- ... يكون إلا مؤجلا والقرض لا يكون إلا حالا فعرفنا بذلك أنها تثبت في الذمة مؤجلا ثبوتا صحيحا ولا تثبت حالا.
وإذا كان ميراث بين رجلين في دار وميراث في دار أخرى فاصطلحا على أن لأحدهما ما في هذه الدار وللآخر ما في تلك الدار وزاد مع ذلك دراهم مسماة فإن كانا سميا سهاما كم هي سهم من كل دار جاز لأن ما يستحقه كل واحد منهما بالقسمة والبيع معلوم له وإن لم يسميا ذلك لم يجز لجهالة ما يستحقه كل واحد منهما وهذه جهالة تفضي إلى تمكن المنازعة بينهما في الثاني وإن سميا مكان السهام أذرعا مسماة مكسرة جاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ولم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله وأصل الخلاف فيما ذكرنا في البيوع إذا باع ذراعا في عشرة أذرع من هذه الدار فالقسمة نظير البيع في ذلك.(15/45)
داران بين ثلاثة نفر اقتسموها على أن يأخذ أحدهما إحدى الدارين والثاني الدار الأخرى على أن يرد الذي أخذ الدار الكبرى على الذي لم يأخذ شيئا دراهم مسماة فهو جائز لأنه اشترى نصيب الشريك الثالث بما أعطاه من الدراهم ولو اشترى نصيب الشريكين جميعا بالدراهم جاز فكذا إذا اشترى نصيب أحدهما ثم قاسم الشريك الآخر على قدر ملكها في الدارين وذلك مستقيم أيضا فقد بينا أن الدور تقسم قسمة واحدة بالتراضي وكذلك إن أخذ الدار الكبرى اثنان منهم وأخذ الثالث الدار الصغرى وإذا كانت دارا واحدة بينهم وأخذها اثنان منهم كل واحد منهما طائفة معلومة على أن يرد على الثالث دراهم معلومة فهو جائز لأنهما اشتريا نصيبه بما نفذا له من الدراهم وكذلك إن اشترطوا على أحدهما ثلثي الدراهم لفضل في منزله فذلك جائز لأنه يكون مشتريا ثلثي نصيب الثالث وصاحبه الثلث وكذلك دار بين شريكين اقتسماها نصفين على أن يرد أحدهما على الآخر عبدا بعينه على أن زاده الآخر مائة درهم فهو جائز لأن بعض العبد عوض عن المائة الدراهم وبعضه عوض عما أخذ مالك العبد من نصيب صاحبه بالقسمة من الدار وذلك مستقيم وكذلك لو اقتسماها على أن يأخذ أحدهما البناء وأخذ آخر الخراب على أن يرد صاحب البناء على الآخر دراهم مسماة فذلك جائز لأن بعض ما أخذ من البناء عوض مستحق له بالقسمة وبعضه مبيع له بما نقد من الدراهم كذلك لو أخذ أحدهما السفل والآخر العلو واشترط أحدهما على صاحبه دراهم مسماة لأن السفل مع العلو كالبيتين المتجاورين يجوز بيع كل واحد منهما فكذلك يجوز اشتراط فضل الدراهم على أحدهما في قسمة العلو والسفل شرط ذلك على صاحب العلو أو على صاحب السفل والله أعلم.
باب قسمة الدور بتفضيل بعضها على البعض بغير دراهم(15/46)
قال رحمه الله: وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسماها فأخذ أحدهما مقدمهما وهو الثلث والآخر أخذ مؤخرها وهو الثلثان جاز ذلك لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المالية والمنفعة والظاهر أن ذلك لا يتأتى مع اعتبار المساواة في المساحة ومالية مقدم الدار فوق(15/47)
ص -25- ... مالية مؤخرها لكثرة الرغبة في المقدم دون المؤخر وتتفاوت المنفعة بحسب ذلك فالقسمة لا تخلو في العادة عن التفاوت في المساحة ولا يعد ذلك ضررا وإنما الضرر بالتفاوت في المنفعة والمالية ففي ذلك تعتبر المعادلة بينهما فإن كانت الدار بينهما أثلاثا فأخذ صاحب الثلث نصيبه ما بقي من الدار وهو أكثر من حقه فهو جائز بمنزلة البيع لوجود التراضي منهما وقد بينا أن المال الذي لا يجري فيه الربا يعتبر لجواز المبايعة فيه المراضاة فكذلك إن كان الذي وقع في قسم الآخر ليست له غلة فهو جائز لأنه رضي به لغرض له وهو غير متهم في النظر لنفسه فيه ولو اشتراه بمال عظيم جاز شراؤه فكذلك إذا اختار أحدهما أخذه في القسمة بقسمه.(15/48)
وإذا اقتسما دارا بينهما على أن لكل واحد منهما طائفة من الدار على أن رفعا طريقا بينهما ولأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه فهذا جائز وإن كانت الدار في الأصل بينهما نصفين لأن رقبة الطريق ملك لهما محل للمعاوضة فقد شرط أحدهما لنفسه بعض نصيب صاحبه من الطريق عوضا عن بعض ما سلم إليه من نصيبه في المنزل الذي أخذه صاحبه بالقسمة وذلك جائز وإن أخذهما طائفة منهما يكون قدر الثلث وأخذ الآخر طائفة تكون قدر النصف ورفعا طريقا بينهما يكون مقدار السدس فهو جائز لأنهما نفيا شركتهما في موضع الطريق وقسما ما وراء ذلك على الاخماس فأخذ أحدهما ثلثة أخماسه والآخر خمسه ولو قسما الكل بينهما بهذه الصفة جاز فكذلك إذا اقتسما البعض وبقيا شركتهما في البعض ليكون ذلك طريقا لهما ولو اشترطا أن يكون الطريق بينهما على قدر مساحة ما في أيديهما فهو جائز لأنهما لو قسما الكل على هذه المساحة جاز فكذلك إذا اشترطا أن يتركاه مشتركا للطريق بينهما على قدر هذه المساحة وكذلك إن شرطا أن يكون الطريق لصاحب الأقل ويكون للآخر ممرة فيه فهو جائز لأن عين الطريق مملوك لهما فقد حصل أحدهما نصيبه من عين الطريق لصاحبه عوضا عن بعض ما أخذه من نصيب صاحبه بالقسمة ولكن بقي لنفسه حق الممر في ذلك جائز بالشرط كمن باع طريقا مملوكا له من غيره على أن يكون له حق الممر فإن ذلك جائز بمثله بيع السفل على أن يكون حق القرار العلو له عليه وإن لم يشترطا شيئا من ذلك فالطريق بينهما على قدر ما ورثا لأنهما نفيا شركتهما في قدر الطريق فيبقى في هذا الجزء عين ما كان لهما من الشركة في الكل.(15/49)
وإذا كانت دار بين رجلين وبينهما شقص من دار أخرى فاقتسماها على أن يأخذ أحدهما الدار والآخر الشقص ولم يسميا سهام الشقص لم يجز ذلك للجهالة فإن أقرا أنهما كان يعرفان كم هو يوم اقتسما فهو جائز لأن عين التسمية في العقد غير مقصودة بل المقصود إعلام المتعاقدين بها وقد تصادقا على أنه كان معلوما لهما وإن عرف ذلك أحدهما وجهله الآخر فالقسمة مردودة وقد بينا في كتاب الشفعة أنه إذا اشترى نصيب فلان من الدار فإن كان المشتري يعلم كم نصيبه جاز البيع وإن كان البائع يعلم ذلك دون المشتري لم يجز في(15/50)
ص -26- ... قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويجوز في قول أبي يوسف الآخر رحمه الله وينبغي أن يكون الجواب في القسمة على ذلك التفصيل أيضا وقيل بل هذا الجواب صحيح في القسمة وهو قولهم جميعا لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة والمالية ولا يصير ذلك معلوما لكل واحد منهما إلا إذا كان الشقص معلوما لكل واحد منهما فلهذا قلنا إذا جهل أحدهما ذلك فالقسمة مردودة فأما البيع عقد معانية يقصد للاسترباح والمشتري هو الذي يقبض البيع فيشترط أن يكون مقداره معلوما له فأما حق البائع في الثمن معلوم فلتحقيق هذا المعنى يظهر الفرق وإذا اقتسم الرجلان دارا على أن أخذ أحدهما الثلث من مؤخرها بجميع حقه وأخذ الثلثين من مقدمها بحقه فهو جائز وإن كان فيه غبن لأنهما تراضيا عليه والقسمة نظير البيع فلا يمتنع جوازها بسبب الغبن عند تمام التراضي من المتعاقدين عليه وما لم تقع الحدود بينهما والتراضي بعد القسمة فلكل واحد منهما أن يرجع كما في البيع قبل تمام العقد بالإيجاب والقبول لكل واحد منهما أن يرجع فكذلك في القسمة وتمام القسمة بوقوع الحدود بينهما.
وإذا كانت أقرحة الأرض متفرقة بين رجلين فهي كالدور عند أبي حنيفة رحمه الله يقسم كل قراح بينهما على حدة إلا إذا تراضيا على أن يقسما الكل قسمة واحدة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ينظر القاضي في ذلك فيقسمها بينهم على أعدل الوجهين كما هو مذهبهما في الدور وهذا لأن الأراضي المتفرقة تتفاوت فيما هو المقصود منهما في العلة والصلاحية للرطبة والكرم وغير ذلك بمنزلة تفاوت الدور المتفرقة تتفاوت فيما هو المقصود منها أو أكبر من ذلك فكما أن هناك لتعذر المعادلة في المنفعة قال أبو حنيفة رحمه الله تقسم كل دار على حدة فكذلك الجواب في الأقرحة.(15/51)
وإذا كانت القرية ميراثا بين قوم اقتسموها فأصاب أحدهم قراح وغلات في قراح وأصاب الآخر قرحا كرم فهو جائز لأن هذا النوع من القسمة يعتمد الرضا وما أصاب كل واحد منهما غير مال متقوم يجوز بيعه فيجوز استحقاقه بالقسمة أيضا وإذا أصاب بعضهم بستان وكرم وبيوت وكتبوا في القسمة بكل حق هو لها أو لم يكتبوا ذلك فله ما فيها من الشجر والبناء ولا يدخل في ذلك الثمر والزرع وقد بينا هذا في كتاب الشفعة في البيع فهو كذلك في القسمة وإن كتبوا بكل قليل وكثير هو فيها أو منها دخل ذلك في القسمة وفي كتاب المزارعة قال لا يدخل الزرع والثمر بهذا اللفظ ولكن قال هناك بكل قليل وكثير هو فيها ومنها من حقوقها فيما ذكر في آخره يتبين أن المراد إدخال الطريق والشرب دون الزرع والثمر وهناك أطلق بكل قليل وكثير هو فيها أو منها والثمر والزرع من هذه الجملة فعند إطلاق اللفظ تدخل في القسمة ومن جعل المسألة على روايتين فقد بينا وجه الروايتين في كتاب الشفعة.
وإذا اقتسم نفر بينهم أرضا على أن لا طريق لهم ولا شرب ورضوا بذلك فهو جائز(15/52)
ص -27- ... لوجود التراضي منهم على التزام الضرر إلا أنهم قالوا القاضي لا يشتغل بهذه القسمة وإن تراضوا عليه لأن القاضي لا يشتغل بما لا يفيد ولكن إن فعلوا ذلك لم يمنعهم من ذلك كما لو طلبوا من القاضي قسمة الحمام بينهم لا يفعل ذلك وإن فعل بتراضيهم لم يمنعهم من ذلك وإن كانت أرض بين قوم لهم نخل في غير أرضهم فاقتسموا على أن يأخذ اثنان منهم الأرض وأخذ الثالث النخيل بأصولها فهذا جائز لأن النخلة بمنزلة الحائط منها ولو شرط لأحدهم في القسمة حائطا ينصبه جاز فكذلك النخلة وإن شرطوا أن لفلان هذه القطعة وهذه النخلة وهو في غير تلك القطعة وللآخر قطعة وللثالث القطعة التي فيها تلك النخلة فأراد أن يقطع النخلة فليس له ذلك والنخلة لصاحبها بأصلها لما بينا أن النخلة كالحائط وتسمية الحائط في القسمة يستحقه بأصله فكذلك تسمية النخلة وهذا لأنها نخلة ما لم تقطع فأما بعد القطع هو جذع فمن ضرورة استحقاق النخلة استحقاق أصلها وكذلك على هذا لو أقر لإنسان بنخلة استحقها بأصلها وذكر في النوادر في البيع اختلافا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله قال عند أبي يوسف رحمه الله يستحقها بأصلها وعند محمد رحمه الله لا يستحق بأصلها إلا بالذكر فقيل الجواب في الإقرار كالجواب في البيع على الخلاف فأبو يوسف رحمه الله يسوي بين القسمة والبيع ومحمد رحمه الله يفرق بينهما فنقول في القسمة بعض نصيب أحدهما باعتبار أصله ملكه وأصل ملكه فيها نخلة وإنما تكون نخلة قبل القطع فمن ضرورة استحقاقه البعض بأصله استحقاق جميع النخلة بأصلها وكذلك في الإقرار فهو إخبار بملك النخلة له وإنما تكون نخلة بأصلها فأما البيع إيجاب ملك مبتدأ فلا يستحق به إلا المسمى فيه والنخلة اسم لما ارتفع من الأرض لا الأرض فلا يجوز أن يثبت له الملك ابتداء في شيء من الأرض بتسمية النخلة في البيع فلهذا يشترط فيه ذكر الأصل فإن قطعها فله أن يغرس مكانها ما بدا له لأنه قد استحق له ذلك من(15/53)
الأرض فكما كان له أن يبقى الأولى فيها قبل القطع فكذلك له أن يغرس مكانها أخرى فإن أراد أن يمر إليها فمنعه صاحب الأرض فالقسمة فاسدة لأنها وقعت على الضرر فلا طريق له إلى نخلته وقد بينا أن القسمة متى وقعت على ضرر فهي فاسدة وأن الطريق الخاص لا يدخل إلا بذكر الحقوق والمرافق فإن كانوا ذكروا في القسمة بكل حق هو لها فالقسمة جائزة وله الطريق إلى نخلته لأنه نص على شرط الحقوق والمرافق ولا يقصد بهذا اللفظ إلا شرط الطريق فكأنه شرط الطريق إلى نخلته أيضا.
وإذا كانت قرية وأرض ورحا ماء بين نفر فاقتسموها فأصاب رجل الرحاء وأصاب الآخر أقرحة معلومة وأصاب الآخر بيوت وأقرحة فاقتسموها بكل حق هو لها فأراد صاحب النهر أن يمر إلى نهره في أرض قسمة فمنعه ذلك ليس له أن يمنعه وله الطريق إلى نهره إذا كان نهره في وسط أرض هذا ولا يخلص إليه إلا بذلك لأنه لا يتمكن من الانتفاع بنهره ما لم يخلص إليه ولا طريق له إلى ذلك إلا في أرض قسيمه وقد اشترط في القسمة(15/54)
ص -28- ... كل حق هو لها فعرفنا أنه إنما شرط ذلك لأجل هذا الطريق والطريق بالشرط يصير مستحقا له في نصيب قسيمه.
وإن كان النهر منعرجا مع حد الأرض له طريق إليه في غير الأرض لم يكن له أن يمر في أرض هذا لأن القسمة لتمييز ملك أحدهما من ملك الآخر وتمام ذلك بأن لا يبقى لأحدهما حق في نصيب الآخر وإتمام القسمة في هذا الفصل ممكن بهذه الصفة فلا يستحق الطريق بذكر الحقوق والمرافق وفي الأول لا يمكن إتمام القسمة بينهما بهذه الصفة فيجعل الطريق مستحقا له بذكر الحقوق وقد تقدم بيان هذا الفرق في البيت والصفة وإن كان في وسط أرض هذا ولم يشترطوا المرافق والطريق ولا كل حق هو لها ولا كل قليل وكثير هو فيها أو منها فلا طريق له في أرض هذا لما بينا أنه لا يستحق في نصيب قسيمه حقا من غير لفظ يدل عليه في القسمة والقسمة فاسدة لأنها وقعت على ضرر إلا أن يقدر على أن يمر في بطن النهر بأن انكشف الماء عن موضع من النهر فإن قدر على هذا فالقسمة جائزة وطريقه في بطن النهر ليمكنه من الانتفاع بنصيبه بهذه الصفة وطريقه لا في بطن النهر زيادة منفعة له ولم يشترط ذلك لنفسه فلا يستحقه ولا تبطل القسمة لأجله مع تمكنه من الانتفاع بنصيبه لأن حرمانه هذه الزيادة بتركه النظر لنفسه عند القسمة.(15/55)
وإن كان للنهر مسناة من جانبيه يكون طريقه عليها فهو جائز وطريقه عليها دون أرض صاحبه وإن ذكر الحقوق في القسمة لتمكنه من الانتفاع بالنهر بالتطرق على مسناته وإن لم يذكروا المسناة في القسمة فاختلف صاحب النهر والأرض فيها فهي لصاحب النهر لملتقى طينه وطريقه في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله هو لصاحب الأرض وهذا بناء على مسألة كتاب الشرب أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا حريم للنهر وعندهما للنهر حريم من جانبيه مثل عرض بطن النهر فإذا كان عندهما للنهر حريم كان اشتراط النهر لأحدهما في القسمة اشتراطا لحريمه له فهو أولى به وعند أبي حنيفة رحمه الله لا حريم للنهر وقد جعلا في القسمة النهر حدا لملك صاحبه والمسناة من جنس الأرض يصلح لما يصلح له الأرض من الغرس والزراعة ولا يصلح لما يصلح له من إجراء الماء فيه فيكون صاحب الأرض أولى به وإن لم يكن للنهر طريق إلا في أرض لقسيمه واشترطوا عليه أن لا طريق له في هذه الأرض فهو جائز ولا طريق له إذا علم يومئذ أنه لا طريق له لأن فساد القسمة لدفع الضرر عنه وقد رضي هو بالتزام الضرر والشرط أملك وكذلك النخلة والشجرة نصبت إحداهما في أرض الآخر واشترطا أن لا طريق له في أرض صاحبه فهو والنهر سواء ولو كان نهر يصب في أجمه كان لصاحبه ذلك المصب على حاله لأنه محتاج إليه مستعجل له وقد وقعت القسمة على هذه الصفة فيترك على ذلك لما بينا في جذوع لأحدهما على حائط الآخر فالمصب يجوز أن يكون مستحقا لصاحب النهر في ملك الغير كالجذوع.
وإذا كان نهر لرجل يمر في ملك رجل آخر فاختلفا في مسناة على النهر فهي لرب(15/56)
ص -29- ... الأرض في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما المسناة لصاحب النهر وهذا بناء على مسألة حريم النهر وعلى سبيل الابتداء هما يقولان لصاحب النهر في المسناة يد من حيث الاستعمال فأنه بالمسناة من الجانبين يجري ماؤه في النهر مستويا والاستعمال يد وعند المنازعة القول قول ذي اليد ولأبي حنيفة أن الظاهر يشهد لرب الأرض لأن المسناة من جنس الأرض يصلح لما يصلح له الأرض وملك الآخر في النهر وهو العمق الذي يجري فيه الماء وما وراء ذلك يكون لصاحب الأرض باعتبار الظاهر حيث يثبت للآخر استحقاقه بالحجة إلا أنه ليس له أن يهدمها فإن ذلك يضر بالنهر لأن الماء يفيض عدم المسناة فهو مملوك لصاحب الأرض ولصاحب النهر فيه حق استمساك الماء به فلا يهدمها لحقه كحائط لإنسان عليه جذوع لآخر ليس لصاحب النهر أن يهدمه ولكن لصاحب الأرض أن يغرس على المسناة ما بدا له لأنه يتصرف في ملكه وليس فيه إبطال حق صاحب النهر فهو بمنزلة حائط سفله لرجل وعلوه لآخر ولصاحب العلو أن يحدث على علوه ما بدا له ما لم يضر بالسفل.(15/57)
وإذا كانت القرية والأرض بين قوم اقتسموا الأرض مساحة على أن من أصابه شجر أو بيوت في أرضه فهي عليه بقيمتها دراهم فهو جائز وهذا استحسان بمنزلة رجلين يقتسمان دارا على أن لكل واحد منهما ما أصابه من البناء بالقيمة فهو جائز وإن لم يسميا ذلك استحسانا وقد بيناه قال ألا ترى أنه لو كانت دار بين رجلين فيها ساحة وبناء لهما ولآخر فاقتسماها على أن أخذ أحدهما الساحة وأخذ الآخر موضع البناء على أن البناء بينهم على حاله ثم أراد الذي أصابه الساحة أن يأخذ نصيبه من البناء لم يكن له ذلك لأن فيه ضررا على صاحبه ولكن له قيمة حقه من ذلك أجبره عليه فإذا كنت أجبره على أخذ القيمة بغير شرط فهي إذا كان بشرط أجوز وإن لم يسميا ذلك ومعنى هذا أن البناء وصف للساحة وتبع لها فإذا استويا في ملك البيع وتفرد أحدهما بملك الأصل كان لصاحب الأصل أن يتملك على شريكه من الوصف بالقيمة ألا ترى أن صبغ الغير لو اتصل بثوب الغير كان لصاحب الثوب أن يتملك الصبغ على صاحبه بالقيمة باعتبار أنه وصف لملكه وهذا بخلاف ما إذا كان البناء كله لإنسان في ساحة الغير لأن هناك صاحب البناء يتمكن من رفع بنائه من غير إضرار بصاحب الساحة فلا يكون لصاحب الساحة حق تملك البناء عليه بغير رضاه وأما إذا كان البناء مشتركا فهو لا يتمكن من رفع نصيبه من البناء بدون الإضرار بصاحب الساحة لأنه ما لم يرفع جميع البناء لا يمكن قسمته بينهما فلهذا كان لصاحب الأصل أن يرفع الضرر عن نفسه ويتملك نصيبه عليه بضمان القيمة.
توضيحه أن البناء تبع من وجه حتى يدخل في بيع الأصل من غير ذكر كالصبغ في الثوب وهو أصل من وجه حتى يجوز بيعه على الانفراد فيوفر حظه على الشبهين فلشبهه بما هو أصل لا يكون لصاحب الأرض أن يتملك على صاحب البناء جميع البناء بغير رضاه ولشبهه بالبيع يكون له عليه أن يتملك نصيبه من البناء إذا كان مشتركا بينهما وإن اشترطوا(15/58)
ص -30- ... ذلك بدنانير فالدنانير كالدراهم في أنها لا تستحق إلا ثمنا في الذمة وكذلك إن اشترطوا مكيلا أو موزونا موصوفا في الذمة فذلك ثمن بمقابلة العين والبناء عين فاشتراط المكيل والموزون في الذمة بمقابلة البناء بمنزلة اشتراط الثمن فهو كاشتراط الدراهم والدنانير وإن شرطوا شيئا من ذلك بعينه أو من غير ذلك من العروض والحيوان فذلك باطل لأنه مبيع يرد عليه العقد مقصودا فجهالته عند العقد تكون مبطلة للعقد وهذا لأن الثمن معقود به ألا ترى أن قيامه في ملك المشتري عند العقد ليس بشرط لصحة العقد فكذلك ترك تسمية المقدار فيه عند ابتداء القسمة لا يمنع جواز القسمة إذا كان معلوم المقدار عند تمام القسمة فأما العين يكون معقودا عليه ويشترط وجوده في ملك العاقد وقدرته على تسليمه عند العقد فكذلك يشترط أن يكون معلوما بالتسمية عند العقد أو بالإشارة إلى عينه وهذا لأنه إذا لم يكن معلوما فهو يكون مشتريا للعين بقيمته وذلك لا يجوز وفي الثمن هنا يقتسمان المشترك بعضه بالمساحة وبعضه بالقيمة وذلك جائز والفضة والذهب التبر والأواني المصوغة في هذا بمنزلة المكيل والموزون بعينه وهذا دليل على أنه يتعين التبر وأنه يستحق مبيعا وقد تقدم الكلام فيه في كتاب الشركة والصرف.(15/59)
ولو أقامت الورثة البينة على المواريث وسألوا القاضي قسمته وعلى الميت دين وصاحب الدين غائب لم يقسم شيئا من أجناس التركة لأن الدين مقدم على الميراث والقسمة ليتوصل كل واحد من الشركاء إلى الانتفاع بنفسه وذلك للورثة بعد قضاء الدين قال الله تعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء: من الآية11} فلا يشتغل القاضي بالقسمة قبل قضاء الدين كما لا يشتغل به في حياة المورث فإن كان الدين أقل من التركة فسألوه أن يوقف منها قدر الدين ويقسم الباقي فعل ذلك استحسانا وفي القياس لا يفعل لأن الدين شاغل لكل جزء من أجزاء التركة حتى لو هلك جميع التركة إلا مقدار الدين كان ذلك لصاحب الدين وهذا القياس قول أبي حنيفة الأول ولكنه استحسن وقال قل ما تخلو التركة عن دين يسير ويقبح أن يوقف عشرة آلاف درهم بدين عشرة دراهم فالأحسن أن ينظر الفريقين جميعا فيقف من التركة قدر الدين لحق الغرماء ويقسم ما زاد على ذلك بين الورثة مراعاة لحقهم وفيه نظر للميت أيضا من حيث إن وارثه يقوم بحفظ ما يصيبه من ذلك ويكون ذلك مضمونا عليه ما لم يصل إلى صاحب الدين حقه ولا يأخذ كفيلا بشيء من ذلك أرأيت لو لم يجد الوارث من يكفل عنه أو لم يجد الغريم من يكفل عنه أيسع القاضي إمساك حقه وهو يعرف أنه حقه وإنما يطلب الكفيل بشيء لم يلحقه بعد ولكنه يخاف ذلك وعسى لا يلحقه شيء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وفي الجامع الصغير قال هذا شيء احتاطه القضاة وهو جور أي مائل عن طريق القصد فقد بينا المسألة في كتاب الدعوى.
وإن لم يعلم القاضي بالدين سألهم هل هي دين أم لا فإن قالوا لا فالقول قولهم ويقسم المال بينهم لتمسكهم بالأصل وهو فراغ ذمة الميت عن الدين ولأن المال في أيديهم(15/60)
ص -31- ... فقد زعموا أنه خالص حقهم فيقبل فيه قولهم ما لم يحضر خصم ينازعهم فإن ظهر دين بعد ذلك نقض القسمة بينهم لأنه لو كان الدين معلوما لم يشتغل بالقسمة فكذلك إذا ظهر بعد القسمة لأنه تبين أن القسمة كانت قبل أوانها فإن أوان القسمة بعد قضاء الدين وكذلك لو قسم قبل أن يسألهم عن الدين إلا أن يقضوا الدين الذي ظهر قبل أن تنقض القسمة فحينئذ لا ينقضها لارتفاع الموجب لنقضها كما لا ينقض سائر تصرفات الوارث إذا قضى الدين من موضع آخر وكذلك لو لحق وارث آخر لم يعرفه الشهود ولم يشهدوا عليه لأن القسمة تنتقض في كلها لأنه تبين أنها وقعت بغير محضر من بعض الشركاء ولو لم تنقض القسمة تضرر به هذا الوارث لأنه يحتاج إلى أن يستوفي مما وصل إلى كل واحد منهم مقدار نصيبه فيتفرق نصيبه في مواضع فلهذا تنتقض القسمة ويستقبل بينهم.(15/61)
وإن أقر أحدهم لرجل بدين وجحد ذلك بعضهم قسمت التركة بينهم على المواريث لأن الدين المانع من ذلك لا يظهر في حق الجاحدين ثم يؤمر المقر بقضاء الدين من نصيبه إذا كان في نصيبه وفاء بذلك عندنا وعند الشافعي رحمه الله يقضي من نصيبه بقدر حصته وقد بينا المسألة في الإقرار ولو قسم القاضي التركة بينهم ثم أقام رجل البينة أن الميت أوصى له بألف درهم وهي تخرج من ثلثه فالقسمة تبطل لأن الوصية بالمال المرسل إذا كان يخرج من الثلث يستحق سابقا على الميراث كالدين فظهور هذه الوصية بعد القسمة كظهور الدين فإن غرم الوارث هذه الألف من مالهم مضت القسمة لوصول حق الموصى له بكماله إليه كما لو قضوا الدين وكذلك لو قضى ذلك واحد منهم على أن لا يرجع عليهم بشيء وهو سواء في الدين والوصية وإن أراد أن يرجع عليهم لم تجز القسمة لأن قيام حقه في التركة كقيام حق صاحب الدين والموصى له قبل أن يقضيه في المنع من القسمة إلا أن يقضوه بالحصص فإن فعلوا ذلك قبل نقض القسمة فالقسمة مافية ولو كان صاحب الوصية أقام البينة على أنه أوصى له بالثلث أبطلت القسمة لأن الموصي له بالثلث شريك الورثة في التركة حتى تزداد حصته بزيادة التركة وتنقص بنقصان التركة فثبوت وصيته بالبينة كظهور وارث آخر لم يكن معلوما وقت القسمة فتنتقض القسمة لحقه.(15/62)
وإذا كانت القرية وأرضها بين رجلين بالشراء فمات أحد وترك نصيبه ميراثا فأقام ورثته البينة على الميراث وعلى الأصل وشريك أبيهم غائب لم يقسم حتى يحضر الغائب لأن حضور ورثة الميت لو كان حيا وقد بينا في الشركة في المشتراة أن غيبة بعض الشركاء يمنع القاضي من القسمة وإن قامت البينة على الشراء فهذا مثله ولو حضر الغائب وغاب بعض الورثة قسمتها بينهم لأن من حضر من الورثة قائم مقام الميت وحضوره كحضور الميت لو كان حيا ولأن بعض الورثة في التركة خصم عن البعض وحضور بعضهم كحضور جماعة أما وارث الميت لا يكون خصما عن شريكه المشتري معه فلهذا لا يشتغل بالقسمة عند غيبة الشريك.(15/63)
ص -32- ... ولو كان الأصل بين رجلين ميراثا من أبيهما فمات أحدهما وترك نصيبه ميراثا بين ورثته فحضروا وغاب عنهم وأقاموا البينة على أصول ميراث الجد قسمتها بينهم ويعزل نصيب عمهم وكذلك لو كان عمهم حاضرا وغاب بعض بني أخيه لأن الأصل ميراث هنا وفي الميراث بعض الورثة يكون خصما عن البعض فيجعل حضور بعضهم كحضور جماعتهم للقسمة عند إقامة البينة ويعزل نصيب كل غائب من ذلك كما لو كانت الشركة بالميراث بينهم من رجل واحد.(15/64)
وإذا اقتسم القوم القرية وهي ميراث بينهم بغير قضاء قاض وفيهم صغير ليس له وصي أو غائب ليس له وكيل لم تجز القسمة لأنه لا ولاية لهم على الغائب والصغير والظاهر أن نظرهم لأنفسهم في هذه القسمة فوق نظرهم للغائب والصغير بخلاف القاضي إذا قسم بينهم فله ولاية النظر على الصبي والغائب والظاهر أنه ينظر له شفقة لحق الدين بعجزه عن النظر لنفسه وكذلك لو اقتسموها بأمر صاحب الشرط أو عامل غير القاضي كالعامل على الرستاق أو الطسوج على الخراج أو على المعونة لأنه لا ولاية لهؤلاء على الغائب والصغير فوجود أمرهم كعدمه وكذلك لو رضوا بحكم بعض الفقهاء فسمع من بينهم على الأصل والميراث ثم قسمها بينهم بالعدل وفيهم صغير لا وصي له أو غائب لا وكيل له لم تجز لأن الحكم لا ولاية له على الغائب والصبي فإنه صار حكما بتراضي الخصوم فيقتصر ولايته على من وجد منه الرضا بحكمه فإن أجاز الغائب أو كبر الصبي فأجاز فهو جائز لأن هذا العقد مجيزا حال وقوعه ألا ترى أن القاضي لو أجاز جاز وهو نظير ما لو باع إنسان مال الصبي فكبر الصبي وأجاز ذلك وإن مات الغائب أو الصغير فأجاز وارثه لم يجز في القياس وهو قول محمد رحمه الله لأن الملك حادث للورثة فلا تعمل إجازة الوارث كما لو باع إنسان ماله وأجاز وارثه بعد موته البيع لم يجز ذلك لهذا المعنى وفي الاستحسان يجوز وهو قولهما لأن الوارث يخلف المورث فأجازته بعد موته كإجازة المورث في حياته وحرف الاستحسان وبه يتضح الفرق بين هذا وبين سائر التصرفات أن الحاجة إلى القسمة قائمة بعد موت المورث كما كان في حياته فلو نقضت تلك القسمة احتيج إلى إعادتها في الحال بتلك الصفة وإنما تكون إعادتها برضى الوارث فلا فائدة في نقضها مع وجود الإجازة منه لتعاد برضاه بخلاف البيع فإنا لو نقضنا ذلك البيع عند الموت لا تقع الحاجة إلى إعادته فالبيع لا يكون مستحقا في كل عين لا محالة فلهذا لا يعمل إجازة الوارث فيه بعد تعين جهة(15/65)
البطلان فيه بموت المورث والله أعلم.
باب قسمة الحيوان والعروض
قال رحمه الله: وإذا كانت الغنم بين قوم ميراثا أو شراء فأراد بعضهم قسمتها وكره ذلك بعضهم وقامت البينة على الأصل فإن القاضي يقسمها بينهم لأن اعتبار المعادلة في المنفعة والمالية عند اتحاد جنس الحيوان ممكن للتقارب في المقصود فيغلب معنى التمييز في هذه(15/66)
ص -33- ... القسمة على معنى المعاوضة وبمعنى التمييز يثبت للقاضي ولاية إجبار بعض الشركاء عليه وكذلك كل صنف من الحيوان أو غيره من الثياب أو ما يكال أو يوزن فعند اتحاد الجنس يجبر القاضي على القسمة عند طلب بعض الشركاء إلا في الرقيق فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول لا يقسم الرقيق بينهم إذا كره ذلك بعضهم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقسم ذلك بينهم بطلب بعضهم لأن الرقيق جنس واحد إذا كانوا ذكورا أو إناثا ومراعاة المعادلة في المنفعة ممكن لتقارب المقصود فيقسمها بينهم عند طلب بعضهم كما في سائر الحيوانات ألا ترى أن الرقيق كسائر الحيوانات في سائر العقود من حيث أنها تثبت في الذمة مهرا ولا تثبت سلما فكذلك في القسمة يجعل الرقيق كسائر الحيوانات والدليل عليه أن الرقيق يقسم في الغنيمة كسائر الأموال فكذلك في القسمة بين الشركاء وأبو حنيفة رحمه الله يقول التفاوت في الرقيق أظهر منه في الأجناس المختلفة فإن الأجناس المختلفة قد تتفاوت في المالية والرقيق يتفاوت تفاوتا فاحشا ثم قسمة الجبر لا تجري في الأجناس المختلفة فكذلك في الرقيق وهذا لأن المعتبر المعادلة في المالية والمنفعة وذلك يتفاوت في الآدمي باعتبار معاني باطلة لا يوقف عليها حقيقة كالدهن والكتابة وقد يرى الإنسان من نفسه ما ليس فيه حقيقة أو أكثر مما هو فيه فيتعذر اعتبار المعادلة في المالية وبترجح معنى المعاوضة في هذه القسمة على معنى التمييز فلا يجوز إلا بالتراضي.(15/67)
والدليل على الفرق بين الرقيق وسائر الحيوانات أن الذكور والإناث في سائر الحيوانات جنس واحد وفي الرقيق هما جنسان حتى إذا اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هي جارية لم يجز الشراء بخلاف سائر الحيوانات وما كان ذلك إلا باعتبار معنى التفاوت وهذا بخلاف قسمة الغنيمة فإنها تجري في الأجناس المختلفة وكان المعنى فيه أن حق الغانمين في معنى المالية دون العين حتى كان للإمام بيع المغانم وقسمة الثمن فإنما يعتبر اتصال مقدار من المالية إلى كل واحد منهم فأما في الشركة الملك حق الشركاء في العين والمالية فللإمام حق التمييز بالقسمة على طريق المعادلة وليس له ولاية المعاوضة فإذا كان يتعذر اعتبار المعادلة هنا بطريق التمييز لا يثبت للقاضي ولاية الإجبار على القسمة إلا أن يكون مع الرقيق شيء آخر من غنم أو ثياب أو متاع فحينئذ يقسم ذلك كله وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول تأويل هذه المسألة أنه يقسم ذلك برضاء الشركاء فأما مع كراهة بعضهم القاضي لا يقسم لأنه إذا كان عند اتحاد الجنس في الرقيق لا يقسم قسمة الجبر عند أبي حنيفة رحمه الله فعند اختلاف الجنس أولى والأظهر أن قسمة الجبر هنا تجري عند أبي حنيفة رحمه الله باعتبار أن الجنس الآخر الذي هو مع الرقيق يجعل أصلا في القسمة وحكم القسمة جبرا يثبت فيه فيثبت في الرقيق أيضا تبعا وقد يثبت حكم العقد في الشيء تبعا وإن كان لا يجوز إثباته فيه مقصودا كالشرب والطريق في البيع والمنقولات في الوقت وكأنه استحسن ذلك لأنه قل ما تخلو تركة يحتاج فيها إلى قسمة القاضي عن الرقيق وإذا كان مع الرقيق شيء آخر فباعتبار(15/68)
ص -34- ... المعادلة في المالية يتيسر بخلاف ما إذا كان الكل رقيقا فعند مقابلة الرقيق بالرقيق يعظم الغبن والتفاوت وعند مقابلة الرقيق بمال آخر يقل التفاوت.
وإن كان الذي بين الشركاء ثوب زطي وثوب هروي وبساط ووسادة لم يقسمه إلا برضاهم لأن في الأجناس المختلفة القسمة تكون بطريق المعاوضة فإن كل واحد من الشريكين يتملك على شريكه نصيبه من الجنس الذي يأخذ عوضا عما يملكه من نصيب نفسه من الجنس الآخر وفي المعاوضات لا بد من التراضي فإن كان في الميراث بينهم رقيق وثياب وغنم ودور وضياع فاقتسموها بينهم وأخذ كل واحد منهم صنفا جاز ذلك لوجود التراضي منهم على إنشاء المعاوضة وإن رفعوا إلى القاضي قسم كل صنف بينهم على حدة ولا يضيف بعضها إلى بعض لأن للقاضي ولاية التمييز بالقسمة وإنما يغلب معنى التمييز إذا قسم كل واحد من صنف على حدة ولأن القاضي يعتبر المعادلة في كل ما يتهيأ له اعتباره وقسمة كل صنف على حدة أقرب إلى المعادلة فأما اتفاقهم على القسمة يعتمد التراضي دون المعادلة وإذا تمت بتراضيهم بعد ذلك كيف وقعت القسمة.
وإذا كانت الغنم بين رجلين فقسماها نصفين ثم أقرعا فأصاب هذا طائفة وهذا طائفة ثم ندم أحدهما وأراد الرجوع فليس له ذلك لأن القسمة قد تمت بخروج السهام وكذلك لو رضيا برجل قسمها ولم يألوا أن يعدل في ذلك ثم أقرع بينهما فهو جائز عليهما لأن فعله بتراضيهما كفعلهما وإن تساهموا عليها قبل أن يقسموها فأيهم خرج سهمه عدوا له الأول فالأول فهذا يجوز لأنه مجهول لا يعرف ما يصيب كل واحد منهم بالقسمة وفي القسمة معنى البيع فالجهالة التي تفضي إلى المنازعة تفسدها كما تفسد البيع.(15/69)
وإن كان في الميراث إبل وبقر وغنم فجعلوا الإبل قسما والغنم قسما والبقر قسما ثم تساهموا عليها وأقرعوا على أن من أصابه الإبل رد كذا درهما على صاحبيه نصفين فهو جائز لأن القسمة لا تتم بينهم إلا بخروج القرعة وعند ذلك من وجب عليه الدراهم ومن وجب له معلوم بخلاف الأول فهناك عند خروج القرعة ما يأخذه كل واحد ممن خرجت القرعة باسمه مجهول فيما يتفاوت فإن ندم أحدهم بعد ما وقعت السهام لم يستطع نقض ذلك لأن القسمة تمت بالتراضي فإن رجع عن ذلك قبل أن يقع السهام فله ذلك لأن القسمة لم تتم بعد ونفوذ هذه القسمة باعتبار المراضات فيعمل الرجوع من كل واحد منهم قبل تمامها كما في البيع يصح الرجوع بعد الإيجاب قبل القبول وكذلك إن وقع سهم وبقي سهمان فرجع عن ذلك جاز رجوعه وإن وقعت السهام كلها إلا سهم واحد لم يكن لبعضهم أن يرجع بعد ذلك لأن القسمة قد تمت فبخروج سائر السهام يتعين ما يصيب السهم الباقي خرج أو لم يخرج.
وإن كان الثوب بين رجلين فأراد أحدهما قسمته لم يقسم لأن في قسمته ضررا فإنه يحتاج إلى قطع الثوب بينهما وفي قطعه إتلاف جزء منه فلا يفعله القاضي مع كراهة بعض الشركاء فإن رضيا بذلك جميعا قسمه بينهما لوجود الرضا منهما بالتزام هذا الضرر وقد قال(15/70)
ص -35- ... بعض مشايخنا القاضي لا يفعل ذلك وإن تراضيا عليه ولكن إن اقتسما فيما بينهما لم يمنعهما من ذلك لأن في هذه القسمة إتلاف جزء والقاضي بقضائه يحصل ولا يتلف وقد تقدم نظيره فيما لا يحتمل القسمة كالحمام وغيره فإن اقتسماه فشقاه طولا أو عوضا بتراض منهما فهو جائز وليس لواحد منهما أن يرجع بعد تمام القسمة.
وإن كانت الثياب بين قوم إن اقتسموها لم يصب كل واحد منهم ثوب تام فإن القاضي لا يقسمها بينهم لأنها تحتاج إلى القطع وفيه إتلاف جزء وإن تراضوا بينهم على شيء جاز ذلك ولو كانت ثلاثة أثواب بين رجلين فأراد أحدهما قسمتها وأبى الآخر فإني أنظر في ذلك إن كانت قسمتها تستقيم من غير قطع بأن تكون قيمة ثوبين مثل قيمة الثالث فإن القاضي يقسمها بينهما فيعطي أحدهما ثوبين والآخر ثوبا وإن كان لا يستقيم لم أقسمها بينهم إلا أن تراضوا فيما بينهم على شيء هكذا قال في الكتاب والأصح أن يقال إن استوت القيمة وكان نصيب كل واحد منهما ثوب ونصف فإنه يقسم الثوبين بينهما ويدع الثالث مشتركا وكذلك إن استقام أن يجعل أحد القسمين ثوبا وثلثي الآخر والقسم الآخر ثوبا وثلث الآخر أو أحد القسمين ثوبا وربعا والآخر ثوبا وثلاثة أرباع فإنه يقسم بينهم ويترك الثوب الثالث مشتركا لأنه تيسير عليه التمييز في بعض المشترك ولو تيسر ذلك في الكل كان يقسم الكل عند طلب بعض الشركاء فكذلك إذا تيسر ذلك في البعض والله أعلم بالصواب.
باب الخيار في القسمة(15/71)
قال رحمه الله: وإذا اقتسما الشريكان عقارا أو حيوانا أو متاعا ولم ير أحدهما قسمه الذي وقع له ثم رآه فهو بالخيار إن شاء رد القسمة وإن شاء أمضاها واعلم بأن هذه المسائل في قسمة يتفقان عليها دون ما يفعله القاضي فله ولاية إجبار الشركاء عند طلب بعضهم فلا معنى لإثبات خيار الرؤية فأما فيما لا يتفقان عليه القسمة تعتمد التراضي كالبيع فكما أن في البيع الرضا لا يتم إلا برؤية العين الذي يدخل في ملكه فكذلك في القسمة والمكيل والموزون والذهب التبر وأوان الذهب والفضة والجواهر في ذلك كله سواء وإذا كانت ألفا درهم بين رجلين كل ألف في كيس فاقتسما على أن أخذ أحدهما كيسا والآخر أخذ الكيس الآخر وقد رأى أحدهما المال كله ولم يره الآخر فالقسمة جائزة على الذي رآه وعلى الذي لم يره ولا خيار لواحد منهما في ذلك على قياس البيع فإن عدم الرؤية في الثمن لا يثبت الخيار للبائع فكذلك في القسمة والمعنى أن الدراهم والدنانير أثمان محضة ولا مقصود في عينها إنما المقصود الثمنية وبمعرفة المقدار يصير المقصود معلوما على وجه لا يتفاوت ضم الرضا به قبل الرؤية بخلاف سائر الأعيان إلا أن يكون قسم الذي لم ير المال شرهما فيكون له الخيار لأنه إنما رضي بقسمه على أن يكون في الصفة مثل ما أخذه صاحبه فإذا كان دون ذلك لم يتم رضاه فيخير في ذلك كما لو رأى عند الشراء جزءا من المكيل أو الموزون ثم كان ما بقي شرا مما رأى فإنه يثبت له الخيار.(15/72)
ص -36- ... فإذا اقتسم الرجلان دارا وقد رأى كل واحد منهما ظاهر الدار وظاهر المنزل الذي أصابه ولم يرجو فيه فلا خيار لهما إلا على قول زفر رحمه الله وقد بينا المسألة في البيوع أن برؤية الظاهر من حيطان الدار المشتراة يسقط خيار الرؤية عندنا ولا يسقط عند زفر رحمه الله ما لم يدخلها فكذلك القسمة وكذلك إن اقتسما بستانا وكرما فأصاب أحدهما البستان والآخر الكرم ولم ير واحد منهما الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله ولا شجرة ولكنه رأى الحائط من ظاهره فلا خيار لواحد منهما ورؤية الظاهر مثل رؤية الباطن وبه يتبين أن قول من يقول جوابه في الدار بناء على دور الكوفة فإنها لا تتفاوت إلا في السعة والضيق ضعيف جدا ففي البستان المقصود يتفاوت بتفاوت الأشجار والنخيل ولم يشترط رؤية شيء من ذلك عرفنا أن المعنى فيه أن ما يتعذر الاستقصاء برؤية كل جزء منه مقام رؤية الجميع في إسقاط خيار الرؤية وكذلك في الثياب المطوية يجعل رؤية جزء من ظاهر كل ثوب كرؤية الجميع في إسقاط الخيار واشتراط الخيار في القسمة جائز فهو في البيع لأنها في اعتبار تمام الرضا كالبيع وفي احتمال الفسخ كذلك والخيار بعدم تمام الرضا فإنما يشترط الفسخ أو لئلا يثبت صفة اللزوم مع بقاء الخيار في جانب من شرط الخيار لنفسه فإن مضت الثلاثة ثم ادعى أحدهما الرد بالخيار في الثلاثة وادعى الآخر الإجازة فالقول قول مدعي الإجازة لأن مضي المدة قبل ظهور الفسخ متمم للعقد فمن يدعي الإجازة يتمسك بما يشهد له الظاهر به وإن أقاما البينة فالبينة بينة من يدعي الرد لأن بينته تثبت الفسخ وهو المحتاج إلى الإثبات دون صاحبه وسكنى الدار التي وقعت في سهم صاحب الخيار رضا منه بها وإبطال للخيار وقد بينا اختلاف الروايات في هذه المسألة في البيوع وأن مراده حيث يقول ذلك رضا منه إذا تحول إليها وسكنها بعد القسمة وحيث يقول لا يكون رضا إذا كان ساكنا فيها فاستدام السكنى وكذلك إن بنى أو هدم فيها(15/73)
شيئا لو جصصها أو طين فيها حائطا أو ذرع الأرض أو سقاها أو قطف الثمرة أو غرس الشجر أو لقح النخل أو كسح الكرم فهو كله رضا لأنه تصرف لا يفعل عادة إلا في الملك ومباشرته دليل الرضا بملكه في ذلك المحل ودليل الرضا كصريح الرضا في سقوط الخيار به.
ويجوز قسمة الأب على الصغير والمعتوه في كل شيء ما لم يكن عليهما فيه غبن فاحش لأن له ولاية البيع عليهما ما لم يكن فيه غبن فاحش ويجعل رضاه في ذلك كرضاهما أن لو كانا من أهل الرضا فكذلك في القسمة وكذلك وصي الأب في ذلك قائم مقام الأب بعد موته فكذلك الجد أب الأب إذا لم يكن وصيا ويجوز قسمة وصي الأم إذا لم يكن أحد من هؤلاء فيما سوى العقار من تركة الأم لأنه قائم مقام الأم في ذلك وتصرفها في ملك ولدها الصغير بالبيع صحيح فيما سوى العقار فكذلك تصرف وصيها بعدها وهذا لأن لها ولاية الحفظ والبيع والقسمة فيما سوى العقار فيه معنى الحفظ ولا يوجد ذلك في العقار وكذلك وصي الأخ والعم وبن العم في ميراثه منهم ولا يجوز فيه قسمته في ميراثه من(15/74)
ص -37- ... غيرهم لأن الوصي قائم مقام الموصي فيثبت له ولاية الحفظ عليه فيما ورث منه ولأن في حفظ ذلك منفعة للموصي فإنه إذا ظهر عليه دين يباع ذلك في دينه وليس له ولاية الحفظ فيما ورث من غيره كما لم يكن للموصي فيه ولاية وهذا ليس في حفظه معنى النظر للموصي إنما فيه معنى النظر لليتيم ولا ولاية لوصي العم وبن العم على اليتيم وهذا بخلاف وصي الأب فقد كان للأب ولاية على الصغير في جميع ذلك ووصيه بعده يقوم مقامه.
وإذا كان له أب أو وصي أو جد لم تجز قسمة وصي هؤلاء فيما سوى العقار في تركتهم عليه لأن الأب قائم مقامه أن لو كان حاضرا بالغا وعند ذلك لا يكون لوصي هؤلاء عليه ولاية القسمة في شيء من ذلك فكذلك إذا كان له أب يقوم مقامه وهذا لأن نظر الأب له يكون عن شفقة وافرة وولاية كاملة كنظره لنفسه ولا حاجة مع وجوده إلى اعتبار نظر وصي العم له بخلاف حال عدم الأب والوصي.
ويجوز قسمة وصي الأب على الابن الكبير الغائب فيما سوى العقار لأنه قائم مقام الأب فيما يرجع إلى حفظ تركته والقسمة فيما سوى العقار ترجع إلى حفظ التركة ولا تجوز قسمة الأم والعم والأخ والزوج على امرأته الصغيرة والكبير الغائب وإن لم يكن لأحد منهم أب ولا وصي أب لأنه لا ولاية لأحد من هؤلاء على الصغير فلا ينفذ تصرفه من حيث القسمة والبيع عليه وقد بينا أنه إنما ينفذ عليه من قسمة هؤلاء فيما يرجع إلى الحفظ من تركة الموصي خاصة دون غيره فأما في سائر أموال الصغير هم ووصيهم كالأجانب ولا يجوز قسمة الكافر والمملوك والمكاتب على ابنه الحر الصغير المسلم لأنه لا ولاية له عليه فالكفر والرق يخرجه من الأهلية للولاية على المسلم ولا تجوز قسمة الملتقط على اللقيط وإن كان يعوله لأنه لا ولاية له عليه في التصرف في ماله بيعا وشراء فالقسمة مثله.(15/75)
والوصي الذي يقيمه القاضي في أمر اليتيم بمنزلة وصي الأب إذا جعله وصيا في كل شيء لأن له ولاية كاملة على الصغير تعم المال والنفس جميعا كولاية الأب فوصيه أيضا كوصي الأب وإن جعله وصيا في النفقة خاصة أو في حفظ شيء عنده لم تجز قسمته لأن نصيب القاضي إياه وصيا قضاء منه والقضاء يقبل التخصيص وهذا بخلاف ما إذا جعله الأب وصيا في شيء خاص لأن إيصاء الأب إليه إثبات الولاية بعد موته والولاية لا تحتمل التجزي والمعنى في الفرق أن قسم القاضي يتصرف مع بقاء رأي القاضي فلا حاجة إلى إثبات ولايته من غير ما أمر القاضي به لتمكن القاضي من النظر في ذلك بنفسه له فيكون من هذا الوجه نصيب القيم بمنزلة الوكيل فأما وصي الأب إنما يتصرف بعد موت الأب وزوال تمكنه من النظر لنفسه فالحاجة تمس إلى تعميم ولايته فيما يحتاج الصبي إلى من ينظر فيه له ومن وجد من الشركاء بنصيبه عيبا بعد تمام القسمة كان له أن يرده بالعيب وينقض القسمة إن كان شيئا واحدا أو كان مكيلا أو موزونا كما ينقض البيع بالرد بالعيب وسواء كانت القسمة.(15/76)
ص -38- ... باصطلاحهما أو بحكم الحاكم لأن الحاكم إنما يميز نصيب كل واحد منهما فيما أعطاه على أنه سليم من العيب فيثبت لكل واحد منهما استحقاق السلامة عن العيب سواء كانت القسمة بالتراضي أو بقضاء القاضي فبوجود العيب يفوت ما كان مستحقا له فيتخير لذلك.
قال: وإن كان الذي أصابه عدد من الغنم أو الثياب رد الذي به العيب خاصة بعد القبض كما هو في البيع فإنه لو اشترى شاتين وقبضهما ثم وجد بأحديهما عيبا رد المعيب خاصة فهذا مثله ويكون المردود بينه وبين أصحابه لانتقاض القسمة فيه بالرد ويرجع في جميع ما أصابهم بقدر ذلك لأن عند الرد بالعيب يكون رجوعه بعوض المردود والعوض حصته هنا مما أصابهم فيرجع عليهم بقدر ذلك كما يرجع في البيع بالثمن إذا رد المبيع بالعيب وإن أصابه دار أو خادم فسكن الدار بعد ما رأى العيب أو استخدم الجارية لم يكن هذا رضا بالعيب استحسانا وفي القياس هو رضا لأنه تصرف لا يفعله الإنسان إلا في ملكه عادة فإقدامه عليه دليل الرضا بتقرير ملكه وهو كالعرض على البيع أو زراعة الأرض أو طحن الطعام أو قطع الثوب بعد العلم بالعيب ولكنه استحسن فقال الاستخدام والسكنى قد يفعله الإنسان في ملك الغير عادة بإذن المالك وبغير إذن المالك فلا يكون ذلك دليل الرضا ولأنه يفعل ذلك على سبيل الاختيار لينظر أن هذا العيب هل يمكن نقصانا في مقصوده أو لا فلا يجعل ذلك دليل الرضا منه وقيل جوابه هنا في السكنى بناء على إحدى الروايتين في السكنى مدة خيار الشرط إذ لا فرق بين الفصلين ومنهم من فرق فقال حقه هنا في المطالبة بالجزء الفائت وفي إسقاط حقه إضرار به ومجرد السكنى منه لا يكون رضا بالتزام الضرر فأما في خيار الشرط حقه في الفسخ فقط وفي جعل السكنى بمنزلة الرضا إسقاط لحقه في الفسخ ولكن ليس في ذلك كثير ضرر ألا ترى أنه إذا تعذر رده بخيار الشرط لا يرجع بشيء وإن تعذر رده بالعيب رجع بحصته من الثمن؟(15/77)
وإذا ركب الدابة أو لبس الثوب أو سقى الزرع فهذا رضاء بالعيب لأنه تصرف لا يفعله الإنسان إلا في ملكه عادة وإن لبس الثوب لينظر إلى قده أو قال قدره فهذا رضاء بالعيب وليس برضا في الخيار لأنه إنما يشترط الخيار لهذا حتى ينظر أنه صالح له أم لا ولا يعرف ذلك إلا باللبس فلهذا لا يجعل ذلك دليل الرضا منه بسقوط الخيار وفي العيب ثبوت الخيار له لفوات صفة السلامة وتمكن النقصان في المالية ولا تأثير للبس في معرفة ذلك فكأن لبسه الثوب بعد العلم بالعيب دليل الرضا بملكه.
وإذا باع ما أصابه بالقسمة من الدار ولا يعلم بالعيب فرد المشتري عليه بذلك العيب فإن قبله بغير قضاء القاضي فليس له أن ينقض القسمة لأن هذا بمنزلة الإقالة والإقالة في حق شريكه كالشراء المبتدأ وإن قبله بقضاء قاض فله أن ينقض القسمة والبينة في ذلك وإباء اليمين سواء لأنه فسخ لبيعه من الأصل فعاد من الحكم ما كان قبله وإن كان المشتري هدم من الدار شيئا قبل أن يعلم بالعيب لم يكن له أن يردها ولكن يرجع على البائع بنقصان(15/78)
ص -39- ... العيب ولا يرجع البائع على شريكه بشيء لأنه تعذر الرد عليه باعتبار إخراجه نصيبه من ملكه وفي نظيره في البيع اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله موضع بيانه كتاب الصلح فينبغي أن يكون الجواب في القسمة كذلك وإن كان الشريك هو الذي هدم شيئا منه ولم يبعه ثم وجد به عيبا رجع بنقصان العيب في أنصباء شركائه إلا أن يرضوا بنقض القسمة ورده بعينه مهدوما لأنه تعذر الرد لدفع الضرر عنهم فإذا رضوا بذلك رد عليهم وإذا أبوا أن يرضوا به فكما يجب النظر لهم يجب النظر لمن وقع في سهمه فلهذا يثبت له حق الرجوع بنقصان العيب على شركائه في أنصبائهم والله أعلم.
باب الاستحقاق في القسمة(15/79)
قال رحمه الله: وإذا كانت الدار بين رجلين نصفين فاقتسماها فأخذ أحدهما الثلث من مقدمها وقيمته ستمائة وأخذ الآخر الثلثين من مؤخرها وقيمته ستمائة وهي ميراث بينهما أو شراء ثم استحق نصف ما في يدي صاحب المقدم فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في هذا يرجع صاحب المقدم على صاحب المؤخر بربع ما في يده وقيمة ذلك مائة وخمسون درهما إن شاء وإن شاء نقص القيمة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرد ما في يده ويبطل القسمة فيكون ما بقي في أيديهما بينهما نصفين وفي رواية أبي حفص رحمه الله ذكر محمد مع أبي حنيفة وهو الأصح فقد ذكر بن سماعة أنه كتب إلى محمد يسأله عن قوله في هذه المسألة فكتب إليه أن قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن استحقاق نصف ما في يد صاحب المقدم شائعا ظهر لهما شريك ثالث في الدار والدار المشتركة بين ثلاثة نفر إذا اقتسمها اثنان منهم لا تصح القسمة كما لو استحق المستحق ربع الدار شائعا يوضحه أن استحقاقه الدار وإن كان من نصيب صاحب المقدم خاصة فذلك يؤدي إلى الشيوع في الكل لأنه إذا أخذ المستحق نصف ما في يد صاحب المقدم رجع بحصته ذلك فيما في يد صاحب المؤخر فيكون ذلك بمنزلة ما لو كان المستحق جزءا شائعا في الكل وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن القسمة في معنى البيع واستحقاق بعض المبيع لا يبطل البيع فيما بقي ولكن يثبت الخيار للمشتري بين نقض البيع في الباقي وبين الرجوع بعوض المستحق كما لو اشترى نصف داره فاستحق ذلك النصف فكذلك في القسمة ولئن كان بطريق التمييز فهو أبعد عن الانتقاض فيما بقي باستحقاق بعضه وهذا لأن ما تبين بالاستحقاق لا يمنع ابتداء القسمة فإنه لو كان مؤخر الدار بين شريكين ولهما شريك ثالث في نصف المقدم بنصفه فاقتسما على أن أخذ أحدهما نصيبهما من النصف المقدم مع ربع النصف المؤخر وأخذ الآخر ما بقي كان ذلك جائزا وما لا يمنع ابتداء القسمة لا يمنع بقاءها بطريق الأولى(15/80)
بخلاف ما إذا كان المستحق جزءا شائعا في جميع الدار لأن استحقاق ذلك لو كان ظاهرا لم تجز القسمة بينهما ابتداء فكذلك لا يبقى.
وبهذا تبين أن هذا بمنزلة ما لو استحق من المقدم بيت بعينه فكما أن هناك لا تبطل.(15/81)
ص -40- ... القسمة فيما بقي فكذلك هنا وإنما يرجع صاحب المقدم على شريكه بربع ما في يده إذا اختار إمضاء القسمة لأنه لو استحق جميع المقدم رجع على شريكه بنصف ما في يده فإذا كان المستحق نصفه يرجع عليه بنصف نصف ما في يده يوضحه أن جميع قيمة الدار ألف ومائتي درهم وباستحقاق نصف المقدم يتبين أن المشترك بينهما تسعمائة فحق كل واحد منهما في أربعمائة وخمسين والذي بقي في يد صاحب المقدم يساوي ثلاثمائة وما في يد صاحب المؤخر يساوي ستمائة فيرجع عليه بربع ما في يده وقيمته مائة وخمسون حتى يسلم لكل واحد منهما ما يساوي أربعمائة وخمسين فلو كان صاحب المقدم باع نصف ما في يده واستحق النصف الباقي فإنه يرجع في قول أبي حنيفة رحمه الله على صاحبه بربع ما في يده إن كان الذي باع بألف درهم أو بعشرة دراهم وعند أبي يوسف رحمه الله يرجع فيما في يد صاحبه من الدار فيكون بينهما نصفين ويضمن نصف قيمة ما باع لصاحبه وفي قول محمد رحمه الله اضطراب كما بينا وهذا بناء على الفصل الأول عند أبي يوسف رحمه الله يتبين بالاستحقاق أن القسمة كانت فاسدة والمقبوض بالقسمة الفاسدة ينفذ البيع فيه كالمقبوض بالشراء الفاسد ويكون مضمونا بالقيمة فلهذا يضمن نصف قيمة ما باع لشريكه وما في يد صاحب المؤخر بينهما نصفان وعند أبي حنيفة رحمه الله القسمة كانت صحيحة فيما بقي وكان له الخيار في بعض القسمة فبالبيع سقط خياره ويتعين حقه في الرجوع بعوض المستحق وذلك ربع ما في يد صاحب المؤخر كما بينا.(15/82)
وكذلك أرض بين رجلين نصفان وهي مائة جريب فاقتسما على أن أخذ أحدهما بحقه عشرة أجربة تساوي ألف درهم ثم باع كل واحد منهما الذي أصابه بأقل من قيمته أو أكثر ثم استحق جريب من العشرة الأجربة فرد المشتري ما بقي منهما على البائع ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله يرجع على صاحب التسعين جريبا بخمسين درهما وفي قول أبي يوسف رحمه الله تكون التسعة الأجربة بينهما نصفين ويضمن صاحب التسعين جريبا خمسمائة درهم لصاحبه لأن عند أبي يوسف رحمه الله يتبين فساد القسمة باستحقاق مقدار جريب من العشرة شائعا وبيع صاحب العشرة الأجربة قد انفسخ من الأصل يرد الباقي عليه بعيب التبعيض وكأنه لم يبع ذلك فهي بينهما نصفين وصاحب التسعين جريبا قد باع ما قبضه بقسمة فاسدة فينفذ بيعه ويضمن نصف قيمته لصاحبه بقدر حصته وذلك خمسمائة درهم وعند أبي حنيفة رحمه الله القسمة كانت صحيحة وتبين بالاستحقاق أن المشترك بينهما ما يساوي ألفا وتسعمائة لكل واحد منهما تسعمائة وخمسون والسالم للذي أخذ عشرة أجربة تسعمائة ولصاحبه ألف فيرجع على صاحبه بخمسين درهما لأنه قد باع ما في يده وإذا رجع بذلك سلم لكل واحد منهما تسعمائة وخمسون.
وإذا كانت مائة شاة بين رجلين فاقتسماها على أن أخذ أحدهما أربعين منها ما تساوي خمسمائة وأخذ الآخر منها ستين تساوي خمسمائة فاستحقت شاة من الأربعين تساوي.(15/83)
ص -41- ... عشرة دراهم فإنه يرجع بخمسة دراهم في الستين شاة عندهم جميعا وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين ما سبق باعتبار أن المستحق شاة بعينها فلا يوجب ذلك نقض القسمة فيما بقي وتبين أن المشترك بينهما تسعمائة وتسعون درهما والذي سلم لأخذ الأربعين ما يساوي أربعمائة وتسعين ولصاحب الستين ما يساوي خمسمائة فيرجع عليه بمقدار الخمسة لتكون حصة كل واحد منهما ما يساوي أربعمائة وخمسة وتسعين وإنما يرجع بذلك في الستين شاة لأنها باقية في يده فيضرب هو في الستين بخمسة دراهم وصاحبه بأربعمائة وخمسة وتسعين فالسبيل أن يجعل كل خمسة بينهما فيكون الستين سهما على مائة سهم للمستحق عليه سهم ولصاحب الكثير تسعة وتسعون سهما منها وفي ظاهر الرواية ليس للمستحق عليه أن ينقض القسمة فيما بقي كما لو اشترى عددا من الغنم فاستحق واحد منها بعد القبض وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن ينقض القسمة فيما بقى وهكذا في البيع ليفرق الصفقة عليه فالعقد في المستحق يبطل من الأصل فلا فرق بينهما بعد القبض وقبله.
وإذا كان كر حنطة بين رجلين نصفين عشرة أقفزة منها طعام جيد على حدة وثلاثون قفيزا رديء على حدة فأراد أحدهما أن يأخذ العشرة بحقه ويأخذ شريكه الثلثين بحقه لم يصح ذلك لأن في هذه القسمة معنى البيع ومبادلة الحنطة بجنسها متفاضلا ربا فإن رد الذي أخذ الثلاثين قفيزا ثوبا بعينه على صاحبه واقتسما على ذلك جاز بناء على أصلنا أن الفصل يجعل بمقابلة الثوب احتيالا لتصحيح العقد وإن استحق من الثلاثين عشرة مخاتيم فإنه يرجع عليه بنصف الثوب.(15/84)
وفي زيادات الزيادات قال في هذه المسألة يرجع بثلث الثوب وسدس الطعام الجيد وقيل ما ذكر ثمة جواب القياس وما ذكر في كتاب القسمة جواب الاستحسان وجه القياس أنه لو استحق جميع الطعام الرديء يرجع على صاحبه بجميع الثوب ونصف الطعام الجيد والعشرة ثلث الثلاثين فعند استحقاق العشرة يرجع بثلث ذلك اعتبارا للبعض بالكل وبيان المعنى فيه أن عشرة من الثلاثين أخذها باعتبار ملكه وعشرة بالمقاسمة بمقابلة العشرة التي أخذها صاحبه وعشرة عوضا عن الثوب والعشرة المستحقة شائعة في الكل ثلثها فيما أخذ بقديم ملكه فلا يرجع فيه على أحد بشيء والثلث مما أخذه عوضا عن الثوب فيرجع بعوضه وهو ثلث الثوب والثلث مما أخذه بالمقاسمة فيرجع بما يقابله من الطعام الجيد بقدر حصته وذلك قفيز وثلثا قفيز لأن العشرة كلها لو استحقت رجع عليه بخمسة أقفزة فإذا استحق الثلث رجع عليه بثلث الخمسة وثلثها قفيز وثلث قفيز سدس الطعام الجيد ووجه الاستحسان أن المستحق إنما يجعل شائعا في الكل إذا استوت الجهالة فأما إذا تفاوتت فلا كما إذا باع ثوبا وقلبا وزنه عشرة دراهم بعشرين درهما وتقابضا ثم استحقت عشرة من العشرين فإن المستحق يجعل من ثمن الثوب خاصة لأنه لو جعل بعضه من ثمن القلب بطل العقد في القلب(15/85)
ص -42- ... بقدره ولو جعل من ثمن الثوب لم يبطل العقد في شيء من القلب فيجعل ذلك من ثمن الثوب لإبقاء العقد صحيحا حين لم تثبت المساواة فهناك كذلك لأن المقصود بالقسمة التمييز والمعاوضة فيها بيع ولا مساواة بين المقصود والبيع فلا يجعل شيء من المستحق مما أخذه بالمقاسمة لإبقاء معنى التمييز بحسب الأمكان ولو جعل شيء من المستحق بمقابلة العشرة التي أخذها بالقسمة تنتقض القسمة فيحتاج إلى إعادتها ثانية فلا يجعل شيء بمقابلة كيلا ينتقض وإذا جعلنا المستحق ما وراء العشرة المقسومة يكون النصف من العشرة المشتراة والنصف العشرة الموزونة لم يرجع به على أحد وما أخذ من العشرة المأخوذة على وجه الشراء رجع بحصته من الثمن وثمنه نصف الثوب فلهذا يرجع عليه بنصف الثوب ولكن يجعل المستحق نصف العشرين الذي أخذه بمقابلة الثوب وعشرة من تلك العشرين أخذها بقديم ملكه وعشرة عوضا عن الثوب فنصف المستحق مما كان بمقابلة الثوب فلهذا يرجع بنصف الثوب خاصة.(15/86)
وإذا كان كر حنطة وكر شعير بين رجلين فاقتسماه فأخذ أحدهما ثلاثين مختوما حنطة رديئة وعشرة مخاتيم شعيرا جيدة وأخذ الآخر عشرة مخاتيم حنطة جيدة وثلاثين مختوما شعيرا رديئا ثم استحق نصف الشعير الرديء فإنه يرجع عليه بربع عشرة مخاتيم حنطة وهذا غلط بين فإن العشرة المخاتيم حنطة جيدة في يد المستحق عليه فكيف يرجع بربعه والصحيح ما في النسخ العتيقة أنه يرجع بربع المخاتيم حنطة يعني بثلاثين مختوما حنطة رديئة التي أخذها صاحبه يرجع بربع ذلك وهو سبعة أقفزة ونصف وهو جواب الاستحسان وفي القياس على ما ذكره في زيادات الزيادات يرجع عليه بخمسة أقفزة حنطة رديئة وقفيزين ونصف شعير جيد وجه القياس أنه لو استحق جميع الشعير الرديء من يده رجع على صاحبه بثلث الحنطة الرديئة عشرة أقفزة ونصف الشعير الجيد خمسة أقفزة فإن استحق نصف الشعير الرديء يرجع بنصف كل واحد منهما وبيانه من حيث المعنى أنه أخذ الثلاثين قفيزا شعيرا رديئا عشرة بقديم ملكه وعشرة بالمقاسمة فقد أخذ صاحبه عشرة أقفزة شعيرا جيدا وعشرة بالمعاوضة وعوضه عشرة أقفزة من الحنطة الرديئة التي أخذها صاحبه من نصيبه فإذا استحق النصف كان ثلث المستحق مما أخذه بقديم ملكه فلا يرجع باعتباره على أحد بشيء وثلثه مما أخذه صاحبه بالمعاوضة فيرجع بعوضه على صاحبه وذلك خمسة أقفزة من الحنطة الرديئة وثلثه مما أخذه بالمقاسمة فيرجع على صاحبه بنصف ذلك قدر حصته من الشعير الجيد وذلك قفيزان ونصف ووجه الاستحسان ما بينا أن المستحق لا يجعل شيء منه من المأخوذ بالمقاسمة لإبقاء معنى التمييز وإنما يجعل نصفه من المأخوذ بقديم ملكه ونصفه من المأخوذ بالمعاوضة فيرجع بعوض ذلك على صاحبه وذلك سبعة أقفزة ونصف من الطعام الرديء وربع الثلاثين قفيزا يكون سبعة أقفزة ونصف فلهذا قال يرجع بربع المخاتيم حنطة.
وإذا كانت الدار بين رجلين نصفين فاقتسماها وأخذ أحدهما النصف المقدم وقيمته(15/87)
ص -43- ... ستمائة وأخذ الآخر النصف المؤخر وقيمته أربعمائة على أن يرد عليه صاحب النصف المقدم مائة درهم ثم باع كل واحد منهما ما أصابه ثم استحق نصف النصف المقدم ورجع المشتري على بائعه بحصة ذلك من الثمن وأنفذ البيع في البقية فإن صاحب المقدم يرجع على صاحب المؤخر بمائة وخمسين درهما خمسون منها نصف المائة التي نقده ومائة منهما ربع قيمة النصف المؤخر لأنه لو استحق جميع المقدم رجع على شريكه بالمائة التي أعطاها وبقيمة نصف النصف المؤخر وذلك مائتا درهم فإذا استحق نصف ذلك يرجع بنصف الثلثمائة وذلك مائة وخمسون وهذا لأن في حصة المائة كان هو مشتريا وقد استحق نصف المبيع فيرجع بنصف الثمن وتبين أن المشترك بينهما ما يساوي سبعمائة وأن حق كل واحد منهما من ذلك ثلاثمائة وخمسون فصاحب المؤخر أخذ أربعمائة والسالم لصاحب المقدم ما يساوي مائتين وخمسين بالمقاسمة فيرجع على شريكه بربع ما أخذ وذلك مائة درهم فعند ذلك يصل إلى كل واحد منهما ما يساوي ثلاثمائة وخمسين كمال حقه ولو كان مكان المائة ثوب قائم بعينه رجع بنصف الثوب وبمائة درهم لأن المستحق مما أخذه عوضا عن الثوب نصفه فيرجع بعوضه وذلك نصف الثوب.(15/88)
وإذا كانت أرض ودار بين رجلين فاقتسماهما فأخذ أحدهما الدار والآخر الأرض على أن يرد صاحب الأرض على صاحب الدار عبدا قيمته ألف درهم وقيمة الدار ألف درهم وقيمة الأرض ألفان وقبضه ثم أن صاحب الدار باع الدار فاستحق إنسان منها علو بيت يكون ذلك البيت والسفل عشر الدار فلما استحق العلو ذهب نصف العشر ورجع المشتري على البائع بحصة ذلك من الثمن وأمسك الباقي من الدار فإن صاحب الدار يرجع بستة عشر وأربع دوانق من قيمة الأرض على صاحب الأرض في قياس قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله يرجع بذلك في رقبتها ويكون شريكا به في الأرض وقيل لا خلاف بينهم في الحقيقة وتأويل قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا ينتفع بذلك اليسير من الأرض فلهذا جعل له حق الرجوع بذلك القدر من القيمة حتى إذا رضي هو بالرجوع في رقبة الأرض بذلك القدر يكون له ذلك وإنما كان رجوعه بهذا المقدار لأن نصف الأرض بمقابلة العبد ونصفها أخذه بالمقاسمه مع الدار وقد كان قيمة الدار ألف درهم فلما استحق منها ما يساوي نصف العشر وذلك خمسون درهما تبين أن المشترك ما يساوي ألف درهم وتسعمائة وخمسين وأن حق كل واحد منهما فيما يساوي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعين وقد أخذ صاحب الأرض ألفي درهم ألف بمقابلة ما أدى من العبد وألف بالمقاسمة وأخذ الآخر تسعمائة وخمسين فيرجع على صاحبه بستة عشر درهما وأربع دوانيق في الأرض حتى يكون السالم له بالمقاسمة تسعمائة وستة وستين وثلثان ولصاحبه مثل ذلك بالمقاسمة.
قال أبو عصمة: وفي هذا الجواب نظر بل ينبغي أن يكون رجوعه بما يساوي خمسة(15/89)
ص -44- ... وعشرين لأن نصيب كل واحد منهما ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون كما بينا ولكنا نقول هذا بناء على الأصل الذي بينا لأبي حنيفة رحمه الله أن العلو مثل نصف السفل حتى قال في القسمة يحسب ذراع من السفل بذراعين من العلو فإذا استحق علو بيت يكون ذلك العلو مع السفل عشر الدار عرفنا أن المستحق ثلث العشر وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث فإنما يرجع على شريكه بنصف ذلك وذلك ستة عشر وثلثان فيستقيم الجواب بناء على ذلك الأصل وإذا وقعت القسمة في دار واحدة أو أرض واحدة وبناء أحدهما في نصيبه ثم استحق ذلك الموضع من نصيبه فرد القسمة وأراد أن يرجع بقيمة بنائه على شريكه لم يكن له ذلك لأن الرجوع بقيمة البناء في الشراء لأجل الغرور ولا غرور في القسمة فإن الشريك مجبر على القسمة عند طلب شريكه فلا يصير عاد الشريك فيما يجبره القاضي عليه فلهذا لا يرجع شريكه عليه بقيمة البناء بمنزلة الشفيع إذا أخذ الدار بالشفعة وبنى فيها ثم استحقت ونقض بناءه لم يرجع على المشتري بقيمة البناء وقد بينا في آخر الشفعة نظيره في الجارية المأسورة.(15/90)
ومن نظائره أيضا أحد الشريكين في الجارية إذا استولدها ثم استحقت وضمن قيمة الولد لم يرجع على شريكه بشيء من ذلك وكذلك إذا استولد جارية ابنه ثم استحقت وضمن قيمة الولد لم يرجع بذلك على الابن لانعدام معنى الغرور منه وهذا بخلاف الغاصب فإن المغصوب منه إذا ضمن قيمة الجارية ثم استولدها الغاصب ثم استحقت وضمن الغاصب قيمة الولد رجع به على المغصوب منه رواية عن أبي يوسف ولم يرو عن غيره خلافه لأن المغصوب منه في تضمين القيمة هناك مختار فإنه كان متمكنا من أن يصبر حتى تطهر الجارية فيتحقق الغرور من جهته حين ملكها من الغاصب بضمان القيمة ولو وقعت القسمة في دارين أو أرضين وأخذ كل واحد منهما أحدهما ثم استحقت إحداهما بعد ما بنى فيها صاحبها رجع على صاحبه بنصف قيمة البناء قيل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن قسمة الجبر لا تجري في الدور والأراضي بهذه الصفة وعلى قولهما تجري قسمة الجبر فيها فهذا والدار الواحدة عندهما سواء قال رحمه الله والأصح عندي أن هذا قولهم جميعا لأنهما ما أطلقا الجواب في قسمة الجبر في الدور ولكن قال إن رأى القاضي المصلحة في أن يقسمها قسمة واحدة فله ذلك وهما أقدما على القسمة قبل أن يرى القاضي المصلحة في ذلك فيكون هذا معاوضة بينهما عن اختيار منهما والغرور بمثله يثبت فيرجع على صاحبه بنصف قيمة البناء لأن نصف الموضع الذي بنى فيه أخذه بقديم ملكه ونصفه بالمعاوضة.
وكذلك إن اقتسما جاريتين فوطئ أحدهما الجارية التي أخذها فولدت له ثم استحقت وضمن قيمة الولد رجع على صاحبه بنصف قيمة الولد وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله لأن قسمة الجبر عنده لا تجري في الرقيق فتكون هذه معاوضة بينهما عن اختيار فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله قسمة الجبر تجري في الرقيق فلا يتحقق معنى الغرور ولا(15/91)
ص -45- ... يرجع على صاحبه بشيء من قيمة الولد ويكون له نصف الجارية التي في يد شريكه لأن القسمة قد بطلت باستحقاق نصيب أحدهما فإن كان باعها ضمنه نصف قيمتها لأنها كانت مقبوضة بقسمة فاسدة فنفذ بيعه فيها ويضمن لصاحبه قيمة حصته منها وذلك النصف.
وكذلك إذا اقتسما منزلين متفرقين في دار واحدة فقد بينا أن المنازل المتفرقة في حكم القسمة كالدور المتفرقة فإن كان القاضي قسم الدور المختلفة بين الشركاء وجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة وأجبرهم على ذلك فبنى أحدهم في الدار التي أصابته ثم استحقت وهدم بناؤه لم يرجع على شركائه بقيمة البناء لأن القاضي حين رأى جمعها في القسمة صارت كدار واحدة فإن معنى الغرور في الدار الواحدة إنما ينعدم باعتبار أن القاضي يجبر الشركاء على ذلك وقد تحقق ذلك هنا بما رآه القاضي فينعدم الغرور به فلهذا لا يرجع على شركائه بشيء من قيمة البناء.
وإذا اقتسما الرجلان دارين فأخذ أحدهما دارا والآخر دارا فبنى أحدهما في الدار التي أخذها وهدم وأنفق ثم استحق من الأخرى موضع جذع في حائط أو مسيل ماء أو طريق أو حائط بأصله أو بناء بيت فالذي استحق ذلك من يده بالخيار إن شاء نقض القسمة كلها وهدم ما أحدث هذا من البناء وضمنه قيمة ما هدم وإن شاء لم ينقض القسمة ولم يرجع بشيء ورضي بما في يده وقيل هذا الجواب قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا يكون له أن ينقض بناء شريكه على ما قال في الجامع الصغير المشتري شراء فاسدا إذا بنى في الدار المشتراة انقطع به حق البائع في الاسترداد عند أبي حنيفة رحمه الله وليس له أن ينتقض بناء المشتري وعندهما له أن ينقض بناءه فهنا إذا اختار نقض القسمة تبين أن صاحبه أخذ الدار بقسمة فاسدة فهي كالمأخوذة بالشراء الفاسد.(15/92)
قال الحاكم رحمه الله: ويحتمل أن هذا الجواب على مذهبهم جميعا تخريجا على ما هو الصحيح عند أبي يوسف من مذهب أبي حنيفة رحمهما الله إذا بنى المشتري في الدار المشتراة شراء فاسدا فإنه ذكر في الجامع الصغير شكا في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أن الدار تترك للمشتري شراء فاسدا من أجل بنائه حيث قال فيما أعلم وقيل هذه من إحدى المسائل التي جرت فيها المحاورة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقوله لا يرجع بشيء يحتمل أن يكون جوابا في استحقاق موضع الجذع ومسيل الماء خاصة لأن لما سواهما حصة من الدرك فعند الاستحقاق لا بد أن يرجع بذلك أو بقيمته إن تعذر الرجوع بعينه لأجل البناء.
ولو أخذ أحدهما دارا وأخذ الآخر دارين قيمتهما سواء فاستحقت إحداهما لم يكن له أن ينقض القسمة وكانت له الدار الباقية ويرجع بربع الدار التي أخذ الآخر بمنزلة ما لو اشترى دارين وقبضهما فاستحقت إحداهما فلا خيار له في الأخرى وإنما يرجع بحصة المستحق من الثمن فهنا أيضا لا خيار له في الباقية فيرجع بعوض المستحق وذلك ربع الدار المستحق(15/93)
ص -46- ... وذلك ربع الدار التي أخذها الآخر لأن الدارين كلاهما لو استحقتا رجع عليه بنصف الدار التي في يده فإذا استحقت إحداهما وقيمتهما سواء رجع بنصف النصف وهو الربع كما قررنا والله أعلم.
باب ما لا يقسم
قال رحمه الله: ولا يقسم الحمام والحائط وما أشبه ذلك بين الشركاء لما فيها من الضرر والمقصود بالقسمة توفير المنفعة فإذا أدى إلى الضرر وقطع المنفعة عن كل واحد منهما على الوجه الذي كان قبل القسمة لم يجبر القاضي عليه فإن رضوا به جميعا قسمه لوجود التراضي منهم بالتزام الضرر ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا في الحمام فكل واحد منهما ينتفع بنصيبه بجهة أخرى بأن يجعله بيتا وربما كان ذلك مقصود كل واحد منهم فأما في الحائط إن رضوا بالقسمة لينتفع كل واحد منهم من غير هدم فكذلك الجواب وإن رضوا بالهدم وقسمة الأسهم لم يباشر القاضي ذلك لما فيه من إتلاف الملك ولكن إن فعلوا ذلك فيما بينهم لم يمنعهم من ذلك وفي البيت الصغير لا يقسمه القاضي بينهم إذا كره ذلك بعضهم ولأن نصيب كل واحد منهم بعد القسمة ما ينتفع به إلا أن تتفاوت انصباؤهم وكان صاحب الكبير ينتفع بنصيبه بعد القسمة وهو الطالب للقسمة فحينئذ يقسمه القاضي لأنه متظلم يطلب من القاضي أن يمنع الغير من الانتفاع بملكه.(15/94)
ولو كان بناء بين رجلين في أرض رجل قد بنيا بإذنه ثم أراد قسمة البناء وصاحب الأرض غائب فلهما ذلك بالتراضي وإن امتنع أحدهما لم يجبر عليه لأن كل واحد منهما بعد القسمة لا يتمكن من إبقاء نصيبه من البناء والانتفاع به فالأرض لغيرهما بطريق العارية أو الإجارة في أيديهما وكل جزء منه كذلك بينهما ولكل واحد منهما أن يمنع صاحبه من الاختصاص بالانتفاع بما هو مستعار له أو مستأجر فكان لكل واحد منهما أن يكلف صاحبه رفع البناء لو صحت القسمة وفيه ضرر عليهما فلا يفعل القاضي ذلك إذا أتى أحدهما وإن كان أراد هدم البناء ففي هذه القسمة إتلاف الملك وقد بينا أن القاضي لا يفعل ذلك ولكن إن أرادا فعله لم يمنعهما عن ذلك وإن أخرجهما صاحب الأرض هدماه لأن صاحب الأرض له عارية في أيديهما وللمعير في العارية حق الاسترداد متى شاء فيكلفهما هدم البناء ثم النقض يحتمل القسمة بينهما فيفعله القاضي عند طلب بعض الشركاء.
وإذا كان طريق بين قوم إن اقتسموه لم يكن لبعضهم طريق ولا منفذ فأراد بعضهم قسمته لم أقسمه لما في القسمة من الضرر على بعض الشركاء بقطع منفعة ملكه عنه ويستوي إن كره صاحب الكثير أو صاحب القليل لأنه كان لكل واحد منهما حق التطرق إلى ملكه في هذا الطريق قبل القسمة وصاحب القليل من ذلك مستو بصاحب الكثير وفي القسمة تفويت هذا الحق عليه بخلاف البيت فهناك الانتفاع بعين البيت وصاحب الكثير فيه غير مستو بصاحب القليل وانقطاع المنفعة عنه لقلة نصيبه لا لأجل القسمة فلهذا قسم القاضي هناك(15/95)
ص -47- ... بطلب صاحب الكثير وهنا لا يقسم إذا كان في قسمته ضرر على بعضهم دون بعض في صغر أو أنه لا يجد طريقا إلا أن يتراضوا جميعا وإن كان يكون لكل واحد منهم طريق نافذ قسمته إذا طلب ذلك أحدهم لأنه ليس في القسمة تفويت المنفعة على بعضهم بل فيها تخصيص كل واحد منهم بالانتفاع في ملكه ورقبة الطريق مشتركة بينهم بمنزلة الأرض فتقسيمها بطلب بعضهم.
وإن كان طريق بين رجلين إن اقتسماه لم يكن لواحد منهما فيه ممر وكل واحد منهما يقدر أن يفتح في منزله بابا ويجعل طريقه من وجه آخر فأراد أحدهما قسمته وأبى الآخر قسمته بينهما لأنه لا ضرر على واحد منهما في القسمة فكل واحد منهما يتمكن من التطرق إلى ملكه من جانب آخر ولا فرق في حقه بين التطرق من هذا الجانب وبينه من الجانب الآخر وإذا كان مسيل ماء بين الرجلين أراد أحدهما قسمة ذلك وأبى الآخر فإن كان فيه موضع يسيل فيه ماؤه سوى هذا قسمته وإن لم يكن له موضع إلا بضرر لم أقسمه وهذا والطريق سواء فالمقصود هنا الانتفاع بتسييل الماء وهناك بالتطرق ولا فرق في حق كل واحد منهما بين أن يسيل ماؤه من هذا الجانب أو من جانب آخر إذا كان يتيسر له ذلك من غير ضرر وإنما شرط هذه الزيادة لأن التصويب قد يكون من جانب ولا يمكن جعل ذلك في جانب آخر بلا ضرر وإن كانت أرض صغيرة بين قوم إن اقتسموها لم يصب كل واحد منهم شيء ينتفع به فأراد بعضهم قسمتها لم أقسمها وهو وما تقدم من البيت الصغير سواء.(15/96)
وإن كانت حانوت في السوق يبيعان فيه أو يعملان بأيديهما سواء فأراد أحدهما قسمته فإني أنظر في ذلك فإن كان يصيب كل واحد منهما موضع يعمل فيه قسمته بينهما وإن كان لم يصبه ذلك لم أقسمه بينهما لمعنى الضرر وإن كان الزرع بين ورثة في أرض لغيرهم فأرادوا قسمة الزرع فإن كان قد أدرك لم أقسمه بينهم حتى يحصد بالتراضي ولا بغير التراضي لأن الحنطة مال الربا فلا يجوز قسمته مجازفة إلا بكيل ولا يمكن قسمته بالكيل قبل الحصاد وإن كان بقلا لم أقسمه لما في ذلك من الضرر على كل واحد منهم فإنه لا يتمكن بعد القسمة من ترك نصيبه بغير رضاء أصحابه لأن موضعه من الأرض عارية لهم جميعا إلا أن يشترطوا في البقل أنه يجز كل واحد منهم ما أصابه فإذا اقتسموها على هذا بتراضيهم أجزته لما بينا أن في هذه القسمة إتلاف جزء فلا يباشره القاضي ولا يمنع الشركاء منه إن تراضوا عليه.
ولو كانت أرض بين رجلين فأرادا أن يقتسما زرعها دون الأرض لم يجز ذلك إن اشترطا تركه في الأرض إلى وقت الإدراك وإن اشترطا جز ذلك واجتمعا عليه أجزته والقسمة في هذا كالبيع فكما لا يجوز شراء الزرع قبل الإدراك بشرط الترك ويجوز بشرط القطع فكذلك القسمة وكذلك طلع في نخل بين قوم إن اقتسموا الطلع على أن يتركوا على النخل لم يجز وإن اقتسموه على أن يقطع كل واحد منهم ما أصابه أجزت ذلك بمنزلة(15/97)
ص -48- ... الشراء. فإن استأذن رجل منهم أصحابه بعد القسمة في ترك ما أصابه فاذنوا له فأدرك وبلغ طاب له الفضل وإن تركه بغير رضاهم يصدق بالفضل بمنزلة المشتري للثمار على رؤوس النخيل قبل الإدراك إن ترك بإذن البائع طاب الفضل وكل شيء يحتاج في قسمته إلى كسر أو قطع لم أقسمه بينهم لما في ذلك من إتلاف الجزء إلا أن يرضى جميع الشركاء فإن رضوا قسمته فالمراد أني لا أمنعهم من أن يفعلوا ذلك بالتراضي فأما أن يباشر القاضي ذلك فلا.
وإن أوصى بصوف على ظهر غنمه لرجلين فأراد قسمته قبل الجز لم أقسمه وكذلك اللبن في الضرع لأن ذلك مال الربا فإنه موزون أو مكيل فلا يمكن قسمته إلا بوزن أو كيل وذلك بعد الحلب والجز فأما الولد في البطن فلا يجوز شركته بين الشركاء بحال لمضي الضرر والجهالة ولأن المقصود بالقسمة الحيازة وذلك فيما في البطن لا يتصور لأن كل واحد منهما لا يتمكن من إثبات اليد على نصيبه قبل الانفصال وكذلك لو قسما ذلك بينهما بالتراضي لم يجز وإن كانت قوصرة تمر بينهما أو دن خل فأراد أحدهما قسمته لأن هذا مما يتأتى فيه الكيل والوزن والقسمة فيه تمييز محض لكل واحد من الشريكين أن ينفرد به فكذلك يفعله القاضي عند طلب بعض الشركاء وإن كانت خشبة أو باب أو رحاء أو دابة بين رجلين فأراد أحدهما قسمتها لم تقسم لأنها لا تحتمل القسمة من غير ضرر وكذلك اللؤلؤة والياقوتة لا يمكن قسمتها إلا بضرر ويقسم اللؤلؤ واليواقيت بين الشريكين إذا أراد ذلك أحدهما لأن التعديل في المنفعة والمالية ممكن إذا كانت بأعيانها.(15/98)
وإن كانت جنة بين رجلين فأراد أحدهما قسمتها وأبى الآخر فإن كان في قطعها ضرر على واحد منهما لم أقسمها وإن لم يكن في ذلك ضرر قسمتها وقطعتها بمنزلة الثوب الواحد وإن كان حبا كثيرا قسمته بينهما لأنه لا حاجة إلى القطع هنا في القسمة وهو نظير الثياب إذا كانت من نوع واحد وتقسم نقرة الفضة والذهب وما أشبه ذلك مما ليس بمصوغ من الحديد والصفر والنحاس لأنه لا ضرر في قطع ذلك على واحد منهما وكذلك علو بين رجلين نصيب كل واحد منهما ما ينتفع به والسفل لغيرهما أو سفل بينهما والعلو لغيرهما فكذلك كله يقسم إذا طلب بعض الشركاء لأن العلو والسفل كل واحد منهما مسكن وفي القسمة توفير المنفعة على كل واحد منهما.
وإذا كان بين رجلين بئرا وعين أو قناة أو نهر لا أرض مع ذلك بينهما فأراد أحدهما قسمة ذلك وأبى الآخر فإني لا أقسم ذلك بينهما لأنه غير محتمل للقسمة وفيه ضرر على كل واحد منهما فإن كان مع ذلك أرض ليس لها شرب إلا من ذلك قسمت الأرض بينهما وتركت القناة والبئر والنهر على حالها لكل واحد منهما شربه منها وإن كان كل واحد منهما يقدر على أن يجعل لأرضه شربا من مكان آخر أو كانت أرضين وأنهار متفرقة أو آبار قسمت ذلك كله فيما بينهم لأنه لا ضرر على واحد منهم في هذه القسمة أو قسمة النهر والعين هنا تبع لقسمة الأراضي فهو بمنزلة البيع فالشرب يدخل في بيع الأرض تبعا وإن كان البيع لا(15/99)
ص -49- ... يجوز فيه مقصودا فكذلك في القسمة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أجبر واحدا منهما على البيع في شيء مما سميناه في هذا الكتاب وإن طلب ذلك شريكه وكان مالك رحمه الله يقول إذا كان المشترك بحيث لا يحتمل القسمة بين الشريكين فإن القاضي يجبر أحدهما على بيع نصيبه إذا طلب الآخر ذلك أو يبيع ذلك بنفسه ويقسم الثمن بينهما لأنه لا طريق لتوفير المنفعة على كل واحد منهما إلا هذا وإذا ثبت له ولاية الإجبار على القسمة لتوفير المنفعة على كل واحد منهما فكذلك يثبت له ولاية الإجبار على البيع في كل موضع تتعذر القسمة ولا يقال كل واحد منهما يقدر على بيع نصيبه وحده لأنه يتضرر بذلك فالأشقاص لا تشترى إلا بثمن وكس فينبغي أن تثبت له ولاية الإجبار على البيع لدفع الضرر وحجتنا في ذلك أن في الإجبار على البيع معنى الحجر على الحد وذلك غير جائز عندنا ثم كل واحد منهما متمكن من بيع نصيبه وحده فلا حاجة إلى إجبار الشريك على ذلك لنفوذ تصرفه في نصيبه تبعا قوله بأن لا يشتري منه إلا بوكس قلنا أنه لا يملك نصيبه إلا مشتركا ويتوفر عليه نصيبه مشتركا إنما يحصل له زيادة على ذلك فلا حق له في الزيادة توضيحه أن ولاية الإجبار لمعنى الإحراز وتحصيل الملك كما في القسمة وفي الإجبار هنا إزالة الملك وللناس في أعيان الملك أغراض ألا ترى أنه ليس لواحد منهما أن يجبر صاحبه على بيع نصيبه منه فلأن لا يكون له أن يجبره على بيع نصيبه من غيره كان أولى والله أعلم بالصواب.
باب قسمة الدار فيها طريق لغير أهلها(15/100)
قال رحمه الله: ذكر عن عكرمة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذرعوا الطريق سبعة أذرع ثم ابنوا" وبظاهر هذا الحديث يأخذ بعض العلماء رحمهم الله فيقول عند المنازعة بين الشركاء في الطريق ينبغي أن يقدر الطريق سبعة أذرع ولسنا نأخذ بذلك لأن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وقد ظهر عمل الناس فيه بخلافه فإنا نرى الطرق التي اتخذها الناس في الأمصار متفاوتة في الذرع ولو كان الحديث صحيحا لما اجتمع الناس على ترك العمل به لأن المقدار الثابت بالشرع لا يجوز لأحد أن يتجاوزه إلى ما هو أكثر منه أو أقل ثم يحمل الحديث على تأويل وهو أنه كان ذلك في حادثة بعينها وراء حاجة الشركاء إلى ذلك القدر من الطريق فأمرهم أن يتركوا ذلك القدر ويبنوا فيما وراء ذلك لبيان المصلحة لهم في ذلك لا لنصيب مقدار في الطريق شرعا.
وإذا كانت الدار بين رجلين فأراد قسمتها وفيها طريق لغيرهما فأراد صاحب الطريق أن يمنعهما من القسمة ليس له ذلك ويترك الطريق عرضه عرض باب الدار الأعظم وطوله من باب الدار إلى باب الذي له الطريق ويقسم بقية الدار بين الرجلين على حقوقهما لأنه لا حق لصاحب الطريق في بقية الدار ويترك الطريق بينهما نصفين على ما كان عليه جميع الدار بينهما قبل القسمة فإن رقبة الطريق ملكهما ولم يباشر فيه قسمة فيبقى على ما كان بينهما قبل القسمة ولصاحب الطريق ممره في ذلك وإنما جعل الطريق بعرض باب الدار لأن ذلك(15/101)
ص -50- ... طريق متفق عليه فإليه يرد المتنازع فيه ولأنه لا فائدة له في الزيادة على ذلك لأنه إنما يحمل في هذا الطريق ما يدخله من باب الدار إلى باب داره فيكفيه لذلك طريق عرضه عرض باب الدار الأعظم وطوله إلى باب داره وليس لهم قسمة هذا الطريق إلا أن يتراضوا بينهم جميعا لأن حق التطرق فيه مستحق لصاحب الطريق فكما لا يكون لصاحبي الدار أن يفوتا ذلك عليه بالبناء فكذلك لا يكون لهما أن يفوتا ذلك عليه بالقسمة وإن باعوا هذه الدار وهذا الطريق برضا منهم جميعا اقتسموا الثمن يضرب فيه صاحب الأرض بثلث الطريق وصاحب الممر بالثلث لأن المقصود بالطريق المرور فيه وصاحب الممر في ذلك مساوي للشريكين في رقبة الطريق بحق مستحق له فساواهم أيضا في ثمن حصة الطريق وكان الكرخي رحمه الله يقول تأويل هذه المسألة إذا كان هو شريكا في أصل الطريق فأما إذا كان له حق الممر ولا شركة له في أصل الطريق فلا حصة له من أصل الثمن لأن الثمن بمقابلة العين دون المنفعة فيختص به مالك العين وقد كان لصاحب الممر حق في المنفعة دون العين فإن رضي بالبيع كان ذلك منه رضا بسقوط حقه فلا يكون له في الثمن شركة ألا ترى أن بيع الممر وحده بدون رقبة الطريق لا يجوز فتبين بهذا أن شيئا من الثمن لا يقابل ما هو حق صاحب الممر.(15/102)
وقد روي عن محمد رحمه الله أنه قال: لصاحب الممر مقدار حقه من الثمن وبيان ذلك أن الطريق بين الشريكين إذا كان فيه حق الممر لآخر يكون قيمة ملكهما أنقص منه إذا لم يكن لغيرهما حق الممر فيه فقد رد ذلك النقصان حق صاحب الممر بقيمة الطريق مع ذلك النقصان بين الشريكين نصفين فيضرب كل واحد منهم في الثمن عند البيع بمقدار حقه والأصح ما ذكر في ظاهر الرواية لأنه لا مقصود في الطريق إلا الممر والمالية والتقوم باعتبار المقصود ولأجله يجوز البيع فإذا استووا في ذلك كان حق كل واحد منهم مستحقا على سبيل التأبيد ولا يتم البيع إلا برضاهم فلهذا قلنا بأنهم يستوون في الثمن.
وإن كان في الدار مسيل ماء لرجل فأراد أصحابها قسمتها لم يكن لصاحب المسيل منعهم من القسمة ولكن يتركون له مسيله وهذا والطريق سواء فيما بينا من المعنى وإن كان فيها طريق لرجل وطريق لآخر من ناحية أخرى فإنه يعزل طريق واحد عرضه عرض باب الدار إلى باب كل واحد منهما ويقسم ما بقي من الدار بين أهلها لأن مقصود كل واحد من صاحبي الطريق التطرق فيه إلى ملكه ويتوفر هذا المقصود على كل واحد منهما بطريق واحد من باب الدار عرضه باب الدار إلى الموضع الذي يفترق فيه طريق كل واحد منهما إلى باب داره فكل واحد منهما في المطالبة بطريق له خاص من باب الدار الأعظم يكون متعنتا فلا يلتفت إلى تعنته ولكن إلى الموضع الذي يفترق الطريق بهما يترك لهما طريقا واحدا ثم من ذلك الموضع لكل واحد منهما الطريق إلى باب داره وإن كان باب صاحب الدار أعظم من باب الدار الأعظم لم يكن له من عرض الطريق إلا بمقدار عرض باب الدار لأن مالا يدخل في باب الدار الأعظم لا يتمكن هو من حمله في هذا الطريق فإن كان أوسع من باب الدار(15/103)
ص -51- ... الأعظم وكذلك إن كانت صفة لرجل في دار رجل وطريقها إلى باب الدار لم يكن على أهل باب الدار أن يتركوا له من الطريق إلا قدر عرض باب الدار دون عرض باب الصفة.
ولو كان له منزل بطريقه في الدار فقسمت الدار وترك له الطريق فأراد أن يفتح من منزله إلى هذا الطريق بابين أو ثلاثة كان له ذلك لأن فتح الباب هدم بعض الحائط ولو أراد أن يرفع جميع الحائط لم يكن لأحد أن يمنعه من ذلك فكذا إذا أراد أن يفتح فيه بابين أو ثلاثة وهذا لأنه هو الذي يتطرق في هذا الطريق من أي باب دخل منه في منزله ولا يستحق ببابين إلا ما يستحقه بباب واحد فهو بهذا التصرف لم يزد على مقدار حقه فيما يستوفيه ولو كان هذا المنزل بين اثنين فقسماه بينهما وفتح كل واحد منهما بابا إلى الطريق كان لهما ذلك لأن لهما حق التطرق في هذا الطريق إلى منزلهما فلا فرق بين أن يتطرقا فيه من باب أو بابين وإن كان صاحب المنزل واحدا فاشترى دارا من وراء هذا المنزل وفتحها إليه واتخذ لها طريقا في هذا المنزل وفي هذا الطريق فإن كان ساكن الدار والمنزل واحدا فله أن يمر من الدار في المنزل وفي الطريق المرفوع بينهم لأن له حق التطرق في هذا الطريق إلى منزله وبعد ما دخل منزله فلا يمنعه أحد من أن يدخل داره لأنه ينتقل من ناحية من ملكه إلى ناحية أخرى ولأنه لا ضرر على أهل الطريق إذا كان ساكن الدار والمنزل واحدا وإن كان للدار ساكن آخر لم يكن له أن يمر في هذا الطريق لأنه ما كان لصاحب الدار حق التطرق في هذا الطريق فليس له أن يحدث لنفسه فيه حقا وصاحب الممر يريد أن يستوفي من ملك الغير أكثر من حقه وليس له ذلك بخلاف ما إذا كان صاحب المنزل والدار واحدا وقد بينا الفرق بين الطريق والشرب في هذا.(15/104)
ولو اختصم أهل الطريق في الطريق وادعى كل واحد منهم أنه له فهو بينهم بالسوية إذا لم يعرف أصله لاستوائهم في اليد على الطريق والاستعمال له ولا يجعل على قدر ما في أيديهم من ذرع الدار والمنزل لأن حاجة صاحب المنزل الصغير إلى الطريق كحاجة صاحب الدار الكبيرة وهذا بخلاف الشرب فإن عند اختلاف الشركاء فيه يجعل الشرب بينهم على قدر أراضيهم لأن الحاجة هناك تختلف بكثرة الأراضي وقلتها فيجعل ذلك بينهم على قدر حاجتهم عند اشتباه الأمر لاعتبار الظاهر وهنا حاجتهم إلى التطرق في الطريق سواء فلهذا يجعل الطريق بينهم سواء وبهذا تبين ما أشرنا إليه في المسألة الأولى أن صاحب المنزل بإضافة الدار المشتراة إلى منزله لا يثبت لنفسه زيادة حق في الطريق ولو كان يعتبر في قسمة الطريق ذرع ملك كل واحد منهم عند الاشتباه لم يكن لصاحب المنزل أن يضيف الدار المشتراة إلى منزله وإن عرف أصل الطريق كيف كان بينهم جعلته بينهم على ذلك لأن ما اعتبرناه نوع من الظاهر فإنما يصار إليه إذا لم تعلم حقيقة الحال بخلافه فإن كانت دارا لرجل ولآخر فيها طريق ومات صاحب الدار واقتسم ورثته الدار بينهم ورفعوا الطريق لصاحب الطريق ولهم ثم باعوه فأرادوا قسمة ثمنه فلصاحب الطريق نصفه وللورثة نصفه لأن الورثة قائمون مقام(15/105)
ص -52- ... المورث ولو كان هو حيا فباعاه كان الثمن بينهما نصفين فبموته وكثرة ورثته لا يزداد نصيبه ولا ينقص نصيب صاحب الطريق وإن لم يعرف أن أصل الدار بينهم ميراث وجحدوا ذلك قسم ذلك على عدد رؤوسهم ورأس صاحب الطريق لأنهم مستوون في الحق في الطريق وقد بينا أن البناء على الظاهر واجب ما لم يعلم خلافه وكل واحد منهما في الظاهر أصل في نصيب نفسه فيعتبر هذا الظاهر في قسمة ثمن الطريق بينهم.
وإذا كان في يد رجل بيت من الدار وفي يد آخر بيتان وفي يد آخر منزل عظيم وكل واحد منهم يدعي جميع الدار فلكل واحد منهم ما في يده لأن الظاهر يشهد له فيما في يده وساحة الدار بينهم أثلاثا لاستوائهم في اليد عليها فإن كل واحد منهم مستعمل للساحة بكسر الحطب فيها وغير ذلك من وجوه الانتفاع بالساحات وإن مات أحدهم عن ورثة كان لورثته ثلث الساحة لأنهم قائمون مقامه في ذلك وإن اقتسموا دارا ورفعوا طريقا بينهم صغيرا أو عظيما أو مسيل ماء لذلك فهو جائز لأنه صلح جرى بينهم عن تراض وإذا اقتسم القوم دارا وفيها كنيف شارع على الطريق الأعظم أو ظلة فليس يحسب ذرع الظلة والكنيف في ذرع الدار لأن ما تحت ذلك طريق هو حق لجماعة المسلمين فكيف يذرع ذلك في قسمة الدار بينهم ألا ترى أن عند أبي حنيفة رحمه الله لكل واحد من المسلمين أن يخاصم في رفع ذلك البناء وعندهما رحمهما الله إذا كان فيه ضرر للمسلمين فكذلك فعرفنا أنه لا حق للشركاء فيه إلا في نقض البناء فيعتبر قيمة ذلك في القسمة بينهم فأما أن يذرع مع ذرع الدار فلا ولو كانت الظلة على طريق غير نافذ قد كان ذرعها يحسب في ذرع الدار لأن حق قرار الظلة على ذلك الطريق مستحق لهم مشترك فهو بمنزلة علو في الدار سفله لغيرهم وقد بينا الاختلاف في كيفية القسمة في العلو والسفل بالذرع بين الشركاء والله أعلم.
باب قسمة الدار للميت وعليه دين أو وصية(15/106)
قال رحمه الله: وإذا اقتسم الورثة دارا لميت وعليه دين ردت القسمة قليلا كان الدين أو كثيرا أما إذا كان الدين مستغرقا للتركة فلان الورثة لا يملكون التركة ولا ينفذ تصرفهم فيها والقسمة تصرف بحكم الملك وأما إذا قل الدين فلأنه شاغل لكل جزء من التركة ولأن القسمة للإحراز ولا يسلم للوارث شيء من التركة إلا بعد قضاء الدين فهذه قسمة قبل أوانها فهو كقسمتهم في حياة الميت فإن كان للميت مال سوى ذلك بعته في الدين ونفذت القسمة لأن كل مال الميت محل لقضاء الدين والمانع للقسمة قيام حق الغريم فإذا وصل إليه حقه من محله زال المانع من نفوذ القسمة وكذلك إن لم يكن للميت مال سوى ذلك فأدى الورثة الدين من أموالهم على قدر مواريثهم أو إبراء الغريم الميت من الدين جازت القسمة لزوال المانع أما بوصول حقه إليه أو بسقوط دينه بالإبراء وكما أن سائر تصرفات الورثة في التركة تنفذ إذا وصل إلى الغريم حقه فكذلك القسمة وإذا كان فيه وصية بالثلث لم تجز قسمة الوصي والورثة على الموصى له الغائب بغير قضاء قاض لأن الموصى له بالثلث شريك الورثة(15/107)
ص -53- ... في عين التركة حتى لو أراد إيفاء حقه من محل آخر لم يملكوا ذلك فإن كان هو غائبا وليس عنده خصم حاضر لم تجز القسمة والوصي لا يكون خصما عن الموصى له لأنه قائم مقام الميت والملك الثابت للموصى له ملك متجدد والوصي إنما ينتصب خصما عمن يكون خلف الميت في الملك الذي كان ثابتا للميت فلهذا يجوز قسمة الوصي مع الموصى له على الورثة ولا تجوز قسمته مع الورثة على الموصى له وإنما تنظر القسمة بغير قضاء قاض لأن القاضي إذا كان هو الذي قسم بعد قضائه لمصادفته موضع الاجتهاد وثبوت الولاية له على الموصى له الغائب فيما يرجع إلى النظر له.
وإذا اقتسم الورثة دارا وفيهم وارث غائب وليس للميت وصي ولا للغائب وكيل ثم قدم الغائب فله أن يبطل القسمة وكذلك الصغير إذا كبر لأنه لا ولاية للحضور مع الورثة على الغائب والصغير خصوصا في تصرفهم مع أنفسهم والقسمة بهذه الصفة وما ينقل وما لا ينقل في ذلك سواء وإن كان شيء من ذلك ميراثا بين قوم ولا دين على الميت ولا وصية ثم مات بعض الورثة وترك عليه دينا أو أوصى بوصية أو كان له وارث غائب أو صغير ولا وصي له فاقتسم الورثة الدار بغير قضاء قاض فللغرماء أن يبطلوا القسمة وكذلك أهل الوصية والوارث الغائب والصغير لأن لهم شركة فيما اقتسموا من التركة إما في العين أو في المالية ولم يكن عنهم خصم حاضر ولأنهم قائمون مقام الميت الثاني في حصته ولو كان هو حيا غائبا لم تنفذ قسمتهم عليه إن لم يحضر عنه خصم فكذلك بعد موته.(15/108)
وإذا اقتسم الورثة دارا بينهم وأشهدوا على أنفسهم بالقسمة ثم ادعت امرأة الميت مهرها وأقامت عليه البينة فلها أن تنقض القسمة ولا يكون قسمتها وإقرارها بالميراث خروجا من دينها لأن دين الوارث كدين أجنبي آخر وللورثة أن يقضوا الدين من مال آخر لهم فيستخلصوا التركة لأنفسهم فهي إنما وافقت معهم في القسمة على أن يقضوا مهرها من محل آخر فلا يكون ذلك منها إبراء للميت عن المهر ولا إقرارا بأنه لا دين لها ويكون لها أن تنقض القسمة لأن القسمة لا تنفذ إلا بشرط قضاء الدين وإجازة الغريم القسمة قبل أن يصل إليه الدين لا يكون معتبرا بل وجود ذلك كعدمه لأن تقديم قضاء الدين لحق الميت لا لحق الغريم خاصة فإذا لم يقضوا دينها كان لها أن تنقض القسمة وكذلك لو ادعى وارث آخر دينا على الميت فهو والمهر سواء ولو أن وارثا ادعى وصية لابن له صغير له الثلث وأقام البينة وقسموا الدار فإن هذه القسمة لا تبطل حق ابنه في الوصية لأن الأب لو أراد أن يرد هذه الوصية أو يبطل حق ابنه عنها بعد موت الموصي لا يملك ذلك فكذلك مساعد الورثة على القسمة لا يبطل حق ابنه في الوصية إلا أن الأب ليس له أن يطلب وصية ابنه ولا أن يبطل القسمة لأن القسمة تمت به ومن سعى في نقض ما قد تم ضل سعيه وإقدامه على القسمة معهم إقرار بأنه لا وصية لابنه لما بينا أن الموصى له بالثلث شريك الورثة في العين فالقسمة لا تصح بدون تميز حقه فيكون اقدامه على القسمة مع الورثة إقرارا بأنه لا وصية لابنه(15/109)
ص -54- ... بخلاف الدين فإن قضاء حق الغريم من محل آخر جائز ولا يصير هو بدعوى الدين بعد القسمة مناقضا أو ساعيا في نقض ما قد تم به ويصير بدعوى الوصية لابنه مناقضا في كلامه فلا تسمع دعواه وللابن إذا كبر أن يطلب حقه ويرد القسمة.
وإذا كانت الدار ميراثا بين قوم فاقتسموها على قدر ميراثهم من أبيهم ثم ادعى أحدهم أن أخا له من أبيه وأمه قد ورثاه معهم وأنه مات بعد ابنه فورثه هو وأراد ميراثه منه وقال إنما قسمتهم لي ميراث من أبي ولم يكتبوا في القسمة أنه لا حق لبعضهم فيما أصاب البعض وأقام البينة على ذلك لم تقبل بينته ولم تنقض القسمة لأنه لما ساعدهم على القسمة وقد أقر أن جميع الدار ميراث بينهم من الأب فيكون في دعواه أن بعض الدار لأخيه مناقضا وهو بهذا الكلام يسعى في نقض ما قد تم به لأن تمام القسمة كان برضاه وإن كانوا كتبوا في القسمة أنه لا حق لبعضهم فيما أصاب البعض فهو أبقى لدعواه ومراده من قوله ولم يكتبوا إزالة الإشكال وبيان التسوية في الفصلين في الجواب فكذلك لو أقام البينة أنه اشتراها من ابنه في حياته أو أنه وهبها له وقبضها منه أو أنها كانت لأمه ورثها منها لم تقبل بينته لأنه مناقض في كلامه شارع في نقض ما قد تم به.(15/110)
وإذا كانت القرية ميراثا بين ثلاثة نفر من أبيهم فمات أحدهم وترك ابنا كبيرا فاقتسم هو وعماه القرية على ميراث الجد وقبض كل واحد منهم حصته ثم أن بن الابن أقام البينة على أن الجد أوصى له بالثلث لم تقبل بينته لأنه لما ساعدهم على القسمة فقد أقر أنه لا وصية له فيها فكان هو في دعوى الوصية بعد ذلك مناقضا ولو ادعى لنفسه دينا على ابنه وأقام البينة على هذا الدين كان له أن يبطل القسمة لما بينا أن مساعدته إياهم على القسمة لا تكون إقرارا على أنه لا دين على ابنه وإنما ساعدهم على القسمة ليتبين نصيب الابن فيستوفى دينه منه ألا ترى أن الدين لو كان لغيره فأجاز الغريم القسمة كان ذلك باطلا وكان له أن يبطل القسمة فكذلك الوارث إذا كان هو الغريم ومعنى هذا أنه لا معتبر بإجازة الغريم في القسمة لأن المانع من نفوذها قيام دينه وذلك لا يختلف بإجازته وعدم إجازته فلا يكون هو في دعوى الدين ساعيا في نقض ما قد تم به بخلاف ما إذا ادعى الشركة في العين بالوصية بالثلث فالقسمة هناك تتم برضاه كما لو كان الموصى له أجنبيا آخر فيكون هو في دعوى الوصية ساعيا في نقض ما قد تم به وإذا ادعى الوارث أنه كان اشترى نصيب أبيه منه في حياته بثمن مسمى ونقده الثمن وأقام البينة على ذلك فهو جائز ولا يبطل ذلك بالقسمة لأنه خصم في نصيبه سواء كان شراء أو ميراثا وقد تمت القسمة بحضرته ورضاه.
وإذا كانت الأرض ميراثا بين قوم فاقتسموها وتقابضوا ثم أن أحدهم اشترى من الآخر قسمه وقبضه ثم قامت البينة بدين على الأب فإن القسمة والشراء جميعا يبطلان وكذلك لو اشتراه غير وارث لأن القسمة والشراء كلاهما تصرف من الوارث في التركة فلا ينفذ مع قيام الدين وإذا ورث ثلاثة نفر عن أبيهم دارا فاقتسموها أثلاثا وتقابضوا ثم أن رجلا غريبا اشترى(15/111)
ص -55- ... من أحدهم قسمه وقبضه ثم جاء أحد الباقين فقال أنا لم أقسم فاشترى منه الثلث من جميع الدار ثم جاء الثالث فقال قد اقتسمناها وأقام البينة على ذلك وصدقه البائع الأول وكذبه الثاني وقال المشتري لا أدري أقسمتم أم لا فالقسمة جائزة لأنها تثبت بحجة أقامها من هو خصم والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ثم القسمة بعد تمامها لا تبطل بجحود بعض الشركاء ويتبين أن الأول باع نصيب نفسه خاصة فكان بيعه صحيحا وأما الثاني إنما باع ثلث الدار شائعا ثلث ذلك من قسمه وثلثا ذلك من نصيب غيره وإنما ينفذ بيعه في نصيبه خاصة ويتخير المشتري فيه إن شاء أخذ ثلث قسمه بثلث الثمن وإن شاء ترك لتفرق الصفقة عليه ولا يقال ينبغي أن ينصرف بيعه إلى نصيبه خاصة لتصحيح عقده لأنه ملكه في منزل معين وهو إنما باع ثلث الدار شائعا فلا يمكن تنفيذ ذلك البيع في منزل معين بخلاف ما قبل القسمة فإنه إذا باع ثلث الدار فإنه ينصرف بيعه إلى نصيبه لأن نصيبه ثلث شائع في جميع الدار كما باعه.
ولو كان المشتري أقر في الشراء الأول بالقسمة وأقر في الشراء الآخر أنها لم تقسم والمسئلة على حالها كان القضاء بينهم على ما وصفته لأن في إثبات القسمة بينهم هم الخصماء ولا قول للمشتري في ذلك ولأن المشتري في كلامه الثاني مناقض وقول المناقض غير معتبر في حق غيره ولكنه معتبر في حقه حتى إذا رد البيع الثاني فإنه يرد عليه من نصيب الأول ثلثه لأنه أقر به له وكأنه جحده في الكلام الأول ولكن الإقرار بعد الجحود صحيح وإن أمضى البيع لزمه ثلثا الثمن بثلث نصيب الأول وثلث نصيب الثاني لأن زعمه معتبر في حقه فبقدر ما يسلم له بزعمه يلزمه ثلثه وقد سلم له بزعمه ثلثا ما اشتراه من الثاني ويرجع بثلث الثمن حصة نصيب الثالث لأن ذلك لم يسلم له ويبقى في يد البائع الثاني ثلثا قسمه الذي أصابه لأن المشتري منه ما سلم إليه ذلك القسم إلا الثلث.(15/112)
وإذا أقر الرجل أن فلانا مات وترك هذه الأرض وهذه الدار ميراثا ثم ادعى بعد ذلك أنه أوصى له بالثلث فإني أقبل منه البينة على ذلك ولا يخرجه قوله هذا من وصيته وكذلك لو ادعى دينا قبله لأن محل الدين والوصية التركة وبعد الموت توصف التركة بأنها ميراث وإن كان فيها دين أو وصية على معنى أنه كان ملكا للميت إلى وقت موته وأنه ميراث لورثته إذا سقط الدين أو رد الموصى له فلا يكون هو في دعوى الدين والوصية مناقضا في كلامه بخلاف ما إذا ادعى شراء من الميت أو هبة أو صدقة فإنه لا يسمع دعواه ولا تقبل بينته على ذلك لأنه مناقض في كلامه فإن التركة اسم لما كان ملكا للمورث إلى وقت موته والمشتري منه في حياته لا يكون مملوكا عند موته وكذلك لو أقر أنها ميراث من غير أبيه فذلك غير مسموع منه للتناقض.
وإذا اقتسما القوم دارا ميراثا عن الميت والمرأة مقرة بذلك وأصابها الثمن وعزل لها على حدة ثم ادعت أنه أصدقها إياها وأنه اشتراها بصداقها فإنه لا يقبل ذلك منها لأنها لما(15/113)
ص -56- ... ساعدتهم على القسمة فقد أقرت أنها كانت للزوج عند موته وصار ميراثا فيما بينهم فهي مناقضة في هذه الدعوى بعد ذلك وكذلك إذا اقتسموا فأصاب كل إنسان طائفة بجميع ميراثه عن أبيه ثم ادعى أحدهم في قسم الآخر بناء أو نخلا زعم أنه هو الذي بناه أو غرسه وأقام البينة بذلك لم يقبل منه لأنه قد سبق منه الإقرار أن جميع ذلك ميراث لهم من الأب لأن هذا القسم صار ميراثا لأخيه من أبيه وذلك يمنعه من دعوى الملك لنفسه لا من جهة أبيه ولو اقتسموا دارا أو أرضا فيها زرع ونخيل حامل ولم يذكروا الحمل في القسمة وإنما أشهدوا بما أصاب كل واحد منهم بميراثه من أبيه فإن الزرع والثمار لا يدخلان في هذه القسمة حتى كان لكل واحد منهم أن يطلب نصيبه منها لأن القسمة في هذا كالبيع وقد بينا أن الثمار والزرع لا يدخلان في البيع إن لم يشترط بكل قليل وكثير هو منه أو فيه فكذلك لا يدخلان في القسمة.(15/114)
ولو كانت للدار والأرض غلة من إجارة كانت أو من ثمن ثمرة دين على رجل لم يدخل ذلك في القسمة لأنه غير متصل بما جرت القسمة بينهم فيه وبقي ذلك بينهم على المواريث ولو شرطوا ذلك في قسم رجل كانت القسمة فاسدة لأن كل واحد منهم يصير مملكا نصيبه من ذلك الدين ممن شرط له بما يملك عليه من نصيبه من العين وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز ولو اقتسموا على أن ضمن أحدهم دينا على الميت مسمى كان هذا باطلا إذا كان في أصل القسمة لأن القسمة كالبيع ولو شرط على المشتري في البيع أن يضمن دينا على البائع كان باطلا فكذلك إذا شرط في القسمة وإن ضمنه بغير شرط في القسمة على أن لا يبيع الوارث الميت ولا ميراثه بشيء من ذلك وعلى أن يبرئ الغرماء الميت كان هذا جائزا إن رضي الغرماء بضمانه كما لو ضمنه أجنبي آخر بشرط براءة الميت ورضي الغرماء بذلك وهذا لأن المانع من القسمة قيام الدين على الميت وقد زال ذلك فإن أبى الغرماء أن يقبلوا ضمانه فلهم نقض القسمة لقيام دينهم على الميت وهو مانع من نفوذ القسمة وإن تراضوا بضمانه وأبرؤا الميت ثم نوى المال عليه رجعوا في مال الميت حيث كان لأنهم أبرءوه بشرط وهو أن يسلم لهم دينهم من جهة الضامن فإذا لم يسلم كانوا على حقهم في اتباع تركة الميت بمنزلة المحتال عليه إذا مات مفلسا فإن الدين يعود إلى ذمة المحيل والله أعلم بالصواب.
قال رحمه الله: وإذا اقتسم القوم أرضا ميراثا بينهم أو شراء وتقابضوا ثم ادعى أحدهم غلطا في القسمة فإنه لا يشتغل بإعادة القسمة بمجرد دعواه لأن القسمة بعد تمامها عقد لازم فمدعي الغلط يدعي لنفسه حق الفسخ بعد ما ظهر سبب لزوم العقد وقوله في ذلك غير مقبول كالمشتري إذا ادعى لنفسه خيارا بسبب العيب أو الشرط ولكن إن أقام البينة على ذلك فقد أثبت دعواه بالحجة فتعاد القسمة بينهم حتى يستوفي كل ذي حق حقه لأن المعتبر في القسمة(15/115)
ص -57- ... المعادلة وقد ثبت بالحجة أن المعادلة بينهم لم توجد كما لو ثبت المشتري العيب بالبينة وإن لم يكن له بينة وأراد أن يستحلفهم على الغلط فله ذلك لأنهم لو أقروا بذلك لزمهم فإذا أنكروا استحلفوا عليهم لرجاء النكول فمن حلف منهم لم يكن له عليه سبيل ومن نكل عن اليمين جمع نصيبه إلى نصيبه ثم يقسم ذلك بينهما على قدر نصيبهما لأن الناكل كالمقر وإقراره حجة عليه دون غيره ففيما في يده يجعل كان ما أقر به حق فيقسم بينهما على قدر نصيبهما وكذلك كل ما يقسم فهو على هذا لا يعاد ذرع شيء من ذلك ولا مساحته ولا كيله ولا وزنه إلا بحجة لأن الظاهر أن القسمة وقعت على سبيل المعادلة وإنه وصل إلى كل ذي حق حقه والبناء على الظاهر واجب ما لم يثبت خلافه.(15/116)
وإذا اقتسم رجلان دارين وأخذ أحدهما دارا والآخر دارا ثم ادعى أحدهما غلطا وجاء بالبينة أن له كذا كذلك ذراعا في الدار التي في يد صاحبه وفصلا في قسمة فإنه يقضي له بذلك الذرع ولا تعاد القسمة وليس هذا كالدار الواحدة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وأما في قول أبي حنيفة فالقسمة فاسدة والدار أن بينهما نصفان لأن الثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصمين ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن هذه القسمة بمنزلة البيع حتى لا تجوز إلا بالتراضي وبيع كذا كذا ذراعا من الدار التي في يد الغير لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله وقد بيناه في البيوع فكذلك إذا شرط ذلك لأحدهما في دار صاحبه في القسمة كانت القسمة فاسدة وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هذا بمنزلة البيع أيضا لما بينا أن قسمة الخبر في الدار إنما تجري عندهما إذا رأى القاضي المصلحة فيه فأما بدون ذلك فهو كالبيع ولكن من أصلهما أن بيع كذا كذا ذراعا من الدار جائز فكذلك اشتراط ذلك في القسمة لأحدهما لا يمنع صحة القسمة وبه فارق الدار الواحدة لأن معنى التمييز هناك يغلب على المعاوضة في القسمة ولهذا لا يجبر عليه بعض الشركاء عند طلب البعض فإذا شرط لأحدهما كذا كذا ذراعا في نصيب صاحبه لا يحصل التمييز بهذه القسمة بل الشرط والشيوع يبقى بذلك القدر فلا تصح القسمة بخلاف الدارين فمعنى المعاوضة هناك يغلب على ما بينا وتتحقق المعاوضة مع شرط كذا كذا ذراعا لأحدهما في دار صاحبه.(15/117)
وإذا اقتسما أقرحة فأصاب أحدهما قراحان والآخر أربعة أقرحة ثم ادعى صاحب القراحين أحد الأقرحة التي في يد الآخر وأقام البينة أنه له فأصابه في قسمة فإنه يقضي له به لأنه أثبت الملك لنفسه في تلك العين بالقسمة وأثبت أنه لم يقبضه واستولى عليه شريكه بغير حق فيقضي له بذلك كما لو ثبت ذلك بإقرار صاحبه وكذلك هذا في الأثواب فإن لم يكن للمدعي بينة كان له أن يستحلف الذي في يده الثوب لأن ذا اليد مستحق له باعتبار يده ظاهرا ولكن لو أقر بما ادعى حق صاحبه أمر بتسليمه إليه فإذا أنكر استحلف على ذلك وإن أقام البينة على ثوب بعينه مما في يد صاحبه أنه أصابه في قسمة وجاء الآخر ببينة أنه أصابه في قسمة فالبينة بينة الذي ليس الثوب في يده لأن دعواهما في الثوب دعوى الملك وبينة(15/118)
ص -58- ... الخارج فيه تترجح على بينة ذي اليد لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة وهو المثبت على صاحبه لما يدعيه بالبينة وكذلك هذا الاختلاف في بيوت الدار.
وإن اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمس وخمسون شاة وأصاب الآخر خمس وأربعون شاة ثم ادعى صاحب الأوكس غلطا في التقويم لم تقبل بينته على ذلك وهذه المسألة في الحاصل على ثلاثة أوجه أحدها أن يدعي الغلط في التقويم وذلك غير مسموع منه وإن أقام البينة على ذلك لأنه شاع في نقض ما قد تم به والقيمة تعرف بالاجتهاد وذلك يختلف باختلاف المقومين واختلاف الأوقات والأمكنة ولأنه بهذه البينة لا يثبت شيئا في ذمة غيره إنما يثبت قيمة ما تناوله فعل القسمة وفعل القسمة لاقي العين دون القيمة وذلك يختلف باختلاف مقدار القيمة بخلاف الغصب فإن بينة المغصوب منه على مقدار قيمته تقبل لأنه يثبت ذلك دينا في ذمة الغاصب فالمغصوب مضمون بالقيمة دينا في ذمة الغاصب توضيحه أن القسمة في معنى البيع ومع بقاء عقد البيع لا تقبل البينة على قيمة المبيع من أحد المتعاقدين على صاحبه فكذلك في القسمة.
والثاني: أن تكون الدعوى في عدد ما أخذ كل واحد منهما بأن قال أحدهما لصاحبه أحدث إحدى وخمسين غلطا أو أحدث أنا تسعة وأربعين وقال الآخر ما أحدث أنا إلا خمسين فالقول قوله مع يمينه وعلى المدعي البينة لأن الاختلاف بينهما في مقدار المقبوض فالقول قول المنكر للزيادة وعلى من يدعي الزيادة فيما قبض صاحبه إثباته بالبينة ولأنه يدعي شاة مما في يد صاحبه أنها ملكه إصابته في القسمة وصاحبه ينكر ذلك فالقول قوله مع يمينه.(15/119)
والثالث: إن قال أخطأنا في العدد وأصاب كل واحد منا خمسين خمسين وهذه الخمسين خطأ كان منا وقال الآخر قد اقتسمنا على هذا لك خمس وأربعون ولي خمس وخمسون وليس بينهما بينة والغنم قائمة بعينها تحالفا وتراد لأن القسمة في معنى البيع واختلاف المتبايعين في البيع حال قيام السلعة توجب التحالف والتراد فكذلك في القسمة لأنه عقد محتمل للفسخ بعد لزومه بالتراضي فيفسخ بالتحالف أيضا وإن أقام كل واحد منهما بينة على ذلك ردت بالقسمة لأن صاحب الخمس وأربعين هو المدعي وهو المثبت ببينته فيترجح كذلك بينته ويصير كأن خصمه صدقه فيما قال فتبطل القسمة ويستقبلانها على وجه المعادلة.
وإذا اقتسما دارا ولم يشهدا على القسمة حتى اختلفا فقال هذا أصابني هذه الناحية وهذا البيت فيها وقال الذي هي في يديه أصابني هذا كله تحالفا وترادا لأن الاختلاف بينهما في المعقود عليه في الحاصل وإن كانت لهما بينة على القسمة أنفذت بينتهما على ما شهد به الشهود كما لو اتفق الخصمان عليه وهذا لأن ما أصاب كل واحد منهما معلوم بحدة وقد تحقق التمييز بينهما بهذه القسمة بخلاف ما تقدم فهناك أبتت بينة صاحب الخمس وأربعين أنه بقي من حقه خمس شائعة فيما أخذه صاحبه فلهذا تبطل القسمة وإن اختلفا في الحد فيما بينهما فقال أحدهما هذا الحد لي قد(15/120)
ص -59- ... دخل في نصيب صاحبه وقال الآخر هذا الحد لي قد دخل في نصيب صاحبه فإن قامت لهما بينة أحدث بينة هذا وبينة هذا لأن كل واحد منهما ثبت الملك لنفسه في جزء مما في يد صاحبه بعينه واجتمع ذلك الجزء بينة الخارج وبينة ذي اليد فيترجح بينة الخارج وإن لم يقم لهما بينة أستحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وجعل لكل واحد منهما يدعي لنفسه جزءا معينا في يد صاحبه وإن أراد أحدهما أن يرد القسمة ردها بعد ما يتحالفان لما بينا أن الاختلاف بينهما في المعقود عليه وفي مقدار ما حصل لكل واحد منهما بالقسمة وذلك موجب للتحالف وبعد التحالف ترد القسمة إذا طلب ذلك أحدهما كما في البيع.(15/121)
رجل مات وترك دارا وابنين فاقتسما الدار وأخذ كل واحد منهما النصف وأشهد على القسمة والقبض والوفاء ثم ادعى أحدهما بيتا في يد صاحبه لم يصدق على ذلك إلا أن يقربه صاحبه من قبل أن قد أشهد على الوفاء يعني إنه أقر باستيفاء كمال حقه فبعد ذلك هو مناقض فيما يدعيه في يد صاحبه فلا تقبل بينته على ذلك ولكن إن أقر به صاحبه فإقراره ملزم إياه والمناقض إذا صدقه خصمه فيما يدعي ثبت الاستحقاق له ولو لم يكن له أشهد بالوفاء ولم يسمع منه إقرار بالقسمة حتى قال اقتسمنا فأصابني في هذه الناحية وهذا البيت والناحية في يده والبيت في يد صاحبه وقال شريكه بل أصابني البيت وما في يدي كله فإني أسأل المدعي عن البيت أكان في يد صاحبه قبل القسمة فلم يدفعه إليه أو غصب منه بعد القسمة فإن قال كان في يدي بعد القسمة فغصبناه وأعرته أو أجرته لم أنقض القسمة لتصادقهما على شريكه بقبض كل واحد منهما جميع نصيبه وبقي دعواه أن البيت وصل إلى يد صاحبه من يده وصاحبه جاحد لذلك فالقول قوله مع يمينه وإن كان قال في يد صاحبي قبل القسمة فلم يسلمه إلى تحالفا ويراد أن الاختلاف بينهما في مقدار ما أصاب كل واحد منهما بالقسمة وقد بينا أن الاختلاف في المعقود عليه يوجب التحالف في القسمة فكذلك الاختلاف في الحد وعلى هذه القسمة في جميع أجناس الأموال يكون الجواب على التقسيم الذي قلنا إذا ادعى أحدهما شيئا في يد صاحبه.(15/122)
ولو ادعى غلطا في الذرع فقال أصابني ألف وأصابك ألف فصار في يدك ألف ومائة وفي يدي تسعمائة وقال الآخر أصابك ألف وأصابني ألف فقبضتها ولم أزد فالقول قول الذي يدعي قبله الغلط مع يمينه لأن صاحبه يدعي عليه أنه قبض زيادة على حقه وهو منكر لذلك وإن قال أصابني ألف ومائة وأصابك ألف ومائة وقال الآخر أصابني ألف وأصابك ألف فقبضت أنت ألفا ومائة وقبضت تسعمائة تحالفا وتراضيا لأنهما تصادقا على أن المدعى عليه قبض ألف ومائة وإنما الاختلاف بينهما في مقدار نصيبه بالقسمة فالمدعي يقول نصيبك ألف والمدعى عليه يقول نصيبي ألف ومائة والاختلاف في المعقود عليه يوجب التحالف بينهما ولأن المدعي لم يقر بقبض المائة هنا والمدعى عليه يدعي ذلك فلا بد من استحلافه وقد توجهت اليمين على المدعى عليه لما بينا فلهذا تحالفا وترادا ولو(15/123)
ص -60- ... قال كنت قبضتها فقبضتها لم أنقض القسمة وأحلف المدعي قبله الفصل لأنهما تصادقا على انتهاء القسمة بقبض كل واحد منهما تمام نصيبه ثم ادعى أحدهما الغصب على صاحبه وهذا هو الحرف الذي تدور عليه هذه الفصول أن القسمة حيازة وتمامها بالقبض فإذا تصادقا على قبض كل واحد منهما تمام نصيبه بالقسمة لم يكن الاختلاف بينهما بعد ذلك اختلافا في المعقود عليه وإذا اختلفا في مقدار ما قبضه كل واحد منهما كان ذلك اختلافا في المعقود عليه فيثبت حكم التحالف بينهما.(15/124)
ولو اقتسما مائة شاة فصار في يد أحدهما ستون وفي يد الآخر أربعون فقال الذي في يده الأربعون أصاب كل واحد منا خمسون وتقابضنا ثم غصبني عشرا بأعيانها وخلطتهما بغنمك فهي لا تعرف وجحد ذلك الآخر الغصب وقال بل أصابني ستون وأنت أربعون فالقول قوله مع يمينه لتصادقهما على أن كل واحد منهما قبض كمال حقه بالقسمة ثم ادعى أحدهما الغصب على صاحبه وأنكر صاحبه ذلك فالقول قوله مع يمينه فلو قال الأول أصابني خمسون فدفعت إلى أربعين وبقي في يدك عشرة لم تدفعها إلى وقال الآخر أصابني ستون وأصابك أربعون تحالفا وترادا لأن الاختلاف بينهما في مقدار ما أصاب كل واحد منهما ولو كان أشهد عليه بالوفاء قبل هذه المقالة كان القول قول الذي في يده ستون لإقرار صاحبه باستيفاء كمال حقه ولا يمين عليه لأن صاحبه مناقض في الدعوى بعد ذلك الإقرار وبالدعوى مع التناقض لا يستحق اليمين على الخصم فإن ادعى الغصب بعد القبض حلف المنكر عليه لأن دعوى الغصب منه دعوى صحيحة ولا تناقض فيها فيستوجب فيها اليمين على المنكر وإن لم يشهد بالوفاء فقال الذي في يده الأربعون كانت غنم والدي مائة شاة فأصابني خمسون وأصابك خمسون وتقابضنا ثم غصبني عشرا وهي هذه وقال الذي في يده الستون بل كانت غنم والدي مائة وعشرين فأصابني ستون وأنت ستون ولم أغصبك وقد تقابضنا فإن هذا قد أقر بفصل عشر من الغنم ليس فيها قسمة لأن الآخر إنما أقر بقسمة المائة وهو منكر للقسمة فما زاد على المائة وقد أقر ذو اليد أن هذه العشرة زيادة على المائة وادعى القسمة فيها ووصول مثلها إلى صاحبه وصاحبه منكر فالقول قوله مع يمينه وإذا حلف بقيت هذه العشرة في يده غير مقسومة فيردها ليقسم بينهما فإن لم يقر بفصل على مائة وقال كانت مائة فأصابني ستون وأنت أربعون فالقول قوله مع يمينه على الغصب الذي ادعاه صاحبه قبله من قبل أن شريكه قد أبرأه من خصه المائة ولم يبرأ من حصته من الفضل عليها فإن كانت قائمة بعينها(15/125)
اقتسماها نصفين وإلا أفسدت القسمة لجهالة العشرة التي لم تتناولها القسمة فالغنم تتفاوت وبجهالة ما لم تتناوله القسمة يصير ما تناولته القسمة مجهولا فالسبيل أن ترد الستون والأربعون وتستقبل القسمة فيما بينهما لفساد القسمة الأولى والله أعلم.
باب قسمة الوصي على أهل الوصية والورثة
قال رحمه الله: وإذا كان في الميراث دين على الناس فأدخلوه في القسمة لم يجز لما(15/126)
ص -61- ... بينا أن من وقع الدين في نصيبه يكون متملكا على أصحابه نصيبهم من الدين بعوض وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز وكذلك لو اقتسموا الدين فأخذ كل واحد منهم من حقه فيها دينا على رجل خاصة لم يجز لأن كل واحد منهم مملك نصيبه مما في ذمة زيد من صاحبه لم يتملك عليه من نصيبه مما في ذمة عمر وإذا كان تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز بعوض عين فلان لا يجوز بعوض دين أولى وكذلك إن كان الدين كله على رجل واحد فقسمتهم فيه قبل القبض باطلة لأن القسمة حيازة ولا يتحقق ذلك فيما في الذمة ولا تجوز قسمة وصي الأب بين الصغير لأن القسمة في معنى المعاوضة وليس للوصي ولاية بيع مال أحد القسمين من صاحبه لأنه لا ينفرد بالتصرف إلا عند منفعة ظاهرة لليتيم وفي هذا التصرف أن نقع أحدهما أضر بالآخر وإن كان معهم ورثة كبار فإن قسم نصيب الصغيرين معا جاز ذلك لأن المعاوضة في مال الصغيرين مع الوارث الكبير جائزة فكذلك قسمة نصيب الصغيرين معا مع الوارث الكبير.
قال في الأصل: وكذلك الأب ومراده هذا الفصل لا ما قبله فقسمة الأب مع ابنيه الصغيرين جائزة لأنه يملك بيع مال أحدهما من صاحبه بخلاف الوصي فيفرده بالتصرف ولا يتقيد بشرط منفعة ظاهرة للصبي ولا تجوز قسمة وصي الميت على الكبار وهم كارهون لأنه لا ولاية له عليهم في المعاوضة والتصرف في مالهم إذا كانوا حضورا فإن كان فيهم غائب فقاسم الوصي عليه لم يجز في العقار وجاز في غيره لأن القسمة في العروض من الحفظ وللوصي ولاية الحفظ في نصيب الكبير الغائب فكان له في نصيبه من القسمة ما يرجع إلى الحفظ فأما العقار فحصته بنفسها وليس في قسمتها معنى الحفظ بل هو مطلق التصرف ولا ولاية له في نصيب الكبير الغائب في مطلق التصرف.(15/127)
وإن كان فيهم صغير وكبير غائب وكبير حاضر فعزل الوصي نصيب الكبير الغائب مع نصيب الصغير وقاسم الكبار الحضور فهو جائز في العقار وغيرها في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على الكبير الغائب في العقار وهذه تنبني على ما بيناه في كتاب الشفعة أن عند أبي حنيفة بثبوت ولايته في نصيب الصغير يملك بيع جميع التركة من العقار وغيره وعندهما لا يملك البيع إلا في نصيب الصغير فكذلك القسمة لأن فيها معنى البيع وكذلك الحكم في وصي الذمي لأنه في ملك التصرف كوصي المسلم فإن كان الوصي ذميا والميت ورثته مسلمين فإنه يخرج من الوصية لأن في الوصية نوع ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم وإن قاسم على الصغير قبل أن يخرج جازت قسمته مثل قسمة الوصي المسلم لأن القسمة تصرف منه كسائر التصرفات والإنابة في التصرف بعد الموت كالإنابة في الحياة بالوكالة ولو وكل المسلم ذميا بالتصرف نفذ تصرفه عليه فكذلك إذا جعله وصيا في التصرف بعد موته قلنا ينفذ تصرفه بطريق النيابة ما لم يخرج من الوصاية(15/128)
ص -62- ... لاعتبار معنى الولاية وكذلك لو كان الوصي عبدا لغير الميت فهو وصي نافذ التصرف بطريق النيابة بمنزلة ما لو وكله في حياته حتى يخرجه القاضي من الولاية فالرقيق ليس من أهل أن تثبت له الولاية على غيره لأنه لا ولاية له على نفسه وإنما يتعدى إلى الغير عند وجود شرط التعدي ما كان للمرء من الولاية على نفسه.
ولا تجوز قسمة الكافر والمملوك على الولد الصغير الحر المسلم كما لا تجري عليه سائر تصرفاته لأنه لا ولاية له عليه وهو ليس بنائب عن الصغير في التصرف لينفذ بطريق النيابة ويجعل كتصرف المنوب عنه ولا يجوز قسمة الحربي المستأمن على بن صغير له ذمي لأن الذمي من أهل دارنا ولا ولاية للحربي على من هو من أهل دارنا ويجوز على بن له مثله لثبوت ولايته عليه قال الله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[لأنفال: من الآية73] الآية ولا تجوز قسمة المرتد إذا قتل على ردته على ولد له صغير مثله مرتد لأنه لا ولاية له عليه ولأنه لا ولاية له على التصرف في ماله إذا قتل على ردته حتى تبطل قسمته لنفسه وسائر تصرفاته إذا قتل على الردة في قول أبي حنيفة رحمه الله ففي حق ولده الصغير أولى.(15/129)
والمعتوه المغلوب بمنزلة الصغير في جميع ما وصفنا لأنه لا ولاية له على نفسه وهو محتاج إلى تصرف الولي له كالصغير وأما المبرسم والمغمى عليه والذي يجن ويفيق فلا تجوز عليه القسمة إلا برضاه أو وكالته في حال إفاقته لأن بهذه العوارض لا تزول ولايته عن نفسه فلا يصير موليا عليه وإذا كان يجوز تنفيذ التصرف له وعليه برأيه في حال إفاقته بطريق التوكيل فلا حاجة إلى إقامة رأي الولي مقام رأيه بخلاف الصغير والمعتوه فإنه لا يمكن تنفيذ التصرف له وعليه باعتبار رأيه في ذلك فأقمنا رأي الولي مقام رأيه لتحقق الحاجة وأهل الذمة في القسمة بمنزلة أهل الإسلام إلا في الخمر والخنزير يكون بينهم فأراد بعضهم قسمتها وأبى بعضهم فإني أجبرهم على القسمة كما أجبرهم على قسمة غيرها لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم كالخل والغنم في حق المسلمين وإن اقتسموا فيما بينهم خمرا وفضل بعضهم بعضا في كيلها لم يجز الفضل في ذلك فيما بينهم لأنه مال الربا فإنه مكيل أو موزون وفي حكم الربا هم يستون بالمسلمين فهو مستثنى من عقد الذمة.
وإذا كان وصي الذمي مسلما كرهت له مقاسمة الخمر والخنزير ولكنه يوكل من يثق به من أهل الذمة فيقاسم الصغير ويبيع ذلك بعد القسمة لأن المسلم ممنوع من التصرف في الخمر والخنزير والقسمة نوع تصرف فينبغي أن يفوض ذلك إلى ذمي ولا يشكل جواز ذلك على أصل أبي حنيفة رحمه الله لأنه يجوز للمسلم أن يوكل الذمي بالتصرف له في الخمر والخنزير وكذلك على قولهما هنا لأن الوكيل نائب عن الصغير وحكم تصرفه يثبت للصغير ألا ترى أنه يرجع بما يلحقه من العهدة في مال الصغير والوصي فيما يأمر من ذلك كالقاضي وأمر القاضي الذمي بالبيع والقسمة في خمور يتامى أهل الذمة صحيح فكذلك أمر الوصي به وإن وكل الذمي المسلم بقسمة ميراث فيه خمر وخنزير لم يجز ذلك من المسلم كما لا(15/130)
ص -63- ... يجوز بيعه وشراؤه في الخمر والخنزير لأنه إنما يتصرف للغير بوكالته في مال يجوز له أن يتصرف فيه لنفسه لو كان مملوكا له وليس للمسلم الوكيل أن يوكل بقسمة ذلك غيره لأن الموكل لم يرض برأي غيره فيه فإن فوض ذلك إليه فوكل ذميا به جاز وإذا أسلم أحد الورثة فوكل ذميا بمقاسمة الخمر والخنزير مع سائر الورثة جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يجز في قولهما لأن في القسمة معنى البيع فهو كالمسلم يوكل الذمي ببيع الخمر والخنزير ولو أخذ نصيبه من الخمر فجعله خلا كان المسلم ضامنا لحصة شركائه من الخمر التي خللها لأن القسمة لم تصح عندهما كما لو باشر بنفسه فإنما قبض نصيب شركائه من الخمر بحكم عقد فاسد وقد خللها فيكون ضامنا لنصيبهم من القيمة ويكون الخل له وإذا كان في تركة الذمي خمرا وخنزير وغرماؤه مسلمون وليس له وصي فإن القاضي يوكل ببيع ذلك رجلا من أهل الذمة فيبيعه ويقضي به دين الميت لأن من يأمره القاضي يكون نائبا عن الميت ولهذا يرجع بما يلحقه من العهدة في مال الميت والميت كافر فيجوز بيع الذمي خمرة على سبيل النيابة عنه والغرماء إنما يقبضون الثمن بدينهم لا أن يكون بيع قيم القاضي واقعا لهم.(15/131)
والمكاتب كالحر في القسمة لأنه من صنيع التجار وفيها معنى المعاوضة كالبيع وإن عجز بعد القسمة لم يكن لمولاه فسخها لأن القسمة تمت في حال قيام الكتابة فهو كبيع أو شراء أتمه المكاتب ومقاسمته مع مولاه جائزة لأنه في التصرف مع المولى بيعا أو شراء كأجنبي آخر فكذلك المقاسمة ولا تجوز مقاسمة المولى على المكاتب بغير رضاه سواء كان المكاتب حاضرا أو غائبا لأنه في حكم التصرف في كسبه كأجنبي آخر فإن فعل ذلك ثم عجز المكاتب وصار ذلك لمولاه لم تجز تلك القسمة كما لا ينفذ سائر تصرفاته بعجز المكاتب لأنه حين تصرف كان هو من كسب المكاتب كالأجنبي وإن وكل المكاتب بالقسمة وكيلا ثم عجز أو مات لم يجز لوكيله أن يقاسم بعد ذلك لأن الوكيل نائب عن الموكل وقد زالت ولاية الموكل بعجزه وبموته حتى لا ينفذ منه هذا التصرف بعد العجز لو باشره لنفسه فكذلك من وكيله وإن أعتق فهو على وكالته لأن ولايته بالعتق ازدادت قوة فتصرف الوكيل له بعد عتقه كتصرفه بنفسه وإن أوصى المكاتب عند موته إلى وصي فقاسم الوصي ورثة المكاتب الكبار لولده الصغير وقد ترك وفاء فإن قسمته في هذا جائزة على ما تجوز عليه قسمة وصي الحر لأنه يؤدي كتابته ويحكم بحريته حال حياته وكأنه أدى الكتابة بنفسه ثم مات فيكون وصيه في التصرف على ولده الصغير كوصي الحر وقال في الزيادات وصيه بمنزلة وصي الحر في حق الابن الكبير الغائب حتى يجوز قسمته فيما سوى العقار وما ذكر هناك أصح لأنه لا يثبت للمكاتب على ولده الصغير ولاية مطلقة وإن استندت حريته إلى حال حياته لأنه في تلك الحال مشغول بنفسه لا يمكنه أن ينظر إلى الولد فلا تثبت له الولاية وإنما تثبت الولاية المطلقة للوصي إذا كان للموصي ولاية مطلقة ألا ترى أن وصي الأخ والعم لا يثبت له من الولاية إلا قدر ما كان للموصي فهنا أيضا كان للموصي على ولده الصغير المولود(15/132)
ص -64- ... في الكتابة من الولاية ما يرجع إلى الحفظ ولا ولاية له عليه فوق ذلك فكذلك وصيه بعد موته وما زاد على هذا من البيان قد ذكرناه في إملاء شرح الزيادات.
وإن لم يترك وفاء فقاسم الوصي الولد الكبير للولد الصغير وقد سعوا في المكاتبة لم يجز لأنه لا ولاية له على الولد الصغير فإنه مكاتب للمولى إذا اختار المضي على الكتابة فإن أدوا المكاتبة قبل أن يردوا القسمة أجزت القسمة لأنهم لما أدوا الكتابة حكم بعتق المكاتب وكان وصيه كوصي الحر على هذه الرواية حتى يملك استئناف القسمة فكذلك تنفذ تلك القسمة منه لأنه لا فائدة في الاشتغال بنقض قسمة يحتاج إلى إعادتها والعبد التاجر بمنزلة الحر في القسمة لأنه من صنيع التجار وهو نظير البيع فإذا قاسم العبد التاجر عبدا تاجرا مثله وهما لرجل واحد جاز ذلك إن كان عليهما دين أو على أحدهما وإن لم يكن على واحد منهما دين فقسمتهما باطلة بمنزلة البيع والشراء وهذا لأن كسبهما لمالك واحد والقسمة في مال هو خالص لمالك واحد لا تتحقق ولأن مقاسمة كل واحد منهما مع عبد مولاه كمقاسمته مع مولاه ولو كانا مكاتبين لرجل واحد جازت قسمتهما لأن كل واحد من المكاتبين في كسبه بمنزلة الحر في التصرف ولا ملك للمولى في كسب واحد منهما فإن قاسم العبد التاجر مولاه دارا وعليه دين جازت القسمة وإن لم يكن عليه دين لم تجز القسمة لأن المولى من كسب عبده المديون بمنزلة الأجنبي في التصرف وإن تصرف العبد لغرمائه وكذلك لو كانت الدار بين العبد ورجل آخر فقاسم مولى العبد الشريك بغير رضاء العبد فإن لم يكن على العبد دين فهو جائز وإن كان عليه دين قليل أو كثير لم يجز إلا أن يسلمه العبد بمنزلة سائر تصرفات المولى في كسبه وإن قاسم العبد التاجر رجلا أجنبيا دارا بغير أمر مولاه وعليه دين أو لا دين عليه فهو جائز لأنه من نوع التجارة وقد استفاده بمطلق الإذن في التجارة ولا تجوز قسمة العبد المحجور عليه بغير أمر من(15/133)
المولى.
والحاصل أن القسمة تصرف كالبيع والشراء فإنما تصح ممن يملك البيع والشراء في ذلك المحل ولو كان عبد بين رجلين أذن له أحدهما في التجارة فاشترى هو ورجل آخر دارا جاز ذلك في حصة الذي أذن له لأن الإذن فك الحجر وقد ثبت ذلك في نصيب الذي أذن له فينفذ تصرفه باعتباره في حصته كما لو كاتب أحد الشريكين نصيبه من العبد وإن قاسم العبد شريكه فهو جائز كما لو باع نصيبه من شريكه أو من غيره جاز ذلك لثبوت حكم انفكاك الحجر في نصيب الإذن منه ولو كانت دار بينه وبين مولاه الذي لم يأذن له فقاسمها إياه جاز ذلك لأن نفوذ تصرفه مع الأجنبي بسبب انفكاك الحجر عنه في نصيب
الإذن والمولى الذي لم يأذن له من نصيب الإذن كالأجنبي وهو نظير ما لو كاتبه أحد الموليين على نصيبه بإذن شريكه فإنه تجوز قسمته وسائر تصرفاته باعتبار هذا الفك مع الأجنبي ومع المولى الآخر فكذلك بعد الإذن من أحدهما له في التجارة والله أعلم بالصواب.(15/134)
ص -65- ... كتاب الإجارات
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء اعلم أن الإجارة عقد على المنفعة بعوض هو مال والعقد على المنافع شرعا نوعان أحدهما بغير عوض كالعارية والوصية بالخدمة والآخر بعوض وهو الإجارة وجواز هذا العقد عرف بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}[الزخرف: من الآية32] أي في العمل بأجر وقال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ}[القصص: من الآية27] وما ثبت شريعة لمن قبلنا فهو لازم لنا ما لم يقم الدليل على انفساخه وقال صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" فالأمر بإعطاء الأجر دليل صحة العقد وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يؤاجرون ويستأجرون فأقرهم على ذلك وبين أحكامه وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن القياس يأبى جواز هذا العقد لأنه يرد على المعدوم وهي المنفعة التي توجد في مدة الإجارة والمعدوم ليس بمحل للعقد لأنه ليس بشيء فيستحيل وصفه بأنه معقود عليه ولأنه ملك المعقود عليه بعد الوجود لا بد منه لانعقاد العقد والمعدوم لا يوصف بأنه مملوك ولا يمكن جعل العقد مضافا لأن المعاوضات لا تحتمل الإضافة كالبيع والنكاح.(15/135)
قال رضي الله عنه: وهذا عندي ليس بقوي واشتراط الوجود والملك فيما يضاف إليه العقد لعينه بل للقدرة على التسليم وذلك لا يتحقق في المانع فإن الوجود يعجزه عن التسليم بحكم العقد هنا لأن المنافع أعراض لا تبقى وقتين والتسليم حكم العقد والحكم يعقب السبب فلا يتصور بقاء الموجود من المنفعة عند العقد إلى وقت التسليم فإذا كان بالوجود يتحقق العجز عن التسليم عند وجوب التسليم فلا معنى لاشتراط الوجود عند العقد ولكن تقام العين المنتفع بها موجودة في ملك العقد مقام المنفعة في حكم جواز العقد ولزومه كما تقام المرأة مقام ما هو المقصود بالنكاح في حكم العقد والتسليم وتقام الذمة التي هي محل المسلم فيه مقام ملك المعقود عليه في حكم جواز السلم أو يجعل العقد مضافا للانعقاد إلى وقت وجود المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء فيتحقق بهذا الطريق التمكن من استيفاء المعقود عليه وهو معنى قول مشايخنا رحمهم الله أن الإجارة عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة وإنما يفعل كذلك لحاجة الناس فالفقير محتاج إلى مال الغني والغني محتاج إلى عمل الفقير وحاجة الناس أصل في شرع العقود فيشرع على وجه ترتفع به(15/136)
ص -66- ... الحاجة ويكون موافقا لأصول الشرع ثم يرد هذا العقد تارة على المنفعة وعلى العمل أخرى وفي الوجهين لا بد من إعلام ما يرد عليه العقد على وجه تنقطع به المنازعة فإعلام المنفعة ببيان المدة أو المسافة وذكر المدة لبيان مقدار العقود عليه لا للتوقيت في العقد فإن المنافع لما كانت تحدث شيئا فشيئا فمقدارها يصير معلوما ببيان المدة بمنزلة الكيل والوزن في المقدرات أو ببيان المسافة فإن مقدار السير والمشي يصير به معلوما وإعلام العمل ببيان محله والمعقود عليه فيه وصف يحدثه في المحل من قصارة أو دباغة أو خياطة فيختلف مقداره باختلاف المحل ولهذا لا يتعين عليه إقامة العمل بيده إلا أن يشترط عليه ذلك فحينئذ يجب الوفاء بالشرط لأنه مفيد فبين الناس تفاوت في إقامة العمل بايديهم وكما يجب إعلام ما يرد عليه العقد يجب إعلام البدل لقطع المنازعة وقد دل عليه الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا ينكح على خطبته" وقال "لا تناجشوا ولا تبيعوا بإلقاء الحجر ومن استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وهذا حديث طويل بدأ ببعضه كتاب النكاح وببعضه كتاب الإجارات وهو مشهور تلقته العلماء رحمهم الله بالقبول وبالعمل به وفيه دليل على أنه لا يحل الاستيام على سوم الغير وهذا اللفظ يروى بروايتين بكسر الميم فيكون نهيا والنهي مجزوم ولكن المجزوم إذا حرك لاستقبال الألف واللام حرك بالكسر وبرفع الميم وهو نهي بصيغة الخبر وأبلغ ما يكون من النهي هذا كالأمر فإن أبلغ الأمر ما يكون بصيغة الخبر.(15/137)
قال سفيان بن عيينه رحمه الله بظاهر الحديث: إذا استام على سوم الغير واشترى أو نكح على خطبة الغير فالعقد باطل لأن النهي يوجب فساد المنهي عنه ولكنا نقول هذا نهي لمعنى في غير المنهي عنه غير متصل به وهو الأذى والوحشة الذي يلحق صاحبه وذلك ليس من العقد في شيء فيوجب الاستياء ولا يفسد العقد كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة ثم هذا النهي بعد ما ركن أحدهما إلى صاحبه فأما إذا ساومه بشيء ولم يركن أحدهما إلى صاحبه فلا بأس للغير أن يساومه ويشتريه على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعبد فساومه ولم يشتره فاشتراه آخر فأعتقه الحديث وهذا لأن بيع المزايدة لا بأس به على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم باع قعبا وحلسا ببيع من يزيد وصفة بيع المزايدة أن ينادي الرجل على سلعته بنفسه أو بنائبه ويزيد الناس بعضهم على بعض فما لم يكف عن النداء فلا بأس للغير أن يزيد وإذا ساومه إنسان بشيء فكف عن النداء ورضي بذلك فحينئذ يكره للغير أن يزيد ويكون هذا استياما على سوم الغير وكذلك إذا خطب امرأة ولم تركن إليه فلا بأس للغير أن يخطبها على ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن معاوية يخطبني وإن أبا الجهم يخطبني فقال صلى الله عليه وسلم "أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له وأما أبو الجهم فهو لا يرفع العصا عن أهله أنكحي أسامة بن زيد فإنك تجدين فيه خيرا كثيرا" فأما بعد ما ركن أحدهما إلى صاحبه لا يحل لأحد أن يخطبها لأن معنى الأذى إنما يتحقق في هذه الحال.(15/138)
ص -67- ... والمراد بالنجش الإنارة ومنه سمى الصياد ناجشا لأنه ينثر الصيد عن أوكارها فالمراد أن يطلب السلعة بثمن يعلم أنها لا تساوي ذلك ولا يقصد شراؤها وإنما يقصد أن يرغب الغير في شرائها به وهذا من باب الخداع والغرور وقوله: "ولا تبيعوا بإلقاء الحجر" وفي بعض الروايات "ولا تنابذوا" وهو عبارة عن هذا المعنى أيضا فالنبذ هو الطرح وهذه أنواع بيوع كانوا تعارفوها في الجاهلية وهي أن يرمي الحجر إلى سلعة إنسان فإن أصابها وجب البيع بينهما أو يطلب سلعة من إنسان فإن طرح إليه صاحبها وجب البيع بينهما ثم نهى الشرع عن ذلك لما فيه من الغرر كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ومقصوده آخر الحديث "ومن استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وهذا دليل جواز الإجارة وجواز استئجار الحر للعمل ووجوب إعلام الأجر وأنه لا يجب تسليم الأجر بنفس العقد لأنه أمر بالإعلام ولو كان التسليم يجب بنفس العقد لكان الأولى أن يقول فليؤته أجره وفي قوله صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" دليل على ذلك أيضا فإنه أمر بالمسارعة إلى أداء الأجرة وجعل أول أوقات المسارعة ما بعد الفراغ من العمل قبل جفوف العرق فدل أن أول وقت الوجوب هذا.(15/139)
وعن أبي أمامة قال: قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أني أكري إبلي إلى مكة أفتجزيني من حجتي فقال ألست تلبي وتقف وترمي الجمار قلت بلى قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه فلم يجبه حتى أنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: من الآية198] فقال صلى الله عليه وسلم "أنتم حاج" وفي هذا دليل جواز الإجارة وجواز كراء الإبل إلى مكة شرفها الله من غير بيان المدة لأن ذكر المسافة في الإعلام كبيان المدة ثم أشكل على السائل حال حجه لأن خروجه كان لتعاهد إبله واكتساب الكراء لنفسه وهو موضع الإشكال فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أشراط الساعة اكتساب الدنيا بعمل الآخرة فأزال ابن عمر رضي الله عنهما إشكاله بما ذكر له من مباشرة أعمال الحج وهذا بيان له أن بالذهاب لا يتأذى الحج وإنما يتأذى بالإحرام والوقوف والطواف والرمي وهو بهذه الأعمال لا يبتغي عرض الدنيا وهذا جواب تام لو اقتصر عليه ولكنه أحب أن يزيده وضوحا فروى الحديث لأن الأول دليل يستدرك بالتأمل وقد شبه ذلك بالسراج والخبر دليل واضح وهو مشبه بالشمس وكم من عين لا تبصر بضوء السراج وتبصر إذا بزغ الضياء الوهاج ثم فيه دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر نزول الوحي في بعض ما يسأل عنه فإنه آخر جواب هذا السائل حتى نزلت الآية ثم بين له أنه لا نقصان في الحج وأهل الحديث يروون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن التجارة في طريق الحج ولما كان أكراء الإبل في معناه روى ابن عمر رضي الله عنهما الحديث فيه وعلى هذا قلنا الرستاقي إذا دخل المصر يوم الجمعة لشراء الدهن واللحم وشهد الجمعة فهو في الثواب والذي لا شغل له سوى إقامة الجمعة سواء لأن مقصود المسلم إقامة العبادة فيما سوى ذلك يكون تبعا له ولا يتمكن نقصان في ثواب العبادة.(15/140)
ص -68- ... وأن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: أتى رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال إني أجرت نفسي من قوم وحططت لهم من أجري أفيجزيني من حجتي فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا من الدين قال الله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}[البقرة: من الآية198] وإنما أشكل على هذا السائل ما أشكل على الأول وكأنه بلغه الحديث الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي استؤجر بدينارين للخروج مع المجاهد "وإنما لك دينارك في الدنيا والآخرة" فظن مثله في الحج وحط بعض الأجر به ليرتفع به نقصان حجه فإن الحط إحسان وانتداب إلى ما ندب في الشرع ومثله مشروع جبر النقصان الفرائض كالنوافل فأزال ابن عباس رضي الله عنهما إشكاله وبين أنه لا نقصان في حجه ولم يأمره بالكف عن حط الأجر وإن كان حجه بدونه تماما لأن المنع من البر والإحسان لا يحسن وهو على ما أفتى به ابن عباس رضي الله عنهما بخلاف حال من استؤجر للخروج مع المجاهد فإنه خرج ليخدم غيره لا ليباشر الجهاد وهذا خرج ليباشر أعمال الحج ويخدم في الطريق غيره فكان هذا تبعا لا يتمكن به نقصان في الأصل.(15/141)
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي حائط فأعجبه فقال: "لمن هذا الحائط؟" فقلت لي استأجرته فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستأجره بشيء منه" وفيه دليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه من الدنيا ما يعجب غيره ولكنه كان لا يركن إليه كما قال الله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} [الحجر: 88] الآية. وهذا القدر من الإعجاب لا يضر أحدا بخلاف ما يقوله جهال المتعسفة أن من أعجبه شيء من الدنيا ينتقص من الإيمان بقدره فكيف يستقيم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" فلما أعجبه قال صلى الله عليه وسلم: "لمن هذا" وفيه بيان أن هذا ليس من جملة ما لا يعني المرء فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتكلم بما لا يعنيه ولكنه من باب الاستئناس وحسن الصحبة وفي قول رافع رضي الله عنه لي استأجرته دليل على أن الشيء يضاف إلى المرء وإن كان لا يملكه حقيقة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه ولهذا قلنا من حلف أن لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان بإجارة أو عارية حنث وفي الحديث دليل جواز الاستئجار للأراضي ودليل فساد عقد المزارعة ففي المزارعة استئجار الأرض ببعض ما يخرجه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج رضي الله عنه عن استئجار الأرض بشيء منه فهو حجة أبي حنيفة رضي الله عنه على من أجازه.(15/142)
وعن الشعبي رحمه الله في رجل استأجر بيتا وأجره بأكثر مما استأجره به أنه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل وفيه دليل أن للمستأجر أن يؤجر من غيره وبه يقول فجواز هذا العقد من المالك قبل وجود المنفعة كان بالطريق الذي قلنا وهو موجود في حق المستأجر ولأن المالك ما كان يتمكن من مباشرة العقد عليها يعد الوجود لأنها لا تبقى فكذلك المستأجر ثم بين أنه إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل(15/143)
ص -69- ... فيه عملا نحو فتح الباب وإخراج المتاع فيكون الفضل له بإزاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف رحمهم الله كان عطاء رحمه الله لا يرى بالفضل بأسا ويعجب من قول أهل الكوفة رحمهم الله حيث كرهوا الفضل وبقوله أخذ الشافعي رضي الله عنه وكان إبراهيم رحمه الله يكره الفضل إلا أن يزيد فيه شيئا فإن زاد فيه شيئا طاب له الفضل وأخذنا بقول إبراهيم رحمه الله وقلنا إذا أصلح في البيت شيئا أو طين البيت أو جصص أو زاد فيه لوحا فالفضل حلال لأن الزيادة بمقابلة ما زاد من عنده حملا لأمره على الصلاح وإن لم يزد فيه شيئا لا يطيب له الفضل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن والمنفعة بالعقد لم تدخل في ضمان المستأجر فيكون هذا استرباحا على ما لم يضمنه فعليه أن يتصدق به للنهي عن وكيس البيت ليس بزيادة فيه إنما هو إخراج التراب منه فلا يطيب الفضل باعتباره وكذلك فتح الباب وإخراج المتاع ليس بزيادة في البيت فلا يطيب الفضل باعتباره إلا أن يكون شرط له من ذلك شيئا معلوما في العقد فحينئذ يكون الفضل بمقابلته ويطيب له وهو تأويل حديث الشعبي رضي الله عنه.(15/144)
وعن إبراهيم رحمه الله أنه كان يعجبهم إذا أبضعوا بضاعة أن يعطوا صاحبها أجرا كي يضمنها وهذا منه إشارة إلا أنه قول من كان قبله من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فيكون دليلا لمن يضحي الأجير المشترك لأن المستبضع إذا أخذ أجرا فهو أجير على الحفظ وهو أجير مشترك ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول ليس فيه بيان السبب الذي به يضمنها فيحتمل أن يكون المراد كي يضمن ما يتلف بعمله مما يكون قصد به الإصلاح دون الإفساد وبه نقول فالأجير المشترك ضامن لما جنت يده وعن شريح رحمه الله أنه خاصم إليه يقال قد أجره رجل بيتا فألقى فيه مفتاحه في وسط الشهر فقال شريح رحمه الله هو بريء من البيت وكان هذا مذهب شريح في الإجارة أنه لا يتعلق بها اللزوم فلكل واحد منهما أن ينفرد بفسخه لأنه عقد على المعدوم بمنزلة العارية ولأن الجواز للحاجة ولا حاجة إلى إثبات صفة اللزوم ولسنا نأخذ في هذا بقوله فالإجارة عقد معاوضة واللزوم أصل في المعاوضات ولأن في المعاوضات يجب النظر من الجانبين ولا يعتدل النظر بدون صفة اللزوم ثم أخذ أبو حنيفة رحمه الله بحديث شريح رضي الله عنه من وجه فقال إن ألقى إليه المفتاح بعذر له فهو بريء من البيت والعذر إن يريد سفرا أو يمرض فيقوم أو يفلس فيقوم من السوق وما أشبه ذلك وهذا لأن شريحا رحمه الله أفتى بضعف هذا العقد ولكن جعله في الضعف نهاية حيث قال ينفرد بالفسخ سواء كان له عذر أو لم يكن ومن يقول لا ينفرد بالفسخ مع وجود العذر فقد جعله نهاية في القوة وفي الجانبين معنى الضرر فإنما يعتدل النظر ويندفع الضرر بما قلنا لأن عند الفسخ تعذر بقصد دفع الضرر عن نفسه وعند الفسخ بغير عذر يقصد الإضرار بالغير ولأن العقد معاوضة وهو دليل قوته وعدم ما يضاف إليه العقد عند العقد دليل ضعفه وما يجاذ به دليلان يوفر حظه عليهما فدليل القوة قلنا لا ينفسخ بغير عذر.(15/145)
ص -70- ... ولدليل الضعف قلنا ينفسخ بالعذر لأن صفة المعاوضة لا تمنع الفسخ عند الحاجة إلى دفع الضرر كالمشتري يرد المبيع بالعيب وظاهر ما يقوله في الكتاب أنه ينفسخ العقد عند العذر بفعل المشتري ولكن الأصح ما ذكره في الزيادات أن القاضي هو الذي يفسخ العقد بينهما إذا أثبت العذر عندهما في الرد بالعيب وجه هذه الرواية أن المستأجر غير قابض للمنفعة حتى لم يدخل في ضمانه فيكون هذا بمنزلة الرد بالعيب قبل القبض ينفرد به من غير قضاء وجه تلك الرواية أن عين الحانوت أقيم مقام المعقود عليه في حكم انعقاد العقد فكذلك في حكم الفسخ وهو قابض للحانوت فكان هذا نظير الرد بالعيب بعد القبض فلهذا لا يتم إلا بالقضاء.(15/146)
وعن إبراهيم رحمه الله أنه كان لا يضمن الأجير المشترك ولا غيره وفسر الأجير المشترك في الكتاب بالقصار والخياط والإسكاف وكل من يقبل الأعمال من غير واحد وأجير الواحد أن يستأجر الرجل الرجل ليخدمه شهرا أو ليخرج معه إلى مكة وما أشبه ذلك مما لا يستطيع الأجير أن يؤجر فيه نفسه من غيره والحاصل أن أجير الواحد من يكون العقد واردا على منافعه ولا تصير منافعه معلومة إلا بذكر المدة أو بذكر المسافة ومنافعه في حكم العين فإن صارت مستحقة بعقد المعاوضة لا يتمكن من إيجابها لغيره والأجير المشترك من يكون عقده واردا على عمل هو معلوم ببيان محله لأن المعقود عليه في حقه الوصف الذي يحدث في العين بعمله فلا يحتاج إلى ذكر المدة ولا يمتنع عليه بعمل مثل ذلك العمل من غيره لأن ما استحقه الأول في حكم الدين في ذمته وهو نظير السلم مع بيع العين فإن المسلم فيه لما كان دينا في ذمته لا يتعذر عليه به قبول السلم من غيره والبيع لما كان يلاقي العين فبعد ما باعه من إنسان لا يملك بيعه من غيره ولهذا سمى هذا مشتركا والأول أجير الوحدة ثم أخذ أبو حنيفة رحمه الله بقول إبراهيم رضي الله عنه إذا تلفت العين بغير صنعه فلا ضمان عليه سواء كان أجير واحد أو مشترك تلف بما يمكن الاحتراز عنه أو بما لا يمكن وأخذ به أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في أجير الواحد أيضا وفي الأجير المشترك أخذ بقول شريح رحمه الله على ما روي عنه بعد هذا أنه كان يضمن الأجير المشترك والاختلاف فيه بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك ما ضاع على يده وعن علي رضي الله عنه أنه كان لا يضمن القصار والصباغ ونحوهما فلأجل الاختلاف اختار المتأخرون رحمهم الله الفتوى بالصلح على النصف وسنقرر هذه المسائل بطريق المعنى في مواضعها إن شاء الله تعالى(15/147)
وذكر عن شريح رحمه الله أنه كان يضمن الملاح كل شيء إلا الغرق والحرق والملاح أجير مشترك وقد بينا أن من مذهب شريح رحمه الله أن الأجير المشترك ضامن إلا ما لا يمكن التحرز عنه والذي لا يمكن التحرز عنه هو الحرق الغالب أو الغرق الغالب وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول إن غرقت من مده أو معالجته فهو ضامن لأن التلف بفعله والأجير(15/148)
ص -71- ... المشترك ضامن لما جنت يده وإن احترقت من نار أدخلها السفينة لحاجة له من خبز أو طبخ أو غيره فلا ضمان عليه لأن السفينة كالبيت فلا يكون هو معتديا في إدخال النار السفينة لحاجته وإذا كان التلف غير مضاف إليه تسببا ولا مباشرة لم يكن ضامنا وكان بن أبي ليلى رحمه الله يضمن الأجير المشترك ولكنه كان يقول لا ضمان على الملاح في الماء خاصة وإن غرقت السفينة من مده لأن الغرق غالب لا يمكن الاحتراز عنه فهو كالحرق الغالب والغارة الغالبة ولكنا نقول الاحتراز ممكن بمنع السفينة عند المد والمعالجة من موضع الغرق فإذا حصل التلف بعمله كان ضامنا.
وعن شريح رحمه الله أنه أتاه رجل بصباغ فقال إني أعطيت هذا ثوبي ليصبغه فاحترق بيته فقال له شريح رحمه الله أضمن له ثوبه فقال الصباغ كيف أضمن له ثوبه وقد احترق بيتي فقال له شريح أرأيت لو احترق بيته أكنت تدع له أجرك وكان هذا الحرق لم يكن غالبا وكان من مذهب شريح رحمه الله تضمين الأجير المشترك فيما يمكن التحرز عنه فكأنه عرف إمكان التحرز عنه بإخراج الثوب من البيت أو بإمكان إطفاء النار ولكنه تهاون فلم يفعل فلهذا قال له اضمن له ثوبه ثم احتج عليه الصباغ وقال كيف أضمن له وقد احترق بيتي وكأنه ادعى بهذا أن الحرق كان غالبا ولم يصدقه شريح رحمه الله لعلمه بخلاف قوله ثم قال أرأيت لو احترق بيته كنت تدع له أجرك ومعنى استدلاله هذا أن الحفظ مستحق له عليك والأجر لك عليه فكما لا يسقط ما هو مستحق لك بإحتراق بيته فكذلك لا يسقط ما هو مستحق له باحتراق بيتك ولو كان هذا الصباغ فقيها لبين الفرق ويقول له أيها القاضي قياسك فاسد فالأجر لي في ذمته وباحتراق بيته لا يفوت محل حقي وحقه في عين الثوب وباحتراق بيتي يفوت محل حقه ولكن لم يحضره هذا الفرق أو احتشمه فلم يعارضه والتزم حكمه.(15/149)
وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن احترق بيته بعمل هو متعدي فيه فهو ضامن وإن كان بغير عمله فلا ضمان عليه ولا ضمان على أجير الواحد إلا إذا خالف ما أمر به وذكر عن أبي جعفر أن عليا رضي الله عنه كان يضمن الخياط والقصار وغيرهما من الصناع احتياطا للناس أن لا يضيعوا متاعهم وعن أبي جعفر أيضا أن عليا رضي الله عنه لم يكن يضمن القصار في الرواية والصباغ والصائغ ونحو ذلك وعن بكير بن الأشج قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضمن الصياغ ما أفسدوا من متاع الناس أو ضاع على أيديهم وقد بينا اختلافهم فيما إذا حصل التلف بغير صنع الأجير وفي هذا دليل على اجتماعهما على تضمين الأجير المشترك لما جنت يده لأن قوله ما أفسدوا من متاع الناس عبارة عن التلف بعلمهم فهو دليل على زفر والشافعي رحمهما الله لنا فإنهما يقولان لا يضمن ما جنت يده وسيأتيك بيان المسألة في موضعه إن شاء الله تعالى.
وعن إبراهيم بن أبي الهيثم رحمه الله اتبعت كاذيا من السفن فحملت خوابي منها(15/150)
ص -72- ... حمالا فانكسرت الخابية فخاصمته إلى شريح رحمه الله فقال الحمال زاحمني الناس في السوق فانكسرت قال شريح رحمه الله إنما استأجرك لتبلغها أهله فضمنه إياها والكاذي دهن تحمل من الهند في السفن إلى العراق وقيل هو اسم لما يتخذه راكب السفينة من الأواني كالأمتعة لحاجته فيسع ذلك إذا خرج من السفينة وقد بينا أنه كان من مذهب شريح رحمه الله تعالى تضمين الأجير المشترك بما يمكن التحرز عنه من الأسباب والحمال أجير مشترك وكثرة الزحام مما يمكن التحرز عنه بأن يصبر حتى يقل الزحام فلهذا ضمنه وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا ضمان على الحمال فيما تلف في يده بفعل غيره وهو ضامن إذا تعثر أو زلقت رجله لأن ذلك من فعله والقول قوله بعد أن يحلف لأنه أمين عنده فإذا أنكر السبب الموجب للضمان عليه كان القول قوله مع يمينه.
وعن بن سيرين رحمه الله قال: كان شريح رحمه الله إذا أتاه حائك بثوب قد أفسده قال رد عليه مثل غزله وخذ الثوب وإن لم ير فسادا قال علي بشاهدي عدل على شرط لم يوفك به وفيه دليل على أن الأجير المشترك إذا أفسد كان ضامنا لصاحب المال مثل ماله فيما هو من ذوات الأمثال والغزل من ذوات الأمثال وإن أداء الضمان يوجب الملك له في المضمون وبآخر الحديث أخذ بن أبي ليلى رحمه الله فيقول إذا اختلفا في الشرط القول قول الحائك وعلى رب الثوب البينة أنه خالف شرطه وعندنا القول قول رب الثوب لأن الإذن مستفاد من جهته فالقول قوله في صفته.(15/151)
وعن عامر رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل باع حرا وأكل ثمنه واسترق الحر ورجل استأجر أجيرا واستوفى عمله ومنعه أجره ورجل أعطى بي ثم غدر" واللفظ الذي ذكر في هذا الحديث أبلغ ما يكون من الوعيد فرسول الله صلى الله عليه وسلم شفيع لأمته وكل مؤمن يرجو النجاة بشفاعته فإذا صار الشفيع خصما يشتد الأمر وهو معنى قوله: "ومن كنت خصمه خصمته" أي ألزمته وحججته فأما قوله "رجل باع حرا وأكل ثمنه" فالمراد صورة البيع لا حقيقته فالحر ليس بمحل لحقيقة البيع وببيع الحر يرتكب الكبيرة ولكن باستعمال صورة البيع فسمى فعله بيعا وما يقبض بمقابلته ثمنا مجازا ومن يفعل ذلك بحر فقد استذله والمؤمن عزيز عند الله ورسوله فرسول الله صلى الله عليه وسلم خصم لمن يستذله وإنما يتمكن من ذلك بقوته وضعف ذلك الحر ورسول الله صلى الله عليه وسلم خصم عن كل ضعيف وهو يظلمه باسترقاقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذب عن كل مظلوم حتى ينتصف من ظالمه وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "ورجلا استأجر أجيرا فاستوفى عمله ومنعه أجره" لأنه استذله بالعمل واستزبنه بمنع الأجر وظلمه فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يذب عنه وفيه دليل جواز استئجار الأجير وإن الأجر لا يملك بنفس العقد لأنه ألحق الوعيد به بمنع الأجر بعد العمل فلو كان الأجر يجب تسليمه بنفس العقد لما شرط استيفاء العمل لذكر الوعيد على منع الأجر وقوله صلى الله عليه وسلم "ورجل أعطا بي ثم غدر" أي أعطى كافرا أمان الله وأمان(15/152)
ص -73- ... رسوله ثم غدر وهو معنى ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في وصيته لأمراء السرايا: "وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم" وهذا يرجع إلى ما بينا من المعنى فالمستأمن يكون مستذلا في ديارنا فإذا غدره واستحقره بعد إعطاء الأمان بالله ورسوله فقد ظلمه.
وعن أبي نعيم رحمه الله تعالى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب التيس وكسب الحجام وقفيز الطحان والمراد بعسب التيس أخذ المال على الضراب وهو إنزاء الفحول على الإناث وذلك حرام فإنه يأخذ المال بمقابلة الماء وهو مهين لا قيمة له والعقد عليه باطل لأنه يلتزم ما لا يقدر على الوفاء به وهو الأحبال فإن ذلك ليس في وسعه وهو ينبني على نشاط الفحل أيضا وكذلك قفيز الطحان وهو أن يستأجر طحانا ليطحن له حنطة معلومة بقفيز منها أو من دقيقها وذلك حرام لأن العقد فاسد فإنه لو صح كان شريكا بأول جزء من العمل والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر ثم الأجر إما أن يلتزمه في الذمة أو في عين موجود وهو ما التزمه في الذمة ودقيق تلك الحنطة غير موجود وقت العقد فأما كسب الحجام فأصحاب الظواهر يأخذون بظاهر هذا الحديث ويقولون كسب الحجام حرام لأنه يأخذه بمقابلة ما استخرج من الدم أو ما يشرط فهو مجهول فيكون محرما وقد دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من السحت عسب التيس ومهر البغي وكسب الحجام" والمراد بمهر البغي ما تأخذ الزانية شرطا على الزنى فقد كانوا يؤاجرون الإماء لذلك وفيه نزل قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] الآية لما قرن بين ذلك وكسب الحجام عرفنا أن كسب الحجام حرام ولكنا نقول هذا النهي في كسب الحجام قد انتسخ بدليل ما ذكره في آخر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال فأتاه رجل من الأنصار وقال إن لي حجاما(15/153)
وناضحا أفأعلف ناضحي من كسبه قال "نعم" وأتاه آخر فقال إن لي عيالا وحجاما أفأطعم عيالي من كسبه قال "نعم" فالرخصة بعد النهي دليل انتساخ الحرمة ودل عليه أيضا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو كان حراما لم يعطه لأنه كما لا يحل أكل الحرام لا يحل إيكاله قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله" وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا النهي في كسب الحجامة ما كان على سبيل التحريم بل على سبيل الإشفاق فإن ذلك يدنى المرء به ويخسسه وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها" ونحن نقول به فالأولى للمؤمن أن يكتسب بما لا يدينه وقد دل عليه حديث عثمان رضي الله عنه حين سأل بعض مواليه عن كسبه فذكر أنه حجام فقال إن كسبك لوسخ.
وذكر عن عطاء ومجاهد وطاووس رحمهم الله قال لا ضمان على الأجير الراعي وإن اشترطوا ذلك عليه وبه نقول إن كان أجير واحد فهو أمين كالمودع واشتراط الضمان على(15/154)
ص -74- ... الأمين باطل وإن كان الراعي مشتركا فلا ضمان عليه فيما تلف بغير فعله عند أبي حنيفة رحمه الله عليه شرط ذلك عليه أو لم يشترط وهو ضامن لما تلف من فعله شرط ذلك أو لم يشترط وعندهما ما تلف بما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان عليه فيه شرط أو لم يشترط فاشتراط الضمان عليه باطل على اختلاف الأصلين والله أعلم بالصواب.
باب كل الرجل يستصنع الشيء
قال رحمه الله: اعلم بأن البيوع أنواع أربعة بيع عين بثمن وبيع دين في الذمة بثمن وهو السلم وبيع عمل العين فيه تبع وهو الاستئجار للصناعة ونحوهما فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل والعين هو الصبغ بيع فيه وبيع عين شرط فيه العمل وهو الاستصناع فالمستصنع فيه مبيع عين ولهذا يثبت فيه خيار الرؤية والعمل مشروط فيه وهذا لأن هذا النوع من العمل اختص باسم فلا بد من اختصاصه بمعنى يقتضيه ذلك الاسم والاستصناع استفعال من الصنع فعرفنا أن العمل مشروط فيه ثم أحكام ما للناس فيه تعامل من الاستصناع قد بيناه في شرح البيوع فبذلك بدأ الباب هنا وبين الفرق بينه وبين ما إذا أسلم حديدا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى بأجر مسمى فإنه جائز ولا خيار له فيه إذا كان مثل ما سمى لأن ثبوت الخيار للفسخ حتى يعود إليه رأس ماله فيندفع الضرر به وذلك لا يتأتى هنا فإن بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه فأما في الاستصناع المعقود عليه العين وفسخ العقد فيه ممكن فلهذا ثبت خيار الرؤية فيه ولأن الحداد هنا يلتزم العمل بالعقد في ذمته ولا يثبت خيار الرؤية فيما يكون محله الذمة كالمسلم فيه فأما في الاستصناع المقصود هو العين والعقد يرد عليه حتى لو صار دينا بذكر الأجل عند أبي حنيفة رحمه الله لم يثبت فيه خيار الرؤية بعد ذلك وإن أفسده الحداد فله أن يضمنه حديدا مثل حديده ويصير الإناء للعامل وإن شاء رضي به وأعطاه الأجر لأن العامل مخالف له من وجه حيث أفسد عمله وموافق من وجه وهو إقامة(15/155)
أصل العمل وإن شاء مال إلى جهة الخلاف وجعله كالغاصب.
ومن غصب حديدا وضربه إناء فهو ضامن حديدا مثله والإناء له بالضمان وإن شاء مال إلى جهة الوفاق ورضي به متغير الصفة فأخذ الإناء وأعطاه الأجر كالمشتري إذا وجد بالبيع عيبا إلا أنه يعطيه أجر مثله لا يجاوز به المسمى لأنه إنما التزم جميع المسمى بمقابلة عمل صالح ولم يأت به ولكن قدر ما أقام من العمل سلم له بحكم العقد فعليه أجر المثل ولا يجاوز به المسمى لأن المنفعة إنما تتقوم بالعقد والتسمية ولم يوجد ذلك فيما زاد على المسمى ولأنه لما رضي بالمسمى بمقابلة عمل صالح يكون أرضى به بمقابلة عمل فاسد وهذا بخلاف المشتري فإنه لو رضي بالعيب يلزمه جميع الثمن لأن الثمن بمقابلة العين دون الأوصاف والفائت بالعيب وصف وهنا البدل بمقابلة العمل المشروط وبالإفساد ينعدم ذلك العمل فلهذا لا يلزمه جميع المسمى وإن رضي به وكذلك كل ما يسلمه إلى عامل ليصنع له(15/156)
ص -75- ... شيئا مسمى كالجلد يسلمه إلى الإسكاف ليصنعه خفين والغزل يسلمه إلى حائك لينسجه فلو استصنع عند حائك ثوبا موصوف الطول والعرض والرفعة والجنس ينسجه من غزل الحائك كان هذا في القياس مثل الخف وغيره يريد به قياس الاستحسان في مسألة الخف ولكن هذا لا يعمل به الناس وإنما جوزنا الاستصناع فيما فيه تعامل ففيما لا تعامل نأخذ بأصل القياس ونقول إنه لا يجوز ولو ضرب لهذا الثوب أجلا وتعجل الثمن كان جائزا وكان سلما لا خيار له فيه وإن فارقه قبل أن يعجل الثمن فهو فاسد قيل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله فأما عندهما لما كان الاستصناع الجائز بذكر الأجل فيه لا يصير سلما فالاستصناع الفاسد بذكر الأجل كيف يكون سلما صحيحا فإن الأجل لتأخير المطالبة ولا مطالبة عند فساد العقد فذكر الأجل فيه يكون لغوا والأصح أنه قولهم جميعا والعذر لهما أن تحصيل مقصود المتعاقدين بحسب الإمكان واجب ففيما للناس فيه تعامل أمكن تحصيل مقصودهما على الوجه الذي صرحا به وفيما لا تعامل فيه ذلك غير ممكن فيصار إلى تحصيل مقصودهما بالطريق الممكن وهو أن يجعل ذلك سلما.
توضيحه أن فيما فيه التعامل المستصنع فيه مبيع شرط فيه العمل فذكر المدة لإقامة العمل فيها فلا يخرج به من أن يكون مبيعا عينا فأما فيما لا تعامل فيه فليس هنا مبيع عين ليكون ذكر المدة لإقامة العمل في العين بل ذكر العمل لبيان الوصف فيما يلتزمه دينا وذكر المدة لتأخير المطالبة وهذا هو معنى السلم فيجعله سلما لذلك.(15/157)
ولو أسلم غزلا إلى حائك لينسج له سبعا في أربع فحاكه أكثر من ذلك أو أصغر فهو بالخيار إن شاء ضمنه مثل غزله وسلم له الثوب وإن شاء أخذ ثوبه وأعطاه الأجر إلا في النقصان فإنه يعطيه الأجر بحساب ذلك ولا يجاوز به ما سمى له أما ثبوت الخيار له فلتغيير شرط العقد لأنه إن حاكه أكثر مما سمى فهو أرق مما سمى وإن حاكه أصغر مما سمى فهو أصفق مما سمى هذا إذا كان قدر له الغزل وإن لم يكن قدره له فإذا حاكه أكثر مما سمى فقد زاد فيما استعمله من غزله على ما سمى وإن كان أصغر من ذلك فقد نقص عن ذلك فلتغير شرط العقد ثبت له الخيار إن شاء مال إلى جهة الخلاف وجعله كالغاصب فضمنه غزلا مثل غزله والثوب للحائك ولا أجر له عند ذلك بمنزلة من غصب غزلا ونسجه وإن شاء رضي بعمله لكونه موافقا له في أصله وإن خالف في صفته وأعطاه الأجر إلا في النقصان فأما إذا أراد فقد أتى بالعمل المشروط وزيادة فيعطيه الأجر المسمى وفي الزيادة لم يوجد ما يقومه وهو التسمية فلا يطالبه بشيء من ذلك وأما في النقصان قال يعطيه من الأجر بحساب ذلك ومعنى هذا الكلام أنه ينظر إلى تكسير ما شرط عليه وتكسير ما جاء به فالمشروط عليه سبع في أربعة فذلك ثمانية وعشرون ذراعا والذي جاء به سبع في ثلاثة فذلك أحد وعشرون ذراعا فعرفت أنه أقام ثلاثة أرباع العمل المشروط فعليه ثلاثة أرباع الأجر وقال كثير من مشايخنا رحمهم الله يعطيه ثلاثة أرباع المسمى لأن جميع المسمى بمقابلة ثمانية وعشرين(15/158)
ص -76- ... ذراعا فإحدى وعشرون يقابله ثلاثة أرباع المسمى كما لو استأجره ليضرب له ثمانية وعشرين لبنة بأجر مسمى فضرب إحدى وعشرين فإنه يستوجب ثلاثة أرباع المسمى.
قال رضي الله عنه: والأصح عندي أنه يعطيه أجر مثله لا يجاوز به ثلاثة أرباع المسمى لأن مالية الثوب تتفاوت بالطول والعرض وربما تنقص زيادة الطول في المالية وزيادة العرض تزيد فيه كما في الملاءة وربما تزيد في ماليته زيادة الطول دون العرض كما في العمامة فلا يمكن توزيع المسمى على الذرعان بهذه الصفة بخلاف اللبن فالبعض هناك غير متصل بالبعض في معنى المالية وإذا تقرر هذا عرفنا أن التوزيع هنا على الذرعان غير ممكن فيعطيه أجر مثل عمله ولكن لا يجاوز بهثلاثة أرباع المسمى لأنه لو جاء بالثوب مثل ما سمى كان حصته ثلاثة أرباعه من الأجر ثلاثة أرباع المسمى فإذا تم رضاه بذلك القدر عند الموافقة يكون أرضى به عند الخلاف فلهذا أوجبنا عليه أجر مثل عمله لا يجاوز به ثلاثة أرباع المسمى وكأنه أشار إلى هذا بقوله ولا تجاوز به إلا ما سمى له بمقابلة ما جاء به وكذلك لو شرط عليه صفيقا فحاكه رقيقا لو شرط عليه رقيقا فحاكه صفيقا كان له أجر مثله لا يجاوز به ما سمى لأنه إنما ضمن جميع الأجر بمقابلة الوصف الذي شرط عليه ولم يأت به فإن مالية الثوب تختلف بالرقة والصفاقة وربما يختار الصفيق في بعض الأوقات والرقيق في بعض الأوقات فلهذا وجب المصير إلى أجر المثل ولا تجاوز به ما سمى لانعدام المقوم فيما زاد عليه ولوجود الرضا من الحائك بالمسمى من الأجر.(15/159)
ولو أمره أن يزيد في الغزل رطلا من غزله وقال قد زدته وقال رب الغزل لم تزده فالقول قول رب الغزل مع يمينه أما جواز هذا العقد فلأنه استقرض منه ما أمره أن يزيد فيه من الغزل ويصير المستقرض قابضا باتصاله بملكه فالحائك يقيم العمل في غزل رب الثوب بخلاف ما إذا كان جميع الغزل من الحائك فإن المستصنع هناك لا يمكن أن يجعل مستقرضا للغزل قابضا فيكون الحائك عاملا في غزل نفسه ثم الحائك يدعي أنه أقرضه رطلا من غزله وسلمه إليه ورب الثوب منكر لذلك فالقول قول المنكر مع يمينه وعلى الحائك البينة لحاجته إلى إثبات ما يدعي من التسليم إليه بحكم القرض وما يدعي من الدين لنفسه في ذمته فإن أقام البينة أخذ من رب الثوب مثل غزله لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وإن لم تكن له بينة فاليمين على رب الثوب على علمه لأنه إنما يستحلف على فعل الغير فإن حلف بريء وإن نكل عن اليمين فنكوله كإقراره.
وإذا سلم إليه غزلا ينسجه ثوبا وأمره أن يزيد من عنده غزلا مسمى مثل غزله على أن يعطيه ثمن الغزل وأجر الثوب دراهم مسماة جاز وهذا استحسان وفي القياس لا يجوز لأنه اشترى منه ما سماه من الغزل وهو غير معين ولا مشروط في ذمته دينا ولكنه يستحسن للتعامل في هذا المقدار فقد يدفع الإنسان غزلا إلى حائك فيقول له الحائك هذا لا يكفي لما تطلبه فيأمره أن يزيد من عنده بقدر ما يحتاج إليه ليعطيه ثمن ذلك وإنما لا يجوز(15/160)
ص -77- ... الاستصناع في الثوب لعدم التعامل فإذا وجد التعامل في هذا يجوزه اعتبارا بالاستصناع فيما فيه التعامل ثم الطول والعرض في الثوب وصف ورأينا جواز استئجار الأجير لإحداث وصف في الثوب بملكه وهو الصباغ فيجوز هنا أيضا اشتراط زيادة الطول والعرض عليه بغزل نفسه بالقياس على الصباغ فإن أتاه كما شرط واتفقا على أنه زاد أعطاه ممن غزله لأنه صار قابضا للمشتري باتصاله بملكه وأجر المسمى لأنه وفاء بما شرط له وإن قال رب الثوب لم يزد فيه شيئا وكان وزن غزل منا وقال النساج قد كان وزن غزلك منا وقد زدت فيه رطلا فوزنوا الثوب فوجدوه منوين فقال رب الثوب إنما زاد لما فيه من الدقيق وقال النساج هو من الغزل والدقيق فالقول قول الحائك مع يمينه لأن الظاهر شاهد له وعند المنازعة القول قول من يشهد له الظاهر وينبغي للقاضي أن يرجع إلى العلماء من الحوكة فإن قالوا الدقيق لا يزيد فيه هذا المقدار فالقول قول الحائك مع يمينه وإن قالوا يزيد فيه فالقول قول رب الثوب لأنه ما اشتبه على القاضي فإنه ما يرجع في معرفته إلى من له بصر في ذلك الباب كما في قيم المتلفات ومتى كان القول قول الحائك وحلف بخبر صاحبه على أن يعطيه ما سمى له ومتى كان القول قول رب الثوب بأن كان يعلم أن الدقيق يزيد فيه هذا المقدار فإنه يتخير صاحب الثوب لأنه تغير عليه شرط عقده فإنه لما أمره بأن يزيد فيه فقد أمره بثوب هو أطول أو أعرض مما جاء به وإن شاء مال إلى جهة الخلاف وضمنه مثل عزله وإن شاء مال إلى الموافقة في أصل العمل وأعطاه من الأجر بحساب ما أقام من العمل لأنه جعل جميع المسمى بمقابلة عمله في من ونصف من الغزل وإنما أقامه في من فيعطيه بحسابه من الأجر وفيه طريقان باعتبار المسمى وأجر المثل كما بينا.(15/161)
ولو كان الثوب مستهلكا وقد استهلكه صاحبه قبل أن يعلم ورثته كان القول قول رب الثوب مع يمينه على عمله لأن الحائك يدعي عليه تسليم مانعه من الغزل ووجوب ثمنه في ذمته وهو منكر لذلك وإنما يمينه على فعل الغير فكان على العلم وإذا حلف فعليه أجر الثوب وليس عليه ثمن الغزل فيقسم الأجر على عمل ثوب مثله وقيمة رطل من غزله فيطرح عنه ما أصاب قيمة الغزل ولم يزد على هذا في الأصل قال الحاكم رحمه الله وصواب هذا الجواب أن يطرح عنه أيضا حصة ما تركه من زيادة العمل في النسج لما بينا أن المسمى بمقابلة عمله في ثلاثة أرطال غزل وإنما أقام العمل في رطلين من غزل وهذا التقسيم والمصير إلى معرفة وزن الثوب لم يذكره في المسألة الأولى لأن موضوع المسألة هناك فيما إذا لم يكن مقدار غزل الدافع معلوما ولا يعرف الصادق من الكاذب بالمصير إلى وزن الثوب وهنا وضع المسألة فيما إذا كان وزن غزل الدافع معلوما فلهذا وجب المصير إلى وزن الثوب ليعرف به الصادق من الكاذب.
قال: وإذا أسلم الرجل حنطة إلى طحان ليطحنها بدرهم وبربع دقيق منها فهذا فاسد وهو تفسير الحديث في النهي عن قفيز الطحان ثم الحكم متى ثبت في حادثة بالنص وعرف(15/162)
ص -78- ... المعنى فيه تعدى الحكم بذلك المعنى إلى الفرع ومن فرع هذا لو دفع سمسما إلى رجل على أن يعصره له برطل من دهنه فهو فاسد أيضا وكذلك لو استأجر رجلا ليذبح له شاة بدرهم ورطل من لحمها فذلك فاسد وفي الكتاب قال وكيف يستأجر بلحم شاة حية وقد ورد الحديث بالنهي عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة يريد به أن الأجرة متى كانت معينة فهي بمنزلة المبيع المعين وما في مضمون خلقة حيوان لا يجوز بيعه عينا وتفسير الملاقيح عند بعضهم ما تضمنه الأصلاب والمضامين ما تضمنه الأرحام وعند بعضهم على عكس هذا فالملاقيح ما تضمنه الأرحام بالقاح الفحول واستدلوا بقول القائل شعر:
وعدة العام وعام قابل
ملقوحة في بطن ناب حابل
وحبل الحبلة هو بيع ما يحمل حبل هذه الناقة وكانوا يعتادون ذلك في الجاهلية أبطل الشرع ذلك كله بالنهي عن بيع الغرر واستدل أيضا بالنهي عن بيع اللبن في الضرع وعن بيع الصوف على ظهورها فعرفنا أن ما كان في مضمون خلقه حيوان لا يجوز تمليكه بعقد المعاوضة فإن عمله بهذا الشرط كان له أجر مثله لأن بفساد العقد لم يملك شيئا مما أقام العمل فيه فكان عاملا لغيره فيما لا شركة له فيه بعقد فاسد فيستوجب أجر المثل لا يجاوز به ما سمى لانعدام التسمية فيما زاد عليه ولوجود الرضى منه بالمسمى فإن المسمى متى كان معلوما يتم الرضى به وإن شرط مع الدرهم ربع قفيز دقيق جيد ولم يقل منها كان جائزا لأن الدقيق مكيل معلوم يصلح أن يكون ثمنا في البيع فيصلح أن يكون أجرة أيضا.(15/163)
ولو دفع غزلا إلى حائك لينسجه بذراع من ذلك الثوب أو بجزء شائع مسمى فذلك لا يجوز في ظاهر المذهب أيضا لأنه في معنى قفيز الطحان قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه رحمهما الله أنه كان يفتي بجواز هذا ويقول فيه عرف ظاهر عندنا بنسف ولو لم يجوزه إنما يجوزه بالقياس على المنصوص والقياس يترك بالعرف كما في الاستصناع ثم فيه منفعة فإن النساج يعجل بالنسج ويجد فيه إذا كان له في الثوب نصيبا قال ولو دفع سمسما إلى رجل فقال قشره وربه بنفسج فأعصره على أن أعطيك أجره درهما كان هذا فاسدا لأنه لا يعرف ما شرط من البنفسج وجهالة ذلك تفضي إلى المنازعة وهذا بخلاف ما لو دفع إلى صباغ ثوبا ليصبغه بصبغ من عنده لأن مقدار الصبغ في كل الثوب معلوم عند أهل الصنعة المسبغ منه وغير المسبغ ولا تتمكن المنازعة بينهما لأن اللون في الثوب محسوس فأما الرائحة في الدهن المربى غير محسوس ويتفاوت ذلك بتفاوت ما يربى به من البنفسج فتتمكن المنازعة بينهما.
يوضح الفرق أن إعلام مقدار الصبغ يتعذر على الصباغ لأنه يجمع الثياب ويصبغ الكل جملة واحدة فيسقط اعتباره لذلك فأما القشار لا يخلط سمسم الناس ولو فعل ذلك صار ضامنا ولكنه يربى سمسم كل إنسان على حدة فلا يتعذر عليه إعلام مقدار البنفسج فلهذا شرط ذلك وإن قال على أن تربيه بقفيز من بنفسج فهذا جائز وكذلك إن كان البنفسج الذي(15/164)
ص -79- ... يدخل في مثل هذا السمسم معروفا عند التجار فهو جائز لأن المعلوم بالعرف كالمعلوم بالشرط ولا تتمكن المنازعة بينهما إذا كان ذلك معلوما فلهذا جوزناه ثم تبين بعد هذا ما يجوز فيه الاستصناع وحاصل ذلك أن المعتبر فيه العرف وكل ما تعارف الناس الاستصناع فيه فهو جائز فإذا جاء به الصانع مفروغا عنه واختار المستصنع أخذه فليس للصانع أن يمنع لأن البيع قد لزم فيه باتفاقهما عليه إلا أنه إن كان لم يستوف الثمن حبسه بالثمن وإن باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع فبيعه جائز لأنه باع ملك نفسه فالعقد لا يتعين في هذا المصنوع قبل أن يراه المستصنع وإذا نفذ بيعه صار مملوكا للمشتري فلا سبيل للمستصنع عليه بعد ذلك.
وإذا دفع إلى إسكاف جلدا واستأجره بأجر مسمى على أن يخرزه له خفين بصفة معلومة على أن يفعله الإسكاف ويبطنه ووصف له البطانة والنعل فهو جائز لأنه متعارف وإذا جاز الاستصناع في الخف لكونه متعارفا ففي البطانة والنعل أجوز ولا خيار لصاحب الأديم إذا عمله عملا مقارنا لا فساد فيه وكان ينبغي أن يثبت له الخيار في البطانة والنعل لأنه اشترى ما لم يره لكنه قال لا خيار له في أصل الأديم لأنه ملكه ولا يتأتى الرد في البطانة والنعل منفردا عن الأصل ثم البطانة والنعل بيع في هذا العقد والمقصود هو العمل ألا ترى أن بالبطانة والنعل يصير الخف أحكم وأن الخف ينسب إلى الأديم دون البطانة والنعل ولا خيار له فيما هو المقصود وهو العمل وفيما هو الأصل وهو الأديم فكذلك في البيع وإن جاء به فاسدا ضمنه قيمة الجلد إن شاء لأنه إنما طلب منه العمل الصالح دون الفاسد فكان هو في إقامة أصل العمل موافقا وباعتبار صفة الفساد في العمل مخالف فإن شاء مال إلى الخلاف وجعله كالغاصب فيضمنه قيمة جلده وإن شاء مال إلى الموافقة في أصل العمل ورضي به مع تغيير الوصف فأخذ الخفين وأعطاه أجر مثل عمله وقيمة ما زاد فيه ولا يجاوز به ما سمى له.(15/165)
أما أجر مثل العمل لما بينا أن المسمى بإزاء العمل الصالح فعند الفساد يجب أجر المثل وقيمة ما زاد فيه لأنه مشتري له وقد تم قبضه باتصاله بملكه ومن أصحابنا رحمهم الله من قال قوله ولا يجاوز به ما سمى ينصرف إلى الأجر خاصة دون قيمة ما زاد فيه فإن المشتري شراء فاسد مضمون بالقيمة بالغة ما بلغت لأن الأعيان متقومة بنفسها بخلاف المنافع واستدلوا على هذا بما ذكر في آخر الباب في مسألة الجبة ولا يجاوز به ما سمى في أجر عمله خاصة وقالوا بيانه في فصل يكون بينا في جميع الفصول ولكن الأصح أن قوله ولا يجاوز به ما سمى له في هذا الموضع ينصرف إليهما لأن البطانة والنعل تابع للعمل ولهذا يجوز العقد هنا فإنه لو كان مقصودا ما جاز العقد فيه وإذا لم يكن معينا والتبع معتبر بالأصل فإذا كان الأصل لا يجاوز به ما سمى له فكذلك في التبع وسنقرر هذا الفرق في مسألة الجبة إن شاء الله تعالى.(15/166)
ص -80- ... وكذلك إن سلم خرقة إلى صانع ليصنعها قلنسوة ويبطنها ويحشوها فهو مثل ذلك لأن البطانة والحشو في القلنسوة تبع ألا ترى أن القلنسوة تنسب إلى الظهارة وأنها بالبطانة والحشو تصير أحكم واسم القلنسوة يتناوله بدون البطانة والحشو كالخف فالجواب فيهما سواء وبجميع هؤلاء الصناع إذا رضي المستصنع العمل وأجازه أن لا يدفعه له حتى يأخذ منه الأجر إلا أن يكون مؤجلا فلا يكون له منع المتاع حينئذ لأن الأجرة في الإجارات كالثمن في البيع والمبيع يحبس بالثمن إذا كان البيع حالا ولا يحبس به إذا كان مؤجلا وعلى قول زفر رحمه الله ليس للصانع حق الحبس بالأجرة إذا كان الأصل ملكا للمستأجر لأنه صار مسلما المعقود عليه باتصاله بملكه وهذا لأن المعقود عليه الوصف الذي أحدثه بعمله وقد اتصل ذلك بملك المستأجر باختيار العامل ورضاه وبعد ما سلم المعقود عليه لا يكون له حق الحبس ولكنا نقول هذا تسليم لا يمكن التحرز عنه فإنه لا يتصور منه إقامة العمل بدون أن يتصل ذلك بملكه وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فلا يصير هو به راضيا بسقوط حقه في الحبس وربما يقول زفر رحمه الله البدل ليس بمقابلة الأصل وإنما يحبس المبدل بالبدل فإذ لم يثبت له حق الحبس فيما هو الأصل لا يثبت في البيع ولكنا نقول حق الحبس يثبت له في المعقود عليه ولا يتأدى ذلك إلا بحبس الأصل فثبت حقه في حبس الأصل كمن أجر عينا يلزمه تسليم العين وهو إنما عقد على المنفعة ولكن لما كان تسليم المنفعة لا يتأدى بدون العين لزمه تسليم العين فهذا مثله قال في الأصل إن كان الأجل ميعادا من غير شرط فله أن لا يدفعه حتى يقبض أجره لأن المواعيد لا يتعلق بها اللزوم وهذا يصير رواية في فصل بيع المرابحة وهو أنه إذا اشترى عينا من بياع وواعده أن يستوفي الثمن منجما في كل سبت فللمشتري أن يبيعه مرابحة من غير بيان في الصحيح من الجواب لأنه مشتري بثمن حال والميعاد لا يكون لازما بدليل هذه المسألة.(15/167)
وإذا دفع الرجل إلى صباغ ثوبا يصبغه له بأجر مسمى ووصف له الصبغ فهو جائز لأنه إذا وصف له الصبغ وسماه من زعفران أو عصفور أو بقم فقد صار المقصود معلوما لا تتمكن المنازعة بينهما فإن خالفه بصبغه على غير ما سمى له إلا أنه من ذلك الصبغ فلصاحب الثوب أن يضمنه قيمة ثوب أبيض وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به ما سمى له أما ثبوت الخيار فلأنه في أصل الصبغ موافق وفي الصفة مخالف وإذا اختار الأخذ أعطاه أجر مثله ولا يجاوز به ما سمى له لأنه رضي بالمسمى وهذا بخلاف مسألة الخف والقلنسوة فقد قال هناك يعطيه أجر مثل عمله وقيمة ما زاد فيه وهنا لم يذكر قيمة ما زاد الصبغ فيه وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله التسوية بينهما ووجه الفرق على ظاهر الرواية أن الصبغ آلة العمل المستحق على الصباغ بمنزلة الحرض والصابون في عمل الغسال فلا يصير صاحب الثوب مشتريا للصبغ حتى تعتبر القيمة عند فساد السبب بخلاف ما سبق وهذا لأن القائم بالثوب لون الصبغ لا عينه وإنما يصير مشتريا لما يتصل بملكه واللون لا(15/168)
ص -81- ... يمكن أن يجعل مشترى بخلاف البطانة والنعل فذاك يتصل بعمله بملكه وهو عين مال ألا ترى أنه يتأدى بفعله فلهذا تعتبر قيمة ما زاد فيه.
ووجه رواية محمد رحمه الله أن الصبغ في الثوب بمنزلة عين مال قائم حكما حتى لو انصبغ ثوب إنسان بصبغ الغير واتفقا على بيعه فإن صاحب الثوب يضرب في الثوب بقيمة ثوبه أبيض وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ ولو لم يكن الصبغ المتصل بالثوب في حكم عين قابل للبيع لما كان من الثمن حصة ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن الصبغ بعد ما اتصل بالثوب لا يتصور تمييزه عنه فإنما يكون في حكم مال متقوم مع الثوب لا وحده وهنا لا يجب عليه قيمة الثوب فلا يجب عليه قيمة ما زاد الصبغ فيه وفي مسألة الخف البطانة والنعل لما كان بعرض الفصل كان مالا متقوما منفردا عن الخف فلهذا اعتبر قيمة ما زاد فيه.
وإن اختلف الصباغ ورب الثوب فيما أمره أن يصبغه به بأن صبغه بعصفر فقال رب الثوب أمرتك بالزعفران فالقول قول رب الثوب مع يمينه عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله القول قول الصباغ لأنهما اتفقا على الإذن في الصبغ ثم رب الثوب يدعي عليه خلافا ليضمنه أو ليثبت الخيار لنفسه وهو منكر لذلك فالقول قول المنكر ولكنا نقول الإذن يستفاد من جهة رب الثوب ولو أنكر الإذن له في الصبغ أصلا كان القول قوله فكذا إذا أنكر الإذن فيما صبغه به.(15/169)
وإذا استصنع الرجل عند الرجل خفين فلما فرغ منه قال المستصنع ليس هكذا أمرتك وقال الإسكاف بهذا أمرتني فالقول قول المستصنع لما بينا أن الإذن يستفاد من جهته ولا يمين عليه لأن توجه اليمين ينبني على دعوى تلزمه الجواب وذلك لا يوجد هنا فإن للمستصنع أن يأبى وإن لم يكن الصانع مخالفا فلا فائدة في استحلافه وكذلك لو أقام العامل البينة لم يلزم الأمر لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ولو قال المستصنع بهذا أمرتك ولكن لا أريده كان له ذلك لما بينا أن الخيار ثابت للمستصنع بسبب عدم الرؤية ولو أسلم إليه خفه بنعله بأجر مسمى فهو جائز للعرف الظاهر فإذا نعله بنعل لا ينعل بمثله الخفاف فصاحب الخف بالخيار إن شاء ضمنه قيمة الخف بغير نعل وإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثله وقيمة النعل لا يجاوز به ما سمى لما بينا أنه في أصل العمل موافق وفي الصفة مخالف وإن كان ينعل بمثله الخفاف فهو لازم عليه وإن لم يكن جيدا لأن المستحق بمطلق العقد صفة السلامة فأما صفة الجودة لا تستحق إلا بالشرط كما في بيع العين ولو شرط عليه جيدا فانعله بنعل غير جيد فلصاحب الخف الخيار لأن فوات الوصف المشروط بمنزلة العيب في إثبات الخيار كما إذا اشترى عبدا بشرط أنه كاتب فوجده لا يحسن الكتابة يثبت له الخيار بمنزلة ما لو وجد العيب في المعقود عليه فهذا مثله.
ولو اختلافا في الأجر وقد عمله عملا على ما وصفه له فإن أقاما البينة فالبينة بينة العامل لأنه يثبت الزيادة في حقه وهو الأجر فتترجح بينته بذلك وإن قال رب الخف: عملته لي(15/170)
ص -82- ... بغير أجر. وقال العامل: عملته بدرهم ولا بينة بينهما فعلى رب الخف اليمين لله ما شارطه على درهم لأن العامل يدعي عليه الدرهم دينا في الذمة وهو منكر فالقول قول المنكر مع اليمين فإذا حلف غرم له ما زاد النعل في خفه بعد أن يحلف العامل على دعواه أنه عمل له بغير أجر لأن رب الخف يدعي عليه هبة النعل وهو لو أقر به لزمه فإذا أنكر يحلف عليه وإذا حلف انتفى ما ادعى كل واحد منهما من العقد يبقى نعله متصلا بخف الغير بإذن صاحب الخف فتجب قيمته لاحتباس ملك الغير عنده ولا يجب أجر المثل لأن المنفعة لا تتقوم إلا بالعقد والتسمية وقد انتفى ذلك فأما العين متقوم بنفسه ولو أقاما البينة أخذت بينة العامل لإثباته الزيادة ولو عمل الخف كله من عنده ثم اختلفا في الأجر فالقول قول الإسكاف ولا يمين على المستصنع ولكنه بالخيار إن شاء أخذه بما قال الإسكاف وإن شاء تركه لما بينا أن العقد غير لازم في حق كل واحد منهما والذي جاء به عين ملك الإسكاف فلا يستحق عليه إلا بما رضي به من الثمن.(15/171)
ولو أسلم ثوبا إلى صباغ فصبغه أحمر على ما أمره به فقال الصباغ صبغته بدرهم وقال رب الثوب بدانقين وإني أنظر إلى ما زاد الصبغ فيه فإن زاد درهما أو أكثر فله درهم بعد أن يحلف الصباغ ما صبغه بدانقين وإن كان دانقين أو أقل فإنه يعطيه دانقين بعد أن يحلف رب الثوب ما صبغة بدرهم كما يدعيه الصباغ لأن الأصل في باب الخصومات أن القول قول من يشهد له الظاهر والظاهر أن الصباغ لا يجعل في ثوب إنسان صبغا يساوي درهما بدانقين إذن يخسر وهو ما جلس لهذا والظاهر أن الإنسان لا يلتزم درهما بإزاء صبغ يساوي دانقين إذن يغبن والمغبون لا محمود ولا مأجور فإذا كان قيمة الصبغ درهما أو أكثر فله فالظاهر شاهد للصباغ فيجعل القول قوله مع يمينه على دعوى خصمه وإذا كانت قيمة الصبغ أقل من دانقين فالظاهر شاهد لرب الثوب فيكون القول قوله مع يمينه على دعوى خصمه وإن كان أكثر من دانقين وأقل من درهم أعطيت الصباغ ذلك بعد أن يحلف ما صبغه بدانقين وبعض مشايخنا رحمهم الله يقول هنا يتحالفان لأن الظاهر لا يشهد لكل واحد منهما فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه على قياس اختلاف الزوجين في المهر إذا كان مهر المثل لا يشهد لقول واحد منهما.
قال رضي الله عنه: والأصح عندي أنه لا تحالف هنا بل اليمين على الصباغ خاصة لأن المبتغي بالتحالف الفسخ وبعد اتصال الصبغ بالثوب لا تصور لفسخ العقد فلا معنى للتحالف بخلاف النكاح فإنه محتمل للفسخ ببعض الأسباب وإذا لم يجب التحالف هنا كان على رب الثوب قيمة الصبغ لأن لاتصال الصبغ بالثوب موجبا وهو قيمته على رب الثوب كالغاصب إذا صبغ ثوب إنسان وأراد رب الثوب أخذه أعطاه قيمة الصبغ إلا أن رب الثوب هنا يدعي براءته عن بعض القيمة برضاء الصباغ بدانقين والصباغ منكر لذلك فيحلف على دعواه لهذا المعنى وإن كان الصبغ سوادا فالقول قول رب الثوب مع يمينه لما بينا فيما(15/172)
ص -83- ... سبق أن السواد نقصان فلا يمكن تحكيم قيمة الصبغ بنفي ظاهر الدعوى والإنكار والصباغ يدعي زيادة في حقه ورب الثوب منكر لذلك فيحلف على دعواه لهذا المعنى ولو قال رب الثوب صبغته لي بغير أجر فالقول قوله وكذلك كل صبغ ينقص الثوب فأما كل صبغ يزيد في الثوب قال رب الثوب صبغته لي بغير أجر وقال الصباغ صبغته بدرهم فعلى كل واحد منهما اليمين على دعوى صاحبه وليس هذا بتحالف للاختلاف في بدل العقد ولكن الصباغ يدعي لنفسه درهما على رب الثوب ورب الثوب منكر فعليه اليمين ورب الثوب يدعي على الصباغ أنه وهب الصبغ منه وقد تمت الهبة باتصاله بملكه والصباغ منكر لذلك فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ثم يضمن رب الثوب ما زاد الصبغ في ثوبه لأن ما ادعاه كل واحد منهما انتفى بيمين صاحبه يبقى صبغ الغير متصلا بثوبه بإذنه وعليه قيمته ولا يجاوز به درهما لأن الصباغ لا يدعي أكثر من درهم فهو بهذه الدعوى يصير مبرئا له عن الزيادة على درهم.(15/173)
ولو اختلف القصار ورب الثوب في مقدار الأجرة فإن لم يكن أخذ في العمل تحالفا وتراد لأن الإجارة نوع بيع وقد ورد النص بالتحالف عند اختلاف المتبايعين في البدل فيعم ذلك أنواع البيوع ثم التحالف مشروع لدفع الضرر عن كل واحد منهما بطريق الفسخ حتى يعود إليه رأس ماله وعقد الإجارة محتمل للفسخ قبل إقامة العمل كالبيع فلهذا يجب التحالف بينهما وإن كان قد فرغ من العمل فالقول قول رب الثوب لأنه لا تصور للفسخ بعد الفراغ من العمل فلا معنى للتحالف بينهما ولكن القصار يدعي زيادة في حقه ورب الثوب منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وهذا ظاهر على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فإن هلاك السلعة عندهما يمنع التحالف في البيع فكذلك في الإجارة ومحمد رحمه الله يفرق بينهما فيقول التحالف هناك مفيد لأن المبيع عين مال متقوم بنفسه فيمكن إيجاب قيمته بعد انتفاء العقد بالتحالف وهنا المنافع لا تتقوم إلا بالعقد فلو تحالفا هنا انتفى العقد بالتحالف فلا يمكن إيجاب شيء للقصار فكان جعل القول قول رب الثوب مع يمينه أنفع للقصار فلهذا لا يصار إلى التحالف هنا ولو كان الاختلاف بينهما بعد ما أقام بعض العمل ففي حصة ما أقام القول قول رب الثوب مع يمينه وفي حصة ما بقي يتحالفان اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأن فسخ العقد في الباقي ممكن وفي حصة ما بقي يتحالفان اعتبارا وفيما أقام من العمل متعذر.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين ما إذا اشترى عبدين فهلك أحدهما ثم اختلفا في الثمن فقال هناك لا يتحالفان لأن العقد فيهما واحد فإذا تعذر فسخه في البعض بالهلاك يتعذر فسخه فيما بقي وهنا عقد لإجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يقيم عليه من العمل فبأن تعذر فسخه في البعض لا يمنع الفسخ فيما بقي وكذلك لو قال عملته لي بغير أجر فالقول قوله مع يمينه لما بينا أنه ينكر وجوب الأجر عليه. وعلى قول بن أبي(15/174)
ص -84- ... ليلى رحمه الله القول قول الأجير إلى أجر مثله كما في مسألة الصباغ وقد أشرنا إلى الفرق بينهما فهناك الصبغ عين مال قائم في الثوب وهو متقوم بنفسه وهنا لا قيمة للمنفعة بدون التسمية وقد أنكر رب الثوب التسمية فالقول قوله مع يمينه.
ولو شارط قصارا على أن يقصر له عشرة أثواب بدرهم ولم يره الثياب ولم تكن عنده كان فاسدا لأن المعقود عليه مجهول فإنه الوصف الذي يحدث في الثوب بعمله وذلك يختلف باختلاف الثياب في الطول والعرض والصفاقة والرقة والجودة والرداءة وعمله يتفاضل بحسب ذلك وإن كان أراه الثياب كان جائزا لأن برؤية المحل يصير مقدار العمل فيه معلوما ولو سمى له جنسا من الثياب كان مثل ذلك ما لم يرها إياه لأن بتسمية الجنس لا يصير مقدار العمل فيه معلوما فإن بالغ في بيان الصفة على وجه يصير مقدار عمله معلوما فهو وإراءته الثياب سواء ولو أسلم ثوبا إلى خياط وأمره أن يخيطه قميصا بدرهم فخاطه قباء فلصاحب الثوب أن يضمنه قيمة ثوبه وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به ما سمى له لأنه في أصل الخياطة موافق وفي الهيئة والصفة مخالف وبعض مشايخنا رحمهم الله يقولون القباء والقميص تتفاوتان في الاستعمال وإن كان لا يتفق فلم يكن في أصل مقصوده مخالفا وإنما خالفه في تتميم المقصود حتى لو خاطه سراويلا كان غاصبا ضامنا ولا خيار لصاحب الثوب لأنه لا مقاربة بين القميص والسراويل في الاستعمال والأصح أن الجواب في الفصلين واحد وقد روى هشام عن محمد رحمهما الله أنه لو دفع إليه شبها ليضرب له طستا فضربه كوزا فهو بالخيار ولا مقاربة في الاستعمال هنا ولكنه موافق في أصل الصنعة مخالف في الهيئة والصفة فكذلك في مسألة الثوب وإن خاطه سراويلا فهو في أصل الخياطة موافق وفي الهيئة مخالف فإن قال رب الثوب أمرتك بقميص وقال الخياط أمرتني بقباء فالقول قول رب الثوب مع يمينه عندنا.(15/175)
وقال بن أبي ليلى رحمه الله: القول قول الخياط لإنكاره الخلاف والضمان والشافعي رحمه الله يقول إنهما يتحالفان لأنهما اختلفا في المعقود عليه ولو اختلفا في البدل تحالفا إذا كان قبل إقامة العمل فكذلك في المعقود عليه ولكن هذا لا معنى له هنا لأن رب الثوب يدعي عليه ضمان قيمة الثوب والخياط ينكر ذلك ويدعي الأجر دينا في ذمة رب الثوب فلا يكون هذا في معنى ما ورد الأثر بالتحالف فيه مع أن المقصود بالتحالف الفسخ وبعد إقامة العمل لا وجه للفسخ وإن أقاما البينة فالبينة بينة الخياط لأنه هو المدعي الإذن في خياطة القباء والوفاء بالمعقود عليه وتقرر الأجر في ذمة صاحب الثوب وإن اختلفا في الأجر فالقول قول رب الثوب لأنه منكر للزيادة والبينة بينة الخياط لأنها تثبت الزيادة وكذلك لو قال صاحب الثوب خيطه لي بغير أجر فالقول قوله مع يمينه على قياس ما بينا في القصارة لأن عمل الخياطة المتصل بالثوب غير متقوم بنفسه ولم يذكر في الكتاب ما إذا اتفقا على أنه لم يشارطه على شيء في هذه الفصول وفي النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا أجر له لأن(15/176)
ص -85- ... المنافع لا تتقوم إلا بعقد ضمان أو بتسمية عوض وعن أبي يوسف رحمه الله قال استحسن إذا كان خيط له فأوجب الأجر له لأن الخياطة التي بينهما دليل على أنه طلب منه إقامة العمل بأجره فقام ذلك مقام الشرط وعن محمد رحمه الله قال إن كان العامل معروفا بذلك العمل بالأجر فتح الحانوت لأجله فذلك ينزل منزلة شرط الأجر ويقضي له بالأجر استحسانا.
ولو أعطى صباغا ثوبا ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي بدرهم فصبغه بقفيز عصفر وأقر رب الثوب بذلك فرب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة الثوب وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد العصفر في قيمة الثوب مع الأجر ومعنى هذه المسألة أن الربع الهاشمي هو الصاع وهو ربع قفيز فكأنه أمره بأن يصبغه صبغا غير مشبع وقد صبغ صبغا مشبعا فكان في أصل العمل موافقا وفي الصفة مخالف فيجبر صاحب الثوب لذلك ثم أطلق الجواب في الكتاب ومشايخنا رحمهم الله قالوا يقسم الجواب فيه فإما أن يصبغه بربع الهاشمي أو لا ثم بالزيادة إلى تمام القفيز أو يصبغه بالقفيز دفعة واحدة فإن كان صبغه بربع الهاشمي أولا فصاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض وإن شاء ضمنه قيمة ثوبه مصبوغا بربع الهاشمي وأعطاه الأجر لأنه أقام العمل المشروط وصار ذلك من وجه كالمسلم إلى صاحب الثوب لاتصاله بالثوب ثم غيره قبل تمام التسليم فإن شاء لم يرض به متغيرا وضمنه قيمة ثوبه أبيض وإن شاء رضي به متغيرا وضمنه قيمته مصبوغا بربع الهاشمي وأعطاه الأجر وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه الأجر مع قيمة ما زاد من العصفر فيه وهو ثلاثة أرباع قفيز لأنه بمنزلة من غصب ثوبا مصبوغا بربع قفيز فصبغه بثلاثة أرباع قفيز أما إذا صبغه بقفيز دفعة واحدة فصاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه قيمة الصبغ ولا أجر له لأنه ما أقام العمل المشروط ولكنه خالف في هيئة العمل في الابتداء ولأنه لا بد من اعتبار قيمة الصبغ فلا يعتبر الأجر لأن أحدهما(15/177)
تبع للآخر فلا يجمع بينهما ألا ترى أن في الموضع الذي يجب الأجر لا ينظر إلى قيمة الصبغ فهنا لما وجب قيمة الصبغ بسبب ما زاد من الصبغ فيه سقط اعتبار الأجر والحاكم رحمه الله في المنتقى ذكر هذا التقسيم عن أبي يوسف رحمه الله.
وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه إذا دفع ثوبا ليصبغه بمن عصفر بدرهم فصبغه بمنوين دفعة واحدة فصاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض وإن شاء أعطاه الأجر درهما مع قيمة من الصبغ قال قلت لمحمد رحمه الله لم لا يضمن له قيمة منوين من الصبغ قال لأن صاحب الثوب يقول أنا خادعته حتى رضي بدرهم من قيمة من الصبغ وربما تكون قيمته خمسة فبعد وجود الرضى منه بهذا المقدار ليس له أن يضمن زيادة عليه فلهذا أعطاه الأجر مع قيمة من الصبغ وإن كان ما روي عن محمد رحمه الله هو الأصح ولأنه وإن صبغه جملة فإنما يتشرب فيه الصبغ شيئا فشيئا فإذا تشرب فيه المقدار المشروط وجب الأجر فكان هذا وما لو صبغه بدفعتين سواء ولو قال رب الثوب: لم(15/178)
ص -86- ... تصبغه إلا بربع عصفر فإن كان مثل ذلك الصبغ يكون بربع الهاشمي فالقول قوله مع يمينه على علمه لأن الظاهر شاهد له وهو ينكر وجوب قيمة الصبغ عليه والاستحلاف على العلم لأنه على فعل الغير إلا أن يقيم الصباغ بينة وإن كان مثل ذلك لا يكون بربع عصفر وكان ذلك يعرف فالقول قول الصباغ لأن الظاهر شاهد له والجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى.
ولو قال لخياط: انظر إلى هذا الثوب فإن كفاني قميصا فاقطعه بدرهم وخطه فقال نعم ثم قال بعد ما قطعه إنه لا يكفيك فالخياط ضامن لقيمة الثوب لأنه علق الأذن بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط فإذا لم يكفه قميصا فإنما قطعه بغير إذنه ومن قطع ثوب الغير بغير إذنه فهو ضامن لقيمته ولو قال له انظر أيكفيني قميصا فقال نعم فقال اقطعه فإذا هو لا يكفيه لم يضمن لأنه قطعه بإذنه فإن قوله اقطعه إذن مطلق ولا يقال قد غره بقوله يكفيك لأن الغرور بمجرد الخبر إذا لم يكن في ضمن عقد ضمان لا يوجب الضمان على الغار كما لو قال هذا الطريق أمن فسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه بخلاف الأول فانعدام الإذن هناك بما صرح في لفظه من الشرط حتى لو كان في لفظه هنا ما يدل على الشرط بأن يقول فاقطعه أو اقطعه إذا فهو ضامن إذا لم يكفه لأن الفاء للوصل فبذكره تبين أنه شارط للكفاية في الإذن وقوله إذا إشارة إلى ما سبق فكأنه قال اقطعه إذا كان يكفيني لأن هذا شرط إلا أنه أوجز كلامه.(15/179)
ولو سلم ثوبا إلى خياط فقطعه له قباء فقال بطنه من عندك واحشه على أن لك من الأجر كذا وكذا فهو مثل الخف الذي أمره أن يبطنه وينعله في القياس ولكن لا أجيز هذا استحسانا لأن ذلك مستحسن في القياس بالتعامل وهذا لا تعامل فيه فيستحسن العود إلى أصل القياس فيه ويقال إنه مشتري لمعدوم أو لمجهول فلا يجوز ولأن هذا ليس في معنى ذلك لأن الخف بدون النعل والبطانة يسمى خفا ولكن بالنعل والبطانة يصير أحكم فما شرط عليه يمكن أن يجعل تبعا للعمل فأما القباء والجبة لا تكون بدون البطانة والحشو وإذا كان ما التمس منه لا ينطلق عليه الاسم إلا بما شرط عليه لم يكن ذلك تبعا للعمل وإنما هو استصناع لا تعامل فيه فلا يجوز ذلك فإن أتاه بالقباء مبطنا محشوا فللخياط قيمة بطانته وحشوه وأجر خياطته ولا تجاوز به ما سمى له في أجر خياطته خاصة لأنه استوفى منافعه بحكم عقد فاسد فكذلك استوفى غير ملكه بحكم عقد فاسد وتعذر عليه رده فيلزمه قيمة المشتري بالغا ما بلغ وأجر مثل عمله لا يجاوز به ما سمى له وبهذا اللفظ يستدل بعض أصحابنا رحمهم الله ممن يقول في الفصول المتقدمة أن قوله لا يجاوز به ما سمى له من الأجر خاصة دون قيمة ما زاد فيه والأصح هو الفرق لأن الحشو والبطانة هنا لم تكن في العقد تبعا في العمل ولذلك فسد العقد في الأصل وإذا وجب اعتبارهما مقصودا بقيمتها بالغة ما بلغت وفيما سبق النعل والبطانة في الخف والحشو والبطانة في القلنسوة جعل تبعا للعمل في العقد ولذلك جاز العقد فكما أن في أصل العمل لا يجاوز بالبدل ما سمى له فكذلك فيما هو تبع له.(15/180)
ص -87- ... ولو أعطاه ثوبا وبطانة وقطنا وأمره أن يقطعه جبة ويحشوها ويندف القطن عليها وسمى الأجر له فهو جائز لأنه استأجره لعمل معلوم ببدل معلوم ولو شرط على خياط أن يقطع له عشر قمص كل قميص بدرهم ولم يسم له قدرها وجنسها لم يجز لجهالة المعقود عليه من العمل فعمل الخياط يختلف باختلاف جنس الثياب وباختلاف القميص في الطول والقصر ولو قال الثياب هروية ومقداره على هذا الشيء معروف فهو جائز لأن مقدار العمل بما سمى يصير معلوما على وجه لا يبقى بينهما منازعة ولو دفع إليه ثوبا ليقطعه قميصا واشتراط عليه إن خاطه اليوم فله درهم وإن لم يفرغ منه اليوم فله نصف درهم عند أبي حنيفة رحمه الله إن خاطه اليوم فله درهم وإن لم يفرغ منه اليوم فله أجر مثله لا ينقص عن نصف درهم ولا يجاوز به درهما وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو على ما اشترط إذا فرغ منه اليوم فله درهم وإن فرغ منه بعد ذلك فله نصف درهم وقال زفر رحمه الله العقد فاسد كله وهو قول الشافعي رحمه الله وهذه فصول:
أحدها: أن يقول إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلا شيء لك وهو فاسد بالاتفاق لأن هذه مخاطرة فإنه شرط له على نفسه درهما إن خاطه اليوم ولنفسه عليه العمل إن لم يخطه اليوم وهو صورة القمار فكان فاسدا ولأنه يصير تقدير كلامه كأنه قال لك أجر درهم على خياطتك أو لا شيء ولو قال ذلك كان العقد فاسدا وكان له أجر مثله لا يجاوز درهما فهذا مثله.(15/181)
والفصل الثاني أن يقول: إن خطت خياطة رومية فلك درهم وإن خطته خياطة فارسية فلك نصف درهم أو يقول إن خطته قباء فلك درهم وإن خطته قميصا فلك نصف درهم فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الأول العقد فاسد كله وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله وهو القياس ثم رجع أبو حنيفة رحمه الله فقال الشرطان جائزان وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجه قوله الأول أن المعقود عليه مجهول عند العقد والبدل مجهول وجهالة أحدهما في المعاوضة تكون مفسدة للعقد فجهالتهما أولى كما لو قال بعت منك هذا العبد بألف درهم أو هذه الجارية بمائة دينار أو زوجتك أمتي هذه بمائة درهم أو ابنتي هذه بمائة دينار فقال قبلت كان باطلا وهذا لأن عقد الإجارة يلزم بنفسه وإذا لم يعين عليه نوعا من العمل عند العقد لا يدري بماذا يطالبه فكان العقد فاسدا ووجه قوله الآخر أنه خيره بين نوعين من العمل كل واحد منهما معلوم في نفسه والبدل بمقابلة كل واحد منهما مسمى معلوم فيجوز العقد كما لو اشترى ثوبين على أن له الخيار يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر وسمى لكل واحد منهما ثمنا وهذا لأن الأجر لا يجب بنفس العقد وإنما يجب بالعمل وعند العمل ما يلزمه من البدل معلوم وكذلك عقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف وإنما ينعقد عند إقامة العمل وعند ذلك لا جهالة في المعقود عليه بخلاف النكاح والبيع فالعقد هناك ينعقد لازما في الحال والبدل يستحق بنفس العقد فإذا لم يكن معلوما عند العقد كان العقد فاسدا.(15/182)
ص -88- ... والفصل الثالث: أن يقول إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فعند أبي حنيفة رحمه الله الشرط الأول جائز والثاني فاسد وعندهما الشرطان جائزان وفي القياس يفسد الشرطان وهو قول زفر رحمه الله كما في الفصل الأول ألا ترى أنه لو قال في البيع إن أعطيت لي الثمن إلى شهر فعشرة دراهم وإن أعطيته إلى شهرين فخمسة عشر درهما كان العقد كله فاسدا للتردد بين التسميتين ولهذا التردد أفسد أبو حنيفة رحمه الله للشرط الثاني فكذلك يفسد الشرط الأول وهما اعتبرا هذا في الفصل الثاني قالا أنه سمى عملين وسمى بمقابلة كل واحد منهما بدلا معلوما فيجوز العقد كما في الفصل الثاني وهذا لأن عمله في الغد غير عمله في اليوم ولصاحب الثوب في إقامة العمل في كل وقت غرض صحيح وإنما يجب الأجر عند إقامة العمل ولا جهالة عند ذلك بخلاف الفصل الأول فهناك إنما أفسدنا العقد لمعنى القمار وذلك غير موجود هنا لأنه في اليومين شرط الأجر له على نفسه وأبو حنيفة رحمه الله يقول علق البراءة عن بعض الأجر بشرط فوات منفعة التعجيل بقوله إن لم تفرغ منه اليوم فلك نصف درهم ولو علق البراءة عن جميع الأجر بهذا الشرط لم يصح بأن قال وإن لم تفرغ منه اليوم فلا شيء لك فكذلك إذا علق البراءة عن بعض الأجر به اعتبارا للبعض بالكل ولأن البراءة لا تحتمل التعليق بالشرط وهذا لأن الخياطة في اليومين بصفة واحدة وإنما تفوت منفعة التعجيل بتأخير العمل إلى الغد بخلاف الخياطة الرومية والفارسية فإنهما مختلفان فلا يكون ذلك تعليق البراءة عن بعض الأجر حتى لو قال هناك وإن خطته فارسيا فلا أجر لك كان ذلك استعانة صحيحة في خياطة الفارسية.(15/183)
واختلفت الروايات فيما إذا قال له خط هذا الثوب اليوم بدرهم فخاطه غدا ماذا يجب له ففي إحدى الروايتين يجب المسمى بمنزلة قوله خطه بدرهم وفي الرواية الأخرى يجب أجر المثل لا يجاوز به درهما لأنه رضي بالدرهم بشرط منفعة التعجيل فإذا فاته ذلك يلزمه أجر المثل فعلى الرواية الأولى يقول اجتمع في اليوم الثاني تسميتان درهم ونصف درهم فكان العقد فاسدا كما لو قال خطه بدرهم أو بنصف درهم وبيان ذلك أن موجب التسمية الأولى عند الخياطة غدا الدرهم لو اقتصر عليه فهو بالتسمية الثانية يضم الشرط الثاني إلى الأول في الغد مع بقاء الأول فتجتمع تسميتان بخلاف اليوم الأول فليس فيه إلا تسمية واحدة وهو الدرهم لأن تسمية نصف درهم في الغد لا موجب له في اليوم حتى إذا قال استأجرتك غدا لتخيطه بنصف درهم فخاطه اليوم فلا أجر له فلهذا صح الشرط الأول دون الثاني بخلاف الخياطة الرومية والفارسية لأنه لا تجتمع تسميتان في واحد من العملين حتى لو قال خطه خياطة رومية بدرهم فخاطه خياطة فارسية كان مخالفا وعلى الرواية الأخرى يقول التسمية الأولى لها موجب في اليوم الثاني وهو أجر المثل فهو بتسمية نصف درهم قصد تغيير موجب تلك التسمية مع بقائها وذلك فاسد كما في قوله وإن خطته غدا فلا شيء لك بخلاف(15/184)
ص -89- ... الخياطة الرومية والفارسية لأنه ليس لأحد العقدين موجب في العمل الآخر فكان عقدين مختلفين كل واحد منهما ببدل مسمى معلوم فيها فلهذا افترقا.
وإذا اشترى نعلا بدرهم وشراكا معها على أن يحذوها البائع فهو جائز استحسانا لكونه متعارفا بين الناس وإذا كان أصل العقد يجوز للعرف فالشرط في العقد إذا كان متعارفا للجواز أولى وإن اشترى ثوبا على أن يخيطه البائع بعشرة فهو فاسد لأنه بيع شرط فيه إجارة فإنه إن كان بعض البدل بمقابلة الخياطة فهي إجارة مشروطة في بيع وإن لم يكن بمقابلتها شيء من البدل فهي إعانة مشروطة في البيع وذلك مفسد للعقد وهذا ومسألة النعل في القياس سواء غير أن هناك استحسانا للعرف ولا عرف هنا فيؤخذ به بالقياس ولو جاء إلى حذاء بشراكين ونعلين استأجره على أن يحذوهما له بأجر مسمى جاز وإن اشترط عليه الشراكين فأراهما إياه ورضيه ثم حذاهما له كان جائزا أيضا استحسانا وفي الخف ينعل ويرقع كذلك الجواب بخلاف ما لو شرط في الجبة والقباء البطانة والحشو على العامل والفرق بالعرف ثم شرط هنا أن يريه الشراك والنعل والصحيح أنه لا يشترط إراءته إياه ولكن إن أعلمه على وجه لا يبقى بينهما فيه منازعة فذلك كاف لما في شرط الإراءة من بعض الحرج.(15/185)
ولو شرط على الخياط أن يكون كم القميص من عنده كان فاسدا لانعدام العرف فيه وكذلك لو شرط على البناء أن يكون الآجر والجص من عنده وكل شيء من هذا الجنس يشترط فيه على العامل شيئا من قبله بغير عينه فهو فاسد إلا فيما بينا للعرف فإذا عمله فالعمل لصاحب المتاع وللعامل أجر مثله مع قيمة ما زاد لأنه صار قابضا لما اشتراه بعقد فاسد وتعذر رده حين صار وصفا من أوصاف ملكه واستوفى عمله بعقد فاسد فكان له أجر مثله وإذا رد القصار على صاحب الثوب ثوبا غيره خطأ أو عمدا فقطعه وخاطه ثم جاء صاحبه فهو بالخيار يضمن أيهما شاء لأن القصار جان في تسليم ثوبه إلى الغير والقابض في قبضه وقطعه وخياطته فيضمن أيهما شاء فإن ضمن القصار فقد ملك القصار الثوب بالضمان وتبين أن القاطع قطع ثوبه وخاطه بغير أمره فيرجع عليه بقيمته ويعامل بما يعامل به الغاصب وإن ضمن القاطع لم يرجع القاطع بهذه القيمة على القصار لأنه ضمن بسبب عمل باشره لنفسه وفي الوجهين يرجع على القصار بثوبه لأنه عين ملكه وقد بقي في يد القصار فيأخذه منه والله أعلم.
باب متى يجب للعامل الأجر
قال رحمه الله: وإذا هلك الثوب عند القصار بعد الفراغ من العمل فلا أجر له ولا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهم الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو ضامن إلا إذا تلف بأمر لا يمكن الاحتراز عنه كالحرق الغالب وكذلك الخلاف في كل أجير مشترك كالأجير المشترك في حفظ الثياب وغيره والمشترك من يستوجب الأجر بالعمل ويعمل لغير واحد ولهذا يسمى مشتركا ولا خلاف أن أجير الواحد لا يكون ضامنا لما تلف في يده من غير صنعه وهو الذي يستوجب البدل بمقابلة(15/186)
ص -90- ... منافعه حتى إذا سلم النفس استوجب الأجر وإن لم يستعمله صاحبه ولا يملك أن يؤجر نفسه من آخر في تلك المدة وجه قولهما أنه خالف بموجب العقد فكان ضامنا كما إذا دق الثوب وتخرق وبيان ذلك أن المعقود عليه هو الحفظ وعقد المعاوضة يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب فيكون المستحق بالعقد حفظا سليما فإذا سرق تبين أنه لم يأت بالحفظ السليم فكان مخالفا موجب العقد كما قلنا في الدق فالمستحق بالعقد وفى سليما عن عيب التخرق فإذا تخرق كان ضامنا وهذا في الأجير بالحفظ ظاهر وكذلك في القصار فإنه لا يتوصل إلى إقامة العمل إلا بالحفظ والعمل مستحق عليه وما لا يتوصل إلى المستحق إلا به يكون مستحقا والمستحق بالمعاوضة السليم دون المعيب والبدل وإن لم يكن بمقابلة الحفظ هنا لكن لما كان مستحقا بعقد المعاوضة تعتبر فيه صفة السلامة كأوصاف المبيع إلا أن ما لا يمكن التحرز عنه يكون عفوا كما في السراية في حق النزاع فإنه عفو لأنه لا يستطاع الامتناع منه.(15/187)
والقياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله لأنه قبض العين بإذن المالك لمنفعته وهو إقامة العمل له فيه فلا يكون مضمونا عليه كالمودع وأجير الواحد وهذا لأن الضمان إما أن يكون ضمان عقد أو ضمان جبران والعقد وارد على العمل لا على العين فلا تصير العين به مضمونة والجبران للفوات وهو ما فوت على المالك شيئا حين قبضه بإذنه وبهذا الطريق لا يضمن أجير الواحد فكذلك المشترك وهما يقولان يستحسن فنضمن المشترك احتياطا بخلاف الخاص فالعين هناك في يد صاحبه لأن أجير الخاص يعمل له في بيته ولأن البدل هناك ليس بمقابلة العمل فلا تشترط فيه السلامة عن العيب ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول هذا نظر فيه ضرر في حق الأجير وهو أن يلزمه ما لم يلتزمه ونظر الشرع للكل فمن النظر للأجير أن لا يكون مضمونا عليه ولما تساوى الجانبان لم يجب الضمان بالشك وما قال إنما يستقيم أن لو كان التلف يتولد من الحفظ كما يتولد من العمل ولا يتصور تولد التلف من الحفظ إلا أن يضيع بترك الحفظ وعند ذلك هو ضامن لا أجر له عند أبي حنيفة رحمه الله لأن المعقود عليه الوصف الحادث في الثوب بعمله وقد فات قبل تمام التسليم على صاحبه فلا أجر له بخلاف أجير الواحد فالمعقود عليه هناك منافعه في المدة وقد تم التسليم فيه فبهلاك العين عنده لا يبطل الأجر وأما عندهما رب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة الثوب مقصورا وأعطاه الأجر وإن شاء ضمنه قيمته غير مقصور ولا أجر له لأن المعقود عليه صار مسلما من وجه باتصاله بالثوب إلا أنه لم يتم التسليم حتى تغير إلى البدل وهو ضمان القيمة فيتخير صاحب الثوب إن شاء رضي به متغيرا فضمنه قيمته مقصورا وأعطاه الأجر وإن شاء لم يرض بالتغير وفسخ العقد فيه فيضمنه قيمة ثوبه أبيض بمنزلة ما لو قبل المبيع قبل القبض فإنه يتخير المشتري.(15/188)
فأما إذا تلف بعمله بأن دق الثوب فتخرق فهو ضامن عندنا وقال زفر رحمه الله لا ضمان عليه إن لم يجاوز الحد المعتاد وللشافعي رحمه الله فيه قولان في أحد القولين(15/189)
ص -91- ... يقول هو ضامن سواء تلف بفعله أو بغير فعله وفي قوله الآخر يقول لا ضمان عليه سواء تلف بفعله أو بغير فعله وجه قول زفر رحمه الله أنه عمل مأذون فيه فما تلف بسببه لا يكون مضمونا عليه كالمعين في الدق وأجير الواحد وبيانه أنه استأجره ليدق الثوب والدق عمل معلوم بحده وهو إرسال المدقة على المحل من غير عنف وقد أتى بتلك الصفة فكان مأذونا فيه ثم التخرق إنما كان لوهاء في الثوب وليس في وسع العامل التحرز من ذلك فهو نظير البزاغ والفصاد والحجام والختان إذا سرى إلى النفس لا يجب الضمان عليهم لهذا المعنى وهذا لأن العمل مستحق عليه بعقد المعاوضة وما يستحق على المرء لا يبعد بما ليس في وسعه وبه فارق المشي في الطريق والرمي إلى الهدف فإنه مباح غير مستحق عليه فقيد بشرط السلامة والدليل عليه أن أجير القصار إذا دق فتخرق الثوب لم يجب الضمان على الأجير وعندكم يجب الضمان على الأستاذ فإن كان هذا العمل مأذونا فيه لم يجب الضمان على أحد وإن لم يكن مأذونا فيه فهو موجب للضمان على من باشره فأما أن يقال من باشره لا يضمن وغيره يضمن بسببه فهو بعيد جدا.(15/190)
وحجتنا في ذلك أن التلف حصل بفعل غير مأذون فيه فيكون مأذونا كما لو دق الثوب بغير أمره وبيان ذلك أن الإذن ثابت بمقتضى العقد والمعقود عليه عمل في الذمة والعقد عقد معاوضة فمطلقه يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب كعقد البيع وما في الذمة يعرف بصفته والموصوف بأنه سليم غير الموصوف بأنه معيب فإذا ثبت أن المعقود عليه العمل السليم المزين للثوب عرفنا أن المعيب المخرق للثوب غير المعقود عليه فلا يكون مأذونا فيه وبه فارق أجير الواحد ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هناك البدل ليس بمقابلة السليم بل بمقابلة تسليم النفس دون العمل وصفة السلامة في العمل بمقتضى عقد المعاوضة إلا أن هذا ليس بقوي فالمعقود عليه في الموضعين العمل والبدل بمقابلة المقصود إلا أن هناك يقام تسليم النفس مقام العمل دفعا للضرر عن الأجير لتضيق مدة التسليم عليه وهذا لا يدل على أنه إذا وجد ما هو المقصود لا يكون البدل بمقابلته كما يقام تسليم النفس في النكاح مقام ما هو المقصود ثم إذا وجد ما هو المقصود وهو الوطء كان البدل بمقابلته فالصحيح أن يقول المعقود عليه في حق أجير الواحد منافعه ولهذا يشترط إعلامه ببيان المدة ومنافعه عين والعين لا تختلف بكونه سليما أو معيبا كما في بيع العين فإنه وإن وجد بالمعقود عليه عيبا لا يخرج العقد به من أن يكون متناولا له فعرفنا أن الإذن متناول للعمل معيبا كان أو سليما وهنا المعقود عليه عمل في الذمة بمنزلة المسلم فيه وعقد السلم إذا تناول الجيد لا يكون الرديء معقودا عليه ما لم يسقط حقه في الجودة بالرضاء به فهنا ما دام العمل السليم معقودا عليه لا يكون المعيب معقودا عليه إلا أن يرضى به وهذا بخلاف المعين فإنه واهب للعمل والهبة لا تقتضي السلامة عن العيب فبالتخرق لا يخرج العمل من أن يكون مأذونا فيه وبخلاف البزاغ والفصاد والحجام فهناك العمل معلوم بحده لا بصفته لأنه حرج والحرج الذي(15/191)
ص -92- ... هو غير ساري ليس في وسع البشر فإنما يلتزم بعقد المعاوضة ما يقدر على تسليمه دون ما لا يقدر فأما التحرز عن التخرق في وسع القصار في الجملة إلا أنه ربما يلحقه الحرج فيه وذلك لا يمنع صحة التزامه بعقد المعاوضة.
يوضحه أن التخرق إما أن يكون لشيء في طي الثوب أو لرقة في الثوب أو لحدة في المدقة وكل هذا يمكن الوقوف عليه عند التأمل فأما السراية فلضعف الطبيعة عن دفع أثر الجناية ولا طريق للوقوف بحال يوضحه أن التلف هناك لا يحصل في حال العمل وإنما يكون بعد الفراغ منه بمدة والعمل مضمون عليه لأنه يقابله بدل مضمون فما يقابل المضمون يكون مضمونا إلا أنه بالفراغ منه يصير مسلما إلى صاحبه فإنما حصل التلف بعد خروجه من ضمان العاقد وهنا التخرق يحصل في حال العمل لا بعد الفراغ من العمل وفي حال العمل التسليم لم يوجد بعد وهو عمل مضمون عليه لأنه يقابله بدل مضمون والمتولد من المضمون يكون مضمونا فأما أجير القصار فهو أجير واحد والبدل في حقه بمقابلة منافعه فلهذا لا يكون ضامنا ثم عمله للأستاذ كعمل الأستاذ بنفسه وهو لو قام بالثوب بنفسه فخرق الثوب كان ضامنا فكذلك إذا عمل له أجيره إذا عرفنا هذا فنقول لصاحب الثوب الخيار إن شاء ضمنه قيمته مقصورا وأعطاه الأجر وإن شاء ضمنه قيمته غير مقصور ولا أجر له.(15/192)
قال بشر بن غياث رحمه الله وهذا الجواب صحيح على أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن عندهما قبضه قبض ضمان فله أن يضمنه قيمته وقت القبض غير مقصور فأما عند أبي حنيفة رحمه الله هو خطأ لأن عنده قبل قبض القصار قبض أمانة وإنما الموجب للضمان عليه العمل فيكون له أن يضمنه قيمته معمولا ولا خيار له في ذلك ولكن الأصح ما قلنا فإنا لا نقول نضمنه قيمته بالقبض ولكنه يضمنه قيمته بالإتلاف إن شاء معمولا وإن شاء غير معمول لأن العمل يصير مسلما من وجه باتصاله بالثوب وذلك العمل يجوز أن يكون معقودا عليه عند الرضاء به كالرديء في باب السلم مكان الجيد يكون معقودا عليه عند التجوز به فإذا وقع التغير في العمل كان له الخياران شاء رضي به متغيرا فضمنه قيمته معمولا وأعطاه الأجر وإن شاء لم يرض به فيخرج العمل به من أن يكون معقودا عليه ويضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له وإن لم يهلك الثوب وأراد صاحبه أخذه كان للقصار أن يمنعه حتى يستوفي الأجر وقد بينا خلاف زفر رحمه الله في هذا والحاصل أن كل أجير يكون أثر عمله قائما في المعمول كالنساج والقصار والصباغ والفتال فله حق الحبس لأن المعقود عليه الوصف الذي أحدثه في الثوب وهو قائم فيكون له أن يحبسه ببدله وكل من ليس لعمله أثر في المعمول كالحمال فإنه لا يستوجب الحبس لأن المعقود عليه نفس العمل ولم يبق بعد الفراغ منه فلا يكون له أن يحبس.
فإن قيل: في القصار عمله في إزالة الدرن والوسخ لا في إحداث البياض في الثوب فالبياض للقطن صفة أصلية.(15/193)
ص -93- ... قلنا: نعم ولكن لما غلب الدرن والوسخ حتى استتر به صار في حكم المعدوم وحين أظهره القصار بعمله جعل ظهوره مضافا إلى عمله فيكون أثر عمله قائما في المعمول فإن منعه فهلك فالجواب على ما بينا لأن المنع كان بحق فلا يكون سببا موجبا للضمان فيما ليس بمضمون فلهذا يستوي الهلاك بعد المنع وقبله.
وعلى قول زفر رحمه الله: ليس له حق الحبس فإذا حبسه كان غاصبا ضامنا للقيمة وإن أراد أن يأخذ الثوب قبل تمام العمل بغير إذنه ويعطيه من الأجر بمقدار ما عمل لم يكن له ذلك حتى يفرغ منه لأن العقد لازم من الجانبين لكونه معاوضة فما ليس للقصار أن يفرق الصفقة على صاحب الثوب فيمتنع من إقامة بعض العمل بغير إذنه فكذلك لا يكون ذلك لرب الثوب وكما أن إقامة العمل مستحق على القصار فإمساك العين إلى أن يفرغ من العمل مستحق له ولهذا لا يأخذه منه صاحبه وإن استأجر حمالا ليحمل له شيئا على ظهره أو على دابته إلى موضع معلوم فحمله وصاحبه يمشي معه أو ليس معه فانكسر في بعض الطريق أو عثر فانكسرت الدابة فانكسر المتاع قال رضي الله عنه اعلم بأن الحمال أجير مشترك بمنزلة القصار وإن تلف في يده بغير فعله بأن زحمه الناس ففي وجوب الضمان عليه خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله كما بينا وإن تلف بفعله بأن تعثر فانكسر المتاع فهو ضامن عندنا خلافا لزفر رحمه الله فإن التلف حصل بجناية يده ثم عندنا لصاحب المتاع الخيار إن شاء ضمنه قيمته محمولا إلى الموضع الذي سقط وأعطاه من الأجر بحصته وإن شاء ضمنه قيمته غير محمول ولا أجر له وهذا لأن العمل صار مسلما إن كان صاحبه يمشي معه فلا يشكل وكذلك إن كان لا يمشي معه فإنه يصير مسلما باتصاله بملكه ثم تغير قبل تمام التسليم فيثبت الخيار لهذا.(15/194)
وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: الصفقة قد تفرقت عليه فيما لم يحصل المقصود إلا بجملته فإن مقصود صاحب المتاع لا يحصل إلا بوصول المتاع إلى موضع حاجته فإذا انكسر في بعض الطريق فقد انفسخ العقد فيما بقي للفوات فعرفنا أن الصفقة قد تفرقت فإن شاء رضي بهذا التفرق وقرر العقد فيما استوفى من العمل وأعطاه من الأجر بحصته وإن شاء أبى ذلك وفسخ العقد في الكل فيضمنه قيمته غير محمول ولا أجر له ولهذا كان الخيار لصاحب المتاع ولو هلك في نصف الطريق بغير فعله لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة رحمه الله وكان له نصف الأجر بخلاف ما سبق العمل من القصار لأن المعقود عليه هنا صار مسلما بنفسه ولهذا لا يستوجب الحبس إذا فرغ من العمل فكان هو في هذا الحكم كأجير الواحد بخلاف القصار فالتسليم هناك لا يتم بإقامة العمل بدليل أن له أن يحبس لاستيفاء الأجر وهذا الفصل يوهن طريقة الرازي رحمه الله في الفصل الأول ويتبين به أن الصحيح ما قلنا أولا من أن ثبوت الخيار للتغير إلى البدل وقيام البدل مقام الأصل في فسخ العقد فيه حتى أن في هذا الموضع لما لم يجب البدل وهو الضمان لا يمكن فسخ العقد فيما أقام من العمل فكان له من الأجر بحصة ذلك.(15/195)
ص -94- ... وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول في الكراء إلى مكة لا يعطي شيئا من كرائه حتى يرجع من مكة وكذلك كان يقول في جميع من يحمل الحمولة على ظهره أو على دابته أو سفينة ثم رجع عن ذلك فقال كل ما صار مسيرا له من الأجر شيء معروف فله أن يأخذه بذلك وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وسواء كان الأجر دراهم أو ثوبا أو عبدا أو غير ذلك وأصل المسألة أن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب تسليمها به عندنا عينا كان أو دينا وإنما تملك بأحد معان ثلاثة إما التعجيل أو شرط التعجيل أو استيفاء ما يقابله.
وعند الشافعي رحمه الله: تملك بنفس العقد ويجب تسليمها عند تسليم الدار أو الدابة إلى المستأجر وحجته في ذلك أن هذا عقد معاوضة فمطلقه يوجب ملك البدل بنفسه كعقد البيع والنكاح وهذا لأن ما هو المعقود عليه المنفعة ومنفعة العين في حكم العين فكما يملك البدل في العقد الوارد على العين بنفسه فكذلك في العقد الوارد على المنفعة والدليل على أن المنفعة في حكم العين صحة الاستئجار بأجرة مؤجلة وما ليس بعين فهو دين والدين بالدين حرام في الشرع وهذا لأن المنفعة وإن كانت معدومة عند العقد حقيقة فقد جعلت كالموجودة حكما بدليل جواز العقد ولزومه وعقد المعاوضة على المعدوم لا ينعقد ولا يلتزم وللشرع ولاية أن يجعل المعدوم حقيقة موجودا حكما لحاجة الناس إليه كما جعل النطفة في الرحم ولا حياة فيها كالحي حكما في حق الإرث والعتق والوصية وكما جعل الحي حقيقة كالميت حكما والمرتد اللاحق بدار الحرب.(15/196)
وإذا صارت موجودة حكما التحقت بالموجود حقيقة فتصير مملوكة بالعقد وكما يصير مملوكا بالعقد حكما يصير مسلما بتسليم الدار بدليل أن المستأجر يملك التصرف فيه بالإجارة من الغير وأنه لو استأجر دارين فانهدمت أحدهما بالقبض لم يكن له خيار في رد الأخرى لتفرق الصفقة بعد التمام بخلاف ما قبل القبض وأنه لو تزوج امرأة على سكنى دار سنة فسلم الدار إليها لم يكن لها أن تحبس نفسها لاستيفاء المنفعة بخلاف ما قبل تسليم الدار إليها ولا يدخل على هذا ما إذا انهدمت الدار فإن المنفعة لا تتلف في ضمان المستأجر لأنا جعلناها كالموجودة المسلمة باعتبار عرضية الوجود في المدة وقد زال ذلك بانهدام الدار وهو كما لو جعلنا النطفة في الرحم كالحي لكونها معدة لذلك فإن زال ذلك بالانفصال ميتا بطل حكم العتق والإرث والوصية له لانعدام المعنى الذي لأجله جعل كالموجود والدليل عليه أن الأجرة تملك بشرط التعجيل ولو كان مقتضى مطلق العقد تأخر الملك في الأجر أو لم تجعل المنفعة كالموجودة حكما لما وجب الأجر بالشرط كما قلتم في الإجارة المضافة إلى وقت في المستقبل ولأن أكثر ما في الباب أن تقام عين الدار مقام المعقود عليه في حق انعقاد العقد فكذلك في ملك البدل كعقد السلم فإن الذمة لما أقيمت مقام المعقود عليه هناك في انعقاد العقد ولزومه ملك البدل به بنفس العقد.
وحجتنا في ذلك أن هذا عقد معاوضة فيقتضي تقابل البدلين في الملك والتسليم كعقد(15/197)
ص -95- ... البيع ثم أحد البدلين وهو المنفعة لم تصر مملوكة بنفس العقد فكذلك الأجرة وهذا لأنه معدوم في نفسه والملك من صفات الموجودات فالمعدوم لا يوصف بشيء سوى أنه معدوم والملك عبارة عن القدرة فلا يتحقق ذلك على المعدوم وإذا لم يملك المعقود عليه في الحال فلو ملك البدل بغير عوض وذلك ليس بقضية المعاوضة ثم عند الحدوث تملك المنفعة بعقد المعاوضة بغير عوض لأن العوض كان مملوكا له من قبل وملكه لا يكون عوضا عن ملكه ولا وجه أن يقال إن المنافع التي تحدث في المدة تجعل موجودة حكما لأنه إنما يقدر الشيء حكما إذا كان يتصور حقيقة كما فيما استشهدوا به فإن الحي يتصور فيه الموت والميت يتصور فيه الحياة ولا تصور لوجود المنافع التي تحدث في المدة جملة فلا يجوز أن يقدر حكما فأما جواز العقد ليس باعتبار أن المنفعة تجعل موجودة حكما وكيف يقال هذا والموجود من المنفعة حقيقة لا يقبل العقد فإن المنفعة عرض لا يتصور بقاؤها وقتين والتسليم بحكم العقد يكون عقيبه والجزء الموجود حقيقة لا بقاء له ليسلم عقيب العقد وما لا يتصور فيه التسليم بحكم العقد لا يكون محلا لعقود المعاوضة فلو جعلناها كالموجودة حقيقة لم تقبل العقد فبهذا تبين أن جواز العقد لم يكن بالطريق الذي قاله الخصم بل بأحد الطريقين إما بإقامة عين الدار المنتفع بها مقام المنفعة في حق صحة الإيجاب ثم انعقاد العقد في حق المعقود عليه في حكم المضاف إلى وقت الحدوث وهو معنى ما قلنا إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة وهذا لأن الإيجاب بعد الوجود لا يتحقق وحكم الانعقاد بعد الإيجاب يحتمل التأخير في حكم المحل كالطلاق المضاف والعتق المضاف والوصية والمزارعة على أصل الخصم والمضاربة بالاتفاق أو باعتبار أنه لما تعذر الإيجاب بعد وجود المنفعة سقط اعتبار الوجود فيه شرعا لانعقاد العقد تيسيرا ولكن عرضية الوجود بكون العين منتفعا بها تكفي لانعقاد(15/198)
العقد كما لو تزوج رضيعة صح النكاح باعتبار أن عرضية الوجود فيما هو المعقود عليه وهو ملك الحل يقام مقام الوجود.
وعلى الطريقين جميعا إقامة الشيء مقام غيره تكون بطريق الضرورة فتقدر بقدر الضرورة ولا ضرورة في ملك البدل بنفس العقد لأن الملك حكم السبب والحكم قد يتأخر عن السبب وإنما الشرط أن لا يخلو السبب عن الحكم فأما أن يقترن به فلا وفي حكم ملك البدل لا ضرورة فاعتبرنا ما هو الأصل وهو أن يتأخر إلى وجود الملك فيما يقابله والدليل عليه أن قبل تسليم الدار لا يجب تسليم الأجر ولو جعلت المنفعة كالعين لكان أول التسليمين على المستأجر كالثمن في بيع العين ولا يقول أن المنفعة دين فإن الدين محله الذمة وهو لا يلتزم المنفعة في الذمة فكيف نقول ذلك وإنما يتحقق العدم عند العقد فما يكون دينا فهو في حكم الموجود بوجود محله ولهذا جعلنا المسلم فيه مملوكا بنفس العقد وجعلنا بدله مملوكا حتى وجب على رب السلم تسليمه بنفس العقد.
وهذا بخلاف النكاح فالمعقود عليه هناك العين والملك في باب النكاح لا يحتمل(15/199)
ص -96- ... التأخر عن السبب فلهذه الضرورة جعلناه كالموجود في حكم الملك فأما إذا شرط التعجيل فنقول امتناع الملك بنفس العقد كان بمقتضى مطلق المعاوضة وذلك يتغير بالشرط بمنزلة البيع فإن مقتضى مطلق العقد ملك المبيع بنفس العقد ثم يتأخر بشرط الخيار ومقتضى مطلق البيع وجوب تسليم الثمن بنفس العقد ثم يتعين شرط الأجل بخلاف الإجارة المضافة فإن امتناع ثبوت الملك هنا ليس بمقتضى العقد بل بالتصريح بالإضافة إلى وقت في المستقبل والمضاف إلى وقت لا يكون موجودا قبل ذلك الوقت فلا يتغير هذا المعنى بالشرط وإذا ثبت أنه يملك بشرط التعجيل ثبت أنه تملك بالتعجيل أيضا لأنه فوق اشتراط التعجيل وذلك لأن الملك يثبت بالقبض وللقبض تأثير في إثبات الملك فيما لم يملك بنفس العقد كما في الهبة ونفقة الزوجة تملك بالقبض لمدة في المستقبل ولا يملك بنفس العقد ثم كما لا ضرورة في الملك لا ضرورة في التسليم لأنه قد يتأخر التسليم عن العقد فلا يجعل مسلما بتسليم الدار وهذا لأن تأثير التسليم بحكم المعاوضة في نقل الضمان ولما لم ينتقل إلى ضمان المستأجر عرفنا أنه لم يصر مسلما إليه وجواز تصرفه من الوجه الذي يجوز فيه تصرف الآخر لعجزه عن التصرف بعد الوجود حقيقة كما بينا وكذلك في حكم تفرق الصفقة فإنه لا يمكن إثبات ذلك عند القبض حقيقة فتقام الدار فيه مقامه كما في حكم التصرف وصحة تسمية المنفعة صداقا لأنه ليس من ضرورة صحة العقد ملك المسمى بنفس العقد فإنه في حكم البيع عندنا ولهذا لو تزوج امرأة على عبد الغير صحت التسمية ويتأخر الملك إلا أن يحصل الزوج ملك العقد لنفسه.(15/200)
وإنما يعتبر مجرد تسليم الدار في سقوط حقها في الحبس لوجود الرضاء منها بذلك فإنها لما جعلت الصداق المنافع التي توجد في المدة مع علمها أنه لا يتصور تسليمها جملة فقد صارت راضية بسقوط حقها في الحبس عند تسليم الدار إليها لتحدث المنفعة على ملكها بمنزلة ما لو زوجت نفسها بمهر منجم وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا في الكراء إلى مكة لا يعطيه شيئا من الكراء حتى يرجع من مكة وهو قول زفر رحمه الله لأن مقصوده لا يتم إلا به ووجوب تسليم الأجر بعد حصول المقصود كما لو استأجر خياطا ليخيط له ثوبا لا يلزمه إيفاء الأجر ما لم يفرغ من العمل ثم رجع فقال كلما سار مسيرا له من الأجر شيء معروف فله أن يأخذه بذلك وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن العمل بحسبه يصير مسلما وإنما يجب تسليم الأجر عند تسليم ما يقابله وكان ينبغي في القياس أنه كلما سار شيئا ولو خطوة يجب تسليم ما يقابله من الأجر ولكن ذلك القدر لا يعرف فلو أخذنا بالقياس لم نتفرغ إلى شغل آخر بل يسلم الأجر في كل ساعة بقدر ما يستوفي من العمل وذلك بعيد.
وكان الكرخي رحمه الله يقول: كلما سار مرحلة أو في حصته من الأجر وعن أبي يوسف رحمه الله قال إذا سار ثلث الطريق طالب بحصته من الأجر لأن هذا القدر من(15/201)
ص -97- ... الطريق قد يكتري المرء فيه دابة ثم ينتقل إلى أخرى وعلى هذا لو استأجر دارا مدة معلومة ففي قوله الأول ما لم تنته المدة لا يجب تسليم الأجر وفي قوله الآخر إذا مضى من المدة ماله حصة معلومة من الأجر يجب إيفاء الأجر بحسابه فالكرخي رحمه الله قدر ذلك بيوم وإن عجل الأجر كله فهو جائز لأنه أخذ بالفضل وأوفى قبل وجوب الإيفاء فهو كمن عليه الدين المؤجل إذا عجله وليس له أن يرجع فيما عجل من الأجر لأن المستأجر ملك ذلك بالقبض بعد انعقاد العقد فلا يرجع فيه حال بقاء العقد وإن شرط في العقد أن لا يسلم الأجر حتى يرجع أو حتى تنتهي المدة فهو جائز أما في قوله الأول فهذا شرط يوافق مقتضى العقد وفي قوله الآخر هذا اشتراط الأجل في الأجر والأجر قياس الثمن يثبت الأجل فيه إذا كان دينا ولا يصح التأجيل فيه إذا كان عينا.
ولو أبرأه عن جميع الأجر أو وهبه له فإن كان ذلك دينا لم يصح ذلك في قول أبي يوسف الآخر رحمه الله وصح في قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى ولا تبطل به الإجارة وإن كان عينا لم يصح حتى يقبل الآخر فإن قبل بطلت الإجارة لأن المعين من الأجر كالمبيع والمشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض لا تصح الهبة ما لم يقبل فإذا قبل انفسخ العقد فأما إذا كان دينا فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله يجب الأجر بالعقد مؤجلا والإبراء عن الدين المؤجل صحيح وفي قوله الآخر لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا والإبراء قبل الوجوب لا يصح وعلى هذا الأصل بنوا مسألة المصارفة على هذا ولكن هذا شيء لا يروى عن محمد رحمه الله نصا.(15/202)
وفي الجامع بنى المسائل على أن الأجر لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا ولكن وجه قوله الأول أن سبب الوجوب هو العقد والعقد منعقد إلا أن الوجوب تأخر لتأخر ما يقابله والإبراء بعد وجوب سبب الوجوب صحيح كالإبراء عن نفقة العدة مشروطا في الخلع وهذا لأن السبب لما اعتبر في جواز أداء الواجب وأقيم مقام الوجوب فكذلك في الإسقاط وجه قوله الآخر أن الإبراء إسقاط وإسقاط ما ليس بواجب لا يتحقق والهبة تمليك وتمليك ما ليس بمملوك لا يصح ولو جاز الإبراء وبقي العقد بملك المستأجر المنفعة عند الاستيفاء بغير عوض وهذا يخالف قضية الإجارة فإنه من حكم الإعارة ولا خلاف بينهما أن الإبراء عن بعض الأجرة قبل استيفاء شيء من المنفعة صحيح لأن هذا بمنزلة الحط فيلتحق بأصل العقد ويصير كأنه عقد في الابتداء بما بقي.
ولو باعه بالأجر متاعا وسلمه إليه فهو جائز لأن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه بل بمثله دينا في الذمة ألا ترى أنه لو اشترى بالدين المظنون شيئا ثم تصادقا على أن لا دين بقي الشراء صحيحا ثم لما اتفقا على المقاصة بالأجر مع علمهما بأنه لا يجب بنفس العقد فكأنهما شرطا تعجيل الأجر ويجعل ذلك مضمرا في كلامهما لتحصيل مقصودهما كما إذا(15/203)
ص -98- ... قال أعتق عبدك عني على ألف درهم يجعل التمليك مضمرا لتحصيل مقصودهما فيصير الأجر بالثمن قصاصا بهذا الطريق ولا يكون للبائع حق حبس المبيع باستيفاء الثمن فإن لم يوفه العمل لعذر رجع عليه بالدراهم دون المتاع لأنه لما انفسخ العقد بعد ما صار مستوفيا للأجر بالمقاصة وجب رد ما استوفى كما لو استوفاه حقيقة أو لما انفسخ العقد ظهر أن الأجر غير واجب وأن المقاصة لا تقع به ولكن أصل الشراء بقي صحيحا بثمن في ذمته فيطالبه بالثمن.(15/204)
وإن باعه المستأجر بالدراهم دنانير ودفعها إليه قبل استيفاء المنفعة فهو جائز في قول أبي يوسف رحمه الله الأول وهو قول محمد رحمه الله وفي قوله الآخر الصرف باطل فإذا افترقا قبل إيفاء العمل فوجه قوله الأول أنهما لما أضافا عقد الصرف إلى الأجرة فقد قصد المقاصة بها ولا وجه لتحصيل مقصودهما إلا بتقديم اشتراط التعجيل فيقدم ذلك لتحصيل مقصودهما ثم المضمر كالمصرح به ولو صرح باشتراط التعجيل ثم صارف به دينارا وقبضه لم يبطل العقد بالافتراق فكذلك إذا ثبت ذلك ضمنا في كل منهما وهو نظير الشراء والدليل عليه أن من كفل عن غيره عشرة دراهم بأمره ثم صارف به مع المكفول عنه دينارا قبل أن يؤدي جاز ذلك لوجود السبب وإن لم يجب دينه على المكفول عنه ما لم يود مثله وجه قوله الآخر أن وجوب العشرة مقترن بعقد الصرف وما يجب بعقد الصرف إذا لم يقبض حتى افترقا بطل العقد كما لو تصارفا دينارا بعشرة دراهم مطلقا وبيان ذلك أن الأجر لم يجب بعقد الإجارة بالاتفاق قبل استيفاء العمل ولا سبب للوجوب بعده سوى الصرف فعرفنا أنه واجب بعقد الصرف والذي قال من أنه يقدم اشتراط التعجيل ليس بقوي لأن الحاجة إلى اشتراط التعجيل للمقاصة به لا لصحة عقد الصرف فعقد الصرف صحيح بدراهم في ذمته وأوان المقاصة بعد عقد الصرف فهب أن شرط التعجيل يثبت مقدما على المقاصة فإنما يكون ذلك بعد عقد الصرف أو معه وبدل الصرف لا يجوز أن يكون قصاصا بدين يجب بعده.(15/205)
فإن قيل: يجعل شرط التعجيل مقدما على عقد الصرف لأنه لا يمكن تحصيل مقصودهما وهو المقاصة إلا به قلنا إنما يقدم على العقد بطريق الإجبار ما هو من شرائط العقد ووجوب الأجر ليس من شرائط عقد الصرف بدليل أنه لو نقد العشرة في المجلس كان العقد صحيحا ثم لا يشتغل بالاحتيال لبقاء العقد صحيحا ألا ترى أنه لو باعه عشرة وثوبا بعشرة وثوب وافترقا قبل القبض بطل العقد في الدراهم ولو صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس لم يبطل ولكن قيل يحتال للتصحيح في الابتداء ولا يحتال للبقاء على الصحة والدليل عليه أن الأجرة إذا كانت بقرة بعينها فصارف بها دينارا وافترقا قبل قبض البقرة لم يصح ولو كان اشتراط التعجيل معتبرا في إبقاء العقد صحيحا لاستوى فيه العين والدين.
وأما مسألة الكفيل فبالكفالة كما وجب للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الأصيل ولكنه مؤجل إلى أدائه والمصارفة بالدين المؤجل صحيح وقد بينا ها هنا أن الأجر(15/206)
ص -99- ... لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا فيبطل عقد الصرف بالافتراق قبل قبض الدراهم وإن مات قبل أن يوفيه العمل وقد حمله بعض الطريق أو لم يحمله فإنه يرد عليه من الدراهم بقدر ما لم يوفه من العمل وفي قوله الأول لأنه صار مستوفيا للأجر بطريق المقاصة فبقدر ما ينفسخ العقد فيه يلزمه رده وفي قوله الآخر الصرف باطل فعليه رد دينار وإن شرط في الأجل مدة معلومة فذلك صحيح واعتبار الأجل من حين يجب الأجر لأن الأجل يؤخر المطالبة ولا يتحقق ذلك قبل الوجوب وإن كان الأجر شيئا له حمل ومؤنة فلم يشترط له مكان الإيفاء في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله العقد فاسد وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز وهو نظير اختلافهم في المسلم فيه وقد بيناه في البيوع.
فإن قيل: أليس أن الأجر بمنزلة الثمن في البيع ولو كان الثمن شيئا له حمل ومؤنة لا يشترط فيه بيان مكان الإيفاء فكيف يشترط ذلك في الأجر عند أبي يوسف رحمه الله قلنا في الثمن إن لم يكن مؤجلا فالإيفاء يجب بنفس العقد ويتعين موضع العقد لإيفائه لأنه مكان وجوب التسليم وإن كان مؤجلا ففيه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله:
إحداهما: أنه لا بد من بيان مكان الإيفاء كما في السلم لأن وجوب التسليم الآن عند حلول الأجل ولا يدري في أي مكان يكون عند ذلك فلا يصح العقد إلا ببيان مكان الإيفاء.(15/207)
وفي الرواية الأخرى: يجوز لأن البيع في الأصل يوجب تسليم الثمن بنفسه وباعتبار هذا المعنى يتعين موضع العقد للتسليم لأن في ذلك إمكان وجوب التسليم وإنما تأخر بعارض شرط الأجل لأن شرط الأجل معتبر في تأخير المطالبة لا في نفي الوجوب فبقي مكان العقد متعينا للتسليم بمقتضى العقد فأما السلم فلا يوجب تسليم المسلم فيه عقيب العقد بحال وإنما يوجب ذلك عند سقوط الأجل فلا يتعين مكان العقد فيه للتسليم والإجارة نظير السلم لأن مطلق العقد لا يوجب تسليم الأجر عليه عقيبه بحال فلا يتعين موضع العقد لإيفائه ولا بد من بيان مكان الإيفاء لأن بدون بيان المكان تتمكن فيه جهالة تفضي إلى المنازعة.
فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فالعقد صحيح هنا كما في السلم إلا أن هناك عندهما يتعين موضع العقد للتسليم لأن وجوب التسليم فيه بنفس العقد وهنا في إجارة الأرض والدار تعين موضع الأرض والدار للإيفاء لأن وجوب الأجر هنا باستيفاء المنفعة لا بنفس العقد والاستيفاء يكون عند الدار فيجب تسلم الأجر في ذلك الموضع وفي الحمولة حيث ما وجب له ذلك وفي العمل بيده حيث يوفيه العمل فإن طالبه به في بلد آخر لم يكلف حمله إليه ولكن يستوثق له منه حتى يوفيه في موضعه لأنه يطالب بإيفاء ما لزمه ولم يلزمه الحمل إلى مكان آخر ولكن يستوثق منه مراعاة لجانب الطالب وله أن يأخذه في الدراهم والدنانير حيث شاء لأنه صار دينا في ذمته وليس له حمل ومؤنة فيطالبه بالإيفاء حيثما لقيه والله أعلم.(15/208)
ص -100- ... باب السمسار
قال رحمه الله: ذكر حديث قيس بن أبي غرزة الكناني قال كنا نبتاع الأوساق بالمدينة ونسمي أنفسنا السماسرة فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن من اسمنا قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة" والسمسار اسم لمن يعمل للغير بالأجر بيعا وشراء ومقصوده من إيراد الحديث بيان جواز ذلك ولهذا بين في الباب طريق الجواز ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم بما هو أحسن مما كانوا يسمون به أنفسهم وهو الأليق بكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته مع الناس وإنما كان اسم التجار أحسن لأن ذلك يطلق في العبادات قال الله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] وفيه دليل على أن التاجر يندب له إلى أن يستكثر من الصدقة لما أشار صلوات الله عليه في قوله: "إن البيع يحضره اللغو والحلف" معناه أنه قد يبالغ في وصف سلعته حتى يتكلم بما هو لغو وقد يجازف في الحلف لترويج سلعته فيندب إلى الصدقة ليمحو أثر ذلك كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وقال صلى الله عليه وسلم "اتبع السيئة الحسنة تمحها".(15/209)
وإذا دفع الرجل إلى سمسار ألف درهم وقال اشتر بها زطيا لي بأجر عشرة دراهم فهذا فاسد لأنه استأجره لعمل مجهول فالشراء قد يتم بكلمة واحدة وقد لا يتم بعشر كلمات ثم استأجره على عمل لا يقدر على إقامته بنفسه فإن الشراء لا يتم ما لم يساعده البائع على البيع وكذلك إن سمى له عدد الثياب أو استأجره لبيع طعام أو شراء طعام وجعل أجره على ذلك من النقود أو غيرها فهذا كله فاسد وكذلك لو شرط له على كل ثوب يشتريه درهما أو على كر من حنطة يبيعه درهما فهو فاسد لما بينا وإن استأجره يوما إلى الليل بأجر معلوم ليبيع له أو ليشتري له فهذا جائز لأن العقد يتناول منافعه هنا وهو معلوم ببيان المدة والأجير قادر على إيفاء المعقود عليه ألا ترى أنه لو سلم إليه نفسه في جميع اليوم استوجب الأجر وإن لم يتفق له بيع أو شراء بخلاف الأول فالمعقود عليه هناك البيع والشراء حتى لا يجب الأجر بتسليم النفس إذا لم يعمل به ثم فيما كان من ذلك فاسدا إذا اشترى وباع فله أجر مثله ولا يجاوز به ما سمى له لأنه استوفى المعقود عليه بحكم إجارة فاسدة.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن شاء أمره بالبيع والشراء ولم يشترط له أجرا فيكون وكيلا معينا له ثم يعوضه بعد الفراغ من العمل مثل الأجر وأبو حنيفة رحمه الله في هذا لا يخالفهما فإن التعويض في هبة الأعيان مندوب إليه عند الكل فكذلك في هبة المنافع وقد أحسن إليه بالإعانة وإنما جزاء الإحسان الإحسان.
وإن قال: بع المتاع ولك الدرهم أو اشتر لي هذا المتاع ولك الدرهم ففعل فله أجر مثله ولا يجاوز به ما سمى لأنه استأجره للعمل الذي سماه بدرهم فإن جواب الأمر بحرف الواو كجواب الشرط بحرف الفاء ولو قال: إن بعت هذا المتاع لي فلك درهم كان استئجارا,(15/210)
ص -101- ... فكذلك إذا قال بعه ولك درهم ثم قد استوفى المعقود عليه بحكم إجارة فاسدة فيلزمه أجر مثله والله أعلم بالصواب.
باب الكفالة بالأجر
قال رحمه الله: ولا تجوز الكفالة والحوالة في جميع الإجارات بالأجرة في عاجلها وآجلها لأن الأجرة وإن لم تجب بنفس العقد فالسبب الموجب قد وجدوا لكفالة بعد وجود السبب صحيحة كالكفالة بالدرك وهذا لأن المقصود به التوثق وكما يحتاج إلى التوثق فيما هو واجب فكذلك فيما هو يعرض الوجوب ثم الكفالة بدين سيجب صحيحة كالكفالة بما يدور له على فلان والرهن بالأجر صحيح لأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء واستيفاء الأجر قبل الوجوب صحيح فالرهن به كذلك وإذا ثبت جواز الرهن به ثبت جواز الكفالة بطريق الأولى ثم يجب على الكفيل نحو ما على المكفول عنه إن لم يشترط خلافه في تعجيل أو تأخير لأن الكفالة للضم فتنضم به ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل فيما هو ثابت فيه بصفقته ثم الكفيل يلتزم المطالبة التي هي على الأصيل ولهذا لا تصح الكفالة إلا بمضمون يطالب به الأصيل وليس للكفيل أن يأخذ المستأجر بالأجر حتى يؤديه ولكنه إن ألزمه به صاحبه فله أن يلزم المكفول عنه حتى يفكه ويؤديه عنه لأن ما استوجب الكفيل على الأصيل مؤخر إلى وقت أدائه فإنه بالكفالة أقرض ذمته من الأصيل فيجب له مثل ما التزمه في ذمة الأصيل وبالأداء يصير مقرضا ماله منه حين أسقط دين الطالب عنه فيرجع عليه بمثله والحاصل أنه يعامل الأصيل بحسب ما يعامل إن طولب طالب وإن لوزم لازم وإن حبس حبس وإن أدى رجع وإن عجل الكفيل الأجر من عنده قبل الوقت الذي يتمكن صاحبه من مطالبة المستأجر لم يرجع به الكفيل على المستأجر حتى يجيء ذلك الوقت لأن الكفيل متبرع للأداء قبل حلول الأجل وتبرعه لا يسقط حق الأصيل في الأجل الذي كان ثابتا له وكما أن الطالب لا يتمكن من الرجوع على الأصيل قبل حلول الأجل فكذلك الكفيل.(15/211)
وإن اختلفا في مقدار الأجر فالقول قول المستأجر مع يمينه لأنه منكر للزيادة فإن أقر الكفيل بفضل على ذلك لزمه من عنده ولم يرجع به عليه لأن إقراره حجة عليه دون الأصيل وإن أقاموا البينة فالبينة بينة الأجير لإثباته الزيادة وله الخيار في استيفاء ما أثبته بين أن يطالب به الكفيل أو الأصيل وإن استأجر دارا بثوب بعينه وكفل به رجل فهو جائز لأن تسليم العين مستحق على المستأجر بسبب العقد عند استيفاء العمل فإنما التزم الكفيل تسليما مستحقا على الأصيل وهو مما تجري فيه النيابة والكفالة بمثله صحيحة عندنا بمنزلة الكفالة بالنفس فإن استكمل السكنى وهلك الثوب عند صاحبه بريء الكفيل لأن الكفيل التزم تسليم الثوب وقد بريء الأصيل عن تسليم الثوب بالهلاك فيبرأ الكفيل كما لو مات المكفول بنفسه بخلاف الكفالة بالعين المغصوبة فهناك الغاصب لا يبرأ عن تسليم الثوب بالهلاك ولهذا يلزمه قيمته والقيمة تقوم مقام العين وهنا المستأجر بريء عن تسليم الثوب حتى لا تلزمه قيمته ولكن(15/212)
ص -102- ... انفسخ العقد بهلاك الثوب قبل التسليم فيلزمه أجر مثل الدار لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد والكفيل ما التزم من أجر مثل الدار شيئا فلهذا بريء من الكفالة.
وإن استأجر الدار بخدمة عبد شهرا وكفل رجل بالخدمة لم يجز لأنه التزم ما لا يقدر على إيفائه فخدمة عبد بعينه لا يمكن إيفاؤها من محل آخر وإن كفل بنفس العبد فإنه يؤخذ به لأن تسليم نفس العبد بالعقد يستحق على المؤاجر وهو مما تجري فيه النيابة فتصح الكفالة به ويطالب الكفيل بتسليمه فإذا مضى الشهر وأقر المكفول له أنه كان حقه قبل خدمة الشهر الماضي بريء الكفيل من ذلك لأن المطالبة بتسليم العبد تسقط عن الأصيل بمضي الشهر وفوات المعقود عليه فبرئ الكفيل وله أجر مثل الدار على المستأجر لأن منفعة الدار بقيت مستوفاة وقد انفسخ العقد بفوات ما يقابلها قبل الاستيفاء فيجب رد المستوفي ورد المنفعة برد أجر المثل ولا شيء على الكفيل من ذلك.(15/213)
وإذا استأجر محملا أو زاملة إلى مكة وكفل بها رجل بالحمولة فهو جائز لأنه كفل بما هو مضمون في ذمة الأصيل وتجري النيابة في إيفائه لأن الحمولة إذا لم تكن معينة فالكفيل يقدر على إيفائه كما يقدر الأصيل فلهذا يؤخذ الكفيل بالحمولة كما يؤخذ المؤاجر فكذلك إذا استأجر منه إبلا بغير أعيانها يحمل عليها متاعا مسمى إلى بلد معلوم وكفل له رجل بالحمولة جاز للمعنى الذي ذكرنا ولو استأجر إبلا بأعيانها وكفل رجل بالحمولة لم تجز الكفالة لأن الكفيل لا يقدر على إيفاء المكفول به من مال نفسه فإن غير ما عين لا يقوم مقام المعين في الإيفاء فهو بمنزلة ما لو كفل بمال بشرط أن يؤدي ذلك من مال نفسه الأصيل وذلك باطل ولو استأجر دارا ليسكنها أو أرضا ليزرعها أو رجلا ليخدمه وكفل له رجل بالوفاء بذلك كله فهو باطل لأن الكفيل عاجز عن إيفاء ما التزم بماله ونفسه وبنفس الكفالة لا تثبت له الولاية على مال الأصيل ليوفي ما التزم منه وكل شيء أبطلنا فيه الكفالة من هذا فالإجارة جائزة نافذة إذا لم تكن الكفالة شرطا في الإجارة لأنهما عقدان مختلفان ففساد أحدهما لا يوجب فساد الآخر.(15/214)
وإن كانت الكفالة شرطا في الإجارة فعقد الإجارة نظير البيع في أنه يبطل بالشرط الفاسد وإن عجل له الأجر وكفل له الكفيل فالأجر إن لم يوفه الخدمة والسكنى والزراعة فهذا جائز لأنه كفل بدين مضاف إلى سبب وجوبه وإن أسلم ثوبا إلى خياط ليخيطه له بأجر مسمى وأخذ منه كفيلا بالخياطة فهو جائز لأنه كفل بمضمون تجري فيه النيابة فإن المستحق على الخياط العمل في ذمته إن شاء أقامه بنفسه وإن شاء أقامه بنائبه فتمكن الكفيل من إيفاء هذا العمل أيضا فلهذا كان لصاحب الثوب أن يطالب أيهما شاء فإن خاطه الكفيل رجع على المكفول عنه بأجر مثل ذلك العمل بالغا ما بلغ لأنه أوفى عنه ما التزم بأمره فيرجع عليه بمثله وبمثل الخياطة أجر المثل وإن كان صاحب الثوب اشترط على الخياط أن يخيطه بيده فهذا شرط مفيد معتبرا لتفاوت الناس في عمل الخياطة وإذا ثبت أن المستحق عليه إقامة(15/215)
ص -103- ... العمل بيده لم تصح الكفالة له به لأن الكفيل عاجز عن إيفائه بنفسه وبالكفالة لا تثبت له الولاية على يد الأصيل ليوفي ما التزمه بيده فلهذا يطلب الكفالة وكذلك سائر الأعمال والله أعلم.
باب إجارة الظئر
قال رحمه الله: الاستئجار للظئورة جائز لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] والمراد بعد الطلاق وقال الله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] يعني بأجر وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملونه فأقرهم عليه وكانوا عليه في الجاهلية وقد استؤجر لإرضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة وبالناس إليه حاجة لأن الصغار لا يتربون إلا بلبن الآدمية والأم قد تعجز عن الإرضاع لمرض أو موت أو تأبى الإرضاع فلا طريق إلى تحصيل المقصود سوى استئجار الظئر جوز ذلك للحاجة وزعم بعض المتأخرين رحمهم الله أن المعقود عليه المنفعة وهو القيام بخدمة الصبي وما يحتاج إليه وأما اللبن تبع فيه لأن اللبن عين والعين لا تستحق بعقد الإجارة كلبن الأنعام والأصح أن العقد يرد على اللبن لأنه هو المقصود وما سوى ذلك من القيام بمصالحه تبع والمعقود عليه هو منفعة الثدي فمنفعة كل عضو على حسب ما يليق به.(15/216)
وهكذا ذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله فإنه قال استحقاق لبن الآدمية بعقد الإجارة دليل على أنه لا يجوز بيعه وجواز بيع لبن الأنعام دليل على أنه لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة وقد ذكر في الكتاب أنها لو ربت الصغير بلبن الأنعام لا يستحق الأجر وقد قامت بمصالحه فلو كان اللبن تبعا ولم يكن الأجر بمقابلته لاستوجبت الأجر ثم بدأ الباب بحديث زيد بن علي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ترضع لكم الحمقاء فإن اللبن يفسد" وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اللبن في حكم جزء من عينها لأنه يتولد منها فتؤثر فيه حماقتها ويظهر أثر في ذلك الرضيع لما للغذاء من الأثر ونظيره ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترضع لكم سيئة الخلق".
وإذا استأجر ظئرا ترضع صبيا له سنتين حتى تفطمه بأجر معلوم فهو جائز لأنه استأجرها بعمل معلوم ببدل معلوم وطعامها وكسوتها على نفسها لأنها شرطت عليهم الأجر المسمى بمقابلة عملها ففيما سوى ذلك حالها بعد العقد كما قبل العقد وترضعه في بيتها إن شاءت وليس عليها أن ترضعه في بيت أبيه لأنها بالعقد التزمت فعل الإرضاع وما التزمت المقام في بيتهم وهي تقدر على إيفاء ما التزمت في بيت نفسها فإن اشترطت كسوتها كل سنة ثلاثة أثواب زطية واشترطت عند الفطام دراهم مسماة وقطيفة ومسحا وفراشا فذلك جائز استحسانا عند أبي حنيفة رحمه الله في هذا الموضع خاصة دون سائر الإجارات وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله لا يجوز وهو القياس وكذلك إن اشترطت عليهم طعاما فهو على هذا الخلاف.(15/217)
ص -104- ... وجه القياس أن هذا عقد إجارة فلا يصح إلا بإعلام الأجرة كما في سائر الإجارات والطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة والكسوة كذلك وهذه الجهالة تمنع صحة التسمية كما في سائر الإجارات لأنها تفضي إلى المنازعة فكذلك هنا وهذا قياس يشده الأثر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره" فإن أقامت العمل فلها أجر مثلها لأنها وفت المعقود عليه بحكم عقد فاسد إلا أن يسموا لها ثيابا معلومة الجنس والطول والعرض والرقعة ويضربوا لذلك أجلا ويسموا لها كل يوم كيلا من الدقيق معلوما فحينئذ يجوز كما في سائر الإجارات والبيوع وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] يعني أجرا على الإرضاع بعد الطلاق ألا ترى أنه قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وذلك أجر الرضاع لا نفقة النكاح ولأن الناس تعارفوا بهذا العقد بهذه الصفة وليس في عينه نص يبطله وفي النزوع عن هذه العادة حرج لأنهم لا يعدون الظئر من أهل بيتهم فالظاهر أنهم يستنكفون عن تقدير طعامها وكسوتها كما يستنكفون عن تقدير طعام الزوجات وكسوتهن ثم إنما لم يجوز هذا في سائر الإجارات لتمكن المنازعة في الثاني وذلك لا يوجد هنا لأنهم لا يمنعون الظئر كفايتها من الطعام لأن منفعة ذلك ترجع إلى ولدهم وربما يكفلونها أن تأكل فوق الشبع ليكثر لبنها وكذلك لا يمنعونها كفايتها من الكسوة لكون ولدهم في حجرها ثم أحد العوضين في هذا العقد يتوسع فيه ما لا يتوسع في سائر العقود حتى أن اللبن الذي هو عين حقيقة يستحق بهذه الإجارة دون غيرها فكذلك يتوسع في العوض الآخر في هذا العقد ما لا يتوسع في غيره وإذا جاز العقد عنده كان لها الوسط من المتاع والثياب المسماة لأنها لا تستحق ذلك بمطلق التسمية في عقد المعاوضة فينصرف إلى الوسط كما في الصداق إذا سمى لها عبدا أو ثوبا هرويا(15/218)
وهذا لأن في تعيين الوسط نظرا من الجانبين.
ولو اشترطوا عليها أن ترضع الصبي في منزلهم فهو جائز كما في سائر الإجارات إذا شرط المستأجر على الأجير إقامة العمل في بيته وهذا لأنهم ينتفعون بهذا الشرط فإنها تتعاهد الصبي في بيتهم ما لا تتعاهده في بيت نفسها وربما لا يحتمل قلبهما غيبة الولد عنهما والشرط المفيد في العقد معتبر فإن كان لها زوج فأجرت نفسها للظئرة بغير إذنه فللزوج أن يبطل عقد الإجارة قيل هذا إذا كان الزوج مما يشينه أن تكون زوجته ظئرا فلدفع الضرر عن نفسه يكون له أن يفسخ العقد فأما إذا كان ممن لا يشينه ذلك لا يكون له أن يفسخ والأصح أن له ذلك في الوجهين لأنها إن كانت ترضعه في بيت أبويه فللزوج أن يمنعها من الخروج من منزله وإن كانت ترضعه في بيت نفسها فللزوج أن يمنعها من إدخال صبي الغير منزله ولأنها في الإرضاع والسهر بالليل تتعب نفسها وذلك ينقص من جمالها وجمالها حق الزوج فكان له أن يمنعها من الإضرار به في حقه كما يمنعها من التطوعات وهذا إذا كان زوجها معروفا فإن كان مجهولا لا تعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له أن ينقض(15/219)
ص -105- ... الإجارة لأن العقد قد لزمها وقولها غير مقبول في حق من استأجرها ولأنه تتمكن تهمة المراضعة مع هذا الرجل بأن يقر له بالنكاح ليفسخ الإجارة وهو نظير المنكوحة إذا كانت مجهولة الحال فأقرت بالرق على نفسها فإنها لا تصدق في إبطال النكاح فإن هلك الصبي بعد سنة فلها أجر ما مضى ولها مما اشترطت من الكسوة والدراهم عند الفطام بحساب ذلك لأنها أوفت المعقود عليه في المدة الماضية فتقرر حقها فيما يقابل ذلك من البدل ثم تتحقق فوات المقصود فيما بقي فلا يجب ما يخصه من البدل.
ولو ضاع الصبي من يدها أو وقع فمات أو سرق من حلي الصبي أو من ثيابه شيء لم تضمن الظئر شيئا لأنها بمنزلة الأجير الخاص فإن العقد ورد على منافعها في المدة ألا ترى أنه ليس لها أن تشغل نفسها في المدة عن رضاع الصبي ولا أن تؤاجر نفسها من غيرهم لمثل ذلك العمل والأجير الخاص أمين فيما في يده بخلاف الأجير المشترك على قول من يضمنه وليس عليها من عمل أبوي الصبي شيء إن كلفوها عجنا أو طبخا أو خبزا لأنها التزمت بالعقد الظؤرة وهذه الأعمال لا تتصل بالظؤرة فلا يلزمها إلا أن تتطوع به فأما عمل الصبي وغسل ثيابه وما يصلحه مما يعالج به الصبيان من الدهن والريحان فهو على الظئر لأن هذا من عمل الظؤرة.(15/220)
وإن كان الصبي يأكل الطعام فليس على الظئر أن تشتري له الطعام لأنها التزمت تربيته بلبنها دون الطعام ولكن ذلك كله على أهله وعليها أن تهيأه له لأن ذلك من عمل الظؤرة فقد جعل الدهن والريحان عليها بخلاف الطعام وهذا بناء على عادة أهل الكوفة والمرجع في ذلك إلى العرف في كل موضع وهو أصل كبير في الإجارة فإن ما يكون من التوابع غير مشروط في العقد يعتبر فيه العرف في كل بلدة حتى قال في استئجار اللبان أن الزنبيل والملبن على صاحب اللبن بناء على عرفهم والسلك والإبرة على الخياط باعتبار العرف والدقيق على صاحب الثوب دون الحائك فإن كان عرف أهل البلدة بخلاف ذلك فهو على ما يتعارفون وحثي التراب على الحفار في القبر باعتبار العرف وإخراج الخبز من التنور على الخباز وغرف المرقة في القصاع على الطباخ إذا استأجر لطبخ عرس وإن استؤجر لطبخ قدر خاص فليس ذلك عليه لانعدام العرف فيه وإدخال الحمل المنزل على الحمال إذا حمله على ظهره وليس عليه أن يصعد به على السطح أو الغرفة للعرف وإذا استأجر دابة ليحمل عليها حملا إلى منزله فإنزال الحمل عن ظهر الدابة على المكاري وفي إدخاله المنزل يعتبر العرف والإكاف على صاحب الدابة وفي الجواليف والحبل يعتبر العرف وكذلك في السرج واللجام يعتبر العرف فهو الأصل أما التوابع التي لا تشترط عند العقد يعتبر العرف فيها وبه يفصل عند المنازعة.
وإذا أراد أهل الصبي أن يخرجوا الظئر قبل الأجل فليس لهم ذلك إلا من عذر لأن العقد لازم من الجانبين إلا أن الإجارة تنفسخ بالعذر عندنا على ما نبينه في بابه ثم العذر لهم في ذلك أن لا يأخذ الصبي من لبنها فيفوت به ما هو المقصود ولا عذر أبين من ذلك،(15/221)
ص -106- ... وكذلك إذا تقايأ لبنها لأن ذلك يضر بالصبي عادة فالحاجة إلى دفع الضرر عنه عذر في فسخ الإجارة وكذلك إذا حبلت لأن لبنها يفسد بذلك ويضر بالصبي فإذا خافوا على الصبي من ذلك كان لهم عذر وكذلك إن كانت سارقة فإنهم يخافون على متاعهم إن كانت في بيتهم وعلى متاع الصبي وحليته إذا كان معها وكذلك إن كانت فاجرة بينة فجورها فيخافون على أنفسهم فهذا عذر لأنها تشتغل بالفجور وبسببه ينقص من قيامها بمصالح الصبي وربما تحمل من الفجور فيفسد ذلك لبنها وهذا بخلاف ما إذا كانت كافرة لأن كفرها في اعتقادها ولا يضر ذلك بالصبي ولا يبعد أن يقال عيب الفجور في هذا فوق عيب الكفر ألا ترى أنه قد كان في بعض نساء الرسل كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام وما بغت امرأة نبي قط هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك إذا أرادوا سفرا فتأبى أن تخرج معهم فهذا عذر لأنه لا يتعذر الخروج للسفر عند الحاجة لما عليهم من ذلك من الضرر ولا تجبر هي على الخروج معهم لأنها ما التزمت تحمل ضرر السفر ولا يمكنهم ترك الصبي عندها لأن غيبتهم عن الولد توحشهم فلدفع الضرر يكون لهم أن يفسخوا الإجارة وليس للظئر أن تخرج من عندهم إلا من عذر وعذرها من مرض يصيبها لا تستطيع معه الرضاع لأنها تتضرر بذلك وربما يصيبها انضمام تعب الرضاع إلى المرض ولهم أن يخرجوها إذا مرضت لأنها تعجز بالمرض عما هو مقصودهم وهو الإرضاع فربما يقل بسببه لبنها أو يفسد وكذلك إن لم يكن زوجها سلم الإجارة فله أن يخرجها لما بينا وكذلك إن لم تكن معروفة بالظئورة فلها أن تفسخ لأنها ربما لا تعرف عند ابتداء العقد ما تبتلي به من المقاساة والسهر فإذا جربت ذلك تضررت ولأنها تغيرت من هذا العمل على ما قيل تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها وما كانت تعرف ما يلحقها من الذل إذا لم تكن معروفة بذلك فإذا عملت كان لها أن تفسخ العقد.(15/222)
وإن كان أهل الصبي يؤذونها بألسنتهم كفوا لأن ذلك ظلم منهم والكف عن الظلم واجب وإن ساؤوا أخلاقهم معها كفوا عنها لأن سوء الخلق مذموم فإذا لم يكفوا عنها كان لها أن تخرج لأنها تتضرر بالصبر على الأذى وسوء الخلق ولو كان زوجها قد سلم الإجارة فأرادوا منعه من غشيانها مخافة الحبل وأن يضر ذلك بالصبي فلهم أن يمنعوه ذلك في منزلهم لأن المنزل لهم فلا يكون له أن يدخله إلا بإذنهم وإن لقيها في منزله فله أن يغشاها لأن ذلك مستحق له بالنكاح وبتسليم الإجارة لا يسقط حقه عما كان مستحقا له فلا تستطيع الظئر أن تمنع نفسها ولا يسع أهل الصبي أن يمنعوها عن ذلك ولا يسع الظئر أن تطعم أحدا من طعامهم بغير أمرهم لأنها في ذلك كغيرها من الأجنبيات فإن زارها أحد من ولدها فلهم أن يمنعوه من الكينوة عندها لأن المنزل لهم ولهم أن يمنعوها من الزيارة إذا كانت تضر بالصبي دفعا للضرر عنه لأنها قد التزمت ما يرجع إلى إصلاح الصبي ودفع الضرر عنه وما كان من ذلك لا يضر بالصبي فليس لهم منعها لأنها حرة مالكة أمر نفسها فيما وراء ما التزمت لهم.(15/223)
ص -107- ... ويجوز للأمة التاجرة أن تؤاجر نفسها ظئرا كما أن لها أن تؤاجر نفسها لعمل آخر لأن رأس مالها بتجارتها منافعها وكذلك المكاتبة وكذلك العبد التاجر أو المكاتب يؤاجر أمته ظئرا أو يستأجر ظئرا لصبي له لأن الإجارة من عقود التجارة ولأن التدبير فيما يرجع إلى إصلاح كسبه إليه فكما يشتري لصبي له طعاما فكذلك يستأجر له الظئر لترضعه وكما يبيع أمته فكذلك له أن يؤاجرها فإن رد في الرق بعد الاستئجار انتقضت الإجارة فإن كان هو أجر أمته لم تنتقض الإجارة في قول أبي يوسف رحمه الله وقال محمد تنتقض وجه قول محمد رحمه الله أن المنافع بالإجارة استحقت على المكاتب وبعجزه بطل حقه وصار الحق في المنافع للمولى فتبطل الإجارة كما لو مات وهذا لأن المكاتب صار بمنزلة الحر في ملك التصرف والكسب حتى يختص هو بالتصرف دون المولى فعجزه يكون ناقلا الحق منه إلى المولى بمنزلة موت الحر وبهذا الطريق يبطل استئجاره وبه فارق العبد المأذون فإن الكسب كان مملوكا للمولى وكان متمكنا من التصرف فيه فالحجر عليه لا يكون ناقلا الحق إلى مولاه ألا ترى أن استئجاره لا يبطل فكذلك إجارته وهذا بخلاف ما إذا أعتق المكاتب لأن بالعتق يتقرر حقه في ملك الكسب والتصرف.(15/224)
والدليل على الفرق أن المكاتب إذا استبرأ أمته ثم عتق فليس عليه استبراء جديد ولو عجز كان على المولى فيها استبراء جديد وأن المكاتب لو اشترى قريب نفسه من والد أو ولد امتنع بيعه ولو اشترى قريب المولى لا يمتنع عليه بيعه وأنه يجوز دفع الزكاة إلى المكاتب وإن كان مولاه غنيا فعرفنا أن الكسب له ما دام مكاتبا فبالعجز ينتقل إلى مولاه والدليل عليه أنه لو مات عاجزا بطلت الإجارة فكذلك إذا عجز وأبو يوسف رحمه الله يقول بعجزه انقلب حق الملك حقيقة الملك فلا تبطل الإجارة كما إذا عتق وتقريره أن الكسب دائر بين المكاتب والمولى لكل واحد منهما فيه حق الملك لا حقيقة الملك ولهذا لو اشترى المكاتب امرأة مولاه أو امرأة نفسه لا يفسد النكاح ولو تزوج المولى أمة من كسب مكاتبه لم يجز كما لو تزوج المكاتب أمة من كسبه فعرفنا أن لكل واحد منهما حق الملك وجانب المولى في حقيقة الملك يترجح على جانب المكاتب لأنه أهل لذلك والمكاتب ليس بأهل ولو أدى مكاتب المكاتب البدل كان الولاء لمولى الأول ولو أعتق المولى من يكاتب على المكاتب من أقربائه نفذ عتقه فيه ولا ينفذ عتق المكاتب فعرفنا أن في حقيقة الملك يترجح جانب المولى ثم إذا تحقق الملك للمكاتب بالعتق لا تبطل الإجارة فإذا تحقق للمولى بالعجز أولى وهذا لأنه لم يتبدل من استحق عليه المنفعة بعقد الإجارة بخلاف ما إذا مات الحر وقد قبل الاستئجار على الخلاف أيضا.
والأصح أن أبا يوسف رحمه الله يفرق بينهما فيقول استئجار المكاتب كان لحاجته دون حاجة مولاه وقد سقطت حاجته بعجزه فأما إجارته كانت لتحصيل الأجرة وفيه حق للمولى كما للمكاتب فبعجزه لا ينعدم ما لأجله لزمت الإجارة ثم يسلم أن المكاتب منفرد بالتصرف(15/225)
ص -108- ... لأن المولى حجر على نفسه من التصرف في كسبه ولكن بطلان الإجارة باعتبار انتقال الملك دون تبدل المنصرف ألا ترى أن العبد المأذون المديون يتصرف في كسبه دون المولى ثم بالحجر وسقوط الدين يتبدل المتصرف ولا تبطل به الإجارة لانعدام انتقال الملك وكذلك لا يبطل الاستئجار هناك لأنها وقعت لحاجة المولى فهو أحق بكسبه إذا قضى الدين من موضع آخر فيما يرجع إلى إصلاح ملكه يكون من حاجته والصحيح أنه إذا مات المكاتب عاجزا فالإجارة لا تنفسخ عند أبي يوسف رحمه الله كما لو عجز في حياته فأما فصل الاستبراء فذلك ينبني على ملك اليد والتصرف دون حقيقة الملك ألا ترى أن المبيعة إذا حاضت قبل القبض فليس للمشتري أن يجتزئ بتلك الحيضة ونحن نسلم أن ملك اليد والتصرف للمكاتب وكذلك امتناع البيع ينبني على ملك اليد والتصرف للمكاتب فإن المكاتب لما كان بملك الكتابة في كسبه يتكاتب عليه قريبه ولما كان لا يملك العتق في كسبه لا يعتق عليه قريبه فأما المولى لا يملك الكتابة في كسبه ولا العتق فلهذا لا يتكاتب قريب المولى إذا اشتراه المكاتب وكذلك حل الصدقة ينبني على انعدام ملك اليد والتصرف ألا ترى أن بن السبيل يحل له أخذ الصدقة والمولى وإن كان غنيا فلا يد له في كسب المكاتب فهذا جاز صرف الزكاة إلى مكاتب الغني فأما بطلان الإجارة ينبني على انتقال ملك العين من المؤاجر إلى غيره كما قررنا فإن مات أب الصبي الحر لم تنتقض إجارة الظئر لأنها وقعت لحاجة الصبي والأب فيه كالنائب عنه ولهذا يؤدي الأجر من مال الصبي إذا كان له مال وأجر الظئر بعد موت الأب في ميراث الصبي لأنه ماله ولو كان له في حياة أبيه مال كان للأب أن يؤدي أجر الظئر منه فكذلك يؤدي معنى ميراثه بعده.(15/226)
ولو استأجروها أن ترضع صبيين لهم كل شهر بكذا فمات أحدهما رفع عنهم نصف الأجر لأن جميع الأجر بمقابلة إرضاع الصبيين فيتوزع عليهما نصفين لأن التفاوت يقل في عمل الإرضاع أو ينعدم وقد بطل العقد في حق الميت منهما فلهذا يرفع عنهم نصف الأجر ولو استأجروا ظئرين يرضعان صبيا واحدا فذلك جائز ويتوزع الأجر بينهما على لبنهما فإن كان لبنهما واحدا فالأجر بينهما نصفان وإن كان متفاوتا فبحسب ذلك وبهذا تبين أن المعقود عليه اللبن وأن البدل بمقابلته فإن ماتت إحداهما بطل العقد في حقها لفوات المعقود عليه وللأخرى حصتها من الأجر ولا يجوز بيع لبن بني آدم على وجه من الوجوه عندنا ولا يضمن متلفه أيضا وقال الشافعي رحمه الله يجوز بيعه ويضمن متلفه لأن هذا لبن طاهر أو مشروب طاهر كلبن الأنعام ولأنه غذاء للعالم فيجوز بيعه كسائر الأغذية وبهذا يتبين أنه مال متقوم فإن المالية والتقوم بكون العين منتفعا به شرعا وعرفا والدليل عليه أنه عين يجوز استحقاقه بعقد الإجارة فيجوز بيعه ويكون مالا متقوما كالصبغ في عمل الصباغة والحبر في الوراقة والحرض والصابون في غسيل الثياب بل أولى لأن العين للبيع أقبل منه للإجارة.
وحجتنا في ذلك أن لبن الآدمية ليس بمال متقوم فلا يجوز بيعه ولا يضمن متلفه(15/227)
ص -109- ... كالبزاق والمخاط والعرق وبيان الوصف أن المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو غيرنا فأما الآدمي خلق مالكا للمال وبين كونه مالا وبين كونه مالكا للمال منافاة وإليه أشار الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}[البقرة: 29] ثم لا جزاء الآدمي من الحكم ما لعينه ألا ترى أن شعر الآدمي لا ينتفع به إكراما للآدمي بخلاف سائر الحيوانات وأن غائط الآدمي يدفن وما ينفصل من سائر الحيوانات ينتفع به واللبن جزء متولد من عين الآدمي ألا ترى أن الحرمة تثبت باعتباره وهي حرمة الرضاع كما تثبت حرمة المصاهرة بالماء الذي هو أصل الآدمي والمتولد من الأصل يكون بصفة الأصل فإذا لم يكن الآدمي مالا في الأصل فكذلك ما يتولد منه من اللبن بمنزلة الولد ألا ترى أن ولد الأضحية يثبت فيه الحكم تبعا وأن لبن الأضحية إذا حلبت يتصدق به ولهذا روي عن أبي يوسف رحمه الله قال يجوز بيع لبن الأمة دون لبن الحرة اعتبارا للبن بالولد ولكن هذا ليس بقوي لأن جواز بيع الولد بصفة الرق فأما الآدمي بدون هذا الوصف لا يكون محلا للبيع ولا رق في اللبن لأن الرق فيما تحله الحياة فإنه عبارة عن الضعف ولا حياة في اللبن والدليل عليه أن الصحابة رضوان الله عليهم في المغرور لم يوجبوا قيمة اللبن فلو كان اللبن مالا متقوما كان ذلك للمستحق وكان له القيمة للإتلاف في يد المغرور ولا يدخل على شيء مما ذكرنا المنافع فإنها تقبل العقد من الحر لأن المنافع لا تتولد من العين ولكنها أعراض تحدث في العين شيئا فشيئا فكانت غير الآدمي ثم نحن نجعل اللبن كالمنفعة إلا أن عندنا المنفعة لا تضمن بالإتلاف وتستحق بالإجارة دون البيع فكذلك لبن الآدمي وبهذا تبين أن اللبن ليس بمال متقوم مقصود لأنه عين والعين الذي هو مال مقصود لا يستحق بالإجارة كلبن الأنعام بخلاف الصبغ فصاحب الثوب هناك لا يستحق بالإجارة عين الصبغ بل ما يحدث في(15/228)
الثوب من اللون وكذلك الخبز وكذلك الحرض والصابون المستحق لصاحب الثوب إزالة الدرن والوسخ عن الثوب حتى أن القصار بأي شيء أزال ذلك استحق الأجر وهنا المستحق بالإجارة عين اللبن حتى لو ربت الصبي بلبن الأنعام لا تستحق الأجر.
ولا نسلم أن اللبن غذاء على الإطلاق وإنما هو غداء في تربية الصبيان لأجل الضرورة فهم لا يتربون إلا بلبن الجنس عادة كالميتة تكون غذاء عند الضرورة ولا يدل على أنها مال متقوم وهذا نظير النكاح فإن البضع يتملك بالعقد للحاجة إلى اقتضاء الشهوة وإقامة النسل ولا يحصل ذلك إلا بالجنس ثم ذلك لا يدل على أنه مال متقوم مع أن الغذاء ما في الثدي من اللبن وذلك لا يحتمل البيع بالاتفاق فأما ما يحلب القوارير قل ما يحصل به غذاء الصبي وفي تجويز ذلك فساد لأنه يؤجر به الصبيان فتثبت به حرمة الرضاع بينهم وبين من كان اللبن منها ولا يعلم ذلك.
فإن قيل: سائر أجزاء الآدمي متقوم حتى يضمن بإتلاف فكذلك هذا الجزء قلنا قد بينا أن الآدمي في الأصل ليس بمال متقوم ولا نقول يضمن بالإتلاف أجزاء الآدمي بل يجب(15/229)
ص -110- ... الضمان بالنقصان المتمكن في الأصل حتى لو اندملت الجراحة بالبرء ونبتت السن بعد القلع لا يجب شيء لأنه لا نقصان في الأصل فكذلك الإتلاف في اللبن لا يتمكن نقصان في الأصل ولهذا لا يجب الضمان.
فإن قيل: لا كذلك فالمستوفى بالوطىء في حكم جزء لم يضمن بالإتلاف عند الشبهة وإن لم يتمكن نقصان في الأصل قلنا المستوفي بالوطى ء في حكم النفس من وجه ولهذا لا يعجل البدل في إسقاط الواجب بإتلافه واللبن ليس نظيره ألا ترى أنه لا يضمن بالإتلاف بعد البدل ومثله لا يضمن إذا لم يكن متقوما وقد بينا أنه ليس بمال متقوم ولا بأس بأن يستعطي الرجل بلبن المرأة ويشربه للدواء لأنه موضع الحاجة والضرورة ولو أصاب ثوبا لم ينجسه لأن الآدمي طاهر في الأصل فما تولد منه يكون طاهرا إلا ما قام الدليل الشرعي على نجاسته ألا ترى أن عرقه وبزاقه يكون طاهرا ولأن المنفصل من أجزاء الحي إنما يتنجس باعتبار الموت ولا حياة في اللبن ولا يحله الموت ولأن المستحيل من الغذاء إلى فساد ونتن رائحة يكون نجسا واللبن ليس بهذه الصفة فلهذا كان طاهرا.(15/230)
وإن أجرت الظئر نفسها من قوم آخرين ترضع لهم صبيا ولا يعلم أهلها الأولون بذلك فأرضعت حتى فرغت فإنها قد أثمت وهذه جناية منها لأن منافعها صارت مستحقة للأولين فإنها بمنزلة الأجير الخاص فصرف تلك المنافع إلى الآخرين يكون جناية منها ولها الأجر كاملا على الفريقين لأنها حصلت مقصود الفريقين ولا تتصدق بشيء منه لأن ما أخذت من كل فريق إنما أخذته عوضا عن ملكها فإن منافعها مملوكة لها ولا بأس بأن يستأجر المسلم الظئر الكافرة أو التي قد ولدت من الفجور لأن خبث الكفر في اعتقادها دون لبنها والأنبياء عليهم السلام والرسل صلوات الله عليهم فيهم من أرضع بلبن الكوافر وكذلك فجورها لا يؤثر في لبنها فإن استأجرها ترضع صبيا له في بيتها فدفعته إلى خادمها فأرضعته حتى انقضى الأجل ولم ترضعه بنفسها فلها أجرها لأنها التزمت فعل الإرضاع فلا يتعين عليها مباشرته بنفسها فسواء أقامت بنفسها أو بخادمها فقد حصل مقصود أهل الصبي وكذلك لو أرضعته حولا ثم يبس لبنها فأرضعت خادمها حولا آخر فلها الأجر كاملا وكذلك لو كانت ترضعه هي وخادمها فلها الأجر تاما ولا شيء لخادمها لأن المنافع لا تتقوم إلا بالتسمية ففيما زاد على المشروط لا تسميه في حقها ولا في حق خادمها ولو يبس لبنها فاستأجرت له ظئرا كان عليه الأجر المشروط ولها الأجر كاملا استحسانا وفي القياس لا أجر لها لأنها بمنزلة أجير الخاص وليس للأجير الخاص أن يستأجر غيره لإقامة العمل وفي الاستحسان لها الأجر لأن المقصود تربية الصبي بلبن الجنس وقد حصل ولأن مدة الرضاع تطول فلما استأجروها مع علمهم أنها قد تمرض أو يبس لبنها في بعض المدة فقد رضوا منها بالاستئجار لتحصيل مقصودهم وتتصدق بالفضل لأن هذا ربح حصل لا على ضمانها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن.(15/231)
ص -111- ... وإذا استأجر امرأته على إرضاع ولده منها فلا أجر لها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لها الأجر لأنه استأجرها لعمل غير مستحق عليها بالنكاح حتى لا تطالب به ولا تجبر عليه إذا امتنعت فيصح الاستئجار كالخياطة وغيرها من الأعمال والنفقة مستحقة لها بالنكاح لا بمقابلة الإرضاع بدليل أنها وإن أبت الإرضاع كان لها النفقة فهو نظير نفقة الأقارب لا تكون مانعة من صحة الاستئجار على الإرضاع وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}[البقرة: 233] معناه ليرضعن فهو أمر بصيغة الخبر والأمر يفيد الوجوب فظاهره يقتضي أن يكون الإرضاع واجبا عليها شرعا والاستئجار على مثل هذا العمل لا يجوز وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الأجر كمثل أم موسى عليه السلام كانت ترضع ولدها وتأخذ الأجر من فرعون" ثم قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَولودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة: 233] والمراد النفقة ففي هذا العطف إشارة إلى أن النفقة لها بمقابلة الإرضاع وقد دل عليه قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة: 233] والمراد ما يكون بمقابلة الإرضاع فإذا استوجب عوضا بمقابلة الإرضاع لا يستوجب عوضا آخر بالشرط والمعنى فيه أن هذا العمل مستحق عليها دينا وإن لم يكن مستحقا عليها دينا فإنها تطالب به فتوى ولا تجبر عليه كرها والاستئجار على مثله لا يجوز كالاستئجار على كنس البيت والتقبيل واللمس وما أشبه ذلك وهذا لأن بعقد النكاح يثبت الاتحاد بينهما فيما هو المقصود من النكاح والولد مقصود بالنكاح فكانت هي في الإرضاع عاملة لنفسها معنى فلا تستوجب الأجر على الزوج بالشرط كما في التقبيل واللمس والمجامعة وهكذا نقول في سائر أعمال البيت من الطبخ والخبز والغسل وما يرجع منفعته إليهما فهو لا يستوجب عليه الأجر بالشرط(15/232)
وما يكون لتجارة الزوج فهو ليس بمستحق عليها دينا ولا يرجع منفعته إليها.
وكذلك لو استأجرها بعد الطلاق الرجعي لأن النكاح باق بينهما ببقاء العدة فمعنى الاتحاد قائم فأما بعد انقضاء العدة الاستئجار صحيح لأنها صارت أجنبية منه وإرضاع الولد على الأب كنفقته بعد الفطام وكذلك في العدة من طلاق بائن لو استأجرها جاز عندنا وعند الحسن بن زياد رحمه الله تعالى لا يجوز لأنها في نفقته فكانت هذه الحال كما قبل الطلاق ولكنا نقول معنى الاتحاد الذي كان بالنكاح قد زال بالطلاق البائن والإرضاع بعد هذا لا يكون مستحقا عليها دينا بمنزلة سائر أعمال البيت فيجوز استئجارها عليه وذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه كان للرضيع مال استأجرها في حال قيام النكاح بمال الرضيع يجوز لأن نفقتها ليس في مال الرضيع فيجوز أن يستوجب الأجر في ماله بمقابلة الإرضاع بالشرط بخلاف مال الزوج فإن نفقتها عليه وهو إنما التزم نفقتها لهذه الأعمال فلا تستوجب عليه عوضا آخر وكذلك إذا استأجر خادمها لذلك لأن منفعة خادمها ملكها وبدلها كمنفعة نفسها وإن استأجر مكاتبها كان لها الأجر لأن المكاتبة كالحرة في منافعها ومكاسبها يوضحه أنه كما تجب على الزوج نفقتها تجب نفقة خادمها ولا تجب عليه نفقة مكاتبتها.(15/233)
ص -112- ... ولو استأجرها ترضع صبيا له من غيرها جاز وعليه الأجر لأن هذا العمل غير مستحق عليها دينا حتى لا تؤمر به فتوى وهو ليس من مقاصد النكاح القائم بينهما بخلاف ولده منها ولو استأجر أمه أو ابنته أو أخته ترضع صبيا له كان جائزا وعليه الأجر وكذلك كل ذات رحم محرم منه لأن الإرضاع غير مستحق على واحدة دينا حتى لا تؤمر به فتوى فيجوز استئجارها عليه فإن استأجرها ثم أبت بعد ذلك وقد ألفها الصبي لا يأخذ إلا منها فإن كانت معروفة بذلك لم يكن لها أن تترك الإجارة إلا من عذر وإن كانت لا تعرف بذلك فلها أن تأبى وقد بينا هذا في الأجنبيات أنها إذا لم تعرف بذلك العمل فإنما تأبى لدفع الضرر عن نفسها فيكون ذلك عذرا لها فكذلك في المحارم.
ولو استأجر ظئرا لترضع له صبيا في بيتها فجعلت تؤجر لبن الغنم وتغدوه بكل ما يصلحه حتى استكمل الحولين ولها لبن أو ليس لها لبن فلا أجر لها لأن البدل بمقابلة الإرضاع وهي لم ترضعه إلا بما سقته لبن الغنم ولأن مقصودهم عمل مصلح للصبي وما أتت به مفسد فالآدمي لا يتربى تربية صالحة إلا بلبن الجنس وإن جحدت ذلك وقالت قد أرضعته فالقول قولها مع يمينها لأن الظاهر شاهد لها فصلاح الولد دليل على أنها أرضعته لبن الآدمية وإن أقام أهل الصبي البينة على ما ادعوا فلا أجر لها لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وإن أقاموا جميعا البينة أخذت بينتها لأنها تثبت الأجر دينا في ذمة من استأجرها ويثبت إيفاء العمل المشروط والمثبت من البينتين يترجح على الباقي.(15/234)
وإذا التقط الرجل لقيطا فاستأجر له ظئرا فهو جائز لأنه هو الذي يقوم بإصلاحه واستئجار الظئر من إصلاحه وعليه الأجر لأنه التزمه بالعقد وهو متطوع في ذلك لأنه لا ولاية له عليه في إلزام الدين في ذمة اللقيط وكل يتيم ليس له أم لترضعه فعلى أوليائه كل ذي رحم محرم أن يستأجروا له ظئرا على قدر مواريثهم لأن أجر الظئر كالنفقة بعد الفطام والنفقة عليهم بقدر الميراث كما قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة: 233] وفي قوله وليس له أم ترضعه إشارة إلى أن الإرضاع عليها إذا كانت حية ولها لبن دون سائر الأقارب لأنها موسرة في حكم الإرضاع وسائر القرابات بمنزلة المعسر في ذلك فكان عليها دونهم بخلاف النفقة فإن كان لا ولي له فأجرة الظئر على بيت المال بمنزلة نفقته بعد الفطام والله أعلم.
باب إجارة الدور والبيوت
قال رحمه الله: وإذا استأجر الرجل من الرجل دارا سنة بكذا ولم يسم الذي يريدها له فهو جائز لأن المقصود معلوم بالعرف فإنما يستأجر الدار للسكنى ويبني لذلك ألا ترى أنها تسمى مسكنا والمعلوم بالعرف كالمشروط بالنص وله أن يسكنها ويسكنها من شاء لأن السكنى لا تتفاوت فيها الناس ولأن سكناه لا تكون إلا بعياله وأولاده ومن يعولهم من قريب أو أجنبي وكثرة المساكن في الدار لا تضر بها بل تزيد في عمارتها لأن خراب المسكن بأن لا(15/235)
ص -113- ... يسكنه أحد وله أن يضع فيها ما بدا له من الثياب والمتاع والحيوان لأن سكناه لا تتم إلا بذلك فإن ذلك معلوم بالعرف ويعمل فيها ما بدا له من الأعمال يعني الوضوء وغسل الثياب وكسر الحطب ونحو ذلك لأن سكناه لا تخلو عن هذه الأعمال عادة فهي من توابع السكنى والمعتاد منه لا يضر بالبناء ما خلا الرحا أن ينصب فيه أو الحداد أو القصار فإن هذا يضر بالبناء فليس له أن يفعله إلا برضاء صاحب البيت ويشترط عليه في الإجارة والمراد رحا الماء أو رحا الثور فأما رحا اليد فلا يمنع من أن ينصبه فيه لأن هذا لا يضر بالبناء وهو من توابع السكنى في العادة.
والحاصل أن كل عمل يفسد البناء أو يوهنه فذلك لا يصير مستحقا للمستأجر بمطلق العقد إلا أن يشترطه وما لا يفسد البناء فهو مستحق له بمطلق العقد لأن السكنى التي لا توهن البناء بمنزلة صفة السلامة في المبيع فيستحقه بمطلق العقد وما يوهن البناء بمنزلة صفة الجودة أو الكتبة أو الخبز في المبيع فلا يصير مستحقا إلا بالشرط وعلى هذا كسر الحطب القدر المعتاد منه لا يوهن البناء فإن زاد على ذلك وكان بحيث يوهن البناء فليس له أن يفعله إلا برضاء صاحب الدار وإن استأجرها للسكنى كل شهر بكذا فله أن يربط فيه دابته وبعيره وشاته وهذا إذا كان في الدار موضع معد لذلك وهو المربط فإن لم يكن فليس له اتخاذ المربط في ديارنا لأن المنازل ببخارى تضيق عن سكنى الناس فكيف تتسع لإدخال الدواب فيها وإنما هذا الجواب بناء على عرفهم في الكوفة لما في المنازل بها من السعة وله أن يسكنها من أحب لأنه قد يأتيه ضيف فيسكن معه أياما وقد يحتاج إلى أن يسكنها صديقا له بأجر أو بغير أجر وقد بينا أن ذلك لا يضر بالبناء فلا يمنع منه فإن أجرها بأكثر مما استأجرها به تصدق بالفضل إلا أن يكون أصلح منها بناء أو زاد فيها شيئا فحينئذ يطيب له الفضل.(15/236)
وعلى قول الشافعي رحمه الله: يطيب له الفضل على كل حال بناء على أصله أن المنافع كالأعيان الموجودة حكما فتصير مملوكة له بالعقد مسلمة إليه بتسليم الدار فكان بمنزلة من اشترى شيئا وقبضه ثم باعه وربح فيه فالربح يطيب له لأنه ربح على ملك حلال له ولكنا نقول المنافع لم تدخل في ضمانه وإن قبض الدار بدليل أنها لو انهدمت لم يلزمه الأجر فهذا ربح حصل لا على ضمانه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ثم المنافع في حكم الاعتياض إنما يأخذ حكم المالية والتقوم بالتسمية بدليل أن المستعير لا يؤاجر وهو مالك للمنفعة فإن المعير يقول له ملكتك منفعتها وجعلت لك منفعتها ولو أضاف الإعارة إلى ما بعد الموت يثبت ملك المنفعة للموصى له فكذلك إذا أوجبها له في حياته ومع ذلك لا يؤاجر لأنه ليس بمقابلتها تسمية فكذلك هنا وفيما زاد على المسمى في العقد الأول لا تسمية بمقابلة المنفعة في قصده فلا يكون له أن يستفضل وبهذا تبين أنها ليست كالعين فإن من يملك العين بالهبة يجوز له أخذ العوض بالبيع إلا أن يكون زاد فيه شيئا فحينئذ يجعل(15/237)
ص -114- ... الفضل بمقابلة تلك الزيادة فلا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة وكذلك إذا أجره بجنس آخر لأن الفضل عند اختلاف الجنس لا يظهر إلا بالتقوم والعقد لا يوجب ذلك فأما عند اتحاد الجنس يعود إليه ما غرم فيه بعينه ويتيقن بالفضل فعليه أن يتصدق به لأنه حصل له بكسب خبيث بمنزلة المستعير إذا أجر فعليه أن يتصدق بالأجر.
وإن كان استأجرها كل شهر فلكل واحد منهما أن ينقض الإجارة عند رأس الشهر لأن كلمة كل متى أضيفت إلى ما لا يعلم منتهاه تتناول الأدنى فإنما لزم العقد في شهر واحد فإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة فإن سكنها من الشهر الثاني يوما أو يومين لم يكن لكل واحد منهما أن يترك الإجارة إلى تمام الشهر إلا من عذر لأن التراضي منهما بالعقد في الشهر الثاني يتم إذا سكنها يوما أو يومين فيلزم العقد فيه بتراضيهما كما لزم في الشهر الأول وفي ظاهر الرواية الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الداخل ويومها لأن ذلك رأس الشهر وبعض المتأخرين رحمهم الله يقول الخيار لكل واحد منهما حين يهل الهلال حتى إذا مضى ساعة فالعقد يلزمهما وهذا هو القياس ولكنه فيه نوع حرج فلدفع الحرج قال الخيار لكل واحد منهما في اليوم الأول من الشهر.(15/238)
وإذا استأجرها كل شهر بكذا ولم يسم أول الشهر فهو من الوقت الذي استأجرها عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يصح الاستئجار إلا أن يتصل ابتداء المدة بالعقد ولا يتصل إلا بالشرط لأنه إذا أطلق ذكر الشهر فليس بعض الشهور لتعيينه للعقد بأولى من بعض وجهالة المدة مفسدة لعقد الإجارة وهذا لأنه نكر الشهر والشهر المتصل بالعقد معين فلا يتعين باسم النكرة ألا ترى أنه لو قال لله علي أن أصوم شهرا لا يتعين الشهر الذي يعقب نذره ما لم يعينه ولكنا نقول الأوقات كلها في حكم الإجارة سواء وفى مثله يتعين الزمان الذي يعقب السبب كما في الآجال والإيمان إذا حلف لا يكلم فلانا شهرا وهذا لأن التأخير عن السبب الموجب لا يكون إلا بمؤخر والمؤخر ينعدم فيما تستوي فيه الأوقات بخلاف الصوم فإنه يختص الشروع فيه ببعض الأوقات حتى أن الليل لا يصلح لذلك وكذلك يوم العيدين وأيام التشريق.
يوضحه أن الشروع في الصوم لا يكون إلا بعزيمة منه وربما لا يقترن ذلك بالسبب فأما دخول المنفعة في العقد لا يستدعي معنى من جهته سوى العقد فما يحدث بعد العقد يكون داخلا في العقد إلا أن يمنع منه مانع ثم إن كان العقد في اليوم الأول من الشهر فله شهر بالهلال تم أو نقص وإن كان ذلك اليوم في بعض الشهر فله ثلاثون يوما لأن الأهلة أصل في الشهور قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}[البقرة: 189] والأيام تدل على الأهلة وإليه أشار النبي بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما" وإنما يصار إلى البدل إذا تعذر اعتبار الأصل فإن كان استأجرها شهرا حين أهل الهلال فاعتبار الأصل هنا ممكن فكان له أن يسكنها إلى أن يهل الهلال من الشهر الداخل وإذا كان في بعض الشهر فقد تعذر اعتباره بالأهلة فيعتبر بالأيام ثلاثين يوما.(15/239)
ص -115- ... وإن استأجرها أكثر من شهر فالمذهب عندنا أنه إذا استأجرها مدة معلومة صح الاستئجار طالت أو قصرت وفي قول الشافعي رحمه الله لا يجوز الاستئجار أكثر من سنة واحدة وفي قول آخر يجوز إلى ثلاثين سنة ولا يجوز أكثر من ذلك وفي قول آخر يجوز أبدا وجه قوله الأول أن جواز الاستئجار للحاجة والحاجة في بعض الأشياء لا تتم إلا بسنة كما في الأراضي ونحوها وفيما وراء ذلك لا حاجة وعلى القول الثاني يقول العادة أن الإنسان قل ما يسكن بالإجارة أكثر من ثلاثين سنة فإنه يتخذ المسكن ملكا إذا كان قصده الزيادة على ذلك وعلى القول الآخر يقول المنافع كالأعيان القائمة فالعقد على العين يجوز من غير التوقيت فكذلك العقد على المنفعة وحجتنا في ذلك أن إعلام المعقود عليه لا بد منه والمنفعة لا تصير معلومة إلا ببيان المدة فإنها تحدث شيئا فشيئا فكانت المدة للمنفعة فالكيل والوزن فيما هو مقدر فكما لا يصير المقدار هناك معلوما إلا بذكر الكيل والوزن لا يصير المقدار هنا معلوما إلا بذكر المدة وبعد إعلام المدة العقد جائز قل المعقود عليه أو كثر وقد دل على جواز الاستئجار أكثر من سنة قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ}[القصص: 27] ولأن كل مدة تصلح أجلا للبيع فإنها تصلح مشروطة في عقد الإجارة كالسنة وما دونها والمعنى فيه وهو أن الشرط الإعلام فيها على وجه لا يبقى بينهما منازعة فإن استأجرها سنة مستقبلة وذلك حين يهل الهلال تعتبر سنة بالأهلة اثني عشر شهرا وإن كان ذلك في بعض الشهر يعتبر سنة بالأيام ثلاثمائة وستين يوما في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله وعند محمد يعتبر شهرا بالأيام وإحدى عشر شهرا بالأهلة وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى ووجه هذا القول أن الأهلة أصل والأيام بدل ففي الشهر الواحد تقدر الأهلة وفي إحدى عشر شهرا اعتبار ما هو أصل ممكن(15/240)
فلا معنى للمصير إلى البدل وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن ابتداء المدة معتبر بالأيام بالاتفاق فكذلك جميع المدة لأن ثبوت الكل بتسمية واحدة وهذا لأنه ما لم يتم الشهر الأول لا يدخل الشهر الثاني فإذا كان ابتداء الشهر الأول في بعض فتمامه في بعض الشهر الداخل أيضا وإنما يدخل الشهر الثاني في بعض الشهر فيجب اعتباره بالأيام وكذلك في كل شهر.
وقد ذكر في كتاب الطلاق في باب العدة أنها تعتبر بالأيام فعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله لا حاجة إلى الفرق وهو قول محمد وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله الفرق بين الأصلين أن الإجارة عقود متفرقة فإذا أهل الهلال يتجدد العقد عند ذلك فيجعل ذلك كأنهما جددا العقد في هذه الحالة فلهذا تعتبر أحد عشر شهرا بالهلال ولا يوجد مثل ذلك في العدة لأن الكل في حكم شيء واحد فتعبر كلها بالأيام ثم قال إذا استأجرها سنة أولها هذا اليوم وهو رابع عشرة مضين من الشهر فإنه يسكنها بقية هذا الشهر وإحدى عشر شهرا بالأهلة وستة عشر يوما من الشهر الباقي وهذا(15/241)
ص -116- ... غلط والصحيح ما ذكر في بعض الروايات استأجرها لأربع عشرة بقين من الشهر لأنه إذا كان الماضي من الشهر الأول أربع عشرة فقد سكنها بعد العقد ستة عشر يوما في ذلك الشهر فلا يسكنها في آخر المدة إلا أربعة عشر يوما لتمام ثلاثين يوما وقد قال يسكنها ستة عشر يوما فعرفنا أن الصحيح لأربع عشرة بقين من الشهر.
وإذا استأجر بيتا في علو دار ومنزلا على ظلة على ظهر طريق فهو جائز لأنه مسكن معد للانتفاع به من حيث السكنى ولو استأجر بيتا على أن يقعد فيه قصارا فأراد أن يقعد فيه حدادا فله ذلك إن كانت مضرتهما واحدة أو كانت مضرة الحداد أقل وإن كانت أكثر مضرة لم يكن له ذلك وكذلك الرحا لأن التقييد إذا كان مفيدا يعتبر وإن كان غير مفيد لا يعتبر والفائدة في حق صاحب الدار بأن ما لا يوهن بناءه ولا يفسده فلا تكون مضرته مثل المشروط أو أقل منه فقد علمنا أنه لا ضرر فيه على صاحب الدار والمنفعة صارت مملوكة للمستأجر وللإنسان أن يتصرف في ملك نفسه على وجه لا يضر بغيره كيف شاء وإن كان أكثر مضرة فهو يريد أن يلحق به ضررا لم يرض به صاحب الدار فيمنع من ذلك.(15/242)
والمسلم والذمي والحربي المستأمن والحر والمملوك التاجر والمكاتب كلهم سواء في الإجارة لأنها من عقود التجارة وهم في ذلك سواء وإن استأجر الذمي دارا سنة بالكوفة بكذا درهما من مسلم فإن اتخذ فيها مصلى لنفسه دون الجماعة لم يكن لرب الدار أن يمنعه من ذلك لأنه استحق سكناها وهذا من توابع السكنى وإن أراد أن يتخذ فيها مصلى للعامة ويضرب فيها بالناقوس فلرب الدار أن يمنعه من ذلك وليس ذلك من قبل أنه يملك الدار ولكن على سبيل النهي عن المنكر فإنهم يمنعون من أحداث الكنائس في أمصار المسلمين فلكل مسلم أن يمنعه من ذلك كما يمنعه رب الدار وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة" والمراد نفي أحداث الكنائس في أمصار المسلمين وفي الخصاء تأويلان أحدهما خصاء بني آدم فذلك منهي عنه وهو من جملة ما يأمر به الشيطان قال الله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}[النساء: 119] والامتناع من صحبة النساء على قصد التبتل والترهب والحاصل أنهم لا يمنعون من السكنى في أمصار المسلمين فيجوز بيع الدور وإجارتها منهم للسكنى إلا أن يكثروا على وجه تقل بسببه جماعات المسلمين فحينئذ يؤمرون بأن يسكنوا ناحية من المصر غير الموضع الذي يسكنه المسلمون على وجه يأمنون اللصوص ولا يظهر الخلل في جماعات المسلمين ويمنعون من أحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين فإذا أراد أن يتخذ مصلى العامة فهذا منه أحداث الكنيسة وكذلك يمنعون من إظهار بيع الخمور في أمصار المسلمين لأن ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين وما أعطيناهم الذمة على أن يظهروا ذلك فكان الإظهار فسقا منهم في التعاطي فلكل مسلم أن يمنعهم من ذلك صاحب الدار وغيره فيه سواء وكذلك يمنعون من إظهار شرب الخمر وضرب المعازف والخروج سكارى في أمصار المسلمين لما فيه من الاستخفاف بالمسلمين أيضا ولو كان هذا في دار بالسواد أو بالجبل كان للمستأجر أن يصنع فيها ما شاء.(15/243)
ص -117- ... وكان أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: هذا الجواب في سواد الكوفة فإن عامة من يسكنها من اليهود والروافض لعنهم الله فأما في ديارنا يمنعون من إحداث ذلك في السواد كما يمنعون في المصر لأن عامة من يسكن القرى في ديارنا مسلمون وفيها الجماعة والدرس ومجلس الوعظ كما في الأمصار فأما وجه ظاهر الرواية أن الأمصار موضع إعلام الدين نحو إقامة الجماعات وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام في أحداث البيع في الأمصار معنى المقابلة للمسلمين فأما القرى فليست بمواضع إعلام الدين فلا يمنعون من إحداث ذلك في القرى قال رضي الله عنه والقول الأول عندي أصح فإن المنع من ذلك في الأمصار لا يفتتن به بعض جهال المسلمين ألا ترى أنهم إذا لم يظهروا لم يمنعوا من أن يضعوا من ذلك بينهم ما شاؤوا وخوف الفتنة في إظهار ذلك في القرى أكثر فإن الجهل على أهل القرى أغلب وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أهل القبور هم أهل الكفور" والدليل على أن المعنى ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تراء ناراهما" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين".
ولو كان المستأجر مسلما فظهر منه فسق في الدار أو دعارة أو كان يجمع فيها على الشرب منعه رب الدار من ذلك كله لا لملكه الدار بل على سبيل النهي عن المنكر فإنه فرض على كل مسلم صاحب الدار وغيره فيه سواء وليس لرب الدار أن يخرجه من الدار من أجل ذلك مسلما كان أو ذميا لأن عقد الإجارة لازم لا يفسخ إلا بعذر والعذر ضرر يزول بفسخ الإجارة وهذا ليس من تلك الجملة فلا تفسخ الإجارة لأجله أرأيت لو كان باعه الدار كان يفسخ البيع لما ظهر منه لا سبيل له إلى ذلك فكذلك الإجارة.(15/244)
وإذا سقط حائط من الدار فأراد المستأجر ترك الإجارة نظر في ذلك فإن كان لا يضر بالسكنى فليس له أن يخرج لأن المستحق بالعقد منفعة السكنى ولم يتغير بما حدث فهو كما لو استأجر عبدا للخدمة فأعور العبد وذلك لا ينقص من خدمته وإن كان يضر ذلك بالسكنى فله أن يخرج لتمكن الخلل في مقصوده والعيب الحادث في المعقود عليه للسكنى بمنزلة العبد المستأجر للخدمة إذا مرض وهذا لما تقدم أن يقبض الدار لا تدخل المنفعة في ضمان المستأجر فحدوث المغير بعد قبض الدار وقبله سواء إلا أن ينتبه صاحب الدار قبل فسخ المستأجر العقد فحينئذ لا يكون للمستأجر أن يفسخ لزوال العيب وارتفاع المغير كالعبد إذا برأ وإنما يكون له حق الفسخ بحضرة رب الدار فإن كان غائبا فليس له أن يفسخ لأن هذا بمنزلة الرد بالعيب فلا يكون إلا بمحضر من الأجر لما فيه من إلزام حكم الرد الآخر فيستوي في ذلك ما قبل القبض وما بعده كما في رد المبيع بالعيب ولو خرج في حال غيبة رب الدار فالأجر واجب عليه كما لو سكن لأن العقد وهو متمكن من استيفاء المنفعة مع التغير فلزمه الأجر وكذلك إن سكن مع حضرة رب الدار لأن التغير في وصف المعقود عليه فإذا رضي به لا يحط شيء من الأجر كالمشتري إذا رضي بالعيب.(15/245)
ص -118- ... وإن سقطت الدار كلها فله أن يخرج شاهدا كان صاحب الدار أو غائبا وفيه طريقان لمشايخنا رحمهم الله:
أحدهما: أن العقد انفسخ بسقوط جميع البناء لفوات المعقود عليه وهو منفعة السكنى فإنه بالبناء كان مسكننا بخلاف الأول فهناك دخل المعقود عليه تغير ألا ترى أن استئجار الحراب للسكنى لا يجوز ابتداء فكذلك لا يبقى العقد وإذا انفسخ العقد سقط الأجر سواء كان رب الدار شاهدا أو غائبا لأن اشتراط حضوره للفسخ قصدا لا للانفساخ حكما.
وطريق آخر وهو الأصح: أن العقد لا ينفسخ بالانهدام وقد نص عليه كتاب الصلح قال ولو صالح على سكنى دار فانهدمت الدار لا يبطل الصلح وروى هشام عن محمد رحمهما الله قال لو استأجر بيتا فانهدم فبناه المؤاجر وأراد المستأجر أن يسكنه في بقية المدة فليس للمؤجر منعه من ذلك فهذا دليل على أن العقد لم ينفسخ ولأن أصل الموضع مسكن بعد انهدام البناء يتأتى فيه السكنى بنصب الفسطاط والخيمة فيبقى العقد لهذا ولكن لا أجر على المستأجر لانعدام تمكنه من الانتفاع على الوجه الذي قصده بالاستئجار فإن التمكن من الانتفاع شرط لوجوب الأجر ألا ترى أنه لو منعه غاصب من السكنى لا يجب عليه الأجر فكذلك إذا انهدم البناء بخلاف ما إذا سقط حائط منها فالتمكن من الانتفاع هناك على الوجه الذي قصده بالعقد قائم فيلزمه الأجر ما لم يفسخ العقد بمحضر من رب الدار.(15/246)
وإذا استأجر دارا سنة فلم يسلمها إليه حتى مضى الشهر وقد طلب التسليم أو لم يطلب ثم تحاكما لم يكن للمستأجر أن يمتنع من القبض في باقي السنة عندنا ولا للمؤاجر أن يمنعه من ذلك وقال الشافعي رحمه الله للمستأجر حق فسخ العقد فيما بقي وهو بناء على الأصل الذي بينا أن عنده المنافع في حكم الأعيان القائمة فإذا فات بعض ما تناوله العقد قبل القبض يجبر فيما بقي لاتحاد الصفقة فإنها إذا تفرقت عليه قبل القبض تخير فيما بقي لاتحاد الصفقة فإنها تفرقت عليه قبل التمام وذلك مثبت حق الفسخ كما لو اشترى شيئين فهلك أحدهما قبل القبض يوضحه أن الإنسان قد يستأجر دارا وحانوتا سنة ومقصوده من ذلك شهرا واحدا كالحاج بمكة في أيام الموسم فإذا منعه في المدة التي كانت مقصودة له لو قلنا يلزمه التسليم بعد ذلك تضرر به فلدفع الضرر أثبتنا له حق الفسخ وعندنا عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة حتى يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة على ما بينا فلا يتمكن تفرق الصفقة مع تفرق العقود وفوات المعقود عليه في عقد لا يؤثر في عقد آخر بخلاف البيع يوضحه أنه لو استأجر دارين وقبضهما فانهدمت إحداهما لا يتخير في الآخر والمنافع بقبض الدار لم تدخل في ضمانه فقد تفرقت الصفقة عليه قبل التمام لأن تمام الصفقة بدخول المعقود عليه في ضمانه ومع ذلك لا يثبت له حق الفسخ فكذلك إذا كان الانهدام قبل القبض وإن سلمها إليه إلا بيتا كان مشغولا بمتاع المؤاجر رفع منه من الأجر بحساب ذلك لأن الأجر إنما يجب باستيفاء المنفعة فإنما يلزم بقدر ما استوفى وكذلك لو سلمها إليه كلها ثم انتزع منها(15/247)
ص -119- ... بيتا لأنه زال تمكنه من استيفاء منفعة السكنى في البيت حين انتزع منه فكأنه لم يسلمه إليه في الابتداء ألا ترى أنه لو انتزع الكل منه لم يجب عليه الأجر فالجزء معتبر بالكل.
ولو غصب الدار من المستأجر الأجنبي سقط عنه الأجر في مدة الغصب لزوال تمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه ويجوز استئجار الدار بالموصوف من المكيل والموزون شرط له أجلا أو لم يشترطه وهذا لأن الأجرة بمنزلة الثمن في البيع فإن الإجارة نوع بيع فما يصلح بدلا في البيع يصلح في الإجارة والمكيل والموزون يصلح بدلا في البيع موصوفا حالا كان أو مؤجلا والثياب لا تصلح موصوفة إلا مؤجله والحيوان لا يصلح إلا أن يكون معينا فكذلك في الإجارة وهذا على الطريق الذي يقول المنفعة مال وإن كان دون العين ظاهر لأن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عوضا عما هو مال وعلى الطريق الذي يقول ليس بمال فالحيوان إنما يثبت في الذمة بدلا عما ليس بمال في العقود المبينة على التوسع في البدل وهو ما لم يشرع في الأصل لتحصيل المال فأما الإجارة مبينة على الاستقصاء في البدل مشروعة لتحصيل المال كالبيع والحيوان بغير عينه يكون مجهول مقدار المالية فلهذا لا يثبت في الإجارة.(15/248)
وإن استأجر دارا بعبد بعينه فأعتقه رب الدار قبل أن يتقابضا لم يجز عتقه لما بينا أن الأجرة إذا كانت عينا لا تملك بنفس العقد وعتق الإنسان فيما لا يملك باطل فإن كان المستأجر دفع إليه العبد ولم يقبض الدار حتى أعتقه رب الدار فعتقه جائز لأن الأجرة تملك بالتعجيل فإن قبض الدار وتمت السكنى فلا شيء عليه وإن انفسخ العقد باستحقاق الدار أو موت أحدهما أو غرق الدار أو انعدم التمكن من الانتفاع بالهدم فعلى المعتق قيمة العبد لأن العقد لما انفسخ وجب عليه رد العبد وقد تعذر رد العبد لنفوذ العتق فيه فيلزمه قيمته وهذا لأن عتقه لا يبطل بما حدث لأن المستأجر سلط عليه وملكه إياه بالسليم إليه حال قيام العقد فنفذ عتقه والعتق بعد ما نفذ لا يمكن نقضه ولو لم يقبض العبد حتى سكن الدار شهرا ثم أعتقا جميعا العبد وهو في يد المستأجر فإنه يجوز عتق رب الدار بقدر أجر الشهر ويجوز عتق المستأجر فيما بقي منه لأن رب الدار ملك منه حصة ما استوفى المستأجر من المنفعة فكان العبد مشتركا بينهما فإذا أعتقاه عتق وتنتقض الإجارة فيما بقي لأن جوازها باعتبار مالية العبد وقد فات بالعقد فهو كما لو مات العبد قبل التسليم إلا أن في الموت على المستأجر أجر مثل الدار بقدر ما سكن لأن العقد انتقض بهلاك المعقود عليه قبل التسليم فبقيت المنفعة في تلك المدة مستوفاة بعقد فاسد فعليه رد بدلها وهو أجر المثل وفيما أعتقاه لا يلزمه ذلك لأن رب الدار صار قابضا لما يخص المستوفي من المنفعة من العبد ولو استكمل السكنى ثم مات العبد قبل أن يدفعه إليه أو استحق كان عليه أجر مثلها لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد ولو كان المستأجر دفع العبد ولم يسكن الدار حتى أعتقه فعتقه باطل لأن العبد خرج من ملكه بالتسليم إلى رب الدار فإنما أعتق مالا يملكه.(15/249)
ص -120- ... ولو استأجر دارا سنة فسكنها ثم استحقت فالأجر للمؤاجر دون المستحق عندنا لأنه تبين أنه كان غاصبا وقد بينا في كتاب الغصب أن الغاصب إذا أجر المغصوب فالأجر له لأنه وجب بعقده وهو الذي ضمن تسليم المعقود وعليه أن يتصدق به لأنه حصل له بكسب خبيث وفي قياس قول أبي يوسف الأول لا يتصدق لأنه كان يقول العقار يضمن بالغصب ومن مذهبه أن من استربح على ضمانه لا يلزمه التصدق به كما في المودع إذا تصرف في الوديعة ولو انهدمت من السكنى ضمن الساكن لأنه متلف والعقار يضمن بالإتلاف ويرجع به على المؤاجر لأنه مغرور من جهته بعقد معاوضة وقد كان ضمن سلامة المعقود عليه عن عيب الاستحقاق فإذا لم يسلم رجع كما يغرم بسببه ولو أجر داره من رجل فامي سنة بدراهم معلومة ثم استقرض رجل من رب الدار شهرين فأمر الفامي أن يعطيه ذلك فكان الرجل يشتري به من الفامي الدقيق والزيت وغيره حتى استوفى أجر الشهرين فهو جائز لأن رب الدار إقامة مقام نفسه وهو بنفسه لو عامل الفامي بذلك يجوز وليس للفامي على المستقرض شيء لأنه قائم مقام رب الدار فتسليمه إليه كتسليمه إلى رب الدار ولكنه قرض لرب الدار على المستقرض بمنزلة ما لو قبض بنفسه ثم أقرضه منه وكذلك لو أخذ دينارا فيما أخذ وقد بينا اختلافهم في المصارفة في الأجر مع رب البيت فكذلك مع من قام مقامه وهو المستقرض.
ولو كان للفامي على الرجل دينارا أو أجر البيت عشرة دراهم في كل شهر فمضى شهران ثم أمر رب الدار الفامي أن يدفع أجر الشهرين إلى المستقرض وقاصه بالدينار الذي له عليه وأخذ بالفضل شيئا فهو جائز بمنزلة ما لو فعله رب البيت فإن أجر الشهرين قد وجب والمقاصة بالدينار بعد وجوبها تجوز بالتراضي وليس هذا تصرف فيما بين رب البيت والمستقرض ولكنه صرف فيما بين المستقرض والفامي حتى يرجع رب البيت على المستقرض بالدراهم بمنزلة ما لو كان اشترى به من الفامي شيئا.(15/250)
ولو كان رب البيت أقرض الدراهم على أن يرد عليه دينارا بعشرة دراهم لم يجز لأن القرض مضمون بالمثل وشرط شيء آخر مكانه باطل وإن أحاله على هذا الوجه بالدراهم فقاصه بالدينار فإنما للمقرض على المستقرض عشرون درهما لأن ما جرى بينهما من الشرط كان صرفا بالنسيئة وهو باطل ولو كان أقرضه أجر الشهرين قبل أن يسكن شيئا وأمره أن يعجله وطابت نفس الفامي بذلك وأعطاه به دقيقا أو زيتا أو دينارا بعشرة دراهم منها ثم مات رب البيت قبل السكنى أو انهدم البيت أو استحق لم يرجع الفامي على المستقرض بشيء لما بينا أنه قائم مقام رب البيت فيما قبضه منه ولكنه يرجع على رب البيت بالدراهم ورب البيت على المستقرض بالدراهم وقال أبو يوسف رحمه الله أخيرا في حصة البيت هكذا فأما في حصة الدينار فإنه يرجع بالدينار بعينه على الذي كان عليه الأصل لأن المصارفة كانت قبل وجوب الأجر وقد بطلت بالافتراق قبل التقابض فيرجع عليه بالدينار كما كان في ذمته.(15/251)
ص -121- ... فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد وجب الأجر على الفامي بشرط التعجيل فإنه قال وأمره أن يعجله قلنا شرط التعجيل إنما يعتبر إذا كان مذكورا في العقد وقوله وأمره أن يعجله على سبيل الالتماس لا على سبيل الشرط ألا ترى أنه كان قال وطابت نفس الفامي بذلك.
ولا يجوز استئجار السكنى بالسكنى والخدمة بالخدمة ويجوز استئجار السكنى بالخدمة والركوب عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز على كل حال اتفقت جنس المنفعة أو اختلفت بناء على أصله أن المنافع كالأعيان القائمة ومبادلة العين بالعين من جنسه أو من خلاف جنسه صحيح عند المساواة على كل حال وعند التفاوت في غير الأموال الربوية والمنافع ليست بمال الربا فيجوز مبادلة بعضها بالبعض وإن جاز الاعتياض عن كل واحد منهما بالدراهم جاز معاوضة على كل واحد منهما بالآخر كما إذا اختلف جنس المنفعة ولنا فيه طريقان.
أحدهما: منقول عن محمد رحمه الله قال مبادلة السكنى بالسكنى كبيع القوهي بالقوهي نسأ ومعنى هذا أن المعقود عليه ما يحدث من المنفعة وذلك غير موجود في الحال فإذا اتحد الجنس كان هذا مبادلة الشيء بجنسه يحرم نسيئة وبالجنس يحرم النسأ عندنا بخلاف ما إذا اختلف الجنس.(15/252)
فإن قيل: النسأ ما يكون عن شرط في العقد والأجل هنا غير مشروط كيف والمنافع في حكم الأعيان دون الديون لأنها لو كانت في حكم الدين لم يجز مع اختلاف الجنس فالدين بالدين حرام وإن اختلف الجنس قلنا لما كان المعقود عليه مما يحدث في المدة لا يتصور حدوثه جملة بل يكون شيئا فشيئا فهذا بمنزلة اشتراط الأجل أو أبلغ منه فإن المطالبة بالتسليم تتأخر بالأجل فكذلك المطالبة بتسليم جميع المعقود عليه لا تثبت في الحال بل تتأخر إلى حدوث المنفعة وهذا أبلغ من ذلك لأن بالأجل لا يتأخر انعقاد العقد وهنا يتأخر انعقاد العقد في حق المعقود عليه ولكن ليس بدين على الحقيقة لأن الدين ما يثبت في الذمة والمنافع لا تثبت في الذمة والمحرم الدين بالدين فلكون المنفعة ليست بدين جوزنا العقد عند اختلاف الجنس وللجنسية أفسدنا العقد عند اتفاق الجنس.
والطريق الآخر: أن جواز عقد الإجارة للحاجة فإنما يجوز على وجه ترتفع به الحاجة وفي مبادلة المنفعة بجنسها لا يتحقق ذلك لأنه كان متمكنا من السكنى قبل العقد ولا يحصل له بالعقد إلا ما كان متمكنا منه باعتبار ملكه فأما عند اختلاف جنس المنفعة الحاجة متحققة وبالعقد يحصل له ما لم يكن حاصلا قبله فصاحب السكنى قد تكون حاجته إلى خدمة العبد أو ركوب الدابة ثم إن عند اتحاد الجنس إذا استوفى أحدهما المنفعة فعليه أجر المثل في ظاهر الرواية وذكر الكرخي عن أبي يوسف رحمهما الله أنه لا شيء عليه لأن تقوم المنفعة بالتسمية والمسمى بمقابلة المستوفي من المنفعة والمنفعة ليست بمال متقوم في نفسها وجه ظاهر الرواية أنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد فعليه أجر المثل كما لو استأجر دارا ولم(15/253)
ص -122- ... يسم الأجر وسكنها وهذا لأن الفاسد من العقد معتبر بالجائز فكما أن المنفعة تتقوم بالعقد الجائز فكذلك بالعقد الفاسد.
وإذا أجر داره من رجل شهرا بثوب بعينه فسكنها لم يكن له أن يبيع الثوب من المستأجر ولا من غيره قبل القبض لأن الأجرة إذا كانت ثوبا بعينه فهو كالمبيع وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز من البائع ولا من غيره قال ألا ترى أنه لو هلك كان على المستأجر أجر مثلها وهذا إشارة إلى بقاء الغرر والمكيل في الملك المطلق للتصرف وكذلك كل شيء بعينه من العروض والحيوان أو الموزون وتبر الذهب والفضة وفي هذا إشارة إلى أن التبر يتعين بالتعيين وقد بينا اختلاف الروايات في كتاب الشركة وإن كان الأجر شيئا من المكيل والموزون بغير عينه موصوفا كان له أن يبيعه من المستأجر قبل أن يقبضه منه لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة ثمنا والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز فكذلك بالأجر فإن ابتاع به منه شيئا بعينه جاز إن قبضه في المجلس أو لم يقبضه لأنهما افترقا عن عين بدين وإن ابتاع منه شيئا بغير عينه فلا يفارقه حتى يقبض منه فإن فارقه قبل أن يقبضه انتقض البيع لأنهما افترقا عن دين بدين وهو الحكم في ثمن البيع وليس له أن يبيعه من غيره فإن بيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز إلا على قول مالك رحمه الله وهو يقول كما يجوز بيعه ممن عليه فكذلك من غيره ولكنا نقول إذا باعه منه يصير قابضا له بذمته وإذا باعه من غيره فهو لا يقدر على تسليمه ما لم يستوف ولا يدري متى يستوفي فإنما يبيع ما لا يقدر على تسليمه وقد شرط للتسليم أجلا مجهولا وهو إلى أن يخرج وذلك مبطل للبيع.(15/254)
ولو استأجر بيتا بثوب فأجره بدراهم أكثر من قيمة الثوب طاب له الفضل لأن عند اختلاف الجنس لا يظهر الفضل إلا بالتقويم والعقد لا يوجب ذلك وكذلك كل ما اختلف الجنس فيه حتى لو استأجره بعشرة دراهم وأجره بدينارين طاب له الفضل أيضا لأنه لا يظهر الفضل بين الدنانير والدراهم إلا بالتقويم ألا ترى أن مبادلة عشرة دراهم بدينارين تجوز في عقد واحد ولا يظهر بينهما الفضل الخالي عن المقابلة ففي عقدين أولى.
وإذا كان أجر الدار عشرة دراهم أو قفيز حنطة موصوفة وأشهد المؤاجر أنه قبض من المستأجر عشرة دراهم أو قفيز حنطة ثم ادعى أن الدراهم نبهرجة وأن الطعام معيب فالقول قوله لأنه منكر استيفاء حقه فإن ما في الذمة يعرف بالصفة ويختلف باختلاف الصفة ولا مناقضة في كلامه فاسم الدراهم يتناول النبهرجة واسم الحنطة يتناول المعيب وإن كان حين أشهد قال قد قبضت من أجر الدار عشرة دراهم أو قفيز حنطة لم يصدق بعد ذلك على ادعاء العيب والزيف وكذلك لو قال استوفيت أجر الدار ثم قال وجدته زيوفا لم يصدق ببينة ولا غيرها لأنه قد سبق منه الإقرار بقبض الجياد فإن أجر الدار من الجياد فيكون هو مناقضا في قوله وجدته زيوفا والمناقض لا قول له ولا تقبل بينته ولو كان الأجر ثوبا بعينه فقبضه ثم جاء يرده بعيب فقال المستأجر ليس هذا ثوبي فالقول قول المستأجر لأنهما تصادقا على أنه(15/255)
ص -123- ... قبض المعقود عليه فإنه كان شيئا بعينه ثم ادعى الآخر لنفسه حق الرد والمستأجر منكر لذلك فالقول قوله فإن أقام رب الدار البينة على العيب رده سواء كان العيب يسيرا أو فاحشا على قياس المبيع ثم ينفسخ العقد برده لفوات القبض المستحق بالعقد فيأخذ منه قيمة السكنى وهو أجر مثل الدار لأن العقد لما فسد لزمه رد المستوفي من السكنى ورد السكن برد أجر المثل وإن كان حدث به عيب لم يستطع رده رجع بحصة العيب من أجر مثل الدار لأن الرجوع بحصة العيب عند تعذر الرد يكون من البدل كما في البيع.
وإذا خرج المستأجر من الدار وفيها تراب ورماد من كناسة فعلى المستأجر إخراجه لأنه اجتمع بفعله وهو الذي شغل ملك الغير به فعليه تفريغه إذا خرج من الدار ولكن ما أشبه ذلك مما هو ظاهر على وجه الأرض فأما البالوعة وما أشبهها فليس على المستأجر تنظيفها استحسانا وفي القياس هذا كالأول لأنه اجتمع بفعل المستأجر وللاستحسان وجهان:
أحدهما: العرف فإن الناس لم يتعارفوا تكليف المستأجر تنظيف البالوعة إذا خرج من المنزل وقد بينا أن العرف معتبر في الإجارة.
والثاني: أن البالوعة مطوية فتحتاج للتنظيف إلى الحفر وذلك تصرف من المستأجر فيما لا يملكه فلا يلزمه ذلك فأما ما كان ظاهرا فهو لا يحتاج في التفريغ إلى نقض بناء وحفر فعليه إخراج ذلك.(15/256)
وإن اختلفا في التراب الظاهر فالقول قول المستأجر أنه استأجرها وهو فيها لأن رب الدار يدعي لنفسه حقا قبله وهو تفريغ ذلك الموضع ويدعي إحداث شغل ملكه والمستأجر منكر فالقول قوله فأما مسيل ماء الحمام ظاهرا كان أو مسقفا فعلى المستأجر كنسه إذا امتلأ هو المتعارف بين الناس ولأنه ظاهر على وجه الأرض وإنما يسقف لكيلا يتأذى الناس برائحته ولأنه لا يملأ ليترك بل ليفرغ إذا امتلأ وكان التفريغ على من ملأه بخلاف البالوعة فقضاء الحاجة في بئر البالوعة لا يكون لقصد النقل والتفريغ بل يترك ذلك عادة فلهذا لا يجب على المستأجر ولو اشترط رب الدار على المستأجر حين أجره إخراج ما أحدثه فيها من تراب أو سرجين كان جائزا لأن ذلك عليه بدون الشرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة.
وإذا استأجر فامي من رجل بيتا فباع فيه زمانا ثم خرج منه واختلفا فيما فيه من الأواني والرفوف والتحاتح التي قد بنى عليه البناء فقال المستأجر أنا أحدثتها وقال رب البيت كانت فيه حين أجرته فالقول قول المستأجر لأن الظاهر شاهد له فهو الذي يتخذ ذلك عادة لحاجته إليه فرب البيت مستغن عن ذلك فإنه يبني البيت ليؤاجره ممن يستأجره منه ثم كل عامل يتخذ فيه ما يكون من أداة عمله وعند المنازعة القول قول من يشهد له الظاهر ولأن هذه الأشياء موضوعة في البيت وفي الموضوع القول قول المستأجر كسائر الأمتعة وكذلك الطحان إذا خرج من البيت فأراد أن يأخذ من متاع الرحا وما تحتها من بنائها وخشبها التي فيها(15/257)
ص -124- ... واسطواناتها فذلك كله للطحان لأنه من أداء عمله وكذلك القصاب والقلاء والحداد وما أشبهه من الأوعية والأداة التي تكون للصناع.
ولو استأجر أرضا ليطبخ فيها الآجر والفخار ثم اختلفا في الأتون التي يطبخ فيها الآجر ففي القياس القول قول رب الأرض لأنه بناء كسائر الأبنية وفي البناء القول قول رب الأرض لأنه تبع لأرضه وفي الاستحسان القول قول المستأجر قال لأني رأيت المستأجر هو الذي بنى وإنما يبني الحكم على ما يعرف عند المنازعة ثم هذا البناء لحاجة المستأجر ليس لحاجة رب الأرض بخلاف سائر الأبنية ألا ترى أن كل عامل من هذا الجنس يبني الأتون على الوجه الذي يتخذه أهل صنعته ولو اختلفا في بناء سوى ما ذكرنا أو في باب أو خشبة أدخلت السقف فالقول قول رب الدار أنه أجرها وهي كذلك وكذلك الآجر المفروش والغلق والميزاب فالظاهر أن رب الدار هو الذي يتخذ ذلك لأن الساكن به يتمكن من السكنى في الدار وعلى رب الدار تمكين المستأجر من الانتفاع فهو الذي يحدث ما به ليتم تمكنه من الانتفاع به وما كان في الدار من لبن موضوع أو آجر أو جص أو جذع أو باب موضوع فهو للمستأجر لأنه بمنزلة المتاع الموضوع غير مركب في البناء ولا هو تبع للأرض والبناء فإن أقاما البينة ففي كل شيء جعلنا القول فيه قول المستأجر فالبينة بينة رب الدار لأنها مثبتة لحقه.(15/258)
ولو كان في الدار بئر ماء مطوية أو بالوعة محفورة فقال المستأجر أنا أحدثتها وأنا أقلعها فالقول قول رب الدار لأن هذا من توابع البناء ومما لا يتأتى بدونه السكنى ولأنه يحتاج في قلعها إلى نقض البناء والمستأجر لا يملك ذلك إلا بحجة وهي البينة وكذلك الخص والسترة والخشب المبني في البناء والدرج فالمراد من الدرج ما يكون مبنيا منه فأما ما يكون موضوعا فيه كالسلم فالقول قول المستأجر لأنه لا يحتاج في رفعه إلى قلع البناء وهو موضوع كالأمتعة قال وكذلك التنور وكذلك الأتون التي يطبخ فيها الأجر أن القول قول المستأجر وفي التنور القول قول رب الدار ولا فرق بينهما إلا بالعرف ثم التنور من توابع البناء في الدار فيحتاج إليه كل ساكن فأما الأتون فإنما يحتاج إليه من يطبخ الآجر دون من يعمل في الأرض عملا آخر فالظاهر هناك أن المستأجر هو الذي بناه والظاهر هنا أن رب الدار هو الذي يبني التنور.
ولو كان في الدار كوارت نحل أو حمامات فذلك كله للمستأجر كالمتاع الموضوع ولو أقر رب الدار أن المستأجر خصصها أو فرشها بالآجر أو ركب فيها بابا أو غلقا كان للمستأجر أن يقلع من ذلك ما لا يضر قلعه بالدار لأنه عين ملكه فأما ما يضر بها فليس له أن يقلعه دفعا للضرر عن رب الدار ألا ترى أن رب الدار لو فعل ذلك غصبا لم يكن لمالك ذلك العين أن يقلعه فإذا فعله المالك أولى ولكن قيمة ذلك على رب الدار يوم يختصمون لأن ذلك العين احتبس عنده فيغرم قيمته كما لو انصبغ ثوب إنسان بصبغ الغير فأراد صاحب الثوب أن يأخذه وإنما اعتبر قيمته عند الخصومة لأنه عند ذلك تملكه على صاحبه.(15/259)
ص -125- ... ولو انهدم بيت من الدار فاختلفا في نقضه فإن كان يعرف أنه من بيت انهدم فهو لرب الدار لأنهما لو اختلفا قبل الانهدام كان القول قول رب الدار فكذلك بعده وإن لم يعرف ذلك وقال المستأجر هو لي فالقول فيه قوله لأنه موضوع كسائر الأمتعة ولو كان رب الدار أمره بالبناء في الدار على أن يحبسه له من الأجر فاتفقا على البناء واختلف في مقدار النفقة فالقول قول رب الدار والبينة بينة المستأجر لأن حاصل اختلافهما فيما صار المستأجر موفيا من الأجر فهو يدعي الزيادة فالبينة بينته ورب الدار ينكرها فالقول قوله وكذلك لو قال رب الدار لم تبن أو بنيت بغير إذني لأن المستأجر يدعي عليه الأمر وبه يصير موفيا الأجر عند البناء فالقول قول رب الدار لإنكاره.(15/260)
ولو كان على باب منها مصرعان فسقط أحدهما وقال المستأجر هما لي أو قال هذا الساقط لي ويعرف أنه أخ المغلق فالقول قول رب الدار لأن الظاهر شاهد له أما في المغلق غير مشكل والساقط إذا كان أخ المغلق فهما كشيء واحد مضى في معنى الانتفاع حتى لا ينتفع بأحدهما دون الآخر والبينة بينة المستأجر لأنه هو المحتاج إلى إقامتها وكذلك لو كان فيها بيت مصور بجذوع مصورة فسقط جذع منها فكان في البيت مطروحا فقال رب الدار هو من سقف هذا البيت وقال المستأجر بل هو لي ويعرف أن تصاويره موافق لتصاوير البيت فالقول في ذلك قول رب الدار لشهادة الظاهر له وهو نظيره ما لو اختلفا الزوجان في متاع البيت فما يصلح للرجال يجعل القول قول الزوج وما يصلح للنساء فهو للمرأة لشهادة الظاهر لها ثم موافقة التصاوير وكون موضع ذلك الجذع من السقف ظاهرا دليل فوق اليد وإذا جعل القول قول ذي اليد لشهادة الظاهر له فهذا أولى وعمارة الدار وتطينها وإصلاح الميزاب وما وهي من بنائها على رب الدار لأن به يتمكن المستأجر من سكنى الدار وكذلك كل سترة يضر تركها بالسكنى لأن المستأجر بمطلق العقد استحق المعقود عليه بصفة السلامة فإن أبى أن يفعل فللمستأجر أن يخرج منها لوجود العيب بالمعقود عليه إلا أن يكون استأجرها وهي كذلك وقد رآها فحينئذ هو راضي بالعيب فلا يردها لأجله وإصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج على رب الدار وإن كان امتلأ من فعل المستأجر لما بينا أنه يحتاج في ذلك إلى هدم البناء ولكن لا يجبر رب الدار على ذلك ولا المستأجر وإن شاء المستأجر أن يصلح ذلك فعل ولا يحتسب له من الأجر وإن شاء خرج إذا أبى رب الدار أن يفعله لأن الإنسان لا يجبر على إصلاح ملكه ولكن العيب في عقود المعاوضات يثبت للعاقد حق الفسخ فيما يعتمد لزومه تمام الرضاء.(15/261)
ولو استأجر من رجل نصف أرض غير مقصود أو نصف عبد أو نصف دابة فالعقد فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله والشيوع فيما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة سواء عنده في إفساد الإجارة وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله جائز ويتهايآن فيه وحجتهم في ذلك أن هذا معاوضة مال بمال فتلزم في المشاع كالبيع وهذا لأن موجب(15/262)
ص -126- ... الإجارة ملك المنفعة وللجزء الشائع منفعة ألا ترى أنه لو أجر من شريكه يجوز العقد لهذا المعنى ولو أجر من رجلين تجوز العقود وكل واحد من المستأجرين يملك منفعة النصف شائعا والدليل عليه أنه لو أعار نصف داره من إنسان جاز ذلك وتأثير الشيوع في المنع من عقد التبرع أكثر منه في المنع من المعاوضة كما في الهبة مع البيع فإذا جاز تمليك منفعة نصف الدار بطريق التبرع فبطريق المعاوضة أولى وأبو حنيفة رحمه الله يقول التزم بعقد المعاوضة تسليم ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز كما لو باع الآبق أو أجره وبيان ذلك أن عقد الإجارة يرد على المنفعة وتسليم المنفعة يكون باستيفاء المستأجر ولا يتحقق استيفاء المنفعة من النصف شائعا إنما يتحقق من جزء معين فإنهما إن تهايآ على المكان فإنما يسكن كل واحد منهما ناحية بعينها وإن تهايآ على الزمان فإنما يسكن كل واحد منهما جميع الدار في بعض المدة فعرفنا أن استيفاء المنفعة في الجزء الشائع لا يتحقق فكان بإضافة العقد إلى جزء شائع ملتزما تسليم ما لا يقدر على تسليمه.(15/263)
ويحكي عن أبي طاهر الدباس رحمه الله أنه كان يقول إذا أجر أحد الشريكين نصيبه من أجنبي يصح عند أبي حنيفة رحمه الله وإذا أجر المالك نصف أرضه لا يصح وكان يفرق فيقول يحتاجان إلى المهايأة فإما أن يعود إلى يد الأجير جميع المستأجر في بعض المدة إذا تهايآ على الزمان أو بعض المستأجر في جميع المدة إذا تهايأ على المكان وعود المستأجر إلى يد الأجير يمنع استيفاء المنفعة بحكم الإجارة كما لو أعاره المستأجر من الأجير أو أجره منه فاستحقاق ذلك بسبب يقترن بالعقد يبطل الإجارة فأما إذا أجر أحدهما نصيبه من أجنبي فالمهايأة تكون بين المستأجر والشريك فلا يعود المستأجر إلى يد الأجير وإنما يعود إلى يد أجنبي وذلك جائز في الإجارة كما لو أعاره المستأجر أو أجره من أجنبي والأصح أنه لا فرق بينهما عنده والعقد فاسد لما بينا ولأن استيفاء المعقود عليه لا يتأدى إلا بالمهايأة والمهايأة عقد آخر ليس من حقوق عقد الإجارة فبدونه لا تثبت القدرة على قبض المعقود عليه وذلك مانع من جواز العقد فإن استوفى المنفعة مع الفساد استوجب أجر المثل لأنه استوفى المعقود عليه بحكم عقد فاسد وهذا لأن العجز عن التسليم يفسد العقد ولا يمنع انعقاده كما في بيع الآبق فإذا استوفى فقد تحقق الاستيفاء بعد انعقاد العقد وهذا بخلاف البيع لأن التسليم هناك بالتخلية يتم وذلك في الجزء الشائع يتم.(15/264)
فأما إذا أجره من شريكه فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز ذلك وجعله كالرهن في هذه الرواية لأن استيفاء المنفعة التي يتناولها العقد لا يتأتى إلا بغيرها وهو منفعة نصيبه وذلك مفسد لعقد الإجارة كمن استأجر أحد زوجي المقراض لمنفعة قرض الثياب لا يجوز لأن استيفاء المعقود عليه مما يتناوله العقد لا يمكن إلا بما لم يتناوله العقد وفي ظاهر الرواية يجوز لأن استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي استحقه بالعقد يتأتى هنا فإنه يسكن جميع الدار فيصير مستوفيا منفعة نصيبه بملكه ومنفعة المستأجر بحكم الإجارة بخلاف ما إذا(15/265)
ص -127- ... أجره من غير شريكه فهناك يتعذر الاستيفاء على الوجه الذي أوجبه العقد وهو نظير بيع الآبق ممن هو في يده يجوز بكون التسليم مقدورا عليه بيده ومن غير من في يده لا يجوز لعجزه عن التسليم وهذا بخلاف الرهن فبالشيوع هناك ينعدم المعقود عليه لأن المعقود عليه هو الحبس المستدام ولا تصور لذلك في الشائع وفي هذا الشريك والأجنبي سواء فأما هنا بالشيوع لا ينعدم المعقود عليه وهو المنفعة إنما ينعدم التسليم وذلك لا يوجد في حق الشريك وبه فارق الهبة أيضا فالشيوع فيما يحتمل القسمة يمنع تمام القبض الذي به يقع الملك والهبة من الشريك ومن غيره في ذلك سواء.
وأما إذا أجر من رجلين فتسليم المعقود عليه كما أوجبه العقد مقدور عليه للمؤاجر ثم المهايأة بعد ذلك تكون بين المستأجرين بحكم ملكيهما وهو نظير الراهن من رجلين فهو جائز لوجود المعقود عليه باعتبار ما أوجبه الراهن لهما فإن مات أحد المستأجرين حتى بطل العقد في نصيبه فقد ذكر الطحاوي عن خالد بن صبيح عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يفسد العقد في النصف الآخر لأن الإجارة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة فكان هذا في معنى شيوع تقترن بالعقد وفي ظاهر الرواية يبقى العقد في حق الآخر لأن تجدد الانعقاد في حق المعقود عليه فأما أصل العقد منعقد لازم في الحال وباعتبار هذا المعنى الشيوع طارئ والطارئ من الشيوع ليس نظير المقارن كما في الهبة إذا وهب له جميع الدار وسلمها ثم رجع في نصفها وهذا بخلاف الإعارة لأنه لا يتحقق بها استحقاق التسليم والمؤثر العجز عن التسليم فإنما يؤثر في العقد الذي يتعلق به استحقاق التسليم.(15/266)
رجل تكارى دارا من رجل على أن جعل أجرها أن يكسوه ثلاثة أثواب فهذا فاسد لأن المسمى مجهول الجنس والصفة والثياب بمطلق التسمية لا تصلح عوضا في البيع فلا تصلح أجرة وعليه أجر مثلها فيما سكن لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد ولو تكارى منزلا كل شهر بدرهم فخلى بينه وبين المنزل ولم يفتح له الباب فجاء رأس الشهر وطلب الأجر فقال المستأجر لم يفتحه ولم أنزله فإن كان يقدر على فتحه فالكراء واجب عليه لتمكنه من استيفاء المعقود فإنه في الامتناع بعد التمكن قاصد إلى الإضرار بالأخير فيرد عليه قصده وإن كان لا يقدر على فتحه فلا أجر له عليه لأنه ما تمكن من الاستيفاء وعلى المؤاجر أن يمكنه من استيفاء المعقود فلا يستوجب الأجر بدونه إذا لم يستوف.
ولو تكارى منزلا في دار وفي الدار سكان فخلى بينه وبين المنزل فلما جاء رأس الشهر طلب الأجر فقال ما سكنته حال بيني وبين المنزل فيه فلان الساكن والساكن مقر بذلك أو جاحد فإنه بحكم الحال فإن كان المستأجر فيه في الحال فالأجر عليه وإن كان الغاصب فيه فلا أجر عليه والقول فيه قوله لأن الاختلاف وقع بينهما فيما مضى والحال معلوم فيرد المجهول إلى المعلوم ويحكم فيه الحال كالمستأجر مع رب الرحا إذا اختلفا في انقطاع الماء في المدة بحكم الحال فيه وإن لم يكن في المنزل ساكن في الحال فالمستأجر ضامن(15/267)
ص -128- ... الأجر لأنه متمكن من استيفاء المنفعة في الحال فذلك دليل على أنه كان متمكنا فيما مضى فيلزمه الأجر والمانع لا يثبت بمجرد قوله من غير حجة ولو تكارى بيتا ولم يسم ما يعمل فيه فهو جائز لأن المعقود عليه معلوم بالعرف وهو السكنى في البيت وذلك لا يتفاوت فلا حاجة إلى تسميته وليس له أن يعمل فيه القصارة ونظائرها لأن ذلك يضر بالبناء وقد بينا أنه لا يستحقه بمطلق العقد فإن عملها فانهدم البيت فهو ضامن لما انهدم من عمله لأنه متلف متعدي ولا أجر عليه فيما ضمن لأن الأجر والضمان لا يجتمعان فإنه يتملك المضمون بالضمان مستندا إلى وقت وجوب الضمان فلا يجب عليه الأجر فيما استوفى من منفعة ملك نفسه وإن سلم فعليه الأجر استحسانا وفي القياس لا أجر عليه لأنه غاصب فيما صنع ولهذا كان ضامنا ولا أجر على الغاصب في المنفعة وجه الاستحسان أنه استوفى المعقود عليه وزيادة وإنما كان ضامنا باعتبار تلك الزيادة فإذا سلم سقط اعتبار تلك الزيادة حكما فيلزمه الأجر باستيفاء المعقود عليه وإذا انهدم فقد وجب اعتبار تلك الزيادة لإيجاب الضمان عليه فلهذا لا يلزمه الأجر.(15/268)
وإن قال المستأجر: استأجرته منك لأعمل فيه القصارة وقال رب البيت أكريتك لغير ذلك فالقول قول رب البيت لأنه هو الموجب ولو أنكر الإيجاب والإذن أصلا كان القول قوله إذا أقر بشيء دون شيء ولأن المستأجر يدعي زيادة فيما استحقه بالعقد فعليه أن يثبت ذلك بالبينة ورب الدار منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإن سكنه وأسكن فيه معه غيره فانهدم من سكنى غيره لم يضمن لأنه غير متعدي فيما صنع وكثرة الساكنين في الدار لا توهن البناء ولكنها تزيد في عمارة الدار وإذا طلب رب البيت أجر ما سكن فقال الساكن أسكنتنيه بغير أجر فالقول قوله والبينة بينة رب الدار لأنه يدعي الأجر في ذمة الساكن فعليه إثباته بالبينة والساكن منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وهذا بخلاف العين إذا قال بعته منك وقال الآخر وهبته لي وقد هلك في يده لأن العين متقوم في نفسه ولا تسقط قيمته إلا بالإيجاب بطريق التبرع ولم يوجد فأما المنفعة لا تتقوم إلا بشرط البدل ولم يثبت ذلك.
وإن قال الساكن: الدار لي أو قال هي دار فلان وكلني بالقيام عليها فالقول قول الساكن لأن اليد له والبينة بينة الطالب لأنه يثبت ملكه والساكن خصم له لظهورها في يده فلا تندفع الخصومة عنه بمجرد قوله هي دار فلان ولأن الطالب يدعي عليه فعلا وهو استيفاؤها منه بحكم الإجارة وإن قال الساكن وهبتها لي لم يصدق على الهبة لأنه أقر بالملك له وادعى تمليكها عليه ولا أجر عليه لأنه في حق الآخر منكر والبينة بينته إن أقامها لأنه يثبت سبب الملك لنفسه هنا وهو الهبة فإن أقر بأصل الكراء وادعى الهبة فدعواه باطل والكراء لازم لإقراره له بالسبب الموجب له إلا أن يقيم البينة على ما ادعى من الهبة.
رجل تكارى من رجلين منزلا بعشرة دراهم كل سنة فخرج الرجل منه وعمد أهله فاكروا من المنزل بيتا وأنزلوا إنسانا بغير أجر فانهدم المنزل الذي سكنوه فلا ضمان على(15/269)
ص -129- ... الآخر لأن أكثر ما فيه أنه غاصب والعقار لا يضمن بالغصب ولا ضمان على المستأجر الثاني إلا أن ينهدم من عمله فحينئذ يكون متلفا وإذا انهدم من عمله وضمنه رجع به على الذي أجره لأنه صار مغرورا من جهته بعقد ضمان باشره رجل تكارى منزلا كل شهر بدرهم ثم طلق امرأته وذهب من المصر فلا كراء على المرأة لأنها لم تستأجر ولم تلتزم شيئا من الأجر والكراء على الزوج لتمكنه من الاستيفاء بمن أقامه مقام نفسه في السكنى في المنزل ولا تخرج من المنزل حتى يهل الهلال لأن العقد في الشهر الواحد لزم بهذا اللفظ فلا ينفرد أحدهما بالفسخ فإن تكارى على أن ينزله وحده لا ينزله غيره وتزوج امرأة أو امرأتين فله أن ينزلها معه وليس الشرط بشيء لأنه غير مفيد فكل ما كان السكان في الدار أكثر كان ذلك أعمر لها وإن حفر المستأجر في الدار بئرا للماء أو الوضوء فعطب فيها إنسان أو دابة فإن حفر بإذن رب الدار فلا ضمان عليه وإن حفر بغير إذنه فهو ضامن لأن المسبب إنما يضمن إذا كان متعديا في السبب وهو في الحفر بغير إذنه متعدي فأما في الحفر بإذنه لا يكون متعديا ولكن يجعل فعله كفعل رب الدار.(15/270)
وإن تكارى دارا كل شهر بعشرة على أن يعمرها ويعطي أجر حارسها ونوابها فهذا فاسد لأن ما يعمر به الدار على رب الدار والثانية كذلك عليه فهي الجباية بمنزلة الخراج فهي مجهولة فقد شرط لنفسه شيئا مجهولا مع العشرة وضم المجهول إلى المعلوم يجعل الكل مجهولا فأما أجر الحارس فهو على الساكن لأنه هو المنتفع بعمله وإذا سكن الدار فعليه أجر مثلها بالغا ما بلغ لأنه استوفى المنفعة بعقد فاسد ورب الدار ما رضي بالمسمى حين ضم إليه شيئا آخر لنفسه فلهذا لزمه أجر المثل بالغا ما بلغ والإشهاد على المرتهن والمستأجر والمستعير في الحائط الوهي باطل لأن الإشهاد إنما يصح على من يتمكن من هدم الحائط فإنه يطالبه بتفريغ ما اشتغل من الهواء بالحائط المائل وهؤلاء لا يتمكنون من التفريغ بالهدم فلا تتوجه عليهم المطالبة.
رجل تكارى منزلا في دار وفي الدار سكان غيره فأدخل دابة في الدار وأوقفها على بابه فضربت إنسانا فمات أو هدمت حائطا أو دخل ضيف له على دابة فوطئ إنسانا من السكان فلا ضمان على الساكن ولا على الضيف لأنه غير متعدي في إدخال الدابة وإيقافها في الدار فإن للساكن أن يربط دابته فيها إلا أن يكون هو على الدابة حين أوطأت إنسانا فحينئذ يضمن لأنه مباشر للإتلاف وإن تكاراها سنة وقبضها لم يكن لرب الدار أن يربط فيها دابته من غير رضى الساكن لأن الساكن فيما يرجع إلى الانتفاع كالمالك والمالك كالأجنبي فإن فعل فهو ضامن لما أصابت لكونه متعديا في التسبب ولو تكارى دارا يسكنها شهرا بخدمة عبد شهرا فإن كان العبد بغير عينه فالإجارة فاسدة لجهالة أحد العوضين وإن كان بعينه فالإجارة جائزة لاختلاف جنس المنفعة فإن مات العبد قبل أن يخدم وسكن الدار فعليه أجر مثل الدار لأن بموت العبد فات المعقود عليه من الخدمة قبل الاستيفاء فيفسد العقد في حق السكنى وبقيت السكنى مستوفاة بعقد فاسد وكان على المستوفي أجر المثل.(15/271)
ص -130- ... رجل تكارى دارا سنة بمائة درهم على أن لا يسكنها ولا ينزل فيها فالإجارة فاسدة لأنه نفى موجب العقد بالشرط ومثل هذا الشرط لا يلائم العقد فإن سكنها فعليه أجر مثلها ولا ينقص مما سمى لأن المستأجر التزم المسمى بدون أن يسكنها فالتزامه لها فإذا سكن أظهر ورب الدار إنما رضي بالمسمى إذا لم يسكنها فعند السكنى لا يكون راضيا بها فلهذا أعطاه أجر مثلها بالغا ما بلغ فإن تكاراها على أن يسكنها فلم يسكنها ولكنه جعل فيها حيوانا وقال رب الدار ردها علي قال هذا يخربها فليس له ذلك حتى تنقضي المدة لأن ما فعل من السكنى ألا ترى أنه لو سكنها كان له أن يجعل فيها من الحبوب مع نفسه ما يحتاج إليه فهذا مما صار مستحقا بعقد الإجارة فلا يمنعه رب الدار منه ولا يفسخ العقد لأجله وإذا أنزل المستأجر زوج ابنته معه في الدار فلما انقضت المدة طالبه بالأجر فليس له ولا لرب الدار أن يأخذ الزوج بشيء من ذلك لأن العقد لم يجر بينه وبين رب الدار والمستأجر أسكنه من غير أن يشرط عليه أجرا ولو أسكنه ملكه لم يطالبه بالأجر فكذلك إذا أسكنه دارا يكتريها فإن تكارى منزلا في دار فيها سكان فأمره صاحب المنزل أن يكنس البئر التي في الدار ففعل وطرح ترابها في الدار فعطب بذلك إنسان فلا ضمان عليه لأن فعله بأمر رب الدار كفعل رب الدار بنفسه وكذلك إن فعله بغير أمر رب الدار لأن هذا من توابع السكنى فإن الساكن مرتفق بالبئر ولا يتأتى له ذلك إلا بالكنس فلم يكن متعديا فيما صنع فلهذا لا يضمن إلا أن يخرج التراب إلى الطريق فحينئذ هو متعد في إلقاء التراب في الطريق فكان ضامنا.(15/272)
رجل تكارى دارا سنة على أنه فيها بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز عندنا وفي أحد قول الشافعي رحمه الله لا يجوز بناء على الأصل الذي بينا أن جواز الإجارة بطريق أن المنافع جعلت كالأعيان القائمة وإنما يكون ذلك إذا اتصل ابتداء المدة بالعقد وباشتراط الخيار ينعدم ذلك لأن ابتداء المدة من حين سقط الخيار وإن جعل ابتداء المدة من وقت العقد فشرط الخيار فيه غير ممكن أيضا لأن الخيار مشروط للفسخ فلا بد من أن يتلف شيء من المعقود عليه في مدة الخيار وذلك مانع من الفسخ ثم شرط الخيار في البيع ثابت بالنص بخلاف القياس والإجارة ليست في معناه فلا يجوز شرط الخيار فيها ولهذا لم يجز شرط الخيار في النكاح فكذلك في الإجارة والجامع بينهما أنه عقد معاوضة يقصد به استيفاء المنفعة وحجتنا في ذلك أن هذا عقد معاوضة مال بمال فيجوز شرط الخيار فيه كالبيع وتأثيره أنه لما كان المقصود المال وقد يقع نفيه قبل أن يروي المرء النظر فيه فهو محتاج إلى شرط الخيار فيه ليدفع الغبن عن نفسه والإجارة في هذا كالبيع ألا ترى أنه في الرد بالعيب يجعل كالبيع فكذلك في الرد بخيار الشرط وأنه يحتمل الفسخ بالإقالة كالبيع ويعتمد لزومه تمام الرضا بخلاف النكاح ثم إن كان ابتداء المدة من وقت العقد فالمنفعة لا تدخل في ضمان المستأجر إلا بالاستيفاء وما يتلف قبل ذلك يتلف على ضمانه فلا يمنعه من الفسخ وإن اشتغل بالاستيفاء سقط خياره عندنا والحقيقة أن ابتداء المدة من حين يتم رضاه بالعقد وذلك عند(15/273)
ص -131- ... اشتغاله باستيفاء المنفعة أو عند مضي مدة الخيار فإن سكنها في المدة فقد تم رضاه باشتغاله بالتصرف فيسقط خياره والله أعلم وإن كان شرط لنفسه الخيار ثلاثة أيام فإن رضيها أخذها بمائة درهم وإن لم يرضها أخذها بخمسين فالإجارة فاسدة لجهالة الأجرة وإن سكنها فعليه أجر مثلها ولا ضمان عليه فيما انهدم منها اعتبارا للعقد ألفاسد بالجائز.
وإذا أجر الوصي دار اليتيم مدة طويلة جازت الإجارة لأنه قائم مقامه لو كان بالغا في كل عقد نظرا له إلا أن ينتقص من أجر مثلها مالا يتغابن الناس فيه فلا يجوز اعتبارا للإجارة بالبيع وهذا لأنه مأمور بقربان ماله بالأحسن وبما يكون أصلح له قال الله تعالى: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}[البقرة: 220] ويجوز لوكيل الكبير أن يؤاجرها بما قل وكثر في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إلا بما يتغابن الناس في مثله وهو نظير البيع في ذلك.(15/274)
رجل تزوج امرأة وهي في منزل بكراء فمكث معها سنة فيه ثم طلب صاحب المنزل الكراء وقد أخبرت المرأة الزوج أن المنزل معها بكراء أو لم تخبره فالأجرة على المرأة دون الرجل لأنها هي التي باشرت سبب وجوب الأجر وهو العقد فإن كان قال لها لك علي مع نفقتك أجر المنزل كذا وكذا وضمنه لرب المنزل فهو عليه لأنه ضمن دينا واجبا لرب المنزل وإن أشهد لها به ولم يضمنه لرب المنزل ثم لم يعطها فله ذلك لأن الأجر عليها لا لها فلا يكون هو ضامنا لها ذلك بل هذا بمنزلة الهبة منه فإن شاء أعطى وإن شاء لم يعط وإذا تكارى دارا لم يرها فله الخيار إذا رآها لأن الإجارة كالبيع يعتمد تمام الرضا فكما لا يتم الرضا في البيع قبل الرؤية فكذلك في الإجارة ورؤية المعقود عليه وهو المنفعة لا تتأتى ولكن يصير ذلك معلوما برؤية الدار فإن منفعة السكنى تختلف باختلاف الدار في الضيق والسعة ولهذا لو كان رآها قبل ذلك فلا خيار له فيها إلا أن يكون انهدم منها شيء يضر بالسكنى فحينئذ يتخير للتغير.(15/275)
وإذا استأجر دارا سنة كل شهر بمائة درهم لم يكن لواحد منهما أن يفسخ الإجارة قبل كمال السنة لأن الصفقة واحدة باتحاد العاقدين فبالتفصيل في ذكر البدل لا تتفرق الصفقة ولكن هذا التفصيل وجوده كعدمه فيكون العقد لازما في جميع السنة لا يفسخه أحدهما إلا بعذر وإن قال المستأجر استأجرتها شهرا فالقول قوله لأنه ينكر الإجارة فيما زاد على الشهر ولو أنكر أصل العقد كان القول قوله مع يمينه فكذلك إذا أنكر الزيادة والبينة بينة المؤاجر لأنها تثبت الزيادة وإن استأجرها شهرا بدرهم فسكنها شهرين فعليه كراء الشهر الأول ولا كراء عليه في الشهر الثاني لأنه غاصب في السكنى والمنافع لا تتقوم إلا بالعقد وعند بن أبي ليلى رحمه الله عليه أجر مثلها في الشهر الثاني وقد بينا نظيره في العارية فإن انهدمت من سكناه فقال إنما انهدمت في الشهر الأول فالقول قوله لإنكاره وجوب الضمان والبينة بينة رب الدار لأنه يثبت السبب الموجب للضمان عليه وكذلك إن زاد على الشهر يوما أو يومين لأنه غاصب فيما زاد فيستوي فيه قليل المدة وكثيرها.(15/276)
ص -132- ... وإذا أجر البيت من رجل وسلم إليه المفتاح فلما انقضت المدة قال المستأجر لم أقدر على فتحه ولم أسكنه فالقول قول صاحب البيت والبينة بينته أيضا أما جعل القول قوله لشهادة الظاهر له فالمفتاح ما اتخذ إلا لفتح الباب والظاهر أنه من وصل إليه المفتاح يتمكن من فتح الباب إما بنفسه أو بمن يعينه وأما ترجيح بينته فلانه يثبت الأجر في ذمة المستأجر بإثباته السبب الموجب وهو التمكن من استيفاء المنفعة بعد العقد والمستأجر ينفي ذلك وإذا تكارى دارا شهرا فأقام معه صاحب الدار فيها إلى آخر الشهر فقال المستأجر لا أعطيك الأجر لأنك لم تحل بيني وبين الدار قال عليه من الأجر بحساب ما كان في يده لأنه استوفى بعض المعقود عليه وهو منفعة المنزل الذي في يده فليلزمه الأجر بقدره اعتبارا للجزء بالكل.
رجلان استأجرا حانوتا يعملان فيه بأنفسهما فعمد أحدهما فاستأجر أجيرا فأقعده في الحانوت وأبى الآخر أن يدعه قال له أن يقعد في نصيبه من شاء ما لم يدخل على شريكه في نصفه ضررا بينا لأن لكل واحد منهما ملك منفعة النصف فله أن يتصرف فيما يملكه كيف شاء إلا أنه إذا أدخل ضررا على شريكه فحينئذ يمنع من ذلك لأن تصرفه متعد إلى نصيب شريكه وفيه ضرر عليه وكذلك إن كان أحدهما أكثر متاعا من الآخر وإن أراد أحدهما أن يبني وسط الحانوت حائطا لم يكن له ذلك لأن البناء تصرف في العين فإن ما يملك مالك الرقبة وهما يملكان المنفعة دون الرقبة فإن تكارى بيتا ودكانا على بابه كل شهر بدرهم والدكان في طريق المسلمين فحيل بينه وبين أن يترفق بالدكان فالكراء جائز في الدار ويرفع عنه بحساب الدكان لأنه أضاف العقد فيهما إلى محله وهو عين منتفع به ألا ترى أنه لو لم يتعرض له إنسان حتى استوفى منفعتهما سنة كان عليه الأجر كاملا فأحيل بينه وبين الترفق بالدكان يرفع عنه بحسابه من الأجر كما كانا بيتين فغصب أحدهما غاصب.(15/277)
رجلان استأجرا منزلا واشترطا فيما بينهما أن ينزل أحدهما في أقصاه والآخر في مقدمه ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة فالإجارة جائرة ولصاحب الأقصى أن ينزل في مقدمه مع صاحبه لأن المواضعة التي بينهما بعد ما ملك المنفعة بالإجارة بمنزلة المهايأة والمهايأة لا تكون واجبة فلا يكون أحدهما أحق بالانتفاع بالمقدم من الآخر وإذا تكارى دارا لينزلها بنفسه وأهله فلم ينزلها ولكن أنزل فيها دواب وبقرا فانهدمت من عملهم فلا ضمان عليه لأن هذا ليس بخلاف منه فإن ما فعل من توابع السكنى وعليه الأجر وقيل هذا إذا كان منزلا تدخل الدواب مثل ذلك المنزل عادة فإن كان بخلاف ذلك فهو غاصب ضامن لما ينهدم بعمله وإذا مات أحد المكاريين انتقضت الإجارة عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا تنتقض بموتهما ولا بموت أحدهما إلا في خصلة واحدة وهي إذا شرط على الخياط أنه يخيط بنفسه فمات الخياط وعلى بناء أصله أن المنافع جعلت كالأعيان القائمة ثم العقد على العين لا يبطل بموت أحد المتعاقدين فكذلك العقد على(15/278)
ص -133- ... المنفعة وهذا لأنه لما جعل كالعين فقد تم الاستحقاق في الكل فبموت الأجير لا يتغير ذلك لأن وارثه يخلفه فيما كان مستحقا له وقاس بالأرض المستأجرة إذا زرعها المستأجر ثم مات فإن الإجارة لا تنتقض بالاتفاق بل يخلفه وارثه في تربية الزرع فيها إلى وقت الإدراك ولأن هذا عقد معاوضة يقصد به استيفاء المنفعة فلا يبطل بموت العاقد إلا أن يتضمن هذا المعقود عليه كالنكاح فإن زوج أمته ثم مات المولى لا يبطل العقد وبموت أحد الزوجين يرتفع العقد لتضمنه فوات المعقود عليه ولهذا تبطل الإجارة بموت الخياط إذا شرط عليه العمل بيده لفوات المعقود عليه وتبطل الكتابة بموت المكاتب عنده لفوات المعقود عليه ولا تبطل بموت المولى بالاتفاق ولنا طريقان:
أحدهما: في موت الأجير فنقول المستحق بالعقد المنافع التي تحدث على ملك الأجير وقد فات ذلك بموته فتبطل الإجارة لفوات المعقود عليه وبيان ذلك أن رقبة الدار تنتقل إلى الوارث والمنفعة تحدث على ملك صاحب الرقبة ألا ترى أنه لو باع الدار برضاء المستأجر بطلت الإجارة لانتقال الملك فيها إلى غيره توضيحه أنه فيما يحدث فيها من المنفعة بعد الموت هو مضيف للعقد إلى ملك الغير وليس له ولاية إلزام العقد في ملك الغير وهذا لأن الإجارة تتجدد في ملك المعقود عليه بحسب ما يحدث من المنفعة فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن تعمل الإجارة فيها من المورث قلنا إنما لا تعمل إجارته لأنه لم يتوقف على حقه عند العقد فما كان يعلم عند ذلك أن العقد مضاف إلى محل حقه وهذا بخلاف النكاح لأن ملك النكاح في حكم ملك العين فلا يثبت للوارث بملك رقبة الأمة حق فيما هو حق الزوج كما لو باعها المولى لا يبطل النكاح.(15/279)
والطريق الآخر في موت المستأجر وهو أنه لو بقي العقد بعد موته إنما يبقى على أن يخلفه الوارث والمنفعة المجردة لا تورث ألا ترى أن المستعير إذا مات لا يخلفه وارثه في المنفعة وقد بينا أن المستعير مالك للمنفعة وفي حكم التوريث لا فرق بين الملك ببدل وبغير بدل كالعين ولهذا لو مات الموصى له بالخدمة تبطل الوصية لأن المنفعة لا تورث والدليل عليه لو أوصى برقبة عبده لإنسان وبخدمته لآخر فرد الموصى له بالخدمة الوصية كانت الخدمة لصاحب الرقبة دون ورثة الموصي لأن المنفعة المجردة لا تورث وهذا لأن الوارثة خلافة فلا يتصور ذلك إلا فيما يبقى ليكون ملك المورث في الوقت الأول ويخلفه الوارث فيه في الوقت الثاني والمنفعة الموجودة في حياة المستأجر لا تبقى والتي لا تحدث لا تبقى لتورث والتي تحدث بعد موته لم تكن مملوكة له ليخلفه الوارث فيها فالملك لا يسبق الوجود وإذا ثبت انتفاء الإرث تعين بطلان العقد فيه كعقد النكاح يرتفع بموت الزوج لأن وارثه لا يخلفه فيه وفصل الأرض المزروعة والسفينة إذا كانت في لجة البحر فمات صاحب السفينة في القياس تبطل الإجارة فيهما ولكن في الاستحسان لا تبطل للحاجة إلى دفع الضرر فإن مثل هذه الحاجة لا تعتبر لإثبات عقد الإجارة ابتداء حتى لو مضت والزرع بقل(15/280)
ص -134- ... بعقد بينهما عقدت الإجارة إلى وقت الإدراك لدفع الضرر فلأن يجوز إبقاء العقد لدفع هذا الضرر أولى والمستحسن من القياس لا يورد نقضا على القياس.
إذا عرفنا هذا فنقول: رجلان أجرا دارا ثم مات أحدهما فالعقد ينتقض في حصته فإن رضي الوارث وهو كبير أن تكون حصته على الإجارة ورضي به المستأجر فهو جائز لأن هذا عقد بينهما في حصته بالتراضي وذلك جائز وإن كان مشاعا لأنه يؤاجر من شريكه ففي نصيب الحي منهما العقد باق لما بينا أن الشيوع الطارئ لا يرفع الإجارة إلا زفر رحمه الله فإنه سوى بين الشيوع الطارئ والمقارن فقال بموت أحدهما تبطل الإجارة فيهما وكذلك لو مات أحد المستأجرين فبطلان العقد في نصيب الآخر بيننا وبين زفر رحمه الله على الخلاف وقد بينا رواية فيه عن أبي حنيفة رحمه الله كقول زفر رحمه الله فإن تكارى دارا سنة على أن يعجل له الأجر فسكن الدار شهرا فقال رب المنزل عجل لي الأجر كما شرطت عليك فأبى أن يعطيه فأراد أن يخرجه قبل السنة قال يأخذه بالأجر حتى يعجله وليس له أن يخرجه حتى تمضي السنة لأن العقد لازم كالبيع والمشترى إذا امتنع من إيفاء الثمن فالبائع يطالبه به ولا يتمكن من فسخ البيع لأجله فكذلك في الإجارة بعد شرط التعجيل يطالبه بالأجرة ولا يتمكن من فسخ الإجارة لأجله.(15/281)
وإذا بنى المستأجر في الدار تنورا يخبز فيه بإذن رب الدار أو بغير إذنه فاحترق بيت بعض الجيران من تنوره أو بعض بيوت الدار فلا ضمان عليه لأنه غير متعدي في هذا التسبب فإن اتخاذ التنور من توابع السكنى وللساكن أن يضعه في موضعه بغير إذن رب الدار ففعله في ذلك كفعل رب الدار فإن تكارى منزلا شهرا بدرهم فسكنه أياما ثم خرج وتركه ولم يخبر رب المنزل حتى مضى الشهر فإن خرج من غير عذر فعليه أجر بحساب ما سكن وإن خرج من غير عذر فعليه أجر الشهر كله لأن بخروجه بغير عذر لا تنفسخ الإجارة فبقي تمكنه من استيفاء المنفعة مع قيام العقد وإن خرج بعذر فقد انفسخت الإجارة فلا أجر عليه إلا لما مضى وهذا على رواية هذا الكتاب أن عند العذر ينفرد أحدهما بالفسخ من غير قضاء القاضي لأن هذا في المعنى امتناع من الالتزام على ما بينا أن عقد الإجارة في حكم المتجدد في كل ساعة فأما على رواية الزيادات لا ينفسخ إلا بقضاء القاضي بمنزلة الرد بالعيب بعد القبض فعلى تلك الرواية عليه الأجر إذا خرج ما لم يقض القاضي بالفسخ إلا أن يساعده رب الدار على ذلك بأن يسكن الدار بنفسه.
رجل وكل رجلا أن يؤاجر منزله فأجره من بن الموكل أو أبيه أو عبده أو مكاتبه فلما مضت الإجارة وطالبهم الوكيل بالأجر أبوا أن يعطوه فالأجر واجب عليهم إلا عند الموكل فإنه لا أجر عليه لأن عقد الوكيل مع هؤلاء كعقد الموكل بنفسه وهو يستوجب الأجر لو عقد معهم بنفسه إلا في عبده خاصة فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا فكذلك إذا عقد وكيله وإن كان المولى هو المستأجر ورب الدار عبده فلا أجر عليه أيضا إذا لم يكن على(15/282)
ص -135- ... العبد دين لأن كسبه لمولاه وإن كان عليه دين فعلى المولى الأجر لأن كسبه الآن لغرمائه وحقهم فيه مقدم على حق المولى فالمولى فيه كأجنبي آخر ما لم يسقط الدين وإن كان المستأجر بن الوكيل أو أباه ففي قول أبي حنيفة رحمه الله لا تجوز الإجارة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الإجارة جائزة والوكيل يطالب بالأجر وهذا نظير الوكيل بالبيع يبيع ممن لا تجوز شهادته له وقد بيناه في البيوع وإن أجره الوكيل من أجنبي إجارة فاسدة فلا ضمان عليه لأن الوكيل يضمن بالخلاف لا بفساد العقد فليس كل واحد كأبي حنيفة رحمه الله يعرف الأسباب المفسدة للعقد وعلى المستأجر أجر مثل الدار لأن الوكيل فيما باشره قائم مقام الموكل فكأن الموكل باشر العقد الفاسد بنفسه والوكيل هو الذي يستوفي لأنه وجب بعقده.
رجل دفع داره إلى رجل يسكنها ويرمها ولا أجر لها فأجرها من رجل فانهدمت الدار من سكنى الآجر قال يضمن رب الدار المستأجر ويرجع المستأجر بذلك على الذي آجره لأن رب الدار أعارها من المدفوع إليه وليس للمستعير أن يؤاجر فكان المستأجر غاصبا لها ضامنا لما انهدمت من سكناه ويرجع به على الذي آجره لأنه مغرور من جهته بمباشرة عقد الضمان ولا يكون لرب الدار أن يضمن المؤاجر إلا في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمهما الله بناء على غصب العقار.
رجل وكل رجلا بأن يؤاجر منزلا له فوهبه الوكيل لرجل أو أعاره إياه فسكنه سنين ثم جاء صاحبه فلا أجر له على الوكيل ولا على الساكن لأن كل واحد منهما غاصب فالوكيل في الهبة والإعارة مخالف ولكن المنفعة لا تتقوم على الغاصب من غير عقد.(15/283)
رجل استأجر منزلا والمنزل مقفل فقال له رب المنزل خذ المفتاح وافتحه واسكنه ففتح الرجل المنزل وأعطى أجر الحداد لفتح القفل نصف درهم فليس له أن يرجع بما أعطى الحداد على رب المنزل لأنه هو الذي التزمه بعقد الإجارة ولم يكن فيه مأمورا من جهة رب المنزل وإن انكسر القفل من معالجة الحداد فالحداد ضامن لقيمته لأنه بمنزلة الأجير المشترك فيكون ضامنا لما جنت يده ولا يضمن المستأجر القفل إذا عالجه بما يعالج مثله لأن صاحب القفل قد أذن له في فتحه وليس له عوض بمقابلة عمله في فتح القفل وكذلك إن عالجه الحداد علاجا خفيفا فانكسر يريد به إذا كان يعلم أن الانكسار لم يكن بفعله وهذا لأن الأجير المشترك لا يضمن بما يتلف لا بعمله والله أعلم.
باب إجارة الحمامات
قال رحمه الله: ذكر عن عمارة بن عقبة قال قدمت إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وسألني عن ما لي فأخبرته أن لي غلمانا حجامين لهم غلة وحماما له غله فكره لي غلة الحجامين وغلة الحمام وقد تقدم الكلام في كسب الحجام فأما غلة الحمام فقد كرهه بعض العلماء رحمهم الله أخذا بظاهر الحديث قالوا الحمام بيت الشيطان فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم(15/284)
ص -136- ... شر بيت تكشف فيه العورات وتصب فيه الغسالات والنجاسات ومنهم من فصل بين حمام الرجال وحمام النساء فقالوا يكره اتخاذ حمام النساء لأنهن منعن من الخروج وأمرن بالقرار في البيوت واجتماعهم قل ما يخلو عن فتنة وقد روي أن نساء دخلن على عائشة رضي الله عنها فقالت أنتن من اللاتي يدخلن الحمام وأمرت بإخراجهن والصحيح عندنا أنه لا بأس باتخاذ الحمام للرجال والنساء جميعا للحاجة إلى ذلك خصوصا في ديارنا والحاجة في حق النساء أظهر لأن المرأة تحتاج إلى الاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة ولا تتمكن من ذلك إلا في الأنهار والحياض كما يتمكن منه الرجل ولأن المطلوب به معنى الزينة بإزالة الدرن وحاجة النساء فيما يرجع إلى الزينة أكثر وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة وتأويل ما روي من كراهة الدخول إذا كان مكشوف العورة فأما بعد الستر فلا بأس بدخول الحمام ولا كراهة في غلة الحمام كما لا كراهة في غلة الدور والحوانيت.(15/285)
وإذا استأجر الرجل حماما مدة معلومة بأجر معلوم فهو جائز لأنه عين منتفع به على وجه مباح شرعا فإن كان حماما للرجال وحماما للنساء وقد جددهما جميعا فسمى في كتاب الإجارة حماما فهو فاسد في القياس لأنه إنما استأجر حماما واحدا فإن النكرة في موضع الإثبات تخص ولا يدري أيهما استأجروهما يتفاوتان في المقصود فتتمكن المنازعة بسبب هذه الجهالة ولكني أدعي القياس وأجيز له الحمامين جميعا لعرف اللسان فإنه يقال حمام فلان وهما حمامان والمعروف بالعرف كالمشروط بالنص وعمارة الحمام في صاروجه وحوضه ومسيل مائه وإصلاح قدره على رب الحمام لأن المنفعة المقصودة بالحمام لا تتم إلا بهذه الأشياء وعلى المؤاجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده ولأن المرجع في هذا إلى العرف وفي العرف صاحب الحمام هو الذي يحصل هذه الأعمال فإن اشترط المرمة على المستأجر فسدت الإجارة لأن المرمة على الآجر فهذا شرط مخالف لمقتضى العقد ثم المشروط على المستأجر من ذلك أجره وهو مجهول المقدار والجنس والصفة وجهالة الأجرة تفسد الإجارة.(15/286)
ولو اشترط عليه رب الحمام عشرة دراهم في كل شهر لمرمته مع الأجرة وأذن له أن ينفقها عليه فهو جائز لأنه معلوم المقدار وقد جعله نائبا عن نفسه في إنفاقه على ملكه فبهذا يستدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على أبي حنيفة رحمه الله في مسألة كتاب البيوع إذا قال لمدينه أسلم ما لي عليك فإن هناك لم يبين له من يشتري منه ما يرم به الحمام ومن يستأجره لذلك ومع هذا جوز التوكيل وكذلك ذكر بعد هذا في إجارة الدواب لو أمره بإنفاق بعض الأجرة على الدابة على علفها جاز ذلك وهما سواء حتى زعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن الجواب قولهما وفي القياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز ذلك والأصح أنه قول الكل وإنما استحسن هنا أبو حنيفة رحمه الله للتيسير فالمستأجر للحمام يلحقه الحرج باستطلاع رأي صاحب الحمام عند كل مرة والمستأجر للدابة كذلك ثم قد عين له المحل(15/287)
ص -137- ... الذي أمره بصرف الدين إليه فنزل ذلك منزلة تعيين من يعامله كما لو أمر المدين بأن ينفق على عياله من الدين الذي له عليه بخلاف مسألة السلم فإن قال المستأجر قد أنفقتها عليه لم يصدق إلا ببينته لأن الأجر دين في ذمته والمدين إذا ادعى قضاء الدين لا يقبل ذلك منه إلا بحجة ويستحلف رب الحمام على عمله لأنه لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم وكذلك لو اشترط عليه أنه أمين في هذه النفقة وأن القول قوله فيها لم يكن القول قوله لأن المدين ضامن ما في ذمته واشتراط كون الضامن أمينا مخالف لحكم الشرع فكان باطلا.(15/288)
ولو جعلا بينهما رجلا يقبضها ونفقتها على الحمام فقال المستأجر دفعتها إليه وكذبه رب الحمام فإن أقر العدل بقبضها بريء المستأجر لأنه وكيل رب الحمام في القبض فيصح منه الإقرار بالقبض ويجعل كإقرار الموكل بذلك فإن رب الحمام حين سلطه على القبض فقد سلطه على الإخبار به ثم العدل أمين فيما يصل إليه فيكون القول قوله فيما يدعي من ضياع أو نفقة مع يمينه كالمودع وإن كان العدل كفيلا بالأجر كان مثل المستأجر غير مؤتمن ولا يصدق لأن الكفيل ضامن لما التزمه في ذمته كالأصيل وليس لرب الحمام أن يمنعه بئر الماء ومسيل ماء الحمام أو موضع سرقينه وإن لم يشترط لأن هذا من مرافقه ومجامعه ولا يتم الانتفاع إلا به فكان بيعا والبيع يصير مذكورا بذكر الأصل فهو بمنزلة مدخل الحمام وفنائه يدخل في العقد من غير شرط ولو اختلفا في قدر الحمام فهي لرب الحمام لأنها مركبة في بنائه ولأن الظاهر فيها يشهد لرب الحمام فإن اتخاذ القدر واصلاحه عليه ولو أراد رب الحمام أن يقعد مع المستأجر أمينا يقبض عليه يوما بيوم لم يكن له ذلك لأن المستأجر صار أحق بالانتفاع بتلك النفقة فليس لأحد أن يقعد معه في ذلك الموضع بغير إذنه لأنه ليس لرب الحمام من غلة الحمام شيء إنما له أجر مسمى في ذمة المستأجر فأما في الغلة فهو وأجنبي آخر سواء.(15/289)
ولو انقضت مدة الإجارة وفي الحمام سرقين كثيرا وادعاه كل واحد منهما فهو للمستأجر لأنه منقول كسائر الأمتعة ولأن الظاهر فيه يشهد للمستأجر لأن ذلك عليه دون رب الحمام ويؤمر بنقله لأن موضعه مملوك لرب الحمام ولم يبق للمستأجر فيه حق فعليه أن يفرغ ملك الغير عن متاعه وكذلك في الرماد إذا كان منتفعا به فقال كل واحد منهما هو لي وأنا أنتفع به فالقول قول المستأجر فإن أنكر المستأجر أن يكون الرماد من عمله فالقول قوله لأن رب الحمام يدعي لنفسه قبله حقا وهو نقل ذلك الرماد ويفرغ ذلك الموضع منه فعليه أن يبينه بالبينة والقول قول المستأجر مع يمينه ولو اشترط عليه في الإجارة نقل الرماد والسرقين والغسالة لم يفسد ذلك الإجارة لأن ذلك مستحق عليه بمطلق العقد سواء كان مسيل الماء ظاهرا أو مسقفا بخلاف البالوعة والكرياس وقد بينا الفرق وإذا كان عليه بدون الشرط فلا يزيد بالشرط إلا وكادة وإن اشترط شيئا من ذلك على رب الحمام في الإجارة,(15/290)
ص -138- ... فسدت الإجارة لأنه شرط مفيد لأحد المتعاقدين ولا ينقضه العقد وذلك مفسد للبيع فكذلك الإجارة ولو قال رب الحمام للمستأجر قد تركت لك أجر شهرين لمرمة الحمام فهذا لا يفسد الإجارة لأنه وكله بأن ينفق ذلك القدر من دينه على حمامه فإن قال قد أنفقتها لم يصدق إلا ببينة وهو نظير ما بينا من العشرة في كل شهر.
وإذا استأجر حمامين شهورا مسماة كل شهر بكذا فانهدم أحدهما قبل قبضهما فله أن يترك الباقي وإن انهدم بعد قبضهما فالباقي له لازم بحصته من الأجر لأن تمام الصفقة بقبض الحمام على ما بينا أن العين المنتفع بها تقام مقام المنفعة في إضافة العقد إليه فكذلك في إتمام الصفقة في قبضه وتفريق الصفقة قبل التمام يثبت الخيار للعاقد وبعد التمام لا يثبت كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض أو استحق كان له الخيار في الباقي بخلاف ما بعد القبض ولو استأجر بيتين فانهدم أحدهما بعد القبض فلا خيار له في الباقي بخلاف ما قبل القبض ولو شرط عليه رب الحمام كل شهر عشرة طلاآت فالإجارة فاسدة لأن النورة التي اشترط مجهولة لا يعرف مقدارها ولا مقدار ثمنها في كل وقت وضم المجهول إلى المعلوم يوجب جهالة الكل ولو استأجر حماما وعبدا وقبضهما فمات العبد لزمه الحمام بحصته لأن المقصود هو الانتفاع بالحمام وبموت العبد لا يتمكن فيه نقصان وقد بينا أن تفرق الصفقة بعد التمام لا يثبت للعاقد حق الفسخ وإن انهدم الحمام وإنما استأجر العبد ليقوم على الحمام في عمله فله أن يترك العبد إن شاء لأن استئجار العبد لم يكن مقصودا لعينه وإنما كان لعمل الحمام وقد تعذر بانهدام الحمام فيكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة في العبد كما استأجر الرحا مع الثور ليطحن به فانهدم الرحا فإنه يكون له الخيار في الثور لما قلنا بخلاف ما إذا استأجر حمامين فانهدم أحدهما بعد القبض لأن الانتفاع بكل واحد منهما مقصودا ومنفعة أحدهما بعد القبض لأن الانتفاع بكل واحد منهما إذ(15/291)
منفعة أحدهما غير متصلة بمنفعة الآخر وإذا استأجر حماما واحدا فانهدم منه بيت قبل القبض أو بعده فله أن يتركه لأن منفعة بعض بيوت الحمام متصل بالبعض وبعد ما انهدم بعض البيوت لا يتمكن من الانتفاع بالباقي من الوجه الذي كان متمكنا من قبل.
ولو أن رجلا دخل الحمام بأجر وأعطى ثيابه لصاحب الحمام يحفظها له فضاعت لم يكن عليه ضمانها هكذا روي عن شريح رحمه الله وهذا لأن صاحب الحمام في الثياب أمين كالمودع فإن ما يأخذه ليس بأجر على حفظ الثياب ولكنه غلة الحمام وإنما حبس لجمع الغلة لا لحفظ ثياب الناس فلا يكون ضامنا فأما الثيابي وهو الذي يحفظ ثياب الناس بأجر فهو بمنزلة الأجير المشترك في الحفظ فلا ضمان عليه فيما سرق عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يضمن وإن لبس إنسان ثوب الغير بمرأى العين منه فلم يمنعه لأن ظنه صاحب الثوب فهو ضامن بالاتفاق ولأنه مضيع تارك للحفظ ولا معتبر بظنه ولو دخل الحمام بدانق على أن ينوره صاحب الحمام فهو فاسد في القياس لجهالة قدر ما شرط عليه في النورة لأن(15/292)
ص -139- ... ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس ولكنه ترك القياس فيه لأنه عمل الناس وكذلك لو أعطاه فلسا على أن يدخل الحمام فيغتسل فهو فاسد في القياس لجهالة مقدار مكثه ومقدار ما يصب من الماء ولكنه استحسن وجوزه لأنه عمل الناس وقد استحسنوه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". ولأن في اشتراط أعلام مقدار ذلك حرجا والحرج مدفوع شرعا.
رجل أستأجر حماما سنة بغير قدر واستأجر القدر من غيره فانكسرت القدر ولم يعمل في الحمام شهرا فلصاحب الحمام أجره لأنه سلم الحمام إليه كما التزمه بعقد الإجارة والمستأجر متمكن من الانتفاع بأن يستأجر قدرا آخر فعليه الأجر لرب الحمام بخلاف ما إذا كانت القدر لرب الحمام فانكسرت فإن هناك المستأجر لا يتمكن من الانتفاع كما استحقه بعقد الإجارة ما لم يصلح رب الحمام قدره ولا أجر لصاحب القدر من يوم انكسرت لزوال تمكنه من الانتفاع بالقدر ولا ضمان عليه في ذلك سواء انكسرت من عمله أو من غير عمله المعتاد ولأنه أمين في القدر مسلط على الاستعمال من جهة صاحب القدر والله أعلم.
باب إجارة الراعي
قال رحمه الله: وإذا استأجر راعيا يرعى له غنما معلوما مدة معلومة فهو جائز لأن المعقود عليه معلوم مقدور التسليم ثم الراعي قد يكون أجير واحد وقد يكون مشتركا فإن شرط عليه رب الغنم أن لا يرعى غنمه مع غنم غيره فهو جائز لأنه يجعله بهذا الشرط أجير واحد وتبين أن المعقود عليه منافعه في المدة والشرط الذي يبين المعقود عليه لا يزيد العقد إلا وكادة فإن مات منها شاة لم يضمنها لأنه أمين فيما في يده من الغنم ولا ينقص من أجره بحسابها لأن المعقود عليه منافعه وبهلاك بعض الغنم لا يتمكن النقصان من منافعه ولا في تسليمها وليس له أن يرعى معها شيئا لأن منافعه صارت مستحقة للأول فلا يملك إيجاب الحق فيها لغيره لأن ذلك تصرف منه في ملك الغير.(15/293)
ولو ضرب منها شاة ففقأ عينها كان ضامنا لأنه لم يأذن له صاحبها بضربها فهو كما لو قتلها بضربته ولو سقاها من نهر فغرقت شاة منها لم يضمن لأنه مأذون في سقيها وما تلف بالعمل المأذون فيه لا يضمن أجير الواحد كما في الدق وكذلك لو عطبت منها شاة في المرعى أو أكلها سبع وهو مصدق فيما هلك مع يمينه لأنه أمين فيما في يده والقول قول الأمين مع اليمين ولو هلك من الغنم نصفها أو أكثر كان له الأجر تاما ما دام يرعاها لأن استحقاق الأجر بتسليم نفسه لذلك العمل ولهذا لو كان الراعي مشتركا يرعى لمن شاء على قول أبي حنيفة رحمه الله وهو ضامن لما يهلك بفعله من سباق أو سقي أو غير ذلك لأن الأجير المشترك ضامن لما حنت يده وإن لم يخالف في إقامة العمل ظاهرا كما في القصار إذا دق الثوب فتخرق وما هلك من غير فعله بموت أو سرقة من غير تضييع أو أكل سباع فلا ضمان عليه وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو ضامن بجميع ذلك إلا الموت(15/294)
ص -140- ... لأنه لا يمكن الاحتراز عنه ولكنه لا يصدق على ما يدعيه من الموت إلا ببينة تقام له على ذلك لأن على أصلهما القبض في حق الأجير المشترك يوجبه ضمان العين عليه فدعواه الموت بعد ذلك بمنزلة دعوى الرد من حيث أنه يدعي ما يسقط الضمان به عن نفسه فلا يصدق في ذلك إلا بحجة كالغاصب.
ولو شرط عليه في الإجارة ضمان ما هلك من فعله لم يفسد ذلك الإجارة لأن ذلك عليه من غير شرط فلا يزيده الشرط إلا وكادة وإن شرط عليه ضمان ما مات فالإجارة فاسدة لأن هذا الشرط مخالف لحكم الشرع ولأنه يلتزم بهذا الشرط ما ليس في وسعه وهو الحفظ عن الموت واشتراط ما ليس في وسع العاقد في العقد مفسد للعقد وإن شرط عليه الضمان فيما سرق من غير عمله أو يأكله السبع فعند أبي حنيفة رحمه الله يفسد العقد لأنه شرط مخالف لحكم الشرع وعندهما لأن ذلك عليه من غير شرط وإذا كان الراعي أجير واحد فاشتراط هذا عليه مفسد للعقد لأنه لا ضمان عليه بدون الخلاف واشتراط الضمان على الأمين باطل وببطلان الشرط يبطل عقد الإجارة وإذا أتى الراعي المشترك بالغنم إلى أهلها فأكل السبع منها شاة وهي في موضعها فلا ضمان عليه لأنه بتسليمها إلى أهلها يخرج من عهدتها ولأن عليه عمل الرعي وقد انتهى ذلك حين أتى بها إلى أهلها فلا ضمان عليه فيما يعطب بعد ذلك وله أن يبعث الغنم مع غلامه وأجيره وولده بعد أن يكون كبيرا في عياله سواء كان مشتركا أو خاصا لأن يد هؤلاء في الحفظ والرعي كيده وكذلك في الرد وهذا بالعرف فإن الراعي يلتزم حفظ الغنم على الوجه الذي يحفظ غنم نفسه وذلك بيده تارة وبيد من في عياله تارة.(15/295)
وإذا استأجر راعيا شهرا ليرعى له غنما فأراد الراعي أن يرعى لغيره بأجر فلرب الغنم أن يمنعه من ذلك لأنه بدأ بذكر المدة وذكر المدة لتقدير المنفعة فيه فتبين أن المعقود عليه منافعه فيكون أجيرا له خاصا فإن لم يعلم رب الغنم بما فعله حتى رعى لغيره فله الأجر على الثاني ويطيب له ذلك ولا ينقص من أجر الأول شيء لأنه قد حصل مقصود الأول بكماله وتحمل زيادة مشقة في الرعي لغيره فما يأخذ من الثاني عوض عمله فيكون طيبا له وقد تقدم نظيره في الظئر ولو كان يبطل من الشهر يوما أو يومين لا يرعاها حوسب بذلك من أجره سواء كان من مرض أو بطالة لأنه يستحق الأجر بتسليم منافعه وذلك ينعدم في مدة البطالة سواء كان بعذر أو بغير عذر.
ولو سأل راعيا أن يرعى غنمه هذه بدراهم في الشهر أو قال شهرا فهو جائز وهو مشترك له أن يرعى لغيره لأنه لما بدأ بذكر العمل بين مقدار عمله ببيان محله وهو الغنم عرفنا أن المعقود عليه العمل دون منافعه فيكون مشتركا سواء رعى لغيره أو لم يرع وإن شرط عليه أن لا يرعى معها شيئا غيرها كان جائزا وكان بمنزلة الباب الأول في أنه أجير واحد لأنا إنما جعلناه مشتركا استدلالا بالبداية بذكر العمل وسقط اعتبار هذا الاستدلال إذا صرح بخلافه(15/296)
ص -141- ... بالشرط. ولو دفع إليه غنمه يرعاها على أن أجره ألبانها وأصوافها فهو فاسد لأنه مجهول وإعلام الأجر لا بد منه لصحة الإجارة وإن اشترط عليه جبنا معلوما وسمنا لنفسه وما بقي بعد ذلك للراعي فهو كله فاسد والراعي ضامن لما أصاب من ذلك لأنه يتناول ملك الغير فإن الزيادة المنفصلة تملك بملك الأصل وله أجر مثله لأنه أقام العمل بعقد فاسد ولو أن راعيا مشتركا خلط غنما للناس بعضا ببعض ولم يعرف ذلك أهلها فالقول فيه قول الراعي مع يمينه لأنها في يده والقول في تعيين المقبوض قول القابض أمينا كان أو ضمينا كالمودع مع الغاصب فإن قال لا أعرفها فهو ضامن لقيمة الغنم كلها لأهلها لأن الخلط على وجه يتعذر معه التمييز استهلاك فإن كل واحد منهم لا يقدر على الوصول إلى عين ملكه وبمثل هذا الخلط يكون الراعي ضامنا وتكون الغنم له بالضمان والقول قوله في قيمتها يوم خلطها لأن الضمان عليه فالقول في مقداره قوله مع يمينه كالغاصب.(15/297)
وإن كان الراعي مشتركا يرعى في الجبال فاشترط عليه صاحب الغنم أن يأتيه بسمة ما يموت منها وإلا فهو ضامن فهذا الشرط غير معتبر لأنها قد تموت في موضع لا يمكنه أن يأتي بسمتها وقد يفتعل فيما يأتي من السمة بأن يأكل بعض الغنم ثم يأتي بسمته ويقول قد مات فإن السمة لا تختلف بالذبح والموت فعرفنا أن هذا الشرط غير مفيد ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله القول قوله وإن لم يأت بالسمة لأنه أمين في العين عنده وعندهما هو ضامن وإن أتى بالسمة إلا أن يقيم البينة على الموت ولا يسع المصدق أن يصدق غنما مع الراعي حتى يحضر صاحبها لأن المصدق يأخذ الزكاة والزكاة تجب على المالك ويتأدى بأدائه ونيته والراعي في ذلك ليس بنائب عنه فإن أخذ المصدق الزكاة من الراعي فلا ضمان على الراعي في ذلك لأن الراعي لا يتمكن من أن يمنع المصدق من ذلك فهو في حقه بمنزلة الموت وإن خاف الراعي على شاة منها فذبحها فهو ضامن لقيمتها يوم ذبحها لأن صاحبها لم يأمره بذبحها بل منعه من ذلك وإن اختلفا في عدة ما سلمه إلى الراعي فالقول قول الراعي لإنكاره قبض الزيادة والبينة بينة صاحب الغنم لإثباته الزيادة ببينته ثم يكون ضامنا للفضل بجحوده وليس للراعي أن يسقي من ألبان الغنم ولا يأكل ولا يبيع ولا يقرض لأنه مأمور بالرعي وهذا ليس من عمل الرعي فهو فيه كسائر الأجانب فيكون ضامنا إن فعل شيئا من ذلك.(15/298)
ولو أن رب الغنم باع نصف غنمه فإن كان استأجر الراعي شهرا على أن يرعى له لم يحطه من الأجر شيء لأن المعقود عليه منافعه وإنما يستوجب الأجر بتسليم نفسه في المدة ولو أراد رب الغنم أن يزيد في الغنم ما يطيق الراعي كان له ذلك لأنه مالك لمنافعه في المدة فهو بمنزلة عبده في ذلك يستعمله في ذلك العمل بقدر طاقته وإن استأجر شهرا يرعى له هذه الغنم بأعيانها لم يكن له أن يزيد فيها بالقياس لأن التعيين إذا كان مفيدا يجب اعتباره والتعيين في حق الراعي مفيد لأن المشقة عليه تختلف باختلاف عدد الغنم فهو ما التزم إلا رعي ما عينه عند العقد فلا يكون لرب الغنم أن يكلفه شيئا آخر كما لا يكون له أن(15/299)
ص -142- ... يكلفه عملا آخر ولكنه استحسن فقال له أن يكلفه من ذلك بقدر طاقته لأن المعقود عليه منافعه فإنه بدأ بذكر المدة وتعيينه الأغنام لبيان ما قصد من تملك منافعه بالإجارة لا لقصر حكم العقد عليه فإذا بقيت منافعه بعد هذا التعيين مستحقة لرب الغنم كان له أن يكلفه في ذلك بقدر طاقته ولكن لا يكلف عملا آخر لأنه تبين مقصوده عند العقد وهو الرعي فما ليس من عمل الرعي لا يكون داخلا في حكم العقد ثم قال أرأيت لو ولدت الغنم أما كان عليه أن يرعى أولادها معها والقياس والاستحسان فيهما لأن الولد بعد الانفصال كشاة أخرى ولكن من عادته الاستشهاد بالأوضح فالأوضح ولو لم يستأجره شهرا ولكنه دفع إليه غنما مسماة على أن يرعى له كل شهر بدرهم لم يكن له أن يزيد فيها شاة لأن المعقود عليه هنا عمل الرعي وإنما التزم إقامة الكل في المحل الذي عينه فليس له أن يكلفه فوق ذلك.
وإن باع منها طائفة فإنه ينقصه من الأجر بحساب ذلك لأن المعقود عليه لما كان هو العمل فإنما يستوجب الأجر بقدر ما يقيم من العمل كالخياط والقصار وإذا ولدت الغنم لم يكن له عليه أن يرعى أولادها معها لأن الولد بعد الانفصال في عمل الرعي كشاة أخرى فإن كان اشترط عليه حين دفع الغنم إليه أن يولدها ويرعى أولادها معها فهو فاسد في القياس لأن المعقود عليه هو العمل فلا بد من إعلامه وإعلامه ببيان محله وهنا محل العمل مجهول لأنه لا يدري ما تلد منها وكم تلد وجهالة المعقود عليه مفسدة للعقد ولكنه استحسن ذلك فأجازه لأنه عمل الناس ولأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة بينهما والجهالة بعينها لا تفسد العقد فكل جهالة لا تفضي إلى المنازعة فهي لا تؤثر في العقد والإبل والبقر والخيل والحمير والبغال في جميع ما ذكرنا كالغنم.(15/300)
وليس للراعي أن ينزي على شيء منها بغير أمر ربها لأن ذلك ليس من عمل الراعي فهو فيه كالأجنبي ضامن لما يعطب منها إن فعله ولو لم يفعله الراعي ولكن الفحل الذي فيها نزى على بعضها فعطب فلا ضمان على الرعي في ذلك لأن صاحب الغنم قد رضي بذلك حين خلط الفحل بالإناث من غنمه والراعي لا يمكنه المنع من ذلك فلا ضمان عليه في ذلك ولو ندت واحدة منها فخاف الراعي إن باع ما ند منها أن يضيع ما بقي فهو في سعة في ترك ما ند منها لأنه ابتلى ببليتين فيختار أهونهما ولأنه لو باع ما ند منها كان مضيعا لما بقي ولا يعلم أنه هل يقدر على أخذ ما ندأ ولا يقدر وليس له أن يضيع ما في يده فلهذا كان في سعة من ذلك ولا ضمان عليه فيما ند في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه ضاع بغير فعله وهو في ترك أتباعه مقبل على حفظ ما بقي وليس بمضيع لما ند وهو ضامن في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه تلف بما يمكن التحرز عنه في الجملة وإن استأجر من يجيء بتلك الواحدة فهو متطوع في ذلك كغيره من الناس لأن صاحبها لم يأمره بالاستئجار وكذلك إن تفرقت فرقا فلم يقدر على أتباعها كلها فأقبل على فرقة منها وترك ما سواها فهو في سعة من ذلك لأنه إقبال على حفظ ما هو متمكن من حفظه فهذا وما تقدم سواء.(15/301)
ص -143- ... فإن كان الراعي أجيرا مشتركا فرعاها في بلد فعطبت فقال صاحبها إنما اشترطت عليك أن ترعاها في موضع غير ذلك وقال الراعي بل شرطت على هذا الموضع فالقول قول رب السائمة لأن الإذن يستفاد من جهته ولو أنكره أصلا كان القول قوله مع يمينه والبينة بينة الراعي لأنه يثبت الإذن في هذا الموضع ببينته ثم لا يضمن في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما هو ضامن إلا أن يقيم البينة على الموت وإن كان أجيرا خاصا لم يضمن في قولهم جميعا إلا أن يخالف ولا أجر للراعي إذا خالف بعد أن تعطب الغنم لأنه غاصب ضامن وبالضمان يتملك المضمون من وقت وجوب الضمان فيتبين أنه في الرعي كان عاملا لنفسه فلا يستوجب الأجر على غيره فإن سلمت الغنم استحسنت أن أجعل له الأجر لحصول مقصود رب الغنم وهو الرعي مع سلامة أغنامه وهو بتعيين ذلك المكان ما قصد إلا هذا فإذا حصل له هذا بعينه في مكان وجب عليه الأجر والله أعلم.
باب إجارة المتاع(15/302)
قال رحمه الله: وإذا استأجر ثوبا ليلبسه يوما إلى الليل بأجر مسمى فهو جائز لأنه عين منتفع به بطريق مباح وليس له أن يلبسه غيره لأن المعقود عليه لبسه بنفسه وهذا لأن التعيين متى أفاد اعتبر وهذا تعيين مفيد لأن الناس يتفاوتون في لبس الثياب فلبس الدباغ والقصار لا يكون كلبس العطار بخلاف سكنى الدار فالناس لا يتفاوتون في ذلك فإن أعطاه غيره فلبسه ذلك اليوم ضمنه إن أصابه شيء لأنه غاصب في إلباسه غيره وإن لم يصبه شيء فلا أجر له لأن المعقود عليه ما يصير مستوفي بلبسه فما يكون مستوفي بلبس غيره لا يكون معقودا عليه واستيفاء غير المعقود عليه لا يوجب البدل ألا ترى أنه لو استأجر ثوبا بعينه ثم غصب منه ثوبا آخر ولبسه لم يلزمه الأجر فكذلك إذا ألبس ذلك الثوب غيره لأن تعيين اللابس كتعيين الملبوس فإن قيل هو قد يتمكن من استيفاء المعقود عليه وذلك يكفي لوجوب الأجر عليه كما لو وضعه في بيته ولم يلبسه قلنا تمكنه من الاستيفاء باعتبار يده وإذا وضعه في بيته فيده عليه معتبرة ولذا لو هلك لم يضمن فأما إذا ألبسه غيره فيده عليه معتبرة حكما ألا ترى أنه ضامن وإن هلك من غير اللبس وأن يد اللابس عليه يد معتبرة حتى يكون لصاحبه أن يضمن غير اللابس ولا يكون إلا بطريق تفويت يده حكما فلهذا لا يلزمه الأجر وإن سلم.(15/303)
وإن استأجره ليلبس يوما إلى الليل ولم يسم من يلبسه فالعقد فاسد لجهالة المعقود عليه فإن اللبس يختلف باختلاف اللابس وباختلاف الملبوس فكما أن ترك التعيين في الملبوس عند العقد يفسد العقد فكذلك ترك تعيين اللابس وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة لأن صاحب الثوب يطالبه بإلباس أرفق الناس في اللبس وصيانة الملبوس وهو يأبى أن يلبس إلا أخشن الناس في ذلك ويحتج كل واحد منهما بمطلق التسمية ولا تصح التسمية مع فساد العقد وإن اختصما فيه قبل اللبس فسدت الإجارة وإن لبسه هو وأعطاه غيره فلبسه إلى الليل فهو جائز وعليه الأجر استحسانا وفي القياس عليه أجر المثل وكذلك لو استأجر دابة(15/304)
ص -144- ... للركوب ولم يبين من يركبها أو للعمل ولم يسم ما يعمل عليها فعمل عليها إلى الليل فعليه المسمى استحسانا وفي القياس عليه أجر المثل لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد ووجوب المسمى باعتبار صحة التسمية ولا تصح التسمية مع فساد العقد.
وجه الاستحسان أن المفسد وهو الجهالة التي تفضي إلى المنازعة قد زال وبانعدام العلة المفسدة ينعدم الفساد وهذا لأن الجهالة في المعقود عليه وعقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف فإنما يتجدد انعقادها عند الاستيفاء ولا جهالة عند ذلك ووجوب الأجر عند ذلك أيضا فلهذا أوجبنا المسمى وجعلنا التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء ولا ضمان عليه إن ضاع منه لأنه غير مخالف سواء لبس بنفسه أو ألبس غيره بخلاف الأول فقد عين هناك لبسه عند العقد فيصير مخالفا بإلباس غيره.
وإذا استأجر قميصا ليلبسه يوما إلى الليل فوضعه في منزله حتى جاء الليل فعليه الأجر كاملا لأن صاحبه مكنه من استيفاء المعقود عليه بتسليم الثوب إليه وما زاد على ذلك ليس في وسعه وليس له أن يلبسه بعد ذلك لأن العقد انتهى بمضي المدة والإذن في اللبس كان بحكم العقد فلا يبقى بعد انتهاء العقد وإن ارتدى به يوما إلى الليل كان عليه الأجر كاملا لأن هذا لبس ولكنه غير تام فإن المقصود بالقميص ستر البدن به وبهذا الطريق يحصل بعض الستر وإن اتزر به إلى الليل فهو ضامن إن تخرق لأن الاتزار بالقميص غير معتاد وبمطلق التسمية إنما يتمكن من اللبس المعتاد فكان غاصبا إذا اتزر به ضامنا أن تخرق بخلاف ما إذا ارتدى به فإن ذلك معتاد في بعض الأوقات توضيحه أن الاتزار مفسد للقميص فما أتى به أضر بالثوب مما يتناوله العقد والاتزار غير مفسد بل ضرره كضرر اللبس أو دونه وإن سلم فعليه الأجر استحسانا وفي القياس لا أجر عليه لأنه مخالف ضامن والضمان والأجر لا يجتمعان كما لو ألبسه غيره.(15/305)
وجه الاستحسان أنه متمكن من استيفاء المعقود عليه باعتبار يده وإنما كان ضامنا بزيادة ضرر مفسد للثوب فيبقى الأجر عليه لتمكنه من استيفاء المعقود عليه بخلاف ما إذا تخرق فهناك لما تقرر عليه الضمان ملك الثوب من حين ضمنه ولا يجب الأجر عليه في ملك نفسه وإذا سلم فهو لم يملك الثوب فيلزمه الأجر لتمكنه من الاستيفاء.
وإذا استأجرت المرأة درعا لتلبسه ثلاثة أيام فلها أن تلبسه بالنهار وفي أول الليل وآخره ما يلبس الناس لأن مطلق التسمية ينصرف إلى المعتاد في لبس الثوب الصيانة بالنهار ومن أول الليل إلى وقت النوم ومن آخر الليل أيضا فقد يبكرون خصوصا عند طول الليالي وإن لبست الليل كله فهي ضامنة لأنها خالفت فإن ثوب الصيانة لا ينام فيه عادة وهو مفسد للثوب فتكون ضامنة أن تخرق بالليل وإن تخرق من لبسها في غير الليل فلا ضمان عليها لأن الخلاف قد ارتفع بمجيء النهار وإنما كانت ضامنة بالخلاف لا بالإمساك فإن لها أن تمسك الثوب إلى انتهاء المدة والأمين إذا ضمن بالخلاف عاد أمينا بترك الخلاف كالمودع(15/306)
ص -145- ... إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق فإن تخرق من لبسها بالليل فهي ضامنة وليس عليها أجر في تلك الساعة التي تخرق فيها الثوب وعليها الأجر فيما كان قبل ذلك وبعده لأنها مستوفية للمعقود عليه وإن سلم ولم يتخرق فعليها الأجر كله لاستيفاء جميع المعقود عليه وهذا لأن الضمان لا ينافي العقد ابتداء وبقاء وإذا بقي العقد تحقق منها استيفاء المعقود عليه فعليها الأجر إلا في الساعة التي ضمنت بالتخرق لأنها في تلك الساعة غاصبة عاملة لنفسها ولهذا تقرر عليها الضمان.
وإن كان الدرع ليس بدرع الصيانة إنما هو درع بذلة ينام في مثله فلا ضمان عليه إن نامت فيه وعليها الأجر لأن بمطلق العقد يستحق ما هو المعتاد والنوم في مثله معتاد فلا تكون به مخالفة وإن كانت استأجرته لمخرج تخرج فيه يوما بدرهم فلبسته في بيتها فعليها الأجر لأنها استوفت المعقود عليه ولبسها في بيتها ولبسها إذا خرجت سواء وربما يكون لبسها في بيتها أخف وكذلك لو لم تلبس ولم تخرج لأنها تمكنت من استيفاء المعقود عليه ولو ضاع الدرع منها ذلك اليوم ثم وجدته بعد ذلك فلا أجر عليها إذا صدقها رب الثوب لأنها لم تكن متمكنة من اللبس بعد ما ضاع الدرع منها وإن لبسته في اليوم الثاني ضمنته لانتهاء العقد بمضي المدة وإن كذبها رب الدرع فإن كان الثوب في يدها حين اختلفا فالقول قول رب الدرع لأن تمكنها من اللبس في الحال دليل على أنها كانت متمكنة منه فيما مضى ولأن تسليمه الثوب إليها تمكين لها من لبسه وذلك أمر ظاهر وما تدعيه من الضياع عارض غير ظاهر فعليها أن تبينه بالبينة والقول قول رب الدرع لإنكاره مع يمينه على علمه لأنه يحلف على الضياع من يد غيره ولا طريق له إلا معرفة حقيقة ذلك فيحلف على علمه.(15/307)
وإن سرق منها أو تخرق من لبسها فلا ضمان عليها وكذلك لو أصابه أقرض فأر وحرق نار أو لحس سوس والحاصل أن المستأجر في العين أمين لأن يده كيد المالك فإنه يتقرر حق المالك في الأجر باعتبار يده ولهذا لو أصابه عهده رجع به على الآخر فكان أمينا فيه كالمودع بخلاف الأجير المشترك على قول من يضمنه فإنه في الحفظ عامل لنفسه فإنه يتمكن به ما تقرر حقه في الأجر فكان ضامنا.
ولو أمرت خادمها أو ابنتها فلبسته فتخرق كانت ضامنة كما لو ألبست أجنبية أخرى ولا أجر عليها وإن سلم الثوب بعد أن صدقها رب الثوب وإن كذبها فالقول قول رب الثوب مع يمينه على علمه وإن أجرته ممن تلبسه بفضل أو نقصان فهي ضامنة للخلاف والأجر لها بالضمان وعليها التصدق به إلا عند أبي يوسف رحمه الله وقد بيناه ولو لبسه خادمها أو ابنتها بغير أمرها فلا ضمان عليها بمنزلة ما لو غصبه إنسان والأجر عليها ولا ضمان عليها لأنها لم تخالف ولم تخرق من لبس الخادم كان الضمان في عنق الخادم لأنها غاصبة وضمان الغصب يجب دينا في عنق المملوك.
ولو استأجر قبة لينصبها في بيته ويبيت فيها شهرا فهو جائز لأن القبة من المساكن فإن(15/308)
ص -146- ... قيل لا يمكن استيفاء المعقود عليه إلا بما لم يتناوله العقد وهو الأرض التي ينصب فيها القبة وذلك يمنع الإجارة كما لو استأجر أحد زوجي المقراض لقرض الثياب قلنا المعتبر كون العين منتفعا به وأن يتمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه وذلك موجود فالإنسان لا يعدم الأرض لينصب فيها القبة ولأن المقصود بالقبة الاستظلال ودفع أذى الحر والبرد والمطر وذلك بالمعقود عليه دون الأرض وإن لم يسم البيوت التي ينصبها فيها فالعقد جائز أيضا لأن ذلك لا يختلف باختلاف البيوت وترك تعيين غير مفيد لا يفسد العقد وإن سمى بيتا فنصبها من غيره فهو جائز وعليه الأجر لأن هذا تعيين غير مفيد فالضرر لا يختلف باختلاف البيوت فإن نصبها في الشمس أو المطر كان عليها في ذلك ضرر فهو ضامن لما أصابها من ذلك لأنه مخالف فالشمس تحرقها والمطر يفسدها وإنما رضي صاحبها بنصبها في البيت ليأمن من ذلك وإذا وجب عليه الضمان بطل الأجر لأن الأجر والضمان لا يجتمعان ولأنه تملكها بالضمان من حين ضمن وإن سلمت القبة كان عليه الأجر استحسانا لأنه استوفى المعقود عليه حين استظل بالقبة وإنما كان ضامنا باعتبار زيادة الضرر فإذا سلمت سقط اعتبار تلك الزيادة فيلزمه الأجر باستيفاء المعقود عليه.
ولو شرط أن ينصبها في داره فنصبها في دار في قبيلة أخرى في ذلك المصر فعليه الأجر ولا ضمان عليه لأن هذا تعيين غير مفيد وليس له أن يخرجها من المصر لأن فيه الزام مؤنة على صاحبها وهو مؤنة الرد وهو لم يلتزم ذلك فإن أخرجها إلى السواد فنصبها فسلمت أو انكسرت فلا أجر عليه لأنه غاصب حين أخرجها من المصر ألا ترى إنه لو وجب الأجر كان مؤنة الرد على صاحب القبة وهو غير ملتزم لذلك فجعلناه غاصبا ضامنا لتكون مؤنة الرد عليه فلهذا لا أجر عليه.(15/309)
وإذا استأجر رحا يطحن عليه فحمله فذهب به إلى منزله فلما فرغ منه فمؤنة الرد على صاحب الرحا ولو كانت ذلك عارية كانت مؤنة الرد على المستعير لأن الرد فسخ لعمل النقل فإنما تجب المؤنة على من حصل له منفعة النقل ومنفعة النقل في العارية للمستعير فمؤنة الرد عليه وفي الإجارة على رب الرحا لأن بالنقل يتمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه وبه يجب الأجر لرب الرحا فلهذا كانت مؤنة الرد عليه وإذا استأجر منه عيدان حجلة أو كسوتها مدة معلومة جاز لأنه عين منتفع به والحاصل أن كل عين منتفع به معتاد الاستئجار فيه صحيح وعلى هذا استئجار البسط والوسائد والصناديق والسرر والقدور والقصاع.
ولو استأجر منه قدورا بغير عينها لم يجز لأن المعقود عليه مجهول فإن القدور مختلفة في الصغر والكبر والانتفاع بها بحسبها فإن جاءه بقدر فقبله على الكراء الأول فهو جائز والأجر له لازم إما لأن التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء أو لأن الإجارة تنعقد بالتعاطي كالبيع وكذلك لو استأجر منه ستورا يعلقها على بابه وقتا معلوما ولو كفل كفيل بشيء من هذه الأمتعة الأجر عن المستأجر فالكفالة باطلة لأن العين أمانة في يد المستأجر والكفالة(15/310)
ص -147- ... بالأمانات لا تصح والإجارة جائزة لأن الكفالة لم تكن مشروطة فيه وإن أعطاه بالأجر كفيلا فهو جائز لأنه مضمون في ذمة المستأجر وعلى هذا لو استأجر ميزانا ليزن به والسنجات والقبان والمكاييل فهذا كله متعارف جائز.
وإن استأجر سرجا ليركبه شهرا فأعطاه غيره فركبه فهو ضامن لأن هذا مما يختلف فيه الناس فمن يحسن الركوب على السرج لا يضر به ركوبه ومن لا يحسن الركوب عليه يضر به ركوبه وإذا اعتبر التعيين كان ضامنا بالخلاف ولا أجر عليه وإذا استأجر إكافا ينقل عليه حنطته شهرا فهو جائز وحنطته وحنطة غيره سواء والجوالق كذلك لأن هنا تعيين غير مفيد وكذلك استئجار المحمل إلى مكة وكذلك الرجل يستأجره ليركب عليه فهو جائز وليس له أن يحمل غيره عليه فإن فعل فهو ضامن إن أصابه شيء للتفاوت بين الناس في الإضرار بالرجل عند الركوب عليه وكذلك الفسطاط يستأجره ليخرج به إلى مكة فإن أسرج في الخيمة أو الفسطاط أو القبة أو علق فيه القنديل فلا ضمان عليه لأن ذلك معتاد وقد بينا أنه يستحق بمطلق العقد الاستعمال المعتاد وإن اتخذ فيه مطبخا فهو ضامن لأنه غير معتاد إلا أن يكون ذلك معدا لذلك العمل.(15/311)
وذكر عن الحسن رحمه الله قال: لا بأس بأن يستأجر الرجل حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة وبه نأخذ فإن البدل بمقابلة منفعة الحلي دون العين ولا ربا بين المنفعة وبين الذهب والفضة ثم الحلي عين منتفع به واستئجاره معتاد فيجوز وإذا شرطت أن تلبسه فألبست غيرها ضمنت ولا أجر عليها كما في الثياب لأن الضرر على الحلي عند اللبس يختلف باختلاف اللابس وإن قال رب الحلي أنت لبستيه وقد هلك الحلي فقد أبرأها من الضمان والضمان واجب له فقوله مقبول في إسقاطه ويكون له عليها الأجر لأن الظاهر شاهد لرب الحلي وقد أقرت هي أن الحلي كان عندها وذلك يوجب الأجر عليها ولو استأجرته يوما إلى الليل فإن بدا لها فحبسته فلم ترده عشرة أيام فالإجارة عشرة أيام فالإجارة على هذا الشرط فاسدة في القياس لجهالة المعقود عليه أو لتعلق العقد بالخطر فيما بعد اليوم وهو أن يبدو لها وتعليق الإجارة بالخطر لا يجوز ولكني أستحسن وأجيزها وأجعل عليها الأجر كل يوم بحسابه لأن هذا الشرط متعارف محتاج إليه فإنها إذا خرجت إلى وليمة أو عرس لا تدري كم تبقى هناك فتحتاج إلى هذا الشرط لدفع الضرر والضمان عن نفسها ثم قد بينا أن وجوب الأجر عليها عند الاستعمال والخطر قبل ذلك فيزول ذلك عند استعمالها فلهذا يلزمها الأجر لكل يوم تحبسه فيه والله أعلم.
باب إجارة الدواب
قال رحمه الله: وإذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم بأجر مسمى فهو جائز وليس له أن يحمل عليها غيره لأن هذا تعيين مفيد فالناس يتفاوتون في ركوب الدابة وليس ذلك من قبل الثقل والخفة بل من قبل العلم والجهل فالثقيل الذي يحسن ركوب الدابة يروضها(15/312)
ص -148- ... ركوبه والخفيف الذي لا يحسن ركوبها يعقرها ركوبه فإن حمل عليها غيره فهو ضامن ولا أجر عليه لأنه غاصب غير مستوف للمعقود عليه على ما قررنا في الثوب وإن ركب وحمل معه آخر فسلمت فعليه الكراء كله لأنه استوفى المعقود عليه بكماله وزاد فإذا سلمت سقط اعتبار الزيادة فعليه كمال الأجر لاستيفاء المعقود عليه وإن عطبت بعد بلوغها المكان من ذلك الوقت فعليه الأجر كله لاستيفاء المعقود عليه فإن ركوبه لا يختلف بأن يردف معه غيره أو لا يردف ووجوب الأجر باعتبار ركوبه وعليه ضمان نصف القيمة لأنه خالف حين أردف وشغل نصف الدابة بغيره فبحسب ذلك يكون ضامنا وهذا إذا كانت الدابة تطيق اثنين فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو ضامن لجميع قيمتها لأنه متلف لها وأما إذا كانت تطيق فالتلف حصل بركوبه وهو مأذون فيه وبركوب غيره وهو غير مأذون فيه فيتوزع الضمان على ذلك نصفين وسواء كان الرجل الآخر أثقل منه أو أخف قال لأنه لا يوزن لرجل في القبان في هذا أرأيت لو كان يوزن أيوزن قبل الطعام أو بعده أو قبل الخلا أو بعده والمعنى ما بينا أن الضرر على الدابة ليس من ثقل الراكب وخفته فلهذا يوزع الضمان نصفين.
فإن قيل: حين تقرر عليه ضمان نصف القيمة فقد ملك نصف الدابة من حين ضمن فينبغي أن لا يلزمه نصف الأجر قلنا هو بهذا الضمان لا يملك شيئا مما يشغله بركوب نفسه وجميع المسمى بمقابلة ذلك وإنما يضمن ما شغله بركوب الغير ولا أجر بمقابلة ذلك ليسقط عنه.(15/313)
وإذا استأجرها إلى الجبانة أو الجنازة أو ليشيع عليها رجلا أو يتلقاه فهو فاسد إلا أن يسمي موضعا معلوما لأن المعقود عليه منفعة الركوب وذلك تتفاوت بحسب المسافة فإذا سمى موضعا معلوما صار مقدار المعقود عليه به معلوما وإلا فهو مجهول لا يصير معلوما ما ذكره من التشييع أو التلقي وإن تكاراها من بلد إلى الكوفة ليركبها فله أن يبلغ عليها منزله بالكوفة استحسانا وفي القياس ليس له ذلك لأنه لما دخل انتهى العقد لوجود الغاية فليس له أن يركبها بعد ذلك بدون إذن صاحبها ولكنه استحسن للعرف فالظاهر أنه يتبلغ المستأجر على الدابة التي تكاراها في الطريق إلى منزله ولا يتكارى لذلك دابة أخرى والمعلوم بالعرف كالمشروط بالنص ألا ترى أن الورام المعتاد في بعض الأشياء يسمى بالعرف فكذلك هذه الزيادة ورام الطريق في الإجارة فيستحق بالعرف وكذلك لو استأجرها ليحمل متاعا فإن حط المتاع في ناحية من الكوفة وقال هذا منزلي فإذا هو أخطأ فأراد أن يحمله ثانية إلى منزله فليس له ذلك لأن المستحق بالعرف قد انتهى حين حط رحله وقال هذا منزلي فبعد ذلك هو مدعي في قوله قد أخطأت فلا يقبل قوله ولأن الورام كان مستحقا له لكيلا يحتاج إلى حط رحله ونقله إلى دابة أخرى وقد زال ذلك المعنى حين حط رحله.
وكذلك لو تكارى حمارا من الكوفة يركبه إلى الحيرة ذاهبا وجائيا فله أن يبلغ عليه إلى أهله بالكوفة إذا رجع كما لو تكارى من الكوفة إلى الحيرة فأما إذا تكارى دابة بالكوفة من(15/314)
ص -149- ... موضع كانت فيه الدابة إلى الكناسة ذاهبا وجائيا فأراد أن يبتلغ في رجعته إلى أهله لم يكن له ذلك وإنما له أن يرجع إلى الموضع الذي تكارى عند الدابة لأن الاستحسان في الفصل الأول كان للعرف ولا عرف فيما تكاراها في المصر من موضع إلى موضع فيؤخذ فيه بالقياس وربما يكون من ذلك الموضع إلى منزله من المسافة مثل ما سمى أو أكثر ولا يستحق على سبيل الورام مثل المسمى في العقد أو فوقه فيقال له كما اكتريت من هذا الموضع إلى الموضع الذي سميت فأكتر الدابة من هذا الموضع إلى منزلك.
وإن استأجرها إلى مكان معلوم ولم يسم ما يحمل عليها فإن اختصموا رددت الإجارة لجهالة المعقود عليه وإن حمل عليها أو ركبها إلى ذلك المكان فعليه المسمى استحسانا لأن التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء وقد قررنا هذا في الثوب وكذلك لو استأجر عبدا ولم يسم ما استأجره له وإذا سمى ما يحمل على الدابة فحمل عليها غير ذلك فهذه المسألة على أربعة أوجه وقد بيناها في كتاب العارية فالإجارة في ذلك كله قياس العارية إلا أن في كل موضع ذكرنا هناك أنه لا يصير ضامنا فالأجر واجب عليه هنا وفي كل موضع ذكرنا هناك أنه يكون ضامنا فلا أجر عليه هنا لأنه غاصب غير مستوف للمعقود عليه فإن المقصود عليه يختلف باختلاف المحمول وإن اختلفا فقال رب الدابة أكريتك من الكوفة إلى القصر بعشرة دراهم وقال المستأجرين إلى بغداد بعشرة دراهم ولم يركبها تحالفا وترادا لأن الإجارة في احتمال الفسخ قبل استيفاء المنفعة كالبيع فالنص الوارد بالتحالف في البيع يكون واردا في الإجارة وإن أقام البينة ففي قول أبي حنيفة الأول رحمه الله يقضي بالكوفة إلى بغداد بخمسة عشر درهما وهو قول زفر رحمه الله ثم رجع وقال إلى بغداد بعشرة دراهم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.(15/315)
وجه قوله الأول أن رب الدابة أثبت ببينته العقد من الكوفة إلى القصر بعشرة دراهم فوجب القضاء بذلك ببينته والمستأجر ببينته أثبت العقد من القصر إلى بغداد بخمسة دراهم فوجب قبول بينته على ذلك فإذا عملنا بالبينتين كانت له من الكوفة إلى بغداد بخمسة عشر درهما.
وجه قوله الآخر أنهما اتفقا على مقدار الأجر وإنما اختلفا في مقدار المعقود عليه فالمستأجر يثبت الزيادة في ذلك فكانت بينته أولى بالقبول كما لو أقام المستأجر البينة أنه زاده عقبه الأجير في الكراء إلى مكة.
وإن تكارى دابة بسرج ليركب عليها فحمل عليها إكافا فركبها فهو ضامن بقدر ما زاد وفي الجامع الصغير قال هو ضامن جميع قيمتها في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يضمن بقدر ما زاد وجه قولهما أن الحمار يركب تارة بسرج وتارة بإكاف والتفاوت بينهما من حيث الثقل والخفة ما كان في كل واحد منهما عادة وفي مثله الضمان بقدر الزيادة كما لو استأجرها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها أحد عشر مختوما وأبو حنيفة رحمه الله يقول الاختلاف هنا في الجنس من حيث أن الإكاف يأخذ من ظهر الحمار الموضع(15/316)
ص -150- ... الذي لا يأخذه السرج فهو نظير ما لو استأجر دابة ليحمل عليها حنطة فحمل عليها تبنا أو حطبا توضيحه أن التفاوت ليس من حيث الثقل والخفة ولكن لأن الحمار الذي لا يألف الإكاف يضره الركوب بإكاف وربما يجرحه ذلك فيكون مخالفا في الكل كما لو حمل عليها مثل وزن الحنطة حديدا وكذلك لو نزغ عن الحمار سرجه وأسرجه بسرج برذون لا تسرج بمثله الحمير فهو بمنزلة الإكاف وإن أسرجه بسرج مثله أو أخف لم يضمن لأن التعيين إذا لم يكن مفيدا فلا يعتبر وكذلك إن استأجره بإكاف فأوكفه بإكاف مثله أو أسرجه مكان الإكاف لأن السرج أخف على الحمار من الإكاف فلا يكون خلافا منه.
ولو تكارى حمارا عريانا فأسرجه ثم ركبه فهو ضامن له لأنه حمل عليه السرج بغير إذن صاحبه فكان مخالفا في ذلك قال مشايخنا رحمهم الله وهذا على أوجه فإن استأجره من بلد إلى بلد لم يضمن إذا أسرجه لأن الحمار لا يركب من بلد إلى بلد عادة إلا بسرج أو إكاف والثابت بالعرف كالثابت بالشرط وإن استأجره ليركبه في المصر فإن كان من ذوي الهيئات فكذلك الجواب لأن مثله لا يركب في المصر عريانا وإن كان من العوام الذين يركبون الحمار في المصر عريانا فحينئذ يكون ضامنا إذا أسرجه بغير شرط وإذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم فجاوز بها ذلك المكان ثم رجع فعطبت الدابة فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة الأول رحمه الله ثم رجع فقال هو ضامن ما لم يدفعها إلى صاحبها وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وجه قوله الأول أنه كان أمينا فيها فإذا ضمن بالخلاف ثم عاد إلى الوفاق عاد أمينا كالمودع.(15/317)
وجه قوله الآخر أنه بعد ما صار ضامنا بالخلاف لا يبرأ إلا بالرد على المالك أو على من قامت يده مقام يد المالك ويد المستأجر يد نفسه لأنه يمسكها لمنفعة نفسه كالمستعير فلا تكون يده قائمة مقام يد المالك فلا تبرأ عن الضمان وإن عاد إلى ذلك المكان لأنه ينتفع بها لنفسه في ذلك المكان بخلاف المودع فهناك يده قائمة مقام يد المالك.
وقد طعن عيسى رحمه الله في هذا فقال: يد المستأجر كيد المالك بدليل أنه يرجع بما يلحقه من الضمان على المالك كالمودع بخلاف المستعير وبدليل أن مؤنة الرد على المالك في الإجارة دون العارية ولكنا نقول رجوعه بالضمان للغرور المتمكن بسبب عقد المعاوضة وذلك لا يدل على أن يده ليست بيد نفسه كالمشتري يرجع بضمان الغرور فكذلك مؤنة الرد عليه لما له من المنفعة في النقل فأما يد المستأجر يد نفسه والإشكال على هذا الكلام ما تقدم أن المرأة إذا استأجرت ثوب صيانة لتلبسه أياما فلبسته بالليل كانت ضامنه ثم إذا جاء النهار برئت من الضمان ويدها يد نفسها ولكنا نقول هناك الضمان عليها باللبس لا بالإمساك لأن لها حق الإمساك ليلا ونهارا واللبس الذي لم يتناوله العقد لم يبق إذا جاء النهار وهنا الضمان على المستأجر بالإمساك في غير المكان المشروط ألا ترى أنه لو جاوز(15/318)
ص -151- ... بها ذلك المكان ولم يركبها كان ضامنا ولو حبسها في المصر أياما ولم يركبها كان ضامنا والإمساك لا ينعدم وإن عاد إلى ذلك المكان ما دام يمسكها لمنفعة نفسه ثم الكلام في التفصيل بينما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا أو ذاهبا لا جائيا قد تقدم في العارية فهو مثله في الإجارة ولو لم يجاوز المكان ولكنه ضربها في السير أو كبحها باللجام فعطبت فهو ضامن إلا أن يأذن له صاحبها في ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يستحسن أن لا يضمنه إذا لم يتعد في ذلك وضرب كما يضرب الناس الحمار في موضعه لأنه بمطلق العقد يستفيد الإذن فيما هو معتاد والضرب والكبح باللجام في السير معتاد وربما لا تنقاد الدابة إلا به فيكون الإذن فيه ثابتا بالعرف ولو أذن فيه نصا لم يضمن المستأجر به فكذلك إذا كان متعارفا والقياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله لأنه ضربها بغير إذن مالكها وذلك تعد موجب للضمان وبيان أن المستحق له بالعقد سير الدابة لا صفة الجودة فيه وهو لا يحتاج إلى الضرب والكبح في أصل تسيير الدابة وإنما يستخرج بذلك منها نهاية السير والجودة في ذلك وثبوت الإذن بمقتضى العقد فيفتقر على المستحق بالعقد.
توضيحه: أنه وإن أبيح له الضرب فإنما أبيح لمنفعة نفسه فإن حق المالك في الآخر يتقرر بدونه ومثله يقيد بشرط السلامة كتعزير الزوج زوجته ورمي الرجل إلى الصيد ومشيه في الطريق مباح شرعا ثم يتقيد بشرط السلامة بخلاف ما إذا أذن له المالك فيها نصا فإن بعد الإذن فعله كفعل المالك.(15/319)
وإن استأجرها ليحمل عليها متاعا سماه إلى موضع معلوم فأجرها بمثل ذلك بأكثر مما استأجرها لم يطب له الفضل إلا أن يزيد معها حبلا أو جوالق أو لجاما فحينئذ يجعل زيادة الأجر بإزاء ما زاد ولو علفها لم يطب له الفضل له لأن العلف ليس بعين ينتفع به المستأجر لنجعل الزيادة بمقابلته وإن استأجرها بغير لجام فالجمها أو بلجام فنزعه وأبدله بلجام آخر مثله فلا ضمان عليه لأن اللجام لا يضر بالدابة وإنما ينفعها من حيث إن السير يخف به عليها فلم يكن هذا خلافا من المستأجر إلا إذا ألجمها بلجام لا يلجم مثلها به فحينئذ يكون مخالفا ضامنا.
وإذا استأجر دابة لحمولة فساق رب الدابة فعثرت فسقطت الحمولة وفسدت وصاحب المتاع يمشي مع رب الدابة أو ليس معه فالمكاري ضامن لأن المكاري أجير مشترك والتلف حصل بجناية يده وكذلك لو انقطع حبله فسقط الحمل فهذا من جناية يده لأنه لما شده بحبل لا يحتمله كان هو المسقط للحمل ولو مطرت السماء ففسد الحمل أو أصابته الشمس ففسد أو سرق من ظهر الدابة فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو ضامن في قول من يضمن الأجير لأن التلف حصل لا بفعله على وجه يمكن التحرز عنه وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله قال إذا كان صاحب الحمل معه فسرق لم يضمن المكاري لأن(15/320)
ص -152- ... الحمل في يد صاحبه والأجير المشترك إنما يصير ضامنا عندهما باعتبار يده فما دام المتاع في يد صاحبه لم يضمن الأجير إذا تلف بغير فعله فإن حمل عليها عبدا صغيرا فساق به رب الدابة فعثرت وعطب العبد فلا ضمان عليه لأن هذا جناية ولا يشبه هذا المتاع ومعنى هذا الكلام أن ما يجب من الضمان بإتلاف النفوس ضمان الجناية وضمان الجناية ليس من جنس ضمان العقد ألا ترى أنه يجب على العاقلة مؤجلا ووجوب الضمان على الأجير المشترك فيما جنت يده باعتبار العقد فلا يلزمه ما ليس من جنس ضمان العقد فأما ضمان المتاع من جنس ضمان العقد حتى يكون عليه حالا دون العاقلة وبيان هذا الكلام أن على أحد الطريقين يقيد العقل بصفة السلامة بمقتضى عقد المعاوضة وعلى الطريق الآخر العمل مضمون عليه لأنه يقابله بدل مضمون فعرفنا أن الضمان على الطريقين باعتبار العقد وكذلك لو حمل عليها صاحب المتاع متاعه وركبها فساقها رب الدابة فعثرت فعطب الرجل وأفسد المتاع لم يضمن رب الدابة شيئا أما لأنه لا يضمن نفس صاحب المتاع لأن ذلك ضمان الجناية ولا يضمن المتاع لأن متاعه في يده معناه أن العمل فيه يصير مسلما بنفسه فيخرج من ضمان رب الدابة.(15/321)
وإذا تكارى من رجل دابة شهرا بعشرة دراهم على أنه متى ما بدا له من ليل أو نهار حاجة ركبها لا يمنعه منها فإن كان سمى بالكوفة ناحية من نواحيها فهو جائز وإن لم يكن سمى مكانا فالإجارة فاسدة لأن المعقود عليه لا يصير معلوما ببيان المدة إذا لم يكن الركوب مستغرقا بجميع المدة وإنما يصير معلوما ببيان المكان فما لم يبين ذلك لا يجوز وإن تكاراها يوما يقضي حوائجه في المصر فهو جائز لأن الركوب هنا مستدام في المدة المذكورة ولأن نواحي المصر في حكم مكان واحد ولهذا جاز عقد السلم إذا شرط الإيفاء في المصر وإن لم يبين موضعا منه فإذا كان نواحي المصر كمكان واحد كان له أن يركب إلى أي نواحي المصر شاء وإلى الجنازة ونحوها لأن المقابر من فناء المصر وليس له أن يسافر عليها لأنه استأجرها للركوب في المصر وإن تكاراها إلى واسط يعلفها ذاهبا وجائيا فركبها حتى أتى واسط فلما رجع حمل عليها رجلا معه فعطبت فعليه أجر مثلها في الذهاب لأن الاستئجار بعلفها فاسد لجهالة الأجر وقد استوفى منفعتها بعقد فاسد فعليه أجر مثلها في الذهاب ونصف أجر مثلها في الرجوع لأنه استوفى في الرجوع منفعة نصفها وهو ما شغلها بركوب نفسه فلذلك يلزمه نصف أجر المثل وقد ذكر قبل هذا في الإجارة الصحيحة أنه إذا ركبها وأردف فعليه جميع المسمى ومن أصحابنا رحمه الله من يقول لأن في الإجارة الصحيحة يجب الأجر بمجرد التمكن وفي الفاسد لا يجب الأجر إلا باستيفاء المنفعة ولهذا يلزمه بقدر ما استوفى قال رضي الله عنه وهذا ليس بقوي عندي في الموضعين جميعا فبالتمكن من الاستيفاء يجب أجر المثل وفي العقد الصحيح لا يعتبر التمكن فيما شغله بركوب غيره ولكن الصحيح أنه لا فرق في الحقيقة إنما يجب أجر المثل بحسب ما استوفى من المنفعة فيتضاعف(15/322)
ص -153- ... أجر مثلها إذا أردف فإذا أوجبنا عليه نصف أجر مثلها فقد أوجبنا من أجر المثل جميع ما يخص ركوبه وكذلك عند صحة العقد فإن جميع المسمى هناك بمقابلة ركوبه فهو نظير نصف أجر المثل هنا ثم يكون ضامنا نصف قيمة الدابة وإن حمل عليها متاعا معه فهو ضامن بقدر ما زاد لأنه مخالف له في ذلك ويحسب ما علفها به لأنه علفها بإذن صاحبها فيستوجب الرجوع به عليه ويكون قصاصا بما استوجب عليه صاحبها من الأجر.
وإن تكارى دابة عشرة أيام كل يوم بدرهم فحبسها ولم يركبها حتى ردها يوم العاشر قال يسع صاحبها أن يأخذ الكراء وإن كان يعلم أنه لم يركبها لأنه أتى بما يستحقها بما هو المستحق عليه بالعقد وهو تسليم الدابة إليه وتمكينها من ركوبها في المدة فيطيب له الأجر كالمرأة إذا سلمت نفسها إلى زوجها طاب لها جميع الصداق وإن كانت تعلم أن زوجها لم يطأها وإن تكاراها يوما واحدا فلا أجر عليه فيما حبسها بعد ذلك وإن أنفق عليها فهو متطوع في ذلك إلا أن يكون بأمر صاحبها ولو تكارى دابة لعروس تزف عليها إلى بيت زوجها فحبس الدابة حتى أصبح ثم ردها ولا يركب فلا كراء عليه لأنه لم يوجد تسليم المعقود عليه فالمعقود عليه خطوات الدابة في الطريق لنقل العروس وذلك لا يوجد عند حبس الدابة في البيت وإن حملوا عليها غير العروس فإن تكاراها العروس بعينها فهو ضامن ولا كراء عليه لأنه غاصب مخالف وإن تكاراها لعروس بغير عينها فلا ضمان عليه وعليه الكراء استحسانا لأن المستحق بالعقد قد استوفى والتعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء.(15/323)
وإن تكاراها على أن يركب مع فلان يشيعه فحبسها من غدوة إلى انتصاف النهار ثم بدا للرجل أن لا يخرج فرد الدابة عند الظهر فإن كان حبسها قدر ما يحبس الناس فلا ضمان عليه وإن حبسها أكثر من ذلك فهو ضامن لإمساكه إياها في غير المكان المشروط إلا أن قدر ما يحبس الناس صار مستثنى له بالعرف ولا أجر عليه في الوجهين لأنه لم يستوف المعقود عليه فالمعقود عليه خطوات الدابة في الطريق ولا يوجد ذلك إذا حبسها في المصر ولأن صاحب الدابة متمكن من أن تسير الدابة معه إلى الطريق وإن ركبها بعد الحبس فلا أجر عليه أيضا لأنه صار ضامنا بالخلاف فيكون كالغاصب لا يلزمه الأجر إذا عطبت لاستناد ملكه فيها إلى وقت وجوب الضمان عليه.
وإن تكارى دابة بغير عينها إلى حلوان فنتجت في الطريق وضعفت من حمل الرجل لأجل الولادة فعلى المكاري أن يأتي بدابة أخرى تحمله ومتاعه لأنه التزم بالعقد العمل في ذمته فعليه الوفاء بما التزم ألا ترى أن هذه الدابة لو هلكت كان عليه أن يأتي بأخرى فكذلك إذا ضعفت إلا أن يكون الكراء وقع على هذه بعينها فحينئذ المعقود عليه منافعها ولا يتأتى استيفاء ذلك من دابة أخرى بل يكون عذرا في فسخ الإجارة وإن تكارى ثلاث دواب ثم أن رب الدواب أجر دابة من غيره وأعار أخرى ووهب أخرى أو باع فوجد المستكري الدواب في أيديهم فإن كان باع من عذر فبيعه جائز وانتقصت الإجارة على رواية هذا(15/324)
ص -154- ... الكتاب وقد بيناه وإن باع من غير عذر فالبيع مردود والمستكري أحق بالدواب لتقدم عقده وثبوت استحقاق المنافع له واليد في العين بذلك العقد إلا أن ما وجده في يد المستعير فلا خصومة بينهما حتى يحضر رب الدواب لأن يد المستعير ليس بيد الخصومة وما وجده في يد الموهوب له فهو خصم فيها لأنه يدعي ملك عينها فيكون خصما لمن يدعي حقا فيها وأما الإجارة فالمستأجر أحق بها حتى يستوفي الإجارة وهذا جواب مبهم فإنه لم يبين أي المستأجرين أحق بها فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول مراده الأول والثاني يكون خصما له لأن الأول يدعي ما يزعم الثاني أنه له فيكون خصما له في ملكه ولكن الأصح أن المستأجر الثاني لا يكون خصما للأول حتى يحaضر رب الدابة بمنزلة المستعير لأنه لا يدعي ملك عينها لنفسه.(15/325)
ولو تكارى غلاما ودابة إلى البصرة بعشرة دراهم ذاهبا وجائيا وقد شرط لهم درهما إلى الكوفة فأبق الغلام ونفقت الدابة فعليه من الأجر بحساب ما أصاب من خدمة الغلام وركوب الدابة لأنه استوفى المعقود عليه بذلك القدر ثم انعدم تمكنه من استيفاء ما بقي بالهلال والإباق وقد كان أمينا فيهما ولا ضمان عليه وإن استأجر الدابة وحدها وقال المكاري استأجر غلاما عني كي نتبعك ونتبع الدابة وأجره علي وأعطاه نفقة ينفق على الدابة ففعل المستأجر وسرقت النفقة من الغلام فإن أقام المستأجر البينة أنه استأجر الغلام وأقر الغلام بالقبض لزم المكاري النفقة ضاعت أو لم تضع وإلا فلا شيء عليه لأنه في استئجار الغلام وكيل صاحب الدابة وقد أثبته بالبينة فيجعل كأن صاحب الدابة استأجره بنفسه ثم الغلام وكيل المكاري في قبض النفقة منه فإقراره بالقبض كإقرار صاحب الدابة ولو تكاراها إلى بغداد بعشرة دراهم وأعطاه الأجر فلما بلغ بغداد رد عليه بعض الدراهم وقال هي زيوف أو استوقه فالقول قول رب الدابة في ذلك إن لم يكن أقر بشيء لأنه ينكر استيفاء حقه وإن أقر بقبض الدراهم فالقول قوله فيما يزعم أنه زيوف لأن الزيوف من جنس الدراهم فلا يصير به مناقضا ولا يقبل قوله فيما يزعم أنه استوق لأنه مناقض في كلامه فالستوق ليس من جنس الدراهم وإن كان أقر باستيفاء الأجرة أو باستيفاء حقه أو باستيفاء الجياد فلا قول له بعد ذلك فيما يدعي لكونه مناقضا.
وإذا مات المكاري في الطريق فاستأجر المستكري رجلا يقوم على الدابة فالأجر عليه وهو متطوع في ذلك فهو كما لو أنفق على الدابة وإن نفقت الدابة في الطريق فعليه من الكراء بقدر ما ساروا والقول في ذلك قوله لأنهما تصادقا على أنه لم يستوف جميع المعقود عليه وإنما اختلفا في مقدار ما استوفى أو في مقدار ما لزمه من الأجر فرب الدابة يدعي الزيادة والمستكري منكر لذلك.(15/326)
وإن تكارى دابتين إحديهما إلى بغداد والأخرى إلى حلوان فإن كانت التي إلى بغداد بعينها والتي إلى حلوان بعينها جاز العقد لأن المعقود عليه معلوم وإن كانت بغير عينها لم يجز لجهالة في المعقود عليه على وجه يفضي إلى المنازعة وعليه فيما ركب أجر مثله ولا(15/327)
ص -155- ... ضمان عليه اعتبارا للعقد الفاسد بالجائز وإن تكارى بغلا إلى بغداد فأراد المكاري أن يحمل متاعا له أو لغيره بكراء مع متاع فللمستكري أن يمنعه من ذلك لأن بالعقد استحق منافعه وقام هو في ذلك مقام المالك والمالك مقام الأجنبي فإن حمله وبلغ الدابة بغداد لم يكن للمستكري أن يحبس عنه شيئا من الأجر لذلك لأنه حصل مقصوده بكماله واستوفى ما استحقه بالعقد فإذا اختلف المؤاجر أن في مقدار الكراء فالقول قول المستأجر لأنهما يدعيان عليه الزيادة وبعد استيفاء المنفعة عقد الإجارة لا يحتمل الفسخ فكان القول قول المنكر للزيادة وإن أقام المؤاجر أن البينة فلكل واحد منهما نصف ما شهد به شهوده لأن كل واحد منهما يثبت حق نفسه وحق صاحبه وبينة كل واحد منهما على إثبات حقه أولى بالقبول ولأن كل واحد منهما مكذب ببينة صاحبه فلا تكون تلك البينة حجة في نصيبه وإن تكاراها على أنه بالخيار ساعة من نهار فركبها على ذلك فعطبت فعليه الأجر ولا ضمان عليه لأن ركوبه إياها في مدة خياره دليل الرضا منه بسقوط الخيار فإنه مستوف للمعقود عليه متلف فلزمه الأجر بقدر ما استوفى ولا ضمان عليه كما لو لم يكن في العقد خياله وإن كان الخيار لصاحب الدابة فالمستكري ضامن له ولا أجر عليه لأنه غاصب في ركوبها قبل أن يتم رضى صاحبها به فإذا شرط الخيار يعدم تمام الرضاء.(15/328)
ولو تكارى حمارا يطحن عليه فأوثقه في الرحا وساقه الأجير فتعسف عليه الأجير حتى عطب من عمله فالأجير ضامن لأنه متلف له بالتعسف في سيره ولم يكن مأمورا بذلك من جهة المستأجر ليتنقل فعله إليه فلهذا لا شيء على المستأجر منه وإن استأجر ثورا يطحن عليه كل يوم عشرة أقفزه فوجده لا يطحن إلا خمسة أقفزة فالمستأجر بالخيار لأنه يغير عليه شرط عقده فإذا شاء أبطل الإجارة عليه فيما بقي عليه وفيما عمل من الطحن بحساب ما عمل من الأيام ولا يحط عنه من ذلك شيئا لأن المعقود عليه منفعه الثور في المدة وقد استوفى ذلك واشتراط عشرة أقفزة في كل يوم ليس لايراد العقد على العمل بل لبيان جلادة الثور في عمل الطحن فلهذا لا ينتقص عنه شيء من الأجر فيما عمل من الأيام.
ولو تكارى دابة إلى بغداد فوجدها لا تبصر بالليل أو جموحا أو عثورا أو تعض فإن كانت الدابة بعينها فله الخيار لتغيير شرط العقد عليه وعليه من الأجر بحساب ما سار لأنه استوفى المعقود عليه بقدره وإن كانت بغير عينها فله أن يبلغه إلى بغداد على دابة غيرها لأنه التزم العمل في ذمته وهذا إذا قامت البينة على عيب هذه الدابة لأن دعوى المستأجر العيب غير مقبولة إلا بحجة ولو تكارى بعيرا ليعمل عليه عملا على النصف قال كان أبو حنيفة رحمه الله يقول إذا كان ينقل الحمل على البعير فالأجر كله لصاحب البعير لأنه بدل منفعة بعيره والمدفوع إليه نائب عنه في الاكراء وللذي يعمل عليه أجر مثله على صاحب البعير لأنه ابتغى عن منافعه عوضا وقد سلمت منافعه لصاحب البعير ولم يسلم له العوض بمقابلته فعليه أجر المثل له وإن كان الرجل يحمل عليه المتاع ليبيعه فما اكتسب عليه من شيء فهو(15/329)
ص -156- ... له لأنه عامل لنفسه فيما اكتسب بالبيع والشراء وعليه أجر مثل البعير لأن صاحب البعير ابتغى عن منافع بعيره عوضا ولم يسلم له ذلك.
رجل تكارى غلاما ليذهب له بكتاب إلى بغداد فقال الغلام قد ذهبت بالكتاب وقال الذي أرسل إليه الكتاب لم يأتني به فعلى الغلام البينة على ما يدعي لأنه يدعي إبقاء المعقود عليه وإن أقام البينة أنه قد دفع الكتاب إليه كان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وله الأجر على المرسل دون من حمل الكتاب إليه وإن قال المرسل إليه أعطيته أجرة عشرة دراهم فعليه البينة على ذلك كما لو كان المرسل هو الذي يدعي إيفاء الأجر وإن أقام الغلام البينة أنه قد أتى بغداد بالكتاب فلم يجد الرجل فله الأجر لأنه أتى بما استحق عليه وهو قطع المسافة إلى بغداد مع الكتاب كما أمر به ثم إن كان استأجره ليذهب بالكتاب ويأتي بالجواب فله أجر حصة الذهاب دون الرجوع لأنه في الرجوع غير ممتثل أمره ولا عامل له حين لم يكن الجواب معه وإذا عاد بالكتاب حين لم يجد الرجل فلا أجر له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله تعالى له ما يخص الذهاب من الأجر لأنه في الذهاب عامل له كما أمر به فتقرر حقه في الأجر بقدره كما لو ترك الكتاب هناك عند أهل من أرسل إليه وهذا بخلاف ما إذا استأجره ليحمل طعاما إلى بغداد فحمله ثم عاد به لأن استحقاق الأجر هناك بنقل الطعام من مكان إلى مكان وقد نقص ذلك حين عاد بالطعام فلم يبق تسليم شيء من المعقود عليه وهنا الأجر له بقطع المسافة إذ ليس للكتاب حمل ومؤنة فلا يصير بالرجوع ناقصا عمله سواء عاد بالكتاب أو لم يعد وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان شيء من مقصود الأمر لم يحصل بعمله فلا يستوجب الأجر عليه كما لو ذهب من جانب آخر.(15/330)
وبيان ذلك أن مقصود الأمر أن يصل الكتاب إلى المرسل إليه ويصل الجواب إليه وحين عاد بالكتاب صار الحال كما قبل ذهابه من حيث إن شيئا من مقصود الأمر غير حاصل فأما إذا ترك الكتاب هناك فبعض مقصوده حاصل لأن المكتوب إليه إذا حضر وقف على ما في الكتاب ويبعث بالجواب على يد غيره فلحصول بعض المقصود هناك ألزمناه حصة الذهاب من الأجر.
رجل تكارى دابة إلى مكان معلوم ولم يقل أركبها بسرج ولا إكاف فجاء بها المكاري عريانة فركبها بسرج أو إكاف فعطبت قال إن كان يركب في ذلك الطريق مثل تلك الدابة بإكاف أو بسرج فلا ضمان عليه وإن كانت لا تركب إلا بسرج فركب بإكاف فهو ضامن لأنه بمطلق العقد يستحق استيفاء المعقود عليه على الوجه المتعارف فإذا خالف ذلك صار ضامنا ولو تكارى من الفرات إلى جعفى وجعفى قبيلتان بالكوفة ولم يسم أي القبلتين هي أو إلى الكناسة ولم يسم أي الكناستين أو إلى بحيله ولم يسم أيهما هي الظاهرة أو الباطنة فعليه أجر مثلها لأن المعقود عليه مجهول فكان العقد فاسدا واستيفاء المنفعة بحكم العقد الفاسد(15/331)
ص -157- ... يوجب أجر المثل ومثله بحارا إذا تكاراها إلى السهلة ولم يبين أي السهلتين هي سهلة قوت أو سهلة أمير أو تكاراها إلى حسون ولم يبين أي القريتين.
ولو تكارى عبدا مأذون أو غير مأذون بنصف ما يكتسبه على هذه الدابة فالإجارة فاسدة لجهالة الأجر ولأنه جعل الأجر بعض ما يحصل بعمله فالإجارة فاسدة وله أجر مثله فيما عمل له إن كان مأذونا أو استأجره من مولاه وإن كان غير مأذون ولم يستأجره من مولاه فإن عطب الغلام كان ضامنا لقيمته لأنه غاصب له حين استعمله بغير إذن مولاه ولا أجر عليه لأنه ملكه بالضمان من حين وجب عليه الضمان وإن سلم فعليه الأجر استحسانا وفي القياس لا أجر عليه لأنه غاصب له ضامن وجه الاستحسان أن العقد الذي باشره العبد بتمحض منفعة إذا سلم من العمل لأنه إن اعتبر وجب الأجر وإن لم يعتبر لم يجب شيء والعبد المحجور عليه غير ممنوع عما يتمحض منفعة قبول الهبة والصدقة ولأن عقد اكتساب محض إذا سلم من العمل فهو كالاحتطاب والاصطياد إذا باشره العبد بغير إذن مولاه وهذا لأن الحجر لدفع الضرر عن المولى وفيما لا ضرر عليه لا حجر.
وإن تكاراها إلى بغداد على إن بلغه إليها فله رضاه فبلغه إليها فقال رضائي عشرون درهما فله أجر مثلها لجهالة الأجر عند العقد واستيفاء المنفعة بعقد فاسد إلا أن يكون أجر المثل أكثر من عشرين درهما فلا يزاد عليه لأنه رضي بهذا المقدار وأبرأه عن الزيادة وإن تكاراها بمثل ما يكاري به أصحابه أو بمثل ما يتكارى به الناس فعليه أجر مثلها لأن المسمى مجهول فالناس يتفاوتون في ذلك فمن بين مسامح ومستقصي.(15/332)
وإن تكارى دابة من الكوفة إلى مكان معلوم من فارس بدراهم أو دنانير فعليه نقد الكوفة ووزنها لأن السبب الموجب للأجر هو النقد وإن تأخر الوجوب إلى استيفاء المعقود عليه والعقد كان بالكوفة فينصرف مطلق التسمية إلى وزن الكوفة ونقدها وهذا لأن عمل العرف في تقييد مطلق التسمية والتسمية عند العقد لا عند استيفاء المنفعة فلهذا يعتبر مكان العقد فيه وإن تكاراها إلى فارس ولم يسم مكانا معلوما منها فالعقد فاسد لجهالة المعقود عليه فقد سمى ولاية مشتملة على الأمصار والقرى فإذا لم يبين موضعا منها فالمنازعة تتمكن بينهما من حيث إن المكاري يطالبه بالركوب إلى أدنى ذلك الموضع وهو يريد الركوب إلى أقصى تلك الولاية ويحتج كل واحد منهما بمطلق التسمية ومثله في ديارنا إذا تكارى دابة إلى فرغانة أو إلى سعد.
وإن تكارى إلى الري ولم يسم مدينتها ولا رستاقا بعينه فالعقد فاسد أيضا وروى هشام عن محمد رحمهما الله أن العقد جائز وجعل الري اسما للمدينة خاصة بمنزلة ما لو تكاراها إلى سمرقند أو أوزجند ولكن في ظاهر الرواية قال اسم الري يتناول المدينة ونواحيها فإذا لم يبين المقصد يمكن جهالة فيه تفضي إلى المنازعة فإن ركبها إلى أدنى الري فله أجر مثلها لا يزاد على ما سمى لأن المكاري رضي بالمسمى إلى أدنى الري فإن ركبها إلى أقصى الري فله أجر مثلها لا ينتقص ما سمى لأن المستكري قد التزم المسمى إلى أقصى الري فلا ينتقص(15/333)
ص -158- ... عنه ويزاد عليه إذا كان أجر المثل أكثر من ذلك لأن المكاري إذا رضي بالمسمى إلى أدنى الري فلا يصير راضيا إلى أقصى الري ومثله في ديارنا إذا استأجرها إلى بخارى فهو اسم للبلدة بنواحيها فأول حدود بخارى كرمينية وآخره فربر وبينهما مسافة بعيدة فالتخريج فيه كتخريج مسألة الري.
وإن تكاراها من الكوفة إلى بغداد وعلى أنه أدخله بغداد في يومين فله عشرة وإلا فله درهم فهذا من الجنس الذي تقدم بيانه أن عند أبي حنيفة رحمه الله التسمية الأولى صحيحة والثانية فاسدة وعندهما تصح التسميتان وقد بينا ذلك في الخياط.(15/334)
رجل تكارى دابة من رجل بالكوفة من الغداة إلى العشي قال يردها عند زوال الشمس لأن ما بعد الزوال عشي قيل في تفسير قوله تعالى: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}[مريم: 11] قبل الزوال وبعد الزوال وكذلك في قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}[الأنعام: 52] أن الغداة قبل الزوال والعشي ما بعده وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أحد صلاتي العشاء إما الظهر أو العصر إذا ثبت هذا فنقول جعل العشي غاية والغاية لا تدخل في الإجارة فإن ركبها بعد الزوال ضمنها لأن العقد انتهى بزوال الشمس فهو غاصب في الركوب بعد ذلك وإن تكاراها يوما ركبها من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس لأن اليوم اسم لهذا الوقت ألا ترى أن الصوم يقدر باليوم شرعا وكان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وكذلك القياس فيما إذا استأجر أجيرا يوما إلا أن الأجير ما لم يفرغ من الصلاة لا يشتغل بالعمل عادة فتركنا القياس فيه لهذا ولا يوجد هذا المعنى في استئجار الدابة وإن تكاراها ليلة ركبها عند غروب الشمس فيردها عند طلوع الفجر فإن بغروب الشمس يدخل الليل بدليل حكم الفطر ولم يذكر إذا تكاراها نهارا وبعض مشايخنا رحمهم الله يقول إنما يركبها من طلوع الشمس إلى غروب الشمس فإن النهار اسم الوقت من طلوع الشمس قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة النهار عجما" فلا يدخل في ذلك الفجر ولا المغرب وإنما سمى نهارا لجريان الشمس فيه كالنهر يسمى نهرا لجريان الماء فيه ولكن هذا إذا كان من أهل اللغة يعرف الفرق بين اليوم والنهار فإن العوام لا يعرفون ذلك ويستعملون اللفظين استعمالا واحدا فالجواب في النهار كالجواب في اليوم.(15/335)
وإن تكاراها بدرهم يذهب عليها إلى حاجته لم يجز العقد إلا أن يبين المكان لأن المعقود عليه لا يصير معلوما إلا بذكر المكان ولا ضمان على المستأجر في الدابة إذا هلكت وهي في يده على إجارة فاسدة لأن الفاسد من العقد معتبر بالجائز ولأنه في الوجهين مستعمل للدابة بإذن المالك وإن استحقت الدابة من يد المستأجر وقد هلكت عنده فضمن قيمتها رجع على الذي أجرها منه لأنه مغرور من جهته بمباشرة عقد الضمان فيرجع عليه بما يلحقه من الضمان بسببه ولا يملكها المستأجر بضمان القيمة لأن الملك في المضمون يقع لمن يتقرر عليه الضمان وهو الأجر ولا أجر للمستحق على أحد لأن وجوب الأجر بعقد(15/336)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء السادس عشر
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(16/1)
ص -3- ... باب انتقاض الإجارة
قال رحمه الله: ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حين وضع رجله في الغرز أن الناس قائلون غدا ماذا قال عمر وأن البيع عن صفقة أو خيار والمسلحون عند شروطهم وفي هذا الحديث دليل أن الإجارة يتعلق بها اللزوم إذا لم يشترط فيها الخيار كالبيع بخلاف ما يقوله شريح رحمه الله إن الإجارة من المواعيد لا تكون لازمة وقد بيناه وفيه دليل على أن البيع نوعان لازم بنفسه وغير لازم إذا شرط فيه الخيار فإن الصفقة هي اللازمة النافذة يقال هذه صفقة لم يشهدها خاطب إذا أنفذ أمر دون رأي رجل فيكون حجة على الشافعي رحمه الله لأنه يثبت خيار المجلس في كل بيع وفيه دليل وجوب الوفاء بالمشروط إذا كان الشرط صحيحا شرعا فلا خلاف بيننا فالشافعي رحمه الله يقول عقد الإجارة إذا أطلقت فهي لازمة كالبيع إلا أن عندنا قد يفسخ الإجارة بالعذر وعنده لا يفسخ إلا بالعيب وهو بناء على أصله أن المنافع كالأعيان الموجودة حكما فإن العقد عليها كالعقد على العين فكما لا يفسخ البيع إلا بعيب فكذلك الإجارة وعندنا جواز هذا العقد للحاجة ولزومه لتوفير المنفعة على المتعاقدين فإذا آل الأمر إلى الضرر أخذنا فيه بالقياس وقلنا العقد في حكم المضاف في حق المعقود عليه والإضافة في عقود التمليكات تمنع اللزوم في الحال كالوصية ثم الفسخ بسبب العيب لدفع الضرر لا لعين العيب فإذا تحقق الضرر في إيفاء العقد يكون ذلك عذرا في الفسخ وإن لم يتحقق العيب في المعقود عليه ألا ترى أن من استأجر أجيرا ليقلع درسه فسكن ما به من الوجع كان ذلك عذرا في فسخ الإجارة أو استأجره ليقطع يده للآكلة ثم بدا له في ذلك أو استأجره ليهدم بناء له ثم بدا له في ذلك لأنه لا يتمكن من إيفاء العقد إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله من حيث إتلاف شيء من بدنه أو إتلاف ماله.(16/2)
وجواز الاستئجار للمنفعة لا للضرر وقد يرى الإنسان المنفعة في شيء ثم يتبين له للضرر في ذلك وكذلك لو استأجره ليتخذ له وليمة ثم بدا له في ذلك فليس للأجير أن يلزمه اتحاد الوليمة شاء أو أبى لأن في ذلك عليه من الضرر في إتلاف ماله وجواز الاستئجار للمنفعة لا لضرر إذا عرف هذا فنقول من العذر في استئجار البيت أن ينهدم البيت أو يهدم منه ما لا يستطيع أن يسكن فيه وهذا من نوع العيب في المعقود عليه وثبوت حق الفسخ به مجمع عليه لأن تقبض الدار المنافع لا تدخل في ضمانه فحصول هذا(16/3)
ص -4- ... العارض في يد المستأجر كحصوله في يد الآجر فإن أراد صاحب البيت أن يبيعه فليس هذا بعذر لأنه لا ضرر عليه في إيفاء العقد إلا قدر ما التزمه عند العقد وهو الحجر على نفسه عن التصرف في المستأجر إلى انتهاء المدة وإن باعه فبيعه باطل لا يجوز لعجزه عن التسليم وقد بينا في البيوع أن الصحيح من الرواية أن البيع موقوف على سقوط حق المستأجر وليس للمستأجر أن يفسخ البيع.
وأن كان على المؤاجر دين فحبس في دينه فباعه فهذا عذر لأن علته في إيفاء العقد ضرر لم يلتزم ذلك بالعقد وهو الحبس على سقوط حق المستأجر عن العين فإن بعقد الإجارة لا يزول ملكه عن العين ولا يثبت للمستأجر حق في ماليته فيكون المديون مجبورا على قضاء الدين من ماليته محبوسا لأجله إذا امتنع فلهذا كان ذلك عذرا له في الفسخ ثم ظاهر ما يقول هنا يدل على أنه يبيعه بنفسه فيجوز وقد ذكر في الزيادات أنه يرفع الأمر إلى القاضي ليكون هو الذي يفسخ الإجارة ويبيعه وهو الأصح لأن هذا فصل مجتهد فيه فيتوقف على إمضاء القاضي كالرجوع في الهبة.(16/4)
وإن انهدم منزل المؤاجر ولم يكن له منزل آخر فأراد أن يسكنه لم يكن له أن ينقض الإجارة لأنه لا ضرر عليه فوق ما التزمه بالعقد فإنه يتمكن من أن يكتري منزلا آخر أو يشتري وكذلك إن أراد التحول من المصر لأنه لا يخرج المنزل مع نفسه فلا يلحقه ضرر فوق ما التزمه بالعقد وهو ترك المنزل في يد المستأجر إلى هذه المدة وإن كان هذا بيتا في السوق يبيع فيه ويشتري فلحق المستأجر دين أو أفلس فقام من السوق فهذا عذر وله أن ينقض الإجارة لأنه استأجره للانتفاع وهو يتضرر بإيفاء العقد بعد ما ترك تلك التجارة أو أفلس ضررا لم يلزمه بنفس العقد وكذلك إذا أراد التحول من بلد إلى بلد لأنه لو لزمه الامتناع من السفر تضرر به ضرر لم يلتزمه بالعقد وبعد خروجه لا يتمكن من الانتفاع بالبيت فإن قال رب البيت أنه يتعلل ولا يريد الخروج حلف القاضي المستأجر على ذلك لأن الظاهر شاهد له فالظاهر أنه لا يترك ما كان عزم عليه من التجارة في الحانوت إلا إذا أراد التحول من بلد إلى بلد فالقول قوله مع يمينه وقيل بحكم القاضي حاله في ذلك فإن رآه قد استعد للسفر قبل قوله قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وقيل يقول له مع من يخرج فالإنسان لا يسافر إلا مع رفقة ثم يسأل رفقاءه عن ذلك.
وإن فسخ العقد وخرج الرجل ثم رجع وقال قد بدا لي في ذلك وخاصمه صاحب البيت فإن القاضي يحلف المستأجر بالله أنه كان في خروجه قاصدا للسفر لأن رب البيت يدعي بطلان الفسخ لعدم العذر وذلك ينبني وما في ضميره في ضمير المستأجر لا يعلمه غيره فكان القول قوله مع يمينه وكذلك إن أراد التحول من تلك التجارة إلى تجارة أخرى فهذا عذر لأن في إيفاء العقد ضررا لم يلتزمه بالعقد وقد تروج نوع التجارة في وقت وتبور في وقت آخر وإن لم يكن هذا ولكن وجد بيتا هو أرخص منه لم يكن عذرا وكذلك لو(16/5)
ص -5- ... اشترى منزلا وأراد التحول إليه لأنه لا يلحقه ضرر إلا ما التزمه بالعقد وهو التزام الأجر عند استيفاء المنفعة وإنما يقصد بالفسخ هنا الربح لا دفع الضرر وإن استأجر دابة بعينها لي بغداد فبدا للمستأجر أن لا يخرج فهذا عذر لأن عليه ضررا في إيفاء العقد وهو تحمل مشقة السفر.
وقال بن عباس رضي الله عنهما: لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" لقلت العذاب قطعة من السفر ولو قال رب الدابة أنه يتعلل فالسبيل للقاضي أن يقول له اصبر فإن خرج فقاد الدابة معه لأن المعقود عليه خطوات الدابة فإذا قادها معه فقد تمكن من استيفاء المعقود عليه فيلزمه الأجر وإن لم يركب وكذلك لو أراد الخروج في طلب غريم له أو عبد آبق فرجع وكذلك لو مرض أو لزمه غرم أو خاف أمرا أو عثرت الدابة أو أصابها شيء لا يستطاع الركوب معه فبعض هذا عيب في المعقود عليه وبعضه عذر للمستأجرين في التخلف عن الخروج ولا فائدة للمؤاجر في إيفاء العقد إذا لم يخرج المستأجر وإن عرض لصاحب الدابة مرض لايستطيع الشخوص مع دابته لم يكن له أن ينقض الإجارة لأن بامتناعه من الخروج لا يتعذر تسليم المعقود عليه فيؤمر بتسليم الدابة وأنه يرسل معه رسولا يتبع الدابة وكذلك لو حبسه غريمه.(16/6)
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله قال: إذا امتنع رب الدابة من الخروج فيكون هذا عذرا وإن مرض فهو عذر له لأنه يقول غيري لا يشقق على دابتي ولا يقوم بتعاهدها كقيامي فإذا تعذر عليه الخروج لمرض يلحقه في إيفاء العقد ضرر لم يلتزمه بالعقد وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله قال إذا اكترت المرأة إبلا إلى مكة للذهاب والرجوع فلما كان في يوم النحر ولدت قبل أن تطوف للزيارة فهذا عذر للمكاري لأنها تحبس إلى مضي مدة النفاس وهذا ضرر لم يلتزمه المكاري بالعقد لأنه غير معتاد وإن كانت قد ولدت قبل ذلك فإن كان الباقي مدة النفاس بعد يوم النحر عشرة أيام أو أقل فهذا ليس بعذر للمكاري لأن ما بقي مثل مدة الحيض وذلك معلوم وقوعه عادة وكان المكاري ملتزما ضرر التأخير بقدره وإن عطبت الدابة فهذا عذر وهذا لأن المعقود عليه فات ولا سبب للفسخ أقوى من هلاك المعقود عليه وإن كانت الدابة بغير عينها لم يكن هذا عذر لأن المكاري التزم العمل في ذمته وهو قادر على الوفاء به بدابة أخرى يحمله عليها.
ولو مات المستأجر في بعض الطريق كان عليه من الأجر بحساب ما سار ويبطل عنه بحساب ما بقى لانفساخ العقد بموت أحد المتكاريين وقد بينا ذلك وإن مات رب الإبل في بعض الطريق فللمستأجر أن يركبها على حالة حتى يأتي مكة وذكر في كتاب الشروط أن هذا إذا كان في مفازة بحيث لا يقدر به على سلطان وخاف أن يقطع به وهو الصحيح لأنه كما يجوز نقض الإجارة عند العذر لدفع الضرر يجوز إيفاؤها بعد ظهور سبب الانتقاض لدفع الضر وإذا كان في المفازة لو قلنا بانتقاض العقد يتعذر عليه الركوب فيتضرر به لأنه عاجز عن المشي ولا يقدر على دابة أخرى فأما إذا كان في مصر فهو لا يتضرر بانتقاض العقد.(16/7)
ص -6- ... وموت أحد المتكاريين موجب انتقاض العقد فإذا بقي العقد لم يضمن إن عطبت من ركوبه وعليه الأجر المسمى وهو استحسان لأن العقد لما بقي للتعذر صار الحال بعد موت المكاري كالحال قبله فإذا أتى مكة دفع ذلك إلى القاضي لأن ما به من العذر قد زال وبقيت الدابة في يده ملكا للورثة وهو عيب فدفعها إلى القاضي فإن سلم له القاضي الكراء إلى الكوفة فهو جائز إما لأنه أمضى فصلا مجتهد فيه باجتهاده أو لأنه يرى النظر في ذلك لأنه لو أخذها منه أجرها من غيره ليردها إلى الكوفة وصاحبها رضي بكونها في يده فالأولى له إذا كان المستأجر ثقة أن ينفذ له الكراء إلى الكوفة وإن رأى النظر في بيعها فهو جائز لأن البعث بثمنها إلى الورثة ربما يكون أنفع وأيسر لهم فإن الثمن لا يحتاج إلى النفقة.
وإن كان أنفق المستأجر عليها شيئا لم يحسب له ذلك لأنه متطوع في ذلك بالأنفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون بأمر القاضي فيحسب له إذا أقام البينة عليه لأن للقاضي ولاية النظر في حق الغائب فالإنفاق بأمره كالإنفاق بأمر صاحب الدابة ولكنه غير مقبول القول فيما يدعي من الإنفاق فإذا قام البينة رد ذلك عليه من الثمن وكذلك إن أقام البينة على توفية الكراء رد عليه بحساب ما بقي لأنه أثبت دينه في تركة الميت وهذا مال الميت ولأن الإبل محبوسة في يده إلى أن يرد عليه ما أنفق بأمر القاضي أو بما عجل من الكراء فلا يتمكن القاضي من أخذها وبيعها حتى يرد عليه ما بقى له فلهذا قبل بينته على ذلك ونفذ قضاؤه على الورثة مع غيبتهم.(16/8)
وإن استأجر أرضا فغلب عليها الماء أو أصابها نزلا تصلح معه الزراعة فهذا عذر لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه وكذلك إن أراد أن يترك الزرع أو افتقر حتى لا يقدر على ما يزرع فهذا عذر لأن الزارع في الحال متلف لبذره ولا يدري أيحصل الخارج أم لا وقد بينا أنه إذا كان لا يتمكن من إيفاء العقد إلا بإتلاف ماله فهو عذر له وإن وجد أرضا أرخص منها أو أجود لم يكن هذا عذرا لأنه بالفسخ يقصد هنا تحصيل الربح لا دفع الضرر وإن مرض المستأجر فإن كان هو الذي يعمل بنفسه فهذا عذر لأنه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه وإن كان إنما يعمل إجراؤه فليس هذا عذرا البقاء يمكنه من استيفاء المعقود عليه كما قصده بالعقد وإن كانت الأرض ليتيم أجرها وصية فكبر اليتيم لم يكن له أن يفسخ الإجارة لأن عقد الوصي على ماله كعقده على نفسه ولا ضرر عليه في إيفاء الإجارة بعد بلوغه بخلاف ما إذا كان أجر نفسه فإن ذلك كد وتعب وهو يتضرر بإيفاء العقد بعد بلوغه.
وإذا استأجر عبدا لخدمة أو لعمل آخر فمرض العبد فهذا عذر في جانب المستأجر ولأنه يتعذر عليه استيفاء المعقود عليه وإن أراد رب العبد ذلك لم يكن له ذلك لأنه لا ضرر عليه في إيفاء العقد فالمستأجر لا يكلفه من إيفاء العمل إلا بقدر طاقته وهو يرضى بذلك وإن كان ذلك دون حقه وإن لم يفسخها واحد منهما حتى بدأ العبد فالإجارة جائزة لازمة لزوال العذر ويطرح عنه من الأجر بحساب ذلك وهو ما يتعطل وكذلك إن أبق العبد أو كان(16/9)
ص -7- ... سارقا فللمستأجر أن يفسخ الإجارة إما لتعذر استيفاء المعقود عليه أو لضرر يلحقه في ذلك وليس لمولى العبد فسخها لأنه لا ضرر عليه في إيفاء العقد فوق ما التزمه بالعقد ولو أراد المستأجر أن يسافر ويترك ذلك العمل فهو عذر لأنه لا يتعذر عليه الخروج إلى السفر لحاجته ولا يمكنه أن يستصحب العبد إذا خرج وإن أراد رب العبد أن يسافر به لم يكن له هذا عذرا لأنه لا يلحقه من الضرر فوق ما التزمه بالعبد وهو ترك العبد في يد المستأجر إلى انتهاء المدة وإن وجد المستأجر أجيرا أرخص منه لم يكن هذا عذرا لأن في هذا تحصيل الربح لا دفع الضرر وإن كان العبد غير حاذق بذلك العمل لم يكن للمستأجر أن يفسخ الإجارة لأن صفة الجودة لا تستحق بمطلق العقد إلا أن يكون عمله فاسدا فله أن يفسخ حينئذ لأن صفة السلامة عن العيب تستحق بمطلق المعاوضة وإن مات العبد انتقضت الإجارة لفوات المعقود عليه.
وإن كان المستأجر رجلين فمات أحدهما انتقضت حصته وكذلك إن مات أحد المؤجرين اعتبار الموت أحدهما بموتهما في حق الميت منهما وإن ارتد الآجر والمستأجر والعياذ بالله ولحق بدار الحرب انتقضت الإجارة لأن القاضي بموته حكم حين يقضي بلحاقه فهو كما لو مات حقيقة وإن لم يختصما في ذلك حتى رجع مسلما وقد بقي من المدة شيء فالإجارة لازمة فيما بقى منهما لأن اللحاق بدار الحرب إذا لم يتصل قضاء القاضي به بمنزلة الغيبة فلا يوجب انفساخ العقد ولكنه كان بمنزلة العذر فإذا زال برجوعه كانت الإجارة لازمة فيما بقي من المدة والله أعلم.
باب الشهادة في الإجارة(16/10)
قال رحمه الله: وإذا اختلف شاهدا الإجارة في مبلغ الأجر المسمى في العقد والمدعي هو المؤاجر أو المستأجر فشهد أحدهما بمثل ما ادعاه المدعي والآخر بأقل أو أكثر لا تقبل الشهادة لأن المدعي كذب أحد الشاهدين ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا قبل استيفاء المنفعة لأن الحاجة إلى القضاء بالعقد ومع اختلاف الشاهدين في البدل لا يتمكن القاضي من ذلك فإما بعد استيفاء المنفعة فالحاجة إلى القضاء بالمال فينبغي أن تكون المسألة على الخلاف عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقضى بالأقل كما في دعوى الدين إذا ادعى المدعي ستة وشهد بها أحد الشاهدين والآخر بخمسة قال رضي الله عنه والأصح عندي أن الشهادة لا تقبل عندهم جميعا هنا لأن الأجرة بدل في عقد المعاوضة كالثمن في البيع ولا بد أن يكون المدعي مكذبا أحد شاهديه فيمنع ذلك قبول شهادته له وأن لم يكن لهما بينة وقد تصادقا على الإجارة واختلفا في الأجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا أو تراد الاحتمال العقد الفسخ وكذلك إن كانت دابة فقال المستكري من الكوفة إلى بغداد بخمسة وقال رب الدابة إلى الصراه والصراه المنصف تحالفا وبعد ما حلفا إن قامت البينة لأحدهما أخذت بينته لأن البينة العادلة أحق بالعمل بها من اليمين الفاجرة وإن قامت لهما(16/11)
ص -8- ... بينة أخذت ببينة رب الدابة على الآجر وبينة المستأجر على فضل المسير على قول أبي حنيفة رحمه الله وكان يقول أولا إلى بغداد باثني عشر ونصف وهو قول زفر رحمه الله وقد بينا نظيره.
وإن اتفقا على المكان واختلفا في جنس الأجر فالبينة بينة رب الدابة لأنه يثبت حقه بالبينة ولأنه يثبت دعواه بالبينة والأجر يثبت بإقراره وإنما تثبت بالبينة الدعوى دون الإقرار وإن كان قد ركبها إلى بغداد فقال قد أعرتني الدابة وقال صاحبها بل اكتريتها منك بدرهم ونصف فالقول قول الراكب ولا ضمان عليه ولا أجر أما الضمان فلأنهما تصادقا على أنه ركبها بأمر صاحبها وأما الأجر فلأن المستأجر منكر لعقد الإجارة فالقول في ذلك قوله مع يمينه فإن أقام المؤاجر شاهدين فشهد أحدهما بدرهم والآخر بدرهم ونصف فإنه يقضي له بدرهم لأنهما اجتمعا على الدرهم لفظا ومعنى والمقصود إثبات المال لأن العقد منتهي فيقضي بما اتفق عليه الشاهدان وهذا يؤيد قول من يقول في مسألة أول الباب أنه يقضي بالأقل عندهما ولكنا نقول هناك الشاهدان ما اتفق على شيء لفظا فالخمسة غير الستة وعندهما القضاء بالأقل باعتبار الموافقة في المعنى وباعتبار المعنى المدعي مكذب أحدهما وهنا اتفقا الشاهدان على الدرهم لفظا فالمدعي يدعي ذلك ولكنه يدعي شيئا آخر مع ذلك وهو نصف درهم وأحد الشاهدين لم يسمع ذلك فلم يشهد به ولهذا لا يصير المدعي مكذبا له فلهذا أقضينا له بالدرهم.(16/12)
ولو ركب رجلا دابة رجل إلى الحيرة فقال رب الدابة اكتريتها إلى الجباية بدرهم فجاوزت ذلك وقال الذي ركب أعرتنيها وحلف على ذلك فهو بريء من الأجر لأنه منكر لعقد الإجارة فإن أقام رب الدابة شاهدين أنه إكراه إلى الحيرة بدرهم لم يقبل ذلك لأن دعواه إكذاب منه لشهوده فإنه ادعى الإكراء إلى الجباية وإن ادعى رب الدابة أنه أكراها إلى السالحين بدرهم ونصف وشهد له شاهد بذلك وآخر شهد أنه أكراها إلى السالحين بدرهم فإنه يقضي له عليه بدرهم إذا كان قد ركبها لأن الشاهدين اتفقا على ذلك القدر لفظا والمدعي يدعيه أيضا ولو قال المستأجر تكاريتها منك إلى القادسية بدرهم وقال رب الدابة بل إلى موضع كذا في السواد في غير ذلك الطريق بدرهم وقد ركبها إلى القادسية فلا كراء عليه لأنه خالف فصار ضامنا معناه أن رب الدابة ينكر الإذن له في الركوب في طريق القادسية وقد ركب فصار ضامنا وإنما ادعي رب الدابة العقد على الركوب في طريق آخر ولم يركب المستأجر في ذلك الطريق فلا أجر عليه لذلك.
ولو ادعى أنه أكراه دابتين باعيانهما إلى بغداد بعشرة وقال رب الدابتين بل هذه منهما بعينها إلى بغداد بعشرة وأقام البينة ففي قول أبي حنيفة الأول رحمه الله هما له إلى بغداد بخمسة عشر إذا كان أجر مثلهما سواء وفي قوله الآخر هما له إلى بغداد بعشرة لأن المستأجر هو المدعي والمثبت بينة الزيادة في حقه وكذلك إن كان رب الدابتين ادعى أنه أكراه(16/13)
ص -9- ... أحديهما بعينها بدينار وأقام البينة وأقام المستأجر البينة أنه استكراهما جميعا بعشرة دراهم فله دابتان بدينار وخمسة دراهم لأن جنس الأجر هنا مختلف فكل واحد منهما يثبت ببينته حقه فلا بد من قبول بينة قول كل واحد منهما بخلاف الأول فهناك جنس الأجر متحد وقد اتفق الشهود عليه فلا حاجة لرب الدابة إلى الإثبات ولكن المستأجر هو المحتاج إلى إثبات العقد في الدابة الأخرى وبينته تثبت ذلك وبينة رب الدابة تنفي فالمثبت أولى وإن ادعى المستأجر دابة واحدة وإن تكاراها إلى بغداد بدينار وأقام البينة وأقام صاحبها البينة أنه أكراها إياه إلى البصرة بعشرين درهما وقد ركبها إلى بغداد قضيت عليه بعشرين درهما ونصف دينار لأن جنس الأجر لما اختلف فلا بد من العمل بالبينتين وقد أثبت رب الدابة ببينة إلى البصرة بعشرين درهما وأثبت المستأجر ببينة العقد من البصرة إلى بغداد بنصف دينار فلهذا قضي بهما.
وإن ادعى المستأجر الإجارة وجحدها صاحب الدابة فشهد شاهد أنه استأجرها ليركبها إلى بغداد وشهد الآخر أنه استأجرها ليركبها ويحمل عليها هذا المتاع والمستأجر يدعي كذلك لم تجز الشهادة لاختلاف الشاهدين في مقدار المعقود عليه وإكذاب المدعي أحد شاهديه فإن قيل أليس أن الشاهدين اتفقا على الركوب لفظا ومعنى ويفرد أحدهما بالزيادة وهو حمل المتاع فينبغي أن يقضي بما اتفق عليه الشاهدان قلنا المعقود عليه منفعة الدابة لا عين الركوب فالركوب فعل الراكب وحمل المتاع كذلك فعله والمعقود عليه ملك رب الدابة وذلك يختلف باختلاف الشاهدين فيما شهد به فلا تتحقق الموافقة بينهما لفظا بخلاف الدرهم ونصف مع أن هذا إنما يكون قبل استيفاء المنفعة وقبل استيفاء المنفعة الحاجة إلى القضاء بالعقد فلا يتمكن منه مع اختلافهما وكذلك إن اختلفا في حمولتين لأن المدعي يكون مكذبا أحدهما لا محالة.(16/14)
ولو ادعى أنه سلم ثوبا إلى صباغ وجحد الصباغ ذلك فشهد شاهد أنه دفع إليه ليصبغه أحمر بدرهم وقال الآخر ليصبغه أصفر فقد اختلفت الشهادة لاختلاف الشاهدين في المعقود عليه هو الوصف الذي يحدثه في الثوب والأصفر منه غير الأحمر فيكون المدعي مكذبا أحد الشاهدين والله أعلم بالصواب.
باب ما يضمن فيه الأجير
قال رحمه الله: رجل سلم إلى قصار ثوبا فدقه بأجر مسمى فتخرق أو عصره فتخرق أو جعل فيه النورة أو وسمه فاحترق فهو ضامن لذلك كله لأن هذا من جناية يده وقد بينا أن الأجير المشترك ضامن لما جنت يده فإن كان أجير المشترك القصار فعل ذلك غير متعمد له فالضمان على القصار دون الأجير لأن الأجير له أجير خاص فلا يضمن إلا بالخلاف ولم يخالف ثم عمله كعمل الاستاذ ألا ترى أن الأستاذ يستوجب به الأجر فيكون الضمان عليه وإن هلك الثوب عند القصار أو سرق فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا(16/15)
ص -10- ... لهما وقد بينا وروى عن محمد رحمه الله قال إذا وضع القصار السراج في الحانوت فاحترق به الثوب من غير فعله فهو ضامن لأن هذا مما يمكن التحرز عنه في الجملة وإنما الذي لا يضمن به الحرق الغالب الذي لا يمكن التحرز عنه ولا يتمكن هو من اطفائه وقال في الصباغ يصبغ الثوب أحمر فيقول رب الثوب أمرتك بأصفر فالقول قول رب الثوب لأن الإذن يستفاد من قبله وله أن يضمنه قيمة ثوبه أبيض وإن شاء أخذ ثوبه وضمن للصباغ ما زاد على العصفر في ثوبه لأنه بمنزلة الغاصب قيما صبغه به حين لم يثبت إذن صاحب الثوب له في ذلك وإن كان صبغه أسود فاختار أخذ الثوب لم يكن للصباغ عليه شيء عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد بينا ذلك في الغصب.(16/16)
قال أبو حنيفة رحمه الله في الملاح إذا أخذ الأجر: فإن غرقت السفينة من ريح أو موج أو شيء وقع عليها أو جبل صدمته فلا ضمان على الملاح لأن التلف حصل من عمله وإن غرقت من مده أو معالجته أو جذفه فهو ضامن لأن هذا من جناية يده والملاح أجير مشترك وإن كان على الملاح الطعام وخلى بينه وبين الطعام فنقض فلا ضمان على الملاح عنده بعد أن يحلف لأنه أمين فالقول قوله مع يمينه ولا يضمن ما تلف بغير فعله وإن انكسرت السفينة فدخل الماء فيها فأسده فإن كان ذلك من عمل الملاح فهو ضامن له وإلا فلا شيء عليه عند أبي حنيفة وإن كان رب الطعام في السفينة أو وكيله فلا ضمان على الملاح في شيء من ذلك إلا أن يخالف ما أمر به ويصنع شيئا مما يتعمد فيه الفساد لأن المتاع في يد صاحبه والعمل يصير مسلما إليه بنفسه فيخرج من ضمان الملاح بخلاف ماذا لم يكن صاحب الطعام معه فالعمل هناك لا يصير مسلما وعلى هذا قالوا لو رد الموج السفينة إلى الموضع الذي حمل الطعام منه فإن لم يكن رب الطعام معه فلا أجر للملاح وإن كان رب الطعام معه في السفينة فله الأجر بقدر ما صار لأن العمل قد صار مسلما بنفسه ويقرر الأجر بحبسه فأما إذا خالف ما أمره به فهذا العمل لا يصير مسلما إلى صاحب الطعام بل يكون العامل فيه متعديا خاصا فيكون ضامنا لذلك.(16/17)
وإذا حجم الحجام بأجر أو بزغ البيطار أو حقن الحاقن بأجر حرا أو عبدا بأمره أو بطأ قرحه فمات من ذلك فلا ضمان عليه بخلاف القصار إذا دق فخرق لأن المستحق عليه هناك العمل السليم عن العيب وذلك في مقدور البشر يصح التزامه بالعقد وهنا المستحق عليه عمل معلوم بجده لا عمل غير ساري لأن ذلك ليس في مقدور البشر فالجرح فتح باب الروح والبرء بعده بقوة الطبيعة على دفع أثر الجراحة وليس ذلك في مقدور البشر فلا يجوز التزامه بعقد المعاوضة وإنما الذي في وسعه إقامة العمل بجده وقد أتى به فلا يضمن إلا أن يخالف لمجاوزة الحد أو يفعل بغير أمره فيكون ضامنا حينئذ.
توضيح الفرق أن الشراية لا تقترن بالجرح ولكنه يكون بعدها بزمان ضعف الطبيعة عن دفع أثر الجراحة وتوالي الآلام على المجروح وهذا كله بعد أن يصير العمل مسلما إلى(16/18)
ص -11- ... صاحبه ويخرج من ضمان العمل فإما بخرق الثوب يكون مقترنا بالدق قبل أن يخرج العمل من ضمان القصار فلهذا كان ضامنا لما يتلف بعمله لأن عمله مضمون بما يقابله من البدل.
ولو وطأ الأجير الخاص للقصار على ثوب مما لا يوطأ عليه في دقه فكان الضمان عليه خاصة لأنه غير مأذون من جهة الأستاذ في الوطء على هذا الثوب فكان متعديا فيما صنع وإن كان مما يوطأ عليه فلا ضمان عليه لأنه مأذون في الوطء عليه فيكون فعله كفعل الأستاذ وإن كان الثوب وديعة عند القصار فالأجير ضامن وإن كان ذلك مما يوطأ عليه لأنه غير مأذون في بسطه والوطء عليه من جهة الأستاذ فإنه إنما أذن له في العمل في بيان القصارة دون ودائع الناس عنده.(16/19)
ولو حمل الإنسان حملا في بيت القصار من ثياب القصارة فعثر وسقط فتخرق بعضها كان ضمان ذلك على القصار دون الأجير لأنه مأذون في هذا العمل من جهة الأستاذ ولو دخل بنار السراج بأمر القصار فوقعت شرارة على ثوب من القصارة أو وقع السراج من يده فأصاب دهنه ثوبا من القصارة فالضمان على الأستاذ دون الغلام لأنه مأذون من جهته في إدخال النار بالسراج وكذلك أجير لرجل يخدمه إن وقع من يده شيء فتكسر وأفسد متاعا مما يختلف في خدمة صاحبه فلا ضمان عليه إذا كان في ملك صاحبه لأنه استأجره لهذه الأعمال ولو أن غلام القصار انفلتت منه المدقة فيما يدق من الثياب فوقعت على ثوب من القصارة فخرقته فالضمان على القصار دون الغلام لأنه مأذون من جهة الأستاذ في دق الثوبين جميعا ولو وقع على ثوب إنسان من غير القصارة كان ضمان ذلك على الغلام دون القصار لأنه غير مأذون في دق ذلك الثوب فيكون هو جانيا في ذلك الثوب وإن كان مخطئا وتعذر الخطأ لا يسقط عنه ضمان المحل وإن وقعت المدقة على موضعها ثم وقعت على شيء بعدها فلا ضمان على الأجير لأنها كما لو وقعت على المحل المأذون فيه صار العمل مسلما وخرج من عهدة الأجير فلا ضمان عليه بعد ذلك وانما الضمان على الاستاذ وان أصاب انسانا فقتله كان الغلام ضامنا وقد بينا الفرق بين الجناية في بني آدم وما سوى ذلك من الأموال فيما سبق وكذلك لو مر بشيء من متاعه فيما يحمله فوقع على إنسان في البيت فقتله كان الضمان على الغلام لأن الجناية في بني آدم موجبة الأرش على العاقلة فلا يمكن اعتبار العقد فيه بخلاف ما سوى ذلك من الأموال وكذلك إن انكسر شيء من أدوات القصار بعمل الغلام مما يدق به أو يدق عليه فلا ضمان عليه لأنه مأذون من جهة الأستاذ وإن كان مما لا يدق به ولا يدق عليه فهو ضامن.(16/20)
وعلى هذا لو دعا رجل قوما إلى منزله فمشوا على بساطه فتخرق أو جلسوا على وسادة فتخرقت وإن كان الضيف متقلدا سيفا فلما جلس شق السيف بساطا أو وسادة فلا ضمان عليه لأنه مأذون فيما فعل من المشي والجلوس وتقلد السيف ولو وطى ء على آنية من أوانية أو ثوبا لايبسط مثله ولا يوطأ فهو ضامن لأنه غير مأذون في الوطء والجلوس على(16/21)
ص -12- ... مثله وإن حمل الأجير شيئا في خدمة أستاذه فسقط ففسد لم يضمن ولو سقط على وديعة عنده فأفسدها كان ضامنا لها وكذلك لو عثر فسقط عليها فإن كان بساطا أو وسادة استعاره للبسط فلا ضمان في ذلك على رب البيت ولا على أجيره لأنه مأذون في بسطه من جهة صاحبه وإذا جفف القصار ثوبا على حبل فمرت به حمولة في الطريق فخرقته فلا ضمان على القصار لأنه متلف لا بعمله والضمان على سائق الحمولة لأنه مسبب وهو متعدي في ذلك فسوق الدابة في الطريق يتقيد عليه بشرط السلامة فإذا لم يسلم كان ضامنا ولو تكارى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها خمسة عشر مختوما فلما بلغ المقصد عطبت الدابة فعليه الأجر كاملا لاستيفاء المعقود عليه بكماله وهو ضامن ثلث قيمتها بقدر ما زاد وقد بينا هذا في العارية وذكرنا الفرق بينه وبين الجناية في بنى آدم أن المعتبر هناك عدد الجناة في حق ضمان النفس وأوضح الفرق بما ذكرنا فقال لو أن حائطا مائلا لرجل ثلثاه وللآخر ثلثه يقدم إليهما فيه فوقع على رجل فجرحه وقتله كان على كل واحد منهما نصف الدية ولو لم يجرحه ولكنه قتله نقل الحائط كانت الداية عليهما بقدر الملك لأن نقل ملك صاحب الثلثين ضعف نقل ملك صاحب الثلث وفي الجرح المعتبر أصل الجراحة وكل واحد منهما خارج له بملكه فكان بمنزلة الجارح بيده فكذلك في مسألة الدابة يضمن باعتبار نقل الزيادة وفي مسألة الشجاج في العبد يكون ضمان النفس على كل واحد منهما باعتبار أصل الجرح لا مقداره وعدده.
وعلى هذا لو أمر رجلا أن يضرب عبده عشرة أسواط فضرب أحد عشر سوطا فهو متعدي في السوط الحادي عشر فيضمن نقصان ذلك العبد من قيمته مضروبا عشرة أسواط ونصف ما بقي من قيمته إذا مات من ذلك لأنه في ضرب عشرة أسواط عامل لصاحبه بأمره فكأنه فعل ذلك هذا بنفسه وقد مات العبد من السياط كلها فتوزع بدل نفسه نصفين باعتبار عدد الحياة لا عدد الجنايات.(16/22)
وإذا سلم الرجل عبده أو أمته إلى مكتب أو عمل آخر فضربه الأستاذ فهو ضامن لما أصابه من ذلك وإن أذن له في ذلك فلا ضمان عليه لأن فعله بإذنه كفعل المولى بنفسه فلا يكون تعديا منه وفعله بغير أمره يكون تعديا منه وفرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا وبينما إذا ضرب الدابة التي استأجرها ضربا معتادا فقالا الضرب معتاد هناك عند السير متعارف فيجعل كالمأذون فيه وهنا الضرب عند التعليم غير متعارف وإنما الضرب عند سوء الأدب يكون ذلك ليس من التعليم في شيء فالعقد المعقود على التعليم لا يثبت الإذن في الضرب فلهذا يكون ضامنا إلا أن يأذن له فيه نصا وكذلك إن سلم ابنه في عمل إلى رجل فإن ضربه بغير إذن الأب فلا إشكال في أنه يكون ضامنا وإن ضربه بإذن الأب فلا ضمان عليه في ذلك لأنه غير متعدي في ضربه بإذن الأب ولو كان الأب هو الذي ضربه بنفسه فمات كان ضامنا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا ضمان عليه في قول أبي يوسف ومحمد(16/23)
ص -13- ... رحمهما الله وهما يدعيان المناقضة على أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة فيقولان إذا كان الأستاذ لا يضمن باعتبار إذن الأب فكيف يكون الأب ضامنا إذا ضربه بنفسه ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول ضرب الأستاذ لمنفعة الصبي لا لمنفعة نفسه فلا يوجب الضمان عليه إذا كان يأذن وليه فأما ضرب الأب إياه لمنفعة نفسه فإنه بغير سوء أدب ولده فيتقيد بشرط السلامة كضرب الزوج زوجته لما كان لمنفعة نفسه يقيد بشرط السلامة.
وإذا توهن راعي الرمكة رمكة منها فوقع الوهن في عنقها فجذبها فعطبت فهو ضامن لأنه من جناية يده وإن كان صاحبها أمره بالتوهن فلا ضمان عليه لأن فعله بأمر صاحبها كفعل صاحبها وهذا لأن التوهن ليس من عمل الراعي في شيء ولا يدل في مقابلته فلا يتقيد على المأمور بشرط السلامة بخلاف الدق من القصار.
ولو أمر رجلا أن يختن عبده أو ابنه فاخطأ فقطع الحشفة كان ضامنا لما بينا أن عمل الختان معلوم بمحله فإذا جاوز ذلك كان ضامنا ولم يبين في الكتاب ماذا يضمن وهو مروى عن محمد رحمه الله في النوادر قال إن برأ فعليه كمال بدل نفسه فإن مات فعليه نصف بدل نفسه لأنه إذا برأ فعليه ضمان الحشفة وهو عضو مقصود لا يتأتي له في البدن فيتقدر بدله ببدل النفس وإذا مات فقد حصل تلف النفس بفعلين أحدهما مأذون فيه وهو قطع الجلدة والآخر غير مأذون فيه وهو قطع الحشفة فكان ضامنا نصف بدل النفس.(16/24)
ولو أمر رجلا أن يقطع أصبعه لوجع أصابه فيها فقطعها فمات منها لم يكن على القاطع شيء إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله فإنه يقول يضمن الدية اعتبارا بما لو قال ذلك قتلني فقتله وجه ظاهر الرواية أن الأذن صح هنا لأن للآذان أن يفعل ذلك بنفسه فينتقل عمل المأذون إليه ويصير كأنه فعله بنفسه بخلاف قوله اقتلني فالإذن هناك غير صحيح لأن الآذن ليس له أن يفعل ذلك بنفسه وكذلك لو أمر أن يفعل ذلك بابن له صغير أو بعبد له فهذا وما لو أمره بنفسه سواء ولو أمر حجاما ليقطع سنا ففعل فقال أمرتك أن تقلع سنا غير هذا فالقول قوله والحجام ضامن لأن الإذن يستفاد من جهته ولو أنكره كان القول قوله فكذلك إذا أنكر الإذن في السن الذي قلعه.
ولو تكارى دابة يحمل عليها عشرة مخاتيم فجعل في جوالق عشرين مختوما ثم أمر رب الدابة فكان هو الذي وضعها على الدابة فلا ضمان عليه لأن صاحب الدابة هو المباشر بحمل الزيادة على دابته وأكثر ما فيه أنه مغرور من جهة المستأجر ولكن الغرور إذا لم يكن مشروطا في عقد ضمان لا يكون مثبتا الرجوع للمغرور على الغار وإن حملاها جميعا ووضعاها على الدابة ضمن المستأجر ربع قيمة الدابة لأن نصف المحمول مستحقا بالعقد ونصفه غير مستحق وفعل كل واحد منهما في الحمل شائع في النصفين فباعتبار النصف الذي حمله على الدابة لا ضمان على أحد وباعتبار النصف الذي حمله المستأجر لا ضمان عليه في نصفه لأنه يستحق بالنصف وعليه الضمان في النصف الآخر لأنه متعدي فيه فكان(16/25)
ص -14- ... ضامنا ربع قيمتها وإن كان الحمل في عدلين فرفع كل واحد منهما عدلا فوضعاهما جميعا على الدابة لم يضمن المستأجر شيئا لأن المستأجر استحق بالعقد حمل عشر مخاتيم حنطة وقد حمل هذا المقدار فيجعل حمله مما كان مستحقا بالعقد والزيادة إنما حملها رب الدابة وذكر في النوادر لو أن القصار استعان بصاحب الثوب حتى دق الثوب معه فتخرق ولا يدري من أي الفعلين تخرق فعلى قول أبي يوسف رحمه الله القصار ضامن نصف القيمة باعتبار الاحتمال وعلى قول محمد رحمه الله هو ضامن جميع القيمة لأن الثوب في يده فباعتبار اليد هو ضامن ما لم يصل إلى صاحبه سواء تلف بعمله أو بغير عمله فما لم يعلم أن التلف بعمل صاحب الثوب كان القصار ضامنا.
وإذا ساق الراعي الغنم أو البقر فتناطحت فقتل بعضها بعضا أو وطى ء بعضها بعضا من سياقته وهو غير مشترك وهي لإنسان واحد فلا ضمان عليه لأنه مأذون في السوق وقد بينا أن الأجير الخاص لا يكون ضامنا فيما يتلف بعمل المأذون فيه وإن كانت لقوم شتى فهو ضامن مشتركا كان أو غير مشترك أما المشترك فلأن هذا من جناية يده وأما غير المشترك فلأنه سائق الدابة التي وطئت والسائق ضامن بالسبب وكل من وقع عليه الضمان فلا أجر له فيه لأنه ملك المضمون بالضمان فلا يكون مسلما إلى صاحبه وإذا ساق الراعي الماشية فعطبت واحدة أو وقعت في نهر فعطبت فهو ضامن لأنه أجير مشترك والتلف حصل بعمله ولو استأجر دابة ليركبها فلبس من الثياب أكثر مما كان عليه حين استأجرها فإن لبس من ذلك مثل ما يلبس الناس إذا ركبوا لم يضمن وإن كان أكثر من ذلك ضمن بقدر ما زاد لأن المستحق بمطلق العقد ما هو المتعارف.(16/26)
وإن تكارى ناقة ليحمل عليها امرأة فولدت المرأة فحملها هي وولدها على الناقة بغير أمر صاحبها فعطبت الناقة فهو ضامن بحساب ما زاد عليها للولد لأن الولد مقصود بالحمل بعد الانفصال وهو في مقداره مخالف فيضمن بحساب ما يخالف كما لو زاد متاعا معها ولو نتجت الناقة فحمل ولد الناقة مع المرأة فهو ضامن أيضا لأنه مخالف لما قلنا وإن تكارى بغير المحمل فحمل عليه زاملة فهو ضامن لأنه مخالف فيما صنع فالزاملة أضر بالبعير من المحمل وإن حمل عليه رجلا مكان المحمل فلا ضمان عليه فلا يكون فعله ذلك خلافا وقد بينا نظيره في السرج مع الإكاف والله تعالى أعلم بالصواب.
باب إجارة رحا الماء
قال رحمه الله: وإذا استأجر الرجل رحا ماء والبيت الذي هو فيه وهو متاعها كل شهر بأجر مسمى فهو جائز لأنه غير متنفع به واستئجاره متعارف فإن انقطع الماء عنها فلم يعمل رفع عنه الأجر بحساب ذلك لزوال تمكنه من الانتفاع على الوجه الذي استأجره فإنه إنما استأجره ليطحن فيها بالماء دون الثور وبانقطاع المال زال تمكنه من ذلك وبدون التمكن من الانتفاع لا يجب الأجر فله أن ينقض الإجارة لتغير شرط العقد عليه فإن لم ينقضها حتى عاد(16/27)
ص -15- ... الماء لزمته الإجاره فيما بقى من الشهر وإن كان قد بقي يوم واحد فلم يكن له أن ينقضها لزوال العذر وتمكنه من الانتفاع فيما بقي من المدة ولأن هذه الإجارة في حكم عقود متفرقة لا يثبت الخيار لتفرق الصفقة وإن اختلفا في مقدار ما كان الماء منقطعا فالقول قول المستأجر لأنهما يتفقان أنه لم يستوف جميع المعقود عليه وإنما اختلفا في مقدار ما استوفى فرب الرحا يدعي زيادة في ذلك والمستأجر منكر ذلك ولو قال المؤاجر لم ينقطع الماء فإنه بحكم الحال فيه فإن كان الماء منقطعا في الحال فالقول قول المستأجر وإن كان جاريا فالقول قول المؤاجر مع يمينه على عمله لأنه إذا كان منقطعا في الحال فالظاهر أنه كان منقطعا فيما مضى وإن كان جاريا في الحال فالظاهر أنه كان جاريا فيما مضى وفي الخصومات القول قول من يشهد له الظاهر.(16/28)
توضيحه أنا قد عرفنا الماء جاريا عند العقد والبناء على الظاهر واستصحاب الحال أصل ما لم يعلم خلافه فإذا علمنا انقطاع الماء في الحال بقدر استصحاب الحال فاعتبرنا الدعوى والإنكار قرب الرحا يدعي تسليم المعقود عليه والمستأجر منكر فالقول قوله فإما إذا كان جاريا في الحال فاستصحاب الحال ممكن فجعلنا رب الرحا مسلما للمعقود عليه بهذا الطريق ولهذا كان القول قوله مع يمينه على عمله لأن الاستحلاف على ما لم يكن في يده ولا من عمله فيكون على العلم وإن كان استأجر جميع ذلك بعشرة دراهم كل شهر فطحن فيها في الشهر بثلاثين درهما فربح عشرين درهما فإن كان المستأجر هو الذي يقوم على الرحا والطعام أو أجيره أو عبده فالربح له طيب لأن الفضل بمقابلة منافعه وإن كان رب الطعام هو الذي يلي ذلك لم يطلب الربح للمستأجر إلا أن يكون قد عمله فيها عملا تنتفع بها الرحا من كرى النهر أو نقر الرحا وغير ذلك فحينئذ يجعل الفضل بمقابلة عمله فيطيب له فقد جعل نقر الرحا معتبرا بجعل الفضل بمقابلته ولم يجعل كنس البيت فيما سبق معتبرا في ذلك لأن كنس البيت ليس بزيادة في البيت ولأن التمكن من الانتفاع باعتباره فأما نقر الرحا وكرى النهر بعد زيادة المستأجر وبه يتمكن من الانتفاع.(16/29)
وإذا استأجر موضعا على نهر ليبنى عليه بناء ويتخذ عليه رحا ماء على أن الحجارة والمتاع والحديد والبناء من عند المستأجر فهو جائز لأنه استأجر الأرض لمنفعة معلومة فإن انقطع ماء النهر فلم يطحن ولم يفسخ الإجارة فالأجر لازم له لأن المعقود عليه منفعة الأرض وهي باقية بعد انقطاع الماء والمستأجر مستوفي بما يشغل الأرض بمتاعه بخلاف الأول فهناك المعقود عليه منفعة الرحا لعمل الطحن والتمكن منه يزول بانقطاع الماء إلا أن هنا له أن يفسخ الإجارة للعذر فإن مقصوده استيفاء منفعة لا يتم ذلك بدون جريان الماء وفي إلزام العقد إياه بعد انقطاع الماء ضرر فيكون ذلك عذرا له في الفسخ ولو استأجر رحا ماء بمتاعها فانقطع الماء شهرا فلا أجر عليه في ذلك الشهر لما قلنا وإن قل الماء حتى أضربه في الطحن وهو يطحن مع ذلك فإن كان ضررا فاحشا فهو عيب فيما هو المقصود فيتمكن(16/30)
ص -16- ... لأجله من فسخ العقد وإن لم يفسخ كان الأجر واجبا عليه لبقاء تمكنه من الانتفاع ورضاه بالعيب وإن كان غير فاحش فالإجارة لازمة له لأنه لما استأجر الرحا في الابتداء مع علمه أن الماء يزداد تارة وينتقص أخرى فقد صار راضيا بالنقصان اليسير ولأن ما لم يمكن التحرز عنه عفو.
وإذا خاف رب الرحا أن ينقطع الماء فتفسخ الإجارة فأكري البيت والحجرين والمتاع خاصة فهو جائز لأنه عين منتفع به فإن انقطع الماء فللمستأجر أن يترك الإجارة لأن استئجار هذه الأعيان كان لمقصود معلوم وقد فات ذلك بانقطاع الماء وفي إيفاء العقد بعد انقطاع الماء ضرر عليه وهذا ضرر لم يلزمه بأصل العقد فيكون عذرا له في الفسخ كما لو استأجر والرحا يطحن بجمله فينق جمله ولم يكن عنده ما يشتري به جملا كان له أن يترك الإجارة.
ولو استأجر رحا ماء فانكسر أحد الحجرين أو الدوارة أو البيت فله أن يفسخ الإجارة لزوال تمكنه من الانتفاع فإن أصلح ذلك رب الرحا قبل الفسخ لم يكن للمستأجر أن يفسخ بعد ذلك لزوال العذر في بقية المدة ولكن يرفع عنه من الأجر بقدر ذلك لانعدام تمكنه من الانتفاع به والقول قول المستأجر في مقدار العطلة لاتفاقهما على أنه لم يسلم جميع المعقود عليه إلا أن ينكر المؤاجر البطالة أصلا فكان القول قوله باعتبار استصحاب الماء لأنا عرفنا تمكن المستأجر من الانتفاع عند تسليم الرحا ثم يدعى هو عارضا مانعا فلا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة كما لو ادعي أن غاصبا حال بينه وبين الانتفاع بالرحا وإن استأجر رحا ماء على أن يطحن فيها الحنطة ولا يطحن غيرها فطحن فيها شعيرا أو شيئا من الحبوب سوى الحنطة فإن كان ذلك لا يضر بالرحا فلا ضمان عليه وإن كان أضر عليها من الحنطة ضمنه ما نقصها لأن التقيد معتبر إذا كان مفيدا والخلاف إلى ما هو أضر عدوان منه فيلزمه ضمان النقصان ولا أجر عليه في ذلك الوقت لأنه غاصب ضامن من النقصان ولا يجتمع الأجر والضمان.(16/31)
وإذا استأجر الرجل رحا وبيتا من أجير وبعيرا من آخر صفقة واحدة كل شهر بأجر معلوم فهو جائز لأن استئجار كل عين من هذه الأعيان على الأنفراد صحيح ثم يقتسمون الأجر بينهم على قدر ذلك لأن المسمى بمقابلة الكل فيتوزع عليها بالحصة ولو اشترك أرباب هذه الأشياء على أن يعملوا للناس بأجر فما طحنوا فالأجر بينهم أثلاثا فإن أجروا الجمل بعينه فطحن فأجر ذلك لصاحب الجمل لأنه سمى بمقابلته منفعة الجمل وللآخرين أجر مثلهما لنفسهما ومتاعهما على صاحب الجمل لأن سلامة الأجر له بذلك كله فيكون هو مستوفيا لمنافعهما وقد شرط بمقابلة ذلك أجر ولم يسلم لهما ذلك الأجر فإن قبلوا الطعام على أن يطحنوه بأجر معلوم ولم يؤجر وإلا الجمل بعينه فما اكتسبوه صار أثلاثا بينهم لأنهم اشتركوا في تقبل العمل وبذلك استوجبوا الأجر.
وإن كان لرجل بيت على نهر قد كان فيه رحا ماء فذهب وجاء آخر برحا آخر ومتاعها،(16/32)
ص -17- ... فنصبها في البيت واشتركا على أن يتقبلا من الناس الحنطة والشعير فطحناه فما كسبا فهو بينهما نصفان فهو جائز وما طحناه وما تقبلاه فأجره بينهما نصفان لاستوائهما في تقبل العمل في ذمتها وليس للرحا ولا للبيت أجرة لأن كل واحد منهما ما ابتغى عن متاعه أجرا سوى ما قال ألا ترى أن قصارين لو اشتركا على أن يعملا في بيت أحدهما بأداة الآخر فما كسبا فهو بينهما نصفان كان جائزا ولم يكن لواحد منهما أن يطالب صاحبه بأجر بأداته.
ولو أجر الرحا بأجر معلوم على طعام معلوم كان الأجر كله لصاحب الرحا لأنه مسمى بمقابلة منفعة ملكه ولصاحب البيت أجر مثل بيته ونفسه على صاحب الرحا إذا كان قد عمل في ذلك لأن منفعة بيته ونفسه سلمت لصاحب الرحا ولم يسلم له بمقابلته ما شرط له من الأجر قال ولا أجاوز به نصف أجر مثل الرحا في قول أبي يوسف رحمه الله وقد بينا نظيره في كتاب الشركة ولو انكسر الحجر الأعلى من الرحا فنصب رجل مكانه حجرا بغير أمر صاحبه وجعل يتقبل الطعام ويطحن فهو مسى ء في ذلك ضامن لما أفسد من الحجر الأسفل ومتاعه لأنه غاصب والأجر له لأنه وجب بعقده وإن كان وضع الحجر الأعلى برضاء صاحبه على أن الكسب بينهما نصفان فهو كما شرط وهو نظير ما سبق إذا كان يتقبلان الطعام فالأجر بينهما كما شرط ولو بنى على نهر بيتا ونصب فيها رحا ماء بغير رضي صاحب النهر ثم يقبل الطعام فكسب في ذلك مالا كان له في الكسب وكان ضامنا لمناقص البيت وساحته وموضعه والنهر لأنه متلف لذلك بفعله ولا يضمن شيئا من الماء لأن الماء غير مملوك ولأنه لم يفسد شيئا من الماء بعمله.
ولو أن رجلا له نهر اشترك هو ورجلان على أن جاء أحدهما برحا والآخر بمتاعها على أن يبنوا البيت جميعا من أموالهم على أن ما كسبوا من شيء فهو بينهم فهو جائز وهذا مثل المسألة الأولى إذا كانوا يتقبلون الطعام فالأجر بينهم أثلاثا والله أعلم بالصواب.
باب الكراء إلى مكة(16/33)
قال رحمه الله: وإذا استأجر بعيرين من الكوفة إلى مكة فحمل على أحدهما محملا فيه رجلان وما يصلحهما من الوطء والدثر وإحديهما زاملة يحمل عليه كذا مختوما والسويق وما يصلحهما من الخل والزيت والمعاليق وقد رأى الرجلين ولم ير الوطأ والدثر ولم يبين ذلك وشرط حمل ما يكفيه من الماء ولم يبين ذلك فهذا كله فاسد في القياس لجهالة وزن الوطء والدثر وجهالة مقدار الماء والخل والزيت والمعاليق وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة فإن الضرر على الإبل تختلف بقلة ذلك وكثرته وفي الاستحسان يجوز لأنه متعارف وفي إشتراط إعلام وزن كل شيء من ذلك بعض الحرج ثم المقصود على أحد الحملين الرجلان وقد رآهما الحمال وعلى الحمال الآخر الدقيق والسويق وما سوى ذلك تبع إذا صار ما هو الأصل معلوما فالجهل في البيع عفو ومقدار البيع يصير معلوما أيضا بطريق العرف وعلى هذا لو اشترط عليه أن يحمل له من هدايا مكة من صالح ما يحمل الناس فهو جائز أيضا لأنه(16/34)
ص -18- ... متعارف معلوم المقدار عرفا ولو بين وزن المعاليق والهدايا كان أحب إلينا لأنه أبعد من المنازعة وإذا أرادا الاحتياط في ذلك فينبغي أن يسمي لكل محمل قربتين من ماء أو ادواتين من أعظم ما يكون من ذلك ويكتب في الكتاب أن الحمل قد رأى الوطأ والدثر والقربتين والأداوتين والخيمة والقبة فإن ذلك أوثق وإنما يكتب الكتاب على أوثق الوجوه وإن اشترط عليه عقبة الأجير فهو جائز ويكتب وقد رأى الحمال الأجير.
وفي تفسير عقبة الأجير قولان: أحدهما أن المستأجر ينزل في كل يوم عند الصباح والمساء فذلك معلوم فيركب أجيره في ذلك الوقت وسمى ذلك عقبة الأجير.
والثاني: أن يركب أجيره في كل مرحلة فرسخا أو نحوه مما هو متعارف على خشبة خلف المحمل ويسمى ذلك عقبة الأجير.
وفي كتاب الشروط قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرى أن يشترط من هدايا مكة كذا وكذا منا لأن ذلك أبعد من المنازعة والمحمول من الهدايا يختلف في الضرر على الدابة باختلاف مقدار الوزن وإن تكارى شق محمل أو شق زاملة فاختلفا فقال الحمال إنما عينت عيدان المحمل وقال المستكري بل عينت الإبل فإن كان الكراء كما يتكارى به لإبل إلى مكة فهو على الإبل وإن كان كما يتكارى به شق محمل خشب فالقول قول الحمال مع يمينه لأنه إذا كان كما يتكارى به الأول فالظاهر يشهد للمستكري وإن كان شيئا يسيرا كما يتكارى به الخشب فالظاهر يشهد للحمال وعند المنازعة يجعل القول قول من يشهد له الظاهر كما لو اشترى قربة ماء بدانق فقال إنما اشتريت القربة دون الماء لا يصدق ولو اشتراها بعشرين درهما قال السقاء بعت الماء دون القربة وكذلك لو اشترى مبطخة ثم قال المشتري اشتريت الأرض وقال البائع إنما بعت البطيخ فإنه بحكم الثمن في ذلك فيجعل القول قول من يشهد له الظاهر.(16/35)
وإذا تكارى من الكوفة إلى مكة إبلا مسماة بغير أعيانها فقال الحمال أخرجك في عشر ذي القعدة فقال المستكري أخرجني في خمس مضين أو على عكس ذلك فإنه يخرجه في خمس مضين في الوجهين جميعا لأنه لا يخاف الفوت إذا خرج بعد خمس مضين فإن أراد الحمال أن يخرجه قبل ذلك فهو يريد أن يلزمه ضرر السفر من غير حاجة إليه فيسقط عن نفسه مؤنة العلف فلا يمكن من ذلك وإذا طلب المستكري في عشر ذي القعدة وهو يريد أن يلزم الحمال ضرر السفر من غير حاجة ليكون هو مترفها في نفسه فلهذا لا يمكن من ذلك ولأن بمطلق العقد إنما يثبت المتعارف والمتعارف الخروج من الكوفة بخمس مضين فإذا أراد الحمال أن يتأخر إلى نصف ذي القعدة وأبى ذلك المستكري فليس للحمال ذلك لأنه يخاف الفوت في هذا التأخير ويلحق المستكري مشقة عظيمة باستدامة السفر.
وإن قال المستأجر: أخرجني للنصف من ذي القعدة وقال الحمال أخرجك بخمس مضين فإنه يرتكب مؤنة العلف فإني أؤخره لعشر مضين من ذي القعدة ولا أؤخره لأكثر من(16/36)
ص -19- ... ذلك لأن الغالب إدراك الحج إذا خرج بعشر مضين والغالب هو الفوات إذا أخر الخروج أكثر من ذلك والمستحق بمطلق العقد صفة السلامة لا نهاية الجودة وإن كان بينهما شرطا حملهما على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "الشرط أملك" أي يوفى به ولا بأس بأن يسلف في كراء مكة قبل الحج سنة أو بأشهر لأن وقت الحج معلوم لا يجهل وهذا بناء على مذهبنا أن الإجارة المضافة إلى وقت في المستقبل تصح وعلى قول الشافعي رحمه الله لا تصح الدار والحانوت والدواب وغير ذلك فيه سواء وهذا بناء على أصله أن جواز العقد باعتبار أن المنافع جعلت كالأعيان القائمة فإنما يتحقق ذلك إذا اتصل المعقود عليه بالعقد في الإجارة المضافة ولا يوجد ذلك ثم الإضافة إلى وقت في المستقبل كالتعليق بالشرط حتى أن ما يتحمل التعليق بالشرط يجوز إضافته إلى وقت في المستقبل كالطلاق والعتاق وما لا فلا كالإجارة والبيع.(16/37)
ثم الإجارة لا تحتمل التعليق بالشرط فلا تحتمل الإضافة إلى وقت في المستقبل والدليل عليه أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يملك الأجر بنفس العقد وإن شرط التعجيل فلو انعقد العقد صحيحا لانعقد بصفة اللزوم ويملك الأجر به إذا شرط التعجيل فإن ذلك موجب العقد وحجتنا في ذلك أن جواز عقد الإجارة لحاجة الناس وقد تمس الحاجة إلى الاستئجار مضافا إلى وقت في المستقبل لأن في وقت حاجته ربما لا يجد ذلك أو لا يجده بأجر المثل فيحتاج إلى أن يسلف فيه قبل ذلك ثم قد بينا أنه وإن أطلق العقد فهو في معنى المضاف في حق المعقود عليه لأنه يتجدد انعقاده بحسب ما يحدث من المنفعة أو تقام العين المنتفع بها مقام المعقود عليه في هذا العقد ولا فرق في هذا بين المضاف إلى وقت في المستقبل وبين المعقود عليه في الحال وهذا لأن ذكر المدة لبيان مقدار المعقود عليه كالكيل فيما يكال وذلك لا يختلف به وبه فارق التعليق بالشرط فإن التعليق يمنع انعقاد العقد في الحال والإضافة لا تمنع من ذلك وفي لزوم الإجارة المضافة روايتان وأصح الروايتين أنه يلزم وليس لأحدهما أن يفسخ إلا بعذر فإن الأجر لا يملك بشرط التعجيل وقد بينا الفرق بين هذا وبينما إذا شرط التعجيل في عقد الإجارة في الحال لأن هناك تأخر الملك بقضية المساواة فيحتمل التغير بالشرط وهنا تأخر الملك لنصيبهما على التأخير بإضافة العقد إلى وقت في المستقبل فلا يتغير ذلك بالشرط.(16/38)
ولو تكارى إبلا إلى مكة بشيء من المكيل أو الموزون معلوم القدر والصفة وجعل له أجلا مسمى فهو جائز وإن لم يسم الموضع الذي يوفيه فيه وقد نص على الخلاف فيما تقدم أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا بد من بيان المكان فتبين بذلك أن هذا الجواب قولهما وإن حل الأجل بمكة وأراد أخذه هناك وأبى المستأجر فإن استوثق من المستأجر على أن يوفيه بالكوفة حيث تكارى وقد ذكرنا على قولهما أن في إجارة الدار يتعين للإيفاء موضع الدار وهنا ذلك غير ممكن لأن الأجر يجب شيئا فشيئا بحسب سير الدابة في الطريق فيتعذر تعيين موضع استيفاء المعقود عليه للإيفاء وربما يتعين للتسليم موضع السبب وهو(16/39)
ص -20- ... العقد وإن كان الأجر شيئا بعينه مما له حمل ومؤنة فإنما يتعين لإيفائه الموضع الذي فيه ذلك العين لأنه ملك في ذلك الموضع بعينه كالمبيع بخلاف ما لا حمل له ولا مؤنة فإنه يسلم إليه بعد الوجوب حيث ما لقيه وقد بينا الفرق بينهما في البيوع.
ولو تكارى منه حملا وزاملة وشرط حملا معلوما على الزاملة فما أكل من ذلك الحمل أو نقص من الكيل والوزن كان له أن يتم ذلك في كل منزل ذاهبا وجائيا لأنه استحق بالعقد حملا مسمى على البعير في جميع الطريق فيكون له أن يستوفي ما استحقه بالشرط وليس للحمال أن يمنعه من ذلك بخلاف المحمل فإنه إذا شرط فيه انسانين معلومين فليس له أن يحمل غيرهما إلا برضاء الحمال لأن الضرر على الدابة يختلف باختلاف الراكب وإن خرج بالبعيرين يقودهما ولا يركبهما ولم يحمل عليهما جائيا فعليه الأجر كاملا لتمكنه من استيفاء المعقود عليه وكذلك لو بعث بهما مع عبده يقودهما لما بينا أن المعقود عليه خطوات الدابة في الطريق وقد صار مسلما إلى المستأجر نقود الدابة معه في الطريق.(16/40)
وإذا مات الرجل بعد ما قضي المناسك ورجع إلى مكة فإنما عليه من الأجر بحساب ذلك لأن العقد فيما بقى قد بطل بموته فيسقط الأجر بحسابه ويجب في تركته بحساب ما استوفى ثم بين فقال يلزمه من الكراء خمسة أعشار ونصف ويبطل عنه أربعة أعشار ونصف وبيان تخريج هذه المسألة أن من الكوفة إلى مكة سبعا وعشرين مرحلة فذلك للذهاب والرجوع كذلك وقضاء المناسك تكون في ستة أيام في يوم التروية يخرج إلى منى وفي يوم عرفة يخرج إلى عرفات وفي يوم النحر يعود إلى مكة لطواف الزيارة وثلاثة أيام بعده للرمى فيحسب لكل يوم مرحلة فإذا جمع ذلك كله كان ستين مرحلة كل سنة من ذلك عشر فإذا مات بعد قضاء المناسك والرجوع إلى مكة فقد تقرر عليه ثلاثة وثلاثون جزأ من ستين جزأ من الأجر سبعة وعشرين جزأ للذهاب إلى مكة وستة أجزاء لقضاء المناسك وذلك خمسة أعشار ونصف عشر كل عشر ستة وربما يشترط الممر على المدينة فيزداد به ثلاثة مراحل فإن من الكوفة إلى مكة على طريق المدينة ثلاثين مرحلة فإن كان شرط ذلك في الذهاب تكون القسمة على ثلاثة وستين جزءا ويتقرر عليه ستة وثلاثون جزءا من ثلاثة وستين جزءا من الأجر ثلاثون للذهاب وستة لقضاء المناسك وإن كان الشرط الممر على المدينة في الرجوع فعليه ثلاثة وثلاثون جزءا من ثلاثة وستين جزءا من الأجر سبعة وعشرين للذهاب ولقضاء المناسك ستة أجزاء وإن كان الشرط بينهما أن الذهاب من طريق المدينة والرجوع كذلك فالقسمة على ستة وستين جزءا وإنما يتقرر عليه ستة وثلاثين جزءا من ستة وستين للذهاب ثلاثون ولقضاء المناسك ستة أجزاء فحاصل ما يتقرر عليه ستة أجزاء من إحدى عشر جزءا من الأجر وحرف هذه المسألة أنه لم يعتبر السهولة والوعورة في المراحل لقسمة الكراء عليها لأن ذلك لا يملك ضبطه والكراء لا يتفاوت باعتباره عادة وإنما يتفاوت بالقرب والبعد فلهذا قسمه على المراحل بالسوية كما بينا.(16/41)
ص -21- ... وإن تكارى قوم مشاة بعيرا إلى مكة واشترطوا على المكاري أن يحمل من مرض لهم أو أعيا فهذا فاسد للجهالة وربما تفضي هذه الجهالة إلى المنازعة ولو اشترطوا عليه عقبة لكل واحد منهم كان جائزا لأن ذلك معلوم لا تمكن بعده المنازعة وإذا أراد المستأجر أن يبدل محمله ليحمل محملا غيره فإن لم يكن في ذلك ضرر فله ذلك لما بينا أن التعيين الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا وإن أراد أن ينصب على المحمل كنيسة أو قبة فليس له ذلك إلا برضاء من المكاري لما في ذلك من زيادة الضرر على البعير وذلك لا يستحق إلا بالشرط وإن اشترط عليه كنيسة بعينها فأراد أن يحمل كنيسة أعظم منها أو قبة فليس له ذلك لأن هذا تعيين مفيد وفي التبدليل زيادة ضرر على دابته وإن أراد أن يحمل كنيسة دونها فله ذلك لأنها أخف على البعير من المشروط وإن أراد الحمال أن لا يخرج إلى مكة فليس له عذر لأنه يتمكن من تسلم المعقود عليه من غير أن يخرج بأن يبعث بالإبل مع أجيره أو مع غلامه وإن أراد المستأجر أن لا يخرج من عامه ذلك فهذا عذر لأنه لا يتمكن من الاستيفاء إلا بتحمل مشقة السفر وفيه من الضرر ما لا يخفى وكذلك لو كان اكترى الإبل لحمل الطعام إلى مكة فبلغه كساد أو خوف أو بدا له ترك التجارة في الطعام فهذا عذر له لأنه لا يتمكن من استيفاء المعقود عليه إلا بضرر لم يلتزمه بأصل العقد وذلك عذر لفسخ الإجارة والله أعلم بالصواب.
باب من استأجر أجيرا يعمل له في بيته(16/42)
قال رحمه الله: وإذا استأجر أجيرا يعمل له في بيته عملا مسمى ففرغ الأجير من العمل في بيت المستأجر ولم يضعه من يده حتى فسد العمل أو هلك وله الأجر لأن عمله صار مسلما إلى المستأجر لأن محمل العمل في يد المستأجر لأنه في بيته والبيت مع ما فيه في يد صاحب البيت فكما صار مسلما تقرر الأجر في ذمته ولا ضمان على الأجر فيما هلك من غير فعله لأن مال صاحبه هلك في يده وكذلك لو استأجره يخيط له في بيت المستأجر قميصا وخاط بعضه ثم سرق منه الثوب فله الأجر بقدر ما خاط فإن كل جزء من العمل يصير مسلما إلى صاحب الثوب بالفراغ منه ولا يتوقف التسليم في ذلك الجزء عند حصول كمال المقصود فلو كان استأجره ليخيط في بيت الأجير لم يكن له شيء من الأجر لأنه لا يصير عمله مسلما إلى صاحب الثوب فإن الثوب في يد الأجير لأنه في بيته ولا يقال قد اتصل عمله بملك صاحب الثوب لأن اتصال العمل بملكه يوجب الملك له فيما اتصل به ولكن لما لم يكن أصل الثوب في يده فيده لا تثبت على ما اتصل به أيضا وخروجه من ضمان العامل وتعذر الأجر على المستأجر باعتبار ثبوت اليد له على المعول واستشهد بما قال أنه لو استأجره يبني له حائطا فبنى بعضه أو كله ثم انهدم فله أجر ما بنى لأنه في ملك صاحب البناء وكذلك حفر البئر وكذلك الرجل يستأجر الخباز ليخبز له في بيته دقيقا معلوما بأجر معلوم فخبزه ثم سرق فله(16/43)
ص -22- ... الأجر تاما وإن سرق قبل أن يفرغ فله من الأجر بحساب ما عمل وإن كان يخبز في بيت الخباز لم يكن له من الأجر شيء ولا ضمان عليه فيما سرق في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه أجير مشترك فلا يضمن ما هلك في يده بغير فعله وإن احترق الخبز في التنور قبل أن يخرجه فهو ضامن لأن هذا من جناية يده ويتخير صاحب الخبز إن شاء ضمنه قيمته مخبوزا وأعطاه الأجر وإن شاء ضمنه دقيقا ولم يكن له أجر وقد بينا نظيره في القصار.
وإن استأجر رجلا يحمل له طعاما إلى موضع معلوم فسرق منه في بعض الطريق فله الأجر بقدر ما تحمل لأن المعقود عليه ها هنا منافعه لإحداث وصف في المحل فبقدر ما تحمل يصير المعقود عليه مسلما إلى صاحبه فكان له من الأجر بقدره بخلاف ما تقدم فالمعقود عليه هناك الوصف الذي يحدث في المحل بعمله وثبوت اليد على الوصف بثبوته على الموصوف فما لم تثبت يد المستأجر على محل العمل لا يصير مسلما العمل فلا يتقرر الأجر وعلى هذا قلنا في كل موضع إذا هلك لم يكن له فيه أجر فله أن يحبسه حتى يأخذ الأجر كالخياط والقصار في بيت نفسه وفي كل موضع لو هلك كان له الأجر فليس له أن يحبسه كالحمال والخياط والخباز في بيت صاحب العمل فإن حبسه وهلك عنده فهو ضامن لأنه غاصب في الحبس حين لم يكن له حق الحبس والعمال الذين يعملون في بيت المستأجر ضامنون لما جنت أيديهم مثل ما يضمنون ما عملوا في بيوتهم لأن العامل أجير مشترك سواء عمل في بيت نفسه أو في بيت المستأجر فيكون المعقود عليه العمل وعقد المعاوضة تقتضي سلامة المعقود عليه فالعمل المعيب لا يكون معقودا عليه وهذا بخلاف ما إذا استأجره يوما ليخيط له ثوبا في بيته فإنه لا يضمن ما جنت يده لأن المعقود عليه منافعه ألا ترى أنه ليس له أن يعمل ذلك في غير يومه وأنه يستوجب الأجر بتسليم النفس وإن لم يستعمله.(16/44)
ولو استأجر طباخا يصنع له طعاما في وليمة فأفسد الطعام فأحرقه ولم ينضجه فهو ضامن لأنه أجير مشترك وهذا من جناية يده ولو لم يفسد الطباخ ولكن رب الدار اشترى راوية من ماء فأمر صاحب البعير فأدخلها الدار فساق البعير فعطب فخر على القدور فكسرها فأفسد الطعام فلا ضمان على صاحب البعير لأنه ساقها بأمر رب الدار وفعله كفعل رب الدار وسوق الإنسان الدابة في ملك نفسه لا يكون تعديا موجبا للضمان كحفر البئر ووضع الحجر في ملك نفسه ولا ضمان على الطباخ فيما عمل من الطعام لأن التلف حصل بغير فعله بل بفعل مضاف إلى صاحب الدار حكما وكذلك لو كان البعير سقط على بن رب الدار وهو صبي فقتله أو على عبده فلا ضمان عليه لأن التسبب إذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان على أحد.
ولو أدخل الطباخ النار ليطبخ بها فوقعت شرارة واحترقت الدار فلا ضمان عليه لأن له أن يدخل النار ويعمل بها فعمله لا يتأتى بدونها ولا ضمان على رب الدار فيما احترق للسكان لأنه أدخل النار في ملكه ومن أوقد النار في ملكه لا يكون متعديا فيه فكذلك إذا فعل غيره بأمره والله أعلم بالصدق والصواب.(16/45)
ص -23- ... باب إجارة الفسطاط
قال رحمه الله: وإذا استأجر فسطاطا يخرج به إلى مكة ذاهبا وجائيا ويحج ويخرج من الكوفة في هلال ذي القعدة فهو جائز لأنه استأجر عينا منتفعا به وهو معتاد استئجاره والفسطاط من المساكن فاستئجاره كاستئجار البيت وكذلك الخيمة والكنيسة والرواق والسرادق والمحمل والجرب والجوالق والحبال والقرب والبسط فذلك كله منتفع به معتاد استئجاره فإن تكارى شيئا من ذلك ليخرج به إلى مكة ذاهبا وجائيا ولم يسم متى يخرج به فهو فاسد في القياس لأن وجوب التسليم إليه حين يخرج به وإذا لم يكن معلوما فربما تتمكن بينهما منازعة فيه والناس يتفاوتون فيه بالخروج إلى مكة فمن بين مستعجل ومؤخر ولكنه استحسن فقال وقت الخروج للحج من الكوفة معلوم بالعرف والمتعارف كالمشروط وهذا لأن المعتبر الوقت الذي تخرج فيه القافلة مع جماعة الناس ولا معتبر بالإقرار وذلك الوقت معلوم وإن تخرق الفسطاط من غير خلاف ولا عنف لم يضمن المستأجر لأن العين في يده أمانة فإن نقيضه يقرر حق صاحبه في الأجر وهو مأذون في استيفاء المنفعة على الوجه المعتاد فلا يكون ضامنا لما يتخرق منه إذا لم يجاوز ذلك.
وإن ذهب به ورجع فقال استغنيت عنه فلم استعمله فالأجر واجب عليه لأنه تمكن من الانتفاع به وذلك يقوم مقام الانتفاع به في تقرر الأجر عليه ولو انقطعت أطنابه وانكسر عموده فلم يستطع نصبه لم يكن عليه أجر لأنه لم يكن متمكنا من الانتفاع به والأجر لا يلزمه بدونه فالقول فيه قول المستأجر مع يمينه لأنهما اتفقا أنه لم يتمكن من استيفاء جميع المعقود عليه وأن الصفقة قد تفرقت عليه فالقول قول المستأجر في مقدار ما استوفى وكذلك لو احترق فقال المستأجر لم أستعمله إلا يوما واحدا فالقول قوله وليس عليه الكراء إلا مقدار ذلك لأنه منكر للزيادة.(16/46)
ولو أسرج المستأجر في الفسطاط أو في الخيمة حتى اسود من الدخان أو احترق أو علق فيه قنديلا فإن كان صنع كما يصنع الناس فلا ضمان عليه وإن كان تعدى فيه أو اتخذه مطبخا أو أوقد فيه نارا حتى صار بمنزلة المطبخ من السواد فهو ضامن لما أفسد لأن بمطلق العقد يثبت له حق استيفاء المنفعة على الوجه المتعارف فإذا لم يجاوز ذلك لا يكون ضامنا وهذا لأن الفسطاط من المساكن وإدخال السراج والقنديل وإيقاد النار في المسكن متعارف لا بد للساكن منه ولكن إذا جاوز الحد المتعارف فهو متعدي فيما صنع فيكون ضامنا لما أفسد وكان عليه الكراء إذا كان ما بقى منه شيئا ينافي السكني فيه فإن كان دون ذلك فلا كراء عليه منذ يوم لزمه الضمان لانعدام تمكنه من الانتفاع به في بقية المدة وإن اشترط عليه صاحبه أن لا يوقد فيه ولا يسرج فليس له أن يوقد فيه ولا يسرج لأن هذا أضر من السكنى فيه من غير إسراج وقد استثناه صاحبه بالشرط والتقييد متى كان مفيدا فهو معتبر فإن فعل ذلك ضمن لأنه جاوز مااستحقه بالعقد وعليه الأجر لأنه استوفى المعقود عليه وإنما ضمن(16/47)
ص -24- ... باعتبار الزيادة فلا يمنع ذلك تقرر الأجر باستيفاء المعقود عليه كالمستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوز وإذا استأجر قبة تركية بالكوفة كل شهر بأجر معلوم ليستوقد فيها ويبيت فهو جائز ولا ضمان عليه إن احترقت من الوقود لأن الإيقاد فيها معتاد فلا يكون هو متعديا بالإيقاد فيها فإن بات فيها عبده أو ضيفه فلا ضمان لأنها من المساكن وقد بينا أن له أن يسكن ضيفه وعبده فيما سكن فيه هو وهذا لأنه لا ضرر على القبة بكثرة من يسكنها وإذا استأجر فسطاطا يخرج به إلى مكة فقعد وأعطاه أخاه فحج ونصب واستظل به فهو ضامن ولا أجر عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد لا ضمان عليه وعليه الأجر لأن الفسطاط من المساكن وفي المسكن لا يتعين سكناه بنفسه لأن سكناه وسكنى غيره في الضرر على الفسطاط سواء فهو كتسليم البيوت ألا ترى أنه لو أخرج الفسطاط فيه بنفسه ثم أسكن فيه غيره لم يضمن فلذلك إذا دفعه إلى غيره حتى يخرج به وهو نظير ما لو استأجر عبدا يخدمه في طريق مكة فاجره من غيره بخدمة لم يضمن.(16/48)
وتفاوت الناس في الاستخدام والإضرار على الغلام أبين من التفاوت في السكنى في الفسطاط ثم لما لم يتعين هناك المستأجر للاستخدام فهذا أولى وجه قولهما أن الفسطاط يحول من موضع إلى موضع والضرر عليه يتفاوت بتفاوت مواضع النصب فإن نصبه في مهب الريح يخرقه ونصبه من موضع الندوة والنز يفسده فإذا كان هذا مما يتفاوت فيه الناس وبحبسه يختلف الضرر فكان التعيين معتبرا بمنزلة الدابة استأجرها ليركبها أو الثوب يستأجره ليلبسه هو فإذا دفعه إلى غيره صار مخالفا ضامنا ولا أجر عليه لأنه لم يستوف المعقود عليه وهذا بخلاف المسكن فإنه لا يحول من موضع إلى موضع بخلاف العبد لأن الاستخدام له حد معلوم بالعرف فإذا كلفه فوق ذلك امتنع العبد منه سواء كان المستأجر هو الذي يستخدمه أو غيره فلا فائدة في التعيين هناك بخلاف ما إذا خرج بنفسه لأنه هو الذي يختار موضع النصب للفسطاط وإذا كان ذلك برأيه كما أوجبه العقد فسكناه وسكنى غيره بعد ذلك سواء فأما إذا دفعه إلى غيره ليخرج به فاختيار موضع نصب الفسطاط لا يكون برأيه بل يكون برأي الذي خرج به وذلك خلاف موجب العقد وعلى هذا قالوا لو لم يبين عند الاستئجار من يخرج به فالعقد فاسد في قول أبي يوسف رحمه الله كما لو لم يبين من يلبس الثوب عند الاستئجار وعند محمد رحمه الله العقد جائز كما في خدمة العبد وسكنى الدار.
ولو انقطعت أطناب الفسطاط كلها فصنعها المستأجر من عنده ثم نصب الفسطاط حتى رجع فعليه الأجر كله لأنه استوفى المعقود عليه فالمعقود عليه منفعة الفسطاط لا منفعة الإطناب فإذا تمكن من استيفاء المعقود عليه بأطناب نفسه لزمه الأجر كما في استئجار الرحا إذا انقطع الماء فطحن المستأجر بحمله وجب عليه الأجر ثم يمسك أطنابه لأنه ملكه فيمسكه إذا رد الفسطاط ولو لم تعلق عليه الأطناب لم يكن عليه الكراء لأنه لم يكن متمكنا من استيفاء المعقود عليه بملك صاحب الفسطاط ولا يعتبر تمكنه من الاستيفاء(16/49)
ص -25- ... بملك نفسه لأن ذلك ليس مما أوجبه العقد وكذلك لو انكسر عمود الفسطاط فإما إذا انكسرت أوتاده فلم يضر به حتى رجع كان عليه الكراء كاملا وليس الأوتاد مثل الأطناب والعمود لأن الأوتاد من قبل المستأجر والأطناب والعمود من قبل صاحب الفسطاط ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول أنه بنى هذا الجواب على عرف ديارهم فأما في عرف ديارنا الأوتاد من قبل صاحب الفسطاط والأصح أن يقول من الأوتاد ما يتيسر وجوده في كل موضع ولا يتكلف بحمل مثله من موضع إلى موضع فهذا على المستأجر ومنه ما يكون متخذا من حديد وذلك لا يوجد في كل موضع فمثله يكون على صاحب الفسطاط كالعمود فمراده مما قال الأوتاد التى توجد في كل موضع فبانكسارها لا يزول تمكنه من استيفاء المعقود عليه فيكون الأجر عليه بخلاف العمود والأطناب.
وإن تكارى فسطاطا يخرجه إلى مكة فخلفه بالكوفة حتى رجع فهو ضامن لأنه أمسكه في غير الموضع المأذون فيه فإن صاحبه إنما أذن له في الإمساك في الطريق ليقرر حقه في الأجر ويفوت عليه هذا المقصود إذا أمسكه بالكوفة وإمساك الغير بغير إذن مالكه موجب الضمان عليه ولا كراء عليه لأنه ما تمكن من استيفاء المعقود عليه فالمعقود عليه نصبها وسكناها في الطريق وذلك لا يتأتى إذا خلفها بالكوفة والقول قوله مع يمينه بالله ما أخرجه لأنه ينكر التمكن من استيفاء المعقود عليه ووجوب الأجر عليه فهو كما لو أنكر قبض الفسطاط أصلا وكذلك لو أقام بالكوفة ولم يخرج ولم يدفع الفسطاط إلى صاحبه فهو مثل الأول لوجود الإمساك لا على الوجه الذي أذن له فيه صاحبه وكذلك لو خرج ودفع الفسطاط إلى غلامه فقال أدفعه إلى صاحبه فلم يدفع حتى رجع المولى فهو مثل الأول لأنه لم يصل إلى صاحبه وكونه في يد غلامه وما لو خلفه في بيته بالكوفة سواء.(16/50)
وكذلك لو دفعه إلى آخر وأمره أن يرده إلى صاحبه فلم يفعله لأنه مخالف بالإمساك في غير الموضع المأذون فيه وبالتسليم إلى الأجنبي أيضا ولو حمله الرجل إلى صاحب الفسطاط فأبى أن يقبله بريء المستأجر والرجل من الضمان ولا أجر عليه لأن صاحب الفسطاط تمكن من فسطاطه حين رد عليه وفعل مأمور المستأجر كفعل المستأجر بنفسه ولو رده بنفسه لم يكن لصاحبه أن يمتنع من قبوله لأن هذا عذر له لأنه يحتاج إلى مؤنة في إخراج الفسطاط وله أن يلتزم تلك المؤنة فكذلك إذا رده ثانية لم يكن له أن يمتنع من قبوله ولو هلك الفسطاط عند هذا الآخر قبل أن يحمله إلى صاحبه فلصاحب الفسطاط أن يضمن أيهما شاء لأن كل واحد منهما متعدي في حقه غاصب فإن ضمن الوكيل رجع به على المستأجر لأنه ضمن في عمل باشره له بأمره وإن ضمن المستأجر لم يرجع به على الوكيل لأنه لو رجع عليه رجع الوكيل به أيضا ولأن يد الوكيل قائمة مقام يد المستأجر فهلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد المستأجر.(16/51)
ص -26- ... وإن ذهب بالفسطاط إلى مكة ورجع به فقال المؤاجر للمستأجر أحمله إلى منزلي فليس له ذلك على المستأجر ولكنه على رب المتاع لما بينا أن منفعة النقل حصل لرب المتاع من حيث أنه تقرر حقه في الأجر فكانت مؤنة الرد عليه بخلاف المستعير وإن لم يخرج بالفسطاط وخلفه بالكوفة فضمنه وسقط عنه الأجر فالحمولة على المستأجر لأنه بمنزلة الغاصب وهو الذي ينتفع بالرد من حيث إنه برأ نفسه عن الضمان وإن استأجر دابة إلى بلدة أخرى فقبضها وذهب صاحب الدابة فإن حبسها بالكوفة على قدر ما يحبسها الناس إلى أن يرتحل فلا ضمان عليه وإن حبسها مما لا يحبس الناس مثله يومين أو ثلاثة فهو ضامن لها ولا كراء عليه لأنه أمسكها في غير الموضع الذي أذن له صاحبها في الإمساك وفي هذا الخلاف ضرر على صاحبها فإن حقه في الأجر لا يتقرر بإمساكها في هذا الموضع فلهذا كان ضامنا إلا أن المقدار المتعارف من الإمساك يصير مستحقا له بالعرف فيجعل كالمشروط بالنص.(16/52)
وإذا استأجر الرجلان فسطاطا من الكوفة إلى مكة ذاهبا وجائيا فقال أحدهما إني أريد أن آتي بالبصرة وقال الآخر إني أريد أن أرجع إلى الكوفة وأراد كل واحد منهما يأخذ الفسطاط من صاحبه فالمسئلة عى ثلاثة أوجه إما أن يدفع الكوفي إلى البصري أو البصري إلى الكوفي أو يختصما فيه إلى القاضي بمكة فإما إذا دفعه الكوفي إلى البصري فذهب به إلى البصرة واستعمله فلرب الفسطاط أن يضمن البصري قيمته إن هلك لأنه غاصب مستعمل في غير الموضع الذي أذن له صاحبه فيه وكذلك إن لم ينصبه فهو بالأمساك في غير الموضع الذي أذن له صاحبه فيه يكون ضامنا قيمته إن هلك وعليهما حصة الذهاب من الأجر ولا أجر على واحد منهما في الرجوع أما البصري فلأنه ما رجع من الكوفة وقد تقرر عليه ضمان القيمة وأما الكوفي فلأنه لا يكون متمكنا من استيفاء المعقود عليه في الرجوع حين ذهب البصري بالفسطاط وإن أراد صاحبه أن يضمن الكوفي فإن أقر أنه أمره أن يذهب به إلى البصرة كان له أن يضمنه نصف قيمته لأن النصف كان أمانة في يده وقد تعدى بالتسليم إلى صاحبه ليمسكه على خلاف ما رضي به صاحبه فكان له أن يضمنه ويضمن البصري نصف قيمته وإن قال الكوفي لم آمره أن يذهب به إلى البصرة ولكني دفعته إليه ليمسكه حتى يرتحل فلا ضمان عليه لأن الفسطاط مما لا يحتمل القسمة فلكل واحد من المستأجرين أن يتركه في يد صاحبه ولا يكون تسليمه إلى صاحبه ليمسكه في الموضع الذي تناول الإذن موجع الضمان عليه والقول قوله في ذلك مع يمينه لأنه ينكر سبب وجوب الضمان عليه وصاحب الفسطاط يدعى ذلك عليه.(16/53)
وإن دفعه البصري إلى الكوفي فرجع به إلى الكوفة فالكراء عليهما جميعا على البصرى نصفه وعلى الكوفي نصفه لأن الكوفي استوفى المعقود عليه في الرجوع في نصيب نفسه باعتبار ملكه وفي نصيب البصري بتسليطه إياه على ذلك وذلك ينزل منزلة استيفائه بنفسه فيجب الكراء عليهما ولا ضمان على واحد منهما إن هلك قيل هذا قول محمد رحمه الله ,(16/54)
ص -27- ... فأما عند أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن يكون البصري ضامنا ولا كراء عليه في الرجوع كما لو دفعه إلى أجنبي آخر وقد بيناه والأصح أنه قولهم جميعا لأن صاحب الفسطاط هنا قد رضي برأي كل واحد منهما في النصب واختيار الموضع لذلك بخلاف الأجنبي فصاحب الفسطاط هناك لم يرض برأيه في اختيار موضع النصب وإن غصبه الكوفي فعلى الكوفي حصته من الأجر ذاهبا وجائيا لأنه استوفى المعقود عليه وعلى البصري أجره ذاهبا وليس عليه أجر في الرجوع لأن نصيبه كان في يد الغاصب ولم يكن هو متمكنا من استيفاء المعقود عليه حين ذهب من طريق البصرة ويكون الكوفي ضامنا لنصف قيمته إن هلك لأنه غاصب للنصف من البصري فيكون ضامنا.(16/55)